المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌(39) - (بَابُ كَوْنِ الشِّرْكِ أَقْبَحَ الذُّنُوبِ، وَبَيَانِ أَعْظَمِهَا بَعْدَهُ) وبسندنا - البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج - جـ ٣

[محمد بن علي بن آدم الأثيوبي]

فهرس الكتاب

(39) - (بَابُ كَوْنِ الشِّرْكِ أَقْبَحَ الذُّنُوبِ، وَبَيَانِ أَعْظَمِهَا بَعْدَهُ)

وبسندنا المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[264]

(86) - (حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ إِسْحَاقُ: أَخْبَرَنَا جَرِيرٌ، وَقَالَ عُثْمَانُ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُرَحْبِيلَ، عَنْ عَبْدِ الله، قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم: أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللهِ؟ قَالَ: "أَنْ تَجْعَلَ للهِ نِدًّا، وَهُوَ خَلَقَكَ"، قَالَ: قُلْتُ لَهُ: إِنَّ ذَلِكَ لَعَظِيمٌ، قَالَ: قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: "ثُمَّ أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ؛ مَخَافَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ"، قَالَ: قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: "ثُمَّ أَنْ تُزَانِيَ حَلِيلَةَ جَارِكَ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) هو الحنظليّ المعروف بابن راهويه، ثقة ثبتٌ حجة فقيهٌ [10](ت 238)(خ م د ت س) تقدم في "المقدمة" 5/ 28.

2 -

(مَنْصُور) بن المعتمر السّلميّ، أبو عتّاب الكوفيّ، ثقة ثبتٌ [6](ت 132)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" ج 1 ص 296.

3 -

(أَبُو وَائِلٍ) شقيق بن سلمة الأسديّ الكوفيّ، ثقة مخضرم [2] مات في خلافة عمر بن عبد العزيز، وله مائة سنة (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 57.

4 -

(عَمْرُو بْنُ شُرَحْبِيلَ) الْهَمْدانيّ، أبو ميسرة الكوفيّ، ثقة مخضرم [2].

رَوَى عن عُمر، وعليّ، وابن مسعود، وحذيفة، وسلمان، وقيس بن سعد بن عُبادة، ومَعْقِل بن مُقَرِّن المزنيّ، وعائشة، والنعمان بن بشير، وآخرين.

ورَوَى عنه أبو وائل، وأبو إسحاق السَّبيعيّ، وأبو عَمّار الهمدانيّ، والقاسم بن مُخَيمِرة، ومحمد بن المنتشر، ومسروق، وهو من أقرانه، وغيرهم.

ص: 5

قال عاصم بن بَهْدلة، عن أبي وائل: ما اشتَمَلت هَمْدانية على مثل أبي ميسرة، قيل له: ولا مسروق؟ فقال: ولا مسروق، وقال أبو نعيم، عن إسرائيل: كان أبو ميسرة إذا أخذ عطاءً تَصَدَّق منه، فإذا جاء إلى أهله فَعَدُّوه وَجَدوه سواءً، وقال عمرو بن مرّة، عن أبي وائل: قال أبو ميسرة، وكان من أفاضل أصحاب عبد الله، فذكر قصةً، ورَوَى ابن أبي خيثمة في "تاريخه" عن مسروق قال: ما بالكوفة أَحَد أحبّ إليّ أن أكون في مِسْلاخه من عمرو بن شُرَحبيل، وقال ابن معين: أبو ميسرة ثقة، وقال ابن سعد في "الطبقات": أنا وكيع، عن إسرائيل عن أبي إسحاق قال: رأيت أبا جُحيفة في جنازة أبي ميسرة، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: كان من العبّاد، وكانت ركبته كركبة البعير من كثرة الصلاة، مات في الطاعون قبل أبي جحيفة سنة ثلاث وستين، وقال ابن سعد: مات في ولاية ابن زياد.

أخرج له الجماعة، سوى ابن ماجة، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط، وأعاده بعده.

[تنبيه]: "شُرَحبيل" - بضمّ الشين المعجمة، وفتح الراء - غير منصرف؛ لكونه اسمًا علمًا أعجميًّا

(1)

.

والباقون تقدّموا في الباب الماضي، والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سداسيّات المصنّف رحمه الله تعالى، وفيه التحديث، والإخبار، والعنعنة من صيغ الأداء.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخيه، فالأول ما أخرج له الترمذيّ، والثاني ما أخرج له ابن ماجة، وكذا عمرو بن شُرَحبيل.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالكوفيين، سوى إسحاق، فمروزيّ، ثم نيسابوريّ.

(1)

راجع: "شرح النووي" 2/ 80.

ص: 6

4 -

(ومنها): أن فيه رواية مخضرم، عن مخضرم: أبو وائل، عن عمرو، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ عَبْدِ اللهِ) بن مسعود رضي الله عنه، أنه (قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم)، وفي رواية الأعمش التالية: "قال رجل: يا رسول الله أيّ الذَّنْب أكبر؟

"، وفي رواية للبخاريّ من طريق الثوريّ، عن منصور وسليمان الأعمش، كلاهما عن أبي وائل، عن أبي ميسرة، عن عبد الله رضي الله عنه "قال: سألتُ، أو سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الذَّنْب عند الله أكبر؟

"، وفي رواية: "قلت: يا رسول الله

"، وفي رواية لأحمد من وجه آخر عن مسروق، عن ابن مسعود: "جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم على نشز من الأرض، وقعدت أسفل منه، فاغتنمتُ خلوته، فقلت: بأبي وأمّي أنت يا رسول الله، أي الذنوب أكبر؟

" الحديث.

(أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ) أي أشدّ عقوبة (عِنْدَ اللهِ؟)، وللبخاريّ:"أي الذَّنْب عند الله أكبر؟ "، ووقع في رواية عاصم، عن عبد الله:"أعظم الذنوب عند الله؟ "، أخرجها الحارث، وفي رواية أبي عبيدة بن معن، عن الأعمش:"أي الذنوب أكبر عند الله؟ "، وفي رواية الأعمش عند أحمد وغيره:"أيُّ الذَّنْب أكبر؟ "، وفي رواية الحسن بن عبيد الله، عن أبي وائل:"أكبر الكبائر".

لا يقال: السؤال عن أفضل الأعمال له وجه، وهو أن يقدّم الأعظم فالأعظم، وأما أعظم الذنوب، فترك السؤال عنه أفضل وأرجح، ليقع الكفّ عن الجميع؛ لأنا نقول: له وجهه أيضًا، وهو أن يكون التحرّز منه أكثر وأشدّ، والله تعالى أعلم.

[تنبيه]: قال ابن بطال عن المهلب: يجوز أن تكون بعض الذنوب أعظم من بعض من الذنبين المذكورين في هذا الحديث بعد الشرك؛ لأنه لا خلاف بين الأمة أن اللواط أعظم إثمًا من الزنا، فكأنه صلى الله عليه وسلم إنما قصد بالأعظم هنا ما تكثر مُواقعته، ويظهر الاحتياج إلى بيانه في الوقت، كما وقع في حقّ وفد عبد القيس حيث اقتصر في منهياتهم على ما يتعلق بالأشربة؛ لفشُوّها في بلادهم.

ص: 7

وتعقّبه الحافظ، فقال: وفيما قال نظر من أوجه:

[أحدها]: ما نقله من الإجماع، ولعله لا يقدر أن يأتي بنقل صحيح صريح بما ادّعاه عن إمام واحد، بل المنقول عن جماعة عكسه، فإن الحدّ عند الجمهور، والراجح من الأقوال إنما ثَبَتَ فيه بالقياس على الزنا، والمقيس عليه أعظم من المقيس، أو مساويه، والخبر الوارد في قتل الفاعل والمفعول به، أو رجمهما ضعيف.

[وأما ثانيًا]: فما من مفسدة فيه إلَّا ويوجد مثلها في الزنا وأشدّ، ولو لَمْ يكن إلَّا ما قيّد به في الحديث المذكور، فإن المفسدة فيه شديدة جدًّا، ولا يتأتى مثلها في الذَّنْب الآخر، وعلى التنزل فلا يزيد.

[وأما ثالثًا]: ففيه مصادمة للنص الصريح على الأعظمية من غير ضرورة إلى ذلك.

[وأما رابعًا]: فالذي مَثَّل به من قصة الأشربة ليس فيه إلَّا أنه اقتَصَر لهم على بعض المناهي، وليس فيه تصريحٌ، ولا إشارة بالحصر في الذي اقتَصَر عليه، والذي يظهر أن كلًّا من الثلاثة على ترتيبها في العِظَم، ولو جاز أن يكون فيما لَمْ يذكره شيء يتصف بكونه أعظم منها لما طابق الجواب السؤال.

نعم، يجوز أن يكون فيما لَمْ يذكر شيء يساوي ما ذُكر، فيكون التقدير في المرتبة الثانية مثلًا بعد القتل الموصوف، وما يكون في الفُحْش مثله أو نحوه، لكن يستلزم أن يكون فيما لَمْ يذكر في المرتبة الثانية شيء هو أعظم مما ذُكر في المرتبة الثالثة، ولا محذور في ذلك.

وأما عَدُّ عقوق الوالدين في أكبر الكبائر في حديث أبي بكرة رضي الله عنه الآتي في الباب التالي، فيجوز أن تكون رتبة رابعة، وهي أكبر مما دونها. انتهى كلام الحافظ ببعض تصرّف

(1)

.

(قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("أَنْ تَجْعَلَ للهِ نِدًّا) بكسر النون: أي نظيرًا، وقال الفيّوميّ: النِّدُّ بالكسر: المثل، والنَّدِيد مثله، ولا يكون النّدّ إلَّا مخالفًا، والجمع أنداد، مثلُ حِمْل وأَحمال. انتهى.

(1)

"الفتح" 12/ 118 - 119.

ص: 8

وقال النوويّ: النّدّ: المثلُ، رَوَى شمر عن الأخفش، قال: الندّ: الضدّ والشِّبْهُ، وفلان نِدّ فلان، ونَدِيده، ونَدِيدته: أي مثله. انتهى

(1)

.

(وَهُوَ خَلَقَكَ) جملة في محلّ نصب على الحال، أي: والحال أن الله تعالى هو الذي خلقك وحده، دون أن يشاركه في ذلك أحدٌ، حتى يُشْرَك في العبادة.

قال القرطبيّ رحمه الله تعالى: هو نحو قوله تعالى: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 22]، ومعناه: أن اتّخاذ الإنسان إلهًا غير خالقه المنعم عليه، مع علمه بأن ذلك المتَّخَذ ليس هو الذي خلقه، ولا الذي أنعم عليه، من أقبح القبائح، وأعظم الجهالات، وعلى هذا، فذلك أكبر الكبائر، وأعظم العظائم. انتهى

(2)

.

(قَالَ) ابن مسعود رضي الله عنه (قُلْتُ لَهُ) صلى الله عليه وسلم (إِن ذَلِكَ لَعَظِيمٌ) أي إن هذا الذَّنْب، وهو جعل النّدّ لله سبحانه وتعالى لذنبٌ عظيم، لا ذنب فوقه. (قَالَ) ابن مسعود رضي الله عنه (قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟) أي: ثمّ أيُّ شيء يكون أعظم ذنبًا عند الله تعالى بعد جعل الندّ له؟، وتقدّم أن الأولى عدم تنوينه؛ لأنه مضاف لفظًا إلى محذوف، والتقدير: ثم أيُّ ذنب أعظم؟ (قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("ثُمَّ أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ؛ مَخَافَةَ)، وفي رواية للبخاريّ: "خشية

" (أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ") أي لأجل خوفك أن يُشاركك في طعامك، وقال في "الفتح": أي من جهة إيثار نفسه عليه عند عدم ما يكفي، أو من جهة البخل مع الوجدان. انتهى

(3)

.

وخصّ الطعام بالذكر؛ لأنه كان الأغلب من حال العرب، وكذا تقييده بخشية الأكل معه؛ لكون عادتهم أنهم يقتلون أولادهم لخشيتهم ذلك

(4)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله تعالى: هذا من أعظم الذنوب؛ لأنه قتل نفس محرَّمة شرعًا، محبوبة طبعًا، مرحومة عادةً، فإذا قتلها أبوها كان ذلك دليلًا على غلبة الجهل والبخل، وغِلَظ الطبع والقسوة، وأنه قد انتهى من ذلك كلّه

(1)

"شرح مسلم" 2/ 80.

(2)

"المفهم" 1/ 280.

(3)

"فتح" 8/ 352 "كتاب التفسير" رقم (4765).

(4)

راجع: "عمدة القاري" 19/ 135.

ص: 9

إلى الغاية القصوي، وهذا نحو قوله:{وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ} الآية [الأنعام: 151]، أي فقر، وهو خطاب لمن كان فقره حاصلًا في الحال، فيُخفِّف عنه بقتل ولده مؤنته من طعامه ولوازمه، وهذه الآية بخلاف الآية الأخرى التي قال فيها:{خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ} [الإسراء: 31]، فإنه خطاب لمن كان واجدًا لما يُنفق عليه في الحال، غير أنه يقتله مخافة الفقر في ثاني الحال، وكان بعض جُفاة الأعراب وجُهَّالهم ربما يفعلون ذلك، وقد قيل: إن الأولاد في هاتين الآتين هم البنات، كانوا يَدفنونهنّ أحياءً أَنَفَةً وكِبْرًا، ومخافةَ العيلة والْمَعَرّة، وهي الموؤودة التي ذكر الله تعالى:{وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9)} [التكوير: 8، 9].

والحاصل أن أهل الجاهليّة كانوا يصنعون كلّ ذلك، فنهى الله تعالى عن ذلك، وعظّم الإثم فيه، والمعاقبة عليه، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن ذلك من أعظم الكبائر. انتهى

(1)

.

(قَالَ) ابن مسعود رضي الله عنه (قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("ثُمَّ أَنْ تُزَانِيَ حَلِيلَةَ جَارِكَ") بفتح الحاء المهملة بوزن عظيمة، أي التي يحل له وطؤها، وقيل: التي تُحلّ معه في فِراش واحد، وقال في "الفتح": هي مأخوذة من الحِلّ؛ لأنَّها تحلّ له، فهي فَعِيلة بمعنى فاعلة، وقيل: من الحلول؛ لأنَّها تحلّ معه، ويحلّ معها.

وقال القرطبيّ رحمه الله تعالى: "الحليلة": هي التي يحلُّ وطؤها بالنكاح، أو التسرّي.

و"الجار": هو المجاور في المسكن، والداخلُ في جوار العهد، و"تُزاني": أي تحاول الزني، يقال: المرأة تُزاني مُزاناةً، مِن زَني، والزنى وإن كان من أكبر الكبائر والفواحش، لكنه بحليلة الجار أفحش، وأقبح؛ لما يَنضمّ إليه من خيانة الجار، وهَتْك ما عظّم الله تعالى، ورسوله صلى الله عليه وسلم من حرمته، وشدّة قبح ذلك شرعًا وعادةً، فلقد كان الجاهليّة يتمدّحون بصون حرائم الجار، ويغُضّون دونهم الأبصار، كما قال عنترة [من الكامل]:

(1)

"المفهم" 1/ 280 - 281.

ص: 10

وَأَغُضُّ طَرْفِي مَا بَدَتْ لِيَ جَارَتِي

حَتَّى يُوَارِيَ جَارَتِي مَأوَاهَا

(1)

وقال النوويّ رحمه الله تعالى: قوله صلى الله عليه وسلم: "أن تزاني حليلة جارك" هي بالحاء المهملة، وهي زوجته، سُمّيت بذلك؛ لكونها تَحِلّ له، وقيل: لكونها تَحِلّ معه، ومعنى "تزاني": أي تزني بها برضاها، وذلك يتضمن الزنا وإفسادها على زوجها واستمالة قلبها إلى الزاني، وذلك أفحش، وهو مع امرأة الجار أشدّ قبحًا، وأعظم جُرْمًا؛ لأن الجار يتوقع من جاره الذّبّ عنه، وعن حريمه، ويأمن بوائقه، ويطمئن إليه، وقد أُمر بإكرامه، والإحسان إليه، فإذا قابل هذا كلَّه بالزنا بامرأته، وإفسادها عليه، مع تمكّنه منها على وجه لا يتمكّن غيره منه، كان في غاية من القبح. انتهى

(2)

.

وقال القاضي عياضٌ رحمه الله تعالى: قدّم النبيّ صلى الله عليه وسلم هذه الثلاثة الأشياء؛ لاعتياد الجاهليّة بها من الكفر بالله عز وجل، وفاحش الزنا، ووأد البنات، وهي الإشارة بقتل الولد - والله أعلم - لأن العرب إنما كانت تَئِد البنات لوجهين: لفرط الغيرة، ومخافة فضيحة السبي والعار بهنّ، أو لتخفيف نفقاتهن ومؤنهنّ، وهو معنى قوله تعالى:{خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ} الآية، ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم:"مخافة أن يطعَم معك"، وكانوا يتحمّلون ذلك في المذكور لِمَا يُؤمّلون فيهم من شدّ العضُد، وحِماية الجانب، وكثرة العشيرة، وبقاء النسل والذكر، وقد نبَّهَ الله تعالى على هذا بقوله:{وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ} [النحل: 58 - 59].

ثم ذكر الزنا، وخصّه بحليلة الجار؛ لأنه عُظْم بابه، إذ لا يُزاني الرجل غالبًا إلَّا من يُمكنه لقاؤه، ويجاوره في محلّته وقريته.

ونبّه بإضافة الحليلة إلى الجار على عظيم حقّه، وأنه يجب له عليك من الغيرة عليه من الفاحشة ما يجب لحليلتك، والحديث الآخر يُبيّنه. انتهى

(3)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

(1)

"المفهم" 1/ 281.

(2)

"شرح مسلم" 2/ 80.

(3)

"إكمال المعلم" 1/ 409 - 410.

ص: 11

مسائل تتعلَّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه المصنّف هنا في "الإيمان"[39/ 264 و 265](86)، و (البخاريّ) في "التفسير"(4477)، و"الأدب"(6051)، و"الحدود"(6811)، و"الديات"(6861)، و"التوحيد"(7520)، و (أبو داود) في "الطلاق"(2310 و 7532)، و (الترمذيّ) في "التفسير"(3182 و 3183)، و (النسائيّ) في "المحاربة"(4014 و 4015)، و"الكبرى"(3476 و 3477 و 3478)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 380 و 431 و 434 و 462)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(151 و 152)، و (أبو نُعيم) في "مستخرجه"(258 و 259)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(8/ 18)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان أعظم الذنوب، وهو ما تضمّنه هذا الحديث.

2 -

(ومنها): بيان تفاوت الذنوب فيما بينها، فمنها ما هو أكبر، ومنها ما هو كبير، ومنها ما هو صغير، وسيأتي بيان اختلاف العلماء في ذلك - إن شاء الله تعالى -.

3 -

(ومنها): ما قاله النوويّ رحمه الله تعالى: فيه أن أكبر المعاصي الشرك، وهذا ظاهرٌ، لا خفاء فيه، وأن القتل بغير حقّ يليه، وكذلك قال أصحابنا: أكبر الكبائر بعد الشرك القتل، وكذا نصّ عليه الشافعيّ رحمه الله تعالى في "كتاب الشهادات" من "مختصر المزنيّ"، وأما ما سواهما من الزنا، واللواط، وعقوق الوالدين، والسحر، وقذف المحصنات، والفرار يوم الزَّحْف، وَأَكْلِ الربا، وغير ذلك من الكبائر، فلها تفاصيل، وأحكام تُعْرَف بها مراتبها، ويَخْتَلف أمرها باختلاف الأحوال، والمفاسد المترتبة عليها، وعلى هذا يقال في كلّ واحدة منها: هي من أكبر الكبائر، وإن جاء في موضع أنَّها أكبر الكبائر، كان المراد: من أكبر الكبائر، كما تقدم في أفضل الأعمال. انتهى

(1)

، وهو تحقيقٌ نفيسٌ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1)

"شرح مسلم" 2/ 81.

ص: 12

(المسألة الرابعة): في الاختلاف الواقع في سند هذا الحديث:

(اعلم): أنه وقع اختلاف في هذا الإسناد، ولم يُشر إليه المصنّف، وقد أشار إليه الإمام البخاريّ رحمه الله تعالى في "صحيحه"، فقال في "كتاب الحدود":

(6811)

- حدثنا عمرو بن عليّ، حدثنا يحيي، حدثنا سفيان، قال: حدثني منصور، وسليمان، عن أبي وائل، عن أبي مَيْسَرة، عن عبد الله رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، أيُّ الذَّنْب أعظم؟ قال:"أن تجعل لله نِدًّا، وهو خلقك"، قلت: ثم أيّ؟ قال: "أن تَقْتُل ولدك من أجل أن يَطْعَم معك"، قلت: ثم أيّ؟ قال: "أن تزاني حليلة جارك".

قال يحيى: وحدثنا سفيان، حدثني واصل، عن أبي وائل، عن عبد الله، قلت: يا رسول الله مثله، قال عمرو: فذكرته لعبد الرَّحمن، وكان حدثنا عن سفيان، عن الأعمش، ومنصور، وواصل، عن أبي وائل، عن أبي ميسرة، قال: دَعْهُ دَعْهُ.

وقوله: "قال عمرو" هو: ابن عليّ الفلاس، فذكرته لعبد الرَّحمن - يعني ابن مهديّ -.

قال الحافظ رحمه الله تعالى: هكذا ذكره البخاريّ عن عمرو بن عليّ، قَدَّم رواية يحيى على رواية عبد الرَّحمن، وعَفبها بالفاء، وقال الهيثم بن خَلَف فيما أخرجه الإسماعيلي عنه: عن عمرو بن عليّ، حدثنا عبد الرَّحمن بن مهديّ، فساق روايته، وحذف ذكر واصل من السند، ثم قال: وقال عبد الرَّحمن مرّة: عن سفيان، عن منصور، والأعمش وواصل، فقلت لعبد الرَّحمن: حدثنا يحيى بن سعيد، فذكره، فقال عبد الرَّحمن: دَعْهُ.

والحاصل أن الثوريّ حَدَّث بين أبي وائل وبين ابن مسعود أبا ميسرة، وأما واصل فحذفه، فضبطه يحيى القطان عن سفيان هكذا مُفَصَّلًا، وأما عبد الرَّحمن، فحَدَّث به أولًا بغير تفصيل، فحَمَلَ روايةَ واصل على رواية منصور والأعمش، فجمع الثلاثة، وأدخل أبا ميسرة في السند، فلما ذَكَرَ له عمرو بن عليّ أن يحيى فَصَّله، كأنه ترَدَّد فيه، فاقتصر على التحديث به عن سفيان، عن منصور والأعمش حَسْبُ، وترك طريق واصل، وهذا معنى قوله:

ص: 13

"فقال: دَعْهُ دَعْهُ"، أي اتركه، والضمير للطريق التي اختُلِف فيها، وهي رواية واصل، وقد زاد الهيثم بن خَلَف في روايته بعد قوله "دَعْهُ":"فلم يذكر فيه واصلًا بعد ذلك"، فعُرِف أن معنى قوله "دَعْه": أي اترك السند الذي ليس فيه ذكر أبي ميسرة.

وقال الكرمانيّ رحمه الله تعالى: حاصله أن أبا وائل، وإن كان قد رَوَى كثيرًا عن عبد الله، فإن هذا الحديث لَمْ يروه عنه، قال: وليس المراد بذلك الطعن عليه، لكن ظَهَرَ له ترجيح الرواية بإسقاط الواسطة؛ لموافقه الأكثرين.

قال الحافظ: كذا قال، والذي يظهر ما قَدَّمته أنه تركه من أجل التردد فيه؛ لأن ذكر أبي ميسرة، إن كان في أصل رواية واصل، فتحديثه به بدونه يستلزم أنه طَعَنَ فيه بالتدليس، أو بقلة الضبط، وإن لَمْ يكن في روايته في الأصل، فيكون زاد في السند ما لَمْ يسمعه، فاكتفى برواية الحديث عمن لا ترَدُّد عنده فيه، وسَكَتَ عن غيره، وقد كان عبد الرَّحمن حَدَّث به مَرَّةً عن سفيان، عن واصل وحده بزيادة أبي ميسرة، كذلك أخرجه الترمذيّ، والنسائيّ، لكن الترمذي بعد أن ساقه بلفظ واصل عَطَفَ عليه بالسند المذكور طريق سفيان، عن الأعمش ومنصور، قال بمثله، وكأن ذلك كان في أول الأمر.

وذَكَرَ الخطيب هذا السند مثالًا لنوع من أنواع مدرج الإسناد، وذَكَرَ فيه أن محمد بن كثير وافق عبد الرَّحمن على روايته الأولي، عن سفيان، فيصير الحديث عن الثلاثة بغير تفصيل.

قال الحافظ: وقد أخرجه البخاريّ في "الأدب" عن محمد بن كثير، لكن اقتصر من السند على منصور، وأخرجه أبو داود، عن محمد بن كثير، فضم الأعمش إلى المنصور، وأخرجه الخطيب من طريق الطبرانيّ، عن أبي مسلم الليثيّ، عن معاذ بن المثني، ويوسف القاضي - ومن طريق أبي العباس الْبَرْقيّ - ثلاثتهم عن محمد بن كثير، عن سفيان، عن الثلاثة، وكذا أخرجه أبو نعيم في "المستخرج" عن الطبرانيّ، وفيه ما تقدم.

وذكر الخطيب الاختلاف فيه على منصور، وعلى الأعمش، في ذكر أبي ميسرة وحذفه، ولم يُختَلف فيه على واصل في إسقاطه في غير رواية سفيان.

وقد أخرجه الترمذيّ، والنسائيّ من رواية شعبة، عن واصل، بحذف أبي

ص: 14

ميسرة، لكن قال الترمذيّ: رواية منصور أصحّ - يعني بإثبات أبي ميسرة -.

وذكر الدارقطني الاختلاف فيه، وقال: رواه الحسن بن عبيد الله، عن أبي وائل، عن عبد الله، كقول واصل، ونَقَلَ عن الحافظ أبي بكر النيسابوريّ أنه قال: يُشبه أن يكون الثوريّ جمع بين الثلاثة لَمّا حَدَّث به ابن مهديّ، ومحمد بن كثير، وفَصَّلَه لَمّا حَدَّث به غيرهما - يعني: فيكون الإدراج من سفيان، لا من عبد الرَّحمن، والعلم عند الله تعالى. انتهى كلام الحافظ رحمه الله تعالى، وهو بحثٌ نفيسٌ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[265]

(

) - (حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، جَمِيعًا عَنْ جَرِيرٍ، قَالَ عُثْمَانُ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الأَعْمَش، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُرَحْبِيلَ، قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللهِ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ الله، أَيُّ الذَّنْبِ أَكبَرُ عِنْدَ اللهِ؟ قَالَ: "أَنْ تَدْعُوَ للهِ نِدًّا، وَهُوَ خَلَقَكَ"، قَالَ: ثُمَّ أَيّ؟ قَالَ: "أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ؟ مَخَافَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ"، قَالَ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: "أَنْ تُزَانِيَ حَلِيلَةَ جَارِكَ"، فَأَنْزَلَ اللهُ تَصْدِيقَهَا: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68)} [الفرقان: 68]).

رجال هذا الإسناد: ستة، وهم المذكورون في السند الماضي، غير:

1 -

(الأعمش) سليمان بن مِهْرَان، الإمام الحافظ الحجة المثبت [5](ت 147)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" ج 1 ص 297.

وقوله: (فَأَنْزَلَ الله عز وجل تَصْدِيقَهَا) أي ما يُصدّق هذه المقالة من القرآن، ولفظ البخاريّ:"قال: ونزلت هذه الآية تصديقًا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ} "، قال في "الفتح": هكذا قال ابن مسعود، والقتل والزنا في الآية مطلقان، وفي الحديث مقيَّدان، أما القتل فبالولد خشية الأكل معه، وأما الزنا فبزوجة الجار، والاستدلال لذلك بالآية سائغٌ؛ لأنَّها وإن وردت في مطلق الزنا

ص: 15

والقتل، لكن قتل هذا، والزنا بهذا أكبر وأفحش، وقد روى أحمد

(1)

، من حديث المقداد بن الأسود رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما تقولون في الزنا؟ "، قالوا: حرام، قال:"لأن يزني الرجل بعشرة نسوة أيسر عليه من أن يزني بامرأة جاره"

(2)

.

قال القرطبي رحمه الله تعالى: ظاهر هذا أن هذه الآية نزلت بسبب هذا الذَّنْب الذي ذكره النبيُّ صلى الله عليه وسلم، وليس كذلك؛ لأن الترمذيّ قد روى هذا الحديث، وقال فيه: وتلا النبيُّ صلى الله عليه وسلم هذه الآية: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} الآية، بدل "فأنزل الله"، وظاهره أنه صلى الله عليه وسلم قرأ بعد ذكر هذا الحديث ما قد كان أُنزل منها، على أن الآية تضمّنت ما ذكره في حديثه بحكم عمومها. انتهى كلام القرطبيّ

(3)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هكذا رجَّح القرطبيّ رواية الترمذيّ على رواية الشيخين، من أن الآية نزلت بسبب هذا السؤال، لكن الذي يظهر أن ما فيهما أصحّ، فتبصّر، والله تعالى أعلم.

(1)

قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى في "مسنده":

(33342)

- حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا محمد بن فضيل بن غزوان، حدثنا محمد بن سعد الأنصاري، قال: سمعت أبا ظبية الكلاعي، يقول: سمعت المقداد بن الأسود، يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: "ما تقولون في الزنا؟ "، قالوا: حرَّمه الله ورسوله، فهو حرام إلى يوم القيامة، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: "لأن يزني الرجل بعشر نسوة، أيسر عليه من أن يزني بامرأة جاره"، قال: فقال: ما تقولون في السرقة؟ "، قالوا: حرّمها الله ورسوله، فهي حرام، قال: "لأن يسرق الرجل من عشرة أبيات، أيسر عليه من أن يسرق من جاره".

وهذا إسناد صحيح، ومحمد بن سعد الأنصاريّ، روى عنه جماعة، وقال فيه ابن معين: ليس به بأس، ووثقه ابن حبّان، وأبو ظبيَّة الكلاعيّ روى عنه جماعة، ووثقه ابن معين، وابن حبان، وقال الدارقطنيّ: لا بأس به، والباقون من رجال الصحيح.

(2)

"فتح" 8/ 352 "كتاب التفسير" رقم (4765).

(3)

"المفهم" 1/ 281 - 282.

ص: 16

وقوله: ({وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ}) معناه: أي لا تقتلوا النفس التي هي معصومة في الأصل إلَّا مُحِقِّين في قتلها، وقيل: معنى {إِلَّا بِالْحَقِّ} : أي ما يَحِقّ أن تُقتَل به النفوس، مِن كُفْر بعد إيمان، أو زنى بعد إحصان

(1)

.

وقوله: ({وَلَا يَزْنُونَ}) أي يستحلون الفروج بغير نكاح، ولا ملك يمين، قال القرطبيّ: دَلّت هذه الآية على أنه ليسس بعد الكفر أعظم من قتل النفس بغير الحق، ثم الزني، ولهذا ثبت في حد الزنى القتل لمن كان محصنًا، أو أقصى الجلد لمن كان غير محصن. انتهى

(2)

.

وقوله: ({وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا}) قيل: معناه جزاءَ إثمه، وهو قول الخليل، وسيبويه، وأبي عمرو الشيبانيّ، والفراء، والزجاج، وأبي عليّ الفارسيّ، وقيل: معناه عقوبةً، قاله يونس، وأبو عبيدة، وقيل: معناه جزاءً، قاله ابن عباس، والسديّ، وقال أكثر المفسرين، أو كثيرون منهم: هو وادٍ في جهنم، عافانا الله الكريم، وأحبابنا منها، قاله النوويّ

(3)

.

وقال أبو عبد الله القرطبي رحمه الله تعالى، في "تفسيره" 13/ 75:

قوله تعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} إخراجٌ لعباده المؤمنين من صفات الكفرة في عبادتهم الأوثان، وقتلهم النفس بِوَاد البنات وغير ذلك من الظلم، والاغتيال، والغارات، ومن الزنى الذي كان عندهم مباحًا، وقال من صرف هذه الآية عن ظاهرها من أهل المعاني: لا يليق بمن أضافهم الرَّحمن إليه إضافةَ الاختصاص، وذكرهم ووصفهم من صفات المعرفة والتشريف وقوعُ هذه الأمور القبيحة منهم، حتى يُمدَحوا بنفيها عنهم؛ لأنهم أعلى وأشرف، فقال: معناها: لا يدعون الهوى إلهًا، ولا يُذِلّون أنفسهم بالمعاصي، فيكون قتلًا لها، ومعنى {إِلَّا بِالْحَقِّ} أي بسكين الصبر، وسيف المجاهدة، فلا ينظرون إلى نساء ليست لهم بمحرم بشهوة، فيكون سفاحًا، بل بالضرورة، فيكون كالنِّكَاح، قال شيخنا أبو العباس: وهذا كلام رائقٌ، غير أنه

(1)

"تفسير القرطبيّ" 13/ 76.

(2)

"تفسير القرطبي" 13/ 76.

(3)

"شرح مسلم" 2/ 80 - 81.

ص: 17

عند السبر مائقٌ، وهي نبعة باطنية، ونزعة باطلية، وإنما صَحَّ تشريف عباد الله باختصاص الإضافة، بعد أن تَحَلَّوا بتلك الصفات الحميدة، وتَخَلَّوا عن نقائض ذلك من الأوصاف الذميمة، فبدأ في صدر هذه الآياتِ بصفات التحلي؛ تشريفًا لهم، ثم أعقبها بصفات التخلي؛ تبعيدًا لها، والله أعلم.

قال أبو عبد الله القرطبيّ: ومما يدلُّ على بطلان ما ادّعاه هذا القائل، من أن تلك الأمور ليست على ظاهرها، ما رَوَى مسلم

(1)

من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، أيّ الذَّنْب أكبر عند الله؟ قال:"أن تدعو لله نِدًّا، وهو خلقك"، قال: ثم أيّ؟ قال: "أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك"، قال: ثم أيّ؟ قال: "أن تزاني حليلة جارك"، فأنزل الله تعالى تصديقها:{وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68)} ، والأثام في كلام العرب: العقاب، وبه قرأ ابن زيد، وقتادة هذه الآية، ومنه قول الشاعر [من الوافر]:

جَزَى اللهُ ابْنَ عُرْوَةَ حَيْثُ أَمْسَى

عُقُوقًا وَالْعُقُوقُ لَهُ أَثَامُ

أي جزاءً وعقوبةً، وقال عبد الله بن عمرو، وعكرمة، ومجاهد: إن {أَثَامًا} وادٍ في جهنم جعله الله عقابًا للكفرة، قال الشاعر [من المتقارب]:

لَقِيتُ الْمَهَالِكَ فِي حَرْبِنَا

وَبَعْدَ الْمَهَالِكِ تُلْقِي أَثَامَا

وقال السُّديّ: جبل فيها، قال:

وَكَانَ مَقَامُنَا نَدْعُو عَلَيْهِمْ

بِأَبْطَحِ ذِي الْمَجَازِ لَهُ أَثَامُ

وفي "صحيح مسلم" أيضًا: عن ابن عباس، أن ناسًا من أهل الشرك قتلوا فأكثروا، وزنوا فأكثروا، فأتوا محمدًا صلى الله عليه وسلم، فقالوا: إن الذي تقول، وتدعو إليه لحسنٌ، ولو تُخبرنا أن لما عملنا كفارةً، فنزلت:{وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68)} ، ونزل:{يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} [الزمر: 53] الآية، وقد قيل: إن هذه الآية: {يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا} نزلت في وحشيّ، قاتل حمزة، قاله

(1)

الأولى ما رواه الشيخان، فتنبّه.

ص: 18

سعيد بن جبير، وابن عباس رضي الله عنهم. انتهى كلام القرطبيّ

(1)

.

وتمام شرح الحديث، ومسائله تقدّمت في الذي قبله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(40) - (بَابُ ذِكْرِ الْكَبَائِر، وَبَيَانِ أكبَرِهَا)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[266]

(87) - (حَدَّثَني عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ بُكَيْرِ بْنِ مُحَمَّدٍ النَّاقِدُ، حَدَّثنَا إِسْمَاعِيلُ ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ سَعِيدٍ الْجُرَيْرِيّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرَةَ، عَنْ أَبِيه، قَالَ: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: "أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ؟ - ثَلَاثًا - الإِشْرَاكُ بِالله، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْن، وَشَهَادَةُ الزُّور، أَوْ قَوْلُ الزُّورِ"، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مُتَّكِئًا، فَجَلَسَ، فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا، حَتَّى قُلْنَا: لَيْتَهُ سَكَتَ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ بُكَيْرِ بْنِ مُحَمَّدٍ النَّاقِدُ) أبو عثمان البغداديّ، نزيل الرَّقّة، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 232)(خ م د س) تقدم في "المقدمة" 4/ 23.

2 -

(إِسْمَاعِيلُ ابْنُ عُلَيَّةَ) هو ابن إبراهيم بن مِقْسَم الأسديّ مولاهم، أبو بشر البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [8](ت 193) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.

3 -

(سَعِيدٌ الْجُرَيْرِيُّ) - بضمّ الجيم مصغّرًا - هو سعيد بن إياس أبو مسعود البصريّ، ثقة اختلط قبل موته بثلاث سنين [5].

رَوَى عن أبي الطُّفَيل، وأبي عثمان النَّهْديّ، وعبد الرَّحمن بن أبي بكرة، وأبي نضرة العبدي، وأبي العلاء يزيد بن عبد الله بن الشِّخّير، وعبد الله بن شقيق، وغيرهم.

ورَوَى عنه ابن عُلَيّة، وبشر بن المفضل، وجعفر الضُّبَعي، وأبو قُدَامة،

(1)

"الجامع لأحكام القرآن" 13/ 75 - 76.

ص: 19

والحمادان، والثوري، وشعبة، وابن المبارك، وأبو أسامة، ووهيب، ومعمر، وغيرهم.

قال أبو طالب عن أحمد: الْجُريري محدث أهل البصرة، وقال الدوريّ، عن ابن معين: ثقة، وقال أبو حاتم: تغير حفظه قبل موته، فمن كتب عنه قديمًا فهو صالح، وهو حسن الحديث، وقال يحيى القطان عن كهمس: أنكرنا الجريري أيام الطاعون، وقال ابن سعد عن يزيد بن هارون: سمعت من الجريري سنة (42)، وهي أول سنة دخلت البصرة، ولم نُنْكِر منه شيئًا، وكان قيل لنا: إنه قد اختلط، وسمع منه إسحاق الأزرق بعدنا، وقال أحمد بن حنبل، عن يزيد بن هارون: ربما ابتدأنا الجريريُّ، وكان قد أُنكر، وقال ابن معين، عن ابن عَدِيّ: لا نَكْذِب الله سمعنا من الجريري وهو مختلط، وقال الآجري، عن أبي داود: أرواهم عن الجريري ابنُ عُلَيّة، وكل من أدرك أيوب فسماعه من الجريري جَيِّد، وقال النسائي: ثقة أنكر أيام الطاعون، وقال ابن معين: قال يحيى بن سعيد لعيسى بن يونس: أسمعت من الجريري؟ قال: نعم، قال: لا ترو عنه - يعني: لأنه سمع منه بعد اختلاطه -، وقال الدُّوري عن ابن معين: سمع يحيى بن سعيد من الجريري، وكان لا يروي عنه، وقال ابن سعد: كان ثقة - إن شاء الله - إلَّا أنه اختلط في آخر عمره. وقال عبد الله بن أحمد عن أبيه: سألت ابن علية: أكان الجريري اختلط؟ فقال: لا، كَبِرَ الشيخ فَرَقّ، وقال النسائي: هو أثبت عندنا من خالد الحذاء. وقال العجلي: بصري ثقة، واختلط بآخره، رَوَى عنه في الاختلاط يزيد بن هارون، وابن المبارك، وابن أبي عديّ، وكُلُّ ما روى عنه مثل هؤلاء الصغار فهو مختلط، إنما الصحيح عنه حماد بن سلمة، والثوري، وشعبة، وابن علية، وعبد الأعلى من أصحهم سماعًا منه قبل أن يختلط بثماني سنين. انتهى.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن بما ذُكر أن أحاديث الجريريّ لا تصحّ إلَّا إذا جاءت من طريق قدماء أصحابه، وهم المذكورون في كلام العجليّ، فتنبّه، وإلى هذا أشرت في "ألفيّة العلل"، حيث قلت:

وَمِنْهُمُ

(1)

سَعِيدٌ الْجُرَيْرِي

مُخْتَلِطٌ مُلَقَّنٌ لِلضَّيْرِ

(1)

أي من الثقات الذين اختلطوا.

ص: 20

قَبْلَ اخْتِلَاطِهِ رَوَى الثَّوْرِيُّ

بِشْرٌ وَإِسْمَاعِيلُ يَا أُخَيُّ

وَبَعْدَهُ يَزِيدُ عِيسَى وَكَذَا

نَجْلُ أَبِي عَدِيٍّ أَيْضًا أَخَذَا

وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ عَنْهُ مَا اخْتَلَطْ

بَلْ كَبِرَ الشَّيْخُ فَرَقَّ مَا ضَبَطْ

فقوله: "بشر" هو ابن المفضّل، و"إسماعيل" هو ابن عليّة، و"يزيد" هو ابن هارون، وعيسى "هو ابن يونس"، و"نجل ابن أبي عديّ" هو محمد بن إبراهيم، والله تعالى أعلم.

وقال ابن سعد: قالوا: توفي سنة (144). وكذا أرّخه ابن حبان، وقال: كان قد اختلط قبل أن يموت بثلاث سنين، ورآه يحيى بن سعيد القطان، وهو مختلط، ولم يكن اختلاطه فاحشًا.

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (38) حديثًا.

[تنبيه]: قوله: "الْجُريريُّ" - بضم الجيم، وفتح الراء، مصغّرًا -: نسبة إلى جُرَير بن عُبَاد

(1)

بن ضُبيعة بن قيس بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن عليّ بن بكر بن وائل، قال السَّمْعاني: وإنما قيل لسعيد بن إياس: الْجُريريّ؛ لأنه من ولد جُرَير بن عباد أخى الحارث بن عباد، وقد قيل: إنه من مولى بني قيس بن ثعلبة بن بكر بن وائل. انتهى

(2)

. والله تعالى أعلم.

4 -

(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرَةَ) نُفيع بن الحارث الثقفيّ، أبو بَحْر، ويقال: أبو حاتم البصريّ، وهو أول مولود، وُلد في الإسلام بالبصرة، ثقة [2].

رَوَى عن أبيه، وعلي، وعبد الله بن عمرو بن الأسود بن سَرِيع، والأشجّ الْعَصَري.

وَرَوَى عنه ابن أخيه ثابت بن عبيد بن أبي بكرة، وابن ابنه بحر بن مَرّار بن عبد الرَّحمن، وخالد الحذاء، ومحمد بن سيرين، وعلي بن زيد، وقتادة، وجماعة.

ذكره ابن حبان في "الثقات". وقال ابن سعد: هو أول مولود وُلد

(1)

"عُبَاد - بضم العين، وتخفيف الباء - بطن من بكر بن وائل". انتهى. "شرح النوويّ " 2/ 84.

(2)

راجع: "الأنساب" 2/ 78.

ص: 21

بالبصرة، فَأَطعَم أبوه أهلَ البصرة جَزُورًا، فكفتهم، وكان ثقةً، وله أحاديث ورواية، وقال ابن خلفون في "الثقات": يقال: وُلد سنة (14)، ومات سنة (96)، وكذا أَرَّخ وفاته إسحاق القَرّاب، وقال خليفة: تُوُفّي بعد الثمانين، وقال العجلي: بصري تابعي ثقة، وقال البلاذريّ: حدثني أبو الحسن البلاذري، حدثني أبو الحسن المدائني، قال: كان عبد الرَّحمن بن أبي بكرة فَرّاسًا، وشارف التسعين، ووقع في بعض النسخ من "مختصر السنن" للمنذري بتقديم السين على الباء، وهو خطأ، وقال أبو هلال: كان زياد وَلَّى عبدَ الرَّحمن بيوتَ الأموال، وَوَلَّى عبدَ الله سجستان، وقال أبو اليقظان: ولاه عَلِيّ بيت المال ثم ولاه ذاك زياد.

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (12) حديثًا.

5 -

(أَبُوهُ) هو: نُفيع بن الحارث بن كَلَدة بن عمرو الثقفيّ، وقيل: اسمه مَسْرُوح، الصحابيّ المشهور رضي الله عنه، مات سنة إحدى وخمسين: وقيل: سنة ثنتين وخمسين (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 70، والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله تعالى، وفيه التحديث بالإفراد في الأول، والجمع في موضعين، والعنعنة.

2 -

(ومنها): أن رجاله كلّهم رجال الجماعة، سوى شيخه، في أخرج له الترمذيّ وابن ماجة.

3 -

(ومنها): أنه مسلسل بثقات البصريين، غير شيخه، فبغداديّ.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية الراوي عن أبيه، وتابعيّ عن تابعيّ: سعيد عن عبد الرَّحمن.

5 -

(ومنها): أن فيه من لُقِّب بصورة الكنية، وهو أبو بكرة رضي الله عنه، فإنه لقّب؛ لأنه تدلّى من حصن ثقيف ببكرة البئر، فأسلم، وكان عبدًا، فأعتقه النبيّ صلى الله عليه وسلم، ومن معه من العبيد، وكانوا جماعة.

6 -

(ومنها): أن عبد الرَّحمن أول مولود في الإسلام بالبصرة، كما سبق آنفًا، والله تعالى أعلم.

ص: 22

شرح الحديث:

عن (عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ، عَنْ أَبِيهِ) نُفَيع بن الحارث رضي الله عنه، أنه (قَالَ: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:"أَلَا) أداة استفتاح، وتنبيه (أُنَبِّئُكُمْ)، وفي رواية للبخاري: "ألا أخبركم"، وهي رواية أبي عوانة في "المستخرج"، (بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ) قال الشيخ ابن دقيق العيد رحمه الله: هذا يدلّ على انقسام الذنوب إلى صغائر وكبائر، وعليه أيضًا يدلّ قوله تعالى:{إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ} [النساء: 31]، وفي الاستدلال بهذا الحديث على ذلك نظر؛ لأن من قال: كلّ ذنب كبيرة، فالكبائر والذنوب عنده متواردان على شيء واحد، فكأنه قيل: ألا أنبئكم بأكبر الذنوب؟، وعن بعض السلف: أن كلّ ما نهى الله عز وجل عنه فهو كبيرة، وظاهر القرآن والحديث على خلافه، ولعله أخذ الكبيرة باعتبار الوضع اللغويّ، ونَظَرَ إلى عِظَم المخالفة للأمر والنهي، وسَمَّى كلّ ذنب كبيرة.

قال: ويدلّ أيضًا على انقسام الكبائر في عظمها إلى كبير وأكبر، لقوله صلى الله عليه وسلم:"ألا أنبّئكم بأكبر"، وذلك بحسب تفاوت مفاسدها، ولا يلزم من كون الذي ذكره أنه أكبر الكبائر استواء رُتبها في نفسها، فإن الإشراك بالله تعالى أعظم كبيرة من كلّ ما عداه من الذنوب المذكورة في الأحاديث التي ذُكر فيها الكبائر. انتهى

(1)

.

[تنبيه]: قوله: "أكبر الكبائر" ليس على ظاهره من الحصر، بل "من" فيه مقدرةٌ، فقد ثبت في أشياء أُخَر أنَّها من أكبر الكبائر:

(منها): حديث أنس رضي الله عنه في قتل النفس، فقد وقع في رواية للبخاريّ في "الديات" من طريق شعبة، عن ابن أبي بكرة، أنه سمع أنسًا، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "أكبر الكبائر الإشراك بالله، وقتل النفس

" الحديث.

(ومنها): حديث ابن مسعود رضي الله عنه المتقدّم: "أيُّ الذَّنْب أَعظم؟ "، فذكر فيه الزنا بحليلة الجار.

(ومنها): حديث عبد الله بن أُنيس الجهني رضي الله عنه مرفوعًا قال: "من أكبر الكبائر

" فذكر منها: "اليمين الغموس"، أخرجه الترمذيّ بسند حسن، وله شاهد من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، عند أحمد.

(1)

"إحكام الأحكام" بنسخة الحاشية "العدّة" 4/ 438.

ص: 23

(ومنها): حديث أبي هريرة رضي الله عنه رفعه: "إن من أكبر الكبائر استطالةَ المرء في عرض رجل مسلم"، أخرجه ابن أبي حاتم بسند حسن.

(ومنها): حديث بريدة رضي الله عنه رفعه: "من أكبر الكبائر

" فذكر منها: منع فضل الماء، ومنع الفحل. أخرجه البزار بسند ضعيف.

(ومنها): حديث ابن عمر رضي الله عنهما ارفعه: "أكبر الكبائر سوء الظن بالله"، أخرجه ابن مردويه بسند ضعيف.

ويَقرُب منه حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: "ومن أظلم ممن ذَهَب يخلُقُ كخلقي

"الحديث، متَّفقٌ عليه.

(ومنها): حديث عائشة رضي الله عنها مرفوعًا: "أبغض الرجال إلى الله الألدّ الخصم"، متَّفقٌ عليه.

(ومنها): حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما مرفوعًا: "من أكبر الكبائر أن يسب الرجل أباه

"، ولكنه من جملة العقوق، والله تعالى أعلم.

(ثَلَاثًا) أي قال لهم ذلك ثلاث مرّات على عادته في تكرير الشيء ثلاث مرّات؛ تأكيدًا؛ لينتبه السامع على إحضار قلبه وفهمه للخبر الذي يذكره، وفهم منه الفاكهيّ أن المراد بقوله:"ثلاثًا" عدد الكبائر، وهو غلطٌ، فقد وقع عند البخاريّ في "كتاب استتابة المرتدّين" بلفظ:"أكبر الكبائر: الإشراك، وعقوق الوالدين، وشهادة الزور" ثلاثًا، وأصرح منه ما وقع عند أبي عوانة في "مسنده" بلفظ:"أَلا أخبركم بأكبر الكبائر، قالها ثلاثًا"، وقد ترجم البخاريّ رحمه الله في "كتاب العلم"، "باب من أعاد الحديث ثلاثًا؛ ليُفهم عنه"، وذكر فيه طرفًا من هذا الحديث تعليقًا

(1)

.

(الإِشْرَاكُ بِاللهِ) قال الشيخ ابن دقيق العيد رحمه الله تعالى: يحتمل أن يراد به مطلق الكفر، فيكون تخصيصه بالذكر لغلبته في الوجود، ولا سيّما في بلاد العرب، فذكره تنبيهًا على غيره من أصناف الكفر، ويحتمل أن يُراد به خصوصه، إلَّا أنه يَرِد على هذا الاحتمال أنه قد يظهر أن بعض الكفر أعظم قُبْحًا من الإشراك، وهو التعطيل؛ لأنه نفيٌ مطلقٌ، والإشراك إثبات مقيَّدٌ،

(1)

"الفتح" 5/ 311 "كتاب الشهادات" رقم (2654).

ص: 24

فيترجّح الاحتمال الأول على هذا. انتهى

(1)

.

(وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ) أي عصيانهما، وترك الإحسان إليهما، وأصل الْعَقّ: الشقّ، يقال: عقّ ثوبه، كما يقال: شقّه بمعناه، ومنه يقال: عقّ الولد أباه عُقُوقًا، من باب قَعَدَ: إذا عصاه، وترك الإحسان إليه، فهو عاقّ، والجمع عَقَقَةٌ، قاله في "المصباح"

(2)

.

وقال في "المفهم": "عقوق الوالدين": عصيانهما، وقطع البرّ الواجب عنهما، وأصل العَقّ: الشقّ والقطع، ومنه قيل للذبيحة عن المولود: عقيقةً؛ لأنه يُشَقّ حُلقُومها، قاله الهرويّ وغيره

(3)

.

وقال في "الفتح": "الْعُقُوق" بضمّ العين المهملة: مشتقّ من العقّ، وهو القطع، والمراد به صدور ما يتأذّى به الوالد من ولده، من قول أو فعل إلَّا في شرك، أو معصية ما لَمْ يتعنّت الوالد، وضبطه ابن عطيّة بوجوب طاعتهما في المباحات فعلًا وتركًا، واستحبابها في المندوبات، وفروض الكفاية كذلك، ومنه تقديمهما عند تعارض الأمرين، وهو كمن دَعَته أمه ليمرّضها مثلًا، حيث يفوت عليه فعل واجب إن استمرّ عندها، ويفوت ما قصدته من تأنيسه لها، وغير ذلك لو تركها وفعله، وكان مما يمكن تداركه مع فوات الفضيلة، كالصلاة أول الوقت، أو في الجماعة. انتهى

(4)

.

وقال النوويّ في "شرحه": أما عقوق الوالدين، فهو مأخوذ من الْعَقّ، وهو القطع، وذَكَرَ الأزهريّ أنه يقال: عَقَّ والده يَعُقُّه - بضم العين - عَقًّا وعُقُوقًا: إذا قطعه، ولم يَصِلْ رحمه، وجمع العاقّ: عَقَقَةٌ - بفتح الحروف كلها - وعُقُقٌ - بضم العين والقاف -، وقال صاحب "المحكم": رجلٌ عاقٌّ، وعَقَّ بالفتح، وعَقَقٌ محرّكة، وعُقُقٌ بضمّتين، وجمع الأولى عَقَقَةٌ مُحرَّكةً، وكلها بمعنى واحد، وهو الذي شَقَّ عصا الطاعة لوالده، هذا قول أهل اللغة.

وأما حقيقة العقوق المحرَّم شرعًا، فقَلَّ مَن ضبطه، وقد قال الشيخ الإمام أبو محمد بن عبد السلام رحمه الله تعالى: لَمْ أقف في عقوق الوالدين، وفيما

(1)

المصدر السابق.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 422.

(3)

"المفهم" 1/ 282.

(4)

"الفتح" 10/ 419 - 420.

ص: 25

يختصان به من الحقوق على ضابط أَعْتمده، فإنه لا يجب طاعتهما في كلّ ما يأمران به، وينهيان عنه باتفاق العلماء، وقد حُرِمَ على الولد الجهاد بغير إذنهما؛ لما يَشُقّ عليهما مِن توقُّع قتله، أو قطع عضو من أعضائه، ولشدة تفجعهما على ذلك، وقد أُلْحِق بذلك كلُّ سفر يخافان فيه على نفسه، أو عضو من أعضائه. انتهى كلام الشيخ أبي محمد.

وقال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله تعالى في "فتاويه": العُقُوق المحرَّم كلُّ فعل يتأذى به الوالد أو نحوه تأذيًا، ليس بالْهَيِّن، مع كونه ليس من الأفعال الواجبة، قال: وربما قيل: طاعةُ الوالدين واجبة في كلّ ما ليس بمعصية، ومخالفة أمرهما في ذلك عقوقٌ، وقد أوجب كثير من العلماء طاعتهما في الشبهات، قال: وليس قولُ مَن قال من علمائنا: يجوز له السفر في طلب العلم، وفي التجارة بغير إذنهما، مُخالِفًا لما ذكرته، فإن هذا كلام مطلق، وفيما ذكرته بيان لتقييد ذلك المطلق، والله أعلم. انتهى كلام النوويّ بزيادة في الضبط

(1)

.

(وَشَهَادَةُ الزُّورِ) أي الشهادة بالكذب والباطل، وإنما كانت من أكبر الكبائر؛ لأنَّها يُتوصَّل بها إلى إتلاف النفوس والأموال، وتحليل ما حرّم الله، وتحريم ما حلّل الله، فلا شيء من الكبائر أعظم ضررًا، ولا أكثر فسادًا منها بعد الشرك

(2)

.

(أَوْ قَوْلُ الزُّورِ) هكذا في رواية ابن عليّة عن الجريريّ بـ "أو"، وفي رواية خالد، عنه:"إلا وقول الزور، وشهادة الزور" بالواو، قال الشيخ ابن دقيق العيد رحمه الله تعالى: يحتمل أن يكون من باب ذكر الخاصّ بعد العامّ؛ لأن كلَّ شهادة زور قول زور، بخلاف عكسه.

وقال النوويّ رحمه الله تعالى: أما الزور، فقال الثعلبيّ المفسر، وأبو إسحاق وغيره: أصله تحسين الشيء، ووصفه بخلاف صفته، حتى يُخَيَّل إلى

(1)

"شرح مسلم" 2/ 87 بزيادة من "القاموس" في ألفاظ العقوق.

(2)

"المفهم" 1/ 282.

ص: 26

من سمعه أو رآه أنه بخلاف ما هو به، فهو تمويه الباطل بما يُوهِم أنه حَقّ. انتهى

(1)

.

وقال في "الفتح": وضابط الزور وَصْفُ الشيء على خلاف ما هو به، وقد يُضاف إلى القول، فيشمل الكذب والباطل، وقد يُضاف إلى الشهادة، فيختصّ بها، وقد يضاف إلى الفعل، ومنه "لابس ثوبي زور"، ومنه تسمية الشعر الموصول زُورًا، كما سيأتي في موضعه، وقد اختُلف في المراد بقوله تعالى:{وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} [الفرقان: 72]، والراجح أن المراد به الباطل، والمراد أنهم لا يحضرونه. انتهى

(2)

.

وقال ابن دقيق العيد رحمه الله تعالى: ينبغي أن يُحمل قول الزور على شهادة الزور؛ لأنا لو حملناه على الإطلاق لزم أن تكون الكذبة الواحدة مطلقًا كبيرة، وليس كذلك، وقد نصّ الفقهاء على أن الكذبة الواحدة، وما يقاربها لا تُسقط العدالة، ولو كانت كبيرة لأسقطت، وقد نصّ الله تعالى على عظم بعض الكذب، فقال تعالى:{وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (112)} [النساء: 112]، وعظم الكذب ومراتبه متفاوتة بحسب تفاوت مفاسده، وقد نَصَّ في الحديثِ الصحيح على أن الغيبة والنميمة كبيرة، والغيبة تختلف بحسب القول المغتاب به، فالغيبة بالقذف كبيرة؛ لإيجابها الحدّ، ولا تساويها الغيبة بقبح الخِلْقة، أو الهيئة في اللباس مثلًا، وليس العقوق، وقول الزور مساويًا للإشراك بالله قطعًا إلَّا إذا فعل ذلك معتقدًا حلّه، ومعلوم أن الكافر شاهد بالزور، وقائل به. انتهى

(3)

.

وقال غيره: يجوز أن يكون من عطف الخاصّ على العامّ؛ لأن كلّ شهادة زور قول زور بغير عكس، ويُحْمَل قول الزور على نوع خاص منه.

ورجّح الحافظ ما قاله الشيخ ابن دقيق العيد، قال: ويؤيده وقوع الشك في ذلك في حديث أنس رضي الله عنه الذي بعده، فدلّ على أن المراد شيء واحد.

(1)

"شرح مسلم" 2/ 84.

(2)

"الفتح" 10/ 426 "كتاب الأدب" رقم الحديث (5977).

(3)

"إحكام الأحكام" 4/ 444، و"الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" 10/ 38 - 39.

ص: 27

وزعم بعضهم أن المراد بشهادة الزور في هذا الحديث الكفر، فإن الكافر شاهد بالزور، وهو ضعيف، وقيل: المراد مَن يستحل شهادة الزور، وهو بعيد. انتهى

(1)

.

(وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مُتَّكِئًا، فَجَلَسَ) جلوسه صلى الله عليه وسلم بعد أن كان متْكئًا يُشعر بأنه اهتمّ بهذا الأمر، وهو يفيد تأكيد تحريمه، وعِظَم قبحه، وسببُ الاهتمام بذلك كون قول الزور، أو شهادة الزور أسهل وقوعًا على الناس، والتهاون بها أكثر، فإن الإشراك ينبو عنه قلب المسلم، والعُقُوق يَصرف عنه الطبع، وأما الزور فالحوامل عليه كثيرة، كالعداوة، والحسد، وغيرهما، فاحتيج إلى الاهتمام بتعظيمه، وليس ذلك لعظمها بالنسبة إلى ما ذُكِر معها من الإشراك قطعًا، بل لكون مفسدة الزور متعدّية إلى غير الشاهد، بخلاف الشرك، فإن مفسدته قاصرة غالبًا

(2)

.

(فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا) أي يكرّر جملة "شهادة الزور"، أو قول الزور، ولفظ البخاريّ في "كتاب الأدب":"فقال: إلا وقول الزور، وشهادة الزور، إلا وقول الزور، وشهادة الزور، فما زال يقولها، حتى قلت: لا يسكت"، (حَتَّى قُلْنَا: لَيْتَهُ سَكَتَ) إنما قالوه، وتَمَنَّوه شفقةً على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكراهةً لما يُزْعِجُهُ، ويُغْضِبُهُ، وفيه ما كانوا عليه من كثرة الأدب معه صلى الله عليه وسلم، والمحبّة له، والشفقة عليه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي بكر رضي الله عنه هذا متَّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا في "الإيمان"[40/ 266](87)، و (البخاريّ) في "الشهادات"(2654)، و"الأدب"(5976)، و"الاستئذان"(6273 و 6274)،

(1)

راجع: "الفتح" 10/ 425 - 426 "كتاب الأدب" رقم الحديث (5977).

(2)

"الفتح" 5/ 311.

ص: 28

و"استتابة المرتدّين"(6919)، و (الترمذيّ) في البرّ والصلة (1901)، و"الشهادات" و (2301)، و"تفسير القرآن"(3019)، وفي "الشمائل"(131)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 36 و 38)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(146)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(260)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان الكبائر، وأكبرها، وهو الشرك، وهو وجه المناسبة لإيراده في هذا الباب.

2 -

(ومنها): بيان انقسام الذنوب إلى كبير وأكبر، ويؤخذ منه ثبوت الصغائر؛ لأن الكبيرة بالنسبة إليها أكبر منها، والاختلاف في ثبوت الصغائر مشهور، وأكثر ما تمسك به مَن قال: ليس في الذنوب صغيرة كونه نَظَرَ إلى عِظَم المخالفة لأمر الله ونهيه، فالمخالفة بالنسبة إلى جلال الله كبيرة، لكن لمن أثبت الصغائر أن يقول: هي بالنسبة لما فوقها صغيرة، كما دلّ عليه حديث الباب، وقد فُهِمَ الفرقُ بين الصغيرة والكبيرة من مَدَارك الشرع، وسيأتي في أبواب الصلاة ما يُكَفِّر الخطايا ما لَمْ تكن كبائر، فَثَبَتَ به أن من الذنوب ما يُكَفَّر بالطاعات، ومنها ما لا يُكَفَّر، وذلك هو عين الْمُدَّعَى، ولهذا قال الغزاليّ رحمه الله تعالى: إنكار الفرق بين الكبيرة والصغيرة لا يليق بالفقيه، ثم إن مراتب كلٍّ من الصغائر والكبائر مختلف بحسب تفاوت مفاسدها.

3 -

(ومنها): بيان تحريم شهادة الزور؛ لما يترتَّب عليها من المفاسد، وإن كانت مراتبها متفاوتة، وفي معناها كُلُّ ما كان زُورًا، من تعاطي المرء ما ليس له أهلًا.

4 -

(ومنها): أن عقوق الوالدين من أكبر الكبائر، ولا شكّ في عظم مفسدته؛ لعظم حقّ الوالدين.

5 -

(ومنها): بيان انقسام الكبائر إلى شرك وغيره.

6 -

(ومنها): الاهتمام بذكر الشيء للتنبيه على وعيه ومنعه.

7 -

(ومنها): استحباب إعادة الموعظة ثلاثًا؛ لتُفْهَم.

8 -

(ومنها): انزعاج الواعظ في وعظه؛ ليكون أبلغ في الوعي عنه، والزجر عن فعل ما يَنْهَى عنه.

ص: 29

9 -

(ومنها): أن فيه التحريض على مجانبة كبائر الذنوب؛ ليحصل تكفير الصغائر بذلك، كما قال عز وجل:{إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء: 31] الآية.

10 -

(ومنها): أن فيه إشفاق التلميذ على شيخه إذا رآه منزعجًا، وتمنّي عدم غضبه؛ لما يترتّب على الغضب من تغيّر مزاجه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[267]

(88) - (وَحَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ حَبِيبٍ الْحَارِثِيُّ، حَدَّثَنَا خَالِدٌ، وَهُوَ ابْنُ الْحَارِثِ، حَدَّثنَا شُعْبَةُ، أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ أَبِيَ بَكْرٍ، عَنْ أَنَسٍ، عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْكَبَائِرِ قَالَ: "الشِّرْكُ بِالله، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْن، وَقَتْلُ النَّفْس، وَقَوْلُ الزُّورِ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ حَبِيبٍ الْحَارثِيُّ) البصريّ، ثقة [10](ت 248)(م 4) تقدم في "الإيمان" 14/ 165.

2 -

(خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ) بن عُبيد بن سُليم الْهُجَيميّ، أبو عثمان البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 186)(ع) تقدم في "الإيمان" 35/ 243.

3 -

(شُعْبَةُ) بن الحجّاج المذكور في الباب الماضي.

4 -

(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ) بن أنس بن مالك، أبو معاذ البصريّ، ثقةٌ [4].

رَوَى عن جدِّه، وقيل: عن أبيه، عن جده.

ورَوَى عنه أخوه بَكْر بن أبي بكر بن أنس، والحمادان، وشدّاد بن سعيد، وشعبة، وعتبة بن حميد الضَّبِّيّ، ومُبارك بن فَضَالة، وهشيم، ومحمد بن عبد العزيز الراسبيّ على خلاف فيه، ومُرَجَّى بن رَجَاء، وعليّ بن عاصم، وآخرون.

قال أحمد، وابنُ معين، وأبو داود، والنسائيّ: ثقة، وقال أبو حاتم: صالح، وذكره ابن حبان في "الثقات".

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب خمسة أحاديث فقط، هذا، وأعاده بعده، وحديث (2157): "أن رجلًا اطّلع من بعض حُجر

ص: 30

النبيّ صلى الله عليه وسلم

"، و (2163): "إذا سلّم عليكم أهل الكتاب

"، و (2631): "من عال جاريتين

"، و (2646): "إن الله عز وجل قد وكّل بالرحم ملكًا

".

5 -

(أنس) بن مالك الصحابيّ الشهير رضي الله عنه تقدم في "المقدمة" 2/ 3، والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف، وفيه التحديث، والإخبار، والعنعنة.

2 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بثقات البصريين، كالسند الآتي، وكذا ما قبله، قال النوويّ رحمه الله تعالى: وأما الإسنادان اللذان ذكرهما - يعني: هذا، وما بعده - فهما بصريون كلُّهُم من أولهما إلى آخرهما، إلا أن شعبة واسطيّ بصريّ، فلا يقدح هذا في كونهما بصريين، وهذا من الطرف المستحسنة، وقد تقدّم في الباب الذي قبل هذا نظيرهما في الكوفيين. انتهى

(1)

.

3 -

(ومنها): أنه قد قدّمنا فائدة قوله: "وهو ابن الحارث"، ولم يقل:"خالد بن الحارث"، وهو أنه إنما سَمِعَ في الرواية "خالدًا"، ولخالد مشاركون في اسمه، فأراد أن يُمَيِّزه لمن يحدّثهم، ولا يجوز له أن يقول: حدثنا خالد بن الحارث؛ لأنه يصير كاذبًا على شيخه، حيث لم يَقُل له ذلك، وإنما قال: حدّثنا خالدٌ، فَعَدَل إلى زيادة قوله:"وهو ابن الحارث"؛ لتحصل الفائدة بالتميز، والسلامة من الكذب.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية الراوي عن جدّه، وهو عبيد الله بن أبي بكر عن جدّه أنس بن مالك رضي الله عنه.

5 -

(ومنها): أن أنسًا رضي الله عنه أحد المكثرين السبعة، روى (2286) حديثًا، وهو المشهور بخدمة النبيّ صلى الله عليه وسلم، خدمه عشر سنين، وهو آخر من مات بالبصرة من الصحابة رضي الله عنهم، ومن المعمّرين منهم، مات سنة (2) أو (93)، وقد جاوز المائة.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: أما شرح الحديث فسيأتي في الذي بعده، وإنما أخرته إليه؛ لكونه أتمّ من هذا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

(1)

"شرح مسلم" 2/ 83.

ص: 31

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[268]

(

) - (وَحَدَّثنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْوَليدِ بْنِ عَبْدِ الْحَمِيد، حَدَّثنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثنا شُعْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أنسَ بْنَ مَالِكٍ، قَالَ: ذَكَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْكَبَائِرَ، أَوْ سُئِلَ عَنِ الْكَبَائِر، فَقَالَ: "الشِّرْكُ بِالله، وَقَتْلُ النَّفْس، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ"، وَقَالَ: "ألا أنبِّئُكُمْ بأكبَرِ الْكَبَائِرِ؟ "، قَالَ: "قَوْلُ الزُّورِ"، أَوْ قَالَ: "شَهَادَةُ الزورِ"، قَالَ شُعْبَةُ: وَأكبَرُ ظنِّي أَنَّهُ شَهَادَةُ الزُّورِ).

رجال هذا الإسناد: خمسة أيضًا:

1 -

(محمد بْنُ الْوَليدِ بْنِ عَبْدِ الْحَمِيدِ) القرشيّ الْبُسريّ - بضمّ الموحّدة، وسكون المهملة - من ولد بُسْر بن أرطاة العامريّ، يُلَقّب حَمْدان، البصريّ، قَدِمَ بغداد، يُكنى أبا عبد الله، ثقة [10].

رَوَى عن مروان بن معاوية، وغندر، وعبد الأعلى بن عبد الأعلى، وعبد الوهاب الثقفي، وابن مهدي، والقطان، ووكيع، وأبي زُكَير المدني، وغيرهم.

ورَوى عنه البخاري، ومسلم، والنسائي، وابن ماجه، وابن أبي عاصم، وزكرياء الساجيّ، وابن خزيمة، وغيرهم.

قال ابن أبي حاتم: سَمِع منه أبي بالبصرة في الرحلة الثالثة، وسئل عنه، فقال: صدوق، وقال النسائي: ثقة، وذكره ابن حبان في "الثقات".

قيل: إنه مات بعد سنة خمسين ومائتين، وله في هذا الكتاب (11) حديثًا

(1)

.

2 -

(مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ) أبو عبد الله البصريّ، المعروف بغُنْدر، ثقةٌ، صحيح الكتاب [9](ت 193)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2، والباقون تقدّموا في السند الماضي، وكذا لطائف الإسناد، والله تعالى أعلم.

(1)

وكذا له عند ابن ماجه (11) حديثًا، وعند البخاريّ أربعة أحاديث، وهذا هو الذي سُجّل في برنامج الحديث (صخر)، ونقل في "تهذيب التهذيب" عن "الزهرة" أن البخاريّ روى عنه سبعة أحاديث، ومسلمًا خمسة أحاديث، والظاهر أن ما في البرنامج أقرب إلى الصواب، فتأمله، والله تعالى أعلم.

ص: 32

شرح الحديث:

عن عُبَيْدِ اللهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، أنه (قَالَ: سَمِعْتُ أنسَ بْنَ مَالِكٍ) رضي الله عنه (قَالَ: ذَكَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْكَبَائِرَ، أَوْ سُئِلَ عَنِ الْكَبَائِرِ)، كذا وقع في هذه الرواية عند المصنّف بالشكّ، ووقع عند أبي عوانه في "مسنده" من طريق أبي داود، عن شعبة بلفظ: "سُئل النبيّ صلى الله عليه وسلم عن الكبائر، فقال

" بدون شكّ.

ووقع عند البخاريّ كرواية المصنّف بالشكّ، فقد رواه في "كتاب الأدب" عن شيخ المصنّف، بسنده، ولفظه، فقال في "الفتح": كذا في هذه الرواية بالشكّ، وجزم في الرواية التي في "كتاب الشهادات" بالثاني، قال: "سئل

إلخ"، ووقع في "كتاب الديات" عن عَمْرو، وهو ابن مرزوق، عن شعبة، عن ابن أبي بكر، سمع أنسًا، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "أكبر الكبائر الإشراك بالله

" الحديث، وكذا رَوَيناه في "كتاب الإيمان" لابن منده، وفي "كتاب القضاة" للنقاش، من طريق أبي عامر الْعَقَديّ، عن شعبة، وقد عَلَّق البخاريّ في "الشهادات"، طريق أبي عامر، ولم يسق لفظه، وهذا موافق لحديث أبي بكرة رضي الله عنه في أن المذكورات من أكبر الكبائر، لا من الكبائر المطلقة. انتهى

(1)

.

(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("الشِّرْكُ بِاللهِ)، تقدّم الكلام عليه، (وَقَتْلُ النَّفْسِ) التي حرّم الله قتلها إلا بالحقّ، (وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ") تقدّم الكلام عليه.

(وَقَالَ) وللبخاريّ: "فقال"، بالفاء ("ألَا أبِّئُكُمْ بِأكبَرِ الْكَبَائِرِ؟ "، قَالَ: "قَوْلُ الزُّورِ) قال في "الفتح": هذا ظاهره أنه خصّ أكبر الكبائر بقول الزور، ولكن الرواية التي أشرت إليها قبلُ قد تؤذن بأن الأربع المذكورات مشتركات في ذلك. انتهى.

أَوْ قَالَ: ("شَهَادَةُ الزُّورِ"، قَالَ شُعْبَةُ: وَأكبَرُ) بالباء الموحدة، (ظنِّي أنَّهُ شَهَادَةُ الزُّورِ) كذا في هذه الرواية شكّ شعبة، ووقع في رواية خالد بن الحارث، عن شعبة التي قبلها:"وقول الزور"، ولم يشك، وكذا وقع الجزم بذلك في رواية وهب بن جرير، وعبد الملك بن إبراهيم عند البخاريّ في "كتاب الشهادات"، قال قتيبة:"وشهادة الزور"، ولم يشكّ.

(1)

"الفتح" 10/ 426 "كتاب الأدب" رقم الحديث (5977).

ص: 33

وقال النوويّ رحمه الله تعالى: وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟، قول الزور، أو شهادة الزور"، فليس على ظاهره المتبادر إلى الأفهام منه؛ وذلك لأن الشرك أكبر منه بلا شكّ، وكذا القتل، فلا بُدّ من تأويله، وفي تأويله ثلاثة أوجه:

[أحدها]: أنه محمول على الكفر، فإن الكافر شاهد بالزور، وعامل به.

[والثاني]: أنه محمول على المستحلّ، فيصير بذلك كافرًا.

[والثالث]: أن المراد: من أكبر الكبائر، كما قدمناه في نظائره، وهذا الثالث هو الظاهر، أو الصواب، فأما حمله على الكفر فضعيف؛ لأن هذا خرج مخرج الزجر عن شهادة الزور في الحقوق، وأما قبح الكفر، وكونه أكبر الكبائر فكان معروفًا عندهم، ولا يتشكك أحد من أهل القبلة في ذلك، فحمله عليه يُخرجه عن الفائدة.

ثم الظاهر الذي يقتضيه عموم الحديث، وإطلاقه، والقواعد أنه لا فرق في كون شهادة الزور بالحقوق كبيرةً، بين أن تكون بحق عظيم أو حقير، وقد يحتمل على بُعْد أن يقال فيه الاحتمال الذي قَدَّمته عن الشيخ أبي محمد بن عبد السلام في أكل تمرة من مال اليتيم. انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أنس بن مالك رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه المصنّف هنا في "الإيمان"[40/ 267 و 268](88)، و (البخاريّ) في "الشهادات"(2653)، و"الأدب"(5977)، و"الديات"(6871)، و (الترمذيّ) في "البيوع"(1207)، و"التفسير"(3018)، و (النسائيّ) في "القسامة"(4868)، و"الكبرى"(3473)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 225، (وأبو عوانة) في "مسنده"(147)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(261)، وفوائد الحديث تقدّمت في حديث أبي بكرة رضي الله عنه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

ص: 34

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[269]

(89) - (حَدَّثَنِي هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الْأَيْلِي، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ، عَنْ ثَوْرِ بْنِ زيدٍ، عَنْ أَبِي الْغَيْث، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ"، قِيلَ: يَا رَسُولَ الله، وَمَا هُنَّ؟ قَالَ: "الشِّرْكُ بِالله، وَالسِّحْرُ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقّ، وَأكلُ مَالِ الْيَتِيم، وَأكلُ الرِّبَا، وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْف، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الْأَيْلِي) - بفتح الهمزة، وسكون التحتانيّة - السعديّ مولاهم، أبو جعفر، نزيل مصر، ثقةٌ فاضلٌ [10](253)(م د س ق) تقدم في "الإيمان" 29/ 225.

2 -

(ابْنُ وَهْبٍ) هو: عبد الله بن وهب بن مسلم القرشيّ مولاهم، أبو محمد المصريّ الفقيه، ثقةٌ حافظٌ عابدٌ [9](ت 197)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 10.

3 -

(سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ) التيميّ مولاهم، أبو محمد، أو أبو أيوب المدنيّ، ثقةٌ [8](ت 177)(ع) تقدم في "الإيمان" 14/ 160.

4 -

(ثَوْرُ

(1)

بْنُ زيدٍ) الدّيليّ - بكسر الدال المهملة، بعدها تحتانيّة - المدنيّ، ثقة [6].

رَوَى عن سالم أبي الغيث، وأبي الزناد، وسعيد المقبريّ، وعكرمة، والحسن البصريّ، وغيرهم، وأرسل عن ابن عباس

(2)

.

ورَوَى عنه مالك، وسليمان بن بلال، وابن عجلان، وعبد الله بن سعيد بن أبي هند، والدَّرَاوَرْديّ، وجماعة.

(1)

باسم الحيوان المعروف. اهـ. "ت" ص 52.

(2)

قال الحافظ: قوله: أرسل عن ابن عباس يخالفه قولُ ابن الحذّاء، حيث ذكره في "رجال الموطأ"، فذكر عن ابن الْبَرْقيّ أن مالك ترك ذكر عكرمة بين ابن عباس وثور. انتهى. "تهذيب التهذيب" 1/ 276.

ص: 35

قال أحمد، وأبو حاتم: صالح الحديث، وقال ابن معين، وأبو زرعة، والنسائيّ: ثقة، وقال ابن عبد البرّ: هو صدوق، ولم يتهمه أحد بكذب، وكان يُنسَب إلى رأي الخوارج، والقول بالقدر، ولم يكن يدعو إلى شيء من ذلك، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال الآجريّ: سئل أبو داود عنه، فقال: هو نحو شريك - يعني: ابن أبي نَمِر -، قال الحافظ: وقرأت بخط الذهبي في "الميزان": اتهمه ابن الْبَرقيّ بالقدر، ولعله شُبِّهَ عليه بثور بن يزيد. انتهى.

قال الحافظ: والْبَرْقيّ لم يتهمه، بل حَكَى في الطبقات أن مالكًا سئل: كيف رَوَيت عن داود بن الحصين، وثور بن زبد، وذكر غيرهما، وكانوا يُرْمَون بالقدر؟ فقال: كانوا لأن يَخِرُّوا من السماء إلى الأرض أسهل عليهم من أن يكذبوا كَذْبة، وقد ذكر المزيّ أن مالكًا روى أيضًا عن ثور بن يزيد الشاميّ، فلعله سئل عنه، وذكره ابن المديني في الطبقة التاسعة من الرواة عن نافع.

قال ابن عبد البر في "التمهيد": مات سنة (135)، لا يختلفون في ذلك.

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب تسعة أحاديث: هذا الحديث، وحديث (115): "إن الشملة لتلتهب عليه نارًا

"، و (2546): "لو كان الإيمان عند الثريّا

"، و (2863): "إن العرق يوم القيامة ليذهب

"، و (2909): "ذو السويقتين من الحبشة يخرّب بيت الله

"، و (2910): "لا تقوم الساعة حتى يخرج رجل من قحطان

"، و (2920): "سمعتم بمدينة جانب منها في البرّ

"، و (2982): "الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد

"، و (2983): "كافل اليتيم له أو لغيره أنا وهو كهاتين

".

5 -

(أَبُو الْغَيْثِ) هو: سالم مولى ابن مطيع المدنيّ، ثقةٌ [3].

رَوَى عن أبي هريرة، وعنه ثور بن زيد الدِّيليّ، وسعيد المقبريّ، وإسحاق بن سالم، وصفوان بن سُليم، وعُمر بن عطاء، وعثمان بن عمر بن موسى التيميّ، ويزيد بن خُصَيفة.

قال أحمد: لا أعلم أحدًا رَوَى عنه إلا ثورٌ، وأحاديثه متقاربة، وقال الدُّوريّ، عن ابن معينٍ: ثقةٌ يُكتَب حديثه، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال ابن سعد: كان ثقة، حسن الحديث، وذكر ابن شاهين أن كلام أحمد بن حنبل اختَلَف فيه.

ص: 36

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب الأحاديث التسعة التي تقدّمت في ترجمة ثور بن زيد.

6 -

(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه تقدم في "المقدمة" 2/ 4، والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سداسيّات المصنّف رحمه الله تعالى، وفيه التحديث، والعنعنة.

2 -

(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له البخاريّ، والترمذيّ.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين، سوى شيخه، فأيليّ، ثم مصريّ.

4 -

(ومنها): أن فيه أبا هريرة رضي الله عنه رأس المكثرين السبعة، روى (5374) حديثًا، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "اجْتَنِبُوا) أي ابتعدوا، وهو أبلغ من اترُكوا (السَّبْعَ)، قال العلماء رحمهم الله تعالى: ولا انحصار للكبائر في عدد مذكور، وقد جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سُئل عن الكبائر: أسبع هي؟ فقال: هي إلى سبعين - ويُروَى إلى سبعمائة - أقرب.

قال النوويّ رحمه الله تعالى: وأما قوله صلى الله عليه وسلم: الكبائرُ سبعٌ، فالمراد به من الكبائر سبعٌ، فإن هذه الصيغة وإن كانت للعموم، فهي مخصوصة بلا شكّ، وإنما وقع الاقتصار على هذه السبع، وفي الرواية الأخرى: ثلاثٌ، وفي الأخرى: أربعٌ، لكونها من أفحش الكبائر مع كثرة وقوعها، لا سيما فيما كانت عليه الجاهلية، ولم يَذكُر في بعضها ما ذَكَر في الأخرى، وهذا مُصَرّح بما ذكرته من أن المراد البعض، وقد جاء بعد هذا من الكبائر شتمُ الرجل والديه، وجاء في النميمة، وعدم الاستبراء من البول أنهما من الكبائر، وجاء في غير مسلم: من الكبائر اليمين الغَمُوس، واستحلال بيت الله الحرام. انتهى

(1)

.

(1)

"شرح مسلم" 2/ 84.

ص: 37

(الْمُوبِقَاتِ") بموحّدة، فقاف: أي المهلكات، جمع موبقة، من أوبقه: إذا أهلكه، قال في "القاموس": وَبَقَ كَوَعَدَ، وَوَجِلَ، وَوَرِثَ، وُبُوقًا، وَمَوْبِقًا: هَلَكَ، كاسْتَوْبَقَ، وكمَجْلِسٍ: الْمَهْلِكُ، والمَوْعِدُ، والْمَحْبِس، ووَادٍ في جَهنَّمَ، وكلُّ شيءٍ حال بين شيئين، وأوبقه: حبَسَهُ، وأهلكه. انتهى.

وقال القرطبيّ رحمه الله تعالى: "الموبقات": الْمُهلكات، جمع موبقة، من أوبق، ووابقه: اسم فاعل من وَبَقَ يَبِقُ وُبُوقًا: إذا هَلَكَ، والْمَوْبِقُ مَفْعِلٌ منه، كالموعد، مَفْعِلٌ من الوعد، ومنه قوله تعالى:{وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا} [الكهف: 52]، وفيه لغة ثانيةٌ: وَبِقَ بكسر الباء يَوْبَقُ بالفتح وَبَقًا، وفيه لغة ثالثةٌ: وَبِقَ يَبِقُ بالكسر فيهما، وأوبقه: أهلكه، وسُمّيت هذه الكبائر مُوبقات؛ لأنها تُهلك فاعلها في الدنيا بما يترتّب عليها من العقوبات، وفي الآخرة من العذاب، ولا شكّ في أن الكبائر أكثر من هذه السبع بدليل الأحاديث المذكورة في هذا الباب، وفي غيره، ولذلك قال ابن عبّاس رضي الله عنهما حين سُئل عن الكبائر، فقال:"هي إلى السبعين أقرب منها إلى السبع"، وفي رواية عنه:"هي إلى سبعمائة أقرب منها إلى سبع"، وعلى هذا، فاقتصاره صلى الله عليه وسلم على هذه السبع في هذا الحديث يَحْتَمِل أن يكون لأنها هي التي أُعلم بها في ذلك الوقت بالوحي، ثم بعد ذلك أُعلم بغيرها، وَيحتمل أن يكون ذلك لأن تلك السبع هي التي دعت الحاجة إليها في ذلك الوقت، أو التي سُئل عنها في ذلك الوقت، وكذلك القول في كلّ حديث خَصَّ عددًا من الكبائر، والله تعالى أعلم. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله تعالى

(1)

.

(قِيلَ: يَا رَسُولَ الله، وَمَا هُنَّ؟) أي السبع المهلكات؟ (قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("الشِّرْكُ بِاللهِ) خبر لمحذوف دلّ عليه السؤال: أي هي: الشرك بالله تعالى، ويجوز نصبه بدلًا من "السبع"، أو على أنه مفعول لفعل مقدّر: أي أعني، ونحوه، وهكذا إعراب ما بعده.

وكون الشرك من الكبائر، بل هو أكبرها على الإطلاق، صريح النصّ القرآني، حيث قال سبحانه وتعالى: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَابُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ

(1)

"المفهم" 1/ 283.

ص: 38

الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13]، وتقدّم حديث ابن مسعود رضي الله عنه المتّفق عليه، قال: قلت: يا رسول الله أيّ الذنب أعظم؟، قال: "أن تجعل لله ندًّا وهو خلقك

" الحديث، وفيه: وأنزل الله تصديق قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} [الفرقان: 68].

وقال النوويّ رحمه الله تعالى: وأما قبح الكفر، وكونه من أكبر الكبائر، فكان معروفًا عندهم، ولا يتشكّك في ذلك أحدٌ من أهل القبلة. انتهى

(1)

.

(وَالسِّحْرُ) - بكسر السين، وسكون الحاء المهملتين -، قال ابن فارس: هو إخراج الباطل في صورة الحقّ، ويقال: هو الخديعة، وسَحَرَهُ بكلامه: استماله بِرِقَّته، وحسن تركيبه، قال الإمام فخر الدين في "التفسير": ولفظ "السحر" في عرف الشرع: مختص بكلِّ أمر يَخْفَى سببه، ويُتَخَيَّلُ على غير حقيقته، ويَجْرِي مَجْرَى التمويه والخِدَاع، قال تعالى:{يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} [طه: 66]، وإذا أُطلِق ذُمَّ فاعلُهُ، وقد يُسْتَعمَلُ مُقَيَّدًا فيما يُمْدَح ويُحْمَد، نحو قوله عليه الصلاة والسلام:"إن من البيان لَسِحْرًا": أي إن بعض البيان سِحْرٌ؛ لأن صاحبه يُوَضِّح الشيء المشكل، ويَكْشِف عن حقيقته بحسن بيانه، فيَسْتَمِيل القلوب، كما تُسْتَمالُ بالسحر، وقال بعضهم: لَمّا كان في البيان من إبداع التركيب، وغرابة التأليف ما يَجْذِب السامعَ، ويُخرِجه إلى حَدٍّ يكاد يَشْغَله عن غيره شُبِّه بالسحر الحقيقيّ، وقيل: هو السحر الحلال، ذكره الفيّوميّ

(2)

.

وقال النوويّ رحمه الله تعالى: وأما عدّه صلى الله عليه وسلم السحر من الكبائر، فهو دليل لمذهبنا الصحيح المشهور، ومذهب الجماهير، أن السحر حرام، من الكبائر فعلُه وتعلُّمُهُ وتعليمه، وقال بعض أصحابنا: إنّ تعلمه ليس بحرام، بل يجوز؛ لِيُعْرَفَ، ويُرَدَّ على صاحبه، ويُمَيَّز عن الكرامة للأولياء، وهذا القائل يمكنه أن يَحْمِل الحديث على فعل السحر، والله تعالى أعلم. انتهى كلام النوويّ

(3)

.

(وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ) أي كأن تَقتُل بريئًا عمدًا، فيُقتَصَّ

(1)

"شرح مسلم" 2/ 88.

(2)

"المصباح المنير" 1/ 267 - 268.

(3)

"شرح مسلم" 2/ 88.

ص: 39

منها، أو تزَني مُحصَنَةً، فتُرْجَمَ، (وَأكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ) بفتح الياء التحتانيّة، وكسر التاء الفوقانيّة، يقال: يَتُمَ يَيْتُمُ، من بابي تَعِبَ وقَرُبَ، يُتْمًا بضم الياء وفتحها، لكن الْيُتْم في الناس من قِبَل الأب، فيقال: صغير يَتِيمٌ، والجمعُ أَيْتَامٌ، ويَتَامى، وصَغيرة يتيمةٌ، وجمعها يَتَامَى، وفي غير الناس من قِبَل الأمّ، وأيتمت المرأة إيتامًا، فهي موتِمٌ: صار أولادها يَتَامَى، فإن مات الأبوان فالصغير لَطِيمٌ، وإن ماتت أمه فقط، فهو عَجِيٌّ، قاله الفيّوميّ

(1)

.

والمراد إتلاف ماله، وإنما خصّ الأكل؛ لكونه أعظم المقصود من المال، قال الله عز وجل:{إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا (10)} [النساء: 10].

(وَأكْلُ الرِّبَا) المراد كسب الربا، وإنما خصّ الأكل؛ لأنه معظم ما يكتسب له، ويشمل ربا الفضل وربا النسيئة، قال تعالى:{الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} الآية [البقرة: 275].

(وَالتَّوَلَّي يَوْمَ الزَّحْفِ) أي الفرار من الجهاد، ولقاء العدوّ في الحرب، و"الزَّحْفُ": الجيش يَزْحَفُون إلى العدوّ: أي يمشون، يقال: زَحَفَ إليه يَزْحَفُ زَحْفًا، من باب مَنَعَ: إذا مشى نحوه، أفاده ابن الأثير في "النهاية"

(2)

.

وقال أبو العباس القرطبيّ رحمه الله تعالى: و"الزحْفُ": القتال، وأصله: المشي المتثاقل، كالصبيّ يَزْحَفُ قبل أن يمشى، والبعير إذا أعيى، فَجَرَّ فِرْسَنَهُ

(3)

، وقد سُمّي الجيش بالزحف؛ لأنه يُزْحَف فيه، والتولّي عن القتال إنما يكون كبيرةً إذا فرّ إلى غير فئة، وإذا كان العدوّ ضعفي المسلمين على ما يأتي في "الجهاد" - إن شاء الله تعالى -. انتهى

(4)

.

وقال النوويّ رحمه الله تعالى: وأما عدّه صلى الله عليه وسلم التَّوَلِّي يوم الزحف من الكبائر، فدليل صريح لمذهب العلماء كافة في كونه كبيرةً، إلا ما حُكِيَ عن الحسن البصريّ رحمه الله تعالى أنه قال: ليس هو من الكبائر، قال: والآية

(1)

"المصباح المنير" 2/ 679.

(2)

"النهاية" 2/ 448.

(3)

أي طرف خفّه.

(4)

"المفهم" 1/ 284.

ص: 40

الكريمة في ذلك إنما وردت في أهل بدر خاصّةً، والصواب ما قاله الجماهير: إنه باقٍ. انتهى

(1)

.

وقال أبو عبد الله القرطبيّ رحمه الله تعالى عند قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (15)} [الأنفال: 15] ما نصّه: أمر الله عز وجل في هذه الآية أن لا يولي المؤمنون أمام الكفار، وهذا الأمر مُقَيَّد بالشريطة المنصوصة في مثلي المؤمنين، فإذا لقيت فئةٌ من المؤمنين فئةً هي ضعف المؤمنين من المشركين، فالفرض ألا يفروا أمامهم، فمن فَرَّ من اثنين فهو فارّ من الزحف، ومن فَرَّ من ثلاثة، فليس بفارّ من الزحف، ولا يتوجه عليه الوعيد، والفرار كبيرةٌ مُوبقة بظاهر القرآن، وإجماع الأكثر من الأئمة.

وقالت فرقة، منهم ابن الماجشون في "الواضحة": إنه يُراعَى الضعفُ والقوةُ والعُدَّةُ، فيجوز على قولهم أن يفر مائة فارس من مائة فارس، إذا عَلِموا أن ما عند المشركين من النجَّدْةِ والبَسَالة ضِعْفُ ما عندهم، وأما على قول الجمهور، فلا يحل فرار مائة إلا مما زاد على المائتين، فمهما كان في مقابلة مسلم أكثر من اثنين، فيجوز الانهزام، والصبر أحسن، وقد وَقَفَ جيش مُؤتة، وهم ثلاثة آلاف في مقابلة مائتي ألف، منهم مائة ألف من الروم، ومائة ألف من الْمُسْتَعْرِبة من لَخْمٍ وجُذَام.

قال: ووقع في تاريخ فتح الأندلس أن طارقًا مولى موسى بن نُصَير سار في ألف وسبعمائة رجل إلى الأندلس، وذلك في رجب سنة ثلاث وتسعين من الهجرة، فالتقى وملك الأندلس لذريق، وكان في سبعين ألف عِنَان، فزَحَفَ إليه طارق، وصَبَر له، فهزم الله الطاغية لذريق، وكان الفتح.

قال ابن وهب: سمعت مالكًا يسأل عن القوم يلقون العدوّ، أو يكونون في مَحْرَس يَحْرُسون، فيأتيهم العدوّ، وهم يسير، أيقاتلون، أو ينصرفون فيُؤذنون أصحابهم؟ قال: إن كانوا يقوون على قتالهم قاتلوهم، وإلا انصرفوا إلى أصحابهم فآذنوهم. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله تعالى

(2)

.

(1)

"شرح مسلم" 2/ 88.

(2)

"الجامع لأحكام القرآن" 7/ 380 - 381.

ص: 41

قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن بما ذُكر أن ما قاله الجمهور من أنه لا يحلّ الفرار إلا فيما زاد العدو على الضعف هو الحقّ؛ لظهور حجّته، والله تعالى أعلم.

(وَقَذفُ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ") أي رميُهنّ بالزنى، و"الإحصان" هنا: العِفّةُ عن الفواحش، و"الغافلات" أي عما رُمين به من الفاحشة، أي هنّ بريئات من ذلك، لا خَبَرَ عندهنّ منه، قاله القرطبيّ

(1)

.

وقال النوويّ رحمه الله تعالى: وأما "المحصنات الغافلات": فبكسر الصاد وفتحها، قراءتان في السبع، قرأ الكسائيّ بالكسر، والباقون بالفتح، والمراد بـ "المحصنات" هنا: العفائف، وبـ "الغافلات": الغافلات عن الفواحش، وما قُذِفن به. انتهى

(2)

.

[فائدة]: قال النوويّ رحمه الله تعالى: "الإحصان" في الشرع خمسة أقسام:

[أحدهما]: الإحصان في الزنا، الذي يوجب الرجم على الزاني، وهو الوطء بنكاح.

[والثاني]: الإحصان في المقذوف، وهو العفّة، وهو الذي يوجب على قاذفه ثمانين جلدة.

[والثالث]: الإحصان بمعنى الحريّة.

[والرابع]: الإحصان بمعنى التزويج.

[والخامس]: الإحصان بمعنى الإسلام.

فأما الإحصان في الزنا، فليس له ذكر في القرآن العزيز إلا في قوله تعالى:{مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} ، قالوا: معناه مُصيبين بالنكاح، لا بالزنا.

وأما الأربعة الباقية فمذكورة في الكتاب العزيز، فأما الإحصان في المقذوف، فهو المراد بقول الله عز وجل:{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} الآية، وفي قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} [النور: 23] الآية.

وأما الإحصان بمعنى الحرية، فهو المراد بقوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ

(1)

"المفهم" 1/ 284.

(2)

"شرح مسلم" 2/ 84.

ص: 42

الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5] الآية، وفي قوله تعالى:{وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ} [النساء: 25] الآية.

وأما الإحصان بمعنى التزويج، فهو المراد بقوله تعالى:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ} [النساء: 23]، إلى قولهِ:{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} الآية.

وأما الإحصان بمعنى الإسلام، فهو المراد بقوله تعالى:{فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ} الآية.

واختلف العلماء في المراد بأُحْصِنَّ هذا، فقيل: أسلمن، وقيل: تزوجن، وقد قُرئ بفتح الهمزة وضمها قراءتان في السبع، قال الواحديّ: من ضمها فمعناه: أُحْصِنَّ بالأزواج، أي تزوجن، قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وقتادة - رحمهم الله تعالى - ومن فتحها، فمعناه: أسلمن، كذا قاله ابن عمر، وابن مسعود - رضي الله تعالى عنهم - والشعبيّ، وإبراهيم، والسُّدّيّ - رحمهم الله تعالى -.

فأما شرط المحصن الذي يُرْجَم في الزنا، فهو البالغ العاقل الحرّ الواطئ في نكاح صحيح في حال تكليفه وحريته.

وأما المحصن الذي يُجْلَد قاذفه ثمانين جلدة، فهو البالغ العاقل الحرّ المسلم العفيف، وإن شئت قلت في الموضعين: المكلف بدلًا عن البالغ العاقل، والأول أولى؛ لئلا يَخْرُج السكران والنائم، فإنهما ليسا مكلفين.

قال الإمام الواحديّ: الإحصان في اللغة أصله المنع، وكذلك الحصانة، ومنه مدينة حصينة، ودِرعٌ حصينة، أي تمنع صاحبها من الجرح، والحصن: الموضع الحصين؛ لمنعه، والْحِصَان - بكسر الحاء -: الفرس؛ لمنعه لصاحبه من الهلاك، والْحَصَان - بفتح الحاء -: المرأة العفيفة؛ لمنعها فرجها من الفساد، وحَصنت المرأة تَحْصُن حُصْنًا

(1)

فهي حَصَان، مثل: جَبُنت تَجْبُن جُبْنًا فهي جَبَان.

وقال الفيّوميّ: و"الحصان" - بالفتح -: المرأة العفيفة، وجمعها حُصُنٌ،

(1)

ذكر في "القاموس" أن "حصنًا" المصدر مثلّث الحاء، فراجعه ص 1072.

ص: 43

وقد حَصِنَت مثلث الصاد، وهي بَيِّنة الْحَصانة - بالفتح -: أي العفة، وأحصن الرجل بالألف: تَزَوَّج، والفقهاء يزيدون على هذا: وَطِئ في نكاح صحيح، قال الشافعيّ: إذا أصاب الحرّ البالغ امرأته، أو أُصيبت الحرة البالغة بنكاح، فهو إحصان في الإسلام والشرك، والمراد في نكاح صحيح، واسم الفاعل من أَحْصَنَ: إذا تزوج مُحْصِنٌ - بالكسر - على القياس، قاله ابن القطاع، ومُحْصَنٌ - بالفتح - على غير قياس، والمرأة مُحْصَنَةٌ - بالفتح - أيضًا على غير قياس، ومنه قوله تعالى:{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ} : أي ويَحْرُم عليكم المتزوجات، وأما أَحْصَنت المرأة فرجها: إذا عَفَّت، فهي مُحْصِنَة - بالفتح، والكسر - أيضًا، وقُرئ بذلك في السبعة، ومنه قوله تعالى:{وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ} المراد الحرائر العفيفات، وقوله:{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} المراد الحرائر أيضًا. انتهى كلام الفيّوميّ

(1)

.

قال الواحديّ: وأما الإحصان، فيقع على معانٍ ترجع إلى معنى واحد، منها: الحرية، والعَفَافُ، وكون المرأة ذات زوج، فالإحصان هو أن يَحْمِي الشيءَ، ويمنع، والحرةُ تَحْصُن نفسها، وتُحْصَن هي أيضًا، والعفة مانعة من الزنا، والعفيفة تمنع نفسها من الزنا، والإسلام مانع من الفواحش، والمحصَنَةُ المزوجة؛ لأن الزوج يمنعها.

قال الواحديّ: واختَلَفَ القراء في قوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ} ، فقرأوا بفتح الصاد وكسرها في جميع القرآن، إلا الحرف الأول في النساء {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ} ، فإنهم أجمعوا على فتحه، قاله أبو عبيدة. انتهى كلام الواحديّ

(2)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد نظمت المعاني الخمسة للإحصان بقولي:

(1)

"المصباح المنير" 1/ 139.

(2)

راجع: "تهذيب الأسماء واللغات"، وقد حذفت بعضه؛ لركاكته، وزدت بدل المحذوف من عبارة "الصباح المنير".

ص: 44

قَدْ وَرَدَ الإِحْصَانُ فِي الشَّرْعِ عَلَى

خَمْسَةِ أَقْسَامٍ رَوَاهَا النُّبَلَا

عِفَّةٌ النِّكَاحُ وَالإِسْلَامُ

حُرِّيَّة تَزْوِيجُ مَنْ تُرَامُ

والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه المصنّف هنا في "الإيمان"[40/ 269](89)، و (البخاريّ) في "الوصايا"(2766)، و"الطبّ"(5764)، و"الحدود"(6857)، و (أبو داود) في "الوصايا"(2874)، و (النسائيّ) في "الوصايا"(3698)، و"الكبرى"(6498)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(148 و 149)، و (أبو نُعيم) في "مستخرجه"(262)، و (ابن حبان) في "صحيحه"(5561)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(8/ 249)، و (الطحاويّ) في "مشكل الآثار"(1/ 382)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(45)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان قبح الشرك بالله تعالى، وهو وجه مناسبة إيراده هنا؛ لأن الشرك ضدّ الإيمان، ومناقض له، فلا بدّ أن تُعلم أنواعه، حتى لا يقع فيه المؤمن جهلًا، فيفسد عليه إيمانه.

2 -

(ومنها): بيان انقسام الذنوب إلى كبائر وصغائر.

3 -

(ومنها): بيان وجوب الاجتناب عن هذه السبع الموبقات التي تُهلك من تلبّس بها، وترديه في جنهم - أعاذنا الله تعالى بمنّه منها -.

4 -

(ومنها): شدّة حرص النبيّ صلى الله عليه وسلم على تحذير أمته عن اقتراف ما يُهلكها، ويُرديها، فهذا مصداق قوله سبحانه وتعالى:{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَاعَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)} [التوبة: 128].

5 -

(ومنها): تحريم الفرار من الزحف، وقد اختلف العلماء، هل الفرار يوم الزحف مخصوص بيوم بدر، أم عام في الزحوف كلها إلى يوم القيامة؟.

ص: 45

فرُوي عن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه أن ذلك مخصوص بيوم بدر، وبه قال نافع، والحسن، وقتادة، ويزيد بن أبي حبيب، والضحاك، وبه قال أبو حنيفة، وأن ذلك خاصّ بأهل بدر، فلم يكن لهم أن ينحازوا، ولو انحازوا لانحازوا للمشركين، ولم يكن في الأرض يومئذ مسلمون غيرهم، ولا للمسلمين فئة إلا النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأما بعد ذلك، فإن بعضهم فئة لبعض، قال إلْكِيا: وهذا فيه نظر؛ لأنه كان بالمدينة خلقٌ كثيرٌ من الأنصار، لم يأمرهم النبيّ صلى الله عليه وسلم بالخروج، ولم يكونوا يرون أنه قتال، وإنما ظنوا أنها العير، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمن خَفّ معه.

ويُرْوَى عن ابن عباس، وسائر العلماء أن الآية باقية إلى يوم القيامة.

احتَجَّ الأولون بما ذَكَرنا، وبقوله تعالى:{يَوْمَئِذٍ} ، فقالوا: هو إشارة إلى يوم بدر، وأنه نُسِخَ حكم الآية بآية الضعْف، وبقي حكم الفرار من الزحف ليس بكبيرة، وقد فَرَّ الناس يوم أحد، فعفا الله عنهم، وقال الله فيهم يوم حنين:{ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} [التوبة: 25]، ولم يقع على ذلك تعنيف.

وقال الجمهور من العلماء: إنما ذلك إشارة إلى يوم الزحف الذي يتضمنه قوله تعالى: {إِذَا لَقِيتُمُ} ، وحكم الآية باقٍ إلى يوم القيامة، بشرط الضِّعْف الذي بيّنه الله تعالى في آية أخرى، وليس في الآية نسخ.

والدليل عليه أن الآية نزلت بعد القتال، وانقضاء الحرب، وذهاب اليوم بما فيه، وإلى هذا ذهب مالك، والشافعيّ، وأكثر العلماء، وفي "صحيح مسلم"، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"اجتنبوا السبع الموبقات" وفيه: "والتولي يوم الزحف"، وهذا نصّ في المسألة، وأما يوم أُحد، فإنما فَرّ الناس من أكثر من ضِعْفهم، ومع ذلك عُنّفُوا، وأما يوم حنين فكذلك مَن فَرَّ إنما انكشف عن الكثرة. انتهى كلام القرطبيّ

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى: قد تبيّن بما ذُكر أن ما قاله الجمهور من أن الآية غير منسوخة، وأن الحكم عامّ لا يختصّ بيوم بدر هو الصواب؛ لظهور حجّته، والله تعالى أعلم.

(1)

"الجامع لأحكام القرآن" 7/ 381 - 382.

ص: 46

[فائدة]: الفرار من الزحف من كبائر الذنوب، كما سبق، فمن فرّ فليستغفر الله عز وجل، لما أخرجه الترمذي من حديث بلال بن يسار بن زيد، قال: حدثني أبي، عن جدّي، سمع النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول:"من قال: أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحيّ القيّوم، وأتوب إليه، غُفِر له، وإن كان قد فَرّ من الزحف"

(1)

،

والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في ذكر ما ورد من الآثار في الموبقات، وما قاله أهل العلم في ذلك:

قال الحافظ رحمه الله تعالى: المراد بالموبقة هنا الكبيرة، كما ثبت في حديث أبي هريرة رضي الله عنه من وجه آخر، أخرجه البزّار، وابن المنذر، من طريق عمر بن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه، رفعه: "الكبائر الشرك بالله، وقتل النفس

" الحديث، مثل رواية أبي الغيث، إلا أنه ذكر بدل "السحر": الانتقال إلى الأعرابيّة بعد الهجرة.

وأخرج النسائيّ، والطبرانيّ، وصححه ابن حبّان، والحاكم من طريق صُهيب، مولى الْعُتْوَاريين، عن أبي هريرة، وأبي سعيد رضي الله عنهما، قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من عبد يُصلّي الخمس، ويجتنب الكبائر السبع، إلا فُتحت له أبواب الجنّة" الحديث، ولكن لم يفسّرها.

والمعتمد في تفسيرها ما وقع في رواية سالم، وقد وافقه كتاب عمرو بن حزم الذي أخرجه النسائيّ، وابن حبّان في "صحيحه"، والطبرانيّ، من طريق سليمان بن داود، عن الزهريّ، عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن أبيه، عن جدّه، قال:"كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاب الفرائض، والديات، والسنن، وبَعَثَ به مع عمرو بن حزم إلى اليمن" الحديث بطوله، وفيه:"وكان في الكتاب: وإن أكبر الكبائر الشرك"، فذكر مثل حديث سالم سواءً، وللطبرانيّ من حديث سهل بن أبي حثمة، عن عليّ رضي الله عنه رفعه:"اجتنب الكبائر السبع"، فذكرها، لكن ذكر "التعرّب بعد الهجرة"، بدل "السحر"، وله في

(1)

حديث صحيح، أخرجه الترمذيّ، راجع:"صحيح الترمذيّ" للشيخ الألباني رحمه الله تعالى 3/ 182 رقم الحديث (2831).

ص: 47

"الأوسط" من حديث أبي سعيد رضي الله عنه مثله، وقال:"الرجوع إلى الأعراب بعد الهجرة". ولإسماعيل القاضي من طريق المطّلب بن عبد الله بن حنطب، عن عبد الله بن عمرو، قال:"صعد النبيّ صلى الله عليه وسلم المنبر، ثم قال: أبشروا، مَن صلّى الخمس، واجتنب الكبائر السبع، نودي من أبواب الجنّة"، فقيل له: أسمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يذكرهنّ؟ قال: نعم، فذكر مثل حديث عليّ سواءً، وقال عبد الرزّاق: أنبأنا معمرٌ، عن الحسن، قال:"الكبائر الإشراك بالله"، فذكر مثل الأصول

(1)

سواءً، إلا أنه قال:"اليمين الفاجرة"، بدل "السحر".

ولابن عمرو فيما أخرجه البخاريّ في "الأدب المفرد"، والطبريّ في "التفسير"، وعبد الرزّاق، والخرائطيّ في "مساوئ الأخلاق"، وإسماعيل القاضي في "أحكام القرآن"، مرفوعًا، وموقوفًا، قال:"الكبائر تسع"، فذكر السبع المذكورة، وزاد:"الإلحاد في الحرم، وعُقُوق الوالدين".

ولأبي داود، والطبرانيّ، من رواية عُبيد بن عُمير بن قتادة الليثيّ، عن أبيه، رفعه:"إن أولياء الله المصلّون، ومن يجتنب الكبائر"، قالوا: ما الكبائر؟ قال: "هنّ تسعٌ، أعظمهنّ الإشراك بالله"، فذكر مثل حديث ابن عمر سواءً، إلا أنه عبّر عن "الإلحاد في الحرم" باستحلال البيت الحرام.

وأخرج إسماعيل القاضي بسند صحيح إلى سعيد بن المسيّب، قال:"هنّ عشرٌ"، فذكر السبع التي في الأصل، وزاد:"وعقوقُ الوالدين، واليمين الغموس، وشرب الخمر".

ولابن أبي حاتم من طريق مالك بن حريث، عن عليّ رضي الله عنه قال:"الكبائر"، فذكر التسع، إلا مال اليتيم، وزاد العقوق، والتعرّب بعد الهجرة، وفراق الجماعة، ونكث الصفقة. وللطبراني عن أبي أمامة أنهم تذاكروا الكبائر، فقالوا: الشرك، ومال اليتيم، والفرار من الزحف، والسحر، والعقوق، وقول الزور، والغلول، والزنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"فأين تجعلون الذين يشترون بعهد الله ثمنًا قليلًا؟ ".

وعند عبد الرزّاق، والطبرانيّ، عن ابن مسعود رضي الله عنه: "أكبر الكبائر

(1)

يعني: السبعة التي أوردها البخاريّ، وهي التي أوردها مسلم أيضًا.

ص: 48

الإشراك بالله، والأمن من مكر الله، والقنوط من رحمة الله، واليأس من رَوْح الله"، وهو موقوف.

وروى إسماعيل بسند صحيح، من طريق ابن سيرين، عن عبد الله بن عمرو مثل حديث الأصل

(1)

، لكن قال:"البهتان" بدل السحر، والقذف، فسُئل عن ذلك؟ فقال: البهتان يجمع.

وفي "الموطّأ" عن النعمان بن مرّة مرسلًا: "الزنا، والسرقة، وشرب الخمر، فواحش"، وله شاهد من حديث عمران بن حُصين عند البخاريّ في "الأدب المفرد"، والطبرانيّ، والبيهقيّ، وسنده حسنٌ، وسيأتي في "الطهارة" حديث ابن عباس في النميمة، ومن رواه بلفظ الغيبة، وترك التنزّه من البول.

ولإسماعيل القاضي، من مرسل الحسن، ذكر "الزنا والسرقة"، وله عن أبي إسحاق السبيعيّ:"شتم أبي بكر وعمر"، وهو لابن أبي حاتم من قول مغيرة بن مِقسم.

وأخرج الطبريّ عنه بسند صحيح: "الإضرار في الوصيّة من الكبائر"، وعنه:"الجمع بين الصلاتين من غير عذر"، رفعه، وله شاهد أخرجه ابن أبي حاتم عن عمر قوله، وعند إسماعيل من قول ابن عمر ذكر النُّهْبة، ومن حديث بُريدة عند البزّار: منع فضل الماء، ومنع طروق الفحل، ومن حديث أبي هريرة عند الحاكم:"الصلوات كفّارات إلا من ثلاث: الإشراك بالله، ونكث الصفقة، وترك السنّة"، ثم فسّر نكث الصفقة بالخروج على الإمام، وترك السنّة بالخروج عن الجماعة، أخرجه الحاكم، ومن حديث ابن عمر عند ابن مردويه:"أكبر الكبائر سوء الظنّ بالله".

ومن الضعيف في ذلك نسيان القرآن. أخرجه أبو داود، والترمذيّ، عن أنس رضي الله عنه رفعه:"نظرت في الذنوب، فلم أرَ أعظم من سورة من القرآن أوتيها رجل، فنسيها"، وحديث:"من أتى حائضًا، أو كاهنًا، فقد كفر". أخرجه الترمذيّ.

قال الحافظ رحمه الله تعالى: فهذا جميع ما وقفت عليه، مما ورد

(1)

يعني: رواية البخاريّ، وهي رواية مسلم أيضًا.

ص: 49

التصريح بأنه من الكبائر، أو من أكبر الكبائر، صحيحًا، وضعيفًا، مرفوعًا، وموقوفًا، وقد تتبّعته غاية التتبّع، وفي بعضه ما ورد خاصًّا، ويدخل في عموم غيره، كالتسبب في لعن الوالدين، وهو داخل في العقوق، وقتل الولد، وهو داخل في قتل النفس، والزنا بحليلة الجار، وهو داخلٌ في الزنا، والنُّهْبة، والغلول، واسم الخيانة يشمله، ويدخل الجميع في السرقة، وتعلّم السحر، وهو داخل في السحر، وشهادة الزور، وهي داخلة في قول الزور، واليمين الغموس، وهي داخلة في اليمين الفاجرة، والقنوط من رحمة الله، كاليأس من روح الله.

والمعتمد في كلّ ذلك ما ورد مرفوعًا بغير تداخل من وجه صحيح، وهي السبعة المذكورة في حديث الباب، والانتقال عن الهجرة، والزنا، والسرقة، والعقوق، واليمين الغموس، والإلحاد في الحرم، وشرب الخمر، وشهادة الزور، والنميمة، وترك التنزّه من البول، والغلول، ونكث الصفقة، وفراق الجماعة، فتلك عشرون خصلة، وتتفاوت مراتبها، والمجمع على عدّه من ذلك أقوى من المختلف فيه، إلا ما عضده القرآن، أو الإجماع، فيلتحق بما فوقه، ويجتمع من المرفوع، ومن الموقوف ما يقاربها.

ويحتاج عند هذا إلى الجواب عن الحكمة في الاقتصار على سبع.

ويجاب بأن مفهوم العدد ليس بحجة، وهو جواب ضعيف.

وبأنه أُعْلِم أوّلًا بالمذكورات، ثم أُعلم بما زاد، فيجب الأخذ بالزائد، أو أن الاقتصار وقع بحسب المقام بالنسبة للسائل، أو من وقعت له واقعة، ونحو ذلك.

وقد أخرج الطبريّ، وإسماعيل القاضي، عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما أنه قيل له: الكبائر سبع، فقال: هنّ أكثر من سبع، وسبع، وفي رواية عنه: هي إلى السبعين أقرب، وفي رواية إلى السبعمائة.

ويحمل كلامه على المبالغة بالنسبة إلى من اقتصر على سبع، وكأن المقتصر عليها اعتمد على حديث الباب المذكور. انتهى كلام الحافظ رحمه الله تعالى

(1)

، وهو بحثٌ نفيسٌ جدًّا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1)

"الفتح" 12/ 189 - 190 "كتاب الحدود" رقم (6857).

ص: 50

(المسألة الخامسة): في اختلاف أهل العلم في تقسيم الذنوب إلى صغائر، وكبائر:

قد اختلف السلف في الكبائر والصغائر، فذهب الجمهور إلى أن من الذنوب كبائر، ومنها صغائر.

وشذّت طائفة منهم: أبو إسحاق الإسفرايينيّ، فقال: ليس في الذنوب صغيرة، بل كلّ ما نهى الله عنه كبيرة، ونُقِل ذلك عن ابن عبّاس، وحكاه القاضي عياض عن المحقّقين، واحتجّوا بأن كلّ مخالفة لله، فهي بالنسبة إلى جلاله كبيرة. اهـ.

ونسبه ابن بطّال إلى الأشعريّة، فقال: انقسام الذنوب إلى صغائر وكبائر هو قول عامّة الفقهاء، وخالفهم في ذلك من الأشعريّة أبو بكر بن الطيّب، وأصحابه، فقالوا: المعاصي كلها كبائر، وإنما يقال لبعضها: صغيرة، بالإضافة إلى ما هو أكبر منها، كما يقال: القُبْلة المحرّمة صغيرة بإضافتهما إلى الزنا، وكلّها كبائر، قالوا: ولا ذنب عندنا يُغْفَر واجبًا باجتناب ذنب آخر، بل كلّ ذلك كبيرة، ومرتكبه في المشيئة غير الكفر؛ لقوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48]. وأجابوا عن الآية التي احتجّ أهل القول الأول بها، وهي قوله تعالى:{إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ} [النساء: 31] أن المراد الشرك.

وقد قال الفرّاء: من قرأ "كبائر"، فالمراد بها كبير، وكبير الإثم هو الشرك، وقد يأتي لفظ الجمع، والمراد به الواحد، كقوله تعالى:{كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105)} [الشعراء: 105]، ولم يُرسل إليهم غير نوح عليه السلام، قالوا: وجواز العقاب على الصغيرة كجوازه على الكبيرة. اهـ.

قال النوويّ: قد تظاهرت الأدلّة من الكتاب والسنّة إلى القول الأول، وقال الغزاليّ في "البسيط": إنكار الفرق بين الصغيرة والكبيرة، لا يليق بالفقيه.

قال الحافظ: قد حقّق إمام الحرمين المنقول عن الأشاعرة، واختاره، وبيّن أنه لا يخالف ما قاله الجمهور، فقال في "الإرشاد": المرضيّ عندنا أن كلّ ذنب يُعصَى الله به كبيرة، فربّ شيء يُعدّ صغيرة بالإضافة إلى الأقران، ولو كان في حقّ الملك لكان كبيرة، والربّ أعظم من عُصِي، فكلّ ذنب بالإضافة

ص: 51

إلى مخالفته عظيم، ولكن الذنوب، وإن عظمت، فهي متفاوتة في رتبها.

وظنّ بعض الناس أن الخلاف لفظيّ، فقال: التحقيق أن للكبيرة اعتبارين، فبالنسبة إلى مقايسة بعضها لبعض، فهي تختلف قطعًا، وبالنسبة إلى الآمر الناهي، فكلّها كبائر. اهـ. والتحقيق أن الخلاف معنويّ، وإنما جَرَى إليه الأخذ بظاهر الآية، والحديث الدالّ على أن الصغائر تُكفّر باجتناب الكبائر، كما تقدّم، والله تعالى أعلم.

وقال القرطبيّ: ما أظنّه يصحّ عن ابن عباس أن كلّ ما نهى الله تعالى عنه كبيرة؛ لأنه مخالف لظاهر القرآن في الفرق بين الصغائر والكبائر في قوله: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ} [النجم: 32]، وقوله:{إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء: 31]، فجعل في المنهيّات صغائر وكبائر، وفرّق بينهما في الحكم، إذ جعل تكفير السيئات في الآية مشروطًا باجتناب الكبائر، واستثنى اللمم من الكبائر والفواحش، فكيف يخفى ذلك على حبر القرآن؟.

قال الحافظ: ويؤيّده ما سيأتي عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما في تفسير اللمم، لكن النقل المذكور عنه، أخرجه إسماعيل القاضي، والطبريّ بسند صحيح على شرط الشيخين إلى ابن عبّاس، فالأَولى أن يكون المراد بقوله:"نهى الله عنه" محمولًا على نهي خاصّ، وهو الذي قُرن به وعيد، كما قُيّد في الرواية الأخرى عن ابن عباس، فيحمل مطلقه على مقيّده جمعًا بين كلاميه.

وقال الطيبيّ: الصغيرة والكبيرة أمران نسبيّان، فلا بدّ من أمر يضافان إليه، وهو أحد ثلاثة أشياء: الطاعة، أو المعصية، أو الثواب، فأما الطاعة، فكلّ ما تكفّره الصلاة مثلًا هو من الصغائر، وكلّ ما يكفّره الإسلام، أو الهجرة فهو من الكبائر.

وأما المعصية، فكلّ معصية يستحقّ فاعلها بسببها وعيدًا، أو عقابًا أزيد من الوعيد، أو العقاب المستحقّ بسبب معصية أخرى، فهي كبيرة.

وأما الثواب، ففاعل المعصية إذا كان من المقرّبين، فالصغيرة بالنسبة إليه

ص: 52

كبيرة، فقد وقعت المعاتبة في حقّ بعض الأنبياء على أمور لم تُعَدّ من غيرهم معصية. اهـ.

وكلامه فيما يتعلّق بالوعيد والعقاب يخصّص عموم مَن أطلق أن علامة الكبيرة ورود الوعيد، أو العقاب في حقّ فاعلها، لكن يلزم منه أن مطلق قتل النفس مثلًا كبيرة، كأنه وإن ورد الوعيد فيه، أو العقاب، لكن ورد الوعيد وإلعقاب في حقّ قاتل ولده أشدّ، فالصواب ما قاله الجمهور، وأن المثال المذكور، وما أشبهه ينقسم إلى كبير وأكبر. انتهى كلام الحافظ رحمه الله تعالى

(1)

وهو بحثٌ نفيسٌ جدًّا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب.

(المسألة السادسة): في اختلاف أهل العلم في حدّ الكبيرة:

قال النوويّ رحمه الله تعالى: قد اختلف العلماء في حدّ الكبيرة، وتمييزها من الصغيرة، فجاء عن ابن عباس رضي الله عنهما: كل شيء نَهَى الله عنه فهو كبيرة، وبهذا قال الأستاذ أبو إسحاق الإسفرايينيّ الفقيه الشافعيّ، وحَكَى القاضي عياض رحمه الله تعالى هذا المذهب عن المحققين.

واحتج القائلون بهذا بأن كلَّ مخالفة فهي بالنسبة إلى جلال الله تعالى كبيرة.

وذهب الجماهير من السلف والخلف، من جميع الطوائف إلى انقسام المعاصي إلى صغائر وكبائر، وهو مرويّ أيضًا عن ابن عباس رضي الله عنهما، وقد تظاهر على ذلك دلائل من الكتاب والسنة، واستعمال سلف الأمة وخلفها، قال أبو حامد الغزاليّ في كتابه "البسيط": إنكار الفرق بين الصغيرة والكبيرة لا يليق بالفقيه، وقد فُهِمَا من مدارك الشرع، وهذا الذي قاله أبو حامد قد قاله غيره بمعناه، ولا شك في كون المخالفة قبيحة جدًّا بالنسبة إلى جلال الله تعالى، ولكن بعضها أعظم من بعض، وتنقسم باعتبار ذلك إلى ما تُكَفِّره الصلوات الخمس، أو صوم رمضان، أو الحجّ، أو العمرة، أو الوضوء، أو صوم عرفة، أو صوم عاشوراء، أو فعل الحسنة، أو غير ذلك مما جاءت به الأحاديث

(1)

"فتح" 12/ 14 - 16 "كتاب الأدب".

ص: 53

الصحيحة، وإلى ما لا يُكَفِّره ذلك، كما ثبت في "الصحيح":"ما لم يَغْشَ كبيرة"، فسَمَّى الشرع ما تكفره الصلاة ونحوها صغائر، وما لا تكفره كبائر، ولا شكّ في حسن هذا، ولا يُخرجها هذا عن كونها قبيحة بالنسبة إلى جلال الله تعالى، فإنها صغيرة بالنسبة إلى ما فوقها؛ لكونها أقلّ قُبْحًا، ولكونها متيسرة التكفير، والله تعالى أعلم.

وإذا ثبت انقسام المعاصي إلى صغائر وكبائر، فقد اختلفوا في ضبطها اختلافًا كثيرًا منتشرًا جدًّا.

فروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: الكبائر كلُّ ذنب ختمه الله تعالى بنار، أو غضب، أو لعنة، أو عذاب، ونحوُ هذا عن الحسن البصريّ.

وقال آخرون: هي ما أوعد الله عليه بنار، أو حدّ في الدنيا.

قال الحافظ: وممن نَصّ على هذا الأخير الإمام أحمد، فيما نقله القاضي أبو يعلى، ومن الشافعية الماورديّ، ولفظه: الكبيرة ما وجبت فيه الحدود، أو توجه إليها الوعيد، والمنقول عن ابن عباس، أخرجه ابن أبي حاتم بسند لا بأس به، إلا أن فيه انقطاعًا، وأخرج من وجه آخر متصل لا بأس برجاله أيضًا، عن ابن عباس قال: كلُّ ما توعّد الله عليه بالنار كبيرة، وقد ضبط كثير من الشافعية الكبائر بضوابط أخرى، منها: قولُ إمام الحرمين: كلُّ جريمة تُؤذن بقلة اكتراث مرتكبها بالدين، ورِقّة الديانة، وقول الْحَلِيميّ: كل محرم لعينه منهيّ عنه لمعنى في نفسه، وقال الرافعيّ: هي ما أوجب الحدّ، وقيل: ما يُلحَق الوعيدُ بصاحبه بنصّ كتاب أو سنة. هذا أكثر ما يوجد للأصحاب، وهم إلى ترجيح الأول أميل، لكن الثاني أوفق لما ذكروه عند تفصيل الكبائر. انتهى كلامه.

وقد استُشكِل بأن كثيرًا مما وَردت النصوص بكونه كبيرةً لا حَدّ فيه، كالعقوق.

وأجاب بعض الأئمة بأن مُراد قائله: ضبطُ ما لم يَرِد فيه نص بكونه كبيرةً.

وقال ابن عبد السلام في "القواعد": لم أقف لأحد من العلماء على ضابط للكبيرة، لا يَسْلَم من الاعتراض، والأولى ضبطها بما يُشعِر بتهاون مرتكبها بدينه إشعارَ أدون الكبائر المنصوص عليها.

ص: 54

قال الحافظ: وهو ضابط جيّدٌ

(1)

.

وقال أبو حامد الغزالي في "البسيط": والضابط الشامل المعنويّ في ضبط الكبيرة أنّ كلَّ معصية يُقْدِم المرء عليها من غير استشعار خوف، وحذار ندم، كالمتهاون بارتكابها، والمتجرئ عليه اعتيادًا، فما أشعر بهذا الاستخفاف والتهاون، فهو كبيرة، وما يُحْمَل على فَلَتات النفس، أو اللسان، وفترة مراقبة التقوى، ولا ينفك عن تندم يمتزجُ به تنغيص التلذذ بالمعصية، فهذا لا يمنع العدالة، وليس هو بكبيرة.

وقال الشيخ الإمام أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله تعالى في "فتاويه": الكبيرةُ كل ذنب كَبُر وعَظُم عِظَمًا يَصِحُّ معه أن يُطلَق عليه اسم الكبير، ووصف بكونه عظيمًا على الإطلاق، قال: فهذا حدّ الكبيرة، ثم لها أمارات، منها: إيجاب الحدّ، ومنها: الإيعاد عليها بالعذاب بالنار، ونحوها، في الكتاب أو السنة، ومنها: وصف فاعلها بالفسق نصًّا، ومنها: اللعن، كـ "لَعَنَ الله مَن غيّر مَنَارَ الأرض".

وقال الشيخ الإمام أبو محمد بن عبد السلام رحمه الله تعالى في كتابه "القواعد": إذا أردت معرفة الفرق بين الصغيرة والكبيرة، فاعرض مفسدة الذنب على مفاسد الكبائر المنصوص عليها، فإن نقصت عن أقل مفاسد الكبائر، فهي من الصغائر، وإن ساوت أدنى مفاسد الكبائر، أو رَبَت عليه فهي من الكبائر، فمَن شَتَمَ الربّ سبحانه وتعالى، أو رسوله صلى الله عليه وسلم، أو استهان بالرسل، أو كذَّب واحدًا منهم، أو ضَمَخَ الكعبة بالعَذِرَة، أو ألقى المصحف في القاذورات، فهي من أكبر الكبائر، ولم يصرِّح الشرع بأنه كبيرة، وكذلك لو أمسك امرأةً محصنةً لمن يزني بها، أو أمسك مسلمًا لمن يقتله، فلا شك أن مفسدة ذلك أعظم من مفسدة أكل مال اليتيم، مع كونه من الكبائر، وكذلك لو دَلَّ الكفار على عورات المسلمين، مع علمه أنهم يستأصلون بدلالته، وَيسْبُون حُرَمَهم وأطفالهم، وَيغْنَمون

(2)

أموالهم، فإن نسبته إلى هذه المفاسد أعظم من توليه يوم

(1)

"الفتح" 10/ 424 - 425 "كتاب الأدب" رقم الحديث (5977).

(2)

من باب فرخ.

ص: 55

الزحف بغير عذر، مع كونه من الكبائر، وكذلك لو كَذَب على إنسان كذبًا يَعلم أنه يُقتل بسببه، أما إذا كَذَب عليه كذبًا يؤخذ منه بسببه تمرة، فليس كذبه من الكبائر، قال: وقد نَصَّ الشرع على أن شهادة الزور، وأكل مال اليتيم من الكبائر، فإن وقعا في مال خطير فهذا ظاهر، وإن وقعا في مال حقير، فيجوز أن يُجعلا من الكبائر فِطَامًا عن هذه المفاسد، كما جُعِل شرب قَطْرة من خمر من الكبائر، وإن لم تتحقق المفسدة، ويجوز أن يُضْبَط ذلك بنصاب السرقة، قال: والحكم بغير الحقّ كبيرة، فإن شاهد الزور متسبب، والحاكم مباشر، فإذا جُعل السبب كبيرة، فالمباشرة أولى. قال:

وقد ضبط بعض العلماء الكبائر بأنها كل ذنب قُرِن به وعيدٌ، أو حَدٌّ، أو لَعْنٌ، فعلى هذا كلُّ ذنب عُلِم أن مفسدته كمفسدة ما قُرِن به الوعيد، أو الحدّ، أو اللعن، أو أكثر من مفسدته فهو كبيرة، ثم قال: والأولى أن تُضبَط الكبيرة بما يُشْعِر بتهاون مرتكبها في دينه إشعارَ أصغر الكبائر المنصوص عليها، والله أعلم. انتهى كلام الشيخ ابن عبد السلام رحمه الله تعالى.

وقال الإمام أبو الحسن الواحديّ المفسر وغيره: الصحيح أن حَدَّ الكبيرة غير معروف، بل وَرَدَ الشرع بوصف أنواع من المعاصي بأنها كبائر، وأنواع بأنها صغائر، وأنواعٍ لم توصف، وهي مشتملة على صغائر وكبائر، والحكمة في عدم بيانه أن يكون العبد ممتنعًا مخافةَ أن يكون من الكبائر، قالوا: وهذا شبيهٌ بإخفاء ليلة القدر، وساعة يوم الجمعة، وساعة إجابة الدعاء من الليل، واسم الله الأعظم، ونحو ذلك، مما أُخفِيَ، والله تعالى أعلم بالصواب. انتهى كلام النوويّ

(1)

.

وقال الحافظ رحمه الله تعالى أيضًا في "الفتح" في "كتاب الحدود" بعد أن ذكر الأحاديث الواردة في الكبائر، ما نصّه: هاذا تقرر ذلك عُرِف فساد مَن عَرَّف الكبيرة بأنها ما وَجَب فيها الحدّ؛ لأن أكثر المذكورات لا يجب فيها الحدّ، قال الرافعيّ في "الشرح الكبير": الكبيرة هي الموجبة للحدّ، وقيل: ما

(1)

"شرح مسلم" للنوويّ 2/ 84 - 85، بزيادة من "الفتح"(10/ 424 - 425) رقم الحديث (5976 - 5977).

ص: 56

يُلْحَق الوعيد بصاحبه بنصّ كتاب أو سنة، وهذا أكثر ما يوجد للأصحاب، وهم إلى ترجيح الأول أميل، لكن الثاني أوفق لما ذكروه عند تفصيل الكبائر، وقد أقره في "الروضة"، وهو يُشعر بأنه لا يوجد عن أحد من الشافعية الجمع بين التعريفين، وليس كذلك، فقد قال الماورديّ في "الحاوي": هي ما يوجب الحدَّ، أو توجَّه إليها الوعيد، و"أو" في كلامه للتنويع، لا للشكّ، وكيف يقول عالم: إن الكبيرة ما وَرَدَ فيه الحدّ مع التصريح في "الصحيحين" بالعقوق، واليمين الغموس، وشهادة الزور، وغير ذلك؟ والأصل فيما ذكره الرافعيّ قولُ البغوي في "التهذيب": مَن ارتكب كبيرةً، من زنا، أو لواط، أو شرب الخمر، أو غصب، أو سرقة، أو قتل بغير حقّ تُرَدُّ شهادته، وإن فعله مرةً واحدةً، ثم قال: فكلُّ ما يوجب الحدّ من المعاصي فهو كبيرة، وقيل: ما يُلحَق الوعيد بصاحبه بنصّ كتاب أو سنة. انتهى. والكلام الأول لا يقتضي الحصر، والثاني هو المعتمد.

وقال ابن عبد السلام: لم أقف على ضابط الكبيرة - يعني: يسلم من الاعتراض - قال: والأولى ضبطها بما يُشعر بتهاون مرتكبها إشعارَ أصغر الكبائر المنصوص عليها، قال: وضبطها بعضهم بكلّ ذنبٍ قُرِن به وعيدٌ، أو لعن.

قال الحافظ: وهذا أشمل من غيره، ولا يَرِد عليه إخلاله بما فيه حدّ؛ لأن كل ما ثبت فيه الحدّ لا يخلو من ورود الوعيد على فعله، ويدخل فيه ترك الواجبات الفورية منها مطلقًا، والمتراخية إذا تضيقت.

وقال ابن الصلاح: لها أماراتٌ:

[منها]: إيجابُ الحدّ.

[ومنها]: الإيعاد عليها بالعذاب بالنار ونحوها، في الكتاب أو السنة.

[ومنها]: وصف صاحبها بالفسق.

[ومنها]: اللعن. قال الحافظ: وهذا أوسع مما قبله.

وقد أخرج إسماعيل القاضي بسند فيه ابن لهيعة، عن أبي سعيد رضي الله عنه مرفوعًا:"الكبائر كلُّ ذنب أدخل صاحبه النار"، وبسند صحيح عن الحسن البصريّ قال:"كلُّ ذنب نسبه الله تعالى إلى النار فهو كبيرة".

ص: 57

ومن أحسن التعاريف قول القرطبيّ في "المفهم": كلُّ ذنب أُطلق عليه بنصّ كتاب، أو سنة، أو إجماع أنه كبيرة، أو عظيم، أو أخبر فيه بشدة العقاب، أو عُلّق عليه الحدّ، أو شُدّد النكير عليه فهو كبيرة.

قال الحافظ: وعلى هذا فينبغي تتبع ما وَرَد فيه الوعيد، أو اللعن، أو الفسق من القرآن، والأحاديث الصحيحة والحسنة، ويُضَمّ إلى ما ورد فيه التنصيص في القرآن، والأحاديث الصحاح والحسان على أنه كبيرة، فمهما بلغ مجموع ذلك عُرِف منه تحرير عددها، وقد شرعتُ في جمع ذلك، وأسأل الله الإعانة على تحريره بمنّه وكرمه.

وقال الحليميّ في "المنهاج": ما من ذنب إلا وفيه صغيرة وكبيرة، وقد تنقلب الصغيرة كبيرة بقرينة تُضَمُّ إليها، وتنقلب الكبيرة فاحشةً كذلك، إلا الكفر بالله، فإنه أفحش الكبائر، وليس من نوعه صغيرة.

قال الحافظ: ومع ذلك فهو ينقسم إلى فاحش وأفحش، ثم ذكر الحليميّ أمثلة لما قال، فالثاني: كقتل النفس بغير حقّ، فإنه كبيرة، فإن قتل أصلًا أو فرعًا، أو ذا رحم، أو بالحرم، أو بالشهر الحرام، فهو فاحشة، والزنا كبيرةٌ، فإن كان بحليلة الجار، أو بذات رحم، أو في شهر رمضان، أو في الحرم، أو جاهر به فهو فاحشة.

والأول: كالمفاخذة مع الأجنبية صغيرةٌ، فإن كان مع امرأة الأب، أو حليلة الابن، أو ذات رحم فكبيرة، وسرقةُ ما دون النصاب صغير، فإن كان المسروق منه لا يملك غيره، وأفضى به عدمه إلى الضعف فهو كبيرة. وأطال في أمثلة ذلك، وفي الكثير منه ما يُتَعَقَّب، لكن هذا عنوانه، وهو منهجٌ حسن، لا بأس باعتباره، ومدارُهُ على شدة المفسدة وخفتها، والله تعالى أعلم. انتهى كلام الحافظ رحمه الله تعالى

(1)

، وهو بحثٌ نفيسٌ.

(المسألة السابعة): قال العلماء رحمهم الله تعالى: الإصرار على الصغيرة يَجعلها كبيرةً، ورُوي عن عمر، وابن عباس، وغيرهما رضي الله عنهم:"لا كبيرة مع استغفار، ولا صغيرة مع إصرار"، ومعناه: أن الكبيرة تُمحَى بالاستغفار، والصغيرة تصير كبيرة بالإصرار.

(1)

راجع: "الفتح" 12/ 190 - 191 "كتاب الحدود" رقم الحديث (6857).

ص: 58

قال الشيخ أبو محمد بن عبد السلام في حَدِّ الإصرار: هو أن تتكرر منه الصغيرة تكرارًا يُشعِر بقلة مبالاته بدينه؛ إشعارَ ارتكاب الكبيرة بذلك، قال: وكذلك إذا اجتمعت صغائر مختلفة الأنواع، بحيث يُشعر مجموعها بما يُشعر به أصغر الكبائر.

وقال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله تعالى: الْمُصِرُّ مَن تلبّس من أضداد التوبة باسم العزم على المعاودة، أو باستدامة الفعل، بحيث يَدخُل به ذنبه في حيز ما يُطلَق عليه الوصف بصيرورته كبيرًا عظيمًا، وليس لزمان ذلك وعدده حصر، والله تعالى أعلم، ذكره النوويّ رحمه الله تعالى في "شرحه"

(1)

، وهو بحثٌ مفيدٌ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[270]

(90) - (حَدَّثنا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنِ ابْنِ الْهَاد، عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَن، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاص، أَن رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مِنَ الْكَبَائِرِ شَتْمُ الرَّجُلِ وَالِدَيْهِ"، قَالُوا: يَا رَسُولَ الله، وَهَلْ يَشْتِمُ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ؟، قَالَ: "نَعَمْ، يَسُبُّ أَبَا الرَّجُلِ فَيَسُبُّ أباهُ، وَيَسُبُّ أمّهُ فَيَسُبُّ أمّهُ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) الثّقَفيّ، أبو رجاء البَغْلانيّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 240)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.

2 -

(اللَّيْثُ) بن سعد بن عبد الرحمن الفهميّ، أبو الحارث المصريّ، ثقة ثبتٌ فقيهٌ إمام مشهور [7](ت 175)(ع) تقدم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 412.

3 -

(ابْنُ الْهَادِ) هو: يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد الليثيّ، أبو عبد الله المدنيّ، ثقة مكثرٌ [5](ت 139)(ع) تقدم في "الإيمان" 13/ 159.

(1)

"شرح مسلم" للنوويّ 2/ 86 - 87.

ص: 59

4 -

(سَعْدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) بن عبد الرحمن بن عوف الزهريّ، أبو إسحاق، ويقال: أبو إبراهيم، أمه أم كلثوم بنت سعد، وكان قاضي المدينة والقاسم بن محمد حَيٌّ، ثقة فاضلٌ عابد [5] (ت 125) وقيل: غير ذلك (ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 31.

5 -

(حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بن عوف الزهريّ المدنيّ، ثقةٌ [2](ت 105) على الصحيح (ع) تقدم في "الإيمان" 26/ 213.

6 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ) الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما (ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18، والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سداسيّات المصنّف رحمه الله تعالى، وفيه التحديث، والعنعنة من صيغ الأداء.

2 -

(ومنها): أن رجاله كلّهم رجال الجماعة.

3 -

(ومنها): أنه مسلسل بثقات المدنيين، غير شيخه، فبغلانيّ، والليث، فمصريّ، ومن المعلوم أنهما دخلا المدينة، فقد أخذا عن مالك وغيره من أهلها.

4 -

(ومنها): أن فيه ثلاثةً من التابعين، يروي بعضهم عن بعض: ابن الهاد، وسعد، وحُميد، ورواية الأولين من رواية الأقران، فإن كليهما من الطبقة الخامسة.

5 -

(ومنها): أن صحابيّه أحد العبادلة الأربعة المجموعين في قولي:

وَإِنْ تُرِدْ مَعْرِفَةَ الْعَبَادِلَهْ

فَابْنُ الزُّبَيْرِ وَابْنُ عَمْرٍ وعَادَلَهْ

مَعَ ابْنِ عَبَّاسٍ وَنَجْلِ عُمَرَا

وَغَلِّطَنْ مَنْ غَيرَ هَذَا ذَكَرَا

وهو أحد الفقهاء المكثرين من الصحابة رضي الله عنهم، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ) رضي الله تعالى عنهما (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مِنَ الْكَبَائِرِ) قال القرطبيّ رحمه الله تعالى: يعني: أنه من أكبر الكبائر؛

ص: 60

لأن شتم المسلم الذي ليس بأبٍ كبيرة، فشتم الآباء أكبر منه. انتهى

(1)

.

وتعقّبه بعضهم بأنه لم يقصد شتم أبيه، وليس فعل السبب كفعل المسبّب على كلّ حال، فالصواب كونه كبيرةً، كما جعله في الحديث. انتهى

(2)

.

والجارّ والمجرور خبر مقدّم لقوله: (شَتْمُ الرَّجُلِ) هذا لا يخصّ الرجل، بل يعمّ النساء أيضًا؛ لأنهنّ لا يتخلفن عن الرجال في هذا، فتنبّه.

(وَالِدَيْهِ") وللبخاريّ: "إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه"، وله في "الأدب المفرد":"من الكبائر عند الله أن يسبّ الرجل والده".

و"الشتم": السبّ، يقال: شَتَمَه يَشْتُمه، من بابي: ضرب، ونصر، شَتْمًا، ومَشْتَمَةً بفتح التاء، ومَشْتُمَةً بضمّها: سبّه، أفاده في "القاموس"

(3)

.

(قَالُوا) أي الصحابة الحاضرون مجلس تحديث صلى الله عليه وسلم (يَا رَسُولَ الله، وَهَلْ يَشْتِمُ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ؟)، قال في "المفهم": استفهام إنكار واستبعاد لوقوع ذلك من أحد من الناس، وهو دليلٌ على ما كانوا عليه من المبالغة في برّ الوالدين، ومن الملازمة لمكارم الأخلاق والآداب. انتهى

(4)

.

وقال في "الفتح": هو استبعاد من السائلين؛ لأن الطبع المستقيم يأبى ذلك، فَبَيَّن صلى الله عليه وسلم في الجواب أنه وإن لم يتعاطَ السّبّ بنفسه في الأغلب الأكثر، لكن قد يقع منه التسبب فيه، وهو مما يمكن وقوعه كثيرًا.

(قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("نَعَمْ) أي يقع شتم الرجل والديه، وذلك أن الشخص (يَسُبُّ) بضمّ السين المهملة، من باب نصر، والسبّ: العار (أَبَا الرَّجُلِ) هذا لا يخصّ الرجل، بل لو سبّ أبا المرأة، فكذلك، فتنبّه (فَيَسُبُّ) الرجل المسبوب أبوه (أَبَاهُ) أي أبا السابّ مجازاة لجريمته (ويسُبُّ أمَّهُ) أي أم الرجل (فَيَسُبُّ) المسبوب أمه أيضًا (أمَّهُ") أي أم السابّ كذلك.

قال النوويّ رحمه الله تعالى: فيه دليلٌ على أن من تسبب في شيء جاز أن يُنسَب إليه ذلك الشيء، وإنما جُعِل هذا عقوقًا؛ لكونه يحصل منه ما يتأذى به الوالد

(1)

"المفهم" 1/ 285.

(2)

راجع: "مكمل إكمال الإكمال" 1/ 199.

(3)

"القاموس المحيط" ص 1015.

(4)

"المفهم" 1/ 285.

ص: 61

تأذيًا ليس بالْهَيّن كما تقدم في حدّ العقوق، وفيه قطع الذرائع، فيؤخذ منه النهي عن بيع العصير ممن يتخذ الخمر، والسلاح ممن يقطع الطريق، ونحو ذلك. انتهى

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله تعالى: فيه دليلٌ على أن سبب الشيء قد يُنزّله الشرع منزلة الشيء في المنع، فيكون حجة لمن منع بيع العنب ممن يعصره خمرًا، ويمنع بيع ثياب الخزّ ممن يلبسها، وهي لا تحلّ له، وهو أحد القولين للمالكيّة، وفيه حجة لمالك على القول بسدّ الذرائع، وهو من نحو قوله تعالى:{وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108]، والذريعة هي الامتناع مما ليس ممنوعًا في نفسه مخافةَ الوقوع في محظور. انتهى

(2)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه المصنّف هنا في "الإيمان"[40/ 270 و 271](90)، و (البخاريّ) في "الأدب"(5973)، و (أبو داود) في "الأدب"(5141)، و (الترمذيّ) في "البرّ والصلة"(1902)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 164 و 214 و 216)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(150)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(263 و 264)، وفي "الحلية"(3/ 172)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(411 و 412)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): تحريم سبّ الوالدين، وكونه من الكبائر.

2 -

(ومنها): بيان عظمة حقّ الوالدين، وأن أيّ فعل يتأذّيان به فإنه حرام، وإن لم يكن مباشرة.

3 -

(ومنها): ما قاله ابن بطال رحمه الله تعالى: هذا الحديث أصلٌ في سدّ الذرائع، ويؤخذ منه أن مَن آل فعله إلى مُحَرَّم يَحْرُم عليه ذلك الفعل، وإن لم يقصد إلى ما يَحْرُم، والأصل في هذا الحديث قوله تعالى:

(1)

"شرح مسلم" 2/ 88.

(2)

"المفهم" 1/ 285.

ص: 62

{وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} الَاية.

4 -

(ومنها): أنه استنبط منه الماورديّ رحمه الله تحريم بيع ثوب الحرير ممن يتحقق أنه يلبسه، والغلام الأمرد ممن يتحقق أنه يفعل به الفاحشة، والعصير ممن يتحقق أنه يتخذه خمرًا.

5 -

(ومنها): ما قاله الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة: فيه العمل بالغالب؛ لأن الذي يَسُبّ أبا الرجل يجوز أن يسب الآخر أباه، ويجوز أن لا يفعل، لكن الغالب أن يجيبه بنحو قوله.

6 -

(ومنها): أن فيه مراجعةَ الطالب لشيخه فيما يقوله، مما يُشْكِل عليه.

7 -

(ومنها): أن فيه إثباتَ الكبائر، وقد سبق قريبًا تمام البحث فيه.

8 -

(ومنها): أن فيه أن الأصل يَفْضُلُ الفرع بأصل الوضع، ولو فضله الفرع ببعض الصفات، قاله في "الفتح"

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في بيان مسألة مهمّة لها صلة بهذا الحديث، بل هو من أصولها القوّية، كما سبقت الإشارة إلى ذلك، وهي البحث عن سدّ الذرائع.

(اعلم): أن "الذرائع": جمع ذريعة، وهي في اللغة: ما كان طريقًا إلى الشيء، أما في الاصطلاح فالأكثرون يقصرونها على ما أفضى إلى محرّم، فقالوا: هي كلُّ عمل ظاهر الإباحة، يُتوصّل به إلى فعل محظور، وبعضهم يرى أنها تعمّ جميع الوسائل: المباحة، والمحرّمة، ومن هؤلاء: القرافيّ، وابن تيميّة، وابن القيمّ رحمهم الله تعالى، قالوا: هي ما كانت وسيلة إلى الشيء، وصرّح القرافيّ بأنه كما يجب سدّها، يجب فتحها، وتُكره، وتُندب، وتُباح. انتهى.

وقد شاع أن المالكيّة هم القائلون دون غيرهم بسدّ الذرائع، وذلك إنما كان بسبب توسّعهم فيها، كما نبّه عليه القرافيّ؛ إذ قد قال بها الحنابلة أيضًا، قال ابن العربيّ في "أحكام القرآن": انفرد بها مالك، وتابعه عليها أحمد في بعض رواياته، وخفيت على الشافعيّ وأبي حنيفة، بل جاء عن بعض العلماء ما

(1)

راجع: "الفتح" 10/ 418.

ص: 63

يُفيد أن من خالفوا مالكًا في هذه المسألة إنما خالفوه عند التأصيل، وعمِلُوا بها في فروعهم، فقد نقل الشوكانيّ عن القرطبيّ أنه قال: سدّ الذرائع ذهب إليه مالك وأصحابه، وخالفه أكثر الناس تأصيلًا، وعملوا عليه في أكثر فروعهم تفصيلًا. انتهى

(1)

.

ولقد حقّق هذا الموضوع الإمام ابن القيّم رحمه الله تعالى في كتابه البديع "إعلام الموقّعين"، فأجاد، وأفاد، ودونك نصّه، قال رحمه الله تعالى:

(فصل في سد الذرائع)

لَمّا كانت المقاصد لا يُتَوَصَّل إليها إلا بأسباب وطرق، تفضي إليها، كانت طرقها وأسبابها تابعةً لها، معتبرة بها، فوسائل المحرَّمات والمعاصي في كراهتها، والمنع منها بحسب إفضائها إلى غاياتها، وارتباطاتها بها، ووسائل الطاعات والقربات في محبتها، والإذن فيها، بحسب إفضائها إلى غايتها، فوسيلة المقصود تابعة للمقصود، وكلاهما مقصود، لكنه مقصودٌ قصدَ الغايات، وهي مقصودةٌ قصدَ الوسائل.

فإذا حَرَّم الرب تعالى شيئًا، وله طُرُقٌ ووسائل، تفضي إليه، فإنه يُحَرِّمها، ويمنع منها؛ تحقيقًا لتحريمه، وتثبيتًا له، ومنعًا أن يُقْرَب حِمَاه، ولو أباح الوسائل والذرائع المفضية إليه، لكان ذلك نقضًا للتحريم، وإغراءً للنفوس به، وحكمتُهُ تعالى، وعلمُهُ يأبى ذلك كلَّ الإباء، بل سياسة ملوك الدنيا تأبى ذلك، فإن أحدهم إذا مَنَع جنده، أو رعيته، أو أهل بيته من شيء، ثم أباح له الطرُق، والأسباب، والذرائع الموصلة إليه، لعُدَّ متناقضًا، ولحصل من رعيته وجنده ضدُّ مقصوده، وكذلك الأطباء إذا أرادوا حَسْمَ الداء، منعوا صاحبه من الطرق والذرائع الموصلة إليه، وإلا فَسَد عليهم ما يَرُومون إصلاحه، فما الظن بهذه الشريعة الكاملة، التي هي في أعلى درجات الحكمة والمصلحة والكمال؟ ومن تأمل مصادرها ومواردها، عَلِمَ أن الله تعالى، ورسوله صلى الله عليه وسلم سَدَّ الذرائع المفضية إلى المحارم، بأن حرَّمها، ونَهَى عنها، والذَّرِيعة ما كان وسيلةً وطريقًا إلى الشيء.

(1)

راجع: "أحكام القرآن" 2/ 743، و"إرشاد الفحول" ص 217.

ص: 64

ولا بُدَّ من تحرير هذا الموضع قبل تقريره؛ ليزول الالتباس فيه، فنقول: الفعل، أو القول المفضي إلى المفسدة قسمان:

[أحدهما]: أن يكون وضعه للإفضاء إليها، كشرب المسكر المفضي إلى مفسدة السكر، وكالقذف المفضي إلى مفسدة الفِرْيَة، والزنا المفضي إلى اختلاط المياه، وفساد الفراش، ونحو ذلك، فهذه أفعال وأقوال، وُضِعت مفضيةً لهذه المفاسد، وليس لها ظاهرٌ غيرها.

[والثاني]: أن تكون موضوعة للإفضاء إلى أمر جائز، أو مستحب، فيُتَّخَذ وسيلة إلى المحرم، إما بقصده، أو بغير قصد منه.

فالأول: كمن يَعقِد النكاح قاصدًا به التحليل، أو يعقد البيع قاصدًا به الربا، أو يخالع قاصدًا به الحنث، ونحو ذلك.

والثاني: كمن يُصلي تطوعًا بغير سبب في أوقات النهي، أو يسب أرباب المشركين بين أظهرهم، أو يصلي بين يدي القبر لله، ونحو ذلك، ثم هذا القسم من الذرائع نوعان:

[أحدهما]: أن تكون مصلحة الفعل أرجح من مفسدته.

[والثاني]: أن تكون مفسدته راجحة على مصلحته، فههنا أربعة أقسام:

الأول: وسيلة موضوعة للإفضاء إلى المفسدة.

الثاني: وسيلة موضوعة للمباح، قُصِد بها التوسل إلى المفسدة.

الثالث: وسيلة موضوعة للمباح، لم يُقصد بها التوسل إلى المفسدة، لكنها مفضية إليها غالبًا، ومفسدتها أرجح من مصلحتها.

الرابع: وسيلة موضوعة للمباح، وقد تفضي إلى المفسدة، ومصلحتها أرجح من مفسدتها.

فمثال القسم الأول والثاني قد تقدم، ومثال الثالث: الصلاة في أوقات النهي، ومسبة آلهة المشركين بين ظهرانيهم، وتزين المتوفَّى عنها في زمن عدتها، وأمثال ذلك.

ومثال الرايع: النظر إلى المخطوبة، والمستامة، والمشهود عليها، ومن يطؤها ويعاملها، وفعل ذوات الأسباب في أوقات النهي، وكلمة الحقّ عند ذي سلطان جائر، ونحو ذلك، فالشريعة جاءت بإباحة هذا القسم، أو استحبابه،

ص: 65

أو إيجابه بحسب درجاته في المصلحة، وجاءت بالمنع من القسم الأول؛ كراهةً أو تحريمًا بحسب درجاته في المفسدة، بقي النظر في القسمين الوسط، هل هما مما جاءت الشريعة بإباحتهما، أو المنع منهما؟ فنقول:

الدلالة على المنع من وجوه:

(الوجه الأول): قوله تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108]، فحَرَّم الله تعالى سب آلهة المشركين، مع كون السبّ غيظًا وحمية لله، وإهانةً لآلهتهم؛ لكونه ذريعة إلى سبهم لله تعالى، وكانت مصلحة ترك مسبته تعالى أرجح من مصلحة سبّنا لآلهتهم، وهذا كالتنبيه، بل كالتصريح على المنع من الجائز؛ لئلا يكون سببًا في فعل ما لا يجوز.

(الوجه الثاني): قوله تعالى: {وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} [النور: 31]، فمنعهن من الضرب بالأرجل، وإن كان جائزًا في نفسه؛ لئلا يكون سببًا إلى سمع الرجال صوت الخلخال، فيثير ذلك دواعي الشهوة منهم إليهنّ.

(الوجه الثالث): قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ} [النور: 58]، أَمَر تعالى مماليك المؤمنين، ومن لم يبلغ منهم الحلم، أن يستأذنوا عليهم في هذه الأوقات الثلاثة؛ لئلا يكون دخولهم هَجْمًا بغير استئذان فيها ذريعةً إلى اطّلاعهم على عوراتهم وقت إلقاء ثيابهم عند القائلة والنوم واليقظة، ولم يأمرهم بالاستئذان في غيرها، وإن أمكن في تركه هذه المفسدة؛ لندورها، وقلة الإفضاء إليها، فجعلت كالمقدمة.

(الوجه الرابع): قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا} [البقرة: 104]، نهاهم سبحانه وتعالى أن يقولوا هذه الكلمة، مع قصدهم بها الخير؛ لئلا يكون قولهم ذريعةً إلى التشبه باليهود في أقوالهم وخطابهم، فإنهم كانوا يخاطبون بها النبيّ صلى الله عليه وسلم، ويقصدون بها السبّ، يقصدون فاعلًا من الرُّعُونة، فَنُهِي المسلمون عن قولها سدًّا لذريعة المشابهة، ولئلا يكون ذلك ذريعةً إلى أن يقولها اليهود للنبيّ صلى الله عليه وسلم تشبهًا بالمسلمين، يقصدون بها غير ما يقصده المسلمون.

ص: 66

(الوجه الخامس): قوله تعالى لكليمه موسى وأخيه هارون: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44)} [طه: 43، 44]، فأَمر تعالى أن يُلِينا القول لأعظم أعدائه، وأشدّهم كفرًا، وأعتاهم عليه؛ لئلا يكون إغلاظُ القول له، مع أنه حقيقٌ به ذريعةً إلى تنفيره، وعدم صبره لقيام الحجة، فنهاهما عن الجائز؛ لئلا يترتب عليه ما هو أكره إليه تعالى.

(الوجه السادس): أنه تعالى نَهَى المؤمنين في مكة عن الانتصار باليد، وأمرهم بالعفو والصفح؛ لئلا يكون انتصارهم ذريعةً إلى وقوع ما هو أعظم مفسدةً من مفسدة الإغضاء، واحتمال الضَّيْم، ومصلحةُ حفظ نفوسهم ودينهم وذريتهم راجحةٌ على مصلحة الانتصار والمقابلة.

(الوجه السابع): أنه تعالى نَهَى عن البيع وقت نداء الجمعة؛ لئلا يُتَّخَذ ذريعةً إلى التشاغل بالتجارة عن حضورها.

(الوجه الثامن): ما رواه حُميد بن عبد الرحمن، عن عبد الله بن عَمْرو رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من الكبائر شَتمُ الرجل والديه"، قالوا: يا رسول الله، وهل يشتم الرجل والديه؟ قال:"نعم يسب أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه"، مُتَّفقٌ عليه، ولفظ البخاري:"إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه"، قيل: يا رسول الله كيف يلعن الرجل والديه؟ قال: "يسب أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه"، فجَعَل رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجل سابًّا لاعنًا لأبويه بتسببه إلى ذلك، وتوسله إليه، وإن لم يقصده.

(الوجه التاسع): أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يَكُفّ عن قتل المنافقين، مع كونه مصلحةً؛ لئلا يكون ذريعةً إلى تنفير الناس عنه، وقولهم: إن محمدًا يقتل أصحابه، فإن هذا القول يوجب النفور عن الإسلام، ممن دَخَل فيه، ومن لم يدخل فيه، ومفسدةُ التنفير أكبر من مفسدة ترك قتلهم، ومصلحةُ التأليف أعظم من مصلحة القتل.

(الوجه العاشر): أن الله حَرَّم الخمر؛ لما فيها من المفاسد الكثيرة المترتبة على زوال العقل، وهذا ليس مما نحن فيه، لكن حَرَّم القطرة الواحدة

ص: 67

منها، وحَرَّم إمساكها للتخليل، ونَجَّسها

(1)

؛ لئلا تُتَّخذ القطرة ذريعةً إلى الْحُسْوَة

(2)

ويُتَّخَذ إمساكها للتخليل ذريعةً إلى إمساكها للشرب، ثم بالغ في سد الذريعة، فنَهَى عن الخليطين، وعن شرب العصير بعد ثلاث، وعن الانتباذ في الأوعية التي قد يتخمر النبيذ فيها، ولا يُعْلَم به حسمًا لمادّة قربان المسكر، وقد صَرَّح صلى الله عليه وسلم بالعلة في تحريم القليل، فقال:"لو رَخَّصتُ لكم في هذه، لأوشك أن تجعلوها مثل هذه".

(الوجه الحادي عشر): أنه صلى الله عليه وسلم حَرَّمَ الخلوة. بالأجنبية، ولو في إقراء القرآن، والسفرَ بها ولو في الحج، وزيارة الوالدين؛ سدّا لذريعة ما يحاذر من الفتنة، وغلبات الطباع.

(الوجه الثاني عشر): أن الله تعالى أمر بِغَضِّ البصر، وإن كان إنما يقع على محاسن الخلقة، والتفكر في صنع الله؛ سدّا لذريعة الارادة، والشهوة المفضية إلى المحظور.

(الوجه الثالث عشر): أن النبيّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عن بناء المساجد على القبور، ولَعَنَ مَن فعل ذلك، ونهى عن تجصيص القبور، وتشريفها، واتخاذها مساجد، وعن الصلاة إليها، وعندها، وعن إيقاد المصابيح عليها، وأمر بتسويتها، ونَهَى عن اتخاذها عيدًا، وعن شدّ الرحال إليها؛ لئلا يكون ذلك ذريعةً إلى اتخاذها أوثانًا، والإشراك بها، وحَرَّمَ ذلك على من قصده، ومن لم يقصده، بل قَصَدَ خلافه؛ سدًّا للذريعة.

(الوجه الرابع عشر): أنه صلى الله عليه وسلم نَهَى عن الصلاة عند طلوع الشمس، وعند غروبها، وكان من حكمة ذلك أنهما وقتُ سجود المشركين للشمس، وكان النهي عن الصلاة لله في ذلك الوقت سدًّا لذريعة المشابهة الظاهرة التي هي ذريعة إلى المشابهة في القصد، مع بُعْد هذه الذريعة، فكيف بالذرائع القريبة؟.

(1)

القول بنجاسة الخمر ليس عليه دليلٌ صريح، وسيأتي تحقيق القول فيه في محله - إن شاء الله تعالى -.

(2)

"الحسوة" بضم الحاء المهملة: الجرعة من الشراب بقدر ما يحسى مرّة واحدة، و"الحسوة" بفتحها: المرّة.

ص: 68

(الوجه الخامس عشر): أنه صلى الله عليه وسلم نَهَى عن التشبه بأهل الكتاب، في أحاديث كثيرة، كقوله صلى الله عليه وسلم:"إن اليهود والنصارى لا يصبُغُون فخالفوهم"، وقوله:"إن اليهود لا يصلُّون في نعالهم فخالفوهم"، وقوله في عاشوراء:"خالفوا اليهود صوموا يومًا قبله، أو يومًا بعده"، وقوله:"لا تشبهوا بالأعاجم"، ورَوَى الترمذيّ عنه صلى الله عليه وسلم:"ليس منا مَن تَشَبَّه بغيرنا"، ورَوَى الإمام أحمد عنه:"مَن تشبه بقوم فهو منهم".

وسِرُّ ذلك أن المشابهة في الهدي الظاهر ذريعةٌ إلى الموافقة في القصد والعمل.

(الوجه السادس عشر): أنه صلى الله عليه وسلم حَرَّم الجمع بين المرأة وعمتها، والمرأة وخالتها، وقال:"إنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم"، حتى لو رَضِيت المرأة بذلك لم يجز؛ لأن ذلك ذريعة إلى القطيعة المحرَّمة، كما عَلَّل به النبيّ صلى الله عليه وسلم.

(الوجه السابع عشر): أنه حَرَّم نكاح أكثر من أربع؛ لأن ذلك ذريعة إلى الْجَوْر، وقيل: العلة فيه أنه ذريعة إلى كثرة المؤنة المفضية إلى أكل الحرام، وعلى التقديرين فهو من باب سدّ الذرائع، وأباح الأربع، وإن كان لا يُومَن الجور في اجتماعهنّ؛ لأن حاجته قد لا تندفع بما دونهن، فكانت مصلحةُ الإباحة أرجح من مفسدة الجور المتوقعة.

(الوجه الثامن عشر): أن الله تعالى حَرَّم خِطْبَة المعتدة صريحًا، حتى حَرَّم ذلك في عدة الوفاة، وإن كان المرجع في انقضائها ليس إلى المرأة، فإن إباحة الخطبة قد تكون ذريعةً إلى استعجال المرأة بالإجابة، والكذب في انقضاء عدتها.

(الوجه التاسع عشر): أن الله حَرَّم عقد النكاح في حال العدّة، وفي الإحرام، وإن تأخر الوطء إلى وقت الحِلِّ؛ لئلا يُتَّخَذَّ العقد ذريعة إلى الوطء، ولا يُنتَقَضُ هذا بالصيام؛ فإن زمنه قريب جدًّا، فليس عليه كلفة في صبره بعض يوم إلى الليل.

(الوجه العشرون): أن الشارع حَرَّم الطيب على المحرم؛ لكونه من أسباب دواعي الوطء، فتحريمه من باب سدّ الذريعة.

(الوجه الحادي والعشرون): أن الشارع اشتَرَطَ للنكاح شروطًا زائدةً على

ص: 69

العقد، تقطع عنه شُبَهَ السِّفَاح، كالأعلام، والوليّ، ومنع المرأة أن تَلِيه بنفسها، ونَدَب إلى إظهاره حتى استَحَبَّ فيه الدُّفَّ، والصوت، والوليمة؛ لأن في الإخلال بذلك ذريعةً إلى وقوع السفاح بصورة النكاح، وزوالى بعض مقاصد النكاح، من جحد الفراش، ثم أَكَّد ذلك بأن جعل للنكاح حريمًا من العدة، تزيد على مقدار الاستبراء، وأثبت له أحكامًا من المصاهرة، وحرمتها، ومن الموارثة زائدةً على مجرد الاستمتاع، فعلم أن الشارع جعله سببًا، ووصله بين الناس بمنزلة الرحم، كما جَمَعَ بينهما في قوله:{بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا} [الفرقان: 54]، وهذه المقاصد تمنع شَبَهَهُ بالسفاح، وتُبَيِّن أن نكاح المحلِّل بالسفاح أشبه منه بالنكاح

(1)

.

(الوجه الثاني والعشرون): أن النبيّ صلى الله عليه وسلم نَهَى أن يجمع الرجل بين سَلَف وبيع

(2)

، ومعلوم أنه لو أُفرد أحدهما عن الآخر صحَّ، وإنما ذاك لأن اقتران أحدهما بالآخر ذريعةٌ إلى أن يُقرضه ألفًا، ويبيعه سلعة تساوي ثمانمائة بألف أخرى، فيكون قد أعطاه ألفًا وسلعة بثمانمائة؛ ليأخذ منه ألفين، وهذا هو معنى الربا، فانظر إلى حمايته الذريعة إلى ذلك بكل طريق، وقد احتَجَّ بعض المانعين لمسألة مُدِّ عَجْوَة، بأن قال: إن مَن جَوَّزها يُجَوِّز أن يبيع الرجل ألف دينار في منديل بألف وخمسمائة مفردة، قال: وهذا ذريعةٌ إلى الربا، ثم قال: يجوز أن يُقرضه ألفًا، ويبيعه المنديل بخمسمائة، وهذا هو بعينه الذي نَهَى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو من أقرب الذرائع إلى الربا، ويلزم من لم يَسُدَّ الذرائع أن يخالف النصوص، ويجيز ذلك، فكيف يترك أمرًا، ويرتكب نظيره من كل وجه.

(الوجه الثالث والعشرون): أن الآثار المتظاهرة في تحريم الْعِينَة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة رضي الله عنهم، تدل على المنع من عَوْد السلعة إلى البائع، وإن لم يتواطئا على الربا، وما ذاك إلا سدًّا للذريعة.

(الوجه الرابع والعشرون): أن النبيّ صلى الله عليه وسلم مَنَعَ المقرض من قبول الهدية،

(1)

أي لأن هذه الخصائص غير متيقّنة فيه، راجع:"مجموع الفتاوى" لابن تيميّة 3/ 261.

(2)

حديث صحيح.

ص: 70

وكذلك أصحابه حتى يحسبها من دَينه، وما ذاك إلا لئلا يتخذ ذلك ذريعةً إلى تأخير الدين لأجل الهدية، فيكون ربًا، فإنه يعود إليه ماله، وأخذ الفضل الذي استفاده بسبب القرض.

(الوجه الخامس والعشرون): أن الوالي والقاضي والشافع ممنوع من قبول الهدية، وهو أصل فساد العالم، وإسناد الأمر إلى غير أهله، وتولية الْخَوَنَة، والضعفاء والعاجزين، وقد دخل بذلك من الفساد ما لا يحصيه إلا الله، وما ذاك إلا لأن قبول الهدية ممن لم تَجْرِ عادته بمهاداته ذريعةٌ إلى قضاء حاجته، وحُبُّك الشيءَ يُعْمِي ويُصِمُّ، فيقوم عنده شهوة لقضاء حاجته؛ مكافأةً له، مقرونة بِشَرَهٍ، وإغماضٍ عن كونه لا يصلح.

(الوجه السادس والعشرون): أن السنة مَضَت بأنه ليس للقاتل من الميراث شيء إما عمدًا، كما قال مالك، وإما مباشرة كما قال أبو حنيفة، وإما قتلًا مضمونًا بقصاص، أو دية، أو كفارة، وإما قتلًا بغير حقّ، وإما قتلًا مطلقًا، كما هي أقوال في مذهب الشافعيّ، وأحمد، والمذهب الأول، وسواء قَصَد القاتل أن يتعجل الميراث، أو لم يقصده، فإن رعاية هذا القصد غير معتبرة في المنع وفاقًا، وما ذاك إلا أن توريث القاتل ذريعةٌ إلى وقوع هذا الفعل، فَسَدَّ الشارع الذريعة بالمنع.

(الوجه السابع والعشرون): أن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار وَرَّثُوا المطلقة المبتوتة في مرض الموت، حيث يُتَّهَم بقصد حرمانها الميراث بلا تردد، إن لم يقصد الحرمان؛ لأن الطلاق ذريعةٌ، وأما إذا لم يُتَّهَم ففيه خلاف معروف، مأخذه أن المرض أوجب تَعَلُّق حقها بماله، فلا يُمَكَّنُ من قطعه، أو سدًّا للذريعة بالكلية، وإن كان في أصل المسألة خلاف متأخرٌ عن إجماع السابقين.

(الوجه الثامن والعشرون): أن الصحابة وعامة الفقهاء رضي الله عنهم اتَّفَقُوا على قتل الجميع بالواحد، وإن كان أصل القصاص يَمْنَع ذلك؛ لئلا يكون عدم القصاص ذريعةً إلى التعاون على سفك الدماء.

(الوجه التاسع والعشرون): أن النبيّ صلى الله عليه وسلم نَهَى أن تُقْطَع الأيدي في الغزو؛

ص: 71

لئلا يكون ذريعةً إلى إلحاق المحدود بالكفار، ولهذا لا تقام الحدود في الغزو، كما تقدم.

(الوجه الثلاثون): أن النبيّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عن تقدم رمضان بصوم يوم أو يومين، إلا أن تكون له عادةٌ توافق ذلك اليوم، ونَهَى عن صوم يوم الشكّ، وما ذاك إلا لئلا يُتَّخَذ ذريعةً إلى أن يُلْحَقَ بالفرض ما ليس منه، وكذلك حَرَّم صوم يوم العيد تمييزًا لوقت العبادة عن غيره؛ لئلا يكون ذريعةً إلى الزيادة في الواجب، كما فعلت النصارى، ثم أَكَّد هذا الغرض باستحباب تعجيل الفطر، وتأخير السحور، واستحباب تعجيل الفطر في يوم العيد قبل الصلاة، وكذلك نَدَبَ إلى تمييز فرض الصلاة عن نفلها، فكُرِه للإمام أن يتطوع في مكانه، وأن يستديم جلوسه مستقبل القبلة، كلُّ هذا سدًّا للباب المفضي إلى أن يزاد في الفرض ما ليس منه.

(الوجه الحادي والثلاثون): أنه صلى الله عليه وسلم كَرِهَ الصلاةَ إلى ما قد عُبِدَ من دون الله تعالى، وأَحَبَّ لمن صَلَّى إلى عُود، أو عَمود، أو شجرة، أو نحو ذلك أن يجعله على أحد جانبيه، ولا يَصْمُدُ إليه صَمْدًا

(1)

؛ قطعًا لذريعة التشبه بالسجود إلى غير الله تعالى.

(الوجه الثاني والثلاثون): أنه شَرَعَ الشفعة، وسَلَّط الشريك على انتزاع الشّقْصِ من يد المشتري؛ سَدًّا لذريعة المفسدة المتعلقة بالشركة والقسمة.

(الوجه الثالث والثلاثون): أن الحاكم مَنْهيّ عن رفع أحد الخصمين على الآخر، وعن الإقبال عليه دونه، وعن مشاورته

(2)

، والقيام له دون خصمه؛ لئلا يكون ذريعةً إلى انكسار قلب الآخر، وضعفه عن القيام بحجته، وثقل لسانه بها.

(1)

فيه حديث ضعيف أخرجه أبو داود في "سننه" رقم (693) بسند ضعيف، عن ضُباعة بنت المقداد بن الأسود، عن أبيها، قال:"ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي إلى عُود، ولا عمود، ولا شجرة إلا جعله على حاجبه الأيمن، أو الأيسر، ولا يصمد له صَمْدًا".

(2)

هكذا النسخة، ولعله "ومسارّته" بالسين المهملة بدل المعجمة: أي تكليمه سرًّا، والله تعالى أعلم.

ص: 72

(الوجه الرابع والثلاثون): أنه ممنوع من الحكم بعلمه؛ لئلا يكون ذلك ذريعةً إلى حكمه بالباطل، ويقول: حكمت بعلمي.

(الوجه الخامس والثلاثون): أن الشريعة مَنَعَت من قبول شهادة العدوّ على عدوّه؛ لئلا يَتَّخِذ ذلك ذريعةً إلى بلوغ غرضه من عدوّه بالشهادة الباطلة.

(الوجه السادس والثلاثون): أن الله تعالى مَنَعَ رسوله صلى الله عليه وسلم حيث كان بمكة من الجهر بالقرآن، حيث كان المشركون يسمعونه، فيسبّون القرآن، ومن أنزله، ومن جاء به، ومن أُنزل عليه.

(الوجه السابع والثلاثون): أن الله تعالى أوجب الحدود على مرتكبي الجرائم التي تتقاضاها الطباع

(1)

، وليس عليها وازعٌ طبعيّ، والحدود عقوبات لأرباب الجرائم في الدنيا، كما جُعلت عقوبتهم في الآخرة بالنار إذا لم يتوبوا، ثم إنه تعالى جعل التائب من الذنب كمن لا ذنب له، فمن لقيه تائبًا توبةً نصوحًا لم يعذبه مما تاب منه، وهكذا في أحكام الدنيا إذا تاب توبة نصوحًا قبل رفعه إلى الإمام سقط عنه في أصح قولي العلماء، فإذا رفع إلى الإمام لم تُسْقِط توبته عنه الحدّ؛ لئلا يُتَّخَذ ذلك ذريعة إلى تعطيل حدود الله؛ إذ لا يَعْجِز كلُّ من وجب عليه الحدّ أن يُظهِر التوبة؛ ليتخلص من العقوبة، وإن تاب توبةً نصوحًا سدًّا لذريعة السكوت بالكلية.

(الوجه الثامن والثلاثون): أن الشارع أَمَر بالاجتماع على إمام واحد في الإمامة الكبرى، وفي الجمعة والعيدين والاستسقاء وصلاة الخوف، مع كون صلاة الخوف بإمامين أقرب إلى حصول صلاة الأمن، وذلك سدًّا لذريعة التفريق والاختلاف والتنازع، وطلبًا لاجتماع القلوب، وتألُّف الكلمة، وهذا من أعظم مقاصد الشرع، وقد سدَّ الذريعة إلى ما يناقضه بكل طريق، حتى في تسوية الصف في الصلاة؛ لئلا تختلف القلوب، وشواهد ذلك أكثر من أن تُذْكَر.

(الوجه التاسع والثلاثون): أن السنة مَضَت بكراهة إفراد رجب بالصوم،

(1)

أي كالزنا، وشرب الخمر، والسرقة، والقذف، دون أكل الميتة، والرمي بالكفر، ونحو ذلك، فإنه اكتفى فيه بالتعزير.

ص: 73

وكراهة إفراد يوم الجمعة بالصوم، وليلتها بالقيام سدًّا لذريعة اتخاذ شَرْع لم يأذن به الله من تخصيص زمان، أو مكان بما لم يَخُصّه به، ففي ذلك وقوعٌ فيما وقع فيه أهل الكتاب.

(الوجه الأربعون): أن الشروط المضروبة على أهل الذمة تضمنت تمييزهم عن المسلمين في اللباس والشعور والمراكب وغيرها؛ لئلا تُفضي مشابهتهم إلى أن يعامَل الكافر معاملة المسلم، فَسَدَّت هذه الذريعةَ بإلزامهم التميز عن المسلمين.

(الوجه الحادي والأربعون): أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ ناجية بن كعب الأسلميّ، وقد أرسل معه هدية، إذا عَطِبَ منه شيء دون المحل أن ينحره، ويصبُغ نعله التي قلَّده بها في دمه، ويُخَلِّي بينه وبين الناس، ونهاه أن يأكل منه هو أو أحد من أهل رُفقته، قالوا: وما ذاك إلا لأنه لو جاز أن يأكل منه، أو يُطْعِم أهل رُفقته قبل بلوغ المحل، فربما دعاه ذلك إلى أن يُقَصِّر في عَلَفها، وحفظها؛ لحصول غرضه من عَطَبها دون المحل، كحصوله بعد بلوغ المحل من أكله هو ورفقته، وإهدائهم إلى أصحابهم، فإذا أَيِسَ من حصول غرضه في عطبها كان ذلك أدعى إلى حفظها، حتى تبلغ محلها، وأَحْسَمَ لمادّة هذا الفساد، وهذا من ألطف أنواع سدِّ الذرائع.

(الوجه الثاني والأربعون): أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ الملتقط أن يُشْهِد على اللقطة، وقد عُلِم أنه أمين، وما ذاك إلا سَدًّا لذريعة الطمع والكتمان، فإذا بادر وأشهد، كان أحسم لمادة الطمع والكتمان، وهذا أيضًا من ألطف أنواعها.

(الوجه الثالث والأربعون): أنه صلى الله عليه وسلم قال: "لا تقولوا: ما شاء الله، وشاء محمد"، وذَمَّ الخطيب الذي قال:"من يُطع الله ورسوله، فقد رشد، ومن عصاهما فقد غَوَى"، سدًّا لذريعة التشريك في المعنى بالتشريك في اللفظ، وحسمًا لمادة الشرك حتى في اللفظ، ولهذا قال للذي قال له: ما شاء الله وشئت: "أجعلتني لله نِدًّا؟ "، فحَسَمَ مادّة الشرك، وسَدَّ الذريعة إليه في اللفظ، كما سَدَّها في الفعل والقصد، فصلاة الله وسلامه عليه وعلى آله أكملَ صلاة وأتمّها وأزكاها وأعمّها.

(الوجه الرابع والأربعون): أنه صلى الله عليه وسلم أَمَر المأمومين أن يُصَلُّوا قعودًا إذا

ص: 74

صَلَّى إمامهم قاعدًا، وقد تواتر عنه ذلك، ولم يجئ عنه ما ينسخه، وما ذاك إلا سدًّا لذريعة مشابهة الكفار، حيث يقومون على ملوكهم، وهم قعود، كما علَّله صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله، وهذا التعليل منه يُبطل قول من قال: إنه منسوخ، مع أن ذلك دعوى لا دليل عليها

(1)

.

(الوجه الخامس والأربعون): أنه صلى الله عليه وسلم أَمَر المصلي بالليل إذا نَعَس أن يذهب، فيَرقُد، وقال:"لعله يذهب يستغفر، فيسب نفسه"، فأمره بالنوم؛ لئلا تكون صلاته في تلك الحال ذريعة إلى سَبِّه لنفسه، وهو لا يشعر، لغلبة النوم.

(الوجه السادس والأربعون): أن الشارع - صلوات الله عليه - نَهَى أن يَخْطُب الرجل على خِطْبة أخيه، أو يستام على سَوْم أخيه، أو يبيع على بيع أخيه، وما ذاك إلا لأنه ذريعة إلى التباغض والتعادي، فقياس هذا أنه لا يستأجر على إجارته، ولا يخطب ولايةً ولا منصبًا على خطبته، وما ذاك إلا لأنه ذريعة إلى وقوع العداوة والبغضاء بينه وبين أخيه.

(الوجه السابع والأربعون): أنه نَهَى عن البول في الْجُحْر، وما ذاك إلا لأنه قد يكون ذريعةً إلى خروج حيوان يؤذيه، وقد يكون من مساكن الجنّ، فيؤذيهم بالبول، فربما آذوه.

(الوجه الثامن والأربعون): أنه نَهَى عن البراز في قارعة الطريق، والظلّ، والموارد؛ لأنه ذريعة لاستجلاب اللَّعْن، كما عَلَّل به صلى الله عليه وسلم بقوله:"اتقوا الملاعن الثلاث"، وفي لفظ:"اتقوا اللاعنين"، قالوا: وما اللاعنان يا رسول الله؟ قال: "الذي يتخلى في طريق الناس، وفي ظلهم".

(الوجه التاسع والأربعون): أنه نهاهم إذا أقيمت الصلاة أن يقوموا حتى يروه قد خرج؛ لئلا يكون ذلك ذريعةً إلى قيامهم لغير الله، ولو كانوا إنما يقصدون القيام للصلاة، لكن قيامهم قبل خروج الإمام ذريعةٌ، ولا مصلحة فيها، فَنُهُوا عنه.

(الوجه الخمسون): أنه نَهَى أن توصل صلاة بصلاة الجمعة، حتى يَتَكَّلم، أو يَخْرُج؛ لئلا يُتَّخَذ ذريعةً إلى تغيير الفرض، وأن يزاد فيه ما ليس

(1)

سيأتي تحقيق المسألة في محلّه من "كتاب الصلاة" - إن شاء الله تعالى -.

ص: 75

منه، قال السائب بن يزيد: صليت الجمعة في المقصورة، فلما سَلَّم الإمام قمت في مقامي، فصليت، فلما دَخَلَ معاوية أرسل إليّ، فقال: لا تَعُد لما فعلت، إذا صليت الجمعة فلا تصِلها بصلاة حتى تتكلم، أو تخرج، فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بذلك ألا توصل الصلاة حتى يتكلم، أو يخرج.

(الوجه الحادي والخمسون): أنه أَمَر مَن صلى في رحله، ثم جاء إلى المسجد أن يصلي مع الإمام، وتكون له نافلة؛ لئلا يُتَّخَذ قعوده، والناس يصلون ذريعةً إلى إساءة الظن به، وأنه ليس من المصلين.

(الوجه الثاني والخمسون): أنه نَهَى أن يسمر بعد العشاء الآخرة إلى لمصلٍّ، أو مسافرٍ، وكان يكره النوم قبلها، والحديث بعدها، وما ذاك إلا لأن النوم قبلها ذريعة إلى تفويتها، والسمر بعدها ذريعةٌ إلى تفويت قيام الليل، فإن عارضه مصلحةٌ راجحةٌ، كالسمر في العلم، ومصالح المسلمين لم يُكْرَه.

(الوجه الثالث والخمسون): أنه نَهَى النساء إذا صلين مع الرجال أن يَرفعن رؤوسهن قبل الرجال؛ لئلا يكون ذريعةً منهن إلى رؤية عورات الرجال من وراء الأُزُر، كما جاء التعليل بذلك في الحديث.

(الوجه الرابع والخمسون): أنه نَهَى الرجل أن يتخطى المسجد الذي يليه إلى غيره، كما رواه بقية، عن المجاشع بن عمرو، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم:"ليصَلّ أحدكم في المسجد الذي يليه، ولا يتخطاه إلى غيره"، وما ذاك إلا لأنه ذريعةٌ إلى هجر المسجد الذي يليه، وإيحاش صدر الإمام، وإن كان الإمام لا يتم الصلاة، أو يُرمَى ببدعة، أو يُعْلِن بفجور، فلا بأس بتخطيه إلى غيره.

(الوجه الخامس والخمسون): أنه نَهَى الرجل بعد الأذان أن يخرج من المسجد حتى يصلي؛ لئلا يكون خروجه ذريعةً إلى اشتغاله عن الصلاة جماعةً، كما قال عمار رضي الله عنه لرجل رآه قد خرج بعد الأذان: أما هذا فقد عصى أبا القاسم.

(الوجه السادس والخمسون): أنه نَهَى عن الاحتباء يوم الجمعة، كما رواه أحمد في "مسنده" من حديث سهل بن معاذ، عن أبيه:"نَهَى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الاحتباء يوم الجمعة"، وما ذاك إلا أنه ذريعة إلى النوم.

ص: 76

(الوجه السابع والخمسون): أنه نَهَى المرأة إذا خرجت إلى المسجد أن تتطيب، أو تصيب بَخُورًا، وذلك لأنه ذريعة إلى ميل الرجال، وتشوّفهم إليها، فإن رائحتها وزينتها وصورتها، وإبداء محاسنها تدعو إليها، فأمرها أن تخرُج تَفِلَةً، وأن لا تتطيب، وأن تقف خلف الرجال، وأن لا تسبّح في الصلاة إذا نابها شيءٌ، بل تُصَفِّق ببطن كفها على ظهر الأخرى، كلُّ ذلك سدًّا للذريعة، وحمايةً عن المفسدة.

(الوجه الثامن والخمسون): أنه نَهَى أن تَنْعَت المرأةُ المرأةَ لزوجها، حتى كأنه ينظر إليها، ولا يخفى أن ذلك سدٌّ للذريعة، وحمايةٌ عن مفسدة وقوعها في قلبه، وميله إليها بحضور صورتها في نفسه، وكم ممن أحبّ غيره بالوصف قبل الرؤية.

(الوجه التاسع والخمسون): أنه نَهَى عن الجلوس بالطرقات، وما ذاك إلا لأنه ذريعة إلى النظر إلى المحرم، فلما أخبروه أنه لا بُدّ لهم من ذلك، قال:"أعطوا الطريق حقه"، قالوا: وما حقه؟ قال: "غض البصر، وكفّ الأذى، ورَدّ السلام".

(الوجه الستون): أنه نَهَى أن يبيت الرجل عند امرأة، إلا أن يكون ناكحًا، أو ذا رحم محرم، وما ذاك إلا لأن المبيت عند الأجنبية ذريعةٌ إلى المحرم.

(الوجه الحادي والستون): أنه نَهَى أن تباع السِّلَعُ حيث تباع، حتى تُنْقَل عن مكانها، وما ذاك إلا لأنه ذريعة إلى جَحْد البائع البيع، وعدم إتمامه، إذا رأى المشتري قد رَبِحَ فيها، فيغرّه الطمع، وتشحّ نفسه بالتسليم، كما هو الواقع، وأَكَّد هذا المعنى بالنهي عن ربح ما لم يُضْمَن، وهذا من محاسن الشريعة، وألطف باب لسدّ الذرائع.

(الوجه الثاني والستون): أنه نَهَى عن بيعتين في بيعة، وهو الشرطان في البيع في الحديث الآخر، وهو الذي لعاقده أوكس البيعتين، أو الربا في الحديث الثالث، وذلك سدّ لذريعة الربا، فإنه إذا باعه السلعة بمائة مؤجلة، ثم اشتراها منه بمائتين حالّة، فقد باع بيعتين في بيعة، فإن أخذ بالثمن الزائد أخذ بالربا، وإن أخذ بالناقص أخذ بأوكسهما، وهذا من أعظم الذرائع إلى الربا،

ص: 77

وأبعد كلَّ البعد مَن حَمَل الحديث على البيع بمائة مؤجلة، أو خمسين حالّة، وليس ههنا ربا، ولا جهالة، ولا غرر، ولا قمار، ولا شيء من المفاسد، فإنه خَيَّره بين أيِّ الثمنين شاء، وليس هذا بأبعد من تخييره بعد البيع بين الأخذ والإمضاء ثلاثة أيام، وأيضًا فإنه فَرَّق بين عقدين، كل منهما ذريعةٌ ظاهرةٌ جدًّا إلى الربا، وهما السلف والبيع، والشرطان في البيع، وهذان العقدان بينهما من النسب والإخاء، والتوسل بهما إلى أكل الربا ما يقتضي الجمع بينهما في التحريم، فصلوات الله وسلامه على مَنْ كلامه الشفاء والعصمة والهدى والنور.

(الوجه الثالث والستون): أنه أَمَر أن يُفَرَّق بين الأولاد في المضاجع، وأن لا يُترَك الذكر ينام مع الأنثى في فراش واحد؛ لأن ذلك قد يكون ذريعةً إلى نسج الشيطان بينهما المواصلة المحرمة بواسطة اتحاد الفراش، ولا سيما مع الطول، والرجل قد يعبث في نومه بالمرأة في نومها إلى جانبه، وهو لا يشعر، وهذا أيضًا من ألطف سدّ الذرائع.

(الوجه الرابع والستون): أنه نَهَى أن يقول الرجل: خَبُثت نفسي، ولكن ليقل: لَقِسَت نفسي، سدًّا لذريعة اعتياد اللسان للكلام الفاحش، وسدًّا لذريعة اتصاف النفس بمعنى هذا اللفظ، فإن الألفاظ تتقاضى معانيها، وتطلبها بالمشاكلة والمناسبة التي بين اللفظ والمعنى، ولهذا قَلَّ مَن تجده يعتاد لفظًا، إلا ومعناه غالب عليه، فَسَدَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذريعةَ الخبث لفظًا ومعنى، وهذا أيضًا من ألطف الباب.

(الوجه الخامس والستون): أنه نَهَى الرجل أن يقول لغلامه وجاريته: عبدي وأمتي، ولكن يقول: فتاي وفتاتي، ونَهَى أن يقول لغلامه: وَضِّئ ربك، أطعم ربك؛ سدًّا لذريعة الشرك في اللفظ والمعنى، وإن كان الربّ ها هنا هو المالك، كرب الدار، ورب الإبل، فعَدَل عن لفظ العبد والأمة إلى لفظ الفتى والفتاة، ومنع من إطلاق لفظ الرب على السيد؛ حمايةً لجانب التوحيد، وسدًّا لذريعة الشرك.

(الوجه السادس والستون): أنه نَهَى المرأة أن تسافر بغير محرم، وما ذاك إلا أن سفرها بغير محرم، قد يكون ذريعةً إلى الطمع فيها، والفجور بها.

(الوجه السابع والستون): أنه نَهَى عن تصديق أهل الكتاب وتكذيبهم،

ص: 78

فيما يحدثون به؛ لأن تصديقهم قد يكون ذريعةً إلى التصديق بالباطل، وتكذيبهم قد يكون ذريعةً إلى التكذيب بالحقّ، كما عَلَّل به في نفس الحديث.

(الوجه الثامن والستون): أنه نَهَى أن يُسَمّي عبده بأفلح، ونافع، ورَبَاح، ويسار؛ لأن ذلك قد يكون ذريعةً إلى ما يُكْرَه من الطِّيَرة بأن يقال: ليس ها هنا يسار، ولا رَباح، ولا أفلح، وإن كان إنما قصد اسم الغلام، ولكن سدًّا لذريعة اللفظ المكروه الذي يستوحش منه السامع.

(الوجه التاسع والستون): أنه نَهَى الرجل عن الدخول على النساء؛ لأنه ذريعة ظاهرة.

(الوجه السبعون): أنه نَهَى أن يُسَمَّى باسم بَرَّة؛ لأنه ذريعةٌ إلى تزكية النفس بهذا الاسم، وإن كان إنما قَصَد العلمية.

(الوجه الحادي والسبعون): أنه نَهى عن التداوي بالخمر، وإن كانت مصلحةُ التداوي راجحةً على مفسدة ملابستها؛ سدًّا لذريعة قربانها، واقتنائها، ومحبة النفوس لها، فَحَسَمَ عليها المادة حتى في تناولها على وجه التداوي، وهذا من أبلغ سدّ الذرائع.

(الوجه الثاني والسبعون): أنه نَهَى أن يتناجى اثنان دون الثالث؛ لأن ذلك ذريعةٌ إلى حزنه، وكسر قلبه، وظنه السوء.

(الوجه الثالث والسبعون): أن الله حَرَّم نكاح الأمة على القادر على نكاح الحرة، إذا لم يخش العَنَتَ؛ لأن ذلك ذريعةٌ إلى إرقاق ولده، حتى لو كانت الأمة من الآيسات من الْحَبَل والولادة لم تحل له؛ سدًّا للذريعة، ولهذا منع الإمام أحمد الأسير والتاجر أن يتزوج في دار الحرب؛ خشيةَ تعريض ولده للرق، وعَلَّله بعلة أخرى، وهي أنه قد لا يمكنه منع العدو من مشاركته في زوجته.

(الوجه الرابع والسبعون): أنه نَهى أن يورد مُمْرِض على مُصِحٍّ؛ لأن ذلك قد يكون ذريعةً إما إلى إعدائه، وإما إلى تأذيه بالتوهم والخوف، وذلك سبب إلى إصابة المكروه له.

(الوجه الخامس والسبعون): أنه نَهَى أصحابه عن دخول ديار ثمود، إلا أن يكونوا باكين، خشيةَ أن يصيبهم مثل ما أصابهم، فجَعَل الدخول من غير بكاء ذريعةً إلى إصابة المكروه.

ص: 79

(الوجه السادس والسبعون): أنه نَهى الرجل أن ينظر إلى مَن فُضِّل عليه في المال واللباس؛ فإنه ذريعة إلى ازدرائه نعمة الله عليه، واحتقاره لها، وذلك سبب الهلاك.

(الوجه السابع والسبعون): أنه نَهى عن إنزاء الحمر على الخيل؛ لأن ذلك ذريعةٌ إلى قطع نسل الخيل، أو تقليلها، ومن هذا نهيه عن أكل لحومها - إن صَحَّ الحديث فيه - إنما كان لأنه ذريعة إلى تقليلها، كما نَهاهم في بعض الغزوات عن نحر ظهورهم لَمّا كان ذريعةً إلى لحوَق الضرر بهم بفقد الظهر.

(الوجه الثامن والسبعون): أنه نَهى مَن رأى رؤيا يَكرَهها، أن يتحدث بها، فإنه ذريعةٌ إلى انتقالها من مرتبة الوجود اللفظي إلى مرتبة الوجود الخارجي، كما انتقلت من الوجود الذهني إلى اللفظيّ، وهكذا عامّة الأمور تكون في الذهن، ثم تنتقل إلى الحسّ، وهذا من ألطف سدّ الذرائع، وأنفعها، ومن تأمل عامة الشرّ رآه متنقلًا في درجات الظهور، طَبَقًا بعد طَبَقٍ من الذهن إلى اللفظ إلى الخارج.

(الوجه التاسع والسبعون): أنه سئل عن الخمر تُتَّخَذ خَلًّا؟ فقال: "لا"، مع إذنه في خل الخمر الذي حَصَل بغير التخليل، وما ذلك إلا سدًّا لذريعة إمساكها بكل طريق؛ إذ لو أذن في تخليلها، لحبسها أصحابها لذلك، وكان ذريعة إلى المحذور.

(الوجه الثمانون): أنه نَهَى أن يُتَعاطَى السيفُ مسلولًا، وما ذاك إلا أنه ذريعةٌ إلى الإصابة بمكروه، ولعلّ الشيطان يُعينه، وينزع في يده، فيقع المحذور، ويَقرُب منه.

(الوجه الحادي والثمانون): أنه أَمر المارّ في المسجد بِنِبال أن يُمسك على نصلها بيده؛ لئلا يكون ذريعةً إلى تأذِّي رجل مسلم بالنِّصَال.

(الوجه الثاني والثمانون): أنه حَرَّم الشياع

(1)

وهو المفاخرة بالجماع؛

(1)

قال ابن الأثير في "النهاية"(2/ 520): "الشياع حرام"، كذا رواه بعضهم، وفسّره بالمفاخرة بالجماع، وقال أبو عمر: إنه تصحيف، وهو بالسين المهملة، والباء الموحّدة، وقد تقدّم، وإن كان محفوظًا، فلعلّه من تسمية الزوجة شاعة. انتهى.

ص: 80

لأنه ذريعة إلى تحريك النفوس والتشبه، وقد لا يكون عند الرجل مَن يُغنيه من الحلال، فيتخطى إلى الحرام، ومن هذا كان المجاهرون خارجين من عافية الله، وهم المتحدِّثون بما فعلوه من المعاصي، فإن السامع تتحرك نفسه إلى التشبه، وفي ذلك من الفساد المنتشر ما لا يعلمه إلا الله.

(الوجه الثالث والثمانون): أنه نَهَى عن البول في الماء الدائم، وما ذاك إلا أن تواتر البول فيه ذريعة إلى تنجيسه، وعلى هذا، فلا فرق بين القليل والكثير، وبول الواحد والعدد، وهذا أولى من تفسيره بما دون القلتين، أو بما يمكن نزحه، فإن الشارع الحكيم لا يأذن للناس أن يبولوا في المياه الدائمة، إذا جاوزت القلتين، أو لم يُمكن نزحها، فإن في ذلك من إفساد مياه الناس، ومواردهم ما لا تأتي به شريعة، فحكمة شريعته اقتضت المنع من البول فيه قَلَّ أو كثر؛ سدًّا لذريعة إفساده.

(الوجه الرابع والثمانون): أنه نَهَى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدوّ، فإنه ذريعة إلى أن تناله أيديهم، كما عَلَّل به في نفس الحديث.

(الوجه الخامس والثمانون): أنه نَهَى عن الإحتكار، وقال:"لا يحتكر إلا خاطئ"، فإنه ذريعة إلى أن يُضَيّق على الناس أقواتهم، ولهذا لا يُمنَع من احتكار ما لا يَضُرُّ الناس.

(الوجه السادس والثمانون): أنه نَهى عن منع فضل الماء؛ لئلا يكون ذريعةً إلى منع فضل الكلأ، كما عَلَّل به في نفس الحديث، فجعله بمنعه من الماء مانعًا من الكلأ؛ لأن صاحب المواشي إذا لم يُمَكِّنه الشرب من ذلك الماء، لم يتمكن من المرعى الذي حوله.

(الوجه السابع والثمانون): أنه نَهَى عن إقامة حدّ الزنا على الحامل حتى تضع؛ لئلا يكون ذلك ذريعةً إلى قتل ما في بطنها، كما قال في الحديث الآخر:"لولا ما في البيوت من النساء والذرية، لأمرت فتياني أن يحملوا معهم حُزَمًا من حَطَب، فأخالفَ إلى قوم لا يشهدون الصلاة في الجماعة، فأُحَرِّق عليهم بيوتهم بالنار"، فمنعه من تحريق بيوتهم التي عَصُوا الله فيها بتخلفهم عن الجماعة، كون ذلك ذريعةً إلى عقوبة مَن لم يجب عليه حضور الجماعة من النساء والأطفال.

ص: 81

(الوجه الثامن والثمانون): أنه نَهَى عن إدامة النظر إلى المجذومين، وهذا - والله أعلم - لأنه ذريعة إلى أن يصابوا بإيذائهم، وهي من ألطف الذرائع، وأهلُ الطبيعة يعترفون به، وهو جارٍ على قاعدة الأسباب، وأخبرني رجل من علمائهم أنه أجلس قرابة له، يكحل الناس، فَرَمِدَ، ثم برئ، فجلس يكحلهم، فَرَمِد مرارًا، قال: فعلمت أن الطبيعة تنتقل، وأنه من كثرة ما يفتح عينيه في أعين الرمِدِ نقلت الطبيعة الرَّمَدَ إلى عينيه، وهذا لا بد معه من نوع استعداد، وقد جُبِلَت الطبيعة والنفس على التشبه والمحاكاة.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: مسألة العدوى قد حقّقت القول فيها في شرح النسائيّ، ورجّحت أن حديث:"لا عدوى" على ظاهره، بدليل حديث:"فمن أعدى الأول"، وأما حديث:"فِرّ من المجذوم فرارك من الأسد" فمؤوّل بأوجه من التأويلات، منها: أن يحدث له ذلك الجذام فيسيء الظنّ بأنه إنما حصل له بسبب مخالطته له، فقطع الشارع عِرْق ذلك الظنّ بالأمر بالفرار عنه، وسيأتي تحقيق ذلك في موضعه - إن شاء الله تعالى -، فما ذكره ابن القيّم من قصّة أهل الطبيعة فظاهر في ميله إلى ترجيح القول بالعدوى، وأن ذلك من باب الأسباب، لكن الأرجح ما ذكرته لك، فتبصّر، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.

(الوجه التاسع والثمانون): أن النبيّ صلى الله عليه وسلم نَهَى الرجل أن ينحني للرجل، إذا لقيه كما يفعله كثير من المنتسبين إلى العلم، ممن لا علم له بالسنة، بل يبالغون إلى أقصى حدّ الإنحناء مبالغة في خلاف السنة؛ جهلًا حتى يصير أحدهم بصورة الراكع لأخيه، ثم يرفع رأسه من الركوع، كما يفعل إخوانهم من السجود بين يدي شيوخهم الأحياء والأموات، أخذوا من الصلاة سجودها، وأولئك ركوعها، وطائفة ثالثة قيامها يقوم عليهم الناس، وهم قعود، كما يقومون في الصلاة، فقاسمت الفِرَقُ الثلاث أجزاء الصلاة، والمقصود أن النبيّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عن انحناء الرجل لأخيه سدًّا لذريعة الشرك، كما نَهَى عن السجود لغير الله، وكما نَهاهم أن يقوموا في الصلاة على رأس الإمام، وهو جالس، مع أن قيامهم عبادة لله تعالى، فما الظن إذا كان القيام تعظيمًا للمخلوق، وعبودية له فالله المستعان.

(الوجه التسعون): أنه حَرَّم التفرُّق في الصرف، وبيع الربوي بمثله قبل

ص: 82

القبض؛ لئلا يتخذ ذريعةً إلى التأجيل الذي هو أصل باب الربا، فحماهم من قربانه، باشتراط التقابض في الحال، ثم أوجب عليهم فيه التماثل، وأن لا يزيد أحد العوضين على الآخر، إذا كانا من جنس واحد، حتى لا يباع مُدٌّ جيدٌ بمدّين رديئين، وإن كانا يساويانه؛ سدًّا لذريعة ربا النساء الذي هو حقيقة الربا، وأنه إذا منعهم من الزيادة مع الحلول، حيث تكون الزيادة في مقابلة جودة، أو صفة، أو سكة، أو نحوهما، فَمَنْعُهُم منها حيث لا مقابل لها إلا مجرد الأجل أولى، فهذه هي حكمة تحريم ربا الفضل التي خَفِيت على كثير من الناس، حتى قال بعض المتأخرين: لا يتبين لي حكمة تحريم ربا الفضل، وقد ذكر الشارع هذه الحكمة بعينها، فإنه حَرَّمه سدًّا لذريعة ربا النَّسَاء، فقال في حديث تحريم ربا الفضل:"فإني أخاف عليكم الرَّمَا"، والرَّمَا

(1)

هو الربا، فتحريم الربا نوعان: نوع حُرِّم لما فيه من المفسدة، وهو ربا النسيئة، ونوع حُرِّم تحريم الوسائل، وسدًّا للذرائع، فظهرت حكمة الشارع الحكيم، وكمال شريعته الباهرة في تحريم النوعين، ويلزم مَن لم يعتبر الذرائع، ولم يأمر بسدها أن يجعل تحريم ربا الفضل تعبدًا محضًا، لا يُعْقَل معناه، كما صرح بذلك كثير منهم.

(الوجه الحادي والتسعون): أنه أبطل أنواعًا من النكاح الذي يتراضى به الزوجان؛ سدًّا لذريعة الزنا:

فمنها: النكاح بلا وليّ، فإنه أبطله سدًّا لذريعة الزنا، فإن الزاني لا يَعجِز أن يقول للمرأة: أنكحيني نفسك بعشرة دراهم، ويُشهِد عليها رجلين من أصحابه، أو غيرهم، فمنعها من ذلك سدًّا لذريعة الزنا.

ومن هذا تحريم نكاح التحليل الذي لا رغبة للنفس فيه، في إمساك المرأة، واتخاذها زوجة، بل له وَطَرٌ فيما يقضيه بمنزلة الزاني في الحقيقة، وإن اختلفت الصورة.

ومن ذلك تحريم نكاح المتعة الذي يَعقِد فيه المتمتع على المرأة مُدّةً، يقضي وطره منها فيها، فحَرَّم هذه الأنواع كلها سدًّا لذريعة السفاح، ولم يُبحِ إلا عَقْدًا مؤبدًا، يَقْصِد فيه كل من الزوجين المقام مع صاحبه، ويكون بإذن

(1)

قال في "القاموس": "الرَّمَاءُ" كسماء: الربا اهـ.

ص: 83

الوليّ، وحضور الشاهدين، أو ما يقوم مقامهما من الإعلان، فإذا تدبرت حكمة الشريعة، وتأملتها حقَّ التأمل، رأيت تحريم هذه الأنواع من باب سدّ الذرائع، وهي من محاسن الشريعة وكمالها.

(الوجه الثاني والتسعون): أنه منع المتصدق من شراء صدقته، ولو وجدها تباع في السوق سدًّا لذريعة العَوْد فيما خَرَج عنه، ولو بعوضه، فإن المتصدق إذا مُنِع من تملك صدقته بعوضها، فتملكه إياها بغير عوض أشدّ منعًا، وأفطم للنفوس عن تعلقها بما خَرَجت عنه لله، والصواب ما حَكَم به النبيّ صلى الله عليه وسلم من المنع من شرائها مطلقًا، ولا ريب أن في تجويز ذلك ذريعةً إلى التحَيُّل على الفقير، بأن يَدفع إليه صدقة ماله، ثم يشتريها منه بأقل من قيمتها، وَيرَى المسكين أنه قد حصل له شيء مع حاجته، فتسمح نفسه بالبيع، والله عالم بالأسرار، فمن محاسن هذه الشريعة الكاملة سدُّ الذريعة، ومنع المتصدق من شراء صدقته، وبالله التوفيق.

(الوجه الثالث والتسعون): أنه نَهَى عن بيع الثمار قبل بُدُوّ صلاحها؛ لئلا يكون ذريعةً إلى أكل مال المشتري بغير حقّ، إذا كانت مُعَرَّضةً للتلف، وقد يمنعها الله، وأكد هذا الغرض، بأن حَكَم للمشتري بالجائحة، إذا تلفت بعد الشراء الجائز، وكلُّ هذا لئلا يُظلَم المشتري، ويُؤكَل ماله بغير حقّ.

(الوجه الرابع والتسعون): أنه نَهَى الرجل بعد إصابة ما قُدِّر له أن يقول: لو أني فعلت كذا لكان كذا وكذا، وأخبر أن ذلك ذريعة إلى عمل الشيطان، فإنه لا يُجْدِي عليه إلا الحزن والندم، وضيقة الصدر، والسخط على المقدور، واعتقاد أنه كان يمكنه دفع المقدور لو فعل ذلك، وذلك يُضْعِف رضاه، وتسليمه، وتفويضه، وتصديقه بالمقدور، وأنه ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وإذا أعرض القلب عن هذا، انفتح له عَمَلُ الشيطان، وما ذاك لمجرد لفظ "لو"، بل لِمَا قارنها من الأمور القائمة بقلبه، المنافية لكمال الإيمان، الفاتحة لعمل الشيطان، بل أرشد العبد في هذه الحال إلى ما هو أنفع له، وهو الإيمان بالقدر، والتفويض والتسليم للمشيئة الإلهية، وأنه ما شاء الله كان، ولا بُدَّ، فمن رضي فله الرضى، ومن سَخِط فله السُّخْط، فصلوات الله وسلامه على مَن كلامه شفاءٌ للصدور، ونور للبصائر، وحياة للقلوب، وغذاء للأرواح،

ص: 84

وعلى آله، فلقد أنعم به على عباده أتم نعمة، ومنّ عليهم به أعظم مِنّة، فلله النعمة وله المنة، وله الفضل، وله الثناء الحسن.

(الوجه الخامس والتسعون): أنه صلى الله عليه وسلم نَهَى عن طعام المتباريين، وهما الرجلان يَقصِد كل منهما مباراة الآخر، ومباهاته، إما في التبرعات، كالرجلين يَصْنَع كل منهما دعوةً يفتخر بها على الآخر، ويباريه بها، وإما في المعاوضات، كالبائعين يُرَخِّص كلٌّ منهما سلعته لمنع الناس من الشراء من صاحبه، ونَصَّ الإمام أحمد على كراهية الشراء من هؤلاء، وهذا النهي يتضمن سدّ الذريعة من وجهين:

[أحدهما]: أن تسليط النفوس على الشراء منهما، وأكل طعامهما تفريجٌ لهما، وتقوية لقلوبهما، وإغراء لهما على فعل ما كرهه الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم.

[والثاني]: أن ترك الأكل من طعامهما ذريعةٌ إلى امتناعهما، وكَفِّهما عن ذلك.

(الوجه السادس والتسعون): أنه تعالى عاقب الذين حَفَروا الحفائر يوم الجمعة، فوقع فيها السمك يوم السبت، فأخذوه يوم الأحد، ومسخهم الله قردةً وخنازير، وقيل: إنهم نصبوا الشِّبَاك يوم الجمعة، وأخذوا الصيد يوم الأحد، وصورة الفعل الذي فَعَلُوه مخالفٌ لما نُهُوا عنه، ولكنهم لَمّا جعلوا الشِّبَاك والحفائر ذريعةً إلى أخذ ما يقع فيها من الصيد يوم السبت نُزِّلوا منزلة مَن اصطاد فيه؛ إذ صورة الفعل لا اعتبار بها، بل بحقيقته، وقصد فاعله، ويلزم مَن لم يسُدَّ الذرائع أن لا يُحَرِّم مثل هذا، كما صَرَّحوا به في نظيره سواءً، وهو لو نَصَب قبل الإحرام شبكةً، فوقع فيها صيدٌ، وهو محرمٌ جاز له أخذه بعد الحلّ، وهذا جارٍ على قواعد مَن لم يعتبر المقاصد، ولم يسد الذرائع.

(الوجه السابع والتسعون): قال الإمام أحمد: نَهَى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع السلاح في الفتنة، ولا ريب أن هذا سدٌّ لذريعة الإعانة على المعصية، ويلزم مَن لم يَسُدَّ الذرائع أن يُجَوِّز هذا البيع، كما صَرَّحوا به، ومن المعلوم أن هذا البيع يتضمن الإعانة على الإثم والعدوان، وفي معنى هذا كلُّ بيع، أو إجارة، أو معاوضة، تُعِين على معصية الله، كبيع السلاح للكفار والبغاة وقطاع الطريق، وبيع الرقيق لمن يَفْسُق به، أو يؤاجره لذلك، أو إجارة داره، أو حانوته، أو

ص: 85

خانه لمن يُقيم فيها سوق المعصية، وبيع الشَّمَع، أو إجارته لمن يَعصِي الله عليه، ونحو ذلك مما هو إعانة على ما يُبغضه الله، ويسخطه.

ومن هذا عَصْرُ العنب لمن يتخذه خمرًا، وقد لعنه رسول الله صلى الله عليه وسلم هو، والمعتصر معًا، ويلزم مَن لم يَسُدَّ الذرائع أن لا يَلْعَن العاصر، وأن يُجَوِّز له أن يعصر العنب لكل أحد، ويقول: القصد غير معتبر في العقد، والذرائع غير معتبرة، ونحن مطالَبُون في الظواهر، والله يتولى السرائر، وقد صَرَّحُوا بهذا، ولا ريب في التنافي بين هذا وبين سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

(الوجه الثامن والتسعون): نهيه صلى الله عليه وسلم عن قتال الأمراء، والخروج على الأئمة، وإن ظلموا أو جاروا، ما أقاموا الصلاة؛ سدًّا لذريعة الفساد العظيم، والشر الكثير بقتالهم، كما هو الواقع، فإنه حصل بسبب قتالهم، والخروج عليهم أضعاف أضعاف ما هم عليه، والأمة في بقايا تلك الشرور إلى الآن، وقال:"إذا بويع الخليفتان، فاقتلوا الآخِر منهما"؛ سدًّا لذريعة الفتنة.

