الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
يوم الجمعة الثالث عشر من شهر شوال المبارك 13/ 10/ 1430 هـ. أول الجزء الثلاثين من شرح "صحيح الإمام مسلم، المسمّى "البحر المحيط الثجّاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجّاج" رحمه الله تعالى.
29 - (كِتَابُ الأَقْضِيَةِ)
" الأقضية" بالفتح: جمع قضاء، كما قال ابن مالك في "الخلاصة":
فِي اسْمٍ مُذَكَّرٍ رُبَاعِيٍّ بِمَدّ
…
ثَالِثٍ "أفْعِلَةٌ" عَنْهُمُ اطَّرَدْ
وَالْزَمْهُ في "فَعَالٍ" أوْ "فِعَالِ"
…
مُصَاحِبَيْ تَضْعِيفٍ أوْ إِعْلَالِ
ومعنى كلام ابن مالك هذا: أن "أَفْعِلَة" جمعٌ لكلّ اسمٍ مذكّر، رُباعيّ، ثالثه مَدّة، نحو قَذَالِ وأقذلة، وقضاء وأقضية، ورغيف وأرغفة، وعَمُود وأعمدة، والتُزم أَفعلة في جمع المضاعف، أو المعتلّ اللام، من فَعَالٍ، أو فِعالٍ، كبَتَاتٍ وأَبِتّة، وزِمام وأَزِمّة، وقضاء وأقضية، وفناء وأفنية
(1)
، والله تعالى أعلم.
وقال الأزهريّ رحمه الله: القضاء في الأصل: إحكام الشيء، والفراغ منه، ويكون القضاء إمضاءَ الحكم، ومنه قوله تعالى:{وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الإسراء: 4]، وسُمِّي الحاكم قاضيًا؛ لأنه يُمضي الأحكام، ويُحْكِمها، ويكون قَضَى بمعنى أوجب، فيجوز أن يكون سُمِّي قاضيًا؛ لإيجابه الحكم على من يجب عليه، وسمّي حاكمًا؛ لِمَنْعه الظالم من الظلم، يقال: حَكَمْتُ الرجلَ،
(1)
راجع: شرح ابن عقيل على "الخلاصة" 2/ 240 - 241 بنسخة "حاشية الخضري".
وأحكمته: إذا منعته، وسمِّيت حَكَمَة
(1)
الدابة؛ لمنعها الدابة من ركوبها رأسها، وسمِّيت الْحِكْمة حِكْمةً؛ لمنعها النفس من هواها. انتهى
(2)
.
مسائل مهمّة تتعلّق بهذه الترجمة:
(المسألة الأولى): قال العلّامة ابن قُدامة رحمه الله: الأصل في القضاء، ومشروعيته: الكتاب، والسُّنَّة، والإجماع، أما الكتاب فقول الله تعالى:{يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} الآية [ص: 26]، وقول الله تعالى:{وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} الآية [المائدة: 49]، وقوله:{وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ} الآية [النور: 48]، وقوله تعالى:{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65].
وأما السُّنَّة، فما رَوَى عمرو بن العاص رضي الله عنهما، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال:"إذا اجتهد الحاكم، فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر"، متفق عليه، في آيٍ، وأخبارٍ سوى ذلك كثيرة. وأجمع المسلمون على مشروعية نَصْب القضاء، والحُكم بين الناس. انتهى كلام ابن قُدامة رحمه الله
(3)
، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثانية): (اعلم): أن القضاء من فروض الكفايات؛ لأنَّ أمر الناس لا يستقيم بدونه، فكان واجبًا عليهم كالجهاد، والإمامة، قال أحمد رحمه الله: لا بد للناس من حاكم، أتذهب حقوق الناس؟، وفيه فضل عظيم لمن قوي على القيام به، وأداء الحق فيه، ولذلك جعل الله فيه أجرًا مع الخطإ، وأسقط عنه حكم الخطإ، ولأن فيه أمرًا بالمعروف، ونصرة المظلوم، وأداء الحق إلى مستحقه، وردًّا للظالم عن ظلمه، وإصلاحًا بين الناس، وتخليصًا لبعضهم من بعض، وذلك من أبواب القُرَب، ولذلك تولاه النبيّ صلى الله عليه وسلم، والأنبياء قبله، فكانوا يحكمون لأممهم، وبعث عليًّا إلى اليمن قاضيًا، وبعث أيضًا معاذًا قاضيًا، وقد رُوي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنَّه قال: "لأنَّ أجلس قاضيًا
(1)
قال في "القاموس": والْحَكَمَةُ محرَّكةً: ما أحاط بحَنَكي الْفَرَس، من لجامه، وفيها الْعِذَارَان. انتهى.
(2)
راجع: "شرح النوويّ" 12/ 2.
(3)
"المغني" 14/ 5.
بين اثنين، أحب إلي من عبادة سبعين سنة"، وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: جاء خصمان يختصمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "اقض بينهما"، قلت: أنت أولى بذلك، قال: "وإن كان"، قلت: علام أقضي؟ قال: "اقض فإن أصبت فلك عشرة أجور، وإن أخطأت فلك أجر واحد"، رواه سعيد في "سننه".
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: لكن في سنده - كما قال في "الفتح" - ضعف، فتنبّه. والله تعالى أعلم.
قال: وفيه خطر عظيم، ووزر كبير، لمن لم يؤد الحق فيه، ولذلك كان السلف رحمة الله عليهم يمتنعون منه أشد الامتناع، ويخشون على أنفسهم خطره، قال خاقان بن عبد الله: أُريدَ أبو قلابة على قضاء البصرة، فهرب إلى اليمامة، فأريد على قضائها، فهرب إلى الشام، فأريد على قضائها، وقيل: ليس ههنا غيرك، قال: فأنزلوا الأمر على ما قلتم، فإنما مَثَلي مَثَل سابح وقع في البحر، فسبح يومه، فانطلق، ثمَّ سبح اليوم الثاني فمضى أيضًا، فلما كان اليوم الثالث فترت يداه. وكان يقال: أعلم الناس بالقضاء أشدهم له كراهة، ولِعِظَم خطره قال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"من جُعل قاضيًا فقد ذُبح بغير سكين"، قال الترمذيّ: هذا حديث حسن. وقيل في هذا الحديث: إنه لم يخرج مخرج الذم للقضاء، وإنما وصفه بالمشقة، فكأن من وَلِيَه قد حُمل على مشقة كمشقة الذبح، قاله ابن قُدامة
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب.
(المسألة الثالثة): الناس في القضاء على ثلاثة أضرب:
[الأول]: من لا يجوز له الدخول فيه، وهو من لا يحسنه، ولم تجتمع فيه شروطه، فقد رُوي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال:"القضاة ثلاثة. . ." ذكر منهم رجلًا قضى بين الناس بجهل، فهو في النار، ولأن من لا يحسنه لا يقدر على العدل فيه، فيأخذُ الحق من مستحقه، فيدفعه إلى غيره.
[الثاني]: من يجوز له، ولا يجب عليه، وهو من كان من أهل العدالة والاجتهاد، ويوجد غيره مثله، فله أن يلي القضاء بحكم حاله، وصلاحيته ولا يجب عليه؛ لأنه لم يتعيَّن له، وظاهر كلام أحمد أنَّه لا يُستحب له الدخول
(1)
"المغني" 14/ 5 - 7.
فيه؛ لِمَا فيه من الخطر والغَرر، وفي تَرْكه من السلامة، ولِمَا ورد فيه من التشديد والذم، ولأن طريقة السلف الامتناع منه والتوقي، وقد أراد عثمان رضي الله عنه تولية ابن عمر القضاء فأباه، وقال أبو عبد الله بن حامد: إن كان رجلًا خاملًا لا يُرجع إليه في الأحكام، ولا يُعرَف، فالأولى له توليه؛ لِيُرجَع إليه في الأحكام، ويقوم به الحق، وينتفع به المسلمون، وإن كان مشهورًا في الناس بالعلم، يُرجع إليه في تعليم العلم والفتوى، فالأولى الاشتغال بذلك؛ لِمَا فيه من النفع مع الأمن من الغرر، ونحو هذا قال أصحاب الشافعيّ، وقالوا أيضًا: إذا كان ذا حاجة، وله في القضاء رزق، فالأولى له الاشتغال به، فيكون أولى من سائر المكاسب؛ لأنه قربة وطاعة، وعلى كل حال فإنَّه يُكره للإنسان طلبه، والسعي في تحصيله؛ لأنَّ أنسًا رضي الله عنه رَوَى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال:"من ابتغى القضاء، وسأل فيه شفعاء، وُكل إلى نفسه، ومن أُكره عليه أنزل الله عليه مَلَكًا يسدده"، قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن سمرة:"يا عبد الرحمن لا تسأل الإمارة، فإنك إن أُعطيتها عن مسألة، وُكلت إليها، وإن أُعطيتها من غير مسألة أُعنت عليها"، متفق عليه.
[الثالث]: من يجب عليه، وهو من يصلح للقضاء، ولا يوجد سواه، فهذا يتعيَّن عليه؛ لأنه فرض كفاية، لا يقدر على القيام به غيره، فيتعيَّن عليه، كغسل الميت وتكفينه، وقد نُقل عن أحمد ما يدلّ على أنَّه لا يتعين عليه، فإنَّه سئل: هل يأثم القاضي إذا لم يوجد غيره؟ قال: لا يأثم، فهذا يَحْتَمِل أنَّه يُحْمَل على ظاهره في أنَّه لا يجب عليه؛ لِمَا فيه من الخطر بنفسه، فلا يلزمه الإضرار بنفسه لنفع غيره، ولذلك امتنع أبو قلابة منه، وقد قيل له: ليس غيرك، ويَحْتَمِل أن يُحمَل على من لم يمكنه القيام بالواجب لظلم السلطان أو غيره، فإن أحمد قال: لا بد للناس من حاكم، أتذهب حقوق الناس؟، ذكره ابن قُدامة رحمه الله
(1)
، والله تعالى أعلم.
(المسألة الرابعة): قال ابن قُدامة رحمه الله: يجوز للقاضي أخذ الرزق على القضاء، ورَخَّص فيه شُريح، وابن سيرين، والشافعيّ، وأكثر أهل العلم، ورُوي
(1)
"المغني" 14/ 7 - 9.
عن عمر رضي الله عنه أنَّه استعمل زيد بن ثابت على القضاء، وفَرَض له رزقًا، ورَزَق شريحًا في كل شهر مائة درهم، وبعث إلى الكوفة عمارًا، وعثمان بن حُنيف، وابن مسعود، ورزقهم كل يوم شاة، نصفها لعمّار، ونصفها لابن مسعود وعثمان، وكان ابن مسعود قاضيهم، ومعلمهم، وكتب إلى معاذ بن جبل، وأبي عبيدة حين بعثهما إلى الشام: أن انظرا رجالًا من صالحي مَن قِبَلكم، فاستعملوهم على القضاء، وأوسعوا عليهم، وارزقوهم واكفوهم من مال الله.
وقال أبو الخطاب: يجوز له أخذ الرزق مع الحاجة، فأما مع عدمها فعلى وجهين، وقال أحمد: ما يعجبني أن يأخذ على القضاء أجرًا، وإن كان فبقدر شغله، مثل ولي اليتيم، وكان ابن مسعود والحسن يكرهان الأجر على القضاء، وكان مسروق، وعبد الرحمن بن القاسم بن عبد الرحمن لا يأخذان عليه أجرًا، وقالا: لا نأخذ أجرًا على أن نعدل بين اثنين.
وقال أصحاب الشافعيّ: إن لم يكن متعيّنًا جاز له أخذ الرزق عليه، وإن تعيّن لم يجز إلا مع الحاجة، قال ابن قُدامة: والصحيح جواز أخذ الرزق عليه بكل حال؛ لأنَّ أبا بكر رضي الله عنه لَمّا ولي الخلافة، فرضوا له الرزق كل يوم درهمين، ولِمَا ذكرناه من أن عمر رَزَق زيدًا وشريحًا وابن مسعود، وأمر بفرض الرزق لمن تولى من القضاة، ولأن بالناس حاجة إليه، ولو لم يَجُز فرض الرزق لتعطل، وضاعت الحقوق، فأما الاستئجار عليه فلا يجوز، قال عمر رضي الله عنه: لا ينبغي لقاضي المسلمين أن يأخذ على القضاء أجرًا، وهذا مذهب الشافعيّ، ولا نعلم فيه خلافًا، وذلك لأنه قربة يختص فاعله أن يكون من أهل القربة، فأشبه الصلاة، ولأنه لا يعمله الإنسان عن غيره، وإنما يقع عن نفسه، فأشبه الصلاة، ولأنه عمل غير معلوم، فإن لم يكن للقاضي رزق، فقال للخصمين: لا أقضي بينكما حتى تجعلا لي رزقًا عليه جاز، ويَحْتَمِل أن لا يجوز. انتهى كلام ابن قدامة رحمه الله
(1)
، وهو بحث نفيس جدًّا، والله تعالى أعلم بالصواب.
(المسألة الخامسة): قال ابن قُدامة رحمه الله أيضًا: إذا كان الإمام في بلد فعليه أن يبعث القضاة إلى الأمصار غير بلده، فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم بعث عليًّا قاضيًا
(1)
"المغني" 14/ 9 - 10.
إلى اليمن، وبعث معاذ بن جبل إلى اليمن أيضًا، وقال له:"بم تحكم؟ " قال: بكتاب الله تعالى، قال:"فإن لم تجد؟ " قال: فبسُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:"فإن لم تجد؟ " قال: أجتهد رأيي، قال:"الحمد لله الذي وفّق رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم لِمَا يرضي رسول الله صلى الله عليه وسلم".
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الحديث في سنده مجهول، على أن بعضهم صححه؛ لشهرته، وتلقّي الناس له بالقبول، وقد أشبعت الكلام فيه في "التحفة المرضيّة"، و"شرحها" في الأصول، ورجّحت تصحيح من صححه، فراجعه هناك، والله تعالى أعلم.
قال: وبعث عمر شُريحًا على قضاء الكوفة، وكعب بن سوار على قضاء البصرة، وكتب إلى أبي عبيدة ومعاذ يأمرهما بتولية القضاء في الشام؛ لأنَّ أهل كل بلد يحتاجون إلى القاضي، ولا يمكنهم المصير إلى بلد الإمام، ومن أمكنه ذلك شقّ عليه، فوجب إغناؤهم عنه. انتهى
(1)
والله تعالى أعلم.
(المسألة السادسة): إذا أراد الإمام تولية قاض، فإن كان له خِبْرة بالناس، ويَعرف من يصلح للقضاء ولّاه، وإن لم يَعرف ذلك سأل أهل المعرفة بالناس، واسترشدهم على من يصلح، وإن ذُكر له رجل لا يعرفه أحضره وسأله، وإن عَرف عدالته، وإلا بحث عن عدالته، فإذا عرفها ولّاه، ويكتب له عهدًا يأمره فيه بتقوى الله، والتثبت في القضاء، ومشاورة أهل العلم، وتصفح أحوال الشهود، وتأمل الشهادات، وتعاهد اليتامى، وحفظ أموالهم، وأموال الوقوف، وغير ذلك، مما يحتاج إلى مراعاته، ثمَّ إن كان البلد الذي ولاه قضاءه بعيدًا، لا يستفيض إليه الخبر بما يكون في بلد الإمام، أحضر شاهدين عدلين، وقرأ عليهما العهد، أو أقرأه غيره بحضرته، وأشهدهما على توليته ليمضيا معه إلى بلد ولايته، فيقيما له الشهادة، ويقول لهما: اشهدا على أني قد ولّيته قضاء البلد الفلاني، وتقدمت إليه بما اشتمل هذا العهد عليه، وإن كان البلد قريبًا من بلد الإمام، يستفيض إليه ما يجري في بلد الإمام، مثل أن يكون بينهما خمسة أيام، أو ما دونها، جاز أن يكتفي بالاستفاضة، دون الشهادة؛
(1)
"المغني" 14/ 10 - 11.
لأنَّ الولاية تثبت بالاستفاضة، وبهذا قال الشافعي، إلا أن عنده في ثبوت الولاية بالاستفاضة في البلد القريب وجهين، وقال أصحاب أبي حنيفة: تثبت بالاستفاضة، ولم يفصلوا بين القريب والبعيد؛ لأنَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم ولَّى عليًّا، ومعاذًا قضاء اليمن، وهو بعيد من غير شهادة، وولّى الولاة في البلدان البعيدة، وفوّض إليهم الولاية والقضاء، ولم يُشهِد، وكذلك خلفاؤه، ولم يُنقل منهم الإشهاد على تولية القضاء مع بُعد بلدانهم.
واحتجّ الأولون بأن القضاء لا يثبت إلا بأحد الأمرين، وقد تعذرت الاستفاضة في البلد البعيد؛ لعدم وصولها إليه، فتعيّن الإشهاد، ولا نسلّم أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يُشهد على توليته، فإن الظاهر أنَّه لم يبعث واليًا إلا ومعه جماعة، فالظاهر أنَّه أشهدهم، وعدم نَقْله لا يلزم منه عدم فعله، وقد قام دليله فتعيّن وجوده. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي ما قاله الحنفيّة أرجح؛ لأنه الظاهر، وما ذكره هؤلاء احتمالٌ، ولا ينبغي ترك الظاهر للاحتمال، فتبصّر، والله تعالى أعلم.
(المسألة السابعة): ينبغي أن يكون الحاكم قويًّا، من غير عُنف، ليّنًا من غير ضعف، لا يطمع القوي في باطله، ولا ييأس الضعيف من عدله، ويكون حليمًا، متأنيًا، ذا فطنة وتيقظ، لا يُؤتَى من غفلة، ولا يُخْدَع لغِرّة، صحيح السمع والبصر، عالمًا بلغات أهل ولايته، عفيفًا ورعًا نزهًا بعيدًا عن الطمع، صدوق اللَّهجة، ذا رأي ومشورة، لكلامه لِيْن إذا قَرُب، وهَيْبة إذا أوعد، ووفاء إذا وعد، ولا يكون جبارًا، ولا عَسُوفًا، فيقطع ذا الحجة عن حجته. قال عليّ رضي الله عنه:"لا ينبغي أن يكون القاضي قاضيًا حتى تكون فيه خمس خصال: عفيف، حليم، عالم بما كان قبله، يستشير ذوي الألباب، لا يخاف في الله لومة لائم". وعن عمر بن عبد العزيز قال: "ينبغي للقاضي أن تجتمع فيه سبع خلال، إن فاتته واحدة كانت فيه وَصْمة: العقل، والفقه، والورع، والنزاهة، والصرامة، والعلم بالسنن والحكم"، ورواه سعيد، وفيه: "يكونُ فَهِمًا، حليمًا،
(1)
"المغني" 14/ 11 - 12.
عفيفًا، صلبًا سَئَّالًا عما لا يعلم"، وفي رواية: "محتملًا للأئمة، ولا يكون ضعيفًا مَهِينًا؛ لأنَّ ذلك يبسط المتخاصمين إلى التهاتر، والتشاتم بين يديه"، قال عمر رضي الله عنه: لأعزلن فلانًا عن القضاء، ولأستعملن رجلًا إذا رآه الفاجر فَرِقَه.
وله أن ينتهر الخصم إذا التوى، ويصيح عليه، وان استحق التعزير عزّره بما يرى من أدب، أو حبس، وإن افتات عليه بأن يقول: حكمت علي بغير الحق، أو ارتشيت فله تأديبه، وله أن يعفو، وإن بدأ المنكِر باليمين قَطَعها عليه، وقال: البيّنة على خصمك، فإن عاد عزّره إن رأى، وأمثالُ ذلك مما فيه إساءة الأدب فله معاقبة فاعله، وله العفو. ذكره ابن قُدامة رحمه الله
(1)
، وهو بحث نفيس جدًّا، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثامنة): (اعلم): أن الحاكم إذا حضرته قضية تبيّن له حُكمها في كتاب الله تعالى، أو سُنَّة رسوله، أو إجماع، أو قياس جليّ حَكَم، ولم يَحتج إلى رأي غيره؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ، حين بعثه إلى اليمن:"بم تحكم؟ " قال: بكتاب الله، قال:"فإن لم تجد؟ " قال: بسُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:"فإن لم تجد" قال: أجتهد برأيي، قال:"الحمد لله الذي وفّق رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم لِمَا يرضي رسول الله صلى الله عليه وسلم "
(2)
، فإن احتاج إلى الاجتهاد استُحب له أن يشاور؛ لقول الله تعالى:{وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} الآية [آل عمران: 159]. قال الحسن: إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لغنيًا عن مشاورتهم، وإنما أراد أن يستن بذلك الحكام بعده، وقد شاور النبيّ صلى الله عليه وسلم أصحابه في أسارى بدر، وفي مصالحة الكفار يوم الخندق، وفي لقاء الكفار يوم بدر. ورُوي: ما كان أحد أكثر مشاورة لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشاور أبو بكر الناس في ميراث الجدة، وعمر في دية الجنين، وشاور الصحابةَ في حدّ الخمر. وروي أن عمر كان يكون عنده جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، منهم عثمان، وعليّ، وطلحة، والزبير، وعبد الرحمن بن عوف، إذا نزل به الأمر شاوَرهم فيه، ولا مخالِف في استحباب ذلك، قال أحمد: لمّا وَلِي سعْدُ بن إبراهيم قضاء المدينة، كان
(1)
"المغني" 14/ 17 - 18.
(2)
تقدَّم الكلام على هذا الحديث قريبًا.
يجلس بين القاسم وسالم يشاورهما، وَوَلِي محارب بن دثار قضاء الكوفة فكان يجلس بين الحَكَم وحمّاد يشاورهما، ما أحسن هذا لو كان الحكام يفعلونه، يشاورون وينتظرون، ولأنه قد ينتبه بالمشاورة، ويتذكر ما نسيه بالمذاكرة، ولأن الإحاطة بجميع العلوم متعذرة، وقد ينتبه لإصابة الحق، ومعرفة الحادثة من هو دون القاضي، فكيف بمن يساويه، أو يزيد عليه!؟ فقد رُوي أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه جاءته الجدتان، فوَرَّث أم الأم، وأسقط أم الأب، فقال له عبد الرحمن بن سهل: يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لقد أسقطت التي لو ماتت ورثها، ووَرّثتَ التي لو ماتت لم يرثها، فرجع أبو بكر، فأشرك بينهما. ورَوَى عمر بن شَبّة عن الشعبي أن كعب بن سوّار كان جالسًا عند عمر، فجاءته امرأة، فقالت يا أمير المؤمنين، ما رأيت رجلًا قط أفضل من زوجي، والله إنه ليبيت ليله قائمًا، ويظل نهاره صائمًا، في اليوم الحارّ، ما يُفطر، فاستغفر لها، وأثنى عليها، وقال: مثلك أُنْثَى الخير، قال: واستحيت المرأة فقامت راجعة، فقال كعب: يا أمير المؤمنين هَلّا أعديت المرأة على زوجها، قال: وما شَكَت؟، قال: شكت زوجها أشدّ الشكاية، قال: أَوَ ذاك أرادت؟ قال: نعم، قال: رُدُّوا عليّ المرأة، فقال: لا بأس بالحق أن تقوليه، إن هذا زعم أنك جئت تشكين زوجك، أنَّه يجتنب فراشك، قالت: أجل، إني امرأة شابة، وإني لأبتغي ما يبتغي النساء، فأرسل إلى زوجها، فجاء، فقال لكعب: اقض بينهما، قال: أمير المؤمنين أحق أن يقضي بينهما، قال: عزمت عليك لتقضينّ بينهما، فإنك فهمت من أمرها ما لم أفهم، قال: فإني أرى كأنها عليها ثلاث نسوة، هي رابعتهن، فأقضي له بثلاثة أيام بلياليهن، يتعبد فيهن، ولها يوم وليلة، فقال عمر: والله ما رأيك الأوّل، أعجب إلي من الآخِر، اذهب فأنتَ قاض على البصرة.
إذا ثبت هذا، فإنَّه يشاور أهل العلم والأمانة؛ لأنَّ من ليس كذلك فلا قول له في الحادثة، ولا يُسكن إلى قوله، قال سفيان: وليكن أهل مشورتك أهل التقوى، وأهل الأمانة، ويشاور الموافقين والمخالفين، ويسألهم عن حجتهم؛ لِيَبِين له الحق.
والمشاورة ههنا لاستخراج الأدلة، ويُعرفُ الحق بالاجتهاد، ولا يجوز
أن يقلد غيره، ويحكم بقولِ سواه، سواء ظهر له الحق فخالفه غيره فيه، أو لم يظهر له شيء، وسواء ضاق الوقت، أو لم يضق، وكذلك ليس للمفتي الفتيا بالتقليد، وبهذا قال الشافعيّ، وأبو يوسف، ومحمد، وقال أبو حنيفة: إذا كان الحاكم من أهل الاجتهاد جاز له تركُ رأيه لرأي من هو أفقه منه عنده، إذا صار إليه، فهو ضربٌ من الاجتهاد، ولأنه يَعتقد أنَّه أعرف منه بطريق الاجتهاد.
وحجة الأولين أنَّه من أهل الاجتهاد، فلم يجز له تقليد غيره، كما لو كان مثله كالمجتهدين في القِبلة، وما ذَكَره ليس بصحيح، فإن من هو أفقه منه، يجوز عليه الخطأ، فإذا اعتقد أن ما قاله خطأ، لم يجز له أن يعمل به، وإن كان لم يَبِنْ له الحق، فلا يجوز له أن يحكم بما يجوز أن يَبِين له خطؤه إذا اجتهد. قاله ابن قُدامة رحمه الله
(1)
، وهو بحث نفيس جدًّا، والله تعالى أعلم بالصواب.
(1) - (بَابٌ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4462]
(1711) - (حَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ سَرْحٍ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَوْ يُعْطَى النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ لَادَّعَى نَاسٌ دِمَاءَ رِجَالٍ وَأَمْوَالَهُمْ، وَلَكِنَّ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(أَبُو الطَّاهِرِ أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ سَرْحٍ) المصريّ، ثقةٌ [10](ت 250)(م د س ق) تقدم في "المقدمة" 3/ 10.
2 -
(ابْنُ وَهْبٍ) عبد الله بن وهب بن مسلم القرشيّ مولاهم، أبو محمَّد المصريّ، ثقةٌ حافظٌ عابد فقيه [9](ت 197)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 10.
(1)
"المغني" 14/ 26 - 29.
3 -
(ابْنُ جُرَيْجٍ) عبد الملك بن عبد العزيز بن جُريج الأمويّ مولاهم، أبو خالد، وأبو الوليد المكيّ، ثقةٌ فقيهٌ فاضلٌ يدلّس ويرسل [6](ت 150) أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 129.
4 -
(ابْنُ أَبي مُلَيْكَةَ) عبد الله بن عُبيد الله بن أبي مُليكة زُهير بن عبد الله المكيّ، ثقةٌ فقيه أدرك ثلاثين من الصحابة [3](ت 117)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 22.
5 -
(ابْنُ عَبَّاسٍ) عبد الله البحر الحبر، ترجمان القرآن الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، مات بالطائف سنة (68)(ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 124.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنَّه مسلسل بالمكيين غير الأوَّلَين، فمصريّان، وفيه ابن عبّاس رضي الله عنهما أحد العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة، روى (1696) حديثًا، واحد المشهورين بالفتوى.
شرح الحديث:
(عَن) عبد الله بن عبيد الله (بْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ) زُهير بن عبد الله بن جُدْعان (عَن) عبد الله (ابْنِ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما (أَنَّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَوْ يُعْطَى النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ) هكذا ساقه المصنّف مختصرًا، وكذا البخاريّ في موضعين، وساقه مطوّلًا في "التفسير"، فقال: حدّثنا نصر بن عليّ بن نصر، حدّثنا عبد الله بن داود، عن ابن جريج، عن ابن أبي مليكة: أن امرأتين كانتا تَخْرُزان بيت، أو في الحجرة، فخرجت إحداهما، وقد أُنْفِذَ بإشفى
(1)
في كفها، فادَّعت على الأخرى، فرُفع أمرهما إلى ابن عباس، فقال ابن عباس: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو يعطى الناس بدعواهم، لذهب دماء قوم وأموالهم"، ذَكِّروها بالله، واقرؤوا عليها:{إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ} [آل عمران: 77]، فذَكَّروها، فاعترفت، فقال ابن عباس: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "اليمين على المدعَى عليه"
(2)
.
ولفظ النسائيّ من طريق نافع بن عُمر، عن ابن أبي مُليكة قال: كانت
(1)
"الإشفى" بالكسر: هو الْمِخْرَزُ، آلة للإسكاف، والجمع: الأشافي.
(2)
"صحيح البخاريّ" 4/ 1656.
جاريتان تخرْزان
(1)
بالطائف، فخرجت إحداهما ويدها تَدْمَى، فزعمت أن صاحبتها أصابتها، وأنكرت الأخرى، فكتبتُ إلى ابن عباس في ذلك، فكتب:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَضَى أن اليمين على المدعَى عليه، ولو أن الناس أُعْطُوا بدعواهم لادَّعَى ناس أموال ناس ودماءهم"، فادعُها، واتل عليها هذه الآية:{إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ} [آل عمران: 77] حتى ختم الآية، فدَعَوْتُها، فتلوتُ عليها، فاعترفتْ بذلك، فَسَرَّهُ. انتهى
(2)
.
وقوله: (لَوْ يُعْطَى) - بضمّ أوله، وفتح ثالثه -، مبنيًّا للمفعول، (النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ) متعلّق بـ "يُعْطى"، والباء سببيّة، و"الناس": اسم وُضع للجمع، كالقوم، والرهط، وواحده إنسانٌ من غير لفظه، مشتقّ من ناس ينُوس: إذا تدلّى، وتحرّك، فيُطلق على الجنّ والإنس، قال تعالى:{الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ} [الناس: 5]، ثمَّ فسّر الناس بالجنّ والإنس، فقال:{مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} [الناس: 6].
(لَادَّعَى نَاسٌ دِمَاءَ رِجَالٍ وَأَمْوَالَهُمْ، وَلَكِنَّ) بتشديد النون، (الْيَمِينَ) بالنصب على أنَّه اسم "لكنّ"، وخبرها قوله:(عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ") بصيغة اسم المفعول، ورواه الطبراني من رواية سفيان، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما، بلفظ:"البينةُ على المدعِي، واليمين على المدعَى عليه"، وقال: لم يروه عن سفيان إلا الفريابيّ، وأخرجه الإسماعيليّ من رواية ابن جريج، بلفظ:"ولكن البينة على الطالب، واليمين على المطلوب"، وأخرجه البيهقيّ من طريق عبد الله بن إدريس، عن ابن جريج، وعثمان بن الأسود، عن ابن أبي مليكة: كنت قاضيًا لابن الزبير على الطائف، فذكر قصة المرأتين، فكتبت إلى ابن عباس، فكتب إليّ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لو يُعطَى الناس بدعواهم لادّعى رجال أموال قوم ودماءهم، ولكن البينة على المدعي، واليمين على من أَنْكَر"، وهذه الزيادة ليست في "الصحيحين"، وإسنادها حسن، قاله في "الفتح"
(3)
.
(1)
من بابي ضرب، ونصر.
(2)
"سنن النسائيّ، المجتبى" 8/ 248.
(3)
6/ 548، كتاب "الشهادات" رقم (2668).
وقال القرطبيّ رحمه الله: وهذا الحديث أصل من أصول الأحكام، وأعظم مرجع عند التنازع والخصام، يقتضي ألا يُحكَم لأحد بدعواه - وإن كان فاضلًا شريفًا - في حقٍّ من الحقوق - وإن كان محتقَرًا يسيرًا - حتَّى يستند المدَّعي إلى ما يقوّي دعواه، وإلا فالدَّعاوي متكافئة، والأصل: براءة الذمم من الحقوق، فلا بدَّ مما يدلّ على تعلُّق الحق بالذمَّة، وتترجَّحُ به الدعوى. انتهى
(1)
.
[تنبيهان]:
(الأوّل): الحكمة في كون البينة على المدعِي، واليمين على المدعَى عليه، هو ما بيّنه النبيّ صلى الله عليه وسلم:"لو يُعطَى الناس بدعواهم لادَّعَى ناس دماء رجال، وأموالهم".
وقال العلماء: الحكمة في ذلك أن جانب المدعِي ضعيف؛ لأنه يقول خلاف الظاهر، فكُلّف الحجة القوية، وهي البينة؛ لأنها لا تجلُب لنفسها نفعًا، ولا تدفع عنها ضررًا، فيقوى بها ضَعف المدعِي، وجانب المدعَى عليه قويّ؛ لأنَّ الأصل فراغ ذمته، فاكتُفي منه باليمين، وهي حجة ضعيفة؛ لأنَّ الحالف يجلب لنفسه النفع، ويدفع الضرر، فكان ذلك في غاية الحكمة.
(الثاني): اختَلَف الفقهاء في تعريف المدّعِي، والمدّعَى عليه، والمشهور فيه تعريفان:
[الأول]: المدعِي: من يخالف قولُه الظاهرَ، والمدعَى عليه بخلافه.
[والثاني]: المدعِي: من إذا سكت تُرك وسكوتَهُ، والمدعَى عليه: من لا يُخَلَّى إذا سكت، والأول أشهر، والثاني أسلم، وقد أُورد على الأوّل: أن المودَع إذا ادّعى الردّ، أو التلَف، فإن دعواه تخالف الظاهر، ومع ذلك فالقول قوله، وقيل في تعريفهما غير ذلك. قاله في "الفتح"
(2)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(1)
"المفهم" 5/ 148.
(2)
6/ 548 - 549، كتاب "الشهادات" رقم (2668).
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث ابن عباس رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.
[تنبيه]: قال النوويّ رحمه الله: هكذا رَوَى هذا الحديثَ البخاريّ ومسلم في "صحيحيهما" مرفوعًا، من رواية ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهكذا ذكره أصحاب "السنن"، وغيرهم، قال القاضي عياض رحمه الله: قال الأصيليّ: لا يصح مرفوعًا، إنما هو قول ابن عباس رضي الله عنهما، كذا رواه أيوب، ونافع الْجُمَحيّ، عن ابن أبي مليكة، عن ابن عباس رضي الله عنهما. قال القاضي: قد رواه البخاريّ ومسلم من رواية ابن جريج، مرفوعًا. هذا كلام القاضي.
قال النوويّ: وقد رواه أبو داود، والترمذيّ بأسانيدهما عن نافع بن عمر الجمحيّ، عن ابن أبي مليكة، عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مرفوعًا، قال الترمذيّ: حديث حسن صحيح، وجاء في رواية البيهقيّ وغيره بإسناد حسن، أو صحيح زيادة، عن ابن عباس، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"لو يُعْطَى الناسُ بدعواهم لادَّعَى قوم دماء قوم وأموالهم، ولكن البينة على المدعِي، واليمين على من أنكر". انتهى
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله بعد ذكر كلام الأصيليّ المذكور - ما نصّه: إذا صحَّ رَفْعه بشهادة الإمامين فلا يضرُّه مَنْ وَقَفه، ولا يكون ذلك تعارضًا، ولا اضطرابًا، فإن الرَّاوي قد يَعْرِض له ما يوجب السكوت عن الرفع من نسيان، أو اكتفاءً بعلم السَّامع، أو غير ذلك، والرَّافع عدلٌ، ثبتٌ، ولم يكذّبه الآخر فلا يُلتفت إلى الوقف، إلا في الترجيح عند التعارض، كما بيَّنَّاه في الأصول. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن بما ذُكر أن دعوى الأصيليّ تضعيفَ رَفْع هذا الحديث، وطعْنَه في الشيخين، حيث أخرجاه في "صحيحيهما" مرفوعًا دعوى باطلة، تنادي يكون بضاعته مزجاة، فهو كما قال القائل [من البسيط]:
كَنَاطِحٍ صَخْرَةً يَوْمًا لِيُوهِنَهَا
…
فَلَمْ يَضِرْهَا وَأَوْهَى قَرْنَهُ الْوَعِلُ
(المسألة الثانية): في تخريجه:
(1)
"شرح النوويّ" 12/ 2.
(2)
"المفهم" 5/ 147 - 148.
أخرجه (المصنّف) هنا [1/ 4462 و 4463](1711)، و (البخاريّ) في "الرهن"(2514) و"الشهادات"(2668) و"التفسير"(4552)، و (أبو داود) في "الأقضية"(3619)، و (الترمذيّ) في "الأحكام"(1342)، و (النسائيّ) في "أداء القضاة"(5427) و"الكبرى"(5994)، و (ابن ماجه) في "الأحكام"(2321)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(15193)، و (الشافعيّ) في "مسنده"(2/ 180 - 181)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 343 و 351 و 356 و 363)، و (ابن حبَّان) في "صحيحه"(5082)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(11224 و 11225)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 55)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(3/ 191 و 202)، و (الدارقطنيّ) في "سننه"(4/ 157)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(10/ 252)، و (البغويّ) في "شرح السُّنّة"(2501)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان أن اليمين على المدّعى عليه، والبيّنة على المدّعي.
2 -
(ومنها): ما قال النوويّ رحمه الله: وهذا الحديث قاعدة كبيرةٌ من قواعد أحكام الشرع، ففيه أنَّه لا يُقْبَل قول الإنسان فيما يدّعيه بمجرد دعواه، بل يَحتاج إلى بيّنة، أو تصديق المدعَى عليه، فإن طلب يمين المدعَى عليه فله ذلك، وقد بَيَّن صلى الله عليه وسلم الحكمة في كونه لا يُعْطَى بمجرد دعواه؛ لأنه لو كان أُعطي بمجردها لادَّعَى قوم دماء قوم وأموالهم، واستبيح، ولا يمكن المدعَى عليه أن يصون ماله ودمه، وأما المدعي فيمكنه صيانتهما بالبينة. انتهى
(1)
.
3 -
(ومنها): أنَّه استُدِلّ بقوله: "اليمين على المدعَى عليه" للجمهور بحمله على عمومه، في حقّ كل واحد، سواء كان ببن المدعي والمدعى عليه اختلاط أم لا، وعن مالك: لا تتوجه اليمين إلا على من بينه وبين المدعي اختلاط؛ لئلا يَبتَذِل أهل السَّفَه أهلَ الفضل بتحليفهم مرارًا، وقريب من مذهب مالك قول الإصطخري من الشافعية: إن قرائن الحال إذا شهدت بكذب المدَّعي، لم يُلتفت إلى دعواه، قاله في "الفتح"
(2)
.
(1)
"شرح النوويّ" 12/ 3.
(2)
"الفتح" 6/ 549، كتاب "الشهادات" رقم (2668).
وقال النوويّ رحمه الله: وفي هذا الحديث دلالة لمذهب الشافعيّ، والجمهور، مِنْ سلف الأمة وخلفها، أن اليمين تتوجه على كل مَن ادُّعِي عليه حقّ، سواء كان بينه وبين المدعِي اختلاط أم لا، وقال مالك، وجمهور أصحابه، والفقهاء السبعة، فقهاء المدينة: إن اليمين لا تتوجه إلا على من بينه وبينه خُلْطة؛ لئلا يَبتذِل السفهاءُ أهلَ الفضل بتحليفهم مرارًا في اليوم الواحد، فاشتُرطت الخلطة دفعًا؛ لهذه المفسدة، واختلفوا في تفسير الْخُلْطة، فقيل: هي معرفته بمعاملته، ومداينته، بشاهد، أو بشاهدين، وقيل: تكفي الشبهة، وقيل: هي أن تليق به الدعوى بمثلها على مثله، وقيل: أن يليق به أن يعامله بمثلها، ودليل الجمهور حديث الباب، ولا أصل لاشتراط الْخُلطة في كتاب، ولا سُنَّة، ولا إجماع. انتهى
(1)
.
4 -
(ومنها): أنَّه استُدِلّ بقوله: "لادّعَى ناس دماء ناس وأموالهم" على إبطال قول المالكية في التدمية، ووجه الدلالة تسويته صلى الله عليه وسلم بين الدماء والأموال.
[وأجيب]: بأنهم لم يُسندوا القصاص مثلًا إلى قول المدعي، بل للقَسامة، فيكون قوله ذلك لَوْثًا يقوّي جانب المدعي في بداءته بالأيمان، ذَكَره في "الفتح"
(2)
.
5 -
(ومنها): ما قال ابن دقيق العيد رحمه الله: الحديث دليل على أنَّه لا يجوز الحكم إلا بالقانون الشرعيّ الذي رُتِّب، وإن غلب على الظنّ صِدْق المدعِي، ويدل على أن اليمين على المدعَى عليه مطلقًا، وقد اختلف الفقهاء في اشتراط أمر آخر في وجه اليمين على المدعى عليه.
وفي مذهب مالك وأصحابه: تصرفات بالتخصيصات لهذا العموم، خالفهم فيها غيرهم.
منها: اعتبار الخلطة بين المدعي والمدعى عليه في اليمين.
ومنها: أن من ادعى سببًا من أسباب القصاص: لم تجب به اليمين، إلا أن يقيم على ذلك شاهدًا فتجب اليمين.
(1)
"شرح النوويّ" 12/ 3.
(2)
6/ 549، كتاب "الشهادات" رقم (2668).
ومنها: إذا ادعى رجل على امرأة نكاحًا، لم يجب له عليها اليمين في ذلك، قال سحنون منهم: إلا أن يكونا طارئين.
ومنها: أن بعض الأمناء - ممن يَجعل القول قوله - لا يوجبون عليه يمينًا.
ومنها: دعوى المرأة طلاقًا على الزوج.
وكل من خالفهم في شيء من هذا يستدل بعموم هذا الحديث. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: لا يخفى أن ما ذهب إليه الجمهور هو الأرجح؛ لعموم حديث الباب، والله تعالى أعلم.
6 -
(ومنها): ما تقدَّم في قصّة المرأتين، أن فيه مشروعيّة وَعْظ من تتوجّه عليه اليمين بالآية الكريمة، ونحوها؛ ليرتدع عن الإقدام على اليمين الكاذبة، كما اتّفق لهذه المرأة، فقد اعترفت لَمّا وعظوها بالآية.
7 -
(ومنها): أن في أمر ابن عبّاس رضي الله عنهما بتلاوة الآية الإشارة إلى العمل بعموم الآية، دون النظر إلى خصوص سببها، فإنها كما تقدَّم نزلت في الأشعث بن قيس رضي الله عنه كانت بينه وبين رجل أرض، فجحده إياها، وقد تقدّمت قصّته في "المساقاة"، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4463]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ، عَنْ نَافِعِ بْنِ عُمَرَ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: "أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَضَى بِالْيَمِينِ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(نَافِعُ بْنُ عُمَرَ) بن عبد الله بن جَمِيل بن عامر بن حِذْيَم بن سلامان بن ربيعة بن سعد بن جُمَح الْجُمَحيّ المكيّ الحافظ، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار [7] تقدم في "المقدمة" 4/ 22.
(1)
"إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام" 3/ 161 - 162.
2 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) عبد الله بن محمَّد بن أبي شيبة إبراهيم بن عثمان العبسيّ الكوفيّ، واسطيّ الأصل، ثقةٌ حافظ، صاحب تصانيف [10](ت 235)(خ م د س ق) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.
3 -
(مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ) العبديّ، أبو عبد الله الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ [9](ت 203)(ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 107.
والباقيان ذُكرا قبله.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، ولله الحمد والمنّة، وله الفضل والنعمة.
(2) - (بَابُ الْقَضَاءِ بِالْيَمِينِ وَالشَّاهِدِ)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4464]
(1712) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا زَيْدٌ - وَهُوَ ابْنُ حُبَابٍ - حَدَّثَنِي سَبْفُ بْنُ سُلَيْمَانَ، أَخْبَرَنِي قَيْسُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: "أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَضَى بِيَمِينٍ وَشَاهِدٍ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ) الْهَمْدانيّ، أبو عبد الرحمن الكوفيّ، ثقةٌ حافظ فاضلٌ [10](ت 234)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 5.
2 -
(زَيْدُ بْنُ حُبَابٍ) أبو الحسين الْعُكليّ، أصله من خُراسان، وكان بالكوفة، صدوقٌ يُخطئ في حديث الثوريّ [9](ت 203)(م 4) تقدم في "الطهارة" 6/ 560.
3 -
(سَيْفُ بْنُ سُلَيْمَانَ) أو ابن أبي سليمان المخزوميّ المكيّ، ثمَّ البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ، رُمي بالقدر، [6] مات بالبصرة بعد (150)(خ م د س ق) تقدم في "الصلاة" 16/ 906.
4 -
(قَيْسُ بْنُ سَعْدٍ) المكيّ، أبو عبد الملك، أو أبو عبد الله الحبشيّ، ثقةٌ [6] مات سنة بضع عشرة ومائة (خت م د س ق) تقدم في "المقدمة" 4/ 21.
5 -
(عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ) الأثرم الْجُمحيّ مولاهم، أبو محمَّد المكيّ، ثقةٌ ثبتٌ [4](ت 126)(ع) تقدم في "الإيمان" 21/ 184.
والباقيان ذُكرا في السند الماضي.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنَّه مسلسل بالمكيين من سيف، والباقون كوفيّون، وفيه ابن عبّاس رضي الله عنهما، تقدَّم الكلام فيه قبل حديث.
شرح الحديث:
(عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَضَى بِيَمِينٍ وَشَاهِدٍ)؛ أي: حَكَم بيمين المدّعي مع شاهد واحد، والحقّ أن هذا تقعيد لقاعدة عامّة يُعمل بها دائمًا، لا كما يقول بعضهم: هذه قضيّة عين، لا عموم لها، وقال القرطبيّ رحمه الله: ظاهره: أنَّه صلى الله عليه وسلم حكم في قضية معيَّنة تُحُوكِمَ عنده فيها بيمين وشاهد، ويَحْتَمِل أن يكون ذلك عبارة عن تقعيد هذه القاعدة، فكأنه قال: أوجب رسول الله صلى الله عليه وسلم الحكم باليمين والشاهد، ومِمَّا يشهد لهذا التأويل: ما زاده أبو داود في حديث ابن عباس رضي الله عنهما: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بشاهد ويمين في الحقوق"، وهذا الذي يظهر من حديث أبي هريرة رضي الله عنه الذي قال فيه:"قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم باليمين مع الشاهد"، فعلى الظاهر الأوّل من حديث مسلم لا يكون له عموم؛ لأنَّها قضيَّة في عين، وعلى زيادة أبي داود، وظاهر حديث أبي هريرة يكون له عموم. انتهى كلام القرطبيّ
(1)
.
(1)
"المفهم" 5/ 150 - 151.
قال الجامع عفا الله عنه: لا يخفى أن كون الحديث من باب تقعيد القواعد هو الحقّ؛ لِمَا يشهد له من رواية أبي داود، ومن حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وسيأتي تمام البحث في هذا في المسألة الثالثة - إن شاء الله تعالى - والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [2/ 4464](1712)، و (أبو داود) في "الأقضية"(3608)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(6011 و 6012)، و (ابن ماجه) في "الأحكام"(2370)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(6/ 8 و 7/ 305)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 248 و 315 و 323)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(4/ 390)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(7/ 166)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 55 و 57)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(10/ 172)، والله تعالى أعلم.
[تنبيه]: قال العلامة ابن الملقّن: رحمه الله في كتابه "البدر المنير": هذا الحديث - أعني "قضى بشاهد ويمين" - رواه جماعة من الصحابة، قال الماورديّ: رواه من الصحابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانية: عليّ، وابن عبّاس، وأبو هريرة، وجابر بن عبد الله، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وأُبيّ بن كعب، وزيد بن ثابت، وسعد بن عبادة.
قال ابن الملقّن: قلت: بل رواه من الصحابة أكثر من عشرين صحابيًّا، قال ابن الجوزيّ في "تحقيقه": عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنَّه "قضى بشاهد ويمين": عمر بن الخطّاب، وعليّ، وأبو هريرة، وابن عبّاس، وجابر، وابن عمر، وابن عمرو، وزيد بن ثابت، وأبو سعيد الخدريّ، وسعد بن عبادة، وعامر بن ربيعة، وسهل بن سعد، وعُمارة بن حزم، والمغيرة بن شعبة، وبلال بن الحارث، وسلمة بن قيس، وأنس بن مالك، وتميم الداريّ، وزبيب بن ثعلبة، وسُرَّق.
قال المنذريّ: و"زُبيب" - بضمّ الزاي، وفتح الباء الموحّدة، ثم مثناة تحتُ ساكنة، ثم باء موحّدة - قال الحاكم في "علوم الحديث": ليس في الرواة من يُسمَّى بهذا الاسم غيره.
واعتَرَض المنذريّ عليه، فقال: ذكر بعضهم أنه من الأسماء المفردة، وفيه نظرٌ، وفي الرواة من اسمه زُبيب غيره على خلاف فيه، قال: وقد قيل في زبيب بن ثعلبة: زُنيب - بالنون - قاله ابن منده في "مستخرجه".
وفي الباب أيضًا عن أم سلمة.
قال ابن الملقّن: فتلخّص من كل ذلك أن جملة الصحابة الذين رووه اثنان وعشرون.
ورواه الحافظ أبو سعيد محمد بن عليّ بن عمر في "كتاب الشهود بشهادة رجل ويمين الطالب"، رواه من طريق عبد الله بن يزيد مولى المنبعث، عن رجل من أهل مصر، عن سُرَّق، وهو ابن أسد. انتهى كلام ابن الملقّن رحمه الله
(1)
.
(المسألة الثالثة): في الكلام على هذا الحديث:
قال الحافظ الزيلعيّ رحمه الله في كتابه "نصب الراية" - عند الكلام في مسألة القضاء بشاهد ويمين - ما حاصله: قال به مالك، وأحمد، والشافعيّ، وحجتهم في ذلك حديث ابن عباس، أخرجه مسلم، عن سيف بن سليمان، أخبرني قيس بن سعد، عن عمرو بن دينار، عن ابن عباس:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بيمين وشاهد". انتهى.
وأخرجه أبو داود، والنسائيّ، وابن ماجه، وأخرجه أبو داود أيضًا عن عبد الرزاق، أنا محمد بن مسلم، عن عمرو بن دينار، بإسناده ومعناه، قال عمر: وفي الحقوق. انتهى.
(1)
"البدر المنير في تخريج الأحاديث والآثار الواقعة في الشرح الكبير" 9/ 669 - 670.
قال النسائي: وقيس بن سعد ثقة، وسيف بن سليمان ثقة، وأخرجه الدارقطنيّ، ثم البيهقيّ في "سننيهما"، ووثّق البيهقيّ سيف بن سليمان نقلًا عن يحيى القطان، وأسند عن الشافعيّ أنه قال: حديث ابن عباس ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يَرُدّ أحد من أهل العلم مثله، لو لم يكن فيها غيره، مع أن غيره يشهد له، قال الشافعيّ: واليمين مع الشاهد لا يخالف من ظاهر القرآن شيئًا؛ لأنا نحكم بشاهدين، وبشاهد وامرأتين ولا يمين، فإذا كان شاهدٌ حكمنا بشاهد ويمين، وليس هذا بخلاف ظاهر القرآن؛ لأنه لم يُحَرِّم أن يجوز أقل مما نص عليه في كتابه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم بمعنى ما أراد الله، وقد أمرنا الله تعالى أن نأخذ ما آتانا، وننتهي عما نهانا. انتهى.
وقال ابن عبد البر: هذا حديث صحيح لا مطعن لأحد في إسناده، ولا خلاف بين أهل العلم في صحته، وقد رُوي القضاء باليمين والشاهد عن النبيّ صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة، وعمر، وابن عمر، وعليّ، وابن عباس، وزيد بن ثابت، وجابر بن عبد الله، وسعد بن عبادة، وعبد الله بن عمرو بن العاص، والمغيرة بن شعبة، وعمارة بن حزم، وسُرَّق بأسانيد حسان.
قال: والجواب
(1)
عن حديث ابن عباس من وجهين:
أحدهما: أنه معلول بالانقطاع، قال الترمذيّ في "علله الكبير": وسألت محمدًا عن هذا الحديث فقال: إن عمرو بن دينار لم يسمعه من ابن عباس. انتهى.
قلت
(2)
: ويدل على ذلك ما أخرجه الدارقطنيّ، عن عبد الله بن محمد بن أبي ربيعة، ثنا محمد بن مسلم، عن عمرو بن دينار، عن طاوس، عن ابن
(1)
يعني الجواب من جهة الحنفيّة، ومن قال بقولهم، ممن لا يرى العمل بشاهد ويمين.
(2)
القائل هو الزيلعيّ.
عباس: "أن النبيّ صلى الله عليه وسلم"، فذكره، قال الدارقطنيّ: وخالفه عبد الرزاق فلم يذكر طاوسًا، ومنهم من زاد جابر بن زيد، ورواية الثقات لا تعلَّل برواية الضعفاء. انتهى.
وقال الطحاويّ: لا أعلم قيس بن سعد يحدث عن عمرو بن دينار بشيء - يعني: فيصير فيه انقطاعان - قال ابن القطان في "كتابه": وهذا الحديث - وإن كان مسلم قد أخرجه في "صحيحه" عن قيس بن سعد، عن عمرو بن دينار، عن ابن عباس - فهو يُرْمَى بالانقطاع في موضعين، قال الترمذيّ: قال البخاريّ: عمرو بن دينار لم يسمع من ابن عباس هذا الحديث، وقال الطحاويّ: قيس بن سعد لا نعلمه يحدّث عن عمرو بن دينار بشيء، وقد أخرج الدارقطنيّ في "سننه" ما يوافق قول البخاريّ، عن عبد الله بن محمد بن ربيعة، ثنا محمد بن مسلم، عن عمرو بن دينار، عن طاوس، عن ابن عباس، قال: قضى عليه السلام باليمين مع الشاهد الواحد، ولكن هذه الرواية لا تصح من جهة عبد الله بن محمد بن ربيعة، وهو القدامي، يروي عن مالك، وهو متروك، قاله الدارقطني. انتهى كلامه.
قال الجامع عفا الله عنه: فتبيّن بهذا أن إعلال الحديث بالانقطاع لا يصحّ، فتنبّه.
وقال البيهقيّ في "المعرفة": قال الطحاويّ: لا أعلم قيس بن سعد يحدّث عن عمرو بن دينار بشيء، وهذا مدخول، فإن قيسًا ثقة أخرج له الشيخان في "صحيحيهما"، وقال ابن المديني: هو أثبت، وإذا كان الراوي ثقة، وروى حديثًا عن شيخ يحتمله سنّه، ولَقِيَه، وكان غير معروف بالتدليس وجب قبوله، وقد روى قيس بن سعد عمن هو أكبر سنًّا وأقدم موتًا من عمرو بن دينار، كعطاء بن أبي رباح، ومجاهد بن جبر، وقد روى عن عمرو بن دينار من كان في قرن قيس، وأقدم لُقِيًّا منه، كأيوب السختيانيّ، فإنه رأى أنس بن مالك، وروى عن سعيد بن جبير، ثم روى عن عمرو بن دينار، فكيف يُنكر رواية قيس بن سعد عن عمرو بن دينار؟ غير أنه روى ما يخالف مذهبه، ولم يجد له مطعنًا سوى ذلك.
وقد روى جرير بن حازم - وهو ثقة - عن قيس بن سعد، عن عمرو بن دينار، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس أن رجلًا وَقَصَتْه ناقة، وهو مُحْرِم، فذكر الحديث، فقد علمنا قيسًا روى عن عمرو بن دينار غير حديث: اليمين مع الشاهد، ثم قد تابع قيسًا على روايته هذه: محمد بن مسلم الطائفيّ، ثم ساقه من طريق أبي داود بسنده عن محمد بن مسلم الطائفيّ، عن عمرو بن دينار، عن ابن عباس بلفظ حديث قيس، ثم قال: وقد رُوي من وجه آخر، ثم ساق من طريق الشافعيّ، ثنا إبراهيم بن محمد الأسلميّ، عن ربيعة بن عثمان، عن معاذ بن عبد الرحمن، عن ابن عباس:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى باليمين مع الشاهد". انتهى.
الجواب الثاني
(1)
: أن الحديث على تقدير صحته لا يفيد العموم، قال الإمام فخر الدين: قول الصحابيّ: نَهَى النبيّ صلى الله عليه وسلم عن كذا، وقضى بكذا، لا يفيد العموم؛ لأن الحجة في المحكيّ، لا في الحكاية، والمحكي قد يكون خاصًّا، وأيضًا فالقضاء له معانٍ، أقربها في هذا الموضع "فصل الخصومات"، وهذا مما يتعيّن فيه الخصوص؛ إذ لا يتأتى فيه الحكم بكل شاهد من النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى قيام الساعة، بل إنما يقضي بشاهد خاصّ، وعلى هذا يكون الراوي قد اعتَمَد على قرينة الحال الدالة على أن المراد بالشاهد واليمين حقيقة الجنس، لا استغراق الجنس، ويكون معناه أنه عليه السلام قضى بجنس الشاهد، وجنس اليمين.
وقد يُعْتَرض على هذا بما وقع في الترمذيّ، وسنن الدارقطنيّ، ثم البيهقيّ:"أنه عليه السلام قضى باليمين مع الشاهد الواحد"، وأخرج الدارقطنيّ، ثم البيهقيّ، عن عليّ:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قضى بشهادة شاهد واحد، ويمين صاحب الحق"، وأخرج الدارقطنيّ، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدّه عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قضى الله ورسوله في الحقّ بشاهدين، فإن جاء بشاهدين أخذ حقّه، وإن جاء بشاهد واحد حَلَف مع شاهده".
(1)
أي من جوابَي الحنفيّة ونحوهم الذين لا يرون العمل بحديث الشاهد واليمين.
قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن بما ذُكر أن حديث "قضى بشاهد ويمين" بيان لقاعدة كلّية تعمّ الأمة كلها، وليس واقعة عين فقط، فتبصّر، والله تعالى أعلم.
ثم ذكر الزيلعيّ رحمه الله الأحاديث التي وردت عن بعض الصحابة بمعنى حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما المذكور في الباب، فقال:
فحديث أبي هريرة: أخرجه أبو داود في "القضاء"، والترمذيّ، وابن ماجه في "الأحكام" عن عبد العزيز بن محمد الدراورديّ، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قضى باليمين مع الشاهد". انتهى.
قال الترمذيّ: حديث حسن غريب، وأخرجه أبو داود أيضًا عن سليمان بن بلال، عن ربيعة بإسناده نحوه، وزاد فيه: قال سليمان: فلقيت سهيلًا، فسألته عن هذا الحديث، فقال: ما أعرفه، فقلت: إن ربيعة أخبرني به عنك، فقال: إن كان ربيعة أخبرك به عني، فحدِّث به عن ربيعة عني، قال: وكان سهيل أصابته عِلّة أذهبت بعض عقله، ونسي بعض حديثه، فكان سهيل بعدُ يحدِّث به عن ربيعة عنه، عن أبيه. انتهى.
وحديث جابر: فأخرجه الترمذيّ، وابن ماجه، عن عبد الوهاب الثقفيّ، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قضى باليمين مع الشاهد". انتهى.
ثم أخرجه الترمذيّ عن إسماعيل بن جعفر، عن جعفر بن محمد، عن أبيه:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قضى باليمين مع الشاهد الواحد، قال: وقضى به عليّ فيكم"، قال الترمذيّ: وهذا أصح، وهكذا روى سفيان الثوريّ، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مرسلًا، ورواه عبد العزيز بن أبي سلمة، ويحيى بن سليم، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن عليّ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم. انتهى.
وحديث سعد بن عبادة: رواه الترمذيّ: حدّثنا يعقوب بن إبراهيم الدَّوْرقيّ، عن عبد العزيز بن محمد الدراورديّ، عن ربيعة بن أبي
عبد الرحمن، قال: أخبرني ابن سعد بن عبادة، قال: وجدنا في كتاب سعد: "أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قضى باليمين مع الشاهد". انتهى، ورواه الطبراني في "معجمه".
وحديث سُرَّق: رواه ابن ماجه في "سننه": حدّثنا أبو بكر بن أبي شيبة، عن يزيد بن هارون، عن جويرية بن أسماء، عن عبد الله بن يزيد مولى المنبعث، عن رجل من أهل مصر، عن سُرَّق:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أجاز شهادة رجل، ويمين الطالب". انتهى.
وحديث عليّ الذي أشار إليه الترمذيّ: أخرجه الدارقطنيّ في "سننه" عن عبد العزيز بن أبي سلمة، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن عليّ رضي الله عنه:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قضى بشهادة شاهد واحد، ويمين صاحب الحقّ، وقضى به عليّ رضي الله عنه بالعراق". انتهى، وهذا إسناد منقطع، فإن محمد بن علي بن الحسين لم يُدرك جدّ أبيه عليّ بن أبي طالب، وقد أطال الدارقطنيّ الكلام على هذا الحديث في "كتاب العلل" قال: وكان جعفر بن محمد ربما أرسل هذا الحديث، وربما وصله عن جابر؛ لأن جماعة من الثقات حفظوه عن أبيه، عن جابر، والقول قولهم؛ لأنهم زادوا وَهُم ثقات، وزيادة الثقة مقبولة. انتهى.
وأخرجه الدارقطنيّ، ثم البيهقيّ عن عليّ:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبا بكر، وعمر، وعثمان، كانوا يقضون بشهادة الشاهد الواحد، ويمين المدعِي". انتهى ما كتبه الحافظ الزيلعيّ رحمه الله
(1)
، وهو بحث مفيدٌ.
قال الجامع عفا الله عنه: قد تلخّص مما سبق أن حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما المذكور في الباب: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بيمين وشاهد" حديث صحيح، كما هو رأي مسلم، والمحقّقين، وأن المطاعن التي وُجهت نحوه لا قيمة لها، ولا سيّما، وهو مرويّ عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم، كما سَلَف آنفًا.
وقد أجاد صاحب "تكملة فتح الملهم"
(2)
في شرحه لهذا الكتاب هنا، حيث رجّح العمل بهذا الحديث، وردّ ما ردّ به الحنفيّة عليه، مع أنه كثير
(1)
"نصب الراية في تخريج أحاديث الهداية" 4/ 96 - 100.
(2)
راجع: "تكملة فتح الملهم" 2/ 558 - 565.
المناضلة لمذهبه الحنفيّ، إلا أنه دقّق في دراسة أحاديث الباب، فتوصّل إلى تصويب مذهب الجمهور، ويا ليته سلك هذا المسلك في جميع الأبواب، فإنه واجب كلّ مسلم، إذا صحت سُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقبلها، ولا يدفعها، وإن خالفها أهل مذهبه، بل وكلّ الناس قاطبة، إلا بحجة تسوّغ مخالفتها، فإن السُّنّة حجة قائمة بنفسها، لا تحتاج إلى من يدعمها، كما صرّح به الشافعيّ وغيره، فتبصّر بالإنصاف، نسأل الله تعالى أن يهدينا سبيل الرشاد، ويُبعدنا عن طريق الغيّ والعناد، إنه جواد كريم، رؤوف رحيم.
(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في القضاء بشاهد ويمين:
قال النوويّ رحمه الله: اختَلَف العلماء في ذلك، فقال أبو حنيفة رحمه الله، والكوفيون، والشعبيّ، والْحَكَم، والأوزاعيّ، والليث، والأندلسيون من أصحاب مالك: لا يُحْكَم بشاهد ويمين في شيء من الأحكام.
وقال جمهور علماء الإسلام، من الصحابة، والتابعين، ومَنْ بعدهم، من علماء الأمصار: يُقضَى بشاهد ويمين المدعِي في الأموال، وما يُقصد به الأموال، وبه قال أبو بكر الصديق، وعليّ، وعمر بن عبد العزيز، ومالك، والشافعيّ، وأحمد، وفقهاء المدينة، وسائر علماء الحجاز، ومعظم علماء الأمصار رضي الله عنهم.
وحجتهم أنه جاءت أحاديث كثيرة في هذه المسألة، من رواية عليّ، وابن عباس، وزيد بن ثابت، وجابر، وأبي هريرة، وعُمارة بن حزم، وسعد بن عبادة، وعبد الله بن عمرو بن العاص، والمغيرة بن شعبة رضي الله عنهم، قال الحفاظ: أصح أحاديث الباب حديث ابن عباس، قال ابن عبد البرّ: لا مطعن لأحد في إسناده، قال: ولا خلاف بين أهل المعرفة في صحته، قال: وحديث أبي هريرة، وجابر، وغيرهما حِسَان، والله أعلم بالصواب. انتهى
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: أحاديث هذا الباب كلُّها حجَّة للجمهور على الكوفيين، والأوزاعيّ، والنَّخعيّ، وابن أبي ليلى، والزهريّ، والليث، والْحَكَم، والشعبيّ، حيث نَفَوا الْحُكْم بالشاهد واليمين، ونَقَضوا حُكم من
(1)
"شرح النوويّ" 12/ 4.
حَكم به، وبَدَّعُوه، وقال الحكم: الشاهد واليمين بدعة، وأول من حكم به معاوية.
قلت
(1)
: يا للعجب! ولِضَيعة العلم والأدب! كيف ردَّ هؤلاء القوم هذه الأحاديث مع صحتها، وشهرتها؟! وكيف اجترؤوا على تبديع من عَمِل بها حتى نقضوا حكمه، واستقصروا علمه؟ مع أنَّه قد عَمِل بذلك الخلفاء الراشدون وغيرهم: أبو بكر، وعمر، وعليّ، وأُبَيّ بن كعب، ومعاوية، وشُريح، وعمر بن عبد العزيز، - وكتب به إلى عمَّاله -، وإياس بن معاوية، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وأبو الزناد، وربيعة. ولذلك قال مالك: وإنَّه ليكفي من ذلك ما مضى من السُّنة، أترى هؤلاء تُنْقَض أحكامهم، ويُحكم ببدعتهم؟!.
قالوا: والذي حَمَل هؤلاء المانعين على هذا اللَّجَاج ما اغترُّوا به من واهن الحِجَاج، وذلك أنَّهم وقع لهم: أن الْحُكْم باليمين مع الشاهد زيادة على نصِّ قوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [البقرة: 282]، ووجه تمسُّكهم: أنها حاصرة للوجوه التي يُستحَقُّ بها المالُ، نصٌّ في ذلك، والزيادة على ذلك نَسْخ، ونَسْخ القاطع بخبر الواحد لا يجوز إجماعًا، والقضاء بالشاهد واليمين إنَّما جاء بخبر الواحد فلا يُقبل.
والجواب: منعُ كون الزيادة على النصِّ نسخًا؛ إذ الجمع بين النصّ والزيادة يصحّ، وليس ذلك نسخًا لحكم شرعيّ، كما بيَّنَّاه في الأصول.
سلَّمناه، لكن لا نُسلِّم: أن الآية نصٌّ في حصر ذلك؛ لأنَّ ذلك يَبْطُل بنكول المطلوب، ويمين الطالب، فإن ذلك يُستَحَق به المال إجماعًا، وهذا معنى ما أشار إليه مالك في "الموطأ"، وهو واضح، ثمَّ نقول بموجب الآية؛ إذ نصُّها الأمر بمن يستشهد في المعاملات، لا ما يُقضى به عند الدَّعاوي والخصومات. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(2)
، وهو بحث نفيسٌ جدًّا، والله تعالى أعلم.
وقد حقّق
(3)
الإمام أبو عمر بن عبد البرّ رحمه الله هذا الموضع في كتابه
(1)
القائل هو القرطبيّ رحمه الله.
(2)
"المفهم" 5/ 152 - 153.
(3)
وقد أجاد ابن حزم رحمه الله أيضًا في الردّ على هؤلاء الذين ردّوا حديث: "قضى بشاهد ويمين" في كتاب "المحلّى"، فراجعه 9/ 404 - 405.
"التمهيد"، فقال - بعد ذكر الأحاديث المرفوعة - ما حاصله:
قال أبو عمر: أصحّ إسناد لهذا الحديث إسناد حديث ابن عباس، وأما حديث أبي هريرة، وحديث جعفر بن محمد، وغيرها فَحِسان، وإنما ذكرنا في هذا الباب الآثار المرفوعة لا غير، ولو ذكرنا الأسانيد عمن قَضَى بذلك من الصحابة، والتابعين، وعلماء المسلمين لطال ذلك.
وممن رُوي عنه القضاء باليمين مع الشاهد منصوصًا من الصحابة: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعليّ، وأُبَيّ بن كعب، وعبد الله بن عمر، وإن كان في الأسانيد عنهم ضعف، فإنّا لم نذكرهم على سبيل الحجة؛ لأن الحجة قد لَزِمت بالسُّنَّة الثابتة، ولا تحتاج السُّنَّة إلى من يتابعها؛ لأن من خالفها محجوج بها، ولم يأت عن أحد من الصحابة أنه أنكر اليمين مع الشاهد، بل جاء عنهم القول به، وعلى القول به جمهور التابعين بالمدينة: سعيد بن المسيِّب، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، والقاسم بن محمد، وعروة، وسالم، وأبو بكر بن عبد الرحمن، وعبيد الله بن عبد الله، وخارجة بن زيد، وسليمان بن يسار، وعليّ بن حسين، وأبو جعفر محمد بن عليّ، وأبو الزناد، وعمر بن عبد العزيز، ولم يُختَلَف عن واحد من هؤلاء في ذلك، إلا عروة، فإنه اختُلِف فيه عنه، وكذلك اختُلف فيه عن ابن شهاب، فقال معمر: سألت الزهريّ عن اليمين مع الشاهد، فقال: هذا شيء أحدثه الناس، لا بُدّ من شهيدين، وقد رُوي عنه أنه أول ما وَلِي القضاء حَكَمَ بشاهد ويمين، وبه قال مالك، وأصحابه، والشافعيّ، وأتباعه، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وأبو عبيد، وأبو ثور، وداود بن عليّ، وجماعة أهل الأثر، وهو الذي لا يجوز عندي خلافه؛ لتواتر الآثار به عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعَمَل أهل المدينة به قرنًا بعد قرن، وقال مالك رحمه الله: يُقْضَى باليمين مع الشاهد في كل البلدان، ولم يَحتَجّ في "موطئه" لمسألة غيرها، ولم يُختَلَف عنه في القضاء باليمين مع الشاهد، ولا عن أحد من أصحابه بالمدينة، ومصر، وغيرها، ولا يَعرف المالكيون في كل بلد غير ذلك من مذهبهم، إلا عندنا بالأندلس، فإن يحيى بن يحيى تركه، وزَعَم أنه لم ير الليث بن سعد يفتي به، ولا يذهب إليه، وخالف يحيى مالكًا في ذلك، مع خلافه السُّنَّةَ، والعملَ بدار الهجرة، وقد كان مالك يقول: لا يقضى بالعُهْدة في
الرقيق إلا بالمدينة خاصّةً، أو على من اشتُرِطت عليه، ويُقْضَى باليمين مع الشاهد الواحد في كل بلد، وقد أفرد الشافعيّ رحمه الله لذلك كتابًا بَيَّنَ فيه الحجة على من ردّه، وأكثر من ذلك أصحابه.
وقال أبو حنيفة، وأصحابه، والثوريّ، والأوزاعيّ: لا يُقضَى باليمين مع الشاهد الواحد، وهو قول عطاء، والحكم بن عتيبة، وطائفة، وزعم عطاء أن أول من قضى به عبد الملك بن مروان، وهذا غلطٌ، وظنٌّ لا يغني من الحقّ شيئًا، وليس من نَفَى وجَهِلَ، كمن أثبت وعَلِم، وقد ذكرنا من سمَّينا من الصحابة، والتابعين، وليس فيهم من يَدَعُ عِلْمه لعبد الملك بن مروان، وقد ذكر عبد الرزاق، عن ابن جريج، عن ابن أبي مليكة أن مروان قضى بشهادة ابن عمر وحده لبني صهيب - يعني: مع أيمانهم -.
وزَعَم بعض من رَدّ اليمين مع الشاهد أن الحديث المروي فيه منسوخ بقول الله عز وجل: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [البقرة: 282]، قالوا: ولم يقل: فإن لم يكن رجل وامرأتان فشهادة ويمين.
ومن حجتهم أيضًا أن اليمين إنما جُعِلت للنفي، لا للإثبات، وجعلها النبيّ صلى الله عليه وسلم على المدعَى عليه، فلا سبيل للمدعِي إليها.
قال أبو عمر: وفي هذا إغفال شديد، وذهابٌ عن طريق النظر والعلم وما في قوله عز وجل:{وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} ما يُرَدّ به قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في اليمين مع الشاهد، وإنما في هذا أن الحقوق يُتوصل إلى أخذها بذلك، وليس في الآية أنه لا يُتوصل إليها، ولا تُستَحَقّ إلا بما ذُكر فيها لا غير، واليمين مع الشاهد زيادة حُكم على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، كنهيه صلى الله عليه وسلم عن نكاح المرأة على عمتها، وعلى خالتها، مع قول الله:{وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24]، وكنهيه صلى الله عليه وسلم عن أكل لحوم الْحُمُر، وكلِّ ذي ناب من السباع، مع قول الله عز وجل:{قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} الآية [الأنعام: 145]، وكالمسح على الخفين، والقرآن إنما وَرَدَ بغسل الرجلين، أو مسحهما، ومثل هذا كثير، ولو جاز أن يقال: إن القرآن نَسَخَ حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم باليمين مع الشاهد، لجاز أن يقال: إن القرآن في قوله عز وجل: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275]، وفي قوله:
{إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] ناسخ لنهيه صلى الله عليه وسلم عن المزابنة، وبيع الْغَرَر، وبيع ما لم يُخلَق إلى سائر ما نَهَى عنه في البيوع، ولجاز أن يقال: إن قول الله عز وجل: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة: 103] ناسخ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا صدقة في الخيل والرقيق"، وهذا لا يسوغ لأحد؛ لأن السُّنَّة مُبَيِّنة للكتاب، زائدة عليه، ما
(1)
أَذِنَ الله لرسوله صلى الله عليه وسلم في الحكم به، ولو جاز ذلك لارتفع البيان، والله عز وجل يقول:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44]، والله يَفترِض في كتابه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ما شاء.
وقد أمر الله بطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم أمرًا مطلقًا، وأخبر أنه لا يخطق عن الهوى {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)} [النجم: 4]، وقال صلى الله عليه وسلم:"أوتيت الكتاب، ومثله معه"، وقال عز وجل:{وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} [الأحزاب: 34]، قالوا: القرآن والسُّنَّة.
ومن القياس والنظر: أنّا وجدنا اليمين أقوى من المرأتين؛ لأنهما لا مدخل لهما في اللِّعان، واليمين تدخل في اللعان، ولَمّا أثبت أن يُحكَم بشهادة امرأتين ورجل في الأموال، كان كذلك اليمين مع شهادة رجل.
وفي الأصول: أن من قَوِيَ سببه حَلَفَ واستَحَقّ، ألا ترى أن الشيء إذا كان في يد أحد حَلَف صاحب اليد، فكذلك الشاهد الواحد.
وما ذكروا من أن الزيادة من حُكم النبيّ صلى الله عليه وسلم منسوخة بآية الدَّين ينتقض عليهم بالإقرار، والنكول، ومعاقر القِمْط، وأنصاب اللَّبِن والجذوع الموضوعة في الحيطان، فإنهم قد حَكَموا بكل ذلك، وليس مذكورًا في الآية، فإذا استجازوا أن يستحسنوا، ويزيدوا على النصّ ذلك كله استحسانًا، فكيف ينكرون الزيادة عليه بالأخبار الثابتة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعن الخلفاء، وجمهور العلماء، وصحيحِ الأثر والنظر؟ والأمر في هذا أوضح من أن يُحتاج فيه إلى إكثار، وفيما ذكرنا منه كفاية لمن فَهِمَ، وبالله التوفيق. انتهى كلام ابن عبد البرّ رحمه الله
(2)
.
(1)
"ما" بدل من "الكتاب".
(2)
"التمهيد" 2/ 153 - 156.
قال الجامع عفا الله عنه: لقد أجاد الإمام ابن عبد البرّ رحمه الله في هذا البحث، وحقّق الموضوع تحقيقًا بالغًا.
وخلاصته أن الحقّ ما ذهب إليه الجمهور من العمل بحديث الباب، وهو القضاء بشاهد واحد، ويمين المدّعِي؛ لصحّة الأحاديث في ذلك، وسُنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صحّت فهي الحجة بنفسها، لا تحتاج إلى من يدعمها بالعمل بها، كما تقدّم عن الإمام الشافعيّ رحمه الله، فكيف وقد قال بمقتضاها الجمهور؟، فتبصّر بالإنصاف، ولا تكن أسير التقليد، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
(3) - (بَابُ بَيَانِ أَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ لَا يُغَيِّرُ الْبَاطِنَ)
[4465]
(1713) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى التَّمِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو مُعَاوِيةَ، عَنْ هِشَامٍ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيه، عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، فَأَقْضِيَ لَهُ عَلَى نَحْوٍ مِمَّا أَسْمَعُ
(1)
مِنْهُ، فَمَنْ قَطَعْتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا، فَلَا يَأْخُذْهُ، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ بِهِ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى التَّمِيمِيُّ) أبو زكريّا النيسابوريّ، ثقةٌ ثبتٌ إمامٌ [10](ت 226)(خ م د س) تقدم في "المقدمة" 3/ 9.
2 -
(أَبُو مُعَاوِيةَ) محمد بن خازم الضرير الكوفيّ، ثقةٌ، أحفظ الناس لحديث الأعمش، وقد يَهِمُ في حديث غيره، ورمي بالإرجاء، من كبار [9](ت 195)، وله (82) سنة (ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 117.
3 -
(هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ) بن الزبير الأسديّ، أبو عبد الله، أو أبو المنذر المدنيّ، ثقةٌ فقيه، ربّما دلس [5](ت 5 أو 146)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 350.
4 -
(أَبُوهُ) عروة بن الزبير بن العوّام الأسديّ، أبو عبد الله المدنيّ، ثقةٌ
(1)
وفي نسخة: "على ما أسمع".
ثبتٌ فقيه مشهور [3](ت 94)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 407.
5 -
(زَيْنَبُ بِنْتُ أَبِي سَلَمَةَ) عبد الله بن عبد الأسد المخزوميّة، ربيبة النبيّ صلى الله عليه وسلم، الصحابيّة بنت الصحابيين، ماتت سنة (73)(ع) تقدمت في "الحيض" 2/ 689.
6 -
(أُمُّ سَلَمَةَ) هند بنت أبي أميّة حذيفة، أو سُهيل بن المغيرة بن عبد الله بن عُمر بن المغيرة بن مخزوم المخزوميّ، أم المؤمنين، تزوجها النبيّ صلى الله عليه وسلم سنة أربع، وقيل: ثلاث، وعاشت بعد ذلك ستين سنة، ماتت سنة (62) على الأصحّ (ع) تقدمت في "شرح المقدمة" جـ 2 ص 473.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه مسلسل بالمدنيين، سوى شيخه، فنيسابوريّ، وشيخ شيخه، فكوفيّ، وأن فيه رواية صحابيّة، عن صحابيّة، وتابعيّ عن تابعيّ، والبنت عن أمها، والابن عن أبيه، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ زينَبَ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ) رضي الله عنهما، وفي رواية البخاريّ:"من طريق ابن شهاب، قال: أخبرني عروة بن الزبير، أن زينب ابنة أبي سلمة أخبرته، أن أم سلمة زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم أخبرتها"، (عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ) هند بن أبي أميّة رضي الله عنها (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:(إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ) وفي رواية ابن شهاب التالية: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع جَلَبَة خَصْم بباب حجرته، فخرج إليهم، فقال: إنما أنا بشر
…
". وفي رواية معمر الآتية: "سمع النبيّ صلى الله عليه وسلم لَجَبَة خَصْم بباب أم سلمة"، و"الْجَلَبَةُ" - بفتح الجيم واللام -: اختلاط الأصوات، ومِثله: اللَّجَبَةُ بتقديم اللام على الجيم.
قال الحافظ رحمه الله: فأما الخصوم فلم أقف على تعيينهم، ووقع التصريح بأنهما كانا اثنين، في رواية عبد الله بن رافع، عن أم سلمة، عند أبي داود، ولفظه:"أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلان يختصمان"، وأما الخصومة، فَبَيَّن في رواية عبد الله بن رافع، أنها كانت "في مواريث لهما"، وفي لفظ عنده:"في مواريث، وأشياء قد دَرَست".
(وَلَعَلَّ) بمعنى "عسى"، (بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ)؛ أي:
أفطن لها، وأعْرَف بها، أو أقدر على بيان مقصوده، وأبْيَن كلامًا، قال ابن الأثير: اللحْنُ: الميل عن جهات الاستقامة، يقال: لَحَنَ في كلامه: إذا مال عن صحيح المنطق، والمعنى: أن بعضكم يكون أعْرَف بالحجة، وأفطن لها من غيره. ويقال: لَحَنتُ لفلان: إذا قلتَ له قولًا يفهمه عنك، ويخفى على غيره؛ لأنك تُميله بالتورية عن الواضح المفهوم، ومنه لَحِنَ الرجل، فهو لَحِنٌ، من باب تعب: إذا فَهِمَ، وفطِنَ لِمَا لا يَفْطَنُ له غيره. انتهى
(1)
.
وقال الفيّوميّ رحمه الله: اللحَنُ - بفتحتين -: الفِطنة، وهو مصدر، من باب تَعِبَ، والفاعل لَحِنٌ، ويتعدّى بالهمزة، فيقال: ألحنته عنّي، فلَحِن؛ أي: أفطنته، ففطِن، وهو سُرعة الفهم، وهو ألحن من زيد؛ أي: أسْبَق فهمًا منه. انتهى.
وقال في "القاموس": ولَحَنَ له: قال له قولًا يُفهمه عنه، ويخفى على غيره، ولَحَنَ إليه: مال، وألحنه القول: أفهمه إيّاه، فلَحِنه، كسَمِعه، وجعَله: فهمه، ولَحِنَ كفرِح: فَطِنَ لحجّته، وانتبه. انتهى.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: يُفهم مما سبق أن اللَّحَنَ بمعنى الفِطنة للحُجَّة بالكسر من باب تَعِب، وأما بمعنى الفهم، فهو من بابَيْ سمع، وجعل.
وذكر القرطبيّ في "المفهم"
(2)
جواز فتح الماضي وكَسْره إذا كان بمعنى الفطنة، وفيه نظرٌ، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
وقد جاء هذا اللفظ مفسَّرًا في الرواية التالية، حيث قال:"فلعلّ بعضهم أن يكون أبلغ من بعض"؛ أي: أكثر بلاغةً، وإيضاحًا لحُجته، والمراد: أنه إذا كان أفطن كان قادرًا على أن يكون أبلغ في حُجته من الآخر
(3)
.
وقال الزرقانيّ في "شرح الموطّأ": قوله: "ألحن" من اللَّحَن بفتح الحاء: الفطنة؛ أي: أبلغ، وأفصح في تقرير مقصوده وأعلم ببيان دليله، وأقدر على البرهنة على دفع دعوى خصمه، بحيث يُظَنّ أن الحق معه، وهو كاذب. هذا ما عليه أكثر الشراح، وجوَّز بعضهم أنه من اللَّحْن بسكون الحاء، وهو الصرف
(1)
"النهاية" 4/ 241.
(2)
"المفهم" 5/ 155.
(3)
راجع: "الفتح" 16/ 258، كتاب "الحيل" رقم (6967).
عن الصواب؛ أي: يكون أعجز عن الإعراب بالحجة، وضَعفه لا يخفى، وجملة "أن يكون" خبر "لعل"، من قبيل: رجل عدل؛ أي: كائن، أو "أن" زائدة، أو المضاف محذوف؛ أي: لعل وصْفَ بعضكم أن يكون ألحن بحجته
(1)
.
وزاد في رواية الزهريّ الآتية: "فأحسب أنه صادقٌ، فأقضي له بذلك"؛ أي: أحكم للذي غلب بحجته على خصمه، فلا حاجة إلى قوله في "الاستذكار":"فأقضي له"؛ أي: عليه، وإن كان الواقع أن الحقّ لخصمه، لكنه لم يفطن لحجته، ولم يقدر على معارضته
(2)
.
(فَأَقْضِيَ لَهُ عَلَى نَحْوٍ مِمَّا أَسْمَعُ مِنْهُ) وفي بعض النسخ: "على نحو ما أسمع"؛ أي: لبناء الأحكام الشرعيّة على الظاهر، و"من" في "مما" بمعنى "لأجل"، أو بمعنى "على"؛ أي: أقضي على الظاهر من كلامه، (فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ)؛ أي: خصمه، فهو أخوّة بالمعنى الأعمّ، وهو الجنس؛ لأن المسلم، والذمي، والمعاهَد، والمرتدّ، في هذا الحكم سواء، فهو مُطّرد في الأخ من النسب، ومن الرضاع، وفي الدِّين، وغير ذلك، ويَحْتَمِل أن يكون تخصيص الأخوة بالذكر من باب التهييج، وفي رواية يونس:"بحق مسلم".
(شَيْئًا) هكذا بالنصب، وكأنه ضَمَّنَ "قضيت" معنى "أعطيت"، وفي رواية مالك، ومعمر:"فمن قضيت له بشيء من حق أخيه"، ووقع عند أبي داود بلفظ:"فمن قضيت له من حق أخيه بشيء، فلا يأخذه"، وفي رواية عبد الله بن رافع، عند الطحاويّ، والدارقطنيّ:"فمن قضيت له بقضية، أراها يقطع بها قطعة ظلمًا، فإنما يقطع له بها قطعة من نار إسطامًا، يأتي بها في عنقه يوم القيامة"، و"الإسطام" - بكسر الهمزة، وسكون السين المهملة، والطاء المهملة -: قطعة، فكأنها للتأكيد، أفاده في "الفتح"
(3)
.
(فَلَا يَأْخُذْهُ)؛ أي: لكونه حرامًا، يستحقّ به العقاب، كما بيّنه بقوله:(فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ بِهِ)؛ أي: أقطع له بسببه، فالكلام من باب الحذف والإيصال
(1)
"شرح الزرقاني على الموطأ" 3/ 485.
(2)
"شرح الزرقانيّ" 3/ 485.
(3)
راجع: "الفتح" 17/ 7، كتاب "الأحكام" رقم (7181).
(قِطْعَةً مِنَ النَّارِ") وفي رواية الزهريّ: "فإنما هي قطعة من النار"، وقوله:"فإنما هي": الضمير للحالة، أو القصة. وقوله:"قطعة من النار"؛ أي: الذي قضيت له به بحسب الظاهر، إذا كان في الباطن لا يستحقه، فهو عليه حرام، يؤول به إلى النار. وقوله:"قطعة من النار": تمثيل يُفهم منه شدة التعذيب على من يتعاطاه، فهو من مجاز التشبيه، كقوله تعالى:{إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} [النساء: 10].
زاد في رواية ابن شهاب: "فليحملها، أو يذرها"، ولفظ البخاريّ:"فليأخذها، أو ليتركها"، وفي رواية مالك، عن هشام:"فلا يأخذه؛ فإنما أقطع له قطعة من النار".
قال الدارقطنيّ: هشام، وإن كان ثقة، لكن الزهريّ أحفظ منه، وحكاه الدارقطنيّ عن شيخه أبي بكر النيسابوري. قال الحافظ: ورواية الزهريّ ترجع إلى رواية هشام، فإن الأمر فيه للتهديد، لا لحقيقة التخيير، بل هو كقوله:{فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29]. قال ابن التين: هو خطاب للمَقْضِيّ له، ومعناه: أنه أعلم من نفسه، هل هو مُحِقّ، أو مبطل؟ فإن كان محقًّا فليأخذ، وإن كان مبطلًا فليترك، فإن الحكم لا ينقل الأصل عما كان عليه.
[تنبيه]: زاد عبد الله بن رافع، في آخر الحديث:"فبكى الرجلان، وقال كل منهما: حقي لك، فقال لهما النبيّ صلى الله عليه وسلم: أَمّا إذا فعلتما، فاقتسما، وتَوَخّيا الحقّ، ثم اسْتَهِما، ثم تحالَلا". ذكره في "الفتح"
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أُمِّ سلمة رضي الله عنها هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [3/ 4465 و 4466 و 4467 و 4468](1713)،
(1)
راجع: "الفتح" 15/ 80.
و (البخاريّ) في "المظالم والغصب"(2458) و"الشهادات"(2680) و"الحيل"(6967) و"الأحكام"(7169 و 7181)، و (أبو داود) في "الأقضية"(3583)، و (الترمذيّ) في "الأحكام"(1339)، و (النسائيّ) في "آداب القضاة"(5403 و 5424) و"الكبرى"(5956 و 5984)، و (ابن ماجه) في "الأحكام"(2317)، و (مالك) في "الموطأ"(1424)، و (الشافعيّ) في "مسنده"(2/ 178)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(7/ 233)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 203 و 290 - 291 و 307)، و (ابن راهويه) في "مسنده"(4/ 60)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(999)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5070)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(23/ 803 و 902 و 903)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(4/ 154) و"شرح مشكل الآثار"(1/ 329 و 330)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 163 و 164 و 192)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(10/ 326 و 346 و 12/ 305 و 308)، و (الدارقطنيّ) في "سننه"(4/ 239)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(6/ 66 و 10/ 149)، و (البغويّ) في "شرح السُّنّة"(2508)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان أن حكم الحاكم على الظاهر، لا على باطن الأمور، فلا يُحلّ، حرامًا، ولا يحرم حلالًا، قال الإمام الشافعي رحمه الله لَمّا ذكر هذا الحديث -: فيه دلالة على أن الأمة إنما كُلِّفوا القضاء على الظاهر، وفيه أن قضاء القاضي لا يحرّم حلالًا، ولا يحل حرامًا. انتهى.
2 -
(ومنها): بيان إثم من خاصم في باطل، حتى استحقّ به في الظاهر شيئًا هو في الباطن حرام عليه.
3 -
(ومنها): أن من ادّعى مالًا، ولم يكن له بينة، فحلف المدعَى عليه، وحكم الحاكم ببراءة الحالف، أنه لا يبرأ في الباطن، وأن المدعي لو أقام بينة بعد ذلك، تُنافي دعواه سُمعت، وبَطَل الحُكم.
4 -
(ومنها): أن من احتال لأمر باطل بوجه من وجوه الحيل، حتى يصير حقًّا في الظاهر، ويُحكَم له به، أنه لا يحل له تناوله في الباطن، ولا يرتفع عنه الإثم بالحكم.
5 -
(ومنها): أن المجتهد قد يخطئ، فَيُرَدُّ به على من زعم أن كل مجتهد مصيب.
6 -
(ومنها): أن المجتهد إذا أخطأ لا يلحقه إثم، بل يؤجر كما ثبت في حديث أبي هريرة رضي الله عنه، مرفوعًا:"إذا حكم الحاكم، فاجتهد، فأصاب، فله أجران، وإذا اجتهد، فأخطأ، فله أجر"، متّفقٌ عليه.
7 -
(ومنها): أنه صلى الله عليه وسلم كان يقضي بالاجتهاد فيما لم يَنزل عليه فيه شيء، وخالف في ذلك قوم، وهذا الحديث من أصرح ما يُحتَجُّ به عليهم.
8 -
(ومنها): أنه ربما أداه اجتهاده إلى أمر، فيَحكم به، ويكون في الباطن بخلاف ذلك، لكن مثل ذلك لو وقع، لم يُقَرَّ عليه صلى الله عليه وسلم؛ لثبوت عصمته.
واحتج من منع مطلقًا بأنه لو جاز وقوع الخطأ في حكمه، للزم أمر المكلفين بالخطأ؛ لثبوت الأمر باتباعه في جميع أحكامه، حتى قال تعالى:{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} الآية [النساء: 65]، وبأن الإجماع معصوم من الخطأ، فالرسول صلى الله عليه وسلم أولى بذلك؛ لعلوّ رُتبته.
[والجواب]: عن الأول: أن الأمر إذا استلزم إيقاع الخطإ، لا محذور فيه؛ لأنه موجود في حق المقلِّدين، فإنهم مأمورن باتباع المفتي والحاكم، ولو جاز عليه الخطأ.
[والجواب]: عن الثاني: أن الملازمة مردودة، فإن الإجماع إذا فُرض وجوده دلّ على أن مُستَنَدهم ما جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم، فرجع الاتباع إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، لا إلى نفس الإجماع.
9 -
(ومنها): أن الحديث حجة لمن أثبت أنه قد يُحكم بالشيء في الظاهر، ويكون الأمر في الباطن بخلافه، ولا مانع من ذلك، إذ لا يلزم منه مُحال عقلًا، ولا نقلًا.
وأجاب من منع بأن الحديث، يتعلّق بالحكومات الواقعة، في فصل الخصومات، المبنية على الإقرار، أو البينة، ولا مانع من وقوع ذلك فيها، ومع ذلك فلا يُقَرّ على الخطإ، وإنما الممتنِعة أن يقع فيه الخطأ أن يُخبِر عن أمرٍ بأن الحكم الشرعيّ فيه كذا، ويكون ذلك ناشئًا عن اجتهاده، فإنه لا يكون إلا حقًّا؛ لقوله تعالى:{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3)} الآية [النجم: 3].
[وأجيب]: بأن ذلك يستلزم الحكم الشرعيّ، فيعود الإشكال، كما كان، ومن حجج من أجاز ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:"أُمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم"، فيُحكم بإسلام من تلفظ بالشهادتين، ولو كان في نفس الأمر يُعتقد خلاف ذلك.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الذي يظهر لي ترجيح القول بثبوت الاجتهاد له صلى الله عليه وسلم، لوضوح الأدلة المذكورة، ولكنه لا يُقرّ على خطئه، ولا ينافي ذلك قوله تعالى:{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3)} الآية [النجم: 3]؛ لأن ذلك إذا أخبر عن الله سبحانه وتعالى، لا عن اجتهاداته.
والحكمة في ذلك مع أنه كان يمكن اطّلاعه صلى الله عليه وسلم بالوحي على كل حكومة، أنه لما كان مُشَرِّعًا، كان يحكم بما شُرع للمكلَّفين، ويعتمده الحكام بعده، ومن ثَمَّ قال:"إنما أنا بشر": أي: في الحكم بمثل ما كُلّفوا به، وقد أشبعت الكلام في هذه المسألة في "التحفة المرضيّة"، و"شرحها"، فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق.
قال الحافظ: وإلى هذه النكتة أشار البخاريّ بإيراده حديث عائشة رضي الله عنها في قصة ابن وليدة زَمْعَة، حيث حكم صلى الله عليه وسلم بالولد لعبد بن زمعة، وألحقه بزمعة، ثم لَمّا رأى شَبَهه بعتبة أمر سودة أن تحتجب منه؛ احتياطًا، ومثله قوله في قصة المتلاعِنَين، لمّا وَضَعت التي لوعنت، ولدًا يُشبه الذي رُميت به:"لولا الأيمان لكان لي ولها شأن"، فأشار البخاريّ إلى أنه صلى الله عليه وسلم حكم في ابن وليدة زمعة بالظاهر، ولو كان في نفس الأمر ليس من زمعة، ولا يسمى ذلك خطأ في الاجتهاد، ولا هو من موارد الاختلاف في ذلك، وسَبَقه إلى ذلك الشافعيّ، فإنه لَمّا تكلم على حديث الباب قال: وفيه أن الحكم بين الناس يقع على ما يُسمع من الخصمين بما لَفَظوا به، وإن كان يُمكن أن يكون في قلوبهم غير ذلك، وأنه لا يُقضَى على أحد بغير ما لَفَظ به، فمن فعل ذلك فقد خالف كتاب الله، وسُنَّة نبيه صلى الله عليه وسلم، قال: ومثل هذا قضاؤه لعبد بن زمعة بابن الوليدة، فلما رأى الشبه بَيِّنًا بعتبة، قال:"احتجبي منه يا سودة". انتهى.
قال الحافظ: ولعل السر في قوله: "إنما أنا بشر" امتثال قول الله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} [الكهف: 110]؛ أي: في إجراء الأحكام على الظاهر،
الذي يَستوي فيه جميع المكلفين، فأُمر أن يَحكم بمثل ما أُمروا أن يحكموا به؛ ليتم الاقتداء به، وتطيب نفوس العباد للانقياد إلى الأحكام الظاهرة، من غير نظر إلى الباطن.
والحاصل أن هنا مقامين:
[أحدهما]: طريق الحكم، وهو الذي كُلِّف المجتهد بالتبصر فيه، وبه يتعلق الخطأ والصواب، وفيه البحث.
[والآخر]: ما يُبطنه الخصم، ولا يطلع عليه إلا الله، ومن شاء من رسله، فلم يقع التكليف به.
10 -
(ومنها): أنه استُدِلَّ بالحديث لمن قال: إن الحاكم لا يحكم بعلمه، بدليل الحصر في قوله:"إنما أقضي له بما أسمع".
11 -
(ومنها): أن التعمق في البلاغة بحيث يحصل اقتدار صاحبها على تزيين الباطن في صورة الحق، وعكسه مذموم، فإن المراد بقوله:"أبلغ"؛ أي: أكثر بلاغةً، ولو كان ذلك في التوصل إلى الحق لم يذمّ، وإنما يُذمّ من ذلك ما يُتوصل به إلى الباطل في صورة الحق، فالبلاغة إذن لا تُذمّ لذاتها، وإنما تذم بحسب التعلق الذي يُمدح بسببه، وهي في حد ذاتها ممدوحة، وهذا كما يذم صاحبها إذا طرأ عليه بسببها الإعجاب، وتحقير غيره، ممن لم يصل إلى درجته، ولا سيما إن كان الغير من أهل الصلاح، فإن البلاغة إنما تذم من هذه الحيثية، بحسب ما ينشأ عنها من الأمور الخارجية عنها، ولا فرق في ذلك بين البلاغة، وغيرها، بل كل فتنة توصِل إلى المطلوب محمودة في حد ذاتها، وقد تُذم، أو تُمدح بحسب متعلقها.
[تنبيه]: اختُلف في تعريف البلاغة، فقيل: أن يبلغ بعبارة لسانه، كُنْهَ ما في قلبه. وقيل: إيصال المعنى إلى الغير بأحسن لفظ. وقيل: الإيجاز مع الإفهام، والتصرف من غير إضمار. وقيل: قليل لا يبهم، وكثير لا يسأم. وقيل: إجمال اللفظ، واتساع المعنى. وقيل: تقليل اللفظ، وتكثير المعنى. وقيل: حُسن الإيجاز مع إصابة المعنى. وقيل: سهولة اللفظ مع البديهة. وقيل: لمحة دالة، أو كلمة تكشف عن البغية. وقيل: الإيجاز من غير عجز، والإطناب من غير خطأ. وقيل: النطق في موضعه، والسكوت في موضعه.
وقيل: معرفة الفصل والوصل. وقيل: الكلام الدال أوله على آخره وعكسه. وهذا كله عن المتقدِّمين. وعَرَّف أهل المعاني والبيان البلاغة بأنها: "مطابقة الكلام لمقتضى الحال والفصاحةُ"، وهي خلوّه عن التعقيد. وقالوا: المراد بالمطابقة: ما يحتاج إليه المتكلم، بحسب تفاوت المقامات، كالتأكيد وحذفه، والحذف وعدمه، أو الإيجاز والإسهاب، ونحو ذلك. والله أعلم.
12 -
(ومنها): الرد على من حَكَم بما يقع في خاطره، من غير استناد إلى أمر خارجيّ، من بيّنة ونحوها، واحتج بأن الشاهد المتصل به، أقوى من المنفصل عنه.
ووجه الرد عليه كونه صلى الله عليه وسلم، أعلى في ذلك من غيره مطلقًا، ومع ذلك فقد دل حديثه هذا على أنه إنما يَحكم بالظاهر في الأمور العامة، فلو كان المدعَى صحيحًا لكان الرسول أحق بذلك، فإنه أعلمَ أنه تجري الأحكام على ظاهرها، ولو كان يمكن أن الله يطلعه على غيب كل قضية، وسبب ذلك أن تشريع الأحكام واقع على يده، فكأنه أراد تعليم غيره من الحكام أن يعتمدوا ذلك، نعم لو شهدت البينة مثلًا بخلاف ما يعلمه علمًا حسيًا بمشاهدة، أو سماع يقينيًا، أو ظنيًا راجحًا، لم يَجُز له أن يحكم بما قامت به البينة، ونَقَل بعضهم الاتفاق، وإن وقع الاختلاف في القضاء بالعلم.
13 -
(ومنها): أنه يستفاد من قوله: "وتَوَخَّيا الحقّ" جواز الإبراء من المجهول؛ لأن التوخي لا يكون في المعلوم.
14 -
(ومنها): أن في الحديث أيضًا موعظةَ الإمام الخصومَ؛ ليعتمدوا الحق، والعمل بالنظر الراجح، وبناء الحكم عليه، وهو أمر إجماعي للحاكم والمفتي
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في بيان أن حكم الحاكم لا يُحلّ حرامًا، ولا يُحرّم حلالًا مطلقًا:
قال ابن قُدامة رحمه الله: حكم الحاكم لا يزيل الشيء عن صفته، في قول
(1)
راجع: "الفتح" 17/ 7 - 12، كتاب "الأحكام" رقم (7181).
جمهور العلماء، منهم: مالك، والأوزاعيّ، والشافعيّ، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وداود، ومحمد بن الحسن.
وقال أبو حنيفة: إذا حكم الحاكم بعقد، أو فسخ أو طلاق، نفذ حكمه ظاهرًا وباطنًا، فلو أن رجلين تعمّدا الشهادة على رجل، أنه طلّق امرأته، فَقَبِلهما القاضي بظاهر عدالتهما، ففرَّق بين الزوجين، لجاز لأحد الشاهدين نكاحها، بعد انقضاء عدتها، وهو عالم بتعمّده الكذب، ولو أن رجلًا ادّعى نكاح امرأة، وهو يَعلم أنه كاذب، وأقام شاهدي زور، فحَكَم الحاكم، حَلّت له بذلك، وصارت زوجته. قال ابن المنذر: وتفرّد أبو حنيفة، فقال: لو استأجرت امرأة شاهدين شهدا لها بطلاق زوجها، وهما يعلمان كَذِبهما، وتزويرهما، فحَكَم الحاكم بطلاقها لحلَّ لها أن تتزوج، وحَلّ لأحد الشاهدين نكاحها، واحتج بما رُوي عن عليّ رضي الله عنه، أن رجلًا ادّعى على امرأة نكاحها، فرفعها إلى عليّ رضي الله عنه، فشهد له شاهدان بذلك، فقضى بينهما بالزوجية، فقالت: والله ما تزوجني يا أمير المؤمنين، اعقد بيننا عقدًا حتى أحل له، فقال:"شاهداك زوّجاك"
(1)
، فدل على أن النكاح ثبت بحكمه، ولأن اللِّعان يَنفسخ به النكاح، وإن كان أحدهما كاذبًا، فالحكم أولى.
قال: ولنا قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: "إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إليّ، ولعل بعضكم يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على نحوِ ما أسمع منه، فمن قضيت له بشيء من حق أخيه، فلا يأخذ منه شيئًا، فإنما أقطع له قطعة من النار"، متّفقٌ عليه، وهذا يدخل فيه ما إذا ادّعى أنه اشترى منه شيئًا، فحُكم له، ولأنه حكمٌ بشهادة زور، فلا يحل له ما كان محرَّمًا عليه، كالمال المُطْلَق، وأما الخبر عن عليّ رضي الله عنه، إن صح فلا حجة لهم فيه؛ لأنه أضاف التزويج إلى الشاهدين، لا إلى حكمه، ولم يُجِبها إلى التزويج؛ لأن فيه طعنًا على الشهود، فأما اللعان فإنما حصلت الفرقة به، لا بصدق الزوج، ولهذا لو قامت البينة به، لم ينفسخ النكاح.
إذا ثبت هذا فإذا شهد على امرأة بنكاح، وحَكَم به الحاكم، ولم تكن
(1)
سيأتي أن أثر عليّ رضي الله عنه هذا غير ثابت، فتنبّه.
زوجته، فإنها لا تحل له، ويلزمها في الظاهر، وعليها أن تمتنع ما أمكنها، فإن أكرهها عليه، فالإثم عليه دونها، وإن وطئها الرجل، فقال أصحابنا، وبعض الشافعية: عليه الحدّ؛ لأنه وطئها، وهو يعلم أنها أجنبية، وقيل: لا حد عليه؛ لأنه وطءٌ مختلَف في حِلّه، فيكون ذلك شبهة، وليس لها أن تتزوج غيره، وقال أصحاب الشافعيّ: تحل لزوج ثان، غير أنها ممنوعة منه في الحكم، وقال القاضي: يصح النكاح.
ولنا أن هذا يفضي إلى الجمع بين الوطء للمرأة من اثنين: أحدهما يطؤها بحكم الظاهر، والآخر بحكم الباطن، وهذا فساد، فلا يُشرع، ولأنها منكوحة لهذا الذي قامت له البينة في قول بعض الأئمة، فلم يَجُز تزويجها لغيره، كالمتزوجة بغير ولي، وحكى أبو الخطاب عن أحمد، رواية أخرى مثل مذهب أبي حنيفة، في أن حكم الحاكم يزيل الفسوخ والعقود، والأول هو المذهب. انتهى
(1)
.
وقال في "الفتح": قال الطحاويّ: ذهب قوم إلى أن الحكم بتمليك مال، أو إزالة ملك، أو إثبات نكاح، أو فُرقة، أو نحو ذلك، إن كان في الباطن كما هو في الظاهر، نَفَذ على ما حكم به، وإن كان في الباطن، على خلاف ما استند إليه الحاكم، من الشهادة، أو غيرها، لم يكن الحكم موجبًا للتمليك، ولا الإزالة، ولا النكاح، ولا الطلاق، ولا غيرها، وهو قول الجمهور، ومعهم أبو يوسف.
وذهب آخرون إلى أن الحكم إن كان في مال، وكان الأمر في الباطن، بخلاف ما استند إليه الحاكم من الظاهر، لم يكن ذلك موجبًا لحله، للمحكوم له، وإن كان في نكاح، أو طلاق، فإنه ينفذ باطنًا وظاهرًا، وحملوا حديث الباب، على ما ورد فيه، وهو المال، واحتجوا لِمَا عَدَاه بقصة المتلاعِنَيْن، فإنه صلى الله عليه وسلم فَرّق بين المتلاعنين مع احتمال أن يكون الرجل، قد صَدَق فيما رماها به. قال: فيؤخذ من هذا أن كلَّ قضاء، ليس فيه تمليك مال أنه على الظاهر،
(1)
"المغني" 14/ 37 - 39.
ولو كان الباطن بخلافه، وأنّ حكم الحاكم يُحدِث في ذلك التحريم والتحليل، بخلاف الأموال.
وتُعُقِّب بأن الفرقة في اللعان، إنما وقعت عقوبةً للعلم بأن أحدهما كاذب، وهو أصل برأسه، فلا يقاس عليه.
وأجاب غيره من الحنفية، بأن ظاهر الحديث يدل على أن ذلك مخصوص، بما يتعلق بسماع كلام الخصم، حيث لا بينة هناك، ولا يمين، وليس النزاع فيه، وإنما النزاع في الحكم المرتَّب على الشهادة، وبأن "مَنْ" في قوله:"فمن قضيت له" شرطية، وهي لا تستلزم الوقوع، فيكون مِنْ فَرْضِ ما لم يقع، وهو جائز فيما تعلق به غَرَضٌ، وهو هنا مُحْتَمِل لأن يكون للتهديد والزجر، عن الإقدام على أخذ أموال الناس باللَّسَن، والإبلاع في الخصومة، وهو وإن جاز أن يستلزم عدم نفوذ الحكم باطنًا، في العقود والفسوخ، لكنه لم يُسَق لذلك، فلا يكون فيه حجة لمن منع، وبأن الاحتجاج به، يستلزم أنه صلى الله عليه وسلم يُقَرُّ على الخطإ؛ لأنه لا يكون ما قضى به قطعة من النار، إلا إذا استمر الخطأ، وإلا فمتى فُرِض أنه يطَّلع عليه، فإنه يجب أن يُبطِل ذلك الحكم، ويَرُدّ الحق لمستحقه، وظاهر الحديث يخالف ذلك، فإما أن يسقط الاحتجاج به، ويُؤَوّل على ما تقدم، وإما أن يستلزم استمرار التقرير على الخطإ، وهو باطل.
والجواب عن الأول: أنه خلاف الظاهر، وكذا الثاني، والجواب عن الثالث: أن الخطأ الذي لا يُقَرّ عليه هو الحكم الذي صدر عن اجتهاد فيما لم يُوْحَ إليه فيه، وليس النزاع فيه، وإنما النزاع في الحكم الصادر منه بناء على شهادة زور، أو يمين فاجرة، فلا يسمى خطأ؛ للاتفاق على وجوب العمل بالشهادة، وبالأيمان، وإلا لكان الكثير من الأحكام يسمى خطأ، وليس كذلك، كما تقدمت الإشارة إليه في حديث:"أُمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله"، وحديث:"إني لم أُومر بالتنقيب عن قلوب الناس"، وعلى هذا فالحجة من الحديث ظاهرة، في شمول الخبر: الأموال، والعقود، والفسوخ، والله أعلم.
ومن ثَمّ قال الشافعيّ: إنه لا فرق في دعوى حل الزوجة لمن أقام بتزويجها بشاهدي زور، وهو يعلم بكذبهما، وبين من ادّعى على حُرّ أنه في
مُلكه، وأقام بذلك شاهدي زور، وهو يعلم حريته، فإذا حَكَم له الحاكم بأنه مُلكه، لم يحل له أن يسترقّه بالإجماع.
قال النووي: والقول بأن حكم الحاكم يُحِلّ ظاهرًا وباطنًا مخالف لهذا الحديث الصحيح، وللإجماع السابق على قائله، ولقاعدةٍ أجمع العلماء عليها، ووافقهم القائل المذكور، وهو أن الأبضاع أولى بالاحتياط من الأموال.
وقال ابن العربيّ: إن كان حاكمًا نَفَذ على المحكوم له، أو عليه، وإن كان مفتيًا لم يَحِل، فإن كان المفتي له مجتهدًا، يرى بخلاف ما أفتاه به، لم يجز، وإلا جاز. والله أعلم.
وقال القرطبيّ: شنَّعوا على من قال ذلك قديمًا وحديثًا؛ لمخالفة الحديث الصحيح، ولأن فيه صيانة المال، وابتذال الفروج، وهي أحق أن يُحتاط لها وتُصان.
واحتج بعض الحنفية بما جاء عن عليّ رضي الله عنه أن رجلًا خطب امرأة فأبت، فادعى أنه تزوجها، وأقام شاهدين، فقالت المرأة: إنهما شهدا بالزور، فزوِّجني أنت منه، فقد رضيت، فقال:"شاهداك زوَّجاك"، وأمضى عليها النكاح.
وتُعُقّب بأنه لم يثبت عن علي رضي الله عنه، واحتج المذكور من حيث النظر، بأن الحاكم قضى بحجة شرعية، فيما له ولاية الإنشاء فيه، فجعل الإنشاء تحرزًا عن الحرام، والحديث صريح في المال، وليس النزاع فيه، فإن القاضي لا يملك دفع مال زيد إلى عمرو، ويملك إنشاء العقود والفسوخ، فإنه يملك بيع أمَة زيد مثلًا من عمرو، حال خوف الهلاك للحفظ، وحال الغَيْبة، ويملك إنشاء النكاح على الصغيرة، والفرقة على العنّين، فيجعل الحكم إنشاء؛ احترازًا عن الحرام، ولأنه لو لم ينفذ باطنًا، فلو حكم بالطلاق لبقي حلالًا للزوج الأول باطنًا، وللثاني ظاهرًا، فلو ابتلى الثاني مثل ما ابتلى الأول، حَلّت للثالث، وهكذا فتحلّ لِجَمْع متعدد في زمن واحد، ولا يخفى فُحشه، بخلاف ما إذا قلنا بنفاذه باطنًا، فإنها لا تحل إلا لواحد. انتهى.
وتُعُقّب بأن الجمهور إنما قالوا في هذا: تحرم على الثاني مثلًا، إذا عَلِم أن الحُكم ترتَّب على شهادة الزور، فإذا اعتمد الحكم، وتعمَّد الدخول بها، فقد ارتكب مُحَرَّمًا، كما لو كان الحكم بالمال فأكله، ولو ابتلى الثاني كان
حكم الثالث كذلك، والفحش إنما لزم من الإقدام على تعاطي المحرَّم، فكان كما لو زَنَوْا ظاهرًا، واحد بعد واحد.
وقال ابن السمعانيّ: شرطُ صحة الحكم وجودُ الحجة، وإصابة المَحلّ، وإذا كانت البينة في نفس الأمر شهود زور، لم تحصل الحجة؛ لأن حجة الحكم هي البينة العادلة، فإن حقيقة الشهادة إظهار الحق، وحقيقة الحكم إنفاذ ذلك، وإذا كان الشهود كَذَبَةً، لم تكن شهادتهم حقًّا، قال: فإن احتجوا بأن القاضي حَكَم بحجة شرعية، أمر الله بها، وهي البينة العادلة في عِلمه، ولم يكلَّف بالاطلاع على صِدْقهم في باطن الأمر، فإذا حكم بشهادتهم، فقد امتثل ما أُمر به، فلو قلنا: لا يَنْفَذ في باطن الأمر، للزم إبطال ما وجب بالشرع؛ لأن صيانة الحكم عن الإبطال مطلوبة، فهو بمنزلة القاضي في مسألة اجتهادية، على مُجتَهِد لا يعتقد ذلك، وأنه يجب عليه قبول ذلك، وإن كان لا يعتقده؛ صيانةً للحكم.
وأجاب ابن السمعاني، بأن هذه الحجة للنفوذ، ولهذا لا يأثم القاضي، وليس من ضرورة وجوب القضاء نفوذ القضاء حقيقة في باطن الأمر، وإنما يجب صيانة القضاء عن الإبطال إذا صادف حجة صحيحة، والله أعلم. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن بما ذُكر من الحجج أن ما ذهب إليه الجمهور، من أن حديث الباب على إطلاقه، فيشمل جميع الأحكام عقودًا، وفسوخًا، وغير ذلك، أموالًا، وفروجًا هو الحقّ، وأن القول بالتفرقة بين المال والبُضع قول ضعيفٌ، بل باطلٌ؛ لمخالفته لهذا الحديث، وغيره، والله تعالى أعلم.
ومن العجائب ما كتبه صاحب "تكملة فتح الملهم" في هذا المحلّ تأييدًا لمذهبه الحنفيّ، مع ظهور ضَعفه، فقد تعصّب تعصّبًا شديدًا، قاتل الله التعصّب، وقد تقدّم قريبًا أنه أحسن في مسألة خالف فيها مذهبه؛ للأدلة، إلا أنه وقع هنا في التعصّب الممقوت.
(1)
"الفتح" 17/ 11، كتاب "الأحكام" رقم (7181).
ومن أعجب ما صنعه أنه نقل عن صاحب "الفتح" عدم ثبوت أثر عليّ رضي الله عنه المتقدّم في قصّة المرأة، ثم تعقّبه نقلًا عن شيخه بأن محمد بن الحسن قال: بلغنا عن عليّ
…
إلخ، ثم قال: وبهذا نأخذ، فقال: هذا دليل على ثبوت الرواية عند محمد بوجه يحتجّ به إلى آخر ما كتبه، فالعجب كيف يتعقّب قول صاحب "الفتح" بقول محمد:"بلغنا"؟، فهل هذا طريق المحدثين في تصحيح الحديث؟ فإنا لله وإنا إليه راجعون، هذا مبلغ علم المتعصّبين، نسأل الله تعالى السلامة والعافية.
[فرع]: لو كان المحكوم له يعتقد خلاف ما حكم له به الحاكم، هل يحل له أخذ ما حكم له به، أو لا؟ كمن مات ابن ابنه، وترك أخًا شقيقًا، فرفعه لقاض يَرى في الجد رأي أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فحكم له بجميع الإرث، دون الشقيق، وكان الجد المذكور يرى رأي الجمهور، نقل ابن المنذر رحمه الله عن الأكثر أنه يجب على الجد أن يشارك الأخ الشقيق؛ عملًا بمعتقده، والخلاف في المسألة مشهور، ذكره في "الفتح"
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
[4466]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَاهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ (ح)، وحَدَّثنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، كِلَاهُمَا عَنْ هِشَامٍ، بِهَذَا الإِسْنَادِ مِثْلَه)
(2)
.
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(وَكِيعُ) بن الجرّاح بن مَلِيح الرؤاسيّ، أبو سفيان الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ عابدٌ، من كبار [9](ت 6 أو 197)(ع) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.
2 -
(أَبُو كُرَيْبٍ) محمد بن العلاء الْهَمْدانيّ الكوفيّ، ثقةٌ حافظ [10](ت 247)، وهو ابن (87) سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 117، وهو أحد مشايخ الجماعة بلا واسطة، وهم تسعة، كما تقدّم.
3 -
(ابْنُ نُمَيْرٍ) هو: عبد الله بن نُمير الْهَمْدانيّ، أبو هشام الكوفيّ، ثقةٌ ثبت، سنّيّ، من كبار [9](ت 199)، وله (84) سنة (ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 5.
(1)
"الفتح" 17/ 11 رقم (7181).
(2)
وفي نسخة: "بمثله".
و"ابن أبي شيبة" ذُكر قبل حديث.
[تنبيه]: رواية وكيع، عن هشام، ساقها ابن ماجه رحمه الله في "سننه"، فقال:
(2317)
- حدّثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا وكيع، ثنا هشام بن عروة، عن أبيه، عن زينب بنت أم سلمة، عن أم سلمة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنكم تختصمون إليّ، وإنما أنا بشر، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، وإنما أقضي لكم على نحوٍ مما أسمع منكم، فمن قَضَيت له من حقّ أخيه شيئًا، فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار، يأتي بها يوم القيامة". انتهى
(1)
.
وأما رواية عبد الله بن نُمير، عن هشام بن عروة، فلم أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4467]
(
…
) - (وَحَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْر، عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم سَمِعَ جَلَبَةَ خَصْمٍ بِبَابِ حُجْرَتِه، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ، فَقَالَ: "إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، وَإِنَّهُ يَأْتِينِي الْخَصْمُ، فَلَعَلَّ بَعْضَهُمْ
(2)
أَنْ يَكُونَ أَبْلَغَ مِنْ بَعْضٍ، فَأَحْسِبُ أَنَّهُ صَادِقٌ، فَأَقْضِي لَهُ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ مُسْلِمٍ، فَإِنَّمَا هِيَ قِطْعَةٌ مِنَ النَّار، فَلْيَحْمِلْهَا، أَوْ يَذَرْهَا").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى) التُّجيبيّ، أبو حفص المصريّ، صاحب الشافعيّ، صدوقٌ [11](ت 3 أو 244)(م س ق) تقدم في "المقدمة" 3/ 14.
2 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْبِ) بن مسلم القرشيّ مولاهم، أبو محمد المصريّ، ثقةٌ حافظٌ، فقيهٌ، عابد [9](ت 197)، وله (72) سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 10.
(1)
"سنن ابن ماجه" 2/ 777.
(2)
وفي نسخة: "ولعلّ بعضكم".
3 -
(يُونُسُ) بن يزيد بن أبي النِّجَاد الأمويّ مولاهم، أبو يزيد الأيليّ، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار [7](ت 159) أو بعدها (ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 14.
4 -
(ابْنُ شِهَابٍ) محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب الزهريّ، أبو بكر المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ حجة فقيه إمام مشهور، رأس الطبقة [4](ت 125)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 348.
والباقون ذُكروا قبله.
وقوله: (سَمِعَ جَلَبَةَ خَصْمٍ)"الْجَلَبَة" - بفتح الجيم، واللام، والموحّدة -: اختلاط الأصوات، وفي الرواية الآتية:""اللَّجَبَةَ" - بتقديم اللام على الجيم - وهي لغة في "الجلبة".
و"الخَصْم" - بفتح الخاء وسكون الصاد -: الجماعة المتخاصمون، وهو اسم مصدر يستوي فيه الواحد والجمع والمثنى، مذكرًا ومؤنثًا، ويجوز جمعه وتثنيته، كما في رواية:"خُصُوم"، وكما في قوله تعالى:{هَذَانِ خَصْمَانِ} [الحج: 19].
وقوله: (بِبَابِ حُجْرَتِهِ) وفي رواية: "عند بابه"، والحجرة المذكورة: هي منزل أم سلمة رضي الله عنها، كما وقع مفسّرًا في رواية معمر الآتية.
وقوله: (إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ)"البشر": الخلق، يُطلق على الجماعة والواحد، بمعنى أنه منهم، والمراد أنه مشارك للبشر في أصل الخلقة، ولو زاد عليهم بالمزايا التي اختصّ بها في ذاته، وصفاته، والحصر هنا مجازي؛ لأنه يختص بالعلم الباطن، ويسمى قصر قلب؛ لأنه أتى به ردًّا على من زعم أنّ من كان رسولًا، فإنه يعلم كل غيب، حتى لا يخفى عليه المظلوم، قاله في "الفتح".
وقال أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما أنا بشرٌ": تنبيه على أن أصل البشرية عدم العلم بالغيب، وبما يخفى من البواطن، إلا من أطلعه الله تعالى على شيء من ذلك، وعلى جواز الغلط والسهو عليهم، إلا من عصمه الله تعالى من ذلك، وقد كان الله تعالى قادرًا أن يُطلع نبيّه صلى الله عليه وسلم على بواطن كلّ من يتخاصم إليه، فيحكم بخفيّ ذلك، ويُخبر به، كما اتّفق له في مواضع، كقصّة حاطب بن أبي بلتعة، وحديث فَضالة بن عُمير، وذلك أنه أراد قتل النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو يطوف بالبيت، قال: فلما دنوت منه، قال:"أفضالةُ؟ "، قلت: نعم، قال:
"ما كنت تحدّث به نفسك؟ "، قلت: لا شيء، فضحك، وأخبرني بذلك، واستغفر لي، ووضع يده على صدري، فسكن قلبي، وغير ذلك من الوقائع التي أخبر بها، فوُجدت كما أخبر، وكما اتّفق ذلك للخضر عليه السلام في قصّة السفينة، والغلام، والجدار، لكن إنما كان ذلك للأنبياء من جملة كراماتهم، ومعجزاتهم، ولم يجعل الله ذلك طريقًا عامًّا، ولا قاعدة كلّيّةً، لا لهم، ولا لغيرهم؛ لاستمرار العادة بأن ذلك لا يقع من غير الأنبياء، ولأن وقوع ذلك من الأنبياء نادرٌ، وتلك سُنّة الله، ولن تجد لسُنَّة الله تبديلًا.
قال القرطبيّ: وقد شاهدت بعض الممخرقين، وسمعنا منهم أنهم يُعرضون عن القواعد الشرعيّة، ويحكمون بالخواطر القلبيّة، ويقول: الشاهد المتّصل بي أعدل من الشاهد المنفصل عني، وهذه مخرقةٌ أبرزتها زندقة، يُقتَل صاحبها، ولا يُستتاب من غير شكّ، ولا ارتياب. وهذا خير البشر النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول في مثل هذا الموطن:"إنما أنا بشر"، معترفًا بالقصور عن إدراك المغيّبات، وعاملًا بما نصبه الله تعالى له من الأيمان والبيّنات. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(1)
.
[تنبيه]: مما ينبغي أن يُتنبّه له أن هذا الحديث فيه بيان واضح، وردّ فاضح، على غلاة الصوفيّة، وجَهَلتهم، حيث إنهم يصفون النبيّ صلى الله عليه وسلم بما لا يليق أن يوصف به، فيقولون: إنه ليس كالبشر، بل هو أرفع من ذلك، يعلم الغيب، وأنه يحضر كلّ مجالسهم، ويقضي حوائجهم، بل صرّح بعضهم بأنه صلى الله عليه وسلم لم يخرج من الدنيا حتى أعلمه الله تعالى الخمس التي استأثر الله تعالى بعلمها، وهي المذكورة في قوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} الآية [لقمان: 34]، وكلّ هذا من الخرافات، والضلالات، فالنبيّ صلى الله عليه وسلم أرفع عند الله تعالى قدرًا، ولكنه بشر، فلا يعلم من الغيب إلا ما أطلعه الله، فعليك أيها العاقل أن تتنصّل من هذه الاعتقادات الفاسدة، وتصحّح عقيدتك على ضوء الكتاب والسُّنّة، فلا تصف النبيّ صلى الله عليه وسلم بما لم يثبت له في النصوص، ولا تَغْلُ في ذلك، فقد قال الله عز وجل: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا
(1)
"المفهم" 5/ 153 - 154.
الْحَقَّ} الآية [النساء: 171]، وقال صلى الله عليه وسلم:"لا تُطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبده، فقولوا: عبد الله ورسوله"، متّفق عليه.
وبالجملة فهذا الأمر من الأخطار التي سوّلها الشيطان لأوليائه، وأوقعهم في شبكتها، وهنّاهم، ومنّاهم، فلا حول ولا قوة إلا بالله، فالواجب على العاقل الانتباه بها، والحذر، والتحذير منها، {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8)} [آل عمران: 8]، اللهم أرنا الحقّ حقًّا، وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلًا، وارزقنا اجتنابه، آمين.
وقوله: (فَأَحْسِبُ أَنَّهُ صَادِقٌ): هذا يُؤْذِن أن في الكلام حذفًا تقديره: وهو في الباطن كاذب، وفي رواية معمر:"فأظنه صادقًا".
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "فأحسب أنه صادق" فيه دليل على العمل بالظنون، وبناء الأحكام عليها، وهو أمرٌ لم يُختلف فيه في حقّ الحاكم والمفتي. انتهى
(1)
.
وقوله: (فَأَقْضِي لَهُ) وفي رواية البخاريّ: "فأقضي له بذلك"، وفي رواية أبي داود من طريق الثوريّ:"فأقضي له عليه على نحو مما أسمع"، وفي رواية عبد الله بن رافع:"إني إنما أقضي بينكم برأي، فيما لم يُنزل عليّ فيه".
وقوله: (بِحَقِّ مُسْلِمٍ) قال النوويّ رحمه الله: التقييد بالمسلم خرج على الغالب، وليس المراد به الاحتراز من الكافر، فإن مال الذميّ، والمعاهَد، والمرتدّ في هذا كَمالِ المسلم. انتهى
(2)
.
وقوله: (فَإنَّمَا هِيَ قِطْعَةٌ مِنَ النَّارِ) الضمير للحالة، أو القصّة، وقال القرطبيّ رحمه الله: أَي: ما يأخذه بغير حقّه سبب يوصل آخذه إلى النار، وهو تمثيل يُفهم منه شدّة العذاب والتنكيل. انتهى
(3)
.
وقوله: (فَلْيَحْمِلْهَا) هو بمعنى قوله في الرواية الأخرى: "فليأخذها".
وقوله: (أَوْ يَذَرْهَا)؛ أي: يتركها.
(1)
"المفهم" 5/ 158.
(2)
"شرح النوويّ" 12/ 6 - 7.
(3)
"المفهم" 5/ 158.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "فليحملها، أو يذرها" لفظه لفظ الأمر، ومعناه التهديد والوعيد. انتهى
(1)
.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام شرحه، وبيان مسائله قبل حديث، ولله الحمد والمنّة.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4468]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَا عَمْرٌو النَّاقِدُ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ صَالِحٍ (ح)، وحَدَّثَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاق، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، كِلَاهُمَا عَنِ الزُّهْرِيِّ، بِهَذَا الْإِسْنَاد، نَحْوَ حَدِيثِ يُونُسَ، وَفِي حَدِيثِ مَعْمَرٍ: قَالَتْ: سَمِعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَجَبَةَ خَصْمٍ بِبَابِ أُمِّ سَلَمَةَ).
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(عَمْرٌو النَّاقِدُ) هو: عمرو بن محمد بن بُكير، أبو عثمان البغداديّ، نزيل الرَّقَّة، ثقة حافظٌ [10](ت 232)(خ م د س) تقدم في "المقدمة" 4/ 23.
2 -
(يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ) الزهريّ، أبو يوسف المدنيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ فاضلٌ، من صغار [9](ت 208)(ع) تقدم في "الإيمان" 9/ 141.
3 -
(أَبُوهُ) إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهريّ، أبو إسحاق المدنيّ، نزيل بغداد، ثقة حجة [8](ت 185)(ع) تقدم في "الإيمان" 9/ 141.
4 -
(صَالِحُ) بن كيسان الغفاريّ مولاهم، أبو محمد، أو أبو الحارث المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ [4] مات بعد (130) أو (140)(ع) تقدم في "الإيمان" 9/ 141.
5 -
(عَبْدُ بْنُ حُمَيْدِ) بن نصر الْكِسّيّ، أبو محمَد، ثقةٌ حافظٌ [11](ت 249)(خت م ت) تقدم في "الإيمان" 7/ 131.
6 -
(عَبْدُ الرَّزَّاقِ) بن همام بن نافع الْحِمْيريّ مولاهم، أبو بكر الصنعانيّ، ثقةٌ حافظ، صاحب "المصنّف"، عَمِي في آخره، فتغيّر، وكان يتشيّع [9](ت 211)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.
(1)
"المفهم" 5/ 159.
7 -
(مَعْمَرُ) بن راشد الأزديّ مولاهم، أبو عروة البصريّ، نزيل إليمن، ثقةٌ ثبتٌ فاضلٌ، من كبار [7](ت 154)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.
و"الزهريّ " ذُكر قبله.
وقوله: (كِلَاهُمَا عَنِ الزُّهْرِيِّ) ضمير التثنية لصالح بن كيسان، ومعمر بن راشد.
[تنبيه]: رواية صالح بن كيسان، عن الزهريّ هذه ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:
(2326)
- حدّثنا عبد العزيز بن عبد الله، قال: حدّثني إبراهيم بن سعد، عن صالح، عن ابن شهاب، قال: أخبرني عروة بن الزبير، أن زينب بنت أم سلمة أخبرته، أن أمها أم سلمة رضي الله عنها زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم أخبرتها، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سَمِع خصومة بباب حجرته، فخرج إليهم، فقال:"إنما أنا بشر، وإنه يأتيني الخصم، فلعل بعضكم أن يكون أبلغ من بعض، فأحسب أنه صَدَقَ، فأقضي له بذلك، فمن قضيت له بحق مسلم، فإنما هي قطعة من النار، فليأخذها، أو فليتركها". انتهى
(1)
.
ورواية معمر، عن الزهريّ، ساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:
(26668)
- حدثنا عبد الله
(2)
، حدّثني أبي، ثنا عبد الرزاق، قال: ثنا معمر، عن الزهريّ، عن عروة، عن زينب ابنة أبي سلمة، عن أم سلمة، قالت: سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم لَجَبَة خصم عند باب أم سلمة، قالت: فخرج إليهم، فقال:"إنكم تختصمون، وإنما أنا بشر، ولعل بعضكم أن يكون أعلم بحجته من بعض، فأقضي له بما أسمع منه، فأظنه صادقًا، فمن قضيت له بشيء من حقّ أخيه، فإنها قطعة من النار، فليأخذها، أو لِيَدَعْهَا". انتهى
(3)
، والله تعالى أعلم.
(1)
"صحيح البخاريّ" 2/ 867.
(2)
هو ولد الإمام أحمد راوي "المسند" عنه.
(3)
"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 6/ 308.
(4) - (بَابُ قَضِيَّةِ هِنْدٍ)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4469]
(1714) - حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ السَّعْدِيُّ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيه، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: دَخَلَتْ هِنْدٌ بِنْتُ عُتْبَةَ امْرَأَةُ أَبِي سُفْيَانَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ أَبا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ، لَا يُعْطِينِي مِنَ النَّفَقَةِ مَا يَكْفِينِي، وَيَكْفِي بَنيَّ، إِلَّا مَا أَخَذْتُ مِنْ مَالِهِ بِغَيْرِ عِلْمِه، فَهَلْ عَلَيَّ فِي ذَلِكَ مِنْ جُنَاحٍ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"خُذِي مِنْ مَالِهِ بِالْمَعْرُوف، مَا يَكْفِيك، وَيَكْفِي بَنِيكِ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ السَّعْدِيُّ) المروزيّ، ثقةٌ حافظٌ، من صغار [9](ت 244)، وقد قارب المائة (خ م ت س) تقدم في "المقدمة" 2/ 6.
2 -
(عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ) القرشيّ الكوفي، قاضي الْمَوْصِل، ثقةٌ [8](ت 189)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 6.
3 -
(عَائِشَةُ) أم المؤمنين رضي الله عنها تقدمت في "شرح المقدمة" جـ 1 ص 315.
والباقيان تقدّما في الباب الماضي.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه مسلسل بالمدنيين غير شيخه، فمروزيّ، وابن مسهر، فكوفيّ، وأن فيه الابن عن أبيه، عن خالته، ورواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه عروة أحد الفقهاء السبعة، وفيه عائشة رضي الله عنها من المكثرين السبعة، روت من الأحاديث (2210)، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ عَائِشَةَ) أم المؤمنين رضي الله عنها أنها (قَالَتْ: دَخَلَتْ هِنْدٌ بِنْتُ عُتْبَةَ) يجوز صرف "هند"، وعدم صرفه؛ لكونه ساكن الوسط، ومنعُهُ أولى؛ لوجود العلّتين: العَلَميّة والتأنيث، وإن كان سكون الوسط قابَلَ أحدهما، كما قال في "الخلاصة":
وَجْهَانِ فِي الْعَادِمِ تَذْكِيرًا سَبَقْ
…
وَعُجْمَةً كَـ"هِنْدَ" وَالْمَنْعُ أَحَقّ
وهي: هند بنت عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف، وفي رواية الشافعيّ، عن أنس بن عياض، عن هشام:"أن هندًا أم معاوية"، وكانت
(1)
هند لَمّا قُتل أبوها عُتبة، وعمها شيبة، وأخوها الوليد يوم بدر، شَقّ عليها، فلما كان يوم أُحد، وقُتل حمزة فَرِحت بذلك، وعَمَدت إلى بطنه فشقّتها، وأخذت كبده فَلاكَتْها، ثم لَفَظَتْها، فلما كان يوم الفتح، ودخل أبو سفيان مكّة مسلمًا، بعد أن أسرته خيل النبيّ صلى الله عليه وسلم تلك الليلة، فأجاره العباس، غَضِبت هند لأجل إسلامه، وأخذت بلحيته، ثم إنها بعد استقرار النبيّ صلى الله عليه وسلم بمكة جاءت، فأسلمت، وبايعت، وقالت له: يا رسول الله، ما كان على ظهر الأرض من أهل خباء، أحب إليّ أن يَذِلّوا من أهل خبائك، وما على ظهر الأرض اليومَ أهل خباء أحب إليّ أن يَعِزّوا من أهل خبائك، فقال:"أيضًا، والذي نفسي بيده"، ثم قالت: يا رسول الله، إن أبا سفيان
…
إلخ.
وذكر ابن عبد البر: أنها ماتت في المحرم، سنة أربع عشرة، يوم مات أبو قُحافة، والد أبي بكر الصديق رضي الله عنهما.
وأخرج ابن سعد في "الطبقات": ما يدل على أنها عاشت بعد ذلك، فرَوَى عن الواقديّ، عن ابن أبي سبرة، عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم: أن عمر استعمل معاوية على عمل أخيه، فلم يزل واليًا لعمر حتى قُتل، واستُخلف عثمان، فأقره على عمله، وأفرده بولاية الشام جميعًا، وشخص أبو سفيان إلى معاوية، ومعه ابناه: عتبة، وعنبسة، فكتبت هند إلى معاوية: قد قَدِم عليك
(1)
هي والدة معاوية، قُتل أبوها ببدر، وشهدت مع زوجها أبي سفيان أُحُدًا، وحَرَّضت على قتل حمزة عمّ النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ لكونه قتل عمها شيبة، وشارك في قتل أبيها عتبة، فقتله وحشيّ بن حرب، ثم أسلمت هند يوم الفتح، وكانت من عُقلاء النساء، وكانت قبل أبي سفيان عند الفاكه بن المغيرة المخزوميّ، ثم طلّقها في قصة جرت، فتزوجها أبو سفيان، فأنجبت عنده، وهي القائلة للنبيّ صلى الله عليه وسلم لَمّا شرط على النساء في المبايعة:"ولا يسرقن، ولا يزنين": وهل تزني الحرة؟ وماتت هند في خلافة عمر رضي الله عنه، ذكره في "الفتح" في "مناقب الأنصار" رقم (3825).
أبوك وأخواك، فاحمل أباك على فرس، وأعطه أربعة آلاف درهم، واحمل عتبة على بغل، وأعطه ألفي درهم، واحمل عنبسة على حمار، وأعطه ألف درهم، ففعل ذلك، فقال أبو سفيان: أشهد بالله، أن هذا عن رأي هند.
وكان عتبة منها، وعنبسة من غيرها، أمه عاتكة بنت أبي أُزيهر الأزديّ، وفي "الأمثال" للميداني: أنها عاشت بعد وفاة أبي سفيان، فإنه ذكر قصة فيها: أن رجلًا سأل معاوية أن يزوجه أمه، فقال: إنها قعدت عن الولد، وكانت وفاة أبي سفيان في خلافة عثمان، سنة اثنتين وثلاثين. ذكره في "الفتح"
(1)
.
وقوله: (امْرَأَةُ أَبِي سُفْيَانَ) بدل من "هند"، (عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) متعلّق بـ"دخلت"، (فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ) هو صَخْر بن حَرْب بن أمية بن عبد شمس، وهو زوجها، وكان قد رَأَس في قريش بعد وقعة بدر، وسار بهم في أُحُد، وساق الأحزاب يوم الخندق، ثم أسلم ليلة الفتح، ومات سنة (32)، وقيل: بعدها، وقد تقدّمت ترجمته في "الزكاة" 44/ 2443.
(رَجُلٌ شَحِيحٌ) الشُّحُّ: البُخْل مع حرص، والشح أعمّ من البخل؛ لأن البخل يختص بمنع المال، والشح بكل شيء، وقيل: الشح لازم كالطبع، والبخل غير لازم.
وفي رواية معمر التالية: "رجل مُمْسِك"، وفي رواية ابن أخي الزهريّ الثالثة:"رجل مِسِّيك"، وسيأتي البحث فيه هناك.
قال القرطبيّ رحمه الله: لم تُرد هند وصف أبي سفيان بالشحّ في جميع أحواله، وإنما وصفت حالها معه، وأنه كان يُقَتِّر عليها، وعلى أولادها، وهذا لا يستلزم البخل مطلقًا، فإن كثيرًا من الرؤساء يفعل ذلك مع أهله، ويُؤْثِر الأجانب استئلافًا لهم. وسيأتي قريبًا ذِكر سبب لقول هند هذا، إن شاء الله تعالى.
وقوله: (لَا يُعْطِينِي مِنَ النَّفَقَةِ) بيان لمعنى شُحّه، وقوله:(مَا يَكْفِينِي)"ما" موصولة مفعول "يُعطي"، (وَيَكْفِي بَنِيَّ) جمع ابن، أصله: بنين لي، فأُضيف إلى ياء المتكلّم، فحُذفت نون الجمع، واللام، وأُدغمت الياء في الياء، وفُتحت، كما قال في "الخلاصة":
(1)
"الفتح" 12/ 265 - 266، كتاب "النفقات" رقم (5364).
آخِرَ مَا أُضِيفَ لِلْيَا اكْسِرْ إِذَا
…
لَمْ يَكُ مُعْتَلًّا كَـ"رَامٍ"، و"قَذَى"
أَوْ يَكُ كَـ"ابْنَيْنِ"، و"زَيْدِينَ" فَذِي
…
جَمِيعُهَا الْيَا بَعْدُ فَتْحُهَا احْتُذِي
وَتُدْغَمَ الْيَا فِيهِ وَالْوَاوُ وَإِنْ
…
مَا قَبْلَ وَاوٍ ضُمَّ فَاكْسِرْهُ يَهُنْ
وَأَلِفًا سَلِّمْ وَفِي الْمَقْصُورِ عَنْ
…
هُذَيْلٍ انْقِلَابُهَا يَاءً حَسَنْ
(إِلَّا مَا أَخَذْتُ مِنْ مَالِهِ بِغَيْرِ عِلْمِهِ) زاد الشافعيّ في روايته: "سرًّا، فهل عليّ في ذلك من شيء؟ ". (فَهَلْ عَلَيّ فِي ذَلِكَ مِنْ جُنَاحٍ؟)"من" زائدة، و"الْجُناح" - بضمّ الجيم، وتخفيف النون -: الإثم، وفي رواية معمر:"فهل عليّ حرجٌ أن أنفق على عياله من ماله بغير إذنه؟ "، وفي رواية ابن أخي الزهريّ:"فهل عليّ حرجٌ من أن أُطعم من الذي له عيالنا؟ "(فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "خُذِي مِنْ مَالِهِ بِالْمَعْرُوف، مَا يَكْفِيك، وَيَكْفِي بَنِيكِ") وفي رواية معمر: "لا حرج عليك أن تنفقي عليهم بالمعروف"، وفي رواية ابن أخي الزهريّ:"لا إلا بالمعروف"، وسيأتي الكلام عليه.
قال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "خذي": أمر إباحة، بدليل قوله:"لا حرج"، والمراد بالمعروف: القَدْر الذي عُرِف بالعادة أنه الكفاية، قال: وهذه الإباحة، وإن كانت مطلقةً لفظًا، لكنها مقيدة معنًى، كأنه قال: إن صحّ ما ذكرت، وقال غيره: يَحْتَمِل أن يكون صلى الله عليه وسلم، عَلِم صدقها فيما ذكرتْ، فاستغنى عن التقييد.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الاحتمال الأخير هو الظاهر عندي؛ إذ هو مقتضى سياق الحديث، فتأمله بالإمعان، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [4/ 4469 و 4470 و 4471 و 4472](1714)، و (البخاريّ) في "البيوع"(2211) و"المظالم والغصب"(3460) و"النفقات"(5359 و 5364) و"الأيمان والنذور"(6641) و"الأحكام"(7161 و 7180)، و (أبو داود) في "البيوع"(3532 و 3533)، و (النسائيّ) في "آداب القضاة" (8/
246 -
247) و"الكبرى"(5982)، و (ابن ماجه) في "التجارات"(2393)، و (الشافعيّ) في "مسنده" 2/ 64)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(9/ 126)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(4/ 456)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 39 و 64 و 50 و 206)، و (ابن راهويه) في "مسنده"(2/ 224)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 159)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4255 و 4256 و 4257 و 4258)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(1/ 256)، و (الدارقطنيّ) في "سننه"(4/ 234)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 164)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(25/ 71 - 72)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(8/ 98)، و (ابن الجعد) في "مسنده"(1/ 392)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(7/ 466 و 477 و 10/ 269 - 270)، و (البغويّ) في "شرح السُّنّة"(2149 و 2397)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان جواز حكم الحاكم على الغائب إذا تيقّن ثبوت الحقّ عليه، وسيأتي بيان المذاهب في القضاء على الغائب في المسألة التالية - إن شاء الله تعالى -.
2 -
(ومنها): جواز ذِكر الإنسان بما لا يُعجبه، إذا كان على وجه الاستفتاء والاشتكاء، ونحو ذلك، وهو أحد المواضع التي تباح فيها الغيبة، وهي ستة مواضع ذكرها النوويّ في كتابه "رياض الصالحين"(ص 673)، فقال رحمه الله: إن غِيبة الرجل حيًّا وميتًا تُباح لغرض شرعيّ، لا يمكن الوصول إليه إلا بها، وهي ستّةٌ:
[الأول]: التظلّم، فيجوز للمظلوم أن يتظلّم إلى السلطان، والقاضي، وغيرهما، فيقول: ظلمني فلانٌ بكذا.
[الثاني]: الاستعانة على تغيير المنكر، وردّ العاصي إلى الصواب، فيقول لمن يرجو قدرته على إزالة المنكر: فلان يعمل كذا، فازجره عنه، ونحو ذلك، ويكون مقصده التوصّل إلى إزالة المنكر.
[الثالث]: الاستفتاء، فيقول للمفتي: ظلمني أبي، أو أخي، أو زوجي، أو فلان بكذا، فهل يحلّ له ذلك؟، فهذا جائز للحاجة.
[الرابع]: تحذير المسلمين من الشرّ، ونصيحتهم، وذلك من وجوه:
[منها]: جرح المجروحين من الرواة والشهود، وذلك جائزٌ بإجماع المسلمين، بل واجب للحاجة.
[ومنها]: المشاورة في مصاهرة إنسان.
[ومنها]: إذا رأى متفقّهًا يتردّد إلى مبتدع، أو فاسق يأخذ عنه العلم.
[ومنها]: أن يكون له ولاية لا يقوم بها على وجهها.
[الخامس]: أن يكون مجاهرًا بفسقه، أو بدعته، كالمجاهر بشرب الخمر، ومُصادرة الناس، وأخذ المُكس، وجباية الأموال ظلمًا.
[السادس]: التعريف، فإذا كان الإنسان معروفًا بلقب، كالأعمش، والأعرج، والأصمّ، والأعمى، والأحول، وغيرهم جاز تعريفهم بذلك، ويحرُم إطلاقه على جهة التنقيص، ولو أمكن تعريفه بغير ذلك كان أَولى. انتهى كلام النوويّ رحمه الله مختصرًا.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: وقد نظمت هذه المواضع الستة بقولي:
يَا طَالبًا فَائِدَةً جَلِيلَهْ
…
اعْلَمْ هَدَاكَ اللهُ لِلْفَضِيلَهْ
أَنَّ اغْتِيَابَ الشَّخْصِ حَيًّا أَوْ لَا
…
مُحَرَّمٌ قَطْعًا بِنَصٍّ يُتْلَى
لكِنَّهُ لِغَرَضٍ صَحِيحِ
…
أُبِيحَ عَدَّهَا ذَوُو الترجِيحِ
فَذَكَرُوهَا سِتَّةً تَظَلَّمٍ
…
وَاسْتَفْتِ وَاسْتَعِنْ لِرَدْعِ مُجْرِمِ
وَعِبْ مُجَاهِرًا بِفِسْقٍ أَوْ بِدَعْ
…
بِمَا بِهِ جَاهَرَ لَا بِمَا امْتَنَعْ
وَعَرِّفَنْ بِلَقَبٍ مَنْ عُرفَا
…
بِهِ كَقَوْلِكَ رَأَيْتُ الأَحْنَفَا
(1)
وَحَذِّرَنْ مِنْ شَرِّ ذِي الشَّرِّ إِذَا
…
تَخَافُ أَنْ يُلْحِقَ بِالنَّاسِ الأذَى
وَفِي سِوَى هَذَا احْذَرَنْ لَا تَغْتَبِ
…
تَكُنْ مُوَفَّقًا لِنَيْلِ الأَرَبِ
3 -
(ومنها): جواز ذِكر الإنسان بالتعظيم، كاللقب والكنية، كذا قيل، وفيه نظر لأن أبا سفيان كان مشهورًا بكنيته، دون اسمه، فلا يدل قولها: إن أبا سفيان على إرادة التعظيم.
4 -
(ومنها): جواز استماع كلام أحد الخصمين في غَيبة الآخر.
(1)
"الأحنف": هو الأعرج، أو الذي يمشي على ظهر قدميه.
5 -
(ومنها): أن من نَسب إلى نفسه أمرًا عليه فيه غضاضة، فليقرُنه بما يقيم عُذره في ذلك.
6 -
(ومنها): جواز سماع كلام الأجنبية عند الحكم والإفتاء، عند من يقول: إن صوتها عورة، ويقول: جاز هنا للضرورة.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: القول بكون صورة المرأة عورة قول ضعيف، كما سبق بيانه في غير موضع، فتبصّر، والله تعالى أعلم.
7 -
(ومنها): أن القول قول الزوجة في قبض النفقة؛ لأنه لو كان القول قول الزوج: إنه منفق، لكُلِّفت هذه البينة على إثبات عدم الكفاية. وأجاب المازري عنه بأنه من باب تعليق الفتيا، لا القضاء.
8 -
(ومنها): وجوب نفقة الزوجة، وأنها مقدَّرة بالكفاية، وهو قول أكثر العلماء، وهو قول للشافعيّ، حكاه الجوينيّ، والمشهور عن الشافعيّ، أنه قدّرها بالأمداد، فعلى الموسر كل يوم مُدّان، والمتوسط مُدٌّ ونصف، والمعسر مُدّ، وتقريرها بالأمداد رواية عن مالك أيضًا، قال النووي في "شرح مسلم": وهذا الحديث حجة على أصحابنا.
قال الحافظ: وليس صريحًا في الرد عليهم، لكن التقدير بالأمداد محتاج إلى دليل، فإن ثبت حُملت الكفاية في حديث الباب على القَدْر المقدَّر بالأمداد، فكأنه كان يعطيها، وهو موسر ما يعطي المتوسط، فأَذِن لها في أخذ الكمية، وقد اختُلف في ذلك.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: تعقُّب الحافظ على النوويّ مما لا وجه له؛ فإن النوويّ إنما اعترض على أصحابه لعدم وجود دليل يدلّ على التقدير بالأمداد، وقد اعترف الحافظ نفسه بذلك، فكيف يتأتّى له التعقّب بالاحتمال؟، فتبصّر، والله تعالى أعلم.
9 -
(ومنها): اعتبار النفقة بحال الزوجة، وهو قول الحنفية، واختار الخصاف منهم أنها معتبرة بحال الزوجين معًا، قال صاحب "الهداية": وعليه الفتوى، والحجة فيه ضمّ قوله تعالى:{لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} الآية [الطلاق: 7] إلى هذا الحديث. وذهبت الشافعية إلى اعتبار حال الزوج؛ تمسكًا بالآية، وهو قول بعض الحنفية.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: القول الأول هو الظاهر؛ لقوّة دليله، والله تعالى أعلم.
10 -
(ومنها): وجوب نفقة الأولاد بشرط الحاجة، والأصح عند الشافعية اعتبار الصغر، أو الزمانة.
11 -
(ومنها): وجوب نفقة خادم المرأة على الزوج، قال الخطابيّ: لأن أبا سفيان كان رئيس قومه، ويَبْعُد أن يمنع زوجته وأولاده النفقة، فكأنه كان يعطيها قَدْر كفايتها وولدها، دون من يخدمهم، فأضافت ذلك إلى نفسها؛ لأن خادمها داخل في جملتها.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: ما قاله الخطّابيّ محلّ نظر، فليتأمّل، والله تعالى أعلم.
وقال الحافظ: ويَحْتَمِل أن يُتمسك لذلك بقوله في بعض طرقه: "أَنْ أُطعم من الذي له عيالنا".
12 -
(ومنها): أنه يدلّ على وجوب نفقة الابن علي الأب، ولو كان الابن كبيرًا.
وتُعُقّب بأنها واقعة عين، ولا عموم في الأفعال، فيَحْتَمِل أن يكون المراد بقولها:"بنيّ" بعضهم: أي: من كان صغيرًا، أو كبيرًا زَمِنًا، لا جميعهم.
13 -
(ومنها): أنه استُدِلّ به على أن من له عند غيره حقّ، وهو عاجز عن استيفائه، جاز له أن يأخذ من ماله قَدْر حقه بغير إذنه، وهو لمحول الشافعيّ، وجماعة، وتُسمَّى "مسألة الظَّفَر"، والراجح عندهم: لا يأخذ غير جنس حقه، إلا إذا تعذر جنس حقه، وعن أبي حنيفة: المنع، وعنه: يأخذ جنس حقه، ولا يأخذ من غير جنس حقه،، إلا أحد النقدين بدل الآخر، وعن مالك ثلاث روايات، كهذه الآراء، وعن أحمد المنع مطلقًا.
قال الخطابيّ: يؤخذ من حديث هند جواز أخذ الجنس، وغير الجنس؛ لأن منزل الشحيح لا يجمع كل ما يحتاج إليه من النفقة، والكسوة، وسائر المرافق اللازمة، وقد أطلق لها الإذن في أخذ الكفاية من ماله، قال: ويدل على صحة ذلك قولها في رواية أخرى: "وأنه لا يدخل على بيتي ما يكفيني وولدي".
وتعقّبه الحافظ بأنه لا دلالة فيه لِمَا ادّعاه من أن بيت الشحيح لا يحتوي على كل ما يحتاج إليه؛ لأنها نفت الكفاية مطلقًا، فتناول جنس ما يحتاج إليه، وما لا يحتاج إليه، ودعواه أن منزل الشحيح كذلك مسلّمة، لكن من أين له أن منزل أبي سفيان كان كذلك؟ والذي يظهر من سياق القصة أن منزله كان فيه كل ما يحتاج إليه، إلا أنه كان لا يمكّنها إلا من القَدْر الذي أشارت إليه، فاستأذنت أن تأخذ زيادة على ذلك بغير علمه.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن تعقّب الحافظ على استدلال الخطّابيّ محلّ نظر، فإن استدلاله واضح، والله تعالى أعلم.
وقد وجه ابن الْمُنَيِّر قوله: إن في قصة هند دلالةً على أن لصاحب الحق أن يأخذ من غير جنس حقه، بحيث يحتاج إلى التقويم؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أذن لهند، أن تفرض لنفسها وعيالها قَدْر الواجب، وهذا هو التقويم بعينه، بل هو أدقّ منه، وأعسر.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: ما قاله ابن المنيّر رحمه الله تحقيق حسن جدًّا، والله تعالى أعلم.
14 -
(ومنها): أنه استُدِلّ به على أن للمرأة مدخلًا في القيام على أولادها، وكفالتهم، والإنفاق عليهم.
15 -
(ومنها): أنه استُدلّ به على جواز حكم الحاكم بعلمه، وقد اختلف أهل العلم فيه، وسيأتي تحقيق الخلاف في المسألة الخامسة - إن شاء الله تعالى -.
16 -
(ومنها): اعتماد العُرف في الأمور التي لا تحديد فيها من قِبَل الشرع، قال القرطبيّ رحمه الله: فيه اعتبار العرف في الشرعيات، خلافًا لمن أنكر ذلك لفظًا، وعمل به معنًى، كالشافعية. كذا قال، والشافعية إنما أنكروا العمل بالعرف، إذا عارضه النص الشرعي، أو لم يُرشد النص الشرعي إلى العرف.
[تنبيه]: قال الحافظ رحمه الله: أشكل على بعضهم استدلال البخاريّ رحمه الله بهذا الحديث على مسألة الظَّفر، في "كتاب الإشخاص"، حيث ترجم له:"قِصاص المظلوم إذا وجد مال ظالمه"، واستدلاله به على جواز القضاء على الغائب؛ لأن الاستدلال به على مسألة الظفر، لا تكون إلا على القول بأن
مسألة هند كانت على طريق الفتوى، والاستدلال به على مسألة القضاء على الغائب، لا يكون إلا على القول بأنها كانت حُكمًا.
[والجواب]: أن يقال: كل حكم يصدر من الشارع، فإنه ينزَّل منزلة الإفتاء بذلك الحكم في مثل تلك الواقعة، فيصح الاستدلال بهذه القصة للمسألتين. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في القضاء على الغائب:
قال الموفّق رحمه الله: من ادَّعى حقًّا على غائب في بلد آخر، وطلب من الحاكم سماع البينة، والحكم بها عليه، فعلى الحاكم إجابته، إذا كملت الشرائط، وبهذا قال شبرمة، ومالك، والأوزاعيّ، والليث، وسَوّار، وأبو عبيد، وإسحاق، وابن المنذر. وكان شُريح لا يرى القضاء على الغائب، وعن أحمد مثله، وبه قال ابن أبي ليلى، والثوريّ، وأبو حنيفة، وأصحابه، ورُوي ذلك عن القاسم، والشعبيّ، إلا أن أبا حنيفة قال: إذا كان له خصم حاضر من وكيل، أو شفيع جاز الحكم عليه، واحتجوا بما رُوي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، أنه قال لعليّ رضي الله عنه:"إذا تقاضى إليك رجلان، فلا تقض للأول حتى تسمع كلام الآخَر، فإنك تدري بما تقضي"، قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، ولأنه قضاء لأحد الخصمين وحده فلم يَجُز، كما لو كان الآخر في البلد، ولأنه يجوز أن يكون للغائب ما يُبطل البينة ويقدح فيها، فلم يَجُز الحكم عليه.
قال: ولنا أن هندًا قالت: يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح، وليس يعطيني ما يكفيني وولدي، قال:"خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف"، متفق عليه، فقضى لها ولم يكن حاضرًا، ولأن هذا له بيّنة مسموعة عادلة، فجاز الحكم بها كما لو كان الخصم حاضرًا، وقد وافقنا أبو حنيفة في سماع البينة، ولأن ما تأخر عن سؤال المدعي إذا كان حاضرًا يقدَّم عليه إذا كان غائبًا، كسماع البينة، وأما حديثهم فنقول به إذا تقاضى إليه رجلان لم يجز الحكم قبل سماع كلامهما، وهذا يقتضي أن يكونا حاضرين، ويفارق الحاضر الغائب، فإن البينة لا تُسمع على حاضر إلا بحضرته، والغائب بخلافه، وقد ناقض أبو حنيفة
(1)
"الفتح" 12/ 267 - 271، كتاب "النفقات" رقم (5364).
أصله، فقال: إذا جاءت امرأة، فادّعت أن لها زوجًا غائبًا، وله مال في يد رجل، وتحتاج إلى النفقة، فاعترف لها بذلك، فإن الحاكم يقضي عليه بالنفقة، ولو ادعى رجل على حاضر، أنه اشترى من غائب ما فيه شفعة، وأقام بينة بذلك حَكَم له بالبيع والأخذ بالشفعة، ولو مات المدَّعَى عليه، فحضر بعض ورثته، أو حضر وكيل الغائب، وأقام المدعي بينة بذلك حَكَم له بما ادعاه.
إذا ثبت هذا فإنه إن قَدِمَ الغائب قبل الحكم وقف الحكم على حضوره، فإن جَرَحَ الشهود لم يحكم عليه، وإن استنظر الحاكمَ أجّله ثلاثًا، فإن جرحهم وإلا حَكم عليه، وإن ادعى القضاء أو الإبراء فكانت له بينة برئ، وإلا حَلّف المدعي وحَكم له، وإن قَدِم بعد الحكم فجرح الشهود بأمر كان قبل الشهادة بَطَل الحكم، وإن جرحهم بأمر بعد أداء الشهادة أو مطلقًا لم يبطل الحكم، ولم يقبله الحاكم؛ لأنه يجوز أن يكون بعد الحكم فلا يقدح فيه، وإن طلب التأجيل أجّل ثلاثًا، فإن جرحهم وإلا نَفَذ الحكم، وإن ادعى القضاء أو الإبراء، فكانت له به بينة، وإلا حلف الآخَر ونفذ الحكم. انتهى كلام ابن قُدامة رحمه الله
(1)
.
وقال في "الفتح" في "كتاب الأحكام": قال ابن بطال: أجاز مالك، والليث، والشافعيّ، وأبو عبيد، وجماعة الحكم على الغائب، واستثنى ابن القاسم عن مالك ما يكون للغائب فيه حجج، كالأرض والعقار، إلا إن طالت غيبته، أو انقطع خبره، وأنكر ابن الماجشون صحة ذلك عن مالك، وقال: العمل بالمدينة على الحكم على الغائب مطلقٌ، حتى لو غاب بعد أن توجه عليه الحكم، قُضي عليه، وقال ابن أبي ليلى، وأبو حنيفة: لا يُقضَى على الغائب مطلقًا، وأما من هرب، أو استتر بعد إقامة البينة، فينادي القاضي عليه ثلاثًا، فإن جاء والا أنفذ الحكم عليه، وقال ابن قدامة: أجازه أيضًا ابن شُبْرمة، والأوزاعيّ، وإسحاق، وهو أحد الروايتين عن أحمد، ومنعه أيضًا الشعبيّ، والثوريّ، وهي الرواية الأخرى عن أحمد، قال: واستثنى أبو حنيفة من له وكيل مثلًا، فيجوز الحكم عليه بعد الدعوى على وكيله، واحتج من منع
(1)
"المغني" 14/ 93 - 95.
بحديث عليّ رضي الله عنه رفعه: "لا تَقْضِي لأحد الخصمين حتى تسمع من الآخر"، وهو حديث حسن أخرجه أبو داود، والترمذي، وغيرهما، وبحديث الأمر بالمساواة بين الخصمين، وبأنه لو حضر لم تُسمع بينة المدعي حتى يسأل المدعى عليه، فإذا غاب فلا تُسمع، وبأنه لو جاز الحكم مع غَيبته لم يكن الحضور واجبًا عليه.
وأجاب من أجاز: بأن ذلك كله لا يمنع الحكم على الغائب؛ لأن حجته إذا حضر قائمة، فتُسمع، ويُعمل بمقتضاها، ولو أدى إلى نقض الحكم السابق، وحديث عليّ رضي الله عنه محمول على الحاضرين، وقال ابن العربي: حديث علي إنما هو مع إمكان السماع، فأما مع تعذره بمغيب، فلا يمنع الحكم كما لو تعذر بإغماء، أو جنون، أو حَجْر، أو صِغَر، وقد عمل الحنفية بذلك في الشفعة، والحكم على من عنده للغائب مال أن يدفع منه نفقة زوج الغائب، ثم ذكر البخاريّ حديث عائشة رضي الله عنها في قصة هند، وقد احتجّ بها الشافعيّ، وجماعة لجواز القضاء على الغائب.
وتُعُقّب بأن أبا سفيان كان حاضرًا في البلد
(1)
.
وقال في "الفتح" أيضًا في "كتاب النفقات" ما حاصله: استَدَلّ به الخطابي على جواز القضاء على الغائب، وقد ترجم البخاري في "كتاب الأحكام":"القضاء على الغائب"، وأورد هذا الحديث من طريق سفيان الثوري، عن هشام بلفظ:"إن أبا سفيان رجل شحيح، فاحتاج أن آخذ من ماله، قال: خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف"، وذكر النوويّ أن جمعًا من العلماء من أصحاب الشافعيّ، ومِن غيرهم استدلوا بهذا الحديث لذلك، حتى قال الرافعي في القضاء على الغائب: احتج أصحابنا على الحنفية في منعهم القضاء على الغائب بقصة هند، وكان ذلك قضاء من النبيّ صلى الله عليه وسلم على زوجها، وهو غائب، قال النوويّ: ولا يصح الاستدلال؛ لأن هذه القصة كانت بمكة، وكان أبو سفيان حاضرًا بها، وشَرْط القضاء على الغائب، أن يكون غائبًا عن البلد، أو مستتِرًا لا يُقدر عليه، أو متعزِّزًا، ولم يكن هذا الشرط في أبي سفيان
(1)
"الفتح" 16/ 707 - 708، كتاب "الأحكام" رقم (7180).
موجودًا، فلا يكون قضاء على الغائب، بل هو إفتاء، وقد وقع في كلام الرافعي في عدة مواضع: أنه كان إفتاء. انتهى.
واستَدَلّ بعضهم على أنه كان غائبًا بقول هند: لا يعطيني، إذ لو كان حاضرًا لقالت: لا ينفق عليّ؛ لأن الزوج هو الذي يباشر الإنفاق، وهذا ضعيف؛ لجواز أن يكون عادته أن يعطيها جملة، ويأذن لها في الإنفاق مفرقًا، نعم قول النووي: إن أبا سفيان كان حاضرًا بمكة حق، وقد سبقه إلى الجزم بذلك السهيليّ، بل أورد أخص من ذلك، وهو أن أبا سفيان كان جالسًا معها في المجلس، لكن لم يسق إسناده، قال الحافظ: وقد ظَفِرت به في "طبقات ابن سعد"، أخرجه بسند رجاله رجال الصحيح، إلا أنه مرسل عن الشعبيّ: أن هندًا لمّا بايعت، وجاء قوله:"ولا يسرقن"، قالت:"قد كنت أصبت من مال أبي سفيان، فقال أبو سفيان: فما أصبت من مالي فهو حلال لك". قال: ويمكن تعدد القصة، وأن هذا وقع لما بايعت، ثم جاءت مرة أخرى، فسألت عن الحكم، وتكون فهمت من الأول إحلال أبي سفيان لها ما مضى، فسألت عما يُستقبل، لكن يشكل على ذلك ما أخرجه ابن منده في "المعرفة" من طريق عبد الله بن محمد بن زاذان، عن هشام بن عروة، عن أبيه، قال: قالت هند لأبي سفيان: إني أريد أن أبايع، قال: فإن فعلت فاذهبي معك برجل من قومك، فذهبت إلى عثمان، فذهب معها، فدخلت منتقبة، فقال: "بايعي أن لا تشركي
…
" الحديث، وفيه: فلما فرغت، قالت: يا رسول الله إن أبا سفيان رجل بخيل
…
الحديث، قال: ما تقول يا أبا سفيان؟ قال: أما يابسًا فلا، وأما رطبًا فأحله. وذكر أبو نعيم في "المعرفة" أن عبد الله تفرد به بهذا السياق، وهو ضعيف، وأول حديثه يقتضي أن أبا سفيان لم يكن معها، وآخره يدل على أنه كان حاضرًا، لكن يَحْتَمِل أن يكون كلٌّ منهما توجّه وحده، أو أرسل إليه لمّا اشتكت منه، ويؤيد هذا الاحتمال الثاني، ما أخرجه الحاكم في "تفسير الممتحنة" من "المستدرك" عن فاطمة بنت عتبة، أن أبا حذيفة بن عتبة ذهب بها، وبأختها هند يبايعان، فلما اشترط:"ولا يسرقن"، قالت هند: لا أبايعك على السرقة، إني أسرق من زوجي، فكفّ، حتى أرسل إلى أبي سفيان يتحلل لها منه، فقال: أما الرطب فنَعَم، وأما اليابس فلا.
قال الحافظ: والذي يظهر لي أن البخاريّ لم يُرِد أن قصة هند كانت قضاء على أبي سفيان، وهو غائب، بل استَدَلّ بها على صحة القضاء على الغائب، ولو لم يكن ذلك قضاء على غائب بشرطه، بل لمّا كان أبو سفيان غير حاضر معها في المجلس، وأذن لها أن تأخذ من ماله بغير إذنه قَدْر كفايتها، كان في ذلك نوع قضاء على الغائب، فيحتاج مَنْ مَنَعه أن يجيب عن هذا.
وقد انبنى على هذا خلاف يتفرع منه، وهو أن الأب إذا غاب، أو امتنع من الإنفاق على ولده الصغير، أذن القاضي للأم إذا كانت فيها أهلية ذلك في الأخذ من مال الأب، إن أمكن، أو في الاستقراض عليه، والإنفاق على الصغير، وهل لها الاستقلال بذلك بغير إذن القاضي؟ وجهان، ينبنيان على الخلاف في قصة هند، فإن كانت إفتاءً جاز لها الأخذ بغير إذن، وإن كانت قضاء، فلا يجوز إلا بإذن القاضي.
ومما رُجّح به أنه كان قضاء لا فتيا التعبير بصفة الأمر، حيث قال لها:"خذي"، ولو كان فتيا لقال مثلًا: لا حرج عليك، إذا أخذت، ولأن الأغلب من تصرفاته صلى الله عليه وسلم إنما هو الحُكم.
ومما رُجّح به أنه كان فتوى، وقوع الاستفهام في القصة في قولها:"هل عليّ جناح"، ولأنه فَوّض تقدير الاستحقاق إليها، ولو كان قضاء لم يفوّضه إلى المدعي، ولأنه لم يستحلفها على ما ادّعته، ولا كلّفها البينة.
والجواب: أن في ترك تحليفها، أو تكليفها البينة حجةً لمن أجاز للقاضي أن يَحْكم بعلمه، فكأنه صلى الله عليه وسلم عَلِم صدقها في كل ما ادّعت به، وعن الاستفهام أنه لا استحالة فيه من طالب الحكم، وعن تفويض قدر الاستحقاق أن المراد الموكول إلى العُرف، كما تقدم. انتهى ما في "الفتح" في كتاب النفقات
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي الأرجح ما ذهب إليه الجمهور من جواز القضاء على الغائب، وأن الاستدلال بحديث الباب صحيح، كما صنعه البخاريّ، والنسائيّ، وقبلهما الشافعيّ - رحمهم الله تعالى - والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(1)
"الفتح" 12/ 269 - 271 رقم (5364).