(الوجه التاسع والتسعون): جمع عثمان رضي الله عنه المصحف على حرف واحد من الأحرف السبعة؛ لئلا يكون ذريعةً إلى اختلافهم في القرآن، ووافقه على ذلك الصحابة رضي الله عنهم.

قال ابن القيّم رحمه الله تعالى: ولنقتصر على هذا العدد من الأمثلة الموافق لأسماء الله الحسنى التي من أحصاها دخل الجنة؛ تفاؤلًا بأنه من أحصى هذه الوجوه، وعَلِم أنها من الدين، وعمل بها دخل الجنة؛ إذ قد يكون قد اجتمع له معرفة أسماء الرب تعالى، ومعرفة أحكامه، ولله وراء ذلك أسماءٌ وأحكام.

قال رحمه الله تعالى: وباب سدّ الذرائع أحد أرباع التكليف، فإنه أمر ونهي، والأمر نوعان: أحدهما مقصود لنفسه، والثاني وسيلة إلى المقصود، والنهي نوعان: أحدهما ما يكون المنهيّ عنه مفسدة في نفسه، والثاني ما يكون وسيلة إلى المفسدة، فصار سدّ الذرائع المفضية إلى الحرام أحد أرباع الدين. انتهى كلام ابن القيم

(1)

، وهو بحثٌ نفيسٌ، وتحقيقٌ أنيسٌ، لا تجده مجموعًا

(1)

راجع: "إعلام الموقّعين عن رب العالمين" 3/ 180 - 208.

ص: 86

عند غيره، فتمسّك به تُرشد، والله تعالى وليّ التوفيق، وهو الهادي لأقوم طريق، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[271]

(

) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ، جَمِيعًا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ (ح)، وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، كِلَاهُمَا عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، بِهَذَا الإِسْنَاد، مِثْلَهُ).

رجال هذا الإسناد: تسعة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) هو: عبد الله بن محمد بن أبي شيبة المذكور قبل باب.

2 -

(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) بن عُبيد، أبو موسى العَنَزيّ البصريّ المعروف بالزَّمِن، ثقة حافظ [10](ت 252)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.

3 -

(ابْنُ بَشَّارٍ) هو: محمد بن بشّار المعروف ببندار المذكور قبل باب.

4 -

(مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ) المعروف بغندر المذكور قبل باب أيضًا.

5 -

(شُعْبَةُ) بن الحجّاج المذكور قبل حديثين.

6 -

(مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ) بن ميمون المعروف بالسمين، المروزيّ، نزيل بغداد، صدوقٌ ربّما وَهِمَ، وكان فَاضلًا [10](ت 235)(م د) تقدم في "الإيمان" 1/ 104.

7 -

(يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ) القطّان، أبو سعيد البصريّ، الثقة المتقنُ الحافظُ، الإمامُ القدوةُ، من كبار [9](ت 198)(ع) تقدم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 385.

8 -

(سُفْيَانُ) بن سعيد الثوريّ، أبو عبد الله الكوفيّ، الثقة الثبت الحجة الفقيه، من كبار [7](ت 161)(ع) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.

9 -

(سَعْدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) المذكور في السند السابق.

وقوله: (بِهَذَا الإِسْنَادِ) أي بالإسناد الذي قبله، وهو: عن عبد الله بن عمرو.

وقوله: (مِثْلَهُ) أي مثل حديث قتيبة بن سعيد، عن الليث، عن ابن الهاد، عن سعد.

ص: 87

[تنبيه]: أما رواية شعبة التي أحالها هنا، فقد ساقها الإمام أحمد، في "مسنده"، فقال:

حدثنا محمد بن جعفر، وحجاج، قالا: حدثنا شعبة، عن سعد بن إبراهيم، عن حميد، قال حجاج: سمعت حميد بن عبد الرحمن، عن عبد الله بن عمرو، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"إن من أكبر الذنب، أن يسب الرجل والديه"، قالوا: وكيف يَسُبّ الرجل والديه؟ قال: "يَسُبُّ أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه".

وأما رواية سفيان، فساقها الإمام أحمد أيضًا، فقال:

حدثنا وكيع، حدثنا مسعر، وسفيان، عن سعد بن إبراهيم، عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف، عن عبد الله بن عمرو، رفعه سفيان، ووقفه مسعر، قال:"من الكبائر أن يشتم الرجل والديه"، قالوا: وكيف يشتم الرجل والديه؟ قال: "يسب أبا الرجل، فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه"، وشرح الحديث، ومسائله تقدّمت في الذي قبله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(41) - (بَابُ تَحْرِيمِ الْكِبْرِ، وَبَيَانِ مَعْنَاهُ)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[272]

(91) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَمُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ دِينَارٍ، جَمِيعًا عَنْ يَحْيَى بْنِ حَمَّادٍ، قَالَ ابْنُ الْمُثَنَّى: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ حَمَّادٍ، أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبَانَ بْنِ تَغْلِبَ، عَنْ فُضَيْلٍ الْفُقَيْمِيّ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ"، قَالَ رَجُلٌ: إِنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا، وَنَعْلُهُ حَسَنَةً، قَالَ: "إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ، الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقّ، وَغَمْطُ النَّاسِ").

ص: 88

رجال هذا الإسناد: عشرة:

1 -

(إِبْرَاهِيمُ بن دِينَارٍ) التّمّار، أبو إسحاق البغداديّ، ثقةٌ [10].

رَوَى عن إسماعيل بن علية، وابن عيينة، وهشيم، وغيرهم.

ورَوَى عنه مسلم، وأبو زرعة، وموسى بن حماد، وأبو يعلى، وعبد الله بن أحمد بن حنبل، وعدة.

قال أبو زرعة، ومحمد بن إبراهيم بن جُنَادة: ثقة، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال أبو القاسم البغويّ: مات سنة (232).

قال الحافظ: وذكر ابن خلفون أن أبا داود رَوَى أيضًا عنه، نقلته من خط مغلطاي، وفرَّق ابن حبّان بين شيخ أبي زرعة، وشيخ أبي يعلى.

وله في هذا الكتاب (14) حديثًا.

2 -

(يَحْيَى بْنُ حَمَّادٍ) بن أبي زياد الشيبانيّ مولاهم، أبو بكر، ويقال: أبو محمد البصريّ، خَتَنُ أبي عَوَانة، ثقةٌ عابدٌ، من صغار [9].

رَوَى عن أبي عوانة، وعكرمة بن عمار، وشعبة، وحماد بن سلمة، وهمام بن يحيى، وجرير بن حازم، وجويرية بن أسماء، وغيرهم.

ورَوَى عنه البخاريّ، وروى هو أيضًا والباقون له بواسطة إسحاق بن راهويه، وإبراهيم بن دينار، والحسن بن مُدْرِك الطحان، وإسحاق بن منصور الْكَوْسَج، وإبراهيم بن يعقوب الْجُوزَجانيّ، وأحمد بن إسحاق السُّرْمَاريّ، وحُميد بن زَنْجويه، وأبي داود الحرانيّ، وأبي موسى محمد بن المثنى، وبُندار، وأبي قدامة السرخسيّ، ومحمد بن مَعْمَر البحرانيّ، وعبد الله بن عبد الرحمن الدارميّ، والذهليّ، وآخرين، وآخر مَن حَدَّث عنه أبو مسلم إبراهيم بن عبد الله الكجيّ.

قال ابن سعد: كان ثقةً، كثير الحديث، وقال أبو حاتم: ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال محمد بن النعمان بن عبد السلام: لم أر أعبد منه، وقال العجليّ: بصريّ ثقة، وكان من أروى الناس عن أبي عوانة.

وقال البخاريّ، عن الحسن بن مُدْرِك: مات سنة خمس عشرة ومائتين.

روى عنه البخاريّ، والمصنّف، وأبو داود في "الناسخ والمنسوخ"، والترمذيّ، والنسائيّ، وابن ماجه، وله في هذا الكتاب ستة أحاديث فقط: هذا

ص: 89

الحديث، وحديث (1536): "من كانت له أرض، فليهبها

"، و (1549): "نهى عن المزارعة، وأمر بالمؤاجرة

"، و (1707): "جلَدَ النبيّ صلى الله عليه وسلم أربعين

"، و (2042): "اللهمّ بارك لهم فيما رزقتهم

"، و (2301): "إني لَبِعُقْر حوضي أذود الناس

".

3 -

(أَبَانُ بْنُ تَغْلِبَ) - بفتح المثنّاة، وسكون المعجمة، وكسر اللام - الرَّبَعيّ، أبو سعد الكوفيّ، ثقةٌ، تُكُلِّم فيه للتشيّع [7].

رَوَى عن أبي إسحاق السبيعيّ، والحكم بن عُتيبة، وفُضَيل بن عَمرو الْفُقَيميّ، وأبي جعفر الباقر، وغيرهم.

ورَوَى عنه موسى بن عقبة، وشعبة، وحماد بن زيد، وابن عيينة، وجماعة.

قال أحمد، ويحيى، وأبو حاتم، والنسائيّ: ثقة، زاد أبو حاتم: صالح، وقال الْجُوزجانيّ: زائغ، مذموم المذهب، مُجاهر، وقال ابن عديّ: له نُسَخٌ عامتها مستقيمة، إذا رَوَى عنه ثقة، وهو من أهل الصدق في الروايات، وإن كان مذهبه مذهب الشيعة، وهو في الرواية صالح، لا بأس به.

قال الحافظ: هذا قولُ مُنصف، وأما الجوزجاني، فلا عبرة بحطه على الكوفيين، فالتشيع في عرف المتقدمين، هو اعتقاد تفضيل علي على عثمان، وأن عليًّا كان مصيبًا في حروبه، وأن مخالفه مخطئ، مع تقديم الشيخين وتفضيلهما، وربما اعتَقَد بعضهم أن عليًّا أفضل الخلق بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا كان مُعتقد ذلك ورِعًا دَيِّنًا صادقًا مجتهدًا، فلا تُرَدُّ روايته بهذا، لا سيما إن كان غير داعية.

وأما التشيع في عُرْف المتأخرين، فهو الرفض المحض، فلا تُقْبَل رواية الرافضي الغالي، ولا كرامةَ.

وقال ابن عجلان: ثنا أبان بن تغلب، رجل من أهل العراق من النُّسّاك ثقة، ولَمّا خَرَّج الحاكم حديث أبان في "مستدركه" قال: كان قاصّ الشيعة، وهو ثقة، ومَدَحَه ابن عيينة بالفصاحة والبيان، وقال العقيليّ: سمعت أبا عبد الله يذكر عنه عقلًا وأدبًا وصحةَ حديث، إلا أنه كان غاليًا في التشيع، وقال ابن سعد: كان ثقةً، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وأَرَّخ وفاته، ومنه نقل ابن

ص: 90

منجويه، وقال الأزديّ: كان غاليًا في التشيع، وما أعلم به في الحديث بأسًا.

وقال أبو نعيم في "تاريخه": مات سنة (240)، وكان غاية من الغايات، وقال أحمد بن سَيّار: مات بعد سنة (241)، وقال أبو بكر بن منجويه: مات سنة (241).

أخرج له المصنّف، والأربعة، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط: هذا الحديث، وأعاده بعده، وحديث (124): "ليس هو كما تظنّون

"، و (474): "كنا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم لا يحنو أحد منا ظهره

".

[تنبيه]: قد تقدّم أن أبان يجوز صرفه، وترك صرفه، وأن الصرف أفصح، وأما "تَغْلب" فهو بفتح التاء الفوقانيّة، وسكون المعجمة، وكسر اللام

(1)

.

4 -

(فُضَيْلٌ الْفُقَيْمِيُّ) هو: فُضيل بن عَمْرو الْفُقَيميّ - بالفاء، والقاف، مصغّرًا - التميميّ، أبو النضر الكوفيّ، ثقةٌ [6].

رَوَى عن أبيه، وإبراهيم النخعيّ، وثابت البنانيّ، وعامر الشعبيّ، وسعيد بن جبير، وأبي جَهْمَة زياد بن الحصين، وعائشة بنت طلحة، وإياس بن الطُّفَيل، ومجاهد بن جَبْر، ويحيى بن الجزّار، وغيرهم.

ورَوَى عنه أخوه الحسن بن عمرو، والعلاء بن المسيِّب، والأعمش، ومنصور، والحجاج بن أرطاة، وأبو إسرائيل الْمُلائيّ، وأبان بن تَغْلِب، وعُبيد بن مِهْران المكتب، وغيرهم.

قال أحمد بن أبي مريم، عن ابن معين: ثقةٌ، حجةٌ، وقال العجليّ: كوفي ثقةٌ، وأخوه حسن كوفيّ ثقةٌ، وهو أصغر من فُضيل، وقال أبو حاتم: لا بأس به، وهو من كبار أصحاب إبراهيم، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: مات سنة عشر ومائة، يخطئ، وكذا قال ابن منده في تاريخ وفاته، وفيها أرّخَه أبو موسى محمد بن المثنى وغيره، قال ابن سعد: كان ثقةً، وله أحاديث.

أخرج له المصنّف، وأبو داود في "القدر"، والترمذيّ، والنسائيّ، وابن ماجه، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط، هذا الحديث، وأعاده بعده،

(1)

راجع: "شرح النوويّ" 2/ 89.

ص: 91

وحديث (2662): "إن الله خلق الجنة، وخلق النار، فخلق لهذه

"، و (2969): "يا رب ألم تُجرني من الظلم

".

وله عند الترمذيّ حديث الباب فقط، وعند ابن ماجه حديثان: أحدهما في الطهارة، والثاني في الحجّ.

5 -

(إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ) هو: إبراهيم بن يزيد بن قيس بن الأسود النخعيّ، أبو عمران الكوفيّ الفقيه، ثقة، يرسل كثيرًا [5](ت 96)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 52.

6 -

(عَلْقَمَةُ) بن قيس بن عبد الله النخعيّ الكوفيّ، ثقةٌ، فقيهٌ عابدٌ [2] مات بعد الستين، وقيل: بعد السبعين (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 52.

والباقون تقدّموا في الباب الماضي، وكذا الصحابيّ تقدّم قبل باب، والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من ثُمانيّات المصنّف رحمه الله تعالى، وفيه من صيغ الأداء التحديث، والإخبار، والعنعنة.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، غير شيخه إبراهيم، فإنه من أفراده، وقيل: روى عنه أبو داود، وغير يحيى بن حماد، فأخرج له أبو داود في "الناسخ والمنسوخ"، وأبان بن تغلب، فما أخرج له البخاريّ، وكذا فضيل بن عمرو لم يُخرج له البخاريّ، وأخرج له أبو داود في "القدر".

3 -

(ومنها): أن شيخيه: ابن المثنّى، وابن بشّار من الشيوخ التسعة الذين اتّفق بالرواية عنهم أصحاب الكتب الستة بلا واسطة، وقد سبق بيانهم غير مرّة.

4 -

(ومنها): أنه مسلسل بالبصريين إلى شعبة، والباقون كوفيون.

5 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ: إبراهيم، عن علقمة، وهو خاله؛ لأن أمه مليكة بنت قيس أخت علقمة، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ) رضي الله عنه (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أنه (قَالَ: "لَا) نافية، ولذا رفع الفعل بعدها (يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ) اسم موصول فاعل "يدخل" (كَانَ فِي قَلْبِهِ

ص: 92

مِثْقَالُ ذَرَّةٍ) برفع "مثقال" على أنه اسم "كان" مؤخّرًا، وخبرها الجارّ والمجرور قبله.

[تنبيه]: قال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله تعالى: قوله: "من كان في قلبه مثقال ذرّة" كذا رويناه من أصل الحافظ أبي القاسم العساكريّ، ومن أصل أبي عامر الْعَبْديّ، وهو في أصل أبي حازم الْعَبْديّ، والأصل المأخوذ عن الْجُلُوديّ:"لا يدخل الجنّة مثقالُ ذَرَّة من كبر"، وهو بمعنى الأول، أي لا يدخلها صاحب مثقال ذرّة من كبر. انتهى

(1)

.

ومِثْقَالُ الشيء بكسر فسكون: ميزانُهُ من مثله، ويقال: أعطِهِ ثِقْله وزانَ حِمْلٍ: أي وزنه. أفاده الفيّوميّ

(2)

.

وقال القرطبيّ: المثقال مِفْعالٌ من الثِّقْل، ومثقالُ الشيء: وزنه، يقال: هذا على مثقال هذا: أي على وزنه. انتهى

(3)

.

"والذرّة": واحد الذّرّ، وهي صغار النمل، ومائة منها زِنَة حبّة شعير، قاله في "القاموس"

(4)

.

وقوله: (مِنْ كِبْرٍ) بيان لـ "مثقال"، قال أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله: الكِبْر والكبرياء في اللغة: هو العَظَمَة، يقال فيه: كَبُر الشيء بضمّ الباء، أي عَظُم، فهو كبير وكِبَار، فإذا أفرط قيل: كُبّار بالتشديد، وعلى هذا فيكون الكبر والعظمة اسمين لمسمّى واحد، وقد جاء في الحديث ما يُشْعِر بالفرق بينهما، وذلك أن الله تعالى قال:"الكبرياء ردائي، والعَظَمة إزاري، فمن نازعني واحدًا منهما قذفته في النار"

(5)

.

فقد فرّق بينهما، بأن عبّر عن أحدهما بالإزار، وعن الآخر بالرداء، وهما

(1)

"الصيانة" ص 273.

(2)

"المصباح" 1/ 83، "ق" ص 875.

(3)

"المفهم" 1/ 289.

(4)

"القاموس المحيط" ص 357.

(5)

رواه مسلم (2620)، وأبو داود (4090)، وابن ماجه (4164) من حديث أبي سعيد، وأبي هريرة رضي الله عنهما، وهذا اللفظ لأبي داود، وابن ماجه، ولفظ مسلم عن أبي سعيد الخدريّ، وأبي هريرة، قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "العز إزاره، والكبرياء رداؤه، فمن ينازعني عذبته".

ص: 93

مختلفان، ويدلّ أيضًا على ذلك قوله:"فمن نازعني واحدًا منهما"، إذ لو كانا واحدًا لقال: فمن نازعنيه، فالصحيح إذن الفرق.

ووجهه أن جهة الكبرياء تستدعي مُتَكَبَّرًا عليه، ولذلك لَمّا فسّر الكبر قال:"الكبر: بَطَرُ الحقّ، وغَمْطُ الناس"، وهو احتقارهم، فذكر المتكبَّر عليه، وهو الحقّ أو الخلق، والعظمة لا تقتضي ذلك، فالمتكبّر يلاحظ ترفّع نفسه على غيره بسبب مزيّة كمالها، فيما يراه، والمعظِّم يلاحظ كمال نفسه من غير ترفّع لها على غيره، وهذا التعظيم هو المعبّر عنه بالعُجْب في حقّنا إذا انضاف إليه نسيانُ منّة الله تعالى علينا فيما خصّنا به من ذلك الكمال.

وإذا تقرّر هذا، فالكبرياء والعظمة من أوصاف كمال الله تعالى، واجبان له؛ إذ ليست أوصاف كمال الله وجلاله مستفادة من غيره، بل هي واجبة الوجود لذواتها بحيث لا يجوز عليه العدم، ولا النقص، ولا يجوز عليه تعالى نقيض شيء من ذلك، فكماله وجلاله حقيقة له بخلاف كمالنا، فإنه مستفاد من الله تعالى، ويجوز عليه العدم، وطروء النقيض والنقص، وإذا كان هذا فالتكبّر والتعاظم خَرَقٌ منا، ومستحيلٌ في حقّنا، ولذا حرّمهما الشرع، وجعلهما من الكبائر؛ لأن من لاحظ كمالَ نفسه ناسيًا منّة الله تعالى عليه فيما خصّه به كان جاهلًا بنفسه وبربّه، مغترًّا بما لا أصل له، وهي صفة إبليس الحاملة له على قوله عز وجل:{أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ} [الأعراف: 12]، وصفة فرعون الحاملة له على قوله عز وجل:{أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات: 24]، ولا أقبح مما صارا إليه، فلا جَرَمَ كان فرعون وإبليس أشدّ أهل النار عذابًا، نعوذ بالله من الكبر والكفر.

وأما مَن لاحظ من نفسه كمالًا، وكان ذاكرًا فيه منّة الله تعالى عليه به، وأن ذلك من تفضّله تعالى ولطفه، فليس من الكبر المذموم في شيء، ولا من التعاظم المذموم، بل هو اعترافٌ بالنعمة، وشكرٌ على المنّة.

والتحقيق في هذا أن الخلق كلهم قوالِب وأشباحٌ، تَجرِي عليهم أحكام القُدْرة، فمن خصّه الله تعالى بكمال، فذلك الكمال يرجع للمكمّل الجاعل، لا للقالب القابل، ومع ذلك فقد كَمَّل الله الكمالَ بالجزاء، والثناء عليه، كما قد نقص النقص بالذمّ والعقوبة عليه، فهو الْمُعْطِي، والْمُثْنِي، والْمُبْلِي، والْمُعافِي، كيف لا وقد قال العليّ الأعلى: "أنا الله خالق الخير والشرّ، فطوبى لمن خلقته

ص: 94

للخير، وقدّرته عليه، والويل لمن خلقته للشرّ، وقدّرته عليه"

(1)

. فلا حيلة تَعْمَل مع قَهْر، {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23)} [الأنبياء: 23].

ولَمّا تقرّر أن الكبر يَستدعي متكَبَّرًا عليه، فالمتكبَّرُ عليه إن كان هو الله تعالى، أو رسوله صلى الله عليه وسلم، أو الحقّ الذي جاء به رسوله، فذلك الكبر كفرٌ، وإن كان غير ذلك، فذلك الكبر معصيةٌ وكبيرة، يُخاف على المتلبّس بها المصرّ عليها أن تُفضي به إلى الكفر، فلا يدخل الجنّة أبدًا، فإن سلم من ذلك، ونَفَذ عليه الوعيد عوقب بالإذلال والصّغَار، أو بما شاء الله من عذاب النار، حتى لا يبقى في قلبه من ذلك الكبر مثقال ذرّة، وخُلِّص من خُبْث كبره حتى يصير كالذرّة، فحينئذ يتداركه الله برحمته، ويُخلّصه بإيمانه وبركته، وقد نصّ على هذا المعنى النبيّ صلى الله عليه وسلم في المحبوسين على الصراط لَمّا قال:"حتى إذا هُذِّبُوا، ونُقّوا، أُذن لهم في دخول الجنّة"

(2)

، والله تعالى أعلم. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله تعالى

(3)

.

وقال النوويّ رحمه الله: وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذَرَّة من كِبْر"، فقد اختُلِف في تأويله، فذكر الخطابيّ فيه وجهين:

[أحدهما]: أن المراد التكبر عن الإيمان، فصاحبه لا يدخل الجنة أصلًا إذا مات عليه.

[والثاني]: أنه لا يكون في قلبه كبر حال دخوله الجنة، كما قال الله تعالى:{وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ} [الأعراف: 43]، وهذان التأويلان فيهما بُعْدٌ، فإن هذا الحديث ورد في سياق النهي عن الكبر المعروف، وهو الإرتفاع على الناس، واحتقارهم، ودفع الحقّ، فلا ينبغي أن يُحمَل على هذين التأويلين الْمُخرِجين له عن المطلوب، بل الظاهر ما اختاره القاضي عياض وغيره من المحققين، أنه لا يدخل الجنة دون مجازاة إن جازاه، وقيل: هذا جزاؤه لو جازاه، وقد يتكرم بأنه لا يجازيه، بل لا بُدّ أن يدخل كلُّ الموحدين الجنة، إمّا

(1)

أخرجه ابن شاهين في "شرح السنّة" عن أبي أمامة، بإسناد ضعيف.

(2)

رواه البخاريّ في "صحيحه"(6535)، وأحمد في "مسنده" 3/ 13 و 63 و 74.

(3)

"المفهم" 1/ 286 - 288.

ص: 95

أوّلًا وإمّا ثانيًا، بعد تعذيب بعض أصحاب الكبائر الذين ماتوا مُصِرّين عليها، وقيل: لا يدخلها مع المتقين أَوّلَ وَهْلَة. انتهى

(1)

.

وسئل شيخ الاسلام ابن تيميّة رحمه الله عن معنى هذا الحديث، فقيل له: قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرّة من كبر"، هل هذا الحديث مخصوص بالمؤمنين، أم بالكفار؟ فإن قلنا: مخصوص بالمؤمنين، فقولنا ليس بشيء؛ لأن المؤمنين يدخلون الجنة بالإيمان، وإن قلنا: مخصوص بالكافرين، فما فائدة الحديث؟.

فأجاب رحمه الله تعالى بأن لفظ الحديث في "الصحيح": "لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر، ولا يدخل النار من في قلبه مثقال ذرة من إيمان".

فالكبر المباين للإيمان لا يدخل صاحبه الجنة، كما في قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60]، ومن هذا كبر إبليس، وكبر فرعون، وغيرهما ممن كان كبره منافيًا للإيمان، وكذلك كبر اليهود، والذين أخبر الله عنهم بقوله:{أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ} [البقرة: 87]، والكبر كله مباين للإيمان الواجب، فمن في قلبه مثقال ذرة من كبر، لا يفعل ما أوجب الله عليه، ويترك ما حَرَّم عليه، بل كبره يوجب له جَحْدَ الحقّ، واحتقار الخلق، وهذا هو الكبر الذي فَسَّره النبيّ صلى الله عليه وسلم حيث سئل في تمام الحديث، فقيل: يا رسول الله، الرجل يُحِبّ أن يكون ثوبه حَسَنًا، ونعلُهُ حسنًا، فمن الكبر ذاك؟ فقال:"لا، إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بَطَرُ الحقّ، وغَمْطُ الناس".

و"بَطَرُ الحقّ": جحده، ودفعه، و"غَمْطُ الناس": ازدراؤهم، واحتقارهم، فمن في قلبه مثقال ذرة من هذا، يوجب له أن يَجْحَد الحقّ الذي يَجِب عليه أن يُقِرّ به، وأن يحتقر الناس، فيكون ظالِمًا لهم، مُعتديًا عليهم، فمن كان مُضَيّعًا للحق الواجب ظالِمًا للخلق، لم يكن من أهل الجنة، ولا مُسْتَحِقًّا لها، بل يكون من أهل الوعيد.

فقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يدخل الجنة" متضمن لكونه ليس من أهلها، ولا مستحقًّا

(1)

راجع: "شرح مسلم" 2/ 91.

ص: 96

لها، لكن إن تاب، أو كانت له حسنات ماحية لذنبه، أو ابتلاه الله بمصائب، كَفَّر بها خطاياه، ونحو ذلك، زالت ثمرة هذا الكبر المانعِ له من الجنة، فيدخلها، أو غَفَرَ الله له بفضل رحمته من ذلك الكبر من نفسه، فلا يدخلها، ومعه شيء من الكبر، ولهذا قال مَن قال في هذا الحديث وغيره: إن المنفيّ هو الدخول المطلق الذي لا يكون معه عذاب، لا الدخول المقيَّد الذي يَحْصُل لمن دخل النار، ثم دخل الجنة، فإنه إذا أُطلق في الحديث: فلانٌ في الجنة، أو فلان من أهل الجنة، كان المفهوم أنه يدخل الجنة، ولا يدخل النار.

فإذا تبين هذا كان معناه: أن من كان في قلبه مثقالُ ذَرَّة من كبر ليس هو من أهل الجنة، ولا يدخلها بلا عذاب، بل هو مُسْتَحِقٌّ للعذاب؛ لكبره، كما يستحقها غيره من أهل الكبائر، ولكن قد يُعَذَّب في النار ما شاء الله، فإنه لا يُخَلَّد في النار أحد من أهل التوحيد، وهذا كقوله صلى الله عليه وسلم:"لا يدخل الجنة قاطعُ رَحِم"، وقوله:"لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابُّوا، ألا أدلكم على شيء، إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم"، وأمثال هذا من أحاديث الوعيد، وعلى هذا، فالحديث عامٌّ في الكفار، وفي المسلمين.

وقول القائل: إن المسلمين يدخلون الجنة بالإسلام، فيقال له: ليس كلُّ المسلمين يدخلون الجنة بلا عذاب، بل أهل الوعيد يدخلون النار، ويمكثون فيها ما شاء الله، مع كونهم ليسوا كفّارًا، فالرجل الذي معه شيء من الإيمان، وله كبائر، قد يدخل النار، ثم يخرج منها إما بشفاعة النبيّ صلى الله عليه وسلم، وإما بغير ذلك، كما قال صلى الله عليه وسلم:"شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي"، وكما في "الصحيح" أنه قال:"يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان"، وهكذا الوعيد في قاتل النفس، والزاني وشارب الخمر، وآكل مال اليتيم، وشاهد الزور، وغير هؤلاء من أهل الكبائر، فإن هؤلاء، وإن لم يكونوا كفّارًا، لكنهم ليسوا من المستحقين للجنة الموعودين بها بلا عقاب.

ومذهب أهل السنة والجماعة أن فُسّاق أهل الملة ليسوا مخلدين في النار، كما قالت الخوارج، والمعتزلة، وليسوا كاملين في الدين والإيمان والطاعة، بل لهم حسنات وسيئات، يستحقون بهذا العقاب، وبهذا الثواب، وهذا مبسوط في موضعه، والله أعلم. انتهى كلام شيخ الإسلام رحمه الله

ص: 97

تعالى

(1)

، وهو تحقيقٌ نفيسٌ، وهو الذي سبق اختيار النوويّ له تبعًا للقاضي عياض، وغيره من المحققين، فتأملّه بإنصاف، والله تعالى أعلم بالصواب.

(قَالَ رَجُلٌ) هو مالك بن مُرارة الرُّهَاويُّ، قاله القاضي عياض، وأشار إليه أبو عمر بن عبد البر رحمهما الله تعالى، وقد جمع أبو القاسم خَلَف بن عبد الملك بن بشكوال الحافظ في اسمه أقوالًا من جهات، فقال: هو أبو رَيْحانة، واسمه شمعون، ذكره ابن الأعرابيّ، وقال عليّ ابن المدينيّ في "الطبقات": اسمه ربيعة بن عامر، وقيل: سَوَاد - بالتخفيف - بن عمرو، ذكره ابن السكن، وقيل: معاذ بن جبل، ذكره ابن أبي الدنيا في "كتاب الخمول والتواضع"، وقيل: مالك بن مُرَارة الرّهَاويّ، ذكره أبو عبيد في "غريب الحديث"، وقيل: عبد الله بن عمرو بن العاصي، ذكره معمر في "جامعه"، وقيل: خُرَيم بن فاتك، هذا ما ذكره ابن بشكوال.

وقولهم: "ابن مُرَارة الرُّهاويّ": هو مُرارة - بضم الميم، وبراء مكررة، وآخره هاء - و"الرّهَاويّ": هنا نسبة إلى قبيلة، ذكره الحافظ عبد الغنيّ بن سعيد المصريّ بفتح الراء، ولم يذكره ابن ماكولا، وذكر الجوهريّ في "صحاحه": أن الرّهَاويّ نسبة إلى رُهَا بضم الراء، حيّ من مَذْحِج.

وأما "شمعون": فبالعين المهملة، وبالمعجمة، والشين معجمة فيهما. انتهى كلام النوويّ رحمه الله تعالى

(2)

.

(إِنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا، وَنَعْلُهُ حَسَنَةً) إنما أنّث الصفة؛ لأن النعل مؤنّثة، قال الفيّوميّ: النَّعْلُ: الْحِذَاءُ، وهي مؤنّثةٌ، وتُطْلَق على التاسومة، والجمع أنعُلٌ، ونِعَال، مثلُ سَهْمٍ وأَسْهُمٍ، وسِهَام. انتهى

(3)

.

(قَالَ) صلى الله عليه وسلم مجيبًا عن سؤال الرجل ("إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ) أي الْحُسْن، قال في "القاموس": الجمال: الْحُسْنُ في الْخُلُقِ والْخَلْق، جَمُلَ ككَرُمَ، فهو جَميلٌ، كأميرٍ، وغُرَاب، ورُمّان. انتهى.

وقال في "المصباح": جَمِلَ الرجلُ بالضمّ والكسر - يعني: من بابي كَرُم،

(1)

"مجموع الفتاوى" 7/ 677 - 679.

(2)

"شرح مقدّمة مسلم" 2/ 92.

(3)

"المصباح المنير" 2/ 613.

ص: 98

وتَعِبَ - جَمَالًا، فهو جَميلٌ، وامرأة جميلةٌ، قال سيبويه: الجمالُ رِقَّةُ الحسن، والأصل جَمَالَةٌ بالهاء، مثلُ صَبُحَ صَبَاحَةً، لكنهم حذفوا الهاء؛ تخفيفًا؛ لكثرة الاستعمال، وتجمّل تجمُّلًا بمعنى تزيّن، وتحسّن: إذا اجتلب البهاءَ والإضاءةَ. انتهى

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله تعالى: الجمال لغةً: هو الْحُسْن، يقال: جَمُل الرجل، يَجمُلُ بالضمّ جَمَالًا فهو جميلٌ، والمرأة جميلة، ويقال: جَمْلاءُ عن الكسائيّ.

وهذا الحديث يدلّ على أن الجميل من أسماء الله تعالى، وقال بذلك جماعة من أهل العلم، إلا أنهم اختلفوا في معناه، فقيل: معناه معنى الجليل، قاله القشيريّ. وقيل: معناه ذو النور والبهجة: أي مالكهما، قاله الخطابيّ. وقيل: جميل الأفعال بكم، والنظر إليكم، فهو يُحبّ التجمّل منكم في قلّة إظهار الحاجة إلى غيره، قاله الصيرفيّ، وقال: الجميل: الْمُنَزَّه عن النقائص الموصوف بصفات الكمال، الآمر بالتجمّل له بنظافة الثياب والأبدان، والنَّزَاهة عن الرذائل والطغيان. انتهى

(2)

.

وقال النوويّ في "شرحه": اختلفوا في معناه، فقيل: إن معناه أن كل أمره سبحانه وتعالى حَسَنٌ جميل، وله الأسماء الحسنى، وصفات الجمال والكمال، وقيل: جميل بمعنى مُجْمِل، ككريم وسميع، بمعنى مُكْرِم، ومُسْمِع، وقال الإمام أبو القاسم القُشَيريّ رحمه الله تعالى: معناه جليل، وحَكَى الإمام أبو سليمان الخطابيّ أنه بمعنى ذي النور والبهجة: أي مالكهما، وقيل: معناه: جميل الأفعال بكم، باللطف والنظر إليكم، يُكَلِّفكم اليسير من العمل، ويُعين عليه، ويثيب عليه الجزيل، ويشكر عليه. انتهى

(3)

. وسيأتي تمام البحث في المسألة الرابعة - إن شاء الله تعالى -.

(الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ) مبتدأ وخبره، ومعناه: دفع الحقّ، وإنكاره؛ ترفعًا وتجبرًا

(4)

، قال في "القاموس":"الْبَطَرُ" محرَّكةً: النَّشاطُ، والأَشَرُ، وقلّةُ

(1)

"المصباح المنير" 1/ 110.

(2)

"المفهم" 1/ 288.

(3)

"شرح مسلم" 2/ 90.

(4)

"شرح مسلم" 2/ 90، و"المفهم" 1/ 289.

ص: 99

احتمال النِّعْمَة، والدَّهَشُ، والْحَيْرَةُ، أو الطُّغيانُ بالنعمة، وكَرَاهيةُ الشيء من غير أن يَستَحِقَّ الكراهةَ، فِعْلُ الكلِّ كفَرِحَ، وبَطَرُ الحقِّ: أن يتكبّر عنه، فلا يقبله. انتهى

(1)

.

وقال في "النهاية": "بَطَرُ الحقّ": هو أن يَجعلْ ما جعله الله حقًّا من توحيده، وعبادته باطلًا، وقيل: هو أن يتجبّر عند الحقّ، فلا يراه حقًّا، وقيل: هو أن يتكبّر عن الحقّ، فلا يقبله. انتهى

(2)

.

(وَغَمْطُ النَّاسِ") أي احتقارهم، وهو بفتح الغين المعجمة، وإسكان الميم، وبالطاء المهملة، قال في "النهاية":"الغَمْطُ": الاستهانة، والاستحقار، وهو مثلُ الْغَمْصِ - بالصاد -، يقال: غَمِطَ يَغْمَطُ - بالكسر في الماضي، والفتح في المضارع -، وغَمَطَ يَغْمِطُ - بالفتح في الماضي، والكسر في المضارع -. انتهى

(3)

.

وقال في "القاموس": غَمَطَ الناسَ: كضرب، وسَمِعَ: استحقرهم، والعافيةَ لم يَشْكُرها، والنعمةَ بَطِرَهَا، وحَقَرها. انتهى

(4)

.

وقال النوويّ في "شرحه": هكذا هو في نسخ "صحيح مسلم" رحمه الله، قال القاضي عياض رحمه الله تعالى: لم نرو هذا الحديث عن جميع شيوخنا هنا، وفي البخاريّ إلا بطاء، قال: وبالطاء ذكره أبو داود في "مصنفه"، وذكره أبو عيسى الترمذيّ وغيره "غَمْص" بالصاد، وهما بمعنى واحد، ومعناه: احتقارهم واستصغارهم؛ لما يَرَى من رِفْعته عليهم، يقال في الفعل منه: غَمَطَهُ بفتح الميم يَغْمِطه بكسرها، وغَمِطَهُ بكسر الميم يَغْمَطُهُ بفتحها، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديثُ عبد الله بن مسعود رضي الله عنه هذا تفرّد به المصنّف رحمه الله تعالى.

(1)

"القاموس المحيط" ص 317.

(2)

"النهاية" 1/ 135.

(3)

"النهاية" 3/ 387.

(4)

"القاموس المحيط" ص 612.

ص: 100

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه المصنّف رحمه الله هنا في "الإيمان"[41/ 272 و 273 و 274](91)، و (أبو داود) في "اللباس"(4091)، و (الترمذيّ) في "البرّ والصلة"(1998 و 1999)، و (ابن ماجه) في "المقدّمة"(59) وفي "الزهد"(4173)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(9/ 89)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 399 و 412 و 416 و 451)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(85)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(265 و 266)، و (ابن خزيمة) في "التوحيد"(ص 384)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(224)، و (ابن منده) في "الإيمان"(540 و 541 و 542)، و (الطبرانيّ)(10000 و 10001 و 10066 و 10533)، و (الحاكم) في "المستدرك"(1/ 26)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(3587)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده

(1)

:

1 -

(منها): بيان تحريم الكبر، وأنه من الكبائر التي توجب لصاحبها دخول النار، وأنه ينافي الإيمان، ولذا مُنِع من كان عنده مثقال ذرّة من كبر من دخول الجنة، مع أن من كان عنده مثقال حبة خردل من إيمان يدخل الجنة، فعُلِم بهذا أنه مناف للإيمان، وهو وجه إيراد المصنّف له في "كتاب الإيمان".

2 -

(ومنها): بيان فضل الإيمان، وأنه سبب لدخول صاحبه الجنة، وتحريمه على النار.

3 -

(ومنها): بيان زيادة الإيمان ونقصانه.

4 -

(ومنها): بيان أن الله سبحانه وتعالى لا يظلم أحدًا، وإن كان عمله قليلًا، كمثقال ذرّة، أو حبة خردل، كما قال عز وجل:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (40)} [النساء: 40].

5 -

(ومنها): أن الجميل اسم من أسماء الله تعالى الحسنى، وقد قال به جماعة، وهو الحقّ، وسيأتي تحقيق الخلاف في المسألة التالية - إن شاء الله تعالى -.

(1)

المراد: الفوائد التي اشتمل عليها الحديث برواياته، لا بخصوص سياق المصنّف، فتنبّه.

ص: 101

6 -

(ومنها): إباحة التجمّل بلبس الثياب الجميلة، والنعال الجميلة، لكن بشرط أن يخلو ذلك من الْمَخِيلة، والإسراف؛ لما أخرجه أحمد، والنسائيّ، وابن ماجه بإسناد صحيح، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدّه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كُلُوا، وتَصَدَّقوا، والْبَسُوا في غير إسراف ولا مَخِيلة"، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في أسماء الله تعالى، هل هي توقيفيّة، أم لا؟:

قال النوويّ رحمه الله تعالى: قد اختَلَفَ أهل السنة في تسمية الله تعالى، ووصفه من أوصاف الكمال والجلال والمدح بما لم يَرِد به الشرِع، ولا مَنَعَه، فأجازه طائفةٌ، ومنعه آخرون، إلا أن يَرِدَ به شرع مقطوع به، من نصِّ كتاب الله، أو سنة متواترة، أو إجماع على إطلاقه، فإن ورد خبر واحد، فقد اختلفوا فيه، فأجازه طائفة، وقالوا: الدعاء به والثناء من باب العمل، وذلك جائز بخبر الواحد، ومنعه آخرون؛ لكونه راجعًا إلى اعتقاد ما يجوز أو يستحيل على الله تعالى، وطريق هذا القطع، قال القاضي: والصواب جوازه؛ لاشتماله على العمل، ولقوله الله تعالى:{وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف: 180]. والله أعلم. انتهى كلام النوويّ

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الحقّ جواز تسمية الله تعالى ووصفه بما ورد في خبر الآحاد، مثل هذا الحديث، وأن خبر الآحاد الصحيح الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يوجب العلم والعمل معًا، والقول بأنه لا يوجب العلم، والإشتراط في باب العقائد التواتر قول ضعيف، بل باطلٌ، وإن كان كثُر القائلون به من المتكلّمين ومن سار على منهجهم، وقد ذكرتُ تحقيقه في "التحفة السنيّة"، وشرحها، وقد تقدّم أيضًا في "شرح المقدّمة"، فراجعه تستفد، والله تعالى وليّ التوفيق.

وقال في "الفتح": اختُلِفَ في الأسماء الحسنى، هل هي توقيفية؟ بمعنى أنه لا يجوز لأحد أن يَشْتَقَّ من الأفعال الثابتة لله تعالى أسماء، إلا إذا وَرَدَ

(1)

"شرح صحيح مسلم" 2/ 90 - 91.

ص: 102

نَصّ، إما في الكتاب، أو السنة، فقال الفخر: المشهور عن أصحابنا أنها توقيفية، وقالت المعتزلة، والكرامية: إذا دَلَّ العقل على أن معنى اللفظ ثابتٌ في حقّ الله جاز إطلاقه على الله، وقال القاضي أبو بكر، والغزاليّ: الأسماء توقيفية دون الصفات، قال: وهذا هو المختار، واحتج الغزاليّ بالاتفاق على أنه لا يجوز لنا أن نُسَمِّي رسول الله صلى الله عليه وسلم باسم لم يسمه به أبوه، ولا سَمَّى به نفسه، وكذا كل كبير من الخلق، قال: فإذا امتَنَع ذلك في حقّ المخلوقين، فامتناعه في حق الله تعالى أولى، واتفقوا على أنه لا يجوز أن يُطْلَق عليه اسم، ولا صفةٌ تُوهِم نقصًا، ولو وَرَدَ ذلك نصًّا، فلا يقال: ماهدٌ، ولا زارعٌ، ولا فالقٌ، ولا نحوُ ذلك، وإن ثَبَت في قوله عز وجل:{فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ} [الذاريات: 48]، {أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} [الواقعة: 64]، {فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى} [الأنعام: 95]، ونحوها، ولا يقال له: ماكرٌ، ولا بَنَّاءٌ، وإن وَرَدَ {وَمَكَرَ اللَّهُ} [آل عمران: 54]، {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا} [الذاريات: 47].

وقال أبو القاسم القشيريّ: الأسماء تُؤخذ توقيفًا من الكتاب والسنة والإجماع، فكلُّ اسم وَرَدَ فيها وجب إطلاقه في وصفه، وما لم يَرِد لا يجوز، ولو صَحَّ معناه.

وقال أبو إسحاق الزجاج: لا يجوز لأحد أن يدعو الله بما لم يَصِفْ به نفسه.

والضابط أن كلَّ ما أذن الشرع أن يُدْعَى به، سواءٌ كان مُشْتَقًّا، أو غير مُشْتَقّ، فهو من أسمائه، وكل ما جاز أن يُنْسَبَ إليه، سواءٌ كان مما يدخله التأويل أو لا، فهو من صفاته، ويُطلَق عليه أيضًا.

قال الحليميّ: الأسماء الحسنى تنقسم إلى العقائد الخمس:

[الأولى]: إثبات الباري؛ رَدًّا على المعطلين، وهي الحيّ، والباقي، والوارث، وما في معناها.

[والثانية]: توحيده ردًّا على المشركين، وهي الكافي، والعليّ، والقادر، ونحوها.

[والثالثة]: تنزيهه ردًّا على المشبّهة، وهي القدوس، والمجيد، والمحيط، وغيرها.

[والرابعة]: اعتقاد أن كلَّ موجود من اختراعه؛ ردًّا على القول بالعلّة

ص: 103

والمعلول، وهي الخالق، والبارئ، والمصوِّر، والقويّ، وما يلحق بها.

[والخامسة]: أنه مُدَبّرٌ لما اخترَعَ، ومُصَرِّفه على ما شاء، وهو القيُّوم، والعليم، والحكيم، وشبهها.

وقال أبو العباس بن مَعَدّ: من الأسماء ما يدل على الذات عينًا، وهو الله، وعلى الذات مع سلب، كالقدوس، والسلام، ومع إضافة، كالعليّ العظيم، ومع سلب وإضافة، كالملك، والعزيز، ومنها: ما يَرجع إلى صفة، كالعليم، والقدير، ومع إضافة، كالحليم، والخبير، أو إلى القدرة مع إضافة، كالقهّار، وإلى الإرادة، مع فعل وإضافة، كالرحمن الرحيم، وما يرجع إلى صفة فعل، كالخالق، والبارئ، ومع دلالة على الفعل، كالكريم واللطيف، قال: فالاسماء كلُّها لا تخرج عن هذه العشرة، وليس فيها شيء مترادف؛ إذ لكل اسم خصوصيةٌ مَا، وإن اتفق بعضها مع بعض في أصل المعنى. انتهى كلامه.

وقال الفخر الرازيّ: الألفاظ الدالة ثلاثةٌ ثابتةٌ في حقّ الله قطعًا، وممتنعة قطعًا، وثابتةٌ لكن مقرونة بكيفية، فالقسم الأول: منه ما يجوز ذكره مفردًا ومضافًا، وهو كثيرٌ جدًّا، كالقادر والقاهر، ومنه ما يجوز مفردًا، ولا يجوز مضافًا إلا بشرط، كالخالق، فيجوز خالقٌ، ويجوز خالق كل شيء مثلًا، ولا يجوز خالق القِرَدَة، ومنه عكسه يجوز مضافًا، ولا يجوز مفردًا، كالمنشئ، يجوز منشئ الخلق، ولا يجوز منشئ فقط، والقسم الثاني: إن ورد السمع بشيء منه أُطلق، وحُمِل على ما يليق به، والقسم الثالث: إن ورد بشيء منه أطلق ما ورد منه، ولا يقاس عليه، ولا يتصرف فيه بالإشتقاق، كقوله تعالى:{وَمَكَرَ اللَّهُ} ، و {يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} ، فلا يجوز ماكر، ومستهزئ. انتهى ما ذكره في "الفتح"

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الحقّ أن أسماء الله تعالى توقيفيّة من حيث الدعاء بها، وأما الإخبار بها، فبابه واسع، فيجوز أن يُخْبَر عن الله سبحانه وتعالى بكلّ ما لا ذمّ فيه أصلًا، بل فيه كماله تعالى، وإن لم يَرِد بذلك نصّ، وسيأتي

(1)

"الفتح" 11/ 226 - 227 "كتاب الدعوات" رقم الحديث (6410).

ص: 104

تحقيق ذلك في كلام الإمام ابن القيّم رحمه الله تعالى في المسألة التالية - إن شاء الله تعالى -، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): قد حقّق هذا الموضوع الإمام الناقد البصير ابن قيّم الجوزيّة رحمه الله تعالى في كتابه "بدائع الفوائد"، أحببت إيراده هنا، وإن كان فيه طولٌ؛ لكونه مشتملًا على تحقيقات بديعة، لا توجد عند غيره مجموعة، قال رحمه الله تعالى:

(فائدةٌ جليلةٌ): ما يَجري صفةً، أو خبرًا على الربّ تبارك وتعالى أقسام:

[أحدها]: ما يَرجِع إلى نفس الذات، كقولك: ذات، وموجود، وشيء.

[الثاني]: ما يَرجِع إلى صفات معنوية: كالعليم، والقدير، والسميع.

[الثالث]: ما يَرجع إلى أفعاله، نحو: الخالق، والرزاق.

[الرابع]: ما يرجع إلى التَّنْزِيه المحض، ولا بُدّ من تضمنه ثبوتًا؛ إذ لا كمال في العدم المحض، كالقُدُّوس، والسلام.

[الخامس]: ولم يذكره أكثر الناس، وهو الاسم الدالّ على جملة أوصاف عديدة، لا تختص بصفة معينة، بل هو دال على معناه، لا على معنى مفرد، نحو: المجيد العظيم الصمد، فإن المجيد مَن اتصف بصفات متعددة، من صفات الكمال، ولفظه يدلّ على هذا، فإنه موضوع للسعة، والكثرة، والزيادة، فمنه: استمجد الْمَرْخُ، والْعَفَار

(1)

، وأمجدَ الناقةَ علفًا

(2)

، ومنه:{ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15)} [البروج: 15]، صفة للعرش؛ لسعته وعظمه وشرفه، وتأمَّل كيف جاء هذا الاسم مقترنًا بطلب الصلاة من الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم، كما عَلَّمَنَاه صلى الله عليه وسلم، لأنه في مقام طلب المزيد، والتعرض لسعة العطاء وكثرته ودوامه، فأَتَى في هذا المطلوب باسم يقتضيه، كما تقول: اغفر لي، وارحمني، إنك

(1)

قال في "القاموس": "الْمَرْخُ": شجر سريع الْوَرْي، و"الْعَفَارُ" كسحاب: شجرٌ يُتّخذ منه الزناد، وقال أيضًا: استمجد الْمَرْخُ والْعَفَارُ: استكثرا من النار. انتهى. ص 236 و 288 و 398.

(2)

أي أشبعها، أو علفها ملء بطنها، أو نصف بطنها. انتهى. "ق" ص 288.

ص: 105

أنت الغفور الرحيم، ولا يَحْسُن: إنك أنت السميع البصير

(1)

، فهو راجع إلى المتوسل إليه بأسمائه وصفاته، وهو من أقرب الوسائل، وأحبها إليه.

ومنه الحديث الذي في "المسند"، والترمذيّ:"أَلِظُّوا بيا ذا الجلال والإكرام"

(2)

.

ومنه: "اللهم إني أسألك بأن لك الحمدَ، لا إله إلا أنت، المنان، بديع السموات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام"، فهذا سؤال له، وتوسل إليه بحمده، وأنه الذي لا إله إلا هو المنان، فهو توسل إليه بأسمائه وصفاته، وما أحق ذلك بالإجابة، وأعظمه موقعًا عند المسؤول، وهذا باب عظيم من أبواب التوحيد، أشرنا إليه إشارةً، وقد فُتِحَ لِمَن بَصّره الله تعالى.

ولنرجع إلى المقصود، وهو وصفه تعالى بالاسم المتضمن لصفات عديدة، فالعظيم من اتَّصَف بصفات كثيرة من صفات الكمال، وكذلك الصمد، قال ابن عباس رضي الله عنهما: هو السيد الذي كَمُلَ في سؤدده

(3)

، وقال أبو وائل

(4)

: هو السيد الذي انتهى سؤدده، وقال عكرمة: الذي ليس فوقه أحد، وكذلك قال الزجاج: الذي ينتهي إليه السؤدد، فقد صَمَدَ له كلُّ شيء، وقال ابن الأنباريّ: لا خلاف بين أهل اللغة أن الصمد السيد الذي ليس فوقه أحد، الذي يَصمُد

(1)

هكذا قال ابن القيّم، والمقام مقام نظر، وتأمّل، والله تعالى أعلم.

(2)

حديث صحيح، أجاد في تخريجه الشيخ الألبانيّ رحمه الله تعالى، راجع:"الصحيحة" 4/ 49 - 51 رقم (1535).

(3)

ذكر الحافظ ابن كثير في "تفسيره" كلام ابن عباس رضي الله عنهما هذا مطوّلًا، فقال: قال علي بن طلحة، عن ابن عباس: هو السيّد الذي قد كمل في سؤدده، والشريف الذي قد كمل في شرفه، والعظيم الذي قد كمل في عظمته، والحليم الذي قد كمل في حلمه، والعليم الذي قد كمل في علمه، والحكيم الذي قد كمل في حكمته، وهو الذي قد كمل في أنواع الشرف والسؤدد، وهو الله سبحانه، هذه صفته، لا تنبغي إلا له، ليس له كفء، وليس كمثله شيء، سبحان الله الواحد القهّار. انتهى. "تفسير ابن كثير" 14/ 513.

(4)

وقع في النسخة: "ابن وائل"، والظاهر أنه تصحيف، راجع:"تفسير ابن كثير" في "سورة الإخلاص"، والله تعالى أعلم.

ص: 106

إليه الناس في حوائجهم وأمورهم، واشتقاقه يدل على هذا، فإنه من الجمع، والقصد: الذي اجتمع القصد نحوه، واجتمعت فيه صفات السؤدد، وهذا أصله في اللغة، كما قال [من الطويل]:

أَلَا بَكَّرَ النَّاعِي بِخَيْرِ بَنِي أَسَدْ

بِعَمْرِو بْنِ يَرْبُوعِ وَبِالسَّيِّدِ الصَّمَدْ

والعربُ تُسمي أشرافها بالصمد؛ لاجتماع قصد القاصدين إليه، واجتماع صفات السيادة فيه.

[السادس]: صفة تَحصُل من اقتران أحد الاسمين والوصفين بالآخر، وذلك قدر زائد على مفرديهما، نحو: الغنيّ الحميد العفو القدير الحميد المجيد، وهكذا عامة الصفات المقترنة، والأسماء المزدوجة في القرآن، فإن الغِنَى صفة كمال، والحمد كذلك، واجتماع الغنى مع الحمد كمال آخر، فله ثناء من غناه، وثناء من حمده، وثناء من اجتماعهما، وكذلك العفو القدير والحميد المجيد والعزيز الحكيم، فتأمله، فإنه من أشرف المعارف.

وأما صفات السلب المحض، فلا تدخل في أوصافه تعالى، إلا أن تكون متضمنة لثبوت، كالأحد المتضمن لانفراده بالربوبية والإلهية، والسلام المتضمن لبراءته من كل نقص يُضَادُّ كماله، وكذلك الإخبار عنه بالسُّلُوب، هو لتضمنها ثبوتًا كقوله تعالى:{لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} [البقرة: 255]، فإنه مُتَضَمِّنٌ لكمال حياته وقيوميته، وكذلك قوله تعالى:{وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [ق: 38] متضمن لكمال قدرته، وكذلك قوله:{وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ} [يونس: 61] متضمن لكمال علمه، وكذلك قوله:{لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3)} [الإخلاص: 3] متضمن لكمال صمديته وغناه، وكذلك قوله:{وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)} [الإخلاص: 4] متضمن لتفرده بكماله، وأنه لا نظير له، وكذلك قوله تعالى:{لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} [الأنعام: 103] متضمن لعظمته، وأنه جَلّ عن أن يُدْرَك بحيث يحاط به، وهذا مُطَّرِدٌ في كلّ ما وَصَف به نفسه من السُّلُوب، ويجب أن تُعْلَم هنا أمور:

[أحدها]: أن ما يدخل في باب الإخبار عنه تعالى أوسع مما يَدخُل في باب أسمائه وصفاته، كالشيء، والموجود، والقائم بنفسه، فإنه يُخْبَر به عنه، ولا يَدخُل في أسمائه الحسنى، وصفاته العليا.

ص: 107

[الثاني]: أن الصفة إذا كانت منقسمة إلى كمال ونقص، لم تَدخُل بمطلقها في أسمائه، بل يُطلق عليه منها كمالها، وهذا كالمريد، والفاعل، والصانع، فإن هذه الألفاظ لا تدخل في أسمائه، ولهذا غَلِطَ مَن سماه بالصانع عند الإطلاق، بل هو الفعال لما يريد، فإن الإرادة والفعل والصنع منقسمة، ولهذا إنما أطلق على نفسه من ذلك أكمله فعلًا وخبرًا.

[الثالث]: أنه لا يلزم من الإخبار عنه بالفعل مقيدًا أن يُشْتَقَّ له منه اسم مطلق، كما غَلِطَ فيه بعض المتأخرين، فجعل من أسمائه الحسنى المضلّ الفاتن الماكر، تعالى الله عن قوله، فإن هذه الأسماء لم يُطلَق عليه سبحانه منها إلا أفعال مخضوصة معينةٌ، فلا يجوز أن يُسَمَّى بأسمائها.

[الرابع]: أن أسماءه عز وجل الحسنى هي أعلام وأوصاف، والوصف بها لا ينافي العَلمية، بخلاف أوصاف العباد، فإنها تنافي علميتهم؛ لأن أوصافهم مُشترَكَةٌ، فنافتها العلمية المختصة، بخلاف أوصافه تعالى.

[الخامس]: أن الاسم من أسمائه له دلالاتٌ: دلالة على الذات والصفة بالمطابقة، ودلالة على أحدهما بالتضمن، ودلالة على الصفة الأخرى باللزوم.

[السادس]: أن أسماءه الحسنى لها اعتباران: اعتبارٌ من حيث الذات، واعتبار من حيث الصفات، فهي بالاعتبار الأول: مترادفة، وبالاعتبار الثاني: متباينة.

[السابع]: أن ما يُطلَق عليه في باب الأسماء والصفات توقيفيّ، وما يُطلق عليه من الأخبار لا يجب أن يكون توقيفيًّا، كالقديم والشيء والموجود والقائم بنفسه.

فهذا فصل الخطاب في مسألة أسمائه، هل هي توقيفية، أو يجوز أن يُطْلَق عليه منها بعض ما لم يَرِد به السمع؟.

[الثامن]: أن الاسم إذا أُطلق عليه جاز أن يُشتَقَّ منه المصدرُ والفعلُ، فَيُخْبَر به عنه فعلًا ومصدرًا، نحو السميع البصير القدير، يُطلَق عليه منه السمع والبصر والقدرة، ويُخْبَر عنه بالأفعال من ذلك، نحو {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ} [المجادلة: 1]، و {فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ (23)} [المرسلات: 23]، هذا إن كان الفعل متعديًا، فإن كان لازمًا لم يُخبَر عنه به، نحو الحيّ، بل يُطلَق عليه الاسم والمصدر دون الفعل، فلا يقال: حَيِيَ.

ص: 108

[التاسع]: أن أفعال الرب تبارك وتعالى صادرة عن أسمائه وصفاته، وأسماء المخلوقين صادرة عن أفعالهم، فالرب تبارك وتعالى فعاله عن كماله، والمخلوق كماله عن فعاله، فاشتُقَّت له الأسماء بعد أن كَمُلَ بالفعل، فالربّ لم يزل كاملًا فحَصَلَت أفعاله عن كماله؛ لأنه كامل بذاته وصفاته، فأفعاله صادرة عن كماله، كَمُلَ فَفَعَلَ، والمخلوق فَعَلَ فَكَمُلَ الكمال اللائق به.

[العاشر]: إحصاء الأسماء الحسنى، والعلم بها أصل للعلم بكل معلوم، فإن المعلوماتِ سواه إما أن تكون خلقًا له تعالى، أو أمرًا، إما عِلْمٌ بما كَوَّنَهُ، أو عِلْمٌ بما شَرَّعَهُ، ومصدر الخلق والأمر عن أسمائه الحسنى، وهما مرتبطان بها ارتباطَ المقتضَى بمقتضيه، فالأمر كله مصدره عن أسمائه الحسنى، وهذا كله حَسَنٌ، لا يخرج عن مصالح العباد والرأفة والرحمة بهم، والإحسان إليهم، بتكميلهم بما أمرهم به ونهاهم عنه، فأمره كُلُّه مصلحة وحكمة ولطف وإحسان؛ إذ مصدره أسماؤه الحسنى، وفعله كلُّه لا يَخرج عن العدل والحكمة والمصلحة والرحمة؛ إذ مصدره أسماؤه الحسنى، فلا تفاوت في خلقه ولا عَبَثَ، ولم يَخلُق خلقه باطلًا ولا سُدًى ولا عبثًا، وكما أن كل موجود سواه فبإيجاده، فوجود مَن سواه تابع لوجوده تبع المفعول المخلوق لخالقه، فكذلك العلم بها أصل للعلم بكل ما سواه، فالعلم بأسمائه، وإحصاؤها أصل لسائر العلوم، فمن أحصى أسماءه كما ينبغي للمخلوق أحصى جميع العلوم؛ إذ إحصاء أسمائه أصل لإحصاء كل معلوم؛ لأن المعلومات هي من مقتضاها، ومرتبطة بها، وتأمل صدور الخلق والأمر عن علمه وحكمته تعالى، ولهذا لا تَجِد فيها خللًا ولا تفاوتًا؛ لأن الخلل الواقع فيما يأمر به العبد أو يفعله، إما أن يكون لجهله به، أو لعدم حكمته، وأما الرب تعالى فهو العليم الحكيم، فلا يَلْحَق فعله ولا أمره خلل ولا تفاوت ولا تناقض.

[الحادي عشر]: أن أسماءه كلها حسنى، ليس فيها اسم غير ذلك أصلًا، وقد تقدم أن من أسمائه ما يُطلَق عليه باعتبار الفعل، نحو الخالق والرازق والمحيي والمميت، وهذا يدل على أن أفعاله كلها خيرات محض، لا شَرَّ فيها؛ لأنه لو فعل الشر لاشتُقَّ له منه اسم، ولم تكن أسماؤه كلها حسنى، وهذا باطلٌ، فالشر ليس إليه، فكما لا يدخل في صفاته، ولا يَلحَق ذاته، لا

ص: 109

يدخل في أفعاله، فالشرّ ليس إليه، لا يضاف إليه فعلًا ولا وصفًا، وإنما يدخل في مفعولاته.

وفَرْقٌ بين الفعل والمفعول، فالشر قائم بمفعوله المباين له، لا بفعله الذي هو فعله.

فتأمل هذا، فإنه خَفِيَ على كثير من المتكلمين، وزَلَّت فيه أقدامٌ، وضَلَّت فيه أفهام، وهَدَى الله أهل الحق لما اختلفوا فيه بإذنه، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.

[الثاني عشر]: في بيان مراتب إحصاء أسمائه التي من أحصاها دخل الجنة، وهذا هو قطب السعادة، ومدار النجاة والفلاح:

المرتبة الأولى: إحصاء ألفاظها وعددها.

المرتبة الثانية: فهم معانيها ومدلولها.

المرتبة الثالثة: دعاؤه بها، كما قال تعالى:{وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف: 180]، وهو مرتبتان:

إحداهما: دعاءُ ثناءٍ وعبادةٍ.

والثاني: دعاءُ طلب ومسألة، فلا يثنى عليه إلا بأسمائه الحسنى، وصفاته العلى، وكذلك لا يُسأل إلا بها، فلا يقال: يا موجود، أو يا شيء، أو يا ذات اغفر لي، وارحمني، بل يسأل في كل مطلوب باسم يكون مقتضيًا لذلك المطلوب، فيكون السائل متوسلًا إليه بذلك الاسم.

ومن تأمل أدعية الرسل عليهم السلام، ولا سيما خاتمهم صلى الله عليه وسلم وإمامهم، وَجَدَها مطابقة لهذا، وهذه العبارة أولى من عبارة مَن قال: تَخَلَّقُوا بأسماء الله، فإنها ليست بعبارة سديدة، وهي مُنتزَعة من قول الفلاسفة بالتشبه بالإله على قدر الطاقة.

وأحسن منها عبارة أبي الحكم بن برهان، وهي التعبد، وأحسن منها العبارة المطابقة للقرآن، وهي الدعاء المتضمن للتعبد والسؤال.

فمراتبها أربعٌ، أشدها إنكارًا عبارة الفلاسفة، وهي التشبه، وأحسن منها عبارة مَن قال: التخلق، وأحسن منها عبارة مَن قال: التعبد، وأحسن من الجميع الدعاء، وهي لفظ القرآن.

ص: 110

[الثالث عشر]: اختَلَف النُّظَّار في الأسماء التي تُطلَق على الله، وعلى العباد، كالحي والسميع والبصير والعليم والقدير والملك ونحوها:

فقالت طائفة من المتكلمين: هي حقيقةٌ في العبد، مجاز في الربّ، وهذا قول غلاة الجهمية، وهو أخبث الأقوال، وأشدُّها فسادًا.

الثاني: مقابلها وهو أنها حقيقة في الربّ، مجازٌ في العبد، وهذا قول أبي العباس الناشئ.

الثالث: أنها حقيقة فيهما، وهذا قول أهل السنة، وهو الصواب، واختلاف الحقيقتين فيهما لا يخرجها عن كونها حقيقةً فيهما، وللرب تعالى منها ما يَليق بجلاله، وللعبد منها ما يَليق به.

وليس هذا موضع التعرض لمأخذ هذه الأقوال وإبطال باطلها، وتصحيح صحيحها، فإن الغرض الإشارة إلى أمور ينبغي معرفتها في هذا الباب، ولو كان المقصود بسطها لاستدعت سِفْرين أو أكثر.

[الرابع عشر]: أن الاسم والصفة من هذا النوع له ثلاثة اعتبارات:

اعتبارٌ من حيث هو، مع قطع النظر عن تقييده بالربّ تبارك وتعالى، أو العبد، اعتباره مضافًا إلى الرب مختصًّا به، اعتباره مضافًا إلى العبد مقيدًا به، فما لزم الاسم لذاته وحقيقته كان ثابتًا للربّ والعبد، وللرب منه ما يَليق بكماله، وللعبد منه ما يَليق به.

وهذا كاسم السميع الذي يلزمه إدراك المسموعات، والبصير الذي يلزمه رؤية المبصرات، والعليم والقدير وسائر الأسماء، فإن شرط صحة إطلاقها حصول معانيها وحقائقها للموصوف بها، فما لَزِمَ هذه الأسماء لذاتها، فإثباته للرب تعالى لا محذور فيه بوجه، بل ثبتت له على وجه لا يماثله فيه خلقه، ولا يشابههم، فمن نفاه عنه لإطلاقه على المخلوق ألحد في أسمائه، وجَحَد صفات كماله، ومن أثبته له على وجه يماثل فيه خلقه، فقد شبّهه بخلقه، ومن شبّه الله بخلقه فقد كَفَر، ومن أثبته له على وجه لا يماثل فيه خلقه، بل كما يليق بجلاله وعظمته، فقد برئ من فَرْث التشبيه، ودم التعطيل، وهذا طريق أهل السنة.

وما لزم الصفة لإضافتها إلى العبد وجب نفيه عن الله، كما يلزم حياة

ص: 111

العبد من النوم والسِّنَةِ والحاجة إلى الغذاء، ونحو ذلك، وكذلك ما يلزم إرادته من حركة نفسه في جلب ما ينتفع به، ودفع ما يتضرر به، وكذلك ما يلزم علوَّه من احتياجه إلى ما هو عال عليه، وكونه محمولًا به مفتقرًا إليه محاطًا به، كلُّ هذا يجب نفيه عن القدوس السلام تبارك وتعالى.

وما لزم صفة من جهة اختصاصه تعالى بها، فإنه لا يثبت للمخلوق بوجه، كعلمه الذي يلزمه القدم والوجوب والإحاطة بكل معلوم، وقدرته وإرادته وسائر صفاته، فإن ما يختص به منها لا يمكن إثباته للمخلوق.

فإذا أحطت بهذه القاعدة خبرًا، وعقلتها كما ينبغي، خَلَصتَ من الآفتين اللتين هما أصل بلاء المتكلمين: آفة التعطيل، وآفة التشبيه، فإنك إذا وَفَّيت هذا المقام حقَّه من التصور، أثبَتَّ لله الأسماء الحسنى والصفات العلى حقيقة، فخَلَصت من التعطيل، ونَفَيت عنها خصائص المخلوقين ومشابهتهم، فخلصت من التشبيه، فتدبر هذا الموضع، واجعله جنتك التي ترجع إليها في هذا الباب، والله الموفق للصواب.

[الخامس عشر]: أن الصفة متى قامت بموصوف لزمها أمور أربعة: أمران لفظيان، وأمران معنويان.

فاللفظيان: ثبوتيّ، وسلبيّ، فالثبوتيّ أن يُشْتَقَّ للموصوف منها اسم، والسلبيّ أن يمتنع الإشتقاق لغيره.

والمعنويان: ثبوتيّ، وسلبيّ، فالثبوتيّ أن يعود حكمها إلى الموصوف، ويُخبَر بها عنه، والسلبيّ أن لا يعود حكمها إلى غيره، ولا يكون خبرًا عنه، وهي قاعدة عظيمة في معرفة الأسماء والصفات.

فلنذكر من ذلك مثالًا واحدًا: وهو صفة الكلام، فإنه إذا قامت بمحلّ، كانت هو التكلم، دون من لم تقم به، وأخبر عنه بها، وعاد حكمها إليه دون غيره، فيقال: قال، وأمر، ونهى، ونادى، وناجى، وأخبر، وخاطب، وتكلم، وكلَّم، ونحو ذلك، وامتنعت هذه الأحكام لغيره، فيُستَدَلُّ بهذه الأحكام والأسماء على قيام الصفة به، وسلبها عن غيره على عدم قيامها به، وهذا هو أصل السنة الذي رَدُّوا به على المعتزلة والجهمية، وهو من أصحّ الأصول طردًا وعكسًا.

ص: 112

[السادس عشر]: أن الأسماء الحسنى لا تدخل تحت حصر، ولا تُحَدَّ بعدد، فإن لله تعالى أسماءً وصفاتٍ استأثر بها في علم الغيب عنده، لا يعلمها ملك مقرب، ولا نبي مرسل، كما في الحديث الصحيح:"أسألك بكل اسم هو لك، سمّيت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك"

(1)

، فجعل أسماءه ثلاثة أقسام:

قسمٌ سَمَّى به نفسه، فأظهره لمن شاء من ملائكته أو غيرهم، ولم يُنْزِل به كتابَهُ، وقسم أَنْزَل به كتابه، فتعَرَّفَ به إلى عباده، وقسم استأثر به في علم غيبه، فلم يَطَّلع عليه أحد من خلقه، ولهذا قال:"استأثرت به": أي انفَرَدت بعلمه، وليس المراد انفراده بالتسمي به؛ لأن هذا الإنفراد ثابت في الأسماء التي أنزل الله بها كتابه.

ومن هذا قول النبيّ صلى الله عليه وسلم في حديث الشفاعة: "فيَفْتَح عليّ من محامده بما لا أُحسنه الآن"

(2)

، وتلك المحامد تفي بأسمائه وصفاته.

ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: "لا أُحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك"

(3)

.

(1)

هو ما أخرجه الإمام أحمد رحمه الله تعالى في "مسنده"، فقال:

(3528)

حدثنا يزيد، أنبأنا فضيل بن مرزوق، حدثنا أبو سلمة الجهنيّ، عن القاسم بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن عبد الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أصاب أحدًا قط همّ، ولا حزنٌ، فقال: اللهم إني عبدك وابن عبدك، وابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماضٍ فيَّ حكمُك، عدلٌ فيّ قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك، سَمَّيت به نفسك، أو علمته أحدًا من خلقك، أو أنزلته في كتابك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور صدري، وجَلاء حزني، وذهاب همي، إلا أذهب الله هيه وحزنه، وأبدله مكانه فرجًا"، قال: فقيل: يا رسول الله، ألا نتعلمها؟ فقال:"بلى ينبغي لمن سمعها أن يتعلمها".

وقوله: "فرجًا" بالجيم، وفي رواية "فرحًا" بالحاء المهملة.

وهو حديث صحيح، على الراجح، وقد أشبع الكلام فيه الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على "المسند"(5/ 267)، والشيخ الألبانيّ في "الصحيحة"(1/ 336 - 341) رقم (199)، فراجعه تستفد.

(2)

متّفق عليه.

(3)

رواه مسلم وأبو داود.

ص: 113

وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "إن لله تسعةً وتسعين اسمًا من أحصاها دخل الجنة"

(1)

،

فالكلام جملة واحدةٌ، وقوله:"من أحصاها دخل الجنة" صفة، لا خبر مستقبل، والمعنى: له أسماء متعددة، مِن شأنها أن من أحصاها دخل الجنة، وهذا لا ينفي أن يكون له أسماء غيرها، وهذا كما تقول: لفلان مائة مملوك، وقد أعَدَّهم للجهاد، فلا ينفي هذا أن يكون له مماليك سواهم مُعَدُّون لغير الجهاد، وهذا لا خلاف بين العلماء فيه.

[السابع عشر]: أن أسماءه تعالى منها: ما يُطلَق عليه مفردًا ومقترنًا بغيره، وهو غالب الأسماء، فالقدير والسميع والبصير والعزيز والحكيم، وهذا يسوغ أن يُدْعَى به مفردًا ومقترنًا بغيره، فتقول: يا عزيز يا حليم يا غفور يا رحيم، وأن يُفْرَد كلُّ اسم، وكذلك في الثناء عليه، والخبر عنه بما يسوغ لك الإفراد والجمع.

ومنها: ما لا يُطلَق عليه بمفرده، بل مقرونًا بمقابله، كالمانع والضار والمنتقم، فلا يجوز أن يُفرَد هذا عن مقابله، فإنه مقرون بالمعطي والنافع والعفوّ، فهو المعطي المانع الضار النافع المنتقم العفوّ المعز المذل؛ لأن الكمال في اقتران كلّ اسم من هذه بما يقابله؛ لأنه يراد به أنه المنفرد بالربوبية، وتدبير الخلق، والتصرف فيهم عطاءً ومنعًا ونفعًا وضرًّا وعفوًا وانتقامًا، وأما أن يُثنَى عليه بمجرد المنع والإنتقام والإضرار فلا يسوغ، فهذه الأسماء المزدوجة تجري الأسماء منها مَجرَى الاسم الواحد الذي يمتنع فصل بعض حروفه عن بعض، فهي وإن تعددت جارية مجرى الاسم الواحد، ولذلك لم تجئ مفردة، ولم تُطلَق عليه إلا مقترنة، فاعلمه.

فلو قلت: يا مُذِلّ يا ضار يا مانع، وأخبرت بذلك لم تكن مثنيًا عليه، ولا حامدًا له حتى تذكر مقابلها.

[الثامن عشر]: أن الصفات ثلاثة أنواع: صفات كمال، وصفات نقص، وصفات لا تقتضي كمالًا ولا نقصًا، وإن كانت القسمة التقديرية تقتضي قسمًا رابعًا، وهو ما يكون كمالًا ونقصًا باعتبارين، والرب تعالى مُنَزَّه عن الأقسام

(1)

متّفقٌ عليه.

ص: 114

الثلاثة، وموصوف بالقسم الأول، وصفاته كلها صفات كمال محض، فهو موصوف من الصفات بأكملها، وله من الكمال أكمله، وهكذا أسماؤه الدالة على صفاته، هي أحسن الأسماء وأكملها، فليس في الأسماء أحسن منها، ولا يقوم غيرها مقامها، ولا يؤدي معناها، وتفسير الاسم منها بغيره ليس تفسيرًا بمرادف محض، بل هو على سبيل التقريب والتفهيم.

وإذا عرفت هذا، فله من كل صفة كمال أحسن اسم وأكمله وأتمه معنى، وأبعده وأنزهه عن شائبة عيب أو نقص، فله من صفة الإدراكات: العليمُ الخبيرُ، دون العاقل الفقيه، والسميع البصير، دون السامع والباصر والناظر، ومن صفات الإحسان: البرُّ الرحيم الودود، دون الرفيق والشفوق ونحوهما، وكذلك العليُّ العظيمُ، دون الرفيع الشريف، وكذلك الكريمُ، دون السخيّ، والخالق البارئ المصور، دون الفاعل الصانع المشكّل، والغفور العفوّ، دون الصَّفُوح الساتر، وكذلك سائر أسمائه تعالى يَجرِي على نفسه منها أكملُهما وأحسنُها، وما لا يقوم غيره مقامه، فتأمّل ذلك، فأسماؤه أحسن الأسماء، كما أن صفاته أكمل الصفات، فلا تَعْدِل عما سَمَّى به نفسه إلى غيره، كما لا تَتَجَاوز ما وصف به نفسه ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم إلى ما وصفه به المبطلون والمعطلون.

[التاسع عشر]: أن من أسمائه الحسنى ما يكون دالًّا على عِدّة صفات، ويكون ذلك الاسم متناولًا لجميعها تناولَ الاسم الدالّ على الصفة الواحدة لها، كما تقدم بيانه، كاسمه العظيم والمجيد والصمد، كما قال ابن عباس فيما رواه عنه ابن أبي حاتم في تفسيره: الصمد السيد الذي قد كَمُل في سؤدده، والشريف الذي قد كَمُل في شرفه، والعظيم الذي قد كَمُل في عظمته، والحليم الذي قد كَمُل في حلمه، والعليم الذي قد كَمُل في علمه، والحكيم الذي قد كَمُل في حكمته، وهو الذي قد كَمُل في أنواع شرفه وسؤدده، وهو الله سبحانه، هذه صفته لا تنبغي إلا له، ليس له كفوًا أحد، وليس كمثله شيء، سبحان الله الواحد القهار، هذا لفظه

(1)

.

(1)

أخرجه ابن جرير في "تفسيره" 24/ 692، وأبو الشيخ في "العظمة"(98)، والبيهقيّ =

ص: 115

وهذا مما خَفِي على كثير ممن تعاطى الكلام في تفسير الأسماء الحسنى، ففَسَّر الاسم بدون معناه، ونقصه من حيث لا يَعلَم، فمن لم يُحط بهذا علمًا بَخَس الاسم الأعظم حقه، وهَضمه معناه، فتدبره.

[العشرون]: وهي الجامعة لما تقدم من الوجوه، وهي معرفة الإلحاد في أسمائه حتى لا يقع فيه، قال تعالى:{وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (180)} [الأعراف: 180].

والإلحاد في أسمائه هو العدول بها وبحقائقها ومعانيها عن الحق الثابت

لها، وهو مأخوذ من الميل، كما يدلّ عليه مادته (ل ح د) فمنه اللَّحْدُ، وهو الشَّقُّ في جانب القبر الذي قد مال عن الوسط، ومنه الْمُلْحِد في الدين المائل عن الحق إلى الباطل، قال ابن السِّكِّيت: الْمُلْحِدُ: المائل عن الحق، المدخل فيه ما ليس منه، ومنه الْمُلْتَحَدُ، وهو مُفْتَعَلٌ من ذلك، وقوله تعالى:{وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا} [الكهف: 27]، أي مَن تَعْدِل إليه، وتهرُب إليه، وتلتجئ إليه، وتبتهل فتميل إليه عن غيره، تقول العرب: التحد فلان إلى فلان: إذا عَدَل إليه.

إذا عُرِف هذا فالإلحاد في أسمائه تعالى أنواع:

[أحدها]: أن يُسَمِّي الأصنام بها، كتسميتهم اللات من الإلهية، والعزى من العزيز، وتسميتهم الصنم إلهًا، وهذا إلحاد حقيقةً، فإنهم عَدَلُوا بأسمائه إلى أوثانهم وآلهتهم الباطلة.

[الثاني]: تسميته بما لا يَليق بجلاله، كتسمية النصارى له أبًا، وتسمية الفلاسفة له موجِبًا بذاته، أو عِلَّةً فاعلةً بالطبع، ونحو ذلك.

[وثالثها]: وصفه بما يتعالى عنه، ويتقدس من النقائص، كقول أخبث اليهود: إنه فقير، وقولهم: إنه استراح بعد أن خلق خلقه، وقولهم:{يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} [المائدة: 64]، وأمثال ذلك مما هو إلحاد في أسمائه وصفاته.

[ورابعها]: تعطيل الأسماء عن معانيها، وجَحْدُ حقائقها، كقول مَن يقول

= في "الأسماء والصفات"، وفي إسناده: أبو صالح كاتب الليث، وهو متكلّم في حفظه.

ص: 116

من الجهمية وأتباعهم: إنها ألفاظ مجرَّدَةٌ لا تتضمن صفات، ولا معاني، فيطلقون عليه اسم السميع والبصير والحي والرحيم والمتكلم والمريد، ويقولون: لا حياة له، ولا سمع، ولا بصر، ولا كلام، ولا إرادة تقوم به، وهذا من أعظم الإلحاد فيها عقلًا وشرعًا ولغةً وفطرةً، وهو يقابل إلحاد المشركين، فإن أولئك أَعْطَوا أسماءه وصفاته لآلهتهم، وهؤلاء سلبوه صفات كماله، وجحدوها وعطّلوها، فكلاهما مُلْحِد في أسمائه.

ثم الجهمية وفُروخهم متفاوتون في هذا الإلحاد، فمنهم الغالي، والمتوسط، والمنكوب.

وكُلُّ مَن جَحَد شيئًا مما وَصَف الله به نفسه، أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، فقد ألحد في ذلك، فليستقلّ، أو ليستكثر.

[وخامسها]: تشبيه صفاته بصفات خلقه، تعالى الله عما يقول المشبِّهون علوًّا كبيرًا، فهذا الإلحاد في مقابلة إلحاد المعطلة، فإن أولئك نَفَوا صفة كماله وجحدوها، وهؤلاء شبَّهوها بصفات خلقه، فجَمَعَهُم الإلحاد، وتفَرَّقت بهم طرقه.

وبَرَّأ الله أتباع رسوله صلى الله عليه وسلم، وورثته القائمين بسنته عن ذلك كله، فلم يَصِفُوه إلا بما وَصَف به نفسه، ولم يَجحدوا صفاته، ولم يشبّهوها بصفات خلقه، ولم يَعْدِلوا بها عما أُنزِلت عليه لفظًا ولا معنًى، بل أثبتوا له الأسماء والصفات، ونفوا عنه مشابهة المخلوقات، فكان إثباتهم بريئًا من التشبيه، وتنزيههم خليًّا من التعطيل، لا كَمَن شَبَّهَ حتى كأنه يعبد صنمًا، أو عَطَّل حتى كأنه لا يعبد إلا عدمًا.

وأهلُ السنة وَسَطٌ في النِّحَل، كما أن أهل الإسلام وسط في الملل، تَتَوَقَّدُ مصابيح معارفهم من {شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} [النور: 35]، فنسأل الله تعالى أن يهدينا لنوره، ويسهل لنا السبيل إلى الوصول إلى مرضاته، ومتابعة رسوله صلى الله عليه وسلم، إنه قريب مجيب.

فهذه عشرون فائدةً مضافة إلى القاعدة التي بدأنا بها في أقسام ما يوصف به الرب تبارك وتعالى، فعليك بمعرفتها، ومراعاتها، ثم اشْرَحْ الأسماء

ص: 117

الحسنى، إن وجدت قلبًا عاقلًا، ولسانًا قائلًا، ومحلًّا قابلًا، وإلا فالسكوت أولى بك، فجناب الربوبية أجلّ وأعزّ مما يخطر بالبال، أو يُعَبِّر عنه المقال، {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف: 76] حتى ينتهي العلم إلى من أحاط بكل شيء علمًا.

وعسى الله أن يُعِين بفضله على تعليق شرح الأسماء الحسنى، مراعيًا فيه أحكام هذه القواعد، بريئًا من الإلحاد في أسمائه، وتعطيل صفاته، فهو المانُّ بفضله، والله ذو الفضل العظيم. انتهى كلام الإمام ابن القيّم رحمه الله تعالى، ولقد شفى، وكفى لمن تأمّله بالإنصاف، ولم يُعم بصيرته التقليد والاعتساف.

{رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8)} [آل عمران: 8]، اللهم أرنا الحقّ حقًّا، وارزقنا اتّباعه، وأرنا الباطل باطلًا، وارزقنا اجتنابه، اللهم آمين، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[273]

(

) - (حَدَّثَنَا مِنْجَابُ بْنُ الْحَارِثِ التَّمِيمِيُّ، وَسُوَيْدُ بْنُ سَعِيدٍ، كِلَاهُمَا عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُسْهِرٍ، قَالَ مِنْجَابٌ: أَخْبَرَنَا ابْنُ مُسْهِرٍ، عَنِ الْأَعْمَش، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ الله، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا يَدْخُلُ النَّارَ أَحَدٌ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ، وَلَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ أَحَدٌ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْ كِبْرِيَاءَ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(مِنْجَابُ بْنُ الْحَارِثِ التَّمِيمِيُّ) هو: مِنْجاب - بكسر أوله، وسكون ثانيه، ثم جيم، ثم موحّدة - بن الحارث بن عبد الرحمن التميميّ، أبو محمد الكوفيّ، ثقةٌ [10].

رَوَى عن عليّ بن مُسهِر، وبشر بن عُمارة الخثعميّ، ويزيد بن المقدام بن شُريح بن هانئ، وحصين بن عمرو الأحمسيّ، وحاتم بن إسماعيل، وأبي الأحوص، وشَريك، وابن المبارك، وأبي عامر الْعَقَديّ، وجماعة.

ص: 118

ورَوَى عنه مسلم، وروى ابن ماجه في "التفسير" عن رجل عنه، وأبو حاتم، والذهليّ، وأبو خيثمة، زهير بن حرب، وموسى بن إسحاق الأنصاريّ، ومحمد بن عثمان بن أبي شيبة، وبَقِيّ بن مَخْلَد، وأحمد بن عليّ الْأَبَّار، وجعفر بن محمد الفريابيّ، وآخرون.

ذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال هو ومطيّن وغيره: مات سنة إحدى وثلاثين ومائتين.

وله في هذا الكتاب (16) حديثًا.

2 -

(سُوَيْدُ بْنُ سَعِيدٍ) بن سهل الْهَرَويّ الأصل، ثمّ الْحَدَثَانيّ، ويقال: الأَنْبَاريّ، أبو محمد، صدوقٌ في نفسه، إلا أنه عَمِي، فصار يَتَلَقّن ما ليس من حديثه، فأفحش ابن معين القول فيه، من قدماء [10](ت 240)(م ق) تقدم في "المقدمة" 6/ 87.

3 -

(عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ) القُرشيّ الكوفيّ، قاضي الْمَوْصِل، ثقةٌ، له غرائب بعدما أضرّ [8](ت 189)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 6.

4 -

(الْأَعْمَشُ) سليمان بن مِهْران المذكور قبل باب، والباقون تقدّموا في السند الماضي.

[تنبيه]: قال النوويّ رحمه الله تعالى: في هذا الإسناد لطيفتان من لطائف الإسناد:

(إحداهما): أن فيه ثلاثةً تابعيين يروي بعضهم عن بعض، وهم: الأعمش، وإبراهيم، وعلقمة.

(والثانية): أنه إسناد كوفيّ، فمِنْجَاب، وعبد الله بن مسعود، ومَن بينهما كوفيّون، إلا سُوَيد بن سعيد، رفيق مِنجاب، فيُغني عنه منجاب. انتهى

(1)

.

وقوله: (لَا يَدْخُلُ النَّارَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ) المراد به دخولَ الكفّار، وهو دخولُ الخلود. قاله النوويّ رحمه الله تعالى.

وقال أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله تعالى: المراد بالإيمان في هذا الحديث: التصديق القلبيّ المذكور في حديث جبريل عليه السلام، ويُستفاد منه أن التصديق القلبيّ على مراتب، ويزيد وينقص.

(1)

"شرح النوويّ" 2/ 89 - 90.

ص: 119

وهذه النار المذكورة هنا هي النار المعدّة للكفّار التي لا يَخرُج منها من دخلها؛ لأنه قد جاء في أحاديث الشفاعة: أن خلقًا كثيرًا ممن في قلبه ذرّات كثيرة من الإيمان يدخلون النارَ، ثم يخرجون منها بالشفاعة، أو بالقَبْضة، ووجه التلفيق أن النار دَرَكات، كما قال الله تعالى:{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء: 145]، وأهلها في العذاب على مراتب ودركات، كما قال الله تعالى:{أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر: 46]، وأن نار من يُعذّب من الموحّدين أخفّها عذابًا، وأقربها خروجًا، فمن أُدخل النار من الموحّدين لم يدخل نار الكفّار، بل نارًا أخرى يموتون فيها، ثم يُخرجون منها، كما جاء في الأحاديث الصحيحة. انتهى كلام القرطبيّ

(1)

.

وقوله: (مِنْ خَرْدَلٍ) بفتح، فسكون: حَبّ شجر معروف. قاله في "القاموس".

وقوله: (مِنْ كِبْرِيَاءَ) ممنوع من الصرف؛ لوجود علّة واحدة تقوم مقام العلّتين، وهي ألف التأنيث الممدودة، كما قال في "الخلاصة":

فَأَلِفُ التَّأْنِيثِ مُطْلَقًا مَنَعْ

صَرْفَ الَّذِي حَوَاهُ كَيْفَمَا وَقَعْ

وتمام شرح الحديث، ومسائله تقدّمت في الحديث الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[274]

(

) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبَانَ بْنِ تَغْلِبَ، عَنْ فُضَيْلٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ الله، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ").

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ) المعروف ببندار تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(أَبُو دَاوُدَ) سليمان بن داود بن الجارود الطيالسيّ البصريّ، ثقةٌ حافظٌ

(1)

"المفهم" 1/ 289.

ص: 120

[9]

(ت 204)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 73، والباقون تقدّموا قبل حديث، وكذا شرح الحديث، ومسائله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(42) - (بَابُ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ مَنْ مَاتَ لَا يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَأَنَّ مَنْ مَاتَ مُشْرِكًا دَخَلَ النَّارَ)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[275]

(92) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، وَوَكِيعٌ، عَنِ الْأَعْمَش، عَنْ شَقِيقٍ، عَنْ عَبْدِ الله، قَالَ وَكِيعٌ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وقَالَ ابْنُ نُمَيْرٍ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَنْ مَاتَ يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا دَخَلَ النَّارَ"، وَقُلْتُ أَنَا: "وَمَنْ مَاتَ لَا يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ) الْهَمْدانيّ، أبو عبد الرحمن الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ فاضلٌ [10](ت 234)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 5.

2 -

(أَبُوه) عبد الله بن نُمَير الْهَمْداني، أبو هشام الكوفيّ، ثقة، صاحب حديث، من أهل السنّة، من كبار [9](ت 199)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 5.

3 -

(وَكِيع) بن الجرّاح بن مَلِيح الرؤاسيّ، أبو سفيان الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ عابدٌ، من كبار [9](ت 196)(ع) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.

4 -

(شَقيق) بن سلمة الأسديّ، أبو وائل الكوفيّ، ثقةٌ مخضرمٌ [2] مات في خلافة عمر بن عبد العزيز، وله مائة سنة (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 57، والباقيان تقدّما في الباب الماضي، والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله تعالى، وفيه من صيغ الأداء: التحديثُ، والعنعنة، والقول، والسماع.

ص: 121

2 -

(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الجماعة.

3 -

(ومنها): أنه مسلسل بالحفّاظ الكوفيين.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ مخضرم.

5 -

(ومنها): قوله: "قال وكيع: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال ابن نُمَير: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم"، هذا وما أشبهه من الدقائق التي يُنَبِّه عليها الإمام مسلم رحمه الله تعالى، وهي من الدلائل القاطعة على شِدَّة تحريه، وإتقانه، وضبطه، وعِرْفانه، وغَزَارة علمه، وحِذْقه، وبراعته في الغوص على المعاني، ودقائق علم الإسناد، وغير ذلك، فرحمه الله تعالى. والدقيقة في هذا أن ابن نمير قال في روايته: إن ابن مسعود قال: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم"، فصرّح بالسماع، وهذا متصل، لا شكّ فيه، وقال وكيع في روايته: إنه قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم"، وهذا مما اختَلَفَ العلماء فيه، هل يُحْمَل على الاتصال، أم على الانقطاع؟ فالجمهور أنه على الاتصال، كـ"سمعت"، وذهبت طائفة إلى أنه لا يُحْمَلُ على الاتصال إلا بدليل عليه، فإذا قيل بهذا المذهب، كان مرسل صحابيّ، وفي الاحتجاج به خلافٌ، فالجماهير قالوا: يُحْتَجّ به، وإن لم يحتج بمرسل غيرهم، وذَهَب الأستاذ أبو إسحاق الإسفرايينيّ الشافعيّ رحمه الله تعالى إلى أنه لا يُحْتَجّ به، فعلى هذا يكون الحديث قد رُوي متصلًا ومرسلًا، وفي الاحتجاج بما رُوي مرسلًا ومتصلًا خلافٌ معروفٌ، قيل: الحكم للمرسل، وقيل: للأحفظ روايةً، وقيل: للأكثر، والصحيح أنه تُقَدَّم رواية الوصل، فاحتاط مسلم رحمه الله تعالى، وذكر اللفظين؛ لهذه الفائدة، ولئلا يكون راويًا بالمعنى، فقد أجمعوا على أن الرواية باللفظ أولى، والله تعالى أعلم، أفاده النوويّ رحمه الله تعالى

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الذي يظهر لي من صنيع الإمام مسلم رحمه الله تعالى هذا أنه لا يريد بيان اختلاف الحكم من حيث الاتّصال والانقطاع، وإنما يريد بيان اختلاف الشيوخ في صيغ الأداء، فبيّن اختلاف ابن نمير ووكيع في اللفظ الذي قاله ابن مسعود رضي الله عنه، فقال الأول: قال: "سمعت

(1)

"شرح النوويّ" 2/ 94 - 95.

ص: 122

رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم"، وقال الثاني: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم"، فعنده لا فرق بين اللفظين من حيث الإتّصال والانقطاع، فكلاهما للإتّصال، وإنما هو من باب الاحتياط في أداء ما تحمّله، وبيان الواقع من ألفاظ الشيوخ في رواياتهم، فهو كمثل قوله في مواضع أخرى: حدّثنا فلان وفلان، فقال فلان: حدثنا، وقال فلان: أخبرنا، وتارة يقول: حدّثنا فلان وفلان، فقال فلان: حدثنا، وقال فلان: حدّثني، فلا شكّ أن هذا وأمثاله لا يختلف الحكم فيه بالاتّصال والانقطاع، وإنما هو لمجرّد بيان الإختلاف في صيغ الأداء.

والحاصل أن صنيع الإمام مسلم رحمه الله تعالى هذا ليس لبيان اختلاف الحكم من حيث الإتصال والانقطاع، وإنما هو من باب الاحتياط والتدقيق في أداء ما سمعه على الوجه الذي سمعه، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ عَبْدِ اللهِ) بن مسعود رضي الله عنه (قَالَ وَكِيعٌ) في روايته (قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) أي قال عبد الله رضي الله عنه: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم"، فعبّر بلفظ "قال" (وقَالَ) عبد الله (بْنُ نُمَيْرٍ) في روايته قال عبد الله رضي الله عنه:(سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ) أي فعبّر بلفظ "سمعتُ"("مَنْ مَاتَ)"من" شرطيّة، أو موصولة مبتدأ، جوابها، أو خبرها جملة "دَخَل"، وقوله:(يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا) جملة في محلّ نصب على الحال (دَخَلَ النَّارَ") قال النوويّ رحمه الله تعالى: هكذا وقع في أصولنا من "صحيح مسلم"، وكذا هو في "صحيح البخاريّ"، وكذا ذكره القاضي عياض رحمه الله تعالى في روايته لـ "صحيح مسلم"، ووُجِد في بعض الأصول المعتمدة من "صحيح مسلم" عكس هذا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من مات لا يُشرك بالله شيئًا دخل الجنة"، قلت أنا:"ومن مات يشرك بالله شيئًا دخل النار"، وهكذا ذكره الحميديّ في "الجمع بين الصحيحين"، عن "صحيح مسلم" رحمه الله تعالى، وهكذا رواه أبو عوانة في كتابه "المخرج على صحيح مسلم"، وقد صَحّ اللفظان من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث جابر المذكور بعد هذا.

فأما اقتصار ابن مسعود رضي الله عنه على رفع إحدى اللفظتين، وضمه الأخرى إليها من كلام نفسه، فقال القاضي عياض وغيره: سببه أنه لم يَسْمَع من

ص: 123

النبيّ صلى الله عليه وسلم إلا إحداهما، وضَمَّ إليها الأُخرى؛ لِمَا عَلِمَه من كتاب الله تعالى، ووحيه، أو أخذه من مقتضى ما سَمِعه من النبيّ صلى الله عليه وسلم.

وهذا الذي قاله هؤلاء فيه نقص من حيث إنّ اللفظتين قد صَحَّ رفعهما من حديث ابن مسعود رضي الله عنه كما ذكرناه، فالجيِّد أن يقال: سمع ابن مسعود رضي الله عنه اللفظتين من النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولكنه في وقت حَفِظَ إحداهما، وتيقنها عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولم يَحْفَظ الأخرى، فرفع المحفوظة، وضمّ الأخرى إليها، وفي وقت آخر حَفِظ الأخرى، ولم يحفظ الأولى مرفوعةً، فرفع المحفوظة، وضمّ الأخرى إليها، فهذا جمعٌ ظاهرٌ بين روايتي ابن مسعود رضي الله عنه، وفيه موافقة لرواية غيره في رفع اللفظتين، والله تعالى أعلم. انتهى كلام النوويّ رحمه الله تعالى.

وقد ذكر الحافظ رحمه الله تعالى في "الفتح" هذا الجمع الذي ذكره النوويّ، ودونك عبارته:

قال: قوله: "من مات يُشرك بالله

إلخ" في رواية أبي حمزة، عن الأعمش - أي عند البخاريّ - في "تفسير البقرة": "من مات، وهو يدعو من دون الله نِدًّا"، وفي أوله: "قال النبيّ صلى الله عليه وسلم كلمة، وقلت أنا أخرى".

ولم تختلف الروايات في "الصحيحين" في أن المرفوع الوعيد، والموقوف الوعد، وزعم الحميديّ في "الجمع"، وتبِعَه مغلطاي في "شرحه"، ومن أخذ عنه: أن في رواية مسلم من طريق وكيع وابن نمير بالعكس، بلفظ:"من مات لا يُشرك بالله شيئًا دخل الجنة، وقلت أنا: من مات يُشرك بالله شيئًا دخل النار".

وكأن سبب الوهم في ذلك ما وقع عند أبي عوانة، والإسماعيليّ من طريق وكيع بالعكس، لكن بَيَّن الإسماعيليّ أن المحفوظ عن وكيع كما في البخاريّ، قال: وإنما المحفوظ أن الذي قلبه أبو معاوية

(1)

وحده، وبذلك جزم ابن خزيمة في "صحيحه"، والصواب رواية الجماعة، وكذلك أخرجه أحمد من طريق عاصم، وابن خزيمة من طريق يسار

(2)

، وابن حبان من طريق المغيرة

(1)

في "نسخة": "أبو عوانة"، والإصلاح من "مسند أبي عوانة" 1/ 27.

(2)

الظاهر أن الصواب "سيّار"، والله تعالى أعلم.

ص: 124

كلهم عن شقيق، وهذا هو الذي يقتضيه النظر؛ لأن جانب الوعيد ثابت بالقرآن، وجاءت السنة على وفقه، فلا يحتاج إلى استنباط، بخلاف جانب الوعد، فإنه في محلّ البحث؛ إذ لا يصح حمله على ظاهره، كما تقدم.

وكأنّ ابن مسعود رضي الله عنه لم يبلغه حديث جابر رضي الله عنه الذي أخرجه مسلم بلفظ: قيل: يا رسول الله، ما الموجبتان؟ قال:"من مات لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنة، ومن مات يشرك بالله شيئًا دخل النار".

وقال النوويّ: الجيد أن يقال: سَمِع ابن مسعود اللفظتين من النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولكنه في وقت حفظ إحداهما وتيقنها، ولم يحفظ الأخرى، فرفع المحفوظة، وضمّ الأخرى إليها، وفي وقت بالعكس، قال: فهذا جمع بَيْن روايتي ابن مسعود، وموافقته لرواية غيره في رفع اللفظتين. انتهى.

قال الحافظ: وهذا الذي قال محتمل بلا شكّ، لكن فيه بُعْدٌ، مع اتّحاد مخرج الحديث، فلو تعدد مخرجه إلى ابن مسعود، لكان احتمالًا قريبًا، مع أنه يُسْتَغرب مِنِ انفراد راو من الرواة بذلك دون رفقته، وشيخهم ومن فوقه، فنسبة السهو إلى شخص ليس بمعصوم أولى من هذا التعسُّف. انتهى كلام الحافظ رحمه الله تعالى.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي حقّقه الحافظ رحمه الله تعالى، من ردّه الجمع الذي ذكره النوويّ، واستبعاده له؛ حيث إن مخرج الحديث واحد؛ إذ مثل هذا الجمع إنما يُقبل إذا تعدّد مخرج الحديث، هو الصواب في نظري؛ لوضوح حجّته، واستنارة محجّته، وأما اعتراض العينيّ عليه في ذلك فمما لا يخفى على منصف كونه من عادته المستمرّة في الاعتراض، والتحامل دون تأمّل، فتنبّه لذلك، وتأمّله بإنصاف، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

[تنبيه]: حَكَى الخطيب البغداديّ رحمه الله تعالى في كتابه "المدرج" أن أحمد بن عبد الجبار رواه عن أبي بكر بن عياش، عن عاصم، مرفوعًا كلَّه، وأنه وَهِمَ في ذلك. انتهى

(1)

.

قال ابن مسعود رضي الله عنه (وَقُلْتُ أَنَا: "وَمَنْ مَاتَ لَا يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا دَخَلَ

(1)

راجع: "الفتح" 3/ 134 "كتاب الجنائز" رقم (1239 - 1240).

ص: 125

الْجَنَّةَ") قال الكرمانيّ رحمه الله تعالى: [فإن قلت]: من أين عَلِم ابن مسعود رضي الله عنه هذا الحكم؟.

[قلت]: من حيث إن انتفاء السبب يوجب انتفاء المسبَّب، فإذا انتفى الشرك انتفى دخول النار، وإذا انتفى دخول النار يلزم دخول الجنّة؛ إذ لا ثالث لهما، أو مما قال الله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} الآية [النساء: 48]، ونحوه. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: إنما عبّر ابن مسعود رضي الله عنه إلى ما قاله مع أن المتّجه أن يقول: "ومن مات لا يُشرك بالله شيئًا لا يدخل النار"؛ لكون عدم دخوله النار غير محقّق بتقدير عصيانه، بخلاف دخول الجنّة فإنه محقّقٌ للموحّد، ولو كان آخرًا، فلذا جَزَم به، والله تعالى أعلم

(2)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله تعالى: قول ابن مسعود رضي الله عنه: "وقلت أنا

إلخ" يعني بذلك: أنه لم يسمع هذا اللفظ من النبيّ صلى الله عليه وسلم نصًّا، وإنما استنبطه من الشريعة، إما دليل خطاب قوله صلى الله عليه وسلم: "من مات يشرك بالله شيئًا دخل النار"، أو من ضرورة انحصار الجزاء في الجنّة والنار، أو من غير ذلك، وعلى الجملة، فهذا الذي لم يسمعه ابن مسعود رضي الله عنه من النبيّ صلى الله عليه وسلم هو حقٌّ في نفسه، وقد رواه جابر رضي الله عنه في الحديث التالي من قول النبيّ صلى الله عليه وسلم. انتهى

(3)

.

وقد اعترض القاضي عياض رحمه الله تعالى على قوله: "إما بدليل الخطاب"، ودونك عبارته، قال: استدلّ به بعضهم على صحّة دليل الخطاب، وفي الاستدلال به ضعفٌ، وهو كلام من لم يُميّز دليل الخطاب؛ إذ لا يدلّ وجوب النار لمن مات على الكفر على وجوب الجنّة لمن كان على ضدّه، وإنما دليل خطابه أنه لا يدخل النار، وأما صحّة قول ابن مسعود رضي الله عنه فمن دليل صحّة التقسيم، لا من دليل الخطاب؛ لأنه لَمّا قال صلى الله عليه وسلم: "من مات يُشرك

(1)

"شرح البخاريّ" للكرمانيّ 3/ 49 - 50.

(2)

وقد أشار إلى نحو هذا الكرمانيّ، وقد نقله في "الفتح" 11/ 576 "كتاب الأيمان والنذور" ح (6684 - 6686)، فتصرّفت فيه بالزيادة والإيضاح.

(3)

"المفهم" 1/ 290.

ص: 126

بالله شيئًا دخل النار"، وصحّ أنه ليس ثَمَّ منزل ثالث، سوى الجنّة والنار، وتميّز بهذا اللفظ نازل أحدهما، بَقِي الصنف المخالف له للأخرى، فكيف، وقد جاء بنصّه بعد هذا عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في حديث جابر رضي الله عنه، وجاءت النصوص، والظواهر البيّنة، وإجماع أهل السنّة على صحّة ذلك. انتهى كلام القاضي رحمه الله تعالى

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أنّ القول بدليل الخطاب هنا ليس ببعيد؛ لأن المراد دليل الخطاب الذي تُعَيِّن المرادَ منه هنا الأدلّةُ الأخرى، كما أبداها القاضي نفسه في وجه صحة قول ابن مسعود، ففي الحقيقة لا اختلاف بين ما قاله القاضي، وما سبق عن القرطبيّ، فتأمّله بإنصاف، والله تعالى أعلم.

[تنبيه]: روى الإمام أحمد هذا الحديث في "مسنده" وفي آخره زيادة، ولفظه:

حدثنا أسود بن عامر، أخبرنا أبو بكر، عن عاصم، عن أبي وائل، قال: قال عبد الله: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من جعل لله نِدًّا جعله الله في النار"، وقال: وأخرى أقولها، لم أسمعها منه:"من مات لا يجعل لله نِدًّا أدخله الله الجنة، وإن هذه الصلوات كفاراتٌ لما بينهنّ، ما اجتنب المقتل". انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه المصنّف هنا في "الإيمان"[42/ 275](92)، و (البخاريّ) في "الجنائز"(1238)، و"التفسير"(4497)، و"الأيمان والنذور"(6683)، و (أبو داود الطيالسيّ) في "مسنده"(256)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 374 و 382 و 402 و 407 و 425 و 443 و 462 و 464)، و (النسائي) في "التفسير" من

(1)

"إكمال المعلم" 1/ 434 - 435.

ص: 127

"الكبرى"(10944)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(30)، و (ابن منده) في "الإيمان"(66 و 67 و 68 و 69 و 70 و 71 و 72 و 73)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان أن من مات يشرك بالله تعالى شيئًا دخل النار، ومن مات لا يشرك به شيئًا دخل الجنّة، فالإيمان سبب في دخول الجنّة، وهو وجه المطابقة في إيراده في "كتاب الإيمان".

2 -

(منها): أن فيه دلالة على أن ابن مسعود رضي الله عنه كان يقول بدليل الخطاب، ويحتمل أن يكون أخذه من ضرورة انحصار الجزاء في الجنة والنار، كما سبق تحقيقه.

3 -

(ومنها): أن فيه إطلاق الكلمة على الكلام، حيث قال ابن مسعود رضي الله عنه كما في رواية:"كلمتان سمعت إحداهما من رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأخرى أنا أقولها"

ثم ذكره، وإطلاق الكلمة على الكلام كثير شائع في كلام العرب، فقد وقع في قوله تعالى:{كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا} [المؤمنون: 100] إشارة إلى قوله: {رَبِّ ارْجِعُونِ} [المؤمنون: 99]، وقولهم:"لا إله إلا الله" كلمة "الإخلاص"، وقوله صلى الله عليه وسلم:"أصدق كلمة قالها شاعر" كلمة لبيد:

أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللهَ بَاطِلٌ

(1)

وإلى هذا أشار ابن مالك رحمه الله تعالى في "الخلاصة" حيث قال:

وَاحِدُهُ كَلِمَةٌ وَالْقَوْلُ عَمْ

وَكِلْمَةٌ بِهَا كَلَامٌ قَدْ يُؤَمْ

4 -

(ومنها): أن حكمه صلى الله عليه وسلم بدخول النار على من مات يُشرك بالله شيئًا

(1)

أخرجه الإمام أحمد رحمه الله تعالى في "مسنده"(9694)، فقال:

حدثنا عبد الرحمن - هو ابن مهديّ - عن سفيان، قال: حدثنا عبد الملك بن عُمير، قال: حدثنا أبو سلمة، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد:

أَلَا كُل شَيْءٍ مَا خَلَا اللهَ بَاطِلٌ

وكاد أمية بن أبي الصَّلْت أن يُسْلِمَ". وهو حديث صحيح، وأخرجه أيضًا ابن ماجه في "سننه" (3747).

ص: 128

في هذا الحديث، وبدخول من مات لا يُشرك بالله شيئًا الجنة في حديث جابر رضي الله عنه الآتي، مما أجمع عليه المسلمون.

فأما دخول المشرك النار فهو على عمومه، فيدخلها، ويُخَلَّد فيها، ولا فرق فيه بين الكتابيّ اليهوديّ والنصرانيّ وبين عَبَدَة الأوثان، وسائر الكَفَرَة، ولا فرق عند أهل الحقّ بين الكافر عنادًا وغيره، ولا بين مَن خالف ملةَ الإسلام، وبين مَن انتسب إليها، ثم حُكِم بكفره بِجَحْده ما يَكْفُر بجحده، وغير ذلك.

وأما دخول من مات غير مشرك الجنة، فهو مقطوع له به، لكن إن لم يكن صاحب كبيرة، مات مُصِرًّا عليها، دَخَل الجنة أَوّلًا، وإن كان صاحب كبيرة مات مُصِرًّا عليها، فهو تحت المشيئة، فإن عَفَا الله تعالى عنه دَخَل أوّلًا، وإلا عُذِّب ثم أُخرِج من النار، وخُلِّد في الجنة

(1)

.

اللهم اجعلنا من أهل الجنّة، ولا تجعلنا من أهل النار بفضلك وجودك وكرمك، يا أكرم الأكرمين، ويا أرحم الراحمين، آمين، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[276]

(93) - (وَحَدَّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَش، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: أتى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله، مَا الْمُوجِبَتَانِ؟ فَقَالَ: "مَنْ مَاتَ لَا يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ مَاتَ يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا دَخَلَ النَّارَ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) هو: عبد الله بن محمد بن أبي شيبة المذكور قبل باب.

2 -

(أَبُو كُرَيْبٍ) هو: محمد بن العلاء الْهَمْدانيّ الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 247)(ع) تَقدم في "الإيمان" 4/ 117.

(1)

راجع: "شرح النوويّ" 2/ 97.

ص: 129

3 -

(أَبُو مُعَاوِيَةَ) هو: محمد بن خازم الضرير الكوفيّ، ثقةٌ أحفظ الناس لحديث الأعمش، وقد يَهِم في حديث غيره، من كبار [9](ت 195)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 117.

4 -

(الْأَعْمَشُ) سليمان بن مهران المذكور في السند الماضي.

5 -

(أَبُو سُفْيَانَ) هو: طلحة بن نافع الواسطيّ الإِسْكَافُ، نزيل مكّة، صدوقٌ [4](ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 117.

6 -

(جَابِر) بن عبد الله بن عمرو بن حرام الأنصاريّ السَّلَميّ الصحابيّ ابن الصحابيّ، رضي الله عنهما، مات بالمدينة بعد السبعين، وهو ابن (94)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 117، والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله تعالى، وله فيه شيخان، وفيه التحديث، والعنعنة من صيغ الأداء.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، إلا شيخه أبا بكر، فما أخرج له الترمذيّ.

3 -

(ومنها): أن شيخه أبا كُريب أحد التسعة الذين روى عنهم أصحاب الأصول الستة بلا واسطة، وقد تقدّموا غير مرّة.

4 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالكوفيين، غير الصحابيّ، فمدنيّ، وأبي سفيان، فواسطيّ، ثم مكيّ.

(ومنها): أن أبا معاية أحفظ من روى عن الأعمش، فهو المقدّم من أصحابه، إلا أن يكون الثوريّ، فإنه إمام مقدّم في شيوخه كلّهم.

5 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ: الأعمش، عن أبي سفيان.

6 -

(ومنها): أن صحابيّه رضي الله عنه أحد المكثرين السبعة من الصحابة رضي الله عنهم، فقد روى (1540) حديثًا، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ جَابِرٍ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ) وفي رواية أبي عوانة من طريق مالك بن سعيد، عن الأعمش:"جاء أعرابيّ إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم"، ولا يعرف

ص: 130

اسم الرجل، كما قاله صاحب "تنبيه المعلم"

(1)

. (فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله، مَا الْمُوجِبَتَانِ؟) قال الحافظ أبو نعيم رحمه الله تعالى في "مستخرجه": "الموجبتان": الخصلتان اللتان توجبان الجنة والنار. انتهى

(2)

.

و"ما" استفهاميّة مبتدأ خبرها ما بعدها، ويجوز العكس، أي ما هما الخصلتان اللتان توجبان دخول الجنة، ودخول النار؟، وفيه أن التوحيد موجب لدخول الجنّة، والشرك موجب لدخول النار.

قال الشيخ ابن الصلاح رحمه الله تعالى بعد ذكر نحو ما ذكره الحافظ أبو نُعيم في معنى الموجبتين، ما نصّه: والوجوب في ذلك واقعٌ بالإضافة إلى العبد، لا بالإضافة إلى الله، تعالى الله عن ذلك. انتهى

(3)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الوجوب المنسوب إلى الله تعالى هنا نظير الحقّ المنسوب إليه في حديث معاذ رضي الله عنه حيث قال له النبيّ صلى الله عليه وسلم: "أتدري ما حق الله على العباد؟ " قال: الله ورسوله أعلم، قال:"أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا"، "أتدري ما حقهم عليه؟ " قال:"الله ورسوله أعلم، قال: أن لا يعذبهم"

(4)

، فالواجب هو ما أوجبه على نفسه لعباده فضلًا منه وكرمًا، لا أنه يجب عليه شيء، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("مَنْ مَاتَ لَا يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ مَاتَ يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا دَخَلَ النَّارَ") قال القرطبيّ رحمه الله تعالى: إن من مات لا يتّخذ مع الله شريكًا في الإلهيّة، ولا في الْخَلْق، ولا في العبادة، فلا بُدّ من دخوله الجنّة، وإن جرت عليه قبل ذلك أنواعٌ من العذاب والمحنة، وأن من مات على الشرك لا يدخل الجنّة، ولا يناله من الله تعالى رحمةٌ، ويُخلّد في النار أبد

(1)

"تنبيه المعلم بمبهمات صحيح مسلم" ص 61.

(2)

"المستخرج" 1/ 168.

(3)

"الصيانة" ص 277.

(4)

هو ما أخرجه الشيخان من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "يا معاذ أتدري ما حقُّ الله على العباد؟ " قال: الله ورسوله أعلم، قال:"أن يعبدوه، ولا يشركوا به شيئًا، أتدري ما حقهم عليه؟ " قال: الله ورسوله أعلم، قال:"أن لا يعذبهم".

ص: 131

الآباد من غير انقطاع عذاب، ولا تصرّم آباد، وهذا معلوم ضروريّ من الدين، مُجمَعٌ عليه بين المسلمين. انتهى

(1)

.

[تنبيه]: حديث جابر رضي الله عنه هذا أورده المصنّف مختصرًا، وهو حديث مطوّل، وقد ساقه الإمام أحمد، وغيره مطوّلًا، ونصه في "مسند أحمد":

(14675)

- حدثنا النضر بن إسماعيل، أبو المغيرة، حدثنا ابن أبي ليلى، عن أبي الزبير، عن جابر، قال: أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم رجل، فقال: يا رسول الله، أيُّ الصلاة أفضل؟ قال:"طول القنوت"، قال: يا رسول الله، وأيُّ الجهاد أفضل؟ قال:"مَن عُقِر جَوَاده، وأُريق دمه"، قال: يا رسول الله، أيُّ الهجرة أفضل؟ قال:"مَن هَجَر ما كَرِهَ الله عز وجل"، قال: يا رسول الله، فأيُّ المسلمين أفضل؟ قال:"مَن سَلِم المسلمون من لسانه ويده"، قال: يا رسول الله، فما الموجبتان؟ قال:"من مات لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنة، ومن مات يشرك بالله شيئًا دخل النار". انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث جابر رضي الله عنه هذا تفرّد به المصنّف رحمه الله تعالى.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه المصنّف هنا في "الإيمان"[42/ 276 و 277 و 278](93)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 325 و 346 و 374 و 391 و 392)، و (عبد بن حُميد) في "مسنده"(1060 و 1063)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(31 و 32 و 33 و 34)، و (أبو نُعيم) في "مستخرجه"(267 و 268 و 269).

وأما فوائد الحديث فقد تقدّمت في شرح حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

(1)

"المفهم" 1/ 290.

ص: 132

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[277]

(

) - (وَحَدَّثَني أَبُو أَيُّوبَ الْغَيْلَانِيُّ، سُلَيْمَانُ بْنُ عُبَيْدِ الله، وَحَجَّاجُ بْنُ الشَّاعِر، قَالَا: حَدَّثنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عَمْرٍو، حَدَّثنَا قُرَّةُ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْر، حَدَّثنَا جَابِرُ بْنُ عَبْدِ الله، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَنْ لَقِيَ اللهَ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ لَقِيَهُ يُشْرِكُ بِهِ دَخَلَ النَّارَ"، قَالَ أَبُو أَيُّوبَ: قَالَ أَبُو الزُّبَيْر، عَنْ جَابِرٍ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(أَبُو أَيُّوبَ الْغَيْلَانِيُّ، سُلَيْمَانُ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ) بن عمرو بن جابر المازنيّ البصريّ، ثقةٌ

(1)

[11](ت 246)(م س) تقدم في "شرح المقدمة" جـ 2 ص 30.

2 -

(حَجَّاجُ بْن الشَّاعِرِ) هو: حجّاج بن أبي يعقوب يوسف بن الحجّاج الثقفيّ البغداديّ، ثقة حافظ [11](ت 259)(م د) تقدم في "المقدمة" 6/ 40.

[تنبيه]: "الْغَيْلانيّ" - بفتح الغين المعجمة، وسكون التحتانيّة -: نسبة إلى غَيْلان، اسم لبعض أجداده، قاله في "الأنساب" 4/ 30، و"اللباب" 2/ 398 - 399.

3 -

(عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عَمْرٍو) الْقَيسيّ، أبو عامر الْعَقَديّ - بفتحتين - ثقةٌ [9](ت 204)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 21.

4 -

(قُرَّةُ) بن خالد السَّدُوسيّ البصريّ، ثقةٌ ضابطٌ [6](ت 155)(ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 126.

5 -

(أَبُو الزُّبَيْرِ) هو محمد بن مسلم بن تَدْرُس الأسديّ مولاهم المكيّ، صدوقٌ يُدلّس [4](ت 126)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 119.

وجابرٌ رضي الله عنه تقدّم في السند الماضي، وكذا شرح الحديث، وبيان مسألتيه.

وقوله: (قَالَ أَبُو أَيُّوبَ: قَالَ أَبُو الزُّبَيْرِ: عَنْ جَابِرٍ) معناه: أن شيخيه: أبا أيوب سليمان بن عبيد الله، وحَجّاجًا اختلفا في عبارة أبي الزبير، عن جابر، فقال أبو أيوب:"عن جابر"، وقال حجاج:"حدثنا جابر"، فأما "حدثنا" فصريحة في الاتصال، وأما "عن"، فمخْتَلَفٌ فيها، فالجمهور على أنها

(1)

قال في "التقريب": صدوقٌ، وما هنا أولى، لأنه روى عنه جماعة، ووثقه النسائيّ، وابن حبّان، وهو شيخ المصنّف، والنسائيّ، ولم يتكلم فيه أحدٌ، فتنبّه.

ص: 133

للاتصال، كـ"حدّثنا"، ومن العلماء من قال: هي للانقطاع، ويجيء فيها ما قدّمناه في الاختلاف الواقع بين عبد الله بن نُمير، وبين وكيع قبل حديث، إلا أن هذا على هذا المذهب يكون مرسل تابعيّ، نبّه عليه النوويّ رحمه الله تعالى

(1)

.

ومن لطائف هذا الإسناد: أنه من خماسيّات المصنّف، وفيه للمصنّف شيخان قرن بينهما، وأنه مسلسل بالبصريين إلى أبي الزبير، فمكيّ، وغير شيخه حجاج، فبغداديّ، وأما جابر رضي الله عنه، فمدنيّ، وقد سكن مكة أيضًا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[278]

(

) - (وَحَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، أَخْبَرَنَا مُعَاذٌ، وَهُوَ ابْنُ هِشَامٍ، قَالَ: حَدَّثَنى أَبِي، عَنْ أَبِي الزُّبَيْر، عَنْ جَابِرٍ، أَنَّ نَبِيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ، بِمِثْلِهِ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ) بن بَهْرَام الْكَوْسَج، أبو يعقوب التميميّ المروزيّ، ثقةٌ ثبتٌ [11](ت 251)(خ م ت س ق) تقدم في "الإيمان" 12/ 156.

2 -

(مُعَاذ) بن هشام بن أبي عبد الله الدَّسْتُوَائيّ البصريّ، وقد سَكَن اليمن، صدوقٌ ربما وَهِمَ [9](ت 220)(ع) تقدم في "الإيمان" 12/ 156.

3 -

(أَبُوهُ) هو: هِشَام بن أبي عبد الله سَنْبَر، أبو بكر البصريّ الدَّسْتُوَائيُّ، ثقةٌ ثبتٌ، رُمي بالقدر، من كبار [7](ت 154) وله (78) سنة (ع) تقدم في "الإيمان" 12/ 156.

والباقيان تقدّما قبله.

وقوله: (وَهُوَ ابْنُ هِشَامٍ) قد تقدّم البحث عن فائدة زيادة لفظ "وهو" قبل باب، فلا تكن من الغافلين.

وقوله: (بِمِثْلِهِ) أي بمثل حديث قرّة عن أبي الزبير الماضي.

[تنبيه]: رواية هشام هذه أخرجها الإمام أحمد رحمه الله تعالى في "مسنده"، فقال:

(13964)

حدثنا أبو عُبيدة الحدّاد، حدثنا هشام، عن أبي الزبير، عن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من لقي الله لا يشرك به شيئًا دخل الجنة، ومن مات يشرك به دخل النار".

(1)

"شرح النوويّ" 2/ 95.

ص: 134

وأخرجها أيضًا أبو عوانة في "مسنده"، (1/ 28)، فقال:

(34)

حدثنا الدَّندَانيّ، واسمه موسى، قال: ثنا مسلم بن إبراهيم، قال: ثنا هشام الدستوائى، عن أبي الزبير، عن جابر، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"مَن لَقِيَ الله لا يشرك به شيئًا أدخله الجنة، ومن لقيه يُشرك به أدخله النار"، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[279]

(94) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ ابْنُ الْمُثَنَّى: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ وَاصِلٍ الْأَحْدَب، عَنِ الْمَعْرُورِ بْنِ سُويدٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا ذَرٍّ، يُحَدِّثُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "أَتَانِي جِبْرِيلُ عليه السلام، فَبَشَّرَنِي أَنَّهُ مَنْ مَاتَ مِنْ أُمَّتِكَ، لَا يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا، دَخَلَ الْجَنَّةَ"، قُلْتُ: وَإِنْ زَنَى، وَإِنْ سَرَقَ؟ قَالَ: "وَإِنْ زَنَى، وَإِنْ سَرَقَ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) أبو موسى العنزيّ المعروف بالزّمِن المذكور في الباب الماضي.

2 -

(ابْنُ بَشَّارٍ) هو: محمد بن بشّار المعروف ببندار المذكور في الباب الماضي أيضًا.

3 -

(مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ) المعروف بغُنْدر المذكور قبل باب.

4 -

(شُعْبَةُ) بن الحجّاج الإمام المشهور المذكور في الباب الماضي.

5 -

(وَاصِلٌ الْأَحْدَبُ) هو: واصل بن حيّان الأحدب الأسديّ الكوفيّ، بيّاع السّابِريّ

(1)

- بمهملة، وموحّدة - ثقةٌ ثبتٌ [6].

رَوَى عن أبي وائل، وشُريح القاضي، والمعرور بن سُويد، وإبراهيم النخعيّ، وقَبيصة بن بُرْمة، وعبد الله بن أبي الْهُذيل، وغيرهم.

ورَوَى عنه أبو إسحاق الشيبانيّ، وعبد الملك بن سعيد بن أبجر، وجرير بن حازم، ومغيرة بن مِقْسم، ومِسْعر، ومَهْديّ بن ميمون، والثوريّ، وشعبة، وآخرون.

قال ابن معين، وأبو داود، والنسائيّ: ثقة، وقال ابن معين في رواية

(1)

نوع من الثياب.

ص: 135

أخرى: ثبتٌ، وقال أبو حاتم: صدوقٌ، صالح الحديث، وقال العجليّ، ويعقوب بن سفيان، وأبو بكر البزار: ثقة، وذكره ابن حبان في "الثقات".

قال أبو نعيم: مات سنة عشرين ومائة، وقال ابن حبان: مات سنة تسع وعشرين ومائة، وقال خليفة: مات في ولاية مَرْوان بن محمد.

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب ثمانية أحاديث فقط: هذا الحديث، وحديث (105):"لا يدخل الجنة نمام"، و (288): "كنت أفركه من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم

"، و (372): "إن المسلم لا ينجس"، و (822): "سمعنا القرائن، وإني لأحفظ القرائن

"، و (869): "إن طول صلاة الرجل

"، و (1661): "إنك امرؤ فيك جاهليّة

"، و (2383): "لو كنت متّخذًا من أهل الأرض خليلًا

".

6 -

(الْمَعْرُورُ بْنُ سُوَيْدٍ) الأسديّ، أبو أُميّة الكوفيّ، ثقةٌ [2].

رَوَى عن عُمَر، وأبي ذرّ، وابن مسعود، وخُريم بن فاتك، وأم سلمة.

ورَوى عنه واصل الأحدب، وسالم بن أبي الجعد، والأعمش، والمغيرة بن عبد الله الْيَشْكُريّ، وعاصم بن بَهْدلة، وبكر بن الأخنس، وجَوّاب التيميّ، وإسماعيل بن رجاء الزُّبَيديّ.

قال إسحاق بن منصور، عن ابن معين: ثقة، وكذا قال أبو حاتم، وقال العجليّ: تابعيّ ثقةٌ من أصحاب عبد الله، وقال ابن مَهْديّ، عن شعبة، عن واصل: كان المعرور يقول لنا: تَعَلَّمُوا مني يا بَنِي أخي، وكان كثير الحديث، وذكره ابن سعد في الطبقة الأولى من أهل الكوفة، وقال الأعمش: رأيته وهو ابن عشرين ومائة سنة أسود الرأس واللحية

(1)

، وذكره ابن حبان في "الثقات".

وله في هذا الكتاب ستة أحاديث فقط، هذا الحديث، وحديث (190): "إني لأعلم آخر أهل الجنة دخولًا الجنة

"، و (990): "هم الأكثرون أموالًا

"، و (1661): "إنك امرؤ فيك جاهليّة

"، وأعاده بعده، و (2663): "قد سألتِ الله لآجال مضروبة

"، وأعاده بعده، و (2687) "من جاء بالحسنة، فله عشر أمثالها

".

(1)

قوله: "أسود الرأس واللحية" سقط من نسخة "تهذيب التهذيب"، فاستدركته من شرح النوويّ على مسلم.

ص: 136

7 -

(أَبُو ذَرٍّ) الغِفَاريّ، واسمه جُندب بن جُنادة على الأصحّ الصحابيّ الشهير رضي الله عنه، مات سنة (32)(ع) تقدم في "الإيمان" 29/ 224، والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سداسيّات المصنّف رحمه الله تعالى، وفيه له شيخان قرن بينهما، وفيه من صِيَغ الأداء: التحديث، والعنعنة، والسماع.

2 -

(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الجماعة.

3 -

(ومنها): أن شيخيه من مشايخ الأئمة الستة بلا واسطة، كما مرّ قريبًا.

4 -

(ومنها): أن نصفه الأول مسلسل بالبصريين، ونصفه الثاني مسلسل بالكوفيين.

5 -

(ومنها): أن معرورًا من طُرَفِهِ ما سبق آنفًا من قول الأعمش: رأيته وهو ابن (120) سنة أسود الرأس واللحية.

6 -

(ومنها): أن صحابيّه رضي الله عنه ذو مناقب جمّة، فإنه من السابقين الأولين في الإسلام، وإن تأخّرت هجرته، فلم يشهد بدرًا، يقال: إنه قال: أنا رابع أربعة، ويقال: خامس خمسة، أسلم بمكة، ثم رجع إلى بلده، وحديث إسلامه، وإقامته بماء زمزم مشهور في "الصحيحين"، فمناقبه أكثر من أن تُحصَى، وأخبار زهادته، ورفضه الدنيا أشهر من أن يُسْتَقْصَى، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنِ الْمَعْرُورِ) بفتح الميم، وسكون العين المهملة، وبراء مهملة مكرّرة (بْنِ سُويدٍ) بضمّ المهملة، مصغّرًا، أنه (قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا ذَرٍّ) رضي الله عنه (يُحَدِّثُ) جملة في محلّ نصب على الحال، وعلى قول من يقول: إن سمع من أخوات "ظنّ" فالجملة في محلّ نصب مفعول ثان له (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "أَتَانِي جِبْرِيلُ عليه السلام هكذا صرّح في هذه الرواية بأنه جبريل عليه السلام، ووقع في رواية للبخاريّ في "الجنائز" بلفظ: "أتاني آت"، وزاد الإسماعيليّ من طريق مهدي في أوله قصةً، قال: "كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مَسِير له، فلما كان في بعض

ص: 137

الليل تَنَحَّى، فَلَبِثَ طويلًا، ثم أتانا، فقال

" فذكر الحديث (فَبَشَّرَنِي) وفي رواية: "فأخبرني" (أَنَّهُ مَنْ مَاتَ مِنْ أُمَّتِكَ) أي من أمة الإجابة، ويحتمل أن يكون أعمّ من ذلك، أي أمة الدعوة، وهو مُتَّجِهٌ (لَا يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا) قال القرطبيّ رحمه الله تعالى: معناه بحكم أصل الوضع: أن لا يتّخِذ معه شريكًا في الألوهيّة، ولا في الخلق، كما قدّمناه، لكن هذا القول صار بحكم العرف عبارةً عن الإيمان الشرعي، ألا ترى أنّ من وحّد الله تعالى، ولم يؤمن بالنبيّ صلى الله عليه وسلم لن ينفعه إيمانه بالله تعالى، ولا توحيده، وكان من الكافرين بالإجماع القطعيّ؟. انتهى

(1)

. (دَخَلَ الْجَنَّةَ") أي صار إليها إما ابتداءً من أول الحال، وإما بعد أن يقع ما يقع عليه من العقاب، قاله العينيّ رحمه الله تعالى

(2)

.

وقال الطيبيّ رحمه الله تعالى: فيه إشارة إلى أن عاقبته دخول الجنّة، وإن كان له ذنوب جمّة، أو ترك من الأركان شيئًا، لكن أمره إلى الله تعالى، إن شاء عفا عنه، وأدخله الجنّة، وإن شاء عذّبه بقدر ذنوبه، ثم أدخله الجنّة بفضله. انتهى

(3)

.

(قُلْتُ) القائل هو أبو ذرّ رضي الله عنه، وفي رواية الترمذيّ: قال أبو ذرّ: يا رسول الله

وقال في "الفتح": ويمكن أن يكون النبيّ صلى الله عليه وسلم قاله مُسْتوضحًا، وأبو ذرّ قاله مُستبْعِدًا، وقد جَمَع بينهما في "الرقاق" من طريق زيد بن وهب، عن أبي ذَرّ رضي الله عنه. انتهى

(4)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الحديث الذي أشار إليه الحافظ بأنه جمع بين قولي النبيّ صلى الله عليه وسلم وأبي ذرّ رضي الله عنه: "وإن زنى، وإن سرق"، هو ما أخرجه البخاريّ في "كتاب الرقاق" من "صحيحه"، وسيأتي لمسلم أيضًا في "كتاب الزكاة"، قال البخاريّ رحمه الله تعالى:

(6443)

حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا جرير، عن عبد العزيز بن رُفيع، عن زيد بن وهب، عن أبي ذرّ رضي الله عنه قال: خرجت ليلةً من الليالي، فإذا

(1)

"المفهم" 1/ 291 - 292.

(2)

"عمدة القاري" 8/ 7.

(3)

"الكاشف عن حقائق السنن" 2/ 478 - 479.

(4)

"الفتح" 3/ 133.

ص: 138

رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي وحده، وليس معه إنسان، قال: فظننت أنه يَكْرَه أن يمشي معه أحد، قال: فجعلت أمشي في ظلّ القمر، فالتفت فرآني، فقال:"من هذا؟ " قلت: أبو ذرّ - جعلني الله فداءك - قال: "يا أبا ذرّ تعالَ"، قإل: فمشيت معه ساعةً، فقال:"إن المكثرين هم المقلون يوم القيامة، إلا من أعطاه الله خيرًا، فنَفَحَ فيه يمينَهُ وشمالَهُ، وبين يديه، ووراءه، وعَمِلَ فيه خيرًا"، قال: فمشيت معه ساعةً، فقال لي:"اجلس ها هنا"، قال: فأجلسني في قاعٍ حوله حجارةٌ، فقال لي:"اجلس ها هنا حتى أرجع إليك"، قال: فانطلق في الحرَّة حتى لا أراه، فَلَبِثَ عني، فأطال اللُّبْث، ثم إني سمعته، وهو مُقبل، وهو يقول:"وإن سَرَق، وإن زنى"، قال: فلما جاء لم أصبر حتى قلت: يا نبي الله - جعلني الله فداءك - مَن تُكَلّم في جانب الحرّة؟ ما سمعت أحدًا يَرْجِعُ إليك شيئًا، قال:"ذلك جبريل عليه السلام عَرَضَ لي في جانب الحرة، قال: بَشِّر أمتك، أنه من مات لا يُشرك بالله شيئًا دخل الجنة، قلت: يا جبريل، وإن سَرَق، وإن زنى؟ قال: نعم، قال: قلت: وإن سَرَق وإن زنى؟ قال: نعم، وإن شَرِب الخمر". انتهى.

(وَإِنْ زَنَى، وَإِنْ سَرَقَ؟) قال الكرمانيّ رحمه الله تعالى: حرف الاستفهام فيه مقدّر، وتقديره، أيدخل الجنّة وإن زنى وإن سرق؟، والشرط حال.

[فإن قلت]: ليس في الجواب استفهام، فيلزم منه أن من لم يسرق، ولم يَزن لم يدخل الجنّة؛ إذ انتفاء الشرط يستلزم انتفاء المشروط.

[قلت]: هو من باب "نعم العبد صُهيب، لو لم يَخَفِ الله لم يَعْصِه"، والحكم في المسكوت عنه ثابتٌ بالطريق الأولى. انتهى

(1)

.

(قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("وَإِنْ زَنَى، وَإِنْ سَرَقَ") قال الزين ابن الْمُنِّير رحمه الله تعالى: حديث أبي ذرّ رضي الله عنه من أحاديث الرجاء التي أفضى الاتّكال عليها ببعض الْجَهَلَة إلى الإقدام على الموبقات، وليس هو على ظاهره، فإن القواعد استقرّت على أن حقوق الآدميين لا تَسقُط بمجرد الموت على الإيمان، ولكن لا يَلزم من عدم سقوطها أن لا يتكفل الله بها عمن يريد أن يُدخله الجنة، ومن ثَمَّ رَدّ صلى الله عليه وسلم على أبي ذر رضي الله عنه استبعاده.

(1)

"شرح صحيح البخاري" للكرمانيّ 6/ 49.

ص: 139

ويحتمل أن يكون المراد بقوله: "دخل الجنة" أي صار إليها، إما ابتداءً من أول الحال، وإما بعد أن يَقع ما يقع من العذاب - نسأل الله العفو والعافية -

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي ذَرّ رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه المصنّف هنا في "الإيمان"[42/ 279 و 280](94)، و (البخاريّ) في "الجنائز"(1237 و 1408)، و"الاستقراض"(2388)، و"بدء الخلق"(3222)، و"اللباس"(5827)، و"الاستئذان"(6268)، و"الرقاق"(6443 و 6444 و 7487)، و (أبو داود)(2646)، و (الترمذيّ) في "الإيمان"(2644)، و (النسائيّ) في "عمل اليوم والليلة"(1116 و 1117 و 1118 و 1119 و 1120)، و (أبو داود الطيالسيّ) في "مسنده"(444)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 61 و 152 و 159 و 161)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(35 و 36)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(270 و 271)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(169 و 170 و 195 و 213)، و (ابن منده) في "الإيمان"(78 و 80 و 81 و 82 و 84 و 85 و 86 و 87)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(51 و 54)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان أن من مات لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنّة.

2 -

(ومنها): أن فيه دليلًا على أن الكبائر لا تسلُب اسم الإيمان، فإن غير المؤمن لا يدخل الجنّة، وأن أربابها من المؤمنين لا يخلّدون في النار.

3 -

(ومنها): أنه إنما ذكر من الكبائر نوعين فقط؛ إشارةً إلى أن الذنوب تنقسم إلى قسمين: حقّ لله تعالى، وأشار إليه بالزنا، وحقٌّ للعباد، وأشار إليه بالسرقة.

(1)

"الفتح" 3/ 133.

ص: 140

4 -

(ومنها): ما قاله القرطبيّ رحمه الله تعالى: الحديث دليل على شدّة تهمّم النبيّ صلى الله عليه وسلم بأمر أمته، وتعلّق قلبه بما يُنجيهم، وخوفه عليهم، ولذلك سكّن جبريل عليه السلام قلبه بهذه البشرى، وهذا نحو حديث عمرو بن العاص رضي الله عنهما الآتي قريبًا الذي قال فيه: إن النبيّ صلى الله عليه وسلم تلا قول إبراهيم عليه السلام: {فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [إبراهيم: 36]، وقول عيسى عليه السلام:{إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118)} [المائدة: 118]، فرفع النبيّ صلى الله عليه وسلم يديه، وبكى، وقال:"ربّ أمتي أمتي"، فنزل جبريل، فقال له مخبرًا عن الله تعالى: إن الله سيُرضيك في أمتك، ولا يسوؤك، رواه مسلم، وهذا منه صلى الله عليه وسلم مُقتضى ما جَبَلَه الله تعالى عليه من الْخُلُق الكريم، وأنه بالمؤمنين رؤوف رحيم. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله تعالى

(1)

.

5 -

(ومنها): أن أصحاب الكبائر لا يُخَلَّدون في النار، وأن الكبائر لا تَسلُب اسم الإيمان، وأن غير الموحدين لا يدخلون الجنة، والحكمة في الاقتصار على الزنا والسرقة الإشارة إلى جنس حقّ الله تعالى، وحقّ العباد، وكأن أبا ذرّ رضي الله عنه استحضر قوله رضي الله عنهم:"لا يزني الزاني حين يزني، وهو مؤمن"؛ لأن ظاهره مُعارض لظاهر هذا الخبر، لكن الجمع بينهما على قواعد أهل السنة بحمل هذا على الإيمان الكامل، وبحمل حديث الباب على عدم التخليد في النار.

6 -

(ومنها): أن بعض أهل العلم قال: إن هذا الحديث وأمثاله محمول على ما قبل نزول الفرائض، والأوامر والنواهي، قال الإمام البخاريّ رحمه الله تعالى بعد أن أخرج الحديث، ما نصّه: هذا عند الموت، أو قبله إذا تاب، ونَدِمَ، وقال:"لا إله إلا الله" غفر له. انتهى.

7 -

(ومنها): أن فيه المراجعة في العلم بما تقرَّر عند الطالب في مقابلة ما يَسمَعُه مما يخالف ذلك؛ لأنه تقرَّر عند أبي ذرّ رضي الله عنه من الآيات، والآثار الواردة في وعيد أهل الكبائر بالنار وبالعذاب، فلَمّا سَمِع أنَّ مَن مات لا يُشرك بالله تعالى دخل الجنة، استَفْهَم عن ذلك بقوله:"وإن زَنَى، وان سَرَقَ"،

(1)

"المفهم" 1/ 291.

ص: 141

واقتصر على هاتين الكبيرتين؛ لأنهما كالمثالين فيما يتعلق بحقّ الله تعالى وحق العباد، وأما قوله في الرواية الأخرى:"وإن شَرِب الخمر"، فللإشارة إلى فُحْش تلك الكبيرة؛ لأنها تؤدي إلى خَلَل العقل الذي شُرِّف به الإنسان على البهائم، وبوقوع الخلل فيه قد يزول التوقي الذي يَحْجُز عن ارتكاب بقية الكبائر.

8 -

(ومنها): أن فيه أن الطالب إذا أَلَحَّ في المراجعة، يُزْجَرُ بما من يليق به؛ أخذًا من قوله صلى الله عليه وسلم:"وإن رَغِمَ أنفُ أبي ذرّ".

قال في "الفتح" يريد شرح قوله: "ما من عبد قال: لا إله إلا الله، ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة":

وحاصل ما أشار إليه أن الحديث محمول على مَن وَحَّد ربه، ومات على ذلك تائبًا من الذنوب التي أشير إليها في الحديث، فإنه موعود بهذا الحديث بدخول الجنة ابتداءً، وهذا في حقوق الله باتفاق أهل السنة، وأما حقوق العباد فيشترط ردُّها عند الأكثر، وقيل: بل هو كالأول، ويُثيب الله صاحبَ الحق بما شاء، وأما مَن تلبّس بالذنوب المذكورة، ومات من غير توبة، فظاهر الحديث أنه أيضًا داخل في ذلك، لكن مذهب أهل السنة أنه في مشيئة الله تعالى، ويدل عليه حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه الماضي، فإن فيه:"ومن أتى شيئًا من ذلك، فلم يعاقَب به، فأمره إلى الله تعالى، إن شاء عاقبه، وإن شاء عفا عنه"، وهذا الْمُفَسَّر مقدَّم على المبهم، وكلٌّ منهما يَرُدُّ على المبتدعة من الخوارج، ومن المعتزلة الذين يَدَّعون وجوب خلود من مات من مرتكبي الكبائر من غير توبة في النار - أعاذنا الله من ذلك بمنّه وكرمه -.

ونقل ابن التين عن الداوديّ أن كلام البخاري خلاف ظاهر الحديث، فإنه لو كانت التوبة مشترطة، لم يقل:"وإن زَنَى، وإن سرق"، قال: وإنما المراد أنه يدخل الجنة إما ابتداءً، وإما بعد ذلك، والله تعالى أعلم. انتهى

(1)

.

وقال في موضع آخر من "الفتح": وقد حمله البخاريّ كما مضى في "اللباس" على من تاب عند الموت، وحمله غيره على أن المراد بدخول الجنة أعمّ من أن يكون ابتداءً، أو بعد المجازاة على المعصية، والأول هو وَفْقَ ما

(1)

"الفتح" 10/ 295 "كتاب اللباس" رقم الحديث (5826 - 5828).

ص: 142

فَهِمه أبو ذَرّ رضي الله عنه، والثاني أولى للجمع بين الأدلة، ففي الحديث حجةٌ لأهل السنة، ورَدٌّ على مَن زَعَم من الخوارج والمعتزلة أن صاحب الكبيرة إذا مات من غير توبة يُخَلَّد في النار، لكن في الاستدلال به لذلك نظر؛ لِمَا مَرّ من سياق كعب بن ذُهْل عن أبي الدرداء: أنّ ذلك في حقّ مَنْ عَمِل سوءًا، أو ظلم نفسه، ثم استغفر، وسنده جيد عند الطبرانيّ.

وحمله بعضهم على ظاهره، وخَصَّ به هذه الأمة؛ لقوله فيه:"بَشِّر أمتك"، و"أن من مات من أمتي".

وتعقب بالأخبار الصحيحة الواردة في أن بعض عُصَاة هذه الأمة يُعَذَّبون، ففي "صحيح مسلم" عن أبي هريرة رضي الله عنه: "المفلس من أمتي

" الحديث، وفيه تَعَقُّب على من تأوّل في الأحاديث الواردة في أن "مَن شَهِد أن لا إله إلا الله دخل الجنة"، وفي بعضها: "حُرّم على النار" أن ذلك كان قبل نزول الفرائض، والأمر والنهي، وهو مرويّ عن سعيد بن المسيب، والزهريّ.

ووجه التعقب ذكر الزنا والسرقة فيه، فذُكِر على خلاف هذا التأويل.

وحَمَله الحسن البصريّ على من قال الكلمة، وأَدَّى حقَّها بأداء ما وَجَب، واجتناب ما نُهِي، ورجحه الطيبيّ إلا أن هذا الحديث يَخدِشُ فيه، وأشكل الأحاديث وأصعبها قوله:"لا يَلْقَى الله بهما غير شاكّ فيهما، إلا دخل الجنة"، وفي آخره:"وإن زَنَى، وإن سَرَقَ".

وقيل: أشكلها حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند مسلم بلفظ: "ما من عبد يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، إلا حَرَّمه الله على النار"؛ لأنه أَتَى فيه بأداة الحصر، و"مِن" الاستغراقية، وصرح بتحريم النار، بخلاف قوله:"دَخَل الجنّة"، فإنه لا ينفي دخول النار أوّلًا.

قال الطيبيّ: لكن الأول يترجح بقوله: "وإن زَنَى، وإن سَرَق"؛ لأنه شَرْطٌ لمجرد التأكيد، ولا سيما وقد كَرَّره ثلاثًا مبالغةً، وخَتَم بقوله:"وإن رَغِمَ أنفُ أبي ذرّ"؛ تتميمًا للمبالغة، والحديث الآخر مُطْلَقٌ يَقبل التقييد، فلا يقاوم قوله:"وإن زنى، وإن سَرَق".

وقال النوويّ بعد أن ذكر المتون في ذلك، والاختلاف في هذا الحكم: مذهب أهل السنة بأجمعهم أن أهل الذنوب في المشيئة، وأن من مات موقنًا

ص: 143

بالشهادتين يدخل الجنة، فإن كان دَيِّنًا أو سليمًا من المعاصي دخل الجنة برحمة الله، وحُرِّم على النار، وإن كان من المخلطين بتضييع الأوامر أو بعضها، وارتكاب النواهي أو بعضها، ومات من غير توبة فهو في خَطَر المشيئة، وهو بصَدَد أن يَمضي عليه الوعيد، إلا أن يشاء الله أن يعفو عنه، فإن شاء أن يعذبه، فمصيره إلى الجنة بالشفاعة. انتهى.

وعلى هذا فتقييد اللفظ الأول تقديره: "وإن زَنى وإن سَرَق" دخل الجنة، لكنه قبل ذلك إن مات مُصِرًّا على المعصية في مشيئة الله، وتقدير الثاني:"حَرَّمه الله على النار" إلا أن يشاء الله، أو حرمه على نار الخلود، والله تعالى أعلم

(1)

.

[فائدة]: قال الطيبيّ رحمه الله تعالى: قال بعض المحققين: قد يتخذ من أمثال هذه الأحاديث الْمُبطلة والْمُلاحيّة ذريعةً إلى طرح التكاليف، ودفع الأحكام، وإبطال العمل معتقدين بأنّ الشهادة وعدم الشرك كافٍ، وربّما يتمسّك بها المرجئة، وهذا الاعتقاد يستلزم طَيَّ بساط الشريعة، وإبطال الحدود، والزواجر السمعيّة، ويوجب أن يكون التكليف بالترغيب في الطاعات، والتحذير عن المعاصي والجنايات غير متضمّن طائلًا، وبالأصل باطلًا، بل يقتضي الانخلاع عن رِبْقة الدين والملّة، والانسلال عن قيد الشريعة والسنّة، والخروج عن الضبط، والولوج في الخبط، وترك الناس سُدًى مُهْمَلين، يموج بعضهم في بعض، مُعَطَّلين من غير مانع، ولا دافع، وذلك يُفضي إلى خَرَاب الدنيا، بعد أن أفضَى إلى خراب العُقْبى، والْمُشَبِّث بهذا الحديث، ونظيره ساقطٌ، وعن معارج القدس إلى حضيض النفس لاقط، مع أن قوله في بعض طرق الحديث:"أن يعبدوه" يتضمن جميع أنواع التكاليف الشرعية، وقوله:"ولا يشركوا به شيئًا" يَشْمَل كلا قسمي الشرك: الجلي والخفي.

فلا راحة للتمسك به في ترك العمل؛ لأن الأحاديث إذا ثبتت وجب ضَمُّ بعضها إلى بعض، فإنها في حكم الحديث الواحد، فيُحمَل مطلقها على

(1)

"الفتح" 11/ 273 - 274 "كتاب الرقاق" رقم الحديث (6445).

ص: 144

مقيدها؛ ليحصل العمل بجميع ما في مضمونها، وبالله التوفيق. انتهى كلام الطيبيّ رحمه الله تعالى

(1)

بزيادة من "الفتح"

(2)

، وهو بحثٌ نفيسٌ، وتقرير أنيسٌ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[280]

(

) - (حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَأَحْمَدُ بْنُ خِرَاشٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَبْدِ الْوَارِث، حَدَّثَنَا أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنِي حُسَيْن الْمُعَلِّمُ، عَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ، أَنَّ يَحْيَى بْنَ يَعْمَرَ، حَدَّثَهُ أَنَّ أَبَا الْأَسْوَدِ الدِّيلِيَّ حَدَّثَهُ، أَنَّ أَبَا ذَرٍّ حَدَّثَهُ، قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ نَائِمٌ، عَلَيْهِ ثَوْبٌ أَبْيَضُ، ثُمَّ أَتَيْتُهُ، فَإِذَا هُوَ نَائِمٌ، ثُمَّ أَتَيْتُهُ، وَقَدِ اسْتَيْقَظَ، فَجَلَسْتُ إِلَيْه، فَقَالَ: "مَا مِنْ عَبْدٍ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا الله، ثُمَّ مَاتَ عَلَى ذَلِكَ، إِلَّا دَخَلَ الْجَنَّةَ"، قُلْتُ: وَإِنْ زَنَى، وَإِنْ سَرَقَ؟ قَالَ: "وَإِنْ زَنَى، وَإِنْ سَرَقَ"، قُلْتُ: وَإِنْ زَنَى، وَإِنْ سَرَقَ؟ قَالَ: "وَإِنْ زَنَى، وَإنْ سَرَقَ" ثَلَاثًا، ثُمَّ قَالَ فِي الرَّابِعَةِ: "عَلَى رَغْمِ أَنْفِ أَبِي ذَرٍّ"، قَالَ: فَخَرَجَ أَبُو ذَرٍّ، وَهُوَ يَقُولُ: وَإِنْ رَغِمَ أَنْفُ أَبِي ذَرٍّ).

رجال هذا الإسناد: تسعة:

1 -

(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) بن شَدّاد، أبو خيثمة النسائيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 234)(خ م د س ق) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.

2 -

(أَحْمَدُ بْنُ خِرَاشٍ) هو: أحمد بن الحسن بن خِرَاش، أبو جعفر البَغداديّ، خُرَاسانيّ الأصل، ثقةٌ

(3)

[11].

(1)

"الكاشف عن حقائق السنن" 2/ 477.

(2)

هو من قوله: "فلا راحة

إلخ".

(3)

قال في "التقريب": صدوق، وما هنا أولى؛ لأنه وثقه الخطيب البغداديّ، وابن حبان، وهو من شيوخ مسلم في "صحيحه"، وروى عنه جمع من الثقات، ولم أر لأحد طعنًا فيه، فهو ثقة على الإطلاق، فتنبّه.

ص: 145

رَوَى عن شَبَابة، وأبي عامر الْعَقَديّ، وابن مهديّ، وعبد الصمد بن عبد الوارث، وجماعة.

ورَوى عنه مسلم، والترمذيّ، وعُبيد العجليّ، وعبد الله بن أحمد، والسرّاج.

قال الخطيب: كان ثقةً، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال السرّاج: مات سنة (243) عن ستين سنة.

وله في هذا الكتاب (14) حديثًا.

3 -

(عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَبْدِ الْوَارِثِ) الْعَنبريّ مولاهم التَّنّوريّ

(1)

، أبو سهل

البصريّ، ثقةٌ، ثبتٌ في شعبة [9](ت 207)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 82.

4 -

(أَبُوهُ) هو: عبد الوارث بن سعيد بن ذَكْوان الْعَنبريّ مولاهم، أبو عُبيدة التّنُّوريّ، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 180)(ع) تقدم في "الإيمان" 18/ 176.

5 -

(حُسَيْنٌ الْمُعَلِّمُ) هو حسين بن ذَكْوان الْمُعَلِّم المكتب الْعَوْذيّ البصريّ، ثقةٌ، ربّما وَهِمَ [6](ت 145)(ع) تقدم في "الإيمان" 19/ 179.

6 -

(ابْنُ بُرَيْدَةَ) هو: عبد الله بن بُريدة بن الْحُصَيب الأسلميّ، أبو سهل المروزيّ، قاضيها، ثقةٌ [3] (ت 105) وقيل:(115)(ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 102.

7 -

(يَحْيَى بْنُ يَعْمُرَ)

(2)

البصريّ، نزيل مرو وقاضيها، ثقةٌ فصيحٌ، يُرسل [3] مات قبل المائة، وقيل: بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 102.

8 -

(أَبُو الْأَسْوَدِ الدِّيلِيُّ) البصريّ، اسمه ظالم بن عَمْرو بن سُفيان، وقيل غير ذلك

(3)

، ثقةٌ فاضلٌ، مخضرَمٌ [2] مات سنة (69)(ع) تقدم في "الإيمان" 29/ 224.

[تنبيه]: "الدِّيليّ" بكسر المهملة، وسكون التحتانيّة، ويقال: الدُّؤَليّ بالضمّ، بعدها همزة مفتوحة.

(1)

بفتح التاء المثنّاة، وتشديد النون.

(2)

هو: بفتح التحتانيّة، وسكون العين المهملة، وضمّ الميم. وفتحها. "شرح النوويّ" 2/ 95، و"التقريب" ص 380.

(3)

يقال: عمرو بن ظالم، ويقال: بالتصغير فيهما، ويقال: عمرو بن عثمان، أو عثمان بن عمرو.

ص: 146

وقال النوويّ رحمه الله تعالى في "شرحه": وأما "الدِّيليّ" فكذا وقع هنا بكسر الدال، وإسكان الياء، وقد اختُلِف فيه، فذكر القاضي عياض أن أكثر أهل السنة

(1)

يقولون فيه، وفي كُلِّ مَن يُنْسَب إلى هذا البطن الذي في كنانة: دِيلِيّ - بكسر الدال، وإسكان الياء - كما ذكرنا، وأن أهل العربية يقولون فيه: الدُّؤَليّ - بضم الدال، وبعدها همزة مفتوحة - وبعضهم يكسرها، وأنكرها النحاة، هذا كلام القاضي.

وقد ضَبَطَ الشيخ أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله تعالى هذا، وما يتعلق به ضبطًا حسنًا، وهو معنى ما قاله الإمام أبو عليّ الغسانيّ، قال الشيخ: هو الدِّيليّ، ومنهم من يقول: الدُّؤَليّ على مثال الْجُهَنِيّ، وهو نسبة إلى الدُّئِل - بدال مضمومة، بعدها همزة مكسورة - حَيّ من كنانة، وفَتَحُوا الهمزة في النسب، كما قالوا في النسب إلى نَمِر نَمَريّ - بفتح الميم - قال: وهذا قد حكاه السيرافيّ عن أهل البصرة، قال: ووجدت عن أبي عليّ القاليّ - وهو بالقاف -

(2)

في "كتاب البارع" أنه حَكَى ذلك عن الأصمعيّ، وسيبويه، وابن السِّكِّيت، والأخفش، وأبي حاتم، وغيرهم، وأنه حَكَى عن الأصمعيّ، عن عيسى بن عمر أنه كان يقول فيه: أبو الأسود الدُّئِلِيّ - بضم الدال، وكسر الهمزة - على الأصل، وحكاه أيضًا عن يونس وغيره عن العرب، قال: يَدْعُونه في النسب على الأصل، وهو شاذّ في القياس، وذكر السيرافيّ عن أهل الكوفة أنهم يقولون: أبو الأسود الدِّيليّ - بكسر الدال، وياء ساكنة - وهو محكيّ عن الكسائيّ، وأبي عبيد، القاسم بن سلام، وعن صاحب "كتاب العين"، ومحمد بن حَبِيب

(3)

كانوا يقولون في هذا الحيّ من كنانة: الدِّيل - بإسكان الياء، وكسر الدال - ويجعلونه مثل الدِّيل الذي هو حيٌّ من عبد القيس، وأما الدُّوْلُ - بضم الدال، وإسكان الواو - فَحَيّ من بني حَنِيفة، والله تعالى أعلم.

(1)

لعله أراد بأهل السنّة هنا المحدّثين؛ لأنه قابلهم بأهل العربيّة، فيُنظر، والله تعالى أعلم.

(2)

منسوب إلى قالي قلا، بلدةٌ من ديار بكر.

(3)

بفتح الباء، غير مصروف؛ لأنها أمه. "شرح النوويّ" 2/ 96.

ص: 147

انتهى كلام الشيخ أبي عمرو رحمه الله تعالى

(1)

.

وإلى قياس القاعدة في النسب إلى نحو دُئِل، ونَمِر، وإبل أشار ابن مالك رحمه الله تعالى في "الخلاصة" حيث قال:

وَأَوْلِ ذَا الْقَلْبِ انْفِتَاحًا وَفَعِلْ

وَفَعِل عَيْنَهُمَا افْتَحْ وَفِعِلْ

وأما الصحابيّ رضي الله عنه فقد تقدّم في السند الماضي، والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُباعيّات المصنّف رحمه الله تعالى، وأن له فيه شيخين، قَرَن بينهما.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، غير شيخيه، فالأول: ما أخرج له الترمذيّ، والثاني: تفرّد به هو والترمذيّ.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالبصريين، غير شيخيه، فبغداديّان، والصحابيّ، فمدنيّ، ثم رَبَذيّ.

4 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالتحديث من أوله إلى آخره، إلا قوله:"عن ابن بُريدة".

5 -

(ومنها): أن فيه رواية الابن عن أبيه، وفيه ثلاثة من التابعين يروي بعضهم عن بعض: ابنُ بريدة، عن يحيى بن يَعْمُر، عن أبي الأسود الدِّيليّ.

6 -

(ومنها): أن أبا الأسود هو أوّلُ مَن تَكَلَّم في النحو، وولي قضاء البصرة لعليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، والله تعالى أعلم.

[تنبيه]: هذا الإسناد غير "أحمد بن خِرَاش" تقدّم بتمامه في (29/ 224)"باب بيان حال إيمان من رَغِب عن أبيه، وهو يَعْلَم"، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ) هو عبد الله، أخو سليمان، وكانا توأمين، ويقال: إنهما ماتا في سنة واحدة (أَنَّ يَحْيَى بْنَ يَعْمَرَ) بفتح أوله، وسكون ثانيه، وفتح ثالثه، ويُضمّ (حَدَّثَهُ أَنَّ أَبَا الْأَسْوَدِ الدِّيلِيَّ) تقدّم الخلاف في ضبطه (حَدَّثَهُ، أَنَّ أَبَا

(1)

"صيانة صحيح مسلم" ص 281 - 283، و"شرح النوويّ" 2/ 95 - 96.

ص: 148

ذَرٍّ) رضي الله عنه حَدَّثَهُ، قَالَ أبو ذرّ رضي الله عنه (أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ نَائِمٌ) جملة في محلّ نصب على الحال من المفعول، وقوله:(عَلَيْهِ ثَوْبٌ أَبْيَضُ) حال أيضًا، إما متداخل، أو مترادف، قال الطيبيّ: قال الشارحون: ليس هذا من الزوائد التي لا طائل تحتها، بل قصد الراوي بذلك أن يُقرّر التثبّت والإتقان فيما يرويه في آذان السامعين؛ ليتمكّن في قلوبهم. انتهى

(1)

.

وقال في "الفتح": وفائدة وصفه الثوب، وقوله:"أتيته، وهو نائم، ثم أتيته، وقد استيقظ" الإشارة إلى استحضاره القصّة بما فيها؛ ليدلّ ذلك على إتقانه لها. انتهى

(2)

.

(ثُمَّ أَتَيْتُهُ) صلى الله عليه وسلم (فَإِذَا هُوَ نَائِمٌ)"إذا" هي الفجائيّة، أي ففاجأني نومه (ثُمَّ أَتَيْتُهُ، وَقَدِ اسْتَيْقَظَ) جملة في محلّ نصب على الحال (فَجَلَسْتُ إِلَيْه، فَقَالَ: "مَا) نافيةٌ (مِنْ) زائدة للتوكيد، وقوله:(عَبْدٍ) مبتدأ خبره جملة "إلا دخل الجنّة"(قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، ثُمَّ مَاتَ عَلَى ذَلِكَ) قال الطيبيّ رحمه الله تعالى: فيه إشارة إلى الثبات على الإيمان حتى يموت؛ احترازًا عمن ارتدّ، ومات عليه، فحينئذ لا ينفعه إيمانه السابق، قال:"وثُمّ" للتراخي في الرتبة، كقوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [فُصّلت: 30]، وقوله صلى الله عليه وسلم:"قل: آمنت بالله، ثم استقم"، رواه مسلم. انتهى

(3)

. (إِلَّا دَخَلَ الْجَنَّةَ") قال الطيبيّ: الاستثناء مفرّغ، أي ما من عبد آمن، وثبت عليه يكون له حال من الأحوال إلا حال دخول الجنّة. انتهى. قال أبو ذرّ رضي الله عنه:(قُلْتُ: وَإِنْ زَنَى، وَإِنْ سَرَقَ؟) قال ابن مالك رحمه الله تعالى: حرف الاستفهام في أول الكلام مقدّر، ولا بُدّ من تقديره، وقال غيره: التقدير: أَوَ إن زنى، أَوَ إن سَرَقَ دخل الجنّة، وقال الطيبيّ: أدخل الجنّة، وإن زنى، وإن سَرَق، والشرط حال، ولا يُذكر الجواب مبالغةً وتتميمًا لمعنى الإنكار، قال: وإن زنى، وإن سَرَق.

(1)

"الكاشف عن حقائق السنن" 2/ 478.

(2)

"الفتح" 295/ 10 "كتاب اللباس" رقم (5826 - 5828).

(3)

"الكاشف" 2/ 478.

ص: 149

قال في "الفتح": ووقع في رواية عبد العزيز بن رُفَيع

(1)

: "قلت: يا جبريل، وإن سَرَقَ، وإن زنى؟ قال: نعم"، وكررها مرتين للأكثر، وثلاثًا للمستملي، وزاد في آخر الثالثة:"وإن شَرِب الخمر"، وكذا وقع التكرار ثلاثًا في رواية أبي الأسود، عن أبي ذرّ في "اللباس"، لكن بتقديم الزنا على السرقة

(2)

، كما في رواية الأعمش، ولم يقل:"وإن شرب الخمر"، ولا وقعت في رواية الأعمش، وزاد أبو الأسود:"على رغم أنف أبي ذرّ"، قال: وكان أبو ذر إذا حدث بهذا الحديث يقول: "وإن رَغِمَ أنف أبي ذرّ". انتهى.

(قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("وَإِنْ زَنَى، وَإِنْ سَرَقَ") أي يدخلها، وإن تلبّس بالمعاصي الكبار (قُلْتُ: وَإِنْ زَنَى، وَإِنْ سَرَقَ؟، قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("وَإنْ زَنَى، وَإِنْ سَرَقَ" ثَلَاثًا) أي كان تكرير أبي ذرّ رضي الله عنه للسؤال، وتكرير النبيّ صلى الله عليه وسلم للجواب ثلاث مرّات، قال الطيبيّ رحمه الله تعالى: أما تكرير أبي ذرّ رضي الله عنه، فلاستعظامه شأن الدخول مع مباشرة الكبائر، وتعجّبه منه، وأما تكرير النبيّ صلى الله عليه وسلم فللإنكار على استعظامه: أي أتبخل يا أبا ذرّ برحمة الله تعالى؟ فرحمة الله تعالى واسعة على خلقه، وإن كَرِهتَ ذلك، فقد قال الله تعالى:{قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} [الزمر: 53]، وإنما ذكر من الكبائر نوعين، ولم يقتصر على واحد؛ لأن الذنب إما حقّ الله تعالى، وهو الزنى، أو حقّ العباد، وهو أخذ مالهم بغير حقّ، وفي تكريره أيضًا معنى الاستيعاب والعموم، كقوله تعالى:{وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [مريم: 62]: أي دائمًا. انتهى

(3)

.

قال النوويّ رحمه الله تعالى: هذا الحديث فيه حجة لمذهب أهل السنة أن أصحاب الكبائر لا يُقطَع لهم بالنار، وأنهم إن دخلوها أُخرجوا منها، وخُتِم لهم بالخلود في الجنة، وقد تقدم هذا كله مبسوطًا، والله تعالى أعلم. انتهى

(4)

.

(ثُمَّ قَالَ) صلى الله عليه وسلم (فِي) المرّة (الرَّابِعَةِ: "عَلَى رَغْمِ أَنْفِ أَبِي ذَرٍّ") - بفتح

(1)

يعني: عند البخاريّ، فقد رواه من طريقه، عن زيد بن وهب، عن أبي ذرّ رضي الله عنه.

(2)

أي وهي رواية مسلم هنا.

(3)

"الكاشف" 2/ 479.

(4)

"شرح النوويّ" 2/ 97.

ص: 150

الراء، وضمها، وكسره، مأخوذ من الرَّغَام - بفتح الراء - وهو التراب، قال المجد في "القاموس":"الرَّغْمُ": الْكُرْهُ، ويُثَلَّثُ، كالْمَرْغَمَة، ورَغِمَهُ، كعَلِمَهُ، ومَنَعَهُ: كَرِهَه، والترابُ، كالرَّغَام، والْقَسْرُ، والذّلُّ، ورَغُمَ أنفي لله تعالى: مثلّثةً: ذلّ عن كُرْهٍ. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: أفاد كلام المجد رحمه الله تعالى أن رَغُمَ مثلّث الغين، من باب نصر، ومنع، وقرب، كما أن مصدره الرَّغْم مثلّث الراء، فليُتنبّه، والله تعالى أعلم.

وقال الفيّوميّ: هو كناية عن الذلّ، كأنه لَصِقَ بالرَّغام بالفتح: أي التراب هَوَانًا، ويتعدّى بالألف، فيقال: أرغم الله أنفه، قال: وهذا من الأمثال التي جرت في كلامهم بأسماء الأعضاء، ولا يريدون أعيانها، بل وَضَعُوها لمعانٍ غير معاني الأسماء الظاهرة، ولا حظّ لظاهر الأسماء من طريق الحقيقة، ومنه قولهم: كلامه تحت قدميَّ، وحاجته خلفَ ظهري، يُريدون الإهمال، وعَدَمَ الاحتفال. انتهى

(2)

.

وقال النوويّ: معنى أرغم الله أنفه: أي ألصقه بالرَّغَام، وأَذَلّه، فمعنى قوله صلى الله عليه وسلم:"على رغم أنف أبي ذرّ": على ذُلّ منه؛ لوقوعه مخالفًا لِمَا يريد، وقيل: معناه على كراهة منه، وإنما قال له صلى الله عليه وسلم ذلك؛ لاستبعاده العفو عن الزاني والسارق المنتهك للحرمة، واستعظامه ذلك، وتصوُّر أبي ذرّ بصورة الكاره الْمُمَانع، وإن لم يكن ممانعًا، وكان ذلك من أبي ذرّ؛ لشدة نفرته من معصية الله تعالى وأهلها، قاله النوويّ رحمه الله تعالى

(3)

.

وقال القاضي عياض رحمه الله تعالى: أصل الرَّغْم بفتح الراء، وضمّها

(4)

: الذلّ، من الرَّغام بالفتح أيضًا، وهو التراب، يقال: أرغم الله أنفه: أي أذلّه، كأنه يُلْصِقُه بالتراب من الذلّ، فيكون هذا في الحديث على وجه الاستعارة، والإغياء في الكلام: أي وإن خالف سؤالَ أبي ذرّ، واعتقادَه،

(1)

"القاموس المحيط" ص 1005، وشرحه "تاج العروس" 8/ 314.

(2)

"المصباح المنير" 1/ 231 - 232.

(3)

"شرح النوويّ" 2/ 96.

(4)

تقدّم أن راءه مثلّثة، فتنبّه.

ص: 151

واستعظامَهُ الغفران للمذنبين، وتَرداده السؤال عن ذلك، فأشبه من أُرْغِمَ بما لا يُريد ذُلًّا وقهرًا.

وقيل: معناه: وإن اضطرب أنفه، يعني لكثرة ترداده وسؤاله، ومنه قوله تعالى:{مُرَاغَمًا كَثِيرًا} [النساء: 100]: أي اضطرابًا في الأرض.

وقيل: معناه: وإن كره، يقال: ما أرغم منه شيئًا: أي ما أكرهه، ومعنى هذا كله في التجوّز بمعنى الأول؛ إذ لا يَكرَه أبو ذرّ رحمة الله لعباده، ولا ما أخبر به نبيّه صلى الله عليه وسلم من فضل الله عز وجل، وسعة مغفرته. انتهى كلام القاضي رحمه الله تعالى

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله تعالى: رويناه بفتح الراء، وهي إحدى لغاته، فإنه يقال بفتحها، وضمّها، وكسرها، وهو مصدر رَغَمَ بفتح العين، وكسرها من بابي: نصر، وتَعِبَ، وهو مأخوذ من الرَّغَام، وهو التُّراب، يقال: أرغم الله أنفه: أي ألصقه بالتُّراب، ورَغِمَ أنفي لله: أي خَضَعَ وذَلَّ، فكأنه لَصِقَ بالتّراب، والمراغمة: المغاضبة، والْمُرَاغَمُ: الْمَذْهَبُ والْمَهْرَبُ، ومنه قوله تعالى:{يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً} [النساء: 100]، وإنما واجه النبيّ صلى الله عليه وسلم أبا ذرّ بهذه الكلمة؛ لِمَا فَهِمَ عنه من استبعاده دخول من زنى ومن سَرَقَ، الجنّة، وكأنه وَقَعَ له هذا الاستبعاد بسبب ظاهر قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يزني الزاني، وهو مؤمن

" الحديث، متّفقٌ عليه، وما هو في معناه، فرَدّ النبيّ صلى الله عليه وسلم هذا الوهم، وأنكره، وكان الحديث نصًّا في الردّ على المكفّرة بالكبائر، كما تقدّم. انتهى

(2)

.

(قَالَ) الراوي، والظاهر أنه أبو ذرّ رضي الله عنه (فَخَرَجَ أَبُو ذَرٍّ) رضي الله عنه (وَهُوَ يَقُولُ) جملة حاليّة من الفاعل (وَإِنْ رَغِمَ أنفُ أَبِي ذَرٍّ) - بفتح الغين المعجمة، وكسرها، وضمّها - كما أسلفت تحقيقه آنفًا.

إنما قال أبو ذرّ رضي الله عنه ذلك؛ رُجوعًا منه عمّا كان وقع له من الاستبعاد مع سعة فضل الله تعالى ورحمته، وانقيادًا للحقّ لَمّا تَبيّن له

(3)

.

(1)

"إكمال المعلم" 1/ 436 - 437.

(2)

"المفهم" 1/ 292.

(3)

"المفهم" 1/ 292.

ص: 152

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: أما ما يتعلّق بالحديث من المسائل، فقد استوفيته في الحديث الماضي، فراجعه تستفد، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(43) - (بَابُ تَحْرِيمِ قَتْلِ الْكَافِرِ بَعْدَ أَنْ قَالَ: "لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ")

[281]

(95) - (حَدَّثنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ (ح) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحٍ، وَاللَّفْظُ مُتَقَارِبٌ، أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ، عَنِ ابْنِ شِهَاب، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ اللَّيْثيّ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ الْخِيَار، عَنِ الْمِقْدَادِ بْنِ الْأَسْوَد، أَنَّهُ أَخْبَرَهُ، أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ الله، أَرَأَيْتَ إِنْ لَقِيتُ رَجُلًا مِنَ الْكُفَّار، فَقَاتَلَنِي، فَضَرَبَ إِحْدَى يَدَيَّ بِالسَّيْف، فَقَطَعَهَا، ثُمَّ لَاذَ مِنِّي بِشَجَرَةٍ، فَقَالَ: أَسْلَمْتُ لله، أَفَأَقْتُلُهُ، يَا رَسُولَ الله، بَعْدَ أَنْ قَالَهَا؟ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"لَا تَقْتُلْهُ"، قَالَ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله، إِنَّهُ قَدْ قَطَعَ يَدِي، ثُمَّ قَالَ ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ قَطَعَهَا، أَفَأَقْتُلُهُ؟ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"لَا تَقْتُلْهُ، فَإِنْ قَتَلْتَهُ، فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَتِكَ قَبْلَ أَنْ تَقْتُلَهُ، وَإِنَّكَ بِمَنْزِلَتِهِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ كَلِمَتَهُ الَّتِي قَالَ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) الثقفيّ البغلانيّ المذكور قبل بابين.

2 -

(اللَّيْثُ) بن سعد الإمام المصريّ المذكور قبل بابين أيضًا.

3 -

(مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحٍ) بن المهاجر التُّجيبيّ مولاهم المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 242)(م ق) تقدم في "الإيمان" 16/ 168.

4 -

(ابْنُ شِهَابٍ) هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب الزهريّ، أبو بكر المدنيّ الفقيه الحافظ الحجة الثبت، من رؤوس [4](ت 125)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 348.

5 -

(عَطَاءُ بْنُ يَزِيدَ اللَّيْثِيُّ) المدنيّ، نزيل الشام، ثقةٌ [3](ت 105)(ع) تقدم في "شرح المقدّمة" أيضًا جـ 2 ص 486.

ص: 153

6 -

(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عَدِيِّ بْنِ الْخِيَارِ) - بكسر الخاء المعجمة، وتخفيف التحتانيّة - بن عديّ بن نوفل بن عبد مناف القرشيّ النّوْفليّ المدنيّ، ثقة [2].

رَوَى عن عمر، وعثمان، وعليّ، وعبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث، والمقداد بن الأسود، ووَحْشيّ بن حَرْب، والْمِسْور بن مَخْرمة، وابن عباس، وكعب الأحبار.

ورَوَى عنه عروة بن الزبير، وعطاء بن يزيد الليثيّ، وحُميد بن عبد الرحمن بن عوف، وجعفر بن عمرو بن أمية، وعبيد الله بن المغيرة بن مُعيقيب، وعروة بن عياض، ومعمر بن أبي حبيبة، ويحيى بن يزيد الباهليّ.

قال أبو القاسم البغويّ: بلغني أنه وُلد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكره ابن سعد في الطبقة الأولى من تابعي أهل المدينة، وقال: أمه: أمُّ قتال بنت أُسَيد بن أبي العيص، ومات بالمدينة في خلافة الوليد بن عبد الملك، وكان ثقة، قليل الحديث، وقال خليفة: مات في آخر خلافة الوليد، وقال العجليّ: تابعيّ ثقةٌ، من كبار التابعين، وهو ابن أخت عثمان، وقال ابن ماكولا: قُتل أبوه يوم بدر كافرًا، وقال ابن إسحاق: حدثني الزهريّ، عن عطاء بن يزيد، عن عُبيد الله بن عديّ بن الْخِيَار، وكان من فُقهاء قُريش وعلمائهم، وقد أدرك أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم متوافرين، وذكره ابن حبان في الصحابة، وقال: وُلد في زمن النبيّ صلى الله عليه وسلم ثم ذكره في ثقات التابعين، وقال: مات سنة (95).

قال الحافظ: وأما كون أبيه قتل ببدر فليس بمتفق عليه، فقد ذكر ابن سعيد أباه في مسلمة الفتح، وذكر له المدينيّ قصةً مع عثمان بن عفان في خلافته، ولعلها التي وقعت في البخاريّ بسبب الوليد بن عقبة. انتهى

(1)

.

أخرج له البخاريّ، والمصنّف، وأبو داود، والنسائيّ، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.

7 -

(الْمِقْدَادُ بْنُ الْأَسْوَدِ) هو: المقداد بن عمرو بن ثعلبة بن مالك بن ربيعة بن ثُمامة بن مَطْرُود الْبَهْرَانِيّ الْكِنْديّ، أبو الأسود الزهريّ، ويقال: أبو عمرو، ويقال: أبو مَعْبَد، وقيل غير ذلك في نسبه.

(1)

"تهذيب التهذيب" 3/ 21.

ص: 154

قال ابن الكلبيّ: كان عمرو بن ثعلبة أصاب دمًا في قومه، فلحِق بحضرموت، فحالف كندة، فكان يقال له: الكِنديّ، وتزوّج هناك امرأة، فولدت له المقداد، فلما كبِرَ المقداد وقع بينه وبين أبي شمر بن حُجر الكنديّ، فضرب رجله بالسيف، وهَرَب إلى مكة، فحالف الأسود بن عبد يغوث الزهريّ، وكَتَب إلى أبيه، فقدِمَ عليه، فتبنّى الأسودُ المقدادَ، فصار يقال له: المقداد بن الأسود، وغلبت عليه، واشتهر بذلك، فلما نزلت:{ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} [الأحزاب: 5] قيل له: المقداد بن عمرو، واشتهرت شهرته بابن الأسود.

أسلم قديمًا، وشَهِد بدرًا، والمشاهد، وكان فارسًا يوم بدر، ولم يثبت ممن شَهِدها فارسًا غيره.

روى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعنه عليّ بن أبي طالب، وأنس بن مالك، وعبيد الله بن عَدِيّ بن الخيار، وهمام بن الحارث، وسليمان بن يسار، وسُليم بن عامر، وأبو معمر عبد الله بن سَخْبَرَة الأزديّ، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وجُبير بن نُفير، وعُمر بن إسحاق، وزوجته ضُبَاعة بنت الزبير بن عبد المطلب، وابنته كَرِيمة بنت المقداد، وابنته ضُبَاعة على خلاف في ذلك.

قال ابن لَهِيعة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن عبد الرحمن بن شِماسة الْمَهْريّ، عن سفيان بن صُهَابة، قال: كنت صاحبَ المقداد بن الأسود في الجاهلية، وكان رجلًا من بَهْراء، فأصاب دمًا، فَهَرَب إلى كِندة، فحالفهم، ثم أصاب الهجرة الثانية، في قول ابن إسحاق، ثم شَهِد بدرًا والمشاهد، ويقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم آخى بينه وبين عبد الله بن رَوَاحة، وقال زِرّ بن حُبيش، عن عبد الله بن مسعود: أَوّلُ مَن أظهر إسلامه سبعة، فذكره فيهم، وقال مُخارق، عن طارق، عن ابن مسعود: شَهِدت من المقداد مَشْهَدًا، لأن أكون صاحبه أحبّ إليّ مما عُدِل به، فذكر القصة يوم بدر، وهي في البخاريّ.

وقال أبو ربيعة الإياديّ، عن عبد الله بن بُريدة، عن أبيه: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَني بحب أربعة، وأخبرني أنه يحبهم: عليّ، والمقداد، وأبو ذَرّ، وسلمان. أخرجه الترمذيّ، وابن ماجه، وسنده حسن

(1)

.

(1)

"الإصابة" 6/ 159 - 161.

ص: 155

وذكر البغويّ من طريق أبي بكر بن عياش، عن عاصم، عن زِرّ: أول من قاتل على فرس في سبيل الله المقداد بن الأسود.

ومن طريق موسى بن يعقوب الزّمَعيّ، عن عمّته قُريبة، عن عمتها كريمة بنت المقداد، عن أبيها: شهِدتُ بدرًا على فرسٍ لي، يقال لها: سَبْحَة.

ومن طريق يعقوب بن سليمان، عن ثابت البنانيّ، قال: كان المقداد وعبد الرحمن بن عوف جالسين، فقال له: ما لك لا تتزوّج؟ قال: زوّجني ابنتك، فغضب عبد الرحمن، وأغلظ له، فشكا ذلك للنبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: أنا أزوّجك، فزوّجه بنت عمه ضُبَاعة بنت الزبير بن عبد المطّلب.

وأخرج يعقوب بن سفيان، وابن شاهين، من طريقه بسنده إلى كريمة زوج المقداد: كان المقداد عظيم البطن، وكان له غلام رُوميّ، فقال له: أشُقّ بطنك، فأُخرج من شحمه حتى تلطُف، فشقّ بطنه، ثم خاطه، فمات المقداد، وهَرَب الغلام.

قال خليفة بن خياط، وغير واحد: مات سنة ثلاث وثلاثين، قال بعضهم: وهو ابن سبعين سنة بِالْجُرُف، على ثلاثة أميال من المدينة، وحُمِل إلى المدينة، ودُفِن بها.

وفي "فوائد ابن الْبُحْتُريّ"، من رواية سَوّار بن حمزة، عن ثابت، عن أنس: أن المقداد قال: لا أَتَحَمَّل على أحد أبدًا، فكانوا يقولون: تَقَدَّم، فَصَلّ، فيأبى، وفيه قصّةُ أنه حين استعمله النبيّ صلى الله عليه وسلم

(1)

.

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب أربعة أحاديث فقط

(2)

: هذا الحديث، وحديث (2055): "احتلبوا هذا اللبن بيننا

"، و (2864): "تُدنى الشمس يوم القيامة من الخلق

"، و (3002): "أن نَحْثي في وجوه المداحين التراب

"، وأعاده بعده.

(1)

"الإصابة" 6/ 159 - 161، و"تهذيب التهذيب" 4/ 146.

(2)

ذكرت في "قرّة العين"(ص 457) أنه روى من الأحاديث (42) حديثًا، اتّفقا على حديث، وانفرد مسلم بثلاثة أحاديث.

ص: 156

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله تعالى.

2 -

(ومنها): أن له فيه شيخين، فرّق بينهما، وإنما لم يقرن بينهما؛ لاختلافهما في صيغة الأداء، وفي اسم شيخهما، حيث قال قتيبة: حدثنا، وقال ابن رُمح: أخبرنا الليث، فالأول أخذه سماعًا، والثاني أخذه قراءةً، والأول قال: ليثٌ، والثاني قال: الليث بإدخال "أل"، وهو جائز للمح الأصل، كما قال في "الخلاصة":

وَبَعْضُ الاعْلَامِ عَلَيْهِ دَخَلَا

لِلَمْحِ مَا قَدْ كَانَ عَنْهُ نُقِلَا

كَالْفَضْلِ وَالْحَارِثِ وَالنُّعْمَانِ

فَذِكْرُ ذَا وَحَذْفُهُ سِيَّانِ

3 -

(ومنها): أن فيه من صيغ الأداء: التحديث، والعنعنة، والإخبار.

4 -

(ومنها): كتابة (ح) وهي إشارة إلى تحويل السند، وقد تقدّم أنها مختصرة من التحويل، أو من الحديث، أو من صحّ، أو من حاجز.

5 -

(ومنها): أن في قوله: "واللفظ متقارب" إشارةً إلى أن لفظ هذا السياق ليس لواحد منهما، وإنما هو معناه، ولكن لفظهما متقاربان، وإلى هذا أشار السيوطيّ في "ألفيّة الحديث"، حيث قال:

وَمَنْ رَوَى مَتنًا عَنَ اشْيَاخٍ وَقَدْ

تَوَافَقَا مَعْنًى وَلَفْظٌ مَا اتَّحَدْ

مُقْتَصِرًا بِلَفْظِ وَاحِدٍ وَلَمْ

يُبَيِّنِ اخْتِصَاصَهُ فَلَمْ يُلَمْ

أَوْ قَالَ "قَدْ تَقَارَبَا فِي اللَّفْظِ" أَوْ

وَاتَّحَدَ الْمَعْنَى عَلَى خُلْفٍ حَكَوْا

وَإِنْ يَكُنْ لِلَفْظِهِ يُبَيِّنُ

مَعْ "قَالَ" أَوْ "قَالَا" فَذَاكَ أَحْسَنُ

6 -

(ومنها): أن فيه ثلاثة من التابعين يروي بعضهم عن بعض: ابن شهاب، عن عطاء بن يزيد، عن عُبيد الله بن عديّ.

7 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين، من ابن شهاب، وقتيبة بغلانيّ، والباقيان مصريّان.

8 -

(ومنها): أن صحابيّه رضي الله عنه من أوائل من أسلم، قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: أول من أظهر الإسلام بمكة سبعة، منهم: المقداد، وهاجر إلى الحبشة، ويُكنى أبا الأسود، وقيل: أبا عمرو، وقيل: أبا معبد، وليس له في

ص: 157

"الصحيحين" إلا أربعة أحاديث

(1)

، وهذا أول محلّ ذكره في هذا الكتاب، وكذا عبيد الله، كما أسلفناه آنفًا، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَن الْمِقْدَادِ بْن الْأَسْوَدِ) تقدّم أنه المقداد بن عَمرو، وإنما الأسود تبنّاه (أَنَّهُ) أي المقداد (أَخْبَرَهُ) أي أخبر عبيد الله (أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُول الله، أَرَأَيْتَ إِنْ لَقِيتُ رَجُلًا مِنَ الْكُفَّارِ) قال النوويّ رحمه الله تعالى: هكذا هو في أكثر الأصول المعتبرة، وفي بعضها:"أرأيتَ لقيتُ" بحذف "إن"، والأول هو الصواب. انتهى

(2)

.

ووقع عند البخاريّ بلفظ: "قال: يا رسول الله إن لقِيتُ كفارًا، فاقتتلنا، فضرب إحدى يديّ بالسيف

"، قال في "الفتح": قوله: "إن لقيتُ" كذا للأكثر بصيغة الشرط، وفي رواية أبي ذرّ: "إني لقيتُ كافرًا، فاقتتلنا، فضرب يدي فقطعها"، وظاهر سياقه أن ذلك وقع، والذي في نفس الأمر بخلافه، وإنما سأل المقداد عن الحكم في ذلك لو وقع. انتهى.

(فَقَاتَلَنِي، فَضَرَبَ إِحْدَى يَدَيَّ بِالسَّيْف، فَقَطَعَهَا، ثُمَّ لَاذَ مِنِّي) أي اعتصم منّي، وهو معنى قوله:"قالها مُتَعَوّذًا": أي معتصمًا، وهو بكسر الواو، قاله النوويّ، وقال الفيّوميّ: لاذ الرجل بالجبل، يَلُوذ لِوَاذًا بكسر اللام، وحُكِي التثليث، وهو الالتجاء، ولاذ بالقوم، وهي الْمُداناة، وألاذ بالألف لغة فيهما. انتهى.

وقال المجد: اللَّوْذُ بالشيء: الاستتار، والاحتصان به، كاللُّوَاذ، مثلَّثةً، واللياذ، والْمُلاوذة، والإحاطةُ، كالإلاذة، وجانبُ الجبل، وما يُطيف به، ومُنعَطَف الوادي، جمعه أَلْوَاذٌ. انتهى

(3)

.

(بِشَجَرَةٍ) قال في "الفتح": الشجرة مثال. انتهى. يعني أنه إنما ذُكر على سبيل المثال، لا على سبيل التحديد، فلو لاذ بغير شجرة، كالِجدار ونحوه،

(1)

راجع: "تحفة الأشراف" 8/ 205 - 211.

(2)

"شرح مسلم" 2/ 104.

(3)

"القاموس المحيط" ص 305.

ص: 158

كان حكمه كذلك (فَقَالَ: أَسْلَمْت للهِ) أي دخلتُ في دين الإسلام، وتديّنتُ به، وفيه دليلٌ على أن كلَّ من صَدَرَ عنه أمرٌ يدلّ على الدخول في دين الإسلام من قول أو فعل حُكِم له لذلك بالإسلام، وأن ذلك ليس مقصورًا على النطق بكلمتي الشهادة، وقد حَكَم النبيّ صلى الله عليه وسلم بإسلام بني جَذِيمة الذين قتلهم خالد بن الوليد، وهم يقولون: صَبَأْنا صَبَأْنَا، ولم يُحسنوا أن يقولوا: أسلمنا، فلما بَلَغ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"اللهم إني أبرأ إليك مما صَنَعَ خالد"، رافعًا يديه إلى السماء، ثم وَدَاهم، رواه البخاريّ.

على أن قوله في هذه الرواية: "أسلمت لله" يَحْتَمِل أن يكون ذلك نقلًا بالمعنى، فيكون بعض الرواة عَبّر عن قوله: لا إله إلا الله بأسلمتُ، كما قد جاء مُفسَّرًا في رواية أخرى، قال فيها: فلَمّا أهويتُ لأقتله قال: لا إله إلا الله.

(أَفَأَقْتُلُهُ، يَا رَسُولَ الله، بَعْدَ أَنْ قَالَهَا؟) أي الكملة التي هي قوله: أسلمتُ لله (قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ("لَا تَقْتُلْهُ") أي لأنه معصوم الدم بسبب تلك الكلمة (قَالَ) المقداد رضي الله عنه (فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله، إِنَّهُ قَدْ قَطَعَ يَدِي، ثُمَّ قَالَ ذَلِكَ) أي ما قاله من كلمة الإسلام (بَعْدَ أَنْ قَطَعَهَا) أي يده (أَفَأَقْتُلُهُ؟) أعاده تأكيدًا للسؤال (قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا تَقْتُلْهُ، فَإِنْ قَتَلْتَهُ، فَإِنَّهُ بمَنْزِلَتِكَ قَبْلَ أَنْ تَقْتُلَهُ) قال القرطبيّ رحمه الله تعالى: يعني - والله أعلم -: أَنه بمنزلك في عصمة الدم؛ إذ قد نطق بما يوجب عصمته من كلمتي الشهادة. انتهى

(1)

. وقال الكرمانيّ رحمه اللهُ تعالى: القتل ليس سببًا لكون كل منهما بمنزلة الآخر، لكن عند النحاة مؤول بالإخبار: أي هو سبب لإخباري لك بذلك، وعند البيانيين المراد لازمه، كقوله: يباح دمك إن عصيت. انتهى.

(وَإِنَّكَ بِمَنْزِلَتِهِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ كَلِمَتَهُ الَّتِي قَالَ") قال النوويّ رحمه الله تعالى: اختُلِف في معناه، فأحسن ما قيل فيه، وأظهره ما قاله الإمام الشافعيُّ، وابن القصار المالكيّ، وغيرهما: إن معناه: فإنه معصوم الدم، مُحَرَّمٌ قتله بعد قوله: لا إله إلا الله، كما كنت أنت قبل أن تقتله، وإنك بعد قتله غير معصوم الدم، ولا مُحَرَّم القتل، كما كان هو قبل قوله: لا إله إلا الله، قال ابن

(1)

"المفهم" 1/ 294.

ص: 159

القصّار: يعني: لولا عُذرك بالتأويل المسقط للقصاص عنك، قال القاضي: وقيل: معناه: أنك مثله في مخالفة الحقّ، وارتكاب الإثم، وإن اختلف أنواع المخالفة والإثم، فيسمى إثمه كفرًا، وإثمك معصيةً وفسقًا. انتهى

(1)

.

وقال في "الفتح": قال الخطابيّ: معناه: أن الكافر مباح الدم بحكم الدين قبل أن يسلم، فإذا أسلم صار مُصان الدم كالمسلم، فإن قَتَله المسلم بعد ذلك صار دمه مباحًا بحق القصاص كالكافر بحق الدين، وليس المراد إلحاقه في الكفر، كما تقول الخوارج من تكفير المسلم بالكبيرة.

وحاصله اتحاد المنزلتين مع اختلاف المأخذ، فالأول: أنه مثلك في صون الدم، والثاني: أنك مثله في الْهَدَر.

ونقل ابن التين عن الداودي، قال: معناه: أنك صِرْتَ قاتلًا كما كان هو قاتلًا، قال: وهذا من المعاريض؛ لأنه أراد الإغلاظ بظاهر اللفظ دون باطنه، وإنما أراد أن كلًّا منهما قاتل، ولم يُرد أنه صار كافرًا بقتله إياه.

ونَقَل ابنُ بطال عن المهلب معناه، فقال: أي أنك بقصدك لقتله عمدًا آثم، كما كان هو بقصده لقتلك آثمًا، فأنتما في حالة واحدة من العصيان.

وقيل: المعنى أنت عنده حلال الدم قبل أن تُسلم، وكنت مثله في الكفر، كما كان عندك حلال الدم قبل ذلك.

وقيل: معناه: أنه مغفور له بشهادة التوحيد، كما أنك مغفور لك بشهود بدر.

ونقل ابن بطال عن ابن القصّار أن معنى قوله: "وأنت بمنزلته": أي في إباحة الدم، وإنما قَصَدَ بذلك رَدْعه وزجره عن قتله، لا أن الكافر إذا قال: أسلمت حَرُمَ قتله.

وتُعُقّب بأن الكافر مباح الدم، والمسلم الذي قتله إن لم يتعمد قتله، ولم يكن عَرَف أنه مسلم، إنما قتله مُتأوّلًا، فلا يكون بمنزلته في إباحته.

وقال القاضي عياض: معناه: أنه مثله في مخالفة الحقّ، وارتكاب الإثم، وإن اختلف النوع في كون أحدهما كفرًا، والآخر معصيةً، وقيل: المراد إن

(1)

"شرح مسلم" للنوويّ 2/ 106.

ص: 160

قتلته مستحلًا لقتله، فأنت مثله في الكفر، وقيل: المراد بالمثلية أنه مغفور له بشهادة التوحيد، وأنت مغفور لك بشهود بدر.

ونَقَل ابن التين أيضًا عن الداوديّ أنه أوّله على وجه آخر، فقال: يفسره حديث ابن عباس الذي في آخر الباب

(1)

، ومعناه: أنه يجوز أن يكون اللائذ بالشجرة القاطعُ لليد مؤمنًا يكتم إيمانه، مع قوم كُفّار، غَلَبوه على نفسه، فإن قتلته فأنت شاكّ في قتلك إياه أنى ينزله الله من العمد والخطأ، كما كان هو مشكوكًا في إيمانه؛ لجواز أن يكون يَكْتُم إيمانه.

ثم قال: فإن قيل: كيف قَطَع يد المؤمن، وهو ممن يكتم إيمانه؟.

فالجواب: أنه دَفَع عن نفسه من يريد قتله، فجاز له ذلك، كما جاز للمؤمن أن يدفع عن نفسه مَن يريد قتله، ولو أفضى إلى قتل من يريد قتله، فإن دمه يكون هَدَرًا، فلذلك لم يُقِد النبيّ صلى الله عليه وسلم من يد المقداد؛ لأنه قَطَعها مُتأوّلًا.

وتعقّبه الحافظ: فقال: وعليه مؤاخذات:

منها: الجمع بين القصتين بهذا التكلّف، مع ظهور اختلافهما، وإنما الذي ينطبق على حديث ابن عباس قصة أسامة الآتية بعد هذا، حيث حَمَلَ على رجل أراد قتله، فقال: إني مسلم، فقتله ظنًّا أنه قال ذلك مُتَعَوِّذًا من القتل، وكان الرجل في الأصل مُسلمًا، فالذي وقع للمقداد نحوُ ذلك، كما سأبيّنه، وأما قصة قطع اليد فإنما قالها مستفتيًا على تقدير أن لو وقعت، كما تَقَدَّم تقريره، وإنما تَضَمَّن الجواب النهي عن قتله؛ لكونه أظهر الإسلام، فحُقِن دمه، وصار ما وقع منه قبل الإسلام عَفْوًا.

ومنها: أن في جوابه عن الاستشكال نظرًا؛ لأنه كان يمكنه أن يَدفع بالقول، بأن يقول له عند إرادة المسلم قتله: إني مسلم، فيكُفّ عنه، وليس له أن يبادر لقطع يده مع القدرة على القول المذكور ونحوه. انتهى

(2)

.

(1)

أراد ما أورده البخاريّ تعليقًا، فقال: وقال حبيب بن أبي عَمْرة، عن سعيد، عن ابن عباس، قال: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم للمقداد: "إذا كان رجل مؤمن يخفي إيمانه، مع قوم كُفّار، فأظهر إيمانه فقتلته، فكذلك كنت أنت تُخفي إيمانك بمكة من قبل".

(2)

"الفتح" 12/ 197 - 198 رقم الحديث (6865).

ص: 161

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: ليس بين أكثر هذه التأويلات تعارضٌ، وأولاها وأقربها في نظري ما تقدّم عن الشافعيّ رحمه الله تعالى.

قال الحافظ أبو عوانة في "مسنده" بعد إخراجه الحديث، ما نصّه: سمعت الربيع بن سليمان، قال: سمعت الشافعيّ يقول: معناه: أن يصير مباح الدم، لا أنه يصير مشركًا، كما كان مباح الدم قبل الإقرار. انتهى

(1)

.

وحاصله أنه معصوم الدم، مُحرَّمٌ قتله بعد قوله: لا إله إلا الله، كما كنت أنت كذلك قبل أن تقتله، وأنك بعد قتله غير معصوم الدم، ولا محرّم القتل، كما كان هو قبل قوله: لا إله إلا الله، وهذا معنى واضحٌ، فتأملّه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث المقداد بن الأسود رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه المصنّف هنا في "الإيمان"[43/ 281 و 282 و 283](95)، و (البخاريّ) في "المغازي"(4019)، و"الديات"(6865)، و (أبو داود) في "الجهاد"(2644)، و (النسائيّ) في "السير" من "الكبرى"(8537)، و (عبد الرزاق) في "مصنّفه"(18719)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(10/ 126 و 12/ 378)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 3 و 4 و 5)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(187 و 188 و 189)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(272 و 273 و 274 و 275)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(164)، و (ابن منده) في "الإيمان"(55 و 56 و 57 و 58 و 59 و 60)، و (الطحاويّ) في "مشكل الآثار"(1/ 407)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(8/ 195)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان تحريم قتل الكافر بعد قوله: لا إله إلا الله.

(1)

"مسند أبي عوانة" 1/ 67 رقم (189).

ص: 162

2 -

(ومنها): أنه استُدِلّ به على صحة قول مَن قال: أسلمت لله، ولم يزد على ذلك، هكذا قيل: لكن فيه نظر؛ لأن ذلك كافٍ في الكفّ، على أنه ورد في بعض الروايات الإشارة إلى أنه قال: لا إله إلا الله، وهي رواية معمر، عن الزهريّ الآتية بعد هذا.

3 -

(ومنها): أنه استُدِلَّ به على جواز السؤال عن النوازل قبل وقوعها؛ بناءً على ما تقدم ترجيحه من أن المقداد رضي الله عنه إنما سأل عمّا لم يقع له، وأما ما نُقِل عن بعض السلف من كراهة ذلك فمحمول على ما يَنْدُر وقوعه، وأما ما يمكن وقوعه عادةً، فيُشْرَع السؤال عنه؛ ليُعْلَم حكمه إذا وقع.

4 -

(ومنها): بيان فضل كلمة التوحيد؛ إذ بقولها عُصِم دم من كان كافرًا طول حياته.

5 -

(ومنها): بيان فضل الصحابة رضي الله عنهم حيث إنهم كانوا حريصين على التفقّه في دين الله تعالى، فكانوا يسألون النبيّ صلى الله عليه وسلم حتى عما لم يقع؛ ليعلموا حكمه إذا وقع، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

[تنبيه]: أورد الإمام البخاريّ رحمه الله تعالى في "صحيحه" بعد هذا الحديث، ما نصّه:

وقال حبيب بن أبي عَمْرة، عن سعيد، عن ابن عباس، قال: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم للمقداد: "إذا كان رجل مؤمنٌ، يُخفي إيمانه، مع قوم كفار، فأظهر إيمانه، فقتلته، فكذلك كنت أنت تُخفي إيمانك بمكة من قبل".

فقال في "الفتح": قوله: "وقال حبيب بن أبي عمرة": هو القَصّاب الكوفيّ، لا يعرف اسم أبيه، وهذا التعليق وصله البزّار، والدارقطنيّ في "الأفراد"، والطبراني في "الكبير" من رواية أبي بكر بن عليّ بن عَطَاء بن مُقَدَّم، والد محمد بن أبي بكر الْمُقَدَّميّ، عن حبيب، وفي أوّله: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سَرِيَّةً فيها المقداد، فلما أَتَوهم وجدوهم تفرَّقوا، وفيهم رجل له مالٌ كثيرٌ، لم يَبْرَح، فقال: "أشهد أن لا إله إلا الله، فأهوى إليه المقداد فقتله

" الحديث، وفيه: فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "يا مقداد، قتلت رجلًا قال: لا إله إلا الله، فكيف لك بلا إله إلا الله؟ " فأنزل الله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ

ص: 163

آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا} الآية [النساء: 94]، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم للمقداد: "كان رجلًا مؤمنًا يُخفي إيمانه

" إلخ.

قال الدارقطنيّ: تفرد به حبيب، وتفرد به أبو بكر عنه.

قال الحافظ: قد تابع أبا بكر سفيان الثوريّ، لكنه أرسله، أخرجه ابن أبي شيبة، عن وكيع، عنه، وأخرجه الطبريّ، من طريق أبي إسحاق الفزاريّ، عن الثوريّ كذلك، ولفظ وكيع بسنده، عن سعيد بن جبير: "خَرَج المقداد بن الأسود في سرية

"، فذكر الحديث مختصرًا إلى قوله: فنزلت، ولم يذكر الخبر الْمُعَلَّق. انتهى

(1)

. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[282]

(

) - (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالَا: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاق، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ (ح) وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مُوسَى الْأَنْصَارِيُّ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ (ح) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزاق، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، جَمِيعًا عَنِ الزُّهْرِيِّ، بِهَذَا الْإِسْنَاد، أمَّا الْأَوْزَاعِيُّ، وَابْنُ جُرَيْجٍ فَفِي حَدِيثِهِمَا: قَالَ: أَسْلَمْتُ لله، كَمَا قَالَ اللَّيْثُ فِي حَدِيثِه، وَأَمَّا مَعْمَرٌ فَفِي حَدِيثِهِ: فَلَمَّا أَهْوَيْتُ لِأَقْتُلَهُ، قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ).

رجال هذا الإسناد: عشرة:

1 -

(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) هو ابن راهويه المروزيّ الحافظ الإمام [10](ت 238)(خ م د ت س) تقدم في "المقدمة" 5/ 28.

2 -

(عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ) بن نَصْر الْكِسّيّ، أبو محمد، قيل: اسمه عبد الرحمن، ثقة حافظ [11](249)(خت م ت) تقدم في "الإيمان" 7/ 131.

3 -

(عَبْدُ الرَّزَّاقِ) بن همّام الحِمْيريّ مولاهم، أبو بكر الصنعانيّ، ثقةٌ حافظ مصنّفٌ عمي في آخره، فتغيّر، وكان يتشيّع [9](ت 211)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.

(1)

"الفتح" 12/ 198 "كتاب الديات" رقم الحديث (6866).

ص: 164

4 -

(مَعْمَر) بن راشد الأزديّ مولاهم، أبو عروة البصريّ، نزيل اليمن، ثقةٌ ثبتٌ فاضلٌ، من كبار [7](ت 154)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.

5 -

(إِسْحَاقُ بْنُ مُوسَى الْأَنْصَارِيُّ) هو: إسحاق بن موسى بن عبد الله بن موسى بن عبد الله بن يزيد الأنصاريّ الْخَطميّ، أبو موسى المدنيّ، قاضي نيسابور، ثقةٌ مُتقنٌ [10]. رَوَى عن ابن عيينة، والوليد بن مسلم، وجرير بن عبد الحميد، وأبي ضَمْرة، وابن وهب، ومعاذ بن معاذ، ومَعْن بن عيسى الْقَزَّاز، وغيرهم.

ورَوَى عنه مسلم، والترمذيّ، والنسائيّ، وابن ماجه، وابنه موسى بن إسحاق الحافظ القاضي، وابن خزيمة، وأبو زرعة، وأبو حاتم، وصالح جَزَرة، وموسى بن هارون، وبَقِيّ بن مَخْلَد، والحسين القبانيّ، وغيرهم.

قال ابن أبي حاتم: كان أبي يُطْنِب القول فيه في صدقه وإتقانه، وقال النسائيّ: أصله كوفيّ، وكان في العسكر، ثقةٌ، وقال الخطيب: وَرَدَ بغداد، وحَدّث بها، وكان ثقةً، وقال ابن عساكر: وَلِيَ القضاء بنيسابور، وقال يحيى بن محمد الذهليّ: هو من أهل السنة، قال البغويّ: مات سنة (244) بحمص، وقال أبو الحسن محمد بن أحمد الْقَوّاس الْوَرّاق: مات بِجُوسِيَةَ راجعًا من دمشق، وقال الحاكم: قَدِمَ نيسابور أوّلًا على القضاء في حياة يحيى بن يحيى، ثم وَرَدَ ثانيًا سنة (40)، وذكره ابن حِبّان في "الثقات".

وله في هذا الكتاب (14) حديثًا.

6 -

(الْوَليدُ بْنُ مُسْلِمٍ) القرشيّ مولاهم، أبو العبّاس الدمشقيّ، ثقةٌ، لكنه كثير التدليس والتسوية [8](ت 194)(ع) تقدم في "الإيمان" 10/ 148.

7 -

(الْأَوْزَاعِيُّ) عبد الرحمن بن عمرو بن أبي عمرو، أبو عمرو الفقيه الدمشقيّ، ثقةٌ ثبتٌ إمامٌ [7](ت 157)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 28.

8 -

(مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ) القشيريّ النيسابوريّ، ثقةٌ عابدٌ [11](245)(خ م د ت س) تقدم في "المقدمَة" 4/ 18.

9 -

(ابْنُ جُرَيْجٍ) هو: عبد الملك بن عبد العزيز بن جُريج الأمويّ مولاهم المكيّ، ثقةٌ فقيه فاضل، يدلّس، ويُرسل [6](ت 150)(ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 129، والزهريّ تقدّم في السند الماضي.

ص: 165

وقوله: (جَمِيعًا عَنِ الزُّهْرِيِّ) يعني أن معمرًا، والأوزاعيّ، وابن جريج كلهم رووا هذا الحديث عن الزهريّ.

وقوله: (بِهَذَا الْإِسْنَادِ) أشار به إلى الإسناد الماضي، وهو إسناد الليث، عن ابن شهاب، عن عطاء بن يزيد، عن عبيد الله بن عديّ بن الخيار، عن المقداد بن الأسود.

وقوله: (أمَّا الْأَوْزَاعِيُّ، وَابْنُ جُرَيْجٍ فَفِي حَدِيثِهِمَا) هكذا وقع في كثير من النسخ بلفظ: "ففي حديثهما" بفاءين، وهذا هو الأصل، والجيِّد؛ لأن جواب "أما" يجب اقترانه بالفاء، كما قال في "الخلاصة":

"أَمَّا" كَـ"مَهْمَا يَكُ مِنْ شَيْءٍ" وَفَا

لِتِلْوِ تِلْوِهَا وُجُوبًا أُلِفَا

ووقع في أكثر الأصول بلفظ: "في حديثهما" بفاء واحدة، وهذا أيضًا له وجه؛ لأنه قد تُحذف الفاء من جواب "أما" قليلًا، وإن قُدّر القول فلا يكون قليلًا، بل هو كثير، كما قال في "الخلاصة" أيضًا:

وَحَذْفُ ذِي الْفَا قَلَّ فِي نَثْرٍ إِذَا

لَمْ يَكُ قَوْلٌ مَعَهَا قَدْ نُبِذَا

فالأولى هنا تقدير القول معها، فيكون تقدير الكلام: أما الأوزاعيّ، وابنُ جريج، فقالا في حديثهما: كذا، ومثل هذا في القرآن العزيز، وكلام العرب كثير، فمنه في القرآن قوله عز وجل:

{فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ} ، أي فيقال لهم: أكفرتم؟، وقوله عز وجل:{وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ} [الجاثية: 31]، ومنه قول الشاعر [من الطويل]:

فَأَمَّا الْقِتَالُ لَا قِتَالُ لَدَيْكُمُ

وَلَكِنَّ سَيْرًا فِي عِرَاضِ الْمَوَاكِبِ

والله تعالى أعلم.

[تنبيه]: رواية الأوزاعيّ التي أشار إليها المصنّف هنا، أخرجها ابن منده في "الإيمان"(1/ 203)، فقال:

(59)

أنبأ أحمد بن محمد بن إسماعيل بن مِهوان النيسابوريّ، حدثني أبي، ثنا دُحَيم، وهشام قالا: ثنا الوليد بن مسلم، عن الأوزاعيّ، عن الزهريّ، عن حميد بن عبد الرحمن، عن عبيد الله بن عَديّ بن الخيار، عن

ص: 166

المقداد بن الأسود، قال: قلت: يا رسول الله، رجلٌ قَطَع يدي، ثم لاذ مِنِّي بشجرة، أأقتله؟ .. فذكر الحديث. انتهى.

ثم قال: هذا حديث وَهَمٌ من حديث الأوزاعيّ، وتفرَّد به الوليد، وعنه مشهور، وأخرجه مسلم من هذا الوجه، والصواب من حديث الأوزاعيّ، عن إبراهيم بن مُرَّة، عن الزهريّ، عن عطاء بن يزيد، عن عبيد الله بن عديّ. انتهى.

قال الجامع: سيأتي قريبًا تمام البحث في رواية الأوزاعيّ هذه - إن شاء الله تعالى -.

وأما رواية ابن جريج، فقد أخرجها الإمام أحمد في "مسنده"، فقال:

(22713)

حدثنا عبد الرزاق، أنبأنا ابن جريج، أخبرني ابن شهاب، عن عطاء بن يزيد الليثيّ، عن عبيد الله بن عَديّ بن الخيار، أنه قال: أخبرني أن المقداد أخبره، أنه قال: يا رسول الله، أرأيت إن لقيت رجلًا من الكفار، فقاتلني، فاختلفنا ضربتين، فضرب إحدى يديَّ بالسيف، فقطعها، ثم لاذ مني بشجرة، فقال: أسلمت لله، أقاتله يا رسول الله بعد أن قالها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا تقتله"، قلت: يا رسول الله، إنه قَطَع إحدى يديّ، ثم قال ذلك بعدما قطعها، أقاتله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا تقتله، فإن قتلته، فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله، وأنت بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قال".

وكذا أخرجها أبو عوانة في "مسنده"(1/ 66 - 67) رقم (187).

وقوله: (وَأَمَّا مَعْمَرٌ فَفِي حَدِيثِهِ

إلخ) يعني رواية معمر بن راشد عن الزهريّ بلفظ: "فَلَمَّا أَهْوَيْتُ لِأَقْتُلَهُ، قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ" بدل رواية الأوزاعيّ، وابن جريج عنه بلفظ:"أَسْلَمْتُ للهِ"، وقد تقدّم أنه بمعناه.

وقوله: (فَلَمَّا أَهْويتُ لِأَقْتُلَهُ

إلخ) معناه: مِلْتُ لقتله، قال الجوهريّ: أهوى إليه بيده ليأخذه، وقال الأصمعيّ: أهويتُ بالشيء: إذا أومأت إليه، ويقال: أهويتُ له بالسيف، فأما هَوَى: فمعناه: سَقَطَ إلى أسفل، ويقال: انهوى بمعناه، فهو مُنْهَوٍ، قاله في "المفهم"

(1)

.