(المسألة الخامسة): في اختلاف أهل العلم في جواز حكم الحاكم بعلمه:
قال أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله: تمسَّك بالحديث الماضي، وهو حديث أم سلمة رضي الله عنها من قال: إن الحاكم لا يحكم بعلمه في شيء من الأشياء إلا بما يعلمه في مجلس حكمه، ووجه تمسُّكه: أن كلامه صلى الله عليه وسلم يفضي إلى أنَّه لا يحكم إلا بما سمع في حال حكمه، وقد رُوي بلفظ:"إنما أحكم بما أسمع"، و"إنما" للحصر، فكأنه قال: لا أحكم إلا بما أسمع.
وقد اختُلف في هذا، فقال مالك في المشهور عنه: إن الحاكم لا يحكم بعلمه في شيء، وبه قال أحمد، وإسحاق، وأبو عبيد، والشعبيّ، وروي عن شُريح. وذهبت طائفة إلى أنه يقضي في كلّ شيء من الأموال، والحدود، وغير ذلك مطلقًا، وبه قال أبو ثور، ومن تبعه، وهو أحد قولي الشافعيّ.
وذهبت طوائف إلى التفريق، فقالت طائفة: يقضي بما سمعه في مجلس قضائه خاصّة، لا قبله، ولا في غيره إذا لم تحضر مجلسه بيّنة، وفي الأموال خاصّة، وبه قال الأوزاعيّ، وجماعة من أصحاب مالك، وحكوه عنه.
وقالت طائفة: يحكم بما سمعه في مجلس قضائه، وفي غيره، لا قبل قضائه، ولا في غير مصره، في الأموال خاصّة، وبه قال أبو حنيفة.
وقالت طائفة: إنه يقضي بعلمه في الأموال خاصّة، سواء سمع ذلك في مجلس قضائه، وفي غيره، قبل ولايته، أو بعدها، وبه قال أبو يوسف، ومحمد، وهو أحد قولي الشافعيّ.
وذهب بعض المالكيّة إلى أنه يقضي بعلمه في الأموال، والقذف خاصّة، ولم يشترط مجلس القضاء، واتّفقوا على أنه يحكم بعلمه في الجرح والتعديل؛ لأن ذلك ضروريّ في حقّه.
قال القرطبيّ رحمه الله: والصحيح الأول؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث هلال بن أميّة رضي الله عنه لمّا لاعَن زوجته: "أبصروها، فإن جاءت به - يعني: الولد - على نعت كذا، فهو لهلال، وإن جاءت به على نعت كذا، فهو لشريك"، فجاءت به على النعت المكروه، وقال:"لو كنت راجمًا بغير بيّنة، لرجمت هذه"، فلم يحكم بعلمه؛ لعدم قيام البيّنة، وعند المخالف يجب أن يرجُمها إذا علم ذلك،
قاله عبد الوهّاب، فهذا ظاهر قويّ في الحدود، وأما في غيرها، فيدلّ عليه حديث خزيمة رضي الله عنه، حيث اشترى النبيّ صلى الله عليه وسلم من أعرابيّ فرسًا، فمشى معه ليعطيه ثمنه، فعرض للأعرابيّ من زاده في الثمن، فأراد أن يبيعه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:"قد بعته منّي"، فأنكر الأعرابيّ، وقال: من يشهد لك؟ فاستدعى النبيّ صلى الله عليه وسلم من يشهد، فشهد خزيمة، فهذا النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يحكم بعلمه، حتّى قامت الشهادة، ولا يُنفَصل عن هذا بأن النبيّ صلى الله عليه وسلم فعل ذلك؛ لأن الحقّ كان له، ولا يشهد أحدٌ لنفسه، ولا يحكم لها، ولأنه لا يُعطى أحدٌ بدعواه، ولأنه قد قطع حجة الأعرابيّ لَمّا طلب منه الشهادة؛ لأنا نقول: إنما اعتُبر ذلك كله في حقّ غير النبيّ صلى الله عليه وسلم لإمكان ادّعاء الباطل والكذب، وإرادة أخذ مال الغير، ودفعه عن حقّه، وكل ذلك معدوم في حقّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قطعًا، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم للمنافقين:"أيأمَنُني الله تعالى على أهل الأرض، ولا تَأْمَنُوني؟ والله إني لأمين من في السماء"، متّفقٌ عليه.
وأما قوله: إنما فعله لقطع حجة الخصم، فإنه باطلٌ، إذ لا حجة له، ولا لغيره على خلاف ما قاله النبيّ صلى الله عليه وسلم، فإن هذا الأعرابيّ إن كان مسلمًا، فقد علم صدق النبيّ صلى الله عليه وسلم، وإن كان كافرًا، فلا مبالاة بقوله، إذ قد قام دليلٌ على صدقه، وعلمه العقلاء، كما لم يبال بقول من كذّبه من الكفّار، ولا بقول الذي اتّهمه في القسمة، حيث قال: يا محمد اعدل، فإن هذه قسمة ما أريد بها وجه الله.
ومِن أوضح ما يدلّ على المطلوب، وأصحّه حديث قصّة أبي جهم رضي الله عنه، حيث بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم مصَدِّقًا، فلاجّه رجلان، فشجّهما، فأتيا النبيّ صلى الله عليه وسلم يطلبان القصاص، فبذل لهما مالًا، فرضيا به، فقال:"إني أخطب الناس، وأذكر لهم ذلك، أفرضيتما؟ " قالا: نعم، فخطب الناس، ثم قال:"أرضيتما؟ " قالا: لا، فهمّ بهما المهاجرون والأنصار، فمنعهم النبيّ صلى الله عليه وسلم، ثم نزل، فزادهما، فرضيا، ثم صعد المنبر، فقال:"أرضيتما؟ " قالا: نعم. وموضع الحجة: أنه صلى الله عليه وسلم لم يحكم عليهما بعلمه لَمّا جحدا، وهو المطلوب، ذكره أبو داود من حديث عائشة رضي الله عنها، وهو صحيح.
والحاصل أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يحكم بعلمه؛ تعليمًا لأمته، وسعيًا في سدّ
باب التُّهَم والظنون. والله تعالى أعلم. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(1)
.
وقال ابن قُدامة رحمه الله: ظاهر المذهب أن الحاكم لا يحكم بعلمه، في حَدّ ولا غيره، لا فيما علمه قبل الولاية، ولا بعدها، هذا قول شُريح، والشعبيّ، ومالك، وإسحاق، وأبي عبيد، ومحمد بن الحسن، وهو أحد قولي الشافعيّ.
وعن أحمد رواية أخرى: يجوز له ذلك، وهو قول أبي يوسف، وأبي ثور، والقول الثاني للشافعيّ، واختيار المزنيّ؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم، لَمّا قالت له هند: إن أبا سفيان رجل شحيح، لا يعطيني من النفقة ما يكفيني وولدي، قال:"خذي ما يكفيك، وولدك بالمعروف"، فحكم لها من غير بينة، ولا إقرار؛ لِعِلْمه بصدقها، ورَوَى ابنُ عبد البر في "كتابه": أن عروة، ومجاهدًا، رويا أن رجلًا من بني مخزوم، استعدى عمر بن الخطاب على أبي سفيان بن حرب، أنه ظلمه حَدًّا في موضع كذا وكذا، وقال عمر: إني لأعلم الناس بذلك، وربما لعبت أنا وأنت فيه، ونحن غلمان، فَأْتني بأبي سفيان، فأتاه به، فقال له عمر: يا أبا سفيان انهض بنا إلى موضع كذا وكذا، فنهضوا، ونظر عمر، فقال: يا أبا سفيان خذ هذا الحجر من ها هنا، فضعه ها هنا، فقال: والله لا أفعل، فقال: والله لتفعلن، فقال: والله لا أفعل، فَعَلَاه بالدِّرّة، وقال: خذه لا أُمّ لك، فضعه ههنا، فإنك ما علمتُ قديمُ الظلمِ. فأخذ أبو سفيان الحجر، ووضعه حيث قال عمر، ثم إن عمر استقبل القبلة، فقال: اللهم لك الحمد، حيث لم تُمِتْني حتى غلبتُ أبا سفيان على رأيه، وأذللتَهُ لي بالإسلام، قال: فاستقبل القبلة أبو سفيان، وقال: اللهم لك الحمد، إذ لم تمتني حتى جعلت في قلبي من الإسلام ما أَذِلُّ به لعمر. قالوا: فحَكَم بعلمه، ولأن الحاكم يحكم بالشاهدين؛ لأنهما يغلبان على الظن، فما تحققه وقطع به كان أولى، ولأنه يحكم بعلمه في تعديل الشهود وجَرْحهم، فكذلك في ثبوت الحق قياسًا عليه.
وقال أبو حنيفة: ما كان من حقوق الله لا يحكم فيه بعلمه؛ لأن حقوق الله تعالى مبنية على المساهلة والمسامحة، وأما حقوق الآدميين، فما علمه قبل ولايته لم يحكم به، وما علمه في ولايته حكم به؛ لأن ما علمه قبل
(1)
"المفهم" 5/ 156 - 158.
ولايته بمنزلة ما سمعه من الشهود قبل ولايته، وما علمه في ولايته بمنزلة ما سمعه من الشهود في ولايته.
قال: ولنا قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: "إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إليّ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على نحوِ ما أسمع منه"، فدل على أنَّه إنما يقضي بما يَسمع، لا بما يَعلم، وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم قضية الحضرمي، والكندي:"شاهداك أو يمينه، ليس لك منه إلَّا ذاك"، ورُوي عن عمر رضي الله عنه أنه تداعى عنده رجلان، فقال له أحدهما: أنت شاهدي، فقال: إن شئتما شهدت ولم أحكم، أو أحكم ولا أشهد. وذكر ابن عبد البر في "كتابه" عن عائشة رضي الله عنها: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم بعث أبا جَهْم على الصدقة، فلاحاه رجل في فريضة، فوقع بينهما شجاج، فأتوا النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأعطاهم الأرْشَ، ثم قال:"إني خاطب الناس، ومخبرهم أنكم قد رضيتم، أرضيتم؟! قالوا: نعم، فَصَعِد النبيّ صلى الله عليه وسلم، فخطب، وذكر القصة، وقال: "أرضيتم؟! قالوا: لا، فَهَمَّ بهم المهاجرون، فنزل النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأعطاهم، ثم صعد، فخطب الناس، ثم قال:"أرضيتم؟ " قالوا: نعم. وهذا يبيّن أنه لَمْ يأخذ بعلمه. ورُوي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال: لو رأيت حَدًّا على رجل لَمْ أَحُدّه حتى تقوم البينة، ولأن تجويز القضاء بعلمه يفضي إلى تهمته، والحكم بما اشتهي، ويحيله على علمه، فأما حديث أبي سفيان فلا حجة فيه؛ لأنه فتيا، لا حكمٌ بدليل أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أفتى في حق أبي سفيان من غير حضوره، ولو كان حُكمًا عليه لَمْ يحكم عليه في غَيبته، وحديث عمر الذي رووه كان إنكارًا لمنكَر رآه، لا حكمٌ، بدليل أنه ما وُجدت منهما دعوى وإنكار بشروطهما، ودليل ذلك ما رويناه عنه، ثم لو كان حكمًا كان معارَضًا بما رويناه عنه، ويفارق الحكم بالشاهدين، فإنه لا يفضي إلى تهمة، بخلاف مسألتنا، وأما الجرح والتعديل، فإنه يحكم فيه بعلمه بغير خلاف؛ لأنه لو لَمْ يحكم فيه بعلمه لتسلسل، فإن المُزَكِّيَيْن يحتاج إلى معرفة عدالتهما وجرحهما، فإذا لَمْ يعمل بعلمه احتاج كلّ واحد منهما إلى مُزَكِّيَيْن، ثم كلّ واحد منهما يحتاج إلى مزكيين، فيتسلسل، وما نحن فيه بخلافه. انتهى كلام ابن قُدامة رحمه الله
(1)
.
(1)
"المغني" 14/ 31 - 33.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن القول بعدم جواز حكم الحاكم بعلمه هو الأرجح؛ لقوّة حجته، ومما يقوّي القول به أن فيه دفع التهمة عنه، وسدّ باب الشرّ في وجوه الحكّام السوء؛ كيلا يتسلّطوا على حقوق الناس بدعوى أنهم يحكمون بعلمهم، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أَوَّل الكتاب قال:
[4470]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، كِلَاهُمَا عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ، وَوَكِيع (ح)، وحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ (ح)، وحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ، أَخْبَرَنَا الضَّحَّاكُ - يَعْني: ابْنَ عُثْمَانَ - كُلُّهُمْ عَنْ هِشَامٍ بِهَذَا الإِسْنَادِ).
رجال هذا الإسناد: عشرة:
1 -
(عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ) الدراورديّ، أبو محمد الْجُهَنيّ مولاهم المدنيّ، صدوقٌ، كان يُحدِّث من كُتب غيره، فيُخطئ [8](ت 6 أو 187)(ع) تقدم في "الإيمان" 8/ 135.
2 -
(مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ) القُشيريّ، أبو عبد الله النيسابوريّ الزاهد، ثقةٌ حافظٌ عابدٌ [11](ت 245)(خ م د ت س) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.
3 -
(ابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ) محمد بن إسماعيل بن مسلم بن أبي فُديك الديليّ مولاهم المدنيّ، أبو إسماعيل، صدوقٌ، من صغار [8](ت 200) على الصحيح (ع) تقدم في "الحيض" 16/ 775.
4 -
(الضَّحَّاكُ بْنُ عُثْمَانَ) بن عبد الله بن خالد بن حِزَام الأسديّ الْحِزَاميّ، أبو عثمان المدنيّ، صدوقٌ يَهِمُ [7](م 4) تقدم في "الحيض" 16/ 774.
والباقون تقدّموا في الباب الماضي.
وقوله: (كُلُّهُمْ عَنْ هِشَامٍ) ضمير الجماعة لعبد الله بن نُمير، ووكيع، وعبد العزيز الدراورديّ، والضَّحّاك بن عثمان، فكلّ هؤلاء الأربعة رووا هذا الحديث عن هشام بن عروة بسنده السابق.
[تنبيه]: رواية عبد الله بن نمير، ووكيع، كلاهما عن هشام بن عروة ساقها البيهقيّ رحمه الله في "سننه الكبرى" فقال:
(21087)
- أخبرنا أبو بكر أحمد بن الحسن القاضي، وأبو زكريا بن أبي إسحاق، قالا: ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، أنبأ الربيع بن سليمان، أنبأ الشافعيّ، أنبأ أنس بن عياض، عن هشام بن عروة (ح)، وأخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرني أبو الوليد، ثنا إبراهيم بن أبي طالب، ثنا أبو كريب، ثنا وكيع، وابن نمير، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: جاءت هند إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل شحيح، ولا ينفق عليّ، ولا على وَلَدِي ما يكفيني وبَنِيّ، أفآخذ من ماله، وهو لا يشعر؟ فقال:"خذي ما يكفيك، وولدك بالمعروف".
وفي رواية أنس بن عياض: "وإنه لا يعطيني ما يكفيني وولدي، إلَّا ما أخذت منه سرًّا، وهو لا يعلم، فهل عليّ في ذلك من شيء؟ "، ثم ذكره. انتهى
(1)
.
وقد ساق ابن أبي شيبة رحمه الله في "مصنّفه"، رواية وكيع، عن هشام مفردة، فقال:
(22082)
- حدّثنا أبو بكر، قال: حدّثنا وكيع، قال: حدّثنا هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت: جاءت هند إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح، فلا يعطيني ما يكفيني وولدي، إلَّا ما أخذت من ماله، وهو لا يعلم، فقال:"خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف". انتهى
(2)
.
ورواية عبد العزيز بن محمد الدراورديّ، عن هشام، ساقها البيهقيّ رحمه الله في "سننه الكبرى"، فقال:
(20276)
- أخبرنا أبو الحسن عليّ بن أحمد بن عبدان، أنبأ سليمان بن أحمد الطبرانيّ، ثنا عليّ بن عبد العزيز، ثنا أبو نعيم، ثنا سفيان، عن هشام (ح)، وأخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرني عليّ بن عيسى بن إبراهيم، ثنا
(1)
"سنن البيهقيّ الكبرى" 10/ 270.
(2)
"مصنف ابن أبي شيبة" 4/ 456.
جعفر بن محمد بن الحسين، وإبراهيم بن عليّ قالا: ثنا يحيى بن يحيى، أنبأ عبد العزيز بن محمد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها أنَّها قالت: جاءت هند أم معاوية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: إن أبا سفيان رجل شحيح، وإنه لا يعطيني ما يكفيني وولدي، إلَّا ما أخذت منه، وهو لا يعلم، فهل عليّ في ذلك من شيء؟ فقال لها النبيّ صلى الله عليه وسلم:"خذي ما يكفيك، وبنيك بالمعروف"، لفظ حديث عبد العزيز. انتهى
(1)
.
وأما رواية الضحّاك بن عثمان، عن هشام، فلم أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلِّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4471]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاق، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: جَاءَتْ هِنْدٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ الله، وَاللهِ مَا كَانَ عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ أَهْلُ خِبَاءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يُذِلَّهُمُ اللهُ مِنْ أَهْلِ خِبَائِكَ، وَمَا عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ أَهْلُ خِبَاءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يُعِزَّهُمُ اللهُ مِن أَهْلِ خِبَائِكَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "وَأَيضًا وَالَّذِي نَفْسِي بيَدِهِ"، ثُمَّ قَالَتْ: يَا رَسُولَ الله، إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ مُمْسِكٌ، فَهَلْ عَلَيَّ حَرَجٌ أَنْ أَنْفِقَ عَلَى عِيَالِهِ مِنْ مَالِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "لَا حَرَجَ عَلَيْكِ أَنْ تُنْفِقِي عَلَيْهِمْ بِالْمَعْرُوفِ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
وكلهم ذُكروا في الباب وقبله.
وقولها: (مَا كَانَ عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ أَهْلُ خِبَاءٍ
…
الخ) "الخِباء" بكسر الخاء المعجمة، وتخفيف الموحّدة، مع المدّ: هي خيمة من وَبَر، أو صوف، ثم أُطلقت على البيت كيفما كان، ذكره في "الفتح"
(2)
.
وقال القاضي عياض رحمه الله: أرادت بقولها: "أهل خباء" نفسه صلى الله عليه وسلم، فكَنَتْ
(1)
"سنن البيهقيِّ الكبرى" 10/ 141.
(2)
"الفتح" 8/ 532، كتاب "مناقب الأنصار" رقم (3825).
عنه بأهل الخباء إجلالًا له صلى الله عليه وسلم، قال: ويَحْتَمِل أن تريد بأهل الخباء أهل بيته، والخباء يُعَبَّر به عن مسكن الرجل وداره. انتهى
(1)
.
وقوله صلى الله عليه وسلم: ("وَأَيْضًا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ") قال القاضي عياض رحمه الله: معناه: وستزيدين من ذلك، ويتمكّن الإيمان من قلبك، ويزيد حبك لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وَيَقْوَى رجوعك عن بغضه، وأصل هذه اللفظة: آض يئيض أيضًا: إذا رجع. انتهى
(2)
.
وقال الفيّوميّ رحمه الله: آض يئيض أيضًا، مثل باع يبيع بيعًا: إذا رجع، فقولهم: افعل ذلك أيضًا: معناه: افعله عَوْدًا إلى ما تقدّم. انتهى
(3)
.
[فائدة]: في إعراب"أيضًا": قال ابن عابدين في "الفوائد العجيبة": قولهم: أيضًا، ذكر ابن هشام في رسالة له أن جماعةً توهّموا أن "أيضًا" منصوب على الحال من ضمير "قال"، وأن التقدير: وقال أيضًا؛ أي: راجعًا إلى القول، وهذا لا يحسُن تقديره إلَّا إذا كان هذا القول صدر من القائل بعد صدور القول السابق له، وليس ذلك بشرط، بل تقول: قلت اليوم كذا، وقلته أمس أيضًا، وكتبت اليوم، وكتبت أمس أيضًا، قال: والذي يظهر لي أنه مفعول مطلق حُذف عامله، أو حال، حُذف عاملها، وصاحبها؛ أي: أرجع إلى الإخبار رجوعًا، ولا أقتصر على ما قدّمتُ، أو أُخبر راجعًا، فهذا هو الذي يستمرّ في جميع المواضع، ومما يُؤنِسُك بأن العامل محذوف أنك تقول: عنده مال، وأيضًا عِلْم، فلا يكون قبلها ما يصلح للعمل فيها، فلا بدّ حينئذ من التقدير.
(واعلم): أنَّها إنما تُستعمل في شيئين بينهما توافق، ويُغْني كلّ منهما عن الآخَر، فلا يجوز: جاء زيد أيضًا، ولا: جاء زيد، ومضى عمرو أيضًا، ولا: اختصم زيد وعمرو أيضًا. انتهى ملخّصًا
(4)
.
وقال في "الفتح": قوله: "قال: وأيضًا والذي نفسي بيده": قال ابن
(1)
"إكمال المعلم" 5/ 566.
(2)
"شرح النوويّ" 9/ 12.
(3)
"المصباح المنير" 1/ 33.
(4)
"الفوائد العجيبة في إعراب الكلمات الغريبة" 2/ 331 - 332.
التين: فيه تصديق لها فيما ذَكَرَته، كأنه رأى أن المعنى: وأنا أيضًا بالنسبة إليك مثل ذلك.
وتُعُقّب من جهة طرفي البغض والحب، فقد كان في المشركين من كان أشدّ أذى للنبيّ صلى الله عليه وسلم من هند وأهلها، وكان في المسلمين بعدَ أن أسلمت مَن هو أحبّ إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم منها ومن أهلها، فلا يمكن حمل الخبر على ظاهره.
وقال غيره: المعنى بقوله: "وأيضًا": ستزيدين في المحبة كلما تمكن الإيمان من قلبك، وترجعين عن البغض المذكور حتى لا يبقى له أثرٌ، فـ "أيضًا" خاصّ بما يتعلق بها، لا أن المراد بها: إني كنت في حقّك كما ذَكَرتِ في البغض، ثم صِرْت على خلافه في الحبّ، بل ساكت عن ذلك، ولا يَعْكُر على هذا قوله في "الروايات:"وأنا" إن ثبتت الرواية بذلك. انتهى
(1)
.
وفي الحديث دلالة على وُفور عقل هند، وحسن تأتّيها في المخاطبة، ويؤخذ منه أن صاحب الحاجة يُستحب له أن يُقَدِّم بين يدي نجواه اعتذارًا إذا كان في نفس الذي يخاطبه عليه مَوْجِدة، وأن المعتَذِر يُستحب له أن يقدِّم ما يتأكد به صِدْقه عند من يَعْتَذر إليه؛ لأنَّ هندًا قدمت الاعتراف بذِكْر ما كانت عليه من البُغض؛ ليعلم صدقها فيما ادّعته من المحبة، وقد كانت هند في منزلة أمهات نساء النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ لأنَّ أم حبيبة إحدى زوجاته بنت زوجها أبي سفيان
(2)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قول هند: "يا رسول الله! والله ما كان على ظهر الأرض أهل خباءٍ"؛ أي: أهل بيت، كما قد جاء مفسَّرًا في بعض طرقه، وسُمِّي البيت: خباءً؛ لأنَّه يخبَّأ ما فيه. والخباء في الأصل: مصدر. تقول: خبأتُ الشيء خَبَاءً، وخِبَاءً. ووصفُ هند في هذا الحديث حالها في الكفر، وما كانت عليه من بغض رسول الله صلى الله عليه وسلم وبغض أهل بيته، وما آلت إليه حالها لمّا أسلمت، تَذَكُّرٌ لنعمة الله تعالى عليها بما أنقذها الله منه، وبما أوصلها إليه، وتعظيم لحرمة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولتنبسط فيما تريد أن تسأل عنه، ولتزول
(1)
"الفتح" 8/ 532 - 533، كتاب "مناقب الأنصار" رقم (3825).
(2)
"الفتح" 8/ 533، كتاب "مناقب الأنصار" رقم (3825).
آلام القلوب لِمَا كان منها يوم أُحد في شأن حمزة، وغير ذلك. انتهى
(1)
.
وقولها: (رَجُلٌ مُمْسِكٌ) وفي الرِّواية التالية: "مسيك"، وكلاهما بمعنى: شحيح، كما جاء في الرواية السابقة، قال القرطبيّ رحمه الله: لَمْ تُرد هند: أنه شحيح مطلقًا، فتذمُّه بذلك؛ وإنما وصفت حاله معها، فإنَّه كان يقترُ عليها، وعلى أولادها، كما قالت:"لا يعطيني وبنيّ ما يكفيني"، وهذا لا يدلّ على البخل مطلقًا، فقد يفعل الإنسان مع أهل بيته؛ لأنه يرى غيرهم أحوج، وأَوْلى ليعطي غيرهم، وعلى هذا: فلا يجوز أن يُستدَلَّ بهذا الحديث على أنَّ أبا سفيان كان بخيلًا، فإنه لَمْ يكن معروفًا بهذا. انتهى
(2)
.
وقوله: (لَا حَرَجَ عَلَيْكِ أَنْ تُنْفِقِي عَلَيْهِمْ بِالْمَعْرُوفِ)، وفي الرواية السابقة:"خذي من ماله بالمعروف ما يكفيك، ويكفي بنيك"، قال القرطبيّ رحمه الله: هذا الأمر على جهة الإباحة؛ بدليل قوله: "لا جناح عليك أن تنفقي عليهم بالمعروف"، ويعني بالمعروف: القَدْر الذي عُرِف بالعادة أنه كفاية، وهذه الإباحة وإن كانت مطلقة لفظًا فهي مقيّدة معني، فكأنه قال: إن صحَّ أو ثبت ما ذكرت فَخُذي.
قال: وفي هذا الحديث أبواب من الفقه:
فمنها: وجوب نفقة الزوجة والأولاد على أبيهم، وإن لأمهم طلب ذلك عند الحاكم، وسماع الدعوى على النائب، والحكم عليه، وإن كان قريب الغَيْبَة؛ إذا دعت حاجة الوقت إلى ذلك. وهو قول الجمهور. وقال الكوفيون: لا يُقضَى عليه بشيء.
وفيه دليل: على أنَّ النفقة ليست مقدَّرة بمقدار مخصوص؛ وإنما ذلك بحَسَب الكفاية المعتادة، خلافًا لمن ذهب: إلى أنَّها مقدَّرة.
وفيه دليل: على اعتبار العُرف في الإحكام الشرعية خلافًا للشافعية وغيرهم من المنكِرين له لفظًا، الآخذين به عملًا.
وقد استنبط البخاريّ منه: جواز حكم الحاكم بعلمه فيما اشتهر وعُرف.
(1)
"المفهم" 5/ 159.
(2)
"المفهم" 5/ 159 - 160.
فقال: "باب حكم الحاكم بعلمه إذا لَمْ يَخَف الظنون والتُّهَم، وكان أمرًا مشهورًا"، وقد تقدم.
وفيه دليل: على أنَّ من تعذر عليه أخذ حقِّه من غريمه، ووصل من مال الغريم إلى شيء؛ كان له أخذه بأيّ وجه توصل إليه. واختُلِف فيما إذا ائتمنه الغريم، على مال فهل يأخذ منه حقَّه أم لا؟ على قولين. حكاهما الداوديّ عن مالك. ومشهور مذهبه المنع. وبه قال أبو حنيفة تمسُّكًا بقوله صلى الله عليه وسلم:"أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك"
(1)
، وإلى الإجازة ذهب الشافعيّ، وابن المنذر، بناءً على أنَّ ذلك ليس بخيانة، وإنَّما هو وصول إلى حقٍّ.
قال الجامع عفا الله عنه: لا يخفى كون ما ذهب إليه الشافعيّ، وابن المنذر أرجح؛ لحديث قصّة هند رضي الله عنها هذه، وأما الاستدلال بقوله: "ولا تخن
…
إلخ" فليس بشيء؛ لأنَّ من أخذ حقّه بإذن من الشرع، لا يكون خائنًا، فتأمله بالإمعان، والله تعالى أعلم.
وفيه دليل: على أنَّ المرأة لا يجوز لها أن تأخذ من مال زوجها شيئًا بغير إذنه، قَلَّ ذلك، أو كَثُرَ. وهذا لا يُختَلَف فيه. ألا ترى: أنَّه صلى الله عليه وسلم قال لهند في الرواية الأخرى - لمّا قالت له: فهل عليّ جناحٌ أن أُطعم مِن الذي له عيالنا؟ - قال لها: "لا"، ثم استثنى فقال:"إلَّا بالمعروف"، فمنَعها من أن تأخذ من ماله شيئًا إلَّا القَدْر الذي يجب لها. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله، وهذه الفوائد قد تقدّمت قريبًا، وإنما أعدتها لأني وجدتها في كلام القرطبيّ مجموعة، فأحببت أن أوردها، كما هي، فتنبّه.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام البحث فيه قبل حديث، ولله الحمد والمنّة.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أَوَّل الكتاب قال:
[4472]
(
…
) - (حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَخِي الزُّهْرِيّ، عَنْ عَمِّه، أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْر، أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ:
(1)
حديث صحيح، رواه أحمد في "مسنده"(3/ 414)، وأبو داود في "سننه"(3534)، والترمذيّ في "جامعه"(1264).
جَاءَتْ هِنْدٌ بِنْتُ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ الله، وَاللهِ مَا كَانَ عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ خِبَاءٌ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يَذِلُّوا مِنْ أَهْلِ خِبَائِكَ، وَمَا أَصْبَحَ الْيَوْمَ عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ خِبَاءٌ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يَعِزُّوا مِنْ أَهْلِ خِبَائِكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"وَأَيْضًا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ"، ثُمَّ قَالَتْ: يَا رَسُولَ الله، إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ مِسِّيكٌ، فَهَلْ عَلَيَّ حَرَجٌ مِنْ أَنْ أُطْعِمَ مِنَ الَّذِي لَهُ عِيَالَنَا؟ فَقَالَ لَهَا:"لَا إِلَّا بِالْمَعْرُوفِ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبِ) بن شدّاد، أبو خيثمة النسائيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 234)(خ م د س ق) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.
2 -
(يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) بن سعد الزهريّ، تقدّم في الباب الماضي.
3 -
(ابْنُ أَخِي الزُّهْرِيِّ) محمد بن عبد الله بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب الزهريّ المدنيّ، صدوقٌ له أوهام [6](ت 152) أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 63/ 352.
والباقون ذُكروا قبله.
وقولها: (أَنْ يَذِلُّوا) بكسر الذال المعجمة، من باب ضرب.
وقولها: (أَنْ يَعِزُّوا) بكسر العين المهملة، من باب ضرب أيضًا.
وقولها: (مِسِّيكٌ) اختُلف في ضبطه، فالأكثر بكسر الميم وتشديد السين على المبالغة، وقيل: بوزن شَحِيح، قال النووي: هذا هو الأصح من حيث اللغة، وإن كان الأول أشهر في الرواية. قال الحافظ: ولم يظهر لي كون الثاني أصح، فإن الآخَر مستعمل كثيرًا، مثلُ شِرِّيب وسِكِّير، وإن كان المخفَّف أيضًا فيه نوع مبالغة، لكن المشدّد أبلغ، وقال في "النهاية": المشهور في كتب اللغة الفتح والتخفيف، وفي كتب المحدِّثين الكسر والتشديد. انتهى
(1)
.
وقوله: ("لَا إِلَّا بِالْمَعْرُوفِ") قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في جميع
(1)
"الفتح" 12/ 266 - 267، كتاب "النفقات" رقم (5364).
النسخ، وهو صحيح، ومعناه: لا حرج، ثم ابتدأ، فقال:"إلَّا بالمعروف"؛ أي: لا تنفقي إلَّا بالمعروف، أو لا حرج إذا لَمْ تنفقي إلَّا بالمعروف. انتهى
(1)
.
والحديث متَّفقٌ عليه، وقد مضى تمام البحث فيه قريبًا، ولله الحمد والمنّة.
(5) - (بابُ النَّهْيِ عَنْ كَثْرَةِ الْمَسَائِلِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ، وَالنَّهْي عَنْ مَنْعٍ، وَهَاتٍ، وَهُوَ الامْتِنَاعُ مِنْ أَدَاءِ حَقٍّ لَزِمَهُ، أَوْ طَلَبُ مَا لا يَسْتَحِقُّهُ)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أَوَّل الكتاب قال:
[4473]
(1715) - (حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ سُهَيْلٍ، عَن أَبِيه، عَن أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلَاثًا، وَيَكْرَهُ لَكُمْ ثَلَاثًا: فَيَرْضَى لَكُمْ أنْ تَعْبُدُوهُ، وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا، وَلَا تَفَرَّقُوا، وَيَكْرَهُ لَكُمْ قِيلَ، وَقَالَ، وَكَثْرَةَ السُّؤَال، وَإِضَاعَةَ الْمَالِ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(جَرِيرُ) بن عبد الحميد بن قُرط الضبّيّ، أبو عبد الله الكوفيّ، نزيل الريّ، وقاضيها، ثقةٌ صحيح الكتاب [8](ت 188)(ح) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.
2 -
(سُهَيْلُ) بن أبي صالح، أبو يزيد المدنيّ، صدوقٌ تغيّر بآخره [6](ت 138)(ح) تقدم في "الإيمان" 14/ 161.
3 -
(أَبُوهُ) أبو صالح ذكوان السمّان الزيّات المدنيّ، ثقةٌ ثبت [3](ت 101)(ح) تقدم في "المقدمة" 2/ 4.
4 -
(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه تقدم في "المقدمة" 2/ 4.
(1)
"شرح النوويّ" 12/ 10.
و"زُهير" ذُكر في السند الماضي.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه مسلسل بالمدنيين، غير شيخه، فنسائيّ، وجرير، فكوفيّ، وفيه رواية الابن عن أبيه، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه أحفظ من روى الحديث في دهره.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللهَ يَرْضَى) - بفتح أوله، وثالثه - من باب تَعِبَ، يقال: رَضِيتُ الشيءَ، ورَضِيتُ به رِضًا: اخترته، وارتضيته مثله، ورَضِيتُ عن زيد، ورَضِيتُ عليه لغة لأهل الحجاز، والرِّضوان - بكسر الراء، وضمّها - لغة قيس وتميم، بمعنى الرضا، وهو خلاف السَّخَط، وشيءٌ مرضيٌّ أكثر من مَرْضُوٍّ، قاله الفيّوميّ
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "إن الله يرضى لكم ثلاثًا"؛ أي: شَرَع هذه الثلاثة، وأَمَر بها، وجعلها سببًا لكل ما عنده من الكرامة في الدنيا والآخرة. انتهى.
(لَكُمْ ثَلَاثًا، وَيَكْرَهُ) - بفتح أوله، وثالثه أيضًا - من باب تَعِبَ، يقال: كرهت الأمر أَكْرَهُهُ كُرْهًا بضمّ الكاف، وفتحها: ضدّ أحببته، فهو مكروه
(2)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "ويكره لكم ثلاثًا"، وفي الرواية الأخرى:"يَسخَط"؛ أي: نهى عنها، وحرَّمها، وجعلها سبب إهانته، وعقوبته في الدنيا والآخرة، وهذا كما قال تعالى:{وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} [الزمر: 7]، هذا أولى مما قيل فيه وقد تقدم القول على الرضا والسَّخط، وعلى العبادة والشرك في الإيمان. انتهي
(3)
.
قال النوويّ: قال العلماء: الرضا، والسخط، والكراهة من الله تعالى المراد بها: أمره، ونهيه، وثوابه، وعقابه، أو إرادته الثواب لبعض العباد، والعقاب لبعضهم. انتهى
(4)
.
(1)
"المصباح المنير" 1/ 229.
(2)
"المصباح المنير" 2/ 531 - 532.
(3)
"المفهم" 5/ 162 - 163.
(4)
"شرح النوويّ" 12/ 10 - 11.
قال الجامع عفا الله عنه: قد تقدَّم الردّ لهذا التفسير في "كتاب الإيمان" مستوفًى، وأن الرضا، والسخط، والكراهة من الصفات التي أثبتها الله لنفسه في كتابه، وأثبتها النبيّ صلى الله عليه وسلم في أحاديثه الصحيحة، فهي ثابتة له على ظاهرها، على ما يليق بجلاله، وأما قوله:"قال العلماء" فأراد به العلماء المتأخرين من الأشاعرة، وغيرهم الذين يؤولون هذه الصفات، ولا يُثبتونها لله عز وجل، فإن أردت تحقيق المسألة، واستيفاء البحث فيها، فراجع شرح كتاب الإيمان، وبالله تعالى التوفيق.
(لَكُمْ ثَلَاثًا: فَيَرْضَى لَكُمْ أَنْ تَعْبُدُوهُ) العبادة عمل الطاعة، واجتناب المعاصي، وقد تقدّم في "كتاب الإيمان" تمام البحث في ذلك، فراجعه
(1)
تستفد، وبالله تعالى التوفيق. (وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا) لأنَّ من أشرك معه في عبادته غيره لَمْ يعبده، فقوله:"شيئًا" يَحْتَمل أن يكون مفعولًا مطلقًا؛ أي: شركًا، وَيحتَمل أن يكون مفعولًا به؛ أي: أيّ شيء كان: كثيرًا أو قليلًا.
(وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا)؛ أي: تتمسّكوا بعهده، وهو اتّباع كتابه العزيز، وحدوده، والتأدب بآدابه، والحبل يُطلق على العهد، وعلى الأمان، وعلى الوصلة، وعلى السبب، وأصله من استعمال العرب الحبل في مثل هذه الأمور؛ لاستمساكهم بالحبل عند شدائد أمورهم، ويوصلون بها المتفرّق، فاستعير اسم الحبل لهذه الأمور، قاله النوويّ
(2)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: الاعتصام بالشيء: هو التمسُّك به، والتحرز بسببه من الآفات، وأصل العصمة: المنع. تقول العرب: عصم فلانًا الطعامُ؛ أي: منعه من الجوع، وكَنُّوا السَّويق بأبي عاصم لذلك، فالمعتصم بالشيء يمتنع به من أسباب الهلاك والشدائد.
و"حبل الله" هنا: شَرْعُهُ الذي شَرَعَهُ، ودينه الذي ارتضاه. قال قتادة: هو القرآن. وهو بمعنى القول الأول. والحبل ينصرف على وجوه:
منها: العهد والوصل، وما يُنْجَى به من المخاوف.
ومنها: الأمان. وكلُّها متقاربة المعنى؛ لأنَّ الحبل في الأصل: واحد
(1)
راجع: 1/ 620.
(2)
"شرح النوويّ" 12/ 11.
الحبال التي تُرْبَط بها الآلات، وتُجمع بها المتفرقات، ثمَّ استعير لكل ما يُعَوَّل عليه، ويُتمسك به، ثمَّ كثر استعماله في العهد ونحوه.
ومعنى هذا: أن الله تعالى أوجب علينا التمسُّك بكتابه، وسُنَّة نبيّه صلى الله عليه وسلم، والرجوع إليهما عند الاختلاف. انتهى
(1)
.
وقال الزرقانيّ رحمه الله: اختُلِف في المراد بحبل الله، فقال ابن مسعود، وقتادة، وغيرهما: هو القرآن، ورُجِّح لقوله صلى الله عليه وسلم:"إن هذا القرآن هو حبل الله"، وفي لفظ:"القرآن حبل الله المتين"، حتى زعم بعضهم أن تفسيره بخلافه غفلة؛ إذ لا عِطر بعد عَروس.
وعن قتادة أيضًا وغيره: هو عهد الله، وأَمْره، وعن ابن مسعود: أنه الجماعة، قال ابن عبد البرّ: وهو الظاهر في الحديث، والأشبه بسياقه.
وأما القرآن فمأمور بالاعتصام به في غير ما آية، وغير ما حديث، غير أن المراد هنا: الجماعة على إمام يُسمَع له ويطاع، فيكون وليّ من لا ولي له في نكاح، وتقديم قضائه للعقد على أيتام، وسائر الإحكام، ويقيم الجمعة والعيد، وَيأْمن به السبل، وينتصف به المظلوم، ويجاهد عن الأمة عدوّها، ويقسم بينهما فيهما؛ لأنَّ الاختلاف والفُرقة هَلَكَةٌ، والجماعة نجاة، قال: وهو عندي معنى متداخل متقارب؛ لأنَّ القرآن يأمر بالأُلْفة، وينهى عن الفرقة. انتهى
(2)
.
وقال في "التمهيد" - بعد ذكر ما تقدّم -: قال ابن المبارك رحمه الله[من البسيط]:
إِنَّ الْجَمَاعَةَ حَبْلُ اللهِ فَاعَتَصِمُوا
…
مِنْهُ بِعُرْوَتهِ الْوُثْقَى لِمَنْ دَانَا
كَمْ يَرْفَعِ اللهُ بِالسُّلْطَانِ مَظْلَمَةً
…
فِي دِينِنَا رَحْمَةً مِنْهُ وَدُنْيَانَا
لَوْلَا الْخِلَافَةُ لَمْ تُؤمَنْ لَنَا سُبُلٌ
…
وَكَانَ أَضْعَفُنَا نَهْبًا لِأَقْوَانَا
(3)
وقوله: (وَلَا تَفَرَّقُوا)؛ أي: اجتمعوا على الاعتصام بالكتاب والسُّنة اعتقادًا، وعملًا، فتَتّفق كلمتكم، وينتظم شتاتكم، فتَتمّ لكم مصالح الدنيا
(1)
"المفهم" 5/ 163.
(2)
"شرح الزرقانيّ على الموطأ" 4/ 527.
(3)
"التمهيد" 21/ 275.
والدِّين، وتَسْلَمون من الاختلاف والافتراق الذي حصل لأهل الكتابَيْن، وفيه دليلٌ على صحة الإجماع، قاله القرطبيّ رحمه الله
(1)
.
وقال النوويّ: هو أمر بلزوم جماعة المسلمين، وتألّف بعضهم ببعض، وهذه إحدى قواعد الإسلام.
[واعلم]: أن الثلاثة المرضية: إحداها: أن يعبدوه، الثانية: أن لا يشركوا به شيئًا، الثالثة: أن يعتصموا بحبل الله، ولا يتفرقوا. انتهى
(2)
.
(وَيَكْرَهُ لَكُمْ قِيلَ، وَقَالَ)؛ أي: الخوض في أخبار الناس، وحكايات ما لا يَعْني، من أحوالهم، وتصرفاتهم، واختلفوا في حقيقة هذين اللفظين على قولين: أحدهما: أنهما فعلان، فـ"قيل" مبنيّ لِمَا لَمْ يُسَمّ فاعله، و"قال" فعل ماض، والثاني: أنهما اسمان مجروران منوَّنَان؛ لأنَّ القيل، والقال، والقول، والقالة كله بمعنى، ومنه قوله تعالى:{وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} [النساء: 122]، ومنه قولهم: كَثُرَ القيل، والقال، قاله النوويّ
(3)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "وكره لكم: قيل وقال"؛ كلاهما مبنيٌّ على الفتح، فِعْل ماضٍ، هكذا الرواية التي لا يُعرف غيرها، ومعناه: أن الله تعالى حرَّم الخوض في الباطل، وفيما لا يعني من الأقوال، وحكايات أحوال الناس التي لا يَسْلَم فاعلها من الغِيبة، والنميمة، والبهتان، والكذب. "ومن كثر كلامه كَثُر سَقَطُه، ومن كثر سقطه كانت النار أَولى به"
(4)
.
قال القاضي عياض: "قيل" منصوبة، فعلُ ما لَمْ يُسَمّ فاعله، "قال": فعل ماض أيضًا. ويصحُّ أن يكونا اسمين، ويكونا مخفوضين؛ يعني: على رواية من رواه: "نَهَى عن قيل وقال".
قال القرطبيّ رحمه الله: هكذا وجدنا هذا الكلام في "الإكمال"، وهو كلام مُخْتلٌّ؛ لأنهما لو كانا اسمين لَنُوِّنا؛ إذ لا مانع لهما من الصرف، ولكانا منصوبين نكرةً؛ ولا موجب لِخَفْضهما، وأظنُّ أن هذا خللٌ وقع من بعض
(1)
"المفهم في 5/ 163.
(2)
"شرح النوويّ" 12/ 11.
(3)
"شرح النوويّ" 12/ 11.
(4)
ضعَّفه الشيخ الألبانيّ رحمه الله في "السلسلة الضعيفة".
النُّسَّاخ، ثم قال بعد هذا: والقيل، والقال، والقول: كلُّه بمعنى، وكذلك القالة، وهذا كلُّه صحيحٌ؛ فإن مصدر "قال" يقال فيه ذلك كلُّه، لكن لا يصلح شيء منه هنا، فإنَّ الرواية كما أخبرتك. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله، وهو بحث نفيسٌ.
وقال ابن عبد البرّ رحمه الله: وأما قوله: "ويكره لكم قيل، وقال"، فمعناه - والله أعلم - الخوض في أحاديث الناس التي لا فائدة فيها، وإنما جُلّها الغلط، وحَشْوٌ، وغِيبةٌ، وما لا يُكتب فيه حسنة، ولا يَسْلم القائل، والمستمع فيه من سيئة.
قال الشاعر [من الوافر]:
وَمَن لَا يَمْلِكِ الشَّفَتَيْنِ يُسْحَقْ
…
بِسُوءِ اللَّفْظِ مِنْ قِيلٍ وَقَالِ
وقال أبو العتاهية [من الطويل]:
عَلَيْكَ بِمَا يَعْنِيكَ مِنْ كُلِّ مَا تَرَى
…
وَبِالصَّمْتِ إِلَّا عَنْ جَمِيلٍ تَقُولُهُ
تَزَوَّدْ مِنَ الدُّنْيَا بِزَادٍ مِنَ التُّقَى
…
فُكُلٌّ بِهَا ضَيْفٌ وَشِيكٌ رَحِيلُهُ
(1)
(وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ) قال القرطبيّ رحمه الله: يَحْتَمِل أوجهًا:
أحدها: أن يريد به كثرة سؤال الناس الأموال، والحوائج إلحاحًا، واستكثارًا.
وثانيها: أن يكثر من المسمائل الفقهية تنطُّعًا وتكلُّفًا فيما لَمْ يَنْزل، وقد كان السَّلف يَكْرَهون ذلك، وَيرَوْنه من التكلُّف، وقال مالك في هذا الحديث: لا أدري أهو ما أنهاكم عنه من كثرة المسائل، فقد كره رسول الله صلى الله عليه وسلم المسائل وعابها، أو هو: مسألة الناس أموالهم؟
وثالثها: أن يُكثر من السؤال عمَّا لا يعنيه من أحوال الناس، بحيث يُؤذي ذلك إلى كشف عوراتهم، والاطلاع على مساوئهم.
قال القرطبي: والوجه حَمْل الحديث على عمومه، فيتناول جميع تلك الوجوه كلِّها. انتهى كلام القرطبيّ
(2)
، وهو بحث نفيسٌ.
وقال النوويّ: قيل: المراد به: القطع في المسائل، والإكثار من السؤال
(1)
"الاستذكار" 8/ 579.
(2)
"المفهم" ح/164.
عما لَمْ يقع، ولا تدعو إليه حاجة، وقد تظاهرت الأحاديث الصحيحة بالنهي عن ذلك، وكان السلف يكرهون ذلك، ويرونه من التكلف المنهيّ عنه، وفي الصحيح: كره رسول الله صلى الله عليه وسلم المسائل وعابها، وقيل: المراد به: سؤال الناس أموالهم، وما في أيديهم، وقد تظاهرت الأحاديث الصحيحة بالنهيّ عن ذلك، وقيل: يَحْتَمِل أن المراد: كثرة السؤال عن أخبار الناس، وأحداث الزمان، وما لا يَعني الإنسان، وهذا ضعيف؛ لأنه قد عُرف هذا من النهي عن قيل وقال، وقيل: يَحْتَمِل أن المراد: كثرة سؤال الإنسان عن حاله، وتفاصيل أمره، فيدخل ذلك في سؤاله عما لا يعنيه، ويتضمن ذلك حصول الحرج في حق المسؤول، فإنه قد لا يُؤْثِر إخباره بأحواله، فإن أخبره شقّ عليه، وإن كَذَبه في الإخبار، أو تكلف التعريض لَحِقَته المشقة، وإن أهمل جوابه ارتكب سوء الأدب.
(وَإِضَاعَةَ الْمَالِ") هو صَرْفه في غير وجوهه الشرعية، وتعريضه للتلف، وسبب النهي أنه إفساد، والله لا يجب المفسدين، ولأنه إذا أضاع ماله تعرَّض لِمَا في أيدي الناس، قاله النوويّ رحمه الله.
وقال القرطبيّ رحمه الله: إضاعة المال: إتلافه وإهلاكه، كما قد حُكي عن بعض جُهَّال المتزهدة أنه رَمَى مالًا كان عنده، وحرَّق آخرُ منهم كُتُبَ عِلْمِ الحديث كانت عنده، وربما أمر بهذا بعض الشيوخ الْجُهَّالَ، وهذا محرَّم بإجماع الفقهاء، ويلحق بإتلاف عينه منع صرفه في وجوهه من مصالح دنياه ودِينه، كما يفعله أهل البُخل، ودناءة الهمم؛ يدَّخرون المال، ويكثرونه، ولا ينفعون نفوسهم بإنفاق شيء منه، ولا يصونون به وجوههم، ولا أديانهم، فهذا المصنّف هو المحروم الخاسر؛ الذي قال فيه الشاعر [من البسيط]:
رُزِقْتَ مَالًا وَلَمْ تُرْزَقْ مَنَافِعَهُ
…
إنَّ الشقيَّ هُوَ الْمَحْرُومُ مَا رُزِقَا
وأشدُّ من هذا كلِّه قبحًا وإثْمًا من يُتلف ماله في معاصي الله تعالى، فيستعين بمال الله على معاصيه، ويخرجه في شهواته المحرمة، ولا يباليه، ويَدخُل في عموم النهي عن إضاعة المال: القليل منه والكثير؛ لأنَّ المال هنا: هو كلُّ ما يُتَمَوَّل؛ أي: يُتَملَّك؛ حتى لو رمى بثمن درهم في البحر مثلًا لكان ذلك محرمًا، وكذلك لو منعه مِنْ صرفه في وجهه الواجب، وكذلك لو أنفقه
في معصية، ولا خلاف في هذا إن شاء الله. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(1)
، وهو بحث مفيد.
وقال ابن عبد البرّ رحمه الله: قوله: "وإضاعة المال" للعلماء في ذلك ثلاثة أقوال:
أحدها: أن المال أريد به مِلك اليمين، من العبيد، والاماء، والدوابّ، وسائر الحيوان الذي في ملكه أن يُحْسِن إليه، ولا يُضيعهم، فيضيعون، وهو قول السَّرِيّ بن إسماعيل، عن الشعبيّ، واحتَجَّ من ذهب هذا المذهب بحديث أنس، وأم سلمة، أن عامة وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حضرته الوفاة كانت قوله:"اللهَ اللهَ، الصلاةَ الصلاةَ، وما ملكت أيمانكم".
والقول الثاني: إضاعة المال: ترك إصلاحه، والنظر فيه، وتنميته، وكسبه.
والقول الثالث: إضاعة المال: إنفاقه في غير حقه، من الباطل، والإسراف، والمعاصي، وهذا هو الصواب عند ذوي الدِّين والالباب.
رَوَى ابن وهب قال: حدّثنا إبراهيم بن نشيط، قال: سألت عمر مولى عُفْرة عن الإسراف ما هو؟ فقال: كلّ شيء أنفقته في غير طاعة الله، وفي غير ما أباحه الله فهو إسراف، وإضاعة للمال.
ورَوَى أبو بكر بن أبي شيبة قال: حدّثنا يعلى بن عبيد، عن محمد بن سُوقة، عن سعيد بن جبير أنه سأله رجل عن إضاعة المال، فقال: أن يرزقك الله رزقًا، فتنفقه في ما حرّم الله عليك، وهكذا قال مالك رحمه الله
(2)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
[تنبيه]: رَوَى يحيى بن يحيى الليثيّ هذا الحديث في "الموطّأ" مرسلًا، قال الحافظ ابن عبد البرّ رحمه الله: هكذا روى يحيى هذا الحديث مرسلًا، لَمْ يذكر أبا هريرة، وتابعه ابن وهب، من رواية يونس بن عبد الأعلى عنه،
(1)
"المفهم" 5/ 164 - 165.
(2)
"الاستذكار" 8/ 579 - 580.
والقعنبيّ، ومُطَرِّف، وابن نافع، وأسنده عن ابن وهب: أحمد بن صالح، والربيع بن سليمان، ذكرا فيه أبا هريرة، وكذلك رواه ابن بكرٍ، وأبو المصعب، ومصعب الزبيريّ، وعبد الله بن يوسف التيميّ، وسعيد بن عُفير، وابن القاسم، ومَعْن بن عيسى، وأبو قُرّة موسى بن طارق، والأويسيّ، وابن عبد الحكم، والحنينيّ، وأكثر الرواة عن مالك، عن سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مسندًا.
قال: والحديث مسندٌ محفوظٌ لمالك وغيره عن سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه. انتهى كلام ابن عبد البرّ
(1)
.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [5/ 4473 و 4474](1715)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 327 و 360 و 367)، و (مالك) في "الموطّأ"(2/ 990)، و (البخاريّ) في "الأدب المفرد"(442)، و (ابن حبَّان) في "صحيحه"(3389 و 5720)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 165)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(8/ 163)، و"شعب الإيمان"(6/ 25)، و (البغويّ) في "شرح السَّنة"(101)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): أن الله تعالى يحب من عباده الإخلاص في عبادته في التوحيد، وسائر الأعمال كلِّها التي يُعبَد بها، وفي الإخلاص طرح الرياء كلّه؛ لأنَّ الرياء شرك، أو ضرب من الشرك، قال أهل العلم بالتأويل: إن قول الله عز وجل: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110]، نزلت في الرياء، ويدخل في الإخلاص أيضًا التوكل على الله، وأنه لا يضرّ، ولا ينفع، ولا يعطي، ولا يمنع على الحقيقة غيره؛ لأنه لا مانع لما أعطي، ولا معطي لما منع، لا شريك له
(2)
.
2 -
(ومنها): الحضّ على الاعتصام، والتمسك بحبل الله تعالى في حال
(1)
"التمهيد" 21/ 269 - 270.
(2)
"التمهيد" لابن عبد البرّ رحمه الله 21/ 272.
اجتماع، وائتلاف، قال ابن عبد البرّ رحمه الله: وحبل الله في هذا الموضع فيه قولان: أحدهما: كتاب الله، والآخر: الجماعة، ولا جماعة إلَّا بإمام، وهو عندي معنى متداخل متقارب؛ لأنَّ كتاب الله يأمر بالأُلفة، وينهى عن الفرقة، قال الله عز وجل:{وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا} الآية [آل عمران: 105]، وقال:{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103]. انتهى
(1)
.
3 -
(ومنها): النهي عن كثرة الكلام بما لا يعني؛ لأنه إن كان مباحًا ففيه إضاعة الوقت، وإن كان حرامًا، ففيه كثرة المآثم.
4 -
(ومنها): النهي عن كثرة السؤال عن أموال الناس، فقد وردت نصوص كثيرة في ذمّ كثرة السؤال، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سأل الناس تكثّرًا، فإنما يسأل جمرًا، فليستقلّ، أو ليستكثر"، رواه مسلم.
وعن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن المسألة كَدّ يَكُدّ بها الرجل وجهه، إلَّا أن يسأل الرجلُ سلطانًا، أو في أمر لا بدَّ منه"، رواه الترمذيّ، وقال: حديث حسن صحيح، والكَدّ: الْخَدْش ونحوه.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أصابته فاقة، فأنزلها بالناس، لَمْ تُسَدّ فاقته، ومن أنزلها بالله، فيوشك الله له برزق عاجل، أو آجل"، رواه أبو داود، والترمذيّ، وقال: حديث حسن، يوشك - بكسر الشين؛ أي: يُسرع
(2)
.
والحاصل أن كثرة الكلام بما لا معنى له، ولا فائدة فيه، من أحاديث الناس لا يخلو أكثرها من أن يكون غِيبة، ولَغَطًا، وكذبًا، ومَن أكثر من القيل والقال مع العامة لَمْ يَسْلم من الخوض في الباطل، ولا من الاغتياب، ولا من الكذب، وقد صحّ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال:"من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليقل خيرًا، أو ليصمت"، متَّفقٌ عليه، وقال صلى الله عليه وسلم:"كفى بالمرء كذبًا أن يحدّث بكل ما سمع"، رواه مسلم.
(1)
"التمهيد" 21/ 272.
(2)
"رياض الصالحين" للنووي رحمه الله 1/ 154.
ومكتوب في حكمة داود وفي صحف إبراهيم عليه السلام: "مَن عَدَّ كلامه من عمله، قَلّ كلامه، إلَّا فيما يعنيه"، وفي المَثَل السائر: التقيُّ مُلْجَم
(1)
.
هذا إذا حملنا الحديث على سؤال أموال الناس، وأما إذا حملناه على سؤال المسائل العلميّة، وهو الذي عزاه ابن عبد البرّ إلى أكثر العلماء، حيث قال: وأما كثرة السؤال فمعناه عند أكثر العلماء التكثير في السؤال من المسائل، والنوازل، والأغلوطات، وتشقيق المولَّدات، وقال ما لك: أما نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كثرة السؤال، فلا أدري، أهو الذي أنهاكم عنه من كثرة المسائل، فقد كره رسول الله صلى الله عليه وسلم المسائل وعابها، أم هو مسألة الناس؟.
قال ابن عبد البرّ: الظاهر في لفظ هذا الحديث كراهة السؤال عن المسائل، إذا كان ذلك على الإكثار، لا على الحاجة عند نزول النازلة؛ لأنَّ السؤال في مسألة الناس إذا لَمْ يَجُز فليس يُنْهَى عن كثرته دون قلّته، بل الآثار في ذلك آثار عموم، لا تفزق بين القلة والكثرة لمن كُرِه له ذلك.
قال: وكان الأصل في هذا أنهم كانوا يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أشياء، ويُلِحُّون فيها، فينزل تحريمها، قال الله عز وجل:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101)} [المائدة: 101]، وثبت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال:"أعظم المسلمين في المسلمين جُرْمًا، من سأل عما لَمْ يُحَرَّم، فحُرِّم على الناس من أجل مسألته"
(2)
.
5 -
(ومنها): تحريم إضاعة المال، سواء كان بإلقائه في البحر، أو إحراقه في النار، أو صرفه في المحرّمات، أو الإسراف في الإنفاق فوق الحاجة، أو غير ذلك من وجوه إتلافه، فكلّه محرّم، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوَّل الكتاب قال:
[4474]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَا شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ سُهَيْلٍ،
(1)
"التمهيد" 21/ 289.
(2)
حديث صحيح، أخرجه أبو داود في "سننه" 4/ 201.
بِهَذَا الإِسْنَاد، مِثْلَهُ غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ:"وَيَسْخَطُ لَكُمْ ثَلَاثًا"، وَلَمْ يَذْكُرْ:"وَلَا تَفَرَّقُوا").
رجال هذا الإسناد: ثلاثة:
1 -
(شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ) الأُبُليّ، أبو محمد، صدوقٌ يَهِمُ، ورُمي بالقدر، قال أبو حاتم: اضطرّ الناس إليه أخيرًا، من صغار [9](ت 5 أو 236)، وله بضع وتسعون سنة (م د س) تقدم في "الإيمان" 12/ 157.
2 -
(أَبُو عَوَانَةَ) وضّاح بن عبد الله اليشكريّ الواسطيّ، ثقةٌ ثبت [7](ت 5 أو 176)(ح) تقدم في "المقدمة" 2/ 4.
و"سُهيلٌ" ذُكر قبله.
[تنبيه]: رواية أبي عوانة، عن سهيل بن أبي صالح هذه لَمْ أجد من ساقها بتمامها، فليُنظر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4475]
(593)
(1)
- (وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ، أَخْبَرَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنِ الشَّعْبِيّ، عَنْ وَرَّادٍ مَوْلَى الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّ اللهَ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ عُقُوقَ الأُمَّهَات، وَوَأْدَ الْبَنَات، وَمَنْعًا وَهَات، وَكَرِهَ لَكُمْ ثَلَاثًا: قِيلَ وَقَالَ، وَكَثْرَةَ السُّؤَال، وَإِضَاعَةَ الْمَالِ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ) أبو محمد المروزيّ، نزيل نيسابور، ثقةٌ حافظٌ إمام مجتهد [10](238)(خ م د ت س) تقدم في "المقدمة" 5/ 28.
2 -
(مَنْصُورُ) بن المعتمر بن عبد الله السَّلَميّ، أبو عتّاب الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ فاضل [6](132)(ح) تقدّم في "شرح المقدّمة" ج 1 ص 296.
3 -
(الشَّعْبِيُّ) عامر بن شَرَاحيل، أبو عمرو الكوفيّ، ثقةٌ فقيه فاضل مشهور
(1)
هذا رقم مكرّر، قد تقدّم، فتنبّه.
[3]
مات بعد المائة، وله نحو من ثمانين سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.
4 -
(وَرَّادٌ مَوْلَى الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ) وكاتبه، أبو سعيد، أو أبو الورد الثقفيّ الكوفيّ، ثقةٌ [3](ع) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 26/ 1341.
5 -
(الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ) بن مسعود بن معتّب الثقفيّ الصحابيّ المشهور، أسلم قبل الحديبية، وولي إمرة البصرة، ثم الكوفة، ومات رضي الله عنه سنة خمسين على الصحيح (ع) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.
و"جرير" بن عبد الحميد ذُكر قبل حديث.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه مسلسل بالكوفيين غير شيخه، كما أسلفته آنفًا، وفيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ: الشعبيّ، عن ورّاد، أو ثلاثة من التابعين روى بعضهم عن بعض، على قول من يقول: إن منصورًا تابعيّ صغير.
شرح الحديث:
(عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ) رضي الله عنه (عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) أنه (قَالَ: "إِنَّ اللهَ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ عُقُوقَ الأُمَّهَاتِ)"العقوق" بضمّ العين المهملة: مشتقّ من العقّ، وهو القطع، والمراد به: صدور ما تتأذّى به، وقال القرطبيّ رحمه الله: العقوق مصدر عقّ يعُقّ؛ أي: قطع وشقّ، فكأن العاقّ لوالديه يقطع ما أمره الله تعالى به من صِلَتهما، ويشُقّ عصا طاعتهما. انتهى
(1)
.
و"الأمهات": جمع أُمَّهَةٍ، وهي لمن يعقل، بخلاف لفظ الأم، فإنه أعمّ، قاله في "الفتح"
(2)
.
وقال الفيّوميّ رحمه الله: أُمُّ الشَّيءِ: أصله، والأمّ: الوالدة، وقيل: أصلها أُمَّهَة، ولهذا تُجْمَع على أُمَّهَاتٍ، وأجيب بزيادة الهاء، وأنَّ الأصل: أُمَّاتٌ، قال ابن جني: دعوى الزيادة أسهل من دعوى الحذف، وكَثُرَ في الناس أُمَّهَاتٌ، وفي غير الناس أُمَّاتٌ؛ للفرق، والوجه ما أورده في "البارع: أن فيها
(1)
"المفهم" 5/ 165.
(2)
"الفتح" 13/ 501، كتاب "الأدب" رقم (5975).
أربع لغات: أُمٌّ بضم الهمزة، وكسرها، وأُمَّةٌ، وأُمَّهَةٌ، فالأُمَّهَاتُ، والأُمَّاتُ لغتان، ليست إحداهما أصلًا للأخرى، ولا حاجة إلى في عوى حذف، ولا زيادة. انتهى
(1)
.
وتخصيص الأمهات، من تخصيص الشيء بالذكر؛ إظهارًا لعظم شأنه، وقيل: خصّ الأمهات بالذكر؛ لأنَّ العقوق إليهنّ أسرع من الآباء؛ لِضَعف النساء، وليُنبّه على أنَّ برّ الأمّ مقدّم على برِّ الأب في التلطّف، والحنُوّ، ونحو ذلك
(2)
.
وقال الطيبيّ نقلًا عن الخطابيّ: لَمْ يَخُصّ الأمهات بالعقوق، فإن عقوق الآباء محرّم أيضًا، ولكن نبّه بأحدهما على الآخر، فإن برّ الأم مقدّم على برّ الأب؛ لأنَّ لعقوق الأمهات مزيّة في القبح، وحقّ الأب مقدّم في الطاعة، وحسن المتابعة لرأيه، والنفوذ لأمره، وقبول الأدب منه. انتهى
(3)
.
(وَوَأْدَ الْبَنَاتِ) - بسكون الهمزة - هو دفن البنات بالحياة، وكان أهل الجاهلية يفعلون ذلك؛ كراهةً فيهنّ، ويقال: إن أول من فعل ذلك قيس بن عاصم التميميّ، وكان بعض أعدائه أغار عليه، فَأسَر بنته، فاتخذها لنفسه، ثم حصل بينهم صلح، فَخَيَّر ابنته، فاختارت زوجها، فآلى قيس على نفسه أن لا تولد له بنت إلَّا دفنها حية، فتبعه العرب في ذلك، وكان من العرب فريق ثان يقتلون أولادهم مطلقًا؛ إما نَفَاسَةً منه على ما ينقصه من ماله، وإما من عدم ما ينفقه عليه، وقد ذكر الله أمرهم في القرآن في عدة آيات، وكان صعصعة بن ناجية التميميّ، وهو جدّ الفرزدق همام بن غالب بن صعصعة أوّلَ من فَدَى الموؤودة، وذلك أنه يَعْمِد إلى من يريد أن يفعل ذلك، فيفدي الولد منه بمال يتفقان عليه، وإلى ذلك أشار الفرزدق بقوله [من المتقارب]:
وَجَدِّي الَّذِي مَنَعَ الْوَائِدَاتِ
…
وَأَحْيَا الْوَئِيدَ فَلَمْ يُوأَدِ
وهذا محمول على الفريق الثاني، وقد بقي كلٌّ من قيس وصعصعة إلى أن أدركا الإسلام، ولهما صحبة.
(1)
"المصباح المنير" 1/ 23.
(2)
"الفتح" 6/ 217، كتاب "الاستقراض" رقم (2408).
(3)
"الكاشف عن حقائق السنن" 10/ 3157.
وإنما خَصّ البنات بالذكر؛ لأنه كان الغالب من فعلهم؛ لأنَّ الذكور مظنة القدرة على الاكتساب، وكانوا في صفة الوأد على طريقين: أحدهما: أن يأمر امرأته إذا قَرُب وضعها أن تُطْلَق بجانب حَفِيرة، فإذا وضعت ذكرًا أبقته، وإذا وضعت أنثى طرحتها في الحفيرة، وهذا أليق بالفريق الأول.
ومنهم من كان إذا صارت البنت سُدَاسيّة قال لأمها: طيِّبيها، وزيِّنيها لأزور بها أقاربها، ثم يَبْعُد بها في الصحراء، حتى يأتي البئر، فيقول لها: انظري فيها، ويدفعها من خلفها، وَيطُمُّها، وهذا اللائق بالفريق الثاني، والله أعلم
(1)
.
وقال الطيبيّ رحمه الله: قيل: قدّم عقوق الأمهات؛ لأنهنَّ الأصول، وعقّبه بوأد البنات؛ لأنهنّ الفروع، وكان ذلك تنبيهًا على أنَّ أكبر الكبائر هو قطع النسل الذي هو موجب لخراب العالم. انتهى
(2)
.
(وَمَنْعًا وَهَاتِ) قال في "الفتح": وقع في رواية غير أبي ذرّ، وفي "الاستقراض":"ومَنْعَ " بغير تنوين، وهي في الموضعين بسكون النون، مصدرُ مَنَعَ يَمْنَع.
وأما "هات" فبكسر المثناة: فعلُ أمر من الإيتاء، قال الخليل: أصل هات: آت، فقُلبت الألف هاء.
والحاصل من النهي منعُ ما أُمر بإعطائه، وطلب ما لا يستحقّ أخذه.
ويَحْتَمِل أن يكون النهي عن السؤال مطلقًا، ويكون ذَكَرَه هنا مع ضدّه، ثم أعيد تأكيدًا للنهي عنه، ثم هو مُحْتَمِل أن يدخل في النهي ما يكون خطابًا لاثنين، كما ينهى الطالب عن طلب ما لا يستحقه، وينهى المطلوب منه عن إعطاء ما لا يستحقه الطالب؛ لئلا يعينه على الإثم. انتهى
(3)
.
وقال الطيبيّ رحمه الله: قوله: "ومنعًا وهات"؛ أي: حرّم عليكم منع ما عليكم إعطاؤه، وطلب ما ليس لكم أخذه، وقيل: نهي عن منع الواجب من
(1)
"الفتح" 13/ 502 رقم (5975).
(2)
"الكاشف عن حقائق السنن" 10/ 3157.
(3)
"الفتح" 13/ 501، كتاب "الأدب" رقم (5975).
ماله، وأقواله، وأفعاله، وأخلاقه من الحقوق اللازمة فيها، ونهي عن استدعاء ما لا يجب عليهم من الحقوق، وتكليفه إياهم بالقيام بما لا يجب عليهم، وهذا من أسمج الخلال. انتهى
(1)
.
(وَكَرِهَ لَكُمْ ثَلَاثًا)؛ أي: ثلاث خصال (قِيلَ وَقَالَ) في رواية: "وكان ينهى عن قيل وقال"، قال في "الفتح": كذا للأكثر في جميع المواضع بغير تنوين، ووقع في رواية الكشميهنيّ هنا:"قيلًا، وقالًا"، والأول أشهر، وفيه تعقُّب على من زعم أنه جائز، ولم تقع به الرواية.
قال الجوهريّ: "قيل، وقال" اسمان، يقال: كثير القيل والقال، كذا جزم بأنهما اسمان، وأشار إلى الدليل على ذلك بدخول الألف واللام عليهما.
وقال ابن دقيق العيد: لو جمانا اسمين بمعنى واحد كالقول، لَمْ يكن لِعَطف أحدهما على الآخر فائدة، فأشار إلى ترجيح الأول.
وقال المحب الطبريّ: في "قيل وقال" ثلاثة أوجه:
أحدها: أنهما مصدران للقول، تقول: قلت قولًا، وقيلًا، وقالًا، والمراد في الأحاديث: الإشارة إلى كراهة كثرة الكلام؛ لأنَّها تؤول إلى الخطأ، قال: وإنما كرره للمبالغة في الزجر عنه.
ثانيها: إرادة حكاية أقاويل الناس، والبحث عنها؛ ليُخبِر عنها، فيقول: قال فلان كذا، وقيل كذا، والنهي عنه إما للزجر عن الاستكثار منه، وإما لشيء مخصوص منه، وهو ما يكرهه المحكيّ عنه.
ثالثها: أن ذلك في حكاية الاختلاف في أمور الدِّين، كقوله: قال فلان كذا، وقال فلان كذا، ومحل كراهة ذلك أن يُكثِر من ذلك، بحيث لا يؤمَن مع الإكثار من الزلل، وهو مخصوص بمن ينقل ذلك من غير تثبت، ولكن يقلّد من سمعه، ولا يحتاط له.
قال الحافظ: ويؤيد ذلك الحديث الصحيح: "كفى بالمرء إثمًا أن يحدِّث بكل ما سمع"، أخرجه مسلم.
وفي "شرح المشكاة": قوله: "وكَرِهَ" بكسر الراء، وفي نسخة بتشديدها،
(1)
"الكاشف عن حقائق السنن" 10/ 3157.
مع فتحها، قال في "القاموس": كَرِهه، كسَمِعه، وكَرَّهه إليه تكريهًا صَيَّره كَرِيها، وقوله:"لكم"؛ أي: لأجلكم، وقوله:"قيل، وقال" بصيغتي المجهول، والمعلوم للماضي، قال في "الفائق": نَهْيٌ عن فضول ما يتحدث به المجالسون من قولهم: قيل كذا، وقال كذا، وبناؤهما على كونهما فعلين محكيين متضمِّنين للضمير، والإعراب على إجرائهما مُجْرَى الأسماء، خاليين من الضمير، ومنه قوله:"إنما الدنيا قال وقيل"، وإدخال حرف التعريف عليهما لذلك في قولهم: ما يَعْرِف من القيل.
وقال في "النهاية": وهذا النهي إنما يصح في قولٍ لا يصحّ، ولا يُعْلَم حقيقته، فأما مَن حَكَى ما يصح، وَيعرف حقيقته، وأسنده إلى ثقة صادق فلا وجه للنهي عنه، ولا ذمّ.
وقال أبو عبيد: فيه تجوّز عربيةً، وذلك أنه جعل كلًّا من القيل والقال مصدرًا، كأنه قال: نهى عن قيل وقال، يقال: قلت قولًا وقالًا وقيلًا، وهذا التأويل على أنَّهما اسمان، وقيل: أراد النهي عن كثرة الكلام، مبتدئًا، ومجيبًا، وقيل: هذا الكلام يتضمّن بعمومه حرمة النميمة والغيبة، فإن تبليغ الكلام من أقبح الخصال، والإصغاء إليها من أفحش الفعال. انتهى
(1)
.
(وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ) قال في "الفتح": اختُلف في المراد منه، وهل هو سؤال المال، أو السؤال عن المشكلات، والمعضلات، أو أعمّ من ذلك؟ والأَولى حَمْله على العموم، وقد ذهب بعض العلماء إلى أن المراد به: كثرة السؤال عن أخبار الناس، وأحداث الزمان، أو كثرة سؤال إنسان بعينه عن تفاصيل حاله، فإن ذلك مما يَكره المسؤول غالبًا.
وقد ثبت النهي عن الأغلوطات، أخرجه أبو داود، من حديث معاوية رضي الله عنه، وثبت عن جمع من السلف كراهة تكلف المسائل التي يستحيل وقوعها عادةً، أو يندر جدًّا، وإنما كَرِهوا ذلك لِمَا فيه من التنطّع، والقول بالظنّ؛ إذ لا يخلو صاحبه من الخطأ، وأما ما تقدم في اللِّعان:"فَكَرِه النبيّ صلى الله عليه وسلم المسائل وعابها"، وكذا في قوله تعالى:{لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ}
(1)
"مرقاة المفاتيح" 14/ 190.
[المائدة: 101] فذلك خاصّ بزمان نزول الوحي، ويشير إليه حديثُ:"أعظم الناس جُرْمًا عند الله من سأل عن شيء لَمْ يُحَرَّم، فحُرِّم من أجل مسألته".
وثبت أيضًا ذمّ السؤال للمال، ومدحُ من لا يُلْحِف فيه، كقوله تعالى:{لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} [البقرة: 273]، وفي "الصحيحين": حديث: "لا تزال المسألة بالعبد حتى يأتي يوم القيامة، وليس في وجهه مُزْعة لحم".
وفي "صحيح مسلم": "إن المسألة لا تَحِلّ إلَّا لثلاثة: لذي فقر مُدْقِع، أو غُرْم مُفْظِع، أو جائحة".
وفي "جامع الترمذيّ": قوله صلى الله عليه وسلم لابن عباس: "إذا سألت فاسأل الله"، وفي "سنن أبي داود":"إن كنت لا بد سائلًا، فاسأل الصالحين".
وقد اختلف العلماء في ذلك، والمعروف عند الشافعية أنه جائز؛ لأنه طلب مباح، فأشبه العارية، وحملوا الأحاديث الواردة على من سأل من الزكاة الواجبة، ممن ليس من أهلها، لكن قال النوويّ في اتفاق العلماء على النهي عن السؤال من غير ضوورة، قال: واختلف أصحابنا في سؤال القادر على الكسب على وجهين: أصحهما التحريم؛ لظاهر الأحاديث، والثاني يجوز مع الكراهة بشروط ثلاثة: أن لا يُلِحّ، ولا يُذِلّ نفسه زيادة على ذلّ نفس السؤال، ولا يُؤدِّيَ المسؤول، فإن فُقِد شرط من ذلك حَرُم.
وقال الفاكهانيّ: يُتَعَجَّب ممن قال بكراهة السؤال مطلقًا، مع وجود السؤال في عصر النبيّ صلى الله عليه وسلم، ثم السلف المصالح من غير نكير، فالشارع لا يُقِرّ على مكروه.
قال الحافظ: لعل من كره مطلقًا أراد أنه خلاف الأَولي، ولا يلزم من وقوعه أن تتغير صفته، ولا من تقريره أيضًا، وينبغي حمل حال أولئك على السداد، وأن السائل منهم غالبأَ ما كان يسأل إلَّا عند الحاجة الشديدة.
وفي قوله: من غير نكير نَظَر، ففي الأحاديث الكثيرة الواردة في ذم السؤال كفاية في إنكار ذلك.
[تنبيه]: جميع ما تقدم فيما سأل لنفسه، وأما إذا سأل لغيره، فالذي يظهر أيضًا أنه يختلف باختلاف الأحوال. انتهى
(1)
.
(1)
"الفتح" 13/ 503 - 504، كتاب "الأدب" رقم (5975).
(وَإِضَاعَةَ الْمَالِ") قال في "الفتح": حَمَله الأكثر على الإسراف في الإنفاق، وقيَّده بعضهم بالإنفاق في الحرام، والأقوى أنه ما أُنفق في غير وجهه المأذون فيه شرعًا، سواء كانت دينية، أو دنيوية، فمُنِع منه؛ لأنَّ الله تعالى جعل المال قيامًا لمصالح العباد، وفي تبذيرها تفويت تلك المصالح، إما في حق مضيِّعها، وإما في حق غيره، ويستثنى من ذلك كثرة إنفاقه في وجوه البرّ؛ لتحصيل ثواب الآخرة، ما لَمْ يفوت حقًّا أخرويًا أهم منه.
والحاصل في كثرة الإنفاق ثلاثة أوجه:
الأول: إنفاقه في الوجوه المذمومة شرعًا، فلا شك في منعه.
والثاني: إنفاقه في الوجوه المحمودة شرعًا، فلا شك في كونه مطلوبًا بالشرط المذكور.
والثالث: إنفاقه في المباحات بالأصالة، كملاذّ النفس، فهذا ينقسم إلى قسمين:
أحدهما: أن يكون على وجه يليق بحال المنفق، وبقَدْر ماله، فهذا ليس بإسراف.
والثاني: ما لا يليق به عُرفًا، وهو ينقسم أيضًا إلى قسمين:
أحدهما: ما يكون لدفع مفسدة، إما ناجزة، أو متوقَّعة، فهذا ليس بإسراف.
والثاني: ما لا يكون في شيء من ذلك، فالجمهور على أنَّه إسراف، وذهب بعض الشافعية إلى أنه ليس بإسراف، قال: لأنه تقوم به مصلحة البدن، وهو غرض صحيح، في ذا كان في غير معصية فهو مباح له.
قال ابن دقيق العيد: وظاهر القرآن يمنع ما قال. انتهى، وقد صرّح بالمنع القاضي حسين، فقال في "كتاب قسم الصدقات": هو حرام، وتبعه الغزاليّ، وجزم به الرافعيّ في الكلام على المغارم، وصحح في باب الحَجْر من الشرح، وفي المحرَّر أنه ليس بتبذير، وتبعه النوويّ، والذي يترجح أنه ليس مذمومًا لذاته، لكنه يفضي غالبًا إلى ارتكاب المحذور، كسؤال الناس، وما أبي إلى المحذور فهو محذور.
وقد تقدم في "كتاب الزكاة"البحث في جواز المتصدق بجميع المال، وأن
ذلك يجوز لمن عَرَفَ من نفسه الصبر على المضايقة، وجزم الباجيّ من المالكية بمنع استيعاب جميع المال بالصدقة، قال: ويُكره كثرة إنفاقه في مصالح الدنيا، ولا بأس به إذا وقع نادرًا لحادث يحدث، كضيف، أو عيد، أو وليمة.
ومما لا خلاف في كراهته: مجاوزة الحد في الإنفاق على البناء زيادة على قدر الحاجة، ولا سيما إن أضاف إلى ذلك المبالغة في الزخرفة.
ومنه احتمال الغبن الفاحش في البياعات بغير سبب.
وأما إضاعة المال في المعصية فلا يختص بارتكاب الفواحش، بل يدخل فيها سوء القيام على الرقيق، والبهائم حتى يهلكوا، ودفع مال من لَمْ يؤنس منه الرشد إليه، وقَسْمه ما لا ينتفع بجزئه، كالجوهرة النفيسة.
وقال السبكيّ الكبير في "الحلبيات": الضابط في إضاعة المال أن لا يكون لغرض دينيّ، ولا دنيويّ، فإن انتفيا حَرُم قطعًا، وإن وُجد أحدهما وجودًا له بال، وكان الإنفاق لائقًا بالحال، ولا معصية فيه جاز قطعًا، وبين الرتبتين وسائط كثيرة، لا تدخل تحت ضابط، فعلى المفتي أن يرى فيما تيسّر منها رأيه، وأما ما لا يتيسر فقد تعرض له، فالإنفاق في المعصية حرام كله، ولا نظر إلى ما يحصل في مطلوبه من قضاء شهوة، ولذة حسنة، وأما إنفاقه في الملاذّ المباحة فهو موضع الاختلاف، فظاهر قوله تعالى:{وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67)} [الفرقان: 67] أن الزائد الذي لا يليق بحال المنفق إسراف، ثم قال: ومن بذل مالًا كثيرًا في غرض يسير تافه عَدَّه العقلاء مضيِّعًا، بخلاف عكسه، والله أعلم
(1)
.
وقال الطيبيّ رحمه الله: قيل: والتقسيم الحاصر فيه - أي: في إضاعة المال - الحاوي بجميع أقسامه أن تقول: إن الذي يُصْرَف إليه المال إما أن يكون واجبًا، كالنفقة، والزكاة، ونحوهما، فهذا لا ضياع فيه، وهكذا إذا كان مندوبًا إليه، وإما أن يكون حرامًا، أو مكروهًا، وهذا قليله وكثيره إضاعة وسرف، وإما أن يكون مباحًا، ولا إشكال إلَّا في هذا القسم؛ إذ كثير من الأمور يَعُدّه
(1)
"الفتح" 13/ 504 - 505، كتاب "الأدب" رقم (5975).
بعض الناس من المباحات، وعند التحقيق ليس كذلك، كتشييد الأبنية، وتزيينها، والإسراف في النفقة، والتوسع في لبس الثياب الناعمة، والأطعمة الشهيّة اللذيذة، وأنت تعلم أن قساوة القلب، وغِلَظ الطبع يتولد من لبس الرِّقَاق، وأكل الرِّقَاق، وسائر أنواع الارتقاق، ويدخل فيه تمويه الأواني، والسقوف بالذهب، والفضة، وسوء القيام على ما يملكه من الرقيق، والدوابّ حتى تضيع، وتهلك، وقسمة ما لا ينتفع الشريك به، كاللؤلؤة، والسيف يُكْسَران، وكذا احتمال الغبن الفاحش في البياعات، وإيتاء المال صاحبه، وهو سفيه، حقيقٌ بالحَجر.
قال: وهذا الحديث أصل في معرفة حُسن الخُلُق الذي هو منبع الأخلاق الحميدة، والخلال الجميلة. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [5/ 4475 و 4476 و 4477 و 4478](593)، و (البخاريّ) في "الصلاة"(844) و"الزكاة"(1477)، و"الاستقراض"(2408) و"الأدب"(5975) و"الدعوات"(6330) و"الرقاق"(6473) و"القدر"(6615) و"الاعتصام"(7292)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 246 و 250 - 251 و 255)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 310 - 311)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(1/ 365)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(555 و 5556 و 5719)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(2/ 901)، و (الطحاويّ) في "مشكل الآثار"(4/ 233 - 234)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 166)، و (البيهقيّ) في "الآداب"(105) و"شُعب الإيمان"(6/ 191)، و (البغويّ) في "شرح السُّنّة"(3426)، والله تعالى أعلم.
[تنبيه]: هذا الحديث أورده المحدّثون مقطَّعًا في عدَّة مواضع، ولعل
(1)
"الكاشف عن حقائق السنن" 10/ 3158، و"مرقاة المفاتيح" 14/ 196.
أجمع الروايات - كما قال بعضهم - ما أخرجه الإمام أحمد في "مسنده"، فقال:
(18258)
- حدّثنا عليّ بن عاصم، ثنا المغيرة بن شِبْل، أخبرنا
(1)
عامر، عن ورّاد كاتب المغيرة بن شعبة، قال: كتب معاوية إلى المغيرة بن شعبة: اكتب إليّ بما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعاني المغيرة، قال: فكتبت إليه: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا انصرف من الصلاة قال: "لا إله إلَّا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كلّ شيء قدير، اللهم لا مانع لِما أعطيت، ولا معطي لِمَا منعت، ولا ينفع ذا الجدّ منك الجدّ"، وسمعته ينهى عن قيل وقال، وعن كثرة السؤال، وإضاعة المال، وعن وأد البنات، وعقوق الأمهات، ومَنْع وهات. انتهى
(2)
.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): تحريم عقوق الأمهات، وهو من الكبائر بإجماع العلماء، وقد تظاهرت الأحاديث الصحيحة على عدّه من الكبائر، وكذلك عقوق الآباء من الكبائر، وإنما اقتصر هنا على الأمهات؛ لأنَّ حرمتهن آكد من حرمة الآباء، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم حين قال له السائل: مَن أَبَرّ؟ قال: "أمك، ثم أمك"، ثلاثًا، ثم قال في الرابعة:"ثم أباك"، ولأن أكثر العقوق يقع للأمهات.
2 -
(ومنها): تحريم وأد البنات - بالهمز - وهو دفنهن في حياتهن، فيمتن تحت التراب، وهو من الكبائر الموبقات؛ لأنه قتل نفس بغير حقّ، ويتضمن أيضًا قطيعة الرحم، وإنما اقتصر على البنات؛ لأنه المعتاد الذي كانت الجاهلية تفعله غالبًا.
3 -
(ومنها): تحريم "منعٍ، وهات"، وهو أن يمنع الرجل ما توجّه عليه من الحقوق، أو يطلب ما لا يستحقه.
4 -
(ومنها): تحريم كثرة السؤال، وقد مضى تفصيله.
(1)
سقط لفظ "أخبرنا" من النسخة، وهو موجود في نسخة تحقيق شعيب الأرنؤوط، فتنبّه.
(2)
"مسند أحمد بن حنبل" 4/ 254.
5 -
(ومنها): تحريم إضاعة المال، وقد مضى تفصيل أيضًا.
6 -
(ومنها): ما قاله النوويّ رحمه الله: وفي قوله صلى الله عليه وسلم: "حرّم ثلاثًا"، و"كَرِه ثلاثًا" دليل على أنَّ الكراهة في هذه الثلاثة الأخيرة للتنزيه، لا للتحريم. انتهى
(1)
قال الجامع عفا الله عنه: قوله: "لا للتحريم" محلّ تأمّل، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4476]
(
…
) - (وَحَدَّثَني الْقَاسِمُ بْنُ زَكَرِيَّاءَ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُوسَى، عَنْ شَيْبَانَ، عَنْ مَنْصُورٍ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ مِثْلَهُ، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: "وَحَرَّمَ عَلَيْكُمْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم "، وَلَمْ يَقُلْ: "إِنَّ اللهَ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ").
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(الْقَاسِمُ بْنُ زَكَرِيَّاءَ) بن دينار القرشيّ، أبو محمد الكوفيّ الطحّان، وربما نُسب لجدّه، ثقةٌ [11] مات في حدود (250)(م ت س ق) تقدم في "الإيمان" 4/ 118.
2 -
(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُوسَى) بن أبي المختار باذام الْعَبسيّ، أبو محمد الكوفيّ، ثقةٌ يتشيّع [9](ت 213) على الصحيح (ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 118.
3 -
(شَيْبَانُ) بن عبد الرَّحمن التميميّ مولاهم النحويّ، أبو معاوية البصريّ، ثم الكوفيّ، ثقةٌ صاحب كتاب [7](ت 164)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 118.
و"منصور" هو: ابن المعتمر، ذُكر قبله.
[تنبيه]: رواية شيبان عن منصور هذه ساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:
(18172)
- حدّثنا عبد الله، حدّثني أبي، ثنا حسين، ثنا شيبان، عن منصور، عن الشعبيّ، عن ورّاد، عن المغيرة بن شعبة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله كَرِه لكم ثلاثًا: قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال، وحَرَّم عليكم رسول الله صلى الله عليه وسلم: وأد البنات، وعقوق الأمهات، ومَنْع
(1)
"شرح النوويّ" 12/ 12.
وهات". انتهى
(1)
.
وساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"
(2)
، وإنما عدلت عنها؛ لمخالفتها رواية المصنّف، حيث جعلته: عن شيبان عن منصور، عن المسيّب بن رافع، ولذا انتقد الدارقطنيّ الرواية بأن سعد بن حفص شيخ البخاريّ فيها أخطأ في ذلك، والصواب: عن شيبان، عن منصور، عن الشعبيّ، كما هو عند مسلم، فتنبّه
(3)
، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4477]
(
…
) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ خَالِدٍ الْحَذاء، حَدَّثَنِي ابْنُ أَشْوَعَ، عَنِ الشَّعْبِيّ، حَدَّثَنِي كَاتِبُ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، قَالَ: كتَبَ مُعَاوِيَةُ إِلَى الْمُغِيرَةِ: اكتُبْ إِلَيَّ بِشَيْءٍ سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَكَتَبَ إِلَيْهِ: أَنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِنَّ اللهَ كَرِهَ لَكُمْ ثَلَاثًا: قِيلَ وَقَالَ، وَإِضَاعَةَ الْمَال، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم قبل باب.
2 -
(إِسْمَاعِيلُ ابْنُ عُلَيَّةَ) هو: إسماعيل بن إبراهيم بن مِقْسم الأسديّ
(1)
"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 4/ 246.
(2)
قال رحمه الله: (5630) - حدّثنا سعد بن حفص، حدّثنا شيبان، عن منصور، عن المسيَّب، عن وراد، عن المغيرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"إن الله حَرَّم عليكم عقوق الأمهات، ومنعًا وهات، ووأد البنات، وكَرِه لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال". انتهى.
(3)
ذكر الحافظ في "النكت الظراف"(7/ 496) ما نصّه: قوله: وفي الأدب عن سعد بن حفص
…
إلى آخره، قلت: ذكر الدارقطنيّ أن سعد بن حفص أخطأ فيه، والصواب رواية عبيد الله بن موسى "الشعبي"، لا المسيّب بن رافع. انتهى.
قال الجامع: مما يؤيّد اعتراض الدارقطنيّ صنيع الإمام مسلم رحمه الله حيث أحال رواية شيبان على رواية جرير السابقة، وهي عن منصور، عن الشعبيّ، لا عن المسيّب،
ومن الغريب ما نبّه الحافظ في "الفتح" على هذا، فليُتفطّن.
مولاهم، أبو بشر البصريّ، ثقةٌ حافظ [8](ت 193)، وهو ابن (83)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.
3 -
(خَالِدُ الْحَذَّاءُ) ابن مِهْران، أبو الْمُنازل البصريّ، ثقةٌ حافظ، تغير حفظه في الأخير [5](ت 1 أو 142)(ع) تقدم في "الإيمان" 10/ 144.
4 -
(ابْنُ أَشْوَعَ) هو: سعيد بن عمرو بن أشوع الْهَمْدانيّ الكوفيّ، قاضيها، ثقةٌ رُمي بالتشيّع [6] مات في حدود (120)(خ م ت) تقدم في "الإيمان" 83/ 449.
والباقون ذُكروا قبله.
[تنبيه]: قال النوويّ رحمه الله: هذا الحديث فيه أربعةٌ تابعيّون يروي بعضهم عن بعض، وهم: خالد، وسعيد بن عمرو بن أشوع، وهو تابعيّ، سمع يزيد بن سلمة الْجُعفيّ الصحابيّ رضي الله عنه، والثالث: الشعبي، والرابع: كاتب المغيرة، وهو ورّاد. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: قول النوويّ: "إن سعيد بن عمرو بن أشوع تابعيّ، سمع يزيد
…
إلخ" فيه نظر، فقد نصّ الترمذيّ في "الجامع" (5/ 49) على أنَّه لَمْ يدركه، وحكم على الحديث الذي أخرجه من طريقه مرسلًا، وكذا نصّ عليه الحافظ المزيّ في "تهذيب الكمال" (11/ 15)، والحافظ ابن حجر في "تهذيب التهذيب" (2/ 35)، ولذا جعله في "التقريب" من الطبقة السادسة، كما أسلفته آنفًا، وعلى هذا فرواية خالد الحذّاء عنه هنا من رواية الأكابر عن الأصاغر؛ لأنه من الطبقة الخامسة، كما أسلفته أيضًا آنفًا، فتنبّه، والله تعالى وليّ التوفيق.
وقوله: (كَتَبَ مُعَاوِيَةُ إِلَى الْمُغِيرَةِ: اكْتُبْ إِلَيَّ بِشَيْءٍ سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) وفي رواية للبخاريّ: "عن ورّاد كاتب المغيرة بن شعبة، قال: أملى عليّ المغيرة بن شعبة في كتاب إلى معاوية أن النبيّ صلى الله عليه وسلم
…
"، قال في "الفتح": وكان المغيرة إذ ذاك أميرًا على الكوفة من قِبَل معاوية، وقد جاء بيان سبب الكتابة في رواية أخرى، وهو أن معاوية كتب إليه: اكتب لي بحديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي رواية قال: "كتب معاوية إلى المغيرة: اكتب إليّ ما سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول خلف الصلاة".
واستُدِلّ به على العمل بالمكاتَبة، وإجرائها مجرى السماع في الرواية،
ولو لَمْ تقترن بالإجازة، وعلى الاعتماد على خبر الشخص الواحد. انتهى
(1)
.
وقال في "الفتح" في موضع آخر: قوله: "فكتب إليه المغيرة" ظاهره أن المغيرة باشر الكتابة، وليس كذلك، فقد أخرجه ابن حبان من طريق عاصم الأحول، عن الشعبيّ أن معاوية كتب إلى المغيرة: اكتب إلي بحديث سمعته، فدعا غلامه ورّادًا، فقال: اكتب فذكره.
قال الحافظ: ولم أقف على تسمية من كتب لمعاوية صريحًا، إلَّا أن المغيرة كان معاوية أَمَّره على الكوفة في سنة إحدى وأربعين إلى أن مات سنة خمسين، أو في التي بعدها، وكان كاتب معاوية إذ ذاك عُبيد بن أوس الْغَسّاني.
وفي الحديث حجة على من لَمْ يعمل في الرواية بالمكاتَبة، واعتلّ بعضهم بأن العمدة حينئذ على الذي بَلَّغ الكتاب، كأن يكون الذي أرسله أمَرَه أن يوصل الكتاب، وأن يبلّغ ما فيه مشافهة.
وتُعُقِّب بأن هذا يحتاج إلى نقل، وعلى تقدير وجوده، فتكون الرواية عن مجهول، ولو فُرِض أنه ثقةٌ عند من أرسله، ومن أرسل إليه فتجيء فيه مسألة التعديل على الإبهام، والمرجَّح عدم الاعتداد به. انتهى
(2)
.
[تنبيه]: زاد البخاريّ في "القدر" في آخر هذا الحديث أن ورّادًا قال: "ثم وَفَدت بعدُ على معاوية، فسمعته يأمر الناس بذلك".
وذكر بعضهم أن معاوية رضي الله عنه كان قد سمع الحديث المذكور، وإنما أراد استثبات المغيرة، واحتجّ بما في "الموطأ" من وجه آخر عن معاوية رضي الله عنه أنه كان يقول على المنبر: أيها الناس إنه لا مانع لما أعطى الله، ولا معطي لما منع الله، ولا ينفع ذا الجَد منه الجَد، من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين، ثم يقول: سمعته من رسول الله على هذه الأعواد، أفاده في "الفتح"
(3)
.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى البحث فيه مستوفًى قبل حديث، ولله الحمد والمنّة.
(1)
راجع: "الفتح" 3/ 85 - 86، كتاب "الأذان" رقم (844).
(2)
"الفتح" 14/ 617، كتاب "الرقاق" رقم (6473).
(3)
"الفتح (3/ 85 - 86) كتاب "الأذان" رقم (844).
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4478]
(
…
) - (حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ الْفَزَارِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سُوقَةَ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ الثَّقَفِيُّ، عَنْ وَرَّادٍ قَالَ: كَتَبَ الْمُغِيرَةُ إِلَى مُعَاوِيَةَ: سَلَامٌ عَلَيْكَ، أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِنَّ اللهَ حَرَّمَ ثَلَاثًا، وَنَهَى عَنْ ثَلَاثٍ: حَرَّمَ عُقُوقَ الْوَالِدِ
(1)
، وَوَأْدَ الْبَنَات، وَلَا وَهَات، وَنَهَى عَنْ ثَلَاثٍ: قِيلٍ وَقَالٍ، وَكَثْرَةِ السُّؤَال، وَإِضَاعَةِ الْمَالِ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(ابْنُ أَبِي عُمَرَ) هو: محمد بن يحيى بن أبي عمر الْعَدنيّ، نزيل مكة، صدوقٌ [10](ت 243)(م ت س ق) تقدم في "المقدمة" 5/ 31.
2 -
(مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ الْفَزَارِيُّ) أبو عبد الله الكوفيّ، نزيل مكة، ثم دِمشق، ثقةٌ حافظٌ، كان يدلّس أسماء الشيوخ [8](ت 193)(ع) تقدم في "الإيمان" 8/ 138.
3 -
(مُحَمَّدُ بْنُ سُوقَةَ) - بضمّ السين المهملة - الْغَنَويّ - بفتح الغين المعجمة، والنون الخفيفة - أبو بكر الكوفيّ العابد، ثقةٌ مرضيّ، عابد [5].
رَوَى عن أنس، وسعيد بن جبير، وعبد الله بن دينار، وأبي صالح السمان، ونافع بن جبير بن مُطعم، وإبراهيم النخعيّ، ونافع مولى ابن عمر، وغيرهم.
ورَوَى عنه مالك بن مِغْوَل، والثوريّ، وابن المبارك، ومروان بن معاوية الفزاريّ، وأبو المغيرة النضر بن إسماعيل، وعطاء بن مسلم الخفاف، وابن عيينة، وغيرهم.
قال محمد بن عبيد: سمعت الثوريّ يقول: حدّثني الرضيّ محمد بن سوقة، قال: ولم أسمعه يقول ذلك لعربيّ، ولا لمولي، وقال الحسين بن حفص: قال الثوريّ: أُخرج إليكم كتاب خير رجل بالكوفة، فأخرج كتاب محمد بن سوقة، وقال طلحة بن مُصَرِّف: ما بالكوفة رجلان يزيدان على محمد بن سوقة، وعبد الجبار بن وائل بن حجر، وقال الحميديّ، عن ابن عيينة: كان بالكوفة ثلاثة لو قيل لأحدهم: إنك تموت غدًا ما كان يقدر أن
(1)
وفي نسخة: "حرّم عقوق الوالدات".
يزيد في عمله: محمد بن سوقة، وعمرو بن قيس الْمُلائيّ، وأبو حيّان التيميّ، قال سفيان: وكان محمد بن سوقة لا يُحسن أن يعصي الله، وقال العجليّ: كوفيّ ثَبْت، وكان خزازًا جمع من الخز مائة ألف، ثم أتى مكة، فقال: ما اجتمعت هذه لخير، فتصدق بها، وكان صاحب سُنَّة، وعبادة، وخير كثير، في عداد الشيوخ، وليس بكثير الحديث، وقال أبو حاتم: صالح الحديث، وقال النسائيّ: ثقةٌ مرضيّ، وذكره ابن حبان في "الثقات" في الطبقة الثالثة في أتباع التابعين، وقال: قد قيل: إنه رأى أنسًا، وأبا الطفيل، ومقتضاه أن تكون روايته عنده عن أنس مرسلة، وقال أيضًا: كان من أهل العبادة، والفضل، والدِّين، والسخاء، وقال يعقوب بن سفيان: محمد بن سوقة من خيار أهل الكوفة، وثقاتهم، وقال الدارقطنيّ: كوفيّ، فاضلٌ، ثقةٌ.
أخرج له الجماعة، وليس له في هذا الكتاب إلَّا هذا الحديث.
4 -
(مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ الثَّقَفِيُّ) أبو عون الكوفيّ الأعور، ثقةٌ [4](خ م د ت س) تقدم في "الصلاة" 35/ 1023.
والباقيان ذُكرا قبله.
وقوله: (كتَبَ الْمُغِيرَةُ إِلَى مُعَاوِيَةَ) فيه استحباب المكاتَبة على هذا الوجه، فيبدأ:"سلام عليك"، كما كتب النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى هرقل:"سلامٌ على من اتبع الهدى"
(1)
.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ اللهَ حَرَّمَ ثَلَاثًا، وَنَهَى عَنْ ثَلَاثٍ
…
إلخ)، قال النوويّ رحمه الله: هذا الحديث دليل لمن يقول: إن النهي لا يقتضي التحريم، والمشهور أنه يقتضي التحريم، وهو الأصح، ويجاب عن هذا بأنه خرج بدليل آخر. انتهى
(2)
.
وقوله: (حَرَّمَ عُقُوقَ الوَالِدِ) وفي بعض النسخ: "عقوق الوالدات".
وقوله: (وَلَا وَهَاتِ)؛ أي: وحرّم "لا"؛ يعني: الامتناع عن أداء ما توجّه عليه من الحقوق، يقول في الحقوق الواجبة: لا أُعطي، ويقول فيما ليس له حقّ فيه: أَعْطِ.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام البحث فيه، ولله الحمد والمنّة.
(1)
"شرح النوويّ" 12/ 13.
(2)
"شرح النوويّ" 12/ 12.
(6) - (بَابُ بَيَانِ أَجْرِ الْحَاكِمِ إِذَا اجْتَهَدَ، فَأَصَابَ، أَوْ أَخْطَأَ)
(اعلم): أن "الحكم" - بضمّ، فسكون -: القضاء، وأصله: المنع، يقال: حكمتُ عليه بكذا: إذا منعته من خلافه، فلم يَقدِر على الخروج من ذلك، وحكمتُ بين القوم: فَصَلت بينهم، فأنا حاكمٌ، وحَكَم - بفتحتين -، والجمع: حُكّام، وحُكّامون، أفاده في "المصباح".
وقال في "الفتح": الحكم الشرعيّ عند الأصوليين: خطاب الله تعالى المتعلّق بأفعال المكلّفين بالاقتضاء، أو التخيير، ومادّة الحُكْم من الإحكام، وهو الإتقان للشيء، ومَنْعه من العيب. انتهى.
وقد ترجم الإمام البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:"باب أجر الحاكم، إذا اجتهد فأصاب، أو أخطأ".
قال في "الفتح": يشير به إلى أنه لا يلزم مِنْ ردّ حكمه، أو فتواه إذا اجتهد فأخطأ، أن يأثم بذلك، بل إذا بذل وسعه أُجِر، فإن أصاب ضوعف أجره، لكن لو أقدم فحكم، أو أفتى بغير علم، لَحِقه الإثم، كما تقدمت الإشارة إليه. قال ابن المنذر: وإنما يؤجر الحاكم إذا أخطأ، إذا كان عالمًا بالاجتهاد فاجتهد، وأما إذا لَمْ يكن عالمًا فلا، واستدَلّ بحديث:"القضاة ثلاثة" وفيه: "وقاضٍ قضى بغير حق فهو في النار، وقاض قضي، وهو لا يعلم فهو في النار"، وهو حديث أخرجه أصحاب "السنن"، عن بريدة رضي الله عنه بألفاظ مختلفة، قال الحافظ: وقد جمعت طرقه في جزء مفرد، ويؤيد حديث الباب ما وقع في قصة سليمان في حُكم داود - عليهما الصلاة والسلام - في أصحاب الحرث.
وقال الخطابي في "معالم السنن": إنما يؤجَر المجتهد إذا كان جامعًا لآلة الاجتهاد، فهو الذي نعذره بالخطإ، بخلاف المتكلف فيُخاف عليه الإثم، وإنما يؤجر العالم؛ لأنَّ اجتهاده في طلب الحق عبادة، هذا إذا أصاب، وأما إذا أخطأ فلا يؤجر على الخطإ، بل يوضع عنه الإثم فقط، كذا قال، وكأنه يرى
أن قوله: "فله أجر واحد" مجاز عن وضع الإثم. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قول الخطابيّ: "فلا يؤجر" فيه نظر لا يخفى؛ لمصادمته ظاهر النصّ، فلا تلتفت إليه، والله تعالى أعلم بالصواب.
[4479]
(1716) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى التَّمِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أُسَامَةَ بْنِ الْهَاد، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي قَيْسٍ مَوْلَى عَمْرِو بْنِ الْعَاص، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاص، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ
(2)
فَاجْتَهَدَ، ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَان، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ، ثُمَّ أَخْطَأَ، فَلَهُ أَجْرٌ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
- (يَحْيَى بْنُ يَحْيَى التَّمِيمِيُّ) تقدّم قبل باب.
2 -
(عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ) الدراورديّ المدنيّ، تقدّم أيضًا قبل باب.
3 -
(يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ أُسَامَةَ بْنِ الْهَادِ) الليثيّ، أبو عبد الله المدنيّ، ثقةٌ مكثرٌ [5](ت 139)(ع) تقدم في "الإيمان" 13/ 159.
4 -
(مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) بن الحارث بن خالد التيميّ، أبو عبد الله المدنيّ، ثقةٌ [4](ت 120) على الصحيح (ع) تقدم في "الإيمان" 13/ 159.
5 -
(بُسْرُ بْنُ سَعِيدٍ) العابد، مولى ابن الحضرميّ المدنيّ، ثقةٌ جليلٌ [2](ت 100)(ع) تقدم في "الصلاة" 31/ 1001.
6 -
(أَبُو قَيْسٍ مَوْلَى عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ) اسمه عبد الرَّحمن بن ثابت، وقيل: ابن الحكم، وهو غلطٌ [2](ت 54)(ع) تقدم في "الصيام" 9/ 2550.
7 -
(عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ) بن وائل السَّهْميّ الصحابيّ المشهور، أسلم عام الحديبية، وولي إمرة مصر مرّتين، وهو الذي فتحها، ومات بها سنة نيّف وأربعين، وقيل: بعد الخمسين (ع) تقدم في "الإيمان" 57/ 328.
(1)
"الفتح" 17/ 241 - 242، كتاب "الاعتصام" رقم (7352).
(2)
وفي نسخة: "وإذا حكم الحاكم" بزيادة عاطف.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أن فيه أربعة من التابعين روى بعضهم عن بعض: يزيد، عن محمد بن إبراهيم، عن بُسر، عن أبي قيس، ورواية الأولين من رواية الأقران؛ لأنهما من الطبقة الخامسة، ليس لأبي قيس عند مسلم في "صحيحه" إلَّا حديثان، هذا، وحديث آخر مضى في "الصيام" برقم (1096)، وليس له في "صحيح البخاريّ" إلَّا حديث الباب، كما نبَّه عليه في "الفتح"
(1)
.
شرح الحديث:
(عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ) هو التيميّ التابعيّ المدنيّ، المشهور، وأبو صحابيّ، (عَنْ بُسْرِ) بضمّ الموحّدة، وسكون المهملة، (ابْنِ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي قَيْسٍ مَوْلَى عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ) قال في "الفتح": لا يُعرف اسمه، كذا قاله البخاريّ، وتبعه الحاكم أبو أحمد، وجزم ابن يونس في "تاريخ مصر" بأنه عبد الرَّحمن بن ثابت، وهو أعرف بالمصريين من غيره، ونَقَلَ عن محمد بن سحنون أنه سَمَّى أباه الحكم، وخظأه في ذلك، وحَكَى الدمياطيّ أن اسمه سعد، وعزاه لمسلم في "الكنى"، قال الحافظ: وقد راجعت نُسخًا من "الكنى" لمسلم، فلم أر ذلك فيها، منها نسخة بخط الدارقطنيُّ الحافظ، وقرأت بخط المنذريّ: وقع عند البستيّ - يعني: ابن حبان في "صحيحه" - عن أبي قابوس بدل أبي قيس، كذا جزم به، قال الحافظ: وقد راجعت عدّة نسخ من "صحيح ابن حبان" فوجدت فيها عن أبي قيس، إحداها صححها ابن عساكر. انتهى
(2)
.
(عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ) رضي الله عنه (أنهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِذَا حَكَمَ الْحَاكمُ)؛ أي: أراد أن يحكم، ووقع في بعض النسخ:"وإذا حكم الحاكم" بواو العطف، والظاهر أنه غلط، والله تعالى أعلم. (فَاجْتَهَدَ)؛ أي: بذل وسعه وطاقته في طلب الحق؛ ليبلغ مجهوده، وَيصِل إلى نهايته، والجهد بالضمّ في الحجاز، وبالفتح في غيرهم: الوسع والطاقة. وقيل: المضموم: الطاقة، والمفتوح: المشقّة، والجهد بالفتح، لا غير: النهاية، والغاية، وهو مصدرٌ من
(1)
"الفتح" 17/ 242 رقم (7352).
(2)
"الفتح" 17/ 242 رقم (7352).
جَهَد في الأمر جَهْدًا، من باب نفع: إذا طلب حتى بلغ غايته في الطلب، وجَهَده الأمرُ والمرضُ جَهدًا أيضًا: إذا بلغ منه المشقّة. قاله الفيّوميّ
(1)
.
(ثُمَّ أَصَابَ) وفي رواية أحمد: "فأصاب"، قال القرطبيّ رحمه الله: هكذا وقع في الحديث، بدأ بالحكم قبل الاجتهاد، والأمر بالعكس، فإن الاجتهاد يتقدم الحكم؛ إذ لا يجوز الحكم قبل الاجتهاد اتفاقًا، لكن التقدير في قوله:"إذا حكم": إذا أراد أن يحكم، فعند ذلك يجتهد، قال: ويؤيده أن أهل الأصول قالوا: يجب على المجتهد أن يجدد النظر عند وقوع النازلة، ولا يعتمد على اجتهاده المتقدّم؛ لإمكان أن يظهر له ثانيًا خلاف ما ظهر له أَوّلًا، اللهمّ إلَّا أن يكون ذاكرًا لأركان اجتهاده، مائلًا إليه، فلا يحتاج إلى استئناف نظر في إمارة أخرى. انتهى
(2)
.
قال الحافظ: ويَحْتَمِل أن تكون الفاء - أي: في قوله: فاجتهد - تفسيرية، لا تعقيبية، وقوله:"فأصاب"؛ أي: صادف ما في نفس الأمر، من حكم الله تعالى، يقال: أصاب بغيته إصابةً: نالها، وأصاب السهمُ إصابةً: وصل الغرَضَ، وفيه لغتان أُخريان: إحداهما: صابه صوبًا، من باب قال، والثانية: يصيبه صَيْبًا، من باب باع. انتهى
(3)
.
(فَلَهُ أَجْرَانِ) أجر لاجتهاده، وأجر لإصابته الحقّ، (وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ، ثُمَّ أَخْطَأَ)؛ أي: ظنّ أن الحقّ في جهة، فصادف أن الذي في نفس الأمر بخلاف ذلك (فَلَهُ أَجْرٌ)؛ أي: له أجر اجتهاده فقط، وقد تقدمت الإشارة إلى وقوع الخطأ في الاجتهاد في حديث أم سلمة رضي الله عنهما:"إنكم تختصمون إليّ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض".
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "فأصاب"؛ أي: حكم، فأصاب وجه الحكم، وهو أن يحكم بالحقّ لمستحقّه في نفس الأمر عند الله تعالى، فهذا يكون له أجر بحسب اجتهاده، وأجر بسبب إصابة ما هو المقصود لنفسه، والخطأ الذي يناقض هذا هو أن يجتهد في حُجج الخصمين، فيظنّ
(1)
"المصباح المنير" 1/ 112.
(2)
"المفهم" 5/ 166 - 167.
(3)
"الفتح" 17/ 242 رقم (7352) بزيادة من غيره.
أن الحقّ لأحدهما، وذلك بحَسَب ما سَمع من كلامه وحجته، فيقضي له، وليس كذلك عند الله تعالى، فهذا له أجر اجتهاده خاصّةً؛ إذ لا إصابة، وهذا المعنى هو الذي أراده النبيّ صلى الله عليه وسلم بقوله:"فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجّته من بعض، فأقضي له على حسب ما أسمع"، وفي الأخرى:"فأحسب أنه صادق، فأقضي له"، وهذا في الحاكم بين الخصوم واضحٌ؛ لأنَّ هناك حقًّا معيّنًا عند الله تعالى، تنازعه الخصمان؛ لأنَّ أحد الخصمين مُبطلٌ قطعًا؛ لأنهما تقاسما الصدق والكذب، فمتى صَدَق أحدهما كذب الآخر، والحاكم إنما يجتهد في تعيين الحقّ، فقد يصيبه، وقد يُخطئه، وعلى هذا فلا ينبغي أن يُختَلَف هنا في أن المصيب واحدٌ، وأن الحقّ في طرف واحد، وإنما ينبغي أن يختصّ الخلاف بالمجتهد في استخراج الإحكام من أدلّة الشريعة؛ بناءً على الخلاف في أن النوازل غير المنصوص عليها، هل لله تعالى فيها أحكام معيّنة، أم لا؟، وللمسألة غور، وفيها أبحاث، استوفيناها في كتابنا في الأصول. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(1)
.
[تنبيه]: وقد ذُكر لحديث الباب سبب، فعن عبد الله بن عمرو بن العاص، عن أبيه:"قال: جاء رجلان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يختصمان، فقال لعمرو: اقض بينهما يا عمرو، قال: أنت أولى بذلك مني يا رسول الله، قال: وإن كان، قال: فإذا قضيتُ بينهما فما لي؟ " فذكر نحوه، لكن قال في الإصابة:"فلك عشر حسنات".
وعن عقبة بن عامر نحوه بغير قصة، بلفظ:"فلك عشرة أجور"، قال الحافظ: وفي سند كلّ منهما ضَعف، قال: ولم أقف على اسم من أُبهم في هذين الحديثين. انتهى
(2)
.
(1)
"المفهم" 5/ 167.
(2)
"الفتح" 17/ 242 - 243 رقم (7352).
[تنبيه]: حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا أخرجه النسائيّ رحمه الله في "المجتبى"، فقال:
(5381)
- أخبرنا إسحاق بن منصور، قال: حدّثنا عبد الرزاق، قال: أنبأنا معمر، عن سفيان، عن يحيى بن سعيد، عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا حكم الحاكم، فاجتهد، فأصاب، فله أجران، وإذا اجتهد، فأخطأ، فله أجر". انتهى
(1)
.
[تنبيه آخر]: رواية مسلم صريحة في كون حديث أبي هريرة رضي الله عنه متَّصلًا، وهكذا رواية البخاريّ، لكنه أشار بعدها إلى رواية الإرسال، حيث قال:"وقال عبد العزيز بن المطّلب، عن عبد الله بن أبي بكر، عن أبي سلمة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مثله".
قال في "الفتح": قوله: "وقال عبد العزيز بن المطلب"؛ أي: ابن عبد الله بن حنطب المخزوميّ قاضي المدينة، "وكنيته أبو طالب، وهو من أقران مالك، ومات قبله، وليس له في البخاريّ سوى هذا الموضع الواحد المعلَّق، وعبد الله بن أبي بكر، وهو ولد الراوي المذكور في السند الذي قبله، أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، وكان قاضي المدينة أيضًا.
قوله: "عن أبي سلمة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم " يريد أن عبد الله بن أبي بكر خالف أباه في روايته عن أبي سلمة، وأرسل الحديث الذي وصله، قال الحافظ: وقد وجدت ليزيد بن الهاد فيه متابعًا، أخرجه عبد الرزاق، وأبو عوانة من طريقه، عن معمر، عن يحيى بن سعيد، هو الأنصاريّ، عن أبي بكر بن محمد، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، فذكر الحديث مثله، بغير قصة، وفيه:"فله أجران اثنان"، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(1)
"سنن النسائيّ، المجتبى" 8/ 223، وأخرجه الترمذيّ أيضًا في "الجامع" برقم (1326).
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عمرو بن العاص، وأبي هريرة رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في "تخريجه":
أخرجه (المصنّف) هنا [6/ 4479 و 4480 و 4481](1716)، و (البخاريّ) في "الاعتصام"(7352)، و (أبو داود) في "الأقضية"(3574)، و (الترمذيّ) في "الإحكام"(1326)، و (النسائيّ) في "آداب القضاة"(8/ 223 - 224) و"الكبرى"(3/ 461)، و (ابن ماجة) في "الإحكام"(2314)، و (الشافعيّ) في "مسنده"(2/ 176 - 177)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 198 و 204 و 205)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(996)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5060 و 5061)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 167 - 168)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(3/ 292)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(10/ 359)، و (الدارقطنيّ) في "سننه"(4/ 204)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(10/ 119)، و (البغويّ) في "شرح السُّنّة"(2509)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان أن الحاكم إذا اجتهد يستحقّ أجرين، أجرًا على اجتهاده، وأجرًا على إصابته الحقّ، وإذا اجتهد، فأخطأ فله أجر على اجتهاده.
2 -
(ومنها): ما قاله النوويّ رحمه الله: قال العلماء: أجمع المسلمون على أن هذا الحديث في حاكم عالم أهل للحكم، فإن أصاب فله أجر باجتهاده، وأجر بإصابته، وإن أخطأ فله أجر باجتهاده، وفي الحديث محذوف، تقديره: إذا أراد الحاكم فاجتهد، قالوا: فأما من ليس بأهل للحكم، فلا يحل له الحكم، فإن حكم فلا أجر له، بل هو آثم، ولا ينفذ حكمه، سواء وافق الحق أم لا؛ لأنَّ إصابته اتفاقيّة، ليست صادرة عن أصل شرعي، فهو عاص في جميع أحكامه، سواء وافق الصواب أم لا، وهي مردودة كلها، ولا يُعذَر في
شيء من ذلك، وقد جاء في الحديث في "السنن":"القضاة ثلاثة: قاض في الجَنَّة، واثنان في النار: قاض عرف الحق، فقضى به، فهو في الجَنَّة، وقاض عرف الحق فقضى بخلافه، فهو في النار، وقاض قضى على جهل، فهو في النار".
3 -
(ومنها): ما قال ابن العربيّ رحمه الله: عندي في هذا الحديث فائدة زائدة حاموا عليها، فلم يُسْقَوا، وهي: أن الأجر على العمل القاصر على العامل واحد، والأجر على العمل المتعدي يضاعَف، فإنه يؤجر في نفسه، وينجرّ له كلّ ما يتعلق بغيره من جنسه، فإذا قضى بالحق، وأعطاه لمستحقه، ثبت له أجر اجتهاده، وجرى له مثل أجر مستحق الحق، فلو كان أحد الخصمين ألحن بحجته من الآخر، فقضى له والحق في نفس الأمر لغيره، كان له أجر الاجتهاد فقط. انتهى.
قال الحافظ - مؤيِّدًا لكلام ابن العربيّ المذكور -: وتمامه: أن يقال: ولا يؤاخذ بإعطاء الحقّ لغير مستحقه؛ لأنه لَمْ يتعمد ذلك، بل وِزر المحكوم له قاصر عليه، ولا يخفى أن محل ذلك أن يبذل وُسعه في الاجتهاد، وهو من أهله، وإلا فقد يَلْحَق به الوزر إن أخلّ بذلك، والله أعلم. انتهى
(1)
، وهو بحث نفيسٌ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في بيان شروط المجتهد:
قال العلّامة ابن قُدامة رحمه الله: يُشترط في القاضي ثلاثة شروط:
[أحدها]: الكمال، وهو نوعان: كمال الإحكام، وكمال الْخِلْقة:
أما كمال الإحكام فيُعتبر في أربعة أشياء: أن يكون بالغًا عاقلًا حرًّا ذكرًا، وحُكي عن ابن جرير أنه لا تشترط الذكورية؛ لأنَّ المرأة يجوز أن تكون مُفتية، فيجوز أن تكون قاضية، وقال أبو حنيفة: يجوز أن تكون قاضية في غير الحدود؛ لأنه يجوز أن تكون شاهدة فيه، ولنا قول النبيّ صلى الله عليه وسلم:"ما أفلح قوم وَلَّوا أمرهم امرأة"، ولأن القاضي يحضره محافل الخصوم والرجال، ويحتاج فيه إلى كمال الرأي، وتمام العقل والفطنة، والمرأة ناقصة العقل قليلة الرأي،
(1)
"الفتح" 17/ 243 - 244 رقم (7352).
ليست أهلًا للحضور في محافل الرجال، ولا تُقبل شهادتها، ولو كان معها ألف امرأة مثلها، ما لَمْ يكن معهنّ رجل، وقد نبَّه الله تعالى على ضلالهن ونسيانهن، بقوله تعالى:{أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} [البقرة: 282]، ولا تصلح للإمامة العظمى، ولا لتولية البلدان، ولهذا لَمْ يُوَلّ النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولا أحد من خلفائه، ولا مَنْ بَعدهم امرأة قضاءً، ولا ولاية بلدٍ فيما بَلَغنا، ولو جاز ذلك لَمْ يخلُ منه جميع الزمان غالبًا.
وأما كمال الخلقة: فأن يكون متكلمًا، سميعًا، بصيرًا؛ لأنَّ الأخرس لا يمكنه النطق بالحكم، ولا يفهم جميعُ الناس إشارته، والأصم لا يسمع قول الخصمين، والأعمى لا يعرف المدعي من المدعى عليه، والمُقَرّ له من المُقِرّ، والشاهد من المشهود له.
وقال بعض أصحاب الشافعي: يجوز أن يكون أعمي، لأنَّ شعيبًا عليه السلام كان أعمي، ولهم في الأخرس الذي تفهم إشارته وجهان.
ولنا أن هذه الحواس تؤثّر في الشهادة، فيَمنع فَقْدها ولاية القضاء كالسمع، وهذا لأنَّ منصب الشهادة دون منصب القضاء، والشاهد يشهد في أشياء يسيرة، يُحتاج إليها فيها، وربما أحاط بحقيقة علمها، والقاضي ولايته عامة، وَيحكم في قضايا الناس عامة، فإذا لَمْ يُقبل منه الشهادة، فالقضاء أَولى، وما ذكروه عن شعيب عليه السلام فلا نسلِّم فيه فإنه لَمْ يثبت أنه كان أعمى، ولو ثبت فيه ذلك، فلا يلزم ههنا، فإن شعيبًا عليه السلام كان مَنْ آمن معه من الناس قليلًا، وربما لا يحتاجون إلى حَكَم بينهم؛ لقلّتهم، وتناصفهم فلا يكون حجة في مسألتنا.
[الشرط الثاني]: العدالة، فلا يجوز تولية فاسق، ولا من فيه نقص يمنع الشهادة، وحُكي عن الأصم أنه قال: يجوز أن يكون القاضي فاسقًا؛ لِمَا رُوي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: "سيكون بعدي أمراء، يؤخرون الصلاة عن أوقاتها، فصَلّوها لوقتها، واجعلوا صلاتكم معهم سُبْحَة".
ولنا قول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} الآية [الحجرات: 6]، فأمر بالتبيّن عند قول الفاسق، ولا يجوز أن يكون الحاكم ممن لا يُقبل قوله، ويجب التبيّن عند حُكمه، ولأن الفاسق لا يجوز أن يكون
شاهدًا، فلئلا يكون قاضيًا أَولى، فأما الخبر فأخبر بوقوع كونهم أمراء، لا بمشروعيته، والنزاع في صحة توليته، لا في وجودها.
[الشرط الثالث]: أن يكون من أهل الاجتهاد، وبهذا قال مالك، والشافعيّ، وبعض الحنفية، وقال بعضهم: يجوز أن يكون عاميًّا، فيحكم بالتقليد؛ لأنَّ الغرض منه فصل الخصائم، فإذا أمكنه ذلك بالتقليد جاز، كما يَحكم بقول المقوِّمين. ولنا قول الله تعالى:{وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 49] ولم يقل بالتقليد، وقال:{لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} [النساء: 105]، وقال:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} الآية [النساء: 59]، ورَوَى بُريدة، عن رسول اللُّه صلى الله عليه وسلم أنه قال:"القضاة ثلاثة: اثنان في النار، وواحد في الجَنَّة: رجل عَلِم الحقّ فقضى به فهو في الجَنَّة، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار، ورجل جارَ في الحكم فهو في النار"، حديث صحيحٌ، رواه أبو داود، وابن ماجة، والعاميّ يقضي على جهل، ولأن الحُكم آكد من الفتيا؛ لأنه فتيا وإلزام، ثم المفتي لا يجوز أن يكون عاميًّا مقلِّدًا فالحُكم أَولى.
[فإن قيل]: فالمفتي يجوز أن يُخبِر بما سَمِع.
[قلنا]: نعم، إلَّا أنه لا يكون مفتيًا في تلك الحال، وإنما هو مخبِر، فيحتاج أن يخبر عن رجل بعينه، من أهل الاجتهاد، فيكون معمولًا بخبره، لا بفتياه، ويخالف قول معرفته المقولين؛ لأنَّ ذلك لا يُمْكن الحاكم معرفته بنفسه، بخلاف الحكم.
إذا ثبت هذا فمِن شَرْط الاجتهاد معرفة ستة أشياء: الكتاب، والسُّنَّة، والإجماع، والاختلاف، والقياس، ولسان العرب:
أما الكتاب فيحتاج أن يَعرف منه عشر أشياء: الخاص والعام، والمُطلَق والمقيَّد، والمحكَم والمتشابِه، والمُجمَل والمفسَّر، والناسخ والمنسوخ، في الآياتِ المتعلقة بالأحكام، وذلك نحو خمسمائة، ولا يلزمه معرفة سائر القرآن.
وأما السُّنَّة فيحتاج إلى معرفته ما يتعلق منها بالأحكام، دون سائر الأخبار، من ذكر الجَنَّة والنار والرقائق، ويحتاج أن يَعرف منها ما يَعرف من
الكتاب، ويزيد معرفة التواتر والآحاد، والمرسَل والمتصل، والمسنَد والمنقطع، والصحيح والضعيف، ويحتاج إلى معرفة ما أُجمع عليه وما اختُلف فيه، ومعرفة القياس وشروطه، وأنواعه، وكيفية استنباطه الإحكام، ومعرفة لسان العرب فيما يتعلق بما ذكرنا؛ ليتعرف به استنباط الإحكام من أصناف علوم الكتاب والسُّنَّة، وقد نصّ أحمد على اشتراط ذلك للفتيا والحكم في معناه.
[فإن قيل]: هذه شروط لا تجتمع، فكيف يجوز اشتراطها؟.
[قلنا]: ليس من شرطه أن يكون محيطًا بهذه العلوم إحاطة تجمع أقصاها، وإنما يحتاج إلى أن يعرف من ذلك ما يتعلق بالأحكام، من الكتاب والسُّنَّة ولسان العرب، ولا أن يحيط بجميع الأخبار الواردة في هذا، فقد كان أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما خليفتا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووزيراه، وخير الناس بعده في حال إمامتهما يُسألان عن الحكم فلا يعرفان ما فيه من السُّنَّة، يَسألا الناس فيُخْبَران، فسئل أبو بكر عن ميراث الجَدَّة، فقال: ما لك في كتاب الله شيء، ولا أعلم لك في سُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا، ولكن ارجعي حتى أسأل الناس، ثم قام، فقال: أنشد الله من يعلم قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجَدَّة، فقام المغيرة بن شعبة، فقال: أشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاها السدس.
وسأل عمر عن إملاص المرأة، فأخبره المغيرة بن شعبة، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قضى فيه بِغُرّة.
ولا يُشترط معرفة المسائل التي فرّعها المجتهدون في كُتُبهم، فإن هذه فروع فَرّعها الفقهاء بعد حيازة منصب الاجتهاد، فلا تكون شرطًا له، وهو سابق عليها، وليس من شرط الاجتهاد في مسألة أن يكون مجتهدًا في كلّ المسائل، بل من عرف أدلة مسألة، وما يتعلق بها فهو مجتهد فيها، وإن جهل غيرها كمن يعرف الفرائض وأصولها، ليس من شرط اجتهاده فيها معرفته بالبيع، ولذلك ما من إمام إلَّا وقد توقف في مسائل، وقيل: من يجيب في كلّ مسألة فهو مجنون، وإذا ترك العالم "لا أدري" أصيبت مَقَاتِله. وحُكي أن مالكًا سئل عن أربعين مسألة، فقال في ست وثلاثين منها: لا أدري، ولم يُخرِجه ذلك عن كونه مجتهدًا، وإنما المعتبَر أصول هذه الأمور، وهو مجموع مدوَّن
في فروع الفقه وأصوله، فمن عرف ذلك، ورُزق فهمه، كان مجتهدًا، له الفتيا، وولاية الحكم إذا وَلِيه، والله أعلم. انتهى كلام ابن قُدامة رحمه الله
(1)
، وهو بحث نفيس جدًّا. والله تعالى أعلم.
وقال الشوكانيّ رحمه الله: قال أيو عليّ الكرابيسيّ، صاحب الشافعيّ، في "كتاب أدب القضاء" له: لا أعلم بين العلماء ممن سلف خلافًا، أن أحق الناس أن يقضي بين المسلمين مَنْ بَانَ فضله، وصدقه، وعلمه، وورعه، وأن يكون عارفًا بكتاب الله، عالمًا بأكثر أحكامه، عالمًا بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم، حافظًا لأكثرها، وكذا أقوال الصحابة، عالمًا بالوفاق والخلاف، وأقوال فقهاء التابعين، يَعرف الصحيح من السقيم يتتبّع النوازل من الكتاب، فإن لَمْ يجد ففي السُّنَّة، فإن لَمْ يجد عَمِل بما اتفق عليه الصحابة، فإن اختلفوا فما وجده أشبه بالقرآن، ثم بالسُّنَّة، ثم بفتوى أكابر الصحابة عَمِل به، ويكون كثير المذاكرة مع أهل العلم، والمشاورة لهم، مع فضل، وورع، ويكون حافظًا للسانه ونُطقه وفرجه، فَهِمًا لكلام الخصوم، ثم لا بد أن يكون عاقلًا، مائلًا عن الهوي، ثم قال: وهذا وإن كنا نعلم أنه ليس على وجه الأرض أحد يجمع هذه الصفات، ولكن يجب أن يُطلب من أهل كلّ زمان أكملهم وأفضلهم.
وقال المهلّب: لا يكفي في استحباب القضاء أن يرى نفسه أهلًا لذلك، بل أن يراه الناس أهلًا له. وقال ابن حبيب، عن مالك: لا بد أن يكون القاضي عالمًا عاقلًا، قال ابن حبيب: فإن لَمْ يكن عِلمٌ فعقلٌ ووَرَع؛ لأنه بالورع يقف، وبالعقل يسأل، وهو إذا طلب العلم وجده، فإذا طلب العقل لَمْ يجده. انتهى.
وتعقّبه الشوكانيّ، قائلًا: ماذا يصنع الجاهل العاقل عند ورود مشكلات المسائل؟ وغاية ما يفيده العقل التوقف عند كلّ خصومة تَرِدُ عليه، وملازمة سؤال أهل العلم عنها، والأخذ بأقوالهم، مع عدم المعرفة لحقّها من باطلها، وما بهذا أمر الله عباده، فإنه أمر الحاكم أن يحكم بالحق، وبالعدل، وبالقسط، وبما أنزل، ومن أين لمثل هذا العاقل العاطل عن حلية الدلائل، أن يعرف
(1)
"المغني" 12/ 14 - 16.
حقية هذه الأمور؟ بل من أين له أن يتعقل الحجة إذا جاءته من كتاب أو سُنَّة، حتى يحكم بمدلولها؟ ثم قد عُرف اختلاف طبقات أهل العلم في الكمال والقصور، والإنصاف والاعتساف، والتثبت والاستعجال، والطيش والوقار، والتعويل على الدليل، والقنوع بالتقليد، فمن أين لهذا الجاهل العاقل معرفة العالي من السافل، حتى يأخذ عنه أحكامه، وينيط به حَلَّه وإبرامه؟ فهذا شيء لا يُعرف بالعقل، باتفاق العقلاء، فما حالُ هذا القاضي إلَّا كَحالِ من قال فيه من قال:
كَبَهِيمَةٍ عَمْيَاءَ قَادَ زِمَامَهَا
…
أَعْمَى عَلَى عِوَج الطَّرِيقِ الْحَائِرِ
انتهى كلام الشوكانيّ رحمه الله
(1)
وهو تحقيق حسن جدًّا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الخامسة): في اختلاف أهل العلم في: هل كلّ مجتهد مصيبٌ؟:
قال النوويّ رحمه الله: اختَلَفَ العلماءُ في أن كلّ مجتهد مصيب أم المصيب واحد؟ وهو من وافق الحكم الذي عند الله تعالى، والآخر مخطئ، لا إثم عليه؛ لِعُذره، والأصح عند الشافعيّ وأصحابه أن المصيب واحد، وقد احتجت الطائفتان بهذا الحديث، أما الأولون القائلون: كلّ مجتهد مصيب، فقالوا: قد جُعِل للمجتهد أجرٌ، فلولا إصابته لَمْ يكن له أجر، وأما الآخرون، فقالوا: سمّاه مخطئًا، ولو كان مصيبًا لَمْ يسمّه مخطئًا، وأما الأجر فإنه حصل له على تعبه في الاجتهاد، قال الأولون: إنما سماه مخطئًا؛ لأنه محمول على من أخطأ النص، أو اجتهد فيما لا يَسُوغ فيه الاجتهاد، كالمجمَع عليه وغيره، وهذا الاختلاف إنما هو في الاجتهاد في الفروع، فأما أصول التوحيد فالمصيب فيها واحد، بإجماع من يُعْتَدّ به، ولم يخالِف إلَّا عبد الله بن الحسن العنبريّ، وداود الظاهريّ، فصوّبا المجتهدين في ذلك أيضًا، قال العلماء: الظاهر أنهما أرادا المجتهدين من المسلمين، دون الكفار، والله أعلم. انتهى كلام النوويّ رحمه الله
(2)
.
(1)
"نيل الأوطار" 8/ 276 - 277.
(2)
"شرح النوويّ" 12/ 14.
وقال أبو بكر بن العربي رحمه الله: تعلق بهذا الحديث من قال: إن الحقّ في جهة واحدة؛ للتصريح بتخطئة واحد لا بعينه، قال: وهي نازلة في الخلاف عظيمة. وقال المازريّ رحمه الله: تمسّك به كلٌّ من الطائفتين: من قال: إن الحق في طرفين، ومن قال: إن كل مجتهد مصيب، أما الأُولى: فلأنه لو كان كلٌّ مصيبًا، لم يُطلق على أحدهما الخطأ؛ لاستحالة النقيضين في حالة واحدة، وأما المصوِّبة، فاحتجوا بأنه صلى الله عليه وسلم، جعل له أجرًا، فلو كان لم يُصِب لم يؤجَر، وأجابوا عن إطلاق الخطإ في الخبر على مَن ذَهِل عن النص، أو اجتهد فيما لا يسوغ الاجتهاد فيه، من القطعيات فيما خالف الإجماع، فإن مثل هذا إن اتفق له الخطأ فيه فُسخ حكمه وفتواه، ولو اجتهد بالإجماع، وهو الذي يصح عليه إطلاق الخطأ، وأما من اجتهد في قضية، ليس فيها نص، ولا إجماع، فلا يُطلق عليه الخطأ. وأطال المازريّ في تقرير ذلك، والانتصار له، وختم كلامه بأن قال: إن من قال: إن الحق في طرفين، هو قول أكثر أهل التحقيق، من الفقهاء، والمتكلمين، وهو مروي عن الأئمة الأربعة، وإن حُكي عن كل منهم اختلاف فيه.
قال الحافظ رحمه الله: والمعروف عن الشافعيّ رحمه الله الأول. انتهى
(1)
.
وقال القرطبيّ في "المفهم": الحكم المذكور ينبغي أن يختص بالحاكم بين الخصمين؛ لأن هناك حقًّا معيَّنًا في نفس الأمر، يتنازعه الخصمان، فإذا قُضِي به لأحدهما بَطَل حقّ الآخر قطعًا، وأحدهما فيه مُبطل لا محالة، والحاكم لا يطّلع على ذلك، فهذه الصورة لا يُختَلَف فيها أن المصيب واحد؛ لكون الحقّ في طرف واحد، وينبغي أن يختص الخلاف بأن المصيب واحد؛ إذ كل مجتهد مصيب بالمسائل التي يُستخرج الحقّ منها بطريق الدلالة. انتهى، وإلى هذه المسألة أشار السيوطيّ رحمه الله في "الكوكب الساطع"، حيث قال:
وَاحِدٌ الْمُصِيبُ فِي أَحْكَامِ
…
عَقْلِيَّةٍ وَمُنكِرُ الإسْلَامِ
مُخْطٍ أَثِيمٌ كَافِرٌ لَمْ يُعْذَرِ
…
وَقَدْ رَأَى الْجَاحِظُ ثُمَّ الْعَنْبَرِي
لَا إِثْمَ فِي الْعَقْلِيِّ ثُمَّ الْمُنْتَقَى
…
إِنْ يَكُ مُسْلِمًا وَقِيلَ مُطْلَقَا
(1)
"فتح" 15/ 259.
وَقِيلَ زَادَ الْعَنْبَرِي كُلٌّ مُصِيبْ
…
وَفِي الَّتِي لَا قَاطِعٌ فِيهَا مُصِيبْ
كُلٌّ لِذِي صَاحِبَي النُّعْمَانِ
…
وَالْبَازِ وَالشَّيْخِ وَبَاقِلَّانِي
فَذَانِ قَالَا إِنَّ حُكْمَ اللهِ
…
تَابِعُ ظَنِّهِ بِلَا اشْتِبَاهِ
وَالأَوَّلُونَ ثَمَّ أَمْرٌ لَوْ حَكَمْ
…
كَانَ بِهِ مَنْ لَمْ يُصَادِفْهُ اتَّسَمْ
أَصَابَ لَا حُكْمًا وَلَا انْتِهَاءَ
…
بَلِ اجْتِهَادًا فِيهِ وَابْتِدَاءَ
وَالأَكْثَرُونَ وَاحِدٌ وَفِيهِ
…
لِلهِ حُكْمٌ قَبْلَهُ عَلَيْهِ
أَمَارَةٌ وَقِيلَ لَا وَالْمُعْتَمَدْ
…
كُلِّفَ أَنْ يُصِيبَهُ مَنِ اجْتَهَدْ
وَأَنَّ مَنْ أَخْطَأَهُ لَا يَأْثَمُ
…
بَلْ أَجْرُهُ لِقَصْدِهِ مُنْحَتِمُ
وَفَرْدٌ الْمُصِيبُ بِالإِجْمَاعِ
…
مَعْ قَاطِعٍ وَقِيلَ بِالنِّزَاعِ
وَنَفْيُ إِثْمِ مُخْطِيءٍ ذُو الانْتِقَا
…
وَإِنْ يُقَصِّرْ فَعَلَيْهِ اتُّفِقَا
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الأرجح ما ذهب إليه الأكثرون، وهو ما دلّ عليه ظاهر الحديث من أن المصيب واحد، وأن الآخر المخطئ معذور مأجور بأجر واحد؛ لاجتهاده، وقد حققت المسألة، وفصّلتها في "التحفة المرضيّة"، وشَرْحها، فراجعها تستفد علمًا جمًّا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة السادسة): في الاجتهاد، والمجتهد على ما ذُكر في كتب أصول الفقه:
الاجتهاد لغةً: بذل الجهد فيما فيه كُلْفة، وهو مأخوذ من جهاد النفس، وكدّها في طلب المراد، وفي الاصطلاح: بذل الفقيه الوسع لتحصيل ظنّ بحكم، قاله في "جمع الجوامع"، زاد ابن الحاجب: والمراد ببذل الوسع: بذل تمام الطاقة في النظر في الأدلّة بحيث تُحسّ النفس بالعجز عن الزيادة، وإلى هذا التعريف أشار في "الكوكب الساطع" بقوله:
بَذْلُ الْفَقِيهِ الْوُسْعَ فِي تَحْصِيلِ
…
ظَنٍّ بِالأحْكَامِ مِنَ الدَّلِيلِ
فخرج بذل غير الفقيه، وبذل الفقيه لتحصيل قطعٍ بحكم عقليّ. والمراد بالفقيه هنا: المتهيّئ للفقه مجازًا شائعًا، ويكون بما يُحصّله فقيهًا حقيقةً.
والمجتهد: هو الفقيه، وشرطوا له أن يكون بالغًا عاقلًا، فقيه النفس؛ أي: شديد الفهم بالطبع لمقاصد الكلام، بحيث يكون له قدرة على التصرّف؛
لأن غيره لا يتأتى له الاستنباط المقصود بالاجتهاد، عارفًا بالدليل العقليّ، وهو البراءة الأصليّة، وبأنا مكلّفون بالتمسّك به ما لم يَرِد ناقل عنه، متوسّطًا في معرفة الآلات من اللغة، والنحو إعرابًا وتصريفًا، وأصول الفقه، والمعاني، والبيان؛ لتوقّف الاستنباط عليها، وأن يعرف من الكتاب والسُّنّة ما يتعلّق بالأحكام، ولا يُشترط حفظها، وقال السبكيّ: لا يكفي في المجتهد التوسط في العلوم المذكورة، بل لا بدّ أن تكون هذه العلوم مَلَكة له، ويكون مع ذلك قد أحاط بمعظم قواعد الشرع، ومارسها بحيث اكتسب قوّةً، يفهم بها مقاصد الشرع، قال: وأن يعرف مواقع الإجماع، كي لا يخرقه بالمخالفة، فخَرْقه حرام، وقال الشيخ وليّ الدين: ولا يُشترط حفظها، بل يكفي معرفته بأن ما أفتى به ليس مخالفًا للإجماع، إما بأن يَعلم موافقته لعالم، أو يظنّ أن تلك الواقعة حادثة لم يَسبق لأهل الأعصار المتقدّمة فيها كلام، وأن يعرف أسباب النزول، والناسخ والمنسوخ، والأحاديث الصحيحة من الضعيفة، والمتواتر من الآحاد، وحال الرواة جرحًا وتعديلًا، ومراتب الجرح والتعديل، ويكتفي في هذا وما قبله بالكتب المصنّفة في ذلك، والرجوع إلى أئمة هذا الشأن، ولا يُشترط معرفة تفاريع الفقه، ولا معرفة علم الكلام، ولا الحرية، ولا الذكورة، قيل: ولا العدالة.
وبالجملة فالاجتهاد مرتبة صعبة المنال، عزيزة الإدراك، لا ينالها إلا من يسّر الله سبحانه وتعالى عليه أسبابها، ولا ينبغي أن يدّعيه كلّ من انتسب إلى العلم، بل الواجب على من لم يتّصف بصفة الاجتهاد أن يقف عند حدّه، وهو أن يسأل العلماء، كما قال عز وجل:{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43، الأنبياء: 7]، ومع هذا فليس الاجتهاد محصورًا في فئة معيّنة، ولا في عصر معيّن، كما سيأتي تحقيقه قريبًا، إن شاء الله تعالى. وإلى ما تقدّم من شروط المجتهد أشار في "الكوكب الساطع" حيث قال:
ثُمَّ الْفَقِيهُ اسْمٌ عَلَى الْمُجْتَهِدِ
…
الْبَالِغِ الْعَاقِلِ وَالْعَقْلَ احْدُدِ
مَلَكَةٌ يُدْرَكُ مَعْلُومٌ بِهَا
…
وَقِيلَ الإدْرَاكُ وَقِيلَ مَا انْتَهَى
إِلَى الضَّرُورِيِّ فَقِيهُ النَّفْسِ لَوْ
…
يَنْفِي الْقِيَاسَ لَوْ جَلِيًّا قَدْ رَأَوْا
يَدْرِي دَلِيلَ الْعَقْلِ وَالتَّكْلِيفَ بِهْ
…
حَلَّ مِنَ الآلَاتِ وُسْطَى رُتَبِهْ
مِنْ لُغَةٍ وَالنَّحْوِ وَالْمَعَانِي
…
وَمِنْ أُصُولِ الْفِقْهِ وَالْبَيَانِ
وَمِنْ كِتَابٍ وَالأَحَادِيثِ الَّتِي
…
تَخُصُّ الَاحْكَامَ بِدُونِ حِفْظِ ذِي
وَحَقَّقَ السُّبْكِيُّ أَنَّ الْمُجْتَهِدْ
…
مَنْ هَذِهِ مَلَكَةٌ لَهُ وَقَدْ
أَحَاطَ بِالْمُعْظَمِ مِنْ قَوَاعِدِ
…
حَتَّى ارْتَقَى لِلْفَهْمِ لِلْمَقَاصِدِ
وَلْيُعْتَبَرْ قَالَ لِفِعْلِ الاجْتِهَادْ
…
لَا كَوْنِهِ وَصْفًا غَدَا فِي الشَّخْصِ بَادْ
أَنْ يَعْرِفَ الإِجْمَاعَ كَيْ لَا يَخْرِقَهْ
…
وَسَبَبَ النُّزُولِ قُلْتُ أطْلَقَهْ
وَنَاسِخَ الْكُلِّ وَمَنْسُوخًا وَمَا
…
صُحِّحَ وَالآحَادَ مَعْ ضِدِّهِمَا
وَحَالَ رَاوِي سُنَّةٍ وَنَكْتَفِي
…
الآنَ بِالرُّجُوعِ لِلْمُصَنَّفِ
لَا الْفِقْهُ وَالْكَلَامُ وَالْحُرِّيَّةُ
…
وَلَا الذُّكُورَةُ وَلَا الْعَدَالَةُ
وَالْبَحْثَ عَنْ مُعَارِضٍ فَلْيَقْتَفِي
…
وَاللَّفْظِ هَلْ مَعْهُ قَرِينَةٌ تَفِي
والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة السابعة): في تقسيمهم المجتهد إلى قسمين:
قال أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله: المجتهد ضربان:
[أحدهما]: المجتهد المطلق، وهو المستقلّ باستنباط الأحكام من أدلّتها، فهذا لا شكّ في أنه مجتهد مأجور، كما قدّمناه، لكنه يعِزّ وجوده، بل قد انعدم في هذه الأزمان، فلو لم يَنْفذ إلا حكم من كان كذلك، لتعطّلت الأحكام، وضاعت الحقوق.
[وثانيهما]: مجتهد في مذهب إمام، وهذا غالب قُضاة العدل في هذا الزمان، وشرطُ هذا أن يُحقّق أصول إمامه، وأدلّته، وينزل أحكامه عليها فيما لم يجده منصوصًا من مذهبه، وأما ما وجده منصوصًا، فإن لم يختلف قول إمامه عمل على ذلك النصّ، وقد كُفي مؤنة البحث، والأَولى به تعرّف وجه ذلك الحكم.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا التعرّف ليس بأَولى، وإنما الأولى بل الواجب عليه ما دام أهلًا للنظر في الأدلّة أن ينظر فيها حتى يظهر له وجه الحكم، فلا يجوز له أن يكتفي بمجرّد التقليد، فتبصّر. والله تعالى أعلم.
قال: وأما إذا اختلف قول إمامه، فهناك يجب عليه البحث في تعيين
الأَولى من القولين على أصول إمامه، واختلف أصحابنا فيمن يحفظ أقوالَ إمامه فقط، هل يصلح للحكم عند الضرورة أو لا؟ على قولين، فمن أجاز شَرَط فيه أنه لا يخرج عن نصوص إمامه، أو نصوص من فَهِم عن إمامه، فإذا تعارض عنده الأقوال لم يحكم بشيء منه أصلًا حتى يسأل عن الأرجح مَنْ له أهليّة الترجيح، ولا يَحكم بنظره أصلًا، إذ لا نظر له، ومتى فعل شيئًا من ذلك كان حكمه منقوضًا، وقوله مردودًا. وقد كان أهل الأندلس يرجّحون الأقوال بالناقلين لها من غير نظر في توجيه شيء منها، فيقولون: إن قول ابن القاسم، ونَقْله أَولى من نَقْل غيره، وقوله؛ بناءً على أن ابن القاسم اقتصر على مالك، ولم يتفقّه بغيره، ولطول ملازمته له، فإن لم نجد لابن القاسم قولًا كان قول أشهب أَولى من قول ابن عبد الحكم؛ لأنه أخذ عن الشافعيّ، فخلّط، وهكذا، وقد بلغني أنهم كانوا بالأندلس يشترطون على القضاة في سجلّاتهم مراعاة ذلك الترتيب.
قال القرطبيّ: وهذه رتبة لا أخسّ منها؛ إذ صاحبها معزول عن رتبة الفقهاء، ومنخرطٌ في زمرة الأغبياء، إذ لا يفهم معاني الأقوال، ولا يعرف فَصْل ما بين الحلال والحرام، فَحَقُّ هذا أن لا يتعاطى منصب الأحكام، فإنه من جملة العوامّ، والمشهور أنه لا يُستقضى مَن عرِي عن الاجتهاد المذكور، ولذلك قال القاضي أبو محمد عبد الوهّاب: ولا يُستقضى إلا فقيه من اْهل الاجتهاد، وهذا محمول على ما تقدّم. والله تعالى أعلم.
والاجتهاد المعنيّ في هذا الباب هو: بذل الوسع في طلب الحكم الشرعيّ في النوازل على ما قلناه. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي نقله القرطبيّ عن الأندلسيين قولٌ ظاهر البطلان، كما أشار إليه القرطبيّ في تعقّبه المذكور، فقد أجاد، وأحسن. والله تعالى أعلم.
وقد قسم النوويّ في "شرح المهذب"
(2)
المفتين إلى قسمين: مستقلّ، وغير مستقلّ، ثم ذكر شرط المستقلّ، وهو المجتهد المطلق، ثم قال:
(1)
"المفهم" 5/ 168 - 169.
(2)
"شرح المهذب" 1/ 75 - 77.
[القسم الثاني]: المفتي الذي ليس بمستقلّ، ومِن دَهْر طويل عُدم المفتي المستقلّ، وصارت الفتوى إلى المنتسبين إلى المذاهب المتبوعة، وللمفتي المنتسب أربعة أحوال:
[أحدها]: أن لا يكون مقلّدًا لإمامه، لا في المذهب، ولا في دليله؛ لاتصافه بصفة المستقلّ، وإنما يُنسب إليه لسلوكه طريقه في الاجتهاد.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: يا للعجب! ما فائدة عدّ مثل هذا من المنتسبين؟، أفما يَحْسُن أن يقال: هو مجتهد مستقلّ، له آراؤه مثل الإمام الذي تفقّه عليه، وتخرّج من مدرسته؟ فما المانع من هذا؟ حتى يقال له: إنه منتسب إلى مذهب فلان، إن هذا لهو العجب العجاب.
ثم قال: [الحالة الثانية]: أن يكون مجتهدًا مقيَّدًا في مذهب إمامه، مستقلًّا بتقرير أصوله بالدليل، غير أنه لا يتجاوز في أدلّته أصول إمامه وقواعده، وشَرْطه كونه عالمًا بالفقه وأصوله، وأدلّة الأحكام تفصيلًا، بصيرًا بمسالك الأقيسة والمعاني، تامّ الارتياض في التخريج والاستنباط، قيّمًا بإلحاق ما ليس منصوصًا عليه لإمامه بأصوله، ولا يَعرَى عن شوب تقليد له، لإخلاله ببعض أدوات المستقلّ، بأن يُخلّ بالحديث، أو العربيّة، وكثيرًا ما أخلّ بهما المقيَّد، ثم يتّخذ نصوص إمامه أصولًا يَستنبط منها، كفعل المستقلّ بنصوص الشرع، وربّما اكتفى في الحكم بدليل إمامه، ولا يبحث عن معارض كفعل المستقلّ في النصوص، وهذه صفة أصحابنا أصحاب الوجوه
…
إلى آخر كلامه.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي قاله النوويّ فيه نظرٌ من وجوه:
[الأول]: قولهم: فُقِد المجتهد المستقلّ من دهر طويل قولٌ لا برهان له، وهو نظير قول بعضهم: إن شرائط المجتهد التي ذكروها في هذا الباب لم توجد منذ أن نشأ الإسلام إلى الآن إلا في الأئمة الأربعة، وهو كلام يكذّبه الواقع في كلّ عصر ومصر، فقد وُجد ممن يتّصف بمثل أوصافهم، كثيرون ممن عاصرهم، أو سبقهم، أو تأخر عنهم، وإنما ميزتهم أن أتباعهم أكثر من غيرهم.
[الثاني]: أن الشروط التي ذكرها النوويّ للمجتهد المقيّد هي الشروط
المذكورة للمطلَق إلا التي استثناها أخيرًا، وهي موجودة بكثرة في كثير من الأعصار عند كثير من أهل العلم.
[الثالث]: قوله: لا يتجاوز في أدلّته أصول إمامه قولٌ لا يخفى فساده، فإن من كان بهذه الرتبة لا يجوز له أن يقلّد أحدًا، دون شكّ، ولا ريب؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال في محكم كتابه:{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43، الأنبياء: 7]، فقد قَسَم الناس إلى قسمين: عالم، وجاهل، فأما العالم فواجبه العمل بعلمه، لا بعلم غيره، وأما الجاهل فواجبه أن يسأل أهل العلم، فيعمل بما أفتوه به، وهذا الشخص الذي وصفه النوويّ بهذه الأوصاف العليّة لا أحد ممن له وعيٌ يقول: إنه من القسم الثاني، فوجب كونه من القسم الأول، فلا يجوز له أن يقلّد أحدًا غيره، بل يجب عليه العمل بعلمه.
[الرابع]: أن هذا التقسيم الذي ذكروه للمجتهد ليس قولَ أحد من علماء السلف، لا الإمام الشافعيّ، ولا غيره من الأئمة، بل كانوا ينهون تلاميذهم الذين جعلهم المتأخرون مجتهدين في المذهب، كالمزنيّ، وغيره أن يقلّدوهم، كما هو معروف في سِيَرِهم، وتراجمهم رحمهم الله تعالى.
[الخامس]: أن هذا الكلام مناقض لِمَا ثبت في أصول الفقه من تعريف التقليد بأنه: الأخذ بقول الغير من غير معرفة دليله، فإن من الواضح أن من وَصَفه النوويّ بهذه الصفات قد عرف أدلّة إمامه: منطوقها، ومفهومها، واستطاع أن يستخرج من منصوصها ما لم ينصّ عليه إمامه، فكيف يسمّى هذا مقلِّدًا؟، هيهات هيهات.
[السادس]: أن من توافرت فيه هذه الصفات التي ذكرها النوويّ للمقيّد حسب زعمه لو اجتهد بدراسة النصوص من الكتاب والسُّنَّة، مراعيًا ما يُراعيه في دراسة نصوص إمامه كما ذكره النوويّ في كلامه السابق، باذلًا جهده كلّ البذل، لاستطاع أن يستنبط الأحكام منها، بل الآيات القرآنيّة، والأحاديث النبويّة أسهل على مثله بكثير من كلام الأئمة، وهذا لا يُنكره إلا مقلّد جامد، أو متعصّب معاند.
والحاصل أن هذه المزاعم مجرّد خيال، لا رَوَاج لها في سوق التحقيق، بل هي آراء متناقضة، ينقضى بعضها بعضًا، كما أشرنا إليه آنفًا، وعوائق صادّة
عن إعمال ما آتى الله تعالى بعض عباده من الفهم، والعلم في استنباط الأحكام من كتاب الله سبحانه وتعالى، ومن سُنَّة نبيّه صلى الله عليه وسلم، وصرفٌ لِهمّته إلى الاشتغال برأي فلان، وفلان، وتزهيدٌ لكثير ممن له قريحة صافية، وهمّة عالية عن الانتفاع بنصوص الكتاب والسُّنَّة.
وبالجملة فالعلم مواهب من الله تعالى، ولا تَقِف مواهبه سبحانه وتعالى عند أحد، ولا يحدّها زمان، ولا يقيّدها مكان، {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (269)} [البقرة: 269] {وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [البقرة: 105]، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الثامنة): في اختلاف أهل العلم: هل يجوز خلوّ العصر عن المجتهدين، أم لا؟، وهي مكمّلة للبحث المذكور في المسألة السابقة:
ولقد أجاد الشوكانيّ رحمه الله في كتابه "إرشاد الفحول" حيث نقل أقوال العلماء في ذلك، مع المناقشة لها، فقال:
ذهب جَمْع إلى أنه لا يجوز خلوّ الزمان عن مجتهد، قائم بحجج الله، يبيّن للناس ما نُزّل إليهم، قال بعضهم: ولا بدّ أن يكون في كلّ قطر من يقوم به الكفاية؛ لأن الاجتهاد من فروض الكفايات، قال ابن الصلاح: الذي رأيته في كلام الأئمة يُشعر بأنه لا يتأتّى فرض الكفاية بالمجتهد المقيّد، قال: والظاهر أنه لا يتأتّى في الفتوى. وقال بعضهم: الاجتهاد في حقّ العلماء على ثلاثة أضرب: فرض عين، وفرض كفاية، وندب: فالأول: على حالين: اجتهاد في حقّ نفسه عند نزول الحادثة. والثاني: اجتهاد فيما تعيّن عليه الحكم فيه، فإن ضاق فَرْضُ الحادثة كان على الفور، وإلا كان على التراخي. والثاني: على حالين: أحدهما: إذا نزلت بالمستفتي حادثة، فاستفتى أحد العلماء، توجّه الفرض على جميعهم، وأَخَصّهم بمعرفتها من خُصّ بالسؤال عنها، فإن أجاب هو أو غيره سقط الفرض، وإلا أثموا جميعًا. والثاني: أن يتردّد الحكم بين قاضيين مشترِكَين في النظر، فيكون فرض الاجتهاد مشتركًا بينهما، فأيهما تفرّد بالحكم فيه سقط فرضه عنها. والثالث: على حالين:
أحدهما: فيما يَجتهد فيه العالم من غير النوازل، يسبق إلى معرفة حكمه قبل نزوله. والثاني: أن يستفتيه قبل نزولها. انتهى.
ولا يخفاك أن القول بكون الاجتهاد فرضًا يستلزم عدم خلوّ الزمان عن مجتهد، ويدلّ على ذلك ما صحّ عنه صلى الله عليه وسلم من قوله:"لا تزال طائفة من أمّتي على الحقّ، ظاهرين حتى تقوم الساعة". متّفقٌ عليه وقد حَكَى الزركشيّ في "البحر" عن الأكثرين أنه يجوز خلوّ العصر عن المجتهد، وبه جزم صاحب "المحصول". قال الرافعيّ: الخَلْق كالمتّفقين على أنه لا مجتهد اليوم. قال الزركشيّ: ولعله أخذه من كلام الإمام الرازيّ، أو من قول الغزاليّ في "الوسيط": قد خلا العصر عن المجتهد المستقلّ. قال الزركشيّ: ونقلُ الاتفاق عجيب، والمسألة خلافيّة بيننا وبين الحنابلة، وساعدهم بعض أئمتنا، والحقّ أن الفقيه الفطن للقياس كالمجتهد في حقّ العاميّ، لا الناقل فقط. وقالت الحنابلة: لا يجوز خلوّ العصر عن مجتهد، وبه جزم الأستاذ أبو إسحاق، والزبيريّ، ونسبه أبو إسحاق إلى الفقهاء، قال: ومعناه: أن الله تعالى لو أخلى زمانًا من قائم بحُجة زال التكليف، إذ التكليف لا يثبت إلا بالحجة الظاهرة، وإذا زال التكليف بطلت الشريعة. قال الزبيريّ: لن تخلو الأرض من قائم بالحجة في كلّ وقت ودهر وزمان، وذلك قليل في كثير، فأما أن يكون غير موجود كما قال الخصم، فليس بصواب؛ لأنه لو عُدم الفقهاء لم تقم الفرائض كلّها، ولو عُطِّلت الفرائض كلها لحلّت النقمة بالخَلْق، كما جاء في الخبر:"لا تقوم الساعة إلا على شرار الناس". رواه مسلم. ونحن نعوذ بالله أن نؤخَّر مع الأشرار. انتهى.
قال ابن دقيق العيد رحمه الله: هذا هو المختار عندنا، لكن إلى الحدّ الذي ينتقض به القواعد، بسبب زوال الدنيا في آخر الزمان. وقال في "شرح خطبة الإلمام": والأرض لا تخلو من قائم لله بالحجة، والأمة الشريفة لا بدّ لها من سالك إلى الحقّ على واضح الحجة، إلى أن يأتي أمر الله في أشراط الساعة الكبرى. انتهى.
وما قاله الغزاليّ رحمه الله من أنه قد خلا العصر عن المجتهد، قد سبقه إلى القول به القفّال، ولكنه ناقض ذلك، فقال: إنه ليس بمقلّد للشافعيّ، وإنما
وافق رأيه رأيه، كما حَكَى ذلك عنه الزركشيّ، وقال: قول هؤلاء القائلين بخلوّ العصر عن المجتهد مما يُقضَى منه العجب، فإنهم إن قالوا ذلك باعتبار المعاصرين لهم، فقد عاصر القفّال، والغزاليّ، والرازيّ، والرافعيّ من الأئمة القائمين بعلوم الاجتهاد على الوفاء والكمال جماعة منهم، ومن كان له إلمام بعلم التاريخ، واطّلاع على أحوال علماء الإسلام في كلّ عصر لا يخفى عليه مثل هذا، بل قد جاء بعدهم من أهل العلم من جمع الله له من العلوم فوق ما اعتبره أهل العلم في الاجتهاد.
وإن قالوا ذلك، لا بهذا الاعتبار، بل باعتبار أن الله عز وجل رفع ما تفضّل به على مَنْ قَبْل هؤلاء من هذه الأمة من كمال الفهم، وقوّة الإدراك، والاستعداد للمعارف، فهذه دعوى من أبطل الباطلات، بل هي جهالة من الجهالات.
وإن كان ذلك باعتبار تيسّر العلم لمن قَبْل هؤلاء المنكرين، وصعوبته عليهم، وعلى أهل عصورهم، فهذه أيضًا دعوى باطلة، فإنه لا يخفى على من له أدنى فهم أن الاجتهاد قد يسّره الله للمتأخّرين تيسيرًا لم يكن للسابقين؛ لأن التفاسير للكتاب العزيز قد دُوّنت، وصارت في الكثرة إلى حدّ لا يمكن حصره، والسُّنَّة المطهّرة قد دُوّنت، وتكلّم الأئمة على التفسير، والترجيح، والتصحيح، والتجريح بما هو زيادة على ما يحتاج إليه المجتهد، وقد كان السلف الصالح، ومَنْ قَبْل هؤلاء المنكرين يرحل للحديث الواحد من قُطر إلى قطر، فالاجتهاد على المتأخّرين أيسر، وأسهل من الاجتهاد على المتقدّمين، ولا يخالف في هذا من له فهم صحيح، وعقلٌ سويّ.
وإذا أمعنت النظر وجدت هؤلاء المنكرين، إنما أوتوا من قبل أنفسهم، فإنهم لمّا عكفوا على التقليد، واشتغلوا بغير علم الكتاب والسُّنّة، حكموا على غيرهم بما وقعوا فيه، واستصعبوا ما سهّله الله تعالى على من رزقه العلم والفهم، وأفاض على قلبه أنواع علوم الكتاب والسُّنّة، ولَمّا كان هؤلاء الذين صرّحوا بعدم وجود المجتهدين شافعيّة، فها نحن نوضّح لك من وُجد من الشافعيّة بعد عصرهم ممن لا يخالف مخالف في أنه جمع أضعاف علوم الاجتهاد. فمنهم: ابن عبد السلام، وتلميذه ابن دقيق العيد، ثم تلميذه ابن
سيّد الناس، ثم تلميذه زين الدين العراقيّ، ثم تلميذه ابن حجر العسقلانيّ، ثم تلميذه السيوطيّ، فهؤلاء ستة أعلام، كلّ واحد منهم تلميذ مَنْ قَبْله، قد بلغوا من المعارف العلميّة ما يعرفه من يعرف مصنّفاتهم حقّ معرفتها، وكلّ واحد منهم إمام كبير في الكتاب والسُّنّة، محيط بعلوم الاجتهاد، إحاطةً متضاعفة، عالم بعلوم خارجة عنها.
ثم في المعاصرين لهؤلاء كثير من المماثلين لهم، وجاء بعدهم مَنْ لا يقصر عن بلوغ مراتبهم، والتعداد لبعضهم، فضلًا عن كلّهم يحتاج إلى بسط طويل. وقد قال الزركشيّ في "البحر المحيط" 6/ 209 ما لفظه: ولم يختلف اثنان في أن ابن عبد السلام بلغ رتبة الاجتهاد، وكذلك ابن دقيق العيد. انتهى.
وحكاية هذا الإجماع من هذا الشافعيّ يكفي في مقابلة حكاية الاتفاق من ذلك الشافعيّ الرافعيّ.
وبالجملة فتطويل البحث في مثل هذا لا يأتي بكثير فائدة، فإن أَمْره أوضح من كلّ واضح، وليس ما يقوله من كان من أُسراء التقليد بلازم لمن فتح الله عليه أبواب المعارف، ورزقه من العلم ما يخرُج به عن تقليد الرجال، وما هذه بأوّل فاقرة جاء بها المقلّدون، ولا هي بأول مقالة قالها المقصّرون، ومن حصر فَضْل الله تعالى على بعض خلقه، وقَصَر فَهْم هذه الشريعة المطهّرة على من تقدّم عصره، فقد تجرّأ على الله عز وجل، ثم على شريعته الموضوعة لكلّ عباده، ثم على عباده الذين تعبّدهم الله تعالى بالكتاب والسُّنّة.
ويا لله العجب من مقالات هي جهالات وضلالات، فإن هذه المقالة تستلزم رفع التعبّد بالكتاب والسُّنّة، وأنه لم يبق إلا تقليد الرجال الذين هم متعبَّدون بالكتاب والسُّنّة، كتعبّد من جاء بعدهم على حدّ سواء، فإن كان التعبّد بالكتاب والسُّنّة مختصًّا بمن كانوا في العصور السابقة، ولم يبق لهؤلاء إلا التقليد لمن تقدّمهم، ولا يتمكّنون من معرفة أحكام الله من كتاب الله عز وجل، وسُنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم فما الدليل على هذه التفرقة الباطلة، والمقالة الزائفة؟، وهل النسخ إلا هذا، {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} [النور: 16] انتهى كلام الشوكانيّ رحمه الله في كتابه النفيس: "إرشاد الفحول إلى تحقيق الحقّ من علم
الأصول"
(1)
، وهو كلام نفيس، وبحث أنيس.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: وبالجملة فهذا التحقيق الذي أفاض به الإمام المحقق الشوكانيّ رحمه الله هو الحق الحقيق بالقبول، وما خالفه هو التهور المخذول، فعليك باتباع الحقّ، وإن قلّ أصحابه، واجتناب الباطل، وإن كَثُر أحزابه، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل، اللهم أرنا الحقّ حقًّا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلًا، وارزقنا اجتنابه، آمين.
وإلى الاختلاف في خلوّ العصر عن مجتهد أشار السيوطيّ رحمه الله في "الكوكب الساطع" حيث قال:
جَازَ خُلُوُّ الْعَصْرِ عَنْ مُجْتَهِدِ
…
وَمُطْلَقًا يَمْنَعُ قَوْمُ أَحْمَدِ
وَابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ لَا إِنْ أَتَتِ
…
أَشْرَاطُهَا وَالْمُرْتَضَى لَمْ يَثْبُتِ
والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4480]
(
…
) - (وَحَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عُمَرَ، كِلَاهُمَا عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مُحَمَّدٍ، بِهَذَا الإِسْنَادِ مِثْلَهُ، وَزَادَ فِي عَقِبِ الْحَدِيثِ: قَالَ يَزِيدُ: فَحَدَّثْتُ هَذَا الْحَدِيثَ
(2)
أَبَا بَكْرِ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، فَقَالَ: هَكَذَا حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ).
رجال هذا الإسناد: ثلاثة:
1 -
(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه، تقدّم في الباب الماضي.
2 -
(مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عُمَرَ) العدنيّ، ثم المكيّ، تقدّم أيضًا في الباب الماضي.
و"عبد العزيز بن محمد" الدراورديّ ذُكر قبله.
وقوله: (وَزَادَ فِي عَقِبِ الْحَدِيثِ) هكذا النُّسخ: "زاد" بلفظ الإفراد، والظاهر أن فاعله ضمير عبد العزيز، والله تعالى أعلم.
(1)
"إرشاد الفحول إلى تحقيق الحقّ من علم الأصول" 2/ 304 - 310 بتحقيق د. شعبان محمد إسماعيل.
(2)
وفي نسخة: "بهذا الحديث".
وقوله: (قَالَ يَزِيدُ)؛ أي: ابن عبد الله بن أسامة، في محل نصب مفعول "زاد" محكيّ؛ لقصد لفظه.
وقوله: (فَحَدَّثْتُ هَذَا الْحَدِيثَ) وفي بعض النسخ: "بهذا الحديث" بزيادة الباء الموحّدة، وهما لغتان، يقال: حدّثته الحديثَ، وحدّثته به، أفاده في "اللسان"
(1)
.
وقوله: (أَبا بَكْرِ بنَ مُحَمَّدِ بنِ عَمْروِ بنِ حَزْمٍ) الأنصاري النجّاري المدني القاضي، اسمه وكنيته واحد، وقيل: يكنى أبا محمد، تقدمت ترجمته في "الإيمان" 80/ 422.
(فقال) أبو بكر بن محمد (هكذا حدَّثني أبو سَلَمَة) بن عبد الرحمن بن عوف الفقيه المدني، تقدمت ترجمته في "شرح المقدمة" جـ 2 ص 423.
(عن أبي هُرَيرةَ) رضي الله عنه؛ يعني: أنه حدَّثه بمثل حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه.
[تنبيه]: رواية إسحاق
(2)
، عن عبد العزيز الدراورديّ هذه ساقها الإمام الشافعيّ رحمه الله في "مسنده"، فقال:
(5918)
- أخبرنا إسحاق بن إبراهيم، قال: أنا عبد العزيز بن محمد، قال: حدّثني يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد، عن محمد بن إبراهيم، عن بُسر بن سعيد، عن أبي قيس مولى عمرو بن العاص، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إذا حكم الحاكم، فاجتهد، فأصاب، فله أجران، وإذا حكم، فاجتهد، فأخطأ، فله أجر واحد"، قال ابن الهاد: فحَدّثت أبا بكر بن عمرو بن حزم، فقال: هكذا حدّثني أبو سلمة، عن أبي هريرة، قال إسحاق: لم أفهم عمرو بن العاص من عبد العزيز. انتهى
(3)
، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4481]
(
…
) - (وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّارِمِيُّ، أَخْبَرَنَا مَرْوَانُ - يَعْنِي: ابْنَ مُحَمَّدٍ الدِّمَشْقِيَّ - حَدَّثَنَا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ
(1)
"لسان العرب" 2/ 133.
(2)
قال الجامع: لم أجد من ساق رواية محمد بن أبي عمر، لا مع إسحاق، ولا وحده، فليُنظر، والله تعالى أعلم.
(3)
"السنن الكبرى" للنسائيّ 3/ 461.
عَبْدِ اللهِ بْنِ أُسَامَةَ بْنِ الْهَادِ اللَّيْثِيُّ بِهَذَا الْحَدِيث، مِثْلَ رِوَايَةِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مُحَمَّدٍ، بِالإِسْنَادَيْنِ جَمِيعًا).
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّارِميُّ) أبو محمد السمرقنديّ، ثقة ثبتٌ، حافظ فاضل، متقن [11](ت 255)(م د ت) تقدم في "المقدمة" 5/ 29.
2 -
(مَرْوَانُ بْنُ مُحَمَّدٍ الدِّمَشْقِيُّ) الطاطريّ، ثقة [9](ت 210)(م 4) تقدم في "المقدمة" 5/ 29.
3 -
(اللَّيْثُ بْنُ سَعْدِ) بن عبد الرحمن الفهميّ، أبو الحارث المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيه، إمام مشهور [7](ت 175)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 412.
و"يزيد بن عبد الله" ذُكر قبله.
وقوله: (بِالإِسْنَادَيْنِ جَمِيعًا)؛ أي: بالإسنادين السابقين لعبد العزيز الدراورديّ، وهما: إسناده لحديث عمرو بن العاص رضي الله عنه، وإسناده لحديث أبي هريرة رضي الله عنه، والله تعالى أعلم.
[تنبيه]: رواية الليث بن سعد، عن يزيد بن عبد الله هذه، ساقها الطبرانيّ في "المعجم الأوسط"، فقال:
(3190)
- حدّثنا بكر، قال: نا عبد الله بن يوسف، قال: نا الليث بن سعد، قال: حدّثني ابن الهاد، عن محمد بن إبراهيم، عن بُسر بن سعيد، عن أبي قيس مولى عمرو بن العاص، عن عمرو بن العاص، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"إذا حكم الحاكم، فاجتهد، ثم أصاب، فله أجران، وإذا حكم، فاجتهد، ثم أخطأ، فله أجر"، فحَدَّثت به أبا بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، فقال: هكذا حدّثني أبو سلمة، عن أبي هريرة.
ثم قال الطبرانيّ: لا يُرْوَى هذا الحديث عن عمرو بن العاص إلا بهذا الإسناد، تفرّد به يزيد بن الهاد. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(1)
"المعجم الأوسط" للطبرانيّ 3/ 292.
(7) - (بَابُ كَرَاهَةِ قَضَاءِ الْقَاضِي، وَهُوَ غَضْبَانُ)
[4482]
(1717) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ قَالَ: كَتَبَ أَبِي - وَكَتَبْتُ لَهُ - إِلَى عُبَيْدِ اللهِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ، وَهُوَ قَاضٍ بِسِجِسْتَانَ: أَنْ لَا تَحْكُمَ بَيْنَ اثْنَيْن، وَأَنْتَ غَضْبَانُ، فَإنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لَا يَحْكُمْ أَحَدٌ بَيْنَ اثْنَيْن، وَهُوَ غَضْبَانُ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) الثقفيّ، أبو رجاء الْبَغْلانيّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](24) عن تسعين سنة (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.
2 -
(أَبُو عَوَانَةَ) وضّاح بن عبد الله، تقدّم قبل باب.
3 -
(عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عُمَيْرٍ) اللَّخْميّ الْفَرَسيّ الكوفيّ، ثقةٌ فقيهٌ، تغيّر حفظه، وربّما دلّس [3](ت 136)، وله مائة وثلاث سنين (ع) تقدم في "الإيمان" 46/ 296.
4 -
(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أبِي بَكْرَةَ) الثقفيّ، أول مولود في الإسلام بالبصرة، ثقةٌ [2](ت 96)(ع) تقدم في "الإيمان" 40/ 266.
5 -
(أَبُوهُ) أبو بكرة نفيع بن الحارث بن كَلَدَة - بفتحتين - ابن عمرو الثقفيّ الصحابيّ المشهور، مشهور بكنيته، قيل: اسمه مسروح - بمهملات - أسلم بالطائف، ثم نزل البصرة، ومات بها سنة (1 أو 52)(ع) تقدم في "شرح المقدمة" جـ 2 ص 481.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ، والابن عن أبيه، وفيه أن صحابيّه ممن اشتهر بأبي بكرة، وهو لقب بصورة الكنية؛ لُقّب به لأنه تدلّى إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم من حصن الطائف ببكرة البئر، فأسلم، وكان عبدًا، وأعتقه النبيّ صلى الله عليه وسلم يومئذ، وكان نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ: أن من نزل إليه من عبيد أهل الطائف فهو حرّ
(1)
، وكُنْيته أبو عبد الرحمن، يقال: كان أبوه عبدًا للحارث بن كَلَدَة، يقال
(1)
"تهذيب الكمال" 30/ 5.
له: مسروح، فاستلحق الحارث أبا بكرة، وهو أخو زياد بن سُميّة لأمه، وكانت سُميّة أَمَةً للحارث بن كَلَدة، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ) وفي رواية البخاريّ: "سمعت عبد الرحمن بن أبي بكرة"، فصرّح عبد الملك بالسماع، فزالت تهمة التدليس؛ لأنه كان يدلّس، كما سبق آنفًا. (قَالَ: كَتَبَ أَبِي) نفيع بن الحارث، (وَكَتَبْتُ لَهُ) قيل: معناه: كتب أبو بكرة بنفسه مرة، وأمر ولده عبد الرحمن أن يكتب لأخيه، فكتب له مرة أخرى، قال الحافظ رحمه الله: ولا يتعيَّن ذلك، بل الذي يظهر أن قوله:"كتب أبي"؛ أي: أمر بالكتابة، وقوله:"وكتبت له"؛ أي: باشرتُ الكتابة التي أمر بها، والأصل عدم التعدد، ويؤيده قوله في المتن المكتوب:"إني سمعت"، فإن هذه العبارة لأبي بكرة، لا لابنه عبد الرحمن، فإنه لا صحبة له، وهو أول مولود وُلد بالبصرة، كما تقدّم ذلك.
(إِلَى) ولده (عُبَيْدِ اللهِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ، وَهُوَ قَاضٍ بِسِجِسْتَانَ) وفي بعض النسخ: "وهو قاضي سِجِستان"، بالإضافة، والجملة حالية، و"سجستان" - بكسر المهملة والجيم، على الصحيح، بعدهما مهملة ساكنة - هي إلى جهة الهند، بينها وبين كِرْمان مائة فرسخ، منها أربعون فرسخًا مفازة، ليس فيها ماء، ويُنسب إليها: سجستانيّ، وسِجزتيّ - بزاي بدل السين الثانية والتاء - وهو على غير قياس، و"سجستان" لا تُصْرَف للعَلَمية والعجمية، أو زيادة الألف والنون.
قال ابن سعد في "الطبقات": كان زياد في ولايته على العراق قَرَّب أولاد أخيه لأمه، أبي بكرة، وشَرَّفهم، وأقطعهم، ووَلَّى عبيد الله بن أبي بكرة سجستان، قال: ومات أبو بكرة في ولاية زياد.
(أَنْ لَا تَحْكُمَ) وفي رواية البخاريّ: "أن لا تقضي"، (بَيْنَ اثْنَيْن، وَأَنْتَ غَضْبَانُ، فَإِنِّي) الفاء للتعليل؛ أي: لأني (سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لَا) يَحْتَمِل أن تكون ناهيةً، والفعل بعدها مجزوم بها، ويَحْتَمِل أن تكون نافية،
والفعل مرفوع، والنفي بمعنى النهي. (يَحْكُمْ أَحَدٌ بَيْنَ اثْنَيْن، وَهُوَ غَضْبَانُ") وفي رواية البخاريّ: "لا يقضين حَكَمٌ بين اثنين، وهو غضبان"، وفي رواية الشافعيّ، عن سفيان بن عيينة، عن عبد الملك بن عمير بسنده:"لا يقضي القاضي، أو لا يحكم الحاكم بين اثنين، وهو غضبان"، ولم يذكر القصة.
والْحَكَم - بفتحتين -: هو الحاكم، وقد يُطلق على القَيِّم بما يُسْنَد إليه.
قال المهلَّب: سبب هذا النهي أن الحكم حالة الغضب قد يتجاوز بالحاكم إلى غير الحقّ فمُنِع، وبذلك قال فقهاء الأمصار.
وقال ابن دقيق العيد: فيه النهي عن الحكم حالة الغضب؛ لِمَا يحصل بسببه من التغير الذي يَختَلّ به النظر، فلا يحصل استيفاء الحكم على الوجه، قال: وعَدّاه الفقهاء بهذا المعنى إلى كل ما يحصل به تغير الفكر، كالجوع، والعطش المُفْرِطَيْن، وغلبة النعاس، وسائر ما يتعلق به القلب، تعلقًا يَشغَله عن استيفاء النظر، وهو قياسُ مَظِنّة على مظنة، وكأن الحكمة في الاقتصار على ذِكر الغضب؛ لاستيلائه على النفس، وصعوبة مقاومته، بخلاف غيره.
وقد أخرج البيهقي بسند ضعيف، عن أبي سعيد رفعه:"لا يقض القاضي إلا وهو شبعان، ريّان".
وقول الشيخ: وهو قياس مظنة على مظنة صحيح، وهو استنباط معنى دل عليه النص، فإنه لَمّا نُهِيَ عن الحكم حالة الغضب، فُهم منه أن الحكم لا يكون إلا في حالة استقامة الفكر، فكانت علة النهي المعثى المشترك، وهو تغيّر الفكر، والوصف بالغضب يسمى علة، بمعنى أنه مشتمِل عليه، فأُلحق به ما في معناه، كالجائع، قال الإمام الشافعيّ رحمه الله في "الأم": أَكْرَهُ للحاكم أن يحكم، وهو جائع، أو تَعِبٌ، أو مشغول القلب، فإن ذلك يغيّر القلب. قاله في "الفتح"
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي بكرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(1)
"الفتح" 16/ 650 - 651، كتاب "الأحكام" رقم (7158).
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [7/ 4482 و 4483](1717)، و (البخاريّ) في "الأحكام"(7158)، و (أبو داود) في "الأقضية"(3589)، و (الترمذيّ) في "الأحكام"(1334)، و (النسائيّ) في "آداب القضاة"(5408 و 5423) وفي "الكبرى"(596 و 5983)، و (ابن ماجه) في "الأحكام"(3316)، و (الشافعيّ) في "مسنده"(2/ 177)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(860)، و (الحميديّ) في "مسنده"(792)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(7/ 233)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 36 و 38 و 46 و 52)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5063 و 5064)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(997)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 168 و 169 و 170)، و (البزّار) في "مسنده"(9/ 88)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(2/ 845 و 846)، و (الدارقطنيّ) في "سننه"(4/ 205 - 206)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(10/ 104 و 105)، و (البغويّ) في "شرح السُّنّة"(2498)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان نهي الحاكم أن يحكم في حال الغضب؛ لأنه يمنعه من النظر في الحقّ، واستيفائه، وقد قاس العلماء كلّ ما أشبهه في اختلال الفكر، وتشويش النظر، كالجوع، والعطش، والشِّبَع المُفْرِط، وغلبة النعاس، ونحو ذلك.
2 -
(ومنها): أن الكتابة بالحديث كالسماع من الشيخ، في وجوب العمل بها، وأما في الرواية فمنع منها قوم إذا تجردت عن الإجازة، والمشهور الجواز. نَعَم الصحيح عند الأداء أن لا يُطلق الإخبار، بل يقول: كتب إليّ، أو كاتبني، أو أخبرني في كتابه، وإلى ذلك أشار السيوطيّ في "ألفية الحديث"، حيث قال:
خَامِسُهَا كِتَابَةُ الشَّيْخِ لِمَنْ
…
يَغِيبُ أَوْ يَحْضُرُ أَوْ يَأذَنُ أَنْ
يُكْتَبَ عَنْهُ فَمَتَى أَجَازَا
…
فَهْيَ كَمَنْ نَاوَلَ حَيْثُ امْتَازَا
أَوْ لَا فَقِيلَ لَا تَصِحُّ وَالأَصَحّ
…
صِحَّتُهَا بَلْ وَإِجَازَةً رَجَحْ
وَيَكْتَفِي الْمَكْتُوبُ أَنْ يَعْرِفَ خَطّ
…
كَاتِبِهِ وَشَاهِدًا بَعْضٌ شَرَطْ
ثُمَّ لْيَقُلْ "حَدَّثَنِي""أَخْبَرَنِي"
…
كِتَابَةً وَالْمُطْلِقِينَ وَهِّنِ
3 -
(ومنها): أن فيه ذكرَ الحكم مع دليله في التعليم، ويجيء مثله في الفتوى.
4 -
(ومنها): شفقة الأب على ولده، وإعلامه بما ينفعه، وتحذيره من الوقوع فيما يُنكَر.
5 -
(ومنها): نشر العلم للعمل به، والاقتداء، وإن لم يُسأل العالم عنه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في أقوال أهل العلم في حكم الحاكم في حال الغضب، ونحوه:
قال العلّامة ابن قُدامة رحمه الله: لا خلاف بين أهل العلم فيما علمناه، في أن القاضي لا ينبغي له أن يقضي، وهو غضبان، كَرِه ذلك شُريح، وعمر بن عبد العزيز، وأبو حنيفة، والشافعيّ، وكتب أبو بكرة إلى عُبيد الله بن أبي بكرة، وهو قاض بسجستان: أن لا تحكم بين اثنين، وأنت غضبان، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"لا يحكم أحد بين اثنين، وهو غضبان"، متفق عليه، وكتب عمر بن الخطّاب إلى أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنهما:"إياك والغضب، والقَلَق، والضَّجَرَ، والتأذي بالناس، والتنكر لهم عند الخصومة، فإذا رأيت الخصم يتعمد الظلم، فأوجع رأسه"، ولأنه إذا غضب تغيّر عقله، ولم يستوف رأيه وفكره، وفي معنى الغضب: كُلُّ ما شَغَل فِكْره، من الجوع المفرط، والعطش الشديد، والوجع المزعج، ومدافعة أحد الأخبثين، وشدة النعاس، والهمّ، والغمّ، والحزن والفرح، فهذه كلها تمنع الحاكم؛ لأنها تمنع حضور القلب، واستيفاء الفكر الذي يُتوصّل به إلى إصابة الحق في الغالب، فهي في معنى الغضب المنصوص عليه، فتجري مجراه. انتهى كلام ابن قُدامة رحمه الله
(1)
، وهو بحث نفيس، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الخامسة): في اختلاف أهل العلم: هل يَنْفُذُ حكم الحاكم حالة الغضب، أم لا؟:
(1)
"المغني" 14/ 25.
قال ابن قُدامة رحمه الله: فإن حَكَم في الغضب، أو ما شاكله، فحُكي عن القاضي أنه لا ينفذ قضاؤه؛ لأنه منهي عنه، والنهي يقتضي فساد المنهي عنه. وقال في "المجرَّد": ينفذ قضاؤه، وهو مذهب الشافعيّ؛ لما رُوي أن النبيّ صلى الله عليه وسلم اختصم إليه الزبير، ورجل من الأنصار، في شِرَاج الْحَرّة، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم للزبير:"اسق، ثم أرسل الماء إلى جارك"، فقال الأنصاري: آن كان ابن عمتك؟ فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال للزبير:"اسق، ثم احبس الماء حتى يبلغ الجُدُر"، متفق عليه، فحَكَم في حال غضبه. وقيل: إنما يمنع الغضب الحاكمَ إذا كان قبل أن يتضح له الحكم في المسألة، فأما إن اتضح الحكم، ثم عَرَض الغضب لم يمنعه؛ لأن الحق قد استبان قبل الغضب، فلا يؤثّر الغضب فيه. انتهى
(1)
.
وقال في "الفتح": لو خالف، فحكم في حال الغضب صحّ، إن صادف الحق مع الكراهة، هذا قول الجمهور، وقد تقدم أنه صلى الله عليه وسلم، قضى للزبير بشِراج الْحَرَّة، بعد أن أغضبه خصم الزبير، لكن لا حجة فيه لرفع الكراهة عن غيره؛ لِعِصْمته صلى الله عليه وسلم، فلا يقول في الغضب إلا كما يقول في الرضى، قال النوويّ في حديث اللقطة: فيه جواز الفتوى في حال الغضب، وكذلك الحكم وينفذ، ولكنه مع الكراهة في حقّنا، ولا يُكره في حقه صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لا يُخاف عليه في الغضب ما يُخاف على غيره، وأبعدَ من قال: يُحْمَل على أنه تكلم في الحكم قبل وصوله في الغضب إلى تغيّر الفكر، ويؤخذ من الإطلاق أنه لا فرق بين مراتب الغضب، ولا أسبابه، وكذا أطلقه الجمهور، وفصّل إمام الحرمين، والبغويّ، فقَيَّدا الكراهية بما إذا كان الغضب لغير الله، واستغرب الروياني هذا التفصيل، واستبعده غيره؛ لمخالفته لظواهر الحديث، وللمعنى الذي لأجله نُهي عن الحكم حال الغضب.
وقال بعض الحنابلة: لا ينفذ الحكم في حال الغضب؛ لثبوت النهي عنه، والنهي يقتضي الفساد، وفصَّل بعضهم بين أن يكون الغضب طرأ عليه بعد أن استبان له الحكم فلا يؤثِّر، وإلا فهو محل الخلاف، وهو تفصيل معتبَر.
(1)
"المغني" 14/ 25 - 26.
وقال ابن الْمُنَيِّر: أدخل البخاريّ حديث أبي بكرة الدالّ على المنع، ثم حديث أبي مسعود الدالّ على الجواز؛ تنبيهًا منه على طريق الجمع، بأن يُجعل الجواز خاصًّا بالنبيّ صلى الله عليه وسلم؛ لوجود العصمة في حقه، والأمن من التعدي، أو أن غضبه إنما كان للحق، فمن كان في مثل حاله جاز، وإلا مُنع، وهو كما قيل في شهادة العدوّ: إن كانت دنيوية رُدّت، وإن كانت دينية لم تُرَدّ، قاله ابن دقيق العيد وغيره. انتهى.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي الأرجح قول من قال: لا ينفذ حكمه إن حكم في حال الغضب؛ لأن النهي للتحريم، وهو يقتضي الفساد، ولا يقاس بالنبيّ صلى الله عليه وسلم غيره في ذلك؛ لأنّ غضبه صلى الله عليه وسلم كرضاه، بخلاف غيره، قال القرطبيّ رحمه الله: ولا يُعارَضُ هذا الحديث بحكم النبيّ صلى الله عليه وسلم للزبير بإمساك الماء إلى أن يبلغ الجُدُر، وقد غَضِب من قول الأنصاريّ: آن كان ابن عمّتك؟؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم معصوم من الهوى، والباطل، والخطأ في غضبه ورضاه، وصحّته ومرضه، ولذلك قال:"اكتبوا عنّي في الغضب والرضا"، ولذلك نفذت أحكامه، وعُمل بحديثه الصادر في حال شدّة مرضه، ونَزْعه، كما نفذ في حال صحّته ونشاطه. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله، وهو تحقيق نفيسٌ جدًّا
(1)
.
والحاصل أن الأرجح كون النهي في حديث الباب للتحريم، وأن حُكْم الحاكم في حال غضبه لا ينفذ، ولا يقاس غير النبيّ صلى الله عليه وسلم به؛ للفرق الظاهر بينه وبين غيره، ممن يستفزّه الغضب والهوى، فتأمّل بالإمعان، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4483]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَاهُ يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا هُشَيْمٌ (ح)، وحَدَّثَنَا شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ (ح)، وحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ (ح)، وحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ (ح)، وحَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ، حَدَّثَنَا أَبِي كِلَاهُمَا، عَنْ شُعْبَةَ (ح)، وحَدَّثَنَا أَبُو
(1)
"المفهم" 5/ 170 - 171.
كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ، عَنْ زَائِدَةَ، كُلُّ هَؤُلَاءِ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ، عَنْ أَبِيه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِ حَدِيثِ أَبِي عَوَانَةَ).
رجال هذا الإسناد: ثمانية عشر:
1 -
(هُشَيْمُ) بن بَشِير السلميّ، أبو معاوية بن أبي خازم الواسطيّ، ثقةٌ ثبتٌ، كثير التدليس، والإرسال الخفيّ [7](ت 183)، وقد قارب الثمانين (ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 9.
2 -
(حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ) بن دينار، أبو سلمة البصريّ، ثقةٌ عابد، من كبار [8](ت 167)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 80.
3 -
(سُفْيَانُ) بن سعيد الثوريّ، أبو عبد الله الكوفيّ الإمام الحجة الثبت، رأس الطبقة [7](ت 161)(ع) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.
4 -
(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) أبو موسى الْعَنَزيّ البصريّ المعروف بالزَّمِنِ [10](ت 252)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.
5 -
(مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ) الْهُذليّ المعروف بغُندر، أبو عبد الله البصريّ، ثقةٌ، صحيح الكتاب [9](ت 3 أو 194)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.
6 -
(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ) الْعَنْبريّ، أبو عمرو البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 237)(خ م د س) تقدم في "المقدمة" 3/ 7.
7 -
(أَبُوهُ) معاذ بن معاذ بن نصر بن حسّان العَنْبريّ، أبو المثنّى البصريّ، ثقةٌ متقنٌ، من كبار [9](ت 196)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 7.
8 -
(شُعْبَةُ) بن الحجّاج بن الورد الْعَتكيّ مولاهم، أبو بِسطام الواسطيّ، ثم البصريّ الإمام الحجة الثبت الناقد [7](ت 160)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 381.
9 -
(حُسَيْنُ بْنُ عَلِيِّ) بن الوليد الْجُعفيّ الكوفيّ المقرئ، ثقةٌ عابدٌ [9](ت 3 أو 204)(ع) تقدم في "الإيمان" 11/ 154.
10 -
(زَائِدَةُ) بن قُدامة الثقفيّ، أبو الصَّلْت الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ، سنّيّ [7](ت 160) أو بعدها (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 53.
والباقون ذُكروا في الباب، وفي الأبواب الثلاثة الماضية.
وقوله: (كُلُّ هَؤُلَاءِ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ
…
إلخ)؛ يعني: أن هؤلاء الخمسة، وهم: هشيم، وحمّاد بن سلمة، وسفيان الثوريّ، وشعبة، وزائدة رووا هذا الحديث عن عبد الملك بن عُمير، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة، عن أبيه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، بمثل ما رواه أبو عوانة عنه.
[تنبيه]: رواية هشيم، عن عبد الملك ساقها النسائيّ رحمه الله في "الكبرى"، فقال:
(5962)
- أخبرنا عليّ بن حُجْر، قال: أنا هشيم، عن عبد الملك بن عُمير، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة، عن أبيه، قال: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "لا يقضي القاضي بين اثنين، وهو غضبان". انتهى
(1)
.
ورواية سفيان الثوريّ، عن عبد الملك، ساقها أبو داود رحمه الله في "سننه"، فقال:
(3589)
- حدّثنا محمد بن كثير، أخبرنا سفيان، عن عبد الملك بن عُمير، ثنا عبد الرحمن بن أبي بكرة، عن أبيه، أنه كتب إلى ابنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يقضي الْحَكَم بين اثنين، وهو غضبان". انتهى
(2)
.
ورواية شعبة، عن عبد الملك، ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:
(6739)
- حدّثنا آدم، حدّثنا شعبة، حدّثنا عبد الملك بن عُمير، سمعت عبد الرحمن بن أبي بكرة، قال: كَتَبَ أبو بكرة إلى ابنه، وكان بسجستان، بأن لا تقضي بين اثنين، وأنت غضبان، فإني سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول:"لا يَقْضِيَنّ حَكَمٌ بين اثنين، وهو غضبان". انتهى
(3)
.
وأما رواية حماد بن سلمة، وزائدة بن قُدامة، فلم أجد من ساقهما بتمامهما، فليُنظر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(1)
"السنن الكبرى" للنسائيّ 3/ 474.
(2)
"سنن أبي داود" 3/ 302.
(3)
"صحيح البخاريّ" رقم (6739).
(8) - (بَابُ نَقْضِ الأَحْكَامِ الْبَاطِلَة، وَرَدِّ مُحْدَثَاتِ الأُمُورِ)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4484]
(1718) - (حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الصَّبَّاح، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ عَوْنٍ الْهِلَالِيُّ، جَمِيعًا عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ ابْنُ الصَّبَّاح: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَحْدَثَ في أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ، فَهُوَ رَدٌّ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الصَّبَّاحِ) الدُّولابيّ البغداديّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 227)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 27.
2 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ عَوْنٍ الْهِلَالِيُّ) الْخَزّاز، أبو محمد البغداديّ، ثقةٌ عابدٌ [10](ت 232) على الصحيح (م س) تقدم في "شرح المقدمة" جـ 1 ص 303.
3 -
(إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ) الزهريّ، أبو إسحاق المدنيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ حجةٌ، تُكُلّم فيه بلا قادح [8](ت 185)(ع) تقدم في "الإيمان" 9/ 141.
4 -
(أَبُوهُ) سَعْدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ الزهريّ المدنيّ القاضي، ثقةٌ فاضلٌ عابدٌ [5](ت 125) أو بعدها (ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 31.
5 -
(الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدِ) بن أبي بكر الصدّيق التيميّ المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيه، من كبار [3](ت 106) على الصحيح (ع) تقدم في "الحيض" 3/ 695.
6 -
(عَائِشَةُ) أم المؤمنين رضي الله عنها المتوفّاة سنة (57)، تقدّمت في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 315.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أن نصفه الأول مسلسلٌ بالبغداديين، والثاني بالمدنيين، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، عن عمّته، وفيه القاسم بن محمد أحد الفقهاء السبعة المشهورين بالمدينة، وقد تقدّموا غير مرّة، وفيه عائشة رضي الله عنها من المكثرين السبعة، روت من الأحاديث (2210)، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ عَائِشَةَ) أم المؤمنين رضي الله عنها، أنها (قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ) شرطيّة، (أَحْدَثَ)؛ أي: ابتدع، أو أظهر، واخترع، قال الفيّوميّ رحمه الله: حَدَثَ الشيءُ حدُوثًا، من باب قعد: تجدّد وجوده، فهو حادثٌ، وحَدِيثٌ، ومنه يقال: حَدَثَ به عيبٌ: إذا تجدّد، وكان معدومًا قبل ذلك، ويتعدّى بالألف، فيقال: أحدثته، ومنه: "محدَثات الأمور"، وهي التي ابتدعها أهل الأهواء. انتهى
(1)
. وقال القرطبيّ: أي: من اخترع في الشرع ما لا يشهد له أصل من أصوله، فهو مفسوخٌ، لا يُعمل به، ولا يُلتفتُ إليه. انتهى
(2)
.
(فِي أَمْرِنَا)؛ أي: في شأننا، فالأمر واحد الأمور، أو فيما أَمَرْنا به، فالأمر واحد الأوامر، أُطلق على المأمور به، والمراد على الوجهين: الدِّين القيّم، ووَصَف الأمر بقوله:(هَذَا) إشارةً إلى أن أمر الإسلام كَمُلَ واشتهر، وشاع، وظهر ظهور المحسوس، بحيث لا يخفى على كلّ ذي بصر وبصيرة، كقوله تعالى:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} الآية [المائدة: 3]، فمن رام الزيادة عليه فقد حاول أمرًا غير مرضيّ؛ لأنه من قصور فهمه رآه ناقصًا.
وقوله: (مَا لَيْسَ مِنْهُ)"ما" موصولة مفعول "أحدث"؛ أي: أحدث الشيء الذي ليس منه: أي: من أمر الدِّين، وأشار إلى أن إحداث ما له أصل في الكتاب والسُّنّة ليس بمردود، كأن يُجدّد سُنَّة أُميتت، وتناساها الناس، أو أحدث شيئًا يشهد له الكتاب والسُّنّة، مما لا يشمله تعريف البدعة الشرعيّة، كَجَمْع الصدّيق رضي الله عنه القرآن، وجَمْع عمر رضي الله عنه الناس على إمام واحد في قيام رمضان.
(فَهُوَ)؛ أي: ذلك المحدَث (رَدٌّ") - بفتح، فسكون -؛ أي: مرود، من إطلاق المصدر على اسم المفعول، مثل خَلْق ومخلوق، ونَسْخ ومنسوخ، وكأنه قال: فهو باطل، غير مُعْتَدّ به. قاله في "الفتح"
(3)
.
(1)
"المصباح المنير" 1/ 124.
(2)
"المفهم" 5/ 171.
(3)
"الفتح" 5/ 642.
والمراد: أن ذلك الأمر واجب الردّ، فيجب على الناس ردّه، ولا يجوز لأحد اتّباعه، والتقليد فيه. وقيل: ضمير "فهو" يعود إلى "من"؛ أي: فذلك الشخص مردود مطرود عن جملة أهل السُّنّة والجماعة، فيكون من الفرق الضالّة التي تفترق إليها هذه الأمة، كما أخبر بذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه ابن ماجه وغيره بإسناد صحيح، عن عوف بن مالك رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، فواحدة في الجنة، وسبعون في النار، وافترقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة، فإحدى وسبعون في النار، وواحدة في الجنة، والذي نفس محمد بيده لتفترقنّ أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، واحدة في الجنة، وثنتان وسبعون في النار"، قيل: يا رسول الله من هم؟ قال: "الجماعة"
(1)
وقال البيضاويّ رحمه الله: الأمر حقيقةٌ في القول الطالب للفعل، مجاز في الفعل، والشأن، والطريق، وأُطلق هنا على الدِّين من حيث إنه طريقه، أو شأنه الذي يتعلّق به، وهو مهتمّ بشأنه بحيث لا يخلو عن شيء من أقواله، وأفعاله، والمعنى: أن من أحدث في الإسلام رأيًا لم يكن له من الكتاب، والسُّنّة سند ظاهر، أو خفيّ، ملفوظ، أو مستنبَط، فهو مردود عليه.
وقال الطيبيّ رحمه الله: في وَصْف الأمر بـ "هذا" إشارة إلى أن الإسلام كمُلَ، واشتهر، وشاع، وظهر ظهور المحسوس، بحيث لا يخفى على كلّ ذي بصر وبصيرة، كقوله تعالى:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} الآية [المائدة: 3]، فمن رام الزيادة عليه حاول أمرًا غير مرضيّ؛ لأنه من قصور فهمه رآه ناقصًا، فعلى هذا يناسب أن يقال: قوله: "فهو" راجع إلى "من"؛ أي: من ابتغى الزيادة على الكمال، فهو ناقص مطرود، وفي قوله:"ما ليس منه" إشارة إلى أن إحداث ما لا ينازع الكتاب والسُّنّة ليس بمذموم.
(1)
رواه ابن ماجه في كتاب "الفتن" من "سننه" برقم (3992)، وفي سنده عباد بن يوسف، روى عن جماعة، ووثّقه ابن حبّان، وغيره، راجع:"تهذيب التهذيب" 2/ 285. وراجع: "السلسلة الصحيحة" للشيخ الألباني رحمه الله تعالى 3/ 480 رقم (1492).
روى محيي السُّنّة عن يحيى بن سعيد: سمعت أبا عبيد رضي الله عنه يقول: جَمَعَ النبيّ صلى الله عليه وسلم جميع أمر الآخرة في كلمة: "من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو ردّ"، وجَمَع أمر الدنيا في كلمة:"إنما الأعمال بالنيّات"، فإنهما يدخلان في كلّ باب. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا مُتّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [8/ 4484 و 4485](1718)، و (البخاريّ) في "الصلح"(2697) وفي "خلق أفعال العباد"(ص 43)، و (أبو داود) في "السُّنّة"(4606)، و (ابن ماجه) في "المقدّمة"(14)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1422)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 74 و 240 و 270)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(26 و 27)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(4594)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(1/ 251)، و (الدارقطنيّ) في "سننه"(4/ 224 و 225 و 227)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 18 - 19)، و (ابن أبي عاصم) في "السُّنّة"(52 - 53)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(10/ 119)، و (البغويّ) في "شرح السُّنّة"(103)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): أن هذا الحديث قاعدة عظيمة، من قواعد الإسلام، وهو من جوامع كَلِمه صلى الله عليه وسلم، فإنه صريح في ردّ كل البدع والمخترعات.
2 -
(ومنها): أنه وقع في الرواية التالية عند مسلم: "من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو ردّ". ففي هذه الرواية ردّ على من قد يعاند من بعض الفاعلين في بدعة سُبق إليها، فإذا احتُجَّ عليه بالرواية الأولى، يقول: أنا ما أحدثت شيئًا، فيُحتج عليه بالثانية التي فيها التصريح بردّ كل المحدَثات، سواء أحدثها الفاعل، أو سُبق بإحداثها، قاله النوويّ رحمه الله
(2)
.
(1)
"الكاشف عن حقائق السنن" 2/ 603.
(2)
"شرح مسلم" 12/ 242.
وقال في "الفتح": واللفظ الثاني - وهو قوله: "من عَمِلَ" - أعم من اللفظ الأول - وهو قوله: "من أحدث" - فيُحتَجُّ به في إبطال جميع العقود المنهية، وعدم وجود ثمراتها المرتَّبة عليها، وفيه ردُّ المحدَثات، وأن النهي يقتضي الفساد؛ لأن المنهيات كلها ليست من أمر الدين، فيجب ردّها. انتهى
(1)
.
3 -
(ومنها): أنه يستفاد منه أن حكم الحاكم لا يغيّر ما في باطن الأمر؛ لقوله: "ليس عليه أمرنا"، والمراد به أمر الدين.
4 -
(ومنها): أن الصلح الفاسد مُنتَقَضٌ، والمأخوذ عليه مُستَحَقّ الرد.
5 -
(ومنها): أن هذا الحديث دليلٌ لمن يقول من الأصوليين: إن النهي يقتضي الفساد، ومن قال: لا يقتضي الفساد يقول: هذا خبر واحد، ولا يكفي في إثبات هذه القاعدة المهمة، قال النوويّ رحمه الله: وهذا جواب فاسد.
وقال القرطبيّ رحمه الله: فيه حجةٌ على أن النهي يدلّ على الفساد، وهو قول جمهور الفقهاء. وذهب بعض المالكيّة، وأكثر المتكلّمين إلى أنه لا يدلّ على الفساد، وإنما مدلوله المنع من إدخال المنهيّ عنه في الوجود فقط، وأما حُكمه إذا وقع من فساد أو صحّة، فالنهي لا يدلّ عليه، ويُنظر دليل ذلك من خارج النهي، وقد اختلف حال المنهيّات، فبعضها يصحّ إذا وقع، كالطلاق في الحيض، وبعضها لا يصحّ، كبيع الملاقيح والمضامين، وبعضها يَختلف فيه الفقهاء، كالبيع عند النداء. انتهى قول القرطبيّ رحمه الله
(2)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الحقّ هو ما عليه جمهور الفقهاء من أن النهي يقتضي الفساد، وهذا فيما إذا لم يدلّ دليلٌ على خلافه، كالنهي عن تلقّي الجلب، فقد أخرج مسلم في "صحيحه"، وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا:"لا تَلَقَّوُا الجلب، فمن تلقّاه، فاشترى منه، فإذا أتى سيده السوق فهو بالخيار"، فقد خيّر صلى الله عليه وسلم صاحبه بعد النهي بين أن يجيز البيع، وبين أن يُبطله، فدلّ على أن النهي ليس للفساد، ومثله النهي عن التصرية، فقد أخرج مسلم أيضًا عن أبي هرير رضي الله عنه مرفوعًا: "ولا تُصَرُّوا الإبلَ والغنمَ، فمن ابتاعها بعد ذلك، فهو بخير النَّظَرين، بعد أن يَحْلُبها، فإن رضيها أمسكها، وإن سخطها
(1)
"الفتح" 5/ 642.
(2)
"المفهم" 5/ 171.
رَدّها، وصاعًا من تمر"، فقد خيّر صلى الله عليه وسلم المشتري بين الرضا، وبين الردّ مع صاع من تمر، فدلّ على أن النهي ليس للفساد، وكذا كلّ نهي دلّ النصّ على عدم اقتضائه الفساد، وما عدا ذلك كلّه على الفساد. والله تعالى أعلم.
6 -
(ومنها): أن هذا الحديث معدود من أصول الإسلام، وقاعدة من قواعده، فإن معناه: من اختَرَع في الدين ما لا يشهد له أصل من أصوله، فلا يُلتفت إليه.
قال النووي: هذا الحديث مما ينبغي أن يُعتَنى بحفظه، واستعماله في إبطال المنكرات، وإشاعة الاستدلال به كذلك.
وقال الطرقي: هذا الحديث يصلح أن يُسمَّى نصف أدلة الشرع؛ لأن الدليل يتركب من مقدمتين، والمطلوب بالدليل إما إثبات الحكم، أو نفيه، وهذا الحديث مقدمة كبرى في إثبات كل حكم شرعيّ ونفيه؛ لأن منطوقه مقدمة كلية في كل دليل ناف لحكم، مثل أن يُقال في الوضوء بماء نجس: هذا ليس من أمر الشرع، وكل ما كان كذلك فهو مردود، فهذا العمل مردود، فالمقدمة الثانية ثابتة بهذا الحديث، وإنما يقع النزاع في الأُولى، ومفهومه: أن من عَمِل عملًا عليه أمْرُ الشرع فهو صحيح، مثل أن يقال في الوضوء بالنية: هذا عليه أمر الشرع، وكل ما كان عليه أمر الشرع فهو صحيح، فالمقدمة الثانية ثابتة بهذا الحديث، والأُولى فيها النزاع، فلو اتَّفَق أن يوجد حديث يكون مقدمة أُولى في إثبات كل حكم شرعيّ ونفيه، لاستقَلَّ الحديثان بجميع أدلة الشرع، لكن هذا الثاني لا يوجد، فإذًا حديث الباب نصفُ أدلة الشرع، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): قد كتب الحافظ ابن رجب رحمه الله في كتابه "جامع العلوم والحكم" بحثًا نفيسًا في هذا الحديث، أحببت إيراده هنا تتميمًا للفائدة، وتكميلًا للعائدة، قال رحمه الله:
هذا الحديث أصل عظيم من أصول الإسلام، كما أن حديث:"الأعمالُ بالنيات" ميزان للأعمال في باطنها، وهو ميزان للأعمال في ظاهرها، فكما أن كل عمل لا يراد به وجه الله تعالى، فليس لعامله فيه ثواب، فكذلك كل عمل لا يكون عليه أمر الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم فهو مردود على عامله، وكل من
أحدث في الدين ما لم يأذن به الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم فليس من الدين في شيء.
قال: فهذا الحديث بمنطوقه يدل على أن كل عمل ليس عليه أمر الشارع، فهو مردود، ويدل بمفهومه على أن كل عمل عليه أمره، فهو غير مردود، والمراد بأمره ههنا: دينه وشرعه، كالمراد بقوله في الرواية الأخرى:"من أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه، فهو رد"، فالمعنى إذًا: أنّ من كان عمله خارجًا عن الشرع، ليس متقيدًا بالشرع، فهو مردود. وقوله:"ليس عليه أمرنا" إشارةٌ إلى أن أعمال العاملين كلهم ينبغي أن تكون تحت أحكام الشريعة، فتكون أحكام الشريعة حاكمة عليها، بأمرها ونهيها، فمن كان عمله جاريًا تحت أحكام الشريعة، موافقًا لها، فهو مقبول، ومن كان خارجًا عن ذلك فهو مردود، فأما العبادات فما كان منها خارجًا عن حكم الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم بالكلية فهو مردود على عامله، وعاملُه يدخل تحت قوله تعالى:{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى: 21]، فمن تقرَّب إلى الله بعمل لم يجعله الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم قربة إلى الله، فعمله باطل مردود عليه، وهو شبيه بحال الذين كانت صلاتهم عند البيت مكاء وتصدية
(1)
.
وهذا كمن تقرَّب إلى الله تعالى بسماع الملاهي، أو بالرقص، أو بكشف الرأس في غير الإحرام، وما أشبه ذلك من المحدَثات التي لم يشرع الله ورسوله صلى الله عليه وسلم التقرب بها بالكلية. وليس ما كان قربة في عبادة، يكون قربة في غيرها مطلقًا، فقد رأى النبيّ صلى الله عليه وسلم رجلًا قائمًا في الشمس، فسأل عنه، فقيل: إنه نذر أن يقوم، ولا يقعد، ولا يستظل، وأن يصوم، فأمره النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يقعد، ويستظل، وأن يتم صومه
(2)
.
فلم يجعل قيامه، وبروزه في الشمس قربة يوفَّى بنذرهما، وقد رُوي أن ذلك كان في يوم جمعة عند سماع خطبة النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو على المنبر، فنذر أن يقوم، ولا يقعد، ولا يستظل، ما دام النبيّ صلى الله عليه وسلم يخطب؛ إعظامًا لسماع خطبة
(1)
"المكاء": صفير الطير. و"التصدية": التصويت بالتصفيق وغيره.
(2)
أخرجه البخاريّ في "صحيحه" 13/ 446، كتاب "الأيمان والنذور".
النبيّ صلى الله عليه وسلم
(1)
، ولم يجعل النبيّ صلى الله عليه وسلم ذلك قربةَ يُوفَّى بنذره، مع أن القيام عبادة في مواضع أُخَر، كالصلاة، والأذان، والدعاء بعرفة، والبروزُ للشمس قربةٌ للمحرم، فدل على أنه ليس كل ما كان قربة في موطن، يكون قربة في كل المواطن، وإنما يُتَّبَع في ذلك كلِّه ما وردت به الشريعة في مواضعها.
وكذلك من تقرب بعبادة، نُهي عنها بخصوصها، كمن صام يوم العيد، أو صلى وقت النهي.
وأما من عَمِلَ عملًا أصله مشروع وقربة، ثم أدخل فيه ما ليس بمشروع، أو أَخَلّ فيه بمشروع، فهذا أيضًا مخالف للشريعة، بقدر إخلاله بما أخل به، أو إدخاله ما أدخل فيه، وهل يكون عمله من أصله مردودًا عليه اْو لا؟ فهذا لا يُطلق القول فيه بردّه ولا قبوله، بل يُنظر فيه: فإن كان ما أخل به من أجزاء العمل، أو شروطه موجبًا لبطلانه في الشريعة، كمن أخل بالطهارة مع القدرة عليها، أو كمن أخل بالركوع أو بالسجود، أو بالطمأنينة فيهما، فهذا عمل مردود عليه، وعليه إعادته إن كان فرضًا، وإن كان ما أخل به لا يوجب بطلان العمل، كمن أخل بالجماعة للصلاة المكتوبة عند من يوجبها، ولا يجعلها شرطًا، فهذا لا يقال: إن عمله مردود من أصله، بل هو ناقص.
وإن كان قد زاد في العمل المشروع ما ليس بمشروع، فزيادته مردودة عليه، بمعنى أنها لا تكون قربة، ولا يثاب عليها، ولكن تارة يبطل بها العمل من أصله، فيكون مردودًا، كمن زاد ركعة عمدًا في صلاته مثلًا، وتارة لا يبطله، ولا يردّه من أصله، كمن توضأ أربعًا أربعًا، أو صام الليل مع النهار، وواصل في صيامه. وقد يبدِّل ما يؤمر به في العبادة بما هو منهي عنه، كمن ستر عورته في الصلاة بثوب محرَّم، أو توضأ للصلاة بماء مغصوب، أو صلى في بقعة غَصْب، فهذا قد اختَلَف العلماء فيه: هل عمله مردود من أصله، أو أنه غير مردود، وتبرأ به الذمة من عُهْدة الواجب؟ وأكثر الفقهاء على أنه ليس بمردود من أصله، وقد حَكَى عبد الرحمن بن مهديّ عن قوم من أصحاب الكلام، يقال لهم: الشمرية، أصحاب أبي شمر أنهم يقولون: إنه من صلى في
(1)
أخرجه الطبرانيّ في "الكبير" 11/ 320 رقم (320).
ثوب كان في ثَمَنه درهم حرام أن عليه إعادة صلاته، وقال: ما سمعت قولًا أخبث من قولهم - نسأل الله العافية - وعبد الرحمن بن مهديّ من أكابر فقهاء أهل الحديث، المطَّلعين على مقالات السلف، وقد استنكر هذا القول، وجعله بدعة، فدل على أنه لم يُعلم عن أحد من السلف القول بإعادة الصلاة في مثل هذا، ويُشبه هذا: الحجُّ بمال حرام، وقد ورد في حديث أنه مردود على صاحبه، ولكنه حديث لا يثبت
(1)
. وقد اختلف العلماء هل يسقط به الفرض أم لا؟.
وقريبٌ من ذلك: الذبح بآلة محرمة، أو ذبح من لا يجوز له الذبح، كالسارق، فأكثر العلماء قالوا: إنه تباح الذبيحة بذلك. ومنهم من قال: هي محرَّمة. وكذا الخلاف في ذبح المُحْرِم الصيد، لكن القول بالتحريم فيه أشهر وأظهر؛ لأنه منهي عنه بعينه، فلهذا فرَّق من فرَّق من العلماء بين أن يكون النهي لمعنى يختص بالعبادة فيبطلها، وبين أن لا يكون مختصًا بها فلا يبطلها، فالصلاة بالنجاسة، أو بغير طهارة، اْو بغير ستارة، أو إلى غير القبلة يبطلها؛ لاختصاص النهي بالصلاة، بخلاف الصلاة في الغصب، ويشهد لهذا أن الصيام لا يبطله إلا ارتكاب ما نُهي عنه فيه بخصوصه، وهو جنس الأكل والشرب والجماع، بخلاف ما نُهي عنه الصائم لا بخصوص الصيام، كالكذب والغيبة عند الجمهور. وكذلك الحج لا يبطله إلا ما نُهي عنه في الإحرام، وهو الجماع، ولا يبطله ما لا يختص بالإحرام من المحرمات، كالقتل، والسرقة، وشرب الخمر. وكذلك الاعتكاف إنما يبطل بما نُهي عنه فيه بخصوصه، وهو الجماع، وإنما يبطل بالسُّكْر عند الأكثرين؛ لنهي السكران عن قربان المسجد، ودخوله على أحد التأويلين في قوله تعالى:{لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النساء: 43] أن المراد: مواضع الصلاة، فصار كالحائض، ولا يبطل الاعتكاف بغيره من ارتكابه الكبائر عند كثير من العلماء.
(1)
أخرجه البزّار 2/ 6 "كشف" رقم (1079)، وقال البزّار: فيه الضعف بيّنٌ على أحاديث سليمان، ولا يتابعه أحدٌ، وهو ليس بالقويّ. وذكره الهيثميّ في "مجمع الزوائد" 3/ 212 - 213 وقال: رواه البزّار، وفيه سليمان بن داود اليماميّ، وهو ضعيف. انتهى.
وقد خالف في ذلك طائفة من السلف منهم: عطاء، والزهري، والثوريّ، ومالك، وحكي عن غيرهم أيضًا.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن ما ذهب إليه بعض السلف هو الظاهر. والله تعالى أعلم.
وأما المعاملات، كالعقود، والفسوخ، ونحوهما، فما كان منها مغيِّر الأوضاع الشرعية، كجعل حد الزنا عقوبة مالية، وما أشبه ذلك، فإنه مردود من أصله، لا ينتقل به المُلك؛ لأن هذا غير معهود في أحكام الإسلام، ويدل على ذلك أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال للذي سأله: إن ابني كان عسيفًا
(1)
على فلان، فزنى بامرأته، فافتديت منه بمائة شاة وخادم، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"المائة الشاة والخادم ردّ عليك، وعلى ابنك مائة جلدة، وتغريب عام"
(2)
.
وما كان منها عقدًا منهيًّا عنه في الشرع، إما لكون المعقود عليه ليس محلًّا للعقد، أو لفوات شرط فيه، أو لظلم يحصل به للمعقود معه، أو عليه، أو لكون العقد يَشغَل عن ذكر الله عز وجل الواجبِ عند تضايق وقته، أو غير ذلك، فهذا العقد هل هو مردود بالكلية، لا يَنتقِل به المُلك أم لا؟ هذا الموضع قد اضطرب الناس فيه اضطرابًا كثيرًا، وذلك أنه ورد في بعض الصور أنه مردود لا يفيد الملك، وفي بعضها أنه يفيده، فحصل الاضطراب فيه بسبب ذلك.
والأقرب - إن شاء الله تعالى - أنه إن كان النهي عنه لحقّ الله تعالى، لا يفيد الملك بالكلية، ومعنى أن يكون الحق لله أنه لا يسقط برضا المتعاقدين عليه، وإن كان النهي عنه لحقّ آدمي معيَّن، بحيث يسقط برضاه به، فإنه يوقف على رضاه به، فإن رضي لزم العقد، واستمر المُلك، وإن لم يَرْضَ به فله الفسخ، فإن كان الذي يلحقه الضرر لا يُعتبر رضاه بالكلية، كالزوجة والعبد في الطلاق والعتاق، فلا عبرة برضاه ولا بسخطه، وإن كان النهي رفقًا بالمنهي خاصة؛ لِمَا يلحقه من المشقة، فخالف وارتكب المشقة، لم يبطل بذلك عمله.
فأما الأول: فله صور كثيرة:
(منها): نكاح من يحرم نكاحه، إما لِعَيْنه كالمحرمات على التأبيد بسبب
(1)
"العسيف" كالأجير وزنًا ومعنىً.
(2)
متّفقٌ عليه.
أو نسب، أو للجمع، أو لفوات شرط لا يسقط بالتراضي بإسقاطه، كنكاح المعتدّة والمحرِمة، والنكاح بغير ولي، ونحو ذلك. وقد رُوي أن النبيّ صلى الله عليه وسلم فَرّق بين رجل وامرأة، تزوجها وهي حبلى، فردّ النكاح؛ لوقوعه في العدة
(1)
.
(ومنها): عقود الربا، فلا يفيد المُلك، ويؤمر بردّها. وقد أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم من باع صاع تمر بصاعين أن يردّه
(2)
.
(ومنها): بيع الخمر، والميتة، والخنزير، والأصنام، والكلب، وسائر ما نهي عن بيعه مما لا يجوز بيعه.
وأما الثاني: فله صور عديدة:
(منها): إنكاح الولي ما لا يجوز له إنكاحها إلا بإذنها، لا بغير إذنها، وقد ردّ النبيّ صلى الله عليه وسلم نكاح امرأة ثيِّب، زوّجها أبوها، وهي كارهة
(3)
.
وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه خيَّر امرأة زُوِّجَت بغير إذنها
(4)
.
وفي إبطال هذا النكاح، أو وقوفه على الأجازة، روايتان عن أحمد. وقد ذهب طائفة من العلماء إلى أن من تصرَّف لغيره في ماله بغير إذنه، لم يكن تصرفه باطلًا من أصله، بل يُوقَفُ على إجازته: فإن أجازه جاز، وإن ردّه بطل.
واستدلُّوا بحديث عروة بن الجعد في شرائه للنبيّ صلى الله عليه وسلم شاتين، وإنما كان أمَرَهُ بأن يشتري شاة واحدة، ثم باع إحداهما، وقَبِلَ ذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم، وخَصَّ ذلك الإمام أحمد في المشهور عنه بمن كان يتصرف لغيره في ماله بإذن، إذا خالف الإذن.
(ومنها): تصرف المريض في ماله كله، هل يقع باطلًا من أصله، أم يوقف تصرفه في الثلث على إجازة الورثة؟ فيه اختلاف مشهور للفقهاء،
(1)
حديث ضعيف، أخرجه أبو داود في "سننه" 2/ 241 - 242 رقم (2131 و 2132).
(2)
أخرجه مسلم 6/ 25 "شرح النووي" رقم (79/ 1594).
(3)
أخرجه البخاريّ 10/ 244 رقم (5138).
(4)
حديث صحيح، أخرجه أبو داود رقم (2098)، وأحمد 1/ 273.
والخلاف في مذهب أحمد وغيره. وقد صح أن النبيّ صلى الله عليه وسلم رُفِع إليه أن رجلًا أعتق ستة مملوكين له عند موته، لا مال له غيرهم، فدعا بهم، فجزّأهم ثلاثة أجزاء، فأعتق اثنين، وأَرَقَّ أربعة، وقال له قولًا شديدًا
(1)
. ولعل الورثة لم يجيزوا إعتاق الجميع، والله أعلم.
(ومنها): بيع المدلَّس ونحوه، كالمصرّاة، وبيع النَّجْش، وتلقي الرُّكبان، ونحو ذلك، وفي صحته كله اختلاف مشهور في مذهب الإمام أحمد. وذهب طائفة من أهل الحديث إلى بطلانه وردِّه، والصحيح أنه يصح، ويوقف على إجازة من حصل له ظُلم بذلك، فقد صح عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه جعل مشتري المصرّاة بالخيار، وأنه جعل للركبان الخيار، إذا هبطوا السوق
(2)
، وهذا كله يدل على أنه غير مردود من أصله.
وقد أُورد على بعض من قال بالبطلان حديث المصراة، فلم يذكر عنه جوابًا.
وأما بيع الحاضر للبادي: فمن صححه جعله من هذا القبيل، ومن أبطله جعل الحق فيه لأهل البلد كلهم، وهم غير منحصرين، فلا يتصور إسقاط حقوقهم، فصار كحقّ الله عز وجل.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن القول بالبطلان هو الظاهر؛ لعدم ورود نصّ يدلّ على صحّته، كما ورد في المصرّاة، ونحوه، والله تعالى أعلم.
(ومنها): لو باع رقيقًا، يَحرُم التفريق بينهم، وفرَّق بينهم، كالأم وولدها، فهل يقع باطلًا مردودًا، أم يقف على رضاهم بذلك؟. وقد رُوي أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أمر بردّ هذا البيع
(3)
. ونص أحمد على أنه لا يجوز التفريق بينهم، ولو رضوا بذلك.
(1)
أخرجه مسلم 6/ 154 "شرح النوويّ"، وأبو داود (3958)، والترمذيّ (1364)، والنسائيّ (1958).
(2)
متفقٌ عليه.
(3)
أخرجه أبو داود برقم (2696)، وفيه انقطاعٌ، وحسّنه الشيخ الألباني رحمه الله تعالى، راجع:"صحيح أبي داود" 2/ 514.
وذهب طائفة إلى جواز التفريق بينهم برضاهم، منهم النخعيّ، وعبيد الله بن الحسن البصريّ، فعلى هذا يتوجه أن يصح، ويقف على الرضا.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: القول بالبطلان هو الظاهر؛ للحديث المذكور، والله تعالى أعلم.
(ومنها): لو خَصَّ بعض أولاده بالعطية دون بعض، فقد صح عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه أمر بشير بن سَعْد لَمّا خصَّ ولده النعمان بالعطية أن يردّه إليه، ولم يدل ذلك على أنه لم ينتقل المُلك بذلك إلى الولد، فإن هذه العطية تصح، وتقع مراعاةً، فإن ساوى بين الأولاد في العطية، أو استرد ما أعطي الولد جاز، وإن مات ولم يفعل شيئًا من ذلك، فقال مجاهد: هو ميراث، وحُكي عن أحمد نحوه، وأن العطية تبطل، والجمهور على أنها لا تبطل، وهل للورثة الرجوع فيها أم لا؟ فيه قولان مشهوران، وهما روايتان عن أحمد.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: القول بالبطلان هو الظاهر؛ لظاهر الحديث المذكور، والله تعالى أعلم.
(ومنها): الطلاق المنهيّ عنه، كالطلاق في زمن الحيض، فإنه قد قيل: إنه قد نُهي عنه لحقّ الزوج، حيث كان يُخشَى عليه أن يعقبه فيه الندم، ومن نُهي عن شيء رِفقًا به، فلم يَنتَهِ عنه، بل فعله، وتجشَّم مشقته، فإنه لا يُحكم ببطلان ما أَتَى به، كمن صام في المرض، أو السفر، أو واصل في الصيام، أو أخرج ماله، وجلس يتكفف الناس، أو صلى قائمًا مع تضرره بالقيام للمرض، أو اغتسل، وهو يخشى على نفسه الضرر والتلف، ولم يتيمم، أو صام الدهر ولم يُفطر، أو قام الليل ولم يَنَم، وكذلك إذا جمع الطلاق الثلاث على القول بتحريمه.
وقيل: إنما نُهي عن طلاق الحائض؛ لحقّ المرأة؛ لِمَا فيه من الإضرار بها بتطويل العدة، ولو رضيت بذلك، بأن سألته الطلاق بِعِوَض في الحيض، فهل يزول بذلك تحريمه؟ فيه قولان مشهوران للعلماء، والمشهور من مذهب الشافعية والحنبليّة أنه يزول التحريم بذلك. وإن قيل: إن التحريم فيه لحقّ الزوج خاصة، فإذا أقدم عليه، فقد أسقط حقه فسقط، وإن عُلِّل بأنه لحقّ المرأة لم يمنع نفوذه، ووقوعه أيضًا، فإن رضا المرأة بالطلاق غير معتبَر؛
لوقوعه عند جميع المسلمين، لم يخالف فيه سوى شِرْذِمة يسيرة من الروافض ونحوهم، كما أن رضا الرقيق بالعتق غير معتبَر، ولو تضرر به، ولكن إذا تضررت المرأة بذلك، وكان قد بقي شيء من طلاقها أمر الزوج بارتجاعها، كما أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم ابن عمر بارتجاع زوجته؛ تلافيًا منه لضررها، وتلافيًا منه لِمَا وقع منه من الطلاق المحرَّم، حتى لا تصير بينونتها منه ناشئة عن طلاق محرَّم، وليتمكن من طلاقها على وجه مباح، فتحصل إبانتها على هذا الوجه.
وقد رُوي عن أبي الزبير، عن ابن عمر رضي الله عنها أن النبيّ صلى الله عليه وسلم ردَّها عليه، ولم يرها شيئًا. وهذا مما تفرد به أبو الزبير عن أصحاب ابن عمر كلهم، مثل ابنه سالم، ومولاه نافع، وأنس، وابن سيرين، وطاوس، ويونس بن جبير، وعبد الله بن دينار، وسعيد بن جبير، وميمون بن مهران، وغيرهم.
وقد أنكر أئمة العلماء هذه اللفظة على أبي الزبير، من المحدثين، والفقهاء، وقالوا: إنه تفرد بما خالف الثقات، فلا يقبل تفرده، فإن في رواية الجماعة عن ابن عمر ما يدل على أن النبيّ صلى الله عليه وسلم حَسَب عليه الطلقة، من وجوه كثيرة، وكان ابن عمر يقول لمن سأله عن طلاق المرأة في الحيض: إن كنت طلقت واحدة أو اثنتين، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرني بذلك؛ يعني: بارتجاع المرأة، وإن كنت طلقتها ثلاثًا، فقد عصيت ربك، وبانت منك امرأتك.
وفي رواية أبي الزبير زيادة أخرى، لم يتابَع عليها، وهو قوله: ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ} [الطلاق: 1]، ولم يذكر ذلك أحد من الرواة عن ابن عمر، وإنما رَوَى عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، أنه كان يتلو هذه الآية عند روايته للحديث، وهذا هو الصحيح.
وقد كان طوائف من الناس يعتقدون أن طلاق ابن عمر كان ثلاثًا، وأن النبيّ صلى الله عليه وسلم إنما رَدّها عليه؛ لأنه لم يوقع الطلاق في الحيض، وقد روى ذلك عن أبي الزبير أيضًا، من رواية معاوية بن عمار الدُّهْنِيّ عنه، فلعل أبا الزبير اعتقد هذا حقًّا، فروى تلك اللفظة بالمعنى الذي فهمه.
ورَوَى ابنُ لهيعة هذا الحديث عن أبي الزبير، فقال عن جابر: إن ابن عمر طلق امرأته، وهي حائض، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"ليراجعها، فإنها امرأته"،
وأخطأ في ذكر جابر في هذا الإسناد، وتفرّد بقوله:"فإنها امرأته"، وهي لا تدُلُّ على عدم وقوع الطلاق، إلا على تقدير أن يكون ثلاثًا، فقد اختُلِفَ في هذا الحديث على أبي الزبير، وأصحابُ ابن عمر الثقاتُ الحفاظُ العارفون به الملازمون له لم يُختَلف عليهم فيه.
فرَوَى أيوب عن ابن سيرين قال: مكثت عشرين سنة يحدّثني من لا أتهمهم أن ابن عمر طلق امرأته ثلاثًا، وهي حائض، فأمره النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يراجعها، فجعلت لا أتهمهم، ولا أعرف الحديث، حتى لقيت أبا غلاب، يونسَ بنَ جبير، وكان ذا ثَبْتٍ، فحدّثني أنه سأل ابن عمر، فحدّثه أنه طلقها واحدة، أخرجه مسلم
(1)
، وفي رواية قال ابن سيرين: فجعلت لا أعرف للحديث وجهًا، ولا أفهمه.
وهذا يدل على أنه كان قد شاع بين الثقات، من غير أهل الفقه والعلم، أن طلاق ابن عمر كان ثلاثًا، ولعل أبا الزبير من هذا القبيل، ولذلك كان نافع يُسئل كثيرًا عن طلاق ابن عمر: هل كان ثلاثًا أو واحدة؟، ولمَّا قَدِمَ نافع مكة، أرسلوا إليه من مجلس عطاء، يسألونه عن ذلك؛ لهذه الشبهة، واستنكار ابن سيرين لرواية الثلاث يدل على أنه لم يَعرِف قائلًا معتبَرًا، يقول: إن الطلاق المحرَّم غير واقع، وأن هذا القول لا وجه له.
قال الإمام أحمد في رواية أبي الحارث، وسئل عمن قال: لا يقع الطلاق المحرَّم؛ لأنه يخالف ما أُمر به، فقال: هذا قول سوء رديء، ثم ذكر قصة ابن عمر، وأنه احتسب بطلاقه في الحيض.
وقال أبو عبيدة: الوقوع هو الذي عليه العلماء مُجْمِعون في جميع الأمصار، حجازهم، وتهامهم، وَيمَنهم، وشأمهم، وعراقهم، ومِصرهم. وحكى ابن المنذر ذلك عن كل من يُحفَظ قوله، من أهل العلم، إلا ناسًا من أهل البدع، لا يُعتَدُّ بهم.
وأما ما حكاه ابن حزم عن ابن عمر، أنه لا يقع الطلاق في الحيض، مُستنِدًا إلى ما رواه من طريق محمد بن عبد السلام الْخُشَنِيّ الأندلسي: حدثنا
(1)
"صحيح مسلم" 5/ 319 - 320 بشرح النوويّ.
محمد بن بشار، حدثنا عبد الوهاب الثقفي، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، في الرجل يُطَلِّق امرأته، وهي حائض، قال: لا تعتد بها. وبإسناده عن خِلَاس نحوه، فإن هذا الأثر قد سقط عن آخره لفظةٌ، وهي: قال: لا يُعتد بتلك الحيضة، كذلك رواه أبو بكر بن أبي شيبة، في كتابه عن عبد الوهاب الثقفيّ، وكذا رواه يحيى بن معين، عن عبد الوهاب أيضًا، قال: هو غريب لا يحدث به إلا عبد الوهاب.
ومراد ابن عمر: أن الحيضة التي تُطلق فيها المرأة لا تَعْتَدُّ بها المرأة قُرْءًا، وهذا هو مراد خِلاس وغيره.
وقد رُوي ذلك أيضًا عن جماعة من السلف منهم: زيد بن ثابت، وسعيد بن المسيِّب، فَوَهِم جماعة من المفسرين وغيرهم، كما وَهِم ابن حزم، فحكوا عن بعض من سمَّينا أن الطلاق في الحيض لا يقع، وهذا سبب وَهْمِهم. والله أعلم. انتهى كلام الحافظ ابن رجب رحمه الله، وهو تحقيق نفيسٌ جدًّا، وقد سبق تمام البحث في مسألة الطلاق هذه في محلّه من "كتاب الطلاق"، فراجعه تستفد علمًا جمًّا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4485]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، جَمِيعًا عَنْ أبِي عَامِرٍ، قَالَ عَبْدٌ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عَمْرٍو، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللْهِ بْنُ جَعْفَرٍ الزُّهْرِيُّ، عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: سَأْلَتُ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ عَنْ رَجُلٍ، لَهُ ثَلَاثَةُ مَسَاكِنَ، فَأَوْصَى بِثُلُثِ كُلِّ مَسْكَنٍ مِنْهَا، قَالَ: يُجْمَعُ ذَلِكَ كُلُّهُ فِي مَسْكَنٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ قَالَ: أَخْبَرَتْنِي عَائِشَةُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا، فَهُوَ رَدٌّ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه، تقدّم قبل باب.
2 -
(عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ) تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
3 -
(عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عَمْرٍو) القيسيّ، أبو عامر الْعَقَديّ البصريّ، ثقةٌ [9](ت 4 أو 205)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 21.
4 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ الزُّهْرِيُّ) الْمَخْرَميّ، أبو محمد المدنيّ، ثقةٌ [8](ت 170)(خت م 4) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 22/ 1318.
والباقون ذُكروا قبله.
وقوله: (سَأَلْتُ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ عَنْ رَجُلٍ، لَهُ ثَلَاثةُ مَسَاكِنَ، فَأَوْصَى بِثُلُثِ كُلِّ مَسْكَنٍ مِنْهَا، قَالَ: يُجْمَعُ ذَلِكَ كُلُّهُ في مَسْكَنٍ وَاحِدٍ).
قال الحافظ رحمه الله: وقد رويناه في "كتاب السُّنّة" لأبي الحسين بن حامد من طريق محمد بن إسحاق، عن عبد الواحد، وفيه قصّة، قال:"عن سعد بن إبراهيم قال: كان الفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهب أوصى بوصية، فجعل بعضها صدقة، وبعضها ميراثًا، وخلط فيها، وأنا يومئذ على القضاء، فما دَرَيتُ كيف أقضي فيها؟ فصليت بجنب القاسم بن محمد، فسألته، فقال: أَجِزْ من ماله الثلث وصية، ورُدَّ سائر ذلك ميراثًا، فإن عائشة حدثتني"، فذكره بلفظ إبراهيم بن سعد.
قال: وفي هذه الرواية دلالة على أن قوله في رواية مسلم: "يُجمَع ذلك كله في مسكن واحد"، هو بقية الوصية، وليس هو من كلام القاسم بن محمد، لكن صَرّح أبو عوانة في روايته بأنه كلام القاسم بن محمد، وهو مشكل جِدًّا، فالذي أوصى بثلث كل مسكن أوصى بأمْر جائز اتفاقًا، وأما إلزام القاسم بأن يُجمَع في مسكن واحد ففيه نظر؛ لاحتمال أن يكون بعض المساكن أغلى قيمةً من بعض، لكن يَحتَمِل أن تكون تلك المساكن متساويةً، فيكون الأَولى أن تقع الوصية بمسكن واحد من الثلاثة، ولعله كان في الوصية شيء زائد على ذلك يوجب إنكارها، كما أشارت إليه رواية أبي الحسين بن حامد. قال: وقد استشكل القرطبيّ، شارح مسلم ما استشْكَلْته، وأجاب عنه بالحمل على ما إذا أراد أحد الفريقين من الورثة، أو الموصَى لهم القسمةَ، وتمييز حقّه، وكانت المساكن بحيث يُضمّ بعضها إلى بعض في القسمة، فحينئذ تقوّم المساكن قيمة التعديل، ويُجمع نصيب الموصَى لهم في موضع واحد، ويبقى نصيب الورثة فيما عدا ذلك بحسب مواريثهم. والله أعلم. انتهى كلام الحافظ رحمه الله
(1)
.
(1)
"الفتح" 5/ 642.
قال الجامع عفا الله عنه: وعبارة القرطبيّ هكذا: وفُتيا القاسم بن محمد فيمن له مساكن، فأوصى بثلث كل مسكن منها، بأنَّه: يُجْمَع ذلك كلُّه في مسكن واحد، فيه إشكال؛ إذ هي مخالفة لِمَا أوصى به الموصي، والأصل اتِّباع أقواله والعمل بظاهرها؛ فإنَّه كالمشرِّع، ففتيا القاسم ليس على ظاهرها، وإنما هي محمولة على ما إذا أراد أحد الفريقين من الورثة، أو الموصى لهم القسمة، وتمييز حقه، وكانت المساكن متقاربة، بحيث يُضَمّ بعضها إلى بعض في القسمة، فحينئذ تقوَّم تلك المساكن قيمة التعديل، وتُقسم بينهم، فيُجمع نصيب الموصى لهم في موضع واحد يشتركون فيه بحسب وصاياهم، ويبقى نصيب الورثة فيما عدا ذلك، بحسب مواريثهم.
[فإن قيل]: فقد استحالت الوصية عن أصلها.
[فالجواب]: أن ذلك بحسب ما أدَّت إليه سُنَّة القسمة عند الدُّعاء إليها، فإن الموصي لو أوصى بثلت كل مسكن، ومنع من القَسْم لم يُلْتَفَت إلى منعه، وكان ذلك المنع مردودًا، وهو الذي استدلَّ على ردِّه القاسم بقوله صلى الله عليه وسلم:"من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو ردٌّ"، فلو لم يطلب أحدٌ من الفريقين قسمة، أو كانت المساكن لا يُضمُّ بعضها إلى بعض لبُعدها، وتباين اختلافها بقي كلُّ واحد منهم على نصيبه حَسَب ما وُصِّي له به، وهذا كلُّه مذهب مالك. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(1)
.
وقال الحافظ ابن رجب رحمه الله: مراد القاسم أن تغيير وصية الموصي إلى ما هو أحب إلى الله، وأنفع جائز، وقد حُكي هذا عن عطاء، وابن جريج. وربما يستدل بعض من ذهب إلى هذا بقوله تعالى:{فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 182]، ولعله أخذ هذا من جَمْع العتق، فإنه صحّ أن رجلًا أعتق ستة مماليك عند موته، فدعاهم النبيّ صلى الله عليه وسلم، فجزّأهم ثلاثة أجزاء، فأعتق اثنين وأرقّ أربعة، أخرجه مسلم.
وذهب فقهاء الحديث إلى هذا الحديث؛ لأن تكميل عتق العبد مهما أمكن فهو أولى من تشقيصه، ولهذا شُرعت السراية والسعاية، إذا أعتق أحد
(1)
"المفهم" 5/ 171 - 172.
الشريكين نصيبه من عبد، وقال صلى الله عليه وسلم فيمن أعتق بعض عبده:"هذا هو عتيق كله ليس لله شريك"
(1)
.
وأكثر العلماء على خلاف قول القاسم، وأن وصية الموصي لا تُجمع، ويُتَّبع لفظه إلا في العتق خاصة؛ لأن المعنى الذي جُمع له فيه العتق موجود في بقية الأموال، فيُعْمَل فيها بمقتضى وصية الموصي.
وذهب طائفة من الفقهاء في العتق على أنه يَعْتِق من كل عبد ثلثه، ويُستَسْعَون في الباقي، واتباع قضاء النبيّ صلى الله عليه وسلم وأولى.
والقاسم نظر إلى أن في مشاركة الموصَى له للورثة في المساكن كلها ضررًا عليهم، فَيُدفع عنهم هذا الضرر، ويجمع الوصية في مسكن واحد، فإن الله شرط في الوصية عدم المضارة؛ لقوله:{غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ} [النساء: 12]، فمن ضارّ في وصيته كان عمله مردودًا عليه؛ لمخالفته ما شَرَط الله تعالى في الوصية.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن ما ذهب إليه القاسم: هو الوجيه؛ لوضوح حجته؛ فإن الآية المذكورة ظاهرة في ذلك، فتأمل، والله تعالى أعلم.
وقد ذهب طائفة من الفقهاء إلى أنه لو أوصى بثلث مساكنه كلها، ثم تَلِف ثلثا المساكن، وبقي منها ثلث أنه يُعطَى كلها للموصَى له. وهذا قول طائفة من أصحاب أبي حنيفة. وحُكي عن أبي يوسف ومحمد، ووافقهم القاضي أبو يعلى من الحنابلة خلافه، وبَنَوا ذلك على أن المساكن المشترَكة تُقسم بين المشترِكين فيها قسمة إجبار، كما هو قول مالك، وظاهر كلام ابن أبي موسى من الحنابلة، والمشهور عندهم أن المساكن المتعدّدة لا تُقسم قسمة إجبار، وهو قول أبي حنيفة، والشافعيّ رحمهما الله.
وقد تأول بعض المالكية فتيا القاسم المذكورة في هذا الحديث على أن أحد الفريقين من الورثة، والموصى لهم طلب قسمة المساكن، فكانت متقاربة بحيث يُضم بعضها إلى بعض في القسمة، فإنه يجاب إلى قسمتها على قولهم،
(1)
حديث صحيح، أخرجه أبو داود في كتاب "العتق" من "سننه" رقم (3933).
وهذا التأويل بعيد، مخالف للظاهر. انتهى كلام ابن رجب ببعض تصرّف
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: أراد ابن رجب ببعض المالكية القرطبيّ، وقد سبق تأويله هذا، وعندي أنه لا بُعد في تأويله، فليُتأمّل بالامعان، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(9) - (بَابُ بَيَانِ خَيْرِ الشُّهُودِ)
[4486]
(1719) - (وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ أَبِيه، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ، عَنِ ابْنِ أَبِي عَمْرَةَ الأَنْصَارِيّ، عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيّ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ الشُّهَدَاء، الَّذِي يَأْتِي بِشَهَادَتِهِ قَبْلَ أَنْ يُسْأَلَهَا").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ، تقدّم قبل باب.
2 -
(مَالِكُ) بن أنس، إمام دار الهجرة، أبو عبد الله الإمام الحجة، رأس المتقنين، وكبير المتثبّتين [7](ت 179)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 378.
3 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ) الأنصاريّ المدنيّ القاضي، ثقةٌ [5](ت 135)، وهو ابن (70) سنة (ع) تقدم في "الصلاة" 17/ 916.
4 -
(أَبُوهُ) أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاريّ، تقدّم قبل بابين.
5 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ) بن عفّان الأمويّ الملقّب بالْمُطْرَف - بضم الميم، وسكون الطاء المهملة، وفتح الراء - ثقةٌ شريف [3] مات بمصر سنة (96)(م د ت س) تقدم في "الحج" 82/ 3316.
6 -
(ابْنُ أَبِي عَمْرَةَ الأَنْصَارِيُّ) هو: عبد الرحمن بن أبي عمرة، واسمه
(1)
"جامع العلوم والحكم" 1/ 124 - 125.
عمرو بن مِحْصن الأنصاريّ النجّاريّ، يقال: وُلد في عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقال ابن أبي حاتم: ليست له صحبة. انتهى [2](ع) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 47/ 1492.
7 -
(زَيْدُ بْنُ خَالِدٍ الْجُهَنِيُّ) المدنيّ الصحابيّ المشهور، مات بالكوفة سنة (68) أو (70)، وله (85) سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 34/ 238.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه مسلسلٌ بالمدنيين، سوى شيخ المصنّف، فنيسابوريّ، وقد دخل المدينة؛ للأخذ عن مالك، وفيه أربعة من التابعين المدنيين روى بعضهم عن بعض: عبد الله، وأبوه، وعمرو بن عثمان، وابن أبي عمرة، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنِ ابْنِ أبِي عَمْرَةَ الأَنْصَارِيِّ) قال أبو عمر بن عبد البرّ رحمه الله: اختُلِف على مالك في أبي عمرة هذا في إسناد هذا الحديث، فقال فيه يحىي بن يحيى، وابن القاسم، وأبو مصعب الزهريّ، ومصعب الزبيريّ:"عن أبي عمرة الأنصاريّ"، وقال القعنبيّ، ومَعْن بن عيسى، ويحيى بن بكير:"عن ابن أبي عمرة"، وكذلك قال ابن وهب، وعبد الرزاق، عن مالك، وسمَّياه، فقالا:"عن عبد الرحمن بن أبي عمرة"، فرفعا الإشكال، جَوَّدا في ذلك، وأصابا، وبعيد أن يروي أبو عمرة الأنصاريّ مع كِبَر سنّه عن زيد بن خالد الجهنيّ، وأما رواية ابنه عبد الرحمن بن أبي عمرة عنه، فغير بعيدة، ولا مدفوعة، وعبد الرحمن بن أبي عمرة من خيار التابعين بالمدينة. انتهى كلام ابن عبد البرّ رحمه الله
(1)
.
(عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ) رضي الله عنه (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: أَلَا) أداة استفتاح وتنبيه، (أخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ الشُّهَدَاءِ) جمع شهيد، كظُرَفاء: جمع ظريف، ويُجمع أيضًا على شُهُود، لكنه جَمْع شاهد، كحُضُور، جمع حاضر، وخُروج، جمع خارج، ويعني بخير الشهداء: أكملهم في رتبة الشهادة، وأكثرهم ثوابًا عند الله، قاله القرطبيّ رحمه الله
(2)
، وقوله:(الَّذِي يَأْتِي بِشَهَادَتِهِ) خبر لمحذوف؛ أي: هو
(1)
"الاستذكار" 7/ 100.
(2)
"المفهم" 5/ 172.
الذي يأتي بالشهادة، والجملة مستأنَفة استئنافًا بيانيًّا، وهو ما وقع جوابًا عن سؤال مقدّر؛ أي: قالوا له: أخبرنا، فقال: هو الذي
…
إلخ، (قَبْلَ أَنْ يُسْأَلَهَا") بالبناء للمفعول.
قال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "الذي يأتي بشهادته قبل أن يسأَلَها"؛ يعني به: الشهادة التي يجب أداؤها، وإن لم يُسْألَها؛ كشهادة بحقٍّ لم يحضر مستحقّه، أو بشيء يخاف ضياعه، أو فوته، أو بطلاق، أو عتق على من أقام على تصرُّفه من الاستمتاع بالزوجة، واستخدام العبد، إلى غير ذلك، فيجب على من تحمَّل شيئًا من ذلك أداء تلك الشهادة، ولا يقف أداؤها على أن تُسْأَلَ منه، فيضيع الحقّ، وقد قال تعالى:{وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} [الطلاق: 2]، ولا يعارض هذا بقوله صلى الله عليه وسلم في "الصحيحين":"ثم يأتي من بعد ذلك قوم يشهدون، ولا يُستشهدون"؛ لأن هذا محمولٌ على أحد وجهين:
أحدهما: أنه يراد به: شاهد الزور؛ فإنَّه يشهد بما لم يُستشْهَد؛ أي: بما لم يُحَمَّله.
والثاني: أن يراد به: الذي يحمله الشَّرَهُ على تنفيذ ما يشهد به، فيبادر بالشهادة قبل أن يُسْأَلَها، فهذه شهادة مردودة، فإن ذلك يدلُّ على هوى غالب على الشاهد، ولا خلاف عندنا في هذا - إن شاء الله تعالى - وما ذكرناه أحسن ما حُمِل عليه هذا الحديث.
وقد رُوي عن النَّخعيّ رحمه الله أنَّه قال: المراد بالشهادة في هذا الحديث: اليمين، واستَدَلَّ عليه بقوله صلى الله عليه وسلم في بقيَّة الحديث:"تَسبِق يمين أحدهم شهادته، وشهادته يمينه"، وفيه نظر، وسيأتي إن شاء الله تعالى.
[فرع]: لا إشكال في أن من وجبت عليه شهادة على أحد الأوجه التي ذكرناها، فلم يؤدِّها أنَّها جُرْحَةٌ، في الشَّاهد والشهادة، ولا فرق في هذا بين حقوق الله تعالى وحقوق الآدميين، هذا قول ابن القاسم وغيره، وذهب بعضهم: إلى أن تلك الشهادة إن كانت بحق من حقوق الآدميين كان ذلك جُرْحَةً في تلك الشهادة نفسها خاصة، فلا يصلح له أداؤها بعد ذلك.
قال القرطبيّ: وهذا ليس بشيء؛ لأنَّ الذي يوجب جرحته: إنما هو فسقه بامتناعه من القيام بما وجب عليه من غير عُذْرٍ، والفسق يسلب أهلية الشهادة
مطلقًا، وهذا واضح. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(1)
.
وقال ابن عبد البرّ رحمه الله: قال ابن وهب: سمعت مالكًا يقول في تفسير هذا الحديث: إنه الرجل تكون عنده الشهادة في الحقّ يكون للرجل، ولا يَعْلَم بذلك قبلُ، فيُخبِر بشهادته، ويرفعها إلى السلطان، قال ابن وهب: وبلغني عن يحيى بن سعيد، أنه قال: من دُعي لشهادة عنده، فعليه أن يجيب إذا عَلِم أنه ينتفع بها الذي يشهد له بها، وعليه أن يؤديها، ومن كانت عنده شهادة لا يعلم بها صاحبها فليؤدِّها قبل أن يسأل عنها، فإنه كان يقال: من أفضل الشهادات شهادةُ رجل أدّاها قبل أن يُسألها.
قال أبو عمر: تفسير مالك لهذا الحديث حسن، وتفسير يحيى بن سعيد نحوه، وأداء الشهادة بِرّ، وخير، وقيام بحقّ، فمن بَدَرَ
(2)
إلى ذلك فله الفضل على غيره، ممن لم يبدُر بها، قال الله عز وجل:{فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} الآية [المائدة: 48]، ومعلوم أنه ربما نَسِي صاحب الشهادة شهادة عدل معلوم
(3)
لا يدري أين هو؟ ولا من هو؟، ويخاف ذهاب حقه، فإذا أخبره الشاهد العدل بأن له شهادةً عنده فَرَّج كربه، وأدخل السرور عليه، وقد ثبت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال:"ومن نَفَّس عن مسلم كُربةً من كُرَب الدنيا نَفَّس الله عنه كربة من كُرَب الآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه"، رواه مسلم.
قال: وقد روي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم من حديث عمران بن الحصين وغيره قال: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يأتي قوم يتسمنون، ويحبون السِّمَن، يعطون الشهادة قبل أن يُسألوها"، متّفق عليه.
قال: وهذا ليس بمعارض لحديث مالك في هذا الباب، وقد فسَّر إبراهيم النخعيّ هذا الحديث، فقال فيه كلامًا معناه: أن الشهادة ها هنا اليمين؛ أي: يحلف أحدهم قبل أن يُستَحلَفَ، ويحلف حيث لا تراد منه يمين، واليمين قد تسمى شهادة، قال الله تعالى:{أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} الآية [النور: 6 و 8]: أي:
(1)
"المفهم" 5/ 172 - 173.
(2)
من باب قعد.
(3)
وقع في النسخة: "شهادة فضل معلومًا"، والظاهر أنه تصحيف، فتأمل، والله تعالى أعلم.
أربع أيمان. انتهى
(1)
.
وقال في "التمهيد": قال أبو عمر: تفسير مالك ويحيى بن سعيد لهذا الحديث أولى ما قيل به فيه، ولا يَسَعُ الذي عنده شهادة لغيره أن يكتمها، ولا أن يسكت عنها، إلا أن يعلم أن حق الطالب يثبت، أو قد ثبت بغيره، فان كان كذلك فهو في سعة، وأداؤها مع ذلك أفضل، وسواء شهد أحد قبله، أو معه، أو لم يشهد، إذا كان الحق مالًا؛ لأن اليمين فيه مع الشاهد الواحد.
وقال أيضًا: معنى هذا الحديث عندهم النهي عن قول الرجل: أشهد بالله، وعليّ عهد الله، ونحو ذلك، والبدار إلى ذلك، وإلى اليمين في كل ما لا يصلح، وما يصلح، وليس هذا الحديث من باب أداء الشهادة في شيء، وقد سمّى الله عز وجل أيمان اللعان شهادات، فقال:{فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} [النور: 6]، وهذا واضح يُغني عن الإكثار فيه. انتهى كلام ابن عبد البرّ رحمه الله
(2)
.
وقال النوويّ رحمه الله: وفي المراد بهذا الحديث تأويلان:
أصحهما، وأشهرهما تأويل مالك، وأصحاب الشافعيّ أنه محمول على من عنده شهادة لإنسان بحقّ، ولا يَعلم ذلك الإنسان أنه شاهد، فيأتي إليه، فيخبره بأنه شاهد له.
والثاني: أنه محمول على شهادة الْحِسْبة
(3)
، وذلك في غير حقوق الآدميين المختصة بهم، فمما تُقْبَل فيه شهادة الحسبة: الطلاقُ والعتق، والوقف، والوصايا العامة، والحدود، ونحو ذلك، فمن عَلِم شيئًا من هذا النوع وجب عليه رفعه إلى القاضي، وإعلامه به، والشهادة، قال الله تعالى:
(1)
"الاستذكار" 7/ 100.
(2)
"التمهيد" 17/ 295 - 301.
(3)
شهادة الحِسبة عرّفها الفقهاء بأنها عبارة عن أداء الشاهد شهادة تحمّلها ابتداء، لا بطلب طالب، ولا بتقدّم دعوى مُدَّعٍ، ومعنى حسبة: أي احتسابًا لله تعالى، وطلبًا للأجر منه، فشاهد الحسبة لا يتقدّمه دعوى مدَّعٍ، فيكون هو مدّعيًا، كما هو شاهد في نفس الوقت، وتُقبل شهادة الحسبة في حقوق الله تعالى الخالصة، مثل حدّ الزنا، والشرب، وقطع الطريق، كما تُقبل في الزكاة، والعَتاق، والوصيّة للفقراء، والوقف عليهم، وعلى المصالح العامّة، وفي الطلاق، والعدّة، وحرمة المصاهرة، والخلع، والرضاع، وغيره. راجع:"ردّ المحتار" لابن عابدين 4/ 514.
{وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} [الطلاق: 2]، وكذا في النوع الأول يلزم مَن عنده شهادة لإنسان لا يعلمها أن يُعلِمه إياها؛ لأنها أمانة له عنده.
وحُكِي تأويل ثالث: أنه محمول على المجاز، والمبالغة في أداء الشهادة بعد طلبها، لا قبله، كما يقال: الجواد يعطي قبل السؤال؛ أي: يعطي سريعًا عقب السؤال، من غير توقف.
قال العلماء: وليس في هذا الحديث مناقضة للحديث الآخر في ذمّ من يأتي بالشهادة قبل أن يُستشهَد في قوله صلى الله عليه وسلم: "يَشهدون، ولا يُستشهَدون"، وقد تأول العلماء هذا تأويلات: أصحها: تأويل أصحابنا أنه محمول على من معه شهادة لآدميّ عالم بها، فيأتي فيشهد بها قبل أن تطلب منه.
والثاني: أنه محمول على شاهد الزور، فيشهد بما لا أصل له، ولم يستشهد.
والثالث: أنه محمول على من ينتصب شاهدًا، وليس هو من أهل الشهادة.
والرابع: أنه محمول على من يشهد لقوم بالجنة، أو بالنار، من غير توقيف، وهذا ضعيف، والله أعلم. انتهى كلام النوويّ رحمه الله
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث زيد بن خالد الجهنيّ رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [9/ 4486](1719)، و (أبو داود) في "الأقضية"(3596)، و (الترمذيّ) في "الأحكام"(2295 و 2296)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(3/ 494)، و (ابن ماجه) في "الأحكام"(2364)،
(1)
"شرح النوويّ" 12/ 17.
و (مالك) في "الموطأ"(2/ 720)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(8/ 364)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 115 و 5/ 193)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5079)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 172)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(5/ 232 و 233)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(4/ 152)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(10/ 159)، و (البغويّ) في "شِرح السُّنّة"(2513)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان خير الشهداء، وهم المذكورون في الحديث.
2 -
(ومنها): استحباب المبادرة إلى الخير، وهو معنى قوله:{فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة: 148]، وقوله:{وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين: 26]، وقوله:{وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [آل عمران: 133].
3 -
(ومنها): جواز شهادة السماع، وإن لم يقل المشهود له: أُشهدك على هذا، ولا قال المشهود عليه: اشهد عليّ، فمن سمع شيئًا، وعَلِمه جاز له أن يشهد به؛ لقوله تعالى:{إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف: 86]، وقوله عز وجل:{وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} [الطلاق: 2]، وقوله:{وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ (33)} [المعارج: 33].
قال ابن عبد البرّ رحمه الله: قد جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ظهور شهادة الزور، وكتمان شهادة الحقّ من أشراط الساعة، عائبًا لذلك، ومُوَبِّخًا عليه، فإذا كان كتمان شهادة الحقّ عيبًا، وحرامًا، فالبِدَار إلى الإخبار بها قبل أن يُسأل عنها فيه الفضل الجسيم، والأجر العظيم - إن شاء الله تعالى. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم.
(1)
"التمهيد" 17/ 297.
(10) - (بَابُ بَيَانِ اخْتِلَافِ الْمُجْتَهِدِينَ لَا يُنْكَرُ)
(1)
[4487]
(1720) - (حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنِي شَبَابَةُ، حَدَّثَنِي وَرْقَاءُ، عَنْ أَبِي الزِّنَاد، عَنِ الأَعْرَج، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "بَيْنَمَا امْرَأَتَانِ مَعَهُمَا ابْنَاهُمَا جَاءَ الذِّئْبُ، فَذَهَبَ بِابْنِ إِحْدَاهُمَا، فَقَالَتْ هَذِهِ لِصَاحِبَتِهَا: إِنَّمَا ذَهَبَ بِابْنِكِ أَنْت، وَقَالَتِ الأُخْرَى: إِنَّمَا ذَهَبَ بِابْنِكِ
(2)
، فَتَحَاكَمَتَا إِلَى دَاوُدَ، فَقَضَى بِهِ لِلْكُبْرَى، فَخَرَجَتَا عَلَى سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ عليهما السلام فَأَخْبَرَتَاهُ، فَقَالَ: ائْتُونِي بِالسِّكِّين، أَشُقُّهُ بَيْنَكُمَا، فَقَالَتِ الصُّغْرَى: لَا - يَرْحَمُكَ اللهُ - هُوَ ابْنُهَا، فَقَضَى بِهِ لِلصُّغْرَى"، قَالَ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: وَاللهِ إِنْ سَمِعْتُ بِالسِّكِّينِ قَطُّ إِلَّا يَوْمَئِذٍ، مَا كُنَّا نَقُولُ إِلَّا: الْمُدْيَةَ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) تقدّم قريبًا.
2 -
(شَبَابَةُ) بني سَوّار المدائنيّ، خراسانيّ الأصل، يقال: اسمه مروان الفزاريّ مولاهم، ثقةٌ حافظٌ، رُمي بالإرجاء [9](ت 4 أو 5 أو 206)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 40.
3 -
(وَرْقَاءُ) بن عُمر اليشكريّ، أبو بشر الكوفيّ، نزيل المدائن، ثقةٌ في غير منصور بن المعتمر، ففيه لين [6](ع) تقدم في "الصلاة" 31/ 999.
4 -
(أَبُو الزِّنَادِ) عبد الله بن ذكوان القرشيّ مولاهم، أبو عبد الرحمن المدنيّ، ثقةٌ فقيه [5](ت 130)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 30.
5 -
(الأَعْرَجُ) عبد الرحمن بن هُرْمُز القرشيّ مولاهم، أبو داود المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيه [3](ت 117)(ع) تقدم في "الإيمان" 23/ 192.
6 -
(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه تقدم في "المقدمة" 2/ 4.
(1)
كذا ترجم القرطبيّ رحمه الله في مختصره، زاد قوله:"لا يُنْكَر"، وهي زيادة مفيدة، فتنبّه.
(2)
وفي نسخة: "بابنك أنت".
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه مسلسل بالمدنيين من أبي الزناد، وفيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ، وهو أصحّ أسانيد أبي هريرة رضي الله عنه عند بعضهم، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه أحفظ من روى الحديث في دهره، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) أنه (قَالَ: "بَيْنَمَا امْرَأتانِ) قال الحافظ: لم أقف على اسم واحدة من هاتين المرأتين، ولا على اسم واحد من ابنيهما في شيء من الطرق، (مَعَهُمَا ابْنَاهُمَا) وفي رواية ابن عجلان، عن أبي الزناد عند النسائيّ:"خرجت امرأتان، معهما صبيّان لهما"، وفي رواية مسكين بن بُكير، عن شعيب:"خرجت امرأتان، معهما ولداهما"، (جَاءَ الذِّئْبُ) قال في "القاموس": الذئب - بالكسر -، ويترك همزه: كلب البرّ، جمْعُه أذؤبٌ، وذِئابٌ، وذُؤبان بالضم، وهي بهاء. انتهى
(1)
.
وقال في "المصباح": "الذئب": يُهمَز، ولا يُهمز، ويقع على الذكر والأنثى، وربّما دخلت الهاء في الأنثى، فقيل: ذئبة، وجمع القلّة: أَذْؤُبٌ، مثلُ فلس وأفلُس، وجمع الكثرة ذِئابٌ، وذُؤبان، ويجوز التخفيف، فيقال: ذياب بالياء؛ لوجود الكسرة. انتهى
(2)
.
(فَذَهَبَ بِابْنِ إِحْدَاهُمَا) وفي رواية ابن عجلان: "فعدا الذئب على إحداهما، فأخذ ولدها"، (فَقَالَتْ هَذِهِ لِصَاحِبَتِهَا)؛ أي: قالت إحدى المرأتين لصاحبتها: (إِنَّمَا ذَهَبَ بِابْنِكِ أنتِ) الضمير المنفصل ذُكر لتأكيد المتّصل، (وَقَالَتِ الْأُخْرَى: إِنَّمَا ذَهَبَ بِابْنِكِ) وفي نسخة: "بابنك أنت". (فَتَحَاكَمَتَا) وفي رواية ابن عجلان: "فأصبحتا تختصمان في الصبيّ الباقي"، (إِلَى) النبيّ (دَاوُدَ) عليه السلام، وفي رواية مسكين، عن شعيب:"فاختصما إلى داود النبي صلى الله عليه وسلم "، (فَقَضَى بهِ لِلْكُبْرَى) قيل: كان ذلك على سبيل الفُتيا منهما لا الحكم، ولذلك ساغ لسليمان عليه السلام أن ينقضه، وتعقبه القرطبيّ رحمه الله بأن في لفظ الحديث: أنه قضى بأنهما تحاكما،
(1)
"القاموس المحيط" ص 463.
(2)
"المصباح المنير" 1/ 213.
وبأن فتيا النبيّ وحكمه سواء، في وجوب تنفيذ ذلك. وقال الداوديّ: إنما كان منهما على سبيل المشاورة، فوضح لداود صحة رأي سليمان فأمضاه. قال ابن الجوزيّ: استويا عند داود عليه السلام في اليد، فقدّم الكبرى للسنّ.
وتعقّبه القرطبيّ، وحَكَى أنه قيل: كان من شرع داود عليه السلام أن يحكم للكبرى، قال: وهو فاسد؛ لأن الكبير والصغر وصف طرديّ، كالطول والقصر، والسواد والبياض، ولا أثر لشيء من ذلك في الترجيح، قال: وهذا مما يكاد يُقطع بفساده، قال: والذي ينبغي أن يقال: إن داود عليه السلام قضى به للكبرى؛ لسببٍ اقتضى به عنده ترجيح قولها؛ إذ لا بينة لواحدة منهما، وكونه لم يُعَيَّن في الحديث اختصارًا لا يلزم منه عدم وقوعه، فيَحْتَمِل أن يقال: إن الولد الباقي كان في يد الكبرى، وعجزت الأخرى عن إقامة البينة، قال: وهذا تأويل حسن، جارِ على القواعد الشرعية، وليس في السياق ما يأباه، ولا يمنعه.
[فإن قيل]: فكيف ساغ لسليمان عليه السلام نقض حكمه؟.
[فالجواب]: أنه لم يَعْمِد إلى نقض الحكم، وإنما احتال بحيلة لطيفة، أظهرت ما في نفس الأمر، وذلك أنهما لمّا أخبرتا سليمان بالقصة، فدعا بالسكين؛ ليشفه بينهما، ولم يعزم على ذلك في الباطن، وإنما أراد استكشاف الأمر، فحصل مقصوده لذلك لجزع الصغرى الدالّ على عظيم الشفقة، ولم يلتفت إلى إقرارها بقولها: هو ابن الكبرى؛ لأنه عَلِمَ أنها آثرت حياته، فظهر له من قرينة شفقة الصغرى، وعدمها في الكبرى، مع ما انضاف إلى ذلك من القرينة، الدالة على صدقها ما هَجَم به على الحكم للصغرى، ويَحْتَمِل أن يكون سليمان عليه السلام ممن يسوغ له أن يحكم بعلمه، أو تكون الكبرى في تلك الحالة، اعترفت بالحقّ، لَمّا رأت من سليمان عليه السلام الجد والعزم في ذلك.
ونظير هذه القصة: ما لو حكم حاكم على مُدَّع مُنكِر بيمين، فلما مضى لِيُحَلِّفه حضر من استخرج من المُنكِر ما اقتضى إقراره، بما أراد أن يحلف على جحده، فإنه والحالة هذه يُحكم عليه بإقراره، سواء كان ذلك قبل اليمين أو بعدها، ولا يكون ذلك من نقض الحكم الأول، ولكن من باب تبدّل الأحكام
بتبدل الأسباب. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله بتصرّف
(1)
، وهو بحث جيّد.
وقال ابن الجوزيّ
(2)
: استنبط سليمان عليه السلام لَمّا رأى الأمر مُحْتَمِلًا، فأجاد، وكلاهما حكم بالاجتهاد؛ لأنه لو كان داود حكم بالنصّ، لَمَا ساغ لسليمان أن يحكم بخلافه، قاله في "الفتح"
(3)
.
(فَخَرَجَتَا عَلَى سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ عليه السلام فَأَخْبَرَتَاهُ) بالقصّة، وبما قضى به أبوه داود عليه السلام، وفي رواية ابن عجلان:"فمرّتا على سليمان عليه السلام، فقال: كيف أمرُكما؟ فقصّتا عليه"، وفي رواية مسكين، عن شعيب:"فمرّتا على سليمان عليه السلام، فقال: كيف قضى بينهما؛ ". (فَقَالَ) سليمان عليه السلام: (ائْتُونِي بِالسِّكِّينِ) - بكسر السين المهملة، وتشديد الكاف -: الْمُدْيَة، سُمّي بذلك لأنه يُسكّن حركة المذبوح، وحكى ابن الأنباريّ فيه التذكير والتأنيث، وقال السجِستانيّ: سألت أبا زيد الأنصاريّ، والأصمعيّ، وغيرهما ممن أدركنا، فقالوا: هو مذكّرٌ، وأنكروا التأنيث، وربّما أُنّث في الشعر على معنى الشَّفْرَة، وأنشد الفرّاء:
فَعَيَّتْ فِي السَّنَامِ غَدَاةَ قُرٍّ
…
بِسِكِّينٍ مُوَثَّقَةِ النِّصَابِ
ولهذا قال الزجّاج: السّكّين مذكّرٌ، وربّما أُنّث بالهاء، لكنه شاذّ، غير مختار، ونونه أصليّةٌ، فوزنه فِعِّيل من التسكين، وقيل: النون زائدة، فهو فِعْلِينٌ، مثلُ غِسْلينٍ، فيكون من المضاعف. أفاده الفيّوميّ رحمه الله
(4)
.
(أَشُقُّهُ بَيْنَهُمَا) وفي رواية ابن عجلان: "أشقّ الغلام بينهما"، وفي رواية مسكين: قال سليمان: "أقطعه بنصفين: لهذه نصفٌ، ولهذه نصفٌ، قالت الكبرى: اقطعوه، فقالت الصغرى: لا تقطعه، هو ولدها". (فَقَالَتِ الصُّغْرَى: لَا، يَرْحَمُكَ اللهُ) قال النوويّ رحمه الله: معناه: لا تشقّه، وتمّ الكلام، ثم استأنفت، فقالت:"يرحمك الله، هو ابنها"، قال العلماء: يستحبّ أن يقال في مثل هذا بالواو، فيقال:"لا، ويرحمك الله". انتهى
(5)
.
(1)
"المفهم" 5/ 175 - 176.
(2)
"كشف المشكل " 3/ 510 - 511.
(3)
"الفتح" 8/ 45، كتاب "أحاديث الأنبياء" رقم (3427).
(4)
"المصباح المنير" 1/ 283.
(5)
"شرح النوويّ" 12/ 18 - 19.
وقال القرطبيّ رحمه الله: ينبغي على هذه الرواية أن يقف قليلًا بعد "لا"، حتى يتبيَّن للسامع أن الذي بعده كلام مستأنَف؛ لأنه إذا وصله بما بعده يَتوهم السامع أنه دعا عليه، وإنما هو دعاء له، وقد روي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال لرجل سمعه يقول مثل ذلك القول: لا تقل هكذا، وقل: يرحمكم الله، لا. قال: وبزول الإبهام في مثل هذا بزيادة واو، كأن يقول: لا ويرحمك الله. وفيه حجة لمن قال: إن الأم تستحلف، والمشهور من مذهب مالك، والشافعيّ أنه لا يصح. انتهى
(1)
.
وفي رواية النسائيُّ: "لا تفعل، يرحمك الله".
(هُوَ ابْنُهَا، فَقَضَى) سليمان عليه السلام (بِهِ)؛ أي: بالولد؛ (لِلصُّغْرَى") وفي رواية ابن عجلان: "فقالت الصغرى: أتشقّه؟ قال: نعم، فقالت: لا تفعل، حظّي منه لها، قال: هو ابنك، فقضى به لها". وفي رواية مسكين: "فقالت الصغرى: "لا تقطعه، هو ولدها، فقضى به للّتي أبت أن يقطعه".
(قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه يعني: بالإسناد السابق، وليس تعليقًا، وقد وقع كذلك في رواية الإسماعيليّ من طريق ورقاء، عن أبي الزناد. قاله في "الفتح". (وَاللهِ إِنْ) هي النافية، وليست هي الشرطيّة؛ أي: ما (سَمِعْتُ بِالسِّكِّينِ قَطُّ إِلا يَوْمَئِذٍ، مَا كُنَّا نَقُولُ إِلَّا: الْمُدْيَةَ) مثلثة الميم، قيل للسكين ذلك؛ لأنها تقطع مَدَى حياة الحيوان، كما أن السكين سمّي به؛ لكونه يسكّن حركة المذبوح، كما تقدّم قريبًا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [10/ 4487 و 4488](1720)، و (البخاريّ) في "أحاديث الأنبياء"(34271) و "الرقاق"(6483)"والفرائض"(6769)، و (النسائيّ) في "آداب القضاة"(5404 و 5405 و 5406) وفي "الكبرى، (5957
(1)
"المفهم" 5/ 177، و "الفتح" 8/ 46.
و 5958 و 5959 و 5960)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 322 و 340)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5066)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 173 - 174)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(10/ 268)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان اختلاف المجتهدين، وأن المجتهد إذا رآى خلاف ما رآه الآخر، له أن يخالفه، ولا يجوز أن يُقلّده فيه.
2 -
(ومنها): بيان جواز حكم الحاكم بما يفهمه من القضيّة، قال أبو العبَّاس القرطبيّ رحمه الله: وفيه من الفقه: استعمال الحكّام الْحِيَل التي تُستخرج بها الحقوق، وذلك يكون عن قوّة الذكاء، والفطنة، وممارسة أحوال الخليقة، وقد يكون في أهل التقوى فِراسة دينيّةٌ، وتوسّماتٌ نورانيّةٌ، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. انتهى.
وقال النووي رحمه الله: إن سليمان عليه السلام فعل ذلك تحيّلًا على إظهار الحق، فكان كما لو اعترف المحكوم له بعد الحكم، أن الحق لخصمه.
3 -
(ومنها): أن فيه المسألة المشهورة، وهي أن شَرْع من قبلنا شرعٌ لنا، وهو محلّ خلاف، وهو مذهب المصنّف حيث أورد في هذا الباب قصّة داود وسليمان عليهم السلام ولم يورد غيره، وهو أيضًا مذهب البخاريّ، بل هو مذهب المحدّثين حيث إنهم يوردون تحت ترجمة شرعيّة حديثًا من أحاديث بني إسرائيل، ويحتجّون به، وهو الحقّ، على تفاصيل تقدّمت في مواضع كثيرة.
4 -
(ومنها): أن هذه القصة دلّت على أن الفطنةَ والفهم موهبة من الله، لا يتعلق بكِبَر سنّ، ولا صِغَره.
5 -
(ومنها): أن الحقّ في جهة واحدة، وأن الأنبياء يسوغ لهم الحكم بالاجتهاد، وإن كان وجود النص ممكنًا لديهم بالوحي، لكن في ذلك زيادة في أجورهم، ولعصمتهم من الخطإ في ذلك؛ إذ لا يُقَرُّون لعصمتهم على الباطل. قاله في "الفتح"
(1)
.
وقال القرطبي رحمه الله: وفي هذا الحديث أن الأنبياء عليهم السلام سُوّغ لهم الحكم
(1)
"الفتح" 8/ 45.
بالاجتهاد، وهو مذهب المحقّقين من الأصوليين، ولا يُلتفَت لقول من يقول: إن الاجتهاد إنما يسوغ عند فقد النصّ، والأنبياء عليهم السلام لا يفقدون النصّ، فإنهم متمكّنون من استطلاع الوحي، وانتظاره؛ لأنا نقول: إذا لم يأتهم الوحي في الواقعة صاروا كغيرهم في البحث عن معاني النصوص التي عندهم، والفرق بينهم وبين غيرهم من المجتهدين أنهم معصومون عن الغلط والخطإ، وعن التقصير في اجتهادهم، وغيرهم ليسوا كذلك. انتهى
(1)
.
6 -
(ومنها): أن فيه استعمالَ الحيل في الأحكام؛ لاستخراج الحقوق، ولا يتأتى ذلك إلا بمزيد الفطنة، وممارسة الأحوال، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4488]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَا سُوَيْدُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنِي حَفْصٌ - يعني: ابْنَ مَيْسَرَةَ الصَّنْعَانِيَّ - عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ (ح) وحَدَّثنَا أمَيةُ بْنُ بِسْطَامَ، حَدَّثنَا يَزِيدُ بْنُ زُريعٍ، حَدَّثَنَا رَوْحٌ - وَهُوَ ابْنُ الْقَاسِمِ - عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلَانَ، جَمِيعًا عَنْ أَبِي الزِّنَاد، بِهَذَا الإسْنَاد، مِثْلَ مَعْنَى حَدِيثِ وَرْقَاءَ).
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(سُوَيْدُ بْنُ سَعِيدٍ) الْهَرويّ الأصل، ثم الْحَدَثانيّ، أبو محمد، صدوق في نفسه، إلا أنه عَمِي، فصار يتلقّن ما ليس من حديثه، من قدماء [10](ت 240) وله مائة سنة (م ت) تقدم في "المقدمة" 6/ 87.
2 -
(حَفْصُ بْنُ مَيْسَرَةَ الصَّنْعَانِيُّ) العُقيليّ، أبو عمر، نزيل عسقلان، ثقةٌ ربّما وَهِمَ [6](ت 181)(خ م مد س ق) تقدم في "الإيمان" 87/ 461.
3 -
(مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ) بن أبي عيّاش الأسديّ مولاهم المدنيّ، ثقةٌ فقيهٌ، إمام في المغازي [5](ت 141) أو بعد ذلك (ع) تقدم في "الإيمان" 81/ 433.
4 -
(أمَيَّةُ بْنُ بِسْطَامَ) الْعَيشيّ، أبو بكر البصريّ، صدوقٌ [10](ت 231)(خ م س) تقدم في "الإيمان" 7/ 132.
(1)
"المفهم" 5/ 176.
5 -
(يَزِيدُ بْنُ زُريعٍ) العيشيّ، أبو معاوية البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 182)(ع) تقدم في "الإيمان" 7/ 132.
6 -
(رَوْحُ بْنُ الْقَاسِمِ) التميميّ الْعَنبريّ، أبو غياث البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [6](ت 141)(خ م د س ق) تقدم في "الإيمان" 7/ 132.
7 -
(مُحَمَّدُ بْنُ عَجْلَانَ) القرشيّ مولاهم المدنيّ، صدوقٌ، إلا أنه اختلطت عليه أحاديث أبي هريرة [5](ت 148) تقدم في "الإيمان" 10/ 150.
و"أبو الزناد" ذُكر قبله.
وقوله: (جَمِيعًا عَنْ أَبِي الزِّنَادِ) يعني: أن موسى بن عُقبة، ومحمد بن عجلان رويا هذا الحديث عن أبي الزناد بإسناده الماضي، مثل معنى حديث ورقاء بن عمر عنه.
[تنبيه]: رواية موسى بن عقبة، عن أبي زناد ساقها أبو عوانة رحمه الله في "مسنده"، فقال:
(6417)
- حدّثنا عليّ بن المدينيّ الأصبهانيّ، قثنا سُويد بن سعيد، قثنا حفص بن ميسرة، عن موسى بن عقبة، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"بينما امرأتان، ومعهما ابناهما، فجاء الذئب، فذهب بأحدهما، فقالت هذه لصاحبتها: إنما ذهب بابنك، وقالت الأخرى: إنما ذهب بابنك، فاختصمتا إلى داود، فقضى به للكبرى، فخرجتا على سليمان، فأخبرتاه، فقال: ائتوني بسكين، أشقه بينكما، فقالت الصغرى: لا - يرحمك الله - هو ابنها، فقضى به للصغرى"، قال أبو هريرة: والله إن سمعت بالسكين قد
(1)
إلا يومئذ، ما كنتُ أقول إلا: المدية. انتهى
(2)
.
ورواية محمد بن عجلان، عن أبي الزناد، ساقها البيهقيّ رحمه الله في "الكبرى"، فقال:
(21078)
- أخبرنا أبو حازم الحافظ، ثنا أبو عمرو إسماعيل بن نجيد السلميّ، أنبا أبو عبد الله محمد بن إبراهيم العبديّ، ثنا أمية بن بسطام، ثنا يزيد بن زريع، ثنا رَوْح بن القاسم، عن محمد بن عجلان، عن أبي الزناد،
(1)
هو بمعنى قوله السابق "قطّ".
(2)
"مسند أبي عوانة" 4/ 174.
عن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أن امرأتين أكل أحد ابنيهما الذئب، فجاءتا إلى داود عليه السلام تختصمان في الباقي، فقضى للكبرى، فلما خرجتا على سليمان عليه السلام قال: كيف قضى بينكما؟ فأخبرتاه، فقال: ائتوني بالسكين - قال أبو هريرة رضي الله عنه: وأول من سمعته يقول: السكين رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنما كنا نسميه الْمُدْية - قالت الصغرى: لِمَ؟ قال: لأشقه بينكما، قالت: ادفعه إليها، وقالت الكبرى: شُقّه بيننا، قال: فقضى للصغرى، وقال: لو كان ابنك لَمْ ترضين أن تشقيه". انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم.
(11) - (بَابُ اسْتِحْبَابِ إِصْلَاحِ الْحَاكِمِ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ)
[4489]
(1721) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزاق، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ، قَالَ: هَذَا مَا حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَ أَحَادِيثَ، مِنْهَا: وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (اشْتَرَى رَجُلٌ مِنْ رَجُلٍ عَقَارًا لَهُ، فَوَجَدَ الرَّجُلُ الذِي اشْتَرَى الْعَقَارَ فِي عَقَارِهِ جَرَّةً، فِيهَا ذَهَبٌ، فَقَالَ لَهُ الذِي اشْتَرَى الْعَقَارَ: خُذْ ذَهَبَكَ مِنِّي، إِنَّمَا اشْتَرَيْتُ مِنْكَ الأَرْضَ، وَلَمْ أَبْتَعْ مِنْكَ الذَّهَبَ، فَقَالَ الذِي شَرَى الأَرْضَ: إِنَّمَا بِعْتُكَ الأَرْضَ وَمَا فِيهَا، قَالَ: فَتَحَاكَمَا إِلَى رَجُلٍ، فَقَالَ الذِي تَحَاكَمَا إِلَيْهِ: أَلكُمَا وَلَدٌ؟ فَقَالَ أَحَدُهُمَا: لِي غُلَامٌ، وَقَالَ الآخَرُ: لِي جَارِيةٌ، قَالَ: أنكِحُوا الْغُلَامَ الْجَارِيةَ، وَأَنْفِقُوا عَلَى أَنْفُسِكُمَا مِنْهُ، وَتَصَدَّقَا").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ) النيسابوريّ الحافظ، تقدّم قريبًا.
2 -
(عَبْدُ الرَّزاقِ) بن همّام الصنعاني، تقدّم أيضًا قريبًا.
3 -
(مَعْمَرُ) بن راشد، تقدّم أيضًا قريبًا.
(1)
"سنن البيهقيّ الكبرى" 10/ 268.
4 -
(هَمَّامُ بْنُ مُنبِّهِ) بن كامل، أبو عقبة الصنعانيّ، ثقةٌ [4](ت 132)(ع) تقدم في "الإيمان" 26/ 213.
و"أبو هريرة" رضي الله عنه ذُكر في السند الماضي.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه مسلسل باليمنيين، غير شيخه، وقد دخلها للأخذ عن عبد الرزّاق، وأنه مسلسل بالتحديث.
شرح الحديث:
(عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ) أنه (قَالَ: هَذَا مَا حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه، قد تقدّم البحث عن هذا الأسلوب الذي التزمه المصنّف فيما يرويه من نسخة همام بن منبّه المشهورة، فلا تغفل. (عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَذَكرَ أَحَادِيثَ) فاعل "ذَكر" ضمير همّام، (مِنْهَا) الجارّ والمجرور خبر مقدّم لقوله:(وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) لأنه محكيّ؛ لقصد لفظه. (اشْتَرَى رَجُل مِنْ رَجُلٍ) قال الحافظ رحمه الله: لم أقف على اسمهما، ولا على اسم أحد ممن ذُكِر في هذه القصة، لكن في "المبتدأ" لوهب بن منبه أن الذي تحاكما إليه هو داود النبيّ عليه السلام، وفي "المبتدأ" وإسحاق بن بشر أن ذلك وقع في زمن ذي القرنين، من بعض قضاته - فالبه أعلم - وصنيع البخاريّ يقتضي ترجيح ما وقع عند وهب؛ لكونه أورده في ذكر بني إسرائيل. انتهى
(1)
.
وقوله: (عَقَارًا لَهُ) قال النوويّ رحمه الله: العقار: هو الأرض، وما يتّصل بها، وحقيقة العقار: الأصلُ، سُمّي بذلك من الْعُقْر بضمّ العين، وفتحها، وهو الأصل، ومنه عُقْر الدار بالضمّ، والفتح. انتهى
(2)
.
وقال في "الفتح": "العقار" في اللغة: المنزل، والضَّيْعة، وخصّه بعضهم بالنخل، ويقال للمتاع النفيس الذي للمنزل: عقار أيضًا، وأما عياض فقال: العقار الأصل من المال، وقيل: المنزل، والضيعة، وقيل: متاع البيت، فجعله
(1)
"الفتح" 8/ 131، كتاب "أحاديث الأنبياء" رقم (3472).
(2)
"شرح النوويّ" 12/ 19.
خلافًا، والمعروف في اللغة أنه مقول بالاشتراك على الجميع، والمراد به هنا: الدار، وصَرَّح بذلك في حديث وهب بن منبه، قاله في "الفتح"
(1)
.
وقال الفيوميّ رحمه الله: العقار: مثلُ سَلَامٍ: كل مُلك ثابت، له أصلٌ، كالدار، والنخل، قال بعضهم: وربَّما أُطلق على المتاع، والجمع: عقارات. انتهى
(2)
.
(فَوَجَدَ الرَّجُلُ الَّذِي اشْتَرَى الْعَقَارَ فِي عَقَارِهِ جَرَّةً) قال الفيّوميّ رحمه الله: الْجَرَّة بالفتح: إناء معروفٌ، والجمع: جِرَارٌ، مثلُ كَلْبة وكِلابٍ، وجَرّات، وجَرٌّ أيضًا، مثلُ تمرة وتمر، وبعضهم يجعل الجرّ لغةً في الجرّة. انتهى
(3)
. (فِيهَا ذَهَبٌ، فَقَالَ لَهُ)؛ أي: لصاحب العقار، وهو البائع (الَّذِي اشْتَرَى الْعَقَارَ: خُذْ ذَهَبَكَ مِنِّي، إِنَّمَا اشْتَرَيْتُ مِنْكَ الأَرْضَ، وَلَمْ أَبْتَعْ مِنْكَ الذَّهَبَ) قال في "الفتح": هذا صريح في أن العقد إنما وقع بينهما على الأرض خاصّة، فاعتَقَد البائع دخول ما فيها ضمنًا، واعتَقَد المشتري أنه لا يدخل، وأما صورة الدعوى بينهما، فوقعت على هذه الصورة، وأنهما لم يختلفا في صورة العقد التي وقعت، والحكم في شرعنا على هذا في مثل ذلك أن القول قول المشتري، وأن الذهب باقٍ على مُلك البائع.
ويَحْتَمِل أنهما اختلفا في صورة العقد، بأن يقول المشتري: لم يقع تصريح ببيع الأرض، وما فيها، بل ببيع الأرض خاصّة، والبائع يقول: وقع التصريح بذلك، والحكم في هذه الصورة أن يتحالفا، ويستردّا المبيع، وهذا كله بناء على ظاهر اللفظ أنه وجد فيه جرّة من ذهب، لكن في رواية إسحاق بن بشر أن المشتري قال: إنه اشترى دارًا، فعَقرها، فوجد فيها كنزًا، وأن البائع قال له لمّا دعاه إلى أخذه: ما دفنتُ، ولا علمتُ، وأنهما قالا للقاضي: ابعث من يقبضه، وتضعه حيث رأيت، فامتنع، وعلى هذا فحُكم هذا المال حكم الرِّكاز، في هذه الشريعة، إن عُرِف أنه من دَفِين الجاهلية، وإلا فإن عُرِف أنه من دَفِين المسلمين، فهو لُقَطةٌ، وإن جُهِل فحُكمه حكم المال الضائع، يوضع
(1)
"الفتح" 8/ 1341.
(2)
"المصباح المنير" 29/ 421.
(3)
"المصباح المنير"1/ 96.
في بيت المال، ولعلهم لم يكن في شرعهم هذا التفصيل، فلهذا حكم القاضي بما حَكَم به. انتهى
(1)
.
(فَقَالَ الَّذِي شَرَى الأَرْضَ)؛ أي: باعها؛ لأن شرى يطلق على الأخذ، وعلى الإعطاء، يقال: شريتُ المتاعَ أشريه: إذا أخذته بثمن، أو أعطيته بثمن، فهو من الأضداد
(2)
.
وقال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في أكثر النسخ: "شَرَى" بغير ألف، وفي بعضها:"اشترى" بالألف، قال العلماء: الأول أصحّ، وشَرَى هنا بمعنى باع، كما في قوله تعالى:{وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ} [يوسف: 25] ولهذا قال: "فقال الذي شَرَى الأرض: إنما بعتك". انتهى
(3)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "فقال الذي شَرَى الأرض
…
إلخ" هكذا للسمرقنديّ، ومعنى "شَرَى": باع، كما قال تعالى: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ} [يوسف: 20]؛ أي: باعوه. وقد تقدَّم: أن "شرى" من الأضداد، يقال: شريت الشيءَ: بعته، واشتريته، وقد رواه غير السمرقنديّ: "الذي اشترى الأرض"، وفيها بُعْدٌ؛ لأنَّ المشتري هو الذي تقدَّم ذكره، وهو هنا البائع، ولا يصحُّ أن يقال عليه: مُشترٍ؛ إلا إن صحَّ في "اشترى": أنه من الأضداد، كما قلناه في "شَرَى"، والأول هو المعروف. انتهى
(4)
.
وفي رواية البخاريّ: "وقال الذي له الأرض"، قال في "الفتح"؛ أي: الذي كانت له، ووقع في رواية أحمد عن عبد الرزاق بيان المراد من ذلك، ولفظه:"فقال الذي باع الأرض: إنما بعتك الأرض"، ووقع في نسخ مسلم اختلافٌ، فالأكثر رووه بلفظ:"فقال الذي شَرَى الأرض"، والمراد باع الأرض، كما قال أحمد، ولبعضهم:"فقال الذي اشترى الأرض"، ووَهّمها القرطبيّ، قال: إلا إن ثبت أن لفظ اشترى من الأضداد، كَشَرَى، فلا وَهْم. انتهى
(5)
.
(1)
"الفتح" 8/ 131، كتاب "أحاديث الأنبياء" رقم (3472).
(2)
"المصباح المنير" 1/ 312.
(3)
"شرح النوويّ" 12/ 19 - 20
(4)
"المفهم" 5/ 178.
(5)
"الفتح" 8/ 132.
(إِنَّمَا بِعْتُكَ الأَرْضَ وَمَا فِيهَا)؛ أي: فيكون الذهب لك، (قَالَ) صلى الله عليه وسلم (فَتَحَاكَمَا إِلَى رَجُلٍ) قال في "الفتح": ظاهره أنهما حكّماه في ذلك، لكن في حديث إسحاق بن بشر التصريح بأنه كان حاكمًا منصوبًا للناس، فإن ثبت ذلك فلا حُجّة فيه لمن جوّز للمتداعيين أن يُحَكِّما بينهما رجلًا، وينفذ حكمه، وهي مسألة مختلَف فيها، فأجاز ذلك مالك، والشافعيّ بشرط أن يكون فيه أهلية الحكم، وأن يحكم بينهما بالحقّ، سواء وافق ذلك رأي قاضي البلد أم لا، واستثنى الشافعيّ الحدود، وشرط أبو حنيفة أن لا يخالف ذلك رأي قاضي البلد.
قال الجامع عفا الله عنه: مسألة التحكيم سيأتي بحثها قريبًا.
قال: وجزم القرطبيّ بأنه لم يصدر منه حكم على أحد منهما، وإنما أصلح بينهما؛ لِمَا ظهر له أن حكم المال المذكور حكم المال الضائع، فرأى أنهما أحقّ بذلك من غيرهما؛ لِمَا ظهر له من ورعهما، وحُسْن حالهما، وارتجى من طيب نسلهما، وصلاح ذريتهما.
قال: ويردّه ما جزم به الغزاليّ في "نصيحة الملوك" أنهما تحاكما إلى كسرى، فإن ثبت هذا ارتفعت المباحث الماضية المتعلقة بالتحكيم؛ لأن الكافر لا حجة له فيما يحكم به.
قال الجامع عفا الله عنه: عجيب من صاحب "الفتح" كيف يردّ على القرطبيّ بجزم الغزاليّ؟ فهل الغزاليّ ذَكَر ذلك بسند صحيح؟ كلّا، والله المستعان.
قال: ووقع في روايته عن أبي هريرة: "لقد رأيتنا يكثر تَمَارينا ومنازعتنا عند النبيّ صلى الله عليه وسلم أيهما أكثر أمانة؟ ".
(فَقَالَ الَّذِي تَحَاكَمَا إِلَيْهِ: ألَكُمَا وَلَدٌ؟) - بفتح الواو واللام - والمراد الجنس؛ لأنه يستحيل أن يكون للرجلين جميعًا ولد واحد، والمعنى: ألكل منكما ولد؟ ويجوز أن يكون قوله: "ألكما وُلْدٌ؟ " - بضم الواو، وسكون اللام - وهي صيغة جمع؛ أي: أولاد، ويجوز كسر الواو أيضًا في ذلك، قاله في "الفتح"
(1)
.
(1)
"الفتح" 8/ 132.
وقال المجد رحمه الله: "الْولد" محرّكةً، وبالضمّ، والكسر، والفتح: واحد، وجمع، وقد يُجمع على أولاد، ووِلْدَةٍ، وإِلْدَةٍ، بكسرهما، ووُلْد بالضمّ. انتهى
(1)
.
(فَقَالَ أَحَدُهُمَا: لِي غُلَامٌ) بُيِّنَ في رواية إسحاق بن بشر أن الذي قال: لي غلام، هو الذي اشترى العقار، (وَقَالَ الآخَرُ: لِي جَارِية، قَالَ) الْحَكَم:(أَنْكِحُوا الْغُلَامَ الْجَارِيةَ، وَأنفِقُوا) وفي بعض النسخ: "وأنفقا"(عَلَى أَنْفُسِكُمَا مِنْهُ) هكذا وقع عند المصنّف بصيغة الخطاب، ووقع عند البخاريّ:"وأنفقوا على أنفسهما"، وهذا هو الظاهر، وللأول وجه، وهو أن يكون التقدير: وقولا لهما: "أنفقوا على أنفسكما منه، وتصدّقا".
وقوله: (وَتَصَدَّقَا") قال في "الفتح": هكذا وقع بصيغة الجمع في الإنكاح، والإنفاق، وبصيغة التثنية في النَفْسَين، وفي التصدق، وكأن السرّ في ذلك أن الزوجين كانا محجورين، وإنكاحهما لا بدّ فيه مع ولييهما من غيرهما، كالشاهدين، وكذلك الإنفاق قد يحتاج فيه إلى المعيّن، كالوكيل، وأما تثنية النفسين فللإشارة إلى اختصاص الزوجين بذلك.
وقد وقع في رواية إسحاق بن بشر ما يُشعر بذلك، ولفظه:"اذهبا، فزوّج ابنتك من ابن هذا، وجهزوهما من هذا المال، وادفعا إليهما ما بقي، يعيشان به"، وأما تثنية التصدق فللإشارة إلى أن يباشرها بغير واسطة؛ لِمَا في ذلك من الفضل، وأيضًا فهي تبرع لا يصدُر من غير الرشيد، ولا سيما ممن ليس له فيها مُلك.
قال: ووقع في رواية مسلم: "وأنفقا على أنفسكما"، والأول أوجه. انتهى
(2)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
مسائل تتعلّق هذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
(1)
"القاموس المحيط" ص 1419.
(2)
"الفتح" 8/ 132 - 133.
أخرجه (المصنّف) هنا [11/ 4489](1721)، و (البخاريّ) في "أحاديث الأنبياء"(3472)، و (ابن ماجه) في "اللقطة"(2511)، و"صحيفة همّام بن منبّه"(1/ 49)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 316)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(720)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 420 و 4/ 174)، و (البيهقيّ) في "شعب الإيمان"(4/ 328)، و (البغويّ) في "شرح السُّنّة"(2412)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان استحباب الإصلاح بين المتخاصمين، وأن القاضي يستحبّ له الإصلاح بينهما كما يستحبّ لغيره.
2 -
(ومنها): بيان جواز شراء العقار بما فيها من الأشجار، وغيرها.
3 -
(ومنها): ما قال القرطبيّ رحمه الله: ظاهر قوله: "فتحاكما إلى رجل" أنهما حكَّماه في ذلك، وأنَّه لم يكن حاكمًا منصوبًا للناس، مع أنَّه يَحْتَمِل ذلك، وعلى ظاهره يكون فيه لمالك حجَّة أنّ المتداعيين إذا حَكَما بينهما من له أهلية الحكم صحَّ، ولزمهما حكمه، ما لم يكن جورًا، سواء وافق ذلك الحكم رأي قاضي البلد، أو خالفه، وقال أبو حنيفة: إن وافق رأيه رأي قاضي البلد نَفَذَ، وإلا فلا، واختلف قول الشافعيّ، فقال مثل قول مالك، وقال أيضًا: لا يلزم حكمه، ويكون ذلك كالفتوى منه، وبه قال شُريح.
وهذا الرَّجل الْمُحكَّم لم يحكم على أحد منهما؛ وإنما أصلح بينهما، بأن ينفقا ذلك المال على أنفسهما وعلى ولديهما، ويتصدَّقا. وذلك أن هذا المال ضائع، إذا لم يدَّعِه أحدٌ لنفسه، ولعلهم لم يكن لهم بيت مال، فظهر لهذا الرجل أنهما أحق بذلك المال من غيرهما من المستحقين لزهدهما، وورعهما، ولحسن حالهما، ولمَا ارتجي من طِيب فِعْلهما، وصلاح ذريتهما.
قال الشيخ أبو عبد الله المازريّ: واختُلِف عندنا فيمن ابتاع أرضًا فوجد فيها شيئًا مدفونًا: فهل يكون ذلك للبائع أو للمشتري؟ فيه قولان.
قلت: ويعني بذلك ما يكون من أنواع الأرض، كالحجارة، والعُمُد، والرُّخام، ولم يكن خِلْقَةً فيها، وأمَّا ما يكون من غير أنواع الأرض، كالذهب والفضة، فإن كان من دِفْن الجاهلية كان ركازًا، وإن كان من دفن المسلمين فهي لُقَطة، وإن جُهِل ذلك كان مالًا ضائعًا، فان كان هناك بيت مالٍ حُفظ فيه،
وإن لم يكن؛ صُرف للفقراء والمساكين، وفيمن يستعين به على أمور الدِّين، وفيما أمكن من مصالح المسلمين، والله تعالى أعلم. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم - بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في التحكيم:
قال الإمام النسائيّ رحمه الله: "باب إذا حَكَّمُوا رجلًا، فقضى بينهم"؛ أي: جاز، ثم أورد فيه بسند صحيح عن شُرَيح بن هانئ، عن أبيه هانئ، أنه لَمّا وَفَد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سمعه، وهم يَكْنُون هانئًا أبا الحكم، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له:"إن الله هو الْحَكَم، وإليه الْحُكْم، فَلِمَ تُكنَى أبا الحكم؟ " فقال: إن قومي إذا اختلفوا في شيء أتوني، فَحَكَمت بينهم، فرضي كلا الفريقين، قال:"ما أحسن هذا؟ فما لك من الولد؟ " قال: لي شُريح، وعبد الله، ومسلم، قال:"فمن أكبرهم؟ " قال: شُريح، قال:"فأنت أبو شُريح"، فدعا له، ولولده. انتهى
(2)
.
فاحتجّ النسائيّ رحمه الله بهذا الحديث على جواز التحكيم بين المتخاصمين، وهو احتجاج واضح؛ لأنه صلى الله عليه وسلم استحسن ما فعله قوم هانئ رضي الله عنه به من التحكيم، فدلّ على جوازه، وأن حكمه يلزمهما، فتأمل، والله تعالى أعلم.
وقال العلّامة ابن قُدامة رحمه الله في "المغني": وإذا تحاكم رجلان إلى رجل، حَكّماه بينهما ورضياه، وكان ممن يصلح للقضاء، فحكم بينهما جاز ذلك، ونفذ حكمه عليهما، وبهذا قال أبو حنيفة، وللشافعيّ قولان: أحدهما: لا يلزمهما حكمه، إلا بتراضيهما؛ لأن حكمه إنما يلزم بالرضا به، ولا يكون الرضا إلا بعد المعرفة بحكمه.
قال: ولنا ما رَوَى أبو شريح رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: "إن الله هو الحكم، فلم تكنى أبا الحكم؟ " قال: إن قومي إذا اختلفوا في شيء أتوني، فحكمت بينهم، فرضي كلا الفريقين، قال:"ما أحسن هذا، فمن أكبر ولدك؟ " قال: شُريح، قال:"فأنت أبو شريح"، أخرجه النسائي. ورُوي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم،
(1)
"المفهم" 5/ 178 - 179.
(2)
"سنن النسائيّ - المجتبى" 8/ 226.
قال: "من حكم بين اثنين تراضيا به، لم يعدل بينهما، فهو ملعون"
(1)
، ولولا أن حكمه يلزمهما لَمَا لَحِقَه هذا الذمّ، ولأن عمر وأبيًّا تحاكما إلى زيد، وحاكم عمرُ أعرابيًّا إلى شريح قبل أن يوليه، وتحاكم عثمان وطلحة إلى جبير بن مطعم، ولم يكونوا قضاة.
[فإن قيل]: فعمر وعثمان كانا إمامين، فإذا ردّا الحكم إلى رجل صار قاضيًا.
[قلنا]: لم يُنقل عنهما إلا الرضا بتحكيمه خاصة، وبهذا لا يصير قاضيًا، وما ذكروه يَبطُل بما إذا رضي بتصرف وكيله، فإنه يلزمه قبل المعرفة به.
إذا ثبت هذا، فإنه لا يجوز نقض حكمه فيما لا يُنقَض به حكم من له ولاية، وبهذا قال الشافعيّ، وقال أبو حنيفة: للحاكم نقضه، إذا خالف رأيه؛ لأن هذا عقد في حق الحاكم، فمَلَك فسخه كالعقد الموقوف في حقه.
قال: ولنا أن هذا حكم صحيح لازم، فلم يجز فسخه؛ لمخالفته رأيه كحكم من له ولاية، وما ذكروه غير صحيح، فإن حكمه لازم للخصمين، فكيف يكون موقوفًا؟ ولو كان كذلك لَمَلَك فسخه، وإن لم يخالف رأيه، ولا نسلّم الوقوف في العقود.
إذا ثبت هذا فإن لكل واحد من الخصمين الرجوع عن تحكيمه، قبل شروعه في الحكم؛ لأنه لا يثبت إلا برضاه، فأشبه ما لو رجع عن التوكيل قبل التصرف، وإن رجع بعد شروعه ففيه وجهان:
[أحدهما]: له ذلك؛ لأن الحكم لمّا لم يتم أشبه ما قبل الشروع.
[والثاني]: ليس له ذلك؛ لأنه يؤدي إلى أن كل واحد منهما إذا رأى من الحكم ما لا يوافقه رجع، فبطل المقصود به.
(1)
قال في "التلخيص الحبير" 4/ 341 - 342: أورده ابن الجوزيّ في "التحقيق"، قال: وذكر عبد العزيز من أصحابنا من نسخة عبد الله بن جراد، فذكره، وتعقّبه صاحب "التنقيح"، فقال: هي نسخة باطلة، كما صرّح هو به في "الموضوعات"، وبالغ في الحطّ على الخطيب؛ لاحتجاجه بحديث منها. انتهى.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: القول الثاني هو الأظهر عندي؛ لوضوح حجته، والله تعالى أعلم.
قال ابن قدامة رحمه الله: قال القاضي: وينفذ حكم من حَكّماه في جميع الأحكام، إلا أربعة أشياء: النكاح، واللِّعان، والقذف، والقِصاص؛ لأن لهذه الأحكام مزية على غيرها، فاختص الإمام بالنظر فيها، ونائبه يقوم مقامه، وقال أبو الخطاب: ظاهر كلام أحمد أنه ينفذ حكمه فيها، ولأصحاب الشافعيّ وجهان كهذين. انتهى كلام ابن قُدامة رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: القول بنفوذ حكمه مطلقًا هو الذي يترجّح عندي؛ لإطلاق حديث أبي شريح رضي الله عنه المذكور في الباب؛ فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يستفسره حين ذَكَر له التحكيم مطلقًا، ولم يقيّد له حين استحسن فعله، فدلّ على جواز حكمه مطلقًا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
* * *
(1)
"المغني" لابن قُدامة رحمه الله 14/ 92 - 93.
30 - (كِتَابُ اللُّقَطَةِ)
مناسبته بكتاب الأقضية أن اللقطة ربّما يُحتاج فيها إلى القضاء، ومن ثمّ أورده بعض المحدّثين في "كتاب القضاء"، ثم لآخر حديث من "كتاب الأقضية" مناسبة باللقطة؛ لأن مشتري الأرض وجد فيها كنزًا، ومن ثمّ أخرج ابن ماجه ذلك الحديث في "اللقطة"، والله تعالى أعلم
(1)
.
و"اللُّقَطَةُ": بفتح القاف على اللغة المشهورة التي قالها الجمهور، وفيها لغة ثانية: لُقْطَة، وثالثة: لُقَاطةٌ، بضمّ اللام، ورابعة: لَقَطٌ، بفتح اللام والقاف، ذكره النوويّ رحمه الله
(2)
.
وقال في "الفتح": "اللُّقَطَةُ": الشيء الذي يُلْتَقط، وهو بضم اللام، وفتح القاف، على المشهور، عند أهل اللغة، والمحدثين، وقال عياض: لا يجوز غيره، وقال الزمخشريّ في "الفائق": اللُّقَطة بفتح القاف، والعامة تسكّنها، كذا قال، وقد جزم الخليل بأنها بالسكون، قال: وأما بالفتح فهو اللاقط، وقال الأزهريّ: هذا الذي قاله هو القياس، ولكن الذي سُمِع من العرب، وأجمع عليه أهل اللغة، والحديث: الفتح، وقال ابن بَريّ: التحريك للمفعول نادرٌ، فاقتضى أن الذي قاله الخليل هو القياس، وفيها لغتان أيضًا: لُقَاطة بضم اللام، ولَقَطة بفتحها، وقد نظم الأربعة ابن مالك، حيث قال [من الرجز]:
لُقَاطَةٌ وَلُقْطَةٌ وَلُقَطَهْ
…
وَلَقْطَةٌ مَا لَاقِطٌ قَدْ لَقَطَهْ
ووجَّه بعض المتأخرين فتح القاف في المأخوذ أنه للمبالغة، وذلك لمعنى فيها اختُصَّت به، وهو أن كل من يراها يميل لأخذها، فسُمِّيت باسم الفاعل
(1)
ذكره في "تكملة فتح الملهم"2/ 604.
(2)
"شرح النوويّ" 12/ 20.
لذلك. انتهى
(1)
.
وقال المجد رحمه الله: اللَّقَطُ محرَّكةً، وكَحُزْمَةٍ، وهُمَزَةٍ، وثُمَامَةٍ: ما الْتُقِطَ، واللَّقِيطُ: المولود الذي يُنْبَذ، كالْمَلْقُوط، وقال قبل ذلك: لَقَطَهُ: أخذه من الأرض، فهو ملقوطٌ، ولَقِيطٌ. انتهى
(2)
.
وقال الفيّوميّ رحمه الله: لَقَطْتُ الشيءَ لَقْطًا، من باب قَتَلَ: أخذته، وأصله: الأخذ من حيث لا يُحَسُّ، فهو: مَلْقُوطٌ، ولَقِيطٌ، فَعِيل بمعنى مفعول، والتَقَطْتُهُ كذلك، ومن هنا قيل: لَقَطْتُ أصابعَهُ: إذا أخذتها بالقطع دون الكفّ، والتَقَطْتُ الشيءَ: جمعته، ولَقَطْتُ العلمَ من الكتب لَقْطًا: أخذته من هذا الكتاب، ومن هذا الكتاب، وقد غلب "اللَّقِيطُ" على المولود المنبوذ، واللُّقَاطَةُ بالضم: ما التَقَطتَ من مال ضائع، واللُّقَاطُ بحذف الهاء، واللُّقَطَةُ وزانُ رُطَبَة كذلك، قال الأزهريّ: اللُّقَطَةُ بفتح القاف: اسم الشيء الذي تَجِده مُلْقًى، فتأخذه، قال: وهذا قول جميع أهل اللغة، وحُذّاق النحويين، وقال الليث: هي بالسكون، ولم أسمعه لغيره، واقتصر ابن فارس، والفارابيّ، وجماعة على الفتح، ومنهم من يَعُدّ السكون من لحن العوامّ، ووجه ذلك أن الأصل لُقَاطَةٌ، فَثَقُلت عليهم؛ لكثرة ما يلتقطون في النَّهْب، والغارات، وغير ذلك، فتلعَّبت بها ألسنتهم؛ اهتمامًا بالتخفيف، فحذفوا الهاء مرّةً، وقالوا: لُقَاطٌ، والألف أخرى، وقالوا: لُقَطَة، فلو أسكن اجتمع على الكلمة إعلالان، وهو مفقود في فصيح الكلام، وهذا وإن لم يذكروه، فإنه لا خفاء به عند التأمل؛ لأنهم فَسَّروا الثلاثة بتفسير واحد.
ويوجد في نسخ من "الإصلاح": ومما أَتَى من الأسماء على فُعَلَةٍ، وفُعْلَةٍ، وعَدَّ اللُّقَطَة منها، وهذا محمول على غلط الكُتّاب، والصواب حذف فُعْلِةٍ، كما هو موجود في بعض النسخ المعتمدة؛ لأن من الباب ما لا يجوز إسكانه بالاتفاق، ومنه ما يجوز إسكانه على ضعف، على أن صاحب "البارع" نَقَلَ فيها الفتح، والسكون. انتهى
(3)
.
(1)
"الفتح" 6/ 231، كتاب "اللقطة" رقم (2426).
(2)
"القاموس المحيط" ص 1184.
(3)
"المصباح المنير" 2/ 557.
(تنبيهات):
[الأول]: في تعريف اللقطة، قال القرطبيّ رحمه الله: هي عندنا: وُجدان مالٍ معصوم لمعصوم، معرَّض للضياع، فيدخل في المال كلُّ ما يُتموَّل من جادٍ، وحيوانٍ، ونعني بالمعصوم كلَّ مال لمالكه حرمة شرعيَّة، فيدخل فيه مال المسلم، والذمِّيّ، والمعاهَد، ويخرج عنه مال الحربيِّ؛ إذ لا حرمة له، وأموال الجاهلية؛ إذ هي رِكاز، ويدخل فيه القليل من المال والكثير منه، سواء كان في عامر من الأرض، أو غامرها، مدفونًا، أو غير مدفون، وتحرَّزنا بقولنا:"مُعرَّض للضياع" عمَّا يكون في حرز مُحترم، أو عليه حافظ. انتهى
(1)
.
[الثاني]: في أقسام اللقطة، قال القرطبيّ رحمه الله: هي: جمادٌ، وحيوان، والحيوان: إنسان، وغير إنسان، والإنسان إمَّا صغير، أو كبير، فالصغير إن عُلِم أنه مملوك؛ فهو لُقطة، وإلا فهو اللقيط، ويجب حفظه، والقيام به على المسلمين، إذا كان ذلك في بلادهم وجوب كفاية، وله أحكام مذكورة في الفروع، ولا يكون المملوك الكبير لُقطة إلا إذا كان مِمَّن لا يفهم، وإمَّا غير الإنسان: فإبل، وبقر، وغنم، وخيل، وبغال، وحمير. انتهى
(2)
.
[الثالث]: في بيان حكم اللقطة، قال القرطبيّ رحمه الله: فأمَّا الجماد، فاختُلف في حكم التقاطه؛ فذهب الشافعيّ إلى استحباب ذلك مطلقًا، وعندنا فيه تفصيل، فقيل: لا يجب إلا أن يكون بين قوم غير مأمونين، والإمام عدل؛ فيجب أخذها بنيَّة الحفظ على من وثق بأمانة نفسه، فإن علم خيانة نفسه حَرُم الأخذ عليه، وإن ظن ذلك كُره له، وإذا كانت بين مأمونين، ووثق بأمانة نفسه، فقيل: يُستحب له أخذها بنيَّة الحفظ. ورُوي عن ابن القاسم كراهة التقاطها؛ إلا أن يكون لها قَدْرٌ وَبَالٌ. وكذلك روى أشهب في الدنانير، فأمَّا الدرهم وما لا بال فيه؛ فلا أحِبُ له أن يأخذه. وقد رويت عن مالك الكراهة مطلقًا، وباقي ما يتعلّق بها من المسائل يأتي مع البحث في الحديث - إن شاء الله تعالى -
(3)
.
(1)
"المفهم" 5/ 181.
(2)
"المفهم" 5/ 181.
(3)
"المفهم" 5/ 182.
(1) - (بَابُ بَيَانِ وُجُوبِ تَعْرِيفِ اللُّقَطَة حَوْلًا، وَجَوَاز الاسْتِمْتَاعِ بَهَا بَعْدَ ذَلِكَ)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4490]
(1722) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى التمِيمِيُّ، قَالَ: قَرَأتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَن، عَنْ يَزِيدَ مَوْلَى الْمُنْبَعِث، عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ، أَنَّهُ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَسَألهُ عَنِ اللُّقَطَةِ؟، فَقَالَ: "اعْرِفْ عِفَاصَهَا، وَوِكَاءَهَا، ثُمَّ عَرِّفْهَا سَنَةً، فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا، وَإِلَّا فَأْنَكَ بِهَا"، قَالَ: فَضَالَّةُ الْغَنَمِ؟ قَالَ: "لَكَ، أَوْ لأَخِيكَ، أَوْ لِلذِّئْبِ"، قَالَ: فَضَالَّةُ الإِبِلِ؟ قَالَ: "مَا لَكَ وَلَهَا؟ مَعَهَا سِقَاؤُهَا، وَحِذَاؤُهَا، تَرِدُ الْمَاءَ، وَتَأكلُ الشَّجَرَ، حَتَّى يَلْقَاهَا رَبُّهَا،، قَالَ يَحْيَى: أَحْسِبُ قَرَأتُ: "عِفَاصَهَا").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى التمِيمِيُّ) النيسابوريّ، تقدّم قبل بابين.
2 -
(مَالِكُ) بن أنس، إمام دار الهجرة، تقدّم أيضًا قبل بابين.
3 -
(رَبِيعَةُ بْنُ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَن) التيميّ مولاهم، أبو عثمان المدنيّ المعروف بربيعة الرأي، واسم أبيه فَرُّوخ، ثقةٌ فقيهٌ مشهور، قال ابن سعد: كانوا يتّقونه لموضع الرأي [5](ت 136) على الصحيح (ع) تقدم في "صلاة المسافرين وقصرها" 11/ 1652.
4 -
(يَزِيدُ مَوْلَى الْمُنْبَعِثِ) - بضمّ الميم، وسكون النون، وفتح الباء الموحّدة، وكسر العين المهملة، بعدها ثاء مثلّثة - مدنيّ صدوقٌ [3].
رَوَى عن أبي هريرة، وزيد بن خالد الجهنيّ، وعنه ابنه عبد الله، ويحيى بن سعيد الأنصاريّ، وربيعة، وعبد الملك بن عديّ، وبشر بن سعيد، ذكره ابن حبان في "الثقات".
أخرج له الجماعة، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث، كرّره ثلاث مرّات.
5 -
(زَيْدُ بْنُ خَالِدٍ الْجُهَنِيُّ) الصحابيّ المشهور رضي الله عنه، تقدّم قبل بابين.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه مسلسل بالمدنيين، غير شيخه، وقد دخل المدينة للأخذ عن مالك، وفيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ.
شرح الحديث:
(عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ) المعروف بربيعة الرأي، وسيأتي في رواية مالك، والثوريّ، وعمرو بن الحارث أن ربيعة بن عبد الرحمن حدّثهم، (عَنْ يَزِيدَ مَوْلَى الْمُنْبَعِثِ) بصيغة اسم الفاعل، وليس عند الشيخين إلا حديث الباب، (عَنْ زيدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ) رضي الله عنه (أنَّهُ قَالَ: جَاءَ رَجُل إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) هكذا في روايات المصنف بلفظ: "رجلًا، ووقع عند البخاريّ من رواية الثوريّ بلفظ: "جاء أعرابي"، قال في "الفتح": وزعم ابن بشكوال، وعزاه لأبي داود، وتبعه بعض المتأخرين أن السائل المذكور هو بلال المؤذن، قال الحافظ: ولم أر عند أبي داود في شيء من النسخ شيئًا من ذلك، وفيه بُعْدٌ أيضًا؛ لأنه لا يوصف بأنه أعرابيّ، وقيل: السائل هو الراوي، وفيه بُعْدٌ أيضًا؛ لِمَا ذكرناه، ومُستنَد من قال ذلك: ما رواه الطبرانيّ من وجه آخر عن ربيعة بهذا الإسناد، فقال فيه: أنه سأل النبيّ صلى الله عليه وسلم، لكن رواه أحمد من وجه آخر، عن زيد بن خالد، فقال فيه: "إنه سال النبيّ صلى الله عليه وسلم، أو أن رجلًا سأل"، على الشكّ، وأيضًا فإن في رواية ابن وهب المذكورة، عن زيد بن خالد: "أتى رجل، وأنا معه"، فدلّ هذا على أنه غيره، ولعله نسب السؤال إلى نفسه؛ لكونه كان مع السائل، قال: ثم ظَفِرت بتسمية السائل، وذلك فيما أخرجه الحميديّ، والبغويّ، وابن السكن، والباروديّ
(1)
، والطبرانئ، كلهم من طريق محمد بن مَعْن الغفاريّ، عن ربيعة، عن عقبة بن سُويد الجهنيّ، عن أبيه، قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اللقطة؟ فقال: "عَرِّفها سنةً، ثم أوثق وعاءها
…
"، فذكر الحديث، وقد ذكر أبو داود طرفًا منه تعليقًا، ولم يَسُق لفظه، وكذلك البخاريّ في "تاريخه"،
(1)
هكذا النسخة بتقديم الراء على الواو، وأخشى أن يكون مصحّفًا من "الباورديّ"، بتقديم الواو، فليُحرّر.
وهو أَولى ما يُفَسَّر به هذا المبهم؛ لكونه من رهط زيد بن خالد.
قال الجامع عفا الله عنه: في تعيين الحافظ كون السائل المذكور هو سويدًا الجهنيّ نظر، إذ يَحْتَمل أن يكون أحد المذكورين بعده، واستدلاله بكونه من رهطه غير مقنع، فتأمل، والله تعالى أعلم.
قال: ورَوَى أبو بكر بن أبي شيبة، والطبرانيّ من حديث أبي ثعلبة الخشنيّ، قال: قلت: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الوَرِق يوجد عند القرية؟ قال: غرِّفها حولًا
…
"، الحديث، وفيه سؤاله عن الشاة، والبعير، وجوابه، وهو في أثناء حديث طويل، أخرج أصله النسائيّ.
ورَوَى الإسماعيليّ في "الصحابة" من طريق مالك بن عمير، عن أبيه، أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اللقطة؟ فقال: "إن وجدت من يعرفها فادفعها إليه
…
" الحديث، وإسناده وَاهٍ جِدًّا.
وروى الطبرانيّ من حديث الجارود العبديّ، قال: "قلت: يا رسول الله اللقطة نجدها؟ قال: أُنْشُدْها، ولا تكتم، ولا تغيب
…
" الحديث.
(فَسَأَلَهُ عَنِ اللُّقَطَةِ؟) كذا في أكثر الروايات، ووقع في رواية عند البخاريّ بلفظ:"فسأله عما يلتقطه"، وفي رواية يحيى بن سعيد الأنصاريّ، عن يزيد مولى المنبعث الآتية:"سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اللقطة: الذهب، أو الوَرِق"، وهو كالمثال، وإلا فلا فرق بينهما، وبينْ الجوهر، واللؤلؤ مثلًا، وغير ذلك، مما يُستمتع به، غير الحيوان، في تسميته لقطة، وفي إعطائه الحكم المذكور.
(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("اعْرِفْ) بوصل الهمزة، من المعرفة، لا من الإعراف. قال النوويّ رحمه الله: معناه: تعرّف لِتَعْلم صِدق واصفها من كذبه، ولئلا يختلط مسألة ويشتبه، (عِفَاصَهَا) وأما "العِفاص" فبكسر العين، وبالفاء، والصاد المهملة - وهو الوعاء التي تكون فيه النفقة جلدًا كان أو غيره، ويطلق العفاص أيضًا على الجلد الذي يكون على رأس القارورة؛ لأنه كالوعاء له، فأما الذي يدخل في فم القارورة، من خشب، أو جلد، أو خرقة مجموعة، ونحو ذلك، فهو الصِّمَام - بكسر الصاد - يقال: عَفَصتُها عَفْصًا، من باب ضرب: إذا شددت العِفاص على رأسها، وأعفصتها إعفاصًا بالألف: إذا جعلت لها عِفَاصًا،
وقيل: هما لغتان في كلّ من المعنيين. انتهى
(1)
.
(وَوِكَاءَهَا) بكسر الواو: الخيط الذي يُشدّ يه الوعاء، يقال: أوكيته إيكاءً، فهو مُوكى بلا همز.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "اعرف عِفاصها ووكاءها"، وفي رواية:"وعددها"، هذا الأمر للملتقِط بتعرّف هذه الأمور الثلاثة يُفيد إباحة حَلّ وكائها، والوقوف على عينها، وعَدَدِها للملتقط، وفائدة ذلك أنه إذا جاء من عرف أولئك الأوصاف دُفِعت له، كما قال:"فإن جاء صاحبها فعرف عفاصها، وعددها، ووكاءها، فادفعها إليه"، وظاهره اشتراط معرفة مجموع تلك الأوصاف، وأنها تُدفع له بغير بيِّنة، وقد اختُلف في المسألتين:
فأمَّا المسألة الأولى: فقال ابن القاسم: لا بدَّ من ذكر جميعها؛ يعني: الوكاء، والعِفاص، والعدد، ولم يعتبر أصبغ العدد، وظاهر الحديث حجَّة لابن القاسم، ولأصبغ التمسك بالحديث الذي ليس فيه ذكر العدد، وحجَّة ابن القاسم أوضح؛ لأن من ذكر شيئًا حجَّة على من سكت عنه، ولأنَّه من باب حمل المطلق على المقيد، فإذا أتى بجميع أوصافها؛ فهل يُحَلُف مع ذلك أو لا؟ قولان. النَّفي لابن القاسم، وتحليفه لأشهب.
قال الجامع عفا الله عنه: لا يخفى كون قول ابن القاسم هو الأرجح؛ لظاهر الحديث، والله تعالى أعلم.
قال: ولا يلزمه بينة عند مالك وأصحابه، وأحمد بن حنبل، وغيرهم، وقال أبو حنيفة، والشافعيّ: لا تُدفع له إلا إذا أقام بينة أنها له، والأَول أَوْلى؛ لنصّ الحديث على ذلك، ولأنَّه لو كان إقامة البيِّنة شرطًا في الدَّفع لَمَا كان لِذِكْر العِفاص، والوكاء، والعدد معنًى؛ فإنَّه يستحقها بالبيِّنة على كل حال، ولَمَا جاز سكوت النبيّ صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فإنه تأخير للبيان عن وقت الحاجة، وقال أصبغ: إن عرف العِفاص وحده استُبرئ له، فإن جاء أحد، وإلا أُعطيها، وقال ابن عبد الحكم: لو أصاب تسعة أعشار الصفة، وأخطأ العُشر لم يُعْطَها إلا أن يصف العدد، فيصاب أقل، وقال أشهب: إن عرف منها وصفين، ولم
(1)
"شرح النوويّ" 12/ 21 بزيادة من "المصباح" 2/ 418.
يعرف الثالث دُفعت إليه. انتهى
(1)
.
وقوله أيضًا: (اعْرِفْ عِفَاصَهَا، وَوِكَاءَهَا) كذا في رواية مالك، بتقديم معرفة العفاص، والوكاء على تعريفها سنةً، قال الحافظ: ووافقه الأكثرون، وفي الرواية الآتية عند مسلم من طريق بُسْر بن سعيد، عن زيد بن خالد:"فاعرف عِفَاصها، ووِعَاءها، وعَدَدَها"، زاد فيه العدد، كما في حديث أُبيّ بن كعب الآتي.
ووقع في رواية للبخاريّ من طريق الثوريّ، عن يزيد مولى المنبعث:"عرّفها سنةً، ثم اعرف عفاصها، ووكاءها"، بتقديم التعريف على معرفة العفاص والوكاء، ويوافق الثوريّ ما أخرجه أبو داود من طريق عبد الله بن يزيد مولى المنبعث، بلفظ: "عَرِّفها حَوْلًا، فإن جاء صاحبها فادفعها إليه، وإلا اعْرِف وِكاءها، وعِفَاصها، ثم اقبضها في مالِكَ
…
" الحديث، قال الحافظ: وهو يقتضي أن التعريف يقع بعد معرفة ما ذُكر من العلامات، ورواية الباب - يعني: رواية البخاريّ المذكورة - تقتضي أن التعريف يسبق المعرفة.
وقال النوويّ رحمه الله: يُجْمَع بينهما بأن يكون مأمورًا بالمعرفة في حالتين، فيَعْرِف العلامات أول ما يَلتقط، حتى يعلم صدق واصفها إذا وصفها، كما تقدم، ثم بعد تعريفها سنةً، إذا أراد أن يتملكها، فيعرفها مرة أخرى تعرُّفًا وافيًا محقّقًا؛ ليعلم قَدْرها وصِفَتها، فيردَّها إلى صاحبها.
قال الحافظ رحمه الله: ويَحْتَمِل أن تكون "ثُمّ" في الروايتين بمعنى الواو، فلا تقتضي ترتيبًا، ولا تقتضي تخالفًا يحتاج إلى الجمع، ويقويه كون المَخْرَج واحدًا، والقصة واحدةً، وإنما يحسن ما تقدم أن لو كان المخرج مختلفًا، فيُحْمَل على تعدد القصة، وليس الغرض إلا أن يقع التعرّف والتعريف مع قطع النظر عن أيهما أسبق.
واختُلِف في هذه المعرفة على قولين للعلماء: أظهرهما الوجوب؛ لظاهر الأمر، وقيل: يستحب، وقال بعضهم: يجب عند الالتقاط، ويستحب بعده.
و"الْعِفَاص" - بكسر العين المهملة، وتخفيف الفاء، وبعد الألف صاد
(1)
"المفهم" 5/ 182 - 183.
مهملة -: الوعاء الذي تكون فيه النفقة جِلْدًا كان أو غيره، وقيل له: العفاص أخذًا من الْعَفْص، وهو الثَّنْيُ؛ لأن الوعاء يُثْنَي على ما فيه.
وقد وقع في "زوائد المسند" لعبد الله بن أحمد، من طريق الأعمش، عن سلمة، في حديث أُبَيّ رضي الله عنه:"وخِرْقَتها" بدل "عِفاصها".
و"العفاص" أيضًا: الجلد الذي يكون على رأس القارورة، وأما الذي يَدخُل فم القارورة من جلد، أو غيره فهو الضمَام - بكسر الصاد المهملة - قال الحافظ رحمه الله: فحيث ذُكر العفاص مع الوعاء فالمراد الثاني، وحيث لم يُذكر العفاص مع الوعاء، فالمراد به الأول.
والغرض معرفة الآلات التي تَحفَظ النفقة، ويَلتحق بما ذُكر حِفظ الجنس، والصفة، والقَدْر، والكيل فيما يكال، والوزن فيما يوزن، والذَّرْع فيما يُذرَع، وقال جماعة من الشافعية: يستحب تقييدها بالكتابة؛ خوفَ النسيان.
واختلفوا فيما إذا عَرَف بعض الصفات دون بعض؛ بناءً على القول بوجوب الدفع لمن عَرَف الصفة، قال ابن القاسم: لا بُدّ من ذكر جميعها، وكذا قال أصبغ، لكن قال: لا يشترط معرفة العدد، وقول ابن القاسم أقوى؛ لثبوت ذكر العدد في الرواية الأخرى، وزيادة الحافظ حجة. انتهى
(1)
.
(ثُمَّ عَرِّفْهَا) - بكسر الراء المشدّدة -؛ أي: اذكرها للناس، قال العلماء: محلّ ذلك المحافل، كأبواب المساجد، والأسواق، ونحو ذلك، يقول: من ضاعت له نفقة، أو نحو ذلك من العبارات، ولا يذكر شيئًا من الصفات.
وقوله: (سَنَةً) ظرف لـ "عرّفها"؛ أي: عرّفها سنةً متواليةً، فلو عرّفها سنة متفرقة لم يكف، كأن يعرّفها في كل سنة شهرًا، فيصدق أنه عرّفها سنة في اثنتي عشرة سنة، وقال العلماء: يعرّفها في كل يوم مرتين، ثم مرة، ثم في كل أسبوع، ثم في كل شهر، ولا يشترط أن يعرّفها بنفسه، بل يجوز بوكيله، ويعرّفها في مكان سقوطها، وفي غيره.
[تنبيه]: قوله: "عرَّفها سنة" هذا يعارض ما يأتي في حديث أُبيّ بن كعب رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم أمره بتعريفها ثلاث سنين، وفي رواية: سنة واحدة، وفي
(1)
"الفتح" 6/ 236 - 237، كتاب "اللقطة" رقم (2427).
رواية أن الراوي شكّ، وقال: لا أدري قال: حولًا، أو ثلاثة أحوال، وفي رواية: عامين، أو ثلاثة، قال القاضي عياض: قيل في الجمع بين الروايات قولان: أحدهما أن يُطْرَح الشك، والزيادة، ويكون المراد: سنَة في رواية الشكّ، وتردّ الزيادة لمخالفتها باقي الأحاديث، والثاني أنهما قضيتان، فرواية زيد في التعريف سَنَة محمولة على أقل ما يجزئ، ورواية أُبَيّ بن كعب في التعريف ثلاث سنين محمولة على الورع، وزيادة الفضيلة، قال: وقد أجمع العلماء على الاكتفاء بتعريف سنة، ولم يشترط أحد تعريف ثلاثة أعوام، إلا ما رُوي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ولعله لم يثبت عنه. انتهى
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "ثم عرِّفها سنة": تعريفها هو: أن يُنشدها في مجتمعات الناس، وحيث يظن أن ربِّها هنالك، أو قربه، فيعرّفها تعريفًا لا يضرُّ به، ولا يُخْفِي أمرها. والتعريف واجبٌ؛ لأنَّه مأمورٌ به، ثمَّ يختص الوجوب بسنة في المال الكثير؛ الذي لا يَفْسد، ولا ينقص منها، وهو قول فقهاء الأمصار، ولم يذهب أحدٌ منهم إلى زيادة على السنة إلا شيء روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فإنَّه قال: يعرِّفها ثلاثة أعوام، وإلا ما يَأتي من الخلاف في لقطة الحاجِّ.
فأما الشيء القليل التافه؛ الذي لا يتعلَّق به نفس مالكه كالثمرة، والكِسرة، فلا تعريف فيه. وقد مرَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم بتمر في الطريق فقال:"لولا أنى أخاف أن تكون من الصَّدقة لأكلتها"، ولم يذكر تعريفها.
ولو كانت من القليل الذي تتعلَّق به النفس غالبًا، فهل يُعرَّف أو لا؟ وإذا عُرِّف؛ فهل يُعرَّف سنة، أو يجزئ أقل من ذلك؟ كل ذلك مختلف فيه، فظاهر رواية ابن القاسم: أنَّه يُعرَّف سنة كالكثير، وهو قول الشافعيّ، وقال ابن القاسم في الكتاب: يُعرِّفه أيَّامًا، وبه قال ابن وهب، ولم يحدد الأيام، بل بحَسَب ما يظن أن مثلها يُطلب فيها، وهذا كالحبل، والْمِخْلاة، والدَّلو، والعصا، والسَّوط، والسِّقاء، والنَّعل، وقال أشهب: إن لم يعرّفها فأرجو أن يكون واسعًا، وقال بعض العلماء: لا يلزم تعريف شيء من ذلك، وألحقوه
(1)
"شرح النوويّ" 12/ 25 - 26.
بالقسم الأول، وفيه بُعْدٌ؛ لأنَّ ما تَشَوَّف النفسُ إليه فالغالب أن صاحبه يطلبه، فلا بدَّ من تعريفه، لكنه لا ينتهي التعريف فيه إلى السَّنة؛ لأنَّ صاحبه لا يستديم طَلَبه فيها غالبًا، فحينئذ تضيع استدامة التعريف.
[فإن قيل]: فقد جاء في كتاب أبي داود من حديث جابر رضي الله عنه: رخَّص لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في السوط، والعصا، والحبل، وأشباهه، يلتقطه الرَّجل ينتفع به، وظاهره: أنه لا يحتاج مثل هذا إلى تعريف.
[فالجواب]: أن هذا لا يصحُّ رفعه؛ لأنَّه من رواية المغيرة بن زياد، عن أبي الزبير، عن جابر رضي الله عنه، وقد رواه المغيرة بن مسلم عن أبي الزبير، عن جابر رضي الله عنه، قال: كانوا، ولم يذكر النبيّ صلى الله عليه وسلم والمغيرة بن مسلم أصلح حديثًا، وأصح من حديث المغيرة بن زياد. هكذا قاله أبو محمد عبد الحقّ.
قال القرطبي: مع أن حديث أبي الزبير عن جابر لا يؤخذ منه إلا ما ذَكر فيه سماعه منه؛ لأنَّه كان يُدلس في حديث جابر، ولم يذكر سماعه في هذا الحديث، سلّمنا صحته، لكنه يَحْتَمِل أن تكون هذه الإباحة بعد التعريف، ويعتضدُ هذا بما رواه أبو محمد بن أبي حاتم عن حُكيمة بنت غيلان عن أبيها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"من التقط القطة يسيرة، درهمًا، أو حبلًا، أو شبه ذلك؛ فليعرّفه ثلاثة أيام، فإن كان فوق ذلك فليعرِّفه ستة أيام"
(1)
، وأصح من هذا وأحسن ما خرَّجه النسائي عن عياض بن حمار المجاشعيّ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من أخذ لقطة فليُشهد ذوي عدل، وليحفظ عفاصها، ووكاءها، ولا يكتم، ولا يُغيِّب، فإن جاء صاحبها، فهو أحقّ بها، وإن لم يجئْ صاحبها وإلا فهو مال الله يؤتيه من يشاء"
(2)
، وهذا عامّ في كل لُقطة.
وقوله: "فليشهد ذوي عدلٍ"؛ أمرٌ للملتقط بأن يُشهد على نفسه بأنه وجد
(1)
هذا حديث ضعيف، قال البيهقيّ رحمه الله بعد تخريجه: تفرّد به عمر بن عبد الله بن يعلى، وقد ضعّفه يحيى بن معين، ورماه جرير بن عبد الحميد وغيره بشرب الخمر. انتهى. "السنن الكبرى" 6/ 195.
(2)
أخرجه النسائيّ في "السنن الكبرى" بإسناد صحيح رقم (5808).
كذا على جهة الاحتياط للُّقطة مخافة طارئٍ يطرأ على الملتقط من موت، أو آفة، أو طروء خاطر خيانةٍ.