(1)

"المفهم" 1/ 293 - 294.

ص: 167

وقال في "الإكمال": قال الخليل: أهوى إليه بيده، وقال أبو بكر بن الْقُطيّة: هَوَى إليه بالسيف، والشيُ هُوِيًّا، وأهويته: أي أملته، وقال أبو زيد: والإهواء: التناول باليد والضرب. انتهى

(1)

.

وفي "المصباح": وأهوى إلى سيفه بالألف: تناوله بيده، وأهوى إلى الشيء بيده: مدّها ليأخذه إذا كان عن قُرْبٍ، فإن كان عن بُعد قيل: هَوَى إليه بغير ألف، وأهويتُ بالشيء بالألف: أومأتُ به. انتهى

(2)

.

[تنبيه]: رواية معمر هذه، أخرجها أبو عوانة في "مسنده"(1/ 67)، فقال:

(190)

حدثنا السّلميّ، ومحمد بن مهل الصنعانيّ، قالا: ثنا عبد الرزاق، قال: أنبا معمر، عن الزهريّ، عن عطاء بن يزيد الليثيّ، ثم الْجُنْدَعيّ، عن عبيد الله بن عديّ بن الخيار أن المقداد بن الأسود حدثه، قال: قلت: يا رسول الله، أرأيت إن اختلفت أنا ورجل من المشركين ضربتين بالسيف، فقَطَع يدي، فلما أهويت إليه لأضربه، قال: لا إله إلا الله، أقتله، أم أَدَعُه؟ قال:"لا، بل دَعْهُ"، قلت: وإن قطع يدي؟ قال: "وإن فعل"، فراجعته مرتين أو ثلاثًا، قال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"إن قتلته بعد أن يقول: لا إله إلا الله، فأنت مثله قبل أن يقولها، وهو مثلك قبل أن تقتله". انتهى.

[تنبيه]: قال النوويّ رحمه الله تعالى: (اعلم): أن في إسناد بعض روايات هذا الحديث ما أنكره الدارقطنيّ وغيره، وهو قول مسلم:

"حدثنا إسحاق بن إبراهيم، وعبد بن حُميد قالا: أنبأ عبد الرزاق، أنبأ معمر (ح) وحدثنا إسحاق بن موسى، حدثنا الوليد بن مسلم، عن الأوزاعيّ (ح) وحدثنا محمد بن رافع، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا ابن جريج جميعًا عن الزهريّ بهذا الإسناد".

فهكذا وقع هذا الإسناد في رواية الْجُلُوديّ، قال القاضي عياض: ولم يقع هذا الإسناد عند ابن ماهان - يعني رفيقَ الْجُلُوديّ - قال القاضي: قال أبو مسعود الدمشقيّ: هذا ليس بمعروف عن الوليد بهذا الإسناد، عن عطاء بن

(1)

"إكمال المعلم" 1/ 442.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 643 - 644.

ص: 168

يزيد، عن عُبيد الله، قال: وفيه خلاف على الوليد، وعلى الأوزاعيّ.

وقد بَيَّن الدارقطنيّ في "كتاب العلل" الخلاف فيه، وذكر أن الأوزاعيّ يرويه عن إبراهيم بن مُرّة، واختُلِف عنه، فرواه أبو إسحاق الفزاريّ، ومحمد بن شعيب، ومحمد بن حِمْير

(1)

، والوليد بن مَزْيَد، عن الأوزاعيّ، عن إبراهيم بن مُرّة، عن الزهريّ، عن عُبيد الله بن الْخِيَار، عن المقداد، لم يذكروا فيه عطاء بن يزيد.

واختُلِف عن الوليد بن مسلم، فرواه أبو الوليد

(2)

القرشيّ، عن الوليد، عن الأوزاعيّ، والليث بن سعد، عن الزهريّ، عن عبيد الله بن الخيار، عن المقداد، لم يذكر فيه عطاء، وأسقط إبراهيم بن مُرّة.

وخالفه عيسى بن مُسَاوِر، فرواه عن الوليد، عن الأوزاعيّ، عن حميد بن عبد الرحمن، عن عبيد الله بن الخيار، عن المقداد، لم يذكر فيه إبراهيم بن مُرّة، وجَعَل مكان عطاء بن يزيد حميدَ بنَ عبد الرحمن.

ورواه الفريابيّ، عن الأوزاعيّ، عن إبراهيم بن مُرّة، عن الزهريّ مرسلًا، عن المقداد.

قال أبو عليّ الجيانيّ

(3)

: الصحيح في إسناد هذا الحديث ما ذكره مسلم أوّلًا، من رواية الليث، ومعمر، ويونس، وابن جريج، وتابعهم صالح بن كيسان. هذا آخر كلام القاضي عياض رحمه الله تعالى

(4)

.

قال النوويّ: وحاصل هذا الخلاف والاضطراب، إنما هو في رواية الوليد بن مسلم، عن الأوزاعيّ، وأما رواية الليث، ومعمر، ويونس، وابن جريج، فلا شَكّ في صحّتها، وهذه الروايات هي المستقلّة بالعمل، وعليها الاعتماد، وأما رواية الأوزاعيّ، فذكرها متابعةً، وقد تقرر عندهم أن المتابعات يُحْتَمَل فيها ما فيه نوعُ ضَعْف؛ لكونها لا اعتماد عليها، وإنما هي لمجرد الاستئناس.

(1)

وقع في شرح النوويّ: "محمد بن حُميد" بالدال، وهو غلط، فتنبّه.

(2)

وقع في شرح النووي: "فرواه الوليد

إلخ" وهو غلط، فتنبّه.

(3)

راجع: "تقييد المهمل" 3/ 777 - 779.

(4)

راجع: "إكمال المعلم" 1/ 442 - 445.

ص: 169

فالحاصل أن هذا الاضطراب الذي في رواية الوليد، عن الأوزاعيّ، لا يَقْدَح في صحّة أصل هذا الحديث، فلا خلاف في صحّته، وقد قدمنا أن أكثر استدراكات الدارقطني من هذا النحو، ولا يُؤَثِّر ذلك في صحّة المتون، وقدمنا أيضًا اعتذار مسلم رحمه الله تعالى عن نحو هذا بأنه ليس الاعتماد عليه، والله تعالى أعلم. انتهى كلام النوويّ رحمه الله تعالى

(1)

، وهو تحقيقٌ نفيسٌ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[283]

(

) - (وَحَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَطَاءُ بْنُ يَزِيدَ اللَّيْثِيُّ، ثُمَّ الْجُنْدَعِيُّ، أَنَّ عُبَيْدَ اللهِ بْنَ عَدِيِّ بْنِ الْخِيَار، أَخْبَرَهُ أَنَّ الْمِقْدَادَ بْنَ عَمْرٍو بْنَ الْأَسْوَدِ الْكِنْدِيَّ، وَكَانَ حَلِيفًا لِبَنِي زُهْرَةَ، وَكَانَ مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "يَا رَسُولَ الله، أَرَأَيْتَ إِنْ لَقِيتُ رَجُلًا مِنَ الْكُفَّارِ

"، ثُمَّ ذَكَرَ بِمِثْلِ حَدِيثِ اللَّيْثِ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى) التُّجيبيّ، أبو حفص المصريّ، صاحب الشافعيّ، صدوقٌ [11](ت 243)(م س ق) تقدم في "المقدمة" 3/ 14.

2 -

(ابْنُ وَهْبٍ) هو: عبد الله بن وهب بن مسلم القرشيّ مولاهم، أبو محمد المصريّ الفقيه، ثقةٌ حافظٌ عابدٌ [9](ت 197)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 10.

3 -

(يُونُسُ) بن يزيد بن أبي النِّجَاد الأيليّ، أبو يزيد الأمويّ مولاهم، ثقة ثبتٌ، من كبار [7](ت 159)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 14، والباقون تقدّموا في الحديث الماضي.

وقوله: (اللَيْثِيُّ، ثُمَّ الْجُنْدَعِيُّ) فبضم الجيم، وإسكان النون، وبعدها دال، ثم عين مهملتان، وتفتح الدال، وتضمّ لغتين، و"جُنْدُع" بطنٌ من ليث،

(1)

"شرح مسلم" 2/ 105 - 106.

ص: 170

فلهذا قال: الليثيّ، ثم الجندعيّ، فبدأ بالعامّ، وهو ليث، ثم الخاصّ، وهو جُندع، ولو عُكِس هذا، فقيل: الجندعيّ، ثمّ الليثيّ، لكان خطأً من حيث إنه لا فائدة في قوله:"الليثيّ" بعد الجندعيّ، ولأنه أيضًا يقتضي أن ليثًا بطن من جندع، وهو خطأ، قاله النوويّ رحمه الله تعالى

(1)

.

وقوله: (أَنَّ الْمِقْدَادَ بْنَ عَمْرٍو بْنَ الْأَسْوَدِ) هو المقداد ابن الأسود الذي سبق في السند الماضي، قال النوويّ رحمه الله تعالى في "شرحه": قد يُغْلَط في ضبطه، وقراءته، والصواب فيه أن يُقْرَأ "عمرٍو" مجرورًا منونًا، و"ابنَ الأسود" بنصب النون، ويُكتب بالألف؛ لأنه صفة للمقداد، وهو منصوبٌ، فينصب، وليس "ابن" ها هنا واقعًا بين علمين متناسلين، فلهذا قلنا: تتعين كتابته بالألف، ولو قُرِئ "ابن الأسود" بجر "ابن" لفسد المعنى، وصار عمرو بن الأسود، وذلك غَلَطٌ صريحٌ، ولهذا الاسم نظائر، منها:"عبد الله بن عمرٍو ابنُ أم مكتوم"، كذا رواه مسلم رحمه الله آخر الكتاب، في حديث الْجَسّاسة، و"عبد الله بن أُبيٍّ بنُ سَلُولَ"، و"عبد الله بن مالكٍ ابنُ بُحَينة"، و"محمد بن عليٍّ ابنُ الْحَنَفِيَّة"، و"إسماعيل بن إبراهيمَ ابنُ عُلَيَة"، و"إسحاق بن ابراهيمَ ابنُ راهويه"، و"محمد بن يزيد بن ماجه"، فكل هؤلاء ليس الأب فيهم ابنًا لمن بعده، فيتعين أن يُكتَب "ابن" بالألف، وأن يُعْرَب بإعراب الابن المذكور أوّلًا، فـ"أمُّ مكتوم" زوجة عمرو، و"سَلُول" زوجة أُبَيّ، وقيل غير ذلك مما سنذكره في موضعه - إن شاء الله تعالى - و"بُحَينة" زوجة مالك، وأمُّ عبد الله، وكذلك "الحنفية"، زوجة عليّ رضي الله عنه، و"عُلَيَّةُ" زوجة إبراهيم، و"راهويه"، هو إبراهيم، والد إسحاق، وكذلك "ماجه" هو يزيد

(2)

، فهما لقبان، والله تعالى أعلم.

ومرادهم في هذا كله تعريفُ الشخص بوصفيه؛ ليَكْمُل تعريفه، فقد يكون الإنسان عارفًا بأحد وصفيه دون الآخر، فيجمعون بينهما؛ ليتم التعريف لكل أحد، وقُدِّم هنا نسبته إلى عمرو على نسبته إلى الأسود؛ لكون عمرو هو الأصل، وهذا من المستحسنات النفيسة، والله تعالى أعلم.

(1)

"شرح النوويّ" 2/ 103.

(2)

هذا فيه اختلاف بين العلماء، وقد حقّقته في مقدمة "شرح سنن ابن ماجه"، فارجع إليه، تستفد.

ص: 171

وقوله: (الْكِنْدِيَّ) قال النوويّ رحمه الله تعالى: فيه إشكال من حيث إن أهل النسب قالوا: إنه بَهْرَانيّ صُلْبِيَّةً من بَهْراء بن الْحَاف - بالحاء المهملة، وبالفاء - ابن قُضَاعة، لا خلاف بينهم في هذا، وممن نقل الإجماع عليه القاضي عياض وغيره - رحمهم الله تعالى -.

وجوابه: أن أحمد بن صالح الإمام الحافظ المصريَّ، كاتب الليث بن سعد - رحمه الله تعالى - قال: إن والد المقداد حالف كِنْدَة، فنسب إليها، ورَوَينا عن ابن شِمَاسة، عن سفيان، عن صُهَابة - بضم الصاد المهملة، وتخفيف الهاء، وبالباء الموحدة - الْمَهْريّ، قال: كنت صاحب المقداد بن الأسود في الجاهلية، وكان رجلًا من بَهْراء، فأصاب فيهم دمًا، فَهَرَب إلى كِندة، فحالفهم، ثم أصاب فيهم دمًا، فَهَرَب إلى مكة، فحالف الأسود بن عبد يغوث، فعلى هذا تَصِحُّ نسبته إلى بهراء؛ لكونه الأصل، وكذلك إلى قُضَاعة، وتصحّ نسبته إلى كندة؛ لِحِلْفه، أو لِحِلف أبيه، وتصح إلى زُهْرة؛ لِحِلفه مع الأسود.

انتهى كلام النوويّ رحمه الله تعالى، وهو تحقيق نفيس، والله تعالى أعلم.

وقوله: (وَكَانَ حَلِيفًا لِبَنِي زُهْرَةَ) أي لمحالفته الأسودَ بن عبد يغوث الزهريَّ، فقد ذكر ابن عبد البر وغيره أن الأسود حالفه أيضًا، مع تبنيه إياه، كما أسلفنا هذا كلّه قريبًا.

وقوله: (أَنَّ الْمِقْدَادَ بْنَ عَمْرٍو ابْنَ الْأَسْوَدِ الْكِنْدِيَّ - إلى قوله: أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ

إلخ).

فأعاد لفظة "أَنَّهُ"؛ لطول الكلام، ولو لم يذكرها لكان صحيحًا، بل هو الأصل، ولكن لَمّا طال الكلام جاز، أو حَسُنَ ذكرها، ونظيره في كلام العرب كثيرٌ، وقد جاء مثله في القرآن العزيز، والأحاديث الشريفة، ومما جاء في القرآن قوله عز وجل حكايةً عن الكفار:{أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35)} [المؤمنون: 35]، فأعاد {أَنَّكُمْ} ؛ للطول، ومثله قوله تعالى:{وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (89) بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا} [البقرة: 89، 90]، فأعاد {فَلَمَّا جَاءَهُمْ} ، وقد تقدّم تحقيق نظير هذه المسألة، فلا تكن من الغافلين.

[تنبيه]: رواية يونس التي أحالها المصنف على رواية الليث ساقها

ص: 172

البخاري رحمه الله في "صحيحه" فقال: (6865) حدّثنا عبدان، حدّثنا عبد الله، حدّثنا يونس عن الزهريّ، حدّثنا عطاء بن يزيد، أنّ عبيد الله بن عديّ حدّثه أن المقداد بن عمرو الكنديّ حليف بني زهرة حدّثه، وكان شهد بدرًا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: يا رسول الله إني لقيتُ كافرًا، فاقتتلنا، فضرب يدي بالسيف، فقطعها، ثم لاذ منِّي بشجرة، وقال: أسلمت لله، آقتله بعد أن قالها؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا تقتله"، قال: يا رسول الله، فإنه طرح إحدى يديّ، ثم قال ذلك بعدما قطعها، آقتله؟ قال:"لا تقتله، فإن قتلته، فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله، وأنت بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قال". انتهى.

وتمام شرح الحديث، وبيان مسائله تقدّما في الحديث الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[284]

(96) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو خَالِدٍ الْأَحْمَرُ (ح) وَحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ، كِلَاهُمَا عَنِ الْأَعْمَش، عَنْ أَبِي ظَبْيَانَ، عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زيدٍ، وَهَذَا حَدِيثُ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، قَالَ: بَعَثَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي سَرِيَّةٍ، فَصَبَّحْنَا الْحُرَقَاتِ مِنْ جُهَيْنَةَ، فَأَدْرَكْتُ رَجُلًا، فَقَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، فَطَعَنْتُهُ، فَوَقَعَ فِي نَفْسِي مِنْ ذَلِكَ، فَذَكَرْتُهُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"أَقالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَقَتَلْتَهُ؟ "، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله، إِنَّمَا قَالَهَا خَوْفًا مِنَ السِّلَاح، قَالَ:"أَفَلَا شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِه، حَتَّى تَعْلَمَ أَقَالَهَا أَمْ لَا؟ "، فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا عَلَيَّ، حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّي أَسْلَمْتُ يَوْمَئِذٍ، قَالَ: فَقَالَ سَعْدٌ: وَأنَا وَاللهِ لَا أَقْتُلُ مُسْلِمًا حَتَّى يَقْتُلَهُ ذُو الْبُطَيْنِ - يَعْنِي أُسَامَةَ - قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: ألَمْ يَقُلِ اللهُ: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال: 39]؟، فَقَالَ سَعْدٌ: قَدْ قَاتَلْنَا حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ، وَأَنْتَ وَأَصْحَابُكَ تُرِيدُونَ أَنْ تُقَاتِلُوا حَتَّى تَكُونُ فِتْنَةٌ).

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) هو: عبد الله بن محمد بن أبي شيبة المذكور في الباب الماضي.

ص: 173

2 -

(أَبُو خَالِدٍ الْأَحْمَرُ) هو: سليمان بن حيّان الأزديّ الكوفيّ، صدوقٌ يُخطئ [8](ت 190) أو قبلها (ع) تقدم في "الإيمان" 5/ 1205.

3 -

(أَبُو كُرَيْبٍ) محمد بن العلاء المذكور في الباب الماضي.

4 -

(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) هو ابن راهويه المذكور قبل حديث.

5 -

(أَبُو مُعَاوِيَةَ) هو: محمد بن خازم الضرير المذكور في الباب الماضي.

6 -

(الْأَعْمَشُ) هو: سليمان بن مِهْران المذكور في الباب الماضي.

7 -

(أَبُو ظَبْيَانَ) - بفتح الظاء المعجمة، وسكون الموحّدة - هو: حُصين بن جُندب بن الحارث بن وَحْشِيّ بن مالك الْجَنْبيّ - بفتح الجيم، وسكون النون، ثم موحّدة - الكوفيّ، ثقة [2].

رَوَى عن عمر، وعليّ، وابن مسعود، وسلمان، وأسامة بن زيد، وعمار، وحذيفة، وأبي موسى، وابن عباس، وابن عمر، وعائشة، وغيرهم، ومن التابعين عن علقمة، وأبي عُبيدة بن عبد الله بن مسعود، ومحمد بن سعد بن أبي وقاص، وغيرهم.

ورَوَى عنه ابنه قابوس، وأبو إسحاق السَّبِيعيّ، وسلمة بن كُهيل، والأعمش، وحصين بن عبد الرحمن، وأبو حَصِين، وعطاء بن السائب، وسِمَاك بن حَرْب، وجماعة.

قال ابن معين، والعجليّ، وأبو زرعة، والنسائيّ، والدارقطنيّ: ثقة، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال ابن سعد: كان ثقةً، وله أحاديث، وقال أحمد بن حنبل: كان شعبة يُنكر أن يكون سَمِع من سلمان، وقال أبو حاتم: قد أدرك ابن مسعود، ولا أظنُّهُ سمع منه، ولا أظنه سمع من سلمان حديثَ العَرَب، ولا يثبت له سماع من عليّ، والذي ثبت له ابنُ عباس، وجرير، وقال ابن حزم: لم يَلْقَ معاذًا، ولا أدركه، وسئل الدارقطنيّ: ألقي أبو ظبيان عُمَر وعليًّا؟ قال: نعم، وقال عَبّاس الدُّوريّ: سألت يحيى عن حديث الأعمش، عن أبي ظَبْيان، قال لي عمر: يا أبا ظبيان أَتَجِد مالًا؟ فقال يحيى: ليس هذا أبو ظبيان الذي يَروِي عن عليّ، ورَوَى عنه سلمة بن كُهَيل، ذاك أبو ظبيان آخر، هو القرشي.

قال ابن أبي عاصم: مات سنة (89) وقال ابن سعد وغيره: مات سنة (90)، وقيل: غير ذلك.

ص: 174

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب حديثان فقط: هذا الحديث، وأعاده بعده، وحديث (2319):"من لا يرحم الناس لا يرحمه الله عز وجل".

[تنبيه]: قال النوويّ رحمه الله تعالى في "شرحه": وأما قوله: "عن أبي ظبيان": فهو بفتح الظاء المعجمة، وكسرها، فأهل اللغة يفتحونها، ويُلَحِّنون مَن يكسرها، وأهلُ الحديث يكسرونها، وكذلك قَيَّده ابن ماكولا وغيره. انتهى

(1)

.

8 -

(أُسَامَةُ بْنُ زَيْد) بن حارثة بن شَرَاحيل بن عبد الْعُزَّى بن زيد بن امرئ القيس بن عامر بن النعمان بن عامر بن عبد وَدّ بن عوف بن كِنانة بن بكر بن عَوف بن عُذْرة بن زيد اللات بن رُفَيدة بن ثَوْر بن كَلْب بن وبرة الكلبيّ، أبو محمد، ويقال: أبو زيد، وقيل غير ذلك في كنيته، الْحِبُّ ابن الْحِبّ، مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمه أم أيمن حاضنة النبيّ صلى الله عليه وسلم.

رَوَى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعن أبيه، وأم سلمة.

ورَوَى عنه ابْنَاه: الحسن ومحمد، وابنُ عباس، وأبو هريرة، وكُرَيب، وأبو عثمان النَّهْديّ، وعمرو بن عثمان بن عفان، وأبو وائل، وعامر بن سعد، وعروة بن الزبير، والزِّبْرِقان بن عمرو بن أمية الضَّمْريّ، وقيل: لم يلقه، والحسن البصريّ على خلاف فيه، فقد قال ابن المدينيّ، وأبو حاتم: إن الحسن البصريّ لم يسمع منه شيئًا، وجماعةٌ.

استعْمَلَه رسول الله صلى الله عليه وسلم على جيشٍ فيه أبو بكر وعمر رضي الله عنهم، فلم يَنفُذ حتى تُوُفِّي النبيّ صلى الله عليه وسلم، فبعثه أبو بكر إلى الشام.

وكان عمر رضي الله عنه يُجِلُّه ويُكرمه، وفَضَّله في العطاء على ولده عبد الله بن عمر، واعتزل أسامة الْفِتَن بعد قتل عثمان رضي الله عنه إلى أن مات في أواخر خلافة معاوية، وكان قد سَكَن الْمِزَّة من عَمَلِ دِمَشْق، ثم رجع، فسكن وادي القرى، ثم نزل إلى المدينة، فمات بها بالْجُرُف، وصَحَّح ابن عبد البر أنه مات سنة أربع وخمسين، وهو ابن (75)، وقال ابن حبان: مات سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولأسامة عشرون سنة، زاد ابن سعد: ولم يَعْرِف إلا الإسلام، ولم يَدِنْ بغيره،

(1)

"شرح النوويّ" 2/ 103.

ص: 175

وذكر ابن أبي خيثمة أن النبيّ صلى الله عليه وسلم: تُوُفِّي، وله (18) سنةً، وقال مصعب الزبيريّ: تُوُفي آخر أيام معاوية بن أبي سفيان، سنة (8) أو (59)

(1)

.

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (53) حديثًا

(2)

، والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله تعالى، وفيه من صيغ الأداء: التحديث، والعنعنة.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخيه: أبي بكر، وإسحاق، فالأول ما أخرج له الترمذيّ، والثاني ما أخرج له ابن ماجه.

3 -

(ومنها): أن فيه كتابة (ح) إشارة إلى التحويل، فله إلى الأعمش إسنادان: الأول: أبو بكر، عن أبي حيّان، عن الأعمش، والثاني: أبو كريب، وإسحاق كلاهما عن أبي معاوية، عن الأعمش.

4 -

(ومنها): أنه له فيه ثلاثة من الشيوخ قرن بين اثنين منهما، وأبو كريب هو من التسعة الذين يروي عنهم أصحاب الأصول الستة بلا واسطة، وقد تقدّموا غير مرّة.

5 -

(ومنها): أن أبا معاوبة أثبت من روى عن الأعمش.

6 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ: الأعمش، عن أبي ظبيان.

7 -

(ومنها): أنه لا يوجد في الكتب الستة من يُكنى بأبي ظبيان غير هذا، وأما أبو ظبيان القرشيّ الذي يروي عن عمر، وعنه سلمة بن كُهيل، وهو مجهول من الطبقة الثالثة، فليس من رجالها، وإنما يُذكر في كتب الرجال للتمييز فقط، فتنبّه.

وتقدّم أيضًا أن هذا الباب أول محلّ ذكره في هذا الكتاب، وتقدّم عدد

(1)

راجع: "الإصابة" 1/ 202 - 203، و"تهذيب التهذيب" 1/ 107 - 108.

(2)

هكذا في برنامج الحديث (صخر)، والذي ذكرته في "قرّة العين" نقلًا عن ابن الجوزيّ: أنه روى من الأحاديث (128) حديثًا، اتفق الشيخان على (15) حديثًا، وانفرد البخاريّ بحديثين، ومسلم بحديثين، ولا اختلاف بين هذا وبين ما في البرنامج؛ لأن ما في البرنامج بالمكرّرات، فتأمله، والله تعالى أعلم.

ص: 176

مرويّاته، وأن اسمه حصين بن جُندب، ولا يوجد في هذا الكتاب ممن اسمه حُصين إلا ثلاثة: هذا أحدهم، والثاني حُصين بن عبد الرحمن، أبو الهذيل الكوفيّ الثقة من الطبقة الخامسة، والثالث: حُصين محمد الأنصاريّ السالميّ المدنيّ من الطبقة الثانية، ويزيد البخاريّ على هؤلاء حُصين بن نُمير الواسطيّ من الطبقة الثامنة.

8 -

(ومنها): أن صحابيّه حبّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وابن حبّه، فقد أخرج البخاريّ في "صحيحه" عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: أنه كان يأخذه والحسن، ويقول:"اللهم إني أحبهما فأحبهما"، أو كما قال، ومناقبه كثيرة، وفضائله شهيرة، وأن هذا الباب أول محلّ ذكره في هذا الكتاب، وتقدّم عدد مرويّاته فيه، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي ظَبْيَانَ) بظاء معجمة مفتوحة، ثم موحدة ساكنة، ثم ياء آخر الحروف (عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زيدٍ) رضي الله عنهما، وقوله:(وَهَذَا حَدِيثُ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ) يعني أن المتن الذي ساقه هو لفظ شيخه أبي بكر بن أبي شيبة، وأما شيخاه: أبو كريب، وإسحاق بن إبراهيم، فروياه بمعناه (قَالَ) أسامة رضي الله عنه (بَعَثنا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي سَرِيَّةٍ) بفتح السين المهملة، وكسر الراء، وتشديد الياء: القطعة من الجيش، فعيلة بمعنى فاعلة، والجمع سرايا، وسَرِيّات، مثلُ عَطِيّة وعَطَايَا وعَطِيَّات. قاله الفيّوميّ، وقال ابن الأثير: السَّرِيّة: طائفة من الجيش، يَبلُغ أقصاها أربعمائة تُبْعَثُ إلى العدوّ، سُمّوا بذلك؛ لأنهم يكونون خُلاصة الْعَسكر وخيارهم، من الشيء السّرِيّ، أي النفيس، وقيل: سُمُّوا بذلك؛ لأنهم يَنفُذون سِرًّا وخُفَيةً، وليس بالوجه؛ لأن لام السرّ راءٌ، وهذه ياء. انتهى

(1)

.

(فَصَبَّحْنَا) بتشديد الباء الموحّدة، ويجوز تخفيفها، يقال: صَبَحه، كمنَعَهُ، وصَبّحه بالتشديد: إذا أتاه وقت الصبح

(2)

، أي أتيناهم، وهَجَمْنَا عليهم صباحًا بغتة قبل أن يَشْعُروا بنا، ومنه قوله تعالى: {وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً

(1)

"النهاية" 2/ 363.

(2)

راجع: "القاموس" ص 207.

ص: 177

عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ (38)} [القمر: 38](الْحُرَقَاتِ مِنْ جُهَيْنَةَ)"الْحُرَقات" - بضم المهملة، وفتح الراء، ثم قاف -: هم بطن من جُهَينة، ولذا قال:"من جهينة"، وسُمُّوا بذلك؛ لوقعة كانت بينهم وبين بني مُرَّة بن عوف بن سَعْد بن ذُبْيَان، فأحرقوهم بالسهام؛ لكثرة من قَتَلُوا منهم، ذكره في "الفتح"

(1)

، وذكر في موضع آخر، فقال: نسبة إلى الحرقة، واسمه جُهيش بن عامر بن ثعلبة بن مودعة بن جُهينة، تَسَمّى الْحُرَقة؛ لأنه حرّق قومًا بالقتل، فبالغ في ذلك، ذكره ابن الكلبيّ. انتهى

(2)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله تعالى: "الْحُرقات" رَوَيناه بضمّ الراء، وفتحها، وهو موضع معروفٌ من بلاد جُهينة، يُسمّى بجمع المؤنّث السالم، كعرفات، وأذرعات. انتهى

(3)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تلخّص مما ذكره القرطبيّ، ومما سبق عن "الفتح": أن "الحرقات" تُطلق على قبيلة، وعلى بلدة، وقد جمع بينهما في "لُبّ اللباب"، حيث قال ما حاصله: الْحُرَقيّ بضم الحاء، وفتح الراء، وفي آخره قاف: هذه النسبة إلى الْحُرقات من جُهينة، وبطنٌ من غافق، وناحيةٌ بعُمَان. انتهى

(4)

.

[تنبيه]: قال في "الفتح": هذه السرية يقال لها سَريّة غالب بن عبيد الله الليثيّ، وكانت في رمضان سنة سبع، فيما ذكره ابن سعد، عن شيخه، وكذا ذكره ابن إسحاق في "المغازي": حدثني شيخ من أسلم، عن رجال من قومه، قالوا: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم غالب بن عبيد الله الكلبيّ، ثم الليثيّ إلى أرض بني مُرّة، وبها مِرْداس بن نَهِيك حليف لهم من بني الْحُرَقة، فقتله أسامة، فهذا يُبَيِّن السبب في قول أسامة:"بعثنا إلى الحرقات من جهينة"، والذي يظهر أن قصة الذي قَتَل، ثم مات فدُفن، ولفظته الأرض غير قصة أسامة؛ لأن أسامة عاش بعد ذلك دهرًا طويلًا، وترجم البخاري في "المغازي": "بَعْثُ النبيّ صلى الله عليه وسلم

(1)

"الفتح" 12/ 202 "كتاب المغازي" رقم الحديث (6872 - 6875).

(2)

"الفتح" 7/ 591 "كتاب المغازي" رقم الحديث (4272 - 4273).

(3)

"المفهم" 1/ 296.

(4)

"لبّ اللباب" 1/ 243.

ص: 178

أسامة بن زيد إلى الحرقات من جهينة"، فجرى الداودي في "شرحه" على ظاهره، فقال: "تأمير مَن لم يبلغ".

وتُعُقِّب من وجهين:

[أحدهما]: أنه ليس فيه تصريح بأن أسامة كان الأمير؛ إذ يَحتمل أن يكون جَعَل الترجمة باسمه؛ لكونه وقعت له تلك الواقعة، لا لكونه كان الأمير.

[والثاني]: أنها إن كانت سنة سبع أو ثمان فما كان أسامة يومئذ إلا بالغًا؛ لأنهم ذكروا أنه كان له لما مات النبيّ صلى الله عليه وسلم ثمانية عشر عامًا. انتهى

(1)

.

(فَأَدْرَكْتُ رَجُلًا) وفي الرواية التالية: "فَصَبَّحْنَا الْقَوْمَ، فَهَزَمْنَاهُمْ، وَلَحِقْتُ أَنَا وَرَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ رَجُلًا مِنْهُمْ، فَلَمَّا غَشِينَاهُ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، فَكَفَّ عَنْهُ الْأَنْصَارِيُّ، وَطَعَنْتُهُ بِرُمْحِي، حَتَّى قَتَلْتُهُ".

قال الحافظ ابن عبد البر رحمه الله تعالى: اسمه - يعني: الرجل المقتول - مِرْداس بن عمرو الْفَدَكيّ، ويقال: مِرداس بن نَهِيك الْفَزَاريّ، وهو قول ابن الكلبيّ، قتله أُسامة، وساق القصة.

وقال صاحب "التنبيه": هو مِرْداس بن نَهِيك، قاله ابن بشكوال، وجزم به ابن القيّم في "الهدي"، وذكره الطبريّ، ويقال: مِرداس بن عمرو بن نَهِيك، وقال ابن طاهر: هو مِرداس بن عُمَر الفَدَكيّ. انتهى. نقله عنه الحافظ وليّ الدين العراقيّ، والظاهر أنه تحريفٌ من الكاتب، وإنما هو ابن عَمْرو بالواو في آخره، وهذا الرجل يقال فيه: مِرداس بن عمرو، ويقال: مِرداس بن نَهِيك، قاله الذهبيّ في "التجريد". انتهى

(2)

.

وذكر ابن منده أن أبا سعيد الخدريّ رضي الله عنه قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سَرِيّةً فيها أسامة إلى بني ضَمْرة، فذكر قتل أسامة الرجل.

وقال ابن أبي عاصم في "الديات": حدثنا يعقوب بن حُميد، حدثنا يحيى بن سُليم، عن هشام بن حسان، عن الحسن، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث

(1)

"الفتح" 12/ 203.

(2)

راجع: "تنبيه المعلم بمبهمات صحيح مسلم" ص 61.

ص: 179

خيلًا إلى فَدَك، فأغاروا عليهم، وكان مِرْداس الْفَدَكيّ قد خرج من الليل، وقال لأصحابه: إني لاحق بمحمد وأصحابه، فبَصُرَ به رجل، فحَمَل عليه، فقال: إني مؤمن، فقتله، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"هلا شَقَقت عن قلبه؟ "، قال: فقال أنس رضي الله عنه: إن قاتل مِرداس مات، فدفنوه، فأصبح فوق القبر، فأعادوه، فأصبح فوق القبر مرارًا، فذكروا ذلك للنبيّ صلى الله عليه وسلم، فأَمَر أن يُطْرَح في واد بين جبلين، ثم قال:"إن الأرض لَتَقْبَلُ مَن هو شرٌّ منه، ولكن الله وَعَظَكم".

قال الحافظ: إن ثبت هذا فهو مِرداس آخر، وقتيل أسامة لا يُسَمَّى مِرداسًا، وقد وقع مثل هذا عند الطبريّ في قتل مُحَلِّم بن جَثّامةَ عامرَ بنَ الأضبط، وأن مُحَلِّمًا لَمّا مات، ودُفِن لفظته الأرض، فذكر نحوه. انتهى

(1)

.

(فَقَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، فَطَعَنْتُهُ) أي بالرمح، ففي الرواية الآتية:"فأدركت رجلًا، فطعنته برمحي حتى قتلته"، وفي حديث جندب الآتي أيضًا:"فلما رَفَع عليه السيف قال: لا إله إلا الله، فقتله".

ويُمكن الجمع بأنه رَفَع عليه السيف أوّلًا، فلما لم يتمكن من ضربه بالسيف طعنه بالرمح، قاله في "الفتح".

(فَوَقَعَ فِي نَفْسِي مِنْ ذَلِكَ فَذَكَرْتُهُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) وفي الرواية التالية: "فلما قدمنا المدينة بلغ ذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم"، ولا منافاة بينهما؛ لأنه يُحْمَل على أن ذلك بلغ النبيّ صلى الله عليه وسلم من أسامة، لا من غيره، فيكون تقدير الثاني: بلغ ذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم مني، أفاده في "الفتح".

وقال النوويّ رحمه الله تعالى: وأما قول أسامة في الرواية الأولى: "فطعنته، فوقع في نفسي من ذلك، فذكرته للنبيّ صلى الله عليه وسلم"، وفي الرواية الأخرى:"فلما قَدِمنا بلغ ذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال لي: يا أسامة، أقتلته؟ "، وفي الرواية الأخرى:"فجاء البشير إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فسأله، فأخبره حتى أخبره خبر الرجل، فدعاه - يعني: أسامة - فسأله"، فيحتمل أن يُجمَع بينها بأن أسامة وقع في نفسه من ذلك شيءٌ بعد قتله، ونَوَى أن يسأل عنه، فجاء البشير، فأَخبَر به قبل مَقْدَم أسامة، وبلغ النبيّ صلى الله عليه وسلم أيضًا بعد قدومهم، فسأل أسامةَ، فذكره، وليس في

(1)

المصدر السابق.

ص: 180

قوله: "فذكرته" ما يدُلّ على أنه قاله ابتداءً قبل تقدُّم علم النبيّ صلى الله عليه وسلم به، والله تعالى أعلم. انتهى كلام النوويّ

(1)

.

(فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أقَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَقَتَلْتَهُ؟ ") قال ابن التين رحمه الله تعالى: في هذا اللَّوْم تعليم، وإبلاع في الموعظة حتى لا يُقْدِم أحدٌ على قتل مَن تلفظ بالتوحيد.

وقال القرطبيّ رحمه الله تعالى: في تكراره القول إنكار شديد، وزجرٌ وَكِيدٌ، وإعراضٌ عن قبول عذر أسامة الذي أبداه بقوله:"إنما قالها خوفًا من السلاح". انتهى.

(قَالَ) أسامة (قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله، إِنَّمَا قَالَهَا) أي كلمة التوحيد (خَوْفًا مِنَ السِّلَاحِ) وفي رواية حصين الآتية: "إنما كان مُتَعَوِّذًا"، وفي رواية ابن أبي عاصم من وجه آخر، عن أسامة:"إنما فَعَلَ ذلك لِيَحْرِز دمه".

(قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("أفَلَا شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِه، حَتَّى تَعْلَمَ أَقالَهَا أَمْ لَا؟ ") قال النوويّ رحمه الله تعالى: الفاعل في قوله: "أقالها؟ " هو القلب، ومعناه: أنك إنما كُلِّفتَ بالعمل بالظاهر، وما ينطق به اللسان، وأما القلب فليس لك طريق إلى معرفة ما فيه، فأنكر عليه امتناعه من العمل بما ظهر باللسان، وقال:"أفلا شققت عن قلبه"؛ لتنظر هل قالها القلبُ، واعتقدها، وكانت فيه، أم لم تكن فيه، بل جَرَت على اللسان فحسبُ؟، يعني: وأنت لست بقادر على هذا، فاقتصر على اللسان فحسبُ، يعني: ولا تطلب غيره. انتهى كلام النوويّ رحمه الله تعالى

(2)

.

(فَمَا زَالَ) صلى الله عليه وسلم (يُكَرِّرُهَا عَلَيَّ) أي يُعِيد مقالته المذكورة، وقال القرطبيّ: قوله: "يكرّرها": أي كلمة الإنكار، وظاهر هذه الرواية: أن الذي كرّر عليه إنما هو قوله: "أفلا شَقَقتَ عن قلبه، حتى تعلم أقالها أم لا؟ "، وفي الرواية الأخرى: أن الذي كرّره عليه إنما هو قوله: "كيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة؟ "، ووجه التوفيق بينهما أن يكون النبيّ صلى الله عليه وسلم كرّر الكلمتين

(1)

"شرح النوويّ" 2/ 107.

(2)

"شرح النوويّ" 2/ 104.

ص: 181

معًا، غير أن بعض الرواة ذكر إحدى الكلمتين، وذكر آخر الأخرى. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: ويحتمل أن يكون بعض الرواة رواه بالمعنى، والله تعالى أعلم.

(حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّي أَسْلَمْتُ يَوْمَئِذٍ) أي أن إسلامي كان ذلك اليوم؛ لأن الإسلام يَجُبُّ ما قبله، فتمنى أن يكون ذلك الوقت أَوّلَ دخوله في الإسلام؛ ليأمن من جَرِيرة تلك الْفَعْلة، ولم يُرد أنه تَمَنَّى أن لا يكون مسلمًا قبل ذلك.

وقال الخطابي: لعل أسامة تأوّل قوله تعالى: {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا} [غافر: 85]، ولذلك عَذَره النبيّ صلى الله عليه وسلم، فلم يُلزِمه ديةً ولا غيرها.

قال الحافظ: كأنه حَمَل نفي النفع على عمومه دنيا وأخرى، وليس ذلك المراد، والفرق بين المقامين أنه في مثل تلك الحالة ينفعه نفعًا مقيدًا، بأن يَجِبَ الكَفُّ عنه حتى يُخْتَبَر أمره، هل قال ذلك خالصًا من قلبه، أو خشيةً من القتل؟، وهذا بخلاف ما لو هَجَم عليه الموتُ، ووَصَلَ خروج الروح إلى الغرغرة، وانكشف الغطاء، فإنه إذا قالها لم تنفعه بالنسبة لحكم الآخرة، وهو المراد من الآية. انتهى.

وقال القرطبيّ رحمه الله تعالى: وإنما تمنّى أسامة أن يتأخّر إسلامه إلى يوم المعاتبة ليسلم من تلك الجناية السابقة، وكأنه استصغر ما كان منه من الإسلام، والعمل الصالح قبل ذلك في جنب ما ارتكبه من تلك الجناية؛ لِمَا حَصَلَ في نفسه من شدّة إنكار النبيّ صلى الله عليه وسلم لذلك وعِظَمه.

[فإن قيل]: إذا استحال أن يكون قتل أسامة لذلك الرجل عمدًا؛ لما ذكرتم، وثَبَتَ أنه خطأ، فلِمَ لم تلزمه الكفّارة، والعاقلةَ الديةُ؟.

[فالجواب]: أن ذلك مسكوت عنه، وغير منقول شيءٌ منه في الحديث، ولا في شيء من طرقه، فيَحْتَمِلُ أن يكون النبيّ صلى الله عليه وسلم حَكَمَ بلزوم ذلك أسامة وعاقلته، ولم يُنقَل، وفيه بُعدٌ؛ إذ لو وقع شيء من ذلك لنُقِل في طريق من الطرق، مع أن العادة تقتضي التحديث بذلك والإشاعة، ويحتمل أن يقال: إن ذلك كان قبل نزول حكم الكفّارة والدية، والله تعالى أعلم. انتهى كلام القرطبيّ

(2)

.

(1)

"المفهم" 1/ 296 - 297.

(2)

"المفهم" 1/ 297 - 298.

ص: 182

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الاحتمال الثاني الراجح، وسيأتي تمام البحث فيه في المسألة الرابعة - إن شاء الله تعالى -.

(قَالَ) أي أبو ظبيان (فَقَالَ سَعْدٌ) أي ابن أبي وقّاص رضي الله عنه (وَأَنَا وَاللهِ لَا أَقْتُلُ مُسْلِمًا حَتَّى يَقْتُلَهُ ذُو الْبُطَيْنِ) - بضم الباء - تصغير بَطْن، قال القاضي عياض رحمه الله تعالى: قيل لأسامة: ذو الْبُطَين؛ لأنه كان له بطن عظيم.

انتهى. وقوله: (- يَعْنِي أُسَامَةَ -) العناية من أحد الرواة، المصنّف، أو من فوقه، يعني بقوله:"ذو البطين": أسامة بن زيد صاحب القصّة هنا.

(قَالَ) الراوي، والظاهر أنه أبو ظبيان (قَالَ رَجُلٌ) منكرًا قول سعد رضي الله عنه المذكور (أَلمْ يَقُلِ اللهُ:{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال: 39]؟)، قال أبو عبد الله القرطبيّ رحمه الله تعالى في "تفسيره" (2/ 353): هذا أمرٌ بالقتال لكل مشرك، في كل موضع، على مَن رآها ناسخةً، ومن رآها غير ناسخة قال: المعنى: قاتلوا هؤلاء الذين قال الله فيهم: {فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ} ، والأول أظهر، وهو أَمْر بقتالٍ مُطلق، لا بشرطِ أن يبدأ الكفار، دليل ذلك قوله تعالى:{وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} ، وقال صلى الله عليه وسلم:"أُمِرتُ أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله"، فدَلَّت الآية والحديث على أنّ سبب القتال هو الكفر؛ لأنه قال:{حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} : أي كُفْرٌ، فجَعَل الغاية عدمَ الكفر، وهذا ظاهرٌ، قال ابن عباس، وقتادة، والربيع، والسُّدِّيّ، وغيرهم: الفتنة هنا الشرك، وما تابعه من أذى المؤمنين، وأصل الفتنة الاختبار والامتحان، مأخوذ من فَتَنْتُ الفضة: إذا أدخلتها في النار؛ لتميز رديئها من جَيِّدها. انتهى كلام القرطبيّ

(1)

.

وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى في "تفسيره"(2/ 309): وقال الضحاك عن ابن عباس: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} يعني: لا يكون شرك، وكذا قال أبو العالية، ومجاهد، والحسن، وقتادة، والربيع بن أنس، والسُّدّيّ، ومقاتل بن حيان، وزيد بن أسلم، وقال محمد بن إسحاق: بلغني عن الزهريّ، عن عروة بن الزبير وغيره، من علمائنا:{حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} حتى لا يُفْتَنَ مسلم

(1)

"جامع أحكام القرآن" 2/ 353 - 354.

ص: 183

على دينه، وقوله:{وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} ، قال الضحاك، عن ابن عباس في هذه الآية، قال: يُخْلَص التوحيد دئه، وقال الحسن، وقتادة، وابن جرير:{وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} ، أن يقال: لا إله إلا الله، وقال محمد بن إسحاق: ويكون التوحيد خالصًا لله، ليس فيه شركٌ، ويُخْلَع ما دونه من الأنداد، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم:{وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} ، لا يكون مع دينكم كفرٌ، ويشهد لهذا ما ثَبَتَ في "الصحيحين" من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:"أُمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم، إلا بحقها، وحسابهم على الله عز وجل".

وأخرجا من حديث أبي موسى الأشعريّ صلى الله عليه وسلم قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل شجاعةً، ويقاتل حميةً، ويقاتل رياءً، أَيُّ ذلك في سبيل الله عز وجل؟ فقال:"من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، فهو في سبيل الله عز وجل"

(1)

.

(فَقَالَ سَعْدٌ) بن أبي وقّاص رضي الله عنه ردًّا على إنكاره (قَدْ قَاتَلْنَا) أي الكفّار (حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ) أي حتى لا يَفْتِن الكفّار المؤمنين (وَأَنْتَ وَأَصْحَابُكَ) يريد الذين يتقاتلون بينهم، لا للكفر، بل لأغراض أخرى بتأويل، أو بغير تأويل، فسعد رضي الله عنه ممن لم ير القتال معهم (تُرِيدُونَ أَنْ تُقَاتِلُوا حَتَّى تَكُونُ فِتْنَةٌ) أي حتى توجد الفتنة بين المسلمين.

[تنبيه]: هذا الذي جرى بين سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه وبين الرجل، قد جرى مثله لعبد الله بن عمر رضي الله عنهما، وذلك فيما أخرجه الإمام البخاريّ رحمه الله تعالى في "صحيحه"، فقال:

(4153)

حدثنا محمد بن بشار، حدثنا عبد الوهاب، حدثنا عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما، أتاه رجلان في فتنة ابن الزبير، فقالا: إن الناس صَنَعُوا، وأنت ابن عمر، وصاحب النبيّ صلى الله عليه وسلم، فما يمنعك أن تَخْرُج؟ فقال: يمنعني أن الله حَرَّم دم أخي، فقالا: ألم يقل الله: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} ؟ فقال: قاتلنا حتى لم تكن فتنة، وكان الدين لله، وأنتم تريدون أن تقاتلوا حتى تكون فتنة، ويكون الدين لغير الله.

(1)

"تفسير ابن كثير" 7/ 75 - 78.

ص: 184

وزاد عثمان بن صالح، عن ابن وهب، قال: أخبرني فلان، وحيوة بن شريح، عن بكر بن عمرو الْمَعَافريّ، أن بُكير بن عبد الله حدَّثه، عن نافع: أن رجلًا أتَى ابن عمر، فقال: يا أبا عبد الرحمن، ما حَمَلك على أن تَحُجّ عامًا، وتعتمر عامًا، وتترك الجهاد في سبيل الله عز وجل، وقد عَلِمت ما رَغَّب الله فيه؟ قال: يا ابن أخي، بُنِي الإسلام على خمس: إيمان بالله ورسوله، والصلوات الخمس، وصيام رمضان، وأداء الزكاة، وحج البيت، قال: يا أبا عبد الرحمن، ألا تسمع ما ذكر الله في كتابه:{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات: 9]، {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ}؟ قال: فعلنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان الإسلام قليلًا، فكان الرجل يُفْتَن في دينه، إما قتلوه، وإما يعذبونه، حتى كَثُر الإسلام، فلم تكن فتنة، قال: فما قولك في علي وعثمان؟ قال: أما عثمان فكان الله عفا عنه، وأما أنتم فكرهتم أن يعفو عنه، وأما عليّ فابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخَتَنه، وأشار بيده، فقال: هذا بيته حيث ترون.

و (4651) حدثنا أحمد بن يونس، حدثنا زهير، حدثنا بيان أن ابن وَبَرَة حدثه، قال: حدثني سعيد بن جبير، قال: خَرَج علينا، أو إلينا ابن عمر رضي الله عنهما، فقال رجلٌ: كيف تَرَى في قتال الفتنة؟ فقال: وهل تدري ما الفتنة؟ كان محمد صلى الله عليه وسلم يقاتل المشركين، وكان الدخول عليهم فتنة، وليس بقتالكم على الملك. هذا كله سياق البخاري رحمه الله تعالى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أُسامة بن زيد رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا في "الإيمان"[43/ 284 و 285](96)، و (البخاريّ) في "المغازي"(4269)، و"الديات"(6872)، و (أبو داود) في "الجهاد"(2643)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 200)، و (النسائيّ) في "الكبرى" كما في "تحفة الأشراف"(1/ 44)، و (أبو عوانة) في "مسنده" (192 و 193

ص: 185

و 194 و 195 و 196)، و (أبو نُعيم) في "مستخرجه"(276 و 277)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4751)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان تحريم قتل الكافر بعدما قال: "لا إله إلا الله".

2 -

(ومنها): الإنكار على من يتسارع في النيل ممن أظهر إسلامه، بظنّ أنه إنما يريد به غرضًا دنيويًّا؛ لأن الحكم بما ظهر، لا بما استتر.

3 -

(ومنها): بيان قدر "لا إله إلا الله"، فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال لأسامة رضي الله عنه:"كيف تصنع بلا إله إلا الله"؟.

4 -

(ومنها): أن "لا إله إلا الله" تُحَاجّ عن صاحبها يوم القيامة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قال له: "كيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة؟ "، وهو نظير ما وقع لأبي طالب، حيث قال له النبيّ صلى الله عليه وسلم:"أي عمّ قل: لا إله إلا الله، كلمةً أُحاجّ لك بها عند الله"، متفقّ عليه.

5 -

(ومنها): أن فيه دليلًا على ترتُّب الأحكام على أسبابها الظاهرة دون الباطنة.

قال النوويّ رحمه الله تعالى: قوله صلى الله عليه وسلم: "أفلا شَقَقت عن قلبه؟ "، فيه دليل للقاعدة المعروفة في الفقه والأصول، أن الأحكام يُعْمَل فيها بالظواهر، والله يتولى السرائر. انتهى

(1)

.

6 -

(ومنها): أن في قول أسامة رضي الله عنه: "حتى تمنيتُ أني أسلمتُ يومئذ" إشعارًا بأنه رضي الله عنه استصغر ما سَبَقَ له قبل ذلك من عمل صالح، في مقابلة هذه الْفَعْلة لَمّا سَمِع من النبيّ صلى الله عليه وسلم، من الإنكار الشديد، وإنما أورد ذلك على سبيل المبالغة، قاله القرطبيّ.

7 -

(ومنها): أن الإسلام يَجُبّ ما قبله، فإن أسامة رضي الله عنه ما تمنّى إسلامه يومئذ إلا لما عَلِم أنه يزيل عنه التبعات، وقد جاء مصرّحًا به في حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه الآتي للمصنّف أنه صلى الله عليه وسلم قال له:"أما علمت أن الإسلام يَهْدِم ما كان قبله، وأن الهجرة تَهدِم ما كان قبلها، وأن الحج يَهدِم ما كان قبله؟ ".

(1)

"شرح النوويّ" 2/ 107.

ص: 186

8 -

(ومنها): أنه استدل به النوويّ على رَدّ الفرع الذي ذكره الرافعيّ فيمن رأى كافرًا أسلم، فأُكرِم إكرامًا كثيرًا، فقال: ليتني كنت كافرًا لأكرم، وقال الرافعيّ: يكفر بذلك، وردّه النووي: بأنه لا يَكفُر؛ لأنه جازمُ الإسلام في الحال والاستقبال، وإنما تَمَنَّى ذلك في الحال الماضي مُقَيِّدًا له بالإيمان؛ ليتم له الإكرام، واستَدَلَّ بقصة أسامة رضي الله عنه، ثم قال: ويمكن الفرق. انتهى.

9 -

(ومنها): ما قاله ابن بطال رحمه الله تعالى: إن هذه القصة كانت سبب حلف أسامة رضي الله عنه أن لا يقاتل مسلمًا بعد ذلك، ومن ثَمَّ تَخَلَّف عن علي رضي الله عنه في الْجَمَل وصِفِّين. انتهى.

10 -

(ومنها): أن القرطبي قال: فيه دليلٌ لأهل السنّة على أن حديث النفس كلام وقولٌ، فهو ردّ على من أنكر ذلك من المعتزلة، وأهل البِدَعِ. انتهى.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: استدلال القرطبيّ بهذا الحديث على إثبات الكلام النفسيّ، إن أراد به ما أراده المتكلّمون من أن المراد بكلام الله تعالى هو الكلام النفسيّ، وأما الكلام اللفظيّ فهو عبارة عن النفسيّ، وهو مذهب الأشاعرة وغيرهم من أهل الكلام، فهذا مذهبٌ باطل منابذٌ لنصوص الكتاب والسنّة التي هي صريحة في إثبات الكلام اللفظيّ، كقوله تعالى:{وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} [التوبة: 6] الآية، وكقوله صلى الله عليه وسلم:"من قرأ حرفًا من كتاب الله، فله به حسنةٌ، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول: ألم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف "

(1)

، وغير ذلك من النصوص، وقد استوفيت البحث في هذه المسألة في "التحفة المرضيّة"، و"شرحها"، فراجعه تستفد، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): فيما قاله العلماء في عدم ذكر وجوب القصاص والدية والكفّارة على أسامة رضي الله عنه في هذا الحديث:

قال النوويّ رحمه الله تعالى: أما كونه صلى الله عليه وسلم لم يوجب على أسامة قصاصًا، ولا ديةً، ولا كفارةً، فقد يُسْتَدل به لإسقاط الجميع، ولكن الكفارة

(1)

حديث صحيحٌ، أخرجه الترمذيّ في "جامعه"(2835) بإسناد صحيح.

ص: 187

واجبةٌ، والقصاص ساقطٌ للشبهة، فإنه ظنّه كافرًا، وظنّ أن إظهاره كلمة التوحيد في هذا الحال لا يجعله مسلمًا، وفي وجوب الدية قولان للشافعي رحمه الله تعالى، وقال بكل واحد منهما بعضٌ من العلماء، ويجاب عن عدم ذكر الكفارة في قصّة أسامة رضي الله عنه: بأنها ليست على الفور، بل هي على التراخي، وتأخير البيان إلى وقت الحاجة جائز على المذهب الصحيح عند أهل الأصول، وأما الدية على قول من أوجبها، فيَحْتَمِل أنّ أسامة كان في ذلك الوقت مُعسِرًا بها، فأُخِّرت إلى يساره. انتهى

(1)

.

وقال في "الفتح": وأما كونه صلى الله عليه وسلم لم يُلزِمه ديةً، ولا كفارةً فتوقف فيه الداوديّ، وقال: لعله سَكَت عنه؛ لعلم السامع، أو كان ذلك قبل نزول آية الدية والكفارة.

وقال المازريّ رحمه الله تعالى: لم يَذكُر في الحديث قصاصًا، ولا عقلًا، فيحتمل أن يكون إنما أَسقَط ذلك عنه؛ لأنه متأوّلٌ، ويكون ذلك حجّةً في إسقاط العقل على إحدى الروايتين عند المالكيّة في خطأ الإمام، ومن أَذِن له في شيء، فأتلفه غلطًا، كالأجير والخاتن.

قال القاضي عياض رحمه الله تعالى: لا امتراء أن أسامة رضي الله عنه إنما قتله متأوّلًا، وظانًّا أن الشهادة عند معاينة القتل لا تنفع، كما لا تنفع عند حضور الموت، ولم يَعلَم بعدُ حكم النبيّ صلى الله عليه وسلم فيه، ألا تراه كيف قال: إنما قالها متعوّذًا؟، فحكمه حكم الخاطئ، فسقوط القصاص عنه بَيِّنٌ، وأما سقوط الدية، فلكونه من العدوّ، ولعله لم يكن له وليّ من المسلمين تكون له ديته كما قال تعالى:{فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} الآية [النساء: 92]، فلم يجعل عليه قصاصًا، ولا ديةً سوى الكفّارة، وهذا مذهب ابن عبّاس، وجماعة في الآية أنها في المؤمن يُقتَلُ خطأ، وقومه كفّار، فليس على عاقلته سوى الكفّارة.

وذهب بعضهم إلى أن الآية فيمن كان أولياؤه معاهدين، وذُكر عن مالك،

(1)

"شرح النوويّ" 2/ 106.

ص: 188

والمشهور عنه أنها فيمن لم يُهاجر من المسلمين؛ لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} [الأنفال: 72].

فيكون هذا الحديث ومثله، حُجّةً لهذه المقالات، أو يكون قتله هذا لم يُعلَم إلا بقول أُسامة رضي الله عنه، ولم تَقُم بذلك بينةٌ، ولا تعقل العاقلة اعترافًا.

قال الجامع: في قوله: "إلا بقول أسامة

إلخ" نظر؛ لأنه سيأتي في الرواية الآتية: أن البشير بَلَّغ بذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم قبل أسامة، فتبصر، والله تعالى أعلم.

قال: ولم يكن لأسامة رضي الله عنه مالٌ، فيكون فيه الدية، أو يكون قد تحقّق النبيّ صلى الله عليه وسلم بوحي الله تعالى أن المقتول لم يقل: لا إله إلا الله مخلصًا، بل قالها معتصمًا بها من القتل، غير معتقد لها، فكان كافرًا في الباطن، لكن شدّد النبيّ صلى الله عليه وسلم على أسامة الأمر، وعظّمه عليه؛ لئلا يواقعه ثانية في قائلها عن صحّة وحقيقة، وممن يكتم إيمانه، كما قال للمقداد رضي الله عنه، فلهذا كان أسامة بعدُ لا يقاتل مسلمًا، وحَلَفَ على ذلك، ولهذا قَعَد عن نصرة عليّ رضي الله عنه. انتهى كلام القاضي رحمه الله تعالى

(1)

.

قال الجامع: قوله: "إن المقتول لم يَقُلْ مخلصًا، بل معتصمًا

إلخ" فيه نظر؛ إذ السياق يدفعه، فتأمله بإنصاف، ولهذا قال القرطبيّ رحمه الله تعالى بعدما ذكر نحو هذه الأجوبة، ما نصّه: وهذه الأوجه لا تَسْلَمُ عن الاعتراض، وتتبّع ذلك يُخرج عن المقصود، ولم أجد لأحد من العلماء اعتذارًا عن سقوط إلزام الكفّارة، فالأولى التمسّك بالاحتمالين المتقدّمين. انتهى كلام القرطبيّ

(2)

.

قال الجامح عفا الله عنه: أراد القرطبيّ بالاحتمالين: احتمال كون النبيّ صلى الله عليه وسلم حكم بلزوم ذلك لأسامة وعاقلته، ولكنه لم يُنقَل، واحتمال أن يكون ذلك قبل نزول حكم الكفّارة والدية.

والذي يظهر لي أن الاحتمال الثاني هو أوجه الاحتمالين، وأرجحهما، وذلك لأن الاحتمال الأول بُعده ظاهرٌ، كالاحتمالات السابقة؛ لأن كونه صلى الله عليه وسلم حكم به، ثم لا ينقله أحد من الرواة، ولا يثبت في طرق من طرق الحديث

(1)

"إكمال المعلم" 1/ 445 - 448.

(2)

"المفهم" 1/ 297 - 298.

ص: 189

أبعد، وأبعد؛ لأن العادة تقتضي التحدّث بمثل ذلك، وإشاعته.

والحاصل أن أقرب الأجوبة هو: أن الواقعة إنما وقعت قبل شرع الكفّارة والدية، فليُتأمّل، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[285]

(

) - (حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ الدَّوْرَقِيُّ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، أَخْبَرَنَا حُصَيْنٌ، حَدَّثَنَا أَبُو ظَبْيَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ أُسَامَةَ بْنَ زيدِ بْنِ حَارِثَةَ، يُحَدِّثُ قَالَ: بَعَثَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْحُرَقَة، مِنْ جُهَيْنَةَ، فَصَبَّحْنَا الْقَوْمَ، فَهَزَمْنَاهُمْ، وَلَحِقْتُ أَنَا وَرَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَار، رَجُلًا مِنْهُمْ، فَلَمَّا غَشِينَاهُ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، فَكَفَّ عَنْهُ الْأَنْصَارِيُّ، وَطَعَنْتُهُ بِرُمْحِي حَتَّى قَتَلْتُهُ، قَالَ: فَلَمَّا قَدِمْنَا، بَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ لِي: "يَا أُسَامَةُ، أَقَتَلْتَهُ بَعْدَمَا قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ؟ "، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله، إِنَّمَا كَانَ مُتَعَوِّذًا، قَالَ: فَقَالَ: "أقَتَلْتَهُ بَعْدَمَا قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ؟ " قَالَ: فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا عَلَيَّ، حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّي لَمْ أَكُنْ أَسْلَمْتُ قَبْلَ ذَلِكَ الْيوْمِ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(يَعْقُوبُ الدَّوْرَقِيُّ) هو: يعقوب بن إبراهيم بن كثير بن أفلح العبديّ مولاهم، أبو يوسف الدورقيّ البغداديّ، ثقةٌ [10](ت 252)(ع) تقدم في "الإيمان" 25/ 209.

2 -

(هُشَيْم) بن بشير بن القاسم بن دينار السلميّ، أبو معاوية بن أبي خازم الواسطيّ، ثقةٌ ثبتٌ، كثير التدليس والإرسال الخفيّ [7](ت 183)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 9.

3 -

(حُصَيْن) بن عبد الرحمن السلميّ، أبو الْهُذيل الكوفيّ، ابن عم منصور بن المعتمر، ثقةٌ تغيّر حفظه في الآخر [5](ت 136) وله (93).

رَوَى عن جابر بن سمرة، وعمارة بن رُوَيبة، وعن زيد بن وهب، وعمرو بن ميمون، ومُرّة بن شَرَاحيل، وهلال بن يساف، وأبي وائل، وأبي ظبيان، والشعبي، وغيرهم.

ص: 190

وروى عنه شعبة، والثوري، وزائدة، وجرير بن حازم، وسليمان التيمي، وهُشيم بن بشير، وخلف بن خليفة، وجرير بن عبد الحميد، وخالد الواسطي، وغيرهم.

قال أبو حاتم عن أحمد: حصين بن عبد الرحمن الثقة المأمون، من كبار أصحاب الحديث، وقال ابن معين: ثقة. وقال العجلي: ثقة ثبت في الحديث، والواسطيون أروى الناس عنه، وقال ابن أبي حاتم: سألت أبا زرعة عنه، فقال: ثقة، قلت: يُحتج بحديثه؟ قال: إي والله، وقال أبو حاتم: صدوق ثقة في الحديث، وفي آخر عمره ساء حفظه، وقال هشيم: أَتَى عليه (93) سنة، وكان أكبر من الأعمش، وقال علي بن عاصم عن حصين: جاءنا قتل الحسين، فمكثنا ثلاثًا كأن وجوهنا طُلِيت رمادًا، قلت: مثل من أنت يومئذ؟ قال: رجلٌ مُنَاهِد، وقال أسلم بن سهل في "تاريخ واسط": ثنا أحمد بن سنان، سمعت عبد الرحمن يقول: هشيم عن حصين أحب إلي من سفيان، وهشيم أعلم الناس بحديث حصين، وقال علي بن عاصم: قَدِمُت الكوفة يوم مات منصور، فاشتد عليّ، فلقيت حصينًا - يعني: وأنا لا أعرفه - فقال: أدلك على مَنْ يذكر يومَ أُهدِيت أم منصور إلى أبيه؟ قلت: مَنْ هو؟ قال: أنا، قال أسلم: قال هشيم: رَوَى حصين عن ستة من الصحابة، قال أسلم: واتصل بنا أنه رَوَى عن ثمانية وامرأتين، فذكر أبا جحيفة، وعمرو بن حريث، وابن عمر، وأنسًا، وعُمارة بن رُويبة، وجابر بن سمرة، وعُبيد الله بن مُسلم الحضرمي، وأم عاصم امرأة عتبة بن فَرْقد، وأم طارق مولاة سعد، كذا قال، قال الحافظ: وفيه بعض ما فيه.

وقال النسائي: تغير، وذكره الْعُقيليّ، ولم يذكر إلا قول يزيد بن هارون: إنه نَسِيَ. وقال الحسن - يعني: الحلواني - عن يزيد بن هارون: اختلط، وأنكر ذلك ابن المديني في "علوم الحديث"، فقال: ما اختلط، ولكن تغير، وقال ابن عدي: له أحاديث، وأرجو أنه لا باس به، وذكر ابن أبي خيثمة عن يزيد بن هارون قال: طلبت الحديث، وحصين حَيّ يُقرأ عليه بالْمُبَارك

(1)

، وقد نَسِي،

(1)

اسم موضع.

ص: 191

وقال ابن حبان في أتباع التابعين من "الثقات" له: يقال: إنه سمع من عُمارة بن رُوَيبة، فإن صحّ ذلك فهو من التابعين، وكان قد ذكر في التابعين: حُصين بن عبد الرحمن السُّلَميّ، سَمِع عمارة بن رُويبة، رَوَى عنه أهل العراق، مات سنة (163). قال الحافظ: فكأنه ظنّ غيرَ هذا، وهو هو، وإنما لَمّا وقع له الغلط في تاريخ وفاته ظنه آخرَ، والصواب في سنة وفاته - كما قاله مطيّن - أنه سنة (136).

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (28) حديثًا، والباقيان تقدّما في السند الماضي.

وقوله: (وَلَحِقْتُ أَنَا وَرَجُلٌ مِنَ الْأَنصَارِ) قال في "الفتح": "لم أقف على اسم الأنصاريّ المذكور في هذه القصّة"، وكذا قال صاحب "التنبيه "

(1)

: لا أعرف الأنصاريّ، وقال في "هدي الساريّ": لم أعرف اسم الأنصاريّ، ويحتمل أن يكون أبا الدرداء رضي الله عنه، ففي تفسير عبد الرحمن بن زيد ما يُرشد إليه. انتهى

(2)

.

وقوله: (رَجُلًا مِنْهُمْ) قد تقدّم أنه مِرداس بن نَهِيك، أو ابن عمرو بن نَهِيك.

وقوله: (فَلَمَّا غَشِينَاهُ) بفتح أوله، وكسر ثانيه، معجمتين، من باب تَعِبَ، أي: لَحِقنا به، حتى تَغَطَّى بنا.

وقوله: (فَلَمَّا قَدِمْنَا) أي المدينة النبويّة.

وقوله: (بَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم) وفي رواية الأعمش الماضية: "فوقع في نفسي من ذلك شيء، فذكرته للنبيّ صلى الله عليه وسلم"، وفي حديث جندب بن عبد الله رضي الله عنه الآتي:"فَجَاءَ الْبَشِيرُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم " فَسَأَلَهُ، فَأَخْبَرَهُ، حَتَّى أَخْبَرَهُ خَبَرَ الرَّجُلِ

"، وتقدّم وجه التوفيق بين هذه الروايات في الحديث الماضي، فلا تغفُل.

وقوله: (إِنَّمَا كَانَ مُتَعَوِّذًا) أي متحصّنًا ومعتصمًا بهذه الكلمة، وتمام شرح

(1)

راجع: "تنبيه المعلم" ص 61 - 62.

(2)

راجع: "الفتح" 12/ 195، و"هدي الساري" ص 307.

ص: 192

الحديث، وبيان المسائل المتعلّقة به، قد استوفيتهما في الحديث الماضي، فلا تكن من الغافلين، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[286]

(97) - (حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ خِرَاشٍ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَاصِمٍ، حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي يُحَدِّثُ، أَنَّ خَالِدًا الْأَثْبَجَ، ابْنَ أَخِي صَفْوَانَ بْنِ مُحْرِزٍ، حَدَّثَ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ مُحْرِزٍ، أَنَّهُ حَدَّثَ، أَنَّ جُنْدَبَ بْنَ عَبْدِ اللهِ الْبَجَلِيَّ، بَعَثَ إِلَى عَسْعَسِ بْنِ سَلَامَةَ، زَمَنَ فِتْنَةِ ابْنِ الزُّبَيْر، فَقَالَ: اجْمَعْ لِي نَفَرًا مِنْ إِخْوَانِكَ، حَتَّى أُحَدِّثَهُمْ، فَبَعَثَ رَسُولًا إِلَيْهِمْ، فَلَمَّا اجْتَمَعُوا جَاءَ جُنْدَبٌ، وَعَلَيْهِ بُرْنُسٌ أَصْفَرُ، فَقَالَ: تَحَدَّثُوا بِمَا كُنْتُمْ تَحَدَّثُونَ بِه، حَتَّى دَارَ الْحَدِيثُ، فَلَمَّا دَارَ الْحَدِيثُ إِلَيْه، حَسَرَ الْبُرْنُسَ عَنْ رَأْسِه، فَقَالَ: إِنِّي أَتيْتُكُمْ، وَلَا أُرِيدُ أَنْ أُخْبِرَكُمْ عَنْ نَبِيِّكُمْ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ بَعْثًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، إِلَى قَوْمٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَإِنَّهُمُ الْتَقَوْا، فَكَانَ رَجُلٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، إِذَا شَاءَ أَنْ يَقْصِدَ إِلَى رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ قَصَدَ لَهُ فَقَتَلَهُ، وَإِنَّ رَجُلًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ قَصَدَ غَفْلَتَهُ، قَالَ: وَكُنَّا نُحَدَّثُ أَنَّهُ أُسَامَةُ بْنُ زيدٍ، فَلَمَّا رَفَعَ عَلَيْهِ السَّيْفَ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، فَقَتَلَهُ، فَجَاءَ الْبَشِيرُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَسَأَلَهُ فَأَخْبَرَهُ، حَتَّى أَخْبَرَهُ خَبَرَ الرَّجُل، كَيْفَ صَنَعَ، فَدَعَاهُ فَسَأَلَهُ، فَقَالَ: "لِمَ قَتَلْتَهُ؟ " قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ أَوْجَعَ فِي الْمُسْلِمِينَ، وَقَتَلَ فُلَانًا وَفُلَانًا، وَسَمَّى لَهُ نَفَرًا، وَإِنِّي حَمَلْتُ عَلَيْه، فَلَمَّا رَأَى السَّيْفَ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَقَتَلْتَهُ؟ " قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: "فَكَيْفَ تَصْنَعُ بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، إِذَا جَاءَتْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ " قَالَ: يَا رَسُولَ الله، اسْتَغْفِرْ لِي، قَالَ: "وَكيْفَ تَصْنَعُ بِلَا إِلَهَ إِلَّا الله، إِذَا جَاءَتْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ " قَالَ: فَجَعَلَ لَا يَزِيدُهُ عَلَى أَنْ يَقُولَ: "كَيْفَ تَصْنَعُ بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، إِذَا جَاءَتْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ خِرَاشٍ) أبو جعفر البغداديّ المذكور في الباب الماضي.

ص: 193

2 -

(عَمْرُو بْنُ عَاصِمٍ) بن عُبيد الله بن الوازع الكلابيّ القيسيّ، أبو عثمان البصريّ، صدوقٌ في حفظه شيء، من صغار [9].

رَوَى عن جدّه، وشعبة، وحمّاد بن سلمة، وهمام بن يحيى، وجرير بن حازم، وسليمان بن المغيرة، وعمران القطان، ومعتمر بن سليمان، وعدة.

ورَوَى عنه البخاريّ، وروى هو والباقون له بواسطة أحمد بن إسحاق السُّرْماريّ، والحسن بن علي الخلال، وأحمد بن الحسن بن خِرَاش، وأبو خيثمة، وأبو موسى محمد بن المثنى، وبندار، وعُقبة بن مُكْرَم، وإبراهيم الْجُوزجانيّ، وعبد بن حميد، والدارميّ، وأبو داود الحراني، ومحمد بن يونس الْكُديميّ، وآخرون.

قال ابن معين: ثقةٌ، وقال ابن سعد: صالح، وقال الآجريّ، عن أبي داود: لا أنشط لحديثه، قال: وسألته عنه، وعن الحوضيّ في همام، فقَدَّم الحوضيّ، قال: وقال بندار: لولا فَرَقي من آل عمرو بن عاصم، لتركت حديثه، وقال النسائيّ: ليس به بأس، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال إسحاق بن سيار: سمعته يقول: كتبت عن حماد بن سلمة بضعة عشر ألفًا.

ولَمّا ذكر الذهبي قول بندار عَبّر بقوله: لولا شيءٌ لتركته، ثم قال: وكذا قال أبو داود: يا بُندار، قال: لولا سلامةٌ في بندار لتركته.

قال البخاري وغيره: مات سنة ثلاث عشرة ومائتين، وكذا ذكر ابن حبان، وزاد: في غرة جمادى الأولى.

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب سبعة أحاديث فقط، هذا الحديث، و (635):"من صلّى البردين دخل الجنة"، و (2454): "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزورها

"، و (2455): "إني أرحمها، قُتل أخوها معي"، و (2144): "بارك الله لكما في غابر ليلتكما"، و (2465): "من جمع القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم"، و (2764): "هل حضرت الصلاة معنا

".

3 -

(مُعْتَمِر) بن سليمان التيميّ، أبو محمد البصريّ، الملقّب بالطُّفيل، ثقةٌ، من كبار [9](ت 187)(ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 105.

4 -

(أَبُوهُ) سليمان بن طَرْخَان التيميّ، أبو المعتمر البصريّ، ثقةٌ عابدٌ [4](ت 143)، وهو ابن (97) سنة (ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 9.

ص: 194

5 -

(خَالِدٌ الْأَثْبَجُ، ابْنُ أَخِي صَفْوَانَ بْنِ مُحْرِزٍ) هو: خالد بن عبد الله بن مُحْرِز المازنيّ البصريّ، صدوقٌ [7].

رَوَى عن عمه صفوان، وعن عبد الله بن عمر، والصحيح عن عمه عنه، وعن زُرارة بن أوفى، والحسن البصريّ، وسِنَان بن سَلَمة بن الْمُحَبِّق، وغيرهم.

ورَوى عنه سليمان التيميّ، وعاصم الأحول، وعوف الأعرابيّ، وإبراهيم بن طَهْمان، وغيرهم.

قال العجليّ: ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات".

أخرج له المصنّف، هذا الحديث فقط، والنسائيّ.

6 -

(صَفْوَانُ بْنُ مُحْرِزٍ) بن زياد المازنيّ، وقيل: الباهليّ، وقال الأصمعيّ: كان نازلًا في بني مازن، وليس منهم، ثقةٌ، عابدٌ [4].

رَوَى عن ابن عمر، وابن مسعود، وعمران بن حُصين، وأبي موسى الأشعري، وابن عباس، وحكيم بن حزام، وجندب بن عبد الله.

ورَوى عنه أبو صَخْرة جامع بن شداد، وخالد بن عبد الله الأثبج، وعاصم الأحول، وقتادة، ومحمد بن واسع، وعلي بن زيد بن جُدْعان، وغيرهم.

قال أبو حاتم: جليل، وقال ابن سعد: كان ثقة، وله فَضْلٌ وورَعٌ، قال الواقديّ: تُوُفّي في ولاية بشر بن مروان، وقال ابن حبان في "الثقات": مات سنة (74) في ولاية عبد الملك، وكان من العباد، اتَّخَذ لنفسه سَرَبًا يبكي فيه، ورَوَى محمد بن نصر في "قيام الليل" من طريق يزيد الرَّقَاشيّ: أن صفوان بن مُحرز كان إذا قام إلى التهجد قام معه سكان داره من الجنّ، فصَلَّوْا بصلاته، وقال العجلي: بصري تابعي ثقة.

قال الحافظ: وقرأت بخط الذهبي، ما نصّه: قتادةُ، ومحمد بن واسع، وعلي بن زيد بن جُدْعان إنما طلبوا العلم قبل التسعين وبعدها، فهذا يدل على أن الواقديّ وَهِمَ في تاريخ موته، وتَبِعَهُ ابنُ حبان.

قلت

(1)

: ما وَهِمَ الواقديّ، فقد قال خليفة في "الطبقات": مات بعد

(1)

القائل هو الحافظ ابن حجر رحمه الله ثعالى.

ص: 195

انقضاء أمر ابن الزبير بقليل، ومن هنا أخذ ابن حبان قولَهُ: مات سنة أربع؛ لأن قتل ابن الزبير كان آخر سنة ثلاث، وما ذكره الحافظ أبو عبد الله الذهبي من أن الذين سماهم لم يطلبوا العلم إلا بعد ذلك لا يمنع سماعهم من صفوان، فكم ممن سَمِعَ حديثًا أو أحاديث قديمًا، ثم اشتغل بعد مُدّة وطَلَبَ، والله أعلم. انتهى

(1)

.

أخرج له البخاريّ، والمصنّف، والترمذيّ، والنسائيّ، وابن ماجه، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط: هذا الحديث، وحديث (104):"أنا بريء ممن حَلَق، وسَلَق، وخَرَق"، و (2768): "يُدنَى المؤمن يوم القيامة من ربه عز وجل

".

7 -

(جُنْدَبُ بْنُ عَبْدِ اللهِ الْبَجَلِيُّ) هو: جُنْدُبُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بن سفيان الْبَجَليّ، ثمّ الْعَلَقيّ - بفتحتين، ثم قاف - أبو عبد الله، وقد يُنسَب إلى جدّه، فيقال: جندب بن سفيان، سَكَن الكوفة، ثم البصرة، قَدِمها مع مصعب بن الزبير، وروى عنه أهل المصرين، قلت: وروى عنه من أهل الشام شهر بن حوشب، فقال: حدثني جندب بن سفيان، قال ابن السكن: وأهل البصرة يقولون: جندب بن عبد الله، وأهل الكوفة يقولون: جندب بن سفيان، غير شريك وحده، ويقال له: جندب الخير، وأنكره ابن الكلبيّ، وقال البغويّ: يقال له: جندب الخير، وجندب الفاروق، وجندب ابن أم جندب، وقال ابن حبان: هو جندب بن عبد الله بن سفيان، ومن قال: ابن سفيان نسبه إلى جده، وقد قيل: إنه جندب بن خالد بن سفيان، والأول أصحّ، وحَكَى الطبرانيّ نحو ذلك، وفي الطبرانيّ من طريق أبي عمران الْجَوْنيّ قال: قال لي جندب: كنت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم غلامًا حَزَوَّرًا

(2)

.

رَوَى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن حذيفة، وروى عنه الأسود بن قيس، وأنس بن سيرين، والحسن البصري، وأبو مِجْلَز، وأبو عمران الْجَونيّ، وأبو تميمة الْهُجَيميّ، وصفوان بن مُحرِز، وغيرهم.

وقال البغوي عن أحمد: جُنْدب ليست له صحبة قديمة، قال البغوي:

(1)

"تهذيب التهذيب" 2/ 214 - 215.

(2)

"الإصابة" 1/ 509.

ص: 196

وهو جندب ابن أم جندب، وقال ابن حبان: هو جندب الخير، وقال خليفة: مات في فتنة ابن الزبير، وذكره البخاري في "التاريخ" فيمن توفي من الستين إلى السبعين.

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (18) حديثًا

(1)

، والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سباعيّات المصنّف رحمه الله تعالى.

2 -

(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الجماعة، إلا شيخه، فتفرّد به هو، والترمذيّ، وخالدًا الأثبج، فتفرّد به هو والنسائيّ، وصفوان بن محرز، فما أخرج له أبو داود.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالتحديث، وبالبصريين، إلا شيخه، فبغداديّ، والصحابيّ سكن الكوفة، ثم البصرة، وروى عنه أهل البلدتين

(2)

.

4 -

(ومنها): أن من شيخه، ومعتمرًا، وأباه، هذا أول محلّ ذكرهم في هذا الكتاب، وقد تقدّم عدد مروياتهم آنفًا، فلا تغفل.

5 -

(ومنها): أن فيه رواية الابن عن أبيه، والراوي عن عمه.

6 -

(ومنها): أن رواية سليمان بن طرخان عن خالد الأثبج من رواية الأكابر عن الأصاغر؛ لأن سليمان تابعيّ، وخالد من تابعي التابعين، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

عن سليمان التيميّ (أَنَّ خَالِدًا الْأَثْبَجَ) - بفتح الهمزة، وبعدها ثاء مثلثة ساكنة، ثم باء موحدة مفتوحة، ثم جيم - قال أهل اللغة:"الأَثْبَجُ": هو عَرِيضُ

(1)

هكذا في برنامج الحديث "صخر"، والذي ذكرته في "قرّة العين" نقلًا من ابن الجوزيّ: أن له (43) حديثًا، اتفق الشيخان على سبعة، وانفرد مسلم بخمسة أحاديث، والظاهر أن ما في البرنامج مع التكرار كما هو ظاهر لمن تأمله، والله تعالى أعلم.

(2)

راجع: "الإصابة" 1/ 613.

ص: 197

الثَّبَج - بفتح الثاء والباء - وقيل: ناتئ الثَّبَج، والثَّبَج: ما بين الكاهل والظهر، و"الكاهل": مقدَّم أعلى الظهر مما يلي الْعُنُق، كما في "المصباح"(ابْنَ أَخِي صَفْوَانَ بْنِ مُحْرِزٍ) - بإسكان الحاء المهملة، وبراء، ثم زاي (حَدَّثَ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ مُحْرِزٍ، أَنَّهُ) أي صفوان (حَدَّثَ، أَنَّ جُنْدَبَ) بضم الجيم، والدال وتفتح (ابْنَ عَبْدِ اللهِ الْبَجَلِيُّ) - بفتحتين - نسبة إلى قَبيلة بَجِيلة - بفتح، فكسر - وهو ابن أنمار بن أراش بن عمرو بن الْغَوْث، أَخي الأسد بن الْغَوث، وقيل:"إن بَجِلة اسم أمهم، وهي من سَعْد الْعَشِيرة، وأختها باهلة ولدتا قبيلتين عظيمتين، نزلت الكوفة"، قاله في الأنساب

(1)

. (بَعَثَ) أي أرسل (إِلَى عَسْعَسِ) - بعينين، وسينين مهملات، والعينان مفتوحتان، والسين بينهما ساكنة - (ابْنِ سَلَامَةَ) - بتخفيف اللام - قال الحافظ أبو عمر بن عبد البر رحمه الله تعالى في "الاستيعاب": هو بصريّ رَوَى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، يقولون: إن حديثه مرسلٌ، وإنه لم يسمع النبيّ صلى الله عليه وسلم، وكذا قال البخاريّ في "تاريخه": حديثه مرسل، وكذا ذكره ابن أبي حاتم وغيره في التابعين، قال البخاريّ وغيره: كنية عَسْعَس أبو صفرة، وهو تميميّ بصريّ، وهو من الأسماء المفردة، لا يُعْرَف له نظير، قاله النوويّ في "شرحه"

(2)

.

وقال في "الإصابة"(4/ 499):

عَسْعَس بن سلامة، أبو صفرة التميميّ البصريّ، له ذكر في "الصحيح" في حديث جندب، وذكره ابن أبي حاتم بين صحابيين في الأفراد، من حرف العين، ولم يُفْصِح البخاريّ بشيء، بل رَسَمَ الترجمة، وقال: نسبه شعبة عن الأزرق، وكذا صنع مسلم، وقال ابن منده: ذُكِر في الصحابة، ولا يثبت، وقال ابن عبد البر: يقولون: إن حديثه مرسل، وبذلك جزم العسكريّ، وابن حبّان، وقد رَوَى حديثه أبو داود الطيالسيّ، عن شعبة، عن الأزرق، عنه: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "صبر ساعة في بعض المواطن، خير من عبادة أربعين عامًا

" الحديث، وله حديث آخر، أخرجه الدارقطنيّ، وقال ابن المبارك في "الزهد": أنبأنا محمد بن ثابت العبديّ، حدثنا هارون بن رئاب، سَمِعت

(1)

راجع: "الأنساب" 1/ 297.

(2)

"شرح النوويّ" 2/ 103 - 104.

ص: 198

عسعس بن سلامة يقول لأصحابه: سأحدثكم ببيت من شعرٍ، فتعجبوا، فقال [من الطويل]

إِنْ تَنْجُ مِنْهَا تَنْجُ مِنْ ذِي عَظِيمَةٍ

وَإِلَّا فَإِنِّي لَا إِخَالُكَ مَاضِيَا

أي إن تنج من مسألة القبر، فأخذ القوم يبكون بكاءً ما رأيتهم بَكَوا من شيء ما بَكَوا يومئذ. انتهى

(1)

.

(زَمَنَ فِتْنَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ) أي أيام حربه مع بني أميّة، وهي قصّة مشهورة، وذلك أن ابن الزبير حين مات معاوية رضي الله عنه امتنع من البيعة ليزيد بن معاوية، وأَصَرَّ على ذلك حتى أغرى يزيد بن معاوية مسلمَ بن عقبة بالمدينة، فكانت وقعة الْحَرَّة، ثم توجه الجيش إلى مكة، فمات أميرهم مسلم بن عقبة، وقام بأمر الجيش الشاميِّ حُصَين بن نُمَير، فحصر ابن الزبير بمكة، ورَمَوا الكعبة بالْمَنْجَنِيق حتى احتَرَقَت، ففجأهم الخبر بموت يزيد بن معاوية، فرجعوا إلى الشام، وقام ابن الزبير في بناء الكعبة، ثم دعا إلى نفسه، فبويع بالخلافة، وأطاعه أهل الحجاز، ومصر، والعراق، وخُراسان، وكثير من أهل الشام، ثم غَلَب مروان على الشام، وقَتَلَ الضحاك بن قيس الأمير من قبل ابن الزبير بِمَرْج راهط، ومضى مروان إلى مصر، وغَلَب عليها، وذلك كلُّه في سنة أربع وستين، وكَمُل بناء الكعبة في سنة خمس، ثم مات مروان في سنة خمس وستين، وقام عبد الملك بن مروان مَقَامه، وغَلَب المختار بن أبي عُبيد على الكوفة، ففَرَّ منه من كان من قبل ابن الزبير، وكان محمد بن علي بن أبي طالب المعروف بابن الحنفية، وعبد الله بن عباس مقيمين بمكة، منذ قُتِل الحسين، فدعاهما ابن الزبير إلى البيعة له، فامتنعا، وقالا: لا نبايع حتى يجتمع الناس على خليفة، وتبعهما جماعة على ذلك، فشَدَّد عليهم ابن الزبير، وحَصَرهم، فبلغ المختارَ، فجهز إليهم جيشًا، فأخرجوهما، واستأذنوهما في قتال ابن الزبير، فامتنعا، وخرجا إلى الطائف، فأقاما بها حتى مات ابن عباس سنة ثمان وستين، ورحل ابن الحنفية بعده إلى جهة رَضْوَى جبل بينبع، فأقام هناك، ثم أراد دخول الشام، فتوجه إلى نحو أيلة، فمات في آخر سنة ثلاث،

(1)

"الإصابة" 4/ 412.

ص: 199

أو أول سنة أربع وسبعين، وذلك عقب قتل ابن الزبير على الصحيح، وقيل: عاش إلى سنة ثمانين أو بعد ذلك، وعند الواقديّ: أنه مات بالمدينة سنة إحدى وثمانين، وزَعَمت الكيسانية أنه حيّ لم يَمُت، وأنه المهديّ، وأنه لا يموت حتى يملك الأرض، في خُرَافات لهم كثيرة، ليس هذا موضعها، ذكر هذا كلّه في "الفتح"

(1)

.

(فَقَالَ) جُندب رضي الله عنه (اجْمَعْ لِي نَفَرًا) بفتحتين: جماعة الرجال من ثلاثة إلى عشرة، وقيل: إلى سبعة، ولا يقال: نفرٌ فيما زاد على العشرة، قاله الفتوميّ

(2)

. (مِنْ إِخْوَانِكَ) الظاهر أنه أراد بالإخوان ما يعمّ النسب والدين، كما قال تعالى:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} الآية (حَتَّى أُحَدِّثَهُمْ) بالنصب بـ "أن" مضمرة بعد "حتى"، كما قال في "الخلاصة":

وَبَعْدَ "حَتَّى" هَكَذَا إِضْمَارُ "أَنْ"

حَتْمٌ كـ "جُدْ حَتَّى تَسُرَّ ذَا حَزَنْ"

ومعنى "حتى" هنا التعليل، بمعنى "كي"، أي كي أُحدّثهم، كقوله تعالى:{وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ} الآية [البقرة: 217]، وقوله:{هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا} الآية

(3)

[المناففون: 7](فَبَعَثَ) عسعسٌ (رَسُولًا إِلَيْهِمْ) أي إلى إخوانه، قال صاحب "التنبيه": لا أعرف هذا الرسول. انتهى

(4)

. (فَلَمَّا اجْتَمَعُوا جَاءَ جُنْدَبٌ) رضي الله عنه (وَعَلَيْهِ بُرْنُسٌ) جملةٌ في محلّ نصب على الحال، و"الْبُرْنُسُ" - بضم الباء، وسكون الراء، وضمّ النون - قال ابن الأثير: هو كلُّ ثوب رأسُهُ منه، مُلْتزِقٌ به، دُرَّاعَةً كان، أو جُبَّةً، أو مِمْطَرةً، أو غيرها، وقال الجوهريّ: هو قَلَنْسُوَةٌ طويلةٌ كان النُّسّاك يَلبسُونها في صدر الإسلام، وهو من الْبِرْسِ - بكسر الباء - القطن، والنون زائدة، وقيل: إنه غير عربيّ. انتهى

(5)

.

وقوله: (أَصْفَرُ) صفة لبُرْنُس، "والصُّفْرة": لونٌ دون الْحُمْرة، والأصفر:

(1)

"الفتح" 8/ 177 - 178 "كتاب التفسير""سورة التوبة" رقم الحديث (4665).

(2)

"المصباح المنير" 2/ 617.

(3)

راجع: "مغني اللبيب عن كتب الأعاريب" 1/ 125.

(4)

"تنبيه المعلم" ص 63.

(5)

"النهاية" 1/ 122.

ص: 200

أيضًا الأسود

(1)

. (فَقَالَ) جندب رضي الله عنه (تَحَدَّثُوا) فعل أمر من التحدُّث، وإنما أمرهم؛ لئلا يستوحشوا، فيقطعوا حديثهم بسبب حضوره حياءً منه (بِمَا كُنْتُمْ تَحَدَّثُونَ بِهِ) بفتح التاء، أصله تتحدّثون، فحُذفت منه إحدى التاءين تخفيفًا، كما في قوله تعالى:{تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ} [القدر: 4]، وقوله:{نَارًا تَلَظَّى} [الليل: 14]، وقوله:{فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6)} [عبس: 6]، قال في "الخلاصة":

وَمَا بِتَاءَيْنِ ابْتُدِي قَدْ يُقْتَصَرْ

فِيهِ عَلَى تَا كـ"تَبَيَّنُ الْعِبَرْ"

(حَتَّى دَارَ الْحَدِيثُ) أي انتقل الحديث بين الحاضرين من شخص إلى آخر (فَلَمَّا دَارَ الْحَدِيثُ إِلَيْهِ) أي إلى جندب رضي الله عنه (حَسَرَ) بفتح السين المهملة، من بابي نصر وضرب: أي كشف، وأزال (الْبُرْنُسَ عَنْ رَأْسِهِ) أي ليمكنه مواجهتهم، ويمكنهم مواجهته بلا مانع يمنع من رؤيته.

قال النوويّ رحمه الله تعالى: وأما ما فعله جُنْدب بن عبد الله رضي الله عنه من جمع النفر، ووعظهم، ففيه: أنه ينبغي للعالم، والرجل العظيم المطاع، وذي الشُّهْرة أن يُسَكِّن الناس عند الْفِتَن، ويَعِظهم، ويُوَضِّح لهم الدلائل. انتهى

(2)

.

(فَقَالَ: إِنِّي أَتَيْتُكُمْ، وَلَا أُرِيدُ أَنْ أُخْبِرَكُمْ عَنْ نَبِيِّكُمْ) صلى الله عليه وسلم، قال النوويّ رحمه الله تعالى: كذا وقع في جميع الأصول - أي بزيادة "لا" - وفيه إشكال من حيث إنه قال في أول الحديث: "بَعَثَ إلى عسعس، فقال: اجمع لي نفرًا من إخوانك حتى أحدثهم"، ثم يقول: بعده: "أتيتكم، ولا أريد أن أخبركم"، فيحتمل هذا الكلام وجهين:

[أحدهما]: أن تكون "لا" زائدة، كما في قول الله تعالى:{لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ} [الحديد: 29]، وقوله تعالى:{مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ} [الأعراف: 12].

[والثاني]: أن يكون على ظاهره، أتيتكم، ولا أريد أن أخبركم عن نبيكم صلى الله عليه وسلم، بل أَعِظُكم، وأحدثكم بكلام من عند نفسي، لكني الآن أزيدكم على ما كنت نويته، فأخبركم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بَعَثَ بَعْثًا، وذكر الحديث، والله تعالى أعلم. انتهى كلام النوويّ رحمه الله تعالى

(3)

.

(1)

"المصباح المنير" 1/ 342.

(2)

"شرح النوويّ" 2/ 105.

(3)

"شرح النوويّ" 2/ 105.

ص: 201

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الاحتمال الأول أقرب عندي؛ لأن زيادة "لا" كثير في كلام العرب.

ثم إني وجدت في هامش بعض النسخ، ما نصّه:"إني أتيتكم، ولا أريد أن أخبركم إلا عن نبيّكم"، وعلى هذا فقد زال الإشكال، والله تعالى أعلم.

(إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ بَعْثًا) من باب منع أي أرسل سريّة، قال الفيّوميّ: بَعَثْتُ رسولًا بَعْثًا: أوصلته، وابتعثه كذلك، وفي المطاوع: فانبعث، مثلُ كسرته فانكسر، وكل شيء ينبعث بنفسه، فإن الفعل يتعدّى إليه بنفسه، فيقال: بعثته، وكلُّ شيء لا ينبعث بنفسه، كالكتاب، والهديّة، فإن الفعل يتعدّى إليه بالباء، فيقال: بَعَثتُ به، وأوجز الفارابيّ، فقال: بَعَثَهُ: أي أَهَبَّهُ، وبَعَثَ به: وَجّهَهُ. انتهى

(1)

. (مِنَ الْمُسْلِمِينَ) هم السريّة الذين تقدّموا في قصّة أسامة رضي الله عنه (إِلَى قَوْمٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) هم الْحُرقات من جُهينة (وَإِنَّهُمُ الْتَقَوْا) بفتح القاء، أصله التقيوا، قُلبت الياء ألفًا؛ لتحرّكها، وانفتاح ما قبلها، ثم حُذفت لالتقاء الساكنين، فصار التقوا بفتح التاء؛ لأنها ليست ما قبل الواو (فَكَانَ رَجُلٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) هو الذي قتله أسامة رضي الله عنه، كما تقدّم (إِذَا شَاءَ أَنْ يَقْصِدَ) بكسر الصاد، من باب ضرب (إِلَى رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ قَصَدَ لَهُ) يقال: قصدت الشيءَ، وله، وإليه قَصْدًا، من باب ضرب: إذا طلبته بعينه

(2)

. (فَقَتَلَهُ، وَإِنَّ رَجُلًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ قَصَدَ غَفْلَتَهُ) أي غفلة ذلك الرجل المشرك الذي أكثر القتل في المسلمين (قَالَ) جندب رضي الله عنه (وَكُنَّا نُحَدَّثُ) بضمّ النون، وفتح الدال المشدّدة: أي نُخْبَر (أَنَّهُ) أي الرجل الذي قصد غفلة ذلك المشرك (أُسَامَةُ بْنُ زيدٍ) رضي الله عنهما، هذا مخالف لما سيأتي من رواية الطبرانيّ في "الكبير" من طريق شهر بن حوشب، عن جندب رضي الله عنه، فإن فيه: أن ذلك الرجل لما مات لَفَظَتْهُ الأرض ثلاث مرّات، وهذا بيقين أنه ليس أسامة رضي الله عنه، إلا أن في شَهْرٍ، والراوي عنه عبد الحميد بن بَهْرام، كلامًا في الاحتجاج بهما، وقد سبق في "شرح المقدّمة" أن رجّحت كون شهرٍ حسن الحديث، لكن إذا خالفت روايته ما في "الصحيح"، فما في "الصحيح" يقدّم بلا شكّ، فليُتنبّه لذلك، والله تعالى أعلم.

(1)

"المصباح المنير" 1/ 52.

(2)

"المصباح" 2/ 504.

ص: 202

(فَلَمَّا رَفَعَ عَلَيْهِ السَّيْفَ) هكذا وقع في بعض النسخ: "رفع" بالفاء، ووقع في بعضها:"رجع" بالجيم، قال النوويّ رحمه الله تعالى في "شرحه": قوله: "فلما رجع عليه السيفَ"، كذا في بعض الأصول المعتمدة:"رَجَعَ" بالجيم، وفي بعضها:"رَفَعَ" بالفاء، وكلاهما صحيح، و"السيفَ" منصوبٌ على الروايتين، فـ "رَفَعَ"؛ لتعديه، و"رَجَعَ" بمعناه، فإن "رَجَعَ" يُستَعمل لازمًا، ومتعديًا، والمراد هنا المتعدي، ومنه قول الله عز وجل:{فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ} [التوبة: 83]، وقوله تعالى:{فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} [الممتحنة: 10]، والله تعالى أعلم. انتهى

(1)

.

(قَالَ) ذلك المشرك (لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، فَقَتَلَهُ، فَجَاءَ البَشِيرُ) أي الذي يَحمل البشارة بنصر المسلمين، وهزيمة الكفّار، وهو اسم فاعل من بَشَرَ (إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَسَأَلَهُ) أي عن خبر الحرب (فَأَخْبَرَهُ، حَتَّى أَخْبَرَهُ خَبَرَ الرَّجُلِ) يعني الذي قيل: إنه أسامة (كَيْفَ صَنَعَ) أي بالرجل المشرك الذي قتله بعد قوله: لا إله إلا الله (فَدَعَاهُ) أي دعا النبيّ صلى الله عليه وسلم ذلك الرجل (فَسَأَلَهُ، فَقَالَ) هذا تفسير لسؤاله ("لِمَ قَتَلْتَهُ؟ ") أي بعد قوله: لا إله إلا الله، وقد تعلم أني قلت: أُمرتُ أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم (قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ أَوْجَعَ فِي الْمُسْلِمِينَ) أي ألحق بهم الضرر، وآلمهم بالضرب والقتل (وَقَتَلَ فُلَانًا وَفُلَانًا، وَسَمَّى لَهُ نَفَرًا) لكنهم لا يُعرفون، كما قال صاحب "التنبيه"

(2)

. (وَإِنِّي حَمَلْتُ عَلَيْهِ) أي شددتُ عليه، واجتهدتُ في قتله (فَلَمَّا رَأَى السَّيْفَ قَالَ: لَا إِلَهَ إلَّا اللهُ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"أَقَتَلْتَهُ؟ ") كرّر عليه تشديدًا للإنكار (قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: "فَكَيْفَ تَصْنَعُ بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، إِذَا جَاءَتْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ ") أي ليُخاصمك بها صاحبها (قَالَ: يَا رَسُولَ الله، اسْتَغْفِرْ لِي، قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("وَكَيْفَ تَصْنَعُ بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، إِذَا جَاءَتْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ ") كرّره أيضًا للتشديد (قَالَ: فَجَعَلَ) صلى الله عليه وسلم (لَا يَزِيدُهُ) أي الرجل القاتل (عَلَى أَنْ يَقُولَ: "كَيْفَ تَصْنَعُ بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، إِذَا جَاءَتْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ ")، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: حديث جندب بن عبد الله رضي الله عنه هذا تفرّد

(1)

"شرح النوويّ " 2/ 105.

(2)

"تنبيه المعلم" ص 63.

ص: 203

به المصنّف رحمه الله تعالى، ولم يُخرجه أحد من أصحاب الأصول غيره، وقد أخرجه أبو يعلى في "مسنده"(3/ 91) بنحوه، فقال:

(1522)

حدثنا عبيد الله بن عمر القواريريّ، حدّثنا عبد الرحمن بن مهديّ، حدّثني عبد الحميد بن بَهْرام، حدّثنا شَهْر بن حوشب، قال: حدثني جندب بن سفيان، رجل من بَجِيلة قال: إني عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جاءه بشير من سَرِيّة بعَثَها، فأَخبره بالنصر الذي نَصَرَ الله سريته، وبفتح الله الذي فَتَح لهم، قال: يا رسول الله، بينما نحن بطلب العدوّ، وقد هَزَمهم الله، إذ لَحِقت رجلًا بالسيف، فلما أَحَسّ أن السيف قد واقعه، التفت، وهو يَسْعَى، فقال: إني مسلم، إني مسلم، فقتلته، وإنما كان يا نبيّ الله مُتَعَوّذًا، قال صلى الله عليه وسلم:"فهلا شَقَقت عن قلبه، فنَظَرت، صادقٌ هو، أم كاذبٌ؟ " قال: لو شققتُ عن قلبه ما كان يُعْلِمني القلبُ؟، هل قلبه إلا مُضْغَةٌ من لحم؟ قال صلى الله عليه وسلم:"فأنت قتلته لا ما في قلبه علمتَ، ولا لسانه صدَّقتَ"، قال: يما رسول الله، استغفر لي، قال صلى الله عليه وسلم:"لا أستغفر لك"، فدفنوه

(1)

، فأصبح على وجه الأرض، ثلاث مرات، فلما رأى ذلك قومه استَحْيَوا، وخَزُوا مما لَقِي، فاحتملوه، فألقَوْه في شِعْب من تلك الشعاب. انتهى.

وأخرجه الطبرانيّ في "المعجم الكبير"(2/ 176) رقم (1723).

قال الحافظ الهيثميّ رحمه الله تعالى في "المجمع": وفي إسناده عبد الحميد بن بَهْرام، وشَهْر بن حَوْشَب، وقد اختُلف في الاحتجاج بهما. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: أما شهر فقد روى عنه جماعة، وأثنى عليه أحمد، ووثقه ابن معين، وفي رواية عنه أنه قال: ثَبْت، ووثقه العجليّ، وغيرهم، وقد حقّقت الكلام فيه في "شرح المقدّمة"، وتوصّلتُ فيه إلى أنه حسن الحديث.

وأما عبد الحميد فقد وثّقه أحمد، وابن معين، وابن المدينيّ، وأبو

(1)

وفي رواية الطبرانيّ: قال: فمات ذلك الرجل، فدفنوه ....

(2)

"مجمع الزوائد" 1/ 27.

ص: 204

داود، وغيرهم، وقال شعبة: صدوقٌ، وقال أحمد: أحاديثه عن شهر مُقاربُ، كان يحفظها كأنه يقرأ سورة من القرآن، وقال أبو حاتم: ليس به بأس، أحاديثه عن شهر صحاح، لا أعلم رُوي عن شهر أحاديث أحسن منها، وقال أحمد بن صالح المصريّ: عبد الحميد بن بَهرام ثقةٌ، يُعجبني حديثه، أحاديثه عن شهر صحيحة. انتهى

(1)

.

وخلاصة القول فيهما أن حديثهما حسنٌ، يصلح للاحتجاج به، وما تكلّم فيهما إلا المتشدّد، كشعبة، فلا تلتفت إليه، وتبصّر بإنصاف، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(44) - (بَابُ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلَاحَ، فَلَيْسَ مِنَّا")

وبالسند المتّصل إلى الإمام الحافظ الحجة أبي الحسين مسلم بن الحجاج القشيريّ النيسابوريّ رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[287]

(98) - (حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَا: حَدَّثنا يَحْيَى، وَهُوَ الْقَطَّانُ (ح) وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، وَابْنُ نُمَيْرٍ، كُلُّهُمْ عَنْ عُبَيْدِ الله، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (ح) وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَاللَّفْظُ لَهُ، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"مَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلَاحَ، فَلَيْسَ مِنَّا").

رجال الإسناد: تسعة:

1 -

(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) المذكور قبل باب.

2 -

(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) المذكور قبل باب أيضًا.

3 -

(يَحْيَى، وَهُوَ الْقَطَّانُ) هو: يحيى بن سعيد بن فرُّوخ القطّان، أبو سعيد البصريّ الإمام الحجة الناقد البصير [9](ت 198)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 385.

(1)

راجع: "تهذيب التهذيب" 2/ 472 - 473.

ص: 205

4 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) المذكور في الباب الماضي.

5 -

(أَبُو أُسَامَةَ) هو: حماد بن أُسامة بن زيد القرشيّ مولاهم الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار [9](ت 201)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 51.

6 -

(ابْنُ نُمَيْرٍ) هو: عبد الله بن نُمير المذكور قبل باب.

7 -

(عُبَيْدُ اللهِ) بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطّاب الْعُمَريّ، أبو عثمان المدنيّ، ثقةٌ ثبت، قدّمه أحمد بن صالح على مالك في نافع، وقدّمه ابن معين في القاسم في عائشة على الزهريّ عن عروة عنها [5](مات سنة بضع و 140)(ع) تقدم في "الإيمان" 28/ 222.

8 -

(مَالِك) بن أنس الإمام الحجة الفقيه، إمام دار الهجرة [7](ت 179)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 378.

9 -

(نَافِع) مولى ابن عمر، أبو عبد الله المدنيّ الفقيه الثقة الثبت [3](ت 117)(ع) تقدم في "الإيمان" 28/ 222.

10 -

(ابْنُ عُمَرَ) هو: عبد الله بن عمر بن الخطاب العدويّ الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما (73)(ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 102، والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف بالنسبة للإسنادين الأولين، ومن رباعيّاته بالنسبة للثالث، وهو أعلى ما وقع له من الأسانيد في هذا الكتاب، كما تقدم بيانه في "شرح المقدّمة"، وهذا هو (8) من رباعيات الكتاب.

2 -

(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الجماعة، سوى شيخيه: زهير، وابن أبي شيبة، فما أخرج لهما الترمذيّ.

3 -

(ومنها): أنه مسلسل بالفقهاء المدنيين من عبيد الله، ومالك، والباقون كوفيون، سوى القطان، فبصريّ، وزهير فنسائيّ، ثم بغداديّ.

4 -

(ومنها): كتابة (ح) مرتين إشارة إلى التحويل، وقد مرّ تمام البحث فيها غير مرّة.

5 -

(ومنها): أن إسناد مالك، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما أصحّ الأسانيد على الإطلاق عند البخاريّ رحمه الله تعالى، وزاد بعضهم الشافعيّ،

ص: 206

وأحمد، فقال: أصحّ الأسانيد: أحمدُ، عن الشافعيّ، عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما، وإليه أشار السيوطيّ في "ألفية الحديث" بقوله:

فَمَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ سَيِّدِهْ

وَزِيدَ مَا لِلشَّافِعِيْ فَأَحْمَدِهْ

6 -

(ومنها): قوله: "وهو القطّان" إنما زاد "وهو"؛ لأن شيخه لم يذكر لفظ القطّان، وقد تقدّم البحث عنه مستوفًى غير مرّة.

7 -

(ومنها): قوله: "واللفظ له"، يعني: أن متن الحديث المذكور هنا لشيخه يحيى بن يحيى، وأما الشيوخ الثلاثة الآخرون فرووه بمعناه، وهذا من تدقيق المصنّف رحمه الله تعالى، وشدّة احتياطه في التنبيه على دقائق الرواية مع أن هذا من المستحسنات، لا من الواجبات، كما أشار إليه السيوطيّ في "ألفيّة الحديث" بقوله:

وَمَنْ رَوَى مَتْنًا عَنَ اشْيَاخٍ وَقَدْ

تَوَافَقَا مَعْنًى وَلَفْظٌ مَا اتَّحَدْ

مُقْتَصرًا بِلَفْظِ وَاحِدٍ وَلَمْ

يُبَيِّنِ اخْتِصَاصَهُ فَلَمْ يُلَمْ

أَوْ قَالَ قَدْ تَقَارَبَا فِي اللَّفْظِ أَوْ

وَاتَّحَدَ الْمَعْنَى عَلَى خُلْفٍ حَكَوْا

وَإِنْ يَكُنْ لِلَفْظِهِ يُبَيِّنُ

مَعْ قَالَ أَوْ قَالَا فَذَاكَ أَحْسَنُ

8 -

(ومنها): أن صحابيّه رضي الله عنه أحد العبادلة الأربعة، وأحد المكثرين السبعة، وأحد المشهورين بالفتوى من الصحابة رضي الله عنهم، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَن) عبد الله (ابْنِ عُمَرَ) رضي الله تعالى عنهما (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا) أي معاشر المسلمين، وترك ذكر الذمّيين، والمستأمنين للمقايسة، أو المراد بـ "علينا": كلُّ من كان أهلَ أمنٍ، أو حرام الدم بالإيمان، أو الذمّة، أو الاستئمان، قاله السنديّ

(1)

.

(السِّلَاحَ) وفي حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه الآتي: "من سلّ علينا السيف"، قال أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله تعالى: يعني بذلك: النبيَّ صلى الله عليه وسلم نفسه وغيره من المسلمين، ولا شكّ في كفر من حارب النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا

(1)

"شرح السنديّ " 7/ 117.

ص: 207

فيكون قوله صلى الله عليه وسلم: "فليس منّا": أي ليس بمسلم، بل هو كافر، وأما مَن حارب غيره من المسلمين، متعمّدًا، مستحلًّا من غير تأويل، فهو أيضًا كافرٌ كالأول، وأما من لم يكن كذلك، فهو صاحب كبيرة إن لم يكن متأوّلًا تأويلًا مسوّغًا بوجه. انتهى

(1)

.

وقال في "الفتح": معنى الحديث: حملُ السلاح على المسلمين لقتالهم به بغير حقّ؛ لما في ذلك من تخويفهم، وإدخال الرُّعْب عليهم، لا من حَمَله لحراستهم مثلًا، فإنه يحمله لهم، لا عليهم

(2)

، قال: وكأنه كَنَى بالحمل عن المقاتلة، أو القتل للملازمة الغالبة.

وقال ابن دقيق العيد رحمه الله تعالى: يحتمل أن يراد بالحمل ما يُضادّ الوضع، ويكون كنايةً عن القتال به، ويحتمل أن يُراد بالحمل: حملها؛ إرادة القتال به لقرينة قوله: "علينا"، ويحتمل أن يكون المراد حمله للضرب به، وعلى كلّ حال، ففيه دلالة على تحريم قتال المسلمين، والتشديد فيه.

وقال الحافظ رحمه الله تعالى: جاء الحديث بلفظ: "مَنْ حَمَل علينا السلاح"، أخرجه البزّار، من حديث أبي بكرة، ومن حديث سمُرة، ومن حديث عمرو بن عوف رضي الله عنهم، وفي سند كلّ منها لينٌ، لكنّها يَعضِدُ بعضها بعضًا، وعند أحمد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ:"من رمانا بالنَّبْل، فليس منّا"، وهو عند الطبرانيّ في "الأوسط"، بلفظ:"الليل" بدل "النبل"، وعند البزّار من حديث بُريدة رضي الله عنه مثله. انتهى

(3)

.

(فَلَيْسَ مِنَّا") قال القرطبيّ رحمه الله تعالى: مذهب أهل الحقّ أنه لا يُكفّر أحدٌ من المسلمين بارتكاب كبيرة ما عدا الشركَ، وعلى هذا فيُحمل قوله صلى الله عليه وسلم:"ليس منّا" في حَقِّ مثلِ هذا على معنى: ليس على طريقتنا، ولا على شريعتنا، إذ سنّة المسلمين، وشريعتهم التواصلُ، والتراحمُ، لا التقاطع، والتقاتل، ويَجري هذا مَجرى قوله صلى الله عليه وسلم:"من غشّنا، "فليس منّا"، ونظائرِه، وتكون فائدته

(1)

"المفهم" 1/ 299 "كتاب الإيمان".

(2)

"فتح" 14/ 178 "كتاب الديات" حديث رقم (6874).

(3)

"فتح" 14/ 517 - 518 "كتاب الفتن" حديث رقم (7070).

ص: 208

الرَّدْعَ، والزَّجْرَ عن الوقوع في مثل ذلك، كما يقول الوالد لولده إذا سلك غير سبيله: لستُ منك، ولستَ منّي، كما قال الشاعر [من الوافر]:

إِذَا حَاوَلْتَ فِي أَسَدٍ فُجُورًا

فإِنِّي لَسْتُ مِنْكَ وَلَسْتَ مِنِّي

انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله تعالى

(1)

.

وقال النوويّ رحمه الله تعالى في "شرحه": مذهب أهل السنّة والفقهاء: أن مَن حَمَل السلاح على المسلمين بغير حقّ، ولا تأويل، ولم يستحلّه، فهو عاص، ولا يكفر بذلك، فإن استحلّه فهو كافر، فأما تأويل الحديث، فقيل: هو محمولٌ على المستحلّ بغير تأويل، فيكفر، ويخرُج من الملّة، وقيل: معناه ليس على سيرتنا الكاملة، وهدينا، وكان سفيان بن عُيينة رحمه الله تعالى يَكرَه قول من يُفسّره بـ "ليس على هدينا"، ويقول: بئس هذا القول، يعني: بل يُمْسَكُ عن تأويله؛ ليكون أوقع في النفوس، وأبلغ في الزجر. انتهى

(2)

.

وقال في "الفتح": قوله: "فليس منّا": أي ليس على طريقتنا، أو ليس متّبعًا لطريقتنا؛ لأن من حقّ المسلم على المسلم أن ينصُره، ويُقاتل دونه، لا أن يُرْعِبه بحمل السلاح عليه لإرادة قتاله، أو قتله، ونظيره:"من غشّنا فليس منّا"، و"ليس منّا من ضرب الخدود، وشقّ الجيوب"، وهذا في حقّ من لا يَستحلّ ذلك، فأما من يستحلّه، فإنه يكفر باستحلال المحرّم بشرطه، لا مُجرّد حمل السلاح.

والأولى عند كثير من السلف إطلاق لفظ الخبر من غير تعرّض لتأويله؛ ليكون أبلغ في الزجر، وكان سفيان بن عُيينة يُنكِر على من يَصرفه عن ظاهره، فيقول: معناه ليس على طريقتنا، وَيرَى أن الإمساك عن تأويله أولى لما ذكرناه.

والوعيد المذكور لا يتناول من قاتل الْبُغَاة من أهل الحقّ، فيُحْمَل على البغاة، وعلى من بدأ بالقتال ظالمًا، قاله في "الفتح"

(3)

.

(1)

"المفهم" 1/ 300 "كتاب الإيمان".

(2)

"شرح مسلم" 2/ 108 "كتاب الإيمان".

(3)

"فتح" 14/ 518 "كتاب الفتن" حديث رقم (7070).

ص: 209

وقال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: وإذا قلنا في مثل قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: "لا يزني الزاني حين يزني، وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق، وهو مؤمن"، وقوله:"لا إيمان لمن لا أمانة له"، وقوله سبحانه وتعالى:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال: 2] الآية، وقوله:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [الحجرات: 15]، وقوله:{لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} [البقرة: 177] الآية إلى قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة: 177].

إذا قال القائل في مثل هذا: ليس بمؤمن كامل الإيمان، أو نَفَى عنه كمال الإيمان لا أصله، فالمراد به كمال الإيمان الواجب، ليس بكمال الإيمان المستحبّ، كمن ترك رميَ الجمار، أو ارتكب محظورات الإحرام، غير الوطء، ليس هذا مثل قولنا: غسلٌ كاملٌ، ووضوءٌ كاملٌ، وأن المجزئ منه ليس بكامل، ذاك نفي الكمال المستحب، وكذا المؤمن المطلقُ هو المؤدِّي للإيمان الواجب، ولا يلزم من كون إيمانه ناقصًا عن الواجب أن يكون باطلًا حابطًا كما في الحج، ولا أن يكون معه الإيمان الكامل، كما تقوله المرجئة، ولا أن يقال: ولو أَدَّى الواجب لم يكن إيمانه كاملًا، فإن الكمال المنفيّ هنا الكمال المستحب.

فهذا فُرقانٌ يُزيل الشبهة في هذا المقام، ويُقَرِّر النصوص كما جاءت.

وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "مَن غَشَّنا فليس منا"، ونحو ذلك، لا يجوز أن يقال فيه: ليس من خيارنا، كما تقوله المرجئة، ولا أن يقال: صار من غير المسلمين، فيكون كافرًا، كما تقوله الخوارج، بل الصواب أن هذا الاسم الْمُضْمَر ينصرف إطلاقه إلى المؤمنين الإيمان الواجب الذي به يستحقون الثواب بلا عقاب، ولهم الموالاة المطلقة، والمحبة المطلقة، وإن كان لبعضهم درجات في ذلك بما فعله من المستحب، فإذا غَشَّهم لم يكن منهم حقيقةً؛ لنقص إيمانه الواجب الذي به يستحقون الثواب المطلق بلا عقاب، ولا يجب أن يكون من غيرهم مطلقًا، بل معه من الإيمان ما يَستحقّ به مشاركتهم في بعض الثواب، ومعه من الكبيرة ما يَستحقُّ به العقاب، كما يقول مَن استأجر قومًا ليعملوا عملًا، فعَمِلَ بعضهم بعض الوقت، فعند التوفية يصلَح أن يقال:

ص: 210

هذا ليس منّا، فلا يستحقّ الأجر الكامل، وإن استحقَّ بعضه. انتهى كلام شيخ الإسلام رحمه الله تعالى

(1)

، وهو تحقيقٌ نفيسٌ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا في "الإيمان"[44/ 287](98)، و (البخاريّ) في "الديات"(6874)، و"الفتن"(7070)، و (النسائيّ) في "المحاربة"(4102)، وفي "الكبرى"(3563)، و (ابن ماجه) في "الحدود"(2576)، و (أبو داود الطيالسيّ) في "مسنده"(1828)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 3 و 16 و 53 و 142 و 150)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(160)، و (أبو نُعيم) في "مستخرجه"(279 و 280)، و (الطحاويّ) في "مشكل الآثار"(2/ 132 - 133)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(8/ 20)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان تحريم حمل السلاح على المسلمين من غير حقّ؛ لما فيه من ترويعهم، وتخويفهم، بغير سبب شرعيّ.

2 -

(ومنها): بيان عِظَم حرمة المسلمين عند الله تعالى، فلا يحلّ لأحد أن يتعرّض لهم بأذى؛ إلا بما شرعه الله تعالى عليهم، من الحدود.

3 -

(ومنها): أن مَن حَمَل سيفه على المسلمين من غير مُبيح لذلك، فليس له حرمتهم، بل يؤخذ على يديه، ويعاقب بما يكفّ شرّه عنهم.

4 -

(ومنها): بيان خطر حمل السلاح على من لا يستحقّه، فقد حَكَم الشارع عليه بأنه ليس من المسلمين، وهذا وإن كان فيه التفصيل السابق، إلا أنه خطر عظيم، أعاذنا الله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، إنه جواد

(1)

"مجموع الفتاوى" 19/ 293.

ص: 211

كريم، رؤوفٌ رحيم، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

وبالسند المتصل إلى الإمام الحافظ الحجة أبي الحسين مسلم بن الحجاج القشيريّ النيسابوريّ رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[288]

(99) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ نُمَيْرٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا مُصْعَبٌ، وَهُوَ ابْنُ الْمِقْدَام، حَدَّثَنَا عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ، عَنْ إِيَاسِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ أَبِيه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ سَلَّ عَلَيْنَا السَّيْفَ، فَلَيْسَ مِنَّا").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) المذكور قريبًا.

2 -

(ابْنُ نُمَيْرٍ) هو: محمد بن عبد الله بن نُمير الْهَمْدانيّ، أبو عبد الرحمن الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ فاضلٌ [10](ت 234)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 5.

3 -

(مُصْعَبُ بْنُ الْمِقْدَامِ) الْخَثْعميّ مولاهم، أبو عبد الله الكوفيّ، صدوقٌ، له أوهامٌ [9].

رَوَى عن فِطْر بن خَلِيفة، وزائدة، وعكرمة بن عمار، ومبارك بن فَضالة، ومِسْعر، وأبي حنيفة، والثوريّ، وداود بن نُصير، وإسرائيل، والحسن بن صالح، وغيرهم.

ورَوَى عنه إسحاق بن راهويه، وأبو بكر بن أبي شيبة، وأبو كريب، وابن نمير، والقاسم بن زكريا بن دينار، وعبد الرحمن بن دينار، ومحمد بن رافع، وغيرهم.

قال الغلابيّ، عن ابن معين: ثقة، وقال إبراهيم بن الجنيد، عن ابن معين: ما أرى به بأسًا، وقال أبو داود: لا بأس به، وقال أبو حاتم: صالح، وقال عبد الله بن علي ابن المدينيّ، عن أبيه: ضعيف، وقال العجليّ: كوفيّ متعبدٌ، وقال ابن شاهين في "الثقات": قال يحيى بن معين: صالح، وقال ابن قانع: كوفيّ صالح، وقال الساجيّ: ضعيفُ الحديث، كان من العُبّاد، وقال أحمد بن حنبل: كان رجلًا صالحًا، رأيت له كتابًا، فإذا هو كثير الخطأ، ثم نظرت في حديثه، فإذا أحاديثه متقاربة عن الثوريّ، وقال ابن المنادي: كتبت

ص: 212

عنه أيام ابن رُفَيدة، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال علي بن حكيم الأوديّ عنه: كنت أرى رأي الإرجاء، فرأيت في المنام كأنّ في عنقي صَلِيبًا، فتركته.

قال محمد بن عبد الله الحضرميّ وغيره: مات سنة ثلاث ومائتين.

أخرج له المصنّف، والترمذيّ، والنسائيّ، وابن ماجه، وله في هذا الكتاب أربعة أحاديث فقط، هذا الحديث، وحديث (915): "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله

"، و (1852): "إنه ستكون هناتٌ وهناتٌ

"، و (2570): "ما رأيت رجلًا أشدّ عليه الوجع من رسول الله صلى الله عليه وسلم ".

4 -

(عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ) الْعِجليّ، أبو عمّار اليماميّ، بصريّ الأصل، ثقةٌ إلا في روايته عن يحيى بن أبي كثير، فيُضعّف؛ لاضطرابه فيه [5](مات قبيل 160)(ع) تقدم في "الإيمان" 12/ 155.

5 -

(إِيَاسُ بْنُ سَلَمَةَ) بن الأكوع الأسلميّ، أبو سلمة، ويقال: أبو بكر المدنيّ، ثقة [3].

رَوَى عن أبيه، وابن لعمار بن ياسر، وعنه ابناه: سعيد ومحمد، وأبو الْعُمَيس، وعكرمة بن عَمّار، وعُمَر بن راشد، وابن أبي ذئب، ويعلى بن الحارث، وغيرهم.

قال ابن معين، والعجليّ، والنسائيّ: ثقة، وقال ابن سعد: توفي بالمدينة سنة (119)، وهو ابن (77) سنة، وكان ثقةً، وله أحاديث كثيرةٌ، وهكذا قال ابن المديني في تاريخ وفاته، وذكره ابن حبان في "الثقات".

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (13) حديثًا.

6 -

(أَبُوهُ) سلمة بن عمرو بن الأكوع، واسم الأكوع: سِنَانُ بن عبد الله بن بَشِير بن يَقَظَة بن خُزيمة بن مالك بن سَلامان بن أسلم الأسلميّ، أبو مُسلم، ويقال: أبو إياس، ويقال: أبو عامر، وقيل: اسم أبيه وهب، وقيل: اسم بشير قُشَير، وقيل: قيس.

شَهِدَ بيعة الرضوان، وروى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعن أبي بكر، وعمر، وعثمان، وطلحة.

وروى عنه ابنه إياس، ومولاه يزيد بن أبي عُبيد، وعبد الرحمن بن

ص: 213

عبد الله بن كعب بن مالك، والحسن بن محمد بن الحنفية، وزيد بن أسلم،

وموسى بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي ربيعة المخزوميّ، وغيرهم.

كان شجاعًا راميًا، ويقال: كان يَسْبِق الفرس شدًّا على قدميه، وكان يَسْكُن الرَّبَذَة.

قال يحيى بن بكير، وغير واحد: مات سنة أربع وسبعين، وهو ابن ثمانين سنة.

وفي "صحيح البخاري": عن يزيد بن أبي عُبيد قال: لَمّا قُتل عثمان خَرج سلمة إلى الرَّبَذَة، وتزوج بها امرأة، وولدت له أولادًا، فلم يَزَل بها حتى قبل أن يموت بليال، فنزل المدينة، قال أبو نعيم: استوطن الرَّبَذة بعد قتل عثمان، توفي سنة (74)، وقيل: ستين، وذكر إبراهيم بن المنذر أنه توفي سنة (64)، وذكر الكلاباذي عن الهيثم بن عَدِيّ أنه مات في آخر خلافة معاوية.

قال الحافظ: وهو غلطٌ؛ فإن له قصة مع الحجاج بن يوسف الثقفيّ في إنكاره عليه اختيار البدو، واعتذار سلمة بأن النبيّ صلى الله عليه وسلم أذن له في البدو، والقصة مشهورة، ذكرها البخاري في "صحيحه"، وغيره، ولم يكن الحجاج في زمن معاوية، ولا ابنه يزيد صاحب أمر، ولا ولاية، وهذا يُرَجِّح قول مَن قال: مات سنة (74)، لكن في تقدير سِنِّه على هذا نظرًا؛ فإنه غَلَطٌ مَحْضٌ؛ إذ يلزم منه أنه شَهِد بيعة الرضوان، وعمره اثنتا عشرة سنة، وقد قال هو فيما صحَّ عنه: بايعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يومئذ على الموت، ومن كان بهذا السنّ لا يتهيأ منه هذا، فيُحَرَّر هذا، ثم رأيت مَدَار مِقْدَار سنِّهِ على الواقديّ، وهو من تخليطه، والمزيّ تَبعَ فيه صاحب "الكمال"، وكذا النوويّ في "تهذيبه" تَبعَ صاحب "الكمال"، وصاحب "الكمال" تَبعَ ابن طاهر، والصواب خلاف هذا.

ثم رجّح الحافظ تاريخ وفاته سنة (74)، وصحّحه في "الإصابة" أيضًا

(1)

.

(1)

راجع: "الإصابة" 4/ 127، و"تهذيب التهذيب" 2/ 74 - 75.

ص: 214

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (35) حديثًا

(1)

، والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله تعالى، وفيه التحديث، والعنعنة، من صيغ الأداء، وفيه للمصنّف شيخان، قرن بينهما.

2 -

(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الجماعة، غير شيخه أبي بكر، فما أخرج له الترمذيّ، وغير مصعب، فما أخرج له البخاريّ، وأبو داود.

3 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ: عكرمة، عن إياس، والابن عن أبيه.

4 -

(ومنها): أن صحابيّه ذو مناقب جمّة، فهو من الشجعان، يسبق الفرس عدوًا، وقصّته حين أغارت غطفان على لقاح رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي ترعى بذي قَرَد مشهورة في "الصحيحين" وغيرهما، وهذا أول محلّ ذكره من هذا الكتاب، وكذا ولده إياس، ومصعب بن المقدام، وقد مرّ آنفًا عدد ما رواه المصنّف لجميعهم، والله تعالى أعلم.

وقوله: ("مَنْ سَلَّ عَلَيْنَا السَّيْفَ") وفي رواية أبي عوانة في "مسنده" بلفظ: "من سلّ علينا السلاح"، ورواية ابن حبّان في "صحيحه" بلفظ:"من حمل علينا السلاح".

والسّلّ: انتزاعك الشيءَ، وإخراجه في رفق، قال في "القاموس"

(2)

، وفي "المصباح": سَلَلْتُ السيفَ سَلًّا، من باب قَتَلَ، وسَلَلْتُ الشيءَ: أخذتُهُ، ومنه قيل: يُسَلُّ الميتُ من قبل رأسه إلى القبر: أي يُؤخذ. انتهى

(3)

. وتمام شرح الحديث، وفوائده تقدّمت في شرح الحديث الماضي.

(1)

هكذا في برنامج الحديث "صخر"، والذي كتبته في "قرّة العين" نقلًا عن ابن الجوزيّ: أنه روى (77) حديثًا، اتّفق الشيخان على (16) حديثًا، وانفرد البخاريّ بخمسة، ومسلم بتسعة، ولا اختلاف بين العددين، فإن ما في البرنامج مع المكرّرات، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

(2)

راجع: "القاموس المحيط" ص 914.

(3)

"المصباح المنير" 1/ 286.

ص: 215

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه هذا تفرّد به المصنّف رحمه الله تعالى، فلم يُخرجه من أصحاب الأصول غيره.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا في "الإيمان"[44/ 288](99)، و (أبو داود الطيالسيّ) في "مسنده"(6242)، و (أحمد) في "مسنده" 4/ 46 و 54، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 315)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(159)، و (أبو نُعيم) في "مستخرجه"(281)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4588)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(6242 و 6249 و 6251)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(2565)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

وبالسند المتّصل إلى الإمام أبي الحسين مسلم بن الحجاج المذكور أولَ الكتاب قال:

[289]

(100) - (حَدَّثنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ بَرَّادٍ الْأَشْعَرِيُّ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، قَالُوا: حَدَّثنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ بُرَيْدٍ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى، عَنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قالَ: "مَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلَاحَ فَلَيْسَ مِنَّا").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) المذكور قريبًا.

2 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ بَرَّادٍ الْأَشْعَرِيُّ) هو: عبد الله بن بَرّاد بن يوسف بن أبي بُردة بن أبي موسى الأشعريّ، أبو عامر الكوفيّ، وهو عَمُّ عبد الله بن عامر بن بَرّاد، صدوقٌ [10](ت 234)(خت م) تقدم في "شرح المقدمة" جـ 2 ص 148.

ص: 216

[تنبيه]: روى ابن ماجه في "سننه" أحاديث عن عبد الله بن عامر بن بَرّاد، نسبه في بعضها إلى جدّه، فيَظُنُّ الظانُّ أنه هذا، وليس به، فليُتنبّه

(1)

، والله تعالى أعلم.

3 -

(أَبُو كُرَيْبٍ) محمد بن العلاء المذكور في الباب الماضي.

4 -

(أَبُو أُسَامَةَ) حماد بن أسامة المذكور قبل حديث.

5 -

(بُرَيْد) بن عبد الله بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعريّ الكوفيّ، يُكنى أبا بردة، ثقة يُخطئ قليلًا [6](ع) تقدم في "الإيمان" 16/ 171.

6 -

(أَبُو بُرْدَةَ) بن أبي موسى الأشعريّ، قيل: اسمه عامر، وقيل: الحارث، ثقة [3](ت 104)(ع) تقدم في "المقدمة" 16/ 171.

7 -

(أَبُو مُوسَى) الأشعريّ، عبد الله بن قيس بن سُليم بن حضّار الصحابيّ الشهير، مات رضي الله عنه (50) وقيل بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 16/ 171، والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله تعالى، وله فيه ثلاثة من الشيوخ قرن بينهم، وأبو كريب أحد مشايخ الستة بلا واسطة، كما مرّ بيان ذلك قريبًا.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، غير شيخيه: أبي بكر، فما أخرج له الترمذيّ، وابن بَرّاد، فتفرّد به هو، وعلّق له البخاريّ.

4 -

(ومنها): أنه مسلسل بثقات الكوفيين، ومسلسل بالكُنى، غير بريد، وأما عبد الله بن برّاد، فمعه أبو بكر، وأبو كريب.

5 -

(ومنها): أن فيه رواية الراوي، عن جدّه، عن أبيه، فأبو بردة جدّ

(1)

نبّه على هذا في "تهذيب التهذيب" 2/ 307.

ص: 217

لبريد بن عبد الله، والله تعالى أعلم، وشرح الحديث وفوائده تقدّمت في حديث ابن عمر رضي الله عنهما، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا في "الإيمان"[44/ 289](100)، و (البخاريّ) في "الفتن"(7071)، وفي "الأدب المفرد" له (1281)، و (الترمذيّ) في "الحدود"(1459)، و (ابن ماجه) في "الحدود"(2577)، و (أبو نُعيم) في "مستخرجه"(282)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(45) - (بَابُ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ غَشَّنَا، فَلَيْسَ مِنَّا")

وبالسند المتّصل إلى الإمام أبي الحسين مسلم بن الحجاج المذكور أولَ الكتاب قال:

[290]

(101) - (حَدَّثنا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ، وَهُوَ ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْقَارِيُّ (ح) وَحَدَّثَنَا أَبُو الْأَحْوَص، مُحَمَّدُ بْنُ حَيَّانَ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي حَازِمٍ، كِلَاهُمَا عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِح، عَنْ أَبِيه، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"مَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا الَسِّلَاحَ، فَلَيْسَ مِنَّا، وَمَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(قتيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) المذكور قبل باب.

2 -

(يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْقَارِيُّ) هو: يعقوب بن عبد الرحمن بن

ص: 218

محمد بن عبد الله بن عَبْدٍ القاريّ

(1)

المدنيّ، نزيل الإسكندريّة، ثقةٌ [8](ت 181)(ع) تقدم في "الإيمان" 35/ 245.

3 -

(أَبُو الْأَحْوَص، مُحَمَّدُ بْنُ حَيَّانَ) - بالمثنّاة التحتانيّة - البغويّ، نزيل بغداد، ثقةٌ [10].

رَوَى عن هشيم، وعبد العزيز بن أبي حازم، وحميد بن عبد الرحمن الرؤاسيّ، وابن علية، ومسلم بن خالد الزنجيّ، ومعاذ بن معاذ، ووكيع، وجماعة.

ورَوَى عنه مسلم حديثًا واحدًا، وأحمد بن حنبل، والذهليّ، وأحمد بن منيع، وعثمان بن خُرَّزَاذ، وحاتم بن الليث الجوهري، وعباس الدُّوريّ، وصالح بن محمد، وجماعة.

قال عبد الخالق بن منصور: سألت ابن معين عنه، فقال: ليته حَدَّث بما سمع، فكيف يكذب؟، وقال ابن أبي خيثمة، عن ابن معين: ثقة، وقال يعقوب بن شيبة: كان ثبتًا، وقال صالح بن محمد الأسديّ: صدوقٌ، وقال ابن سعد: سَمِع سماعًا كثيرًا، وكان ثقة، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال هو، وغيره: مات سنة سبع وعشرين ومائتين.

تفرّد به المصنّف بهذا الحديث فقط

(2)

.

4 -

(ابْنُ أَبِي حَازِمٍ) هو: عبد العزيز بن أبي حازم سلمة بن دينار المخزوميّ مولاهم، أبو تَمّام المدنيّ، صدوق فقيةٌ [8].

رَوَى عن أبيه، وسُهيل بن أبي صالح، وهشام بن عروة، وموسى بن عقبة، ويزيد بن الهاد، والعلاء بن عبد الرحمن، وكثير بن زيد بن أسلم، وغيهم.

(1)

"القاريّ" بتشديد الياء منسوب إلى القارة القبيلة المعروفة بجودة الرمي.

(2)

ونقل في "تهذيب التهذيب" عن "الزهرة": أن مسلمًا روى عنه ثلاثة أحاديث انتهى. وأراه غلطًا، فتنبّه.

ص: 219

ورَوَى عنه عبد الرحمن بن مهدي، وابن وهب، والقعنبي، وإبراهيم بن حمزة الزبيري، وعلي بن المديني، وإسماعيل بن أبي أويس، وسعيد بن أبي مريم، وهشام بن عمار، ومحمد بن الصبّاح الجرجرائيّ، وغيرهم.

قال أحمد: لم يكن يُعْرَف بطلب الحديث، إلا كتب أبيه، فإنهم يقولون: إنه سمعها، وكان يتفقه، لم يكن بالمدينة بعد مالك أفقه منه، ويقال: إن كتب سليمان بن بلال وقعت إليه ولم يسمعها، وقد رَوَى عن أقوام لم يكن يُعرف أنه سمع منهم، وقال ابن معين: ثقة صدوق، ليس به بأس، وقال ابن أبي حاتم: سألت أبي عن عبد العزيز بن أبي حازم، وعبد الرحمن بن أبي الزناد، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، فقال: متقاربون، قيل له: فعبد العزيز؟ قال: صالح الحديث، وقال هو، وأبو زرعة: عبد العزيز أفقه من الدَّرَاوردي، وأوسع حديثًا منه، وقال النسائي: ثقة، وقال مرة: ليس به بأس، وذكره ابن عبد البر فيمن كان مدار الفتوى عليه في آخر زمان مالك وبعده، وقال أحمد بن عليّ الأَبّار: ثنا أبو إبراهيم التَّرْجُمانيّ قال: قال مالك: قومٌ يكون فيهم ابن أبي حازم لا يُصيبهم العذاب، قال أبو إبراهيم: مات وهو ساجد، وقال ابن حبان في "الثقات": مات سنة (184)، وله ثنتان وثمانون سنة، وقال ابن سعد: كان كثير الحديث، دون الدَّرَاوردي، وقال مصعب الزبيري: كان فقيهًا، وقد سمع مع سليمان بن بلال، فلما مات سليمان أوصى له بكتبه. وقال العجليّ، وابن نمير: ثقة.

وقال ابن سعد: وُلد سنة (107)، وقال عبد الرحمن بن شيبة: مات سنة أربع وثمانين ومائة، وهو ساجد، وكذا أَرّخه مُطَيَّن، وزاد: ويقال: سنة (182).

أخرج الجماعة، وله في هذا الكتاب (22) حديثًا.

5 -

(سُهَيْلُ بْنُ أَبِي صَالِحٍ) أبو يزيد المدنيّ، ثقةٌ، تغيّر حفظه بآخره [6] مات في خلافة المنصور (ع) تقَدم في "الإيمان" 14/ 161.

6 -

(أَبُوهُ) هو: أبو صالح ذكوان السمّان الزيّات المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ [3](ت 101) تقدم في "المقدمة" 2/ 4.

7 -

(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه تقدم في "المقدمة" 2/ 4. والله تعالى أعلم.

ص: 220

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله تعالى، وفيه التحديث، والعنعنة من صيغ الأداء.

2 -

(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الجماعة، غير شيخه محمد بن حيّان، فقد تفرّد به هو.

3 -

(ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، غير شيخيه، فالأول بغلانيّ، والثاني بغداديّ، ويعقوب، وإن نزل الإسكندريّة، غير أنه مدنيّ الأصل.

4 -

(ومنها): كتابة (ح) إشارة إلى تحويل الإسناد، وقد تقدّم البحث فيها مستوفًى غير مرّة.

5 -

(ومنها): أن فيه رواية الابن عن أبيه، وفيه أبو صالح: من أثبت من روى عن أبي هريرة رضي الله عنه، وهو أحفظ من روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، روى (5374) حديثًا.

وقوله: (ليس منا) ذكر أبو نعيم في "مستخرجه" بعد إخراجه الحديث، ما نصّه: قال أبو عبيد: "ليس منا": أي هذه الأفعال، والأخلاق هي التي عليها الكفّار، ليست من أفعالنا. انتهى.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: أما شرح الحديث، فالجزء الأول منه تقدّم في الباب الماضي، والجزء الثاني سيأتي في الحديث التالي - إن شاء الله تعالى -.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا تفرد به المصنّف، فلم يُخرجه البخاريّ.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا في "الإيمان"[45/ 290](101)، و (ابن ماجه) في "كتاب الحدود"(2575)، و (البخاريّ) في "الأدب المفرد"(1280)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 417)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(158) مختصرًا على الجزء الأول منه، و (أبو نُعيم) في "مستخرجه"(285 و 286)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

ص: 221

وبالسند المتّصل إلى الإمام أبي الحسين مسلم بن الحجاج المذكور أولَ الكتاب قال:

[291]

(102) - (وَحَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، وَقُتَيْبَةُ، وَابْنُ حُجْرٍ جَمِيعًا، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ، قَالَ ابْنُ أَيُّوبَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، قَالَ: أَخْبَرَنِي الْعَلَاءُ، عَنْ أَبِيه، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَرَّ عَلَى صُبْرَةِ طَعَامٍ، فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِيهَا، فَنَالَتْ أَصَابِعُهُ بَلَلًا، فَقَالَ: "مَا هَذَا يَا صَاحِبَ الطَّعَامِ؟ "، قَالَ: أَصَابَتْهُ السَّمَاءُ، يَا رَسُولَ الله، قَالَ: "أَفلَا جَعَلْتَهُ فَوْقَ الطَّعَام، كَي يَرَاهُ النَّاسُ، مَنْ غَشَّ فَلَيْسَ مِنِّي").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ) الْمَقَابريّ البغداديّ، ثقةٌ عابدٌ [10](ت 234) وله (77) سنة (عخ م د عس) تقدم في "الإيمان" 2/ 110.

2 -

(ابْنُ حُجْرٍ) هو: عليّ بن حُجْر السعديّ المروزيّ، ثقةٌ حافظ، من صغار [9](ت 244) وقد قارب المائة (خ م ت س) تقدم في "المقدمة" 2/ 6.

3 -

(إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ) بن أبي كثير الأنصاريّ الزُّرَقيّ، أبو إسحاق القارئ المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 180)(ع) تقدم في "الإيمان" 2/ 110.

4 -

(الْعَلَاءُ) بن عبد الرحمن بن يعقوب الْحُرَقيّ، أبو شِبْلٍ المدنيّ، صدوقٌ، ربّما وَهِمَ [5](ت سنة بضع و 130)(ز م 4) تقدم في "الإيمان" 8/ 135.

5 -

(أَبُوه) عبد الرحمن بن يعقوب الْجُهنيّ الْحُرقيّ المدنيّ، ثقةٌ [3](ع) تقدم في "الإيمان" 8/ 135.

وقتيبة، وأبو هريرة رضي الله عنه تقدّما في السند الماضي.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله تعالى، وفيه التحديث، والإخبار، والعنعنة من صيغ الأداء، وله فيه ثلاثة مشايخ قرن بينهم.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، غير شيخه يحيى، فتفرّد به هو وأبو داود، وأخرج له البخاريّ في "خلق أفعال العباد"، والنسائيّ في "مسند عليّ"، وغير العلاء، فما أخرج له البخاريّ إلا في "جزء القراءة".

ص: 222

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين غير شيوخه، فالأول بغداديّ، والثاني بغلانيّ، والثالث مروزيّ.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، والابن عن أبيه: العلاء، عن أبيه، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَرَّ عَلَى صُبْرَةِ طَعَامٍ) وفي رواية أبي عوانة في "مسنده": "جاء النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى السوق، فإذا حنطةٌ مصبرة، فأدخل يده فيها، فرأى بللًا

".

و"الصُّبْرة" بضمّ الصاد المهملة، وإسكان الباء الموحّدة، جمعها صُبَر، مثلُ غُرْفَة وغُرَف، وعن ابن دريد: اشتريتُ الشيءَ صُبْرَةً، أي بلا كيل، ولا وزن، وقال الأزهريّ: الصُّبرة: الْكُومة

(1)

المجتمعة من الطعام، سُمّيت صُبْرةً لإفراغ بعضها على بعض، ومنه قيل للسحاب فوق السحاب: صَبير. انتهى

(2)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله تعالى: "صُبرة الطعام": هي الجملة المصبورة، أي المحبوسة للبيع، والصَّبْرُ: هو الحبس. انتهى

(3)

.

و"الطعام" بالفتح: اسم لما يؤكل، ويطلقه أهل الحجاز على الْبُرّ، قال ابن الأثير: الطَّعَام عامّ في كلّ ما يُقتات، من الحنطة، والشعير، والتمر، وغير ذلك. انتهى

(4)

.

وقال في "التهذيب": "الطُّعْم" بالضمّ: الحبّ الذي يُلقَى للطير، وإذا أطلق أهل الحجاز لفظ الطعام عَنَوْا به البُرّ خاصّةً، وفي العرف: الطَّعَام اسم لما يُؤكلُ، مثلُ الشراب اسم لما يُشربُ، وجمعه أَطْعِمةٌ. انتهى

(5)

.

(فَأَدْخَلَ) صلى الله عليه وسلم (يَدَهُ فِيهَا) أي في تلك الصُّبْرة، وذلك بالوحي، ففي رواية أبي داود من طريق سفيان بن عيينة، عن العلاء: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مَرّ برجل يبيع طعامًا، فسأله كيف تبيع؟ فأخبره، فأوحي إليه أن أدخل يدك فيه، فأَدخل

(1)

"الْكُوْمة" بفتح الكاف، وضمها: القطعة من التراب وغيره، قاله في "المصباح" 2/ 545.

(2)

"شرح النوويّ" 2/ 109.

(3)

"المفهم" 1/ 300.

(4)

"النهاية" 3/ 126.

(5)

راجع: "المصباح المنير" 2/ 373.

ص: 223

يده فيه، فإذا هو مبلول، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ليس منا مَن غَشّ"

(1)

.

وأخرج أحمد في "مسنده"، من حديث أبي بردة بن نيار رضي الله عنه قال: انطلقت مع النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى نَقِيع المصلَّى، فأدخل يده في طعام، ثم أخرجها، فإذا هو مغشوش، أو مُخْتَلِف، فقال:"ليس منا من غشنا"، وفي سنده شريك بن عبد الله، وجُميع بن عُمير متكلّم فيهما.

(فَنَالَتْ أَصَابِعُهُ بَلَلًا) أي نداوةً، ورطوبةً، قال في "القاموس":"الْبَلَلُ" محرّكةً، والْبِلّةُ، والْبِلالُ بكسرهما، والْبُلالةُ بالضمّ: النُّدْوَةُ

(2)

، وبَلَّهُ بالماء بَلًّا، وبِلَّةً بالكسر، وبلّله، فابتلّ، وتَبَلَّلَ، وككتاب: الماء، ويُثلَّثُ، وكلُّ ما يُبلُّ به الحلق. انتهى

(3)

.

(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم مستفسرًا سبب البلل ("مَا) استفهاميّة، أي أيُّ شيء (هَذَا) البللُ (يَا صَاحِبَ الطَّعَامِ؟ ") أي ما سبب رطوبة باطن طعامك هذا؟ (قَالَ) صاحب الطعام (أَصَابَتْهُ السَّمَاءُ يَا رَسُولَ اللهِ) وفي رواية أبي عوانة:"قال: يا رسول الله أصابه مطرٌ، فهو هذا البلل الذي ترى".

و"السماء": المطر، سُمّي بذلك؛ لنزوله من السماء، وأصل السماء: كلُّ ما علاك، فأظلّك، قاله القرطبيّ

(4)

.

وقال الفيّوميّ: السماء المطر: مؤنّثةٌ؛ لأنها في معنى السحابة، وجمحُها سُمِيٌّ، على فُعُولٍ، والسماءُ السقف: مذكّرٌ، وكل عال سماءٌ حتى يقال لظهر الفرس: سماءٌ، ومنه: ينزل من السماء، قالوا: من السقف، والنسبة إلى السماء سمائيٌّ بالهمز على لفظها، وسماويّ بالواو اعتبارًا بالأصل، وهذا حكم الهمزة إذا كانت بدلًا، أو أصلًا، أو كانت للإلحاق. انتهى

(5)

.

وقال ابن منظور: السماء: المطر مذكَّرٌ، يقال: ما زلنا نطأ السماء حتى أتيناكم: أي المطر، ومنهم من يؤنّثه، وإن كان بمعنى المطر، كما يذكّر

(1)

أخرجه أبو داود في "سننه" بسند صحيح برقم (2995).

(2)

"النُّدْوة" بضمّ، فسكون، ويقال أيضًا: النَّدَاوة بالفتح، راجع:"المصباح" 2/ 599.

(3)

"القاموس المحيط" ص 871.

(4)

"المفهم" 1/ 300.

(5)

"المصباح المنير" 1/ 290.

ص: 224

السماء، وإن كانت مؤنّثةً، كقول تعالى:{السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ} ، وقال مُعَوِّدُ الحكماء

(1)

معاوية بن مالك [من الوافر]:

إِذَا سَقَطَ

(2)

السَّمَاءُ بِأَرْضِ قَوْمٍ

رَعَيْنَاهُ وَإِنْ كَانُوا غِضَابَا

ويُجمع على أَسْمِيَةٍ، وسُمِيِّ

على فُعُول، قال رؤبة [من الرجز]:

تَلُفُّهُ الأَرْوَاحُ وَالسُّمِيُّ

فِي دِفْءِ أَرْطَاةٍ لَهَا حَنِيُّ

(3)

(قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("أَفَلَا جَعَلْتَهُ) أي المبلول (فَوْقَ الطَّعَامِ؛ كَيْ يَرَاهُ النَّاسُ) وفي رواية أبي عوانة: "أفلا جعلته على رأس الطعام حتى يراه الناس"، أي لأجل أن يروه، فلا يكونوا مخدوعين (مَنْ) شرطيّة (غَشَّ) الغشّ: ضدّ النصيحة، وهو بكسر الغين المعجمة، يقال: غَشَّهُ يغُشّه غِشًّا، وأصله من اللبن المغشوش، أي المخلوط بالماء تدليسًا، قاله القرطبيّ

(4)

.

وقال الفيّوميّ: غَشّه غَشًّا، من باب قتل، والاسم الغِشّ بالكسر: لم يَنْصَحه، وزيّن له غير المصلحة، ولبنٌ مغشوشٌ: مخلوط بالماء. انتهى

(5)

.

(فَلَيْسَ مِنِّي") كذا في الأصول بلفظ "منّي"، وهو صحيح

(6)

، ولفظ أبي نُعيم في "مستخرجه":"من غشّنا فليس منّا"، وعند أبي عوانة:"من غشّ فليس منّي، من غشّ فليس منّي"، مكرّرًا، ولفظ أبي داود، وابن ماجه:"ليس منّا من غشّ".

قال الإمام أبو داود رحمه الله تعالى في "سننه": حدثنا الحسن بن الصباح، عن عليّ، عن يحيى، قال: كان سفيان يَكره هذا التفسير: ليس مِنّا: ليس مثلنا. انتهى

(7)

.

(1)

سُمّي معوِّد الحكماء؛ لقوله في هذه القصيدة:

أُعَوِّدُ مِثْلَهَا الْحُكَمَاءَ بَعْدِي

إِذَا مَا الْحَقُّ فِي الْحَدَثَانِ نَابَا

انتهى. "لسان العرب" 14/ 399.

(2)

ويروى: "إذا نزل السماء

إلخ".

(3)

راجع: "لسان العرب" 14/ 3099.

(4)

"المفهم" 1/ 300 - 301.

(5)

"المصباح المنير" 2/ 447.

(6)

"شرح النوويّ" 2/ 109.

(7)

أخرجه أبو داود في "سننه" بسند صحيح برقم (2995).

ص: 225

وقال البغويّ في "شرح السنّة": لم يُرد به نفيه عن دين الإسلام، إنما أراد أنه ترك اتّباعي؛ إذ ليس هذا من أخلاقنا وأفعالنا، أو ليس هو على سنّتي وطريقتي في مناصحة الإخوان، هذا كما يقول الرجل لصاحبه: أنا منك، يريد به الموافقة والمتابعة، قال الله سبحانه وتعالى إخبارًا عن إبراهيم عليه السلام:{فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي} الآية [إبراهيم: 36]، والغَشُّ نقيض النصح، مأخوذ من الغشش، وهو المشرب الكدِرُ.

وقد تقدّم تمام البحث فيه في الباب الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا تفرّد به المصنّف، فلم يُخرجه البخاريّ.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه المصنّف هنا في "الإيمان"[45/ 291](102)، و (أبو داود) في "البيوع"(3452)، و (الترمذيّ) في "البيوع"(1315)، و (ابن ماجه) في "التجارات"(2224)، و (الحميديّ) في "مسنده"(1033)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 242)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(157)، و (أبو نُعيم) في "مستخرجه"(284)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4905)، و (الطحاويّ) في "مشكل الآثار"(2/ 134)، و (ابن منده) في "الإيمان"(550 و 551 و 552)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 320)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(2121)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان تحريم الغشّ، وأنه من الكبائر التي تنافي مقتضى الإيمان؛ إذ الواجب على المسلم مناصحة أخيه المسلم، فإذا غشّه فقد ناقض ذلك، وهذا هو وجه المطابقة في إيراده في أبواب الإيمان؛ إذ هو من أضداده، والشيء يناسب ضدّه.

2 -

(ومنها): ما كان عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم من العناية بما يجري بين الناس من التعامل، وإرشاد الضالّ إلى الحقّ، وتحذيره من الوقوع في خيانة إخوانه، ومن ثمّ في خيانة نفسه؛ إذ من لم يناصح إخوانه لم يناصح نفسه.

ص: 226

3 -

(ومنها): حرص الشريعة على إبعاد كلّ ما يحصل به الضرر للمسلم.

4 -

(ومنها): أن التدليس في البيع حرام، مثلُ أن يُخفي العيب، أو يُصرّي الشاة، أو يُغمّر وجه الجارية، فيظنّها المشتري حسناء، أو يُجعّد شعرها، غير أن البيع مع ذلك يصحّ، ولكن يَثبُت للمشتري الخيار إذا وقف عليه، كما أثبت ذلك له النبيّ صلى الله عليه وسلم، حيث قال فيما أخرجه الشيخان واللفظ لمسلم، من حديث أبي هريرة صلى الله عليه وسلم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يُتَلَّقى الركبانُ لبيع، ولا يَبعْ بعضكم على بيع بعض، ولا تناجشوا، ولا يَبع حاضر لباد، ولا تُصَرُّوا الإبلَ والغنم، فمن ابتاعها بعد ذلك فهو بخير النظرين، بعد أن يَحْلُبها، فإن رَضِيَها أمسكها، وإن سَخِطها رَدَّها وصاعًا من تمر".

قال الإمام البغويّ رحمه الله تعالى: ولو اطّلع المشتري على العيب بعدما هلك ما اشتراه في يده، أو كان عبدًا قد أعتقه، فيرجع بالأرش، وهو أن يُنظر كم نقص العيب من قيمته، فيسترجع بنسبته من الثمن، وقال شُريح: لا يردّ العبد من ادّفان، ويُردّ من الإباق الباتّ، والادّفانُ: أن يروغ عن مواليه اليوم أو اليومين، ولا يغيب عن المصر، وعنه: أنه كان يرُدّ الرقيق من الْعَبَس، وهو البول في الفراش، فأما إذا باع عبدًا قد ألبسه ثوب الْكَتَبة، أو زيّاه بزيّ أهل حرفة، فظنّه المشتري كاتبًا، أو محترفًا بتلك الحرفة، فلم يكن، فلا خيار له على أصحّ المذهب؛ لأن الرجل قد يَلْبَس ثوب الغير عاريةً، والمشتري هو الذي اغترّ به، فلا خيار له. انتهى

(1)

.

وسيأتي تمام البحث في ذلك في موضعه من "كتاب البيوع" - إن شاء الله تعالى - والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(1)

"شرح السنّة" 8/ 167 - 168.

ص: 227

(46) - (بَابُ تَحْرِيمِ ضَرْبِ الْخُدُود، وَشَقِّ الْجُيُوب، وَالدُّعَاءِ بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ)

وبالسند المتصل الى الإمام أبي الحسين مسلم بن الحجاج المذكور أولَ الكتاب قال:

[292]

(103) - (حَدَّثنا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا أَبُو مُعَاوَيةَ (ح) وَحَدَّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيةَ، وَوَكِيعٌ (ح) وَحَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، جَمِيعًا عَنِ الْأَعْمَش، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُرَّةَ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبْدِ الله، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَيْسَ مِنَّا مَنْ ضَرَبَ الْخُدُودَ، أَوْ شَقَّ الْجُيُوبَ، أَوْ دَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ".

هَذَا حَدِيثُ يَحْيَى، وَأمَّا ابْنُ نُمَيْرٍ، وَأَبُو بَكْرٍ، فَقَالَا:"وَشَقَّ، وَدَعَا" بِغَيْرِ أَلِفٍ).

رجال هذا الإسناد: عشرة:

1 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ مُرَّةَ) الْهَمْدانيّ الْخَارفيّ - بالراء والفاء - الكوفيّ، ثقةٌ [3](ت 100)(ع) تقدم في "الإيمان" 27/ 217.

2 -

(مَسْرُوق) بن الأجدع بن مالك الْهَمْدانيّ الوادعيّ، أبو عائشة الكوفيّ، ثقةٌ مخضرمٌ عابدٌ [2](ت 62)(ع) تقدم في "الإيمان" 27/ 217.

3 -

(عَبْدُ اللهِ) بن مسعود بن غافل بن حبيب الْهُذليّ، أبو عبد الرحمن الصحابيّ الشهير رضي الله عنه (ت 32)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 11، والباقون كلهم تقدّموا قريبًا، والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سداسيّات المصنّف رحمه الله تعالى، وله فيه ثلاثة من الشيوخ فرّق بينهم، وفيه التحديث، والعنعنة، من صيغ الأداء.

2 -

(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الجماعة، غير شيخيه: يحيى، وأبي بكر، فالأول ما أخرج له أبو داود، وابن ماجه، والثاني ما أخرج له الترمذيّ.

ص: 228

3 -

(ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين غير شيخه يحيى، فنيسابوريّ، وقد دخل الكوفة أيضًا.

4 -

(ومنها): أن فيه ثلاثة من التابعين يروي بعضهم عن بعض: الأعمش، عن عبد الله بن مرّة، عن مسروق.

5 -

(ومنها): أن صحابيّه رضي الله عنه ذو مناقب جمّة، فهو أحد السابقين إلى الإسلام، وأحد كبار العلماء من الصحابة رضي الله عنهم، وأحد من أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بأخذ القرآن عنه، وأمّره عمر رضي الله عنه على الكوفة، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ عَبْدِ اللهِ) بن مسعود رضي الله عنه أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَيْسَ مِنَّا) أي من أهل سنتنا، وطريقتنا، وليس المراد به إخراجه عن الدين، ولكن فائدة إيراده بهذا اللفظ المبالغةُ في الردع عن الوقوع في مثل ذلك، كما يقول الرجل لولده عند معاتبته: لستُ منك ولستَ مِنّي، أي ما أنت على طريقتي.

وقال الزين ابن الْمُنَيِّر رحمه الله تعالى، ما ملخصه: التأويل الأول يستلزم أن يكون الخبر إنما وَرَدَ عن أمر وجوديّ، وهذا يُصان كلام الشارع عن الحمل عليه، والأَولى أن يقال: المراد أن الواقع في ذلك يكون قد تَعَرَّض لأن يُهْجَر، ويُعْرَض عنه، فلا يَختلِط بجماعة السنة؛ تأديبًا له على استصحابه حالة الجاهلية التي قَبَّحها الإسلام، فهذا أولى من الحمل على ما لا يستفاد منه قدر زائد على الفعل الموجود.

وقد تقدّم عن سفيان بن عيينة أنه كان يَكْرَه الخوض في تأويله، ويقول: ينبغي أن يُمْسَك عن ذلك؛ ليكون أوقع في النفوس، وأبلغ في الزجر.

وقيل: المعنى ليس على ديننا الكامل: أي أنه خَرَج من فرع من فروع الدين، وإن كان معه أصله، حكاه ابن العربيّ.

قال الحافظ: ويظهر لي أن هذا النفي يُفَسِّره التبري الآتي في حديث أبي موسى رضي الله عنه التالي لهذا الحديث بعد باب، حيث قال: "فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم بريء

"، وأصل البراءة الانفصال من الشيء، وكأنه تَوَعَّده بأن لا يُدخله في شفاعته مثلًا.

ص: 229

وقال المهلب: قوله: "أنا بريء": أي من فاعل ما ذُكِر وقت ذلك الفعل، ولم يُرد نفيه عن الإسلام.

قال الجامع عفا الله عنه: قد تقدّم عن شيخ الإسلام رحمه الله تعالى أنه قال: إن الصواب في مثل هذا الحديث أن المراد به نفي كمال الإيمان الواجب، لا نفي أصل الإيمان، ولا نفي الكمال المستحبّ، وفاعل ذلك معه من الإيمان ما يستحقّ به مشاركة المؤمنين في اسم الإيمان، وفي بعض الثواب، ومعه من الكبيرة ما يستحقّ به العقاب والوصم بالفسوق

(1)

، وهذا تحقيق حسنٌ، والله تعالى أعلم.

(مَنْ ضَرَبَ الْخُدُودَ) ولفظ البخاريّ: "من لَطَمَ الخدود"، وهو بمعناه، يقال: لطَمَت المرأة وجهَهَا لَطْمًا، من باب ضَرَبَ: ضربته بباطن كفّها، قاله الفيّوميّ

(2)

.

و"الْخُدُود" - بالضمّ -: جمع خَدّ - بالفتح -، كفَلْس وفُلُوس، وهو: مِنَ الْمَحْجِرِ

(3)

إلى اللَّحْي، قاله في "المصباح".

وقال في "القاموس": "الْخَدّان" - بالفتح - و"الخُدّتَان" - بالضمّ -: ما جاوز مؤخَّر العينين إلى منتهى الشِّدْق، أو اللذان يكتنفان الأنف عن يمين وشِمَال، أو من لَدُن الْمَحْجِرِ إلى اللِّحْي، مذكَّرٌ. انتهى

(4)

.

وإنما خصَّ الْخَدَّ بذلك؛ لكونه الغالب في ذلك، وإلا فضرب بقية الوجه داخل في ذلك أيضًا.

(أَوْ شَقَّ الْجُيُوبَ) ولفظ البخاريّ: "وشَق" بالواو، وهي التي سيشير إليها المصنّف من رواية جرير، وعيسى بن يونس.

ثم إن الواو في هذه الرواية بمعنى "أو"، فالحكم في كلّ واحد منها، لا

(1)

راجع: "مجموع الفتاوى" 19/ 293 - 294.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 553.

(3)

"الْمَحْجِرُ": وزانُ مَجْلِس، ومِنبَر: الْحَديقة، ومن العين ما دار بها، وبدا من البُرْقُع، أو ما يظهر من نِقَابها. انتهى. "القاموس".

(4)

"القاموس المحيط" ص 253.

ص: 230

في المجموع؛ لأن كلًّا منها دالّ على عدم الرضا، والتسليم، فتنبّه.

و"الجيوب": جمع جَيْب - بالجيم، والموحدة - وهو: ما يُفْتَح من الثوب؛ لِيُدْخَل فيه الرأس، والمراد بِشَقِّه إكمال فتحه إلى آخره، وهو من علامات التسخط.

(أَوْ دَعَا) وللبخاريّ: "ودعا" بالواو، وسيشير إليها المصنّف أيضًا، وهي بمعنى "أو"، كما سبق آنفًا (بِدَعْوَى) ولفظ النسائيّ:"بدعاء"(الْجَاهِلِيَّةِ") أي من النياحة، ونحوها، وكذا النُّدْبةُ، كقولهم: واجبلاه، وكذا الدعاء بالويل والثبور.

فقد أخرج ابن ماجه، وصححه ابن حبان من حديث أبي أمامة رضي الله عنه:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لَعَنَ الخامشة وجهَهَا، والشاقّة جيبها، والداعية بالويل والثبور".

قال النوويّ: وأما "دعوى الجاهلية"، فقال القاضي عياض: هي النياحة، ونَدْبُهُ الميتَ، والدعاء بالويل، وشبهه، والمراد بالجاهلية ما كان في الفترة قبل الإسلام. انتهى

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله تعالى: "دعوى الجاهليّة" هنا: هي النياحة، وندبة الميت، والدعاء بالويل، والنعي، وإطراء الميت بما لم يكن فيه، كما كانت الجاهليّة تفعله، ويحتمل أن يراد بها نداؤهم عند الهياج والقتال: يا بني فلان مستنصرًا بهم في الظلم والفساد، وقد جاء النهي عنها في حديث آخر، وقال:"دَعُوها فإنها منتنة"، متّفقٌ عليه، وأمر بالانتماء إلى الإسلام، فقال:"ادعوا بدعوة المسلمين التي سمّاكم الله بها"

(2)

، والأول أليق بهذا الحديث؛ لأنه قرنه بضرب الخدود، وشقّ الجيوب. انتهى

(3)

.

[تنبيه]: عموم هذا الحديث يَشمل الذكور والإناث، وتخصيص الإناث

(1)

"شرح النوويّ" 2/ 110.

(2)

حديث صحيح، أخرجه الترمذي في "كتاب الأمثال" من "جامعه" مطوّلًا من حديث الحارث الأشعريّ رضي الله عنه برقم (3035).

(3)

"المفهم" 1/ 301.

ص: 231

في بعض الأحاديث خرج مخرج العادة، فإن هذه الأفعال إنما هي عادتهنّ، لا عادة الذكور، والله تعالى أعلم.

[تنبيه آخر]: ذكر الحافظ في "الفتح"

(1)

أنه وقع في رواية مسلم بلفظ: "بدعوى أهل الجاهلية" بزيادة لفظة "أهل"، وهذه الرواية لم أجدها في النسخ التي عندي، ولعله وقعت له نسخة أخرى بها.

ووقع عند النسائيّ في "الكبرى" بلفظ: "ودعا بدعاء أهل الجاهليّة".

وقد أشار النسائيّ في "المجتبى" إلى اختلاف شيخيه: عليّ بن خَشْرَم، والحسن بن إسماعيل، فلفظ عليّ:"ودعا بدعاء الجاهليّة"، ولفظ الحسن:"ودعا بدعوى الجاهليّة".

و"الدُّعاءُ" - بالضمّ، والمدّ -، و"الدَّعْوَى" - بالفتح، والقصر - مصدران لـ "دعا يدعو"، يقال: دعوت فلانًا دُعاءً، ودَعْوَى: إذا ناديته، وطلبت إقباله، والله تعالى أعلم.

وقوله: (هَذَا) إشارة إلى السياق المذكور بلفظ: "أو شقّ الجيوب، أو دعا بدعوى الجاهليّة" بـ "أو"(حَدِيثُ يَحْيَى) بن يحيى، شيخِه الأول، يعني: أنه رواه بـ "أو" في الموضعين (وَأَمَّا ابْنُ نُمَيْرٍ) أي محمد بن عبد الله بن نمير، شيخه الثالث (وَأَبُو بَكْرِ) أي ابن أبي شيبة، شيخه الثاني (فَقَالَا) في حديثهما ("وَشَقَّ، وَدَعَا" بِغَيْرِ أَلِفٍ) يعني الألف التي قبل الواو، أي إنهما قالا:"وشقّ الجيوب، ودعا بدعوى الجاهليّة" بالواو، بدل "أو"، وقد سبق أن الواو هنا بمعنى "أو"؛ لأن هذه الأشياء بمفرداتها منكرة، فلا يُشترط اجتماعها، فتنبّه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

(1)

راجع: "الفتح" 3/ 195.

ص: 232

أخرجه (المصنّف) هنا في "الإيمان"[46/ 292 و 293](103)، و (البخاريّ) في "الجنائز"(1294 و 1297 و 1298)، و"المناقب"(3519)، و (الترمذيّ) في "الجنائز"(999)، و (النسائيّ) في "الجنائز"(1860 و 1862 و 1864)، وفي "الكبرى"(1987 و 1989 و 1991)، و (ابن ماجه) في "الجنائز"(1584)، و (أحمد) 1/ 386 و 432 و 442 و 456 و 465)، و (ابن الجارود)(516)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(3149)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 63 و 64)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(1533)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان تحريم ما ذُكِر فيه من ضرب الوجه وغيره؛ لأن ذلك مشعرٌ بعدم الرضا بالقضاء، فإن وقع التصريح بالاستحلال مع العلم بالتحريم، أو التسخّط مثلًا بما وقع، فإنه ارتداد عن الإسلام، أعاذنا الله من ذلك، وأماتنا على الإسلام بمنّه وكرمه آمين.

2 -

(ومنها): أن هذه الأشياء من صنيع الجاهليّة، فيجب على المسلم الابتعاد عنها.

3 -

(ومنها): وجوب الرضا بقضاء الله تعالى، والتسليم لأمره؛ لأنه تعالى أعلم بمصالح عباده، أرحم بهم منهم لأنفسهم، وإنما يبتليهم بالمصائب؛ إما ليكفّر عنهم سيّئاتهم، وإما ليرفع بها درجاتهم، كما قال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 143]، وقال تعالى:{وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216]، فواجب العبد إذا أُصيب بمصيبة أن يسترجع، وَيعلم أنه يُعَوَّض من عند الله تعالى خيرًا مما أُصيب به، كما قال الله تعالى:{الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)} [البقرة: 156 - 157].

وقد أخرج المصنّف في "صحيحه" من حديث أم سلمة رضي الله عنها أنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من مسلم تصيبه مصيبة، فيقول ما أمره الله: {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة: 156]، اللهم أْجُرني في مصيبتي، وأَخْلِف لي خيرًا منها، إلا أخلف الله له خيرًا منها".

ص: 233

وأخرج أيضًا من حديث صُهَيب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عَجَبًا لأمر المؤمن، إنّ أمرَه كلَّه خيرٌ، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سَرّاء شَكَر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضَرّاء صبر، فكان خيرًا له".

وأخرج البخاريّ في "صحيحه" من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يقول الله تعالى: ما لعبدي المؤمن عندي جزاءٌ، إذا قَبَضتُ صَفِيَّه من أهل الدنيا، ثم احتسبه إلا الجنة".

ومفتاح ذلك كلّه، والطريق الموصل إليه هو صدق الإيمان، وإخلاص التوكّل عليه، وقوّة الرجاء والالتجاء إليه، فإنه الكافي لعبده، وهو الفتّاح لباب الصبر والرضا، كما قال تعالى:{أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزمر: 36]، وقال:{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} الآية [التغابن: 11].

والحاصل أن واجب المسلم تجاه المصائب الصبر، والرضا بالقضاء، والالتجاء إليه، والتوكّل عليه، فإنه ينال بذلك الأجر العظيم، والفضل الجسيم، كما أوضحته النصوص المذكورة.

"اللهم اهدنا فيمن هديت، وتوتنا فيمن تولّيت، وبارك لنا فيما أعطيت، وقنا شرّ ما قضيت، فإنك تقضي، ولا يُقضى عليك، وإنه لا يذلّ من واليت، ولا يَعِزّ من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت"، آمين، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الامام أبي الحسين مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[293]

(

) - (وحَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ (ح) وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَعَلِيُّ بْنُ خَثرَمٍ، قَالَا: حَدَّثنا عِيسَى بْنُ يُونُسَ جَمِيعًا، عَنِ الْأَعْمَش، بِهَذَا الاسْنَاد، وَقَالَا:"وَشَقَّ، وَدَعَا").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) هو: عثمان بن محمد بن أبي شيبة إبراهيم بن عثمان الْعَبسيّ، أبو الحسن الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 239)(خ م د س ق) تقدم في "الإيمان" 35/ 246.

ص: 234

2 -

(جَرِيرٌ) هو ابن عبد الحميد بن قُرْط الضبيّ، أبو عبد الله الكوفيّ، نزيل الريّ وقاضيها، ثقةٌ، صحيح الكتاب [8](188)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.

3 -

(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) هو: ابن راهويه المذكور قريبًا.

4 -

(عَلِيُّ بْنُ خَشْرَمٍ) - بمعجمتين، وزان جَعْفَر - المروزيّ، ثقة، من صغار [10](ت 257)(م ت س) تقدم في "المقدمة" 4/ 25.

5 -

(عِيسَى بْنُ يُونُسَ) بن أبي إسحاق السَّبيعيّ، أخو إسرائيل الكوفيّ، نزل الشام مرابطًا، ثقةٌ مأمونٌ [8](187)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 28، والأعمش سبق في السند الماضي.

وقوله: (بِهَذَا الإِسْنَادِ) أي بإسناد الأعمش، عبد الله بن مُرّة، عن مسروق، عن عبد الله رضي الله عنه.

وقوله: (وَقَالَا: "وَشَقَّ، وَدَعَا") ضمير التثنية لجرير، وعيسى بن يونس، يعني: أنهما روياه بالواو بدل "أو".

[تنبيه]: رواية عيسى أخرجها النسائيّ في "المجتبى"(17/ 1860)، فقال:

أخبرنا عليّ بن خَشْرَم، قال: حدثنا عيسى، عن الأعمش (ح) أنبأنا الحسن بن إسماعيل، قال: حدثنا ابن إدريس، عن الأعمش، عن عبد الله بن مُرّة، عن مسروق، عن عبد الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس منا مَن ضرب الخدود، وشَقَّ الجيوب، ودعا بدعاء الجاهلية"، واللفظ لعليّ، وقال الحسن:"بدعوى".

وأما رواية جرير، فلم أجدها، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الامام أبي الحسين مسلم بن الحجاج المذكور أولَ الكتاب قال:

[294]

(104) - (حَدَّثَنَا الْحَكَمُ بْنُ مُوسَى الْقَنْطَرِيُّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حَمْزَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ، أَنَّ الْقَاسِمَ بْنَ مُخَيْمِرَةَ حَدَّثَهُ، قَالَ: حَدَّثَني أَبُو بُرْدَةَ بْنُ أَبِي مُوسَى، قَالَ: وَجِعَ أَبُو مُوسَى وَجَعًا، فَغُشِيَ عَلَيْه، وَرَأْسُهُ فِي حَجْرِ امْرَأَةٍ مِنْ أَهْلِه، فَصَاحَتِ امْرَأَةٌ مِنْ أَهْلِه، فَلَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهَا شَيْئًا،

ص: 235

فَلَمَّا أفَاقَ قَالَ: أنا بَرِيءٌ مِمَّا بَرِئَ مِنْهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَإِن رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَرِئَ مِنَ الصَّالِقَة، وَالْحَالِقَة، وَالشَّاقَّةِ).

رجال هذا الإسناد: ستّةٌ:

1 -

(الْحَكَمُ بْنُ مُوسَى الْقَنْطَرِيُّ) هو: الحكم بن موسى بن أبي زُهَير شِيرزَاد البغداديّ، أبو صالح الْقَنْطَريّ، ثقةٌ

(1)

[10].

رَأى مالك بن أنس، ورَوَى عن ضَمْرة بن ربيعة، وإسماعيل بن عياش، وشعيب بن إسحاق، وابن المبارك، والوليد بن مسلم، ويحيى بن حمزة الحضرمي، وغيرهم.

ورَوَى عنه البخاري تعليقًا، ومسلم، وأبو داود في "المراسيل"، وروى له النسائيّ بواسطة عمرو بن منصور، وابن ماجه بواسطة أبي زرعة الرازيّ، وأبو حاتم، وأحمد بن حنبل، وابنه عبد الله، والدارميّ، وأبو قدامة السرخسيّ، وابن المدينيّ، والذهليّ، والزعفرانيّ، وأبو زرعة الدمشقيّ، ومحمد بن يحيى بن سليمان المروزيّ، وجماعة.

قال ابن معين: ليس به بأس، وقال مرةً: ثقةٌ، وكذا قال العجليّ، وقال أبو حاتم: صدوقٌ، وقال ابن سعد: ثقة، كثير الحديث، وكان رجلًا صالحًا، ثبتًا في الحديث، وقال موسى بن هارون: حدثنا الحكم بن موسى، أبو صالح الشيخ الصالح، وقال: بلغني عن ابن المدينيّ أنه قال كذلك، وكذا قال البغويّ، وقال صالح جزرة: الثقة المأمون، وقال ابن قانع: ثقة، وذكره ابن حبان في "الثقات".

وقال البخاري وجماعة: مات سنة (232)، زاد البغويّ: ليومين من شوال.

أخرج له البخاري في التعاليق، والمصنّف، وأبو داود في "المراسيل"، والنسائيّ، وابن ماجه، وله في هذا الكتاب (18) حديثًا.

(1)

قال في "التقريب": صدوقٌ، وما قلته أولى، كما يظهر من ترجمته، فلم يتكلّم فيه أحد، بل وثقّوه، فتنبّه.

ص: 236

[تنبيه]: "الْقَنْطَريّ" - بفتح القاف، وسكون النون، وفتح الطاء -: منسوب إلى قَنْطَرَة بَرَدَان - بفتح الباء والراء -: جِسْرُ بغداد، قاله النوويّ في "شرحه".

وذكر السمعانيّ في "الأنساب"، والمجد في "القاموس": أن "القَنْطَرَة" اسم لعدّة مواضع كثيرة، وذكرا بعض من ينتسب إليها، ولكن لم يذكر الحكم بن موسى إلى أيها ينتسب؟

(1)

، والله تعالى أعلم.

2 -

(يَحْيَى بْنُ حَمْزَةَ) بن واقد الحضرميّ، أبو عبد الرحمن الْبَتْلَهِيّ الدمشقيّ القاضي، من أهل بيت لَهْيَا، ثقة، رُمي بالقدر [8].

رَوَى عن الأوزاعي، وعبد الرحمن بن يزيد بن جابر، وثور بن يزيد، ونصر بن علقمة، وزيد بن واقد، وسليمان بن أرقم، وسليمان بن داود الخولاني، وعمرو بن مهاجر، ومحمد بن الوليد الزُّبَيْديّ، ويحيى بن الحارث الذَمَاريّ، ويزيد بن أبي مريم الشامي، وجماعة.

ورَوَى عنه ابنه محمد، وابن مهديّ، والوليد بن مسلم، وأبو مسهر، ومحمد بن المبارك، ومروان بن محمد، ويحيى بن حسان، وعبد الله بن يوسف، والحكم بن موسى، وأبو النضر الفراديسيّ، ومحمد بن عائذ، وهشام بن عمار، وعلي بن حجر، وآخرون.

قال صالح بن أحمد عن أبيه: ليس به بأس، وكذا قال الْمَرُّوذيّ عن أحمد، وقال الغلابي وغيره عن ابن معين: ثقة، قال الغلابي: كان ثقة، وكان يُرمَى بالقدر، وقال الدُّوريّ عن ابن معين: كان قدريًّا، وكان صدقة بن خالد أحب إليهم منه، وقال عثمان الدارمي عن دُحيم: ثقة عالم، لا أشك إلا أنه لقي علي بن يزيد، وقال الآجري عن أبي داود: ثقة، قلت: كان قدريًّا؟ قال: نعم. وقال النسائي: ثقة. وقال يعقوب بن سفيان: ثنا هشام بن عمار، ثنا يحيى بن حمزة، وكان قاضيًا على دمشق ثقة. وقال عبد الله بن محمد بن سيار: لا بأس به. وقال ابن سعد: كان كثير الحديث صالحه. وقال عمرو بن دُحيم: أعلم أهل دمشق بحديث مكحول الهيثم بن حميد، ويحيى بن حمزة.

(1)

راجع: "شرح النوويّ" 2/ 110، و"الأنساب" لابن السمعانيّ 4/ 531 - 534، و"القاموس المحيط" ص 420 - 421.

ص: 237

وقال العجلي: ثقة، وقال يعقوب بن شيبة: ثقة مشهور، وقال مروان بن محمد: استقضاه المنصور سنة ثلاث وخمسين، فلم يزل قاضيًا حتى مات، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: وُلد سنة ثلاث ومائة، ومات سنة ثلاث وثمانين ومائة، وكذا قال أبو مسهر وغيره، قال أبو سليمان بن زَبْر: وُلد سنة اثنتين، وقيل: سنة خمس، وقيل غير ذلك.

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب ثمانية أحاديث، هذا الحديث، وحديث (1211): "وإنها لحابستنا

"، و (1548): "فلا تفعلوا، ازرعوها، أو أزرعوها

"، و (1888): "رجلٌ يُجاهد في سبيل الله بماله

"، و (1537): "لا تزال طائفة من أمتي قائمةً

"، و (1975): "أَصْلِحْ هذا اللحم، فأصلحته

"، و (2864): "تُدنى الشمس يوم القيامة من الخلق

"، و (2944): "يتبع الدجال من يهود أصبهان سبعون ألفًا

".

3 -

(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ) الأزديّ، أبو عُتبة الشاميّ الدارانيّ، ثقةٌ [7](مات سنة بضع و 150)(ع) تقدم في "الإيمان" 10/ 148.

4 -

(الْقَاسِمُ بْنُ مُخَيْمِرَةَ) - بالمعجمة، مصغّرًا - أبو عُروة الْهَمْدانيّ - بالسكون - الكوفيّ، نزيل دمشق، ثقةٌ فاضل [3].

رَوَى عن عبد الله بن عمرو بن العاص، وأبي سعيد الخدريّ، وأبي أُمامة، وأبي مريم الأزديّ، وعلقمة بن قيس، ووَرّاد كاتب المغيرة، وأبي بردة بن أبي موسى، وغيرهم.

ورَوى عنه أبو إسحاق السَّبِيعيّ، وسِمَاك بن حَرْب، وعلقمة بن مَرْثَد، وعبد الرحمن بن يزيد بن جابر، والْحَكَم بن عُتيبة، وسَلَمة بن كُهيل، والحسن بن الْحُرّ، وحسان بن عطية، وموسى بن سليمان، ويزيد بن أبي مريم الشاميّ، وغيرهم.

وقال ابن سعد: كان ثقةً، وله أحاديث، وقال الدُّوريّ، عن ابن معين: لم نَسمع أنه سَمِع من أحد من الصحابة، وقال إسحاق بن منصور وغيره، عن ابن معين: ثقةٌ، وقال أبو حاتم: صدوق ثقةٌ كوفيُّ الأصل، كان مُعَلّمًا بالكوفة، ثم سكن الشام، وقال عباد بن العَوّام، عن إسماعيل بن أبي خالد: كنا في كُتَّابه، وكان يُعَلِّمُنا، ولا يأخذ منا، وقال العجليّ، وابنُ خِرَاش: ثقةٌ،

ص: 238

وقال الأوزاعيّ: أتى القاسمُ بن مُخَيْمِرة عمرَ بن عبد العزيز، ففَرَض له، وأمر له بغلام، فقال: الحمد لله الذي أغناني عن التجارة، قال: وكان له شريك كان إذا رَيح قاسمه، ثم قعد في بيته، فلا يخرج حتى يأكله، قلت: وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: ما أحْسُبُه سَمِع من ابن أبي موسى، وكان من خيار الناس، ومن صالحي أهل الكوفة، انتقل منها إلى الشام مُرَابطًا، وقال في موضع آخر: سأل عائشة عما يَلْبَس المحرم.

قال الجامع عفا الله عنه: قول ابن حبّان: ما أحسبه سمع من ابن أبي موسى، فيه نظر لا يخفى، فقد أخرج له مسلم هذا الحديث من روايته عنه، وقد صرّح بأنه حدّثه، فكيف يستقيم هذا الحسبان؟، اللهمّ إلا أن يريد بابن أبي موسى غير أبي بردة، فليُتأمّل، والله تعالى أعلم.

قال خليفة وغير واحد: مات في خلافة عمر بن عبد العزيز، وقال عمرو بن عليّ وغيره: مات سنة مائة، وقيل: سنة إحدى ومائة.

أخرج له البخاريّ في "التعاليق"، والمصنّف، والأربعة، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا، وحديث (276): "ثلاثة أيام ولياليهنّ للمسافر

".

و"أَبُو بُرْدَةَ"، و"أَبُو مُوسَى الأشعريّ" تقدّما قبل باب، والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سداسيّات المصنّف رحمه الله تعالى، وفيه التحديث، والعنعنة، من صيغ الأداء.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، غير شيخه، فما أخرج له الترمذيّ، وأخرج له البخاري في التعاليق، وأبو داود في "المراسيل"، وغير القاسم، فعلّق له البخاريّ.

3 -

(ومنها): أنه مسلسل بالشاميين غير شيخه، فبغداديّ، وأبي بردة، وأبي موسى، فكوفيّان.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ: القاسم، عن أبي بردة، والابن عن أبيه: أبي بردة عن أبي موسى رضي الله عنه.

ص: 239

5 -

(ومنها): أن صحابيّه رضي الله عنه من مشاهير الصحابة رضي الله عنهم، ذو مناقب جمّة، أمّره عمر، ثم عثمان رضي الله عنهم، وهو أحد الحكمين بصفّين، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

عن الْقَاسِم بْنِ مُخَيْمِرَةَ - بضم الميم، وفتح الخاء المعجمة، مصغّرًا - (قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو بُرْدَةَ بْنُ أَبِي مُوسَى) قيل: اسمه عامر، وقيل: الحارث، وقوله؛ (قَالَ) تفسير لـ "حدّثني"(وَجِعَ) بفتح الواو، وكسر الجيم - من باب تَعِبَ: أي مرض (أَبُو مُوسَى) الأشعريّ عبد الله بن قيس رضي الله عنه، وقوله:(وَجَعًا) منصوب على أنه مفعول مطلقٌ.

[فائدة]: قال الفيّوميّ رحمه الله تعالى: وَجِعَ فلانًا رأسُهُ أو بطنُهُ، يُجعلُ الإنسان مفعولًا، والعضو فاعلًا، وقد يجوز العكسُ، وكأنه على القلب لفهم المعنى، يَوْجَعُ وَجَعًا، من باب تَعِبَ، فهو وَجِعٌ: أي مَرِيضٌ متألِّمٌ، ويقع الْوَجَعُ على كلّ مرضٍ، وجمعه أوجاعٌ، مثلُ سَبَب وأسباب، ووِجَاعٌ أيضًا بالكسر، مثلُ جَبَل وجبال، وقومٌ وَجِعُونَ، وَوَجْعَى، مثلُ مَرْضَى، ونساءٌ وَجِعَات، ووَجَاعَى، وربّما قيل: أوجعه رأسُهُ با لألف، والأصلُ: وَجِعَهُ ألمُ رأسه، وأوجعه ألمُ رأسه، لكنّه حُذف للعلم به، وعلى هذا، فيقال: فلانٌ مَوْجُوعٌ، والأجودُ: مَوْجُوعُ الرأس، وإذا قيل: زيدٌ يَوْجَعُ رأسَهُ بحذف المفعول انتصب الرأسُ، وفي نصبه قولان: قال الفرّاءُ: وَجِعْتَ بَطنَكَ، مثلُ رَشِدتَ أمرَكَ، فالمعرفة هنا في معنى النكرة، وقال غير الفرّاء: نُصِبَ البطنُ بنزع الخافض، والأصلُ وَجِعْتَ من بطنك، ورَشِدتَ في أمركَ؛ لأن المفسِّرَات عند البصريين لا تكون إلا نكرات، وهذا على القول بجعل الشخص مفعولأ واضحٌ، أما إذا جُعِل الشخص فاعلًا، والعضوُ مفعولًا، فلا يَحتاج إلى هذا التأويل. انتهى كلام الفيّوميّ

(1)

.

(فَغُشِيَ عَلَيْهِ) بالبناء للمفعول: أي أُغمي عليه، قاله ابن الأثير، وقال

(1)

"المصباح المنير" 2/ 648 - 649.

ص: 240

الفيّوميّ: غُشِيَ عليه بالبناء للمفعول غَشْيًا بفتح الغين، وضمُّها لغة، والْغَشْيَةُ بالفتح: المرّةُ، فهو مَغْشي عليه، ويقال: إن الْغَشْي يُعَطِّلُ الْقُوَى المحَرِّكة، والأَوْرِدة الْحَسَّاسَة؛ لضعف القلب بسبب وَجَعٍ شديدٍ، أو بَرْد، أو جُوعٍ مُفْرط، وقيل: الْغَشْيُ: هو الإغماءُ، وقيل: الإغماء: امتلاء بُطُون الدماغ من بَلْغَمٍ باردٍ غَلِيظٍ، وقيل: الإغماءُ سَهْوٌ يَلْحَقُ الإنسانَ مع فُتُور الأعضاء لعلّةٍ. انتهى

(1)

.

(وَرَأْسُهُ فِي حَجْرِ امْرَأَةٍ) جملة في محلّ نصب على الحال، و"الْحِجْرُ" بفتح الحاء المهملة، وكسرها لغتان، قاله ابن الأثير رحمه الله تعالى:"الْحِجْرُ" - بالفتح والكسر -: الثوبُ، والْحِضْنُ، والمصدر بالفتح لا غير، وقال أيضًا في تفسير قول عائشة رضي الله عنها:"هي اليتيمة تكون في حجر وليّها": يجوز أن يكون من حِجْر الثوب، وهو طرفه الْمُقَدَّم؛ لأن الإنسان يُرَبّي وَلَدهُ في حَجْره. انتهى

(2)

.

وقال الفيّوميّ: وحَجْرُ الإنسان بالفتح، وقد يُكسر: حِضْنُهُ، وهو ما دون إبطه إلى الْكَشْح. انتهى

(3)

.

وقوله: (مِنْ أَهْلِهِ) بيان لـ "امرأة"(فَصَاحَتِ امْرَأةٌ مِنْ أَهْلِهِ) أي رفعت صوتها بالبكاء، وفي الرواية التالية من طريق أبي صخرة عن عبد الرحمن بن يزيد، وأبي بردة: "وأقبلت امرأته أم عبد الله، تَصِيح برَنَّة

"، وللنسائيّ من طريق يزيد بن أوس، عن أم عبد الله امرأةِ أبي موسى، عن أبي موسى، فذكر الحديث دون القصّة، ولأبي نُعيم في "مستخرجه" من طريق ربعيّ، قال: "أُغمي على أبي موسى، فصاحت امرأته بنتُ أبي دومة".

قال الحافظ رحمه الله تعالى: فحصلنا على أنها أمّ عبد الله بنت أبي دومة، وأفاد عُمر بن شَبّة في "تاريخ البصرة" أن اسمها صفيّة بنت دومون، وأنها والدة أبي بردة بن أبي موسى، وأن ذلك وقع حيث كان أبو موسى أميرًا على البصرة من قِبَل عمر بن الخطاب رضي الله عنه. انتهى

(4)

.

(فَلَمْ يَسْتَطِعْ) أبو موسى رضي الله عنه (أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهَا شَيْئًا) أي من الإنكار على

(1)

"المصباح المنير" 2/ 447 - 448.

(2)

"النهاية" 1/ 342.

(3)

"المصباح" 1/ 121 - 122.

(4)

"الفتح" 3/ 197.

ص: 241

فعلها (فَلَمَّا أفَاقَ) أي رجع من غيبوبة عقله، قال في "القاموس": أفاق من مرضه: رجعت الصحّة إليه، أو رجع إلى الصحّة، كاستفاق. انتهى

(1)

. وقال في "المصباح": أفاق المجنون إفاقةً: رجع إليه عقله، وأفاق السكران إفاقةً، والأصل: أفاق من سُكره، كما استيقظ من نومه. انتهى

(2)

. (قَالَ) أبو موسى رضي الله عنه (أنا بَرِيءٌ مِمَّا بَرِئَ مِنْهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) قال النوويّ رحمه الله تعالى: كذا ضبطناه، وكذا هو في الأصول "مِمّا"، وهو صحيح: أي من الشيء الذي بَرِئ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم. انتهى

(3)

.

قال في "القاموس": بَرِئَ من الأمر يَبْرَأُ، وَيبْرُؤُ - بضم الراء، نادرٌ - بَرَاءً - بالفتح -، وبُرَاءَةً - بالضمّ -، وبُرُوءًا - بضمّتين -: تَبَرّأَ، وأبْرَأك منه، وبرّأَكَ، وأنت بَرِيءٌ، جمعه بَرِيئون، وكفُقَهَاءَ، وكِرَامٍ، وأَشْرافٍ، وأَنْصِباءَ، ورُخَالٍ

(4)

- بضم، ففتح -، وهي بهاء، جمعه بَرِيئاتٌ، وبَرِيّات، وَبَرَايَا، كخَطَايَا، وأنا بَرَاءٌ منه، لا يُثَنَّى، ولا يُجَمَعُ، ولا يؤنّثُ: أي بَرِيءٌ. انتهى.

وقال القرطبيّ رحمه الله تعالى: أصل البراءة الانفصال عن الشيء، والبينونة منه، ومنه البراءة من العيوب والدَّين، ويَحْتَمِل أن يريد به أنه متبرّئٌ من تصويب فعلهم هذا، أو من الْعُهْدة اللازمة له في التبليغ. انتهى

(5)

.

وقال القاضي عياض رحمه الله تعالى: قوله: "أنا بريء ممن حَلَقَ": أي من تصويب فعلهنّ، أو مما يستوجبن عليه من العقوبة، أو من عهدة ما لَزِمَني في بيانه عليهنّ، وتعريفهنّ ما فيه من الإثم، وأصل البراءة الانفصال، والبينونة، ومنه: بارأ الرجل امرأته إذا فارقها. انتهى

(6)

.

وقال النوويّ بعد نقله كلام عياض، ما نصُّهُ: ويجوز أن يراد به ظاهره، وهو البراءة من فاعل هذه الأمور، ولا يُقدَّر فيه حذف. انتهى

(7)

.

(1)

"القاموس المحيط" ص 828.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 484.

(3)

"شرح النوويّ" 2/ 110.

(4)

الرّخال بكسر الراء، وضمها: الأنثى من أولاد الضأن. اهـ. "ق" ص 905.

(5)

"المفهم" 1/ 301 - 302.

(6)

"إكمال المعلم" 1/ 452.

(7)

"شرح النوويّ" 2/ 111.

ص: 242

(فَإِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم) الفاء للتعليل، أي لأنه صلى الله عليه وسلم (بَرِئَ مِنَ الصَّالِقَةِ) اسم فاعل من صَلَق - بالصاد المهملة، والقاف -: أي التي ترفع صوتها بالبكاء عند المصيبة، ويقال فيه بالسين المهملة بدل الصاد (وَالْحَالِقَةِ) اسم فاعل من حلق الشعر، أي التي تحلق رأسها عند المصيبة (وَالشَّاقَّةِ) اسم فاعل من شقّ الشيءَ: إذا قطعه، أي تقطع ثوبها عند المصيبة.

قال القاضي عياض رحمه الله: قال المازريّ: قال أبو عبيد: الصالقة بالصاد، والسين، والسَّلَق: هو الصوت الشديد، من قوله تعالى:{سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ} [الأحزاب: 19]، قال الهرويّ: فـ "الصالقة": التي ترفع صوتها في المصيبات، و"الحالقة": التي تَحْلِق شعرها عند المصيبات، قال غيره: و"الشاقّة": التي تشقّ ثوبها في تلك الحال، كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر:"ليس منّا من شَقَّ الجيوب"

(1)

، قال غيره: وُيبيّن تفسير الصالقة قوله في نفس الحديث: "فأقبلت امرأته برَنَّة"، فقال لها هذا الكلام، وهو معنى "دعوى الجاهليّة" في الحديث الآخر، قال أبو زيد: و"الصَّلَق": الْوَلْوَلةُ بالصوت الشديد، وذُكر عن ابن الأعرابيّ أنه ضرب الوجه، فإذا كان على هذا، فيُفسِّرُهُ إذن الحديثُ الآخر:"ليس منّا من ضَرَبَ الخدود"، يريد عند المصيبة. انتهى كلام القاضي

(2)

.

وقال النوويّ في "شرحه": قوله: "الصالقة، والحالقة، والشاقّة"، وفي الرواية الأُخرى:"أنا بريء ممن حَلَقَ، وسَلَقَ، وخَرَقَ"، فـ "الصالقة" وقعت في الأصول بالصاد، و"سَلَقَ" بالسين، وهما صحيحان، وهما لغتان: السَّلَق، والصَّلَق، وسَلَقَ، وَصَلَقَ، وهي صالقةٌ، وسالقة، وهي: التي ترفع صوتها عند المصيبة، و"الحالقة": هي التي تَحْلِق شعرها عند المصيبة، و"الشاقة": التي تَشُقّ ثوبها عند المصيبة، هذا هو المشهور الظاهر المعروف، وحَكَى القاضي عياض، عن ابن الأعرابيّ أنه قال:"الصَّلَق": ضرب الوجه

(3)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

(1)

حديث متّفقٌ عليه من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، تقدّم للمصنّف أول الباب.

(2)

"إكمال المعلم" 1/ 450 - 451.

(3)

"شرح النووي" 2/ 110.

ص: 243

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي موسى رضي الله عنه هذا تفرّد به المصنّف رحمه الله تعالى

(1)

.

[تنبيه]: هذا الحديث علّقه البخاريّ رحمه الله تعالى عن شيخ المصنّف، فقال: وقال الحكم بن موسى: حدّثنا يحيى بن حمزة، ثم ساقه، فقال في "الفتح": ووقع في رواية أبي الوقت: "حدّثنا الحكم"، وهو وَهَمٌ، فإن الذين جمعوا رجال البخاريّ في "صحيحه" أطبقوا على ترك ذكره في شيوخه، فدلّ على أن الصواب رواية الجماعة بصيغة التعليق، وقد وصله مسلم في "صحيحه"، فقال:"حدّثنا الحكم بن موسى، وكذا ابن حبّان، فقال: أخبرنا أبو يعلى، حدّثنا الحكم". انتهى

(2)

.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا في "الإيمان"[46/ 294 و 295 و 296](104)، وعلّقه (البخاريّ) في "الجنائز"(1296)، و (أبو داود) في "الجنائز"(3130)، و (النسائيّ) في "الجنائز"(1861 و 1863 و 1865 و 1866 و 1867)، و (ابن ماجه) في "كتاب الجنائز"(1586)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 396 و 454 و 411)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(153 و 154 و 155 - و 156)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(3150 و 3151 و 3152 و 3153 و 3154)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 64)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان أن هذه الأمور منافية للإيمان؛ إذ هي تدلّ على عدم الرضا بقضاء الله تعالى، والرضا به من جملة أمور الإيمان، وهذا هو وجه إيراد الحديث في أبواب الإيمان.

2 -

(ومنها): تحريم رفع الصوت بالبكاء والويل عند المصيبة، وكذلك

(1)

هذا الصواب، فأما ما ذكرته في "شرح النسائيّ" من أنه متّفقٌ عليه، فسهو منّي، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

(2)

راجع: "الفتح" 3/ 197 "كتاب الجنائز" رقم الحديث (1296).

ص: 244

حلق الشعر، وشقّ الثوب؛ لأنها تدلّ على السخط بقضاء الله سبحانه وتعالى.

3 -

(ومنها): التبرّي من أصحاب البدع والمعاصي، والإنكار عليهم، وعدم السكوت على مخالفاتهم.

4 -

(ومنها): فضلُ الصحابيّ الجليل أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه، فقد قام بالنهي عن المنكر، وهو في تلك الحالة حيث اشتدّ مرضه حتى غُشي عليه، فلم يترك امرأته تقع في المخالفة، بل أنكر عليها، وشدّد النكير، وهكذا ينبغي للمسلم أن يكون همه دائمًا في الدعاء إلى الله تعالى في السرّاء، والضرّاء، والمنشط والمكره، في أقرب الناس إليه وأبعدهم، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[295]

(

) - (حَدَّثَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَإِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَا: أَخْبَرَنَا جَعْفَرُ بْنُ عَوْنٍ، أَخْبَرَنَا أَبُو عُمَيْسٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا صَخْرَةَ، يَذْكُرُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ، وَأَبِي بُرْدَةَ بْنِ أَبِي مُوسَى، قَالَا: أُغْمِيَ عَلَى أَبِي مُوسَى، وَأَقْبَلَتِ امْرَأَتَهُ، أُمُّ عَبْدِ الله، تَصِيحُ بِرَنَّةٍ، قَالَا: ثُمَّ أَفَاقَ، قَالَ: أَلَمْ تَعْلَمِي؟، وَكَانَ يُحَدِّثُهَا أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أَنَا بَرِيءٌ مِمَّنْ حَلَقَ، وَسَلَقَ، وَخَرَقَ").

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ) بن نصر الْكِسِّيّ، أبو محمد، قيل: اسمه عبد الحميد، ثقةٌ حافظٌ [11](ت 249)(خت م ت) تقدم في "الإيمان" 7/ 131.

2 -

(إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ) الْكَوْسَجُ، أبو يعقوب التميميّ المروزيّ، ثقةٌ ثبتٌ [11](ت 251)(خ م ت س ق) تقدم في "الإيمان" 12/ 156.

3 -

(جَعْفَرُ بْنُ عَوْنٍ) بن جعفر بن عمرو بن حُريث المخزوميّ، أبو عون الكوفيّ، صدوقٌ [9].

رَوَى عن إسماعيل بن أبي خالد، وإبراهيم بن مسلم الْهَجَريّ، والأعمش، وهشام بن عروة، ويحيى بن سعيد، والمسعوديّ، وأبي الْعُمَيس، وعبد الرحمن بن زياد بن أنعم، وجماعة.

ص: 245

ورَوَى عنه أحمد بن حنبل، والحسن بن علي الْحُلْواني، وإسحاق بن راهويه، وعبد بن حميد، وبُندار، وهارون الْحَمّال، وابنا أبي شيبة، وأبو خيثمة، وجماعة.

قال أحمد: رجل صالح، ليس به بأس. وقال أبو أحمد الفراء: قال لي أحمد: عليك بجعفر بن عون. وقال ابن معين: ثقة. وقال أبو حاتم: صدوق. وذكره ابن حبان، وابن شاهين في "الثقات". وقال ابن قانع في "الوفيات": كان ثقة. وقال البخاري: مات سنة (206). وقال أبو داود: سنة (207)، قيل: مات وهو ابن (87)، وقيل:(97) سنة. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (10) أحاديث.

4 -

(أَبُو عُمَيْسٍ) - بضمّ العين المهملة، وفتح الميم، وإسكان الياء، وبالسين المهملة، مصَغّرًا - هو: عُتبة بن عبد الله بن عُتبة بن عبد الله بن مسعود المسعوديّ الكوفيّ، ثقة [7].

رَوَى عن أبيه، وعون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، وإياس بن سَلَمة بن الأكوع، وأبي صخرة جامع بن شداد، وعون بن أبي جحيفة، وقيس بن مسلم الْجَدَليّ، وابن أبي مُليكة، وعليّ بن الأقمر، وعبد المجيد بن سهيل بن عبد الرحمن بن عوف، وغيرهم.

ورَوَى عنه ابن إسحاق، وهو من أقرانه، وشعبة، ومحمد بن ربيعة الكِلابيّ، ووكيع، وأبو معاوية، وعبد الواحد بن زياد، وابن عيينة، وحفص بن غياث، وعمر بن عَلِيّ الْمُقَدَّميّ، وأبو أسامة، وجعفر بن عون، وأبو نعيم، وغيرهم.

قال علي بن المدينيّ: له نحو أربعين حديثًا، وقال أحمد، وابن معين: ثقة، وقال أبو حاتم: صالح الحديث، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال ابن سعد: كان ثقة.

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (11) حديثًا.

5 -

(أَبُو صَخْرَةَ) هو: جامع بن شدّاد المحاربيّ الكوفيّ، ثقة [5].

رَوَى عن صفوان بن مُحرِز، وطارق بن عبد الله المحاربي، وعبد

ص: 246

الرحمن بن يزيد النخعي، وأبي بكر بن عبد الرحمن، وأبي بردة بن أبي موسى، وعامر بن عبد الله بن الزبير، وجماعة.

ورَوَى عنه الأعمش، ومسعر، وشعبة، والثوري، والمسعودي، وأبو العميس، وغيرهم.

قال البخاري عن علي: له نحو عشرين حديثًا، وقال ابن معين وأبو حاتم والنسائي: ثقة، وقال يعقوب بن سفيان: ثقة متقن، وقال العجلي: شيخ عالٍ ثقةٌ، من قدماء شيوخ الثوري.

وقال أبو نعيم: مات سنة 118، وقال ابن سعد: مات سنة 128، وقال في موضع آخر: سنة 127، وفي كتاب "الطبقات" لابن سعد: أخبرنا طلق بن غنام: سمعت قيس بن الربيع يقول: مات جامع بن شداد ليلة الجمعة لليلة بقيت من رمضان سنة (118)، وكذا ذكر ابن حبان في "الثقات" وفاته، ثم قال: وقيل: سنة 127، وفيها أرخه خليفة بن خياط.

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب حديثان فقط: هذا، وحديث (231): "ما من مسلم يتطهّر، فيتمّ الطهور

"، وأعاده بعده.

[تنبيه]: "أبو صخرة" هذا بالهاء في آخره، قال النوويّ: كذا وقع هنا، وهو المشهور في كنيته، ويقال فيه أيضًا: أبو صخر، بحذف الهاء. انتهى

(1)

.

6 -

(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَزِيدَ) بن قيس النخعيّ، أبو بكر الكوفيّ، ثقة من كبار [3].

رَوَى عن أخيه الأسود، وعمه علقمة، وعن حذيفة، وعثمان، وابن مسعود، وسَلْمان، وأبي مسعود الأنصاري، وأبي موسى، وعائشة، والأشتر النخعي.

ورَوى عنه ابنه محمد، وإبراهيم بن يزيد النخعي، وعُمارة بن عمير، وأبو إسحاق السبيعي، وإبراهيم بن مهاجر، وسلمة بن كهيل، وغيرهم.

قال ابن معين: ثقة، وقال العجليّ: كوفي تابعي ثقة، وقال الدارقطنيّ: هو أخو الأسود، وابن أخي علقمة، وكلهم ثقات، وقال ابن سعد: كان ثقةً،

(1)

"شرح النوويّ" 2/ 111.

ص: 247

وله أحاديث كثيرة، تُوُفّي في ولاية الحجاج قبل الجماجم، وقال يحيى بن بكير: سنة (73)، وقال عمرو بن علي: مات في الجماجم سنة ثلاث وثمانين، وقال ابن حبان في "الثقات": قتل في الجماجم سنة (83). أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (22) حديثًا.

والباقيان تقدّما في السند الماضي.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله تعالى، وله فيه شيخان قرنهما، وفيه التحديث، والإخبار، والقول، والعنعنة من صيغ الأداء.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، إلا شيخيه، فالأول تفرّد به هو والترمذيّ، وعلّق عنه البخاريّ، والثاني ما أخرج له أبو داود.

3 -

(ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين، غير شيخيه أيضًا، فالأول كسّيّ، والثاني مروزي.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيين.

5 -

(ومنها): أنه لا يوجد في الكتب الستّة من يُكنى بأبي العميس إلا عتبة بن عبد الله هذا، ولا بأبي صخرة إلا جامع بن شدّاد هذا، وهذا الباب أول محلّ ذكرهما، وذكر عبد الرحمن بن يزيد، وهو أخو الأسود بن يزيد النخعيّ، وقد أسلفت آنفًا ما لكلّ واحد منهم من الأحاديث في هذا الكتاب، فلا تغفل، والله تعالى أعلم.

وقوله: (وَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ، أُمُّ عَبْدِ اللهِ) بالرفع بدل من "امرأتُهُ"، وعبد الله هذا ولد أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه، وقد سبق الكلام في امرأته في الحديث الماضي، فلا تَنْسَ.

وقوله: (تَصِيحُ) بفتح أوله، مضارع صاح بالشيء يصيح، من باب باع صَيْحةً وصِيَاحًا: إذا صَرَخَ.

وقوله؛ (بِرَنَّةٍ) - بفتح الراء، وتشديد النون -: أي بصوت، قال الفيّوميّ: رَنَّ الشيءُ يَرِنُّ، من باب ضرب رَبينًا: صَوَّتَ، وله رَنَّةٌ: أي صيحةٌ، وأرنّ بالألف مثلُهُ، وأرَنّت القوس: صَوَّتَتْ. انتهى.

ص: 248

وقال صاحب "المطالع": الرّنّةُ: صوتٌ مع البكاء، فيه ترجيع، كالقَلْقَلة، واللَّقْلَقَة، يقال: أَرَنّت فهي مُرِنَّةٌ، ولا يقال: رَنَّت، وقال: ثابت في الحديث: "لُعِنت الرانّةُ"، ولعله من نقلة الحديث. انتهى كلام صاحب "المطالع".

ونقل النوويّ عن أهل اللغة: أن الرّنّةَ، والرَّنِين، والإِرْنَانَ بمعنى واحد، ويقال: رَنّت، وأَرَنَّت، لغتان، حكاهما الجوهريّ، وفيه رَدّ لما قاله صاحب "المطالع"

(1)

.

وقوله: (قَالَا) الضمير لعبد الرحمن بن يزيد، وأبي بردة.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الحديث من أفراد المصنّف، وقد سبق أن البخاريّ علّقه أيضًا عن شيخ المصنّف رحمهما الله تعالى، وتمام شرحه، ومسائله تقدّمت في الذي قبله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[296]

(

) - (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مُطِيعٍ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ حُصَيْنٍ، عَنْ عِيَاضٍ الْأَشْعَرِيّ، عَنِ امْرَأَةِ أَبِي مُوسَى، عَنْ أَبِي مُوسَى، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ مُطِيعٍ) بن راشد البكريّ، أبو محمد النيسابوريّ، نزيل بغداد، ثقةٌ [10].

رَوَى عن هُشيم، وابن المبارك، وخالد بن عبد الله الواسطيّ، وإسماعيل بن جعفر، وغيرهم.

ورَوَى عنه مسلم، وأبو داود في "كتاب الزهد"، وروى النسائي في "اليوم والليلة" عن زكريا السِّجْزيّ عنه، وأبو بكر بن أبي الدنيا، وإبراهيم بن الجنيد، وعبد الله بن أحمد، ومحمد بن عبيد الله بن المنادي، وأحمد بن الحسين الصوفي الصغير، وإسحاق بن إبراهيم الْمَنْجَنِيقيّ، وعبد الله بن محمد البغويّ، وغيرهم.

(1)

راجع: "شرح النوويّ" 2/ 111.

ص: 249

ذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: مستقيم الحديث، وقال الخطيب: كان ثقةً، وقال أبو القاسم البغويّ: مات في ذي القعدة سنة سبع وثلاثين ومائتين.

وله في هذا الكتاب حديئان فقط، هذا، وحديث (3031): "بل هي الفاضحة، ما زالت تنزل:{وَمِنْهُمْ} ، {وَمِنْهُمْ}

"

(1)

.

2 -

(هُشَيْم) بن بَشِير بن دينار السلميّ، أبو معاوية بن أبي خازم الواسطيّ، ثقةٌ ثبتٌ، كثير التدليس، والإرسال الخفيّ [7](ت 183)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 9.

3 -

(حُصَيْن) بن عبد الرحمن السلميّ، أبو الْهُذيل الكوفيّ، ثقةٌ، تغيّر حفظه في الآخر [5](ت 136)(ع) تقدم في "الإيمان" 43/ 285.

4 -

(عِيَاضٌ الْأَشْعَرِيُّ) هو: عياض بن عمرو مُخْتَلَفٌ في صحبته، رَوَى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعن أبي موسى رضي الله عنه، وعن امرأة أبي موسى، ورَوَى عنه الشعبيّ، وسماك بن حرب، وحصين بن عبد الرحمن.

قال ابن أبي حاتم، عن أبيه: رَوَى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مرسلًا، ورَوَى عن أبي موسى، ورأى أبا عُبيدة - يعني: ابن الْجَرّاح.

قال الحافظ: جاء عنه حديثٌ يَقتضي التصريح بصحبته، ذكره البغوي في "معجمه"، وفي إسناده لِينٌ، واختُلِف على شَرِيك في اسمه، ثم قال البغويّ: يُشَكّ في صحبته، وقال ابن حبان: له صحبة. انتهى

(2)

.

وقال في "الإصابة": وحديثه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم عند ابن ماجه، من طريق الشعبيّ، قال: شَهِدَ عياضٌ عقدًا بالأنبار، فقال: ما لي لا أراكم تُقَلِّسون

(3)

كما كان يُقَلَّسُ عند رسول الله صلى الله عليه وسلم؟، ولم يُسمّ أباه فيها، وأخرجه ابن منده من هذا الوجه، فسَمَّى أباه عمرًا، واختُلف فيه على شريك، عن مغيرة، فقيل: عنه عن زياد بن عياض بن عوف بن عياض بن عمرو، وروايته عن امرأة أبي موسى، عن أبي موسى عند مسلم - يعني: هذا الحديث -. انتهى

(4)

.

(1)

نقل في "تهذيب التهذيب"(6/ 33) عن "الزهرة": أن مسلمًا رَوى عنه حديثين.

(2)

"تهذيب التهذيب" 3/ 353.

(3)

التقليس: الضرب بالدّفّ، والغناء.

(4)

"الإصابة" 4/ 629.

ص: 250

انفرد به المصنّف بهذا الحديث فقط، وله عند ابن ماجه حديث واحد، وهو حديث التقليس المذكور آنفًا، أخرجه برقم (1292).

(امْرَأَةُ أَبِي مُوسَى) هي: أم عبد الله بنت أبي دومة، لها صحبة، لها هذا الحديث فقط.

وفي "تهذيب التهذيب": أم عبد الله بنت أبي دومة امرأة أبي موسى الأشعريّ، روت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعن أبي موسى عنه فيمن حَلَقَ، وسَلَقَ، وعنها عِياض الأشعريّ، وقَرْثَعٌ الضَّبّيّ، ويزيد بن أوس، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وعبد الأعلى النخعيّ، وثابتٌ بن قيس. انتهى

(1)

.

وقال في "الإصابة": أم عبد الله، امرأة أبي موسى الأشعريّ، أخرج حديثها في "المسند" من طريق إبراهيم، عن لسَهْم بن مِنْجاب، عن قَرْثَع، أنه سمع أبا موسى الأشعريّ، وصاحت امرأته، فقال لها: أما علمت ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: بلى، ثم سكتت، فقيل لها: أَيَّ شيء قال رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لَعَنَ مَن حَلَقَ، أو خَرَقَ، أو سَلَقَ، ورواه عنها أيضًا عياض الأشعريّ عند مسلم، ورواه عنها أيضًا يزيد بن أوس، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وآخرون، وقال موسى بن هارون فيما أخرجه دعلج في "فوائده" عنه، عن عبد الله بن بَرّاد الأشعريّ، قال: اسم أبي بُرْدَة عامر، وأمه أم عبد الله بنت دُومِيّ، هاجرت مع أبي موسى، وقال غيره: بنت أبي دُومِيّ

(2)

. انتهى

(3)

.

[تنبيه]: لم يسق المصنّف رحمه الله تعالى متن حديث امرأة أبي موسى رضي الله عنها هنا، وقد ساقه الإمام أحمد في "مسنده"، فقال رحمه الله تعالى:

(18800)

حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن إبراهيم، عن سَهْم بن

(1)

"تهذيب التهذيب" 4/ 699.

(2)

قال في "القاموس"، و"شرحه" 8/ 297: الدُّوميّ كرُوميّ: هو ابن قيس بن ذُهل الكلبيّ، صحابيّ، له وفادة، ذكره ابن ماكولا عن "جمهرة النسب". انتهى.

قلت: لم أجد من ذكر أن امرأة أبي موسى، هل هي بنت لهذا الصحابيّ، أم لا؟ والله تعالى أعلم.

(3)

راجع: "الإصابة" 8/ 430.

ص: 251

مِنْجاب، عن الْقَرْثَع، قال: لَمّا ثَقُل أبو موسى الأشعريّ، صاحت امرأته، فقال لها: أما علمت ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم؟، قالت: بلى، ثم سكتت، فلما مات، قيل لها: أَيُّ شيء قال رسول الله؟ قالت: قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لَعَنَ مَنْ حَلَقَ، أو خَرَقَ، أو سَلَقَ.

وأخرجه النسائيّ أيضًا في "الجنائز"(1867) عن هناد، عن أبي معاوية به، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[

] (

) - (ح) وَحَدَّثَنِيهِ حَجَّاجُ بْنُ الشاعِر، حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَد، قَالَ: حَدثنِي أَبِي، حَدَّثَنَا دَاوُدُ - يَعْنِي: ابْنَ أَبِي هِنْدٍ - حَدَّثَنَا عَاصِمٌ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ مُحْرِزٍ، عَنْ أَبيِ مُوسَى، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(حَجَّاجُ بْنُ الشَّاعِرِ) هو: حجاج بن أبي يعقوب يوسف بن حجاج الثقفيّ البغداديّ، ثقةٌ حافظٌ [11](ت 259)(م د) تقدم في "المقدمة" 6/ 40.

2 -

(عَبْدُ الصَّمَدِ) بن عبد الوارث العنبريّ مولاهم التَّنُّوريّ، أبو سهل البصريّ، ثقة [9](ت 207)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 82.

3 -

(أَبُوهُ) هوْ عبد الوارث بن سعيد بن ذكوان الْعَنْبَريّ، أبو عُبيدة التّنُّوريّ البصريّ، ثقة ثبتٌ [8](ت 180)(ع) تقدم في "الإيمان" 18/ 176.

4 -

(دَاوُدُ بْنُ أَبِي هِنْدٍ) الْقُشيريّ مولاهم، أبو بكر، أو أبو محمد البصريّ، ثقة متقنٌ [5](ت 140) أو قبلها (ع) تقدم في "الإيمان" 27/ 221.

5 -

(عَاصِمٌ) بن سليمان الأحول، أبو عبد الرحمن البصريّ، ثقة [4](ت بعد 140)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 27.

6 -

(صَفْوَانُ بْنُ مُحْرِزٍ) بن زياد المازنيّ، أو الباهليّ، ثقةٌ عابدٌ [4](ت 74)(خ م ت س ق) تقدم في "الإيمان" 43/ 286.

[تنبيه]: لم يسق المصنّف رحمه الله تعالى متن حديث صفوان بن مُحرز،

ص: 252

عن أبي موسى رضي الله عنه، وقد ساقه الإمام أحمد رحمه الله تعالى في "المسند"، فقال:

(18896)

حدثنا عبد الصمد، قال: ثنا أبي، قال: ثنا داود بن أبي هند، قال: ثنا عاصم بن سليمان، عن صفوان بن مُحْرِز، قال: قال أبو موسى: إني بريء ممن بَرِئ الله منه، ورسوله رضي الله عنه، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم بَرِئ ممن حَلَق، وسَلَق، وخرق.

وأخرجه النسائيّ أيضًا، فقال:

(1861)

حدّثنا عمرو بن عليّ، قال: حذثنا سليمان بن حرب، قال: حدثنا شعبة، عن عوف، عن خالد الأحدب، عن صفوان بن مُحْرِز، قال: أُغمي على أبي موسى، فبكوا عليه، فقال: أبرأ إليكم كما برئ إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس منّا من حَلَق، أو خَرَق، أو سَلَق"، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[

] (

) - (ح) وَحَدَّثَنِي الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْحُلْوَانِيُّ، حَدَّثنَا عَبْدُ الصَّمَد، أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ رِبْعِيِّ بْنِ حِرَاشٍ، عَنْ أَبِي مُوسَى، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِهَذَا الْحَدِيث، غَيْرَ أَنَّ فِي حَدِيثِ عِيَاضٍ الْأَشْعَرِيّ، قَالَ:"لَيْسَ مِنَّا"، وَلَمْ يَقُلْ:"بَرِيءٌ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْحُلْوَانِيُّ) نزيل مكة، أبو عليّ الخلال، ثقةٌ حافظٌ، له تصانيف [11](ت 242)(خ م د ت ق) 4/ 24.

2 -

(عَبْدُ الصَّمَدِ) بن عبد الوارث المذكور في السند الماضي.

3 -

(شُعْبَةُ) بن الحجاج الإمام الحجة المشهور [7](ت 160)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 381.

4 -

(عبد الملك بن عمير) بن سُويد بن حارثة القرشيّ، ويقال: اللَّخْميّ، أبو عمرو، ويقال: أبو عمر الكوفيّ المعروف بالقِبْطيّ، حليف بني

ص: 253

عَدِيّ، ويقال له: الْفَرَسيّ - بفتح الفاء والراء، ثم مهملة - نسبة إلى فَرَس له سابق، كان يقال له: الْقِبطيّ - بكسر القاف، وسكون الموحّدة - وربّما قيل ذلك أيضًا لعبد الملك، ثقة فقيه، تغيّر حفظه، وربّما دلّس [3].

رأى عليًّا وأبا موسى، وروى عن الأشعث بن قيس، وجابر بن سمرة، وجندب بن عبد الله البجلي، وجرير، وعبد الله بن الزبير، والمغيرة بن شعبة، والنعمان بن بشير، وعمرو بن حريث، وعطية القرظيّ، وغيرهم.

وروى عنه ابنه موسى، وشهر بن حوشب، والأعمش، وسليمان التيمي، وزائدة، ومسعر، والثوري، وشعبة، وسفيان بن عيينة، وزيد بن أبي أنيسة، وغيرهم.

قال البخاري، عن علي بن المديني: له نحو مائتي حديث. وقال علي بن الحسن الْهِسِنْجَاني، عن أحمد: عبدُ الملك مضطرب الحديث جدًّا مع قلة روايته، ما أرى له خمسمائة حديث، وقد غَلِط في كثير منها. وقال إسحاق بن منصور: ضعفه أحمد جدًّا. وقال صالح بن أحمد عن أبيه: سماك أصلح حديثًا منه، وذلك أن عبد الملك يَختَلِف عليه الحفاظ. وقال إسحاق بن منصور عن ابن معين: مُخَلِّط. وقال العجلي: يقال له: ابن الْقِبْطية، كان على الكوفة، وهو صالح الحديث، روى أكثر من مائة حديث، تغير حفظه قبل موته. وقال ابن أبي حاتم: ثنا صالح بن أحمد، ثنا علي ابن المديني، سمعت ابن مهدي يقول: كان الثوري يَعْجَب من حفظ عبد الملك. قال صالح: فقلت لأبي: هو عبد الملك بن عُمير؟ قال: نعم. قال ابن أبي حاتم: فذكرت ذلك لأبي، فقال: هذا وَهَمٌ، إنما هو عبد الملك بن أبي سليمان، وعبد الملك بن عُمير لم يوصف بالحفظ. وقال البخاري: سُمِع عبد الملك بن عُمير يقول: إني لأحدث بالحديث فما أترك منه حرفًا، وكان من أفصح الناس. ورواه الميموني عن أحمد، عن ابن عيينة، عن عبد الملك بن عمير مثله. وقال أبو بكر بن عياش: سمعت أبا إسحاق الهمداني يقول: خذوا العلم من عبد الملك بن عمير. وقال النسائي: ليس به بأس. وقال ابن نمير: كان ثقةً ثبتًا في الحديث.

وقال ابن الْبَرْقِيِّ عن ابن معين: ثقة إلا أنه أخطأ في حديث أو حديثين. وقال بكر بن المختار عن عبد الملك: صَعِدَ بي أبي إلى المنبر إلى عليّ، فمسح

ص: 254

رأسي. وحَكَى ابن أبي خيثمة عن ابن مُرْدَانَبَه: كان الفصحاء بالكوفة أربعة: عبد الملك بن عمير، وذكر الباقين. وقال ابن عيينة: قال رجل لعبد الملك: أين عبد الملك بن عمير القبطي؟ فقال: أما عبد الملك فأنا، وأما القبطي ففرس لنا سابق. وروي عن أبي بكر بن عياش قال: سمعت عبد الملك يقول: هذه السنةُ تُوَفِّي في مائة وثلاث سنين. وقال أبو بكر بن أبي الأسود: مات سنة ست وثلاثين ومائة أو نحوها، زاد غيره: في ذي الحجة. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: وُلد لثلاث سنين بقين من خلافة عثمان، ومات سنة ست وثلاثين ومائة، وله يومئذ مائة وثلاث سنين، وكان مُدَلِّسًا، وكذا ذَكَرَ مولده ووفاته ابنُ سعد.

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (39) حديثًا.

[تنبيه]: اختُلِف في ضبط "القرشي"، فقيل: بالقاف والمعجمة، نسبة إلى قريش، ويدل عليه قول ابن سعد: إنه حليف بني عدي بن كعب، وعليه مَشَى المزّيّ حيث قال:"القرشي، ويقال: اللَّخْمِيّ"، وأما أبو حاتم، ويعقوب بن سفيان، وغير واحد، فضبطوه بالفاء والمهملة؛ لنسبته إلى فرسه، حتى خطّأ ابن الأثير من قال غير ذلك، والصواب أنه يجوز في نسبته الأمران؛ لما أسلفناه. والله أعلم

(1)

.

5 -

(رِبْعِيُّ بْنُ حِرَاشٍ) - بكسر الحاء المهملة، وآخره شين معجمةٌ - أبو مريم الْعَبْسيّ الكوفيّ، ثقةٌ عابدٌ مخضرمٌ [2](ت 100)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.

[تنبيه]: انتقد الإمام الحافظ أبو الحسن الدارقطنيّ رحمه الله تعالى على مسلم هذا الإسناد، فقال: وأخرج مسلم حديث عبد الصمد بن عبد الوارث، عن شعبة، عن عبد الملك بن عُمير، عن رِبْعيّ، عن أبي موسى، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم:"ليس منّا من حَلَقَ، وسَلَقَ، وخَرَقَ".

قال: وهذا لم يرفعه غير عبد، وأصحاب شعبة يُخالفونه، ويروونه عنه موقوفًا. انتهى.

وقد نقل القاضي عياض هذا الانتقاد من الدارقطنيّ، وأقرّه عليه، وكذا

(1)

راجع: "تهذيب التهذيب" 2/ 620 - 621.

ص: 255

النوويّ، ولكنه دافع عن مسلم، فقال: ولا يضرّ هذا على المذهب الصحيح المختار، وهو إذا رَوَى الحديث بعضُ الرواة موقوفًا، وبعضهم مرفوعًا، أو بعضهم متصلًا، وبعضهم مرسلًا، فإن الحكم للرفع والوصل، وقيل: للوقف والإرسال، وقيل: يُعْتَبر الأحفظ، وقيل: الأكثر، والصحيح الأول، ومع هذا فمسلم رحمه الله تعالى لم يذكر هذ الإسناد معتمدًا عليه، إنما ذكره متابعةً، وقد تكلمنا قريبًا على نحو هذا. انتهى كلام النوويّ

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هكذا أجاب النوويّ، وهذا الجواب هو الذي يُكرّره دائمًا عند كلّ الانتقادات التي يوجّهها الدارقطني على مسلم، وهو جواب فيه نظر؛ لأن الصواب أنه لا يُحكم للوصل والرفع دائمًا، وإنما يُنظر بحسب المرجحات التي تقترن به، فربما يكون كما قال، وربّما يكون بالعكس، وقد حفقت هذا البحث في شرح المقدّمة، فارجع إليه تزدد علمًا.

وأما الجواب الصحيح هنا فيكون من وجوه:

[أحدها]: أن دعوى الدارقظنيّ تفرّد عبد الصمد عن شعبة برفع هذا الحديث غير صحيحة، فقد تابعه محمد بن جعفر، قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى في "مسنده":

(18714)

حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن منصور، عن إبراهيم، عن يزيد بن أوس، عن أبي موسى، أنه أُغمي عليه، فبَكَت عليه أم ولده، فلما أفاق، قال لها: أما بلغك ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم؟، قال: فسألتها، فقالت:"ليس منا مَن سَلَق، وحَلَق، وخَرَق".

وتابعه أيضًا سليمان بن حرب عند النسائيّ، فقال في "سننه":

(1861)

حدّثنا عمرو بن عليّ، قال: حدّثنا سليمان بن حرب، قال: حدثنا شعبة، وفيه:"أبرأ إليكم كما برئ إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم". وقد تقدّم بتمامه في الحديث الماضي.

فهذا ثقتان ثبتان في شعبة، قد تابعا عبد الصمد في رفعه.

[ثمانيها]: أن عبد الصمد من أثبت الناس في شعبة، فقد قال عليّ ابن

(1)

"شرح النوويّ" 2/ 111 - 112.

ص: 256

المدينيّ: عبد الصمد ثَبْت في شعبة. انتهى

(1)

.

فلو فُرض تفرّده بالرفع عن شيخ هو ثبت فيه، فالحقّ قبوله، فكيف، ولم ينفرد به؟.

[ثالثها]: أن مثل هذا الانتقاد لا يضرّ بمسلم رحمه الله تعالى، فإنه ما ساق هذه الطريق إلا متابعةً، ومعلوم عند أهل الحديث أن المتابعة يُغتفر فيها ما لا يُغتفر في الأصول.

[رابعها]: أن الذين خالفوا عبد الصمد في هذا الرفع لم يذكر الدارقطنيّ طريقهم حتى يوازن بينها وبين رواية عبد الصمد التي قد عرفت أنه لم ينفرد بها، فأين تلك الطرق التي أشار إليها حتى يُنظر فيها؟، فيُتأمّل.

والحاصل أن حديث أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه هذا مما لا شكّ في صحّته مرفوعًا، ولا لبس، ولا ارتياب فيه، فقد أورده مسلم من أربعة طرق صحيحة من غير طريق شعبة، ثم أتبعها بطريق شعبة، وختم بها الباب، وقد عرفت أن شعبة رواها عنه ثلاثة من الحفّاظ المتقنين لأحاديثه: عبد الصمد، وغُندر، وسليمان بن حرب، فلا يَرتاب بعد هذا في صحة طريقه أيضًا من كان منصفًا، فتبصّر بالإنصاف، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

وقوله: (بِهَذَا الْحَدِيثِ) أي بالحديث الذي سبق قبله، وهو حديث عبد الرحمن بن يزيد، وأبي بُردة بن أبي موسى، قالا، عن أبي موسى: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أنا بريء ممن حلق، وسَلَق، وخرق".

وقوله: (غَيْرَ أَنَّ فِي حَدِيثِ عِيَاضِ الْأَشْعَرِيّ، قَالَ: "لَيْسَ مِنَّا") يعني: أن متن حديث عياض لفظه: "ليس منّا منَ حلق، وسَلَقَ، وخَرَق".

وقوله: (وَلَمْ يَقُلْ: "بَرِيءٌ") يعني: أنه لم يزد في أوله قوله: "أنا بريء"، وإنما اقتصر على ليس منّا

إلخ.

[تنبيه]: لم أجد رواية عياض الأشعريّ هذه، فالظاهر أنها مما انفرد بها المصنّف رحمه الله تعالى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(1)

"تهذيب التهذيب" 2/ 580.

ص: 257

(47) - (بَابُ بَيَانِ غِلَظِ تَحْرِيمِ النَّمِيمَةِ)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[297]

(105) - (وَحَدَّثَنِي شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَسْمَاءَ الضبَعِيُّ، قَالَا: حَدَّثنَا مَهْدِيٌّ، وَهُوَ ابْنُ مَيْمُونٍ، حَدَّثنَا وَاصِلٌ الْأَحْدَبُ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ حُذَيْفَةَ، أنهُ بَلَغَهُ أَن رَجُلًا يَنِمُّ الْحَدِيثَ، فَقَالَ حُذَيْفَةُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ عيهم يَقُولُ: "لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ نَمَّامٌ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(شَيْبَانُ بْنُ فَزُوخَ)

(1)

الْحَبَطِيّ، أبو محمد الأُبُلّيّ، صدوقٌ يَهِمُ، ورُمي بالقدر، من صغار [9](ت 236)(م دس) تقدم في "الإيمان" 12/ 157.

2 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَسْمَاءَ الضُّبَعِيُّ) - بضمّ المعجمة، وفتح الموحّدة - هو: عبد الله بن محمد بن أسماء بن عُبيد بن مُخارق، أبو عبد الرحمن البصريّ، ثقةٌ جليل [10].

رَوَى عن عمه جويرية بن أسماء، ومَهْديّ بن ميمون، وحفص بن غياث، وابن المبارك وغيرهم.

ورَوَى عنه البخاريّ، ومسلم، وأبو داود، ورَوَى له أبو داود أيضًا، والنسائيّ بواسطة الذّهليّ، وأبو بكر محمد بن إسماعيل الطبرانيّ، وعباس بن عبد العظيم، والحسن بن أحمد بن حبيب، وأحمد بن سعد بن أبي مريم، وسَوّار بن سهل القرشيّ، وأبو زرعة، وأبو حاتم، والْبُوشَنْجِيّ، وابن وَارَة، ويعقوب بن شيبة، ويعقوب بن سفيان، وموسى بن محمد بن إبراهيم بن سعد بن هارون، ومعاذ بن المثنيّ، وأبو خليفة، ويوسف بن يعقوب القاضي، والحسن بن سفيان، وأبو يعلى، وغيرهم.

قال أبو زرعة: لا بأس به، شيخٌ صالح، وقال أبو حاتم: ثقة، وقال ابن

(1)

غير منصرف؛ للعلميّة، والعجمة.

ص: 258

وَارَة: قيل لي: إنه أفضل أهل البصرة، فذكرته لابن المدينيّ، فعَظَّم شأنه، وقال أحمد بن إبراهيم الدَّوْرقيّ: لم أر بالبصرة أفضل منه، وذكره ابن حبان في "الثقات".

ذكر أبو داود، عن أبي العباس الأحول، أنه مات سنة إحدى وثلاثين ومائتين. وكذا أَرّخه ابن حبان، وابن قانع، وقال: ثقة.

وله في هذا الكتاب (17) حديثًا

(1)

.

3 -

(مَهْدِيٌّ بْنُ مَيْمُونٍ) الأزديّ الْمِعْوَليّ - بكسر الميم، وسكون العين المهملة، وفتح الواو - مولاهم، أبو يحيى البصريّ، ثقة، من صغار [6].

رَوَى عن أبي رجاء العطارديّ، وواصل مولى أبي عيينة، ومحمد بن عبد الله بن أبي يعقوب، وغيلان بن جرير، ومحمد بن سيرين، وأبي الوازع، جابر بن عمرو، وواصل الأحدب، وهشام بن عروة، وغيرهم.

ورَوَى عنه هشام بن حسان، وهو أكبر منه، وابن مهديّ، ووكيع، وعليّ بن نصر الْجَهْضميّ، وعبد الله بن بكر السَّهْميّ، والقطان، وحَبّان بن هلال، وعفان، وعبد الله بن محمد بن أسماء، وسعيد بن منصور، وشيبان بن فَرّوخ، وجماعة.

قال أبو سعيد الأشجّ، عن عبد الله بن إدريس: قلت لشعبة: أيَّ شيء تقول في مهدي بن ميمون؟ فقال: ثقة، وقال عبد الله بن أحمد، عن أبيه: ثقة، وهو أحب إليّ من سلام بن مسكين، وأبي الأشهب، وحَوْشب بن عَقِيل، وقال ابن معين، والنسائيّ، وابن خِرَاش: ثقة، وقال العجليّ: بصريّ ثقة، وقال ابن سعد، عن ابن عائشة: كان كُرْديًّا، وكان ثقةً، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: مات سنة إحدى، أو اثنتين وسبعين ومائة، وقال محمد بن محبوب وغيره: مات سنة إحدى وسبعين.

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (16) حديثًا.

4 -

(وَاصِلٌ الْأَحْدَبُ) هو: واصل بن حيّان الأسديّ الكوفيّ، بيّاع

(1)

ونقل في "تهذيب التهذيب"(2/ 420 - 421) عن "الزهرة" أنه: روى عنه البخاريّ اثنين وعشرين حديثًا، ومسلم سبعة عشر حديثًا.

ص: 259

السابِرِيّ

(1)

، ثقةٌ ثبتٌ [6](ت 120)(ع) تقدم في "الإيمان" 42/ 279.

5 -

(أَبُو وَائِلٍ) شقيق بن سلمة الأسديّ، الكوفيّ، ثقةٌ مخضرمٌ [2] مات في خلافة عمر بن عبد العزيز، وله مائة سنة (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 57.

6 -

(حُذَيْفَةُ) بن اليمان الْعبسيّ، حليف الأنصار الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنه، مات في أول خلافة عليّ رضي الله عنه سنة (36)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة"جـ 2 ص 457، والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله تعالى، وله فيه شيخان قرن بينهما، وفيه من صيغ الأداء التحديث، والعنعنة، والسماع.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، غير شيخيه، فالأول تفرّد به هو، وأبو داود، والنسائيّ، والثاني ما أخرج له الترمذيّ، وابن ماجه.

3 -

(ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين، غير الصحابيّ، فقد سكن المدائن، وغير شيخيه، فإنهما بصرتان، وشيبان أُبُلّيّ - بضمتين، وتشديد اللام - نسبة إلى قرية من قرى البصرة.

4 -

(ومنها): أن صحابيّه من السابقين الأولين إلى الإسلام، وهو أمين سرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد صحّ عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه بما كان، وبما يكون إلى أن تقوم الساعة، وأعلمه أيضًا بأسماء المنافقين، حتى إن عمر رضي الله عنه كان يسأله هل هو منهم أم لا؟، وهو ابن صحابيّ، فاليمان، واسمه حِسْلٌ، أو حُسَيلٌ صحابيّ أيضًا، استُشهِد بأحد رضي الله عنه، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ حُذَيْفَةَ) رضي الله عنه (أنهُ بَلَغَهُ أَن رَجُلًا) لم يُعرف اسمه

(2)

(يَنِمُّ الْحَدِيثَ) بضمّ النون وكسرها، قال ابن الأثير: النميمة هي: نقلُ الحديث من قوم إلى قوم على جهة الإفساد والشرّ، وقد نَمَّ الحديثَ يَنِمّه بضمّ النون وكسرها نَمًّا،

(1)

بكسر الموحّدة: ثوب رقيقٌ جيّد، قاله في "ق" ص 364.

(2)

راجع: "الفتح" 10/ 488، و"تنبيه المعلم" ص 65.

ص: 260

فهو نمّام، والاسم النميمة، ونَمَّ الحديثُ: إذا ظهرَ، فهو متعدٍّ ولازمٌ. انتهى بتصرّف يسير

(1)

.

وقال الفيّوميّ: نَمَّ الرجلُ الحديث نَمًّا، من بابي قَتَلَ، وضَرَبَ: سَعَى به لِيُوقع فِتْنَةً، أو وَحْشَةً، فالرجلُ نَمّ - بالفتح - تسميةً بالمصدر، ونَمّامٌ مبالغةً، والاسم النميمة، والنَّمِيم أيضًا. انتهى

(2)

.

وقال النوويّ: قال العلماء: النميمةُ نَقْلُ كلامِ الناس بعضِهم إلى بعض على جهة الإفساد بينهم. انتهى

(3)

.

وفي رواية همّام بن الحارث التالية: "قال: كان رجل ينقُلُ الحديث إلى الأمير، فكنّا جلوسًا في المسجد، فقال القوم: هذا ممن ينقل الحديث إلى الأمير

" الحديث، وفي رواية: "إن هذا يرفع إلى السلطان أشياء

"، وفي رواية البخاريّ عن همّام: "قال: كنّا مع حذيفة، فقيل له: إن رجلًا يرفع الحديث إلى عثمان

" الحديث، وعثمان: هو ابن عفّان الخليفة الراشد رضي الله عنه.

(فَقَالَ حُذَيْفَةُ) رضي الله عنه، وفي رواية همّام الآتية: "فقال حذيفة إرادة أن يُسمعه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم

" الحديث، يعني: إنما ذكر حذيفة رضي الله عنه الحديث؛ لأجل أن يسمع الرجل النمّام الوعيد، فينزجر عن نميمته (سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لَا) نافية، ولذا رُفع الفعل بعدها، وهو (يَدْخُلُ الْجَنَّةَ) أي في أوّل وَهْلَة، أو إن استحلّه، كما مرّ في نظائره.

وقال النوويّ: فيه التأويلان المتقدمان في نظائره:

[أحدهما]: أن يُحْمَل على المستحلّ بغير تأويل، مع العلم بالتحريم.

[والثاني]: أنه لا يدخلها دخولَ الفائزين، والله تعالى أعلم

(4)

.

(نَمَّامٌ") بفتح النون، وتشديد الميم، تقدّم أنه للمبالغة، وفي الرواية التالية:"قَتّات" - بقاف، ومثناة ثقيلة، وبعد الألف مثناة أخرى -: هو النّمّام، وقيل: الفرق بين "القَتات"، و"النّمّام" أن النّمام الذي يَحْضُر القصة، فينقلها،

(1)

"النهاية" 5/ 120.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 626.

(3)

"شرح النوويّ" 2/ 112.

(4)

"شرح النوويّ" 2/ 113.

ص: 261

و"القتات" الذي يتسمع من حيث لا يُعْلَم به، ثم ينقل ما سمعه.

قال أبو حامد الغزالي رحمه الله تعالى: اعلم أن النميمة إنما تُطْلَق في الأكثر على مَن يَنِمُّ قولَ الغير إلى المقول فيه، كما تقول: فلانٌ يتكلم فيك بكذا، قال: وليست النميمة مخصوصة بهذا، بل حَدُّ النميمة كَشْفُ ما يُكْرَهُ كشفُهُ، سواءٌ كَرِهه المنقول عنه، أو المنقول إليه، أو ثالثٌ، وسواءٌ كان الكشف بالكناية، أو بالرَّمْز، أو بالإيماء، فحقيقةُ النميمة: إفشاء السرّ، وهَتْكُ السَّتْرِ عما يُكْرَهُ كشفُهُ، فلو رآه يُخْفِي مالًا لنفسه، فذكره، فهو نميمة. انتهى

(1)

.

[تنبيه]: اختُلِفَ في الغيبة والنميمة، هل هما متغايرتان، أو متحدتان؟ والراجح التغاير، وأن بينهما عمومًا وخصوصًا وَجْهيًّا، وذلك لأن النميمة نَقْلُ حال الشخص لغيره على جهة الإفساد بغير رضاه، سواءُ كان بعلمه أم بغير علمه، والغيبة ذِكْرُه في غيبته بما لا يُرضيه، فامتازت النميمة بقصد الإفساد، ولا يُشتَرط ذلك في الغيبة، وامتازت الغيبة بكونها في غَيْبَة المقول فيه، واشتركتا فيما عَدَا ذلك، ومن العلماء من لم يَشترط في الغيبة أن يكون المقول فيه غائبًا

(2)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّقُ بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث حُذيفة رضي الله عنه هذا متّفق عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا في "الإيمان" [47/ 297 و 298 و 299، (105)، و (البخاريّ) في "الأدب"(6056)، وفي "الأدب المفرد"(322)، و (أبو داود) في "الأدب"(4871)، و (الترمذيّ) في "البرّ والصلَة"(2026)، و (أبو داود الطيالسيّ) في "مسنده"(421)، و (الحميديّ) في "مسنده"(443)، و (أحمد) في

(1)

راجع: "شرح النوويّ" 2/ 112 - 113.

(2)

راجع: "الفتح" 10/ 488 "كتاب الأدب" رقم الحديث (6056).

ص: 262

"مسنده"(5/ 382 و 389 و 391 و 392 و 396 و 397 و 399 و 402 و 404)، و (النسائيّ) في "التفسير"(11550)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(86 و 87)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5765)، وفي "روضة العقلاء"(ص 176)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(3021)، وفي "الصغير"(561)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(10/ 247)، وفي "الأدب"(137)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(3569 و 3570)، و (القضاعيّ) في "مسند الشهاب"(876)، و (ابن أبي الدنيا) في "الصمت"(252 و 254)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان غِلَظ تحريم النميمة، وأنه ينافي كمال الإيمان، وهو وجه المطابقة لإيراده في أبواب الإيمان.

2 -

(ومنها): حرص الشريعة على إبعاد المسلمين من أن يضُرّ بعضهم بعضًا؛ إذ النميمة فيها ما لا يخفى من إفساد المجتمع.

3 -

(ومنها): فضل حذيفة رضي الله عنه حيث سلك في الدعوة مسلك الحكمة، فإنه لما عَلِم أن الرجل له وجاهة عند الأمير خشي أن لا يقبل نصيحته لو واجهه بها، وبيّن له حديث النبيّ صلى الله عليه وسلم أَنَفَةً وتكبّرًا، فأراد نصيحته، وإبلاغه الحديث من غير أن يُعلمه أنه المعنيّ به، رفع صوته بالحديث حتى يسمع، وينزجر عن غيّه، وهذا هو عين ما أمر الله تعالى به نبيه صلى الله عليه وسلم في قوله:{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل: 125] الآية، فكان من هديه صلى الله عليه وسلم إذا رأى منكرًا من شخصه أن لا يواجهه بالإنكار عليه، بل ينصحه من غير مباشرة، فيقول:"أما بعد، فما بال أقوام يفعلون كذا وكذا؟ ".

4 -

(ومنها): أن نقل الحديث للمصلحة جائز، ففي الرواية التالية:"فَقَالَ الْقَوْمُ: هَذَا مِمَّنْ يَنْقُلُ الْحَدِيثَ إِلَى الْأَمِيرِ" يعني: أنهم شكوه إلى حذيفة رضي الله عنه لينصحه، حتى يترك النميمة، فأقرّهم حذيفة رضي الله عنه على ذلك، مع أن قولهم هذا نميمة أيضًا؛ لما يترتّب على ذلك من مصلحة نصح حذيفة رضي الله عنه له، وزجره عن نميمته.

5 -

(ومنها): ما قاله الغزاليّ رحمه الله تعالى: كلُّ مَن حُمِلت إليه نميمة، وقيل له: فلان يقول فيك، أو يفعل فيك كذا، فعليه ستة أمور:

ص: 263

[الأول]: أن لا يُصَدِّقه؛ لأن النَّمّام فاسقٌ.

[الثاني]: أن ينهاه عن ذلك، ويَنْصَحه، ويُقَبِّح له فعله.

[الثالث]: أن يُبغِضه في الله تعالى، فإنه بَغِيض عند الله تعالى، ويجب بُغْض مَن أبغضه الله تعالى.

[الرابع]: أن لا يَظُنَّ بأخيه الغائب السوء.

[الخامس]: أن لا يَحْمِله ما حُكِي له على التجَسُّس، والبحث عن ذلك.

[السادس]: أن لا يَرْضَى لنفسه ما نَهَى النّمّامَ عنه، فلا يَحْكِي نميمته عنه، فيقول: فلان حَكَى كذا، فيصير به نَمّامًا، ويكون آتيًا ما نَهَى عنه. انتهى كلام الغزاليّ رحمه الله تعالى.

قال النوويّ رحمه الله تعالى بعد نقله كلام الغزاليّ هذا، ما نصّهُ: وكلُّ هذا المذكور في النميمة إذا لم يكن فيها مصلحة شرعية، فإن دَعَت الحاجة إليها، فلا منع منها، وذلك كما إذا أخبره بأن إنسانًا يريد الْفَتْك به، أو بأهله، أو بماله، أو أخبر الإمام، أو مَن له ولاية بأن إنسانًا يَفعَلُ كذا، ويَسْعَى بما فيه مفسدةٌ، ويجب على صاحب الولاية الكشف عن ذلك وإزالته، فكل هذا وما أشبهه ليس بحرام، وقد يكون بعضه واجبًا، وبعضه مستحبًّا على حسب المواطن. انتهى كلام النوويّ رحمه الله تعالى، وهو تحقيقٌ حسنٌ جدًّا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[298]

(

) - (حَدَّثنا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ السَّعْدِيُّ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ إِسْحَاقُ: أَخْبَرَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ الْحَارِث، قَالَ: كَانَ رَجُلٌ يَنْقُلُ الْحَدِيثَ إِلَى الْأَمِير، فَكُنَّا جُلُوسًا فِي الْمَسْجِد، فَقَالَ الْقَوْمُ: هَذَا مِمَّنْ يَنْقُلُ الْحَدِيثَ إِلَى الْأَمِير، قَالَ: فَجَاءَ، حَتَّى جَلَسَ إِلَيْنَا، فَقَالَ حُذَيْفَةُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَتَّاتٌ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ السَّعْدِيُّ) المروزيّ، نزيل بغداد، ثم مَرْو، ثقةٌ

ص: 264

حافظٌ، من صغار [9](ت 244) وقد قارب المائة، أو جاوزها (خ م ت س) تقدم في "المقدمة" 2/ 6.

2 -

(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) هو: ابن راهويه الحنظليّ المروزيّ، ثقة حافظ إمام [10](ت 238)(خ م د ت س) تقدم في "المقدمة" 5/ 28.

3 -

(جَرِير) بن عبد الحميد بن قُرْط الضبّيّ، أبو عبد الله الكوفيّ، نزيل الريّ وقاضيها، ثقة صحيح الكتاب [8](188)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.

4 -

(مَنْصُور) بن المعتمر السلميّ، أبو عتّاب الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ [6](ت 132)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 296.

5 -

(إِبْرَاهِيمُ) بن يزيد بن قيس النخعيّ، أبو عمران الكوفيّ، ثقةٌ، يُرسل كثيرًا [5](ت 96)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 52.

6 -

(هَمَّامُ بْنُ الْحَارِثِ) بن قيس بن عمرو بن ربيعة بن حارثة النخعيّ الكوفيّ، ثقةٌ عابدٌ [2].

رَوَى عن عمر، وحذيفة، والمقداد بن الأسود، وأبي مسعود، وعمار بن ياسر، وعديّ بن حاتم، وجرير، وعائشة.

ورَوَى عنه إبراهيم النخعيّ، ووَبَرَةُ بن عبد الرحمن، وسليمان بن يسار.

قال إسحاق بن منصور، عن ابن معين: ثقة، وقال العجليّ: تابعيّ ثقةٌ، وذكره أبو الحسن المدائنيّ في عُبّاد أهل الكوفة، وذكر ابن سعد أنه مات في ولاية الحجاج، وذكره ابن حبان في "الثقات"، قال: وكان من الْعُبّاد، وكان لا ينام إلا قاعدًا، وقال مات في إمارة يزيد بن معاوية سنة ثلاث، وقد قيل: مات في إمارة عبد الله بن يزيد الْخَطْميّ على الكوفة سنة خمس وستين.

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب خمسة أحاديث: هذا، وأعاده بعده، وحديث (272):"بال، ثم توضّأ، ومسح على خفّيه"، و (288):"كنت أفرُكه من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم "، و (1929): "إذا أرسلتَ كلبك المعلَّم، وذكرتَ اسم الله

"، و (3002): "إذا رأيتم المدّاحين، فاحثوا في وجوههم التراب".

ص: 265

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله تعالى، وله فيه شيخان قرن بينهما، وفيه من صيغ الأداء: التحديث، والإخبار، والعنعنة، والسماع.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الصحيح، سوى شيخيه: فالأول: ما أخرج له أبو داود، وابن ماجه، والثاني: ما أخرج له ابن ماجه.

3 -

(ومنها):. أنه مسلسل بالكوفيين، غير شيخيه، فمروزيّان، والصحابيّ مدائنيّ.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ: إبراهيم، عن همام، وعلى قول من يقول بأن منصورًا تابعيّ صغير، ففيه ثلاثة من التابعين يروي بعضهم عن بعض، والله تعالى أعلم.

وقوله: (كَانَ رَجُلٌ) تقدّم أنه لا يُعرف اسمه.

وقوله: (يَنْقُلُ الْحَدِيثَ) هو معنى قوله في الحديث الماضي: "ينِمّ الحديث".

وقوله: (إِلَى الْأَمِيرِ) تقدّم أنه عثمان بن عفّان أمير المؤمنين رضي الله عنه، ففي رواية البخاريّ:"إن رجلًا يرفع الحديث إلى عثمان".

وقوله: (فِي الْمَسْجِدِ) أي المسجد النبويّ.

وقوله: (فَجَاءَ) أي ذلك الرجل النمّام.

وقوله: (حَتَّى جَلَسَ إِلَيْنَا) أي معنا، وتمام شرح الحديث، ومسائله تقدّمت في الحديث الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الامام الحافظ الحجة مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[299]

(

) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، وَوَكيعٌ، عَنِ الْأَعْمَشِ (ح) وَحَدَّثَنَا مِنْجَابُ بْنُ الْحَارِثِ التَّمِيمِيُّ، وَاللَّفْظُ لَهُ، أَخْبَرَنَا ابْنُ مُسْهِرٍ، عَنِ الْأَعْمَش، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ الْحَارِث، قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا مَعَ حُذَيْفَةَ فِي الْمَسْجِد، فَجَاءَ رَجُلٌ، حَتَّى جَلَسَ إِلَيْنَا، فَقِيلَ لِحُذَيْفَةَ: إِنَّ هَذَا يَرْفَعُ

ص: 266

إِلَى السُّلْطَانِ أَشْيَاءَ، فَقَالَ حُذَيْفَةُ؛ إِرَادَةَ أَنْ يُسْمِعَهُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَتَّاتٌ").

رجال هذا الإسناد: تسعة:

1 -

(مِنْجَابُ

(1)

بْنُ الْحَارِثِ التَّمِيمِيُّ) أبو محمد الكوفيّ، ثقةٌ [10](231)(م فق) تقدم في "الإيمان" 41/ 273.

2 -

(ابْنُ مُسْهِرٍ) هو: عليّ بن مُسْهِر القرشيّ الكوفيّ، قاضي الْمَوْصِل، ثقة، له غرائب بعدما أضرّ [8](ت 189)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 6.

وأما ("أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ")، واسمه عبد الله بن محمد بن أبي شيبة، و"أَبُو مُعَاوِيَةَ"، واسمه محمد بن خازم، و"وَكِيع" بن الجرّاح، و"الْأَعْمَشُ" سليمان بن مهران، فقد تقدّموا في الباب الماضي، والباقون ذكروا في السند الماضي.

وقوله: (إِلَى السُّلْطَانِ) تقدّم أنه عثمان بن عفّان رضي الله عنه.

وقوله: (إِرَادَةَ أَنْ يُسْمِعَهُ) بنصب إرادة على أنه مفعول لأجله، كما قال في "الخلاصة":

يُنْصَبُ مَفْعُولًا لَهُ الْمَصْدَرُ إِنْ

أَبَانَ تَعْلِيلًا كَـ "جُدْ شُكْرًا وَدِنْ"

وقوله: ("قَتَّاتٌ") بوزن نَمَّام، ومعناه. قال ابن الأثير: الْقَتَّاتُ: هو النّمّام، يقال: قَتَّ الحديثَ يقُتُّهُ - أي من باب نصر -: إذا وّره، وهيّأه، وسَوّاهُ، وقيل: النّمّام: الذي يكون مع القوم يتحدّثون، فيَنِمُّ عليهم، والْقَتَّاتُ: الذي يَتَسَمَّعُ على القوم، وهم لا يعلمون، ثم يَنِمُّ، والْقَسَّاسُ: الذي يَسْأَلُ عن الأخبار، ثم يَنُمُّها. انتهى

(2)

.

وقال في "القاموس": "الْقَتُّ": نَمُّ الحديث، كالتَّقْتِيت، والْقَتْقَتَةِ والْقِتِّيتَى، وقال أيضًا: ورجلٌ قَتَّاتٌ وقَتُوتٌ، وقِتِّيتَى: نَمَّامٌ، أو يَسَّمَّعُ أحاديث الناس من حيثُ لا يعلمون، سواءٌ نَمَّهَا، أم لم يَنُمَّها. انتهى

(3)

، وتمام شرح

(1)

بكسر الميم، وسكون النون، ثم جيم، ثم ألف، ثم موحّدة.

(2)

"النهاية" 4/ 11.

(3)

"القاموس المحيط".

ص: 267

الحديث، ومسائله تقدّمت قبل حديث، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(48) - (بَابُ بَيَانِ غِلَظِ تَحْرِيمِ إِسْبَالِ الإِزَارِ، وَالْمَنِّ بِالْعَطِيَّة، وَتَنْفِيقِ السِّلْعَةِ بِالْحَلِف، وَبَيَانِ الثَّلَاَثةِ الَّذِينَ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَة، وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ، وَلَهُمْ عَذَاب أَلِيمٌ)

وبالسند المتّصل إلى الامام الحافظ الحجة مسلم بن الحجاج المذكور أولَ الكتاب قال:

[300]

(106) - (حَدَّثنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ، قَالُوا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُدْرِكٍ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ، عَنْ خَرَشَةَ بْنِ الْحُرِّ، عَنْ أَيِ ذَرٍّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "ثَلَاَثة لَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَة، وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ، وَلَا يُزَكليهِمْ، وَلَهُمْ عَذَاب أَلِيمٌ" قَالَ: فَقَرَأَهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ثَلَاثَ مِرَارًا، قَالَ أَبُو ذَرٍّ: خَابُوا، وَخَسِرُوا، مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: "الْمُسْبِلُ، وَالْمَنَّانُ، وَالْمُنَفِّقُ سِلْعَتَهُ بِالْحَلِفِ الْكَاذِبِ").

رجال هذا الإسناد: تسعة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَيِي شَيْبَةَ) المذكور في الباب الماضي.

2 -

(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) أبو موسى الْعَنَزيّ المعروف بالزَّمِن، تقدّم قريبًا.

3 -

(ابْنُ بَشَّارٍ) هو: محمد بن بشّار المعروف بـ "بُنْدار"، أبو بكر البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 252)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.

4 -

(مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ) المعروف بـ "غُنْدَر"، أبو عبد الله البصريّ، ربيب شُعبة، ثقة حافظ [9](ت 193)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.

5 -

(شُعْبَةُ) بن الحجاج الإمام الحجة المشهور المذكور قبل باب.

6 -

(عَلِيُّ بْنُ مُدْرِكٍ) النخعيّ، أبو مُدْرك الكوفيّ، ثقةٌ [4](ت 120)(ع) تقدم في "الإيمان" 31/ 230.

ص: 268

7 -

(أَبُو زُرْعَةَ) بن عمرو بن جرير بن عبد الله البجليّ، قيل: اسمه هَرِم، وقيل: عمرو، وقيل: عبد الله، وقيل غير ذلك، ثقةٌ [3](ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 106.

8 -

(خَرَشَةُ - بفتحات، والشين المعجمة - ابْنُ الْحُرِّ) - بضمّ الحاء المهملة، وتشديد الراء - الْفَزَاريّ، قيل: له صحبة، وقيل: ثقةٌ من كبار التابعين [2].

كان يتيمًا في حِجْر عمر بن الخطاب رضي الله عنه، رَوَى عنه، وعن أبي ذَرّ، وحُذيفة، وعبد الله بن سلام.

ورَوَى عنه رِبْعيّ بن حِرَاش، وسليمان بن مُسهِر، والمسيَّب بن رافع، وأبو زرعة بن عمرو بن جرير، وأبو حَصِين، عثمان بن عاصم، وغيرهم.

قال الآجريّ، عن أبي داود: خَرَشة بن الْحُرّ له صحبة، وأخته سلامة بنت الْحُرّ لها صحبة، وقال ابن سعد: تُوُفّي في ولاية بشر بن لهروان على الكوفة، وقال خليفة: مات سنة (74)، وذكره ابن حبان في "الثقات" في التابعين، وقال العجليّ: كوفيّ تابعيّ من كبار التابعين، وذكره ابن عبد البرّ، وأبو نعيم، وابن منده في "الصحابة"، وقال أبو موسى المدينيّ: خَلَط أبو عبد الله - يعني: ابن منده - بينه وبين خَرَشَة المراديّ، والظاهر أنهما اثنان. انتهى.

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب حديثان فقط: هذا الحديث، وأعاده بعده، وحديث (2484): "أما الطريق التي رأيت عن يسارك فهي طرق أصحاب الشمال

".

9 -

(أَبُو ذَرٍّ) جُندب بن جُنادة الصحابيّ الشهير رضي الله عنه تقدّم قريبًا، والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سباعيّات المصنّف رحمه الله تعالى، وله فيه ثلاثة مشايخ قرن بينهم، وفيه من صيغ الأداء: التحديث، والعنعنة.

2 -

(ومنها): أن شيخيه: ابن المثنّى، وابن بشّار من مشايخ الأئمة الستّة بلا واسطة.

ص: 269

3 -

(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الجماعة، غير شيخه أبي بكر، فما أخرج له الترمذيّ.

4 -

(ومنها): أنه مسلسل بالبصريين إلى شعبة، غير أبي بكر، فكوفيّ، كالباقين، والصحابيّ مدنيّ، ثم رَبَذيّ رضي الله عنه.

5 -

(ومنها): أن فيه ثلاثة من التابعين يروي بعضهم عن بعض: عليّ بن مدرك، عن أبي زرعة، عن خَرَشَة.

6 -

(ومنها): خَرَشَة بن الْحُرّ من الأفراد، فليس في الرواة من يشاركه في هذا الاسم، وهذا أول محلّ ذكره في الكتاب، وليس له في الكتاب إلا حديثان، كما أسلفت بيانهما آنفًا، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي ذَرٍّ) رضي الله عنه (عَنِ النَبِيِّ صلى الله عليه وسلم) أنه (قَالَ: "ثَلَاَثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ) عز وجل، قال القرطبيّ رحمه الله تعالى: أي بكلامِ مَن رَضِيَ عنه، ويجوز أن يُكلِّمهم بما يُكلّم به من سَخِطَ عليه، كما جاء في "صحيح البخاريّ" من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفُوعًا:"يقول الله لمانع الماء: اليوم أمنعُك فضلي، كما منعت فَضْلَ ما لم تَعْمَل يداك"، وقد حَكَى الله تعالى أنه يقول للكافرين:{اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون: 108]، وقيل: معناه: لا يكلّمهم بغير واسطة؛ استهانةً بهم، وقيل: معنى ذلك الإعراض عنهم، والغضب عليهم. انتهى

(1)

.

وقال النوويّ رحمه الله تعالى: قوله: "ثلاثة لا يكلّمهم الله

إلخ " هو على لفظ الآية الكريمة، قيل: معنى "لا يكلمهم": أي لا يُكَلِّمهم تكليم أهل الخيرات، وبإظهار الرِّضَا، بل بكلام أهل السخط والغضب، وقيل: المراد الإعراض عنهم، وقال جمهور المفسرين: لا يكلِّمهم كلامًا ينفعهم ويَسرُّهم، وقيل: لا يُرسِل إليهم الملائكة بالتحية. انتهى

(2)

.

(يَوْمَ الْقِيَامَةِ) قيّده به إشارة إلى أنه محلّ الرحمة المستمرّة بخلاف رحمة الدنيا، فإنها قد تنقطع بما يتجدّد من الحوادث، قاله في "الفتح"

(3)

.

(1)

"المفهم" 1/ 302.

(2)

"شرح النوويّ" 2/ 116.

(3)

راجع: "الفتح" 11/ 430.

ص: 270

(وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ) قال النوويّ: معناه: أنه يُعْرِض عنهم، ونظره سبحانه وتعالى لعباده رحمته، ولطفه بهم. انتهى.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: تفسيره النظر بالرحمة واللطف غير صحيح، بل النظر على ظاهره ثابتٌ لله سبحانه وتعالى، كما ثبت اللطف والرحمة، فتنبّه، ولا تكن أسير التقليد.

وقال في "الفتح": معنى: "لا ينظر الله إليهم": أي لا يرحمهم، فالنظر إذا أُضيف إلى الله تعالى كان مجازًا، وإذا أُضيف إلى المخلوق كان كنايةً، ويحتمل أن يكون المراد: لا ينظر الله إليهم نظرَ رحمةٍ.

قال: وقال شيخنا - يعني: الحافظ العراقيّ - في "شرح الترمذيّ": عَبَّرَ عن المعنى الكائن عند النظر بالنظر؛ لأن مَن نَظَر إلى متواضع رَحِمَه، ومَن نَظَر إلى مُتَكَبِّر مَقَته، فالرحمة والمقت متسببان عن النظر.

وقال الكرمانيّ: نسبة النظر من يجوز عليه النظر كنايةٌ؛ لأن مَن اعتَدَّ بالشخص التفتَ إليه، ثم كَثُر حتى صار عِبارةً عن الإحسان، وإن لم يكن هناك نظر، ولمن لا يجوز عليه حقيقةُ النظر، وهو تقليب الحدقة، والله مُنَزَّه عن ذلك، فهو بمعنى الإحسان، مجازًا عما وقع في حق غيره كنايةً.

قال: ويؤيد ما ذُكِر من حمل النظر على الرحمة، أو المقت، ما أخرجه الطبرانيّ، وأصله في "سنن أبي داود"، من حديث أبي جُرَيّ: "إن رجلًا ممن كان قبلكم، لَبِسَ بُرْدةً، فَتَبَخْتر فيها، فنظر الله إليه فمقته، فأمر الأرض فأخذته

" الحديث. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي ذكروه من نفي نظر الله سبحانه وتعالى حقيقةً، وأنه ليس له نظرٌ، وإنما هو مجاز عن الرحمة غير صحيح، وإنما حَمَلهم على ذلك أنهم ظنّوا أن النظر لا معنى له إلا تقليب الحدقة، وهذا خطأٌ؛ لأن هذا معنى النظر المضاف إلى المخلوقين، وأما نظر الخالق، فهو نظر يليق بجلاله سبحانه وتعالى، لا نعلم كيفيّته، كما لا نعلم حقيقة ذاته العليّة؛ لأن الصفة فرع عن الذات.

(1)

راجع: "الفتح" 10/ 270.

ص: 271

فالحقّ أن النظر ثابتٌ لله تعالى حقيقةً، لا مجازًا، وأما تفسير نظره هنا بأنه نظر رحمة وإحسان، فلا يتنافى مع تفسيرنا المذكور؛ لأن هذا بيان للمقصود هنا بقرينة الأدلّة الأخرى؛ لأن نظر الله تعالى محيط بجميع مخلوقاته، لا يخفى عليه شيء، فكان المراد هنا نظرًا خاصًّا، وهو الذي يكون لأوليائه تعالى، وهو نظر الرحمة واللطف والإحسان، والفرق بين إثبات النظر، وكون المراد نظرًا خاصًّا، وهو نظر الرحمة وبين نفي النظر، وكونه بمعنى الرحمة واضحٌ، لا يخفى من تأمّله بالإنصاف، ولم يسلك سبيل التقليد والاعتساف.

وأما الحديث الذي ذكره صاحب "الفتح" عن الطبرانيّ، وادّعَى أنه يؤيّد ما ذُكر من حَمْل النظر على الرحمة، أو المقت، فليس كما ادّعاه، بل هو موضّحٌ لما قلناه، فإنه أثبت أوّلًا النظر لله سبحانه وتعالى، ثم رتّب المقتَ عليه بالفاء التعقيبية، فقال: "فمقته، فأمر الأرض

إلخ"، فإن هذا واضحٌ في إثبات النظر لله تعالى، وهو الذي قلناه، وقد أوضحت المسألة في غير هذا المحلّ من "شرح النسائيّ"، وغيره، فتأمله بالإنصاف، ولا تسلك مسلك التقليد والاعتساف، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

(وَلَا يُزَكِّيهِمْ) أي لا يُطَهِّرهم من دنس ذنوبهم؛ لِعِظَم جُرْمهم؛ وقال الزجاج وغيره: معناه: لا يُثْنِي عليهم خيرأ، ومن لم يُثْنِ عليه خيرًا عذّبه

(1)

.

(وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ") أي شديد الألم الموجِعُ، قال الواحديّ: هو العذاب الذي يَخْلُص إلى قلوبهم وَجَعُهُ، قال: والعذابُ كلُّ ما يُعْيِي الإنسان، وَيشُقُّ عليه، قال: وأصل العذاب في كلام العرب مِنَ الْعَذْب، وهو المنع، يقال عَذَبْتُهُ عَذْبًا: إذا منعته، وعَذَبَ عُذُوبًا: أي امتنع، وسُمِّي الماء عَذْبًا؛ لأنه يمنع الْعَطَش، فسُمِّيَ العذاب عذابًا؛ لأنه يَمْنَع الْمُعَاقَبَ من مُعاودة مثل جُرْمه، ويمنع غيره من مثل فعله. انتهى

(2)

.

وقال الراغب الأصفهانيّ في "مفرداته": اختُلِف في أصل العذاب، فقال بعضهم: هو من قولهم: عَذَبَ الرجلُ: إذا ترك المأكل والنوم، فهو عاذبٌ، وعَذُوب، فالتعذيب في الأصل: حملُ الإنسان أن يَعْذِب: أي يَجُوعَ وَيسْهَرَ،

(1)

"إكمال المعلم" 1/ 455.

(2)

"شرح النوويّ" 2/ 116.

ص: 272

وقيل: أصله من الْعَذْبِ، فعذّبتُهُ: أي أزلتُ عَذْبَ حياته على بناء مرَّضْتُهُ، وقَذَّيتُهُ، وقيل: أصل التعذيب إكثار الضرب بعَذَبَةِ السوط: أي طَرَفها، وقد قال بعض أهل اللغة: التعذيب هو الضرب، وقيل: هو من قولهم: ماءٌ عَذْبٌ: إذا كان فيه قَذًى وكَدَرٌ، فيكون عذّبتُهُ كقولك: كدّرت عيشه، وزَلَّقتُ حياته، وعَذَبَةُ السوط واللسان والشجر: أطرافها. انتهى

(1)

.

وقال الفيّوميّ: عَذَبته تعذيبًا: عاقبته، والاسم: الْعَذَابُ، وأصله في كلام العرب: الضربُ، ثم استُعْمِل في كلِّ عقوبة مُؤْلمةٍ، واستُعِير للأمور الشاقّة، فقيل: السفر قطعة من العذاب، وعَذبَةُ اللسان: طَرَفُهُ، والجمع عَذَبات، مثلُ قَصَبَةٍ وقَصَبَات، ويقال: لا يكون النطقُ إلا بعَذَبَة اللسان، وعَذَبَةُ السَّوْطِ: طَرَفُهُ، وعَذَبَةُ الشجر: غُصْنُهَا، وعَذَبَةُ الميزان: الخَيْطُ الذي تُرْفَعُ به. انتهى

(2)

.

(قَالَ) أبو ذرّ رضي الله عنه (فَقَرَأَهَا) أي هذه الْجُمَل المذكورة (رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ثَلَاثَ مِرَارًا) يعني: أنه صلى الله عليه وسلم كرّر هذا الحديث الذي هو بمعنى الآية الكريمة ثلاث مرّات تأكيدًا للأمر (قَالَ أَبُو ذَرٍّ) رضي الله عنه (خَابُوا) أي لم يظفروا بمرادهم، والكلام يحتمل أن يكون دعاءً عليهم بالخيبة، وأن يكون إخبارًا بخيبتهم، يقال: يَخِيب خيبةً: إذا لم يظفر بما طَلَبَ، وخيّبه الله تعالى - بالتشديد -: جعله خائبًا، أفاده الفيّوميّ

(3)

(وَحسِرُوا) أي هَلَكُوا، والكلام عليه كسابقه، ووقع عند النسائيّ:"فقال أبو ذرّ: خابوا وخسروا، خابوا وخسروا"، مكرّرًا (مَنْ) استفهاميّةٌ (هُمْ يَا رَسُولَ اللهِ؟) أي من هؤلاء الذين وُصفوا بهذه الأوصاف الْمُخْزِية، والبلايا المحزنة؟ (قَالَ) صلى الله عليه وسلم " (الْمُسْبِلُ) خبر لمحذوف: أي أحدهم: "المسبل"، اسم فاعل من الإسبال، وهو إرخاء الإزار عن الحدّ الذي ينبغي الوقوف عنده.

يعني: أنّ أحد الثلاثة الذين لهم هذا الوعيد الشديد: هو الرجل الذي يُرخِي إزاره، ويجرّ طَرَفه خُيَلاءً، كما جاء مفسّرًا في حديث ابن عمر رضي الله

(1)

"مفردات ألفاظ القرآن" ص 555.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 398.

(3)

"المصباح المنير"185.

ص: 273

تعالى عنهما المتّفق عليه: "لا ينظر الله إلى من جرّ ثوبه خيلاء". والخيلاء: الكبر، والعجب.

قال النوويّ رحمه الله تعالى: وهذا التقييد بالجرّ خيلاءً يُخصّص عموم المسبل إزاره، ويدلّ على أن المراد بالوعيد من جرّ خُيَلَاءً، وقد رَخّص النبيّ صلى الله عليه وسلم في ذلك لأبي بكر الصدّيق رضي الله عنه، فقد أخرج الشيخان، من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَن جَرَّ ثوبه خيلاء، لم ينظر الله إليه يوم القيامة"، فقال أبو بكر: إنّ أحد شقي ثوبي يسترخي، إلا أن أتعاهد ذلك منه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إنك لست تصنع ذلك خيلاء"

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الحاصل أن الوعيد المذكور خاصّ بمن جرّه خُيلاء، وأما جرّه بغير الخيلاء، فحرامٌ؛ لما أخرجه البخاريّ، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"ما أسفَلَ من الكعبين، من الإزار ففي النار".

[تنبيه]: يستثنى من ذلك النساء؛ لما أخرجه الترمذيّ، وصحّحه، من طريق أيوب، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، متّصلًا بحديثه المذكور في قصّة أبي بكر رضي الله عنه: فقالت أم سلمة: فكيف تصنع النساء بذيولهنّ؟ فقال: "يُرخين شِبْرًا"، فقالت: إذًا تنكشف أقدامهنّ، قال:"فيُرخينه ذراعًا، لا يَزِدن عليه". لفظ الترمذيّ.

قال الحافظ: وقد عزا بعضهم هذه الزيادة لمسلم، فَوَهِمَ، فإنها ليست عنده، وكأنّ مسلمًا أعرض عن هذه الزيادة للاختلاف فيها على نافع، فقد أخرجه أبو داود، والنسائيّ، وغيرهما، من طريق عبيد الله بن عمر، عن سليمان بن يسار، عن أم سلمة.

وأخرجه أبو داود من طريق أبي بكر بن نافع، والنسائيّ، من طريق أيوب بن موسى، ومحمد بن إسحاق، ثلاثتهم، عن نافع، عن صفية بنت أبي عبيد، عن أم سلمة.

وأخرجه النسائيّ من رواية يحيى بن أبي كثير، عن نافع، عن أم سلمة

(1)

سيأتي للمصنف برقم 2085.

ص: 274

نفسها، وفيه اختلاف آخر، ومع ذلك فله شاهد من حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، أخرجه أبو داود من رواية أبي الصّدّيق، عن ابن عمر، قال:"رخّص رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمهات المؤمنين شبرًا، ثم استزدنه، فزادهنّ شبرًا، فكن يُرْسِلن إلينا، فنذرع لهنّ ذراعًا".

وأفادت هذه الرواية قدر الذراع المأذون فيه، وأنّه شبران بشبر اليد المعتدلة.

قال الحافظ: ويستفاد من هذا الفهم التعقّب على من قال: إن الأحاديث المطلقة في الزجر عن الإسبال مقيّدة بالأحاديث الأخرى المصرّحة بمن فعله خيلاء.

وسيأتي تمام البحث في هذه المسألة في محلّه من "كتاب اللباس" - إن شاء الله تعالى.

[تنبيه]: قال الإمام أبو جعفر محمد بن جرير الطبريّ، وغيره: وذَكَر إسبال الإزار وحده؛ لأنه كان عامّة لباسهم، وحكم غيره من القميص وغيره حكمه.

قال النوويّ: وقد جاء ذلك مبيّنًا منصوصًا عليه من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، من رواية سالم بن عبد الله، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"الإسبال في الإزار، والقميص، والعمامة، مَنْ جَرَّ منها شيئا، خُيَلاء، لم ينظر الله إليه يوم القيامة"، رواه أبو داود، والنسائيّ، وابن ماجه بإسناد حسن. انتهى

(1)

.

وسيأتي تمام البحث في ذلك في "كتاب اللباس" - إن شاء الله تعالى -.

(وَالْمَنَّانُ) زاد في الرواية التالية: "الَّذِي لَا يُعْطِي شَيْئًا، إِلَّا مَنَّهُ".

قال القرطبيّ رحمه الله تعالى: "المنّان": فَعّالٌ من الْمَنّ، وقد فسّره في الحديث، فقال:"هو الذي لا يُعطي شيئًا إلا مّنّه": أي إلا امتنّ به على المعطَى له، ولا شكّ في أنّ الامتنان بالعطاء مبطلٌ لأجر الصدقة والعطاء، مؤذٍ للمعطَى له، ولذلك قال تعالى:{لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى} [البقرة: 264].

وإنما كان المنّ كذلك؛ لأنّه لا يكون غالبًا إلا عن البخل، والعجب،

(1)

"شرح النوويّ" 2/ 116.

ص: 275

والكبر، ونسيان منّة الله تعالى فيما أنعم به عليه، فالبخيل يُعظّم في نفسه العطيّةَ، وإن كانت حقيرةً في نفسها، والعُجْبُ يحمله على النظر لنفسه بعين العظمة، وأنّه مُنعِمٌ بماله على الْمُعطَى له، ومتفضِّل عليه، وإن كان له عليه حقّ يجب عليه مراعاته، والكبر يحمله على أن يَحْتَقِر المعطَى له، وإن كان في نفسه فاضلًا، ومُوجِب ذلك كلّه الجهل، ونسيان منّة الله تعالى فيما أنعم به عليه؛ إذ قد أنعم عليه مما يُعطي، ولم يَحْرِمه ذلك، وجعله ممن يُعطِي، ولم يجعله ممن يَسْأل، ولو نظر ببصيرته لعلم أنّ المنّة للآخذ؛ لما يُزيل عن المعطي من إثم المنع، وذمّ المانع، ومن الذنوب، ولما يحصل له من الأجر الجزيل، والثناء الجميل.

وقيل: المنّان في هذا الحديث هو من المنّ الذي هو القطع، كما قال الله تعالى:{لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} [فصلت: 8]: أي غير مقطوع، فيكون معناه: البخيل بقطعه عطاءَ ما يجب عليه للمستحقّ، كما جاءفي حديث آخر:"البخيل المنّان"

(1)

، فنعته به.

والتأويل الأول أظهر، أفاده القرطبيّ رحمه الله تعالى

(2)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: بل التأويل الثاني ضعيفٌ جدًّا، ومما يُضعفه ما في الرواية التالية بلفظ:"والمنان الذي لا يُعطي شيئًا إلا منّه"، فإنه ظاهر في المعنى الأول، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

[تنبيه]: الحديث الذي أشار إليه القرطبيّ أخرجه أحمد في "مسنده"، فقال:

(21020)

حدثنا يزيد، أخبرنا الأسود بن شيبان، عن يزيد أبي العلاء، عن مُطَرّف بن عبد الله بن الشّخّير، قال: بلغني عن أبي ذرّ حديث، فكنت أُحِبُّ أن ألقاه، فلقيته، فقلت له: يا أبا ذر، بلغني عنك حديث، فكنتُ أحبّ أن ألقاك، فأسألَكَ عنه، فقال: قد لقيتَ، فاسأل، قال: قلت: بلغني أنك تقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: "ثلاثة يحبهم الله عز وجل، وثلاثة

(1)

رواه أحمد من حديث أبي ذرّ رضي الله تعالى عنه بإسناد صحيح

(2)

راجع: "المفهم" 1/ 304 - 305.

ص: 276

يبغضهم الله عز وجل"، قال: نعم، فما إخالني، أَكْذِب على خليلي محمد صلى الله عليه وسلم، ثلاثًا، يقولها، قال: قلت: مَن الثلاثة الذين يحبهم الله عز وجل؟، قال: "رجل غزا في سبيل الله، فلقي العدوَّ، مجاهدًا محتسبًا، فقاتل حتى قُتِل"، وأنتم تجدون في كتاب الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا} [الصف: 4]، "ورجل له جار يؤذيه، فيصبر على أذاه، ويحتسبه، حتى يكفيه الله إياه بموت، أو حياة، ورجل يكون مع قوم، فيسيرون حتى يَشُقّ عليهم "الْكَرَى"، أو "النعاس"، فَيَنْزِلون في آخر الليل، فيقوم إلى وُضوئه، وصلاته"، قال: قلت: مَن الثلاثة الذين يبغضهم الله؟ قال: "الفَخُور المختال، وأنتم تجدون في كتاب الله عز وجل:{إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [لقمان: 18]، والبخيل الْمَنّان، والتاجر، والبَيّاع الْحَلّاف"، قال: قلت: يا أبا ذر، ما المال؟ قال: فرق لنا، وذَوْدٌ - يعني بالفرق: غنمًا يسيرة - قال: قلت: لست عن هذا أسأل، إنما أسألك عن صامت المال، قال: ما أصبح لا أمسى، وما أمسى لا أصبح، قال: قلت: يا أبا ذر، ما لك ولإخوتك قريش؟ قال: والله لا أسألهم دنيا، ولا أستفتيهم عن دين الله تبارك وتعالى، حتى ألقى الله ورسوله ثلاثًا يقولها. انتهى

(1)

.

(وَالْمُنَفِّقُ) قال القرطبيّ رحمه الله تعالى: الرواية في "الْمُنَفِّق" بفتح النون، والفاء مشدّدةٌ، وهي مضاعَفُ نَفَقَ البيعُ يَنْفُقُ: - أي من باب نصر - نَفَاقًا: إذا خرج، ونَفِدَ، وهو ضدّ كَسَدَ، غير أن نَفَقَ المخفَّفُ لازم، فإذا شُدِّدَ عُدّيَ إلى المفعول، ومفعوله هنا "سِلْعَتَهُ". انتهى

(2)

.

(سِلْعَتَهُ) بكسر السين المهملة، وسكون اللام: البِضَاعة، جمعها سِلَعٌ، مثلُ سدر وسِدَرٍ. ومثله سِلْعة الجسد

(3)

، وهي الْغُدَّة، وأما السَّلْعَة بالفتح، فهي

(1)

الحديث رجاله رجال الصحيح، ويزيد هو ابن هارون. والله تعالى أعلم.

(2)

"المفهم" 1/ 359.

(3)

قال في "المصباح": السِّلْعة - أي بكسر، فسكون -: خُرَاجٌ كهيئة الغُدّة، تتحرّك بالتحريك، قال الأطبّاء: هي وَرَمٌ غير ملتزق باللحم، يتحرّك عند تحريكه، وله غلاف، وتقبل التزيّد، لأنها خارجة عن اللحم، ولهذا قال الفقهاء: يجوز قطعها عند الأمن. انتهى. "المصباح" في مادّة سلع.

ص: 277

الشجّة، وجمعها سَلَعات، مثل سجدة وسَجَدات، وقد نظم ذلك بعضهم بقوله [من الرجز]:

وَسِلْعَةُ الْمَتَاعِ سِلْعَةُ الْجَسَدْ

كُلّ بِكَسْرِ السِّينِ هَكَذَا وَرَدْ

أَمَّا الَّتِي بِالْفَتْحِ فَهْيَ الشَّجَّهْ

عِبَارَةُ "الْمِصْبَاحِ" فَاسْلُكْ نَهْجَهْ

(1)

(بِالْحَلِفِ الْكَاذِبِ") هو معنى قوله في الرواية التالية: "وَالْمُنَفِّقُ سِلْعَتَهُ بِالْحَلِفِ الْفَاجِرِ"، و"الْحَلِفُ": بكسر اللام، وإسكانها، وممن ذكر الإسكان ابنُ السّكّيت في أول "إصلاح المنطق"، قاله النوويّ.

وقال القرطبيّ رحمه الله تعالى: وَصَفَ "الْحَلِف"، وهي مؤنّثةٌ بـ "الكاذب"، وهو وصف مذكَّرٌ، وكأنه ذهب بالـ "الحلف" مذهب "القول"، فذكّره، أو مذهب المصدر، وهو مثلُ قولهم: أتاني كتابه، فمزّقتُهَا، ذهب بـ "الكتاب" مذهب "الصحيفة"

(2)

. انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي ذرّ رضي الله عنه انفرد به المصنّف رحمه الله تعالى.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا في "الإيمان"[48/ 300 و 301](106)، و (أبو داود) في "اللباس"(4087 و 4088)، و (الترمذيّ) في "البيوع"(1211)، و (النسائيّ) في "الزكاة"(2563 و 2564)، و"البيوع"(4458 و 4459)، و"الزينة"(5332 و 5333)، وفي "الكبرى" في "الزكاة"(2344 و 2345) و"البيوع "(6050 و 6051 و"الزينة" (9701 و 9702)، و (ابن ماجه) في "التجارات"(2258)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(467)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(9/ 92 - 93)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 148 و 158 و 162 و 168 و 177 و 178)، و (الدارميّ) في "البيوع"(2605)، و (أبو عوانة) في "مسنده"

(1)

راجع: "تحفة الحبيب حاشية إقناع الخطيب" في الفقه الشافعيّ 1/ 122.

(2)

"المفهم" 1/ 309.

ص: 278

(111 و 112 و 113 و 115 و 116 و 117)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(287 و 288)، و (ابن منده) في "الإيمان"(616 و 617)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(191)، و"الأسماء والصفات"(1/ 354)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان غِلَظ تحريم هذه الأشياء المذكورة في الحديث، وأنها من الكبائر التي تنافي كمال الإيمان، وهو وجه المطابقة لإيراده في أبواب الإيمان.

2 -

(ومنها): أن الله سبحانه وتعالى ينظر إلى عباده المؤمنين المستقيمين، ويزكّيهم، يوم القيامة، وينجيهم من عذابه، وأن من أجرم بالإسبال، وتنفيق السلعة باليمين الكاذبة، والمنّان بما أعطى لا ينظر إليهم، ولا يزكّيهم، ولهم عذابٌ أليم.

3 -

(ومنها): أن هذه الأفعال المذكورة من الكبائر؛ لأنه تعالى لا يتوعّد بهذا الوعيد الشديد إلا من ارتكب الذنوب الكبائر.

4 -

(ومنها): أن المنفّق لسلعته بالحلف الكاذب قد جمع بين الاستخفاف بحقّ الله تعالى، والكذب فيما حَلَفَ عليه، وأخذ مال الآخر بغير حقّه، وغُرُوره إياه بيمينه

(1)

.

5 -

(ومنها): ما قاله الطيبيّ رحمه الله تعالى: إنما جمع بين الثلاثة، وقرنها؛ لأن المسبل هو المتكبّر المرتفع بنفسه على الناس، ويحتقرهم، والمنّان إنما منّ بعطائه لما رأى من علوّه على الْمُعْطَى له، والحالف البائع يُراعي غِبْطة نفسه، وهَضْمَ صاحب الحقّ، فتحصّل من المجموع احتقار الغير، وإيثار النفس، ولذلك يجازيهم الله تعالى باحتقاره لهم، وعدم التفاته إليهم، كما يُلوّح به قوله:"ولا يُكلّمهم". انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[301]

(

) - (وَحَدَّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ خَلَّادٍ الْبَاهِلِيُّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، وَهُوَ الْقَطَّانُ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ الْأَعْمَشُ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ مُسْهِرٍ، عَنْ

(1)

راجع: "إكمال المعلم" 1/ 458.

ص: 279

خَرَشَةَ بْنِ الْحُرِّ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: الْمَنَّانُ الَّذِي لَا يُعْطِي شَيْئًا، إِلَّا مَنَّهُ، وَالْمُنَفِّقُ سِلْعَتَهُ بِالْحَلِفِ الْفَاجِر، وَالْمُسْبِلُ إِزَارَهُ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ خَلَّادٍ الْبَاهِلِيُّ) هو: محمد بن خلّاد بن كثير البصريّ، ثقة [10](ت 240)(م د س ق) تقدم في "المقدمة" 5/ 31.

2 -

(يَحْيَى الْقَطَّانُ) هو: يحيى بن سعيد بن فَرُّوخ، أبو سعيد البصريّ الإمام الحجة الثبت الناقد البصير [9](ت 198) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 385.

3 -

(سُفْيَانُ) بن سعيد بن مسروق الثوريّ الإمام الحجة الثبت الفقيه الكوفيّ [7](ت 161)(ع) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.

4 -

(سُلَيْمَانُ الْأَعْمَشُ) تقدم قريبًا.

5 -

(سُلَيْمَانُ بْنُ مُسْهِرٍ) الْفَزَاريّ الكوفيّ، [4]، ووهم من ذكره في "الصحابة".

رَوَى عن خَرَشة بن الْحُرّ، وعنه إبراهيم النخعيّ، وهو من أقرانه، والأعمش.

قال النسائيّ: ثقة، وقال العجليّ: ثقة، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وذكره ابن منده في "كتاب الصحابة"، وخَطّأه أبو نعيم، وقال: بل هو تابعيّ.

أخرج له المصنّف، وأبو داود، والنسائيّ، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا، وحديث (2484): "أما الطرق التي رأيتَ عن يسارك، فهي طرق أصحاب الشمال

".

والباقيان تقدّما في السند الماضي.

وقوله: (لَا يُعْطِي شَيْئًا) ببناء الفعل للفاعل.

وقوله: (إِلَّا مَنَّهُ) أي عدّده على الْمُعْطى له، يقال: مَنَنتُ عليه منًّا: إذا عَدَّدتَ له ما فعلتَ له من الصنائع، مثلُ أن تقول: أعطيتك، وفعلتُ لك، وهو تكديرٌ، وتغييرٌ تنكسر منه القلوب، فلهذا نَهَى الشارع عنه بقوله:{لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى} [البقرة: 264] الآية، ومن هنا يقال: الْمَنُّ أخو المنّ: أي الامتنان

ص: 280

بتعديد الصنائع أخو القطع والْهَدْم، فإنه يقال: مننتُ الشيءَ مَنًّا: إذا قطعته، فهو ممنون، قاله الفيّوميّ

(1)

.

وقوله: (وَالْمُنَفِّقُ) بتشديد الفاء، من نَفّق السِّلْعَةَ: إذا رَوّجها، قاله في "القاموس"، وفي "المصباح": ونَفَقَتِ السِّلْعَةُ، والمرأة نَفَاقًا بالفتح: كَثُرَ طُلّابها، وخُطّابها. انتهى.

قوله: (سِلْعَتَهُ) بكسر السين، وسكون اللام: البِضَاعَةُ، جمعها سِلَعٌ، مثلُ سِدْرَةٍ وسِدَر، وتقدّم تمام البحث فيها قريبًا.

وقوله: (بِالْحَلِفِ) بفتح الحاء المهملة، وكسر اللام، ويجوز تسكينها: أي اليمين.

وقوله: (الْفَاجِرِ) بالجرّ صفة لـ "الحلِف"، وهو بمعنى الكاذب في الرواية السابقة، وتمام شرح الحديث، ومسائله تقدّمت في الحديث الماضي، فراجعها تستفد، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[302]

(

) - (وَحَدَّثَنِيهِ بِشْرُ بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثنَا مُحَمَّدٌ - يَعْني: ابْنَ جَعْفَرٍ - عَنْ شُعْبَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ سُلَيْمَانَ، بِهَذَا الْإِسْنَاد، وَقَالَ: "ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ، وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ، وَلَا يُزَكِّيهِمْ، وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ").

رجال هذا الإسناد: أربعة، كلهم تقدّموا في الإسنادين الماضيين، غير:

1 -

(بِشْرِ بْنِ خَالِدٍ) الْعَسكريّ، أبي محمد الفرائضيّ النيسابوريّ، نزيل البصرة، ثقةٌ يُغْربُ [10](ت 253)(خ م د س) تقدم في "الإيمان" 23/ 200.

وقوله: (وَحَدَّثَنِيهِ) الضمير للحديث الماضي الذي رواه عن شيخه أبي بكر بن خلاد الباهليّ.

(1)

"المصباح المنير" 2/ 581.

ص: 281

وقوله: (بِهَذَا الْإِسْنَادِ) أي بالإسناد المذكور قبله، وهو إسناد الأعمش، عن سليمان بن مُسْهِر، عن خَرَشَة بن الْحُرّ، عن أبي ذرّ رضي الله عنه.

وقوله: (وَقَالَ: "ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ"

إلخ) يعني: أن رواية محمد بن جعفر، وإن كان إسناده إسناد سفيان الثوريّ، لكنه يخالفه في المتن، فسفيان قال: "ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة: المنّان

إلخ"، وأما محمد، فرواه بلفظ: "ثلاثة لا يكلّمهم الله، ولا ينظر إليه، ولا يُزكّيهم

إلخ".

[تنبيه]: رواية محمد بن جعفر هذه أخرجها الإمام أحمد، فقال في "مسنده":

(20507)

حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن سليمان، قال: سمعت سليمان بن مُسْهِر، عن خَرَشَةَ بن الْحُرّ، عن أبي ذَرّ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم: المنّان بما أَعْطَى، والمسبِلُ إزارَهُ، والْمُنَفِّق سلعته بالحلف الكاذب".

وأخرجها أيضًا النسائيّ في "المجتبى" بسند المصنّف، فقال:

(2517)

أخبرنا بشر بن خالد، قال: حدثنا غُندَر، عن شعبة، قال: سمعت سليمان - وهو الأعمش - عن سليمان بن مُسْهِر، عن خَرَشَة بن الْحُرّ، عن أبي ذَرّ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة لا يكلمهم الله عز وجل يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم: المنّان بما أَعْطَى، والمسبِلُ إزاره، والْمُنَفِّق سلعَتَهُ بالحلف الكاذب"، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[303]

(107) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، وَأَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَش، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَة، وَلَا يُزَكِّيهِمْ - قَالَ أَبُو مُعَاوِيَةَ: وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ، وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ -: شَيْخٌ زَانٍ، وَمَلِكٌ كَذَّابٌ، وَعَائِلٌ مُسْتَكْبِرٌ").

ص: 282

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(أَبُو حَازِمٍ) سلمان الأشجعيّ الكوفيّ، مولى عزّة الأشجعيّة، ثقةٌ [3](ت على رأس المائة)(ع) تقدم في "الإيمان" 9/ 142.

[تنبيه]: ذكر النوويّ في "شرحه" أن أبا حازم هو سلمان الأغرّ مولى عزّة، وهذا خطأ؛ لأن سلمان الأغرّ غير سلمان الأشجعيّ، وكلاهما يرويان عن أبي هريرة رضي الله عنه، فأبو حازم هو سلمان الأشجعيّ مولى عزّة الأشجعيّة، وأما سلمان الأغرّ فهو أبو عبد الله المدنيّ، مولى جُهَينة، فراجع ترجمتهما في "تهذيب التهذيب"(2/ 69 - 70)، و"التقريب"(ص 130)، والله تعالى أعلم.

2 -

(أَبُو هُرَيْرَةَ) الصحابيّ الشهير رضي الله عنه تقدم في "المقدمة" 2/ 4، والباقون تقدّموا قبل باب، والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله تعالى، وفيه التحديث، والعنعنة، والقول.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، إلا شيخه، فما أخرج له الترمذيّ.

3 -

(ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين، غير الصحابيّ، فمدنيّ.

4 -

(ومنها): أن فيه روايةَ تابعيّ، عن تابعيّ: الأعمش، عن أبي حازم.

5 -

(ومنها): أنه مسلسل بالكنى، غير الأعمش، ووكيعٌ معه أبو معاوية.

6 -

(ومنها): أن أبا معاوية أثبت الناس في الأعمش، إلا أن يكون الثوريّ.

7 -

(ومنها): أن أبا حازم ممن لازم أبا هريرة رضي الله عنه، وأطال صحبته، فقد جالسه خمس سنين.

8 -

(ومنها): أن أبا هريرة رضي الله عنه أحفظ من روى الحديث في دهره، وهو رأس المكثرين السبعة من الصحابة رضي الله عنهم، روى (5374) حديثًا، وقد سبق هذا غير مرّة، وإنما أعدته تذكيرًا، والله تعالى أعلم.

ص: 283

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) أي لا يكلّمهم أصلًا، أو لا يكلّمهم كلامًا يَسُرُّهم؛ لأنه ثبت أنه يكلّم أهل النار، كما قال تعالى:{اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون: 108]، وهؤلاء لا يَكُونون أسوأ من الكفّار، وقد تقدّم تمام البحث في ذلك في حديث أبي ذرّ رضي الله عنه (وَلَا يُزَكِّيهِمْ) أي لا يطهّرهم من دنس ذنوبهم.

وقوله: (قَالَ أَبُو مُعَاوِيَةَ: وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ) إشارة إلى اختلاف وكيع وأبي معاوية في الحديث، فأما أبو معاوية، فزاد في روايته قوله:"ولا ينظر إليهم"، وأما وكيع فلم يذكر ذلك.

[تنبيه]: رواية وكيع هذه ساقها الحافظ أبو عوانة رحمه الله في "مسنده"(1/ 46)، فقال:

(114)

حدثنا علي بن حرب، قال: ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي حازم، عن أبي هريرة (ح) وحدثنا الصاغانيّ، قال: أنبأنا ابن نمير، قال: ثنا وكيع، قال: ثنا الأعمش، عن أبي حازم، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم: شيخ زانٍ، وملكٌ كَذّابٌ، وعائلٌ مستكبرٌ".

وقال الحافظ أبو نُعيم في "مستخرجه":

(289)

حدثنا جعفر بن محمد الأحمسيّ، ثنا أبو حصين الوادعيّ، ثنا يحيى بن عبد الحميد، ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي حازم، عن أبي هريرة (ح) وحدثنا أبو عمرو بن حمدان، ثنا الحسن بن سفيان، ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا وكيع، وأبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي حازم، عن أبي هريرة، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا يزكيهم - قال أبو معاوية: ولا ينظر إليهم -: شيخ زان، وملك كذاب، وعائل متكبر".

[فإن قلت]: رواية وكيع ساقها الإمام أحمد رحمه الله تعالى كرواية أبي معاوية، وفيها تلك الزيادة، فقال في "مسنده":

(9837)

حدثنا وكيع، عن الأعمش، عن أبي حازم، عن أبي هريرة،

ص: 284

قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم: شيخٌ زانٍ، وملكٌ كَذّاب، وعائلٌ مستكبرٌ".

فكيف تجمع بين هذا، وبين ما قاله المصنّف؟.

[قلت]: يمكن أن يُجمع بينهما بأن وكيعًا رَوَى الحديث بالوجهين، فنفي المصنّف يُحمَل على أنه ما وصلت إليه رواية أحمد، والله تعالى أعلم بالصواب.

(وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) أي مؤلِمٌ (شَيْخٌ زَانٍ) خبر لمحذوف: أي أحدهم: رجلٌ كبير السنّ الذي بلغ إلى حالة لا يَحتاج فيها كثيرًا إلى النساء (وَمَلِكٌ كَذَّابٌ) وفي رواية النسائيّ: "وَالْإِمَامُ الْكَذَّابُ"، وفي رواية له:"والإمام الجائر".

(وَعَائِلٌ) أي فقير، والْمُعِيل: الكثير العيال. يقال: عال الرجلُ يَعِيل، من باب باع، فهو عائلٌ: إذا افتقر. والْعَيْلَة: الفقر، وأعال فهو مُعِيلٌ: إذا كثر عياله. وجمع العائل: عالةٌ، وهو في تقدير فُعَلَة، مثلُ كافر وكَفَرَة، أفاده في "المصباح".

(مُسْتَكْبِرٌ") أي متكبّر، وعند النسائيّ: و"العائلٌ الْمَزْهُوُّ"، و"المزهُوّ" بصيغة اسم المفعول: أي المتكبّر، من زُهِي الرجل بالبناء للمفعول على الأكثر، أو من زَهَا بالبناء للفاعل، على قلّة.

قال القرطبيّ رحمه الله تعالى في "المفهم": وإنما غُلّظ العقاب على هؤلاء الثلاثة؛ لأن الحامل لهم على تلك المعاصي محض المعاندة، واستخفاف أمر تلك المعاصي التي اقتحموها؛ إذ لم يحملهم على ذلك حاملٌ حاجيّ، ولا دعتهم إليها ضرورة، كما يدعو من لم يكن مثلهم. وبيان ذلك أن الشيخ لا حاجة، ولا داعية له تدعوه إلى الزنى؛ لضعف داعية النكاح في حقّه، ولكمال عقله، ولقرب أجله؛ إذ قد انتهى طَرَفٌ من عمره، ونحو ذلك الملك الكذّاب؛ إذ لا حاجة له إلى الكذب، فإنه يمكنه أن يُمَشِّي أغراضه بالصدق؛ فإن خاف من الصدق مفسدةً ورَّى.

وأما العائل المستكبر، فاستحقّ ذلك لغلبة الكبر على نفسه؛ إذ لا سبب له من خارج يحمله على الكبر، فإن الكبر غالبًا إنما يكون بالمال، والْخَدَم،

ص: 285

والجاه، وهو قد عَدِمَ ذلك كلّه، فلا موجب له إلا غلبة الكبر على نفسه، وقلّة مبالاته بتحريمه، وتوعُّد الشرع عليه، مع أنّ اللائق به، والمناسب لحاله الرّقّة، والتواضع؛ لفقره وعجزه. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله تعالى

(1)

.

وقال القاضي عياض رحمه الله تعالى: وأما سبب تخصيصه صلى الله عليه وسلم هؤلاء الثلاثة بالوعيد المذكور أنّ كلّ واحد منهم التزم المعصية المذكورة مع بُعْدها منه، وعدم ضرورته إليها، وضعف دواعيها عنده، وإن كان لا يُعذر أحد بذنب، لكن لما لم تدعهم إلى هذه المعاصي ضرائر مُزْعِجَة، ولا دواعٍ معتادة، ولا حملهم عليها أسبابٌ لازمةٌ أشبه إقدامهم عليها المعاندة، والاستخفاف بحقّ الله تعالى، وقصد معصيته، لا لحاجة غيرها.

فإن الشيخ لكمال عقله، وتمام معرفته بطول ما مرّ عليه من الزمان، وضعف أسباب الجماع، والشهوة للنساء، واختلال دواعيه لذلك، وبرد مزاجه، وإخلاق جديده عنده ما يريحه من دواعي الحلال في هذا، ويخلي سرّه منه بطبيعته، فكيف بالزنا الحرام؟ وإنما دواعي ذلك الشباب، والحرارة الغريزيّة، وقلّة المعرفة، وغلبة الشهوة؛ لضعف العقل، وصغر السنّ.

وكذلك الإمام لا يَخشى من أحد من رعيّته، ولا يَحتاج إلى مداهنته، ومصانعته، فإن الإنسان إنما يُداهن، ويصانع بالكذب وشبهه من يَحذَره، ويخشى أذاه، ومعاتبته، أو يطلب عنده بذلك منزلة، أو منفعة، وهو غنيّ عن الكذب مطلقًا.

وكذلك العائل المستكبر قد عَدِمَ المال، وإنما سبب الفخر، والخيلاء، والتكبّر، والارتفاع على القرناء إنما هو الثَّرْوَةُ في الدنيا؛ لكونه ظاهرًا فيها، وحاجات أهلها إليه، فإذا لم يكن عنده أسبابها، فلماذا يستكبر، ويحتقر غيره؟، فلم يبق إلا أن في استكبار هذا، وزنا الشيخ الكبير، وكذب الإمام ضربًا من الاستخفاف بحقّ الله تعالى، ومعاندة نواهيه وأوامره، وقلّة الخوف من وعيده؛ إذ لم يبقَ حاملٌ لهم على هذه الأفعال السيّئة إلا هذا، مع ما سبق

(1)

راجع: "المفهم" 1/ 305.

ص: 286

القدر لهم بالشقاء. انتهى كلام القاضي رحمه الله تعالى ببعض تصرّف

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه هذا تفرّد به المصنّف رحمه الله تعالى.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا في "الإيمان"[48/ 303](107)، و (النسائيّ) في "الزكاة"(2575)، وفي "الكبرى"(2356)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 433)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(114)، و (أبو نُعيم) في "مستخرجه"(289)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4413)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(8/ 161)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(3591)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان غلظ تحريم هذه الأشياء المذكورة في الحديث، وأنها تنافي كمال الإيمان، وهو وجه المطابقة في إيرادها في أبواب الإيمان؛ لأنها ضدّه، والشيء ألصق بضدّه.

2 -

(ومنها): بيان أن مرتكبي المعاصي تتفاوت مراتبهم بحسب الدواعي الحاملة لهم على ارتكابها، فمن كان له داعٍ يحمله، ويقهره على ارتكابها، كان أخفّ جُرْمًا ممن لا داعي له إلى ذلك.

3 -

(ومنها): بيان عظمة رحمة الله سبحانه وتعالى الرؤوف الرحيم بعباده المؤمنين، حيث خفّف العقاب عن المغلوب المقهور؛ إذ حامله عليه قهر النفس، والشهوة، وأما من ليس كذلك، فإنه يَعْظُم عقابه، حيث كان حامله على الارتكاب مجرّد الاستخفاف بأمر الله تعالى، وقلّة خوفه منه، {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8)} [آل عمران: 8]، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

(1)

"إكمال المعلم" 1/ 458 - 460، و"شرح مسلم للنوويّ" 2/ 298 - 300.

ص: 287

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[304]

(108) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَش، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَهَذِا حَدِيثُ أَبِي بَكْرٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "ثَلَاث لَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَة، وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ، وَلَا يُزَكِّيهِمْ، وَلَهُمْ عَذَاب أَلِيمٌ: رَجُلٌ عَلَى فَضْلِ مَاءٍ بِالْفَلَاة، يَمْنَعُهُ مِنِ ابْنِ السَّبِيل، وَرَجُلٌ بَايَعَ رَجُلًا بِسِلْعَةٍ بَعْدَ الْعَصْر، فَحَلَفَ لَهُ بِاللهِ لَأَخَذَهَا بِكَذَا وَكَذَا، فَصَدَّقَهُ، وَهُوَ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ، وَرَجلٌ بَايَعَ إِمَامًا، لَا يُبَايِعُهُ إِلَّا لِدُنْيَا، فَإِنْ أَعْطَاهُ مِنْهَا وَفَى، وَإِنْ لَمْ يُعْطِهِ مِنْهَا لَمْ يَفِ").

رجال هذا الإسناد: ستة، وكلّهم تقدّموا، إلا:

1 -

(أَبَا صَالِحٍ) هو: ذكوان السمّان الزيّات المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ [3](ت 101)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 4.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه، وفي رواية للبخاريّ، من طريق عبد الواحد بن زياد، عن الأعمش، سمعت أبا صالح، يقول: سمعت أبا هريرة رضي الله عنه، وقوله:(وَهَذَا حَدِيثُ أَبِي بَكْرٍ) يعني: أن اللفظ الذي ساقه هنا هو لفظ شيخه أبي بكر بن أبي شيبة، وأمَا أبو كريب، فرواه بمعناه (قَالَ) أبو هريرة رضي الله عنه (قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"ثَلَاثٌ) هكذا معظم الأصول في هذه الرواية عن أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ: "ثلاث" بحذف الهاء، وكذا وقع في بعض الأصول في الرواية الثانية عن أبي ذر رضي الله عنه، وله وجه صحيح، وهو أن يقدّر ثلاث أنفس، و"النفس مؤنّثة"، وإنما جاء الضمير في "يكلّمُهم" مذكّرًا على المعنى، يعني: أن معنى الأنفس مذكّر؛ لأنه بمعنى الأشخاص، أو الناس، والله سبحانه وتعالى أعلم

(1)

.

(لَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) أي بكلام مَن رَضِي عنه، وإنما يكلّمهم

(1)

راجع: "شرح النوويّ" 2/ 118.

ص: 288

بكلام مَن سَخِطَ عليه، كما جاء في "صحيح البخاريّ" من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، مرفوعًا:"يقول الله لمانع الماء: اليوم أمنعك فضلي، كما منعت فضل ما لم تعمل يداك"، وقد ذكر الله تعالى في كتابه العزيز أنه يقول للكافرين:{اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون: 108]، وقيل: معناه: لا يكلّمهم بغير واسطة، استهانةً بهم، وقيل: معنى ذلك الإعراض عنهم، والغضب عليهم، وقد تقدّم البحث في هذا مستوفًى في حديث أبي ذرّ رضي الله عنه، فلا تَنْسَ. (وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ) أي نظر لطف، ورحمة، وإحسان إليهم؛ إذ نظره تعالى محيط بكل شيء (وَلَا يُزَكِّيهِمْ) أي لا يُثني عليهم، ومن لم يُثن عليه عذّبه، وقيل: لا يُطهّرهم من خُبث أعمالهم؛ لعظيم جُرْمهم (وَلَهُمْ عَذَاب أَلِيمٌ) أي شديد الألم الموجع (رَجُلٌ) بدل تفصيل من"ثلاثةٌ"، أو خبر لمحذوف: أي أحدهم رجلٌ (عَلَى فَضْلِ مَاءٍ) من إضافة الصفة للموصوف: أي على ماء فاضل، والوصف بالفضل من باب: زيدٌ عدلٌ، والمراد ما فَضَلَ عن كفايته التي يستحقّها السابقُ للماء، فإنه أحقّ من غيره، حتى يأخذ حاجته منه، فإذا منع المستحقّ بعد أخذه كفايته عما زاد على حاجته، فقد استحقّ هذا الوعيد (بِالفَلَاةِ) بفتح الفاء: هي المفازة، والقفر التي لا أنيس بها، قاله النوويّ

(1)

، وقال الفيّوميّ:"الفلاة": الأرض لا ماءَ فيها، والجمع فلًا، مثلُ حَصَاةٍ وحَصًا، وجمع الجمع: أفلاء، مثلُ سَبَبٍ وأسباب. انتهى

(2)

. وفي رواية النسائيّ: "بالطريق"، وهو معنى الفلاة هنا (يَمْنَعُهُ) أي فضل الماء (مِنِ ابْنِ السَّبِيلِ) أي المسافر، ولفظ النسائيّ:"يَمْنَعُ ابْنَ السَّبِيلِ مِنْهُ"، والمعنى واحد، وإن تغاير المفهومان؛ لتلازمهما؛ لأنه إذا منعه من الماء، فقد منع الماء منه، أفاده في "الفتح"

(3)

.

و"ابن السبيل": هو المسافر، و"السبيل": الطريق، وسمّي المسافر بذلك؛ لأن الطريق تُبْرِزه، وتُظْهِره، فكأنها ولدته، وقيل: سُمّي بذلك؛ لملازمته إياه، كما يقال في الغراب: ابن دَأْيَة؛ لملازمته دَأْية البعير الدَّبِرِ لينقُرها

(4)

.

(1)

"شرح النوويّ" 2/ 116 - 117.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 481.

(3)

"الفتح" 13/ 214 - 215.

(4)

"البعير الدبِر": هو الذي تقرّحت دأيته، والدأية من البعير: هو الموضع الذي تقع عليه ظَلِفَةُ الرحل، فيعقره.

ص: 289

(وَ) الثاني (رَجُلٌ بَايَعَ رَجُلًا) أي عقد البيع معه (بِسِلْعَةٍ) قال القرطبيّ رحمه الله تعالى: رويناه "سِلْعَةً" بغير باء، ورويناه بالباء، فعلى الباء بايع بمعنى ساوم، كما جاء في الرواية الأخرى:"ساوم"، مكان "بايع"، وتكون الباء بمعنى:"عن"، كما في قول الشاعر [من الطويل]:

فَإِنْ تَسْأَلُونِي بِالنِّسَاءِ فَإِنَّنِي

بَصِيرٌ بِأَدْوَاءِ النِّسَاءِ طَبِيبُ

أي عن النساء. وعلى إسقاطها يكون معنى "بايع" باع، فيتعدّى بنفسه، و"سلعة" مفعوله. انتهى.

وفي رواية جرير الآتية: "وَرَجُلٌ سَاوَمَ رَجُلًا بسلعة"، وهو مفاعلةٌ من السَّوْم، يقال: سام البائع السّلْعة سَوْمًا، من باب قال: إذا عَرضَها للبيع، والتساوم بين اثنين أن يعرض البائع السلعة بثمن، ويطلبها صاحبه بثمن دون ما طلبه، أفاده الفيّوميّ.

(بَعْدَ الْعَصْرِ) أي بعد صلاة العصر، وخصّ بعد العصر مبالغةً في الذمّ؛ لأنه وقتٌ يتوب فيه المقصّر تمام النهار، ويشتغل فيه الموفَّقُ بالذكر ونحوه، فالمعصية في مثله أقبح.

وقال النوويّ: وخصّ ما بعد العصر بالحلف؛ لشرفه بسبب اجتماع ملائكة الليل والنهار، وغير ذلك.

وقال الخطّابيّ: خصّ وقت العصر بتعظيم الإثم فيه، وإن كانت اليمين الفاجرة محرّمة في كلّ وقت؛ لأن الله عظّم شأن هذا الوقت، بأن جعل الملائكة تجتمع فيه، وهو وقت ختام الأعمال، والأمور بخواتيمها، فَغُلِّظت العقوبة فيه؛ لئلا يُقْدِم عليها تجرّؤًا، فإن مَن تجرّأ عليها فيه اعتادها في غيره.

وكان السلف رحمهم الله تعالى يُحَلّفُون بعد العصر، وجاء ذلك في الحديث أيضًا، كما قاله في "الفتح"

(1)

.

وقال القرطبيّ: وتخصيصه بما بعد العصر يدلّ على أن لهذا الوقت من الفضل والحرمة ما ليس لغيره من ساعات اليوم، ويظهر لي أن يقال: إنما كان ذلك؛ لأنه عقب الصلاة الوسطى، ولما كانت هذه الصلاة لها من الفضل،

(1)

"الفتح" 13/ 216.

ص: 290

وعظيم القدر أكثر مما لغيرها، فينبغي لمصلّيها أن يَظْهَر عليه عَقِبها من التحفّظ على دينه، والتحرّز على إيمانه أكثر مما ينبغي له عَقِبَ غيرها؛ لأن الصلاة حقّها أن تنهى عن الفحشاء والمنكر، كما قال الله تعالى:{إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} الآية [العنكبوت: 45]: أي تحمل على الامتناع عن ذلك مما يَحْدُث في قلب المصلّي بسببها من النور، والانشراح، والخوف من الله تعالى، والحياء منه، ولهذا أشار النبيّ صلى الله عليه وسلم بقوله:"من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر، لم يزدد من الله إلا بعدًا"

(1)

، وإذا كان هذا في الصلوات كلّها، كانت الوسطى بذلك أولى، وحقّها في ذلك أكثر، وأوفى، فمن اجترأ بعدها على اليمين الغموس التي يأكل بها مال الغير، كان إثمه أشدّ، وقلبه أفسد، والله تعالى أعلم.

(1)

قال الهيثميّ في "مجمع الزوائد" 2/ 258: رواه الطبرانيّ في "الكبير"، وفيه ليث بن أبي سُليم، وهو ثقة، ولكنه مدلّس، من حديث ابن عباس، ورواه أيضًا من حديث ابن مسعود، ورجاله رجال الصحيح.

قال الجامع عفا الله نعالى عنه: بل الحديث ضعيف مرفوعًا، وقوله: ليث بن أبي سليم ثقة، فيه نظر، بل هو متروك؛ لأنه اختلط أخيرا، ولم يتميّز حديثه، فترك، كما قاله الحافظ في "التقريب". أما أثر ابن مسعود رضي الله عنه فصحيح، موقوفًا عليه، لكن تكلّم العلماء فيه، قال الشيخ عزّ الدين بن عبد السلام رحمه الله تعالى: لا يصحّ حمله على ظاهره؛ لأن ظاهره معارض بما ثبت في الأحاديث الصحيحة من أن الصلاة مكفّرة للذنوب، فكيف تكون مكفّرة، ويزداد بها بعدًا؟ هذا مما لا يُعقل، ثم قال: وحمل الحديث على المبالغة والتهديد ممكن على اعتبار أنه موقوف على ابن عباس، أو غيره، وأما على أنه من كلامه صلى الله عليه وسلم فهو بعيد عندي - والله أعلم -. قال: ويشهد لذلك ما ثبت في البخاريّ: أن رجلًا أصاب من امرأة قبلة، فذكر ذلك للنبيّ صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى:{إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} . انتهى مختصرًا.

وقال شيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه الله تعالى: هذا الحديث ليس بثابت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ لكن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر كما ذكر الله في كتابه، وبكل حال فالصلاة لا تزيد صاحبها بعدًا، بل الذي يصلي خير من الذي لا يصلي، وأقرب إلى الله منه، وإن كان فاسقًا. انتهى. انظر: تفاصيل أقوالهم في "السلسلة الضعيفة" للشيخ الألبانيّ رحمه الله تعالى 1/ 14 - 17 رقم الحديث 2.

ص: 291

قال: وهذا الذي ظهر لي أولى مما قاله القاضي أبو الفضل، فإنه قال: إنما كان ذلك لاجتماع ملائكة الليل وملائكة النهار في ذلك الوقت؛ لوجهين:

[أحدهما]: أن هذا المعنى موجود في صلاة الفجر؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل، وملائكة بالنهار، ثم يجتمعون في صلاة العصر، وصلاة الفجر"، متفق عليه، وعلى هذا فتبطل خصوصيّة العصر؛ لمساواة الفجر لها في ذلك.

[وثانيهما]: أن حضور الملائكة، واجتماعهم إنما في حال فعل هاتين الصلاتين، لا بعدهما، كما قد نصّ عليه في الحديث، حين قال:"يجتمعون في صلاة الفجر، وصلاة العصر، وتقول الملائكة: أتيناهم، وهم يصلّون، وتركناهم، وهم يصلّون"، وهذا يدلّ دلالة واضحةً على أن هؤلاء الملائكة لا يشاهدون من أعمال العباد إلا الصلوات فقط، وبها يشهدون، فتدبّر ما ذكرته، فإنه الأنسب الأسلم. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله تعالى

(1)

، وهو تحقيقٌ مفيدٌ، والله تعالى أعلم.

(فَحَلَفَ لَهُ) أي للذي بايعه (بِاللهِ لَأَخَذَهَا) أي لقد أخذ السلعة، يعني: أنه اشتراها (بِكَذَا وَكَذَا) أي من الثمن، قال القرطبيّ رحمه الله تعالى: يعني: أنه كَذَبَ، فزاد في الثمن الذي اشترى به، فَكَذَبَ، واستخفّ باسم الله تعالى، حين حَلَفَ به على الكذب، وأَخَذَ مال غيره ظلمًا، فقد جمع بين كبائرَ، فاستحقّ هذا الوعيد الشديد. انتهى

(2)

.

وفي رواية البخاريّ من طريق أبي حمزة السُّكّريّ، عن الأعمش:"فَحَلَفَ لَهُ بِالله، لَقَدْ أُعْطِيَ بِهَا كَذَا وَكَذَا" بضمّ همزة "أُعطي"، وكسر الطاء، مبنيًّا للمفعول: أي أعطاه غيره ثمنًا معيّنًا، ويجوز أن يكون مبنيًّا للفاعل، والضمير للحالف: أي دفع هو ثمنًا معيّنًا، ورجّح في "الفتح" هذا الثاني، قال: ووقع في رواية عبد الواحد، عن الأعمش بلفظ:"لقد أَعْطَيتُ بها"، وفي رواية أبي معاوية:"فَحَلَفَ له بالله لأخذها بكذا"، وفي رواية عمرو بن دينار، عن أبي صالح:"لقد أَعْطَى بها أكثر مما أُعطي"، بفتح الهمزة والطاء، وفي بعضها

(1)

"المفهم" 1/ 307 - 308.

(2)

"المفهم" 1/ 307.

ص: 292

بضمّ أوله، وكسر الطاء، والأول أرجح، قاله في "الفتح"

(1)

.

(فَصَدَّقَهُ) أي صدّق المحلوف له الحالف، وقوله:(وَهُوَ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ) جملة في محلّ نصبٍ على الحال: أي والحال أن الواقع خلاف ما ذكره، بل كان شراؤه بثمن أقلّ مما حلف عليه، وإنما حلف على ذلك ليوقع صاحبه على شرائه بثمن أكثر.

وفي رواية البخاريّ: "فصدّقه، فأخذَهَا، ولم يُعطِ بها": أي لم يُعْطِ القدر الذي حَلَفَ أنه أَعْطَى عِوَضَها.

(وَرَجُلٌ بَايَعَ إِمَامًا، لَا يُبَايِعُهُ إِلَّا لِدُنْيَا) وفي رواية البخاريّ: "وَرَجُلٌ بَايَعَ إِمَامًا لِدُنْيَا"، وفي رواية:"إمامه"(فَإِنْ أَعْطَاهُ مِنْهَا) أي من أغراضه من تلك الدنيا التي بايع من أجلها (وَفَى) أي ما عليه من الطاعة، مع أن الوفاء واجب عليه مطلقًا، وفي رواية البخاريّ:"إِنْ أَعْطَاهُ مَا يُرِيدُ وَفَى لَهُ"(وَإِنْ لَمْ يُعْطِهِ مِنْهَا) وفي رواية البخاريّ: "وَإِنْ لَمْ يُعْطِهِ": أي ما يريده، فالمفعول الثاني محذوف للعلم به (لَمْ يَفِ)، وللبخاريّ:"لَمْ يَفِ لَهُ".

قال القرطبيّ رحمه الله تعالى: هكذا الرواية "وفَى" بتخفيف الفاء، و"يَفِ" محذوف الواو، والياء، مخفّفًا، وهو الصحيح هنا، رواية، ومعنًى؛ لأنه يقال: وَفَى بعهده يَفِي وَفَاءً، والوفاءُ بالعهد ممدودًا: ضِدُّ الغدر، ويقال:"أوفى" بمعنى وَفَى، وأما "وفّى" المشدّد الفاء، فهي بمعنى توفية الحقّ، وإعطائه، يقال: وَفّاه حقّه يوفّيه توفيّةً، ومنه قوله تعالى:{وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37)} [النجم: 37]: أي قام بما كلّفه من الأعمال، كخصال الفطرة، وغيرها، كما قال الله تعالى:{فَأَتَمَّهُنَّ} [البقرة: 124]، وحكى الجوهريّ: أوفاه. حقّه، قال: وعلى هذا، وعلى ما تقدّم فيكون "أوفى" بمعنى الوفاء بالعهد، وتوفية الحقّ، والأصل في "أوفى": أطلّ على الشيء، وأشرف عليه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

(1)

"الفتح" 13/ 214 - 215.

ص: 293

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا في "الإيمان"[48/ 304 و 305 و 306](108)، و (البخاريّ) في "المساقاة"(2358 و 2369)، و"الشهادات"(2672)، و"الأحكام"(7212)، و"التوحيد"(7446)، و (أبو داود) في "البيوع"(3474)، و (الترمذيّ) في "السير"(1595)، و (النسائيّ) في "البيوع"(4464)، وفي "الكبرى"(6054)، و (ابن ماجه) في "التجارات"(2207)، و"الجهاد"(2870)، و"الفتن"(4037)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 253)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(118 و 119 و 120 و 121 و 122)، و (أبو نُعيم) في "مستخرجه"(290 و 291 و 292)، و (ابن منده) في "الإيمان"(622 و 625 و 626)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 330) و (6/ 152) و (8/ 161 و 177 و 178)، وفي "الأسماء والصفات"(1/ 352 و 353)، و (البغويّ) في "شرح السنة"(1669 و 2516)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان كون هذه الأشياء تنافي كمال الإيمان، وهو وجه المطابقة في إيرادها في أبواب الإيمان؛ لأنها ضدّه؛ إذ من شُعَب الإيمان النصيحة للأئمة، ولعامة المسلمين، فمن فعل هذه الأشياء فقد ترك نصيحتهم، حيث ظلمهم.

2 -

(ومنها): بيان غِلَظ الوعيد الشديد لمن خَدَع مسلمًا في البيع بحلفه الكاذب.

3 -

(ومنها): أن فيه الوعيد الشديد لمن نكث بيعة إمام، وخَرَج عليه؛ وذلك لما فيه من تفريق الكلمة، وشقّ العصى، ونشر الفساد والظلم والفحشاء بين الأمة، وفي الوفاء بالعهد تحصين للفروج، والأموال، وحقن للدماء.

4 -

(ومنها): ما قاله القرطبيّ رحمه الله تعالى أيضًا: إنما استحقّ مَن بايع إمامًا للدنيا هذا الوعيد الشديد؛ لأنه لم يَقُم لله تعالى بما وجب عليه من البيعة الدينيّة، فإنها من العبادات التي تجب فيها النيّة، والإخلاص، فإذا فعلها

ص: 294

لغير الله تعالى من دنيا يَقْصِدها، أو غرض عاجل يقصده، بقيت عُهْدَتُها عليه؛ لأنه مُنَافقٌ مُراءٍ غاشٌّ للإمام والمسلمين، غير ناصح في شيء من ذلك، ومن كان هذا حاله كان مُثيرًا للفتن بين المسلمين، بحيث يَسْفِك دماءهم، ويستبيح أموالهم، ويَهْتِك بلادهم، ويسعى في إهلاكهم؛ لأنه إنما يكون مع مَن بلّغه إلى أغراضه، فيبايعه لذلك، وينصره، ويغضب له، ويقاتل مخالِفَهُ، فينشأ من ذلك تلك المفاسد، وقد تكون هذه المخالفة في بعض أغراضه، فينكُث بيعته، ويطلب هلكته، كما هو حال أهل أكثر هذه الأزمان، فإنهم قد عمّهم الغدر، والخذلان. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله تعالى

(1)

، وهو تحقيقٌ حسنٌ جدًّا.

5 -

(ومنها): بيان أن كلّ عمل لا يراد به وجه الله تعالى، بل الغرض الدنيويّ، فإنه وبالٌ على صاحبه، وخسران مبين.

6 -

(ومنها): الوعيد الشديد لمن منع فضل الماء المسافر المحتاج إلى الماء، قال النوويّ: لكن يُسْتَثْنَى من ذلك الحربيّ، والمرتدّ، إذا أصرّا على الكفر، فلا يجب بذل الماء لهما. انتهى.

7 -

(ومنها): أن هذا الماء الذي ورد الوعيد فيه في هذا الحديث هو الذي قد نَهَى النبيّ صلى الله عليه وسلم عن منعه بقوله: "لا يُمْنَعُ فضلُ الماء؛ ليُمْنَعَ به الكلأُ"، متّفقٌ عليه.

وقد أجمع المسلمون على تحريم ذلك؛ لأنه مَنْعُ ما لا حقّ له فيه من مستحقّه، وربّما أتلفه، أو أتلف ماله وبهائمه، فلو منعه هذا الماء حتى مات عطشًا قِيد منه، عند مالك؛ لأنه قتله، كما لو قتله بالجوع، أو بالسلاح، قاله القرطبيّ رحمه الله تعالى

(2)

.

8 -

(ومنها): أنه يستفاد من مجموع أحاديث الباب عشر خصال مذمومة، وهي:(1) الإسبال، و (2) المنّ بالعطاء، و (3) تنفيق السلعة بالحلف الكاذب، و (4) زنا الشيخ، و (5) كَذِبُ الملك، و (6) تكبّر الفقير، و (7) منع فضل الماء من ابن السبيل، و (8) مبايعة الإمام لأجل الدنيا، و (9) الحلف بعد العصر على أخذ سلعة بكذا، ولم يأخذها به، و (10) الحلف بعد العصر على مال مسلم

(1)

"المفهم" 1/ 308 - 309.

(2)

"المفهم" 1/ 306.

ص: 295

ليقتطعه

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[305]

(

) - (وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ (ح) وَحَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عَمْرٍو الْأَشْعَثِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْثَرُ، كِلَاهُمَا عَنِ الْأَعْمَش، بِهَذَا الْإِسْنَادِ مِثْلَهُ، غَيْرَ أَنَّ فِي حَدِيثِ جَرِيرٍ:"وَرَجُلٌ سَاوَمَ رَجُلًا بِسِلْعَةٍ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) بن شدّاد الْحَرَشيّ، أبو خيثمة النسائيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ حافظٌ، أكثر عنه المصنّف [10](ت 234)(خ م د س ق) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.

2 -

(جَرِير) بن عبد الحميد المذكور قبل باب.

3 -

(سَعِيدُ بْنُ عَمْرٍو الْأَشْعَثيُّ) هو: سعيد بن عمرو بن سهل الكنديّ الأشعثيّ، أبو عثمان الكوفيّ، ثقةٌ [10](ت 230)(م س) تقدم في "المقدمة" 4/ 19.

[تنبيه]: "الأشعثيّ" بالشين المعجمة، والعين المهملة، والثاء المثلّثة: منسوب إلى جدّه الأشعث بن قيس الكِنديّ، فإنه سعيد بن عمرو بن سهل بن إسحاق بن محمد بن الأشعث بن قيس الكنديّ، قاله النوويّ

(2)

.

4 -

(عَبْثَر) بفتح العين المهملة، وسكون الموحّدة، وفتح الثاء المثلّثة، هو: ابن القاسم الزُّبَيدي - بالضمّ - أبو زُبيد - بالضمّ أيضًا - الكوفيّ، ثقةٌ [8].

رَوَى عن حُصين بن عبد الرحمن، والعلاء بن المسيَّب، ومُطَرِّف بن طَرِيف، وسليمان التيميّ، وإسماعيل بن أبي خالد، والأجلح بن سِنَان، والأعمش، وأبي إسحاق الشَّيبانيّ، وبُرْد بن أبي زياد، والثوريّ، ويزيد بن أبي زياد، وجماعة.

ورَوَى عنه أحمد بن عبد الله بن يونس، وابنه أبو حُصَين عبد الله بن

(1)

راجع: "الفتح" 13/ 215 "كتاب الأحكام" رقم (7212) فقد ذكره مجملًا، وأنا فصّلته؛ تتميمًا للفائدة، والله تعالى وليّ التوفيق.

(2)

"شرح النوويّ" 2/ 115.

ص: 296

أحمد، وسعيد بن عمرو الأشعثيّ، وأبو نعيم، وعمرو بن عون، ويحيى بن آدم، ويحيى بن يحيى النيسابوريّ، وخَلَف بن هشام البزار، وأبو غسان النَّهْديّ، وقتيبة بن سعيد، وهنَّاد بن السَّريّ، ومحمد بن سليمان لُوَين، وغيرهم.

قال صالح بن أحمد، عن أبيه: صدوقٌ ثقةٌ، وقال ابن معين، والنسائيّ: ثقةٌ، وقال أبو داود: ثقةٌ ثقةٌ، وقال أبو حاتم: صدوقٌ، وقال يعقوب بن سفيان: كوفيٌّ ثقةٌ، وقال ابن سعد: كان ثقةً، كثيرَ الحديث، وذكره ابن حبان في "الثقات".

قيل: إنه مات سنة تسع وسبعين ومائة، وقال ابن سعد: تُوُفِّي سنة (178)، وقال البخاريّ في "تاريخه": يقال: توفي سنة (8).

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (14) حديثًا.

وقوله: (كِلَاهُمَا) أي جرير، وعبثر.

وقوله: (بِهَذَا الْإِسْنَادِ) أي بإسناد الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة رضي الله عنه.

وقوله: (مِثْلَهُ) أي مثل متن الحديث الماضي.

وقوله: (غَيْرَ أَنَّ فِي حَدِيثِ جَرِيرٍ: "وَرَجُلٌ سَاوَمَ رَجُلًا بِسِلْعَةٍ") يعني: أن لفظ رواية جرير بن عبد الحميد مخالَفة لرواية أبي معاوية، فإنه رواها بلفظ:"ورجلّ ساوم رجلًا بسلعةٍ"، بدل قوله:"ورجلٌ بايع رجلًا بسلعة"، وأما عبثرٌ، فقد رواها بلفظ أبي معاوية.

ثم إن معنى بايع، وساوم هنا واحدٌ.

قال ابن الأثير: "المساومة": المجاذبة بين البائع والمشتري على السلعة، وفصلُ ثمنها، يقال: سام يسوم سَوْمًا، وساوم، واستام. انتهى

(1)

.

وقال الفيّوميّ: سام البائع السِّلْعة سَوْمًا، من باب قال: عَرَضَها للبيع، وسامها المشتري، واستامها: طلب بيعها، قاله الفيّوميّ

(2)

.

[تنبيه]: رواية جرير التي أشار إليها المصنّف أخرجها الإمام البخاريّ رحمه الله تعالى في "صحيحه"، فقال:

(1)

"النهاية" 2/ 425.

(2)

"المصباح المنير" 1/ 297.

ص: 297

(2476)

حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا جرير بن عبد الحميد، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاثةٌ لا يكلمهم الله، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم: رجلٌ على فضل ماء بطريق، يمنع منه ابنَ السبيل، ورجلٌ بايع رجلًا لا يبايعه إلا للدنيا، فإن أعطاه ما يريد وَفَى له، وإلا لم يف له، ورجلٌ ساوم رجلًا بسلعة بعد العصر، فحلف بالله، لقد أَعْطَى بها كذا وكذا، فأخذها".

وأما رواية عبثر فلم أجد من أخرجها غير المصنّف، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتصل إلى الامام الحافظ الحجة مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[306]

(

) - (وَحَدَّثَنِي عَمْرٌو النَّاقِدُ، حَدَّثنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: أُرَاهُ مَرْفُوعًا، قَالَ: "ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ، وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِم، وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ: رَجُلٌ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ، بَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْر، عَلَى مَالِ مُسْلِمٍ، فَاقْتَطَعَهُ

"، وَبَاقِي حَدِيثِهِ نَحْوُ حَدِيثِ الْأَعْمَشِ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(عَمْرٌو النَّاقِدُ) هو: عمرو بن محمد بن بُكير الناقد، أبو عثمان البغداديّ، نزيل الرَّقَّة، ثقةٌ حافظٌ [101](ت 232) تقدم في "المقدمة" 4/ 23.

2 -

(سُفْيَانُ) بن عيينة بن أبي عمران ميمون الْهِلاليّ، أبو محمد الكوفيّ، ثم المكّيّ الثقة الحافظ الفقيه الإمام الحجة، من كبار [8](ت 198)، وله (91) سنة (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 383.

3 -

(عَمْرو) بن دينار الأثرم الْجُمحيّ مولاهم، أبو محمد المكيّ، ثقةٌ ثبتٌ [4](ت 126)(ع) تقدم في "الإيمان" 21/ 184.

والباقيان تقدّما قبله، والله تعالى أعلم.

وقوله: (قَالَ: أُرَاهُ مَرْفُوعًا) الظاهر أن القائل هو سفيان بن عيينة، قال الإمام البخاريّ بعد أن ساق الحديث من طريق عبد الله بن محمد المسنديّ،

ص: 298

عن سفيان، ما نصّه: قال عليّ - يعني: ابن المدينيّ -: حدّثنا سفيان غير مرّة، عن عمرو: أنه سمع أبا صالح، يبلُغ به النبيّ صلى الله عليه وسلم. انتهى.

قال في "الفتح": قوله: "قال عليّ: حدثنا سفيان غير مرة

إلخ"، يشير إلى أن سفيان كان يُرسل هذا الحديث كثيرًا، ولكنه صَحَّحَ الموصول؛ لكون الذي وصله من الحفاظ، وقد تابعه سعيد بن عبد الرحمن المخزوميّ، وعبد الرحمن بن يونس، ومحمد بن أبي الوزير، ومحمد بن يونس فوصلوه، قاله الإسماعيليّ، قال: وأرسله غيرهم.

قال الحافظ: وقد وصله أيضًا عمرو الناقد، أخرجه مسلم عنه - يعني: هذه الرواية - وصفوان بن صالح، أخرجه ابن حبّان من طريقه. انتهى

(1)

.

وقوله: (فَاقْتَطَعَهُ) أي يأخذه لنفسه متملِّكًا، وهو يَفْتَعِلُ من القطع، قاله ابن الأثير

(2)

، وفي "المصباح": اقتَطَعتُ من ماله قِطعَةً: أخذتها. انتهى

(3)

.

وقوله: (وَبَاقِي حَدِيثِهِ نَحْوُ حَدِيثِ الْأَعْمَشِ) يعني: أن بقيّة متن حديث عمرو بن دينار نحو حديث الأعمش، وفيه ما سيأتي.

[تنبيه]: رواية عمرو بن دينار هذه ساقها الحافظ أبو نُعيم رحمه الله تعالى في "مستخرجه"(1/ 177)، فقال:

(292)

حدثنا أبو محمد عبد الله بن جعفر، ثنا أحمد بن الحسن الصوفيّ، ثنا عمرو بن محمد الناقد، ثنا سفيان، عن عمرو بن دينار، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، أُراه رفعه، قال: "ثلاثةٌ لا يكلمهم الله، ولا ينظر إليهم، ولهم عذاب أليم: رجلٌ حَلَفَ على يمين بعد العصر على مال مسلم ليقطعه، ورجلٌ حَلَف لقد أُعطي بسلعته أكثرَ مما أُعطي، وهو كاذب، ورجل بيع فضل

(4)

ما عنده، قال الله تعالى: اليوم أمنعك فضلي، كما منعت فضل ما لم تعمل يداك".

(1)

"الفتح" 5/ 54 حديث رقم (2369).

(2)

"النهاية" 4/ 82.

(3)

"المصباح المنير" 2/ 508.

(4)

هكذا النسخة، والظاهر أنَّها تصحفت من:"ورجل منع فضل ماء عنده"، أو نحو ذلك، فليُحرَّر، والله تعالى أعلم.

ص: 299

وقال الإمام البخاريّ رحمه الله تعالى في "صحيحه":

(2196)

حدثنا عبد الله بن محمد، حدثنا سفيان، عن عمرو، عن أبي صالح السمان، عن أبي هريرة رضي الله عنه.

[تنبيه آخر]: قوله: "وباقي حديثه نحو حديث الأعمش"، ظاهره أن سياق حديث عمرو بن دينار مثل سياق حديث الأعمش، لكن بين سياقيهما تخالف، فقد ساق متن رواية عمرو بن دينار، عن أبي صالح، الإمام البخاريّ في "الشّرب" و"التوحيد" من طريق سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم: رجلٌ حَلَف على سلعة، لقد أَعطَى بها أكثر مما أَعطى، وهو كاذب، ورجلٌ حلف على يمين كاذبة بعد العصر؛ ليقتطع بها مال رجل مسلم، ورجل منع فضل ماء، فيقول الله: اليوم أمنعك فضلي، كما منعت فضل ما لم تعمل يداك".

قال الكرماني: ذَكَرَ عوض الرجل الثاني، وهو المبايع للإمام آخر - يعني في رواية البخاريّ - وهو الحالف ليقتطع مال المسلم، وليس ذلك باختلاف؛ لأن التخصيص بعدد، لا ينفي ما زاد عليه. انتهى.

وقال الحافظ: ويحتمل أن يكون كلٌّ من الراويين، حفظ ما لم يحفظ الآخر؛ لأن المجتمع من الحديثين أربع خصال، وكل من الحديثين مُصَدَّر بـ "ثلاثة"، فكأنه كان في الأصل أربعة، فاقتصر كلٌّ من الراويين على واحد، ضمَّه مع الاثنين اللذين توافقا عليهما، فصار في رواية كل منهما ثلاثة، ويؤيده ما سيأتي في التنبيه التالي.

[تنبيه آخر]: قال في "الفتح": أخرج مسلم هذا الحديث

(1)

من رواية الأعمش أيضًا، لكن عن شيخ له آخر، بسياق آخر - يعني الحديث الماضي قبل الحديثين - قال: فذكر من طريق أبي معاوية، ووكيع جميعًا، عن الأعمش، عن أبي حازم، عن أبي هريرة، كصدر حديث الباب - يعني حديث أبي صالح هذا -

(1)

يعني: حديث أبي هريرة من رواية عمرو بن دينار، عن أبي صالح، عنه، وهو آخر الحديث في هذا الباب عند مسلم.

ص: 300

لكن قال: "شيخ زانٍ، ومَلِكٌ كذاب، وعائل مستكبر"، والظاهر أن هذا حديث آخر، أخرجه من هذا الوجه، عن الأعمش، فقال: عن سليمان بن مُسْهِر، عن خَرَشَة بن الْحُرّ، عن أبي ذرّ رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة: المنان الذي لا يعطي شيئًا، إلا مَنَّهُ، والمنفِّق سلعته بالحلف الفاجر، والمسبل إزاره"

(1)

.

قال الحافظ رحمه الله تعالى: وليس هذا الاختلاف على الأعمش فيه، بقادح؛ لأنها ثلاثة أحاديث عنده، بثلاثة طُرُق، ويجتمع من مجموع هذه الأحاديث تسع خصال، ويحتمل أن تبلغ عشرًا؛ لأن المنفق سلعته بالحلف الكاذب، مغاير للذي حلف لقد أعطي بها كذا؛ لأن هذا خاص بمن يَكْذِب، في أخبار الشراء، والذي قبله أعمّ منه، فتكون خصلة أخرى. انتهى كلام الحافظ رحمه الله "تعالى

(2)

، وهو تحقيقٌ نفيس، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(49) - (بَابُ بَيَانِ غِلَظِ تَحْرِيمِ قَتْلِ الانْسَانِ نَفْسَهُ، وَأَنَّ مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِشَيْءٍ عُذِّبَ بِهِ فِي النَّارِ)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[307]

(109) - (حَدَّثنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ، قَالَا: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنِ الْأَعْمَش، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ، فَحَدِيدَتُهُ فِي يَدِه، يَتَوَجَّأُ بِهَا فِي بَطْنِه، فِي نَارِ جَهَنَّمَ، خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا، وَمَنْ شَرِبَ سَمًّا، فَقَتَلَ نَفْسَهُ، فَهُوَ يَتَحَسَّاهُ، فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا؛ أَبَدًا، وَمَنْ تَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ، فَقَتَلَ نَفْسَهُ، فَهُوَ يَتَرَدَّى فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا").

(1)

هو الحديث الماضي قبل أربعة أحاديث.

(2)

"الفتح" 13/ 215 "كتاب الأحكام" رقم (7212).

ص: 301

رجال هذا الإسناد: ستّةٌ، وكلهم تقدّموا في الباب الماضي، غير:

1 -

(أَبِي سَعِيدٍ الْأَشَجِّ) وهو: عبد الله بن سعيد بن حُصَين الْكِنديّ الكوفيّ، ثقةٌ، من صغار [10](ت 257)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 17.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد أن شيخه الأشجّ أحدُ المشايخ التسعة الذين يروي عنهم أصحاب الأصول بلا واسطة، وقد تقدّموا غير مرّة، وأنه مسلسل بالكوفيين إلى الأعمش، وبقيّة اللطائف مرّت قريبًا، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبيِ هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ)"من" شرطية، وجوابها: جملة قوله: "فحديدته

إلخ"، وقوله: (بِحَدِيدَةٍ) متعلّقٌ بـ "قتل"، ولفظ الحديدة أعمّ من السكّين، فيشمل آلات النجار، وآلات الحداد، وغيرهما (فَحَدِيدَتُهُ فِي يَدِهِ) مبتدأ وخبره (يَتَوَجَّأُ) بمثناة، ووا ومفتحتين، وتشديد الجيم، آخره همزة، بوزن يتكبّرُ، ويجوز تسهيله بقلب الهمزة ألفًا: أي يطعن، والجملة في محلّ نصب على الحال.

وقال القرطبيّ: معنى: "يتوجّأ": يَطعن، وهو مهموز من قولهم: وَجَأته بالسكّين أَجَأه: أي ضربته، وَوُجِئَ هو، فهو مَوجوءٌ، ومصدره وَجْئًا مقصورًا مهموزًا، فأما الوِجَاءُ بكسر الواو والمدّ فهو رَضُّ الأنثيين، وهو ضربٌ من الْخِصَاء. انتهى

(1)

.

وقال في "القاموس": وَجَأَهُ باليد، والسكّين كوَضَعَهُ: ضربه، كتَوَجَّأه. انتهى

(2)

. وفي "المصباح": وجَأْته، أوْجَؤُهُ، مهموزٌ، من باب نفع، وربّما حُذفت الواو في المضارع، فقيل: يَجَأُ، كما قيل: يَسَعُ، ويَطَأُ، ويَهَبُ، وذلك: إذا ضربته بسكين، ونحوه، في أيّ موضع كان. انتهى

(3)

.

وفي رواية البخاريّ": "يجأ" قال في "الفتح"؛ بفتح أوله، وتخفيف الجيم، وبالهمز: أي يطعن بها، وقد تُسهّل الهمزة، والأصل في "يجأ" يوجأ، قال التين: في رواية الشيخ أبي الحسن: "يُجأ" بضمّ أوله، ولا وجه له، وإنما يُبنى للمجهول بإثبات الواو، "يُوجَأُ" بوزن يُوجَدُ. انتهى.

(1)

"المفهم" 1/ 310.

(2)

"القاموس" ص 52.

(3)

المصباح في مادة "وجأ".

ص: 302

(بِهَا) أي بتلك الحديدة، وهو متلّق بـ "يتوجّأ"، وكذا قوله:(فِي بَطْنِهِ) وأما قوله: (فِي نَارِ جَهَنَّمَ) متعلّق بحال محذوف: أي حال كونه كائنًا في نار جهنّم، و"جهنّم" اسم لنار الآخرة - عافانا الله منها، ومن كلّ بلاء - قال يونس، وأكثر النحويين: هي عجميّة، لا تنصرف للعجمة والتعريف، وقال آخرون: هي عربيّة، لم تصرف للتأنيث والعلميّة، وسميت بذلك لبعد قعرها، يقال: بئر جَهنّم، وجِهِنَّام - بكسر الجيم والهاء -: أي بعيدة الْقَعْر، وقيل: مشتقّة من الْجُهُومة، وهي الغِلَظ، يقال: جَهْمُ الوجه: أي غليظه، فسميت جهنّم لغلظ أمرها. والله أعلم

(1)

.

وقوله: (خَالِدًا) منصوب على أنه حال مقدّرة من فاعل "يتوجّأ"، وهو اسم فاعل من خَلَدَ بالمكان خُلُودًا، من باب قَعَدَ: إذا أقام فيه، وأخلد بالألف مثله

(2)

، وقوله:(مُخَلَّدًا) بفتح اللام المشدَّدة: اسم مفعول من التخليد، حال مؤكّد لما قبله (فِيهَا) أي في نار جهنم، وهو متعلّق بـ "خالدًا"، أو بـ "مُخَلَّدًا" على سبيل التنازع، وكذا قوله:(أَبَدًا) ظاهره موافق لقوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا} الآية [النساء: 93]؛ لعموم المؤمن نفس القاتل أيضًا، لكن قال الإمام الترمذيّ رحمه الله تعالى: قد جاءت الرواية بلا ذكر "خالدًا مُخلّدًا أبدًا"، وهي أصحّ، لما ثبت من خروج أهل التوحيد من النار. انتهى.

وقال القرطبيّ رحمه الله تعالى: ظاهره التخليد الذي لا انقطاع له بوجه، وهو محمول على من كان مستحلّا لذلك، ومن كان متعمّدًا لذلك كان كافرًا، وأما من قتل نفسه، وهو غير مستحلّ، فليس بكافر، بل يجوز أن يعفو الله عنه، قال: ويجوز أن يراد بقوله: "خالدًا مخلّدًا فيها أبدًا" تطويل الآماد، ثم يكون خروجه من النار من آخر من يخرج من أهل التوحيد، وَيجري هذا مَجرى المثل، فتقول العرب: خلّد الله ملكك، وأبّد أيامك، ولا أُكلّمك أبد الآبدين، ولا دهر الداهرين، وهو ينوي أن يكلّمه بعد أزمان، وَيجري هذا مجرى الإغياء في الكلام. انتهى

(3)

.

وقال في "الفتح": وقد تمسّك بقوله: "خالدًا مخلّدًا فيها أبدًا" المعتزلة،

(1)

شرح مسلم للنوويّ بتصرّف 2/ 303 - 304 كتاب الإيمان.

(2)

"المصباح" 1/ 177.

(3)

المفهم 1/ 310 - 311 كتاب الإيمان، باب من قتل نفسه بشيء عُذّب به.

ص: 303

وغيرهم ممن قال بتخليد أصحاب المعاصي في النار، وأجاب أهل السنّة عن ذلك بأجوبة:

منها: توهيم هذه الزيادة، قال الترمذيّ بعد أن أخرجه: رواه محمد بن عجلان، عن سعيد المقبريّ، عن أبي هريرة رضي الله عنه فلم يذكر:"خالدًا مخلّدًا"، وكذا رواه أبو الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: وهو أصحّ؛ لأن الروايات صحّت أن أهل التوحيد يُعذّبون، ثم يُخرجون منها، ولا يُخلّدون.

وأجاب غيره بحمل ذلك على من استحلّه، فإنه يصير باستحلاله كافرًا، والكافر مخلّد بلا ريب، وقيل: ورد مورد الزجر والتغليظ، وحقيقته غير مرادة، وقيل: المعنى أن هذا جزاؤه، لكن قد تكرّم الله على الموحّدين، فأخرجهم من النار بتوحيدهم، وقيل: التقدير مخلّدًا فيها إلى أن يشاء الله. وقيل: المراد بالخلود طول المدة، لا حقيقة الدوام، كأنه يقول: يُخلّد مدة معيّنةً، وهذا أبعدها. انتهى

(1)

.

وقال الطيبيّ رحمه الله تعالى: والظاهر أن المراد من هؤلاء الذين فعلوا ذلك مستحلّين له، وإن أريد منه العموم، فالمراد من الخلود والتأبيد: المكث الطويل المشترك بين دوام الانقطاع له، واستمرارٍ مديدٍ ينقطع بعد حين بعيد؛ لاستعمالها في المعنيين، فيقال: وقف وقفًا مخلَّدًا مؤبّدًا، وأُدخل فلان حبس الأبد، والاشتراك والمجاز خلاف الأصل، فيجب جعلهما للقدر المشترك بينهما؛ للتوفيق بينه وبين ما ذكرنا من الدلائل.

[فإن قلت]: ما تصنع بالحديث الذي يأتي عن جندب بن عبد الله رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم:"بادرني عبدي بنفسه، فحرّمت عليه الجنّة"؟.

[قلت]: هو حكاية حال، فلا عموم فيها؛ إذ يحتمل أن الرجل كان كافرًا، أو ارتدّ؛ لشدّة الجراحة، أو قتل نفسه مستبيحًا، مع أن قوله:"فحرّمت عليه الجنّة"، ليس فيه ما يدلّ ظنًّا على الدوام والإقناط الكلّيّ فضلًا عن القطع. انتهى كلام الطيبيّ

(2)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن أحسن التأويل إذا لم يكن مستحلّا تأويل من قال: هذا جزاؤه إن جُوزي، لكن قد تكرّم الله على

(1)

فتح 3/ 593 - 594 كتاب الجنائز، باب ما جاء في قاتل النفس، رقم الحديث (1363).

(2)

"الكاشف" 8/ 2457.

ص: 304

الموحّدين، فأخرجهم من النار بتوحيدهم؛ وهو أقرب التأويلات؛ للجمع بين النصوص التي تقطع بدخول الموحّدين الجنة، وإن فعلوا ما فعلوا غير الشرك، كما قال الله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ} [النساء: 116] الآية، والله تعالى أعلم بالصواب.

(وَمَنْ شَرِبَ) وفي رواية للبخاريّ: "ومن تَحَسَّى سمًّا"، و"تَحَسَّى" بمهملتين بوزن تغدَّى: أي شَرِبَ بتمهّل، وتجرّعه، والتحسّي، والحسو واحد، غير أن فيه تكلّفًا، قاله الطيبيّ.

(سَمًّا) هو: بتثليث السين المهملة، والفتح أفصح، وتشديد الميم، قال في "المصباح": السِمّ: ما يَقتل، وبالفتح أكثر، وجمعه سُموم، مثل فَلْس، وفُلُوس، وسِمَام أيضًا، مثل سَهْم، وسِهَام، والضمّ لغة لأهل العالية، والكسر لغة لبني تميم، وسَمَمتُ الطعامَ سَمًّا، من باب قَتَلَ: جعلتُ فيه السمّ، و"السّمّ" ثَقْبُ الإِبْرَة، وفيه اللغات الثلاث، وجمعه سِمَام. انتهى.

وقال القرطبي: السمّ القاتل للحيوان يقال بضمّ السين، وفتحها، وأما السمّ الذي هو ثُقْبُ الإبرة، فبالضمّ لا غير. انتهى

(1)

.

وقال السنديّ: والسمّ دواء قاتل، يُطرح في طعام، أو ماء، فينبغي أن يُحمل "تحسّى" على معنى أدخل في باطنه، ليعمّ الأكل والشرب جميعًا. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: ما ذكره القرطبيّ من ضبط السمّ فيه نظر؛ لأنه يردّه ما سبق عن "المصباح"، فإنه ضبطه بالتثليث، ونحوه في "القاموس"، فإنه قال: السّمّ الثَّقْبُ، وهذا القاتل المعروف، ويثلّث فيهما، جمعه سُمُوم، وسِمَام. انتهى

(3)

.

فقد ثبت فيهما التثليث، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

(فَقَتَلَ نَفْسَهُ) فائدة ذكر هذه الجملة بعد ما قبلها بيان توقّف الجزاء المذكور عليها (فَهُوَ يَتَحَسَّاهُ) أي السمّ (فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا، وَمَنْ تَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ) أي أسقط نفسه منه؛ لما يدلّ عليه قوله: (فَقَتَلَ نَفْسَهُ) على أنه تعمّد ذلك، وَإلا فمجرّد قوله:"تردَّى" لا يدلّ على التعمّد، قاله في "الفتح"

(4)

.

(1)

"المفهم" 1/ 311.

(2)

شرح السنديّ 4/ 66.

(3)

"القاموس" ص 1013.

(4)

"فتح" 10/ 259.

ص: 305

وقال الطيبيّ: التردّي في الأصل: التعرّض للهلاك من الردى، وشاع في التدهور؛ لإفضائه إلى الهَلَكَة، والمراد به هنا أن يتهوّر الإنسان، فيرمي نفسه من جبل. انتهى

(1)

. (فَهُوَ يَتَرَدَّى فِي نَارِ جَهَنَّمَ) أي ينزل من جبال النار إلى أوديتها (خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا) قال الطيبيّ: وفي تعذيب الفسّاق بما هو من جنس أفعالهم حِكَمٌ لا تخفى على المتفكّرين من أولي الألباب. انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته: حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متفق عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا في "الإيمان"[49/ 307 و 308](109)، و (البخاريّ) في "الجنائز"(1365 و 5778)، و (أبو داود) في "الطبّ"(3872)، و (الترمذيّ) في "الطبّ"(2043)، و (ابن ماجه) في "الطبّ"(3465)، و (النسائيّ) في "الجنائز"(1965) وفي "الكبرى"(2092)، و (أبو داود الطيالسيّ) في "مسنده"(2416)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 254 و 478 و 488)، و (الدارمي) في "سننه"(2/ 192)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(123 و 124 و 125)، و (أبو نُعيم) في "مستخرجه"(293 و 294 و 295)، و (ابن منده) في "الإيمان"(627 و 628 و 629)، و (الطحاويّ) في "مشكل الآثار"(196 و 197)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(8/ 23 - 24 و 9/ 355)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان أن هذه الأشياء تنافي كمال الإيمان، وهو وجه المطابقة في إيراد هذا الحديث في "كتاب الإيمان".

2 -

(ومنها): تحريم قتل الإنسان نفسه، وأنه من كبائر الذنوب التي يستحقّ بها العذاب الأليم.

3 -

(ومنها): أن جزاء من قتل نفسه بشيء أن يعذّب بذلك الشيء.

(1)

"الكاشف عن حقائق السنن" 8/ 2457.

ص: 306

4 -

(ومنها): ما قاله التوربشتيّ: لَمّا كان الإنسان بصدد أن يحمله الضجر، والْحُمْق، والغضب على إتلاف نفسه، ويُسَوِّلُ له الشيطان أن الخطب فيه يسير، وهو أهون من قتل نفس أخرى حرم قتلها عليه، وإذا لم يكن لصنيعه مطالب من قِبَل الخلق، فإن الله يغفر له، أعلم النبيّ صلى الله عليه وسلم المكلّفين أنهم مسؤولون عن ذلك يوم القيامة، ومُعذَّبون به عذابًا شديدًا، فإن ذلك في التحريم، كقتل سائر النفوس المحرَّمة. انتهى

(1)

.

5 -

(ومنها): ما قاله الإمام ابن دقيق العيد رحمه الله تعالى: هذا من باب مجانسة العقوبات الأخرويّة للجنايات الدنيويّة، ويؤخذ منه أن جناية الإنسان على نفسه كجنايته على غيره في الإثم؛ لأن نفسه ليست ملكًا له مطلقًا، بل هي لله تعالى، فلا يتصرّف فيها إلا بما أذن له فيه.

قال القاضي عياض: وفيه حجة لمالك، ومن قال بقوله على أن القصاص من القاتل بما قَتَل به، مُحدّدًا كان أو غير محدّد، خلافًا لأبي حنيفة؛ اقتداءً بعقاب الله عز وجل لقاتل نفسه في الآخرة، ثم ذكر حديث اليهوديّ، وحديث العرنيين.

وتعقّبه ابن دقيق العيد، فقال: هذا الذي أخذه من هذا الحديث في هذه المسألة ضعيفٌ جدًّا؛ لأن أحكام الله تعالى لا تقاس بأفعاله، وليس كلُّ ما ذكر الله أنه يفعله في الآخرة يُشرع لعباده في الدنيا، كالتحريق بالنار، هالساع الحيّات والعقارب، وسَقْي الحميم المقطِّع للأمعاء.

وبالجملة، فما لناَ طريق إلى إثبات الأحكام إلا نصوص تدلّ عليها، أو قياس على المنصوص عند القياسيين، ومن شرط ذلك أن يكون الأصل المقيس عليه حكمًا، أما ما كان من فعل الله تعالى فلا، وهذا ظاهرٌ جدًّا، وليس ما نعتقده فعلًا لله تعالى في الدنيا أيضًا بالمباح لنا فيه، فإن لله تعالى أن يفعل ما يشاء بعباده، ولا حكم عليه، وليس لنا أن نفعل بهم إلا ما أذن لنا فيه، بواسطة، أو بغير واسطة. انتهى كلام ابن دقيق العيد

(2)

.

(1)

راجع: "الكاشف" 8/ 2457.

(2)

"إحكام الأحكام" 4/ 408 - 410 بنسخة الحاشية "العدّة".

ص: 307

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: استدلال القائلين بالمماثلة في القصاص بهذا الحديث، وإن ضعّفه ابن دقيق العيد، إلا أن لهم أدلّة أخرى، فقد استدلّوا بقوله تعالى:{وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} الآية [النحل: 126]، وقوله:{فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} الآية [البقرة: 194]، وقوله:{وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} الآية [الشورى: 40]، وحديث رَضّ النبيّ صلى الله عليه وسلم رأسَ اليهوديّ الذي رَضَّ رأس الجارية، وغيرِ ذلك من الأدلة، وسيأتي تمام البحث فيه في محلّه - إن شاء الله تعالى - والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[308]

(

) - (وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ (ح) وَحَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عَمْرٍو الْأَشْعَثِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْثَرُ (ح) وَحَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ حَبِيبٍ الْحَارِثيُّ، حَدَّثَنَا خَالِدٌ - يَعْنِي ابْنَ الْحَارِثِ - حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، كُلُّهُمْ بِهَذَا الْإِسْنَادِ مِثْلَهُ، وَفِي رِوَايَةِ شُعْبَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ قَالَ: سَمِعْتُ ذَكْوَانَ).

رجال هذا الإسناد: ثمانية، وكلهم تقدّموا في الباب الماضي، غير:

1 -

(يَحْيَى بْنِ حَبِيبٍ الْحَاثِيِّ) البصريّ، ثقةٌ [10](ت 248)(م 4) تقدم في "الإيمان" 14/ 165.

2 -

(خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ) بن عُبيد بن سُليم الْهُجَيميّ، أبو عثمان البصريّ، ثقةٌ ثبت [8](ت 186) تقدم في "الإيمان" 35/ 243.

وقوله: (جَرِيرٌ) هو ابن عبد الحميد.

وقوله: (عَبْثَرُ) بفتح العين المهملة، وسكون الموحّدة، وفتح الثاء المثلّثة، هو: ابن القاسم الزّبَيديّ.

وقوله: (يَعْني ابْنَ الْحَارِثِ) العناية من المصنّف، وقد تقدّم توجيهها غير مرّة.

وقوله: (كُلُّهُمْ) أي كلّ الثلاثة: جرير، وعَبْثَرُ، وشعبة.

وقوله: (بِهَذَا الْإِسْنَادِ) أي بالإسناد الماضي، وهو إسناد وكيع، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 308

وقال النوويّ رحمه الله تعالى: وقوله: "كلُّهم بهذا الإسناد مثله"، وفي رواية شعبة:"عن سليمان: قال: سمعت ذكوان": يعني بقوله: "هذا الإسناد" أن هؤلاء الجماعة المذكورين، وهم: جرير، وعَبْثَرُ، وشعبة، رووه عن الأعمش، كما رواه وكيع في الطريق الأولى، إلا أن شعبة زادها هنا فائدةً حسنةً، فقال:"عن سليمان" - وهو الأعمش - "قال: سمعت ذكوان" - وهو أبو صالح - فَصَرَّحَ بالسماع، وفي الروايات الباقية يقول:"عن"، والأعمش مُدَلّسٌ لا يُحْتَجُّ بعنعنته إلا إذا صَحَّ سماعه الذي عنعنه من جهة أخرى، فَبَيَّنَ مسلمٌ أن ذلك قد صَحَّ من رواية شعبة، والله تعالى أعلم. انتهى كلام النوويّ رحمه الله تعالى

(1)

.

وقوله: (مِثْلَهُ) أي مثل متن الحديث السابق.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: أما رواية جرير، وعبثر، فلم أجد من ساقهما، وأما رواية شعبة، فقد ساقها البخاريّ في "صحيحه"، فقال:

(5778)

حدثنا عبد الله بن عبد الوهاب، حدثنا خالد بن الحارث، حدثنا شعبة، عن سليمان، قال: سمعت ذكوان، يحدث عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"مَن تَرَدَّى من جبل فقتل نفسه، فهو في نار جهنم، يتردَّى فيه، خالدًا مُخَلَّدًا فيها أبدًا، ومَن تَحَسَّى سَمًّا فقتل نفسه، فسمّه في يده يتحسّاه في نار جهنم، خالدًا مُخَلَّدًا فيها أبدًا، ومن قَتَل نفسه بحديدة، فحديدته في يده يَجَأ بها في بطنه، في نار جهنم، خالدًا مُخَلَّدًا فيها أبدًا".

وقوله: (وَفِي رِوَايَةِ شُعْبَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ) هو الأعمش (قَالَ) أي سليمان الأعمش (سَمِعْتُ ذَكْوَانَ) أي أبا صالح، وغرض المصنّف رحمه الله تعالى بهذا بيان لطيفة إسناديّة مهمّة جدًّا، وهي أن الأعمش مشهور بالتدليس، وقد عنعن في الرواية السابقة مما يوقع في اتّهامه بالتدليس، فأزال ذلك برواية شعبة عنه المصرّحة بسماعه من أبي صالح، على أنه لو لم يُصرّح لكفانا رواية شعبة عنه، فإنه قد صرّح بأنه قال: كفيتكم شرّ تدليس ثلاثة: الأعمش، وأبي إسحاق، وقتادة، وقد ذكرت هذه القاعدة، وقاعدة رواية الليث بن سعد، عن أبي الزبير، عن جابر رضي الله عنه في "الجوهر النفيس"، فقلت:

(1)

"شرح النوويّ" 2/ 119 - 120.

ص: 309

وَكَيْفَ لَا وَقَدْ كَفَانَا عَلَنَا

مِنْ شَرِّ تَدْلِيسِ ثَلَاثَةٍ لَنَا

قَتَادَةٍ ثُمَّ السَّبِيعِي الأَعْمَشِ

فَاقْنَعْ بِمَا قَالَ وَلَا تُفَتِّشِ

فَهَذِهِ قَاعِدَةٌ جَيِّدَةُ

إِذَا أَتَتْ لَنَا مِنْهُمْ رِوَايَةُ

أَي مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةٍ مُعَنْعَنَهْ

مَحْمُولَةٌ عَلَى السَّمَاعِ آمِنَهْ

نَظِيرُهُ اللَّيْثُ عَنِ ابْنِ مُسْلِمِ

فَإِنَّهُ لَمْ يَرْوِ مِنْ ذَا الْعَالِمِ

لِغَيْرِ مَا سَمِعَهُ مِنْ جَابِرِ

وَاللهُ حَسْبِي دَائِمًا وَجَابِرِي

والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[309]

(110) - (حَدَّثنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ سَلَّامِ بْنِ أَبِي سَلَامٍ الدِّمَشْقِيُّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كثِيرٍ، أَنَّ أَبَا قِلَابَةَ أَخْبَرَهُ، أَنَّ ثَابِتَ بْنَ الضَّحَّاكِ أَخْبَرَهُ، أنهُ بَايَعَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم تَحْتَ الشَّجَرَة، وَأَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ، بِمِلَّةٍ غَيْرِ الْإِسْلَامِ كَاذِبًا، فَهُوَ كلمَا قَالَ، وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِشَيْءٍ عُذِّبَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَة، وَلَيْسَ عَلَى رَجُلٍ نَذْرٌ فِي شَيْءٍ لَا يَمْلِكُهُ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) بن بُكير بن عبد الرحمن التميميّ، أبو زكريّا النيسابوريّ، ثقةٌ ثبتٌ إمام [10](ت 226)(خ م ت س) تقدم في "المقدمة" 3/ 9.

2 -

(مُعَاوِيَةُ بْنُ سَلَّامِ بْنِ أَبِي سَلَّامٍ - بتشديد اللام - الدِّمَشْقِيُّ) الحبشيّ، ويقال: الأَلْهَانيّ، أبو سلّام الدمشقيّ، سكن حمصَ، ثقةٌ [7].

رَوَى عن أبيه، وجده، وأخيه زيد، ونافع مولى ابن عمر، والزهريّ، وغيرهم.

ورَوَى عنه الوليد بن مسلم، ومروان بن محمد، ومحمد بن المبارك، ومحمد بن شعيب بن شابور، وعثمان بن سعيد بن دينار، وعثمان بن عبد الرحمن الحرانيّ، وغيرهم.

قال أبو بكر الأثرم: سمعت أحمد بن حنبل، وذَكَر أصحاب يحيى بن أبي كثير، فقال: هشامٌ - يعني: الدستوائيّ - يَرْجع إلى كتاب، والأوزاعي

ص: 310

حافظ، وهَمّام ثقةٌ، وحرب بن شدّاد، ومعاوية بن سلّام ثقتان، وقال يوسف بن موسى الْعَطّار الحربيّ: سئل أبو عبد الله عن معاوية بن سلّام؟ فقال: معاوية بن سلّام، وحرب بن شدّاد، وعليّ بن المبارك، هؤلاء متقاربون في حديث يحيى - يعني: ابن أبي كثير -، وهشام - يعني: الدستوائيّ - فوق هؤلاء، وقال أبو زرعة الدّمَشقيّ: عَرَضتُ على أحمد حديثًا، قال: من يروي هذا؟ قلت: معاوية بن سلام، فقال: معاوية بن سلّام ثقة، وقال الدارميّ، عن ابن معين: ثقةٌ، وقال عبّاس بن الوليد الخلّال: قال لي يحيى بن معين: معاوية بن سلّام مُحَدِّث أهل الشام، وهو صدوق الحديث، ومن لم يكتب حديثه، مسنده ومنقطعه، فليس بصاحب حديث، وقال عثمان الدارمي، عن ابن معين: ثقة، وعن دُحَيم: جَيِّد الحديث، ثقة، كان بحمص، ثم انتقل إلى دمشق، وقال يعقوب بن شيبة: ثقة صدوق. وقال مروان بن محمد: قلت لمعاوية بن سلام تَعَجُّبًا به لصدقه: إنك لشيخ كَيِّس، وقال أبو زرعة الدمشقي: كان يحيى بن حَسّان ومروان يَرْفَعان مِنْ ذِكْرِه، وكان ثقة. وقال أبو حاتم: لا بأس بحديثه. وقال النسائي: ثقةٌ. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال العجليّ: دَفَع إليه يحيى بن أبي كثير كتابًا، ولم يقرأه، ولم يسمعه.

قال ابن عساكر بلغني أنه كان حَيًّا سنة أربع وستين ومائة، وذكر الذهبي أنه تُوُفِّي في حدود السبعين.

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (21) حديثًا.

3 -

(يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ) الطائيّ مولاهم، أبو نصر اليماميّ، ثقةٌ ثبتٌ، لكنه يدلّس، ويُرسل [5](ت 132)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 424.

4 -

(أَبُو قِلَابَةَ) عبد الله بن زيد بن عمرو، أو عامر الْجَرْميّ البصريّ، ثقةٌ فاضلٌ، كثير الإرسال [3](ت 104) أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 17/ 173.

5 -

(ثَابِتُ بْنُ الضَّحَّاكِ) بن خَلِيفة بن ثعلبة بن عديّ بن كعب بن عبد الأشهل، الأنصاريّ الأشهليّ الأوسيّ، أبو زيد المدنيّ، وهو ممن بايع تحت الشجرة، وكان رَدِيف رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الخندق، ودليله إلى حمراء الأسد، روى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، ورَوَى عنه عبد الله بن مَعْقِل بن مُقَرِّن الْمُزَنِيّ، وأبو قِلابة، عبد الله بن زيد الجرميّ.

ص: 311

قال عمرو بن عليّ: مات سنة (45)، وقال البخاريّ، والترمذيّ: شهد بدرًا، وحَكَى أبو حاتم أنّ ابن نُمَير قال: هو والد زيد بن ثابت، ورَدّه أبو حاتم، فقال: إن كان ابن نُمير قاله، فقد غَلِطَ، وذلك أن أبا قلابة يقول: حدثني ثابت بن الضحاك بن خَلِيفة، وأبو قلابة لم يدرك زيد بن ثابت، فكيف يدرك أباه؟.

قال الحافظ: ولعل ابن نُمير لم يُرِد ما فَهِموه عنه، وإنما أفاد أن له ابنًا يُسَمَّى زيدًا، لا أنه عَنَى والدَ زيد بن ثابت المشهور، ولذلك يُكنى أبا زيد، وذكر غير واحد، منهم ابنُ سعد وابنُ مَنْدَه، وهارون الْحَمَّال، فيما حكاه البغويّ، وأبو جعفر الطبريّ، وأبو أحمد الحاكم: أنه مات في فتنة ابن الزبير، زاد بعضهم في سنة (64).

قال الحافظ: وهذا عندي أشبه بالصواب من قول عمرو بن علي؛ لأن أبا قلابة صَحَّ سماعه منه، وأبو قلابة لم يَطلُب العلم إلا بعد سنة (69). انتهى.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هكذا ذكر في "تهذيب التهذيب"(1/ 265) وفيه إشكالٌ أيضًا؛ لأنه إذا ثبت أن أبا قلابة لم يطلب العلم إلا بعد سنة (69) يبعد أن يسمع ممن مات سنة (64)، إلا أن يكون الرقم المذكور دخله التصحيف، فليُحرّر، والله أعلم.

وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا الحديث، وكرّره هنا ثلاث مرّات، وحديث (1549):"نهى عن المزارعة"، وأعاده بعده، والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله تعالى، وفيه التحديث، والعنعنة، والإخبار.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، غير شيخه، فما أخرج له أبو داود، وابن ماجه.

3 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ: يحيى بن أبي كثير، عن أبي قلابة.

ص: 312

4 -

(ومنها): أن صحابيّه من خيار الصحابة، بايع تحت الشجرة، وشهد بدرًا إن صحّ، وهذا أول محلّ ذكره في هذا الكتاب، وليس له فيه إلا حديثان، كما أسلفت ذلك آنفًا، وهو من المقلّين من الرواية، فليس له في الكتب الستة إلا نحو أربعة أحاديث فقط، الحديثان المتقدّمان آنفًا، وحديث مبايعته تحت الشجرة عند الشيخين، وحديث: "نذر رجل على عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم أن ينحر إبلًا ببُوانة

" عند أبي داود فقط، راجع ترجمته في "تحفة الأشراف" 2/ 143 و 145، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ) اسمه صالح بن المتوكّل (أَنَّ أَبَا قِلَابَةَ) بكسر القاف (أَخْبَرَهُ) أي أخبر يحيى (أَنَّ ثَابِتَ بْنَ الضَّحَاكِ) رضي الله عنه (أَخْبَرَهُ) أي أبا قلابة (أنَّهُ بَايَعَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم) أي عاهده، وعاقده، قال في "النهاية" ما معناه: المبايعة عبارة عن المعاقدة والمعاهدة، كأنّ كلّ واحد منهما باع ما عنده من صاحبه، وأعطاه خالصة نفسه، وطاعته، ودَخِيلةَ أمره. انتهى

(1)

.

وقال القرطبيّ: البيعة مأخوذة من البيع، وذلك أن المبايعَ للإمام يلتزم أن يقيه بنفسه وماله، فكأنه قد بذل نفسه، وماله لله تعالى، وقد وعد الله تعالى على ذلك بالجنّة، فكأنه قد حصلت له المعاوضة، فصدَقَ على ذلك اسم البيع، والمبايعة، والشراء، كما قال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} إلى أن قال: {فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ} [التوبة: 111]. انتهى

(2)

.

وسيأتي تمام البحث في ذلك في محلّه - إن شاء الله تعالى -.

(تَحْتَ الشَّجَرَةِ)"أل" للعهد: أي الشجرة المعروفة التي ذكرها الله تعالى في كتابه الكريم، حيث قال:{لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} الآية [الفتح: 18].

وهي المبايعة المسمّاة ببيعة الرضوان، وكانت بالْحُديبية، هي موضع فيه ماء، قيل: بينها وبين مكة تسعة أميال، وذلك أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أقام مُنْصَرَفه من

(1)

"النهاية" 1/ 174.

(2)

"كتاب الإمارة" 4/ 44.

ص: 313

غزوة بني المصطلق في شوال، وخرج في ذي القعدة سنة ستّ من الهجرة مُعتمرًا، واستنفر الأعراب الذين حول المدينة، فأبطأ عنه أكثرهم، وخرج النبيّ صلى الله عليه وسلم بمن معه من المهاجرين والأنصار، ومن اتبعه من العرب، وجميعهم نحو ألف وأربعمائة، وقيل: ألف وخمسمائة، وساق معه الهديَ، فأحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ليعلم الناس أنه لم يَخرج لحرب، فلما بلغ خروجه قريشًا خرج جمعهم صادّين لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن المسجد الحرام، ودخولِ مكة، وإنه إن قاتلهم قاتلوه دون ذلك، وقَدَّموا خالد بن الوليد في خيل إلى كُرَاع الْغَمِيم، فورد الخبر بذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بعسفان، فسلك طريقًا يخرج به في ظهورهم، وخرج إلى الحديبية من أسفل مكة، فلما بلغ ذلك خيلَ قريش التي مع خالد، جَرَت إلى قريش تعلمهم بذلك، فلما وصل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحديبية، بَرَكَت ناقته صلى الله عليه وسلم، فقال الناس: خَلأت خَلأت، فقال النبيّ:"ما خلأت، وما هو لها بُخُلُق، ولكن حبسها حابس الفيل عن مكة، لا تدعوني قريش اليومَ إلى خُطَّة يسألوني فيها صلة رحم إلا أعطيتهم إياها". ثم نزل صلى الله عليه وسلم هناك، ثم جَرَت السُّفَراء بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين كفار قريش، وطال التراجع والتنازع إلى أن جاء سهيل بن عمرو العامريّ فقاضاه على أن ينصرف صلى الله عليه وسلم عامه ذلك، فإذا كان من قابلٍ أتى معتمرًا، ودخل هو وأصحابه مكة بغير سلاح حاشا السيوف في قُرُبها، فيقيم بها ثلاثًا، ويَخرج، وعلى أن يكون بينه وبينهم صُلْحٌ عشرة أعوام، يتداخل فيها الناس، ويأمن بعضهم بعضًا، مع شروط أخرى، فتمّ الصلح على ذلك، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الصلح قد بَعَثَ عثمان بن عفان إلى مكة رسولًا، فجاء خبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن أهل مكة قتلوه، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم حينئذ إلى المبايعة له على الحرب والقتال لأهل مكة، فبايعه أصحابه على الموت، أو على أن لا يفرّوا، وهي بيعة الرضوان تحت الشجرة التي أخبر الله تعالى أنه رَضِي عن المبايعين لرسول الله صلى الله عليه وسلم تحتها، وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم لا يدخلون النار، وضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيمينه على شماله لعثمان، فهو كمن شهدها، والقصّة طويلة

(1)

، وستأتي مطوّلة في محلّها من"كتاب الفضائل" - إن شاء الله تعالى -.

(1)

راجع: "صحيح البخاريّ"(2734)"كتاب الشروط"، و"تفسير القرطبيّ" 16/ 274 - 278.

ص: 314

(وَانَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم) بفتح "أنّ"؛ لكونها معطوفةً على قوله: "أنه بايع

إلخ"، فهو مفعول ثانٍ لـ "أخبر" (قَالَ: "مَنْ) شرطيّة، جوابها قوله:"فهو كما قال"(حَلَفَ) أي أقسم (عَلَى يَمِينِ) المراد باليمين هنا: المحلوف عليه، بدليل ذكره المحلوف به، وهو بـ "ملةَ غير الإسلام"، ويجوز أن يقال: إنّ "على" صلةٌ، وينتصب "يمين" على أنه مصدر مُلاقٍ في المعنى، لا في اللفظ، قاله القرطبيّ.

(بِمِلَّةٍ) - بكسر الميم، وتشديد اللام -: الدين والشريعة، وهي نكرة في سياق الشرط، فتعمّ جميع الْمِلَل، من أهل الكتاب، كاليهود، والنصرانيّة، ومن لَحِق بهم من المجوسيّة، والصابئة، وأهل الأوثان، والدَّهريّة، والمعطّلة، وعَبَدَة الشياطين، والملائكة، وغيرهم.

قال الصنعانيّ رحمه الله تعالى في "العدّة": لا يتبادر من قوله: "على يمينٍ بملّة" إلا أن الملّة محلوف بها، وأنه قال الحالف: وملّةِ اليهوديّة، وقوله:"كاذبًا" حال من فاعل "حَلَفَ"، وحَلَفَ يتضمّن عَظَّمَ، إذ الحلِفُ تعظيم للمحلوف به قطعًا، فقوله:"كاذبًا"، فكأنه قال: مَن حلف معظّمًا لملّة اليهوديّة، حال كونه كاذبًا في تعظيمه إياها بحلفه، إذ الحلف يتفرعّ عن تعظيم ما حُلِف به، فكَذِبه كان بتعظيمه ما أهانه الله تعالى، والحلف بالشيء يتضمّن الإخبار بتعظيمه، ولذا يقول صاحب الملك: وحياةِ الملك، فإن هذا حلف يتضمّن الإخبار باعتقاده، وتعظيم مَن حلف به، هذا مما لا ريب فيه. انتهى

(1)

.

(غَيْرِ الْإِسْلَامِ) بالجرّ صفة لـ "ملّةٍ": أي بملّة غيرِ دين الإسلام، أيَّ دِينٍ كان، كما ذُكر بيانه آنفًا.

(كَاذِبًا) زاد في الرواية الآتية من طريق الثوريّ، عن خالد الحذّاء:"مُتَعَمّدًا"، قال القاضي عياضٌ رحمه الله تعالى: قوله: "كاذبًا متعمّدًا" تفرّد بزيادتها - يعني: لفظة "متعمّدًا" - سفيان الثوريّ، وهي زيادة حسنة، يستفاد منها أن الحالف المتعمّد إن كان مُطمئنّ القلب بالإيمان، وهو كاذبٌ في تعظيم

(1)

"العدّة حاشية العمدة" 4/ 403 - 404.

ص: 315

ما لا يُعتقد تعظيمه لم يكفر، وإن قاله معتقدًا لليمين بتلك الملّة لكونها حقًّا كَفَرَ، وإن قالها لمجرّد التعظيم لها احتمل.

قال الحافظ رحمه الله تعالى: وينقدح بأن يقال: إن أراد تعظيمها باعتبار ما كانت قبل النسخ لم يكفر أيضًا

(1)

.

قال الجامع: توجيه الحافظ هذا بُعده مما لا يخفى على من تأمّله، والله تعالى أعلم.

قال: ودعوى عياض تفرد سفيان بهذه الزيادة إنما هو بالنسبة لرواية مسلم، وإلا فقد أخرجها البخاريّ من طريق يزيد بن زُريع، والنسائيّ من طريق ابن أبي عديّ، كلاهما عن خالد الحذّاء، فتنبّه

(2)

، والله تعالى أعلم.

(فَهُوَ كمَا قَالَ)"ما" مصدريّة، أو موصولة، والعائد محذوفٌ: أي فهو مثل قوله، أو فهو كالذي قاله.

ثم هو بظاهره يفيد أنه يصير كافرًا، لكن يَحتمل أن يكون المراد ضعفه في دينه، وخروجه عن الكمال فيه.

ويحتمل أن يكون المراد إن كان راضيًا بالدخول في تلك الملّة، فيكون كافرًا على ظاهره، خارجًا عن الإسلام.

وقال أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله تعالى: يحتمل أن يريد به النبيّ صلى الله عليه وسلم: من كان معتقدًا لتعظيم تلك الملّة المغايرة لملّة الإسلام، وحينئذ يكون كافرًا حقيقةً، فيبقى اللفظ على ظاهره، و"كاذبًا" منصوث على الحال: أي في حال تعظيم تلك الملّة التي حَلَف بها، فتكون هذه الحال من الأحوال اللازمة، كقوله تعالى:{وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا} [البقرة: 91]؛ لأن من عظّم ملّةَ غير الإسلام كان كاذبًا في تعظيمه دائمًا في كلّ حال، وكلّ وقتٍ، لا ينتقل عن ذلك، ولا يصلح أن يقال: إنه يعني بكونه كاذبًا في المحلوف عليه؛ لأنه يستوي في ذمّه كونه صادقًا، أو كاذبًا، إذا حلف بملّة غير الإسلام؛ لأنه إنما ذمّه الشرع من حيث إنه حَلَف بتلك الملّة الباطلة، معظّمًا لها، على نحو ما تُعظَّم به ملّة الإسلام الحقّ، فلا فرق بين أن يكون صادقًا، أو كاذبًا في المحلوف عليه، والله تعالى أعلم.

(1)

"فتح" 13/ 388.

(2)

راجع: "الفتح" 11/ 547.

ص: 316

وأما إن كان الحالف بذلك غير معتقد لذلك فهو آثمٌ، مرتكبٌ كبيرة، إذ قد نسبه في قوله لمن يعظّم تلك الملّة، ويعتقدها، فغلّظ عليه الوعيد، بأن صيّره كواحد منهم، مبالغةً في الردع، والزجر، كما قال تعالى:{وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة: 51]. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله تعالى

(1)

.

(وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِشَيْءٍ عُذِّبَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) وفي الرواية التالية: "ومن قتل نفسه بِشيء في الدنيا عُذّب به يوم القيامة"، وفي الرواية التي بعدها:"ومن قتل نفسه بشيء عَذّبه الله به في نار جهنّم"، وفي رواية للبخاريّ:"ومن قتل نفسه بشيء عُذب به في نار جهنّم".

وقوله: "بشيء" أعمّ من قوله في حديث أبي هريرة رضي الله عنه السابق: "بحديدة"، وقوله أيضًا:"ومن تحسّى سمًّا"، وقد سبق أن هذا من باب مجانسة العقوبات الأخرويّة للجنايات الدنيويّة، ويؤخذ منه أن جناية الإنسان على نفسه كجنايته على غيره في الإثم؛ لأن نفسه ليست ملكًا له مطلقًا، بل هي دته تعالى، فلا يتصرّف فيها إلا بما أذن له فيه.

(وَلَيْسَ عَلَى رَجُلٍ) ليس كونه رجلًا قيدًا في هذا، بل هو باعتبار الغالب، وإلا فالمرأة فيه مثله، ويدلّ على ذلك رواية البخارفي بلفظ:"وليس على ابن آدم نذر فيما لا يَملك"(نَذْرٌ) أي وفاء نذر، فهو على حذف مضاف، و"النذر" - بفتح، فسكون - مصدر نَذَرَ يَنْذِر، قال في "النهاية": يقال: نَذَرتُ أَنْذِر، وأنْذُرُ نَذْرًا - يعني: من بابي ضرب ونصر - إذا أوجبت على نفسك شيئًا تبرُّعًا، من عبادة، أو صَدَقَة، أو غير ذلك. انتهى

(2)

.

وقال في "القاموس": نذَر على نفسه يَنْذِر - بكسر الذال - ويَنذُرُ - بضمها - نَذْرًا ونُذُورًا: أوجبه، كانتذر، ونَذَرَ ماله، ونَذَرَ لله سبحانه كذا، أو النذر ما كان وعدًا على شرط، فعليّ إن شفى الله مريضي كذا نذرٌ، وعليّ أن أتصدّق بدينار ليس بنذر. انتهى

(3)

.

وقال ابن الملقّن: النذر لغةً الوعد بخير أو شرّ، وشرعًا وعدٌ بخير، دون

(1)

"المفهم" 1/ 312 "كتاب الإيمان".

(2)

"النهاية" 5/ 39.

(3)

"القاموس المحيط" ص 433 - 434.

ص: 317

شرّ، قاله الماورديّ، وقال الرافعيّ: هو التزام شيء، وعبارة غيرهما: أنه التزام قربة غيرِ لازمة بأصل الشرع، زاد بعضهم: مقصودة. انتهى

(1)

.

(فِي شَيءٍ) متعلّق بـ "نذْرٌ"، وقوله:(لَا يَمْلِكُهُ) جملة في محلّ جرّ صفة لـ "شيء"، يعني: أنه لا ينعقد النذر في غير الملك، قال القرطبيّ رحمه الله تعالى: هذا صحيح فيما إذا باشر ملك الغير، كما لو قال: لله عليّ عتقُ عبد فلان، أو هديُ بَدَنة فلان، ولم يُعلّق شيئًا من ذلك على ملكه له، فلا خلاف بين العلماء أنه لا يلزمه شيء من ذلك، غير أنه حُكي عن ابن أبي ليلى في العتق: أنه إذا كان مُوسرًا عتق عليه، ثم رجع عنه، وإنما اختلفوا فيما إذا علّق العتق، أو الهدي، أو الصدقة على الملك، مثل أن يقول: إن ملكت عبد فلان فهو حرّ، فلم يُلزمه الشافعيّ شيئًا من ذلك، عَمّ أو خَصَّ؛ تمسّكًا بهذا الحديث، وألزمه أبو حنيفة كل شيء من ذلك عَمّ أو خَصَّ؛ لأنه من باب العقود المأمور بالوفاء بها، وكأنه رأى أن ذلك الحديث لا يتناول المعلَّقَ على الملك، لأنه إنما يلزمه عند حصول الملك لا قبله، ووافق أبا حنيفة مالك فيما إذا خَصَّ؛ تمسّكًا بمثل ما تمسّك به أبو حنيفة، وخالفه إذا عَمّ؛ رفعًا للحرج الذي أدخله على نفسه، ولمالك قول آخر مثل قول الشافعيّ. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله تعالى

(2)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: ما ذهب إليه الشافعيّ رحمه الله تعالى في هذه المسألة هو الحقّ عندي؛ لظاهر حديث الباب، فتأمله بالإنصاف، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث ثابت بن الضّحّاك رضي الله تعالى عنه هذا متّفقٌ عليه

(3)

.

(1)

"الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" 9/ 309.

(2)

"المفهم" 1/ 313.

(3)

فقول ابن الملقّن في "شرح عمدة الأحكام" 9/ 293 تبعًا لعبد الحقّ: "إنه من أفراد مسلم" غير صحيح، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

ص: 318

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا في "الإيمان"[49/ 309 و 310 و 311](110)، و (البخاريّ) في "الجنائز"(1363)، و"المغازي"(4171 و 4843)، و"الأدب"(6047 و 6105)، و"الأيمان والنذور"(6652)، و (أبو داود) في "الأيمان والنذور"(3257)، و (الترمذيّ) في "النذور والأيمان"(1527 و 1543) و"الإيمان"(2636)، و (النسائيّ) في "الأيمان والنذور"(3797 و 3798 و 3840)، وفي "الكبرى"(4811 و 4712 و 4755)، و (ابن ماجه) في "الكفّارات"(2098)، و (الحميديّ) في "مسنده"(850)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 33 و 34)، و (الدارميّ) في "سننه" في "الديات"(2366)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(129 و 130 و 131 و 132)، و (أبو نُعيم) في "مستخرجه"(296 و 297 و 298)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(1328 و 1332)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(2524)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(8/ 43)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): جملة الخصال التي ذكرها المصنّف رحمه الله تعالى في حديث ثابت بن الضحّاك رضي الله عنه هذا ثلاثة أشياء:

1 -

"من حلف على يمين بملّة غير الإسلام كاذبًا".

2 -

"ومن قتل نفسه بشيء عذّب به يوم القيامة".

3 -

"وليس على رجل نذرٌ في شيء لا يملكه".

وزاد في الرواية التالية:

4 -

"ولعنُ المؤمن كقتله".

5 -

"ومن ادّعى دعوى كاذبة؛ ليتكثّر بها، لم يزده الله إلا قلّة".

6 -

"ومن حلف على يمين صبر فاجرة".

وقد جمعها البخاريّ رحمه الله تعالى في سياق واحد، إلا الأخيرين، فذكر بدل الخامس قذف المؤمن بكفر، ولم يذكر السادس، فقال في "كتاب الأدب" من"صحيحه":

(6047)

حدثنا محمد بن بشار، حدثنا عثمان بن عمر، حدثنا علي بن المبارك، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي قلابة، أن ثابت بن الضحاك، وكان من أصحاب الشجرة حدثه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "من حلف على ملة غير

ص: 319

الإسلام، فهو كما قال، وليس على ابن آدم نذر، فيما لا يملك، ومن قتل نفسه بشيء في الدنيا، عذّب به يوم القيامة، ومن لعن مؤمنًا، فهو كقتله، ومن قذف مؤمنًا بكفر، فهو كقتله".

قال الحافظ رحمه الله تعالى: مدار هذا الحديث في الكتب الستّة، وغيرها على أبي قلابة، عن ثابت بن الضحّاك، ورواه عن أبي قلابة خالد الحذّاء، ويحيى بن أبي كثير، وأيوب، فأخرجه البخاريّ في "الجنائز" من رواية يزيد بن زريع، عن خالد الحذّاء، فاقتصر على خصلتين: الأولى: "مَن حلف بملة غير الإسلام"، والثانية:"من قتل نفسه بحديدة"، وأخرجه مسلم من طريق الثوريّ، عن خالد الحذّاء، ومن طريق شعبة، عن أيوب كذلك، وأخرجه مسلم أيضًا من طريق هشام الدستوائيّ، عن يحيى، فذكر خصلة النذر، ولعن المؤمن كقتله، ومن قتل نفسه بشيء عذب به يوم القيامة، ولم يذكر الخصلتين الباقيتين، وزاد بدلهما:"ومن حلف على يمينِ صبرٍ فاجرة، ومن ادّعى دعوى كاذبة ليتكثّر بها لم يزده الله إلا قلّة"، فإذا ضُمّ بعض هذه الخصال إلى بعض اجتمع منها سبعة أشياء

(1)

. انتهى كلام الحافظ بتصرّف، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب.

(المسألة الرابعة): في فوائده

(2)

:

1 -

(منها): بيان تحريم هذه الأشياء المذكورة في الحديث، وأنها من الكبائر التي تنافي كمال الإيمان، وهو وجه المطابقة في إيرادها في أبواب الإيمان.

2 -

(ومنها): بيان الوعيد الشديد لمن حلف بملّةٍ سوى الإسلام، كاليهوديّة، والنصرانيّة، وغيرهما مطلقًا، وكذا تعليق الحلف بها، وسيأتي حكم الكفّارة فيها - إن شاء الله تعالى -.

3 -

(ومنها): تحريم قتل الإنسان نفسه، وإثمه بذلك.

(1)

وقع في نسخة "الفتح": "تسعة"، والظاهر أنه مصحّف من"سبعة"، فتأمله.

(2)

المراد: الفوائد التي اشتمل عليها حديث الضحاك بن ثابت رضي الله عنه، لا خصوص سياق المصنّف هنا، بل ما يأتي له، وما أوردته في الشرح أيضًا، فتفطّن.

ص: 320

4 -

(ومنها): بيان مجانسة الجزاء الأخرويّ للجناية الدنيويّة، وأن جناية الإنسان على نفسه كجنايته على غيره في الإثم؛ لأن نفسه ليست ملكًا له يتصرّف فيها كيف شاء، بل هي لله تعالى، لا يجوز أن تُعَامَل إلا بما شرع الله تعالى أن تُعَامَل به، فلا يجوز إلحاق الضرر بها، من التجويع، والتعطيش، وغير ذلك من إلحاق الأذى.

ومن هنا يتبيّن غلط كثير من المتعبّدين الذين يُلزمون أنفسهم التقشّف، والزهد الخارج عن هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيصعد أحدهم على رأس شجرة تحتها بحر عميق، فيذكر الله تعالى طول ليله، ويرى ذلك أعونَ له على مجاهدة نفسه، وطرد النوم عنها؛ لأنها لاستشعارها أنها إذا غفلت سقطت في ذلك البحر، فغرقت فيه، تطرد عنها النوم خوفًا من ذلك، وهذا هو عين الغلوّ الذي ورد النهي عنه.

فقد أخرج الشيخان من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل المسجد، فرأى حَبْلًا ممدودًا بين ساريتين، فقال:"ما هذا الحبل؟ "، فقالوا: لزينب، تصلي، فإذا فَتَرَت تعلقت به، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"حُلّوه، ليصلِّ أحدكم نشاطه، فإذا فَتَر فليقعد".

والحاصل أن إلحاق الضرر بالنفس جهل عظيم، دخل على جهلة العبّاد، فأدخل عليهم فسادًا عريضًا، ومن أغرب ما يُرى وُشممع أن مثل هذا يُكتب في كتب الرقائق، كأنه من المناقب التي يُفتخر بها، وُيتعزز بها؛ لكونها مجاهدةً للنفس التي أمر الشرع بها، مع أنها من المثالب التي هي من عمل الشيطان، دعا إليها هؤلاء الجهلة، فأطاعوه، واتّبعوه، فلا حول ولا قوّة إلا بالله العزيز الحكيم.

5 -

(ومنها): منع النذر فيما لا يملك الإنسان، وهل يجب عليه فيه كفّارة يمين؟ فقال الجمهور: لا، وأوجبها عليه أحمد، وسيأتي تحقيق ذلك في موضعه - إن شاء الله تعالى -.

6 -

(ومنها): تحريم لعنِ المؤمن، وأن إثمه كإثم قتله.

7 -

(ومنها): تحريم دعوى ما ليس له من حقوق الناس، فمن فعل ذلك؛ ليكثر بذلك ماله عاقبه الله تعالى بنقيض قصده، فيُتلف الله ماله، ويقلّله.

ص: 321

8 -

(ومنها): تحريم الحَلِف على يمين صبرٍ فاجرة، وهي التي فيها الإلزام عند الحاكم، كما سيأتي بيانها قريبًا، فمن فعل ذلك لقي الله تعالى، وهو عليه غضبان، كما في حديث آخر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب.

(المسألة الخامسة): في البحث المتعلّق بقوله صلى الله عليه وسلم: "مَن حَلَف على يمين

إلخ":

قال الإمام ابن دقيق العيد رحمه الله تعالى: الحلف بالشيء حقيقةً هو القسم به، وإدخال بعض حروف القسم عليه، كقوله: والله، والرحمن، وقد يُطلق على التعليق بالشيء يمين، كقول الفقهاء: مَن حلف بالطلاق على كذا، فالمراد تعليق الطلاق، وهذا مجازٌ، وكأن سببه مشابهة هذا التعليق باليمين في اقتضاء الحثّ والمنع.

إذا ثَبَتَ هذا، فنقول: قوله صلى الله عليه وسلم: "من حَلَفَ على يمين بملّة غيرِ الإسلام" يَحْتَمِل أن يُراد به المعنى الأول، ويَحتمل أن يُراد به المعنى الثاني، والأقرب أن المراد الثاني؛ لأجل قوله:"كاذبًا متعمّدًا"، والكذب يدخل القضيّة الإخباريّة التي يقع مقتضاها تارةً، ولا يقع أخرى، وأما قولنا: والله، وما أشبهه، فليس الإخبار بها عن أمر خارجيّ، بل هي لإنشاء القسَم، فتكون صورة الحلف هنا على وجهين:

[أحدهما]: أن يتعلّق بالمستقبل، كقوله: إن فعل كذا، فهو يهوديّ، أو نصراني.

[والثاني]: يتعلّق بالماضي، مثل أن يقول: إن كان فعل كذا فهو يهوديّ، أو نصرانيّ. فأما الأول - وهو ما يتعلّق بالمستقبل - فلا تتعلّق به الكفّارة عند المالكيّة، والشافعيّة، وأما عند الحنفيّة ففيها الكفّارة، وقد يتعلّق الأولون بهذا الحديث؛ لكونه لم يَذكُر فيه كفّارةً، بل جعل المرتّب على كذبه قوله:"فهو كما قال".

وأما إن تعلّق بالماضي، فقد اختلف الحنفيّة فيه، فقيل: إنه لا يُكفّر اعتبارًا بالمستقبل، وقيل: يُكفّر؛ لأنه تنجيز معنى، فصار كما إذا قال: هو يهوديّ، وقال بعضهم: والصحيح أنه لا يُكَفّر فيهما، إن كان يعلم أنه يمين،

ص: 322

وإن كان عنده أنه يكفر بالحلف يكفر فيهما؛ لأنه رضي بالكفر، حيث أقدم على الفعل. انتهى كلام ابن دقيق العيد

(1)

.

قال في "الفتح": وقال بعض الشافعيّة: ظاهر الحديث أنه يُحْكَم عليه بالكفر، إذا كان كاذبًا، والتحقيق التفصيل، فإن اعتقد تعظيم ما ذُكر كفَرَ، وإن قَصَدَ حقيقة التعليق، فيُنظر، فإن كان أراد أن يكون متّصفًا بذلك كفَرَ؛ لأن إرادة الكفر كفرٌ، وإن أراد البعد عن ذلك لم يَكْفُر، لكن هل يَحْرُم عليه ذلك، أو يُكْرَه تنزيهًا؟ الثاني هو المشهور.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن التحريم هو الحقّ؛ لظاهر النصّ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة السادسة): في اختلاف أهل العلم في حكم الكفّارة لمن حلف بملّة غير الإسلام، أو نحو ذلك:

قال الإمام ابن المنذر رحمه الله تعالى: اختُلف فيمن قال: أكفر بالله، ونحو ذلك، إن فعلت، ثم فعل، فقال ابن عبّاس، وأبو هريرة، وعطاء، وقتادة، وجمهور فقهاء الأمصار: لا كفّارة عليه، ولا يكون كافرًا، إلا إن أضمر ذلك بقلبه.

وقال الأوزاعيّ، والثوريّ، والحنفيّة، وأحمد، وإسحاق: هو يمين، وعليه الكفّارة. قال ابن المنذر: والأول أصحّ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "من حلف باللات والعزّى، فليقل: لا إله إلا الله"، ولم يذكر كفّارة.

زاد غيره: ولذا قال: "من حلف بملّة غير الإسلام، فهو كما قال"، فأراد التغليظ في ذلك حتى لا يجترئ أحدٌ عليه، ذكره في "الفتح"

(2)

.

وقال ابن قُدامة رحمه الله تعالى - بعد ذكر الروايتين عن أحمد -: والرواية الثانية - يعني: القول بعدم الكفّارة - أصحّ - إن شاء الله تعالى -؛ فإن الوجوب من الشارع، ولم يَرِد في هذه اليمين نصٌّ، ولا هي في قياس المنصوص؛ فإن الكفّارة إنما وجبت في الحلف باسم الله تعالى؛ تعظيمًا

(1)

"إحكام الأحكام" 4/ 404 - 408 بنسخة الحاشية "العدّة".

(2)

"فتح" 13/ 387.

ص: 323

لاسمه، وإظهارًا لشرفه وعظمته، ولا تتحقّق التسوية. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي قاله ابن قدامة، وقبله ابن المنذر، من تصحيح القول بعدم وجوب الكفّارة على من حلف بملّة سوى الإسلام، أو هو يهوديّ، أو نصرانيّ، أو نحو ذلك، ثم حنث، هو الأرجح عندي؛ لوضوح حجّته، وإنما الواجب عليه التوبة، والاستغفار، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[310]

(

) - (حَدَّثَنى أَبُو غَسَّانَ الْمِسْمَعِيُّ، حَدَّثنَا مُعَاذٌ - وَهُوَ ابْنُ هِشَامٍ - قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو قِلَابَةَ، عَنْ ثَابِتِ بْنِ الضَّحَّاك، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَيْسَ عَلَى رَجُلٍ نَذْرٌ فِيمَا لَا يَمْلِكُ، وَلَعْنُ الْمُؤْمِنِ كَقَتْلِه، وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِشَيْءٍ فِي الدُّنْيَا، عُذِّبَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَة، وَمَنِ ادَّعَى دَعْوَى كَاذِبَةً؛ لِيَتكَثَّرَ بِهَا، لَمْ يَزِدْهُ اللهُ إِلَّا قِلَّةً، وَمَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ صَبْرٍ فَاجِرَةٍ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(أَبُو غسَّانَ الْمِسْمَعِيُّ) - بكسر الميم، وسكون السين المهملة، وفتح الميم - هو: مالك بن عبد الواحد البصريّ، ثقةٌ [10](ت 230)(م د) تقدم في "الإيمان" 8/ 137.

2 -

(مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ) الدَّستوائيّ البصريّ، سكن اليمن، صدوقٌ ربّما وَهِمَ [9](ت هـ 20)(ع) تقدم في "الإيمان" 12/ 156.

3 -

(أَبُوهُ) هشام بن أبي عبد الله، واسمه سَنْبَر بوزن جَعْفَر، أبو بكر البصريّ الدستوائيّ، ثقةٌ ثبت، وقد رمي بالقدر، من كبار [7](ت 154)(ع) تقدم في "الإيمان" 12/ 156.

والباقون تقدّموا في السند الماضي، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ ثَابِتِ بْنِ الضَّحَّاكِ) رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (قَالَ: "لَيْسَ عَلَى رَجُلٍ نَذْرٌ)

(1)

"المغني" 13/ 464 - 465.

ص: 324

أي وفاء نذر (فِيمَا لَا يَمْلِكُ) هذه الجملة تقدّم شرحها في الحديث الماضي.

(وَلَعْنُ الْمُؤْمِنِ كَقَتْلِهِ)"اللعنُ": الإبعاد عن الرحمة، وقطعه عنها، والقتل: هو الموت والقطع عن التصرّفات.

قال القرطبيّ رحمه الله تعالى: معناه أنه مثله في الإثم، ووجهه أن من قال لمؤمن: لعنه الله، فقد تضمّن قوله ذلك إبعاده عن رحمة الله تعالى التي رَحِمَ بها المسلمين، وإخراجه من جملتهم في أحكام الدنيا والآخرة، ومن كان كذلك فقد صار بمنزلة المفقود من المسلمين بعد أن كان موجودًا فيهم؛ إذ لم يَنتفع بما انتفع به المسلمون، ولا انتفعوا به، فأشبه ذلك قتله، وعلى هذا، فيكون إثم اللاعن كإثم القاتل، غير أن القاتل أدخل في الإثم؛ لأنه أفقد المقتول حسًّا ومعنًى، واللاعن أفقده معنًى، فإثمه أخفّ منه، لكنهما اشتركا في مُطلق الإثم، فصَدَق عليه أنه مثله. انتهى كلام القرطبيّ

(1)

.

وقال الإمام ابن دقيق العيد رحمه الله تعالى: قوله: "ولعنُ المؤمن كقتله" فيه سؤال، وهو أن يقال: إما أن يكون كقتله في أحكام الدنيا، أو في أحكام الآخرة، لا يمكن المراد أحكام الدنيا؛ لأن قتله يوجب القصاص، ولعنه لا يوجب ذلك.

وأما الثاني: فإما أن يراد بها التساوي في الإثم، أو في العقاب، وكلاهما مشكل الآن، والإثم يتفاوت بتفاوت مفسدة الفعل، وليس إذهاب الروح في المفسدة كمفسدة الأذى باللعنة، وكذلك العقاب يتفاوت بحسب تفاوت الجرائم، قال تعالى:{فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)} [الزلزلة: 7 - 8]، وذلك دليل على التفاوت في العقاب والثواب بحسب التفاوت في المصالح والمفاسد، فإن الخيرات مصالح، والمفاسد شُرور.

قال القاضي عياض: قال الإمام - يعني المازريّ -: الظاهر من الحديث تشبيهه في الإثم، وهو تشبيه واقعٌ؛ لأن اللعنة قطع عن الرحمة، والموت قطع عن التصرّف.

(1)

"المفهم" 1/ 314 - 315.

ص: 325

قال القاضي: وقيل: لعنته تقتضي قصده بإخراجه من جماعة المسلمين، ومنعهم منافعه، وتكثيرَ عددهم به كما لو قتله.

وقيل: لعنته تقتضي قطع منافعه الأخرويّة عنه، وبُعْدَهُ منها بإجابة لعنته، فهو كمن قُتل في الدنيا، وقُطعت عنه منافعه فيها.

وقيل: الظاهر من الحديث تشبيهه في الإثم، وكذلك ما حكاه من أن معناه استواؤهما في التحريم.

قال ابن دقيق العيد: وأقول: هذا يحتاج إلى تلخيص ونظر، أما ما حكاه عن الإمام

(1)

: من أن معناه استواؤهما في التحريم، فهذا يحتمل أمرين:

أحدهما: أن يقع التشبيه والاستواء في أصل التحريم والإثم.

والثاني: أن يقع في مقدار الإثم.

فأما الأول: فلا ينبغي أن يُحمَل عليه؛ لأن كلّ معصية قَلَّت أو عظمت فهي مشابهةٌ، أو مستوية مع القتل في أصل التحريم، فلا يبقى في الحديث كبير فائدة، مع أن المفهوم منه تعظيم أمر اللعنة بتشبيهها بالقتل.

وأما الثاني: فقد بيّنّا ما فيه من الإشكال، وهو التفاوت في المفسدتين بين إزهاق الروح وإتلافها، وبين الأذى باللعنة.

وأما ما حكاه عن الإمام من قوله: إن اللعنة قطع عن الرحمة، والموت قطع عن التصرّف، فالكلام عليه أن نقول: اللعنة تُطلق على نفس الإبعاد الذي هو فعل الله تعالى، وهذا الذي يقع فيه التشبيه، والثاني: أن تطلق اللعنة على فعل اللاعن، وهو طلبه لذلك الإبعاد بقوله: لعنه الله مثلًا، أو بوصفه للشخص بذلك الإبعاد بقوله: فلانٌ ملعون، وهذا ليس بقطع عن الرحمة بنفسه ما لم تتصل به الإجابة، فيكون حينئذ تسبّبًا إلى قطع التصرّف، ويكون نظيره التسبّب إلى القتل، غير أنهما يفترقان في أن التسبّب إلى القتل بمباشرة الْحَزِّ وغيره من مقدّمات القتل مُفْضٍ إلى القتل بمطّرد العادة، فلو كان مباشرة اللعن مفضيًا إلى الإبعاد الذي هو اللعن دائمًا لاستوى اللعن مع مباشرة مقدّمات القتل، أو زاد عليه.

(1)

يعني به: المازريّ.

ص: 326

وبهذا يتبيّن لك الإيراد على ما حكاه القاضي من أن لعنته له تقتضي قصده إخراجه عن جماعة المسلمين كما لو قتله، فإن قصده إخراجه لا يستلزم إخراجه، كما تستلزم مقدّمات القتل، وكذلك أيضًا من حكاه من أن لعنته تقتضي قطع منافعه الأخرويّة عنه بإجابة دعوته إنما يحصل ذلك بإجابة الدعوة، وقد لا تجاب في كثير من الأوقات، فلا يحصل انقطاعه عن منافعه كما يحصل بقتله، ولا يستوي القصد إلى القطع بطلب الإجابة مع مباشرة مقدّمات القتل المفضية إليه في مطّرد العادة.

ويحتمل ما حكاه القاضي عن الإمام وغيره، أو بعضه، أن لا يكون تشبيهًا في حكم دنيويّ، ولا أُخرويّ، بل يكون تشبيهًا لأمر وجوديّ! بأمر وجوديّ كالقطع، والقطع مثلًا في بعض ما حكاه: أي قطعه عن الرحمة، أو عن المسلمين بقطع حياته، وفيه بَعْدَ ذلك نظر.

والذي يُمكن أن يقرَّر به ظاهر الحديث في استوائهما في الإثم أنا نقول: لا نُسلّم أن مفسدة اللعن مجرّد أذاه، بل فيها مع ذلك تعريضه لإجابة الدعاء فيه، بموافقة ساعةٍ، لا يسأل الله فيها شيئًا إلا أعطاه، كما دل عليه الحديث من قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تدعوا على أنفسكم، ولا تدعوا على أموالكم، ولا تدعوا على أولادكم، لا توافقوا ساعة

" الحديث، وإذا عرّضه باللعنة لذلك، ووقعت الإجابة، وإبعاده من رحمة الله تعالى، كان ذلك أعظم من قتله؛ لأن القتل تفويت الحياة الفانية قطعًا، والإبعاد من رحمة الله تعالى أعظم ضررًا بما لا يُحصى، وقد يكون أعظم الضررين على سبيل الاحتمال مساويًا، أو مقاربًا لأخفّهما على سبيل التحقيق، ومقادير المفاسد والمصالح، وأعدادهما أمر لا سبيل للبشر إلى الاطّلاع على حقائقه. انتهى كلام ابن دقيق العيد رحمه الله تعالى

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الاستشكال الذي أوردوه في هذا الحديث مما يُستغرب مثله، فإذا قال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"لعنُ المؤمن كقتله"، فهل ينبغي أن يُستشكل، ويُتساءل فيه، فيقال: كيف يتساويان؟ هيهات هيهات، فإن مقادير

(1)

"إحكام الأحكام" 4/ 412 - 416 بنسخة الحاشية "العدّة".

ص: 327

الطاعات، والذنوب، والثواب والعقاب، لا تُعرف إلا من الشارع، كما أشار إليه ابن دقيق العيد نفسه في تقريره السابق، بل قد أجاد آخر كلامه، فإذا أخبرنا الشارع بشيء من ذلك، فما لنا إلا التسليم.

وقد جاءت نصوص في تعظيم لعن المؤمن غير هذا، فقد أخرج مسلم في "صحيحه" من حديث عمران بن حصين رضي الله عنهما، قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره، وامرأة من الأنصار على ناقة، فَضَجِرَت، فلعنتها، فسمع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:"خذوا ما عليها، ودعوها فإنها ملعونة"، قال عمران: فكأني أراها الآن تمشي في الناس ما يَعْرِض لها أحدٌ.

فإذا كان هذا في حيوان بهيميّ لَمَّا لُعن أمر صلى الله عليه وسلم أن يُترك، ولا يُصاحَبَ، كما جاء في رواية:"لا يصاحبنا ملعون"، ولا ينضمّ إليهم، ولا يَنتفع به أحدٌ، فهو أعظم من قتله، فإنه ينتفع بلحمه العباد، وهنا حرموا الانتفاع بظهره ركوبًا وحملًا، وقد ثبت في "الصحيحين": أنه صلى الله عليه وسلم علَّل كون النساء أكثر أهل النار بكثرة لعنهنّ، وبكفر العشير، وغير ذلك مما ورد في اللعن.

والحاصل أن كون اللعن مثل القتل مما لا يُستراب فيه.

قال الصنعانيّ رحمه الله تعالى: اللاعن قاصد باللعنة الدعاء على من لعنه، والداعي لا يدعو إلا راجيًا للإجابة، وكونه قد لا يوافق ساعة إجابة أمرٌ ليس داخلًا تحت قدرته، فهو قد قصد الإجابة، وأراد حرمان من دعا عليه رحمة الله التي وسعت كلّ شيء، فاللاعن قد قصد إخراج من لعنه، وتفويته رحمة الله، فإثمه كإثم القاتل، وأما كونه لم يُجَبْ دعاؤه فهذا أمرٌ ليس إليه، فهو نظير من رَمَى مؤمنًا قاصدًا قتله، فأخطأه بغير اختياره، فإنه آثم إثم القاتل، ولذا قال صلى الله عليه وسلم:"القاتل والمقتول في النار"، وبيّن أن القاتل أُدخل مع قاتله النار؛ لأنه كان حريصًا على قتل أخيه، وهنا بدعائه على أخيه كان حريصًا على حلول اللعنة به.

وإذا عرفت هذا عرفت صحة ما قاله الإمام المازريّ: من أن اللعن كالقتل في التحريم، وفي الإثم؛ لما سَمِعتَ، ولقول ابن دقيق العيد آخرًا: إنه لا سبيل للبشر على الاطّلاع على حقائق مقادير المصالح والمفاسد إلا من طريق الشارع، والشارع هنا قد بيّن مفسدته بأنها تشبه مفسدة القتل، فليُلْقِ إليه

ص: 328

زمام الإذعان بأن اللعن كالقتل، والمؤمن ليس باللعّان. انتهى كلام الصنعانيّ رحمه الله تعالى

(1)

، وهو تحقيقٌ نفيسٌ جدًّا، والله تعالى أعلم بالصواب.

(وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِشَيْءٍ) أعمّ من الحديدة، والسمّ، والتردّي من الجبل المذكورات في الحديث السابق (فِي الدُّنْيَا) متعلّق بـ "قَتَلَ"(عُذِّبَ) بالبناء للمفعول (بِهِ) أي بذلك الشيء الذي قتل به نفسه (يَوْمَ الْقِيَامَةِ) فيه مجانسة الجزاء للجناية، وقد سبق تحقيقه.

(وَمَنِ ادَّعَى دَعْوَى كَاذِبَةً) قال النوويّ رحمه الله تعالى: هذه هي اللغة الفصيحة، يقال: دعوى باطل وباطلة، وكاذب وكاذبة، حكاهما صاحب "الْمُحْكَم"، والتأنيث أفصح. انتهى

(2)

.

(لِيَتَكَثَّرَ بِهَا) قال النوويّ رحمه الله: ضبطناه بالثاء المثلّثة بعد الكاف، وكذا هو في معظم الأصول، وهو الظاهر، وضبطه بعض الأئمّة المعتمدين بالباء الموحّدة، وله وجهٌ، وهو بمعنى الأول: أي يُصيِّرُ ماله كبيرًا عظيمًا. انتهى

(3)

.

(لَمْ يَزِدْهُ اللهُ إِلَّا قِلَّةً) بكسر القاف: أي يُجازيه الله تعالى بخلاف قصده، فإنه ما ادّعى دعوى كاذبة إلا تكثيرًا لماله، فعامله الله نقيض قصده، فقلّل الله ماله.

قال القاضي عياض رحمه الله تعالى: هذا عامّ في كلّ دعوى يتشبّع بها المرء بما لم يُعطَ من مال يحتال في التجمّل به من غيره، أو نسب ينتمي إليه ليس من جِذْمه

(4)

، أو علم يتحلّى به ليس من حَمَلَته، أو دِينٍ يُرائي به ليس من أهله، فقد أعلم النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه غير مبارك له في دعواه، ولا زاكٍ ما اكتسبه بها، ومثله في الحديث الآخر:"الحلف مَنْفَقَةٌ للسلعة، مَمْحَقَةٌ للبركة"، متّفقٌ عليه، وفي لفظ لأحمد:"اليمين الكاذبة منفقة للسلعة، ممحقة للكسب". انتهى

(5)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله تعالى: قوله: "ومن ادّعى دعوى كاذبة

إلخ"

(1)

"العدّة حاشية العمدة" 4/ 416.

(2)

"شرح النوويّ" 2/ 121.

(3)

"شرح النوويّ" 2/ 121.

(4)

"الجِذم" بكسر الجيم، وتفتح: الأصل، قاله في "القاموس".

(5)

راجع: "إكمال المعلم" 1/ 469.

ص: 329

يعني - والله أعلم -: أن من تظاهر بشيء من الكمال، وتعاطاه، وادّعاه لنفسه، وليس موصوفًا له، لم يَحصُل له من ذلك إلا نقيض مقصوده، وهو النقص، فإن كان الْمُدَّعَى مالًا لم يُبَارَك له فيه، أو علمًا، أظهر الله جهله، فاحتقره الناس، فقلَّ مقداره عندهم، وكذلك لو ادَّعَى دِينًا، أو نسبًا، أو غير ذلك، فَضحَه الله، وأظهر باطله، فقلّ مقداره، وذَلَّ في نفسه، فحصَلَ على نقيض قصده، وهذا نحو قوله صلى الله عليه وسلم:"من أسرّ سريرةً، ألبسه الله رداءها"، ونحو منه قوله تعالى:{وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا} [آل عمران: 188]، وقوله صلى الله عليه وسلم:"المتشبّع بما لم يُعْطَ كلابس ثوبي زور" رواه مسلم.

وفائدة الحديث الزجرُ عن الرياء، وتعاطيه، ولو كان بأمور الدنيا. انتهى كلام القرطبيّ

(1)

.

(وَمَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ صَبْرٍ فَاجِرَةٍ) قال القرطبيّ رحمه الله تعالى: كذا صحّت الرواية في كتاب مسلم لهَذا الكلام مقتصرًا على ذكر جملة الشرط من غير ذكر جملة الجزاء، فيَحْتَمِلُ أنه سكت عنه؛ لأنه عطفه على "من" التي قبلها، فكأنه قال: ومن حلف يمينًا فاجرة كان كذلك، أي لم يزده الله بها إلا قِلّة، ويَحْتَمل أن يكون الجزاء محذوفًا، ويكون تقديره: من فعل ذلك غضب الله عليه، أو عاقبه، أو نحو ذلك، كما جاء في الحديث الآخر:"من حَلَف على يمين؛ ليقتطع بها مالَ مسلم، لَقِي الله، وهو عليه غضبان"، متّفق عليه. انتهى

(2)

.

وقال القاضي عياض رحمه الله تعالى: لم يأت في الحديث هنا الخبر عن هذا الحالف إلا أن يَعْطِفه على قوله قبلُ: "ومَنِ ادَّعَى دعوى كاذبة؛ ليتكثر بها لم يزده الله بها إلا قلةً": أي وكذلك مَن حَلَف على يمين صبر فهو مثله، قال: وقد ورد معنى هذا الحديث تامًّا مُبَيَّنًا في حديث آخر: "من حلف على يمينِ صبرٍ، يقتطع بها مال امرئ مسلم، هو فيها فاجرٌ، لقي اللهَ، وهو عليه غضبان". انتهى

(3)

.

(1)

"المفهم" 1/ 315.

(2)

"المفهم" 1/ 315 - 316.

(3)

"إكمال المعلم" 1/ 470.

ص: 330

وقوله: (عَلَى يَمِينٍ صَبْرٍ فَاجِرَةٍ) قال القرطبيّ: الرواية بالتنوين على أن صبرًا صفة اليمين: أي ذات صبر، وأصل الصبر الحبس، كما قال عنترة:[من الكامل]:

فَصَبَرْتُ عَارِفَةً لِذَلِكَ حُرَّةً

تَرْسُو إِذَا نَفْسُ الْجَبَانِ تَطَلَّعُ

أي حبستُ في الحرب نفسًا مُعتادةً لذلك كريمةً، لا ترضى بالفرار.

وقال المازريّ: أصل الصبر: الحبس والإمساك، يقال: صَبَرَ فلانٌ فلانًا: إذا حبسه، وكلُّ من حبسته لقتل، أو يمين، فهو قَتْلُ صَبْرٍ، ويَمِينُ صَبْرٍ، وأصبره الحاكم على اليمين: أكرهه على يمين صبر، قاله الهرويّ وغيره.

وقال أبو العبّاس

(1)

: الصبر ثلاثة أشياء: الإكراه، ومنه أصبره الحاكم، والحبسُ، ومنه صَبَرتُهُ: إذا حبسته، والْجُرْأةُ، ومنه قوله تعالى:{فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ} [البقرة: 175]: أي ما أجرأهم عليها.

ووُصِفَت اليمين بأنها ذات صبرٍ؛ لأنَّها تَحْبِس الحالف لها، أَوْ لأن الحالف يجترئ عليها، وذَكَّر، وقد أجراه صفةً على اليمين، وهي مؤنّثةٌ؛ لأنه قَصَدَ المصدر. انتهى

(2)

.

وقال القاضي عياض: يمين الصبر هي التي يُصبَرُ صاحبها: أي يُحبس، ويُكرَه حتى يَحلفها، وقد يكون من معنى الْجُرْأة والإقدام عليها، كما قال ثعلب، ومعنى "فاجرة": أي كاذبة. انتهى

(3)

.

وقال النوويّ: يمين الصبر هي التي أُلزِم بها الحالف عند حاكم ونحوه، وأصل الصج: الحبسُ والإمساك. انتهى

(4)

.

وقال القاضي: ويُستدلّ من هذا الحديث أن الإيمان كلّها التي تُقطع بها الحقوق لا تنفع فيها المعاريض والنيّات، وإنما هي على نيّة صاحب الحقّ المحلوف له، لا على نية الحالف، ولا خلاف في كونه هذا آثمًا فاجرًا في يمينه متى اقتطع بها حقّ امرئ مسلم. انتهى

(5)

.

(1)

هو ثعلب الآتي بعده.

(2)

"إكمال المعلم" 1/ 470، بزيادة من "المفهم" 1/ 316.

(3)

"إكمال المعلم" 1/ 470.

(4)

"شرح النوويّ" 2/ 121.

(5)

"إكمال المعلم" 1/ 471 - 472.

ص: 331

وبقية مباحث الحديث تقدّمت في الذي قبله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[311]

(

) - (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَإِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَعَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ عَبْدِ الصَّمَد، كُلُّهُمْ عَنْ عَبْدِ الصَّمَدِ بْنِ عَبْدِ الْوَارِث، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَن ثَابِتِ بْنِ الضَّحَّاكِ الْأَنْصَارِيِّ (ح) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّزاق، عَنِ الثَّوْرِيّ، عَنْ خَالِدٍ الْحَذاء، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ ثَابِتِ بْنِ الضَّحَّاك، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ حَلَفَ بِمِلَّةٍ سِوَى الْإِسْلَام، كَاذِبًا مُتَعَمِّدًا، فَهْوَ كَمَا قَالَ، وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِشَيْءٍ، عَذبَهُ اللهُ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ"، هَذَا حَدِيثُ سُفْيَانَ، وَأَمَّا شُعْبَةُ فَحَدِيثُهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"مَنْ حَلَفَ بِمِلَّةٍ سِوَى الْإِسْلَامِ كَاذِبًا، فَهْوَ كمَا قَالَ، وَمَنْ ذَبَحَ نَفْسَهُ بِشَيْءٍ ذُبِحَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ").

رجال هذا الإسناد: اثنا عشر:

1 -

(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) هو ابن راهويه تقدّم قبل باب.

2 -

(إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ) الْكَوْسَج، أبو يعقوب المروزيّ، ثقة ثبتٌ [11](ت 251)(خ م، س ق) تقدم في "الإيمان" 12/ 156.

3 -

(عَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ) بْنِ عَبْدِ الْوَارِث، أبو عُبيدة الْعَنْبريّ البصريّ، صدوقٌ [11].

رَوَى عن أبيه، وأبي خالد الأحمر، وأبي عاصم النبيل، وأبي معمر المُقعد البصري.