وقوله: "ولا يكتم، ولا يُغيِّب" يعني به: أنَّه يعرِّفها بأعمِّ أوصافها، ويستدعي من الْمُدَّعي أخصَّ أوصافها المميَّزة لها، كما تقدم.
وأمَّا ما رواه أبو داود من حديث عليٍّ رضي الله عنه: أنَّه وجد دينارًا فرهنه في درهم لحمًا، وأنه أعلم النبيّ صلى الله عليه وسلم بذلك، فأقرَّه، ولم يُنكر عليه تصرَّفه في الدينار بالرَّهن، فلا حجَّة فيه لمن يستدلُّ به: على أن القليل من اللقطة لا يُعرَّف؛ لأنَّ عليًّا رضي الله عنه إنما فعل ذلك في حال ضرورة؛ لأنه دخل بيته والحسن والحسين يبكيان من الجوع، فخرج فوجد الدينار، ففعل ذلك حين لم يجد شيئًا آخر، وفي مثل هذه الحال تحل الميتة، فأحرى التصرف في الوديعة، ثم إنَّه لم يُتلف عين الدينار، وإنَّما رهنه، فلمَّا جاء صاحبه، افْتَكَّهُ ودفعه إليه، وذكر في هذا الحديث: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم استدعى مدَّعِي الدينار، فسأله، فقال: سقط مني في السُّوق. فأمر عليًّا بافتكاكه، ثم دفعه إلى الرَّجل، من غير أن يسأل عن وصف من أوصاف الدينار، فيَحْتَمِل أن يكون اكتفى منه بقوله: أنَّه ضاع مني في السُّوق، وقد كان عليٌّ وجده في السُّوق؛ لأنَّ الدينار الواحد ليس فيه عدد، وقد لا يكون له وعاء، ولا وكاء، والدنانير متساوية الأشخاص غالبًا، ويَحْتَمِل أن يكون النبيّ صلى الله عليه وسلم علم أنه صاحبه بوحي، أو بقرائن، فلا حجَّة فيه على سقوط السؤال عن الأوصاف، والله تعالى أعلم.
وقد حصل من هذا: أن اللقطة لا بدَّ لها من تعريف؛ فإن كانت مما لها بال ومقدار عُرِّفت سنة، وإن كانت مما ليس لها ذلك المقدار؛ كان تعريفها بحسبها من غير حدٍّ بعدد مخصوص، ولا زمان مخصوص، بل على الاجتهاد، وأما الثمرة، والكِسرة: فلا تحتاج إلى تعريف؛ لأنها مزهودٌ فيها، ولا تتشوَّف نفس صاحبها إليها، وهذا مذهب مالك وغيره. انتهى كلام القرطبيّ
(1)
وهو بحث مفيد، والله تعالى أعلم.
(فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا) وفي رواية للبخاريّ: "فإن جاء أحد يخبرك بها")،
(1)
"المفهم" 5/ 183 - 186.
وجواب الشرط محذوف، تقديره: فأَدِّها إليه، وفي رواية حماد بن سلمة الآتية:"فإن جاء صاحبها، فعرف عِفاصها، وعددها، وووكاءها، فأعطها إياه". (وَإِلَّا) هي "إن" الشرطيّة ادغمت في "لا" النافية؛ أي: وإن لم يجئ صاحبها، (فَشَأْنَكَ بِهَا") بنصب "شأنك" بفعل مقدّر؛ أي: افعل شأنك بتلك اللقطة، وفي رواية:"ثم استنفق بها"، وفي أخرى:"فإذا لم يأت لها طالب، فاستنفقها"، وفي أخرى:"فإن لم يجئ صاحبها كانت وديعة عندك"، وفي أخرى:"فإن لم تعرف، فاستنفقها، ولتكن وديعةً عندك"، وكلّها عند المصنف في الباب.
قال النوويّ رحمه الله: قوله: "فإن جاء صاحبها
…
إلخ": معناه: إن جاءها صاحبها فادفعها إليه، وإلا فيجوز لك أن تتملكها، قال أصحابنا: إذا عرّفها، فجاء صاحبها في أثناء مدة التعريف، أو بعد انقضائها وقبل أن يتملكها الملتقط، فأثبت أنه صاحبها أخذها بزيادتها المتصلة والمنفصلة، فالمتصلة كالسِّمَن في الحيوان، وتعليم صنعة ونحو ذلك، والمنفصلة كالولد، واللبن، والصوف، واكتساب العبد، ونحو ذلك، وأما إن جاء من يدَّعيها ولم يثبت ذلك، فإن لم يصدّقه الملتقط لم يجز له دفعها إليه، وإن صدّقه جاز له الدفع إليه، ولا يلزمه حتى يقيم البينة، هذا كله إذا جاء قبل أن يتملكها الملتقط، فأما إذا عرّفها سنةً، ولم يجد صاحبها، فله أن يديم حفظها لصاحبها، وله أن يتملكها، سواء كان غنيًّا، أو فقيرًا، فإن أراد تملّكها فمتى يملكها؟ فيه أوجه لأصحابنا: أصحها: لا يملكها حتى يتلفظ بالتملك، بأن يقول: تملكتها، أو اخترت تملكها، والثاني: لا يملكها إلا بالتصرف فيها بالبيع ونحوه، والثالث: يكفيه نية التملك، ولا يحتاج إلى لفظ، والرابع: يملك بمجرد مضي السنة.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا القول الرابع هو الأظهر؛ لظاهر الحديث؛ فإنه صلى الله عليه وسلم لمّا أباح له التصرّف فيها لم يقيّده بشيء مما ذُكر، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
قال: فإذا تملكها ولم يظهر لها صاحب فلا شيء عليه، بل هو كسب من أكسابه، لا مطالبة عليه به في الآخرة، وإن جاء صاحبها بعد تملكها أخذها بزيادتها المتصلة، دون المنفصلة، فإن كانت قد تلفت بعد التملك لزم الملتقط
بدلها عندنا، وعند الجمهور، وقال داود: لا يلزمه، والله أعلم. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: الحقّ ما ذهب إليه الجمهور، فإنه صلى الله عليه وسلم قال بعد قوله:"فاستنفق بها": "ولتكن وديعة عندك، فإن جاء طالبها يومًا من الدهر، فأدِّها إليه"، فأوجب عليه أداءها بعد استنفاقها، فتبصّر، والله تعالى أعلم.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "فإن جاء صاحبها، وإلا فشأنُك بها - أو: فهي لك"، أو:"فاستنفقها"، وفي حديث أُبَيّ:"وإلا فاستمتع بها"، وفي كتاب الترمذيّ:"ثمَّ كُلها"، وفي كتاب النسائيّ من حديث عياض بن حمار:"وإلا فهي مال الله يؤتيه من يشاء": أفادت هذه الروايات كلها أن واجد اللقطة بعد التعريف أحقّ بالنظر فيها من غيره، فلا ينتزعها منه السلطان ولا غيره، وهو قول أهل العلم، غير أن الأوزاعيّ قال: إن كان مالًا كثيرًا جعله في بيت المال.
واختلفوا إن كان غير مأمون؛ هل يتركها السلطان بيده، أو يأخذها منه؟ فعن الشافعيّ في ذلك قولان، قال القاضي عياض: ومقتضى مذهب مالك، وأصحابه: أن يأخذها منه إن كان غير مأمون، وهو الصحيح - إن شاء الله تعالى - فإذا أُقرَّت بيده؛ فما الذي يفعل بها؟! الجمهور: على أن له أن يمسكها عنده، ولا ضمان عليه؛ لأنَّها وديعة، كما جاء في بعض طرقه:"ولتكن وديعة عندك"، وله أن يصرفها في مصالحه من أكل، أو انتفاع، وله أن يتصدَّق بها، ولا بدَّ في هذين من الضمان متى جاء صاحبها، وإلى هذا ذهب عمر بن الخطاب، وابنه، وابن مسعود، وعائشة، وعطاء، والشافعيّ، وأحمد، وإسحاق، وأبو حنيفة. غير أنه - أعني: أبا حنيفة - لم يُبْح أكلها إلا للفقير، وشذَّ داود فأسقط عنه الضمان بعد السَّنة.
وموجب الخلاف اختلاف تلك الروايات، وذلك: أن ظاهر قوله: "فهي لك"، وقوله:"ثم كُلها"، وقوله:"وإلا فهو مال الله يؤتيه من يشاء": التمليك، وسقوط الضمان، وبه اغتَرَّ داود، لكن قد أزال ذلك الظاهر، ودَحَضَه رواية العدل، الضابط الحافظ، الامام يحيى بن سعيد عن يزيد - مولى المنبعث - أنَّه
(1)
"شرح النوويّ" 21/ 22 - 23.
سمع زيد بن خالد الجهنيّ رضي الله عنه يقول: سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اللقطة؛ الذهب والورق؟ فقال: "اعرف وكاءها، وعِفاصها، ثمَّ عرِّفها سَنَة، فإن لم تُعرف فاستنفقها، ولتكن وديعة عندك، فين جاء طالبها يومًا من الدَّهر، فأدِّها إليه"، فهذه أحسن الروايات، وأنصُّها على المطلوب، وهي المبيِّنة لتلك الظواهر الحاكمة عليها، والعجب من داود كيف صُرِف عنها وهي بين يديه؟ وأنَّى تغافلَ عنها؟ وهي حجَّة عليه؛ لكن من حُرِم التوفيق استدبر الطريق. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(1)
.
(قَالَ: فَضَالَّةُ الْغَنَمِ؟)؛ أي: ما حكمها؟ فحُذف ذلك للعلم به، قال العلماء: الضالّة لا تقع إلا على الحيوان، وما سواه يقال له: لُقَطة، ويقال للضوالِّ أيضًا: الهوامِي، والهوافي، بالميم، والفاء، والهوامل، قاله في "الفتح".
وقال في "العمدة": قوله: "فضالَّة الغنم" كلامٌ إضافيّ مبتدأ، خبره: أي: ما حكمها؟ أهي مثل ضالة الإبل أم لا؟.
وقوله: "لك، أو لأخيك، أو للذئب" فيه حذفٌ تقديره: ليست ضالّة الغنم مثل ضالة الإبل، هي لك إن أخذتها، أو هي لأخيك، إن لم تأخذها، يعني: يأخذها غيرك من اللاقطين، أو يكون المارّ من الأخ صاحبها، والمعنى: أو هي لأخيك الذي هو صاحبها إن ظهر، أو هي للذئب إن لم تأخذها، ولم يتفق أن يأخذها غيرك أيضًا؛ لأنه يُخاف عليها من الذئب ونحوه، فيأكلها غالبًا، فإذا كان المعنى على هذا يكون محلّ "لك" من الإعراب الرفع؛ لأنه خبر مبتدإ، وكذلك "لأخيك"، و"للذئب". انتهى
(2)
.
(قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("لَكَ، أَوْ لأَخِيكَ، أَوْ لِلذِّئْبِ") قال النوويّ رحمه الله: معناه: الإذن في أخذها، بخلاف الإبل، وفرَّق صلى الله عليه وسلم بينهما، وبَيَّن الفرق بأن الإبل مستغنية عن من يحفظها؛ لاستقلالها بحذائها وسقائها، وورودها الماء، والشجر، وامتناعها من الذئاب، وغيرها من صغار السباع، والغنم بخلاف ذلك، فلك أن تأخذها أنت، أو صاحبها، أو أخوك المسلم الذي يَمُرّ بها، أو الذئب، فلهذا
(1)
"المفهم" 5/ 186 - 188.
(2)
"عمدة القاري" 2/ 164 - 165.
جاز أخذها دون الإبل، ثم إذا أخذها، وعرّفها سنةً، وأكلها، ثم جاء صاحبها لزمته غرامتها عندنا، وعند أبي حنيفة، وقال مالك: لا تلزمه غرامتها؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يذكر له غرامةً، واحتج أصحابنا بقوله في في الرواية الأخرى:"فإن جاء صاحبها فأعطها إياه"، وأجابوا عن دليل مالك بأنه لم يَذْكُر في هذه الرواية الغرامة، ولا نفاها، وقد عُرِف وجوبها بدليل آخر. انتهى
(1)
.
وقال في "الفتح": قوله: "لك، أو لأخيك
…
إلخ " فيه إشارة إلى جواز أخذها، كأنه قال: هي ضعيفة؛ لعدم الاستقلال، مُعَرَّضة للهلاك، مترددة بين أن تأخذها أنت، أو أخوك، والمراد به ما هو أعمّ من صاحبها، أو من ملتقِط آخر، والمراد بالذئب: جنس ما يأكل الشاة، من السباع، وفيه حثّ له على أخذها؛ لأنه إذا علم أنه إن لم يأخذها بقيت للذئب، كان ذلك أدعى له إلى أخذها.
ووقع في رواية إسماعيل بن جعفر، عن ربيعة التالية: "قال: خذها، فإنما هي لك
…
إلخ"، وهو صريح في الأمر بالأخذ، ففيه دليل على ردّ إحدى الروايتين عن أحمد، في قوله: يترك التقاط الشاة.
وتمسك به مالك في أنه يملكها بالأخذ، ولا يلزمه غرامة، ولو جاء صاحبها، واحتُجّ له بالتسوية بين الذئب والملتقط، والذئبُ لا غرامة عليه، فكذلك الملتقط.
وأجيب بأن اللام ليست للتمليك؛ لأن الذئب لا يملك، وإنما يملكها الملتقط على شرط ضمانها، وقد أجمعوا على أنه لو جاء صاحبها قبل أن يأكلها الملتقط لأخذها، فدلّ على أنها باقية على ملك صاحبها، ولا فرق بين قوله في الشاة:"هي لك، أو لأخيك، أو للذئب"، وبين قوله في اللقطة:"شأنك بها"، أو "خذها"، بل هو أشبه بالتملك؛ لأنه لم يُشرِك معه ذئبًا، ولا غيره، ومع ذلك فقالوا في النفقة: يَغْرَمها إذا تصرّف فيها، ثم جاء صاحبها.
وقال الجمهور: يجب تعريفها، فيذا انقضت مدة التعريف أكلها، إن شاء، وغَرِمَ لصاحبها إلا أن الشافعيّ قال: لا يجب تعريفها إذا وُجدت في
(1)
"شرح النوويّ" 12/ 23.
الفلاة، وأما في القرية فيجب في الأصحّ، قال النوويّ: احتج أصحابنا بقوله صلى الله عليه وسلم في الرواية الأولى: "فإن جاء صاحبها، فأعطها إياه"، وأجابوا عن رواية مالك بأنه لم يذكر الغرامة، ولا نفاها، فثبت حكمها بدليل آخر. انتهى.
قال الحافظ: وهو يوهم أن الرواية الأولى من روايات مسلم فيها ذكر حكم الشاة إذا أكلها الملتقط، ولم أر ذلك في شيء من روايات مسلم، ولا غيره في حديث زيد بن خالد. نعم عند أبي داود، والترمذيّ، والنسائيّ، والطحاويّ، والدارقطنيُّ، من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدّه، في ضالة الشاة:"فاجمعها، حتى يأتيها باغيها". انتهى
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "فضالةُ الغنم؟ "، فقال:"هي لك، أو لأخيك، أو للذئب": أي: لا بدَّ لها من حال من هذه الأحوال الثلاثة. و"أو" هذه للتقسيم والتنويع، ويفيد هذا أن الغنم إذا كانت في موضع يُخاف عليها فيه الهلاك جاز لملتقطها أكلها، ولا ضمان عليه؛ إذ قد سوّى بينه ويين الذئب، والذئب لا ضمان عليه، فالملتقط لا ضمان عليه، وهو مذهب مالك وأصحابه، وقد ضمَّنه الشافعيّ، وأبو حنيفة تمسكًا ببقاء ملك ربِّها عليها، وبما قد رُوي من حديث عمرو بن يثربيّ: أنَّه قال: "إن لقيتها لقحة تَحمل شفرة وأزنادًا فلا تمسَّها"، ولا حجَّة في شيء من ذلك؛ قد اتفقنا على أن لواجدها أخْذَها، وأكْلَها، والأصل: أنَّه لا يجوز التصرُّف في ملك الغير؛ فقد تركنا هذا الأصل، فلا نتمسك به في باب اللقطة؛ لأن الشرع قد سلَّط الملتقط عليها، ولمّا كانت هذه مآلها الهلاك إن تُركت ولا ضمان؛ كان أكْلها لواجدها أَولى بغير ضمان؛ لأنَّه انتفع بها رجل مسلم، ولا حجَّة أيضًا في الحديث لأنَّه من رواية عُمارة بن حارثة، وليس بالمشهور بالرواية، ولو سُلِّم أنه صحيح فلا حجَّة فيه أيضًا؛ لأنَّ ذلك القول إنما صدر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم جوابًا لمن قال له: أرأيت إن لقيت غنم ابن عمي، فأخذت منها شاة، فأجزرتها؛ أعليّ في ذلك شيء؟ فأجابه صلى الله عليه وسلم بذلك، فلم يسأله عن ضالة الغنم، بل عن غنم ابن عمِّه، وذلك عندما قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "لا يحل لامرئ من مال أخيه شيء إلا بطيب نفسٍ
(1)
"الفتح" 6/ 238.
منه"، فحينئذ مسألة عن ذلك، فأجابه بذلك، ويلحق بالغنم عند مالك: ما لا يبقى من الأطعمة، ويخافُ عليه الفساد، وكان بموضع لا ينحفظ فيه، ولا يوجد من يشتريه، فله أكله، ولا ضمان، وضمَّنه الإمامان، كما قدّمناه، فإن كان شيء من ذلك قريبًا من العمران، وأَمِنَ الهلاك عليه فلا يجوز له أكله، ولا خلاف فيه، فإن شاء أخذها بنيَّة حفظها، وإن شاء تركها على ما تقدم. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: لا يخفى أن ما ذهب إليه الإمامان أبو حنيفة، والشافعيّ من تضمينه هو الأرجح؛ لظاهر أحاديث الباب، فتأمل بالإمعان، والله تعالى أعلم.
(قَالَ) السائل (فَضَالَّةُ الابِلِ؟)؛ أي: ما حكمها (قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("مَا لَكَ وَلَهَا؟)"ما" استفهاميّة، ومعناه: ما تصنع بها؟ أي؛ لِمَ تأخذها، ولمَ تتناولها؟ وإنها مستقلّة بأسباب معيشتها
(2)
.
وفي رواية: "فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى احمرّت وجنتاه، أو احمرّ وجهه"، وفي رواية للبخاريّ:"فتمَعّر وجه النبيّ صلى الله عليه وسلم "، وهو بالعين المهملة الثقيلة؛ أي: تغيَّر، وأصله في الشجر إذا قَلَّ ماؤه، فصار قليل النَّضْرة، عديم الإشراق، ويقال للوادي المجدب: أمعر، ولو رُوي "تَمَغَّر" بالغين المعجمة، لكان له وجه؛ أي: صار بلون المغَرَة، وهو حمرة شديدة إلى كُمُودة، قاله في "الفتح"
(3)
.
وفي رواية سليمان بن بلال الآتية: "فقال: ما لك ولها؟ دعها، فإن معها حذاءها، وسقاءها، تَرِد الماء، وتأكل الشجر، حتى يجدها ربّها".
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله في ضالَّة الإبل: "ما لك ولها؟ " إلى آخر الكلام، وغضبه حين قال ذلك يدلُّ على تحريم التعرُّض لضالَّة الإبل؛ لأنَّها يُؤْمَن عليها الهلاك لاستقلالها بمنافعها، وقد نصَّ على ذلك بقوله في الرواية الأخرى:"دعها عنك"، ومقتضاه: المنع من التصرف فيها مطلقًا، وأن تُترك
(1)
"المفهم" 5/ 188 - 189.
(2)
"عمدة القاري" 2/ 164.
(3)
"الفتح" 6/ 239.
حيث هي، لكن هذا إذا لم تكن بأرض مَسْبَعَة
(1)
، وعلى هذا يدلُّ قوله صلى الله عليه وسلم:"ضالّة المسلم حرق النار"
(2)
، قال العلماء: هكذا كان في أول الإسلام، وعلى ذلك استمر زمن أبي بكر، وعمر، فلمَّا كان زمن عثمان وعليّ، وكثر فساد الناس، واستحلالهم رأوا التقاطها، وضمَّها، والتعريف بها، وهذا كلُّه منهم وفاءً بمقصود هذا الحديث في لقطة الإبل؛ فإن مقصوده: أنها إذا أُمن عليها الهلاك، وبقيت بحيث تتمكن مما تعيش به من الأكل والشرب حتى يجيء ربُّها، فيجدها سليمة، فحينئذ لا يتعرَّض لها أحدٌ، فلو تعذَّر شيء من ذلك، وخِيف عليها الهلاك أو السَّرق؛ التُقِطَت، وحُفِظَت؛ لأنَّها مال مسلم؛ فيجب حفظه، ولا تُؤكل، ولو كانت بالمواضع المنقطعة عن العمران البعيدة؛ لأنَّ سَوْقها ممكن، ومؤونتها متيسرة بخلاف الغنم.
وهل يُلحق بها البقر، أو بالغنم؟ عندنا - المالكيّة - في ذلك قولان، فرأى مالك إلحاقها بالغنم لضَعْفها عن الامتناع عند انفرادها، ورأى ابن القاسم إلحاقها بالإبل، إذا كانت بموضع لا يُخاف عليها فيه من السَّباع.
قال القرطبيّ: وكأنّ هذا تفصيل أحوال، لا اختلاف أقوال، وقد بيَّنَّا: أن مثله جارِ في الإبل، فالأَولى: إلحاقها بها.
وكذلك اختُلِف في التقاط الخيل، والبغال، والحمير، وظاهر قول ابن القاسم: أنها تُلتقط. وقال أشهب، وابن كنانة: لا تلتقط. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(3)
.
(مَعَهَا سِقَاؤُهَا) بكسر السين المهملة؛ أي: جوفها، والمراد به أنها تشرب، وتأخذ الماء في جوفها، وتكتفي به أيّامًا، وقيل: المراد بالسقاء: عنقها، وقال النوويّ رحمه الله: معناه: أنها تَقْوَى على ورود المياه، وتشرب في اليوم الواحد، وتملأ كَرِشها، بحيث يكفيها الأيام. انتهى
(4)
.
(1)
أي: كثيرة السباع.
(2)
حديث صحيح، أخرجه ابن ماجه، وغيره بإسناد صحيح.
(3)
"المفهم" 5/ 189 - 190.
(4)
"شرح النوويّ" 12/ 21.
(وَحِذَاؤُهَا) - بكسر الحاء المهملة، بعدها ذال معجمة، مع المدّ؛ أي: خُفها، والمراد: أنها تقوى بها على السير، وقطع المفاوز.
وقال القرطبي رحمه الله: أصل الحذاء: ما يَحتذي به الإنسان، من نعال، أو غيره، والسقاء: ما يشرب به، فيعني أن الإبل لا تحتاج إلى شيء مما يحتاج إليه غيرها من المواشي، فإنها تمشي حيث شاءت، وتأكل من الأشجار، وترد الأنهار. انتهى
(1)
.
وقال في "الفتح": أشار بذلك إلى استغنائها عن الحفظ لها بما رُكِّب في طباعها من الجلادة على العطش، وتناول المأكول بغير تَعَب؛ لطول عنقها، فلا تحتاج إلى ملتقط.
(تَرِدُ الْمَاءَ) - بفتح حرف المضارعة، وكسر الراء -: مضارع ورد، قال الفيّوميّ رحمه الله: وَرَدَ البعيرُ وغيره الماءَ يَرِدُهُ وُرُودًا: بَلَغَهُ، ووافاه، من غير دخول، وقد يَحْصُل دخول فيه، والاسم: الوِرْدُ بالكسر، وأَوْرَدْتُهُ الماءَ، فَالوِرْدُ: خلاف الصَّدَر، والإِيْرَادُ: خلاف الإِصْدَار، والمَوْرِدُ مثلُ مسجد: موضع الورود، ووَرَدَ زيدٌ الماءَ، فهو وَارِدٌ، وجماعة وَارِدَةٌ، ووُرَّادٌ، وورْدٌ، تسميةً بالمصدر، ووَرَدَ زيد علينا وُرُودًا: حَضَر، ومنه: وَرَدَ الكتاب، على الاستعارة. انتهى
(2)
.
(وَتَأْكُلُ الشَّجَرَ، حَتَّى يَلْقَاهَا)؛ أي: يجدها (رَبُّهَا")؛ أي: صاحبها.
وقوله: (قَالَ يَحْيَى) يعني: ابن يحيى الراوي عن مالك، (أَحْسِبُ) بفتح السين، وكسرها، من بابي علم، وورث؛ أي: أظنّ، (قَرَأتُ)؛ أي: على مالك، وقوله:(عِفَاصَهَا) مفعول "قرأت"، وغرضه بيان أن شيخه يحيى تردّد في لفظة "عفاصها"، وهذا لا يضرّ فقد وردت في روايات الآخرين دون تردّد، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث زيد بن خالد الْجُهَنيّ هذا متّفقٌ عليه.
(1)
"المفهم" 5/ 191.
(2)
"المصباح المنير"2/ 654 - 655.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [1/ 4490 و 4491 و 4492 و 4493 و 4494 و 4495 و 4496 و 4497](1722)، و (البخاريّ) في "العلم"(91) و"المساقاة"(2372) و"اللقطة"(2427 و 2428 و 2429 و 2436 و 2438) و"الأدب"(6112)، و (أبو داود) في "اللقطة"(1704 و 1705 و 1707)، و (الترمذيّ) في "الأحكام "(1372)، و (النسائيُّ) في "الكبرى"(3/ 407 و 416)، و (مالك) في "الموطّإ"(2/ 757)، و (الشافعيّ) في "مسنده"(2/ 137)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(18602)، و (الحميديّ) في "مسنده"(816)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(6/ 456)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 117)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(4/ 134)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4889، 4890)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(666)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 181 و 186)، و (عبد بن حميد) في "مسنده"(1/ 117)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(5249 و 5250 و 5252 و 5253 و 5255 و 5257)، و (الدارقطني) في "سننه"(4/ 235 - 236)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(6/ 185 و 186 و 192)، و (البغويّ) في "شرح السُّنّة"(2207)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان مشروعيّة التقاط اللقطة، وقد اختُلف في حكمه، فروي عن مالك الكراهة، وروي عنه أنّ أخْذَها أفضل فيما له بال، وللشافعيّ ثلاثة أقوال: أصحها: يستحب الأخذ، ولا يجب، والثاني: يجب، والثالث: إن خاف عليها وجب، وإن أَمِن عليها استُحِبّ، وعن أحمد يُندب تركها، وعند الحنفيّة: الأفضل التقاطها إذا كان يأمن على نفسه، وإلا لا يرفعها
(1)
.
2 -
(ومنها): وجوب معرفة العِفاص، والوكاء، والعدد؛ لِأَمْره صلى الله عليه وسلم بذلك، وهو للوجوب، وقد حكى القاضي عن بعضهم الإجماع على ذلك، فإن جاء صاحبها، وَصَفَها وبَيَّنَها، فقال الشافعيّ، ومالك: يُجبَر على دفعها؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "فإن جاء صاحبها، فعَرَف عِفاصها، وعددها، ووكاءها، فأَعْطِها
(1)
راجع: "عمدة القاري" 2/ 166.
إياه، وإلا فهي لك"، وهذا أمر، وهو للوجوب، وقالت الحنفية: يَحِلّ للملتقط أن يدفعها إليه من غير أن يُجبر عليه في القضاء.
قال الجامع عفا الله عنه: القول هو الصحيح؛ لوضوح حجته.
وفي "شرح السُّنة": اختلفوا في أنه لو ادَّعَى رجل اللقطة، وعَرَف عِفاصها، ووكاءها، فذهب مالك، وأحمد: إلى أنه يدفع إليه من غير بينة أقامها عليه، وهو المقصود من معرفة العفاص، والوكاء، وقال الشافعيّ، والحنفية: إذا وقع في النفس صدق المدعي فله أن يعطيه، وإلا فببيّنة. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: لا يخفى أن ما ذهب إليه مالك، وأحمد هو الأرجح؛ لوضوح حجته؛ لأنه صلى الله عليه وسلم بعد أن أمر بمعرفة هذه الأمور أمره أن يدفعها لمن عرف تلك الأمور، ولم يشترط عليه بيّنة، ولا غيرها، فتأمله بالإنصاف، والله تعالى أعلم.
3 -
(ومنها): ما قال في "العمدة": احتَجّ بهذا الحديث من يمنع التقاط الإبل إذا استغنت بقوتها عن حفظها، وهو قول الشافعيّ، ومالك، وأحمد، ويقال عند الشافعيّ: لا يصح في الكبار، ويصح في الصغار، وعند مالك: لا يصح في الإبل، والخيل، والبغل، والحمار فقط، وعند أحمد: لا يصح في الكلّ حتى الغنم، وعنه: يصح في الغنم، وفي بعض شروح البخاريّ: وعند الشافعية: يجوز للحفظ فقط، إلا أن يوجد بقرية، أو بلد، فيجوز على الأصحّ، وعند المالكية ثلاثة أقوال في التقاط الإبل: ثالثها: يجوز في القرى دون الصحراء، وقالت الشافعية: في معنى الإبل كلُّ ما امتنع بقوّته عن صغار السباع، كالفرس، والأرنب، والظبي، وعند المالكية خلاف في ذلك، وقال ابن القاسم: يُلحَق البقر بالإبل دون غيرها، إذا كانت بمكان لا يُخاف عليها فيه من السباع.
وقال القاضي: اختُلف عند مالك في الدواب، والبقر، والبغال، والحمير، هل حكمها حكم الإبل، أو سائر اللقطات؟
وقالت الحنفية: يصح التقاط البهيمة مطلقًا، من أي جنس كان؛ لأنها مال يُتَوَّهم ضياعه، والحديث محمول على ما كان في ديارهم؛ إذ كان لا يخاف عليها من شيء، ونحن نقول في مثله بتركها، وهذا لأن في بعض البلاد
الدوابّ يُسَيِّبها أهلها في البراري، حتى يحتاجوا إليها، فيُمسكوها وقت حاجتهم، ولا حاجة في التقاطها في مثل هذه الحالة، والذي يدل على هذا ما رواه مالك في "الموطإ" عن ابن شهاب قال: كان صواّل الإبل في زمن عمر رضي الله عنه إبلًا مُؤبَّلة تتناتج، لا يمسكها أحد، حتى إذا كان زمن عثمان رضي الله عنه أَمَر بمعرفتها، ثم تباع، فإذا جاء صاحبها أعطي ثمنها.
قال الجوهريُّ: إذا كانت الإبل للقِنْية فهي إبل مؤبَّلة. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: الذي ذهب إليه الحنفيّة من جواز التقاط البهيمة مطلقًا إذا خيف عليها الضياع هو الذي يترجح عندي؛ لأنه صلى الله عليه وسلم علّل منع التقاط الإبل بكونها ممتنعة بنفسها، ومفهومه أنها إذا لم تمتنع بنفسها، حلّ التقاطها، فتأمل، والله تعالى أعلم.
4 -
(ومنها): وجوب تعريف اللقطة سَنَة، ولا فرق في ذلك بين القليل والكثير، كما هو ظاهر الحديث، إلا أن يكون يسيرًا لا يطلبه صاحبه، كتمرة ونحوها؛ والأصح عند الشافعية: أنه لا يجب التعريف في القليل منه، بل يعرّفه زمنًا يظن أن فاقده يتركه غالبًا، وقال الليث: إن وجدها في القرى عرّفها، وإن وجدها في الصحراء لا يعرّفها، وقال المازريّ: لم يُجْرِ مالك اليسير مُجْرَى الكثير، واستحبّ فيه التعريف، ولم يبلغ به سنةً، وقد جاء أنه صلى الله عليه وسلم مر بتمرة، فقال:"لولا أني أخاف أن تكون من الصدقة لأكلتها"، فنبَّه على أن اليسير الذي لا يَرجع إليه أهله يؤكل.
وقال بعض العلماء: إن السوط، والعصا، والحبل، ونحوه ليس فيه تعريف، وإنه مما يُعفى عن طلبه، وتُطِيبُ النفس بتركه، كالتمرة، وقليل الطعام.
قال الجامع عفا الله عنه: الذي يترجّح عندي أن القليل الذي لا يلتفت إليه أوساط الناس، ويزهدون فيه، ولا يحرصون عليه، لا يجب تعريفه، ودليل ذلك ما أخرجاه في "الصحيحين" من حديث أنس رضي الله عنه، أنه صلى الله عليه وسلم مرّ بتمرة في الطريق، فقال:"لولا أني أخاف أن تكون من الصدقة لأكلتها"، فلم يذكر
(1)
راجع: "عمدة القاري" 2/ 167، كتاب "العلم" رقم (91).
تعريفها، فدّل على أن ما كان تافهًا، لا يجب تعريفه، والله تعالى أعلم.
5 -
(ومنها): جواز الاستمتاع باللقطة بعد التعريف للملتقِط مطلقًا، فقيرًا كان، أو غنيًّا، بشرط الضمان إذا جاء صاحبها؛ لإطلاقه صلى الله عليه وسلم، وعدم تقييده بالفقير، قال الخطابيّ رحمه الله: في لفظ: "ثم استمتع" بيانُ أنها له بعد التعريف يَفعل بها ما شاء، بشرط أن يرُدّها إذا جاء صاحبها، إن كانت باقيةً أو قيمتها إن كانت تالفة، فإذا ضاعت اللقطة نُظِر، فإن كان في مدة السنة لم يكن عليه شيء؛ لأن يده يد أمانة، وإن ضاعت بعد السنة فعليه الغرامة؛ لأنها صارت دَينًا عليه.
وأغرب الكرابيسي من الشافعية، فقال: لا يلزمه ردّها بعد التعريف، ولا ردّ بدلها، وهو قول داود، وقول مالك في الشاة، وقال سعيد بن المسيِّب، والثوريّ: يتصدق بها، ولا يأكلها، ورُوي ذلك عن عليّ، وابن عباس، وقال مالك: يُستحب له أن يتصدق بها مع الضمان، وقال الأوزاعيّ: المال الكثير يُجعل في بيت المال بعد السنة، والله تعالى أعلم، قاله في "العمدة"
(1)
.
وقال في "الفتح": واستُدِلّ به على أن الملتقط يتصرف فيها، سواء كان غنيًّا، أو فقيرًا، وعن أبي حنيفة: إن كان غنيًّا تصدق بها، وإن جاء صاحبها تخير بين إمضاء الصدقة، أو تغريمه، قال صاحب "الهداية": إلا إن كان بإذن الإمام، فيجوز للغنيّ كما في قصة أُبَيّ بن كعب، وبهذا قال عمر، وعليّ، وابن مسعود، وابن عباس، وغيرهم من الصحابة والتابعين. انتهى
(2)
.
6 -
(ومنها): أن المازريّ استدلّ لعدم الغرامة بقوله صلى الله عليه وسلم: "هي لك"، وظاهره التمليك، والمالك لا يغرَّم، ونبَّه بقوله:"للذئب" أنها كالتالفة على كل حال، وأنها مما لا يُنتفع صاحبها ببقائها.
وتُعُقِّب بأن اللام للاختصاص؛ أي: إنك تختص بها، ويجوز لك أكْلها، وأخْذها، وليس فيه تعرّض للغُرْم، ولا لعدمه، بل بدليل آخر، وهو قوله صلى الله عليه وسلم:"فإن طالَبَها يومًا من الدهر، فأدِّها إليه"، رواه مسلم.
(1)
"عمدة القاري" 2/ 168 - 169.
(2)
"الفتح" 6/ 237 - 238 رقم (2427).
7 -
(ومنها): أن فيه دليلًا على جواز الحكم والفتيا في حال الغضب، وأنه نافذ، لكن يُكره في حقّنا بخلاف النبيّ صلى الله عليه وسلم، لأنه يُؤمَن عليه في الغضب ما يخاف علينا، وقد حكم صلى الله عليه وسلم للزبير رضي الله عنه في شِرَاج الحرّة في حال غضبه، وقد تقدّم ترجيح القول بعدم جواز الحكم لغيره على في حال الغضب؛ لِمَا تقدّم من قوله صلى الله عليه وسلم:"لا يحكم أحد بين اثنين، وهو غضبان"، متّفق عليه.
8 -
(ومنها): أن فيه جواز قول الإنسان: رب المال، ورب المتاع، ومنهم من كَرِه إضافته إلى ما له رُوح.
9 -
(ومنها): أن في قوله صلى الله عليه وسلم: "اعرِفْ عِفَاصها، ووكاءها" دليلًا بَيِّنًا على إبطال قول من ادَّعَى علم الغيب في الأشياء كلها من الكَهَنة، والمنجِّمين، وغيرهم لأنه صلى الله عليه وسلم لو عَلِم أنه يوصل إلى علم ذلك من هذه الوجوه لم يكن في قوله في معرفة علاماتها وجه
(1)
.
10 -
(ومنها): أن صاحب اللقطة إذا جاء فهو أحق بها من ملتقطها، إذا ثبت أنه صاحبها، فإن وجدها قد أكلها الملتقط بعد الحول، وأراد أن يُضَمِّنه كان له ذلك، وإن كان قد تصدق بها فصاحِبُها مخيَّر بين التضمين، وبين أن يترك على أجرها، رُوي ذلك عن عمر، وعليّ، وابن مسعود، وابن عباس، وابن عمر رضي الله عنهم، وهو قول طاوس، وعكرمة، وأبي حنيفة، وأصحابه، وسفيان الثوريّ، والحسن بن حيّ - رحمهم الله تعالى -.
11 -
(ومنها): أن الشافعية احتجّت بقوله صلى الله عليه وسلم: "استمتع بها"، وبما جاء في بعض طرق الحديث:"فإن جاء من يعرفها، وإلا فاخلطها بمالك"، وفي بعضها:"عَرِّفها سنةً، ثم اعرِف وكاءها، وعفاصها، ثم استنفق بها، فإن جاء ربها، فأدِّها إليه"، وبما جاء في مسلم:"فإن جاء صاحبها، فعَرَف عِفاصها، وعددها، ووكاءها، فأعطها إياه، وإلا فهي لك"، وفي بعض طرقه:"ثم عَرِّفها سنةً، فإن لم تُعْرَف فاستنفقها، ولتكن وديعةً عندك، فإن جاء طالبها يومًا من الدهر، فأدِّها إليه" على أن من عَرَّفها سنةً، ولم يظهر صاحبها، كان له تملّكها، سواء كان غنيًّا، أو فقيرًا، ثم اختلفوا، هل تدخل في ملكه باختياره،
(1)
"عمدة القاري"2/ 169.
أو بغير اختياره؟ فعند الأكثرين تدخل بغير الاختيار، قاله في "العمدة"
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4491]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، وَقُتَيْبَةُ، وَابْنُ حُجْرٍ، قَالَ ابْنُ حُجْرٍ: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ الآخَرَانِ: حَدَّثنَا إِسْمَاعِيلُ - وَهْوَ ابْنُ جَعْفَرٍ - عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أبِي عَبْدِ الرحمن، عَنْ يَزِيدَ مَوْلَى الْمُنْبَعِث، عَنْ زيدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنيِّ، أَن رَجُلًا سَأَل رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ اللُّقَطَةِ؟ فَقَالَ: "عَرِّفْهَا سَنَةً، ثُمَّ اعْرِفْ وِكَاءَهَا، وَعِفَاصَهَا، ثُمَّ اسْتَنْفِقْ بِهَا، فَإنْ جَاءَ رَبُّهَا فَأَدِّها إِلَيْهِ"، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ فَضَالَّةُ الْغَنَم؟ قَالَ: "خُذْهَا، فَإِنَّمَا هِيَ لَكَ، أَوْ لأَخِيكَ، أَوْ لِلذِّئْبِ"، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ فَضَالَّةُ الإبِلِ؟ قَالَ: فَغَضِبَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى احْمَرَّتْ وَجْنتَاهُ، أَوِ احْمَرَّ وَجْهُهُ، ثُمَّ قَالَ: "مَا لَكَ وَلَهَا؟ مَعَهَا حِذَاؤُهَا، وَسِقَاؤُهَا، حَتى يَلْقَاهَا رَبُّهَا").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ) المقابريّ، أبو زكريّاء البغداديّ، ثقةٌ عابدٌ [10](ت 234) وله (77) سنةً (عخ م د عس) تقدم في "الإيمان" 2/ 110.
2 -
(قُتيْبَةُ) بن سعيد، تقدّم قبل أربعة أبواب.
3 -
(ابْنُ حُجْرٍ) هو: عليّ بن حُجر السعديّ المروزيّ، ثقةٌ حافظٌ، من صغار [9](ت 244) وقد قارب المائة، أو جاوزها (خ م ت س) تقدم في "المقدمة" 2/ 6.
4 -
(إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرِ) بن أبي كثير الأنصاريّ الزُّرَقيّ، أبو إسحاق المدنيّ القاري، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 180)(ع) تقدم في "الإيمان" 2/ 110.
والباقون ذُكروا قبله.
وقوله: (فَضَالَّةُ الإبِلِ؟) كلامٌ إضافيّ مبتدأ، وخبره محذوف؛ أي: ما حكمها؟ أكذلك، أم لا؟ وهو من باب إضافة الصفة إلى الموصوف، قاله في "العمدة"
(2)
.
(1)
"عمدة القاري" 2/ 169 - 170، كتاب "العلم" رقم (91).
(2)
"عمدة القاري"2/ 164.
وقوله: (فَغَضِبَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) الفاء فيه للسببية، كما في قوله تعالى:{فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ} [القصص: 15] قال الخطابيّ رحمه الله: إنما كان غضبه استقصارًا لعلم السائل، وسوء فهمه؛ إذ لم يراع المعنى المشار إليه، ولم يتنبه له، فقاس الشيء على غير نظيره، فإن اللقطة إنما هي اسم للشيء الذي يسقط من صاحبه، ولا يدري أين موضعه؟ وليس كذلك الإبل، فإنها مخالفة للُّقطة اسمًا، وصفةً، فإنها غير عادمة أسباب القدرة على العود إلى ربها؛ لقوة سيرها، وكون الحذاء والسقاء معها؛ لأنها تَرِد الماء رِبْعًا، وخِمْسًا، وتمتنع من الذئاب، وغيرها من صغار السباع، ومن التردّي، وغير ذلك، بخلاف الغنم، فإنها بالعكس، فجعل سبيل الغنم سبيل اللقطة.
وتعقّبه العينيّ في بعض ما ذكر، راجع:"شرح البخاريّ" له
(1)
.
وقوله: (حَتَّى احْمَرَّتْ وَجْنَتَاهُ)"حتى" للغاية بمعنى "إلى"، و"الوجنتان": تثنية الوَجْنة، وهو: ما ارتفع من الخدّ، ويقال: ما على من لحم الخدين يقال فيه: وجنة - بفتح الواو، وكسرها، وضمها -، وأُجْنة - بضم الهمزة - ذكره الجوهري وغيره، ذكره في "العمدة"
(2)
.
وقال الفيّوميّ رحمه الله: "الْوَجْنَةُ" من الإنسان: ما ارتفع من لحم خدّه، والأشهر فتح الواو، وحُكي التثليث، والجمع: وَجَنَاتٌ، مثلُ سَجْدة وسَجَدات. انتهى
(3)
.
وقوله: (أَوِ احْمَرَّ وَجْهُهُ)"أو" للشكّ من الراوي، هل قال هذا، أو قال هذا؟.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، ولله الحمد والمنّة.
وبالسند المتّصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4492]
(
…
) - (وَحَدَّثَني أَبُو الطَّاهِر، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللْهِ بْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي سُفْيَانُ الثوْرِيُّ، وَمَالِكُ بْنُ أنسٍ، وَعَمْرُو بْنُ الْحَارِث، وَغَيْرُهُمْ، أَن رَبِيعَةَ بْنَ أَبِي
(1)
"عمدة القاري" 2/ 165.
(2)
"عمدة القاري" 2/ 164.
(3)
"المصباح المنير" 2/ 469.
عَبْدِ الرحمن، حَدَّثَهُمْ بِهَذا الإِسْنَاد، مِثْلَ حَدِيثِ مَالِكٍ، غَيْرَ أنَّهُ زَادَ: قَالَ: أَتَى رَجُلٌ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَنَا مَعَهُ، فَسَأَلَهُ عَنِ اللُّقَطَةِ؟ قَالَ: وَقَالَ عَمْرٌو فِي الْحَدِيثِ: (فَإِذَا لَمْ يَأْتِ لَهَا طَالِبٌ، فَاسْتَنْفِقْهَا").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(أَبُو الطَّاهِرِ) أحمد بن عمرو بن السرح المصريّ، تقدّم قريبًا.
2 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْبٍ) تقدّم أيضًا قريبًا.
3 -
(سُفْيَانُ الثوْرِيُّ) تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
4 -
(مَالِكُ بْنُ أنسٍ) إمام دار الهجرة، تقدّم قبل حديث.
5 -
(عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ) بن يعقوب الأنصاريّ مولاهم، أبو أيوب المصريّ، ثقةٌ حافظٌ [7] مات قبل (150)(ع) تقدم في "الإيمان" 16/ 169.
و"ربيعة" ذُكر قبله.
وقوله: (وَغَيْرُهُمْ) الظاهر أنه أراد به ابن لهيعة، كما تقدّم نظيره غير مرّة، والله تعالى أعلم.
[تنبيه]: رواية سفيان الثوريّ، ومالك بن أنس، وعمرو بن الحارث وغيرهم كلّهم عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن هذه ساقها البيهقيّ رحمه الله في "الكبرى"، فقال:
(11845)
- أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، أنبا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم بن أعين المصريّ، أنبأ ابن وهب، أخبرني مالك بن أنس، وعمرو بن الحارث، وسفيان بن سعيد الثوريّ، وغيرهم، أن ربيعة بن أبي عبد الرحمن حدثهم، عن يزيد مولى المنبعث، عن زيد بن خالد الجهنيّ، أنه قال: أتى رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا معه، فسأله عن اللقطة؟ فقال:"اعرِفْ عِفَاصها، ووِكاءها، ثم عَرِّفها سنةً، فإن جاء صاحبها، وإلا فشأنك بها"، قال: فضالَّة الغنم؟ قال: "لك" أو لأخيك، أو للذئب"، قال: فضالَّة الإبل؟ قال: "معها حذاؤها، وسقاؤها، وتَرِد الماء،
وتأكل الشجر، حتى يلقاها ربها". انتهى
(1)
.
ورواية عمرو بن الحارث وحده، عن ربيعة التي أشار إليها المصنّف، ساقها ابن حبّان رحمه الله في "صحيحه"، فقال:
(4890)
- أخبرنا عمر بن محمد الهمدانيّ، قال: حدّثنا أبو الربيع، قال: حدّثنا ابن وهب، حدّثني عمرو بن الحارث، أن ربيعة بن أبي عبد الرحمن حدثهم، عن يزيد مولى المنبعث، عن زيد بن خالد الجهنيّ، أنه قال: أتى رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا معه، فسأله عن اللقطة؟ قال:"اعرِفْ عِفاصها، ووِكاءها، ثم عرِّفها سنةً - قال -: فإن لم يأت لها طالب، فاستنفقها"، قال: فضالَّة الغنم؟ قال: "لك، أو لأخيك، أو للذئب"، قال: فضالَّة الإبل؟ قال: "معها سقاؤها، وحذاؤها، تَرِد الماء، وتأكل الشجر، حتى يأتيها ربها".
قال ابن حبّان رحمه الله: أبو الربيع هذا اسمه: سليمان بن داود بن حماد بن سعد بن أخي رِشَدين بن سعد، مصريّ، وأبو الربيع الزهرانيّ اسمه: سليمان بن داود، بصريّ. انتهى
(2)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4493]
، (
…
) - (وَحَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ حَكِيمٍ الأَوْدِيُّ، حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ، حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ - وَهُوَ ابْنُ بِلَالٍ - عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرحمن، عَنْ يَزِيدَ مَوْلَى الْمُنْبَعِثِ، قَالَ: سَمِعْتُ زيدَ بْنَ خَالِدٍ الْجُهَنِيَّ، يَقُولُ: أتى رَجُلٌ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ إسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ، غَيْرَ أنهُ قَالَ: "فَاحْمَارَّ وَجْهُهُ، وَجَبِينُهُ، وَغَضِبَ"، وَزَادَ بَعْدَ قَوْلِهِ: "ثُمَّ عَرِّفْهَا سَنَةً": "فَإِنْ لَمْ يَجِيءْ صَاحِبُهَا، كَانَتْ وَدِيعَةً عِنْدَكَ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(أَحْمَدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ حَكِيمٍ الأَوْدِيُّ) أبو عبد الله الكوفيّ، ثقةٌ [11](ت 261)(خ م س ق) تقدم في "الزكاة" 19/ 2344.
2 -
(خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ) البجليّ مولاهم، أبو الْهَيثم الكوفيّ القَطَوانيّ،
(1)
"سنن البيهقيّ الكبرى" 6/ 189.
(2)
"صحيح ابن حبان" 11/ 252.
صدوقٌ يتشيّع، وله أفراد، من كبار [10](ت 213) أو بعدها (خ م كد ت س ق) تقدم في "الإيمان" 65/ 367.
3 -
(سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ) التيميّ مولاهم، أبو محمد، أو أبو أيوب المدنيّ، ثقةٌ [8](ت 177)(ع) تقدم في "الإيمان" 14/ 160.
والباقون ذُكروا قبله.
وقوله: (فَذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ) فاعل "ذَكَرَ" ضمير سليمان بن بلال.
[تنبيه]: رواية سليمان بن بلال، عن ربيعة بن عبد الرحمن هذه ساقها أبو عوانة رحمه الله في "مسنده"، فقال:
(6455)
- حدّثنا محمد بن أحمد بن الجنيد أبو جعفر الدقاق، قثنا القعنبيّ، قال: ثنا سليمان بن بلال، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن، عن يزيد مولى المنبعث، قال: سمعت زيد بن خالد الجهنيّ يُحَدِّث، قال: أتى رجل النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله ما ترى في اللقطة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اعرف عفاصها، ووكاءها، ثم عَرِّفها سنة، فإن لم يجئ صاحبها كانت وديعة عندك"، قال: يا رسول الله، فما ترى في ضالَّة الإبل؟ قال:"ما لك ولها؟ معها حذاؤها، وسقاؤها، تَرِد الماء، وتأكل الشجر، حتى يجدها ربها". انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4494]
(
…
) - (حَدثنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ بْنِ قَعْنَبٍ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ - يعني: ابْنَ بِلَالٍ - عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ يَزِيدَ مَوْلَى الْمُنْبَعِث، أَنَّهُ سَمِعَ زبدَ بْنَ خَالِدٍ الْجُهَنِي صَاحِبَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: سُئِلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ اللُّقَطَةِ: الذَّهَبِ، أَوِ الْوَرِقِ؟ فَقَالَ:"اعْرِفْ وِكَاءَهَا، وَعِفَاصَهَا، ثُمَّ عَرِّفْهَا سَنَةً، فَإِنْ لَمْ تَعْرِفْ، فَاسْتَنْفِقْهَا، وَلْتَكُنْ وَدِيعَةً عِنْدَكَ، فَإِنْ جَاءَ طَالِبُهَا يَوْمًا مِنَ الدَّهْر، فَأدِّهَا إِلَيْهِ"، وَسَأَلهُ عَنْ ضَالَّةِ الابِلِ؟ فَقَالَ: "مَا لَكَ وَلَهَا، دَعْهَا، فَإِنَّ مَعَهَا
(1)
"مسند أبي عوانة" 4/ 185.
حِذَاءَهَا، وَسِقَاءَهَا، تَرِدُ الْمَاءَ، وَتَأْكلُ الشَّجَرَ، حَتَّى يَجِدَهَا رَبُّهَا"، وَسَأَلهُ عَنِ الشَّاةِ؟ فَقَالَ: "خُذْهَا، فَإنَّمَا هِيَ لَكَ، أَوْ لأَخِيكَ، أَوْ لِلذِّئْبِ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ بْنِ قَعْنَبٍ) القعنبيّ الحارثيّ، أبو عبد الرحمن البصريّ، مدنيّ الأصل، وقد سكنها مدّة، ثقةٌ ثبث عابدٌ، من صغار [9](ت 221) بمكة (خ م دت س) تقدم في "الطهارة" 17/ 617.
2 -
(يَحْيَى بْنُ سَعِيدِ) بن قيس الأنصاريّ، أبو سعيد المدني القاضي، ثقةٌ ثبتٌ [5](ت 144)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 36.
والباقون ذُكروا قبله.
وقوله: (الذَّهَب، أَوِ الْوَرِقِ؟) بالجرّ بدلًا عن "اللقطة"، ويجوز لفظهما إلى الرفع، والنصب، بتقدير مبتدإ؛ أي: هو، أو فعل ناصب؛ أي: أعني.
وقوله: (فَإِنْ لَمْ تَعْرِفْ) وقع في النسخ المطبوعة مضبوطًا بفتح أوله، وكسر ثالثه، من باب ضرب، وشرحه بعضهم بقوله: أي: وإن لم تعرِف صاحبها، وعندي - وإن كان هذا مُحْتَمِلًا - أن الأولى ضَبْطه بالبناء للمفعول؛ أي: إن لم تُعْرَف اللقطة، بأن لم يجئ من يصفها بصفتها المذكورة، والله تعالى أعلم.
وقوله: (فَاسْتَنْفِقْهَا)؛ أي: أنفقها على نفسك، قال في "القاموس": وأنفق ماله: أنفده، كاستنفقه. انتهى
(1)
، وهو بمعنى قوله في الرواية الآتية:"ثم كُلْهَا"، وكذا قوله الماضي:"فشأنَكَ".
وقوله: (وَلْتَكُنْ وَدِيعَةً عِنْدَكَ) قال القرطبيّ رحمه الله: معناه: ولتكن في ضمانك على حكم الوديعة، يعني: إذا أنفقها الْمُودَعُ عنده، فإنه يضمنها، وإلا فإذا أنفقها لم يبق عينها، فكيف تبقى وديعةً إلا على ما ذكرناه؟، والله تعالى أعلم
(2)
.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام البحث فيه قريبًا، ولله الحمد والمنّة.
(1)
"القاموس المحيط" ص 1306.
(2)
"المفهم" 5/ 188.
وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4495]
(
…
) - (وَحَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، أَخْبَرَنَا حَبَّانُ بْنُ هِلَالٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، وَرَبِيعَةُ الرَّأْي بْنُ أَبِي عَبْدِ الرحمن، عَنْ يَزِيدَ مَوْلَى الْمُنْبَعِث، عَنْ زيدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ، أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْ ضَالَّةِ الإبِل، زَادَ رَبِيعَةُ
(1)
: "فَغَضِبَ، حَتَّى احْمَرَّتْ وَجْنَتَاهُ"، وَاقْتَصَّ الْحَدِيثَ بِنَحْوِ حَدِيثِهِمْ، وَزَادَ:"فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا، فَعَرَفَ عِفَاصَهَا، وَعَدَدَهَا، وَوِكَاءهَا، فَأَعْطِهَا إِيَّاهُ، وَإِلا فَهْيَ لَكَ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورِ) بن بَهْرَام الْكَوْسج، أبو يعقوب التميميّ المروزيّ، ثقةٌ ثبتٌ [11](ت 251)(خ م ت س ق) تقدم في "الإيمان" 12/ 156.
2 -
(حَبَّانُ بْنُ هِلَالٍ) أبو حبيب البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [9](ت 216)(ع) تقدم في "الإيمان" 55/ 322.
3 -
(حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ) تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
والباقون ذُكروا قبله.
وقوله: (وَإِلَّا فَهْيَ لَكَ) قال النوويّ رحمه الله: في هذا دلالة لمالك وغيره ممن يقول: إذا جاء من وَصَف اللقطة بصفاتها، وجب دَفْعها إليه بلا بينة، وأصحابنا يقولون: لا يجب دفعها إليه إلا ببينة، وبه قال أبو حنيفة، وأصحابه - رحمهم الله تعالى - ويتأولون هذا الحديث على أن المراد أنه إذا صدَّقه جاز له الدفع إليه، ولا يجب، فالأمر بدفعها بمجرد تصديقه ليس للوجوب. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا الله عنه: لا يخفى أن ما ذهب إليه مالك وغيره من وجوب الدفع بمجرّد وصفها بدون بيّنة هو الأرجح؛ لظاهر الحديث، فإنه صلى الله عليه وسلم لو كانت البيّنة واجبة لَمَا أهملها، وهو في مقام البيان، فدلّ على أن الدفع متعيّن بمجرد معرفة وَصْفها، فتبصّر، والله تعالى أعلم.
[تنبيه]: رواية حماد بن سلمة، عن يحيى بن سعيد الأنصاريّ، وربيعة بن
(1)
وفي نسخة: "وزاد ربيعة".
(2)
"شرح النوويّ" 12/ 25.
أبي عبد الرحمن، كلاهما عن يزيد مولى المنبعث، ساقها الطبرانيّ في "المعجم الكبير"، فقال:
(5251)
- حدّثنا عليّ بن عبد العزيز، ثنا الحجاج بن المنهال (ح) وحدّثنا أبو مسلم الكشيّ، ثنا سهل بن بكار (ح) وحدثنا أحمد بن داود المكيّ، ثنا بن عائشة، قالوا: ثنا حماد بن سلمة، عن يحيى بن سعيد، وربيعة بن أبي عبد الرحمن، عن يزيد مولى المنبعث، عن زيد بن خالد الجهنيّ: أن رجلًا سأل النبيّ صلى الله عليه وسلم عن ضالة الإبل؟ فقال: كما لك ولها؟ معها سقاؤها، وحذاؤها، تأكل الشجر، وتَرِد الماء، حتى يأتيها باغيها"، ثم سأله عن ضالَّة الغنم؟ فقال: "هي لك، أو لأخيك، أو للذئب"، ثم سأله عن اللقطة؟ فقال: "اعرِف عِفاصها، وعددها، فإن جاء صاحبها، فَعَرَفها، فادفعها إليه، وإلا فهي لك". انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4496]
، (
…
) - (وَحَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ أحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ سَرْحٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْبٍ، حَدَّثَنِي الضَّحَّاكُ بْنُ عُثْمَانَ، عَنْ أَبِي النَّضْر، عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَني، قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ اللُّقَطَة، فَقَالَ: "عَرِّفْهَا سَنَةً، فَإِنْ لَمْ تُعْتَرَفْ، فَاعْرِفْ عِفَاصَهَا، وَوِكَاءَهَا، ثُمَّ كُلْهَا، فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا، فَأَدِّهَا اِلَيْهِ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(الضَّحَّاكُ بْنُ عُثْمَانَ) الْحِزَاميّ المدنيّ، تقدّم قريبًا.
2 -
(أَبُو النَّضْرِ) سالم بن أبي أمية، مولى عمر بن عُبيد الله التيميّ المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ، كان يرسل [5](ت 129)(ع) تقدم في "الطهارة" 4/ 551.
3 -
(بُسْرُ بْنُ سَعِيدٍ) المدنيّ العابد، مولى ابن الحضرمي، تقدّم قريبًا.
والباقون ذُكروا في الباب.
وقوله: (فَإِنْ لَمْ تُعْتَرَفْ) بالبناء للمفعول؛ أي: لم يوجد من يعرفها،
(1)
"المعجم الكبير" للطبرانيّ 5/ 251.
يقال: اعترف الشيءَ: بمعنى عرفه، قاله في "القاموس"
(1)
.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام شرحه، وبيان مسائله، ولله الحمد والمنّة.
وبالسند المتّصل إلى المؤلِّف رحمه الله أَوَّل الكتاب قال:
[4497]
(
…
) - (وَحَدَّثَنِيهِ إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الْحَنَفِيُّ، حَدَّثَنَا الضَّحَّاكُ بْنُ عُثْمَانَ، بِهَذَا الإِسْنَاد، وَقَالَ فِي الْحَدِيثِ: "فَمنِ اعْتُرِفَتْ فَأَدِّهَا، وَإِلَّا فَاعْرِفْ عِفَاصَهَا، وَوِكَاءهَا، وَعَدَدَهَا").
رجال هذا الإسناد: ثلاثة:
1 -
(أَبُو بَكْرٍ الْحَنَفِيُّ) عبد الكبير بن عبد المجيد بن عبيد الله البصريّ، ثقةٌ [9](ت 204)(ع) تقدم في "الصلاة" 49/ 136.
والباقيان ذُكرا في الإسنادين الماضيين.
وقوله: (وَقَالَ في الْحَدِيثِ) فاعل "قال" ضمير أبي بكر الحنفيّ.
[تنبيه]: رواية أبي بكر الحنفيّ، عن الضحاك بن عثمان هذه ساقها الترمذيّ رحمه الله في "جامعه"، فقال:
(1373)
- حدَّثنا محمد بن بشار، حدّثنا أبو بكر الحنفيّ، أخبرنا الضحاك بن عثمان، حدّثني سالم أبو النضر، عن بُسْر بن سعيد، عن زيد بن خالد الجهنيّ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن اللقطة؛ فقال: "عَرِّفها سنةً، فإن اعتُرِفت، فأدِّها، وإلا فاعرِف وعاءها، وعِفاصها، ووِكاءها، وعددها، ثم كُلْها، فإذا جاء صاحبها فأدِّها". انتهى
(2)
، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلِّف رحمه الله أَوَّل الكتاب قال:
[4498]
(1723) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ (ح) وحَدَّثَنِي؛ أَبُو بَكْرِ بْنُ نَافِعٍ - وَاللَّفْظُ لَهُ - حَدَّثَنَا غُنْدَرَ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ، قَالَ: سَمِعْتُ سُويدَ بْنَ غَفَلَةَ، قَالَ: خَرَجْتُ أَنَا وَزيدُ بْنُ صُوحَانَ، وَسَلْمَانُ بْنُ رَبِيعَةَ، غَازِينَ، فَوَجَدْتُ سَوْطًا، فَأَخَذْتُهُ، فَقَالَا لِي:
(1)
"القاموس المحيط" ص 861.
(2)
"جامع الترمذيّ" 3/ 656.
دَعْهُ، فَقُلْتُ: لَا، وَلَكِنِّي أُعَرِّفُهُ، فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهُ، وَإِلَّا اسْتَمْتَعْت بِه، قَالَ: فَأَبَيْتُ عَلَيْهِمَا، فَلَمَّا رَجَعْنَا مِنْ غَزَاتِنَا، قُضِيَ لِي أَنِّي حَجَجْتُ، فَأَتَيْتُ الْمَدِينَةَ، فَلَقِيتُ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ، فَأَخْبَرْتُهُ بِشَأْنِ السَّوْط، وَبِقَوْلِهِمَا، فَقَالَ: إِنِّي وَجَدْتُ صُرَّةً فِيهَا مِائَةُ دِينَارٍ، عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَتَيْتُ بِهَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:"عَرِّفْهَا حَوْلًا"، قَالَ: فَعَرَّفْتُهَا، فَلَمْ أَجِدْ مَنْ يَعْرِفُهَا، ثُمَّ أَتَيْتُهُ، فَقَالَ:"عَرِّفْهَا حَوْلًا"، فَعَرَّفْتُهَا، فَلَمْ أَجِدْ مَنْ يَعْرِفُهَا، ثُمَّ أَتَيْتُهُ، فَقَالَ:(عَرِّفْهَا حَوْلًا"، فَعَرَّفْتُهَا، فَلَمْ أَجِدْ مَنْ يَعْرِفُهَا، فَقَالَ: "احْفَظْ عَدَدَهَا، وَوِعَاءَهَا، وَوِكَاءهَا، فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا، وَإِلَّا فَاسْتَمْتِعْ بِهَا"، فَاسْتَمْتَعْتُ بِهَا، فَلَقِيتُهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِمَكَّةَ، فَقَالَ: لَا أَدْرِي بِثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ، أَوْ حَوْلٍ وَاحِدٍ).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ) المعروف ببندار، أبو بكر البصريّ، ثقةٌ حافظ [10](ت 252)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.
2 -
(مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ) المعروف بغُندر، أبو عبد الله البصريّ، ثقةٌ، صحيح الكتاب [9](ت 193)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.
3 -
(شُعْبَةُ) بن الحجاج رحمه الله الإمام الحجة الناقد المشهور [7](ت 160)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" ج 1 ص 381.
4 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ نَافِعٍ) محمد بن أحمد بن نافع العبديّ البصريّ، صدوق، من صغار [10] مات بعد (240)(م ت س) تقدم في "الإيمان" 12/ 158.
5 -
(سَلَمَةُ بْنُ كُهَيْلٍ) الحضرميّ، أبو يحيى الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ [4](ت 122) أو بعدها (ع) تقدم في "الحيض" 5/ 704.
6 -
(سُويدُ بْنُ غَفَلَةَ) - بفتح الغين المعجمة، والفاء - أبو أميَّة الْجُعْفيّ، ثقةٌ مخضرم [2](80) وله (130) سنةً (ع) تقدّم في "المقدّمة" 6/ 84.
7 -
(أُبِيُّ بْنُ كعْبٍ) بن قيس بن عُبيد بن زيد بن معاوية بن عمرو بن مالك بن النجّار الأنصاريّ الخزرجيّ الصحابيّ المشهور، أبو المنذر، وأبو الطفيل، قيل: مات سنة (19) وقيل غير ذلك (ع) - تقدم في "شرح المقدمة" ج 2 ص 466.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أن نصفه الأول مسلسلٌ بالبصريين، والثاني بالكوفيين، سوى الصحابيّ رضي الله عنه، فمدنيّ، وفيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ مخضرم، وأن صحابيّه من فضلاء الصحابة رضي الله عنه، وكان سيّد القرّاء.
شرح الحديث:
(عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ) بالتصغير، أنه (قَالَ: سَمِعْتُ سُويدَ بْنَ غَفَلَةَ) بتصغير الأول، وأما الثاني فبفتحات، قال في "الفتح":"سُوَيد بن غَفَلَةَ" بفتح المعجمة، والفاء، أبو أمية الجعفيّ تابعيّ كبير، مخضرم، أدرك النبيّ صلى الله عليه وسلم، وكان في زمنه رجلًا، وأعطى الصدقة في زمنه، ولم يره على الصحيح، وقيل: إنه صلى خلفه، ولم يثبت، وإنما قَدِمَ المدينة حين نَفَضُوا أيديهم من دفنه صلى الله عليه وسلم، ثم شهد الفتوح، ونزل الكوفة، ومات بها سنة ثمانين، أو بعدها، وله مائة وثلاثون سنة، أو أكثر؛ لأنه كان يقول: أنا لِدَةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا أصغر منه بسنتين، وليس له في البخاريّ سوى هذا الحديث، وآخر عن علي في ذكر الخوارج. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: تقدّم في "المقدّمة" 6/ 84 أنه ليس له في هذا الكتاب إلَّا أربعة أحاديث، هذا برقم (1723)، وحديث (1066): "سيخرج في آخر الزمان قوح أحداث الأسنان
…
"، وحديث (1271): "قبّل الحجر، والتزمه، وقال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بك حَفِيًّا"، وحديث (2069): "نهى نبيّ الله صلى الله عليه وسلم عن لبس الحرير
…
" الحديث.
(قَالَ: خَرَجْتُ أَنَا) أتى به ليمكنه العطف على الضمير المتصلّ المرفوع؛ كما قال في "الخلاصة":
وَإِنْ عَلَى ضَمِيرِ رَفْعٍ مُتَّصِلْ
…
عَطَفْتَ فَافْصِلْ بِالضَّمِيرِ الْمُنْفَصِلْ
أَوْ فَاصِلٍ ما وَبِلَا فَصْلٍ يَرِدْ
…
فِي النَّظْمِ فَاشِيًا وَضُعْفَهُ اعْتَقِدْ
(وَزيدُ بْنُ صُوحَانَ) - بضمّ الصاد المهملة، وسكون الواو - ابن حُجْر بن
(1)
"الفتح" 6/ 254، كتاب "اللقطة" رقم (2437).
الحارث العبديّ الكوفيّ، كنيته أبو سليمان، وقيل: أبو عائشة، أخو صعصعة بن صُوحان، ولهما أخ اسمه: سيحان، لا يكاد يُعرف، كان زيد من العلماء العبّاد، ذكروه في كتب معرفة الصحابة، ولا صحبة له، لكنه أسلم في حياة النبيّ صلى الله عليه وسلم، وسَمِع من عمر، وعليّ، وسلمان، حدّث عنه أبو وائل، والعَيْزار بن حُريث، ولا رواية له في الأمهات؛ لأنه قديم الوفاة، قُتل يوم الجمل، قاله الذهبيّ
(1)
.
وقال في "الفتح": قوله: "وزيد بن صُوحان" - بضمّ المهملة، وسكون الواو، بعدها مهملة أيضًا - العبديّ، تابعيّ كبير مخضرم أيضًا، وزعم ابن الكلبيّ أن له صحبةَ، ورَوَى أبو يعلى، من حديث عليّ مرفوعًا:"من سَرّه أن ينظر إلى من سبقه بعض أعضائه إلى الجَنَّة، فلينظر إلى زيد بن صُوحان"، وكان قدوم زيد في عهد عمر، وشَهِد الفتوح، ورَوى ابن منده، من حديث بريدة، قال: ساق النبيّ صلى الله عليه وسلم ليلةَ، فقال: زيد زيد الخير، فسئل عن ذلك، فقال: رجل تسبقه يده إلى الجَنَّة، فقُطعت يد زيد بن صُوحان في بعض الفتوح، وقُتل مع عليّ يوم الجمل. انتهى
(2)
.
(وَسَلْمَانُ بْنُ رَبِيعَةَ) بن يزيد بن عمرو بن سهم الباهليّ، أبو عبد الله، سلمان الخيل، يقال: له صحبة، ولاه عمر قضاء الكوفة، وغزا إرمينية في زمن عثمان رضي الله عنه، فاستُشهد رضي الله عنه، تقدّمت ترجمته في "الزكاة" 43/ 2428.
وقال في "الفتح": ويقال له: سلمان الخيل؛ لخبرته بها، وكان أميرًا على بعض المغازي في فتوح العراق، في عهد عمر وعثمان رضي الله عنهما، وكان أول من وَلي قضاء الكوفة، واستُشهِد في خلافته في فتوح العراق، وليس له في البخاري سوى هذا الموضع. انتهى
(3)
.
قال الجامع عفا الله عنه: وله عند المصنّف ذِكر هنا وحديث، حديث واحد تقدَّم في "الزكاة" برقم (1056)، حديث عمر رضي الله عنه مرفوعًا:"إنهم خيّروني أن يسألوني بالفحش، أو يبخّلوني، ولست بباخل".
(1)
سير أعلام النبلاء" 3/ 525 - 528.
(2)
"الفتح" 6/ 254.
(3)
"الفتح" 6/ 254.
(غَازِينَ) منصوب على الحال، وزاد أحمد من طريق سفيان عن سلمة:"حتى إذا كنا بالعُذيب" - وهو بالمعجمة، والموحدة، مصغّرًا -: موضع، وله من طريق يحيى القطان، عن شعبة:"فلما رجعنا من غَزَاتنا حججت". انتهى.
وفي رواية ابن حبّان: "فالتقطت سوطًا بالْعُذيب"، و"العُذيب" بصيغة التصغير: وادٍ بظاهر الكوفة، وقيل: لبني تميم في اليمامة
(1)
.
(فَوَجَدْتُ سَوْطًا) - بفتح، فسكون: معروف، والجمع أسواط، وسِياطٌ، مثل ثوب، وأثواب، وثياب، وضربه سَوْطًا؛ أي: ضربه بسوط، وقوله تعالى:{سَوْطَ عَذَابٍ} [الفجر: 113] أي: أَلَمَ سَوْطِ عذاب، والمراد: الشدّة؛ لِمَا عُلِم أن الضرب بالسوط أعظم ألمًا من غيره، قاله الفيّوميّ
(2)
.
(فَأَخَذْتُهُ، فَقَالا)؛ أي: زيد بن صُوحان، وسلمان بن ربيعة، (لِي: دَعْهُ)؛ أي: اتركه، ولا تلتقطه، (فَقُلْتُ: لَا)؛ أي: لا أتركه (وَلَكِنِّي) التقطه، ثمّ (أُعَرِّفُهُ) من التعريف، (فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهُ) جوابه مقدَّر؛ أي: دفعته له، (وَإِلَّا) هي"إن" الشرطية مدغمة في "لا" النافية؛ أي: إن لَمْ يجئ صاحبه (اسْتَمْتَعْتُ بِهِ)؛ أي: كما أمرَ النبيّ صلى الله عليه وسلم الملتقط بذلك. (قَالَ) سُويد بن غَفَلة (فَأَبَيْتُ عَلَيْهِمَا)؛ أي: امتنعت مما أمراني به من ترك ذلك السوط، (فَلَمَّا رَجَعْنَا مِنْ غَزَاتِنَا) - بفتح الغين -: اسم من الغَزْو، (قُضِيَ لِي)؛ أي: قدّر الله تعالى لي (أَنِّي حَجَجْتُ، فَأَتَيْتُ الْمَدِينَةَ) يَحْتَمل أن يكون طريق للحج من المدينة، أو على عادة الناس أنهم إذا حجّوا زاروا المدينة، وأما الأحاديث الواردة في الترغيب في الزيارة بعد الحجّ، فلا يصحّ منها شيء، وقد أَلَّف في ذلك الحافظ ابن عبد الهادي الحنبليّ ردًّا على التقيّ السبكي الشافعيّ، وهي رسالة مفيدة جدًّا. (فَلَقِيتُ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ) سيّد القرّاء رضي الله عنه، (فَأَخْبَرْتُهُ بِشَأْنِ السَّوْطِ)؛ أي: بكونه أخذه، (وَبِقَوْلهِمَا)؛ أي: بما قال زيد، وسلمان، من نهيهما له عن ذلك، (فَقَالَ) أُبيّ رضي الله عنه مستصوبًا ما فعله، وفي رواية ابن حبّان:"فحدّثته بالحديث، فقال: أحسنت أحسنت". (إِنِّي وَجَدْتُ صُرَّةً) - بضتم الصاد المهملة، وتشديد الراء: جمعها صُرَرٌ، مثلُ غُرْفة وغُرَف، وهي وعاء الدراهم، (فِيهَا مِائَةُ دِينَارٍ) قال في "الفتح": استُدِلّ به لأبي حنيفة في تفرقته بين قليل اللقطة، وكثيرها، فيعَرَّف الكثير سنةً، والقليل
(1)
راجع: "معجم ما استعجم" 3/ 927.
(2)
"المصباح المنير" 1/ 295.
أيامًا، وحدُّ القليل عنده: ما لا يوجب القطع، وهو ما دون العشرة، وقد ذُكر الخلاف في مدة التعريف، وكذا الخلاف في القدر الملتقط قريبًا.
(عَلَى عَهْدِ)؛ أي: في زمن (رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَتَيْتُ بِهَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("عَرِّفْهَا حَوْلَا)؛ أي: سنة، (قَالَ) أُبَيّ:(فَعَرَّفْتُهَا)؛ أي: حولًا، (فَلَمْ أَجِدْ مَنْ يَعْرِفُهَا، ثُمَّ أَتَيْتُهُ) صلى الله عليه وسلم (فَقَالَ: "عَرِّفْهَا حَوْلًا)، فَعَرَّفْتُهَا، فَلَمْ أَجِدْ مَنْ يَعْرِفُهَا، ثُمَّ أَتَيْتُهُ) صلى الله عليه وسلم (فَقَالَ:"عَرِّفْهَا حَوْلًا"، فَعَرَّفْتُهَا، فَلَمْ أَجِدْ مَنْ يَعْرِفُهَا، فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم " ("احْفَظْ عَدَدَهَما، وَوِعَاءَهَما)؛ أي: الإناء الذي حُفِظت فيه، قال في "الفتح": الوعاء بالمد، وبكسر الواو، وقد تُضم، وقرأ بها الحسن في قوله:{قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ} [يوسف: 76]، وقرأ سعيد بن جبير:(إعاء) بقلب الواو المكسورة همزة، والوعاء: ما يُجْعَل فيه الشيء، سواء كان من جلد، أو خَزَف، أو خَشَب، أو غير ذلك. انتهى.
(وَوِكَاءهَا) بكسر الواو، والمدّ؛ أي: حَبْلها الذي رُبطت به، (فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا) جواب "إن" محذوف؛ أي: أَدّها إليه، (وَإِلَّا)؛ أي: إن لَمْ يجئ صاحبها (فَاسْتَمْيتِعْ بِهَا) وفي الرواية الآتية: (فإن جاء أحد يُخبرك بعددها، ووعائها، ووكائها، فأعطها إياه"، زاد في رواية: "وإِلَّا فهي كسبيل مالك"، وفي لفظ: "وإلا فاستمتع بها".
قال في "الفتح": قوله: "فإن جاء صاحبها، وإلا فاستمتع بها" في رواية حماد بن سلمة، وسفيان الثورفي، وزيد بن أنيسة، عند مسلم، وأخرجه مسلم، والترمذيّ، والنسائيّ، من طريق الثوريّ، وأحمدُ، وأبو داود، من طريق حماد، كلهم عن سلمة بن كهيل في هذا الحديث:"فإن جاء أحد يخبرك بعددها، ووعائها، ووكائها، فأعطها إياه"، لفظ مسلم، وأما قول أبي داود: إن هذه الزيادة زادها حماد بن سلمة، وهي غير محفوظة، فتمسَّك بها من حاول تضعيفها، فلم يُصِب، جل هي صحيحة، وقد عرفت من وافق حمادًا عليها، وليست شاذّةً، وقد أخذ بظاهرها مالك، وأحمد، وقال أبو حنيفة، والشافعيُّ: إن وقع في نفسه صدقه جاز أن يدفع إليه، ولا يُجبر على ذلك إلَّا ببينة؛ لأنه قد يصيب الصفة، وقال الخطابيّ: إن صحت هذه اللفظة لَمْ يَجُز مخالفتها، وهي فائدة قوله: "اعرِفْ عفاصها
…
إلخ"، وإلا فالاحتياط مع من لَمْ يَرَ الردّ
إلَّا بالبينة، قال: ويتأول قوله: "اعرِفْ عِفاصها" على أنَّه أَمَره بذلك؛ لئلا تختلط بماله، أو لتكون الدعوى فيها معلومة، وذكر غيره من فوائد ذلك أيضًا أن يُعرَف صدق المدعِي من كذبه، وأن فيه تنبيهًا على حفظ الوعاء وغيره؛ لأنَّ العادة جرت بإلقائه إذا أُخِذت النفقة، وأنه إذا نبَّه على حفظ الوعاء، كان فيه تنبيه على حفظ المال من باب أَولى.
قال الحافظ رحمه الله: قد صحت هذه الزيادة، فتعيَّن المصير إليها، وقد سبق أيضًا في حديث زيد بن خالد الجهنيّ رضي الله عنه المتقدّم، وما اعْتَلَّ به بعضهم من أنه إذا وصفها فاصاب، فدفعها إليه، فجاء شخص آخر، فوصفها، فأصاب، لا يقتضي الطعن في الزيادة، فانه يصير الحكم حينئذ كما لو دفعها إليه بالبينة، فجاء آخر، فأقام بينة أخرى أنَّها له، وفي ذلك تفاصيل للمالكية وغيرهم.
وقال بعض متأخري الشافعية: يمكن أن يُحْمَل وجوب الدفع لمن أصاب الوصف على ما إذا كان ذلك قبل التملك؛ لأنه حينئذ مال ضائع، لَمْ يتعلق به حقّ ثان، بخلاف ما بعد التملك، فإنه حينئذ يحتاج المدعي إلى البينة؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم:"البينة على المدعي"، ثم قال: أما إذا صحت الزيادة فتخص سورة الملتقط من عموم: "البينةُ على المدعي"، والله أعلم. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن بما ذُكر أن هذه الزيادة صحيحة، وأن العمل بها واجب، فما ذهب إليه مالك، وأحمد هو الحقّ.
والحاصل أنه إذا جاء صاحب اللقطة، ووصفها بأوصافها المطابقة لِمَا عند الملتقَط وجب على الملتقِط دَفْعُها إليه دون طلب بيّنة، أو غيرها؛ لأمْر النبيّ صلى الله عليه وسلم بذلك دون شرط أو قيد، فتبصّر، والله تعالى أعلم.
(فَاسْتَمْتَعْتُ بِهَا)؛ أي: أنفقتها على نفسي، كما أمرني النبيّ صلى الله عليه وسلم بذلك (فَلَقِيتُهُ) بكسر القاف، يقال: لقِيته ألقاه، من باب تَعِبَ لُقِيًّا، والأصل على فُعُول، ولُقًى بالضمّ مع القصر، ولقَاءً بالكسر مع المدّ والقصر، وكلُّ شيء استقبل شيئًا، أو صادفه، فقد لَقِيه، قاله الفيّوميّ
(1)
.
(1)
"المصباح المنير" 2/ 558.
وقائل: "فلقيته" هو شعبة، كما بيّنته الرواية التالية: حيث قال: "قال شعبة: فسمعته بعد عشر سنين يقول: عرّفها عامًا واحدًا".
قال القرطبيّ رحمه الله: وقول شعبة: "فسمعته بعد عشر سنين يقول: عَرَّفَهَا عامًا واحدًا": يعني: سلمةَ بنَ كُهَيْل؛ الذي روى عنه هذا الحديث، يعني: أنَّه لقيه بعد أن سمع الحديث منه بعشر سنين، فأعاد سلمة الحديث، فقال: عَرَّفَها عامًا واحدًا؛ يعني: في الاستظهار، وكان شعبة شكَّ في عدم الاستظهار، هل هو في سَنَة واحدة؟ فلقيه بعد ذلك بعشر سنين، فسأله، فاخبره: أنه كان عامًا واحدًا، فزال شكّه، والله تعالى أعلم. انتهى
(1)
.
(بَعْدَ ذَلِكَ)؛ أي: بعد استمتاعه بها، وذلك بعد عشر سنين، كما مرّ. (بِمَكَّةَ) زادها الله تعالى شرفًا، (فَقَالَ) القائل هو سلمة بن كُهيل (لَا أَدْرِي بِثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ، أَوْ حَوْلٍ وَاحِدٍ)؛ أي: لا أعلم هل أمَرَه النبيّ صلى الله عليه وسلم بتعريفها ثلاث سنين، أو سنة واحدة؟.
قال في "الفتح": قوله: "فلقيته بعدُ بمكة" القائل شعبةُ، والذي قال:"لا أدري" هو شيخه سلمة بن كهيل، وقد بيَّنه مسلم من رواية بَهز بن أسد، عن شعبة: أخبرني سلمة بن كهيل، واختصر الحديث، قال شعبة: فسمعته بعد عشر سنين يقول: "عرَّفها عامًا واحدًا"، وقد بيَّنه أبو داود الطيالسيّ في "مسنده" أيضًا، فقال في آخر الحديث:"قال شعبة: فلقيت سلمة بعدَ ذلك، فقال: لا أدري ثلاثة أحوال، أو حولًا واحدًا".
وأغرب ابن بطَّال، فقال: الذي شكّ فيه هو أُبَيّ بن كعب، والقائل: هو سُويد بن غَفَلة. انتهى، ولم يُصِب في ذلك، وإن تبعه جماعة، منهم المنذريّ، بل الشك فيه من أحد رواته، وهو سلمة لَمَّا استثبته فيه شعبة، وقد رواه غير شعبة عن سلمة بن كهيل بغير شكّ جماعة، وفيه هذه الزيادة، وأخرجها مسلم من طريق الأعمش، والثوريّ، وزيد بن أبي أنيسة، وحماد بن سلمة، كلهم عن سلمة، وقال: قالوا في حديثهم جميعًا: "ثلاثة أحوال" إلَّا حماد بن سلمة، فإن في حديثه "عامين، أو ثلاثة".
(1)
"المفهم" 5/ 192، 193.
وجمع بعضهم بين حديث أُبَيّ بن كعب رضي الله عنه هذا، وحديث زيد بن خالد الجهنيّ رضي الله عنه المتقدّم، فإنه لَمْ يُختَلَف عليه في الاقتصار على سنة واحدة، فقال: يُحْمَل حديث أُبَيّ بن كعب على مزيد الورع عن التصرف في اللقطة، والمبالغة في التعفف عنها، وحديث زيد على ما لا بُدّ منه، أو لاحتياج الأعرابيّ، واستغناء أُبَيّ.
قال المنذريّ: لَمْ يقل أحد من أئمة الفتوى: إن اللقطة تُعَرَّف ثلاثة أعوام، إلَّا شيء جاء عن عمر رضي الله عنه. انتهى.
وقد حكاه الماورديّ عن شواذ من الفقهاء، وحَكَى ابن المنذر عن عمر أربعة أقوال: يُعَرِّفها ثلاثة أحوال، عامأ واحدًا، ثلاثة أشهر، ثلاثة أيام، وَيُحْمَل ذلك على عِظَم اللقطة، وحقارتها، وزاد ابن حزم عن عمر قولًا خامسًا، وهو أربعة أشهر، وجزم ابن حزم، وابن الجوزيّ بأن هذه الزيادة غلط، قال: والذي يظهر أن سلمة أخطأ فيها، ثم تثبَّت، واستذكر، واستمرّ على عام واحد، ولا يؤخذ إلَّا بما لَمْ يشكّ فيه راويه، وقال ابن الجوزيّ: يَحْتَمِل أن يكون صلى الله عليه وسلم عَرَف أن تعريفها لَمْ يقع على الوجه الذي ينبغي، فأمر أُبَيًّا بإعادة التعريف، كما قال للمسيء صلاته:"ارجع، فصلّ، فإنك لَمْ تصل". انتهى.
وتعقّبه الحافظ، فقال: ولا يخفى بُعْدُ هذا على مثل أُبَيّ، مع كونه من فقهاء الصحابة، وفضلائهم.
وقد حَكَى صاحب "الهداية" من الحنفية رواية عندهم أن الأمر في التعريف مُفَوَّض لأمر الملتقِط، فعليه أن يُعَرِّفها إلى أن يغلب على ظنه أن صاحبها لا يطلبها بعد ذلك، والله أعلم، وقد تقدّم بقيّة مباحث الحديث في شرح حديث زيد بن خالد الجهنيّ رضي الله عنه الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أُبيّ بن كعب رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [1/ 4498 و 4499 و 4500](1723)،
و (البخاريّ) في "اللقطة"(2426 و 2437)، و (أبو داود) في "اللقطة"(1701 و 1702 و 1703)، و (الترمذيّ) في "الإحكام"(1374)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(3/ 420 و 421 و 422)، و (ابن ماجة) في "اللقطة"(2506)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(552)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(18615)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(6/ 454)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 126 و 127)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(668)، و (عبد بن حميد) في "مسنده"(1/ 84)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4891 و 4892)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(4/ 137)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 176 و 178)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(2/ 302) و"الكبير"(5/ 253 و 22/ 226)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(6/ 186 و 193 و 194 و 196 و 197)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان جواز أخذ اللقطة، وهو الأَولى من تركها، قال الإمام البخاريّ رحمه الله في "صحيحه": "باب هل يأخذ اللقطة، ولا يَدَعُها تضيع، حتى لا يأخذها من لا يستحق؟.
قال في "الفتح": والمعنى: لا يدعها فتضيع، ولا يَدَعها حتى يأخذها من لا يستحقّ، وأشار بهذه الترجمة إلى الرذ على من كَرِه اللقطة، ومن حجتهم حديث الجارود مرفوعًا:"ضالّة المسلم حَرَقُ النار"، أخرجه النسائيّ بإسناد صحيح، وحَمَل الجمهور ذلك على من لا يُعَرِّفها، وحجتهم حديث زيد بن خالد عند مسلم:"من آوى الضالّة، فهو ضالّ، ما لَمْ يُعَرِّفها"، وأما ما أخذه من حديث الباب: فمن جهة أنه صلى الله عليه وسلم لَمْ يُنكر على أُبَيّ أَخْذه الصّرّة، فدلّ على أنه جائز شرعًا، ويستلزم اشتماله على المصلحة، وإلا كان تصرفًا في مُلك الغير، وتلك المصلحة تحصل بحفظها، وصيانتها عن الْخَوَنَة، وتعريفِها؛ لتصل إلى صاحبها، ومن ثم كان الأرجح من مذاهب العلماء أن ذلك يَختلف باختلاف الأشخاص، والأحوال، فمتى رَجَحَ أخْذُها وجب، أو استُحِبّ، ومتى رَجَح تَرْكُها حَرُم، أو كُرِه، وإلا فهو جائز. انتهى
(1)
.
(1)
"الفتح" 6/ 253 - 254، كتاب "اللقطة" رقم (2437).
2 -
(ومنها): تعريف اللقطة ثلاثة أعوام، وهذا على سبيل الاحتياط، والاستحباب، وإلا فالواجب تعريفها سنةً، على حديث زيد بن خالد الجهنيّ، وقد تقدّم التوفيق بينهما قريبًا.
3 -
(ومنها): أن فائدة الأمر بحفظ عددها، ووعائها، ووكائها أن يُعرف بها صدق المدّعي من كذبه، والتنبيه على العناية بحفظ الوعاء؛ لأنَّ العادة جرت لإلقائه بعد أخذ النفقة منه، ومنه يؤخذ أن حفظ المال يكون من باب أَوْلى.
4 -
(ومنها): ما قال القرطبيّ رحمه الله: استدلال أُبيٍّ بن كعب بحديث المائة الدينار حيث سُئل عن التقاط السَّوط؛ يدلُّ على أنَّ مذهبه التسوية بين قليل اللقطة وكثيرها في وجوب التعريف بها سَنَةً، وأنَّه يستظهر بعد ذلك بحولين، وهذا لَمْ يقل به أحدٌ في الشيء اليسير، وقد قدمنا: أنَّه لَمْ يأخذ أحد من العلماء بتعريف ثلاثة أعوام إلَّا شيءٌ رُوي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، والجمهور على أنَّ التعريف فيما له بال سَنَةٌ؛ لأنَّ صاحبها إن كان حاضرًا تنبَّه لها، وتذكَّرها، وظهر طلبه لها في هذه السَّنَة، وإن كان غائبًا أمكن عوده وطلبها في هذه السَّنة، أو يسمع خبره فيها، فإذا لَمْ يأت بعد السَّنة؛ فالظاهر الغالب: أنَّه هلك، وأن هذا المال ضائع؛ فواجده أولى به؛ وهذا في الشيء الكثير، فأمَّا في الشيء اليسير، فيمكن أن يكون صاحبه تركه استسهالًا واستخفافًا، وأنَّه غير محتاج إليه، وهذأ في التمرة والكِسرة واضح، فلا يحتاج إلى تعريف، وألحق بعض أصحابنا أقلّ من الدرهم بذلك، وأبعد أبو حنيفة فقال: لا تعريف في أقلّ من ثمانية دراهم، وأبعد من هذا قول إسحاق: إن الدينار لا يحتاج إلى تعريف، تمسُّكًا بحديث عليّ المتقدم، وقد قدَّمنا: أنَّه لا حجَّة فيه.
وأمَّا أمره صلى الله عليه وسلم لأُبَيٍّ بزيادة التعريف على سَنَة بسَنَةٍ أو سَنَتين، على اختلاف الرواية فذلك مبالغة، واحتياط على جهة الاستحباب كما تقدم، لا سيما مع استغناء الملتقِط عن الانتفاع بها، قالوا: وكذلك كان أُبيّ رضي الله عنه مستغنيًا عنها. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(1)
"المفهم" 5/ 191 - 192.
وبالسند المتّصل إلى المؤلِّف رحمه الله أَوَّل الكتاب قال:
[4499]
(
…
) - (وَحَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحمن بْنُ بِشْرٍ الْعَبْدِيُّ، حَدَّثَنَا بَهْزٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، أَخْبَرَنِي سَلَمَةُ بْنُ كُهَيْلٍ، أَوْ أَخْبَرَ الْقَوْمَ، وَأَنَا فِيهِمْ، قَالَ: سَمِعْتُ سُويدَ بْنَ غَفَلَةَ، قَالَ: خَرَجْتُ مَعَ زيدِ بْنِ صُوحَانَ، وَسَلْمَانَ بْنِ رَبِيعَةَ، فَوَجَدْتُ سَوْطًا، وَاقْتَصَّ الْحَدِيثَ بِمِثْلِهِ إِلَى قَوْلِهِ: "فَاسْتَمْتَعْتُ بِهَا"، قَالَ شُعْبَةُ: فَسَمِعْتُهُ بَعْدَ عَشْرِ سِنِينَ يَقُولُ: "عَرِّفَهَا عَامًا وَاحِدًا").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(عَبْدُ الرَّحمن بْنُ بِشْرٍ الْعَبْدِيُّ) أبو محمد النيسابوريّ، ثقةٌ، من صغار [10](ت 260) أو بعدها (خ م د ت) تقدَّم في "المقدِّمة" 6/ 99.
2 -
(بَهْزُ) بن أسد الْعَميّ، أبو الأسود البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [9] مات بعد المائتين، وقيل: قبلها (ع) تقدم في "الإيمان" 3/ 112.
والباقون ذُكروا قبله.
وقوله: (وَاقْتَصَّ الْحَدِيثَ بِمِثْلِهِ) فاعل "اقتصَّ" ضمير بهز.
[تنبيه]: رواية بهز بن أسد، عن شعبة هذه لَمْ أجد من ساقها بتمامها، فليُنظر، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلِّف رحمه الله أَوَّل الكتاب قال:
[4500]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَا قتيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الأَعْمَشِ (ح) وحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ (ح) وحَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، جَمِيعًا عَنْ سُفْيَانَ (ح) وحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ الرَّقِّيُّ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ - يعني: ابْنَ عَمْرٍو - عَنْ زيدِ بْنِ أَبِي أُنيْسَةَ (ح) وحَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحمن بْنُ بِشْرٍ، حَدَّثَنَا بَهْزٌ، حَدَّثَنَا حَمَادُ بْنُ سَلَمَةَ، كُلُّ هَؤُلَاءِ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ، بِهَذَا الإِسْنَاد، نَحْوَ حَدِيثِ شُعْبَةَ، وفي حَدِيثِهِمْ جَمِيعًا:"ثَلَاثَةَ أَحْوَالٍ" إِلَّا حَمَّادَ بْنَ سَلَمَةَ، فَإِنَّ فِي حَدِيثِهِ: عَامَيْن، أَوْ ثَلَاثَةً، وَفِي حَدِيثِ سُفْيَانَ، وَزَيْدِ بْنِ أَبِي أُنيْسَةَ، وَحَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ: "فَإِنْ جَاءَ أَحَدٌ
(1)
يُخْبِرُكَ بِعَدِهَا، وَوِعَائِهَا،
(1)
وفي نسخة: "قال: فإن جاء أحدٌ".
وَوِكَائِهَا، فَأَعْطِهَا إِيَّاهُ"، وَزَادَ سُفْيَانُ فِي رِوَايَةِ وَكِيعٍ: (وَإِلَّا فَهِيَ كَسَبِيلِ مَالِكَ"، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ نُمَيْرٍ:"وَإِلَّا فَاسْتَمْتِعْ بِهَا").
رجال هذا الإسناد: ستة عشر:
1 -
(جَرِيرُ) بن عبد الحميد الضبّيّ، أبو عبد الله الكوفيّ، نزيل الريّ وقاضيها، ثقةٌ صحيح الكتاب [8](188)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.
2 -
(الأَعْمَشُ) سليمان بن مِهْران الأسديّ الكاهليّ مولاهم، أبو محمد الكوفيّ الحجة المثبت المشهور [5](147)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" ج 1 ص 297.
3 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) هو: عبد الله بن محمد بن أبي شيبة إبراهيم بن عثمان الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ، له تصانيف [10](ت 235)(خ م) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.
4 -
(وَكِيعُ) بن الجرّاح الرؤاسيّ، أبو سفيان الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ عابد، من كبار [9](197)(ع) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.
5 -
(ابْنُ نُمَيْرٍ) هو: محمد بن عبد الله بن نمير الهمدنيّ الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ فاضلٌ [10](234)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 5.
6 -
(أَبُوهُ) عبد الله بن نُمير الْهَمْدانيّ، أبو هشام الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ سنّيّ، من كبار [9](199)(ع) تقدم في "الإيمان" 2/ 5.
7 -
(مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمِ) بن ميمون السمين الغداديّ، صدوقٌ فاضلٌ، ربما وَهِمَ [10](ت 5 أو 236)(م د) تقدم في "الإيمان" 1/ 104.
8 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ الرَّقِّيُّ) أبو عبد الرَّحمن القرشيّ مولاهم، ثقةٌ لكنه تغيّر بآخره، فلم يفحُش اختلاطه [10](ت 220)(ع) تقدم في "البيوع" 22/ 3954.
9 -
(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو) بن أبي الوليد الرَّقِّيّ، أبو وهب الأسديّ، ثقةٌ فقيه، ربّما وَهِمَ [8](ت 180) عن (80) إلَّا سنة (ع) تقدّم في "المقدّمة" 6/ 96.
10 -
(زيدُ بْنُ أَبِي أُنيْسَةَ) أبو أسامة الْجَزَريّ، كوفيّ الأصل، ثم سكن الرُّها، ثقةٌ [6](ت 119 أو 124)(ع) تقدّم في "المقدِّمة" 6/ 96.
والباقون ذُكروا في الباب.
وقوله: (جَمِيعًا عَنْ سُفْيَانَ) يعني: وكيعًا، وعبد الله بن نمير كلاهما رويا عن سفيان الثوريّ.
وقوله: (كُلُّ هَؤُلَاءِ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ) يعني: أن الأعمش، وسفيان الثوريّ، وزيد بن أبي أُنيسة، وحمَّاد بن سلمة أربعتهم رووا هذا الحديث عن سلمة بن كهيل، بسنده الماضي، وهو: عن سُويد بن غَفَلة، عن أُبيّ بن كعب رضي الله عنه.
[تنبيه]: رواية الأعمش، عن سلمة بن كُهيل، ساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:
(21206)
- حدّثنا عبد الله، حدّثني أبي، ثنا أبو خيثمة، ثنا جرير، عن الأعمش، عن سلمة بن كُهيل، عن سُويد بن غَفَلَة، قال: كنا حُجّاجًا، فوجدت سوطًا، فأخذته، فقال القوم: تأخذه؛ فلعله لرجل مسلم، قال: فقلت: أَوَ ليس لي أخذه، فأنتفع به خير من أن يأكله الذئب؟ فلقيت أُبَيّ بن كعب، فذكرت ذلك له، فقال: أحسنتَ، ثم قال: التقطت صُرَّةً فيها مائة دينار، فأتيت النبيّ صلى الله عليه وسلم "، فذكرت ذلك له، فقال: "عَرِّفها حولًا"، فعَرَّفتها حولًا، ثم أتيته، فقلت: قد عرَّفتها حولًا، فقال: "عَرِّفها سنةً أخرى"، ثم قال: "انتفع بها، واحفظ وكاءها، وخِرْقتها، وأَحْصِ عددها، فإن جاء صاحبها"، قال جرير: فلم أحفظ ما بعد هذا، يعني تمام الحديث. انتهى
(1)
.
ورواية سفيان الثوريّ، عن سلمة، ساقها ابن حبَّان في "صحيحه"، فقال:
(4892)
- أخبرنا أحمد بن عليّ بن المثنى، قال: حدّثنا أبو خيثمة، قال: حدّثنا ابن نمير، قال: حدّثنا سفيان، عن سلمة بن كُهيل، قال: حدّثني سُويد بن غَفَلةَ، قال: خرجت مع سلمان بن ربيعة، وزيد بن صُوحان، فالتقطت سوطًا بالعُذيب، فقالا: دَعْهُ، فقلت: لا أدعه تأكله السباع، فقَدِمت إلى أُبَيّ بن كعب، فحدثته بالحديث، فقال: أحسنت، أحسنت، التقطتُّ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة دينار، فأتيته بها، فقال:"عَرِّفها"، فعَرَّفتها حولًا، ثم
(1)
"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 5/ 127.
أتيته، فقال:"عَرِّفها"، فعَرَّفتها حولًا، ثم أتيته، فقال:"عَرِّفها"، فعَرَّفتها حولًا، ثم أتيته، فقال:"اعلم عددها، ووعاءها، ووكاءها، فإن جاء أحد يخبرك بعددها، ووعائها، ووكائها، فأعطه إياها، وإلا فاستمتع بها". انتهى
(1)
.
ورواية وكيع، عن سفيان بلفظ:"وإلا فهي كسبيل مالِك" ساقها ابن ماجه رحمه الله في "سننه"، فقال:
(2506)
- حدّثنا عليّ بن محمد، ثنا وكيع، ثنا سفيان، عن سلمة بن كُهيل، عن سُويد بن غَفَلَةَ، قال: خرجت مع زيد بن صُوحان، وسلمان بن ربيعة، حتى إذا كنا بالعُذيب، التقطت سوطًا، فقالا لي: الله، فأبيت، فلمّا قَدِمنا المدينة، أتيت أُبَيّ بن كعب، فذكرت ذلك له، فقال: أصبتَ، التقطتُّ مائة دينار على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألته، فقال:"عَرّفها سنةً"، فعَرّفتها، فلم أجد أحدًا يعرفها، فسألته، فقال:"عَرِّفها"، فعرَّفتها، فلم أجد أحدًا يعرفها، فقال:"اعرِف وعاءها، ووكاءها، وعددها، ثم عَرِّفها سنةً، فإن جاء من يعرفها، وإلا فهي كسبيل مالك". انتهى
(2)
.
ورواية زيد بن أبي أنيسة، عن سلمة ساقها الطبرانيّ رحمه الله في "الأوسط"، فقال:
(4964)
- حدّثنا القاسم بن الليث الراسبيّ، قال: حدّثنا المعافَى بن سليمان، قال: حدّثنا فُليح بن سليمان، عن زيد بن أبي أُنيسة، عن سلمة بن كُهيل، قال: أخبرني سُويد بن غَفَلة، قال: خرجت أنا، وزيد بن صُوحان، وسلمان بن ربيعة، فالتقطت سوطًا، فأمرني
(3)
أن أتركه، فأبيت، فلما قَدِمنا المدينة ذكرت ذلك لأُبَيّ بن كعب، فقال: أصبتَ، إني التقطت زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة دينار، فأخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم بها، فأمرني أن أُعَرِّفها سنةً، ثم أخبرته أنَّها لَمْ تُعْرَف، ثم أمرني أن أُعَرِّفها، فعَزَفتها سنةً، ثم أخبرته أنَّها لَمْ تُعْرَف، ثم أمرني أن أعرِّفها، فعرّفتها سنةً، ثم أخبرته أنَّها لَمْ تُعْرَف، فقال:"اعْرِفْ وِعاءها، ووِكاءها، ثم اقض بها حاجتك، فإن جاء لها طالب رَدَدْتَها".
(1)
"صحيح ابن حبان" 11/ 254.
(2)
"سنن ابن ماجة" 2/ 837.
(3)
هكذا النسخة: "فأمرني"، بالإفراد، ولعه "فأمراني" كما لا يخفي، فليُحرّر.
قال الطبرانيّ: لَمْ يَرْوِ هذا الحديث عن زيد بن أبي أُنيسة، إلَّا فُليح، تفرّد به المعافَى. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قوله: "إلَّا فُلَيح" فيه نظر؛ لأنَّ المصنّف أخرجه من رواية عبيد الله بن عمرو الرقّيّ، عنه، فتأمل، والله تعالى أعلم.
ورواية حماد بن سلمة، عن سلمة بن كُهيل، ساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:
(21208)
- حدّثنا عبد الله، حدّثني أبي، ثنا بهزٌ، ثنا حماد بن سلمة (ح) وثنا عبد الله، قال: ثنا إبراهيم بن الحجاج الناجيّ، ثنا حماد بن سلمة، عن سلمة بن كُهيل، عن سُويد بن غَفَلَة، قال: حججت أنا، وزيد بن صُوحان، وسلمان بن ربيعة، فذكر الحديث، قال: فعَرّفتها عامين، أو ثلاثة، قال:"اعْرِف عددها، ووعاءها، ووكاءها، واستمتع بها، فإن جاء صاحبها، فعرف عدتها ووكاءها فأعطها إياه". انتهى
(2)
، والله تعالى أعلم.
(2) - (بَابُ نَهْيِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَنْ لُقَطَةِ الْحَاجِّ، وَأَنَّ مَنْ آوى ضَالَّةً، فَهُوَ ضَالٌّ، مَا لَمْ يُعَرِّفْهَا)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4501]
(1724) - (حَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِر، وَيُونُسُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَا: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِث، عَنْ بُكَيْرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ الأَشَجِّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ الرَّحمن بْنِ حَاطِبٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحمن بْنِ عُثْمَانَ التَّيْمِيِّ: "أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ لُقَطَةِ الْحَاجِّ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى) بن ميسرة الصدّفيّ، أبو موسى المصريّ،
(1)
"المعجم الأوسط" للطبرانيّ 5/ 167.
(2)
"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 5/ 127.
ثقةٌ، من صغار [10](ت 264) وله (96) سنةً (م س ق) تقدم في "الإيمان" 75/ 393.
2 -
(بُكَيْرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ الأَشَجِّ) المخزوميّ مولاهم، أبو عبد الله، أو أبو يوسف المدنيّ، نزيل مصر، ثقةٌ [5](ت 120)(ع) تقدم في "الطهارة" 4/ 554.
3 -
(يَحْيَى بْنُ عَبْدِ الرَّحمن بْنِ حَاطِبِ) بن أبي بَلْتعة اللَّخْميّ، أبو محمد، ويقال: أبو بكر المدنيّ، ثقةٌ [3].
رَوَى عن أبيه، وأسامة بن زيد، وحسان بن ثابت، وابن عمر، وابن الزبير، وأبي سعيد، وعائشة، وعبد الرَّحمن بن عثمان التيميّ، وغيرهم.
وروى عنه قريبه عبد الله بن محمد بن عمر بن حاطب بن أبي بلتعة، وعروة بن الزبير، وهو من أقرانه، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وهشام بن عروة، وخالد بن إلياس، وبكير بن عبد الله بن الأشج، وآخرون.
قال ابن سعد: كان ممن أدرك عليًّا، وعثمان، وزيد بن ثابت، وكان ثقةً، كثير الحديث، وذكره صالح بن حسان في محدثي أهل المدينة، مع سليمان بن يسار، وغيره، وقال الدُّوريّ، عن ابن معين: بعضهم يقول عنه: سمعت عمر، وإنما هو عن أبيه: سمع عمر، وقال العجليّ: مدنيّ تابعيّ ثقةُ، وقال النسائيّ، والدارقطنيّ: ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال ابن خِرَاش: يحيى بن حاطب جليلٌ، رفيع القدر، روى عنه الناس، قال أبو حاتم الرازيّ: وُلد في خلافة عثمان، ومات سنة أربع ومائة، وفيها أرّخه غير واحد.
أخرج له المصنّف، والأربعة، وليس له في هذا الكتاب إلَّا هذا الحديث.
4 -
(عَبْدُ الرَّحمن بْنُ عُثْمَانَ التَّيْمِيُّ) ابن أخي طلحة بن عبيد الله صحابيّ، قُتل مع ابن الزبير (م د س) تقدم في "الحج" 8/ 2860.
والباقون تقدّموا في الباب الماضي.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أن نصفه الأول مسلسل بالمصريين، والثاني بالمدنيين، وفيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ.
شرح الحديث:
(عَنْ عَبْدِ الرَّحمن بْنِ عُثْمَانَ التَّيْمِيِّ) كان يلقّب شارب الذهب، وكان من مسلمة الفتح، وقيل: أسلم في الحديبية، وأول مشاهده عمرة القضاء، وشَهِد اليرموك مع أبي عبيدة بن الجرّاح، وقتل مع ابن الزبير رضي الله عنهما بمكة سنة (73).
وقال ابن حبّان رحمه الله في "صحيحه": عبد الرَّحمن هذا هو عبد الرَّحمن بن عثمان بن عبيد الله بن عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مُرة بن أخي طلحة بن عبيد الله، قُتِل هو وعبد الله بن الزبير في يوم واحد رضي الله عنهما
(1)
.
(أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ لُقَطَةِ الْحَاجِّ) يعني: عن التقاط ما ضاع عن الحاجّ للتملّك، وأما التقاطها للتعريف فلا يُمنع؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"ولا تُلتقط لُقَطَتُها إلَّا لِمُنْشِد"، متّفقٌ عليه.
زاد أبو داود: "قال ابن وهب: يعني: في لقطة الحاجّ يتركها حتى يجد صاحبها"، وقال المنذريّ في "تلخيص السنن": وقد قال صلى الله عليه وسلم: لا تحلّ لقطتها إلَّا لمنشد"، والصحيح أنه إذا وجد لقطة في الحرم لَمْ يجز له أن يأخذها إلَّا للحفظ على صاحبها، وليعرّفها أبدًا، بخلاف سائر البلاد، فإنه يجوز التقاطها للتملّك.
وقال الصنعانيّ: معنى "نهى عن لقطة الحاجّ"؛ أي: عن التقاط الرجل ما ضاع للحاجّ، والمراد: ما ضاع في مكة؛ لِمَا تقدم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنَّها "لا تحل لقطتها إلَّا لمنشد"، وتقدم أنه حمَلَه الجمهور على أنَّه نُهي عن التقاطها للتملك، لا للتعريف بها، فإنه يحلّ، قالوا: وإنما اختصت لقطة الحاج بذلك؛ لإمكان إيصالها إلى أربابها؛ لأنَّها إن كانت لمكيّ فظاهر، وإن كانت لآفاقيّ فلا يخلو أُفُقٌ في الغالب من رُوّاد منه إليها، فإذا عرَّفها واجدها في كلّ عام سهل التوصل إلى معرفة صاحبها، قاله ابن بطال.
وقال جماعة: هي كغيرها من البلاد، وإنما تختص مكة بالمبالغة في
(1)
"صحيح ابن حبان" 11/ 259.
التعريف؛ لأنَّ الحاج يرجع إلى بلده، وقد لا يعود، فاحتاج الملتقط إلى المبالغة في التعريف بها.
والظاهر القول الأول، وأن حديث النهي هذا مقيَّد بحديث أبي هريرة بأنه لا يحل التقاطها إلَّا لمنشد، فالذي اختصت به لقطة مكة بأنها لا تُلتَقط إلَّا للتعريف بها أبدًا، فلا تجوز للتملك، ويَحْتَمِل أن هذا الحديث في لقطة الحاج مطلقًا في مكة وغيرها؛ لأنه هنا مطلق، ولا دليل على تقييده بكونها في مكة. انتهى
(1)
.
وذكر الخطيب الشربينيّ عن الشافعيّ رحمه الله أنه قال في قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تحلّ لقطة إلَّا لمنشد"؛ أي: لمعرّف، ففرّق بينها وبين غيرها، وأخبر أنَّها لا تحل إلَّا للتعريف، ولم يوقّت في التعريف بسنة كغيرها، فدلَّ على أنَّه أراد التعريف على الدوام، وإلَّا فلا فائدة في التخصيص، والمعنى أن حرم مكة - شرَّفها الله تعالى - مثابة للناس، يعودون إليه المرّة بعد الأخرى، فربّما يعود مالكها من أجلها، أو يَبعث في طلبها، فكأنه جعل ماله محفوظًا عليه، كما غُلِّظت الدية فيه
(2)
.
وذهب الجمهور إلى أن لقطة الحرم وغيره سواء، قال العلامة ابن قُدامة رحمه الله: وظاهر كلام أحمد، والخرقيّ أن لقطة الحلّ والحرم سواء، ورُوي ذلك عن ابن عمر، وابن عباس، وعائشة، وابن المسيِّب، وهو مذهب مالك، وأبي حنيفة.
وُروي عن أحمد رواية أخرى: أنه لا يجوز التقاط لقطة الحرم للتملك، وإنما يجوز حفظها لصاحبها، فإن التقطها عرَّفها أبدًا حتى يأتي صاحبها، وهو قول عبد الرَّحمن بن مهديّ، وأبي عبيد، وعن الشافعيِّ كالمذهبين، والحجة لهذا القول قول النبيّ صلى الله عليه وسلم في مكة:"لا تحل ساقطتها إلَّا لمنشد"، متفقّ عليه، وقال أبو عبيد: المنشد: المعرِّف، والناشد: الطالب، فيكون معناه: لا تحلّ لقطة مكة إلَّا لمن يعرّفها؛ لأنَّها خُصّت بهذا من سائر البلدان.
(1)
"سبل السلام" 3/ 97.
(2)
راجع: "مغني المحتاج في شرح المنهاج" للخطيب الشربينيّ 2/ 17.
وعن عبد الرَّحمن بن عثمان التيميّ رضي الله عنه: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم نهى عن لقطة الحاج"، رواه مسلم، قال ابن وهب: يعني: يتركها حتى يجدها صاحبها، رواه أبو داود.
ووجه الرواية الأولى عموم الأحاديث، وأنه أحد الحرمين، فأشبه حرم المدينة، ولأنها أمانة، فلم يختلف حكمها بالحلّ والحرم، كالوديعة، وقول النبيّ صلى الله عليه وسلم:"إلَّا لمنشد" يَحْتَمِل أن يريد إلَّا لمن عرّفها عامًا، وتخصيصها بذلك لتأكدها، لا لتخصيصها، كقوله صلى الله عليه وسلم:"ضالَّة المسلم حرق النار"، وضالة الذميّ مقيسة عليها. انتهى كلام ابن قُدامة
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: لا يخفى أن القول بمنع لقطة مكة هو الأرجح؛ لصحة نهيه صلى الله عليه وسلم عن لقطة الحاجّ، ولظهور قوله صلى الله عليه وسلم:"لا تحل لقطتها إلَّا لمنشد" في هذا المعنى، وقد تقدَّم تحقيق المسألة عند شرح هذا الحديث في "كتاب الحجِّ"، فراجعه تستفد، والله تعالى أعلم بالصواب، "إليه" المرجع والمآب.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عبد الرَّحمن بن عثمان التيميّ رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [2/ 4501](1724)، و (أبو داود) في "اللقطة"(1719)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(3/ 417)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 499)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4896)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(4/ 140)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 187)، و (الحاكم) في "المستدرك"(2/ 74)، و (البيهقيُّ) في "الكبرى"(6/ 199)، والله تعالى أعلم. وبالسند المتّصل إلى المؤلِّف رحمه الله أَوَّل الكتاب قال:
[4502]
(1725) - (وَحَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِر، وَيُونُسُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَا: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِث، عَنْ بَكْرِ بْنِ سَوَادَةَ،
(1)
"المغني" لابن قُدامة رحمه الله 6/ 360.
عَنْ أَبِي سَالِمٍ الْجَيْشَانِيّ، عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:(مَنْ آوى ضَالَةً، فَهُوَ ضَالٌّ، مَا لَمْ يُعَرِّفْهَا").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(بَكْرُ بْنُ سَوَادَةَ) بن ثُمامة الْجُذاميّ، أبو ثُمامة المصريّ، ثقةٌ فقيه [5
(1)
] مات سنة بضع وعشرين ومائة تقدم في "الإيمان" 93/ 505.
2 -
(أَبُو سَالِمٍ الْجَيْشَانِيُّ) - بفتح الجيم، وسكون التحتيّة، بعدها شين معجمة - حليف لهم من المعافر، واسمه: سفيان بن هانئ بن جَبْر بن عمرو بن سَعْد بن ذاخِر المصريّ، تابعيّ مخضرم، شهِد فتح مصر، ووفد على عليّ، ويقال: له صحبة، مات بعد الثمانين.
روى عن عليّ، وأبي ذرّ، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وعقبة بن عامر، وزيد بن خالد.
وروى عنه ابنه سالم، وحفيده سعيد بن سالم، وبكر بن سوادة، ويزيد بن أبي حبيب، وغيرهم.
وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال ابن يونس: تُوُفِّي بالإسكندرية في إمرة عبد العزيز بن مروان، وكان علويًا، وقال العجليّ: مصريّ، تابعيّ، ثقةٌ، وذكره ابن منده في "الصحابة"، وقال: اختُلِف في ححبته، وكذا قال غيره.
أخرج له المصنّف، وأبو داود، والنسائيّ، وليس له في هذا الكتاب إلَّا حديثان، هذا برقم (1725)، وحديث (1826): "إني أراك ضعيفًا، وإني أحبّ لك ما أحبّ لنفسي
…
" الحديث.
3 -
(زيدُ بْنُ خَالِدٍ الْجُهَنِيُّ) رضي الله عنه تقدّم في الباب الماضي.
والباقون ذُكروا في السند الماضي.
(1)
جعله في "التقريب" من الطبقة الثالثة، والظاهر أنه من الخامسة؛ لأنه لَمْ يلق من الصحابة إلَّا عبد الله بن عمرو، مع أنه قيل: لَمْ يسمع منه، فتأمل، والله تعالى أعلم.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه مسلسل بالمصريين.
شرح الحديث:
(عَنْ زيدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ) رضي الله عنه (عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "مَنْ آوَى) بالمدّ والقصر، فكلّ منهما يلزم ويتعدى، لكن القصر في اللازم، والمد في المتعدّي أشهر، وبه جاء التنزيل:{أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ} [الكهف: 63]، {وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ} [المؤمنون: 50]، وقال الفيّوميّ: أوى إلى منزله يأوي، من باب ضرب أُويًّا: أقام، ورئما عُدّي بنفسه، فقيل: أوى منزله، قال: وآويت زيدًا بالمدّ في المتعدّي، ومنهم من يجعله مما يُستعمل لازمًا ومتعدّيًا، فيقول: أويته، وزانُ ضربته، ومنهم من يستعمل الرباعيّ لازمًا أيضًا، وردّه جماعة. انتهى
(1)
.
(ضَالَّةً)؛ أي: حيوانًا ضائعًا، قال الفيوميّ رحمه الله: ضَلَّ الرجلُ الطريقَ، وضَلَّ عنه يَضِلُّ، من باب ضرب ضَلَالًا، وضَلَالةً: زل عنه، فلم يَهْتَدِ إليه، فهو ضَالٌّ، هذه لغة نَجْد، وهي الفُصْحَى، وبها جاء القرآن في قوله تعالى:{قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي} [سبأ: 50]، وفي لغة لأهل العالية: من باب تَعِبَ، والأصل في الضَّلالِ: الغَيبة، ومنه قيل للحيوان الضائع: ضَالَّةٌ، بالهاء، للذكر، والأنثى، والجمع: الضَّوَالُّ، مثل دابّة ودوابّ، ويقال لغير الحيوان: ضائعٌ، ولُقَطةٌ، وضَلَّ البعير: غاب، وخَفِي موضعه، وأَضْلَلْتُهُ بالألف: فقدته، قال الأزهريّ: وأَضْلَلْتَ الشيءَ، بالألف: إذا ضاع منك، فلم تَعْرِف موضعه، كالدّابّة، والناقة، وما أشبههما، فإن أخطات موضع الشيء الثابت، كالدار، قلت: ضَلَلْتُهُ، وضَلِلْتُهُ، ولا تقل: أَضْلَلْتُهُ، بالألف، وقال ابن الأعرابيّ: أَضَلَّنِي كذا، بالألف: إذا عجزتَ عنه، فلم تقدر عليه، وقال في "البارع": ضَلَّنِي فلان، وكذا في غير الإنسان يَضِلُّنِي: إذا ذهب عنك، وعجزت عنه، وإذا طلبت حيوانًا، فأخطأت مكانه، ولم تهتد إليه، فهو بمنزلة الثوابت،
(1)
"المصباح المنير" 1/ 32.
فتقول: ضَلَلْتُهُ، وقال الفارابيّ: أَضْلَلْتُهُ، بالألف: أَضَعْتُهُ، فقول الغزاليّ: أَضَلَّ رَحْلَهُ حَمْلُهُ على الفِقدان أظهر من الإضاعة، وقوله: لا يجوز بيع الآبق، والضَّالّ، إن كان المراد الإنسان، فاللفظ صحيح، وإن كان المراد غيره، فينبغي أن يقال: والضَّالَّةِ بالهاء، فإن الضَّالَّ هو الإنسان، والضَّالَّةُ الحيوانُ الضائع، وضَلَّ الناسي: غاب حفظه، وأرض مَضِلَّةٌ، بفتح الميم، والضاد يُفْتَح، ويُكْسَر؛ أي: يُضَلُّ فيها الطريقُ. انتهى
(1)
.
(فَهُوَ ضَالٌّ)؛ أي: عن طريق الصواب، أو آثم، أو ضامن إن هلكت عنده، عبّر به عن الضمان للمشاكلة، وذلك لأنه إذا التقطها، فلم يعرّفها، فقد أضرّ بصاحبها، وصار سببًا في تضليله عنها، فكان ضالًّا عن الحقّ، (مَا لَمْ يُعَرِّفْهَا") "ما" مصدريّة ظرفيّة؛ أي: مدّة عدم تعريفه لها.
قال القاضي عياض رحمه الله: قوله: "من آوى ضالّة فهو ضالّ
…
إلخ" قيل: معناه: مخطئ في فعله ذلك، ضالّ عن طريق الصواب فيه، قال المازريّ: إذا أخذ الضالّة، فأخفاها، فقد أضرّ بصاحبها، وكان متسبّبًا إلى الضلالة عنها، فإذا عرّفها أَمِنَ من ذلك، قال القاضي: على هذا التأويل الحديثُ عامّ في كلّ ضالّة لُقَطة، وقد جاء في بعض الروايات: "من التقط ضالّةً"، وظاهر الحديث في ضوالّ الإبل، وعليه حَمَله بعضهم، وإذا فُسّر بالمخطئ لَمْ يضمن إن هلكت؛ لأنه إنما أخطأ في أخذها، وإنما أخذها ليردّها على صاحبها، ويحوطها عليه، وإن كان إنما أخذها ليأكلها، ولا يعرّفها من الإبل وغيرها، فهذا ضالّ بيّن الضلال، ثم متعدّ يضمن ما هلك منها بأيّ نوع من الهلاك، وقد اختلف العلماء بحسب هذا، هل اللقطة والضالّة بمعنى واحد؟ وإليه ذهب الطحاويّ، ومعظمهم أنهما مفترقتان، فإن الضالّة تختصّ بالحيوان، وهو قول أبي عبيد. انتهى كلام القاضي عياض رحمه الله
(2)
.
وقال النوويّ رحمه الله: هذا الحديث دليل للمذهب المختار: أنه يلزمه تعريف اللقطة مطلقًا، سواء أراد تملّكها، أو حفظها على صاحبها، وهذا هو الصحيح، وقد سبق بيان الخلاف فيه، ويجوز أن يكون المراد بالضالّة هنا
(1)
"المصباح المنير" 2/ 363 - 364.
(2)
"إكمال المعلم" 6/ 16 - 17.
ضالّة الإبل، ونحوها، مما لا يجوز التقاطها للتملك، بل إنها تُلْتَقَط للحفظ على صاحبها، فيكون معناه: من آوى ضالّة فهو ضالّ، ما لَمْ يعرِّفها أبدًا، ولا يتملكها، والمراد بالضالّ: المفارق للصواب، وفي جميع أحاديث الباب دليل على أنَّ التقاط اللقطة، وتملّكها لا يفتقر إلى حكم حاكم، ولا إلى إذن السلطان، وهذا مجمع عليه، وفيها أنه لا فرق بين الغنيّ، والفقير، وهذا مذهبنا، ومذهب الجمهور، والله أعلم. انتهى
(1)
.
قال الخطابيّ رحمه الله: هذا الحديث ليس بمخالف للأخبار التي جاءت في أخذ اللقطة، وذلك أن اسم الضالّة لا يقع على الدراهم، والدنانير، والمتاع، ونحوها، وإنما الضالّ اسم الحيوان التي تَضِلّ عن أهلها، كالإبل، والبقر، والطير، وما في معناها، فإذا وجدها المرء لَمْ يَحِلّ له أن يَعْرِض لها، ما دامت بحال تمنع بنفسها، وتستقل بقوتها، حتى يأخذها صاحبها. انتهى
(2)
.
وقال الزرقانيّ رحمه الله: لا حجة في هذا الحديث لمن كره اللقطة مطلقًا، ولا في قوله صلى الله عليه وسلم:"ضالّة المسلم حَرَقُ النار"، أخرجه النسائيّ بإسناد صحيح، عن الجارود العبديّ؛ لأنَّ الجمهور حملوهما على من لَمْ يُعَرِّفها؛ جمعًا بين الحديثين، و"حَرَق" بفتح الحاء والراء، وقد تُسَكّن؛ أي: يؤدي أخْذها للتمليك إلى النار، فهو تشبيه بليغ بحذف الأداة للمبالغة. انتهى
(3)
.
وقال المناويّ رحمه الله: قوله: "ضالة المسلم"؛ أي: ضائعته، مما يَحمي نفسه، ويقدر على الإبعاد في طلب الرعي، والماء، كإبل، وبقر، لا غنم، وقوله:"حَرَقُ النار" بالتحريك، وقد يسكّن: لَهَبُها، إذا أخذها إنسان ليتملكها أدته إلى إحراقه بالنار، وقال القاضي: أراد أنَّها حَرَق النار لمن آواها، ولم يعرّفها، أو قصد الخيانة فيها، كما بيّنه خبر مسلم:"من آوى ضالّة، فهو ضالّ، ما لَمْ يعرّفها"، وأصل الضالة: الضائعة من كلّ ما يُقتنَي، ثم اتُّسِعَ فيها، فصارت من الصفات الغالبة، تقع على الذكر، والأنثى، والجمع. انتهى
(4)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(1)
"شرح النوويّ" 12/ 28.
(2)
راجع: "عون المعبود" 5/ 98.
(3)
"شرح الزرقانيّ على الموطأ" 4/ 69.
(4)
"فيض القدير" 4/ 252.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث زيد بن خالد الجهنيّ رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [2/ 4502](1725)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(5806)، و (أحمد) في "مسنده"(116/ 4)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(5281 و 5282)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4897)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(4/ 134)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 182)، و (الحاكم) في "المستدرك"(2/ 73)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(6/ 191)، والله تعالى أعلم.
(3) - (بَابُ تَحْرِيمِ حَلْبِ الْمَاشِيَةِ بِغَيْرِ إِذْنِ مَالِكِهَا)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4503]
(1726) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى التَّمِيمِيُّ، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَا يَحْلُبَنَّ أَحَدٌ مَاشِيَةَ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِهِ؛ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تُؤْتَى مَشْرُبَتُهُ، فَتُكْسَرَ خِزَانَتُهُ، فَيُنْتَقَلَ طَعَامُهُ؛ إِنَّمَا تَخْزُنُ لَهُمْ ضُرُوعُ مَوَاشِيهِمْ أَطْعِمَتَهُمْ، فَلَا يَحْلُكَانَ أحَدٌ مَاشِيَةَ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِهِ").
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(نَافِعٌ) مولى ابن عمر، أبو عبد الله المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيةٌ مشهورٌ [3](ت 117) أو بعد ذلك (ع) تقدم في "الإيمان" 28/ 222.
2 -
(ابْنِ عُمَرَ) هو: عبد الله بن عمر بن الخطّاب العَدَويّ، أبو عبد الرَّحمن المدنيّ الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، مات في آخر سنة (73) أو أول التي قبلها (ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 102.
والباقيان تقدّما قبل باب.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (294) من رباعيّات الكتاب، وأنه أصحّ الأسانيد مطلقًا، على ما نُقل عن الإمام البخاريّ رحمه الله، وأن صحابيّه من أفاضل الصحابة رضي الله عنهم، وُلد قبل المبحث بيسير، واستُصغر يوم أُحد، وهو ذو أربع عشرة سنة، وهو أحد العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة، روى (2630) حديثًا، وأحد المشهورين بالفتوي، وكان من أشدّ الناس اتّباعًا للأثر رضي الله عنه.
شرح الحديث:
(عَنْ نَافِعٍ) وفي "موطأ" محمد بن الحسن: "عن مالك، أخبرنا نافع"، وفي رواية أبي قطن في "الموطآت" للدارقطنيّ:"قلت لمالك: أحدّثك نافع؟ "، (عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ) وفي رواية يزيد بن الهاد، عن مالك، عن الدارقطنيّ أيضًا:"أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول"، ("لَا يَحْلُبَنَّ) بضم اللام، من باب نصر، وكذا هو عند البخاريّ، وأكثر "الموطّآت"، وفي رواية ابن الهاد المذكورة:"لا يحتلبنّ" بكسر اللام، وزيادة المثنّاة قبلها، (أَحَدٌ مَاشِيَةَ أَحَدٍ) وفي رواية البخاريّ:"ماشية امرئ"، وفي رواية ابن الهاد، وجماعة من رواة "الموطأ":"ماشية رجل"، وهو كالمثال، وإلا فلا اختصاص لذلك بالرجال، وذكره بعض شراح "الموطأ" بلفظ:"ماشية أخيه"، وقال: هو للغالب؛ إذ لا فرق في هذا الحكم بين المسلم والذميّ.
وتُعُقّب بأنه لا وجود لذلك في "الموطأ"، وبإثبات الفرق عند كثير من أهل العلم، كما سيأتي في فوائد هذا الحديث.
وقد رواه أحمد من طريق عبيد الله بن عمر، عن نافع، بلفظ:"نَهَى أن يحتلب مواشي الناس، إلَّا بإذنهم"، والماشية تقع على الإبل، والبقر، والغنم، ولكنه في الغنم يقع أكثر، قاله في "النهاية"
(1)
.
(إِلَّا بِإِذْنِهِ؛ أَيُحِبَّ أَحَدُكُمْ أَنْ تُؤْتَى) بالبناء للمجهول، (مَشْرُبَتُهُ) - بضم
(1)
"الفتح" 6/ 248 - 249، كتاب "اللقطة" رقم (2435).
الراء، وقد تُفتح -؛ أي: غرفته، والْمَشربة: مكان الشَّرَب - بفتح الراء - خاصّة، والْمِشربة بالكسر: إناء الشرب.
(فَتُكْسَرَ خِزَانَتُهُ) - بكسر الخاء المعجمة، بعدها زاي -: المكان، أو الوعاء الذي يُخْزَن فيه ما يراد حفظه، وفي رواية أيوب، عند أحمد:"فيُكسَر بابها".
وقال القرطبيّ رحمه الله: المشربة: سقيفة يُخْتَزَن فيها الطعام، وقيل: كالغرفة، وتقال بضمّ الراء، وفتحها. انتهى.
(فَيُنْتَقَلَ طَعَامُهُ) - بالنون، والقاف، وضم أوله - مبنيًّا للمجهول، من النقل؛ أي: تُحَوَّل من مكان إلى آخر، هكذا في رواية مالك، والليث بن سعد، كما يأتي للمصنّف، ورواه الآخرون:"فَيُنتَثَل" - بثاء مثلّثة - بدل القاف، والنثل: النثر مرّة واحدة بسرعة، وقيل: الاستخراج، وهو أخصّ من النقل.
وقال في "الفتح": كذا في أكثر "الموطآت" عن مالك، ورواه بعضهم، كما حكاه ابن عبد البرّ، وأخرجه الإسماعيليّ، من طريق رَوْح بن عُبادة، وغيره، بلفظ:"فَيُنْتَثَلَ"، وهكذا أخرجه مسلم من رواية أيوب، وموسى بن عقبة، وغيرهما، عن نافع، ورواه عن الليث، عن نافع بالقاف، وهو عند ابن ماجة من هذا الوجه بالمثلثة. انتهى
(1)
.
(إِنَّمَا تَخْزُنُ) - بالخاء المعجمة الساكنة، والزاي المضمومة، بعدها نون - يقال: خَزَنَ المال يَخْزُنُهُ، من باب نصر: أحرزه، كاختزنه، والخِزانة بالكسر، كالكتابة: فعل الخازن، ومكان الخزن، ولا يُفتح، كالْمَخْزَن، كمقعَد، أفاده المجد: رحمه الله
(2)
.
قال في "الفتح": وفي رواية الكشميهنيّ: "تُحْرِز" بضم أوله، وإهمال الحاء، وكسر الراء، بعدها زاي، (لَهُمْ ضُرُوعُ) بالضمّ: جمع ضَرْع، كفَلْس وفُلُوس، وهو لذوات الظِّلْف، كالثدي للمرأة. (مَوَاشِيهِمْ) بالفتح: جمع ماشية، وهي المال من الإبل، والغنم، قاله ابن السّكّيت، وجماعة، وبعضهم يجعل
(1)
"الفتح" 6/ 249، كتاب "اللقطة" رقم (2435).
(2)
راجع: "القاموس المحيط" ص 368.
البقر من الماشية، قاله الفيّوميّ
(1)
، فقوله:"مواشيهم" مرفوع على الفاعليّة لـ "تَخْزُنُ"، وقوله:(أَطْعِمَتَهُمْ) منصوب على المفعوليّة له، ولفظ البخاريّ:"أطعماتهم"، وهو جمع أطعمة، والأطعمة: جمع طعام، والمراد به هنا اللبن.
وقال القرطبيّ رحمه الله: ظاهر تشبيه ضرع الماشية بالخزانة يقتضي: أنّ مَن حَلَب ماشية أحد في خفية، وكان قيمة ما حَلَب نصابًا قُطِعَ، كما يُقطع مَنْ أخذه من خزانته، فيكون ضرع الماشية حرزًا، وقد قال به بعض العلماء، فأمَّا مالك: فلم يقل به، إلَّا إذا كانت الغنم في حرز. انتهى
(2)
.
(فَلَا يَحْلُبَنَّ) بضمِّ اللام، كما سبق قريبًا، ونون التوكيد الثقيلة، (أحَدٌ مَاشِيَةَ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِهِ")؛ أي: صريحًا، ويَحْتَمِل أن يكون أيضًا دلالة، كما إذا جرى العرف بذلك، والأول أظهر.
فقوله: "فلا يحلُبنّ
…
إلخ" مكرّر تأكيدًا للنهي الأول، فتنبّه.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "لا يحلبن أحد ماشية أحدٍ إلَّا بإذنه" إنَّما كان هذا؛ لأنَّ أصل الأملاك بقاؤها على ملك مُلَّاكِها، وتحريمها على غيرهم، كما قال صلى الله عليه وسلم:"إن دماءكم، وأموالكم، وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا، في بلدكم هذا"، وكما قد تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم:"إنَّه لا يحل مال امرئ مسلم إلَّا عن طيب نفسٍ منه"، إلى غير ذلك، وهذا أصل ضروريّ معلومٌ من الشرائع كلها، وإنما خصَّ اللَّبن بالذكر لتساهل الناس في تناوله، ولا فرق بين اللَّبن والثمرة وغيرها في ذلك، غير أن العلماء قد اختلفوا فيهما، فذهب الجمهور إلى أنَّه لا يحل شيء من لبن الماشية، ولا من التمر إلَّا إذا عُلِم طيب نفس صاحبه به؛ تمسُّكًا بالأصل المذكور، وبهذا الحديث، وذهب بعض المحدثين: إلى أن ذلك يحل، وإن لَمْ يُعلم حال صاحبه؛ لأنَّ ذلك حقٌّ جعله الشرع له؛ تمسُّكًا بما رواه أبو داود، عن الحسن، عن سمرة رضي الله عنه: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أتى أحدكم على ماشية؛ فإن كان فيها صاحبها فليستأذنه، فإن أَذِن له فليحلب، وليشرب، وإن لَمْ يكن فيها فليصوِّت ثلاثًا؛ فإن أجاب فليستأذنه، فإن أذن له، وإلا فليحتلب، وليشرب ولا يَحْمِل".
(1)
"المصباح المنير" 2/ 574.
(2)
"المفهم" 5/ 196.
وذكر الترمذيّ عن يحيى بن سُليم، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"من دخل حائطًا فليأكل، ولا يتخذ خُبْنةً"، قال: هذا حديث غريب، لا نعرفه إلَّا من حديث يحيى بن سُليم، وذكر من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدِّه: أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم سئل عن الثمر المعلق، فقال:"من أصاب منه من ذي حاجة غير متخذ خُبنةً، فلا شيء عليه"، قال فيه: حديث حسن.
قال القرطبيّ رحمه الله: ولا حجَّة في شيء من هذه الأحاديث لأوجه:
أحدها: أن التمسك بالقاعدة المعلومة أولى.
وثانيها: أن حديث النهي أصحُّ سندًا، فهو أرجح.
وثالثها: أن ذلك محمولٌ على ما إذا عُلِم طيب نفوس أرباب الأموال بالعادة، أو بغيرها.
ورابعها: أن ذلك محمول على أوقات المجاعة والضرورة، كما كان ذلك في أول الإسلام، والله تعالى أعلم.
[تنبيه]: لو اضطر فلم يجد ميتة وجب عليه إحياء رَمَقِهِ من مال الغير، وهل يلزمه قيمة ما أكل أم لا؟ والجمهور على وجوبها عليه إذا أمكنه ذلك، فإن وجد ميتة وطعامًا للغير؛ فإن أَمِن على نفسه من القطع والضرر أَكَلَ الطعام وَيغْرَم قيمته، وقيل: لا يلزم، وإن لَمْ يأمن على نفسه أَكَلَ الميتة، قاله مالك.
قال القرطبيّ: غير أنه قد جرت عادة بعض الناس بالمسامحة في أكل بعض الثمر، كما قد اتفق في بعض بلادنا، وفي شُرب بعض لبن الماشية، كما كان ذلك في أهل الحجاز، فيكون استمرار العادة بذلك هـ وترك النكير فيه دليلًا على إباحة ذلك، ولذلك شرب النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر رضي الله عنه من لبن غنم الراعي في طريق الهجرة.
ويمكن أن تُحمل الأحاديث المتقدمة على العادة الجارية عندهم في اللبن والثمرة. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله، وهو بحث نفيسٌ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث ابن عمر رضي الله عنهما ما هذا متَّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [3/ 4503 و 4504](1726)، و (البخاريّ) في "اللقطة"(2435)، و (أبو داود) في "الجهاد"(2623)، و (مالك) في "الموطّأ"(2/ 971)، و (ابن ماجة) في "التجارات"(2302)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 6 و 57)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5171 و 5282)، و (الطحاويُّ) في "شرح معاني الآثار"(4/ 241)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 183 و 184)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(8/ 129)، و (البيهقيُّ) في "الكبرى"(9/ 358) و "شعب الإيمان"(4/ 387)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(2168)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان تحريم حلب مواشي الناس بغير إذنهم.
2 -
(ومنها): ضرب الأمثال للتقريب للأفهام، وتمثيل ما قد يخفى بما هو أوضح منه، واستعمال القياس في النظائر.
3 -
(ومنها): ذِكْر الحكم بعلّته، وإعادته بعد ذكر العلة تأكيدًا وتقريرًا.
4 -
(ومنها): أن القياس لا يُشترط في صحته مساواة الفرع للأصل بكل اعتبار، بل ربما كانت للأصل مزية لا يضر سقوطها في الفرع، إذا تشاركا في أصل الصفة؛ لأنَّ الضرع لا يساوي الخزانة في الحرز، كما أن الصّرّ لا يساوي الْقَفْل فيه، ومع ذلك فقد الحق الشارع الضرع المصرور في الحكم بالخزانة المقفلة في تحريم تناول كلّ منهما بغير إذن صاحبه، أشار إلى ذلك ابن الْمُنَيِّر رحمه الله.
5 -
(ومنها): إباحة خزن الطعام، واحتكاره إلى وقت الحاجة إليه، خلافًا لغلاة المتزهدة المانعين من الادّخار مطلقًا، قاله القرطبيّ رحمه الله.
6 -
(ومنها): أن اللبن يسمى طعامًا، فيحنث به مَن حلف لا يتناول طعامًا، إلَّا أن يكون له نية في إخراج اللبن، قاله النوويّ رحمه الله.
7 -
(ومنها): أن فيه أن بيع لبن الشاة بشاة في ضرعها لبن باطل، وبه
قال الشافعيّ، والجمهور، وأجازه الأوزاعيّ، قاله النوويّ أيضًا.
وقال القرطبيّ رحمه الله: وفي الحديث حجَّة لمن منع بيع الشاة اللبون باللَّبن إذا كان في ضرعها لبن حاضر، وهو مذهب مالك، والشافعيّ، فإن لَمْ يكن فيها لبن حاضر أجازه مالك نقدًا، ومنعه إلى أجل، واختَلَف أصحابه، فحمله جلُّهم على عمومه، وقال بعضهم: إنَّما هذا إذا قدَّم الشاة، فلو كانت هي المؤخَّرة جاز، وأجاز بيعها بالطعام نقدًا، وإلى أجل، وأجاز الأوزاعيّ شراءها باللبن، وإن كان في ضرعها لبن، ورأوه لغوًا وتابعًا، ولم يجز الشافعيّ، ولا أبو حنيفة بيعها بطعام إلى أجلٍ. انتهى
(1)
.
8 -
(ومنها): أن الشاة إذا كان لها لبن مقدور على حلبه قابله قسط من الثمن، قاله الخطابيّ رحمه الله، وهو يؤيد خبر المصرّاة، ويُثبت حكمها في تقويم اللبن.
9 -
(ومنها): أن من حلب من ضرع ناقة، أو غيرها مصرورة، مُحْرَزة بغير ضرورة، ولا تأويل، ما تبلغ قيمته ما يجب فيه القطع أن عليه القطعَ، إن لَمْ يأذن له صاحبها تعيينًا، أو إجمالًا؛ لأنَّ الحديث قد أفصح بأن ضروع الأنعام خزائن الطعام، وحَكَى القرطبيّ عن بعضهم وجوب القطع، ولو لَمْ تكن الغنم في حرز؛ اكتفاء بحرز الضرع للبن، وهو الذي يقتضيه ظاهر الحديث، قاله في "الفتح"
(2)
، وهو بحث نفيسٌ جدًّا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في حكم حلب الماشية بغير إذن مالكها:
قال الحافظ ابن عبد البرّ رحمه الله: في الحديث النهي عن أن يأخذ المسلم للمسلم شيئًا إلَّا بإذنه، وإنما خَصّ اللبن بالذِّكر؛ لتساهل الناس فيه، فنبّه به على ما هو أولى منه، وبهذا أخذ الجمهور، لكن سواء كان بإذن خاصّ، أو إذن عامّ، واستثنى كثير من السلف ما إذا عَلِم بطيب نفس صاحبه، وإن لَمْ يقع
(1)
"المفهم" 5/ 197.
(2)
"الفتح" 6/ 251 - 252، كتاب "اللقطة" رقم (2435).
منه إذن خاصّ، ولا عامّ، وذهب كثير منهم إلى الجواز مطلقًا، في الأكل، والشرب، سواء علم بطيب نفسه، أو لَمْ يعلم، والحجة لهم ما أخرجه أبو داود، والترمذيّ، وصححه، من رواية الحسن عن سمرة رضي الله عنه، مرفوعًا:"إذا أتى أحدكم على ماشية، فإن لَمْ يكن صاحبها فيها، فَلْيُصَوِّت ثلاثًا، فإن أجاب، فليستاذنه، فإن أَذِن له، وإلا فليحلُب، وليشرب، ولا يحمل"، إسناده صحيح إلى الحسن، فمن صحح سماعه من سمرة صححه، ومن لا أعله بالانقطاع، لكن له شواهد، من أقواها حديث أبي سعيد رضي الله عنه مرفوعًا:"إذا أتيت على راع فناده ثلاثًا، فإن أجابك، وإلا فاشرب من غير أن تُفسد، وإذا أتيت على حائط بستان" فذكر مثله، أخرجه ابن ماجة، والطحاويّ، وصححه ابن حبان، والحاكم.
وأجيب عنه بأن حديث النهي أصحّ، فهو أولى بأن يُعْمَل به، وبأنه معارِضٌ للقواعد القطعية في تحريم مال المسلم بغير إذنه، فلا يُلتَفَت إليه.
ومنهم من جمع بين الحديثين بوجوه من الجمع، منها: حمل الإذن على ما إذا عَلِم طيب نفس صاحبه، والنهي على ما إذا لَمْ يعلم.
ومنها تخصيص الإذن بابن السبيل، دون غيره، أو بالمضطر، أو بحال المجاعة مطلقًا، وهي متقاربة.
وحكى ابن بطال عن بعض شيوخه: أن حديث الإذن كان في زمنه صلى الله عليه وسلم، وحديث النهي أشار به إلى ما سيكون بعده من التَّشاحِّ، وترك المواساة.
ومنهم من حَمَل حديث النهي على ما إذا كان المالك أحوج من المارّ؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه: بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر إذ رأينا إبلًا مصرورةً، فثُبْنا إليها، فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن هذه الإبل لأهل بيت من المسلمين، هو قوتهم، أيَسُرُّكُمْ لو رجعتم إلى مزاودكم، فوجدتم ما فيها قد ذهب؟ " قلنا: لا، قال:"فإن ذلك كذلك"، أخرجه أحمد، وابن ماجة، واللفظ له، وفي حديث أحمد:"فابتدرها القوم ليحلبوها"، قالوا: فَيُحْمَل حديث الإذن على ما إذا لَمْ يكن المالك محتاجًا، وحديث النهي على ما إذا كان محتاجًا.
ومنهم من حمل الإذن على ما إذا كانت غير مصرورة، والنهي على ما إذا كانت مصرورة؛ لهذا الحديث، لكن وقع عند أحمد في آخره: "فإن كنتم لا بُدّ
فاعلين، فاشربوا، ولا تحملوا"، فدل على عموم الإذن في المصرورة وغيرها، لكن بقيد عدم الحمل، ولا بُدّ منه.
واختار ابن العربيّ الحمل على العادة، قال: وكانت عادة أهل الحجاز والشام وغيرهم المسامحة في ذلك، بخلاف بلدنا، قال: ورأى بعضهم أن ما كان على طريق لا يُعْدَل إليه، ولا يُقْصَد جاز للمارّ الأخذ منه، وفيه إشارة إلى قَصْر ذلك على المحتاج، وأشار أبو داود في "السنن" إلى قصر ذلك على المسافر في الغزو، وآخرون إلى قصر الإذن على ما كان لأهل الذِّمة، والنهي على ما كان للمسلمين، واستؤنس بما شرطه الصحابة على أهل الذِّمة من ضيافة المسلمين، وصحّ ذلك عن عمر.
وذكر ابن وهب عن مالك في المسافر، ينزل بالذميّ، قال: لا يأخذ منه شيئًا إلَّا بإذنه، قيل له: فالضيافة التي جُعلت عليهم؟ قال: كانوا يومئذ يخفف عنهم بسببها، وأما الآن فلا.
وجنح بعضهم إلى نسخ الإذن، وحملوه على أنَّه كان قبل إيجاب الزكاة، قالوا: وكانت الضيافة حينئذ واجبةً، ثم نُسخ ذلك بفرض الزكاة، قال الطحاويّ: وكان ذلك حين كانت الضيافة واجبة، ثم نُسخت، فنُسخ ذلك الحكم، وأورد الأحاديث في ذلك.
وسيأتي الكلام على حكم الضيافة في الباب التالي - إن شاء الله تعالى -.
وقال النوويّ رحمه الله في "شرح المهذَّب": اختَلَف العلماء فيمن مَرّ ببستان، أو زَرْعٍ، أو ماشية، قال الجمهور: لا يجوز أن يأخذ منه شيئًا، إلَّا في حال الضرورة، فيأخذ، وَيغْرَم، عند الشافعيّ، والجمهور، وقال بعض السلف: لا يلزمه شيء، وقال أحمد: إذا لَمْ يكن على البستان حائط جاز له الأكل من الفاكهة الرطبة، في أصح الروايتين، ولو لَمْ يحتج لذلك، وفي الأخرى: إذا احتاج، ولا ضمان عليه في الحالين، وعَلَّق الشافعيّ القول بذلك على صحة الحديث، قال البيهقيّ: يعني: حديث ابن عمر مرفوعًا: "إذا مر أحدكم بحائط، فليأكل، ولا يتخذ خَبِيئة"، أخرجه الترمذيّ، واستغربه، قال البيهقيّ: لَمْ يصحّ، وجاء من أوجه أُخر غير قوية.
قال الحافظ: والحقّ أن مجموعها لا يقصر عن درجة الصحيح، وقد
احتجوا في كثير من الإحكام بما هو دونها، وقد بيّنت ذلك في كتابي "المنحة فيما علّق الشافعيّ القول به على الصحّة". انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن بما سبق أن حديث الباب وإن كان أصحّ من أحاديث الإباحة، إلَّا أنَّها بمجموع طرقها تصلح للاحتجاج بها، فالأَولى سلوك مسلك الجمع بينهما، وأظهر الجمع أن يُحمل الإذن على ابن السبيل ونحوه عند الحاجة، فهذا أولى الأوجه عندي.
والحاصل أن حلب ماشية الناس ممنوع، إلَّا لمن كان مسافرًا، أو نحوه من ذوي الحاجة، وكذا التناول من ثمار البستان، فتأمّل، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى المؤلِّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4504]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَاهُ قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ رُمْحٍ، جَمِيعًا عَنِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ (ح) وحَذَثَنَاهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَلِي بْنُ مُسْهِرٍ (ح) وحَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنِي أَبِي، كِلَاهُمَا عَنْ عُبَيْدِ اللهِ (ح) وحَدَّثَنِي أَبُو الرَّبِيع، وَأَبُو كَامِلٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا حَمَّاد (ح) وحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ - يعني: ابْنَ عُلَيَّةَ - جَمِيعًا عَنْ أَيُّوبَ (ح) وحَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ (ح) وحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاق، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ أَيُّوبَ، وَابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ مُوسَى، كُلُّ هَؤُلَاءِ عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم نَحْوَ حَدِيثِ مَالِكٍ، غَيْرَ أَن فِي حَدِيثِهِمْ جَمِيعًا: "فَيُنْتَثَلَ
(2)
"، إِلَّا اللَّيْثَ بْنَ سَعْدٍ، فَإِنَّ فِي حَدِيثِهِ: "فَيُنْتَقَلَ طَعَامُهُ"، كَرِوَايَةِ مَالِكٍ).
رجال هذا الإسناد: خمسة وعشرون:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحِ) بن مهاجر التجيبيّ المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](242)(م ق) تقدم في "الإيمان" 16/ 168.
2 -
(اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ) الفهميّ مولاهم، أبو الحارث المصريّ الإمام
(1)
"الفتح" 6/ 251 - 252، كتاب "اللقطة" رقم (2435).
(2)
وفي نسخة: "فيُنتثل طعامه".
الحجة الفقيه المشهور [7](ت 175)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" ج 2 ص 412.
3 -
(عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ) القرشيّ الكوفيّ قاضي الموصل، ثقةٌ [8](ت 189)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 6.
4 -
(عُبَيْدُ اللهِ) بن عمر بن حفص العمريّ، أبو عثمان المدنيّ، ثقةٌ ثبت [5] مات سنة بضع و (140)(ع) تقدم في "الإيمان" 28/ 222.
5 -
(أَبُو الرَّبِيعِ) سليمان بن داود العتكيّ الزهرانيّ البصريّ، نزيل بغداد، ثقةٌ [10](ت 234)(خ م د س) تقدم في "الإيمان" 23/ 190.
6 -
(أَبُو كَامِلٍ) فضيل بن حسين الْجَحْدريّ البصريّ، ثقةٌ حافظ [10](ت 237)(خت م د ت س) تقدم في "المقدمة" 6/ 57.
7 -
(حَمَّادُ) بن زيد بن درهم الجهضميّ، أبو إسماعيل البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيه، من كبار [8](ت 179)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 26.
8 -
(إِسْمَاعِيلُ ابْنُ عُلَيَّةَ) أبو بشر البصريّ، ثقةٌ حافظٌ، من [8](193)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.
9 -
(أَيُّوبُ) بن أبي تميمة السّخْتيانيّ، أبو بكر البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيه فاضل [5](ت 131)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" ج 1 ص 305.
10 -
(ابْنُ أَبِي عُمَرَ) محمد بن يحيى بن أبي عمر الْعَدنيّ، ثم المكيّ، صدوقٌ [10](ت 243)(م ت س ق) تقدم في "المقدمة" 5/ 31.
11 -
(سُفْيَانُ) بن عيينة الإمام الحافظ الحجة المثبت الفقيه المشهور، من كبار [8](ت 198)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" ج 1 ص 383.
12 -
(إِسْمَاعِيلُ بْنُ أُمَيَّةَ) الأمويّ المكيّ، ثقةٌ ثبتٌ [6](144) أو قبلها (ع) تقدم في "الإيمان" 7/ 132.
13 -
(ابْنُ جُرَيْجٍ) عبد الملك بن عبد العزيز بن جريجٍ الأمويّ مولاهم، أبو خالد، وأبو الوليد المكيّ، ثقةٌ فقيه فاضل، لكنه يدلّس ويرسل [5](150) أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 129.
والباقون تقدّموا في الأبواب الأربعة الماضية، و"ابن نمير" هو: محمد بن عبد الله بن نمير، و"موسى" هو: عقبة بن أبي عيّاش.
وقوله: (كِلَاهُمَا عَنْ عُبَيْدِ اللهِ) يعني: أن كلًّا من عليّ بن مسهر، وعبد الله بن نمير رويا هذا الحديث عن عبيد الله بن عمر العمريّ.
وقوله: (جَمِيعًا عَنْ أَيُّوبَ) يعني: أن حماد بن زيد، وإسماعيل ابن عُليّة رويا هذا الحديث عن أيوب السختيانيّ.
وقوله: (وَابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُوسَى) بجرّ "ابن جريجٍ" عطفًا على معمر، فعبد الرزاق يروي عن معمر، عن أيوب السختيانيّ، وعن ابن جريجٍ عن موسى بن عقبة، فما وقع في النسخ المطبوعة برفع "ابن جريجٍ"، غلطٌ، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
وقوله: (كُلُّ هَؤُلَاءِ عَنْ نَافِعٍ) يعني: أن هولاء الخمسة، وهم: الليث بن سعد، وعبيد الله بن عمر، وأيوب السختيانيّ، واسماعيل بن أميّة، وموسى بن عقبة رووا هذا الحديث عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما.
[تنبيه]: رواية الليث بن سعد، عن نافع ساقها ابن ماجة رحمه الله في "سننه"، فقال:
(2302)
- حدَّثنا محمد بن رُمْح، قال: أنبأنا الليث بن سعد، عن نافع، عن عبد الله بن عمر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قام، فقال:"لا يحتلبنّ أحدكم ماشية رجل بغير إذنه، أيحب أحدكم أن تُؤْتَى مَشربته، فيكسر باب خِزانته، فَيُنتثل طعامه؟ فإنما تخزُن لهم ضروع مواشيهم أطعماتهم، فلا يحتلبنّ أحدكم ماشية امرئ بغير إذنه". انتهى
(1)
.
ورواية عبيد الله بن عمر، عن نافع ساقها ابن حبّان رحمه الله في "صحيحه"، فقال:
(5171)
- أخبرنا الحسن بن سفيان، قال: حدّثنا محمد بن عبد الله بن نمير، قال: حدَّثنا أبي، قال: حدَّثنا عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، قال: "نَهَى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تحتلب مواشي الناس، إلَّا بإذن أربابها - وقال -: أيحب أحدكم أن تُؤْتَى مشربته، فيكسر بابها، فيُنتثل ما فيها من الطعام؟ إنما ضروع مواشيهم هو طعام أحدهم، فلا أعرفنّ أحدًا حَلَب ماشية
(1)
"سنن ابن ماجه" 2/ 772.
أحد بغير إذنه". انتهى
(1)
.
ورواية أيوب السختيانيّ، عن نافع ساقها أبو عوانة رحمه الله في "مسنده"، فقال:
(6446)
- حدّثنا الصغانيّ، وأبو أمية، قالا: ثنا أبو النعمان (ح) وحدّثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي، قثنا سليمان بن حرب، قالا: ثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ألا لا يحتلب ماشيةَ امرئ إلَّا بإذنه، أيحبّ أحدكم أن تُؤتَى مشربته، فيكسر بابها، وينتثل ما فيها من الطعام؟ وإن ما في ضروعها طعام أحدهم، ألا لا يحتلب ماشية امرئ إلا بإذنه". انتهى
(2)
.
ورواية إسماعيل بن أُميّة، عن نافع، ساقها الحميديّ رحمه الله في "مسنده"، فقال:
(683)
- حدّثنا الحميديّ، قال: ثنا سفيان، قال: ثنا إسماعيل بن أمية، عن نافع، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يَحْلُبَنّ أحدٌ ماشيةَ امرئ بغير إذنه، أيحبّ أحكم أن يُؤْتَى إلى باب مشربته، فيُكسر بابها، فيُنتثل طعامه؟ إلا إنما أطعمتهم في ضروع مواشيهم". انتهى
(3)
.
ورواية موسى بن عقبة، عن نافع لَمْ أجد من ساقها بتمامها، فليُنظر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(4) - (بَابُ الضِّيَافَة، وَنَحْوِهَا)
وبالسند المتّصل إلى المؤلِّف رحمه الله أَوَّل الكتاب قال:
[4505]
(48))
(4)
- (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الْعَدَوِيّ، أَنَّهُ قَالَ: سَمِعَتْ أُذُنَايَ، وَأَبْصَرَتْ عَيْنَايَ،
(1)
"صحيح ابن حبان" 11/ 574.
(2)
"مسند أبي عوانة" 4/ 183.
(3)
"مسنذ الحميدي" 2/ 10300.
(4)
هذا مكرّر، فقد تقدَّم الحديث في كتاب "الإيمان" بالرقم المذكور.
حِينَ تَكَلَّمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:"مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ جَائِزَتَهُ"، قَالُوا: وَمَا جَائِزَتُهُ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: (يَوْمُهُ وَلَيْلَتُهُ، وَالضِّيَافَةُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، فَمَا كَانَ وَرَاءَ ذَلِكَ فَهُوَ صَدَقَةٌ عَلَيْهِ - وَقَالَ -: مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا، أَوْ لِيَصْمُتْ").
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ) كيسان المقبريّ، أبو سَعْد المدنيّ، ثقةٌ [3] مات في حدود (120) أو قبلها، أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 36/ 250.
2 -
(أَبُو شُرَيْحٍ الْعَدَوِيُّ) الْخُزَاعيِّ الْكَعبيّ، اسمه خُويلد بن عمرو، أو عكسه، وقيل: عبد المرحمن بن عمرو، وقيل: هانئ، وقيل: كعب، صحابيّ نزل المدينة، ومات سنة (68) على الصحيح (ع) تقدم في "شرح المقدمة" ج 2 ص 483.
والباقيان تقدّما في الحديث الماضي.
تنبيه: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (295) من رباعيّات الكتاب، وأن صحابيّه ممن اشتهر بكنيته، واختُلف في اسمه.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الْعَدَوِيِّ) تقدّم الخلاف في اسمه آنفًا، وفي رواية عبد الحميد بن جعفر الآتية:"حدّثنا أبو سعيد المقبريّ، أنه سمع أبا شُريح الْخُزاعيّ"(أَنَّهُ قَالَ: سَمِعَتْ أُذُنَايَ) بالفعل على الفاعليّة لـ "سمعت"، مرفوع بالألف؛ لأنه من المثنّى الذي رَفْعُه بالألف، وجرّه، ونصبه بالياء، كما قال في "الخلاصة":
بِالأَلِفِ ارْفَعِ الْمُثَنَى و"كِلَا"
…
إِذَا بِمُضْمَرٍ مُضَافًا وُصِلَا
"كِلْتَا" كَذَاكَ "اثْنَانِ" و"اثْنَتَانِ"
…
كَـ "ابْنَيْنِ" و"ابْنَتَيْنِ" يَجْريَانِ
وَتَخْلُفُ الْيَا فِي جَمِيعِهَا الأَلِفْ جَرًّا
…
وَنَصْبًا بَعْدَ فَتْحٍ قَدْ أُلِفْ
وهو مضاف إلى ياء المتكلّم المفتوحة لالتقاء الساكنين، وكذا قوله:(وَأَبْصَرَتْ عَيْنَايَ، حِينَ تَكَلَّمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم)"حين" ظرف تنازعه كلّ من "سمعت"، و"أبصرت"، (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ) المراد
بقوله: "يؤمن "الإيمان الكامل، وخصّه بالله، واليوم الآخر؛ إشارة إلى المبدإ والمعاد؛ أي: من آمن بالله الذي خلقه، وآمن بأنه سيجازيه بعده، فليفعل الخصال المذكورات، قاله في "الفتح"
(1)
.
وقال في موضع آخر؛ قال الطوفيّ: ظاهر الحديث انتفاء الإيمان عمن لَمْ يفعل ذلك، وليس مرادًا، بل أراد به المبالغة، كما يقول القائل: إن كنت ابني، فاطعمني، تهييجًا له على الطاعة، لا أنه بانتفاء طاعته ينتفي أنه ابنه. انتهى
(2)
.
(فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ) قال القرطبيّ رحمه الله: قد تقدم القول في حكم الضيافة، وأن الأمر بها عند الجمهور على جهة الندب، لأنَّها من مكارم الأخلاق، إلَّا أن تتعين في بعض الأوقات بحسب ضرورة أو حاجة، فتجب حينئذ.
قال الجامع عفا الله عنه: قد تقدّم في كتاب الإيمان ترجيح القول بوجوبها؛ لقوّة حجته، فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق.
قال: وقد أفاد هذا الحديث أنَّها من أخلاق المؤمنين، ومما لا ينبغي لهم أن يتخلَّفوا عنها؛ لِمَا يحصل عليها من الثواب في الآخرة، ولمَا يترب عليها في الدنيا من إظهار العمل بمكارم الأخلاق، وحُسن الأحدوثة الطيبة، وطِيْب الثناء، وحصول الرَّاحة للضيف المتعوب بمشقَّات السَّفر، المحتاج إلى ما يخفِّف عليه ما هو فيه من المشقَّة، والحاجة.
ولم تزل الضيافة معمولًا بها في العرب من لدن إبراهيِم صلى الله عليه وسلم؛ لأنَّه أول من ضيَّف الضيف، وعادة مستمرة فيهم، حتى إنَّ من تركها يُذمُّ عُرْفًا، ويُبَخَّلُ ويُقَبَّحُ عليه عادة، فنحن وإن لَمْ نقل: إنَّها واجبة شرعًا فهي متعيِّنة لِمَا يحصل منها من المصالح، ويندفع بها من المضارّ عادة وعُرفًا. انتهى كلام القرطبيّ
(3)
، وقد عرفت ما في قوله: "وإن لَمْ نقل: إنها واجبة
…
إلخ"، فلا تغفل.
(1)
"الفتح" 13/ 566، كتاب "الأدب" رقم (6019).
(2)
"الفتح" 13/ 710، كتاب الأدب" رقم (6135).
(3)
"المفهم" 5/ 197 - 198.
(جَائِزَتَهُ") بالنصب على أنَّه بدل اشتمال من "ضيفه"، وقال القرطبيّ رحمه الله: و"الجائز": العطيّة، يقال: أجزته جائزة، كما تقول: أعطيته عطية. و"جائزته" هنا منصوب، إما على إسقاط لفظ حرف الجر، فكأنه قال: فليكرم ضيفه بجائزته، وإما بأن يُشْرِبَ "فليكرم" معنى "فليُعط"، فيكون مفعولًا ثانيًا لـ "يكرم". انتهى
(1)
.
ووقع في رواية البخاريّ بلفظ: "جائزته يومٌ وليلة"، فقال السهيليّ رحمه الله: رُوي "جائزته" بالرفع على الابتداء، وهو واضح، وبالنصب على بدل الاشتمال؛ أي: يكرم جائزته يومًا وليلةً. انتهى. (قَالُوا: وَمَا جَائِزَتُهُ يَا رَسُولَ اللهِ؟)"ما" استفهاميّة؛ أي: أيُّ شيء جائزة الضيف؟ (قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("يَوْمُهُ وَلَيْلَتُهُ) بالرفع على أنَّه خبر لمحذوف؛ أي: هي يومه وليلته (وَالضِّيَافَةُ ثَلَاثُ أَيَّامٍ، فَمَا كَانَ وَرَاءَ ذَلِكَ فَهُوَ صدَقَةٌ عَلَيْهِ)؛ أي: على الضيف، قال ابن بطال
(2)
: سئل عنه مالك؟ فقال: يُكرِمه ويُتحفه يومًا وليلةً، وثلاثة أيام ضيافة.
وقال القرطبيّ رحمه الله: وقوله: "وما جائزته؟ " استفهام عن مقدار الجائزة، لا عن حقيقتها، ولذلك أجابهم بقوله:"يومه وليلته"؛ أي: القيام بكرامته في يومه وليلته؛ أي: أقلّ ما يكون هذا القدر، فإنَّه إذا فعل هذا حصلت له تلك الفوائد.
قال: وفي قوله بعد ذلك: "والضيافة ثلاثة أيام" يعني بها: الكاملة التي إذا فعلها المضيف فقد وصل إلى غاية الكمال، وإذا أقام الضيف إليها لَمْ يلحقه ذمٌّ بالمقام فيها؛ فإن العادة الجميلة جاريةٌ بذلك، وأمَّا ما بعد ذلك فخارج عن هذا كله، وداخل في باب إدخال المشاقِّ والكُلَف على الْمُضيِّف، فإنَّه يتأذى بذلك من أوجه متعددة، وهو المعنى بقوله صلى الله عليه وسلم:"ولا يحل له أن يقيم عنده حتى يؤثمه"؛ أي: حتى يَشُقّ عليه، ويثقل، لا سيما مع رقة الحال، وكثرة المكلف.
وقيل: معنى "يؤثمه": يحرجه، فيقع في الإثم، وقد جاء ذلك مفسَّرًا في
(1)
"المفهم" 5/ 198.
(2)
"شرح البخاريّ" لابن بطال 9/ 309.
بعض الروايات: "حتى يحرجه"، فإن تحمَّل الْمُضِيف شيئًا من ذلك؛ فهو صدقةٌ منه على الضيف، فحقُّه أن يأنف منها، ولا يقبلها، لا سيما إن لَمْ يكن أهلًا لها، فإنَّها تَحْرُم عليه.
وقيل: معنى قوله: "جائزته يوم وليلة" أن ذلك حقّ المجتاز، ومن أراد الإقامة فثلاثة أيام.
و"جائزته" هنا: مرفوعٌ بالابتداء، وخبره:"يوم وليلة"، وقيل: لجائزة غير الضيافة، يضيفه ثلاثة أيام، ثم يعطيه ما يجوز به مسافة يوم وليلتين، قال الهرويّ: والجيزة: قدر ما يجوز به المسافر من مَنْهَل إلى مَنْهَل، وما ذكرناه أولى للمساق والمعنى. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(1)
.
وقال في "الفتح": واختلفوا هل الثلاث غير الأول، أو يُعَدّ منها؟ فقال أبو عبيد: يَتكلَّف له في اليوم الأول بالبرّ والألطاف، وفي الثاني، والثالث، يُقَدِّم له ما حضره، ولا يزيده على عادته، ثم يعطيه ما يجوز به مسافة يوم وليلة، وتسمى الجيزة، وهي قدر ما يجوز به المسافر من منهل إلى منهل، ومنه الحديث الآخر:"أجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم"، متّفقٌ عليه.
وقال الخطابيّ: معناه: أنه إذا نزل به الضيف أن يُتحفه، ويزيده في البرّ على ما بحضرته يومًا وليلةً، وفي اليومين الأخيرين يُقَدِّم له ما يحضره، فإذا مضى الثلاث فقد قضى حقّه، فما زاد عليها مما يُقَدِّمه له يكون صدقة.
وقد وقع في رواية عبد الحميد بن جعفر، عن سعيد المقبريّ، عن أبي شريح، عند أحمد، ومسلم، بلفظ:"الضيافة ثلاثة أيام، وجائزته يوم وليلة"، وهذا يدلّ على المغايرة، ويؤيد ما قال أبو عبيد.
وأجاب الطيبيّ بأنها جملة مستأنفة، بيان للجملة الأولى، كأنه قيل: كيف يكرمه؟ قال: جائزته، ولا بُدّ من تقدير مضاف؛ أي: زمان جائزته؛ أي: بِرِّه، وألطافه يوم وليلة، فهذه الرواية محمولة على اليوم الأول، ورواية عبد الحميد على اليوم الأخير؛ أي: قدر ما يجوز به المسافر ما يكفيه يومًا وليلةً، فينبغي
(1)
"المفهم" 5/ 198 - 199.