ورَوَى عنه مسلم، والترمذي، والنسائي، وابن ماجة، وأبو حاتم، وابن أبي عاصم، وابن خزيمة، ومحمد بن إسحاق السراج، وآخرون.

قال أبو حاتم: صدوق. وقال النسائي: لا بأس به. وذكره ابن حبان في "الثقات".

وقال السراج: مات في رمضان سنة اثنتين وخمسين ومائتين.

ص: 332

وله في هذا الكتاب (13) حديثًا

(1)

.

4 -

(عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَبْدِ الْوَارِثِ) بن سعيد بن ذكوان التّنّوريّ، أبو سَهل البصريّ، ثقة [9](ت 207)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 82.

5 -

(أَيُّوبُ) بن أبي تميمة كيسان السختيانيّ، أبو بكر البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ حجة فقيه [5](ت 131)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" ج 1 ص 305.

6 -

(مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ) الْقُشيريّ النيسابوريّ، ثقةٌ عابدٌ [11](ت 245)(خ م د، س) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.

7 -

(عَبْدُ الرَّزَّاقِ) بن همّام بن نافع الْحِمْيريّ مولاهم، أبو بكر الصنعانيّ، ثقةٌ حافظٌ تغيّر في آخره، وكان يتشيّع [9](ت 211)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.

8 -

(خَالِد الْحَذَّاءُ) هو: خالد بن مِهْران، أبو الْمُنازل - بفتح الميم، وقيل: بضمها - البصريّ، ثقةٌ حافظ يرسل [5](ت 1، أو 142)(ع) تقدم في "الإيمان" 10/ 144.

[تنبيه]: قوله: "الْحَذّاء" بفتح الحاء المهملة، وتشديد الذال المعجمة لقب خالد، قيل: إنما لُقّب به؛ لأنه كان يَجلس في الْحَذّائين، ولم يَحْذُ نَعْلًا قطُّ، هذا هو المشهور، قال النوويّ: رَوَينا عن فَهْد بن حَيّان - بالمثناة - قال: لَمْ يَحْذُ خالد قطّ، وإنما كان يقول: احذوا على هذا النحو، فلُقِّب الحذاءَ. انتهى

(2)

.

والباقون تقدّموا قريبًا.

وقوله: (عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ ثَابتِ بْنِ الضَّحَّاكِ الْأَنْصَارِيِّ) ثم حوّل الإسناد، فساقه إلى أن قال: (عَنِ الثَّوْرِيّ، عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاء، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ ثَابِتِ بْنِ الضَّحَّاكِ

إلخ).

[فإن قيل]: هذا تطويل للكلام على خلاف عادة مسلم وغيره؛ إذ كان حَقُّهُ، ومقتضى عادته أن يَقْتَصِر أوّلًا على أبي قِلابة، ثم يسوق الطريق الآخر إليه، فأما ذكر ثابت فلا حاجة إليه أَوّلًا.

(1)

ونقل في "تهذيب التهذيب" عن "الزهرة": أن مسلمًا رَوَى عنه سبعة عشر حديثًا، والظاهر أنه لا تخالف؛ لأنه يُحمل على التكرار.

(2)

"شرح النوويّ" 2/ 120.

ص: 333

[أجيب]: بأنه ساقه بطوله؛ لأنّ في الرواية الأولي، وهي رواية شعبة، عن أيوب نَسَبَ ثابت بن الضحاك، فقال:"الأنصاريّ"، وفي رواية الثوريّ، عن خالد لَمْ يَنْسُبه، فلم يكن له بُدٌّ من فِعْلِ ما فَعَلَه؛ ليُبيّن ما وقع في أحد الإسنادين من زيادة النسب، وهذا من تحقيقه، واحتياطه، ومراعاة ألفاظ شيوخه، فلله درّه، ما أتقن صناعته، وما أورعه رحمه الله تعالى

(1)

.

وقوله: (هَذَا حَدِيثُ سُفْيَانَ) أي هذا المتن الذي ساقه هو حديث سفيان الثوريّ، عن خالد الحذاء، وأما حديث شعبة، عن أيوب فيُخالفه في اللفظ، وإن وافقه في المعنى، كما بيّنه بقوله:

(وَأَمَّا شُعْبَةُ فَحَدِيثُهُ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ حَلَفَ بِمِلَّةٍ سِوَى الْإِسْلَامِ كَاذِبًا

إلخ") فقد أسقط منه لفظ "متعمّدًا"، وقال: "وَمَنْ ذَبَحَ نَفْسَه بشيءٍ" بدل"ومن قَتَلَ نفسه بشيء"، وقال: "ذُبِحَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" بدل "عذَّبه الله به في نار جهنّم"، و"ذُبح" بالبناء للمفعول، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(50) - (بَاب لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا نَفْسٌ مُسْلِمَةٌ، وَإِنَّ اللهَ تَعَالَى يُؤَيِّدُ هَذَا الدِّينَ بِالرَّجُلِ الْفَاجِرِ)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[312]

(111) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، جَمِيعًا عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاق، قَالَ ابْنُ رَافِعٍ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاق، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنِ ابْنِ الْمُسَيِّب، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: شَهِدْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم حُنَيْنًا، فَقَالَ لِرَجُلٍ مِمَّنْ يُدْعَى بِالْإِسْلَامِ:"هَذَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ"، فَلَمَّا حَضَرْنَا الْقِتَالَ، قَاتَلَ الرَّجُلُ قِتَالًا شَدِيدًا، فَأَصَابَتْهُ جِرَاحَةٌ، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ الله، الرَّجُلُ الَّذِي قُلْتَ لَهُ آنِفًا: "إِنَّهُ

(1)

راجع: "شرح النوويّ" 2/ 120 - 121.

ص: 334

مِنْ أَهْلِ النَّارِ"، فَإِنَّهُ قَاتَلَ الْيَوْمَ قِتَالًا شَدِيدًا، وَقَدْ مَاتَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "إِلَى النَّارِ"، فَكَادَ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَرْتَابَ، فَبَيْنَمَا هُمْ عَلَى ذَلِكَ، إِذْ قِيلَ: إِنَّهُ لَمْ يَمُتْ، وَلَكِنَّ بِهِ جِرَاحًا شَدِيدًا، فَلَمَّا كَانَ مِنَ اللَّيْل، لَمْ يَصْبِرْ عَلَى الْجِرَاح، فَقَتَلَ نَفْسَهُ، فَأُخْبِرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ، فَقَالَ: "اللهُ أَكْبَرُ، أَشْهَدُ أَنِّي عَبْدُ اللهِ وَرَسُولهُ"، ثُمَّ أَمَرَ بِلَالًا، فَنَادَى فِي النَّاسِ: "إِنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا نَفْسٌ مُسْلِمَةٌ، وَإِنَّ اللهَ يُوَيِّدُ هَذَا الدِّينَ بِالرَّجُلِ الْفَاجِرِ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ) الحافظ الْكِسّيّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(مَعْمَرٌ) بن راشد الأزديّ مولاهم، أبو عروة البصريّ، ثم اليمنيّ، ثقة ثبتٌ فاضلٌ، من كبار [7](ت 154)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.

3 -

(الزُّهْرِيُّ) محمد بن مسلم الإمام الحجة المثبت، تقدّم قريبًا.

4 -

(ابْنُ الْمُسَيِّبِ) هو: سعيد بن الْمُسَيّب بن حَزْن بن أبي وهب، الإمام الحجة الشهير، من كبار [3](ت 94)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 71.

5 -

(أَبُو هُرَيْرَةَ) الصحابيّ الشهير رضي الله عنه تقدم في "المقدمة" 2/ 4، والباقيان تقدّما في السند الماضي، والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله تعالى، وفيه شيخان للمصنّف، قرن بينهما، وفيه التحديث، والعنعنة من صيغ الأداء.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخيه، فالأول ما أخرج له ابن ماجة، والثاني تفرّد به هو والترمذيّ، وعلّق له البخاريّ.

3 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ: الزهريّ، عن ابن المسيّب.

4 -

(ومنها): أن فيه ابن المسيِّب أحد الفقهاء السبعة، وقد تقدّموا غير مرّة.

5 -

(ومنها): أن هذا أصحّ أسانيد أبي هريرة رضي الله عنه، وقيل: أصحّ أسانيده أبو الزناد، عن الأعرج، عنه، وقيل: حماد بن زيد، عن أيوب، عن ابن سيرين، عنه، وإلى هذا أشار السيوطيّ رحمه الله في "الفيّة الحديث" حيث قال:

ص: 335

وَلأَبِي هُرَيْرَةَ الزُّهْرِيُّ عَنْ

سَعِيدٍ أَوْ أَبُو الزِّنَادِ حَيْثُ عَنْ

عَنْ أَعْرَجٍ وَقِيلَ حَمَّادٌ

بِمَا أَيُّوبُ عَنْ مُحَمَّدٍ لَهُ نَمَا

6 -

(ومنها): أن أبا هريرة رضي الله عنه رأس المكثرين السبعة، روى (5374) حديثًا، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ) وفي رواية البخاريّ من طريق شعيب بن أبي حمزة، عن الزهريّ قال: أخبرني سعيد بن المسيِّب (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: شَهِدْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم حُنَيْنًا) أي غزوة حنين، كذا وقع هنا وعند "أبي نُعيم" في "مستخرجه على صحيح مسلم" بلفظ "شهدنا حنينًا"، ووقع عند البخاريّ من "طريق شعيب بن أبي حمزة، عن الزهريّ"، بلفظ "شهدنا خيبر"، وهو الذي عند "أبي عوانة" في "مسنده المستخرج على صحيح مسلم"، وهو الصواب، كما قاله القاضي عياض رحمه الله تعالى.

قال في "الفتح": قوله: "شهِدنا خيبر" أراد جيشها من المسلمين؛ لأن الثابت أن أبا هريرة رضي الله عنه إنما جاء بعد أن فُتحت خيبر، ووقع عند الواقديّ أنه قَدِمَ بعد فتح معظم خيبر، فحضر فتح آخرها، ولا يُعارضه ما ثبت في "الصحيح" عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو بخيبر، بعدما افتتحها؛ لإمكان الحمل على معنى بعدما افتتح معظمها، والله تعالى أعلم.

[تنبيه]: نسب بعضهم الوَهَمَ في ذكر حنين إلى عبد الرزاق، وهو غير صحيح؛ لأنه وقع في "مصنّفه" على الصواب بلفظ خيبر، ودونك نصّه:(9573) "عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهريّ، عن ابن المسيّب، عن أبي هريرة، قال: شهدنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر، أو قال: لما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر، قال لرجل

" الحديث.

فتبيّن بهذا أن الخطأ ليس من عبد الرزاق، والله تعالى أعلم.

[تنبيه آخر]: غزوة حنين كانت في شوّال سنة ثمان من الهجرة، وحُنين مصغّرًا وادٍ إلى جنب ذي المجاز، قريب من الطائف، بينه وبين مكة بضعة عشر ميلًا من جهة عرفات.

ص: 336

وغزوة خيبر كانت في المحرّم سنة سبع من الهجرة، وكانت خيبر مدينة كبيرةً، ذات حُصُون ومَزَارع، على مسافة مائة وخمسين كيلو مترًا من المدينة إلى جهة الشام، والله تعالى أعلم.

(فَقَالَ لِرَجُلٍ) أي في شأنه، وفي سببه، فلم يخاطب النبيّ صلى الله عليه وسلم الرجل، وإنما أخبر الصحابة الحاضرين لديه عن شأنه، ومصيره، فتكون اللام هنا بمعنى "في"، قال الفرّاء، وابنُ الشَّجَريّ، وغيرهما من أهل العربية: اللام قد تأتي بمعنى "في"، ومنه قول الله عز وجل:{وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الأنبياء: 47]: أي فيه

(1)

.

وقال في "الفتح": قوله: "لرجل": أي عن رجل، واللام قد تأتي بمعنى "عن"، مثل قوله تعالى:{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا} [العنكبوت: 12]، ويحتمل أن يكون بمعنى "في": أي في شانه: أي سببه، ومنه قوله تعالى:{وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} . انتهى

(2)

.

واسم الرجل قُزمان، ذكره الخطيب البغداديّ، وتبعه النوويّ، قال الخطيب: وكان من المنافقين

(3)

.

(مِمَّنْ يُدْعَى بِالإِسْلَامِ) ببناء الفعل للمفعول: أي يوصف بأنه مسلم؛ لتظاهره بالإسلام، وفي نسخة:"ممن يَدَّعي الإسلام"، فـ "يَدّعي" بالبناء للفاعل، مضارع ادّعى، من باب الافتعال: أي ينسُبُ نفسه إلى الإسلام، وقوله:("هَذَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ") مقول "قال"(فَلَمَّا حَضَرْنَا الْقِتَالَ) هذا مما يؤيّد ما سبق آنفًا من أن أبا هريرة رضي الله عنه حضر بعض فتح خيبر، وفي رواية البخاريّ من طريق شعيب بن أبي حمزة، عن الزهريّ:"فلما حضر القتالَ"، بالرفع والنصب، قاله في "الفتح"(قَاتَلَ الرَّجُلُ قِتَالًا شَدِيدًا، فَأَصَابَتْهُ جِرَاحَةٌ) أي بسبب سهم رُمِي به، وفي رواية البخاريّ المذكورة:"حتى كثُر به الجراحة"(فَقِيلَ: يَا رَسُولَ الله، الرَّجُلُ الَّذِي قُلْتَ لَهُ) أي قلت في شأنه (آنِفًا) أي قريبًا، وفيه

(1)

"شرح النوويّ" 2/ 122.

(2)

"الفتح" 7/ 540 "كتاب المغازي" رقم (4203 - 4204).

(3)

"تنبيه المعلم" ص 65.

ص: 337

لغتان: المدّ، وهو أفصح، والقصر، قاله النوويّ

(1)

.

وقال في "القاموس": {قَالَ آنِفًا} كصَاحِب، وكَتِفٍ، وقُرئ بهما: أي مُذْ ساعةً: أي في أوّل وقتٍ يقرُبُ مِنَّا. انتهى

(2)

. (إِنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّار، فَإِنَّهُ قَاتَلَ الْيَوْمَ قِتَالًا شَدِيدًا، وَقَدْ مَاتَ) هذا قالوه ظنًّا منهم، لا حقيقةً بدليل ما يأتي من قوله:"إنه لَمْ يمت".

ثم إن قولهم هذا ليس سؤال استثبات؛ لأن المعلوم الصدق لا يُستثبتُ، وإنما هو سؤال تعجّب عن كونه من أهل النار مع ما ظهر منه من نُصرة الدين

(3)

.

(فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "إِلَى النَّارِ") أي هو ذاهب إلى النار، قال المهلب رحمه الله تعالى: هذا الرجل ممن أَعْلَمَنا النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه نَفَذَ عليه الوعيدُ من الْفُسّاق، ولا يلزم منه أنّ كُلّ مَن قَتَلَ نفسه يُقضَى عليه بالنار، وقال ابن التين رحمه الله تعالى: يَحْتَمِل أن يكون قوله: "هو من أهل النار": أي إن لَمْ يَغفِر الله له، ويَحتَمِل أن يكون حين أصابته الجراحة ارتاب، وشكّ في الإيمان، أو استَحَلَّ قَتْلَ نفسه، فمات كافرًا، ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم في بقية الحديث:"لا يدخل الجَنَّة إلَّا نفسٌ مسلمة"، وبذلك جزم ابن الْمُنَيّر.

والذي يظهر - كما قال الحافظ رحمه الله تعالى - أن المراد بالفاجر أعمّ من أن يكون كافرًا أو فاسقًا، ولا يعارضه قوله صلى الله عليه وسلم:"إنا لا نستعين بمشرك"؛ لأنه محمول على مَن كان يُظهِر الكفر، أو هو منسوخ. انتهى

(4)

.

(فَكَادَ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَرْتَابَ) قال النوويّ: كذا هو في الأصول "أن يرتاب"، فأثبت "أن"، مع "كاد"، وهو جائز، لكنه قليل، و"كاد" لمقاربة الفعل، ولم يَفْعَل إذا لَمْ يتقدمها نفيٌ، فإن تقدّمها، كقولك: ما كاد يقوم، كانت دالّةً على القيام، لكن بعد بُطْء، كذا نقله الواحديّ وغيره عن العرب، وأهل اللغة. انتهى

(5)

.

(1)

"شرح النوويّ" 2/ 122.

(2)

"القاموس المحيط" ص 714.

(3)

راجع: "شرح الأبيّ" 1/ 225 - 221.

(4)

"فتح" 7/ 540.

(5)

"شرح النوويّ" 2/ 122.

ص: 338

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: دخول "أن" المصدريّة في خبر "كاد"، جائز في سعة الكلام، وليس خاصًّا بالشعر، كما ادّعاه بعض النحاة، وقد كثر في الأحاديث، ومنه حديث عمر رضي الله عنه:"ما كدت أن أصلي العصر حتى كادت الشمس أن تغرُب"، متّفقٌ عليه، وحديث أبي بكرة رضي الله عنه قال: "لقد نفعني الله بكلمة سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم أيام الجمل بعدما كِدتُ أن الحق بأصحاب الجمل، فأقاتل معهم

"الحديث، أخرجه البخاريّ.

إلَّا أن الغالب في خبرها تجرّده عنها، كقوله عز وجل:{وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} [البقرة: 71]، وقوله:{مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ} الآية [التوبة: 117]، وهذا بخلاف "عسى" فإنها، وإن كانت مثلها في كون خبر كلّ منهما مضارعًا في الغالب، إلَّا أن الغالب في "عسى" اقتران خبرها بـ "أن"، كقوله تعالى:{فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ} الآية [المائدة: 52]، وقوله:{عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ} الآية [الإسراء: 8].

وإلى ما ذكرته من القاعدة أشار ابن مالك في "الخلاصة" حيث قال:

كَـ "كَانَ""كَادَ" وَ"عَسَى" لَكِنْ نَدَرْ

غَيْرُ مُضَارعٍ لِهَذَيْنِ خَبَرْ

وَكَوْنُهُ بِدُونِ "أَنْ" بَعْدَ "عَسَى"

نَزْرٌ وَ"كَادَ"الأمْرُ فِيهِ عُكِسَا

(فَبَيْنَمَا) هي"بين"الظرفيّة، زيدت عليها "ما"، وهيّأتها للدخول على الجملة، ويقال فيها:"بينا" بالالف فقط، قال المجد:"بينا نحن كذا": هي "بين" أُشبعت فتحتها، فحَدَثت الألف، و"بينا"، و"بينما" من حروف الابتداء

(1)

، والأصمعيّ يخفض بعد "بينا" إذا صَلَح موضعَهُ "بين"، كقوله:

بَيْنَا تَعَنُّفِهِ الْكُمَاةَ وَرَوْغِهِ

يَوْمًا أُتِيحَ لَهُ جَرِئٌ سَلْفَعُ

(2)

وغيره يرفع ما بعدها على الابتداء والخبر. انتهى

(3)

.

وقال غيره: "بينا"، و"بينما" ظرفا زمان بمعنى المفاجأة، ويُضافان إلى

(1)

المراد بالحروف: الكلمات، لا الحروف قسيم الأسماء والأفعال، كما بيّنه في "التاج" 9/ 150.

(2)

قوله: "تعنّفه" بالفاء، ويُروى "تعنّقه" بالقاف، و"السلفع" كجعفر: الجريء الشجاع.

(3)

"القاموس المحيط" ص 1065.

ص: 339

جملة من فعل وفاعل، ومبتدأ وخبر، فيحتاجان إلى جواب يَتِمّ به المعنى، وهو هنا قوله:"إذ قيل: إنه لَمْ يمت"

(1)

.

وخلاصة القول في "بينما" أنَّها من الظروف الزمانيّة الملازمة للإضافة إلى الجملة، وهو هنا قوله:"هم على ذلك"، ولا بدّ لها من جواب، وهو هنا قوله:"إذ قيل .. إلخ"، والجواب هو العامل فيها إذا كان مجرّدًا من كلمة المفاجأة، وهي "إذ"، كما هنا، أو "إذا"، وإلا فالعامل معنى المفاجأة، كما هنا، والتقدير: فاجأهم قول الناس: إنه لَمْ يمت وقت قرب ارتيابهم، والله تعالى أعلم.

(هُمْ عَلَى ذَلِكَ) أي على حالهم من مراجعة النبيّ صلى الله عليه وسلم في شأنه (إِذْ قِيلَ: إِنَّهُ لَمْ يَمُتْ) أي فقولهم: "وقد مات" ظنّ منهم (وَلَكِنَّ بِهِ جِرَاحًا) فيه تقديم خبر "لكنّ"، مع أن خبر "إنّ" وأخواتها لا يتقدّم على اسمها؛ لكونه جارًّا ومجرورًا، وإلى هذا أشار في "الخلاصة" بقوله:

وَرَاعِ ذَا التَّرْتِيبَ إِلَّا فِي الَّذِي

"كَلَيْتَ فِيهَا أَوْ هُنَا غَيْرَ الْبَذِي"

وقوله: "جِرَاحًا" بكسر الجيم: جمع جِرَاحة، قال المجد: جَرَحَه كمَنَعَهُ: كَلَمَهُ، كجَرَّحَهُ، والاسم الْجُرْحُ بالضمّ، جمعه جُرُوحٌ، وقَلَّ أَجْرَاحٌ، والْجِرَاحُ بالكسر: جمع جِرَاحة. انتهى

(2)

.

وعند أبي عوانة، وأبي نعيم في "مستخرجيهما":"ولكن به جرح شديد" بالرفع، وعليه، فـ "لكن" مخفّفة النون.

وقوله: (شَدِيدًا) صفة لـ "جِراحًا"، وإنما ذكّره مع أن "جِراحًا" جمع، فكان حقّه أن يقال:"شديدة" لعله باعتباره اسم جنس جمعيّ، يفرّق بينه وبين واحده بالتاء، كتمر وتمرة، فإنه يجوز تذكيره وتأنيثه، ونظيره قوله عز وجل:{مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} ، حيث ذكّر {رَمِيمٌ} ومع كون جمع {الْعِظَامَ} ، والله تعالى أعلم.

(فَلَمَّا كَانَ مِنَ اللَّيْلِ) الظاهر أن "من" اسم بمعنى "بعض"، وهو فاعل بـ "كان"، وهي تامّة بمعنى "جاء": أي فلما جاء بعض الليل، أو هي بمعنى:

(1)

راجع: "تاج العروس" 9/ 150.

(2)

"القاموس" ص 195 - 196.

ص: 340

"في"، وفاعل "كان" ضمير "الرجل": أيْ فلما استقرّ في الليل، ووصل إليه (لَمْ يَصْبِرْ عَلَى الْجِرَاحِ) أي لشدّة ألمه، وفي رواية البخاريّ من طريق شعيب:"فوجد الرجل ألم الجراحة"(فَقَتَلَ نَفْسَهُ) أي بنحر نفسه، وفي رواية البخاريّ من طريق شعيب المتقدّمة:"فأهوى بيده إلى كنانته، فاستخرج منها أسهمًا، فنَحَرَ بها نفسه".

(فَأُخْبِرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ) وفي رواية البخاريّ المذكورة: "فاشتدّ رجال من المسلمين، فقالوا: يا رسول الله، صدَّقَ الله حديثك، انتحر فلانٌ، فقتل نفسه"(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("اللهُ أَكْبَرُ، أَشْهَدُ أَنِّي عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ") قال القرطبيّ رحمه الله تعالى: قوله صلى الله عليه وسلم: "الله أكبر إلخ" عند وقوع ما أخبر به من الغيب دليلٌ على أن ذلك من جملة معجزاته صلى الله عليه وسلم، وإن لَمْ يقترن بها في تلك الحال تَحَدٍّ قوليُّ، وهذا على خلاف ما يقوله المتكلّمون: إن من شروط المعجزة اقتران التحدّي القوليّ بها، فإن لَمْ تكن كذلك فالخارق كرامة، لا معجزة، والذي ينبغي أن يقال: إن ذلك لا يُشترط، بدليل أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا كلّما ظهر لهم خارقٌ للعادة على يدي النبيّ صلى الله عليه وسلم استدلّوا بذلك على صدقه، وثبوت رسالته، كما قد اتّفق لعمر رضي الله عنه، حين دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على قليل الأزواد، فكثرت، فقال عند ذلك: أشهد أن لا إله إلَّا الله، وأنك رسول الله، وكقول أسامة بن زيد رضي الله عنهما، وبدليل الاتّفاق: على نبع الماء من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم، وتسبيح الحصى في كفّه، وحَنِين الْجِذع من أظهر معجزاته صلى الله عليه وسلم، ولم يصدُر عنه مع شيء من ذلك تحدٍّ بالقول عند وقوع تلك الخوارق، ومع ذلك فهي معجزات، والذي ينبغي أن يقال: إن اقتران القول لا يلزم، بل يكفي من ذلك قولٌ كليٌّ يتقدّم الخوارق، كقول الرسول صلى الله عليه وسلم: الدليل على صدقي ظهور الخوارق على يدي، فإن كلّ ما يظهر على يديه منها بعد ذلك يكون دليلًا على صدقه، وإن لَمْ يقترن بها واحدًا واحدًا قولٌ، ويمكن أن يقال: إن قرينة حاله تدلّ على دوام التحدّي، فيتنزّل ذلك منزلة اقتران القول. انتهى كلام القرطبيّ

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن اشتراط اقتران التحدّي في

(1)

"المفهم" 1/ 3019 - 320.

ص: 341

حدوث المعجزة مما لا دليل عليه، وإنما المعجزة تحدث بحسب الحاجة، فمن ذلك أنه صلى الله عليه وسلم لما فقد شيئًا يستتر به عند قضاء الحاجة، أمر جابرًا رضي الله عنه أن يأمر الشجرتين حتى تأتيا، وتستراه، ففعلتا ذلك، ولما فقد الصحابة رضي الله عنهم ماء للوضوء، ورأى شدّة حاجتهم إليه وضع يده على الإناء، فنبع الماء حتى توضؤوا من عند آخرهم، ولما دعاه جابر رضي الله عنه في غزوة الخندق إلى طعام قليل، فرأى شدّة الجوع على أصحابه رضي الله عنهم، فبرّك في ذلك الطعام حتى أكلوا كلّهم، وشبعوا، وكذلك فَعَلَ في طعام أم سليم رضي الله عنها، وطعام وليمة زينب بنت جحش رضي الله عنها، وكحنين الجذع، وشكوى البعير الذي يُجيعه صاحبه، وغير ذلك مما ثبت في "الصحيحين"، وغيرهما، وليس في ذلك كلّه شيء من التحدّي، بل إنما حدث لتقوية إيمان الصحابة، وتثبيته؛ لأنه يزيد بكثرة الأدلّة، وزيادة الآياتِ.

والحاصل أن أكثر معجزات النبيّ صلى الله عليه وسلم ليس معها تحدّ أصلًا، فمن اشترط ذلك من المتكلّمين فإنما حمله على ذلك جهله بالسنّة، وعدم اطّلاعه على الأخبار التي جاءت ببيان المعجزات، وإنما الغريب على مثل القرطبيّ الذي عنده علم بالسنة، وأخبار المعجزات يذكر مذهب المتكلّمين، ولا يفنّده، بل يأتي بما يقرّره، إن هذا لشيء عُجاب، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

(ثُمَّ أَمَرَ) بالبناء للفاعل، وفاعله ضمير النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقوله:(بِلَالًا) رضي الله عنه منصوب على المفعولية، ومتعلَّقه محذوف لدلالة ما بعده عليه: أي بالنداء، وفي رواية عند المصنّف:"يا ابن الخطّاب"، وفي رواية عند البيهقيّ: أن المنادي بذلك عبد الرَّحمن بن عوف، ويُجمَعُ بينها بانهم نادوا جميعًا في جهات مختلفة، قاله في "الفتح"

(1)

. (فَنَادَى فِي النَّاسِ: "إِنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ) يجوز في "إنّه"، وكذا في "إِنّ الله ليؤيّد" كسر همزة "إنّ"، وفتحها، وقد قُرئ في السبع قول الله عز وجل:{فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ} [آل عمران: 39] بفتح الهمزة وكسرها، قاله النوويّ

(2)

.

(1)

"فتح" 7/ 542 "كتاب المغازي" رقم الحديث (4207 - 4208).

(2)

"شرح النوويّ" 2/ 122.

ص: 342

(إِلَّا نَفْسٌ مُسْلِمَةٌ") وفي رواية للبخاريّ: "لا يدخل الجَنَّة إلَّا مؤمن".

قال القرطبيّ: قوله: "نفسٌ مسلمة": أي مؤمنة؛ لأن الإسلام الْعَرِيَّ عن الإيمان لا ينفع صاحبه في الآخرة، ولا يُدخله الجنّة، وذلك بخلاف الإيمان، فإن مجرّده يُدخل صاحبه الجنّة، وإن عُوقب بترك الأعمال، على ما سنذكره - إن شاء الله تعالى - فدلّ هذا على أن هذا الرجل كان مرائيًا منافقًا، ومما يدلّ على ذلك أيضًا قوله صلى الله عليه وسلم:"إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر"، متّفق عليه، وهو الكادر، كما قال تعالى:{وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا} [نوح: 27]، وإنما أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بلالًا أن ينادي بذلك القول تنبيهًا على وجوب الإخلاص في الجهاد، وأعمال البرّ، وتحذيرًا من الرياء والنفاق. انتهى كلام القرطبيّ، وهو تحقيق نفيسٌ، والله تعالى أعلم

(1)

.

(وَإِنَّ اللهَ يُؤَيِّدُ هَذَا الدِّينَ بِالرَّجُلِ الْفَاجِرِ") يحتمل أن تكون "أل" في "الرجل" للعهد، والمراد به قُزمان المذكور، ويحتمل أن تكون للجنس.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هكذا قال في "الفتح"

(2)

، وعندي أن كونها للجنس أقرب، فتأمّله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفق عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه المصنّف هنا في "الإيمان"[50/ 312](111)، و (البخاريّ) في "الجهاد"(3062)، و"المغازي"(4203)، و"القدر"(6606)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(9573)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 309 - 310)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(133)، و (أبو نُعيم) في "مستخرجه"(299)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4519)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(2526)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(8/ 198)، و (القضاعيّ)(1097)، والله تعالى أعلم.

(1)

"المفهم" 1/ 320 - 321.

(2)

"فتح" 7/ 541.

ص: 343

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان تعظيم قتل النفس؛ لضجر أصابه مهما بلغت الآلام، وأنه ينافي الإيمان، وهو وجه المطابقة في إيراده في أبواب الإيمان.

2 -

(ومنها): بيان أن الجَنَّة محرّمة إلَّا على المؤمنين.

3 -

(ومنها): بيان أن الله تعالى يؤيّد هذا الدين بالرجل الفاجر.

4 -

(ومنها): بيان معجزة النبيُّ صلى الله عليه وسلم الظاهرة، وآياته الباهرة حيث أخبر بالمغيّبات، فظهر صدقه في حينه.

5 -

(ومنها): جواز الإخبار عن حال الرجل السيئ إذا كان الإخبار به يُحقّق مصلحة شرعيّة، من تحذير، أو غيره.

6 -

(ومنها): بيان عظمة الإسلام، ومكانته الرفيعة حيث جعله الله تعالى مؤيّدًا، ومؤزّرأ بأهله، وبغير أهله.

7 -

(ومنها): بيان أن العبرة بالخاتمة، فلا ينبغي الحكم بما يظهر من حال المرء حتى يُعلم مصيره، وخاتمته التي خرج بها من الدنيا، وقد ترجم الإمام البخاريّ رحمه الله تعالى في "كتاب القدر" من "صحيحه"، "باب العملُ بالخواتيم"، وأورد فيه حديث أبي هريرة، وسهل بن سعد رضي الله عنهم المذكور في الباب، وفي آخر حديث سهل لجنه ما نصّه:"وإنما الأعمال بالخواتيم"، وأخرج الترمذيّ، وصحّحه من حديث أنس رضي الله عنه، مرفوعًا:"إذا أراد الله بعبد خيرًا استعمله"، قيل: كيف يستعمله؟ قال: "يوفّقه لعمل صالح، ثم يقبضه عليه"، وأخرجه أحمد مطوّلًا، وأوله: "لا تعجبوا لعمل عامل حتى تنظروا بم يُختم له

"، وأخرج البزّار من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وفيه ذكر الكتابين، وفي آخره: "العمل بخواتيمه، العمل بخواتيمه"

(1)

.

8 -

(ومنها): بيان أنه لا يجوز لأحد أن يجزم لأحد من الناس بالجنّة، ولا بالنار، بسبب ما يراه من حال الإنسان من خير أو شرّ، إلَّا لمن حكم له النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولقد أحسن من قال، وأجاد في المقال:

وَلَا تَقُلْ هَذَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ

كَلَّا وَلَا هَذَا مِنَ الأَبْرَارِ

(1)

راجع: "الفتح" 11/ 507 - 508 "كتاب القدر" رقم (6609).

ص: 344

إِلَّا لِمَنْ أَخْبَرَ عَنْهُ الْمُصْطَفَى

فَالْفَوْزُ وَالنَّارُ لِمَنْ قَدْ وَصَفَا

9 -

(ومنها): بيان وجوب الإخلاص في الأعمال، وأنه لا ينفع منه إلَّا ما كان خالصًا لله تعالى.

1 -

(ومنها): بيان خطر الرياء، والسمعة، وأنهما يُفسدان العمل الصالح؛ إذ فيهما من الشرك المحبط للعمل، كما قال الله عز وجل:{وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23)} [الفرقان: 23]، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في بيان الاختلاف الواقع في هذا الحديث:

(اعلم): أنه وقع اختلاف في هذا الحديث أشار إليه البخاريّ في "كتاب المغازي" من "صحيحه"، ودونك عبارته مع شرح الحافظ له، قال رحمه الله تعالى:

(4204)

حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب، عن الزهريّ، قال: أخبرني سعيد بن المسيب، أن أبا هريرة رضي الله عنه قال: شهدنا خيبر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل ممن معه يَدَّعِي الإسلام:"هذا من أهل النار"، فلما حَضَرَ القتالَ، قاتل الرجل أشدّ القتال، حتى كَثُرت به الجراحة، فكاد بعض الناس يرتاب، فَوَجَد الرجل أَلَمَ الجراحة، فأهوى بيده إلى كنانته، فاستخرج منها أَسْهُمًا، فنحر بها نفسه، فاشتد رجال من المسلمين، فقالوا: يا رسول الله صَدَّق الله حديثك، انتَحَر فلان، فقتل نفسه، فقال:"قم يا فلان، فأَذِّنْ: إنه لا يدخل الجَنَّة إلَّا مؤمن، إن الله يؤيد الدين بالرجل الفاجر"، تابعه معمرٌ، عن الزهريّ.

وقال شبيب، عن يونس، عن ابن شهاب: أخبرني ابن المسيب، وعبد الرَّحمن بن عبد لله بن كعب، أن أبا هريرة قال: شَهِدنا مع النبي صلى الله عليه وسلم حُنَيْنًا.

وقال ابن المبارك، عن يونس، عن الزهريّ، عن سعيد، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم تابعه صالح، عن الزهريّ.

وقال الزُّبيديّ: أخبرني الزهريّ، أن عبد الرَّحمن بن كعب أخبره، أن عبيد الله بن كعب قال: أخبرني مَن شَهِد مع النبيّ صلى الله عليه وسلم خيبر.

قال الزهريّ: وأخبرني عبيد الله بن عبد الله، وسعيد، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم. انتهى.

ص: 345

فقال في "الفتح": قوله: "تابعه معمر": أي تابع شعيبًا، عن الزهريّ: أي بهذا الإسناد، وهو موصول عند المصنف رحمه الله في آخر "الجهاد"، مقرونًا برواية شعيب، عن الزهري.

وقوله: "وقال شبيب": أي ابن سعيد، عن يونس: أي ابن يزيد، عن ابن شهاب: أي الزهري بهذا الإسناد.

وقوله: "شَهِدنا حنينًا": يريد أن يونس خالف معمرًا وشعيبًا، فذكر بدل "خيبر" لفظة "حنين"، ورواية شبيب هذه وصلها النسائيّ مُقْتَصِرًا على طرف من الحديث، وأوردها الذُّهْليّ في "الزهريات"، ويعقوب بن سفيان في "تاريخه"، كلاهما عن أحمد بن شبيب، عن أبيه بتمامه، وأحمد من شيوخ البخاريّ، وقد أخرج هذا، وقد وافق يونسُ معمرًا وشعيبًا في الإسناد، لكن زاد فيه مع سعيد بن المسيب عبد الرَّحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك، وساق الحديث عنهما، عن أبي هريرة.

وقوله: "وقال ابن المبارك، عن يونس، عن الزهريّ، عن سعيد، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم" يعني: وافق شبيبًا في لفظ "حنين"، وخالفه في الإسناد، فأرسل الحديث، وطريق ابن المبارك هذه وصلها في "الجهاد"، ولم أر فيها تعيين الغزوة.

وقوله: "وتابعه صالح" يعني: ابن كيسان، عن الزهريّ، وهذه المتابعة ذكرها البخاري في "تاريخه"، قال: قال لي عبد العزيز الأُوَيسيّ، عن إبراهيم بن سعد، عن صالح بن كيسان، عن ابن شهاب: أخبرني عبد الرَّحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك أن بعض مَن شَهِد مع النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: إن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال لرجل معه: "هذا من أهل النار

"الحديث، فظهر أن المراد بالمتابعة أن صالحًا تابع رواية ابن المبارك، عن يونس في ترك ذكر اسم الغزوة، لا في بقية المتن، ولا في الإسناد، وقد رواه يعقوب بن إبراهيم بن سعد، عن أبيه، عن صالح، عن الزهريّ، فقال: عن عبد الرَّحمن بن المسيب، مرسلًا، وَوَهِمَ فيه، وكأنه أراد أن يقول: عن عبد الرَّحمن بن عبد الله بن كعب، وسعيد بن المسيب، فَذَهِلَ.

وقوله: "وقال الزبيديّ: أخبرني الزهريّ أن عبد الرَّحمن بن كعب، أخبره

ص: 346

أن عبيد الله بن كعب قال: أخبرني مَن شَهِد مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم خيبر، قال الزهريّ: وأخبرني عبيد الله بن عبد الله، وسعيد، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وفي رواية النسفيّ: عبد الله بن عبد الله، هكذا أورد البخاريّ طريق الزُّبيديَ هذه معلقةً مختصرةً، وأجحف فيها في الاختصار، فإنه لَمْ يفصل بين رواية الزهريّ الموصولة عن عبد الرَّحمن، وبين روايته المرسلة عن سعيد، وعبيد الله بن عبد الله، وقد أوضح ذلك في "التاريخ"، وكذلك أبو نعيم في "المستخرج"، والذُّهليّ في "الزهريات"، فأخرجوه من طريق عبد الله بن سالم الحمصيّ، عن الزُّبيديّ، فساق الحديث الموصول بالقصة، ثم ساق بعده: قال الزُّبَيديّ: قال الزهريّ: وأخبرني عبد الله بن عبد الله، وسعيد بن المسيب: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يا بلال قُمْ، فأَذِّنْ: إنه لا يدخل الجَنَّة إلَّا رجل مؤمن، واللهُ يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر"، هذا سياق البخاريّ، وفي سياق الذُّهليّ، قال الزهري: وأخبرني عبد الرَّحمن بن عبد الله، وهذا أصوب من عبيد الله بن عبد الله، نَبَّهَ عليه أبو علي الجيانيّ.

وقد اقتضى صنيع البخاريّ ترجيحَ رواية شعيب ومعمر، وأشار إلى أن بقية الروايات محتملة، وهذه عادته في الروايات المختلفة، إذا رَجَحَ بعضُها عنده اعتمده، وأشار إلى البقية، وأن ذلك لا يستلزم القَدْحَ في الرواية الراجحة؛ لأن شرط الاضطراب أن تتساوى وجوه الاختلاف، فلا يُرَجَّحَ شيءٌ منها.

وذَكَر مسلم في "كتاب التمييز" فيه اختلافًا آخر على الزهريّ، فقال: حدثنا الحسن بن الحلوانيّ، عن يعقوب بن إبراهيم بن سعد، عن صالح بن كيسان، عن ابن شهاب: أخبرني عبد الرَّحمن بن المسيب، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"يا بلال قُمْ، فأَذِّنْ: إنه لا يدخل الجَنَّة إلَّا مؤمن"، قال الحلوانيّ: قلت ليعقوب بن إبراهيم: مَنْ عبدُ الرَّحمن بن المسيب هذا؟ قال: كان لسعيد بن المسيب أخٌ اسمه عبد الرَّحمن، وكان رجل من بني كنانة يقال له: عبد الرَّحمن بن المسيب، فأظنه أن هذا هو الكنانيّ، قال مسلم: وليس ما قال يعقوب بشيء، وإنما سَقَطَ من هذا الإسناد واو واحدة، فَفَحُشَ خطؤه، وإنما هو عن الزهريّ، عن عبد الرَّحمن، وابن المسيب، فعبد الرَّحمن هو ابن عبد الله بن كعب، وابن المسيب، هو سعيد، وقد حدث به عن الزهريّ كذلك

ص: 347

ابن أخيه، وموسى بن عقبة، ويونس بن يزيد، والله أعلم.

وكذا رَجَّحَ الذهليّ رواية شعيب ومعمر، قال: ولا تدفع رواية الأخيرين؛ لأن الزهريّ كان يقع له الحديث من عِدَّة طُرُق، فيحمله عنه أصحابه بحسب ذلك، نعم، ساق من طريق موسى بن عقبة، وابن أخي الزهريّ، عن الزهريّ موافقةَ الزُّبَيديّ على إرسال آخر الحديث. انتهى كلام الحافظ رحمه الله تعالى

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هكذا حقّق الحافظ رحمه الله تعالى، وهو تحقيقٌ نفيسٌ.

وحاصله أن الرواية الراجحة هي رواية شعيب بن أبي حمزة، عن الزهريّ، وقد تابعه معمر وروايته عند مسلم هنا، فالحديث موصول، وأن الغزوة هي خيبر، لا حُنينٌ، فتنبّه لذلك، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[313]

(112) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ، وَهُوَ ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْقَارِيُّ، حَيٌّ مِنَ الْعَرَب، عَنْ أَبِي حَازِم، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْتَقَى هُوَ وَالْمُشْرِكُونَ، فَاقْتَتَلوا، فَلَمَّا مَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى عَسْكَرِه، وَمَالَ الْآخَرُونَ إِلَى عَسْكَرِهِمْ، وَفي أَصْحَابِ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ، لَا يَدَع لَهُمْ شَاذَّةً، إِلَّا اتَّبَعَهَا، يَضْرِبُهَا بِسَيْفِه، فَقَالُوا: مَا أَجْزَأَ مِنَّا الْيَوْمَ أَحَدٌ كَمَا أَجْزَأَ فُلَانٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"أَمَا إِنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ"، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: أَنا صَاحِبُهُ أَبَدًا، قَالَ: فَخَرَجَ مَعَهُ، كُلَّمَا وَقَفَ وَقَفَ مَعَهُ، وَإِذَا أَسْرَعَ أَسْرَعَ مَعَهُ، قَالَ: فَجُرِحَ الرَّجُلُ جُرْحًا شَدِيدًا، فَاسْتَعْجَلَ الْمَوْتَ، فَوَضَعَ نَصْلَ سَيْفِهِ بِالْأَرْض، وَذُبَابَهُ بَيْنَ ثَدْيَيْه، ثُمَّ تَحَامَلَ عَلَى سَيْفِه، فَقَتَلَ نَفْسَهُ، فَخَرَجَ الرَّجُلُ إِلَى رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ الله، قَالَ:"وَمَا ذَاكَ؟ " قَالَ: الرَّجُلُ الَّذِي ذَكَرْتَ آنِفًا أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّار، فَأَعْظَمَ النَّاسُ ذَلِكَ، فَقُلْتُ: أنَا لَكُمْ بِه،

(1)

"الفتح" 7/ 541 - 542 "كتاب المغازي" رقم الحديث (4203 - 4204).

ص: 348

فَخَرَجْتُ فِي طَلَبِه، حَتَّى جُرِحَ جُرْحًا شَدِيدًا، فَاسْتَعْجَلَ الْمَوْتَ، فَوَضَعَ نَصْلَ سَيْفِهِ بِالْأَرْض، وَذُبَابَهُ بَيْنَ ثَدْيَيْه، ثُمَّ تَحَامَلَ عَلَيْه، فَقَتَلَ نَفْسَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ ذَلِكَ:"إِنَّ الرَّجُلَ لِيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ الْجَنَّةِ فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاس، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ النَّار، وَإِنَّ الرَّجُلَ لِيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ النَّارِ فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاس، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ").

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) بن جَمِيل بن طَرِيف الثقفيّ، أبو رَجاء الْبَغْلانيّ، قيل: اسمه يحيى، وقيل: عليّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 240) عن (90) سنة (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.

2 -

(يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْقَارِيُّ) المدنيّ، نزيل الإسكندريّة، حَلِيف بني زُهْرة، ثقةٌ [8](ت 181)(خ م د ت س) تقدم في "الإيمان" 35/ 245.

[تنبيه]: قوله: (حَيٌّ مِنَ الْعَرَبِ) الظاهر أنه من كلام المصنّف، ويحتمل أن يكون من كلام شيخه، يعني أن "القاريّ" بالقاف، وتشديد الياء نسبة إلى قبيلة من قبائل العرب.

قال السمعانيّ في "الأنساب": القاريّ - بالقاف، والراء المهملة المكسورة، وتشديد ياء النسبة، غير مهموزة - هذه النسبة إلى بني قارة، وهم بطن معروف من العرب، قال بعضهم: أيثع بن مليح بن الهون بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر، ومن قال: أيثع بن الهون، فقد وَهِمَ، قال أبو عُبيدة: أيثع هو القارة، وقال غيره: القارة: هو الديش بن محلم بن غالب بن عايذة بن أيثع بن مليح بن الهون بن خزيمة بن مدركة، وإنما سُمُّوا القارة لأن يعمر بن عوف الشداخ أراد أن يفرقهم في بطون بني كنانة، فقال رجل منهم [من الوافر]:

دَعُونَا قَارَةً لَا تَنْفِرُونَا

فَنُجْفِلَ مِثْلَ إِجْفَالِ الظَّلِيمِ

فسُمُّوا القارة، ويعمر بن الشداخ أحد بني الليث، وقيل في المثل السائر: قد أنصف من راماها، يصفهم بالرمي والإصابة. انتهى كلام السمعانيّ

(1)

.

(1)

"الأنساب" 4/ 406.

ص: 349

3 -

(أَبُو حَازِمٍ) هو: سلمة بن دينار الأعرج الأَفْزر

(1)

التَّمّار المدنيّ القاصّ، مولى الأسود بن سفيان، ويقال: مولى بني شِجْع من بني ليث، ومن قال: أشجع فقد وَهِمَ، ثقة عابدٌ [5].

رَوَى عن سهل بن سعد الساعدي، وأبي إمامة بن سهل بن حُنيف، وسعيد بن المسيب، وابن عمر، وابن عمرو بن العاص، ولم يسمع منهما، وعامر بن عبد الله بن الزبير، وعبد الله بن أبي قتادة، وعبيد الله بن مقسم، وغيرهم.

ورَوَى عنه الزهري، وعبيد الله بن عمر، وابن إسحاق، وابن عجلان، وابن أبي ذئب، ومالك، والحمادان، والسفيانان، وسليمان بن بلال، وسعيد بن أبي هلال، وابناه عبد الجبار وعبد العزيز، وخلق، آخرهم أبو ضمرة أنس بن عياض الليثي.

قال أحمد وأبو حاتم والعجلي والنسائي: ثقة. وقال ابن خزيمة: ثقة لَمْ يكن في زمانه مثله، وقال ابنه ليحيى بن صالح: مَنْ حَدّثك أن أبي سمع من أحد من الصحابة، غير سهل بن سعد، فقد كَذَب، وقال مصعب بن عبد الله الزبيري: أصله فارسيّ، وكان أشقر، أحول، أفزر، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: كان قاصّ أهل المدينة، ومن عبّادهم، وزُهّادهم، بَعَث إليه سليمان بن عبد الملك بالزهري في أن يأتيه، فقال للزهري: إن كان له حاجة فليأت، وأما أنا فمالي إليه حاجة، مات سنة (35)، وقد قيل: سنة (4)، وقال ابن سعد: كان يقصّ بعد الفجر في مسجد المدينة، ومات في خلافة أبي جعفر، بعد سنة أربعين ومائة، وكان ثقة، كثير الحديث، وقال يعقوب بن سفيان: مات بعد الثلاثين إلى الأربعين، وقال عمرو بن علي: مات سنة (33)، وقال خليفة: سنة (35)، وقال ابن معين: مات سنة أربع وأربعين ومائة.

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (40) حديثًا.

(1)

قال في "اللسان" 5/ 53: الْفُزُور: الشُّقوق والصُّدوع، ويقال: فَزَرْتُ أنف فلان فَزْرًا: أي ضربته بشيء فشققته، فهو مَفْزُورُ الأنف. انتهى.

ص: 350

4 -

(سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ السَّاعِدِيُّ) هو: سهل بن سعد بن مالك بن خالد بن ثعلبة بن حارثة بن عمرو بن الخزرج بن ساعدة بن كعب بن الخزرج الأنصاريّ الساعديّ، أبو العباس، ويقال: أبو يحيى الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما.

رَوَى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن أُبَيّ بن كعب، وعاصم بن عدي، وعمرو بن عَبَسَة، ومروان بن الحكم، وهو دونه.

ورَوَى عنه ابنه عباس، والزهري، وأبو حازم بن دينار، ووَفَاء بن شُريح الْحَضْرميّ، ويحيى بن ميمون الحضرمي، وعبد الله بن عبد الرَّحمن بن أبي ذُبَاب، وعمرو بن جابر الحضرميّ، وغيرهم.

قال شعيب، عن الزهري، عن سهل بن سعد: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم تُوُفِّي، وهو ابن (15) سنة، قال أبو نعيم وغير واحد: مات سنة (88)، زاد بعضهم: وهو ابن (96) سنة، وقال الواقدي وغيره: مات سنة (91)، وهو ابن مائة سنة، وهو آخر من مات بالمدينة من الصحابة.

قال الحافظ: رواية شعيب صحيحة، وهي المعتمدة في مولده، فيكون مولده قبل الهجرة بخمس سنين، فأيّ سنة مات يضاف إليها الخمس، فيخرج مبلغ عمره على الصحة، وما يخالف ذلك لا يُعَوَّل عليه.

وقال ابن حبّان: كان اسمه حَزْنًا فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم سَهْلًا، وقال أبو حاتم الرازي: عاش مائة سنة، أو أكثر، فعلى هذا، يكون تأخر إلى سنة (96) أو بعدها، وزعم قتادة أنه مات بمصر، وزعم أبو بكر بن أبي داود أنه مات بالإسكندرية، قال الحافظ: وهذا عندي أنه وَلَدُهُ عباس بن سهل، انتقل الذهن إليه، وأما سهل فموته بالمدينة. انتهى

(1)

.

أخرج الجماعة، وله في هذا الكتاب (33) حديثًا.

[تنبيه]: قوله: (السَّاعديّ) نسبة إلى بني ساعدة، قبيلة من الأنصار، وهو: ساعدة بن كعب بن الخزرج بن الحارث بن الخزرج بن حارثة بن ثعلبة

(2)

، والله تعالى أعلم.

(1)

"تهذيب التهذيب" 2/ 124.

(2)

راجع: "اللباب في تهذيب الأنساب" 2/ 92.

ص: 351

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله تعالى، وهو أعلى ما وقع له من الأسانيد، وهو (9) من رباعيات الكتاب.

2 -

(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الجماعة.

3 -

(ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، غير شيخه، فإنه بَغْلانيّ - بفتح الموحدة، وسكون الغين المعجمة - نسبة إلى قرية من قرى بَلْخَ، والظاهر أنه دخل المدينة؛ للأخذ من مشايخها.

4 -

(ومنها): أنه ليس في الرواة من يُسمّى قُتيبة غير شيخ المصنّف هذا، وقد سبق الخلاف في اسمه آنفًا.

5 -

(ومنها): أن جملة من يُكنى بأبي حازم في الرواة ستة، وقد تقدّم بيانهم في ترجمة أبي حازم سلمان الأشجعيّ في "الإيمان"(9/ 142) وكذا بيان الفرق بين أبي حازم المترجم هنا، والمترجم هناك، فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق.

6 -

(ومنها): أن سهل بن سعد صحابيّ ابن صحابيّ رضي الله عنهما، وهو آخر من مات بالمدينة من الصحابة رضي الله عنهم، على الأصحّ، مات سنة (91)، وهو ابن مائة سنة، كما بيّنته آنفًا، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ) رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْتَقَى هُوَ وَالْمُشْرِكُونَ) زاد في رواية عند البخاريّ: "في بعض مغازيه"، قال الحافظ: ولم أقف على تعيين كونها خيبر، لكنه مبني على أن القصة التي في حديث سهل رضي الله عنه متحدة مع القصة التي في حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وقد صُرّح في حديث أبي هريرة أن ذلك كان بخيبر.

وفيه نظر، فإن في سياق سهل أن الرجل الذي قَتَل نفسه اتكأ على حَدِّ سيفه حتى خرج من ظهره، وفي سياق أبي هريرة أنه استخرج أَسْهُمًا من كنانته، فنحر بها نفسه، وأيضًا ففي حديث سهل: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال لهم لَمّا أخبروه بقصته: "إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجَنَّة

" الحديث، وفي حديث أبي

ص: 352

هريرة أنه قال لهم لَمّا أخبروه بقصته: "قُمْ يا بلال، فأَذِّن: إنه لا يدخل الجَنَّة إلَّا مؤمن"، ولهذا جنح ابن التين إلى التعدد.

ويمكن الجمع بأنه لا منافاة في المغايرة الأخيرة، وأما الأُولى فيحتمل أن يكون نَحَرَ نفسه بأسهمه، فلم تُزْهَق روحه، وإن كان قد أشرف على القتل، فاتكأ حينئذ على سيفه استعجالًا للموت.

لكن جزم ابن الجوزيّ في "مشكله" بأن القصة التي حكاها سهل بن سعد وقعت بأحد، قال: واسم الرجل قُزْمَان الظَّفَريّ، وكان قد تَخَلَّف عن المسلمين يوم أحد، فَعَيَّره النساء، فخرج حتى صار في الصف الأول، فكان أوَّل مَن رَمَى بسهم، ثم صار إلى السيف، ففعل العجائب، فلما انكشف المسلمون كَسَرَ جَفْنَ سيفه، وجَعَلَ يقول: الموت أحسن من الفرار، فَمَرَّ به قتادة بن النعمان، فقال له هنيئًا لك بالشهادة، قال: والله إني ما قاتلت على دين، وإنما قاتلت على حَسَب قومي، ثم أقلقته الجراحة، فقتل نفسه.

قال الحافظ: وهذا الذي نقله أخذه من مغازي الواقديّ، وهو لا يُحْتَجُّ به إذا انفرد، فكيف إذا خالف؟.

نعم، أخرج أبو يعلى من طريق سعيد بن عبد الرَّحمن القاضي، عن أبي حازم حديث الباب، وأوَّله أنه قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد: ما رأينا مثل ما أَبْلَى فلان، لقد فَرَّ الناسُ، وما فَرَّ، وما ترك للمشركين شاذّةً، ولا فاذَّةً

الحديث بطوله، على نحو ما في "الصحيح"، وليس فيه تسميته، وسعيد مُختَلف فيه، وما أظن روايته خَفِيت على البخاريّ، وأظنه لَمْ يَلتَفِت إليها؛ لأن في بعض طرقه عن أبي حازم: غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وظاهره يقتضي أنَّها غير أحد؛ لأن سَهْلًا ما كان حينئذ ممن يُطلِق على نفسه ذلك؛ لصغره؛ لأن الصحيح أن مَوْلِده قبل الهجرة بخمس سنين، فيكون في أحد ابن عشرة، أو إحدى عشرة، على أنه قد حَفِظَ أشياء من أمر أُحُد، مثل غَسْل فاطمة رضي الله عنها جراحة النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولا يلزم من ذلك أن يقول: غزونا، إلَّا أن يُحْمَل على المجاز، كما سيأتي لأبي هريرة، لكن يدفعه ما سيأتي من رواية الكشميهني قريبًا

(1)

.

(1)

يعني: قوله: "فقلت" بضمير المتكلّم.

ص: 353

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الذي يظهر لي أن قصّة سهل رضي الله عنه هذه غير قصّة أبي هريرة رضي الله عنه التي قبلها، كما لا يخفى ذلك على من تأمّل سياقهما، وأما الجمع بينهما بالتأويل فتكلّفٌ ظاهر، لا داعي إليه، فتأمله بالإنصاف، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

(فَاقْتَتَلُوا) أي المسلمون، والمشركون، أي قتل بعضهم بعضًا.

[تنبيه]: قال المجد رحمه الله تعالى: تقاتلوا، واقتتلوا بمعنًى، ولم يُدغم؛ لأن التاء غير لازمة، ويقال أيضًا: قَتَّلُوا يُقَتِّلُونَ بنقل حركة التاء إلى القاف فيهما، وبحذف الألف؛ لأنَّها مُجْتَلَبَةٌ للسكون، والفاعل من الأول: مُقَتِّلٌ، ومن الثاني: مُقِتِّلٌ - بكسر القاف - وأهل مكة يقولون: مُقُتِّلٌ، يُتْبِعُون الضمَّةَ الضمَّةَ. انتهى

(1)

.

(فَلَمَّا مَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى عَسْكَرِهِ) أي رجع بعد فراغ القتال في ذلك اليوم (وَمَالَ الْآخَرُونَ إِلَى عَسْكَرِهِمْ، وَفِي أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ) قال النوويّ رحمه الله تعالى: اسمه قُزْمان، قاله الخطيب البغداديّ، قال: وكان من المنافقين. انتهى

(2)

.

وقال في "الفتح": وقع في كلام جماعة ممن تكلم على هذا الكتاب أن اسمه قُزْمَان - بضم القاف، وسكون الزاي - الظُّفْريّ - بضم المعجمة، والفاء -: نسبة إلى بني ظُفْر بطن من الأنصار، وكان يُكنى أبا الْغَيْدَاق - بمعجمة مفتوحة، وتحتانية ساكنة، وآخره قاف - وَيعكُر عليه ما تقدم

(3)

. انتهى

(4)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: أما على دعوى اتّحاد القصّتين فلا يُشكل، وأما على اختلافهما، وهو الذي رجّحته فيما مرَّ آنفًا، فلا يصحّ كونه قُزمان، فتأملّه، والله تعالى أعلم.

(لَا يَدَعُ) بفتح أوله، وثانيه، مضارع وَدَعَ، وقد زعم بعض أهل النحاة:

(1)

"القاموس المحيط" ص 942 - 943.

(2)

"شرح النوويّ" 2/ 123.

(3)

لعله أراد قوله فيما سبق: إنه من طريق الواقدي، وهو لا يُحتجّ به، أو أراد ما سبق من الخلاف: هل قصّة سهل هذه هي قصة أبي هريرة الماضية أم لا؟.

(4)

"الفتح" 7/ 539.

ص: 354

أن العرب أماتت ماضيه، ومصدره، واسم الفاعل منه، لكن الصواب أن ماضيه مستعمل، وقد قُرئ {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ} [الضحى: 3] بالتخفيف، ومنه هذا الحديث، وحديث:"لينتهيَنَّ أقوام عن وَدْعِهم الجمعة"

(1)

، وقد سبق تحقيق هذا مستوفًى (لَهُمْ) أي للمشركين (شَاذَّةً) هكذا معظم النسخ، ووقع في النسخة التي شرحها الأبيّ بلفظ:"شاذّة، ولا فاذّة"، فزاد "فاذّة"، وكذا هو في "مستخرج أبي نُعيم"، وهو الذي في "صحيح البخاريّ".

قال القاضي عياضٌ رحمه الله تعالى: "الشّاذّ": الخارج عن الجماعة، والشاذّ: المتفرّق أيضًا، و"الفاذّ": الفرد، ومعناه لا يخلُص منه مَن خَرَج وفَرّ، وأنّث الكلمة على معنى النسمة، أو تشبيه الخارج بشاذّ الغنم وفاذّتها، وهو بمعنى متَقَصٍّ للقتل، حتى لا يدع أحدًا على طريق المبالغة، قال ابن الأعرابيّ: يقال: فلان لا يدع شاذّةً ولا فاذّةً إذا كان شُجاعًا، لا يلقاه أحد إلَّا قتله. انتهى كلام القاضي

(2)

.

وقال في "الفتح": "الشاذّة" - بتشديد الذال المعجمة -: ما انفرد عن الجماعة، و"الفاذّة" - بالفاء - مثله، ما لَمْ يَختَلِط بهم، ثم هما صفة لمحذوف: أي نَسَمَةً، والهاء فيهما للمبالغة، والمعنى: أنه لا يَلْقَى شيئًا إلَّا قتله، وقيل: المراد بالشاذّ والفاذّ: ما كَبُرَ وصَغُرَ، وقيل: الشاذّ: الخارج، والفاذّ: المنفرد، وقيل: هما بمعنًى، وقيل: الثاني إتباع. انتهى

(3)

.

(إِلَّا اتَّبَعَهَا) وقوله: (يَضْرِبُهَا بِسَيْفِهِ) جملة في محلّ نصب على الحال من الفاعل (فَقَالُوا) أي الصحابة الحاضرون، وفي رواية للبخاريّ:"فقال": أي قائل، وفي رواية الكشميهني:"فقلتُ" بضمير المتكلّم، قال في "الفتح": فإن كانت محفوظةً عُرِف اسم قائل ذلك. انتهى

(4)

.

(1)

هو ما يأتي للمصنّف رحمه الله تعالى:

(865)

من طريق الْحَكَم بن مِيناء: أن عبد الله بن عمر، وأبا هريرة حدثاه، أنهما سمعا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على أعواد منبره:"لَيَنْتَهِيَنَّ أقوام عن وَدْعِهم الجمعات، أو لَيَخْتِمَنَّ الله على قلوبهم، ثم لَيَكُونُنَّ من الغافلين".

(2)

"إكمال المعلم" 1/ 473 - 474.

(3)

"الفتح" 7/ 540.

(4)

"الفتح" 7/ 540.

ص: 355

قال الجامع عفا الله عنه: أراد أن القائل هو سهل بن سعد الراوي، لكن الكشميهني لا يعتمدون على روايته، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

(مَا أَجْزَأَ مِنَّا الْيَوْمَ أَحَدٌ كَمَا أَجْزَأَ فُلَانٌ) بالهمز: أي ما أغنى وكفَى أحدٌ مثلَ غَنائه، وكفايته.

قال القرطبيّ: كذا صحّت روايتنا فيه رباعيًّا مهموزًا، ومعناه: ما أغني، ولا كَفَى، وفي "الصحاح": أجزأني الشيءُ: كفاني، وجزى عنّي هذا الأمر: أي قَضَى، ومنه قوله تعالى:{لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} [البقرة: 48]: أي لا تقضي، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم لأبي بُردة رضي الله عنه:"ولن تَجْزي عن أحد بعدك"، متّفقٌ عليه، قال: وبنو تميم يقولون: أجزأت عنك شاةٌ بالهمز، وقال أبو عبيد: جزأتُ بالشيّ، وأجزأتُ: أي اكتفيتُ به، وأنشد [من الوافر]:

فَإِنَّ اللُّؤْمَ فِي الأَقْوَامِ عَارٌ

وَإِنَّ الْمَرْءَ يَجْزَأُ بِالْكُرَاعِ

أي يكتفي به.

(فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَمَا) أداة استفتاح وتنبيه، كَـ "إلا" (إِنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ") وفي رواية عند البخاريّ:"فقالوا: أيُّنا من أهل الجَنَّة، إن كان هذا من أهل النار؟ "، وفي حديث أكثم بن أبي الجون الخزاعيّ، عند الطبرانيّ: قال: قلنا: يا رسول الله، فلان يجزئ في القتال، قال:"هو في النار"، قلنا: يا رسول الله، إذا كان فلان في عبادته، واجتهاده، ولين جانبه في النار، فأين نحن؟ قال:"ذلك أخباث النفاق"، قال: فكنا نتحفظ عليه في القتال

(1)

.

(فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ) قال في "الفتح": هذا الرجل هو أكثم بن أبي الجون، كما سيظهر من سياق حديثه (أنا صَاحِبُهُ أَبَدًا) وفي رواية للبخاريّ:"فقال رجل من القوم: لأتبعنه"، قال القاضي عياضٌ رحمه الله تعالى: أي لا أفارقه، وأتتبّع أمره حتى أعرف مآله؛ إذ أخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم بما دلّ على سوء عُقباه وخاتمته، أو سُوء جَرِيرته بكونه من أهل النار، وخبر صلى الله عليه وسلم صادقٌ، لا شكّ فيه، وكان ظاهره غيرَ ذلك، من نَصْر الدين، وحُسن البصيرة فيه، فأراد معرفة السبب الموجب لكونه من أهل النار؛ ليزداد يقينًا وبصيرة، كما فَعَل وذكر في

(1)

"فتح" 7/ 540.

ص: 356

نفس الحديث، ولتجديد شهادته بالنبوّة. انتهى

(1)

.

(قَالَ: فَخَرَجَ مَعَهُ، كُلَّمَا وَقَفَ) أي ذلك الرجل الذي أخبر عنه النبيّ صلى الله عليه وسلم بكونه من أهل النار (وَقَفَ مَعَهُ)، أي وقف هذا الرجل الذي وعد أنه يُصاحبه أبدًا (وَإِذَا أَسْرَعَ أَسْرَعَ مَعَهُ، قَالَ: فَجُرِحَ الرَّجُلُ) فعلٌ ونائب فاعله (جُرْحًا شَدِيدًا) الجرح بفتح الجيم مصدرُ جَرَحه من باب نَفَعَ، وبضمها اسم منه، زاد في رواية أكثم: فقلنا: يا رسول الله قد استُشهِد فلان، فقال:"هو في النار"(فَاسْتَعْجَلَ الْمَوْتَ) أي طلب سرعة موته؛ لشدّة الألم (فَوَضَعَ نَصْلَ سَيْفِهِ بِالْأَرْضِ) وفي نسخة: "في الأرض"، و"النَّصْلُ" بفتح النون، وسكون الصاد المهملة: حديدة السهم، والرمح، والسيف ما لَمْ يكن له مَقْبِضٌ، أفاده في "القاموس"

(2)

، وقال القرطبيّ: نصلُ السيف: حديدتها كلّها، وأنشدوا:

كَالسَّيْفِ سلَّ نَصْلُهُ مِنْ غِمْدِهِ

ويقال: عليها مُنْصُلٌ، والمراد بالنصل في هذا الحديث: طرف النَّصْلِ الأسفل الذي يُسمّى الْقَبِيعةَ، والرِّئاس

(3)

، وذُبابُهُ: طرفه الأعلى المحدّد المهلَّلُ، وظُبَتاه وغَرْبَاهُ: حدّاه، وصدر السيف: من مَقبضه إلى مَضرِبه، ومضربُهُ: موقعُ الضرب منه، وهو دون الذُّبَاب بشبر. انتهى

(4)

.

(وَذُبَابَهُ) بضم الذال المعجمة، وتخفيف الباء الموحدة المكررة: قال ابن الأثير: ذُبابُ السيف: طرفه الذي يُضرَب به. انتهى

(5)

. وقال النوويّ: هو طرفه الأسفل، وأما طرفه الأعلى فَمَقْبِضه

(6)

. (بَيْنَ ثَدْيَيْهِ) تثنية "ثَدْي" بفتح الثاء، وهو يُذَكَّر على اللغة الفصيحة التي اقتصر عليها الفَرّاء، وثعلب، وغيرهما، وحَكَى ابن فارس، والجوهريّ، وغيرهما فيه التذكير والتأنيث، قال ابن فارس: الثديُ للمرأة، ويقال لذلك الموضع من الرجل ثَنْدُوَة، وثُنْدُؤَةٌ بالفتح بلا همزة، وبالضم مع الهمزة، وقال الجوهريّ: والثَّدْيُ للمرأة

(1)

"إكمال المعلم" 1/ 476.

(2)

"القاموس" ص 957.

(3)

رئاس السيف بالكسر: مقبضه، أو قَبيعته. اهـ. "ق".

(4)

"المفهم" 1/ 318.

(5)

"النهاية" 2/ 152.

(6)

"شرح النوويّ" 2/ 122.

ص: 357

وللرجل، فعلى قول ابن فارس يكون في هذا الحديث قد استعار الثَّدْي للرجل، وجمع الثَّدْي: أَثْدٍ، وثُدِيٌّ بضم الثاء، وكسرها، ذكره النوويّ

(1)

.

وقال الفيّومي: "الثَّدْيُ" بلمرأة، وقد يقال في الرجل أيضًا، قاله ابن السّكّيت، ويُذكَّر، ويؤنّث، فيقال: هو الثَّدْيُ، وهي الثَّدْيُ، والجمع أَثْدٍ، وثُدِيٌّ، وأصلُهُما أَفْعُل، وفُعُولٌ، مثلُ أفلُسٍ، وفُلُوسٍ، وربّما جُمع على ثِدَاء، مثلُ سَهْمٍ ويسِهَامٍ، والثُّنْدُوة وَزْنُها فُنْعُلةٌ بضمّ الفاء والعين، ومنهم من يَجعَل النون أصليّةً، والواو زائدة، ويقول: وزنُها فُعْلُوَةٌ، قيل: هي مَغْرِزُ الثّدي، وقيل: هي اللَّحْمة التي في أصله، وقيل: هي للرجل بمنزلة الثَّدْي للمرأة، وكان رُؤبة يَهْمِزُها، قال أبو عُبيد: وعامّة العرب لا تَهْمِزُها، وحَكَى في البارع ضمّ الثاء مع الهمزة، وفتح الثاء مع الواو، وقال ابن السّكّيت: وجمع الثُّنْدُوة: ثنَادٍ على النقص. انتهى

(2)

.

(ثُمَّ تَحَامَلَ عَلَى سَيْفِهِ) أي كلّف نفسه ما لا تُطيقه، وهو الوقوع على سيفه، قال في "القاموس": تحامل في الأمر، وبه: تكلّفه على مَشَقَّة، وتحاملَ عليه: كلّفه ما لا يُطيق. انتهى

(3)

.

(فَقَتَلَ نَفْسَهُ) وفي رواية للبخاريّ: "فوَضَعَ نصاب سيفه في الأرض، وذُبابه بين ثدييه، ثم تحامل عليه، فقتل نفسه"، وفي حديث أكثم:"أخذ سيفه، فوضعه بين ثدييه، ثم اتكأ عليه، حتى خرج من ظهره، فأتيت النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقلت: أشهد أنك رسول الله"

(4)

.

(فَخَرَجَ الرَّجُلُ) أي الذي قال: أنا صاحبه أبدًا (إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ الله، قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("وَمَا ذَاكَ؟ ") أي ما سبب تجديدك للشهادة برسالتي؟ (قَالَ) الرجل (الرَّجُلُ الَّذِي ذَكَرْتَ آنِفًا) أي قريبًا، وقد تقدّم الكلام عليها (أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّار، فَأَعْظَمَ النَّاسُ ذَلِكَ) أي عظّموه، وكبُر عليهم، وإنما كان كذلك؛ لأنهم نظروا إلى سورة الحال، ولم يَعرِفوا الباطن، ولا المال، فأعلم العليمُ الخبيرُ البشيرَ النذيرَ بمغَيَّب الأمر وعاقبته، وكان ذلك من

(1)

"شرح النوويّ" 2/ 123 - 124.

(2)

"المصباح المنير" 1/ 81.

(3)

"القاموس المحيط" ص 888.

(4)

راجع: "الفتح" 7/ 543.

ص: 358

أدلّة صدق الرسول صلى الله عليه وسلم، وصحّة رسالته، ففيه التنبيه، قالهُ القرطبيّ

(1)

.

(فَقُلْتُ: أَنَا لَكُمْ بِهِ) أي أنا أكفيكم شأنه، وما يؤول إليه أمره (فَخَرَجْتُ فِي طَلَبِه، حَتَّى جُرِحَ جُرْحًا شَدِيدًا، فَاسْتَعْجَلَ الْمَوْتَ، فَوَضَعَ نَصْلَ سَيْفِهِ بِالأَرْض، وَذُبَابَهُ بَيْنَ ثَدْيَيْه، ثُمَّ تَحَامَلَ عَلَيْه، فَقَتَلَ نَفْسَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ ذَلِكَ) أي عندما أخبره الرجل بحال الرجل ("إِنَّ الرَّجُلَ لِيَعْمَلُ) قال النووي: معناه أن هذا قد يقع (عَمَلَ أَهْلِ الْجَنَّةِ فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ) قال القرطبيّ رحمه الله تعالى: هذا دليلٌ على أن ذلك الرجل لَمْ يكن مُخلِصًا في جهاده، وقد صرّح الرجل بذلك فيما يُروى عنه أنه قال: إنما قاتلتُ عن أحساب قومي، فيتناول هذا الخبر أهل الرياء، فأما حديث أبي هريرة رضي الله عنه الذي قال فيه:"إن الرجل ليعمل الزمن الطويل بعمل أهل الجنّة، ثم يُختم له بعمل أهل النار، فيدخلها"

(2)

، فإنما يتناول من كان مخلصًا في أعماله، قائمًا بها على شرطها، لكن سبقت عليه سابقة القدر، فبُدِّلَ به عند خاتمته، كما يأتي تحقيقه في "كتاب القدر" - إن شاء الله تعالى -. انتهى كلام القرطبيّ

(3)

.

(وَهُوَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ) جملة حاليّة من فاعل "يَعْمَل"(وَإِنَّ الرَّجُلَ لِيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ النَّارِ فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاس، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ") زاد في حديث أكثم: "تُدركه الشقاوة والسعادة عند خروج نفسه، فيُختَم له بها"، وسيأتي شرح الكلام الأخير في "كتاب القدر" - إن شاء الله تعالى - والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث سهل بن سعد رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.

(1)

"المفهم" 1/ 318.

(2)

سيأتي هذا الحديث للمصنّف في "كتاب القدر" برقم:

(2651)

من طريق العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إن الرجل ليعمل الزمن الطويل بعمل أهل الجَنَّة، ثم يُختَم له عمله بعمل أهل النار، وإن الرجل ليعمل الزمن الطويل بعمل أهل النار، ثم يختم له عمله بعمل أهل الجَنَّة".

(3)

"المفهم" 1/ 319.

ص: 359

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا في "الإيمان"[50/ 313](112)، وفي "القدر"(112) مختصرًا

(1)

، و (البخاريّ) في "الجهاد"(2898)، و"المغازي"(4202 و 4207)، و"الرقاق"(6493)، و"القدر"(6607)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 331 و 332 و 335)، و (أبو القاسم البغويّ) في "الجعديَّات"(3039)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(140)، و (أبو نُعيم) في "مستخرجه"(300)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(5784 و 5798 و 5799 و 5806 و 5825 و 5830 و 5891 و 5952 و 6001)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6175)، و (ابن أبي عاصم) في "السنّة"(216)، و (الآجريّ) في "الشريعة"(ص 185)، و (البيهقيّ) في "دلائل النبوّة"(4/ 252)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان أن قتل النفس من الكبائر الموبقة، وأنه ينافي الإيمان، وهو وجه المطابقة في إيراده في أبواب الإيمان.

2 -

(ومنها): التنبيه على ترك الاعتماد على الأعمال، والتعويل على فضل ذي العزّة والجلال.

3 -

(ومنها): أنه يؤخذ من قوله: "لا يدع لهم شاذّة" جواز الإغياء في الكلام، والمبالغة فيه، إذا احتيج إليه، ولم يكن ذلك تعمّقًا، ولا تشدّقًا، فيجوز أن يُعبَّر بالعموم عن الكثير الغالب، كقوله صلى الله عليه وسلم:"لا يَضَعُ عصاه عن عاتقه"

(2)

.

4 -

(ومنها): بيان أن الأعمال بخواتيمها، فلا ينبغي الاغترار بالأعمال، والركون إليها؛ مخافة من انقلاب الحال عن انقضاء الآجال؛ للقدر السابق، وكذا ينبغي للعاصي أن لا يَقْنَط، ولغيره أن لا يُقنطه من رحمة الله تعالى.

5 -

(ومنها): أنه لا ينبغي أن يُطلق على من قُتل في الجهاد أنه شهيد؛

(1)

ولفظه: (112) عن سهل بن سعد الساعدي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الرجل ليعمل عمل أهل الجَنَّة فيما يبدو للناس، وهو من أهل النار، وإن الرجل ليعمل عمل أهل النار فيما يبدو للناس، وهو من أهل الجَنَّة".

(2)

راجع: "إكمال المعلم" 1/ 474، و"المفهم" 1/ 317.

ص: 360

لاحتمال أن يكون مثل هذا الرجل، وإن كان يُعطى في الظاهر أحكام الشهداء في الدنيا، وقد أخرج أحمد، وأصحاب السنن بسند صحيح عن أبي العَجْفاء، قال: سمعت عمر رضي الله عنه يقول، فذكر المغالاة في صداق النساء، قال: وأخرى تقولونها في مغازيكم: قُتِل فلان شهيدًا، مات فلان شهيدًا، ولعله أن يكون قد أوقر عَجُزَ دابته أو دَفَّ راحلته ذهبًا وفضةً، يبتغي التجارة، فلا تقولوا ذاكم، ولكن قولوا كما قال محمد صلى الله عليه وسلم:"من قُتِل في سبيل الله فهو في الجَنَّة"، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أَولَ الكتاب قال:

[314]

(113) - (حَدَّثَني مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثنا الزُّبَيْرِيُّ، وَهُوَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْر، حَدَّثَنَا شَيْبَانُ، قَالَ: سَمِعْتُ الْحَسَنَ يَقُولُ: "إِنَّ رَجُلًا مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، خَرَجَتْ بِهِ قَرْحَة، فَلَمَّا آذَتْهُ، انْتَزَعَ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِه، فَنكَأَهَا، فَلَمْ يَرْقَأِ الدَّمُ حَتَّى مَاتَ، قَالَ رَبُّكُمْ: قَدْ حَرَّمْتُ عَلَيْهِ الجَنَّةَ"، ثُمَّ مَدَّ يَدَهُ إِلَى الْمَسْجِد، فَقَالَ: إِي وَاللهِ لَقَدْ حَدَّثَني بِهَذَا الْحَدِيثِ جُنْدَبٌ، عَنْ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم في هَذَا الْمَسْجِدِ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ) النيسابوريّ الحافظ المذكور قبل حديث.

2 -

(الزُّبَيْرِيُّ، مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ) هو: محمد بن عبد الله بن الزبير بن عُمَرَ بن دِرْهم الأسديّ مولاهم الزبيريّ، أَبُو أَحْمَدَ الكوفيّ، ثقة ثبت، إلَّا أنه قد يُخطئ في حديث الثوريّ [9].

رَوَى عن أيمن بن نابل، ويحيى بن أبي الهيثم العطار، وعيسى بن طهمان، وفِطر بن خليفة، وسفيان الثوري، ومسعر، ومالك بن مغول، ومالك بن أنس، وإسرائيل بن يونس، وإبراهيم بن طهمان، وغيرهم.

ورَوَى عنه ابنه طاهر، وأحمد بن حنبل، وأبو خيثمة، وبندار، وأبو موسى، وأحمد بن منيع، وإبراهيم بن سعيد الجوهري، وأبو بكر بن أبي شيبة، وعبد الله بن محمد المسندي، وعَمرو بن محمد الناقد، ونصر بن عليّ الجهضميّ، وغيرهم.

ص: 361

قال نصر بن علي: سمعت أبا أحمد الزبيري يقول: لا أبالي أن يُسرَق مني كتاب سفيان، إني أحفظه كله، وقال ابن نمير: أبو أحمد الزبيري صدوق، في الطبقة الثالثة من أصحاب الثوري، ما علمت إلَّا خيرًا، مشهور بالطلب، ثقة، صحيح الكتاب، وكان صديق أبي نعيم، وأبو نعيم أقدم سماعًا وأسنّ منه، وقال حنبل بن إسحاق عن أحمد بن حنبل: كان كثير الخطأ في حديث سفيان، وقال ابن أبي خيثمة عن ابن معين: ثقة، وقال عثمان الدارمي عن ابن معين: ليس به بأس، وقال العجلي: كوفي ثقة يتشيع، وقال بندار: ما رأيت أحفظ منه، وقال أبو زرعة، وابن خِرَاش: صدوق، وقال أبو حاتم: عابد مجتهد، حافظ للحديث، له أوهام، وقال ابن قانع: ثقة، وقال النسائي: ليس به بأس، وقال ابن أبي خيثمة عن محمد بن يزيد: كان يصوم الدهر.

قال أحمد بن حنبل وغيره: مات بالأهواز سنة ثلاث ومائتين. وفيها أرّخه ابن سعد، وقال: كان صدوقًا، كثير الحديث.

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (22) حديثًا.

3 -

(شَيْبَانُ) بن عبد الرَّحمن التميميّ مولاهم النحويّ، أبو معاوية البصريّ، نزيل الكوفة، ثقة، صاحب كتاب [7](ت 164)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 118.

4 -

(الْحَسَنُ) بن أبي الحسن يسار الأنصاريّ مولاهم، أبو سعيد البصريّ الإمام الحجة المثبت الفقيه، يرسل، ويُدلّس، رأس الطبقة [3](ت 110)، وقد قارب (90)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" ج 1 ص 306.

5 -

(جُنْدَبُ بْنُ عَبْدِ اللهِ الْبَجَلِيُّ) هو: جُنْدَب بن عبد الله بن سفيان الْبَجَليّ، ثم الْعَلَقيّ، أبو عبد الله، وربّما نُسب إلى جدّه، صحابيّ مات رضي الله عنه بعد الستّين (ع) تقدم في "الإيمان" 43/ 286، والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله تعالى.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، في أخرج له ابن ماجة.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالتحديث، والسماع.

ص: 362

4 -

(ومنها): أن فيه شيبان النحويّ، وهو منسوب إلى نَحْوَة، بطنٍ من الأزد، لا إلى علم النحو، وإن كان هو المشهور في هذه النسبة، ومثله يزيد النحويّ، ولا ثالث لهما، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

عن شيبان بن عبد الرَّحمن النحويّ، أنه (قَالَ: سَمِعْتُ الْحَسَنَ) البصريّ (يَقُولُ: "إِنَّ رَجُلًا مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ) قال الحافظ: لَمْ أقف على اسمه (خَرَجَتْ بِهِ قَرْحَةٌ) بفتح القاف، وسكون الراء: واحدة القرُوح، وهي حبات تَخْرُج في بدن الإنسان، وفي الرواية التالية:"كان خُراجٌ" - بضمّ الخاء المعجمة، وتخفيف الراء -: وهي الْقَرْحَةُ، وفي رواية البخاريّ في "ذكر بني إسرائيل":"كان فيمن كان قبلكم رجلٌ به جُرْحٌ" بضم الجيم، وسكون الراء، وفي رواية له في "الجنائز":"به جِرَاحٌ"، قال في "الفتح": وكأنه كان به جُرْح، ثم صار قَرْحَةً، قال: وذكره بعضهم بضم المعجمة، وآخره جيم، وهو تصحيف. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هكذا ادّعى التصحيف في "الفتح"، فإن أراد خصوص رواية البخاريّ، فيمكن أن يُسلّم، وإلا فرواية مسلم الآتية بلفظ "خُرَاج" بالضبط المذكور، فلا وجه لإنكارها، فتبصّر، والله تعالى أعلم.

(فَلَمَّا آذَتْهُ انْتَزَعَ) وفي رواية البخاريّ: "فَجَزعَ، فأَخَذَ سِكِّينًا، فَحَزَّ بها يده"، ومعنى "انتزع": أخرج (سَهْمًا) بفتح، فسكون: واحدُ النَّبْل، وقيل: نفسُ النَّصْلِ

(2)

. (مِنْ كِنَانَتِهِ) بكسر الكاف: هي جَعْبَة النشاب، مفتوح الجيم، سُمّيت كنانةً؛ لأنَّها تَكِنّ السِّهَامَ: أي تستُرُها (فَنكَأَهَا) - بالنون، والهمز -: أي قشّرها، وخرقها، وفَتَحَها، وقيل: معناه: نخس موضع الجرح، وفي رواية البخاريّ:"فأَخَذَ سِكِّينًا، فَحَزَّ بها يده"، ويمكن الجمع بأن يكون فَجَّر الجرح بذُبابة السَّهْم، فلم ينفعه، فحَزَّ موضعه بالسكين، ودَلّت رواية البخاريّ هذه على أن الجرح كان في يده، قاله في "الفتح"

(3)

.

(1)

"الفتح" 6/ 577.

(2)

راجع: "القاموس" ص 1014، و"المصباح" 2/ 293.

(3)

"الفتح" 6/ 577 "كتاب أحاديث الأنبياء" رقم الحديث (3463).

ص: 363

ولفظ أبي عوانة في "مسنده""جُرح رجلٌ فيمن كان قبلكم جراحةً، فضجر، فعمد إلى سكّين، فقطع يده، فلم يرقأ الدم حتى مات، فقال الله: بادرني عبدي بنفسه، حرّمت عليه الجنّة".

وفي رواية لأبي نعيم في "المستخرج": "كان ممن قبلكم رجل جَرَح فخذه بسكّين، فلم يرقأ دمه، فمات، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال الله تعالى: بادرني عبدي بنفسه، حرّمت عليه الجنّة". انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: الظاهر أن قوله: "فخذه" محلّ نظر؛ إذ المذكور في رواية البخاريّ وغيره: "يده"، والله تعالى أعلم.

(فَلَمْ يَرْقَأِ الدَّمُ) - بالقاف، والهمز -: أي لَمْ ينقطع، يقال: رقأ الدمُ والدَّمْعُ يرقأ رُقُوءًا، مثل ركع يركع رُكوعًا: إذا سكن، وانقطع.

(حَتى مَاتَ) غاية لقوله: "فلم يرقأ"(قَالَ رَبُّكُمْ) زاد في رواية البخاريّ: "قال الله عز وجل: بادرني عبدي بنفسه"، وهي رواية أبي عوانة المذكورة آنفًا، وهو كناية عن استعجال الرجل الموتَ وسيأتي البحث فيه (قَدْ حَرَّمْتُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ") قال في "الفتح": هو جار مَجْرَى التعليل للعقوبة؛ لأنه لَمّا استعجل الموت بتعاطي سببه، من إنفاذ مقاتله، فجعل له فيه اختيارًا، عصى الله به، فناسب أن يعاقبه، ودَلّ ذلك على أنه قطع يده لإرادة الموت، لا لقصد المداواة التي يَغْلِب على الظن الانتفاع بها.

قال: وقد استُشكِل قوله: "بادرني بنفسه"، وقوله:"حَرَّمتُ عليه الجَنَّة"، لأن الأول يقتضي أن يكون مَن قُتِل فقد مات قبل أجله؛ لما يوهمه سياق الحديث، من أنه لو لَمْ يَقتُل نفسه كان قد تأخر عن ذلك الوقت وعاش، لكنه بادر فتقدم.

والثاني يقتضي تخليد الموحِّد في النار.

والجواب عن الأول أن المبادرة من حيثُ التسببُ في ذلك، والقصد له، والاختيار، وأطلق عليه المبادرة؛ لوجود صورتها، وإنما استَحَقَّ المعاقبة؛ لأن الله لَمْ يُطلِعه على انقضاء أجله، فاختار هو قتل نفسه، فاستحق المعاقبة؛ لعصيانه.

وقال القاضي أبو بكر: قضاءُ الله مطلقٌ، ومقيدٌ بصفة، فالمطلق يَمضِي على الوجه بلا صارف، والمقيّدُ على الوجهين.

ص: 364

مثاله أن يُقَدَّر لواحد أن يَعِيش عشرين سنة إن قَتَلَ نفسه، وثلاثين سنة إن لَمْ يَقتُل، وهذا بالنسبة إلى ما يَعلَم به المخلوق، كملك الموت مثلًا، وأما بالنسبة إلى علم الله، فإنه لا يقع إلَّا ما عَلِمه.

ونظير ذلك الواجب الْمُخَيَّر فالواقع منه معلوم عند الله تعالى، والعبد مُخَيَّر في أيِّ الخصال يفعل.

والجواب عن الثاني من أوجه:

[أحدها]: أنه كان استَحَلَّ ذلك الفعل، فصار كافرًا.

[ثانيها]: كان كافرًا في الأصل، وعوقب بهذه المعصية زيادة على كفره.

[ثالثها]: أن المراد أن الجَنَّة حُرّمت عليه في وقتٍ ما، كالوقت الذي يَدخُل فيه السابقون، أو الوقت الذي يُعَذَّب فيه المودعدون في النار، ثم يُخْرَجون.

[رابعها]: أن المراد جنة معينة، كالفردوس مثلًا.

[خامسها]: أن ذلك وَرَدَ في سبيل التغليظ والتخويف، وظاهره غير مراد.

[سادسها]: أن التقدير: حَرَّمتُ عليه الجَنَّة إن شئتُ استمرار ذلك.

[سابعها]: قال النوويّ: يحتمل أن يكون ذلك شَرْعَ من مضى: أن أصحاب الكبائر يَكفُرون بفعلها، ذكر هذا كلّه في "الفتح"

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: أقرب التأويلات عندي هو تأويل مَن أوَّله بأن تحريمها عليه يكون تحريمًا مؤقّتًا، وهو الوقت الذي يُعذّب فيه أصحاب الكبائر، ثم يكون مآله إليها، أو المراد أن ذلك هو الذي يستحقّه؛ لعظم جُرْمه، إلَّا أن الله تعالى تفضّل على الموحِّدين، فجعل آخرهم الجنّة، وعلى أي حال، ففيه بيان عظمة ذنب قاتل نفسه عمدًا بسبب شدّة البلاء، والله تعالى أعلم بالصواب.

(ثُمَّ مَدَّ) الحسن البصريّ (يَدَهُ إِلَى الْمَسْجِدِ) أي مسجد البصرة، كما قاله في "الفتح" (فَقَالَ: إِيْ) بكسر الهمزة، وسكون المثنّاة التحتانيّة، قال ابن هشام رحمه الله تعالى:"إِيْ " بالكسر والسكون حرف جواب بمعنى "نَعَمْ"، فيكون لتصديق المخبِر، ولإعلام المستخبر، ولوعد الطالب، فتقع بعد "قام زيدٌ"،

(1)

"الفتح" 6/ 577 "كتاب أحاديث الأنبياء" رقم (3463).

ص: 365

و"هل قام زيد"، و"اضرب زيدًا"، ونحوهنّ، كما تقع "نعم"، وزعم ابن الحاجب أنَّها إنما تقع بعد الاستفهام، نحو قوله تعالى:{وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ} [يونس: 53]، ولا تقع عند الجميع إلَّا قبل القسم، وإذا قيل:"إي والله"، ثم أُسقطت الواو جاز سكون الياء وفتحُها وحذفها، وعلى الأول فيلتقي ساكنان على غير حدّهما. انتهى كلام ابن هشام

(1)

، وإلى هذا أشار شيخنا عبد الباسط في "نظم المغني"، حيث قال:

.............................

وَ"إِي" بِكَسْرٍ فَسُكُونٍ وَارِدَهْ

حَرْفَ جَوَابٍ كَـ "نَعَمْ " ويُشْتَرَطْ

إِتْبَاعُهُ بِقَسَمٍ بِلَا غَلَطْ

وَالْحَرْفُ إِنْ يُحْذَفْ فَيَاءً احْذِفِ

أَوْ سَاكِنًا أَوْ بِانْفِتَاحِهِ يَفِي

(وَاللهِ لَقَدْ حَدَّثَنِي بِهَذَا الْحَدِيثِ جُنْدَبٌ) رضي الله عنه (عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي هَذَا الْمَسْجِدِ) أي مسجد البصرة، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث جندب بن عبد الله رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا في "الإيمان"[50/ 314 و 315](113)،

و (البخاريّ) في "الجنائز"(1464)، و"أحاديث بني إسرائيل"(3463)، و (ابن حبّان)(5988 و 5989)، و (ابن منده) في "الإيمان"(647 و 648)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(2525)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(1527)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(135)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(301 و 302)، و (الطبرانيّ) في "المعجم الكبير"(1664)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(8/ 24) والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان تحريم قتل نفس القاتل، وكذا غيره؛ لأنه منافٍ للإيمان بتقدير الله تعالى، وهو وجه المطابقة لذكره هنا.

(1)

"مغني اللبيب عن كتب الأعاريب" 1/ 76 تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد.

ص: 366

2 -

(ومنها): أنه يؤخذ منه تحريم قتل الإنسان غيره بالطريق الأولى؛ لأنه إذا لَمْ يجُز قتل نفسه التي يُتوهّم أنه لا ينازعه فيها أحد، فكيف بالآخرين؟.

3 -

(ومنها): أن فيه الوقوفَ عند حقوق الله، ورحمته بخلقه، حيث حَرَّم عليهم قتل نفوسهم، وأن الأنفس ملك الله تعالى.

4 -

(ومنها): أن فيه التحديث عن الأمم الماضية؛ لأخذ العبرة عما نزل بهم بسبب مخالفتهم.

5 -

(ومنها): أن شريعة من قبلنا شريعة لنا إذا قصّه الرسول صلى الله عليه وسلم علينا، ولم يأت في شرعنا ما يُعارضه، وهذا هو القول الراجح، كما حقّقته في منظومتي "التحفة المرضيّة" في أصول الفقه، وشرحها.

6 -

(ومنها): بيان فضيلة الصبر على البلاء، وترك التضجر من الآلام؛ لئلا يُفضي إلى أشدّ منها.

7 -

(ومنها): بيان تحريم تعاطي الأسباب المفضية إلى قتل النفس.

8 -

(ومنها): التنبيه على أن حكم السِّرَاية على ما يترتب عليه ابتداء القتل.

9 -

(ومنها): بيان الاحتياط في التحديث، وكيفية الضبط له، والتحفظ فيه بذكر المكان، والإشارة إلى ضبط المحدث، وتوثيقه لمن حَدّثه؛ لِيَرْكَنَ السامع لذلك

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام الحافظ الحجة مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[315]

- (

) - (وحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُقَدَّمِيُّ، حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، قَالَ: سَمِعْتُ الْحَسَنَ يَقُولُ: حَدَّثَنَا جُنْدَبُ بْنُ عَبْدِ اللهِ الْبَجَلِيُّ، فِي هَذَا الْمَسْجِد، فَمَا نَسِينَا، وَمَا نَخْشَى أَنْ يَكُونَ جُنْدَبٌ كَذَبَ عَلَى

(1)

راجع: "الفتح" 6/ 577 "كتاب أحاديث الأنبياء" رقم الحديث (3463).

ص: 367

رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "خَرَجَ بِرَجُلٍ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ خُرَاجٌ

"، فَذَكَرَ نَحْوَهُ).

رجال هذا الإسناد: خمسةٌ:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُقَدَّمِيُّ) هو: محمد بن أبي بكر بن عليّ بن عطاء بن مُقَدَّم الْمُقَدَّمِيّ، أبو عبد الله الثقفيّ مولاهم البصريّ، ثقة [10](234)(خ م س) تقدم في "الإيمان" 10/ 145.

2 -

(وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ) بن حازم بن زيد بن عبد الله بن شُجَاع الأزديّ، أبو العباس البصري الحافظ، ثقة [9].

رَوَى عن أبيه، وعكرمة بن عَمّار، وهشام بن حَسّان، وابن عون، وهشام الدستوائيّ، وشعبة، وصَخْر بن جُوَيرية، وموسى بن عُلَيّ بن رَبَاح، وغيرهم.

ورَوَى عنه أحمد بن حنبل، وعلي بن المديني، ويحيى بن معين، وإسحاق بن راهويه، وأبو خيثمة، وعبد الله بن محمد الْمُسْنَديّ، ومحمد بن يحيى الذهليّ، وغيرهم.

قال سليمان بن داود القَزّاز: قلت لأحمد: أريد البصرة، عمن أكتب؟ قال: عن وهب بن جرير، وأبي عامر الْعَقَديّ، وقال عثمان بن سعيد الدارمي، عن يحيى بن معين: ثقة، وقال ابن أبي حاتم: سألت أبي عنه؟ فقال: صدوقٌ، قيل له: وهب بن جرير، ورَوْح بن عبادة، وعثمان بن عمر؟ قال: وهب أحبّ إلي منهما، وهبٌ صالح الحديث، وقال الآجري: سمعت أبا داود يحدث عن وهب بن جرير بن حازم، عن أبيه، سمع يحيى بن أيوب، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي وهب الْجَيْشَانيّ، قال أبو داود: جرير بن حازم رَوَى هذا عن ابن لهيعة، أُراها صحيفةً اشتبهت على وهب بن جرير، وقال النسائيّ: ليس به بأس. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: كان يخطئ. وقال العجلي: بصري ثقة، كان عفان يتكلم فيه. وقال ابن سعد: كان ثقة، وقال الْعُقيليّ: قال أحمد: قال ابن مهدي: ها هنا قوم يُحَدِّثون عن شعبة، ما رأيناهم عنده، يُعَرِّض بوهب، وقال أحمد: ما رَوَى وهب قط عن شعبة، ولكن كان وهب صاحب سنّة، حَدّث - زعموا - عن شعبة بنحو أربعة آلاف حديث، قال عفان:

ص: 368

هذه أحاديث عبد الرَّحمن الرصاصيّ، شيخ سَمِعَ من شعبة كثيرًا، ثم وقع إلى مصر، وقال وهب بن جرير: كَتَبَ لي أبي إلى شعبة، فكنت أجيء إليه، فسأله، وقال أحمد بن منصور الرَّمَاديّ: تذاكرت أنا وابنُ وَارَةَ، أيما أثبتُ، وهب، أو أبو النضر؟ فقال هو: أبو النضر، وقلت أنا: وهب.

قال ابن سعد: مات سنة ست ومائتين، وقال الآجري عن أبي داود: قال لي هارون بن عبد الله: مات وهب في المحرم سنة سبع، وفيها أَرّخه غير واحد.

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (32) حديثًا.

3 -

(أَبُوه) جرير بن حازم بن زيد بن عبد الله الأزديّ، أبو النضر البصريّ، ثقة، في حديثه عن قتادة ضعف، وله أوهام إذا حدّث من حفظه، وقد اختلط، لكنه لَمْ يحدّث بعد اختلاطه [6](ت 170)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 81.

والباقيان تقدّما في السند الماضي.

وقوله: (فِي هَذَا الْمَسْجِدِ) تقدّم أنه مسجد البصرة.

وقوله: (فَمَا نَسِينَا) أشار به إلى تحقُّقه لِمَا حَدَّث به، وقُرْب عهده به، واستمرار ذكره له.

وقوله: (وَمَا نَخْشَى أَنْ يَكُونَ جُنْدَبٌ كَذَبَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) فيه إشارةٌ إلى أن الصحابة عُدُولٌ، وأنّ الكذب مأمونٌ مِن قِبَلِهم، ولا سيما على النبيِّ صلى الله عليه وسلم.

وقوله: (خُرَاجٌ) بضم الخاء المعجمة، وتخفيف الراء، وزانُ غُرابٍ: بَثْرٌ - أي قُرُوحٌ -، الواحدة خُرَاجة، قاله في "المصباح"

(1)

، وقال في "القاموس": الْخُرَاجُ كالْغُرَاب: الْقُرُوح. انتهى

(2)

.

وقوله: (فَذَكَرَ نَحْوَهُ) فاعل "ذَكَرَ" ضمير شيخه محمد بن أبي بكر، يعني: أنه ذكر نحو متن حديث محمد بن رافع السابق.

ورواية وهب بن جرير هذه ساقها الإمام ابن حبان رحمه الله تعالى في "صحيحه"، فقال:

(1)

"المصباح المنير" 1/ 166.

(2)

"القاموس المحيط" ص 170.

ص: 369

(5988)

أخبرنا أحمد بن علي بن المثنى، حدثنا محمد بن المثنى الزَّمِنُ، حدثنا وهب بن جرير، حدثني أبي، قال: سمعت الحسن يقول: حدثنا جندب بن عبد الله، في هذا المسجد، فما نَسِينا منه، حَدَّثنا، ولا نَخْشَى أن يكون كَذَبَ على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خَرَجَ برجل خُرَاجٌ، ممن كان قبلكم، فأَخَذَ سِكِّينًا، فَوَجَأَ بها، في رَقَأَ الدم عنه حتى مات، فقال الله تبارك وتعالى: عبدي بادرني بنفسه، حَرَّمتُ عليه الجَنَّة". انتهى

(1)

والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

‌51 - (بَابُ غِلَظِ تَحْرِيمِ الْغُلُولِ)

[316]

(114) - (حَدَّثَني زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثنَا هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِم، حَدَّثنَا عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَني سِمَاكٌ الْحَنَفِيُّ، أَبُو زُمَيْلٍ، قَالَ: حَدَّثَني عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبَّاسٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّاب، قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ خَيْبَرَ، أَقْبَلَ نَفَرٌ مِنْ صَحَابَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالُوا: فُلَانٌ شَهِيدٌ، فُلَانٌ شَهِيدٌ، حَتَّى مَرُّوا عَلَى رَجُلٍ، فَقَالُوا: فُلَانٌ شَهِيدٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "كَلَّا، إِنِّي رَأَيْتُهُ فِي النَّار، فِي بُرْدَةٍ غَلَّهَا، أَوْ عَبَاءَةٍ"، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "يَا ابْنَ الْخَطَّاب، اذْهَبْ، فَنَادِ فِي النَّاسِ: إِنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا الْمُؤْمِنُونَ"، قَالَ: فَخَرَجْتُ، فَنَادَيْتُ: أَلَا إِنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ، إِلَّا الْمُؤْمِنُونَ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) النسائيّ، ثم البغداديّ الحافظ تقدّم قبل باب.

2 -

(هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ) بن مسلم الليثيّ مولاهم، أبو النضر البغداديّ، مشهور بكنيته، ولقبه قَيْصَر، ثقةٌ ثبتٌ [9](ت 207)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 36.

3 -

(عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ) الْعِجليّ، أبو عمّار اليماميّ، بصريّ الأصل، ثقةٌ،

(1)

راجع: "الإحسان بترتيب ابن حبّان" 13/ 328.

ص: 370

إلَّا في روايته عن يحيى بن أبي كثير، فضعيفٌ؛ لاضطرابه [5](ت قبيل 160)(خت م س ق) تقدم في "الإيمان" 12/ 155.

4 -

(سِمَاكٌ الْحَنَفِيُّ، أَبُو زُمَيْلٍ) - بضمّ الزاي، وتخفيف الميم المفتوحة، مصغّرًا - هو: سماك بن الوليد اليَماميّ، ثم الكوفيّ، ثقة [3](بخ م 4) تقدم في "الإيمان" 34/ 241.

5 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبَّاسٍ) بن عبد المطّلب الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما حبر الأمة، وبحرها، وترجمان القرآن (ت 68)(ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 124.

6 -

(عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ) بن نُفَيل بن عديّ القرشيّ العدويّ، أمير المؤمنين رضي الله عنه (ت 23)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 9، والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سداسيّات المصنّف رحمه الله تعالى.

2 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالتحديث، بصيغة الإفراد، إلَّا في الثاني، فبصيغة الجمع، ومن القاعدة عندهم أن الراوي إنما يقول:"حدثني" إذا سمع من لفظ الشيخ وحده، ويقول:"حدثنا" إذا سمع منه مع غيره.

3 -

(ومنها): أن فيه رواية صحابيّ، عن صحابيّ، وتابعيّ، عن تابعيّ.

4 -

(ومنها): أن ابن عبّاس أحد العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة، والمشهورين بالفتوي، ويُلقب بالحبر، والبحر؛ لسعة علمه رضي الله عنه.

5 -

(ومنها): أن عمر رضي الله عنه أحد الخلفاء الراشدين الأربعة، والعشرة المبشرين بالجنة، وأول من لُقِّب بأمير المؤمنين، ويُلقّب بالفاروق، وله مناقبُ جمة رضي الله عنه، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

عن عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أنه (قَالَ: حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ) رضي الله عنه (قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ خَيْبَرَ)"كان" هنا تامّة، بمعنى وقع، و"يوم" مرفوع على الفاعليّة، وإلى هذا أشار ابن مالك في "خلاصته" حيث قال:

...................

وَذُو تَمَامٍ مَا بِرَفْعٍ يَكْتَفَي

وقال الحريريّ في "مُلْحَته":

ص: 371

وَإِنْ تَقُلْ "يَا قَوْمُ قَدْ كَانَ الْمَطَرْ"

فَلَسْتَ تَحْتَاجُ لَهَا إِلَى خَبَرْ

ويحتمل أن تكون ناقصةً، و"يومُ" اسمها، وخبرها محذوفٌ، أي واقعًا، والفراد بيوم خيبر غزوته، والله تعالى أعلم.

وتقدم قريبًا أن يوم خيبر كان في المحرّم سنة سبع من الهجرة (أَقْبَلَ نَفَرٌ) قال في "القاموس": النَّفَرُ - أي بفتحتين -: الناس كلّهم، وما دون العشرة من الرجال، - كالنَّفِير، جمعه أَنْفَارٌ. انتهى. وقال شارحه: قال أبو العبّاس: النفّرُ، والرهط، والقوم: معناها الجمعٍ، لا واحد لها من لفظها، والنسب إليه نَفَريّ، وقال الزجَّاج: النَّفِيرُ: جمع نفر، كالعبيد. انتهى. (مِنْ صَحَابَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) "الصحابة" - بفتح الصاد المهملة -: جمع صاحب، بمعنى صحابيّ، وهؤلاء النفر لَمْ يُسمّوا، كما قاله صاحب "التنبيه"

(1)

. (فَقَالُوا: فُلَانٌ شَهِيدٌ) قال الفيّومي: "فلانٌ، وفلانة" بغير ألف ولام كناية عن الأَناسيّ، وبهما كناية عن البهائم، فيقال: ركِبتُ الفلان، وحَلَبتُ الفلانة، أفاده الفيّومي

(2)

. (فُلَانٌ شَهِيدٌ) أي لرجل آخر، فهو عطف بعاطف مقدَّر، ولم يُسمّ الفلانان، كما قاله صاحب "التنبيه"(حَتَّى مَرُّوا عَلَى رَجُلٍ) أي حتى جاؤوا في عدّهم أسماء الشهداء، على اسم رجل ممن قُتل في تلكَ المعركة، قال القرطبيّ: هذا الرجل هو المسمّى بمِدْعم، وكان عبدًا للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، يعني: الآتي في حديث أبي هريرة رضي الله عنه الآتي بعده، وقال صاحب "تنبيه المعلم": لا أعرفه.

قال الجامع عفا الله تعالى: قول القرطبيّ بعيد، فإن قصّة مِدْعَم غير هذه القصّة، كما سيأتي بيانها في شرح حديث أبي هريرة رضي الله عنه الآتي، فلا ينبغي تفسير المبهم هنا به، ويمكن أن يُفسَّر بكِرْكِرة

(3)

، كما سيأتي تحقيقه هناك، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

(فَقَالُوا: فُلَانٌ شَهِيدٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (كَلَّا) حرف رَدْع وزجر، وردّ لقوله في هذا الرجل: إنه شهيدٌ، محكوم له بالجنّة أوّلَ وَهْلَة، والمعنى: أي

(1)

راجع: "تنبيه المعلم" ص 67.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 481.

(3)

قال في "الفتح": واختُلف في ضبطه، فذكر عياضٌ أنه يقال بفتح الكافين، وبكسرهما، وقال النوويّ: إنما اختُلف في كافه الأولى، وأما الثانية فمكسورة اتفاقًا. انتهى.

ص: 372

انزجروا عن ذكر هذا الرجل في جملة الشهداء؛ لأنه ليس منهم، فقوله:(إِنِّي رَأَيْتُهُ فِي النَّارِ) جملة تعليليّة لقول: "كلا"(فِي بُرْدَةٍ) أي بسببها، فـ "في" بمعنى الباء السببيّة، كما في الحديث الآخر: "عُذِّبت امرأة النار في هرّة حبستها

"، الحديث، متّفقٌ عليه.

و"البُرْدة" - بضم الموحّدة، وسكون الراء -: قال ابن الأثير: هي الشَّمْلَة الْمُخَطَّطة، وقيل: كساءٌ أسود مُربَّعٌ، فيه صُوَرٌ، تَلبسه الأعراب، وجمعها بُرَدٌ - بضمّ، ففتح. انتهى

(1)

.

وقوله: (غَلَّهَا) بفتح الغين المعجمة، وتشديد اللام، جملة في محلّ جرّ صفة لـ "بُرْدة"، قال ابن الأثير: "الْغُلُول: الخِيَانة في المغنم، والسَّرِقةُ من الغنيمة قبل القسمة، يقال: غَلَّ في الْمَغنم يَغُلُّ غُلُولًا، فهو غالّ، وكلُّ من خان في شيء خُفْيَةً فقد غَلَّ، وسُمّيت غُلُولًا؛ لأن الأيدي فيها مَغْلُولة: أي مجعولٌ فيها غُلٌّ، وهو الحديدة التي تَجمَعُ يد الأسير إلى عُنُقه، ويقال لها جامعةٌ أيضًا. انتهى

(2)

.

وقال الفيّوميّ: غَلَّ غُلُولًا، من باب قَعَدَ، وأغلّ بالألف: خان في المغنم، وغيره، قال ابن السِّكِّيت: لَمْ نَسمَع في المغنم إلَّا غَلَّ ثلاثيًّا، وهو متعدٍّ في الأصل، لكن أُميت مفعوله، فلم يُنْطَقْ به. انتهى

(3)

.

وقال ابن قتيبة وغيره: الْغُلُول من الْغَلَل، وهو الماء الجاري بين الأشجار، فكأن الغالّ سُمّي بذلك؛ لأنه يُدخل الغلول على أثناء راحلته. انتهى

(4)

.

(أَوْ) للشكّ من الراوي (عَبَاءَةٍ") أي أو قال بدل قوله: "في بُرْدة غلّها": "في عَبَاءة غلّها"، و"الْعَبَاءة" بفتح العين المهملة، وتخفيف الموحدة، والمدّ: واحدة الْعَبَاء، ضربٌ من الأكسية، ويقال لها: عباية بالياء أيضًا، قاله ابن الأثير

(5)

.

(1)

"النهاية" 1/ 116.

(2)

"النهاية" 3/ 380.

(3)

"المصباح المنير" 2/ 452.

(4)

راجع: "المفهم" 1/ 321.

(5)

"النهاية" 3/ 174 - 175.

ص: 373

قال القرطبيّ رحمه الله تعالى: لا حجة في هذا الحديث للمكفِّرة بالذنوب؛ لأنا نقول: إن طائفةً من أهل التوحيد يدخلون النار بذنوبهم، ثم يُخرجون منها بتوحيدهم، أو بالشفاعة لهم، كما سيأتي في الأحاديث الصحيحة، ويجوز أن يكون هذا الغالّ منهم، والله تعالى أعلم

(1)

.

(ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "يَا ابْنَ الْخَطَّاب، اذْهَبْ، فَنَادِ فِي النَّاسِ: إِنَّهُ) يحتمل أن يكون بفتح الهمزة، وكسرها، كما مرّ نظيره قريبًا، فالفتح يكون بتقدير حرف جرّ: أي بأنه، والكسر يكون حكاية لفظ النداء، أي ناد بهذا اللفظ (لَا) نافية، ولذا رُفع الفعل بعدها (يَدْخُلُ الْجَنَّةَ) أي دخولًا أوّليًّا؛ توفيقًا بينه وبين النصوص التي تدلّ على أن الموحّدين يدخلون الجنّة، وإن ارتكبوا كبائر (إِلَّا الْمُؤْمِنُونَ) الاستثناء مفرّغ، ولذا يرفع "المؤمنون" على أنه فاعل بـ "يدخُلُ"(قَالَ) عمر رضي الله عنه (فَخَرَجْتُ، فَنَادَيْتُ: أَلَا) أداة استفتاح وتنبيه، يُلقى بها للمخاطب؛ تنبيهًا له، وإزالة لغفلته، وقد مرّ قريبًا نظيرها "أما"(إِنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ، إِلَّا الْمُؤْمِنُونَ).

[تنبيه]: قال الإمام الحافظ أبو عوانة رحمه الله تعالى في "مسنده المستخرج على صحيح مسلم"(1/ 48) بعد أن أخرج هذا الحديث، ما نصّه:

قال أبو عوانة: قد صَحَّ في حديث أبي هريرة أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أمر بلالًا أن ينادي: أنه "لا يدخل الجَنَّة إلَّا نفس مسلمة"، وأمر عمر أن ينادي:"لا يدخل الجَنَّة إلَّا المؤمنون"، وقال الله تبارك وتعالى:{وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85)} [آل عمران: 85]، وقد وَصَف الله صفة المؤمنين في أول "سورة الأنفال"، وفي "سورة المؤمنين"، فقال:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (1)} [الأنفال: 1]- إلى قوله: {يُنْفِقُونَ} [الأنفال: 1 - 3]، وقال:{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1)} إلى قوله: {يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون: 11][المؤمنون: 1 - 11].

قال أبو عوانة: وسألت المزني في أول ما وقع الخبر إلينا بمصر أن

(1)

"المفهم" 1/ 321.

ص: 374

بِحَرّانَ اخْتِلَافٌ

(1)

بين أهل الحديث في هذه المسألة، فسألته عن الإيمان والإسلام، فقال لي: هما والله واحد، كان بلغنا عن أحمد بن حنبل أنه فَرَّق بينهما، وزعم أن حماد بن زيد فرَّق بينهما، ثم حدثنا به صالح بن أحمد بن حنبل، عن أبيه بذلك، فقال لي المزنيّ: هما واحد، فاحتججت عليه بحديث النبيّ صلى الله عليه وسلم:"لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن"، وبقول الزهري في ذلك، والأحاديث التي جاءت في أن جبريل جاء إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم"، فسأله عن الإيمان، وسأله عن الإسلام، في أحاديث أُخَر، فرأيته لا يرجع عن قوله، وقلت له:{قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات: 14]، قال: هذه استسلمنا، فقال لي فيما قال: قال الله تبارك وتعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران: 85]، وقال لي: ويحك أَفَدِين أعلاها عند الله؟ قال الله: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: 19]، وكذلك كان إسماعيل القاضي يقول: إنهما واحد. انتهى كلام أبي عوانة رحمه الله تعالى

(2)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد استوفيت هذا البحث في هذا الشرح في أوائل "كتاب الإيمان" بما فيه الكفاية، فراجعه تستفد، وإنما ذكرت كلام أبي عوانة رحمه الله تعالى؛ لأني وجدته في هذا المحلّ، فرأيت نقله؛ محافظةً على نصّه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله تعالى.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا في "الإيمان"[51/ 316](114)، و (الترمذيّ) في "السير"(1574)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(14/ 465 - 466)، و (أحمد) في

(1)

هكذا النسخة بالرفع، وكان الأفصح أن يُنصب اسمًا لـ "أنّ"، لكن ورد بقلّة رفع الاسمين بعد "إن"، كما هو معلوم في محلّه من كتب النحو.

(2)

راجع: "مسند أبي عوانة" 1/ 53 - 54.

ص: 375

"مسنده"(1/ 30 و 47)، و (الدارميّ) في "مسنده"(2492)، و (يعقوب بن شيبة) في "مسند عمر"(ص 53 - 54)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(2489 و 4857)، و (البزار) في "مسنده"(198)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(9/ 101) و (أبو عوانة) في "مسنده"(137)، و (أبو نُعيم) في "مستخرجه"(303)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان غلظ تحريم الغلول، وأنه من الكبائر التي تنافي كمال الإيمان، وهو وجه المطابقة في ذكره هنا في أبواب الإيمان.

2 -

(ومنها): بيان ظاهره أنَّها رؤية عيان ومشاهدة، لا رؤية منام، فهو حجة لأهل السنّة على قولهم: إن الجنّة والنار قد خُلقتا، ووُجدتا.

3 -

(ومنها): أن فيه دليلًا على أن بعض من يُعذّب في النار يدخلها، ويُعذّب فيها قبل يوم القيامة، قاله القرطبيّ رحمه الله تعالى

(1)

.

4 -

(ومنها): أن من غلّ من الغنيمة لا يكون شهيدًا؛ لزجره صلى الله عليه وسلم عن تسميته به في قوله: "كلّا"، لكن قال العلماء: حكمه في الدنيا حكم الشهداء، فلا يُغسل، ولا يُصلّى عليه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[317]

(115) - (حَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِر، قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ ثَوْرِ بْنِ زيدٍ الدُّؤَلِيِّ، عَنْ سَالِمٍ أَبِي الْغَيْث، مَوْلَى ابْنِ مُطِيعٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (ح) وَحَدَّثنَا قتيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَهَذَا حَدِيثُهُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيز، يَعْني ابْنَ مُحَمَّدٍ، عَنْ ثَوْرٍ، عَنْ أَبِي الْغَيْث، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم إِلَى خَيْبَرَ، فَفَتَحَ اللهُ عَلَيْنَا، فَلَمْ نَغْنَمْ ذَهَبًا، وَلَا وَرِقًا، غَنِمْنَا الْمَتَاعَ، وَالطَّعَامَ، وَالثِّيَابَ، ثُمَّ انْطَلَقْنَا إِلَى الْوَادِي، وَمَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَبْدٌ لَهُ، وَهَبَهُ لَهُ رَجُلٌ مِنْ جُذَامَ، يُدْعَى رِفَاعَةَ بْنَ زيدٍ، مِنْ بَنِي الضُّبَيْب، فَلَمَّا نَزَلْنَا الْوَادِي، قَامَ عَبْدُ

(1)

"المفهم" 1/ 321.

ص: 376

رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَحُلُّ رَحْلَهُ، فَرُمِيَ بِسَهْمٍ، فَكَانَ فِيهِ حَتْفُهُ، فَقُلْنَا: هَنِيئًا لَهُ الشَّهَادَةُ، يَا رَسُولَ الله، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"كَلَّا، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِه، إِنَّ الشَّمْلَةَ لَتَلْتَهِبُ عَلَيْهِ نَارًا، أَخَذَهَا مِنَ الْغَنَائِمِ يَوْمَ خَيْبَرَ، لَمْ تُصِبْهَا الْمَقَاسِمُ"، قَالَ: فَفَزِعَ النَّاسُ، فَجَاءَ رَجُلٌ بِشِرَاكٍ، أَوْ شِرَاكَيْن، فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله، أَصَبْتُ يَوْمَ خَيْبَرَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"شِرَاكٌ مِنْ نَارٍ، أَوْ شِرَاكَانِ مِنْ نَارٍ").

رجال هذا الإسناد:

1 -

(أَبُو الطَّاهِرِ) أحمد بن عمرو بن عبد الله بن عمرو بن السَّرْح المصريّ، ثقةٌ [10](ت 250)(م د، س ق) تقدم في "المقدمة" 3/ 10.

2 -

(ابْنُ وَهْب) هو: عبد الله بن وهب بن مسلم القرشيّ مولاهم، أبو محمد المصريّ، ثقة حافظٌ عابدٌ فقيهٌ [9](ت 197)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 10.

3 -

(مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ) بن مالك بن أبي عامر الأصبحيّ، أبو عبد الله، إمام دار الهجرة، رأس المتقنين، وكبير المتثبّتين [7](ت 179)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" ج 1 ص 378.

4 -

(ثَوْرُ بْنُ زَيْدٍ الدُّؤَلِيُّ) بضمّ الدال، وفتح الهمزة المدنيّ، ثقةٌ [6](ت 135)(ع) تقدم في "الإيمان" 40/ 269.

5 -

(سَالِمٌ أَبُو الْغَيْث، مَوْلَى ابْنِ مُطِيعٍ) المدنيّ، ثقةٌ [3](ع) 40/ 269.

6 -

(عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ) بن عُبيَد الدّرَاورديّ، أبو محمد الْجُهنيّ مولاهم المدنيّ، صدوقٌ كان يُحدّث من كتب غيره، فيُخطئ [8](ت 186)(ع) تقدم في "الإيمان" 8/ 135.

والباقيان ذُكرا في الباب الماضي، والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سداسيّات المصنّف رحمه الله تعالى بالنسبة للسند الأول، ومن خماسيّاته بالنسبة للثاني، فهو أعلى بدرجة.

2 -

(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الجماعة.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين، غير قتيبة، فبغلانيّ، وأبي الطاهر، وابن وهب، فمصريّان.

ص: 377

4 -

(ومنها): أن فيه كتابةَ (ح) إشارة إلى تحويل الإسناد، وقد تقدّم تمام البحث فيها غير مرّة.

5 -

(ومنها): أن فيه قوله: "وَهَذَا حَدِيثُهُ" يعني: أن المتن الذي ساقه هو متن شيخه قتيبة، وأما شيخه أبو الطاهر، فرواه بمعناه.

6 -

(ومنها): أن فيه قوله: "يَعْنِي: ابْنَ مُحَمَّدٍ" وهو من زيادات المصنّف، زاده لأجل أن شيخه لَمْ ينسُبه، بل قال:"حدّثنا عبد العزيز"، فأهمله، فأراد المصنّف أن يزيل هذا الإهمال، فنسبه إلى أبيه، وزاد كلمة "يعني" فصلًا بين ما نقله عن شيخه، وبين ما زاده هو، وقد تقدّم نظير هذا غير مرّة، فلا تكن من الغافلين، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ ثَوْرِ) باسم الحيوان المعروف، وفي رواية للبخاريّ:"قال: حدّثني ثور"(بْنِ زَيْدٍ الدُّؤَلِيِّ) هكذا في بعض النسخ، وفي أكثرها:"الديليّ" بكسر الدال، وإسكان الياء، قال النوويّ: هكذا في أكثر الأصول الموجودة ببلادنا، وفي بعضها:"الدُّؤَلِيّ" بضمّ الدال، وبالهمزة بعدها التي تُكتب صورتها واوًا، وذكر القاضي عياضٌ رحمه الله تعالى أنه ضبطه هنا عن أبي بحر "دُؤَلِيّ" بضمّ الدال، وبواو ساكنة، قال: وضبطناه عن غيره بكسر الدال، وإسكان الياء، قال: وكذا ذكره مالك في "الموطّأ"، والبخاريّ في "التاريخ"، وغيرهما.

قال النوويّ: وذكر أبو عليّ الغسّانيّ، أن ثورًا هذا من رهط أبي الأسود، فعلى هذا يكون فيه الخلاف الذي قدّمناه قريبًا في أبي الأسود. انتهى

(1)

.

(عَنْ سَالِمٍ أَبِي الْغَيْثِ) بالغين المعجمة، وفي رواية للبخاريّ:"قال: حدّثني سالم".

وقال النوويّ: فيه التصريح بأن أبا الغيث هذا يسمّى سالمًا، وأما قول أبي عمر بن عبد البرّ في أول "التمهيد": لا يوقف على اسمه صحيحًا، فليس بمعارض لهذا الإثبات الصحيح. انتهى

(2)

.

(1)

"شرح النوويّ" 2/ 128.

(2)

"شرح النوويّ" 2/ 128.

ص: 378

قال الجامع عفا الله عنه: أراد النوويّ بهذا الردّ على أبي عمر في نفيه اسم أبي الغيث؛ لأنه ثبت في هذا السند الصحيح تسميته، وكذلك ثبت تسميته في "صحيح البخاريّ"، قال في "الفتح": وسالم مولى ابن مطيع يُكنى أبا الغيث، وهو بها أشهر، وقد سُمِّيَ هنا، فلا التفات لقول من قال: إنه لا يوقف على اسمه صحيحًا، وهو مدنيّ، لا يُعْرَف اسم أبيه. انتهى

(1)

.

والحاصل أن نفي أبي عمر بن عبد البرّ غير مقبول؛ لأنه ثبت تسميته في "الصحيحين"، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

(مَوْلَى ابْنِ مُطِيعٍ) أي هو مولى عبد الله بن مطيع بن الأسود القرشيّ (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) وفي رواية البخاريّ: "أنه سمع أبا هريرة"(قَالَ) أبو هريرة رضي الله عنه (خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَى خَيْبَرَ) ولفظ البخاريّ: "افتتحنا خيبر"، وكذا وقع عند البخاريّ في رواية إسماعيل بن أبي أويس عن مالك بلفظ:"خرجنا مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم إلى خيبر"، وهي رواية رُواة "الموطأ"، فَحَكَى الدارقطنيّ، عن موسى بن هارون، أنه قال: وَهِمَ ثور في هذا الحديث؛ لأن أبا هريرة لَمْ يخرج مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم إلى خيبر، وإنما قَدِمَ بعد خروجهم، وقَدِمَ عليهم خيبر بعد أن افتُتِحَت، قال أبو مسعود: ويؤيده حديث عَنْبَسة بن سعيد، عن أبي هريرة، قال: أتيتُ النبيّ صلى الله عليه وسلم بخيبر بعدَما افتتحوها، قال: ولكن لا يَشُكُّ أحدٌ أن أبا هريرة حضر قسمة الغنائم، فالغرض من الحديث قِصّةُ مِدْعَم في غلول الشَّمْلَة.

قال الحافظ: وكأنّ محمد بن إسحاق صاحب "المغازي" استَشْعَر بوَهَم ثور بن زيد في هذه اللفظة - يعني: خرجنا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم فرَوَى الحديث عنه بدونها، أخرجه ابن حبان، والحاكم، وابنُ منده، من طريقه بلفظ:"انصَرَفنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى وادي القرى".

(1)

"الفتح" 7/ 558 وزاد: "وليست لسالم" في "الصحيح" يعني: "صحيح البخاريّ" رواية عن غير أبي هريرة، له عنه تسعة أحاديث، تقدّم منها في "الاستقراض"، وفي "الوصايا"، وفي "المناقب". انتهى.

قال الجامع: وقد قدَّمت في ترجمته في (40/ 269): أن له في "صحيح مسلم" نحو تسعة أحاديث فقط، وكلها عن أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 379

قال: ورواية أبي إسحاق الفزاري التي أخرجها البخاريّ تسلم من هذا الاعتراض: أي بلفظ: "افتتحنا خيبر"، بأن يحمل قوله:"افْتَتَحنا": أي المسلمون، وقد تقدم نظير ذلك.

ورَوَى البيهقي في "الدلائل" من وجه آخر عن أبي هريرة قال: "خَرَجنا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم من خيبر إلى وادي القرى"، فلعل هذا أصل الحديث.

قال: وحديث قُدوم أبي هريرة المدينة، والنبيّ صلى الله عليه وسلم بخيبر أخرجه أحمد، وابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم، من طريق خُثَيم بن عِرَاك بن مالك، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: "قَدِمتُ المدينة، والنبيّ صلى الله عليه وسلم بخيبر، وقد استَخْلَف سِبَاع بن عُرْفُطَة

"، فذَكَر الحديث، وفيه: "فَزَوَّدُونا شيئًا، حتى أتينا خيبر، وقد افتتحها النبيّ صلى الله عليه وسلم، فكَلَّمَ المسلمين، فأشركونا في سهامهم".

ويُجمَع بين هذا وبين الحصر الذي في حديث أبي موسى الذي قبله

(1)

، أن أبا موسى أراد أنه لَمْ يُسْهِم لأحد، لَمْ يَشهَد الوقعة استرضاء من غير استرضاء أحد من الغانمين، إلَّا لأصحاب السفينة، وأما أبو هريرة وأصحابه فلم يعطهم إلَّا عن طيب خواطر المسلمين.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هكذا جمع الحافظ بما سمعت، وعندي في هذا الجمع نظر؛ لأنه وقع عند البيهقيّ أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قبل أن يُقسم لهم كَلَّم المسلمين، فأشركوهم، فلا فرق بينهم وبين قصّة أبي هريرة في الاسترضاء

(2)

، فالأولى في الجمع أن يُحمل نفي أبي موسى على أنه لَمْ يعلم بقضيّة أبي هريرة، أو نسيها، فحدّث بالنفي، والله تعالى أعلم.

[تنبيه]: وقع في رواية عبيد الله بن يحيى بن يحيى الليثي، عن أبيه، في

(1)

هو ما أخرجه البخاريّ في "فرض الخمس" من "صحيحه"، من حديث أبي موسى رضي الله عنه، وفيه:"فوافقنا النبيّ صلى الله عليه وسلم، حين افتتح خيبر، فأسهم لنا، أو قال: فأعطانا منها، وما قسم لأحد غاب عن فتح خيبر منها شيئًا، إلَّا لمن شهد معه، إلَّا أصحاب سفينتنا، مع جعفر وأصحابه، قسم لهم معهم".

(2)

وقد ذكر ما عند البيهقيّ في "الفتح" 7/ 555: أي بنحو صفحتين من موضع الجمع، فسها عنه، فجلّ من لا يسهو.

ص: 380

"الموطأ" في هذا الحديث "حنين" بدل "خيبر"، وخالفه محمد بن وَضّاح، عن يحيى بن يحيى، فقال:"خيبر"، مثل الجماعة، وهو الصواب، كما نبَّهَ عليه ابن عبد البر، والله تعالى أعلم.

(فَفَتَحَ اللهُ عَلَيْنَا، فَلَمْ نَغْنَمْ) بفتح أوله، وثالثه، يقال: غَنِمْتُ الشيءَ أَغْنَمُهُ، من باب تَعِبَ غُنْمًا بالضمّ ومَغْنَمًا، قال أبو عُبيد:"الْغَنِيمةُ": ما نِيلَ من أهل الشرك عَنْوَةً والحرب قائمة، و"الفيءُ": ما نِيلَ منهم بعد أن تَضَعَ الحرب أوزارها. انتهى

(1)

. وقوله: (ذَهَبًا) منصوب على المفعوليّة (وَلَا وَرِقًا) بفتح الواو، وكسر الراء، وتُسكّن للتخفيف: الفضّة المضروبة، ومنهم من يقول: هي الفضّة مضروبةً كانت أو غير مضروبة، قال الفارابيّ: الْوَرِقُ: المال من الدراهم، ويُجمع على أوراق، والرِّقَةُ، مثلُ عِدَةٍ: الوَرِقُ. انتهى.

وفي رواية البخاريّ: "ولم نَغْنَمْ ذهبًا، ولا فضّةً".

(غَنِمْنَا الْمَتَاعَ، وَالطَّعَامَ، وَالثِّيَابَ) وفي رواية البخاريّ: "إنما غَنِمنا البقر، والإبل، والمتاع، والحوائط"، وعند رُوَاة "الموطأ":"إلا الأموال، والثياب، والمتاع"، وعند يحيى الليثيّ وحده:"إلا الأموال، والثياب".

قال الحافظ: والأول هو المحفوظ، ومقتضاه أن الثياب والمتاع لا تُسَمَّى مالًا، وقد نَقَلَ ثعلب، عن ابن الأعرابيّ، عن الْمُفَضَّل الضبيّ قال: المالُ عند العرب الصامت والناطق، فالصامت الذهب والفضة والجوهر، والناطق البعير والبقرة والشاة، فإذا قُلتَ عن حَضَريّ: كَثُرَ ماله، فالمراد الصامت، وإذا قُلتَ عن بَدَويّ، فالمراد الناطق. انتهى.

وقد أطلق أبو قتادة رضي الله عنه على البستان مالًا، فقال في قصة السَّلَب الذي تَنَازع فيه هو والقُرَشيّ في غزوة حُنين:"فابتعتُ به مِخْرَفًا، فإنه لأول مال تأثلته"، فالذي يظهر أن المال ما له قيمة، لكن قد يَغْلِب على قوم تخصيصه بشيء، كما حكاه الْمُفَضَّلُ، فتحمل الأموال على المواشي والحوائط، التي ذكرت في رواية الباب، ولا يراد بها النقود؛ لأنه نفاها أوّلًا. انتهى

(2)

.

(1)

راجع: "المصباح المنير" 2/ 454 - 455.

(2)

"الفتح" 7/ 559 "المغازي" رقم الحديث (4234).

ص: 381

(ثُمَّ انْطَلَقْنَا) أي ذهبنا (إِلَى الْوَادِي) وفي رواية البخاريّ: "إلى وادي القرى"، قال الفيّوميّ: وادي الْقُرى: موضع قريبٌ من المدينة على طريق الحاجّ من جهة الشام. انتهى

(1)

.

(وَمَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَبْدٌ لَهُ) زاد في رواية البخاريّ: "يقال له: مِدْعَم"، وفي رواية "الموطّأ":"فأهدى رفاعة بن زيد لرسول الله صلى الله عليه وسلم غُلامًا أسود، يقال له: مِدْعَم". انتهى. وهو بكسر الميم، وسكون الدال المهملة، وفتح العين المهملة، قاله في "الفتح".

وقال النوويّ في "شرحه": قوله: "ومع النبيّ صلى الله عليه وسلم عبد له"، فاسمه مِدْعَم، كذا جاء مُصَرَّحًا به في "الموطأ" في هذا الحديث بعينه.

قال الجامع: بل جاء في "صحيح البخاريّ" في نفس الحديث، كما أسلفته آنفًا.

وقال القاضي عياض رحمه الله تعالى: وقيل: إنه غير مِدْعَم، قال: ووَرَدَ في حديثٍ مثلِ هذا اسمه كِرْكِرَة، ذكره البخاري. انتهى كلام القاضي، وكِركِرَة بفتح الأولى، وكسرها، وأما الثانية فمكسورة فيهما، قاله النوويّ

(2)

.

قال الجامع: حديث البخاريّ الذي أشار له عياض هو ما أخرجه من طريق سالم بن أبي الجعد، عن عبد الله بن عمرو، قال: كان على ثَقَلِ النبيّ صلى الله عليه وسلم رجل يقال له: كِرْكِرة، فمات، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"هو في النار"، فذهبوا ينظرون إليه، فوجدوا عَبَاءةً قد غَلَّها.

قال في "الفتح": وكلام عياض يُشعر بأن قصّته مع قصّة مِدْعَم مُتَّحِدَةٌ، والذي يظهر من عدّة أوجه تغايرهما، نعم، عند مسلم من حديث عمر رضي الله عنه: ولَمّا كان يومُ خيبر قالوا: فلانٌ شهيدٌ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"كلا إني رأيته في النار في بُرْدة غَلّها، أو عباءة"، فهذا يُمكن تفسيره بكركرة، بخلاف قصّة مِدْعَم،

(1)

"المصباح" 2/ 654.

(2)

قال في "الفتح": واختُلف في ضبطه، فذكر عياضٌ أنه يقال بفتح الكافين، وبكسرهما، وقال النوويّ: إنما اختُلف في كافه الأولى، وأما الثانية فمكسورة اتفاقًا. انتهى.

ص: 382

فإنها كانت بوادي القرى، ومات بسهم عائر، وغَلَّ شَمْلَةً، والذي أهدى للنبيّ صلى الله عليه وسلم كركرة هَوْذَةُ بن عليّ، بخلاف مِدْعم، فأهداه رفاعة، فافترقا. انتهى كلام الحافظ، وهو بحثٌ نفيس.

وذكر البيهقي في روايته أنه صلى الله عليه وسلم حاصر أهل وادي القرى، حتى فتحها، وبَلَغَ ذلك أهل تَيْمَاء، فصالحوه

(1)

.

(وَهَبَهُ لَهُ) وفي رواية البخاريّ: "أهداه له"(رَجُلٌ مِنْ جُذَامَ) بضمّ الجيم، وفتح الذال المعجمة، آخره ميم: أبو قبيلة من اليمن، قال السمعانيّ: جُذام، ولَخْمٌ قبيلتان من اليمن، نزلتا الشام، و"جُذَام" هو: الصدف بن شوّال بن عمرو بن دعمي بن زيد بن حضرموت، ويقال: إنه الصدف بن أسلم بن زيد بن مالك بن زيد بن حضرموت الأكبر. انتهى

(2)

.

(يُدْعَى) بالبناء للمفعول: أي يُسمَّى ذلك الرجل الْجُذَاميّ (رِفَاعَةَ) بكسر الراء، وتخفيف الفاء (بْنَ زَيْدٍ، مِنْ بَنِي الضُّبَيْبِ) بضم الضاد المعجمة، وبعدها باء موحّدة مفتوحة، ثم ياء مثناة من تحتُ ساكنة، ثم باء موحّدة مصغّرًا، هكذا وقع عند المصنّف، ووقع عند البخاريّ:"أحد بني الضِّبَاب"، قال في "الفتح": كذا في رواية أبي إسحاق، بكسر الضاد المعجمة، وموحدتين، الأولى خفيفة، بينهما ألف، بلفظ جمع الضَّبّ، وفي رواية أبي إسحاق: "رِفَاعة بن زيد الْجُذَاميّ، ثم الضُّبَنِيُّ، بضم المعجمة، وفتح الموحّدة، بعدها نون، وقيل: بفتح المعجمة، وكسر الموحّدة: نسبة إلى بطن من جُذَام، قال الواقديّ: كان رِفَاعة قد وَفَدَ على رسول الله صلى الله عليه وسلم في ناس من قومه، قبل خروجه إلى خيبر، فأسلموا، وعَقَدَ له على قومه. انتهى

(3)

.

(فَلَمَّا نَزَلْنَا الْوَادِي) أي وادي القرى (قَامَ عَبْدُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) تقدّم أن اسمه مِدْعَم (يَحُلُّ) بضمّ الحاء، من باب نصر (رَحْلَهُ) بفتح الراء، وسكون الحاء المهملة: هو مَرْكَب الرجُل على البعير، قاله النوويّ.

(1)

راجع: "الفتح" 7/ 560 "كتاب المغازي" رقم الحديث (4234).

(2)

راجع: "الأنساب" 2/ 56، و"اللباب" 1/ 265.

(3)

راجع: "الفتح" 7/ 559.

ص: 383

وقال الفيّوميّ: "الرَّحْلُ": كلُّ شيء يُعَدُّ للرَّحِيل، من وِعَاء للمتاع، ومَرْكَب للبعير، وحِلْسٍ، ورَسَنٍ، وجمعه: أَرْحُلٌ، ورِحالٌ، مثلُ أَفلُسٍ وسِهَامٍ. انتهى

(1)

.

وفي رواية البخاريّ: "فبينما هو يَحُطُّ رَحْلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم"، وزاد في رواية البيهقيّ:"وقد استَقْبَلتنا يهودُ بالرَّمي، ولم نَكُن على تَعْبِيَةٍ".

(فَرُمِيَ بِسَهْمٍ) ببناء الفعل للمفعول، وفي رواية البخاريّ:"إذ جاء سهمٌ عائرٌ حتى أصاب ذلك العبد"، و"العائر" بعين مهملة، بوزن فاعل: أي لا يُدْرَى مَن رَمَى به، وقيل: هو الحائد عن قصده، قاله في "الفتح".

(فَكَانَ فِيهِ حَتْفُهُ) بفتح الحاء المهملة، وسكون التاء، بعدها فاء: أي موته، وجمعه: حُتُوفٌ، قال حَنَشُ بن مالك [من المتقارب]:

فَنَفْسَكَ أَحْرِزْ فَإِنَّ الْحُتُو

فَ يَنْبَأْنَ فِي كُلِّ وَادِ

قاله في "اللسان"

(2)

، وقولهم: مات حتف أنفه، هو أن يموت على فراشه، كأنه سقط لأنفه فمات، والْحَتْفُ: الهلاكُ، كانوا يتخيّلون أن روح المريض تخرُج من أنفه، فإن جُرِح خرجت من جِرَاحته، أفاده ابن الأثير

(3)

.

وقال الفيّوميّ: "الْحَتْف": الهلاك، قال ابن فارس، وتبعه الجوهريّ: ولا يُبنَى منه فعلٌ، يقال: مات حَتْفَ أنفه: إذا مات من غير ضرب، ولا قتل، وزاد الصغانيّ: ولا غَرَق، ولا حَرَقٍ، وقال الأزهريّ: لم أسمع للْحَتْف فِعلًا، وحكاه ابن الْقُوطيّة، فقال: حَتَفَهُ الله يَحْتِفه حَتْفًا: أي من باب ضَرَبَ: إذا أماته، ونَقْلُ العدل مقبولٌ، ومعناه: أن يموت على فراشه، فيَتَنَفَّسَ حتى يَقْضِيَ رَمَقَهُ، ولهذا خُصّ الأنف، ومنه يقال للسمك يموت في الماء، ويَطْفُو: مات حَتْفَ أنفه، وهذه الكلمة تكلّم بها أهل الجاهليّة، قال السَّمَوْأَلُ:

وَمَا مَاتَ مِنَّا سَيِّدٌ حَتْفَ أَنْفِهِ

(4)

(فَقُلْنَا: هَنِيئًا لَهُ الشَّهَادَةُ، يَا رَسُولَ اللهِ) برفع "شهادة" على الفاعليّة لـ "هنيئًا": أي لِتَهْنِئْهُ الشهادةُ: أي لتسرّه، يقال: هَنَأَني الولدُ يهنؤني مهموزًا،

(1)

"المصباح المنير" 1/ 222.

(2)

راجع: "لسان العرب" 9/ 38.

(3)

"النهاية" 1/ 337.

(4)

"المصباح المنير" 1/ 120.

ص: 384

من بابي نفع وضرب: أي سَرّني، وهَنُؤَ الشيء بالضمّ مع الهمز هَنَاءةً بالفتح والمدّ: إذا تيسّر من غير مشقّة، ولا عناء، أفاده الفيّوميّ

(1)

.

وقال ابن منظور: التَّهْنِئَةُ: خلاف التعزية، يقال: هَنَأَهُ بالأمر، والولاية هَنْأً، وهَنَّأَهُ تَهْنِئَةً، وتَهْنيئًا: إذا قال له: لِيَهْنِئْكَ، والعرب تقول: لِيَهْنِئْكَ الفارسُ بجزم الهمزة، ولِيَهْنيكَ الفارسُ بياء ساكنةٍ، ولا يجوز لِيَهْنِك كما تقول العامّة، قال: قال سيبويه: قالوا: هَنِيئًا مَرِيئًا، وهي من الصفات التي أُجريت مُجْرَى المصادر الْمَدْعُوّ بها في نصبها على الفعل غير المستعمَلِ إظهاره، واختزاله؛ لدلالته عليه، وانتصابه على فعل من غير لفظه، كأنه ثَبَتَ له ما ذُكِرَ له هَنِيئًا، وأنشد الأخطل:

إِلَى إِمَامٍ تُغَادِينَا فَوَاضِلُهُ

أَظْفَرَهُ اللهُ فَلْيَهْنِئْ لَهُ الظَّفَرُ

انتهى كلام ابن منظور باختصار

(2)

.

(قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "كَلَّا) أي ارتدعوا، وانزجروا عما تقولونه من إثبات الشهادة لهذا العبد (وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم بِيَدِهِ) فيه إثبات اليد لله تعالى على ما يليق بجلاله، ومشروعيّة القسم به (إِنَّ الشَّمْلَةَ) بفتح، فسكون: كساء يُتَغَطَّى، ويُتَلَفَّفُ فيه، قاله ابن الأثير

(3)

.

وقال ابن عبد البرّ: وأما الشَّمْلة فكساء مُخَمَّلٌ، وقال الخليل: اشتمل بالثوب أداره على جسده، قال: والاسم الشَّمْلَة، قال: والشَّمْلة: كساءٌ ذو خَمْلٍ، وقال الأخفش: الشَّمْلة: إزار من الصوف. انتهى

(4)

.

وقال الفيّوميّ: "الشَّمْلَةُ": كساء صغير يُؤتَزَرُ به، والجمع شَمَلَات، مثلُ سَجْدَةٍ وسَجَدَاتٍ، وشِمَالٌ أَيضًا، مثلُ كَلْبَةٍ وكِلابٍ. انتهى

(5)

.

(لَتَلْتَهِبُ عَلَيْهِ نَارًا) وفي رواية البخاريّ: "لتشتعل عليه نارًا"، وهو بمعناه، قال في "الفتح": يَحْتَمِلُ أن يكون ذلك حقيقةً بأن تَصِير الشَّمْلة نفسُها نارًا، فيُعَذَّب بها، ويحتمل أن يكون المراد أنها سببٌ لعذاب النار، وكذا

(1)

ذكره في "المصباح المنير" 2/ 642، ونقلته بتصرّف، واختصار.

(2)

"لسان العرب" 1/ 184 - 185.

(3)

"النهاية" 2/ 501.

(4)

"التمهيد" 2/ 21.

(5)

"المصباح" 1/ 323.

ص: 385

القول في الشراك الآتي ذكره. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الاحتمال الأول هو الأرجح؛ لظاهر النصّ، ومما ينبغي أن يُعلم، وإن كان كثير من الناس يغفُل عنه أنّ ظاهر النصّ لا يُعدل عنه إلا لدليل ناقل، فليُتنبّه، والله تعالى أعلم.

(أَخَذَهَا) أي تلك الشَّمْلة، والجملة مستأنفة استئنافًا بيانيًّا، وهو ما وقع جوابًا عن سؤال مقدَّر، وتقديره هنا: ما سبب التهابها عليه؟، فأجاب بأنه أخذها (مِنَ الْغَنَائِمِ يَوْمَ خَيْبَرَ) أي يوم وقعة خيبر، وقوله:(لَمْ تُصِبْهَا الْمَقَاسِمُ") جملة في محلّ نصب على الحال، من المفعول، و"المقاسم" بالفتح: جمع مَقْسَم بفتح، فسكون: بمعنى النصيب، قال في "القاموس": الْقِسْمُ بالكسر، وكمِنْبَر، ومَقْعَدٍ: النصيب، كالأُقْسُومة. انتهى

(2)

. والمراد أنه أخذها دون أن يقع عليها نصيبه عند قسمة الغنائم.

(قَالَ: فَفَزِعَ النَّاسُ) بكسر الزاي، من باب تَعِبَ: أي خاف الناس من أن يلحقهم ما لحِقَ هذا العبدَ بسبب الشّملة (فَجَاءَ رَجُلٌ) قال الحافظ: لم أقف على اسمه (بِشِرَاكٍ) بكسر المعجمة، وتخفيف الراء: سَيْرُ النَّعْل على ظهر القَدَم (أَوْ) الظاهر أنها للشكّ من الراوي (شِرَاكَيْن، فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله، أَصَبْتُ يَوْمَ خَيْبَرَ) قال النوويّ: كذا في الأصول، وهو صحيح، وفيه حذف المفعول: أي أصبت هذا. انتهى. (فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "شِرَاكٌ مِنْ نَارٍ) خبر لمحذوف: أي هذا شراك من نار، وقد مرّ آنفًا أن حمله على ظاهره هو الظاهر (أَوْ شِرَاكَانِ مِنْ نَارٍ") قال القاضي عياض رحمه الله تعالى: فيه تنبيهٌ على المعاقبة عليهما، وقد تكون المعاقبة بهما أنفسهما، فيُعَذَّب بهما، وهما من نار، وقد يكون ذلك على أنهما سبب لعذاب النار. انتهى.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد سبق قريبًا ترجيح الاحتمال الأول، فلا تكن من الغافلين، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

(1)

"الفتح" 7/ 559 - 560.

(2)

"القاموس المحيط" ص 1036.

ص: 386

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا في "الإيمان"[51/ 317](115)، و (البخاريّ) في "المغازي"(4234)، و"الأيمان والنذور"(6077)، و (أبو داود) في "الجهاد"(2711)، و (النسائيّ) في "الأيمان والنذور"(3854)، و"الكبرى"(4768)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4851)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(138)، و (أبو نعيم)(304 و 305)، و (البيهقيّ)(9/ 100)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(2828)، وفي "التفسير"(1/ 367)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان غِلَظ تحريم الغلول، وأنه من الكبائر التي تنافي كمال الإيمان، وهو وجه المطابقة لإيراده هنا.

2 -

(ومنها): أن الغلول محرّم كلّه، لا فرق بين قليله وكثيره، حتى الشراك.

3 -

(ومنها): أن الغلول يَمنع من إطلاق اسم الشهادة على مَن غَلّ إذا قُتل في المعركة.

4 -

(ومنها): أنه لا يدخل الجنة أحدٌ ممن مات على الكفر، وهذا بإجماع المسلمين.

5 -

(ومنها): جواز الْحَلِف بالله تعالى من غير ضرورة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفس محمد بيده".

6 -

(ومنها): ما قاله الحافظ ابن عبد البرّ رحمه الله تعالى: في هذا الحديث أيضًا دليل على أنّ الغالّ لا يجب حَرْقُ متاعه؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يُحَرِّق رَحْل الذي أَخَذَ الشَّملة ولا متاعه، ولا أحرق متاع صاحب الْخَرَزات، ولو كان حَرْقُ متاعه واجبًا لفعله صلى الله عليه وسلم حينئذ، ولو فعله لنُقِل ذلك في الحديث، وقد رُوي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال:"مَن غَلّ فأحرقوا متاعه، واضربوه"، رواه أسد بن موسى وغيره، عن الدَّرَاوردي عن صالح بن محمد بن زائدة، عن سالم، عن ابن عمر، وقال بَعضُ رواة هذا الحديث فيه: "فاضربوا عنقه،

ص: 387

وأحرقوا متاعه"، وهو حديث يدور على صالح بن محمد بن زائدة، وهو ضعيف، لا يُحتجُّ به. انتهى كلام ابن عبد البرّ، وسيأتي تمام البحث في اختلاف العلماء في عقوبة الغالّ في المسألة السادسة - إن شاء الله تعالى -.

7 -

(ومنها): حلّ الغنائم، وهو من خصوصيّات النبيّ صلى الله عليه وسلم، فلم تحلّ لأحد من الأنبياء قبله، فقد أخرج الشيخان من حديث جابر رضي الله عنه مرفوعًا: قال: "أُعطِيت خمسًا لم يُعطَهُنّ أحدٌ قبلي"، وفيه: "وأُحِلَّت لي المغانم، ولم تحل لأحد قبلي

" الحديث.

8 -

(ومنها): أن فيه عَلَمًا من أعلام النبوّة، ومعجزة ظاهرة للنبيّ صلى الله عليه وسلم حيث أطلعه الله تعالى على المغيّبات من أحوال الموتى، فيرى المعذّبين، ونوع عذابهم، وسَببَه.

9 -

(ومنها): بيان حرص النبيّ صلى الله عليه وسلم على تحذير أمته من الوقوع في أسباب العذاب، فقد أخبر في هذا الحديث أصحابه رضي الله عنهم بما لهذا العبد من العذاب، وبطلان الشهادة بسبب غلوله، تحذيرًا لهم، ولأمته جميعًا عن التعرض لمثله، فهو من مِصداق قوله عز وجل:{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)} [التوبة: 128].

10 -

(ومنها): ما قاله الحافظ ابن عبد البرّ رحمه الله تعالى: في هذا الحديث أن بعض العرب، وهي دَوْسٌ لا تُسَمِّي العين مالًا، وإنما الأموال عندهم الثياب، والمتاع، والعروض، وعند غيرهم المال الصامت من الذهب والورق، وذكر ابن الأنباريّ عن أحمد بن يحيى النحوي قال: ما قَصَرَ عن بلوغ ما تجب فيه الزكاة من الذهب والورق والماشية، فليس بمال، وأنشد [من البسيط]:

وَاللهِ مَا بَلَغَتْ بِي قَطُّ مَاشِيَةٌ

حَدَّ الزَّكَاةِ وَلَا إِبْلٌ وَلَا مَالُ

قال: وأنشد أحمد بن يحيى أيضًا [من الوافر]:

مَلْأتُ يَدِي مِنَ الدُّنْيَا مِرَارًا

فَمَا طَمِعَ الْعَوَاذِلُ فِي اقْتِصَادِي

وَلَا وَجَبَتْ عَلَيَّ زَكَاةُ مَالِ

وَهَلْ تَجِبُ الزَّكَاةُ عَلَى جَوَادِ

وهذان البيتان أنشدهما الزبير بن بَكّار، عن محمد بن عيسى لِفُليح بن إسماعيل.

ص: 388

قال أبو عمر: المعروف من كلام العرب أن كُلَّ ما تُمُوِّل وتُمُلِّك فهو مال، ألا ترى إلى قول أبي قتادة السَّلَمِيّ رضي الله عنه:"فابتعت - يعني: بسلب القتيل الذي قتله يوم حنين - مَخْرَفًا في بني سَلِمَة، فإنه لأول مال تأثلته في الإسلام"؟، وقال الله عز وجل:{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103]، وأجمعوا أن العين مما تُؤخذ منه الصدقة، وأن الثياب والمتاع لا يؤخذ منها الصدقة، إلا في قول مَن رَأَى زكاة العُرُوض للمدير التاجر، نَضَّ

(1)

له في عامه شيء من العين، أو لم يَنُضّ، وقال صلى الله عليه وسلم:"يقول ابن آدم: مالي مالي، وإنما له من ماله ما أكل فأفنى، أو تصدق فأمضى، أو لبس فأبلى"، وهذا أبين من أن يحتاج فيه إلى استشهاد، فمن حَلَفَ بصدقة ماله، فذلك على كل نوع من ماله، سواء كان مما تجب فيه الزكاة، أو لم يكن إلا أن ينوي شيئًا بعينه، فيكون على ما نوى، ولا معنى لقول من قال: إن ذلك على أموال الزكوات؛ لأن العلم محيط، واللسان شاهد في أن ما تُمُلِّك وتُمُوِّل يسمى مالًا.

10 -

(ومنها): جواز قبول الإمام الهدية، فإن كانت لأمر يختص به في نفسه أَنْ لَوْ كان غير والٍ، فله التصرف فيها بما أراد، وإلا فلا يتصرف فيها إلا للمسلمين، وعلى هذا التفصيل يُحْمَل حديث:"هدايا الأُمراء غُلُولٌ"، فيخص بمن أَخذها، فاستبدّ بها، وخالف في ذلك بعض الحنفية، فقال: له الاستبداد مطلقًا، بدليل أنه لو ردَّها على مُهديها لجاز، فلو كانت فيئًا للمسلمين، لَمَا رَدّها، وفي هذا الاحتجاج نظرٌ لا يخفى، قاله في "الفتح"

(2)

، وسيأتي تمام البحث في هذا في المسألة التالية، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): ذكر الإمام الحافظ أبو عمر بن عبد البرّ رحمه الله تعالى: أن في الحديث إباحةَ قبول الهدية للخليفة إلا أن ذلك لا يجوز لغير النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان منه قبولها على جهة الاستبداد بها، دون رعيته، أخرج

(1)

يقال: نضّ الثمن: حصل، وأهل الحجاز يُسمّون الدراهم والدنانير نَضًّا وناضًّا إذا تحوّل عينًا بعد أن كان متاعًا، قاله في "المصباح" 2/ 610.

(2)

"الفتح" 7/ 560.

ص: 389

البخاريّ في "صحيحه" من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقبل الهدية، ويثيب عليها"

(1)

.

قال أبو عمر: قبول رسول الله صلى الله عليه وسلم الهدايا أشهر، وأعرف، وأكثر من أن تحصى الآثار في ذلك، لكنه كان صلى الله عليه وسلم مخصوصًا بما أفاء الله عليه من غير قتال، من أموال الكفار أن يكون له خاصة، دون سائر الناس، ومن بعده من الأئمة حكمه في ذلك خلاف حكمه؛ لأن ذلك لا يكون له خاصة دون المسلمين بإجماع؛ لأنه فيء، وفي حديث أبي حميد الساعدي في قصة ابن اللتبيّة ما يدل على أن العامل لا يجوز له أن يستأثر بهدية، أُهديت إليه بسبب ولايته؛ لأنها للمسلمين.

ثم أخرج بسنده حديث أبي حميد الساعدي رضي الله عنه قال: استعمل النبي صلى الله عليه وسلم رجلًا من الأزد، يقال له: ابن الأُتْبية على الصدقة، فلَمّا قَدِمَ قال: هذا لكم، وهذا أهدي لي، قال:"فهلا جَلَس في بيت أبيه، أو بيت أمه، فينظر يُهدَى له أم لا؟ والذي نفسي بيده، لا يأخذ أحد منه شيئًا إلا جاء به يوم القيامة، يحمله على رقبته، إن كان بعيرًا له رُغَاء، أو بقرة لها خُوَار، أو شاة تَيْعَر"، ثم رَفَع بيده

(2)

حتى رأينا عُفْرة إبطيه: "اللهم هل بلغت، اللهم هل بلغت"؟ ثلاثًا، متّفقٌ عليه.

قال أبو عمر: وفي قوله في هذا الحديث: "إلا جاء به يوم القيامة يحمله على عنقه" دليلٌ على أنه غُلولٌ، حرامٌ نارٌ، قال الله عز وجل:{وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 161]، وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"هدايا الأُمراء غُلول"، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم في حديث ثور بن زيد هذا:"إن الشَّمْلة التي أخذها يوم خيبر من المغانم، لم تصبها المقاسم، لتشتعل عليه نارًا"، فكُلُّ مَن غَلّ شيئًا في سبيل الله، أو خان شيئًا من مال الله، جاء به يوم القيامة إن شاء الله، والغلول من حقوق الآدميين، ولا بُدّ فيه من القصاص بالحسنات والسيئات، ثم صاحبه في المشيئة.

(1)

ذكر أبو عمر هذا الحديث من طريق ضعيف، ثم تكلم على ضعفه، فعدلت عنه إلى ما أخرجه البخاريّ، فتنبّه.

(2)

هكذا نصّ البخاريّ "بيده" بالباء.

ص: 390

قال: ورَوَى وكيع وغيره، عن الأعمش، عن شقيق، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استَعمَل معاذ بن جبل على اليمن، فلما استُخلِف أبو بكر بَعَثَ عمر على الموسم في تلك السنة، وقَدِم معاذ من اليمن برقيق، فلقي عمر بعرفة، فقال له عمر: ما هؤلاء؟، قال: هؤلاء لأبي بكر، وهؤلاء لي، فقال له عمر: أرى أن تأتي بهم إلى أبي بكر، فتدفعهم إليه فإن سلمهم لك، وإلا فهو أحق بهم، فقال: وما لي أدفع رقيقي إلى أبي بكر؟، لا أعطيه هديتي، فانصرف بهم إلى منزله، فلما كان من الغد جاء إلى عمر، فقال: يا ابن الخطاب، لقد رأيتني الليلةَ أُشرِف على نار، قد أُوقدت، فأكاد أتَقَحَّمها، وأَهْوِي فيها، وأنت آخذ بِحُجْزَتي، ولا أراني إلا مطيعك، قال: فذهب إلى أبي بكر، فقال: هؤلاء لك، وهؤلاء أُهدوا لي، قال: فإنّا قد سلّمنا لك هديتك، فرجع معاذ إلى منزله، فصلى، فإذا هم خلفه يصلون، قال: ما بالكم؟ قالوا: نصلي، قال: لمن؟ قالوا: لله، قال: فاذهبوا فأنتم لله، فأعتقهم.

وذكر يعقوب بن شيبة قال: حدثنا محمد بن يحيى النيسابوريّ، قال: حدثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الزهريّ عن ابن لكعب بن مالك، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذًا إلى اليمن أميرًا، وكان أوّل من تَجَرَ في مال الله، فمَكَث حتى أصاب مالًا، وقُبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قدم معاذ، فقال عمر لأبي بكر: أرسل إلى هذا الرجل، فدَعْ له ما يَعِيش به، وخذ سائره منه، فقال أبو بكر: إنما بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم لِيَجْبُره، ولست بآخذ منه شيئًا إلا أن يعطيني. انتهى ملخّص كلام ابن عبد البرّ، وهو تحقيقٌ حسن جدًّا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): في حكم هدايا المشركين:

أخرج الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذيّ عن عياض بن حمار رضي الله عنه: أنه أهدى للنبي صلى الله عليه وسلم هديةً له، أو ناقةً، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"أسلمت؟ " قال: لا، قال:"فإني نُهِيت عن زَبْدِ المشركين"

(1)

، قال الترمذيّ: حديث حسن صحيح.

ومعنى قوله: "إني نُهيت عن زَبْد المشركين" يعني: هداياهم، وقد رُوي

(1)

يقال: زبدت الرجل زَبدًا، من باب ضرب: إذا أعطيته، ومنحته. اهـ. "المصباح".

ص: 391

عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: أنه كان يقبل من المشركين هداياهم، وذَكَر في هذا الحديث الكراهية، واحتَمَل أن يكون هذا بعدما كان يَقبَل منهم، ثم نُهِي عن هداياهم. انتهى كلام الترمذيّ.

ولفظ أحمد: عن عياض بن حمار المجاشعيّ، وكانت بينه وبين النبيّ صلى الله عليه وسلم معرفة قبل أن يُبعث، فلما بُعِث النبيّ صلى الله عليه وسلم أهدى له هديةً، قال: أحسبها إبلًا، فأبى أن يقبلها، وقال:"إنا لا نَقبل زَبْد المشركين"، قال: قلت: وما زبد المشركين؟ قال: رِفْدُهم، وهديتهم.

وأخرج أبو عمر بسنده عن الزهريّ، عن عبد الرحمن بن مالك، عن عامر بن مالك الذي يقال له: مُلاعِب الأسنة، قال: قَدِمت على النبيّ صلى الله عليه وسلم بهدية، فقال:"إنا لن نقبل هدية مشرك".

قال أبو عمر: واختَلَف العلماء في معنى هذين الحديثين، فقال منهم قائلون: فيهما النسخ لما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبول الهدية من أهل الشرك، مثل أُكَيدر دُومَة، وفَرْوَة بن نُفَاثة، والْمُقَوْقِس، وغيرهم.

وقال آخرون: ليس فيهما ناسخ ولا منسوخ، والمعنى فيهما: أنه كان لا يَقبَل هديةَ مَن يَطْمَع بالظهور عليه، وأخذ بلده، أو دخوله في الإسلام، فعن مثل هذا نُهِي أن يَقْبَل هديته، ويُهادِنه، ويُقِرَّه على دينه، مع قدرته عليه، أو طمعه في هدايته؛ لأن في قبول هديته حملًا على الكفّ عنه، وقد أُمِر أن يقاتل الكفار حتى يقولوا: لا إله إلا الله.

وقال آخرون: كان مُخَيَّرًا في قبول هديتهم، وترك قبولها؛ لأنه كان من خلقه صلى الله عليه وسلم أن يُثيب على الهدية بأحسن منها، فلذلك لم يَقْبَل هدية مشرك؛ لئلا يُثيبه بأفضل منها.

قال أبو عمر: وقد قيل: إنه إنما تَرَك ذلك تَنَزُّهًا، ونُهِي عن زَبْد المشركين؛ لما في التهادي، والزَّبْد من التحابّ، وتليين القلوب، والله عز وجل يقول:{لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة: 22] الآية، والله أعلم بما أراد رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله ذلك، وقد قبل صلى الله عليه وسلم هديةَ قوم من المشركين

(1)

.

(1)

راجع: "التمهيد" 2/ 3 - 14.

ص: 392

قال الجامع عفا الله تعالى: القول الثاني هو أقرب الأجوبة عندي، وحاصله أن النهي عن قبول هدايا المشركين محمول على ما إذا رأى الإمام المصلحة في ردّها بأن طمع في إسلامه، ونحو ذلك؛ جمعًا بين النصوص، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة السادسة): في اختلاف أهل العلم في عقوبة الغالّ:

قال الحافظ ابن عبد البرّ رحمه الله تعالى: قد اختلف العلماء في عقوبة الغالّ، فذهب مالك، والشافعيّ، وأبو حنيفة، وأصحابهم، والليث بن سعد، إلى أن الغالّ يعاقب بالتعزير، ولا يُحَرَّق متاعه.

وقال الشافعيّ، وداود بن علي: إن كان عالِمًا بالنهي عُوقب، وهو قول الليث، قال الشافعيّ: وإنما يعاقب الرجل في بدنه لا في ماله.

وقال الأوزاعيّ: يُحَرَّق متاع الغالّ كله إلا سلاحه وثيابه التي عليه، وسرجه، ولا تُنتزَع منه دابته، ويُحَرّق سائر متاعه كله، إلا الشيء الذي غَلَّ، فإنه لا يحرّق، ويعاقب مع ذلك، وقول أحمد وإسحاق، كقول الأوزاعي في هذا الباب كله.

وروي عن الحسن البصريّ أنه قال: يحرق رحله كله، إلا أن يكون حيوانًا أو مصحفًا، وممن قال يُحَرَّق رحل الغالّ ومتاعه مكحول، وسعيد بن عبد العزيز.

وحجةُ مَن ذَهَبَ إلى هذا القول حديثُ صالح المذكور، وهو عندنا حديثٌ لا يجب به انتهاك حرمة، ولا إنفاذ حكم، مع ما يعارضه من الآثار التي هي أقوى منه، فأما رواية من رَوَى:"فاضربوا عنقه، وأحرقوا متاعه"، فإنه يعارضه قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يَحِلّ دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث

" الحديث، وهو يَنفي القتل في الغلول، ورَوَى أبو الزبير

(1)

، عن جابر رضي الله عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"ليس على الخائن ولا على المنتهب، ولا على المختلِس قطع"

(2)

. وهذا أيضًا يعارض حديث صالح بن محمد بن زائدة، وهو أقوى من جهة الإسناد، والغالُّ خائن في اللغة والشريعة.

(1)

وقع في نسخة "التمهيد": "ابن الزبير"، وهو تصحيف من أبي الزبير، فتنبّه،

(2)

حديث صحيح، أخرجه الإمام أحمد، وأصحاب السنن.

ص: 393

وقال الطحاويّ: لو صحّ حديث صالح المذكور احتَمَلَ أن يكون كان حين كانت العقوبات في الأموال، كما قال في مانع الزكاة:"إنا آخذوها وشَطْرَ ماله، عَزْمَةٌ من عَزَمات الله"، وكما رَوَى أبو هريرة رضي الله عنه في ضالة الإبل المكتومة:"فيها عزامتها ومثلها معها"، وكما رَوَى عبد الله بن عمرو بن العاص في الثَّمَر المعلَّق غرامة مثليه، وجَلَدات نكال، وهذا كله منسوخ.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: دعوى الطحاويّ النسخ في هذا الحديث، وأنه كان حين كانت العقوبة في الأموال فيه نظر لا يخفى، فالصواب في الجواب ما سبق في كلام ابن عبد البرّ، وهو كون الحديث ضعيفًا، وأما العقوبة بالمال، فلا يصحّ فيها دعوى النسخ، بل هي مما اختَلَفَ العلماءُ فيها، وأن الحقّ أنها يُعمَل بها فيما ورد النصّ فيه، كما في مانع الزكاة، ونحوه، وقد حقّقته في "شرح النسائيّ" في "كتاب الزكاة" بما فيه الكفاية، فلتراجعه، والله تعالى وليّ التوفيق.

قال أبو عمر رحمه الله تعالى: الذي ذهب إليه مالك، والشافعيّ، وأبو حنيفة، ومن تابعهم في هذه المسألة أولى من جهة النظر، وصحيحِ الأثر، والله تعالى أعلم.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي ذهب إليه أبو عمر رحمه الله تعالى من ترجيح مذهب هؤلاء الأئمة، وهو عدم إحراق متاع الغالّ، وإنما يُعَزَّر بما يراه الإمام هو الذي يترجّح عندي؛ لظهور حجته، كما قاله أبو عمر رحمه الله تعالى.

قال أبو عمر رحمه الله تعالى: وأجمع العلماء على أن على الغالّ أن يَرُدّ ما غَلَّ إلى صاحب المقاسم، إن وَجَدَ السبيل إلى ذلك، وأنه إذا فَعَل ذلك فهي توبة له، وخروج عن ذنبه، واختلفوا فيما يَفْعَلُ بما غَلَّ إذا افترق أهل العسكر، ولم يَصِل إليهم، فقال جماعة من أهل العلم: يَدفَع إلى الإمام خمسه، ويتصدق بالباقي، وهذا مذهب الزهريّ، ومالك، والأوزاعيّ، والليث، والثوريّ، ورُويَ ذلك عن عبادة بن الصامت، ومعاوية بن أبي سفيان، والحسن البصريّ، وهو يُشبِه مذهب ابن مسعود، وابن عباس؛ لأنهما كانا يريان أن يُتَصَدَّق بالمال الذي لا يُعْرَف صاحبه.

ص: 394

وذكر بعضُ الناس عن الشافعيّ أنه كان لا يَرَى الصدقة بالمال الذي لا يُعرَف صاحبه، وقال: كيف يَتَصَدَّق بمال غيره؟.

قال أبو عمر: وهذا عندي معناه فيما يمكن وجود صاحبه، والوصول إليه، أو إلى ورثته، وأما إن لم يمكن شيء من ذلك، فإن الشافعيّ رحمه الله لا يَكْرَه الصدقة به حينئذ - إن شاء الله -.

ذكر سُنَيد: حدثنا أبو فَضَالة، عن أزهر بن عبد الله قال: غزا مالك بن عبد الله الخثعمي أرض الروم، فَغَلّ رجل مائة دينار، فَأَتَى بها معاويةَ بن أبي سفيان، فأبى أن يقبلها، وقال: قد نَفَر الجيش، وتفرق، فخرج فلَقِي عبادة بن الصامت، فذكر ذلك له، فقال: ارجع. إليه، فقل له: خذ خمسها أنت، ثم تصدق أنت بالبقية، فإن الله عالم بهم جميعًا، - فأَتَى معاوية، فأخبره، فقال: لأَن كنتُ أنا أفتيتك بهذا كان أحب إلي من كذا وكذا.

وقد أجمعوا في اللقطة على جواز الصدقة بها بعد التعريف، وانقطاع صاحبها، وجعلوه إذا جاء مُخَيَّرًا بين الأجر والضمان، وكذلك الغصوب، وبالله التوفيق. انتهى كلام ابن عبد البرّ رحمه الله تعالى

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: ما ذكره أبو عمر رحمه الله تعالى في هذه المسألة تحقيقٌ حسنٌ.

وحاصله وجوب ردّ الغالّ ما غلّه إذا وَجد إلى ذلك سبيلًا، وإلا تصدّق به.

وأما الأثر الذي ذكره عن سُنيد، فسُنيد ضعيفٌ مع إمامته ومعرفته بالتفسير

(2)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(1)

"التمهيد" 2/ 22 - 25.

(2)

راجع: "تهذيب التهذيب" 2/ 120، و"التقريب" ص 138.

ص: 395

(52) - (بَابُ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ قَاتِلَ نَفْسِهِ لَا يَكْفُرُ)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[318]

(116) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ جَمِيعًا، عَنْ سُلَيْمَانَ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ حَجَّاجٍ الصَّوَّاف، عَنْ أَبِي الزُّبَيْر، عَنْ جَابِرٍ، أَنَّ الطُّفَيْلَ بْنَ عَمْرٍو الدَّوْسِيَّ، أَتَى النّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله، هَلْ لَكَ فِي حِصْنٍ حَصِينٍ وَمَنْعَةٍ؟، قَالَ: حِصْنٌ كَانَ لِدَوْسٍ فِي الْجَاهِلِيَّة، فَأَبَى ذَلِكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِلَّذِي ذَخَرَ اللهُ لِلْأَنْصَار، فَلَمَّا هَاجَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْمَدِينَة، هَاجَرَ إِلَيْهِ الطُّفَيْلُ بْنُ عَمْرٍو، وَهَاجَرَ مَعَهُ رَجُلٌ مِنْ قَوْمِه، فَاجْتَوَى

(1)

الْمَدِينَةَ، فَمَرِضَ، فَجَرعَ، فَأَخَذَ مَشَاقِصَ لَهُ، فَقَطَعَ بِهَا بَرَاجِمَهُ، فَشَخَبَتْ يَدَاهُ، حَتَّى مَاتَ، فَرَآهُ الطُّفَيْلُ بْنُ عَمْرٍو فِي مَنَامِه، فَرَآهُ وَهَيْئَتُهُ حَسَنَةٌ، وَرَآهُ مُغَطِّيًا يَدَيْه، فَقَالَ لَهُ: مَا صَنَعَ بِكَ رَبُّكَ؟ فَقَالَ: غَفَرَ لِي بِهِجْرَتِي إِلَى نَبيِّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: مَا لِي أَرَاكَ مُغَطِّيًا يَدَيْكَ؟، قَالَ: قِيلَ لِي: لَنْ نُصْلِحَ مِنْكَ مَا أَفْسَدْتَ، فَقَصَّهَا الطُّفَيْلُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"اللَّهُمَّ وَلِيَدَيْهِ فَاغْفِرْ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) هو: عبد الله بن محمد بن أبي شيبة، تقدّم قريبًا.

2 -

(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) هو: إسحاق بن راهويه، تقدّم قريبًا أيضًا.

3 -

(سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ) الأزديّ الْوَاشحيّ البصريّ، نزيل مكة، وقاضيها، ثقةٌ، إمامٌ حافظٌ [9](ت 224)(ع).

وله في هذا الكتاب ثمانية أحاديث فقط، هذا الحديث برقم (116)،

(1)

في معظم النسخ: "واجتووا" بالجمع، وهو خطأ، والإصلاح من "المفهم" للقرطبي، كما يأتي بيانه في الشرح.

ص: 396

وحديث (683): "إذا كان في سفر، فعرّس بليل

"، و (1438): "وما ذاكم؟ قالوا: الرجل تكون المرأة

"، و (1472): "ألم يكن الطلاق الثلاث على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم

؟ "، و (1671): "ألا تخرجون مع راعينا

؟ "، و (1831): "لا ألفينّ أحدكم يجيء يوم القيامة

"، و (2601): "اللهم إني أتّخذ عندك عهدًا

"، و (2953): "إن عُمِّر هذا لم يُدركه الهَرَم

"، وتقدّمت ترجمته في "المقدّمة" 6/ 68.

4 -

(حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ) بن درهم الأزديّ الْجَهْضميّ، أبو إسماعيل البصريّ، ثقة ثبتٌ فقيهٌ، من كبار [8](ت 179)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 26.

5 -

(حَجَّاجٌ الصَّوَّافُ) هو: حجّاج بن أبي عثمان الصّوّاف، أبو الصَّلْت، ويقال: أبو عثمان الكنديّ مولاهم البصريّ، واسم أبي عثمان: ميسرة، وقيل: سالم، ثقة حافظ [6].

رَوَى عن حميد بن هلال، والحسن البصريّ، ويحيى بن أبي كثير، وأبي رجاء مولى أبي قلابة، ومعاوية بن قُرّة، وأبي الزبير، وغيرهم.

ورَوَى عنه الحمادان، والقطان، وهُشيم، ويزيد بن زُريع، وأبو عوانة، وبشر بن الْمُفَضَّل، وابنُ أبي عديّ، ومحمد بن عبد الله الأنصاري، وأبو عاصم، وجماعة.

قال يحيى القطان: وهو فَطِنٌ، وصحيحٌ، كَيِّسٌ، وقال أحمد، وابن معين، وأبو زرعة، وأبو حاتم، والترمذيّ، والنسائيّ: ثقةٌ، زاد أحمد: شيخٌ، وزاد الترمذيّ: حافظٌ، وقال العجليّ، وأبو بكر البزار: بصريّ ثقةٌ، وقال ابن حبان في "الثقات": كان متقنًا، وقال يزيد بن زُريع: ليس به بأسٌ، وقال أبو حاتم: سألت علي ابن المدينيّ: مَن أثبت أصحاب يحيى بن أبي كثير؟ فقال: هشام الدَّستوائيّ، قلت: ثم مَن؟ قال: الأوزاعيّ، وحجاج بن أبي عثمان، وحسينٌ المعلِّم، وقال ابن سعد: كان ثقةً - إن شاء الله تعالى - وقال ابن خزيمة في "صحيحه": سمعت محمد بن يحيى الذُّهْليّ يقول: حجاج الصّوّاف مَتِينٌ، قال ابن خزيمة: يريد أنه ثقةٌ حافظٌ.

قال خليفة: مات سنة (143).

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (15) حديثًا.

ص: 397

6 -

(أَبُو الزُّبَيْرِ) محمد بن مسلم بن تَدْرُس الأسديّ مولاهم المكيّ: صدوقٌ، يدلّس [4](ت 126)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 119.

7 -

(جَابِر) بن عبد الله بن عمرو بن حَرَام الأنصاريّ السَّلَميّ الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، مات بعد السبعين، وابن (94) سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 117، والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله تعالى، وفيه له شيخان، قرن بينهما.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخيه، فالأول ما أخرج له الترمذيّ، والثاني ما أخرج له ابن ماجه.

3 -

(ومنها): أن فيه: قوله: "قال أبو بكر: حدّثنا سليمان بن حرب"، وهو بيان لاختلاف شيخيه، فأبو بكر صرّح بتحديث سليمان له، وأما إسحاق فلم يُصرّح به.

4 -

(ومنها): أن جابرًا رضي الله عنه من المكثرين السبعة من الصحابة رضي الله عنهم، روى (1540) حديثًا.

[فإن قلت]: هذا الحديث مما عنعن فيه أبو الزبير عن جابر رضي الله عنه، وهو مدلّسٌ، ولا تقبل عنعنته إلا أن يصرّح بالسماع، أو يكون الراوي عنه الليث بن سعد؛ لأنه لا يروي عنه إلا ما سمعه من جابر، كما تقدّم بيان ذلك، وليس هذا الحديث من رواية الليث عنه، ولم يُصرّح بالسماع في جميع الطرق التي أخرجها الأئمة الذين سيأتي ذكرهم في التخريج، فكيف أخرجه مسلم في "الصحيح"؟.

[قلت]: أجيب عن هذا بأن مسلمًا، بل وأصحاب الصحاح - كما صرّح بذلك ابن حبّان في أول "صحيحه" - لا يُخرجون من حديث المدلّس إلا ما ثبت عندهم تصريحه بالسماع، فلولا أنه ثبت لديه ذلك لما أخرجه هنا، فتأمل، والله تعالى أعلم.

ص: 398

شرح الحديث:

(عَنْ جَابِرٍ) رضي الله عنه (أَنَّ الطُّفَيْلَ بْنَ عَمْرٍو الدَّوْسِيَّ) هو: الطُّفَيل بن عمرو بن طَرِيف بن العاص بن ثعلبة بن سُليم بن فَهْم بن غَنْم بن دَوْس الدَّوْسيّ، وقيل: هو ابن عبد عمرو بن عبد الله بن مالك بن عمرو بن فَهْم، لقبه ذو النور، وحَكَى الْمَرْزَبانيّ في "معجمه": أنه الطُّفَيل بن عمرو بن حُمَمَة، قال البغويّ: أحسبه سكن الشام، وروى البخاريّ في "صحيحه" من طريق الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قَدِمَ الطُّفيل بن عمرو الدَّوْسيّ على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إن دَوْسًا قد عَصَت، فادع الله عليهم، فقال:"اللهم اهد دَوْسًا"، ورَوَى ابن إسحاق في نسخةٍ من "المغازي" من طريق صالح بن كيسان، عن الطفيل بن عمرو في قصة إسلامه خبرًا طويلًا، وفيه: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم بعثه إلى ذي الْكَفَّين، صنم عمرو بن حُمَمَة، فأحرقه بالنار، ويقول [من الرجز]:

يَا ذَا الْكَفَّيْنِ لَسْتُ مِنْ عُبَّادِكَا

مِيلَادُنَا أَكْبَرُ مِن مِيلَادِكَا

إِنِّي حَشَوْتُ النَّارَ فِي فُؤَادِكَا

وفيه: أنه رَأَى في عهد أبي بكر رضي الله عنه أن رأسه حُلِق، وخَرَج من فمه طائر، وأن امرأة أدخلته في فرجها، وأن ابنه طلبه طَلَبًا حثيثًا، فلم يَقْدِر عليه، وأنه أَوَّلَها أن رأسه يُقطع، وأن الطائر روحه، والمرأة الأرض، يُدْفَن فيها، وأن ابنه عَمرو بن الطفيل يَطلُب الشهادة فلا يلحقها، فقُتِل الطُّفيل يوم اليمامة، وعاش ابنه بعد ذلك، وذكرها ابن إسحاق في سائر النسخ بلا إسناد، وأخرجه ابن سعد أيضًا مُطَوَّلًا من وجه آخر، وكذلك الأمويّ، عن ابن الكلبيّ بإسناد آخر، وقال ابن سعد: أسلم الطفيل بمكة، ورجع إلى بلاد قومه، ثم وافى النبي صلى الله عليه وسلم في عمرة القضية، وشَهِدَ الفتح بمكة، وكذا قال ابن حبان، وقال ابن أبي حاتم: قَدِمَ على النبيّ صلى الله عليه وسلم مع أبي هريرة بخيبر، ولا أعلم رُويَ عنه شيء.

وقد أخرج البغويّ، من طريق إسماعيل بن عيّاش، حدثني عبد ربه بن سليمان، عن الطفيل بن عمرو الدوسيّ، قال: "أقرأني أُبَيّ بن كعب القرآن، فأهديت له قوسًا

" الحديث، قال: غريب، وعبد ربه، يقال له: ابن زيتون، ولم يسمع من الطفيل بن عمرو.

وروى الطبريّ من طريق ابن الكلبيّ قال: سبب تسمية الطُّفيل بذي النور

ص: 399

أنه لَمّا وَفَدَ على النبيّ صلى الله عليه وسلم، فدعا لقومه، قال له: ابعثني إليهم، واجعل لي آيةً، فقال:"اللهم نَوِّرْ له"، فسَطَعَ نور بين عينيه، فقال: يا رب أخاف أن يقولوا: مُثْلَةٌ، فتَحَوَّل إلى طرف سوطه، فكان يضيء له في الليلة المظلمة.

وذكر أبو الفرج الأصبهانيّ من طريق ابن الكلبيّ أيضًا أن الطفيل لَمّا قَدِمَ مكة ذَكَرَ له ناس من قريش أَمْرَ النبيّ صلى الله عليه وسلم، وسألوه أن يختبر حاله، فأتاه فأنشده من شعره، فتلا النبيّ صلى الله عليه وسلم الإخلاص والمعوذتين، فأسلم في الحال، وعاد إلى قومه، وذَكَرَ قصة سوطه ونوره، قال: فدعا أبويه إلى الإسلام، فأسلم أبوه، ولم تُسْلِم أمه، ودعا قومه، فأجابه أبو هريرة وحده، ثم أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: هل لك في حِصْنٍ حَصِين، ومَنَعَة - يعني أرض دَوْس -؟. قال: ولما دعا النبيّ صلى الله عليه وسلم لهم قال له الطفيل: ما كنت أُحب هذا، فقال:"إن فيهم مثلَك كثيرًا"، قال: وكان جندب بن عمرو بن حُمَمة بن عوف الدَّوسيّ يقول في الجاهلية: إن للخلق خالقًا، لكني لا أدري مَن هو؟ فلما سَمِع بخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم خرج، ومعه خمسة وسبعون رجلًا من قومه، فأسلم، وأسلموا، قال أبو هريرة: فكان جندب يُقَدِّمهم رجلًا رجلًا، وكان عمرو بن حُممة حاكمًا على دوس ثلاثمائة سنة، وإليه ينسب الصلح المعروف.

وأنشد الْمَرزبانيّ في "معجمه" للطفيل بن عمرو يخاطب قريشًا، وكانوا هَدَّدوه لما أسلم [من الوافر]:

أَلَا أَبْلِغْ لَدَيْكَ بَنِي لُؤَيٍّ

عَلَى الشَّنْآنِ وَالْعَضَبِ الْمُرَدِّ

بِأَنَّ اللهَ رَبَّ النَّاسِ فَرْدٌ

تَعَالَى جَدُّهُ عَنْ كُلِّ نِدِّ

وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدٌ رَسُولٌ

دَلِيلُ هُدًى وَمُوضِحُ كُلِّ رُشْدِ

وَأَنَّ اللهَ جَلَّلَهُ بَهَاءً

وَأَعْلَى جَدَّهُ فِي كُلِّ جَدِّ

قيل: استُشهِد باليمامة، قاله ابن سعد تبعًا لابن الكلبيّ، وقيل: باليرموك، قاله ابن حبان، وقيل: بأجنادين، قاله موسى بن عقبة، عن ابن شهاب، وأبو الأسود، عن عروة، ذكر هذا كلّه في "الإصابة"

(1)

.

(أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم) أي بمكة قبل أن يُهاجر إلى المدينة، كما جاء مصرّحًا به

(1)

"الإصابة" 3/ 422 - 424.

ص: 400

في "مسند" أبي يعلى (فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ) وغرض الطفيل رضي الله عنه بهذا أنه لَمّا رأى مضايقة قريش للنبيّ صلى الله عليه وسلم، وصدّها عليه سبيل الدعوة إلى الله تعالى أن يهاجر النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى بلده حتى يتمكنّ من أداء مهمة الرسالة، فقال:(هَلْ لَكَ) أي هل توجد لك رغبة (فِي حِصْنٍ) أي في الالتحاق بحصن، وهو بكسر، فسكون: هو المكان الذي لا يُقْدَرُ عليه؛ لارتفاعه، جمعه: حُصُون، وقال القرطبيّ:"الْحُصُون": هي القصور والقلاع.

وقوله: (حَصِينٍ) صفة لـ "حِصْن"، بفتح، فكسر، فَعِيل للمبالغة: أي شديد المنع لمن فيه، وقوله:(وَمَنْعَةٍ؟) بالجرّ عطفًا على "حصن"، وهو بفتح الميم، والنون، وتُسكَّن، قال في "الصحاح": يقال: فلانٌ في عزّ ومَنَعَة بالتحريك، وقد يُسكّن عن ابن السكّيت، ويقال: المنعة بالتحريك: جمع مانع، ككافر وكَفَرَة: أي هو في عزّ وعَشِيرة يمنعونه. انتهى

(1)

.

وقال الفيّوميّ: وهو في مَنَعَة بفتح النون: أي في عزّ قومه، فلا يَقْدِرُ عليه من يُريده، قال الزمخشريّ: هي مصدر، مثلُ الأَنَفَة، والْعَظَمة، أو جمعُ مانع، وهم الْعَشِيرة، والْحُمَاةُ، ويجوز أن تكون مقصورةً من الْمَنَاعَة، وقد تُسكَّن في الشعر، لا في غيره؛ خلافًا لمن أجازه مطلقًا. انتهى

(2)

.

(قَالَ) الطّفيل لما استفسره النبيّ صلى الله عليه وسلم عن ذلك الْحِصْن: (حِصْنٌ) خبر لمحذوف: أي هو حِصنٌ (كَانَ لِدَوْسٍ) بفتح الدال المهملة، وسكون الواو، آخره سين مهملة: بطنٌ من الأزد، وهو دَوْس بن حَدَثان بن عبد الله بن زهران بن كعب بن الحارث بن نصر بن الأزد، بطنٌ كبير من الأزد، يُنسب إليهم خلق كثير، منهم الطُّفيل بن عمرو الدوسيّ، وأبو هريرة الدوسيّ، قاله السمعانيّ

(3)

. (فِي الْجَاهِلِيَّةِ) أي في زمن الجاهليّة، وهي الحال التي كانت عليها العرب قبل الإسلام، من الجهل بالله عز وجل، ورسوله صلى الله عليه وسلم، وشرائع الدين، والتفاخر بالأنساب، والْكِبْر، والتجبّر، وغير ذلك، قاله ابن الأثير

(4)

. (فَأَبَى ذَلِكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم) أي امتنع من إجابة طلب الطفيل (لِلَّذِي ذَخَرَ اللهُ لِلْأَنْصَارِ) أي

(1)

"الصحاح" 3/ 1066.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 581.

(3)

"الأنساب" 2/ 506 - 507.

(4)

"النهاية" 1/ 323.

ص: 401

أعدّه الله سبحانه وتعالى لهم، يقال: ذَخَرته ذَخْرًا، من باب نَفَعَ، والاسم الذُّخْرُ بالضمّ: إذا أعددته لوقت الحاجة إليه، واذّخَرْتُهُ على افْتَعَلْتُ مثله، قاله الفيّوميّ

(1)

.

والمعنى أنه إنما أبى النبيّ صلى الله عليه وسلم عن قبول طلب الطُّفَيل؛ لأن الله تعالى أراد أن يُكرم الأنصار بهجرته إليهم، وكتب لهم ذلك، فلم يشرح صدره صلى الله عليه وسلم للهجرة إلى غيرهم، ولم يأذن له بذلك.

(فَلَمَّا هَاجَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْمَدِينَة، هَاجَرَ إِلَيْهِ الطُّفَيْلُ بْنُ عَمْرٍو) رضي الله عنه (وَهَاجَرَ مَعَهُ رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ) لا يُعرف اسمه، كما قاله صاحب "التنبيه"

(2)

.

قال القرطبيّ: قوله: "وَهَاجَرَ مَعَهُ رَجُلٌ مِنْ قَوْمِه، فَاجْتَوَوُا الْمَدِينَةَ، فَمَرِضَ، فَجَزِعَ، فَأَخَذَ" هكذا صواب الرواية بتوحيد "رجل"، وعطف ما بعده على ما قبله على الإفراد، وهي رواية عبد الغافر

(3)

، وعند غيره تخليطٌ، فمنهم من جَمَعَ، فقال: رجال، فاجتووا المدينة، ثم قال بعده: فمرِضَ، فَجَزع، على الإفراد، والأول أصوب. انتهى

(4)

.

قال الجامع عفا الله تعالى: هذا الذي قاله القرطبيّ حسنٌ، وهكذا وقع عند أبي نُعيم في "مستخرجه" بلفظ:"فاجتوى" بالإفراد، ووقع عند أحمد في "مسنده"(3/ 371)، وأبي عوانة في "مسنده"(1/ 52) أيضًا، والبيهقيّ في "الكبرى"(8/ 17) بلفظ "فاجتووا"، كما هو في معظم نسخ "صحيح مسلم"، وله وجه، وهو أن يعود الضمير على الطفيل، والرجل المذكور، ومن يتعلق بهما، قاله النوويّ.

وعندي الأولى أن يعود الضمير على الطفيل، وصاحبه"، وإطلاق الجمع على الاثنين جائز في اللغة، كما في قوله عز وجل: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [سورة التحريم: 4]، وقد حقّقت في "التحفة المرضيّة" في الأصول، و"شرحها" أن

(1)

"المصباح المنير" 1/ 207.

(2)

"تنبيه المعلم بمبهمات مسلم" ص 71.

(3)

هو عبد الغافر بن محمد الفارسيّ، أبو الحسن، ثقة، صالح من رواة "صحيح مسلم"، توُفّي سنة (448 هـ). انتهى. "سير أعلام النبلاء" 18/ 19.

(4)

"المفهم" 1/ 322 - 323.

ص: 402

الصحيح أن أقل الجمع اثنان، فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق.

وقوله: (فَاجْتَوَى الْمَدِينَةَ) أي كَرِهَ الْمُقَام بها؛ لضَجَر، ونوع سَقَم، قال أبو عُبيد، والجوهريّ، وغيرهما: اجتويتُ البلد: إذا كرهت المقام بها، وإن كنت في نعمة

(1)

، قال الخطّابيّ: أصل الاجتواء: استيبال

(2)

المكان، وكراهية الْمُقَام فيه؛ لمضرّة لحقته، وأصله من الجوى، وهو فساد الجوف. انتهى

(3)

.

وقال المازريّ: قال أبو عبيد: اجتويتُ البلاد: إذا كَرِهتَها، وإن كانت موافقةً لك في بدنك، واستبلتها: إذا أحببتها، وإن لم توافقك في بدنك، ومنه قول ابن دُريد:

فِي كُلِّ يَوْمٍ مَنْزِلٌ مُسْتَوْبَلٌ

يَشْتَفُّ مَاءَ مُهْجَتِي أَوْ مُجْتَوَى

(4)

(فَمَرِضَ) بكسر الراء، قال الفيّوميّ: مرِضَ الحيوانُ مَرَضًا، من باب تَعِبَ، والْمَرَضُ: حالةٌ خارجة عن الطبع، ضارَّةٌ بالفعل، ويُعْلَم من هذا أن الآلام والأورام أعراضٌ عن المرَض، وقال ابن فارس: الْمَرَضُ: كلُّ ما خرج به الإنسان عن حدّ الصحّة من علّة، أو نِفَاق، أو تقصير في أمر، ومَرِضَ مَرْضًا: - أي من باب فِهِمَ فَهْمًا - لغة قليلةُ الاستعمال، قال الأصمعيّ: قرأت على أبي عمرو بن العلاء: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} [البقرة: 10]، فقال لي:"مَرْضٌ" يا غلام: أي بالسكون، والفاعل من الأول مَريضٌ، وجمعه مَرْضى، ومن الثانية مارضٌ، قال [من الرجز]:

لَيْسَ بِمَهْزُولٍ وَلَا بِمَارِضٍ

وُيعدَّى بالهمزة، فيقال: أمرضه الله. انتهى

(5)

.

وفي رواية ابن حبّان في "صحيحه" من طريق إسماعيل بن عليّة، عن الحجاج الصوّاف:"فحُمّ ذلك الرجل حُمَّى شديدةً".

(1)

راجع: "شرح النوويّ" 2/ 131.

(2)

يقال: استوبل الأرضَ: أي لم توافقه في بدنه، وإن كان محبًّا لها.

(3)

راجع: "المفهم" 1/ 323.

(4)

"إكمال المعلم" 1/ 488 - 490.

(5)

"المصباح المنير" 2/ 568 - 569.

ص: 403

(فَجَزِعَ) بكسر الزاي: أي فقد الصبر، يقال: جَزِعَ جَزَعًا، من باب تَعِبَ، فهو جَزَعٌ، وجَزُوعٌ مبالغةٌ: إذا ضَعُفت مُنَّتُهُ

(1)

عن حَمْلِ ما نزل به، ولم يجد صبرًا قاله الفيوميّ

(2)

. (فَأَخَذَ مَشَاقِصَ) - بفتح الميم، وبالشين المعجمة، وبالقاف، والصاد المهملة -: جمع مِشْقَصٍ - بكسر الميم، وفتح القاف - قال الخليل، وابن فارس، وغيرهما: هو سَهْمٌ فيه نَصْلٌ عَرِيضٌ، وقال آخرون: ليس بالعريض، وإنما العريض: هو الْمِعْبَلُ، وقال الجوهريّ: الْمِشْقَص: ما طال، وعَرُضَ

(3)

، قال النوويّ تبعًا للقاضي عياض: وهذا هو الظاهر هنا؛ لقوله: "قَطَعَ بها براجمه"، ولا يحصل ذلك إلا بالعريض. انتهى

(4)

.

وقوله: (لَهُ) متعلّق بصفة لـ "مشاقص"، أي كائنة له، والضمير للرجل المريض.

(فَقَطَعَ بِهَا بَرَاجِمَهُ) - بفتح الباء الموحّدة، وبالجيم -: هي مفاصل الأصابع، واحدتها بُرْجُمَة بالضمّ، وقال الفيّوميّ: الْبَرَاجِم: رُؤوس السُّلامِيَات من ظهر الكفّ، إذا قَبَضَ الشخص كفّه نَشَزَت، وارتفعت، وقال في "الكفاية": الْبَرَاجم: رُؤوس السُّلاميات، والرَّوَاجب بُطُونها وظهورها، الواحد بُرْجُمَة كبُنْدُقَة. انتهى

(5)

.

وقال أبو عُبيد في "الغريب": "الرّوَاجب"، و"البَرَاجم" جميعًا: مفاصل الأصابع كلِّها، وقال أبو مالك الأعرابيّ في "كتاب خلق الإنسان": الرواجب: رؤوس العظام في ظهر الكفّ، والبراجم: المفاصل التي تحتها. انتهى

(6)

.

وفي رواية ابن حبّان المذكورة: "فأخذ شَفْرَةً، فقطع بها رواجبه".

(فَشَخَبَتْ يَدَاهُ) - بفتح الشين والخاء المعجمتين -: أي سال دمهما، وقيل: سال بقوة، قاله النوويّ.

وقال الفيّوميّ: شَخَبَت أوداج القتيل دَمًا شَخْبًا، من بابي قَتَلَ، ونَفَعَ:

(1)

"الْمُنّة" بالضمّ: القوّة. اهـ. "المصباح" 2/ 581.

(2)

"المصباح" 1/ 99.

(3)

بضم الراء.

(4)

"إكمال المعلم" 1/ 491، و"شرح النوويّ" 2/ 131.

(5)

"المصباح" 1/ 42.

(6)

"إكمال المعلم" 1/ 490 - 491.

ص: 404

جَرَت، وشَخَبَ اللبن، وكلُّ مائع شَخْبًا: دَرَّ، وسالَ، وشَخَبْتُهُ أنا يتعدّى، ولا يتعدّى. انتهى

(1)

.

وقال القرطبيّ: قوله: "فشَخَبت" بالشين المعجمة، وهو بالخاء المعجمة، وبفتحها في الماضي، وضمّها في المضارع، وقد تفتح، ومعناه: قال ابن دُريد: كلُّ شيء: سال، فهو شَخْبٌ، بضم الشين، وفتحها، وهو: ما خرج من الضرع من اللبن، وكأنه الدُّفْعَة منه، ومنه المثلُ: شُخْبٌ في الأرض، وشُخْبٌ في الإناء، يقال للذي يُصيب مرّةً، ويُخطئ في أخرى؛ تشبيهًا له بالحالب الذي يَفعل ذلك. انتهى

(2)

.

(حَتَّى مَاتَ، فَرَآهُ الطُّفَيْلُ بْنُ عَمْرٍو) مرفوع على الفاعليّة: أي رأى الطفيل هذا الرجل الذي تسبب للموت بقطع براجمه (فِي مَنَامِهِ): أي في حال نومه، فـ "المنام" مصدر ميميّ لـ "نام"، (فَرَآهُ وَهَيْئَتُهُ حَسَنَةٌ) جملة في محلّ نصب على الحال من المفعول، و"الْهَيْئَةُ" - بفتح، فسكون -: الحالة الظاهرة، يقال: هاءَ يَهُوءُ، ويَهِيءُ هَيْئَةً حَسَنةً: إذا صار إليها

(3)

والمعنى هنا: أن الطفيل رأى الرجل وحالته حسنةٌ.

(وَرَآهُ) حال كونه (مُغَطِّيًا) بصيغة اسم الفاعل، وقوله:(يَدَيْهِ) منصوب على المفعولية لاسم الفاعل؛ لكونه حالًا، كما قال في "الخلاصة":

كَفِعْلِهِ اسْمُ الْفَاعِلِ فِي الْعَمَلِ

إِنْ كَانَ عَنْ مُضِيِّهِ بِمَعْزِلِ

وَوَلي اسْتِفْهَامًا اوْ حَرْفَ نِدَا

أَوْ نَفْيًا اوْ جَا صِفَةً أَوْ مُسْنَدَا

(فَقَالَ) الطفيل (لَهُ) أي للرجل (مَا صَنَعَ بِكَ رَبُّكَ؟) أي هل غفر لك، أم ماذا؟.

وفي رواية ابن حبان المذكورة: "ثم إنه جاء فيما يرى النائم من الليل إلى الطفيل بن عمرو في شَارَةٍ حَسَنَة، وهو مُخَمِّرٌ يده، فقال له الطفيل: أفلان؟، قال: نعم، قال: كيف فَعَلْتَ؟ قال: صَنَعَ بي ربيّ خَيْرًا، غفر لي بهجرتي إلى نبيّه صلى الله عليه وسلم

(1)

"المصباح" 1/ 306.

(2)

"المفهم" 1/ 323.

(3)

"المصباح المنير" 2/ 645.

ص: 405

(فَقَالَ) الرجل (غَفَرَ لِي) ببناء الفعل للفاعل، (بِهِجْرَتِي) أي بسبب ترك وطني، وخروجي منه مهاجرًا (إِلَى نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ) الطفيل (مَا) استفهاميّة: أي أيُّ شيء ثبت (لِي أَرَاكَ) حال كونك (مُغَطِّيًا يَدَيْكَ؟) وفي رواية أحمد: "يدك" بالإفراد، وهو الذي في "مستخرج أبي نعيم" (قَالَ) الرجل (قِيلَ لِي: لَنْ نُصْلِحَ) بضم النون، من الإصلاح رباعيًّا (مِنْكَ مَا أَفْسَدْتَ) أي بقطعها بدون مسوغّ شرعيّ (فَقَصَّهَا) أي هذه الرؤيا (الطُّفَيْلُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "اللَّهُمَّ وَلِيَدَيْهِ) متعلّق بـ (فَاغْفِرْ") والفاء زائدة، أي كما غفرت لسائر جسده، فاغفر ليديه أيضًا.

قال القرطبيّ: فيه دليلٌ على أن المغفرة قد لا تتناول محلّ الجناية، فيحصلُ منه توزيع العقاب على الْمُعَاقَب، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم:"اللهم وليديه فاغفر"، والظاهر أن هذا الرجل أدركته بركة دعوة النبيّ صلى الله عليه وسلم، فغُفر له، وليديه، وكمل له ما بقي من المغفرة عليه، وعلى هذا فيكون قوله:"لن نُصلح منك ما أفسدت" ممتدًّا إلى غاية دعاء النبيّ صلى الله عليه وسلم له، فكأنه قيل له: لن نُصلح منك ما أفسدته ما لم يَدعُ لك النبيّ صلى الله عليه وسلم. انتهى

(1)

. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث جابر رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا في "الإيمان"[52/ 318](116)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 370 - 371)، و (البخاريّ) في "الأدب المفرد"(614)، و"جزء رفع اليدين"(28)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(136)، و (أبو نُعيم) في "مستخرجه"(306 و 307)، وفي "الحلية"(6/ 261)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(3017)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(8/ 17)، و (الحاكم) في "المستدرك"(4/ 76)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(1)

"المفهم" 1/ 324.

ص: 406

1 -

(منها): بيان أن قاتل النفس لا يُكفَّر، قال النوويّ: فيه حجةٌ لقاعدةٍ عظيمةٍ لأهل السنة أن مَن قَتَلَ نفسه، أو ارتكب معصيةً غيرها، ومات من غير توبة، فليس بكافر، ولا يُقطَع له بالنار، بل هو في حكم المشيئة، وقد تقدم بيان القاعدة، وتقريرها، وهذا الحديث شرح للأحاديث التي قبله، الموهمِ ظاهرها تخليدَ قاتل النفس، وغيره من أصحاب الكبائر في النار. انتهى

(1)

.

وقال القرطبيّ: هذا الحديث يقتضي أن قاتل النفس ليس بكافر، وأنه لا يُخلّد في النار، وهو موافق لقوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48]، وهذا الرجل ممن شاء الله أن يغفر له؛ لأنه إنما أتى بما دون الشرك، وهذا بخلاف القاتل نفسه المذكور في حديث جندب رضي الله عنه؛ فإنه ممن شاء الله أن يُعذّبه. انتهى

(2)

.

2 -

(ومنها): أن فيه إثبات عقوبة بعض أصحاب المعاصي، فإن هذا عوقب في يديه، ففيه ردٌّ على المرجئة القائلين بأن المعاصي لا تضرّ.

3 -

(ومنها): بيان فضل الطّفيل بن عمرو رضي الله عنه حيث إنه بادر بإيواء النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى حصن قومه حتى يكون لهم فضل نصرة الإسلام، إلا أن الله تعالى فضّل به الأنصار رضي الله عنهم.

4 -

(ومنها): بيان فضل الأنصار رضي الله عنهم، وبيان مناقبهم العظيمة، ومفاخرهم الكريمة، وذلك لأن الله سبحانه وتعالى اختصّهم بهجرة النبيّ صلى الله عليه وسلم، فآووه، وآووا المهاجرين، {فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة: 54]، {وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [البقرة: 105].

5 -

(ومنها): بيان فضل الهجرة إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأنها مما يُستوجب بها غفران الذنوب.

6 -

(ومنها): بيان شفقة النبيّ صلى الله عليه وسلم، وشدّة رأفته لأمته، كما وصفه الله عز وجل بذلك، حيث قال:{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَاعَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)} [التوبة: 128]، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(1)

" شرح النوويّ" 2/ 131 - 132.

(2)

"المفهم" 1/ 324.

ص: 407

‌53 - (بَابُ بَيَانِ الرِّيحِ الَّتِي تَكُونُ قُرْبَ الْقِيَامَة، تَقْبِضُ رُوحَ كُلِّ مَنْ فِي قَلْبِهِ شَيْءٌ مِنَ الإِيْمَانِ)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى، المذكور أولَ الكتاب قال:

[319]

(117) - (حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدَةَ الضَّبِّيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَأَبُو عَلْقَمَةَ الْفَرْوِيُّ، قَالَا: حَدَّثَنَا صَفْوَانُ بْنُ سُلَيْم، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ سَلْمَانَ، عَنْ أَبِيه، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللهَ يَبْعَثُ رِيحًا مِنَ الْيَمَن، أَلْيَنَ مِنَ الْحَرِير، فَلَا تَدَعُ أَحَدًا فِي قَلْبِهِ - قَالَ أَبُو عَلْقَمَةَ -: مِثْقَالُ حَبَّةٍ - وقَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ -: مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إِيمَانٍ، إِلَّا قَبَضَتْهُ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(أَحْمَدُ بْنُ عَبْدَةَ الضَّبِّيُّ) أبو عبد الله البصريّ، ثقةٌ، رُمي بالنصب [10](ت 245)(م 4) تقدم في "الإيمان" 1/ 103.

[تنبيه]: قوله: "الضّبّيّ": بالفتح، والتشديد: نسبة إما إلى ضبّة بن أُدّ بن طابخة بن إلياس بن مُضَر، أو إلى ضبّة بن الحارث في قُريش، أو إلى ضبّة بن عَمرو في هُذيل، أو إلى ضبّة قرية بالحجاز

(1)

.

2 -

(عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ) بن عُبيد الدّرَاورديّ، أبو محمد الْجُهنيّ مولاهم المدنيّ، صدوقٌ، كان يُحدّث من كتب غيره، فيُخطئ [8](ت 186)(ع) تقدم في "الإيمان" 8/ 135.

3 -

(أَبُو عَلْقَمَةَ الْفَرْوِيُّ) عبد الله بن محمد بن عبد الله بن أبي فَرْوَة الأمويّ مولاهم المدنيّ، مولى آل عثمان، صدوقٌ [8].

رَأَى الأعرج، ورَوَى عن عميه: إسحاق وعبد الحكيم، ومحمد بن عمرو بن علقمة، وصفوان بن سُلَيم، ويزيد بن خُصَيفة، ونافع مولى ابن عمر، وغيرهم.

(1)

"الأنساب" 4/ 10 - 12، و"اللباب" 2/ 261 - 262.

ص: 408

ورَوى عنه ابن ابنه هارون بن موسى، وابن وهب، وإسحاق بن راهويه، وإبراهيم بن المنذر، ويحيى بن يحيى، والقعنبيّ، وقتيبة، وأحمد بن عبدة الضبيّ، وغيرهم.

قال ابن الجنيد، عن ابن معين: ليس به بأسٌ، وكذا قال أبو حاتم، وقال الدُّوريّ، عن ابن معين: ثقةٌ، وكذا قال النسائيّ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وحَكَى ابنُ عبد البرّ عن عليّ ابن المدينيّ: هو ثقةٌ، ما أعلم أني رأيت بالمدينة أتقنَ منه، وقد رُوِي عنه أنه قال: رأيت السائب بن يزيد، وقال ابن سعد: عُمِّرَ عبد الله، حتى لقيناه سنة (189)، وكان ثقةً، قليلَ الحديث.

قال ابن ابنه: مات في المحرم سنة تسعين ومائة.

أخرج له البخاريّ، والمصنّف، وأبو داود، والنسائيّ، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا (117)، وحديث (444): "أيما امرأة أصابت بَخُورًا

" الحديث.

[تنبيه]: قوله: "الْفَرْويّ" - بفتح الفاء، وسكون الراء -: نسبة إلى جدّه

(1)

.

4 -

(صَفْوَانُ بْنُ سُلَيْم) الزهريّ مولاهم، أبو عبد الله المدنيّ، ثقةٌ مُفتٍ عابدٌ، رُمي بالقدر [4](ت 132)(ع) تقدم في "الإيمان" 26/ 213.

5 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ سَلْمَانَ) الأَغَرّ المدنيّ، مولى جُهَينة، أخو عُبيد الله بن سلمان، صدوقٌ [6].

رَوَى عن أبيه، وعنه صفوان بن سُليم، وعبد الله بن عثمان بن خُثيم، ذكره ابن حبان في "الثقات"، روى له المصنّف هذا الحديث فقط، فهو من أفراده.

6 -

(أَبُوهُ) هو: سلمان مولى جهينة، المدنيّ، أصله من أصبهان، ثقة، من كبار [3].

رَوَى عن أبي هريرة، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وأبي الدرداء، وعمار، وأبي أيوب، وأبي سعيد الخدري، وأبي لبابة بن عبد المنذر، وعبد الله بن إبراهيم بن قارظ.

(1)

راجع: "الأنساب" 4/ 374، و"اللباب" 2/ 426.

ص: 409

ورَوَى عنه بنوه: عبد الله، وعبيد الله، وعبيد، وزيد بن رَبَاح، والزهري، وبكير بن الأشجّ، وعمران بن أبي أنس، وأبو بكر بن حزم، وغيرهم.

قال حجاج عن شعبة: كان الأغر قاصًّا من أهل المدينة، وكان رضًا، وقال الواقدي: سمعت ولده يقولون: لَقِي عمر بن الخطاب، ولا أُثبت ذلك عن أحد غيرهم، وكان ثقةً، قليل الحديث، وقال عبد الغني بن سعيد في "الإيضاح": سلمان الأغر مولى جهينة هو أبو عبد الله الأغر الذي رَوَى عنه الزهريّ، وهو أبو عبد الله المدني، مولى جهينة، وهو أبو عبد الله الأصبهاني الأغر، وهومسلم المديني الذي يُحدّث عنه الشعبي، وقال قوم: هو الأغر، أبو مسلم الذي يَروِي عنه أهل الكوفة، وقال ابن أبجر: هو الأغر بن سُليك، ولا يصح ذلك، الأغر بن سُليك آخر. انتهى، ومسلم المديني الذي يروي عنه الشعبي آخر، وكذا الأغر أبو مسلم الذي يروي عنه أهل الكوفة، وأن حديثه عند أهلها، دون أهل المدينة، وهو مولى أبي هريرة وأبي سعيد، وهذا مولى جهينة، والله أعلم.

وممن فرق بينهما البخاري، ومسلم، وابن المديني، والنسائي، وأبو أحمد الحاكم، وغيرهم، والأغر أبو عبد الله هذا ذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال ابن عبد البر: هو من ثقات تابعي أهل الكوفة، قال ابن خلفون: وثقه الذُّهْلِيّ.

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب ثمانية أحاديث: هذا (117)، وحديث (615): "إذا كان اليوم الحارّ، فأبردوا بالصلاة

"، و (649): "صلاة الجماعة تعدل خمسًا وعشرين من صلاة الفذّ"، وأعاده بعده، و (758): "من يدعوني، فأستجيب له

"، و (850): "إذا كان يوم الجمعة كان على كلّ باب

"، و (1394): "فإني آخر الأنبياء، وإن مسجدي آخر المساجد"، و (1397): "إنما يُسافَرُ إلى ثلاثة مساجد

" الحديث.

7 -

(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه المذكور قريبًا، والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف.

ص: 410

2 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين، غير شيخه، فبصريّ.

3 -

(ومنها): أن رواية صفوان بن سُليم عن عبد الله بن سلمان من رواية الأكابر عن الأصاغر؛ لأن صفوان من الطبقة الرابعة، وعبد الله من السادسة.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية الابن عن أبيه، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ سَلْمَانَ، عَنْ أَبِيهِ) سلمان الأغرّ.