أن يحمل على هذا عملًا بالروايتين. انتهى
(1)
.
قال في "الفتح": ويَحْتَمِل أن يكون المراد بقوله: "وجائزته" بيانًا لحالة أخرى، وهي أن المسافر تارةً يقيم عند من ينزل عليه، فهذا لا يزاد على الثلاث بتفاصيلها، وتارةً لا يقيم، فهذا يعطى ما يجوز به قدر كفايته يومًا وليلةً، ولعل هذا أعدل الأوجه، والله أعلم.
(وَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا، أَوْ لِيَصْمُتْ") - بضم الميم -
(2)
، يقال: صَمَتَ صَمْتًا، من باب قتل: سكت، وصُمُوتًا، وصُماتًا، فهو صامت، وأصمته غيره، وربّما استُعمل الرباعيّ لازمًا أيضًا، قاله الفيّوميّ
(3)
.
قال القرطبيّ رحمه الله: وقوله: "فليقل خيرًا أو ليصمت": يعني: أن المصدِّق بالثواب والعقاب الْمُترتِّبَيْن على الكلام في الدَّار الآخرة لا يخلو من إحدى الحالتين: إما أن يتكلَّم بما يُحَصِّل له ثوابًا، وخيرًا فَيَغْنَم، أو يسكت عن شيء يجلُب له عقابًا وشرًّا فَيَسْلَم، وعلى هذا فتكون "أو" للتنويع والتقسيم، وقد أكثر الناس في تفصيل آفات الكلام، وهي أكثر من أن تدخل تحت حصر ونظام.
وحاصل ذلك أن آفات اللسان أسرع الآفات للإنسان، وأعظمها في الهلاك والخسران. فالأصل: ملازمة الصمت إلى أن تتحقق السلامة من الآفات، والحصول على الخيرات، فحينئذ تخرج تلك الكلمة مخطومة، وبأزمَّة التقوى مزمومة، والله تعالى وليّ التوفيق. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(4)
.
وقال في "الفتح": وهذا من جوامع الكلم؛ لأنَّ القول كله إما خير، وإما شرّ، وإما آيل إلى أحدهما، فدخل في الخير كلّ مطلوب من الأقوال: فَرْضِها، ونَدْبِها، فَأَذِن فيه على اختلاف أنواعه، ودخل فيه ما يؤول إليه، وما عدا ذلك
(1)
"الكاشف عن حقائق السنن" 9/ 2866.
(2)
هذا هو الذي أثبته في كتب اللغة: "الصحاح"، و"القاموس"، و"المصباح"، ففي كلها أنه بضمّ الميم، وأما ما قاله في "الفتح" من جواز كسر الميم، ففيه نظر، فتنبّه.
(3)
"المصباح المنير" 1/ 346 - 347.
(4)
"المفهم" 5/ 199 - 200.
مما هو شرّ، أو يؤول إلى الشرّ، فَأَمَر عند إرادة الخوض فيه بالصمت.
وقد أخرج الطبرانيُّ، والبيهقيّ في "الزهد" من حديث أبي أمامة نحو حديث الباب، بلفظ:"فليقل خيرًا؛ لِيَغْنَمَ، أو ليسكت عن شرّ؛ لِيَسْلَم".
واشتمل حديث الباب من الطريقين على أمور ثلاثة، تَجمع مكارم الأخلاق الفعلية، والقولية، أما الأولان فمن الفعلية، وأولهما يرجع إلى الأمر بالتخلي عن الرذيلة، والثاني يرجع إلى الأمر بالتحلي بالفضيلة، وحاصله: من كان حامل الإيمان فهو متصف بالشفقة على خلق الله، قولًا بالخير، وسكوتًا عن الشرّ، وفعلًا لِمَا ينفع، أو تركًا لِمَا يضرّ، وفي معنى الأمر بالصمت عدّة أحاديث.
منها: حديث أبي موسى، وعبد الله بن عمرو بن العاص:"المسلم من سَلِم المسلمون من يده ولسانه"، وقد تقدما في "كتاب الإيمان".
وللطبرانيِّ عن ابن مسعود قلت: يا رسول الله أي الأعمال أفضل؟ فذكر فيها: "أن يَسلم المسلمون من لسانك"، ولأحمد، وصححه ابن حبان، من حديث البراء، رفعه في ذكر أنواع من البرّ، قال:"فإن لَمْ تُطِق ذلك، فكُفّ لسانك إلَّا من خير"، وللترمذيّ من حديث ابن عمر:"من صمت نجا"، وله من حديثه:"كثرة الكلام بغير ذكر الله تُقسي القلب"، وله من حديث سفيان الثقفيّ: قلت: يا رسول الله، ما أكثرُ ما تخاف عليّ؟ قال:"هذا"، وأشار إلى لسانه، وللطبرانيّ مثله، من حديث الحارث بن هشام، وفي حديث معاذ، عند أحمد، والترمذيّ، والنسائيّ: أخْبِرني بعمل يُدخلني الجَنَّة، فذكر الوصية بطولها، وفي آخرها: "أَلا أُخبرك بملاك ذلك كلِّه؟ كُفّ عليك هذا، وأشار إلى لسانه
…
" الحديث، وللترمذيّ من حديث عقبة بن عامر: قلت: يا رسول الله، ما النجاة؟ قال: "أمسك عليك لسانك"
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: حديث أبي شُريح العدويّ رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه، وقد مضى تخريجه، وما يتعلّق به من المباحث في "كتاب الإيمان" مع حديث
(1)
"الفتح" 13/ 567، كتاب "الأدب" رقم (6018 - 6019).
أبي هريرة رضي الله عنه برقم [21/ 181 و 184](47 و 48)، فراجعه تستفد علمًا جمًّا، والله تعالى وليّ التوفيق.
وبالسند المتّصل إلى المؤلِّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4506]
(
…
) - (حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاء، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيّ، عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الْخُزَاعِيّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "الضِّيَافَةُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، وَجَائِزَتُهُ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ، وَلَا يَحِلُّ لِرَجُلٍ مُسْلِمٌ أَنْ يُقِيمَ عِنْدَ أَخِيهِ حَتَّى يُؤْثمَهُ"، قَالُوا: يَا رَسُولَ الله، وَكَيْفَ يُؤْثِمُهُ؟ قَالَ: "يُقِيم عِنْدَهُ، وَلَا شَيْءَ لَهُ يَقْرِيهِ بِهِ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(أَبُو كُرَيْبٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ) الْهَمْدانيّ الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 247)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 117.
2 -
(وَكِيعُ) بن الجرّاح، تقدَّم قبل بابين.
3 -
(عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرِ) بن عبد الله بن الحكم بن رافع الأنصاريّ المدنيّ، صدوقٌ رُمي بالقدر، وربّما وَهِمَ [6](ت 153)(خت م 4) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 4/ 1159.
والباقيان ذُكرا قبله.
وقوله: (وَلَا يَحِلُّ لِرَجُلٍ مُسْلِمٍ أَنْ يُقِيمَ عِنْدَ أَخِيهِ) وفي رواية البخاريّ: "ولا يحل له أن يثوي عنده"، قال ابن التين: هو بكسر الواو، وبفتحها في الماضي، وبكسرها في المضارع، وهو بمعنى "يقيم"، والثواء - بالتخفيف، والمدّ -: الإقامة بمكان معين.
وقوله: (حَتَّى يُؤْثِمَهُ) ولفظ البخاريّ: "حتى يُحرجه" بحاء مهملة، ثم جيم، من الحَرَج، وهو الضِّيق، وقال النووي: قوله: "حتى يؤثمه"؛ أي: يوقعه في الإثم؛ لأنه قد يغتابه؛ لطول مقامه، أو يُعَرِّض له بما يؤذيه، أو يظنّ به ظنًّا سيئًا، وهذا كله محمول على ما إذا لَمْ تكن الإقامة باختيار صاحب المنزل، بأن يطلب منه الزيادة في الإقامة، أو يغلب على ظنه أنه لا يكره ذلك، وهو مستفاد من قوله:"حتى يحرجه"؛ لأنَّ مفهومه إذا ارتفع الحرج أن ذلك يجوز.
وقوله: (قَالُوا: يَا رَسُولَ الله، وَكَيْفَ يُؤْثِمُهُ؟ قَالَ: "يُقِيمُ عِنْدَهُ، وَلَا شَيْءَ لَهُ يَقْرِيهِ بِهِ") - بفتح حرف المضارعة -، يقال: قريتُ الضيفَ أقريه، من باب رَمَي، قِرًى، بالكسر والقصر، والاسم: الْقَرَاءُ بالفتح والمدّ؛ أي: أضفته، والمعنى: أنه لا يجد شيئًا يقدّمه له.
قال ابن بطال: إنما كَرِه له المقام بعد الثلاث؛ لئلا يؤذيه، فتصير الصدقة منه على وجه المنّ والأذى.
وتعقَّبه الحافظ: فقال: وفيه نظر؛ فإن في الحديث: "فما زاد فهو صدقة"، فمفهومه أن الذي في الثلاث لا يسمى صدقة، فالأولى أن يقول: لئلا يؤذيه، فيوقعه في الإثم بعد أن كان مأجورًا. انتهى.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد تقدّم البحث فيه مستوفًى في "كتاب الإيمان" برقم [21/ 181][8](47) فراجعه تستفد، والله تعالى وليّ التوفيق.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أَوَّل الكتاب قال:
[4507]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَاهُ
(1)
مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ - يعني: الْحَنَفِي - حَدَّثَنَا عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا سَعِيد الْمَقْبُرِيُّ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبا شُرَيْحٍ الْخُزَاعِيَّ يَقُولُ: سَمِعَتْ أُذُنَايَ، وَبَصُرَ عَيْنِي
(2)
، وَوَعَاهُ قَلْبي، حِينَ تَكَلَّمَ بِهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَ بِمِثْلِ حَدِيثِ اللَّيْث، وَذَكَرَ فِيهِ:"وَلَا يَحِلُّ لأَحَدِكُمْ أَنْ يُقِيمَ عِنْدَ أَخِيهِ حَتَّى يُؤْثمَهُ"، بِمِثْلِ مَا فِي حَدِيثِ وَكِيعٍ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) تقدّم قريبًا.
2 -
(أبُو بَكْرٍ الْحَنَفِيُّ) عبد الكبير بن عبد المجيد، تقدّم قبل بابين.
والباقون ذُكروا قبله.
وقوله: (وَبَصُرَ عَيْنِي) وفي بعض النسخ: "وبصرت عينايَ"، و"بَصُر" - بضمّ الصاد، وكسرها -، يقال: بَصُر به، ككرُم، وفَرِحَ بَصَرًا، وبِصَارةً،
(1)
وفي نسخة: "وحدّثنا".
(2)
وفي نسخة: "وبصر عيناي".
بالفتح، ويُكسر: صار مُبْصِرًا، قاله المجد
(1)
.
وقوله: (وَوَعَاهُ قَلْبِي)؛ أي: حفظ قلبي هذا الحديث.
وقوله: (فَذَكَرَ بِمِثْلِ حَدِيثِ اللَّيْثِ) فاعل "ذَكَرَ" ضمير أبي بكر الحنفيّ.
[تنبيه]: رواية أبي بكر الحنفيّ، عن عبد الحميد بن جعفر هذه ساقها البيهقيّ في "شُعَب الإيمان"، فقال:
(9586)
- أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، قال: أنا أبو الفضل بن إبراهيم، قال: نا أحمد بن سلمة، قال: نا محمد بن المثنى، نا أبو بكر الحنفيّ، نا عبد الحميد بن جعفر، حدّثني سعيد المقبريّ، أنه سمع أبا شُريح يقول: سمعت أُذناي، وبَصُرت عيناي، ووعاه قلبي، حين تكلم به رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليكرم ضيفه، جائزته"، قالوا: وما جائزته يا رسول الله؟ قال: "يومٌ وليلة، والضيافة ثلاثة أيام، فما أطعمه سوى ذلك فهو صدقة عليه، ولا يحل لأحدكم أن يقيم عند أخيه، حتى يؤثمه"، قال: وما يؤثمه؟ قال: "يقيم عنده، ولا يجد ما يَقرِيه - وقال -: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليقل خيرًا، أو ليصمت". انتهى
(2)
، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أَوَّل الكتاب قال:
[4508]
(1727) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ (ح) وحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحٍ، أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ أَبِي الْخَيْر، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، أَنَّهُ قَالَ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّكَ تَبْعَثُنَا، فَنَنْزِلُ بِقَوْمٍ، فَلَا يَقْرُونَنَا، فَمَا تَرَى؟ فَقَالَ لَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"إِنْ نَزَلْتُمْ بِقَوْمٍ، فَأَمَرُوا لَكُمْ بِمَا يَنْبَغِي لِلضَّيْفِ فَاقْبَلُوا، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا فَخُذُوا مِنْهُمْ حَقَّ الضَّيْفِ الَّذِي يَنبغِي لَهُمْ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ) اسم أبيه سُويد، أبو رجاء المصريّ، ثقةٌ فقيه، وكان يرسل [5](ت 128)(ع) تقدم في "الإيمان" 16/ 168.
(1)
"القاموس المحيط" ص 110.
(2)
"شُعَب الإيمان" للبيهقيّ 7/ 90.
2 -
(أَبُو الْخَيْرِ) مرثد بن عبد الله الْيَزَنيّ المصريّ، ثقةٌ فقيهٌ [3](ت 90)(ع) تقدم في "الإيمان" 16/ 168.
3 -
(عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ) الْجُهنيّ الصحابيّ المشهور، أبو حمّاد، وقيل: غيره، ولي إمرة مصر لمعاوية ثلاث سنين، وكان فقيهًا فاضلًا، مات في قرب الستين (ع) تقدم في "الطهارة" 6/ 559.
والباقون تقدّموا في الباب الماضي.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه مسلسل بالمصريين من أوله إلى آخره، وقتيبة دخل مصر للأخذ عن الليث وغيره، وفيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي الْخَيْرِ) بالخاء المعجمة، والتحتانيّة: ضدّ الشرّ، واسمه مَرْثد بالمثلّثة، (عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ) الجهنيّ رضي الله عنه (أَنَّهُ قَالَ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّكَ تَبْعَثُنَا)؛ أي: ترسلنا إلى الغزو، أو نحوه، (فَنَنْزِلُ) بكسر الزاي، من باب ضرب نُزولًا، (بِقَوْمٍ، فَلَا يَقْرُونَنَا) - بفتح حرف المضارعة، وسكون القاف - من باب رَمَى، كما تقدّم قريبًا، قال في "الفتح": ووقع في رواية الأصيليّ، وكريمة:"لا يقرونا" بنون واحدة، ومنهم من شدّدها، وللترمذيّ:"فلا هم يُضيفوننا، ولا هم يؤدّون ما لنا عليهم من الحق". انتهى.
[فائدة]: قال ابن مالك رحمه الله في "شواهد التوضيح" تعليقًا على رواية من رواه: "لا يقرونا" بنون واحدة: حذفُ نون الرفع في موضع الرفع؛ لمجرّد التخفيف ثابتٌ في الكلام الفصيح، نَثْره ونَظْمه، فمن النثر قول ابن عبّاس، والمسور بن مخرمة، وعبد الرَّحمن بن الأزهر لرسول إلى عائشة رضي الله عنهما يسألونها عن الركعتين بعد العصر:"بلغنا أنك تصلّيهما"، يعني: الركعتين بعد العصر، وقولُ مسروق لها:"لِمَ تأذني له؟ "، يعني: حسّان رضي الله عنه، والأصل:"ولا يقروننا"، و"تصلّينهما"، و"لَمْ تأذنين له؟ ".
وسبب هذا الحذف كراهية تفضيل النائب على المنوب عنه، وذلك أن النون نائب عن الضمّة، والضمّة قد حُذفت لمجرّد التخفيف، كقراءة أبي عمرو
بتسكين راء {يُشْعِرُكُمْ} "، ويَأْمُرُكُمْ}، و {يَنْصُرُكُمْ} ، وكقراءة غيره:{وَبُعُولَتُهُنَّ} ، و {رُسُلنُا} بتسكين التاء، واللام، فلو لَمْ تعامَل النون بما عُوملت الضمّة من الحذف لمجرَّد التخفيف، لكان في ذلك تفضيل النائب على المنوب عنه.
ومِن حَذْفها لمجرّد التخفيف قراءة الحسن: (يوم يُدْعَوْا كلّ أناس بإمامهم)، وقراءة يحيى بن الحارث الذماريّ:(قالوا ساحران تظّاهرا)، والأصل قالوا: أنتما ساحران تتظاهران، فحُذف المبتدأ، ونون الرفع، وأُدغم التاء في الظاء، وفي قراءة الحسن أيضًا شاهد للغة "أكلوني البراغيث".
ومِنْ حَذْف النون لمجرّد التخفيف ما رواه البغوي من قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: "لا تدخلوا الجنّة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابّوا"، والأصل:"لا تدخلون"، وما ذكره أبو الفرج في "جامع المسانيد" من قول وفد عبد القيس:"وأصبحوا يعلّمونا كتاب الله".
ومن استعمال هذا الحذف في النظم قول أبي طالب [من الطويل]:
فَإِنْ سَرَّ قَوْمًا بَعْضُ مَا قَدْ صَنَعْتُمُوا
…
سَتَحْتَلِبُوهَا لَاقِحًا غَيْرَ نَاهِلِ
ومثله قول الراجز:
أَبِيتُ أَسْرِي وَتَبِيتِي تَدْلُكِي
…
وَجْهَكِ بِالْعَنْبَرِ وَالْمِسْكِ الذَّكِي
انتهى كلام ابن مالك رحمه الله
(1)
، وهو بحثٌ مهمّ جدًّا، والله تعالى أعلم.
(فَمَا تَرَى؟)"ما" استفهاميّة؛ أي: فأيَّ حكم ترى في ذلك؟ (فَقَالَ لَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنْ نَزَلْتُمْ بِقَوْمٍ، فَأَمَرُوا لَكُمْ بِمَا يَنْبَغِي لِلضَّيْفِ فَاقْبَلُوا) بوصل الهمزة، وفتح الموحّدة، من القبول، من باب تَعِبَ.
قال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "فاقبلوا" هذا أمر على جهة النَّدب للضيف بالقبول، فحقه ألا يُردَّ لما فيه مِمَّا يؤدي إلى أذى المضيف بالامتناع من إجابة دعوته، وغَمِّ قلبه بترك أكل طعامه، ولأنه ترك العمل بمكارم الأخلاق، وقد قال صلى الله عليه وسلم:"إذا دُعي أحدكم إلى طعامٍ فليُجِب عُرسًا كان أو غيره". انتهى
(2)
.
(فَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا) وفي رواية البخاريّ: "فإن أبوا"، (فَخُذُوا مِنْهُمْ) وللكشميهنيّ:"فخذوا منه"؛ أي: من مالهم، (حَقَّ الضَّيْفِ الَّذِي يَنْبَغِي لَهُمْ")؛
(1)
شواهد التوضيح" ص 170 - 173.
(2)
"المفهم" 5/ 200.
أي: للضيف، جَمَع الضمير؛ لأنَّ الضيف يُطلق على الواحد، وغيره، قال الفيّوميّ رحمه الله: الضيف: معروف، ويُطلق بلفظ واحد على الواحد وغيره؛ قال الله تعالى:{هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24)} [الذاريات: 24]؛ لأنه مصدر في الأصل، من ضافه ضَيْفًا، من باب باع: إذا نزل عنده، وتجوز المطابقة، فيقال: ضيفٌ، وضيفةٌ، وأضياف، وضِيفانٌ، وأضفته، وضيّفته: إذا أنزلته، وقَرَيته، والاسم: الضيافة، قال ثعلب: ضِفْتَهُ: إذا نزلت به، وأضفتَهُ: بالألف: إذا أنزلته عندك ضيفًا، وأَضَفْتَهُ إِضَافَةً: إذا لجأ إليك من خوف، فأجرته، واسْتَضَافَنِي، فَأَضَفْتُهُ: استجارني، فأجرته، وتَضَيَّفَنِي، فَضَيَّفْتُهُ: إذا طلب الْقِرَي، فَقَرَيتَهُ، أو استجارك، فمنعته ممن يطلبه، وأَضَافَهُ إلى الشيء إِضَافَةً: ضمّه إليه، وأماله. انتهى.
[فائدة]: قال الفيّوميّ رحمه الله: الإِضَافَةُ في اصطلاح النحاة من هذا - يعني: من الإضافة بمعنى الضمّ - لأنَّ الأول يُضَمّ إلى الثاني؛ ليكتسب منه التعريفَ، أو التخصيص. وإذا أريدَ إضافة مفردين إلى اسم فالأحسن إضافة أحدهما إلى الظاهر، وإضافة الآخر إلى ضميره، نحو غُلَامِ زيدٍ، وثَوْبِه، فهو أحسن من قولك: غُلَامُ زَيْدٍ، وثوبُ زيدٍ؛ لأنه قد يوهم أن الثاني غير الأول، ويجوز أن يكون الأول مضافًا في النية، دون اللفظ، والثاني في اللفظ والنية، نحو: غُلامُ وثوبُ زيدٍ، ورأيت غلامَ وثوبَ زيد، وهذا كثير في كلامهم إذا كان المضاف إليه ظاهرًا، فإن كان ضَميرًا وجبت الإضافة فيهما لفظًا، نحو: لك من الدرهم نصفُهُ، وَرُبُعُهُ، قاله ابن السِّكِّيت، وجماعة، ووجه ذلك أن الإضمار على خلاف الأصل؛ لأنه إنما يؤتى به للإيجاز والاختصار، وحَذْف المضاف إليه على خلاف الأصل أيضًا؛ لأنه للإيجاز والاختصار، فلوَ قيل: لك من الدرهم نِصْفُ وَرُبُعُهُ، لاجتمع على الكلمة الواحدة نَوْعَا إيجاز واختصار، وفيه تكثير لمخالفة الأصل، وهو شبيه باجتماع إعلالين على الكلمة الواحدة.
والإِضَافَةُ تكون للمُلك، نحو غُلَامِ زيدٍ، وللتخصيص نحو سرج الدابة، وحصير المسجد، وتكون مجازًا، نحو دَارِ زيدٍ لدارٍ يسكُنُهَا، ولا يَمْلِكُها، ويكفي فيها أدنى ملابسة، وقد يُحذف المضاف إليه، ويعَوَّض عنه ألف ولام؛ لفهم المعنى، نحو:{وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} [النازعات: 40] كما أي: عن هواها،
{وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ} [البقرة: 235] أي: نكاحها، وقد يحذف المضاف، ويقام المضاف إليه مقامه، إذا أُمِن اللَّبسُ. انتهى كلام الفيّوميّ رحمه الله
(1)
، وهو بحث مفيد جدًّا، والله تعالى أعلم.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "فإن لم يفعلوا فخذوا منهم حقّ الضيف": هذا مما استَدَلَّ به الليث على وجوب الضيافة، وهو ظاهرٌ في ذلك، غير أن هذا محمولٌ على ما كان في أول الإسلام من شدَّة الأمر، وقلَّة الأزواد، فقد كانت السَّرية يُخرجها النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولا يجد لها إلا مِزْوَدَي تمر، فكان أمير السَّرية يقوتهم إيَّاه، كما قد اتفق في جيش أبي عبيدة، وسيأتي.
فإذا وجب التضييف كان للضيف طلب حقه شرعًا، وإن لم يكن الحال هكذا فيَحَتَمِل أن يكون هذا الحق المأمور بأخذه هو حقُّ ما تقتضيه مكارم الأخلاق، وعادات العرب، كما قررناه، فيكون هذا الأخذ على جهة الحضِّ والترغيب بإبداء ما في الضيافة من الثواب والخير، وحُسن الأحدوثة، ونفي الذمّ، والبخل، لا على جهة الجبر والقهر؛ إذ الأصل ألا يَحِلَّ مالُ امرئ مسلم إلا بطيب قلبه، ويَحْتَمِل أن يراد بالقوم الممرور بهم أهل الذمة، فينزل بهم الضيف، فيمنعونه ما قد جُعل عليهم من التضييف، فهؤلاء يؤخذ منهم، ما جُعل عليهم من الضيافة على جهة الجبر من غير ظلمٍ ولا تعدٍّ، وقد رأى مالك سقوط ما وجب عليهم من ذلك لِمَا أحدث عليهم من الظلم، والله تعالى أعلم. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا الله عنه: لا يخفى أن ما ذهب إليه الليث من وجوب الضيافة هو الحقّ؛ لظاهر الحديث، وما تأوله به القرطبيّ لا دليل عليه، فتبصّر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
(1)
"المصباح المنير" 2/ 366 - 367.
(2)
"المفهم" 5/ 200 - 201.
أخرجه (المصنّف) هنا [4/ 4508](1727)، و (البخاريّ) في "المظالم"(2461) و"الأدب"(6137) و"الأدب المفرد"(1/ 260)، و (أبو داود) في "الأطعمة"(3752)، و (الترمذيّ) في "السير"(1589)، و (ابن ماجه) في "الأدب"، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 149)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5289)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 198)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(4/ 242)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(17/ 278)(3676)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(9/ 179 و 10/ 270) و"شعب الإيمان"(7/ 91)، و (البغويّ) في شرح السُّنّة" (3003)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان وجوب قرى الضيف، وهو المذهب الصحيح؛ لظاهر الحديث.
2 -
(ومنها): معاقبة من أبي عن أداء واجب الضيافة.
3 -
(ومنها): ما قاله في "الفتح": ظاهر هذا الحديث أن قِرَى الضيف وأجب، وأن المنزول عليه لو امتنع من الضيافة أُخذت منه قهرًا، وقال به الليث مطلقًا، وخصَّه أحمد بأهل البوادي دون القُرى.
وقال الجمهور: الضيافة سُنَّة مؤكدة، وأجابوا عن حديث الباب بأجوبة:
أحدها: حَمْله على المضطرين، ثم اختلفوا، هل يلزم المضطرّ العِوَض أم لا؟ وأشار الترمذيّ إلى أنه محمول على من طلب الشراء محتاجًا، فامتنع صاحب الطعام، فله أن يأخذه منه كُرْهًا، قال: وروي نحو ذلك في بعض الحديث مفسَّرًا.
ثانيها: أن ذلك كان في أول الإسلام، وكانت المواساة واجبةً، فلما فُتحت الفتوح نُسخ ذلك، ويدلّ على نسخه قوله في حديث أبي شُريح عند مسلم في حق الضيف:"وجائزته يوم وليلة"، والجائزة تَفَضُّل لا واجبة، وهذا ضعيف؛ لاحتمال أن يراد بالتفضل تمام اليوم والليلة، لا أصل الضيافة، وفي حديث المقدام بن معد يكرب مرفوعًا:"أيما رجل ضاف قومًا، فأصبح الضيف محرومًا، فإنَّ نَصْره حقّ على كل مسلم، حتى يأخذ بقِرى ليلته مِنْ زَرْعه، وماله"، أخرجه أبو داود، وهو محمول على ما إذا لم يظفر منه بشيء.
ثالثها: أنه مخصوص بالعمال المبعوثين لقبض الصدقات، من جهة الإمام، فكان على المبعوث إليهم إنزالهم في مقابلة عملهم الذي يتولونه؛ لأنه لا قيام لهم إلا بذلك، حكاه الخطابيّ، قال: وكان هذا في ذلك الزمان؛ إذ لم يكن للمسلمين بيت مال، فأما اليوم فأرزاق العمال من بيت المال، قال: وإلى نحو هذا ذهب أبو يوسف في الضيافة على أهل نجران خاصّةً، قال: ويدل له قوله: "إنك بعثتنا".
وتُعُقّب بأن في رواية الترمذيّ: "إنّا نمرّ بقوم".
رابعها: أنه خاص بأهل الذمة، وقد شَرَط عمر حين ضرب الجزية على نصارى الشام ضيافة من نزل بهم.
وتُعُقّب بأنه تخصيص يحتاج إلى دليل خاصّ، ولا حجة لذلك فيما صنعه عمر؛ لأنه متأخر عن زمان سؤال عقبة. أشار إلى ذلك النوويّ.
خامسها: تأويل المأخوذ، فحَكَى المازريّ عن الشيخ أبي الحسن من المالكية، أن المراد: أن لكم أن تأخذوا من أعراضهم بألسنتكم، وتَذْكُروا للناس عَيْبهم.
وتعقبه المازريّ بأن الأخذ من العِرض، وذِكر العيب نُدِب في الشرع إلى تركه، لا إلى فعله.
وأقوى الأجوبة الأول. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن لك بما ذُكر أن ما تعلّق به الجمهور لعدم الوجوب مدخول، فالحقّ هو ما ذهب إليه الليث بن سعد: من وجوب الضيافة مطلقًا؛ لظاهر الحديث هذا، ولحديث أبي شريح الماضي، وحديث أبي هريرة المتقدّم في "كتاب الإيمان"، فتبصّر بالإنصاف، والله تعالى أعلم.
4 -
(ومنها): أنه استُدِلّ به على مسألة الظفر، وهي أن يجد مال إنسان له عليه حقّ، فله أن يأخذ منه حقّه، وهذا هو القول الراجح، وبه قال الشافعيّ، فجَزَم بجواز الأخذ فيما إذا لم يمكن تحصيل الحقّ بالقاضي، كان يكون غريمه منكِرًا، ولا بيّنة له عند وجود الجنس، فيجوز عنده أخْذه إن ظَفِر به، وأخذ
(1)
"الفتح" 6/ 278 - 279، كتاب "المظالم" رقم (2461).
غيره بقدره إن لم يجده، ويجتهد في التقويم، ولا يحيف، فإن أمكن تحصيل الحق بالقاضي، فالأصح عند أكثر الشافعية الجواز أيضًا، وعند المالكية الخلاف، وجوّزه الحنفية في المِثْليّ دون المتقوَّم؛ لِمَا يخشى فيه من الحيف، واتفقوا على أن محل الجواز في الأموال لا في العقوبات البدنية؛ لكثرة الغوائل في ذلك، ومحل الجواز في الأموال أيضًا ما إذا أَمِن الغائلة، كنِسْبته إلى السرقة، ونحو ذلك. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(5) - (بَابُ الأَمْرِ بِالْمُؤَاسَاةِ بِفُضُولِ الْمَال، وَخَلْطِ الأزوَادِ إِذَا قَلَّتْ)
[4509]
(1728) - (حَدَّثَنَا شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ، حَدَّثَنَا أَبُو الأَشْهَب، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ، قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ فِي سَفَرٍ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِذْ جَاءَ رَجُلٌ عَلَى رَاحِلَةٍ لَهُ، قَالَ: فَجَعَلَ يَصْرِفُ بَصَرَهُ يَمِينًا وَشِمَالًا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ كَانَ مَعَهُ فَضْلُ ظَهْرٍ فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لَا ظَهْرَ لَهُ، وَمَنْ كَانَ لَهُ فَضْلٌ مِنْ زَادٍ فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لَا زَادَ لَهُ"، قَالَ: فَذَكَرَ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ مَا ذَكَرَ، حَتى رَأَيْنَا أَنهُ لَا حَقَّ لأَحَدٍ مِنَّا فِي فَضْلٍ).
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(شَيْبَانُ بْنُ فرُّوخَ) الأُبُلّيّ، تقدّم قريبًا.
2 -
(أَبُو الأَشْهَبِ) جعفر بن حيّان السَّعْديّ العُطارديّ البصريّ، ثقةٌ مشهور بكنيته [6](ت 165) وله (95) سنة (ع) تقدم في "الإيمان" 66/ 370.
3 -
(أَبُو نَضْرَةَ) المنذر بن مالك بن قُطَعة الْعَبديّ الْعَوَقيّ البصريّ، ثقةٌ مشهور بكنيته [3](ت 8 أو 109)(خت م 4) تقدم في "الإيمان" 6/ 127.
4 -
(أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ) سعد بن مالك بن سنان بن عُبيد الأنصاريّ
(1)
"الفتح" 6/ 278 - 279، كتاب "المظالم" رقم (2461).
الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، استُصغر بأُحد، ثم شهد ما بعدها، ومات سنة (3 أو 4 أو 65) وقيل: سنة (74)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 485.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (296) من رباعيّات الكتاب، وفيه أبو سعيد الخدريّ رضي الله عنه أحد المكثرين السبعة، روى (1170) حديثًا.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ فِي سَفَرٍ) لم يسمّ ذلك السفر، والله تعالى أعلم. (مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِذْ جَاءَ رَجُلٌ عَلَى رَاحِلَةٍ لَهُ، قَالَ: فَجَعَلَ)؛ أي: شرع، وطَفِق (يَصْرِفُ بَصَرَهُ يَمِينًا وَشِمَالًا) قال النوويّ رحمه الله: أما قوله: "فجعل يصرف بصره" فهكذا وقع في بعض النسخ، وفي بعضها:"يصرف" فقط بحذف "بصره"، وفي بعضها" "يضرب" بالضاد المعجمة، والباء، وفي رواية أبي داود وغيره: "يصرف راحلته". انتهى
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "فجعل يضرب يمينًا وشمالًا" كذا رواه ابن ماهان بالضاد المعجمة، وبالباء الموحدة من تحتها، من الضرب في الأرض؛ الذي يراد به: الاضطراب والحركة، فكأنه كان يجيء بناقته، ويذهب بها فِعْلَ المجهود الطالب، وفي كتاب أبي داود:"يضرب راحلته يمينًا وشمالًا"، وقد رواه العذريّ، فقال:"يُصرِّف يمينًا وشمالًا"، بالصاد المهملة، والفاء، من الصَّرف، ولم يذكر المصروف ما هو؟ وقد رواه السَّمرقنديّ، والصدفيُّ كذلك، وبيَّنوا المصروف، فقالوا:"يصرف بصره يمينًا وشمالًا": يعني: كان يقلب طرفه فيمن يعطيه ما يدفع عنه ضرورته، ولا تباعد بين هذه الروايات؛ إذ قد صدر من الرجل كل ذلك، ولمّا رآه النبيّ صلى الله عليه وسلم على تلك الحال أمر كل من كان عنده زيادة على قدر كفايته أن يبذله، ولا يمسكه، وكان ذلك الأمر على جهة الوجوب؛ لعموم الحاجة، وشدَّة الفاقة؛ ولذلك قال الصحابيُّ: حتى رئينا: أنَّه لا حقّ لأحد منا في فضل؛ أي: في زيادة على قدر الحاجة، وهكذا الحكم
(1)
"شرح النوويّ" 12/ 23.
إلى يوم القيامة؛ مهما نزلت حاجة، أو مجاعة، في السَّفر، أو في الحضر، وجبت المواساة بما زاد على كفاية تلك الحال، وحَرُم إمساك الفضل. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(1)
، وهو بحث مفيد جدًّا، والله تعالى أعلم.
وقال القاري: (فَجَعَلَ)؛ أي: شرع، وطَفِق (يَضْرِبُ)؛ أي: الراحلة (يَمِينًا وَشِمَالًا)؛ أي: بيمينه وشماله، أو يمينها وشمالها؛ لعجزها عن السير، وقيل: يضرب عينيه إلى يمينه وشماله؛ أي: يلتفت إليهما؛ طالبًا لمن يقضي له حاجته، (فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"مَنْ كَانَ مَعَهُ فَضْلُ ظَهْرٍ)؛ أي: زيادة مركوب عن نفسه (فَلْيَعُدْ بِهِ)؛ أي: فليرفق به (عَلَى مَنْ لَا ظَهْرَ لَهُ) فيحمله على ظهره، مِنْ عاد علينا بمعروف؛ أي: رفق بنا، كذا في "أساس البلاغة". (وَمَنْ كَانَ لَهُ فَضْلٌ مِنْ زَادٍ)؛ أي: منه، ومن دابّته (فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لَا زَادَ لَهُ")؛ أي: مقدار كفايته، ولعله صلى الله عليه وسلم اطّلع على أنه تعبان من قلّة الزاد أيضًا، أو ذكره تتميمًا، وقصدًا إلى الخير تعميمًا.
قال المظهر: أي: طفق يمشي يمينًا وشمالًا؛ أي: يسقط من التعب؛ إذ كانت راحلته ضعيفة، لم يقدر أن يركبها، فمشى راجلًا، ويَحْتَمِل أن تكون راحلته قويّة إلا أنه قد حمل عليها زاده، وأقمشته، ولم يقدر أن يركبها من ثقل حملها، فطلب له من الجيش فضل ظهر؛ أي: دابة زائدة على حاجة صاحبها.
قال الطيبيّ: في توجيهه إشكال؛ لأن "على راحلته" صفة "رجل"؛ أي: راكب عليها، وقوله:"فجعل" عطف على "جاء" بحرف التعقيب، اللهم إلا أن يُتَمَحَّل، ويقال: إنه عطف على محذوف؛ أي: فنزل، فجعل يمشي.
قال القاري: الأظهر أن يقال: التقدير: حامل متاعه على راحلته، أو "على" بمعنى "مع"، كقوله تعالى:{وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} [البقرة: 177].
قال الطيبيّ: الأوجه أن يقال: إن "يضرب" مجاز عن يلتفت، لا عن يمشي، وبهذا أيضًا يسقط الاحتمال الثاني الذي يأباه المقام، ويشهد له ما في "صحيح مسلم" - يعني: رواية: "يصرف بصره عن يمينه وشماله". قال النوويّ: "جاء رجل على راحلة، فجعل يصرف بصره يمينًا وشمالًا" هكذا في بعض النسخ، وفي
(1)
"المفهم" 5/ 201 - 202.
بعضها: "يصرف يمينًا وشمالًا" وليس فيها ذكر "بصره"، وفي بعضها:"يضرب" بالضاد المعجمة، والمعنى: يصرف بصره متعرِّضًا لشيء يدفع به حاجته.
(قَالَ) أبو سعيد رضي الله عنه: (فَذَكَرَ) النبيّ صلى الله عليه وسلم (مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ) كالثوب، والنعال، والقربة، والماء، والخيمة، والنقود، ونحوها (مَا ذَكَرَ) بالبناء للفاعل؛ أي: ما أراد أن يذكره، (حَتَّى رَأَيْنَا)؛ أي: ظننا (أَنَّهُ) الضمير للشأن؛ أي: أن الشأن، (لَا حَقَّ لأَحَدٍ مِنَّا فِي فَضْلٍ)؛ أي: في إمساك ما زاد على حاجته.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "حتى رئينا" هكذا وقعت هذه الرواية بضم الراء، وكسر ما بعدها، مبنيًّا لِمَا لم يُسمّ فاعله؛ أي: ظهر لنا، وفي بعض النسخ:"حتى رأينا" مبنيًّا للفاعل، وفي بعضها:"حتى قلنا"، من القول بمعنى الظنّ، كما في قول الشاعر [من الرجز]:
مَتَى تَقُولُ الْقُلُصَ الرَّوَاسِمَا
…
يُدْنِينَ أُمَّ قَاسِمٍ وَقَاسِمَا
(1)
والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [5/ 4509](1728)، و (أبو داود) في "الزكاة"(1663)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 34)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5419)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(2/ 3326)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 200)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 182 و 10/ 3) و"شُعَب الإيمان"(3/ 225)، و (البغويّ) في "شرح السُّنّة"(2685)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): الحثّ على الصدقة، والمواساة، والإحسان إلى الرُّفْقة، والأصحاب، والاعتناء بمصالحهم، والسعي في قضاء حاجة المحتاج.
(1)
"المفهم" 5/ 202.
2 -
(ومنها): جواز التعرّض لسؤال الناس، وإن كانت له راحلة، وعليه ثياب.
3 -
(ومنها): أمرُ كبير القوم أصحابه بمواساة المحتاج.
4 -
(ومنها): أنه يكفي في حاجة المحتاج بتعرضه للعطاء، وتعريضه من غير سؤال، وهذا معنى قوله:"فجعل يصرف بصره"؛ أي: متعرّضًا لشيء يدفع به حاجته، قاله النوويّ
(1)
.
5 -
(ومنها): مواساة ابن السبيل، والصدقة عليه، إذا كان محتاجًا، وإن كانت له راحلة، وعليه ثياب، أو كان موسرًا في وطنه، فيعطي من الزكاة في هذه الحال.
6 -
(ومنها): أن لوليّ الأمر أن يجعل التبرّع واجبًا عند الحاجة، ومثله النهي عن ادّخار لحوم الأضاحي، والنهي عن كراء الأرض، ونحو ذلك، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4510]
(1729) - (حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ يُوسُفَ الأَزْدِيُّ، حَدَّثَنَا النَّضْرُ - يعني: ابْنَ مُحَمَّدٍ الْيَمَامِيُّ - حَدَّثَنَا عِكْرِمَةُ - وَهُوَ ابْنُ عَمَّارٍ - حَدَّثَنَا إِيَاسُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ أَبِيه، قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي غَزْوَةٍ، فَأَصَابَنَا جَهْدٌ، حَتَّى هَمَمْنَا أَنْ نَنْحَرَ بَعْضَ ظَهْرِنَا، فَأَمَرَ نَبِيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَجَمَعْنَا مَزَاوِدَنَا، فَبَسَطْنَا لَهُ نِطَعًا، فَاجْتَمَعَ زَادُ الْقَوْمِ عَلَى النِّطَع، قَالَ: فَتَطَاوَلْتُ لأَحْزُرَهُ، كَمْ هُوَ؟،. فَحَزَرْتُهُ كَرَبْضَةِ الْعَنْز، وَنَحْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ مِائَةً، قَالَ: فَأَكَلْنَا حَتَّى شَبِعْنَا جَمِيعًا، ثُمَّ حَشَوْنَا جُرُبَنَا، فَقَالَ نَبِيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "فَهَلْ مِنْ وَضُوءٍ؟ "، قَالَ: فَجَاءَ رَجُلٌ، بَإِدَاوَةٍ لَهُ فِيهَا نُطْفَةٌ، فَأَفْرَغَهَا فِي قَدَحٍ، فَتَوَضَّأْنَا كُلُّنَا، نُدَغْفِقُهُ دَفْفَقَةً، أَرْبَعَ عَشْرَةَ مِائَةً، قَالَ: ثُمَّ جَاءَ بَعْدَ ذَلِكَ ثَمَانِيَةُ، فَقَالُوا: هَلْ مِنْ طَهُورٍ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "فَرِغَ الْوَضُوءُ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(أَحْمَدُ بْنُ يُوسُفَ الأَزْدِيُّ) أبو الحسن النيسابوريّ المعروف
(1)
"شرح النوويّ"12/ 23.
بحمدان، ثقةٌ حافظٌ [11](ت 264) وله (80) سنةً (م دس ق) تقدم في "المقدمة" 6/ 90.
2 -
(النَّضْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْيَمَامِيُّ) الْجُرشيّ، أبو محمد الأمويّ مولاهم، ثقةٌ له أفراد [9](خ م دت ق) تقدم في "الإيمان" 34/ 241.
3 -
(عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ) العجليّ، أبو عمار اليماميّ، بصريّ الأصل، ثقة في غير يحيى بن أبي كثير، ففيه اضطراب [5] مات قبيل الستين ومائة (خت م س ق) تقدم في "الإيمان" 12/ 155.
4 -
(إِيَاسُ بْنُ سَلَمَةَ) بن الأكوع الأسلميّ، أبو سلمة، أو أبو بكر المدنيّ، ثقةٌ [3](119) وهو ابن (77) سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 44/ 288.
5 -
(أَبُوهُ) سلمة بن عمرو بن الأكوع الأسلميّ، أبو مسلم، أو أبو إياس الصحابيّ المشهور، شَهِد بيعة الرضوان، ومات بالمدينة سنة (64)(ع) تقدم في "الإيمان" 44/ 288.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ، والابن عن أبيه، وأنه مسلسل بالتحديث.
شرح الحديث:
عَن سَلَمَةَ بن الأكوع رضي الله عنه أنه (قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي غَزْوَةٍ) لم تُسمّ، وَيحْتَمل أن تكون غزوة تبوك؛ لأنه تقدّم في "كتاب الإيمان" من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مثل هذا، وفيه: "لمّا كان غزوة تبوك أصاب الناس مجاعةٌ، قالوا: يا رسول الله لو أذنت لنا، فنحرنا نواضحنا
…
" الحديث، (فَأَصَابَنَا جَهْدٌ) بفتح الجيم: هو المشقّة، (حَتَّى هَمَمْنَا) بفتح الميم الأولى، يقال: هَمَمْتُ بالشيء هَمًّا، من باب نصر: إذا أردته، ولم تفعله
(1)
. (أَنْ نَنْحَرَ) من باب نفع، (بَعْضَ ظَهْرِنَا)؛ أي: مركوبنا، وفي رواية البخاريّ: "فأتوا النبيّ صلى الله عليه وسلم في نحر إبلهم، فأَذِن لهم، فلقيهم عمر، فأخبروه، فقال: ما بقاؤكم بعد إبلكم؟ فدخل على النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله ما بقاؤهم بعد إبلهم؟
(1)
"المصباح المنير" 2/ 641.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ناد في الناس، فيأتون بفضل أزوادهم
…
" الحديث.
فدلّ على أنه صلى الله عليه وسلم أذن لهم في نحر نواضحهم، إلا أن عمر رضي الله عنه أشار عليه صلى الله عليه وسلم بأن لا ينحروها، بل يدعو صلى الله عليه وسلم على أزوادهم حتى تحصل لهم البركة، فأجابه صلى الله عليه وسلم إلى ذلك.
(فَأَمَرَ نَبِيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم)؛ أي: بجمع الأزواد (فَجَمَعْنَا مَزَاوِدَنَا) قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في بعض النسخ، أو أكثرها، وفي بعضها:"أزوادنا"، وفي بعضها:"تزوادنا" بفتح التاء، وكسرها. (فَبَسَطْنَا لَهُ نِطَعًا) هو المتّخذ من الأديم، معروف، وفيه أربع لغات: فتح النون، وكسرها، ومع كلّ واحد فتح الطاء، وسكونها، والجمع: أنطاعٌ، ونُطُوعٌ، وأفصحهنّ كسر النون، وفتح الطاء
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "فجمعنا أزوادنا" هذه الرواية الواضحة المحفوظة، وقد وقع لبعضهم:"تزوادنا" بالتاء باثنتين من فوقها، بفتح التاء وكسرها، وهو اسم من الزاد؛ كالتِّسيار، والتمثال، ووقع لبعضهم:"مزاودنا"، والأول أوجه، وأصح. انتهى
(2)
.
(فَاجْتَمَعَ زَادُ الْقَوْمِ عَلَى النِّطَع، قَالَ) سلمة رضي الله عنه: (فَتَطَاوَلْتُ لأَحْزُرَهُ) بضمّ الزاي، وكسرها، يقال: حزرت الشيءَ حزرًا، من بابي ضرب، ونصر: إذا قدّرته، والمعنى: أنه مدّ عنقه ليقدّر مبلغ ذلك الزاد المجتمع على النطع، (كَمْ هُوَ؟ فَحَزَرْتُهُ)؛ أي: قدّرته (كَرَبْضَةِ الْعَنْزِ)؛ أي: كمَبْرَكها، أو كقَدْرها، وهي رابضة، قال القاضي عياض: الرواية بفتح الراء، وحكاه ابن دُريد بكسرها، ذكره النوويّ.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "فحزرته كربضة العَنْز"؛ أي: قَدَّرته مثل جُثَّة العنز، فحقُّه على هذا أن يكون مضموم الراء؛ لأنَّه اسم، وكذلك حفظي عمَّن أثق به، فيكون: كظُلْمة، وغُرْفة، وقد روي بكسر الراء، ذُهب فيه مذهب الهيئات، كالْجِلسة، والمشية، وقد روي بفتح الراء، وهي أبعدُها؛ لأنَّه حينئذ
(1)
"المصباح المنير" 2/ 611 بزيادة من "شرح النوويّ" 12/ 34.
(2)
"المفهم" 5/ 202 - 203.
يكون مصدرًا، ولا يُحْزَر المصدر، ولا يُقدَّر. انتهى
(1)
.
(وَنَحْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ مِائَةً)؛ أي: ألفًا وأربعة عشر شخصًا، (قَالَ) سلمة رضي الله عنه:(فَأَكَلْنَا)؛ أي: من ذلك الزاد (حَتَّى شَبِعْنَا جَمِيعًا، ثمَّ حَشَوْنَا)؛ أي: ملأنا (جُرُبَنَا) بضم الجيم، والراء، ويجوز تسكين الراء: جمع جِراب بكسر الجيم على المشهور، ويقال: بفتحها، هي الأوعية التي يُجعل فيها الزاد، وتُسمّى أيضًا مزاود. قاله النوويّ، والقرطبيّ
(2)
.
(فَقَالَ نَبِيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "فَهَلْ مِنْ وَضوءٍ؟ ") بفتح الواو؛ أي: هل يوجد ماء للوضوء؟، وقال النوويّ: الوضوء بفتح الواو، على المشهور، وحُكي ضمّها، وسبق بيانه في كتاب الطهارة"
(3)
. (قَالَ) سلمة: (فَجَاءَ رَجُلٌ بِإِدَاوَةٍ) بكسر الهمزة: الْمِطْهرة، وجمعها الأَدَاوى، بفتح الواو، (لَهُ فِيهَا نُطْفَةٌ) بضمّ النون؛ أي: قليل من الماء، قاله النوويّ رحمه الله، وقال القرطبيّ رحمه الله:"النطفة": القطرة، ومراده بها هنا: القليل من الماء، يقال: نَطَف الماء يَنْطُفُ؛ أي: قطر. انتهى
(4)
.
وقال الفيّوميّ رحمه الله: النّطْفة: ماء الرجل والمرأة، وجمعها نُطَفٌ، ونِطَاف، مثلُ بُرْمة وبُرَمٍ، وبِرَامٍ، والنُّطفة أيضًا: الماء الصافي، قلّ، أو كثُر، ولا فِعل للنطفة؛ أي: لا يُستعمل لها فعل من لفظها. انتهى
(5)
. (فَأَفْرَغَهَا فِي قَدحٍ) بفتحتين: إناء معروف، والجمع: أقداح، مثلُ سبب وأسباب، (فَتَوَضَّأْنَا كُلُّنَا) بالرفع على التوكيد، كما قال في "الخلاصة":
و"كُلًّا" اذْكُرْ فِي الشُّمُولِ و"كِلَا"
…
"كِلْتَا""جَمِيعًا" بِالضَّمِيرِ مُوصَلَا
(نُدَغْفِقُهُ دَغْفَقَةً)؛ أي: نأخذ منه، ونصبّه على أيدينا صبًّا شديدًا، قال المجد رحمه الله: دَغْفَقَ الماءَ: صبّه صبّا كثيرًا، والمطرُ: اشتدّ في بُداءته، وعَيشٌ دَغْفَقٌ: واسعٌ، وعامٌ دَغْفَقُ، ومُدَغْفِقٌ: مُخْصِبٌ. انتهى
(6)
.
(1)
"المفهم" 5/ 203.
(2)
"شرح النوويّ" 12/ 34، و "المفهم" 5/ 203.
(3)
"شرح النوويّ" 12/ 34.
(4)
"المفهم" 5/ 203.
(5)
"شرح النوويّ" 12/ 34، و"المصباح المنير" 2/ 611.
(6)
"القاموس المحيط" ص 435.
وقوله: (أَرْبَعَ عَشْرَةَ مِائَةً) خبر لمحذوف؛ أي: نحن أربع عشرة مائة.
(قَالَ) سلمة رضي الله عنه: (ثُمَّ جَاءَ بَعْدَ ذَلِكَ ثَمَانِيَةٌ)؛ أي: من الناس، (فَقَالُوا: هَلْ مِنْ طَهُورٍ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "فَرِغَ الْوَضُوءُ") بفتح الواو، كما تقدّم؛ أي: انتهى ماء الوضوء، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه هذا بهذا السياق من أفراد المصنّف رحمه الله.
وأخرجه البخاريّ رحمه الله بسياق آخر، فقال:
(2982)
- حدّثنا بشر بن مرحوم، حدّثنا حاتم بن إسماعيل، عن يزيد بن أبي عبيد، عن سلمة رضي الله عنه قال: خَفَّت أزواد القوم، وأملقوا، فأتوا النبيّ صلى الله عليه وسلم في نحر إبلهم، فَأَذِن لهم، فلقيهم عمر، فأخبروه، فقال: ما بقاؤكم بعد إبلكم؟ فدخل على النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله ما بقاؤهم بعد إبلهم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نَادِ في الناس، فيأتون بفضل أزوادهم"، فبُسِط لذلك نِطَع، وجعلوه على النِّطَع، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعا، وبَرَّك عليه، ثم دعاهم بأوعيتهم، فاحتثى الناس، حتى فرغوا، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله". انتهى
(1)
.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنف) هنا [5/ 4510](1729)، و (أبو داود) في "الزكاة"(1663)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 34)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 200)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان حسن خُلُق النبيّ صلى الله عليه وسلم، حيث اهتمّ لأصحابه، وأمرهم أن يجمعوا ما بقي من أزوادهم.
2 -
(ومنها): جواز المشورة على الإمام بالمصلحة، وإن لم يتقدّم الاستشارة منه.
(1)
"صحيح البخاريّ"2/ 879.
3 -
(ومنها): استحباب المواساة في الزاد، وجَمْعه عند قلّته.
4 -
(ومنها): جواز أكل بعضهم مع بعض في هذه الحالة، وليس هذا من الربا في شيء، وإنما هو من نحو الإباحة، وكل واحد مبيح لرُفْقته الأكل من طعامه، وسواء تحقق الإنسان أنه أكل أكثر من حصته، أو دونها، أو مثلها، فلا بأس بهذا، لكن يستحب له الإيثار، والتقلّل، لا سيما إن كان في الطعام قلّة، قاله النوويّ رحمه الله
(1)
.
5 -
(ومنها): ما قال ابن بطّال رحمه الله: استنبط منه بعض الفقهاء أنه يجوز للإمام في الغلاء إلزام من عنده ما يفضل عن قوته أن يُخرجه للبيع؛ لِمَا في ذلك من صلاح الناس
(2)
.
6 -
(ومنها): أن فيه معجزتين ظاهرتين لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهما تكثير الطعام، وتكثير الماء، هذه الكثرة الظاهرة، قال المازريّ: في تحقيق المعجزة في هذا أنه كلما أُكِل منه جزء، أو شُرب جزء خلق الله تعالى جزءًا آخر يخلفه. قال: ومعجزات النبيّ صلى الله عليه وسلم ضربان:
أحدهما: القرآن، وهو منقول تواترًا.
والثاني: مثل تكثير الطعام والشراب، ونحو ذلك، ولك فيه طريقان:
أحدهما: أن تقول: تواترت على المعنى، كتواتر جود حاتم طيئ، وحلم الأحنف بن قيس، فإنه لا يُنقَل في ذلك قصة بعينها متواترة، ولكن تكاثرت أفرادها بالآحاد حتى أفاد مجموعها تواتر الكرم، والحلم، وكذلك تواتر انخراق العادة للنبيّ صلى الله عليه وسلم بغير القرآن.
والطريق الثاني: أن تقول: إذا روى الصحابيّ مثل هذا الأمر العجيب، وأحال على حضوره فيه، مع سائر الصحابة، وهم يسمعون روايته، ودعواه، أو بلغهم ذلك، ولا ينكرون عليه، كان ذلك تصديقًا له، يوجب العلم بصحة ما قال
(3)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(1)
"شرح النوويّ" 12/ 34.
(2)
راجع: شرح البخاريّ" لابن بطال رحمه الله 5/ 144.
(3)
راجع: "شرح النوويّ 12/ 34.
31 - كِتَابُ الْجِهَادِ والسِّيَر
مسائل تتعلّق بهذه الترجمة:
(المسألة الأولى): في معنى الجهاد لغة وشرعًا:
قال في "العمدة": "الجهاد" - بكسر الجيم -: أصله في اللغة: الجُهد، وهو المشقة، وفي الشرع: بذل الجهد في قتال الكفار؛ لإعلاء كلمة الله تعالى، والجهاد في الله: بذل الجهد في إعمال النفمس وتدليلها في سبيل الشرع، والحمل عليها مخالفة النفس من الركون إلى الدَّعَة واللذات، واتباع الشهوات. انتهى
(1)
.
وقال "الفتح": "الجهاد" - بكسر الجيم - أصله لغةً: المشقة، يقال: جهدت جهادًا: بلغت المشقة، وشرعًا: بذل الجهد في قتال الكفار، ويُطلق أيضًا على مجاهدة النفس، والشيطان، والفساق، فأما مجاهدة النفس: فعلى تعلّم أمور الدين، ثم على العمل بها، ثم على تعليمها، وأما مجاهدة الشيطان: فعلى دفع ما يأتي به من الشبهات، وما يزينه من الشهوات، وأما مجاهدة الكفار: فتقع باليد، والمال، واللسان، والقلب، وأما مجاهدة الفساق: فباليد، ثم اللسان، ثم القلب.
وقد روى النسائيّ من حديث سَبْرَة - بفتح المهملة، وسكون الموحدة - ابن الفاكه - بالفاء، وكسر الكاف، بعدها هاء - في أثناء حديث طويل، قال:"فيقول - أي: الشيطان يخاطب الإنسان - تجاهد، فهو جهد النفس، والمال"، والله تعالى أعلم
(2)
.
(1)
"عمدة القاري" 14/ 78.
(2)
"الفتح" 7/ 38، كتاب "الجهاد" رقم (2782).
و"السير" - بكسر السين المهملة، وفتح التحتانية -: جمع سيرة، وأُطلق ذلك على أبواب الجهاد؛ لأنها متلقاة من أحوال النبيّ صلى الله عليه وسلم في غزواته.
(المسألة الثانية): في اختلاف أهل العلم: هل كان الجهاد أولًا فرضَ عين، أو كفاية؟
قال "الفتح": وللناس في الجهاد حالان: إحداهما: في زمن النبيّ صلى الله عليه وسلم، والأخرى بعده، فأما الأولى فأول ما شُرع الجهاد بعد الهجرة النبوية إلى المدينة اتفاقًا، ثم بعد أَن شُرع، هل كان فرض عين، أو كفاية؟ قولان مشهوران للعلماء، وهما في مذهب الشافعيّ.
وقال الماورديّ: كان عينًا على المهاجرين دون غيرهم، ويؤيده وجوب الهجرة قبل الفتح في حقّ كل من أسلم إلى المدينة؛ لنصر الإسلام.
وقال السهيليّ: كان عينًا على الأنصار دون غيرهم، ويؤيده مبايعتهم النبيّ صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة على أن يؤوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وينصروه، فيخرج من قولهما أنه كان عينًا على الطائفتين، كفايةً في حق غيرهم، ومع ذلك فليس في حق الطائفتين على التعميم، بل في حق الأنصار إذا طرق المدينة طارق، وفي حق المهاجرين إذا أريد قتال أحد من الكفار ابتداءً، ويؤيد هذا ما وقع في قصة بدر فيما ذكره ابن إسحاق، فإنه كالصريح في ذلك.
وقيل: كان عينًا في الغزوة التي يخرج فيها النبيّ صلى الله عليه وسلم دون غيرها.
والتحقيق أنه كان عينًا على من عيّنه النبيّ صلى الله عليه وسلم في حقه، ولو لم يخرج.
الحال الثاني: بعده صلى الله عليه وسلم، فهو فرض كفاية على المشهور، إلا أن تدعو الحاجة إليه، كأن يَدْهم العدوّ، ويتعيّن على من عيّنه الإمام، ويتأدى فرض الكفاية بفعله في السَّنَة مرة عند الجمهور، ومن حجتهم أن الجزية تجب بدلًا عنه، ولا تجب في السَّنَة أكثر من مرة اتفاقًا، فليكن بدلها كذلك، وقيل: يجب كلما أمكن، وهو قويّ، والذي يظهر أنه استمرّ على ما كان عليه في زمن النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى أن تكاملت فتوح معظم البلاد، وانتشر الإسلام في أقطار الأرض، ثم صار إلى ما تقدم ذِكره، والتحقيق أيضًا أن جنس جهاد الكفار متعيّن على كل مسلم، إما بيده، وإما بلسانه، وإما بماله، وإما بقلبه،
والله أعلم. انتهى ما في "الفتح"
(1)
، وهو بحث نفيسٌ، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة)
(2)
: في بيان غرض الجهاد:
(اعلم): أنه لم يُشرع الجهاد إلا لإعلاء كلمة الله عز وجل، كما قال تعالى:{هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33)} [التوبة: 33]؛ أي: ليُعلي الدين الإسلاميّ على الأديان كلها، فالهدف من تشريع الجهاد هو إعزاز الإسلام، وإعلاء كلمة الله، وكسر شوكة الكفار وأهل الظلم.
وقد تفوّه اليهود والنصارى من أهل الغرب، وأثاروا الشغب في القرن الماضي ضدّ أحكام الجهاد بأنه طريق لإكراه الناس على قبول الإسلام، وأن المسلمين قد نشروا دينهم بالسيف والسلاح، دون الحجة والبرهان، ومن أجل ذلك هجموا على بلاد الكفّار؛ ليكرهوهم بالسيف على قبول دينهم، ولم تكن عندهم دعوة للإسلام إلا بالسيف والقتال، وكلّ هذا جهل، أو تجاهل عن حقيقة الجهاد الشرعيّ، وعلاقته بالدعوة الإسلاميّة.
والواقع أن الجهاد لم يشرع لإكراه الناس على قبول الإسلام، ولكنه إنما شُرع لإقامة حكم الله في الأرض، ولكسر شوكة الكفّار التي لم تزل في التاريخ أقوى سبب لشيوع الظلم، والفتنة، والفساد، وأكبر مانع عن قبول الحقّ، والإصغاء إلى الدعوة الإسلاميّة، ولو كان الجهاد هدفه إكراه الناس على الدين لَمَا شُرعت الجزية لإنهاء الحرب، وإن مشروعيّة الجزية من أوضح الدلائل على أنه ليس إكراهًا على قبول الدين، ولم يُرو في شيء من حروب الجهاد على كثرتها عبر التاريخ أن أحدًا من الكفّار أُكره على قبول الإسلام بعدما افتتح المسلمون بلدًا من البلاد، وإنما تُرك الكفّار وما يدينون بكلّ رحابة صدر، ثم جاءت الدعوة الإسلاميّة مصحوبة بالحجة والبرهان، وبالسير الفاضلة، والأخلاق الكريمة، والأعمال الجاذبة، فتسارع الكفّار إلى الإسلام بعد اقتناعهم بحقيّته، واستيقانهم بحسن تعاليمه، دون أن يُكرههم أحد على ذلك،
(1)
"الفتح" 7/ 91 - 92، كتاب "الجهاد" رقم (2825).
(2)
من هذه المسألة الثالثة إلى آخر المسائل منقول من كتاب "تكملة فتح الملهم" 3/ 14.
وإنما شُرع الجهاد لتعلو كلمة الله على أرض الله تعالى، ويكون لها العزّ والمنعة، وليكسر شوكة الجبّارين الذين يستعبدون عباد الله بأحكامهم، وقوانينهم المنبثقة من آرائهم، ويأبون أن يقام حكم الله تعالى في أرضه، ويشيعون بقوّةِ حُكْمهم كلّ ظلم، ومنكر، وفساد.
ولكن طائفة من المنتمين إلى الإسلام المولَعين بأفكار الغرب المُغْرَمين بمبادئه ونظريّاته والمنهزمين دائمًا أمام اعتراضاته التي لا تنتهي إلى حدّ، بدل أن تفهم حقيقة الجهاد، وأن الكفّار لا يرضون منه أبدًا، جعلت تعتذر أمامهم بأعذار انهزاميّة سخيفة، وصارت تحرّف من أجلها النصوص، فتقول: إن الجهاد لم يُشرع إلا للدفاع عن الوطن الإسلاميّ ضدّ عدوّ هاجم عليه، ولا يجوز ابتداء القتال ضدّ دولة كافرة لا تهجم على دار الإسلام.
وإن هذا القول قول مبتدَع لا أصل له في الكتاب، والسُّنَّة، ولا عهد به في تاريخ الجهاد، ولا سند له في الفقه الإسلاميّ طوال أربعة عشر قرنًا، ولكنه قد انخدع به كثير من الناس في العصر الحاضر، والله تعالى المستعان
(1)
.
(المسألة الرابعة): في بيان مراحل تشريع الجهاد:
(اعلم): أن الجهاد مرّت عليه مراحل منذ بداية الإسلام، ولم يصل إلى حكمه النهائي إلا بعد مروره على تلك المراحل:
(المرحلة الأولى): هي الصبر على أذى المشركين، مع الاستمرار في دعواهم إلى الدين الحقّ، ونهي النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأصحابه رضي الله عنهم عن القتال، وقد تكرّر بيان هذه المرحلة في القرآن الكريم مدّة إقامته صلى الله عليه وسلم بمكة، فقال تعالى:{فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94)} [الحجر: 94]، وقال:{خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199)} [الأعراف: 199]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه في هذه المدّة:"إني أُمرتُ بالعفو، فلا تقاتلوا" الحديث
(2)
، أخرجه النسائيّ، والبيهقيّ، والحاكم في "المستدرك"، وقال: على شرط البخاريّ،
(1)
راجع: "تكملة فتح الملهم" 3/ 4 - 5.
(2)
حديث صحيح، أخرجه النسائيّ في "الكبرى" 3/ 3، والبيهقيّ في "الكبرى" 9/ 11، والحاكم في "المستدرك" 2/ 307.
وسكت عليه الذهبيّ. وقال القرطبيّ رحمه الله في "تفسيره": ولم يُؤذَن للنبيّ صلى الله عليه وسلم في القتال مدّة إقامته بمكة. انتهى
(1)
.
(المرحلة الثانية): إباحة القتال، دون أن يُفرض ذلك على المسلمين، وفي هذه المرحلة نزل قوله تعالى:{أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40)} [الحج: 39، 40].
قال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية: وقال غير واحد من السلف: هذه أول آية نزلت في الجهاد، واستَدَلّ بهذه الآية بعضهم على أن السورة مدنيّة. انتهى
(2)
.
(المرحلة الثالثة): فرض القتال على المسلمين لمن ابتدأهم بالقتال فقط، دون أن يبتدءوا به ضدّ أعدائهم، وفي هذه المرحلة نزل قوله تعالى في "سورة البقرة":{وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190)} [البقرة: 190]، وقوله تعالى في "سورة النساء":{فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا (90) سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (91)} .
(المرحلة الرابعة): قتال جميع الكفّار على اختلاف أديانهم، وأجناسهم ابتداءً، وإن لم يبدءوا بقتال المسلمين حتى يُسلموا، أو يدفعوا الجزية؛ كسرًا لشوكة الكفر، وإعزازًا للدين، إعلاء لكلمة الله تعالى، وبدأت هذه المرحلة بعد انقضاء أربعة أشهر من حجّ العام التاسع الذي تَرَأَّسَه أبو بكر الصدّيق رضي الله عنه، وقد وقع إعلان هذه المرحلة في ذلك الحجّ بلسان عليّ رضي الله عنه، ومن معه، وقد ذكره الله عز وجل مفصّلًا في "سورة التوبة"، وفيها يقول: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ
(1)
"الجامع لأحكام القرآن" 3/ 38.
(2)
"تفسير ابن كثير" 5/ 43.
تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)} [التوبة: 5]، وقال فيها أيضًا:{قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29)} [التوبة: 29].
وقال تعالى في "سورة الأنفال": {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39)} [الأنفال: 39].
قال الإمام الشافعيّ رحمه الله: وأنزل الله فيما يُثبّته به إذا ضاق من أذاهم: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)} [الحجرات: 97 - 99]. ففرض عليه إبلاغهم وعبادته، ولم يفرض عليه قتالهم، وأبان ذلك في غير آية من كتابه .... ثم أَذِن الله لهم بالجهاد .... ثم أذن لهم بأن يبدءوا المشركين بقتال، بمعنى أبانه في كتابه، قال الله عز وجل:{أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ} [الحج: 39]، وأباح لهم القتال بمعنى أبانه في كتابه، فقال:{وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} [البقرة: 190]، ولمّا مضت لرسول الله صلى الله عليه وسلم مدّة من هجرته أنعم الله فيها على جماعات باتباعه، حدثت لهم بها مع عون الله عز وجل قوّة بالعدد، لم يكن قبلها، ففرض الله عز وجل عليهم الجهاد بعد إذ كان إباحةً، لا فرضًا، فقال تبارك وتعالى:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ} [البقرة: 216] انتهى
(1)
.
وقال شمس الأئمة السرخسي رحمه الله في "المبسوط": وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مأمورًا في الابتداء بالصفح والإعراض عن المشركين، قال الله تعالى:{فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85)} [الحجر: 85]، وقال تعالى:{وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (106)} [الأنعام: 106] ثم أُمر بالقتال إذا كانت البداية منهم، فقال تعالى:{أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} [الحج: 39] أي: أُذن لهم في الدفع، وقال تعالى:{فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ} [البقرة: 191]، وقال تعالى:{وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} [الأنفال: 61]، ثم أمر بالبداية بالقتال، فقال تعالى:{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ}
(1)
راجع: "أحكام القرآن" للشافعيّ 2/ 9 - 19.
[البقرة: 193]، وقال تعالى:{فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أُمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم، وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله"، متّفق عليه، فاستقرّ الأمر على فرضيّة الجهاد مع المشركين، وهو فرض قائم إلى قيام الساعة. انتهى
(1)
.
وقال شيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه الله في كتابه "الجواب الصحيح لمن بدّل دين المسيح": فكان النبيّ صلى الله عليه وسلم في أول الأمر مأمورًا أن يجاهد الكفّار بلسانه، لا بيده، فيدعوهم، وَيعِظهم، ويجادلهم بالتي هي أحسن، وكان مأمورًا بالكفّ عن قتالهم؛ لِعَجْزه وعَجْز المسلمين عن ذلك، ثم لمّا هاجر إلى المدينة، وصار له بها أعوان أُذن له في الجهاد، ثم لما قووا كُتب عليهم القتال، ولم يُكتب عليهم قتال مَنْ سالَمَهم؛ لأنهم لم يكونوا يطيقون قتال جميع الكفّار، فلما فتح الله مكة، وانقطع قتال قريش ملوك العرب، ووفدت إليه وفود العرب بالإسلام، أمره الله تعالى بقتال الكفّار كلهم إلا من كان له عهد مؤقّت، وأَمَره بنبذ العهود المطلقة. انتهى
(2)
.
وبمثل ذلك قال ابن رشد في "بداية المجتهد"(1/ 371 - 372)، وابن القيّم في "زاد المعاد"(3/ 160) وغيرهم من علماء السلف.
(المسألة الخامسة): في اختلاف العلماء هل المراحل الأُوَلُ منسوخة أم لا؟:
ادّعى بعضهم أن كلّ مرحلة جديدة نَسَخت حكم ما قبلها، فالمراحل الثلاث الأول منسوخة اليوم، وإنما الباقية اليوم هي المرحلة الأخيرة، وهي الرابعة فقط.
وخالفهم آخرون، فقالوا: إن المراحل الأُوَل ليست منسوخة، وإنما هي مرتبطة بحالة مخصوصة، كلما دعت حاجة عادت أحكامها، وممن قال بهذا بدر الدين الزركشيّ رحمه الله، فإنه قال: إنه ليس في مراحل الجهاد نَسْخ، بل يُعمل
(1)
"المبسوط" لشمس الأئمة السرخسيّ 2/ 10.
(2)
"الجواب الصحيح لمن بدّل دين المسيح" 1/ 74.
بكلّ مراحله عند الحالة المشابهة للحالة التي شُرعت فيها، قال رحمه الله في كتابه "البرهان في علوم القرآن": قسَّم بعضهم النسخ من وجه آخر إلى ثلاثة أضرب
…
الثالث ما أُمر به لسبب، ثم يزول السبب، كالأمر حين الضعف، والقلّة بالصبر، والمغفرة للذين لا يرجون لقاء الله ونحوه، من عدم إيجاب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والجهاد، ونحوها، ثم نَسَخها إيجاب ذلك.
قال: وهذا ليس بنسخ في الحقيقة، وإنما هو مُنْسَأ، كما قال تعالى:{أَوْ نُنْسِهَا} [البقرة: 106]، فالمنسأ هو الأمر بالقتال إلى أن يقوى المسلمون، وفي حال الضعف يكون الحكم وجوب الصبر على الأذى، وبهذا التحقيق تبيّن ضعف ما لهج به كثير من المفسّرين في الآيات الآمرة بالتخفيف أنها منسوخة بآية السيف، وليس كذلك، بل هي من المنسأ، بمعنى أن كلّ أمر ورد يجب امتثاله في وقت ما لعلّة توجب ذلك الحكم، ثم ينتقل بانتقال تلك العلة إلى حكم آخر، وليس بنسخ، إنما النسخ الإزالة، حتى لا يجوز امتثاله أبدًا. انتهى كلام الزركشيّ رحمه الله
(1)
، وهو بحث نفيسٌ، خلاصته أنه ليس في آيات القتال نسخ، وإنما ينزّل كلّ آية في مواضعه المناسبة لها، فإذا كان حال المسلمين ضعيفًا استُعملت الحالة، وهي ترك القتال، وإذا كانت قويّة استعملت الأحوال الثلاثة بعدها، على اعتبار شدة القوة، وعدم شدّتها، والله تعالى أعلم.
(المسألة السادسة): في الفرق بين جهاد الدفع، وجهاد الابتداء من حيث الحكم:
أما جهاد الدفع ففرض عين، وذلك إذا هجم العدوّ على ثغور المسلمين، قال أبو بكر الجصّاص رحمه الله في "أحكام القرآن": ومعلوم في اعتقاد جميع المسلمين أنه إذا خاف أهل الثغور من العدوّ، ولم تكن فيهم مقاومة لهم، فخافوا على بلادهم وأنفسهم، وذراريهم أن الفرض على كافّة الأمة أن ينفر إليهم من يكفّ عاديتهم عن المسلمين، وهذا لا خلاف فيه بين الأمة؛ إذ ليس من قول أحد من المسلمين إباحة القعود عنهم حتى يستبيحوا دماء المسلمين،
(1)
"البرهان في علوم القرآن" 2/ 41 - 42.
وسبي ذراريّهم. انتهى
(1)
.
وأما جهاد الابتداء فالجمهور على أنه فرض كفاية بشرط الاستطاعة، إذا قام به بعض المسلمين سقط عن الباقين، إلا أن يتطوّعوا بذلك، وروي عن بعض الصحابة والتابعين أنهم قائلون بكونه فرض عين، كما في "فتح الباري"
(2)
، و"تفسير ابن كثير"
(3)
.
وقال الحافظ في "الفتح"
(4)
في "باب وجوب النفير": ثم بعد أن شُرع، هل كان فرض عين، أو كفاية؟ قولان مشهوران للعلماء، وهما في مذهب الشافعيّ
…
إلى آخر ما تقدّم من عبارته في المسألة الثانية، فراجعه تستفد، والله تعالى وليّ التوفيق.
(المسألة السابعة): في بيان الغرض من جهاد الابتداء:
إذا تبيّن ما تقدّم فإن جهاد الابتداء ليس إكراهًا للناس على قبول عقيدة الإسلام، وإنما هو جهد إقامة حكم الله في أرضه، وذلك أن الإسلام ليس مجموعة من العقائد والعبادات فقط شأن غيره من الأديان، وإنما هو حكم الله في جميع شئون الحياة، ودعوته دعوة انقلابيّة، لا إلى العقائد فقط، وبل وإلى إقامة العدل الذي شرعه لعباده في الأرض، ومن أهدافه إخلاء العالم من الظلم، والجور، والفساد، وإقامة العدل في الأرض بتحكيم شريعة الله فيها، وإن الإسلام غاية ما يتحمّل عن الكفّار أن يبقَوا على عقيدتهم إن أصرّوا على ذلك، ولكنه لا يرضى أبدًا أن يستعبدوا عباد الله بتحكيم قوانينهم المنبثقة عن آرائهم، وأهوائهم الفاسدة التي تستبيح الظلم والجور، أو تُشيع الخلاعة والفحشاء، أو تُفسد طباع الناس، وتسدّ مسامعهم عن قبول الحقّ والرشاد، فلذلك جعل الإسلام هدف جهاد الابتداء أحد الأمرين: إما تعتنق البلاد الكافرة الإسلام، وإما أن يؤدوا الجزية، وحينئذ يُتركون على عقيدتهم، ولكنهم لا يتركون لينفّذوا في الأرض قوانينهم على عباد الله، وإنما تكون الأرض تابعة
(1)
راجع: "أحكام القرآن" للجصّاص 3/ 114.
(2)
راجع: "الفتح" 7/ 91.
(3)
راجع: "تفسير ابن كثير" 4/ 97.
(4)
"الفتح" 7/ 91 - 92.
لحكم الله تعالى، وأحكام الإسلام، ثم يترك الكفّار، وما يدينون في حياتهم الانفراديّة، وإنما يؤدّون الجزية، وهي مبلغ يسير من المال؛ لأن الحكومة الإسلاميّة تقوم بحفظ أنفسهم، وأموالهم، وأعراضهم.
وإن هذا الهدف هو الذي بيّنه الله سبحانه وتعالى في قوله عز وجل: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39)} [الأنفال: 39].
قال الإمام ابن جرير الطبريّ رحمه الله في تفسير هذه الآية: فقاتلوهم حتى لا يكون شرك، ولا يعبد إلا الله وحده لا شريك له، فيرتفع البلاء عن عباد الله من الأرض، وهو الفتنة. انتهى
(1)
.
وهذا الهدف هو الذي باح به ربعيّ بن عامر رضي الله عنه أمام رستم حين هجم المسلمون فارس، وسأله رستم: ما جاء بكم؟ فقال: الله ابتعثنا؛ لنُخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام. ذكره ابن كثير رحمه الله في "تاريخه"
(2)
.
فإن قبل الكفّار إقامة حكم الله على العباد، وخضعوا له بأداء الجزية، فقد حصل مقصود الجهاد، وحينئذ لا يُكرهون على قبول عقيدة الإسلام على حدّ السيف والسلاح، وإنما يُتركون على عقيدتهم حتى يقتنعوا بحقيّة الإسلام، ويرغبوا بأنفسهم إلى اعتناقه بالأعين المفتوحة، وإليه يشير الله سبحانه وتعالى حيث يقول:{قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29)} [التوبة: 29].
(المسألة الثامنة): في ذكر أدلة من قَصَر الجهاد على الدفع فقط، وتفنيدها:
(اعلم): أن كلّ ما ذكرناه من حقيقة الجهاد، وأحكامه، وأهدافه مستنبط من القرآن والسُّنَّة، وأقوال السلف الصالحين، وهو الذي ظلّ المسلمون يعتقدونه في أمر الجهاد، ويعملون بمقتضاه طوال ثلاثة عشر قرنًا من تاريخهم،
(1)
"تفسير ابن جرير" 13/ 537.
(2)
"البداية والنهاية" 7/ 39.
وصارت مشروعيّة الجهاد بأقسامه كلمة إجماع فيما بينهم، لم يختلف فيه اثنان، ولا ظهر فيه رأيان.
ولكن ظهر في القرن الرابع عشر رجال أرادوا تطبيق الإسلام على النظريّات والأفكار الغربيّة، فحاولوا في كثير من المسائل أن يبتدعوا في الفقه الإسلاميّ آراء موافقة لأهواء أهل الغرب، ويُلقموها في فم النصوص الشرعيّة كُرهًا؛ إرضاء للمستعمرين، والمستشرقين وقد قال الله عز وجل:{وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (120)} [البقرة: 120].
فابتدع هؤلاء في أمر الجهاد بدعة لا سلف لهم فيها، وهي أن الجهاد في الإسلام الدفاع فقط، وأن المسلمين لا يجوز لهم أن يغزوا الكفّار لأجل إخضاعهم لسلطان الإسلام، وإعلاء كلمة الله على كلمتهم، إلا إذا سبق الكفّار بالاعتداء على المسلمين.
قال صاحب "التكملة"
(1)
: وأول ما ظهر هذا الرأي المبتدع - فيما نعلم - على أيدي تلاميذ المدرسة العقليّة الحديثة التي من أشهر رجالها المفتي محمد عبده، ورشيد رضا، وجمال الدين الأفغانيّ في البلاد العربيّة، وسر سيّد أحمد خان وجراغ علي، وأمثالهما في الهند، وقد حذا حذوهم في هذه المسألة الأستاذ شبلي النعماني صاحب "سيرة النبيّ صلى الله عليه وسلم " أيضًا، وقد تأثّر بهذا الرأي المبتدَع كثير من الكتّاب المعاصرين في البلاد الإسلاميّة، ولكن قام في الوقت نفسه فحول العلماء في كلّ بلد وقُطر للردّ على هذه النظريّة بأدلّة مقنعة، وحُجج بيّنة، لا محيص لإنكارها.
وإن أكبر ما استندوا إليه من هذا الرأي المبتدَع الآيات التي تبيح للمسلمين السلم والصلح، أو تأمرهم بالجهاد عند اعتداء الكفّار، مع أننا قد فصّلنا في تاريخ تشريع الجهاد أنها آيات مرحليّة تفيد مشروعيّة الجهاد في حالة مخصوصة، ولا تنفي مشروعيّته في حالة أخرى.
فمثلًا إنهم يستدلّون بقوله تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ
(1)
"تكملة فتح الملهم" 3/ 12.
وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190)} [البقرة: 190] مع أننا أسلفنا أن هذه الآية إنما تفيد مشروعيّة المرحلة الثالثة في بداية الإسلام حين كانت الدولة الإسلاميّة في حالة الضعف، فأوجب الله عليهم قتال من قاتلهم، دون من لم يبدأهم بالقتال، وقد جزم بذلك الإمام الشافعيّ رحمه الله في عبارته التي أسلفناها عنه.
وقال بعض آخر من المفسّرين: إنها نزلت في النساء والذريّة؛ أي: لا تقاتلوا إلا من يقاتل، وهم الرجال البالغون، أما النساء والذريّة، والرهبان، فلا يجوز قتالهم؛ لأنهم ليسوا من أهل القتال، وهذا تفسير قويّ يؤيّده نهي النبيّ صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء والولدان، وأصحاب الصوامع، راجع:"أحكام القرآن" للجصّاص رحمه الله
(1)
.
وأما قوله تعالى: {وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87)} [المائدة: 87] فالاعتداء هنا معناه كما قال المفسّرون: لا تقاتلوا على غير الدين، ولا تقاتلوا إلا من قاتل، وهم الرجال البالغون، دون النساء والذريّة، والرهبان، فإنه اعتداء، راجع "أحكام القرآن" لابن العربيّ رحمه الله
(2)
.
وربما يستدلّون بقوله تعالى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61)} [الأنفال: 61] مع أنه مسوق أيضًا لبيان الحكم في حالة ضعف المسلمين، قال ابن العربيّ رحمه الله: إن كان العدوّ كثيفًا، فإنه يجوز مهادنتهم، كما دلّت هذه الآية، فإذا كان المسلمون على عزّة وقوّة فلا صلح، قال تعالى:{فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ} [محمد: 35]
(3)
.
وقال أبو بكر الجصّاص رحمه الله: فالحال التي أمرنا بالمسامحة حال قلّة المسلمين، وكثرة عدوّهم، والحال التي أمرنا فيها بقتال المشركين، وبقتال أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية في حالة كثرة المسلمين، وقوّتهم على عدوّهم، وقد
(1)
"أحكام القرآن" للجصّاص 1/ 257.
(2)
"أحكام القرآن" لابن العربيّ 1/ 104 - 105.
(3)
"أحكام القرآن" لابن العربيّ 4/ 864.
قال تعالى: {فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ} [محمد: 35]
(1)
نهي عن المسالمة عند القوّة على قهر العدوّ.
وهناك طائفة أخرى من المفسّرين تفسّر السلم في الآية بالمصالحة على الجزية، قال القرطبيّ رحمه الله: وقيل: ليست بمنسوخة، بل أراد قبول الجزية من أهل الجزية، وقد صالح أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في زمن عمر رضي الله عنه، ومن بعده من الأئمة كثيرًا من بلاد العجم على ما أخذوه منهم، وتركوهم على ما هم فيه، وهم قادرون على استئصالهم. انتهى
(2)
.
وقد يستدلّون بقوله تعالى: {فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا (90)} [النساء: 90] مع أن هذه الآية مرحلة أيضًا، ونزلت في طائفة مخصوصة، فمن المفسّرين من قال: إنها منسوخة نسختها آية البراءة، {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} الآية [التوبة: 5]، روي ذلك عن ابن عبّاس رضي الله عنهما، كما في "تفسير ابن كثير"
(3)
، وغيره، ومنهم من قال: إنها مُحْكَمة في حقّ أفراد في جيش الكفّار، اعتزلوا عن القتال، قال ابن كثير: أي: فليس لكم أن تقاتلوهم ما دامت حالهم كذلك، وهؤلاء كالجماعة الذين خرجوا يوم بدر من بني هاشم مع المشركين، فحضروا القتال، وهم كارهون، كالعبّاس، ونحوه، ولهذا نهى النبيّ صلى الله عليه وسلم عن قتل العبّاس، وأمر بأسره.
وبالجملة فجميع الآيات التي يستدلّ بها هؤلاء متعلّقة بحالة مخصوصة في بداية الإسلام، والذي استقرّ عليه أمر الجهاد ما نزل في "سورة التوبة"، وهو قوله تعالى:{فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)} [التوبة: 5]، وقوله تعالى:{قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29)}
(1)
"أحكام القرآن" للجصّاص 4/ 864.
(2)
"الجامع لأحكام القرآن" 8/ 40.
(3)
"تفسير ابن كثير" 1/ 533.
[التوبة: 29]، وقوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123)} [التوبة: 123].
فهذه الآيات كلّها تأمر المسلمين بالابتداء بقتال الكفّار، فإنها لم تذكر سببًا لقتالهم إلا كفرهم بالله واليوم الآخر، وعدم تحريمهم ما حرّم الله، ونحو ذلك، ولم تذكر أن سبب قتالهم هو هجومهم على المسلمين، وهذه الآيات من آخر ما نزل من القرآن الكريم، فهي محكمة باقية الحكم إلى قيام الساعة، وعملًا بهذه الأحكام المحكمة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أُمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، ويؤمنوا بي، وبما جئت به، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقّها، وحسابهم على الله"، وهذا اللفظ أخرجه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه في "كتاب الإيمان"، وهذا نصّ محكم في شرعيّة جهاد الابتداء، لا يمكن حمله على جهاد الدفاع أبدًا. انتهى منقولًا من كتاب "تكملة فتح الملهم في شرح صحيح الإمام مسلم" للشيخ محمد تقيّ العثمانيّ
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(1) - (بَابُ جَوَازِ الإِغَارَةِ عَلَى الْكُفَّارِ الَّذِينَ بَلَغَتْهُمْ دَعْوَةُ الإِسْلَامِ مِنْ غَيْرِ تَقَدُّمِ الإِعْلَامِ بِالإِغَارَةِ)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4511]
(1730) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى التَّمِيمِيُّ، حَدَّثَنَا سُلَيْمُ بْنُ أَخْضَرَ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ، قَالَ: كَتَبْتُ إِلَى نَافِعٍ أَسْأَلُهُ عَنِ الدُّعَاءِ قَبْلَ الْقِتَال، قَالَ: فَكَتَبَ إِلَيَّ: إِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ فِي أَوَّلِ الإِسْلَام، قَدْ أَغَارَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى بَنِي الْمُصْطَلِق، وَهُمْ غَارُّونَ، وَأَنْعَامُهُمْ تُسْقَى عَلَى الْمَاء، فَقَتَلَ مُقَاتِلَتَهُمْ، وَسَبَى سَبْيَهُمْ، وَأَصَابَ يَوْمَئِذٍ - قَالَ يَحْيَى: أَحْسِبُهُ قَالَ -: جُوَيْرِيَةَ، أَوْ قَالَ: الْبَتَّةَ ابْنَةَ الْحَارِثِ. وَحَدَّثَني هَذَا الْحَدِيثَ عَبْدُ اللهِ بْن عُمَرَ، وَكَانَ فِي ذَاكَ الْجَيْشِ).
(1)
راجع: "تكملة فتح الملهم" 3/ 3 - 14.
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(سُلَيْمُ بْنُ أَخْضَرَ) البصريّ، ثقةٌ ضابط [8](ت 180)(م دت س) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 20/ 1308.
2 -
(ابْنُ عَوْنٍ) هو: عبد الله بن عون بن أرطبان، أبو عون البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فاضلٌ [5](ت 150) على الصحيح (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 303.
والباقون تقدّموا قبل بابين.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ، وفيه ابن عمر رضي الله عنهما من العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة.
شرح الحديث:
(عَن) عبد الله (بْنِ عَوْنٍ) أنه (قَالَ: كَتَبْتُ إِلَى نَافِعٍ) مولى ابن عمر (أَسْأَلُهُ عَنِ الدُّعَاءِ)؛ أي: عن دعاء المشركين إلى الإسلام (قَبْلَ الْقِتَال، قَالَ) ابن عون: (فَكَتَبَ إِلَيَّ: إِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ)؛ أي: الدعاء قبل القتال (فِي أَوَّلِ الإِسْلَامِ) ظاهر هذا يُفهم منه أن حكم الدعوة إلى الإسلام كان متقدّمًا، وأنه منسوخ بقضيّة بني المصطلق، وقال في "الفتح": استدَلّ نافع بهذا الحديث على نسخ الأمر بالدعاء إلى الإسلام قبل القتال. انتهى، لكن الأولى أن يُحْمَل على من بلغهم الدعوة من الكفّار، وهكذا كان حال بني المصطلق، كما يأتي تحقيقه.
وقوله: (قَدْ أَكَارَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) جملة مستأنفة سيقت تعليلًا لقوله: "إنما ذلك في أول الإسلام"، ومعنى "أغار": أرسل عليهم الغارة، وهي الخيل التي تُغير في أول النهار، (عَلَى بَنِي الْمُصْطَلِقِ) - بضم الميم، وسكون الصاد المهملة، وفتح الطاء، وكسر اللام، بعدها قاف - وبنو المصطلِق بطن شهير من خُزاعة، وهو الْمُصْطَلِق بن سعد بن عمرو بن ربيعة بن حارثة بن عمرو بن عامر، ويقال: إن المصطلِق لقب، واسمه جَذِيمة - بفتح الجيم، بعدها ذال معجمة مكسورة - وغزوة بني المصطلق، وهي غزوة المُريسيع، كما قاله البخاريّ في "صحيحه"، كانت سنة ستّ، قاله ابن إسحاق، وقيل: سنة خمس، قاله موسى بن عُقبة، وفيها كان حديث الإفك المشهور.
[تنبيه]: ذكر ابن إسحاق عن مشايخه: عاصم بن عمر بن قتادة، وغيره أنه صلى الله عليه وسلم بلغه أن بني المصطلِق يجمعون له، وقائدهم الحارث بن أبي ضِرار، فخرج إليهم حتى لقيهم على ماء من مياههم، يقال له: المريسيع قريبًا من الساحل، فزاحف الناس، واقتتلوا فهزمهم الله، وقتل منهم، ونفل رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءهم، وأبناءهم، وأموالهم.
قال الحافظ رحمه الله: كذا ذكر ابن إسحاق بأسانيد مرسلة، وحديث ابن عمر رضي الله عنهما الذي في "الصحيح": "أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أغار علي بني المصطلِق، وهم غارّون، وأنعامهم تُستقى على الماء، فقَتَل مقاتلتهم، وسبى ذراريهم
…
" الحديث يدلّ على أنه أغار عليهم على حين غفلة منهم، فأوقع بهم، فيَحْتَمِل أن يكون حين الإيقاع بهم ثبتوا قليلًا، فلما كَثُر فيهم القتل انهزموا، بأن يكون لَمّا دَهَمَهم وَهُم على الماء ثَبَتُوا، وتصافُّوا، ووقع القتال بين الطائفتين، ثم بعد ذلك وقعت الغلبة عليهم.
وقد ذكر هذه القصة ابن سعد نحو ما ذكر ابن إسحاق، وأن الحارث كان جمع جُموعًا، وأرسل عينًا تأتيه بخبر المسلمين، فظَفِروا به فقتلوه، فلما بلغه ذلك هَلَعَ، وتفرق الجمع، وانتهى النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى الماء، وهو المريسيع، فصَفّ أصحابه للقتال، ورَمَوهم بالنبل، ثم حملوا عليهم حملة واحدة، فما أفلت منهم إنسان، بل قُتِل منهم عشرة، وأُسر الباقون رجالًا، ونساة. وساق ذلك اليعمريّ في "عيون الأثر"، ثم ذكر حديث ابن عمر، ثم قال: أشار ابن سعد إلى حديث ابن عمر، ثم قال: الأول أثبت.
قال الحافظ: آخر كلام ابن سعد، والحُكم بكون الذي في السير أثبت مما في "الصحيح" مردود، ولا سيما مع إمكان الجمع، والله أعلم. انتهى كلام الحافظ رحمه الله
(1)
، وهو بحث نفيسٌ جدًّا، والله تعالى أعلم.
(وَهُمْ غَارُّونَ) - بالغين المعجمة، وتشديد الراء: جمع غارّ بالتشديد -؛ أي: غافلون؛ أي: أخذهم على غِرّة، والغِرّة بالكسر: الغفلة، والجملة في محلّ نصب على الحال، وكذا قوله:(وَأَنْعَافهُمْ) - بفتح الهمزة: جمع نَعَم -
(1)
"الفتح" 9/ 243، كتاب "المغازي" رقم (4138).
بفتحتين - وهي الإبل، والبقر، والغنم، (تُسْقَى) بالبناء للمفعول، (عَلَى الْمَاء، فَقَتَلَ مُقَاتِلَتَهُمْ)؛ أي: الرجال الصالحين للقتال، والمطيقين له، (وَسَبَى سَبْيَهُمْ) بفتح، فسكون: هم: الذراريّ، والنساء، (وَأَصَابَ يَوْمَئِذٍ)؛ أي: يوم غزوة بني المصطلِق، (قَالَ يَحْيَى) بن يحيى شيخ المصنّف:(أَحْسِبُهُ)؛ أي: أظنّ شيخي سُليم بن أخضر (قَالَ -: جُوَيْرِيَةَ) بالنصب على أنه مفعول "أصاب"، (أَوْ قَالَ الْبَتَّةَ)؛ أي: أو قال قطعًا دون تردّد، يقال: لا أفعله البتّةَ، أو بتّةً: لكل أمر لا رجعة فيه، قاله المجد رحمه الله
(1)
.
قال النوويّ رحمه الله: أما قوله: "أو البتة" فمعناه: أن يحيى بن يحيى قال: أصاب يومئذ بنت الحارث، وأظن شيخي سُلَيم بن أخضر سماها في روايته جويرية، أو أعْلَمُ ذلك، وأجزم به، وأقوله الْبَتَّةَ، وحاصله أنها جويرية فيما أحفظه إما ظنًّا، وإما علمًا، وفي الرواية الثانية قال: هي جويرية بنت الحارث بلا شك. انتهى
(2)
.
وقال القاضي عياض رحمه الله: قوله: "قال يحيى: أحسبه قال: جويرية، أو البتّة
…
إلخ": كذا روينا هذا الحرف، وكذا صوابه، ومعناه: أن يحيى بن يحيى راويه هل حقّق سماعها؟ فقال: أحسبه قال: جويرية، شكّ في هذه اللفظة في اسم جويرية، ثم غلب على ظنّه صحّة ذلك، فقال: "أو البتّة"، ولم يشكّ في قوله: "ابنة الحارث"، ويدلّ على ما ذهبنا إليه قوله في حديث محمد بن المثنّى بعده: "جويرية بنت الحارث"، ولم يشكّ، وكان يحيى بن يحيى؛ لكثرة تحرّيه كثيرًا ما يَعْرِض له الشكّ في بعض ألفاظ الحديث، ولذلك كانوا يلقبونه بالشَكّاك.
قال: وقد رأيت بعض عظماء أهل الحديث من المصنّفين سقط في هذا الحديث سقوطًا عجيبًا، قال: فضبطه في كتابه "البتّة"، وجعله اسمًا لجويرية، وهو وَهَمٌ، وتصحيفٌ لا شكّ فيه. انتهى كلام القاضي عياض رحمه الله
(3)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: وقوله: "قال يحيى: أحسبه قال: جويرية، أو قال:
(1)
"القاموس المحيط" ص 76.
(2)
"شرح النوويّ" 12/ 36.
(3)
"إكمال المعلم" 6/ 28.
ابنة الحارث"، هكذا صواب هذه الرواية، بإسقاط: "البتة"، وقد غَلِط فيها بعض النَّقلة، فظنّ: أن يحيى إنما شك في اسم ابنة الحارث، هل هو جويرية، أو البتة؟ وحمله على ذلك الأخذُ بظاهر ذلك اللفظ المصحَّف، وهو غلطٌ فاحشٌ؛ لأنه لم يذهب أحدٌ من الناس إلى أن اسم ابنة الحارث هذه: البتة، وإنما يحيى بن يحيى شكّ في سماع اسم جويرية، ثم بَتّ القضية، وحقق السَّماع لاسمها؛ بدليل قوله في الرواية الأخرى: "جويرية ابنة الحارث"، ولم يشك، والله أعلم. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(1)
.
وقوله: (ابْنَةَ الْحَارِثِ) صفة لـ"جُويرية"، فهي: جُويرية - بالجيم، مصغرًا - هي: بنت الحارث بن أبي ضِرَار - بكسر المعجمة، وتخفيف الراء - ابن الحارث بن مالك بن المصطلِق، وكان أبوها سيد قومه، وقد أسلم بعد ذلك
(2)
.
قال نافع: (وَحَدَّثَنِي هَدا الْحَدِيثَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ) بن الخطّاب رضي الله عنهما (وَكَانَ)؛ أي: عبد الله (فِي ذَاكَ الْجَيْشِ)؛ أي: جيش النبيّ صلى الله عليه وسلم الذي غزا به بني المصطلِق، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [1/ 4511](1730)، و (البخاريّ) في "العتق"(2541) و"الجهاد"(2938)، و (أبو داود) في "الجهاد"(2633)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(5/ 171)، و (الشافعيّ) في "مسنده"(1/ 314)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(6/ 477 و 7/ 380)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 31 و 32 و 51)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(1/ 262)، و (سعيد بن منصور) في "سننه"(2/ 229)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(24/ 60)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني
(1)
"المفهم" 3/ 518 - 519.
(2)
"الفتح" 6/ 373، كتاب "العتق" رقم (2541).
الآثار" (3/ 209)، و (البيهقيّ) في "الكبرى" (9/ 38 و 54 و 64 و 79 و 109)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان جواز الإغارة على الكفار الذين بلغتهم الدعوة من غير إنذار بالإغارة، وسيأتي تمام البحث في المسألة التالية - إن شاء الله تعالى -.
2 -
(ومنها): بيان جواز استرقاق العرب؛ لأن بني المصطلق عرب من خُزاعة، وهذا قول الشافعيّ في الجديد، وهو الصحيح، وبه قال مالك وجمهور أصحابه وأبو حنيفة والأوزاعيّ وجمهور العلماء، وقال جماعة من العلماء: لا يُسترقّون، وهذا قول الشافعيّ في القديم، قاله النوويّ رحمه الله
(1)
.
وقال القاضي عياض رحمه الله: وفي هذا الحديث جواز استرقاق العرب؛ لأن بني المصطلق من خُزاعة، وذكر سبيه ذراريّهم، وهو قول مالك، وعامّة أصحابه، وأن الجزية تؤخذ منهم، وقاله الأوزاعيّ، وقال ابن وهب من أصحابنا: لا تؤخذ الجزية منهم، فتأول عليه أنهم لا يُسترقّون، وحكى بعض شيوخنا ذلك عن الشافعيّ، وأبي حنيفة، والمعروف عن الشافعيّ أخذ الجزية منهم، ومَنَعها أبو يوسف، وقال مثله أبو حنيفة في أهل الأوثان منهم، قالوا: إما أن يُسلموا، أو يُقتلوا، والأحاديث كلها في بني المصطلق، وهوازن، وبني العنبر، وبني فزارة، وغيرهم تدلّ على استرقاقهم.
وبني المصطلق هؤلاء كانوا أهل كتاب على اليهوديّة، وكانوا من مجاوري المدينة بحيث بلغتهم الدعوة بغير شكّ، قال القاضي إسماعيل: أمر الله تعالى بقتال العرب عبدة الأوثان على الإسلام خاصّةً، وسائر الكفرة على الإسلام، أو الجزية.
واختُلف في نصارى العرب، هل حكمهم حكم المشركين، أو أهل الكتاب؟ قال: وكتاب الله عز وجل يشهد أنهم منهم، قال الله تعالى:{وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} الآية [المائدة: 51] انتهى
(2)
.
3 -
(ومنها): بيان عدم قتل النساء، والذرّيّة، وإنما القتال للرجال
(1)
"شرح النوويّ" 12/ 36.
(2)
"إكمال المعلم" 6/ 29 - 30.
البالغين المقاتلين، وأما النساء، والذرّيّة فيُسبَوْن، ويُسترقّون، والله تعالى أعلم.
4 -
(ومنها): ما قاله القرطبيّ رحمه الله: وقول نافع - وقد سئل عن الدعوة قبل القتال -: "أنها كانت في أول الإسلام"، واستدلاله بقضية بني المصطلِق؛ يُفْهَم منه أن حكم الدعوة كان متقدمًا، وأنه منسوخ بقضية بني المصطلق، وبه تمسَّك من قال بسقوط الدعوة مطلقًا، ومنهم من ذهب إلى أنها واجبة مطلقًا، متمسّكًا بظاهر وصية النبيّ صلى الله عليه وسلم بذلك أمراءه، ولم تصلح عنده قضية بني المصطلق لأن تكون ناسخة لذلك؛ لأن تلك الوصايا تقعيد قاعدة عامة، وقضية بني المصطلق قضية في عين؛ ولأن الوصية قول، وقضية بني المصطلق فعل، والفعل لا ينسخ القول على ما يُعرف في الأصول.
قال الجامع عفا الله عنه: قوله: "والفعل لا ينسخ القول" هذا قول مرجوح، فقد حقّقت في "التحفة المرضيّة"، و"شرحها" في الأصول أن الصحيح أن الفعل مثل القول، فيُنسخ به القول، كما يُنسخ بالقول؛ لأدلة كثيرة مذكورة هناك، فراجعها تستفد، وبالله تعالى التوفيق.
قال: والذي يجمع بين هذه الأحاديث صريح مذهب مالك، وهو أنه قال: لا يُقاتَل الكفار قبل أن يُدْعَوا، ولا تُلتمس غِرّتهم، إلا أن يكونوا ممن بلغتهم الدعوة، فيجوز أن تؤخذ غرتهم، وعلى هذا فيُحْمَل حديث بني المصطلق: على أنهم كانوا قد بلغتهم الدعوة، وعرفوا ما يطلبه المسلمون منهم، وهذا الذي صار إليه مالك هو الصحيح؛ لأن فائدة الدَّعوة أن يعرف العدو أن المسلمين لا يقاتلون للدنيا، ولا للعصبية، وإنما يقاتلون للدِّين. وإذا علموا بذلك أمكن أن يكون ذلك سببًا مُمِيلًا لهم إلى الانقياد للحق بخلاف ما إذا جهلوا مقصود المسلمين، فقد يظنون أنهم يقاتلون للفتك، وللدنيا، فيزيدون عتوًّا، وتعصبًا. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في حكم الإغارة على العدوّ قبل الإنذار:
(1)
"المفهم" 3/ 517 - 518.
قال النوويّ رحمه الله: في هذه المسألة ثلاثة مذاهب حكاها المازريّ، والقاضي عياض:
أحدها: يجب الإنذار مطلقًا، قاله مالك وغيره، وهذا ضعيف.
قال الجامع عفا الله عنه: نسبة هذا القول إلى مالك: فيه نظر؛ لأنه يعارض ما ذكره القرطبيّ، فإنه نَسب إليه أنه يقول: تجب الدعوة إلا لمن بلغته، فتجوز إغارتهم، وهو قريب من المذهب الثالث الذي صححه النوويّ، فتأمل، والله تعالى أعلم.
والثاني: لا يجب مطلقًا، وهذا أضعف منه، أو باطل.
والثالث: يجب إن لم تبلغهم الدعوة، ولا يجب إن بلغتهم، لكن يُستحب، وهذا هو الصحيح، وبه قال نافع مولى ابن عمر، والحسن البصريّ، والثوريّ، والليث، والشافعيّ، وأبو ثور، وابن المنذر، والجمهور، قال ابن المنذر: وهو قول أكثر أهل العلم. وقد تظاهرت الأحاديث الصحيحة على معناه، فمنها هذا الحديث، وحديث قتل كعب بن الأشرف، وحديث قتل ابن أبي الْحُقَيق. انتهى كلام النوويّ رحمه الله
(1)
، وهو بحث نفيسٌ.
والحاصل أن ما ذهب إليه الجمهور من وجوب الإنذار لمن لم تبلغهم الدعوة، وعدم وجوبه لمن بلغتهم، بل هو مستحبّ هو الصحيح، كما دلّت عليه الأحاديث الصحيحة، فتنبّه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4512]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ، بِهَذَا الإِسْنَاد، مِثْلَهُ، وَقَالَ: جُويرِيَةَ بِنْتَ الْحَارِث، وَلَمْ يَشُكَّ).
رجال هذا الإسناد: ثلاثة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) تقدّم قبل باب.
(1)
"شرح النوويّ" 12/ 36.
2 -
(ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ) محمد بن إبراهيم بن أبي عديّ، أبو عمرو البصريّ، ثقةٌ [9](ت 194) على الصحيح (ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 128.
و"ابن عو" هو: عبد الله، ذُكر قبله.
(17802)
- أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، ثنا أبو عبد الله محمد بن يعقوب، ثنا إبراهيم بن عبد الله، أنبأ يزيد بن هارون، أنبأ ابن عون (ح) قال: وأخبرنا أبو الفضل بن إبراهيم، ثنا أحمد بن سلمة، ثنا محمد بن بشار، ثنا محمد بن أبي عديّ، ومعاذ بن معاذ، قالا: ثنا ابن عون، قال: كتبت إلى نافع أسأله عن الدعاء قبل القتال، قال: إنما كان ذلك الدعاء في أصل الإسلام، قد أغار رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بني المصطلِق، وهم غارّون، وأنعامهم تُسْقَى على الماء، فقتل مقاتلتهم، وسبى سبيهم، وأصاب يومئذ جويرية بنت الحارث، حدّثني بهذا عبد الله بن عمر، وكان في ذلك الجيش، وفي رواية يزيد: إنما ذلك بعد الدعاء في أول الإسلام، والباقي سواء. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم.
(2) - (بَابُ تَأْمِيرِ الإِمَامِ الأُمَرَاءَ عَلَى الْبُعُوث، وَوَصِيَّتِهِ إِيَّاهُمْ بِآدابِ الْغَزْو، وَغَيْرِهَا)
[4513]
(1731) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا وَكِيعُ بْنُ الْجَرَّاح، عَنْ سُفْيَانَ (ح) وحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ: أَمْلَاهُ عَلَيْنَا إِمْلَاءً (ح) وحَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ هَاشِمٍ - وَاللَّفْظُ لَهُ - حَدَّثَنِي عَبْدُ الرحمن - يعني: ابْنَ مَهْدِيٍّ - حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ مَرْثَدٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيه، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَمّرَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ، أَوْ سَرِيَّةٍ، أَوْصَاهُ فِي خَاصَّتِهِ بِتَقْوَى الله، وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا، ثُمَّ
(1)
"سنن البيهقيّ الكبرى" 9/ 64.
قَالَ: "اغْزُوا بِاسْمِ الله، فِي سَبِيلِ الله، قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِالله، اغْزُوا، وَلَا تَغُلُّوا
(1)
، وَلَا تَغْدِرُوا، وَلَا تَمْثُلُوا، وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيدًا، وَإِذَا لَقِيتَ عَدُوَّكَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَادْعُهُمْ إِلَى ثَلَاثِ خِصَالٍ - أَوْ خِلَالٍ - فَأَيَّتُهُنَّ مَا أَجَابُوكَ، فَاقْبَلْ مِنْهُمْ، وَكُفَّ عَنْهُمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الإِسْلَام، فَإِنْ أَجَابُوكَ، فَاقْبَلْ مِنْهُمْ، وَكُفَّ عَنْهُمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى التَّحَوُّلِ مِنْ دَارِهِمْ إِلَى دَارِ الْمُهَاجِرِينَ، وَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ إِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ فَلَهُمْ مَا لِلْمُهَاجِرِينَ، وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُهَاجِرِينَ، فَإِنْ أَبَوْا أَنْ يَتَحَوَّلُوا مِنْهَا، فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ كَأَعْرَابِ الْمُسْلِمِينَ، يَجْرِي عَلَيْهِمْ حُكْمُ اللهِ الَّذِي يَجْرِي عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَلَا يَكُونُ لَهُمْ فِي الْغَنِيمَة، وَالْفَيْءِ شَيْءٌ، إِلَّا إِنْ يُجَاهِدُوا مَعَ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ هُمْ أَبَوْا، فَسَلْهُمُ الْجِزْيَةَ، فَإِنْ هُمْ أَجَابُوكَ، فَاقْبَلْ مِنْهُمْ، وَكُفَّ عَنْهُمْ، فَإِنْ هُمْ أَبَوْا، فَاسْتَعِنْ بِالله، وَقَاتِلْهُمْ، وَإِذَا حَاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ، فَأَرَادُوكَ أَنْ تَجْعَلَ لَهُمْ ذِمَّةَ الله، وَذِمَّةَ نَبِيِّه، فَلَا تَجْعَلْ لَهُمْ ذِمَّةَ الله، وَلَا ذِمَّةَ نَبِيِّه، وَلَكِنِ اجْعَلْ لَهُمْ ذِمَّتَكَ، وَذِمَّةَ أَصْحَابِكَ، فَإِنَّكُمْ أَنْ تُخْفِرُوا ذِمَمَكُمْ، وَذِمَمَ أَصْحَابِكُمْ أَهْوَنُ مِنْ أَنْ تُخْفِرُوا ذِمَّةَ الله، وَذِمَّةَ رَسُولِه، وَإِذَا حَاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ، فَأَرَادُوكَ أَنْ تُنْزِلَهُمْ عَلَى حُكْمِ الله، فَلَا تُنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِ الله، وَلَكِنْ أَنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِكَ، فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي أَتُصِيبُ حُكْمَ اللهِ فِيهِمْ، أمْ لَا؟ "، قَالَ عَبْدُ الرحمن هَذَا، أَوْ نَحْوَهُ، وَزَادَ إِسْحَاقُ فِي آخِرِ حَدِيثِهِ عَنْ يَحْيَى بْنِ آدَمَ: قَالَ: فَذَكَرْتُ هَذَا الْحَدِيثَ لِمُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ - قَالَ يَحْيَى: يعني: أَنَّ عَلْقَمَةَ يَقُولُهُ لِابْنِ حَيَّانَ - فَقَالَ: حَدَّثَنِي مُسْلِمُ بْنُ هَيْصَمٍ، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ مُقَرِّنٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم نَحْوَهُ).
رجال هذا الإسناد: عشرة:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبي شَيْبَةَ) تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
2 -
(وَكِيعُ بْنُ الْجَرَّاحِ) تقدّم قبل بابين.
3 -
(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه، تقدّم قريبًا.
(1)
وفي نسخة: "فلا تغلّوا".
4 -
(يَحْيَى بْنُ آدَمَ) بن سليمان الأمويّ مولاهم، أبو زكريّا الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ فاضلٌ، من كبار [9](ت 203)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 24.
5 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ هَاشِمِ) بن حيّان الْعَبْديّ، أبو عبد الرحمن الطُّوسيّ، سكن نيسابور، ثقةٌ صاحب حديث، من صغار [10] مات سنة بضع و (250)(م) من أفراد المصنّف تقدم في "الإيمان" 3/ 112.
6 -
(عَبْدُ الرحمن بْنُ مَهْدِيِّ) بن حسّان الْعَنْبريّ مولاهم، أبو سعيد البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ حافظٌ عارف بالرجال والحديث [9](ت 198)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 388.
7 -
(سُفْيَانُ) بن سعيد الثوريّ، تقدّم قريبًا.
8 -
(عَلْقَمَةُ بْنُ مَرْثَدٍ) الحضرميّ، أبو الحارث الكوفيّ، ثقةٌ [6](ع) تقدم في "الطهارة" 25/ 648.
9 -
(سُلَيْمَانُ بْنُ بُرَيْدَةَ) بن الْحُصيب الأسلميّ المروزيّ قاضيها، ثقةٌ [3](ت 105) وله (90) سنةً (م 4) تقدم في "الطهارة" 25/ 648.
10 -
(أَبُوهُ) بُريدة بن الحصيب الأسلميّ، أبو عبد الله، وقيل غيره، الصحابيّ المشهور، مات سنة (63)(ع) تقدم في "الإيمان" 100/ 533.
شرح الحديث:
(عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ) بُريدة بن الْحُصَيب رضي الله عنه أنه (قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَمَّرَ) بتشديد الميم، من التأمير؛ أي: جعل أحدًا (أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ) - بفتح الجيم، وسكون التحتانيّة -: الجند، أو السائرون لحرب، أو غيرها، قاله المجد
(1)
. (أَوْ سَرِيَّةٍ) بفتح السين المهملة، وتشديد التحتانيّة: هي قطعة من الجيش، تخرج منه، تُغِير، وترجع إليه، قال إبراهيم الحربيّ: هي الخيل تبلغ أربعمائة، ونحوها، قالوا: سُمِّيت سَرِيّةً؛ لأنها تَسْرِي في الليل، ويَخْفَى ذهابها، وهي فَعِيلة بمعنى فاعلة، والجمع: سَرَايا، وسريّات، مثل عطيّة، وعطايا، وعطيّات، يقال: سرى، وأسرى: إذا ذهب ليلًا، قال النوويّ رحمه الله
(2)
.
(1)
"القاموس المحيط" ص 252.
(2)
"شرح النوويّ" 12/ 37.
(أَوْصَاهُ)؛ أي: أمر ذلك الأمير، قال الفيّوميّ رحمه الله:"وأَوْصَيْتُهُ بالصلاة": أمرته بها، وعليه قوله تعالى:{ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)} [الأنعام: 153]، وقوله:{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} [النساء: 11]؛ أي: يأمركم، وفي حديبا:"خَطَبَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَوْصَى بِتَقْوَى اللهِ": معناه: أَمَرَ، فيعمّ الأمر بأيّ لفظ كان، نحو:"اتقوا الله"، و"أطيعوا الله"، وكذلك الخبرُ إذا كان فيه معنى الطلب، نحو:"لقد فاز من اتقى"، و"طُوبى لمن وسعته السُّنَّة، ولم تستهوه البدعة"، "ورَحَمَ الله من شَغَله عيبه عن عيوب الناس"، ولا يتعيّن في الخطبة "أُوصيكم"، كيف ولفظ الوصيّة مشترك بين التذكير، والاستعطاف، وبين الأمر، فيتعيّن حمله على الأمر، ويقوم مقامه كل لفظ فيه معنى الأمر. انتهى
(1)
.
(فِي خَاصَّتِهِ)؛ أي: في حقّ نفسه خصوصًا، (بِتَقْوَى اللهِ) متعلّق بـ "أوصاه"؛ أي: أَمَره بالتحرّز بطاعته من عقابه، وقوله:(وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا) معطوف على "خاصّته"؛ أي: أوصاه بالمسلمين الذين غزوا معه أن يفعل معهم خيرًا، و"خيرًا" منصوب بنزع الخافض؛ أي: بخير، قال الطيبيّ رحمه الله: و"من" في محل الجرّ، وهو من باب العطف على عاملين مختلفين، كأنه قيل: أوصى بتقوى الله في خاصة نفسه، وأوصى بخير فيمن معه من المسلمين، وفي اختصاص التقوى بخاصة نفسه، والخير بمن معه من المسلمين إشارةٌ إلى أنّ عليه أن يَشدّد على نفسه فيما يأتي، وَيذَرُ، وأن يُسَهِّل على من معه من المسلمين، وَيرْفُق بهم، كما وردة "يسِّروا، ولا تعسِّروا، وبشِّروا، ولا تنفِّروا"، متّفق عليه، وقيل:"ومن معه" مجرور عطفًا على الضمير المجرور في "خاصّته". انتهى
(2)
.
(ثُمَّ قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("اغْزُوا) بوصل الهمزة، وضمّ الزاي: أمرٌ من الغزو، يقال: غزاه غَزْوًا: أراده، وطلبه، وقصده، كاغتزاه، وغزا العدوَّ: سار إلى قتالهم، وانتهابهم غَزْوًا، وغَزَوَانًا، وغَزَاوَةً، وهو غازٍ، قاله المجد رحمه الله
(3)
،
(1)
"المصباح المنير" 2/ 662.
(2)
"الكاشف عن حقائق السنن" 8/ 2694 - 2695.
(3)
"القاموس المحيط" ص 947.
وقوله: (بِاسْمِ الله، فِي سَبِيلِ اللهِ) متعلّقان بـ "اغزوا"، ويجوز أن يكون الثاني ظرفًا، والأول حالًا، ويجوز أن يتعلّق الثاني بالحال؛ أي: اغزوا مستعينين بالله، في سبيل الله عز وجل، قاله الطيبيّ رحمه الله
(1)
، وقوله:(قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللهِ) جملة مُوضّحة لـ"اغزوا"، وأعاد قوله:(اغْزُوا) ليُعقبه بالمذكورات بعده، وهي قوله:"ولا تغلّوا".
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "قاتلوا من كفر بالله" هذا العموم يَشمَل جميع أهل الكفر، المحاربين وغيرهم، وقد خُص منه من له عهد، والرُّهبان، والنِّسوان، ومن لم يبلغ الحلم، وقد قال متصلًا به:"ولا تقتلوا وليدًا"، وإنما نُهِيَ عن قتل الرهبان، والنساء؛ لأنهم لا يكون منهم قتال غالبًا، فإن كان منهم قتال، أو تدبير، أو أذىً قُتلوا؛ ولأن الذراريّ، والأولاد مالٌ، وقد نَهَى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال. انتهى
(2)
.
(وَلَا تَغُلُّوا) وفي بعض النسخ: "فلا تغلّوا" بالفاء، وهو بضمّ الغين المعجمة، وتشديد اللام؛ أي: لا تخونوا في الغنيمة، قال الفيّوميّ: وغَلّ غُلُولًا، من باب قَعَد، وأغلّ بالألف: خان في المغنم وغيره، وقال ابن السّكّيت: لم نسمع في المغنم إلا غلّ ثلاثيًّا، وهو متعدّ في الأصل، لكن أُميت مفعوله، فلم يُنطَق به. انتهى
(3)
.
(وَلَا تَغْدِرُوا) من الغدر، وهو ضدّ الوفاء، يقال: غَدَرَهُ، وغَدَر به، كنَصَرَ، وضرب، وسَمِعَ: غَدْرًا وغَدَرانًا - محرّكةً -، قاله المجد رحمه الله
(4)
.
والمعنى: لا تنقضوا العهد، أو لا تحاربوهم قبل أن تدعوهم إلى الإسلام، (وَلَا تَمْثُلُوا) بضمّ الثاء المثلّثة؛ أي: لا تقطعوا الأطراف، قال الفيّوميّ رحمه الله: مَثَلْتُ بالقتيل مَثْلًا، من بابي قَتَلَ، وضَرَبَ: إذا جَدَعته، وظهرت آثار فِعلك عليه تنكيلًا، والتشديد مبالغة، والاسم: الْمُثْلة، وزانُ غُرْفة. انتهى
(5)
.
(1)
"الكاشف عن حقائق السنن" 8/ 2695.
(2)
"المفهم" 5/ 512.
(3)
"المصباح المنير" 2/ 452.
(4)
"القاموس المحيط" ص 938 - 939.
(5)
"المصباح المنير" 2/ 564.
وقال القرطبيّ رحمه الله: الغلول: الأخذ من الغنيمة من غير قَسْمها، والغدر: نقض العهد، والتمثيل هنا: التشويه بالقتيل؛ كَجَدْع أنفه، وأذنه، والعبث به، ولا خلاف في تحريم الغلول، والغدر، وفي كراهة الْمُثلة. انتهى
(1)
.
(وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيدًا)؛ أي: طفلًا صغيرًا، (وَإِذَا لَقِيتَ) بكسر القاف، والخطاب لأمير الجيش، قال الطيبيّ رحمه الله: هو من باب تلوين الخطاب، خاطب أوّلًا عامًّا، فدخل فيه الأمير دخولًا أوّليًّا، ثم خصّ الخطاب به، فدخلوا فيه على سبيل التبعيّة، كقوله تعالى:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ} [الطلاق: 1] خصّ النبيّ صلى الله عليه وسلم بالنداء، وعمّ بالخطاب. انتهى
(2)
.
(عَدُوَّكَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَادْعُهُمْ إِلَى ثَلَاثِ خِصَالٍ - أَوْ خِلَالٍ -)"أو" للشكّ من الراوي، والخصال، والخلال بكسر أولهما: جمع خَصْلة، وخَلّة، بمعنى واحد، والمراد بها هنا ثلاثة أمور.
(فَأَيَّتُهُنَّ) بالرفع، والضمير للخصال المدعوّ إليها، (مَا) زائدة، (أَجَابُوكَ)؛ أي: قَبِلها منك، وقوله:(فَاقْبَلْ مِنْهُمْ) جزاء الشرط، (وَكُفَّ عَنْهُمْ) بضمّ الكاف، ويجوز تثليث الفاء: أمرٌ من كفّ يكُفّ، من باب نصر: إذا ترك؛ أي: اترك قتالهم.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم، وكُفّ عنهم" قيَّدناه عمن يوثق بعلمه، وتقييده، بنصب "أيتَهنَّ" على أن يعمل فيها "أجابوك" على إسقاط حرف الجرّ، و"ما" زائدة، ويكون تقدير الكلام: فإلى أيتهنّ أجابوك فاقبل منهم، كما تقول: أُجيبك إلى كذا، أو في كذا، فيتعدى إلى الثاني بحرف الجرِّ. انتهى
(3)
.
(ثُمَّ) إذا عرفت ما ذُكر من الخصال على وجه الإجمال، فاعلمها على وجه التفصيل، فـ (ادْعُهُمْ) أوّلًا (إِلَى الإِسْلَامِ) قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في جميع نسخ "صحيح مسلم": "ثم ادعهم" بـ "ثمّ"، قال القاضي عياض رحمه الله
(1)
"المفهم" 5/ 512.
(2)
"الكاشف عن حقائق السنن" 8/ 2695.
(3)
"المفهم" 5/ 513.
صواب الرواية: "ادعهم" بإسقاط "ثُمّ"، وقد جاء بإسقاطها على الصواب في كتاب أبي عبيد، وفي سنن أبي داود، وغيرهما؛ لأنه ابتداء تفسير للخصال الثلاث، وليس غيرها، وقال المازريّ: ليست "ثُمّ" هنا زائدة، بل دخلت لاستفتاح الكلام، والأخذ فيه. انتهى
(1)
.
قال الطيبيّ رحمه الله بعد ذكر كلام المازريّ ما حاصله: أقول: تحرير قول المازريّ: إن الخصال الثلاث: هي الإسلام، وإعطاء الجزية، والمقاتلة، فقوله:"ثم ادعهم إلى الإسلام" إشارة إلى الخصلة الأولى، وقوله:"ثم ادعهم إلى التحوّل" إلى قوله: "إلا أن يجاهدوا مع المسلمين" متفرع على هذه الخصلة، وقوله:"فإن أبوا، فَسَلْهم الجزية" بيان للخصلة الثانية، وقوله:"فإن هم أبوا، فاستعن" إشارة إلى الخصلة الثالثة، فعلى هذا قوله:"ثم ادعهم" مكرّر زِيْدَ لمزيد التقرير، وليُنبّه على أن الدعوة إلى الإسلام هي المطلوبة الأوليّة، وأشرف الخصال، ونظيره في التكرير قوله تعالى حكاية عن نوح عليه السلام:{رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا} إلى قوله: {ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (8)} [نوح: 5 - 8] قصد بقوله: {لَيْلًا وَنَهَارًا} اشتمال دعوته على الأزمنة كلها، وبقوله:{جِهَارًا} و {إِسْرَارًا} كيفيّة دعوته في الأزمنة، وبتكرار "ثمّ" والدعاء التلويحَ إلى التفاوت بين الأحوال. انتهى
(2)
.
(فَإِنْ أَجَابُوكَ، فَاقْبَلْ مِنْهُمْ، وَكُفَّ عَنْهُمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى التَّحَوُّلِ)؛ أي: الانتقال (مِنْ دَارِهِمْ)؛ أي: من بلاد الكفر (إِلَى دَارِ الْمُهَاجِرِينَ)؛ أي: إلى دار الإسلام، وهذا من توابع الخصلة الأولى، قيل: إن الهجرة كانت من أركان الإسلام قبل فتح مكة.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "إلى دار المهاجرين" يعني: المدينة، وكان هذا في أول الأمر، في وقت وجوب الهجرة إلى المدينة على كل من دخل في الإسلام، أو على أهل مكة خاصة، في ذلك خلاف، وهذا يدلّ على أن الهجرة كانت واجبة على كل من آمن من أهل مكة وغيرها. انتهى
(3)
.
(1)
"شرح النوويّ" 12/ 38.
(2)
"الكاشف عن حقائق السنن" 8/ 2695 - 2696.
(3)
"المفهم" 5/ 513.
(وَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ إِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ)؛ أي: التحوّل المذكور، (فَلَهُمْ مَا لِلْمُهَاجِرِينَ)؛ أي: حصول الثواب والأجر، واستحقاق مال الفيء، وذلك الاستحقاق كان في زمنه صلى الله عليه وسلم، فإنه كان يُنفق على المهاجرين من حين الخروج إلى الجهاد في أيّ وقت أمرهم الإمام، سواء كان من بإزاء العدوّ كافيًا أو لا، بخلاف غير المهاجرين، فإنه لا يجب الخروج عليهم إلى الجهاد إن كان من بإزاء العدوّ من به الكفاية، وهذا معنى قوله:(وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُهَاجِرِينَ)؛ أي: من الغزو، (فَإِنْ أَبوْا أَنْ يَتَحَوَّلُوا مِنْهَا)؛ أي: من دارهم، (فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ كَأَعْرَابِ الْمُسْلِمِينَ)؛ أي: الذين لازموا أوطانهم في البادية، لا في دار الكفر، (يَجْرِيِ) بالبناء للفاعل، أو المفعول؛ أي: يمضي (عَلَيْهِمْ حُكْمُ اللهِ الَّذِي يَجْرِي عَلَى الْمُؤْمِنِينَ)؛ أي: من وجوب الصلاة، والزكاة، وغيرهما (وَلَا يَكُونُ لَهُمْ فِي الْغَنِيمَة، وَالْفَيْءِ شَيْءٌ، إِلَّا أَنْ يُجَاهِدُوا مَعَ الْمُسْلِمِينَ) قال النوويّ رحمه الله: معنى هذا الحديث: أنهم إذا أسلموا استُحِبّ لهم أن يهاجروا إلى المدينة، فإن فعلوا ذلك كانوا كالمهاجرين قبلهم في استحقاق الفيء، والغنيمة، وغير ذلك، وإلا فهم أعرابٌ كسائر أعراب المسلمين الساكنين في البادية، من غير هجرة، ولا غَزْوٍ، فتُجْرَى عليهم أحكام الإسلام، ولا حقّ لهم في الغنيمة والفيء، وإنما يكون لهم نصيب من الزكاة، إن كانوا بصفة استحقاقها.
قال الشافعيّ رحمه الله: الصدقات للمساكين ونحوهم ممن لا حقّ له في الفيء، والفيءُ للأجناد، قال: ولا يُعطَى أهل الفيء من الصدقات، ولا أهل الصدقات من الفيء، واحتَجّ بهذا الحديث.
وقال مالك، وأبو حنيفة: المالان سواء، ويجوز صرف كلّ واحد منهما إلى النوعين.
وقال أبو عبيد: هذا الحديث منسوخ، قال: وإنما كان هذا الحُكم في أول الإسلام لمن لم يهاجر، ثم نُسخ ذلك بقوله تعالى:{وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} الآية [الأنفال: 75] قال النوويّ: وهذا الذي ادّعاه أبو عبيد لا يُسَلَّم له. انتهى
(1)
.
(1)
"شرح النوويّ" 12/ 38 - 39.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء؛ إلا أن يجاهدوا مع المسلمين"؛ يعني: أن من أسلم ولم يجاهد، ولم يهاجر لا يُعطى من الخمس، ولا من الفيء شيئًا، وهذا يتمشى على مذهب مالك في قسمة الخمس، والفيء؛ إذ يرى أن ذلك موكول لاجتهاد الإمام، يضعه حيث يراه من المصالح الضرورية، والأمور المهمة، ومنافع المسلمين العامَّة، ويُؤثِر فيه الأحوج، فالأحوج، والأهم فالأهم، ولا شك أن المهاجرين كانوا في ذلك الوقت أولى به من غيرهم من المسلمين الذين لم يهاجروا، وأقاموا في بلادهم، فإن المهاجرين خرجوا من بلادهم، وأموالهم لله تعالى، ووصلوا إلى المدينة فقراء، ضعفاء، غرباء، فلا شك في أنهم الأَولى.
قال القاضي عياض: ولذلك كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يُؤثِرهم بالخُمس على الأنصار غالبًا، إلا أن يحتاج أحدٌ من الأنصار، وقد أخذ الشافعي بهذا الحديث في الأعراب، فلم ير لهم شيئًا من الفيء، وإنما لهم الصدقة المأخوذة من أغنيائهم، وتُردّ على فقرائهم، كما أن أهل الجهاد وأجناد المسلمين لا حق لهم في الصدقة عنده، ويُصرف كل مال في أهله، وسوَّى مالك وأبو حنيفة بين المالين، وجوَّزا صرفهما للصنفين، وذهب أبو عبيدة: إلى أن هذا الحديث منسوخ، وأن هذا كان حُكم من لم يهاجِر أولًا، في أنه لا حق له في الفيء، ولا في الموالاة للمهاجر، ولا موارثته، قال الله تعالى:{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [الأنفال: 72]، ثم نُسخ ذلك بقوله تعالى:{وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} [الأنفال: 75]، وبقوله صلى الله عليه وسلم بعد فتح مكة:"لا هجرة، ولكن جهاد ونيّة"، وبقوله صلى الله عليه وسلم:"المؤمنون تتكافؤ دماؤهم، وهم يدٌ واحدة على من سواهم"، وهذا فيه بُعْد، وسيأتي بيان حكم الخمس والفيء والغنيمة، إن شاء الله تعالى، قال: ومَحْمِل الحديث عند أصحابنا المالكيين على ما تقدَّم من مذهب مالك رحمه الله. انتهى
(1)
.
وقوله: (فَإِنْ هُمْ أَبَوْا) هو من باب ما أُضمر عامه على شريطة التفسير، وهو يفيد المبالغة؛ لتكرير الإسناد؛ أي: فإن امتنعوا عن الإسلام (فَسَلْهُمُ) أمرٌ
(1)
"المفهم" 5/ 514 - 515.
من سال يسأل، من باب خاف يخاف، ويقال في المثنّى: سلا، وفي الجمع: سلوا على غير قياس؛ لأن قياسه أن يقال: سالا، وسالوا، كقولهم: خافا، وخافوا، وتقول: سِلْته بكسر السين، وهما يتساولان، ويَحْتَمِل أن يكون "فسلهم" أمرًا من سأل يسأل بالهمزة، فحُذف للتخفيف
(1)
. (الْجِزْيَةَ) بكسر الجيم، وسكون الزاي، هو: ما يؤخذ من أهل الذمّة، والجمع جِزًى، ومثلُ سِدْرَةٍ وسِدَرٍ
(2)
، وهذا إشارة إلى الخصلة الثانية. (فَإِنْ هُمْ أَجَابُوكَ، فَاقْبَلْ مِنْهُمْ) الجزية، (وَكُفَّ عَنْهُمْ) عن قتالهم.
قال القرطبيّ رحمه الله: فيه حجَّة لمالك، وأصحابه، والأوزاعيّ، في أخذ الجزية من كل كافر، عربيًّا كان أو غيره، كتابيًّا كان أو غيره، وذهب أبو حنيفة: إلى أنها تُقبل من الجميع إلا من مشركي العرب، ومجوسهم، وهو قول عبد الملك، وابن وهب من أصحابنا، وقال الشافعيّ رحمه الله: لا تُقبل إلا من أهل الكتاب - عربًا كانوا أو عجمًا -، ولا تُقبل من غيرهم، والمجوس عنده أهل كتاب. انتهى
(3)
.
قال الجامع عفا الله عنه: سيأتي أن ما ذهب إليه الأولون من مشروعيّة أخذ الجزية من كلّ كافر، هو الأرجح؛ لهذا الحديث، وسيأتي الجواب عما احتجّ به الشافعيّ رحمه الله من الآية، والحديث، فتنبّه.
(فَإِنْ هُمْ أَبَوْا)؛ أي: امتنعوا عن قبول الجزية، بعد امتناعهم عن الإسلام، (فَاسْتَعِنْ بِالله، وَقَاتِلْهُمْ) إشارة إلى الخصلة الثالثة، (وَإِذَا حَاصَرْتَ)؛ أي: أحطت بهم، ومنعتهم من التصرّف، يقال: حصره العدوُّ حصرًا، من باب قتل: أحاطوا به، ومنعوه من المضيّ لأمره، وقال ابن السّكّيت، وثعلب: حَصَرَهُ العدوُّ في منزله: حبسه، وأحصره المرضُ بالألف: منعه من السفر، وقال الفرّاء: هذا كلام العرب، وعليه أهل اللغة، وقال ابن القُوطِيّة، وأبو عمرو الشيبانيّ: حصره العدوّ، والمرضُ، وأحصره كلاهما بمعنى حبسه، ذكره الفيّومي
(4)
. (أَهْلَ حِصْنٍ) بكسر الحاء، وسكون الصاد المهملتين: هو المكان
(1)
راجع: "المصباح المنير" 1/ 297.
(2)
"المصباح المنير" 1/ 100 - 101.
(3)
"المفهم" 5/ 515.
(4)
"المصباح المنير" 1/ 138.
الذي لا يُقْدَرُ عليه؛ لارتفاعه، وجمعه حُصُونٌ
(1)
. (فَأَرَادُوكَ)؛ أي: طلبوا منك (أَنْ تَجْعَلَ لَهُمْ ذِمَّةَ اللهِ) تعالى (وَذِمَّةَ نَبِيِّهِ) صلى الله عليه وسلم؛ أي: عهدهما، وأمانهما، (فَلَا تَجْعَلْ لَهُمْ ذِمَّةَ اللهِ) تعالى (وَلَا ذِمَّةَ نَبِيِّهِ) صلى الله عليه وسلم؛ أي: لا بالاجتماع، ولا بالانفراد، (وَلَكِنِ اجْعَلْ لَهُمْ ذِمَّتَكَ، وَذِمَّةَ أَصْحَابِكَ) ثم علّل ذلك بقوله: (فَإِنَّكُمْ أَنْ تُخْفِرُوا) بالخاء المعجمة، والفاء، مبنيًّا للفاعل، من الإخفار رباعيًّا؛ أي: تَنْقُضُوا، يقال: أخفرته بالألف: نقضتُ عهده، ويقال أيضًا: خَفَرَ به ثلاثيًّا: إذا نقض عهده، وغدَر به، قال المجد رحمه الله: خَفِرَ به، وعليه يَخْفِر - كيضرب - ويَخْفُرُ - كينصُرُ - خَفْرًا: أجاره، ومنَعَهُ، وآمنه، كخَفَّره، وتخفّر به، والاسم: الْخُفْرَةُ بالضمّ، والْخِفَارة مثلّثةً، والخَفِير: المُجار، والمجيرُ، كالْخُفَرَة، كهُمَزَةٍ، والْخُفَارةُ مثلّثةً: جُعْلُهُ، قال: وخَفَرَهُ: أخذ منه جُعْلًا لِيُجيره، وخَفَرَ به خَفْرًا، وخُفُورًا: نقض عهده، وغَدَره، كأخفره. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا الله عنه: يستفاد من عبارة المجد المذكورة أن خَفَر ثلاثيًّا، من بابي ضرب، ونصر بمعنى أجار، ومنع، كخفّر بالتشديد، وأن خفَر ثلاثيًّا بمعنى نقض العهد، ومثله أخفر بالهمزة رباعيًّا، فيجوز أن يكون قوله هنا:"أن تُخْفِروا"، من الخفر ثلاثيًّا، أو الإخفار رباعيًّا، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
[تنبيه]: قوله: "فإنكم أَنْ تُخفِروا" بفتح همزة "أَنْ"، وهي مصدريّة، وهي وَصِلتها في تأويل المصدر بدل من ضمير المخاطب في قوله:"فإنكم"، وخبر "إن" قوله: "أهون
…
إلخ"، قال القاري: ووقع في نسخة - أي: من المصابيح - "إن تُخْفِروا" بكسر الهمزة على الشرط، وهو مشكلٌ، قال: ولعلّ وجه الإشكال أن "أهون" على هذا يكون جزاء الشرط بتقدير "هو"، فتلزم الفاء الرابطة، قال: ويمكن دفعه بأن يُحمل على الشذوذ، كقوله:
مَنْ يَفْعَلِ الْحَسَنَاتِ اللهُ يَشْكُرُهَا
(3)
وقال النوويّ رحمه الله: قال العلماء: الذمة هنا: العهد، و"تُخْفِروا" بضم
(1)
"المصباح المنير" 1/ 139.
(2)
"القاموس المحيط" ص 382.
(3)
"مرقاة المفاتيح" 7/ 477.
التاء، يقال: أخفرت الرجل: إذا نقضت عهده، وخَفَرته: أَمَّنته، وحَمَيته، قالوا: وهذا نهي تنزيه؛ أي: لا تجعل لهم ذمة الله، فإنه قد ينقضها من لا يعرف حقّها، وينتهك حرمتها بعض الأعراب، وسواد الجيش. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قد أسلفت آنفًا مما اقتضته عبارة "القاموس" أن خَفَر، وأخفر ثلاثيًّا ورباعيًّا يُستعملان لنقض العهد، فتنبّه.
وقال القرطبيّ رحمه الله: معنى الحديث: أنه صلى الله عليه وسلم خاف من نقض من لا يَعرف حق الوفاء بالعهد، كجهلة الأعراب، فكأنه يقول: إن وقع نقض من متعدّ كان نقض عهد الخَلْق أهون من نقض عهد الله تعالى، والله تعالى أعلم
(2)
.
(ذِمَمَكُمْ)؛ أي: عهودكم، (وَذِمَمَ أَصْحَابِكُمْ)؛ أي: عهودهم، (أَهْوَنُ مِنْ أَنْ تُخْفِرُوا) بالبناء للفاعل أيضًا، (ذِمَّةَ اللهِ) سبحانه وتعالى (وَذِمَّةَ رَسُولِهِ) صلى الله عليه وسلم. (وَإِذَا حَاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ، فَأَرَادُوكَ أَنْ تُنْزِلَهُمْ) بضمّ أوله، مبنيًّا للفاعل، من الإنزال، (عَلَى حُكْمِ اللهِ) تعالى، (فَلَا تُنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِ اللهِ) تعالى، (وَلَكِنْ أَنْزِلْهُمْ) بقطع الهمزة، من الإنزال، (عَلَى حُكْمِكَ)، ثم علّل ذلك بقوله:(فَإِنَّكَ) الفاء للتعليل؛ أي: لأنك (لَا تَدْرِي)؛ أي: لا تعلم (أَتُصِيبُ حُكْمَ اللهِ فِيهِمْ، أَمْ لَا؟)؛ أي: أم لا تصيبه؟.
وقوله: (قَالَ عَبْدُ الرحمن)؛ يعني: ابن مهديّ الراوي الثالث عن سفيان الثوريّ. (هَذَا)؛ أي: هذا النصّ المذكور، (أوْ) قال (نَحْوَهُ)؛ أي: معناه، وقوله:(وَزَادَ إِسْحَاقُ) هو ابن راهويه الشيخ الثاني للمصنّف، (فِي آخِرِ حَدِيثِهِ عَنْ يَحْيَى بْنِ آدَمَ)؛ أي: عن سفيان، عن علقمة، وقوله:(قَالَ)
…
إلخ مفعول "زاد" محكيّ لِقَصْد لفظه، و"قال" ضمير علقمة بن مرثد، كما قال المصنّف، ومقوله قوله:(فَذَكَرْتُ هَذَا الْحَدِيثَ لِمُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ) النَّبَطيّ - بفتح النون، والموحّدة - أبي بسطام البلخيّ الخزّاز - بزايين منقوطين - مولى بكر بن وائل، صدوق فاضلٌ، أخطأ الأزديّ في زعمه أن وكيعًا كذّبه، وإنما كذّب مقاتل بن سليمان [6].
روى عن عمته عمرة، وسعيد بن المسيّب، وأبي بردة بن أبي موسى،
(1)
"شرح النوويّ" 12/ 39.
(2)
"المفهم" 5/ 517.
وعكرمة، وسالم بن عبد الله بن عمر، وشهر بن حَوَشب، وقتادة، ومسلم بن هيصم، وغيرهم.
وروى عنه أخوه مصعب بن حيّان، وعلقمة بن مرثد، وشَبيب بن عبد الملك التيمي، وعبد الله بن المبارك، وبكر بن معروف، وغيرهم.
قال إسحاق بن منصور، عن يحيى بن معين: ثقةٌ، وكذا قال أبو داود: ثقةٌ، وقال عبد السلام بن عتيق: حدّثنا مروان بن محمد أنه ذكر مقاتل بن حيان، فقال: ثقةُ، وقال ابن أبي حاتم، عن محمد بن سعيد المقبريّ، قال: سئل عبد الرحمن - يعني: ابن الحكم بن بشير بن سليمان - عن مقاتل بن حيان، فقال: ذاك مرتفع، مرتفع، وقال النسائيّ: ليس به بأسٌ، وقال الدارقطنيّ: صالحٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال أحمد بن سيار المروزيّ: كان حيّان من موالي بني شيبان، وكان يلي ولايات، وكان مقاتل ناسكًا فاضلًا، وهم أربعة إخوة: مقاتل، والحسن، ويزيد، ومصعب، ويقال: إن أصلهم من بلخ، وكان مقاتل هَرَب من أبي مسلم إلى كابُل، دعا خلقًا إلى الإسلام، فأسلموا، وذكر الحسن بن مسلم أنه مات بكابُل، وأن صاحب كابُل تسلّب عليه، فقيل له: إنه ليس على دينك، فقال: إنه كان رجلًا صالحًا.
وقال ابن خزيمة: لا أحتج به، ونقل أبو الفتح الأزديّ أن ابن معين ضعَّفه، قال: وكان أحمد بن حنبل لا يعبأ بمقاتل بن سليمان، ولا بمقاتل بن حيان، ثم نقل عن وكيع أنه كذّبه، قال الحافظ: فقرأت بخط الذهبيّ: أحسبه التبس على أبي الفتح بابن سليمان، فإنه هو الذي كذّبه وكيع. مات قبل الخمسين ومائة تقريبًا.
أخرج له المصنّف، والأربعة، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.
(قَالَ يَحْيَى)؛ أي: ابن آدم، (يَعْنِي) بقوله: "فذكرت
…
إلخ" (أَنَّ عَلْقَمَةَ) بن مرثد (يَقُولُهُ)؛ أي: يذكر هذا الحديث إلى) مقاتل (اِبْنِ حَيَّانَ - فَقَالَ)؛ أي: مقاتل: (حَدَّثَنِي مُسْلِمُ بْنُ هَيْصَمٍ) - بفتح الهاء، وسكون التحتانيّة، وفتح الصاد المهملة -
(1)
العبديّ، مقبول [4].
(1)
فما وقع في كثير من نُسخ "التقريب"، و"التهذيب" من كتابته بالضاد المعجمة، فإنه غلط، فتنبّه.
رَوَى عن الأشعث بن قيس، والنعمان بن مُقَرِّن، وعنه مقاتل بن حيّان، وعُقيل بن طلحة، وسليمان بن بريدة، ذكره ابن حبان في "الثقات".
أخرج له المصنّف، وأبو داود، والنسائيّ، وابن ماجه، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.
(عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ مُقَرِّنٍ) - بضم الميم، وكسر الراء المشدّدة - ويقال: ابن عمرو بن مُقرِّن بن عائذ المزنيّ، أبو عمرو، ويقال: أبو حكيم، أخو سُويد بن مقرّن، وإخوته، روى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعنه ابنه معاوية، ومَعْقِل بن يسار المزنيّ، ومسلم بن الهيصم.
قال مصعب الزبيريّ: هاجر النعمان، ومعه سبعة إخوة له، ورَوَى شعبة، عن حصين، قال: قال ابن مسعود: إن للإيمان بيوتًا، وإن بيت آل مقرِّن من بيوت الإيمان، وقال ابن عبد البر: سكن البصرة، وتحول عنها إلى الكوفة، وقَدِم المدينة، ففتح القادسية، وأمَّره عمر على الجيش، فغزا أصبهان، ففتحها، ثم أتى نهاوند، فاستُشهِد بها، وكان ذلك في يوم جمعة من سنة إحدى وعشرين، وقال غيره: كان معه لواء مُزينة يوم الفتح. قال الحافظ: هو قول ابن سعد، وأراد أنه هو وإخوته شهدوا الحديبية، وهنا شيء ينبغي التنبيه عليه، وهو قول المزيّ في أول الترجمة: ويقال: النعمان بن عمرو بن مقرِّن، فليعلم الناظر أن جماعة من الأئمة فرَّقوا بين النعمان بن مقرن، فأثبتوا له الصحبة، ووصفوه بما تقدم من الفتوح، وبين النعمان بن عمرو بن مقرِّن، فحكموا على حديثه بالإرسال، منهم ابن أبي حاتم، وأبو القاسم البغويّ، وأبو أحمد العسكريّ، وغيرهم، ولكن العسكريّ زعم أن الذي روى مرسلًا هو عمرو بن النعمان بن مقرّن، فقَلَبه، وجعله ولدًا للنعمان، وهو ظنّ متجه، لكن الصواب خلافه، وكلُّ من ذَكَرْنا ممن ذَكَر النعمان بن عمرو بن مقرن قال: إنه هو الذي روى عنه أبو خالد الوالبيّ، وقال المزيّ: روى عنه أبو خالد مرسلٌ، وإنما الإرسال في حديث النعمان بن عمرو، لا في رواية أبي خالد عنه. انتهى
(1)
.
أخرج له الجماعة، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.
(1)
"تهذيب التهذيب" 4/ 232 - 234.
(عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم نَحْوَهُ)؛ أي: نحو حديث سليمان بن بُريدة، عن أبيه رضي الله عنه.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث بُرَيدة بن الْحُصيب، والنعمان بن مقرّن رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [2/ 4513 و 4514](1731)، و (أبو داود) في "الجهاد"(2612 و 2613)، و (الترمذيّ) في "الديات"(1408) و"السير"(1617)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(5/ 172)، و (ابن ماجه) في "الجهاد"(2858)، و (الشافعيّ) في "مسنده"(2/ 114 - 115)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 352 و 358)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 215)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(1042)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4739)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 203)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(1/ 49)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(3/ 7)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(3/ 206 و 207)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(9/ 15 و 49 و 97 و 184)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(2669)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان استحباب تأمير الإمام الأمراء على البعوث، ووصيّته إياهم بآداب الغزو وغيرها.
2 -
(ومنها): بيان تحريم الغدر.
3 -
(ومنها): بيان تحريم الغلول.
4 -
(ومنها): بيان تحريم قتل الصبيان إذا لم يُقاتِلوا.
5 -
(ومنها): النهي عن الْمُثْلة، وهي قطع الأطراف.
6 -
(ومنها): مشروعيّة وصية الإمام أمراءه، وجيوشه بتقوى الله تعالى، والرفق بأتباعهم، وتعريفهم ما يحتاجون في غزوهم، وما يجب عليهم، وما يَحِلّ لهم، وما يَحْرُم عليهم، وما يُكره، وما يُستحب.
7 -
(ومنها): ما قاله النوويّ رحمه الله: هذا الحديث مما يَستدلّ به مالك،
والأوزاعيّ، وموافقوهما في جواز أخذ الجزية من كل كافر عربيًّا كان، أو عجميًّا، كتابيًّا، أو مجوسيًّا، أو غيرهما.
وقال أبو حنيفة رحمه الله: تؤخذ الجزية من جميع الكفار، إلا مشركي العرب، ومجوسهم.
وقال الشافعيّ: لا يُقبل إلا من أهل الكتاب، والمجوس عربًا كانوا أو عجمًا، وَيحتج بمفهوم آية الجزية، وبحديث:"سُنُّوا بهم سُنّة أهل الكتاب"
(1)
،
ويتأول هذا الحديث على أن المراد بأخذ الجزية أهل الكتاب؛ لأن اسم المُشْرِك يطلق على أهل الكتاب وغيرهم، وكان تخصيصهم معلومًا عند الصحابة.
قال الجامع عفا الله عنه: عندي الأرجح هو ما ذهب إليه الأولون؛ لإطلاق حديث الباب، وأما الآية التي احتجّ بها الشافعي رحمه الله فهي لا تمنع الأخذ من غير أهل الكتاب، وأما الحديث الذي احتجّ به في المجوس من قوله:"سنّوا بهم سُنَّة أهل الكتاب"، فحديث ضعيف للانقطاع في إسناده، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
قال: واختلفوا في قدر الجزية، فقال الشافعيّ: أقلها دينار على الغنيّ، ودينار على الفقير أيضًا في كل سَنَة، وأكثرها ما يقع به التراضي.
وقال مالك: هي أربعة دنانير على أهل الذهب، وأربعون درهمًا على أهل الفضة.
وقال أبو حنيفة، وغيره من الكوفيين، وأحمد: على الغني ثمانية وأربعون درهمًا، والمتوسط أربعة وعشرون، والفقير اثنا عشر. انتهى
(2)
.
8 -
(ومنها): أن النوويّ رحمه الله قال أيضًا: هذا النهي أيضًا على التنزيه والاحتياط، - ويحتاج إلى دليل - قال: وفيه حجة لمن يقول: ليس كل مجتهد مصيبًا، بل المصيب واحد، وهو الموافق لحكم الله تعالى في نفس الأمر، وقد يجيب عنه القائلون بأن كل مجتهد مصيب: بأن المراد أنك لا تَأْمَن أن يَنزل
(1)
حديث ضعيف بسبب الانقطاع في سنده.
(2)
"شرح النوويّ" 12/ 40.
عليّ وحيٌ بخلاف ما حكمت، وهذا المعنى مُنتفٍ بعد النبيّ صلى الله عليه وسلم. انتهى
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: فيه حجَّة لمن يقول من الفقهاء وأهل الأصول: إن المصيب في مسائل الاجتهاد واحد، وهو المعروف من مذهب مالك وغيره، ووجه الاستدلال: هو أنه صلى الله عليه وسلم قد نصَّ على أن لله تعالى حكمًا معيَّنًا في المجتهَدات، فمن وافقه فهو المصيب، ومن لم يوافقه فهو مخطئ.
وقد ذهب قوم من الفقهاء، والأصوليين: إلى أن كل مجتهد مصيب، وتأولوا هذا الحديث بأن قالوا: إن معناه: أنه صلى الله عليه وسلم كان يوصي أمراءه بأن لا يُنزلوا الكفار على حكم ما أنزل الله على نبيّه صلى الله عليه وسلم في حال غَيْبة الأمراء عنه، وعدم علمهم به، فإنهم لا يدرون إذا فعلوا ذلك؛ هل يصادفون حُكم ما أنزل الله على نبيّه صلى الله عليه وسلم أم لا؟ وفي هذا التأويل بُعْدٌ وتعسّفٌ، واستيفاء المباحث في هذه المسألة في علم الأصول. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(2)
.
قال الجامع عفا الله عنه: مسألة "ليس كلُّ مجتهد مصيبًا" قد حقّقتها في "التحفة المرضيّة"، و"شرحها" في الأصول، ورجّحت قول من يقول: إن المصيب واحد، ولكن المخطئ يؤجر أجرًا واحدًا باجتهاده، ولا يؤاخَذ بخطئه، فراجعه
(3)
تستفد علمًا جمًّا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4514]
(
…
) - (وَحَدَّثَنِي حَجَّاجُ بْنُ الشَّاعِر، حَدَّثَنِي عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَبْدِ الْوَارِث، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنِي عَلْقَمَةُ بْنُ مَرْثَدٍ، أَنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ بُرَيْدَةَ حَدَّثَهُ، عَنْ أَبِيه، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا بَعَثَ أَمِيرًا، أَوْ سَرِيَّةً، دَعَاهُ، فَأَوْصَاهُ، وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِمَعْنَى حَدِيثِ سُفْيَانَ).
رجال الإسناد: ستة:
1 -
(حَجَّاجُ بْنُ الشَّاعِرِ) هو: حجاج بن أبي يعقوب يوسف بن حجاج الثقفيّ البغداديّ، ثقةٌ حافظٌ [11](ت 259)(م د) تقدم في في المقدمة" 6/ 40.
(1)
"شرح النوويّ" 12/ 40.
(2)
"المفهم" 5/ 516.
(3)
راجع: "المنحة الرضيّة" 3/ 497 - 503.
2 -
(عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَبْدِ الْوَارِثِ) بن سعيد الْعَنْبريّ مولاهم التَّنُّوريّ، أبو سهل البصريّ، ثقةٌ ثبت في شعبة [9](ت 207)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 82.
3 -
(شُعْبَةُ) بن الحجّاج تقدّم قريبًا.
والباقون ذُكروا قبله.
[تنبيه]: رواية شعبة، عن علقمة بن مرثد هذه ساقها النسائيّ رحمه الله في "الكبرى"، فقال:
(8782)
- أخبرني أحمد بن حفص بن عبد الله، قال: حدّثني أبي، قال: حدّثني إبراهيم بن طهمان، عن شعبة بن الحجاج، عن علقمة بن مرثد الحضرميّ، عن سليمان بن بريدة، عن أبيه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا بعث أميرًا على سرية، أو جيش أوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله، ومن معه من المسلمين خيرًا، ثم قال: "اغْزُوا باسم الله، في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا، ولا تَغْدِروا، ولا تَغُلّوا، ولا تمثِّلوا، ولا تقتلوا وليدًا، فإذا أنت لقيت عدوّك من المشركين فادعهم إلى إحدى ثلاث خلال، فأيّتهنَ ما أجابوك عليها، فاقبل منهم، وكُفّ عنهم، وادعهم إلى الدخول في الإسلام، فإن فعلوا، فاقبل منهم، وكُفّ عنهم، ثم ادعهم إلى التحوّل من دارهم إلى دار المهاجرين، فإن فعلوا، فأخبرهم أن لهم ما للمهاجرين، وعليهم ما على المهاجرين، فإن هم دخلوا في الإسلام، واختاروا دارهم، فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين، يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين، ولا يكون لهم في الفيء والغنيمة شيء، إلا أن يجاهدوا مع المسلمين، فإن أبوا، فادعهم إلى إعطاء الجزية، فإن فعلوا فاقبل منهم، وكُفّ عنهم، فإن أبوا فاستعن بالله عليهم، ثم قاتلهم، وإن أنت حاجزت أهل حصن، فأرادوا أن تُنزلهم على حكم الله، فلا تنزلهم على حكم الله، ولكن أنزلهم على حكمك، فإنك لا تدري أتصيب فيهم حكم الله، وإن أنت حاصرت أهل حصن، فأرادوا أن تجعل لهم ذمة الله، وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم، فلا تجعل لهم ذمة الله، وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولكن اجعل لهم ذمتك، وذمة آبائك، وذمم أصحابك، فإنكم إن تخفروا ذمتكم، وذمم آبائكم، وذمم أصحابكم أهون عليكم، من أن تخفروا
ذمة الله، وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم". انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم.
[تنبيه]: هنا يوجد إسناد لأبي إسحاق إبراهيم بن محمد بن سفيان تلميذ الإمام مسلم، أورده؛ لكونه أعلى بالنسبة له من إسناد مسلم؛ لأنه وصل إلى شعبة عن طريق مسلم بثلاث وسائط، وهم: مسلم، وحجاج بن الشاعر، وعبد الصمد بن عبد الوارث، ووصل إليه في الإسناد الثاني بواسطتين، وهما: محمد بن عبد الوهّاب الفرّاء، والحسين بن المبارك، قال رحمه الله:
[4514
(2)
]- (حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ
(3)
، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ الْفَرَّاءُ، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْوَليد، عَنْ شُعْبَةَ بِهَذَا).
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(إِبْرَاهِيمُ) بن محمد بن سفيان، أبو إسحاق الفقيه النيسابوريّ المتوفّى في رجب سنة (308 هـ) تقدّمت ترجمته في "المقدّمة" 6/ 73.
[تنبيه]: قال: "حدّثنا إبراهيم" هو الراوي عنه، إما أبو أحمد الجلوديّ، أو غيره، كما سبق في "المقدّمة"، فتنبّه.
2 -
(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ الْفَرَّاءُ) هو: محمد بن عبد الوهاب بن حبيب بن مِهْران العبديّ أبو أحمد الفراء الحافظ النيسابوريّ، ثقةٌ عارف [11].
رَوى عن أبيه، وابن عمه بشر بن الحكم، وأبي النضر هاشم بن القاسم، ويعلى بن عبيد، وشبابة، وغيرهم.
وروى عنه النسائيّ، وأحمد بن سعيد الدارميّ، وابن خزيمة، وأبو عوانة، والسراج، وحسين بن محمد القبّانيّ، وابن أبي الدنيا، وغيرهم.
أثنى عليه مسلم بن الحجاج، وقال: محمد بن عبد الوهاب ثقة صدوق،
(1)
"السنن الكبرى" للنسائيّ 5/ 241.
(2)
لم أرقّم له رقمًا مستقلًّا، بل أعطيته رقم الإسناد الماضي؛ لكونه لا تعلّق له بمسلم، وإنما هو خاصّ بإبراهيم، زاده على مسلم؛ لكونه وجده عاليًا، فتنبّه.
(3)
كذا في معظم النسخ: "حدّثنا إبراهيم
…
إلخ"، ولا يوجد في النسخة الهنديّة، إلا أنه كتب في هامشها: "حدّثنا محمد بن عبد الوهّاب
…
إلخ"، وقائل: "حدّثنا إبراهيم
…
إلخ". هو: تلميذ إبراهيم بن محمد بن سفيان تلميذ مسلم، فتنبّه.
وروى البخاري في "صحيحه" حديثًا عن أبي أحمد، عن أبي غسان، فقيل: هو هذا، وقيل غيره، وقال النسائيّ: ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال الحاكم: كان من أعقل مشائخنا، ويلقَّب بِحَمَك، أخذ الأدب عن الأصمعيّ وغيره، والحديث عن أحمد، وعليّ، ويحيى، والفقه عن أبيه، وغيره، وكان يفتي في هذه العلوم، ويرجع إليه فيها، وقال علي بن الحسن الدرابجرديّ: أبو أحمد عندي ثقة مأمون، قال: وسمعت الحسن بن يعقوب المعدّل يقول: مات سنة اثنتين وسبعين ومائتين، تفرّد به النسائيّ.
3 -
(الْحُسَيْنُ بْنُ الْوَليدِ) القرشيّ مولاهم، أبو عليّ، ويقال: أبو عبد الله الفقيه النيسابوريّ، لقبه كمَيل - مصغّرًا - ثقةٌ [9].
رَوى عن السفيانين، والحمادين، وجرير بن حازم، وابن جريج، ومالك، وابن أبي روّاد، وهشام بن سعد، وإبراهيم بن طهمان، وإسرائيل، وزائدة وشعبة، وغيرهم.
وروى عنه أحمد بن حنبل، وعبد الرحمن بن بشر بن الحكم، وإسحاق بن راهويه، وأبو أحمد الفرّاء، ومحمد بن رافع، ويحيى بن يحيى النيسابوريّ، وغيرهم.
قال عبد الله بن أحمد، عن أبيه: ثقةٌ، وأثنى عليه خيرًا، وقال سلمة بن شبيب، عن أحمد: دَلَّني عليه ابن مهديّ، فدخلت عليه، وكان عسرًا في الحديث، وقال الذُّهْليّ: أول ما دخلت على عبد الرحمن بن مهديّ سألني عن الحسين بن الوليد، وقال ابن معين: كان ثقةٌ، لم أكتب عنه شيئًا، وقال النسائيّ: ليس به بأس، وقال الدارقطنيّ: ثقةٌ، وقال أبو أحمد: كان سخيًّا، وكان لا يحدّث أحدًا حتى يُطعمه من فالوذجة، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال محمد بن نصر سليمان الهرويّ: ثنا محمد بن يزيد، ثنا الحسين بن الوليد، وقال الحاكم: حسين بن الوليد الثقة المأمون الفقيه شيخ بلدنا في عصره، كان من أسخى الناس، وأورعهم، قرأ على الكسائيّ، وعيسى بن طهمان، وكان يغزو الترك في كل ثلاث سنين، ويحج كل خمس سنين، وقال الخطيب: كان ثقةً فقيهًا، قال الحاكم: مات سنة (202)، وكذا قاله أبو أحمد الفراء، وقال البخاريّ: مات سنة (203).
أخرج له البخاريّ في التعاليق، وأبو داود في "المسائل"، والنسائيّ.
[تنبيه]: ذكر القاضي عياض رحمه الله في "شرحه" ما نصّه: وذكر مسلم في آخر الباب: نا محمد بن عبد الوهاب الفرّاء، عن الحسين بن الوليد، عن شعبة بهذا، ثبت هذا السند للعُذْريّ، وابن ماهان، وسقط لغيرهما، وكان في كتاب شيخنا القاضي الشهيد عن العذريّ:"الحسن" مكان "الحسين". قال لي: والصواب ما عند غيره "الحسين".
قال القاضي: قال البخاريّ في "تاريخه" في "باب الحسين" مصغّرًا: الحسين بن الوليد، وهو حسين بن الوليد بن عليّ النيسابوريّ القرشيّ، توفّي سنة ثلاث ومائتين، ولم يُذكر في "الحسن" مكبّرًا من اسمه الحسن بن الوليد.
وذكر البخاريّ في "صحيحه" في "كتاب الطلاق": الحسن بن الوليد النيسابوريّ، عن عبد الرحمن، عن عبّاس بن سهل، عن أبيه، وأبي أُسيد: تزوّج رسول الله صلى الله عليه وسلم أُميمة بنت شراحيل، كذا ذكره مكبّرًا
(1)
، ولم أر هذا الاسم في كتاب أبي عبد الله الحاكم، لا مصغّرًا، ولا مكبّرًا، لا فيمن اتّفقا عليه، ولا فيمن اختلفا فيه. انتهى كلام القاضي عياض رحمه الله
(2)
.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي قاله القاضي عياض من أن مسلمًا قال: حدّثنا محمد بن عبد الوقاب
…
إلخ، فيه نظر لا يخفى؛ لأن مسلمًا، لم يقله، فهذا السند ليس له، وإنما هو لتلميذه إبراهيم بن سفيان، كما هو المذكور في معظم نُسخ "صحيح مسلم"، وأيضًا إن محمد بن عبد الوهّاب ما أخرج له مسلم في "صحيحه"، بل هو من رجال النسائيّ فقط، كما أشار إليه في "التهذيبين"، و"التقريب"، ويقال: إن البخاريّ روى له حديثًا واحدًا، ولم يصرّح بنسبه، وقيل: إنه البيكنديّ، وقيل: غيره، والله تعالى أعلم.
والحاصل أن هذا السند ليس لمسلم أصلًا، وإنما هو لتلميذه إبراهيم بن سفيان، وإنما أتى به زيادة على أسانيد مسلم؛ لكونه وجده عاليًا؛ إذ بينه وبين
(1)
اعترض الحافظ على كلام عياض هذا، فقال: كذا قال، والذي في جميع النسخ المروية عن البخاريّ بصيغة التصغير، والله أعلم. انتهى. "تهذيب التهذيب".
(2)
"إكمال المعلم" 6/ 35 - 36.
شعبة واسطتان، بينما هو في إسناد مسلم بثلاث وسائط، كما أسلفته، ولذا زاده عليه، كما هي عادته في مثل ذلك، وقد سبق هذا غير مرّة.
وخلاصة القول أن ما ذكره القاضي عياض ليس صوابًا فيما يظهر لي، ومن الغريب أن الحافظ نقل كلام عياض هذا في "التهذيب"، وسكت عليه، والله تعالى المستعان.
وأما "شعبة" فقد ذُكر في السند الماضي.
[تنبيه]: رواية الحسين بن الوليد، عن شعبة، عن علقمة هذه ساقها أبو عوانة رحمه الله في "مسنده"، فقال:
(6495)
- حدّثنا أبو أحمد محمد بن عبد الوهاب، قثنا
(1)
الحسين بن الوليد، عن شعبة، عن علقمة بن مرثد الحضرميّ، عن سليمان بن بريدة، عن أبيه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا بعث أميرًا على جيش، أو سرية أوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله، وبمن معه من المسلمين خيرًا، ثم يقول: "اغزوا باسم الله، في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا، لا تغدروا، ولا تَغُلُّوا، ولا تقتلوا وليدًا، إذا لقيت عدوّك من المشركين، فادعهم إلى خصال ثلاث، فأيتهن أجابوك، فاقبل منهم، وكُفّ عنهم، وادعهم إلى الإسلام، فإن أجابوك، فاقبل منهم، وكُفّ عنهم، ثم ادعهم إلى التحوّل من دارهم إلى دور المهاجرين، فإن فعلوا، فأخبرهم أن لهم ما للمهاجرين، وعليهم ما على المهاجرين، فإن دخلوا في الإسلام، واختاروا أن يقيموا في دارهم، فهم كأعراب المسلمين، يجري عليهم حكم الله كما يجري على المسلمين، وليس لهم في الفيء ولا الغنيمة نصيب، إلا أن يجاهدوا مع المسلمين، فإن أبوا فاعْرِضْ عليهم الجزية، فإن أبوا فاستعن بالله، ثم قاتِلهم، وإذا لقيت عدوك من المشركين فحاصرهم، فإن أرادوا أن ينزلوا على حكم الله، فلا تنزلهم على حكم الله، فإنك لا تدري أتصيب فيهم حكم الله أم لا؟ ولكن أنزلوهم على حكمكم، وإذا حاصرتم أهل حصن، فأرادوا أن تجعل لهم ذمة الله، وذمة رسوله، فلا تجعلوا لهم ذمة الله تعالى، ولا ذمة رسوله، ولكن اجعلوا لهم
(1)
هي مختصرة من "قال: حدّثنا"، كما سبق التنبيه عليه غير مرّة، فلا تغفل.
ذمتكم، وذمم آبائكم، فإنكم أن تُخفِروا ذممكم، وذمم آبائكم، وأصحابكم أهون عليكم من أن تُخفروا ذمة الله، وذمة رسوله". انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم.
(3) - (بَابُ الأَمْرِ بِالتَّيْسِير، وَالنَّهْيِ عَنِ التَّنْفِيرِ)
وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4515]
(1732) - (حَدَّثنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْبٍ - وَاللَّفْظُ لأَبِي بَكْرٍ - قَالَا: حَدَّثنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ بُرَيْدِ بْنِ عَبْدِ الله، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا بَعَثَ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِهِ فِي بَعْضِ أَمْرِه، قَالَ: "بَشِّرُوا، وَلَا تُنَفِّرُوا، وَيَسِّرُوا، وَلَا تُعَسِّرُوا").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم في الباب الماضي.
2 -
(أَبُو كُرَيْبٍ) محمد بن العلاء، تقدّم قريبًا.
3 -
(أَبُو أُسَامَةَ) حمّاد بن أُسامة بن زيد القرشيّ مولاهم الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار [9](ت 201)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 51.