[تنبيه]: قال الجيّاني في "تقييد المهمل": هكذا رُوي في هذا الإسناد "عبد الله بن سلمان"، قال البخاريّ

(1)

في "باب عبد الله بن سلمان": عبد الله بن سلمان أخو عُبيد الله بن سلمان الأغرّ المدينيّ مولى جُهينة، ثم قال

(2)

في باب "عُبيد الله بن سلمان": الأغرّ المدنيّ مولى جهينة، روى عنه مالك، وابن عجلان، وسليمان بن بلال، ثم قال البخاريّ: قال بعضهم: عبد الله، وعُبيد الله أصحّ. انتهى

(3)

.

قال الجامع عفا الله تعالى: هكذا نقل الجيّاني هذا الكلام عن الإمام البخاريّ في "تاريخه"، لكن الذي في "التاريخ الكبير" المطبوع ليس فيه قوله:"وعبيد الله أصحّ"، ولذا قال القاضي عياض بعد نقل كلام الجيّانيّ هذا، ما نصّه: ولم يكن هذا عندنا في "تاريخ البخاريّ"، ولا في أصل شيخنا الشهيد. انتهى

(4)

.

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللهَ يَبْعَثُ): أي يرسل، قال الفيّوميّ: بَعَثْتُ رسولًا بَعْثًا، وابتعثته كذلك، وفي المطاوع: فانبعث، مثلُ كسرته، فانكسر، وكلُّ شيء يَنبَعِث بنفسه، فان الفعل يتعدّى إليه بنفسه، فيُقال: بعثتُهُ، وكلُّ شيء لا ينبعثُ بنفسه، كالكتاب والهديّة، فإن الفعل يتعدَّى إليه بالباء، فيقال: بعثت به إليه، وأوجز الفارابيّ، فقال: بعثه: أي أَهَبَّهُ، وبَعَثَ به: وَجَّهَه. انتهى

(5)

. (رِيحًا) هي مؤنّثة على الأكثر، فيقال: هي

(1)

"التاريخ الكبير" 5/ 109.

(2)

"التاريخ الكبير" 5/ 384.

(3)

"تقييد المهمل" 3/ 781 - 782.

(4)

"إكمال المعلم" 1/ 494.

(5)

"المصباح المنير" 1/ 52.

ص: 411

الريح، وقد تُذكَّر على معنى الْهَوَاء، فيقال: هو الريح، وهَبَّ الريح، نقله أبو زيد، وقال ابن الأنباريّ: الريح مؤنّثةٌ، لا علامة فيها، وكذلك سائر أسمائها، إلا الإعصار، فإنه مذكّرٌ. انتهى

(1)

. (مِنَ الْيَمَنِ) البلد المعروف، سُمّي به؛ لأنه عن يمين الشمس عند طلوعها، وقيل: لأنه عن يمين الكعبة، والنسبة إليه يَمَنيّ على القياس، وَيمَانٍ بالألف على غير قياس، ويقال: يمانيّ، وقد تقدّم تمام البحث فيه في شرح حديث: "جاء أهل اليمن، هم أرقّ أفئدة

" الحديث، فراجعه تستفد.

قال النوويّ: جاء في هذا الحديث: "يبعث الله تعالى ريحًا من اليمن"، وفي حديث آخر، ذكره مسلم في آخر الكتاب، عَقِبَ أحاديث الدجال

(2)

: "ريحًا من قبل الشام".

ويجاب عن هذا بوجهين:

[أحدهما]: يحتمل أنهما ريحان: شاميةٌ ويمانية، ويحتمل أن مبدأها من أَحَدِ الإقليمين، ثم تَصِلُ إلى الآخر، وتنتشر عنده، والله تعالى أعلم. انتهى

(3)

.

وقال القرطبيّ: هذه الريح إنما تُبعَثُ بعد نزول عيسى ابن مريم عليه السلام، وقتله الدّجّال، كما يأتي في حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما في "الفتن" آخر الكتاب، غير أنه قال هنا:"ريحًا من قبل اليمن"، وفي حديث عبد الله:"من قبل الشام"، فيجوز أن يكون مبدؤها من قبل اليمن، ثم تمرّ بالشام، فتهبّ منه على من يليه. انتهى

(4)

.

(أَلْيَنَ مِنَ الْحَرِيرِ) ولفظ أبي نعيم: "ألين على المؤمن من الحرير"، وفيه - والله أعلم - إشارة إلى الرفق بهم، والإكرام لهم، قاله النوويّ.

وقال الأبيّ

(5)

: هذا الذي قاله النوويّ يؤخذ من السياق، وإلا فليس التسهيل دليلًا على التكرمة، ولا التصعيب دليلًا على الشقاء، فكم شقّ على

(1)

"المصباح المنير" 1/ 244.

(2)

سيأتي للمصنّف برقم (2940).

(3)

"شرح النوويّ" 2/ 132.

(4)

"المفهم" 1/ 325.

(5)

راجع: "شرح الأبيّ" 1/ 225 - 226.

ص: 412

سعيد، وسَهُل على شقيّ، فعن زيد بن أسلم عن أبيه:"إذا بقي على المؤمن شيء من درجاته لم يبلغه من عمله شدّد الله سبحانه وتعالى عليه الموت؛ ليبلغ بكرمه درجته في الآخرة، وإذا كان للكافر معروف لم يُجزَ به في الدنيا سهّل الله عليه الموت؛ ليستكمل ثواب معروفه ليصير إلى النار"، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: لا أغبِطُ أحدًا سهل عليه الموت بعد الذي رأيت من شدّة موت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يُدخل يده في قَدَح، ويمسح بها وجهه، ويقول:"اللهم سهّل عليّ الموت"، فقالت فاطمة رضي الله عنها حينئذ: واكرباه لكربك يا أبتاه، فقال:"لا كرب لأبيك بعد اليوم"

(1)

، ونُزع معاذ نزعًا لم يُنزعه أحدٌ، فكان كلما أفاق قال: رب اخنُق، فوعزّتك لتعلم أن قلبي يُحبّك، ورُوي:"موت الفجأة راحة المؤمن، وأخذة أسف لفاجر"

(2)

.

(فَلَا تَدَعُ) أي لا تترك (أَحَدًا فِي قَلْبِهِ - قَالَ أَبُو عَلْقَمَةَ -) عبد الله بن محمد بن أبي فروة في روايته (مِثْقَالُ حَبَّةٍ) بفتح الحاء المهملة، وتشديد الموحّدة، واحدة الحبّ، وهو اسم جنس للحنطة وغيرها مما يكون في السُّنْبُل والأَكمام، وجمع "الحبّة" حَبّات، على لفظها، وتُجمع على حِبَاب، مثلُ كَلْبَة وكِلاب، وجمع "الحبّ": حُبُوب، مثلُ فَلْسٍ وفُلُوس

(3)

. (- وقَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ -) الدراورديّ في روايته (مِثْقَالُ ذَرَّةٍ) بفتح الذال، وتشديد الراء: واحدة الذَّرّ، قال ابن الأثير: الذّرّ: النملُ الأحمر الصغير، واحدتها ذَرّةٌ، وسُئل ثَعْلبٌ

(1)

أخرجه البخاريّ في "صحيحه"(4462) من حديث أنس رضي الله عنه قال: لَمّا ثَقُلَ النبيّ صلى الله عليه وسلم جعل يتغشاه، فقالت فاطمة رضي الله عنها: واكرب أباه، فقال لها:"ليس على أبيك كرب بعد اليوم"، فلما مات، قالت: يا أبتاه أجاب ربًا دعاه، يا أبتاه مَن جنة الفردوس مأواه، يا أبتاه إلى جبريل ننعاه، فلما دُفن قالت فاطمة رضي الله عنها: يا أنس أطابت أنفسكم أن تَحثوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم التراب؟.

(2)

أخرجه أحمد في "مسنده"(23891) حدثنا وكيع، حدثنا عبيد الله بن الوليد، عن عبد الله بن عبيد بن عمير، عن عائشة، قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن موت الفجأة، فقال:"راحة للمؤمن، وأخذة أسف لفاجر"، وفيه عبيد الله بن الوليد ضعيف، وقيل: متروك.

(3)

راجع: "المصباح" 1/ 117.

ص: 413

عنها، فقال: إن مائة نملة وزنُ حَبّة، والذّرّة واحدةٌ منها، وقيل: الذّرّة ليس لها وزن، ويُراد بها ما يُرَى في شُعاع الشمس الداخل في النافذة. انتهى

(1)

.

وقال في "القاموس": الذَّرُّ: صغار النّمل، ومائة منها زِنَةُ حَبَّةِ شَعير. انتهى

(2)

.

يعني: أنه وقع اختلاف بين راويي صفوان بن سُليم، وهما: أبو علقمة الفَرْويّ، وعبد العزيز الدراورديّ، فقال الأول:"لا تَدَع أحدًا في قلبه مثقال حبّة من إيمان"، وقال الثاني:"لا تَدَع أحدًا في قلبه مثقال ذَرّة من إيمان".

وقوله: (مِنْ إِيمَانٍ) بيان لـ "مِثْقالُ"، قال النوويّ: فيه بيانٌ للمذهب الصحيح أن الإيمان يزيد وينقص. انتهى.

(إِلَّا قَبَضَتْهُ") أي قبضت روحه، أي بواسطة ملك الموت، فلا تنافي بينه وبين قوله عز وجل:{حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ} [الأنعام: 61].

وقال القرطبيّ: قبض الإيمان في هذا الحديث هو بقبض أهله، كما جاء في حديث ابن عمرو، وقال فيه:"ثم يُرسل الله ريحًا باردةً من قبل الشام، فلا يبقى على وجه الأرض أحدٌ في قلبه مثقال ذرّة من خير، أو إيمان إلا قبضته، حتى لو أن أحدكم دخل في كَبِد جبل لدخلت عليه حتى تقبضه - قال -: فيبقى شرار الناس في خِفّة الطير، وأحلام السباع"

(3)

. انتهى كلام القرطبيّ

(4)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قوله: "وقبض الإيمان في هذا الحديث

إلخ " هكذا ذكر القرطبيّ هذا التأويل، ولا حاجة إليه؛ لأنه مبنيّ على جعل الضمير "قبضته" عائدًا إلى "إيمان"، وليس كذلك، بل هو عائد على "أحد" من قوله: "فلا تدع أحدًا"، وهذا ظاهر لا يحتاج إلى تأمّل، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

[تنبيه]: قد جاءت في هذا النوع أحاديث كثيرة:

(فمنها): ما أخرجه المصنّف من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت

(1)

"النهاية" 2/ 157.

(2)

"القاموس المحيط" ص 357.

(3)

سيأتي هذا الحديث للمصنّف في "كتاب الفتن" برقم (2940).

(4)

"المفهم" 1/ 325.

ص: 414

رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يذهب الليل والنهار، حتى تعبد اللات والعزى"، فقلت: يا رسول الله، إن كنت لأظن حين أنزل الله:{هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33)} [التوبة: 33] أن ذلك تامًّا، قال:"إنه سيكون من ذلك ما شاء الله، ثم يبعث الله ريحًا طيبةً، فتوفى كلَّ من في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان، فيبقى من لا خير فيه، فيرجعون إلى دين آبائهم".

(ومنها): ما أخرجه أيضًا من حديث النوّاس بن سمعان من حديث الدجال الطويل، وفيه:"فبينما هم كذلك، إذ بعث الله ريحًا طيبة، فتأخذهم تحت آباطهم، فتقبض روح كل مؤمن، وكل مسلم، ويبقى شرار الناس، يتهارجون فيها تهارج الحمر، فعليهم تقوم الساعة".

(ومنها): ما أخرجه أيضًا من حديث أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تقوم الساعة على أحد يقول: الله الله".

(ومنها): ما أخرجه البخاريّ من حديث مِرْداس الأسلمي رضي الله عنه قال: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "يذهب الصالحون، الأول فالأول، ويبقى حُفَالة كحُفَالة الشعير

(1)

، أو التمر، لا يباليهم الله بالةً".

(ومنها): ما أخرجه الشيخان من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: "مِن شرار الناس مَن تُدركهم الساعة، وهم أحياء".

وهذه الأحاديث كلها وما في معناها تدلّ على أن الصالحين سيُقبضون شيئًا فشيئًا، حتى يكونوا في آخر الزمان قلّةً، فتأتي الريح اللينة، فتقبضهم، فتقوم الساعة على شرار الناس، والله تعالى أعلم.

[فإن قلت]: كيف تجمع بين هذه الأحاديث، وبين حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنها قال: سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تزال طائفة من أمتي، يقاتلون على الحقّ، ظاهرين إلى يوم القيامة".

وحديث معاوية رضي الله عنه مرفوعًا: "ولن تزال هذه الأمة قائمةً على أمر الله،

(1)

"الْحُفَالة" بالضم: الرديء من كلّ شيء.

ص: 415

لا يضرهم من خالفهم، حتى يأتي أمر الله"، متّفقٌ عليه، فإن ظاهر الحديثين أن هذه الطائفة تبقى على الحقّ إلى أن تقوم الساعة؟.

[قلت]: يُجمع بينها بأن هؤلاء لا يزالون على الحقّ حتى تَقبِضهم هذه الريح الليّنة قربَ القيامة، وعند تظاهر أشراطها، فأَطلَق في هذا الحديث بقاءهم إلى قيام الساعة على أشراطها، ودُنُوِّها المتناهي، قاله النوويّ

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا في "الإيمان"[53/ 319](117)، و (البخاريّ) في "التاريخ الكبير"(5/ 109)، و (الحاكم) في "مستدركه"(4/ 455)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(308)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان الريح التي تأتي قرب القيامة، فتقبض روحَ كلّ من في قلبه شيء من الإيمان.

2 -

(ومنها): بيان فضل الله تعالى، ورحمته للمؤمنين، حيث يقبض أرواحهم قبل قيام الساعة بريح ألين من الحرير، حتى لا تقوم عليهم القيامة، {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب: 43].

3 -

(ومنها): بيان أن موت الصالحين من أشراط الساعة.

4 -

(ومنها): بيان أن الساعة لا تقوم إلا على شرار الناس، كما سبق في الأحاديث السابقة.

5 -

(ومنها): بيان بعض علامات الساعة، وهي هذه الريح.

6 -

(ومنها): أن فيه علمًا من أعلام النبوّة، ومعجزةً من معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم، حيث أخبر بما سيأتي في آخر الزمان.

(1)

راجع: "شرح النوويّ" 2/ 132.

ص: 416

7 -

(ومنها): بيان تفاوت أهل الإيمان فيه، حيث يكون لبعضهم أعلى الدرجات، ولبعضهم أدنى قدر منه.

8 -

(ومنها): بيان أن الإيمان يزيد وينقص، وهو مذهب أهل السنّة والجماعة، وخالف في ذلك طائفة من المبتدعة، وهم المرجئة الضالّة، يزعمون أنه مجرّد التصديق، لا يزيد، ولا ينقص، وهو ضلال مبين، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

‌54 - (بَابُ الْحَثِّ عَلَى الْمُبَادَرَةِ بِالأَعْمَالِ قَبْلَ تَظَاهُرِ الْفِتَنِ)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[320]

(118) - (حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، وَقُتَيْبَةُ، وَابْنُ حُجْرٍ، جَمِيعًا عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ، قَالَ ابْنُ أَيُّوبَ: حَدَّثنا إِسْمَاعِيلُ، قَالَ: أَخْبَرَنِي الْعَلَاءُ، عَنْ أَبِيه، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ فِتَنًا، كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِم، يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا، ويُمْسِي كَافِرًا، أَوْ يُمْسِي مُؤْمِنًا، وَيُصْبِحُ كَافِرًا، يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ) الْمَقَابريّ البغداديّ، ثقةٌ عابدٌ [10](234)(غخ م د عس) تقدم في "الإيمان" 2/ 110.

2 -

(قُتَيْبَة) بن سعيد المذكور قبل بابين.

3 -

(ابْنُ حُجْرٍ) هو: عليّ بن حُجر بن إياس السّعْديّ المروزيّ، ثقة حافظٌ، من صغار [9](ت 244)، وقد قارب المائة، أو جاوزها (خ م ت س) تقدم في "المقدمة" 2/ 6.

4 -

(إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ) بن أبي كثير الأنصاريّ الزُّرَقيّ، أبو إسحاق المدنيّ القارئ، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 180)(ع) تقدم في "الإيمان" 2/ 110.

5 -

(الْعَلَاءُ) بن عبد الرحمن الْحُرقيّ، أبو شِبْل المدنيّ، صدوقٌ، ربما

ص: 417

وَهِمَ [5](مات سنة بضع 130)(ز م 4) تقدم في "الإيمان" 8/ 135.

6 -

(أَبُوهُ) عبد الرحمن بن يعقوب الْجُهَنيّ الْحُرَقيّ مولاهم المدنيّ، ثقةٌ [3](ز م 4) تقدم في "الإيمان" 8/ 135.

7 -

(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه المذكور قريبًا، والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف، وفيه التحديث بصيغة الإفراد في أوله؛ لكونه سمعه وحده، والجمع في ثانيه؛ لكونه سمعه مع جماعة، والإخبار بصيغة الإفراد في ثالثه؛ لكونه قرأه بنفسه، والعنعنة في الباقي.

2 -

(ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، من إسماعيل.

3 -

(ومنها): أن فيه قوله: (قال ابن أيوب

إلخ) إشارة إلى الاختلاف الواقع بين شيوخه الثلاثة، فيحيى بن أيوب صرّح بالسماع من شيخه إسماعيل، والآخران لم يصرّحا به.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية الابن عن أبيه، وتابعيّ عن تابعيّ: العلاء عن أبيه، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ) أي سابقوا بتكثير الأعمال الصالحة، قال المجد: بادره مُبادرةً، وبِدَارًا، وابتدره، وبَدَرَ غيره إليه: عاجله. انتهى

(1)

. وقال الفيّوميّ: بَدَرَ إلى الشيء، بُدُورًا، وبادر إليه مبادرةً، وبِدَارًا، من باب قَعَدَ، وقاتل: أسرع، وفي التنزيل العزيز:{وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا} [النساء: 6]

(2)

.

وقوله: (فِتَنًا) أي أيام فِتَن، منصوب على المفعوليّة، وهو بكسر الفاء، وفتح التاء المثنّاة الفوقيّة، ثم نون: جمع فِتنة، بكسر، فسكون: وهي الْمِحنة والابتلاء، وأصلها من قولك: فَتَنتُ الذهب والفضّةَ: إذا أحرقته بالنار؛ ليَبِين الجيّد من الرديء

(3)

.

(1)

"القاموس المحيط " ص 314.

(2)

راجع: "المصباح المنير" 1/ 38.

(3)

"المصباح المنير" 2/ 462.

ص: 418

وقال الطيبيّ: معنى قوله: "بادروا بالأعمال فِتَنًا" أي سابقوا وقوع الفِتَن بالاشتغال بالأعمال الصالحة، واهتمّوا بها قبل نزولها، فالمبادرة: المسارعة بإدراك الشيء قبل فواته، أو بدفعه قبل وقوعه. انتهى

(1)

.

وقال القرطبيّ: معناه: سابقوا بالأعمال الصالحة هُجُوم الْمِحَن المانعة منها، السالبة لشرطها المصحِّحِ لها: الإيمان، كما قال:"يُصبح الرجل مؤمنًا، ويُمسي كافرًا"، ولا إحالةَ، ولا بُعْدَ في حَمْل هذا الحديث على ظاهره؛ لأن الْمِحَن، والشدائد إذا توالت على القلوب أفسدتها بغلبتها عليها، وبما يؤثّر فيها من القسوة، ومقصود هذا الحديث الحضّ على اغتنام الْفُرْصة، والاجتهاد في أعمال الخير والبرّ عند التمكّن منها قبل هُجُوم الموانع. انتهى

(2)

.

وقوله: (كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ) متعلّق بصفة لـ "فِتَن" أي كائنة كقِطَع الليل المظلِم، و"الْقِطَعُ" - بكسر، ففتح -: جمع قطعة، والمراد كجزء من الليل المظلِم؛ لفرط سوادها وظلمتها، وعدم تبيّن الصلاح والفساد فيها، وفيه إيماء إلى أن أهل هذه الْفِتَن ممن قال تعالى في حقّهم:{كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا} [يونس: 27]، وقد قرأ ابن كثير، والكسائيّ في الآية بسكون الطاء على أن المراد به جزء من الليل، أو من سواده، ويرادفه قطعة.

فقوله: "كقِطَع الليل المظلم" كناية عن شدّة الفِتَن، وهول الخوف منها، وإبهام الأمر فيها، وضعف الوصول إلى الحقّ، وسرعة الوقوع في الباطل، ووصف الليل بالمظلم للتأكيد.

وحاصل المعنى: تعجّلوا بالأعمال الصالحة قبل مجيء الفتن المظلمة من القتل، والنهب، والاختلاف بين المسلمين في أمر الدنيا والدين، فإنكم لا تطيقون الأعمال على وجه الكمال فيه، والمراد من التشبيه بيان حال الفِتَن من حيث إنه بَشِيعٌ فَظِيعٌ، ولا يُعرف سببها، ولا طريق الخلاص منها، قاله القاري

(3)

.

(يُصْبِحُ) أي يدخل في وقت الصباح، يقال: أصبحنا: أي دخلنا في

(1)

"الكاشف عن حقائق السنن" 11/ 3406.

(2)

"المفهم" 1/ 326.

(3)

"مرقاة المفاتيح" 9/ 260.

ص: 419

الصباح، وهو أول النهار

(1)

. (الرَّجُلُ) ذكر الرجل ليس للاحتراز عن المرأة، فهي مثله في هذا، ولكن الظاهر - والله أعلم - أن ذلك غالب في الرجال؛ لأن أكثر الفتن تواجههم؛ إذ النساء غالبًا يبتعدن عن مواجهتها بسبب لزومهن البيت غالبًا، (مُؤْمِنًا) أي متّصفًا بأصل الإيمان، أو بكماله (وَيُمْسِي) أي يدخل في المساء، وهو خلاف الصباح (كَافِرًا) أي حقيقةً، أو كافرًا للنعمة، أو مشابهًا للكفرة، أو عاملًا عمل الكافر، وقيل: المعنى: يُصبح مُحَرِّمًا ما حرّمه الله، ويُمسي مستحلًّا إياه، وبالعكس، وحاصله التذبذب في أمر الدين، والتتبّع لأمر الدنيا، كما بيّنه بقوله: "يبيع

إلخ"، قاله القاري

(2)

.

وأورد البغويّ في "شرح السنّة"(14/ 15)، عن الحسن أنه قال في هذا الحديث:"يصبح الرجل مؤمنًا" يعني: محرِّمًا لدم أخيه وعرضه وماله، ويمسي مستحلًّا. انتهى.

فقوله: "يُصبح الرجل

إلخ" جملة مستأنفة استئنافًا بيانيًّا، كأن سائلًا قال: ما حال الفنتة؟ فأجابه بقوله: "يُصبح الرجل

إلخ".

(أَوْ يُمْسِي مُؤْمِنًا، وَيُصْبِحُ كَافِرًا)"أو" للشكّ من الراوي في أيّ اللفظين قاله النبيّ صلى الله عليه وسلم، وكلّ من اللفظين يدلّ على سرعة التحوّل من حال الإيمان إلى حال الكفر في أقرب وقت، وليس الليل والنهار مقصودين، بل هما كناية عن السرعة المذكورة؛ إذ يمكن أن يحدث في لحظات قليلة من لحظات الليل والنهار.

وقوله: (يَبِيعُ) جملة مستأنفة استئنافًا بيانيًّا، وهو ما وقع جوابًا لسؤال مقدّر، تقديره هنا: كيف يصبح مؤمنًا، ويمسي كافرًا؟، فأجاب بقوله: "يبيع

إلخ": أي يبيع الرجل، أو أحدهم (دِينَهُ) أي بتركه (بِعَرَضٍ) بفتحتين: أي بأخذ متاع دنيء، وثمن رديء، وقال القرطبيّ: عَرَضُ الدنيا بفتح العين والراء: هو طمعها، وما يَعْرِضُ منها، ويدخل فيه جميع المال، قاله الهرويّ

(3)

. (مِنَ الدُّنْيَا) بيان للعرض.

(1)

"المصباح" 1/ 331.

(2)

"المرقاة" 9/ 260 - 261.

(3)

"المفهم" 1/ 326.

ص: 420

وأخرج الإمام أحمد في "مسنده"(8829) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ويلٌ للعرب، من شر قد اقترب، فتنًا كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمنًا، ويُمسي كافرًا، يبيع قوم دينهم بعرض من الدنيا قليلٍ، المتمسك يومئذ بدينه كالقابض على الجمر"، أو قال:"على الشوك"، وفي سنده ابن لَهِيعة، ضعيفٌ

(1)

.

وقال القاري: قوله: "يُصبح" استئناف لبيان بعض الفتن في ذلك الزمن، وقال الطيبيّ: استئناف بيان لحال المشبّه، وهو قوله:"فِتَنًا"، وقوله: "يبيع

إلخ" بيان للبيان.

وقال المظهر: فيه وجوه:

[أحدها]: أن يكون بين الطائفتين من المسلمين قتال لمجرّد العصبيّة والغضب، فيستحلّون الدم والمال.

[وثانيها]: أن تكون وُلاة المسلمين ظَلَمَةً، فيُريقون دماء المسلمين، ويأخذون أموالهم بغير حقّ، ويَزنون، ويَشربون الخمر، فيعتقد بعض الناس أنهم على الحقّ، ويُفتيهم بعض علماء السوء على جواز ما يفعلون من المحرّمات.

[وثالثها]: ما يجري بين الناس مما يُخالف الشرع من المعاملات والمبايعات وغيرها، فيستحلّونها. انتهى

(2)

. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا في "الإيمان"[54/ 320](118)، و (الترمذيّ) في "الفتن"(2195)، و (أحمد) في "مسنده" (2/ 304 و 372 و 390 و 391

(1)

قال الحافظ أبو الهيثميّ في "مجمع الزوائد" 7/ 282: رواه أحمد، وفيه ابن لهيعة، وفيه ضعف، وبقيّة رجاله رجال الصحيح. انتهى.

(2)

راجع: "الكاشف" 11/ 3406.

ص: 421

و 523)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(139)، و (أبو نُعيم) في "مستخرجه"(309)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6704)، و (البغويّ) في "شرح السنة"(4223)، و (الفريابيّ) في "صفة المنافق"(101)، و (ابن أبي عاصم) في "الزهد"(218)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): الحثّ على المبادرة إلى الأعمال الصالحة قبل تعذّرها، والاشتغال عنها بما يَحدُث من الفتن الشاغلة المتكاثرة المتراكمة، كتراكم ظلام الليل المظلم لا الْمُقْمِر.

2 -

(ومنها): أنه صلى الله عليه وسلم وصف نوعًا من شدائد تلك الفتن، وهو أنه يُمسي الشخص مؤمنًا، ثم يُصبح كافرًا أو عكسه، وهذا لعِظَم الفتن، ينقلب الإنسان في اليوم الواحد هذا الانقلاب.

3 -

(ومنها): بيان حرص النبيّ صلى الله عليه وسلم على أمته، حيث يحثّهم على الإكثار من الطاعات قبل أن تمنعهم الفتن الشاغلة، ويخوّفهم من تأخير الطاعات المتيسّرة؛ إذ لا يدري العبد ماذا يحدث بعد وقته الذي هو فيه، فما أكثر المرض بعد الصحّة، والفقر بعد الغنى!، وما أسرع الشيب بعد الشباب، والشغل بعد الفراغ!.

وقد أخرج الحاكم في "مستدركه" عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل، وهو يعظه:"اغتنم خمسًا قبل خمس: شبابَك قبل هَرَمِك، وصحتك، قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شُغلك، وحياتك قبل موتك"، وقال: صحيح على شرطهما، وهو كما قال.

وقد نُقل عن السلف آثار كثيرة في شدّة حرصهم على المبادرة بالأعمال، فقد اجتهد أبو موسى الأشعريّ رضي الله عنه قبل موته، فقيل له: لو رفقت بعض الرفق، قال: الخيل إذا وافت رأس المجرى أخرجت ما عندها، والذي بقي من أجلي أقلّ، وقال سُحيم مولى بني تيم: جلستُ إلى عامر بن عبد الله، وهو يُصلّي، فأوجز في صلاته، ثم أقبل، وقال: أرحني بحاجتك، فإني أبادر، فقلت: من؟ قال: ملكَ الموت، فقمتُ عنه، وقام إلى الصلاة، وسأل رجل

ص: 422

داود الطائيّ عن حديث، فقال: دعني، فإني أبادر خروج نفسي

(1)

.

4 -

(ومنها): أن فيه علمًا من أعلام النبوّة، حيث أخبر صلى الله عليه وسلم بما سيقع في أمته من الفتن.

5 -

(ومنها): أن في حثّه صلى الله عليه وسلم بالأعمال الصالحة قبل أيام الفتن فوائد:

[منها]: انتهاز الفرصة قبل فواتها.

[ومنها]: حصول قوّة إيمان العبد بسبب الأعمال الكثيرة، فيستطيع أن يُدافع بقوته ما يواجهه من شدائد الفتن؛ ومن كان ضعيف الإيمان لا يقدر على ذلك، بل تتلاعب به الفِتَن كما تتلاعب الريح بالخيط المعلّق في الهواء.

[ومنها]: أن من اعتاد الأعمال الصالحة إذا حيل بينه وبينها يُكتب له ما كان يعمله قبل أن يمنع منه، فقد أخرج البخاريّ في "صحيحه"(2996)، من حديث أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا مَرِض العبد، أو سافر، كُتب له مثل ما كان يعمل مقيمًا صحيحًا".

وأخرجه أبو داود في "سننه"(2687)، بلفظ:"إذا كان العبد يعمل عملًا صالحًا، فشغله عنه مرضٌ، أو سفرٌ، كُتب له كصالح ما كان يعمل، وهو صحيح مقيم".

6 -

(ومنها): أنه ينبغي للمؤمن أن يبادر بالأعمال الصالحة، وفعل الحسنات ما وجد إلى ذلك سبيلًا، قبل فوات أوانها، وتُغلق أبوابها، فيقع في الندم كما يقع من يقول:{يَاحَسْرَتَا} [الزمر: 56]، أو يقول: لو أن لي عمرًا لأكونن من العاملين العابدين، أو يقول:{لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ} [المنافقون: 10].

7 -

(ومنها): ما قاله القرطبيّ: مقصود هذا الحديث الأمر بالتمسّك بالدين، والتشدّد فيه عند الفتن، والتحذير من الفتن، ومن الإقبال على الدنيا، وعلى مطامعها، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(1)

راجع: "شرح الأبيّ" 1/ 226 - 227.

ص: 423

‌55 - (بَابُ مَخَافَةِ الْمُؤْمِنِ أَنْ يَحْبَطَ عَمَلُهُ)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[321]

(119) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثنَا الْحَسَنُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} إِلَى آخِرِ الْآيَةِ [الحجرات: 2]، جَلَسَ ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ فِي بَيْتِه، وَقَالَ: أَنَا مِنْ أَهْلِ النَّار، وَاحْتَبَسَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَسَأَل النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ، فَقَالَ: "يَا أَبَا عَمْرٍو، مَا شَأْنُ ثَابِتٍ، أَشْتَكَى؟ " قَالَ سَعْدٌ: إِنَّهُ لَجَارِي، وَمَا عَلِمْتُ لَهُ بِشَكْوَى، قَالَ: فَأَتَاهُ سَعْدٌ، فَذَكَرَ لَهُ قَوْلَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ ثَابِتٌ: أَنْزِلَت هَذِهِ الْآيَةُ، وَلَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنِّي مِنْ أَرْفَعِكُمْ صَوْتًا عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَنَا مِنْ أَهْلِ النَّار، فَذَكَرَ ذَلِكَ سَعْدٌ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "بَلْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِيِ شَيْبَةَ) هو: عبد الله بن محمد بن أبي شيبة المذكور قريبًا.

2 -

(الْحَسَنُ بْنُ مُوسَى) الأشيب - بمعجمة، ثم تحتانيّة - أبو عليّ البغداديّ، قاضي طَبَرِستان، والموصل، وحمص، ثقة [9].

رَوَى عن الحمادين، وشعبة، وسفيان، وجرير بن حازم، وزهير بن معاوية، وابن لهيعة، وعبد الرحمن بن عبد الله بن دينار، وغيرهم.

ورَوَى عنه أحمد بن حنبل، وحجاج بن الشاعر، وأحمد بن منيع، وأبو خيثمة، وابنا أبي شيبة، والفضل بن سهل الأعرج، وهارون الحمال، وغيرهم.

قال أحمد: هو من متثبتي أهل بغداد. وقال ابن معين: ثقة، وكذا قال أبو حاتم عن ابن المديني. وقال أبو حاتم، وصالح بن محمد، وابن خِرَاش: صدوق، زاد أبو حاتم: مات بالريّ، وحضرت جنازته، وقال ابن سعد: كان ثقةً صدوقًا في الحديث، وذكره ابن حبان في "الثقات". وذكره مسلم في رجال

ص: 424

شعبة الثقات في الطبقة الثالثة. وقال عبد الله بن المديني عن أبيه: كان ببغداد كأنه ضعفه

(1)

، وقال الخطيب: لا أعلم علةَ تضعيفه إياه.

وقال الأعين: مات سنة ثمان، وقال ابن سعد والمطين: سنة تسع، وقال حنبل: سنة (9) أو عشر ومائتين. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (13) حديثًا.

3 -

(حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ) بن دينار، أبو سلمة البصريّ، ثقةٌ عابدٌ، أثبت الناس في ثابت، وتغيّر بآخره، من كبار [8](ت 167)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 80.

4 -

(ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ) هو: ثابت بن أسلم البنانيّ، أبو محمد البصريّ، ثقةٌ عابدٌ [4] مات سنة بضع وعشرين ومائة عن (86) سنة (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 80.

5 -

(أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ) بن النضر الأنصاريّ الخزرجيّ، الصحابيّ الشهير رضي الله عنه، خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، مات سنة (2) أو (93) وقد جاوز المائة (ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 2، والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف، وفيه التحديث بصيغة الجمع ثلاث مرّات، والباقي عنعنعة.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، غير شيخه، فما أخرج له الترمذيّ، وحماد أخرج له البخاريّ حديثًا واحدًا في "الرقاق"، فما في كتب الرجال من علامة التعليق له، ليس بصواب، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

3 -

(ومنها): أن حمّادًا أثبت الناس في ثابت، كما أن ثابتًا ألزم أصحاب أنس لأنس رضي الله عنه، لزمه أربعين سنة.

4 -

(ومنها): أن أنسًا رضي الله عنه أحد المكثرين السبعة من الصحابة رضي الله عنهم، روى (2286) حديثًا، وهو آخر من مات من الصحابة بالبصرة، وقد عُمّر أكثر من مائة سنة، كما سبق آنفًا، والله تعالى أعلم.

(1)

قال الحافظ في "هدي الساري" ص 397: هذا ظنّ لا تقوم به حجّة، وقد كان أبو حاتم الرازيّ يقول: سمعت علي بن المدينيّ يقول: الحسن بن موسى الأشيب ثقة، فهذا التصريح الموافق لأقوال الجماعة أولى أن يُعمَل به من ذلك الظنّ. انتهى.

ص: 425

شرح الحديث:

(عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ) رضي الله عنه (أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}) قال النسفيّ: إعادة النداء عليهم استدعاء منهم لتجديد الاستبصار عند كلّ خطاب وارد، وتحريك منهم؛ لئلا يغفلوا عن تأملهم

(1)

. ({لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} أي إذا نطق ونطقتم فعليكم أن لا تبلغوا بأصواتكم وراء الحدّ الذي يبلغه بصوته، وأن تغضوا منها بحيث يكون كلامه عاليًا لكلامكم، وجهره باهرًا لجهركم، حتى تكون مزيّته عليكم لائحةً، وسابقته لديكم واضحةً، وقوله: (إِلَى آخِرِ الْآيَةِ) أي وهو قوله تعالى: {وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} [الحجرات: 2].

والمعنى: إذا كلّمتموه، وهو صامتٌ، فإياكم والعدول عما نُهيتم عنه، من رفع الصوت، بل عليكم أن لا تبلغوا به الجهر الدائر بينكم، وأن تتعمّدوا في مخاطبته القول الليّن المقرّب من الهمس الذي يُضادّ الجهر، أو لا تقولوا له: يا محمد، يا أحمد، وخاطبوه بالنبوّة، والسكينة، والتعظيم.

وقوله: {أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ} منصوب الموضع على أنه المفعول له، متعلّقٌ بمعنى النهي، والمعنى: انتهوا عما نُهيتم عنه؛ لحبوط أعمالكم: أي لخشية حبوطها، فهو على تقدير مضاف محذوف

(2)

.

وقال أبو عبد الله القرطبيّ في تفسير قوله تعالى: {وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ} : أي لا تخاطبوه يا محمد، ويا أحمد، ولكن يا نبي الله، ويا رسول الله؛ توقيرًا له، وقيل: كان المنافقون يرفعون أصواتهم عند النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ ليقتدي بهم ضَعَفَةُ المسلمين، فَنُهِي المسلمون عن ذلك، وقيل:{وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ} : أي لا تجهروا عليه، كما يقال: سَقَطَ لفيه: أي على فيه.

وقوله عز وجل: {كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ} الكاف كاف التشبيه، في محل النصب، أي لا تجهروا له جهرًا مثل جهر بعضكم لبعض.

وفي هذا دليلٌ على أنهم لم يُنْهَوْا عن الجهر مطلقًا، حتى لا يسوغُ لهم إلا أن يُكَلِّموه بالْهَمْس والمخافتة، وإنما نُهُوا عن جهرٍ مخصوصٍ مُقَيَّدٍ بصفةٍ،

(1)

"تفسير النسفيّ" 4/ 165 - 166.

(2)

المصدر السابق 4/ 166.

ص: 426

أعني الجهر المنعوت بمماثلة ما قد اعتادوه منهم فيما بينهم، وهو الخلو من مراعاة أُبَّهَةِ النبوة، وجلالة مقدارها، وانحطاط سائر الرُّتَب، وإن جلت على رتبتها.

وقوله عز وجل: {أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} أي من أجل أن تَحْبَط، أي تَبْطُل، هذا قول البصريين، وقال الكوفيون: أي لئلا تحبط أعمالكم.

وقال الزجاج: {أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ} التقدير: لأن تحبط، أي فتحبَطَ أعمالكم، فاللام المقدرة لام الصيرورة، وليس قوله:{أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} ، بموجب أن يَكْفُر الإنسان، وهو لا يعلم، فكما لا يكون الكافر مؤمنًا إلا باختياره الإيمان على الكفر، كذلك لا يكون المؤمن كافرًا من حيث لا يقصد إلى الكفر، ولا يختاره، بالإجماع. انتهى

(1)

.

(جَلَسَ ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ) أي حبس نفسه في بيته كئيبًا حزينًا خائفًا.

وهو: ثابت بن قيس بن شَمّاس بن زُهير بن مالك بن امرئ القيس بن مالك بن ثعلبة بن كعب بن الخزرج الأنصاريّ الخزرجيّ، خَطِيب الأنصار، رَوَى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعنه أولاده: محمد، وقيس، وإسماعيل، وأنس بن مالك، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، واستُشْهِد باليمامة، في خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه سنة (12).

روى ابن السكن من طريق ابن أبي عديّ، عن حُميد، عن أنس رضي الله عنه قال: خطب ثابت بن قيس مَقْدَم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينةَ، فقال: نَمْنَعك مما نمنع منه أنفسنا وأولادنا، فما لنا؟ قال:"الجنّة"، قالوا: رَضِينا.

وقال جعفر بن سليمان، عن ثابت، عن أنس رضي الله عنه قال: كان ثابت بن قيس خَطِيب الأنصار، يُكنى أبا محمد، وقيل: أبا عبد الرحمن، ولم يذكره أصحاب المغازي في البدريين، وقالوا: أول مشاهده أحدٌ، وشهد ما بعدها، وبَشَّره النبيّ صلى الله عليه وسلم بالجنة في هذا الحديث.

وأخرج الترمذي بإسناد حسن، عن أبي هريرة رضي الله عنه رفعه:"نعم الرجل ثابت بن قيس".

(1)

"الجامع لأحكام القرآن" 16/ 306.

ص: 427

وفي "صحيح البخاريّ" مختصرًا، و"معجم الطبرانيّ"

(1)

مُطوّلًا، عن أنس رضي الله عنه قال: لَمّا انكشف الناس يوم اليمامة، قلت لثابت بن قيس: ألا ترى يا عمّ؟ ووجدته يَتَحَنَّط، فقال: ما هكذا كنّا نقاتل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، بئس ما عَوَّدتم أقرانكم، اللهم إني أبرأ إليك مما جاء به هؤلاء، ومما صنع هؤلاء، ثم قاتل حتى قُتِل، وكان عليه دِرْعٌ نفيسةٌ، فمَرَّ به رجل مسلم، فأخذها، فبينما رجل من المسلمين نائم، أتاه ثابت في منامه، فقال: إني أوصيك بوصية، فإياك أن تقول: هذا حُلُم، فتضيِّعه، إني لَمّا قُتِلتُ أخذ درعي فلان، ومنزله في أقصى الناس، وعند خبائه فرس تَسْتَنّ، وقد كفأ على الدرع بُرْمَةً، وفوقها رَحْلٌ، فائت خالدًا، فمره، فليأخذها، وليقل لأبي بكر: إن عليّ من الدين كذا وكذا، وفلان عَتِيقٌ، فاستيقظ الرجل، فأَتَى خالدًا، فأخبره، فبعث إلى الدرع، فأُتي بها، وحَدَّث أبا بكر برؤياه، فأجاز وصيّته، قال: ولا نعلم أحدًا أُجيزت وصيّته بعد موته غير ثابت رضي الله عنه، ذكره أبو عمر في "الاستيعاب"

(2)

.

ورواه البغويّ من وجه آخر، عن عطاء الخراسانيّ، عن بنت ثابت بن قيس مطوّلًا

(3)

.

ودخل عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو عَلِيل، فقال:"أَذْهِبِ الباس، ربَّ الناس، عن ثابت بن قيس بن شَمّاس"

(4)

.

وقال ابن الحذّاء: قال بعض الناس: ثابت بن قيس بن شَمّاس، مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَوَهِمَ

(5)

، وأخرج له البخاريّ حديثًا واحدًا، وأبو داود، والنسائيّ في "عمل اليوم والليلة"، وليس له عند مسلم رواية، بل هذه القصّة.

(1)

"المعجم الكبير"(1307) و (1320).

(2)

راجع: "تفسير القرطبيّ" 16/ 306.

(3)

راجع: "الإصابة" 1/ 511 - 512. أخرجه الطبراني (1316) من طريق أبي كريب، حدثنا زيد بن الحباب، حدّثنا أبو ثابت بن ثابت بن قيس بن شماس،، حدّثني أبي ثابت بن قيس، عن أبيه، قال

، فذكره، قال الهيثميّ في "المجمع" 9/ 321: وأبو ثابت بن قيس بن شماس لم أعرفه، ولكنه قال: حدثني أبي ثابت بن قيس، فالظاهر أنه صحابيّ، ولكن زيد بن الحباب لم يسمع من أحد من الصحابة. انتهى.

(4)

"تهذيب التهذيب" 1/ 267.

(5)

"تهذيب التهذيب" 1/ 267.

ص: 428

(فِي بَيْتِه، وَقَالَ) في نفسه، أو قال ذلك لمن اتّصل به، وسأل عنه (أَنَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ) أي بسبب رفع صوته على النبيّ صلى الله عليه وسلم (وَاحْتَبَسَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) أي امتنع من المجيء إليه على خلاف عادته (فَسَأَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ) بن النعمان بن امرئ القيس بن زيد بن عبد الأشهل بن جُشَم بن الحارث بن الخزرج بن النَّبِيت بن مالك بن الأوس الأنصاريّ الأشهليّ، سيد الأوس، وأمه كبشة بنت رافع لها صحبة، ويكنى أبا عمرو، شَهِدَ بدرًا باتفاق، ورُمِي بسهم يوم الخندق، فعاش بعد ذلك شهرًا، حتى حَكَم في بني قريظة، وأجيبت دعوته في ذلك، ثم انتقض جرحه، فمات، أخرج ذلك البخاري في "صحيحه"، وذلك سنة خمس، وقال المنافقون لَمّا خَرَجت جنازته: ما أخفّها! فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "إن الملائكة حملته".

وفي "الصحيحين"، وغيرهما من طُرُق أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"اهتزّ العرش لموت. سعد بن معاذ".

ورَوَى يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان في بني عبد الأشهل ثلاثة، لم يكن أحدٌ أفضل منهم: سعد بن معاذ، وأُسيد بن حُضير، وعَبّاد بن بِشْر.

وذَكَر ابن إسحاق أنه لما أسلم على يد مصعب بن عُمير قال لبني عبد الأشهل: كلامُ رجالكم ونسائكم عليّ حرام حتى تسلموا، فأَسلموا، فكان من أعظم الناس بركةً في الإسلام.

ورَوَى ابن إسحاق في قصة الخندق، عن عائشة قالت: كنت في حِصْن بني حارثة، وأم سعد بن معاذ معي، فَمَرّ سعد بن معاذ، وهو يقول [من الرجز]:

لَبِّثْ قَلِيلًا يَلْحَقِ الْهَيْجَا حَمَلْ

مَا أَحْسَنَ الْمَوْتَ إِذَا حَانَ الأَجَلْ

فقالت له أمه: الحق يا بُنيّ، فقد تأخرت، فقلت: يا أم سعد، لَوَدِدت أن دِرْع سعد أسبغ مما هي، قال: فأصابه السهم حيث خافت عليه، وقال الذي رماه: خُذها وأنا ابن الْعَرِقَة، فقال: عَرَّقَ الله وجهك في النار، وابن الْعَرِقَة اسمه حَبَّان بن عبد مناف، من بني عامر بن لؤي، والْعَرِقة أمه، وقيل: إن الذي أصاب سعدًا أبو أمامة الْجُشَميّ.

وروى البخاري من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن بني قريظة لَمّا

ص: 429

نزلوا على حكم سعد، وجاء على حمار، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"قوموا إلى سيِّدكم".

وقال الزهريّ عن ابن المسيب، عن ابن عباس، قال سعد بن معاذ: ثلاث أنا فيهن رجل - يعني كما ينبغي - وما سوى ذلك فأنا رجل عن الناس، ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثًا قطّ إلا عَلِمتُ أنه حقّ من الله تعالى، ولا كنت في صلاة قطّ، فشغلتُ نفسي بغيرها حتى أقضيها، ولا كنتُ في جنازة قطّ، فحدثت نفسي بغير ما تقول، ويقال لها، حتى أنصرف عنها، قال ابن المسيب: فهذه الخصال ما كنت أحسبها إلا في نبيّ

(1)

.

وأخرج ابن إسحاق بغير سند: أن أم سعد لَمّا مات قالت:

وَيْلُ أُمِّ سَعْدٍ سَعْدَا

حَزَامَةً وَجَدَّا

وَسَيِّدًا سُدَّ بِهِ مَسَدَّا

فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "كلُّ نادبة تَكْذِب، إلا نادبة سعد".

وأخرجه الطبراني بسند ضعيف، عن ابن عباس رضي الله عنه قال: جَعَلت أم سعد تقول:

وَيْلُ أُمِّ سَعْدٍ سَعْدَا

حَزَامَةً وَجَدّا

فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "لا تزيدي على هذا، كان - والله - ما علمتُ حازمًا، وفي أمر الله قَوِيًّا"

(2)

.

له في "صحيح البخاريّ" حديثان أحدهما، من طريق ابن مسعود: انطلق سعد بن معاذ معتمرًا

الحديث، والثاني في قصّة قتل سعد بن الربيع بأحد

(3)

، وليس له في "صحيح مسلم" ذكر، والله تعالى أعلم.

(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("يَا أَبَا عَمْرٍو) كنية سعد بن معاذ رضي الله عنه (مَا شَأْنُ ثَابِتٍ)"ما" استفهاميّة: أي أيّ شأن شأنه؟، وقوله:(أَشْتَكَى؟ ") بهمزة الاستفهام، وحذف همزة الوصل؛ لأن القاعدة أن همزة الاستفهام إذا دخلت على همزة الوصل المفتوحة، قُلبت همزة الوصل مدّةً، نحو قوله تعالى:{آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ} [النمل: 59]،

(1)

"تهذيب التهذيب" 2/ 697.

(2)

راجع: "الإصابة" 3/ 70 - 72.

(3)

"تهذيب التهذيب" 2/ 697.

ص: 430

وإذا دخلت على المكسورة حُذفت همزة الوصل، نحو قوله تعالى:{أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ} [ص: 75]، ويحتمل أن تكون الهمزة الموجودة هي همزة الوصل المكسورة، وحُذفت همزة الاستفهام، والجملة تفسير، وتفصيل للجملة السابقة (قَالَ سَعْدٌ) رضي الله عنه (إِنَّهُ لَجَارِي، وَمَا عَلِمْتُ لَهُ بِشَكْوَى) أي بمرض، ودخلت الباء في المفعول؛ لتضمين عَلِم معنى شَعَر، قال الفيّوميّ: إذا كان عَلِم بمعنى: اليقين، تعدّى إلى مفعولين، وإذا كان بمعنى عَرَفَ تعدّى إلى مفعول واحد، وقد يُضَمَّنُ معنى شَعَرَ، فتدخل الباء، فيقال: علمته، وعلمتُ به، وأعلمته الخير، وأعلمته به. انتهى

(1)

. (قَالَ) أنس رضي الله عنه (فَأتاهُ سَعْدٌ) رضي الله عنه.

وفي رواية البخاريّ من طريق موسى بن أنس، عن أنس رضي الله عنه: "أن النبيّ صلى الله عليه وسلم افتقد ثابت بن قيس، فقال رجل: يا رسول الله، أنا أعلم لك علمه، فأتاه، فوجده جالسًا في بيته، مُنَكِّسًا رأسه

"، والرجل المبهم هو سعد بن معاذ رضي الله عنهم المبيَّن هنا.

(فَذَكَرَ لَهُ قَوْلَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) أي في شأن احتباسه عنه (فَقَالَ ثَابِتٌ) رضي الله عنه (أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ) المتقدّم ذكرها (وَلَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنِّي مِنْ أَرْفَعِكُمْ صَوْتًا عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) أي لأنه كان جهوريّ الصوت (فَأَنَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ) أي أخاف أن أكون من أهلها؛ لقوله تعالى في الآية: {أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} [الحجرات: 2].

وفي رواية البخاريّ المذكورة: "فقال: ما شأنك؟ فقال: شَرّ، كان يرفع صوته فوق صوت النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقد حَبِطَ عمله

".

(فَذَكَرَ ذَلِكَ سَعْدٌ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) أي ما قاله ثابت رضي الله عنه من الاعتذار عن احتباسه عن مجلسه صلى الله عليه وسلم (فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "بَلْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ") وفي رواية البخاريّ: فرجع المرة الآخرة ببشارة عظيمة، فقال:"اذهب إليه، فقل له: إنك لست من أهل النار، ولكن من أهل الجنة".

وأخرج ابن سعد بإسناد قويّ، عن مَعْن بن عيسى، عن مالك، عن ابن شهاب، عن إسماعيل بن محمد بن ثابت، قال: قال ثابت بن قيس بن

(1)

"المصباح المنير" 2/ 427.

ص: 431

شماس: "يا رسول الله إني أخشى أن أكون قد هلكتُ، فقال: "وما ذاك؟ " قال: نهانا الله أن نرفع أصواتنا فوق صوتك، وأنا جهير

" الحديث، وفيه: فقال له صلى الله عليه وسلم: "أما ترضى أن تعيش سعيدًا، وتُقْتَل شهيدًا، وتدخل الجنة؟ ". وهذا مرسل قويُّ الإسناد.

وأخرجه الدارقطنيّ في "الغرائب" من طريق إسماعيل بن أبي أويس، عن مالك كذلك، ومن طريق سعيد بن كثير، عن مالك، فقال فيه: عن إسماعيل، عن ثابت بن قيس، وهو مع ذلك مرسل؛ لأن إسماعيل لم يَلْحَق ثابتًا.

وأخرجه ابن مردويه من طريق صالح بن أبي الأخضر، عن الزهريّ، فقال: عن محمد بن ثابت بن قيس: إن ثابتًا، فذكر نحوه.

وأخرجه ابن جرير، من طريق عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهريّ معضلًا، ولم يذكر فوقه أحدًا، وقال في آخره:"فعاش حميدًا، وقُتِل شهيدًا يوم مسيلمة".

ورَوَى ابنُ سعد بإسناد صحيح، من مرسل عكرمة، قال: لَمّا نزلت: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ} الآية، قال ثابت بن قيس: كنت أرفع صوتي، فأنا من أهل النار، فقَعَدَ في بيته، فذكر الحديث، نحو حديث أنس، وفي آخره:"بل هو من أهل الجنة"، فلما كان يومُ اليمامة انهزَمَ المسلمون، فقال ثابت: أُفٍّ لهؤلاء ولما يعبدون، وأُفٍّ لهؤلاء ولما يصنعون، قال: ورجل قائم على ثُلْمة

(1)

، فقتله، وقُتِلَ.

ورَوَى ابن أبي حاتم في "تفسيره" من طريق سليمان بن المغيرة، عن ثابت، عن أنس رضي الله عنه في قصة ثابت بن قيس رضي الله عنه، فقال في آخرها: قال أنس: فكنا نراه يَمشِي بين أَظْهُرنا، ونحن نعلم أنه من أهل الجنة، فلما كان يومُ اليمامة كان في بعضنا بعضُ الانكشاف، فأقبل وقد تَكَفَّن، وتَحَنَّط، فقاتل، حتى قُتِلَ.

ورَوَى ابن المنذر في "تفسيره" من طريق عطاء الخراسانيّ، قال: حدثتني

(1)

"الثُّلْمة" - بضم، فسكون - في الحائط وغيره: الخَلَلُ، والجمع ثُلَم، كغُرْفة وغُرَف. انتهى. "المصباح" 1/ 83.

ص: 432

بنت ثابت بن قيس، قالت: لَمّا أنزل الله هذه الآية، دخل ثابت بيته، فأَغْلَق بابه، فذكر القصةَ مُطَوّلَةً، وفيها قولُ النبيّ صلى الله عليه وسلم:"تَعِيش حميدًا، وتموت شَهِيدًا"، وفيها: فلما كان يومُ اليمامة ثبت حتى قُتِلَ

(1)

، ذكر هذا كلّه في "الفتح"

(2)

.

[تنبيه]: استُشْكِلت هذه القصّة بأن نزول الآية المذكورة كان في زمن الوفود، بسبب الأقرع بن حابس وغيره، فقد روى البخاريّ في "صحيحه" عن ابن أبي مليكة قال: "كاد الْخَيِّران أن يَهلكا: أبو بكر وعمر، لَمّا قَدِم على النبيّ صلى الله عليه وسلم وَفْدُ بني تميم، أشار أحدهما بالأقرع بن حابس التميميّ الحنظليّ، أخي بني مُجاشِع، وأشار الآخر بغيره، فقال أبو بكر لعمر: إنما أردت خلافي، فقال عمر: ما أردت خلافك، فارتفعت أصواتهما عند النبيّ صلى الله عليه وسلم، فنزلت:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} [الحجرات: 2] إلى قوله {عَظِيمٌ}

" الحديث.

وسنة الوفود كانت سنة تسع، وسعد بن معاذ رضي الله عنه مات قبل ذلك في بني قريظة، وذلك سنة خمس.

وأجاب الحافظ بأنه يُمكن الجمع بأن الذي نزل في قصة ثابت مجرد رفع الصوت، والذي نَزَل في قصة الأقرع أول السورة، وهو قوله عز وجل:{لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} ، وقد نزل من هذه السورة سابقًا أيضًا قوله تعالى:{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} ، ففي "كتاب الصلح" عند البخاريّ من حديث أنس رضي الله عنه، أنها نزلت في قصة عبد الله بن أُبَيّ بن سَلَولَ، وفي سياقه، وذلك قبل أن يسلم عبد الله، وكان إسلام عبد الله بعد وقعة بدر.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هكذا جمع الحافظ في "الفتح"، وفيه نظر لا يخفى، لأن رواية البخاريّ المذكورة صريحة في أن {لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ} نزلت في قصّة الأقرع، فلا يصحّ الجمع المذكور.

(1)

قال الهيثميّ في "المجمع" 9/ 322: رواه الطبرانيّ، وبنت ثابت بن قيس لم أعرفها، وبقيّة رجاله رجال الصحيح، والظاهر أن بنت ثابت بن قيس صحابيّة، فإنها قالت: سمعت أبي .. انتهى.

(2)

"الفتح" 6/ 718 - 719 "كتاب المناقب" رقم (3613).

ص: 433

وجمع بعضهم بأن الآية تكرر نزولها في القضيّتين، وفيه نظر لا يخفى والذي يظهر لي أن ذكر سعد بن معاذ في هذه الرواية غلطٌ، وهو الذي ارتضاه الحافظ، واحتجّ له بما رَوَاه ابن المنذر في "تفسيره" من طريق سعيد بن بشير، عن قتادة، عن أنس رضي الله عنه في هذه القصّة، فقال سعد بن عبادة: يا رسول الله هو جاري

الحديث.

فقال الحافظ: وهذا أشبه بالصواب؛ لأن سعد بن عبادة من قبيلة ثابت بن قيس، فهو أشبه أن يكون جاره من سعد بن معاذ؛ لأنه من قبيلة أخرى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: رواية ابن المنذر، في سندها سعيد بن بشير، والأكثرون على تضعيفه، وقال عنه في "التقريب": ضعيف، وانظر ما قاله الأئمة فيه في "التهذيب".

والحاصل أن نكارة ذكر سعد بن معاذ مما لا شكّ فيه، ولم يُذكَر إلا في رواية حماد بن سلمة هذه، فقد روى هذا الحديث عن ثابت سليمانُ التيميّ، وسليمانُ بن المغيرة، وجعفرُ بن سليمان، عند المصنّف، فلم يذكروا سعد بن معاذ، بل ذكروه بلفظ رجل، أو نحوه، كما بيّنه المصنّف عقب كلّ الروايات، والظاهر أن المصنّف يرى تفرّد حماد بن سلمة بهذه الزيادة، وهو وإن كان أثبت مَن روى عن ثابت، إلا أن الوهم قد يعتري الحافظ، ولا سيّما مع مخالفة هؤلاء الثلاثة له.

وقد أخرج البخاريّ في "صحيحه" من رواية موسى بن أنس عن أنس رضي الله عنه، وذكره بلفظ رجل أيضًا.

فتحصّل من هذا كله أن نكارة ذكر سعد بن معاذ في هذه الرواية هي الواضحة، فالحقّ أنه إما سعد بن عبادة، كما في رواية سعيد بن بشير، ومال إليها الحافظ، وإن كان فيها مقال، أو رجل آخر، فتنبّه، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

وقد رَوَى الطبريّ، وابن مردويه من طريق زيد بن الحباب، حدثني أبو

(1)

"الفتح" 6/ 717 - 718 "كتاب المناقب" رقم الحديث (3613).

ص: 434

ثابت بن ثابت بن قيس، قال:"لَمّا نزلت هذه الآية، قَعَدَ ثابت يبكي، فمَرَّ به عاصم بن عديّ، فقال: ما يبكيك؟ قال: أتخوف أن تكون هذه الآية نزلت فيّ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما ترضى أن تعيش حميدًا

" الحديث.

قال الحافظ: وهذا لا يغاير أن يكون الرسول إليه من النبيّ صلى الله عليه وسلم سعد بن معاذ. انتهى. وقد عرفت ما في سعد بن معاذ، فلا تغفل، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أنس بن مالك رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا في "الإيمان"[55/ 321 و 322 و 323 و 324](119)، و (البخاريّ) في "علامات النبوّة"(3613)، و"التفسير"(4846)، وفي "خلق أفعال العباد"(70)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 137 و 145 و 287)، و (عبد بن حُميد) في "مسنده"(1209)، و (النسائيّ) في "فضائل الصحابة" من "الكبرى"(123)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(197 و 198 و 199)، و (أبو نُعيم) في "مستخرجه"(310 و 311 و 312 و 313)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(7168)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(3331 و 3427)، و (الطبرانيّ) في "المعجم الكبير"(1309)، و (الحاكم) في "مستدركه"(3/ 235)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): تحذير المؤمن من أن يحبط عمله بسبب ارتكاب المعاصي؛ لأنها مناقضة للإيمان، وهو وجه المطابقة في إيراد الحديث في "كتاب الإيمان".

وقد عقد الإمام البخاريّ في "صحيحه" لهذا بابًا، فقال:[باب خوف المؤمن من أن يَحْبَطَ عمله، وهو لا يشعر]، وقال إبراهيم التيميّ: ما عرضت قولي على عملي إلا خشيت أن أكون مُكَذِّبًا، وقال ابن أبي مليكة: أدركت ثلاثين من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم، كلهم يخاف النفاق على نفسه، ما منهم أحدٌ يقول: إنه

ص: 435

على إيمان جبريلِ وميكائيل، ويُذْكَرُ عن الحسن: ما خافه إلا مؤمنٌ، ولا أمنه إلا منافق، وما يُحْذر من الإصرار على النفاق والعصيان، من غير توبة؛ لقول الله تعالى:{وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران: 135]. انتهى.

والضمير في قوله: "ما أمنه" للنفاق

(1)

.

ثم أورد البخاريّ حديث ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعًا: "سباب المسلم فسوقٌ، وقتاله كفرٌ"، وحديث أنس عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج يُخبر بليلة القدر، فتلاحى رجلان من المسلمين، فقال:"إني خرجت لأخبركم بليلة القدر، وإنه تلاحى فلان وفلان، فرُفعت، وعسى أن يكون خيرًا لكم، التمسوها في السبع، والتسع، والخمس"، تفرّد به البخاريّ.

2 -

(ومنها): ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم من شدّة الخوف من إحباط أعمالهم، وهكذا ينبغي لكلّ مسلم أن يكون دائم الخوف، كما أسلفناه آنفًا فيما أورده البخاريّ في "صحيحه".

3 -

(ومنها): أن فيه منقبة عظيمة للصحابيّ الجليل ثابت بن قيس رضي الله عنه، حيث أخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم بأنه من أهل الجنّة، فكان الصحابة رضي الله عنهم يرونه، وهو يمشي بين أظهرهم رجلًا من أهل الجنّة، كما سيأتي في الرواية الآتية.

4 -

(ومنها): بيان أنه ينبغي للعالم، وكبير القوم أن يتفقّد أصحابه، ويسأل عنهم إذا غابوا تأسّيًا بالنبيّ صلى الله عليه وسلم.

5 -

(ومنها): ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم من كمال التصديق فيما يُخبر به النبيّ صلى الله عليه وسلم من الأمور الغيبيّة، حيث قال الراوي:"فكنّا نراه يمشي بين أظهرنا رجلًا من أهل الجنّة".

6 -

(ومنها): أن الآية المذكورة نزلت آمرةً بتعظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتوقيره، وخفض الصوت لحضرته، وعند مخاطبته، بحيث إنه إذا نطق، ونطقوا، ينبغي ألا يبلغوا بأصواتهم وراء الحد الذي يبلغه بصوته، وأن يغُضّوا منها، بحيث يكون كلامه غالبًا لكلامهم، وجهره باهرًا لجهرهم، حتى تكون

(1)

راجع: "الفتح" 1/ 136 - 137 "كتاب الإيمان".

ص: 436

مزيته لائحةً عليهم، وسابقته واضحة بينهم، وامتيازه عن جمهورهم، كَشِيَة الأبلق.

قال القرطبيّ: وقد كَرِهَ بعض العلماء رفع الصوت عند قبره صلى الله عليه وسلم، وكَرِهَ بعض العلماء رفع الصوت في مجالس العلماء؛ تشريفًا لهم؛ إذ هم ورثة الأنبياء. انتهى.

وقد كره العلماء أيضًا رفع الصوت على حديثه رضي الله عنه، فكانوا يمنعون منه، ويخرجون من يفعل ذلك من المجلس، ويروى ذلك عن الإمام مالك، وكان يقرأ الآية المذكورة، فمن رفع صوته عند حديثه، فكأنما رفع صوته فوق صوته صلى الله عليه وسلم

(1)

.

قال القاضي أبو بكر بن العربي: حرمةُ النبيّ صلى الله عليه وسلم ميتًا كحرمته حيًّا، وكلامه المأثور بعد موته في الرّفْعَة مثال كلامه المسموع من لفظه، فإذا قُرِئ كلامه وَجَب على كل حاضر ألا يرفع صوته عليه، ولا يُعْرِض عنه، كما كان يلزمه ذلك في مجلسه عند تلفظه به، وقد نَبّه الله سبحانه وتعالى على دوام الحرمة المذكورة على مرور الأزمنة بقوله تعالى:{وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} [الأعراف: 204]، وكلامه صلى الله عليه وسلم من الوحي، وله من الأحكام مثل ما للقرآن، إلا معاني مستثناة بيانها في كتب الفقه. انتهى. وهو استنباط نفيسٌ جدًّا، والله تعالى أعلم.

7 -

(ومنها): ما قاله القرطبيّ: ليس الغرض برفع الصوت، ولا الجهر ما يُقْصَد به الاستخفاف، والاستهانة؛ لأن ذلك كُفْرٌ، والمخاطبون مؤمنون، وإنما الغرض صوتٌ هو في نفسه، والمسموع من جَرْسِه

(2)

غيرُ مناسب لما يُهاب به العظماء، ويُوَقَّر الكبراء، فَيَتَكَلَّف الْغَضَّ منه، ورَدَّه إلى حَدٍّ يميل به إلى ما يَستبين فيه المأمور به، من التعزير والتوقير، ولم يتناول النهي أيضًا رفعَ الصوت الذي يتأذى به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو ما كان منهم في حرب، أو مُجادلة معاند، أو إرهاب عدوّ، أو ما أشبه ذلك، ففي الحديث: أنه صلى الله عليه وسلم قال

(1)

راجع: "شرحي" على "ألفيّة الحديث" للسيوطيّ 2/ 116.

(2)

"الْجِرْس" بفتح الجيم، وكسرها: الصوت.

ص: 437

للعباس بن عبد المطلب رضي الله عنه لَمّا انهزَم الناس يوم حنين: "اصرُخ بالناس"، وكان العباس أجهر الناس صوتًا

(1)

.

8 -

(ومنها): أن في الآية الردّ على المرجئة الذين يقولون: لا يضرّ مع الإيمان ذنبٌ أصلًا.

9 -

(ومنها): أنه ليس في الآية دليلٌ لمذهب الإحباطيّة الذين يقولون: إن السيّئات يُبطلن الحسنات، وقد حقّق القاضي أبو بكر بن العربي في الردّ عليهم تحقيقًا حسنًا، فقال: إن الإحباط إحباطان:

[أحدهما]: إبطال الشيء للشيء، وإذهابه جملةً، كإحباط الإيمان للكفر، والكفر للإيمان، وذلك في الجهتين إذهاب حقيقيّ.

[ثانيهما]: إحباط الموازنة، إذا جُعِلت الحسنات في كِفّة، والسيئات في كِفّة، فمَن رَجَحَت حسناته نجا، ومَن رَجَحت سيئاته وُقِّفَ في المشيئة، إما أن يُغْفَر له، وإما أن يُعَذَّب، فالتوقيف إبطالٌ ما؛ لأن توقيف المنفعة في وقت الحاجة إليها إبطال لها، والتعذيبُ إبطال أشدّ منه إلى حين الخروج من النار، ففي كلّ منهما إبطال نسبيّ، أُطلق عليه اسم الإحباط مجازًا، وليس هو إحباطًا حقيقةً؛ لأنه إذا أُخرج من النار، وأُدخل الجنة، عاد إليه ثواب عمله، وهذا بخلاف قول الإحباطيّة الذين سَوَّوا بين الإحباطين، وحَكَمُوا على العاصي بحكم الكافر، وهم معظم القدرية. انتهى

(2)

. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[322]

(

) - (وَحَدَّثَنَا قَطَنُ بْنُ نُسَيْرٍ، حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنَا ثَابِتٌ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: كَانَ ثَابِتُ بْنُ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ خَطِيبَ الْأَنْصَار، فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذ الْآيَةُ، بِنَحْوِ حَدِيثِ حَمَّادٍ، وَلَيْسَ فِي حَدِيثِهِ ذِكْرُ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ).

(1)

"الجامع لأحكام القرآن" 16/ 307 - 308.

(2)

راجع: "الفتح" 1/ 135 - 136 "كتاب الإيمان" رقم الحديث (48).

ص: 438

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(قَطَنُ بْنُ نُسَيْرٍ) - بضمّ النون، وفتح السين المهملة، مصغّرًا - الْغُبَريّ - بضمّ الغين المعجمة، وفتح الموحّدة الخفيفة - المعروف بالذّارع، أبو عبّاد البصريّ، صدوقٌ يُخطئ [10].

رَوَى عن جعفر بن سليمان الضُّبَعيّ، وبِشْر بن منصور السَّلِيميّ، وعمرو بن النعمان الباهليّ، ويزيد بن عبد الله أبي خالد القرشيّ الْبُسْريّ، وغيرهم.

ورَوَى عنه مسلم، وأبو داود، وروى الترمذي عن أبي داود عنه، حديث أنس:"ليسأل أحدكم ربه حاجته"، وإبراهيم بن هاشم البغويّ، وموسى بن إسحاق الأنصاريّ، ويعقوب بن سفيان، وعبدان الأهوازيّ، وغيرهم.

قال ابن أبي حاتم: سئل أبو زرعة عنه، فرأيته يَحْمِل عليه، وذكر أنه رَوَى أحاديث عن جعفر بن سليمان، عن ثابت، عن أنس مما أُنكِر عليه، وقال ابن عديّ: كان يَسْرِق الحديث، ويوصله، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال ابن عديّ: حدثنا البغويّ، ثنا الْقَوَاريريّ، ثنا جعفر، عن ثابت، بحديث:"ليسأل أحدكم ربه حاجته كلها"، فقال رجل للقواريريّ: إن شيخًا يُحَدِّث به عن جعفر، عن ثابت، عن أنس، فقال القواريريّ: باطل، قال ابن عديّ: وهو كما قال.

تفرّد به المصنّف، وأبو داود، والترمذيّ، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا برقم (119)، وحديث (2750): "لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر لصافحتكم الملائكة على فُرُشكم وفي طُرُقكم

" الحديث.

[تنبيه]: قال في "التهذيب"(3/ 442)، ما نصّه: روى عنه مسلمٌ حديثًا واحدًا في فضل ثابت بن قيس بن شَمّاس. انتهى.

فيه نظرٌ لا يخفى، لأنه أخرج له أيضًا لحديث المذكور آنفًا، ولا يقال: إنه أخرج له الحديث المذكور مقرونًا بيحيى بن يحيى؛ لأنا نقول كذلك هذا الحديث إنما أخرجه متابعة، لا أصالةً، فتنبّه

(1)

، والله تعالى أعلم.

(1)

(2750) قال الإمام مسلم في "كتاب التوبة": حدثنا يحيى بن يحيى التميميّ، وقَطَن بن نُسَير، واللفظ ليحيى، أخبرنا جعفر بن سليمان، عن سعيد بن إياس =

ص: 439

[تنبيه آخر]: ليس في الكتب الستّة من اسمه "قَطَن بن نُسير" غيره، وأما من اسمه "قَطَن" فهم: أربعة:

1 -

هذا المترجم هنا.

2 -

وقطن بن قَبيصة بن الْمُخارق الهلاليّ، أبو سهل البصريّ، صدوق عند أبي داود، والنسائيّ.

3 -

وقطن بن كعب، أبو الْهَيثم البصريّ، ثقة عند البخاريّ، وأبي داود في "القدر"، والنسائيّ.

4 -

وقطن بن وهب بن عويمر الليثيّ، أو الخزاعيّ، أبو الحسن المدنيّ، صدوق عند المصنّف، والنسائيّ، والله تعالى أعلم.

2 -

(جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ) الضُّبَعيّ - بضمّ الضاد المعجمة، وفتح الموحّدة - مولى بني الْحَرِيش، كان ينزل في بني ضُبَيعة، فنُسِب إليهم، أبو سليمان البصريّ، صدوقٌ زاهدٌ، لكنه كان يتشيّع [8].

رَوَى عن ثابت البنانيّ، والجعد أبي عثمان، ويزيد الرِّشْك، والْجُرَيريّ، وحُميد بن قيس الأعرج، وابن جريج، وعوف الأعرابيّ، وعطاء بن السائب، وكهمس بن الحسن، ومالك بن دينار، وجماعة.

ورَوى عنه الثوريّ، ومات قبله، وابن المبارك، وعبد الرحمن بن مهديّ،

= الْجُريريّ، عن أبي عثمان النهديّ، عن حنظلة الأسيديّ قال: وكان من كُتّاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لقيني أبو بكر، فقال: كيف أنت يا حنظلة؟ قال: قلت: نافق حنظلة، قال: سبحان الله، ما تقول؟ قال: قلت: نكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يُذَكِّرنا بالنار والجنة، حتى كأنا رأي عين، فإذا خرجنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عافَسْنَا الأزواج والأولاد والضيعات، فنسينا كثيرًا، قال أبو بكر: فوالله إنا لنلقى مثل هذا، فانطلقت أنا وأبو بكر حتى دخلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: نافق حنظلة يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"وما ذاك؟ " قلت: يا رسول الله، نكون عندك تُذَكِّرنا بالنار والجنة، حتى كأنا رأي عين، فإذا خرجنا من عندك، عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات، نسينا كثيرًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"والذي نفسي بيده، إن لو تدومون على ما تكونون عندي، وفي الذكر، لصافحتكم الملائكة على فُرُشكم، وفي طُرُقكم، ولكن يا حنظلة ساعةً وساعةً"، ثلاث مرات.

ص: 440

وعبد الرزاق، ويحيى بن يحيى النيسابوريّ، وعبد السلام بن مُطَهَّر، وقتيبة، وصالح بن عبد الله الترمذيّ، وبشر بن هلال الصواف، وقَطَن بن نسَير، وجماعة.

قال أبو طالب، عن أحمد: لا بأس به، قيل له: إن سليمان بن حرب يقول: لا يُكتَب حديثه، فقال: إنما كان يتشيع، وكان يحدث بأحاديث في فضل عليّ، وأهل البصرة يَغْلُون في عليّ، قلت: عامّة حديثه رِقَاق؟ قال: نعم، كان قد جَمَعها، وقد رَوَى عنه عبد الرحمن وغيره، إلا أني لم أسمع من يحيى عنه شيئًا، فلا أدري سمع منه أم لا؟، وقال الفضل بن زياد، عن أحمد: قَدِمَ جعفر بن سليمان عليهم بصنعاء، فحدثهم حديثًا كثيرًا، وكان عبد الصمد بن مَعْقِل يجيء، فيجلس إليه، وقال ابن أبي خيثمة وغيره، عن ابن معين: ثقة، وقال عباس، عنه: ثقة، كان يحيى بن سعيد لا يَكتُب حديثه، وقال في موضع آخر: كان يحيى بن سعيد لا يروي عنه، وكان يستضعفه، وقال ابن المدينيّ: أَكْثرَ عن ثابت، وكَتَب مراسيل، وفيها أحاديث مناكير، عن ثابت، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقال أحمد بن سنان: رأيت عبد الرحمن بن مهدي لا ينبسط لحديث جعفر بن سليمان، قال أحمد بن سنان: أستَثْقِلُ حديثه، وقال البخاريّ: يقال: كان أُمّيًّا، وقال ابن سعد: كان ثقةً، وبه ضَعْفٌ، وكان يتشيع، وقال جعفر الطيالسيّ، عن ابن معين: سمعت من عبد الرزاق كلامًا يومًا، فاستدللت به على ما ذُكِر عنه من المذهب، فقلت له: إن أُسْتاذِيك الذين أخذتَ عنهم ثقات كلهم، أصحاب سنة، فعمن أخذتَ هذا المذهب؟ فقال: قَدِمَ علينا جعفر بن سليمان، فرأيته فاضلًا، حَسَنَ الهدي، فأخذت هذا عنه، وقال ابنُ الضُّرَيس: سألت محمد بن أبي بكر الْمُقَدَّميَّ غن حديث لجعفر بن سليمان، فقلت: رَوَى عنه عبد الرزاق، قال: فَقَدتُ عبدَ الرزاق، ما أفسد جعفر غيره، يعني: في التشيع، وقال الخضر بن محمد بن شجاع الجزريّ: قيل لجعفر بن سليمان: بَلَغَنا أنك تشتم أبا بكر وعمر، فقال: أما الشتم فلا، ولكن بُغْضًا يا لك، وحَكَى عنه وهب بن بقية نحو ذلك.

وقال ابن عديّ، عن زكريا الساجيّ: وأما الحكاية التي حُكِيت عنه، فإنما عَنَى به جارين، كانا له قد تأذَّى بهما، يُكنى أحدهما: أبا بكر، ويُسَمَّى

ص: 441

الآخر: عمر، فسئل عنهما، فقال: أما السبّ فلا، ولكن بُغْضًا يا لك، ولم يَعْنِ به الشيخين، أو كما قال.

قال أبو أحمد: ولجعفر حديثٌ صالحٌ، وروايات كثيرةٌ، وهو حسن الحديث، معروف بالتشيّع، وجَمَعَ الرِّقاق، وأرجو أنه لا بأس به، وقد رَوَى أيضًا في فضل الشيخين، وأحاديثه ليست بالمنكرة، وما كان فيه منكر، فلعل البلاء فيه من الراوي عنه، وهو عندي ممن يَجِب أن يُقْبَل حديثه.

وقال أبو الأشعث، أحمد بن المقدام: كنا في مجلس يزيد بن زريع، فقال: مَن أتى جعفر بن سليمان، وعبد الوارث، فلا يَقرَبني، وكان عبد الوارث يُنسَب إلى الاعتزال، وجعفر ينسب إلى الرَّفْض، وقال البخاري في "الضعفاء": يخالِف في بعض حديثه.

وقال ابن حبان في "كتاب الثقات": حدثنا الحسن بن سفيان، ثنا إسحاق بن أبي كامل، ثنا جرير بن يزيد بن هارون، بين يدي أبيه، قال: بعثني أبي إلى جعفر، فقلت: بَلَغَنا أنك تسب أبا بكر وعمر، قال: أما السبّ فلا، ولكن البغض ما شئتَ، فإذا هو رافضيّ، مثل الحمار.

قال ابن حبان: كان جعفر من الثقات، في الروايات، غير أنه ينتحل الميل إلى أهل البيت، ولم يكن بداعية إلى مذهبه، وليس بين أهل الحديث من أئمتنا خلاف أن الصَّدُوق المتقن، إذا كانت فيه بدعة، ولم يكن يدعو إليها أنّ الاحتجاج بخبره جائز.

وقال الأزديّ: كان فيه تحامل على بعض السلف، وكان لا يكذب في الحديث، ويؤخذ عنه الزهد والرقائق، وأما الحديث فعامة حديثه عن ثابت وغيره فيها نظر ومنكر.

وقال ابن المدينيّ: هو ثقة عندنا، وقال أيضًا: أكثرَ عن ثابت، وبقية أحاديثه مناكير.

وقال الدُّوريّ: كان جعفر إذا ذَكَر معاوية شتمه، وإذا ذكر عليًّا قعد يبكي.

وقال يزيد بن هارون: كان جعفر من الخائفين، وكان يتشيع.

وقال ابن شاهين في "المختَلَف فيهم": إنما تُكُلِّم فيه لعلة المذهب، وما

ص: 442

رأيت مَن طَعَن في حديثه إلا ابن عمار بقوله: جعفر بن سليمان ضعيف.

وقال البزار: لم نسمع أحدًا يَطعَن عليه في الحديث، ولا في خطأ فيه، إنما ذُكِرَت عنه شيعيته، وأما حديثه فمستقيم.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تلخّص مما سبق من أقوال المحقّقين المعتدلين أن جعفر بن سليمان وإن كان فيه انحراف في مذهبه، إلا أنه ثقة في حديثه، وهو حسن الحديث، والله تعالى أعلم.

قال ابن سعد: مات في رجب سنة (178).

أخرج له البخاريّ في "الأدب المفرد"، والباقون، وله في هذا الكتاب (15) حديثًا.

والباقيان تقدّما في السند الماضي.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد أنه من رباعيات المصنف رحمه الله، وهو (10) من رباعيات الكتاب، وأنه مسلسل بالبصريين، فكلهم بصريّون.

وقوله: (بِنَحْوِ حَدِيثِ حَمَّادٍ) يعني: أن حديث جعفر بن سليمان نحو حديث حمّاد بن سلمة.

وقوله: (وَلَيْسَ في حَدِيثِهِ ذِكْرُ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ) يعني: أن جعفرًا لم يذكر في حديثه سعد بن معاذ الذي أرسله النبيّ صلى الله عليه وسلم يسأل عن حال ثابت بن قيس رضي الله عنه.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: رواية جعفر هذه أخرجها الحافظ أبو يعلى في "مسنده"، فقال:

(3427)

حدّثنا قَطَن بن نُسير، أبو عبّاد، حدّثنا جعفر، عن ثابت، عن أنس، قال: كان ثابت بن قيس بن شمّاس خطيب الأنصار، فلما نزلت هذه الآية:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ} [الحجرات: 2] الآية، قال ثابتٌ: أنا الذي كنتُ أرفع صوتي فوق صوت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا من أهل النار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"بل هو من أهل الجنّة، بل هو من أهل الجنّة"

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

(1)

راجع: "مسند أبي يعلى" 6/ 149 رقم (3427).

ص: 443

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[323]

(

) - (وَحَدَّثَنِيهِ أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ صَخْرٍ الدَّارِمِيُّ، حَدَّثَنَا حَبَّانُ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ الْمُغِيرَة، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: {لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ}، وَلَمْ يَذْكُرْ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ في الْحَدِيثِ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ صَخْرٍ الدَّارِمِيُّ) أبو جعفر السَّرَخْسِيّ، ثقةٌ حافظٌ [11](253)(خ م د ت ق) تقدم في "المقدمة" 6/ 93.

2 -

(حَبَّانُ) بن هلال الباهليّ، ويقال: الكنانيّ، أبو حَبِيب البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [9].

رَوَى عن حماد بن سلمة، وشعبة، وداود بن أبي الْفُرَات، وجرير بن حازم، وعبد الوارث بن سعيد، وهمام، وأبي عوانة، ومبارك بن فَضَالة، ومعمر، ووهيب، وخلق كثير.

ورَوَى عنه أحمد بن سعيد الرِّبَاطيّ، وأحمد بن سعيد الدارميّ، وأبو الجوزاء النَّوْفليّ، وإسحاق بن منصور الْكَوْسَج، وأبو خيثمة، والدارميّ وعبد بن حميد، وبندار، وأبو موسى، ويعقوب بن سفيان، ويعقوب بن شيبة.

وقال أحمد بن حنبل: إليه الْمُنْتَهَى في التثبت بالبصرة، وقال ابن معين، والترمذيّ، والنسائيّ: ثقة، وقال العجليّ: ثقة، لم أسمع منه، وكان عَسِرًا، وقال البزار: ثقة مأمون على ما يحدِّث به، وقال ابن قانع: بصريّ صالحٌ، وقال الخطيب: كان ثقةً ثبتًا.

وقال ابن سعد: كان ثقةً ثبتًا حجةً، وكان امتنع من التحديث قبل موته، مات بالبصرة سنة (216).

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (24) حديثًا.

3 -

(سُلَيْمَانُ بْنُ الْمُغِيرَةِ) الْقَيْسيّ مولاهم، أبو سعيد البصريّ، ثقةٌ [7]، أخرج له البخاريّ مقرونًا، وتعليقًا (ت 165)(ع) تقدم في "الإيمان" 3/ 111.

والباقيان تقدّما فيما قبله.

ص: 444

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد أنه مسلسل بالبصريين، فكلهم بصريّون، إلا شيخه، فنيسابوريّ.

وقوله: (وَلَمْ يَذْكُرْ) الضمير لسليمان بن المغيرة، وقوله:(سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ) بالنصب على المفعوليّة لـ"يَذْكُر"، وقوله:(فِي الْحَدِيثِ) متعلّق بـ "يَذْكُر".

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: رواية سليمان بن المغيرة هذه أخرجها الحافظ أبو يعلى في "مسنده"(6/ 76) فقال:

(3331)

حدثنا هدبة - هو ابن خالد - حدثنا سليمان بن المغيرة، عن ثابت، عن أنس، قال: لما نزلت هذه الآية: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ} [الحجرات: 2] قعد ثابت بن قيس بن شَمّاس في بيته، وقال: أنا الذي كنت أرفع صوتي، وأجهر له بالقول، وأنا من أهل النار، فتفقده النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأَخبَرُوه، فقال:"بل هو من أهل الجنة"، قال أنس: فكنا نراه يَمشي بين أظهرنا، ونحن نعلم أنه من أهل الجنة، فلما كان يومُ اليمامة، وكان ذاك الانكشاف، لَبِسَ ثيابه، وتَحَنَّط، وتقدّم، فقاتل، حتى قُتِلَ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[324]

(

) - (وَحَدَّثَنَا هُرَيْمُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى الْأَسَدِيُّ، حَدَّثنَا الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي، يَذْكُرُ عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، وَاقْتَصَّ الْحَدِيثَ، وَلَمْ يَذْكُرْ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ، وَزَادَ: فَكُنَّا نَرَاهُ يَمْشِي بَيْنَ أَظْهُرِنَا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(هُرَيْمُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى الْأَسَدِيُّ) هو: هُرَيم بن عبد الأعلى بن الْفُرات الأسديّ، أبو حمزة البصريّ، ثقةٌ [10].

رَوَى عن يزيد بن زريع، وخالد بن الحارث، وحاتم بن وَرْدان، ومعتمر بن سليمان، وعباس بن إسماعيل.

ص: 445

ورَوَى عنه مسلم، وبَقِيّ بن مَخْلَد، وإسماعيل سمويه، وعبد الله بن أحمد، وعبد الله بن أبي القاضي، وعبدان الأهوازيّ، وعبد الله بن محمد بن النعمان الأصبهانيّ، وأبو يعلى الموصليّ، وغيرهم.

قال مسلمة بن قاسم: لا أعرفه، فقال في "تهذيب التهذيب": ولا عبرة بقوله، فقد عرفه مسلم.

قال أبو الشيخ: حدث بأصبهان، ومات بالبصرة سنة خمس وثلاثين، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: مات سنة أربعين ومائتين، أو قبلها بقليل، أو بعدها.

تفرّد به المصنّف، وله عنده في هذا الكتاب أربعة أحاديث فقط: هذا (119)، وحديث (1850): "من قُتل تحت راية عميّة

"، و (2303): "ما بين ناحيتي حوضي كما بين صنعاء

"، و (2915): "بُؤْسَ ابن سُميّة، تقتلك فئة باغية".

2 -

(الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ) أبو محمد البصريّ، الملقّب بالطُّفيل، ثقةٌ، من كبار [9](ت 187) وقد جاوز الثمانين (ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 105.

3 -

(أَبُوهُ) سليمان بن طَرْخان التيميّ، أبو المعتمر البصريّ، نَزل في بني تيم، فنُسب إليهم، ثقةٌ عابدٌ [4](ت 143) وهو ابن (97) سنة (ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 9.

والباقيان تقدّما قريبًا.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد أنه مسلسل بالبصريين، فكلهم بصريّون.

وقوله: (وَاقْتَصَّ الْحَدِيثَ) الضمير لسليمان التيميّ: أي ساق الحديث بنصّه، وهو افتعال من قَصّ، يقال: قَصَصتُ الخبر قَصًّا، من باب نصر: حدّثتُ به على وجهه، والاسم الْقَصَصُ

(1)

.

وقوله: (وَلَمْ يَذْكُرْ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ) يعني: أنه لم يصرّح باسم الرجل الذي أرسله النبيّ صلى الله عليه وسلم لطلب ثابت بن قيس.

وقوله: (وَزَادَ) أي سليمان التيميّ في رواية قول أنس رضي الله عنه: (فَكُنَّا نَرَاهُ) أي ثابت بن قيس (يَمْشِي بَيْنَ أَظْهُرِنَا) أي بيننا، فـ "أظهر" مُقْحَمٌ، يقال: هو

(1)

راجع: "المصباح" 2/ 505.

ص: 446

نازلٌ بين ظَهْرانيهم، بفتح النون، قال ابن فارس: ولا تُكسر، وقال جماعة: الألف والنون زائدتان للتأكيد، وبين ظَهْرَيْهِمْ، وبين أَظْهُرِهم كلُّها بمعنى بينهم، وفائدة إدخاله في الكلام أن إقامته بينهم على سبيل الاستظهار بهم، والاستناد إليهم، وكأنّ المعنى أن ظهرًا منهم قُدّامه، وظهرًا منهم وراءه، فكأنه مكنوفٌ من جانبيه، هذا أصله، ثم كثر، حتى استُعْمِلَ في الإقامة بين القوم، وإن كان غير مكنوف بينهم، ذكره الفيّوميّ

(1)

.

وقوله: (رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ) هكذا هو بالرفع في أكثر الأصول - كما قاله النوويّ - وهو مرفوع على البدليّة من فاعل "يمشي"، والجملة في محلّ نصب على الحال، وهذا أولى من قول النوويّ: هو على الاستئناف، فتأمله.

ووقع في بعض الأصول "رجلًا" بالنصب، فيكون بدلًا من الهاء في "نراه"، كما قال في "الخلاصة":

كَزُرْهُ خَالِدًا وَقَبّلْهُ الْيَدَا

وَاعْرِفْهُ حَقَّهُ وَخُذْ نَبْلًا مُدَى

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: رواية سليمان التيميّ هذه أخرجها ابن حبّان في "صحيحه"(16/ 129)، فقال:

(7169)

أخبرنا ابن خزيمة، حدثنا محمد بن عبد الأعلى، حدثنا معتمر بن سليمان، عن أبيه، عن ثابت، عن أنس، قال: لما نزلت هذه الآية: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} [الحجرات: 2]، قال ثابت بن قيس: أنا والله الذي كنت أرفع صوتي عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا أخشى أن يكون الله قد غَضِبَ عليّ، فَحَزِنَ، واصفَرّ، ففقده رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأل عنه، فقيل: يا نبي الله، إنه يقول: إني أخشى أن أكون من أهل النار، إني كنت أرفع صوتي عند النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"بل هو من أهل الجنة".

فكنا نراه يَمشي بين أظهرنا، رجلٌ من أهل الجنة.

وأخرجها الحافظ أبو يعلى في "مسنده"(6/ 112) عن شيخ المصنّف بسنده، ولم يذكر تلك الزيادة، فقال:

(3381)

حدثنا أبو حمزة، هُرَيم بن عبد الأعلى، حدّثنا المعتمر بن

(1)

"المصباح المنير" 2/ 387.

ص: 447

سليمان، قال: سمعت أبي، يذكر عن ثابت، عن أنس بن مالك، قال: لَمّا نزلت: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} [الحجرات: 2] إلى قوله: {لَا تَشْعُرُونَ} قال ثابت بن قيس: أنا والله الذي كنت أرفع صوتي عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإني أخشى أن أكون من أهل النار، إني كنت أرفع صوتي عند النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"بل هو من أهل الجنة"، أو كما قال. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

‌56 - (بَابٌ هَلْ يُؤَاخَذُ بِأَعْمَالِ الْجَاهِلِيّةِ؟)

وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[325]

(120) - (حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ الله، قَالَ: قَالَ أُنَاسٌ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: يَا رَسُولَ الله، أَنُؤَاخَذُ بِمَا عَمِلْنَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ؟ قَالَ: "أمَّا مَنْ أَحْسَنَ مِنْكُمْ فِي الْإِسْلَام، فَلَا يُؤَاخَذُ بِهَا، وَمَنْ أَسَاءَ، أُخِذَ بِعَمَلِهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) هو: عثمان بن محمد بن أبي شيبة إبراهيم بن عثمان الْعَبْسيّ، أبو الحسن الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 239)(خ م د س ق) تقدم في "الإيمان" 35/ 246.

2 -

(جَرِير) بن عبد الحميد بن قُرْط الضبيّ، أبو عبد الله الكوفيّ، نزيل الريّ، وقاضيها، ثقة، صحيح الكتاب [8](ت 188)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.

3 -

(مَنْصُور) بن المعتمر بن عبد الله السّلميّ، أبو عتّاب الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ [6](ت 132)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 296.

4 -

(أَبُو وَائِلٍ) شقيق بن سلمة الأسديّ الكوفيّ، ثقةٌ مخضرمٌ [2] مات في خلافة عمر بن عبد العزيز، وله مائة سنة (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 57.

ص: 448

5 -

(عَبْدُ اللهِ) بن مسعود بن غافل بن حبيب الْهُذليّ، أبو عبد الرحمن الصحابيّ الشهير، مات سنة (32)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 11، والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف، وفيه التحديث، والعنعنة، من صيغ الأداء.

2 -

(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له الترمذيّ.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالكوفيين.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ مخضرم، على قول من يقول: إن منصورًا من صغار التابعين.

5 -

(ومنها): أن صحابيّه رضي الله عنه أحد السابقين إلى الإسلام، ومن أقرأ الصحابة رضي الله عنهم، ومن كبار علمائهم، وهو المراد عند إطلاق عبد الله في سند الكوفيين كما هنا، ذو مناقب جمّة رضي الله عنه، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ عَبْدِ اللهِ) بن مسعود رضي الله عنه، أنه (قَالَ: قَالَ أُنَاسٌ) بضم الهمزة قيل: هو فُعالٌ بضمّ الفاء، مشتقّ من الأُنس، لكن يجوز حذف الهمزة تخفيفًا على غير قياس، فيبقى الناس، وعن الكسائيّ أن الأُناس، والناس لغتان بمعنى واحدٍ، وليس أحدهما مشتقًّا من الآخر، قال الفيّوميّ: وهو الوجه؛ لأنهما مادّتان مختلفتان في الاشتقاق، والحذف تغيير، وهو خلاف الأصل. انتهى

(1)

.

وفي الرواية التالية: "قلنا يا رسول الله"، وفي رواية البخاريّ:"قال رجلٌ: يا رسول الله"، فأفادت الرواية الثانية أن ابن مسعود رضي الله عنه من جملة من سأل هذا السؤال (لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: يَا رَسُولَ الله، أَنُؤَاخَذُ) بالبناء للمفعول، (بِمَا عَمِلْنَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ؟) هي الحال التي كانت عليها العرب قبل الإسلام من الجهل بالله عز وجل، ورسوله صلى الله عليه وسلم، وشرائع الدين، والتفاخر بالأنساب، والكبر،

(1)

"المصباح المنير" 1/ 26.

ص: 449

والتجبّر، وغير ذلك

(1)

. (قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("أَمَّا مَنْ أَحْسَنَ مِنْكُمْ فِي الْإِسْلَامِ) أي بدخوله فيه ظاهرًا وباطنًا، كما أمره الله عز وجل بقوله:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208)} [البقرة: 208](فَلَا يُؤَاخَذُ بِهَا) أي بالأعمال التي عملها في الجاهليّة؛ لأن الإسلام يَجُبّ ما قبله، كما قال سبحانه وتعالى:{قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} الآية [الأنفال: 38](وَمَنْ أَسَاءَ) أي بأن دخل في الإسلام ظاهرًا، ولم ينشرح له صدره (أُخِذَ) بالبناء للمفعول (بِعَمَلِهِ) مفرد مضاف، فيعمّ، أي بجميع ما عمله (فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ") قال النوويّ: الصحيح في معنى الحديث: ما قاله جماعة من المحققين: أن المراد بالإحسان هنا الدخول في الإسلام بالظاهر والباطن جميعًا، وأن يكون مسلمًا حقيقيًّا، فهذا يُغْفَر له ما سَلَفَ في الكفر بنص القرآن العزيز، والحديث الصحيح:"الإسلام يَهْدِم ما قبله"، وبإجماع المسلمين، والمراد بالإساءة عدم الدخول في الإسلام بقلبه، بل يكون مُنقادًا في الظاهر مُظهرًا للشهادتين، غير معتقد للإسلام بقلبه، فهذا منافق باقٍ على كفره بإجماع المسلمين، فيؤاخذ بما عَمِل في الجاهلية قبل إظهار صورة الإسلام، وبما عَمِل بعد إظهارها؛ لأنه مُسْتَمِرّ على كفره، وهذا معروف في استعمال الشرع، يقولون: حَسُنَ إسلام فلان، إذا دَخَل فيه حقيقةً بإخلاص، وساء إسلامه، أو لم يَحسُن إسلامه، إذا لم يكن كذلك، والله تعالى أعلم. انتهى كلام النوويّ.

وقال القرطبيّ: يعني بالإحسان هنا: تصحيح الدخول في دين الإسلام، والإخلاص فيه، والدوام على ذلك، من غير تبديل، ولا ارتداد، والإساءة المذكورة في هذا الحديث في مقابلة هذا الإحسان هي الكفر، والنفاق، ولا يصحّ أن يُراد بالإساءة هنا ارتكاب سيئة ومعصية؛ لأنه يلزم عليه أن لا يَهدِم الإسلام ما قبله من الآثام إلا لمن عُصِم من جميع السيّئات إلى الموت، وهو باطلٌ قطعًا، فتعيّن ما قلناه.

والمؤاخذة هنا هي العقاب على ما فَعَله من السيّئات في الجاهليّة، وفي

(1)

"النهاية" 1/ 322 - 323.

ص: 450

حال الإسلام، وهو المعبّر عنه في الرواية الأخرى بقوله:"أُخذ بالأول والآخر"، وإنما كان كذلك؛ لأن إسلامه لَمّا لم يكن صحيحًا، ولا خالصًا لله تعالى لم يَهدِم شيئًا مما سبق، ثم انضاف إلى ذلك إثم نفاقه، وسيئاته التي عملها في حال الإسلام، فاستحقّ العقوبة عليها، ومن هنا استحقّ المنافقون أن يكونوا في الدَّرْك الأسفل من النار، كما قال الله تعالى. انتهى كلام القرطبيّ

(1)

، وهو تحقيقٌ حسنٌ.

وقال في "الفتح": قال الخطّابيّ: ظاهر هذا الحديث خلاف ما أجمعت عليه الأمّة أن الإسلام يجُبّ ما قبله، وقال تعالى:{قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} الآية [الأنفال: 38]، قال: وجه هذا الحديث أن الكافر إذا أسلم لم يؤاخذ بما مَضَى، فإن أساء في الإسلام غايةَ الإساءة، ورَكِبَ أشدّ المعاصي، وهو مستمر على الإسلام، فإنه إنما يؤاخذ بما جناه من المعصية في الإسلام، ويُبَكَّت بما كان منه في الكفر، كأن يقال له: ألست فعلتَ كذا، وأنت كافر، فهلا مَنَعَك إسلامك عن معاودة مثله؟. انتهى ملخصًا.

وحاصله أنه أَوَّل المؤاخذة في الأول بالتبكيت، وفي الآخِر بالعقوبة، والأَولى قول غيره: إن المراد بالإساءة: الكفر؛ لأنه غاية الإساءة، وأشدّ المعاصي، فإذا ارتدّ، ومات على كفره كان كمن لم يُسلم، فيعاقَب على جميع ما قدّمه، وإلى ذلك أشار البخاريّ بإيراد هذا الحديث بعد حديث "أكبر الكبائر: الشرك"، وأورد كُلًّا في أبواب المرتدين.

ونَقَلَ ابنُ بطال عن المهلب، قال: معنى حديث الباب: من أحسن في الإسلام بالتّمَادي على محافظته، والقيام بشرائطه، لم يؤاخذ بما عَمِل في الجاهلية، ومن أساء في الإسلام: أي في عَقْده بترك التوحيد، أُخذ بكل ما أسلفه، قال ابن بطال: فعرضته على جماعة من العلماء، فقالوا: لا معنى لهذا الحديث غير هذا، ولا تكون الإساءة هنا إلا الكفر؛ للإجماع على أن المسلم لا يؤاخذ بما عَمِل في الجاهلية، وبه جزم المحبّ الطبريّ.

(1)

"المفهم" 1/ 327.

ص: 451

ونقل ابن التين عن الداوديّ: معنى مَن أحسن: مات على الإسلام، ومن أساء: مات على غير الإسلام.

وعن أبي عبد الملك البونيّ: معنى من أحسن في الإسلام: أي أسلم إسلامًا صحيحًا، لا نفاق فيه، ولا شك، ومن أساء في الإسلام: أي أسلم رياءً وسمعةً، وبهذا جزم القرطبيّ.

ولغيره: معنى الإحسان: الإخلاصُ حين دخل فيه، ودوامه عليه إلى موته، والإساءة بضد ذلك، فإنه إن لم يُخلص إسلامَهُ كان منافقًا، فلا ينهدم عنه ما عَمِلَ في الجاهلية، فيضاف نفاقه المتأخر إلى كفره الماضي، فيعاقب على جميع ذلك.

قال الحافظ بعد ذكر ما تقدّم كلّه: حاصله أن الخطابيّ حَمَلَ قوله: "في الإسلام" على صفة خارجة عن ماهية الإسلام، وحمله غيره على صفة في نفس الإسلام، وهو أوجه.

قال: وفي "كتاب السنة" لعبد العزيز بن جعفر، وهو من رؤوس الحنابلة، ما يَدْفَع دعوة الخطابي وابن بطال الإجماع الذي نقلاه، وهو ما نُقِلَ عن الميمونيّ، عن أحمد أنه قال: بلغني أن أبا حنيفة يقول: إن من أسلم لا يؤاخذ بما كان في الجاهلية، ثم رَدّ عليه بحديث ابن مسعود، ففيه أن الذنوب التي كان الكافر يفعلها في جاهليته، إذا أصرَّ عليها في الإسلام، فإنه يؤاخذ بها؛ لأنه بإصراره لا يكون تاب منها، وإنما تاب من الكفر، فلا يسقط عنه ذنب تلك المعصية؛ لإصراره عليها، والى هذا ذهب الْحَلِيميّ من الشافعية، وتأول بعض الحنابلة قوله تعالى:{قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38]، على أن المراد ما سَلَفَ مما انتَهَوْا عنه، قال: والاختلاف في هذه المسألة مبنيّ على أن التوبة هي الندم على الذنب، مع الإقلاع عنه، والعزم على عدم العود إليه، والكافر إذا تاب من الكفر، ولم يَعْزِم على عدم العود إلى الفاحشة، لا يكون تائبًا منها، فلا تسقط عنه المطالبة بها.

والجواب عند الجمهور: أن هذا خاصّ بالمسلم، وأما الكافر فإنه يكون بإسلامه كيوم ولدته أمه، والأخبار دالّة على ذلك، كحديث أُسامة رضي الله عنه لَمّا

ص: 452

أنكر عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم قتل الذي قال: "لا إله إلا الله" حتى قال في آخره: حتى تمنيت أنني كنت أسلمت يومئذ. انتهى كلام الحافظ

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والماب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه المصنّف هنا في "الإيمان"[56/ 325 و 326 و 327](120)، و (البخاريّ) في "استتابة المرتدّين"(6921)، و (ابن ماجه) في "الزهد"(4242)، و (عبد الرزاق) في "مصنّفه"(19686)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 379 و 380 و 409 و 429 و 431 و 462)، و (الدارميّ) في "سننه"(1/ 3)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(201 و 202 و 203)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(314)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(9/ 123)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(28)، و (البزّار) في "مسنده"(73)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان المؤاخذة بأعمال الجاهليّة لمن لم يُحسن الدخول في الإسلام.

2 -

(ومنها): بيان فضل الإسلام، حيث عادت بركته على الأعمال التي صدرت في حال الكفر، فقبلت من أجله.

3 -

(ومنها): بيان اهتمام الصحابة رضي الله عنهم، وشدّة حرصهم في السؤال عن الأمور المهمّة في الدين.

4 -

(ومنها): أن الكفّار مُخاطبون بفروع الشريعة، كما أنهم مخاطبون بأصولها، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): أخرج الإمام النسائيّ في "سننه" بسند صحيح، عن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أسلم العبد، فحسُن

(1)

"الفتح" 12/ 278 - 279 "كتاب استتابة المرتدّين" رقم (6918 - 6922).

ص: 453

إسلامه، كتب الله له كلَّ حسنة كان أزلفها، ومُحِيت عنه كلُّ سيئة كان أزلفها، ثم كان بعد ذلك القصاص، الحسنةُ بعشرة أمثالها إلى سبعمائة ضِعْفٍ، والسيئةُ بمثلها، إلا أن يتجاوز الله عز وجل عنها"، وهو حديث صحيح، أورده الإمام البخاريّ في "صحيحه" معلّقًا بصيغة الجزم.

فهذا الحديث يقابل حديث ابن مسعود رضي الله عنه المذكور في الباب؛ فإنّ ظاهره يدلّ على أن مَنِ اريمَب المعاصي بعد أن أسلم، يُكتَب عليه ما عَمِله من المعاصي قبل أن يُسلِم، وظاهر هذا أنّ مَن عَمِلَ الحسنات بعد أن أسلم، يُكتَب له ما عَمِله من الخيرات قبل أن يُسلم.

والحاصل أن الحديثين يُكمّل أحدهما الآخر، فيستفاد منهما أن من أحسن إسلامه تكتب له الأعمال الصالحة التي كان يعمل بها قبل إسلامه، وأن من أساء في الإسلام يؤاخذ بالأعمال السيّئة قبل إسلامه.

وقد استشكل بعض العلماء هذا، وراوه مخالفًا للقواعد، فقال المازريّ: الكافر لا يصحّ منه التقرب، فلا يثاب على العمل الصالح الصادر منه في شركه؛ لأن من شرط المتقرّب أن يكون عارفًا لمن يتقرب إليه، والكافر ليس كذلك، وتابعه القاضي عياض على تقرير هذا الإشكال.

وتعقب ذلك النوويّ، واستضعفه، وقال: الصواب الذي عليه المحققون، بل نَقَلَ بعضهم فيه الإجماع، أن الكافر إذا فَعَل أفعالًا جميلةً، كالصدقة، وصلة الرحم، ثم أسلم، ومات على الإسلام، أن ثواب ذلك يُكْتَب له، وأما دعوى أنه مُخالف للقواعد، فغير مُسَلَّم؛ لأنه قد يُعْتَدّ ببعض أفعال الكافر في الدنيا، ككفارة الظهار، فإنه لا يلزمه إعادتها إذا أسلم، وتجزئه. انتهى.

قال الحافظ: والحقّ أنه لا يلزم من كتابة الثواب للمسلم في حال إسلامه؛ تفضلًا من الله تعالى، وإحسانًا أن يكون ذلك؛ لكون عمله الصادر منه في الكفر مقبولًا، والحديث إنما تَضَمَّن كتابة الثواب، ولم يَتَعَرَّض للقبول.

ويَحْتَمِل أن يكون القبول يَصِير مُعَلَّقًا على إسلامه، فيُقْبَلُ، ويثاب إن أسلم، وإلا فلا، وهذا قويّ.

وقد جَزَم بما جزم به النوويّ إبراهيم الحربيّ، وابنُ بطال، وغيرهما، من القدماء، والقرطبيّ، وابن الْمُنَيِّر من المتأخرين.

ص: 454

قال ابن الْمُنَيِّر: المخالف للقواعد دعوى أن يُكتب له ذلك في حال كفره، وأما أن الله يُضِيف إلى حسناته في الإسلام ثوابَ ما كان صَدَرَ منه، مما كان يظنه خيرًا، فلا مانع منه، كما لو تفضل عليه ابتداءً من غير عمل، وكما يتفضل على العاجز بثواب ما كان يَعْمَل، وهو قادر، فإذا جاز أن يَكتُب له ثواب ما لم يَعمل البتة، جاز أن يكتب له ثواب ما عَمِله غير مُوَفَّى الشروط.

وقال ابنُ بطال: لله أن يتفضل على عباده بما شاء، ولا اعتراض لأحد عليه.

واستَدَلَّ غيره بأن مَن آمن من أهل الكتاب، يؤتى أجره مرتين، كما دل عليه القرآن، والحديث الصحيح، وهو لو مات على إيمانه الأول، لم ينفعه شيء من عمله الصالح، بل يكون هباءً منثورًا، فدَلّ على أن ثواب عمله الأول يُكتب له مضافًا إلى عمله الثاني، وبقوله صلى الله عليه وسلم لما سألته عائشة رضي الله عنها عن ابن جُدْعَان، وما يصنعه من الخير، هل ينفعه؟ فقال:"إنه لم يقل يومًا: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين"، فدَلّ على أنه لو قالها بعد أن أسلم، نفعه ما عمله في الكفر. انتهى

(1)

.

قال الجامح عفا الله تعالى عنه: هذا الذي قرّره هؤلاء العلماء من أن الصواب أن أعمال الإنسان في حال كفره تكتب له في حال إسلامه، ويُجازى عليها؛ فضلًا من الله سبحانه وتعالى بسبب حسن إسلامه هو الحقّ الذي لا شكّ فيه، ولا مرية، فمعارضته بأنه مخالف للقواعد غير مقبولة، فماذا يعنون بالقواعد، أليست القواعد هي التي جاءت بها النصوص الشرعية؟ فالذي أسّس القواعد، ووطّدها، وأرساها هو الذي أخبرنا بكتابة هذه الأعمال، فلا مجال بعد هذا للجدال، {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ} [يونس: 32]، فأسلم تسلم، وتغنم، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[326]

(

) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، وَوَكِيعٌ (ح)، وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَاللَّفْظُ لَهُ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنِ الْأَعْمَش، عَنْ

(1)

"الفتح" 1/ 122 - 123 "كتاب الإيمان" رقم الحديث (41).

ص: 455

أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ الله، قَالَ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ الله، أَنُؤَاخَذُ بِمَا عَمِلْنَا فِي الْجَاهِلِيةِ؟ قَالَ: مَنْ أَحْسَنَ فِي الْإِسْلَام، لَمْ يُؤَاخَذْ بِمَا عَمِلَ فِي الْجَاهِلِيَّة، وَمَنْ أَسَاءَ فِي الْإِسْلَام، أُخِذَ بِالْأَوَّلِ وَالْآخِرِ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ) الْهَمْدانيّ، أبو عبد الرحمن الكوفيّ، ثقةٌ حافظ فاضلٌ [10](ت 234)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 5.

2 -

(أَبُوهُ) عبد الله بن نُمير الْهَمْدانيّ، أبو هشام الكوفيّ، ثقة، صاحب حديث، من أهل السنّة، من كبار [9](ت 199)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 5.

3 -

(وَكِيعٌ) بن الْجَرّاح بن مَلِيح الرؤاسيّ، أبو سفيان الكوفيّ، ثقةٌ عابدٌ حافظٌ، من كبار [9](ت 196)(ع) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.

3 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) أخو عثمان بن أبي شيبة المذكور في السند السابق، وتقدّم أيضًا هو في الباب الماضي.

4 -

(الْأَعْمَشُ) سليمان بن مهران الأسديّ الكاهليّ مولاهم، أبو محمد الكوفيّ، ثقة ثبت حافظ ورعٌ عارف بالقراءة، لكنه يدلّس [5](ت 147)(ع) تقدم في "المقدّمة" جـ 1 ص 297.

والباقيان تقدّما في السند الماضي.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد أنه مسلسل بالكوفيين، كالسند التالي، قال النوويّ: هذه الأسانيد الثلاثة كلهم كوفيون، وهذا من أطرف النفائس؛ لكونها أسانيد متلاصقة، مسلسلةً بالكوفيين. انتهى

(1)

.

وفيه كتابة (ح) إشارة إلى تحويل السند، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وشرح الحديث تقدّم مستوفًى في الحديث الماضي، وكذا بيان مسائله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

(1)

"شرح النوويّ" 2/ 136.

ص: 456

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[327]

(

) - (حَدَّثَنَا مِنْجَابُ بْنُ الْحَارِثِ التَّمِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، عَنِ الْأَعْمَش، بِهَذَا الْإِسْنَادِ مِثْلَهُ).

رجال هذا الإسناد: ثلاثة:

1 -

(مِنْجَابُ بْنُ الْحَارِثِ التَّمِيمِيُّ) هو: مِنْجاب - بكسر الميم، وسكون النون، ثم جيم، ثم موحّدة - بن الحارث بن عبد الرحمن التميميّ، أبو محمد الكوفيّ، ثقةٌ [10](ت 231)(م فق) تقدم في "الإيمان" 41/ 273.

2 -

(عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ) - بضمّ الميم، وسكون السين المهملة، وكسر الهاء - القرشيّ الكوفيّ، قاضي الْمَوْصِل، ثقةٌ له غرائب بعدما أَضَرَّ [8](ت 189)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 6.

والأعمش سبق ذكره قبله.

وقوله: (بهَذَا الْإِسْنَادِ مِثْلَهُ) يعني أن عليّ بن مُسهر ساقه بسند الأعمش الذي قبل هذا، مثل متنه.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: طريق عليّ بن مسهر هذه لم أجد من ساقها بتمامها، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرحع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

‌57 - (بَابُ كَوْنِ الْإِسْلَامِ يَهْدِمُ مَا قَبْلَهُ، وكَذَا الْحَجُّ، وَالْهِجْرَةُ)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[328]

(121) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى الْعَنَزِيُّ، وَأَبُو مَعْنٍ الرَّقَاشِيُّ، وَإِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، كُلُّهُمْ عَنْ أَبِي عَاصِمٍ، وَاللَّفْظُ لِابْنِ الْمُثَنَّى، حَدَّثنَا الضَّحَّاكُ، يَعْنِي أَبَا عَاصِمٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا حَيْوَةُ بْنُ شُرَيْحٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي

(1)

يَزِيدُ بْنُ أَبِي

(1)

وفي نسخة: "حدّثنا".

ص: 457

حَبِيبٍ، عَنِ ابْنِ شِمَاسَةَ الْمَهْرِيِّ، قَالَ: حَضَرْنَا عَمْرَو بْنَ الْعَاص، وَهُوَ فِي سِيَاقَةِ الْمَوْت، فَبَكَى طَوِيلًا، وَحَوَّلَ وَجْهَهُ إِلَى الْجِدَار، فَجَعَلَ ابْنُهُ يَقُولُ: يَا أَبَتَاهُ، أَمَا بَشَّرَكَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِكَذَا؟، أَمَا بَشَّرَكَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِكَذَا؟، قَالَ: فَأَقْبَلَ بِوَجْهِه، فَقَالَ: إِنَّ أَفْضَلَ مَا نُعِدُّ، شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ الله، إِنِّي كُنْتُ عَلَى أَطْبَاقٍ ثَلَاثٍ: لَقَدْ رَأَيْتُني، وَمَا أَحَدٌ أَشَدَّ بُغْضًا لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنِّي، وَلَا أَحَبَّ إِلَيَّ أَنْ أَكُونَ، قَدِ اسْتَمْكَنْتُ مِنْهُ، فَقَتَلْتُهُ، فَلَوْ مِتُّ عَلَى تِلْكَ الْحَال، لَكُنْتُ مِنْ أَهْلِ النَّار، فَلَمَّا جَعَلَ اللهُ الْإِسْلَامَ فِي قَلْبِي، أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْتُ: ابْسُطْ يَمِينَكَ، فَلْأُبَايِعْكَ، فَبَسَطَ يَمِينَهُ، قَالَ: فَقَبَضْتُ يَدِي، قَالَ:"مَا لَكَ يَا عَمْرُو؟ "، قَالَ: قُلْتُ: أَرَدْتُ أَنْ أَشْتَرِطَ، قَالَ:"تَشْتَرِطُ بِمَاذَا؟ " قُلْتُ: أَنْ يُغْفَرَ لِي، قَالَ:"أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الْإِسْلَامَ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ، وَأَنَّ الْهِجْرَةَ تَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهَا، وَأَنَّ الْحَجَّ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ؟ "، وَمَا كَانَ أَحَدٌ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَا أَجَلَّ فِي عَيْنِي مِنْهُ، وَمَا كُنْتُ أُطيقُ أَنْ أَمْلَأَ عَيْنَيَّ مِنْهُ؛ إِجْلَالًا لَهُ، وَلَوْ سُئِلْتُ أَنْ أَصِفَهُ، مَا أَطَقْتُ؛ لِأَنِّي لَمْ أَكُنْ أَمْلَأُ عَيْنَيَّ مِنْهُ، وَلَوْ مِتُّ عَلَى تِلْكَ الْحَال، لَرَجَوْتُ أَنْ أَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّة، ثُمَّ وَلِينَا أَشْيَاءَ مَا أَدْرِي، مَا حَالِي فِيهَا؟ فَإِذَا أَنَا مِتُّ، فَلَا تَصْحَبْنِي نَائِحَةٌ، وَلَا نَارٌ، فَإِذَا دَفَنْتُمُونِي، فَشُنُّوا عَلَيَّ التُّرَابَ شَنَّا، ثُمَّ أَقِيمُوا حَوْلَ قَبْرِي، قَدْرَ مَا تُنْحَرُ جَزُورٌ، وَيُقْسَمُ لَحْمُهَا، حَتَّى أَسْتَأْنِسَ بِكُمْ، وَأَنْظُرَ مَاذَا أُرَاجِعُ بِهِ رُسُلَ رَبِّي؟).

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى الْعَنَزِيُّ) أبو موسى البصريّ المعروف بالزَّمِن، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 252)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.

[تنبيه]: قوله: "الْعَنَزِيّ" - بفتح العين المهملة، والنون -: نسبة إلى عَنَزَةَ بن أسد بن ربيعة بن نِزَار بن مَعَدّ بن عَدْنان، قاله في "لبّ اللباب"

(1)

.

2 -

(أَبُو مَعْنٍ الرَّقَاشِيُّ) هو: زيد بن يزيد الثَّقَفيّ البصريّ، ثقةٌ [11].

رَوَى عن أبي عامر العَقَديّ، وأبي أحمد الزُّبَيريّ، ومعاذ بن هشام،

(1)

"لبّ اللباب" 2/ 123.

ص: 458

ويزيد بن هارون، وعمر بن يونس اليمامي، وابن مهديّ، وخالد بن الحارث، ووهب بن جرير بن حازم، وأبي داود الطيالسيّ، وأبي عاصم، وغيرهم.

ورَوَى عنه مسلم، وحَرْبٌ الكِرْمانيّ، وأبو عبد الله الْجُذُوعي القاضي، وعبد الله بن محمد بن ياسين، والحسين بن إسحاق التستريّ، ومعاذ بن المثنى بن معاذ العنبريّ، قال مسلم: بصريّ ثقة.

تفرّد به المصنّف، وروى عنه في هذا الكتاب (15) حديثًا.

[تنبيه]: قوله: "الرَّقَاشِيّ": - بفتح الراء وتخفيف القاف، بعدها شين معجمة -: نسبة إلى امرأة اسمها رَقَاش بنت قيس بن ثعلبة، كثُر أولادها، فنُسبوا إليها، قاله السمعانيّ

(1)

.

3 -

(إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ) الْكَوْسج التميميّ، أبو يعقوب المروزيّ، ثقةٌ ثبتٌ [11](ت 251)(خ م ت س ق) تقدم في "الإيمان" 12/ 156.

4 -

(أَبُو عَاصِمٍ الضَّحَّاكُ) بن مخلد بن الضّحّاك بن مسلم الشيبانيّ النبيل البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [9](ت 212)(ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 129.

5 -

(حَيْوَةُ بْنُ شُرَيْحٍ)

(2)

بن صَفْوان بن مالك التُّجيبيّ، أبو زُرْعة المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ زاهدٌ [7].

رَوَى عن أبي هانئ، حُميد بن هانئ، وشُرَحبيل بن شَرِيك الْمَعَافريّ، وبكر بن عَمْرو، الْمَعَافريّ، وأبي يونس، مولى أبي هريرة، وربيعة بن يزيد الدمشقيّ، وأبي الأسود يتيم عروة، ويزيد بن أبي حبيب، ويزيد بن عبد الله بن الهاد، وجماعة.

ورَوَى عنه الليث، وابن لَهِيعة، ونافع بن يزيد، وابن وهب، وابن المبارك، وأبو عبد الرحمن المقرئ، وأبو عاصم، وغيرهم.

قال عبد الله بن أحمد: قيل لأبي: حيوة بن شُريح، وعمرو بن الحارث؟ فقال: جميعًا، كأنه سَوَّى بينهما، وقال حرب، عن أحمد: ثقة ثقة، وقال ابن معين: ثقة، وقال ابن يونس: كانت له عبادة، وفضل، وقال ابن أبي حاتم:

(1)

راجع: "الأنساب" 3/ 81 - 82، و"اللباب" 2/ 33.

(2)

"حَيْوَةُ" بفتح أوله، وسكون التحتانيّة، وفتح الواو، و"شُرَيح" بضم الشين المعجمة، مصغّرًا.

ص: 459

سمعت أبي، وسئل عن حيوة، ويحيى بن أيوب، وسعيد بن أبي أيوب، فقال: حيوة أعلى القوم، وهو ثقة، وأحبُّ إليَّ من المفضل بن فَضَالة، وقال ابن وهب: ما رأيت أحدًا أشدّ استخفافًا بعمله من حيوة، وكان يُعْرَف بالإجابة، وقال ابن المبارك: ما وُصِف لي أحدٌ، ورأيته إلا كانت رؤيته دون صفته، إلا حيوة، فإن رؤيته كانت أكبر من صفته، وقال يعقوب بن سفيان: ثبا المقرئ، ثنا حيوة بن شريح، وهو كِنْديّ، شريفٌ عدلٌ رَضِيٌّ، ثقةٌ، ووَثّقه العجليّ، ومسلمة، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: كان مستجاب الدعوة، يقال: إن الحصاة كانت تتحوَّل في يده تمرة بدعائه، وقال ابن وَضّاح: بلغني أن رجلًا كان يَطُوف، ويقول: اللهم اقض عني الدَّين، فرأى في المنام: إن كنت تريد وفاء الدين، فائت حيوة بن شُريح، يدعو لك، فأتى إلى الإسكندرية بعد العصر يوم الجمعة، قال: فأقمت، حتى صار ما حوله دنانير، فقال لي: اتّقِ الله، ولا تأخذ إلا قدر دَينك، فأخذت ثلاثمائة.

وقال ابن أبي حاتم في "المراسيل": كَتَب إليّ عبدُ الله بن أحمد، قال: سمعت أبي يقول: لم يَسمع حيوة من الزهريّ، ولا من بُكير بن الأشجّ، ولا من خالد بن أبي عمران.

تُوفي سنة (158)، وأَرَّخه الكلاباذيّ سنة (159)، وقال ابن حبّان مات سنة (158) أو (159)، وأَرَّخه ابن يونس نقلًا عن ابن بُكير سنة (158)، وقال ابنُ سعد: مات في آخر خلافة أبي جعفر، وكان ثقةً.

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (24) حديثًا.

6 -

(يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ) واسم أبيه سويد أبو رجاء المصريّ، ثقةٌ فقيهٌ، يرسل [5](ت 128)(ع) تقدم في "الإيمان" 16/ 168.

7 -

(ابْنُ شِمَاسَةَ الْمَهْرِيُّ) هو: عبد الرحمن بن شِمُاسة - بكسر المعجمة، وتخفيف الميم، بعد المهملة

(1)

- بن ذُؤيب بن أحور الْمَهْريّ - بفتح الميم، وسكون الهاء - أبو عمرو المصريّ، ثقة [3].

(1)

وقال النوويّ في "شرحه" 2/ 137: بفتح الشين المعجمة في أوله، وضمّها، ذكرهما صاحب "المطالع"، والميم مخفّفة، وآخره سين مهملة، ثم هاء. انتهى.

ص: 460

رَوَى عن عمرو بن العاص، وعبد الله بن عُمر، وعقبة بن عامر، وزيد بن ثابت، وعوف بن مالك، ومسلمة بن مُخَلَّد، وأبي بَصْرَة الغفاريّ، وأبي ذر الغفاريّ، وعائشة، وأبي الخير، مرثد اليزنيّ، وغيرهم.

رَوَى عنه كعب بن علقمة التَّنُوخيّ، ويزيد بن أبي حبيب، والحارث بن يعقوب، وإبراهيم بن نَشِيط الْوَعْلانيّ، وواهب بن عبد الله الْمَعَافريّ، وحَرْملة بن عمران التَّجِيبيّ، وهو آخر مَن حَدّث عنه.

قال العجليّ: مصريّ تابعيّ ثقة، وذكره ابن حبان في "الثقات".

وقال ابن أبي حاتم، عن أبيه: روايته عن عائشة مرسلةٌ، وقال اللالكائيّ: سَمِع منها، وذكره يعقوب بن سفيان في جملة الثقات، وقال ابن يونس في "مقدمة تاريخ مصر": وأهل النقل ينكرون أن يكون ابن شِماسة سَمِعَ من أبي ذَرّ رضي الله عنه.

قال يحيى بن بُكير: مات بعد المائة، وقال يونس: مات في أول خلافة يزيد بن عبد الملك.

أخرج له المصنّف، والأربعة، وله في هذا الكتاب سبعة أحاديث: هذا الحديث (121)، و (1414): "المؤمن أخو المؤمن، فلا يحلّ للمؤمن

"، و (1645): "كفارة النذر كفارة اليمين"، و (1828): "اللهم من ولي من أمر أمتي شيئًا

"، و (1919): "من علم الرمي، ثم تركه فليس منا

"، و (1924): "لا تزال عصابة من أمتي يقاتلون

"، و (2543): "إنكم ستفتحون أرضًا، يُذكر فيها القيراط

"، وأعاده بعده.

وقال في "تهذيب الكمال": له عند الترمذيّ حديث: "طُوبى للشام"، وعند ابن ماجه آخر في البيوع

(1)

.

وقال في "تهذيب التهذيب": علّق له البخاريّ حديثًا من روايته عن عقبة بن عامر في أوائل البيوع، فقال: وقال عقبة: لا يحلّ لامرئ بيع سِلْعة يَعْلَم بها داءً إلا أخبر به. ووصله ابن ماجه، وغيره. انتهى

(2)

.

(1)

راجع: "تهذيب الكمال" 17/ 172 - 174.

(2)

راجع: "تهذيب التهذيب" 2/ 516.

ص: 461

[تنبيه]: قوله: "الْمَهْريّ " - بفتح الميم، وسكون الهاء -: نسبة إلى مَهْرَة بن حَيْدان بن عمرو بن الحاف بن قُضاعة، قبيلة كبيرة

(1)

، والله تعالى أعلم.

8 -

(عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ) بن وائل بن هاشم بن سُعَيد - بالتصغير - بن سَهْم بن عمرو بن هُصَيص بن كعب بن لُؤَيّ القرشيّ السهميّ، أمير مصر، يُكنى: أبا عبد الله، وأبا محمد، أمّه النابغة من بني عَنَزَة - بفتح المهملة والنون -، أسلم قبل الفتح في صفر سنة ثمان، وقيل: بين الحديبية وخيبر، وكان يقول: أذكر الليلة التي وُلد فيها عمر بن الخطاب، وقال ذاخر الْمَعَافريّ: رأيت عمرًا على المنبر أدعج أبلج، قصير القامة. وذكر الزبير بن بكار، والواقديّ بسندين لهما أن إسلامه كان على يد النجاشيّ، وهو بأرض الحبشة.

وذكر الزبير بن بكار أن رجلًا قال لعمرو: ما أبطأ بك عن الإسلام، وأنت أنت في عقلك؟ قال: إنا كنا مع قوم، لهم علينا تقدُّم، وكانوا ممن يُواري حلومهم الخبال، فلما بُعث النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأنكروا عليه، فلُذْنا بهم، فلما ذهبوا، وصار الأمر إلينا، نظرنا وتدبرنا، فإذا حَقّ بَيِّنٌ، فوقع في قلبي الإسلام، فعَرَفت قريش ذلك مني من إبطائي عما كنت أُسرع فيه من عونهم عليه، فبعثوا إلى فَتًى منهم، فناظرني في ذلك، فقلت: أنشُدك الله ربَّك وربَّ من قبلك، ومن بعدك، أنحن أهدى أم فارس والروم؟ قال: نحن أهدى، قلت: فنحن أوسع عيشًا أم هم؟ قال: هم، قلت: فما ينفعنا فضلنا عليهم، إن لم يكن لنا فضل إلا في الدنيا، وهم أعظم منا فيها أمرًا في كل شيء؟ وقد وقع في نفسي أن الذي يقوله محمد من أن البعث بعد الموت؛ لِيُجزَى المحسنُ بإحسانه، والمسيء بإساءته حقّ، ولا خيرَ في التمادي في الباطل.

وأخرج البغويّ بسند جيّد عن عُمير بن إسحاق، أحد التابعين، قال: استأذن جعفر بن أبي طالب رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوجه إلى الحبشة، فأَذِنَ له. قال عُمير: فحدثني عمرو بن العاص، قال: لما رأيت مكانه قلت: والله لأستقلنّ لهذا ولأصحابه، فذكر قصتهم مع النجاشيّ، قال: فلقيت جعفرًا خاليًا، فأسلمت، قال: وبلغ ذلك أصحابي، فغَمُّوني، وسلبوني كل شيء،

(1)

راجع: "الأنساب" 5/ 417، و"اللباب" 3/ 275، و"لب اللباب" 2/ 283.

ص: 462

فذهبت إلى جعفر، فذهب معي إلى النجاشيّ، فرّدوا علي كل شيء أخذوه.

ولما أسلم كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يقربه، ويدنيه؛ لمعرفته وشجاعته، وولاه غَزَاة ذات السلاسل، وأمده بأبي بكر وعمر وأبي عبيدة بن الجراح، ثم استعمله على عُمَان، فمات وهو أميرها، ثم كان من أُمراء الأجناد في الجهاد بالشام، في زمن عمر، وهو الذي افتتح قِنِّسرين، وصالح أهل حَلَب، ومَنبِج، وأنطاكية، وولاه عمر فلسطين، أخرج ابن أبي خيثمة من طريق الليث، قال: نَظَر عُمَر إلى عَمْرو يمشي، فقال: ما ينبغي لأبي عبد الله أن يمشي على الأرض إلا أميرًا، وقال إبراهيم بن مهاجر، عن الشعبيّ، عن قَبيصة بن جابر: صحبت عمرو بن العاص، فما رأيت رجلًا أبين، أو قال: أنصع رأيًا، ولا أكرم جليسًا، ولا أشبه سريرة بعلانيته منه، وقال محمد بن سلام الْجُمَحيّ: كان عُمر إذا رأى الرجل يتلجلج في كلامه يقول: أشهد أن خالق هذا، وخالق عمرو بن العاص واحد.

وقال مجاهد، عن الشعبي: دُهاة العرب أربعة: معاوية، وعمرو، والمغيرة، وزياد، فأما معاوية فللحلم، وأما عمرو فللمعضلات، وأما المغيرة فللمبادهة، وأما زياد فللصغير والكبير.

وقد رَوَى عمرو عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أحاديث، ورَوَى عنه ولداه: عبد الله ومحمد، وقيس بن أبي حازم، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وأبو قيس مولى عمرو، وعبد الرحمن بن شِمَاسة، وأبو عثمان النَّهْديّ، وقَبيصة بن ذؤيب، وآخرون.

ومن مناقبه رضي الله عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أَمَّره كما تقدم.

وأخرج أحمد من حديث طلحة، أحدِ العشرة، رفعه:"عمرو بن العاص من صالحي قريش"، ورجال سنده ثقات، إلا أن فيه انقطاعًا بين ابن أبي مليكة وطلحة، وأخرجه البغويّ، وأبو يعلى من هذا الوجه، وزاد:"نعم أهل البيت، عبد الله، وأبو عبد الله، وأم عبد الله"، وأخرجه ابن سعد بسند رجاله ثقات إلى ابن أبي مليكة مرسلًا، لم يذكر طلحة، وزاد: يعني عبد الله بن عمرو بن العاص.

وأخرج أحمد بسند حسن، عن عمرو بن العاص، قال: بَعَث إليّ

ص: 463

النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال:"خُذ عليك ثيابك، وسلاحك، ثم ائتني"، فأتيته، فقال:"إني أريد أن أَبعثك على جيش، فَيُسَلِّمك الله، ويُغْنِمك، وأَرغب لك من المال رغبةً صالحة"، فقلت: يا رسول الله، ما أسلمتُ من أجل المال، بل أسلمت رغبةً في الإسلام، قال:"يا عمرو نِعِمّا بالمال الصالح المرءُ الصالحُ". وأخرج أحمد، والنسائيّ، بسند حسن، عن عمرو بن العاص رضي الله عنه، قال: فَزِعَ أهلُ المدينة فَزَعًا، فتفرقوا، فنظرت إلى سالم، مولى أبي حذيفة في المسجد، عليه سيف مختفيًا، ففعلت مثله، فخطب النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال:"ألا يكون فزعكم إلى الله ورسوله؟ ألا فعلتم كما فعل هذان الرجلان المؤمنان؟ ".

وولي عمرو إِمْرَة مصر في زمن عمر بن الخطاب، وهو الذي افتتحها، وأبقاه عثمان قليلًا، ثم عزله، وَوَئَى عبد الله بن أبي سرح، وكان أخا عثمان من الرضاعة، فآل أمر عثمان بسبب ذلك إلى ما اشتَهَرَ، ثم لم يزل عمرو بغير إِمْرة إلى أن كانت الفتنة بين علي ومعاوية، فَلَحِقَ بمعاوية، فكان معه يُدَبِّر أمره في الحرب، إلى أن جَرَى أمرُ الْحَكَمين، ثم سار في جيش جهزه معاوية إلى مصر، فوَلِيَها لمعاوية من صفر سنة ثمان وثلاثين إلى أن مات سنة ثلاث وأربعين على الصحيح الذي جزم به ابن يونس وغيره من المتقنين، وقيل: قبلها بسنة، وقيل: بعدها، ثم اختلفوا، فقيل: بست، وقيل: بثمان، وقيل: بأكثر من ذلك، قال يحيى بن بكير: عاش نحو تسعين سنة، وذَكَر ابن الْبَرْقيّ، عن يحيى بن بكير، عن الليث: تُوُفي وهو ابن تسعين سنة، وقال العجليّ: عاش تسعًا وتسعين سنة

(1)

.

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب خمسة أحاديث فقط

(2)

: هذا (121)، وحديث (215): "ألا إن آل أبي يعني فلانًا

"، و (1096): "فَصْلُ ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب

"، و (1716): "إذا حَكَم الحاكم،

(1)

راجع: "سير أعلام النبلاء" 3/ 54 - 77، و"الإصابة" 4/ 537 - 541.

(2)

قال الحافظ الذهبيّ في "السير": له أحاديث ليست كثيرة، تبلغ بالمكرّر نحو الأربعين، اتّفق البخاريّ ومسلم على ثلاثة أحاديث منها، وانفرد البخاريّ بحديث، ومسلم بحديثين. انتهى. "سير أعلام النبلاء" 3/ 55.

ص: 464

فاجتهد

"، و (2384): "عائشةُ، قلت: من الرجال؟ قال: أبوها

"، والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سداسيّات المصنّف، وله فيه ثلاثة من الشيوخ، قرن بينهم.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى أبي معن، فمن أفراده، وإسحاق، فما أخرج له أبو داود، وابن شِمَاسة، فما أخرج له البخاريّ.

3 -

(ومنها): أنه مسلسل بالمصريين من حيوة، والباقون بصريّون، إلا إسحاق، فمروزيّ.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ.

5 -

(ومنها): أن فيه محمد بن المثنّى أحد مشايخ الأئمة الستة بلا واسطة، وقد سبق غير مرّة.

6 -

(ومنها): أن فيه قوله: "واللفظ لابن المثنّى، حدثنا الضحّاك، يعني: أبا عاصم"، وبيانه أن شيوخه الثلاثة اشتركوا في الرواية عن أبي عاصم الضحاك، وقد صرّح منهم ابن المثنى بالتحديث عنه، فقال:"حدّثنا الضحّاك"، ولما أراد المصنّف توضيحه بكنيته زاد كلمة "يعني"، فصلًا بين ما رواه، وبين ما زاده، وقد سبق بيان ذلك غير مرّة.

7 -

(ومنها): أن صحابيّه من مشاهير الصحابة رضي الله عنهم، أثنى عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقال:"أسلم الناس، وآمن عمرو بن العاص"، رواه أحمد، والترمذيّ بسند حسن

(1)

، وقد أمّره صلى الله عليه وسلم على ذات السلاسل، وفيهم أبو بكر، وعمر رضي الله عنهم، فهو ذو مناقب جمة رضي الله عنه.

8 -

(ومنها): أن كلًّا من الصحابيّ، وابن شماسة، وحيوة هذا أول محلّ

(1)

رواه أحمد في "المسند" 4/ 155، والترمذيّ في "الجامع"(3844) وفي سنده ابن لهيعة، لكنه من رواية عبد الله بن يزيد المقرئ عنه، وهي صحيحة؛ لكونه رواها عنه قبل احتراق كتبه.

ص: 465

ذكرهم في هذا الكتاب، وقد عرفت عدد ما رواه لهم المصنّف فيه آنفًا، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَن) عبد الرحمن (بْنِ شِمَاسَةَ) قال القرطبيّ: رويناه بفتح الشين وضمّها، وأبوه من بني مَهْرَة قبيلة (الْمَهْرِيِّ) - بفتح، فسكون - تقدّم أنه نسبة إلى قبيلة من قُضاعة، أنه (قَالَ: حَضَرْنَا عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ) رضي الله عنه (وَهُوَ فِي سِيَاقَةِ الْمَوْتِ) تقدّم أن موته كانت سنة (43)، وهو ابن (90) سنة.

و"السياق": بكسر السين، أي حال حضور الموت، ونزع الروح، قال المجد: ساق المريضُ سَوْقًا، وسِيَاقًا: شَرَع في نزع الروح

(1)

.

وأصل السياق سِوَاق، فقُلبت الواو ياءً؛ لكسرة السين، أفاده الطيبيّ

(2)

.

(فَبَكَى طَوِيلًا) أي خوفًا من الله تعالى، وتذكّر أهل يوم القيامة، مع ما له من شرف صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبلائه في الإسلام بلاء حسنًا، لكن حال عباد الله الصالحين دائمًا شدّة الخوف، والبكاء على التقصير مهما بلغت عبادته وطاعته (وَحَوَّلَ وَجْهَهُ إِلَى الْجِدَارِ) أي ابتعادًا من القوم الحاضرين؛ لئلا يشغلوه عما هو فيه من مناجاة ربّه، ومطالعة الآخرة (فَجَعَلَ ابْنُهُ) عبد الله بن عمرو رضي الله عنه، وفي رواية الإمام أحمد في "مسنده"(4/ 199) من طريق ابن المبارك، عن ابن لهيعة: فقال له ابنه عبد الله: لِمَ تبكي، أجَزَعًا على الموت؟، فقال: لا، ولكن مما بعدُ

(يَقُولُ: يَا أَبَتَاهُ): أي "يا أبي"، وفي نسخة:"يقول له: يا أبتاه ما يُبكيك؟ ".

[تنبيه]: أصل "يا أبتي"، يا أبي، والقاعدة أن ما أضيف إلى ياء المتكلّم، وكان صحيح الآخر جاز فيه خمسة أوجه، جمعها ابن مالك في "الخلاصة" بقوله:

وَاجْعَلْ مُنَادًى صَحَّ إِنْ يُضَفْ لِيَا

كَـ"عَبْدِ""عَبْدِي""عَبْدَ""عَبْدِيَا"

(1)

"القاموس المحيط" ص 806.

(2)

"الكاشف عن حقائق السنن" 4/ 1413.

ص: 466

ويُزاد وجه سادس، وهو ضمّ الاسم بعد حذف الياء، كالمفرد اكتفاءً بنيّة الإضافة، وذلك فيما يكثر نداؤه مضافًا للياء، كالربّ، والأبوين، والقوم، قرئ:{رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ} [يوسف: 33]، وحُكي "يا ربُّ اغفر لي"، و"يا أُمُّ لا تفعلي".

ويزاد على هذه الستة إذا كان المنادى "أبًا" و"أمًّا"، أربع لغات:

يقال: "يا أبتِ" و"يا أمت"، بفتح التاء، وكسرها، وإليه أشار ابن مالك بقوله:

وَفِي النِّدَا "أَبَتَ""أُمَّتَ" عَرَضْ

وَاكْسِرْ أَوِ افْتَحْ وَمِنَ الْيَا التَّا عِوَضْ

فصارت اللغات مع الستة الماضية ثمانية، ويزاد تاسع، وهو ضم التاء، نُقل عن الخليل أنه سَمِعَ من العرب من يقول: يا أبتُ، ويا أُمّتُ. وعاشرٌ، وهو إلحاق ألف الندبة، فيقال: يا أبتا، ويا أمتا، وهذه تلحقها هاء السكت، فيقال: يا أبتاه، ويا أمتاه، فجملة اللغات في نداء الأب والأم عشر لغات.

ولا يجوز إثبات الياء، فلا تقول: يا أبتي، ويا أمّتي، إلا في الضرورة، كقوله [من الطويل]:

أَيَا أَبَتِي لَا زِلْتَ فِينَا فَإِنَّمَا

لَنَا أَمَلٌ فِي الْعَيْشِ مَا دُمْتَ عَائِشَا

والهاء هي هاء السكت تزاد وقفًا ساكنة، كما قال في "الخلاصة":

وَوَاقِفًا زِدْ هَاءَ سَكْتٍ إِنْ تُرِدْ

وَإِنْ تَشَا فَالْمَدَّ وَالْهَا لَا تَزِدْ

ولا تزاد في الوصل إلا في الضرورة، فتزاد مضمومة، ومكسورة، وأجاز الفرّاء زيادتها في الوصل بالوجهين

(1)

.

وعلى قول الفرّاء: يجوز في هذا الحديث "يا أبتاه" بضمّ التاء كما هو الشائع على الألسنة، وكذا يجوز كسرها، ولكن الأولى إسكانها، كما هو رأي جمهور النحاة، فتنبّه لهذه الدقيقة، والله تعالى أعلم بالصواب.

(أَمَا) بفتح الهمزة، وتخفيف الميم، أداة استفتاح بمنزلة "ألا"، ويحتمل أن تكون بمعنى "حَقًّا"، أو "أحقًّا"، وصوّب ابن هشام كونها كلمتين، الهمزة

(1)

راجع: "حاشية الصبان على الأشموني" 3/ 158 - 171، و"حاشية الخضري على ابن عقيل" 2/ 13.

ص: 467

للاستفهام، و"ما" اسم بمعنى حقّ، وموضع "ما" نصب على الظرفيّة، فالمعنى "أحقًّا"

(1)

.

فالمعنى هنا: حقًّا بشّرك رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو أحقًّا بشّرك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟، والاستفهام للتقرير.

(بَشَّرَكَ) بتشديد الشين المعجمة، ويجوز تخفيفها، قال الفيّوميّ: وبَشَرَ يتعدّى بالحركة، فيقال: بَشَرته أَبْشُرُهُ بَشْرًا، من باب قَتَلَ في لغة تهامة، وما والاها، والاسم منه بُشْرٌ، بضم الباء، والتعدية بالتثقيل لغة عامّة العرب، وقرأ السبعة باللغتين، واسم الفاعل من المخفّف بَشِيرٌ. انتهى

(2)

. (رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِكَذَا؟، أَمَا بَشَّرَكَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِكَذَا؟) كرّره ليزداد استبشاره، وتستأنس نفسه، فيزول حزنه، وفي رواية أحمد المذكورة: "فقال له: قد كنتَ على خير، فجعل يُذكّره صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفتوحه الشام، فقال له عمرو: وتركتَ أفضل من ذلك كلّه، شهادة أن لا إله إلا الله

".

(قَالَ) ابن شِماسة (فَأَقْبَلَ بوَجْهِهِ) أي توجّه عمرو رضي الله عنه إليهم بعد أن حوّل وجهه إلى الجدار (فَقَالَ: إِنَّ أَفْضَلَ مَا نُعِدُّ) بضمّ أوله، وكسر ثانيه، من الإعداد: أي إن أفضل العمل الذي نهيّئه للقاء الله تعالى (شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ) أي الإيمان بالله تعالى، وتوحيده، وتصديق رسوله صلى الله عليه وسلم، والنطق بذلك؛ لأنه أفضل الأعمال؛ فقد تقدّم أن النبيّ صلى الله عليه وسلم سئل: أيّ العمل أفضل؟ قال: "إيمان بالله ورسوله"، وليكون خاتمةَ أمره، وآخرَ كلامه قولُ:"لا إله إلا الله"، فقد أخرج أحمد، وأبو داود في "سننه" بإسناد حسن، عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كان آخر كلامه، لا إله إلا الله، دخل الجنة"

(3)

.

(إِنِّي كُنْتُ عَلَى أَطْبَاقٍ ثَلَاثٍ) أي على أحوال، ومنازل، ومنه قوله تعالى:{لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ (19)} [الانشقاق: 19] أي حالًا بعد حال، وأنّث ثلاثًا مع

(1)

راجع: "مغني اللبيب" 1/ 55.

(2)

"المصباح المنير" 1/ 49.

(3)

حديث صحيح، أخرجه أحمد في "مسنده" رقم (21529 و 21622)، وأبو داود في "سننه" رقم (3116).

ص: 468

كون الطَّبَق مذكّرًا؛ نظرًا لكونه بمعنى الحال، وهو يذكّر ويؤنّث، أو لكون المعدود مقدّمًا؛ فقد سبق أن قلنا: إن قاعدة تذكير العدد وتأنيثه، إنما تجب إذا وقع المعدود تمييزًا، وأما إذا تقدّم، كما هنا، أو حُذف، كحديث:"من صام رمضان، وأتبعه ستًّا من شوّال"

(1)

، جاز فيه الأمران، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

ثم أشار إلى الطَّبَق الأوّل من الأطباق الثلاث بقوله:

(لَقَدْ رَأَيْتُنِي) أي رأيت نفسي، وقد تقدّم الكلام على أن من خواصّ أفعال القلوب جواز كون فاعلها ومفعولها ضميرين متّصلين لمسمّى واحد، كـ"ظننتني"، و"رأيتني" مستوفًى، فلا تَنْسَ.

و"رأى" هنا بصريّة، وهي ملحقة بأفعال القلوب في الحكم المذكور

(2)

.

وفي رواية أحمد المذكورة: "إني كنت على ثلاثة أطباق، ليس فيها طَبَقٌ إلا قد عرفتُ فيه نفسي، كنت أول شيء كافرًا، فكنت أشدّ الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم

".

(وَمَا) الواو حالية، و"ما" نافية حجازيّة، تعمل عمل "ليس"، كما قال في "الخلاصة":

عَمَلَ "لَيْسَ" أُعْمِلَتْ "مَا" دُونَ "إِنْ"

مَعَ بَقَا النَّفْيِ وَتَرْتِيبٍ زُكِنْ

وقال الحريريّ في "ملحته":

وَ"مَا" الَّتِي تَنْفِي كَـ"لَيْسَ" النَّاصِبَهْ

فِي قَوْلِ سُكَّانِ الْحِجَازِ قَاطِبَهْ

وقوله: (أَحَدٌ) اسمها و (أَشَدَّ) خبرها، و (بُغْضًا) منصوب على التمييز (لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنِّي) الجارّ متعلّق بـ "بغض"، والثاني بـ "أشدّ"، ويحتمل أن تكون "ما" تميميّة، لا تعمل، فيكون قوله:"أحدٌ أشدُّ" مرفوعًا على الابتداء والخبر.

والمعنى: أنه لا يوجد أحد أشدّ بغضًا له صلى الله عليه وسلم من عمرو بن العاص قبل أن يُسلم.

(وَلَا أَحَبَّ) بالنصب عطفًا على "أشدّ"، ويحتمل الرفع على ما سبق آنفًا

(1)

سيأتي للمصنّف في "كتاب الصيام" برقم (1164).

(2)

راجع: "حاشية الخضري على ابن عقيل" 1/ 221.

ص: 469

(إِلَيَّ) متعلّق بـ "أحبّ"(أَنْ) مصدريّةٌ (أَكُونَ) في تأويل المصدر مجرور بـ "من" مقدّرةً، أي من كوني (قَدِ اسْتَمْكَنْتُ مِنْهُ) أي قدرت عليه، يقال: استمكن منه: قَدَرَ عليه

(1)

. (فَقَتَلْتُه) صلى الله عليه وسلم، والمعنى أن أحبّ شيء إلى عمرو في تلك الحالة أن يتمكن من النبيّ صلى الله عليه وسلم، فيقتله؛ لشدّة بغضه له، قال عمرو رضي الله عنه (فَلَوْ مُتُّ) بضم الميم، وكسرها، يقال: مات الإنسان يموتُ موتًا، من باب قال، ومَاتَ يَمَاتُ موتًا، من باب خاف، وفيه لغة ثالثة: مِتّ بكسر الميم تموتُ، وهي من باب تداخل اللغتين

(2)

. (عَلَى تِلْكَ الْحَالِ) التي ذكرها من شدّة البغض، وتمنّي قتله صلى الله عليه وسلم.

[تنبيه]: الأفصح في ضمير "الحال" ووصفه التأنيث، ولذا قال هنا:"على تلك الحال"، فأنّث "تلك"، وفي لفظه التذكيرُ بأن يجردّ من التاء، فيقال: حالٌ حسنةٌ، ومنه قول الشاعر:

إِذَا أَعْجَبَتْكَ الدَّهْرَ حَالٌ مِنِ امْرِئٍ

وألفها بدل من الواو؛ لجمعها على أحوال، وتصغيرها على حُويلة، مشتقّة من التحوّل، وهو التنقّل

(3)

.

(لَكُنْتُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ) لكونه كافرًا بالله تعالى، ورسوله صلى الله عليه وسلم، {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (39)} [البقرة: 39].

ثم أشار إلى الطبق الثاني من أطباقه الثلاث بقوله:

(فَلَمَّا جَعَلَ اللهُ الْإِسْلَامَ فِي قَلْبِي) عبّر بالجعل إشارة إلى أنه تمكّن من قلبه، واطمأنت به نفسه (أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْتُ: ابْسُطْ يَمِينَكَ) فيه أن السنّة في المبايعة أن تكون باليد اليمنى، (فَلْأُبَايِعْكَ) قال القرطبيّ: بكسر اللام، وإسكان العين على الأمر: أي أمر المتكلّم لنفسه، والفاء جواب لما تضمّنه الأمر الذي هو "ابسط" من الشرط، ويصحّ أن تكون اللام لامَ "كَيْ"، ويُنصب "أُبايعَكَ"، وتكون اللام سببيّةً. انتهى

(4)

.

(1)

راجع: "المصباح" 2/ 577.

(2)

راجع: "المصباح المنير" 2/ 583.

(3)

راجع: "حاشية الخضري على شرح ابن عقيل" 1/ 314.

(4)

"المفهم" 1/ 328.

ص: 470

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قوله: بكسر اللام، ويجوز تسكينها؛ لأن لام الأمر يجوز تسكينها، بل هو الأكثر في الاستعمال بعد الواو، والفاء، و"ثُمّ"، كقوله تعالى:{ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29)} [الحج: 29]، وقوله:{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} الآية [النور: 63].

و (اعلم): أن جزم لام الأمر لفعل المتكلّم جائز، مع قلّته، كما قوله تعالى:{وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ} الآية [العنكبوت: 12]، وكحديث "الصحيحين": "قوموا فلأصلِّ لكم

" الحديث.

وأما قوله: "ويصحّ أن تكون اللام لام "كي"

إلخ"، ففيه بعدٌ لا يخفى، فتأمله، والله تعالى أعلم.

(فَبَسَطَ) صلى الله عليه وسلم (يَمِينَهُ، قَالَ) عمرو رضي الله عنه (فَقَبَضْتُ يَدِي) لإرادة إدخال شرط في المبايعة (قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("مَا لَكَ يَا عَمْرُو؟ ") أي أيُّ شيء بدا لك في قبض يدك بعد البسط؟ (قَالَ) عمرو (قُلْتُ: أَرَدْتُ أَنْ أَشْتَرِطَ، قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("تَشْتَرِطُ بِمَاذَا؟ ") قال النوويّ: هكذا ضبطناه "بما" بإثبات الباء، فيجوز أن تكون زائدة،؛ للتوكيد، كما في نظائرها، ويجوز أن تكون دخلت على معنى "تشترط"، وهو "تحتاط": أي تحتاط بماذا؟. انتهى

(1)

.

وقال الأبيّ بعد نقل كلام النوويّ هذا: قلت: زيادتها في غير خبر "ما"، و"ليس"، وفاعل "كفَى"، ومفعوله، و"أَفْعِل به" ضرورة عند البصريين، فالتضمين أقرب، وإن كان فيه خلاف بين الأندلسيين، وعلى أنها زائدة فـ "ما" مفعوله، وصحّ ذلك؛ لأن الاستفهام إذا قُصد به الاستثبات صحّ أن يَعْمَل فيه ما قبله. انتهى

(2)

.

(قُلْتُ: أَنْ يُغْفَرَ لِي) أي أشترط أن يغفر الله عز وجل ذنوبي التي ارتكبتها قبل هذا (قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("أَمَا) أداة استفتاح وتنبيه، كـ"ألا"(عَلِمْتَ أَنَّ الْإِسْلَامَ يَهْدِمُ) بكسر الدال، يقال: هَدَمتُ البناءَ هَدْمًا، من باب ضرب: إذا أسقطته، فانهدم، ثمّ استُعير في جميع الأشياء، فقيل: هَدَمتُ ما أبرمه من الأمر، ونحوه، قاله

(1)

"شرح النوويّ" 2/ 137 - 138.

(2)

"شرح الأبيّ" 1/ 229 - 230.

ص: 471

الفيّوميّ

(1)

. (مَا كَانَ قَبْلَهُ) موصولة مفعول به لـ"يَهْدِمُ".

والمعنى: أنه يُسقطه، ويمحو أثره.

قال القاضي عياضٌ: معنى "ما كان قبله" أي من أعمال الشرك؛ إذ عنها طلب عمرو الغفران، ثم إن مقتضى عُموم اللفظ يأتي على الذنوب، لا سيّما مع ذكر الحجّ، فقد يكون ذكره الهجرةَ كنايةً عن الإسلام، فَيجُبُّ ما قبله من الكفر وأعماله، وهي مسألة عمرو، وذَكَر الحجّ ليعلمه أيضًا أن الحسنات يُذهبن السيّئات، كما قال تعالى:{وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114]. انتهى

(2)

.

قال الجامع: قول القاضي: "فيكون ذكره الهجرة كناية

إلخ" الأولى حمل الهجرة على الهجرة المعروفة، وأنها تهدم السيّئات، فلا داعي لما قاله، فتأمّل، والله تعالى أعلم.

(وَأَنَّ الْهِجْرَةَ) بكسر، فسكون: هي في الأصل الاسم من الهَجْر: ضدّ الوصل، وقد هجَرَ يَهجُر هَجْرًا، من باب نصر، ثم غلب على الخروج من أرض إلى أرض، وترك الأولى للثانية، يقال منه: هاجر مهاجرة، قاله ابن الأثير

(3)

.

وقال الفيّوميّ: "الْهِجْرة" بالكسر: مفارقة بلد إلى غيره، فإن كانت قُربةً لله فهي الهِجْرة الشرعيّة، وهي اسم من هاجر مُهاجرةً. انتهى

(4)

.

(تَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلِهَا) أي من الذنوب (وَأَنَّ الْحَجَّ) تقدّم أنه بفتح الحاء، وكسرها، فالفتح مصدر حَجّ، من باب نصر: إذا قَصَدَ، ثم قُصِرَ استعماله في الشرع على قصد الكعبة للحج، أو العمرة، والكسر اسم منه (يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ؟) قال القرطبيّ: الهدم هنا استعارة، وتوسّعٌ، يعني به: الإذهابَ والإزالةَ؛ لأن الجدار إذا انهدم، فقد زال وضعه، وذهب وجوده، وقد عبّر عنه في الرواية الأخرى بالْجَبّ، فقال:"يَجُبُّ": أي يقطع، ومنه المجبوب، وهو المقطوع ذَكره، ومعنى العبارتين واحد، والمقصود: أن هذه الأعمال الثلاثة

(1)

"المصباح المنير" 2/ 636.

(2)

"إكمال المعلم" 1/ 498.

(3)

" النهاية" 5/ 244 بزيادة.

(4)

"المصباح" 2/ 634.

ص: 472

تُسقط الذنوب التي تقدّمتها كلَّها، صغيرها وكبيرها، فإن الألفاظ عامّة، خرجت على سؤال خاصّ، فإن عمرًا إنما سأل أن تُغفَر له ذنوبه السابقة بالإسلام، فأجيب على ذلك، فالذنوب داخلة في تلك الألفاظ العامّة قطعًا، وهي بحكم عمومها صالحة لتناول الحقوق الشرعيّة، والحقوق الآدميّة، وقد ثبت ذلك في حقّ الكافر الحربيّ إذا أسلم، فإنه لا يطالب بشيء من تلك الحقوق، ولو قَتَلَ، وأَخَذَ الأموال لم يُقتصّ منه بالإجماع، ولو خَرجت الأموال من تحت يده لم يُطالَب بشيء منها، ولو أسلم الحربيّ، وبيده مال مسلم: عبيد، أو عُروض، أو عينٌ، فمذهب مالك: أنه لا يجب عليه ردّ شيء من ذلك؛ تمسّكًا بعموم هذا الحديث، وبأن للكفّار شبه ملك فيما حازوه من أموال المسلمين وغيرهم؛ لأن الله تعالى قد نسب لهم أموالًا وأولادًا، فقال تعالى:{فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا} [التوبة: 55].

وذهب الشافعيّ إلى أن ذلك لا يحلّ لهم، وأنه يجب عليهم ردّها إلى من كان يملكها من المسلمين، وأنهم كالْغُصّاب، وهذا يُبعده أنهم لو استهلكوا ذلك في حال كفرهم، ثم أسلموا، لم يضمنوا بالإجماع، على ما حكاه أبو محمد عبد الوهّاب، فأما أسر المسلمين الأحرار، فيجب عليهم رفع أيديهم عنهم؛ لأن الحرّ لا يُملَكُ، وأما من أسلم من أهل الذمّة، فلا يُسقط عنه الإسلام حقًّا وجب عليه لأحد من مال، أو دم، أو غيرهما؛ لأن أحكام الإسلام جاريةٌ عليهم.

قال: وأما الهجرة، والحجّ، فلا خلاف في أنهما لا يُسقطان إلا الذنوب والآثام السابقة، وهل يُسقطان الكبائر، أو الصغائر فقط؟ موضع نظر، سيأتي تحقيقه في "كتاب الطهارة" - إن شاء الله تعالى -

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن ما ذهب إليه الإمام مالك من عموم ظاهر هذا الحديث لحقوق الله سبحانه وتعالى، ولحقوق الآدميين، فتسقط كلها عن الكافر إذا أسلم هو الأرجح؛ عملًا بظاهر العموم، والله تعالى أعلم.

ثم أشار إلى الطّبَقِ الثالث، فقال:

(1)

"المفهم" 1/ 329 - 330.

ص: 473

(وَمَا) نافية (كَانَ أَحَدٌ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَا أَجَلَّ فِي عَيْنِي مِنْهُ) أي لامتلاء قلبه بالإيمان، (وَمَا) نافية أيضًا (كُنْتُ أُطِيقُ) بضم أوله، من الإطاقة (أَنْ أَمْلَأَ عَيْنَيَّ) بتشديد الياء على التثنية (مِنْهُ؛ إِجْلَالًا لَهُ) أي تعظيمًا لقدره صلى الله عليه وسلم (وَلَوْ سُئِلْتُ أَنْ أَصِفَهُ) صلى الله عليه وسلم (مَا أَطَقْتُ) أي ما استطعت وصفه (لِأَنِّي لَمْ أَكُنْ أَمْلَأُ عَيْنَيَّ) بتشديد الياء على التثنية أيضًا (مِنْهُ) أي من النظر إليه صلى الله عليه وسلم.

وفي رواية أحمد المذكورة: "فما ملأت عيني من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا راجعته فيما أريد حتى لحق بالله عز وجل حياءً منه، فلو مُتّ يومئذ، قال الناس: هنيئًا لعمرو، أسلم، وكان على خير، فمات، فرُجِي له الجنة

".

(وَلَوْ مُتُّ) تقدّم أنه بضم الميم، وكسرها (عَلَى تِلْكَ الْحَال، لَرَجَوْتُ أَنْ كُونَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ) أي لأن من مات على خير عمله يدخل الجنة، بمقتضى الوعد السابق، قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (107)} [الكهف: 107]، وقال صلى الله عليه وسلم فيما سبق للمصنّف من حديث عثمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من مات، وهو يعلم أنه لا إله إلا الله، دخل الجنة".

(ثُمَّ وَلِينَا) بفتح الواو، وكسر اللام مخفّفةً، من باب وَرِثَ يَرِثُ، يقال: ولي الأمرَ: إذا قام به، والمراد أنه تولّى (أَشْيَاءَ) أي لأنه كان واليًا على مصر، كما تقدّم في ترجمته، فقد افتتحها في خلافة عمر رضي الله عنه، وولي إمرتها عشر سنين، وثلاثة أشهر، أربعًا من قبل عمر، وأربعة من قبل عثمان، وسنتين وثلاثة أشهر من قبل معاوية رضي الله عنهم، واشترك مع معاوية في حرب عليّ رضي الله عنهم. (مَا) نافية (أَدْرِي، مَا) استفهاميّة، مبتدأ خبره قوله:(حَالِي فِيهَا؟) والجملة مفعول "أدري" معلّق عنها العامل: أي لا أعلم أيُّ شيء حالي في تلك الأشياء، هل عدلت فيها، فأُثاب، أو عدلت عنها، فأعاقب؟.

وفي رواية أحمد المذكورة: "ثم تَلَبَّستُ بعد ذلك بالسلطان وأشياء، فلا أدري: عليّ، أم بي؟ ".

(فَإِذَا أَنَا مِتُّ، فَلَا تَصْحَبْنِي) بفتح أوله، وثالثه، من باب تَعِبَ (نَائِحَةٌ) أي امرأة صائحة بالبكاء، ونادبة بالنداء للميت، فإنه يؤذي الميت والحيّ، ويَشغَل المشيِّع عن ذكر الموت، وفناء الدنيا، والفكر في مصيرهم في الآخرة (وَلَا نَارٌ)

ص: 474

أي للمباهاة والرياء، كما كان عادة للجاهليّة، ولأنه من التفاؤل القبيح

(1)

.

وقال القرطبيّ: إنما وصّى باجتناب هذين الأمرين؛ لأنهما من عمل الجاهليّة، ولنهي النبيّ صلى الله عليه وسلم عن ذلك. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الظاهر أن قول عمرو رضي الله عنه: "فإذا أنا متّ

" إلى آخر كلامه إنما قاله مما سمعه من النبيّ صلى الله عليه وسلم، فيكون له حكم الرفع، ويحتمل أن يكون اجتهادًا منه رضي الله عنه، ومهما كان الأمر فإن له أدلةً أخرى من النصوص المرفوعة تؤيّده، سيأتي بيانها في "كتاب الجنائز" - إن شاء الله تعالى -.

(فَإِذَا دَفَنْتُمُونِي) أي أردتم دفني (فَشُنُّوا عَلَيَّ التُّرَابَ شَنًّا) أي صُبّوه صبًّا بسهولة، قال النوويّ: ضبطناه بالسين المهملة وبالمعجمة، وكذا قال القاضي: إنه بالمعجمة والمهملة، قال: وهو الصبّ، وقيل: بالمهملة: الصبّ في سُهُولة، وبالمعجمة: التفريق. انتهى

(3)

.

وقال القرطبيّ: رُوي هذا الحديث بالسين المهملة والمعجمة، فقيل: هما بمعنى واحد، وهو الصبّ، وقيل: هو بالمهملة: الصبّ في سُهولة، وبالمعجمة: صبّ في تفريق، وهذه سنّةٌ في صبّ التراب على الميت في القبر، قاله عياض، وقد كَرِه مالك في "الْعُتبيّة"

(4)

الترصيص على القبر بالحجارة والطوب. انتهى

(5)

.

وقال الطيبيّ: معنى "شُنُّوا عليّ التراب": أي ضَعُوه وَضْعًا سَهْلًا

(6)

.

(ثُمَّ أَقِيمُوا حَوْلَ قَبْرِي، قَدْرَ مَا تُنْحَرُ) بالبناء للمفعول، يقال: نَحَرَ البعيرَ، من باب مَنَعَ: إذا طعنه حيث يبدو الْحُلْقُومُ على الصدر قاله المجد

(7)

. (جَزُورٌ)

(1)

راجع: "مرقاة المفاتيح" 4/ 196.

(2)

"المفهم" 1/ 330.

(3)

"شرح النوويّ" 2/ 138.

(4)

"العتبية" مسائل في مذهب الإمام مالك، منسوبة إلى مصنّفها محمد بن أحمد العُتبيّ القرطبيّ المتوفى سنة (254 هـ).

(5)

"المفهم" 1/ 330.

(6)

"الكاشف عن حقائق السنن" 4/ 1413.

(7)

"القاموس المحيط" ص 432 - 433.

ص: 475

بفتح الجيم، وضمّ الزاي: قال ابن الأثير: هي: البعير ذكرًا كان أو أنثى، إلا أن اللفظة مؤنّثةٌ، تقول: هذه الجَزورُ، وإن أردت ذكرًا، والجمع جُزُرٌ، وجزائر. انتهى

(1)

.

وقال المجد: الْجَزُور: البعير، أو خاصّ بالناقة. انتهى

(2)

.

وقال الفيّوميّ: الْجَزُورُ من الإبل خاصّة يقع على الذكر والأنثى، والجمع جُزُرٌ، مثل رَسُولٍ ورُسُلٌ، ويُجمَعُ أيضًا على جُزُرَات، ثم على جزائر، ولفظ الْجَزور أنثى، يقال: رَعَتِ الْجَزُورُ، قاله ابن الأنباريّ، وزاد الصّغَانيّ: وقيل: الْجَزورُ: الناقة التي تُنْحَرُ، وجَزَرتُ الْجَزُور وغيرها، من باب قَتَلَ: نَحَرتُها، والفاعل جَزّارٌ، والْحِرْفَةُ الْجِزَارةُ بالكسر. انتهى

(3)

.

وفي "الإكمال": الْجَزور من الإبل، والْجَزْرة من غيرها، وفي "كتاب العين": الْجَزْرَةُ: من الضأن والمعز خاصّة. انتهى

(4)

.

وفي رواية أحمد المذكورة: "فإذا متُّ فلا تبكينّ عليّ، ولا تُتبعني مادحًا، ولا نارًا، وشُدُّوا عليّ إزاري، فإني مخاصَمٌ، وسُنُّوا عليَّ التراب سَنًّا، فإن جنبي الأيمن ليس بأحق بالتراب من جنبي الأيسر، ولا تَجعلنّ في قبري خشبةً ولا حَجَرًا، فإذا واريتموني، فاقعدوا عندي قدرَ نحر جزور وتقطيعها، أستأنس بكم".

(وَيُقْسَمُ لَحْمُهَا) ببناء الفعل للمفعول أيضًا (حَتَّى أَسْتَأْنِسَ بِكُمْ) أي لأجل أن أجد أُنسًا بسبب قربكم منّي (وَأَنْظُرَ مَاذَا أُرَاجِعُ بِهِ رُسُلَ رَبِّي؟) أي: أيّ شيء يكون جوابي لأسئلة الملائكة الذين يرسلهم ربي لسؤالي، وهما ملكان، ففيه إطلاق الجمع على الاثنين، وهو يؤيّد مذهب من يقول: إن أقل الجمع اثنان، وهو الصحيح، وقد حقّقت ذلك في "التحفة المرضيّة" وشرحها "المنحة الرضيّة"، في أصول الفقه، فراجعه تستفد علمًا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

(1)

"النهاية" 1/ 266.

(2)

"القاموس المحيط" ص 329.

(3)

"المصباح المنير" 1/ 98.

(4)

"إكمال المعلم" 1/ 500.

ص: 476

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنف) هنا في "الإيمان"[57/ 328](121)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 199 و 205)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(200، 201)، و (أبو نُعيم) في "مستخرجه"(315)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(2515)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(9/ 98)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان كون الإسلام يَهدم ما حصل قبله من الكبائر والآثام، ففيه بيان فضل الإيمان، وهو وجه المطابقة في إيراده في أبواب الإيمان.

2 -

(ومنها): بيان أن الهجرة، والحجّ يهدمان ما قبلهما، لكن قيّده جمهور العلماء بالصغائر، والأرجح عندي أنه يعمّ الكبائر والصغائر، ويدلّ عليه قوله صلى الله عليه وسلم:"من حَجّ لله، فلم يَرفُث، ولم يفسق، رجع كيوم ولدته أمه"، متّفق عليه، فإنه تشبيه بليغ في غفران جميع الذنوب، فان العبد حينما يولد ليس عليه شيء من الذنوب كبائرها وصغائرها، وسيأتي تمام البحث في ذلك في محلّه - إن شاء الله تعالى.

3 -

(ومنها): استحباب تنبيه المحتضر على إحسان ظنه بالله سبخانه وتعالى وذكر آيات الرجاء، وأحاديث العفو عنده، وتبشيره بما أَعَدَّه الله تعالى للمسلمين، وذكر حسن أعماله عنده؛ ليُحْسِن ظنه بالله تعالى، ويموت عليه، وهذا الأدب مستحب بالاتفاق، وموضع الدلالة له من هذا الحديث قول عبد الله بن عمرو رضي الله عنه لأبيه:"أما بَشّرَك رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا؟ ".

وكان السلف يستحبّون هذا التذكير، روي عن المعتمر أنه قال لابنه: يا بُنيّ حدّثني بالرخص لعلي ألقى الله تعالى، وأنا أحسن الظنّ به. وروي مثل ذلك عن ابن حنبل، ثم إن الرجاء يورث محبّة لقاء الله تعالى التي هي سبب لمحبته لقاء عبده.

فقد أخرج الشيخان عن أنس، عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم -

ص: 477

قال: "من أحب لقاء الله، أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله، كره الله لقاءه

" الحديث.

وأخرجا أيضًا عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "يقول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني

" الحديث.

وأخرج الإمام أحمد في "مسنده" بسند صحيح، عن حيان أبي النضر، قال: دخلت مع واثلة بن الأسقع، على أبي الأسود الْجُرَشيّ في مرضه الذي مات فيه، فسلّم عليه، وجلس، قال: فأخذ أبو الأسود يمين واثلة، فمسح بها على عينيه ووجهه؛ لبيعته بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له واثلة: واحد أسألك عنها، قال: وما هي؟ قال: كيف ظنك بربك؟ قال: فقال أبو الأسود، وأشار برأسه، أي حَسَن، قال واثلة: أبشر، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"قال الله عز وجل: أنا عند ظن عبدي بي، فليظن بي ما شاء"

(1)

.

4 -

(ومنها): بيان ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم، من توقير رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإجلاله، كما أمر الله سبحانه وتعالى به المؤمنين، فقال تعالى:{وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ} [الفتح: 9].

5 -

(ومنها): أن في قول عمرو رضي الله عنه: "فلا تصحبني نائحة، ولا نار" امتثال لنهي النبيّ صلى الله عليه وسلم عن ذلك، قال النوويّ: وقد كَرِهَ العلماء ذلك، فأما النياحة فحرام، وأما إتباع الميت بالنار، فمكروه؛ للحديث، ثم قيل: سبب الكراهة كونه من شعار الجاهلية، وقال ابن حبيب المالكيّ: كُرِه تفاؤلًا بالنار

(2)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الظاهر أن إتباع الميت بالنار حرام؛ لظاهر النهي، ولأنّ التشبّه بأعمال الجاهليّة محرّم، فتبصّر، والله تعالى أعلم.

6 -

(ومنها): أن في قوله: "فَشُنُّوا عليّ التراب" استحباب صَبّ التراب في القبر، وأنه لا يُقعَد على القبر، بخلاف ما يُعْمَل في بعض البلاد، قاله النوويّ.

(1)

حديث صحيح الإسناد، أخرجه الإمام أحمد في "مسنده" رقم (15442)، والدارميّ في "سننه" رقم (2615).

(2)

"شرح النوويّ" 2/ 138 - 139.

ص: 478

7 -

(ومنها): إثبات فتنة القبر، وسؤال الملكين، وهو مذهب أهل الحق، وقد أخرج المصنّف عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال نبي الله صلى الله عليه وسلم: "إن العبد إذا وُضِع في قبره، وتَوَلَّى عنه أصحابه، إنه

(1)

لِيَسمع قَرْعَ نعالهم، قال: يأتيه ملكان، فيقعدانه، فيقولان له: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ قال: فأما المؤمن، فيقول: أشهد أنه عبد الله ورسوله، قال: فيقال له: انظر إلى مقعدك من النار، قد أبدلك الله به مقعدًا من الجنة، قال نبي الله صلى الله عليه وسلم: فيراهما جميعًا"، قال قتادة: وذُكِر لنا أنه يُفْسَح له في قبره سبعون ذراعًا، ويُملأ عليه خَضِرًا إلى يوم يبعثون

(2)

.

8 -

(ومنها): استحباب الْمُكث عند القبر بعد الدفن لحظةً، نحوَ ما ذُكر؛ لما ذُكر، وللدعاء للميت بالتثبيت، فقد أخرج أبو داود في "سننه" بسنده عن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من دفن الميت، وَقَفَ عليه، فقال:"استغفروا لأخيكم، وسَلُوا له التثبيت، فإنه الآن يُسأل"

(3)

.

9 -

(ومنها): أن الميت يَسْمَعُ حينئذ مَن حَوْلَ القبر، وهو ما دلّ عليه حديث أنس رضي الله عنه المذكور، ولحديث عمرو بن العاص رضي الله عنه هذا، لأن الظاهر أنه إنما قاله نقلًا عن النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ لأن مثله لا يُدرك إلا من جهة النبيّ صلى الله عليه وسلم، قاله القرطبيّ

(4)

.

قال القاضي عياض: وفي هذا الحديث حجة لفتنة القبر، وأن الميت تُصرف روحه إليه إذا أدخل قبره لسؤال الملكين، وفتنتهما، وأنه يعلم حينئذ، ويسمع، ولا يُعترض على هذا بقوله تعالى:{إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} الآية [النمل: 80]؛ للاختلاف في معناها، واحتمال تأويلها، ولأنه قد يكون المراد بها في وقت غير هذا؛ لما وردت به الآثار الصحاح من فتنة القبر، وسؤال الملكين، ولا يُنافي هذا السماع، وسيأتي الكلام عليه بعد هذا. انتهى

(5)

.

(1)

ولفظ أحمد: "حتى إنه ليسمع قرع نعالهم

".

(2)

سيأتي برقم (2870) إن شاء الله تعالى.

(3)

حديث صحيح، أخرجه أبو داود في "سننه" برقم (2804).

(4)

"المفهم" 1/ 332.

(5)

"إكمال المعلم" 1/ 500 - 501.

ص: 479

[تنبيه]: استنبط بعض العلماء من هذا الحديث استحباب قراءة القرآن على القبر، قال: لأنه يستأنس بمن حوله، وشممع منهم، وهذا استنباط غير صحيح، فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم مع كثرة حضوره مقابرَ المسلمين لم يقرأ القرآن، ولم يأمر أصحابه به، مع كون القرآن أفضل الأذكار، وإنما أمرهم بالاستغفار له، والدعاء بالتثبيت، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم.

أخرج الشيخان عن عائشة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه، فهو رد"، وسيأتي تمام البحث في هذا في محلّه من "كتاب الجنائز" - إن شاء الله تعالى -.

وأخرج الإمام أحمد، وأصحاب السنن بسند صحيح، من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال:"أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة، وإن عبدًا حبشيًّا، فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين، تمسكوا بها، وعَضّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة".

10 -

(ومنها): أنه ينبغي للعبد الخوف من تغيّر الحال، والتقصير في الأعمال في حال الموت، لكن ينبغي أن يكون الرجاء هو الأغلب في تلك الحال، حتى يُحسن ظنّه بالله تعالى، فيلقاه على ما أمر به النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقد أخرج المصنّف عن جابر رضي الله عنه قال: سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم قبل وفاته بثلاث، يقول:"لا يموتنّ أحدكم، إلا وهو يحسن بالله الظن".

11 -

(ومنها): ما قاله النوويّ: يُستَدَلّ به لجواز قسمة اللحم المشترك ونحوه، من الأشياء الرطبة، كالعنب، قال: وفي هذا خلاف لأصحابنا معروف، قالوا: إن قلنا بأحد القولين: إن القسمة تمييز حق، ليست ببيع جاز، وإن قلنا: بيع فوجهان:

[أصحهما]: لا يجوز؛ للجهل بتماثله في حال الكمال، فيؤدّي إلى الربا.

[والثاني]: يجوز؛ لتساويهما في الحال، فماذا قلنا: لا يجوز فطريقها أن يُجعَل اللحم وشبهه قسمين، ثم يَبِيع أحدهما صاحبه نصيبه من أحد القسمين بدرهم مثلًا، ثم يبيع الآخر نصيبه من القسم الآخر لصاحبه بذلك الدرهم الذي

ص: 480

له عليه، فيحصل لكل واحد منهما قسم بكماله، ولها طرقٌ غير هذا، لا حاجة إلى الإطالة بها هنا. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: القول بأن القسمة تمييز حقّ، وليست ببيع عندي هو الظاهر، فتأمله، والله تعالى أعلم.

12 -

(ومنها): أنه يُستفاد من سياق كلام عمرو بن العاص رضي الله عنه أنه إنما لم يستطع أن يصف النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ لكونه لم يتأمل ذاته الشريفة في حالتي الكفر والإسلام؛ لاحتجابه عن ذلك، أما في حال كفره فمنعه شدّة بغضه له صلى الله عليه وسلم على أن لا يملأ عينيه من النظر إليه، وأما في حال الإسلام فمنعه من ذلك أيضًا شدّة محبته؛ لأن شدّة بغض الشيء، وشدّة حبه، يحجب العين عن النظر إليه نظر تأمل.

ومن ثمّ إنك إذا نظرت إلى أكابر الصحابة رضي الله عنهم كأبي بكر، وعمر، وعثمان رضي الله عنهم لا تجد عندهم من أوصافه صلى الله عليه وسلم الذاتيّة بدقّة ما عند أصاغرهم، فمعظم كتب السنّة والسير إذا طالعت فيها تجد أوصافه صلى الله عليه وسلم الدقيقة مروية عن أصاغر الصحابة، كأنس، وهند بن أبي هالة، وابن الزبير، وابن عباس، وابن عمر، وابن عمرو، وأم معبد الخزاعيّة رضي الله عنهم، وأشباههم، أو الذين لازموه من صغرهم، كعليّ، وابن مسعود رضي الله عنهم، وسرّ ذلك هو ما ذكره عمرو بن العاص رضي الله عنه هنا؛ لأنهم ما كانوا يملأون أعينهم من النظر إليه صلى الله عليه وسلم، حتى يصفوه وصفًا دقيقًا، فتأمل ما ذكرته، تجده حقًّا - إن شاء الله تعالى - والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[329]

(122) - (حَدَّثَني مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمِ بْنِ مَيْمُونٍ، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ دِينَارٍ، وَاللَّفْظُ لإِبْرَاهِيمَ، قَالَا: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، وَهُوَ ابْنُ مُحَمَّدٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي يَعْلَى بْنُ مُسْلِمٍ، أَنَّهُ سَمِعَ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ، يُحَدِّثُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ نَاسًا مِنْ أَهْلِ الشِّرْك، قَتَلُوا فَأَكْثَرُوا، وَزَنَوْا فَأَكْثَرُوا، ثُمَّ أَتَوْا مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم، فَقَالُوا:

(1)

"شرح النوويّ" 2/ 139.

ص: 481

إِنَّ الَّذِي تَقُولُ، وَتَدْعُو لَحَسَنٌ، وَلَوْ تُخْبِرُنَا، أَنَّ لِمَا عَمِلْنَا كَفَّارَةً، فَنَزَلَ:{وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68)} [الفرقان: 68]، وَنَزَلَ:{قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} [الزمر: 53]).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمِ بْنِ مَيْمُونٍ) المعروف بالسمين، مروزيّ الأصل، نزيل بغداد، صدوقٌ، ربّما وَهِمَ، وكان فاضلًا [10](235)(م د) تقدم في "الإيمان" 1/ 104.

2 -

(إِبْرَاهِيمُ بْنُ دِينَارٍ) التمّار، أبو إسحاق البغداديّ، ثقة [10](232)(م) تقدم في "الإيمان" 41/ 272.

3 -

(حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ) المصّيصيّ الأعور، أبو محمد، ترمذيّ الأصل، نزيل بغداد، ثم المصّيصة، ثقةٌ ثبتٌ، اختلط في آخره لَمّا قدم بغداد [9](ت 206)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 94.

4 -

(ابْنُ جُرَيْجٍ) هو: عبد الملك بن عبد العزيز بن جُريج الأُمويّ مولاهم، أبو الوليد، أو أبو خالد المكيّ، ثقة فقيهٌ فاضلٌ، يدلّس، ويرسل [6](ت 150)(ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 129.

5 -

(يَعْلَى بْنُ مُسْلِمٍ) بن هُرْمُز المكيّ، بصريّ الأصل، ثقةٌ [6].

رَوَى عن أبي الشَّعْثاء، وسعيد بن جبير، وعكرمة، ومجاهد، وطلق بن حبيب.

ورَوَى عنه محمد بن المنكدر، وهو أكبر منه، وابن جريج، وسفيان بن حسين، وشعبة، وعبد الرحمن بن حرملة.

قال ابن معين، وأبو زرعة: ثقةٌ، وقال يعقوب بن سفيان: مستقيم الحديث، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال الآجريّ، عن أبي داود: يعلى بن مسلم بصريّ، كان بمكة، وهو غير يعلى بن مسلم المكيّ، ذاك أخو الحسن بن مسلم.

أخرج له البخاريّ، والمصنّف، وأبو داود، والترمذيّ، والنسائيّ، وله

ص: 482

في هذا الكتاب حديثان، فقط، هذا (122)، وحديث (1834):"نزل {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ} [محمد: 33] الآية".

6 -

(سعيد بن جبير) بن هشام الأسدي الوالبي مولاهم، أبو محمد، ويقال: أبو عبد الله الكوفيّ، ثقة ثبت فقيه [3].

رَوَى عن ابن عباس، وابن الزبير، وابن عمر، وعديّ بن حاتم، وأبي مسعود الأنصاري، وأبي سعيد الخدري، وأبي هريرة، وأبي موسى الأشعري، والضحاك بن قيس الفهري، وأنس، وعمرو بن ميمون، وأبي عبد الرحمن السلمي، وعائشة، وغيرهم.

ورَوَى عنه ابناه: عبد الملك، وعبد الله، ويعلى بن حكيم، ويعلى بن مسلم، وأبو إسحاق السبيعي، وأبو الزبير المكي، وآدم بن سليمان، وأشعث بن أبي الشعثاء، وأيوب، وبكير بن شهاب، وثابت بن عجلان، وغيرهم.

قال ضمرة بن ربيعة، عن أصبغ بن زيد الواسطي: كان له ديك يقوم من الليل لصياحه، فلم يَصِحْ ليلة حتى أصبح، فلم يستيقظ سعيد، فشق عليه، فقال: ما له قطع الله صوته، قال: فما سُمِع له صوت بعدها. وقال يعقوب الْقُمِّيُّ عن جعفر بن أبي المغيرة: كان ابن عباس إذا أتاه أهل الكوفة يستفتونه يقول: أليس فيكم ابن أم الدَّهْمَاء؟ - يعني: سعيد بن جبير - وقال عمرو بن ميمون عن أبيه: لقد مات سعيد بن جبير، وما على ظهر الأرض أحد إلا وهو محتاج إلى علمه. وكان سفيان يقدم سعيدًا على إبراهيم في العلم، وكان أعلم من مجاهد وطاووس. وقال عثمان بن بوذويه: كنت مع وهب بن منبه، وسعيد بن جبير يوم عرفة، فقال وهب لسعيد: أبا عبد الله كم لك منذ خِفْتَ من الحجاج؟ قال: خرجت عن امرأتي، وهي حامل، فجاءني الذي في بطنها، وقد خَرَجَ وجهه، وقال هشيم: حدثني عتبة مولى الحجاج، قال: حضرت سعيد بن جبير، حين أُتِي به الحجاج بواسط، فجعل الحجاج يقول له: ألم أفعل بك؟ ألم أفعل بك؟ فيقول: بلى، قال: فما حملك على ما صنعت من خروجك علينا؟ قال: بيعة كانت عليّ، قال: فغضب الحجاج، وصفق بيديه، وقال: فبيعة أمير المؤمنين كانت أسبق وأولى، وأمر به، فضُربت عنقه، وقال ابن حبان في "الثقات": كان فقيهًا عابدًا فاضلًا ورعًا، وكان يكتب لعبد الله بن

ص: 483

عتبة بن مسعود، حيث كان على قضاء الكوفة، ثم كتب لأبي بردة بن أبي موسى، ثم خرج مع ابن الأشعث في جملة القراء، فلما هُزِم ابن الأشعث، هَرَب سعيد بن جبير إلى مكة، فأخذه خالد الْقَسْريّ بعد مدة، وبعث به إلى الحجاج، فقتله الحجاج سنة (95) وهو ابن (49) سنة، ثم مات الحجاج بعده بأيام، وكان مولد الحجاج سنة (40). انتهى. وقيل: إن قتله كان في آخر سنة (94)، وقال عمر بن سعيد بن أبي حسين: دعا سعيد بن جبير ابنه حين دُعي ليُقتَل، فجعل ابنه يبكي، فقال له: ما يبكيك؟ ما بقاء أبيك بعد سبع وخمسين سنة؟، وقال أبو القاسم الطبري: هو ثقة إمام حجة على المسلمين، قُتل في شعبان سنة خمس وتسعين، وهو ابن (49) سنة. وقال أبو الشيخ: قتله الحجاج صبرًا سنة (95).

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (78) حديثًا.

7 -

(ابْنُ عَبَّاسٍ) هو: عبد الله بن عباس بن عبد المطّلب بن هاشم الهاشميّ، رضي الله عنه حبر الأمة، وبحرها (ت 68)(ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 124، والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(ومنها): أنه من سُداسيّات المصنّف، وفيه له شيخان قرن بينهما، وفيه التحديث، والإخبار، والسماع، والعنعنة.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، إلا شيخيه، فالأول تفرّد به هو وأبو داود، والثاني من أفراده، وإلا يعلى، فما أخرج له ابن ماجه.

3 -

(ومنها): سعيد بن جُبير، ويعلى بن مسلم هذا أول محلّ ذكرهما من الكتاب، وقد عرفت آنفًا ما لكلّ منهما عند المصنّف من الحديث.

4 -

(ومنها): أن فيه قوله: "واللفظ لإبراهيم"، وقوله:"وهو ابن محمد"، وقد سبق الكلام عليهما غير مرّة.

5 -

(ومنها): أن فيه ابن عباس رضي الله عنهما حبر الأمة وبحرها، وأحد العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة، روى (1696) حديثًا، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما (أَنَّ نَاسًا) اسم وُضِع للجمع، كالقوم، والرَّهْط،

ص: 484

واحده إنسان، من غير لفظه، مشتقّ من ناس ينوس: إذا تدلّى، وتحرّك، فيُطلق على الجنّ والإنس، قال الله تعالى:{الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5)} [الناس: 5]، ثم فسّر الناس بقوله:{مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6)} [الناس: 6].

[تنبيه]: قال صاحب "التنبيه": قوله: "أن ناسًا من أهل الشرك" عُرِف منهم وحشيُّ بن حرب. انتهى

(1)

.

وفي "صحيح البخاريّ" عن ابن عبّاس رضي الله عنهما: "لما نزلت التي في سورة الفرقان قال مشركو مكة

" قال في "الفتح": في رواية الطبرانيّ من وجه آخر عن ابن عباس أن السائل عن ذلك وحشيّ بن حرب قاتل حمزة، قال: روى ابن إسحاق في "السيرة" قال: حدّثني نافع، عن ابن عمر، عن عمر، قال: "اتّعدتّ أنا وعيّاش بن أبي ربيعة، وهشام بن العاص أن نُهاجر إلى المدينة، فذكر الحديث في قصّتهم، ورجوع رفيقه، فنزلت:{قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} الآية، قال: فكتبت بها إلى هشام". انتهى

(2)

.

وقوله: (مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ) متعلّق بصفة لـ"ناس"(قَتَلُوا) أنفسًا (فَأَكْثَرُوا) القتل (وَزَنَوْا) بفتح النون، أصله زَنَيُوا، فقُلبت الياء ألفًا؛ لتحرّكها، وانفتاح ما قبلها، ثم حُذفت الألف؛ لالتقاء الساكنين (فَأَكْثَرُوا) الزنا (ثُمَّ أَتَوْا) بفتح التاء، أصله أَتَيُوا فُعل به ما فُعل بـ"زَنَوْا"(مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم، فَقَالُوا) له صلى الله عليه وسلم (إِنَّ الَّذِي تَقُولُ وَتَدْعُو) مفعول الفعلين محذوف، وهو عائد الصلة: أي إن الذي تقوله، وتدعو الناس إليه من التوحيد، وإخلاص الطاعة لله تعالى (لَحَسَنٌ، وَلَوْ تُخْبِرُنَا أَنَّ لِمَا عَمِلْنَا) من المعاصي (كَفَّارَةً) قال النووي: فيه محذوف، وهو جواب "لو":. أي لو تُخبرنا لأسلمنا، وحذف جوابها كثير في القرآن العزيز، وكلام العرب، كقوله عز وجل:{وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ} [الأنعام: 93]، وأشباهه. انتهى

(3)

.

وقال القرطبيّ: يحتمل أن تكون "لو" هنا للامتناع، ويكون جوابها محذوفًا، تقديره: لأسلمنا، أو نحوه، ويَحْتَمِل أن يكون تَمَنِّيًا بمعنى "ليتَ"، والأول أظهر. انتهى

(4)

.

(1)

"تنبيه المعلم" ص 72.

(2)

"الفتح" 8/ 550.

(3)

"شرح النوويّ" 2/ 139 - 140.

(4)

"المفهم" 1/ 331.

ص: 485

(فَنَزَلَ: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} أي لا يشركون ({وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ}) أي حرّمها، أي حرّم قتلها ({إِلَّا بِالْحَقِّ}) أي بقوَدٍ، أو رجمٍ، رِدّة، أو شِرْكٍ، أو سَعْيٍ في الأرض بفساد، وهو متعلّقٌ بالقتل المحذوف، أو بـ {لَا يَقْتُلُونَ}

(1)

. ({وَلَا يَزْنُونَ}) فيستحلّون الفروج بغير نكاح، ولا ملك يمين، ودلتّ هذه الآية على أنه ليس بعد الكفر أعظم من قتل النفس بغير الحقّ، ثم الزنا، ولهذا ثبت في حدّ الزنا القتل لمن كان محصنًا، أو أقصى الجلد لمن كان غير محصن، قاله القرطبيّ

(2)

.

وقال النسفيّ: ونفيُ هذه الكبائر عن عباده الصالحين تعريضٌ لما كان عليه أعداؤهم من قريش وغيرهم، كأنه قيل: والذين طهّرهم الله مما أنتم عليه. انتهى

(3)

. ({وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ}) قال القرطبيّ: "ذا" إشارة إلى واحد في أصل وضعها، غير أن الواحد تارةً يكون واحدًا بالنصّ عليه، وتارةً يكون بالتأويل، وإن كانت أمورٌ متعدّدة في اللفظ كما في هذه الآية، فإنه ذَكَر قبل "ذا" أمورًا، وأعاد الإشارة إليها من حيث إنها مذكورة، أو مقولة، فكأنه قال: ومن يفعل المذكور، أو المقول. انتهى

(4)

.

({يَلْقَ أَثَامًا} [الفرقان: 68]) قيل: معناه: عقوبةً، وقيل: هو وادٍ في جهنّم، وقيل: بئرٌ فيها، وقيل: جزاء إثمه

(5)

.

(وَنَزَلَ: {قُلْ يَاعِبَادِيَ}) قرئ بفتح الياء، وسكونها ({الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ}) أي جَنَوا عليها بالإسراف في المعاصي، والغلوّ فيها ({لَا تَقْنَطُوا}) بفتح النون، وكسرها، من بابي تَعِبَ، وضرب: أي لا تيأسوا ({مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} [الزمر: 53])، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.

(1)

راجع: "تفسير النسفيّ" 3/ 175.

(2)

"جامع الأحكام" 13/ 76.

(3)

المصدر السابق 3/ 175.

(4)

"المفهم" 1/ 331.

(5)

"شرح النوويّ" 2/ 140.

ص: 486

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا في "الإيمان"[57/ 329](122)، ويأتي في "التفسير" برقم (3023)، و (البخاريّ) في "المناقب"(3855)، و"التفسير"(4590 و 4762 و 4763 و 4764 و 4765 و 4766)، و (أبو داود) في "الفتن"(4275)، و (النسائيّ) في "تحريم الدم"(4000 و 4001 و 4002 و 4005)، وفي "كتاب القسامة"(4864 و 4865 و 4866 و 4867)، وفي "الكبرى"(3462 و 3463 و 3464 و 3465 و 3468)، و (ابن ماجه) في "الديات"(2621)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(204)، و (أبو نُعيم) في "مستخرجه"(316)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان فضل الإسلام، حيث إنه يَهْدِم ما كان قبله، وهو وجه المطابقة في إيراده هنا؛ لأن الإسلام والإيمان شيء واحد، كما سبق بيانه.

2 -

(ومنها): بيان سعة رحمة الله سبحانه وتعالى، ومغفرته، حيث وعد المسرفين، فقال:{قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53)} [الزمر: 53].

3 -

(ومنها): ما قاله العلامة ابن العربي: هذه لطيفة من الله سبحانه وتعالى مَنّ بها على الخلق، وذلك أن الكفار يَقتحمون الكفر والجرائم، ويرتكبون المعاصي والمآثم، فلو كان ذلك يوجب مؤاخذةً لهم لمَا استدركوا أبدًا توبة، ولا نالتهم مغفرة، فَيَسّر الله تعالى عليهم قبول التوبة، عند الإنابة، وبذل المغفرة بالإسلام، وهدم جميع ما تقدم؛ ليكون ذلك أقرب لدخولهم في الدين، وأدعى إلى قبولهم لكلمة المسلمين، ولو عَلِمُوا أنهم يؤاخذون لَمَا تابوا، ولا أسلموا.

وفي "صحيح مسلم": "كان فيمن كان قبلكم رجلٌ قتل تسعة وتسعين نفسًا، ثم سأل: هل من توبة؟ فجاء عابدًا، فسأله: هل له من توبة؟ فقال: لا توبة لك، فقتله، فكمل به مائة

" الحديث، فانظروا إلى قول العابد: لا توبة لك، فلما عَلِمَ أنه قد أيئسه قتله فِعْلَ الآيس من الرحمة، فالتنفير مفسدة للخليقة، والتيسير مصلحة لهم، ورُوي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان إذا جاء إليه رجل لم يقتل، فسأله: هل لقاتل من توبة؟ فيقول: لا توبةَ؛ تخويفًا وتحذيرًا،

ص: 487

فإذا جاءه مَن قتل، فسأله، هل لقاتل من توبة؟ قال له: لك توبةٌ؛ تيسيرًا وتأليفًا. انتهى

(1)

.

4 -

(ومنها): أنه اختُلف في تصرّف الكافر بالطلاق وغيره إذا أسلم: قال ابن القاسم وابن وهب عن مالك فيمن طلّق في الشرك، ثم أسلم، فلا طلاق له، وكذلك من حَلَف فأسلم، فلا حِنث عليه، وكذا مَن وجبت عليه هذه الأشياء، فذلك مغفور له. فأما مَن افترى على مسلم ثم أسلم، أو سرق ثم أسلم، أقيم عليه الحد للفرية والسرقة. ولو زَنَى وأسلم، أو اغتصب مسلمة ثم أسلم، سقط عنه الحدّ.

ورَوَى أشهب عن مالك أنه قال: إنما يعني الله عز وجل ما قد مضى قبل الإسلام، من مال، أو دم، أو شيء.

قال ابن العربيّ: وهذا هو الصواب؛ لما قدمناه من عموم قوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 8]، وقوله صلى الله عليه وسلم:"الإسلام يَهْدِم ما قبله"، وما بيّناه من المعنى من التيسير وعدم التنفير.

قال القرطبيّ: أما الكافر الحربيّ، فلا خلاف في إسقاط ما فعله في حال كفره في دار الحرب، وأما إن دخل إلينا بأمان، فقَذَف مسلمًا، فإنه يُحَدُّ، وإن سرق قُطِع، وكذلك الذمي إذا قَذَف حُدّ ثمانين، وإذا سَرَق قُطع، وإذا قَتل قُتل، ولا يُسقط الإسلام ذلك عنه؛ لنقضه العهد حال كفره على رواية ابن القاسم وغيره.

قال ابن المنذر: واختلفوا في النصراني يزني ثم يسلم، وقد شَهِدت عليه بيّنة من المسلمين، فَحُكي عن الشافعي إذ هو بالعراق: لا حَدّ عليه، ولا تغريب؛ لقول الله عز وجل:{قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} ، قال ابن المنذر: وهذا موافق لما رُوي عن مالك، وقال أبو ثور: إذا أقرّ، وهو مسلم أنه زَنَى وهو كافر، أقيم عليه الحد، وحُكِي عن الكوفي أنه قال: لا يحد.

فأما المرتدّ إذا أسلم، وقد فاتته صلوات، وأصاب جنايات، وأتلف

(1)

راجع: "تفسير القرطبيّ" 7/ 402.

ص: 488

أموالًا، فقيل: حكمه حكم الكافر الأصليّ إذا أسلم، لا يؤخذ بشيء مما أحدثه في حال ارتداده، وقال الشافعي في أحد قوليه: يلزمه كلُّ حقّ لله عز وجل وللآدميّ، بدليل أن حقوق الآدميين تلزمه، فوجب أن تلزمه حقوق الله تعالى، وقال أبو حنيفة: ما كان لله يَسقُط، وما كان للآدمي لا يسقط، قال ابن العربي: وهو قول علمائنا؛ لأن الله تعالى مُستغنٍ عن حقه، والآدمي مفتقر إليه، ألا ترى أن حقوق الله عز وجل لا تجب على الصبيّ، وتلزمه حقوق الآدميين؟ قالوا: وقوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} عام في الحقوق لله تعالى.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن ما ذهب إليه الإمام مالك، وصوّبه ابن العربيّ من أن ما مضى قبل الإسلام من مال، أو دم، أو شيء يسقط عنه بالإسلام مطلقًا هو الأرجح؛ لظاهر قوله تعالى:{قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} ، وظاهر قوله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن العاص رضي الله عنه:"أما عَلمت أن الإسلام يَهدِم ما كان قبله؟ "، فإنه صلى الله عليه وسلم ما استثنى له شيئًا، لا من حقوق الله تعالى، ولا من حقوق العباد، فتأمّله بالإنصاف، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في توبة قاتل المؤمن عمدًا: قال أبو عبد الله القرطبيّ رحمه الله تعالى في "تفسيره": واختلف العلماء في قاتل العمد، هل له توبة؟. فروى البخاريّ عن سعيد بن جبير، قال: اختلف أهل الكوفة، فَرَحلت فيها إلى ابن عبّاس، فسألته عنها، فقال: نزلت هذه الآية: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} [النساء: 93] هي آخر ما نزل، وما نسخها شيء.

وروى النسائيّ عنه، قال: سألت ابن عباس: هل لمن قتل مؤمنًا متعمّدًا من توبة؟ قال: لا، وقرأت عليه الآية التي في الفرقان:{وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} [الفرقان: 68] قال: هذه آية مكيّةٌ نسختها آية مدنيّةٌ: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ} [النساء: 93].

وروى عن زيد بن ثابت نحوه، وأن آية النساء نزلت بعد الفرقان بستّة

ص: 489

أشهر، وفي رواية بثمانية أشهر، ذكرهما النسائيّ عن زيد بن ثابت رضي الله عنه.

وإلى عموم هذه الآية، مع هذه الأخبار عن زيد، وابن عبّاس ذهبت المعتزلة، وقالوا: هذا مخصّص عموم قوله تعالى: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48]، ورأوا أن الوعيد نافذ حتمًا على كلّ قاتل، فجمعوا بين الآيتين بأن قالوا: التقدير: ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء إلا من قتل عمدًا.

وذهب جماعة من العلماء منهم: عبد الله بن عمر وهو أيضًا مرويّ عن زيد بن ثابتٍ، وابن عبّاس - رضي الله تعالى عنهم - إلى أن له توبةً. روى يزيد بن هارون قال: أخبرنا أبو مالك الأشجعيّ، عن سَعْد بن عبيدة، قال: جاء رجلٌ إلى ابن عبّاس، فقال: ألمن قتل مؤمنًا متعمّدًا توبة؟ قال: لا إلا النار، قال: فلّمّا ذهب قال له جلساؤه: أهكذا كنت تفتينا؟ كنت تفتينا أن لمن قتل توبةً مقبولة، قال: إني لأحسبه رجلًا مُغضبًا، يريد أن يقتُل مؤمنًا، قال: فبعثوا في إثره، فوجدوه كذلك.

وهذا مذهب أهل السنّة، وهو الصحيح، وأن هذه الآية مخصصة، ودليل التخصيص آياتٌ وأخبارٌ، وقد أجمعوا على أن الآية نزلت في مقيس بن صبابة

(1)

، وذلك أنه كان قد أسلم هو وأخوه هشام بن صبابة، فوجدوا هشامًا قتيلًا في بني النجّار، فأخبر بذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم، فكتب له إليهم أن يدفعوا إليه قاتل أخيه، وأرسل معه رجلًا من بني فهر، فقال بنو النجّار: والله ما نعلم له قاتلًا، ولكنّا نؤدّي الدية، فأعطوه مائة من الإبل، ثم انصرفا راجعين إلى المدينة، فعدا مقيس على الفهريّ، فقتله بأخيه، وأخذ الإبل، وانصرف إلى مكة كافرًا مَرتدًّا، وجعل يُنشد [من الطويل]:

قَتَلْتُ بِهِ فِهْرًا وَحَمَّلْتُ عَقْلَهُ

سَرَاةَ بَنِي النَّجَّارِ أَرْبَابَ فَارعِ

(2)

حَلَلْتُ بِهِ وِتْرِي وَأَدْرَكْتُ ثَوْرَتِي

وَكُنْتُ إِلَى الأَوْثَانِ أَوَّلَ رَاجِعِ

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا أُؤمّنه في حِلّ، ولا حَرَم"، وأمر بقتله يوم فتح مكّة، وهو متعلقٌ بالكعبة.

(1)

"صُبَابة" بضم الصاد المهملة، وبموحدتين أولاهما خفيفة، هكذا ضبطه في "الإصابة" في ترجمة أخيه هشام 3/ 603.

(2)

"فارع": حصن بالمدينة.

ص: 490

وإذا ثبت هذا بنقل أهل التفسير، وعلماء الدين، فلا ينبغي أن يُحمل على المسلمين.

ثم ليس الأخذ بظاهر الآية بأولى من الأخذ بظاهر قوله تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114]، وقوله تعالى:{وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} الآية [الشورى: 25]، وقوله تعالى {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48]، والأخذ بالظاهرين تناقضٌ، فلا بُدّ من التخصيص.

ثم إن الجمع بين آية "الفرقان"، وهذه الآية ممكن، فلا نسخ، ولا تعارض، وذلك أن يُحمَل مطلق آية "النساء" على مقيّد آية "الفرقان"، فيكون معناه: فجزاؤه كذا إلا من تاب، لا سيّما وقد اتّحد الموجِب، وهو القتل، والموجَب، وهو التواعد بالعقاب.

وأما الأخبار، فكثيرة، كحديث عُبادة بن الصامت رضي الله عنه الذي قال فيه:"تبايعوني على أن لا تُشركوا بالله شيئًا، ولا تزنوا، ولا تسرِقوا، ولا تقتلوا النفس التي حرّم الله إلا بالحقّ، فمن وفي منكم فأجره على الله، ومن أصاب شيئًا من ذلك، فعوقب به، فهو كفّارة له، ومن أصاب من ذلك شيئًا، فستره الله عليه، فأمره إلى الله، إن شاء عفا عنه، وإن شاء عذّبه". متّفقٌ عليه، وكحديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في الذي قتل مائة نفس، متّفقٌ عليه. إلى غير ذلك من الأخبار الثابتة.

ثم إنهم قد أجمعوا معنا في الرجل يُشْهَد عليه بالقتل، أو يُقرّ بأنه قتل عمدًا، ويأتي السلطانَ الأولياءُ، فيقام عليه الحدّ، ويُقتل قَوَدًا، فهذا غير متَّبَع في الآخرة، والوعيد غير نافذ عليه إجماعًا على مقتضى حديث عبادة رضي الله عنه، فقد انكسر عليهم ما تعلّقوا به من عموم قوله تعالى {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} [النساء: 93]، ودخله التخصيص بما ذكرنا، وإذا كان كذلك فالوجه أن هذه الآية مخصوصة كما بيّنّا، أو تكون محمولةً على ما حُكي عن ابن عبّاس رضي الله عنهما أنه قال:{مُتَعَمِّدًا} معناه مستحلًّا لقتله، فهذا أيضًا يؤول إلى الكفر إجماعًا.

وقالت جماعة: إن القاتل في المشيئة تاب، أو لم يتُب. قاله أبو حنيفة، وأصحابه.

ص: 491

[فإن قيل]: إن قوله تعالى: {فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ} [النساء: 93] دليلٌ على كفره؛ لأن الله تعالى لا يغضب إلا على كافر خارجٍ من الإيمان.

[قلنا]: هذا وعيد، والخلف في الوعيد كَرَمٌ، كما قال [من الطويل]:

وَإِنِّي مَتَى أَوْعَدتُهُ أَوْ وَعَدتُهُ

لَمُخْلِفٌ إِيعَادِي وَمُنْجِزٌ مَوْعِدِي

وقد تقدّم جوابٌ ثان: إن جازاه بذلك: أي هو أهلٌ لذلك، ومستحقّه لعظم ذنبه. نصّ على هذا أبو مِجْلَز لاحقُ بن حُميد، وأبو صالح، وغيرهما.

وروى أنس بن مالك رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:"إذا وعد الله لعبد ثوابًا، فهو منجزه، وإن أوعد له العقوبةَ، فله المشيئة: إن شاء عاقبه، وإن شاء عفا عنه"

(1)

.

وفي هذين التأويلين دَخَلٌ، أما الأول، فقال القشيريّ: وفي هذا نظرٌ؛ لأن كلام الربّ لا يَقبل الخلف، إلا أن يُراد بهذا تخصيص العامّ، فهو إذًا جائزٌ في الكلام.

وأما الثاني، وإن روي أنه مرفوعٌ، فقال النّحّاس: وهذا الوجه الغلط فيه بيّنٌ، وقد قال الله عز وجل:{ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا} الآية [الكهف: 106]، ولم يقل أحدٌ: إن جازاهم، وهو خطأٌ في العربيّة؛ لأن بعده:{وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ} [النساء: 93]، وهو محمول على معنى جازاه.

وجوابٌ ثالث {فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} إن لم يتُب، وأصرّ على الذنب حتى وافى ربّه على الكفر بشؤم المعاصي.

وذكر هبة الله في "كتاب الناسخ والمنسوخ" أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48]، وقال: هذا إجماع الناس إلا ابن عبّاس، وابن عمر، فإنهما قالا: هي محكمة.

وفي هذا الذي قاله نظرٌ؛ لأنه موضع عموم وتخصيص، لا موضع نسخ، قاله ابن عطيّة.

قال القرطبيّ: هذا حسنٌ؛ لأن النسخ لا يدخل الأخبار، إنما المعنى: فهو يَجزيه.

(1)

قال الجامع: هذا يحتاج إلى البحث في سنده، ولم يعزه القرطبيّ إلى أي مرجع، ولم أتمكن من البحث عنه، فالله تعالى أعلم بثبوته.

ص: 492

وقال النحّاس في "معاني القرآن" له: القول فيه عند العلماء أهلِ النظر أنه محكم، وأنه يُجازيه إذا لم يتُب، فإن تاب فقد بيّن أمره بقوله:{وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ} [طه: 82]، فهذا لا يخرج عنه، والخلود لا يقتضي الدوام، قال الله تعالى:{وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ} الآية [الأنبياء: 34]، وقال تعالى:{يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3)} [الهمزة: 3]، وقال زُهَير:

وَلَا خَالِدًا إِلَّا الْجِبَالَ الرَّوَاسِيَا

وهذا كلّه يدلّ على أن الخلد يُطلق على غير معنى التأبيد، فإن هذا يزول بزوال الدنيا، وكذلك العرب تقول: لأُخَلِّدنّ فلانًا في السجن، والسجن ينقطع ويفنى، وكذلك المسجون، ومثله قولهم في الدعاء: خلّد الله ملكه، وأبّد أيامه. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله تعالى

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن بما ذُكِر أن الأرجح هو ما ذهب إليه الجمهور من أن قاتل المؤمن عمدًا تُقبل توبته؛ جمعًا بين النصوص المذكورة، والعمل بالدليلين إذا أمكن أولى من إلغاء أحدهما.

على أنه قد جاء عن ابن عبّاس رضي الله عنهما القول بموافقة قول الجمهور، فقد أخرج البخاريّ في "الأدب المفرد"(4) بسند صحيح، على شرط الشيخين، عن عطاء بن يسار، عن ابن عباس أنه أتاه رجلٌ، فقال: إني خطبت امرأةً، فأبت أن تنكحني، وخطبها غيري، فأحبّت أن تنكحه، فغِرتُ عليها، فقتلتها، فهل لي من توبة؟ قال: أمّك حيّةٌ؟ قال: لا، قال: تُبْ إلى الله عز وجل، وتقرّب إليه ما استطعت، فذهبتُ، فسألت ابن عبّاس: لم سألته عن حياة أمه؟ فقال: إني لا أعلم عملًا أقرب إلى الله عز وجل من برّ الوالدة.

وأخرج ابن جرير (5/ 138) بسند جيّد، عن سعيد، عن ابن عبّاس رضي الله عنهما في قوله تعالى:{وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا} [النساء: 93]، قال: ليس لقاتل توبة، إلا أن يستغفر الله

(2)

.

(1)

"الجامع لأحكام القرآن" 5/ 332 - 335، "تفسير سورة النساء".

(2)

راجع: "السلسلة الصحيحة" للشيخ الألبانيّ المجلد السادس - القسم الأول ص 711 - 712، رقم الحديث (2799).

ص: 493

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الظاهر من هذين الأثرين أن ابن عبّاس رضي الله عنهما قد تراجع عن قوله الأول، فقال بقول الجمهور في قبول توبة القاتل، وهذا القول منه هو الصواب؛ لما ذكرنا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

‌58 - (بَابُ بَيَانِ حُكْمِ عَمَلِ الْكَافِرِ إِذَا أَسْلَمَ بَعْدَهُ)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[330]

(123) - (حَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْر، أَنَّ حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ، أَخْبَرَهُ، أَنَّهُ قَالَ لِرَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم: أَرَأَيْتَ أُمُورًا كُنْتُ أَتَحَنَّثُ بِهَا فِي الْجَاهِلِيَّة، هَلْ لِي فِيهَا مِنْ شَيْءٍ؟ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَسْلَمْتَ عَلَى مَا أَسْلَفْتَ مِنْ خَيْرٍ"، وَالتَّحَنُّثُ: التَّعَبُّدُ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى) بن حَرْملة التُّجيبيّ، أبو حفص المصريّ، صاحب الشافعيّ، صدوقٌ [11](ت 243)(م س ق) تقدم في "المقدمة" 3/ 14.