4 -
(بُرَيْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) بن أبي بُردة الأشعريّ الكوفيّ، ثقةٌ [6](ع) تقدم في "الإيمان" 16/ 171.
5 -
(أَبُو بُرْدَةَ) بن أبي موسى الأشعريّ، قيل: اسمه عامر، وقيل: الحارث، ثقةٌ [3](ت 104) وقيل غير ذلك (ع) تقدم في "الإيمان" 16/ 171.
6 -
(أَبُو مُوسَى) عبد الله بن قيس بن سُليم بن حضّار الأشعريّ الصحابيّ الشهير، مات سنة (50) أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 16/ 171.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه مسلسل بالكوفيين من أوله إلى آخره، وفيه رواية الراوي عن جدّه، عن أبيه، فبُريد بن عبد الله حفيد أبي بردة، وأبو موسى أبوه، وأن أبا كريب
(1)
"مسند أبي عوانة" 4/ 203.
أحد التسعة الذين روى عنهم الجماعة بغير واسطة، وقد تقدّموا غير مرّة، وأنّ صحابيّه رضي الله عنه من أفاضل الصحابة رضي الله عنهم، وقد أثنى عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم بحسن الصوت في القراءة، فقال له:"لقد أُعطيتَ مزمارًا من مزامير آل داود".
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي مُوسَى) الأشعريّ رضي الله عنه أنه (قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا بَعَثَ)؛ أي: أرسل (أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِهِ فِي بَعْضِ أَمْرِهِ)؛ أي: في قضاء بعض حوائجه، (قَالَ: "بَشِّرُوا) من التبشير، والتشديد للمبالغة؛ لأن ثلاثيّه يتعدّى، قال الفيّوميّ رحمه الله: بَشِرَ بكذا يَبْشَرُ، مثلُ فَرِحَ يَفْرَحُ وزنًا ومعنًى، وهو الاستبشار أيضًا، والمصدر: الْبُشُور، ويتعدّى بالحركة، فيقال: بَشَرْتُهُ أَبْشُرُهُ بَشْرًا، من باب قَتَلَ في لغة تهامة، وما والاها، والاسم منه: بُشْرٌ بضمّ الباء، والتعدية بالتثقيل لغة عامّة العرب، وقرأ السبعة باللغتين، واسم الفاعل من المخفّف: بَشِيرٌ، ويكون البشير في الخير أكثر من الشرّ، والبُشْرى فُعْلى من ذلك، والِبْشَارة بكسر الباء، والضمّ لغةٌ، وإذا أُطلقت اختَصَّتْ بالخير. انتهى
(1)
.
(وَلَا تُنَفِّرُوا) من التنفير، وهو خلاف التبشير، (وَيَسِّرُوا) من التيسير، (وَلَا تُعَسِّرُوا") من التعسير، قال النوويّ رحمه الله: إنما جمع في هذه الألفاظ بين الشيء وضدّه؛ لأنه قد يفعلهما في وقتين، فلو اقتَصَر على "يسّروا" لصدق ذلك على من يسّر مرةً، أو مرات، وعَسّر في معظم الحالات، فإذا قال:"ولا تعسروا" انتفى التعسير في جميع الأحوال، من جميع وجوهه، وهذا هو المطلوب، وكذا يقال في "يسِّرا، ولا تنفِّرا، وتطاوَعا، ولا تختلفا"؛ لأنهما قد يتطاوعان في وقت، ويختلفان في وقت، وقد يتطاوعان في شيء، ويختلفان في شيء. انتهى
(2)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(1)
"المصباح المنير" 1/ 49.
(2)
"شرح النوويّ" 12/ 41.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [4515](1732)، و (أبو داود) في "الأدب"(4835)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 399 و 412)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(13/ 306)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 215)، وفوائده ستأتي في الحديث التالي - إن شاء الله تعالى - والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4516]
(1733) - (حَدثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِيه، عَنْ جَدِّهِ: أَنَّ النّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَهُ وَمُعَاذًا إِلَى الْيَمَن، فَقَالَ: "يَسِّرَا، وَلَا تُعَسِّرَا، وَبَشِّرَا، وَلَا تُنَفِّرَا، وَتَطَاوَعَا، وَلَا تَخْتَلِفَا").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(وَكِيعُ) بن الجرّاح، تقدّم في الباب الماضي.
2 -
(شُعْبَةُ) بن الحجّاج، تقدّم قبل حديث.
3 -
(سَعِيدُ بْنُ أَبِي بُرْدَةَ) بن أبي موسى الأشعريّ الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ [5](ع) تقدم في "الزكاة" 16/ 2333.
والباقون ذُكروا قبله.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه مسلسلٌ بالكوفيين، سوى شعبة، فواسطيّ، ثم بصريّ، وفيه رواية الراوي عن أبيه، عن جدّه.
شرح الحديث:
(عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبيهِ) أبي بردة، وتقدّم الخلاف في اسمه.
(عَنْ جَدِّهِ) أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه (أَن النّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَهُ)؛ أي: أرسله (وَمُعَاذًا) هو ابن جبل بن عمرو بن أوس الأنصاريّ الخزرجيّ، أبو عبد الرحمن الصحابيّ الشهير، شَهِد بدرًا وما بعدها، وكان إليه المنتهى في العلم بالأحكام والقرآن، تُوُفِّي رضي الله عنه سنة ثمان عشرة بالشام، تقدّمت ترجمته في "الإيمان" 7/ 130. (إِلَى الْيَمَنِ) البلد المعروف، قال في "الفتح": كان بَعْث أبي موسى رضي الله عنه إلى اليمن بعد الرجوع من غزوة تبوك؛ لأنه شهد تبوك مع النبي صلى الله عليه وسلم، وقال في
الكلام على بَعْث معاذ رضي الله عنه: وروى أحمد من طريق عاصم بن حميد، عن معاذ: "لمّا بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن خرج يوصيه، ومعاذ راكب
…
" الحديث، ومن طريق يزيد بن قطيب، عن معاذ: "لمّا بعثني النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى اليمن قال: قد بعثتك إلى قوم رقيقة قلوبهم، فقاتل بمن أطاعك من عصاك"، وعند أهل المغازي أنها كانت في ربيع الآخر سنة تسع من الهجرة. انتهى
(1)
.
(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم لهما ("يَسِّرَا)؛ أي: خذا بما فيه اليسر والسهولة، (وَلَا تُعَسِّرَا)؛ أي: لا تأخذا بما فيه الشدّة، (وَبَشِّرَا، وَلَا تُنَفِّرَا) قال الطيبيّ رحمه الله: قوله: "يسّرا، ولا تعسّرا، وبشّرا ولا تنفّرا" هذا من باب المقابلة المعنوية؛ لأن الحقيقية أن يقال: بشرا، ولا تنذرا، وآنِسا، ولا تنفّرا، فجمع بينهما؛ لتعمّ البشارة والنذارة، والتأنيس والتنفير.
قال الحافظ رحمه الله بعد نقل كلام الطيبيّ هذا: ويظهر لي أن النكتة في الإتيان بلفظ البشارة، وهو الأصل، وبلفظ التنفير، وهو اللازم، وأتى بالذي بعده على العكس؛ للإشارة إلى أن الإنذار لا يُنفَى مطلقًا، بخلاف التنفير، فاكتفَى بما يلزم عنه الإنذار، وهو التنفير، فكأنه قيل: إن أنذرتم، فليكن بغير تنفير، كقوله تعالى:{فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا} [طه: 44] انتهى
(2)
.
وقال الطبريّ رحمه الله: المراد بالأمر بالتيسير فيما كان من النوافل، مما كان شاقًّا؛ لئلا يُفضي بصاحبه إلى الملل، فيتركه أصلًا، أو يُعْجَب بعمله، فيُحْبَط، وفيما رُخِّص فيه من الفرائض، كصلاة الفرض قاعدًا للعاجز، والفطر في الفرض لمن سافر، فيشقّ عليه، وزاد غيره: في ارتكاب أخفّ الضررين، إذا لم يكن من أحدهما بُدّ، كما في قصة الأعرابيّ، حيث بال في المسجد النبويّ
(3)
.
(وَتَطَاوَعَا)؛ أي: يُطيع أحدكما الآخر فيما يأمره به، (وَلَا تَخْتَلِفَا") في شيء من الأمور الدينيّة والدنيويّة؛ لأن الاختلاف سبب للفشَلَ والانهزام، كما قال تعالى:{وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال: 46] ومعنى الريح:
(1)
راجع: "الفتح" 9/ 477 - 479، كتاب "المغازي" رقم (4341).
(2)
"الفتح" 9/ 478، كتاب "المغازي" رقم (4341).
(3)
"الفتح" 13/ 697 - 698، كتاب "الأدب" رقم (6124).
القوّة، وقيل: النصر، وقيل: الدولة
(1)
.
وقال الطيبيّ رحمه الله: قوله: "وتطاوعا، ولا تختلفا" يعني: كونا متّفقين في الحُكْم، ولا تختلفا، فإن اختلافكما يؤدّي إلى اختلاف أتباعكما، وحينئذ تقع العداوة، والمحاربة بينهم. انتهى
(2)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
[تنبيه]: حديث أبي موسى رضي الله عنه هذا ساقه البخاريّ مطوّلًا في "المغازي"، فقال:
(4341)
- حدّثنا موسى، حدثنا أبو عوانة، حدّثنا عبد الملك، عن أبي بردة، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا موسى، ومعاذ بن جبل إلى اليمن، قال: وبعث كلّ واحد منهما على مِخْلاف، قال: واليمن مِخْلافان، ثم قال:"يسِّرا، ولا تعسِّرا، وبشِّرا، ولا تنفرا"، فانطلق كل واحد منهما إلى عمله، وكان كل واحد منهما إذا سار في أرضه كان قريبًا من صاحبه، أحدث به عهدًا، فسلّم عليه، فسار معاذ في أرضه قريبًا من صاحبه أبي موسى، فجاء يسير على بغلته حتى انتهى إليه، وإذا هو جالس، وقد اجتمع إليه الناس، وإذا رجل عنده قد جُمِعت يداه إلى عنقه، فقال له معاذ: يا عبد الله بن قيس أيُّمَ هذا؟ قال: هذا الرجل كفر بعد إسلامه، قال: لا أنزل حتى يُقْتَل، قال: إنما جيء به لذلك، فانزل، قال: ما أنزل حتى يُقتل، فأَمر به، فقُتل، ثم نزل، فقال: يا عبد الله كيف تقرأ القرآن؟ قال: أتفوَّقُه تَفَوُّقًا، قال: فكيف تقرأ أنت يا معاذ؟ قال: أنام أول الليل، فأقوم، وقد قضيت جزئي من النوم، فأقرأ ما كتب الله لي، فأحتسب نومتي، كما أحتسب قومتي. انتهى
(3)
.
(1)
راجع: "التوضيح لشرح الجامع الصحيح" للعلامة ابن الملفن رحمه الله 18/ 242.
(2)
"الكاشف عن حقائق السنن" 8/ 2590.
(3)
"صحيح البخاريّ" 4/ 1578.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [3/ 4516 و 4517](1733)، ويأتي مطوّلًا في "الأشربة" بعد رقم (2001)، و (البخاريّ) في "الجهاد"(3038) و"المغازي"(4341 و 4342 و 4343 و 4344 و 4345)، و (أبو داود) في "الأشربة"(3684)، و (النسائيّ) في "الأشربة"(8/ 298)، و (ابن ماجه) في "الأشربة"(3391)، و (عبد الرزّاق) في "مسنده"(3/ 357)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(8/ 100)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(498)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 409)، و (الدارميّ) في "سننه"(1/ 84)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(4/ 220)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(856)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5373 و 5376 و 5377)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(7/ 15)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 215 و 5/ 101)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(7/ 250)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(8/ 294 و 10/ 86)، والله تعالى أعلم.
[تنبيه]: هؤلاء الذين ذكرناهم في التخريج لم يتفقوا في تخريج الحديث، بل هم مختلفون، فمنهم من أخرجه مطوّلًا، ومنهم من أخرجه مقطّعًا، ومنهم من أخرجه مختصرًا على بعضه، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): تأمير أهل الفضل، والعلم.
2 -
(ومنها): بيان فضل أبي موسى، ومعاذ رضي الله عنهما، وأنهما من أهل الفضل، والعلم، ممن يستحقّ أن يولّى على المسلمين.
3 -
(ومنها): ما قال في "الفتح": واستُدِلّ به على أن أبا موسى رضي الله عنه كان عالِمًا فَطِنًا حاذقًا، ولولا ذلك لم يُوَلِّه النبيّ صلى الله عليه وسلم الإمارةَ، ولو كان فَوَّضَ الحُكم لغيره لم يَحْتَج إلى توصيته بما وصّاه به، ولذلك اعتَمَد عليه عمر، ثم عثمان، ثم عليّ رضي الله عنهم، وأما الخوارج، والروافض، فطعنوا فيه، ونسبوه إلى الغفلة، وعدم الفطنة؛ لِمَا صدر منه في التحكيم بصِفِّين، قال ابن العربيّ وغيره: والحقّ أنه لم يَصْدُر منه ما يقتضي وصفه بذلك، وغاية ما وقع منه أن اجتهاده أدّاه إلى أن يجعل الأمر شورى بين من بقي من أكابر الصحابة رضي الله عنهم، من أهل بدر، ونحوهم؛ لِمَا شاهد من الاختلاف الشديد بين الطائفتين بصِفين،
وآل الأمر إلى ما آل إليه. انتهى
(1)
.
4 -
(ومنها): الأمر بالتبشير بفضل الله تعالى، وعظيم ثوابه، وجزيل عطائه، وسعة رحمته.
5 -
(ومنها): النهي عن التنفير بذكر التخويف، وأنواع الوعيد، محضةً من غير ضمّها إلى التبشير.
6 -
(ومنها): تأليف مَن قَرُب إسلامه، وترك التشديد عليه، وكذلك من قارب البلوغ من الصبيان، ومن بلغ، ومن تاب من المعاصي، كلهم يُتَلَطّف بهم، ويُدَرَّجُون في أنواع الطاعة، قليلًا قليلًا، وقد كانت أمور الإسلام في التكليف على التدريج، فمتى يُسِّر على الداخل في الطاعة، أو المريد للدخول فيها، سَهُلت عليه، وكانت عاقبته غالبًا التزايدَ منها، ومتى عُسِّرت عليه، أَوْشَكَ أن لا يدخل فيها، وإن دخل أوشَكَ أن لا يدوم، أو لا يَسْتَحْلِيها.
7 -
(ومنها): أمر الوُلاة بالرفق، واتفاق المتشاركين في ولاية ونحوها، وهذا من المهمات، فإن غالب المصالح لا يتم إلا بالاتفاق، ومتى حصل الاختلاف فات، قال الطيبي رحمه الله: والأحاديث متعاضدة على معنى عدم الحرج والتضييق في أمور الملّة الحنيفيّة السمحة، كما قال الله تعالى:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحجّ: 78]، وقوله:{مِنْ حَرَجٍ} مفعول أول، {فِي الدِّينِ} مفعول ثانٍ، و"من" زائدة للاستغراق، والتنكير في {حَرَجٍ} للشيوع، و {عَلَيْكُمْ} متعلّق به، قُدّم للاختصاص، كأنه قيل: وَسَّع الله عليكم دينكم يا أمة نبيّ الرحمة خاصّة، ورفع عنكم الحرج أيًّا كان، فظهر من هذا ترجيح فعل الأولين، من السلف الصالح على رأي المتكلّمين فيما نقله الشيخ محيي الدين النوويّ في "الروضة" من أنه لا يُشترط أن يكون للمجتهد مذهب مدوّن، وإذا دُوّنت المذاهب، فهل يجوز للمقلّد أن ينتقل من مذهب إلى مذهب؟ إن قلنا: يلزمه الاجتهاد في طلب الأعلم، وغلب على ظنّه أن الثاني أعلم ينبغي أن يجوز، بل يجب، وإن خيّرناه، فينبغي أن يجوز أيضًا، كما أَبُو قلّد في القبلة هذا أيّامًا، وهذا أيّامًا، ولو قلّد مجتهدًا في مسائل، وآخر في مسائل أخرى،
(1)
"الفتح" 9/ 479، كتاب "المغازي" رقم (4341).
واستوى المجتهدان عنده خيّرناه، فالذي يقتضيه فعل الأولين الجواز، وكما أن الأعمى إذا قلنا: لا يجتهد في الأواني، والثياب، له أن يقلّد في الثياب واحدًا، وفي الأواني آخر، لكن الأصوليّون منعوا منه؛ للمصلحة، وحكى الحنّاطيّ وغيره عن أبي إسحاق فيما إذا اختار من كلّ مذهب ما هو أهون عليه أنه يَفْسُق به، وعن أبي هريرة أنه لا يفسق، ويعضد هذا الترجيح قول الإمام مالك رحمه الله حين أراد الرشيد الشخوص من المدينة إلى العراق، قال له: ينبغي أن تخرج معي، فإني عزمت أن أحمل الناس على "الموطأ"، كما حَمَل عثمان الناس على القرآن، فقال: أما حمل الناس على "الموطّأ" فليس إلى ذلك سبيل؛ لأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم افترقوا بعده في الأمصار، فحدَّثوا، فعند كلّ أهل مصر علمٌ، وقد قال صلى الله عليه وسلم:"اختلاف أمتي رحمة". انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: الحقّ أن التمذهب بمذهب معيّن في كلّ المسائل ليس واجبًا على أحد من الأمة، وإنما الواجب عليها أن يسأل الجاهل العالم، ويعمل بما يفتيه به، وواجب العالم أن يعمل بمقتضى ما صحّ لديه من الأدلّة، وليس عليه انتساب إلى أيّ مذهب في الناس، وإنما التقليد، أو الانتساب مما أحدثه المتأخِّرون بعد القرون المفضّلة، وما أجمل كلام الإمام مالك رحمه الله المذكور، وأما الحديث المذكور:"اختلاف أمتي رحمة"، فمما لا أصل له، بل قيل بوضعه، فلا تغترّ به
(2)
.
وقد استوفيت البحث في التمذهب في "التحفة المرضيّة"، و"شرحها"، في الأصول، فراجعه
(3)
تستفد علمًا جمًّا، وبالله تعالى التوفيق.
8 -
(ومنها): وصية الإمام الوُلاةَ، وإن كانوا أهل فضل وصلاح، كمعاذ وأبي موسى رضي الله عنهما، {الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات: 55]، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(1)
"الكاشف عن حقائق السنن" 8/ 2590 - 2591.
(2)
راجع: "السلسلة الصحيحة" للشيخ الألبانيّ رحمه الله 3/ 443.
(3)
راجع: "المنحة الرضيّة" 3/ 545 - 581.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4517]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرٍو (ح) وحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَابْنُ أَبِي خَلَفٍ، عَنْ زَكَرِيَّاءَ بْنِ عَدِيٍّ، أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ الله، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَبِي أُنَيْسَةَ، كِلَاهُمَا عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبيه، عَنْ جَدِّه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم نَحْوَ حَدِيثِ شُعْبَةَ، وَلَيْسَ فِي حَدِيثِ زيدِ بْنِ أَبِيَ أُنَيْسَةَ:"وَتَطَاوَعَا، وَلَا تَخْتَلِفَا").
رجال هذا الإسناد: أحد عشر:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادِ) بن الزِّبْرِقان المكيّ، نزيل بغداد، صدوقٌ يَهِمُ [10](ت 234)(خ م ت س ق) تقدم في "المقدمة" 4/ 19.
2 -
(سُفْيَانُ) بن عيينة، تقدّم قريبًا.
3 -
(عَمْرُو) بن دينار الأثرم الْجُمحيّ المكيّ، أبو محمد، ثقةُ ثبتٌ [4](126)(ع) تقدم في "الإيمان" 21/ 184.
4 -
(إسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ) ابن راهويه، تقدّم في الباب الماضي.
5 -
(ابْنُ أَبِي خَلَفٍ) هو: محمد بن أحمد بن أبي خلف السلميّ، أبو عبد الله الْقَطِيعيّ، ثقةٌ [10]، (ت 237)(م د) تقدم في "الإيمان" 92/ 502.
6 -
(زَكَرِيَّاءُ بْنُ عَدِيِّ) بن الصَّلْت التيميّ مولاهم، أبو يحيى الكوفيّ، نزيل بغداد، ثقةَ حافظٌ جليل، من كبار [10](11 أو 212)(خ م مد ت س ق) تقدّم في "المقدّمة" 6/ 88.
7 -
(عُبَيْدُ اللهِ) بن عمرو بن أبي الوليد الرقّيّ، تقدّم قريبًا.
8 -
(زَيْدُ بْنُ أَبيِ أنيْسَةَ) الرّهاويّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
والباقون ذُكروا قبله.
وقوله: (كِلَاهُمَا عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ)؛ يعني: أن عمرو بن دينار، وزيد بن أبي أُنيسة رويا هذا الحديث عن سعيد بن أبي بردة
…
إلخ.
[تنبيه]: رواية عمرو بن دينار، عن سعيد بن أبي بردة، ساقها ابن حبّان رحمه الله في "صحيحه"، فقال:
(5373)
- أخبرنا أحمد بن عليّ بن المثنى، قال: حدّثنا محمد بن عباد
المكيّ، قال: حدّثنا سفيان، عن عمرو بن دينار، سمعه من سعيد بن أبي بردة، عن أبيه، عن جدّه: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم بعثه ومعاذَ بنَ جبل إلى اليمن، فقال لهما:"بَشِّرا، وَيسِّرا، وعَلِّما، ولا تُنَفِّرا، وتطاوعا"، فلما وَلَّى معاذ، رجع أبو موسى، فقال: يا رسول الله، إن لهم شرابًا من العنب يُطبَخ، حتى يَعْقِد، والْمِزْرِ يُصْنَع من الشعير؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"كلُّ ما أسكر عن الصلاة فهو حرام".
قال أبو حاتم: غريب غريب. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: استغراب أبي حاتم بن حبّان لهذا الحديث إنما هو من حيث الإسناد، وقد انتقده الدارقطنيّ على مسلم، فقال: لم يُتابع ابن عبّاد، عن سفيان، عن عمرو، عن سعيد، وقد رُوي عن سفيان، عن مسعر، عن سعيد، ولا يَثْبُت، ولم يُخرجه البخاريّ من طريق سفيان. انتهى كلام الدارقطنيّ رحمه الله.
قال النوويّ رحمه الله بعد كلام الدارقطنيّ المذكور -: ولا إنكار على مسلم؛ لأن ابن عبّاد ثقةٌ، وقد جزم بروايته عن سفيان، عن عمرو، عن سعيد، ولو لم يثبت لم يضرّ مسلمًا؛ فإن المتن ثابت من طرق. انتهى
(2)
.
وأما رواية زيد بن أبي أنيسة، عن سعيد بن أبي بردة، فقد ساقها ابن حبّان أيضًا في "صحيحه"، فقال:
(5376)
- أخبرنا عبد الله بن قحطبة، قال: حدّثنا محمد بن الصباح، قال: حدّثنا محمد بن سلمة، عن أبي عبد الرحيم، عن زيد بن أبي أُنيسة، عن سعيد بن أبي بردة، عن أبيه، عن أبي موسى الأشعريّ، قال: لَمّا بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعاذَ بنَ جبل إلى اليمن، أَمَرنا أن ينزل كل واحد منا قريبًا من صاحبه، فقال لنا:"يسّرا، ولا تعسّرا، وبشّرا، ولا تنفّرا"، فلما قمنا قلنا: يا رسول الله أفتنا في شرابين كنا نصنعهما: الْبِتْع من العسل يُنبَذ حتى يشتدّ، والْمِزْر من الشعير، والذّرَة يُنبَذ حتى يشتدّ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أوتي جوامع الكلم، وخواتمه، فقال صلى الله عليه وسلم: "حرام عليكم كلُّ مسكر، يُسكر عن
(1)
"صحيح ابن حبان" 12/ 194 - 195.
(2)
"شرح النوويّ" 12/ 42.
الصلاة"، قال: وأتاني معاذ يومًا، وعندي رجل كان يهوديًّا، فأسلم، ثم تَهَوَّد، فسألني ما شأنه؟ فأخبرته، فقلت لمعاذ: اجلس، فقال: ما أنا بالذي أجلس، حتى أَعْرِض عليه الإسلامَ، فإن قَبِل، وإلا ضربت عنقه، فعَرَض عليه الإسلام، فأبى أن يُسلم، فضَرَب عنقه، فسألني معاذ يومًا: كيف تقرأ القرآن؟ فقلت: أقرؤه قائمًا وقاعدًا، وعلى فراشي، أتفوّقه تفوّقًا، قال: وسألت معاذًا: كيف تقرأ أنت؟ قال: أقرأ، وأنام، ثم أقوم، فاتقوَّى بنومتي على قومتي، ثم أحتسب نومتي بما أحتسب به قومتي. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4518]
(1734) - (حَدَّثنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ الْعَنْبَرِيُّ، حَدثنَا أَبِي، حَدَّثنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي التَّيَّاح، عَنْ أنسٍ (ح) وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ الله بْنُ سَعِيدٍ (ح) وحَدَّثنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْوَلِيد، حَدَّثنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، كِلَاهُمَا عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ أَبِي التَّيَّاح، قَالَ: سَمِعْتُ أنسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "يَسِّرُوا، وَلَا تُعَسِّرُوا، وَسَكِّنُوا، وَلَا تنفِّرُوا").
رجال هذا الإسناد: تسعة:
1 -
(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ الْعَنْبَرِيُّ) البصريّ، تقدّم قريبًا.
2 -
(أَبُوهُ) معاذ بن معاذ بن نصر العنبريّ البصريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
3 -
(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ سَعِيدِ) هو: عبيد بن سعيد بن أبان بن سعيد بن العاص الأمويّ، ثقةٌ [9](ت 200)(م س ق) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 19/ 1281.
4 -
(مُحَمَّدُ بْنُ الْوَليدِ) بن عبد الحميد القرشيّ البُسْريّ البصريّ، يُلقّب حمدان، ثقةٌ [10](ت 250) أو بعدها (خ م س ق) تقدم في "الإيمان" 40/ 268.
5 -
(مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ) غندر، تقدّم قريبًا.
6 -
(أَبُو التَّيَّاحِ) يزيد بن حُميد الضُّبَعيّ البصريّ، ثقةُ ثبتٌ [5](ت 128)(ع) تقدم في "الطهارة" 27/ 659.
(1)
"صحيح ابن حبان" 12/ 196.
7 -
(أنسُ بْنُ مَالِكِ) بن النضر الأنصاريّ الخزرجيّ، أبو حمزة الصحابيّ الشهير، مات سنة (2 أو 103) وقد جاوز المائة (ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.
والباقيان ذُكرا في الباب.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه مسلسلٌ بالبصريين بالنسبة للأول، والثالث، وأبو بكر وعبيد الله كوفيّان، وفيه أبو التيّاح ممن لا يُشاركه أحد بهذه الكنية، فلا يوجد في الكتب الستّة من يُكنى بها، وفيه أنس رضي الله عنه أفخر منقبته أنه خدم النبيّ صلى الله عليه وسلم عشر سنين، ونال بركة دعوته، وهو من المكثرين السبعة، روى (2286) حديثًا، ومن المعمّرين، فقد جاوز المائة، وهو آخر من مات بالبصرة من الصحابة رضي الله عنهم.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي التَّيَّاحِ) يزيد بن حُميد أنه (قَالَ: سَمِعْتُ أنسَ بْنَ مَالِكٍ) رضي الله عنه
(يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "يَسِّرُوا) أمر بالتيسير؛ لينشطوا، (وَلَا تُعَسِّرُوا) نَهْيٌ عن التعسير، وهو التشديد في الأمور؛ لئلا ينفروا، (وَسَكِّنُوا) أمرٌ بالتسكين، وهو في اللغة: خلاف التحريك، ولكن المراد هنا: عدم تنفيرهم، ولفظ البخاريّ في "العلم "
(1)
: "وبشِّرُوا". (وَلَا تُنَفِّرُوا") كالتفسير لسابقه، ومبنى كل ذلك أن هذا الدين مبنيّ على اليسر، لا على العسر، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم:"لمْ أبعث بالرهبانية"، وإن خير الدين عند الله الحنفية السمحة، وإن أهل الكتاب هلكوا بالتشديد، شدَّدوا فشدَّد الله عليهم، قاله في "العمدة"
(2)
.
وقال في "الفتح": قوله: (يَسِّرُوا
…
إلخ) هو أمر بالتيسير، والمراد به: الأخذ بالتسكين تارة، ويالتيسير أخرى، من جهة أن التنفير يصاحب المشقّة غالبًا، وهو ضدّ التسكين، والتبشير يصاحب التسكين غالبًا، وهو ضدّ التنفير. انتهى
(3)
.
وقال في موضع آخر: ووقع عند البخاريّ في "الأدب" بلفظ: "وسَكِّنوا"،
(1)
ووقع عنده في "الأدب" رقم (6125) بلفظ: "وسكّنوا"، كما هنا.
(2)
"عمدة القاري شرح صحيح البخاريّ" 32/ 319.
(3)
"الفتح" 13/ 697، كتاب "الأدب" رقم (6124).
وهو الذي يُقابل: "ولا تنفروا"؛ لأن السكون ضد النفور، كما أن ضدّ البشارة النذارة، لكن لَمّا كانت النذارة، وهي الإخبار بالشرّ في ابتداء التعليم توجب النفرة، قوبلت البشارة بالتنفير، والمراد: تأليف مَن قَرُب إسلامه، وترك التشديد عليه في الابتداء، وكذلك الزجر عن المعاصي ينبغي أن يكون بتلطف؛ ليُقْبَل، وكذا تعليم العلم ينبغي أن يكون بالتدريج؛ لأن الشيء إذا كان في ابتدائه سهلًا حُبِّب إلى من يدخل فيه، وتلقّاه بانبساط، وكانت عاقبته غالبًا الازدياد، بخلاف ضدّه، والله تعالى أعلم. انتهى
(1)
.
وقال في "العمدة": لا يقال: الأمر بالشيء نهيٌ عن ضدّه، فما الفائدة في قوله:"ولا تعسروا"؛ لأنا نقول: لا نسلّم ذلك، ولئن سلّمنا فالغرض التصريح بما لَزِمَ ضمنًا للتأكيد، ويقال: لو اقتصر على قوله: "يسّروا"، وهو نكرة لصَدَق ذلك على مَن يَسّر مرةً، وعَسَّر في معظم الحالات، فإذا قال:"ولا تعسروا" انتفى التعسير في جميع الأحوال، من جميع الوجوه، وكذلك الجواب عن قوله:"ولا تنفروا"؛ لا يقال: كان ينبغي أن يقتصر على قوله: "ولا تعسروا، ولا تنفروا"؛ لعموم النكرة في سياق النفي؛ لأنه لا يلزم من عدم التعسير ثبوت التيسير، ولا من عدم التنفير ثبوت التيسير، فجَمَع بين هذه الألفاظ؛ لثبوت هذه المعاني؛ لأن هذا المحلّ يقتضي الإسهاب، وكثرة الألفاظ، لا الاختصار؛ لشبهه بالوعظ.
والمعنى: وبشِّروا الناس، أو المؤمنين بفضل الله تعالى، وثوابه، وجزيل عطائه، وسعة رحمته، وكذا المعنى في قوله:"ولا تنفروا": يعني: بذكر التخويف، وأنواع الوعيد، فيُتألَّف مَن قَرُب إسلامه بترك التشديد عليهم، وكذلك مَن قارب البلوغ، من الصبيان، ومن بلغ، وتاب من المعاصي يُتلطف بجميعهم بأنواع الطاعة قليلًا قليلًا، كما كانت أمور الإسلام على التدريج في التكليف شيئًا بعد شيء؛ لأنه متى يُسِّر على الداخل في الطاعة، أو المريد للدخول فيها سَهُلت عليه، وتزايد فيها غالبًا، ومتى عُسِّر عليه أَوْشَكَ أن لا يدخل فيها، وإن دخل أوشك أن لا يدوم، أو لا يستحملها.
(1)
"الفتح" 1/ 288، كتاب "العلم" رقم (69).
قال: وفيه الأمر للوُلاة بالرفق، وهذا الحديث من جوامع الكلم؛ لاشتماله على خيري الدنيا والآخرة؛ لأن الدنيا دار الأعمال، والآخرة دار الجزاء، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يتعلق بالدنيا بالتسهيل، وفيما يتعلق بالآخرة بالوعد بالخير، والإخبار بالسرور؛ تحقيقًا لكونه رحمة للعالمين في الدارين. انتهى
(1)
.
[فائدة]: (اعلم): أن بين "يسّروا"، وبين "بَشّروا "
(2)
جناسًا خَطّيًّا، والجناس بين اللفظين: تشابههما في اللفظ، وهذا من الجناس التامّ المتشابه، وهذا بابٌ من أنواع البديع الذي يزيد في كلام البليغ حُسْنًا وطَلاوةً.
[فإن قلت]: كان المناسب أن يقال بدل "ولا تنفروا": ولا تنذروا؛ لأن الإنذار وهو نقيض التبشير، لا التنفير.
[أجيب]: بأن المقصود من الإنذار التنفير، فصُرّح بما هو المقصود منه.
ذكره في "العمدة"
(3)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أنس بن مالك رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [3/ 4518](1734)، و (البخاريّ) في "العلم"(69) و"الأدب"(6125) وفي "الأدب المفرد"(1/ 167)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(5890)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1/ 280)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 131 و 209)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 214)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(7/ 187)، و (ابن الجعد) في "مسنده"(1/ 212)، و (أبو نعيم) في "حلية الأولياء"(3/ 84)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(1)
"عمدة القاري شرح صحيح البخاريّ" 2/ 496 - 497.
(2)
هذا لفظ البخاريّ في "العلم".
(3)
"عمدة القاري شرح صحيح البخاريّ" 2/ 496 - 497.
(4) - (بَابُ تَحْرِيمِ الْغَدْرِ)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4519]
(1735) - (حَدَّثنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ، وَأَبُو أُسَامَةَ (ح) وحَدَّثَني زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَعُبَيْدُ اللهِ بْنُ سَعِيدٍ - يعني: أَبَا قُدَامَةَ السَّرَخْسِيَّ - قَالَا: حَدَّثَنَا يَحْيَى - وَهُوَ الْقَطَّانُ - كُلُّهُمْ عَنْ عُبَيْدِ اللهِ (ح) وحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ - وَاللَّفْظُ لَهُ - حَدَّثنَا أَبِي، حَدَّثنَا عُبَيْدُ الله، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا جَمَعَ اللهُ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ يَوْمَ الْقِيَامَة، يُرْفَعُ لِكُل غَادِرٍ لِوَاءٌ، فَقِيلَ: هَذِهِ غَدْرَةُ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ").
رجال هذا الإسناد: أحد عشر:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرِ) بن الفرافصة العبديّ، أبو عبد الله الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ [9](ت 203)(ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 107.
2 -
(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) أبو خيثمة، تقدّم قريبًا.
3 -
(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ سَعِيدٍ أَبُو قُدَامَةَ السَّرَخْسِيُّ) نزيل نيسابور، ثقةٌ مأمون سنّيّ [10](ت 241)(خ م س) تقدم في "المقدمة" 6/ 39.
4 -
(يَحْيَى الْقَطَّانُ) ابن سعيد بن فرّوخ، أبو سعيد البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ إمام حجة، من كبار [9](ت 198)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 385.
5 -
(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ) الْهَمْدانيّ الكوفيّ، تقدّم قريبًا.
6 -
(أَبُوهُ) عبد الله بن نُمير الْهَمْدانيّ الكوفيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
7 -
(عُبَيْدُ اللهِ) بن عمر بن حفص العمريّ المدنيّ الفقيه، تقدّم قريبًا أيضًا.
والباقون تقدّموا في الباب الماضي، وقبل بابين.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ، وفيه ابن عمر رضي الله عنهما أحد العبادلة الأربعة، وأحد المكثرين السبعة، وأحد المشهورين بالفتوى، والتشدّد في اتّباع الأثر.
[تنبيه آخر]: قوله: (كُلُّهُمْ عَنْ عُبَيْدِ اللهِ)؛ يعني: أن محمد بن بشر، وأبا أُسامة حمّاد بن أسامة، ويحيى القطّان رووا هذا الحديث عن عبيد الله بن عمر العمريّ.
شرح الحديث:
(عَنْ نَافِعٍ) مولى ابن عمر (عَنِ ابْنِ عُمَرَ) بن الخطّاب رضي الله عنهما أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا جَمَعَ اللهُ الأوَّلِينَ وَالآخِرِينَ"؛ أي: من الإنس، والجنّ وغيرهم، (يَوْمَ الْقِيَامَة، يُرْفعُ) بالبناء للمفعول، (لِكُلِّ غَادِرٍ) اسم فاعل من غدر به، من باب ضرب: إذا نقض عهده، وقال النوويّ: وأما الغادر فهو الذي يواعد على أمر، ولا يَفِي به، يُقال: غَدَرَ يَغْدِر، بكسر الدال في المضارع
(1)
.
وقال القاضي البيضاويّ: "الغدر" في الأصل: ترك الوفاء، وهو شائع في أن يَغتال الرجل من في عهده، وأمنه، والمعنى: أن الغادر يُنصب وراءه لواء غدره يوم القيامة؛ تشهيرًا بالغدر، وإخزاءً، وتفضيحًا على رؤوس الأشهاد. انتهى
(2)
.
وقوله: (لِوَاءٌ) قال أهل اللغة: "اللواء": الراية العظيمة، لا يمسكها إلا صاحب جيش الحرب، أو صاحب دعوة الجيش، ويكون الناس تبعًا له، قالوا: فمعنى "لكل غادر لواءٌ"؛ أي: علامةٌ يُشهر بها في الناس؛ لأن موضوع اللواء الشهرة، ومكان الرئيس علامة له، وكانت العرب تنصب الألوية في الأسواق الْحَفِلة لغدرة الغادر؛ لتشهيره بذلك، ذكره النوويّ
(3)
.
وقال في "الفتح": "اللِّوَاءُ" - بكسر اللام، والمدّ -: هي الراية، وتُسمى أيضًا العلمَ، وكان الأصل أن يُمسكها رئيس الجيش، ثم صارت تُحْمَل على رأسه، وقال أبو بكر بن العربيّ: اللواء غير الراية، فاللواء ما يُعْقَد في طرف الرمح، ويُلْوَى عليه، والبراية ما يُعقَد فيه، ويترك حتى تُصَفِّقه الرياح، وقيل: اللواء دون الراية، وقيل: اللواء: العَلَم الضَّخْم، والعَلَم: علامةٌ لمحل الأمير،
(1)
"شرح النوويّ" 12/ 43.
(2)
راجع: "الكاشف عن حقائق السنن" 8/ 2591.
(3)
"شرح النوويّ" 12/ 43.
يدور معه حيث دار، والراية يتولاها صاحب الحرب، قاله في "الفتح"
(1)
.
وفي رواية شقيق الآتية: "لكلّ غادر لواء يوم القيامة يُعْرَف به"، وفي حديث أبي سعيد رضي الله عنه الآتي:"لكل غادر لواء عند اسْتِهِ يوم القيامة"، وفي رواية له:"لكل غادر لواء يوم القيامة، يُرفَع له بقدر غَدْره، ألا ولا غادر أعظم غدرًا، من أميرِ عامّة".
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم: "لكل غادر لواء يوم القيامة يُرفع له" هذا منه صلى الله عليه وسلم خطاب للعرب بنحو ما كانت تفعل، وذلك: أنهم كانوا يرفعون للوفاء رايةً بيضاء، وللغدر راية سوداء؛ ليُشهروا به الوَفِيّ، فيعظموه، ويمدحوه، والغادر فيذمّوه، ويلوموه بغدره، وقد شاهدنا هذا فيهم عادة مستمرّة إلى اليوم، فمقتضى هذا الحديث أن الغادر يُفعل به مثل ذلك؛ ليُشهر بالخيانة والغدر، فيذمّه أهل الموقف، ولا يبعد أن يكون الوَفِيّ بالعهد يُرفع له لواء يُعرف به وفاؤه وبزه، فيمدحه أهل الموقف، كما يُرفع لنبيّنا محمد صلى الله عليه وسلم لواء الحمد، فيحمده كلّ من في الموقف. انتهى
(2)
.
(فَقِيلَ: هَذِهِ غَدْرَةُ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ")"الْغَدْرَة" بفتح، فسكون: المرّة من الغدر؛ يعني: أنها علامة غدرته، والمراد بذلك تشهيره، وأن يفتضح بذلك على رؤوس الأشهاد، وفيه تعظيم الغدر، سواء كان من قِبَل الآمر، أو المأمور، قاله في "الفتح"
(3)
.
وقال الطيبيّ رحمه الله: قوله: "هذه غدرة فلان"؛ أي: هذه علامة غدرة فلان؛ ليشتهر بين الناس، ويَفتضح على رؤوس الأشهاد، ويؤيّده قوله:"يُرفع له بقدر غدره". انتهى
(4)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "بقدر غدرته"؛ يعني: أنه إن كانت غدرته
(1)
"الفتح" 7/ 232، كتاب "الجهاد" رقم (2974).
(2)
"المفهم" 3/ 520.
(3)
"الفتح" 7/ 542، كتاب "الفتن" رقم (7111).
(4)
"الكاشف عن حقائق السنن" 8/ 2591.
كبيرة عظيمة رُفِع له لواء كبير، عظيم، مرتفع، حتى يعرفه بذلك من قَرُب منه ومن بَعُد. انتهى
(1)
.
[تنبيه]: حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا له قصّة، قد بيّنها البخاريّ في "كتاب الفتن" حيث قال:
(7111)
- حدّثنا سليمان بن حرب، حدّثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن نافع، قال: لَمّا خَلَعَ أهل المدينة يزيد بن معاوية، جَمَع ابن عمر حَشَمَهُ، ووَلَدَه، فقال: إني سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: "يُنصب لكلّ غادر لواء يوم القيامة"، وإنا قد بايعنا هذا الرجل على بيع الله ورسوله، وإني لا أعلم غَدْرًا أعظم من أن يُبايَعَ رجل على بيع الله ورسوله، ثم يُنْصَب له القتال، وإني لا أعلم أحدًا منكم خلعه، ولا تابع في هذا الأمر، إلا كانت الفيصل بيني وبينه. انتهى
(2)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [4/ 4519 و 4520 و 4521 و 4522](1735)، و (البخاريّ) في "الجزية والموادعة"(3188) و"الأدب"(6177 و 6178) و"الفتن"(6177) و"الحيل"(6966)، و (أبو داود) في "الجهاد"(2756)، و (الترمذيّ) في "السير"(1581)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(5/ 225)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(6/ 512)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 411 و 417 و 441 و 2/ 56 و 103 و 116 و 123 و 156)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 248)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(1/ 264)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(7342 و 7343)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 205 و 206 و 207 و 208 و 209)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(8/ 159 - 160 و 9/ 230)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(2479 و 2480)، والله تعالى أعلم.
(1)
"المفهم" 3/ 520.
(2)
"صحيح البخاريّ" 6/ 2603.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان غِلَظ تحريم الغدر، لا سيما من صاحب الولاية العامّة؛ لأن غدره يتعدى ضرره إلى خلق كثيرين، وقيل: لأنه غير مضطرّ إلى الغدر؛ لقدرته على الوفاء، كما جاء في الحديث الصحيح في تعظيم كَذِب الملك، قال النوويّ رحمه الله: والمشهور أن هذا الحديث وارد في ذمّ الإمام الغادر، وذكر القاضي عياض احتمالين:
[أحدهما]: هذا، وهو نهي الإمام أن يغدِر في عهوده لرعيته، وللكفار، وغيرهم، أو غدره للأمانة التي قُلِّدها لرعيته، والتزم القيام بها، والمحافظة عليها، ومتى خانهم، أو ترك الشفقة عليهم، أو الرفق بهم، فقد غَدَر بعهده.
[والاحتمال الثاني]: أن يكون المراد: نهي الرعية عن الغدر بالإمام، فلا يَشُقّوا عليه العصا، ولا يتعرضوا لِمَا يُخاف حصول فتنة بسببه، قال: والصحيح الأول، والله أعلم. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: عندي أن الأَولى حمل الحديث على أعمّ، فيشمل الاحتمالين المذكورين، وغيرهما من جميع أنواع الغدر، والخيانة، فتأمّل، والله تعالى أعلم.
2 -
(ومنها): أنه يُفهم منه مدح من وفى بالعهد، كما جاء صريحًا في قوله عز وجل:{وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا} [البقرة: 177].
3 -
(ومنها): بيان ما عليه الشريعة السمحة من العدالة، ومراعاة حقوق العباد، ولو كانوا غير مسلمين، فإنّ غَدْر الكافر المعاهد، أو الذمّيّ مثل غدر المسلم في التحريم، وقد أخرج أحمد، وأبو داود في "سننه" بإسناد صحيح، عن أبي بكرة رضي الله عنه، مرفوعًا: "من قَتَل مُعَاهِدًا في غير كُنْهِهِ
(2)
حَرَّمَ الله عليه الجنة".
وأخرج البخاريّ في "صحيحه"، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، مرفوعًا:"من قتل نفسًا مُعَاهِدًا لم يَرِحْ رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عامًا".
(1)
"شرح النوويّ" 12/ 44.
(2)
أي: في غير وقته الذي يجوز فيه قتله.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه: "من قتل معاهِدًا، له ذمّة الله، وذمّة رسوله صلى الله عليه وسلم، لم يَرِح رائحة الجنّة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة سبعين عامًا"، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4520]
(
…
) - (حَدَّثَنَا أَبُو الرَّبِيعِ الْعَتَكِيُّ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، حَدَّثَنَا؛ أَيُّوبُ (ح) وحَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ الرحمن الدَّارِمِيُّ، حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا صَخْرُ بْنُ جُوَيْرِيَةَ، كلَاهُمَا عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِهَذَا الْحَدِيثِ).
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(أَبُو الرَّبِيعِ الْعَتَكِيُّ) سليمان بن داود الزهرانيّ، تقدّم قريبًا.
2 -
(حَمَّادُ) بن زيد، تقدّم أيضًا قريبًا.
3 -
(أَيُّوبُ) بن أبي تميمة السَّخْتِيانيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
4 -
(عَبْدُ الله بْنُ عَبْدِ الرحمن الدَّارِمِيُّ) الحافظ، صاحب "المسند"، ثقةٌ ثبتٌ فاضلٌ إمام [11](ت 255)(م د ت) تقدم في "المقدمة" 5/ 29.
5 -
(عَفَّانُ) بن مسلم بن عبد الله الباهليّ الصفّار، أبو عثمان البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار [10](ت 220)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 44.
6 -
(صَخْرُ بْنُ جُويرِيَةَ) مولى بني تميم، أو بني هلال، أبو نافع، قال أحمد: ثقةٌ ثقةٌ، وقال القطّان: ذهب كتابه، ثم وجده، فتُكّلم فيه لذلك [7](خ م د ت س) تقدم في "الحج" 56/ 3169.
والباقيان ذُكرا قبله.
وقوله: (كِلَاهُمَا عَنْ نَافِعٍ)؛ يعني: أن أيوب السختيانيّ، وصخر بن جويرية رويا هذا الحديث عن نافع إلخ.
[تنبيه]: رواية أيوب، عن نافع، ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:
(3016)
- حدّثنا سليمان بن حرب، حدّثنا حماد، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: "لكل غادر لواءٌ، يُنْصَب
بِغَدرته". انتهى
(1)
.
ورواية صخر بن جُويرية، عن نافع، ساقها الترمذيّ رحمه الله في "جامعه"، فقال:
(1581)
- حدّثنا أحمد بن مَنيع، حدّثنا إسماعيل بن إبراهيم، قال: حدّثني صخر بن جُويرية، عن نافع، عن ابن عمر، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الغادر يُنْصَب له لواءٌ يوم القيامة". انتهى
(2)
.
وساقها البيهقيّ رحمه الله، وفيها قصّة في "الكبرى"، فقال:
(16408)
- أخبرنا محمد بن عبد الله الحافظ، أنبأ أبو بكر محمد بن أحمد بن بالويه، ثنا إسحاق بن الحسن، ثنا عفّان بن مسلم، ثنا صخر بن جُويرية، عن نافع، أن عبد الله بن عمر جَمَع أهل بيته حين انتزى أهل المدينة مع عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما، وخلعوا يزيد بن معاوية، فقال: إنا بايعنا هذا الرجل على بيعة الله، ورسوله، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"إن الغادر يُنْصَب له لواءٌ يوم القيامة، فيقال: هذه غَدْرة فلان"، وإن من أعظم الغدر بعد الإشراك بالله، أن يبايع رجل رجلًا، على بيع الله، ورسوله، ثم ينكث بيعته، ولا يَخلَعَنّ أحد منكم يزيد، ولا يُشرفنّ أحد منكم في هذا الأمر، فيكون صَيْلَمًا بيني وبينه. انتهى
(3)
، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4521]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أيُّوبَ، وَقُتَيْبَةُ، وَابْنُ حُجْرٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ دِينَارٍ، أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ الْغَادِرَ يَنْصِبُ اللهُ لَهُ لِوَاءً يَوْمَ الْقِيَامَة، فَيُقَالُ: ألَا هَذِهِ غَدْرَةُ فُلَانٍ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ) المقابريّ البغداديّ، تقدّم قريبًا.
(1)
"صحيح البخاريّ" 3/ 1164.
(2)
"جامع الترمذيّ" 4/ 144.
(3)
"سنن البيهقيّ الكبرى" 8/ 159.
2 -
(قُتَيْبَةُ) بن سعيد الثقفي البغلانيّ، تقدّم قبل أربعة أبواب.
3 -
(ابْنُ حُجْرٍ) هو عليّ السعديّ المروزيّ، تقدّم قريبًا.
4 -
(إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرِ) بن أبي كثير، تقدّم أيضًا قريبًا.
5 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ دِينَارٍ) مولى ابن عمر، أبو عبد الرحمن المدنيّ، ثقةٌ [4](ت 127)(ع) تقدم في "الإيمان" 14/ 160.
و"عبد الله بن عمر رضي الله عنهما" ذُكر قبله.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (297) من رباعيّات الكتاب.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله في الباب، ولله الحمد والمنّة.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4522]
(
…
) - (حَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْب، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ حَمْزَةَ، وَسَالِمِ ابْنَي عَبْدِ الله، أَنَّ عَبْدَ اَللهِ بْنَ عُمَرَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لِكُلِّ غَاَدِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى) التجيبيّ، أبو حفص المصريّ، صاحب الشافعيّ، صدوقٌ [11](ت 3 أو 244)(م س ق) تقدم في "المقدمة" 3/ 14.
2 -
(ابْنُ وَهْبٍ) هو: عبد الله القرشيّ مولاهم، أبو محمد المصريّ، ثقةٌ حافظٌ فقية عابدٌ [9](ت 197)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 10.
3 -
(يُونُسُ) بن يزيد بن أبي النِّجَاد الأمويّ مولاهم، أبو يزيد الأيليّ، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار [7](ت 159)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 14.
4 -
(ابْنُ شِهَابٍ) محمد بن مسلم الزهريّ الإمام الحافظ الحجة الشهير، من رؤوس [4](ت 125)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 348.
5 -
(حَمْزَةُ) بن عبد الله بن عمر بن الخطّاب المدنيّ، شقيق سالم، ثقةٌ [3](ع) تقدم في "الصلاة" 22/ 945.
6 -
(سَالِمُ) بن عبد الله بن عمر بن الخطاب العدويّ، أبو عمر، أو أبو
عبد الله المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ عابد فاضل فقيه، كان يُشبّه بأبيه في الهدي والسَّمْت، من كبار [3](ت 106)(ع) تقدم في "الإيمان" 14/ 162.
و"عبد الله بن عمر رضي الله عنهما" ذُكر قبله.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله في الباب، ولله الحمد والمنّة.
وبالسند المنصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4523]
(1736) - (وَحَدَّثنا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ (ح) وحَدَّثَنِي بِشْرُ بْنُ خَالِدٍ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّد - يعني: ابْنَ جَعْفَرٍ - كِلَاهُمَا عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِي وَائِل، عَنْ عَبْدِ الله، عَنِ النّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَة، يُقَالُ: هَذِهِ غَدَرَة فُلَانٍ").
رجال هذا الإسناد: تسعة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) تقدّم قبل بابين.
2 -
(ابْنُ بَشَّارٍ) هو: محمد المعروف ببندار، تقدّم قريبًا.
3 -
(ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ) هو: محمد بن إبراهيم بن أبي عديّ، تقدّم قبل بابين.
4 -
(بِشْرُ بْنُ خَالِدِ) بن العسكريّ، أبو محمد الفرائضيّ، نزيل البصرة، ثقةٌ يُغرب [5](ت 3 أو 255)(خ م د س) تقدم في "الإيمان" 23/ 200.
5 -
(سُلَيْمَانُ) بن مهران الأعمش، تقدّم قريبًا.
6 -
(أَبُو وَائِلٍ) شقيق بن سلمة الأسديّ الكوفيّ، ثقةٌ مخضرمٌ [2](ت 82)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 57.
7 -
(عَبْدُ الله) بن مسعود بن غافل بن حبيب الْهُذليّ، أبو عبد الرحمن الصحابيّ الشهير، مات رضي الله عنه سنة (32) أو بعدها (ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 11.
والباقيان تقدّما في الباب الماضي.
والحديث مضى شرحه، وما يتعلّق به من الفوائد في شرح حديث ابن عمر رضي الله عنهما الذي قبله.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانيه): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [4/ 4523 و 4524 و 4525](1736)، و (البخاريّ) في "الجزية"(3186)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(5/ 225)، و (ابن ماجه) في "الجهاد"(2872)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(254)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 411 و 417 و 441)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 248)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(7341)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 208)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(8/ 160 و 9/ 142)، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4524]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَاهُ إِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ (ح) وحَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللهِ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرحمن جَمِيعًا عَنْ شُعْبَةَ، فِي هَذَا الْإِسْنَاد، وَلَيْسَ فِي حَدِيثِ عَبْدِ الرحمن:"يُقَالُ: هَذِهِ غَدْرَةُ فُلَانٍ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ) المازنيّ، أبو الحسن النحويّ البصريّ، نزيل مرو، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار [9](ت 204) وله (82) سنة (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 39.
2 -
(عَبْدُ الرَّحْمَنِ) بن مهديّ، تقدّم قبل باب.
والباقون ذُكروا في الباب وقبله، "وإسحاق" هو: ابن راهويه، و"عبيد الله بن سعيد" هو: أبو قُدامة السرخسيّ.
وقوله: (جَمِيعًا عَنْ شُعْبَةَ)؛ يعني: أن النضر بن شُميل، وعبد الرحمن بن مهديّ رويا هذا الحديث عن شعبة
…
إلخ.
[تنبيه]: رواية النضر بن شُميل، عن شعبة ساقها النسائيّ: رحمه الله في "الكبرى"، فقال:
(8738)
- أخبرنا إسحاق بن إبراهيم، قال: أنبأ النضر بن شُمَيل، قال: حدثنا شعبة، عن سليمان، قال: سمعت أبا وائل، عن عبد الله، عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لكل غادر لواء يوم القيامة، يقال: هذه غَدْرة فلان"، انتهى
(1)
.
وأما رواية عبد الرحمن بن مهديّ، عن شعبة فلم أجد من ساقها، فليُنظَر، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4525]
(
…
) - وَحَدَّثنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيز، عَنِ الأَعْمَش، عَنْ شَقِيقٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَة، يُعْرَفُ بِه، يُقَالُ: هَذِهِ غَدْرَةُ فُلَانٍ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(يَحْيىَ بْنُ آدَمَ) بن سليمان، تقدّم قبل باب.
2 -
(يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ) بن سِيَاه - بكسر السين المهملة، وبعدها تحتانيّة ساكنة - الأسديّ الْحِمّانيّ - بكسر الحاء المهملة، وتشديد الميم - أبو عبد الله الكوفيّ، ثقةٌ [7].
رَوَى عن أبيه، والأعمش، وعبيد الله بن عمر، وإسماعيل بن أبي خالد، وغيرهم.
ورَوَى عنه إسحاق بن منصور السَّلُوليّ، وأبو أحمد الزبيريّ، وأبو معاوية الضرير، وعمرو بن عبد الغفار الفُقَيمي، وعلي بن ميسرة، وأبو نعيم، ويحيى بن آدم، وغيرهم.
قال عبد الله بن أحمد عن أبيه: ثقةٌ، وهو في التثبت مثل قُطْبة، وقال عثمان الدارميّ عن ابن معين: ثقةٌ، وقال الآجريّ: سألت أبا داود عن يزيد بن عبد العزيز؟ فقال: ثقةٌ هو وأخوه قُطْبة، سمعت أحمد يقول: كان أبو معاوية يجلس إليهما، يتذكر حديث الأعمش، وذكره ابن حبان في "الثقات"، ووثقه يعقوب بن سفيان، والدارقطنيّ.
أخرج له البخاريّ، والمصنّف، وأبو داود، والنسائيّ، وليس له في هذا
(1)
"السنن الكبرى" للنسائيّ 5/ 225.
الكتاب إلا هذا الحديث، وكذا ليس له عند البخاريّ إلا حديث واحد.
والباقون ذُكروا في الباب.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله، ولله الحمد والمنّة.
وبالسند المتّصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4526]
(1737) - (حَدَّثنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَعُبَيْدُ الله بْنُ سَعِيدٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أنسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "لِكُل غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُعْرَفُ بِهِ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(ثَابِتُ) بن أسلم البنانيّ، أبو محمد البصريّ، ثقةٌ عابدٌ [4] مات سنة بضع و (120) وله (86) سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 80.
والباقون ذُكروا في الباب، وقبله، وشرح الحديث واضح، يُعلم مما سبق.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أنس رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [4/ 4526](1737)، و (البخاريّ) في "الجزية والموادعة"(3187)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 142 و 150 و 250 و 270)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 208)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(6/ 231)، و (عبد بن حميد) في "مسنده"(1/ 389)، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4527]
(1738) - (حَدَّثنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَعُبَيْدُ الله بْنُ سَعِيدٍ، قَالَا: حَدَّثنَا عَبْدُ الرَّحْمَن، حَدَّثنَا شُعْبَةُ، عَنْ خُلَيْدٍ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، عَنِ النبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ عِنْدَ اسْتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(خُلَيْدُ) بن جعفر بن طَرِيف الْحَنَفيّ، أبو سليمان البصريّ، ثقةُ
(1)
، ولم يثبت أن ابن معين ضعّفه [6].
رَوَى عن معاوية بن قُرّة، وأبي نضرة، والحسن البصريّ.
وروى عنه شعبة بن الحجاج، وعزرة بن ثابت.
قال شعبة: حدّثني خُليد بن جعفر، وكان من أصدق الناس، وأشدّهم اتّقاءً، وقال يحيى بن سعيد: لم أره، ولكن بلغني أنه لا بأس به، وقال إسحاق بن منصور، عن ابن معين: ثقةٌ، وقال أبو حاتم: صدوقٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال الساجيّ: قال ابن معين: هو إلى الضعف أقرب
(2)
، وقال أحمد: أحاديثه حسان، وقال النسائيّ في كتاب "الكنى": ثقةٌ، وحَكَى عن عبد الله بن أحمد، عن أبيه أنه وثقه، وكذا وثّقه أبو بشر الدّولابيّ، وغيره.
أخرج له المصنّف، والترمذي، والنسائي، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط، هذا برقم (1738)، وحديث (2252): "كانت امرأة من بني إسرائيل قصيرة
…
" الحديث، وحديث (2241): "عن أنس أنه سئل عن شيب النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: ما شانه الله ببيضاء".
وله في الترمذيّ، والنسائيّ حديث واحد:"أطيب الطيب المسك".
[تنبيه]: قال الحافظ أبو عليّ الغسّانيّ الجيّاني رحمه الله: وقع في نسخة أبي العبّاس الرازيّ: "عن شعبة، عن خالد"، والصواب: خُليد، وهو خُليد بن جعفر، انتهى
(3)
.
2 -
(أَبُو نَضْرَةَ) المنذر بن مالك بن قُطَعَة، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
3 -
(أَبُو سَعِيدٍ) سعد بن مالك بن سِنَان الخدري رضي الله عنه، تقدّم أيضًا قبل ثلاثة أبواب.
(1)
قال عنه في "التقريب": صدوق، والذي يظهر أنه ثقةٌ؛ لأن الأئمة وثّقوه، كما هو مذكور في ترجمته هنا، فتنبّه.
(2)
ذكر في "التقريب" أنه لم يثبت أن ابن معين ضعّفه، فتنبّه.
(3)
"تقييد المهمل" 3/ 875.
والباقون ذُكروا قبله.
وقوله: (عِنْدَ اسْتِهِ) بوصل الهمزة؛ أي: دُبُره، قال الفيّوميّ رحمه الله: الإِسْتُ: الْعَجُزُ، ويراد به حَلْقَةُ الدُّبُر، والأصل سَتَةٌ بالتحريك، ولهذا يُجْمَع على أَسْتَاهٍ، مثلُ سَبَبٍ وأَسْباب، ويُصَغَّر على سُتَيْهٍ، وقد يقال: سَة بالهاء، ولسَتٌ بالتاء، فيُعْرَب إعراب يَدٍ، ودَمٍ، وبعضهم يقول في الوصل بالتاء، وفي الوقف بالهاء، على قياس هاء التأنيث، قال الأزهريّ: قال النحويون: الأصل سَتْهٌ بالسكون، فاستثقلوا الهاء؛ لسكون التاء قبلها، فحذفوا الهاء، وسَكَنَتِ السينُ، ثم اجْتُلبت همزةُ الوصل، وما نقله الأزهريّ في توجيهه نظرٌ؛ لأنهم قالوا: سَتِهَ سَتَهًا، من باب تَعِبَ: إذا كَبُرَت عَجِيزته، ثمّ سمي بالمصدر، ودخله النقص بعد ثبوت الاسم، ودعوى السكون لا يشهد له أصل، وقد نسبوا إليه: سَتَهِيٌّ، بالتحريك، وقالوا في الجمع: أَسْتَاهٌ، والتصغيرُ، وجمعُ التكسير يردّان الأسماء إلى أصولها. انتهى
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "عند استِهِ " معناه - والله أعلم -: عند مَقْعَده؛ أي: يلزم اللواء به، بحيث لا يقدر على مفارقته؛ ليمرّ به الناس، فيروه، ويعرفوه، فيزداد خَجَلًا، وفَضِيحةً عند كل من مرَّ به. اشهى
(2)
.
وقال ابن الْمُنَيِّر رحمه الله: كأنه عومل بنقيض قصده؛ لأن عادة اللواء أن يكون على الرأس، فنُصِبَ عند السفل زيادةً في فضيحته؛ لأن الأعين غالبًا تمتدّ إلى الألوية، فيكون ذلك سببًا لامتدادها إلى التي بدت له ذلك اليوم، فيزداد بها فضيحة. انتهى
(3)
، والله تعالى أعلم.
مسألتان تتعلقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي سعيد رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه المصنف هنا [4/ 4527 و 4528](1738)، و (الترمذي) في "جامعه"(2336)، و (النسائي) في "الكبرى"(8682)، و (أحمد) في "مسنده"(11038)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(1)
"المصباح المنير" 1/ 266.
(2)
"المفهم" 3/ 521.
(3)
راجع: "الفتح" 7/ 485، كتاب "الجزية" رقم (3186).
وبالسند المتّصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4528]
(
…
) - (حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَبْدِ الْوَارثِ، حَدَّثَنَا الْمُسْتَمِرُّ بْنُ الرَّيَّان، حَدَّثَنَا أَبُو نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيد، قَالَ: قَالَ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لِكُل غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَة، يُرْفَعُ لَهُ بِقَدْرِ غَدْره، ألا وَلَا غَادِرَ أَعْظَمُ غَدْرًا مِنْ أَمِيرِ عَامَّةٍ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَبْدِ الْوَارِثِ) تقدّم قبل باب.
2 -
(الْمُسْتَمِرُّ بْنُ الرَّيَّانِ) - بتشديد التحتانيّة - الإياديّ الزهرانيّ، أبو عبد الله البصريّ، ثقةٌ عابدٌ [5].
رأى أنسًا، ورَوَى عن أبي نضرة العبديّ، وأبي الجوزاء أوس بن عبد الله الرَّبَعِيّ، وغيرهم.
وروى عنه شعبة، والقطان، وزيد بن الْحُبَاب، وعبد الصمد بن عبد الوارث، وأمية بن خالد، وعثمان بن عمر بن فارس، وغيرهم.
قال عليّ بن المدينيّ، عن يحيى بن سعيد: ثقةٌ، وكذا قال عبد الله بن أحمد، عن أبيه، وزاد: شيخ، وإسحاق بن منصور، عن ابن معين، وقال سليمان بن منصور الفزاريّ: حدّثنا أبو داود الطيالسيّ، حدّثنا المستمِرّ بن الرّيّان، وكان صدوقًا ثقةٌ، وقال النسائيّ: ثقةٌ، وكان من الأبدال، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال الحاكم: ثقةٌ، وقال أبو بكر البزار: مشهورٌ.
أخرج له المصنّف، وأبو داود، والترمذيّ، والنسائيّ، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا برقم (1738)، وحديث (2252): "كانت امرأة من بني إسرائل قصيرة
…
" الحديث.
والباقون ذُكروا في الباب.
وقوله: (يُرْفَعُ لَهُ بِقَدْرِ غَدْرِهِ)؛ يعني: أنه إن كانت غدرته كبيرة عظيمة، رُفِع له لواء كبير، عظيم، مرتفع، حتى يعرفه بذلك مَن قَرُب منه، ومَن بَعُد.
وقوله: (ألا وَلَا غَادِرَ أَعْظَمُ غَدْرًا مِنْ أَمِيرِ عَامَّةٍ) قال القرطبيّ رحمه الله: يعني أن الغدر في حقه أفحش، والإثم عليه أعظم منه على غيره؛ لعدم حاجته إلى ذلك، وهذا كما قاله صلى الله عليه وسلم في المَلِك الكذَّاب، كما تقدم في "كتاب الإيمان"، وأيضًا فَلِمَا
في غدر الأئمة من المفسدة، فإنهم إذا غَدَروا، وعُلِم ذلك منهم، لم يأمنهم العدوّ على عهدٍ، ولا صُلْحٍ، فتشتد شوكته، ويعظم ضرره، ويكون ذلك مُنَفِّرًا من الدخول في الدين، وموجبًا لذم أئمة المسلمين، وقد مال أكثر العلماء إلى أنه لا يقاتَل مع الأمير الغادر، بخلاف الخائن، والفاسق، وذهب بعضهم إلى الجهاد معه، والقولان في مذهبنا - يعني: المالكيّة - والله تعالى أعلم، انتهى
(1)
.
(5) - (بَابُ جَوَازِ الْخِدَاعِ فِي الْحَرْبِ)
وبالسند المتّصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4529]
(1739) - (وَحَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ السَّعْدِيُّ، وَعَمْرٌو النَّاقِدُ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ - وَاللَّفْظُ لِعَلِيٍّ وَزُهَيْرٍ - قَالَ عَلِيٌّ: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ الآخَرَانِ: حَدَّثنَا سُفْيَانُ، قَالَ: سَمِعَ عَمْرُو جَابِرًا يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "الْحَرْبُ خَدْعَةٌ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(عَمْرٌو النَّاقِدُ) هو: عمرو بن محمد بن بُكير، أبو عثمان البغداديّ، نزيل الرَّقّة، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 232)(خ م دس) تقدم في "المقدمة" 4/ 23.
2 -
(سُفْيَانُ) بن عيينة، تقدّم قبل باب.
3 -
(عَمْرُو) بن دينار، تقدّم أيضًا قبل باب.
4 -
(جَابِرُ) بن عبد الله بن عمرو بن حرام الأنصاريّ السَّلَميّ الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، مات بعد السبعين (ع) وهو ابن (94) سنة تقدم في "الإيمان" 4/ 117.
والباقيان ذُكرا في الباب الماضي.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (298) من رباعيّات الكتاب، وأنه مسلسلٌ بالتحديث، والإخبار، والسماع، وفيه جابر بن عبد الله رضي الله عنهما من المكثرين السبعة، روى (1540) حديثًا.
(1)
"المفهم" 3/ 521.
شرح الحديث:
عن سُفْيَانَ بن عيينة أنه (قَالَ: سَمِعَ عَمْرٌو)؛ أي: ابن دينار، (جَابِرًا)؛ أي: ابن عبد الله رضي الله عنهما (يَقُولُ: قَالَ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم: "الْحَرْبُ خَدْعَة") - بفتح الخاء المعجمة، وبضمّها، مع سكون الدال المهملة فيهما، وبضم أوله، وفتح ثانيه - قال النوويّ: اتفقوا على أن الأولى أفصح، حتى قال ثعلب: بلغنا أنها لغة النبيّ صلى الله عليه وسلم، وبذلك جزم أبو ذرّ الهرويّ، والقزاز، والثانية ضُبِطت كذلك في رواية الأصيليّ، قال أبو بكر بن طلحة: أراد ثعلب أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستعمل هذه الْبِنْية كثيرًا لوجازة لفظها، ولكونها تعطي معنى البنيتين الأخيرتين، قال: ويعطي معناها أيضًا الأمر باستعمال الحيلة مهما أمكن، ولو مَرّةً، وإلا فقاتِلْ، قال: فكانت مع اختصارها كثيرة المعنى.
ومعنى "خدعة" بالإسكان أنها تَخْدَع أهلها، من وصف الفاعل باسم المصدر، أو أنها وصف المفعول، كما يقال: هذا الدرهم ضَرْبُ الأمير؛ أي: مضروبه.
وقال الخطابيّ
(1)
: معناه أنها مرّةً واحدةً؛ أي: إذا خَدَع مرةً واحدةً لم تُقَل عَثْرته، وقيل: الحكمة في الإتيان بالتاء للدلالة على الوحدة، فإن الخداع إن كان من المسلمين، فكأنه حَضَّهم على ذلك، ولو مرّةً واحدةً، وإن كان من الكفار، فكانه حَذَّرهم من مكرهم، ولو وقع مرّةً واحدةً، فلا ينبغي التهاون بهم؛ لِمَا ينشأ عنهم من المفسدة، ولو قَلّ.
وفي اللغة الثالثة صيغة المبالغة، كهُمَزَة، ولُمَزَةٍ.
وحَكَى المنذري لغةً رابعةً بالفتح فيهما، قال: وهو جمع خادع؛ أي: إنَّ أهلها بهذه الصفة، وكأنه قال: أهل الحرب خَدَعَةٌ.
وحَكَى مكيّ، ومحمد بن عبد الواحد لغةً خامسةً: كَسْر أوله، مع الإسكان، قال الحافظ: قرأت ذلك بخط مغلطاي.
وأصل الخدع: إظهار أمر، وإضمار خلافه، وفيه التحريض على أخذ
(1)
"الأعلام "2/ 1432.
الحذر في الحرب، والنَّدْبُ إلى خداع الكفار، وأن من لم يتيقظ لذلك لم يأمن أن ينعكس الأمر عليه.
قال النوويّ: واتفقوا على جواز خداع الكفار في الحرب، كيفما أمكن، إلا أن يكون فيه نقض عهد، أو أمان، فلا يجوز.
وقال ابن العربيّ: الخداع في الحرب يقع بالتعريض، وبالْكَمِين، ونحو ذلك.
وفي الحديث الإشارة إلى استعمال الرأي في الحرب، بل الاحتياج إليه آكد من الشجاعة، ولهذا وقع الاقتصار على ما يشير إليه بهذا الحديث، وهو كقوله:"الحجّ عرفة".
وقال ابن الْمُنيِّر: معنى "الحربُ خدعة"؛ أي: الحرب الجيدة لصاحبها، الكاملة في مقصودها، إنما هي المخادعة، لا المواجهة، وذلك لخطر المواجهة، وحصول الظَّفَر مع المخادعة، بغير خطر.
[تنبيه]: ذكر الواقديّ أن أول ما قال النبي - لي الله عليه وسلم -: "الحرب خدعة" في غزوة الخندق، ذكر هذا في "الفتح"
(1)
.
وقال العلّامة ابن الملقّن رحمه الله: وضبط الأصيليّ "خُدْعة" بضم الخاء، وسكون الدال، وعن يونس ضم الخاء، وفتح الدال، وعن عياض فتحهما، وقال القزّاز: فتح الخاء وسكون الدال لغة النبيّ صلى الله عليه وسلم
(2)
، ولغته أفصح اللغات، وقالوا: الْخَدْعة: المرة الواحدة من الْخِداع، فمعناه: أن من خُدِع فيها مرة واحدةً عَطِبَ، وهَلَكَ، ولا عَوْدة له.
وقال ابن سيده في "العويص": من قال: خدعة أراد: تَخْدَع أهلها، وفي "الواعي"؛ أي: تُمَنِّيهم بالظفر والغلبة، ثم لا تفي لهم، وقال: ومن قال: خُدَعة أراد: هي تَخْدع، كما يقال: رجل لُعَنةٌ: يُلْعَن كثيرًا، وإذ خَدَع أحد الفريقين صاحبه في الحرب، فكأنها خَدَعت هي.
(1)
"الفتح" 7/ 282 - 283، كتاب "الجهاد" رقم (3030).
(2)
كون هذه اللغة لغة النبيّ صلى الله عليه وسلم يحتاج إلى إثباته بنقل صحيح، فليُتأمل.
وقال قاسم بن ثابت في كتابه "الدلائل": كَثُر استعمالهم لهذه الكلمة، حتى سَمّوا الحرب خدعةً.
وحَكَى مكيّ، ومحمد بن عبد الواحد: لغة خامسةً: خِدْعة بكسر الخاء، وسكون الدال، وحكاها ابن قُتيبة عن يونس.
وقال المطرزيّ: الأفصح بالفتح؛ لأنه لغة قريش، واعترضه ابن درستويه، فقال: ليست بلغة قوم دون قوم، وإنما هي كلام الجميع؛ لأنها المرة الواحدة من الخداع، فلذلك فُتِحَت.
وقال أبو بكر بن طلحة: أراد ثعلب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يختار هذه الْبِنْيَة، ويستعملها كثيرًا؛ لأنها بلفظها الوجيز تعطي معنى البنيتين الأخريين، ويُعطي أيضًا معناها: استَعْمِل الحيلة في الحرب ما أمكنك، فإذا أعيتك الحيل فقاتِل، فكانت هذه اللغة على ما ذكرنا مختصرة اللفظ، كثيرة المعنى، فلذلك كان صلى الله عليه وسلم يختارها.
قال اللحيانيّ: خَدَعت الرجل أَخْدَعُه خَدْعًا، وخِدْعًا، وخَدِيعة، وخَدَعَة: إذ أظهرتَ له خلاف ما تُخفي، وأصله: كلّ شيء كتمته، فقد خَدَعته، ورجل خَدّاع، وخَدُوع، وَخَدَعٌ، وخَدِيعة، وخُدَعَةٌ: إذا كان خِبًّا
(1)
.
وفي "المحكم": الْخَدْع، والخديعة: المصدر، والخِاع والْخِداع: الاسم، ورجل خَيْدَع: كثير الخداع.
وقال القرطبيّ رحمه الله: فأما إذا قلنا: لم يكن للعدوّ عهد فينبغي أن يُتَحَيّل على العدوّ بكل حيلة، وتُدار عليهم كلُّ خديعة، وعليه يُحمل قوله صلى الله عليه وسلم:"الحرب خَدْعة" - بفتح الخاء، وسكون الدال - وهي لغة النبي صلى الله عليه وسلم، وهي مصدر "خَدَعَ" المحدود بالتاء، كغَرْفَة، وخَطْوة - بالفتح فيهما -، ومعناه: أن الحرب تكون ذات خدعة، فوُضع المصدر موضع الاسم؛ أي: ينبغي أن يُستَعْمَل فيها الخداع، ولو مرَّة واحدة.
قال: وقد روي هذا الحرف "خُدْعَة" بضم الخاء، وسكون الدال، وهو اسم ما يفعل به الخداع، كاللُّعْبة لِمَا يُلعب به، والضُّحْكة لِمَا يُضْحَك منه،
(1)
بكسر الخاء المعجمة، وتشديد الباء الموحّدة: الْخدّاع.
فكأنه لِمَا وُقِع فيها الخداع خُدِعتْ هي في نفسها، وروي:"خُدَعة" بضم الخاء، وفتح الدال؛ أي: هي التي تفعل ذلك فتخدع أهلها، على ما تقدم، وفُعْلة: تأتي بمعنى الفاعل، كضُحْكة، وهُزْأة، ولُمْزة، للذي يفعل ذلك، والله تعالى أعلم، انتهى
(1)
.
وقال ابن العربيّ: الخديعة في الحرب تكون بالتورية، وتكون بالكمين، وتكون بخُلف الوعد، وذلك من المستثنى الجائز المخصوص من المحرَّم، والكذب حرام بالإجماع، جائز في مواطن بالإجماع، أصلها الحرب، أَذِنَ الله فيه، وفي أمثاله؛ رِفْقًا بالعباد؛ لِضَعفهم، وليس للعقل في تحريمه، ولا في تحليله أثر، إنما هو إلى الشرع، ولو كان تحريم الكذب كما يقوله المبتدعون عقلًا، ويكون التحريم صفةً نفسيةً، كما يزعمون ما انقلب حلالًا أبدًا، والمسألة ليست معقولةً، فتستحقَّ جوابًا، وخفي هذا على علمائنا. انتهى
(2)
.
وقال الطبريّ: إنما يجوز في المعاريض دون حقيقة الكذب، فإنه لا يحلّ، وقال النوويّ: الظاهر إباحة حقيقة الكذب، لكن الاقتصار على التعريض أفضل.
وقال بعض أهل السير: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم ذلك يوم الأحزاب لمّا بعث نعيم بن مسعود أن يخذّل بين قريش، وغطفان، ويهود، ومعناه: أن المماكرة في الحرب أنفع من المكاثرة والإقدام على غير علم، ومنه قيل: نفاذ الرأي في الحرب أنفع من الطعن والضرب.
وقال المهلَّب: الخداع في الحرب جائز، كيف ما يمكن، إلا بالأيمان، والعهود، والتصريح بالأيمان، فلا يحل شيء من ذلك.
وقال الطبريّ: وإنما يجوز من الكذب في الحروب ما يجوز من غيرها من التعريض، مما يُنحى به نحو الصدق، مما يَحتمل المعنى الذي فيه الخديعة والغدر والألغاز، لا القصد إلى الإخبار عن الشيء بخلاف ما هو عليه؛ لأن ذلك حرام، قال المهلّب: مثل أن يقول لمبارز له: حِزَام سرجك قد انحلّ؛ ليشغله عن الاحتراس منه، فيجد فُرصة في ضربه، وهو يريد أن حزام سرجه قد
(1)
"المفهم" 3/ 521 - 522.
(2)
"عارضة الأحوذيّ" 7/ 171 - 172.
انحلّ فيما مضى من الزمان، أو يخبره بخبر يقطعه من موت أميره، وهو يريد موت المنام، أو الدِّين، ومن ذلك ما روي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا أراد غزوةً ورَّى بغيرها. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: عندي أن ما تقدّم عن النووي من أن الظاهر إباحة حقيقة الكذب في الحرب، إذا لم يمكن التعريض والتورية، هو الأظهر؛ عملًا بظواهر النصوص، وهي كثيرة:
فمنها: ما أخرجه الشيخان في "صحيحيهما" عن أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، وكانت من المهاجرات الأُوَل اللاتي بايعن النبيّ صلى الله عليه وسلم، أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يقول:"ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس، ويقول خيرًا، وينمي خيرًا"، قال ابن شهاب: ولم أسمع يرخَّص في شيء مما يقول الناس؛ كذِبٌ إلا في ثلاث: الحرب، والإصلاح بين الناس، وحديث الرجل امرأته، وحديث المرأة زوجها".
ومنها: ما أخرجه الترمذيّ وحسّنه، من حديث أسماء بنت يزيد رضي الله عنهما مرفوعًا:"لا يحل الكذب إلا في ثلاث: يُحدِّث الرجل امرأته؛ ليرضيها، والكذب في الحرب، وفي الإصلاح بين الناس".
ومن ذلك: ما جاء في قصّة قتل كعب بن الأشرف من قول محمد بن مسلمة حين أمره النبيّ صلى الله عليه وسلم بقتله قال للنبيّ صلى الله عليه وسلم: ائذن لي فأقول، قال:"قل"، فإنه يدخل فيه الإذن في الكذب تصريحًا، وتلويحًا.
ومنها: ما أخرجه أحمد، وابن حبان، من حديث أنس رضي الله عنه في قصة الحجاج بن علاط الذي أخرجه النسائيّ، وصححه الحاكم، في استئذانه النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يقول عنه ما شاء؛ لمصلحته في استخلاص ماله من أهل مكة، وأذن له النبيّ صلى الله عليه وسلم، وإخباره لأهل مكة أن أهل خيبر هزموا المسلمين، وغير ذلك مما هو مشهور في ذلك
(2)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(1)
"التوضيح شرح الجامع الصحيح" لابن الملقن رحمه الله 18/ 224.
(2)
راجع: "الفتح" 7/ 284، كتاب "الجهاد" رقم (3031).
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [5/ 4529](1739)، و (البخاريّ) في "الجهاد"(303)، و (أبو داود) في "الجهاد"(2636)، و (الترمذيّ) في "الجهاد"(1675)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(5/ 193)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1698)، و (الحميديّ) في "مسنده"(1237)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(12/ 530)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 308)، و (سعيد بن منصور) في "سننه"(2/ 367)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 210)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(1826 و 1968 و 2121)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(1/ 264)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4763)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(7/ 40 و 9/ 150)، و (البغويّ) في "شرح السُّنّة"(2690)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): أن فيه تحريضًا على الخداع في الحرب، وأنه متى لم يفعل ذلك خدعه خصمه، وكان ذلك سببًا لانتكاس الأمر عليه، فلا يهمل خديعة غريمه، فإنه إن لم يخدعه خدعه هو، قال النووي: واتفق العلماء على جواز خداع الكفار في الحرب كيف أمكن الخداع، إلا أن يكون فيه نقض عهد، أو أمان فلا يحلّ. انتهى.
والحكمة في الأتيان بالتاء الدالة على الوحدة، فإن كان الخداع من جهة المسلمين فكأنه حضهم على ذلك، ولو مرة واحدة، وإن كان من جهة الكفار فمعناه التحذير من خداعهم، ولو وقع ذلك منهم مرة واحدة فإنه قد ينشأ عن تلك المرة الهزيمة، ولو حصل الظفر قبلها ألف مرة، فلا ينبغي التهاون بذلك لِمَا ينشأ عنه من المفسدة، ولو قلَّ الخداع من العدو، والله أعلم
(1)
.
2 -
(ومنها): أن الترمذيّ رحمه الله بَوَّب على هذا الحديث بقوله: "باب ما جاء في الرخصة في الكذب والخديعة في الحرب". قال وليّ الدين
(1)
"طرح التثريب" 7/ 214 - 215.
العراقي رحمه الله: وليس في هذا الحديث ذكر الكذب، فإن أُريد المعاريض والتورية فلا تخلو الخديعة من ذلك، وإن أريد الكذب الصريح، فقد تخلو الخديعة عنه، فمن المعاريض ما في "سنن أبي داود" عن كعب بن مالك:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد غزوة وَرَّى بغيرها، وكان يقول: "الحرب خدعة"، وما في "سنن النسائيّ" عن مسروق، قال: سمعت علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول في شيء: صدق الله ورسوله، قلت: هذا شيء سمعته، فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الحرب خدعة"، وقد ورد الترخيص في الكذب في الحرب، رواه الأئمة الخمسة، من حديث حميد بن عبد الرحمن بن عوف، عن أمه أم كلثوم، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ليس بالكاذب من أصلح بين الناس
…
" الحديث، وفيه: "ولم أسمعه يرخِّص في شيء مما يقول الناس: إنه كذب إلا في ثلاث: في الحرب، والإصلاح
…
" الحديث، وروى الترمذيّ من حديث أسماء بنت يزيد، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل الكذب إلا في ثلاث: يحدث الرجل امرأته ليرضيها، والكذب في الحرب، والكذب ليصلح بين الناس"، وقال محمد بن جرير الطبريّ: إنما يجوز من الكذب في الحرب المعاريض، دون حقيقة الكذب، فإنه لا يحل، وقال النوويّ: الظاهر إباحة حقيقة نفس الكذب، لكن الاقتصار على التعريض أفضل، والله أعلم. انتهى
(1)
.
3 -
(ومنها): أن فيه إشارةً إلى استعمال الرأي في الحروب، ولا شك في احتياج المحارب إلى الرأي والشجاعة، وإن احتياجه إلى الرأي أشدّ من احتياجه إلى الشجاعة، ولهذا اقتصر النبي صلى الله عليه وسلم هنا على ما يشير إليه فهو كقوله:"الحج عرفة"
(2)
، "والندم توبة"
(3)
، وقال الشاعر [من الكامل]:
الرَّأيُ قَبْلَ شَجَاعَةِ الشَّجْعَانِ
…
هُوَ أَوَّلٌ وَهِيَ الْمَحَل الثانِي
فَإِذَا هُمَا اجْتَمَعَا لِنَفْسٍ مَرَّةً
…
بَلَغَتْ مِنَ الْعَلْيَاءِ كُلَّ مَكَانِ
(4)
(1)
"طرح التثريب" 7/ 215.
(2)
حديث صحيح، أخرجه أحمد، وأصحاب "السنن".
(3)
حديث صحيح، أخرجه أحمد، وابن ماجه، وصححه ابن حبّان.
(4)
"طرح التثريب في شرح التقريب" 7/ 215 - 216.
4 -
(ومنها): ما قال أبو العباس القرطبيّ رحمه الله بعد تقريره ما تقدم -: إن معناه الحضّ على استعمال الخداع في الحرب، ولو مرة واحدة، ويَحْتَمِل أن يكون معناه: أن الحرب تتراءى لأخفّ الناس بالصورة المستحسنة، ثم تتجلى عن صورة مستقبحة، كما قال الشاعر [من الكامل]:
الْحَرْبُ أَوَّلَ مَا تَكُونَ فَتِيَّةً
…
تَسْعَى بِبِزَّتِهَا لِكُلِّ جَهُولِ
وقال الآخر [من الكامل]:
وَالْحَرْبُ لَا يَبْقَى لِجَا
…
حِمِهَا
(1)
التَّحَيُّلُ وَالْمِرَاحُ
وفائدة الحديث على هذا ما قاله في الحديث الآخر: "لا تتمنوا لقاء العدو، واسألوا الله العافية". انتهى
(2)
.
وتعقّبه وليّ الدين رحمه الله، فقال: وهذا احتمال بعيد؛ لأنه يُفهم ذم الحرب، والحديث إنما سيق في معرض مدحها، والتحيّل فيها بالمخادعة، فإن صح هذا الاحتمال في ذمها، فذاك في الفتن والحروب بين المسلمين الناشئة عن التنافس في الدنيا، والله أعلم. انتهى
(3)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4530]
(1740) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَهْمٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الله بْنُ الْمُبَارَك، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنبِّهٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "الْحَرْبُ خُدْعَة").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَهْمٍ) هو: محمد بن عبد الرحمن بن حكيم بن سَهْم، نُسب لجدّه الأنطاكيّ، ثقةٌ [10](ت 243)(م) من أفراد المصنّف تقدم في "الصلاة" 40/ 1069.
(1)
الجاحم: الموقد.
(2)
"المفهم" 3/ 522.
(3)
"طرح التثريب" 7/ 216.
2 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ الْمُبَارَكِ) المروزيّ الإمام الثبت الحجة الفقيه المشهور [8](ت 181)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 32.
3 -
(مَعْمَرُ) بن راشد، تقدّم قريبًا.
4 -
(هَمَّامُ بْنُ مُنَبِّهٍ) تقدّم أيضًا قريبًا.
5 -
(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه تقدم في "المقدمة" 2/ 4، وشرح الحديث تقدّم في الحديث الماضي.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [5/ 4530](1740)، و (البخاريّ) في "الجهاد"(3028 و 3029)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 312 و 314)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 210)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(9/ 150)، والله تعالى أعلم.
(6) - (بَابُ كَرَاهَةِ تَمَنِّي لِقَاءِ الْعَدُوِّ، وَالأَمْرِ بِالصَّبْرِ عِنْدَ اللِّقَاءِ)
وبالسند المتّصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4531]
(1741) - (حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْحُلْوَانِيُّ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ الْعَقَدِيُّ، عَنِ الْمُغِيرَةِ - وَهُوَ ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحِزَامِيُّ - عَنْ أَبِي الزَّنَاد، عَنِ الأَعْرَج، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا تَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ، فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ
(1)
فَاصْبِرُوا").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(الْحَسَنُ بْنُ عَليٍّ الْحُلْوَانِيُّ) أبو عليّ الخلّال الْهُذَليّ، نزيل مكة، ثقةٌ حافظٌ، له تصانيف [11](ت 242)(خ م دت ق) تقدم في "المقدمة" 4/ 24.
(1)
وفي نسخة: "وإذا لقيتموهم".
2 -
(عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ) بن نصر الْكسيّ، أبو محمد، ثقةٌ حافظٌ [11](ت 249)(خت م ت) تقدم في "الإيمان" 7/ 131.
3 -
(أَبُو عَامِرٍ الْعَقَدِيُّ) عبد الملك بن عمرو الْقَيسيّ البصريّ، ثقةٌ [9](ت 4 أو 205)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 21.
4 -
(الْمُغِيرَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحِزَامِيُّ) المدنيّ، لقبه قُصيّ، ثقةٌ له غرائب [7](ع) تقدم في "الطهارة" 26/ 653.
5 -
(أَبُو الزِّنَادِ) عبد الله بن ذَكْوان القرشيّ مولاهم، أبو عبد الرحمن المدنيّ، ثقةٌ فقيهٌ [5](ت 130) أو بعدها (ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 30.
6 -
(الأَعْرَجُ) عبد الرحمن بن هرمُز القرشيّ مولاهم، أبو داود المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ [3](ت 117)(ع) تقدم في "الإيمان" 23/ 192.
و"أبو هريرة رضي الله عنه" ذُكر في السند الماضي.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه أحفظ من روى الحديث في دهره.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا) ناهية، ولذا جزم الفعل بعدها، (تَمَنَّوْا) بفتح التاء المثنّاة، أصله: تتمنّوا، فحُذفت منه إحدى التاءين، كما قال في "الخلاصة":
وَمَا بِتَاءَيْنِ ابْتُدِي قَدْ يُقْتَصَرْ
…
فِيهِ عَلَى تَا كـ"تَبَيَّنُ الْعِبَرْ"
(لِقَاءَ الْعَدُوِّ) من إضافة المصدر إلى مفعوله بعد حذف الفاعل، والأصل: لقاءكم العدوّ.
قال النوويّ رحمه الله: إنما نَهَى عن تمني لقاء العدو؛ لِمَا فيه من صورة الإعجاب، والاتكال على النفس، والوثوق بالقوّة، وهو نوع بَغْي، وقد ضَمِن الله تعالى لمن بُغِيَ عليه أن ينصره، ولأنه يتضمن قلة الاهتمام بالعدوّ، واحتقاره، وهذا يخالف الاحتياط والحزم، وتأوله بعضهم على النهي عن التمني في صورة خاصّة، وهي إذا شك في المصلحة فيه، وحصول ضرر، وإلا
فالقتال كله فضيلة وطاعة، والصحيح الأول، ولهذا تَمّمه صلى الله عليه وسلم بقوله:"واسألوا الله العافية". انتهى
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قيل: إن فائدة هذا النهي عن لقاء العدوّ أن لا يُستَخَفّ أمر العدو، فيتساهل في الاستعداد له، والتحرز منه، وهذا لِمَا فيه من المكاره، والْمِحَن، والنَّكَال، ولذلك قال متصلًا به:"واسألوا الله العافية"، وقيل: لِمَا يُخاف من إدالة العدو، وظَفَره بالمسلمين، وقد رُوي في هذا الحديث:"فإنهم يُنْصَرون كما تُنصرون"، وقيل: لِمَا يؤدي إليه من إذهاب حياة النفوس التي يزيد بها المؤمن خيرًا، ويرجَى للكافر فيها أن يتراجع، وكل ذلك مُحْتَمِل، والله تعالى أعلم.
ولا يقال: فلقاء العدو وقتاله طاعة يحصل منه إما الظفر بالعدو، وإما الشهادة، فكيف يُنْهَى عنه؟ وقد حضَّ الشرع على تمني الشهادة، ورغَّب فيه، فقال:"من سأل الله الشهادة صادقًا من قلبه، بَلَّغه الله منازل الشهداء، وإن مات على فراشه"؟
(2)
.
لأنا نقول: لقاء العدوّ، وإن كان جهادًا، وطاعةً، ومُحَصِّلًا لأحد الأمرين، فلم يُنه عن تمنّيه من هذه الجهات، وإنما نُهِي عنه من جهات تلك الاحتمالات المتقدِّمة، ثم هو ابتلاء، وامتحان، لا يُعرف عن ماذا تُسْفِر عاقبته، وقد لا تحصل فيه لا غنيمة، ولا شهادة، بل ضد ذلك.
وتحريره: أن تمنّي لقاء العدوّ المنهي عنه غير تمنّي الشهادة المرَغَّب فيه؛ لأنه قد يحصل اللقاء، ولا تحصل الشهادة، ولا الغنيمة، فانفصلا.
قال: وقد فَهِم بعض العلماء من هذا الحديث كراهة المبارزة، وبهذا قال الحسن، ورُوي عن عليّ رضي الله عنه أنه قال:"يا بُنَيّ! لا تدع أحدًا إلى المبارزة، ومن دعاك إليها فاخرج إليه، فإنه باغ، وقد ضَمِن الله نَصْر من بُغي عليه".
وقال ابن المنذر: أجمع كلُّ من أحفظ عنه على جواز المبارزة، والدَّعوة
(1)
"شرح النووي" 12/ 45.
(2)
رواه أحمد (5/ 244)، ومسلم (1909)، وأبو داود (1520)، والترمذيّ (1653)، والنسائيّ (6/ 36 - 37) من حديث سهل بن حُنيف رضي الله عنه.
إليها، وشرط بعضهم فيها إذن الإمام، وهو قول الثوريّ، والأوزاعيّ، وأحمد، وإسحاق: ولم يشترطه غيرهم، وهو قول مالك، والشافعيّ، واختلفوا، هل يُعِين المبارَز غيره أم لا؟ على قولين. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(1)
.
وقال في "الفتح": قال ابن بطّال: حكمة النهي عن لقاء العدوّ أن المرء لا يعلم ما يؤول إليه الأمر،، وهو نظير سؤال العافية من الفتن، وقد قال الصديق رضي الله عنه: لأن أُعافَى، فأشكرَ أحبّ إليّ من أن أُبْتَلَى، فأصبر.
وقال غيره: إنما نهي عن تمني لقاء العدوّ؛ لِمَا فيه من صورة الإعجاب، والاتكال على النفوس، والوثوق بالقوّة، وقلة الاهتمام بالعدوّ، وكل ذلك يباين الاحتياط، والأخذ بالحزم.
وقيل: يُحمل النهي على ما إذا وقع الشك في المصلحة، أو حصول الضرر، وإلا فالقتال فضيلة وطاعة، ويؤيد الأول تعقيب النهي بقوله صلى الله عليه وسلم:"وسلوا الله العافية".
وأخرج سعيد بن منصور، من طريق يحيى بن أبي كثير، مرسلًا:"لا تَمَنَّوا لقاء العدو، فإنكم لا تدرون، عسى أن تُبْتَلَوْا بهم".
وقال ابن دقيق العيد: لَمّا كان لقاء الموت من أشقّ الأشياء على النفس، وكانت الأمور الغائبة ليست كالأمور المحقّقة، لم يُؤمَن أن يكون عند الوقوع كما ينبغي، فيكره التمني لذلك، ولمَا فيه لو وقع من احتمال أن يخالف الإنسان ما وَعَدَ من نفسه، ثم أَمَرَ بالصبر عند وقوع الحقيقة. انتهى.
واستُدِلّ بهذا الحديث على منع طلب المبارزة، وهو رأي الحسن البصريّ، وكان عليّ رضي الله عنه يقول: لا تَدْعُ إلى المبارزة، فإذا دُعِيت فأجب، تُنْصَرْ؛ لأن الداعي باغٍ. انتهى
(2)
.
(فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ) وفي بعض النسخ: بالواو، (فَاصْبِرُوا") وفي حديث عبد الله بن أبي أوفى الآتي:"لا تتمنّوا لقاء العدوّ، واسألوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا، واعلموا أن الجنّة تحت ظلال السيوف".
(1)
"المفهم" 3/ 523 - 524.
(2)
"الفتح" 7/ 280، كتاب "الجهاد" رقم (3025).
قال النوويّ رحمه الله: قوله: "فاصبروا" هذا حثّ على الصبر في القتال، وهو آكد أركانه، وقد جمع الله سبحانه وتعالى آداب القتال في قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} الآية [الأنفال: 45 - 47]
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنف) هنا [6/ 4531](1741)، و (البخاريّ) معلّقًا في "الجهاد"(3526)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(8/ 89)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 216، 217)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(9/ 152)، وفوائد الحديث تأتي في الحديث التالي - إن شاء الله تعالى -.
وبالسند المتّصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4532]
(1742) - (وَحَدَّثَني مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثنَا عَبْدُ الرَّزَّاق، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، عَنْ أَبِي النَّضْرِ، عَنْ كِتَابِ رَجُلٍ مِنْ أَسْلَمَ، مِنْ أَصْحَابِ النَّبِي صلى الله عليه وسلم يُقَالُ لَهُ: عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي أَوْفَى، فَكَتَبَ إِلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ الله، حِينَ سَارَ إِلَى الْحَرُورِيَّة، يُخْبِرُهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ فِي بَعْضِ أيَّامِهِ الَّتي لَقِيَ فِيهَا الْعَدُوَّ يَنْتَظِرُ، حَتَّى إِذَا مَالَتِ الشَّمْسُ قَامَ فِيهِمْ، فَقَالَ: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ لَا تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُو، وَاسْأَلُوا اللهَ الْعَافِيَةَ، فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا، وَاعْلَمُوا أَن الْجَنَّةَ تَحْتَ ظِلَالِ السُّيُوفِ"، ثُمَّ قَامَ النّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَقَالَ: "اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الْكِتَاب، وَمُجْرِيَ السَّحَاب، وَهَازِمَ الأَحْزَاب، اهْزِمْهُمْ، وَانْصُرْنَا عَلَيْهِمْ").
(1)
"شرح النوويّ" 12/ 45.
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ) القشيريّ مولاهم، أبو عبد الله النيسابوريّ، تقدّم قريبًا.
2 -
(عَبْدُ الرَّزَّاقِ) بن همّام الصنعانيّ، تقدّم قريبًا.
3 -
(ابْنُ جُرَيْجٍ) عبد الملك بن عبد العزيز بن جُريج، تقدّم أيضًا قريبًا.
4 -
(مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ) بن أبي عيّاش المدنيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
5 -
(أَبُو النَّضْرِ) سالم بن أبي أُميّة، تقدّم أيضًا قريبًا.
6 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي أَوْفَى) علقمة بن خالد بن الحارث الأسلميّ الصحابيّ، شهِد الحديبية، وعُمّر بعد النبيّ صلى الله عليه وسلم دهرًا، مات سنة (87)، وهو آخر من مات من الصحابة رضي الله عنهم بالكوفة (ع) تقدم في "الصلاة" 41/ 1072.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي النَّضْرِ) سالم بن أبي أميّة، (عَنْ كِتَابِ رَجُلٍ مِنْ أَسْلَمَ) القبيلة المعروفة، (مِنْ أَصْحَابِ النَبِيِّ صلى الله عليه وسلم يُقَالُ لَهُ: عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي أَوْفَى) رضي الله عنه، وفي رواية البخاريّ: "عن سالم أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله، وكان كاتبه
…
". ومن الغريب أن الحافظ في "الفتح" أعاد الضمير في "كاتبه" لعبد الله بن أبي أوفى، وقال: أي: أن سالمًا كان كاتب عبد الله بن أبي أوفى، وكذا قال العينيّ في "العمدة"
(1)
، متعقّبًا لكرمانيّ حيث جعل الضمير لعمر بن عبيد الله، وعندي أن هذا غلط، والصواب أن الضمير لعمر بن عبيد الله، فسالم كان كاتبًا لعمر بن عبيد الله؛ لأنه مولاه، وكان عمر أميرًا في حرب الخوارج، ومما يؤيّد كونه غلطًا: ما جاء في "الفتح" نفسه بعد أسطر، أن سالمًا كان كاتب عمر بن عبيد الله، فتبيّن أن الأول غلط بلا شكّ، فتنبّه، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
(1)
راجع: "عمدة القاري" 14/ 161.
(فَكَتَبَ)؛ أي: عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه، (إِلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللهِ) بن معمر التيميّ، (حِينَ سَارَ اِلَى الْحَرُورِيَّةِ)؛ أي: إلى قتال الحروريّة، وهم الخوارج الذين خرجوا بحروراء - بالمدّ -: قرية بقرب الكوفة، وهو أول مكان خروجهم، كان عمر بن عبيد الله هذا أميرًا على حرب الخوارج
(1)
.
[تنبيه]: قال النوويّ رحمه الله: قال الدارقطنيّ: هذا الحديث صحيح، قال: واتفاق البخاريّ ومسلم على روايته حجة في جواز العمل بالمكاتبة، والإجازة، وقد جَوَّزوا العمل بالمكاتبة والإجازة، وبه قال جماهير العلماء، من أهل الحديث، والأصول، والفقه، ومنعت طائفة الرواية بها، وهذا غلط، والله أعلم، انتهى
(2)
.
وقال في "الفتح": قال الدارقطنيّ رحمه الله في "التتبع": أخرجا حديث موسى بن عقبة، عن أبي النضر، مولى عمر بن عبيد الله، قال: كتب إليه عبد الله بن أبي أوفى، فقرأته
…
الحديث، قال: وأبو النضر لم يسمع من ابن أبي أوفى، فهو حجة في رواية المكاتبة.
وتُعُقّب بأن شرط الرواية بالمكاتبة عند أهل الحديث أن تكون الرواية صادرة إلى المكتوب إليه، وابن أبي أوفى لم يكتب إلى سالم، إنما كتب إلى عمر بن عبيد الله، فعلى هذا تكون رواية سالم له عن عبد الله بن أبي أوفى من صُوَر الوجادة.
ويمكن أن يقال: الظاهر أنه من رواية سالم، عن مولاه عمر بن عبيد الله، بقراءته عليه؛ لأنه كان كاتبه، عن عبد الله بن أبي أوفى، أنه كتب إليه، فيصير حينئذ من صور المكاتبة.
قال: وفيه تعقّب على مَن صَنَّف في رجال "الصحيحين"، فإنهم لم يذكروا لعمر بن عبيد الله ترجمة، وقد ذكره ابن أبي حاتم، وذكر له رواية عن بعض التابعين، ولم يذكر فيه جَرْحًا. انتهى
(3)
.
(1)
"الفتح" 7/ 86، كتاب "الجهاد" رقم (2818).
(2)
شرح النوويّ" 12/ 47.
(3)
"الفتح" 7/ 86، كتاب "الجهاد" رقم (2818).
(يُخْبِرُهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ فِي بَعْضِ أَيَّامِهِ الَّتي لَقِيَ فِيهَا الْعَدُوَّ)؛ أي: الكفّار في الغزو، (يَنْتَظِرُ، حَتَّى إِذَا مَالَتِ الشَّمْس)؛ أي: ليطيب الوقت، ويؤدّي الصلاة، وقال القرطبيّ رحمه الله: يعني أنه كان يؤخر القتال عن الهاجرة إلى أن تميل الشمس؛ ليبرد الوقت على المقاتِلة، ويخفّ عليهم حمل السلاح التي يؤلم حملها في شدَّة الهاجرة؛ ولأن ذلك الوقت وقت الصلاة، وهو مظنَّة إجابة الدعاء، وقيل: بل كان يفعل ذلك لانتظار هبوب ريح النصر التي نُصر بها، كما قال:"نُصِرت بالصَّبا"، وفي حديث آخر: أنه صلى الله عليه وسلم كان ينتظر حتى تزول الشمس، وَتَهُبّ رياح النصر. انتهى
(1)
.
وقال النوويّ رحمه الله: وقد جاء في غير هذا الحديث أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا لم يقاتل أول النهار، انتظر حتى تزول الشمس، قال العلماء: سببه أنه أمكن للقتال، فإنه وقت هبوب الريح، ونشاط النفوس، وكلما طال ازدادوا نشاطًا، وإقدامًا على عدوهم، وقد جاء في "صحيح البخاريّ":"أَخَّر حتى تَهُبّ الأرواح، وتحضر الصلاة"، قالوا: وسببه فضيلة أوقات الصلوات، والدعاء عندها. انتهى
(2)
.
قال الطيبيّ رحمه الله: وفي قوله: "انتظر حتى مالت الشمس" إشارة إلى الفتح والنصرة؛ لأنه وقت هبوب الرياح، ونشاط النفوس، وقالوا: سببه فضيلة أوقات الصلاة، والدعاء عندها، والوجه الجمع بينهما؛ لِمَا نُصّ عليه في الحديث الآخر المخرَّج في "صحيح البخاري" من طريق النعمان بن مُقَرِّن، قال:"شهدت القتال مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان إذا لم يقاتل أول النهار انتظر حتى تَهُبّ الأرياح، وتحضر الصلاة"، وفي رواية أبي داود:"حتى تزول الشمس، وتَهُبّ الرياح، وينزل النصر"، قال التوربشتيّ رحمه الله: مصداق ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "نُصِرْتُ بالصبا"، وفيه استحباب الدعاء، والاستغفار عند القتال، انتهى
(3)
.
(قَامَ)؛ أي: خطيبًا (فِيهِمْ)؛ أي: في الصحابة الذين غزوا معه، (فَقَالَ:
(1)
"المفهم" 3/ 524.
(2)
"شرح النوويّ" 12/ 46.
(3)
"الكاشف عن حقائق السنن" 8/ 2698، و"مرقاة المفاتيح" 7/ 478.
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ) قال القاري: ولعلّ العدول عن يا أيها المؤمنون؛ ليعمّ المنافقين
(1)
. (لَا تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ) تقدّم شرح هذه الجملة في الحديث الماضي، (وَاسْأَلُوا اللهَ الْعَافِيَةَ)؛ أي: أن يعافيكم من الفتن، والْمِحن، وقال القاري: أي: اطلبوا منه كفاية شرّ الأعداء
(2)
، قال النوويّ رحمه الله: وقد كثرت الأحاديث في الأمر بسؤال العافية، وهي من الألفاظ العامة المتناولة لدفع جميع المكروهات، في البدن، والباطن، في الدِّين، والدنيا، والآخرة، اللهم إني أسألك العافية العامة لي، ولأحبائي، ولجميع المسلمين. انتهى
(3)
.
(فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا) تقدّم شرحه أيضًا، (وَاعْلَمُوا أَنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ ظِلَالِ السُّيُوفِ") قال القاري رحمه الله: أي: كون المجاهد بحيث تعلوه سيوف الأعداء سبب للجنّة، أو المراد: سيوف المجاهدين، وإنما ذَكر السيوف؛ لأنها أكثر آلات الحرب. انتهى
(4)
.
وقال في "النهاية": هو كناية عن الدنوّ من الضراب في الجهاد حتى يعلوه السيف، ويصير ظلّه عليه، والظلّ: الفيء الحاصل الحاجز بينك وبين الشمس؛ أيَّ شيء كان، وقيل: هو مخصوص بما كان منه إلى زوال الشمس، وما كان بعده فهو الفيء. انتهى
(5)
.
وقال النوويّ رحمه الله: معناه: أن ثواب الله، والسبب الموصل إلى الجنّة عند الضرب بالسيوف في سبيل الله تعالى، ومشي المجاهدين في سبيل الله، فاحضروا فيه بصدق، واثبتوا. انتهى
(6)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "الجنَّة تحت ظلال السيوف": هذا من الكلام النفيس البديع، الذي جمع ضروب البلاغة من جزالة اللفظ، وعذوبته، وحسن استعارته، وشمول المعاني الكثيرة، مع الألفاظ المعسولة الوجيزة؛ بحيث يعجز الفصحاء اللُّسْن البلغاء عن إيراد مثله، أو أن يأتوا بنظيره وشكله، فإنه استفيد
(1)
"المرقاة" 7/ 478.
(2)
"مرقاة المفاتيح" 7/ 478.
(3)
"شرح النوويّ" 12/ 46.
(4)
"مرقاة المفاتيح" 7/ 478.
(5)
"النهاية" في الحديث 3/ 159، و"الكاشف عن حقائق السنن" 8/ 2697.
(6)
"شرح النوويّ" 12/ 46.
منه مع وجازته الحضُّ على الجهاد، والإخبار بالثواب عليه، والحضّ على مقاربة العدو، واستعمال السّيوف، والاعتماد عليها، واجتماع المقاتلين حين الزحف، بعضهم لبعض، حتى تكون سيوفهم بعضها يقع على العدوّ، وبعضها يرتفع عنهم؛ حتى كأن السيوف أظلَّت الضاربين بها، ويعني: أن الضارب بالسيف في سبيل الله يدخله الله الجنة بذلك، وهذا كما قاله في الحديث الآخر:"الجنة تحت أقدام الأمهات"
(1)
؛ أي: مَن برَّ أمَّه، وقام بحقها، دخل الجنَّة. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(2)
.
(ثُمَّ قَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَقَالَ: "اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الْكِتَابِ) اسم فاعل من أنزل الرباعيّ، والمراد: جنس الكتاب، أو هو القرآن الكريم، (وَمُجْرِيَ السَّحَابِ) اسم فاعل من أجرى، رباعيًّا أيضًا، (وَهَازِمَ الأَحْزَابِ) اسم فاعل من هزم الثلاثيّ، من باب ضرب، و"الأحزاب": بفتح الهمزة: جمع حزب، وهم الجمع والقطعة من الناس، ويعني بهم: الذين تحزبوا عليه في المدينة فهزمهم الله تعالى بالريح.
وقال القاري رحمه الله: قوله: "وهازم الأحزاب"؛ أي: أصناف الكفّار السابقين، من قوم نوح، وعاد، وثمود، وغيرهم
(3)
.
(اهْزِمْهُمْ)؛ أي: اكسر شوكة هؤلاء الكفّار، يقال: هَزَمتُ الجيشَ هَزْمًا، من باب ضرب: كسرته، والاسم: الهزيمة
(4)
.
(وَانْصُرْنَا عَلَيْهِمْ)؛ أي: ليكون لنا أجر الغزو بسبب المباشرة، ورَوَى الإسماعيليّ في هذا الحديث، من وجه آخر: أنه صلى الله عليه وسلم دعا أيضًا، فقال:"اللهم أنت ربنا وربهم، ونحن عبيدك، وهم عبيدك، نواصينا ونواصيهم بيدك، فاهزمهم، وانصرنا عليهم"، ولسعيد بن منصور، من طريق أبي عبد الرحمن الحبليّ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مرسلًا نحوه، لكن بصيغة الأمر؛ عطفًا على قوله:
(1)
حديث حسن، أخرجه النسائيّ، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبيّ، وأقرّه المنذريّ.
(2)
"المفهم" 3/ 525 - 526.
(3)
"مرقاة المفاتيح" 7/ 478.
(4)
"المصباح المنير" 2/ 638.
"وسلوا الله العافية، فإن بليتم بهم، فقولوا: اللهم
…
"، فذكره، وزاد: "وغُضُّوا أبصاركم، واحملوا عليهم على بركة الله"، قاله في "الفتح"
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [6/ 4532 و 7/ 4533 و 4534 و 4535](1742)، و (البخاريّ) في "الجهاد"(2818 و 2823 و 2965 و 2966 و 3024) و"المغازي"(4115) و"التوحيد"(7237)، و (أبو داود) في "الجهاد"(2631)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(5/ 249)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(4/ 224 و 6/ 478)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 353)، و (الحاكم) في "المستدرك"(2/ 87)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 218)، و (البزّار) في "مسنده"(8/ 290)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(9/ 76 و 152)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): ما قال في "الفتح": أشار بهذا الدعاء إلى وجوه النصر عليهم، فبالكتاب إلى قوله تعالى:{قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ} الآية [التوبة: 14]، وبمجري السحاب إلى القدرة الظاهرة في تسخير السحاب، حيث يحرك الريح بمشيئة الله تعالى، وحيث يستمر في مكانه مع هبوب الريح، وحيث تمطر تارةً، وأخرى لا تمطر، فأشار بحركته إلى إعانة المجاهدين في حركتهم في القتال، وبوقوفه إلى إمساك أيدي الكفار عنهم، وبإنزال المطر إلى غنيمة ما معهم حيث يتفق قتلهم، وبعدمه إلى هزيمتهم، حيث لا يحصل الظفر بشيء منهم، وكلها أحوال صالحة للمسلمين، وأشار بهازم الأحزاب إلى التوسل بالنعمة السابقة، وإلى تجريد التوكل، واعتقاد أن الله هو المنفرد بالفعل. انتهى
(2)
.
(1)
"الفتح" 7/ 281، كتاب "الجهاد" رقم (3024).
(2)
"الفتح" 7/ 280 - 281، كتاب "الجهاد" رقم (3024).
2 -
(ومنها): ما قال في "الفتح" أيضًا: إن فيه التنبيهَ على عِظَم هذه النعم الثلاث المذكورة في هذا الدعاء، فإن بإنزال الكتاب حصلت النعمة الأخروية، وهي الإسلام، وبإجراء السحاب حصلت النعمة الدنيوية، وهي الرزق، وبهزيمة الأحزاب حصل حفظ النعمتين، وكأنه قال: اللهم كما أنعمت بعظيم النعمتين الأخروية والدنيوية، وحَفِظْتهما، فأبقهما
(1)
.
3 -
(ومنها): أن فيه دليلًا على جواز السَّجع في الدعاء إذا لم يُتَكَلَّف.
4 -
(ومنها): الحثّ على الصبر عند القتال.
5 -
(ومنها): الدعاء على المشركين بالهزيمة.
6 -
(ومنها): استحباب الدعاء عند اللقاء، والاستنصار، ووصية المقاتلين بما فيه صلاح أمرهم، وتعليمهم ما يحتاجون إليه.
7 -
(ومنها): استحباب سؤال الله تعالى بصفاته الحسنى، وبنعمه السالفة.
8 -
(ومنها): مراعاة نشاط النفوس لفعل الطاعة.
9 -
(ومنها): الحث على سلوك الأدب بالاعتماد على الله سبحانه وتعالى، لا على النفس والقوّة.
10 -
(ومنها): أن الانتصار على الأعداء ليس بكثرة العَدَد، والْعُدَد، وإنما هو بالالتجاء إلى الله، كما قال تعالى:{وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [آل عمران: 126]، فينبغي التوجّه إليه تعالى بالدعاء، والتضرّع، ولا ينبغي الثقة بالقوّة، وقد أخبر الله تعالى بما حصل من سوء نتيجة الاعتماد على ذلك، فقال:{وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25) ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (26)} [التبة: 25، 26]، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(1)
"الفتح" 7/ 280 - 281، كتاب "الجهاد" رقم (3024).
(7) - (بَابُ اسْتِحْبَابِ الدُّعَاءِ بِالنَّصْرِ عِنْدَ لِقَاءِ الْعَدُوِّ)
وبالسند المتّصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4533]
(
…
) - (حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ الله، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى، قَالَ: دَعَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الأَحْزَاب، فَقَالَ: "اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الْكِتَابِ، سَرِيعَ الْحِسَابِ، اهْزِمِ الأَحْزَابَ، اللَّهُمَّ اهْزِمْهُمْ، وَزَلْزِلْهُمْ").
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورِ) بن شعبة، أبو عثمان الْخُرَاسانيّ، نزيل مكة، ثقةٌ مصنّف، وكان لا يتراجع عمّا كتبه؛ لشدّة وثوقه به [10](ت 227) أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 61/ 338.
2 -
(خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) بن عبد الرحمن بن يزيد الطحّان المزنيّ مولاهم، أبو الهيثم الواسطيّ، ثقةٌ ثبتٌ [8](182)(ع) تقدم في "الإيمان" 78/ 407.
3 -
(إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ) البجليّ الأحمسيّ مولاهم، أبو عبد الله الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ [4](ت 146)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 299.
والصحابيّ ذُكر في السند الماضي.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله كالإسنادين التاليين، وهو (299) وهو أعلى الأسانيد له، كما تقدّم غير مرّة.
شرح الحديث:
(عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى) رضي الله عنه أنه (قَالَ: دَعَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الأَحْزَابِ) بالفتح: جمع حِزْب بكسر، فسكون؛ أي: القوم المتحزّبين، والمجتمَعين عليه، (فَقَالَ:"اللَّهُمَّ) أصله: يا ألله، فحُذفت "يا"، وعُوّضت عنها الميم، ولا يُجمع بينهما إلا في الشعر، كما قال في "الخلاصة":
وَالأَكْثَرُ "اللَّهُمَّ" بِالتَّعْوِيضِ
…
وَشَذَّ "يَا اللَّهُمَّ" فِي قَرِيضِ
وقوله: (مُنْزِلَ الْكِتَابِ) منصوب بحذف حرف النداء، كما قال الحريريّ رحمه الله في "ملحته":
وَحَذْفُ "يَا" يَجُوزُ فِي النِّدَاءِ
…
كَقَوْلِهِمْ "رَبِّ اسْتَجِبْ دُعَائِي"
وقال في "الْخُلاصة":
وَغَيْرُ مَنْدُوبٍ وَمُضْمَرٍ وَمَا
…
جَا مُسْتَغَاثًا قَدْ يُعَرَّى فَاعْلَمَا
وكذا إعراب قوله: (سَرِيعَ الْحِسَاب) قال القرطبيّ رحمه الله: وصف الله سبحانه وتعالى بأنه سريع الحساب؛ يعني به أنه يعلم الأعداد المتناهية وغيرها في آن واحد، فلا يَحتاج لأي ذلك إلى فكر، ولا عَقْد، كما يفعله الْحُسّاب منّا. انتهى
(1)
.
وقوله: (اللَّهُمَّ اهْزِمْهُمْ، وَزَلْزِلْهُمْ")؛ أي: أزعجهم، وحرّكهم بالشدائد، قال أهل اللغة: الزلزال، والزَّلْزَلة: الشدائد التي تُحرّك الناس، قاله النوويّ رحمه الله
(2)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام شرحه، وبيان المسائل المتعلّقة به في الباب الماضي، ولله الحمد والمنّة.
وبالسند المتّصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4534]
(
…
) - (وَحَدَّثنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا وَكِيعُ بْنُ الْجَرَّاح، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ أَبِي أَوْفَى يَقُولُ: دَعَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، بِمِثْلِ حَدِيثِ خَالِدٍ، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: "هَازِمَ الأَحْزَابِ"، وَلَمْ يَذْكُرْ قَوْلَهُ: "اللَّهُمَّ").
رجال هذا الإسناد: أربعة:
وكلّهم ذُكروا في الباب، وقبل ثلاثة أبواب.
[تنبيه]: هذا الإسناد من رباعيّات المصنّف رحمه الله، كسابقه، ولاحقه، وهو (300) من رباعيّات الكتاب.
[تنبيه آخر]: رواية وكيع بن الجرّاح، عن إسماعيل بن أبي خالد هذه ساقها ابن أبي شيبة رحمه الله في "مصنّفه"، فقال:
(1)
"المفهم" 3/ 525.
(2)
"شرح النوويّ" 12/ 47 - 48.
(29586)
- حدّثنا وكيع، قال: حدّثنا إسماعيل بن أبي خالد، قال: سمعت ابن أبي أوفى يقول: دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأحزاب، فقال:"منزلَ الكتاب، سريعَ الحساب، هازمَ الأحزاب، اهزِمهم، وزلزلهم". انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4535]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَاهُ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَابْنُ أَبِي عُمَرَ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ، بِهَذَا الْإِسْنَاد، وَزَادَ ابْنُ أَبِي عُمَرَ فِي رِوَايَتِهِ: "مُجْرِيَ السَّحَابِ").
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(ابْنُ أَبِي عُمَرَ) هو: محمد بن يحيى بن أبي عمر الْعَدَنيّ، ثم المكيّ، تقدّم قريبًا.
والباقون ذُكروا في الباب وقبل باب.
[تنبيه]: هذا الإسناد من رباعيّات المصنّف رحمه الله، كسابقيه، وهو (301) من رباعيّات الكتاب.
[تنبيه آخر]: رواية سفيان بن عُيينة، عن إسماعيل بن أبي خالد هذه ساقها عبد الرزّاق رحمه الله في "مصنّفه"، فقال:
(9516)
- عبد الرزاق، عن ابن عيينة، عن إسماعيل بن أبي خالد، قال: سمعت ابن أبي أوفى يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب: "اللهم منزلَ الكتاب، سريعَ الحساب، مُجريَ السحاب، هازمَ الأحزاب، اللهم اهزِمهم، وزلزلهم". انتهى
(2)
، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4536]
(1743) - وَحَدَّثَنِي حَجَّاجُ بْنُ الشَّاعِر، حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَد، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ يَوْمَ أحُدٍ: "اللَّهُمَّ إِنَّكَ إِنْ تَشَأْ لَا تُعْبَدُ في الأَرْضِ").
(1)
"مصنف ابن أبي شيبة" 6/ 76.
(2)
"مصنف عبد الرزاق" 5/ 250.
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(حَجَّاجُ بْنُ الشَّاعِرِ) تقدّم قبل أربعة أبواب.
2 -
(حَمَّادُ) بن سلمة، تقدّم قريبًا.
والباقون تقدّموا قبل بابين.
شرح الحديث:
(عَنْ أنَسٍ) رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ يَوْمَ أُحُدٍ) كذا في هذه الرواية أنه صلى الله عليه وسلم قال هذا يوم أُحد، وسيأتي في غزوة بدر أنه قاله فيها، قال النوويّ رحمه الله: وهو المشهور في كتب السير والمغازي، ولا تعارض بينهما؛ إذ يمكن حمله على أنه قاله في اليومين
(1)
. ("اللَّهُمَّ إِنَّكَ إِنْ تَشَأْ)؛ أي: عدَم عبادتك، فالمفعول محذوف، (لَا تُعْبَدُ) الظاهر أن "لا" نافية، والفعل مرفوع، فما وقع في النسخ المطبوعة من ضبطه بالقلم بسكون الدال، غلط، والله تعالى أعلم. (فِي الأَرْضِ") متعلّق بـ "تُعبد".
وقد أخرج هذا الحديث ابن حبّان في "صحيحه"، فقال:
(4718)
- أخبرنا أبو يعلى، حدّثنا هُدْبة بن خالد، حدّثنا حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس بن مالك: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم أُحد لَمّا أرهقوه، وهو في سبعة من الأنصار، ورجل من قريش:"مَن يَرُدّهم عنّا، فهو رفيقي في الجنة"، فقام رجل من الأنصار، فقاتل حتى قُتل، ثم قال مثل ذلك، فقام آخر، فقاتل حتى قُتل، فلم يزل يقول ذلك حتى قُتل السبعة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ما أَنْصَفْنا أصحابنا، اللهم إنك إن تشأ، لا تعبدُ في الأرض". انتهى
(2)
.
وفي حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال يوم بدر: "اللهمّ أَنْشُدك عهدك، ووعدك، اللهمّ إن شئت لم تُعبد بعد اليوم"، متّفقٌ عليه.
وفي حديث عمر بن الخطّاب رضي الله عنه: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم دعا يوم بدر، فقال:
(1)
"شرح النوويّ" 12/ 48.
(2)
"صحيح ابن حبان" 11/ 18.
"اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تُعبَد في الأرض"، رواه مسلم.
وأخرج أحمد من طريق يزيد بن هارون، عن حميد، عن أنس، قال:"كان من دعاء النبيّ صلى الله عليه وسلم بعد حُنين: اللهمّ إن شئت أن لا تُعبد بعد اليوم"
(1)
.
قال في "الفتح": وإنما قال ذلك؛ لأنه عَلِمَ أنه خاتم النبيين، فلو هَلَك هو ومن معه حينئذٍ لم يُبْعَث أحد ممن يدعو إلى الإيمان، ولاستمر المشركون يعبدون غير الله، فالمعنى: لا يُعْبَد في الأرض بهذه الشريعة. انتهى
(2)
.
قال النوويّ رحمه الله: قال العلماء: فيه التسليم لقَدَر الله تعالى، والردّ على غُلاة القدرية الزاعمين أن الشر غيرُ مراد، ولا مُقَدَّر، تعالى الله عن قولهم، وهذا الكلام متضمِّن أيضًا لطلب النصر. انتهى
(3)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: هذا منه صلى الله عليه وسلم تسليم لأمر الله تعالى فيما شاء أن يفعله، وهو ردّ على غلاة المعتزلة، حيث قالوا: إن الشرّ غير مراد لله تعالى، وقد ردّ مذهبهم هذا نصوص الكتاب والسُّنَّة، كقوله تعالى:{كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} الآية [المدثر: 31]، ومثله كثير. انتهى
(4)
، والله تعالى أعلم.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أنس رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله، ولم يُخرجه من أصحاب الأصول الستّة غيره.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [7/ 4536](1743)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 152 و 252)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4718)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(6/ 67)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 219)، والله تعالى أعلم.
(1)
حديث صحيح. أخرجه الإمام أحمد في "مسنده" 3/ 121.
(2)
"الفتح" 9/ 20، كتاب "المغازي" رقم (3953).
(3)
"شرح النوويّ" 12/ 48.
(4)
"المفهم" 3/ 526.
(8) - (بَابُ تَحْرِيمِ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ فِي الْحَرْبِ)
[4537]
(1744) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَمُحَمَّدُ بْنُ رُمْحٍ، قَالَا: أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ (ح) وَحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ الله:"أَنَّ امْرَأَةً وُجِدَتْ فِي بَعْضِ مَغَازِي رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَقْتُولَةً، فَأَنْكَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَتْلَ النِّسَاء، وَالصِّبْيَانِ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ النيسابوريّ، تقدّم قريبًا.
2 -
(مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحِ) بن المهاجر التجيبيّ المصريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
3 -
(اللَّيْثُ) بن سعد الإمام المصريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
4 -
(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) تقدّم أيضًا قريبًا.
والباقيان تقدّما قبل ثلاثة أبواب.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (302) من رباعيّات الكتاب.
شرح الحديث:
(عَنْ عَبْدِ اللهِ) هو ابن عمر؛ لأن الراوي عنه مدنيّ، وإلى هذا أشار السيّوطيّ رحمه الله في "ألفيّة الحديث" حيث قال:
وَحَيْثُمَا أُطْلِقَ عَبْدُ اللهِ فِي
…
طَيْبَةَ فَابْنُ عُمَرٍ وَإِنْ يَفِي
بِمَكَّةٍ فَابْنُ الزُّبَيْرِ أَوْ جَرَى
…
بِكُوفَةٍ فَهْوَ ابْنُ مَسْعُودٍ يُرَى
وَالْبَصْرَةِ الْبَحْرُ وَعِنْدَ مِصْرِ
…
وَالشَّامِ مَهْمَا أُطْلِقَ ابْنُ عَمْرِ
(أَنَّ امْرَأةً وُجِدَتْ) بالبناء للمفعول، (فِي بَعْضِ مَغَازِي رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَقْتُولَةً) قال صاحب التنبيه": هذه القصّة اتّفقت مرّات، وجزم الحافظ بأن هذه الغزوة هي فتح مكة، والمرأة لا أعرفها. انتهى
(1)
، وقد أخرج الطبرانيّ في "الأوسط" أن ذلك وقع بمكة.
(1)
"تنبيه المعلم" ص 301.
وأخرج أبو داود في "المراسيل" عن عكرمة: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم رأى امرأة مقتولة بالطائف، فقال:"ألم أَنْهَ عن قتل النساء؟ مَنْ صاحبها؟ "، فقال رجل: أنا يا رسول الله أردفتها، فأرادت أن تصرعني، فتقتلني، فقتلتُها، فأَمَر بها أن تُوارى. ذَكَره في "الفتح".
(فَأَنْكَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَتْلَ النِّسَاء، وَالصِّبْيَانِ) قال بعضهم: هذا الحكم من ميزات الإسلام البارزة، فإنه أول من حَكَم بحرمة قتل النساء، والصبيان حين كان الناس يعتدون عند الحرب على النساء، والشيوخ، والوِلدان، ولم تكن في العالم أمة أكثر احتفاظًا بهذا الحكم، وأعظم اعتناءً به من الأمة الإسلاميّة. انتهى
(1)
.
وقال النوويّ رحمه الله: أجمع العلماء على العمل بهذا الحديث، وتحريم قتل النساء، والصبيان، إذا لم يقاتِلوا، فإن قاتَلوا قال جماهير العلماء: يُقْتَلون، وأما شيوخ الكفار، فإن كان فيهم رأي قُتِلوا، وإلا ففيهم، وفي الرهبان خلاف، قال مالك، وأبو حنيفة: لا يُقْتَلون، والأصح في مذهب الشافعيّ قَتْلهم. انتهى
(2)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء، والصبيان" هذا اللفظ عامّ في جميع نساء أهل الكفر، فتدخل فيهم المرتدة وغيرها، وبه تمسَّك أبو حنيفة في منع قتل المرتدة، ورأى الجمهور أنه لم يتناول المرتدة لوجهين:
[أحدهما]: أن هذا العموم خرج على نساء الحربيين، كما هو مبيَّن في الحديث.
[الثاني]: قوله صلى الله عليه وسلم: "مَن بَدَّل دينه فاقتلوه"، وفي المسألة أبحاث تُعلَم في علم الخلاف.
قال القاضي عياض: أجْمَع العلماء على الأخذ بهذا الحديث في ترك قتل النساء، والصبيان، إذا لم يقاتِلوا.
واختلفوا إذا قاتَلوا، فجمهور العلماء وكافة من يُحفظ عنه على أنهم إذا
(1)
"تكملة فتح الملهم" 3/ 38.
(2)
"شرح النوويّ" 12/ 48.
قاتلوا قُتلوا، قال الحسن: وكذلك لو خرج النساء معهم إلى بلاد الإسلام، ومذهبنا أنها لا تُقتل في مثل هذا، إلا إذا قاتلت.
واختلف أصحابنا إذا قاتلوا ثم لم يُظْفَر بهم حتى بَرَد القتال، فهل يُقتَلون كما تُقْتَل الأسارى، أم لا يُقتلون إلا في نفس القتال؟، وكذلك اختلفوا إذا رَمَوا بالحجارة؛ هل حُكم ذلك حُكم القتال بالسلاح أم لا؟ والله أعلم.
قال القرطبيّ: والصحيح: أنها إذا قاتلت بالسِّلاح، أو بالحجارة، فإنه يجوز قتلها لوجهين:
[أحدهما]: قوله صلى الله عليه وسلم فيما خرَّجه النسائيّ عن حديث عُمر بن مُرقّع بن صيفيّ بن رباح، عن أبيه، عن جدِّه رباح؛ أنه صلى الله عليه وسلم مرَّ في غزاة بامرأة قُتيل، فقال:"ما كانت هذه تُقاتل"، فهذا تنبيه على المعنى الموجب للقتل، فيجب طَرْده إلا أن يَمنع منه مانع.
[والثاني]: قتلُ النبيّ صلى الله عليه وسلم لليهودية التي طَرَحت الرَّحى على رجل من المسلمين فقتلته، وذلك بعدما أسرها النبيّ صلى الله عليه وسلم، وكِلا الحديثين مشهور. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(1)
، وهو بحث نفيسٌ، والله تعالى أعلم.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [8/ 4537 و 4538](1744)، و (البخاريّ) في "الجهاد"(3014 و 3015)، و (أبو داود) في "الجهاد"(2668)، و (الترمذيّ) في "السير"(1569)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(5/ 185)، و (ابن ماجه) في "الجهاد"(2841)، و (مالك) في "الموطّأ"(2/ 6)، و (الشافعيّ) في "مسنده"(2/ 103)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(12/ 381)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 34 و 75 و 76)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 222)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(135 و 4785)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(3/ 220 و 221)، و (ابن
(1)
"المفهم" 3/ 527 - 528.
الجارود) في "المنتقى"(1/ 261)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(14416) و"الأوسط"(1/ 209)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 94)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(9/ 77)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(2694)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4538]
(
…
) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ، وَأَبُو أُسَامَةَ، قَالَا: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ
(1)
، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ:"وُجِدَتِ امْرَأَةٌ مَقْتُولَةً فِي بَعْضِ تِلْكَ الْمَغَازِي، فَنَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ قَتْلِ النِّسَاء، وَالصِّبْيَانِ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ) تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
2 -
(أَبُو أسَامَةَ) حمّاد بن أسامة، تقدّم أيضًا قبل ثلاثة أبواب.
3 -
(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ) الْعُمريّ، تقدّم أيضًا قبل ثلاثة أبواب.
والباقون ذُكروا في الباب، وقبله.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان المسألتين المتعلِّقتين به قبله، ولله الحمد والمنّة.
(9) - (بَابُ جَوَازِ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ فِي الْبَيَاتِ مِنْ غَيْرِ تَعَمُّدٍ)
وبالسند المتّصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4539]
(1745) - (وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَعَمْرٌو النَّاقِدُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، قَالَ يَحْيَى: أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ الله، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ، قَالَ: سُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنِ الذَّرَارِيِّ
(1)
وفي بعض النسخ: "حدّثنا عبيد الله عن نافع".
مِنَ الْمُشْرِكِينَ، يُبَيَّتُونَ، فَيُصِيبُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ، وَذَرَارِيِّهِمْ؟، فَقَالَ:"هُمْ مِنْهُمْ")،
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(عَمْرٌو النَّاقِدُ) هو: عمرو بن محمد بن بُكير البغداديّ، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
2 -
(الزُّهْرِيُّ) محمد بن مسلم، تقدّم قبل أربعة أبواب.
3 -
(عُبَيْدُ اللهِ) بن عبد الله بن عُتبة بن مسعود الْهُذليّ، أبو عبد الله المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيه [3](94)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 14.
4 -
(ابْنُ عَبَّاسٍ) عبد الله البحر الحبر رضي الله عنهما المتوفَّى سنة (68)(ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 124.
5 -
(الصَّعْبُ بْنُ جَثَّامَةَ) الليثيّ الصحابيّ المتوفّى في خلافة الصدّيق على ما قيل، والأصحّ أنه عاش إلى خلافة عثمان رضي الله عنهم (ع) تقدم في "الحج" 8/ 2845.
والباقون ذُكروا في البابين الماضيين.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أن فيه رواية صحابيّ، عن صحابيّ، وتابعيّ، عن تابعيّ، وفيه ابن عبّاس حبر الأمة، وبحرها، وأحد العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة، وفيه عبيد الله أحد الفقهاء السبعة.
شرح الحديث:
(عَنْ عُبَيْدِ اللهِ) بن عبد الله بن عُتبة، ووقع في رواية الحميديّ في "مسنده":"عن سفيان، عن الزهريّ، أخبرني عبيد الله"، (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما (عَنِ الصَّعْب بْنِ جَثَّامَةَ) الليثيّ أنه (قَالَ: سُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم) بيّن في الرواية التالية أن السائل هو الصعب نفسه، فقال: قلت: يا رسول الله إنا نُصيب في البيات".
(عَنِ الذَّرَارِيِّ) بتشديد الياء، وتخفيفها، لغتان، والتشديد أفصح، وأشهر: جَمْع ذُرّيّة، والمراد بهم هنا: النساء والصبيان
(1)
.
قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في أكثر نُسخ بلادنا: "سئل عن الذراريّ"،
(1)
"شرح النوويّ" 12/ 49.
وفي رواية: "عن أهل الدار من المشركين"، ونَقَل القاضي هذه عن رواية جمهور رواة "صحيح مسلم" قال: وهي الصواب، فأما الرواية الأولى فقال: ليست بشيء، بل هي تصحيف، قال: وما بعده هو تبيين الغلط فيه.
وتعقّبه النوويّ، فقال: وليست باطلة كما ادَّعَى القاضي، بل لها وجه، وتقديره: سئل عن حكم صبيان المشركين الذين يُبَيَّتون، فيصاب من نسائهم وصبيانهم بالقتل؟، فقال:"هم من آبائهم"؛ أي: لا بأس بذلك؛ لأن أحكام آبائهم جارية عليهم في الميراث، وفي النكاح، وفي القِصاص، والديات، وغير ذلك، والمراد: إذا لم يُتَعَمَّدوا من غير ضرورة، وأما الحديث السابق في النهي عن قتل النساء والصبيان، فالمراد به: إذا تميَّزوا. انتهى كلام النوويّ رحمه الله
(1)
، وهو تعقّب جيّد، والله تعالى أعلم.
وقال في "الفتح": قوله: "عن أهل الدار"؛ أي: المنزل، هكذا في البخاريّ وغيره، ووقع في بعض النسخ من "صحيح مسلم":"سئل عن الذراريّ". قال عياض: الأول هو الصواب، ووَجَّه النوويّ الثاني، وهو واضح. انتهى
(2)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "سُئل عن الدار" الدار: هي العمائر، تجتمع في محلة، فتسمى المحلة: دارًا، وهي من الاستدار، وقوله صلى الله عليه وسلم:"دارَ قوم مؤمنين" يدلّ على أن اسم الدار يقع على الرَّبْع العامر المسكون، وعلى الخراب غير المأهول، والدار: مؤنثة، وقوله تعالى:{وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ (30)} [النحل: 30] فالتذكير على معنى المثوى والموضع. انتهى
(3)
.
وقوله: (مِنَ الْمُشْرِكِينَ) بيان لمعنى "الذراريّ"، وقوله:(يُبَيَّتُونَ) بضمّ أوله، وتشديد ثالثه، مبنيًّا للمفعول؛ أي: يصابون ليلًا، يقال: بيّتَ العدوّ: إذا أغار عليهم ليلًا، وقال النوويّ رحمه الله: معنى البيات، و"يُبيّتون": أن يُغار عليهم بالليل، بحيث لا يُعْرَف الرجل من المرأة، والصبي. انتهى
(4)
.
(1)
"شرح النوويّ" 12/ 49.
(2)
"الفتح" 7/ 266، كتاب "الجهاد" رقم (3012).
(3)
"المفهم" 3/ 529.
(4)
"شرح النوويّ" 12/ 49.
والواو فيه ضمير الذراريّ، وأما في قوله:(فَيُصِيبُونَ) فهو ضمير المجاهدين. (مِنْ نِسَائِهِمْ، وَذَرَارِيِّهِمْ؟، فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("هُمْ مِنْهُمْ") وفي رواية عمرو بن دينار التالية: "هم من آبائهم"؛ أي: هم في الحكم في تلك الحالة كحكم آبائهم في جواز القتل، وليس المراد: إباحة قتلهم بطريق القصد إليهم، بل المراد: إذا لم يمكن الوصول إلى الآباء إلا بوطء الذرية
(1)
، فإذا أصيبوا لاختلاطهم بهم جاز قتلهم. أفاده في "الفتح"
(2)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم في ذراريّ المشركين يبيّتون: "هم من آبائهم": الذرية: تطلقه العرب على الأولاد والعيال والنساء، حكاه عياض، ومعنى الحديث: أن حُكمهم حُكم آبائهم في جواز قتلهم عند الاختلاط بهم في دار كفرهم، وبه قال الجمهور: مالك، والشافعيّ، وأبو حنيفة، والثوريّ، ورأوا رميهم بالمجانيق في الحصون، والمراكيب.
واختلف أصحابنا: هل يُرْمَون بالنار إذا كان فيهم ذراريهم ونساؤهم، رمي المشركين؟ على قولين، وأما إذا لم يكونوا فيهم؛ فهل يجوز رمي مراكبهم وحصونهم بالنار؟ أما إذا لم يوصل إليهم إلا بذلك، فالجمهور على جوازه، وأما إذا أمكن الوصول إليهم بغيره، فالجمهور على كراهته؛ لِمَا ثبت من قوله صلى الله عليه وسلم:"لا يعذِّب بالنار إلا الله"، رواه البخاريّ، وأما إذا كان فيهم مسلمون؛ فَمَنَعه مالك جملة، وهو الصحيح من مذهبه ومذهب جمهور العلماء، وفي المسألة تفصيل يُعرف في أصول الفقه. انتهى
(3)
.
[تنبيه]: ذكر ابن حبّان رحمه الله أن هذا الخبر منسوخ بخبر ابن عمر رضي الله عنهما الماضي، فقال في "صحيحه":
"ذِكْر الخبر المصرِّح بأن نهيه صلى الله عليه وسلم عن قتل الذراريّ من المشركين كان بعد قوله صلى الله عليه وسلم: "هم منهم"، ثم ساق بسنده حديث الصعب رضي الله عنه، وفيه: وسألته عن
(1)
المراد: وطؤهم بالأقدام.
(2)
"الفتح" 7/ 266، كتاب "الجهاد" رقم (3012).
(3)
"المفهم" 3/ 529.
أولاد المشركين، أنقتلهم معهم؟ قال:"نعم، فإنهم منهم"، ثم نَهَى عن قتلهم يوم حُنين. انتهى
(1)
.
وفي رواية الإسماعيليّ: "وكان الزهريّ إذا حدّث بهذا الحديث قال: وأخبرني ابن كعب بن مالك، عن عمه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لَمّا بعث إلى ابن أبي الْحُقَيق نَهَى عن قتل النساء والصبيان". انتهى.
قال الحافظ: وكأن الزهريّ أشار بذلك إلى نسخ حديث الصعب، وقال مالك، والأوزاعيّ: لا يجوز قتل النساء، والصبيان، بحال حتى لو تترَّس أهل الحرب بالنساء، والصبيان، أو تحصَّنوا بحصن، أو سفينة، وجعلوا معهم النساء، والصبيان لم يَجُز رميهم، ولا تحريقهم.
وقد أخرج ابن حبان في حديث الصعب زيادة في آخره: "ثم نَهَى عنهم يوم حنين"، وهي مُدْرَجة في حديث الصعب، وذلك بُيِّن في سنن أبي داود، فإنه قال في آخره: قال سفيان: قال الزهريّ: ثم نَهَى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك عن قتل النساء والصبيان.
قال: ويؤيد كون النهي في غزوة حنين ما في حديث رياح بن الربيع: "فقال لأحدهم: الْحَقْ خالدًا، فقل له: لا تقتل ذريةً، ولا عسيفًا"، والعسيف بمهملتين وفاء: الأجير وزنًا ومعنًى، وخالد - يعني: ابن الوليد - أول مَشاهده مع النبيّ صلى الله عليه وسلم غزوة الفتح، وفي ذلك العام كانت غزوة حنين.
وأخرج الطبرانيّ في "الأوسط" من حديث ابن عمر قال: "لمّا دخل النبيّ صلى الله عليه وسلم مكة أُتِي بامرأة مقتولة، فقال: ما كانت هذه تقاتِل"، ونَهَى
…
، فذكر الحديث.
وأخرج أبو داود في "المراسيل" عن عكرمة: "أن النبيّ صلى الله عليه وسلم رأى امرأة مقتولة بالطائف، فقال: "ألم أنه عن قتل النساء؟ من صاحبها؟ فقال رجل: أنا يا رسول الله، أردفتها، فأرادت أن تَصْرَعني، فتقتلني، فقتلتها، فأَمَر بها أن تُوارَى"، ويَحْتَمِل في هذه التعدد.
والذي جنح إليه غيرهم الجمع بين الحديثين، كما تقدمت الإشارة إليه،
(1)
"صحيح ابن حبان" 1/ 347.
وهو قول الشافعيّ، والكوفيين، وقالوا: إذا قاتلت المرأة جاز قتلها، وقال ابن حبيب من المالكية: لا يجوز القصد إلى قتلها إذا قاتلت، إلا إن باشرت القتل، وقصدت إليه، قال: وكذلك الصبيّ المراهق.
قال: ويؤيد قول الجمهور ما أخرجه أبو داود، والنسائيّ، وابن حبان، من حديث رِيَاح بن الربيع - وهو بكسر الراء، والتحتانية - التميميّ قال:"كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة، فرأى الناس مجتمعين، فرأى امرأة مقتولةً، فقال: ما كانت هذه لتقاتِل".
فإن مفهومه أنها لو قاتلت لَقُتلت، واتفق الجميع كما نقل ابن بطال وغيره على منع القصد إلى قتل النساء والولدان، أما النساء فلِضَعفهنّ، وأما الولدان فلقصورهم عن فعل الكفر، ولمَا في استبقائهم جميعًا من الانتفاع بهم، إما بالرقّ، أو بالفداء فيمن يجوز أن يفادى به.
وحَكَى الحازمي قولًا بجواز قتل النساء، والصبيان، على ظاهر حديث الصعب رضي الله عنه، وزعم أنه ناسخ لأحاديث النهي، وهو غريب. انتهى كلام الحافظ رحمه الله
(1)
، وهو بحث نفيسٌ، والله تعالى أعلم.
وقال الحافظ ابن عبد البرّ رحمه الله: جعل الزهري حديث الصعب بن جثّامة منسوخًا بنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء، والولدان، وغيرُه يجعله مُحْكَمًا غير منسوخ، ولكنه مخصو بالغارة، وترك القصد إلى قتلهم، فيكون النهي حينئذ يتوجه إلى من قَصَد قَتْلَهم، وأما من قَصَد قتل آبائهم على ما أُمر به من ذلك فأصابهم وهؤلاء يريدهم، فليس ممن توجَّه إليه الخطاب بالنهي عن قتلهم على مثل تلك الحال، ومن جهة النظر لا يجب أن يتوجه النهي إلا إلى القاصد؛ لأن الفاعل لا يستحقّ اسم الفعل حقيقة دون مجاز إلا بالقصد، والنية، والإرادة، ألا ترى أنه لو وجب عليه فعل شيء ففعله، وهو لا يريده، ولا ينويه، ولا يقصده، ولا يذكره، هل كان ذلك يجزي عنه من فعله، أو يسمى فاعلًا له؟ وهذا أصل جسيم في الفقه، فافهمه. انتهى كلام ابن عبد البرّ رحمه الله
(2)
، وهو تحقيق مفيدٌ.
(1)
"الفتح" 7/ 267 - 268، كتاب "الجهاد" رقم (3012).
(2)
"التمهيد" لابن عبد البرّ 16/ 145.
قال الجامع عفا الله عنه: الذي يترجّح عندي هو ما قاله الجمهور من أن حديث الصعب رضي الله عنه ليس منسوخًا، وإنما هو محمول على حالة الاضطرار إليه، بأن لا يُمكن الوصول إلى قتل الآباء إلا ببيات النساء والأطفال معهم، فهذا هو الجمع الحسن بين الحديثين دون ادّعاء النسخ، فتأمله بالإمعان، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث الصعب بن جثّامة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [9/ 4539 و 4540 و 4541](1745)، و (البخاريّ) في "الجهاد"(3012)، و (أبو داود) في "الجهاد"(2672)، و (الترمذيّ) في "الجهاد"(1570)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(3/ 408 و 5/ 185 - 186)، و (ابن ماجه) في "الجهاد"(2839)، و (الشافعيّ) في "مسنده"(2/ 103)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(5/ 202)، و (الحميديّ) في "مسنده"(781)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(12/ 388)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 37 و 38 و 71 و 72 و 73)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(1044)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(136 و 137 و 4786 و 4787)، و (سعيد بن منصور) في "سننه"(2/ 282)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(3/ 222)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(8/ 86 و 87 و 88) و"الأوسط"(5/ 247)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 222 - 223)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(9/ 78)، و (البغويّ) في "شرح السُّنّة"(2697)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): أنه دليل على جواز العمل بالعامّ حتى يَرِدَ الخاص؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم تمسَّكوا بالعمومات الدالة على قتل أهل الشرك، ثم نَهَى النبيّ صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء والصبيان، فخَصّ ذلك العموم.
2 -
(ومنها): أنه يَحْتَمِل - كما قال في "الفتح" - أن يُستدَلّ به على جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب إلى وقت الحاجة.
3 -
(ومنها): أنه يُستنبط منه الردّ على من يتخلى عن النساء، وغيرهنّ من أصناف الأموال زهدًا؛ لأنهم وإن كان قد يحصل منهم الضرر في الدين، لكن يتوقف تجنبهم على حصول ذلك الضرر، فمتى حصل اجتُنبن، وإلا فليُتَناوَل من ذلك بقدر الحاجة
(1)
.
4 -
(ومنها): أن فيه دليلًا على جواز البيات، وجواز الإغارة على من بلغتهم الدعوة من غير إعلامهم بذلك.
5 -
(ومنها): أن أولاد الكفار حُكمهم في الدنيا حُكم آبائهم، وأما في الآخرة ففيهم إذا ماتوا قبل البلوغ ثلاثة مذاهب: الصحيح أنهم في الجنة، والثاني: في النار، والثالث: لا يُجزم فيهم بشيء، قاله النوويّ رحمه الله
(2)
.
6 -
(ومنها): ما قال ابن بطّال رحمه الله: لا يجوز عند جميع العلماء قصد قتل نساء الحربيين، ولا أطفالهم؛ لأنهم ليسوا ممن يقاتِلون في الغالب، وقال تعالى:{وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} الآية [البقرة: 190]، وبذلك حَكم الشارع في مغازيه أن تُقتل المقاتلة، وأن تُسبى الذريّة؛ لأنهم مال للمسلمين إذا سُبُوا.
واتّفق الجمهور على جواز قتل النساء، والصبيان إذا قاتلوا، وهو قول مالك، والليث، وأبي حنيفة، والثوريّ، والأوزاعيّ، والشافعيّ، وأحمد، وإسحاق، وأبي ثور، وقال الحسن البصريّ: إن قاتلت المرأة، وخرجت معهم إلى ديار المسلمين قُتلت، وقد قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم قريظة والخندق أم قرفة، وقتل يوم الفتح قينتين كانتا تغنّيان بهجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم.
واتفق مالك، والكوفيون، والأوزاعيّ، والليث: أنه لا يُقتل الشيوخ، ولا الرهبان، وأجاز قَتْلهم الشافعيّ في أحد قوليه، واحتجّ بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بقتل دُريد بن الصِّمّة يوم حنين، وكذلك أجمعوا أن من قاتل من الشيوخ أنه يُقْتَل، واحتجّ الطحاويّ، فقال: قد رَوَى علقمة بن مرثد، عن ابن بُريدة، عن أبيه: أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان إذا بعث سرية قال: "لا تقتلوا شيخًا كبيرًا"،
(1)
"الفتح" 7/ 268، كتاب "الجهاد" رقم (3012).
(2)
"شرح النوويّ" 12/ 49.
وهذا خلاف حديث دريد، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث الْمُرَقّع بن صيفيّ في المرأة المقتولة:"ما كانت هذه تقاتل"، فدل ذلك أن من أبيح قتله هو الذي يقاتِل.
والذي يَجمع بين الأحاديث أن النهي من الرسول صلى الله عليه وسلم في قتل الشيوخ هم الذين لا معونة لهم على شيء من أمر الحرب في قَتْل، ولا رأي، وحديث دُريد في الشيوخ الذين لهم معونة في الحرب، كما كان لدُريد، فلا بأس بقتلهم، وإن لم يكونوا يقاتِلون؛ لأن تلك المعونة أشدّ من كثير من القتال، وهذا قول محمد بن الحسن، وهو قياس قول أبي حنيفة، وأبي يوسف
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4540]
(
…
) - (حَدَّثَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاق، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُتْبَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله، إِنَّا نُصِيبُ فِي الْبَيَاتِ مِنْ ذَرَارِيِّ الْمُشْرِكِينَ؟ قَالَ: "هُمْ مِنْهُمْ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
وكلّهم ذُكروا في الباب وقبل بابين.
وقوله: (فِي الْبَيَاتِ) بالفتح، وتخفيف المثنّاة: هو أن يؤخذ العدوّ على غِرّة بالليل.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، ولله الحمد والمنّة، وله الفضل والنعمة.
وبالسند المتّصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4541]
(
…
) - (وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ رَافِع، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاق، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، أَنَّ ابْنَ شِهَابٍ أَخْبَرَهُ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُتْبَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قِيلَ لَهُ: لَوْ أَنَّ خَيْلًا
(1)
"شرح ابن بطال" 5/ 170 - 171.
أَغَارَتْ مِنَ اللَّيْل، فَأَصَابَتْ مِنْ أبْنَاءِ الْمُشْرِكِينَ؟ قَالَ:"هُمْ مِنْ آبَائِهِمْ").
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
وكلّهم ذُكروا في الباب، وقبل بابين.
وقوله: (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قِيلَ لَهُ) تقدّم أن القائل هو الصعب رضي الله عنه نفسه.
وقوله: (لَوْ أَنَّ خَيْلًا) المراد بالخيل: المجاهدون الذين يركبون الخيل.
وقوله: (مِنَ اللَّيْلِ)"من" بمعنى "في"، أو هي للتبعيض.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "لو أن خيلًا أغارت من الليل": أي: أسرعت طالبةً غِرَّة العدوّ، والإغارة: سرعة السير، ومنه قولهم:"أَشْرِقْ ثبير كيما نُغِير": أي: نسرع في النَّفْر. والغارة: الخيل نفسها، وشَنّ الغارة؛ أي: أرسل الخيل مسرعة، ويقال: أغارت الخيل ليلًا، وضُحًى، ومساءً، إذا كان ذلك في تلك الأوقات، فأما البيات: فهو أن يؤخذ العدوّ على غِرّة بالليل، انتهى
(1)
.
وقوله: (مِنْ أَبْنَاءِ الْمُشْرِكِينَ)"من" هنا بمعنى بعض.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله قبل حديث، ولله الحمد والمنّة، وله الفضل والنعمة.
(10) - (بَابُ جَوَازِ قَطْعِ أَشْجَارِ الْكُفَّار، وَتَحْرِيقِهَا)
وبالسند المتّصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4542]
(1746) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَمُحَمَّدُ بْنُ رُمْحٍ، قَالَا: أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ (ح) وَحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ:"أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَرَّقَ نَخْلَ بَنِي النَّضِير، وَقَطَعَ، وَهِيَ الْبُوَيْرَةُ"، زَادَ قُتَيْبَةُ، وَابْنُ رُمْحٍ فِي حَدِيثِهِمَا: فَأَنْزَلَ اللهُ: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ (5)} [الحشر: 5]).
(1)
"المفهم" 3/ 528 - 529.
رجال هذا الإسناد: ستة:
وقد تقدّم السند نفسه قبل باب.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (303) من رباعيّات الكتاب.
شرح الحديث:
(عَنْ عَبْدِ اللهِ) هو ابن عمر رضي الله عنهما؛ لِمَا تقدّم قريبًا، (أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم حَرَّقَ) بتشديد الراء، (نَخْلَ بَنِي النَّضِيرِ) - بفتح النون، وكسر الضاد المعجمة -: هم قبيلة كبيرة من اليهود، قال في "الفتح": كان الكفار بعد الهجرة مع النبيّ صلى الله عليه وسلم على ثلاثة أقسام: قسم وادَعَهم على أن لا يحاربوه، ولا يمالئوا عليه عدوّه، وهم طوائف اليهود الثلاثة: قريظة، والنضير، وقينقاع، وقسم حاربوه، ونصبوا له العداوة، كقريش، وقسم تاركوه، وانتظروا ما يئول إليه أمره، كطوائف من العرب، فمنهم من كان يحب ظهوره في الباطن، كخزاعة، وبالعكس، كبني بكر، ومنهم من كان معه ظاهرًا، ومع عدوه باطنًا، وهم المنافقون، فكان أول من نقض العهد من اليهود بنو قينقاع، فحاربهم في شوال بعد وقعة بدر، فنزلوا على حكمه، وأراد قتلهم، فاستوهبهم منه عبد الله بن أُبَيّ، وكانوا حلفاءه، فوهبهم له، وأخرجهم من المدينة إلى أذرعات، ثم نقض العهد بنو النضير، وكان رئيسهم حُيَيَّ بن أخطب، ثم نقضت قريظة.
- وأخرج عبد الرزاق في "مصنفه": عن معمر، عن الزهريّ، عن عروة: "ثم كانت غزوة بني النضير، وهم طائفة من اليهود، على رأس ستة أشهر من وقعة بدر، وكانت منازلهم، ونخلهم بناحية المدينة، فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزلوا على الجلاء، وعلى أن لهم ما أقَلَّت الإبل من الأمتعة، والأموال، لا الحلقة - يعني: السلاح - فأنزل الله فيهم: {سَبَّحَ لِلَّهِ} إلى قوله: {لِأَوَّلِ الْحَشْرِ} [الحشر: 1، 2]، وقاتَلَهم حتى صالَحهم على الجلاء، فأجلاهم إلى الشام، وكانوا من سِبْطٍ لم يصبهم جلاء فيما خلا، وكان الله قد كتب عليهم الجلاء، ولولا ذلك لعذبهم في الدنيا بالقتل والسباء.
وذكر ابن إسحاق عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم وغيره من أهل العلم:
أن عامر بن الطفيل أعتق عمرو بن أمية لَمَّا قَتَل أهل بئر معونة عن رقبة كانت على أمه، فخرج عمرو إلى المدينة، فصادف رجلين من بني عامر، معهما عَقد وعَهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يشعر به عمرو، فقال لهما عمرو: ممن أنتما؟ فذكرا أنهما من بني عامر، فتركهما حتى ناما، فقتلهما عمرو، وظنّ أنه ظَفِرَ ببعض ثأر أصحابه، فأُخبِر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، فقال:"لقد قتلت قتيلين لَأُودِيَنَّهما". انتهى.
قال ابن إسحاق: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني النضير يستعينهم في ديتهما، فيما حدثني يزيد بن رُومان، وكان بين بني النضير وبني عامر عقد وحِلْف، فلما أتاهم يستعينهم قالوا: نعم، ثم خلا بعضهم ببعض، فقالوا: إنكم لن تجدوه على مثل هذه الحال، قال: وكان جالسًا إلى جانب جدار لهم، فقالوا: مَن رجلٌ يعلو على هذا البيت، فيلقي هذه الصخرة عليه، فيقتله، ويريحنا منه؟ فانتدب لذلك عمرو بن جحاش بن كعب، فأتاه الخبر من السماء، فقام مظهرًا أنه يقضي حاجة، وقال لأصحابه:"لا تبرحوا"، ورجع مسرعًا إلى المدينة، واستبطأه أصحابه، فأُخبروا أنه توجه إلى المدينة، فلحقوا به، فأَمر بحربهم، والمسير إليهم، فتحصّنوا، فأمر بقطع النخل والتحريق.
وذكر ابن إسحاق أنه حاصرهم ست ليال، وكان ناس من المنافقين بعثوا إليهم أن اثبتوا، وتمنَّعوا، فإن قوتلتم قاتلنا معكم، فتربصوا، فقذف الله في قلوبهم الرعب، فلم ينصروهم، فسألوا أن يُجلوا عن أرضهم، على أن لهم ما حَمَلت الإبل، فصولحوا على ذلك.
وروى البيهقيّ في "الدلائل" من حديث محمد بن مسلمة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه إلى بني النضير، وأمره أن يؤجلهم في الجلاء ثلاثة أيام.
قال ابن إسحاق: فاحتملوا إلى خيبر، وإلى الشام، قال: فحدّثني عبد الله بن أبي بكر أنهم جلوا عن الأموال من الخيل، والمزارع، فكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصّة.
قال ابن إسحاق: ولم يُسْلم منهم إلا يامين بن عمير، وأبو سعيد بن وهب، فأحرزا أموالهما.
ورَوَى ابن مردويه قصة بني النضير بإسناد صحيح، إلى معمر، عن
الزهريّ: أخبرني عبد الله بن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، عن رجل من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: كتب كفار قريش إلى عبد الله بن أُبَيّ وغيره ممن يعبد الأوثان قبل بدر يهددونهم بإيوائهم النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ويتوعدونهم أن يغزوهم بجميع العرب، فهَمّ ابن أُبَيّ ومن معه بقتال المسلمين، فأتاهم النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال:"ما كادكم أحد بمثل ما كادتكم قريش، يريدون أن تُلْقُوا بأسكم بينكم"، فلما سمعوا ذلك عرفوا الحقّ، فتفرقوا، فلما كانت وقعة بدر كتبت كفار قريش بعدها إلى اليهود: إنكم أهل الحلقة، والحصون، يتهددونهم، فأجمع بنو النضير على الغدر، فأرسلوا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم: اخرج إلينا في ثلاثة من أصحابك، ويلقاك ثلاثة من علمائنا، فإن آمنوا بك اتبعناك، ففعل فاشتمل اليهود الثلاثة على الخناجر، فأرسلت امرأة من بني النضير إلى أخ لها من الأنصار مسلم تخبره بأمر بني النضير، فأخبر أخوها النبيّ صلى الله عليه وسلم قبل أن يصل إليهم، فرجع، وصَبّحهم بالكتائب، فحصرهم يومه، ثم غدا علي بني قريظة، فحاصرهم، فعاهدوه، فانصرف عنهم إلى بني النضير، فقاتلهم حتى نزلوا على الجلاء، وعلى أن لهم ما أقلّت الإبل، إلا السلاح، فاحتَمَلوا حتى أبواب بيوتهم، فكانوا يُخْرِبون بيوتهم بأيديهم، فيهدمونها، ويحملون ما يوافقهم من خشبها، وكان جلاؤهم ذلك أول حشر الناس إلى الشام. وكذا أخرجه عبد بن حميد في "تفسيره"، عن عبد الرزاق. انتهى
(1)
.
(وَقَطَعَ) بفتح القاف، والطاء المهملة، مبنيًّا للفاعل، ويَحتَمِل تشديد الطاء للمبالغة؛ أي: قطع النبيّ صلى الله عليه وسلم أشجارهم، (وَهِيَ الْبُوَيْرَةُ) بالموحدة مصغرُ بُؤرَة، وهي الْحُفْرة، وهي هنا مكان معروف بين المدينة وبين تيماء، وهي من جهة قبلة مسجد قباء إلى جهة الغرب، ويقال لها أيضًا: البويلة باللام بدل الراء، قاله في "الفتح"
(2)
.
(زَادَ قُتَيْبَةُ) بن سعيد (وَ) محمد (بْنُ رُمْحٍ فِي حَدِيثِهِمَا) وقوله:
(1)
"الفتح" 9/ 85 - 88، كتاب "المغازي" رقم (4028).
(2)
"الفتح" 9/ 90، كتاب "المغازي" رقم (4028).
(فَأَنْزَلَ اللهُ عز وجل مفعول "زاد" محكيّ لِقَصْد لفظه، وقوله: ({مَا قَطَعْتُمْ}) الآية مفعول "أَنْزَلَ" محكيّ أيضًا؛ لقصد لفظه.
وقال أبو عبد الله القرطبيّ رحمه الله في "تفسيره": قوله تعالى: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ} "ما" في محل نصب بـ "قطعتم"، كأنه قال: أي شيء قطعتم، وذلك أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لمّا نزل على حصون بني النضير - وهي البويرة - حين نقضوا العهد بمعونة قريش عليه يوم أُحد، أمر بقطع نخيلهم، وإحراقها، واختلفوا في عدد ذلك، فقال قتادة والضحاك: إنهم قطعوا من نخيلهم، وأحرقوا ست نخلات، وقال محمد بن إسحاق: إنهم قطعوا نخلة، وأحرقوا نخلة، وكان ذلك عن إقرار رسول الله صلى الله عليه وسلم أو بأمره، إما لإضعافهم بها، وإما لسعة المكان بقطعها، فشقّ ذلك عليهم، فقالوا - وهم يهود أهل الكتاب -: يا محمد، ألست تزعم أنك نبي تريد الصلاح، أفمن الصلاح قطع النخل وحرق الشجر؟ وهل وجدت فيما أنزل الله عليك إباحة الفساد في الأرض؟ فشق ذلك على النبيّ صلى الله عليه وسلم، ووجد المؤمنون في أنفسهم حتى اختلفوا، فقال بعضهم: لا تقطعوا مما أفاء الله علينا، وقال بعضهم: اقطعوا لنُغيظهم بذلك، فنزلت الآية بتصديق مَن نَهَى عن القطع، وتحليل من قطع من الإثم، وأخبر أن قَطْعه وتَرْكه بإذن الله، وقال شاعرهم سماك اليهوديّ في ذلك:
أَلَسْنَا وَرِثْنَا الْكِتَابَ الْحَكِيمْ
…
عَلَى عَهْدِ مُوسَى وَلَمْ نُصْدِفِ
وَأَنْتُمْ رِعَاءُ لِشَاءٍ عِجَافْ
…
بِسَهْل تِهَامَةَ وَالأَخْيَفِ
تَرَوْنَ الرِّعَايَةَ مَجْدًا لَكُمْ
…
لَدَى كُلِّ دَهْرِ لَكُمْ مُجْحِفِ
فَيَا أَيُّهَا الشَّاهِدُونَ اْنَتُهوا
…
عَنِ الظُّلْمِ وَالْمَنْطِقِ الْمُؤنِفِ
لَعَلَّ اللَّيَالِي وَصَرْفَ الدُّهُورْ
…
يُدِلْنَ مِنَ الْعَادِلِ الْمُنْصِفِ
بقَتْلِ النَّضِيرِ وَإِجْلَائِهَا
(1)
…
وَعَقْرِ النَّخِيلِ وَلَمْ تُقْطَفِ
فأجابه حسان بن ثابت رضي الله عنه:
تَفَاقَدَ مَعْشَرٌ نَصَرُوا قُرَيْشًا
…
وَلَيْسَ لَهُمْ بِبَلْدَتِهِمْ نَصِيرُ
هُمُو أُوتُوا الْكِتَابَ فَضَيَّعُوهُ
…
وَهُمْ عُمْيٌ عَنِ التَّوْرَاةِ بُورُ
(1)
وفي "سيرة ابن هشام": "وَأَحْلَافِهَا".
كَفَرْتُمْ بِالْقُرَانِ وَقَدْ أَبَيْتُمْ
…
بِتَصْدِيقِ الَّذِي قَالَ النَّذِيرُ
وَهَانَ عَلَى سَرَاةِ بَنِي لُؤَيٍّ
…
حَرِيقٌ بِالْبُوَيْرَةِ مُسْتَطِيرُ
فأجابه أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب:
أَدَامَ اللهُ ذَلِكَ مِنْ صَنِيعٍ
…
وَحَرَّقَ فِي نَوَاحِيهَا السَّعِيرُ
سَتَعْلَمُ أَيُّنَا مِنْهَا بِنُزْهٍ
…
وَتَعْلَمُ أَيُّ أَرْضَيْنَا تَضِيرُ
فَلَوْ كَانَ النَّخِيلُ بِهَا رِكَابًا
…
لَقَالُوا لَا مُقَامَ لَكُمْ فَسِيرُوا
انتهى
(1)
.
({مِنْ لِينَةٍ}) بكسر اللام: هي صنف من النخل، قال السهيليّ: في تخصيصها بالذكر إيماءٌ إلى أن الذي يجوز قطعه من شجر العدوّ ما لا يكون مُعَدًّا للاقتيات؛ لأنهم كانوا يقتاتون العجوة، والْبَرْنيّ دون اللينة، وفي "الجامع": اللينة: النخلة، وقيل: الدقل، وعن الفرّاء: كل شيء من النخل سوى العجوة فهو من اللين. انتهى
(2)
.
وقال النوويّ رحمه الله: اللينة المذكورة في القرآن هي أنواع الثمر كلّها، إلا العجوة، وقيل: كرام النخل، وقيل: كلُّ النخل، وقيل: كلّ الأشجار؛ للينها، وقد ذكرنا قبل هذا أن أنواع نخل المدينة مائة وعشرون نوعًا. انتهى
(3)
.
وقال أبو عبد الله القرطبيّ رحمه الله في "تفسيره": اختُلِف في "اللينة" ما هي؟، على أقوال عشرة:
الأول: - النخل كله إلا العجوة، قاله الزهري، ومالك، وسعيد بن جبير، وعكرمة، والخليل، وعن ابن عباس، ومجاهد، والحسن: أنها النخل كله، ولم يستثنوا عجوة ولا غيرها، وعن ابن عباس أيضًا: أنها لون من النخل، وعن الثوري: أنها كرام النخل.
وعن أبي عبيدة: أنها جميع ألوان التمر سوى العجوة والبرنيّ
(4)
.
(1)
"الجامع لأحكام القرآن" 18/ 6.
(2)
"الفتح" 9/ 90 - 91، كتاب "المغازي" رقم (4031).
(3)
"شرح النوويّ" 12/ 50.
(4)
"تفسير القرطبي" 18/ 9.
وقال جعفر بن محمد: إنها العجوة خاصة.
وذكر أن العتيق والعجوة كانتا مع نوح عليه السلام في السفينة، والعتيق: الفحل.
وكانت العجوة أصل الإناث كلها فلذلك شَقّ على اليهود قطعها، حكاه الماوردي.
وقيل: هي ضرب من النخل يقال لتمره: اللون، تمره أجود التمر، وهو شديد الصفرة، يُرى نواه من خارجه ويغيب فيه الضرس، النخلة منها أحب إليهم من وصيف
(1)
.
وقيل: هي النخلة القريبة من الأرض.
وأنشد الأخفش [من الخفيف]:
قَدْ شَجَانِي الْحَمَامُ حِينَ تَغَنَّى
…
بِفِرَاقِ الأَحْبَابِ مِنْ فَوْقِ لِينِهْ
وقيل: إن اللينة: الْفَسِيلة؛ لأنها ألين من النخلة.
ومنه قول الشاعر [من الخفيف]:
غَرَسُوا لِينَهَا بِمَجْرًى مَعِينٍ
…
ثُمَّ حَفَّوا النَّخِيلَ بِالآجَامِ
(2)
وقيل: إن اللينة الأشجار كلها للينها بالحياة، قال ذو الرمة [من الطويل]:
طِرَاقُ الْخَوَافِي وَاقِعٌ فَوْقَ لِينَةٍ
…
نَدَى لَيْلَهُ فِي رِيشِهَ يَتَرَقْرَقُ
والقول العاشر: أنها الدَّقَلُ، قاله الاصمعيّ، قال: وأهل المدينة يقولون: لا تنتفخ الموائد حتى توجد الألوان، يعنون الدَّقَلَ.
قال ابن العربيّ: والصحيح ما قاله الزهريّ، ومالك
(3)
؛ لوجهين:
أحدهما: أنهما أعرف ببلدهما، وأشجارهما.
الثاني: أن الاشتقاق يَعْضِده، وأهل اللغة يصححونه، فإن اللينة وزنها
= البرنيّ بفتح فسكون: ضرب من التمر أحمر مشرب بصفرة كثير اللحاء، عذب الحلاوة.
(1)
الوصيف: الخادم غلامًا كان أو جاريةً.
(2)
وفي بعض النسخ: "بالآكام".
(3)
أي: أن اللينة: هي النخل كلّه إلا العجوة.
لُونة، واعتَلَّت على أصولهم فآلت إلى لِينة، فهي لَوْن، فإذا دخلت الهاء كسر أولها، كَبَرْك الصدر (بفتح الباء) وبِرْكه (بكسرها)؛ لأجل الهاء.
وقيل: لينة أصلها لِوْنة، فقلبت الواو ياء؛ لانكسار ما قبلها، وجمع اللينة لِينٌ، وقيل: ليان، قال امرؤ القيس يصف عُنُق فرسه [من المتقارب]:
وَسَالِفَةٍ كَسَحُوقِ اللَّيَا
…
نِ أَضْرَمَ فِيهَا الْغَوِيُّ السُّعُرْ
وقال الأخفش: إنما سمِّيت لِينة اشتقاقًا من اللون، لا من اللين.
وقال المهدويّ: واختُلف في اشتقاقها، فقيل: هي من اللون، وأصلها لونة.
وقيل: أصلها لينة، من لان يلين. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(1)
.
({أَوْ تَرَكْتُمُوهَا})؛ أي: لم تقطعوها ({قَائِمَةً}) منصوب على الحال ({عَلَى أُصُولِهَا})؛ أي: على سُوقها ({فَبِإِذْنِ اللَّهِ})؛ أي: فبأمره تعالى ({وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ (5)}) [الحشر: 5])؛ أي: ليُذلّ اليهود الكفّار به تعالى، وبنبيّه صلى الله عليه وسلم، وبكتابه.
وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله: في "تفسيره": قوله تعالى: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ (5)} اللين: نوع من التمر، وهو جيّد، قال أبو عبيدة: وهو ما خالف العجوة، والبرنيّ من التمر، وقال كثيرون من المفسرين: اللينة ألوان التمر، سوى العجوة، قال ابن جرير: هو جميع النخل، ونقله عن مجاهد، وهو البويرة أيضًا، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لمّا حاصرهم أمر بقطع نخيلهم؛ إهانةً لهم، وإرهابًا، وإرعابًا لقلوبهم.
فروى محمد بن إسحاق، عن يزيد بن رومان، وقتادة، ومقاتل بن حيان: أنهم قالوا: فبعث بنو النضير يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إنك تنهى عن الفساد، فما بالك تأمر بقطع الأشجار؟ فأنزل الله هذه الآية الكريمة؛ أي:{مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ} ، وما تركتم من الأشجار، فالجميع بإذنه، ومشيئته، وقدره، ورضاه، وفيه نكاية بالعدوّ، وخزي لهم، وإرغام لأنوفهم.
وقال مجاهد: نَهَى بعض المهاجرين بعضًا عن قطع النخل، وقالوا: إنما
(1)
"الجامع لأحكام القرآن" 8/ 18 - 10.
هي مغانم المسلمين، فنزل القرآن بتصديق مَن نَهَى عن قَطْعه، وتحليل من قَطَعه من الإثم، وإنما قَطْعه وتَرْكه بإذنه، وقد رُوي نحو هذا مرفوعًا، فقد أخرج النسائي بسنده عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله:{مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ (5)} ، قال: يستنزلونهم من حصونهم، وأمروا بقطع النخل، فحاك في صدورهم، فقال المسلمون: قطعنا بعضًا، وتركنا بعضًا، فلنسألن رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل لنا فيما قطعنا من أجر؟ وهل علينا فيما تركنا من وزر؟ فأنزْل الله: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ} .
وأخرج أبو يعلى في "مسنده" عن جابر رضي الله عنه قال: رُخِّص لهم في قطع النخل، ثم شُدِّد عليهم، فأتوا النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا رسول الله علينا إثم فيما قطعنا، أو علينا وزر فيما تركنا؟ فأنزل الله:{مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ} .
وأخرج البخاريّ من طريق عبد الرزاق، عن ابن جريج، عن موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر قال: حاربت النضير، وقريظة، فأجلى بني النضير، وأقر قريظة، ومَنّ عليهم، حتى حارب قريظة، فقَتَل رجالهم، وقسم نساءهم، وأولادهم، وأموالهم بين المسلمين، إلا بعضهم لحقوا بالنبيّ صلى الله عليه وسلم، فآمنهم، وأسلموا، وأجلى يهود المدينة كلهم: بني قينقاع، وهم رهط عبد الله بن سلام، ويهود بني حارثة، وكل يهود بالمدينة
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [10/ 4542 و 4543 و 4544](1746)، و (البخاريّ) في "الحرث والمزارعة"(2326) و"الجهاد"(3021) و"المغازي"
(1)
راجع: "تفسير ابن كثير" 4/ 334.
(4031 و 4032) و"التفسير"(4884)، و (أبو داود) في "الجهاد"(2615)، و (الترمذيّ) في "التفسير"(3298)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(8608 و 8609)، و (ابن ماجه) في "الجهاد"(2844)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 7 و 52 و 80 و 86 و 123 و 140)، و (سعيد بن منصور) في "سننه"(2/ 285)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 224 و 225)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(9/ 83)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): أنه يدلّ على جواز قطع شجر الكفّار، وإحراقه، وبه قال عبد الرحمن بن القاسم، ونافع، مولى ابن عمر، ومالك، والثوريّ، وأبو حنيفة، والشافعيّ، وأحمد، وإسحاق، والجمهور، وقال أبو بكر الصدّيق رضي الله عنه، والليث بن سعد، وأبو ثور، والأوزاعيّ في رواية عنهم: لا يجوز
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله في "تفسيره": واختَلَف الناس في تخريب دار العدوّ، وتحريقها، وقَطْع ثمارها على قولين: الأول: أن ذلك جائز، قاله في "المدونة".
الثاني: إن علم المسلمون أن ذلك لهم لم يفعلوا، وإن يئسوا فعلوا، قاله مالك في "الواضحة"، وعليه يناظر أصحاب الشافعيّ.
قال ابن العربيّ: والصحيح الأول، وقد عَلِم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نخل بني النضير له، ولكنه قَطَعَ وحَرَّقَ؛ ليكون ذلك نِكاية لهم، ووَهْنًا فيهم، حتى يخرجوا عنها، وإتلاف بعض المال لصلاح باقيه مصلحةٌ جائزةٌ شرعًا، مقصودةٌ عقلًا. انتهى
(2)
، وهو بحث نفيس جدًّا، والله تعالى أعلم.
2 -
(ومنها): ما ذكر القرطبيّ عن الماورديّ قال: إن في هذه الآية دليلًا على أن كل مجتهد مصيب، وقاله إلكيا الطبريّ، قال: وإن كان الاجتهاد يبعد في مثله مع وجود النبيّ صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم، ولا شك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى ذلك، وسكت، فتلقّوا الحكم من تقريره فقط.
قال ابن العربيّ: وهذا باطل؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان معهم، ولا اجتهاد
(1)
"شرح النوويّ" 12/ 50.
(2)
"الجامع لأحكام القرآن" 18/ 8.
مع حضور رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما يدل على اجتهاد النبيّ صلى الله عليه وسلم فيما لم ينزل عليه، أخذًا بعموم الأذيّة للكفار، ودخولًا في الإذن للكل بما يقضي عليهم بالاجتياح والبوار، وذلك قوله تعالى:{وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ} . انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: مسألة أن كلّ مجتهد مصيب قد تقدّم البحث فيها غير مرّة، وأن الصحيح أنه إن أريد به إصابة الأجر، فهو كلام صحيح، وإن أريد به إصابة الحقّ، فهو باطل، فإن الحقّ واحد لا يتعدّد، فمن أصابه حصل له أجران، ومن أخطأه من المجتهدين عُفي عنه خطأه، وله أجر باجتهاده، فتبصّر لهذه الدقيقة، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
3 -
(ومنها): أنه ينبغي للمسلمين السعي فيما يُضعف شوكة الكفّار بأي وسيلة يصلون إليه، ومن ذلك تخريب دورهم، وتحريق أموالهم، ونحو ذلك، مما يزعجهم، ويورثهم القلق، ويدعوهم إلى الاستسلام للحقّ، إما بالإسلام، أو أداء الجزية، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4543]
(
…
) - (حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَهَنَّادُ بْنُ السَّرِيّ، قَالَا: حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُبَارَك، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ نَافِع، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: "أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَطَعَ نَخْلَ بَنِي النَّضِير، وَحَرَّقَ، وَلَهَا يَقُولُ حَسَّانُ:
وَهَانَ عَلَى سَرَاةِ بَنِي لُؤَيٍّ
…
حَرِيقٌ بالْبُويرَةِ مُسْتَطِيرُ
وَفِي ذَلِكَ نَزَلَتْ: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا} الآيةَ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ) بن مصعب التميميّ، أبو السَّريّ الكوفيّ، ثقةٌ [10](ت 243) وله (91) سنةً (عخ م 4) تقدم في "الإيمان" 64/ 365.
2 -
(ابْنُ الْمُبَارَكِ) عبد الله الإمام المشهور، تقدّم قبل أربعة أبواب.
3 -
(مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ) تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
(1)
"الجامع لأحكام القرآن" 18/ 8.
والباقون ذُكروا في الباب وقبله.
وقوله: (وَلَهَا يَقُولُ حَسَّانُ)؛ أي: من أجل البويرة؛ أي: من أجل حرقها قال حسّان بن ثابت بن المنذر بن حَرَام الأنصاريّ الْخَزْرَجيّ، أبو عبد الرحمن، أو أبو الوليد، الصحابيّ المشهور، شاعر رسول الله صلى الله عليه وسلم المتوفّى سنة (54) وله مائة وعشرون سنة، وستأتي ترجمته في "كتاب فضائل الصحابة رضي الله عنهم" إن شاء الله تعالى.
وقوله: (وَهَانَ) قال في "الفتح": كذا للأكثر، وفي رواية الكشميهنيّ:"لَهَانَ" باللام بدل الواو، وسقطت اللام والواو من رواية الإسماعيليّ.
وقوله: (عَلَى سَرَاةِ بَنِي لُؤَيٍّ) - بفتح المهملة، وتخفيف الراء -: جمع سَرَيّ، وهو الرئيس.
وقوله: (حَرِيقٌ بِالْبُويرَةِ مُسْتَطِيرُ)؛ أي: مُشتعِلٌ، وإنما قال حسان رضي الله عنه ذلك؛ تعييرًا لقريش؛ لأنهم كانوا أغروهم بنقض العهد، وأمروهم به، ووعدوهم أن ينصروهم إن قصدهم النبيّ صلى الله عليه وسلم
(1)
.
[تنبيه]: زاد في رواية البخاريّ رحمه الله قوله: قال: فأجابه أبو سفيان بن الحارث:
أدَامَ اللهُ ذَلِكَ مِنْ صَنِيعٍ
…
وَحَرَّقَ فِي نَوَاحِيهَا السَّعِيرُ
سَتْعْلَمُ أَيُّنَا مِنْهَا بِنُزْهٍ
…
وَتَعْلَمُ أيُّ أَرْضَيْنَا تَضِيرُ
وقوله: "فأجابه أبو سفيان بن الحارث"؛ أي: ابن عبد المطلب، وهو ابن عمّ النبيّ صلى الله عليه وسلم، وكان حينئذٍ لم يسلم، وقد أسلم بعدُ في الفتح، وثبت مع النبيّ صلى الله عليه وسلم بحنين، وذكر إبراهيم بن المنذر أن اسمه المغيرة، وجزم ابن قتيبة أن المغيرة أخوه، وبه جزم ابن عبد البرّ، والسهيليّ.
وقوله: "ستعلم أينا منها بنزه" بنون، ثم زاي ساكنة؛ أي: بِبُعْد وزنًا ومعنًى، ويقال: بفتح النون أيضًا.
وقوله: "وتعلم أيّ أرضينا" بالتثنية، وقوله:"تَضِير" بفتح المثناة، وكسر الضاد المعجمة، من الضير، وهو بمعنى الضّرّ، ويُطلَق الضير، ويراد به المضرّة.
(1)
"الفتح" 9/ 91.
قال الحافظ رحمه الله: ونسبة هذه الأبيات لحسان بن ثابت، وجوابها لأبي سفيان بن الحارث هو المشهور، كما وقع في "صحيح البخاريّ"، وعند مسلم بعض ذلك، وعند شيخ شيوخنا أبي الفتح بن سيّد الناس في "عيون الأثر" له عن أبي عمرو الشيبانيّ أن الذي قال له:"وهان على سراة بني لؤيّ" هو أبو سفيان بن الحارث، وأنه إنما قال:"عَزَّ" بدل "هان"، وأن الذي أجاب بقوله: أدام الله ذلك من صنيع
…
البيتين هو حسان، قال: وهو أشبه من الرواية التي وقعت في البخاريّ. انتهى.
قال الحافظ: ولم يذكر مستندًا للترجيح، والذي يظهر أن الذي في "الصحيح" أصحّ، وذلك أن قريشًا كانوا يظاهرون كلَّ من عادى النبيَّ صلى الله عليه وسلم عليه، وَيعِدُونهم النصر، والمساعدة، فلمّا وقع لبني النضير من الخذلان ما وقع قال حسان الأبيات المذكورة، مُوَبِّخًا لقريش، وهم بنو لؤيّ، كيف خَذَلوا أصحابهم، وقد ذكر ابن إسحاق أن حسان قال ذلك في غزوة بني قريظة، وأنه إنما ذكر بني النضير استطرادًا، فمن الأبيات المذكورة:
أَلَا يَا سَعْدُ سَعْدَ بَنِي مُعَاذٍ
…
فَمَا فَعَلَتْ قُرَيْظَةُ وَالنَّضِيرُ
وفيها:
وَقَدْ قَالَ الْكَرِيمُ أَبُو حُبَابٍ
…
أَقِيمُوا قَيْنُقَاعُ وَلَا تَسِيرُوا
وأولها:
تَقَاعَدَ مَعْشَرٌ نَصَرُوا قُرَيْشًا
…
وَلَيْسَ لَهُمْ بِبَلْدَتِهِمْ نَصِيرُ
هُمُ أُوتُوا الْكِتَابَ فَضَيَّعُوهُ
…
فَهُمْ عُمْيٌ عَنِ التَّوْرَاةِ بُورُ
كَفَرْتُمْ بِالْقُرْآنِ لَقَدْ لَقِيتُمْ
…
بِتَصْدِيِق الَّذِي قَالَ النَّذِيرُ
وفي جواب أبي سفيان بن الحارث في قوله: "وتعلم أيُّ أرضينا تَضِير" ما يُرَجِّح ما وقع في "الصحيح"؛ لأن أرض بني النضير مجاورة لأرض الأنصار، فماذا خَرِبت أضرت بما جاورها، بخلاف أرض قريش، فإنها بعيدة منها بُعْدًا شديدًا، فلا تبالي بخرابها، فكان أبو سفيان يقول: تخربت أرض بني النضير، وتخريبها إنما يَضُرّ أرض من جاورها، وأرضكم هي التي تجاورها، فهي التي تتضرر، لا أرضنا، ولا يتهيأ مثل هذا في عكسه، إلا بتكلف، وهو أن يقال: إن الْمِيرةَ كانت تُحْمَل من أرض بني النضير إلى مكة، فكانوا يرتفقون
بها، فإذا خَرِبت تضرّهم بخلاف المدينة، فإنها في غُنية عن أرض بني النضير بغيرها، كخيبر ونحوها، فيتجه بعض اتجاه، لكن إذا تعارضا كان ما في "الصحيح" أصحّ.
ويَحْتَمِل إن كان ما قال أبو عمرو الشيبانيّ محفوظًا أن أبا سفيان بن الحارث ضَمَّن في جوابه بيتًا من قصيدة حسان، فاهتدمه، فلما قال حسان:"وهان على سراة بني لؤيّ" اهتدمه أبو سفيان، فقال:"وعَزّ على سراة بني لؤي"، وهو عمل سائغ، وكأن من أنكر ذلك استبعد أن يدعو أبو سفيان بن الحارث على أرض الكفرة مثله بالتحريق في قوله:"أدام الله ذلك من صنيع".
والجواب عنه أن اسم الكفر، وإن جَمَعهم لكن العداوة الدينية كانت قائمة بينهم، كما بين أهل الكتاب وعبدة الأوثان من التباين، وأيضًا فقوله:"وحرّق في نواحيها السعير" يريد بنواحيها المدينة، فيرجع ذلك دعاء على المسلمين أيضًا.
ولكعب بن مالك في هذه القصة قصيدة على هذا الوزن والرَّوِيّ أيضًا ذكرها ابن إسحاق، أولها:
لَقَدْ مُنِيَتْ بِغَدْرَتهَا الْحُبُورُ
…
كَذَاكَ الدَّهْرُ ذُو صَرْفٍ يَدُورُ
يقول فيها:
فَغُودِرَ مِنْهُمْ كَعْبٌ صَرِيعًا
…
فَذَلَّتْ عِنْدَ مَصْرَعِهِ النَّضِيرُ
يشير إلى كعب بن الأشرف الذي قُتِل، وفيها:
فَذَاقُوا غِبَّ أَمْرِهِمْ وَبَالًا
…
لِكُلِّ ثَلَاثَةٍ مِنْهُمْ بَعِيرُ
فَأُجْلُوا عَامِدِينَ بِقَيْنُقَاعٍ
…
وَغُودِرَ مِنْهُمْ نَخْلٌ وَدُورُ
(1)
والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4544]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ عُثْمَانَ، أَخْبَرَنِي عُقْبَةُ بْنُ خَالِدٍ السَّكُونيُّ، عَنْ عُبَيْدِ الله، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: حَرَّقَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَخْلَ بَنِي النَّضِيرِ).
(1)
"الفتح" 9/ 91 - 92، كتاب "المغازي" رقم (4032).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(سَهْلُ بْنُ عُثْمَانَ) بن فارس الكنديّ، أبو مسعود العسكريّ، نزيل الريّ، أحد الحفّاظ، صدوق له غرائب [10](235)(م) من أفراد المصنّف تقدم في "الإيمان" 5/ 121.
2 -
(عُقْبَةُ بْنُ خَالِدٍ السَّكُونِيُّ) المجدَّر الكوفيّ، صدوقٌ، صاحب حديث [8](ت 188)(ع) تقدم في "صلاة المسافرين وقصرها" 3/ 1593.
3 -
(عُبَيْدُ اللهِ) العمريّ المدنيّ، تقدّم قبل باب.
والباقيان ذُكرا قبله.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله قبل حديث، ولله الحمد والمنّة.
(11) - (بَابُ تَحْلِيلِ الْغَنَائِمِ لِهَذِهِ الأُمَّةِ خَاصَّةً)
وبالسند المتّصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4545]
(1747) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاء، حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُبَارَك، عَنْ مَعْمَرٍ (ح) وَحَدَّثنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ - وَاللَّفْظُ لَهُ - حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاق، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ، قَالَ: هَذَا مَا حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَ أَحَادِيثَ، مِنْهَا: وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "غَزَا نَبِيٌّ مِنَ الأَنْبِيَاء، فَقَالَ لِقَوْمِهِ: لَا يَتْبَعْنِي رَجُلٌ قَدْ مَلَكَ بُضْعَ امْرَأَةٍ، وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَبْنِيَ بِهَا، وَلَمَّا يَبْن، وَلَا آخَرُ قَدْ بَنَى بُنْيَانًا، وَلَمَّا يَرْفَعْ سُقُفَهَا، وَلَا آخَرُ قَدِ اشْتَرَى غَنَمًا، أَوْ خَلِفَاتٍ، وَهُوَ مُنْتَظِرٌ وِلَادَهَا. قَالَ: فَغَزَا، فَأَدْنَى لِلْقَرْيَةِ حِينَ صَلَاةِ الْعَصْر، أَوْ قَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ، فَقَالَ لِلشَمْسِ: أَنْتِ مَأمُورَةٌ، وَأَنَا مَأمُورٌ، اللَّهُمَّ احْبسْهَا عَلَيَّ شَيْئًا، فَحُبسَتْ عَلَيْهِ حَتَّى فَتَحَ اللهُ عَلَيْهِ. قَالَ: فَجَمَعُوا مَا غَنِمُوا، فَأَقبَلَتِ النَّارُ لِتَأْكُلَهُ، فَأَبَتْ أَنْ تَطْعَمَهُ، فَقَالَ: فِيكُمْ غُلُولٌ، فَلْيُبَايِعْنِي مِنْ كُلِّ قَبِيلَةٍ رَجُلٌ، فَبَايَعُوهُ، فَلَصِقَتْ يَدُ رَجُلٍ بِيَدِه، فَقَالَ: فِيكُمُ الْغُلُولُ، فَلْتُبَايِعْنِي قَبِيلَتُكَ، فَبَايَعَتْهُ. قَالَ: فَلَصِقَتْ بيَدِ رَجُلَيْن، أَوْ ثَلَاثةٍ، فَقَالَ: فِيكُمُ الْغُلُولُ، أَنْتُمْ غَلَلْتُمْ. قَالَ: فَأَخْرَجُوا لَهُ مِثْلَ رَأَسِ
بَقَرَةٍ مِنْ ذَهَبٍ. قَالَ: فَوَضَعُوهُ فِي الْمَال، وَهُوَ بِالصَّعِيد، فَأَقْبَلَتِ النَّارُ فَأَكَلَتْهُ، فَلَمْ تَحِلَّ الْغَنَائِمُ لأَحَدٍ مِنْ قَبْلِنَا، ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ تبارك وتعالى رَأَى ضَعْفَنَا، وَعَجْزَنَا، فَطَيَّبَهَا لَنَا").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(أَبُو كُرَيْبٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ) تقدّم قريبًا.
والباقون تقدّموا في الأبواب الستّة الماضية القريبة.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أن شيخ المصنّف أحد التسعة الذين روى عنهم الجماعة بلا واسطة، وقد تقدّموا غير مرّة، وفيه أبي هريرة رضي الله عنه أحفظ من روى الحديث في دهره، روى (5374) حديثًا.
شرح الحديث:
(عَنْ هَمَّام بْنِ مُنَبِّهٍ) بصيغة اسم الفاعل، (قَالَ: هَذَا)؛ أي: الحديث الآتي (مَا حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَ) الفاعل ضمير أبي هريرة صلى الله عليه وسلم، (أَحَادِيثَ) تقدّم غير مرّة أن هذا الحديث من صحيفة همّام بن منبّه المشهورة، (مِنْهَا)؛ أي: تلك الأحاديث التي ذكرها، والجارّ والمجرور خبر مقدّم لقوله:(وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) فهو مبتدأ محكيّ؛ لقصد لفظه. ("غَزَا نَبِيٌّ مِنَ الأَنْبِيَاءِ)؛ أي: أراد أن يغزو، وهذا النبيّ هو يوشع بن فون، كما رواه الحاكم، من طريق كعب الأحبار، وبَيَّن تسمية القرية، كما سيأتي، وقد ورد أصله من طريق مرفوعة صحيحة، أخرجها أحمد، من طريق هشام، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الشمس لم تُحْبَس لبشر إلا ليوشع بن نون، ليالي سار إلى بيت المقدس".
وأغرب ابن بطال، فقال في "باب استئذان الرجل الإمام": في هذا المعنى حديث لداود عليه الصلاة والسلام أنه قال في غزوة خرج إليها: "لا يتبعني مَن مَلَك بضع امرأة، ولم يبن بها، أو بنى دارًا ولم يسكنها"، ولم أقف على من ذكره مسنَدًا، لكن أخرج الخطيب في "ذم النجوم" له من طريق أبي
حُذيفة، والبخاريّ
(1)
في "المبتدأ" له بإسناد له عن عليّ قال: "سأل قومُ يوشع منه أن يُطلعهم على بدء الخلق، وآجالهم، فأراهم ذلك في ماء من غمامة، أمطرها الله عليهم، فكان أحدهم يعلم متى يموت، فبقوا على ذلك إلى أن قاتلهم داود على الكفر، فأخرجوا إلى داود من لم يحضر أَجَله، فكان يُقتل من أصحاب داود، ولا يُقتل منهم، فشكى إلى الله، ودعاه، فحُبِست عليهم الشمس، فزيد في النهار، فاختلطت الزيادة بالليل والنهار، فاختلط عليهم حسابهم".
قال الحافظ: وإسناده ضعيف جدًّا، وحديث أبي هريرة المشار إليه عند أحمد أَولى، فإن رجال إسناده محتجّ بهم في "الصحيح"، فالمعتمَد أنها لم تُحبس إلا ليوشع.
ولا يعارضه ما ذكره ابن إسحاق في "المبتدأ" من طريق يحيى بن عروة بن الزبير، عن أبيه:"أن الله لمّا أمر موسى بالمسير ببني إسرائيل أمره أن يَحْمِل تابوت يوسف، فلم يُدَلَّ عليه حتى كاد الفجر أن يطلع، وكان وعد بني إسرائيل أن يسير بهم إذا طلع الفجر، فدعا ربه أن يؤخر الطلوع، حتى فرغ من أمر يوسف، ففعل"؛ لأن الحصر إنما وقع في حقّ يوشع بطلوع الشمس، فلا ينفي أن يُحبس طلوع الفجر لغيره.
وقد اشتَهَر حبس الشمس ليوشع حتى قال أبو تمام في قصيدة [من الطويل]:
فَوَاللهِ لَا أَدْرِي أَأَحْلَامُ نَائِمٍ
…
أَلَمَّتْ بَنَا أَمْ كَانِ فِي الرَّكْبِ يُوشَعُ
ولا يعارضه أيضًا ما ذكره يونس بن بكير في زياداته في مغازي ابن إسحاق: "أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا أَخبر قريشًا صبيحة الإسراء أنه رأى العير التي لهم، وإنها تَقْدَم مع شروق الشمس، فدعا الله، فحُبست الشمس، حتى دخلت العير"، وهذا منقطع، لكن وقع في "الأوسط" للطبرانيّ من حديث جابر:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أمر الشمس، فتأخرت ساعة من نهار"، وإسناده حسن.
(1)
هكذا نسخة "الفتح": و"البخاريّ في المبتدأ"، وهو محلّ توقّف، وسيأتي له قريبًا:"ابن إسحاق في المبتدأ"، فليُنظر.
ووجه الجمع أن الحصر محمول على ما مضى للأنبياء قبل نبينا صلى الله عليه وسلم، فلم تُحبس الشمس إلا ليوشع، وليس فيه نفي أنها تُحبس بعد ذلك لنبينا صلى الله عليه وسلم.
وروى الطحاويّ، والطبرانيّ في "الكبير"، والحاكم، والبيهقيّ في "الدلائل":"عن أسماء بنت عُميس أنه صلى الله عليه وسلم دعا لَمّا نام على ركبة عليّ، ففاتته صلاة العصر، فرُدّت الشمس حتى صلى عليّ، ثم غربت"، وهذا أبلغ في المعجزة. قال الحافظ رحمه الله: وقد أخطأ ابن الجوزيّ بإيراده له في "الموضوعات"، وكذا ابن تيميّة في "كتاب الرد على الروافض" في زعم وضعه، والله أعلم. وأما ما حَكَى عياض أن الشمس رُدّت للنبيّ صلى الله عليه وسلم يوم الخندق لَمّا شُغِلوا عن صلاة العصر، حتى غربت الشمس، فردّها الله عليه، حتى صلى العصر، كذا قال، وعزاه للطحاويّ، والذي رأيته في "مشكل الآثار" للطحاويّ ما قدمتُ ذِكره من حديث أسماء، فإن ثبت ما قال، فهذه قصة ثالثة، والله أعلم.
وجاء أيضًا أنها حُبِست لموسى لَمَّا حَمَل تابوت يوسف، كما تقدم قريبًا، وجاء أيضًا أنها حُبست لسليمان بن داود عليه السلام وهو فيما ذكره الثعلبيّ، ثم البغويّ، عن ابن عباس قال: قال لي عليّ: ما بلغك في قول الله تعالى حكاية عن سليمان عليه الصلاة والسلام رُدُّوها عليّ؟ فقلت: قال لي كعب: كانت أربعة عشر فرسًا عَرَضها، فغابت الشمس قبل أن يصلي العصر، فأمر بردّها، فضرب سُوقها، وأعناقها بالسيف، فقتلها، فسلبه الله ملكه أربعة عشر يومًا؛ لأنه ظلم الخيل بقتلها، فقال عليّ: كذب كعب، وإنما أراد سليمان جهاد عدوّه، فتشاغل بعرض الخيل حتى غابت الشمس، فقال للملائكة الموكلين بالشمس بإذن الله لهم: رُدُّوها عليّ، فردُّوها عليه، حتى صلى العصر في وقتها، وأن أنبياء الله لا يَظلمون، ولا يأمرون بالظلم.
قال الحافظ رحمه الله: أورد هذا الأثر جماعة ساكتين عليه، جازمين بقولهم: قال ابن عباس: قلت لعليّ، وهذا لا يثبت عن ابن عباس، ولا عن غيره، والثابت عن جمهور أهل العلم بالتفسير من الصحابة، ومن بعدهم أن الضمير المؤنث في قوله: رُدُّوها للخيل، والله أعلم، انتهى كلام الحافظ رحمه الله
(1)
.
(1)
"الفتح" 7/ 381 - 383، كتاب "فرض الخمس" رقم (3124).
(فَقَالَ) ذلك النبيّ عليه السلام (لِقَوْمِهِ: لَا يَتْبَعْنِي) بفتح أوله، وثالثه: مضارع تَبعَ، من باب تَعِبَ، ويَحْتَمِلُ بفتح أوله، وتشديد ثانيه، مضارع اتّبَع، من باب الافتعال. (رَجُلٌ) مرفوع على الفاعليّة، وقوله:(قَدْ مَلَكَ بُضْعَ امْرَأَةٍ) جملة في محلّ رفع صفة لـ "رجلٌ"، و"البُضْع" - بضم الباء الموحدة، وسكون الضاد المعجمة - يُطلَق على الفرج، والتزويج، والجماع، والمعاني الثلاثة لائقة هنا، ويُطلَق أيضًا على المهر، وعلى الطلاق، وقال الجوهريّ: قال ابن السِّكِّيت: البضع: النكاح، يقال: مَلَكَ فلان بضع فلانة
(1)
.
(وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَبْنِيَ بِهَا)؛ أي: يدخلَ بها، ويُجامعها، (وَلَمَّا يَبْنِ) وللبخاريّ:"ولَمّا يَبْنِ بها"؛ أي: ولم يدخل عليها، لكن التعبير بـ "لَمّا" يُشعر بتوقع ذلك، قاله الزمخشريّ في قوله تعالى:{وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} الآية [الحجرات: 14]، ووقع في رواية سعيد بن المسيِّب، عن أبي هريرة، عند النسائيّ، وأبي عوانة، وابن حبان:"لا ينبغي لرجل بنى دارًا، ولم يسكنها، أو تزوج امرأةً، ولم يدخل بها"، وفي التقييد بعدم الدخول ما يُفْهَم أن الأمر بعد الدخول بخلاف ذلك، فلا يخفى فرق بين الأمرين، وإن كان بعد الدخول ربما استمرّ تعلق القلب، لكن ليس هو كما قبل الدخول غالبًا
(2)
.
(وَلَا آخَرُ)؛ أي: ولا يتبعني رجل غير هذا، وقوله:(قَدْ بَنَى بُنْيَانًا) جملة في محلّ رفع صفة له، ولفظ البخاريّ:"ولا أحد بنى بيوتًا، ولم يرفع سقوفها"، (وَلَمَّا يَرْفَعْ سُقُفَهَا) بضمّتين: جمع سَقْف، قال الفيّوميّ رحمه الله: اليَّقْفُ: معروفٌ، وجمعه: سُقُوفٌ، مثلُ فَلْسٍ وفُلُوسٍ، وسُقُفٌ بضمَّتين أيضًا، وهذا فَعْلٌ جُمِع على فُعُلٍ، وهو نادرٌ، وقال الفرّاء: سُقُفٌ: جمع سَقِيفٍ، مثلُ بَرِيدٍ وبُرُدٍ، وسَقَفتُ البيتَ سَقْفًا، من باب قَتَل: عَمِلتُ له سَقْفًا، وأسقفته بالألف كذلك، وسَقّفته بالتشديد للمبالغة. انتهى
(3)
.
أي: ولم يرفع سُقُف تلك البنيان.
(1)
"الصحاح" ص 94 - 95، و"الفتح" 7/ 383.
(2)
"الفتح" 7/ 383، كتاب "فرض الخمس" رقم (3124).
(3)
"المصباح المنير" 1/ 280.
(وَلَا آخَرُ)؛ أي: ولا يتبعني رجلٌ آخر (قَدِ اشْتَرَى غَنَمًا، أَوْ خَلِفَاتٍ) - بفتح الخاء المعجمة، وكسر اللام -: جمع خَلِفَة، وهي الحوامل من النوق، قال الفيّوميّ رحمه الله: الْخَلِفةُ - بكسر اللام -: هي الحامل من الإبل، وجَمْعها مَخَاضٌ من غير لفظها، كما تُجمع المرأة على النساء من غير لفظها، وهي اسم فاعل، يقال: خَلِفَت خَلَفًا، من باب تَعِبَ: إذا حَمَلَتْ، فهي خَلِفَةٌ، مثلُ تَبِعَةٍ، وربّما جُمِعت على لفظها، فقيل: خَلِفَاتٌ، وتُحذف الهاء أيضًا، فقيل: خَلِفٌ. انتهى
(1)
.
قال النوويّ رحمه الله: في هذا الحديث أن الأمور المهمة ينبغي أن لا تُفَوَّض إلا إلى أولي الحزم، وفراغِ البال لها، ولا تُفَوَّض إلى متعلق القلب بغيرها؛ لأن ذلك يُضْعِف عزمه، ويُفوِّتُ كمال بَذْل وُسْعه فيه. انتهى
(2)
.
[تنبيه]: "أو" في قوله: "أو خَلِفَات" للتنويع، ويكون قد حُذِف وصف الغنم بالحمل لدلالة الثاني عليه، أو هو على إطلاقه؛ لأن الغنم يَقِلّ صبرها، فيُخشى عليها الضياع، بخلاف النُّوق، فلا يخشى عليها إلا مع الحَمْل، ويَحْتَمِل أن يكون قوله:"أو" للشكّ؛ أي: هل قال: "غَنَمًا" بغير صفة، أو "خلفات"؛ أي: بصفة أنها حوامل؟ كذا قال بعض الشراح، والمعتمد أنها للتنويع، فقد وقع في رواية أبي يعلى، عن محمد بن العلاء:"ولا رجل له غنمٌ، أو بقرٌ، أو خَلِفاتٌ"، قاله في "الفتح"
(3)
.
(وَهُوَ مُنْتَظِرٌ وِلَادَهَا) بكسر الواو: مصدر لوَلَد ولادًا، وولادةً.
وقال القرطبيّ رحمه الله: وإنما نهى هذا النبي قومه عن اتّباعه على هذه الأحوال؛ لأن أصحابها يكونون متعلقي النفوس بهذه الأسباب، فتضعف عزائمهم، وتفتُر رغباتهم في الجهاد، والشهادة، وربما يُفْرِط ذلك التعلق بصاحبه فيُفضي به إلى كراهة الجهاد، وأعمال الخير، وكأن مقصود هذا النبيّ أن يتفرَّغوا من عُلَق الدنيا، ومهمات أغراضها، إلى تمني الشهادة بنيَّات
(1)
"المصباح المنير" 1/ 179.
(2)
"شرح النوويّ" 12/ 51 - 52.
(3)
"الفتح" 7/ 384، كتاب "فرض الخمس" رقم (3124).
صادقة، وعزومٍ حازمة، صافية؛ ليحصلوا على الحظ الأوفر، والأجر الأكبر. انتهى
(1)
.
(قَالَ) صلى الله عليه وسلم (فَغَزَا) ذلك النبيّ بمن تبعه ممن لم يتّصف بتلك الصفة، (فَأَدْنَى لِلْقَرْيَةِ)؛ أي: قرّب جيشه لتلك القرية التي أراد غزوها، وهي أَرِيحا - بفتح الهمزة، وكسر الراء، بعدها تحتانية ساكنة، ومهملة مع القصر - سمّاها الحاكم في روايته، عن كعب، وفي رواية البخاريّ:"فدنى من القرية" من الدنوّ، ثلاثيًّا؛ أي: قَرُبَ منها،
وقال النوويّ رحمه الله: قوله: (فأدنى للقرية
…
إلخ) هكذا هو في جميع النسخ: "فأدنى بهمزة قطع. قال القاضي عياض: كذا هو في جميع النسخ: "فأدنى" رباعيّ، إما أن يكون تعديةً لـ "دَنَى"؛ أي: قَرُب، فمعناه: أدنى جيوشه، وجموعه للقرية، وإما أن يكون أدنى بمعنى حان؛ أي: قَرُب فَتْحها، من قولهم: أدنت الناقة: إذا حان نتاجها، ولم يقولوه في غير الناقة. انتهى
(2)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله بعد ذكر كلام عياض المذكور: قلت: والذي يظهر لي: أن ذلك من باب: أنجد، وأغار، وأشهر، وأظهر؛ أي: دخل في هذه الأزمنة والأمكنة، فيكون معنى "أدنى"؛ أي: دخل في هذا الموضع الداني منها، والله تعالى أعلم. انتهى
(3)
.
(حِينَ صَلَاةِ الْعَصْرِ)"حين" ظرف لـ "أدنى"، (أَوْ قَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ)؛ أي: من وقت صلاة العصر (فَقَالَ لِلشَّمْسِ: أَنْتِ مَأْمُورَةٌ)؛ أي: تسيرين بأمر الله تعالى، فأنت مسخّرة منه تعالى، لا طاقة لك في التصرّف، (وَأَنَا مَأمُورٌ)؛ أي: بقتال هؤلاء الكفّار، وفي رواية سعيد بن المسيِّب:"فلقي العدوّ عند غيبوبة الشمس"، وبَيَّن الحاكم في روايته، عن كعب سبب ذلك، فإنه قال: إنه وصل إلى القرية وقت عصر يوم الجمعة، فكادت الشمس أن تغرب، ويدخل الليل، وبهذا يتبين معنى قوله:"وأنا مأمور"، والفرق بين المأمورين: أن أَمْر الجمادات أمر تسخير، وأَمْر العقلاء أمر تكليف.
(1)
"المفهم" 3/ 531.
(2)
"شرح النوويّ" 12/ 52.
(3)
"المفهم" 3/ 532.
وخطابه للشمس يَحْتَمِل أن يكون على حقيقته، وأن الله تعالى خلق فيها تمييزًا، وإدراكًا كما ثبت سجودها تحت العرش، واستئذانها من أين تطلع؟.
ويَحْتَمِل أن يكون ذلك على سبيل استحضاره في النفس؛ لِمَا تقرر أنه لا يمكن تحولها عن عادتها، إلا بخرق العادة، وهو نحو قول الشاعر:
شَكَى إِلَيَّ جَمَلِي طُولَ السَّرَى
ومن ثم قال: "اللهم احبسها"، ويؤيد الاحتمال الثاني أن في رواية سعيد بن المسيِّب:"فقال: اللهم إنها مأمورة، وإني مأمور، فاحبسها عليّ حتى تقضي بيني وبينهم، فحبسها الله عليه". انتهى
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: وقوله للشمس: "أنت مأمورة"؛ أي: مسخرة بأمر الله تعالى، وهو كذلك أيضًا، وجميع الموجودات، غير أن أمر الجمادات أمر تسخير وتكوين، وأمر العقلاء أمر تكليف وتكوين، وحَبْس الشمس على هذا النبيّ من أعظم معجزاته، وأخص كراماته، وقد اشتَهَرَ أن الذي حُبست عليه الشمس من الأنبياء هو: يوشع بن نون، وقد رُوي أن مثل هذه الآية كانت لنبينا صلى الله عليه وسلم في موطنين:
أحدهما: في حفر الخندق حين شُغِلوا عن صلاة العصر، حتى غابت الشمس، فردّها الله تعالى عليه حتى صلَّى العصر، ذكر ذلك الطحاويّ، وقال: إن رواته كلهم ثقات.
والثانية: صبيحة الإسراء، حين انتظروا العير التي أخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم بوصولها مع شروق الشمس، ذكره يونس بن بكير في زيادته في سِيَر ابن إسحاق. انتهى
(2)
.
(اللَّهُمَّ احْبِسْهَا عَلَيَّ شَيْئًا) ولفظ البخاريّ: "اللهمّ احبسها علينا"، وقوله:"شيئًا" منصوب نصبَ المصدر؛ أي: قدر ما تنقضي حاجتنا من فتح البلد، قال القاضي عياض: اختُلِف في حبس الشمس هنا، فقيل: رُدّت على أدراجها، وقيل: وقفت، وقيل: أُبطئ بحركتها، وكل ذلك محتمل، والثالث أرجح عند ابن بطال وغيره، ووقع في ترجمة هارون بن يوسف الرماديّ أن ذلك كان في
(1)
"الفتح" 7/ 384.
(2)
"المفهم" 3/ 532 - 533.
رابع عشر حزيران، وحينئذ يكون النهار في غاية الطول، قاله في "الفتح"
(1)
.
(فَحُبِسَتْ عَلَيْهِ) بالبناء للمجهول، (حَتَّى فَتَحَ اللهُ عَلَيْهِ) وفي رواية أبي يعلى:"فواقع القوم، فَظَفِرَ". (قَالَ) صلى الله عليه وسلم (فَجَمَعُوا مَا غَنِمُوا) بفتح أوله، وكسر النون، من باب تعبَ، "ما" موصولة مفعول "جمعوا"، والعائد محذوف؛ أي: غَنِموه، (فَأَقبَلَتِ النَّارُ لِتَأْكُلَهُ) زاد في رواية سعيد بن المسيِّب:"وكانوا إذا غَنِموا غنيمةً بعث الله عليها النار، فتأكلها"، (فَأَبَتْ أَنْ تَطْعَمَهُ) ولفظ البخاريّ:"فلم تطعمها"؛ أي: لم تذق لها طعمًا، وهو بطريق المبالغة. (فَقَالَ) ذلك النبيّ لقومه:(فِيكُمْ غُلُولٌ) وللبخاريّ: "إن فيكم غُلُولًا"، والغلول: هو السرقة من الغنيمة، (فَلْيُبَايِعْنِي مِنْ كُلِّ قَبِيلَةٍ رَجُلٌ، فَبَايَعُوهُ، فَلَصِقَتْ) بكسر الصاد، من باب تَعِبَ، ولفظ البخاريّ:"فَلَزِقَتْ"(يَدُ رَجُلٍ بِيَدِه، فَقَالَ: فِيكُمُ الْغُلُولُ، فَلْتُبَايِعْنِي قَبِيلَتُكَ، فَبَايَعَتْهُ - قَالَ -: فَلَصِقَتْ بِيَدِ رَجُلَيْن، أَوْ ثَلَاثةٍ) وفي رواية أبي يعلى: "فلَزِقَت يد رجل، أو رجلين"، وفي رواية سعيد بن المسيِّب:"رجلان" بالجزم، قال ابن الْمُنَيِّر: جعل الله علامة الغلول إلزاق يد الغالّ، وفيه تنبيه على أنها يدٌ عليها حقٌ يُطْلَب أن يُتخلص منه، أو أنها يد ينبغي أن يُضرَب عليها، ويُحبس صاحبها حتى يؤدي الحق إلى الإمام، وهو من جنس شهادة اليد على صاحبها يوم القيامة. انتهى
(2)
.
(فَقَالَ) ذلك النبيّ لهم: (فِيكُمُ الْغُلُولُ) زاد في رواية سعيد بن المسيِّب: "فقالا: أَجَلْ غَلَلْنَا".
وقوله: (أَنْتُمْ غَلَلْتُمْ) مؤكّد لما قبله، (قَالَ: فَأَخْرَجُوا لَهُ مِثْلَ رَأْسِ بَقَرَةٍ مِنْ ذَهَبٍ) وفي رواية البخاريّ: "فجاءوا برأس مثل رأس بقرة من الذهب". (قَالَ: فَوَضَعُوهُ)؛ أي: وضعوا مثل الرأس (في الْمَالِ)؛ أي: في جملة الغنائم (وَهُوَ)؛ أي: المال (بِالصَّعِيدِ)؛ أي: بوجه الأرض، قال الفيّوميّ: الصعيد: وجه الأرض، ترابًا كان، أو غيره، قال الزجّاج: ولا أعلم اختلافًا بين أهل اللغة في ذلك، ويقال: الصعيد في كلام العرب يُطلق على وجوه، على التراب الذي
(1)
"الفتح" 7/ 384 - 385، كتاب "فرض الخمس" رقم (3124).
(2)
"الفتح" 7/ 385.
على وجه الأرض، وعلى وجه الأرض، وعلى الطريق. انتهى
(1)
.
(فَأَقْبَلَتِ النَّارُ فَأَكَلَتْهُ) ولفظ البخاريّ: "فجاءت النار، فأكلتها"، قال النوويّ رحمه الله: هذه كانت عادةَ الأنبياء - صلوات الله وسلامه عليهم - في الغنائم، أن يجمعوها، فتجيء نار من السماء، فتأكلها، فيكون ذلك علامة لقبولها، وعدم الغلول، فلما جاءت في هذه المرّة، فأبت أن تأكلها عُلِم أن فيهم غلولًا، فلما ردُّوه جاءت فأكلتها، وكذلك كان أمر قربانهم، إذا تُقُبِّل جاءت نار من السماء، فأكلته. انتهى
(2)
.
قال الحافظ رحمه الله: ودخل في عموم أكل النار: الغنيمة، والسبيُ، وفيه بُعْدٌ؛ لأن مقتضاه إهلاك الذرية، ومن لم يقاتل من النساء، ويمكن أن يُسْتَثنَوْا من ذلك، ويلزم استثناؤهم من تحريم الغنائم عليهم، ويؤيده أنهم كانت لهم عبيد، وإماء، فلو لم يجز لهم السبي لَمَا كان لهم أرقّاء، ويُشكل على الحصر أنه كان السارق يُسْتَرَقّ، كما في قصة يوسف عليه السلام. قال: ولم أر من صرح بذلك. انتهى
(3)
.
(فَلَمْ تَحِلَّ الْغَنَائِمُ لأَحَدٍ مِنْ قَبْلِنَا) وللبخاريّ: "ثمّ أحل الله لنا الغنائم"، وفي رواية النسائيّ:"فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك: إن الله أطعمنا الغنائم؛ رحمةً رحِمناها، وتخفيفًا خفّفه عنّا".
(ذَلِكَ) الإشارة إلى حلّ الغنائم لنا، مع تحريمه على من قبلنا، (بِأَنَّ اللهَ تبارك وتعالى رَأَى ضَعْفَنَا)، بفتح الضاد، وضمّها، وفي رواية سعيد بن المسيِّب:"لَمّا رأى من ضعفنا"، (وَعَجْزَنَا، فَطَيَّبَهَا لَنَا) لفظ البخاريّ: "فأحلّها لنا"، والحديث نصّ في إباحة الغنائم لهذا الأمة زادها الله شرفًا، وأنها مختصّة بذلك.
وقال القرطبيّ رحمه الله: كانت سُنَّة اللُه تعالى في طوائف من بني إسرائيل أن يسوق لهم نارًا، فتأكل ما خَلَص من القرابين في قربانهم، وغنائمهم، فكان ذلك الأكل علامة قبول ذلك المأكول، حكاه السُّديّ وغيره، وهو الذي يدل
(1)
"المصباح المنير" 1/ 339 - 340.
(2)
"شرح النوويّ" 12/ 52 - 53.
(3)
"الفتح" 7/ 386، كتاب "فرض الخمس" رقم (3124).
عليه ظاهر القرآن في قوله تعالى: {الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ} الآية [آل عمران: 183]، ويدل على هذا أيضًا: ظاهر هذا الحديث، وقد كان فيهم على ما حكاه ابن إسحاق نار تحكم بينهم عند تنازعهم، فتأكل الظالم، ولا تضر المظلوم، وقد رفع الله تعالى كل ذلك عن هذه الأمة، وأحل لهم غنائمهم، وقربانهم، رفقًا بهم، ورحمة لهم، كما قال صلى الله عليه وسلم:"ذلك بأن الله رأى ضعفنا وعجزنا فطيَّبها لنا"، وجعل ذلك من خصائص هذه الأمة؛ كما قال:"فلم تحل الغنائم لأحدِ قبلنا"، وقد جاء في الكتب القديمة: أن من خصائص هذه الأمة: أنهم يأكلون قربانهم في بطونهم، وما جرى لهذا النبيّ صلى الله عليه وسلم مع قومه في أخذ الغلول آية شاهدة على صدقه، وعلى عظيم مكانته عند ربِّه، وفي حديثه أبواب من الفقه لا تخفى على فطن. انتهى كلام القرطبيّ
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [11/ 4545](1747)، و (البخاريّ) في "فرض الخمس"(3124) و"النكاح"(5157)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(8878 و 11208 و 13099)، و (صحيفة همّام بن منبّه)(123)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(9492)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 318)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4807 و 4808)، و (الحاكم) في "المستدرك"(2/ 139)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 226 - 227)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(6/ 290)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): ما قال المهلّب رحمه الله: في هذا الحديث أن فِتَن الدنيا تدعو النفس إلى الْهَلَع، ومحبة البقاء؛ لأن من ملك بُضْع امرأة، ولم يدخل بها، أو
(1)
"المفهم" 3/ 533 - 534.
دخل بها، وكان على قرب من ذلك، فإن قلبه متعلق بالرجوع إليها، ويجد الشيطان السبيل إلى شَغْل قلبه عما هو عليه من الطاعة، وكذلك غير المرأة من أحوال الدنيا.
قال الحافظ: وهو كما قال، لكن تقدم ما يعكر على إلحاقه بما بعد الدخول، وإن لم يطل بما قبله، ويدلّ على التعميم في الأمور الدنيوية ما وقع في رواية سعيد بن المسيِّب من الزيادة:"أو له حاجة في الرجوع".
2 -
(ومنها): أن الأمور المهمة لا ينبغي أن تُفَوَّض الا لحازم، فارغ البال لها؛ لأن من له تعلق ربما ضعفت عزيمته، وقَلَّت رغبته في الطاعة، والقلب إذا تفرق ضعف فعل الجوارح، وإذا اجتمع قَوِيَ.
3 -
(ومنها): أن مَن مضى كانوا يغزون، ويأخذون أموال أعدائهم، وأسلابهم، لكن لا يتصرفون فيها، بل يجمعونها، وعلامة قبول غزوهم ذلك أن تنزل النار من السماء، فتأكلها، وعلامة عدم قبوله أن لا تنزل، ومن أسباب عدم القبول أن يقع فيهم الغلول.
4 -
(ومنها): بيان ما قد منّ الله تعالى على هذه الأمة، ورَحِمَها؛ لشرف نبيها صلى الله عليه وسلم عنده، فأحل لهم الغنيمة، وستر عليهم الغلول، فطوى عنهم فضيحة أمر عدم القبول، فلله الحمد على نِعَمِهِ تترى.
5 -
(ومنها): أن فيه معاقبةَ الجماعة بفعل سفهائها.
6 -
(ومنها): أن أحكام الأنبياء قد تكون بحسب الأمر الباطن، كما في هذه القصّة، وقد تكون بحسب الأمر الظاهر، كما في حديث: "إنكم تختصمون إليّ
…
" الحديث.
7 -
(ومنها): أن فيه إشعارًا بأن إظهار العجز بين يدي الله تعالى يستوجب ثبوت الفضل.
8 -
(ومنها): بيان اختصاص هذه الأمة بحل الغنيمة، وكان ابتداء ذلك من غزوة بدر، وفيها نزل قوله تعالى:{فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا} الآية [الأنفال: 69]، فأحل الله لهم الغنيمة، وقد ثبت ذلك في "الصحيح" من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، قال الحافظ رحمه الله: وأول غنيمة خُمِّسَت غنيمة السريّة التي خرج فيها عبد الله بن جَحْش، وذلك قبل بدر بشهرين، ويمكن الجمع بما ذكر
ابن سعد أنه صلى الله عليه وسلم أخَّر غنيمة تلك السريّة حتى رجع من بدر، فقسمها مع غنائم بدر. انتهى.
9 -
(ومنها): أن ابن بطّال استدَلّ به على جواز إحراق أموال المشركين.
وتُعُقِّب بأن ذلك كان في تلك الشريعة، وقد نُسِخ بحل الغنائم لهذه الأمة.
وأجيب عنه بأنه لا يخفى عليه ذلك، ولكنه استَنْبَط من إحراق الغنيمة بأكل النار جواز إحراق أموال الكفار إذا لم يوجد السبيل إلى أخذها غنيمة، وهو ظاهر؛ لأن هذا القدر لم يَرِد التصريح بنسخه، فهو مُحْتَمِلٌ على أن شرع من قبلنا شرع لنا، ما لم يَرِد ناسخه.
10 -
(ومنها): أنه استَدَلّ به أيضًا على أن قتال آخر النهار أفضل من أوله.
قال الحافظ: وفيه نظر؛ لأن ذلك في هذه القصة إنما وقع اتفاقًا، كما تقدم، نعم في قصة النعمان بن مُقَرِّن مع المغيرة بن شعبة في قتال الْفُرْس التصريح باستحباب القتال حين تزول الشمس، وَتَهُبّ الرياح، فالاستدلال به يُغني عن هذا. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(12) - (بَابُ الأَنْفَالِ)
وبالسند المتّصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4546]
(1748) - (وَحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيه، قَالَ: أَخَذَ أَبِي مِنَ الْخُمْسِ سَيْفًا، فَأَتَى بِهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: هَبْ لِي هَذَا، فَأَبَى، فَأَنْزَلَ {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} [الأنفال: 1]).
(1)
"الفتح" 7/ 386 - 387، كتاب "فرض الخمس" رقم (3124).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) تقدّم قبل باب.
2 -
(أَبُو عَوَانَةَ) الوضّاح بن عبد الله اليشكريّ الواسطيّ البزّاز، ثقةٌ ثبتٌ [7](ت 5 أو 176)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 4.
3 -
(سِمَاكُ) بن حرب بن أوس بن خالد البكريّ، أبو المغيرة الكوفيّ، صدوق، مضطرب الرواية عن عكرمة، وتغيّر بآخره، فربّما تلقّن [4](ت 123)(خت م 4) تقدم في "الإيمان" 64/ 365.
4 -
(مُصْعَبُ بْنُ سَعْدِ) بن أبي وقّاص الزهريّ، أبو زُرارة المدنيّ، ثقةٌ [3](103)(ع) تقدم في "الطهارة" 2/ 541.
5 -
(أَبُوهُ) سعد بن أبي وقّاص مالك بن وُهيب بن عبد مناف بن زُهرة بن كلاب الزهريّ، أبو إسحاق المدنيّ، الصحابي المشهور، مات رضي الله عنه سنة (55)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 71.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ، والابن عن أبيه، وأن صحابيّه أحد العشرة المبشّرين بالجنّة، وأول من رمى بسهم في سبيل الله، وأحد الستة أهل الشورى، وكان مجاب الدعوة، وهو آخر من مات من العشرة رضي الله عنهم، مات بقصره بالعقيق، ثم نُقل إلى المدينة، ودفن بالبقيع.
شرح الحديث:
(عَنْ مُصْعَبِ) بصيغة اسم المفعول، (ابْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ) سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه أنه (قَالَ: أَخَذَ أَبِي)؛ يعني: سعدًا رضي الله عنه، وظاهر هذا أنه منقطع؛ لأن مصعب لم يحضر القصّة،. لكن في سياق الروايات المطوّلة الآتية في "الفضائل" ما يدلّ على أنه أخذه من أبيه، فتنبّه.
وقال النوويّ رحمه الله: قوله: "عن أبيه، قال: أخذ أبي" هو من تلوين الخطاب، وتقديره: عن مصعب بن سعد، أنه حدّث عن أبيه بحديث قال فيه: قال أبي: أخذت من الخُمس سيفًا إلى آخره.
(مِنَ الْخُمْسِ)؛ أي: خُمس الغنيمة التي حصلت لهم في غزوتهم، (سَيْفًا،
فَأَتَى بِهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: هَبْ لِي)؛ أي: أعطني (هَذَا) السيف، وفي الرواية التالية:"فقال: يا رسول الله نفّلنيه"؛ أي: أعطنيه زائد على نصيبي من الغنيمة، وفي الرواية الآتية في "الفضائل": قال: "وأصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم غنيمة عظيمة، فإذا فيها سيف، فأخذته، فأتيت به الرسول صلى الله عليه وسلم، فقلت: نفّلني هذا السيف، فأنا من قد علمتَ حاله". (فَأَبَى)؛ أي: امتنع النبيّ صلى الله عليه وسلم من هبته له، بل قال له:"رُدّه من حيث أخذته"، (فَأنزَلَ اللهُ عز وجل {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ}. قال أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله في "المفهم": هذا يقتضي أن يكون ثَمَّ سؤال عن حكم الأنفال، ولم يكن هنالك سؤال عن ذلك على ما يقتضيه هذا الحديث، ولذلك قال بعض أهل العلم: إن "عن" صلة، ولذلك قرأه ابن مسعود بغير "عن":(يسألونك الأنفال). وقال بعضهم: إن "عن" بمعنى "مِنْ"؛ لأنه إنما سأل شيئًا معيَّنًا، وهو السيف، وهو من الأنفال.
و"الأنفال": جمع نَفَل - بفتح الفاء - هنا؛ كجَمَل وأجمال، ولَبَن وألبان، وقد اختُلف في المراد بالأنفال هنا في الآية؛ هل هي الغنائم؛ لأنها عطايا، أو هي مما يُنَفّل من الخُمس بعد القَسْم؟ وكذلك اختُلف في أخذ سعد لهذا السيف؛ هل كان أخذه له من القبض قبل القسم، أو بعد القسم؟ وظاهر قوله:"ضعه حيث أخذته" أنه قبل القسم؛ لأنه لو كان أخذه له بعد القسم لَأَمره أن يردّه إلى من صار إليه في القسم. انتهى
(1)
.
({قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ}) قال القرطبيّ رحمه الله: ظاهره إن حملنا الأنفال على الغنائم أن الغنيمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وليست مقسومة بين الغانمين، وبه قال ابن عباس وجماعة، ورأوا أنها منسوخة بقوله تعالى:{وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} الآية [الأنفال: 41]، وظاهرها أن أربعة أخماس الغنيمة للغانمين، وقد رُوي عن ابن عباس أيضًا: أنها مُحْكَمة، غير منسوخة، وأن للإمام أن ينفِّل من الغنائم ما شاء لمن شاء؛ لِمَا يراه من المصلحة، وقيل: هي مخصوصة بما شذّ من المشركين إلى المسلمين من: عبدٍ، أو أمَةٍ، أو دابةٍ، وهو قول عطاء، والحسن، وقيل: المراد بها: إنفاذ السَّرايا. والأَولى: أن
(1)
"المفهم" 3/ 545.
الأنفال المذكورة في هذه الآية هي ما ينفله الإمام من الخمس؛ بدليل قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} ، ولا يصح الحكم بالنسخ؛ إذ الجمع بين الآيتين ممكن، ومتى أمكن الجمع فهو أولى من النسخ، باتفاق الأصوليين.
وقال مجاهد في الآية: إنها محكمة، غير منسوخة، وأن المراد بالأنفال: ما ينفله الإمام من الخمس. وعلى هذا: فلا نفل إلا من الخمس، ولا يتعيّن الخمس إلا بعد قسمة الغنيمة خمسة أخماس، وهو المعروف من مذهب مالك، وقد رُوي عن مالك: أن الأنفال من خمس الخمس. وهو قول ابن المسيِّب، والشافعيّ، وأبي حنيفة، والطبري.
وأجاز الشافعي النفل قبل إحراز الغنيمة، وبعدها، وهو قول أبي ثور، والأوزاعيّ، وأحمد، والحسن البصريّ. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(1)
، وهو تحقيق حسنٌ، والله تعالى أعلم.
وقال القاضي عياض رحمه الله: الأظهر في قضيّة سعد هذه أنها كانت قبل نزول حُكم الغنائم، وإباحتها، وعليه يدلّ قوله في تمام الحديث الآخر:"خُذ سيفك، إنك سألتنيه، وليس لي، ولا لك، وقد جعله الله لي، وجعلته لك"، ويَحْتَمِل أن يكون بعد بيان الخمس، وقبل القسم، وهذا الخلاف في قوله:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ} هل هو منسوخ، أو لا؟ فقيل: إنه منسوخ، وأن معنى الآية: إن الغنائم كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصّةً، ثم نُسخ ذلك بأن جُعل أربعة أخماسها للغانمين؛ لقوله تعالى:{وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} ، وقيل: محكمة، وأن للإمام أن ينفّل من رأس الغنيمة ما شاء لمن شاء، وهو عن ابن عبّاس أيضًا، وقيل: هي محكمة، والمراد بالأنفال الخمس، وهي مثل آية:{وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ} ، وقيل: هي محكمة، ومخصوصة، والمراد بها أنفال السرايا. انتهى
(2)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(1)
"المفهم" 3/ 536.
(2)
"إكمال المعلم" 6/ 55 - 56.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [12/ 4546 و 4547](1748)، و (أبو داود) في "الجهاد"(2740)، و (الترمذيّ) في "التفسير"(3189)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(11196)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1/ 28)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 181 و 185 - 186)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(782)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 104)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6992)، و (الطبريّ) في "تفسيره"(9/ 174 و 21/ 70)، و (عبد بن حُميد) في "مسنده"(1/ 74)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(3/ 279 و 4/ 191)، و (البزّار) في "مسنده"(3/ 311 و 329)، و (الحاكم) في "المستدرك"(1/ 662)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(4/ 38)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(6/ 269 و 291 و 8/ 285 و 9/ 26)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في اختلاف أهل العلم هل آية {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ} منسوخة أم لا؟، واختلافهم أيضًا في معنى الأنفال:
قال النوويّ رحمه الله: اختلفوا في هذه الآية، فقيل: هي منسوخة بقوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} ، وأن مقتضى آية الأنفال والمراد بها أن: الغنائم كانت للنبيّ صلى الله عليه وسلم خاصّة كلها، ثم جعل الله أربعة أخماسها للغانمين بالآية الأخرى، وهذا قول ابن عباس، وجماعة، وقيل: هي محكمة، وأن التنفيل من الخمس، وقيل: هي محكمة، وللإمام أن يُنَفِّل من الغنائم ما شاء لمن شاء، بحسب ما يراه، وقيل: محكمة مخصوصة، والمراد أنفال السرايا. انتهى.
وذكر الحافظ ابن كثير رحمه الله في "تفسيره" عن ابن عباس أنه قال: "الأنفال": الغنائم، كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم خالصة، ليس لأحد منها شيء. وكذا قال مجاهد، وعكرمة، وعطاء، والضحاك، وقتادة، وعطاء الخراساني، ومقاتل بن حَيَّان، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وغير واحد أنها الغنائم.
وقال الكلبيّ، عن أبي صالح، عن ابن عباس أنه قال: الأنفال: الغنائم، قال فيها لَبِيدُ:
إِنَّ تَقْوَى رَبّنَا خيرُ نَفَل
…
وَبِإذْنِ اللهِ رَيثي وَعَجَلْ
وروى ابن جرير: عن القاسم بن محمد قال: سمعت رجلًا يسأل ابن عباس عن "الأنفال"، فقال ابن عباس رضي الله عنهما: الفرس من النَّفل، والسَّلَب من النّفَل، ثم عاد لمسألته، فقال ابن عباس ذلك أيضًا. ثم قال الرجل: الأنفال التي قال الله في كتابه ما هي؟ قال القاسم: فلم يزل يسأله حتى كاد يُحرجه، فقال ابن عباس: أتدرون ما مَثَل هذا؟ مَثَل صُبيغ الذي ضربه عمر بن الخطاب.
وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر، عن الزهري، عن القاسم بن محمد قال: قال ابن عباس: كان عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، إذا سئل عن شيء قال: لا آمرك ولا أنهاك، ثم قال ابن عباس: والله ما بعث الله نبيه صلى الله عليه وسلم إلا زاجرًا آمرًا مُحِلًّا محرمًا، قال القاسم: فَسُلِّطَ على ابن عباس رجل يسأله عن الأنفال، فقال ابن عباس: كان الرجل يُنَفَّل فرس الرجل وسلاحه، فأعاد عليه الرجل، فقال له مثل ذلك، ثم أعاد عليه حتى أغضبه، فقال ابن عباس: أتدرون ما مثل هذا؟ مثل صَبِيغ الذي ضربه عمر بن الخطاب، حتى سالت الدماء على عقبيه - أو على: رجليه - فقال الرجل: أما أنت فقد انتقم الله لعمر منك
(1)
.
وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس: أنه فسَّر النفل بما ينفّله الإمام لبعض الأشخاص من سلب أو نحوه، بعد قسم أصل المغنم، وهو المتبادر إلى فهم كثير من الفقهاء من لفظ النفل، والله أعلم.
وقال ابن أبي نجيح، عن مجاهد: إنهم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخمس بعد الأربعة الأخماس، فنزلت:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ} .
وقال ابن مسعود ومسروق: لا نفل يوم الزحف، إنما النفل قبل التقاء الصفوف، رواه ابن أبي حاتم عنهما.
(1)
تفسير عبد الرزاق (1/ 231)، وصبيغ هو "ابن عسل" ويقال:"ابن سهل" التميمي. انظر قصته في: "الإصابة" 2/ 198.
وقال ابن المبارك وغير واحد، عن عبد الملك بن أبي سليمان، عن عطاء بن أبي رباح:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ} قال: يسألونك فيما شَذّ من المشركين إلى المسلمين في غير قتال، من دابة أو عبد أو أمة أو متاع، فهو نفل للنبيّ صلى الله عليه وسلم يصنع به ما يشاء.
وهذا يقتضي أنه فسر الأنفال بالفيء، وهو ما أُخذ من الكفار من غير قتال.
وقال ابن جرير: وقال آخرون: هي أنفال السرايا، حدثني الحارث، حدثنا عبد العزيز، حدثنا علي بن صالح بن حيي قال: بلغني في قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ} قال: السرايا.
ويعني هذا: ما ينفله الإمام لبعض السرايا زيادة على قسمهم مع بقية الجيش، وقد صرح بذلك الشعبي، واختار ابن جرير أنها الزيادات على القَسْم، ويشهد لذلك ما ورد في سبب نزول الآية، وهو ما رواه الإمام أحمد بسنده عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: لمّا كان يوم بدر، وقُتل أخي عُمَيْر، وقَتلتُ سعيد بن العاص، وأخذت سيفه، وكان يسمى "ذا الكتيفة"، فأتيت به نبيّ الله صلى الله عليه وسلم، فقال:"اذهب فاطرحه في القبض"، قال: فرجعت وبي ما لا يعلمه إلا الله من قتل أخي وأخذ سلبي، قال: فما جاوزت إلا يسيرًا حتى نزلت سورة الأنفال، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم:"اذهب فخذ سيفك"
(1)
.
وروى الإمام أحمد أيضًا بسنده عن سعد بن مالك قال: قلت: يا رسول الله، قد شفاني الله اليوم من المشركين، فهب لي هذا السيف، فقال:"إن هذا السيف لا لك ولا لي، ضعه". قال: فوضعته، ثم رجعت، قلت: عسى أن يُعْطَى هذا السيف اليوم من لا يبلي بلائي! قال: فإذا رجل يدعوني من ورائي، قال: قلت: قد أنزل الله فيّ شيئًا؟ قال: "كنتَ سألتني السيف، وليس هو لي وإنه قد وهب لي، فهو لك"، قال: وأنزل الله هذه الآية: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} .
ورواه أبو داود، والترمذيّ، والنسائيّ من طُرُق، وقال الترمذيّ: حسن صحيح.
(1)
"المسند" 1/ 180.
وهكذا رواه أبو داود الطيالسيّ عن سعد قال: نزلت فيّ أربع آيات: أصبت سيفًا يوم بدر، فأتيت النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقلت: نَفِّلْنِيه، فقال:"ضعه من حيث أخذته" مرتين، ثم عاودته فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"ضعه من حيث أخذته"، فنزلت هذه الآية:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ}
(1)
.
وتمام الحديث في نزول: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا} [العنكبوت: 8] وقوله تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} [المائدة: 90] وآية الوصية، وقد رواه مسلم في "صحيحه".
وروى الإمام أحمد عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: سألت عبادة عن الأنفال، فقال: فينا - أصحاب بدر - نزلت، حين اختلفنا في النَّفَل، وساءت فيه أخلاقنا، فانتزعه الله من أيدينا، وجعله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقسمه رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المسلمين عن بَوَاء - يقول: عن سواء
(2)
.
وروى الإمام أحمد أيضًا عن أبي أمامة، عن عبادة بن الصامت، قال: خرجنا مع النبيّ، فشهدت معه بدرًا، فالتقى الناس، فهزم الله تعالى العدوّ، فانطلقت طائفة في آثارهم يهزمون ويقتلون، وأكبّت طائفة على العسكر يحوونه ويجمعونه، وأحدقت طائفة برسول الله صلى الله عليه وسلم لا يصيب العدوّ منه غِرَّةً، حتى إذا كان الليل، وفاءَ الناس بعضهم إلى بعض، قال الذين جمعوا الغنائم: نحن حويناها، فليس لأحد فيها نصيب، وقال الذين خرجوا في طلب العدوّ: لستم بأحقّ به منا، نحن منعنا عنها العدو وهزمناهم، وقال الذين أحدقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم: لستم بأحق منا، نحن أحدقنا برسول الله صلى الله عليه وسلم، وخِفنا أن يصيب العدو منه غِرّةً، فاشتغلنا به، فنزلت:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المسلمين. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا غار في أرض العدو نَفَّل الربع، فإذا أقبل راجعًا وَكُلُّ الناسِ نَفَّل الثلث، وكان يكره الأنفال، ويقول:"لِيَرُدّ قويّ المؤمنين على ضعيفهم"، ورواه الترمذيّ وابن ماجه، وقال الترمذيّ: هذا حديث حسن.
(1)
"مسند الطيالسيّ" برقم (208).
(2)
"المسند"(5/ 322).
ورواه ابن حبان في "صحيحه"، والحاكم في "مستدركه"، وقال الحاكم: صحيح الإسناد على شرط مسلم، ولم يخرجاه.
وروى أبو داود، والنسائيّ، وابن جرير، وابن مردويه - واللفظ له - وابن حبان، والحاكم عن ابن عباس قال: لما كان يوم بدر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من صنع كذا وكذا، فله كذا وكذا"، فتسارع في ذلك شبان الرجال، وبقي الشيوخ تحت الرايات، فلما كانت المغانم، جاءوا يطلبون الذي جُعل لهم، فقال الشيوخ: لا تستأثروا علينا، فإنا كنا ردءًا لكم، لو انكشفتم لفئتم إلينا، فتنازعوا، فأنزل الله تعالى:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ} إلى قوله: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} .
وقال الإمام أبو عبيد القاسم بن سلّام رحمه الله، في كتاب "الأموال الشرعية وبيان جهاتها ومصارفها": أما الأنفال: فهي المغانم، وكلّ نَيْل ناله المسلمون من أموال أهل الحرب، فكانت الأنفال الأُولى إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، يقول الله تعالى:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} فقسمها يوم بدر على ما أراده الله من غير أن يخمّسها على ما ذكرناه في حديث سعد، ثم نزلت بعد ذلك آية الخُمس، فنَسخت الأولى.
قال ابن كثير: هكذا روى علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، سواء، وبه قال مجاهد، وعكرمة والسُّدِّيّ، وقال ابن زيد: ليست منسوخة، بل هي محكمة.
قال أبو عبيد: وفي ذلك آثار، والأنفال أصلها جمع الغنائم، إلا أن الخمس منها مخصوص لأهله على ما نزل به الكتاب، وجرت به السُّنَّة، ومعنى الأنفال في كلام العرب: كل إحسان فَعَله فاعل تفضلًا من غير أن يجب ذلك عليه، فذلك النفل الذي أحلّه الله للمؤمنين من أموال عدوهم، وإنما هو شيء خصه الله به تطوّلًا منه عليهم، بعد أن كانت المغانم محرمة على الأمم قبلهم، فنفّلها الله هذه الأمة فهذا أصل النفل.
قال ابن كثير: شاهدُ هذا في "الصحيحين" عن جابر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أُعطيت خمسًا لم يُعْطَهُنّ أحد قبلي" فذكر الحديث، إلى أن قال:"وأُحلت لي الغنائم ولم تَحِل لأحد قبلي"، وذكر تمام الحديث.
ثم قال أبو عبيد: ولهذا سُمِّي ما جَعَل الإمام للمقاتلة نَفَلًا، وهو تفضيله بعض الجيش على بعض بشيء سوى سهامهم، يفعل ذلك بهم على قدر الغَنَاء عن الإسلام والنكاية في العدو. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: الأرجح عندي - كما تقدّم عن أبي العبّاس القرطبيّ رحمه الله أن الأنفال المذكورة في الآية هي ما ينفّله الإمام من الخمس بدليل قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} الآية، فبهذا تُجمع الآيتان من غير دعوى النسخ، فتبصّر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4547]
(
…
) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ - وَاللَّفْظُ لِابْنِ الْمُثَنَّى - قَالَا: حَدَّثنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيه، قَالَ: نَزَلَتْ فِيَّ أَرْبَعُ آياتٍ، أَصَبْتُ سَيْفًا، فَأَتَى بِهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ نَفِّلْنِيه، فَقَالَ: "ضَعْهُ"، ثُمَّ قَامَ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "ضَعْهُ مِنْ حَيْثُ أَخَذْتَهُ"، ثُمَّ قَامَ، فَقَالَ: نَفِّلْنِيهِ يَا رَسُولَ الله، فَقَالَ: "ضَعْهُ"، فَقَامَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ نَفِّلْنِيه، أَأُجْعَلُ كَمَنْ لَا غَنَاءَ لَهُ؟ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "ضَعْهُ مِنْ حَيْثُ أَخَذْتَهَ"، قَالَ: فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ}).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) تقدّم قريبًا.
2 -
(ابْنُ بَشَّارٍ) محمد المعروف ببندار، تقدّم أيضًا قريبًا.
3 -
(مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ) المعروف بغُندر، تقدّم أيضًا قريبًا.
4 -
(شُعْبَةُ) بن الحجّاج، تقدّم أيضًا قريبًا.
والباقون ذُكروا قبله.
وقوله: (نَزَلَتْ فِيَّ أَرْبَعُ آيَاتٍ)؛ أي: من القرآن الكريم، قال النوويّ رحمه الله:
(1)
راجع: "تفسير ابن كثير" 4/ 5 - 9.
لم يذكر هنا من الأربع إلا هذه الواحدة - يعني: قصّة السيف - وقد ذكر مسلم الأربع بعد هذا في "كتاب الفضائل"، وهي برّ الوالدين، وتحريم الخمر، {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} [الأنعام: 52]، وآية الأنفال. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قال الإمام مسلم رحمه الله في "كتاب فضائل أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم ":
(1748)
- حدّثنا أبو بكر بن أبي شيبة، وزهير بن حرب، قالا: حدّثنا الحسن بن موسى، حدّثنا زهير، حدّثنا سماك بن حرب، حدّثني مصعب بن سعد، عن أبيه، أنه نزلت فيه آيات من القرآن. قال: حَلَفَتْ أمُّ سعد أن لا تكلمه أبدًا حتى يكفر بدينه، ولا تأكل، ولا تشرب، قالت: زعمتَ أن الله وصاك بوالديك، وأنا أمك، وأنا آمرك بهذا، قال: مكثَتْ ثلاثًا حتى غُشي عليها من الْجَهْد، فقام ابن لها يقال له: عمارة، فسقاها، فجعلت تدعو على سعد، فأنزل الله في القرآن هذه الآية:{وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا} ، {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي} وفيها:{وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان: 14، 15]، قال: وأصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم غنيمة عظيمة، فإذا فيها سيف، فأخذته، فأتيت به الرسول صلى الله عليه وسلم، فقلت: نَفِّلني هذا السيف، فأنا مَن قد عَلِمْتَ حاله، فقال:"رُدَّه من حيث أخذته"، فانطلقت حتى إذا أردت أن ألقيه في الْقَبَض لامتني نفسي، فرجعت إليه، فقلت: أعطنيه، قال: فَشَدّ لي صوته: "رُدّه من حيث أخذته"، قال فأنزل الله عز وجل:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ} ، قال: ومَرِضتُ، فأرسلت إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأتاني، فقلت: دعني أقسم مالي حيث شئت، قال: فأبى، قلت: فالنصف، قال: فأبى، قلت: فالثلث، قال: فسكت، فكان بعدُ الثلثُ جائزًا، قال: وأتيت على نفر من الأنصار والمهاجرين، فقالوا: تعال نطعمك، ونسقيك خمرًا، وذلك قبل أن تُحَرَّم الخمر. قال: فأتيتهم، في حَشّ - والحش: البستان - فإذا رأس جَزور مشويّ عندهم، وزِقّ من خمر. قال: فأكلت، وشربت معهم. قال: فذُكرت الأنصارُ والمهاجرون عندهم، فقلت: المهاجرون خير من الأنصار. قال: فأخذ رجل أحد لحيي الرأس، فضربني به، فجَرَح بأنفي،
(1)
"شرح النوويّ" 12/ 54.
فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبرته، فأنزل الله عز وجل فيّ - يعني: نفسه - شأن الخمر: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} [المائدة: 90] ".
(
…
) حدثنا محمد بن المثنى، ومحمد بن بشار، قالا: حدّثنا محمد بن جعفر، حدّثنا شعبة، عن سماك بن حرب، عن مصعب بن سعد، عن أبيه، أنه قال: أُنزلت فيّ أربع آيات، وساق الحديث بمعنى حديث زهير، عن سماك، وزاد في حديث شعبة:"قال: فكانوا إذا أرادوا أن يطعموها شَجَرُوا فاها بعصًا، ثم أوجروها".
وفي حديثه أيضًا: "فضرب به أنف سعد، ففزَرَه، وكان أنف سعد مفزورًا". انتهى.
وقوله: (فَأَتَى بِهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم) هذا عدول من التكلّم إلى الغيبة، وفي بعض النسخ:"فأتيت".
وقوله: (نَفِّلْنِيهِ)؛ أي: أعطني إياه، قال لبيد [من المديد]:
إِنَّ تَقْوَى رَبِّنَا خَيْرُ نَفَلْ
…
وَبِإِذْنِ اللهِ رَيْثِي وَعَجَلْ
ومنه سُمِّي الرَّجل نَوْفلًا؛ لكثرة عطائه، ويكون النَّفَل أيضًا للزيادة، ومنه نوافل الصلاة، وهي الزوائد على الفرائض
(1)
.
وقوله: (أَأُجْعَلُ) بالبناء للمفعول، والهمزة الأولى للاستفهام، هكذا وقع في نُسخ مسلم بلفظ:"أَأُجْعَلُ"، ووقع في "مختصر القرطبيّ" بلفظ:"أوَ أُجعل"، فقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "أوَ أُجعل كمن لا غَنَاء له" الرِّواية الصحيحة بفتح الواو، ومن سكَّنها غَلِط؛ لأنها الواو الواقعة بعد همزة الاستفهام، ولا تكون إلا مفتوحة، وأما "أو" الساكنة فلا تكون إلا لأحد الشيئين، وهذا الاستفهام من سعد على جهة الاستبعاد، والتعجب من أن يُنَزَّل من ليس في شجاعته منزلته، لا على جهة الإنكار؛ لأنه لا يصح، ولا يحل الإنكار على النبيّ صلى الله عليه وسلم، لا سيما فيمن يكون في منزلة سعد، ومعرفته بحقّ النبيّ صلى الله عليه وسلم، واحترامه له.
و"الغَنَاء" بفتح الغين، والمد: النفع. و"الغِنى" - بكسر الغين والقصر -:
(1)
"المفهم" 3/ 534.
كثرة المال. انتهى
(1)
.
وقوله: (كَمَنْ لَا غَنَاءَ لَهُ؟) بفتح الغين المعجمة، وبالمدّ: الكفاية؛ أي: أتجعلني كالناس الذين لا نفع، وكفاية لهم في الحرب؟.
وقوله: (فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيةُ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ} الآية) تقدّم أنه صلى الله عليه وسلم لما نزلت الآية، وجعل الله تعالى الغنيمة له أعطى سعدًا رضي الله عنه ذلك السيف، وقال له:"كنت سألتني السيف، وليس هو لي، وإنه قد وُهب لي، فهو لك"، رواه أحمد
(2)
.
والحديث من أفراد المصنّف، وقد تقدّم تمام شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، ولله الحمد والمنة.
وبالسند المتّصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4548]
(1749) - (حَدَّثنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: بَعَثَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم سَرِيَّةً، وَأنا فِيهِمْ، قِبَلَ نَجْدٍ، فَغَنِمُوا إِبِلًا كَثِيرَةً، فَكَانَتْ سُهْمَانُهُمُ اثْنَي عَشَرَ بَعِيرًا، أَوْ أَحَدَ عَشَرَ بَعِيرًا، وَنُفِّلُوا بَعِيرًا بَعِيرًا).
رجال هذا الإسناد: أربعة:
وكلّهم تقدّموا قريبًا.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (304) من رباعيّات الكتاب.
شرح الحديث:
(عَنِ ابْنِ عُمَرَ) رضي الله عنهما أنه (قَالَ: بَعَثَ)؛ أي: أرسل (النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم سَرِيَّةً) - بفتح السين المهملة، وكسر الراء، وتشديد التحتانية -: هي التي تخرج بالليل، و"السارية" التي تخرج بالنهار، وقيل: سُمّيت بذلك؛ لأنها تُخفِي ذهابها، وهذا يقتضي أنها أُخِذت من السرّ، ولا يصح؛ لاختلاف المادّة، وهي قطعة من
(1)
"المفهم" 3/ 535.
(2)
رواه أحمد في "مسنده"(1538) بإسناد صحيح.
الجيش، تَخْرُج منه، وتعود إليه، وهي من مائة إلى خمسمائة، فما زاد على خمسمائة يقال له:"مَنْسر"
(1)
- بالنون، والمهملة - فإن زاد على الثمانمائة سُمّي:"جيشًا"، وما بينهما يُسَمَّى:"هبطة"، فإن زاد على أربعة آلاف يُسَمَّى:"جَحْفَلًا"، فإن زاد، فـ "جيش جَرّار"، و"الخميس": الجيش العظيم، وما افترق من السريّة يُسَمَّى:"بَعْثًا"، فالعشرة فما بعدها تسمى:"حَفِيرةً"، والأربعون:"عُصْبة"، وإلى ثلاثمائة:"مقنب" - بقاف، ونون، ثم موحَّدة - فإن زاد سُمّي:"جمرة" - بالجيم - و"الكتيبة": ما اجتمع، ولم ينتشر. ذكره في "الفتح"
(2)
.
وقوله: (وَأنَا فِيهِمْ) جملة في محلّ نصب على الحال (قِبَلَ نَجْدٍ) - بكسر القاف، وفتح الموحدة -؛ أي: في جهة نجد، و"نجد" - بفتح النون، وسكون الجيم -: ما ارتفع من الأرض، والجمع: نُجود، مثلُ فلس وفُلُوس، وبالواحد سُمّي بلاد معروفة من ديار العرب، مما يلي العراق، وليست من الحجاز، وإن كانت من جزيرة العرب، قال في "التهذيب": كل ما وراء الْخَنْدق الذي خَنْدقه كسرى على سواد العراق، فهو نجد إلى أن تميل إلى الحرّة، فإذا مِلتَ إليها، فأنت في الحجاز، وقال الصغانيّ: كلُّ ما ارتفع من تهامة إلى أرض العراق، فهو نجد. انتهى
(3)
.
[تنبيه]: قال في "الفتح": هكذا ذكر البخاريّ هذه السريّة بعد غزوة الطائف، والذي ذكره أهل المغازي أنها كانت قبل التوجه لفتح مكة، فقال ابن سعد: كانت في شعبان سنة ثمان، وذكر غيره أنها كانت قبل مُؤتة، ومُؤتة كانت في جمادى من تلك السنة، وقيل: كانت في رمضان، قالوا: وكان أبو قتادة أميرَها، وكانوا خمسة وعشرين، وغَنِمُوا من غطفان بأرض محارب مائتي بعير، وألفي شاة. انتهى
(4)
.
(فَغَنِمُوا إِبِلًا كثِيرَةً) وفي الرواية الآتية: "فأصبنا إبلًا وغنمًا"،
(1)
كمجلسٍ، ومِنْبَر. اهـ "ق".
(2)
"الفتح" 9/ 470، كتاب "المغازي" رقم (4338).
(3)
"المصباح المنير" 2/ 593.
(4)
راجع: "الفتح" 9/ 470، كتاب "المغازي" رقم (4338).
(فَكَانَتْ سُهْمَانُهُمُ) - بضمّ، فسكون -: جمع سهم، ويُجمع على أسهُم، وسِهام؛ أي: أنصباؤهم، والمراد: أنه بلغ نصيب كل واحد منهم هذا القدر، وتوهَّم بعضهم أن ذلك جميع الأنصباء، قال النوويّ: وهو غلط، فقد جاء في بعض روايات أبي داود وغيره: أن الاثني عشر بعيرًا كانت سُهمان كل واحد من الجيش والسرية، ونَفَّل السرية سوى هذا بعيرًا بعيرًا. انتهى
(1)
.
(اثْنَي عَشَرَ بَعِيرًا) هكذا وقع "اثني عشر" بالياء، ووقع في نسخة شرح النوويّ بلفظ:"اثنا عشر" بالألف، قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في أكثر النسخ: "اثنا عشر"، وفي بعضها:"اثني عشر"، وهذا ظاهر، والأول أيضًا صحيح على لغة من يجعل المثنى بالألف، سواء كان مرفوعًا، أو منصوبًا، أو مجرورًا، وهي لغة أربع قبائل من العرب، وقد كثرت في كلام العرب، ومنها قوله تعالى:{إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ} [طه: 63]. انتهى
(2)
.
(أَوْ أَحَدَ عَشَرَ بَعِيرًا) قال في "الفتح": هكذا رواه مالك بالشك، والاختصار وإبهام الذي نَفّلَهم، وقد وقع بيان ذلك في رواية ابن إسحاق، عن نافع، عند أبي داود، ولفظه:"فخرجت فيها، فأصبنا نَعَمًا كثيرًا، وأعطانا أميرنا بعيرًا بعيرًا لكل إنسان، ثم قَدِمنا على النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقسم بيننا غنيمتنا، فأصاب كلُّ رجل منا اثنا عشر بعيرًا بعد الخمس".
وأخرجه أبو داود أيضًا من طريق شعيب بن أبي حمزة، عن نافع، ولفظه:"بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في جيش قِبَل نجد، وانبعث سرية من الجيش، وكان سُهْمان الجيش اثني عشر بعيرًا، اثني عشر بعيرًا، ونفّل أهل السرية بعيرًا بعيرًا، فكانت سُهمانهم ثلاثة عشر بعيرًا، ثلاثة عشر بعيرًا".
وأخرجه ابن عبد البر من هذا الوجه، وقال في روايته أن ذلك الجيش كان أربعة آلاف، قال ابن عبد البرّ: اتَّفَق جماعة رواة "الموطأ" على روايته بالشكّ، إلا الوليد بن مسلم، فإنه رواه عن شعيب، ومالك جميعًا، فلم يشك، وكأنه حَمَل رواية مالك على رواية شعيب
قال الحافظ: وكذا أخرجه أبو داود، عن القعنبيّ، عن مالك، والليث،
(1)
"شرح النوويّ" 12/ 55.
(2)
"شرح النوويّ" 12/ 54.
بغير شكّ، فكأنه أيضًا حَمَل رواية مالك على رواية الليث.
قال ابن عبد البرّ: وقال سائر أصحاب نافع: "اثني عشر بعيرًا"، بغير شكّ، لم يقع الشك فيه إلا من مالك. انتهى
(1)
.
قوله: (وَنُفِّلُوا بَعِيرًا بَعِيرًا) بلفظ الفعل الماضي مبنيًّا للمفعول، والنَّفَل - بفتحتين -: جمعه أنفال، مثلُ سبَب وأسباب: زيادة يُزادها الغازي على نصيبه من الغنيمة، ومنه نَفْل الصلاة وهو ما عدا الفرض.
وقال النوويّ رحمه الله: معنى قوله: "نُفِّلوا بعيرًا بعيرًا": أن الذين استحقّوا النفل نُفِّلوا بعيرًا بعيرًا، لا أن كل واحد من السرية نُفِّل، قال أهل اللغة، والفقهاء: الأنفال: هي العطايا من الغنيمة، غير السهم المستحَقِّ بالقسمة، واحدها نَفَل - بفتح الفاء - على المشهور، وحُكِيَ إسكانها. انتهى
(2)
.
وقال في "الفتح": واختلف الرواة في القَسْم والتنفيل، هل كانا جميعًا من أمير ذلك الجيش، أو من النبيّ صلى الله عليه وسلم، أو أحدهما من أحدهما؟ فرواية ابن إسحاق صريحة أن التنفيل كان من الأمير، والقسم من النبيّ صلى الله عليه وسلم، وظاهر رواية الليث، عن نافع، عند مسلم أن ذلك صدر من أمير الجيش، وأن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان مقرِّرًا لذلك، ومجيزًا له؛ لأنه قال فيه:"ولم يغيّره النبيّ صلى الله عليه وسلم"، وفي رواية عبد الله بن عمر عنده أيضًا:"ونفّلنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعيرًا بعيرًا"، وهذا يمكن أن يُحْمَل على التقرير، فتجتمع الروايتان.
قال النوويّ رحمه الله: معناه: أن أمير السرية نَفّلهم، فأجازه النبيّ صلى الله عليه وسلم، فجازت نسبته لكلّ منهما. انتهى
(3)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: هذه السرية خرجت من جيش بعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى نجد، فلما غَنِمت قسم ما غنمت على الجيش والسرية، فكانت سُهمان؛ كل واحد من الجيش والسَّرية اثني عشر بعيرًا، اثني عشر بعيرًا، ثم زيد أهل السَّرية بعيرًا بعيرًا، فكان لكل إنسان من أهل السَّرية ثلاثة عشر بعيرًا، ثلاثة
(1)
"الفتح" 7/ 410 - 411، كتاب "فرض الخمس" رقم (3134).
(2)
"شرح النوويّ" 12/ 55.
(3)
"الفتح" 7/ 411، كتاب "فرض الخمس" رقم (3134).
عشر بعيرًا، بيّن ذلك ونَصّ عليه أبو داود من حديث شعيب بن أبي حمزة، عن نافع، عن ابن عمر، ولهذا قال مالك، وعامة الفقهاء: إن السَّرية إذا خرجت من الجيش فما غنمته كان مقسومًا بينها وبين الجيش، ثم إن رأى الإمام أن ينفّلهم من الخُمس جاز عند مالك، واستُحبّ عند غيره، وذهب الأوزاعيّ، وأحمد، وإسحاق، وأبو عبيد: إلى أن النفل من جملة الغنيمة بعد إخراج الخمس، وما بقي للجيش، وحديث ابن عمر يردّ على هؤلاء، فإنه قال فيه: فبلغت سُهماننا اثني عشر بعيرًا، اثني عشر بعيرًا، ونفّلنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعيرًا بعيرًا، وظاهر مساق هذه الرواية: أن الذي قسَّم بينهم، ونفّلهم، هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين رجعوا إليه، وفي رواية مالك، عن نافع:"ونُفِّلُوا بعيرًا بعيرًا"، ولم يَذكر رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، ومن رواية الليث، عن نافع:"ونُفِّلوا سوى ذلك بعيرًا بعيرًا، فلم يغيّره رسول الله صلى الله عليه وسلم "، وفي كتاب أبي داود من حديث محمد بن إسحاق، عن نافع، قال:"فأصبنا نَعَمًا كثيرًا، فنفّلنا أميرنا بعيرًا بعيرًا، ثم قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقسم بيننا غنيمتنا، فأصاب كل رجلٍ منا اثنا عشر بعيرًا، اثنا عشر بعيرًا، وما حاسَبَنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بالذي أعطانا صاحبنا، ولا عاب عليه ما صنع، فكان لكل رجل ثلاثة عشر بعيرًا بنفله".
قال القرطبيّ رحمه الله: وهذا اضطراب في حديث ابن عمر، على أنه يمكن أن تُحمل رواية من رفع ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على أنه لمّا بلغه ذلك أجازه، وسوَّغه، والله تعالى أعلم.
أو تكون رواية عبيد الله، عن نافع في الرَّفع وهمًا، وبمقتضى رواية ابن إسحاق عن نافع قال الأوزاعيّ، وأحمد، وإسحاق، وأبو عبيد كما قدمناه آنفًا من مذهبهم، لكن محمد بن إسحاق كذّبه مالك، وضعّفه غيره. أنتهى كلام القرطبيّ
(1)
.
قال الجامع: ما قاله القرطبيّ في محمد بن إسحاق غير مقبول، فإن الجمهور على أنه ثقةٌ، وأما ما رُوي من تكذيب مالك له، فقد أجاب عنه العلماء بأنه من قبيل ما يصدر بين المتعاصرين، فلا يُقبل إلا ببيّنة واضحة،
(1)
"المفهم" 3/ 537 - 538.
ورحم الله تعالى الإمام الذهبيّ حيث يقول في "ميزانه": كلام النظراء والأقران ينبغي أن يُتأمّل. ويُتأنَّى فيه. انتهى
(1)
، فانتبه لهذه الدقائق، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنف) هنا [12/ 4548 و 4549 و 4550 و 4551 و 4552](1749)، و (البخاريّ) في "الجهاد"(3134) و"المغازي"(4338)، و (أبو داود) في "الجهاد"(2741 و 2742 و 2743 و 2744 و 2745)، و (مالك) في "الموطّأ"(2/ 450)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 112)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 228)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4832 و 4833 و 4834)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 230)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(3/ 241)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(1074)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(12/ 13426)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(6/ 312 و 313)، و (البغويّ) في "شرح السُّنّة"(2726)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان حلّ الغنيمة لهذه الأمّة؛ رحمة من الله تعالى بها.
2 -
(ومنها): استحباب بعث السرايا، وما غَنِمَت تشترك فيه هي والجيش، إن انفردت عن الجيش في بعض الطريق، وأما إذا خرجت من البلد، وأقام الجيش في البلد فتختص هي بالغنيمة، ولا يشاركها الجيش.
3 -
(ومنها): إثبات التنفيل؛ للترغيب في تحصيل مصالح القتال، ثم الجمهور على أن التنفيل يكون في كل غنيمة، سواء الأولى وغيرها، وسواء غنيمة الذهب والفضة وغيرهما، وسيأتي بيان اختلاف العلماء في ذلك في المسألة التالية - إن شاء الله تعالى -.
(1)
راجع: "ميزان الاعتدال" 2/ 202.
4 -
(ومنها): بيان أن الجيش إذا انفرد منه قطعةٌ، فغَنِموا شيئًا كانت الغنيمة للجميع، قال ابن عبد البرّ رحمه الله: لا يختلف الفقهاء في ذلك؛ أي: إذا خرج الجيش جميعه، ثم انفردت منه قطعة، وليس المراد الجيش القاعد في بلاد الإسلام، فإنه لا يشارك الجيش الخارج إلى بلاد العدوّ.
5 -
(ومنها): ما قال ابن دقيق العيد رحمه الله: أن الحديث يُستدَلّ به على أن المنقطع من الجيش عن الجيش الذي فيه الإمام ينفرد بما يغنمه، قال: وإنما قالوا بمشاركة الجيش لهم إذا كانوا قريبًا منهم، يلحقهم عونه وغوثه، لو احتاجوا. انتهى.
قال الحافظ: وهذا القيد في مذهب مالك. انتهى. وقال إبراهيم النخعيّ: للإمام أن يُنَفِّل السرية جميع ما غَنِمَتْه دون بقية الجيش مطلقًا، وقيل: إنه انفرد بذلك.
6 -
(ومنها): أنّ فيه مشروعيةَ التنفيل، ومعناه: تخصيص من له أَثَرٌ في الحرب بشيء من المال، لكنه خصه عمرو بن شعيب بالنبيّ صلى الله عليه وسلم دون من بعده، نَعَم وَكَرِه مالك أن يكون بشرط من أمير الجيش، كأن يُحَرِّض على القتال، وَيعِدَ بأن ينفّل الربع إلى الثلث قبل القسم، واعتَلَّ بأن القتال حينئذ يكون للدنيا، قال: فلا يجوز مثل هذا. انتهى.
قال الحافظ: وفي هذا ردّ على من حَكَى الإجماع على مشروعيته.
7 -
(ومنها): ما قيل: إنه استُدلّ به على تعيّن قسمة أعيان الغنيمة، لا أثمانها، قال الحافظ: وفيه نظر؛ لاحتمال أن يكون وقع ذلك اتفاقًا، أو بيانًا للجواز، وعند المالكية فيه أقوال؛ ثالثها: التخيير
(1)
.
8 -
(ومنها): أن أمير الجيش إذا فعل مصلحة لم ينقضها الإمام، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في محلّ النَّفَلِ:
قال النوويّ رحمه الله: ذهب الجمهور إلى أن التنفيل يكون في كلّ غنيمة، سواء الأُولى وغيرها، وسواء غنيمة الذهب والفضّة، وغيرهما، وقال
(1)
"الفتح" 7/ 413، كتاب "فرض الخمس" رقم (3134).
الأوزاعيّ، وجماعة من الشاميين: لا يُنفّل في أول غنيمة، ولا ينفل ذهبًا ولا فضّة. انتهى.
وقال في "الفتح": وقد اختلف العلماء هل هو من أصل الغنيمة، أو من الخمس، أو من خمس الخمس، أو مما عدا الخمس؟ على أقوال، والثلاثة الأُوَلُ مذهب الشافعيّ، والأصح عندهم أنها من خمس الخمس، ونقله منذر بن سعيد عن مالك، وهو شاذّ عندهم، قال ابن بطال: وحديث الباب يردّ على هذا؛ لأنهم نُفِّلوا نصف السدس، وهو أكثر من خمس الخمس، وهذا واضح، وقد زاده ابن الْمُنَيِّر إيضاحًا، فقال: لو فرضنا أنهم كانوا مائة لكان قد حصل لهم ألف ومائتا بعير، ويكون الخمس من الأصل ثلاثمائة بعير، وخمسها ستون، وقد نطق الحديث بأنهم نُفِّلوا بعيرًا بعيرًا، فتكون جملة ما نُفِّلوا مائة بعير، وإذا كان خمس الخمس ستين لم يَفِ كلّه ببعير بعير لكل من المائة، وهكذا كيفما فرضت العدد. قال: وقد ألجأ هذا الإلزام بعضهم فادَّعَى أن جميع ما حصل للغانمين كان اثني عشر بعيرًا، فقيل له: فيكون خمسها ثلاثة أبعرة، فيلزم أن تكون السرية كلها ثلاثة رجال، كذا قيل، قال ابن المنير: وهو سهو على التفريع المذكور، بل يلزم أن يكون أقل من رجل بناء على أن النَّفَل من خمس الخمس.
وقال ابن التين: قد انفصل من قال من الشافعية بأن النفل من خمس الخمس بأوجه:
منها: أن الغنيمة لم تكن كلها أبعرة، بل كان فيها أصناف أخرى، فيكون التنفيل وقع من بعض الأصناف دون بعض.
ثانيها: أن يكون نَفَّلهم من سهمه من هذه الغزاة وغيرها، فضم هذا إلى هذا، فلذلك زادت العدة.
ثالثها: أن يكون نَفَّل بعض الجيش دون بعض، قال: وظاهر السياق يردّ هذه الاحتمالات، قال: وقد جاء أنهم كانوا عشرة، وأنهم غَنِموا مائة وخمسين بعيرًا، فخرج منها الخمس، وهو ثلاثون، وقسم عليهم البقية، فحصل لكل واحد اثنا عشر بعيرًا، ثم نفّلوا بعيرًا بعيرًا، فعلى هذا فقد نُفِّلوا ثلث الخمس.
قال الحافظ: إن ثبت هذا لم يكن فيه ردّ للاحتمال الأخير؛ لأنه يَحْتَمِل أن يكون الذين نُفِّلوا ستة من العشرة، والله أعلم.
وقال الأوزاعيّ، وأحمد، وأبو ثور، وغيرهم: النفل من أصل الغنيمة، وقال مالك، وطائفة: لا نفل إلا من الخمس.
وقال الخطابيّ: أكثر ما رُوي من الأخبار يدلّ على أن النفل من أصل الغنيمة، والذي يقرب من حديث الباب أنه كان من الخمس؛ لأنه أضاف الاثني عشر إلى سُهمانهم، فكأنه أشار إلى أن ذلك قد تقرر لهم استحقاقه من الأخماس الأربعة الموزعة عليهم، فيبقى للنفل من الخمس.
قال الحافظ: ويؤيده ما رواه مسلم في حديث الباب من طريق الزهريّ قال: بلغني عن ابن عمر قال: نَفَّلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم سريّة بعثها قِبَل نجد من إبل جاؤوا بها نَفَلًا سوى نصيبهم من المغنم. لم يسق مسلم لفظه، وساقه الطحاويّ.
ويؤيده أيضًا ما رواه مالك، عن عبد ربه بن سعيد، عن عمرو بن شعيب: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "ما لي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس، وهو مردود عليكم"، وصله النسائيّ من وجه آخر حسنٍ، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدّه، وأخرجه أيضًا بإسناد حسن، من حديث عُبادة بن الصامت رضي الله عنه، فإنه يدلّ على أن ما سوى الخمس للمقاتِلة.
ورَوَى مالك أيضًا عن أبي الزناد، أنه سمع سعيد بن المسيِّب قال: كان الناس يُعْطَون النفل من الخمس.
قال الحافظ: وظاهره اتِّفاق الصحابة على ذلك.
وقال ابن عبد البرّ: إن أراد الإمام تفضيل بعض الجيش لمعنى فيه، فذلك من الخمس، لا من رأس الغنيمة، وإن انفردت قطعة، فأراد أن يُنَفِّلها مما غَنِمت دون سائر الجيش، فذلك من غير الخمس، بشرط أن لا يزيد على الثلث. انتهى. وهذا الشرط قال به الجمهور، وقال الشافعيّ: لا يتحدد، بل هو راجع إلى ما يراه الإمام من المصلحة، ويدلّ له قوله تعالى:{قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} [الأنفال: 1]، ففوّض إليه أمرها، والله أعلم.
وقال الأوزاعيّ: لا ينفّل من أول الغنيمة، ولا ينفّل ذهبًا، ولا فضةً،
وخالفه الجمهور، قال الحافظ: وحديث الباب من رواية ابن إسحاق يدلّ لما قالوا.
قال الجامع عفا الله عنه: ما ذهب إليه الجمهور من أن التنفيل يكون في كلّ غنيمة، هو الأرجح؛ لظاهر حديث الباب، فتبصّر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4549]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ (ح) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحٍ، أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ سَرِيَّةً قِبَلَ نَجْدٍ، وَفِيهِمُ ابْنُ عُمَرَ، وَأَنَّ سُهْمَانَهُمْ بَلَغَتِ اثْنَى عَشَرَ بَعِيرًا، وَنُفِّلُوا سِوَى ذَلِكَ بَعِيرًا، فَلَمْ يُغَيِّرْهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
وكلّهم ذُكروا في الباب، وقبل باب.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، كسابقه، وهو (305) من رباعيّات الكتاب.
وقوله: (وَفِيهِمُ ابْنُ عُمَرَ) فيه أن هذا التفات؛ إذ الظاهر أن يقول: وأنا فيهم، كما في الرواية السابقة.
وقوله: (وَنُفِّلُوا سِوَى ذَلِكَ بَعِيرًا، فَلَمْ يُغَيِّرْهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) قال الأبيّ رحمه الله: قوله: "ونُفّلوا
…
إلخ" يفسّره ما في أبي داود من قوله: "فنفّلنا أميرنا بعيرًا بعيرًا، فما عاب ذلك علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم "، وهو وجه الجمع بين هذا، وبين: "فنفّلنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعيرًا بعيرًا"؛ أي: أجاز، وأمضى نَفَلَ الأمير. انتهى
(1)
.
وقال النوويّ رحمه الله: ويُجمَع بين الروايتين بأن أمير السرية نَفّلهم، فأجازه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاز نِسْبته إلى كل واحد منهما. انتهى
(2)
.
(1)
"شرح الأبي" 5/ 61.
(2)
"شرح النوويّ" 12/ 55.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، ولله الحمد والمنّة.
وبالسند المتّصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4550]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، وَعَبْدُ الرَّحِيمِ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم سَرِيَّةً إِلَى نَجْدٍ، فَخَرَجْتُ فِيهَا، فَأَصَبْنَا إِبِلًا، وَغَنَمًا، فَبَلَغَتْ سُهْمَانُنَا اثنيْ عَشَرَ بَعِيرًا، اثْنَيْ عَشَرَ بَعِيرًا، وَنَفَّلنا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَعِيرًا بَعِيرًا).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبيِ شَيْبَةَ) تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
2 -
(عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ) القرشيّ الكوفيّ، قاضي الموصل، ثقةٌ [8](ت 189)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 6.
3 -
(عَبْدُ الرَّحِيمِ بْنُ سُلَيْمَانَ) الكنانيّ، أو الطائيّ، أبو عليّ الأشلّ المروزيّ، نزيل الكوفة، ثقةٌ، له تصانيف، من صغار [8](ت 187)(ع) تقدم في "الحيض" 26/ 817.
4 -
(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ) العُمَريّ، تقدّم قبل باب.
والباقيان ذُكرا في الباب.
وقوله: (اثْنَىْ عَشَرَ بَعِيرًا، اثْنَىْ عَشَرَ بَعِيرًا) كذا وقع في جميع النسخ مكرّرًا، سوى المتن المطبوع ضمن شرح النوويّ
(1)
، وهذا التكرار لتعيين العدد على خلاف ما سبق في رواية مالك من الترديد بين اثني عشر وأحد عشر
(2)
.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله قبل حديث، ولله الحمد والمنّة.
وبالسند المتّصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4551]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَا: حَدَّثنَا يَحْيَى - وَهُوَ الْقَطَّانُ - عَنْ عُبَيْدِ الله، بِهَذَا الإسْنَادِ).
(1)
لكن النسخة الموجودة عندي من شرح النوويّ مكرّر فيها أيضًا، فتنبّه.
(2)
راجع: النسخة التركيّة 5/ 147.
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) تقدّم قريبًا.
2 -
(يَحْيَى الْقَطَّانُ) هو: ابن سعيد، تقدّم أيضًا قريبًا.
والباقيان ذُكرا في الباب.
[تنبيه]: رواية يحيى القطَّان، عن عبيد الله هذه ساقها أبو داود رحمه الله في "سننه"، فقال:
(2745)
- حدّثنا مُسَدَّد، ثنا يحيى، عن عبيد الله، قال: حدّثني نافع، عن عبد الله، قال:"بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سريّة، فبلغت سُهماننا اثني عشر بعيرًا، ونَفّلنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعيرًا بعيرًا". انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4552]
(
…
) - (وَحَدَّثنَاهُ أبُو الرَّبِيع، وَأَبُو كَامِلٍ، قَالَا: حَدَّثنَا حَمَّادٌ، عَنْ أيُّوبَ (ح) وَحَدَّثنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ، قَالَ: كَتَبْتُ إِلَى نَافِعٍ أَسْأَلُهُ عَنِ النَّفَل، فَكَتَبَ إِلَيَّ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ فِي سَرِيَّةٍ (ح) وَحَدَّثَنَا ابْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاق، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي مُوسَى (ح) وَحَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الأَيْلِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، كلُّهُمْ عَنْ نَافِعٍ، بِهَذَا الإسْنَاد، نَحْوَ حَدِيثِهِمْ).
رجال هذا الإسناد: ستة عشر:
1 -
(أَبُو الرَّبيعِ) سليمان بن داود الزهرانيّ الْعَتَكيّ، تقدَّم قريبًا.
2 -
(أَبُو كَامِلٍ) فُضيل بن حسين الْجحدريّ، تقدّم قريبًا.
3 -
(حَمَّادُ) بن زيد بن درهم، تقدّم أيضًا قريبًا.
4 -
(أيُّوبُ) بن أبي تميمة السَّخْتيانيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
5 -
(ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ) محمد بن إبراهيم بن أبي عديّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
6 -
(ابْنُ عَوْنٍ) هو: عبد الله بن عون بن أرطبان، تقدّم أيضًا قريبًا.
7 -
(ابْنُ جُرَيْجٍ) عبد الملك بن عبد العزيز بن جُريج، تقدّم قبل بابين.
(1)
"سنن أبي داود" 3/ 79.
8 -
(هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الأَيْلِيُّ) السعديّ مولاهم، أبو جعفر، نزيل مصر، ثقةٌ فاضلٌ [10](ت 253) وله (83) سنةً (م د س ق) تقدم في "الإيمان" 29/ 225.
9 -
(ابْنُ وَهْبٍ) هو: عبد الله المصريّ، تقدّم قريبًا.
10 -
(أُسَامَةُ بْنُ زيدٍ) الليثيّ مولاهم، أبو زيد المدنيّ، صدوقٌ يَهِم [7](ت 153)(خت م 4) تقدم في "الصلاة" 42/ 1085.
والباقون ذُكروا في الباب، والبابين الماضيين، و"موسى" هو: ابن عُقبة المدنيّ.
وقوله: (كلُّهُمْ عَنْ نَافِعٍ) الضمير هنا يرجع إلى الأربعة، وهم: أيوب السختيانيّ، وعبد الله بن عون، وموسى بن عقبة، وأسامة بن زيد، رووا هذا الحديث عن نافع بإسناده المذكور.
وقوله: (نحْوَ حَدِيثِهِمْ) الضمير هنا إلى الثلاثة، وهم: مالك بن أنس، والليث بن سعد، وعبيد الله بن عمر العمريّ.
[تنبيه]: رواية أيوب، عن نافع ساقها البيهقيّ رحمه الله في "الكبرى"، فقال:
(12574)
- أخبرنا أبو الحسن عليّ بن محمد بن عليّ المقرئ، أنا الحسن بن محمد بن إسحاق، ثنا يوسف بن يعقوب، ثنا أبو الربيع، ثنا حمّاد بن زيد، ثنا أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم جيشًا قِبَل نجد، كنت فيهم، فبلغت سُهماننا اثني عشر بعيرًا اثني عشر بعيرًا، ونَفَّلنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعيرًا بعيرًا، فرجعنا بثلاثة عشر بعيرًا ثلاثة عشر بعيرًا، انتهى
(1)
.
ورواية موسى بن عقبة، عن عبيد الله ساقها أبو عوانة رحمه الله في "مسنده"، فقال:
(6617)
- حدّثنا يوسف بن سعيد المصيصيّ، قثنا حجاج، عن ابن جريج، قال: أخبرني موسى بن عقبة، عن نافع، قال: قال عبد الله بن عمر: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سَرِيّةً قِبَلَ نجد، فأصابوا إبلًا كثيرًا، فحَدَّث عبد الله أن سُهمانهم بلغت اثني عشر بعيرًا اثني عشر بعيرًا، وكان نَفَّلهم بعيرًا بعيرًا، وقال
(1)
"السنن الكبرى" للبيهقيّ 6/ 312.
غير موسى: وكان فيهم عبد الله بن عمر. انتهى
(1)
.
ورواية أسامة بن زيد، عن نافع ساقها أبو عوانة رحمه الله أيضًا في "مسنده"، فقال:
(6618)
- حدّثنا عيسى بن أحمد، قال: أنبأ ابن وهب، قال: حدّثني أسامة بن زيد، عن نافع، عن ابن عمر، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سريةً، أنا فيهم، فغَنِمُوا غنائم كثيرة، فكانت سُهمانهم اثنا عشر بعيرًا اثنا عشر بعيرًا، ونُفِّل كلُّ إنسان منهم بعيرًا سوى ذلك. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا الله عنه: وأما رواية عبد الله بن عون، عن نافع، فلم أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4553]
(1750) - (وَحَدَّثَنَا سُرَيْجُ بْنُ يُونُسَ، وَعَمْرٌو النَّاقِدُ - وَاللَّفْظُ لِسُرَيْجٍ - قَالَا: حَدَّثنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ رَجَاءٍ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيه، قَالَ: نَفَّلَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَفَلًا، سِوَى نَصِيبِنَا مِنَ الْخُمْس، فَأَصَابَني شَارِفٌ - وَالشَّارِفُ: الْمُسِنُّ الْكَبِيرُ -).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(سُرَيْجُ بْنُ يُونُسَ) بن إبراهيم، أبو الحارث المروزيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ عابدٌ [10](ت 235)(خ م س) تقدم في "الإيمان" 25/ 209.
2 -
(عَمْرٌو النَّاقِدُ) ابن محمد بن بُكير، تقدّم قبل بابين.
3 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ رَجَاءٍ) أبو عمر البصريّ، نزيل مكة، ثقةٌ تغيّر حفظه قليلًا، من صغار [8] مات في حدود (190)(ز م د س ق) تقدم في "الحج" 43/ 3099.
4 -
(يُونُسُ) بن يزيد الأيليّ، تقدّم قريبًا.
5 -
(الزُّهْرِيُّ) محمد بن مسلم، تقدّم قبل بابين.
6 -
(سَالِمُ) بن عبد الله بن عمر بن الخطَّاب، تقدّم أيضًا قريبًا.
و"عبد الله بن عمر" رضي الله عنهما ذُكر قبله.
(1)
"مسند أبي عوانة" 4/ 230.
(2)
"مسند أبي عوانة" 4/ 230.
وقوله: (سِوَى نَصِيبِنَا مِنَ الْخُمْسِ) قال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "من الخمس" هذا الجارّ والمجرور في موضع الصفة لـ"نفلًا"؛ يعني: أنه نَفّلهم نفلًا من الخمس، وليس في موضع الحال من "نصيبنا"؛ لأنه يلزم عليه أن يكون لهم نصيب في الخمس غير النفل، ولم يُنْقَل هذا بوجه، ولا قاله أحدٌ فيما علمته. انتهى
(1)
.
وقوله: (فَأَصَابَنِي شَارِفٌ)؛ أي: كان نصيبي من ذلك النفَل شارف.
وقوله: (وَالشَّارِفُ: الْمُسِنُّ الْكَبِيرُ) الظاهر أن هذا مُدرج من بعض الرواة، ولعله من الزهريّ؛ لأنه مشهور بذلك، والله تعالى أعلم.
وقوله: (وَالشَّارِفُ: الْمُسِنُّ الْكَبِيرُ)؛ أي من النوق، قال المجد رحمه الله: الشَّارِف من النُّوق: الْمُسِنّة الْهَرِمَة، كالشارِفة. انتهى
(2)
.
وقال القاضي عياض رحمه الله: لا يقال الشارف للذكور، فالشارف: المسنّة الكبيرة، إلا أن يراد بقوله:"المسنّ" البعير؛ لأنه يُطلق على الذكر والأنثى، فذكّر الوصف على اللفظ. انتهى
(3)
، والله تعالى أعلم.
والحديث أخرجه المصنف هنا [12/ 4553 و 4554 و 4555](1750)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 231)، و (الطبراني) في "الأوسط"(2/ 329) و"الكبير"(22/ 242)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4554]
(
…
) - (وَحَدَّثنَا هَنَّادُ بْنُ السَّرِيّ، حَدَّثنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ (ح) وَحَدَّثَنى حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، كِلَاهُمَا عَنْ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: بَلَغَني عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: نَفَّلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم سَرِيَّةً، بِنَحْوِ حَدِيثِ ابْنِ رَجَاءٍ).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى) التُّجيبيّ، تقدّم قريبًا.
والباقون ذُكروا في الباب والبابين السابقين، و"ابْنُ الْمُبَارَكِ" هو: عبد الله الإمام المشهور.
[تنبيه]: رواية ابن شهاب: "بلغني
…
إلخ" ساقها البيهقيّ رحمه الله في "الكبرى"، فقال:
(1)
"المفهم" 3/ 539.
(2)
"القاموس المحيط" ص 680.
(3)
راجع: "إكمال المعلم" 6/ 59.
(12577)
- أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، أنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، أنا ابن وهب، أخبرني يونس بن يزيد، عن ابن شهاب، قال: بلغني عن عبد الله بن عمر أنه قال: "نَفَّل رسول الله صلى الله عليه وسلم سَرِيّةً من سراياه، بعثها إلى نجد، فنَفَّلهم من إبل، جاؤوا بها نَفَلًا سوى نصيبهم من المغنم". انتهى
(1)
.
[تنبيه آخر]: ذكر الحافظ رشيد الدين العطَّار رحمه الله في كتابه "غرر الفوائد" تعقّبًا على مسلم رحمه الله في هذا الحديث، ثم أجاب عنه، ودونك نصّه:
قال: أخرج مسلم في "كتاب الجهاد"، حديث يونس، عن الزهريّ، عن سالم، عن أبيه، قال: نَفّلنا رسول الله صلى الله عليه وسلم نفلًا، سوى نصيبنا من الخمس، فأصابني شارف - والشارف: المسنّ الكبير -.
ثم أردفه بقوله: حدَّثنا هنّاد بن السريّ، ثنا ابن المبارك (ح) قال: وحدّثني حرملة بن يحيى، أنبا ابن وهب، كلاهما عن يونس، عن ابن شهاب، قال: بلغني عن ابن عمر قال: نَفّل رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية، بنحو حديث ابن رجاء - يعني: عن يونس -.
قال الرشيد العطار: وهذا الحديث قد أورده مسلم من حديث عبد الله بن رجاء الْغُدَانيّ، عن يونس، عن الزهريّ بإسناده المتصل الذي ذكرناه أولًا، ثم أورد بعده حديث ابن المبارك، وابن وهب كلاهما عن يونس، بإسناده المقطوع، وإنما أراد بذلك - والله أعلم - أن ينبِّه على الاختلاف فيه على يونس، كما فعل في عِدّة أحاديث تُشبه هذا الحديث، وقد تقدم بعضها.
وعبد الله بن رجاء الذي وصله ثقةٌ، صدوقٌ، عند أهل النقل، إلا أن عمرو بن عليّ الفلاس نَسَبه إلى كثرة الغلط.
وعبد الله بن المبارك، وابن وهب مقدَّمان عليه في الحفظ عندهم، ولهذا جعل الدارقطنيّ القول قولهما في إسناد هذا الحديث، وقال: لو كان الزهريّ سمعه من سالم لم يَكْنِ عن اسمه، والله عز وجل أعلم.
قال العطّار: والعذر لمسلم في ذلك أنه إنما أورده هكذا في الشواهد،
(1)
"سنن البيهقيّ الكبرى" 6/ 313.
وإلا فقد أورد في أول الباب الحديث المتَّفَق على صحته في هذا المعنى، وهو حديث نافع، عن ابن عمر، قال: "بَعَثَ النبيّ صلى الله عليه وسلم سريةً، وأنا فيهم قِبَل نجد
…
" الحديث. انتهى كلام الرشيد العطّار رحمه الله، وهو بحث نفيسٌ جدًّا، وقد تقدّم في "المقدّمة"
(1)
، وإنما أعدته؛ تذكيرًا؛ لطول العهد به، فتنبّه، والله تعالى وليّ التوفيق.
وبالسند المتّصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4555]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَا عَبْدُ المَلِكِ بْنُ شُعَيْبِ بْنِ اللَّيْث، حَدَّثني أَبِي، عَنْ جَدِّي، قَالَ: حَدَّثَنِي عُقَيْلُ بْنُ خَالِدٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ كَانَ يُنَفِّلُ بَعْضَ مَنْ يَبْعَثُ مِنَ السَّرَايَا لأنفُسِهِمْ خَاصَّةً، سِوَى قَسْمِ عَامَّةِ الْجَيْش، وَالْخُمْسُ في ذَلِكَ وَاجِبٌ كُلِّهِ).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(عَبْدُ المَلِكِ بْنُ شُعَيْبِ بْنِ اللَّيْثِ) الْفَهْميّ مولاهم، أبو عبد الله المصريّ، ثقةٌ [11](ت 248)(م د س) تقدم في "الإيمان" 26/ 211.
2 -
(أَبُوهُ) شعيب بن الليث بن سعد الْفَهْميّ مولاهم، أبو عبد الملك المصريّ، ثقةٌ فقيهٌ نَبِيلٌ، من كبار [10](199)(م د س) تقدم في "الإيمان" 26/ 211.
3 -
(عُقَيْلُ بْنُ خَالِدٍ) الأمويّ مولاهم، أبو خالد الأيليّ، سكن المدينة، ثم الشام، ثم مصر، ثقةٌ ثبتٌ [6](ت 144)(ع) تقدم في "الإيمان" 8/ 133.
والباقون ذُكروا في الباب.
وقوله: (قَدْ كَانَ يُنَفِّلُ بَعْضَ مَنْ يَبْعَثُ مِنَ السَّرَايَا
…
إلخ) قال القرطبيّ رحمه الله: هذا يدلّ على أن ذلك ليس حَتْمًا واجبًا على الإمام، وإنما ذلك بحسب ما يظهر له من المصلحة، والتنشيط، كما يقوله مالك، وقد كَرِهَ مالك أن يُحَرِّض الإمام العسكر بإعطاء جزء من الغنيمة قبل القتال؛ لِمَا يخاف من فساد النية، وقد أجازه بعض السَّلف، وأجاز النخعيّ، وبعض العلماء أن تُنَفَّل
(1)
"قرة عين المحتاج" 1/ 37 - 38.
السَّرية جميع ما غَنِمَت، والكافة على خلافه. انتهى
(1)
.
وقوله: (وَالْخُمْسُ فِي ذَلِكَ وَاجِبٌ كُلِّهِ) قال القرطبيّ رحمه الله؛ يعني: أن التخميس لا بُدَّ منه فيما غَنِمته السَّرية، وفيما غَنِمه الجيش، وعلى هذا يكون "كُلِّهِ" مخفوضًا تأكيدًا لـ"ذلك" المجرور بـ "في"، وقد قيّدناه بالرفع، على أن يكون تأكيدًا لـ"الخمسُ" المرفوع، وفيه بُعْدٌ، والله أعلم. انتهى
(2)
.
وقال النوويّ رحمه الله: قوله: "كُلِّهِ" مجرور تأكيدٌ لقوله: "في ذلك"، وهذا تصريح بوجوب الخمس في كلّ الغنائم، ورَدٌّ على مَن جَهِل، فزَعَم أنه لا يجب، فاغتر به بعض الناس، وهذا مخالف للإجماع، وقد أوضحت هذا في جزء جمعته في قسمة الغنائم، حين دعت الضرورة إليه، في أول سنة أربع وسبعين وستمائة. انتهى
(3)
.
وقال في "الفتح" عند قول البخاريّ: "كان يُنَفِّل بعض من يبعث من السرايا لأنفسهم خاصةً، سوى قَسْم عامة الجيش" ما نصّه: وأخرجه مسلم، وزاد في آخره:"والخمس واجب في ذلك كله"، وليس فيه حجةٌ؛ لأن النفل
(4)
من الخمس، لا من غيره، بل هو مُحْتَمِل لكل من الأقوال، نعم فيه دليل على أنه يجوز تخصيص بعض السرية بالتنفيل دون بعض.
قال ابن دقيق العيد: للحديث تعلُّق بمسائل الإخلاص في الأعمال، وهو موضع دقيق المأخذ، ووجه تعلّقه به أن التنفيل يقع للترغيب في زيادة العمل، والمخاطرة في الجهاد، ولكن لم يضرّهم ذلك قطعًا؛ لكونه صدر لهم من النبيّ صلى الله عليه وسلم، فيدلّ على أن بعض المقاصد الخارجة عن محض التعبد لا تقدح في الإخلاص، لكن ضَبْط قانونها وتمييزها مما تضرّ مداخلته مشكلٌ جدًّا. انتهى
(5)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(1)
"المفهم" 3/ 539.
(2)
"المفهم" 3/ 540.
(3)
"شرح النوويّ" 12/ 57.
(4)
هكذا نسخة "الفتح": "لأن النفل
…
إلخ"، والظاهر أن الأولى التعبير بقوله: "وليس فيه حجةٌ لكون النفل من الخمس"، فتأمله بالإمعان، والله تعالى أعلم.
(5)
"الفتح" 7/ 413، كتاب "فرض الخمس" رقم (3135).
(13) - (بَابُ اسْتِحْقَاقِ الْقَاتِلِ سَلَبَ الْقَتِيلِ)
وبالسند المتّصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4556]
(1751) - (حَدَّثنا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى التَّمِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ كَثِيرِ بْنِ أفْلَحَ، عَنْ أَبِي مُحَمَّدٍ الأنصَارِيّ، وَكَانَ جَلِيسًا لأَبِي قَتَادَةَ، قَالَ: قَالَ أَبُو قَتَادَةَ. وَاقْتَصَّ الْحَدِيثَ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى التَّمِيمِيُّ) أبو زكريّا النيسابوريّ، ثقةٌ ثبتٌ، إمام [10](ت 226)(خ م ت س) تقدم في "المقدمة" 3/ 9.
2 -
(هُشَيْمُ) بن بشير، أبو معاوية بن أبي خازم الواسطيّ، ثقةٌ ثبتٌ، كثير التدليس والإرسال الخفيّ [7](ت 183)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 9.
3 -
(يَحْيَى بْنُ سَعِيدِ) بن قيس الأنصاريّ، أبو سعيد القاضي المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ [5](ت 144) أو بعدها (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 36.
4 -
(عُمَرُ بْنُ كَثِيرِ بْنِ أفلَحَ) المدنيّ، مولى أبي أيّوب، ثقةٌ [4](تخ م د ت كن ق) تقدم في "الجنائز" 2/ 2126.
5 -
(أَبُو مُحَمَّدٍ الأنصَارِيُّ) نافع بن عبّاس - بموحّدة، ومهملة - أو "عيّاش - بتحتانيّة، ومعجمة - الأقرع، مولى أبي قتادة، قيل له ذلك؛ للزومه إياه، ثقةٌ [3] (ع) تقدم في "الإيمان" 77/ 399.
6 -
(أَبُو قَتَادَةَ) الأنصاريّ الحارث، أو عمرو، أو النعمان بن رِبْعيّ بن بُلْدُمة السَّلَميّ، الصحابيّ الشهير، شهِد أُحدًا وما بعدها، ولم يصحّ شهوده بدرًا، ومات سنة (54) على الأصحّ (ع) تقدم في "الطهارة" 18/ 619.
وقوله: (وَاقْتَصَّ الْحَدِيثَ)، وكذا قوله الآتي بعده:"وساق الحديث": قال النوويّ رحمه الله: (اعلم): أن قوله في الطريق الأول: "واقتَصّ الحديث"، وقوله في الثاني:"وساق الحديث" يعني بهما الحديث المذكور في الطريق الثالث المذكور بعدهما، وهو قوله:"وحدثنا أبو الطاهر"، وهذا غريب من عادة مسلم - أي: لأن عادته أن يسوق سند المتن في أول الباب، ثم يُحيل
عليه في بقيّة الروايات - قال: فاحفظ ما حققته لك، فقد رأيت بعض الكُتّاب غَلِطَ فيه، وتوهّم أنه متعلِّق بالحديث السابق قبلهما، كما هو الغالب المعروف من عادة مسلم، حتى إن هذا المشار إليه ترجم له بابًا مستقلًّا، وترجم للطريق الثالث بابًا آخر، وهذا غلط فاحش، فاحذره، وإذا تدبرت الطرُق المذكورة تيقنت ما حققته لك. انتهى كلام النوويّ رحمه الله
(1)
، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4557]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي مُحَمَّدٍ مَوْلَى أَبِي قَتَادَةَ، أَنَّ أبَا قَتَادَةَ قَالَ، وَسَاقَ الْحَدِيثَ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
وكلّهم ذُكروا قبله، وفي الباب الماضي.
وبالسند المتّصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4558]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو الطَّاهِر، وَحَرْمَلَةُ - وَاللَّفْظُ لَهُ - أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْبٍ، قَالَ: سَمِعْتُ مَالِكَ بْنَ أنسٍ يَقُولُ: حَدَّثَنى يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ كَثِيَرِ بْنِ أَفْلَحَ، عَنْ أَبِي مُحَمَّدٍ مَوْلَى أَبِي قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي قَتَادَةَ، قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَامَ حُنَيْنٍ، فَلَمَّا الْتَقَيْنَا كَانَتْ لِلْمُسْلِمِينَ جَوْلَةٌ، قَالَ: فَرَأَيْتُ رَجُلًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَدْ عَلَا رَجُلًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَاسْتَدَرْتُ إِلَيْه، حَتَّى أتَيْتُهُ مِنْ وَرَائِه، فَضَرَبْتُهُ عَلَى حَبْلِ عَاتِقِه، وَأَقْبَلَ عَلَيَّ، فَضَمَّني ضَمَّةً وَجَدْتُ مِنْهَا رِيحَ الْمَوْت، ثُمَّ أَدْرَكَهُ الْمَوْتُ، فَأَرْسَلَنِي، فَلَحِقْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّاب، فَقَالَ: مَا لِلنَّاسِ؟ فَقُلْتُ: أَمْرُ الله، ثُمَّ إِنَّ النَّاسَ رَجَعُوا، وَجَلَسَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:"مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ، فَلَهُ سَلَبُهُ"، قَالَ: فَقُمْتُ، فَقُلْتُ: مَنْ يَشْهَدُ لِي؟، ثُمَّ جَلَسْتُ، ثُمَّ قَالَ مِثْلَ ذَلِكَ
(2)
، فَقَالَ: فَقُمْتُ، فَقُلْتُ: مَنْ يَشْهَدُ لي؟، ثُمَّ جَلَسْتُ، ثُمَّ قَالَ ذَلِكَ الثَّالِثَةَ، فَقُمْتُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"مَا لَكَ يَا أبا قَتَادَةَ؟ ".
(1)
"شرح النوويّ" 12/ 57 - 58.
(2)
وفي نسخة: "ثم قال بمثل ذلك".
فَقَصَصْتُ عَلَيْهِ الْقِصَّةَ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: صَدَقَ يَا رَسُولَ الله، سَلَبُ ذَلِكَ الْقَتِيلِ عِنْدِي، فَأَرْضِهِ مِنْ حَقِّه، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ: لَاهَا اللهِ إِذًا لَا يَعْمِدُ إِلَى أَسَدٍ مِنْ أُسُدِ الله، يُقَاتِلُ عَنِ الله، وَعَنْ رَسُولِه، فَيُعْطِيكَ سَلَبَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"صَدَقَ، فَأَعْطِهِ إِيَّاهُ"، فَأَعْطَانِي، قَالَ: فَبِعْتُ الدِّرْعَ، فَابْتَعْتُ بِهِ مَخْرَفًا فِي بَنِي سَلِمَةَ، فَإِنَّهُ لأوَّلُ مَالٍ تَأثَّلْتُهُ فِي الإسْلَامِ. وَفي حَدِيثِ اللَّيْثِ: فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: كَلَّا، لَا يُعْطِيهِ أُضَيْبعَ مِنْ قُرَيْشٍ، وَيَدَعُ أَسَدًا مِنْ أُسُدِ اللهِ. وَفي حَدِيثِ اللَّيْثِ: لأوَّلُ مَالٍ تَأَثَّلْتُهُ).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(أَبُو الطَّاهِرِ) أحمد بن عمرو بن عبد الله بن عمرو بن السرح المصريّ، ثقةٌ [10](ت 250)(م د س ق) تقدم في "المقدمة" 3/ 10.
والباقون ذُكروا قبله، وفي الباب الماضي.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد.
أن فيه ثلاثة تابعيين، روى بعضهم عن بعض، وهم: يحيى بن سعيد الأنصاريّ، وعمر بن كثير، وأبو محمد مولى أبي قتادة، وكلهم مدنيّون.
شرح الحديث:
(عَنْ عُمَرَ بْنِ كَثِيرِ بْنِ أَفْلَحَ) المدنيّ مولى أبي أيوب الأنصاريّ، وثّقه النسائيّ وغيره، وهو تابعيّ صغير، ولكن ابن حبّان ذكره في أتباع التابعين، قال الحافظ: وليس له في البخاريّ سوى هذا الحديث بهذا الإسناد، لكن ذكره في ثلاثة مواضع. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: وليس له عند مسلم أيضًا إلا هذا الحديث، وحديث آخر تقدّم في "كتاب الجنائز" برقم [2/ 2126] (918) من حديث أم سلمة رضي الله عنهما مرفوعًا: "ما من مسلم تصيبه مصيبة، فيقول ما أُمر به:{إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ}
…
" الحديث، وأعاده بعده.
(عَنْ أَبِي مُحَمَّدٍ) نافع بن عبّاس، وقيل: عيّاش، (مَوْلَى أَبِي قَتَادَةَ) قيل له ذلك؛ للزومه إياه، وإلا فهو مولى عقيلة الغفاريّة، (عَنْ أَبِي قَتَادَةَ) الأنصاريّ
الحارث، ويقال: عمرو، أو النعمان بن رِبْعيّ - بكسر الراء، وسكون الموحّدة، بعدها مهملة - ابن بُلْدُمة - بضمّ الموحّدة، والمهملة، بينهما لام ساكنة - السَّلَميّ - بفتحتين - الصحابيّ الشهير رضي الله عنه، أنه (قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَامَ حُنَيْنٍ) بالتصغير؛ أي: سنة وقعة حُنين، وهو وادٍ بين مكة والطائف، وهو مذكّر منصرف، وقد يؤنث على معنى البقعة، وقصة حنين أن النبيّ صلى الله عليه وسلم فتح مكة في رمضان سنة ثمان، ثم خرج منها لقتال هوازن، وثقيف، وقد بقيت أيام من رمضان، فسار إلى حُنين، فلما التقى الجمعان انكشف المسلمون، ثم أمدّهم الله تعالى بنصره، فعطفوا، وقاتلوا المشركين، فهزموهم، وغَنِموا أموالهم وعيالهم، وسيأتي قريبًا بيان قصّتها مفصّلة - إن شاء الله تعالى -.
(فَلَمَّا الْتَقَيْنَا كَانَتْ لِلْمُسْلِمِينَ جَوْلَةٌ)؛ - بفتح الجيم، وسكون الواو - أي: حركة فيها اختلافٌ، وقال النوويّ رحمه الله: قوله: "جَوْلة" - بفتح الجيم -؛ أي: انهزام، وخِيفة، ذهبوا فيه، وهذا إنما كان في بعض الجيش، وأما رسول الله صلى الله عليه وسلم، وطائفة معه فلم يُوَلُّوا، والأحاديث الصحيحة بذلك مشهورة، وسيأتي بيانها في مواضعها، وقد نقلوا إجماع المسلمين على أنه لا يجوز أن يقال: انهزم النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولم يرو أحد قطّ أنه صلى الله عليه وسلم انهزم بنفسه في موطن من المواطن، بل ثبتت الأحاديث الصحيحة بإقدامه صلى الله عليه وسلم وثباته في جميع المواطن. انتهى كلام النوويّ رحمه الله
(1)
، وهو تحقيق حسنٌ جدًّا، والله تعالى أعلم.
(قَالَ: فَرَأَيْتُ رَجُلًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَدْ عَلَا)؛ أي: ظهر عليه، وأشرف على قتله، أو صرعه، وجلس عليه لقتله، (رَجُلًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ) قال الحافظ رحمه الله: لم أقف على اسمهما. (فَاسْتَدَرْتُ إِلَيْهِ) وفي رواية للبخاريّ: "فاستدبرت"(حَتَّى أتيْتُهُ مِنْ وَرَائِهِ) وفي رواية الليث: "نظرت إلى رجل من المسلمين يقاتل رجلًا من المشركين، وآخر من المشركين يَخْتِله" - بفتح أوله، وسكون الخاء المعجمة، وكسر المثناة -؛ أي: يريد أن يأخذه على غِرّة، وتبيّن من هذه الرواية أن الضمير في قوله:"حتى أتيته من ورائه، فضربته" لهذا الثاني
(1)
"شرح النوويّ" 12/ 58.
الذي كان يريد أن يَخْتِلَ المسلم، أفاده في "الفتح"
(1)
.
(فَضَرَبْتُهُ عَلَى حَبْلِ عَاتِقِهِ)"حبل العاتق": عَصَبُهُ، و"العاتق": موضع الرداء من المنكب، وقال النوويّ: هو ما بين العنق والكتف، وقيل: حبل العاتق: هو حبل الوريد، والوريد عِرْق بين الْحُلقوم والعِلباوين
(2)
.
وعُرِف منه أن قوله في الرواية الأخرى: "فأضرب يده، فقطعتها" أن المراد باليد: الذراع، والعضد إلى الكتف، وقوله:"فقطعت الدرع"؛ أي: التي كان لابسها، وخلصت الضربة إلى يده، فقطعتها، قاله في "الفتح"
(3)
.
(وَأَقْبَلَ عَلَيَّ، فَضَمَّنِي ضَمَّةً وَجَدْتُ مِنْهَا رِيحَ الْمَوْتِ)؛ أي من شدّتها، وأشْعَرَ ذلك بأن هذا المشرك كان شديد القوّة جدًّا، قاله في "الفتح"، وقال النوويّ رحمه الله: يَحْتَمِل أنه أراد شدّةً كشدة الموت، ويَحْتَمِل: قاربت الموت، انتهى
(4)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله؛ أي: ضمّةً شديدةً أشرف بسببها على الموت، وهي استعارة حسنة، وأصلها أن من قَرُب من الشيء وجد ريحه. انتهى
(5)
.
(ثُمَّ أَدْرَكَهُ الْمَوْتُ، فَأَرْسَلَنِي)، أي: أطلقني (فَلَحِقْتُ) بكسر الحاء المهملة، من باب تَعِبَ، (عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ) رضي الله عنه، وفي السياق حَذْفٌ بيّنته رواية الليث، حيث قال:"فَتَحَلّل، ودفعته، ثم قتلته، وانهزم المسلمون، وانهزمت معهم، فإذا بعمر بن الخطاب". (فَقَالَ) عمر رضي الله عنه (مَا لِلنَّاسِ؟)"ما" استفهاميّة؛ أي: أيُّ شيء حصل للناس حتى انهزموا؟ (فَقُلْتُ: أَمْرُ اللهِ)؛ أي: حكم الله عز وجل، وما قضى به، فإنه لا مفرّ لِمَا قضاه.
وذكر في رواية البخاريّ عكس هذا، فجعل السائل أبا قتادة، والمجيب عمر رضي الله عنهما، ولفظه:"فإذا بعمر بن الخطّاب في الناس، فقلت له: ما شأن الناس؟ قال: أمر الله".
(1)
راجع: "الفتح" 9/ 439، كتاب "المغازي" رقم (4321).
(2)
العلباء: عصب غليظ في العنق.
(3)
راجع: "الفتح" 9/ 439، كتاب "المغازي" رقم (4321).
(4)
"شرح النوويّ" 12/ 58.
(5)
"المفهم" 3/ 541.
(ثمَّ إِنَّ النَّاسَ رَجَعُوا)؛ أي: من جولتهم تلك إلى قتال الكفّار بعد أن دعاهم عبّاس بن عبد المطّلب رضي الله عنه بأمره صلى الله عليه وسلم، كما سيأتي في "غزوة حنين"، وفيه: "أي عبّاس نَادِ أصحاب الشجرة - وكان العبّاس صيّتًا - قال: فناديت بأعلى صوتي: أين أصحاب الشجرة؟ قال: فوالله لكأن عَطْفتهم حين سمعوا صوتي عطفة البقرة على أولادها، فقالوا: يا لبيك، يا لبيك، فاقتتلوا والكفّار
…
" الحديث.
(وَجَلَسَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم)؛ أي: بعد نهاية المعركة، (فَقَالَ:"مَنْ) شرطيّة مبتدأ، جوابها "فله سلبه"، (قَتَلَ قَتِيلًا) قال القرطبيّ رحمه الله: فيه دليل على أن هذا القول منه صلى الله عليه وسلم كان بعد أن بَرَدَ القتال، وأما قبل القتال فيَكره مالك أن يقول مثل ذلك؛ لئلا تفسد نية المجاهدين. انتهى
(1)
.
(لَهُ عَلَيْهِ)؛ أي: على قتله إياه (بَيِّنَةٌ) قال القرطبيّ رحمه الله: قال بظاهره الليث، والشافعيّ، وبعض أصحاب الحديث، فلا يستحق القاتل السلب إلا بالبيّنة، أو بشاهدٍ ويمين، وقال الأوزاعيّ، والليث بن سعد: ليست البيّنة شرطًا في الاستحقاق، بل إن اتفق ذلك فهو الأولى رفعًا للمنازعة، وإن لم يتفق كان للقاتل بغير بيّنة، ألا ترى أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أعطى أبا قتادة سلب مقتوله من غير شهادة، ولا يمين، ولا يكفي شهادة واحد، ولا يناط بها حكم بمجردها، لا يقال: إنما أعطاه إيَّاه بشهادة الذي هو في يده، وشهادة أبي بكر؛ لأن أبا بكر رضي الله عنه لم يُقم شهادة لأبي قتادة، وإنما منع أن يُدفع السلب للذي ذكر أنه في يديه، ويمنع منه أبو قتادة، ويخرج على أصول المالكية في هذه المسألة، ومن قال بقولها: أنه لا يحتاج الإمام فيه إلى بينة؛ لأنه من الإمام ابتداء عطيّة. فإن شَرَط فيها الشهادة كان له، وإن لم يشترط، جاز أن يعطيه من غير شهادة، والله تعالى أعلم. انتهى كلام القرطبيّ
(2)
.
قال الجامع عفا الله عنه: عندي أن ما ذهب إليه الأولون من اشتراط البيّنة في استحقاق السلب هو الأرجح؛ لظاهر هذا الحديث، فتبصّر، والله تعالى أعلم.
(1)
"المفهم" 3/ 541.
(2)
"المفهم" 3/ 543.
(فَلَهُ سَلَبُهُ") - بفتحتين -: ما يُسلَب، والجمع: أسلاب، مثل سبب وأسباب، قال في "البارع": وكل شيء على الإنسان، من لباس، فهو سَلَب، ذكره الفيّوميّ رحمه الله
(1)
.
وقال في "الفتح": "السَّلَبُ" - بفتح المهملة، واللام -: هو ما يوجد مع المحارب من ملبوس، وغيره، عند الجمهور، وعن أحمد: لا تدخل الدابة، وعن الشافعي يَختص بأداة الحرب. انتهى
(2)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: اختلفوا في السَّلَب الذي يستحقه القاتل، فذهب الأوزاعيّ، وابن حبيب من المالكيّة إلى أنه فَرسه الذي ركبه، وكلُّ شيء كان عليه من لبوس، وسلاح، وآلة، وحِلية له ولفرسه، غير أن ابن حبيب قال: إن المنطقة التي فيها دنانير ودراهم نَفَقَته داخلة في السَّلب، ولم ير ذلك الأوزاعيّ، وقد عمل بقولهما جماعة من الصحابة، ونحوه مذهب الشافعيّ، غير أنه تردد في السوارين، والحلية، وما في معناهما من غير حلية الحرب.
وذهب ابن عباس رضي الله عنهما إلى أنه: الفرس، والسِّلاح، وهو معنى مذهب مالك، وشذَّ أحمد، فلم ير الفرس من السَّلب، ووقف في السَّيف، وللشافعيّ قولان فيما وُجد في عسكر العدوّ من أموال المقتول؛ هل هو من سلبه، أم لا؟ والصحيح: العموم فيما كان معه؛ تمسّكًا بالعموم، والله تعالى أعلم. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(3)
.
(قَالَ) أبو قتادة (فَقُمْتُ، فَقُلْتُ: مَنْ يَشْهَدُ لِي؟) زاد في رواية: "فلم أر أحدًا يشهد لي"، قال في "الفتح": وذكر الواقديّ أن عبد الله بن أُنيس شهد له، فإن كان ضَبَطه احتَمَلَ أن يكون وجده في المرة الثانية، فإن في الرواية الثانية:"فجلست، ثم بدا لي، فذكرت أمره".
(ثُمَّ جَلَسْتُ)؛ أي: لِفَقْد من يشهد له، (ثُمَّ قَالَ) صلى الله عليه وسلم (مِثْلَ ذَلِكَ) وفي بعض النسخ:"ثم قال بمثل ذلك"؛ أي: قال صلى الله عليه وسلم مثل قوله السابق، وهو: "من
(1)
"المصباح المنير" 1/ 284.
(2)
"الفتح" 7/ 423، كتاب "فرض الخمس" رقم (3141).
(3)
"المفهم" 3/ 542 - 543.
قتل قتيلًا، له عليه بيّنة، فله سلبه". (فَقَالَ) أبو قتادة (فَقُمْتُ، فَفلْتُ: مَنْ يَشْهَدُ لِي؟، ثُمَّ جَلَسْتُ، ثُمَّ قَالَ) صلى الله عليه وسلم (ذَلِكَ الثَّالِثَةَ) منصوب على الظرفيّة؛ أي: المرّةَ الثالثةَ (فقُمْتُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا لَكَ يَا أَبَا قَتَادَةَ؟ ")؟ أي: أيُّ شيء ثبت لك؟ حتى تقوم، ثم تجلس ثلاث مرّات. (فَقَصَصْتُ عَلَيْهِ الْقِصَّةَ)؛ أي: قصّة ما ناله في قتل المشرك المذكور، (فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ) وذكر الواقديّ أن اسمه أسود بن خزاعيّ، قال الحافظ: وفيه نظرٌ؛ لأن في الرواية الصحيحة أن الذي أخذ السلب قرشيّ. انتهى.
(صَدَقَ يَا رَسُولَ الله، سَلَبُ ذَلِكَ الْقَتِيلِ عِنْدِي، فَأَرْضِهِ) بقطع الهمزة، من الإرضاء؛ أي: مُر أبا قتادة أن يرضى به لي، ويتنازل (مِنْ حَقِّهِ) منه، وفي رواية البخاريّ:"فأرضه منه"، وفي لفظ:"فأرضه منّي".
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "فأرضه من حقّه"؛ أي: أعطه ما يرضى به بدلًا من حقّه في السَّلب، فكأنه سأل من النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يتركه له، ويعطي أبا قتادة من غيره ما يرضى به. انتهى
(1)
.
(وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ) رضي الله عنه (لَاهَا اللهِ اِذًا) قال الحافظ رحمه الله: هكذا ضبطناه في الأصول المعتمدة من "الصحيحين" وغيرهما بهذه الأحرف: "لاها الله إذًا"، فأما "لاها الله"، فقال الجوهريّ:"ها" للتنبيه، وقد يُقْسَمُ بها، يقال: لاها الله ما فعلت كذا، قال ابن مالك: فيه شاهد على جواز الاستغناء عن واو القسم بحرف التنبيه، قال: ولا يكون ذلك إلا مع "الله"؛ أي: لم يُسْمَع لاها الرحمن، كما سُمِع: لا والرحمن، قال: وفي النطق بها أربعة أوجه:
أحدها: ها الله باللام بعد الهاء، بغير إظهار شيء من الألفين.
ثانيها: مثله، لكن بإظهار ألف واحدة بغير همز، كقولهم: التَقَت حلقتا البِطَان.
ثالثها: ثبوت الألفين بهمزة قطع.
رابعها: بحذف الألف، وثبوت همزة القطع. انتهى كلامه.
والمشهور في الرواية من هذه الأوجه: الثالث، ثم الأول.
(1)
"المفهم" 3/ 544.
وقال أبو حاتم السجستانيّ: العرب تقول: لاها الله ذا بالهمز، والقياس ترك الهمز، وحَكَى ابن التين عن الداوديّ أنه رُوِي برفع "الله"، قال: والمعنى: يأبى الله.
وقال غيره: إن ثبتت الرواية بالرفع، فتكون "ها" للتنبيه، و"الله" مبتدأ، و"لا يَعْمِد" خبره. انتهى، ولا يخفى تكلّفه، وقد نَقَل الأئمة الاتفاق على الجرّ، فلا يُلتفت إلى غيره.
وأما "إذا" فثبتت في جميع الروايات المعتمدة، والأصول المحققة من "الصحيحين" وغيرهما بكسر الألف، ثم ذال معجمة منونة.
وقال الخطابيّ: هكذا يروونه، وإنما هو في كلامهم؛ أي: العرب: "لاها الله ذا"، و"ها" فيه بمنزلة الواو، والمعنى: لا والله يكون ذا.
ونَقَل عياض في "المشارق" عن إسماعيل القاضي أن المازنيّ قال: قولُ الرواة "لاها الله إذًا" خطأ، والصواب:"لاها الله ذا"؟ أي: ذا يميني وقسمي.
وقال أبو زيد: ليس في كلامهم "لاها الله إذا"، وإنما هو "لاها الله ذا" و"ذا" صلة في الكلام، والمعنى: لا والله، هذا ما أُقسم به، ومنه أخذ الجوهريّ، فقال: قولهم: لاها الله ذا معناه: لا والله هذا، ففرقوا بين حرف التنبيه والصلة، والتقدير: لا والله ما فعلت ذا، وتوارد كثير ممن تكلم على هذا الحديث أن الذي وقع في الخبر بلفظ "إذا" خطأ، وإنما هو "ذا" تبعًا لأهل العربية، ومن زعم أنه ورد في شيء من الروايات بخلاف ذلك، فلم يُصب، بل يكون ذلك من إصلاح بعض مَن قَلَّد أهل العربية في ذلك.
وقد اختُلِف في كتابة "إذا" هذه، هل تكتب بألف، أو بنون؟ وهذا الخلاف مبنيّ على أنها اسم، أو حرف، فمن قال: هي اسم قال: الأصل فيمن قيل له: سأجيء إليك، فأجاب: إذًا أكرمَك؛ أي: إذا جئتني أكرمك، ثم حَذَف "جئتني"، وعوّض عنها التنوين، وأُضمرت "إن"، فعلى هذا يُكتب بالنون، ومن قال: هي حرف، وهم الجمهور اختلفوا، فمنهم من قال: هي بسيطة، وهو الراجح، ومنهم من قال: مركبة من "إذْ" و"إن" فعلى الأول تكتب بألف، وهو الراجح، وبه وقع رسم المصاحف، وعلى الثاني تُكتب بِنُون.
واختُلِف في معناها، فقال سيبويه: معناها الجواب والجزاء، وتبعه
جماعة، فقالوا: هي حرف جواب، يقتضي التعليل، وأفاد أبو علي الفارسيّ أنها قد تتمحض للجواب، وأكثر ما تجيء جوابًا لـ"لو"، و"إن" ظاهرًا، أو مقدّرًا، فعلى هذا لو ثبتت الرواية بلفظ "إذًا" لاختل نظم الكلام؛ لأنه يصير هكذا: لا والله إذًا لا يعمد إلى أسد إلخ، وكان حقّ السياق أن يقول: إذًا يَعمد؛ أي: لو أجابك إلى ما طلبت، لعمد إلى أسد
…
إلخ.، وقد ثبتت الرواية بلفظ: "لا يعمد
…
إلخ"، فمِنْ ثَمَّ ادّعَى من ادعى أنها تغيير، ولكن قال ابن مالك: وقع في الرواية "إذًا" بألف وتنوين، وليس ببعيد.
وقال أبو البقاء: هو بعيد، ولكن يمكن أن يوجّه بأن التقدير: لا والله لا يعطي إذًا؛ يعني ويكون: لا يعمد
…
إلخ تأكيدًا للنفي المذكور، وموضحًا للسبب فيه.
وقال الطيبيّ: ثبت في الرواية: "لاها الله إذًا" فَحَمله بعض النحويين على أنه من تغيير بعض الرواة؛ لأن العرب لا تستعمل "لاها الله" بدون "ذا"، وإن سُلّم استعماله بدون "ذا"، فليس هذا موضع إذًا؛ لأنها حرف جزاء، والكلام هنا على نقيضه، فإن مقتضى الجزاء أن لا يذكر "لا" في قوله:"لا يعمد"، بل كان يقول: "إذًا يعمد إلى أسد
…
إلخ"؛ ليصح جوابًا لطلب السلَب، قال: والحديث صحيح، والمعنى صحيح، وهو كقولك لمن قال لك: أفعل كذا، فقلت له: والله إذًا لا أفعل، فالتقدير: إذًا والله لا يعمد إلى أسد
…
إلخ، قال: ويَحْتَمِل أن تكون "إذًا" زائدة، كما قال أبو البقاء: إنها زائدة في قول الحماسيّ:
إِذًا لَقَامَ بِنَصْرِي مَعْشَرٌ خُشُنُ
في جواب قوله:
لَوْ كُنْتُ مِنْ مَازِنٍ لَمْ تُسْتَبَحْ إِبِلِي
قال: والعجب ممن يعتني بشرح الحديث، ويُقَدِّم نقل بعض الأدباء على أئمة الحديث وجهابذته، وينسبون إليهم الخطأ والتصحيف، ولا أقول: إن جهابذة المحدثين أعدل وأتقن في النقل؛ إذ يقتضي المشاركة بينهم، بل أقول: لا يجوز العدول عنهم في النقل إلى غيرهم.
قال الحافظ: وقد سبقه إلى تقرير ما وقع في الرواية، ورَدّ ما خالفها
الإمام أبو العباس القرطبيّ في "المفهم"، فنَقَل ما تقدم عن أئمة العربية، ثم قال: وقع في رواية العذريّ والهوزنيّ في مسلم: "لاها الله ذا" بغير ألف، ولا تنوين، وهو الذي جزم به من ذكرناه، قال: والذي يظهر لي أن الرواية المشهورة صواب، وليست بخطأ، وذلك أن هذا الكلام وقع على جواب إحدى الكلمتين للأخرى، و"ها" هي التي عُوِّض بها عن واو القسم، وذلك أن العرب تقول في القسم: آلله لأفعلنّ بمد الهمزة، وبقصرها، فكأنهم عَوَّضوا عن الهمزة "ها"، فقالوا: ها الله؛ لِتَقارب مخرجيهما، وكذلك قالوا بالمدّ، والقصر، وتحقيقه أن الذي مَدَّ مع الهاء، كأنه نطق بهمزتين، أَبْدَل من إحداهما ألفًا استثقالًا لاجتماعهما، كما تقول: آلله، والذي قَصَر كأنه نطق بهمزة واحدة، كما تقول: الله، وأما "إذا" فهي بلا شك حرف جواب وتعليل، وهي مثل التي وقعت في قوله صلى الله عليه وسلم، وقد سئل عن بيع الرُّطَب بالتمر، فقال:"أينقص الرُّطَب إذا جَفّ؟ "، قالوا: نعم، قال:"فلا إذًا"، فلو قال: فلا والله إذًا، لكان مساويًا لِمَا وقع هنا، وهو قوله: لاها الله إذًا من كل وجه، لكنه لم يحتج هناك إلى القسم، فتركه، قال: فقد وضح تقرير الكلام، ومناسبته، واستقامته معنًى ووضعًا، من غير حاجة إلى تكلف بعيد، يخرج عن البلاغة، ولا سيما من ارتكب أبعد، وأفسد، فجعل "ها" للتنبيه، و"ذا" للإشارة، وفصل بينهما بالمقسَم به، قال: وليس هذا قياسًا فيطّرد، ولا فصيحًا، فيُحمَل عليه الكلام النبويّ، ولا مرويًّا برواية ثابتة، قال: وما وُجد عند العذريّ وغيره فإصلاحُ من اغتر بما حُكي عن أهل العربية، والحقّ أحقّ أن يتبع.
وقال بعض من أدركناه، وهو أبو جعفر الغرناطيّ، نزيل حَلَب في حاشية نسخته من البخاريّ: استرسل جماعة من القدماء في هذا الإشكال إلى أن جعلوا المَخْلَص منه أن اتهموا الأثبات بالتصحيف، فقالوا: والصواب: "لاها الله ذا" باسم الإشارة، قال: ويا عجبًا من قوم يقبلون التشكيك على الروايات الثابتة، ويطلبون لها تأويلًا، جوابهم أن "ها الله" لا يستلزم اسم الإشارة، كما قال ابن مالك، وأما جعل "لا يعمد" جواب "فأرضه"، فهو سبب الغلط، وليس بصحيح ممن زعمه، وإنما هو جواب شَرْط مقدَّر، يدل عليه:"صَدَق، فأرضه"، فكأن أبا بكر قال: إذًا صدق في أنه صاحب السلب، إذًا لا
يعمد إلى السلب فيعطيك حقّه، فالجزاء على هذا صحيح؛ لأن صدقه سبب أن لا يفعل ذلك، قال: وهذا واضح، لا تكلف فيه. انتهى.
وهو توجيه حسنٌ، والذي قبله أقعد، ويؤيد ما رجحه من الاعتماد على ما ثبتت به الرواية كثرة وقوع هذه الجملة في كثير من الأحاديث:
منها: ما وقع في حديث عائشة رضي الله عنها في قصة بريرة لَمّا ذكرت أن أهلها يشترطون الولاء، قالت: فانتهرتها، فقلت: لاها الله إذًا.
ومنها: ما وقع في قصة جُليبيب - بالجيم، والموحدتين، مصغرًا - أن النبيّ صلى الله عليه وسلم خطب عليه امرأة من الأنصار إلى أبيها، فقال: حتى أستأمر أمها، قال:"فنعم إذًا"، قال: فذهب إلى امرأته، فذكر لها، فقالت: لاها الله إذًا، وقد منعناها فلانًا
…
الحديث صححه ابن حبان من حديث أنس رضي الله عنه.
ومنها: ما أخرجه أحمد في "الزهد" قال: قال مالك بن دينار للحسن: يا أبا سعيد لو لبست مثل عباءتي هذه، قال: لاها الله إذًا، ألبس مثل عباءتك هذه.
وفي "تهذيب الكمال" في ترجمة ابن أبي عتيق أنه دخل على عائشة في مرضها، فقال: كيف أصبحتِ؟ جعلني الله فداك، قالت: أصبحت ذاهبةً، قال: فلا إذًا، وكان فيه دُعابة.
ووقع في كثير من الأحاديث في سياق الإثبات بقَسَم، وبغير قَسَم:
فمن ذلك في قصة جليبيب.
ومنها: حديث عائشة في قصة صفية لَمّا قال صلى الله عليه وسلم: "أحابستنا هي؟ " وقال: إنها طافت بعدما أفاضت، فقال:"فلتنفر إذًا"، وفي رواية:"فلا إذًا".
ومنها: حديث عمرو بن العاص وغيره في سؤاله عن أحبّ الناس، فقال:"عائشة"، فقال: لم أَعْنِ النساء، قال:"فأبوها إذًا".
ومنها: حديث ابن عباس في قصة الأعرابي الذي أصابته الْحُمَّى، فقال: بل حُمَّى تفور على شيخ كبير، تزيره القبور، قال:"فنعم إذًا".
ومنها: ما أخرجه الفاكهيّ من طريق سفيان، قال: لقيت ليطة بن الفرزدق، فقلت: أسمعت هذا الحديث من أبيك؟ قال: أي ها الله إذًا، سمعت أبي يقوله، فذكر القصة.
ومنها: ما أخرجه عبد الرزاق، عن ابن جريج، قال: قلت لعطاء: أرأيت لو أني فرغت من صلاتي، فلم أَرْضَ كمالها، أفلا أعود لها؟ قال: بلى ها الله إذًا.
قال الحافظ: والذي يظهر من تقدير الكلام بعد أن تقرر أن "إذًا" حرف جواب وجزاء أنه كأنه قال: إذًا والله أقول لك: نعم، وكذا في النفي، كأنه أجابه بقوله: إذًا والله لا نعطيك، إذًا والله لا أشترط، إذًا والله لا ألبس، وأُخّر حرف الجواب في الأمثلة كلها، وقد قال ابن جريج في قوله تعالى:{أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا (53)} [النساء: 53]: فلا يؤتون الناس إذًا، وجعل ذلك جوابًا عن عدم النصيب بها، مع أن الفعل مستقبَل، وذكر أبو موسى المديني في "المغيث" له في قوله تعالى:{وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 76]: "إذًا" قيل: هو اسم بمعنى الحروف الناصبة، وقيل: أصله "إذا" الذي هو من ظروف الزمان، وإنما نُوِّن للفرق، ومعناه حينئذٍ؛ أي: إن أخرجوك من مكة، فحينئذٍ لا يلبثون خلفك إلا قليلًا.
وإذا تقرر ذلك أمكن حمل ما ورد من هذه الأحاديث عليه، فيكون التقدير: لا والله حينئذٍ، ثم أراد بيان السبب في ذلك، فقال: "لا يعمد
…
إلخ"، والله أعلم.
قال الحافظ: وإنما أطلت في هذا الموضع لأنني منذ طلبت الحديث، ووقفت على كلام الخطابيّ وَقَعَت عندي منه نَفْرة؛ للإقدام على تخطئة الروايات الثابتة، خصوصًا ما في "الصحيحين"، فما زلت أتطلب الْمَخْلَص من ذلك إلى أن ظَفِرت بما ذكرته، فرأيت إثباته كله هنا، وبالله التوفق. انتهى
(1)
.
(لَا يَعْمِدُ)؛ أي: لا يقصد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رجل، كأنه أسد في الشجاعة، يقاتل عن دين الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، فيأخذ حقّه، ويعطيكه بغير طيبة من نفسه، هكذا ضُبِط للأكثر بالتحتانية فيه، وفي "يُعطيك"، وضَبَطه النووي بالنون فيهما. (إِلَى أَسَدٍ مِنْ أُسُدِ الله، يُقَاتِلُ عَنِ اللهِ) سبحانه وتعالى (وَعَنْ رَسُولهِ) صلى الله عليه وسلم؛ يعني: أنه يقاتل في سبيل الله؛ نصرةً لدين الله تعالى، وشريعة
(1)
"الفتح" 9/ 440 - 444، كتاب "المغازي" رقم (4322).
رسوله صلى الله عليه وسلم، ولتكون كلمة الله هي العليا، وكلمة الذين كفروا هي السفلى.
(فَيُعْطِيكَ سَلَبَهُ)؛ أي: سلب قتيله، فأضافه إليه باعتبار أنه مَلَكه.
[تنبيه]: وقع في حديث أنس رضي الله عنه أن الذي خاطب النبيّ صلى الله عليه وسلم بذلك عمر رضي الله عنه، أخرجه أحمد، من طريق حماد بن سلمة، عن إسحاق بن أبي طلحة عنه، ولفظه:"إن هوازن جاءت يوم حنين"، فذكر القصة، قال:"فهزم الله المشركين، فلم يُضرَب بسيف، ولم يُطْعَن برمح، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذٍ: من قتل كافرًا، فله سلبه، فقَتَل أبو طلحة يومئذ عشرين راجلًا، وأخذ أسلابهم"، وقال أبو قتادة: إني ضربت رجلًا على حبل العاتق، وعليه درع، فأُعجلت عنه، فقام رجل، فقال: أخذتها، فأرضه منها، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يسأل شيئًا إلا أعطاه، أو سكت، فسكت، فقال عمر: والله لا يُفيئها الله على أسد من أسده، ويعطيكها، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: صدق عمر"، وهذا الإسناد قد أخرج به مسلم بعض هذا الحديث، وكذلك أبو داود، لكن الراجح أن الذي قال ذلك أبو بكر، كما رواه أبو قتادة، وهو صاحب القصة، فهو أتقن لِمَا وقع فيها من غيره.
ويَحْتَمِل الجمع بأن يكون عمر أيضًا قال ذلك؛ تقويةً لقول أبي بكر، والله أعلم.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الاحتمال هو الأرجح؛ لِمَا يخفى على من تأمّل، والله تعالى أعلم.
(فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "صَدَقَ)، أي: هذا القائل، وهو أبو بكر رضي الله عنه (فَأَعْطِهِ إِيَّاهُ") بصيغة الأمر، أي: قال صلى الله عليه وسلم للذي اعتَرَف بأن السلب عنده: أعطه ذلك السلب. (فَأَعْطَانِي، قَالَ) أبو قتادة (فَبِعْتُ الدِّرْعَ) ذكر الواقديّ أن الذي اشتراه منه حاطب بن أبي بَلْتعة، وأن الثمن كان سبع أواقي. (فَابْتَعْتُ بِهِ)؛ أي: اشتريت بثمنه (مَخْرَفًا) - بفتح الميم، والراء - وهذا هو المشهور، قاله النوويّ، وقال المازريّ: الْمَخْرَف - بفتح الميم والراء -: البستان، والْمِخْرف - بكسر الميم، وفتح الراء -: الوعاء الذي يُجعل فيه ما يُختَرَف من الثمار، وقال القاضي عياض: رَوَيناه بفتح الميم وبكسرها، فمن كسر جعله مثل مِرْبَدٍ، ومن فتحه جعله مثل مضرب، ورويناه أيضًا بفتح الميم، وكسر الراء، كما
قالوا: مسكِنٌ، ومسجِدٌ، ومسكَنٌ، ومسجَدٌ، وقيل: المخرف: السكة من النخل، تكون صَفَّين يَخرِف من أيها شاء؛ أي: يجتني، وقال ابن وهب: هي الجنينة الصغيرة، وقال غيره: هي نخلات يسيرة، وأما الْمِخْرَف - بكسر الميم، وفتح الراء - فهو الوعاء الذي يُجعل فيه ما يُجتنى من الثمار، ويقال: اخترف الثمر: إذا جناه، وهو ثمر مخروف. انتهى
(1)
.