2 -

(ابْنُ وَهْبٍ) هو: عبد الله بن وهب بن مسلم القرشيّ مولاهم، أبو محمد المصريّ، ثقةَ حافظٌ عابدٌ [9](ت 197)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 10.

3 -

(يُونُسُ) بن يزيد بن أبي النِّجَاد الأمويّ مولاهم، أبو يزيد الأَيْليّ، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار [7](ت 159)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 14.

4 -

(ابْنُ شِهَابٍ) محمد بن مسلم الإمام الحافظ الحجة الشهير، أبو بكر المدنيّ، رأس الطبقة [4](ت 125) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 348.

5 -

(عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ) بن العوّام بن خُويلد الأسديّ، أبو عبد الله المدنيّ، ثقةٌ ثبت فقيهٌ مشهورٌ [3](ت 94) على الصحيح، تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 407.

ص: 494

6 -

(حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ) بن خُويلِد بن أسد بن عبد الْعُزَّى بن قُصَيّ الأسدي ابن أخي خديجة زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم، واسم أمه صفية، وقيل: فاختة، وقيل: زينب بنت زُهير بن الحارث بن أسد بن عبد العزَّى، ويكنى أبا خالد، له حديث في الكتب الستة.

روى عنه ابنه حِزَام، وابن ابن أخيه، الضحاك بن عبد الله بن خالد بن حزام، وعبد الله بن الحارث بن نوفل، وسعيد بن المسيِّب، وموسى بن طلحة، وعروة، وغيرهم.

قال موسى بن عقبة عن أبي حبيبة، مولى الزبير: سمعت حكيم بن حزام يقول: وُلدت قبل الفيل بثلاث عشرة سنة، وأنا أَعقِل حين أراد عبد المطلب أن يذبح عبد الله ابنه، وحكى الواقدي نحوه، وزاد: وذلك قبل مولد النبيّ صلى الله عليه وسلم بخمس سنين، وقُتل والد حكيم في الْفِجار

(1)

، وشهدها حكيم.

وحَكَى الزبير بن بكار: أن حكيمًا وُلد في جوف الكعبة. رَوَى الزبير، عن مصعب بن عثمان، قال: دخلت أم حكيم في نسوةٍ الكعبة، فَضَرَبها المخاض، فأُتيت بِنِطَع حين أعجلتها الولادة، فولدت في الكعبة.

قال: وكان من سادات قريش، وكان صديق النبيّ صلى الله عليه وسلم قبل المبعث، وكان يَوَدُّه ويُحِبّه بعد البعثة، ولكنه تأخر إسلامه حتى أسلم عام الفتح، وثبت في السيرة، وفي الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال:"من دخل دار حكيم بن حزام، فهو آمن"، وكان من المؤلَّفة، وشهد حُنينًا، وأُعطي من غنائمها مائة بعير، ثم حَسُن إسلامه، وكان قد شَهِد بدرًا مع الكفار، ونجا مع من نجا، فكان إذا اجتهد في اليمين قال: والذي نَجّاني يوم بدر، وكنيته: أبو خالد، قال الزبير: جاء الإسلام وفي يد حكيم الرِّفَادة، وكان يفعل المعروف، ويَصِلُ الرحم.

(1)

"الْفِجَار" بالكسر بمعنى المفاجرة، كالقتال والمقاتلة، وذلك أنه كان قتال في الشهر الحرام، ففجروا فيه جميعًا، فسُمّي الفجار، وللعرب فِجارات أربعة، والفجار الأخير هذا شهده النبيّ صلى الله عليه وسلم مع أعمامه، وعمره إذ ذاك عشرون سنة، وكانت هذه الحروب بين قريش، ومن معهم، وبين قيس عيلان. راجع:"سيرة ابن هشام" 1/ 184 - 187.

ص: 495

وقال الإمام أحمد" في "مسنده": حدثنا عتاب بن زياد، حدثنا ابن المبارك، أخبرنا الليث، حدثني عبيد الله بن المغيرة، عن عراك بن مالك، أن حكيم بن حزام قال: كان محمد صلى الله عليه وسلم أحبّ الناس إلي في الجاهلية، فلما نُبِّئ، وهاجر شهد حكيم الموسم كافرًا، فوجد حُلّةً لذي يَزَن تباع، فاشتراها بخمسين دينارًا ليهديها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقَدِم بها عليه المدينة، فأراده على قبضها هديةً، فأبى، قال عبيد الله: حسبته قال: "إنا لا نقبل من المشركين شيئًا، ولكن إن شئت بالثمن"، قال: فأعطيته حين أبي عليّ الهدية

(1)

.

ورواه الطبراني قال: حدثنا مطلب بن شعيب، حدثنا عبد الله بن صالح، حدثنا الليث، وفي رواية ابن صالح زيادة: فلبسها، فرأيتها عليه على المنبر، فلم أر شيئًا أحسن منه يومئذ فيها، ثم أعطاها أسامةَ، فرآها حكيم على أسامة، فقال: يا أسامة أتلبس حلة ذي يزن؟ قال: نعم، والله لأنا خير منه، ولَأبي خير من أبيه، فانطلقت إلى مكة، فأعجبتُهم بقوله.

وروى الواقديّ عن الضحاك بن عثمان، عن أهله، قالوا: قال حكيم: كنت تاجرًا أخرج إلى اليمن، وآتي الشام، فكنت أربح أرباحًا كثيرةً، فأعود على فقراء قومي، وابتعت بسوق عكاظ زيد بن حارثة لعمتي بستمائة درهم، فلما تزوج بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهبته زيدًا، فأعتقه، فلما حج معاوية أخذ معاوية مني داري بمكة بأربعين ألف دينار، فبلغني أن ابن الزبير قال: ما يَدرِي هذا الشيخ ما باع، فقلت: والله ما ابتعتها إلا بِزِقٍّ من خمر، وكان لا يجيء أحد يستحمله في السبيل إلا حمله.

وقال الزبير: أخبرنا إبراهيم بن حمزة، قال: كان مشركو قريش لَمّا حَصَروا بني هاشم في الشِّعب، كان حكيم تأتيه العير بالحنطة، فيُقبِلُها

(2)

الشعب، ثم يضرب أعجازها، فتدخل عليهم، فيأخذون ما عليها.

وفي "الصحيح" أنه سأل النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: أشياء كنت أفعلها في

(1)

أخرجه أحمد 3/ 402 - 403، والطبرانيّ (3125)، ورجال أحمد ثقات، وصححه الحاكم في "المستدرك" 3/ 484 - 485، ووافقه الذهبيّ.

(2)

يقال: أقبل الإبلَ الطريقَ: أسلكها إياه، أي: وجّهها إليه.

ص: 496

الجاهلية، ألي فيها أجر؟ قال:"أسلمت على ما سلف لك من خير"، وكانت دار الندوة بيده، فباعها بعدُ من معاوية بمائة ألف درهم، فلامه ابن الزبير، فقال له: يا ابن أخي اشتريت بها دارًا في الجنة، فتصدق بالدراهم كلِّها. وكان من العلماء بأنساب قريش وأخبارها، مات سنة خمسين، وقيل: سنة أربع، وقيل: ثمان وخمسين، وقيل: سنة ستين، وهو ممن عاش مائة وعشرين سنة، شطرها في الجاهلية، وشطرها في الإسلام، قال البخاري في "التاريخ": مات سنة ستين، وهو ابن عشرين ومائة سنة، قاله إبراهيم بن المنذر، ثم أسند من طريق عُمر بن عبد الله بن عروة، عن عروة، قال: مات لعشر سنوات من خلافة معاوية رضي الله عنه

(1)

.

قال الحافظ الذهبيّ: يبلغ عدد مسنده أربعين حديثًا له في "الصحيحين" أربعة أحاديث متفق عليها

(2)

.

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب أربعة أحاديث فقط، هذا (123)، وأعاده بعد مرتين، وحديث (1034): "خير الصدقة عن ظهر غنى

"، و (1035): "إن هذا المال خضرة حلوة

"، و (1532): "البيّعان بالخيار ما لم يتفرّقا

"، والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف، وفيه التحديث، والإخبار بصيغة الإفراد.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فتفرّد به هو والنسائيّ، وابن ماجه.

3 -

(ومنها): أن نصفه الأول مسلسلٌ بالمصريين، ويونس، وإن كان أيليًّا، إلا أنه نزل مصر، ونصفه الثاني مسلسلٌ بالمدنيين.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ: ابن شهاب، عن عروة.

(1)

راجع: "الإصابة" 2/ 97 - 98، و"تهذيب التهذيب" 1/ 473 - 474.

(2)

"سير أعلام النبلاء" 3/ 44 - 51.

ص: 497

5 -

(ومنها): أن فيه عروة أحد الفقهاء السبعة، وقد تقدّم ذكرهم غير مرّة.

6 -

(ومنها): أن صحابيه رضي الله عنه ذو مزايا فاخرة:

[منها]: أنه وُلد في جوف الكعبة، كما تقدّم آنفًا، وأسلم عام الفتح، ومات بالمدينة سنة أربع وخمسين

(1)

، وإليه أشار السيوطيّ في "ألفيّة الحديث" حيث قال:

ثُمَّ حَكِيمٌ مُفْرَدٌ بِأَنْ وُلِدْ

بِكَعْبَةٍ وَمَا لِغَيْرِهِ عُهِدْ

وَمَاتَ مَعْ حَسَّانَ عَامَ أَرْبَعِ

مِنْ بَعْدِ خَمْسِينَ عَلَى تَنَازُعِ

[ومنها]: أنه ممن عاش مائة وعشرين سنة، نصفها في الإسلام، ونصفها في الجاهليّة، وهم عدة من الصحابة رضي الله عنهم، وإليه أشار السيوطيّ أيَضًا بقوله:

وَعِدَّةٌ مِنَ الصِّحَابِ وَصَلُوا

عِشْرِينَ بَعْدَ مَائَةٍ تُكَمَّلُوا

سِتُّونَ فِي الإِسْلَامِ حَسَّانٌ يَلِي

حُوْيِطِبٌ مَخْرَمَةُ بْنُ نَوْفَلِ

ثُمَّ حَكِيمٌ حَمْنَنٌ سَعِيدُ

وَآخَرُونَ مُطْلَقًا لَبِيدُ

عَاصِمُ سَعْدٌ نَوْفَلٌ مُنْتَجِعُ

لَجْلَاجُ أَوْسٌ وَعَدِيٌّ نَافِعُ

نَابِغَةٌ ثُمَّةَ حَسَّانُ انْفَرَدْ

أَنْ عَاشَ ذَا أَبٌ وَجَدُّهُ وَجَدْ

[ومنها]: أنه كان معروفًا بكثرة الجود جاهليّة وإسلامًا، أعتق في الجاهليّة مائة رقبة، وأعتق في الإسلام مثلها، وساق في الجاهليّة مائة بدنة، وفي الإسلام مثلها، وأخرج الطبرانيّ عن مصعب بن ثابت، قال: بلغني أن حكيم بن حزام حضر يوم عرفة، ومعه مائة رقبة، ومائة بدنة، ومائة بقرة، ومائة شاة، فقال:"الكل لله"، وهو مرسل.

ولما توفّي الزبير رضي الله عنه لقي حكيم عبد الله بن الزبير، فقال له: كم ترك أخي من الدين؟ قال: ألف ألف، قال حكيم: عليّ خمسمائة ألف، ومناقبه جمة رضي الله عنه، والله تعالى أعلم.

(1)

والمراد من قولهم: عاش في الإسلام ستين سنة: أي من حين ظهور الإسلام وانتشاره إلى حين وفاته، لا من حين إسلامه إلى وفاته؛ لأن ذلك أقل من ستين بكثير؛ لأنه أسلم عام الفتح، ومات سنة (54 هـ) فيكون ما بينهما ستًّا وأربعين سنة، أو نحو ذلك، فتأمله، والله تعالى أعلم.

ص: 498

شرح الحديث:

عن عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ (أَنَّ حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ) رضي الله عنه (أَخْبَرَهُ) أي أخبر عروة (أَنَّهُ قَالَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: أَرَأَيْتَ) أي أخبرني (أُمُورًا كُنْتُ أَتَحَنَّثُ بِهَا) بالثاء المثلثة: أي أتقرّب، والحنث في الأصل: الإثم، وكأنه أراد: أُلقي عني الإثم، وفي الرواية التالية:"أتبرّر بها"، وهو بمعناه (فِي الْجَاهِلِيَّةِ) المراد أيام كفره، لا الأيام التي قبل ظهور الإسلام، فكأنه قال: في جاهليّتي، زاد في الرواية التالية:"من صدقة، أو عَتَاقة، أو صِلَة رَحِم"، وفي رواية هشام بن عروة عن أبيه الآتية: أن حكيم بن حزام أعتق في الجاهلية مائة رقبة، وحمل على مائة بعير، ثم أعتق في الإسلام مائة رقبة، وحمل على مائة بعير. (هَلْ لِي فِيهَا مِنْ شَيْءٍ؟) أي من أجر وثواب، كما فسّرته الرواية التالية:"أفيها أجر؟ "، وليس المراد مطلق الشيء؛ لأن له بها ذكرًا جميلًا على ألسنة الناس (فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"أَسْلَمْتَ عَلَى مَا أَسْلَفْتَ) أي قدّمته (مِنْ خَيْرٍ") قال المازريّ: ظاهره أن الخير الذي أسلفه كُتِب له، والتقدير: أسلمت على قبول ما سلف لك من خير، وقال الحربي: معناه: ما تَقَدَّم لك من الخير الذي عملته هو لك، كما تقول: أسلمتُ على أن أحوز لنفسي ألف درهم، وأما من قال: إن الكافر لا يثاب، فحمل معنى الحديث على وجوه أخرى:

(منها): أن يكون المعنى: إنك بفعلك ذلك اكتسبت طباعًا جميلةً، فانتفعت بتلك الطباع في الإسلام، وتكون تلك العادة قد مَهَّدت لك معونة على فعل الخير.

(ومنها): أنك اكتسبت بذلك ثناءً جميلًا، فهو باق لك في الإسلام.

(ومنها): أنك ببركة فعل الخير هُديت إلى الإسلام؛ لأن المبادئ عنوان الغايات.

(ومنها): أنك بتلك الأفعال رُزِقت الرزق الواسع.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: بُعد هذه التأويلات عن معنى النصّ غاية البعد مما لا يخفى على بصير، وإنما ذكرتها؛ لتُعلَم، لئلا يُغترّ بها، فالحقّ الذي لا مرية فيه هو ما قاله المازريّ والحربيّ رحمهما الله تعالى، فتبصّر، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

ص: 499

وقال ابن الجوزيّ: قيل: إن النبيّ صلى الله عليه وسلم وَرَّى عن جوابه، فإنه سأل: هل لي فيها من أجر؟ فقال: "أسلمتَ على ما سَلَفَ من خير"، والعتق فِعْلُ خير، وكأنه أراد إنك فعلت الخير، والخير يُمدَح فاعله، ويجازى عليه في الدنيا، فقد رَوَى مسلم من حديث أنس رضي الله عنه مرفوعًا:"أن الكافر يثاب في الدنيا بالرزق على ما يفعله من حسنة". انتهى.

قال الجامع: قول ابن الجوزيّ هذا من جنس التأويلات المفنّدة، والحقّ ما سبق.

قال النوويّ بعد هذه الأقوال: وذهب ابن بطال وغيره من المحققين إلى أن الحديث على ظاهره، وأنه إذا أسلم الكافر، ومات على الإسلام يثاب على ما فعله من الخير في حال الكفر، واستَدَلُّوا بحديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أسلم الكافر، فحسن إسلامه، كَتَب الله تعالى له كلَّ حسنة زَلَفَها، ومحا عنه كل سيئة زَلَفها، وكان عمله بعد ذلك، الحسنةُ بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، والسيئة بمثلها إلا أن يتجاوز الله عنها"، ذكره الدارقطنيّ في غريب حديث مالك، ورواه عنه من تسع طُرُق، وثبت فيها كلها أن الكافر إذا حسن إسلامه، يُكتب له في الإسلام كلُّ حسنة عملها في الشرك. قال ابن بطال بعد ذكره الحديث: ولله تعالى أن يتفضل على عباده بما يشاء، لا اعتراض لأحد عليه، قال: وهو كقوله صلى الله عليه وسلم لحكيم بن حزام رضي الله عنه: "أسلمت على ما أسلفت من خير"، والله أعلم.

وأما قول الفقهاء: لا يصح من الكافر عبادةٌ، ولو أسلم لم يُعْتَدَّ بها، فمرادهم أنه لا يُعتدّ له بها في أحكام الدنيا، وليس فيه تعرّض لثواب الآخرة، فإن أقدم قائل على التصريح بأنه إذا أسلم لا يثاب عليها في الآخرة، رُدَّ قوله بهذه السنة الصحيحة.

وقد يُعْتَدّ ببعض أفعال الكفار في أحكام الدنيا، فقد قال الفقهاء: إذا وجب على الكافر كفارةُ ظهار، أو غيرها فكفَّر في حال كفره، أجزأه ذلك، وإذا أسلم لم تجب عليه إعادتها، واختَلَف أصحاب الشافعي رضي الله عنه فيما إذا أجنب، واغتسل في حال كفره، ثم أسلم، هل تجب عليه إعادة الغسل أم لا؟ وبالغ بعض أصحابنا - يعني الشافعيّة - فقال: يصحّ من كل كافر كلُّ طهارة،

ص: 500

من غسل، ووضوء، وتيمم، وإذا أسلم صَلَّى بها. انتهى كلام النوويّ.

ونقل القرطبيّ عن الحربيّ أنه قال: معنى "أسلمت على ما سلف لك": يعني أن ما تقدّم لك من الخير الذي عملته هو لك، كما تقول: أسلمتَ على ألف درهم: أي على أن أحرزها لنفسه.

قال القرطبيّ: هذا الذي قاله الحربيّ هو أشبهها، وأولاها، وهو الذي أشرنا إليه في الترجمة: أي حيث قال: "باب الإسلام إذا حَسُنَ هَدَم ما قبله من الآثام، وأحرز ما قبله من البرّ". انتهى

(1)

.

وقال الأبيّ: يُحمل الحديث على ظاهره من إثابة الكافر، وإليه ذهب ابن بطّال، واحتجّ بحديث أخرجه الدارقطنيّ، ثم ذكر حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه المذكور، ثم قال: الحديث نصّ في القضيّة، وهو تفسير لما في الأمّ

(2)

. انتهى

(3)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي حقّقه ابن بطال، وأقرّه عليه النوويّ، والأبيّ، وكذا القرطبيّ تبعًا للحربيّ هو الحقّ الذي لا محيد عنه؛ لظاهر حديث حكيم بن حزام رضي الله عنه أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه فلا ينبغي الالتفات إلى التأويلات المخالفة له المعارضة لظواهر النصوص، فتبصّر، ولا تكن أسير التقليد، فإنه ملجأ البليد، ومُستراح العنيد، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

وقوله: (وَالتَّحَنُّثُ: التَّعَبُّدُ) تفسير من بعض الرواة، والظاهر أنه من ابن شهاب؛ لأنه معروفٌ بهذا، وفسّره في الرواية الآتية: بالتبرّر، وهو فعل البرّ، وهو الطاعة، قال أهل اللغة: أصل التحنّث أن يفعل فِعْلًا، يخرج به من الْحِنْث، وهو الإثم، وكذا تَأَثَّم، وتَحَرَّج، وتَهَجَّد: أي فَعَل فعلًا يخرج به عن الإثم، والْحَرَج، والْهُجُود، قاله النوويّ

(4)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

(1)

"المفهم" 1/ 332.

(2)

يعني حديث حكيم بن حزام الذي أخرجه مسلم هنا في "صحيحه".

(3)

"شرح الأبيّ" 1/ 232 - 233.

(4)

"شرح النوويّ" 2/ 142.

ص: 501

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث حكيم بن حزام رضي الله عنه هذا متّفق عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه المصنّف هنا في "الإيمان"[58/ 330 و 331 و 332 و 333](123)، و (البخاريّ) في "الزكاة"(1436)، و"البيوع"(2220)، و"العتق"(2538)، و"الأدب"(5992)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(19685)، و (الحميديّ) في "مسنده"(554)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 402، و 434)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(205 و 206 و 208 و 209 و 210)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(317 و 318 و 319 و 320 و 321)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(9/ 123 و 10/ 316)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(3086 و 3087)، و (البغويّ) في "شرح السنة"(27)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان حكم العمل الصالح الذي عمله الكافر في حال كفره، وهو أنه يُثاب عليه، قال السنديّ: هذا الحديث يدلّ على أن حسنات الكافر موقوفة إن أسلم تُقبل، وإلا تُردّ، لا مردودة، وعلى هذا، فنحو قوله تعالى:{وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ} الآية [النور: 39] محمول على من مات على الكفر، والظاهر أنه لا دليل على خلافه، وفضل الله تعالى أوسع من هذا وأكثر، فلا استبعاد فيه. قال: وإذا بقي على كفره، فإنه يُجازى على فعل الخيرات بالدنيا، فقد أخرج مسلم في "صحيحه" عن أنس بن مالك رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال:"إن الكافر إذا عَمِل حسنة أُطعم بها طُعمة من الدنيا، وأما المؤمن، فإن الله يَدَّخِر له حسناته في الآخرة، ويُعْقِبه رِزقًا في الدنيا على طاعته"، وقد سبق آنفًا ذكر اختلاف العلماء في توجيه هذا الحديث، وأن الصواب أنه على ظاهره من أن ما عمله الشخص في حال كفره من الخيرات يؤجر عليه، وما عدا ذلك من الأقوال، فإنها مردودة بالنصوص الواضحة، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

2 -

(ومنها): بيان فضل هذا الصحابي الجليل رضي الله عنه، حيث جبله الله تعالى على طباع جميلة، وأخلاق حميدة، دعته أخيرًا إلى اعتناق الإسلام، فلما أخبره صلى الله عليه وسلم بأن أعماله التي أحسن بها في جاهليته مثاب عليها، نذر على

ص: 502

نفسه: أنه ليعملنّ في الإسلام بمثل ما عمل به في جاهليته من الخيرات، فعمله، بل زاد عليه.

3 -

(ومنها): بيان فضل الله سبحانه وتعالى، حيث إنه لا يُضيع أجر من أحسن عملًا، ولو في حال كفره، إذا وفّقه الله تعالى أخيرًا للإسلام.

4 -

(ومنها): بيان فضل الإسلام، حيث عادت بركته على ما صدر قبله من الخيرات، فقُبل بسببه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[331]

(

) - (وَحَدَّثنَا حَسَنٌ الْحُلْوَانِيُّ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ الْحُلْوَانِيُّ: حَدَّثَنَا، وَقَالَ عَبْدٌ: حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ، وَهُوَ ابْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْر، أَنَّ حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ أَخْبَرَهُ، أَنهُ قَالَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَيْ رَسُولَ الله، أَرَأَيْتَ أُمُورًا، كنْتُ أَتَحَنَّثُ بِهَا فِي الْجَاهِلِيَّة، مِنْ صَدَقَةٍ، أَوْ عَتَاقَةٍ، أَوْ صِلَةِ رَحِمٍ، أَفِيهَا أَجْرٌ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَسْلَمْتَ عَلَى مَا أَسْلَفْتَ مِنْ خَيْرٍ").

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(حَسَنٌ الْحُلْوَانِيُّ) هو: حسن بن عليّ بن محمد الهذليّ، أبو عليّ الخلال الْحُلوانيّ، نزيل مكة، ثقة حافظ [11](ت 242)(خ م د ت ق) تقدم في "المقدمة" 4/ 24.

2 -

(عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ) بن نصر الْكِسيّ، أبو محمد، قيل: اسمه عبد الحميد، ثقةٌ حافظٌ [11](ت 249)(خت م ت) تقدم في "الإيمان" 7/ 131.

3 -

(يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ) الزهريّ، أبو يوسف المدنيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ فاضلٌ، من صغار [9](ت 208)(ع) تقدم في "الإيمان" 9/ 141.

4 -

(أَبُوهُ) هو: إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهريّ، أبو إسحاق المدنيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ حجّةٌ [8](ت 185)(ع) تقدم في "الإيمان" 9/ 141.

ص: 503

5 -

(صَالِح) بن كيسان المدنيّ، أبو محمد، أو أبو الحارث، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ [4] مات بعد مائة وثلاثين، أو بعد الأربعين (ع) تقدم في "الإيمان" 9/ 141.

والباقون تقدّموا في السند الماضي.

ومن لطائف هذا الإسناد: أن فيه ثلاثةً من التابعين، يروي بعضهم عن بعض: صالح، عن ابن شهاب، عن عروة.

وقوله: (أَيْ رَسُولَ اللهِ)"أي" من حروف النداء التي ذكرها ابن مالك في "الخلاصة" بقوله:

وِللْمُنَادَى النَّاءِ أَوْ كَالنَّاءِ "يَا"

وَ"أَيْ" وَ"آي" ثُمَّ "أَيَا" كَذَا "هَيَا"

وَالْهَمْزُ لِلدَّانِي وَ"وَا" لِمَنْ نُدِبْ

أَوْ"يَا" وَغَيْرُ "وَا" لَدَى اللَّبْسِ اجْتُنِبْ

وقوله: (مِنْ صَدَقَةٍ) متعلّق بمحذوف، حال من "أمور".

وقوله: (أَوْ عَتَاقَةٍ) بفتح العين، وهكذا وقع عند البخاريّ في "الزكاة" بـ"أو"، ووقع عند أبي عوانة في "مسنده" بالواو، وكذا عند البخاريّ في "كتاب الأدب".

وقوله: ("أَسْلَمْتَ عَلَى مَا أَسْلَفْتَ مِنْ خَيْرٍ") أي على الذي قدّمته من عمل خير، قال في "القاموس": السَّلَف محرَّكةً: كلُّ عمل صالح قدّمته. انتهى

(1)

.

والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[332]

(

) - (حَدَّثنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالَا: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاق، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه الحنظليّ المروزيّ الإمام الحجة الثبت [10](ت 238)(خ م د ت س) تقدم في "المقدمة" 5/ 28.

2 -

(عَبْدُ الرَّزَّاقِ) بن همّام الْحميريّ مولاهم، أبو بكر الصنعانيّ، ثقة حافظٌ، تغيّر في آخره، وكان يتشيّع [9](211)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.

(1)

"القاموس المحيط" ص 738.

ص: 504

3 -

(مَعْمَرٌ) بن راشد الأزديّ مولاهم، أبو عُروة البصريّ، نزيل اليمن، ثقة ثبت فاضل، من كبار [7](154)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.

والباقيان تقدّما.

وقوله: (عَنِ الزُّهْرِيِّ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ) أي عن عروة، عن حكيم بن حزام.

[تنبيه]: طريقُ معمرٍ عن الزهريّ ساقها البخاريّ في "صحيحه" في "كتاب الزكاة"، فقال:

(1436)

حدثنا عبد الله بن محمد، حدثنا هشام، حدثنا معمر، عن الزهريّ، عن عروة، عن حكيم بن حِزَام رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، أرأيت أشياءَ، كنت أَتَحَنَّثُ بها في الجاهلية، من صدقة، أو عتاقة، وصلة رحم، فهل فيها من أجر؟ فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"أسلمت على ما سلف من خير". انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[

] (

) - (ح) وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيه، عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله، أَشْيَاءَ كُنْتُ أَفْعَلُهَا فِي الْجَاهِلِيَّة، قَالَ هِشَامٌ: يَعْنِيَ أَتبَرَّرُ بِهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"أَسْلَمْتَ عَلَى مَا أَسْلَفْتَ لَكَ مِنَ الْخَيْرِ"، قُلْتُ: فَوَالله، لَا أَدَعُ شَيْئًا صَنَعْتُهُ فِي الْجَاهِلِيَّة، إِلَّا فَعَلْتُ فِي الْإِسْلَامِ مِثْلَهُ).

رجال هذا الإسناد: خمسة أيضًا:

1 -

(أَبُو مُعَاوِيَةَ) محمد بن خازم الضرير الكوفيّ، ثقةٌ أحفظ الناس لحديث الأعمش، وقد يَهِم في حديث غيره، من كبار [9](ت 195)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 117.

2 -

(هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ) بن الزبير الأسديّ، أبو المنذر المدنيّ، ثقة، فقيهٌ [5](ت 145)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 350.

والباقون تقدّموا.

وقوله: (أَشْيَاءَ كُنْتُ أَفْعَلُهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ) هكذا رواية المصنّف هنا

ص: 505

"أشياء" دون ذكر "أرأيت"، وهي مذكورة عند أبي عوانة في "مسنده" من هذا الوجه، وضُبط في النسخ "أشياء" بالنصب، وله وجه، وهو أن يقدّر له "أرأيتَ" بدليل الروايات الأخرى، ويحتمل أن يكون مرفوعًا على الابتداء، والجملة بعده صفته، والخبر محذوف، تقديره:"هل لي فيها من أجر؟ ".

وقوله: (قَالَ هِشَامٌ: يَعْنِي أَتَبَرَّرُ بِهَا) أي قال هشام بن عروة مفسّرًا، وموضّحًا معنى قوله:"أفعلها في الجاهلية"، ومعنى "أتبرّر" بالموحّدة، وراءين الأولى ثقيلة: أي أطلب بها البرّ، وطرح الحنث

(1)

.

وقوله: (لَا أَدَعُ شَيْئًا) أي لا أترك فِعْلَ شيءٍ، من البرّ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[333]

(

) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ نُمَيْرٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيه، أَنَّ حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ أَعْتَقَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِائَةَ رَقَبَةٍ، وَحَمَلَ عَلَى مائَةِ بَعِيرٍ، ثُمَّ أَعْتَقَ فِي الْإِسْلَامِ مائَةَ رَقَبَةٍ، وَحَمَلَ عَلَى مائَةِ بَعِيرٍ، ثُمَّ أتى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِهِمْ).

رجال هذا الإسناد: خمسة أيضًا:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) هو: عبد الله بن محمد بن أبي شيبة المذكور قبل باب.

2 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ نُمَيْرٍ) الهمدانيّ الكوفي المذكور قبل باب أيضًا.

والباقون تقدّموا في الماضي.

وقوله: (عَنْ أَبِيه، أَنَّ حَكيمَ بْنَ حِزَامٍ) ظاهر سياق هذه الرواية الإرسال؛ لأن عروة لم يُدرك زمن هذه القصّة، والقاعدة أن من حكى قصّة لم يُدركها تكون روايته مرسلة، كما قال السيوطيّ في "ألفيّة الحديث":

وَكُلُّ مَنْ أَدْرَكَ مَا لَهُ رَوَى

مُتَّصِلٌ وَغَيْرُهُ قَطْعًا حَوَى

(1)

راجع: "الفتح" 5/ 201 "كتاب العتق" رقم (2538).

ص: 506

لكن رواية هشام التي قبلها بلفظ "عن حكيم بن حزام" بيّنت الاتصال، ولفظ البخاريّ في "كتاب العتق" من طريق أبي أسامة عن هشام: أخبرني أبي، أن حكيم بن حزام رضي الله عنه أعتق في الجاهلية مائة رقبة، وحمل على مائة بعير، فلما أسلم حمل على مائة بعير، وأعتق مائة رقبة، قال: فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله، أرأيت أشياء كنت أصنعها في الجاهلية، كنت أتحنث بها؟ - يعني أتبرر بها - قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أسلمت على ما سلف لك من خير". انتهى.

فقال في "الفتح": ظاهر سياقه الإرسال؛ لأن عروة لم يدرك زمن ذلك، لكن بقيّة الحديث أوضحت الوصل، وهي قوله:"قال: فسألت"، ففاعل "قال" هو حكيم، فكأن عروة قال: قال حكيم، فيكون بمنزلة قوله:"عن حكيم". انتهى

(1)

.

وقوله: (ثُمَّ أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم) ظاهره أن إتيانه بعدما فعل في الإسلام مثلما فعله في الجاهليّة، والرواية التي قبل هذا تدلّ على أنه إنما أتى قبل ذلك؛ حيث قال: "فوالله لا أدع شيئًا صنعته في الجاهليّة

إلخ"، فيحتمل أن تكون "ثمّ" لمجرّد العطف دون الترتيب، كما قال تعالى:{وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ} الآية [الأعراف: 11]، ويحتمل أن يكون أتى مرتين، قبل أن يفعل، وبعدما فعل؛ زيادة في الإطمئنان بما أخبره به النبيّ صلى الله عليه وسلم، والله تعالى أعلم.

وقوله: (فَذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِهِمْ) الضمير لعبد الله بن نُمير: أي ذكر عبد الله نحو حديث الرواة السابقين.

[تنبيه]: رواية ابن نمير ساقها الحافظ أبو نُعيم في "مستخرجه"(1/ 192)، فقال:

(320)

حدثنا أبو بكر الطلحيّ، ثنا عبيد الله بن غنام، ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا ابن نمير، عن هشام بن عروة، عن أبيه، أن حكيم بن حزام أعتق في الجاهلية مائة رقبة، وحمل على مائة بعير، ثم أعتق في الإسلام مائة رقبة، وحمل على مائة بعير، ثم أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، أرأيت شيئًا كنت أفعله في الجاهلية، أتحنث به، هل لي فيه أجر؟ فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:

(1)

"الفتح" 5/ 201 "كتاب العتق".

ص: 507

"أسلمت على ما سلف لك من خير". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

‌59 - (بَابُ وُجُوبِ صِدْقِ الإِيمَانِ وَإِخْلَاصِهِ)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[334]

(124) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ إِدْرِيسَ، وَأَبُو مُعَاوَيَةَ، وَوَكِيعٌ، عَنِ الْأَعْمَش، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ الله، قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} الآية [الأنعام: 82]، شَقَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَقَالُوا: أَيُنَا لَا يَظْلِمُ نَفْسَهُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَيْسَ هُوَ كمَا تَظُنُّونَ، إِنَّمَا هُوَ كمَا قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ: {يَابُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] ").

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ إِدْرِيسَ) بن يزيد بن عبد الرحمن الأَوْديّ، أبو محمد الكوفيّ، ثقةٌ فقيهٌ عابدٌ [8](ت 192)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 24.

2 -

(وَكِيعٌ) بن الجرّاح الكوفيّ الحافظ المذكور قبل بابين.

3 -

(الْأَعْمَشُ) سليمان بن مِهْران الكوفيّ الإمام المذكور قبل بابين أيضًا.

4 -

(إِبْرَاهِيمُ) بن يزيد بن قيس بن الأسود النخعيّ، أبو عمران الكوفيّ، ثقةٌ فقيه يرسل [5](ت 96)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 52.

5 -

(عَلْقَمَةُ) بن قيس بن عبد الله النخعيّ الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ عابدٌ [2] مات بعد الستين، وقيل: بعد السبعين (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 52.

6 -

(عَبْدُ اللهُ) بن مسعود بن غافل بن حبيب الْهُذَليّ، أبو عبد الرحمن الصحابيّ الشهير رضي الله عنه (ت 32)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 11، والباقيان تقدّما في الباب الماضي، والله تعالى أعلم.

ص: 508

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رضي الله عنه.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له الترمذيّ.

3 -

(ومنها): أنه مسلسل بثقات الكوفيين، وفقهائهم.

4 -

(ومنها): أن فيه ثلاثةً من التابعين يروي بعضهم عن بعض: الأعمش، عن إبراهيم، عن خاله علقمة بن قيس.

وقال النوويّ في "شرحه": هذا إسناد رجاله كوفيّون كلهم حُفّاظ متقنون، في نهاية الجلالة، وفيهم ثلاثة أئمة جِلّةٌ فقهاء، تابعيّون، بعضهم يروي عن بعض: سليمان الأعمش، وإبراهيم النخعيّ، وعلقمة بن قيس، وقَلَّ اجتماع مثل هذا الذي اجتمع في هذا الإسناد. انتهى

(1)

.

5 -

(ومنها): أن هذا أصحّ أسانيد ابن مسعود رضي الله عنه، كما قال في "ألفيّة الحديث":

كَذَا ابْنُ مِهْرَانَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ

عَنْ عَلْقَمَةٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودِ الْحَسَنْ

6 -

(ومنها): أن فيه عبد الله مطلقًا، وقد سبق أنه إذا أُطلق عبد الله في "الصحابة" أن الأصحّ أن يُنظر في السند، فإن كان كوفيًّا كما هنا فهو ابن مسعود، وإن كان مدنيًّا، فهو ابن عمر، وإن كان مكيًّا، فهو ابن الزبير، وإن كان بصريًّا، فهو ابن عبّاس، وإن كان مصريًّا، أو شاميًّا، فهو ابن عمرو بن العاص، وإليه أشار السيوطيّ في "ألفيّة الحديث"، بقوله:

وَحَيْثُمَا أُطْلِقَ عَبْدُ اللهِ فِي

طَيْبَةَ فَابْنُ عُمَرٍ وَإِنْ يَفِ

بِمَكَّةٍ فَهْوَ ابْنُ الزُّبَيْرِ أَوْ جَرَى

بِكُوفَةٍ فَهْوَ ابْنُ مَسْعُودٍ يُرَى

وَالْبَصْرَةِ الْبَحْرُ وَعِنْدَ مَصْرِ

وَالشَّامِ مَهْمَا أُطْلِقَ ابْنُ عَمْرِو

7 -

(ومنها): أن صحابيّه رضي الله عنه من كبار علماء الصحابة رضي الله عنهم، ومن السابقين الأولين إلى الإسلام، وممن أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بأخذ القرآن عنهم، فقد أخرج الإمام أحمد، وابن ماجه بسند صحيح عن زِرّ بن حُبيش، عن عبد الله،

(1)

"شرح النووي" 2/ 144.

ص: 509

أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما بشّراه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مَن سَرّه أن يقرأ القرآن غَضًّا، كما أُنزل، فليقرأه على قراءة ابن أم عبد"، وفي لفظ قال:"غَضًّا"، أو رَطْبًا"، ولفظ: "غضًّا طريًّا".

[تنبيه]: قال الحافظ: الأعمش موصوف بالتدليس، ولكن في رواية حفص بن غياث عند البخاريّ في "صحيحه" في "قصّة إبراهيم الخليل"؛ صرّح بالتحديث، فقال: حدثنا إبراهيم، قال: ولم أر التصريح بذلك في جميع طرقه عند الشيخين وغيرهما إلا في هذا الطريق. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: بل جاء تصريحه أيضًا في رواية شعبة عنه عند ابن منده، في "الإيمان"(1/ 417)، فقال:

(266)

ثنا عبد الرحمن بن يحيى، ثنا أبو مسعود، ويونس بن حبيب، قالا: ثنا أبو داود، ثنا شعبة، قال: قال لي الأعمش: ألا أحدِّثك حديثًا جيِّدًا؟ (ح)، وأنبأ أحمد بن إسحاق، ثنا العباس بن الفضل، ومحمد بن حرب، قالا: ثنا أبو الوليد، ثنا شعبة، عن الأعمش: سمعت إبراهيم يحدث، عن علقمة، عن عبد الله، لَمّا نزلت:{الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} ، قال أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم: أيُّنا لم يلبس إيمانه بظلم؟ فنزلت: {لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ} . انتهى

(2)

. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ عَبْدِ اللهِ) بن مسعود رضي الله عنه أنه (قَالَ: لَمَّا) أي حين (نَزَلَتْ) بالبناء للفاعل، والفاعل قوله:({الَّذِينَ آمَنُوا}) وأنّث الفعل، باعتبار الآية، والمعنى لَمّا نزلت هذه الآية ({وَلَمْ يَلْبِسُوا}) أي يَخْلطوا، يقال: لَبَسْتُ الأمرَ بغيره - بفتح الباء - في الماضي، - وكسرها - في المضارع لَبْسًا، من باب ضرب: خلطته، وأما لُبس الثوب، فهو بكسر الباء في الماضي، وفتحها في المضارع، وفي التنزيل العزيز:{وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} الآية [الأنعام: 9]، أي شبّهنا عليهم، وأضللناهم كما ضلّوا ({إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} الآية [الأنعام: 82])، أصل

(1)

"الفتح" 1/ 111.

(2)

"الإيمان لابن منده" 1/ 417.

ص: 510

الظلم وضع الشيء في غير موضعه، ومن أمثال العرب في الشِّبَه:"من أشبه أباه فما ظلم"، قال الأصمعيّ: ما وضع الشَّبَهَ في غير موضعه، وفي المثل:"مَن استرعَى الذئبَ فقد ظَلَم"، والظلم أيضًا: الْجَوْر، ومجاوزة الحدّ، والظلم أيضًا: الميل عن القصد، والعرب تقول: الزم هذا الصَّوْبَ، ولا تظلم عنه، أي لا تَجُرْ عنه. قاله ابن منظور

(1)

.

وقال القاضي عياض: الظلم في كلام العرب: وضع الشيء في غير موضعه، ثم استُعمل في كلّ عَسْفٍ، فمن كفر بالله، وجحد آياته، وعبد غيره، فقد عَدَلَ عن الحقّ، وتَعَسّف في فعله، ووضع عبادته في غير موضعها، وكذلك في غير ذلك من الأشياء، ومنه قولهم: ظَلَمتُ السِّقَاءَ: إذا سقيته قبل إخراج زُبْده، وظَلَمتُ الأرضَ: إذا حَفَرتَ غير موضع الحفر، وقولهم: لزموا الطريق، فلم يظلموه: أي لم يَعْدِلوا عنه إلى غير طريق، فإطلاقه على الكفر والشرك كثير، كما في هاتين الآتين، وقيل ذلك في قوله تعالى:{فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ} الآية [فاطر: 32]، وقوله تعالى:{فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا} الآية [النمل: 52]، والمؤمن العاصي ظالمٌ من حيث تعدّيه الأوامر والنواهي، ووضعها غير موضعها، ونقص إيمانه بذلك، وقد يقع الظلم بمعنى النقص، وقد قيل ذلك في قوله تعالى:{وَمَا ظَلَمُونَا} الآية [البقرة: 57]، وفي قوله سبحانه وتعالى:{فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ} الآية [فاطر: 32]، وهو بمعنى الأول. انتهى كلام القاضي

(2)

.

فمعنى قوله: {وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام: 82]: أي لم يخلطوه بشرك.

وقال محمد بن إسماعيل التميميّ في "شرحه": معنى الآية: لم يُفسدوا إيمانهم، ويُبطلوه بكفر؛ لأن خلط الإيمان بالشرك لا يُتَصَوَّر: أي لم يَخلطوا صفة الكفر بصفة الإيمان، فتَحصُلَ لهم صفتان: إيمان متقدّم، وكفر متأخر، بأن كفروا بعد إيمانهم، ويجوز أن يكون معناه: لم يُنافقوا، فيجمعوا بينهما ظاهرًا وباطنًا: أي لم يُنافقوا، وهذا أوجه، كما قاله الحافظ

(3)

.

(1)

"لسان العرب" 12/ 373.

(2)

"إكمال المعلم" 1/ 507 - 508.

(3)

"الفتح" 1/ 110 - 111 "كتاب الإيمان" رقم الحديث (32)، و"عمدة القاري" 1/ 340.

ص: 511

(شَقَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَقَالُوا: أَيُّنَا) مضاف، ومضاف إليه مبتدأ خبره جملة قوله:(لَا يَظْلِمُ نَفْسَهُ؟) والجملة مقول القول، وفي رواية للبخاريّ:"أيّنا لم يظلم؟ "، بدون ذكر "نفسه"، وفي رواية له:"أينا لم يَلْبِس إيمانه بظلم؟ ".

والاستفهام للإنكار، أي ليس منا من لا يظلم نفسه.

(فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَيْسَ هُوَ كَمَا تَظُنُّونَ) أي ليس الأمر، أو ليس الظلم كما تظنّونه، من أن المراد به ظلم الإنسان نفسه (إِنَّمَا هُوَ كَمَا قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ) اختَلَف العلماء في نبوة لقمان، قال الإمام أبو إسحاق الثعلبيّ: اتَّفَقَ العلماء على أنه كان حكيمًا، ولم يكن نبيًّا إلا عكرمة، فإنه قال: كان نبيًّا، وتفرد بهذا القول، وأما ابنه الذي قال له: لا تشرك بالله، فقيل: اسمه أنعم، ويقال: مِشْكَم، والله تعالى أعلم، ذكره النوويّ

(1)

.

وقال الحافظ ابن كثير في "تفسيره": هو لقمان بن عنقاء بن سدون، واسم ابنه ثاران في قول السهيليّ، واختَلَف السلف في لقمان، هل كان نبيًّا، أو عبدًا صالحًا من غير نبوة؟ على قولين: الأكثرون على الثاني، وقال سفيان الثوريّ، عن الأشعث، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: كان لقمان عبدًا حبشيًّا نَجّارًا، قال: وقال شعبة، عن الحكم، عن مجاهد: كان لقمان عبدًا صالحًا، ولم يكن نبيًّا، وقال الأعمش: قال مجاهد: كان لقمان عبدًا أسودَ، عظيم الشفتين، مُشَقَّق القدمين، وقال حَكّام بن سَلْم، عن سعيد الزَّبَيديّ، عن مجاهد: كان لقمان الحكيم عبدًا حبشيًّا، غليظ الشفتين، مصفح القدمين، قاضيًا على بني إسرائيل. وذكر غيره أنه كان قاضيًا على بني إسرائيل في زمان داود.

ثم قال ابن كثير - بعد ذكر الآثار -: فهذه الآثار، منها ما هو مُصَرَّح فيه بنفي كونه نبيًّا، ومنها ما هو مُشْعِر بذلك؛ لأن كونه عبدًا قد مَسّه الرّقّ، ينافي كونه نبيًّا؛ لأن الرسل كانت تبعث في أحساب قومها، ولهذا كان جمهور السلف على أنه لم يكن نبيًّا، وإنما يُنقَل كونه نبيًّا عن عكرمة، إن صَحّ السند

(1)

"شرح النوويّ" 2/ 144.

ص: 512

إليه، فإنه رواه ابن جرير، وابن أبي حاتمِ من حديث وكيع، عن إسرائيل، عن جابر، عن عكرمة، قال: كان لقمان نبيًّا، وجابر هذا هو ابن يزيد الجعفيّ، وهو ضعيفٌ. انتهى كلام ابن كثير باختصار

(1)

، وهو تحقيقٌ حسنٌ، والله تعالى أعلم.

({يَابُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13]) يعني: أن المراد هنا هو الظلم العظيم، وزاد فيه أبو نعيم في "مستخرجه"، من طريق سليمان بن حرب، عن شعبة بعد قوله:{إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} : "فطابت أنفسنا"، وفي رواية للبخاريّ: "إنما هو الشرك، ألم تسمعوا إلى ما قال لقمان

إلخ".

وحاصل المعنى أن الصحابة رضي الله عنهم فهموا الظلم على الإطلاق، فشقّ عليهم ذلك: فبيّن النبيّ صلى الله عليه وسلم أن المراد: الظلم المقيّد، وهو الظلم الذي لا ظلم بعده.

وقال الخطّابيّ: إنما شقّ عليهم؛ لأن ظاهر الظلم الافتيات بحقوق الناس، والافتيات السبق إلى الشيء، وما ظلموا به أنفسهم من ارتكاب المعاصي، فظنّوا أن المراد هنا: معناه الظاهر، فأنزل الله تعالى الآية، ومن جعل العبادة، وأثبت الربوبيّة لغير الله تعالى فهو ظالم، بل هو أظلم الظالمين

(2)

.

[فإن قلت]: إن ظاهر هذه الرواية أن آية لقمان كانت معلومة عندهم، ولذلك نَبّههم النبيّ صلى الله عليه وسلم عليها، حيث قال: "إنما هو كما قال لقمان لابنه

إلخ" وهذا يخالف ما وقع عند البخاريّ من طريق شعبة، عن الأعمش: "لَمّا نزلت: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام: 82] قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيُّنا لم يَظلِم؟، فأنزل الله عز وجل:{إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} "؛ لأن ظاهره أن هذا السؤال هو سبب نزول آية لقمان.

[قلت]: يُجاب بأنه يحتمل أن يكون نزولها وقع في الحال، فتلاها عليهم النبيّ صلى الله عليه وسلم، ثم نبّههم عليها، فتلتئم الروايتان.

(1)

راجع: "تفسير ابن كثير"(3/ 444).

(2)

راجع: "عمدة القاري" 1/ 340.

ص: 513

قال الخطابيّ: كان الشرك عند الصحابة أكبر من أن يُلَقَّب بالظلم، فحَمَلوا الظلم في الآية على ما عداه، يعني: من المعاصي، فسألوا عن ذلك، فنزلت هذه الآية.

قال الحافظ: كذا قال، وفيه نظر، والذي يظهر لي أنهم حملوا الظلم على عمومه، الشرك فما دونه، وهو الذي يقتضيه صنيع البخاريّ، وإنما حملوه على العموم؛ لأن قوله:{بِظُلْمٍ} نكرةٌ في سياق النفي، لكن عمومها هنا بحسب الظاهر.

قال المحققون: إن دخل على النكرة في سياق النفي ما يؤكد العموم، ويقويه، نحو "من" في قوله: ما جاءني من رجل، أفاد تنصيص العموم، وإلا فالعموم مستفاد بحسب الظاهر، كما فهمه الصحابة من هذه الآية، وبَيَّنَ لهم النبيّ صلى الله عليه وسلم أن ظاهرها غير مراد، بل هو من العام الذي أريد به الخاص، فالمراد بالظلم أعلى أنواعه، وهو الشرك.

[فإن قيل]: من أين يلزم أنّ مَنْ لَبَسَ الإيمانَ بظلم لا يكون آمنًا، ولا مهتديًا حتى شَقّ عليهم، والسياق إنما يقتضي أن مَن لم يوجد منه الظلم فهو آمن ومهتد؟، فما الذي دَلّ على نفي ذلك، عمن وُجِد منه الظلم؟.

[فالجواب]: أن ذلك مستفاد من المفهوم، وهو مفهوم الصفة، أو مستفاد من الاختصاص المستفاد من تقديم {لَهُمُ} على الأمن: أي لهم الأمن لا لغيرهم، كذا قال الزمخشريّ في قوله تعالى:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ} ، وقال في قوله تعالى:{كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا} [المؤمنون: 100]: تقديم {هُوَ} على {قَائِلُهَا} يفيد الاختصاص: أي هو قائلها لا غيره.

[فإن قيل]: لا يلزم من قوله: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} أن غير الشرك لا يكون ظلمًا.

[فالجواب]: أن التنوين في قوله: {لَظُلْمٌ} للتعظيم، وقد بَيَّن ذلك استدلال الشارع بالآية الثانية، فالتقدير: لم يَلْبِسوا إيمانهم بظلم عظيم: أي بشرك؛ إذ لا ظلم أعظم منه، وقد وَرَد ذلك صريحًا عند البخاريّ في قصة إبراهيم الخليل؛ من طريق حفص بن غياث، عن الأعمش، ولفظه: "قلنا: يا رسول الله، أينا لم يظلم نفسه؟ قال: ليس كما تقولون، لم يلبسوا إيمانهم

ص: 514

بظلم: بشرك، أوَلمْ تسمعوا إلى قول لقمان، فذكر الآية"

(1)

.

[فإن قلت]: لِمَ انحصَرَ الظلمُ العظيمُ على الشرك؟.

[فالجواب]: أن عظمة هذا الظلم معلومة بنصّ الشارع، وعظمة غيره غير معلومة، والأصل عدمها

(2)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا في "الإيمان"[59/ 334 و 335](124)، و (البخاريّ) في "الإيمان"(32)، و"أحاديث الأنبياء"(3428 و 3429)، و"التفسير"(4629 و 4776)، و"استتابة المرتدّين"(6918 و 6937)، و (الترمذيّ) في "التفسير"(3067)، و (النسائيّ) في "التفسير" كما في "تحفة الأشراف"(7/ 100)، و (أبو داود الطيالسيّ) في "مسنده"(270)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 387 و 424 و 444)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(212 و 213 و 215 و 216 و 217 و 218)، و (أبو نُعيم) في "مستخرجه"(322 و 323 و 324)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(253)، و (الطبريّ)(7/ 255 و 256)، و (ابن منده) في "الإيمان"(265 و 266 و 267 و 268)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(10/ 185)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): وجوب صدق الإيمان، وأن ذلك لا يكون إلا باجتناب أنواع الشرك، وإخلاص الإيمان، وهو وجه المطابقة في إيراد هذا الحديث في أبواب الإيمان.

2 -

(ومنها): بيان تفاوت الظلم في أفراده، وأن الشرك أعظم أنواعه، ليس فوقه ظلم.

(1)

راجع: "الفتح" 1/ 110.

(2)

راجع: "عمدة القاري" 1/ 341.

ص: 515

3 -

(ومنها): أن النكرة في سياق النفي تعمّ، وأن الخاص يَقْضِي على العامّ، والْمُبَيَّنَ على الْمُجْمَل

(1)

.

وقال القرطبيّ: في هذا الحديث ما يدلّ على أن النكرة في سياق النفي تعمّ؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم فهموا من ذلك العموم كلّ ظلم، وأقرّهم النبيّ صلى الله عليه وسلم على ذلك الفهم، وبيّن لهم أن المراد بذلك ظلم مخصوص. انتهى

(2)

.

واعترض القاضي عياض على من استدلّ بالحديث للعموم، فقال: وليس يظهر لي في هذا الحديث حجة للعموم مِن حمل بعض الصحابة الآية على ظلم الإنسان نفسه، وكل ظلم، بل أقول: إن طريقهم رضي الله عنهم فيه الطريقة الْمُثْلَى، والنظر الأَولى من حملهم لفظ الظلم على أظهر معانيه، وأكثر استعمالاته في مُحتَمَلاته، فإنه وإن كان يُطلق على الكفر وغيره لغةً وشرعًا، فعُرفُ استعماله غالبًا، والأظهر من مفهومه إطلاقه في التعسّف، والتعدّي، والعدول عن الحقّ في غير الكفر، كما أن لفظ الكفر يُطلق على معان، من جحد النعم، والحقوق، وسترها، لكن مجرَّد إطلاقه، وغالب شيوعه على ضدّ الإيمان، فعلى هذا وقع فهم الصحابة المراد بالظلم، وتأويلهم الآية، وإشفاقهم من ذلك؛ إذ ورد دون قرينة، ولا بيان يصرفه عن أظهر وجوهه إلى بعض مُحتَمَلاته، حتى بيّن لهم النبيّ صلى الله عليه وسلم مراد ربه تعالى بما ذكره في الحديث. انتهى

(3)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي قاله القاضي رادًّا على من استدلّ للعموم بالحديث هو عين ما قاله المستدلّون، فمن تأمّل حقيقة ما قرّره وجده هو معنى ما قالوه، والحقّ أن استدلالهم صحيح، كما سبق في تحقيق القرطبيّ، والله تعالى أعلم.

4 -

(ومنها): أن اللفظ يُحْمَل على خلاف ظاهره؛ لمصلحة دفع التعارض.

5 -

(ومنها): أن المعاصي لا تُسَمَّى شركًا.

(1)

راجع: "الفتح" 1/ 111.

(2)

"المفهم" 1/ 335.

(3)

"إكمال المعلم" 1/ 508 - 509.

ص: 516

6 -

(ومنها): أنّ مَن لم يُشرِك بالله شيئًا، فله الأمن، وهو مهتدٍ.

[فإن قيل]: إن العاصي قد يُعَذَّب، فما هو الأمن والاهتداء الذي حصل له؟.

[فالجواب]: أنه آمنٌ من التخليد في النار، مُهْتَدٍ إلى طريق الجنة، والله تعالى أعلم.

7 -

(ومنها): أنه استنبط منه المازريّ جواز تأخير البيان إلى وقت الحاجة، ونازعه القاضي عياض، فقال: ليس في هذه القصة تكليف عمل، بل تكليف اعتقاد بتصديق الخبر عن المؤمن الآمن، واعتقادُ التصديق بذلك يلزم لأَوَّل وروده، فمتى هي الحاجة؟ لكنهم لَمّا أشفقوا منه بيّن لهم المراد به، كتبيين سائر ما بيّن من المشكلات. انتهى كلام القاضي

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي ما ذكره القاضي متعقّبًا للمازريّ وجيهٌ، وللحافظ في "الفتح" استدراك على كلام القاضي، وقد تعقّبه العينيّ في استدراكه، فراجع كلامهما

(2)

، والله تعالى أعلم.

8 -

(ومنها): بيان أنّ العامّ على عمومه حتى يَرِد دليل الخصوص.

9 -

(ومنها): جواز إطلاق اللفظ العامّ والمراد به الخصوص، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): ذكر الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز بعض وصايا لقمان؛ لابنه، وهي وصايا مهمّة جدًّا، أحببت إيرادها هنا مع ذكر إيضاح معناها

(3)

؛ تتميمًا للفوائد، وتكميلًا للعوائد. قال الله عز وجل:

{وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12)} [لقمان: 12].

وقوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ} أي الفهم والعلم والتعبير {أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ} أي أمرناه أن يشكر الله عز وجل على ما آتاه الله ومنحه، ووهبه من الفضل

(1)

"إكمال المعلم" 1/ 509 - 510.

(2)

راجع: "الفتح" 1/ 110، و"عمدة القاري" 1/ 342.

(3)

راجع في إيضاح المعاني المذكورة هنا: تفسير الحافظ ابن كثير لهذه الآيات.

ص: 517

الذي خصصه به عمن سواه من أبناء جنسه، وأهل زمانه، ثم قال تعالى:{وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ} أي إنما يعود نفع ذلك وثوابه على الشاكرين؛ لقوله تعالى: {وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ} [الروم: 44]، وقولُهُ:{وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} [لقمان: 12] أي غنيّ عن العباد، لا يتضرر بذلك، ولو كفر أهل الأرض كلهم جميعًا، فإنه الغني عما سواه، فلا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه، {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَابُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15)} [لقمان: 13 - 15].

يقول تعالى مخبرًا عن وصية لقمان لولده، وهو لقمان بن عنقاء بن سدون، واسم أبيه ثاران، في قول حكاه السهيليّ، وقد ذكره الله تعالى بأحسن الذكر، وأنه آتاه الحكمة، وهو يوصي ولده الذي هو أشفق الناس عليه، وأحبهم إليه، فهو حقيق أن يمنحه أفضل ما يَعْرِف، ولهذا أوصاه أوّلًا بأن يعبد الله وحده، ولا يشرك به شيئًا، ثم قال مُحَذّرًا له:{إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} أي هو أعظم الظلم.

ثم قَرَن بوصيته إياه بعبادة الله وحده البرَّ بالوالدين، كما قال تعالى:{وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء: 23]، وكثيرًا ما يَقْرُن تعالى بين ذلك في القرآن، وقال ههنا:{وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ} قال مجاهد: مشقةَ وَهْنِ الولد، وقال قتادة: جَهْدًا على جهد، وقال عطاء الخراسانيّ: ضعفًا على ضعف.

وقوله: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} أي تربيته وإرضاعه بعد وضعه في عامين، كما قال تعالى:{وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة: 233] الآية، ومن ههنا استنبط ابنُ عباس وغيره من الأئمة أنّ أقلّ مدة الحمل ستة أشهر؛ لأنه قال في الآية الأخرى:{وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15]، وإنما يذكر تعالى تربيةَ الوالدة، وتَعَبَها، ومشقتها في سَهَرِها ليلًا ونهارًا؛ لِيُذَكِّر الولد بإحسانها المتقدم إليه، كما قال تعالى: {وَقُلْ رَبِّ

ص: 518

ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء: 24]، ولهذا قال:{أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} ، أي فإني سأجزيك على ذلك أوفر جزاء، قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة، حدثنا عبد الله بن أبي شيبة، ومحمود بن غيلان، قالا: حدثنا عبيد الله، أخبرنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن وهب، قال: قَدِمَ علينا معاذ بن جبل، وكان بعثه النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقام، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: إني رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إليكم، أن تعبدوا الله، ولا تشركوا به شيئًا، وأن تطيعوني، لا آلوكم خيرًا، وأن المصير إلى الله، وإلى الجنة، أو إلى النار، إقامةٌ، فلا ظَعْنَ، وخلود فلا موت

(1)

.

وقوله: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا} أي إن حَرَصَا عليك كُلَّ الحرص على أن تتابعهما على دينهما، فلا تقبل منهما ذلك، ولا يمنعك ذلك من أن تصاحبهما في الدنيا معروفًا: أي محسنًا إليهما، {وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ} يعني: المؤمنين، {ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}. قال الطبرانيّ في "كتاب الْعِشْرة": حدثنا أبو عبد الرحمن عبد الله بن أحمد بن حنبل، حدثنا أحمد بن أيوب بن راشد، حدثنا مسلمة بن علقمة، عن داود بن أبي هند، أن سعد بن مالك، قال: أنزلت فِيَّ هذه الآيةُ {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا} الآية، قال: كنت رجلًا برًّا بأمي، فلما أسلمتُ قالت: يا سعد ما هذا الذي أراك قد أحدثت؟ لَتَدَعَنَّ دينك هذا، أو لا آكل ولا أشرب، حتى أموت، فَتُعَيَّر بي، فيقال: يا قاتل أمه، فقلت: لا تفعلي يا أمه، فإني لا أَدَعُ ديني هذا لشيء، فمكثت يومًا وليلةً لم تأكل، فأصبحت قد جُهِدتْ، فمكَثَتْ يومًا وليلةً أخرى، لم تأكل، فأصبحت قد جهدت، فمكثت يومًا وليلة أخرى لا تأكل، فأصبحت قد اشتَدّ جهدها، فلما رأيت ذلك قلت: يا أمه تعلمين، والله لو كانت لك مائة نفس، فخرجت نفسًا نفسًا ما تركت ديني لشيء، فإن شئت فكلي، وإن شئت لا تأكلي، فأكلت

(2)

.

(1)

إسناد هذا الأثر صحيح، إلا أن فيه عنعنة أبي إسحاق، وهو مدلّس، لكن أصل قصة بعث معاذ رضي الله عنه إلى اليمن ثابت في "الصحيحين"، وغيرهما.

(2)

أثر سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه هذا أخرجه مسلم في "صحيحه".

ص: 519

{يَابُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16) يَابُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17) وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19)} [لقمان: 16 - 19].

هذه وصايا نافعة قد حكاها الله سبحانه وتعالى عن لقمان الحكيم؛ ليمتثلها الناس، ويقتدوا بها، فقال:{يَابُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ} أي إن المظلمة، أو الخطيئة، لو كانت مثقال حبة خردل، وجَوَّز بعضهم أن يكون الضمير في قوله:{إِنَّهَا} ضمير الشأن والقصة، وجَوَّز على هذا رفع {مِثْقَالَ} والأول أولى، وقوله عز وجل:{يَأْتِ بِهَا اللَّهُ} أي أَحضرها الله يوم القيامة حين يضع الموازين القسط، وجازى عليها إن خيرًا فَخيرٌ، وإن شرًّا فَشرّ، كما قال تعالى:{وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا} [الأنبياء: 47] الآية، وقال تعالى:{فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)} [الزلزلة: 7، 8]، ولو كانت تلك الذرة مُحَصَّنةً مُحَجَّبةً في داخل صخرة صَمّاء، أو غائبة ذاهبة في أرجاء السماوات والأرض، فإن الله يأتي بها؛ لأنه لا تخفى عليه خافية، ولا يعزُب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض، ولهذا قال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} أي لطيف العلم، فلا تخفى عليه الأشياء، وإن دَقَّت، ولَطُفَت، وتضاءلت، خبير بدبيب النمل في الليل البهيم، وقد زعم بعضهم أن المراد بقوله:{فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ} أنها صخرة تحت الأرضين السبع، وذكره السُّدّيّ بإسناده عن ابن مسعود، وابن عباس، وجماعة من الصحابة، إن صَحّ ذلك، ويُروَى هذا عن عطية العوفيّ، وأبي مالك، والثوريّ، والمنهال بن عمرو، وغيرهم.

قال الحافظ ابن كثير بعد ذكر هذه الأقوال، ما نصّه: وهذا - والله أعلم - كأنه مُتَلَقًّى من الإسرائيليات التي لا تُصَدَّق، ولا تُكَذَّب، والظاهر - والله أعلم - أن المراد أن هذه الحبة في حقارتها، لو كانت داخل صخرة، فإن الله سيبديها، ويظهرها بلطيف علمه، كما قال الإمام أحمد: حدثنا حسن بن

ص: 520

موسى، حدثنا ابن لهيعة، حدثنا دَرّاج، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لو أن أحدكم يعمل في صخرة صَمّاء، ليس لها بابٌ، ولا كوّة لخرج عمله للناس، كائنًا ما كان"

(1)

.

ثم قال: {يَابُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ} أي بحدودها، وفروضها، وأوقاتها {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ} أي بحسب طاقتك وجهدك {وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ} عَلِمَ أن الآمر بالمعروف، والناهي عن المنكر لا بد أن يناله من الناس أذًى، فأمره بالصبر.

وقوله: {إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} أي إن الصبر على أذى الناس لمن عزم الأمور.

وقوله: {وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ} يقول: لا تُعرِض بوجهك عن الناس، إذا كلمتهم، أو كلموك؛ احتقارًا منك لهم، واستكبارًا عليهم، ولكن أَلِنْ جانبك، وابسط وجهك إليهم، كما جاء في الحديث:"ولو أن تلقى أخاك ووجهك إليه منبسط، وإياك وإسبالَ الإزار، فإنها من المخيلة، والمخيلة لا يحبها الله"

(2)

.

قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله:{وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ} يقول: لا تتكبر، فتحتقرَ عباد الله، وتُعْرِض عنهم بوجهك إذا كلموك، وكذا رَوَى الْعَوْفيّ، وعكرمة عنه، وقال مالك، عن زيد بن أسلم:{وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ} لا تتكلم، وأنت معرضٌ، وكذا رُوي عن مجاهد،. وعكرمة، ويزيد بن الأصمّ، وأبي الجوزاء، وسعيد بن جبير، والضحاك، وابن زيد، وغيرهم، وقال إبراهيم النخعيّ: يعني بذلك: التشديق في الكلام، والصواب القول الأول.

قال ابن جرير: وأصل الصَّعْر داءٌ يأخذ الإبل في أعناقها، أو رؤوسها، فشُبِّه به الرجل المتكبر، ومنه قول عمرو بن حُنَيّ التغلبيّ [من الطويل]:

وَكُنَّا إِذَا الْجَبَّارُ صعَّرَ خَدَّهُ

أَقَمْنَا لَهُ مِنْ مَيْلِهِ فَتَقَوَّمَا

(1)

ضعيف لضعف درّاج في روايته عن أبي الهيثم، وفيه أيضًا ابن لهيعة، والكلام فيه مشهور.

(2)

أخرجه أبو داود بإسناد صحيح 4/ 56.

ص: 521

وقال أبو طالب في شعره [من الطويل]:

وَكُنَّا قَدِيمًا لَا نُقِرُّ ظُلَامَةً

إِذَا مَا ثَنَوْا صُعْرَ الرُّؤُوسِ نُقِيمُهَا

وقوله: {وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا} أي جَذِلًا، متكبرًا جبارًا عنيدًا، لا تفعل ذلك يُبغضك الله، ولهذا قال:{إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} أي مُختالٍ مُعْجَب في نفسه، فخور أي على غيره، وقال تعالى:{وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا (37)} [الإسراء: 37].

وقال الحافظ أبو القاسم الطبرانيّ: حدثنا محمد بن عبد الله الحضرميّ، حدثنا محمد بن عمران بن أبي ليلى، حدثنا أبي، عن ابن أبي ليلى، عن عيسى بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن ثابت بن قيس بن شَمّاس، قال: ذُكِر الكبر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فشَدَّد فيه، فقال:{إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} ، فقال رجل من القوم: والله يا رسول الله، إني لأغسل ثيابي، فيعجبني بياضها، ويعجبني شِراك نعلي، وعِلاقة سوطي، فقال:"ليس ذلك من الكبر، إنما الكبر أن تَسْفَهَ الحقّ، وتَغْمِط الناس"

(1)

، ورواه من طريق أخرى بمثله، وفيه قصة طويلة، ومقتل ثابت، ووصيته بعد موته.

وقوله: {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ} أي امشِ مقتصدًا مشيًا ليس بالبطيء المتثبِّط، ولا بالسريع المفرِط، بل عدلًا وسطًا بين بين.

وقوله: {وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ} أي لا تبالغ في الكلام، ولا ترفع صوتك فيما لا فائدة فيه، ولهذا قال:{إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} قال مجاهد وغير واحد: إن أقبح الأصوات لصوت الحمير: أي غايةُ مَن رَفَع صوته أنه يُشَبَّه بالحمير في علوّه ورفعه، ومع هذا هو بغيض إلى الله تعالى، وهذا التشبيه في هذا بالحمير يقتضي تحريمه، وذمه غاية الذمّ؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"ليس لنا مثل السَّوْء، العائد في هبته كالكلب يقيء ثم يعود في قيئه"، متّفقٌ عليه

(2)

.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "إذا سمعتم صياح الديكة،

(1)

في سنده محمد بن أبي ليلى، وهو ضعيفٌ؛ لسوء حفظه.

(2)

أخرجه البخاريّ برقم (2621)، ومسلم برقم (1622).

ص: 522

فاسألوا الله من فضله، وإذا سمعتم نَهِيق الحمير، فتعوّذوا من الشيطان، فإنها رأت شيطانًا"، متّفقٌ عليه.

قال الحافظ ابن كثير: فهذه وصايا نافعة جدًّا، وهي من قِصَص القرآن العظيم، عن لقمان الحكيم، وقد رُوي عنه من الْحِكَم والمواعظ أشياء كثيرة، فلنذكر منها أنموذجًا، ودُستورًا إلى ذلك، قال الإمام أحمد: حدثنا علي بن إسحاق، أخبرنا ابن المبارك، أخبرنا سفيان، أخبرني نَهْشَل بن مجمع الضبيّ، عن قَزَعَة، عن ابن عمر، قال: أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن لقمان الحكيم، كان يقول: إن الله إذا استُودِعَ شيئًا حَفِظَه"

(1)

.

وروى ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد، وعثمان، حدثنا عيسى بن يونس، عن الأوزاعيّ عن موسى بن سليمان، عن القاسم يحدث عن أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"قال لقمان الحكيم لابنه، وهو يعظه: يا بني إياك والتقنع، فإنه مَخْوَفةٌ بالليل مَذَمَّة بالنهار"

(2)

.

وقال: حدثنا أبي، حدثنا عمرو بن عثمان بن ضمرة، حدثنا السّرِيّ بن يحيى، قال: قال لقمان لابنه: يا بني إن الحكمة أجلست المساكين مجالس الملوك

(3)

.

وقال أيضًا: حدثنا أبي، حدثنا عبدة بن سليمان، أخبرنا ابن المبارك، حدثنا عبد الرحمن المسعوديّ، عن عون بن عبد الله، قال: قال لقمان لابنه: يا بني إذا أتيت نادي قوم فارمهم بسهم الإسلام - يعني السلام - ثم اجلس في ناحيتهم، فلا تَنطِق حتى تراهم قد نطقوا، فإن أفاضوا في ذكر الله، فأَجِلْ سهمك معهم، وإن أفاضوا في غير ذلك فتحول عنهم إلى غيرهم

(4)

.

(1)

الحديث بذكر لقمان ضعيف، وإنما هو صحيح دون ذكره، راجع:"السلسلة الصحيحة" للشيخ الألباني 6/ 102.

(2)

في سنده، موسى بن سليمان لم يرو عنه إلا الأوزاعيّ، ففيه جهالة.

(3)

إسناده حسن.

(4)

إسناده ضعيف، فيه المسعودي، وقد اختلط بآخره، ولا يُعرف هل ابن المبارك أخذ عنه قبل الاختلاط أم لا؟.

ص: 523

وقال أيضًا: حدثنا أبي، حدثنا عمرو بن عثمان بن سعيد بن كثير بن دينار، حدّثنا ضمرة، عن حفص بن عمر، قال: وضع لقمان جرابًا من خردل إلى جانبه، وجعل يَعِظ ابنه وعظة، ويخرج خردلة، حتى نَفِد الخردل، فقال: يا بُني لقد وعظتك موعظة لو وُعظها جبل تفطّر، قال: فتفطّر ابنه

(1)

.

وقال أبو القاسم الطبرانيّ: حدثنا يحيى بن عبد الباقي المصيصيّ، حدثنا أحمد بن عبد الرحمن الحرانيّ، ثنا عثمان بن عبد الرحمن الطرائفيّ، حدثنا أبين بن سفيان المقدسيّ، عن خليفة بن سلام، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اتخذوا السودان، فإن ثلاثة منهم من سادات أهل الجنة: لقمان الحكيم، والنجاشيّ، وبلال المؤذن"

(2)

، قال الطبرانيّ: أراد الحبش

(3)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[335]

(

) - (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَعَلِيُّ بْنُ خَشْرَم، قَالَا: أَخْبَرَنَا عِيسَى، وَهُوَ ابْنُ يُونُسَ (ح) وَحَدَّثَنَا مِنْجَابُ

(4)

بْنُ الْحَارِثِ التَّمِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا ابْنُ مُسْهِرٍ (ح) وَحَدَّثنَا أَبُو كُرَيْبٍ، أَخْبَرَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ، كُلُّهُمْ عَنِ الْأَعْمَشِ بِهَذَا الْإِسْنَاد، قَالَ أَبُو كُرَيْبٍ: قَالَ ابْنُ إِدْرِيسَ: حَدَّثَنِيهِ أَوَّلًا أَبِي، عَنْ أَبَانَ بْنِ تَغْلِبَ، عَنِ الْأَعْمَش، ثُمَّ سَمِعْتُهُ مِنْهُ).

رجال هذا الإسناد: عشرة:

1 -

(عَلِيُّ بْنُ خَشْرَمٍ) - بفتح الخاء، وإسكان الشين المعجمتين، وفتح الراء، وزان جعفر - المروزيّ، ثقة، من صغار [10](ت 257) أو بعدها، وقد قارب المائة (م ت س) تقدم في "المقدمة" 4/ 25.

(1)

إسناده إلى حفص بن عمر حسن.

(2)

ضعيف جدًّا، بل ذكره ابن الجوزيّ في "الموضوعات"(2/ 232)، وقال: لا يصحّ، والمتهم به أبين كان يقلب الأخبار، وعثمان لا يُحتجّ به.

(3)

راجع: "تفسير ابن كثير" 11/ 49 - 61 النسخة الجديدة مؤسسة قرطبة.

(4)

بكسر الميم، وإسكان النون، وبالجيم، وآخره باء موحدة.

ص: 524

2 -

(عِيسَى بْنُ يُونُسَ) بن أبي إسحاق السبيعيّ، أخو إسرائيل الكوفيّ، نزل الشام مُرابطًا، ثقةٌ مأمونٌ [8](ت 187 أو 191)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 28.

3 -

(أَبُو كُرَيْبٍ) محمد بن العلاء الْهَمْدانيّ الكوفيّ، مشهور بكنيته، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 247)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 117.

4 -

(إدريس) بن يزيد بن عبد الرحمن الأوديّ الزَّعَافريّ، أخو داود، وأبو عبد الله الكوفيّ، ثقة [7].

رَوَى عن أبيه، وعمرو بن مُرّة، وأبي إسحاق السَّبِيعيّ، وطلحة بن مُصَرِّف، وسِمَاك بن حرب، وعِدّة.

ورَوَى عنه ابنه عبد الله، والثوريّ، ووكيع، وأبو أسامة، ويعلى بن عُبيد، وغيرهم.

قال ابن معين، والنسائيّ: ثقة، وقال الآجريّ: سألت أبا داود عنه، فقال: ثقةٌ، سمعت أحمد يقول: قال ابن إدريس: قال لي شعبة: كان أبوك يُفِيدني، وذكره ابن حبان في "الثقات".

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط: هذا (124)، وحديث (2135): "إنهم كانوا يسمون بأنبيائهم

"، و (3017): "فقد علمتُ اليوم الذي أُنزلت فيه

".

5 -

(أَبانُ بْنُ تَغْلِبَ) أبو سَعْد الكوفيّ، ثقةٌ، تُكُلّم فيه للتشيّع [4](140)(م 4) تقدم في "الإيمان" 41/ 272.

[تنبيه]: تقدّم الخلاف في صرف أبان في مقدمة الكتاب، وأن المختار عند المحققين صرفه، وتغلب - بفتح المثنّاة، وسكون المعجمة، وكسر اللام - غير مصروف.

والباقون تقدّموا قريبًا.

وقوله: (كُلُّهُمْ عَنِ الْأَعْمَشِ بِهَذَا الْإِسْنَادِ) أي كلّ هؤلاء الثلاثة، وهم: عيسى بن يونس، وعليّ بن مُسهر، وعبد الله بن إدريس، رووه عن الأعمش بسنده السابق.

[تنبيه]: روايات هؤلاء الثلاثة عن الأعمش ساقها الحافظ ابن منده مع

ص: 525

زيادة أبي معاوية، وجرير، ووكيع، وعبد الله بن نمير، وحفص بن غياث في "الإيمان"(1/ 418)، فقال:

(267)

وأنبأ عمرو بن محمد بن إبراهيم، ثنا أحمد بن عمرو الشيبانيّ، ثنا محمد بن عبد الله بن نمير، ثنا عبد الله بن إدريس، وأبو معاوية، ووكيع، وأبي، كلهم عن سليمان بن مهران (ح) قال: وثنا عبد الله بن محمد العبسيّ، ثنا ابن إدريس، وأبو معاوية، ووكيع، عن الأعمش (ح) قال: وثنا عبد الله بن محمد بن زكرياء، ثنا سهل بن عثمان، ثنا أبو معاوية، عن سليمان الأعمش (ح) وأنبأ محمد بن إبراهيم بن الفضل، ثنا أحمد بن سلمة، ثنا إسحاق، أنبأ جرير، وأبو معاوية، ووكيع، وعيسى بن يونس (ح) وأنبأ أحمد بن عيسى البيروتيّ، ثنا أبو عبد الرحمن النسائيّ، ثنا علي بن حجر، ثنا عيسى بن يونس (ح) وأنبأ محمد بن يعقوب، ثنا محمد بن نعيم، ثنا داود بن رُشيد، ثنا حفص، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله، قال: لَمّا نزلت: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} شَقّ ذلك على المسلمين، فقالوا: يا رسول الله، وأينا لا يظلم نفسه؟ فقال: ليس ذاك هو، إنما هو الشرك، ألم تسمعوا {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَابُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13)} ؟. انتهى

(1)

.

وقوله: (قَالَ ابْنُ إِدْرِيسَ: حَدَّثَنِيهِ) أي هذا الحديث (أَوَّلًا أَبِي) هو إدريس بن يزيد المذكور آنفًا (عَنْ أَبَانَ بْنِ تَغْلِبَ، عَنِ الْأَعْمَش، ثُمَّ سَمِعْتُهُ مِنْهُ) أي سمعت هذا الحديث من شعبة، قال النوويّ: هذا تنبية منه على عُلُوّ إسناده هنا، فإنه نَقَصَ عنه رجلان - أي أبوه، وأبان - وسمعه من الأعمش، وقد تقدم مثل هذا في "بابُ: الدينُ النصيحة". انتهى

(2)

.

[تنبيه]: رواية أبي كريب هذه ساقها الحافظ ابن منده في "الإيمان"(1/ 418)، فقال:

(268)

أنبأ الحسين بن علي، ومحمد بن يعقوب، قالا: ثنا محمد بن إسحاق بن المغيرة، ثنا محمد بن العلاء، ثنا عبد الله بن إدريس، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله، قال: لَمّا نزلت: {الَّذِينَ

(1)

"الإيمان لابن منده" 1/ 418.

(2)

"شرح النوويّ" 2/ 144.

ص: 526

آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} وشَقّ ذلك على المسلمين، فقالوا: يا رسول الله، وأيُّنا لا يظلم نفسه؟ فقال:"ليس ذاك، إنما هو الشرك، ألم تسمعوا ما قال لقمان لابنه: {يَابُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}؟ ". انتهى.

قال ابن إدريس: حدثنيه أوّلًا أبي، عن أبان بن تغلب، عن الأعمش، ثم سمعته منه. انتهى

(1)

. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

‌60 - (بَابُ بَيَانِ قَوْلِهِ عز وجل: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [البقرة: 284]).

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[336]

(125) - (حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مِنْهَالٍ الضَّرِيرُ، وَأُمَيَّةُ بْنُ بِسْطَامَ الْعَيْشِيُّ، وَاللَّفْظُ لِأُمَيةَ، قَالَا: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُريْعٍ، حَدَّثَنَا رَوْحٌ، وَهُوَ ابْنُ الْقَاسِم، عَنِ الْعَلَاء، عَنْ أَبِيه، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: لَمَّاَ نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284)} [البقرة: 284]) قَالَ: فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَتَوْا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ بَرَكُوا عَلَى الرُّكَب، فَقَالُوا: أَيْ رَسُولَ الله، كُلِّفْنَا مِنَ الْأَعْمَالِ مَا نُطِيقُ: الصَّلَاةَ، وَالصِّيَامَ، وَالْجِهَادَ، وَالصَّدَقَةَ، وَقَدْ أُنْزِلَتْ عَلَيْكَ هَذِهِ الْآيَةُ، وَلَا نُطِيقُهَا، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"أَتُرِيدُونَ أَنْ تَقُولُوا كَمَا قَالَ أَهْلُ الْكِتَابَيْنِ مِنْ قَبْلِكُمْ: سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا؟، بَلْ قُولُوا: سَمِعْنَا، وَأَطَعْنَا، غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإلَيْكَ الْمَصِيرُ"، قَالُوا: سَمِعْنَا، وَأَطَعْنَا، غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ، فَلَمَّا اقْتَرَأَهَا الْقَوْمُ، ذَلَّتْ بِهَا أَلْسِنَتُهُمْ، فَأَنْزَلَ اللهُ فِي إَثَرِهَا: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ

(1)

"الإيمان لابن منده" 1/ 418 - 419.

ص: 527

آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285)} [البقرة: 285]، فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ نَسَخَهَا اللهُ تَعَالَى، فَأَنْزَلَ اللهُ عز وجل:{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} ، قَالَ: نَعَمْ، {رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} ، قَالَ: نَعَمْ، {رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} ، قَالَ: نَعَمْ، {وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 286]، قَالَ: نَعَمْ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ مِنْهَالٍ الضَّرِيرُ) هو: محمد بن المنهال التميميّ المجاشعيّ، أبو جعفر، ويقال: أبو عبد الله البصريّ الضرير، ثقةٌ حافظٌ [10].

رَوَى عن يزيد بن زُريع، وأبي عوانة، وجعفر بن سليمان الضُّبَعيّ، ومحمد بن عبد الرحمن الطُّفَاويّ، وأُمية بن خالد، وأبي بكر الحنفيّ، وأبي داود الطيالسيّ، وغيرهم.

ورَوَى عنه البخاريّ، ومسلم، وأبو داود، وروى النسائيّ عن أحمد بن علي المروزيّ، عنه، وأبو بكر الأثرم، وحرب بن إسماعيل، وعثمان بن خُرّزَاذ، ومحمد بن إبراهيم الْبُوشَنْجيّ، وعثمان بن سعيد الدارميّ، وعبد الله بن عبد الرحمن الدارميّ، وغيرهم.

قال العجليّ: بصريّ ثقة، ولم يكن له كتاب، قلت له: لك كتاب؟ قال: كتابي صدري، وقال أبو حاتم: كتب عنه عليّ ابن المدينيّ كتابَ يزيد بن زُريع، قال أبو حاتم: وهو ثقة حافظ، كَيِّسٌ، أحبُّ إليّ من أُمية بن بِسْطَام، وقال أبو زرعة: سألته أن يقرأ عليّ تفسير أبي رجاء ليزيد بن زُريع، فأملَى عليّ من حفظه نصفه، ثم أتيته يومًا آخر بَعْدَكُمْ، فأملى عليّ من حيث انتهى، فقال: خُذْ، فتعجبت من ذلك، وكان يحفظ حديث يزيد بن زريع، وقال عثمان بن خُرَّزاذ: أحفظ مَن رأيت أربعة: محمد بن المنهال الضرير، وإبراهيم بن محمد بن عَرْعَرَة، وأبو زرعة، وأبو حاتم، وقال ابن عديّ: سمعت أبا يعلى يُفَخِّم أمره، ويذكر أنه كان أحفظ مَن كان بالبصرة في وقته، وأثبتهم في يزيد بن

ص: 528

زُريع، وقال ابن الجنيد، عن ابن معين: ثقة، ولم أسمع منه شيئًا، وذكره ابن حبان في "الثقات".

مات بالبصرة في شعبان سنة إحدى وثلاثين ومائتين، حكاه ابن حبّان عن أبي يعلى، وفيها أَرَّخه أبو داود، وموسى بن هارون.

وله في هذا الكتاب (11) حديثًا

(1)

.

2 -

(أُمَيَّةُ بْنُ بِسْطَامَ الْعَيْشِيُّ) - بالياء، والشين المعجمة - أبو بكر البصريّ، صدوقٌ [10](ت 231)(خ م س) تقدم في "الإيمان" 7/ 132.

3 -

(يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ) الْعيشيّ، أبو معاوية البصريّ، ثقةٌ ثبت [8](ت 182)(ع) تقدم في "الإيمان" 7/ 132.

4 -

(رَوْحُ بْنُ الْقَاسِمِ) التميميّ الْعَنْبريّ، أبو غياث البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [6](ت 141)(خ م د س ق) تقدم في "الإيمان" 7/ 132.

5 -

(الْعَلَاءُ) بن عبد الرحمن الْحُرَقيّ مولاهم، أبو شِبْلٍ المدنيّ، صدوقٌ، ربّما وَهِمَ [5] مات سنة (بضع و 130)(زم 4) تقدم في "الإيمان" 8/ 135.

6 -

(أَبُوهُ) عبد الرحمن بن يعقوب الْجُهنيّ الْحُرَقيّ مولاهم، ثقة [3](ز م 4) تقدم في "الإيمان" 8/ 135.

7 -

(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه 2/ 3 والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف، وله فيه شيخان قرن بينهما.

2 -

(ومنها): أن نصفه الأول مسلسل بالبصريين، ونصفه الثاني بالمدنيين.

3 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، والابن عن أبيه: العلاء عن أبيه.

4 -

(ومنها): أن فيه قوله: "بسطام" بكسر الموحّدة، وحكى صاحب "المطالع" فتحها.

(1)

هذا ما في برنامج الحديث، وفي "تهذيب التهذيب" نقلًا عن "الزهرة": أن البخاريّ رَوى عنه ستة أحاديث، ومسلمًا ثلاثة عشر، وهو قريبٌ مما هنا.

ص: 529

وفيه قوله: "العيشيّ"، وهو هنا بالشين المعجمة، وذكر السيوطيّ الفرق بينه وبين العبسيّ، والعنسيّ، في "ألفية الحديث" بقوله:

فِي الْبَصْرَةِ الْعَيْشِيُّ وَالْعَنْسِيُّ

بِالشَّامِ وَالْكُوفَةِ قُلْ عَبْسِيُّ

5 -

(ومنها): قوله: "واللفظ له" يعني أن سياق متن الحديث الذي ساقه هنا لشيخه أميّة، وأما محمد بن منهال، فرواه بمعناه.

6 -

(ومنها): أن فيه أبا هريرة رضي الله عنه أحفظ من روى الحديث في دهره، روى (5374) حديثًا، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنِ الْعَلَاء، عَنْ أَبِيهِ) عبد الرحمن بن يعقوب (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) ببناء "نَزَلت" للفاعل مخفّفًا، والفاعل قوله:{لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ} محكيّ لقصد لفظه، ويحتمل أن يكون "نُزّلت" مشدّد الزاي، مبنيًّا للمفعول، والنائب عن الفاعل أيضًا قوله:{لِلَّهِ}

إلخ.

({لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ}) قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائيّ:{فَيَغْفِرُ} ، و {وَيُعَذِّبُ} بالجزم عطفًا على الجواب، وقرأ ابن عامر، وعاصم بالرفع فيهما، على القطع: أي فهو يغفرُ، ويعذبُ. ورُوي عن ابن عباس، والأعرج، وأبي العالية، وعاصم الجحدريّ بالنصب فيهما، على إضمار "أن"، وحقيقته أنه عطف على المعنى، كما في قوله تعالى:{فَيُضَاعِفَهُ لَهُ} ، والعطف على اللفظ أجود؛ للمشاكلة، كما قال الشاعر [من المديد]:

وَمَتَى مَا يَعِ مِنْكَ كَلَامًا

يَتَكَلَّمْ فَيُجِبْكَ بِعَقْلِ

قال النحاس: ورُوي عن طلحة بن مُصَرّف: "يحاسبكم به الله، يغفر" بغير فاء على البدل، قال ابن عطية: وبها قرأ الجعفيّ، وخلاد، ورُوي أنها كذلك في مصحف ابن مسعود رضي الله عنه، قال ابن جني: هي على البدل من "يحاسبكم"، وهي تفسير المحاسبة، وهذا كقول الشاعر [من الطويل]:

رُويدًا بَنِي شَيْبَانَ بَعْضَ وَعِيدِكُمْ

تُلَاقُوا غَدًا خَيْلِي عَلَى سَفَوَانِ

ص: 530

تُلَاقُوا جِيَادًا لَا تَحِيدُ عَنِ الْوَغَى

إَذَا مَا غَدَتْ فِي الْمَأزَقِ الْمُتَدَانِي

فهذا على البدل، وكَرَّر الشاعر الفعل؛ لأن الفائدة فيما يليه من القول، قال النحاس: وأجود من الجزم لو كان بلا فاء الرفعُ، يكون في موضع الحال، كما قال الشاعر [من الطويل]:

مَتَى تَأتِهِ تَعْشُوا إِلَى ضَوْءِ نَارِهِ

تَجِدْ خَيْرَ نَارٍ عِنْدَهَا خَيْرُ مُوقِدِ

(1)

({وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 284]).

قال الحافظ ابن كثير: أخبر الله سبحانه وتعالى أن له ملك السموات والأرض، وما فيهنّ، وأنه المطّلع على ما فيهنّ، لا تَخفى عليه الظواهر، ولا السرار، والضمائر، وإن دقّت، وخَفِيت، وأخبر أنه سيحاسب عباده على ما فعلوه، وما أخفَوْه في صدورهم، كما قال تعالى:{قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29)} [آل عمران: 29]: وقال: {وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى (7)} [طه: 7] والآيات في هذا المعنى كثيرة جدًّا، وقد أخبر تعالى في هذه الآية بمزيد على العلم، وهو المحاسبة على ذلك، ولهذا لَمّا نزلت هذه الآية اشتدّ ذلك على الصحابة رضي الله عنهم، وخافوا منها، ومن محاسبة الله تعالى لهم على جليل الأعمال وحقيرها، وهذا من شدّة إيمانهم وإيقانهم

(2)

.

وقال ابن جرير: قوله تعالى: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} يعني بذلك جل ثناؤه: والله عز وجل على العفو عما أخفته نفس المؤمن من الهمة بالخطيئة، وعلى عقاب الكافر على ما أخفته نفسه من الشك في توحيد الله عز وجل ونبوة أنبيائه، ومجازاة كل واحد منهما على كل ما كان منه ذلك من الأمور قادر.

[تنبيه]: قال القرطبيّ في "المفهم" في الكلام على هذه الآية: "ما" هذه التي في أول الآية بمعنى الذي، وهي متناولة لمن يَعقل، وما لا يعقل، وهي هنا عامّة، لا تخصيص فيها بوجه؛ لأن كلّ من في السماوت والأرض، وما فيهما، وما بينهما خلقُ الله تعالى، وملك له، وهذا إنما يتمشّى على مذهب

(1)

راجع: "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبيّ 3/ 423 - 424.

(2)

"تفسير ابن كثير" 2/ 513 - 514.

ص: 531

أهل الحقّ والتحقيق الذين يُحيلون على الله تعالى أن يكون في السماء، أو في الأرض؛ إذ لو كان في شيء لكان محصورًا محدودًا، ولو كان كذلك لكان محدَثًا، وعلى هذه القاعدة، فقوله تعالى:{أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك: 16]، وقول الأمة للنبيّ صلى الله عليه وسلم حين قال لها:"أين الله؟ "، فقالت: في السماء، رواه مسلم

(1)

، ولم يُنكر عليها ذلك، وما قد روي عن بعض السلف أنهم كانوا يُطلقون ذلك ليس على ظاهره، بل هو مؤوّل تأويلات صحيحة، قد أبداها كثير من أهل العلم في كتبهم، لكن السلف رضي الله عنهم كانوا يجتنبون تأويل المتشابهات، ولا يتعرّضون لها، مع علمهم؛ لأن الله تعالى يستحيل عليه سِمَات المحدثات، ولوازم المخلوقات، واستيفاء المباحث هذه في علم الكلام. انتهى كلام القرطبيّ

(2)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي ذكره القرطبيّ فيه نظر من وجوه:

[الأول]: قوله: يُحيلون على الله تعالى أن يكون في السماء

إلخ، كلام مجمل؛ لأنه إن أراد به أن الله تعالى ما استوى على العرش، فهذا باطل؛ لأنه أخبرنا عن نفسه بأنه استوى على العرش، وإن أراد استحالة كونه محصورًا داخل شيء في السموات أو في الأرض فهذا صحيح.

[الثاني]: أنه لا يُنكر إطلاق "الله في السماء"؛ لقوله: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} ، ولقول الجارية:"في السماء"، وأقرّها النبيّ صلى الله عليه وسلم عليه، بعد أن سألها بقوله:"أين الله؟ "، وليس بين هذا وبين آية الاستواء تعارض؛ لأن معنى "في السماء"على السماء، كما لا يخفى على بصير.

[الثالث]: أن قوله: وما روي عن بعض السلف أنهم كانوا يطلقون ذلك ليس على ظاهره

إلخ، إن أراد به أنهم يؤولون المعنى فغير صحيح؛ لأنهم يُثبتون المعنى، وإنما يفوّضون الكيفيّة فقط.

(1)

رواه مسلم (537)، وأبو داود (930 و 931)، والنسائيّ (3/ 14 - 18)، من حديث معاوية بن الحكم السُّلميّ رضي الله عنه.

(2)

"المفهم" 1/ 335 - 336.

ص: 532

[الرابع]: أن قوله: ولا يتعرّضون لها، إن أراد أنهم لا يتعرّضون لفهم معناها، فهذا غلط عليهم، فإنهم يعلمون المعنى، يعلمون أن معنى قوله تعالى:{عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] علا وارتفع، ولكنهم يفوّضون الكيفيّة.

والحاصل أن مذهب السلف، وهو الحقّ في آيات الصفات، وأحاديثها الصحيحة أنهم يعلمون معانيها، ويُجرونها على ظواهرها، فيصفون الله تعالى بما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم في أحاديثه الصحيحة، على ما يليق بجلاله سبحانه وتعالى، من غير تأويل، ولا تعطيل، ولا تحريف، مفوّضين كيفيتها إليه سبحانه وتعالى، عملًا بقو سبحانه وتعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشوري: 11]، فاسلك سبيلهم، فإنه الصراط المستقيم، ولا تمل إلى ما ابتدعه المتكلّمون، وأذنابهم من التأويلات والتحريفات، فإنه الضلال الذميم.

(قَالَ) أبو هريرة رضي الله عنه. قال النوويّ: إنما أعاد لفظة "قال "؛ لطول الكلام، فإن أصل الكلام:"لَمّا نَزَلت اشتد"، فلما طال حَسُن إعادة لفظة "قال"، وقد تقدم مثل هذا في موضعين من هذا الكتاب، وذكرتُ ذلك مُبَيَّنًا، وأنه جاء مثله في القرآن العزيز في قوله تعالى:{أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35)} [المؤمنون: 35]، فأعاد {أَنَّكُمْ} ، وقولِهِ:{وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ} [البقرة: 89]، إلى قوله:{فَلَمَّا جَاءَهُمْ} ، والله تعالى أعلم. انتهى

(1)

.

(فَاشْتَدَّ) قال بعض المحقّقين: الفاء عاطفةٌ على محذوف؛ لأن جواب "لَمّا" لا تلحقه الفاء، والتقدير: لَمّا نزلت عقلنا معناها، فاشتدّ ذلك علينا (ذَلِكَ) أي ما تضمّنته الآية (عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَتوْا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ بَرَكُوا) بفتحتين، يقال: بَرَك البعير بُرُوكًا، من باب قَعَدَ: وَقَعَ على بَرْكِه، وهو صدره

(2)

. (عَلَى الرُّكَبِ) بضمّ، ففتح: جمع رُكبة، وهو مَوْصِل ما بين أسافل أطراف الفخذ، وأعالي الساق

(3)

. (فَقَالُوا: أَيْ رَسُولَ اللهِ)"أَيْ" حرف لنداء القريب، أو البعيد، أو المتوسّط فيه خلاف، ورجّح السيوطيّ الأخير، فقال في "الكوكب الساطع":

(1)

"شرح النوويّ" 2/ 145.

(2)

راجع: "المصباح المنير" 1/ 45.

(3)

راجع: "القاموس المحيط" ص 86.

ص: 533

"أَيْ" لِنِدَا الأَوْسَطِ فِي الشَّهِيرِ

لَا الْقُرْبِ وَالْبُعْدِ وَللتَّفْسِيرِ

(كُلِّفْنَا) بالبناء للمفعول: أي حُمّلنا، يقال: كَلَّفته الأمرَ، فتكلّفه: إذا تحَمُّلهُ على مشقّة، والتكاليف: المشاقّ، الواحدة تَكْلِفَة، وكَلِفتُ الأمرَ، من باب تَعِبَ: حَمَلتُهُ على مشقّة، أفاده الفيّوميّ

(1)

. (مِنَ الْأَعْمَالِ) متعلّق بـ "كُلّفنا"، أو بقوله:(مَا نُطِيقُ) بضمّ أوله، من الإطاقة، يقال: أطقتُ الشيءَ إطاقةً: إذا قدرت عليه، والاسم: الطاقةُ، مثل الطاعة، من أطاع

(2)

، و"ما" موصولة مفعول ثانٍ لـ"كُلِّفنا"، والعائد محذوف: أي نُطيقه، وحذفه كثير، كما قال في "الخلاصة":

......................

وَالْحَذْفُ عِنْدَهُمْ كَثِير مُنْجَلِي

فِي عَائِدٍ مُتَّصِلٍ إِنِ انْتَصَبْ

بِفِعْلٍ أَوْ وَصْفٍ كـ"مَنْ نَرْجُو يَهَبْ"

وقوله: (الصَّلَاةَ، وَالصِّيَامَ، وَالْجِهَادَ، وَالصَّدَقَةَ) بالنصب بدلًا من "ما"، أو عطف بيان له، والتقدير: كُلِّفْنا الصلاةَ

إلخ، (وَقَدْ أنْزِلَتْ عَلَيْكَ هَذِهِ الْآيَةُ) أي قوله:{وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} الآية [البقرة: 284](وَلَا نُطِيقُهَا) أي لا نستطيع القيام بمقتضاها (قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَتُرِيدُونَ) استفهام إنكاريّ وتوبيخيّ: أي لا ينبغي لكم (أَنْ تَقُولُوا كَمَا قَالَ أَهْلُ الْكِتَابَيْنِ) التوارة والإنجيل (مِنْ قَبْلِكُمْ) أي وهم اليهود والنصارى (سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا؟) هذا إشارة إلى قوله عز وجل: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا} الآية [البقرة: 93]، وقوله عز وجل:{مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (46)} [النساء: 46].

(بَلْ قُولُوا: سَمِعْنَا) قولك (وَأَطَعْنَا) أمرك، وقيل: سمع بمعنى: قَبِلَ، كما في "سَمِعَ الله لمن حمده"، (غُفْرَانَكَ رَبَّنَا) قال الفرّاء:{غُفْرَانَكَ} ومصدرٌ وقع في موضع أمر، فنُصِب، والمعنى: مغفرتك: أي فاغفر لنا، والطلب للدعاء،

(1)

راجع: "المصباح المنير" 2/ 537

(2)

"المصباح المنير" 2/ 381.

ص: 534

وقال القرطبيّ: "الغفران": مصدرٌ كالكفران، والخسران، والعامل فيه مقدّر، تقديره: اغفر غُفرانك، وقيل: نطلب، أو نسأل غفرانك

(1)

، وقوله: و {رَبَّنَا} منادى بحذف حرف النداء.

(وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ") أي المرجع، وفيه إقرارٌ بالبعث، والوقوف بين يدي الله تعالى.

(قَالُوا) أي الصحابة المشفقون من هذه الآية لَمّا أرشدهم النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى ما هو الصواب المخالف لطريق المغضوب عليهم وطريق الضالّين (سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا) أي سمعنا قولك يا ربّنا، وفهمناه، وقُمنا به، وامتثلنا العمل بمقتضاه (غُفْرَانَكَ رَبَّنَا) أي اغفر لنا مغفرتك.

وقال ابن جرير: يعني بذلك جلّ ثناؤه: وقال الكل من المؤمنين: سمعنا قول ربنا، وأمره إيانا بما أَمَرنا به، ونهيه عما نهانا عنه، وأطعنا، يعني: أطعنا ربنا فيما ألزمنا من فرائضه، واستعبدنا به من طاعته، وسلَّمنا له.

وقوله: {غُفْرَانَكَ رَبَّنَا} يعني: وقالوا: غفرانك ربنا، بمعنى: اغفر لنا ربنا غفرانك، كما يقال: سبحانك، بمعنى نسبحك سبحانك، قال: والغفران والمغفرة: الستر من الله على ذنوب مَن غَفَر له، وصَفَحَه له عن هتك ستره بها في الدنيا والآخرة، وعفوه عليه {وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} أي المرجع، قال ابن جرير: يعني جلّ ثناؤه أنهم قالوا: وإليك يا ربنا مرجعنا، ومعادنا، فاغفر لنا ذنوبنا.

فإن قال لنا قائل: فما الذي نَصَبَ قوله: غفرانك؟.

قيل له: وقوعه وهو مصدر موقع الأمر، وكذلك تفعل العرب بالمصادر، والأسماء إذا حلت محلَّ الأمر، وأَدّت عن معنى الأمر نصبتها، فيقولون: شكرًا لله يا فلان، وحمدًا له، بمعنى أشكر الله، وأحمده، والصلاةَ الصلاةَ بمعنى: صَلُّوا، ويقولون في الأسماء: اللهَ اللهَ يا قوم، ولو رُفِع بمعنى: هو اللهُ أو هذا الله، ووَجّهَ إلى الخبر، وفيه تأويل الأمر كان جائزًا، كما قال الشاعر [من الخفيف]:

إِنَّ قَوْمًا مِنْهُمْ عُمَيْرٌ وَأَشْبَاهُ

عُمَيْرٍ وَمِنْهُمُ السَّفَّاحُ

(1)

راجع: "تفسير القرطبيّ" 3/ 429.

ص: 535

لَجَدِيرُونَ بِالْوَفَاءِ إِذَا قَا

لَ أَخُو النَّجْدَةِ السِّلَاحُ السّلَاحُ

ولو كان قوله: {غُفْرَانَكَ رَبَّنَا} جاء رفعًا في القراءة، لم يكن خطأً، بل كان صوابًا على ما وَصَفنا. انتهى

(1)

.

(فَلَمَّا اقْتَرَأَهَا الْقَوْمُ) أي قرؤوها، قال المجد: قرأ القرآن: تلاه، كاقترأه. انتهى. فالافتعال للمبالغة (ذَلَّتْ) جواب "لَمّا": أي لانت، وسهُلت (بِهَا) أي بقرائتها (ألسِنَتُهُمْ) يعني أنهم استجابوا، وأطاعوا للنبيّ صلى الله عليه وسلم فيما دعاهم، وأرشدهم إليه (فَأَنزَلَ اللهُ فِي إثْرِهَا) بفتح الهمزة والثاء، وبكسر الهمزة مع إسكان الثاء، لغتان، وضمير "إثرها" يعود إلى الآية التي اشتدت عليهم.

وقوله: ({آمَنَ الرَّسُولُ}) مفعول به لـ "أنزل" محكيّ؛ لقصد لفطه: أي صدّق الرسول ({بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ}) أي بالقرآن العظيم ({وَالْمُؤْمِنُونَ}) أي وآمن المؤمنون ({كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ}) أفرده نظرًا للفظ "كلّ"، ويجوز في غير القرآن "آمنوا" على المعنى ({وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ}) قرأ نافع، وابن كثير، وعاصم في رواية أبي بكر، وابن عامر على الجمع، وقرؤوا في سورة التحريم "كتابه" على التوحيد، وقرأ أبو عمرو هنا وفي التحريم:"وكتبه" على الجمع، وقرأ حمزة، والكسائيّ:"وكتابه" على التوحيد فيهما، فمن جمع أراد جمع كتاب، ومن أفرد أراد المصدر الذي يَجمع كلّ مكتوب كان نزوله من عند الله، ويجوز في قراءة من وحّد أن يراد به الجمع، ويكون الكتاب اسمًا للجنس، فتستوي القراءتان، قال الله تعالى:{فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ} [البقرة: 213].

({وَرُسُلِهِ}) قرأ الجماعة بضم السين، وكذلك "رسلنا، ورسلكم، ورسلك"، إلا أبا عمرو، فروي عنه: تخفيف "رسلنا، ورسلكم"، وروي عنه في "رسلك": التثقيل والتخفيف، فمن قرأ "رسلك": بالتثقيل، فذلك أصل الكلمة، ومن خفّف فكما يُخفّف في الآحاد، مثلُ عُنْقٍ وطُنْب، وإذا خُفّف في الآحاد، فذلك أحرى في الجمع الذي هو أثقل، قاله القرطبيّ

(2)

.

وقال الإمام ابن جرير: قوله تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ} الآية: يعني بذلك جل ثناؤه: صَدَّق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأَقَرّ بما أنزل إليه: أي بما أُوحي

(1)

"تفسير ابن جرير" 6/ 127 - 128.

(2)

"تفسير القرطبيّ" 3/ 428.

ص: 536

إليه من ربه، من الكتاب، وما فيه من حلال وحرام، ووعد ووعيد، وأمر ونهي، وغير ذلك، من سائر ما فيه من المعاني التي حواها، وذُكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزلت هذه الآية عليه قال:"يَحِقّ له".

قال: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله:{آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّه} ، وذُكر لنا: أن نبي الله صلى الله عليه وسلم لما نزلت هذه الآية قال: "ويَحِقّ له أن يؤمن". انتهى

(1)

.

{لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} أي لا نُفَرِّق بينهم في الإيمان، فنؤمن ببعضهم، ونكفر ببعض، كما فعله أهل الكتابين، بل نؤمن بجميعهم، و {أَحَدٍ} في هذا الموضع بمعنى الجمع، ولهذا دخلت فيه {بَيْنَ} ، ومثله قوله تعالى:{فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47)} [الحاقة: 47].

وقال ابن جرير: وأما قوله: {لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} ، فإنه أَخبر جَلّ ثناؤه بذلك عن المؤمنين أنهم يقولون ذلك، ففي الكلام في قراءة من قرأ:{لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} بالنون متروك، قد استُغني بدلالة ما ذُكر عنه، وذلك المتروك هو: يقولون، وتأويل الكلام: والمؤمنون كلٌّ اَمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، يقولون: لا نفرق بين أحد من رسله، وتَرَك ذكر "يقولون"؛ لدلالة الكلام عليه، كما تَرك ذكره في قوله:{وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ} [الرعد: 23، 24] بمعنى يقولون: سلام.

وقد قرأ ذلك جماعة من المتقدمين: "لا يُفَرَّق بين أحد من رسله" بالياء بمعنى: والمؤمنون كلُّهم آمَنَ بالله وملائكته وكتبه ورسله، لا يُفَرّق الكل منهم بين أحد من رسله، فيُؤمَنُ ببعض، ويُكْفَرُ ببعض، ولكنهم يصدقون بجميعهم، ويُقِرّون أن ما جاؤوا به كان من عند الله، وأنهم دَعَوا إلى الله، وإلى طاعته،

(1)

"تفسير ابن جرير" 6/ 124، وأخرجه الحاكم في "المستدرك" 2/ 287 من طريق خلاد بن يحيى، عن أبي عَقيل، عن يحيى بن أبي كثير، عن أنس، قال: لَمّا نزلت هذه الآية على النبيّ صلى الله عليه وسلم: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ} قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "وأحقّ له أن يؤمن"، ثم قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يُخرجاه، واستدرك عليه الذهبي، فقال: منقطع.

ص: 537

ويخالفون في فعلهم ذلك اليهود الذين أقَرُّوا بموسى، وكذَّبوا عيسى، والنصارى الذين أقرّوا بموسى وعيسى، وكذّبوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، وجَحَدوا نبوته، ومَن أشبههم من الأمم الذين كذَّبوا بعضَ رسل الله، وأقرّوا ببعضه.

وقال القرطبيّ: {لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} ، قرأ جمهور الناس {لَا نُفَرِّقُ} بالنون، والمعنى يقولون: لا نفرّق، فحُذف القول، وحَذْفُ القول كثير، قال الله تعالى:{وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ} ، أي يقولون: سلام عليكم، وقال تعالى:{وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا} [آل عمران: 191]، أي يقولون: ربنا، وما كان مثله، وقرأ سعيد بن جبير، ويحيى بن يعمر، وأبو زرعة بن عمرو بن جرير، ويعقوب:"لا يُفرَّق" بالياء، وهذا على لفظ "كلّ"، وهي في حرف ابن مسعود:"لا يفرق"، وقال:{بَيْنَ أَحَدٍ} على الإفراد، ولم يقل: آحاد؛ لأن "الأحد" يتناول الواحد، والجمع، كما قال تعالى:{فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47)} [الحاقة: 47]، فـ {حَاجِزِينَ} صفة لـ {أَحَدٍ}؛ لأن معناه: الجمع، وقال صلى الله عليه وسلم "ما أحلّت الغنائم لأحد سُود الرأس غيركم"

(1)

، وقال رؤبة:

إِذَا أُمُورُ النَّاسِ دِينَتْ دِينَكَا

لَا يَرْهَبُونَ أَحَدًا مِنْ دُوبكَا

ومعنى هذه الآية: أن المؤمنين ليسوا كاليهود والنصارى في أنهم يؤمنون ببعض، ويكفرون ببعض. انتهى

(2)

.

وقال الإمام ابن جرير: والقراءة التي لا نَستجيز غيرها في ذلك عندنا بالنون: {لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} ؛ لأنها القراءة التي قامت حجتها بالنقل المستفيض، الذي يمتنع معه التشاعُر

(3)

والتواطؤ والسهو والغلط، يعني ما وصفنا من يقولون:{لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} ، ولا يُعترض بشاذ من القراءة على ما جاءت به الحجة نقلًا وروايةً. انتهى.

(1)

الحديث في "الصحيحين" بلفظ: "وأحلّت لي الغنائم، ولم تحل لأحد قبلي

" الحديث.

(2)

"جامع أحكام القرآن" 3/ 428 - 429.

(3)

بالعين المهملة: أي التمالؤ.

ص: 538

قال: وقد ذُكر أن هذه الآية لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثناءً من الله عليه وعلى أمته، قال له جبريل: إن الله عز وجل قد أحسن عليك وعلى أمتك الثناءَ، فسل ربك.

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن بيان، عن حكيم بن جابر، قال لما أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم:{آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285)} وقال جبريل: إن الله عز وجل قد أحسن الثناء عليك، وعلى أمتك، فسل تعطه، فسأل:{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} وإلى آخر السورة

(1)

.

({وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِير}، فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ) أي استجابوا لما دعاهم إليه النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأمرهم به، فقالوا: سمعنا، وأطعنا

إلخ (نَسَخَهَا اللهُ تَعَالَى) أي أزال التكليف الذي شقّ عليهم.

واعترض المازريّ النسخ هنا، فقال: وأما قول الراوي: إن ذلك نُسِخَ، ففي النسخ هنا نظر؛ لأنه إنما يكون النسخ إذا تعذّر البناء، ولم يمكن ردّ إحدى الآيتين إلى الأخرى، وقوله تعالى:{وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} الآية [البقرة: 284] عموم يصحّ أن يشتمل على ما يُملك من الخواطر، وما لا يُملك، فتكون الآية الأخرى مُخصِّصةً، إلا أن يكون فَهِمَ الصحابة بقرينة الحال أنه تقرّر تعبُّدهم بما لا يُملك من الخواطر، فيكون حينئذ نسخًا؛ لأنه رفع ثابتٌ مستقِرّ. انتهى كلام المازريّ.

وتعقّبه القاضي عياض، فقال: لا وجه لاستبعاد النسخ في هذه القضيّة، وراويها قد روى فيها النسخ، ونصَّ عليه لفظًا ومعنًى بأمر النبيّ صلى الله عليه وسلم لهم بالإيمان، والسمع والطاعة لما أعْلَمَه الله عز وجل من مؤاخذته لهم، فلَمّا فعلوا

(1)

"تفسير الطبري" 3/ 153. بيان: هو ابن بشر الأحمسيّ ثقة مشهور، وحكيم بن جابر بن طارق بن عوف الأحمسيّ تابعيّ كبير ثقة، وتصحّف في تفسير ابن كثير إلى "سنان، عن حكيم، عن جابر"، فليُصحّح، نبّه عليه الشيخ أحمد شاكر في تخريجه لتفسير ابن جرير 6/ 129.

ص: 539

ذلك، وألقى الله تعالى الإيمان في قلوبهم، وذَلَّت بالاستسلام لذلك ألسنتهم - كما نصّ في الحديث نفسه - رَفَعَ الله الحرج عنهم، ونَسَخَ هذه الْكُلْفة بالآية الأخرى كما قال، وطريق علم النسخ إنما هو بالخبر عنه، أو بالتاريخ، وهما مجتمعان في هذه الآية.

وقول المازريّ: "إنما يكون النسخ إذا تعذّر البناء" كلام صحيح فيما لم يَرِد به النصّ بالنسخ، وأما إذا ورد وَقَفْنَا عنده، لكن قد اختلف أرباب الأصول في قول الصحابيّ: نُسِخ حكم كذا بكذا، هل هو حجّة يَثبُتُ به النسخ، أم لا يثبت بمجرّد قوله؟، وهو قول القاضي أبي بكر الباقلّاني، والمحقّقين منهم؛ لأنه قد يكون قوله هذا عن اجتهاده، وتأويله حتى ينقُل ذلك نصًّا عن النبيّ صلى الله عليه وسلم

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن القول بثبوت النسخ بقول الراوي الصحابي: "نُسِخَ حكم كذا بكذا" هو الأرجح؛ لأنه أفهم بمقاصد الشريعة، وقد شَهِد الوحي والتنزيل، فقوله في مثل هذا حقيق بالقبول، وقد أوضحت ذلك في "التحفة المرضيّة"، و"شرحها"، فراجعه تزدد علمًا، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

(فَأَنزَلَ اللهُ عز وجل: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} التكليف: هو الأمر بما يشقّ عليه، وتَكَلَّف الأمر تجشمته، حكاه الجوهري، والوسع: الطاقة، والْجِدَةُ، وهذا خبرٌ جَزْمٌ، نَصَّ الله تعالى على أنه لا يُكَلِّف العباد من وقت نزول الآية عبادة من أعمال القلب أو الجوارح، إلا وهي في وُسْع المكلف، وفي مُقْتَضَى إدراكه وبِنْيَتِه، وبهذا انكشفت الكربة عن المسلمين في تأوّلهم أمر الخواطر.

وفي معنى هذه الآية ما حكاه أبو هريرة رضي الله عنه قال: ما وَدِدت أن أحدًا ولدتني أمه إلا جعفر بن أبي طالب، فإني تبعته يومًا، وأنا جائع، فلما بلغ منزله، فلم يجد فيه سوى نِحْي سَمْنٍ، قد بقي فيه أَثَارَة، فشَقَّه بين أيدينا، فجعلنا نَلْعَق ما فيه من السَّمْن والرُّبّ

(2)

وهو يقول:

(1)

"إكمال المعلم" 1/ 513 - 514.

(2)

بالضمّ: دِبْس التمر إذا طُبخ.

ص: 540

مَا كَلَّفَ اللهُ نَفْسًا فَوْقَ طَاقَتِهَا

وَلَا تَجُودَ يَدٌ إِلَّا بِمَا تَجِدُ

وقوله تعالى: ({لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ}) قال أبو العبّاس القرطبيّ: أي ما كسبت من خير، فلها ثوابه، وما اكتسبت من شرّ فعليها عقابه، و"كَسَبَ"، و"اكتسب " لغتان بمعنى واحد، كقدر واقتدر، ويمكن أن يقال: إن هذه التاء تاء الاستفعال، والتعاطي، ودخلت في اكتساب الشرّ، دون كسب الخير؛ إشعارًا بأن الشرّ لا يؤاخذ به إلا بعد تعاطيه، وفعله، دون الهمّ به، بخلاف الخير، فإنه يُكتب لمن هَمَّ به، وتحدّث به في قلبه، كما جاء في قوله صلى الله عليه وسلم مخبرًا عن الله تعالى:"إذا تحدّث عبدي بأن يعمل حسنةً، فأنا أكتبها له حسنةً، ما لم يعملها، فإذا عملها، فأنا أكتبها له بعشر أمثالها، وإذا تحدّث بأن يعمل سيّئةً، فأنا أغفرها له، ما لم يعمل، فإذا عملها، فأنا أكتبها له سيّئة واحدة"

(1)

، وفي لفظ آخر:"فإذا همّ" بدل "تحدّث". انتهى

(2)

.

وقال أبو عبد الله القرطبيّ: قوله: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} : يريد الحسنات، والسيئات، قاله السّدّيّ، وجماعة المفسرين، لا خلاف بينهم في ذلك، قاله ابن عطية، وهو مثل قوله:{وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164]، {وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا} [الأنعام: 164]، والخواطر ونحوها ليست من كسب الإنسان، وجاءت العبارة في الحسنات بـ {لَهَا} من حيث إنها مما يَفْرَح المرء بكسبه، ويُسَرّ بها، فتضاف إلى ملكه، وجاءت في السيئات بـ {عَلَيْهَا} من حيث إنها أثقال وأوزار، ومُتَحَمَّلات صعبة، وهذا كما تقول: لي مالٌ، وعليّ دينٌ، وَكَرَّر فعل الكسب، فخالف بين التصريف؛ تحسينًا لنمط الكلام، كما قال:{فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا (17)} [الطارق: 17]، قال ابن عطية: ويظهر لي في هذا أن الحسنات هي مما تُكتَسَب دون تكلف؛ إذ كاسبها على جادّة أمر الله تعالى، ورَسْمِ شرعه، والسيئات تُكتَسب ببناء المبالغة؛ إذ كاسبها يَتَكَلَّف في أمرها خَرْقَ حجاب نهي الله تعالى، ويتخطاه إليها، فيحسن في الآية مجيء التصريفين؛ إحرازًا لهذا المعنى. انتهى

(3)

.

(1)

سيأتي للمصنف برقم (129) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(2)

"المفهم" 1/ 338 - 339.

(3)

راجع: "تفسير القرطبيّ" 3/ 430 - 431.

ص: 541

{رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} قال الإمام ابن جرير: هذا تعليم من الله عز وجل عباده المؤمنين دعاءه، كيف يدعونه، وما يقولونه في دعائهم إياه، ومعناه: قولوا: ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا شيئًا فرضت علينا عمله، فلم نعمله، أو أخطأنا في فعل شيء نهيتنا عن فعله، ففعلناه على غير قصد منا إلى معصيتك، ولكن على جهالة منا به، وخطأ. انتهى

(1)

.

وقال أبو عبد الله القرطبيّ: المعنى: اعْفُ عن إثم ما يقع منّا على هذين الوجهين، أو أحدِهما، فهو كقوله صلى الله عليه وسلم:"وُضع عن أمتي الخطأ والنسيان، وما استُكْرِهوا عليه"

(2)

: أي إثم ذلك.

قال: وهذا لم يُخْتَلف فيه أن الإثم مرفوع، وإنما اختُلِف فيما يَتَعَلَّق على ذلك من الأحكام، هل ذلك مرفوعٌ، لا يلزم منه شيء، أو يَلزَم أحكام ذلك كلِّه؟، اختُلِف فيه، والصحيح أن ذلك يَختَلِف بحسب الوقائع، فقِسْمٌ لا يَسقُط باتفاق، كالغرامات، والديات، والصلوات المفروضات، وقسم يسقط باتفاق، كالقصاص، والنطق بكلمة الكفر، وقسم ثالث يُختلف فيه، كمن أكل ناسيًا في رمضان، أو حَنِثَ ساهيًا، وما كان مثله، مما يقع خطأ ونسيانًا، ويعرف ذلك في الفروع. انتهى.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الحقّ أن هذا القسم ساقطٌ أيضًا، لظاهر هذا الحديث، فتبصّر، والله تعالى أعلم.

وقال ابن جرير: إن قال لنا قائل: وهل يجوز أن يؤاخذ الله عز وجل عباده بما نسوا، أو أخطأوا، فيَسألوه أن لا يؤاخذهم بذلك؟.

قيل: إن النسيان على وجهين: أحدهما على وجه التضييع من العبد والتفريط، والآخر على وجه عجز الناسي عن حفظ ما استُحفظ، ووُكل به، وضَعُف عقله عن احتماله، فأما الذي يكون من العبد على وجه التضييع منه والتفريط، فهو تركٌ منا لما أُمر بفعله، فذلك الذي يَرغب العبد إلى الله عز وجل في تركه مؤاخذته به، وهو النسيان الذي عاقب الله عز وجل به آدم صلوات الله عليه،

(1)

"تفسير الطبريّ" 6/ 132.

(2)

حديث صحيح، أخرجه ابن ماجه في "سننه" بإسناد صحيح، رقم (2035).

ص: 542

فأخرجه من الجنة، فقال في ذلك:{وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (115)} [طه: 115]، وهو النسيان الذي قال جل ثناؤه:{فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا} [الأعراف: 51]، فرغبة العبد إلى الله عز وجل بقوله:{رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} ، فيما كان من نسيان منه لما أُمر بفعله على هذا الوجه الذي وصفنا، ما لم يكن تركه ما ترك من ذلك تفريطًا منه فيه وتضييعًا كفرًا بالله عز وجل، فإن ذلك إذا كان كفرًا بالله، فإن الرغبة إلى الله في تركه المؤاخذة غير جائزة؛ لأن الله عز وجل قد أخبر عباده أنه لا يغفر لهم الشرك به، فمسألته فعل ما قد أعلمهم أنه لا يفعله خطأ، وإنما تكون مسألته المغفرة فيما كان من مثل نسيانه القرآن بعد حفظه، بتشاغله عنه، وعن قراءته، ومثل نسيانه صلاةً أو صيامًا باشتغاله عنهما بغيرهما حتى ضيعهما.

وأما الذي العبد مؤاخذ لعجز بنيته عن حفظه، وقلة احتمال عقله ما وُكِل بمراعاته فإن ذلك من العبد غير معصية، وهو به غير آثم، فذلك الذي لا وجه لمسألة العبد ربه أن يغفره له؛ لأنه مسألة منه، له أن يغفر له ما ليس له بذنب، وذلك مثل الأمر يغلب عليه، وهو حريص على تذكره وحفظه، كالرجل يَحْرِص على حفظ القرآن بِجِدٍّ منه، فيقرؤه، ثم ينساه بغير تشاغل منه بغيره عنه، ولكن بعجز بنيته عن حفظه، وقلة احتمال عقله ذِكْرَ ما أودع قلبه منه، وما أشبه ذلك من النسيان، فإن ذلك مما لا تجوز مسألة الرب مغفرته؛ لأنه لا ذنب للعبد فيه، فيغفر له باكتسابه.

وكذلك للخطأ وجهان: أحدهما: من وجه ما نُهي عنه العبد، فيأتيه بقصد منه وإرادة، فذلك خطأ منه، وهو به مأخوذ، يقال منه: خَطِئَ فلان، وأخطأ فيما أَتَى من الفعل، وأَثِمَ: إذا أتى ما يتأثم فيه وركبه، ومنه قول الشاعر:

النَّاسُ يَلْحَونَ الأَمِيرَ إَذَا هُمُ

خَطِئُوا الصَّوَابَ وَلَا يُلَامُ الْمُرْشَدُ

يعني: أخطأوا الصواب، وهذا الوجه الذي يَرغب العبد إلى ربه في صفح ما كان منه من إثم عنه، إلا ما كان من ذلك كفرًا.

والآخر منهما: ما كان عنه على وجه الجهل به، والظن منه بأن له فعله، كالذي يأكل في شهر رمضان ليلًا، وهو يحسب أن الفجر لم يطلع، أو يؤخر

ص: 543

صلاة في يوم غيم، وهو ينتظر بتأخيره إياها دخول وقتها، فيخرج وقتها، وهو يرى أن وقتها لم يدخل، فإن ذلك من الخطأ الموضوع عن العبد الذي وضع الله عز وجل عن عباده الإثم فيه، فلا وجه لمسألة العبد ربه أن لا يؤاخذه به انتهى كلام ابن جرير

(1)

.

وقوله: (قَالَ: نَعَمْ) أي قال الله تعالى؛ استجابة لدعائهم، وإنالة لطلبهم، وتحقيقًا لرغبتهم: قد فعلت: أي قد أعطيتكم ما سألتم، قال أبو العبّاس القرطبيّ:"نعم" حرف جواب، وهو هنا إجابةٌ لما دَعَوا فيه، كما في الرواية الأخرى عن ابن عباس رضي الله عنهما:"قد فَعَلتُ"، بدل قوله هنا:"نعم"، وهو إخبار من الله تعالى أنه أجابهم في تلك الدعوات، فكلُّ داع يُشاركهم في إيمانهم، وإخلاصهم، واستسلامهم أجابه الله تعالى كإجابتهم؛ لأن وعده تعالى صدْقٌ، وقوله حقّ، وكان معاذ رضي الله عنه يَختم هذه السورة بـ "آمين" كما يَختم الفاتحة، وهو حسن انتهى

(2)

.

{وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا} - بكسر الهمزة، وسكون الصاد المهملة -: أي ثِقَلًا، قال مالك، والربيع: الإصر: الأمر الغليظ الصعب، وقال سعيد بن جبير: الإصر: شدة العمل، وما غُلّظ على بني إسرائيل من البول ونحوه، وقال الضحاك: كانوا يُحَمَّلُون أمورًا شدادًا، وهذا نحو قول مالك والربيع، ومنه قول النابغة [من البسيط]:

يَا مَانِعَ الضَّيْمِ أَنْ يَغْشَى سَرَاتُهُمُ

وَالْحَامِلُ الإِصْرِ عَنْهُمْ بَعْدَ مَا عَرَفُوا

وقال عطاء: الإصر: المسخ قردةً وخنازير، وقاله ابن زيد أيضًا، وعنه أيضًا أنه الذنب الذي ليس فيه توبة، ولا كفارةٌ، والإصر في اللغة العهد، ومنه قوله تعالى:{وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي} [آل عمران: 81]، والإصر الضِّيقُ، والذنب، والثِّقَلُ، والإصار: الحبل الذي تُربَط به الأحمال ونحوها، يقال: أَصَرَ يَأَصِرَ أَصْرًا: حبسه، والإصر - بكسر الهمزة - من ذلك، قال الجوهريّ: والموضع مَأْصِرٌ ومَأْصَرٌ، والجمع مآصر، والعامة تقول: معاصر. انتهى

(3)

.

(1)

"تفسير ابن جرير" 6/ 133 - 134.

(2)

"المفهم" 1/ 339 - 340.

(3)

"تفسير القرطبيّ" 3/ 432.

ص: 544

وقال الإمام ابن جرير: تأويل قوله تعالى: {رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} يعني بذلك جل ثناؤه قولوا: {رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا} يعني بالإصر العهد، كما قال جل ثناؤه:{قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي} [آل عمران: 81] وإنما عَنَى بقوله: {وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا} ولا تحمل علينا عهدًا، فنَعْجِزَ عن القيام به، ولا نستطيعه، {كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} يعني: على اليهود والنصارى، الذين كُلِّفوا أعمالًا، وأُخِذت عهودهم ومواثيقهم على القيام بها، فلم يقوموا بها، فعوجلوا بالعقوبة، فعَلَّم الله عز وجل أمة محمد صلى الله عليه وسلم الرغبة إليه بمسألته أن لا يَحملهم من عهوده ومواثيقه على أعمال، إن ضيعوها، أو أخطاوا فيها، أو نسوها، مثل الذي حَمَل مَن قبلهم، فيُحِلّ بهم بخطئهم فيه، وتضييعهم إياه مثلَ الذي أحل بمن قبلهم. انتهى

(1)

.

({كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا}) أي وهم اليهود والنصارى (قَالَ) الله صلى الله عليه وسلم (نَعَمْ) أي قد فعلت ذلك، واستجبت لكم.

{رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} قال قتادة: معناه لا تُشَدِّد علينا كما شددت على من كان قبلنا، وقال الضحاك: لا تحملنا من الأعمال ما لا نطيق، وقال نحوه ابن زيد، وقال ابن جريج: لا تمسخنا قِرَدَةً ولا خنازير، وقال سلام بن سابور: الذي لا طاقة لنا به الْغُلْمة

(2)

، وحكاه النقاش عن مجاهد وعطاء، ورُوي: أن أبا الدرداء كان يقول في دعائه: وأعوذ بك من غُلْمة ليس لها عُدّة، وقال السديّ: هو التغليظ، والأغلال التي كانت علي بني إسرائيل، ذكره القرطبيّ.

(قَالَ) الله سبحانه وتعالى (نَعَمْ) أي قد فعلتُ ({وَاعْفُ عَنَّا}) أي عن ذنوبنا، يقال: عَفَوْتُ عن ذنبه: إذا تركته، ولم تعاقبه ({وَاغْفِرْ لَنَا}) أي استر على ذنوبنا، والْغَفْرُ السَّتْرُ.

وقال ابن جرير: في هذا أيضًا من قول الله صلى الله عليه وسلم خبرًا عن المؤمنين من مسألتهم إياه ذلك الدلالةُ الواضحة أنهم سألوه تيسير فرائضه عليهم، بقوله:

(1)

"تفسير ابن جرير" 6/ 135 - 136.

(2)

بضم الغين المعجمة: هَيَجان شهوة النكاح.

ص: 545

{وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} ؛ لأنهم عقبوا ذلك بقولهم: {وَاعْفُ عَنَّا} مسألة منهم ربهم أن يعفو لهم عن تقصير، إن كان منهم في بعض ما أَمرهم به من فرائضه، فيَصْفَح لهم عنه، ولا يعاقبهم عليه، وإن خَفّ ما كلفهم من فرائضه على أبدانهم، قال ابن زيد في قوله:{وَاعْفُ عَنَّا} : إن قصرنا عن شيء من أمرك مما أمرتنا به، وكذلك قوله:{وَاغْفِرْ لَنَا} يعني واستر علينا زلةً، إن أتيناها فيما بيننا وبينك، فلا تكشفها، ولا تفضحنا بإظهارها. انتهى.

{وَارْحَمْنَا} قال ابن جرير: يعني بذلك جل ثناؤه: تَغَمّدنا منك برحمة تنجينا بها من عقابك، فإنه ليس بناجٍ من عقابك أحدٌ، إلا برحمتك إياه، في ون عمله، وليست أعمالنا منجيتنا، إن أنت لم ترحمنا، فوفقنا لما يُرضيك عنّا. انتهى.

{أَنْتَ مَوْلَانَا} أي وَليُّنا وناصرنا {فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} وقال أبو إسحاق الزجّاج: أي أَظْهِرنا عليهم في الحجة، والحرب، وإظهار الدين انتهى

(1)

.

وقال الإمام ابن جرير: يعني بقوله جل ثناؤه: {أَنْتَ مَوْلَانَا} أنت ولينا بنصرك، دون من عاداك، وكَفَر بك؛ لأنا مؤمنون بك، ومطيعوك فيما أمرتنا ونهيتنا، فأنت ولي من أطاعك، وعدُوّ من كفر بك فعصاك، فانصرنا؛ لأنا حِزْبُك على القوم الكافرين الذين جَحَدوا وحدانيتك، وعبدوا الآلهة والأنداد دونك، وأطاعوا في معصيتك الشيطان. انتهى

(2)

.

(قَالَ) الله سبحانه وتعالى (نَعَمْ) زاد أبو عوانة: إلا أن محمد بن المنهال قدّم بعض الكلام، وأخّر بعضًا، وقال:{وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا} وقال: قد غفرت لكم، ورحمتكم، والحديث كلّه واحد. انتهى

(3)

. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف.

(1)

راجع: "شرح النوويّ" 2/ 152.

(2)

"تفسير ابن جرير" 6/ 141 - 142.

(3)

"مسند أبي عوانة" 1/ 76.

ص: 546

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا في "الإيمان"[60/ 336](125)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 76 و 77)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(139)، و (ابن جرير) في "تفسيره"(3/ 143)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(222 و 223)، و (أبو نُعيم) في "مستخرجه"(325 و 326)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان المراد في قوله عز وجل {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ} الآية.

2 -

(ومنها): بيان رحمة الله تعالى لهذه الأمة بسبب نبيها الذي قال الله في تعظيم شأنه: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)} [الأنبياء: 107]صلى الله عليه وسلم.

3 -

(ومنها): بيان ما أكرم الله تعالى به هذه الأمة - زادها الله تعالى شرفًا - بأن خفّف عنها ما كان على غيرها من الأمم السابقين من الإصر، والأغلال: أي الثِّقَل والمشاقّ.

4 -

(ومنها): بيان ثبوت النسخ في هذه الشريعة الغرّاء، وهو مجمع عليه بين المسلمين.

5 -

(ومنها): ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم من المسارعة والانقياد لأحكام الشرع، ومن شدّة خوفهم من عدم القيام بما كلّفهم الله تعالى به، ومراجعة نبيهم صلى الله عليه وسلم باركين على رُكَبهم بين يديه، حتى يسأل ربه سبحانه وتعالى أن يخفّف عنهم الشدّة، فجاءهم الفرج القريب.

6 -

(ومنها): ما كان عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم من شدّة خوفه على أمته أن تسلك مسلك الأمم السابقة في ردّ ما أتوا به من أوامر الله، فقالوا: سمعنا وعصينا، فنزل عليهم العذاب، فحذّر صلى الله عليه وسلم صحابته أن يكونوا مثلهم، فيصيبهم مثل ما أصابهم، فهداهم الله تعالى، فاستجابوا، وقالوا:{سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِير} .

7 -

(ومنها): بيان فضل هذه الأمة على الأمم السابقة، حيث إنهم قالوا لأنبيائهم: سمعنا وعصينا، وهذه الأمة قالت: سمعنا وأطعنا، فظهر مصداق قوله عز وجل:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110] الآية.

ص: 547

8 -

(ومنها)؛ ما قاله أبو إسحاق الزجَاج: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} إلى آخر السورة [البقرة: 286]، أخبر الله تعالى به عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، والمؤمنين، وجعله في كتابه؛ ليكون دعاء من يأتي بعد النبيّ صلى الله عليه وسلم والصحابة رضي الله عنه، فهو من الدعاء الذي ينبغي أن يُحفظ، ويُدعَى به كثيرًا.

وسيأتي للمصنّف في "كتاب الصلاة" من هذا الكتاب من حديث أبي مسعود الأنصاريّ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قرأ هاتين الآيتين من آخر سورة البقرة، في ليلة كَفَتَاه"، قيل: كفتاه من قيام تلك الليلة، وقيل: كفتاه المكروه فيها، والله تعالى أعلم

(1)

.

9 -

(ومنها): ما قاله إِلْكِيا الطبريّ: يُستدلّ بقوله تعالى: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} على أنّ مَن قَتَل غيره بمثقل، أو بَخْنق، أو تغريق، فعليه ضمانه قصاصًا، أو دية، خلافًا لمن جَعَل ديته على العاقلة، وذلك يُخالف الظاهر، ويَدُلّ أيضًا على أن سقوط القصاص عن الأب، لا يقتضي سقوطه عن شريكه، ويدلّ أيضًا على وجوب الحد على العاقلة إذا مَكَّنت مجنونًا من نفسها، حتى زنى بها.

وقال القاضي أبو بكر بن العربيّ: ذَكَرَ علماؤنا هذه الآية في أن القَوَدَ واجب على شريك الأب، خلافًا لأبي حنيفة، وعلى شريك الخاطئ، خلافًا للشافعيّ وأبي حنيفة؛ لأن كلَّ واحد منهما قد اكتَسَب القتل، وقالوا: إن اشتراك مَن لا يجب عليه القصاص، مع من يجب عليه القصاص لا يكون شُبْهةً في درء ما يُدرأ بالشبهة. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: ما ذهب إليه المالكيّة من وجوب الْقَوَد على شريك الأب، وشريك الخاطئ هو الأرجح عندي؛ لقوّة حجتهم، فتأمّله بإنصاف، والله تعالى أعلم.

10 -

(ومنها): ما قاله المازريّ: إشفاقهم، وقولهم: لا نطيقها، يحتمل أن يكونوا اعتقدوا أنهم يؤاخذون بما لا قدرة لهم على دفعه من الخواطر التي

(1)

راجع: "شرح النووي"2/ 152 - 153.

(2)

راجع: "جامع الأحكام" للقرطبيّ 3/ 431.

ص: 548

لا تُكتسب، فلهذا رأوه من قبيل ما لا يطاق، فإن كان المراد هذا كان الحديث دليلًا على أنهم كُلِّفوا ما لا يُطاق، وعندنا أن تكليفه جائز عقلًا، واختُلف، هل وقع التعبّد به في الشريعة، أو لا؟. انتهى

(1)

.

وقال القرطبيّ: هذه الآية تدلّ على أن لله تعالى أن يكلّف عباده بما يُطيقونه، وما لا يُطيقونه، ممكنًا كان، أو غير ممكن، لكنه تعالى تفضّل علينا بأنه لم يُكلّفنا بما لا نُطيقه، وبما لا يمكننا إيقاعه، وكمّل علينا فضله برفع الإصر، والمشقّات التي كُلّفها غيرنا. انتهى

(2)

.

وخلاصة القول: إن الله سبحانه وتعالى رفع عنّا ما لا طاقة لنا به، فله الحمد والمنّة، وله الفضل والنعمة، سبحانك لا نُحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في آية: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [البقرة: 284]:

(اعلم): أنهم اختلفوا فيها على خمسة أقوال:

[الأول]: أنها منسوخة، قاله ابن عباس، وابن مسعود، وعائشة، وأبو هريرة، والشعبيّ، وعطاء، ومحمد بن سيرين، ومحمد بن كعب، وموسى بن عُبيدة، وجماعة من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم، وأنه بَقِي هذا التكليف حولًا حتى أنزل الله الفرج بقوله:{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} .

ومن حجج هؤلاء حديث أبي هريرة، وابن عبّاس رضي الله عنهم المذكور هنا في الباب، وهو حجة واضحة، لا لبس فيه، فيكون هذا القول هو الأرجح، كما سيأتي تحقيقه - إن شاء الله تعالى -.

[القول الثاني]: قول ابن عباس، وعكرمة، والشعبيّ، ومجاهد: إنها محكمةٌ، مخصوصة، وهي في معنى الشهادة التي نَهَى عن كتمها، ثم أَعْلَمَ في هذه الآية أن الكاتم لها الْمُخفِيَ ما في نفسه محاسب.

(1)

راجع: "إكمال المعلم" 1/ 510 - 511.

(2)

"المفهم" 1/ 338.

ص: 549

[القول الثالث]: إن الآية فيما يَطْرأ على النفوس، من الشكّ واليقين، وقاله مجاهد أيضًا.

[القول الرابع]: إنها محكمة عامّةٌ، غير منسوخة، والله محاسبٌ خلقَهُ على ما عملوا من عمل، وعلى ما لم يعملوه، مما ثَبَت في نفوسهم، وأضمروه، ونووه، وأرادوه، فيغفر للمؤمنين، ويأخذ به أهل الكفر والنفاق، ذكره الطبري عن قوم، وأدخل عن ابن عباس ما يشبه هذا، روي عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس أنه قال: لم تُنْسَخ، ولكن إذا جَمَع الله الخلائق، يقول:"إني أُخبركم بما أكننتم في أنفسكم"، فأما المؤمنون فيخبرهم، ثم يغفر لهم، وأما أهل الشك والرَّيْب، فيخبرهم بما أخفوه من التكذيب، فذلك قوله:{يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} ، فيغفر للمؤمنين، ويعذب الكافرين، وهذا أصح ما في هذا الباب، يدُلّ عليه حديث النجوى على ما يأتي بيانه، ولا يقال: فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم يتكلموا أو يعملوا به، فإنا نقول: ذلك محمول على أحكام الدنيا مثل الطلاق والعتاق والبيع التي لا يلزمه حكمها ما لم يتكلم به، والذي ذكر في الآية فيما يؤاخذ العبد به بينه وبين الله تعالى في الآخرة.

[القول الخامس]: أن الآية محكمةٌ، ليست بمنسوخة، قاله الحسن، وغيره، وقالوا: إن العذاب الذي يكون جزاء لما خَطَر في النفوس، وصَحِبَه الفكر، إنما هو بمصائب الدنيا، وآلامها، وسائر مكارهها، وأسند الطبريّ عن عائشة رضي الله عنهما نحو هذا المعنى.

ورجح الطبري أن الآية محكمة، غير منسوخة، قال ابن عطية: وهذا هو الصواب

(1)

.

وقال القاضي عياض: قد اختلف الناس في هذه الآية، فأكثر المفسّرين من الصحابة، ومن بعدهم على ما تقدّم فيها من النسخ، وأبعده بعضُ المتأخّرين، قال: لأنه خبر، ولا يدخل النسخ الأخبار، ولم يُحَصِّلْ ما قاله، فإنه وإن كان خبرًا، فهو خبرٌ عن تكليف، ومؤاخذة بما تُكنّ النفوس، والتعبّد

(1)

"الجامع لأحكام القرآن" 3/ 421 - 423.

ص: 550

بما أمرهم النبيّ صلى الله عليه وسلم في الحديث بذلك، وأن يقولوا {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} ، وهذه أقوالٌ، وأعمالٌ للسان والقلب، ثم نُسخ ذلك عنهم برفع الحرج والمؤاخذة. انتهى

(1)

.

وقال أبو العباس القرطبيّ: "ما" في قوله: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ} الآية على عمومها، فتتناول كلّ ما يقع في نفس الإنسان من الخواطر، ما أُطيق دفعه منها، وما لا يُطاق، ولذلك أشفقت الصحابة رضي الله عنهم من محاسبتهم على جميع ذلك، ومؤاخذتهم به، فقالوا للنبيّ صلى الله عليه وسلم: كُلِّفنا ما نُطيق، من الصلاة، والصيام، وهذه الآية لا نُطيقها، ففيه دليلٌ على أن موضوع "ما" للعموم، وأنه معمولٌ به فيما طريقه الاعتقاد، كما هو معمول به فيما طريقه العمل، وأنه لا يجب التوقّف فيه إلى البحث عن المخصّص، بل يُبادر إلى استغراق الاعتقاد فيه، وإن جاز التخصيص، وهذه المسائل اختُلف فيها، كما بيّنّاه في "الأصول".

ولَمّا سمع النبيّ صلى الله عليه وسلم ذلك القول منهم أجابهم بأن قال: "أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم: سمعنا وعصينا؟، بل قولوا: سمعنا، وأطعنا"، فأقرّهم النبيّ صلى الله عليه وسلم على ما فهموه، وبيّن لهم أن لله تعالى أن يكلّف عباده بما يُطيقون، وبما لا يُطيقون، ونهاهم عن أن يقع لهم شيء مما وقع لضُلّال أهل الكتاب من المخالفة، وأمرهم بالسمع والطاعة، والتسليم لأمر الله تعالى على ما فهِمُوه، فسلّم القوم لذلك، وأذعنوا، ووطّنوا أنفسهم على أنهم كُلّفوا في الآية بما لا يطيقونه، واعتقدوا ذلك، فقد عملوا بمقتضى ذلك العموم، وثَبَتَ ووَرَدَ، فإن قُدِّر رافع لشيء منه، فذلك الرفع نسخٌ، لا تخصيصٌ، وعلى هذا فقول الصحابيّ:"فلما فعلوا نسخها الله" على حقيقة النسخ، لا على جهة التخصيص؛ خلافًا لمن لم يظهر له ما ذكرناه، وهم كثير من المتكلّمين على هذا الحديث، ممن رأى أن ذلك من باب التخصيص، لا من باب النسخ، وتأوّلوا قول الصحابيّ: إنه نسخٌ على أنه أراد بالنسخ التخصيص، وقال: إنهم كانوا لا يُفرّقون بين النسخ والتخصيص، وقد كنت

(1)

"إكمال المعلم" 1/ 514 - 515.

ص: 551

على ذلك زمانًا إلى أن ظهر لي ما ذكرته، فتأمله، فإنه الصحيح - إن شاء الله تعالى -.

وقوله: إنهم - يعني الصحابة - كانوا لا يفرّقون بين النسخ والتخصيص، إن أراد به أنهم لم ينصّوا على الفرق، فمسلَّمٌ، وكذلك أكثر مسائل علم الأصول، بل كلّه، فإنهم لم ينُصّوا على شيء منها، بل فرّعوا عليها، وعملوا على مقتضاها من غير عبارة عنها، ولا نطق بها إلى أن جاء من بعدهم، ففطِنُوا لذلك، وعبّروا عنه، حتى صنّفوا التصانيف المعروفة، وأوّلهم في ذلك الشافعيّ فيما علمناه.

وإن أراد بذلك أنهم لم يكونوا يعرفون الفرق بين النسخ والتخصيص، ولا عملوا عليه، فقد نسبهم إلى ما يستحيل عليهم؛ لثقابة أذهانهم، وصحّة فهومهم، وغزارة علومهم، وأنهم أولى بعلم ذلك من كلّ مَن بعدهم، كيف لا وهم أئمة الهدى، وبهم إلى كلّ العلوم يُقتدى، وإليهم المرتجع، وقولهم المتّبع، وكيف يخفى عليهم ذلك، وهو من المبادئ الظاهرة على ما قرّرناه في "الأصول". انتهى كلام القرطبيّ

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى: هذا الذي قرره القرطبيّ، وقبله القاضي عياض من كون النسخ هنا حقيقةً هو الأرجح عندي؛ لأن الصحابيّ أعلم بمعنى النسخ، وأفهم بمقاصد الشريعة، وقد شهد التنزيل، وجالس النبيّ صلى الله عليه وسلم، فإذا أخبرنا بأن هذه الآية نُسخت بآية كذا، وجب أن نقبل قوله في ذلك، ولا نعترض عليه بما اصطلح عليه متأخرو الأصوليين من تعريف النسخ بما يتعارض مع مقاصد الصحابة.

على أن النسخ في عرف السلف يُطلق على ما هو أعم، كما سيأتي في المسألة التالية، فتبصر بالإنصاف، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): في بيان النسخ:

هو: لغةً: الإبطال والإزالة، ومنه نَسَخت الشمس الظل، والريح آثار

(1)

"المفهم" 1/ 336 - 338.

ص: 552

القَدَم، وهو يُطلَق على النقل والتحويل، ومنه نَسَخْتُ الكتاب: أي نقلته، ومنه قوله تعالى:{إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية: 29]، ومنه تناسخ المواريث.

وأما اصطلاحًا فهو في عرف عامّة السلف: البيان، فيشمل تخصيص العامّ، وتقييد المطلق، وتبيين المجمل، ورفع الحكم بجملته، وهو ما يُعرف عند المتأخّرين بالنسخ.

قال الإمام ابن القيّم رحمه الله: مراد عامّة السلف بالناسخ والمنسوخ رفع الحكم بجملته تارةً، وهو اصطلاح المتأخّرين، ورفع العامّ، والمطلق، والظاهر، وغيرها تارة، إما بتخصيص، أو تقييد، أو حمل مطلق على مقيّد، وتفسيره، وتبيينه، حتى إنهم يُسمّون الاستثناء، والشرط، والصفة نسخًا؛ لتضمّن ذلك رفع دلالة الظاهر، وبيان المراد، فالنسخ عندهم، وفي لسانهم: هو بيان المراد بغير ذلك اللفظ، بل بأمر خارج عنه، ومن تأمّل كلامهم رأى من ذلك فيه ما لا يُحصى، وزال عنه به إشكالات أوجبها حمل كلامهم على الاصطلاح الحادث المتأخّر. انتهى

(1)

.

وإلى هذا أشرت في "التحفة المرضية" بقولي:

فِي اللُّغَةِ النَّقْلُ كَذَا الإِزَالَةُ

أَمَّا فِي الاصْطِلَاحِ خُذْ مَا أَثْبَتُوا

فَهْوَ الْبَيَانُ فِي اصْطِلَاحِ السَّلَفِ

فَهْوَ أَعَمُّ عِنْدَهُمْ فَلْتَعْرِفِ

يَعُمُّ تَخْصِيصًا لِعَامٍ وَكَذَا

تَقْيِيدُ مُطْلَقٍ وتَبْيِينًا خُذَا

لِمُجْمَلٍ وَرَفْعَ حُكْمٍ جمْلَهْ

فَذَا مُرَادُ هَؤُلَاءِ الْجِلَّهْ

وَالْمُتَأَخِّرُون خَصُّوًا رَفْعَا

حُكْمٍ لِشَرْع بِدَلِيلٍ يُرْعَى

مَعَ تَرَاخٍ ثُمَّ هَذَا يَشْمَلُ

أَرْبَعَةً مِنَ القُيُودِ تُقْبَلُ

أَوَّلُهَا رَفعٌ لأَصْلِ الْحُكْمِ

وَلَيْسَ تَقْيِيدًا لَدَى ذِي الْفَهْمِ

وَالثَّانِ شَرْعِيٌّ وَلَيْسَ رَفْعَا

بَرَاءَةً أَصْلِيَّةً قَدْ تُرْعَى

ثَالِثُهَا كَوْنُ دَلِيلٍ شَرْعِي

لَا غَيْرُ مِثْلُ مَوْتِهِ ذِي الْقَطْعِ

رَابِعُهَا كَوْنُهُ ذَا تَرَاخِ

إِذْ غَيْرُهُ مُخَصِّصٌ يُوَاخِي

(1)

"إعلام الموقّعين" 1/ 66 - 67.

ص: 553

فَهَذه الْقُيُودُ إِنْ تَوَفَّرَتْ

حَقَيقَةُ النَّسْخِ لَدَيْهِمْ حَصَلَتْ

فتبيّن بهذا أن إطلاق النسخ على الآية المذكورة هنا لو قلنا: إنه ليس نسخًا على عرف المتأخرين، فإنه جار على عرف السلف، فلا اعتراض أصلًا، فتنبّه، وإن أردت تحقيق المسألة في هذا، فراجع كتابي "المنحة الرضيّة على التحفة المرضيّة"، في الأصول، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة السادسة): في ذكر الاختلاف في جواز التكليف بما لا يطاق: قال أبو عبد الله القرطبيّ: اختَلَف الناس في جواز تكليف ما لا يطاق في الأحكام التي هي في الدنيا، بعد اتفاقهم على أنه ليس واقعًا في الشرع، وأن هذه الآية آذنت بعدمه.

قال أبو الحسن الأشعريّ، وجماعة من المتكلمين: تكليف ما لا يطاق جائزٌ عقلًا، ولا يَخْرِم ذلك شيئًا من عقائد الشرع، ويكون ذلك أمارةً على تعذيب المكلف، وقطعًا به، ويَنظُر إلى هذا تكليف الْمُصَوِّر أن يَعْقِد شعيرة.

واختَلَف القائلون بجوازه، هل وقع في رسالة محمد صلى الله عليه وسلم أو لا؟، فقالت فرقة: وقع في نازلة أبي لهب؛ لأنه كَلَّفه بالإيمان بجملة الشريعة، ومن جملتها أنه لايؤمن؛ لأنه حَكَم عليه بِتَبِّ اليدين، وصُلِيِّ النار، وذلك مؤذن بأنه لا يؤمن، فقد كَلَّفه بأن يؤمن بأنه لا يؤمن.

وقالت فرقة: لم يقع قط، وقد حَكَى الإجماع على ذلك، وقوله تعالى:{سَيَصْلَى نَارًا} معناه إن وافى، حكاه ابن عطية. انتهى كلام القرطبيّ

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد حقّقت هذا الموضوع في "التحفة المرضيّة"، وشرحها "المنحة الرضيّة"، في الأصول، ومختصر ما ذكرته هناك: أن من شروط الفعل المكلّف به أن يكون ممكنًا مقدُورًا عليه؛ لأن المطلوب شرعًا حصول الفعل، ولا يُمكن حصوله إلا بأن يكون متصوّرَ الوقوع، أما المحال فلا يُتصوّر وقوعه.

وجملة القول أن التكليف بما لا يُطاق، أو التكليف بالمحال على قسمين:

(1)

"الجامع لأحكام القرآن" 3/ 430.

ص: 554

[أحدهما]: المستحيل لذاته، كالجمع بين الضدّين، وهذا غير واقع في الشريعة، ولا يجوز التكليف به إجماعًا؛ لقوله عز وجل:{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]، وقوله:{لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 233].

[الثاني]: المستحيل لا لذاته، بل. لتعلّق علم الله بأنه لا يوجد، وذلك كإيمان أبي لهب، ونحوه، فإن إيمانه بالنظر إلى مجرّد ذاته جائز عقلًا الجوازَ الذاتيّ؛ لأن العقل يقبل وجوده وعدمه، ولو كان إيمانه مستحيلًا عقلًا لذاته لاستحال شرعًا تكليفه بالإيمان مع أنه مكلّف به قطعًا إجماعًا، ولكن هذا الجائز عقلًا الذاتيّ مستحيل من جهة أخرى، وهي تعلّق علم الله تعالى فيما سبق أنه لا يؤمن؛ لاستحالة تغيّر ما سبق به العلم الأزليّ، وهذا النوع من المستحيل يجوز التكليف به شرعًا، وهو واقع بإجماع المسلمين.

وبهذا يتبيّن أنه لا يجوز إطلاق القول في حكم التكليف بما لا يُطاق لا بالجواز ولا بالمنع؛ لأن لفظ التكليف بما لا يطاق من الألفاظ المجملة؛ إذ هو مشتمل على المعنيين المذكورين، وأحدهما حقّ ثابتٌ، وهو المستحيل لا لذاته، بل لتعلّق علم الله بأنه لا يوجد، والآخر باطلٌ لا يَثبُت في الشرع، وهو المستحيل لذاته.

وخلاصة القول: إن شروط المكلّف به له ثلاثة شروط، ذكرتها بقولي:

أُولَى الشُّرُوطِ كَوْنُ ذَا الْفِعْلِ عُدِمْ

وَثَانِهَا كَوْنُهُ أَيْضًا قَدْ عُلِمْ

ثَالِثُهَا كَوْنُهُ مَقْدُورًا عَلَيْهْ

حَتَّى يُحَصَّلَ بِسَعْيِهِ إِلَيْهْ

لِذَلِكَ التَّكْلِيفُ بِالْمُحَالِ

لِذَاتِهِ كَانَ مِنَ الْمُحَالِ

شَرْعًا وَأَمَّا الْمُسْتَحِيلُ لَا لِذِي

فَجَائِزٌ وَوَاقِعٌ فَلْتَحْتَذِي

فَأَوَّلٌ كَالْجَمْعِ بَيْنَ الْمُتَضَادْ

وَالثَّانِ إِيمَانٌ لأَصْحَابِ الْعِنَادْ

وَمِنْ هُنَا لَا يُطْلَقُ التَّكْلِيفُ

بِغَيْرِ مَا يُطَاقُ يَا حَصِيفُ

بَلْ يَجِبُ التَّفْصِيلُ مِثْلَ مَا سَبَقْ

......................

فإن أردت تحقيق هذه الشروط، وتفاصيلها، فراجع "المنحة الرضيّة على التحفة المرضيّة"، تُكْفَ، وتُشفَ بإذن الله تعالى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

ص: 555

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[337]

(126) - (حَدَّثنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَاللَّفْظُ لِأَبِي بَكْرٍ، قَالَ إِسْحَاقُ: أخْبَرَنَا، وَقَالَ الْاَخَرَانِ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ آدَمَ بْنِ سُلَيْمَانَ، مَوْلَى خَالِدٍ، قَالَ: سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ، يُحَدِّثُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآية: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} وقَالَ: دَخَلَ قُلُوبَهُمْ مِنْهَا شَيْء، لَمْ يَدْخُلْ قُلُوبَهُمْ مِنْ شَيْءٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "قُولُوا: سَمِعْنَا، وَأَطَعْنَا، وَسَلَّمْنَا"، قَالَ: فَأَلقَى اللهُ الإِيمَانَ فِي قُلُوبِهِمْ، فَأَنزَلَ اللهُ تَعَالَى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا}، قَالَ: قَدْ فعلْتُ {رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} قَال: قَدْ فَعَلْتُ، {وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا}، قَالَ: قَدْ فَعَلْتُ).

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(سُفْيَانُ) بن سعيد بن مسروق الثوريّ، أبو عبد الله الكوفيّ الإمام الحجة الثبت الفقيه، من رؤوس [7](ت 161)(ع) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.

2 -

(آدَمُ بْنُ سُلَيْمَانَ، مَوْلَى خَالِدٍ) بن خالد بن عُمارة بن الوليد بن عُقبة بن أبي مُعَيط

(1)

القرشيّ الكوفيّ، والد يحيى بن آدم، ثقةٌ

(2)

[7].

رَوَى عن سعيد بن جبير، ونافع، وعطاء، وعنه الثوريّ، وشعبة، وإسرائيل، ولم يدركه ابنه يحيى، قال أبو حاتم: صالخ، وقال النسائيّ: ثقةٌ، ووثقّه العجليّ، وذكره ابن حبان في "الثقات".

أخرج له المصنّف، والترمذيّ، والنسائيّ، وليس في هذا الكتاب إلا هذا

(1)

هكذا ذكره في "تهذيب الكمال" 2/ 307.

(2)

قال عنه في "التقريب": صدون، والحقّ أنه ثقةٌ؛ لأنه روى عنه جماعة، ووثقه جماعة، ولا يوجد فيه طعن لأحد، فهو ثقةٌ، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

ص: 556

الحديث، قال في "التهذيب": أخرج له مسلم حديثًا واحدًا في الإيمان متابعةً. انتهى

(1)

.

والباقون تقدّموا قريبًا.

وقوله: (دَخَلَ قُلُوبَهُمْ مِنْهَا) أي من الآية (شَيْءٌ) أي شيء عظيم من الشدّة، وهو بمعنى قوله في الرواية السابقة:"اشتدّ ذلك عليهم".

وقوله: (لَمْ يَدْخُلْ قُلُوبَهُمْ مِنْ شَيْءٍ)"من" زائدة، و"شيء" فاعل بـ "يدخل".

وقوله: (فَأَلقَى اللهُ الإِيمَانَ في قُلُوبِهِمْ) أي التصديق بما أمرهم به النبيّ صلى الله عليه وسلم بقوله: "قولوا: سمعنا وأطعنا

إلخ".

وقوله: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا} التكليف إلزام ما في فعله كُلْفة، وهي النصَبُ والمشقّة.

وقوله {إِلَّا وُسْعَهَا} أي طاقتها.

وقوله: {إِصْرًا} هو العهد الذي يعجز عنه، قاله ابن عباس، وقال الربيع: هو الثقل العظيم، وقال ابن زيد: هو الذنب الذي لا توبة له، ولا كفّارة.

وقوله: (قَدْ فَعَلْتُ) هو إجابة لما دَعَوا فيه، وإخبار من الله تعالى أنه أجابهم في تلك الدعوات، قال القرطبيّ: وكلّ داع يُشاركهم في إيمانهم، وإخلاصهم، واستسلامهم أجابه الله تعالى كإجابتهم؛ لأن وعده تعالى صدق، وقوله حقّ. انتهى

(2)

.

وقوله: ({وَاعْفُ عَنَّا}) قيل: اعف عن الكبائر ({وَاغْفِرْ لَنَا}) من الصغائر ({وَارْحَمْنَا}) بتثقيل الموازين، وقيل: اعف عن الأقوال، واغفر الأفعال، وارحم بتوالي الألطاف، وسَنِيّ الأحوال، قال القرطبيّ: وأصل العفو التسهيل، والمغفرة، والسَّتْر، والرحمة: إيصال النعمة إلى المحتاج. انتهى

(3)

.

وقوله: ({أَنْتَ مَوْلَانَا}) أي متولّي أمورنا، وناصرنا، والله تعالى أعلم.

(1)

"تهذيب التهذيب" 1/ 102.

(2)

"المفهم" 1/ 338 - 340.

(3)

"المفهم" 1/ 338 - 339.

ص: 557

مسألتان تتعلَّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث ابن عبّاس رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا في "الإيمان"[60/ 337](126)، و (الترمذيّ) في "التفسير"(2992)، و (النسائيّ) في "التفسير" من "الكبرى"(10993)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 233)، و (الطبريّ) في "تفسيره "(6457)، و (الحاكم) في "المستدرك"(2/ 286)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(219 و 220 و 221)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(327)، و (البيهقيّ) في "الأسماء والصفات"(ص 210 - 211)، و (الواحديّ) في "أسباب النزول"(ص 60)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(61) - (بَابُ بَيَانِ تَجَاوُزِ اللهِ سبحانه وتعالى عَنْ حَدِيثِ النَّفْسِ وَالْخَوَاطِرِ مَا لَمْ يَسْتَقِرَّ)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[338]

(127) - (حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَقُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ الْغُبَرِيُّ، وَاللَّفْظُ لِسَعِيدٍ، قَالُوا: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ زُرَارَةَ بْنِ أَوْفَى، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللهَ تَجَاوَزَ لِأمّتِي مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا، مَا لَمْ يَتَكَلَّمُوا، أَوْ يَعْمَلُوا بِهِ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ) بن شعبة الْخُرَاسانيّ، أبو عثمان المروزيّ، ويقال: الطّالْقَانيّ، يقال: وُلد بِجُوزَجَان، ونَشَأ ببَلْخَ، وطاف البلاد، وسكن مكة، ومات بها، ثقةٌ، مصنّف [10].

رَوَى عن مالك، وحماد بن زيد، وأبي قُدَامة الحارث بن عُبيد، وداود بن عبد الرحمن، وابن أبي الزناد، وأبي شهاب، عبد ربه بن نافع، وابن أبي

ص: 558

حازم، والدَّرَاورديّ، وفُلَيح، ومالك، وأبي الأحوص، وابن عيينة، ومهدي بن ميمون، وهشيم، وأبي عوانة، وجماعة.

ورَوَى عنه مسلم، وأبو داود، والباقون بواسطة يحيى بن موسى خَتّ، وأبي ثور، وعبد الله الدَّارِميّ، ومحمد بن علي بن ميمون الرّقّيّ، والعباس بن عبد الله السّنديّ، وعَمْرو بن منصور النسائيّ، والذُّهْليّ، وأبو حاتم، وأبو بكر الأثرم، وحرب الكرمانيّ، وأحمد بن حنبل حَدَّث عنه، وهو حيّ، والحسن بن محمد الزعفرانيّ، وأبو زرعة الرازيّ، والدمشقيّ، ومحمد بن علي بن زيد الصائغ، وأحمد بن نَجْدة بن الْعَريان، وهما راويا "كتاب السنن" عنه، وبشر بن موسى، وأحمد بن خُلَيد الْحَلَبيّ، وطائفة.

قال حرب: سمعت أحمد يُحسن الثناء عليه، وقال سلمة بن شَبِيب: ذكرته لأحمد، فأحسن الثناء عليه، وفَخَّم أمره، وقال حنبل عن أحمد: هو من أهل الفضل والصدق، وقال ابن نمير، وابن خراش: ثقةٌ، وقال أبو حاتم: ثقةٌ من الْمُتْقِنين الأثبات، ممن جَمَعَ، وصَنَّفَ، وكان محمد بن عبد الرحيم إذا حَدَّث عنه أثنى عليه، وكان يقول: حدثنا سعيد، وكان ثبتًا، وقال أبو زرعة الدمشقيّ: أخبرني أحمد بن صالح، وعبد الرحمن بن إبراهيم أنهما حضرا يحيى بن حسان يُقَدِّمه، وَيرَى له حفظه، وكان حافظًا، وقال الحاكم: سكن مكة مجاورًا، وكان راويةَ ابن عُيينة، وأحد أئمة الحديث، له مصنفات، وقال حرب: كتبت عنه سنة (219)، أملى علينا نحوًا من عشرة آلاف حديث من حفظه، ثم صَنّف بعد ذلك، وقال يعقوب بن سفيان: كان إذا رأى في كتابه خطأً لم يَرجِع عنه.

وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: كان ممن جَمَع، وصَنَّف، وكان من المتقنين الأثبات، وقال ابن قانع: ثقةٌ ثبتٌ، وقال الخليليّ: ثقةٌ متفق عليه، ووثقه أيضًا مسلمة بن قاسم، وقال يعقوب بن سفيان: كان سعيد، وهو بمكة يقول: لا تسألوني عن حديث حماد بن زيد، فإن أبا أيوب - يعني سليمان بن حرب - يجعلنا على طَبَق، لا تسألوني عن حديث ابن عيينة، فإن هذا الحميدي يجعلنا على طَبَق.

قال ابن سعد وغيره: مات سنة سبع وعشرين ومائتين، زاد ابن يونس:

ص: 559

في شهر رمضان، وقال أبو زرعة الدمشقيّ: سنة (6)، وقال غيره: سنة (8)، وقال موسى بن هارون: سنة (9)، والصحيح الأول.

وقال ابن يونس: مات بمصر، حَكَى في التهذيب عن ابن يونس، مع ابن سعد وغيرهما: أنه مات بمكة، وقال البخاري في "تاريخه": مات سنة (29)، أو نحوها بمكة.

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (60) حديثًا.

2 -

(قتيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) بن جَمِيل بن طَرِيف الثقفيّ، أبو رجاء الْبَغْلانيّ

(1)

، قيل: اسمه يحيى، وقيل: عليّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 240) عن (90) سنة (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.

3 -

(مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ الْغُبَرِيُّ) هو: محمد بن عُبيد بن حِسَاب الْغُبَريّ

(2)

البصريّ، ثقةٌ [10](ت 238)(م دس) تقدم في "المقدمة" 2/ 4.

4 -

(أَبُو عَوَانَةَ) الوضّاح بن عبد الله اليشكريّ المذكور قبل باب.

5 -

(قَتَادَةُ) بن دِعَامة بن قتادة السَّدُوسيّ، أبو الخطّاب البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ، رأس الطبقة [4] مات سنة بضع عشرة ومائة (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 70.

6 -

(زُرَارَةُ - بضم أوله - ابْنُ أَوْفَى) العامريّ الْحَرَشيّ - بمهملة، وراءين مفتوحتين، ثم معجمة - أبو حاجب البصريّ القاضي، ثقةٌ عابدٌ [3].

رَوَى عن أبي هريرة، وعبد الله بن سلام، وتَمِيم الداريّ، وابن عباس، وعمران بن حُصين، وعائشة، والمحفوظ أن بينهما سعد بن هشام، والمغيرة بن شعبة، وأنس، وأُسير بن جابر، وعبد الرحمن بن أبي نُعْم، ومسروق.

وروى عنه قتادة، وداود بن أبي هند، وعوف، وبَهْز بن حكيم، وأيوب، وغيرهم.

قال أبو داود الطيالسيّ: لم يَسمع من ابن مسعود، وقال النسائيّ: ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: كان من العبّاد، ومات في أول قُدوم

(1)

بفتح الموحّدة، وسكون الغين المعجمة: نسبة إلى قرية من قُرى بَلْخ.

(2)

"حِسَاب" بكسر الحاء المهملة، وتخفيف الموحّدة المفتوحة، و"الْغُبَري" بضم الغين المعجمة، وفتح الموحّدة: نسبة إلى بني غُبَر.

ص: 560

الْحَجّاج العراق في ولاية عبد الملك، وقال العجليّ: بصريّ ثقةُ، رجل صالح، وقال ابن أبي حاتم: سُئل أبي: هل سمع زُرارة من ابن سلام؟ قال: ما أراه، ولكن يُدخَل في المسند، وقد سمع من عمران، وأبي هريرة، وابن عباس رضي الله عنهم.

وقال أبو جَنَابٍ القَصّاب: صلى بنا زُرارة الفجرَ، ولَمّا بَلَغَ:{فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9)} [المدثر: 8، 9] شَهِقَ شَهْقَةً، فمات، وقال ابن سعد: مات فَجْأَةً سنة (93)، وكان ثقةً، وله أحاديث.

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (16) حديثًا.

7 -

(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه تقدّم في الباب الماضي، والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف، وفيه التحدي، والعنعنة.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، غير شيخه محمد بن عُبيد، فتفرّد به هو، وأبو داود، والنسائيّ.

3 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ: قتادة، عن زرارة.

4 -

(ومنها): أن زُرارة، وسعيد بن منصور هذا أول محلّ ذكرهما في هذا الكتاب، وقد ذكرت آنفًا عدد ما رواه المصنّف لهما من الأحاديث، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ زُرَارَةَ بْنِ أَوْفَى) ووقع عند البخاريّ في "الأيمان والنذور": "حدّثنا زُرارة بن أوفى"، فصرّح قتادة بالتحديث (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) قال الحافظ: لم أقف على التصريح بسماع زُرارة لهذا الحديث من أبي هريرة، لكنه لم يوصف بالتدليس، فيُحمَل على السماع، وذكر الإسماعيليّ أن الفُرَات بن خالد أدخل بين زُرارة، وبين أبي هريرة في هذا الإسناد رجلًا من بني عامر، وهو خطأٌ، فإن زُرَارة من بني عامر، فكأنه كان فيه:"عن زرارة، رجلٍ من بني عامر" فظنّه آخر أُبهم، وليس كذلك. انتهى

(1)

.

(1)

"فتح" 11/ 560 "كتاب الأيمان والنذور" رقم الحديث (6664).

ص: 561

(قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللهَ تَجَاوَزَ لِأمّتِي) وفي رواية للبخاريّ من طريق هشام الدستوائيّ عن قتادة: "تجاوز عن أمتي"(مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا) وفي رواية سعيد بن أبي عروبة التالية: "عما حدّثت به أنفسها"، وفي رواية للبخاريّ:"عما وسوست، أو حدَّثت به أنفسها" بالتردّد، قال في "القاموس": تجاوز عن ذنبه": لم يؤاخذه به. انتهى. فالفعل يتعدّى بحرف الجرّ، كما جاء في رواية ابن أبي عروبة.

قال القرطبيّ: روايتنا: نصب "أنفسها" على أنه مفعول "حَدَّثَت"، وفي "حَدَّثَت" ضمير فاعل عائدٌ على الأمّة، وأهل اللغة يقولون:"أنفُسُها" بالرفع على أنه فاعل "حَدَّثَت"، يريدون بغير اختيار، قاله الطحاويّ. انتهى

(1)

.

وقال في "الفتح": "أنفُسَها" بالنصب للأكثر، وبالرفع لبعضهم، وقال النوويّ: ضبط العلماء "أنفسها" بالنصب، والرفع، وهما ظاهران، إلا أن النصب أظهر، وأشهر، قال القاضي عياض:"أنفسها" بالنصب، ويدلّ عليه قوله: "إن أحدنا يُحدّث نفسه

"، قال: قال الطحاويّ: وأهل اللغة يقولون: "أنفسُها" بالرفع، يريدون بغير اختيارها، كقوله تعالى:{وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} [ق: 16]، والله تعالى أعلم

(2)

.

وقال السنديّ: قوله: "حدّثت به أنفسها" يحتمل الرفع على الفاعليّة، والنصب على المفعوليّة، والثاني أظهر معنىً، والأول يُجعل كنايةً عما لم تحدّث به ألسنتهم. انتهى

(3)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تحصّل مما ذُكر أن الرفع والنصب سائغان، يقال: حدّثت نفسي بكذا، وحدّثتني نفسي بكذا، والله تعالى أعلم.

(مَا لَمْ يَتَكَلَّمُوا، أَوْ يَعْمَلُوا بِهِ") الجارّ والمجرور تنازعهما الفعلان: أي ما لم يتكلّموا به، أو يعملوا به، وفي رواية سعيد التالية:"ما لم تعمل، أو تكلّم به".

(1)

"المفهم" 1/ 340.

(2)

"شرح مسلم" 2/ 147 "كتاب الإيمان".

(3)

"شرح السنديّ " 6/ 157.

ص: 562

و"ما" مصدريّة ظرفيّة: أي مدّة عدم التكلّم به، أو مدّة عدم العمل به.

والمقصود به ما لم يتحقّق في الخارج؛ لأن ما حدّثت به النفس إما أن يتحقّق في الخارج باللسان، كالغيبة، والنميمة، والكذب، والقذف، وإما أن يتحقّق في الخارج بالجوارح الأخرى، كالزنا، والسرقة، وشرب الخمر، والقتل، وليس المقصود من قوله:"ما لم يتكلّموا" ما لم يَحْكُوه، فإن الشخص إذا قال: حدّثتني نفسي بكذا، فحاربتها، لا يكون متكلّمًا بما حدّثته نفسه، ولكنه متكلّم عنه، فلا يدخل في المؤاخذة.

وقال الكرمانيّ: فيه أن الوجود الذهنيّ لا أثر له، وإنما الاعتبار بالوجود القوليّ في القوليّات، والعمليّ في العمليّات، وقد احتجّ به من لا يرى المؤاخذة بما وقع في النفس، ولو عزم عليه، وانفصل من قال: يؤاخذ بالعزم بأنه نوع من العمل - يعني عمل القلب -.

وقال في "الفتح": وظاهر الحديث أن المراد بالعمل عمل الجوارح؛ لأن المفهوم من لفظ: "ما لم يعملوا" يُشعر بأن كلّ شيء في الصدر لا يؤاخذ به، سواء توطّن به، أم لم يتوطّن. انتهى

(1)

.

وقال السنديّ: وقوله: "ما لم يتكلّموا به، أو يعملوا به" صريحٌ في أنه مغفور ما دام لم يتعلّق به قولٌ، أو فعل، فقولهم: إذا صار عزمًا يؤاخذ به مخالفٌ لذلك قطعًا.

ثم حاصل الحديث أن العبد لا يؤاخذ بحديث النفس قبل التكلّم به، والعمل به، وهذا لا ينافي ثبوت الثواب على حديث النفس أصلًا، فمن قال: إنه مُعَارَض بحديث: "مَن همّ بحسنة، فلم يعملها، كُتبت له حسنة"، فقد وَهِم.

بقي الكلام في اعتقاد الكفر، ونحوه، والجواب أنه ليس من حديث النفس، بل هو مندرجٌ في العمل، وعملُ كلّ شيء على حسبه، ونقول: الكلام فيما يتعلّق به تكلّمٌ، أو عملٌ، بقرينة "ما لم يتكلّموا

إلخ"، وهذا ليس منهما، وإنما هو من أفعال القلب، وعقائده، لا كلام فيه، فليتأمّل، والله تعالى أعلم. انتهى

(2)

.

(1)

"الفتح" 11/ 560.

(2)

"شرح السنديّ" 6/ 157 - 158.

ص: 563

وسيأتي تمام البحث في ذلك في المسألة الرابعة، إن شاء الله تعالى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا في "الإيمان"[61/ 338 و 339 و 340](127)، و (البخاريّ) في "العتق"(2528)، و"الطلاق"(5269)، و"الأيمان والنذور"(6664)، و (أبو داود) في "الطلاق"(2209)، و (الترمذيّ) في "الطلاق"(1183)، و (النسائيّ) في "الطلاق"(3465 و 3461 و 3462)، وفي "الكبرى"(5626 و 5627 و 5628)، و (ابن ماجه) في "الطلاق"(2040)، و (أبو داود الطيالسيّ) في "مسنده"(2459)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 491 و 2/ 255 و 393 و 425 و 474 و 481)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(224 و 225 و 226)، و (أبو نُعيم) في "مستخرجه"(328 و 329 و 330 و 331 و 332)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(7/ 298)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان أن حديث النفس لا ينافي الإيمان، وهو وجه المطابقة في إيراده هنا.

2 -

(ومنها): بيانُ عظيم قدر الأمة المحمّدية؛ لأجل نبيّها صلى الله عليه وسلم؛ لقوله: "تجاوز لي".

3 -

(ومنها): أن هذا خصوصيّة لهذه الأمة، لا يُشاركها فيه غيرها من الأمم، بل صرّح بعضهم بأنه كان الناسي كالعامد في الإثم، وأن ذلك من الإصر الذي كان على من قبلنا، وتؤيّده أحاديث الباب الماضي.

4 -

(ومنها): أن من طلّق زوجته في نفسه لا يقع طلاقها.

5 -

(ومنها): أنه حجة في أن الموسوس لا يقع طلاقه، والمعتوه، والمجنون أولى منه بذلك.

ص: 564

6 -

(ومنها): أن الطحاويّ احتجّ بهذا الحديث للجمهور فيمن قال لامرأته: أنت طالقٌ، ونوى في نفسه ثلاثًا أنه لا يقع إلا واحدةً - خلافًا للشافعيّ، ومن وافقه - قال: لأن الخبر دلّ على أنه لا يجوز وقوع الطلاق بنيّة، لا لفظ معها.

وتُعُقّب بأنه لفظ بالطلاق، ونوى الفرقة التامّة، فهي نيّةٌ صحبها لفظٌ.

7 -

(ومنها): أن الطحاويّ احتجّ به أيضًا لمن قال فيمن قال لامرأته: يا فلانة، ونوى بذلك طلاقها إنها لا تطلّق، خلافًا لمالك وغيره؛ لأن الطلاق لا يقع بالنيّة، دون اللفظ، ولم يأت بصيغة، لا صريحة، ولا كناية.

8 -

(ومنها): أنه استُدلّ به على أن من كتب الطلاق طلّقت امرأته؛ لأنه عزم بقلبه، وعمل بكتابته، وهو قول الجمهور، وشرط مالكٌ فيه الإشهاد على ذلك، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): قال في "الفتح" نقلًا عن المازريّ: ذهب ابن الباقلّانيّ - يعني ومن تبعه - إلى أن من عزم على المعصية بقلبه، ووَطّن عليها نفسه أنه يأثم، وحمل الأحاديث الواردة في العفو عمن همّ بسيّئة، ولم يعملها على الخاطر الذي يمرّ بالقلب، ولا يستقرّ.

قال المازريّ: وخالفه كثير من الفقهاء، والمحدّثين، والمتكلّمين، ونقل عن نصّ الشافعيّ، ويؤيّده قوله في حديث أبي هريرة فيما أخرجه مسلم، من طريق همّام عنه بلفظ:"فأنا أغفرها له ما لم يعملها"، فإن الظاهر أن المراد بالعمل هنا عمل الجارحة بالمعصية المهموم بها.

وتعقّبه عياض بأن عامّة السلف، وأهل العلم على ما قال ابن الباقلّانيّ؛ لاتفاقهم على المؤاخذة بأعمال القلوب، لكنّهم قالوا: إن العزم على السيّئة يُكتب سيّئةً مجرّدة، لا السيّئة التي همّ أن يعملها، كمن يأمر بتحصيل معصية، ثم لا يفعلها بعد حصولها، فإنه يأثم بالأمر المذكور، لا بالمعصية.

ومما يدلّ على ذلك حديث: "إذا التقى المسلمان بسيفيهما، فالقاتل والمقتول في النار"، قيل: هذا القاتل، فما بال المقتول؟ قال:"إنه كان حريصًا على قتل صاحبه". والذي يظهر أنه من هذا الجنس، وهو أنه يُعاقب على عزمه بمقدار ما يستحقّه، ولا يُعاقب عقاب من باشر القتل حسًّا.

وهنا قسم آخر، وهو من فعل المعصية، ولم يتب منها، ثمّ همّ أن يعود

ص: 565

إليها، فإنه يعاقب على الإصرار، كما جزم به ابن المبارك، وغيره في تفسير قوله تعالى:{وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا} ، ويؤيّده أن الإصرار معصية اتفاقًا، فمن عزم على المعصية، وصمّم عليها كتبت عليه سيّئةً، فإذا عملها كُتبت عليه معصيةً ثانيةً.

قال النوويّ: وهذا ظاهرٌ حسنٌ، لا مزيد عليه، وقد تظاهرت نصوص الشريعة بالمؤاخذة على عزم القلب المستقرّ، كقوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ} [النور: 19] الآية، وقوله {اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ} [الحجرات: 12]، وغير ذلك.

وقال ابن الجوزيّ: إذا حدّث نفسه بالمعصية لم يؤاخذ، فإن عزم، وصمّم زاد على حديث النفس، وهو من عمل القلب، قال: والدليل على التفريق بين الهمّ والعزم أن من كان في الصلاة، فوقع في خاطره أن يقطعها لم تنقطع، فإن صمّم على قطعها بطلت.

وأجيب عن القول الأول بأن المؤاخذة على أعمال القلوب المستقلّة بالمعصية، لا تستلزم المؤاخذة على عمل القلب بقصد معصية الجارحة، إذا لم يعمل المقصود؛ للفرق بين ما هو بالقصد، وبين ما هو بالوسيلة.

وقسم بعضهم ما يقع في النفس أقسامًا يظهر منها الجواب عن الثاني، أضعفها أن يخطُر له، ثم يذهب في الحال، وهذا من الوسوسة، وهو معفوّ عنه، وهو دون التردّد.

وفوقه أن يتردّد فيه، فيهمّ به، ثم ينفر عنه، فيتركه، ثم يهمّ به، ثم يترك كذلك، ولا يستمرّ على قصده، وهذا هو التردّد، فيُعفى عنه أيضًا.

وفوقه أن يميل إليه، ولا ينفر منه، بل يُصمّم على فعله، فهذا هو العزم، وهو منتهى الهمّ، وهو على قسمين:

[القسم الأول]: أن يكون من أعمال القلوب صِرْفًا، كالشكّ في الوحدانيّة، أو النبوّة، أو البعث، فهذا كفر، ويُعاقب عليه جزمًا.

ودونه المعصية التي لا تَصِلُ إلى الكفر، كمن يُحبّ ما يُبغض الله، ويُبغض ما يُحبّ الله، ويُحبّ للمسلم الأذى بغير موجب لذلك، فهذا يأثم.

ويلتحق به الكبر، والعجب، والبغي، والمكر، والحسد، وفي بعض هذا

ص: 566

خلاف، فعن الحسن البصريّ: أن سوء الظنّ بالمسلم، وحسده معفوّ عنه، وحملوه على ما يقع في النفس، مما لا يقدر على دفعه.

لكن من يقع له ذلك مأمورٌ بمجاهدته النفس على تركه.

[القسم الثاني]: أن يكون من أعمال الجوارح، كالزنا، والسرقة، فهو الذي وقع به النزاع، فذهبت طائفة إلى عدم المؤاخذة بذلك أصلًا.

ونُقل عن نصّ الشافعيّ، ويؤيّده ما وقع في حديث خُريم بن فاتك

(1)

، فإنه حيث ذكر الهمّ بالحسنة قال:"علم الله أنه أشعرها قلبه، وحرص عليها"، وحيث ذكر الهمّ بالسيّئة لم يقيّد بشيء، بل قال فيه:"ومن همّ بسيّئة لم تُكتب عليه"، والمقام مقام الفضل، فلا يليق التحجير فيه.

وذهب كثير من العلماء إلى المؤاخذة بالعزم المصمّم، وسأل ابن المبارك سفيان الثوريّ: أيؤاخذ العبد بما يهمّ به؟ قال: إذا جزم بذلك.

واستدلّ كثير منهم بقوله تعالى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [البقرة: 225]، وحملوا حديث أبي هريرة المذكور في الباب على الخطرات، كما تقدّم.

ثم افترق هؤلاء، فقالت طائفةٌ: يُعاقب عليه صاحبه في الدنيا خاصّةً،

(1)

هو ما أخرجه الإمام أحمد في "مسنده" بإسناد صحيح، ولفظه:

1 -

حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، حدثنا شيبان بن عبد الرحمن، عن الرُّكَين بن الرَّبِيع، عن أبيه، عن عمه، فلان بن عميلة، عن خريم بن فاتك الأسدي، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"الناس أربعة، والأعمال ستة، فالناس موسع عليه في الدنيا والآخرة، وموسع له في الدنيا، مقتور عليه في الآخرة، ومقتور عليه في الدنيا، موسع عليه في الآخرة، وشقي في الدنيا والآخرة، والأعمال: موجبتان، ومثل بمثل، وعشرة أضعاف، وسبع مائة ضعف، فالموجبتان: من مات مسلمًا مؤمنًا، لا يشرك بالله شيئًا، فوجبت له الجنة، ومن مات كافرًا، وجبت له النار، ومن همّ بحسنة فلم يعملها، فعلم الله أنه قد أشعرها قلبه، وحرص عليها، كُتبت له حسنة، ومن همّ بسيئة، لم تكتب عليه، ومن عملها كتبت واحدة، ولم تضاعف عليه، ومن عمل حسنة، كانت له بعشر أمثالها، ومن أنفق نفقة في سبيل الله، كانت له بسبع مائة ضعف".

وعمّ الركين اسمه يُسير بن عميلة، وهو ثقةٌ.

ص: 567

بنحو الهمّ والغمّ. وقالت طائفة: بل يُعاقب عليه يوم القيامة، لكن بالعتاب، لا بالعذاب.

وهذا قول ابن جُريج، والربيع بن أنس، وطائفة، ونُسب ذلك إلى ابن عبّاس أيضًا. واستدلّوا بحديث النجوى

(1)

، واستثنى جماعة ممن ذهب إلى عدم مؤاخذة من وقع منه الهمّ بالمعصية ما يقع في الحرم المكيّ، ولو لم يُصمّم؛ لقوله تعالى:{وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج: 25]، ذكره السدّيّ في "تفسيره" عن مرّة، عن ابن مسعود صلى الله عليه وسلم، وأخرجه أحمد من طريقه، مرفوعًا، ومنهم من رجّحه موقوفًا.

ويؤيّد ذلك أن الحرم يجب اعتقاد تعظيمه، فمن همّ بالمعصية فيه، خالف الواجب بانتهاك حرمته.

وتُعُقّب هذا البحثُ بأن تعظيم الله اَكد من تعظيم الحرم، ومع ذلك فمن همّ بمعصيته لا يؤاخذه، فكيف يؤاخذه بما دونه؟.

ويمكن أن يُجاب عن هذا بأن انتهاك حرمة الحرم بالمعصية تستلزم انتهاك حرمة الله؛ لأن تعظيم الحرم من تعظيم الله، فصارت المعصية في الحرم أشدّ من المعصية في غيره، وإن اشترك الجميع في ترك تعظيم الله تعالى.

نعم، من همّ بالمعصية، قاصدًا الاستخفاف بالحرم عصى، ومن همّ بمعصية الله، قاصدًا الاستخفاف بالله كفر، وإنما المعفوّ عنه من همّ بمعصية، ذاهلًا عن قصد الاستخفاف.

قال الحافظ رحمه الله تعالى: وهذا تفصيلٌ جيدٌ جدًّا، ينبغي أن يُستحضر عند شرح حديث: "لا يزني الزاني، وهو مؤمن

".

(1)

هو ما أخرجه البخاريّ رحمه الله تعالى في "كتاب الأدب" من "صحيحه"، ولفظه: حدثنا مسدد، حدثنا أبو عوانة، عن قتادة، عن صفوان بن محرز، أن رجلًا سأل ابن عمر: كيف سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول في النجوى؟ قال:"يدنو أحدكم من ربه، حتى يضع كنفه عليه، فيقول: عملتَ كذا وكذا؟، فيقول: نعم، ويقول: عملت كذا وكذا؟، فيقول: نعم، فيُقَرِّره، ثم يقول: إني سترت عليك في الدنيا، فأنا أغفرها لك اليوم".

ص: 568

وقال السبكيّ الكبير رحمه الله تعالى: الهاجس لا يؤاخذ به إجماعًا، والخاطر، وهو جريان ذلك الهاجس، وحديمث النفس لا يؤاخذ بهما؛ للحديث المشار إليه، والهمّ، وهو قصد فعل المعصية مع التردّد لا يؤاخذ به؛ لحديث الباب، والعزم، وهو قوّة ذلك القصد، أو الجزم به، ورفع التردّد، قال المحقّقون: يؤاخذ به، وقال بعضهم: لا، واحتجّ بقول أهل اللغة: همّ بالشيء: عزم عليه، وهذا لا يكفي، قال: ومن أدلّة الأول حديث: "إذا التقى المسلمان بسيفيهما

" وفيه: "إنه كان حريصًا على قتل صاحبه"، فعلّل بالحرص.

واحتجّ بعضهم بأعمال القلوب، ولا حجة معه؛ لأنها على قسمين:

[أحدهما]: لا يتعلّق بفعل خارجيّ، وليس البحث فيه.

[والثاني]: يتعلّق بالمقتتلين، عزم كلّ منهما على قتل صاحبه، واقترن بعزمه فعل بعض ما عزم عليه، وهو شهر السلاح، وإشارته به إلى الآخر، فهذا الفعل يؤاخذ به، سواء حصل القتل، أم لا. انتهى.

قال الحافظ: ولا يلزم من قوله: "فالقاتل والمقتول في النار" أن يكونا في درجة واحدة من العذاب بالاتفاق

(1)

.

وقال القرطبيّ ما حاصله: إن الذي لا يؤاخذ به هي الأحاديث الطارئة التي لا ثبات لها، ولا استقرار في النفس، ولا ركون إليها، ثم نقل عن القاضي أبي بكر

(2)

أن الهمّ ها هنا ما يمرّ بالفكر من غير استقرار، ولا توطين، فلو استمرّ، ووطّن نفسه عليه لكان ذلك هو العزم المؤاخَذَ به، أو المثابَ عليه، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم:"إذا التقى المسلمان بسيفيهما، فالقاتل والمقتول في النار"، قالوا: يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: "إنه كان حريصًا على قتل صاحبه"، متّفقٌ عليه، لا يقال: هذه المؤاخذة إنما كانت لأنه قد عَمِل بما استقرّ في قلبه من حمله السلاح عليه، لا بمجرّد حرص القلب؛ لأنا نقول: هذا فاسدٌ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قد نصّ على ما وقعت المؤاخذة به، وأعرض عن غيره، فقال: إنه كان حريصًا على قتل صاحبه، فلو كان حملُ السلاح هو العلّة

(1)

"فتح" 13/ 124 - 127.

(2)

أراد به القاضي أبا بكر الباقلّانيّ.

ص: 569

للمؤاخذة، أو جزأها لما سكت عنه، وعلَّق المؤاخذة على غيره؛ لأن ذلك خلاف البيان الواجب عند الحاجة إليه.

وهذا الذي صار إليه القاضي هو الذي عليه عامّة السلف، وأهل العلم من الفقهاء، والمحدّثين، والمتكلّمين، ولا يُلتَفت إلى من خالفهم في ذلك، فزعم أن ما يَهُمُّ به الإنسانُ، وإن وطّن نفسه عليه لا يؤاخذ به، متمسّكًا في ذلك بقوله تعالى:{وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا} [يوسف: 24]، وبقوله صلى الله عليه وسلم:"ما لم يعمل، أو يتكلّم به"، ومن لم يعمل بما عَزَم عليه، ولا نَطَقَ به، فلا يؤاخذ به، وهو متجاوَزٌ عنه.

والجواب عن الآية: أن من الهمّ ما يؤاخذ به، وهو ما استقرّ، واستوطن، ومنه ما يكون أحاديث لا تستقرّ، فلا يؤاخذ بها، كما شهد به الحديث، وما في الآية من القسم الثاني، لا الأول، وفي الآية تأويلات، هذا أحدها، وبه يحصل الانفصال.

وعن قوله: "ما لم يَعمل" أن توطين النفس عليه عملٌ يؤاخذ به، والذي يرفع الإشكال، ويُبيّن المراد بهذا الحديث حديث أبي كبشة الأنماريّ

(1)

أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنما الدنيا لأربعة نفر

" الحديث

(2)

.

(1)

اختُلف في اسمه قيل: هو سعد بن عمرو، وقيل: عمرو بن سعد، وقيل: عُمَر، أو عامر بن سعد، صحابيّ نزل الشام، وجزم الترمذيّ في "الجامع" بأن اسمه عُمَر بن سَعْد، قاله في "تهذيب التهذيب" 4/ 576.

(2)

حديث صحيح. أخرجه الإمام أحمد في "مسنده"(17570)، والترمذيّ في "جامعه"(2247)، عن سعيد أبي الْبَخْتريّ الطائيّ، عن أبي كبشة الأنماريّ رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ثلاث أُقسم عليهنّ، وأحدثكم حديثًا فاحفظوه، قال: فأما الثلاث الذي أُقسم عليهنّ، فإنه ما نَقَصَ مال عبد صدقةٌ، ولا ظُلِم عبد بمظلمة، فيصبر عليها إلا زاده الله عز وجل بها عزًّا، ولا يفتح عبد باب مسألة، إلا فَتَحَ الله له باب فقر"، وأما الذي أحدثكم حديثًا، فاحفظوه، فإنه قال: "إنما الدنيا لأربعة نفر: عبد رزقه الله عز وجل مالًا وعلمًا، فهو يتقي فيه ربه، ويَصِلُ فيه رَحِمه، ويعلم لله عز وجل فيه حقّه، قال: فهذا بأفضل المنازل، قال: وعبد رزقه الله عز وجل علمًا، ولم يرزقه مالًا، قال: فهو يقول: لو كان لي مالٌ عملت =

ص: 570

انتهى كلام القرطبيّ

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن بما تقدّم أن الأرجح في هذه المسألة أن ما يخطر في القلب على قسمين:

[أحدهما]: الهواجس التي لا تستقرّ، فهي التي لا مؤاخذة بها، وهي المرادة بحديث الباب:"إن الله تجاوز لأمتي ما حدّثت بة أنفسها"، وعليه محمل آية قصّة يوسف، فإنه من هذا القبيل.

[والثاني]: ما يستقرّ في النفس، ويعزم به الإنسان، ويوطّن عليه نفسه، فهذا القسم يؤاخذ به؛ لأنه عمل القلب، فيشمله قوله صلى الله عليه وسلم:"ما لم تعمل"، فإنه إذا عزم، ووطّن نفسه عليه، فهذا عمل القلب، ومنه حديث:"فإنه كان حريصًا على قتل صاحبه"، فهذا التفصيل هو الذي به تجتمع الأدلّة المختلفة في هذا الباب.

وحاصله أن مجرّد الهواجس لا يؤاخذ به، وإنما يؤاخذ بالعزم، والهمّ القويّ، والحرص على تنفيذ ما همّ به، وكذلك أفعال القلوب التي لا خارج لها، مثل الحسد، وسوء الظنّ، والحقد، ونحو ذلك، فإنه يؤاخذ بها أيضًا؛ فقد تظاهرت نصوص الشرع الكثيرة على المؤاخذة بعزم القلب المستقرّ، ومن ذلك قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 19] الآية، وقوله تعالى:{اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات: 12]، والآيات والأخبار في هذا كثيرة، وتظاهرت نصوص الشرع، وإجماع العلماء على تحريم الحسد، واحتقار المسلمين، وإرادة المكروه بهم، وغير ذلك من أعمال القلوب وعزمها، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

= بعمل فلان، قال: فأجرهما سواء، قال: وعبد رزقه الله مالًا، ولم يرزقه علمًا، فهو يَخبِط في ماله، بغير علم، لا يتقي فيه ربه عز وجل، ولا يَصِل فيه رحمه، ولا يعلم لله فيه حقه، فهذا بأخبث المنازل، قال: وعبد لم يرزقه الله مالًا ولا علمًا، فهو يقول: لو كان لي مال لعملت بعمل فلان، قال: هي نيته فوزرهما فيه سواء".

(1)

"المفهم" 1/ 340 - 341.

ص: 571

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[339]

(

) - (حَدَّثنَا عَمْرٌو النَّاقِدُ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، قَالَا: حَدَّثنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ (ح) وَحَذَثنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، وَعَبْدَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ (ح) وَحَدَّثنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ، قَالَا: حَدَّثنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، كُلُّهُمْ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ زُرَارَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللهَ عز وجل تَجَاوَزَ لِأمّتي عَمَّا حَدَّثَتْ بِهِ أَنفُسَهَا، مَا لَمْ تَعْمَلْ، أَوْ تَكَلَّمْ بِهِ").

رجال هذا الإسناد: ثلاثة عشر:

1 -

(عَمْرٌو النَّاقِدُ) هو: عمرو بن محمد بن بُكير الناقد، أبو عثمان البغداديّ، نزيل الرّقّة، ثقةٌ حافظ [10](ت 232)(خ م دس) تقدم في "المقدمة" 4/ 23.

2 -

(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) بن شدّاد، أبو خيثمة النسائيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 234)(خ م دس ق) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.

3 -

(إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن عُليّة الأسديّ مولاهم، أبو بِشْر البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [8](ت 193)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.

4 -

(عبدة بن سليمان) الكلابيّ، أبو محمد الكوفيّ، يقال: اسمه عبد الرحمن بن سليمان بن حاجب بن زُرَارة بن عبد الرحمن بن صُرَد بن سُمَير بن مليل بن عبد الله بن أبي بكر بن كلاب، أدرك صُرَد الإسلامَ، وأسلم، ثقةٌ ثبت [8].

رَوَى عن إسماعيل بن أبي خالد، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وعاصم الأحول، وعبيد الله بن عمر، وهشام بن عروة، وأبي إسحاق، وطلحة بن يحيى بن طلحة، وسعيد بن أبي عروبة، والأعمش، والثوري، وعبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز، ومحمد بن عمرو بن علقمة، وغيرهم.

ورَوَى عنه أحمد، وإسحاق، وابنا أبي شيبة، وإبراهيم بن موسى الرازي، وعمرو الناقد، وأبو الشعثاء علي بن الحسن، ومحمد بن سلام البيكندي، وأبو كريب محمد بن العلاء، ومحمد بن عبد الله بن نمير، وهناد بن السري، وأبو سعيد الأشج، وإبراهيم بن مُجَشّر، وغيرهم.

قال صالح بن أحمد عن أبيه: ثقةٌ ثقةٌ، وزيادة، مع صلاح في بدنه، وكان

ص: 572

شديد الفقر. وقال عثمان الدارمي: قلت لابن معين: أبو أسامة أحب إليك، أو عبدة بن سليمان؟ قال: ما منهما إلا ثقةٌ. وقال العجلي: ثقةٌ رجل صالح، صاحب قرآن يُقْرِئ. وقال الميموني عن أحمد: قدمت الكوفة سنة (188) وقد مات عبدة سنة سبع وثمانين ومائة قبل قدومي بسنة. وقال ابن سعد: كان ثقةٌ، مات في رجب سنة (188)، وكذا أرخه ابن نمير، لكنه قال: في جمادى الثانية. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: مستقيم الحديث جدًّا، مات في رجب سنة (187). وقال ابن أبي حاتم: سئل أبي وأبو زرعة، عن عبدة، ويونس بن بكير، وسلمة بن الفضل، أيهم أحب إليكم في ابن إسحاق؟ فقالا: عبدة بن سليمان. وقال ابن شاهين في "الثقات": قال عثمان بن أبي شيبة: ثقةٌ، مسلم صدوق. وقال الدارقطني: ثقةٌ. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (67) حديثًا.

5 -

(سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ) مِهْرَان اليشكريّ مولاهم، أبو النضر البصريّ، ثقةٌ حافظ، يدلّس، وتغير بآخره [6](ت 156)(ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 127.

6 -

(ابْنُ بَشَّارٍ) هو: محمد بن بشّار، بُندار العبديّ، أبو بكر البصريّ، ثقةٌ حافظ [10](ت 252)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.

7 -

(ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ) هو: محمد بن إبراهيم بن أبي عديّ، نُسب لجدّه، أبو عمرو البصريّ، ثقةٌ [9](ت 194)(ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 128.

والباقون تقدّموا قريبًا.

وقوله: (أَوْ تَكَلَّمْ بِهِ) بحذف إحدى التاءين، وأصله "تتكلّم"، فحُذفت منه إحدى التاءين، كقوله تعالى:{نَارًا تَلَظَّى} [الليل: 14]، و {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ} [القدر: 4]، قال في "الخلاصة":

وَمَا بِتَاءَيْنِ ابْتُدِي قَدْ يُقْتَصَرْ

فِيهِ عَلَى تَا كـ"تَبَيَّنُ الْعِبَرْ"

وتمام شرح الحديث، وبيان مسائله تقدّما في الذي قبله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[340]

(

) - (وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا مِسْعَرٌ، وَهِشَامٌ (ح) وَحَدَّثَني إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، أَخْبَرَنَا اَلْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ، عَنْ زَائِدَةَ، عَنْ شَيْبَانَ، جَمِيعًا عَنْ قَتَادَةَ، بِهَذَا الإِسْنَادِ مِثْلَهُ).

ص: 573

رجال هذا الإسناد: تسعة:

1 -

(إِسحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ) بن بَهْرَام الْكَوْسَج، أبو يعقوب التميميّ المروزيّ، ثقةٌ ثبتٌ [11](ت 251)(خ م ت س ق) تقدم في "الإيمان" 12/ 156.

2 -

(مِسْعَرٌ) بن كِدَام بن ظُهَير بن عُبَيدة بن الحارث بن هلال بن عامر بن صَعْصَعَة الهلاليّ العامريّ الرَّوّاسيّ، أبو سلمة الكوفيّ، أحد الأعلام، ثقةٌ ثبتٌ فاضلٌ [7](ت 153)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 31.

3 -

(هِشَامٌ) بن أبي عبد الله سَنْبَر الدستوائيّ، أبو بكر البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ، رُمي بالقدر، من كبار [7](ت 154)(ع) تقدم في "الإيمان" 12/ 156.

4 -

(الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ) بن الوليد الْجُعفيّ الكوفيّ المقرئ، ثقةٌ عابدٌ [9](ت 3 أو 204)(ع) تقدم في "الإيمان" 11/ 154.

5 -

(زَائِدَة) بن قُدامة الثقفيّ، أبو الصَّلْتِ الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ، صاحب سنّة [7](ت 160) أو بعدها (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 53.

6 -

(شَيْبَانُ) بن عبد الرحمن التميميّ مولاهم النحويّ، أبو معاوية البصريّ، نزيل الكوفة، ثقةٌ، صاحب كتاب [7](ت 164)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 118.

والباقون تقدّموا قريبًا.

وقوله: (جَمِيعًا عَنْ قَتَادَةَ بِهَذَا الإِسْنَادِ مِثْلَهُ) يعني أن جميع الثلاثة، وهم: مِسْعرٌ، وهشام الدستوائيّ، وشيبان بن عبد الرحمن النحوي رووا هذا الحديث عن قتادة بسنده الماضي، وهو عن زرارة، عن أبي هريرة، مثل المتن السابق.

[تنبيه]: رواية مسعر، وهشام ساقها الإمام أحمد في "مسنده"، فقال:

(9878)

حدثنا وكيع، قال: حدثنا هشام ومسعر، عن قتادة، عن زُرارة بن أوفى، عن أبي هريرة، قال هشام: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووقفه مسعر، قال:"إن الله عز وجل تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها، ما لم تَعْمَل به، أو تكلم".

وأما رواية شيبان النحويّ، فقد ساقها النسائيّ في "سننه"، فقال:

(3381)

أخبرني موسى بن عبد الرحمن، قال: حدثنا حسين الجعفيّ، عن زائدة، عن شيبان، عن قتادة، عن زرارة بن أوفى، عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"إن الله تعالى تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها، ما لم تكلم، أو تعمل به"، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

ص: 574

(62) - (بَابُ إِذَا هَمَّ الْعَبْدُ بِحَسَنَةٍ كُتِبَتْ، وَإِذَا هَمَّ بِسَيِّئَةٍ لَمْ تُكْتَبْ)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[341]

(128) - (حَدَّثنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَاللَّفْظُ لِأَبِي بَكْرٍ، قَالَ إِسْحَاقُ: أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، وَقَالَ الْآخَرَانِ: حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ أَبِي الزِّنَاد، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "قَالَ اللهُ عز وجل: إِذَا هَمَّ عَبْدِي بِسَيِّئَةٍ، فَلَا تَكْتُبُوهَا عَلَيْه، فَإِنْ عَمِلَهَا فَاكْتبوهَا سَيِّئَةً، وَإِذَا هَمَّ بِحَسَنَةٍ، فَلَمْ يَعْمَلْهَا فَاكْتبوهَا حَسَنَةً، فَإِنْ عَمِلَهَا فَاكْتبوهَا عَشْرًا").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) بن راهويه المذكور قبل باب.

2 -

(سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ) الهلاليّ مولاهم، أبو محمد الكوفيّ، ثم المكيّ، ثقةٌ حافظ فقيه إمام حجة، من رؤوس [8](ت 198)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 383.

3 -

(أَبُو الزِّنَادِ) هو: عبد الله بن ذكوان القرشيّ مولاهم، أبو عبد الرحمن المدنيّ، ثقةٌ فقيه [5](ت 130)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 30.

4 -

(الْأَعْرَجُ) هو: عبد الرحمن بن هُرْمُز الأعرج، أبو داود المدنيّ، مولى ربيعة بن الحارث، ثقةٌ ثبت فقيه [3](ت 117)(ع) تقدم في "الإيمان" 23/ 192.

والباقون تقدّموا في الباب الماضي، والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف، وله فيه ثلاثة من الشيوخ، قرن بينهم.

2 -

(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الجماعة، إلا شيوخه الثلاثة، فأبو بكر، وزهير ما أخرج لهما الترمذيّ، وإسحاق ما أخرج له ابن ماجه.

3 -

(ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين من أبي الزناد.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ: أبو الزناد، عن الأعرج.

ص: 575

5 -

(ومنها): أن هذا الإسناد أصحّ أسانيد أبي هريرة رضي الله عنه، على ما روي عن الإمام البخاريّ

(1)

.

6 -

(ومنها): أن أبا الزناد لقب بصورة الكنية، غلب عليه، وكان يغضب منه

(2)

، وكنيته أبو عبد الرحمن، كما سبق آنفًا.

7 -

(ومنها): أن فيه قولَه: "واللفظ لأبي بكر" يعني: أن لفظ متن الحديث الذي ساقه هنا هو لفظ شيخه أبي بكر بن أبي شيبة، وأما الشيخان الآخران فرولاه بمعناه.

8 -

(ومنها): أن فيه قولَه: "قال إسحاق: أخبرنا سفيان، وقال الآخران: حدثنا ابن عيينة"، ومعناه أن شيوخه اختلفوا في صيغ الأداء؛ لاختلاف أخذهم، فإسحاق بن راهويه قال:"أخبرنا سفيان"، فعبّر بالإخبار بصيغة الجمع؛ لأنه سمع الحديث، عن سفيان بقراءة غيره عليه، وسمّى شيخه باسمه، وأما أبو بكر، وزهير، فقالا:"حدّثنا ابن عيينة"، فعبّرا بالتحديث بصيغة الجمع؛ لأنهما سمعاه من لفظ سفيان مع جماعة، وكنيا شيخهما ابن عيينة، وقد سبق غير مرّة أن هذا من تدقيقات المصنّف، واحتياطه، فلا تكن من الغافلين، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "قَالَ اللهُ عز وجل هذا هو الذي يقال له الحديث القدسيّ (إِذَا هَمَّ) أي قصد، قال الفيّوميّ: الْهَمّ بالفتح: أول العَزيمة، قال ابن فارس: الهَمّ: ما هَمَمتَ به، وهَمَمتُ بالشيء هَمًّا، من باب قتل: إذا أردته، ولم تفعله. انتهى

(3)

. (عَبْدِي) وكذا أمته، فليس التنصيص على العبد للتخصيص، فالحكم للذكر والأنثى (بِسَيئَةٍ، فَلَا تَكْتبوهَا عَلَيْهِ) زاد في رواية البخاريّ: "حتى يعملها"، قال في "الفتح": استَدَلّ بمفهوم الغاية في قوله: "فلا تكتبوها حتى يعملها"، وبمفهوم الشرط في قوله:"فإذا عملها، فاكتبوها له بمثلها" من قال: إن العزم على فعل المعصية لا يُكتب سيئة حتى يقع العمل، ولو بالشروع. انتهى

(4)

.

(1)

راجع: "شرحي على ألفية السيوطيّ" في الحديث 1/ 41 - 42.

(2)

راجع: "شرح النوويّ" 2/ 147.

(3)

"المصباح المنير" 2/ 641.

(4)

"الفتح" 13/ 478 "كتاب التوحيد" رقم الحديث (7501).

ص: 576

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد سبق أن الراجح أن العزم على فعل المعصية، والتصميم عليه يُكتب إثمًا، وأما الهمّ الذي ذكر في هذا الحديث، فهو حديث النفس الذي لا يستقرّ، فإنه مغفور، فراجع ما سبق، تستفد علمًا، والله تعالى أعلم.

(فَإِنْ عَمِلَهَا) أي السيّئة التي همّ بها (فَاكْتُبُوهَا سَيِّئَةً) أي واحدةً، وفي رواية البخاريّ:"فاكتبوها بمثلها"(وَإِذَا هَمَّ بِحَسَنَةٍ، فَلَمْ يَعْمَلْهَا فَاكْتُبُوهَا حَسَنَةً) أي واحدةً (فَإِنْ عَمِلَهَا) أي الحسنة التي همّ بها (فَاكْتُبُوهَا عَشْرًا) هذا أقل التضعيف، وسيأتي في الروايات الآتية:"تُكتب بعشر أمثالها، إلى سبعمائة ضِعف"، وفي حديث ابن عبّاس رضي الله عنه:"كتبها الله عز وجل عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة"، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا في "الإيمان"[62/ 341 و 342](128) و [62/ 343](129) و [62/ 344](130)، و (البخاريّ) في "التوحيد"(7501)، و (الترمذيّ) في "التفسير"(3073)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 242 و 315)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(379 و 380 و 381 و 382 و 383 و 384)، و (ابن منده) في "الإيمان"(375 و 367)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(239 و 240 و 241)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(333 و 334 و 335 و 336 و 337)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(4148)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان كرم الله سبحانه وتعالى على عباده، وذلك بأنه يعفو عنهم ما همّوا به من السيّئات، فلا يُكتب شيءٌ منها، فإن تجرّؤوا على عملها عفا عنهم أيضًا عن مضاعفة العقاب عليهم، فلا يُجازيهم إن جازاهم إلا على سيئة واحدة.

2 -

(ومنها): بيان فضل الله سبحانه وتعالى على عباده أيضًا، حيث يكتب لهم ما

ص: 577

همّوا به من الحسنات، وإن لم يعملوها، فإن وفّقهم لعملها، فعملوها، فإنه يتفضّل عليهم بمضاعفتها إلى عشر أمثالها، ثم إلى أضعاف كثيرة، كما قال عز وجل:{وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 261].

3 -

(ومنها): إثبات أن الملائكة يعلمون ما يُضمره العبد من الحسنات والسيّئات، وينويه، فلذلك قال في الرواية الآتية: "قالت الملائكة: ربّ ذاك عبد يُريد أن يعمل سيّئة

" الحديث، فقد أخبروا ربهم بما علموه من نيّة العبد السيّئة.

4 -

(ومنها): إثبات أنهم يكتبون أعمال العباد كلها، عملوها، أو لم يعملوها، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[342]

(

) -) حَدَّثنَا يَحْيَى بْنُ أيُّوبَ، وَقتيْبَةُ، وَابْنُ حُجْرٍ، قَالُوا: حَدَّثنَا إِسْمَاعِيلُ، وَهُوَ ابْنُ جَعْفَرٍ، عَنِ العَلَاء، عَنْ أَبِيه، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"قَالَ اللهُ عز وجل: إِذَا هَمَّ عَبْدِي بِحَسَنَةٍ، وَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبْتُهَا لَهُ حَسَنَةً، فَإِنْ عَمِلَهَا كتَبْتُهَا عَشْرَ حَسَنَاتٍ، إِلَى سَبْعِمَائَةِ ضِعْفٍ، وَإِذَا هَمَّ بِسَيِّئَةٍ، وَلَمْ يَعْمَلْهَا، لَمْ أكتبهَا عَلَيْه، فَإِنْ عَمِلَهَا كَتَبْتُهَا سَيِّئَةً وَاحِدَةً").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ أيُّوبَ) الْمَقَابريّ البغداديّ، ثقةٌ عابدٌ [10](ت 234)(عخ م د عس) تقدم في "الإيمان" 2/ 115.

2 -

(قُتَيْبَةُ) بن سعيد الثقفيّ، أبو رجاء البَغْلانيّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 240)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.

3 -

(ابْنُ حُجْرٍ) هو: عليّ بن حُجْر السعديّ المروزيّ، ثقةٌ حافظ، من صغار [9](ت 244)(خ م ت س) تقدم في "المقدمة" 2/ 6.

4 -

(إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ) بن أبي كثير الأنصاريّ الزّرقيّ، أبو إسحاق المدنيّ القارئ، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 180)(ع) تقدم في "الإيمان" 2/ 110.

ص: 578

5 -

(الْعَلَاءُ) بن عبد الرحمن الْحُرقيّ مولاهم، أبو شِبْل المدنيّ، صدوقٌ ربّما وَهِمَ [5](ت سنة بضع 130)(ز م 4) تقدم في "الإيمان" 8/ 135.

6 -

(أَبُوهُ) عبد الرحمن بن يعقوب الجُهَنيّ الْحُرقيّ مولاهم، ثقةٌ [3](ع) تقدم في "الإيمان" 8/ 135.

وشرح الحديث، وبيان مسائله تقدّما في الحديث الماضي، فراجعه، تستفد، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[343]

(129) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاق، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنبِّهٍ، قَالَ: هَذَا مَا حَدَّثنَا أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَ أَحَادِيثَ، مِنْهَا: قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "قَالَ اللهُ عز وجل: إِذَا تَحَدَّثَ عَبْدِي بِأَنْ يَعْمَلَ حَسَنَةً، فَأَنَا أَكتُبُهَا لَهُ حَسَنَةً، مَا لَمْ يَعْمَلْ، فَإِذَا عَمِلَهَا فَأَنا أَكْتبهَا بِعَشْرٍ أَمْثَالِهَا، وَإِذَا تَحَدَّثَ بِاَنْ يَعْمَلَ سَيِّئَةً، فَأَنَا أَغْفِرُهَا لَهُ، مَا لَمْ يَعْمَلْهَا، فَاِذَا عَمِلَهَا فَأَنَا أَكتُبُهَا لَهُ بِمِثْلِهَا"، وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ: رَبِّ ذَاكَ عَبْدُكَ يُرِيدُ أَنْ يَعْمَلَ سَيِّئَةً، وَهُوَ أَبْصَرُ بِه، فَقَالَ: ارْقُبُوهُ، فَإِنْ عَمِلَهَا فَاكْتموهَا لَهُ بِمِثْلِهَا، وَإِنْ تَرَكَهَا، فَاكْتموهَا لَهُ حَسَنَةً، إِنَّمَا تَرَكَهَا مِنْ جَرَّايَ"، وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا أَحْسَنَ أَحَدُكُمْ إِسْلَامَهُ، فَكُلُّ حَسَنَةٍ يَعْمَلُهَا، تُكْتَبُ بِعَشْرٍ أَمْثَالِهَا، إِلَى سَبْعِمَائَةِ ضِعْفٍ، وَكُلُّ سَيِّئةٍ يَعْمَلُهَا، تُكتَبُ بِمِثْلِهَا، حَتَّى يَلْقَى الله").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ) بن أبي زيد، واسمه سابور الْقُشيريّ، أبو عبد الله النيسابوريّ الزاهد، ثقةٌ عابدٌ [11](ت هـ 24)(خ م دت س) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.

2 -

(عَبْدُ الرَّزَّاقِ) بن همّام بن نافع الْحِمْيريّ مولاهم، أبو بكر الصنعانيّ، ثقةٌ حافظ، تغير في آخره، وكان يتشيّع [9](ت 211)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.

ص: 579

3 -

(مَعْمَرٌ) بن راشد الأزديّ مولاهم، أبو عُروة البصريّ، نزيل اليمن، ثقةٌ ثبتٌ فاضلٌ، من كبار [7](ت 154)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.

4 -

(هَمَّامُ بْنُ مُنبِّهٍ) بن كامل الصنعانيّ، أبو عُقبة، أخو وهب، ثقةٌ [4](ت 132)(ع) تقدم في "الإيمان" 26/ 213.

5 -

(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه تقدم في "المقدمة" 2/ 4. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف.

2 -

(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الجماعة، إلا شيخه، فما أخرج له ابن ماجه.

3 -

(ومنها): أن قوله: "هذا ما حدَّثنا أبو هريرة

إلخ" إشارة إلى أن هذا الحديث مأخوذ من صحيفة همّام بن منبّه المشهورة المرويّة بإسناد واحد، عن عبد الرزاق، عن معمر، عنه، وفيه إشارة إلى القاعدة المشهورة عند المحدّثين، وهو أن النُّسَخَ، والأجزاء المشتملة على أحاديث بإسناد واحد، كنسخة همام بن منبّه، عن أبي هريرة المذكورة، منهم من يجدد الإسناد، فيذكره أوّلَ كل حديث منها، وهو أحوط، وأكثر ما يوجد في الأصول القديمة، وأوجبه بعضهم، ومنهم من يَكتفي به في أول حديث منها، أو أول كلِّ مجلس من سماعها، ويُدرج الباقي عليه قائلًا في كل حديث بعد الحديث الأول: "وبالإسناد"، أو "وبه"، وهو الأغلب الأكثر.

فمن سَمِع هكذا، فأراد رواية غير الأول مُفْرَدًا عنه بإسناده كما فعل المصنّف في هذا الحديث جاز له ذلك، عند الأكثرين، منهم وكيع، وابن معين، والإسماعيليّ؛ لأن المعطوف له حكم المعطوف عليه، وهو بمثابة تقطيع المتن الواحد في أبواب بإسناده المذكور في أوله.

ومنعه الأستاذ أبو إسحاق الإسفرايينيّ وغيره، كبعض أهل الحديث، ورأوا ذلك تدليسًا.

فعلى هذا، فالأولى له أن يُبَيِّن كما يفعله المصنّف في كتابه هذا، فيقول: حدثنا محمد بن رافع، حدثنا عبد الرزاق، أنا معمر، عن هَمّام بن منبّه، قال:

ص: 580

هذا ما حدثنا أبو هريرة، عن محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر أحاديث، منها:

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أدنى مقعد أحدكم

"، وذكر الحديث، وهكذا اطّرد له هذ الأسلوب في كتابه كلّه، وكذا فعله كثير من المؤلفين.

وأما البخاريّ، فإنه لم يسلك قاعدة مُطَّردةً، فتارةً يذكر أول حديث في النسخة، وَيعْطِف عليه الحديث الذي يساق الإسناد لأجله، كقوله في "كتاب الطهارة": حدثنا أبو اليمان، أنا شعيب، حدثنا أبو الزناد، عن الأعرج، أنه سمع أبا هريرة، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"نحن الآخرون السابقون"، وقال: "لا يبولن أحدكم في الماء الدائم

" الحديث، فأشكل على قوم ذكره: "نحن الآخرون السابقون" في هذا الباب، وليس مراده إلا ما ذكرناه، وتارة يَقتصر على الحديث الذي يريده، وكأنه أراد بيان أن كِلا الأمرين جائز.

واما إعادة بعض المحدثين الإسناد آخر الكتاب أو الجزء، فلا يرفع هذا الخلاف الذي يَمنَع إفراد كل حديث بذلك الإسناد، ثم روايتها؛ لكونه لا يقع متصلًا بواحد منها، إلا أنه يفيد احتياطًا، وإجازةً بالغة من أعلى أنواعها، قاله في "التدريب"

(1)

.

وقال في "الفتح" عند شرح هذا الحديث، ما نصّه: وهذا الحديث من نسخة همّام بن منبّه المشهورة المرويّة بإسناد واحد عن عبد الرزّاق، عن معمر، عنه، وقد اختَلَف العلماء في إفراد حديث من نسخة، هل يُساق بإسنادها، ولو لم يكن مبتدأ به، أو لا؟ فالجمهور على الجواز، ومنهم البخاريّ، وقيل: يمتنع، وقيل: يَبدأ أبدًا بأول حديث، ويذكر بعده ما أراد، وتوسّط مسلم، فأتى بلفظ يُشعر بأن المفرد من جملة النسخة، فيقول في مثل هذا إذا انتهى الإسناد:"فذَكَرَ أحاديث، منها كذا"، ثم يذكر أيَّ حديث أراد منها. انتهى

(2)

، والله تعالى أعلم.

(1)

"تدريب الراوي على تقريب النواوي" 2/ 116 - 118.

(2)

"الفتح" 1/ 124 "كتاب الإيمان" رقم الحديث (42).

ص: 581

شرح الحديث:

(عَنْ هَمَّام) بفتح الهاء، وتشديد الميم (بْنِ مُنَبِّهٍ) بصيغة اسم الفاعل المشدد، أنه (قَالَ: هَذَا) أي الحديث الآتي، فاسم الإشارة مبتدأ، وقوله:(مَا) موصولة بمعنى "الذي" خبر المبتدأ (حَدَّثنَا أَبُو هُرَيْرَةَ) صلة "ما"، وحُذِف العائدُ جوازًا، كما قال في "الخلاصة":

......................

وَالْحَذْفُ عِنْدَهُمْ كَثِيرٌ مُنْجَلِي

فِي عَائِدٍ مُتَّصِلٍ إِنِ انْتَصَبْ

بِفِعْلٍ أَوْ وَصْفٍ كـ"مَنْ نَرْجُو يَهَبْ"

(عَنْ مُحَمّدٍ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم) بالجرّ على البدليّة (فَذَكَرَ أَحَادِيثَ) الضمير لهمّام بن منبّه (مِنْهَا) الضمير للأحاديث، وسقط من بعض النسخ قوله:"فذكر أحاديث منها"، فقوله:"منها" جار ومجرور خبر مقدّم لقوله: (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) فـ "قال

إلخ" مبتدأ مؤخّر محكيّ؛ لقصد لفظه.

والمعنى أن من جملة تلك الأحاديث قوله: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم

إلخ.

("قَالَ اللهُ عز وجل: إِذَا تَحَدَّثَ عَبْدِي) هو بمعنى ما سبق: "إذا همّ عبدي"(بِأنْ يَعْمَلَ حَسَنَةً، فَأنا كتُبُهَا لَهُ) أي آمر الملائكة بكتابتها، كما بيّنه فيما يأتي بلفظ:"فاكتبوها له"(حَسَنَةً، مَا لَمْ يَعْمَلْ) تلك الحسنة التي تحدّث بها (فَإِذَا عَمِلَهَا فَأنا كتُبُهَا بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا) إذ الحسنة بعشر أمثالها (وَإِذَا تَحَدَّثَ بِأَنْ يَعْمَلَ سَيِّئَةً، فَأنا أغْفِرُهَا لَهُ) أي أسترها عن أعين الملائكة، فلا يكتبونها (مَا لَمْ يَعْمَلْهَا، فَإذَا عَمِلَهَا فَأنا أكتُبُهَا لَهُ بِمِثْلِهَا") أي سيّئة واحدةً، وهذا معنى قوله تعالى:{مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (160)} [الأنعام: 160].

(وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ: رَبِّ) منادى بحذف حرف النداء، جوازًا، قال الحريريّ في "ملحته":

وَحَذْفُ "يَا" يَجُوزُ فِي النِّدَاءِ

كَقَوْلِهِمْ "رَبّ اسْتَجِبْ دُعَائِي"

وقال في "الخلاصة":

وَغَيْرُ مَنْدُوبٍ وَمُضْمَرٍ وَمَا

جَا مُسْتَغَاثًا قَدْ يُعَرَّى فَاعْلَمَا

(ذَاكَ) إشارة إلى من حدّث نفسه بسيّئة (عَبْدُكَ يُرِيدُ أَنْ يَعْمَلَ سَيِّئَةً) أي يُحدّث نفسه بذلك (وَهُوَ) أي الله سبحانه وتعالى (أَبْصَرُ بِهِ) أي هو أشدّ بصرًا من هؤلاء

ص: 582

الملائكة بهذا العبد الذي حدّث نفسه بالسيّئة، وهذه الجملة اعتراضيّة، لا محلّ لها من الإعراب، جيء بها لرفع إيهام أن إخبارهم له لإفادة العلم (فَقَالَ: ارْقُبُوهُ) أي انظروا ماذا يفعل بعده؟، انتظروا أمره، يقال: رَقَبتُهُ أرقُبه، من باب نصر: حفِظته، فأنا رقيبٌ، ورقَبتُهُ، وترقّبته، وارتقبته: انتظرته

(1)

. (فَإِنْ عَمِلَهَا) أي السيّئة التي همّ بها (فَاكْتُبُوهَا لَهُ بِمِثْلِهَا) أي سيّئةً واحدةً (وَإِنْ تَرَكَهَا، فَاكتُبُوهَا لَهُ حَسَنَةً) أي واحدةً (إِنَّمَا تَرَكَهَا مِنْ جَرَّايَ) أي من أجلي، يقال: فعلتُهُ من جَرَاكَ، ومن جَرَائِكَ - بفتح الجيم، وتخفيف الراء، مقصورةً، وتُمَدُّ -: أي من أجلك، كجَرّاك، بتشديد الراء، ومنه قول أبي النجم [من الرجز]:

فَاضَتْ دُمُوعُ الْعَيْنِ مِنْ جَرَّاهَا

(2)

قال القرطبيّ: قوله: "من جرّاي" فيه لغتان: المدّ والقصر، ومنه الحديث:"دخلت امرأة النار من جرّاء هرّة"

(3)

أي من أجل، وهي مشدّدة الراء في اللغتين، وقد تخفّف معهما.

ومقصود هذا الحديث أن الترك للستئة لا يُكتب حسنةً إلا إذا كان خوفًا من الله تعالى، أو حياءً من الله تعالى، وأيُّهما كان، فذلك الترك هو التوبة من ذلك الذنب، وإذا كان كذلك فالتوبة عبادة من العبادات، إذا حَصَلت بشروطها أذهبت السيّئات، وأعقبت الحسنات. انتهى كلام القرطبيّ

(4)

.

(وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا أَحْسَنَ أَحَدُكُمْ) هذا الحكم يشترك فيه الرجال والنساء، وإنما ذكره بلفظ المذكّر تغليبًا، وكذا الخطاب ليس مقصودًا، بل يعمّ الغائبين، ولذا جاء في حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه عند البخاريّ معلّقًا بلفظ: "إذا أسلم العبد، فحسن إسلامه

" الحديث (إِسْلَامَهُ) أي إذا صار إسلامه إسلامًا حقيقيًّا، وليس كإسلام المنافقين، وذلك أن يكون حسنًا باعتقاده وإخلاصه، ودخوله فيه بالباطن والظاهر، وأن يستحضر عند عمله قرب ربّه

(1)

راجع: "المصباح المنير" 1/ 234.

(2)

راجع: "الصحاح" 5/ 1838، و"لسان العرب" 14/ 142، و"تاج العروس" 10/ 72.

(3)

رواه مسلم في "صحيحه" في "كتاب البرّ والصلة" برقم (2619).

(4)

"المفهم" 1/ 342 - 343.

ص: 583

منه، واطّلاعه عليه، كما دَلَّ عليه تفسير الإحسان في حديث سؤال جبريل؛ المتقدّم.

وقال في "الفتح": قوله: "إذا أحسن أحدكم إسلامه"، كذا للبخاريّ ومسلم وغيرهما، ولإسحاق بن راهويه في "مسنده" عن عبد الرزاق:"إذا حَسُنَ إسلام أحدكم"، وكأنه رواه بالمعنى؛ لأنه من لوازمه، ورواه الإسماعيليّ من طريق ابن المبارك، عن معمر كالأول، والخطاب "بأحدكم" بحسب اللفظ للحاضرين، لكن الحكم عامّ لهم، ولغيرهم باتّفاق، وإن حصل التنازع في كيفيّة التناول، أهي بالحقيقة اللغويّة، أو الشرعيّة، أو بالمجاز؟. انتهى

(1)

. (فَكُلُّ حَسَنَةٍ) هذه العبارة تشعر بأن اللام في رواية أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه عند البخاريّ معلّقًا: "الحسنة بعشر أمثالها" للاستغراق (يَعْمَلُهَا، تُكْتَبُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، إِلَى سَبْعِمَائَةِ ضِعْفٍ) متعلّق بمقدّر: أي منتهية إلى سبعمائة ضعف، وحكى الماورديّ: أن بعض العلماء أخذ بظاهر هذه الغاية، فزعم أن التضعيف لا يتجاوز سبعمائة، ورُدّ عليه بقوله تعالى:{وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 261]، وأصرح منه حديث ابن عبّاس رضي الله عنه الآتي بلفظ:"كَتَبَهَا اللهُ عز وجل عِنْدَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ، إِلَى سَبْعِمائَةِ ضِعْفٍ، إِلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ"(وَكُلُّ سيِّئةٍ يَعْمَلُهَا، تُكْتَبُ بِمِثْلِهَا، حَتى يَلْقَى اللهَ) زاد في حديث أبي سعيد رضي الله عنه المذكور: "إلا أن يتجاوز الله عنها"، وفي "فوائد سمويه":"إلا أن يغفر الله، وهو الغفور"، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا ثلاثة أجزاء، ساقه المصنف مساقًا واحدًا، فأما الجزء الأول، وهو قوله: "قال الله عز وجل: إن تحدّث عبدي

"، فقد تقدّم قبل حديث أنه متّفق عليه، وأما الجزء الثاني، وهو قوله: "وقال الله صلى الله عليه وسلم: قالت الملائكة"، فإنه من أفراد المصنّف، وأما

(1)

"الفتح" 1/ 124 "كتاب الإيمان" رقم (42).

ص: 584

الجزء الأخير، وهو قوله: "وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا أحسن أحدكم إسلامه

"، الحديث، فهو متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أما الجزء الأول، فقد سبق تخريجه قبل حديث، وأما الجزء الثاني، فأخرجه (المصنّف) هنا في "الإيمان"[62/ 343](129)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 317، و (أبو عوانة) في "مسنده"(240)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(335)، وهو في "صحيفة همّام بن منبّه"(106).

وأما الجزء الأخير، فمتّفقٌ عليه، أخرجه (المصنّف) هنا [62/ 343](129)، و (البخاريّ) في "الإيمان"(42)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 317)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(240)، و (أبو نُعيم) في "مستخرجه"(335)، وهو في "صحيفة همام"(104)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): أن فيه قولَه: "قال الله عز وجل"، وهذا هو النوع المسمّى بالحديث القدسيّ، وقد قيل في الفرق بينه وبين الحديث النبويّ: إن الحديث القدسيّ لفظه ومعناه من عند الله تعالى، والحديث النبويّ لفظه من عند الرسول صلى الله عليه وسلم، ومعناه من عند الله تعالى، وإن الحديث القدسيّ يُسند إلى الله تعالى، فيقال عنه: قال الله تعالى، والحديث النبويّ يُسند إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، والفرق بين القرآن الكريم، والحديث القدسيّ بناء على هذا أن القرآن متواترٌ، يكفر من جحد شيئًا منه، بخلاف الحديث القدسيّ، وأن القرآن قُصِد بلفظه التحدّي، والإعجاز، بخلاف الحديث القدسيّ، وإن كان في أعلى درجات البلاغة، وأن القرآن يُتَعَبَّدُ بتلاوته في الصلاة وغيرها، بخلاف الحديث القدسيّ، والله تعالى أعلم.

2 -

(ومنها): بيان فضل الله سبحانه وتعالى على عبده المؤمن، حيث يكتب له ما حدّث به نفسه من الحسنة، ويعفو عنه نظيرها من السيّئة.

3 -

(ومنها): بيان تضعيف الحسنة بعشر أمثالها.

4 -

(ومنها): إثبات حفظ الملائكة لبني آدم، ومراقبتهم لأعمالهم كلّها، قال في "الفتح": فيه دليلٌ على أن الملك يَطَّلع على ما في قلب الآدميّ، إما

ص: 585

بإطلاع الله تعالى إياه، أو بأن يخلُق له علمًا يُدْرِك به ذلك، ويؤيد الأول ما أخرجه ابن أبي الدنيا، عن أبي عِمران الْجَوْنيّ، قال:"يُنادَى الملك: اكتب لفلان كذا وكذا، فيقول: يا رب، إنه لم يعمله، فيقول: إنه نواه"، وقيل: بل يجد الملك للهَمّ بالسيئة رائحةً خبيثةً، وبالحسنة رائحةً طيبةً، وأخرج ذلك الطبريّ، عن أبي معشر المدنيّ، وجاء مثله عن سفيان بن عيينة، قال الحافظ: ورأيت في شرح مغلطاي أنه وَرَدَ مرفوعًا. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: في صحة هذه الروايات نظر، فليتأمل، والله تعالى أعلم.

5 -

(ومنها): ما قاله الإمام أبو جعفر الطبريّ

(2)

: في هذه الأحاديث دليل على أن الحفظة يكتبون أعمال القلوب، وعقدها، خلافًا لمن قال: إنها لا تكتب إلا الأعمال الظاهرة

(3)

.

وقال القرطبيّ عند قوله: "إنما تركها من جرّاي": فيه إخبار منه تعالى للملائكة بما لم يعلموا من إخلاص العبد في الترك، ومن هنا قيل: إن الملائكة لا تطّلع على إخلاص العبد، وقد دلّ عليه قوله صلى الله عليه وسلم في حديث حُذيفة رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقد سأله عن الإخلاص ما هو؟ فقال:"قال الله عز وجل: هو سرّ من سرّي، استودعته قلب من أحببتُ من عبادي"، والحديث الآخر الذي يقول الله فيه للملائكة التي تكتب الأعمال حين تَعرِضها عليه:"أَلْقُوا هذا، واقبَلوا هذا"، فتقول الملائكة: وعزّتك ما رأينا إلا خيرًا، فيقول الله:"إن هذا كان لغيري، ولا أقبل من العمل إلا ما ابتُغي به وجهي". انتهى

(4)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: أما الحديث الأول، فضعيف جدًّا، قال الحافظ العراقيّ: رويناه من مسلسلات القزوينيّ، وفيه: أحمد بن عطاء،

(1)

"الفتح" 11/ 332 "كتاب الرقاق" رقم (6491).

(2)

هكذا في "الفتح"، و"إكمال المعلم"، وغيرهما، ووقع في "شرح النووي:"أبو جعفر الطحاويّ"، فليُحرّر.

(3)

راجع: "شرح النوويّ" 2/ 152.

(4)

"المفهم" 1/ 343.

ص: 586

وعبد الواحد بن زيد، كلاهما متروك، ورواه أبو القاسم القشيريّ في "الرسالة" من حديث عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه بسند ضعيف. انتهى

(1)

.

وأما الحديث الثاني، فقد أخرجه الطبرانيّ في "الأوسط" بإسنادين، قال الحافظ أبو بكر الهيثميّ

(2)

: ورجال أحدهما رجال الصحيح، ورواه البزّار، والبيهقيّ في "الشعب"(6836)، وضعّفه الشيخ الألبانيّ من رواية السِّلَفيّ في "معجم السفر"(2/ 50)، وقال في إسناده: الحارث بن غسّان مجهول، وعمر بن يحيى اتّهمه ابن عديّ بسرقة الحديث عن يحيى بن بسطام، وهو ضعيف جدًّا. انتهى

(3)

.

لكن رواية الطبرانيّ في "الأوسط" إسنادها - كما قال الهيثميّ -: رجال الصحيح، فالظاهر أنها صحيحة، والله تعالى أعلم.

والظاهر أن الحديث يدلّ على أن الإخلاص والرياء مما لا تطّلع عليه الحفظة، فيستثنى مما يطّلعون عليه من أعمال قلوب بني آدم، فتدبّر، والله تعالى أعلم.

[تنبيه]: سئل شيخ الإسلام ابن تيميّة إذا كان الهَمُّ سرًّا بين العبد وبين ربّه، فكيف تطّلع الملائكة عليه؟.

فأجاب قائلًا: الحمد لله، قد رُوي عن سفيان بن عيينة في جواب هذه المسألة، قال: إنه إذا همّ بحسنة شمّ الملك رائحة طيّبةً، وإذا همّ بسيّئة شمّ رائحةً خبيثةً.

والتحقيق: أن الله تعالى قادر على أن يُعلم الملائكة بما في نفس العبد،

(1)

راجع: "إتحاف السادة المتّقين" 10/ 43.

(2)

قال الطبرانيّ في "الأوسط": حدثنا أبو مسلم، ثنا عبد الله بن عبد الوهّاب الْحَجَبيّ، ثنا الحارث بن عُبيد أبو قُدامة، عن أبي عمران الْجَوْنيّ، عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يؤتى يوم القيامة بصُحُف مختمة، فتُنصب

" الحديث، وأبو مسلم شيخه اسمه إبراهيم بن عبد الله بن مسلم بن ماعز البصريّ، صاحب "كتاب السنن" ثقة، توفي سنة (292 هـ). راجع: "تذكرة الحفاظ" 2/ 620، وبقية رجاله رجال الصحيح.

(3)

"السلسلة الضعيفة" 6/ 194 رقم (2672).

ص: 587

كيف شاء، كما هو قادر على أن يُطلِع بعض البشر على ما في الإنسان، فإذا كان بعض البشر قد يجعل الله له من الكشف ما يَعلم به أحيانًا ما في الإنسان، فالملك الموكّل بالعبد أولى بأن يعرّفه الله ذلك، وقد قيل في قوله تعالى:{وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق: 16]: إن المراد به الملائكة، والله قد جعل الملائكة تُلقي في نفس العبد الخواطر، كما قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه:"إن للملك لِمّةً، وللشيطان لِمّة، فلِمّة الملك تصديق بالحقّ، ووعد بالخير، ولمّةُ الشيطان تكذيب بالحقّ، وإيعاد بالشرّ"، وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في "الصحيح" أنه قال:"ما منكم من أحد إلا وقد وُكّل به قرينه من الملائكة، وقرينه من الجنّ"، قالوا: وإياك يا رسول الله؟ قال: "وأنا، إلا أن الله قد أعانني عليه، فلا يأمرني إلا بخير".

فالسيّئة التي يَهُمّ بها العبد إذا كانت من إلقاء الشيطان علم بها الشيطان، والحسنة التي يَهُمّ بها العبد إذا كانت من إلقاء الملك علم بها الملك أيضًا بطريق الأولى، وإذا علم بها هذا الملك، أمكن علم الملائكة الحفظة لأعمال بني آدم. انتهى كلامه

(1)

.

6 -

(ومنها): بيان أدب الملائكة مع ربّهم سبحانه وتعالى، حيث إنهم مع أنه أمرهم بكتابة أعمال العباد لا يكتبون إلا بعد استئذانهم، وانتظارهم أمره لهم بالكتابة.

7 -

(ومنها): بيان حكمة أمر الله سبحانه وتعالى بكتابة أعمال العباد ونيّاتهم مع أنه أبصر بذلك وأعلم من الملائكة، وذلك ليكون حجة عليهم بما كُتب حالَ عملهم، كما قال الله عز وجل:{اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14)} [الإسراء: 14].

8 -

(ومنها): بيان فضل مراقبة الله تعالى، والخوف منه؛ لأن كتابة ما همّ به من السيّئة حسنةً إنما هو لأجل أنه تركها خوفًا من الله تعالى؛ لقوله:"إنما تركها من جراي".

9 -

(ومنها): بيان فضل إحسان الإسلام، وذلك بأن يدخل فيه دخولًا كاملًا، كما أمر الله عز وجل: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا

(1)

"مجموع الفتاوى" 4/ 253 - 254.

ص: 588

تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208)} [البقرة: 208]، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[344]

(130) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا أَبُو خَالِدٍ الْأَحْمَرُ، عَنْ هِشَامٍ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ، فَلَمْ يَعْمَلْهَا، كتِبَتْ لَهُ حَسَنَةً، وَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ، فَعَمِلَهَا كُتِبَتْ لَهُ عَشْرًا إِلَى سَبْعِمَائَةِ ضِعْفٍ، وَمَنْ هَمَّ بِسَيَئةٍ، فَلَمْ يَعْمَلْهَا، لَمْ تُكْتَبْ، وَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أَبُو كُرَيْبٍ) هو: محمد بن العلاء المذكور قبل باب.

2 -

(أَبُو خَالِدٍ الْأَحْمَرُ) هو: سليمان بن حيّان الأزديّ الكوفيّ، صدوقٌ يُخطئ [8](ت 190) أو قبلها (ع) تقدم في "الإيمان" 5/ 120.

3 -

(هِشَام) بن حسّان الأزديّ الْقُردوسيّ، أبو عبد الله البصريّ، ثقةٌ، من أثبت الناس في ابن سيرين، وفي روايته عن الحسن، وعطاء مقالٌ؛ لأنه قيل: كان يُرسل عنهما [6](مات 7 أو 148)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 26.

4 -

(ابْنُ سِيرِينَ) هو: محمد بن سيرين الأنصاريّ مولاهم، أبو بكر بن أبي عمرة البصريّ، ثقة ثبتٌ عابد كبير القدر [3](ت 110)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 308.

وشرح الحديث وبيان مسائله تقدّما قريبًا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[345]

(131) - (حَدَّثَنَا شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِث، عَنِ الْجَعْد، أَبِي عُثْمَانَ، حَدَّثنَا أَبُو رَجَاءٍ الْعُطَارِدِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم فِيمَا يَرْوِي عَنْ رَبِّهِ تبارك وتعالى، قَالَ: "إِنَّ اللهَ كَتَبَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَات، ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ، فَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ، فَلَمْ يَعْمَلْهَا، كَتَبَهَا اللهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً، وَإِنْ هَمَّ

ص: 589

بِهَا، فَعَمِلَهَا، كتبهَا اللهُ عز وجل عِنْدَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ، إِلَى سَبْعِمائَةِ ضِعْفٍ، إِلَى أَضْعَافٍ كَثِيرةٍ، وَإِنْ هَمَّ بِسَيئَةٍ، فَلَمْ يَعْمَلْهَا، كَتَبَهَا اللهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً، وَإِنْ هَمَّ بِهَا، فَعَمِلَهَا، كتبهَا اللهُ سَيَئّةً وَاحِدَةً").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ) الْحَبَطيّ، أبو محمد الأُبُلّيّ

(1)

، صدوقٌ يَهِمُ، ورُمي بالقدر، قال أبو حاتم: اضطرّ الناس إليه أخيرًا، من صغار [9](ت 6 أو 135) وله بضع و 90 سنة (م دس) تقدم في "الإيمان" 12/ 157.

2 -

(عَبْدُ الْوَارِثِ) بن سعيد بن ذَكْوَان الْعَنبريّ مولاهم، أبو عُبيدة التّنّوريّ البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 180)(ع) تقدم في "الإيمان" 18/ 176.

3 -

(الْجَعْدُ أَبو عُثْمَانَ) هو: الجعد بن دينار الْيَشْكُرى، أبو عثمان الصيرفيّ البصريّ، يقال له: صاحب الْحُلي - بضمّ المهملة - ثقة [4].

رَوَى عن أنس، وأبي رجاء العُطَارديّ، والحسن، وسليمان بن قيس.

وروى عنه الحمادان، ووهب، وشعبة، وإبراهيم بن طهمان، ومعمر، وعبد الوارث بن سعيد، وأبو عوانة، وابن عُلَيّة، وغيرهم.

قال ابن معين: ثقة، وقال النسائيّ: لا بأس به، وقال ابن حبان في "الثقات": يخطئ، ووثّقَهُ أبو داود في سؤالات الآجريّ، والترمذيّ في "جامعه".

أخرج له البخاريّ، والمصنّف، وأبو داود، والترمذيّ، والنسائيّ، وله في هذا الكتاب ستة أحاديث فقط، هذا الحديث برقم (131)، وحديث (1365):"أعتق صفيّة، وجعل عتقها صداقها"، و (1428): "ضعه، ثم قال: اذهب، فادع لي فلانًا وفلانا

"، وأعاده بعده، و (1849): "من رأى من أميره شيئًا يكرهه، فليصبر عليه

"، وأعاده بعده، و (2151): "قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا بُنيّ"، و (2481): "فدعا لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث دعوات

".

(1)

بضم الهمزة، والموحّدة، وتشديد اللام: نسبة إلى أُبُلّةَ موضع بالبصرة.

ص: 590

4 -

(أَبُو رَجَاءٍ الْعُطَارِدِيُّ) عِمران بن مِلْحَان، ويقال: ابن تيم، ويقال: ابن عبد الله البصريّ، مشهور بكنيته، مخضرمٌ، ثقةٌ مُعمَّرٌ [2].

أدرك زمن النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولم يره، ورَوَى عن عمر، وعليّ، وعمران بن حُصين، وابن عباس، وسمرة بن جندب، وعائشة.

وروى عنه أيوب، وجرير بن حازم، وعوف الأعرابيّ، وعمران القصير، ومهدي بن ميمون، وأبو الأشهب، وحماد بن نَجِيح، وسَلْم بن زَرِير، وسعيد بن أبي ربيعة، والجعد أبو عثمان، والحسن بن ذكوان، وأبو الحارث الكرمانيّ، وصخر بن جُويرية، وآخرون.

قال ابن معين، وأبو زرعة: ثقة، وقال ابن سعد: كان ثقة في الحديث، وله روايةٌ وعِلْمٌ بالقرآن، وأَمَّ قومه أربعين سنة، وتُوُفي في خلافة عمر بن عبد العزيز، قال: وقال الواقديّ: تُوفي سنة سبع عشرة ومائة، قال: وهذا عندي وَهَلٌ، وقال الذُّهْليُّ: مات قبل الحسن لا أدري في أيّ سنة، غير أني أتوهمه سنة (107)، وقال أبو حاتم: جاهليٌّ فَرَّ من النبيّ صلى الله عليه وسلم، ثم أسلم بعد الفتح، وأَتَى عليه مائة وعشرون سنة، وقال البخاريّ: قال أشعث بن سَوّار: بلغ سبعًا وعشرين ومائة سنة، وقال البخاريّ: يقال: مات قبل الفرزدق والحسن، ومات الحسن سنة عشر ومائة، وقال ابن عبد البرّ: كان ثقةً، وكانت فيه غفلةٌ، وكانت له عبادةٌ، وعُمِّرَ عمرًا طويلًا أزيد من مائة وعشرين سنة، مات سنة (109) في أول خلافة هشام، وحكى ابن سعد أن اسمه عُطَارد بن برو، وتبعه ابن حبان، فذكره كذلك في "الثقات" فيمن اسمه عُطارد، وقال ابن أبي حاتم: عمران بن مِلْحان، ويقال: عمران بن تَيْم، وهو أصحّ، وقال البخاريّ في "الأوسط": مِلْحان ما أراه يَصِحّ، وقال في "الكبير": قال أحمد: هو عمران بن عبد الله.

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب ستة أحاديث فقط، هذا الحديث برقم (131)، وحديث (682): "ما منعك أن تصلي معنا

"، و (1226): "نزلت آية المتعة في كتاب الله

"، و (1849): "من رأى من أميره شيئًا يكرهه، فليصبر عليه

"، وأعاده بعده، و (2275): "هل رأى أحد منكم البارحة رؤيا؟ "، و (2737): "اطّلعت في الجنة فرأيتُ أكثر أهلها الفقراء

".

ص: 591

5 -

(ابْنُ عَبّاسٍ) هو: عبد الله بن عبّاس بن عبد المطّلب الصحابيّ ابن الصحابيّ، حبر الأمة وبحرها، مات رضي الله عنه (68)، وتقدّم في "الإيمان" 6/ 124، والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف، وفيه التحديث، والعنعنة.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، غير شيخه، فقد تفرّد به هو، وأبو داود، والنسائيّ، وغير الجعد، فما أخرج له ابن ماجه.

3 -

(ومنها): أنه مسلسل بالبصريين.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ مخضرم.

5 -

(ومنها): أن صحابيّه ترجمان القرآن، وحبر الأمة، وبحرها، وأحد العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة، وأحد المشهورين بالفتوى من الصحابة رضي الله عنه، ومناقبه جمّة، وقد تقدّمت ترجمته في "الإيمان" 6/ 124، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما، وعند أحمد في "مسنده" من طريق الحسن بن ذَكْوان عن أبي رجاء:"حدثني ابنُ عباس"(عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) وفي رواية مسدد عند الإسماعيليّ: "عن رسول الله صلى الله عليه وسلم"، قال الحافظ: ولم أر في شيء من الطرُق التصريح بسماع ابن عباس له من النبيّ صلى الله عليه وسلم

(1)

.

(فِيمَا يَرْوِي عَنْ رَبِّهِ تبارك وتعالى أي في الحديث الذي ينقله النبيّ صلى الله عليه وسلم عن الله عز وجل

(2)

، وقال في "الفتح": هذا من الأحاديث الإلهية، ثم هو محتمل أن يكون مما تلقاه صلى الله عليه وسلم عن ربه بلا واسطة، ويحتمل أن يكون مما تلقاه بواسطة الملك، وهو الراجح.

(1)

"الفتح" 11/ 331 "كتاب الرقاق" رقم الحديث (6491).

(2)

تقدّم بيان الفرق بين الحديث القدسيّ، والحديث النبويّ، وبينه وبين القرآن الكريم في المسألة الثالثة من شرح حديث أبي هريرة رضي الله عنه الماضي، فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق.

ص: 592

وقال الكرمانيّ: يحتمل أن يكون من الأحاديث القدسية، ويحتمل أن يكون للبيان لما فيه من الإسناد الصريح إلى الله تعالى، حيث قال: إن الله كَتَب، ويحتمل أن يكون لبيان الواقع، وليس فيه أن غيره ليس كذلك؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى، {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)} [النجم: 4]، بل فيه أن غيره كذلك؛ إذ قال:"فيما يرويه": أي في جملة ما يَرْوِي. انتهى ملخصًا.

قال الحافظ: والثاني لا ينافي الأول، وهو المعتمد، فقد أخرجه مسلم من طريق جعفر بن سليمان، عن الجعد، ولم يسق لفظه، وأخرجه أبو عوانة من طريق عفّان، وأبو نعيم من طريق قتيبة، كلاهما عن جعفر بلفظ:"فيما يَروي عن ربه، قال: إن ربكم رَحِيمٌ، مَنْ هَمَّ بحسنة"، وأخرجه البخاريّ في "كتاب التوحيد" من طريق الأعرج، عن أبي هريرة، بلفظ:"عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يقول الله صلى الله عليه وسلم: إذا أراد عبدي أن يعمل"، وأخرجه مسلم بنحوه من هذا الوجه، ومن طُرُق أخرى منها: عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"قال الله عز وجل: إذا هَمَّ عبدي"

(1)

.

(قَالَ: "إِنَّ اللهَ) عز وجل (كَتَبَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ)، يَحْتَمِلُ أن يكون هذا من قول الله تعالى، فيكون التقدير: قال الله: إن الله كَتَبَ، وَيحْتَمِلُ أن يكون من كلام النبيّ صلى الله عليه وسلم يحكيه عن فعل الله تعالى، وفاعل:"ثُمّ بَيَّنَ ذلك" هو الله تعالى، وقوله:"فمَنَ هَمَّ" شرحٌ لذلك، قاله في "الفتح".

(ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ) أي فَضله بقوله: "فَمَنْ هَمَّ"، والمجمل قوله:"كَتَب الحسنات والسيئات".

وقوله: "كَتَبَ"، قال الطوفيّ: أي أمر الحفَظَة أن تكتب، أو المراد: قَدَّر ذلك في علمه، على وفق الواقع منها، وقال غيره: المراد: قَدَّر ذلك، وعَرَّفَ الْكَتَبَةَ من الملائكة ذلك التقدير، فلا يحتاج إلى الاستفسار في كل وقت عن كيفية الكتابة؛ لكونه أمرًا مفروغًا منه. انتهى.

قال الحافظ: وقد يَعْكُرُ على ذلك ما أخرجه مسلم من طريق هَمّام، عن أبي هريرة رضي الله عنه رفعه، قال: "قالت الملائكة: رَبِّ ذاك عبدك، يريد أن يَعمَل

(1)

المصدر السابق.

ص: 593

سيئةً، وهو أبصر به، فقال: ارقبوه، فإن عَمِلها فاكتبوها"، فهذا ظاهره وقوع المراجعة، لكن ذلك مخصوص بإرادة عمل السيئة.

ويحتمل أن يكون ذلك وقع في ابتداء الأمر، فلما حَصَلَ الجواب استقر ذلك، فلا يحتاج إلى المراجعة بعده.

قال: وقد وَجَدت عن الشافعيّ ما يوافق ظاهر الخبر، وأن المؤاخذة إنما تقع لمن هَمَّ على الشيء، فَشَرَع فيه، لا مَن هَمَّ به، ولم يتصل به العمل، فقال في "صلاة الخوف" لَمّا ذَكَر العمل الذي يُبطلها ما حاصله: إن مَن أَحْرَم بالصلاة، وقَصَدَ القتال، فشَرَعَ فيه، بَطَلَت صلاته، ومن تَحَرَّم، وقَصَد إلى العدو لو دَهَمَه دفعه بالقتال لم تبطل. انتهى.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الذي يظهر لي أن معنى "كتب": أمر الملائكة بالكتابة؛ لدلالة قوله: "قالت الملائكة

إلخ"، وأما ما نقله عن الإمام الشافعيّ في تفريقه بين القصدين، فمحلّ نظر، سيأتي تحقيقه في محلّه، حيث يذكر المصنّف أحاديث صلاة الخوف - إن شاء الله تعالى -.

(فَمَنْ هَمَّ) الفاء فيه تفصيليّة؛ لأن قوله: "كتب الحسنات والسيّئات" مُجمَلٌ، لم يُفهم منه كيفيّة الكتابة، ففصّله بقوله: "فمن هَمَّ

إلخ"، قاله الطيبيّ

(1)

.

وقوله: (فَمَنْ هَمَّ) وكذا في رواية ابن سيرين، عن أبي هريرة الماضية، وفي رواية الأعرج عند البخاريّ في "كتاب التوحيد":"إذا أراد"، وهما بمعنى واحد، وقد مضى من رواية همّام بن منبّه، عن أبي هريرة، بلفظ:"إذا تَحَدَّثَ"، وهو محمول على حديث النفس؛ لتوافق الروايات الأخرى.

ويحتمل أن يكون على ظاهره، ولكن ليس قيدًا في كتابة الحسنة، بل بمجرد الإرادة تكتب الحسنة.

نعم، ورد ما يدُلُّ على أن مطلق الهم والإرادة لا يكفي، فعند أحمد، وصححه ابن حبان، والحاكم، من حديث خُرَيم بن فاتك، رفعه:"ومن هَمّ بحسنةٍ، يعلم الله أنه قد أشعر بها قلبه، وحَرَصَ عليها"

(2)

.

(1)

"الكاشف عن حقائق السنن" 6/ 1867.

(2)

هو: ما أخرجه أحمد في "مسنده" رقم (18260)، فقال: =

ص: 594

وقد تمسك به الإمام ابن حبان، فقال بعد إيراد حديث أبي هريرة رضي الله عنه الماضي في "صحيحه": قوله جلّ وعلا: "إذا همّ عبدي" أراد به إذا عزم، فسمّى العزم همًّا؛ لأن العزم نهاية الهمّ، والعرب في لغتها تُطلق اسم البداءة على النهاية، واسم النهاية على البداءة؛ لأن الهمّ لا يُكتب على المرء؛ لأنه خاطرٌ، لا حُكْمَ له.

قال: ويحتمل أن يكون الله يكتب لمن همّ بالحسنة الحسنةَ، وإن لم يَعْزِم عليها، ولا عملها؛ لفضل الإسلام، فتوفيق الله تعالى العبدَ للإسلام فضلٌ تفضّل به عليه، وكتابته ما همّ به من الحسنات، ولَمّا يعملها فضل، وكتابته ما همّ به من السيّئات، ولَمّا يعملها أو كتبها لكان عدلًا، وفضله قد سَبَقَ عدلَهُ، كما أن رحمته سبقت غضبه، فمن فضله، ورحمته ما لم يُكتب على صبيان المسلمين ما يعملون من سيئّة قبل البلوغ، وكتب لهم ما يعملونه من حسنة، كذلك هذا ولا فرق. انتهى كلام ابن حبّان

(1)

.

(بِحَسَنَةٍ، فَلَمْ يَعْمَلْهَا) يتناول نفي عمل الجوارح، وأما عَمَلُ القلب،

= حدثنا عبد الرحمن بن مهديّ، حدثنا شيبان بن عبد الرحمن، عن الرُّكَين بن الرَّبِيع، عن أبيه، عن عمه فلان بن عَمِيلة، عن خُرَيم بن فاتك الأسديّ، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"الناس أربعة، والأعمال ستة، فالناس: مُوَسَّعٌ عليه في الدنيا والآخرة، وموسع له في الدنيا، مقتور عليه في الآخرة، ومقتور عليه في الدنيا، موسع عليه في الآخرة، وشَقِيٌّ في الدنيا والآخرة، والأعمال: موجبتان، ومثل بمثل، وعشرة أضعاف، وسبعمائة ضعف، فالموجبتان: من مات مسلمًا مؤمنًا، لا يشرك بالله شيئًا، فوجبت له الجنة، ومن مات كافرًا، وجبت له النار، ومن همّ بحسنة، فلم يعملها، فعلم الله أنه قد أشعرها قلبه، وحَرَصَ عليها، كُتبت له حسنة، ومن همّ بسيئة، لم تكتب عليه، ومن عملها كتبت واحدة، ولم تضاعف عليه، ومن عمل حسنة، كانت له بعشر أمثالها، ومن أنفق نفقة في سبيل الله، كانت له بسبعمائة ضعف".

وهو حديث صحيح، رجاله كلهم ثقات، وفلان بن عَمِيلة، هو يُسير بن عَمِيلة، كما صرّح به ابن حبّان في "صحيحه" 10/ 504 رقم (4647)، وهو ثقة من الطبقة الثالثة، كما في "التقريب" ص 386.

(1)

راجع: "الإحسان بترتيب صحيح ابن حبّان" 2/ 107.

ص: 595

فيحتمل نفيه أيضًا، إن كانت الحسنة تكتب بمجرد الهمّ، كما في معظم الأحاديث، لا إن قُيِّدت بالتصميم، كما في حديث خُرَيم رضي الله عنه، ويؤيد الأول حديث أبي ذرّ رضي الله عنه عند المصنّف أنّ الكفّ عن الشر صدقة

(1)

.

(كَتَبَهَا اللهُ) زاد في رواية البخاري: "له" أي للذي هَمّ بالحسنة، ومعنى:"كتبها الله": أي أمر الْحَفَظَةَ بكتابتها، بدليل ما سبق في حديث أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ:"إذا هَمَّ عبدي بسيئة، فلا تكتبوها عليه".

(عِنْدَهُ) أي عند الله تعالى (حَسَنَةً) مفعول ثان لـ"كتبها"، بمعنى صيّرها

(2)

(كَامِلَةً) كذا ثبت في حديث ابن عباس رضي الله عنه دون حديث أبي هريرة رضي الله عنه وغيره وَصْفُ الحسنة بكونها كاملةً، وكذا قوله:"عنده"، وفيهما نوعان من التأكيد، فأما العندية فإشارة إلى الشرف، وأما الكمال فإشارة إلى رفع توهم نقصها؛ لكونها نشأت عن الهمّ المجرد، فكأنه قيل: بل هي كاملةٌ، لا نقص فيها.

وقال النووي في "أربعينه": فانظر يا أخي - وفّقني الله وإياك - إلى عظيم لطف الله تعالى، وتأمل هذه الألفاظ،، وقوله:"عنده" إشارة إلى الاعتناء بها، وقوله:"كاملةً" للتأكيد، وشدّة الاعتناء بها، وقال في السيئة التي هَمّ بها، ثم تركها:"كتبها الله عنده حسنةً كاملةً"، فأكّدها بـ "كاملةً"، وإن عملها كتبها سيئة واحدةً"، فأكَّد تقليلها بـ "واحدةً"، ولم يؤكّدها بـ "كاملةً"، فلله الحمد والمنّة، لا نُحصي ثناءً عليه، وبالله التوفيق

(3)

.

وقال الطيبيّ: إنما جوزي من هَمّ بسيّئة، ولم يعملها بحسنة كاملة؛ لأنه خاف مقام ربّه، ونَهَى النفس عن الهوى. انتهى

(4)

.

(1)

هو ما تقدّم للمصنف برقم (84) من حديث أبي ذرّ رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله أي الأعمال أفضل؟ قال: "الإيمان بالله، والجهاد في سبيله"، قال: قلت: أي الرقاب أفضل؟ قال: "أنفسها عند أهلها، وأكثرها ثمنًا"، قال: قلت: فإن لم أفعل؟ قال: "تعين صانعًا، أو تصنع لأخرق"، قال: قلت: يا رسول الله، أرأيت إن ضعفت عن بعض العمل؟ قال:"تَكُفُّ شرّك عن الناس، فإنها صدقة منك على نفسك".

(2)

"الكاشف" 6/ 1867.

(3)

"الأربعين" للنوويّ ص 78.

(4)

"الكاشف" 6/ 1867.

ص: 596

وقال الطوفيّ: إنما كتبت الحسنة بمجرد الإرادة؛ لأن إرادة الخير سبب إلى العمل، وإرادة الخير خير؛ لأن إرادة الخير من عمل القلب.

واستُشكِل بأنه إذا كان كذلك، فكيف لا تضاعف؟ لعموم قوله:{مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160]؟.

وأُجيب بحمل الآية على عمل الجوارح، والحديث على الهمّ المجرد.

واستُشكِل أيضًا بأن عمل القلب إذا اعتُبِرَ في حصول الحسنة، فكيف لم يعتبر في حصول السيئة؟.

وأجِيب بأن ترك عمل السيئة التي وقع الهمّ بها يُكَفِّرها؛ لأنه قد نَسَخَ قصدَهُ السيئة، وخالف هواه.

ثم إن ظاهر الحديث حصول الحسنة بمجرد الترك، سواءٌ كان ذلك لمانع أم لا، ويتجه أن يقال: يتفاوت عظم الحسنة بحسب المانع، فإن كان خارجيًّا مع بقاء قصد الذي هَمَّ بفعل الحسنة، فهي عظيمة القدر، ولا سيما إن قارنها نَدَم على تفويتها، واستمرت النية على فعلها عند القدرة، وإن كان الترك من الذي هَمَّ مِن قِبَل نفسه، فهي دون ذلك، إلا إن قارنها قصدُ الإعراض عنها جملةً، والرغبة عن فعلها، ولا سيما إن وَقَعَ العمل في عكسها، كأن يريد أن يتصدق بدرهم مثلًا، فصرفه بعينه في معصية، فالذي يظهر في الأخير أن لا تُكْتَب له حسنة أصلًا، وأما ما قبله فعلى الاحتمال.

(وَإِنْ هَمَّ بِهَا) أي بالحسنة (فَعَمِلَهَا، كَتَبَهَا اللهُ - عزَّوجلْ -) زاد البخاريّ: "له"(عِنْدَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ) قال الحافظ: يؤخذ منه رفعُ توهم أن حسنةَ الإرادة تضاف إلى عشرة التضعيف، فتكون الجملة إحدى عشرة على ما هو ظاهر رواية جعفر بن سليمان عند مسلم، ولفظه:"فإن عملها، كُتبت له عشر أمثالها"، وكذا في حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وفي بعض طرقه احتمال، ورواية عبد الوارث في الباب ظاهرة فيما قلته، وهو المعتمد. انتهى كلامه.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هكذا عزا الحافظ في "الفتح" رواية جعفر بن سليمان إلى مسلم، وأنه ساق بلفظ:"فإن عملها كتبت له عشر أمثالها"، وليس كذلك، فإن مسلمًا إنما أخرج سند جعفر بن سليمان، وأحال متنه على متن عبد الوارث، فقال: "بمعنى حديث عبد الوارث، وزاد:

ص: 597

ومحاها الله، ولا يهلك على الله إلا هالك"، وإنما الذي ساق لفظ جعفر هو الحافظ أبو نعيم في "مستخرجه"

(1)

، كما سيأتي قريبًا، وفيه:"فإن عملها كتبت له عشر أمثالها"، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

وقال ابن عبد السلام في "أماليه": معنى الحديث: إذا هَمّ بحسنة، كُتبت له حسنة، فإن عملها كُمّلت له عشرةً؛ لأنا نأخذ بقيد كونها قد هَمّ بها، وكذا السيئة إذا عملها لا تكتب واحدةً للهمّ، وأخرى للعمل، بل تكتب واحدة فقط.

قال الحافظ: الثاني صريح في حديث هذا الباب، وهو مقتضى كونها في جميع الطرُق لا تُكْتب بمجرد الهمّ، وأما حسنةُ الهمّ بالحسنة فالاحتمال قائم.

وقوله: "بقيد كونها قد هَمَّ بها" يَعكُر عليه مَن عَمِلَ حسنة بغتة، من غير أن يَسْبِق له أنه هَمَّ بها، فإن قضية كلامه أنه يُكتب له تسعةً، وهو خلاف ظاهر الآية:{مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} ، فإنه يتناول مَن هَمَّ بها، ومن لم يَهُمَّ.

والتحقيق أن حسنةَ مَن هَمّ بها تَندَرج في العمل في عشرة العمل، لكن تكون حسنةُ مَن هَمَّ بها أعظم قدرًا ممن لم يَهُمَّ بها، والعلم عند الله تعالى. انتهى كلام الحافظ، وهو تحقيقٌ نفيس، والله تعالى أعلم.

(إِلَى سَبْعِمَائَةِ ضِعْفٍ)"الضِّعْفُ" في اللغة: الْمِثْلُ، والتحقيق: أنه اسم يقع على العدد، بشرط أن يكون معه عدد آخر، فإذا قيل: ضعف العشرة، فُهِمَ أنّ المراد عشرون، ومن ذلك لو أَقَرَّ بأن له عندي ضعف درهم، لزمه درهمان، أو ضعفي درهم لزمه ثلاثة.

(إِلَى أَضْعَافٍ كثِيرةٍ) قال في "الفتح": لم يقع في شيء من طُرُق حديث أبي هريرة رضي الله عنه: "إلى أضعاف كثيرة" إلا في حديثه في "الصيام"، فإن في بعض طرقه عند مسلم:"إلى سبعمائة ضعف إلى ما شاء الله".

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هكذا عزا الحافظ إلى المصنّف بزيادة لفظ: "إلى ما شاء الله"، ولم أر هذه الزيادة في حديث أبي هريرة رضي الله عنه عنده

(1)

راجع: "مستخرج أبي نُعيم" 1/ 199 رقم (338).

ص: 598

في "كتاب الصيام"، ولا في "مستخرج أبي نعيم"، ولا في "مسند أبي عوانة" الذي هو مستخرج على "صحيح مسلم"، فليُحرّر، والله تعالى أعلم.

قال: وله من حديث أبي ذرّ رضي الله عنه رفعه: "يقول الله: مَن عَمِل حسنة، فله عشر أمثالها، وأزيد"

(1)

، - وهو بفتح الهمزة، وكسر الزاي - وهذا يدل على أن تضعيف حسنة العمل إلى عشرة مجزوم به، وما زاد عليها جائز وقوعه، بحسب الزيادة في الإخلاص، وصدق العزم، وحضور القلب، وتعدِّي النفع، كالصدقة الجارية، والعلم النافع، والسنة الحسنة، وشَرَف العمل، ونحو ذلك.

وقد قيل: إن العمل الذي يُضاعَف إلى سبعمائة خاص بالنفقة في سبيل الله، وتمسّك قائله بما في حديث خُرَيم بن فاتك رضي الله عنه عند أحمد، وغيره، رفعه: "مَن هَمّ بحسنة، فلم يعملها

"، فذكر الحديث، وفيه: "ومَن عَمِل حسنة، كانت له بعشر أمثالها، ومن أنفق نفقة في سبيل الله، كانت له بسبعمائة ضعف".

وتُعُقِّب بأنه صريح في أن النفقة في سبيل الله تضاعف الى سبعمائة، وليس فيه نَفْيُ ذلك عن غيرها صريحًا.

ويدلُّ على التعميم حديث أبي هريرة رضي الله عنه الآتي في "كتاب الصيام": "كلُّ عَمَل ابن آدم يضاعف، الحسنةُ بعشر أمثالها، إلى سبعمائة ضعف

" الحديث.

واختُلِفَ في قوله تعالى: {وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ} ، هل المراد المضاعفة إلى سبعمائة فقط، أو زيادة على ذلك؟، فالأول هو المحقَّق من سياق الآية، والثاني مُحْتَمِلٌ، ويؤيد الجوازَ سعةُ الفضل، قاله في "الفتح"

(2)

، وهو تحقيقٌ حسنٌ، والله تعالى أعلم.

(1)

هو ما سيأتي للمصنّف في "كتاب الذكر والدعاء"، برقم (2687) من حديث أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يقول الله عز وجل: من جاء بالحسنة، فله عشر أمثالها، وأَزِيدُ، ومن جاء بالسيئة، فجزاؤه سيئة مثلها، أو أغفر، ومن تقرّب مني شبرًا تقربت منه ذراعًا، ومن تقرب مني ذراعًا، تقربت منه باعًا، ومن أتاني يمشي، أتيته هرولةً، ومن لقيني بقراب الأرض خطيئةً، لا يشرك بي شيئًا، لقيته بمثلها مغفرة".

(2)

"الفتح" 11/ 333 - 334.

ص: 599

(وَإِنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ، فَلَمْ يَعْمَلْهَا، كتَبَهَا اللهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً) المراد بالكمال عِظَم القدر، كما تقدم، لا التضعيف إلى العشرة، ولم يقع التقييد بـ "كاملةً" في طرق حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وظاهر الإطلاق كتابة الحسنة بمجرد الترك، لكنه قيّده في حديث الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه كما سبق في حديثه الماضي:"وإن تركها، فاكتبوها له حسنةً؛ إنما تركها من جَرّاي"، ولفظ البخاريّ في "التوحيد":"إذا أراد عبدي أن يعمل سيئة، فلا تكتبوها عليه حتى يعملها، فإن عملها فاكتبوها له بمثلها، وإن تركها من أجلي، فاكتبوها له حسنة".

ونَقَلَ القاضي عياض عن بعض العلماء أنه حمل حديث ابن عباس على عمومه، ثم صَوّب حملَ مطلقه على ما قُيّد في حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

قال الحافظ: ويحتمل أن تكون حسنةُ مَن ترك بغير استحضار ما قُيِّد به دون حسنة الآخر؛ لما تقدم أن ترك المعصية كَفّ عن الشرّ، والكفّ عن الشرّ خير، ويحتمل أيضًا أن يُكْتَب لمن هَمّ بالمعصية، ثم تركها حسنةٌ مجردةٌ، فإن تركها من مخافة ربه سبحانه، كتبت حسنةً مضاعفةً.

وقال الخطابيّ: محلُّ كتابة الحسنة على الترك أن يكون التارك قد قَدَرَ على الفعل، ثم تركه؛ لأن الإنسان لا يُسَمَّى تاركًا إلا مع القدرة، ويدخل فيه مَن حال بينه وبين حرصه على الفعل مانعٌ، كأن يمشي إلى امرأة ليزني بها مثلًا، فيجد الباب مغلقًا، ويتعسر فتحه، ومثله من تَمَكّن من الزنا مثلًا، فلم ينتشر ذكره، أو طَرقه ما يخاف من أذاه عاجلًا.

ووقع في حديث أبي كبشة الأنماري رضي الله عنه ما قد يعارض ظاهر حديث الباب، وهو ما أخرجه أحمد، وابن ماجه، والترمذيّ، وصححه، بلفظ: "إنما الدنيا لأربعة

"، فذكر الحديث، وفيه: "وعبد رزقه الله مالًا، ولم يرزقه علمًا، فهو يعمل في ماله بغير علم، لا يتقي فيه ربه، ولا يصل فيه رحمه، ولا يَرَى لله فيه حقًّا، فهذا بأخبث المنازل، ورجل لم يرزقه الله مالًا، ولا علمًا، فهو يقول: لو أن لي مالًا لعملت فيه بعمل فلان، فهما في الوزر سواء".

فقيل: الجمع بين الحديثين بالتنزيل على حالتين، فَيُحمل حديث الباب على مَنْ هَمّ بالمعصية هَمًّا مُجَرَّدًا من غير تصميم، وحديث أبي كبشة رضي الله عنه على مَن صمم على ذلك، وأصَرَّ عليه، وقد تقدّم تمام البحث في هذا في المسألة

ص: 600

الرابعة في شرح حديث أبي هريرة رضي الله عنه المذكور قبل باب، فراجعه تزدد علمًا، وبالله تعالى التوفيق.

(وَإِنْ هَمَّ بِهَا) أي بالسيّئة (فَعَمِلَهَا، كَتَبَهَا اللهُ) زاد البخاريّ: "له "(سَيِّئَةً وَاحِدَةً") وفي حديث أبي هريرة زجه المتقدّم: "فاكتبوها له بمثلها"، وفي رواية أبي ذرّ رضي الله عنه:"فجزاؤه بمثلها، أو أغفر".

ويستفاد من التأكيد بقوله: "واحدةً" أنّ السيئة لا تُضاعَف كما تضاعف الحسنة، وهو على وفق قوله تعالى:{فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا} [الأنعام: 160].

قال الشيخ ابن عبد السلام في "أماليه": فائدة التأكيد دَفْعُ توهم مَن يَظُنّ أنه إذا عَمِل السيئة، كُتبت عليه سيئة العمل، وأضيفت إليها سيئة الهمّ، وليس كذلك، إنما يكتب عليه سيئةٌ واحدةٌ.

وقد استَثْنَى بعض العلماء وقوعَ المعصية في الحرم المكيّ، قال إسحاق بن منصور: قلت لأحمد: هل وَرَد في شيء من الحديث أن السيئة تُكتب بأكثر من واحدة؟ قال: لا، ما سمعت إلا بمكة؛ لتعظيم البلد، والجمهور على التعميم في الأزمنة والأمكنة، لكن قد يتفاوت بالعِظَم، ولا يَرِد على ذلك قوله تعالى:{مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} [الأحزاب: 30]؛ لأن ذلك وَرَدَ تعظيمًا لحقّ النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ لأن وقوع ذلك من نسائه يقتضي أمرًا زائدًا على الفاحشة، وهو أذى النبيّ صلى الله عليه وسلم، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث ابن عبّاس رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا في "الإيمان"[62/ 345 و 346](131)، و (البخاريّ) في "الرِّقَاق"(6491)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 227 و 279 و 310 و 360)، و (عبد بن حُميد) في "مسنده"(716)، و (الدارميّ) في "سننه"(2789)، و (النسائيّ) في "النعوت" من "الكبرى"(7670)، و (أبو عوانة) في

ص: 601

"مسنده"(242)، و (أبو نُعيم) في "مستخرجه"(338 و 339)، و (ابن منده) في "الإيمان"(380)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): إثبات كتابة الله تعالى الحسنات والسيئات، ثم بيانه ذلك لعباده حتى يعلموا ذلك، ويكونوا على بصيرة من أمرهم، فيمتثلوا أمره، ويجتنبوا نهيه على هدى من ربّهم.

2 -

(ومنها): بيانُ فضل الله تعالى العظيم على هذه الأمة؛ لأنه لولا ذلك كاد لا يدخل أحد الجنة؛ لأن عمل العباد للسيئات أكثر. من عملهم للحسنات، كما دلّ عليه حديث الباب، من الإثابة على الهمّ بالحسنة، وعدم المؤاخذة على الهمّ بالسيئة، ودلّ عليه أيضًا قوله تعالى:{لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} ؛ إذ ذَكَرَ في السوء الافتعال الذي يَدُلّ على المعالجة، والتكلف فيه، بخلاف الحسنة.

3 -

(ومنها): بيان الفضل الذي يترتب للعبد على هِجران لذته، وترك شهوته من أجل ربه عز وجل رغبةً في ثوابه، ورهبةً من عقابه.

4 -

(ومنها): أنه استُدِلّ به على أن الحفظة لا تكتب المباح للتقييد بالحسنات والسيئات.

وأجاب بعضهم بأن بعض الأئمة عَدّ المباح من الحسن.

وتُعُقِّب بأن الكلام فيما يترتب على فعله حسنة، وليس المباحُ، ولو سُمّي حسنًا كذلك.

نعم قد يُكتَب حسنةً بالنية، وليس البحث فيه.

5 -

(ومنها): بيان أن الله سبحانه وتعالى بفضله وكرمه جعل العدل في السيئة، والفضل في الحسنة، فضاعف الحسنة، ولم يضاعف السيئة، بل أضاف فيها إلى العدل الفضلَ، فأدارها بين العقوبة والعفو بقوله:"كُتِبت له واحدةً، أو يمحوها"، وبقوله في حديث أبي ذرّ رضي الله عنه:"فجزاؤه بمثلها، أو أَغْفِر".

6 -

(ومنها): أن في هذا الحديث الردَّ على الكعبيّ في زعمه أن ليس في الشرع مباح، بل الفاعل إما عاصٍ، وإما مُثَابٌ، فمن اشتغل عن المعصية بشيء، فهو مثاب.

ص: 602

وتعقبوه بأن الذي يثاب على ترك المعصية، هو الذي يَقْصِد بتركها رضا الله، كما تقدم في قوله:"إنما تركها من جرّاي".

وحَكَى ابنُ التين أنه يلزمه أن الزاني مثلًا مثاب، لاشتغاله بالزنا عن معصية أخرى، ولا يخفى ما فيه، ذكره في "الفتح"

(1)

.

7 -

(ومنها): أنه استُدِلَّ بقوله: "حسنة كاملة" على أنها تُكْتَب حسنةً مضاعفةً، لأن ذلك هو الكمال، لكنه مشكلٌ يلزم منه مساواة مَن نَوَى الخير بمن فعله في أن كلًّا منهما يُكتب له حسنةً.

وأُجيب بأن التضعيف في الآية يقتضي اختصاصه بالعامل؛ لقوله تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ} ، والمجيء بها هو العمل، وأما الناوي، فإنما ورد أنه يُكتب له حسنة، ومعناه: يُكتب له مثل ثواب الحسنة، والتضعيف قدر زائد على أصل الحسنة، والعلم عند الله تعالى، قاله في "الفتح" أيضًا

(2)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

(المسألة الرابعة): قد أجاد الحافظ ابن رجب في شرح هذا الحديث، وأفاد، أحببت إيراده، وإن كان تقدّم فيما ذكرته في شرح الحديث، إلا أنه يكون فذلكةً وتلخيصًا لما مضى، قال بعد أن أورد أحاديث الباب وغيرها مما في معناها، ما حاصله:

فتضمنت هذه النصوص كتابة الحسنات والسيئات، والهم بالحسنة والسيئة، فهذه أربعة أنواع:

[النوع الأول]: عمل الحسنات، فتضاعَفُ الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، ومضاعفة الحسنة بعشر أمثالها لازم لكل الحسنات، وقد دلَّ عليه قوله تعالى:{مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} ، وأما زيادة المضاعفة على العشر لمن شاء الله أن يضاعف له، فدَلَّ عليه قوله تعالى:{مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261)} [البقرة: 261]،

(1)

"الفتح" 11/ 336 - 337 "كتاب الرقاق" رقم الحديث (6491).

(2)

المصدر السابق.

ص: 603

فدلت هذه الآية على أن النفقة في سبيل الله تضاعف بسبعمائة ضعف، وفي "صحيح مسلم" عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: جاء رجل بناقة مخطومة، فقال: يا رسول الله هذه في سبيل الله، فقال:"لك بها يوم القيامة سبعمائة ناقة"

(1)

.

وفي "المسند" بإسناد فيه نظر، عن أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"من أنفق نفقة فاضلة في سبيل الله فبسبعمائة، ومن أنفق على نفسه وأهله وعياله، أو عاد مريضًا، أو أماط أذى، فالحسنة بعشر أمثالها".

وأخرج أبو داود من حديث سهل بن معاذ، عن أبيه رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"إن الصلاة والذكر يضاعف على النفقة في سبيل الله بسبعمائة ضعف"

(2)

.

ورَوَى ابن أبي حاتم بسنده، عن الحسن، عن عمران بن الحصين رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "من أرسل نفقة في سبيل الله، وأقام في بيته، فله بكل درهم سبعمائة درهم، ومن غزا بنفسه في سبيل الله، فله بكل درهم سبعمائة الف درهم، ثم تلا هذه الآية:{وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ} الآية [البقرة: 261]

(3)

.

وأخرج ابن حبّان في "صحيحه" من حديث عيسى بن المسيب، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنه قال: لما نزلت هذه الآية: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ} الآية [البقرة: 261] قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رَبِّ زِدْ أمتي"، فأنزل الله تعالى:{مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً} الآية [البقرة: 245]، فقال:"رب زد أمتي" فأنزل الله تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10].

وأخرج الإمام أحمد، من حديث علي بن زيد بن جُدْعان، عن أبي عثمان النَّهْديّ، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"إن الله ليضاعف الحسنة ألفي حسنة" ثم تلا أبو هريرة: {وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ

(1)

أخرجه برقم (1892)، وأخرجه النسائيّ (6/ 49)، وأحمد (4/ 121).

(2)

أخرجه أبو داود في "سننه" رقم (2498)، والبيهقيّ 9/ 172، وفيه زبّان بن فائد، وهو ضعيف، ومع ذلك صححه الحاكم 2/ 78، ووافقه الذهبيّ.

(3)

وفيه سنده الخليل بن عبد الله، مجهول، كما في "التقريب"، وفي سماع الحسن عن عمران خلاف، ولذا قال ابن كثير: حديث غريب.

ص: 604

أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 40]، وقال:"إذا قال الله: {أَجْرًا عَظِيمًا}، فمن يقدر قدره"، ورُوي عن أبي هريرة موقوفًا

(1)

.

وأخرج الترمذيّ من حديث ابن عمر رضي الله عنه موقوفًا: "من دخل السوق، فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو حي لا يموت بيده الخير، وهو على كل شيء قدير، كتب الله له ألف ألف حسنة، ومحا عنه ألف ألف سيئة، ورفع له ألف ألف درجة"

(2)

.

ومن حديث تميم الداريّ رضي الله عنه مرفوعًا: "من قال: أشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له، إلهًا واحدًا أحدًا صمدًا، لم يتخذ صاحبةً ولا ولدًا، ولم يكن له كفوًا أحد، عشر مرات، كتب الله له أربعين ألف ألف حسنة"

(3)

، وفي كلا الإسنادين ضعف.

وأخرج الطبرانيّ بإسناد ضعيف أيضًا، عن ابن عمر مرفوعًا:"من قال: سبحان الله، كتب الله له مائة ألف حسنة"

(4)

.

وقوله في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: "إلا الصيام، فإنه لي، وأنا أجزي به"، يدلّ على أن الصيام لا يَعلَم قدر مضاعفة ثوابه إلا الله تعالى؛ لأنه أفضل أنواع الصبر، {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10]، وقد رُوِي هذا المعنى عن طائفة من السلف، منهم كعب وغيره.

ثم ذكر أن مضاعفة الحسنات زيادةً على العشر تكون بحسب حسن الإسلام، كما جاء ذلك مُصَرَّحًا به في حديث أبي هريرة وغيره، ويكون بحسب كمال الإخلاص، وبحسب فضل ذلك العمل في نفسه، وبحسب الحاجة إليه.

(1)

رواه أحمد 2/ 296، وفي سنده علي بن زيد بن جُدعان، ضعيف.

(2)

أخرجه الترمذيّ برقم (3428)، وفي سنده أزهر بن سنان، ضعيف، وبرقم (3429)، وفي سنده عمرو بن دينار قهرمان آل الزبير، ضعيف أيضًا.

(3)

أخرجه الترمذيّ برقم (3473)، وفيه خليل بن مرّة، ضعيف.

(4)

أخرجه الطبرانيّ في "الكبير"(13597)، وفي سنده النضر بن عُبيد، قال الهيثميّ في "المجمع" 10/ 78: لم أعرفه.

ص: 605

[النوع الثاني]: عملُ السيئات، فتُكتب السيئة بمثلها، من غير مضاعفةٍ، كما قال الله تعالى:{وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [الأنعام: 160].

وقوله: "كُتِبت له سيئةً واحدةً" إشارةٌ إلى أنها غير مضاعفة، كما صَرّح به في حديث آخر، لكن السيئة تَعْظُم أحيانًا بشرف الزمان، أو المكان، كما قال تعالى:{إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ} [التوبة: 36]، قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس رضي الله عنه في هذه الآية:{فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} : في كلهنّ، ثم اختصّ من ذلك أربعة أشهر، فجعلهنّ حُرُمًا، وعَظَّم حرمتهنّ، وجَعَل الذنب فيهن أعظم، والعمل الصالح والأجر أعظم.

وقال قتادة في هذه الآية: اعلموا أن الظلم في الأشهر الحرُم أعظم خطيئة ووزرًا فيما سوى ذلك، وإن كان الظلم في كل حالٍ غيرَ طائل، ولكن الله تعالى يُعَظِّم من أمره ما يشاء، تعالى ربنا.

وقد رُوي في حديثين مرفوعين: أن السيئات تضاعف في رمضان، ولكن إسنادهما لا يصح.

وقال الله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197]، قال ابن عمر: الفسوق ما أُصيب من معاصي الله صيدًا كان أو غيره، وعنه قال: الفسوق إتيان معاصي الله في الحرم.

وقال تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج: 25].

وكان جماعة من الصحابة يتقون سُكْنَى الحرم خشيةَ ارتكاب الذنوب فيه، منهم ابن عباس، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وكذلك كان عمر بن عبد العزيز يفعل، وكان عبد الله بن عمرو بن العاص يقول: الخطيئة فيه أعظم، ورُوي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: لأن أخطئ سبعين خطيئة - يعني بغير مكة - أحب إليّ من أن أخطئ خطيئة واحدة بمكة، وعن مجاهد قال: تضاعف السيئات بمكة، كما تضاعف الحسنات، وقال ابن جريح: بلغني أن الخطيئة بمكة بمائة خطيئة، والحسنة على نحو ذلك.

ص: 606

وقال إسحاق بن منصور: قلت لأحمد: في شيء من الحديث أن السيئة تكتب بأكثر من واحدة؟ قال: لا ما سمعنا إلا بمكة؛ لتعظيم البلد، وقال إسحاق بن راهويه، كما قال أحمد.

وقد تضاعف السيئات بشرف فاعلها، وقوة معرفته بالله، وقربه منه، فإن من عَصَى السطان على بساطه أعظم جُرْمًا ممن عصاه على بُعْدٍ، ولهذا توعد الله خاصة عباده على المعصية بمضاعفة الجزاء، وإن كان قد عصمهم منها؛ ليبيّن لهم فضله عليهم بعصمتهم من ذلك، كما قال تعالى:{وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74) إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ} [الإسراء: 74 - 75]، وقال تعالى:{يَانِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30) وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} ، إلى قوله:{وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 30 - 35]، وكان علي بن الحسين يتأول في آل النبيّ صلى الله عليه وسلم من بني هاشم مثل ذلك؛ لقربهم من النبيّ صلى الله عليه وسلم.

[النوع الثالث]: الهمُّ بالحسنات، فتُكتب حسنةً كاملةً، وإن لم يعملها، كما في حديث ابن عباس وغيره، وفي حديث أبي هريرة الذي أخرجه مسلم كما تقدم:"إذا تحدث عبدي بأن يعمل حسنةً، فأنا أكتبها له حسنةً"، والظاهر أن المراد بالتحدُّث: حديث النفس، وهو الهمّ، وفي حديث خُرَيم بن فاتك:"مَنْ هَمّ بحسنة، فلم يعملها، فعلم الله منه أنه قد أشعر قلبه، وحَرَصَ عليها، كتبت له حسنة"، وهذا يدلّ على أن المراد بالهمّ هنا هو العزم المصمّم الذي يوجد معه الحرص على العمل، لا مجرد الْخَطْرة التي تخطُر، ثم تنفسخ من غير عزم، ولا تصميم.

قال أبو الدرداء رضي الله عنه: "من أتَى فراشه، وهو ينوي أن يصلي من الليل، فغلبته عيناه حتى يصبح، كُتِب له ما نوى"، ورُوي عنه مرفوعًا، وأخرجه ابن ماجه مرفوعًا، قال الدارقطنيّ: المحفوظ الموقوف، ورُوي معناه من حديث عائشة رضي الله عنها، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الموقوف في مثل هذا له حكم الرفع، ولا سيّما وهو صحيح، مرفوعًا من حديث عائشة رضي الله عنها، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

ص: 607

ورُوي عن سعيد بن المسيب قال: مَن همّ بصلاة، أو صيام، أو حج، أو عمرة، أو غزوة، فحيل بينه وبين ذلك، بَلَّغه الله تعالى ما نَوَى.

وقال أبو عمران الجونيّ: "يُنَادَى الملك، اكتب لفلان كذا وكذا، فيقول: يا رب إنه لم يعمله، فيقول الله: إنه نواه".

وقال زيد بن أسلم: كان رجل يطوف على العلماء، يقول: مَنْ يَدُلُّني على عمل لا أزال منه لله عاملًا، فإني لا أحب أن يأتي عليّ ساعة من الليل والنهار، إلا وإني عامل لله تعالى؟، فقيل له: قد وجدت حاجتك، فاعمل الخير ما استطعت، فإذا فَتَرْتَ، أو تركت فَهُمَّ بعمله، فإن الهامَّ بفعل الخير كفاعله.

ومتى اقتَرَن بالنية قولٌ أو سعيٌ تأكد الجزاء، والتحق صاحبه بالعامل، كما رَوَى أبو كبشة رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"إنما الدنيا لأربعة نفر: عبد رزقه الله مالًا وعلمًا، فهو يتقي ربه، ويصل فيه رحمه، ويعلم لله فيه حقًّا فهذا بأفضل المنازل، وعبد رزقه الله علمًا، ولم يرزقه مالًا، فهو صادق النية، فيقول: لو أن لي مالًا لعملت بعمل فلان، فهو بنيّته، فأجرهما سواء، وعبد رزقه الله مالًا، ولم يرزقه علمًا، فهو يتخبط في ماله بغير علم، لا يتقي فيه ربه، ولا يصل فيه رحمه، ولا يعلم فيه لله حقًّا، فهذا بأخبث المنازل، وعبد لم يرزقه الله مالًا ولا علمًا، وهو يقول: لو أن لي مالًا لعملت فيه بعمل فلان، فهو بنيّته، فوزرهما سواء"، وأخرجه الإمام أحمد، والترمذيّ، وهذا لفظ ابن ماجه.

وقد حُمِل قوله: "وهما في الأجر سواء" على استوائهما في أصل أجر العمل، دون مضاعفته، فالمضاعفة يختص بها مَن عَمِل العمل دون من نواه ولم يعمله، فإنهما لو استويا من كل وجه، لكُتِب لِمَنْ هَمّ بحسنة، ولم يعملها عشر حسنات، وهو خلاف النصوص كلها، ويدل على ذلك قوله تعالى:{فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95) دَرَجَاتٍ مِنْهُ} [النساء: 95 - 96]، قال ابن عباس وغيره: القاعدون المفضل عليهم المجاهدون درجةً هم القاعدون من أهل الأعذار، والقاعدون المفضل عليهم المجاهدون درجاتٍ هم القاعدون من غير أهل الأعذار.

ص: 608

[النوع الرابع]: الهمُّ بالسيئات، من غير عَمَلٍ لها، ففي حديث ابن عباس رضي الله عنه أنها تُكتَب حسنةً كاملةً، وكذلك في حديث أبي هريرة وأنس وغيرهما أنها تكتب حسنةً كاملةً، وفي حديث أبي هريرة:"إنما تركها من جرائي" - يعني من أجلي - وهذا يدلّ على أن المراد مَنْ قَدَرَ على ما هَمّ به من المعصية، فتركه لله تعالى، وهذا لا ريب في أنه يُكتب له بذلك حسنةٌ؛ لأن تركه المعصية بهذا المقصد عَمَلٌ صالح، فأما إن هَمّ بمعصية، ثم ترك عملها خوفًا من المخلوقين، أو مراءاة لهم، فقد قيل: إنه يعاقب على تركها بهذه النية؛ لأن تقديم خوف المخلوقين على خوف الله محرَّم، وكذلك قصد الرياء للمخلوقين محرَّم، فإذا اقترن به ترك المعصية لأجله عوقب على هذا الترك.

وقد أخرج أبو نعيم بسند ضعيف

(1)

، عن ابن عباس رضي الله عنه قال:"يا صاحب الذنب، لا تأمنَنّ سوءَ عاقبته، ولَمَا يَتْبَعُ الذنبَ أعظمُ من الذنب إذا عملته" وذكر كلامًا، وقال: خوفك من الريح إذا حَرَّكت سِتْرَ بابك، وأنت على الذنب، ولا يَضطربُ فؤادك من نظر الله إليك أعظم من الذنب إذا فعلته.

وقال الفضيل بن عياض: كانوا يقولون: تركُ العمل للناس رياء، والعملُ لهم شرك.

وأما إن سَعَى في حصولها بما أمكنه، ثم حال بينه وبينها القَدَرُ، فقد ذكر جماعة أنه يعاقب عليها حينئذ؛ لقوله النبيّ صلى الله عليه وسلم:"إن الله يتجاوز لأمتي عما حَدَّثت به أنفسها، ما لم تتكلم به، أو تعمل"، ومن سَعَى في حصل المعصية بجهده، ثم عجز عنها، فقد عَمِلَ بها، وكذلك قول النبيّ صلى الله عليه وسلم:"إذا التقى المسلمان بسيفيهما، فالقاتل والمقتول في النار"، قالوا: يا رسول الله هذا القاتل، فما بال المقتول؟ قال:"إنه كان حريصًا على قتل صاحبه".

وقوله: "ما لم تتكلم به، أو تعمل " يدلّ على أن الهامّ بالمعصية إذا تكلم بما هَمَّ به بلسانه، فإنه يعاقب على الهمّ حينئذ؛ لأنه قد عَمِلَ بجوارحه معصيةً، وهو التكلم باللسان، ودلّ على ذلك حديث الذي قال:"لو أن لي مالًا لعملت فيه ما عَمِل فلان" يعني الذي يَعْصِي الله في ماله، قال:"فهما في الوزر سواء".

(1)

"الحلية" 1/ 324.

ص: 609

ومن المتأخرين مَن قال: لا يعاقب على التكلم بما هَمَّ به، ما لم تكن المعصية التي هَمَّ بها قولًا مُحَرَّمًا، كالقذف، والغيبة، والكذب، فأما ما كان مُتعلَّقها العمل بالجوارح، فلا يأثم بمجرد تكلم بما هَمّ به، وهذا قد يُستَدَلُّ به على حديث أبي هريرة المتقدم:"وإذا تحدث عبدي بأن يعمل سيّئةً، فأنا أغفرها له ما لم يعملها"، ولكن المراد بالحديث هنا حديث النفس؛ جمعًا بينه وبين قوله:"ما لم تتكلم به"، وحديث أبي كبشة رضي الله عنه يَدُلُّ على ذلك صريحًا، فإن قول القائل بلسانه: لو أن لي مالًا لعملت فيه بالمعاصي، كما عَمِلَ فلان، ليس هو العمل بالمعصية التي هَمَّ بها، وإنما أخبر عما هَمَّ به فقط، مما متعلقه إنفاق المال في المعاصي، وليس له مال بالكلية، وأيضًا فالكلام بذلك مُحَرَّمٌ، فكيف يكون مَعْفُوًّا عنه، غير مُعاقَب عليه؟.

وأما إن انفسخت نيته، وفَتَرت عزيمته من غير سبب منه، فهل يعاقب على ما هَمَّ به من المعصية أم لا؟ هذا على قسمين:

[أحدهما]: أن يكون الهمّ بالمعصية خاطرًا، ولم يساكنه صاحبه، ولم يَعْقِد قلبه عليه، بل كرهه، ونفر منه، فهو معفوّ عنه، وهو الوساوس الرديئة التي سئل النبيّ صلى الله عليه وسلم عنها، فقال:"ذلك صريح الإيمان"

(1)

.

ولَمّا نَزَل قوله تعالى: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} [البقرة: 284] شَقَّ ذلك على المسلمين، وظَنّوا دخول هذه الخواطر فيه، فنزلت الآية بعدها، وفيها قوله:{رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} [البقرة: 286]، فَبَيَّنَت أن ما لا طاقة لهم به غير مؤاخذ به، ولا يُكَلَّف به، وقد سَمَّى ابنُ عباس وغيره ذلك نسخًا، ومرادهم أن هذه الآية أزالت الإبهام الواقع في النفوس من الآية الأولى، وبَيَّنَت أن المراد بالآية الأولى العزائم المصمَّمُ عليها، ومثل هذا كان السلف يسمونه نسخًا.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد سبق أن الأرجح فيها النسخ المتعارف عند المتأخّرين، وسبق بيان وجه ذلك عند شرح حديث ابن عبّاس رضي الله عنه هذا، فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق.

(1)

يأتي للمصنّف قريبًا برقم (132).

ص: 610

[القسم الثاني]: العزائم المصمَّمة التي تقع في النفوس، وتدوم، ويساكنها صاحبها، فهذا أيضًا نوعان:

(أحدهما): ما كان عَمَلًا مستقلًا بنفسه، من أعمال القلوب، كالشكّ في الوحدانية، أو النبوة، أو البعث، أو غير ذلك من الكفر والنفاق، أو اعتقاد تكذيب ذلك، فهذا كله يعاقب عليه العبد، ويصير بذلك كافرًا أو منافقًا، وقد رُوِيَ عن ابن عباس رضي الله عنه أنه حَمَل قوله تعالى:{وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [البقرة: 284] على مثل هذا، ورُوِي عنه حملها على كتمان الشهادة؛ لقوله:{وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة: 283]، ويُلْحَق بهذا القسم سائر المعاصي المتعلقة بالقلوب، كمحبة ما يبغضه الله، وبغض ما يحب الله، والكبر، والعجب، والحسد، وسوء الظن بالمسلم، من غير موجب، مع أنه قد رُوِي عن سفيان أنه قال في سوء الظن: إذا لم يترتب عليه قول أو فعل: فهو معفو عنه، وكذلك رُوِي عن الحسن أنه قال في الحسد، ولعل هذا محمولٌ من قولهما على ما يجده الإنسان، ولا يمكنه دفعه، فهو يَكرهه، ويدفعه عن نفسه، فلا يندفع إلا على ما يساكنه، ويستروح إليه، ويعيد حديث نفسه به ويبديه.

(والنوع الثاني): ما لم يكن من أعمال القلوب، بل كان من أعمال الجوارح، كالزنا، والسرقة، وشرب الخمر، والقتل، والقذف، ونحو ذلك، إذا أصرّ العبد على إرادة ذلك، والعزم عليه، ولم يَظهَر له أثرٌ في الخارج أصلًا، فهذا في المؤاخذة به قولان مشهوران للعلماء:

(أحدهما): الأخذ به، قال ابن المبارك: سألت سفيان الثوري: أيؤاخذ العبد بالهمّ؟ فقال: إذا كانت عزمًا أُوخذ، ورَجَّح هذا القول كثير من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين، من أصحابنا وغيرهم.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تقدّم ترجيح هذا المذهب، فلا تغفل.

قال: واستدلوا له بنحو قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ} [البقرة: 235]، وقوله تعالى:{وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [البقرة: 225]، وبنحو قول النبيّ صلى الله عليه وسلم:"الإثم ما حاك في صدرك، وكرهت أن يطلع عليه الناس"، وحملوا قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تجاوز لأمتي عما حَدَّثت به

ص: 611

أنفسها، ما لم تتكلم به، أو تعمل"، على الخطرات، وقالوا: ما ساكنه العبد، وعَقَد عليه قلبَه فهو من كسبه وعمله، فلا يكون مَعْفُوًّا عنه، ومن هؤلاء من قال: إنه يعاقب عليه في الدنيا بالهموم والغموم، رُوي ذلك عن عائشة رضي الله عنه مرفوعًا وموقوفًا، وفي صحته نظر، وقيل: بل يحاسب العبد به يوم القيامة، فيقفه الله عليه، ثم يعفو عنه، ولا يعاقبه، فتكون عقوبته المحاسبة، وهذا مرويّ عن ابن عباس، والربيع بن أنس، وهو اختيار ابن جرير، واحتجّ له بحديث ابن عمر في النجوى، وذلك ليس فيه عمومٌ، وأيضًا فإنه وارد في الذنوب المستورة في الدنيا، لا في وساوس الصدور.

(والقول الثاني): لا يؤاخذ بمجرد النية مطلقًا، ونُسِب ذلك إلى نصّ الشافعيّ، وهو قول ابن حامد من أصحابنا؛ عملًا بالعمومات، ورَوَى العوفيّ عن ابن عباس رضي الله عنه ما يدلّ على مثل هذا القول.

وفيه قول ثالث: إنه لا يؤاخذ بالهم بالمعصية، إلا بأن يَهُمّ بارتكابها في الحرم، كما رَوَى السُّدّيّ عن مرة، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: ما من عبد يَهُمّ بخطيئة، فلم يعملها، فتكتب عليه، ولو هَمّ بقتل الإنسان عند البيت، وهو بِعَدَن أَبْيَن أذاقه الله من عذاب أليم، وقرأ:{وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج: 25]، أخرجه الإمام أحمد وغيره، وقد رواه عن السديّ شعبة، وسفيان، فرفعه شعبة، ووقفه سفيان، والقول قول سفيان في وقفه.

وقال الضحاك: إن الرجل ليهم بالخطيئة بمكة، وهو بأرض أخرى، ولم يعملها، فتكتب عليه، وقد تقدم عن أحمد وإسحاق ما يدلّ على مثل هذا القول، وكذا حكاه القاضي أبو يعلى عن أحمد.

وقد رَدَّ بعضهم هذا إلى ما تقدم من المعاصي التي متعلقها القلب، وقال: الحرم يجب احترامه، وتحريمه، وتعظيمه بالقلوب، فالعقوبة على ترك هذا الواجب، وهذا لا يصح، فإن حرمة الحرم ليست بأعظم من حرمة مُحَرِّمه سبحانه، والعزم على معصية الله عزم على انتهاك محارمه، ولكن لو عَزَم على ذلك قصدًا لانتهاك حرمة الحرم، واستخفافًا بحرمته، فهذا كما لو عَزَم على فعل معصية بقصد الاستخفاف بحرمة الخالق تعالى، فيكفر بذلك، وإنما ينتفي

ص: 612

الكفر عنه إذا كان همه بالمعصية بمجرد نيل شهوته، وغرض نفسه، مع ذهوله عن قصد مخالفة الله، والاستخفاف بهيبته وبنظره.

ومتى اقترن العملُ بالهمّ، فإنه يعاقب عليه، سواء كان الفعل متأخرًا أو متقدمًا، فمن فعل محرمًا مرة، ثم عزم على فعله متى قدر عليه، فهو مُصِرٌّ على المعصية، ومعاقب على هذه النية، وإدن لم يَعُدْ إلى عمله إلا بعد سنين عديدة، وبذلك فسَّر ابن المبارك وغيره الإصرار على المعصية.

وبكل حال، فالمعصية إنما تُكْتب بمثلها من غير مضاعفة، فتكون العقوبة على المعصية، ولا ينضمّ إليها الهمّ بها؛ إذ لو ضُمّ إلى المعصية الهم بها لعوقب على عمل المعصية عقوبتين.

ولا يقال: فهذا يلزم مثله في عمل الحسنة، فمانها إذا عملها بعد الهمّ بها أثيب على الحسنة دون الهم بها؛ لأنا نقول: هذا ممنوع، فإن مَن عَمِلَ حسنة كتبت له عشر أمثالها، فيجوز أن يكون بعض هذه الأمثال جزاء للهمّ بالحسنة، والله أعلم. انتهى كلام ابن رجب

(1)

، وهو تحقيق حسن، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[346]

(

) - (وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنِ الْجَعْد، أَبِي عُثْمَانَ، فِي هَذَا الإسْنَاد، بمَعْنَى حَدِيثِ عَبْدِ الْوَارِث، وَزَادَ: "أَوْ مَحَاهَا اللهُ

(2)

، وَلَا يَهْلِكُ عَلَى اللهِ إِلَّا هَالِكٌ").

رجال هذا الإسناد: ثلاثة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) بن بُكير بن عبد الرحمن التميميّ، أبو زكريّا النيسابوريّ، ثقةٌ ثبتٌ إمامٌ [10](ت 226) على الصحيح (خ م ت س) تقدم في "المقدمة" 3/ 9.

(1)

"جامع العلوم والحكم" 2/ 311 - 329.

(2)

هكذا في نسخة "شرح الأبيّ"، بـ "أو"، وهو الأولى، ووقع في معظم النسخ:"ومحاها الله" بالواو.

ص: 613

2 -

(جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ) الضُّبَعيّ، أبو سليمان البصريّ، صدوقٌ زاهد، كان يتشيّع [8](ت 178)(بخ م 4) تقدم في "الإيمان" 55/ 322، والجعد تقدّم في الإسناد السابق.

وقوله: (فِي هَذَا الإسْنَادِ) أي بإلإسناد الماضي، وهو عن أبي رجاء العُطارديّ، عن ابن عبّاس رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقوله: (بِمَعْنَى حَدِيثِ عَبْدِ الْوَارِثِ) يعني أن حديث جعفر بن سليمان بمعنى حديث عبد الوارث بن سعيد، عن الجعد، وليس بلفظه.

[تنبيه]: رواية جعفر بن سليمان التي أشار إليها المصنّف هنا ساقها الإمام أبو محمد الدارميّ في "سننه" في "الرقاق"(2/ 313 - 314)، فقال:

(2667)

حدثنا عفّان، حدثنا جعفر بن سليمان، حدثنا الجعد، أبو عثمان، قال: سمعت أبا رجاء العطارديّ، قال: سمعت ابن عباس، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل.

قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن ربكم رحيمٌ، مَن هَمّ بحسنة، فلم يعملها كُتِبت له حسنةً، فإن عملها كُتبت له عشرًا، إلى سبعمائة، إلى أضعاف كثيرة، ومَن هَمّ بسيئة، فلم يعملها، كُتبت له حسنةَّ، فإن عملها كتبت واحدة، أو يمحوها، ولا يَهْلِك على الله إلا هالك". وكذا ساقه أبو نُعيم في "مستخرجه"(1/ 199)(338) إلا أن في لفظة "أو يمحوها" تصحيفًا، فتنبّه.

وقوله: (وَزَادَ: "أَوْ مَحَاهَا اللهُ، وَلَا يَهْلِكُ عَلَى اللهِ إِلأ هَالِكٌ") يعني أن جعفر بن سليمان زاد في روايته على رواية عبد الوارث قوله: "أو محاها الله

إلخ"، فليس هذا في رواية عبد الوارث.

فقوله: "أَوْ مَحَاهَا اللهُ" هكذا وقع في نسخة شرح الأبيّ بـ "أو"، وهو الذي في "مستخرج أبي نعيم"

(1)

، و"سنن الدارميّ"

(2)

، ووقع في معظم النسخ المطبوعة بالواو، فتكون الواو بمعنى "أو"، فتنبّه.

والمعنى: أن الله سبحانه وتعالى يمحوها بالفضل، أو بالتوبة، أو بالاستغفار، أو

(1)

إلا أنه صُحّف إلى "أو محوها"، فتنبّه.

(2)

لكن عبّر بلفظ المضارع، فقال:"أو يمحوها".

ص: 614

بعمل الحسنة التي تُكَفّر السيئة، والأول أشبه؛ لظاهر حديث أبي ذر رضي الله عنه، كما سيأتي للمصنّف بلفظ:"فجزاؤه بمثلها، أو أغفر له"، وفيه ردّ لقول مَن ادّعَى أن الكبائر لا تغفر إلا بالتوبة، أفاده في "الفتح"

(1)

.

وقال ابن رجب: قوله: "أو يمحوها الله " يعني أن عمل السيئة إما أن تُكْتَب لعاملها سيئةً واحدةً، أو يمحوها الله بما شاء من الأسباب، كالتوبة، والاستغفار، وعمل الحسنات. انتهى كلامه

(2)

.

قال الجامع: سيأتي ذكر ما تُمحْى به السيئات من الحسنات في "أبواب الوضوء" - إن شاء الله تعالى -.

ومعنى قوله: (وَلَا يَهْلِكُ عَلَى اللهِ إِلَّا هَالِكٌ) أي من أصرّ على التحرِّي على السيئة عَزْمًا، وقولًا، وفعلًا، وأعرض عن الحسنات هَمًّا، وقولًا وفعلًا، قاله في "الفتح".

وقال القاضي عياضّ: قوله: "وَلَا يَهْلِكُ عَلَى اللهِ إِلَّا هَالِكٌ": أي من حُتِّم عليه الهلاك، وسُدّ عليه أبواب الهدى؛ لسعة رحمة الله تعالى وكرمه؛ إذ جَعَل السيّئة حسنة، ولم يكتبها حتى يُعمَل بها، فإذا عُملت كُتبت واحدةً، وكَتَب الهمَّ بالحسنة حسنةً، وكَتبها إذا عملها عشرًا إلى سبعمائة ضعف، وأضعافًا كثيرةً، وكلُّ هذا من فضل الله سبحانه وتعالى؛ إذ ضاعف الحسنات، حتى تكثر، وتزيد على السيّئات؛ لكثرة سيّئات بني آدم، فمن حُرِم هذه السعة، وضُيِّق عليه رَحْبُها حتى غلبت سيئاته مع إفرادها حسناته مع تضعيفها، فهو الهالك الذي سبق عليه ذلك في أمّ الكتاب. انتهى كلامه

(3)

.

وقال ابن رجب: قوله: "ولا يهلك على الله إلا هالك" يعني: بعد هذا الفضل العظيم من الله، والرحمة الواسعة منه، بمضاعفة الحسنات، والتجاوز عن السيئات، لا يهلك على الله إلا مَنْ هَلَك، وألقى بيده إلى التهلكة، وتجرّأ على السيئات، ورَغِبَ عن الحسنات، وأعرض عنها، ولهذا قال ابن مسعود رضي الله عنه: ويلٌ لمن غَلَبت وُحْدانُهُ عشراتِه، وروى الكلبيّ، عن أبي صالح،

(1)

"الفتح" 11/ 336 "كتاب الرقاق".

(2)

"جامع العلوم والحكم" 2/ 328.

(3)

"إكمال المعلم" 1/ 525.

ص: 615

عن ابن عباس رضي الله عنه، مرفوعًا:"هَلَك مَن غَلَبَ واحده عشرًا"

(1)

.

وأخرج الإمام أحمد، وأبو داود، والنسائيّ، والترمذيّ، من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خَلَّتان لا يُحصيهما رجل مسلمٌ، إلا دخل الجنة، وهما يسير، ومن يَعْمَل بهما قليل، تسبّح الله دُبُرَ كل صلاة عشرًا، وتحمده عشرًا، وتكبره عشرًا، قال: فذلك خمسون ومائة باللسان، وألف وخمسمائة في الميزان، فإذا أخذت مضجعك تسبحه وتكبره وتحمده مائة، فتلك مائة باللسان، وألف في الميزان، فأيُّكم يعمل في اليوم والليلة ألفين وخمسمائة سيئة؟ "

(2)

.

وفي "المسند" عن أبي الدرداء رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"لا يَدَع أحدُكم أن يعمل لله ألف حسنة حين يصبح، يقول: سبحان الله وبحمده مائة مرةٍ، فإنها ألف حسنة، فإنه لن يعمل - إن شاء الله تعالى - مثل ذلك في يومه من الذنوب، ويكون ما عَمِلَ من خير سوى ذلك وافرًا"

(3)

. انتهى كلام ابن رجب

(4)

، وهو بحث نفيسٌ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(63) - (بَابُ بَيَانِ أَنَّ اسْتِعْظَامَ الْوَسْوَسَة، والنَّفْرَةَ مِنْهَا مِنْ خَالِصِ الإيمَان، والأَمْرِ بِالاسْتِعَاذَةِ عِنْدَ وُقُوعِهَا)

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد سبق في شرح المقدّمة أن هذه التراجم غير تراجم الكتب ليست من وضع الإمام مسلم، وإنما هي لشرّاح كتابه، وهذه الترجمة قريبة من ترجمة القرطبيّ في "مختصره"، وذكر المازريّ أنه يوجد في

(1)

ضعيف جدًّا، فيه الكلبيّ محمد بن السائب، متروك.

(2)

رواه أحمد (2/ 502)، وأبو داود (5060)، والترمذيّ (3410)، والنسائيّ (3/ 74)، وابن ماجه (926)، وصححه ابن حبان (2012 و 2018).

(3)

حديث ضعيف، في سنده أبو بكر بن عبد الله بن أبي مريم الغسّانيّ، ضعيف، كما قال الهيثميّ في "المجمع" 10/ 113.

(4)

"جامع العلوم والحكم" 2/ 328 - 329.

ص: 616

بعض نسخ مسلم تبويبٌ بلفظ: "بَاب الوسوسة محض الإيمان"، قال: أما قوله: "محض الإيمان"، فلا يصحّ أن يراد به أن الوسوسة هي الإيمان؛ لأن الإيمان اليقين، وإنما الإشارة إلى ما وجدوا من الخوف من الله تعالى أن يعاقبوا على ما وقع في نفوسهم، فكأنه يقول: جَزَعكم من هذا هو محضُ الإيمان؛ إذ الخوف من الله سبحانه وتعالى ينافي الشكّ فيه، فإذا تقرّر هذا تبيّنَ أن هذا التبويب المذكور غلطٌ على مقتضى ظاهره. انتهى كلام المازريّ

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: سيأتي ما قاله العلماء في معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "ذاك محض الإيمان" قريبًا - إن شاء الله تعالى -.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[347]

(132) - (حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ سُهَيْلٍ، عَنْ أَبِيه، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: جَاءَ نَاسٌ مِنْ أَصْحًابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَسَألُوهُ: إِنَّا نَجِدُ فِي أَنْفُسِنَا مَا يَتَعَاظَمُ أَحَدُنَا أَنْ يَتَكَلَّمَ بِه، قَالَ: "وَقَدْ وَجَدْتُمُوهُ؟ "، قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: "ذَاكَ صرِيحُ الإيمَانِ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) الْحَرَشي النسائيّ، ثم البغداديّ، تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(جَرِير) بن عبد الحميد الضبّيّ الكوفيّ، نزيل الريّ، وقاضيها، ثقةٌ، صحيح الكتاب [8](ت 188)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.

3 -

(سُهَيْل) بن أبي صالح، أبو يزيد المدنيّ، ثقة، تغيّر في آخره [6] مات في خلافة المنصور (ع) تقدم في "الإيمان" 14/ 161.

4 -

(أَبُوهُ) أبو صالح ذكوان السّمّان الزيّات المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ [3](ت 101)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 4.

5 -

(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه تقدم في "المقدمة" 2/ 4. والله تعالى أعلم.

(1)

"المعلم" 1/ 210.

ص: 617

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له الترمذيّ.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين من سُهيل.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية الابن عن أبيه، وفيه أيضًا أبو هريرة رضي الله عنه أحفظ من روى الحديث في دهره، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: جَاءَ نَاسٌ) أي جماعة، قال صاحب "التنبيه": لا أعلمهم

(1)

. (مِنْ أَصْحَابِ النّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَسَأَلوهُ: إِنَّا نَجِدُ فِي أَنْفُسِنَا) قال الطيبيّ: قوله: "إنا نجد

إلخ " واقعٌ موقع الحال: أي سألوه مخبرين إنا نجد، أو قائلين، على احتمال فتح الهمزة وكسرها، وقيل: على الفتح مفعول ثانٍ لـ"سألوه"، ثم الكسر أوجه حتى يكون بيانًا للمسؤول، وهو مُجمَلٌ يُفسّره الأحاديث الآتية بعده، أي نجد في قلوبنا أشياء قبيحةً، أي مَنْ خَلَقَ الله؟ وكيف هو؟، ومن أيّ شيء هو؟، وما أشبه ذلك مما نتعاظم به؛ لعلمنا أنه لا يليق شيء منها أن نعتقده، ونعلمُ أنه تعالى قديمٌ، خالق الأشياء كلِّها، ليس بمخلوقٍ، فما حكم جريان هذه الأشياء في خواطرنا؟. انتهى

(2)

.

وقوله: (مَا يَتَعَاظَمُ)"ما" موصولة بمعنى "الذي" مفعول "نجد"، و"يتعاظم" بفتح أوله مضارع تعاظم، والتفاعل للمبالغة؛ لأن زيادة المبنى لزيادة المعنى، فإن الفعل الواحد إذا جرى بين اثنين تكون مزاولته أشقّ من مزاولته وحده، ولذا قيل: المفاعلة إذا لم تكن للمغالبة فهي للمبالغة، أي نستعظم غاية الاستعظام.

وقوله: (أَحَدُنَا) روي بالرفع، ومعناه: يجد أحدنا التكلّم به عظيمًا؛

(1)

"تنبيه المعلِم بمبهمات صحيح مسلم" ص 73.

(2)

"الكاشف عن حقائق السنن" 2/ 518.

ص: 618

لقبحه، ويجوز نصبه على نزع الخافض، أي يَعظم، ويشقّ التكلّم به على أحدنا (أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ)"أن" مصدريّة، والمصدر المؤوّل مفعول "يتعاظم"، أي يتعاظم التكلّمَ به.

(قَالَ: "وَقَدْ وَجَدْتُمُوهُ؟ ") قال القرطبيّ: كذا صحّت الرواية "وقد" بالواو، ومعنى الكلام: الاستفهام على جهة الإنكار والتعجّب، فيَحتمل أن تكون همزة الاستفهام محذوفةً، والواو للعطف، فيكون التقدير:"أوَ قد وجدتموه؟ "، ويَحْتَمِلُ أن تكون الواو عِوَض الهمزة، كما قرأ قُنبُل، عن ابن كثير:{قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ} ، قال أبو عمرو الدانيّ: هي عوضٌ من همزة الاستفهام، وهذه الواو مثلها، والضمير في "وجدتموه" عائد على التعاظم الذي دلّ عليه "يَتَعاظم". انتهى

(1)

.

ولفظ أحمد في "مسنده": "أوجدتم ذلك؟ "، ولفظ أبي داود:"أوَ قد وجدتموه"، قال القاري: والهمزة فيه للاستفهام التقريريّ، والواو المقرونة بها للعطف على مقدَّر: أي أحصلَ ذلك، وقد وجدتموه؟، والضمير لما يتعاظم، أي ذلك الخاطر في أنفسكم تقريرًا وتأكيدًا، فالوجدان المصادفة، أو المعنى: أحصلَ ذلك الخاطر القبيح، وعلمتم أن ذلك مذموم غير مرضيّ؟ فالوجدان بمعنى العلم. انتهى

(2)

.

(قَالُوا) أي الصحابة السائلون (نَعَمْ) أي قد وجدناه (قَالَ: "ذَاكَ) إشارة إلى مصدر "وَجَد"، أي وجدانكم قبحَ ذلك الخاطر، أو إلى مصدر "يتعاظم"، أي علمكم بفساد تلك الوساوس، وامتناع نفوسكم، وتجافيها عن التفوّه بها (صَرِيحُ الإيمَانِ") أي خالصه، يعني: أن ذلك أمارته الدالّة صريحًا على رسوخه في قلوبكم، وخلوصها من التشبيه والتعطيل؛ لأن الكافر يُصرّ على ما في قلبه من تشبيه الله سبحانه وتعالى بالمخلوقات، ويعتقده حسنًا، فمن استقبحها، وتعاظمها؛ لعلمه بقبحها، وأنها لا تليق به تعالى كان مؤمنًا صدقًا، فلا تُزعزعه شُبهةٌ، وإن قَوِيت، ولا تحُلّ عُقدة قلبه ريبةٌ، وإن مُوِّهت، وأما من كان إيمانه مشوبًا فيقبل الوسوسة، ولا يردّها.

(1)

"المفهم" 1/ 344.

(2)

"المرقاة" 1/ 241.

ص: 619

وقيل: المعنى: أن الوسوسة أمارة وجود الإيمان الصادق في القلب؛ لأن اللصّ لا يدخل البيت الخالي، والشيطان لصّ القلب.

وقال النوويّ: قوله صلى الله عليه وسلم: "ذلك صريح الإيمان"، و"محض الإيمان": معناه: استعظامكم الكلام به، هو صريح الإيمان، فإن استعظام هذا، وشدة الخوف منه، ومن النطق به، فضلًا عن اعتقاده، إنما يكون لمن استكمل الإيمان استكمالًا محققًا، وانتفت عنه الريبة والشكوك.

(واعلم): أن الرواية الثانية، وإن لم يكن فيها ذكر الاستعظام، فهو مراد، وهي مختصرة من الرواية الأولى، ولهذا قدم مسلم الرواية الأولى.

وقيل: معناه: أن الشيطان إنما يوسوس لمن أَيِسَ من إغوائه، فَيُنَكِّد عليه بالوسوسة؛ لعجزه عن إغوائه، وأما الكافر فإنه يأتيه من حيث شاء، ولا يقتصر في حقه على الوسوسة، بل يتلاعب به كيف أراد، فعلى هذا معنى الحديث: سبب الوسوسة محض الإيمان، أو الوسوسة علامةُ محض الإيمان، وهذا القول اختيار القاضي عياض

(1)

.

وقال القرطبيّ: والصريح، والمحض: الخالص الصافي، وأصله في اللبن، ومعنى الحديث أن هذه الإلقاءات، والوساوس التي تُلقيها الشياطين في صدور المؤمنين تنفر منها قلوبهم، وَيعظُم عليهم وقوعها عندهم، وذلك دليل صحّة إيمانهم ويقينهم ومعرفتهم بأنها باطلة، ومن إلقاءات الشيطان، ولولا ذلك لركنوا إليها، ولقبلوها، ولم تَعظُم عندهم، ولا سمّوها وسوسةً.

ولَمّا كان ذلك التعاظم، وتلك النَّفْرة ناشئًا عن ذلك الإيمان، عبَّر عن ذلك بأنه خالص الإيمان، ومحض الإيمان، وذلك من باب تسمية الشيء باسم الشيء؛ لمجاورته، أو لكونه سببًا له. انتهى كلام القرطبيّ ببعض تصرّف

(2)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: كلا المعنيين اللذين ذكرهما النوويّ صحيح موافق للحديث، إلا أن المعنى الثاني الذي اختاره عياض أنسب بظاهر الحديث، وقد أجاد في تقريره، وأفاد حيث قال ما خلاصته:

إن وسوسة الشيطان، وتحدّثه في نفس المؤمن إنما هو لإياسه من قبول

(1)

"شرح النوويّ" 2/ 154.

(2)

"المفهم" 1/ 344 - 345.

ص: 620

إغوائه، وتزيينه الكفر له، وعصمة المؤمن منه، فرجع إلى نوع من الكيد والمخاتلة بالإيذاء بحديث النفس بما يَكره المؤمن من خَفيّ الوساوس؛ إذ لا يطمع من موافقته له على كفر، وهذا لا يكون إلا من مؤمن صريح الإيمان، ثابت اليقين على محض الإخلاص، بخلاف غيره من كافر وشاكّ، وضعيف الإيمان، فإنه يأتيه من حيث شاء، ويتلاعب له كما أراد، والمؤمن معصوم منه، منافرٌ له، فلما لم يمكنه منه مراده رجع إلى شغل سرّه بتحديث نفسه، ودسّ كفره، بحيث يسمعه المؤمن، فيشوّش بذلك فكره، ويُكدِّر نفسه، ويؤذيه باستماعه له، كما قال صلى الله عليه وسلم:"الحمد لله الذي ردّ كيده إلى الوسوسة"

(1)

، إذ حقيقة هذه اللفظة: الصوت الخفيّ، ومنه وَسواس الْحُليّ لخفيّ صوته عند حركته، وبناء هذه الكلمة على التضعيف يدل على تكرار مُقتضاها، فإذن سبب الوسوسة محض الإيمان، وصريحه، والوسوسة لمن وَجَدها علامة على ذلك، كما قال صلى الله عليه وسلم، وكأنه صلى الله عليه وسلم لَمّا سئل عن الوسوسة، وما يوجد في النفس منها أخبر أن مُوجبها، وسببها محض الإيمان، أو أنها علامةٌ على ذلك.

ولا يبقى بعد هذا التقرير والتفسير إشكال في متون هذا الحديث على اختلاف ألفاظه، واطّردت على معنىً سَوِيٍّ قَوِيم، وعلى هذا يُحمل ما جاء في الأحاديث الأخر. انتهى كلام القاضي عياض

(2)

، وهو تحقيقٌ نفيس، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

(1)

هو ما أخرجه أحمد في "مسنده"، فقال:

(1993)

حدثنا وكيع، عن سفيان، عن منصور، عن ذرّ بن عبد الله الهمدانيّ، عن عبد الله بن شداد، عن ابن عباس، قال: جاء رجل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إني أُحَدِّث نفسي بالشيء، لأن أَخِرَّ من السماء أحب إليّ من أن أتكلم به، قال: فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الحمد لله الذي رَدَّ كيده إلى الوسوسة".

وأخرجه أبو داود في "سننه"(4448) بلفظ: جاء رجل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إن أحدنا يجد في نفسه يَعْرِض بالشيء لأن يكون حُمَمَة أحب إليه من أن يتكلم به، فقال: "الله أكبر

" الحديث.

(2)

"إكمال المعلم" 1/ 532 - 533.

ص: 621

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف.

(المسألة الثانيه): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا في "الإيمان"[63/ 347 و 348](132)، و (أبو داود) في "كتاب الأدب"(5111)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 397 و 441)، و (النسائيّ) في "عمل اليوم والليلة"(664)، و (البخاريّ) في "الأدب المفرد"(1284)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(227 و 228)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(340 و 341)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان أن استعظام الوسوسة، والنفرة منها من خالص الإيمان، وهو وجه المطابقة في إيراده في أبواب الإيمان.

قال الإمام ابن حبّان: إذا وجد المسلم في قلبه، أو خطر بباله من الأشياء التي لا يحلّ له النطق بها، من كيفيّة الباري جلّ وعلا، أو ما يُشبه هذه، فردّ ذلك على قلبه بالإيمان الصحيح، وترك العزم على شيء منها، كان ردّه إياها من الإيمان، بل هو من صريح الإيمان، لا أن الخطرات مثلها من الإيمان. انتهى

(1)

.

2 -

(ومنها): بيان ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم من شدّة اهتمام في الحذر من قلوبهم ما ينقص إيمانهم.

3 -

(ومنها): بيان ما ابتلى الله عز وجل عباده المؤمنين بتسليط الشيطان عليهم حتى يشكّكهم في ربّهم، إلا أنه تعالى يرحمهم برد كيده إلى الوسوسة التي لا تضرّ صاحبها.

4 -

(ومنها): الإعراض عن الوساوس، وعدم الالتفات إليها، والتوكّل على الله تعالى، والاستعاذة منها؛ لأنها من الشيطان؛ {لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [المجادلة: 10].

5 -

(ومنها): مشروعيّة سؤال العالم في كلّ ما يُصيب الإنسان، وأنه لا

(1)

"صحيح ابن حبّان بترتيب ابن بلبان" 1/ 360.

ص: 622

ينبغي له أن يسكت، وإن كان مما يُستحيى منه عادة؛ لأنه لا حياء في الحقّ، كما قالت أم سُليم رضي الله عنها للنبيّ صلى الله عليه وسلم: "يا رسول الله إن الله لا يستحيي من الحقّ، فهل على المرأة من غسل؟

"، متّفق عليه، وأخرج المصنّف من حديث عائشة رضي الله عنها، أنها قالت: "نِعم النساء نساء الأنصار، لم يكن يمنعنهنّ الحياء أن يتفقّهن في الدين"

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[348]

(

) - (وَحَدَّثنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ شُعْبَةَ (ح) وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ جَبَلَةَ بْنِ أَبِي رَوَّادٍ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو الْجَوَّابِ، عَنْ عَمَّارِ بْنِ رُزيقٍ، كِلَاهُمَا عَنِ الْأَعْمَش، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِهَذَا الْحَدِيثِ).

رجال هذا الإسناد: عشرة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ) أبو بكر بُنْدار تقدّم قبل بابين.

2 -

(ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ) هو: محمد بن إبراهيم بن أبي عديّ، تقدّم قبل بابين أيضًا.

3 -

(شُعْبَةُ) بن الحجّاج الإمام الحجة المشهور، تقدّم قريبًا.

4 -

(مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ جَبَلَةَ بْنِ أَبِي رَوَّادٍ) هو: محمد بن عمرو بن عَبّاد بن جَبَلَة بن أبي رَوّاد العتكيّ مولاهم، أبو جعفر البصريّ، صدوقٌ [11].

رَوَى عن محمد بن أبي عديّ، وغندر، وأبي عامر العَقَديّ، وأبي أحمد الزبيريّ، وحَرَميّ بن عُمَارة، وأبي قتُيَبة، وأُمية بن خالد، وبشر بن عمر الزَّهْرانيّ، وأبي الْجَوَّاب، وجماعة.

ورَوَى عنه مسلم، وأبو داود، ورَوَى البخاري حديثًا عن محمد بن عمرو، عن مكيّ بن إبراهيم، فقيل: هو هذا، وقيل: الْبَلْخيّ، وأبو بكر

(1)

سيأتي للمصنّف في "كتاب الحيض" برقم (332).

ص: 623

الأثرم، وابن أبي عاصم، وأبو زرعة، وبَقِيّ بن مَخْلَد، وعبدان بن أحمد الأهوازيّ، وعبد الله بن أحمد بن حنبل، وغيرهم.

قال علي بن الحسين: ثنا محمد بن عمرو بن جَبَلَة، وكان صدوقًا، وقال الآجريّ عن أبي داود: ثقة، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: يُغْرِبُ، ويخالف، ذكره ابن أبي عاصم فيمن مات سنة أربع وثلاثين ومائتين.

تفرّد به المصنّف، وأبو داود، وله في هذا الكتاب (18) حديثًا.

5 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ إِسْحَاقَ) هو: محمد بن إسحاق الصَّغَانيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ ثبتٌ [11](ت 270)(م 4) تقدم في "الإيمان" 4/ 116.

6 -

(أَبُو الْجَوَّابِ) - بفتح الجيم، وتشديد الواو، آخره باء موحّدة - هو: أحوص بن جَوَّاب الضبِيُّ الكوفيّ، صدوقٌ، ربّما وَهِمَ [9].

رَوَى عن سفيان الثوريّ، وسُعَير بن الْخِمْس، وعمار بن رُزيق الضبيّ، وغيرهم.

ورَوَى عنه محمد بن عبد الله بن نُمَير، وعليّ ابن المدينى، وابن أبي شيبة، وعباس بن عبد العظيم، وأبو خيثمة، وأبو بكر الصغانيّ، وغيرهم.

قال ابن معين: ثقة، وقال مَرَّةً: ليس بذاك القويّ، وقال أبو حاتم: صدوق، وقال ابن حبان في "الثقات"، كان مُتقنًا، رُبَّما وَهَم.

وقال مُطَيَّن: مات سنة (211).

أخرج له المصنّف، وأبو داود، والترمذيّ، والنسائيّ، وله في هذا الكتاب أربعة أحاديث فقط، هذا برقم (132)، وحديث (1536):"من كانت له أرض، فليَهَبها، أو ليُعرها"، و (2036): "إن هذا اتبعنا، فإن شئت أن تأذن له

"، و (2641): "المرء مع من أحبّ".

7 -

(عَمَّارُ بْنُ رُزيقٍ) - بتقديم الراء، مصغّرًا - الضَّبيّ، أو التميميّ، أبو الأحوص الكوفيّ، ثقةٌ

(1)

[8].

رَوَى عن أبي إسحاق السبيعيّ، والأعمش، ومنصور، وعبد الله بن

(1)

قال عنه في "التقريب": لا بأس به، والحقّ أنه ثقة، كما وصفه بذلك الأئمة، وليس فيه لأحد طعن، كما يظهر من ترجمته، فتبصّر.

ص: 624

عيسى بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، وعمّه محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، وعطاء بن السائب، ومغيرة بن مِقْسَم، وفِطْر بن خليفة، وغيرهم.

وروى عنه أبو الجوَّاب الأحوص بن جَوّاب، وأبو الأحوص سلام بن سليم الكوفيّ، وأبو أحمد الزُّبيريّ، وزيد بن الحباب، وعَبْثَر بن القاسم، ويحيى بن آدم، وغيرهم.

قال ابن معين، وأبو زرعة: ثقة، وقال أبو حاتم: لا بأس به، وقال الإمام أحمد: كان من الأثبات، وقال ابن شاهين في "الثقات": قال ابن المدينيّ: ثقة، وقال أبو بكر البزار: ليس به بأس، وقال النسائيّ: ليس به بأس، وقال لُوَين: هو ابن عم عبد الله بن شُبْرُمة من ولد ضِرَار الضبيّ، وكان أبو الأحوص يُعَظِّمه، قال لُوَين: قال أبو أحمد: لو كنتَ اختلفتَ إلى عمار بن رُزيق لكفاك، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: مات سنة تسع وخمسين ومائة.

أخرج له المصنّف، وأبو داود، والنسائيّ، وابن ماجه، وله في هذا الكتاب ثمانية أحاديث، هذا برقم (132)، وحديث (740):"يصلي من الليل حتى يكون آخر صلاته الوتر"، و (806): "بينما جبريل قاعد عند النبيّ صلى الله عليه وسلم

"، و (1480): "انتقلي إلى بيت ابن عمّك

"، وأعاده بعده، و (1536): "من كانت له أرض فليهبها

"، و (1618): "إن آخر سورة أنزلت تامة سورة التوبة

"، و (2036): "إن هذا اتّبعنا، فإن شئت أن تأذن له

"، و (2814): "ما منكم من أحد إلا وقد وُكِّل به قرينه

".

8 -

(الْأَعْمَشُ) سليمان بن مِهْرَان الإمام الحجة المشهور، تقدّم قريبًا، والباقيان ذُكِرا في السند الماضي، والله تعالى أعلم.

وقوله: (كِلَاهُمَا) الضمير لشعبة، وعمّار بن رُزيق، فإن كلًّا منهما يروي هذا الحديث عن الأعمش.

وقوله: (بِهَذَا الْحَدِيثِ) أي بالحديث الماضي.

[تنبيه]: رواية الأعمش التي أشار إليها المصنّف ساقها أبو عوانة في "مسنده"(2/ 78)، فقال:

(228)

حدثنا يونس بن حبيب، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا شعبة (ح)

ص: 625

وحدثنا محمد بن الخليل المخرمي، أبو جعفر، وأبو بكر محمد بن إسحاق الصَّغَانيّ، قالا: ثنا أبو الجوَّاب، قال: ثنا عمار بن رُزَيق، قال: ثنا الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال: جاء رجل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إني أُحَدِّث نفسي بالحديث، لأن أَخِرَّ من السماء أحبُّ إليَّ من أن أتكلم به، قال:"ذاك صريح الإيمان"، هذا لفظ عمّار.

ولفظ شعبة: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم سُئل عما يُحَدّث به الرجل نفسه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ذاك مَحْضُ الإيمان". انتهى.

وساقها أيضًا أبو نُعيم في "مستخرجه"(1/ 200) رقم (341) وقال: "الصريح": الخالص في كل شيء. انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[349]

(133) - (حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ الصَّفَّارُ، حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ عَثَّامٍ، عَنْ سُعَيْرِ بْنِ الْخِمْس، عَنْ مُغِيرَةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ الله، قَالَ: سُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْوَسْوَسَة، قَالَ: "تِلْكَ مَحْضُ الإيمَانِ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ الصَّفَارُ) أبو يعقوب الكوفيّ، مولى بني هاشم، ويقال: مولى بني أمية، ثقةٌ [10].

رَوَى عن أبي بكر بن عَيّاش، وعبد الله بن إدريس، ويحيى بن سعيد الأمويّ، وإسماعيل ابن عُلَيّة، وعليّ بن عَثّام العامريّ، ومَعْن بن عيسى القَزّاز، وغيرهم.

وروى عنه البخاريّ، ومسلم، وعبد الله بن أحمد، وموسى بن هارون، وأبو زرعة، وأبو حاتم، وأبو الأحوص، ويعقوب بن سفيان، وابن أبي الدنيا، وابن أبي عاصم، والحسن بن سفيان، وآخرون.

قال أبو حاتم: ثقةٌ من أهل الخير، وقال الآجريّ، عن أبي داود: ما سمعت إلا خيرًا، وقال ابن حبّان في "الثقات": كان يُغْرِب، وقال ابن قانع: صالح.

ص: 626

قال موسى بن هارون: مات سنة إحدى وثلاثين ومائتين، وكذا نَقَل أبو داود.

وليس له في البخاري سوى موضع واحد في الجهاد.

تفرّد به الشيخان، وله عند البخاريّ حديث واحد، في الجهاد، وعند المصنّف هذا الحديث فقط.

2 -

(عَلِيّ بْنُ عَثَّامٍ) - بفتح العين المهملة، وتشديد الثاء المثلّثة - بن عليّ العامريّ الكلابيّ، أبو الحسن الكوفيّ، نزيل نيسابور، ثقةٌ فاضلٌ [10].

رَوَى عن أبيه، وسُعَير بن الْخِمْس، وفضيل بن عياض، ومالك، وحماد بن زيد، وداود الطائيّ، وابن المبارك، وابن عيينة، وحفص بن غياث، وجماعة من أقرانه، وغيرهم.

وروى عنه إسحاق بن راهويه، ويوسف بن يعقوب الصفّار، والحسين بن جعفر بن منصور، وسلمة بن شبيب، ومحمد بن عبد الوهاب الفَرّاء، وهو راويته، وأبو حاتم، والذهليّ، وأحمد بن سعيد الدارميّ، وعلي بن الحسن الهلاليّ، وآخرون.

قال أبو حاتم: ثقةٌ، وقال الحاكم: أديبٌ، فقيهٌ، حافظٌ، زاهدٌ، واحد عصره، وكان لا يحدث إلا بعد الجهد، وأكثر ما حُمِل عنه الحكايات، وأقاويله في الرجال، وقال محمد بن عبد الوهاب الفَرّاء: ما رأيت مثله في العسر في الحديث، وكان يقول: يجيء الرجل، فيسأل، فإذا أَخَذ غَلِط، ويجيء الرجل، فيأخذ، ثم يُصَحِّف، ويجيء الرجل، فيأخذ ليُمَاري، ويجيء الرجل، فيأخذ ليباهي به، وليس عليّ أن أعلم هؤلاء إلا رجل يجيء فيَهْتَمّ لأمر دينه، فحينئذ لا يسعني أن أمنعه، وذكره ابن حبان في "الثقات".

قال الحاكم: ورد نيسابور سنة (205)، فسكنها، حتى خرج منه سنة (25) إلى طَرَسُوس، فسكنها إلى أن مات بها سنة ثمان وعشرين ومائتين.

تفرّد به المصنّف، والنسائيّ، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.

3 -

(سُعَيْرُ بْنُ الْخِمْسِ)"سُعير" - آخره راء، مصغّرًا - بن الْخِمْس - بكسر الخاء المعجمة، وسكون الميم، آخره سين مهملة - التميميّ، أبو مالك، ويقال: أبو الأحوص، صدوقٌ [7].

ص: 627

رَوَى عن أبي إسحاق السبيعيّ، وسليمان التيميّ، وزيد بن أسلم، والأعمش، ومغيرة، وهشام بن عروة، وحبيب بن أبي ثابت، وغيرهم.

وروى عنه ابن عيينة، وأبو الْجَوّاب، وحسين الْجُعْفيّ، وعاصم بن يوسف اليربوعيّ، وعليّ بن عَثّام العامريّ، ويحيى بن يحيى، وغيرهم.

قال عثمان الدارميّ: عن ابن معين: ثقة، وقال أبو حاتم: صالح الحديث، يُكتب حديثه ولا يحتج به، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال أبو الفضل بن عَمّار الشهيد: أخطأ في غير ما حديث، مع قِلّة ما رَوَى، وقال الترمذيّ: هو ثقة عند أهل الحديث، وقال ابن سعد: كان صاحب سنة، وعنده أحاديث، وقال الدارقطنيّ: ثقة.

وقال عبد الله بن داود الْخُرَيبيّ: شهدت سُعَير بن الْخِمْس، وقُرِّب إلى قبره ليُدْفَن، فتحرك عضو من أعضائه، فكُشِف الثوب عن وجهه، فإذا نَفَسُهُ، فَرُدّ إلى منزله، فوُلِد له مالك بن سُعير بعد ذلك.

تفرّد به المصنّف، والترمذيّ، والنسائيّ، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط، رفعه هو، وأرسله غيره، كما سيأتي بيانه، والجواب عنه في المسألة الثالثة - إن شاء الله تعالى -.

4 -

(مُغِيرَةُ) بن مِقْسم الضبيّ مولاهم، أبو هشام الكوفيّ الأعمى، ثقةٌ متقنٌ، إلا أنه كان يدلس، ولا سيّما عن إبراهيم [6](ت 136)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 25.

5 -

(إِبْرَاهِيمُ) بن يزيد بن قيس بن الأسود النخعيّ، أبو عمران الكوفيّ الفقيه، ثقة، يرسل كثيرًا [5](ت 96)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 52.

6 -

(عَلْقَمَةُ) بن قيس بن عبد الله النخعيّ الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ عابدٌ [2](ت بعد الستين، أو بعد السبعين)، (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 52.

7 -

(عَبْدُ اللهِ) بن مسعود رضي الله عنه المذكور قريبًا، والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سباعيّات المصنّف.

2 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالكوفيين، فالرواة كلهم كوفيّون.

ص: 628

3 -

(ومنها): أن عثّامًا، والد عليّ، وسُعيرًا، وأباه الْخِمس لا يُعرف لهم نظير في الأسماء.

4 -

(ومنها): أن فيه - على ما قاله النوويّ - ثلاثة من التابعين يروي بعضهم عن بعض: مغيرة، وإبراهيم، وعلقمة، وفي كون مغيرة تابعيًّا نظر؛ لأنه لم يلق صحابيًّا، ولذا جعله في "التقريب" من الطبقة السادسة، وهي التي عاصرت، وليس لها لقاء، إلا على قول من يكتفي بالمعاصرة، فتأمل، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ عَبْدِ اللهِ) بن مسعود رضي الله عنه أنه (قَالَ: سُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم) لم يُعرف السائل، كما قاله صاحب "التنبيه"(عَنِ الْوَسْوَسَةِ) أي عن حكمها، فهل تضرّ بالإيمان أم لا؟ (قَالَ:"تِلْكَ) أي الوسوسة (مَحْضُ الايمَانِ") أي استعظامكم لها، وشدّة خوفكم منها، ومن التكلّم بها خالص الإيمان؛ فإن استعظام مثل هذا، وشِدّة الخوف منه، ومن النطق به، فضلًا عن اعتقاده، إنما يكون لمن استكمل الإيمان استكمالًا محققًا، وانتفت عنه الرِّيبة والشكوك.

وهذه الرواية، وإن لم يكن فيها ذكر الاستعظام، فهو مراد، وهي مختصرة من حديث أبي هريرة رضي الله عنه الماضي، ولهذا قَدَّم المصنّف ذاك، قاله النوويّ.

وقال الخطابيّ: معناه: أن صريح الإيمان هو الذي يمنعكم من قبول ما يُلقيه الشيطان في أنفسكم، والتصديق به، وليس معناه أن الوسوسة نفسها صريح الإيمان، وذلك أنها إنما تتولّد من فعل الشيطان، وتسويله، فكيف يكون إيمانًا صريحًا؟. انتهى.

وقيل: معناه أن الشيطان إنما يوسوس لمن أَيِسَ من إغوائه، فيُنَكِّد عليه بالوسوسة؛ لعجزه عن إغوائه، وأما الكافر، فإنه يأتيه من حيث شاء، ولا يقتصر في حقه على الوسوسة، بل يتلاعب به كيف أراد، فعلى هذا معنى الحديث: سببُ الوسوسة محض الإيمان، أو الوسوسةُ علامةُ محض الإيمان، وهذا القول اختيار القاضي عياض، وقد تقدّم تحقيقه مستوفًى في شرح حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 629

[تنبيه]: في هذا الحديث قصّة ساقها أبو عوانة في "مسنده"(1/ 79)، فقال:

(229)

حدثنا محمد بن عبد الوهاب، قال سمعت عليّ بن عَثّام يقول: أتيت سُعَير بن الْخِمْس، فسألته عن حديث الوسوسة، فلم يحدثني، فأدبرت أبكي، ثم لقيني، فقال لي: تَعَالَ، حدثنا مغيرة، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله، قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يجد الشيءَ، لو خَرّ من السماء، فيخطفه الطير، كان أحب إليه من أن يتكلم به، قال:"ذاك محض، أو صريح الإيمان". انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا في "الإيمان"[63/ 349](133)، و (النسائيّ) في "عمل اليوم والليلة"(666)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(229)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(342)، و (ابن منده) في "الإيمان"(347)، و (الطحاويّ) في "مشكل الآثار"(2/ 251)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(59)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في بيان الانتقاد لهذا الحديث:

قد تقدّم في "مقدّمة شرح المقدّمة" أن هذا الحديث مما انتقده الحافظ أبو الفضل بن عمّار الشهيد المتوفّى سنة (317 هـ)، فقال في رسالته: وليس هذا الحديث عندنا بالصحيح؛ لأن جرير بن عبد الحميد، وسيلمان التيميّ روياه عن مغيرة، عن إبراهيم، ولم يذكرا علقمة، ولا ابن مسعود، وسُعَير ليس ممن يُحتَجّ به؛ لأنه أخطأ في غير حديث، مع قلّة ما أسنده من الأحاديث. انتهى

(1)

.

(1)

تقدّم في "شرح المقدّمة" 1/ 143.

ص: 630

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: حاصل ما انتقد به أبو الفضل على المصنّف أنه رجّح إرسال هذا الحديث على إسناده؛ لمخالفة سُعير للأكثر، والأوثق منه، لكن يُجاب عن المصنّف بأنه إنما أورد الحديث شاهدًّا لحديث أبي هريرة رضي الله عنه الذي أخرجه قبله، لا أصالةً، ومعلوم أن الشواهد يُغتفر فيها ما لا يُغتفر في الأصول، فليُتنبّه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[350]

(134) - (حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ مَعْرُوفٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادٍ، وَاللَّفْظُ لِهَارُونَ، قَالَا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيه، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا يَزَالُ النَّاسُ يَتَسَاءَلُونَ، حَتَّى يُقَالَ: هَذَا خَلَقَ اللهُ الْخَلْقَ، فَمَنْ خَلَقَ اللهَ؟ فَمَنْ وَجَدَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا، فَلْيَقُلْ: آمَنْتُ بِاللهِ").

رجال هذا الإسناد: ستةٌ:

1 -

(هَارُونُ بْنُ مَعْرُوفٍ) أبو عليّ الْخَزّاز الضرير المروزيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ [10].

رَوَى عن الدَّرَاورديّ، وابن المبارك، وهشيم، ويحيى بن أبي زائدة، وابن عيينة، وابن وهب، وبِشْر بن السَّرِيّ، وحاتم بن إسماعيل، والوليد بن مسلم، ومروان بن شُجَاع، وغيرهم.

وروى عنه مسلم، وأبو داود، وروى البخاري عن محمد بن عبد الرحيم البزاز، ومحمد بن عبد الله المخرّميّ عنه، وحَدّث عنه أحمد بن حنبل، وهو حيّ، وأبو حاتم، وأبو زرعة، والذُّهْليّ، ويعقوب بن شيبة، وأبو بكر بن أبي خيثمة، وجماعة.

قال ابن معين، والعجليّ، وأبو زرعة، وأبو حاتم، وصالح بن محمد: ثقة، وقال ابن قانع: ثقةٌ ثبتٌ.

وقال ابن أبي حاتم: سمع منه أبي من حفظه ببغداد سنة خمس عشرة ومائتين بعدما عَمِي، وقال أبو داود: سمعت الثقة يقول: قال هارون بن

ص: 631

معروف: رأيت في المنام قيل لي: من آثر الحديث على القرآن عُذِّب، قال: فظننت أن ذهاب بصري من ذلك، قال ابن أبي خيثمة: سمعته في شوال في سنة سبع وعشرين ومائتين يقول: أنا في سبعين سنة، ومات سنة إحدى وثلاثين، وفيها أرّخه غير واحد، زاد أبو القاسم البغويّ: في رمضان.

أخرج له البخاريّ، والمصنّف، وأبو داود، وله في هذا الكتاب (33) حديثًا.

2 -

(مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادٍ) بن الزبْرقان المكيّ، نزيل بغداد، صدوقٌ يَهِمُ [10](ت 234)(خ م ت س ق) تقدم في "المقدمة" 4/ 19.

3 -

(سُفْيَانُ) بن عيينة الإمام المشهور، تقدّم قريبًا.

4 -

(هِشَام) بن عروة الأسديّ، أبو المنذر المدنيّ، ثقةٌ فقيهٌ ربما دلّس [5](ت 145)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 350.

5 -

(أَبُوهُ) عروة بن الزبير بن العوّام الأسديّ، أبو عبد الله المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ [3](ت 94)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 407.

6 -

(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه تقدم في "المقدمة" 2/ 4، والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخيه، فالأول تفرّد به هو، والبخاريّ، وأبو داود، والثاني ما أخرج له أبو داود.

3 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، والابن عن أبيه: هشام عن أبيه.

4 -

(منها): أن عروة أحد الفقهاء السبعة المشهورين بالمدينة، وقد تقدّموا غير مرّة، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه، وقد سبق الكلام عنه قريبًا، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا يَزَالُ النَّاسُ يَتَسَاءَلُونَ) أي يسأل بعضهم بعضًا عن العلوم والموجودات، والتساؤل جريان

ص: 632

السؤال بين اثنين فصاعدًا، ويجوز أن يكون بين العبد والشيطان، أو النفس، أو إنسان آخر: أي يجري بينهما السؤال في كلّ نوع، (حَتَّى) يبلغ السؤال إلى أن (يُقَالَ) بالبناء للمفعول، وقد بُيِّن الفاعل في الروايات الآتية بأنه الشيطان، أو أنهم القائلون، ففي الرواية الثانية، والثالثة، والرابعة:"يأتي الشيطان أحدكم، فيقول"، وفي الرواية الخامسة، والسادسة:"حتى يقولوا": أي في أنفسهم، أو لغيرهم، (هَذَا خَلَقَ اللهُ الْخَلْقَ) قال التوربشتيّ: لفظ "هذا" يحتمل وجهين:

[أحدهما]: أن يكون مفعولًا، والمعنى: حتى يقال هذا القول.

[والثاني]: أن يكون مبتدأ حُذف خبره: أي هذا القول، أو قولك هذا قد عُلم، أو عُرِف. قال: رواه مسلم في كتابه على هذا السياق عن أبي هريرة رضي الله عنه، ورواه أيضًا عن أنس رضي الله عنه، وفي روايته:"يقال: هذا الله خَلَقَ الخلقَ"، كذلك رواه البخاريّ في كتابه عن أبي هريرة رضي الله عنه، والحديث على السياق محتمِلٌ لوجه آخر سوى الوجه الذي ذكرناه أوّلًا، وهو أن يكون "هذا الله" مبتدأ وخبرًا، أو "هذا" مبتدأ، و"الله" عطف بيان، و"خَلَقَ الله الخلقَ" خبره، وأكثر رواة هذا الحديث يروونه على هذا السياق، وكلا السياقين صحيح.

قال الطيبيّ بعد ذكره كلام التوربشتيّ: قوله: "هذا" مبتدأ حُذف خبره، أولى الوجوه، لكن تقديره على ما ذكره، وذلك أن يقال: هذا مقرَّرٌ، أو مُسلَّمٌ، وهو أن الله تعالى "خَلَقَ الخلقَ"، فما تقول في "الله"؟، فإن الله تعالى شيء، لقوله عز وجل:{قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ} الآية [الأنعام: 19]، وكلُّ شيء مخلوقٌ؛ لقوله عز وجل:{وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الأنعام: 101] فمن خلقه؟ فعلى هذا، الفاء رتّبت ما بعدها على ما قبلها، وقوله:"خَلَقَ اللهُ الخلقَ" بيانٌ لقوله: هذا مسلّمٌ، وبهذا المعنى لا يستقيم أن يقال: إن هذا مقول، وما بعده بيان له؛ لأن الفاء تدفعه.

ووجه آخر، وهو أن يقدّر: هذا القول مقرَّرٌ، فوُضِعَ "خَلَقَ اللهُ الخلقَ" موضع القول، كقوله تعالى:{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ} الآية [البقرة: 11]، أي إذا قيل لهم هذا القول؛ لأن {لَا تُفْسِدُوا} فعل لا يقع مفعولًا إلا

ص: 633

على التأويل، وهذا القول كُفْرٌ، فمن تكلّم به، فليتداركه بكلمة الإيمان، وليقل: آمنت بالله خالق كلّ شيء، وليس بمخلوق، ولا يُتصوَّر كُنْهَه وَهْمٌ ولا خَيَال، ولا يحضره فهم ولا مثال. انتهى كلام الطيبيّ بتصرّف

(1)

.

(فَمَنْ خَلَقَ اللهَ؟) الفاء فصيحيّة؛ سميّت بذلك لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدّر كما يأتي، و"من" استفهاميّة مبتدأ، والجملة بعده خبره، والجملة جواب الشرط المقدّر، أي إذا ثبت أن الله تعالى خلق كلّ الخلق، فمن خلق

إلخ؟.

(فَمَنْ وَجَدَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا) إشارة إلى القول المذكور، و"من ذلك" حالٌ من "شيئًا"، أي من صادف شيئًا من ذلك القول والسؤال، أو وجد في خاطره شيئًا من جنس ذلك المقال، قاله القاريّ

(2)

. (فَلْيَقُلْ) أي فورًا من حينه (آمَنْتُ بِاللهِ) زاد في الرواية التالية: "ورُسُله"، ولأبي داود، والنسائيّ من الزيادة:"فقولوا: الله أحد، الله الصمد، السورةَ، ثم لْيَتْفُل عن يساره، ثم ليستعذ"، ولأحمد من حديث عائشة:"فإذا وَجَدَ أحدكم ذلك، فليقل: آمنت بالله ورسوله، فإن ذلك يَذْهَبُ عنه"

(3)

.

قال القرطبيّ: قوله: "قل: آمنت بالله" أمرٌ بتذكّر الإيمان الشرعيّ، واشتغال القلب به؛ لتمحى تلك الشبهات، وتضمحلّ تلك التّرّهات، وهذه كلها أدوية للقلوب السليمة الصحيحة المستقيمة التي تَعْرِضُ التّرّهاتُ لها، ولا تمكُثُ فيها، فإذا استُعملت هذه الأدوية على نحو ما أمر به بقيت القلوب على صحّتها، وحُفِظت سلامتها.

فأما القلوب التي تمكّنت أمراض الشُّبَه فيها، ولم تقدِر على دفع ما حلّ بها بتلك الأدوية المذكورة، فلا بدّ من مشافهتها بالدليل العقليّ، والبرهان القطعيّ، كما فَعَل النبيّ صلى الله عليه وسلم مع الذي خالطته شبهة الإبل الْجُرْبِ حين قال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"لا عَدْوَى"، فقال أعرابيّ: فما بال الإبل تكون في الرمل كأنها

(1)

"الكاشف عن حقائق السنن" 2/ 519 - 520.

(2)

"المرقاة" 1/ 243.

(3)

راجع: "الفتح" 13/ 287 "كتاب الاعتصام بالكتاب والسنّة" رقم (7296).

ص: 634

الظباء، فإذا دخل فيها البعير الأجرب أجربها؟، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"فمن أعدى الأول؟ "، متّفقٌ عليه، فاستأصل الشبهة من أصلها.

وتحرير ذلك على طريق البرهان العقليّ أن يقال: إن كان الداخل أجربها، فمن أجربه، فإن كان أجربه بعيرٌ آخر كان الكلام فيه كالكلام في الأول، فإما أن يتسلسل، أو يدور، وكلاهما محال، فلا بدّ أن نقف عند بعير أجربه الله من غير عَدْوَى، وإذا كان كذلك، فالله تعالى هو الذي أجربها كلّها: أي خَلَقَ الْجَرَبَ فيها. انتهى

(1)

.

وفي الرواية التالية: "فإذا بلغ ذلك، فليستعذ بالله، ولْيَنْتَهِ": أي ليَكُفّ عن الاسترسال معه في ذلك، بل يلجأ إلى الله في دفعه، وليَعْلَمْ أنه يريد إفساد دينه وعقله بهذه الوسوسة، فينبغي أن يجتهد في دفعها بالاشتغال بغيرها.

قال الخطابيّ: وجهُ هذا الحديث أن الشيطان إذا وسوس بذلك، فاستعاذ الشخص بالله منه، وكَفّ عن مطاولته في ذلك اندفع، قال: وهذا بخلاف ما لو تَعَرَّض أحد من البشر بذلك، فإنه يمكن قطعه بالحجة والبرهان، قال: والفرق بينهما أن الآدمي يَقَع منه الكلام بالسؤال والجواب، والحالُ معه محصور، فإذا راعى الطريقة، وأصاب الحجة انقطع، وأما الشيطان فليس لوسوسته انتهاء، بل كلّما أُلزم حجة زاغ إلى غيرها، إلى أن يفضي بالمرء إلى الحيرة، نعوذ بالله من ذلك.

قال: على أن قوله: "فمَن خَلَق الله" كلام متهافتٌ ينقض آخره أوله؛ لأن الخالق يستحيل أن يكون مخلوقًا، ثم لو كان السؤال مُتّجهًا لاستلزم التسلسل، وهو محال، وقد أثبت العقل أن المحدثات مفتقرة إلى مُحْدِثٍ، فلو كان هو مفتقرًا إلى مُحْدِث لكان من المحدثات. انتهى.

قال الحافظ: والذي نحا إليه الخطابيّ من التفرقة بين وسوسة الشيطان ومخاطبة البشر فيه نظر؛ لأن في رواية المصنّف الآتية: "لا يزال الناس يتساءلون، حتى يقال: هذا خَلَقَ اللهُ الخلقَ، فمن خلق الله؟ فمن وَجَدَ من ذلك

(1)

"المفهم" 1/ 345 - 346.

ص: 635

شيئًا، فليقل: آمنت بالله"، فسَوَّى في الكفّ عن الخوض في ذلك بين كل سائل عن ذلك، من بشر وغيره.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: تعقّب الحافظ لكلام الخطابي في تفرقته المذكورة حسنٌ جدًّا.

وحاصله أن النصّ لم يفرّق بين نوع ونوع، بل سوّى بينهم، فلا ينبغي التفريق، فتنبّه لذلك، والله تعالى أعلم.

وقال ابن بطّال: إن هذا السؤال: "من خَلَقَ الله؟ " لا ينشأ إلا عن جهل مُفرِط، فإن الموسوس إن قال: ما المانع أن يخلُق الله تعالى نفسه؟، قيل له: هذا ينقض بعضه بعضًا؛ لأنك أثبتّ خالقًا، وأوجبت وجوده، ثم قلت: يخلُقُ نفسه، فأوجبت عدمه، والجمع بين كونه موجودًا معدومًا فاسد؛ لتناقضه؛ لأن الفاعل يتقدّم وجوده على وجود فعله، فيستحيل كون نفسه فعلًا له. انتهى.

وقال ابن التين: لو جاز لمخترع الشيء أن يكون له مخترع لتسلسل، فلا بدّ من الانتهاء إلى موجد قديم، والقديم من لا يتقدّمه شيء، ولا يصحّ عدمه، وهو فاعل لا مفعول، وهو الله تبارك وتعالى. انتهى.

وقال النوويّ قوله: "فليستعذ بالله، ولينته": معناه: الإعراض عن هذا الخاطر الباطل، والالتجاء إلى الله تعالى في إذهابه.

قال المازريّ: ظاهر الحديث أنه صلى الله عليه وسلم أمرهم أن يدفعوا الخواطر بالإعراض عنها، والرّدّ لها من غير استدلال، ولا نظر في إبطالها، قال: والذي يقال في هذا المعنى: إن الخواطر على قسمين: فأما التي ليست بمستقرّة، ولا اجتلبتها شبهة طرأت، فهي التي تُدفَع بالإعراض عنها، وعلى هذا يُحْمَل الحديث، وعلى مثلها يَنطلق اسم الوسوسة، فكأنه لَمّا كان أمرًا طارئًا بغير أصل، دُفِع بغير نظر في دليل؛ إذ لا أصل له يُنظَر فيه، وأما الخواطر المستقِرَّة التي أوجبتها الشبهة، فإنها لا تُدفع إلا بالاستدلال، والنظر في إبطالها. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هكذا فرّق المازريّ بين الخواطر المستقرّة

(1)

"شرح النوويّ" 2/ 155.

ص: 636

وغير المستقرّة، وحمل الحديث على غير المستقرّة، وأما المستقرّة، فلا ينفعها ما ذكره النبيّ صلى الله عليه وسلم من الداء، وهكذا نقل النوويّ وصاحب "الفتح" عنه، وأقرّوه عليه، وهذا من الغريب، فإن الرسول الذي أرسله الله تعالى لهداية الخلق أجمعين، وإزالة الشُّبَه بأنواعها يصف دواء لهذا الداء، هو من أدوى الأدواء حيث إنه يوسوس في الخالق سبحانه وتعالى، فيقول:"فإذا بلغ ذلك، فليستعذ بالله، ولينته"، وما فصّل وما فرّق بين ما استَحْكَم من هذا الداء، وبين ما لم يستحكم، بل أطلق إرشاده، وبيّن أن دواءه هو هذا، وهو في مقام البيان، يحتاج إلى أن يبيّن للأمة الأميّة أتمّ البيان، فلو كان الأمر يحتاج إلى ذلك، لما سكت عنه، فلا يسع العاقل إلا أن يستعمل النصّ العامّ على عمومه، ولا يحمله على الخصوص بدون حجة.

ثم إن هذا الذي ذكره المازريّ من أن الخواطر المستقرّة لا تُدفع إلا بالاستدلال والنظر هو الذي فتح باب الشُّبه والأفكار الخاطئة على المتكلّمين، وأذنابهم، فتاهوا في فيافي الحيرة، ووقعوا في جُحر الشكّ والارتياب لدى بحثهم عن حقيقة ربّ الأرباب، فصار النتيجة أن خرجوا من الدنيا مرتابين معرضين عن ربّهم، متحيّرين هائمين، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

وبالجملة، فهذا الباب مرجعه الصحيح، ودواؤه المريح هو الذي جاء في كتاب الله تعالى، وسنّة نبيّه صلى الله عليه وسلم، كما أرشد إليه ربنا سبحانه وتعالى، حيث يقول:{وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [آل عمران: 101]، {قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158)} [الأعراف: 158]، {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (54)} [النور: 54].

وهذا هو منهج السلف الأسلم الأعلم الأحكم، وقد تقدّم ذكر ما نُقل عن الأئمة المعتبرين الذي سلكوا مسلك المتكلّمين، ثم هداهم الله إلى طريقة السلف، وتابوا عن طريق المتكلّمين، فحذّروا الناس من اتباع طريقة المتكلّمين، كالجوينيّ، والغزاليّ، والرازيّ، والشهرستانيّ مستوفًى في المسائل

ص: 637

التي ذُكرت في شرح حديث جبريل؛ أولَ "كتاب الإيمان"، فراجعه تزدد علمًا، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

[تنبيه]: ذكر في "الفتح": أنه وقع نحوُ هذه المسألة في زمن الرشيد في قصة له مع صاحب الهند، وأنه كتب إليه: هل يقدر الخالق أن يخلق مثله؟ فسأل أهل العلم، فبَدَرَ شابّ، فقال: هذا السؤال مُحالٌ؛ لأن المخلوق مُحْدَث، والمحدَث لا يكون مثل القديم، فاستحال أن يقال: يقدر أن يخلق مثله، أو لا يقدر، كما يستحيل أن يقال في القادر العالم: يقدر أن يصير عاجزًا جاهلًا. انتهى

(1)

. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا في "الإيمان"[63/ 350 و 351 و 352 و 353](134) و [63/ 354 و 355 و 356 و 357](135)، و (البخاريّ) في "بدء الخلق"(3276)، و (أبو داود) في "السنّة"(4721)، و (النسائيّ) في "عمل اليوم والليلة"(661 و 662 و 663)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 282 و 317 و 331 و 387 و 539)، و (الحميديّ) في "مسنده"(1153)، و (الدارميّ) في "الردّ على الجهميّة"(ص 9 و 10)، و (الطبرانيّ) في "الدعاء"(1256 و 1266 و 1267 و 1268)، و (ابن السّنّيّ) في "عمل اليوم والليلة"(625)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(233 و 234 و 236 و 237 و 238)، و (أبو نُعيم) في "مستخرجه"(343 و 344 و 345 و 346 و 347 و 348 و 349 و 350)، و (ابن منده) في "الإيمان"(352 و 253 و 354 و 355 و 357 و 358 و 359 و 360 و 361 و 362 و 363 و 364)، (وابن حبّان) في "صحيحه"(6722)، و (اللالكائيّ) في "السنّة"(925 و 926)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(61 و 62)، والله تعالى أعلم.

(1)

"الفتح" 13/ 288 "كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة" رقم (7296).

ص: 638

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان أن الوسوسة لا تضرّ بالإيمان؛ لأنها مجرّد تلبيس الشيطان، وهذا وجه المطابقة في إيراده هنا.

2 -

(ومنها): وجوب الإعراض عن هذه الوساوس، وعدم الإصغاء إليها، والالتجاء إلى الله تعالى في دفع شرّه عنه، وأن يعلم العبد أن هذا الخاطر من وسوسة الشيطان، وهو إنما يسعى بالفساد والإغواء، فليُعْرِض عن الإصغاء إلى وسوسته، وليبادر إلى قطعها بالاشتغال بغيرها.

3 -

(ومنها): وجوب تجديد الإيمان كلما وَجَد الإنسان في قلبه شيئًا من الوسواس، فيقول: آمنت بالله، ورسوله صلى الله عليه وسلم.

4 -

(ومنها): وجوب الاستعاذة بالله تعالى، والالتجاء إليه في دفع وساوس الشيطان؛ لأنه القادر عليه، قال الله عز وجل:{إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42)} [الحجر: 42]، وقال:{إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا (65)} [الإسراء: 65].

5 -

(ومنها): أن يجعل العبد عداوة الشيطان نُصبَ عينيه دائمًا، ويتذكّرَ بالاستمرار قوله عز وجل:{يَابَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (27)} [الأعراف: 27]، وقوله عز وجل:{إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ (6)} [فاطر: 6]، وقوله عز وجل:{قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17)} [الأعراف: 16 - 17].

فإذا علم العبد ذلك، وأنه عدوّ لدود، لا يمكن التغلّب عليه، فإن العدوّ إذا كان يُرَى أمكن مدافعته، وأما العدوّ الذي لا يُرى، فلا يمكن الحذر منه، فما بقي للعبد إلا أن يلجأ إلى الذي يراه، ويقدر على دفعه، وهو الله سبحانه وتعالى، فقد أمر باتخاذه عدوًّا، مع إعلامه بأنه يرانا من حيث لا نراه، ثم أخبرنا بأنه ليس له سبيل إلى التسلّط وإلحاق الضرر بعباده، فقال:{إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} ، فبيّن أن الطريق الوحيد في دفعه الالتجاء إليه، والاستعاذة به، والتحصّن بالتوكّل عليه، {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ}

ص: 639

[الزمر: 36]، فيا سعادة من توكّل عليه، {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3]، ويا فوز من اتقاه، والتجأ في أموره إليه، {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق: 2]، اللهم اجعلنا ممن توكّل عليك، فكفيته، واتقاك، فأنلته بُغيته، آمين.

6 -

(ومنها): أن فيه إشارةً إلى ذَمّ كثرة السؤال عما لا يَعْنِي المرء، وعما هو مُسْتَغْنٍ عنه.

7 -

(ومنها): أن فيه عَلَمًا من أعلام النبوة؛ حيث أخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم بوقوع ذلك، كما أخبر بذلك أبو هريرة رضي الله عنه في حديثه الآتي، حيث قال:"قد سألني اثنان، وهذا الثالث"، أو:"سألني واحد، وهذا الثاني"، وذكر أيضًا أن ناسًا من الأعراب سألوه، ولذا قال:"صدق الله ورسوله صلى الله عليه وسلم"، {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)} [النجم: 3، 4].

8 -

(ومنها): بيان وسوسة الشيطان، وعلاجها، وهو الاستعاذة، فإنه يندفع بذلك.

9 -

(ومنها): الأمر بالكفّ عن التفكير عند خوف الزلل، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[351]

(

) - (وَحَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ، حَدَّثَنَا أَبُو النَّضْر، حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْمُؤَدِّبُ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "يَأْتِي الشَّيْطَانُ أَحَدَكُمْ، فَيَقُولُ: مَنْ خَلَقَ السَّمَاءَ؟ مَنْ خَلَقَ الْأَرْضَ؟ فَيَقُولُ: اللهُ ثُمَّ ذَكَرَ بِمِثْلِه، وَزَادَ: "وَرُسُلِهِ").

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ) الْعَدويّ مولاهم، أبو أحمد المروزيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ [10](ت 239)(خ م ت س ق) تقدم في "المقدمة" 6/ 81.

2 -

(أَبُو النَّضْرِ) هاشم بن القاسم بن مسلم الليثيّ مولاهم البغداديّ، مشهور بكنيته، ولقبه قيصر، ثقةٌ ثبتٌ [9](ت 207) وله (73) سنة (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 36.

ص: 640

3 -

(أَبُو سَعِيدٍ الْمُؤَدِّبُ) محمد بن مسلم بن أبي الوضّاح، واسمه المثنّى الْقُضَاعيّ الْجَزَريّ، نزيل بغداد، مشهور بكنيته، ثقةٌ

(1)

[8].

رَوَى عن هشام بن عروة، ويحيى بن سعيد الأنصاريّ، وعبد الكريم بن مالك الْجَزَريّ، وسليمان التيميّ، والأعمش، وثابت بن أبي سعيد، ومِسْعَر، وغيرهم.

ورَوَى عنه ابنه مهديّ، وأبو النضر، ويحيى بن حَسّان، وأبو داود، وأبو الوليد الطيالسيان، ومنصور بن أبي مُزاحِم، وداود بن عمرو، ومحمد بن بَكَار بن الرّيّان.

قال أحمد، وابن معين، والعجليّ، والنسائيّ، وأبو حاتم: ثقة، وقال أبو داود: جَزَريّ ثقة، مُعَلِّم موسى الخليفة، وقال يعقوب بن سفيان: كان مُؤَدِّب موسى قبل أن يُسْتَخْلَف، وهو ثقة، وقال البخاريّ: فيه نظر، وقال يعقوب بن عُقْدة، عن عبد الله بن إبراهيم بن قُتيبة: سئل ابن نُمير عن أبي سعيد، فقال: صالحٌ لا بأس به، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: مستقيم الحديث، وقال ابن سعد: مات في خلافة موسى الهادي، وكان ثقة، وقال أبو زرعة: بصريّ ثقةٌ، وقال ابن شاهين في "الثقات": قال أحمد بن صالح: ثقة ثقة، قالها مرتين.

أخرج له البخاريّ في التعاليق، والمصنّف هذا الحديث فقط، والأربعة.

4 -

(هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ) تقدّم في السند الماضي.

وقوله: (بِهَذَا الْإِسْنَادِ) أي بإسناد هشام المذكور قبله.

وقوله: (يَأْتِي الشَّيْطَانُ) أي إبليس، أو أحد أعوانه (أَحَدَكُمْ) تقدّم أن مثل هذا ليس المقصود به الرجال فقط، فإن النساء في هذا مثلهم، وإنما وجّه الخطاب إليهم، وخصّهم به؛ لكونهم الذين حضروا مجلس تحديثه صلى الله عليه وسلم، فليُتنبّه، والله تعالى أعلم.

(1)

قال في "التقريب": صدوقٌ يَهِمُ، وعندي أنه ثقة، كما يظهر من توثيق الجمهور له، وأما قول البخاريّ:"فيه نظر" مجملًا، في مقابلة توثيق هؤلاء الأئمة المفصّل، فمحلّ نظر، ولعله في حديث خاصّ أخطأ فيه، فاقرأ أقوال الأئمة في ترجمته بتأمل، يظهر لك ما قلته، والله تعالى أعلم.

ص: 641

وقوله: (فَيَقُولُ: اللهُ) أي يقول المسلم الذي سأله الشيطان السؤال المذكور جوابًا عنه: الله هو الذي خلق السماء والأرض.

وقوله: (ثُمَّ ذَكَرَ بِمِثْلِه، وَزَادَ: "وَرُسُلِهِ") الضمير لأبي سعيد المؤدّب: أي ذكر أبو سعيد في روايته عن هشام بن عروة بمثل رواية سفيان بن عيينة عنه، وزاد في آخر الحديث قوله:"ورُسُله".

[تنبيه]: رواية أبي سعيد المؤدّب التي أحالها المصنّف على رواية سفيان بن عيينة ساقها الحافظ ابن منده في "الإيمان"(1/ 478)، فقال:

(353)

أنبأ حَسّان بن محمد، أبو الوليد، ثنا جعفر بن أحمد بن نصر وغيره، قال: ثنا محمود بن غَيْلان، ثنا أبو النَّضْر، هاشم بن القاسم، ثنا أبو سعيد المؤدِّب، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن أبي هريرة، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"يأتي الشيطان أحدَكم، فيقول: مَنْ خَلَقَ السماء؟، ومن خَلَق الأرض؟، فيقول: الله، فيقول: مَن خَلَق الله؟ فمَن وَجَدَ من ذلك شيئًا، فليقل: آمنت بالله ورُسُلِه". انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[352]

(

) - (حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، جَمِيعًا عَنْ يَعْقُوبَ، قَالَ زُهَيْرٌ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَخِي ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَمِّه، قَالَ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْر، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "يَأْتِي الشَّيْطَانُ أَحَدَكُمْ، فَيَقُولُ: مَنْ خَلَقَ كَذَا وَكَذَا؟ حَتَّى يَقُولَ لَهُ: مَنْ خَلَقَ رَبَّكَ؟ فَإِذَا بَلَغَ ذَلِكَ، فَلْيَسْتَعِذْ بِالله، وَلْيَنْتَهِ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ) أبو محمد الْكِسّيّ، ثقةٌ حافظ [11](ت 249)(خت م ت) تقدم في "الإيمان" 7/ 131.

2 -

(يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف

ص: 642

الزهريّ، أبو يوسف المدنيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ فاضلٌ، من صغار [9](ت 208)(ع) تقدم في "الإيمان" 9/ 141.

3 -

(ابْنُ أَخِي ابْنِ شِهَابٍ) هو: محمد بن عبد الله بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب بن عبد الله بن الحارث بن زُهْرَة الزهريّ، أبو عبد الله المدنيّ، صدوقٌ له أوهامٌ [6].

رَوَى عن أبيه، وعمّه، وصالح بن عبد الله بن أبي فَرْوَة، وعِدَّةٍ.

ورَوَى عنه محمد بن إسحاق، وهو أكبر منه، وعبد الرحمن بن إسحاق المدنيّ، ومات قبله، وإبراهيم بن سعد، وأمية بن خالد الأزديّ، وأبو أويس المدني، وعبد العزيز بن محمد الدّرَاوَرْديّ، ويعقوب بن إبراهيم بن سعد، والقعنبيّ، وغيرهم.

قال أبو طالب، عن أحمد: لا بأس به، وقال مرَّةً: صالح الحديث، وقال عثمان الدارميّ، عن يحيى: ضعيف، وقال ابن أبي خيثمة، عن ابن معين: ليس بذاك القويّ، وقال مرّةً: صالح، وقال الدُّوريّ، عن ابن معين: ابن أخي الزهريّ أحب إليّ من ابن إسحاق في الزهريّ، وقال العقيليّ، عن ابن معين: ضعيف، لا يُحْتَجّ بحديثه، قال: وأما محمد بن يحيى، فجعله من الطبقة الثانية، من أصحاب الزهريّ، مع أسامة بن زيد، وابن إسحاق، وأبي أويس، وفُلَيح، قال: وهؤلاء كلهم في حال الضعف والاضطراب، قال: وقال محمد بن يحيى: إذا اختَلَفَ أصحاب الطبقة الثانية، كان الْمَفْزَع إلى أصحاب الطبقة الأولى، قال: وقد رَوَى ابن أخي الزهري ثلاثة أحاديث، لم نجد لها أصلًا، فذكر حديثه عن عمه، عن سالم، عن أبي هريرة، رفعه:"كُلُّ أمتي مُعَافًى إلا المجاهرون"، وبه عن أبي هريرة، قوله إذا خطب: "كلُّ ما هو آتٍ قريب

" الحديث، والثالث حديثه عن امرأته، أم الحجاج بنت الزهريّ، قالت: كان أبي: يأكل بكفّه، فقلت: لو أكلتَ بثلاث أصابع، قال: إن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يأكل بكفّه كلِّها، وقال أبو حاتم: ليس بالقويّ، يُكتَبُ حديثه، وقال الآجريّ: سئل أبو داود عن ابن أخي الزهريّ، فقال: لم أسمع أحدًا يقول فيه بشيء، إلا أن أحمد بن صالح، حَكَى عن ابن أبي أُويس، قال أبو داود: طوبى لابن أبي أويس، أن يقاربه، وقال مرة أخرى: سألت أبا داود

ص: 643

عنه، فقال: ثقةٌ، سمعت أحمد يُثْنِي عليه، وأخبرني عباس، عن يحيى بالثناء عليه، وقال ابن عديّ: لم أر بحديثه بأسًا، ولا رأيت له حديثًا منكرًا، فأذكره، إذا روى عنه ثقةٌ.

وقال الواقديّ: قتله غلمانه بأمر ابنه لأمواله بناحية شغب وبَدا، وكان ابنه سفيهًا شاطرًا، قتله للميراث، وذلك في آخر خلافة أبي جعفر سنة (152)، وليس له عقب، وكان كثير الحديث، صالحًا.

وقال ابن حبان: مات سنة سبع وخمسين ومائة، وكان رديء الحفظ، وكثير الْوَهَم، وقال الساجيّ: صدوقٌ، تفرَّد عن عمه بأحاديث، لم يتابع عليها، وقال الحاكم: إنما أخرج له مسلم في الاستشهاد. انتهى.

قال في "تهذيب التهذيب"

(1)

: ولم أَرَ له في البخاريّ غير حديثين، وقال ابن معين: هو أمثل من أبي أويس، ويقال: إنه انفرد عن عمه بحديث: "كُلُّ أمتي مُعافًى إلا المجاهرون"

(2)

، و"كان صلى الله عليه وسلم يأكل بكفه كلها"، وقولِ أبي هريرة في خطبته:"كلُّ ما هو آتٍ قريب"، ورَوَى الواقديّ عنه، عن عمه حديثًا آخر، والواقديّ غير حجة.

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (14) حديثًا.

والباقون تقدّموا قريبًا.

وقوله: ("مَنْ خَلَقَ كَذَا وَكَذَا؟) أي من خلق السماء، ومن خلق الأرض، كما سبق في الرواية الماضية.

وقوله: (فَإِذَا بَلَغَ ذَلِكَ) أي قوله: "من خَلَقَ ربك؟ "(فَلْيَسْتَعِذْ بِالله، وَلْيَنْتَهِ") قال الطيبي: أي وليترك التفكّر في هذا الخاطر، وليستعذ منه، وإن لم يزل التفكّر بالاستعاذة، فليقُم، وليشتغل بأمر آخر، وإنما أَمره بالاستعاذة، والانتهاء عنه، والإعراض عن مقابلته، لا بالتأمّل، والاحتجاج لوجهين:

[الأول]: أن العلم باستغنائه سبحانه وتعالى عن المؤثّر والموجد أمر ضروريّ، لا يقبل الاحتجاج والمناظرة له وعليه، فإن وقع من ذلك شيء كان من وسوسة الشيطان؛ لأنه مسلَّطٌ في باب الوسوسة، ووساوسه غير متناهية، فمهما عارضته

(1)

"تهذيب التهذيب" 3/ 616 - 617.

(2)

متفقٌ عليه.

ص: 644

فيما يوسوس بحجة يجد مسلكًا آخر إلى ما ينفيه من المغالطة والتشكيك، وأدنى ما يُفيده من الاسترسال في ذلك إضاعة الوقت، فلا تدبير في دفع ذلك أقوى، وأحسن من الاستعاذة بالله تعالى، قال الله تعالى:{وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} الآية [الأعراف: 200].

[وثانيهما]: أن السبب في اعتوار أمثال ذلك احتباس المرء في عالم الحسّ، وما دام كذلك لا يزيده فكره إلا انهماكًا في الباطل، وزَيْغًا عن الحقّ، ومن كان هذا حاله فلا علاج له إلا الالتجاء إلى الله تعالى؛ للاعتصام بحوله وقوّته بالمجاهدة والرياضة، فإنهما مما يُزيل البلادة، ويُصفّي الذهن، ويزكّي النفس

(1)

. انتهى كلام الطيبيّ، وهو كلام حسنٌ. وقال النوويّ: قوله صلى الله عليه وسلم: "فليستعذ بالله، ولينته": معناه: إذا عَرَض له هذا الوسواس، فليلجأ إلى الله تعالى في دفع شره عنه، ولْيُعْرِض عن الفكر في ذلك، وليعلم أن هذا الخاطر من وسوسة الشيطان، وهو إنما يسعى بالفساد والإغواء، فلْيُعْرِض عن الإصغاء إلى وسوسته، وليبادر إلى قطعها بالاشتغال بغيرها، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[353]

(

) - (حَدَّثَنِي عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ شُعَيْبِ بْنِ اللَّيْث، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ جَدِّي، قَالَ: حَدَّثَنِي عُقَيْلُ بْنُ خَالِدٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ شِهَابٍ، أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْر، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "يَأْتِي الْعَبْدَ الشَّيْطَانُ، فَيَقُولُ: مَنْ خَلَقَ كَذَا وَكَذَا؟ "، مِثْلَ حَدِيثِ ابْنِ أَخِي ابْنِ شِهَابٍ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ شُعَيْبِ بْنِ اللَّيْثِ) الْفَهْميّ مولاهم، أبو عبد الله المصريّ، ثقةٌ [11](ت 248)(م د س) تقدم في "الإيمان" 26/ 211.

(1)

"الكاشف عن حقائق السنن" 2/ 518 - 519.

ص: 645

2 -

(أَبُوهُ) شعيب بن الليث الْفَهميّ مولاهم، أبو عبد الملك المصريّ، ثقةٌ فقيهٌ نَبِيلٌ، من كبار [10](ت 199)(م د س) تقدم في "الإيمان" 26/ 211.

3 -

(جَدُّهُ) الليث بن سعد بن عبد الرحمن الفَهميّ، أبو الحارث المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ إمامٌ مشهور [7](ت 175)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 412.

4 -

(عُقَيْلُ بْنُ خَالِدٍ) هو: عُقيل - بالضمّ مصغّرًا - بن خالد بن عَقِيل - بالفتح مكبّرًا - الأيليّ - بالفتح - أبو خالد الأمويّ مولاهم، ثقةٌ ثبتٌ سكن المدينة، ثمّ الشام، ثم مصر [6](ت 144) على الصحيح (ع) تقدم في "الإيمان" 8/ 133.

والباقون تقدّموا قريبًا.

وقوله: (مِثْلَ حَدِيثِ ابْنِ أَخِي ابْنِ شِهَابٍ) بنصب مثل على أنه مفعول مطلق لـ"حدّثني عُقيل"، أو على الحال، ويجوز رفعه على أنه خبر لمحذوف، أي هو مثل حديث

إلخ، يعني: أن حديث عقيل مثل حديث ابن شهاب.

[تنبيه]: رواية عُقيل التي أحالها المصنّف هنا ساقها الحافظ أبو نُعيم رحمه الله في "مستخرجه"(1/ 201)، فقال:

(346)

حدثنا أحمد بن يوسف بن خلاد، ثنا أحمد بن إبراهيم بن مِلْحان، حدثني يحيى بن بكير، حدثني الليث بن سعد، عن عُقَيل بن خالد، عن ابن شهاب، أنه قال: أخبرني عروة بن الزبير، أن أبا هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يأتي العبدَ الشيطانُ، فيقول: من خلق كذا وكذا؟ حتى يقول: من خلق ربك؟ فإذا بلغ ذلك، فليستعذ بالله، ولينته". انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[354]

(135) - (حَدَّثَنِي عَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ عَبْدِ الصَّمَد، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ جَدِّي، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا يَزَالُ النَّاسُ يَسْأَلُونَكُمْ عَنِ الْعِلْم، حَتَّى يَقُولُوا: هَذَا اللهُ خَلَقَنَا، فَمَنْ خَلَقَ اللهَ؟ " قَالَ: وَهُوَ آخِذٌ بِيَدِ رَجُلٍ، فَقَالَ: صَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ، قَدْ سَأَلَنِي اثْنَان، وَهَذَا الثَّالِثُ، أَوْ قَالَ: سَأَلَنِي وَاحِدٌ، وَهَذَا الثَّانِي).

ص: 646

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ) الْعَنبريّ، أبو عبيدة البصريّ، صدوقٌ [11](ت 252)(م ت س) تقدم في "الإيمان" 49/ 311.

2 -

(أَبُوهُ) عبد الصمد بن عبد الوارث العنبريّ مولاهم التَّنُّوريّ، أبو سَهْل البصريّ، ثقةٌ، ثبتٌ في شعبة [9](ت 207)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 82.

3 -

(جَدُّهُ) عبد الوارث بن سعيد بن ذكوان الْعَنبريّ مولاهم، أبو عُبيدة التَّنُّوريّ البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 180)(ع) تقدم في "الإيمان" 18/ 176.

4 -

(أَيُّوبُ) بن أبي تيمية كيسان السَّخْتِيانيّ، أبو بكر البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ حجةٌ، من كبار الفقهاء العُبّاد [5](ت 132)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 305.

5 -

(مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ) أبو بكر بن أبي عَمْرة الأنصاريّ مولاهم، أبو بكر البصريّ، ثقة ثبتٌ عابد، كبير القدر [3](ت 110)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 308.

وقوله: (لَا يَزَالُ النَّاسُ يَسْأَلُونَكُمْ عَنِ الْعِلْمِ) أي المعلومات، ففيه إطلاق المصدر، وإرادة اسم المفعول، ويحتمل أن يكون العلم مصدرًا، و"أل" عوض المضاف إليه المحذوف، وأصله عن علم الأشياء.

وقوله: (هَذَا اللهُ خَلَقَنَا) اسم الإشارة مبتدأ، ولفظ الجلالة بدل، أو عطف بيان، وجملة "خلقنا" خبر المبتدأ.

وقوله: (قَالَ: وَهُوَ آخِذٌ بِيَدِ رَجُلٍ) فاعل "قال" ضمير أبي هريرة رضي الله عنه، وجملة "وهو آخذٌ

إلخ" في محلّ نصب على الحال، أي حال كونه آخذًا بيد رجل.

وقوله: (فَقَالَ: صَدَقَ اللهُ) أي فيما أوحاه إلى رسوله صلى الله عليه وسلم بما سيكون في أمته بعده من هذه التساؤلات.

وقوله: (وَرَسُولُهُ) أي وصدق رسوله صلى الله عليه وسلم فيما أخبر به من المغيّبات، فوقع كما أخبر به؛ لأنه وحي من الله تعالى، كما قال تعالى:{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)} [النجم: 3، 4].

وقوله: (قَدْ سَأَلَنِي اثْنَان، وَهَذَا الثَّالِثُ) يعني أن رجلين سألا أبا

ص: 647

هريرة رضي الله عنه عن المسألة، وهذا الرجل الذي أخذ بيده ثالثهما في السؤال عنها.

وقوله: (أَوْ قَالَ: سَأَلَنِي وَاحِدٌ، وَهَذَا الثَّانِي)"أو" للشكّ من الراوي، أي أو قال أبو هريرة رضي الله عنه: سأل رجل واحد قبل هذا، وهذا الرجل هو الثاني في السؤال.

وتمام شرح الحديث، وبيان مسائله تقدّما قبل ثلاثة أحاديث، فراجعهما تزدد علمًا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[355]

(

) - (وَحَدَّثَنِيهِ زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَيَعْقُوبُ الدَّوْرَقِيُّ، قَالَا: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ - وَهُوَ ابْنُ عُلَيَّةَ - عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ مُحَمَّدٍ، قَالَ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: لَا يَزَالُ النَّاسُ، بِمِثْلِ حَدِيثِ عَبْدِ الْوَارِث، غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرِ النَبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي الْإِسْنَاد، وَلَكِنْ قَدْ قَالَ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ: صَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(يَعْقُوبُ الدَّوْرَقِيُّ) هو: يعقوب بن إبراهيم بن كثير بن أفلح العبديّ مولاهم، أبو يوسف الدَّوْرَقيّ البغداديّ، ثقة [10](ت 252)(ع) تقدم في "الإيمان" 25/ 209.

2 -

(إِسْمَاعِيلُ ابْنُ عُلَيَّةَ) هو: إسماعيل بن إبراهيم بن مِقْسَم الأسديّ مولاهم، أبو بِشْر البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ حافظٌ [8](ت 193)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.

والباقون تقدّموا قريبًا، و"أيوب" هو السختيانيّ، و"محمد" هو ابن سيرين.

وقوله: (بِمِثْلِ حَدِيثِ عَبْدِ الْوَارِثِ) هو ابن سعيد، والد عبد الصمد، وجدّ عبد الوارث شيخ المصنّف، يعني: أن إسماعيل ابن عليّة حدثّ عن أيوب السختيانيّ بمثل حديث عبد الوارث عنه.

وقوله: (غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي الْإِسْنَادِ) يعني: أن إسماعيل لم يذكر النبيّ صلى الله عليه وسلم في إسناده، بل جعله موقوفًا على أبي هريرة رضي الله عنه، فقال: قال أبو هريرة: لا يزال

إلخ.

ص: 648

وقوله: (وَلَكِنْ قَدْ قَالَ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ: صَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ) أراد المصنّف أن إسماعيل وإن رواه موقوفًا ظاهرًا، إلا أنه ذكر في آخر الحديث ما يدلّ على رفعه، وأن أبا هريرة رضي الله عنه أخذه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ لأن قوله:"صدق الله ورسوله" معناه أن الله سبحانه وتعالى أوحى به إلى رسوله صلى الله عليه وسلم، وأخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم، ووقع كما أخبر به، فدلّ على أن أبا هريرة سمعه منه صلى الله عليه وسلم.

[تنبيه]: رواية إسماعيل ابن عليّة، عن أيوب التي أحالها المصنّف على رواية عبد الوارث، ساقها الحافظ ابن منده في "الإيمان" (1/ 480) فقال:

(360)

أنبأ حسان بن محمد، ثنا جعفر بن أحمد بن نصر، ثنا عمرو بن زُرَارة (ح) وأنبأ محمد بن يعقوب، ثنا إبراهيم بن إسحاق الأنماطيّ، ثنا يعقوب، قالا: ثنا إسماعيل ابن علية، عن أيوب، عن محمد، قال: قال أبو هريرة: "لا يزال الناس يسألون عن العلم، حتى يقولوا: هذا الله خَلَقَنا، فمن خَلَقَ الله؟ وإذا هو آخذٌ بيد رجل، فقال: صدق الله ورسوله، قد سألني عنها رجلٌ، وهذا الثاني، أو رجلان، وهذا الثالث". انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[356]

(

) - (وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ الرُّومِيّ، حَدَّثَنَا النَّضْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا عِكْرِمَةُ، وَهُوَ ابْنُ عَمَّارٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، حَدَّثَنَا أَبُو سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا يَزَالُونَ يَسْأَلُونَكَ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، حَتَّى يَقُولُوا: هَذَا اللهُ، فَمَنْ خَلَقَ اللهَ؟ "، قَالَ: فَبَيْنَا أَنَا فِي الْمَسْجِد، إِذْ جَاءَنِي نَاسٌ، مِنَ الْأَعْرَاب، فَقَالُوا: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، هَذَا اللهُ، فَمَنْ خَلَقَ اللهَ؟ قَالَ: فَأَخَذَ حَصًى بِكَفِّه، فَرَمَاهُمْ، ثُمَّ قَالَ: قُومُوا، قُومُوا، صَدَقَ خَلِيلِي).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ الرُّومِيِّ) هو: عبد الله بن محمد اليماميّ، نزيل بغداد المعروف بابن الرّوميّ، ويقال: اسم أبيه: عُمَر، صدوقٌ [10].

ص: 649

رَوَى عن ابن عيينة، والدّرَاورديّ، ووكيع، والنضر بن محمد الْجُرَشيّ، وأبي أسامة، وعبد الرزاق، وغيرهم.

ورَوَى عنه مسلم، وإبراهيم الحربيّ، وبَقِيّ بن مَخْلَد، وأبو قلابة الرَّقَاشيّ، وأبو حاتم، والصغانيّ، ويعقوب بن شيبة، وعثمان بن خُرّزاد، وابن أبي الدنيا، وأبو يعلى، ومحمد بن إسحاق السّرّاج، وغيرهم.

قال عبد الخالق بن منصور: سئل يحيى بن معين عنه، فقال: مثل أبي محمد لا يسأل عنه، إنه مرضيّ، وقال أبو حاتم: صدوقٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال ابن قانع: ثقة.

قال الحارث بن أبي أسامة وغيره: مات سنة ست وثلاثين ومائتين، وكذا قال الحسن بن سفيان.

انفرّد به المصنّف، وله في هذا الكتاب أربعة أحاديث: هذا برقم (135)، وحديث (1159): "فإن لزوجك عليك حقًّا

"، و (2362): "ما تصنعون؟ قالوا: كنا نصنعه

"، و (2423): "لقد قُدتُ بنبيّ الله صلى الله عليه وسلم، والحسن والحسين بغلته

".

2 -

(النَّضْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ) بن موسى الْجُرَشيّ، أبو محمد اليماميّ، مولى بني أميّة، ثقةٌ له أفرادٌ [9]، (خ م د ت ق) تقدم في "الإيمان" 34/ 241.

3 -

(عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ) الْعِجليّ، أبو عمّار اليماميّ، بصريّ الأصل، ثقة، إلا أن في روايته عن يحيى بن أبي كثير ضعفٌ؛ لاضطرابه [5] مات قبيل (160)(خت م س ق) تقدم في "الإيمان" 12/ 155.

[تنبيه]: إن قلت: كيف أخرج المصنّف لعكرمة مع ضعفه في روايته عن يحيى؟.

[قلت]: إنما أخرج له متابعةً، فقد أخرج الحديث بطرق متعدّدة قبل هذا، ويأتي له طريق جعفر عن يزيد الأصمّ، والمتابعة يُغتفر فيها ما لا يُغتفر في الأصول، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

4 -

(يَحْيَى) بن أبي كثير الطائيّ مولاهم، أبو نصر اليماميّ، ثقةٌ ثبتٌ، يدلّس، ويرسلُ [5](ت 132)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 424.

5 -

(أَبُو سَلَمَةَ) بن عبد الرحمن بن عوف الزهريّ المدنيّ، قيل: اسمه

ص: 650

عبد الله، وقيل: إسماعيل، ثقة فقيةٌ، مكثرٌ [3](ت 94)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 423.

وقوله: (قَالَ) الضمير لأبي هريرة رضي الله عنه.

وقوله: (فَبَيْنَا أَنَا فِي الْمَسْجِد، إِذْ جَاءَنِي نَاسٌ)"بينا" هي "بين" الظرفيّة أُشبعت فتحتها، فتولّدت منها الألف، وتتضمن معنى الشرط، ولذا تُجاب، وجوابها أحيانًا يُقرن بـ "إذ"، كما هنا، وأحيانًا بـ "إذا"، وكثيرًا ما يتجرّد منهما، وقد تقدّم تمام البحث في هذا غير مرّة.

وقوله: (مِنَ الْأَعْرَابِ) بفتح الهمزة: هم سُكّان البادية.

وقوله: (قَالَ) الضمير لأبي سلمة (فَأَخَذَ) الضمير لأبي هريرة رضي الله عنه (حَصًى بِكَفِّه، فَرَمَاهُمْ) أي كراهيةً لسؤالهم هذا؛ لأنه سؤال نشأ عن شدّة الجهل، وفيه الإنكار على من يسأل عن مثل هذه الأسئلة، وزجره.

وقوله: (صَدَقَ خَلِيلِي) يعني: النبيّ صلى الله عليه وسلم، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[357]

(

) - (حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا كَثِيرُ بْنُ هِشَامٍ، حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ بُرْقَانَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ الْأَصَمّ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَيَسْأَلَنَّكُمُ النَّاسُ عَنْ كُلِّ شَيءٍ، حَتَّى يَقُولُوا: اللهُ خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ، فَمَنْ خَلَقَهُ؟ ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ) بن ميمون المروزيّ، نزيل بغداد المعروف بالسمين، صدوقٌ ربما وهم، وكان فَاضلًا [10](ت 235)(م د) تقدم في "الإيمان" 1/ 104.

2 -

(كَثِيرُ بْنُ هِشَامٍ) الكلابيّ، أبو سهل الرّقّيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ [7].

رَوَى عن جعفر بن بُرْقان، وهشام الدستوائيّ، والمسعوديّ، وعمر بن سُليم الباهليّ، وشعبة، وغيرهم.

وروى عنه أحمد، وإسحاق، وابن معين، وإبراهيم بن موسى، وأبو

ص: 651

خيثمة، وخليفة بن خياط، وإسحاق بن منصور، وأبو بكر وعثمان بنا أبي شيبة، وأبو موسى، وبندار، ومحمد بن حاتم بن ميمون، وأحمد بن منيع، وغيرهم.

قال الدُّوريّ، عن ابن معين: ثقة، وقال العجليّ: ثقةٌ، صدوقٌ يَتَوَكَّل للتُّجّار، ويَحْتَرِف، من أروى الناس لجعفر بن بُرْقان، وقال ابن عمار الموصليّ: كان يُجَهِّزُ إلى دمشق، وإلى الرَّقَّة، وهو ثقة، وسمعت منه ببغداد، وهشيم حيّ، وقال عباس الدُّوريّ: ثنا كثير بن هشام، وكان من خيار المسلمين، وقال الآجريّ، عن أبي داود: ثقة، وقال أبو حاتم: يُكْتَب حديثه، وقال النسائيّ: لا بأس به، وقال ابن قانع: كان صالحًا، وذكره ابن حبان في "الثقات".

وقال ابن سعد: كان ثقة صدوقًا، خرج إلى الحسن بن سهل، وهو بفم الصلح، فمات هناك في شعبان سنة سبع ومائتين، وفيها أرّخه غير واحد، وقال الحارث بن أبي أسامة: مات سنة (208).

أخرج له البخاريّ في "الأدب المفرد"، والمصنّف، والأربعة، وله في هذا الكتاب خمسة أحاديث فقط: هذا (135)، وحديث (564): "من أكل من هذه الشجرة المنتنة

"، و (1037): "من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين

"، و (2564): "إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم

"، و (2638): "الناس معادن كمعادن الفضّة والذهب

".

3 -

(جَعْفَرُ بْنُ بُرْقَانَ) - بضمّ الموحّدة، وسكون الراء، بعدها قاف - الكلابيّ مولاهم، أبو عبد الله الْجَزَريّ الرّقّيّ، قَدِمَ الكوفةَ، صدوقٌ، يَهِمُ في حديث الزهريّ [7].

رَوَى عن يزيد بن الأصمّ، والزهريّ، وعطاء، وميمون بن مِهْران، وحبيب بن أبي مرزوق، وعبد الله بن بِشر الرقي، ونافع مولى ابن عمر، وغيرهم.

وروى عنه ابن المبارك، وأبو خيثمة الجعفيّ، وابن عيينة، ووكيع، وكثير بن هشام، وعمر بن أيوب الموصليّ، ومعمر بن راشد، وزيد بن أبي الزَّرْقاء، وأبو نعيم، وعدة.

ص: 652

قال عبد الله بن أحمد، عن أبيه: إذا حَدَّث عن غير الزهري فلا بأس به، وفي حديث الزهري يخطئ، وقال الميمونيّ، عن أحمد: أبو الْمَلِيح أضبط من جعفر بن بُرْقان، وجعفر ثقة ضابط لحديث ميمون بن مِهران، وحديث يزيد بن الأصمّ، وهو في حديث الزهريّ يَضْطَرِب، ويختلف فيه، وقال المفضل الغلابيّ، عن ابن معين: كان أميًّا، وهو ثقة، وقال في موضع آخر: ثقة، ويُضَعَّف في روايته عن الزهريّ، وقال في موضع آخر: ليس بذاك في الزهريّ، وقال يعقوب بن شيبة، عن ابن معين: كان أميًّا، وكان ثقةً صدوقًا، وما أصحّ روايته عن ميمون بن مِهْران وأصحابه، وقال ابن الجنيد، والدُّوريّ عنه نحو ذلك، وقيل: إنه مُجاب الدعوة، وقال عثمان الدارميّ وغيره، عن ابن معين: ثقة، وقال ابن نُمير: ثقة، أحاديثه عن الزهريّ مضطربةٌ، وقال يعقوب بن سفيان: حدثنا أبو نعيم، ثنا جعفر بن برقان، وهو جَزَريّ ثقةٌ، وبلغني أنه كان أميًّا، لا يقرأ ولا يكتب، وكان من الخيار، وقال ابن سعد: كان ثقة صدوقًا، له روايةٌ وفقهٌ، وفتوى في دهره، وقال النسائيّ: ليس بالقويّ في الزهريّ، وفي غيره لا بأس به، وقال ابن خزيمة لَمّا سئل عنه، وعن أبي بكر الْهُذَليّ: لا يُحْتَجّ بواحد منهما إذا انفرد، حكاه الحاكم، وقال حامد بن يحيى الْبَلْخيّ عن ابن عيينة: حدثنا جعفر بن برقان، وكان ثقةً من ثقات المسلمين، وكان مروان بن محمد يقول: ثنا جعفر بن برقان الثقة العدل، وقال أبو بكر بن صدقة، عن الثوريّ: ما رأيت أفضل من جعفر بن برقان، وقال ابن عديّ: وجعفر بن برقان مشهورٌ، معروف في الثقات، قد رَوَى عنه الناس، وهو ضعيف في الزهريّ خاصة، وقال البرقانيّ، عن الدارقطنيّ: ربما حَدَّث الثقة عن ابن بُرقان، عن الزهريّ، ويحدث الآخر بذلك الحديث عن ابن برقان، عن رجل، عن الزهريّ، أو يقول: بلغني عن الزهريّ، فأما حديثه عن ميمون بن مهران، ويزيد بن الأصمّ، فثابت صحيح، وقال الساجيّ: عنده مناكير، وذكره ابن المديني في الطبقة الثامنة من أصحاب نافع.

قال هلال بن العلاء: مات سنة (150) أو (151)، وقال خليفة، وأحمد بن حنبل، وغيرهما: مات سنة (154)، وقال أبو عروبة: ثنا أبو موسى، قال: سألت كثير بن هشام، عن جعفر بن برقان: ممن؟ قال: الكلابي

ص: 653

من مواليهم، وهلك جعفر لَمّا قَدِم أبو جعفر - يعني المنصور - الرقة، وهو ذاهب إلى بيت المقدس، وهذا من نحو (44) سنة، قال أبو موسى: سنة (154)، وقال ابن منجويه: مات وهو ابن (44) سنة، وهو وَهَمٌ، وتصحيف من قول كثير بن هشام الذي سبق، وقد سبقه لهذا الوهم بعينه ابن حبان في "الثقات"، وإياه يتبع ابن منجويه.

أخرج له البخاريّ في "الأدب المفرد"، ومسلم، والأربعة، وله في هذا الكتاب تسعة أحاديث فقط: هذا (135)، وحديث (497): "إذا سجد جافى حتى يرى

"، و (651): "لقد هَمَمت أن آمر فتياني

"، و (1037): "من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين

"، و (2546): "لو كان الدين عند الثريّا

"، و (2564): "إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم

"، و (2638): "الناس معادن كمعادن الفضّة والذهب

"، و (2675): "أنا عند ظنّ عبدي بي

"، و (2749): "لو لم تُذنبوا لذهب الله بكم .. ".

4 -

(يَزِيدُ بْنُ الْأَصَمِّ) بن عبيد بن معاوية بن عُبادة بن الْبَكّاء - بفتح الموحّدة، وتشديد الكاف - بن عامر بن رَبِيعة بن عامر بن صَعْصَعة، واسم الأصمّ عمرو، ويقال: عبد عمرو بن عُبيد، وقيل في نسبه غير ذلك، أبو عوف الْبَكّائيّ الكوفيّ نَزِيل الرَّقّة، أمه برزة بنت الحارث، أخت ميمونة، أم المؤمنين رضي الله عنه، يقال: له رؤية، ولا يثبتُ، ثقةٌ [3].

رَوَى عن خالته ميمونة بنت الحارث، وعائشة، وأبي هريرة، وسعد بن أبي وقاص، ومعاوية، وابن خالته ابن عباس، وغيرهم.

وروى عنه ابنا أخيه: عبيد الله وعبد الله ابنا عبد الله بن الأصمّ، والأجلح الكِنديّ، وأبو فَزَارة راشد بن كَيْسان، ومحمد بن مسلم الزهريّ، وميمون بن مِهْران، وأبو إسحاق الشيبانيّ، وجعفر بن بُرْقان، وغيرهم.

قال ابن سعد: كان كثير الحديث، وكان ثقةً، قال: وقال هشام بن محمد: سَمَّى النبيّ صلى الله عليه وسلم الأصمّ عبد الرحمن، وقال العجليّ، وأبو زرعة، والنسائيّ: ثقة، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال ابن عَمّار: رَبَّته ميمونة بنت الحارث، يقال: مات سنة إحدى ومائة، وقال أبو عبيد القاسم: مات سنة

ص: 654

ثلاث، وقال خليفة: مات سنة ثلاث، أو أربع ومائة، زاد الواقديّ: وهو ابن ثلاث وسبعين سنة.

قال الحافط: فهذا قاطع على أنه وُلِد بعد النبيّ صلى الله عليه وسلم بدهر، وكذا نَصّ عليه ابن حبان في "الثقات"، وذكره ابن منده، وأبو نعيم في "الصحابة"، وقال أبو نعيم: لا يصح له صحبة.

أخرج له البخاريّ في "الأدب المفرد"، والمصنّف، والأربعة، وله في هذا الكتاب (18) حديثًا.

وقوله: (حَتَّى يَقُولُوا: اللهُ خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ) قال النوويّ: هكذا هو في بعض الأصول: "يقولوا" بغير نون، وفي بعضها:"يقولون" بالنون، وكلاهما صحيح، وإثبات النون مع الناصب لغة قليلةٌ، ذكرها جماعة من محققي النحويين، وجاءت متكررةً في الأحاديث الصحيحة، كما ستراها في مواضعها - إن شاء الله تعالى - انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[358]

(136) - (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ عَامِرِ بْنِ زُرَارَةَ الْحَضْرَيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ مُخْتَارِ بْنِ فُلْفُلٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "قَالَ اللهُ عز وجل: إِنَّ أُمَّتَكَ لَا يَزَالُونَ، يَقُولُونَ: مَا كَذَا؟، مَا كَذَا؟، حَتَّى يَقُولُوا: هَذَا اللهُ خَلَقَ الْخَلْقَ، فَمَنْ خَلَقَ اللهَ؟ ").

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ عَامِرِ بْنِ زُرَارَةَ الْحَضْرَمِيُّ) مولاهم، أبو محمد الكوفي، صدوقٌ [10]. رَوَى عن أبيه، وعن أبي بكر بن عياش، وعلي بن مسهر، ويحيى بن زكريا بن أبي زائدة، وعبد الرحيم بن سليمان، ومُعَلَّى بن هلال، ومحمد بن فضيل، وعَبِيدة بن حُمَيد، وشَريك بن عبد الله، وغيرهم.

(1)

"شرح النوويّ" 2/ 157.

ص: 655

ورَوَى عنه مسلم، وأبو داود، وابن ماجه، وبَقِيّ بن مَخْلَد، وأبو زرعة، وأبو حاتم، ومحمد بن عثمان بن أبي شيبة، ومحمد بن عبد الله الحضرمي، وعبد الله بن أحمد، ومحمد بن صالح بن ذَرِيح، وأبو بكر بن أبي عاصم، والحسن بن علي الْمَعْمَريّ، وعبدان الأهوازيّ، والحسن بن سفيان، وأبو يعلى، وغيرهم.

قال أبو حاتم: صدوق. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: مستقيم الحديث. قال محمد بن عبد الله الحضرمي: مات سنة سبع وثلاثين ومائتين.

تفرّد به المصنّف، وأبو داود، وابن ماجه، وله في هذا الكتاب حديثان فقط: هذا (136)، و (2459):"قيل لي: أنت منهم"

(1)

.

2 -

(مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ) بن غَزْوان - بفتح المعجمة، وسكون الزاي - ابن جرير الضّبيّ مولاهم، أبو عبد الرحمن الكوفيّ، صدوقٌ، عارفٌ، رُمي بالتشيّع [9].

رَوَى عن أبيه، وإسماعيل بن أبي خالد، وعاصم الأحول، والمختار بن فلفل، وأبي إسحاق الشيباني، وأبي مالك الأشجعي، وهشام بن عروة، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وخلق كثير.

وروى عنه الثوري، وهو أكبر منه، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وأحمد بن إشكاب الصفار، وأحمد بن عمر الوكيعي، وأبو خيثمة، وقتيبة، وعبد الله بن عمر بن أبان، وعلي بن المنذر الطريقي، وغيرهم.

قال حرب عن أحمد: كان يتشيع، وكان حسن الحديث. وقال عثمان الدارمي عن ابن معين: ثقة. وقال أبو زرعة: صدوق من أهل العلم. وقال أبو حاتم: شيخ. وقال النسائي: ليس به بأس. وقال أبو داود: كان شيعيًّا محترقًا، وذكره ابن حبان في "الثقات"؛ وقال: كان يغلو في التشيع، وقال ابن سعد: كان ثقة، صدوقًا، كثير الحديث، متشيعًا، وبعضهم لا يحتج به، وقال العجلي: كوفي ثقة شيعي، وكان أبوه ثقة، وكان عثمانيًا، وقال ابن شاهين في "الثقات": قال علي ابن المديني: كان ثقة ثبتًا في الحديث، وقال الدارقطني:

(1)

وفي "الزهرة": رَوَى عنه مسلم حديثين، أو ثلاثة. انتهى.

ص: 656

كان ثبتًا في الحديث، إلا أنه كان منحرفًا عن عثمان، وقال يعقوب بن سفيان: ثقة شيعي، وقال أبو هشام الرِّفَاعي: سمعت ابن فُضيل يقول: رَحِمَ الله عثمان، ولا رَحِمَ من لا يترحم عليه. قال: وسمعته يحلف بالله أنه صاحب سنّة، رأيت على خفه أثر المسح، وصليت خلفه ما لا يحصى، فلم أسمعه يجهر، يعني: بالبسملة. وقال الحافظ: صَنّفَ مصنفات في العلم، وقرأ القراءات على حمزة الزيات.

قال ابن سعد، وأبو داود: توفي سنة أربع وتسعين، زاد أبو داود: في أولها. وقال البخاري، وغير واحد: مات سنة خمس وتسعين ومائة. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (60) حديثًا.

3 -

(مُخْتَارُ بْنُ فُلْفُلٍ) - بفاءين مضمومتين، ولامين: الأولى ساكنة - المخزوميّ، مولى عمرو بن حُريث، ثقةٌ

(1)

[5].

رَوَى عن أنس، وإبراهيم التيميّ، وعمر بن عبد العزيز، والحسن البصريَ وطَلْق بن حبيب.

وروى عنه ابنه بكر، وزائدة، والثوري، ومنصور بن أبي الأسود، وعبد الله بن إدريس، وعبد الواحد بن زياد، وجرير، وعليّ بن مُسْهِر، ومحمد بن فضيل، وآخرون.

قال عبد الله بن أحمد: سألت أبي عنه، فقال: ما أعلم إلا خيرًا، وقال غيره عن أحمد: ثقة، وكذا قال ابن معين، وأبو حاتم، والعجليّ، ومحمد بن عبد الله بن عَمّار، والنسائيّ، وقال أبو حاتم أيضًا: شيخ كوفيّ، وقال يعقوب بن سفيان: حدثنا أبو نعيم، حدثنا سفيان، عن مختار بن فلفل، وهو كوفيّ ثقة، وقال أبو داود: ليس به بأس، وقال داود بن عمرو، عن ابن إدريس: كان يُحَدِّث وعيناه تدمعان، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: يخطئ كثيرًا، وقال أبو بكر البزّار: صالح الحديث، وقد احتملوا حديثه، وقال يعقوب بن سفيان: ثقة.

(1)

قال في "التقريب": صدوقٌ له أوهام. انتهى، وفيه نظر لا يخفى، فقد وثّقه الأئمة المشهورون، ولم يتكلموا فيه، وأما تضعيف السليمانيّ له، فمما لا يخفى ضعفه على بصير، وكذا قول ابن حبّان: يخطئ كثيرًا، فمما لا يُلتفت إليه، فتبصّر.

ص: 657

ووقع ذكره في أثر علّقه البخاريّ في "الشهادات" عن أنس، ووصله ابن أبي شيبة، عن حفص بن غياث، عنه: سألت أنسًا عن شهادة العبيد، فقال: جائزةٌ.

وتكلم فيه السليمانيّ، فعَدّه في رواة المناكير عن أنس، مع أبان بن أبي عَيّاش وغيره.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: تضعيف السليمانيّ هذا فيه نظر لا يخفى، فقد أخرج له المصنّف نحو سبعة أحاديث، كلها عن أنس، ووثقة الأئمة الكبار، كأحمد، وابن معين، وأبي حاتم، والنسائيّ، فأين يقع السليمانيّ من هؤلاء الجهابذة؟ وكذا قول ابن حبّان: يخطئ كثيرًا، فالحقّ أنه ثقةٌ، فتبصّر، والله الهادي إلى سواء السبيل.

أخرج له المصنّف، وأبو داود، والترمذيّ، والنسائيّ، وله في هذا الكتاب سبعة أحاديث، هذا (136)، و (196): "أنا أول الناس يشفع في الجنّة

"، كرّره ثلاث مرّات، و (400): "أُنزلت عليّ آنفًا سورة

"، و (426): "إني إمامكم، فلا تسبقوني

"، و (836): "كان يرانا نصليها

"، و (2304): "لَيَرِدنّ عليّ الحوض رجال

"، و (2369): "ذاك إبراهيم".

4 -

(أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ) بن النضر الصحابيّ الشهير رضي الله عنه مات سنة (92) أو (93)، وقد جاوز المائة (ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 3، والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من رباعيّات المصنّف، وهو أعلى ما وقع له من الأسانيد في هذا الكتاب، كما مرّ تحقيقه في "المقدّمة"، وهو (11) من رباعيات الكتاب.

2 -

(ومنها): أن نصفه الأول كوفيّ، والثاني بصريّ.

3 -

(ومنها): أن فيه أنسًا رضي الله عنه أحد المكثرين السبعة، روى (2286) حديثًا، وهو آخر من مات من الصحابة رضي الله عنهم بالبصرة، وهو من المعمّرين، وممن لازم النبيّ صلى الله عليه وسلم، وخَدَمه عشر سنين، ودعا له بكثرة المال والأولاد، والله تعالى أعلم.

ص: 658

شرح الحديث:

(عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ) رضي الله عنه (عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "قَالَ اللهُ عز وجل تقدّم أن هذا من الأحاديث القدسيّة (إِنَّ أُمَّتَكَ لَا يَزَالُونَ يَقُولُونَ: مَا كَذَا؟، مَا كَذَا؟) ولفظ البخاريّ: "لن يبرح الناس يتساءلون حتى يقولوا: هذا الله

"، وللبزار من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: "لا يزال الناس يقولون: كان الله قبل كل شيء، فمن كان قبله" (حَتَّى يَقُولُوا: هَذَا اللهُ خَلَقَ الْخَلْقَ) "هذا الله" مبتدأ وخبر، أو "هذا" مبتدأ و"الله" عطف بيان، و"خلق الخلق" خبره، وقال الطيبيّ: والأول أولى، ولكن تقديره هذا مُقَرَّر معلومٌ، وهو أن الله خلق الخلق، وهو شيءٌ، وكل شيء مخلوقٌ، فمن خلقه؟ فيظهر ترتيب ما بعد الفاء على ما قبلها. انتهى. (فَمَنْ خَلَقَ اللهَ؟ ") وتقدّم في رواية لأبي هريرة رضي الله عنه:"مَن خلق ربك"، وزاد:"فإذا بلغه فليستعذ بالله ولينته"، ولأبي داود، والنسائيّ من الزيادة:"فقولوا: الله أحد، الله الصمد، السورةَ، ثم ليتفُل عن يساره، ثم ليستعذ" ولأحمد من حديث عائشة: "فإذا وجد أحدكم ذلك، فليقل: آمنت بالله ورسوله، فإن ذلك يَذهَبُ عنه".

قال ابن بطال: في حديث أنس رضي الله عنه الإشارة إلى ذَمّ كثرة السؤال؛ لأنها تُفْضي إلى المحذور، كالسؤال المذكور، فإنه لا ينشأ إلا عن جهل مُفْرِط، وقد ورد بزيادة من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ:"لا يزال الشيطان يأتي أحدكم، فيقول: من خلق كذا؟، من خلق كذا؟، حتى يقول: من خلق الله؟ فإذا وجد ذلك أحدكم، فليقل: آمنت بالله"، وفي رواية:"ذاك صريح الإيمان"، ولعل هذا هو الذي أراد الصحابيّ فيما أخرجه أبو داود، من رواية سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء ناس إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم من أصحابه، فقالوا: يا رسول الله، إنا نجد في أنفسنا الشيء يَعظُمُ أن نتكلم به، ما نُحِبّ أن لنا الدنيا، وإنا تكلمنا به، فقال:"أَوَ قد وجدتموه؟ ذلك صريح الإيمان"، ولابن أبي شيبة من حديث ابن عباس: جاء رجل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: إني أُحَدِّث نفسي بالأمر، لأن أكون حُمَمَةً أحب إليّ من أن أتكلَّم به، قال:"الحمد لله الذي رَدّ أمره إلى الوسوسة"

(1)

، والله

(1)

راجع: "الفتح" 13/ 286 - 288 "كتاب الاعتصام بالكتاب والسنّة" رقم (7296).

ص: 659

تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أنس رضي الله عنه عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا في "الإيمان"[63/ 358 و 359](136)، و (البخاريّ) في "كتاب الاعتصام بالكتاب والسنّة"(7296)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 102)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(235)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(351 و 352)، و (ابن منده) في "الإيمان"(366 و 367)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[359]

(

) - (حَدَّثَنَاه إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا جَرِيرٌ (ح) وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ، عَنْ زَائِدَةَ، كِلَاهُمَا عَنِ الْمُخْتَار، عَنْ أنَسٍ، عَن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم بهَذَا الْحَدِيث، غَيْرَ أَنَّ إِسْحَاقَ لَمْ يَذْكُرْ:"قَالَ: قَالَ اللهُ: إِنَّ أُمَّتَكَ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) المعروف بابن راهويه، تقدّم قريبًا.

2 -

(جَرِير) بن عبد الحميد المذكور أول الباب.

3 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) هو: عبد الله بن محمد بن أبي شيبة المذكور قبل باب.

4 -

(حُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ) الجعفيّ العابد، المذكور قبل بابين.

5 -

(زَائِدَةُ) بن قُدامة المذكور قبل بابين أيضًا، والباقيان تقدما في السند الماضي.

[تنبيه]: هذا الإسناد من رباعيات المصنّف رحمه الله، وهو (12) من رباعيات الكتاب.

ص: 660

وقوله: (بِهَذَا الْحَدِيثِ) الإشارة إلى سند مختار بن فُلفُل عن أنس رضي الله عنه الذي قبله.

وقوله: (غَيْرَ أَنَّ إِسْحَاقَ لَمْ يَذْكُرْ: "قَالَ: قَالَ اللهُ: إِنَّ أُمَّتَكَ") يعني: أن شيخه أبا بكر بن أبي شيبة هو ذكر قوله: "قال: قال الله: إن أمتك"، وأما إسحاق، فلم يذكره.

[تنبيه]: رواية جرير، وزائدة التي أشار إليها المصنّف هنا، ساق متنها الحافظ أبو نعيم في "مستخرجه" (1/ 203) فقال:

(352)

حدثنا عبد الله بن يحيى بن معاوية الطلحيّ، ثنا عبيد الله بن غَنّام، ثنا أبو بكر عبد الله بن أبي شيبة، نا حسين بن عليّ، عن زائدة، عن المختار بن فلفل، عن أنس (ح) وحدثنا أبو محمد بن حيان، ومحمد بن إبراهيم، قالا: ثنا أبو يعلى، ثنا جرير، عن المختار، عن أنس، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"إن الله تعالى قال: إن أمتك لا يزالون يسألون، ما كذا؟ ما كذا؟ حتى يقولوا: هذا اللهُ خَلَقَ كلَّ شيء، فمن خلق الله؟ "، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

قال الجامع الفقير إلى مولاه الغنيّ القدير محمد ابن الشيخ العلامة عليّ بن آدم بن موسى خُويدم العلم بمكة المكرّمة:

قد انتهيت من كتابة الجزء الثالث من "شرح صحيح الإمام مسلم"، المسمَّى "البحر المحيط الثّجّاج شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجّاج" رحمه الله تعالى، ليلة الخميس 17/ 3/ 1425 هـ الموافق 6/ مايو/ 2004 م.

أسأل الله العليّ العظيم ربّ العرش العظيم أن يجعله خالصًا لوجهه الكريم، وسببًا للفوز بجنات النعيم لي ولكلّ من تلقّاه بقلب سليم، إنه بعباده رؤوف رحيم.

وآخر دعوانا: {أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} .

{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} .

{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} .

ص: 661

"اللهم صلّ على محمد، وعلى آل محمد، كما صلّيت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد، وعلى آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد".

"السلام على النبيّ ورحمة الله وبركاته".

ويليه - إن شاء الله تعالى - الجزء الرابع مفتتحًا بـ (64) - (بَابُ إِثْمِ مَنِ اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِئٍ بِيَمِينِهِ) رقم الحديث [360](137).

"سبحانك اللهمّ وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك، وأتوب إليك".

ص: 662