وقال في "الفتح": قوله: "مَخْرَفًا" - بفتح الميم، والراء، ويجوز كسر الراء -؛ أي: بستانًا، سُمِّي بذلك؛ لأنه يُخْتَرَف منه التمر؛ أي: يُجتنى، وأما بكسر الميم، فهو اسم الآلة التي يُخترف بها، وفي رواية الليث عند البخاريّ بلفظ:"خِرَافًا" وهو بكسر أوله، وهو التمر الذي يُختَرف؛ أي: يُجتنى، وأطلقه على البستان مجازًا، فكأنه قال: بستانُ خِراف. وذكر الواقديّ أن البستان المذكور، كان يقال له: الوديين.
(فِي بَنِي سَلِمَةَ) - بكسر اللام -: هم بطن من الأنصار، وهم قوم أبي قتادة.
(فَإِنَّهُ لأَوَّلُ مَالٍ تَأثَّلْتُهُ فِي الإسْلَامِ) - بمثناة، ثم مثلثة -؛ أي: جعلته أصل مالي، وأَثْلة كل شيء: أصله، وفي رواية ابن إسحاق:"أول مال اعتقدته"؛ أي: جعلته عُقْدة، والأصل فيه من العَقْد؛ لأن من ملك شيئًا عقد عليه.
وقوله: (وَفي حَدِيثِ اللَّيْثِ
…
إلخ) حديث الليث هذا لم يسنده المصنّف، وإنما أخرجه البخاريّ في "صحيحه"، فقال في "كتاب الأحكام":
(7170)
- حدّثنا قتيبة، حدّثنا الليث بن سعد، عن يحيى، عن عُمر بن كثير، عن أبي محمد مولى أبي قتادة، أن أبا قتادة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين: "من له بيّنة على قتيل قَتَله، فله سَلَبه"، فقمت لألتمس بيّنة على قتيل، فلم أر أحدًا يشهد لي، فجلست، ثم بدا لي، فذكرت أمره إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رجل من جلسائه: سلاح هذا القتيل الذي يذكر عندي، قال: فأرضه منه، فقال أبو بكر: كَلّا لا يعطه أُصيبغ من قريش، ويَدَعَ أسدًا من أسد الله، يقاتل عن الله، ورسوله، قال: فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأدّاه إليّ، فاشتريت منه خِرافًا،
(1)
"إكمال المعلم" 6/ 63.
فكان أول مال تأثلته، قال لي عبد الله، عن الليث: فقام النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأدّاه إليّ. انتهى
(1)
.
وقوله: (فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ) الصدّيق رضي الله عنه (كَلَّا) رَدْعُ، وزجر؛ أي: انزجر، واترك هذا الطلب.
وقال القرطبيّ رحمه الله: "كَلّا": ردع، وزجر، وقد تكون بمعنى:"لا"؛ كقوله تعالى حكاية عن موسى عليه السلام: {كَلَّا} ، في جواب قولهم:{إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} . وقد يكون استفتاحًا بمعنى: "ألا"؛ كما قيل في قوله تعالى: {إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18)} [المطففين: 18]. انتهى
(2)
.
(لَا يُعْطِيهِ)؛ أي: النبيّ صلى الله عليه وسلم (أُضَيْبعَ مِنْ قُرَيْشٍ) قال القاضي عياض رحمه الله: اختَلَف رواة كتاب مسلم في هذا الحرف على وجهين:
أحدهما: رواية السمرقنديّ: "أُصَيبغ" - بالصاد المهملة، والغين المعجمة -.
والثاني: رواية سائر الرواة: "أُضيبع" - بالضاد المعجمة، والعين المهملة - قال: وكذلك اختلَفَ فيه رواة البخاريّ، فعلى الثاني هو تصغير ضَبُع، على غير قياس، كأنه لَمّا وَصَف أبا قتادة بأنه أسد صَغّر هذا بالإضافة إليه، وشبّهه بالضبيع؛ لضعف افتراسها، وما توصف به من العجز والحمق، وأما على الوجه الأول، فوصفه به لتغيّر لونه، وقيل: حَقَره، وذَمّه بسواد لونه، وقيل: معناه أنه صاحب لون غير محمود، وقيل: وصفه بالمهانة، والضعف، قال الخطابي: الأصيبغ: نوع من الطير، قال: ويجوز أنه شبّهه بنبات ضعيف، يقال له: الصبغاء، أول ما يطلع من الأرض يكون مما يلي الشمس منه أصفر. انتهى
(3)
.
وقال في "الفتح": قوله: "أُصيبغ" - بصاد مهملة، ثم غين معجمة - عند القابسيّ، وبمعجمة ثم مهملة عند أبي ذرّ، وقال ابن التين: وصفه بالضعف، والمهانة، والأُصيبغ: نوع من الطير، أو شبّهه بنبات ضعيف، يقال له:
(1)
"صحيح البخاريّ" 6/ 2622.
(2)
"المفهم" 3/ 544 - 545.
(3)
"إكمال المعلم" 6/ 64.
الصبغاء، إذا طلع من الأرض يكون أول ما يلي الشمس منه أصفر، ذكر ذلك الخطابيّ، وعلى هذا رواية القابسيّ، وعلى الثاني تصغير الضبع على غير قياس، كأنه لَمّا عَظَّم أبا قتادة بأنه أسد صغّر خصمه، وشبّهه بالضبع؛ لضعف افتراسه، وما يوصف به من العجز، وقال ابن مالك:"أضيبع" بمعجمة، وعين مهملة: تصغير أضبع، ويكنى به عن الضعيف. انتهى
(1)
.
(وَيَدَعُ)؛ أي: يترك، وهو بالرفع، ويجوز النصب، والجزم، (أَسَدًا مِنْ أُسُدِ اللهِ). (وَفِي حَدِيثِ اللَّيْثِ: لأَوَّلُ مَالٍ تَأثَّلْتُهُ)؛ أي: جعلته أصل مالي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي قتادة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [13/ 4556 و 4557 و 4558](1751)، و (البخاريّ) في "البيوع"(2100) و"فرض الخمس"(3142) و"المغازي"(4321) وفيه تعليقًا (4322) ووصله في "الأحكام"(7170)، و (أبو داود) في "الجهاد"(2717)، و (الترمذيّ) في "السير"(1562)، و (ابن ماجه) في "الجهاد"(2837)، و (مالك) في "الموطّأ"(2/ 454، 455)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 295 و 306)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4805)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 234)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(1076)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(6/ 306)، و (البغويّ) في "شرح السُّنّة"(2724)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان استحقاق القاتل سَلَب المقتول، من بين سائر الغانمين.
2 -
(ومنها): ما قال القرطبيّ رحمه الله: ومبادرة أبي بكر بالفُتيا، والرَّدع، والنَّهي بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإقرار النبيّ صلى الله عليه وسلم له على ذلك، وتصديقه على قوله، شرفٌ عظيم، وخصوصية لأبي بكر رضي الله عنه، ليس لأحدٍ من الصحابة مثلها،
(1)
"الفتح" 9/ 445 - 446، كتاب "المغازي" رقم (4322).
هذا مع أنه قد كان عدد من الصحابة نحو الأربعة عشر يُفتون في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعلم بهم، ويُقِرّهم، لكن لم يُسمع عن أحدٍ منهم أنه أفتى بحضرته ولا صدر عنه شيء مما صدر عن أبي بكر رضي الله عنه في هذه القصة. انتهى
(1)
.
وقال النوويّ رحمه الله: في هذا الحديث فضيلةٌ ظاهرةٌ لأبي بكر الصديق رضي الله عنه في إفتائه بحضرة النبيّ صلى الله عليه وسلم، واستدلاله لذلك، وتصديق النبيّ صلى الله عليه وسلم. انتهى
(2)
.
3 -
(ومنها): أن فيه منقبةً ظاهرةً لأبي قتادة رضي الله عنه، فإن أبا بكر رضي الله عنه سمّاه أسدًا من أسد الله تعالى يقاتل عن الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، وصدّقه النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهذه منقبة جليلة من مناقبه رضي الله عنه.
4 -
(ومنها): أن السلب للقاتل؛ لأنه أضافه إليه، فقال: يعطيك سلبه.
5 -
(ومنها): أن فيه دليلًا أن لفظة: "لاها الله" تكون يمينًا، قال النوويّ: قال أصحابنا: إن نوى بها اليمين كانت يمينًا، وإلا فلا؛ لأنها ليست متعارفة في الأيمان.
6 -
(ومنها): ما قال النوويّ رحمه الله: قوله: "له عليه بينة فله سلبه" فيه تصريح بالدلالة لمذهب الشافعيّ، والليث، ومن وافقهما من المالكية، وغيرهم أن السلب لا يُعْطَى إلا لمن له بيّنة بأنه قتله، ولا يُقبل قوله بغير بينة، وقال مالك، والأوزاعيّ: يعطى بقوله، بلا بينة، قالا: لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم أعطاه السلب في هذا الحديث بقول واحد، ولم يحلِّفه.
والجواب أن هذا محمول على أن النبيّ صلى الله عليه وسلم عَلِم أنه القاتل بطريق من الطرق، وقد صَرَّح صلى الله عليه وسلم بالبينة، فلا تلغى، وقد يقول المالكيّ: هذا مفهوم، وليس هو بحجة عنده، ويجاب بقوله صلى الله عليه وسلم: "لو يعطى الناس بدعواهم لادَّعَى
…
" الحديث، فهذا الذي قدّمناه هو المعتمَد في دليل الشافعيّ رحمه الله، وأما ما يحتج به بعضهم أن أبا قتادة إنما يستحق السلب بإقرار من هو في يده، فضعيف؛ لأن الإقرار إنما ينفع إذا كان المال منسوبًا إلى من هو في يده، فيؤخذ بإقراره، والمال هنا منسوب إلى جميع الجيش، ولا يُقبل إقرار بعضهم
(1)
"المفهم" 3/ 545.
(2)
"شرح النوويّ" 12/ 60.
على الباقين، والله أعلم. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قد أسلفت قريبًا، أن الأرجح عندي قول من اشترط البيّنة؛ لظاهر هذا الحديث، فتبصّر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في حكم السَّلَب:
قال النوويّ رحمه الله: اختلف العلماء في هذا، فقال الشافعيّ، ومالك، والأوزاعيّ، والليث، والثوريّ، وأبو ثور، وأحمد، وإسحاق، وابن جرير، وغيرهم: يستحق القاتل سلب القتيل في جميع الحروب، سواء قال أمير الجيش قبل ذلك: مَن قَتَل قتيلًا، فله سلبه، أم لم يقل ذلك، قالوا: وهذه فتوى من النبيّ صلى الله عليه وسلم، وإخبار عن حكم الشرع، فلا يَتوقف على قول أحد.
وقال أبو حنيفة، ومالك، ومن تابعهما - رحمهم الله تعالى -: لا يستحق القاتل بمجرد القتل سلب القتيل، بل هو لجميع الغانمين، كسائر الغنيمة، إلا أن يقول الأمير قبل الققال: مَن قتل قتيلا فله سلبه، وحملوا الحديث على هذا، وجعلوا هذا إطلاقًا من النبيّ صلى الله عليه وسلم، وليس بفتوى، وإخبارٍ عامٍّ، وهذا الذي قالوه ضعيف؛ لأنه صَرَّح في هذا الحديث بأن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال هذا بعد الفراغ من القتال، واجتماع الغنائم - والله أعلم -.
ثم إن الشافعيّ رحمه الله يشترط في استحقاقه أن يغزو بنفسه في قتل كافر، ممتنِع في حال القتال، والأصح أن القاتل لو كان ممن له رَضْخٌ، ولا سهمَ له، كالمرأة، والصبيّ، والعبد، استَحَقَّ السلب.
وقال مالك رحمه الله: لا يستحقه إلا المقاتِل.
وقال الأوزاعيّ، والشاميون: لا يستحق السلب إلا في قتيل قتله قبل التحام الحرب، فأما من قَتَل في التحام الحرب، فلا يستحقه.
قال: واختلفوا في تخميس السلب، وللشافعيّ فيه قولان: الصحيح منهما عند أصحابه لا يُخمس، وهو ظاهر الأحاديث، وبه قال أحمد، وابن جرير، وابن المنذر، وآخرون.
(1)
"شرح النوويّ" 12/ 59 - 60.
وقال مكحول، ومالك، والأوزاعيّ: يُخمَّس، وهو قول ضعيف للشافعيّ.
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وإسحاق بن راهويه: يخمس إذا كَثُر، وعن مالك روايةٌ اختارها إسماعيل القاضي: أن الإمام بالخيار، إن شاء خمسه، وإلا فلا. انتهى كلام النوويّ رحمه الله
(1)
.
وقال في "الفتح" ما حاصله: ذهب الجمهور إلى أن القاتل يستحقّ السلب، سواء قال أمير الجيش قبل ذلك: من قتل قتيلًا، فله سلبه، أو لم يقل ذلك، وهو ظاهر حديث أبي قتادة المذكور هنا، وقالوا: إنه فتوى من النبيّ صلى الله عليه وسلم، وإخبار عن الحكم الشرعيّ، وعن المالكية، والحنفية: لا يستحقه القاتل إلا إن شرط له الإمام ذلك، وعن مالك: يخيَّر الإمام بين أن يعطي القاتل السلب، أو يخمسه، واختاره إسماعيل القاضي، وعن إسحاق: إذا كثرت الأسلاب خُمست، وعن مكحول، والثوريّ: يخمس مطلقًا، وقد حُكي عن الشافعيّ أيضًا، وتمسكوا بعموم قوله:{وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} الآية [الأنفال: 41]، ولم يستثن شيئًا.
واحتجّ الجمهور بقوله صلى الله عليه وسلم: "من قتل قتيلًا، فله سلبه"، فإنه خصص ذلك العموم.
وتُعُقِّب بأنه صلى الله عليه وسلم لم يقل: من قتل قتيلًا فله سلبه إلا يوم حنين، قال مالك: لم يبلغني ذلك في غير حنين.
وأجاب الشافعيّ وغيره بأن ذلك حُفِظ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في عدّة مواطن:
منها: يوم بدر، كما في قصّة قتل أبي جهل، حيث سلّم صلى الله عليه وسلم سلبه لمعاذ بن عمرو.
ومنها: حديث حاطب بن أبي بلتعة أنه قتل رجلًا يوم أُحد، فسَلَّم له رسول الله صلى الله عليه وسلم سلبه، أخرجه البيهقيّ.
ومنها: حديث جابر رضي الله عنه أن عَقِيل بن أبي طالب قَتل يوم مؤتة رجلًا، فنَفّله النبيّ صلى الله عليه وسلم درعه.
(1)
"شرح النوويّ" 12/ 58 - 59.
ثم كان ذلك مقررًا عند الصحابة، كما رَوَى مسلم من حديث عوف بن مالك في قصته مع خالد بن الوليد، وإنكاره عليه أخذه السلب من القاتل
…
يأتي الحديث بطوله.
وكما رَوَى الحاكم، والبيهقيّ بإسناد صحيح، عن سعد بن أبي وقاص، أن عبد الله بن جحش قال يوم أُحد: تَعَالَ بنا ندعو، فدعا سعد، فقال: اللهم ارزقني رجلًا شديدًا بأسه، فأقاتله، ويقاتلني، ثم ارزقني عليه الظفر، حتى أقتله، وآخذ سلبه
…
الحديث.
وكما رَوَى أحمد بإسناد قويّ، عن عبد الله بن الزبير، قال: كانت صفية في حِصْن حَسّان بن ثابت يوم الخندق، فذكر الحديث في قصة قتلها اليهوديّ، وقولها لحسان: انزِل، فاسلبه، فقال، ما لي بسلبه حاجة.
وكما رَوَى ابن إسحاق في "المغازي" في قصة قتل عليّ بن أبي طالب عمرو بن عبد وَدّ يوم الخندق أيضًا، فقال له عمر: هلا استلبت درعه، فإنه ليس للعرب خير منها، فقال: إنه اتّقاني بسوأته.
وأيضًا فالنبيّ صلى الله عليه وسلم إنما قال ذلك يوم حنين بعد أن فرغ القتال، كما هو صريح في حديث أبي قتادة المذكور هنا حتى قال مالك: يُكره للإمام أن يقول: مَن قتل قتيلًا فله سلبه؛ لئلا تضعف نيات المجاهدين، ولم يقل النبيّ صلى الله عليه وسلم ذلك إلا بعد انقضاء الحرب.
وعن الحنفية: لا كراهة في ذلك، وإذا قاله قبل الحرب، أو في أثنائها استَحَقّ القاتل. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن بما سبق من الأدلّة أن ما ذهب إليه الجمهور من أن القاتل يستحقّ السلب مطلقًا، سواء قال ذلك الإمام أم لا هو الأرجح؛ لوضوح حجّته، كما سمعت، وأيضًا لا يُخمّس السّلَب، كما هو رأي البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، حيت ترجم بقوله:"باب من لم يُخَمِّس الأسلاب"، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(1)
"الفتح" 7/ 423 - 424، كتاب "فرض الخمس" رقم (3141).
وبالسند المتّصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4559]
(1752) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى التَّمِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا يُوسُفُ بْنُ الْمَاجِشُون، عَنْ صَالِحِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، عَنْ أَبِيه، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، أنَّهُ قَالَ: بَيْنَا أنَا وَاقِفٌ فِي الصَّفِّ يَوْمَ بَدْرٍ، نَظَرْتُ عَنْ يَمِينِي، وَشِمَالِي، فَإذَا أنا بَيْنَ غُلَامَيْنِ مِنَ الأنصَار، حَدِيثَةٍ أَسْنَانُهُمَا، تَمَنَّيْتُ لَوْ كُنْتُ بَيْنَ أَضْلَعَ مِنْهُمَا، فَغَمَزَني أَحَدُهُمَا، فَقَالَ: يَا عَمِّ هَلْ تَعْرِفُ أَبَا جَهْلٍ؟ قَالَ: قُلْتُ: نَعَمْ، وَمَا حَاجَتُكَ إِلَيْهِ
(1)
يَا ابْنَ أَخِي؟ قَالَ: أُخْبِرْتُ أنَّهُ يَسُبُّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِه، لَئِنْ رَأيْتُهُ لَا يُفَارِقُ سَوَادِي سَوَادَهُ، حَتَّى يَمُوتَ الأَعْجَلُ مِنَّا، قَالَ: فَتَعَجَّبْتُ لِذَلِكَ، فَغَمَزَنِي الآخَرُ، فَقَالَ مِثْلَهَا. قَالَ: فَلَمْ أنشَبْ أَنْ نَظَرْتُ إِلَى أَبِي جَهْلٍ، يَزُولُ فِي النَّاس، فَقُلْتُ: ألَا تَرَيَانِ؟ هَذَا صَاحِبُكُمَا الَّذِي تَسْأَلانِ عَنْهُ، قَالَ: فَابْتَدَرَاهُ، فَضَرَبَاهُ بِسَيْفَيْهِمَا، حَتَّى قَتَلَاهُ، ثُمَّ انْصَرَفَا إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَخْبَرَاهُ، فَقَالَ:"أيُّكُمَا قَتَلَهُ؟ "، فَقَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا: أنَا قَتَلْتُ، فَقَالَ:"هَلْ مَسَحْتُمَا سَيْفَيْكُمَا؟ "، قَالَا: لَا، فَنَظَرَ فِي السَّيْفَيْن، فَقَالَ:"كِلَاكُمَا قَتَلَهُ"، وَقَضَى بِسَلَبِهِ لِمُعَاذِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ. وَالرَّجُلَانِ: مُعَاذُ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوح، وَمُعَاذُ بْنُ عَفْرَاءَ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى التَّمِيمِيُّ) النيسابوريّ، ذُكر قبل حديثين.
2 -
(يُوسُفُ بْنُ الْمَاجِشُونِ) هو: يوسف بن يعقوب بن أبي سلمة الماجشون، أبو سلمة المدنيّ، ثقةٌ [8](ت 185) أو قبل ذلك (خ م ت س ق) تقدم في "صلاة المسافرين وقصرها" 28/ 1812.
3 -
(صَالِحُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ) الزهريّ، أبو عمران المدنيّ، ثقةٌ [5].
رَوَى عن أبيه، وأخيه سعد، وأنس بن مالك، وغيرهم.
(1)
وفي نسخة: "نعم، ما خطبك إليه".
ورَوى عنه سالم، وعمرو بن دينار، والزهريّ، وابن إسحاق، ويوسف بن يعقوب الماجشون، وغيرهم.
قال ابن سعد: كان قليل الحديث، ومات بالمدينة في ولاية إبراهيم بن هشام، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال العجليّ: مدنيّ تابعيّ ثقة، وقال حسن بن زيد بن حسن بن عليّ: كان أفضل الناس، وقال ابن قانع: مات سعد بن إبراهيم سنة سبع وعشرين ومائة، ومات أخوه صالح قبله، وذكر الزبير بن بكار في ترجمة عبد الرحمن بن عوف قصة فيها أنه كان كثير الصلاة بالليل والنهار، وكان منقطعًا في مال له، وذكر عنه فضلًا كثيرًا.
تفرّد به البخاريّ، ومسلم، وليس في هذا الكتاب إلا هذا الحديث، وقال في "تهذيب التهذيب": أخرج له الشيخان حديثًا واحدًا في قصة قتل أبي جهل. انتهى
(1)
.
4 -
(أَبُوهُ) إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهريّ، أبو إسحاق، وقيل: أبو محمد، وقيل: أبو عبد الله المدنيّ، أمه أم كلثوم بنت عقبة بن أبي مُعَيط [2].
رَوى عن أبيه، وعمر، وعثمان، وعليّ، وسعد، وطلحة، وعمار بن ياسر، وأبي بكرة، وصهيب، وجبير بن مطعم، وغيرهم.
وروى عنه ابناه: سعد، وصالح، والزهريّ، وغيرهم.
قال العجليّ: تابعيّ ثقة، وقال يعقوب بن شيبة: كان ثقةً، يُعَدّ في الطبقة الأولى من التابعين، ولا نعلم أحدًا من ولد عبد الرحمن، روى عن عمر سماعًا غيره، توفي سنة (6)، وقيل:(95)، وهو ابن (75) سنةً.
وتعقّب الحافظ هذا الكلام على يعقوب، فقال: قلت: في هذا التقدير في سنّه نَظَر، فإن جماعة من الأئمة ذكروه في الصحابة، منهم أبو نعيم، وابن إسحاق ابن منده، ومستندَهم أنه وُلد في حياته صلى الله عليه وسلم، وقد صَرَّح بذلك الواقديّ، وقال النسائيّ في "كتاب الكنى": ثقةٌ، قالوا: إنه يذكر النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقال البخاريّ في "التاريخ الأوسط": رَوَى يونس، عن ابن شهاب: أخبرني
(1)
راجع: "تهذيب التهذيب" 4/ 332.
إبراهيم، قال: استَسقَى النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال: وروى بعضهم: استسقى بهم، ولا أراه يصحّ؛ لأن أمه أم كلثوم زوّجها أخوها الوليدُ - يعني: لعبد الرحمن بن عوف - أيام الفتح، وذكره مسلم في الطبقة الأولى من أهل المدينة، وذكره ابن حبان في ثقات التابعين، وقال البيهقيّ في "سننه": لم يثبت له سماع من عمر.
قلت: قد تقدم أن يعقوب بن شيبة أثبته، وكذا قال الواقديّ، وغيرهما، وكذا قال الطبريّ، وروى ابن أبي ذئب عن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن، عن أبيه، قال: رأيت بيت رُويشد الثقفيّ حين حَرَّقه عمر، كان حانوتًا للشراب، فرأيته كأنه جمرة. انتهى
(1)
.
أخرج له البخاريّ، والمصنّف، وأبو داود، والنسائيّ، وابن ماجه، وله في هذا الكتاب أربعة أحاديث فقط، هذا برقم (1752)، وحديث (1898): "لا يستوي القاعدون من المؤمنين
…
" الحديث، وحديث (2306): "رأيت عن يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن شماله يوم أُحد رجلين
…
" الحديث، وأعاده بعده، وحديث (2530): "لا حِلْفَ في الإسلام
…
" الحديث.
5 -
(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفِ) بن عبد عوف بن عبد الحارث بن زُهرة القرشيّ الزهريّ، أحد العشرة، أسلم قديمًا، ومناقبه شهيرة، ومات سنة (32)، وقيل غير ذلك (ع) تقدم في "الصلاة" 23/ 957.
شرح الحديث:
(عَنْ صَالِحِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْن عَوْفٍ، عَنْ أَبِيهِ) إبراهيم بن عبد الرحمن (عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ) رضي الله عنه (أَنَّهُ قَالَ)، وقوله:(بَيْنَا) أصلها "بين" الظرفيّة أُشبعت فتحتها، فتولّدت منها الألف، وتضاف إلى جملة اسميّة كانت، كما هنا، أو فعليّة، وتحتاج إلى جواب، وجوابها هنا قوله: "نظرت
…
إلخ"، وقد تقدّم تمام البحث فيها، وفي "بينما" غير مرّة - ولله الحمد والمنة. (أَنَا وَاقِفٌ فِي الصَّفِّ يَوْمَ بَدْرٍ)؛ أي: يوم وقعة بدر، وهو بفتح الموحّدة، وسكون الدال، آخره راء: موضع بين مكة والمدينة، وهو إلى
(1)
"تهذيب التهذيب" 1/ 121.
المدينة أقرب، ويقال: هو منها على ثمانية وعشرين فرسخًا على منتصف الطريق تقريبًا، وسيأتي تمام البحث فيه في "باب غزوة بدر" قريبًا - إن شاء الله تعالى. (نَظَرْتُ عَنْ يَمِيني، وَشِمَالِي، فَإذَا أَنَا بَيْنَ غُلَامَيْنِ مِنَ الأَنْصَارِ)"إذا" هي الفجائيّة؛ أي: ففاجأني كوني بين غلامين، والغلامان: هما معاذ بن عمرو بن الْجَمُوح، ومعاذ بن عفراء، كما سيأتي بعدُ. (حَدِيثَةٍ أَسْنَانُهُمَا) بجرّ "حديثة" صفة لـ"غلامين"، ورفع "أسنانهما" على الفاعليّة لـ"حديثة"، (تَمَنَّيْتُ لَوْ كُنْتُ بَيْنَ أَضْلَعَ مِنْهُمَا) - بالضاد المعجمة، والعين المهملة - أي: بين أشدّ، وأقوى منهما؛ أي: من الغلامين المذكورين، وهو على وزن أفعل، من الضّلاعة، وهي القوّة، يقال: اضطلع بحمله؛ أي: قَوِيَ عليه، ونَهَضَ به. انتهى
(1)
.
وقال الطيبيّ رحمه الله: قوله: "بين أضلع منهما"؛ أي: بين رجلين أقوى من الغلامين اللذين كنت بينهما، وأشدّ، قال: لعله لَمّا رأى نفسه بين الغلامين، وهما حديثا السنّ، استَشعَر، وتمنّى أن يكون بين أقوى منهما. انتهى
(2)
.
وقال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في جميع النسخ: "أضلع" - بالضاد المعجمة، وبالعين - وكذا حكاه القاضي عن جميع نُسخ "صحيح مسلم"، وهو الأصوب، قال: ووقع في بعض روايات البخاريّ: "أصلح" - بالصاد والحاء المهملتين - قال: وكذا رواه مسدد، قال النوويّ: وكذا وقع في حاشية بعض نُسخ "صحيح مسلم"، ولكن الأول أصحّ، وأجود، مع أن الاثنين صحيحان، ولعله قالهما جميعًا، ومعنى "أضلع": أقوى. انتهى
(3)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "تمنيت لو كنت بين أضلع منهما" كذا الرواية، بالضاد المعجمة، والعين المهملة، ووقع في بعض روايات البخاريّ:"أصلح" بالحاء، والصاد، مهملتين، من الصلاح، والأول أصوب، ومعنى "أضلع": أقوى، والضلاعة: القوّة، ومنه قولهم: هل يدرك الضالع شأو الضليع - بالضاد -؛ أي: القويّ، والظالع - بالظاء المشالة -: هو الذي أصابه
(1)
"عمدة القاري" 22/ 316، كتاب "الخمس" رقم (3141).
(2)
"الكاشف عن حقائق السنن" 9/ 2775.
(3)
"شرح النوويّ" 12/ 62.
الظلع، وهو ألَمٌ يأخذ الدَّابة في بعض قوائمها، وكأنه استضعفهما لصغر أسنانهما، وتمنى أن يكون بين رَجُلين أقوى منهما. انتهى
(1)
.
وقال في "الفتح": قوله: "بين أضلع منهما" كذا للأكثر - بفتح أوله، وسكون المعجمة، وضم اللام - جمع ضِلْع، وروى بضم اللام، وفتح العين، من الضلاعة، وهي القوة، ووقع في رواية الحمويّ وحده:"بين أصلح منهما" بالصاد والحاء المهملتين، ونَسَبه ابن بطال لمسدّد شيخ البخاريّ، وقد خالفه إبراهيم بن حمزة، عند الطحاويّ، وموسى بن إسماعيل، عند ابن سنجر، وعفان، عند ابن أبي شيبة، يعني كلهم عن يوسف، شيخ البخاريّ فيه، فقالوا:"أضلع" بالضاد المعجمة، والعين، قال: واجتماع ثلاثة من الحفّاظ أولى من انفراد واحد. انتهى.
وقد ظهر أن الخلاف على الرواة عن الْفِربريّ، فلا يليق الجزم بأن مسدّدًا نَطَق به هكذا، وقد رواه أحمد في "مسنده"، وأبو يعلى، عن عبيد الله القواريريّ، وبشر بن الوليد، وغيرهما كلهم عن يوسف كالجماعة، وكذلك أخرجه الإسماعيليّ، من طريق عثمان بن أبي شيبة، عن عفّان كذلك. انتهى
(2)
.
(فَغَمَزَنِي أَحَدُهُمَا)؛ أي: أشار إليّ، أو جَسّني بيده، يقال: غَمَزَه غَمْزًا، من باب ضرب: أشار إليه بعين، أو حاجب، وغَمَزته بيدي، من قولهم: غَمَزتُ الكبشَ بيدي: إذا جَسَسته؛ لتعرف سِمَنه
(3)
.
وقال الطيبيّ: الغمز: العصر، والكبس باليد
(4)
.
(فَقَالَ: يَا عَمِّ) أصله يا عمي بياء المتكلّم، فحذفت؛ تخفيفًا، وفيه ستة أوجه، ذكر ابن مالك خمسة منها في "الخلاصة" حيث قال:
وَاجْعَلْ مُنَادًى صَحَّ إِنْ يُضَفْ "لِيَا"
…
كَ"عَبْدِ""عَبْدِي""عَبْدَ""عَبْدَا""عَبْدِيَا"
(1)
"المفهم" 3/ 549.
(2)
"الفتح" 7/ 425، كتاب "فرض الخمس" رقم (3141).
(3)
راجع: "المصباح المنير" 2/ 453.
(4)
"الكاشف عن حقائق السنن" 9/ 2775.
والسادسة: يا عمُّ بالضمّ، وهي قليلة.
والأكثر في الاستعمال حذف الياء، والاجتزاء بالكسرة، نحو: يا عمّ، ويلي إثبات الياء ساكنةً، نحو: يا عمّي، ثم إثبات الياء مفتوحةً، نحو: يا عمّيَ، ثم قَلْبها ألفًا، نحو: يا عمَّا، ثم حذف الألف، نحو: يا عَمَّ، ثم البناء على الضمّ تشبيهًا له بالمفرد العلم، نحو: يا عمُّ
(1)
.
(هَلْ تَعْرِفُ أَبَا جَهْلٍ؟) هو عمرو بن هشام بن المغيرة القرشيّ المخزوميّ، فرعون هذه الأمة، (قَالَ: قُلْتُ: نَعَمْ، وَمَا حَاجَتُكَ إِلَيْهِ) وفي بعض النسخ:"وما خطبك إليه"(يَا ابْنَ أَخِي؟) ناداه بهذا إكرامًا، وعطفًا، وإلا فليس بينهما نسب؛ إذ هو قرشيّ، والغلام أنصاريّ. (قَالَ: أُخْبِرْتُ) بالبناء للمجهول، (أَنَّهُ يَسُبُّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِه، لَئِنْ رَأَيْتُهُ لَا يُفَارِقُ سَوَادِي سَوَادَهُ) - بفتح السين المهملة -؛ أي: شخصي شخصه، وأصله أن الشخص يُرى على البعد أسود
(2)
. (حَتَّى يَمُوتَ الأَعْجَلُ مِنَّا)؛ أي: لا أفارقه حتى يموت أحدنا، وهو الأقرب أجلًا.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "حتى يموت الأعجل منّا"؛ أي: الأقرب أجلًا، وهو كلام مستعمَل عندهم يُفهم منه أنه يُلازمه، ولا يتركه إلى وقوع الموت بأحدهما، وصدورُ مثل هذا الكلام في حالة الغضب والانزعاج يدل على صحة العقل، وثبوت الفهم، والتثبت العظيم في النظر في العواقب؛ فإن مقتضى الغضب أن يقول: حتى أقتله؛ لكن العاقبة مجهولة. انتهى
(3)
.
(قَالَ) عبد الرحمن (فَتَعَجَّبْتُ لِذَلِكَ)؛ أي: لقول الغلام هذا؛ لأنه يدلّ على كمال شجاعته، (فَغَمَزَنِي الآخَرُ، فَقَالَ مِثْلَهَا. قَالَ: فَلَمْ أَنْشَبْ) - بفتح الشين، من باب تَعِب؛ أيْ لم ألبث، ولم أتأخّر، وقال القرطبيّ رحمه الله: معنى لم أنشب: لم أشتغل بشيء، وهو مِنْ نَشِبَ بالشيء: إذا دخل فيه، وتعلّق به. انتهى
(4)
.
(1)
"شرح ابن عقيل على الخلاصة" مع "حاشية الخضريّ" 2/ 123.
(2)
"المفهم" 3/ 548.
(3)
"المفهم" 3/ 548.
(4)
"المفهم" 3/ 548.
وقال في "العمدة": قوله: "فلم أَنشَب": فلم أَلْبَث، يقال: نَشِب بعضهم في بعض - أي: من باب تَعِبَ -؛ أي: دخل، وتعلّق، ونَشِب في الشيء: إذا وقع فيما لا مَخْلَص له منه، ولم ينشب أن فعل كذا؛ اْي: لم يلبث، وحقيقته: لم يتعلق بشيء غيره، ولا بسواه، ومادته: نون، وشين معجمة، وباء موحدة. انتهى
(1)
.
(أَنْ نَظَرْتُ)"أن" مصدريّة؛ أي: من نظري، (إِلَى أَبِي جَهْلٍ، يَزُولُ فِي النَّاسِ) - بالزاي، والواو - قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في جميع نسخ بلادنا، وكذا رواه القاضي عن جماهير شيوخهم، قال: ووقع عند بعضهم عن ابن ماهان: "يَرْفُلُ" - بالراء، والفاء - قال: والأول أظهر، وأوجه، ومعناه: يتحرّك، ويزْعَج، ولا يستقرّ على حالة، ولا في مكان، والزوال القَلَق، قال: فإن صحت الرواية الثانية، فمعناه: يُسبل ثيابه، ودرعه، ويجرّه. انتهى
(2)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: و"يزول"؛ أي: يجول، ويضطرب في المواضع، ولا يستقرّ على حال، وهو فعل من يُعَبِّي الناسَ، ويُحَرِّضهم، أو فعلُ من أخذه الزَّوِيل، وهو: الفزع، والقلق، والأول أولى؛ لرواية ابن ماهان لهذا الحرف:"يجول" بالجيم. انتهى
(3)
.
(فَقُلْتُ: ألَا تَرَيَانِ؟)"ألا" هنا للتحضيض، والتنبيه، قال الطيبيّ رحمه الله:"تريان" مفعوله لا يقدّر؛ إذ المراد إيجاد الرؤية، كقوله تعالى:{قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ} [القصص: 23] قال في "الكشّاف": تُرِكَ المفعول؛ لأن الغرض هو الفعل، لا المفعول. انتهى
(4)
. (هَذَا صَاحِبُكُمَا) قال الطيبيّ: رحمه الله: "صاحبكما" يجوز أن يكون منصوبًا بدلًا من "هذا"؛ أي: ألا تنظران إلى صاحبكما، وأن يكون مرفوعًا على أن يكون "هذا" مبتدأ، وهو خبره. انتهى
(5)
.
(1)
"عمدة القاري شرح صحيح البخاريّ" 22/ 316.
(2)
"شرح مسلم" 12/ 62.
(3)
"المفهم" 3/ 548.
(4)
"الكاشف عن حقائق السنن" 9/ 2775.
(5)
"الكاشف عن حقائق السنن" 9/ 2775.
(الَّذِي تَسْأَلانِ عَنْهُ) يعني: أبا جهل، (قَالَ: فَابْتَدَرَاهُ)؛ أي: تسارعا إليه، وتسابقا في ضربه، (فَضَرَبَاهُ بِسَيْفَيْهِمَا، حَتَّى قَتَلَاهُ، ثُمَّ انْصَرَفَا إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَخْبَرَاهُ، فَقَالَ: "أيُّكُمَا قَتَلَهُ؟ "، فَقَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا: أَنَا قَتَلْتُ، فَقَالَ: "هَلْ مَسَحْتُمَا سَيْفَيْكُمَا؟ "، قَالَا: لَا، فَنَظَرَ فِي السَّيْفَيْنِ) إنما قال ذلك؛ ليستدلّ بهما على حقيقة كيفية قتلهما، فعَلِم أن ابن الجموح هو المثخن، وقال المهلَّب: نَظَره صلى الله عليه وسلم في السيفين؛ ليرى ما بلغ الدم من سيفيهما، ومقدار عمق دخولهما في جسم المقتول؛ ليحكم بالسيف لمن كان في ذلك أبلغ، ولذلك سألهما أوّلًا: هل مسحتما سيفيكما؛ لأنهما لو مسحاهما لَمَا تبين المراد من ذلك
(1)
. (فَقَالَ: "كِلَاكُمَا قَتَلَهُ") قال الطيبيّ رحمه الله: أفرد الضمير في "قتله" نظرًا إلى لفظ "كلاكما"، كما في قوله تعالى:{كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا} الآية [الكهف: 33]. انتهى
(2)
.
وإنما قال ذلك، وإن كان الذي أثخنه هو الذي قتله؛ تطييبًا لقلب الآخر، من حيث إن له مشاركةً في القتل، (وَقَضَى بِسَلَبِهِ)؛ أي: سلب أبي جهل (لِمُعَاذِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ) وإنما حكم له مع أنهما اشتركا في القتل؛ لأن القتل الشرعيّ الذي يتعلق به استحقاق السلب هو الإثخان، وهو إنما وُجد منه.
وقال الإسماعيليّ: إن الأنصاريين ضرباه، فأثخناه، وبلغا به المبلغ الذي يُعلم أنه لا يجوز بقاؤه على تلك الحال، إلا قدر ما يطفأ، فدلّ قوله:"كلاكما قتله" على أن كلًّا منهما وصل إلى قطع الحشوة، وإبانتها، وبه يُعلم أن عمل كل من سيفيهما كعمل الآخر، غير أن أحدهما سبق بالضرب، فصار في حكم المثبت لجراحه، حتى وقعت به ضربة الثاني، فاشتركا في القتل، إلا أن أحدهما قتله، وهو ممتنع، والآخر قتله، وهو مُثْبَتٌ، فلذلك قضى بالسلب للسابق إلى إثخانه، ذكره في "العمدة"
(3)
.
(1)
"عمدة القاري شرح صحيح البخاريّ" 22/ 317.
(2)
"الكاشف عن حقائق السنن" 9/ 2775.
(3)
"عمدة القاري" 22/ 317 رقم (3141).
وقال النوويّ رحمه الله اختَلَف العلماء في معنى هذا الحديث، فقال أصحابنا: اشترك هذان الرجلان في جراحته، لكن معاذ بن عمرو بن الجموح أثخنه أوّلًا، فاستحقّ السلب، وإنما قال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"كلاكما قتله"؛ تطييبًا لقلب الآخر، من حيث إن له مشاركةً في قتله، وإلا فالقتل الشرعيّ الذي يتعلق به استحقاق السلب، وهو الإثخان وإخراجه عن كونه ممتنعًا، إنما وُجد من معاذ بن عمرو بن الجموح، فلهذا قَضَى له بالسلب، قالوا: وإنما أخذ السيفين؛ ليستدل بهما على حقيقة كيفية قتلهما، فعَلِم أن ابن الجموح أثخنه، ثم شاركه الثاني بعد ذلك، وبعد استحقاقه السلب، فلم يكن له حقّ في السلب، هذا مذهب أصحابنا في معنى هذا الحديث.
وقال أصحاب مالك: إنما أعطاه لأحدهما؛ لأن الإمام مخير في السلب، يفعل فيه ما شاء، وقد سبق الردّ على مذهبهم هذا، والله أعلم. انتهى كلام النوويّ رحمه الله
(1)
.
وقوله: (وَالرَّجُلَانِ) يعني: الغلامين اللذين كلّما عبد الرحمن بن عوف في شأن أبي جهل، (مُعَاذُ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ) بن زيد بن حرام بن كعب بن غَنْم بن كعب بن سَلِمة بن سعيد بن عليّ بن أسد بن ساردة بن يزيد بن جُشَم بن الخزرج السَّلَميّ الخزرجيّ الأنصاريّ، شَهِد العقبة، وبدرًا هو وأبوه عمرو، وقُتِل عمرو بن الجموح رضي الله عنه يوم أُحد
(2)
.
(وَمُعَاذُ ابْنُ عَفْرَاءَ) - بفتح العين المهملة، وسكون الفاء، وبالراء، وبالمدّ - وهي أمه عفراء بنت عُبيد بن ثعلبة بن غنم بن مالك بن النجّار، وهو معاذ بن الحارث بن رِفاعة بن سواد، وهكذا قاله محمد بن إسحاق، وقال ابن هشام: هو معاذ بن الحارث بن عفراء بن سواد بن مالك بن النجّار، وقال موسى بن عقبة: معاذ بن الحارث بن رفاعة بن الحارث، شَهِدَ بدرًا هو وأخواه: عوف، ومعوّذ بنو عفراء، وهم بنو الحارث بن رفاعة، وقال أبو عمر: ولمعاذ بن عفراء رواية عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في النهي عن الصلاة بعد الصبح، وبعد العصر، مات في خلافة عليّ رضي الله عنه. انتهى
(3)
.
(1)
"شرح النوويّ" 12/ 63.
(2)
"عمدة القاري" 15/ 92.
(3)
"عمدة القاري" 15/ 92.
وقال النوويّ رحمه الله: قوله: "والرجلان
…
إلخ" هكذا رواه البخاريّ ومسلم، من رواية يوسف بن الماجشون، وجاء في "صحيح البخاريّ أيضًا من حديث إبراهيم بن سعد، أن الذي ضربه ابنا عفراء، وذكره أيضًا من رواية ابن مسعود، وأن ابني عفراء ضرباه حتى بَرَدَ، وذكر ذلك مسلم بعد هذا، وذكر غيرهما أن ابن مسعود رضي الله عنه هو الذي أجهز عليه، وأخذ رأسه، وكان وجده وبه رَمَقٌ، وله معه خبر معروف، قال القاضي عياض: هذا قول أكثر أهل السير.
قال النوويّ: يُحْمَل على أن الثلاثة اشتركوا في قتله، وكان الإثخان من معاذ بن عمرو بن الجموح، وجاء ابن مسعود بعد ذلك، وفيه رَمَقٌ، فَحَزَّ رقبته. انتهى
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "والرجلان: معاذ بن عمرو بن الجموح، ومعاذ ابن عفراء" هكذا الصحيح، وقد جاء في البخاريّ من حديث ابن مسعود: أن ابني عفراء ضرباه حتى برك، وكأن هذا وَهَم من بعض الرواة لحديث ابن مسعود، وسبب هذا الوهم أن عفراء هذه من بني النجار، أسلمت وبايعت، وكان أولادها سبعة، كلهم شَهِد بدرًا، وكانت عند الحارث بن رفاعة، فولدت له معاذُا، ومعوّذًا، ثم طلقها، فتزوَّجها بكير بن عبد ياليل، فولدت له خالدًا، وإياسًا، وعاقلًا، وعامرًا، ثم طلقها فراجعها الحارث، فولدت له عوفًا، فشهدوا كلهم بدرًا، فكأنه التبس على بعض الرُّواة معاذ بن عمرو بن الجموح بمعاذ ابن عفراء، وبمعوّذ ابن عفراء عند السكوت عن ذكر عمرو والد معاذ، والله تعالى أعلم.
وفي البخاريّ ومسلم: أن ابن مسعود هو الذي أجهز على أبي جهل، واحتزَّ رأسه بعد أن جرى له معه كلام، سيأتي إن شاء الله تعالى. انتهى
(2)
.
ووقع في حديث أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله رضي الله عنه يوم بدر: "من ينظر ما صنع أبو جهل؟، فانطلق ابن مسعود، فوجده قد ضربه ابنا عفرا
…
" الحديث، فهذا يدلّ على أن قاتله ابنا عفراء.
وقال في "الفتح" بعد أن أشار إلى الرواية: وحاصله أن كلَّا من ابني
(1)
"شرح النوويّ" 12/ 63.
(2)
"المفهم" 3/ 550.
عفراء سأل عبد الرحمن بن عوف، فدلّهما عليه، فشدّا عليه، فضرباه، حتى قتلاه، وفي آخر حديث مسدد:"وهما معاذ بن عمرو بن الجموح، ومعاذ ابن عفراء"، وأن النبيّ صلى الله عليه وسلم، نظر في سيفيهما، وقال:"كلاكما قتله"، وأنه قضى بسلبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح. انتهى.
قال: وعفراء والدة معاذ، واسم أبيه الحارث، وأما ابن عمرو بن الجموح، فليس اسم أمه عفراء، وإنما أطلق عليه تغليبًا، ويَحْتَمِل أن تكون أم معوذ أيضًا تسمى عفراء، أو أنه لمّا كان لمعوّذ أخ يسمى معاذًا باسم الذي شَرَكه في قتل أبي جهل ظنّه الراوي أخاه.
وقد أخرج الحاكم من طريق ابن إسحاق: حدّثني ثور بن يزيد، عن عكرمة، عن ابن عباس. قال ابن إسحاق: وحدّثني عبد الله بن أبي بكر بن حزم، قال: قال معاذ بن عمرو بن الجموح: سمعتهم يقولون: وأبو جهل في مثل الجرحة، أبو جهل الحَكَم لا يُخلَص إليه، فجعلته من شأني، فعمدت نحوه، فلما أمكنني حَمَلت عليه فضربته ضربة أطنت قدمه، وضربني ابنه عكرمة على عاتقي، فطرح يدي، قال: ثم عاش معاذ إلى زمن عثمان، قال: ومَرّ بأبي جهل معوّذ بن عفراء، فضربه حتى أثبته، وبه رَمَقٌ، ثم قاتل معوّذ حتى قُتِل، فمَرّ عبد الله بن مسعود بابي جهل، فوجده بآخر رَمَقٍ، فذكر ما تقدم، فهذا الذي رواه ابن إسحاق يَجمع بين الأحاديث، لكنه يخالف ما في "الصحيح" من حديث عبد الرحمن بن عوف أنه رأى معاذًا ومعوّذًا شدّا عليه جميعًا حتى طرحاه، وابن إسحاق يقول: إن ابن عفراء هو معوّذ، وهو بتشديد الواو، والذي في "الصحيح": معاذ، وهما أخوان، فيَحْتَمِل أن يكون معاذ ابن عفراء شدّ عليه مع معاذ بن عمرو، كما في "الصحيح"، وضربه بعد ذلك معوّذ حتى أثبته، ثم حَزّ رأسه ابن مسعود، فتُجْمَع الأقوال كلها، وإطلاق كونهما قتلاه يخالف في الظاهر حديث ابن مسعود أنه وجده، وبه رَمَقٌ، وهو محمول على أنهما بلغا به بضربهما إياه بسيفيهما منزلة المقتول، حتى لم يبق به إلا مثل حركة المذبوح، وفي تلك الحالة لقيه ابن مسعود، فضرب عنقه والله أعلم.
وأما ما وقع عند موسى بن عقبة، وكذا عند أبي الأسود، عن عروة، أن ابن مسعود وجد أبا جهل مصروعًا، بينه وبين المعركة غير كثير، متقنعًا في
الحديد، واضعًا سيفه على فخذه، لا يتحرك منه عضو، وظن عبد الله أنه ثبت جراحًا، فأتاه من ورائه، فتناول قائم سيف أبي جهل، فاستله، ورفع بيضة أبي جهل عن قفاه، فضربه، فوقع رأسه بين يديه، فيُحْمَل على أن ذلك وقع له معه بعد أن خاطبه بما تقدم، والله أعلم. انتهى
(1)
.
وقال في "العمدة": وذكر ابن هشام عن زياد، عن ابن إسحاق أن معاذ بن عمرو بن الجموح هو الذي قطع رجل أبي جهل بن هشام، وصرعه، وقال: وضرب ابنه عكرمة بن أبي جهل يد معاذ، فطرحها، ثم ضربه معوّذ ابن عفراء، حتى أثبته، وتركه وبه رَمَقٌ، ثم وقف عليه عبد الله بن مسعود، واحتز رأسه حين أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يلتمسه في القتلى.
وفي "صحيح مسلم": أن ابني عفراء ضرباه حتى بَرَد - بالدال؛ أي: مات، وفي رواية: حتى بَرَكَ بالكاف؛ أي: سقط على الأرض، وكذا في البخاريّ في "باب قتل أبي جهل"، وادَّعَى القرطبي أنه وَهَمٌ التبس على بعض الرواة معاذ بن الجموح بمعاذ ابن عفراء.
وقال ابن الجوزيّ: ابن الجموح ليس من ولد عَفْراء، ومعاذ ابن عفراء ممن باشر قتل أبي جهل، فلعل بعض إخوته حضره، أو أعمامه، أو يكون الحديث: ابن عفراء، فغلط الراوي، فقال: ابنا عفراء.
وقال أبو عمر: أصحّ من هذا حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن ابن عفراء قتله.
وقال ابن التين: يَحْتَمِل أن يكونا أخوين لأم، أو يكون بينهما رضاع.
وقال الداوديّ: ابنا عفراء: سهل وسهيل، ويقال: معوّذ ومعاذ.
وروى الحاكم في "إكليله" من حديث الشعبيّ، عن عبد الرحمن بن عوف: حَمَلَ رجل كان مع أبي جهل على ابن عفراء فقتله، فحَمَل ابن عفراء الآخر على الذي قتل أخاه فقتله، ومَرّ ابن مسعود على أبي جهل، فقال: الحمد لله الذي أعزّ الإسلام، فقال أبو جهل: تشتمني يا رويعي هذيل، فقال: نعم والله، وأقتلك، فحذفه أبو جهل بسيفه، وقال: دونك هذا إذًا، فأخذه
(1)
"الفتح" 9/ 31 - 32، كتاب "المغازي" رقم (3962).
عبد الله، فضربه حتى قتله، وقال: يا رسول الله قتلت أبا جهل، فقال: اللهِ الذي لا إله إلا هو؟ فحلف له، فأخذه النبيّ صلى الله عليه وسلم بيده، ثم انطلق معه، حتى أراه إياه، فقام عنده، وقال:"الحمد لله الذي أعزّ الإسلام، وأهله" ثلاث مرات.
والتوفيق بين هذه الروايات إثبات الاشتراك في قتل أبي جهل، ولكن السلب ما ثبت إلا للذي أثخنه على ما مرّ، فافهم. انتهى ما في "العمدة"
(1)
، وهو بحث مفيد جدًّا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [13/ 4559](1752)، و (البخاريّ) في "فرض الخمس"(3141) و"المغازي"(3694 و 3988)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 192، 193)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4840)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(236)، و (الطحاويّ) في (شرح معاني الآثار)(3/ 227، 228)، و (البزّار) في "مسنده"(3/ 225)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(20/ 177)، و (الحاكم) في "المستدرك"(3/ 480)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(6/ 305، 306)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): المبادرة إلى الخيرات.
2 -
(ومنها): الاشتياق إلى الفضائل.
3 -
(ومنها): جواز ستر نيّة الإنسان ما يريد به من الخير عن غيره؛ مخافة أن يُسبَق إليه.
4 -
(ومنها): الغضب لله رحمه الله ولرسوله صلى الله عليه وسلم؛ لقولهما: إنه سبّ رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(1)
"عمدة القاري" 15/ 92 - 93، كتاب "الخمس" رقم (3141).
5 -
(ومنها): أنه ينبغي أن لا يُحتَقَر أحد، فقد يكون بعض من يُستصغر عن القيام بأمر أكبر مما في النفوس، وأحق بذلك الأمر، كما جرى لهذين الغلامين.
6 -
(ومنها): أنه احتجت به المالكية في أن استحقاق القاتل السلب يكفي فيه قوله بلا بينة، قال النوويّ: وجواب أصحابنا عنه: لعله صلى الله عليه وسلم عَلِم ذلك ببينة، أو غيرها.
7 -
(ومنها): أن قوله: "فنظر في السيفين
…
إلخ" يدلّ على أن للإمام أن ينظر في شواهد الأحوال؛ ليترجح عنده قول أحد المتداعيين، وذلك أن سؤاله عن مسح السيفين إنما كان لينظر إن كان تعلّق بأحدهما من أثر الطعام، أو الدَّم ما لم يتعلق بالآخر، فيقضي له، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4560]
(1753) - (وَحَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ سَرْحٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ أَبِيه، عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَتَلَ رَجُلٌ مِنْ حِمْيَرَ رَجُلًا مِنَ الْعَدُوّ، فَأَرَادَ سَلَبَهُ، فَمَنَعَهُ خَالِدُ بْنُ الْوَليد، وَكَانَ وَالِيًا عَلَيْهِمْ، فَأَتَى رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَوْفُ بْنُ مَالِكٍ، فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ لِخَالِدٍ: "مَا مَنَعَكَ أَنْ تُعْطِيَهُ سَلَبَهُ؟ "، قَالَ: اسْتَكْثَرْتُهُ يَا رَسُولَ الله، قَالَ: "ادْفَعْهُ إِلَيْهِ"، فَمَرَّ خَالِدٌ بِعَوْفٍ، فَجَرَّ بِرِدَائِه، ثُمَّ قَالَ: هَلْ أنجَزْتُ لَكَ مَا ذَكَرْتُ لَكَ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ فَسَمِعَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَاسْتُغْضِبَ، فَقَالَ: "لَا تُعْطِهِ يَا خَالِدُ، لَا تُعْطِهِ يَا خَالِدُ، هَلْ أنتُمْ تَارِكُونَ لِي أُمَرَائي؟ إِنَّمَا مَثَلُكُمْ وَمَثَلُهُمْ كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتُرْعِيَ إِبِلًا، أَوْ غَنَمًا، فَرَعَاهَا، ثُمَّ تَحَيَّنَ سَقْيَهَا، فَأورَدَهَا حَوْضًا، فَشَرَعَتْ فِيه، فَشَرِبَتْ صَفْوَهُ، وَتَرَكَتْ كَدَرَهُ، فَصَفْوُهُ لَكُمْ، وَكَدَرُهُ عَلَيْهِمْ").
رجال هذا الإسناد: ستّة:
1 -
(مُعَاوِيةُ بْنُ صَالِحِ) بن حُدَير الْحَضْرميّ، أبو عمرو، أو أبو
عبد الرحمن الْحِمْصيّ، قاضي الأندلس، ثقةٌ له أفراد [7](ت 158) أو بعد (170)(ز م 4) تقدم في "الطهارة" 6/ 559.
2 -
(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ جُبَيْرِ) بن نفير الحَضرميّ الحمصيّ، ثقةٌ [4](ت 118)(بخ م 4) تقدم في "الجنائز" 25/ 2232.
3 -
(أَبُوهُ) جبير بن نُفير بن مالك بن عامر الْحَضْرمي الحمصيّ، مخضرم ثقةٌ جليلٌ [2](80) أو بعدها (بخ م 4) تقدم في "الطهارة" 6/ 559.
4 -
(عَوْفُ بْنُ مَالِكٍ) الأشجعيّ، أبو عبد الرحمن، أو أبو حمّاد، ويقال غير ذلك، صحابيّ مشهور، من مسلمة الفتح، وسكن دمشق، ومات سنة (73)(ع) تقدم في "الجنائز" 25/ 2232.
والباقيان ذُكرا قبل حديث.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد.
أن فيه رواية الابن عن أبيه، وتابعيّ عن تابعيّ، وأنه مسلسل بالشاميين من معاوية.
شرح الحديث:
(عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ) الأشجعيّ رضي الله عنه، أنه (قَالَ: قَتَلَ رَجُلٌ)؛ أي: مسلم (مِنْ حِمْيَرَ) بكسر الحاء المهملة، وسكون الميم، وفتح المثنّاة، آخره راء: من أصول القبائل التي باليمن، قاله في "اللباب"
(1)
. (رَجُلًا مِنَ الْعَدُوِّ) لا يُعرف القاتل، ولا المقتول
(2)
. (فَأَرَادَ سَلَبَهُ)؛ أي: أراد القاتل المسلم سلب المقتول الكافر، (فَمَنَعَهُ خَالِدُ بْنُ الْوَليدِ) رضي الله عنه؛ أي: منع خالد ذلك القاتل سلبه؛ وسبب منعه استكثاره له، كما سيأتي تصريحه بذلك.
وخالد بن الوليد: هو ابن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، القرشيّ، أبو سليمان، سيف الله، أسلم بعد الحديبية، وشَهِد مُؤتة، ويومئذ سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم سيف الله، وشَهِد الفتح، وحُنينًا، واختُلِف في شهوده خيبر.
(1)
"اللباب في تهذيب الأنساب" 1/ 393.
(2)
راجع: "تنبيه المعلم" ص 303.
رَوَى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعنه ابن عباس، وهو ابن خالته، وجابر بن عبد الله، والمقدام بن معد يكرب، وقيس بن أبي حازم، وأبو العالية، وأبو وائل، وغيرهم.
استعمله أبو بكر على قتال أهل الردّة، ومُسيلِمة، ثم وجّهه إلى العراق، ثم إلى الشام، وهو أحد أمراء الأجناد الذين وُلُّوا فتح دمشق.
قال محمد بن سعد، وابن نمير، وغير واحد: مات بحمص سنة (21)، وقال دُحيم، وغيره: مات بالمدينة، وقيل: مات سنة (22)، ويُروَى أنه لما حضرته الوفاة بَكَى، وقال: لقيت كذا وكذا زَحْفًا، وما في جسدي شبر إلا وفيه ضربة بسيف، أو طعنة برمح، وها أنا أموت على فراشي، فلا نامت أعين الجبناء.
وقال الزبير بن بكار: كان ميمون النَّقِيبة
(1)
، ولمّا هاجر لم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يُوليه الخيل، ويكون في مقدمته، وقال محمد بن سعد: كان يُشبه عُمر في خلقته، وصفته، ولمّا نزل الْحِيرة قيل له: احذر السمّ لا تسقيكه الأعاجم، فقال: ائتوني به، فأخذه بيده، وقال: بسم الله، وشربه، فلم يضرّه شيئًا.
روى له البخاريّ، والمصنّف، وأبو داود، والنسائيّ، وابن ماجه، له في هذا الكتاب هذا الموضع، وحديث آخر برقم (1946): "لا، ولكنه ليس بأرض قومي، فأجدني أعافه
…
" الحديث.
(وَكَانَ) خالد رضي الله عنه (وَالِيًا عَلَيْهِمْ)؛ أي: على الجيش الذين وقعت فيهم هذه الواقعة، وهي غزوة مُؤتة، كما سيأتي بيانها في الرواية التالية. (فَأَتَى رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم) بنصب "رسول" على أنه مفعول مقدّم، والفاعل قوله:(عَوْفُ بْنُ مَالِكٍ) الأشجعيّ رضي الله عنه، (فَأَخْبَرَهُ)؛ أي: قصّ عوف قصّة الرجل القاتل، ومَنْع خالد له من سلبه، (فَقَالَ) رضي الله عنه (لِخَالِدٍ) رضي الله عنه ("مَا مَنَعَكَ أَنْ تُعْطِيَهُ سَلَبَهُ؟ ") هذا فيه بيان واضح لمذهب الجمهور الذي رجّحناه سابقًا من أن القاتل يستحقّ
(1)
"النَّقِيبة": النفس، والعقل، والْمَشُورةُ، ونفاذ الرأي، والطبيعة، قاله في "القاموس" ص 1307.
السلب مطلقًا، وإن لم يقل الإمام: من قتل قتيلًا إلخ؛ لأنه لو لم يكن ذلك معروفًا لَمَا طلب ذلك القاتل السلب، ولكان سبب مَنْع خالد له عدم مشروعيّته، لا استكثاره، وكذا إنكار عوف على خالد، وكذا تقريره صلى الله عليه وسلم للقاتل على طلبه، واستفساره مَنْع خالد، كلّ ذلك دليل واضح على ما قلناه، وأوضح منه ما يأتي في الرواية التالية، من تصريح عوف بذلك، وموافقة خالد له عليه، حيث قال عوف:"فقلت: يا خالد، أما علِمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالسلب للقاتل؛ قال: بلى، ولكنّي استكثرته"، فكلّهم أجمعوا على أن السلب للقاتل بقتله، وأقرّهم النبيّ صلى الله عليه وسلم على ذلك، فتأمله بالإنصاف، والله تعالى وليّ التوفيق.
(قَالَ) خالد رضي الله عنه (اسْتَكْثَرْتُهُ يَا رَسُولَ اللهِ)؛ أي: إنما منعته إياه مع أني أعلم أن السلب للقاتل؛ لاستكثاري إياه، (قَالَ) صلى الله عليه وسلم عند ذلك ("ادْفَعْهُ إِلَيْهِ") قال القرطبيّ رحمه الله: هو أمر على جهة الإصلاح، ورَفْع التنازع، فلمّا صدر من عوف ما يقتضي من منصب الإمارة أمضى ما رآه الأمير؛ لأنه لم يكن للقاتل فيه حقّ، وهذا نحو مما فعله النبيّ صلى الله عليه وسلم بماء الزبير، حيث نازعه الأنصاريّ عليه في السقي، فقال صلى الله عليه وسلم:"اسق يا زبير! وأرسل الماء إلى جارك"، فأغضب الأنصاريُّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فقال للزبير:"اسق يا زبير! وأمسك الماء حتى يبلغ الجُدُر"، فاستوفى للزبير حقّه.
قال: وهذا الحديث من أصعب الأحاديث على القائل بأن السَّلب يستحقّه القاتل بنفس القتل. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: ليس في هذا الحديث ما يصعب على القائلين باستحقاق القاتل السلب بنفس القتل، بل من أوضح الأدلّة، كما لا يخفى على من تأمّله، والله تعالى أعلم.
(فَمَرَّ خَالِدٌ)؛ أي: ابن الوليد (بِعَوْفٍ)؛ أي: ابن مالك الأشجعيّ (فَجَرَّ) عوف (بِرِدَائِهِ)؛ أي: برداء خالد (ثُمَّ قَالَ) عوف لخالد (هَلْ أنجَزْتُ لَكَ مَا ذَكَرْتُ لَكَ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟)؛ يعني: أنه كان ذَكَر له حين منع القاتل السلب أنه سيشكوه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما قدِما شكاه إليه، فأمر صلى الله عليه وسلم بدفع السلب
(1)
"المفهم" 3/ 551.
للقاتل، فعند ذلك تمّ ما قاله عوف لخالد في حال الغزو من الشكاية إليه صلى الله عليه وسلم.
وقال القرطبيّ رحمه الله: وقول عوف لخالد: "هل أنجزت لك ما ذكرت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ " كلام فيه نوع من التقصير، والتهكم بمنصب الإمارة، والإزراء عليه، ولذلك غضب النبيّ صلى الله عليه وسلم من ذلك حين سمعه، ثم أمضى ما فعله خالد بقوله:"لا تعطه يا خالد"، ونوَّه به، وعظّم حرمته بقوله:"هل أنتم تاركو لي أمرائي؟ "، وهذا يدلّ دلالة واضحة على أن السَّلب لا يستحقه القاتل بنفس القتل، بل برأي الإمام ونظره، كما قدَّمناه. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قول القرطبيّ: يدلّ دلالة واضحة على أن السلب لا يستحقّه
…
إلخ فيه نظر لا يخفى، بل دلالة الحديث على استحقاق القاتل السلب هو الأظهر، والأوضح، على ما بيّنا وجهه، وأما منعه صلى الله عليه وسلم السلب في هذه الواقعة فإنما هو لأمر طارئ اقتضى ذلك، من معاقبة من أساء إلى أميره، ولعلّ ذلك القاتل أيضًا شارك في إغلاظ القول لخالد مع عوف رضي الله عنه، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
(فَسَمِعَهُ)؛ أي: كلامَ عوف لخالد، (رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَاسْتُغْضِبَ) بالبناء للمفعول؛ أي: أُغضب، فالسين والتاء زائدتان، يعني: أنه حصل الغضب للنبيّ صلى الله عليه وسلم على عوف في معاملته لخالد، من جرّ ثوبه، وإغلاظ القول له، مع أن الواجب احترام الأمراء، والتأدّب معهم، وعدم إلحاق شيء من الأذى بهم؛ لأنهم نائبون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولذا قال صلى الله عليه وسلم:"من أطاعني، فقد أطاع الله، ومن عصاني، فقد عصى الله، ومن أطاع أميري، فقد أطاعني، ومن عصى أميري، فقد عصاني"، متّفقٌ عليه، فلذلك غضب صلى الله عليه وسلم (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم "لَا تُعْطِهِ يَا خَالِدُ، لَا تُعْطِهِ يَا خَالِدُ) كرّره تغليظًا للأمر.
وقال ابن حبّان رحمه الله في "صحيحه" بعد إخراجه الحديث ما نصّه: قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تعطه يا خالد" أراد به في ذلك الوقت، ثم أمره، فأعطاه. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي قاله ابن حبّان رحمه الله من أمره صلى الله عليه وسلم
(1)
"المفهم" 3/ 551.
(2)
"صحيح ابن حبّان" 11/ 177.
خالدًا أن يعطيه السلب بعد أن نهاه عنه، صريح في أن ذلك السلب رُدّ إلى ذلك المدديّ، ولكن هذا يحتاج إلى رواية صحيحة تُثبته، فليُتأمّل، والله تعالى أعلم.
(هَلْ أنتُمْ تَارِكُونَ لِي أمَرَائِي؟) هكذا في بعض النسخ: "تاركون لي" بثبوت النون، وهذا هو الأصل؛ لأنها نون جمع المذكّر السالم، لا تُحذف إلا للإضافة، كما قال في "الخلاصة":
نُونًا تَلِي الإِعْرَابَ أَوْ تَنْوِينًا
…
مِمَّا تُضِيفُ احْذِفْ كـ "طُورِ سِينًا"
ووقع في بعض النسخ: "تاركو لي" بحذفها، قال القرطبيّ رحمه الله: هكذا الرواية بإسقاط النون من "تاركو" ولحذفها وجهان:
[أحدهما]: أن يكون استطال الكلمة كما استطيلت كلمة الاسم الموصول، كما قال تعالى:{وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا} [التوبة: 69]، على أحد القولين، وكما قال الشاعر [من الكامل]:
أَبَنِي كُلَيْبٍ إِنَّ عَمَّيَّ اللَّذَا
…
قَتَلَا الْمُلُوكَ وَفَكَّكَا الأَغْلَالَا
[والوجه الثاني]: أن يكون "أمرائي" مضافًا، وأقحم الجار والمجرور بين المضاف والمضاف إليه، ويكون هذا من نوع قراءة ابن عامر:{وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ} [الأنعام: 137]، بنصب {أَوْلَادِهِمْ} ، وخفض {شُرَكَاؤُهُمْ} ، ففصل بين المضاف والمضاف إليه بالمفعول، وأكثر ما يكون هذا النوع في الشعر، وكما أنشده سيبويه [من الوافر]:
كَمَا خُطَّ الْكِتَابُ بِكَفِّ يَوْمًا
…
يَهُودِيَّ يُقَارِبُ أَوْ يَزِيلُ
وكما أنشد:
فَزَجَّجْتُهَا بِمِزَجَّةٍ
…
زَجَّ الْقُلُوصِ أبِي مَزَادَهْ
(1)
قال الجامع عفا الله عنه: وإلى هذا أشار ابن مالك في "الخلاصة" حيث قال:
فَصْلَ مُضَافٍ شِبْهِ فِعْلٍ مَا نَصَبْ
…
مَفْعُولًا اوْ ظَرْفًا أَجِزْ وَلَمْ يُعَبْ
فَصْلُ يَمِينٍ وَاضْطِرَارًا وُجِدَا
…
بِأَجْنَبِيٍّ أَوْ بِنَعْتٍ أَوْ نِدَا
(1)
"المفهم" 3/ 552.
(إِنَّمَا مَثَلُكُمْ وَمَثَلُهُمْ)؛ أي: صفة الأمراء، وصفتكم أنتم أيها الجيش، (كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتُرْعِيَ) بالبناء للمفعول؛ أي: كُلّف، وطُلب منه أن يَرْعى (إِبِلًا، أَوْ غَنَمًا)"أو" هنا للتنويع، (فَرَعَاهَا، ثُمَّ تَحَيَّنَ سَقْيَهَا)؛ أي: طلب القوت المناسب لسقيها الماءَ، (فَأَوْرَدَهَا حَوْضًا، فَشَرَعَتْ فِيهِ)؛ أي: دخلت في ذلك الحوض (فَشَرِبَتْ صَفْوَهُ)؛ أي: ما صفا من مائه، (وَتَرَكَتْ كَدَرَهُ) بفتحتين؛ أي: غير الصافي منه، (فَصَفْوُهُ لَكُمْ) أيها الجيش (وَكَدَرُهُ عَلَيْهِمْ")؛ أي: على الأمراء، قال أهل اللغة: الصفو هنا - بفتح الصاد - لا غير، وهو الخالص، فإذا ألحقوه الهاء، فقالوا: الصفوة كانت الصاد مضمومةً، ومفتوحةً، ومكسورةً، ثلاث لغات.
ومعنى الحديث: أن الرعية يأخذون صفو الأمور، فتصلهم أعطياتهم بغير نكد، وتبتلى الولاة بمقاساة الأمور، وجمع الأموال على وجوهها، وصرفها في وجوهها، وحفظ الرعية، والشفقة عليهم، والذبّ عنهم، وإنصاف بعضهم من بعض، ثم متى وقع عُلْقَةٌ، أو عَتبٌ في بعض ذلك توجه على الأمراء دون الناس، قاله النوويّ
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "استُرْعِي"؛ أي: كُلِّف رعْيها ورعايتها، وهذا مثال مطابق للمُمَثَّل به من كل وجه.
و"الصفو" الصافي عن الكدر، وهو عبارة عما يأخذه الناس بالقسم.
و"الكدر" المتغير، وهو مثال لِمَا يبقى للأمراء؛ لِمَا يتعلق به من التبعات والحقوق. انتهى
(2)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عوف بن مالك رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [13/ 4560 و 4561](1753)، و (أبو داود) في
(1)
"شرح النوويّ" 12/ 65.
(2)
"المفهم" 3/ 552 - 553.
"الجهاد"(2719 و 2720)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 27، 28)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 240)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(18/ 49)، و (سعيد بن منصور) في "سننه"(2/ 305)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4842)، و (البزّار) في "مسنده"(7/ 180)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(3/ 231 و 304)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(6/ 310)، و (البغويّ) في "شرح السُّنّة"(2725)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان استحقاق القاتل السلب.
2 -
(ومنها): ما قال النوويّ رحمه الله: هذا الحديث قد يُستَشْكَل من حيث إن القاتل قد استَحَقّ السلب، فكيف مَنَعه إياه؟
ويجاب عنه بوجهين:
أحدهما: لعله أعطاه بعد ذلك للقاتل، وإنما أخّره تعزيرًا له، ولعوف بن مالك؛ لكونهما أطلقا ألسنتهما في خالد رضي الله عنه، وانتهَكَا حرمة الوالي، ومن ولّاه.
الوجه الثاني: لعله استطاب قلب صاحبه، فترَكه صاحبه باختياره، وجعلَه للمسلمين، وكان المقصود بذلك استطابة قلب خالد رضي الله عنه؛ للمصلحة في إكرام الأمراء، انتهى
(1)
.
3 -
(ومنها): جواز القضاء في حال الغضب، ونفوذه، وأن النهي للتنزيه، لا للتحريم، قاله النوويّ رحمه الله.
قال الجامع عفا الله عنه: قوله: "جواز القضاء في حال الغضب" فيه نظر لا يخفى؛ لأنه صلى الله عليه وسلم ليس كغيره، فقضاؤه في حال الغضب جائز بلا خلاف بخلاف غيره؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"لا يقضينّ حَكَم بين اثنين، وهو غضبان"، متّفقٌ عليه، واللفظ للبخاريّ.
والحاصل أن جواز القضاء في حال الغضب خاصّ بالنبيّ صلى الله عليه وسلم، فتبصّر، وقد تقدّم تحقيقه في "كتاب الأقضية"، فراجعه تستفد علمًا جمًّا، وبالله تعالى التوفيق.
(1)
"شرح النوويّ" 12/ 64.
4 -
(ومنها): احترام الأمراء، وترك الطعن، والاستطالة عليهم، وأن من خالف ذلك يعاتب، بل يُعاقب.
5 -
(ومنها): أن فيه الزجرّ عن معارضة الأمراء، ومغاضبتهم، والشماتة بهم؛ لِمَا تقدم من الأدلة الدالة على وجوب طاعتهم في غير معصية الله.
6 -
(ومنها): أن للإمام أن يترك ما أمر به، ويرجع عنه، أو يأمر بما قد نهى عنه في أشياء إذا رأى المصلحة في ذلك؛ فقد نهى صلى الله عليه وسلم هنا عن إعطاء السلب بعد أَمْره به لَمّا فَهِم ما على خالد في ذلك من الغضاضة من كلام عوف، وهذا كقوله صلى الله عليه وسلم للزبير رضي الله عنه:"اسق يا زبير، واحبس الماء حتى يبلغ الجدرَ"، فاستوعب له حقّه بعد أن كان اقتصر به على بعضه لَمّا أغضبه خصم الزبير بقوله:"آن كان ابن عمّتك؟ "، وقد تقدّم تمام البحث في ذلك في محلّه، فراجعه تستفد علمًا جمًّا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4561]
(
…
) - (وَحَدَّثَني زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، حَدَّثنَا صَفْوَانُ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ، عَنْ أَبِيه، عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الأَشْجَعِيّ، قَالَ: خَرَجْتُ مَعَ مَنْ خَرَجَ مَعَ زيدِ بْنِ حَارِثَةَ فِي غَزْو مُؤْتَةَ، وَرَافَقَنِي مَدَدِيٌّ مِنَ الْيَمَن، وَسَاقَ الْحَدِيثَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِنَحْوِه، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ فِي الْحَدِيثِ: قَالَ عَوْفٌ: فَقُلْتُ: يَا خَالِدُ، أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَضَى بِالسَّلَبِ لِلْقَاتِلِ؟ قَالَ: بَلَى، وَلَكِنِّي اسْتَكْثَرْتُهُ).
رجال هذا الإسناد: ستّة:
1 -
(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) تقدّم في الباب الماضي.
2 -
(الْوَليدُ بْنُ مُسلِمٍ) القرشيّ مولاهم، أبو العبّاس الدمشقيّ، ثقةٌ، لكنه كثير التدليس والتسوية [8](ت 4 أو 195)(ع) تقدم في "الإيمان" 10/ 148.
3 -
(صَفْوَانُ بْنُ عَمْرِو) بن هَرِم السكسكيّ، أبو عمرو الْحِمْصيّ، ثقةٌ [5].
رَوَى عن عبد الله بن بسر المازنيّ الصحابيّ، وجُبير بن نُفَير، وشُريح بن عُبيد الحضرميّ، وراشد بن سعد، وسليم بن عامر، ويزيد بن خمير، وجماعة.
وروى عنه ابن المبارك، وأبو إسحاق الفزاريّ، وبقية، وعيسى بن يونس، وإسماعيل بن عياش، ومعاوية بن صالح الحضرميّ، والوليد بن مسلم، وغيرهم.
قال العجليّ، ودُحيم، وأبو حاتم، والنسائيّ: ثقةٌ، زاد أبو حاتم: لا بأس به، وقال ابن سعد: كان ثقةً مأمونًا، وقال أبو زرعة الدمشقيّ: قلت لدُحيم: من أثبت بحمص؟ قال: صفوان، وسَمَّى جماعةً، وقال أبو حاتم: سمعت دُحيمًا يقول: صفوان أكبر من حَرِيز، وقَدَّمه، وقال ابن خِرَاش: كان ابن المبارك وغيره يوثّقه، وقال أبو اليمان، عن صفوان: أدركت من خلافة عبد الملك، وخرجنا في بعث سنة (94)، وقال يزيد بن عبد ربه: مات سنة (155)، وقال سليمان بن سلمة: مات سنة (8)، وذكر له البخاريّ أثرًا معلقًا، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال النسائيّ في "التمييز": له حديث منكر في عمار بن ياسر.
أخرج له البخاريّ في "الأدب المفرد"، والمصنّف، والأربعة، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.
والباقون ذُكروا قبله.
وقوله: (خَرَجْتُ مَعَ مَنْ خَرَجَ مَعَ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ) بن شَرَاحيل الكلبيّ، أبي أسامة، مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، صحابيّ جليل مشهور، من أول الناس إسلامًا، استُشهِد يوم مؤتة في حياة النبيّ صلى الله عليه وسلم، سنة ثمان من الهجرة، وهو ابن (55) سنةً (ي ق).
وقوله: (فِي غَزْوة مُؤْتَةَ) - بضم الميم، ثم همزة ساكنة، ويجوز ترك الهمزة، كما في نظائره، وهي قرية معروفة في طرف الشام، عند الكرك، قاله النوويّ
(1)
.
وقال الفيّوميّ رحمه الله: و"مُؤْتَةُ": بهمزة ساكنة، وزانُ غُرْفة، ويجوز التخفيف: قرية من أرض الْبَلْقاء، بطرف الشام الذي يخرج منه أهله إلى الحجاز، وهي قَريبة من الْكَرَك، وبها وقعة مشهورة، قُتِل فيها جعفر بن أبي
(1)
"شرح النوويّ" 12/ 65.
طالب، وزيد بن حارثة، وعبد الله بن رواحة، وجماعة كثيرة من الصحابة رضي الله عنه، انتهى
(1)
.
وقال في "الفتح": "مؤتة - بضم الميم، وسكون الواو، بغير همز - لأكثر الرواة، وبه جزم المبرّد، ومنهم من همزها، وبه جزم ثعلب، والجوهريّ، وابن فارس، وحَكَى صاحب "الواعي" الوجهين.
وأما الموتة التي وردت الاستعاذة منها، وفُسِّرت بالجنون، فهي بغير همز. انتهى
(2)
.
وقال في "الفتح" أيضًا: قال ابن إسحاق: مؤتة هي بالقرب من البلقاء، وقال غيره: هي على مرحلتين من بيت المقدس، ويقال: إن السبب فيها أن شُرَحبيل بن عمرو الْغَسّانيّ، وهو من أمراء قيصر على الشام قَتَل رسولًا أرسله النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى صاحب بُصْرَى، واسم الرسول: الحارث بن عُمير، فَجَهّز إليهم النبيّ صلى الله عليه وسلم عسكرًا في ثلاثة آلاف، وفي مغازي أبي الأسود، عن عروة: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم الجيش إلى مؤتة في جمادى، من سنة ثمان، وكذا قال ابن إسحاق، وموسى بن عقبة، وغيرهما، من أهل المغازي، لا يختلفون في ذلك، إلا ما ذكر خليفة في "تاريخه" أنها كانت سنة سبع. انتهى
(3)
.
وقوله: (وَرَافَقَنِي مَدَدِيٌّ)؛ أي: رجل من المدد الذين جاءوا يمدّون الجيش في مؤتة، ويساعدونهم.
وقال في "النهاية": الأمداد - بالفتح - جمع مَدَد، وهم الأعوان، والأنصار الذين كانوا يُمِدّون المسلمين في الجهاد، ومدديّ منسوب إليه. انتهى
(4)
.
ولا يُعرف اسم هذا المدديّ، كما قاله صاحب "التنبيه"
(5)
.
(1)
"المصباح المنير" 2/ 584.
(2)
"الفتح" 9/ 368، كتاب "المغازي" رقم (4261).
(3)
"الفتح" 9/ 368، كتاب "المغازي" رقم (4261).
(4)
"النهاية في غريب الحديث والأثر" 4/ 308.
(5)
"تنبيه المعلم" ص 304.
وقوله: (وَسَاقَ الْحَدِيثَ) الفاعل ضمير صفوان بن عمرو.
وقوله: (أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَضَى بِالسَّلَبِ لِلْقَاتِلِ
…
إلخ) هذا دليل واضح، وحجة مقنعة للجمهور في كون السلب للقاتل مطلقًا، على ما أسلفنا تحقيقه، ووجه ذلك أن كون السلب للقاتل كان معروفًا بين الصحابة، فقد ذكّر عوف خالدًا بأن صلى الله عليه وسلم قضى بالسلب للقاتل، لمّا ظنّ أن خالدًا منع القاتل السلب؛ لنسيانه بالقضيّة، ولكنه أجابه بكونه ما نسي، وإنما منعه لمّا استكثره، فلمّا قدما على النبيّ صلى الله عليه وسلم ذكرا ذلك له، فأقرّهما عليه، وأمر خالدًا بأن يُعطيه؛ لاستحقاقه له، وإن كان كثيرًا، إلا أنه لمّا ظهر له ما جرى بين خالد وعوف من المشادّة في ذلك غضب؛ لهضم جانب أميره، ثم قال:"لا تعطه"، من باب العقوبة على ذلك، فتأمله بالإمعان، والإنصاف، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
[تنبيه]: رواية صفوان بن عمرو، عن عبد الرحمن بن جُبير هذه ساقها أبو داود رحمه الله في "سننه"، فقال:
(2719)
- حدّثنا أحمد بن محمد بن حنبل، قال: ثنا الوليد بن مسلم، قال: حدّثني صفوان بن عمرو، عن عبد الرحمن بن جُبير بن نُفير، عن أبيه، عن عوف بن مالك الأشجعيّ، قال: خرجت مع زيد بن حارثة في غزوة مؤتة، فرافقني مدديّ من أهل اليمن، ليس معه غير سيفه، فنَحَر رجل من المسلمين جَزورًا، فسأله المدديّ طائفةً من جلده، فأعطاه إياه، فاتخذه كهيئة الدَّرَق، ومضينا، فلقينا جموع الروم، وفيهم رجل على فرس له أشقر، عليه سرج مذَهّب، وسلاح مذهَّب، فجعل الروميّ يُغري بالمسلمين، فقعد له المدديّ خلف صخرة، فمَرّ به الروميّ، فعَرْقَب فرسه، فخَرّ، وعلاه، فقتله، وحاز فرسه، وسلاحه، فلما فتح الله للمسلمين بعث إليه خالد بن الوليد، فأخذ من السلب. قال عوف: فأتيته، فقلت: يا خالد أما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالسلب للقاتل؟ قال: بلى، ولكني استكثرته، قلت: لتردّنّه عليه، أو لأعرفنكها عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأبى أن يردّ عليه. قال عوف: فاجتمعنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقصصت عليه قصة المدديّ، وما فَعَل خالد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"يا خالد ما حملك على ما صنعت؟ "، قال: يا رسول الله استكثرته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"يا خالد رُدّ عليه ما أخذت منه"، قال عوف: فقلت له: دونك يا خالد، ألم أَفِ لك؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"وما ذلك؟ "، فأخبرته، قال: فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:"يا خالد، لا تردّ عليه، هل أنتم تاركون لي أمرأئي؟ لكم صفوة أمرهم، وعليهم كدره". انتهى
(1)
. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4562]
(1754) - (حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ يُونُسَ الْحَنَفِيُّ، حَدَّثَنَا عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ، حَدَّثَني إِيَاسُ بْنُ سِلَمَةَ، حَدَّثَنِي أَبِي سَلَمَةُ بْنُ الأَكْوَع، قَالَ: غَزَوْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم هَوَازِنَ، فَبَيْنَا نَحْنُ نَتَضَحَّى مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذْ جَاءَ رَجُل عَلَى جَمَلٍ أَحْمَرَ، فَأَنَاخَهُ، ثُمَّ انْتَزَعَ طَلَقًا مِنْ حَقَبِه، فَقَيدَ بِهِ الْجَمَلَ، ثُمَّ تَقَدَّمَ يَتَغَدَّى مَعَ الْقَوْمِ، وَجَعَلَ يَنْظُرُ، وَفِينَا ضَعْفَةٌ، وَرِقَّةٌ فِي الظَّهْرِ
(2)
، وَبَعْضُنَا مُشَاةٌ، إِذْ خَرَجَ يَشْتَدُّ، فَأتَى جَمَلَهُ، فَأَطْلَقَ قَيْدَهُ، ثُمَّ أنَاخَهُ، وَقَعَدَ عَلَيْه، فَأَثَارَهُ، فَاشْتَدَّ بِهِ الْجَمَلُ، فَاتَّبَعَهُ رَجُلٌ عَلَى نَاقَةٍ وَرْقَاءَ، قَالَ سَلَمَةُ: وَخَرَجْتُ أَشْتَدُّ، فَكُنْتُ عِنْدَ وَرِكِ النَّاقَة، ثُمَّ تَقَدَّمْتُ، حَتَّى كُنْتُ عِنْدَ وَرِكِ الْجَمَل، ثُمَّ تَقَدَّمْتُ، حَتَّى أَخَذْتُ بِخِطَامِ الْجَمَل، فَأَنَخْتُهُ، فَلَمَّا وَضَعَ رُكْبَتَهُ فِي الأَرْض، اخْتَرَطْتُ سَيْفِي، فَضَرَبْتُ رَأْسَ الرَّجُل، فَنَدَرَ، ثُمَّ جِئْتُ بِالْجَمَلِ أَقُودُهُ، عَلَيْهِ رَحْلُهُ، وَسِلَاحُهُ، فَاسْتَقْبَلَنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَالنَّاسُ مَعَهُ، فَقَالَ:"مَنْ قَتَلَ الرَّجُلَ؟ "، قَالُوا: ابْنُ الأكوَع، قَالَ:"لَهُ سَلَبُهُ أَجْمَعُ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(عُمَرُ بْنُ يُونُسَ الْحَنَفِيُّ) أبو حفص اليماميّ، ثقةٌ [9](ت 206)(ع) تقدم في "الإيمان" 12/ 155.
2 -
(عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ) الْعِجْليّ، أبو عمّار اليماميّ بصريّ الأصل، ثقةٌ، وفي روايته عن يحيى بن أبي كثير اضطراب، ولم يكن له كتاب [5] مات قبيل (160)(خت م س ق) تقدم في "الإيمان" 12/ 155.
(1)
"سنن أبي داود" 3/ 71.
(2)
وفي نسخة: "من الظهر".
3 -
(إِيَاسُ بْنُ سَلَمَةَ) بن الأكوع الأسلميّ، أبو سلمة، أو أبو بكر المدنيّ، ثقةٌ [3](ت 119) وهو ابن (77) سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 44/ 288.
4 -
(سَلَمَةُ بْنُ الأَكْوَعِ) هو: سلمة بن عمرو بن الأكوع الأسلميّ، أبو مسلم، أو أبو إياس، الصحابيّ المشهور، شَهِدَ بيعة الرضوان، ومات بالمدينة سنة (64)(ع) تقدم في "الإيمان" 44/ 288.
و"شيخه" ذُكر قبله.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد.
أن فيه رواية الابن عن أبيه، وتابعيّ، عن تابعيّ، وأنه مسلسل بالتحديث من أوله إلى آخره.
شرح الحديث:
عَنْ سَلَمَةَ بْنَ الأكْوَعِ رضي الله عنه أنه (قَالَ: غَزَوْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم هَوَازِنَ) القبيلة المعروفة، وأراد بذلك غزوة حنين المشهورة، كما سيأتي في بابه - إن شاء الله تعالى - (فَبَيْنَا نَحْنُ نَتَضَحَّى)؛ أي: نتغدّى، وهو الأكل في وقت الضَّحَاء - بالمدّ، وفتح الضاد - وهو بعد امتداد النهار، وفوق الضُّحى - بالضمّ والقصر
(1)
-.
وقال ابن الأثير رحمه الله: والأصل أن العرب كانوا يسيرون في ظُعُنهم، فإذا مرّوا ببقعة من الأرض، فيها كلأ وعُشب، قال قائلهم: ألا ضحّوا رويدًا؛ أي: ارفُقُوا بالإبل حتى تتضحّى؛ أي: تنال من هذا المرعى، ثم وُضعت التضحية مكان الرفق؛ لرفقهم بالمال في ضحائها؛ لتصل إلى المنزل، وقد شَبِعت، وصار ذلك يقال لكلّ من أكل في وقت الضحى: هو يتضحّى؛ أي: يأكل هذا الوقت. انتهى
(2)
.
(مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذْ جَاءَ رَجُلٌ)؛ أي: من المشركين، ولا يُعرف اسمه، وفي رواية البخاريّ:"قال: أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم عين من المشركين، وهو في سفر"، قال في "الفتح": لم أقف على اسمه، قال: وسُمّي الجاسوس عينًا؛ لأن جُلّ
(1)
"شرح النوويّ" 12/ 66.
(2)
"جامع الأصول" 8/ 398.
عمله بعينه، أو لشدّة اهتمامه بالرؤية، واستغراقه فيها، كأن جميع بدنه صار عينًا، انتهى
(1)
.
(عَلَى جَمَلٍ أَحْمَرَ، فَأَنَاخَهُ)؛ أي: أبركه، والْمُناخ بالضمّ: مبرَك الإبل. (ثُمَّ انْتَزَعَ طَلَقًا) - بفتح الطاء، واللام، وبالقاف -: هو العقال، من جلد، (مِنْ حَقَبِهِ) - بفتح الحاء، والقاف -: هو حبل يُشدّ على بطن البعير، مما يلي مؤخّره
(2)
، والمواد: أنه أخرج عقالًا من تحت الحبل المشدود على بطن البعير.
قال القاضي عياض رحمه الله: لم يُرْوَ هذا الحرف إلا بفتح القاف، قال: وكان بعض شيوخنا يقول: صوابه بإسكانها؛ أي: مما احتَقبه خلفه، وجعله في حقيبته، وهي الرِّفَادة في مؤخَّر الْقَتَب، ووقع هذا الحرف في "سنن أبي داود":"حَقْوه"، وفسَّره:"مُؤَخَّره"، قال القاضي: والأشبه عندي أن يكون "حقوه" في هذه الرواية: حُجْزته، وحزامه، والحقو: مَعْقِد الإزار من الرجل، وبه سُمّي الإزار حِقْوًا، ووقع في رواية السمرقنديّ رحمه الله في مسلم:"من جعبته" بالجيم، والعين، فإن صحّ، ولم يكن تصحيفًا، فله وجه بأن عَلّقه بجعبة سهامه، وأدخله فيها. انتهى
(3)
.
(فَقَيَّدَ بِهِ الْجَمَلَ، ثُمَّ تَقَدَّمَ يَتَغَدَّى مَعَ الْقَوْم، وَجَعَلَ يَنْظُرُ) وفي رواية البخاريّ: "فجلس عند أصحابه يتحدث، ثم انفتل"، في رواية النسائيّ:"فلما طَعِمَ انسَلّ".
(وَفِينَا ضَعْفَةٌ) قال النوويّ: رحمه الله: ضبطوه على وجهين: الصحيح المشهور، ورواية الأكثرين بفتح الضاد، وإسكان العين؛ أي: حالةُ ضُعْف، وهُزَال، قال القاضي عياض رحمه الله: وهذا الوجه هو الصواب، والثاني: بفتح العين: جمع ضَعِيف، وفي بعض النسخ:"وفينا ضُعْفٌ" بحذف الهاء. انتهى
(4)
.
وقوله: (وَرِقَّةٌ فِي الظَّهْرِ)؛ أي: ضَعف في المركوب، وفي بعض النسخ:
(1)
"الفتح" 7/ 298 - 299، كتاب "الجهاد" رقم (3051).
(2)
راجع: "جامع الأصول" 8/ 399.
(3)
"إكمال المعلم" 6/ 69 - 70.
(4)
"إكمال المعلم" 6/ 70، و"شرح النوويّ" 12/ 66.
"من الظهر"، والمراد: أننا في ذلك الوقت يظهر فينا، وفي مراكبنا الضعف.
(وَبَعْضُنَا مُشَاةٌ) بالضمّ: جمع ماشٍ: خلاف الراكب، (إِذْ خَرَجَ يَشْتَدُّ)؛ أي: يَعْدو، ويجري سريعًا، (فَأَتَى جَمَلَهُ، فَأَطْلَقَ قَيْدَهُ، ثمَّ أَنَاخَهُ)؛ أي: أبركه؛ ليتمكّن من ركوبه، (وَقَعَدَ عَلَيْهِ)؛ أي: ركبه؛ لأن الراكب قاعد، (فَأَثارَهُ)؛ أي: بعثه، وأقامه، (فَاشْتَدَّ بِهِ الْجَمَل)؛ أي: جرى، وسار به سريعًا، (فَاتَّبُعَهُ رَجُلٌ)؛ أي من المسلمين، ولم يُعرف اسمه، وفي رواية البخاريّ:"فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: اطلبوه، واقتلوه"، وفي رواية أبي نعيم في "المستخرج":"أدركوه، فإنه عينٌ".
(عَلَى نَاقَةٍ وَرْقَاءَ)؛ أي: في لونها سواد كالغُبْرة، قال في "القاموس": والأورق من الإبل: ما في لونه بياض إلى سواد، وهو من أطيب الإبل لحمًا، لا سيرًا وعملًا. انتهى
(1)
.
(قَالَ سَلَمَةُ) بن الأكوع رضي الله عنه (وَخَرَجْتُ أَشْتَدُّ)؛ أي: أجري سريعًا، (فَكُنْتُ عِنْدَ وَرِكِ النَّاقَةِ) قال المجد رحمه الله:"الْوَرْك" بالفتح، والكسر، وكَكَتِفٍ: ما فوق الفخذ، مؤنّثةٌ، وجمعه: أوراق. انتهى
(2)
.
والمراد بالناقة: هي الناقة التي ركبها من اتّبع ذلك الرجل المشرك.
(ثُمَّ تَقَدَّمْتُ)؛ أي على الناقة (حَتَّى كُنْتُ عِنْدَ وَرِكِ الْجَمَلِ)؛ أي: جمل ذلك المشرك، (ثُمَّ تَقَدَّمْتُ، حَتى أَخَذْتُ بِخِطَامِ الْجَمَلِ) بكسر الخاء المعجمة: هو كل ما وُضِع في أنف البعير؛ ليُقتاد به، وجَمْعه خُطُمٌ، ككتاب وكُتُب، سُمّي بذلك؛ لأنه يقع على خطمه، وهو مقدّم الأنف والفم
(3)
.
(فَأَنَخْتُهُ)؛ أي: أبركت ذلك الجمل، (فَلَمَّا وَضَعَ رُكْبَتَهُ فِي الأَرْض، اخْتَرَطْتُ سَيْفِي)؛ أي: سللته، وأخرجته من غِمْده سريعًا، (فَضَرَبْتُ رَأسَ الرَّجُلِ) المشرك (فَنَدَرَ) بالنون؛ أي: سقط، وخرج من جسده، ومنه الشيء النادر؛ أي: الخارج، قال القرطبيّ: والرواية فيه بالنون، والدال المهملة. (ثُمَّ جِئْتُ بِالْجَمَلِ أَقُودُهُ) جملة حاليّة من "الجمل"، وكذا قوله:(عَلَيْهِ رَحْلُهُ) بفتح
(1)
راجع: "تاج العروس" 7/ 87.
(2)
"القاموس المحيط" ص 1393 - 1394.
(3)
راجع: "المصباح المنير" 1/ 174، و"القاموس المحيط" ص 381.
الراء، وسكون الحاء المهملة، آخره لام: كلُّ شيء يُعدّ للرحيل، من وعاء للمتاع، ومركب للبعير، وحِلْس، ورَسَنٍ، وجمعه: أرحُلٌ، ورِحَالٌ، مثلُ أفلُس، وسِهام
(1)
.
وقال القرطبيّ: الرحل للبعير كالسرج للفرس، والإكاف للحمار، انتهى
(2)
.
(وَسِلَاحُهُ) بكسر السين: هو ما يُقاتَل به في الحرب، ويدافَع به، والتذكير فيه أغلب من التأنيث، فيُجمع في التذكير على أسلحة، وفي التأنيث على سلاحات، والسِّلْح وزانُ حِمْلٍ لغة في السلاح، أفاده الفيّوميّ رحمه الله
(3)
.
وقال المجد رحمه الله: السِّلاحُ، والسِّلَحُ، كعِنَبٍ، والسُّلْحانُ بالضمّ: آلة الحرب، أو حديدتها، ويؤنّث، والسيف، والقوس بلا وَتَرٍ، والعصا. انتهى
(4)
.
(فَاسْتَقْبَلَني رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَالنَّاسُ مَعَهُ) جملة في محلّ نصب على الحال من "رسول الله صلى الله عليه وسلم"، (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم، ("مَنْ قَتَلَ الرَّجُلَ؟ ")؛ أي: المشرك (قَالُوا)؛ أي: الصحابة الذين شاهدوا الواقعة، (ابْنُ الأَكْوَعِ) برفع "ابنُ" على الفاعليّة لفعل مقدّر، دلّ عليه السؤال، كما قال ابن مالك رحمه الله في "خلاصته":
وَيَرْفَعُ الْفَاعِلَ فِعْلٌ أُضْمِرَا
…
كَمِثْلِ "زيدٌ" فِي جَوَابِ "مَنْ قَرَا"
(قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("لَهُ سَلَبُهُ أَجْمَعُ") بالرفع على التوكيد لـ"سلبه"، والتوكيد بـ "أجمع" دون تقدّم لفظة "كلّه" جائز، كما قال في "الخلاصة":
وَبَعْدَ "كُلٍّ" أَكَّدُوا بِـ "أَجْمَاعًا"
…
"جَمْعَاءَ""أَجْمَعِينَ" ثُمَّ "جُمَعَا"
وَدُونَ "كُلٍّ" قَدْ يَجِيءُ "أَجْمَعُ"
…
"جَمْعَاءُ""أَجْمَعُونَ" ثُمَّ "جُمَعُ"
وفي رواية البخاريّ: "فقتلته، فنفّله سلبه"، وفيه التفات من ضمير المتكلّم إلى الغيبة، وكان السياق يقتضي أن يقول:"فنَفّلني"، وهي رواية أبي داود، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(1)
"المصباح المنير" 1/ 222.
(2)
"المفهم" 3/ 546.
(3)
راجع: "المصباح" 1/ 284.
(4)
"القاموس المحيط" ص 628.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [13/ 4562](1754)، و (البخاريّ) في "الجهاد"(3051)، و (أبو داود) في "الجهاد"(2654)، و (ابن ماجه) في "الجهاد"(2836)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(7/ 420)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 51)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 238)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(7/ 15)، و (الرويانيّ) في "مسنده"(2/ 257)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(3/ 227)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(6/ 407)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان استحقاق القاتل السلب، قال النوويّ رحمه الله: في هذا الحديث دلالةٌ ظاهرةٌ لمذهب الشافعيّ، وموافقيه أن القاتل يستحقّ السلَبَ، وأنه لا يُخَمَّس، وقد سبق إيضاح هذا كله. انتهى
(1)
.
وقال في "الفتح": وفيه حجة لمن قال: إن السلب كله للقاتل.
وأجاب من قال: لا يستحق ذلك إلا بقول الإمام: أنه ليس في الحديث ما يدلّ على أحد الأمرين، بل هو مُحْتَمِلٌ لهما، لكن أخرجه الإسماعيليّ من طريق محمد بن ربيعة، عن أبي الْعُمَيس بلفظ:"قام رجل، فأُخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه عين للمشركين، فقال: من قتله فله سلبه، قال: فأدركته، فقتلته، فنفّلني سلبه"، فهذا يؤيد الاحتمال الثاني، بل قال القرطبيّ: لو قال: القاتل يستحق السلب بمجرد القتل لم يكن لقول النبيّ صلى الله عليه وسلم: "له سلبه أجمع" مزيد فائدة.
وتُعُقِّب باحتمال أن يكون هذا الحكم إنما ثبت من حينئذ. انتهى
(2)
.
2 -
(ومنها): أن فيه استقبالَ السرايا، والثناء على مَن فعل جميلًا.
3 -
(ومنها): أن فيه قتل الجاسوس الكافر الحربيّ، وهو كذلك بإجماع المسلمين، وفي رواية النسائيّ: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان أمرهم بطلبه وقتله.
(1)
"شرح النوويّ" 12/ 67.
(2)
"الفتح" 7/ 299 - 300، كتاب "الجهاد" رقم (3051).
وأما الجاسوس المعاهد والذميّ، فقال مالك، والأوزاعيّ: يصير ناقضًا للعهد، فإن رأى استرقاقه أرقّه، ويجوز قتله، وقال جماهير العلماء: لا ينتقض عهده بذلك، قال النوويّ: قال أصحابنا: إلا أن يكون قد شُرِط عليه انتقاض العهد بذلك.
وأما الجاسوس المسلم، فقال الشافعيّ، والأوزاعيّ، وأبو حنيفة، وبعض المالكية، وجماهير العلماء - رحمهم الله تعالى -: يُعَزِّره الإمام بما يرى، من ضرب، وحبس، ونحوهما، ولا يجوز قتله، وقال مالك رحمه الله: يجتهد فيه الإمام، ولم يفسِّر الاجتهاد، وقال القاضي عياض رحمه الله: قال كبار أصحابه: يُقتل، قال: واختلفوا في تركه بالتوبة، قال الماجشون: إن عُرِف بذلك قُتل، وإلا عُزِّر.
4 -
(ومنها): استحباب مجانسة الكلام إذا لم يكن فيه تكلّف، ولا فوات مصلحة، ومحلّ الشاهد قوله صلى الله عليه وسلم:"له سلبه أجمع"، بعد:"قالوا: ابن الأكوع"، والله أعلم.
5 -
(ومنها): ما قال في "الفتح": وترجم عليه النسائيّ: "قتلُ عيون المشركين"، وقد ظهر من رواية عكرمة الباعث على قتله، وأنه اطَّلع على عورة المسلمين، وبادر؛ لِيُعْلِم أصحابه، فيغتنمون غِرَّتهم، وكان في قتله مصلحة للمسلمين.
6 -
(ومنها): أنه قد استُدِلّ به على جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب؛ لأن قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ} [الأنفال: 41] عام في كل غنيمة، فَبَيّن صلى الله عليه وسلم بعد ذلك بزمن طويل أن السلب للقاتل، سواء قيّدنا ذلك بقول الإمام، أم لا، وأما قول مالك: لم يبلغني أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال ذلك إلا يوم حنين، فإن أراد أن ابتداء هذا الحكم كان يوم حنين، فهو مردود، لكن على غير مالك ممن مَنَعه، فإن مالكًا إنما نفى البلاغ، وقد ثبت في "سنن أبي داود" عن عوف بن مالك أنه قال لخالد بن الوليد في غزوة مؤتة:"إن النبيّ صلى الله عليه وسلم قضى بالسلب للقاتل"، وكانت مؤتة قبل حنين بالاتفاق.
7 -
(ومنها): ما قال القرطبيّ: فيه أن للإمام أن ينفِّل جميع ما أخذته السرية من الغنيمة لمن يراه منهم، وهذا يتوقف على أنه لم يكن هناك غنيمة إلا
ذلك السلب. انتهى
(1)
.
قال الحافظ: وما أبداه احتمالًا هو الواقع، فقد وقع في رواية عكرمة بن عمار أن ذلك كان في غزوة هوازن، وقد اشتهر ما وقع فيها بعد ذلك من الغنائم. انتهى
(2)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(14) - (بَابُ التَّنْفِيل، وَفدَاءِ الْمُسْلِمِينَ بِالأَسَارَى)
[4563]
(1755) - (حَدَّثنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثنَا عُمَرُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثنَا عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ، حَدَّثَني إِيَاسُ بْنُ سَلَمَةَ، حَدَّثَني أَبِي، قَالَ: غَزَوْنَا فَزَارَةَ، وَعَلَيْنَا أَبُو بَكْرٍ، أمَّرَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَيْنَا، فَلَمَّا كَانَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْمَاءِ سَاعَةٌ، أَمَرَنَا أَبُو بَكْرٍ، فَعَرَّسْنَا، ثُمَّ شَنَّ الْغَارَةَ، فَوَرَدَ الْمَاءَ، فَقَتَلَ مَنْ قَتَلَ عَلَيْه، وَسَبَى، وَأَنْظُرُ إِلَى عُنُقٍ مِنَ النَّاس، فِيهِمُ الذَّرَارِيُّ، فَخَشِيتُ أَنْ يَسْبِقُونِي إِلَى الْجَبَل، فَرَمَيْتُ بسَهْمٍ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْجَبَل، فَلَمَّا رَأَوُا السَّهْمَ وَقَفُوا، فَجِئْتُ بِهِمْ أَسُوقُهُمْ، وَفِيهِمُ امْرَأَةٌ مِنْ بَنِي فَزَارَةَ، عَلَيْهَا قِشْعٌ مِنْ أَدَمٍ - قَالَ: الْقِشْعُ: النِّطَعُ - مَعَهَا ابْنَةٌ لَهَا مِنْ أَحْسَنِ الْعَرَب، فَسُقْتُهُمْ حَتَّى أتيْتُ بِهِمْ أَبَا بَكْرٍ، فَنَفَّلَنِي أَبُو بَكْرٍ ابْنَتَهَا، فَقَدِمْنَا الْمَدِينَةَ، وَمَا كَشَفْتُ لَهَا ثَوْبًا، فَلَقِيَني رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي السُّوق، فَقَالَ: "يَا سَلَمَةُ هَبْ لِي الْمَرْأةَ"، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله، وَاللهِ لَقَدْ أَعْجَبَتْنِي، وَمَا كَشَفْتُ لَهَا ثَوْبًا، ثُمَّ لَقِيَني رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْغَدِ فِي السُّوق، فَقَالَ لِي: "يَا سَلَمَة هَبْ لِي الْمَرْأةَ لِلَّهِ أَبُوكَ"، فَقُلْتُ: هِيَ لَكَ يَا رَسُولَ الله، فَوَاللهِ مَا كشَفْتُ لَهَا ثَوْبًا، فَبَعَثَ بِهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ، فَفَدَى بِهَا نَاسًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، كَانُوا أُسِرُوا بِمَكَّةَ).
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الإسناد هو الإسناد الذي سبق قبله نفسه.
شرح الحديث:
عَنْ إِيَاسِ بْنِ سَلَمَةَ، أنه قال:(حَدَّثَنى أَبِي) سلمة بن الأكوع رضي الله عنه (قَالَ: غَزَوْنَا فَزَارَةَ)؛ أي: القبيلة المدعوّة بفزارة - بفتح الفاء، والزاي، آخره راء -
(1)
"المفهم" 3/ 546.
(2)
"الفتح" 7/ 300.
وهو: فَزَارة بن ذبيان بن بغيض بن ريث بن غَطَفَان، وهي قبيلة كبيرة من قيس عيلان، يُنسب إليها خلق كثير، قاله في "اللباب"
(1)
.
[تنبيه]: كانت هذه الغزوة في شعبان سنة سبع من مُهاجَر رسول الله صلى الله عليه وسلم، قاله ابن سعد رحمه الله
(2)
.
(وَعَلَيْنَا أَبُو بَكْرٍ) جملة في محلّ نصب على الحال؛ أي: والحال أن الأمير علينا هو أبو بكر الصدّيق رضي الله عنه، (أَمَّرَهُ) بشديد الميم؛ أي: جعله أميرًا (رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَيْنَا، فَلَمَّا كَانَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْمَاءِ سَاعَةٌ) مرفوع على أنه اسم "كان"، وخبره الظرف قبله.
وقال القاضي عياض صلى الله عليه وسلم: قوله: "فلما كان بيننا وبين الماء ساعة" كذا للجماعة، وعند الهوزنيّ:"بيننا وبين المساء ساعة"، وكلاهما صحيح؛ لأن الماء موضع اجتماعهم، والمساءُ أيضًا وقت هدوئهم، وسكونهم، واجتماعهم لمائهم، لكن قوله: "أمرنا أبو بكر، فعرّسنا، ثم شنّ الغارة
…
إلخ" يدلّ على صواب رواية غيره، فإنما يكون التعريس بالليل، وهو النزول فيه، وكذلك الغارات إنما عادَتُهم بها مع الصباح. انتهى
(3)
.
قال الجامع عفا الله عنه: لا يخفى أن الرواية بلفظ "المساء" غير صحيحة؛ لأن قوله: "عرّسنا" يُبعده، وأيضًا فقد صحّ أنهم أغاروا في الصبح، لا في المساء، ففي "صحيح ابن حبّان":"فلما صلّينا الصبح أمرنا أبو بكر بشنّ الغارة"، فهذا صريح في أنهم أغاروا في الصبح، فتأمله بالإمعان، والله تعالى أعلم.
(أَمَرَنَا أَبُو بَكْرٍ، فَعَرَّسْنَا) رضي الله عنه؛ أي: أمرنا بالتعريس؛ لنستريح من تعب الطريق، حتى نواجه العدوّ بنشاط.
وقوله: "فَعَرَّسْنَا": بتشديد الراء، من التعريس، وهو نزول المسافر آخر الليل؛ للاستراحة قليلًا، ثم يرتحل، قال أبو زيد: وقالوا: عَرّسَ القومُ في
(1)
"اللباب في تهذيب الأنساب" 2/ 429.
(2)
"الطبقات الكبرى" لابن سعد 2/ 117.
(3)
"إكمال المعلم" 6/ 72.
المنزل تعريسًا: إذا نزلوا، أي وقت كان من ليل أو نهار
(1)
.
(ثُمَّ شَنَّ الْغَارَةَ)؛ أي: فرّقها، وقيل: صَبّها عليهم صبًّا، كما يقال: شنّ الماء؛ أي: صبّه
(2)
.
وقال الفيّوميّ رحمه الله: شَنَنتُ الغارة شَنًّا، من باب قتل: فرّقتها، والمراد: الخيل المغيرة، وأشننتها - بالألف - لغة حكاها في "الْمُجْمَل". انتهى
(3)
.
و"الغارة": اسمٌ مِن أغار على القوم إغارةً: إذا دَفَع عليهم الخيلَ، كاستغار، وأغار الفرس: اشتَدّ عَدْوُهُ في الغارة وغيرها، أفاده المجد رحمه الله
(4)
.
وقال أيضًا: شَنّ الغارةَ عليهم: صَبَّها من كل وجه، كأشنّها. انتهى
(5)
.
وفي رواية ابن حبّان: "فلما صلينا الصبح أمرنا أبو بكر بشنّ الغارة، فقتلنا على الماء من قتلنا".
(فَوَرَدَ الْمَاءَ، فَقَتَلَ مَنْ قتَلَ عَلَيْهِ)؛ أي: قتل أبو بكر رضي الله عنه بعض من وجده من مشركي فزارة على ذلك الماء، (وَسَبَى)؛ أي: أسر بعضهم، يقال: سَبَى العدوَّ سَبْيًا، وسِبَاءً: إذا أسره، كاستباه، فهو سَبِيّ، وهي سبيّة أيضًا، والجمع: سبايا
(6)
.
(وَأَنظُرُ)؛ أي: نظرت، وإنما عبّر بصيغة المضارع؛ لاستحضار الواقعة حال الكلام، (إِلَى عُنُقٍ مِنَ النَّاسِ) قال المجد رحمه الله:"الْعُنُق" بالضمّ، وبضمّتين، وكأمير، وصُرَد: الْجِيدُ، ويؤنّث، جمعه أعناق، والجماعة من الناس، والرؤساءُ، ومن الْكَرِشِ: أسفلها، والْخُبْز: القطعة منه، ومنه حديث:"المؤذّنون أطول الناس أعناقًا"؛ أي: أكثرهم أعمالًا، أو رُؤَسَاءُ؛ لأنهم يوصفون بطول العنق، ورُوي بكسر الهمزة؛ أي: إسراعًا إلى الجنّة، وفيه أقوال أُخَر. انتهى
(7)
.
(1)
راجع: "المصباح المنير" 2/ 402.
(2)
"إكمال المعلم" 6/ 72.
(3)
"المصباح المنير" 1/ 324.
(4)
راجع: "القاموس المحيط" ص 965.
(5)
"القاموس" ص 713.
(6)
"القاموس" ص 592.
(7)
"القاموس المحيط" ص 919.
والمراد بالعنق هنا: الجماعة، والله تعالى أعلم.
وقوله: (فِيهِمُ الذَّرَارِيُّ) جملة في محلّ نصب على الحال؛ أي: والحال أن في جملة الْعُنُق: الذراريّ، وهو بالفتح: جمع ذُرّيّة، قال المجد رحمه الله: الذّرّيّة - بالضمّ - وُيكسر: وَلَد الرجل، جمعه الذّرّيّات، والذَّرَاري، والنساء، للواحد، والجمع. انتهى
(1)
.
وقال عياض: الذراري كلمة تُطلق عند العرب على الأطفال والنساء. انتهى
(2)
.
(فَخَشِيتُ) بكسر الشين المعجمة، (أَنْ يَسْبِقُونِي إِلَى الْجَبَل، فَرَمَيْتُ بِسَهْمٍ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْجَبَلِ)؛ أي: ليمنعهم من الصعود فيه، (فَلَمَّا رَأَوُا السَّهْمَ وَقَفُوا)؛ أي: توقّفوا عن الصعود في الجبل خوفًا من أن يُصيبهم بسهامه، وفي التنزيل:{وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا} . (فَجِئْتُ بِهِمْ) عطف على مقدّر؛ أي: فأسَرْتهم، وجئت بهم، وقوله:(أَسُوقُهُمْ) جملة حاليّة، وكذا قوله:(وَفيهِمُ امْرَأَةٌ مِنْ بَنِي فَزَارَةَ، عَلَيْهَا قِشْعٌ) بقاف، ثم شين معجمة، ثم عين مهملة، وفي القاف لغتان: الفتح، والكسر، وهما مشهورتان، وفسّره في الكتاب بالنِّطَع، وهو صحيح، قاله النوويّ
(3)
.
وقال القاضي عياض رحمه الله: قوله: "قشع" رويناه بالفتح عن الأسديّ، وبالكسر عن الصدفيّ، وبالكسر ذكرها الهرويّ، وبالوجهين ذكرها الخطّابيّ، وفسّره في الحديث بالنطع، وهو صحيح، وقشعت الشيء: إذا قشرته. انتهى
(4)
.
وقوله: (مِنْ أَدَمٍ) بيان لـ "القشع"، وهو بفتحتين: جمع أَدِيم، وهو الجلد المدبوغ، ويُجمع أيضًا على أُدُم بضمّتين، وهو القياس، مثلُ بَرِيد وبُرُد
(5)
.
(1)
"القاموس" ص 467.
(2)
"إكمال المعلم" 6/ 72.
(3)
"شرح النوويّ" 12/ 68.
(4)
"إكمال المعلم" 6/ 72.
(5)
"المصباح" 1/ 9.
(قَالَ) الراوي، ولم يتبيّن لي من هو؟، والله تعالى أعلم. (الْقِشْعُ: النِّطَعُ) قال الفيّوميّ رحمه الله: "النِّطع": المتّخذ من الأديم، معروف، وفيه أربع لغات: فتح النون، وكسرها، ومع كلّ واحد فتح الطاء، وسكونها، والجمع: أنطاع، ونُطُوع. انتهى
(1)
.
وقال المجد رحمه الله: "النّطع": بالكسر، وبالفتح، وبالتحريك، وكَعِنَبٍ: بِساطٌ من الأديم، جمعه أنطاعٌ، ونُطُوع. انتهى
(2)
.
(مَعَهَا ابْنَةٌ لَهَا مِنْ أَحْسَنِ الْعَرَب، فَسُقْتُهُمْ حَتَّى أَتَيْتُ بِهِمْ أبا بَكْرٍ) رضي الله عنه (فَنَفَّلَنِي)؛ أي: أعطانيها نافلةً؛ أي: زيادة على ما أعطاني مع الجيش من الغنيمة؛ لِمَا رأى من بلائه، وغَنَائه. (أَبُو بَكْرٍ) رضي الله عنه (ابْنَتَهَا) فيه جواز التنفيل، وقد يحتج به من يقول: التنفيل من أصل الغنيمة، وقد يجيب عنه الآخرون بأنه حَسَبَ قيمتها؛ لِيُعَوِّضَ أهلَ الخمس عن حصتهم. (فَقَدِمْنَا الْمَدِينَةَ، وَمَا كَشَفْتُ لَهَا ثَوْبًا) كناية عن عدم الجماع، وفيه استحباب الكناية عن الجماع بما يُفهِمه.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "وما كشفت لها ثوبًا": يعني: أنه توقف عن الاستمتاع بها، ينتظر براءتها، أو إسلامها، وسيأتي في "النكاح" قول الحسن: إن عادة الصحابة رضي الله عنه كانت إذا سَبَوُا المرأة لم يقربوها حتى تُسلم، وتطّهر. انتهى
(3)
.
(فَلَقِيَنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي السُّوق، فَقَالَ: "يَا سَلَمَةُ هَبْ لِي الْمَرْأَةَ"، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله، وَاللهِ لَقَدْ أَعْجَبَتْنِي، وَمَا كَشَفْتُ لَهَا ثَوْبًا، ثُمَّ لَقِيَنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْغَدِ فِي السُّوق، فَقَالَ لِي: "يَا سَلَمَةُ هَبْ لِي الْمَرْأةَ لِلَّهِ أَبُوكَ") قال أبو البقاء: هو في حكم القَسَم، وقال بعضهم: هي كلمة مدح تعتاد العرب الثناء بها، مثل قولهم: لله درّك، فإن الإضافة إلى العظيم تشريف، فإذا وُجد من الولد ما يُحْمَد، يقال: لله أبوك، حيث أتى بمثلك.
(1)
"المصباح" 2/ 611.
(2)
"القاموس" ص 1293.
(3)
"المفهم" 3/ 554.
(فَقُلْتُ: هِيَ لَكَ يَا رَسُولَ الله، فَوَاللهِ مَا كَشَفْتُ لَهَا ثَوْبًا، فَبَعَثَ بِهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ، فَفَدَى بِهَا)؛ أي: استنقذ بتلك المرأة (نَاسًا) اسم وُضع للجمع، كالقوم، والرهط، وواحده إنسان من غير لفظه، وهو مشتقّ من ناس ينوس: إذا تدلّى وتحرّك. (مِنَ الْمُسْلِمِينَ، كَانُوا أسِرُوا بِمَكَّةَ) ببناء الفعل للمفعول؛ أي: أَسَرهم المشركون من أهل مكة، ولفظ ابن حبّان:"فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل مكة، وفي أيديهم أسرى من المسلمين، ففداهم بتلك المرأة، فكّهم بها"
(1)
.
قال القرطبيّ رحمه الله: وقوله: "فبعث بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل مكة، ففدى بها ناسًا من المسلمين" فيه حجَّة على أبي حنيفة، حيث لم يُجِز للإمام المفاداة، ولا الفداء بالأسير، وعند مالك: أن الإمام مخيَّر في الأسارى بين خمس خصال: القتل، والاسترقاق، والمنّ، والفداء، والاستبقاء، وذلك هو الصحيح، بدليل قوله تعالى:{فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [محمد: 4]، ولأن النبيّ صلى الله عليه وسلم فعل كل ذلك، فكان الأسارى مخصوصين من حكم الغنيمة بالتخيير. انتهى
(2)
.
والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [14/ 4563](1755)، و (أبو داود) في "الجهاد"(2697)، و (ابن ماجه) في "الجهاد"(2846)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 46 و 51)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(6237)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4860)، و (أبو عوا نة) في "مسنده"(4/ 243)، و (الرويانيّ) في "مسنده" (2/
(1)
"صحيح ابن حبّان" 11/ 200 - 201.
(2)
"المفهم" 3/ 555.
251 -
252)، و (ابن سعد) في "الطبقات"(2/ 117)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(9/ 129)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): جواز المفاداة، وجواز فداء الرجال بالنساء الكافرات، وقد تقدّم أنه صلى الله عليه وسلم فادى بالرجل الذي أظهر الإسلام، ولم يقبله منه برجلين من أصحابه، قاله عياض رحمه الله
(1)
.
2 -
(ومنها): جواز التفريق بين الأم وولدها البالغ، خلافًا لمن قال: لا يفرّق بينهما أبدًا؛ لأنه لم يُذكر في هذا الحديث أنه لَمّا نفلها إياه جمع بينها وبين أمها، قال النوويّ: ولا خلاف في جوازه عندنا
(2)
.
3 -
(ومنها): جواز استيهاب الإمام أهل جيشه بعضَ ما غَنِموه؛ ليفادي به مسلمًا، أو يصرفه في مصالح المسلمين، أو يتألّف به مَن في تألفه مصلحة، كما فعل صلى الله عليه وسلم هنا، وفي غنائم حنين، قال عياض: وإنه ليس من باب الرجوع في الهبة؛ إذ لم يهبه ما له، ولا استرجعه أيضًا لنفسه. انتهى
(3)
.
4 -
(ومنها): جواز قول الإنسان للآخر: لله أبوك، ولله دَرّك، وقد سبق تفسير معناه واضحًا في أول الكتاب، في "كتاب الإيمان" في شرح حديث حذيفة رضي الله عنه في الفتنة التي تموج موج البحر.
5 -
(ومنها): استحباب التنويه بأهل الفضل، ومعرفة حقّ من فيه فضلٌ وغَنَاءٌ.
6 -
(ومنها): أنه يجوز للإمام في الكافر إذا أُسر أن يقتله، أو يُبقيه للجزية، وله أن يمنّ عليه، أو يفادي، قاله المازريّ، وقال عياض: وممن قال بجواز المنّ والفداء: مالك، والشافعيّ، وأحمد، وأبو ثور، وكافّة العلماء، وأجازوا هذا بالمال، وبالأسرى، وقال أبو حنيفة مرّةً: لا يُفادي، ولا يمنّ جملةً، وقال مرّةً: لا باس بفدائهم بالمسلمين، وهو قول محمد، وأبي يوسف. انتهى
(4)
.
(1)
"إكمال المعلم" 6/ 73.
(2)
"شرح النوويّ" 12/ 69.
(3)
"إكمال المعلم" 6/ 73.
(4)
"إكمال المعلم" 6/ 72 - 73.
7 -
(ومنها): أنه احتجّ به من يرى أن التنفيل قبل الخَمْس، قال عياض: وليس فيه حجة؛ إذ قد يمكن أنه علم قيمتها حتى يُخمس، أو كان بعد التخميس. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم.
(15) - (بَابُ حُكْمِ الفَيْءِ)
وبالسند المتّصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4564]
(1756) - (حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاق، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ، قَالَ: هَدَا مَا حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَدَكَرَ أَحَادِيثَ، مِنْهَا: وَقَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَيُّمَا قَرْيَةٍ أَتَيْتُمُوهَا، وَأقَمْتُمْ فِيهَا، فَسَهْمُكُمْ فِيهَا، وَأَيُّمَا قَرْيَةٍ عَصَتِ اللهَ، وَرَسُولَهُ، فَإنَّ خُمُسَهَا لِلَّه، وَلِرَسُوله، ثُمَّ هِيَ لَكُمْ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلِ) بن هلال بن أسد الشيبانيّ المروزيّ، نزيل بغداد، أبو عبد الله الإمام الحجة الثبت المجتهد الشهير، رأس الطبقة [10](ت 241)(ع) تقدم في "الإيمان" 80/ 427.
2 -
(مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ) تقدّم قبل بابين.
3 -
(عَبْدُ الرَّزَّاقِ) بن همّام الصنعانيّ، تقدّم أيضًا قبل بابين.
4 -
(مَعْمَرُ) بن راشد الصنعانيّ، تقدّم قريبًا.
5 -
(هَمَّامُ بْنُ مُنَبِّهٍ) تقدّم أيضًا قريبًا.
6 -
(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه تقدم في "المقدمة" 2/ 4.
شرح الحديث:
(عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ) أنه (قَالَ: هَذَا)؛ أي: الحديث الآتي، وقد تقدّم شرح هذا الكلام غير مرّة، فلا تغفل. (مَا) موصولة، خبر لاسم الإشارة،
(1)
"إكمال المعلم" 6/ 73.
(حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) متعلّق بحال مقدّر؛ أي: حال كونه آخذًا عنه صلى الله عليه وسلم، (فَذَكَرَ أَحَادِيثَ) فاعل "ذَكَرَ" ضمير همّام، وقوله:(مِنْهَا) جارّ ومجرور، خبر مقدّم لقوله:(وَقَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) فهو مبتدأ مؤخّر محكيّ؛ لقصد لفظه، ("أَيُّمَا قَرْيَةٍ أتيْتُمُوهَما)؛ أي: لغزوها، وفتحها (وَأقَمْتُمْ فِيهَا، فَسَهْمُكُمْ فِيهَا)؛ أي: حقّكم من العطاء ثابتٌ فيها، يُصرف لكم كما يصرف الفيء، لا كما تُصرف الغنيمة، (وَأَيُّمَا قَرْيَةٍ عَصَتِ اللهَ) سبحانه وتعالى (وَرَسُولَهُ) صلى الله عليه وسلم؛ يعني: أخذتموها عَنْوةً (فَإِنَّ خُمُسَهَا لِلَّهِ) عز وجل (وَلرَسُولهِ) صلى الله عليه وسلم (ثُمَّ هِيَ لَكُمْ")؛ أي: بعد إخراج الخمس فتلك القرية مقسومة بينكم.
قال القاضي عياض رحمه الله: يَحْتَمِل أن يكون المراد بالأولى: الفيء الذي لم يُوجِف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب، بل جلا عنه أهله، أو صالحوا عليه، فيكون سهمهم فيها؛ أي: حقّهم من العطايا، كما يصرف الفيء، ويكون المراد بالثانية: ما أُخذ عَنْوَةً، فيكون غنيمة، يُخرَج منه الخمس، وباقيه للغانمين، وهو معنى قوله:"ثم هي لكم"؛ أي: باقيها، وقد يَحْتَجّ من لم يوجب الخمس في الفيء بهذا الحديث، وقد أوجب الشافعيّ الخمس في الفيء، كما أوجبوه كلهم في الغنيمة، وقال جميع العلماء سواه: لا خمس في الفيء، قال ابن المنذر: لا نعلم أحدًا قبل الشافعيّ قال بالخمس في الفيء، والله أعلم. انتهى
(1)
.
وقال الخطابيّ رحمه الله: فيه دليل على أن أرض العنوة حُكمها حُكم سائر الأموال التي تُغْنَم، وأن خمسها لأهل الخمس، وأربعة أخماسها للغانمين. انتهى.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "أيما قرية أتيتموها، وأقمتم فيها، فسهمكم فيها": يعني بذلك - والله أعلم - أن ما أجلي عنه العدوّ، أو صولحوا عليه، وحصل بأيدي المسلمين من غير قتال، فمن أقام فيه كان له سهم من العطاء،
(1)
"شرح النوويّ" 12/ 69.
وليس المراد بالسَّهم هنا أنها تُخْمَس، فتقسم سُهمانًا؛ لأن هذا هو حكم القِسم الآخر الذي ذكره بعد هذا، حيث قال:"وأيما قرية عصت الله ورسوله، فإن خمسها لله ورسوله، ثم هي لكم"، تُقسم أخماسًا، فيكون الخمس لله ورسوله، وأربعة أخماسها لكم، يخاطب بذلك الغانمين، وهذا كما قال تعالى:{وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى} الآية [الأنفال: 41]، ولم يختلف العلماء في أن أربعة أخماس الغنيمة يُقسم بين الغانمين، وأعني بالغنيمة: ما عدا الأرضين، فإن فيها خلافًا يُذْكَر - إن شاء الله تعالى -.
وأما الأُسارى ففيهم الخلاف المتقدم، وأما الخمس والفيء: فهل يُقسم في أصناف، أو لا يقسم؟ وإنما هو موكول إلى نظر الإمام واجتهاده، فيأخذ منه حاجته من غير تقدير، ويعطي القرابة منه باجتهاده، ويصرف الباقي في مصالح المسلمين، وهذا هو مذهب مالك، وبه قال الخلفاء الأربعة، وبه عَمِلوا، وعليه يدل قوله صلى الله عليه وسلم:"ما لي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس"، فإنه لم يقسمه أخماسًا، ولا أثلاثًا، وأما من قال: بأنه يُقسم فقد اختلفوا، فمنهم من قال: يقسم على ستة أسهم: لله سهم، وللرسول سهم، وهكذا بقية الأصناف المذكورة في الآية، ثم منهم من قال: إن سهم الله يُدفع للكعبة، وبه قال طاووس، وأبو العالية، ومنهم من قال: للمحتاج، وأما سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان له في حياته، ثم هو للخليفة بعده، وقيل: يُصرف في مصلحة الغزاة، وقيل: يُردّ على القرابة.
وقال الشافعي: يُقسم على خمسة، ورأى: أن سهم الله ورسوله واحد، ثم إنه يُصرف في مصالح المسلمين، والأربعة الأخماس على الأربعة الأصناف المذكورين في الآية.
وقال أبو حنيفة: يُقسم على ثلاثة أسهم: سهم لليتامى، وسهم لابن السبيل، وسهم للمساكين، فأما سهم النبيّ صلى الله عليه وسلم، وسهم القرابة، فقد سقط؛ لأنه إنما كان لهم لِغَنائهم ونُصرتهم؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يأخذه لبيوته فيكون لهم، وأما ذِكر الله في أول الآية: فإنما هو على جهة التشريف لنبيّه صلى الله عليه وسلم لئلا يأنَفَ من الأخذ.
قال القرطبيّ: هذا نقل حُذاق المصنفين، ولا شك في أن الآية ظاهرها
في قسمة الخمس على ستة، ولولا ما استُدِلّ به لمالك من عمل الخلفاء على خلاف ظاهرها، لكان الأَولى التمسُك بظاهرها، لكنهم رضي الله عنهم هم أعرف بالمقال، وأقعد بالحال، لا سيما مع تكرار هذا الحكم عليهم، وكثرته فيهم، فإنهم لم يزالوا آخذين للمغانم، قاسمين لها طوال مدتهم؛ إذ هي عيشتهم، ومنها رزقهم، وبها قام أمرهم؛ فكيف يخفى عليهم أمرها، أو يشِذّ عنهم حكم من أحكامها؛ هذا ما لا يظنُّه بهم من يعرفهم. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: ما دلّ عليه ظاهر الآية هو الصحيح، وسيأتي تحقيقه - إن شاء الله تعالى - والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [15/ 4564](1756)، و (أبو داود) في "الجهاد"(3036)، و (صحيفة همّام بن منبّه)(1/ 64)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(6/ 104)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 317)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 244)، و (أبو عبيد) في "الأموال"(1/ 71)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(6/ 318)، وفوائد الحديث تأتي قريبًا، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4565]
(1757) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادٍ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ - وَاللَّفْظُ لِابْنِ أبِي شَيْبَةَ - قَالَ إِسْحَاقُ: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ الآخَرُونَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرٍو، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَوْسٍ، عَنْ عُمَرَ، قَالَ: كَانَتْ أَمْوَالُ بَنِي النَّضِيرِ مِمَّا أفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِه، مِمَّا لَمْ يُوجِفْ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ بِخَيْلٍ، وَلَا رِكَابٍ، فَكَانَتْ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم خَاصَّةً، فَكَانَ يُنْفِقُ عَلَى أَهْلِهِ نَفَقَةَ سَنَةٍ، وَمَا بَقِيَ يَجْعَلُهُ
(2)
في الْكُرَاع، وَالسِّلَاح، عُدَّةً في سَبِيلِ اللهِ).
(1)
"المفهم" 3/ 555 - 557.
(2)
وفي نسخة: "وما بقي جعله".
رجال هذا الإسناد: تسعة:
1 -
(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) تقدّم قبل بابين.
2 -
(مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادِ) بن الزبرقان المكيّ، نزيل بغداد، صدوق يَهِم [10](ت 234)(خ م ت س ق) تقدم في "المقدمة" 4/ 19.
3 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم قبل بابين.
4 -
(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه، تقدّم وقريبًا.
5 -
(سُفْيَانُ) بن عيينة، تقدّم أيضًا قريبًا.
6 -
(عَمْرُو) بن دينار، تقدّم أيضًا قريبًا.
7 -
(الزُّهْرِيُّ) محمد بن مسلم، تقدّم قبل بابين.
8 -
(مَالِكُ بْنُ أَوْسِ) بن الْحَدَثَان النصريّ، أبو محمد المدنيّ، له رؤية [2] ت (1 أو 92)(ع) تقدم في "البيوع " 36/ 4052.
9 -
(عُمَرُ) بن الخطّاب بن نُفيل العدويّ، أبو حفص، أمير المؤمنين، استُشهد في ذي الحجة سنة (23) رضي الله عنه (ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 9.
شرح الحديث:
(عَنْ عَمْرِو) بن دينار (عَنِ الزُّهْرِيِّ) قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في كثير من النسخ، أو أكثرها:"عن عمرو، عن الزهريّ، عن مالك - بن أوس"، وكذا ذكره خلف الواسطيّ في "الأطراف"، وغيره، وهو الصواب، وسقط في كثير من النسخ ذِكر الزهريّ من الإسناد، فقال:"عن عمرو، عن مالك بن أوس"، وهذا غَلَط من بعض الناقلين عن مسلم قطعًا؛ لأنه قد قال في الإسناد الثاني:"عن الزهريّ بهذا الإسناد"، فدَلَّ - على أنه قد ذكره في الإسناد الأول، فالصواب إثباته. انتهى، وهو بحثٌ مفيدٌ.
(عَنْ مَالِكِ بْن أَوْسٍ) بن الْحَدَثان - بفتحات (عَنْ عُمَرَ) بن الخطّاب رضي الله عنه، أنه (قَالَ: كَانَتْ أمْوَالُ بَنِي النَّضِيرِ) هم: قبيلة من يهود خيبر من ولد هارون عليه السلام، دخلوا في العرب على نسبهم، (مِمَّا أفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ)؛ أي: ردّها الله عز وجل إليه صلى الله عليه وسلم، وكانت في مُلكه بعد أن خرجت عنه بوضع يد الكفرة عليها ظلمًا وعدوانًا، كما دلّ عليه التعبير بالفيء الذي هو: عَوْد الظلّ إلى
الناحية التي كان ابتدأ منها، ومعنى ذلك - كما قال بعضهم - أنّ هذا المال الذي استولى عليه الكفّار كان حقيقًا بأن يكون له صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله تعالى خلق الناس لعبادته، وخلق ما خلق لهم ليتوصّلوا به إلى طاعته، فهو جدير بأن يكون للمطيعين، وهو صلى الله عليه وسلم رأسهم ورئيسهم، وبه أطاع من أطاع، فكان أحقّ به. انتهى
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: وهذا يدلّ على أن الأموال إنما كانت للمسلمين بالأصالة، ثم صارت للكفار بغير الوجوه الشرعية، فكأنهم لم يملكوا ملكًا صحيحًا، لا سيما إذا تنزلنا على أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة، ومع ذلك فلهم شُبهة المُلك؛ إذ قد أضاف الله إليهم أموالًا؛ كما أضاف إليهم أولادًا، فقال:{فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ} الآية [التوبة: 55]، وقد اتفق المسلمون على أن الكافر إذا أسلم وبيده مال غير متعيّن للمسلمين كان له، لا ينتزعه أحدٌ منه بوجه من الوجوه، وسيأتي للمسألة مزيد بيان. انتهى
(2)
.
(مِمَّا لَمْ يُوجِفْ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ)؛ أي: لم يُسرع، ولم يُجْرِ؛ أي: بلا حرب، وفي "المصباح": وَجَفَ الفرس والبعير وَجِيفًا: عَدَا، وأوجفته بالألف: أعديته، وهو الْعَنَقُ في السير، وقولهم: ما حصل بإيجاف؛ أي: بإعمال الخيل، والركاب في تحصيله. انتهى
(3)
.
(بِخَيْلٍ، وَلَا رِكَابٍ) هي ما يُركب من الإبل، غلب ذلك عليها من بين المركوبات، قال الفيّومي: الرِّكاب بالكسر: الْمَطِيّ، الواحدة راحلة، من غير لفظها. انتهى
(4)
. (فَكَانَتْ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم خَاصَّةً) قال القرطبيّ رحمه الله: هذا الحديث حجَّة لمالك على أن الفيء لا يُقْسَم، وإنما هو موكول لاجتهاد الإمام، والخلاف الذي ذكرناه في الخُمس هو الخلاف هنا، فمالك لا يقسمه، وأبو حنيفة يقسمه أثلاثًا، والشافعيّ أخماسًا. انتهى
(5)
.
وقال النوويّ رحمه الله: هذا الحديث يؤيّد مذهب الجمهور أنه لا خَمْس في
(1)
راجع: "حاشية الجمل على الجلالين" في تفسير "سورة الحشر" 4/ 312.
(2)
"المفهم" 3/ 557.
(3)
"المصباح المنير" 2/ 649.
(4)
"المصباح المنير" 1/ 236.
(5)
"المفهم" 3/ 557.
الفيء، كما سبق، وقد ذكرنا أن الشافعيّ أوجبه، ومذهب الشافعيّ أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان له من الفيء أربعة أخماسه، وخُمس خُمس الباقي، فكان له أحد وعشرون سهمًا من خمسة وعشرين، والأربعة الباقية لذوي القربى، واليتامى، والمساكين، وابن السبيل، ويُتَأَوَّلُ هذا الحديث على هذا، فنقول: قوله: "كانت أموال بني النضير"؛ أي: معظمها. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: لا يخفى كون مذهب الجمهور أرجح في هذه المسألة؛ لقوّة حجته، كما اعترف به النوويّ رحمه الله في كلامه السابق، فتأمله بالإنصاف، والله تعالى أعلم.
(فَكَانَ يُنْفِقُ عَلَى أَهْلِهِ نَفَقَةَ سَنَةٍ)؛ أي: يعطيهم قُوْت سَنَتهم، كما في البخاري:"أنه صلى الله عليه وسلم كان يبيع نخل بني النضير، ويحبس لأهله قوت سنتهم"، وأما لنفسه فما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه ادَّخَرَ، ولا احتكر؛ وإنما كان يفعل ذلك لأهله قيامًا لهم بحقوقهم، ودفعًا لمطالبتهم، ومع ذلك فكان أهله يتصدقن، وقلّما يُمسكن شيئًا، ولذلك ما قد كان النبيّ صلى الله عليه وسلم ربما ينزل به الضيف، فيطلب له شيئًا في بيوت أزواجه، فلا يوجد عندهنّ شيء
(2)
.
وقال النوويّ رحمه الله: قوله: "ينفق على أهله نفقة سنة"؛ أي: يَعْزِل لهم نفقة سنة، ولكنه كان ينفقه قبل انقضاء السنة في وجوه الخير، فلا تتم عليه السنة، ولهذا توفي رحمه الله ودرعه مرهونة على شعير؛ استدانةً لأهله، ولم يَشْبَع ثلاثة أيام تباعًا، وقد تظاهرت الأحاديث الصحيحة بكثرة جوعه رحمه الله، وجوع عياله. انتهى
(3)
.
قال القرطبيّ رحمه الله: وفيه: ما يدلّ على جواز ادّخار قوت العيال سنة، ولا خلاف فيه إذا كان من غلَّة المدخِر، وأما إذا اشتراه من السُّوق، فأجازه قوم، ومنعه آخرون، إذا أضرّ بالناس، وهو مذهب مالك في الاحتكار مطلقًا. انتهى
(4)
.
وقال النوويّ رحمه الله: وفي هذا الحديث جواز ادّخار قوت سنة، وجواز
(1)
"شرح النوويّ" 12/ 70.
(2)
"المفهم" 3/ 558.
(3)
"شرح النوويّ" 12/ 70.
(4)
"المفهم" 3/ 558.
الادّخار للعيال، وأن هذا لا يقدح في التوكل، وأجمع العلماء على جواز الاذخار فيما يستغلّه الإنسان من قريته، كما جرى للنبيّ صلى الله عليه وسلم، وأما إذا أراد أن يشتري من السوق، ويدّخره لقوت عياله، فإن كان في وقت ضيق الطعام لم يَجُز، بل يشتري ما لا يضيق على المسلمين، كقوت أيام، أو شهر، وإن كان في وقت سَعة اشترى قوت سنة، وأكثر. هكذا نقل القاضي هذا التفصيل عن أكثر العلماء، وعن قوم إباحته مطلقًا. انتهى
(1)
.
(وَمَا بَقِيَ)؛ أي: الذي فضل عن نفقة أهله (يَجْعَلُهُ) وفي بعض النسخ: "جعله"(فِي الْكُرَاعِ) - بضمّ الكاف، وتخفيف الراء، آخره عين مهملة - بوزن غُرَابٍ: جماعة الخيل خاصّةً، قاله الفيّويّ. (وَالسِّلَاحِ) بالكسر، تقدّم تفسيره قبلَ باب. (عُدَّهً) بضمّ العين، وتشديد الدال المهملتين؛ أي: استعدادًا، وتأهّبًا، قال الفيّوميّ رحمه الله: الْعُدّة بالضمّ: الاستعداد، والتأهّب، والْعُدّة: ما أعددته من مال، أو سلاح، أو غير ذلك، والجمع: عُدَدٌ، مثلُ غُرْفة وغُرَفٍ، وأعددته إعدادًا: هيّأته، وأحضرته. انتهى
(2)
.
وقوله: (فِي سَبِيلِ اللهِ) متعلّق بـ "عُدّةً"،؛ أي: لأجل إعلاء كلمة الله عز وجل، والحديث متّفقٌ عليه، وسيأتي تمام البحث فيه في الحديث الثالث - إن شاء الله تعالى -.
وبالسند المتّصل إلى المؤلف: رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4566]
(
…
) - (حَدَّثنا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ بِهَذَا الإسْنَادِ).
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ النيسابوريّ، تقدّم قبل باب.
والباقون ذُكروا في السندين السابقين.
[تنبيه]: رواية معمر، عن الزهريّ هذه ساقها النسائيّ رحمه الله في "الكبرى"، فقال:
(1)
"شرح النوويّ" 12/ 70 - 71.
(2)
"المصباح المنير" 2/ 396.
(9187)
- أخبرنا سعيد بن عبد الرحمن، قال: نا سفيان، عن معمر، عن ابن شهاب، عن مالك بن أوس، قال: سمعت عمر قال: كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم، مما لم يُوجِف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يَعْزِل نفقة أهله سنةً، ثم يجعل ما بقي في الكراع، والسلاح، في سبيل الله. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4567]
(
…
) - (وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَسْمَاءَ الضُّبَعِيُّ، حَدَّثَنَا جُوَيْرِيَةُ، عَنْ مَالِكٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَنَّ مَالِك بْنَ أَوْسٍ حَدَّثَهُ، قَالَ: أَرْسَلَ إِلَيَّ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّاب، فَجِئْتُهُ حِينَ تَعَالَى النَّهَارُ. قَالَ: فَوَجَدْتُهُ فِي بَيْتِهِ جَالِسًا عَلَى سَرِيرٍ، مُفْضِيًا إِلَى رِمَالِه، مُتَّكِئًا عَلَى وِسَادَةٍ مِنْ أَدَمٍ، فَقَالَ لِي: يَا مَالُ، إِنَّهُ قَدْ دَفَّ أَهْلُ أَبْيَاتٍ مِنْ قَوْمِكَ، وَقَدْ أَمَرْتُ فِيهِمْ بِرَضْخٍ، فَخُذْهُ، فَاقْسِمْهُ بَينهُمْ. قَالَ: قُلْتُ: لَوْ أَمَرْتَ بِهَذا غَيْرِي، قَالَ: خُذْهُ يَا مَالُ
(2)
، قالَ: فَجَاءَ يَرْفَا، فَقَالَ: هَلْ لَكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فِي عُثْمَانَ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَالزُّبَيْر، وَسَعْدٍ؟ فَقَالَا عُمَرُ: نَعَمْ، فَأَذِنَ لَهُمْ، فَدَخَلُوا، ثُمَّ جَاءَ، فَقَالَ: هَلْ لَكَ فِي عَبَّاسٍ، وَعَلِيٍّ، قَالَ: نَعَمْ، فَأَذِنَ لَهُمَا
(3)
، فَقَالَ عَبَّاسٌ
(4)
: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ اقْضِ بَيْنِي وَبَيْنَ هَذَا الْكَاذِبِ الآثِمِ الْغَادِرِ الْخَائِن، فَقَالَ الْقَوْمُ: أَجَلْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَاقْضِ بَيْنَهُمْ، وَأَرِحْهُمْ، فَقَالَ مَالِكُ بْنُ أَوْسٍ: يُخَيَّلُ إِلَيَّ أَنَّهُمْ قَدْ كَانُوا قَدَّمُوهُمْ لِذَلِكَ، فَقَالَ عُمَرُ: اتَّئِدَا
(5)
، أَنْشُدُكُمْ بِاللهِ الَّذِي بِإِذْنِهِ تَقُومُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ، أَتَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"لَا نُورَثُ، مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ"؟، قَالُوا، نَعَمْ، ثُمَّ أقْبَلَ عَلَى الْعَبَّاس، وَعَلِيٍّ، فَقَالَ: أَنْشُدُكُمَا بِاللهِ الَّذِي بِإذْنِهِ تَقُومُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ، أَتَعْلَمَانِ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"لَا نُورَثُ، مَا تَرَكْنَاهُ صَدَقَة"؟، قَالَا: نَعَمْ، فَقَالَ عُمَرُ: إِنَّ اللهَ جَلَّ وَعَزَّ كَانَ خَصَّ رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم بِخَاصَّةٍ، لَمْ يُخَصِّصْ بِهَا أَحَدًا غَيْرَهُ،
(1)
"السنن الكبرى" للنسائيّ 5/ 377.
(2)
وفي نسخة: "خذ يا مال".
(3)
وفي نسخة: "فأذن لهما، فدخلا، فقال".
(4)
وفي نسخة: "فقال العبّاس".
(5)
وفي نسخة: وفي "اتّئدوا، أنشدكم".
قَالَ: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ} مَا أَدْرِي هَلْ قَرَأَ الآيةَ الَّتِي قَبْلَهَا أَمْ لَا؟ قَالَ: فَقَسَمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَكُمْ أَمْوَالَ بَني النَّضِير، فَوَاللهِ مَا اسْتَأْثَرَ عَلَيْكُمْ، وَلَا أَخَذَهَا دُونَكُمْ، حَتَّى بَقِيَ هَذَا الْمَالُ، فَكَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَأْخُذُ مِنْهُ نَفَقَةَ سَنَةٍ، ثُمَّ يَجْعَلُ مَا بَقِيَ أُسْوَةَ الْمَال، ثُمَّ قَالَ: أَنْشُدُكُمْ بِاللهِ الَّذِي بِإذْنِهِ تَقُومُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ، أتعْلَمُونَ ذَلِكَ؟ قَالُوا: نَعَمْ، ثُمَّ نَشَدَ عَبَّاسًا وَعَلِيًّا بِمِثْلِ مَا نَشَدَ بهِ الْقَوْمَ: أتعْلَمَانِ ذَلِكَ؟ قَالَا: نَعَمْ، قَالَ: فَلَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَا وَليُّ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَجِئْتُمَا، تَطْلُبُ مِيرَاثَكَ مِنَ ابْنِ أَخِيكَ، وَيَطْلُبُ هَذَا مِيرَاثَ امْرَأَتِهِ مِنْ أَبِيهَا، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا نُورَثُ، مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ"، فَرَأَيْتُمَاهُ كَاذِبًا،، آثِمًا، غَادِرًا، خَائِنًا، وَاللهُ يَعْلَمُ إنَّهُ لَصَادِقٌ، بَارٌّ، رَاشِدٌ، تَابعٌ لِلْحَقِّ، ثُمَّ تُوُفِّيَ أَبُو بَكْرٍ، وَأَنَا وَلِيُّ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَوَلِيُّ أَبِي بَكْرٍ، فَرَأَيتُمَانِي كَاذِبًا، آثِمًا، غَادِرًا، خَائِنًا، وَاللهُ يَعْلَمُ إِنِّي لَصَادِقٌ، بَارٌّ، رَاشِدٌ، تَابعٌ لِلْحَقّ، فَوَليتُهَا، ثُمَّ جِئْتَنِي أَنْتَ وَهَذَا، وَأَنْتُمَا جَمِيعٌ، وَأَمْرُكُمَا وَاحِدٌ، فَقُلْتُمَا: ادْفَعْهَا اِلَيْنَا، فَقُلْتُ: إِنْ شِئْتُمْ دَفَعْتُهَا إِلَيْكُمَا، عَلَى أَنَّ عَلَيْكُمَا عَهْدَ اللهِ أَنْ تَعْمَلَا فِيهَا بِالَّذِي كَانَ يَعْمَلُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَأخَذْتُمَاهَا بِذَلِكَ، قَالَ: أكَذَلِكَ؟ قَالَا: نَعَمْ، قَالَ: ثُمَّ جِئْتُمَانِي لأَقْضِيَ بَيْنَكُمَا، وَلَا وَاللهِ لَا أَقْضِي بَيْنَكُمَا بِغَيْرِ ذَلِكَ، حَتى تَقُومَ السَّاعَةُ، فَإِنْ عَجَزْتُمَا عَنْهَا، فَرُدَّاهَا إِلَيَّ).
رجال هذا الإسناد: ستّة:
1 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَسْمَاءَ الضُّبَعِيُّ)
(1)
أبو عبد الرحمن البصريّ، ثقةٌ جليلٌ [10](ت 231)(خ م د س) تقدم في "الإيمان" 47/ 297.
2 -
(جُوَيْرِيَةُ) بن أسماء بن عُبيد الضُّبَعيّ البصريّ، صدوقٌ [7](ت 173)(خ م د س ق) تقدم في "الإيمان" 73/ 390.
3 -
(مَالِكُ) بن أنس، إمام دار الهجرة، تقدّم قبل باب.
والباقون ذُكروا قبله.
(1)
بضمّ الضاد المعجمة، وفتح الموحّدة.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ، وفيه عمر رضي الله عنه أحد الخلفاء الأربعة الراشدين، والعشرة المبشّرين بالجنّة، جمّ المناقب رضي الله عنه، وفيه ما ذكره الحافظ رحمه الله في "الفتح": حيث قال: وفي هذا الإسناد لطيفة من علوم الحديث، مما لم يذكره ابن الصلاح، وهي تشابه الطرفين، مثاله ما وقع هنا: ابن شهاب عن مالك، وعنه مالك، الأعلى ابنُ أوس، والأدنى ابن أنس. انتهى
(1)
.
شرح الحديث:
(عَنْ مَالِكٍ)؛ أي: ابن أنس، قال في "الفتح": وهذا الحديث مما رواه مالك خارج "الموطأ". انتهى
(2)
.
(عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَنَّ مَالِكَ بْنَ أَوْسٍ) بن الْحَدَثَان - بفتح المهملتين، والمثلثة - وهو نَصْريّ - بالنون المفتوحة، والصاد المهملة الساكنة - وأبوه صحابيّ، وأما هو فقد ذُكِر في الصحابة، وقال ابن أبي حاتم وغيره: لا تصح له صحبة، وحَكَى ابن أبي خيثمة، عن مصعب، أو غيره أنه رَكِبَ الخيل في الجاهلية، قال الحافظ: فعلى هذا لعله لم يدخل المدينة إلا بعد موت النبيّ صلى الله عليه وسلم، كما وقع لقيس بن أبي حازم، دخل أبوه، وصَحِبَ، وتأخر هو، مع إمكان ذلك، وقد تشارك أيضًا في أنه قيل في كل منهما: إنه أخذ عن العشرة، وليس لمالك بن أوس هذا في البخاريّ سوى هذا الحديث، وآخر في "البيوع".
قال الجامع عفا الله عنه: وليس لمالك بن أوس في "صحيح مسلم" أيضًا إلا حديثان، هذا، وأعاده بعد، وحديث [35/ 4040](1586) "الورق بالذهب ربًا إلا هاء وهاء
…
" الحديث، تقدّم في "البيوع"، وهذان الحديثان هما اللذان أشار إليهما الحافظ في كلامه المذكور.
والحاصل أنه ليس له في هذين الكتابين إلا هذان الحديثان، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
(1)
"الفتح" 7/ 355، كتاب "فرض الخمس" رقم (3094).
(2)
"الفتح" 7/ 355.
وفي رواية البخاريّ: عن ابن شهاب، عن مالك بن أوس: " - وكان محمد بن جُبير ذَكَرَ لي ذِكرًا من حديثه ذلك، فانطلقتُ حتى أدخل على مالك بن أوس، فسألته عن ذلك الحديث
…
" الحديث.
قوله: "وكان محمد بن جبير"؛ أي: ابن مُطْعِم، قد ذَكَرَ لي ذِكْرًا من حديثه ذلك؛ أي: الآتي ذكره.
وقوله: "فانطلقت حتى أدخل" كذا فيه بصيغة المضارعة في موضع الماضي في الموضعين، وهي مبالغة لإرادة استحضار صورة الحال، ويجوز رفع "أدخل" على أن "حتى" عاطفة؛ أي: انطلقت فدخلت، والنصب على أنها بمعنى "إلى أن".
وفي صنيع ابن شهاب هذا أصل في طلب علوّ الإسناد؛ لأنه لم يقتنع - بالحديث عنه حتى دخل عليه، ليشافهه به، وفيه حرص ابن شهاب على طلب الحديث، وتحصيله، أفاده في "لفتح"
(1)
.
[تنبيه]: ظن قوم أن الزهريّ تفرد برواية هذا الحديث، فقال أبو عليّ الكرابيسيّ: أنكره قوم، وقالوا: هذا من مستنكَر ما رواه ابن شهاب، قال: فإن كانوا عَلِمُوا أنه ليس بفرد فهيهات، وإن لم يَعْلَمُوا فهو جهل، فقد رواه عن مالك بن أوس عكرمة بن خالد، وأيوب بن خالد، ومحمد بن عمرو بن عطاء، وغيرهم. انتهى
(2)
.
(حَدَّثَهُ)؛ أي: حدّث الزهريَّ، وقوله:(قَالَ: أَرْسَلَ إِلَيَّ) تفسير للحديث الذي حدّثه، (عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ) رضي الله عنه، قال الحافظ رحمه الله: لم أقف على اسم الرسول، ويَحْتَمِل أن يكون هو يرفا الحاجب الآتي ذكره. انتهى. (فَجِئْتُهُ حِينَ تَعَالَى النَّهَارُ)؛ أي: ارتفع، ولفظ البخاريّ:"حين متع النهار" - بفتح الميم، والمثناة الخفيفة، بعدها مهملة -؛ أي: علا، وامتدّ، وقيل: هو ما قبل الزوال، ووقع في رواية يونس، عن ابن شهاب، عند عمر بن شَبّة:"بعدما ارتفع النهار".
(1)
"الفتح" 7/ 355.
(2)
"الفتح" 7/ 355 - 356، كتاب "فرض الخمس" رقم (3094).
وفي رواية البخاريّ: "فقال مالك: بينما أنا جالس في أهلي حين متَعَ النهار، إذا رسول عمر بن الخطاب يأتيني، فقال: أجب أمير المؤمنين، فانطلقت معه، حتى أدخل على عمر، فإذا هو جالس على رمال سرير، ليس بينه وبينه فراش
…
" الحديث.
(قَالَ) مالك بن أوس (فَوَجَدْتُهُ)؛ أي: عمرَ رضي الله عنه (فِي بَيْتِهِ جَالِسًا عَلَى سَرِيرٍ، مُفْضِيًا) اسم فاعل، من أفضى إلى الشيء: إذا وصل إليه، (إِلَى رِمَالِهِ) بكسر الراء، وقد تُضَمّ، وهو ما يُنسج من سَعَف النخل، وأغرب الداوديّ، فقال: هو السرير الذي يُعْمَل من الجريد
(1)
، والمعنى: أنه ليس تحته فراش، والإفضاء إلى الشيء لا يكون بحائل، وإنما قال هذا؛ لأن العادة أن يكون فوق الرمال فراش، أو غيره.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "مفضيًا إلى رماله"؛ أي: لم يكن بينه وبين الحصير حائل يقيه آثار عيدانه، ورُمال الحصير: ما يؤثّر في جنب المضطجع عليه، ورَمَلْتُ الحصير: نسجته، وقد تقدَّم. انتهى
(2)
.
(مُتَّكِئًا عَلَى وِسَادَةٍ) بكسر الواو: هي الْمِخَدّة، جمعها وِسَادات، ووسائد، والْوِسَادُ بغير هاء: كلُّ ما يُتَوَسّد به، من قُماشٍ، وترابٍ، وغير ذلك، وجَمْعُه وُسُدٌ، مثلُ كتاب وكُتُبٍ، ويقال: الوِسَادُ لغة في الوِسادةً
(3)
.
وقوله: (مِنْ أَدَم) بيان لـ "وساد"، وهو: بفتحتين، أو بضمّتين: جمع أديم، وهو الجلد المدبوغ، كما تقدّم قريبًا. (فَقَالَ لِي: يَا مَالُ) قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في جميع النسخ: "يا مال"، وهو ترخيم مالك، بحذف الكاف، ويجوز كسر اللام، وضمّها، وجهان مشهوران لأهل العربيّة، فمَن كَسَرها تركها على ما كانت عليه، ومن ضمّها جعله اسمًا مستقلّا. انتهى
(4)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قوله: "ويجوز كسر اللام
…
إلخ " أشار إلى هذا ابن مالك رحمه الله في "الخلاصة" حيث قال:
تَرْخِيمًا احْذِفْ آخِرَ الْمُنَادَى
…
كَـ "يَا سُعَا" فِيمَنْ دَعَا "سُعَادَى"
(1)
"الفتح" 7/ 356.
(2)
"المفهم" 3/ 560.
(3)
"المصباح المنير" 2/ 658.
(4)
"شرح النوويّ" 12/ 71.
ثم إن كسر لامه هو الأصل، ويُسمّى "لغة من ينتظر"، وضمّها على أنه صار اسمًا مستقلًا، فيُعرب إعراب المنادى المفرد، ويُسمّى "لغة من لا ينتظر"، وإلى هذا أشار ابن مالك رحمه الله أيضًا في "الخلاصة" حيث قال:
وَإِنْ نَوَيْتَ بَعْدَ حَذْفِ مَا حُذِفْ
…
فَالْبَاقِيَ اسْتَعْمِلْ بِمَا فِيهِ أُلِفْ
وَاجْعَلْهُ إِنْ لَمْ تَنْوِ مَحْذُوفًا كَمَا
…
لَوْ كَانَ بِالآخِرِ وَضْعًا تُمِّمَا
فَقُلْ عَلَى الأَوَّلِ فِي "ثَمُودَ" "يَا
…
ثَمُو" و"يَا ثَمِي" عَلَى الثَّانِي بِيَا
وَالْتَزِمِ الأَوَّلَ فِي كَـ "مَسْلِمَهْ"
…
وَجَوِّزِ الْوَجْهَيْنِ فِي كَـ "مَسْلَمَهْ"
(إِنَّهُ) الضمير للشأن، وهو الضمير الذي تُفسّره جملة بعده، كما قال ابن مالك رحمه الله في "الكافية":
وَمُضْمَرُ الشَّأنِ ضَمِيرٌ فُسِّرَا
…
بِجُمْلَةٍ كَـ "إِنَّهُ زيدٌ سَرَى"
(قَدْ دَفَّ أَهْلُ أَبْيَاتٍ)؛ أي: ورد جماعة بأهليهم شيئًا بعد شيء، يسيرون قليلًا قليلًا، والدَّفِيف: السَّيْر الليِّن، وكأنهم كانوا قد أصابهم جَدْب في بلادهم، فانتجعوا المدينة، وفي رواية البخاريّ:"إنه قَدِم علينا من قومك أهل أبيات".
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "دَفّ أهل أبيات": أي: نزلوا بهم مسرعين، محتاجين، وأصله من الدَّفيف، وهو: السَّير السَّريع، وكأن الذي تنزلُ به فاقةٌ يسرع المشي لتنجلي عنه. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: تفسير الدّفيف بالسير السريع مخالِف لِمَا في "القاموس"، و"المصباح"، فعندهما أنه السير الليّن، والمشي الخفيف، فتنبّه.
وقوله: (مِنْ قَوْمِكَ)؛ أي: من بني نَصْر بن معاوية بن بكر بن هوازن، (وَقَدْ أَمَرْتُ فِيهِمْ بِرَضْخٍ) - بفتح الراء، وسكون الضاد المعجمة، بعدها خاء معجمة -؛ أي: عطيّة غير كثيرة، ولا مقدّرة، (فَخُذْهُ، فَاقْسِمْهُ بَيْنَهُمْ. قَالَ) مالك (قُلْتُ: لَوْ أَمَرْتَ بِهَذَا غَيْرِي) جواب "لو" محذوف؛ أي: لكان خيرًا، أو هي للتمنّي، لا تحتاج إلى جواب؛ أي: أتمنى أن تأمر بها غيري، وإنما قال مالك هذا تحرجًا من قبول الأمانة، ولم يبيِّن ما جرى له فيه؛ اكتفاءً بقرينة الحال،
(1)
"المفهم" 3/ 560.
والظاهر أنه قبضه؛ لعزم عمر عليه ثاني مرة، قاله في "الفتح"
(1)
.
(قَالَ) عمر رضي الله عنه (خُذْهُ يَا مَالُ) وفي بعض النسخ: "خذ يا مال" بحذف الضمير. (قَالَ) مالك (فَجَاءَ يَرْفَا) حاجب عمر رضي الله عنه، وفي رواية البخاريّ:"أتاه حاجبه يرفا"، وهو بفتح التحتانية، وسكون الراء، بعدها فاء، مشبعة، بغير همز، وقد تُهْمَز، قال الحافظ: وهي روايتنا من طريق أبي ذرّ، و"يرفا" هذا كان من موالي عمر رضي الله عنه، أدرك الجاهلية، ولا تُعرف له صحبة، وقد حَجَّ مع عمر في خلافة أبي بكر رضي الله عنهما، وله ذكر في حديث ابن عمر قال:"قال عمر - لمولى له يقال له: يرفا -: إذا جاء طعام يزيد بن أبي سفيان، فأعلمني"، فذكر قصّةً.
ورَوَى سعيد بن منصور، عن أبي الأحوص، عن أبي إسحاق، عن يرفا، قال: قال لي عمر: إني أنزلت نفسي من مال المسلمين منزلة مال اليتيم. وهذا يُشْعِر بأنه عاش إلى خلافة معاوية. انتهى
(2)
.
(فَقَالَ: هَلْ لَكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فِي عُثْمَانَ) بن عفّان (وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَالزُّبَيْرِ) بن العوّام (وَسَعْدٍ؟) ابن أبي وقّاص رضي الله عنهم، قال القرطبيّ رحمه الله: في الكلام حذفٌ، تقديره: هل لك إذن في هؤلاء؟
(3)
.
وقال الحافظ رحمه الله: ولم أَرَ في شيء من طُرُقه زيادة على الأربعة المذكوربن، إلا في رواية للنسائيّ، وعُمر بن شَبَّة، من طريق عمرو بن دينار، عن ابن شهاب، وزاد فيها:"وطلحة بن عبيد الله"، وكذا في رواية الإماميّ، عن ابن شهاب عند عمر بن شَبّة أيضًا، وكذا أخرجه أبو داود، من طريق أبي الْبَخْتَرِيّ، عن رجل لم يسمّه، قال:"دخل العباس، وعليّ"، فذكر القصّة بطولها، وفيها ذَكر طلحة، لكن لم يَذكر عثمان. انتهى
(4)
.
(فَقَالَ عُمَرُ) رضي الله عنه (نَعَمْ)؛ أي: ائذن لهم في الدخول، (فَأَذِنَ) يرفا (لَهُمْ)
(1)
"الفتح" 7/ 356، كتاب "فرض الخمس" رقم (3094).
(2)
"الفتح" 7/ 356، كتاب "فرض الخمس" رقم (3094).
(3)
"المفهم" 3/ 560.
(4)
"الفتح" 7/ 357، كتاب "فرض الخمس" رقم (3094).
في الدخول (فَدَخَلُوا) وفي رواية للبخاريّ: "فأدخلهم"، (ثُمَّ جَاء) يرفا (فَقَالَ) لعمر رضي الله عنه (هَلْ لَكَ دي عَبَّاسٍ، وَعَلِيٍّ؟) رضي الله عنهما، زاد في رواية للبخاريّ:"يستأذنان"، (قَالَ) عمر رضي الله عنه (نَعَمْ، فَأَذِنَ لَهُمَا) زاد في بعض النسخ: "فدخلا"، (فَقَالَ عَبَّاسٌ) وفي بعض النسخ:"فقال العبّاس": (يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ اقْضِ بَيْنِي وَبَيْنَ هَذَا الْكَاذِبِ الآثِمِ الْغَادِرِ الْخَائِنِ) قال القرطبيّ رحمه الله: قول العبَّاس رضي الله عنه هذا قول لم يُرِدْ به ظاهره؛ لأن عليًّا رضي الله عنه منزَّه عن ذلك كله، مبرأ عنه قطعًا، ولو أراد ظاهره لكان محرَّمًا، ولاستحال على عمر، وعثمان، وعبد الرحمن، والزبير، وسعد رضي الله عنهم، وهم المشهود لهم بالقيام بالحق، وعدم المبالاة بمن يخالفهم فيه، فكيف يجوز عليهم الإقرار على المنكر؟! هذا ما لا يصح؛ وإنما هذا قول أخرجه من العبَّاس الغضب، وصولة سلطنة العمومة، فإن العمّ صِنْو الأب، ولا شك أن الأب إذا أطلق هذه الألفاط على ولده؛ إنما يُحْمَل ذلك منه على أنه قَصَد الإغلاظ، والرَّدع مبالغةَ في تاديبه، لا أنَّه موصوفٌ بتلك الأمور، ثم انضاف إلى هذا: أنهم في مُحَاجّة ولاية دينية، فكأن العباس يعتقد: أن مخالفته فيها لا تجوز، وأن المخالفة فيها تؤدي إلى أن يَتصف المخالف بتلك الأمور، فأطلقها ببوادر الغضب على هذه الأوجه، ولمّا علم الحاضرون ذلك لم يُنكروه، والله تعالى أعلم.
وهذا التأويل أشبه ما ذُكلر في ذلك، وإلا فتَطريق الغلط لبعض النقلة لهذه القصة فيه بُعْد لِحِفْظهم، وشُهرتهم، والذي اضطرنا إلى تقدير أحد الأمرين ما نعلمه من أحوال تلك الجماعة، ومن عظيم منازلهم في الدِّين، والورع، والفضل، كيف لا، وهم من هم رضي الله عنهم، وحشرنا في زمرتهم. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(1)
، وهو تحقيق نفيسٌ جدًّا، والله تعالى أعلم.
وقال النوويّ رحمه الله: قال جماعة من العلماء: معناه: هذا الكاذب إن لم يُنْصِف، فحُذف الجواب.
وقال القاضي عياض: قال المازريّ: هذا اللفظ الذي وقع لا يليق ظاهره بالعباس، وَحَاشَ لعليّ أن يكون فيه بعض هذه الأوصاف، فضلًا عن كلها،
(1)
"المفهم" 3/ 561.
ولسنا نقطع بالعصمة إلا للنبيّ صلى الله عليه وسلم، ولمن شَهِدَ له بها، لكنا مأمورون بحسن الظنّ بالصحابة رضي الله عنهم أجمعين، ونَفْي كلِّ رَذِيلة عنهم، وإذا انسدّت طُرُق تأويلها نسبنا الكذب إلى رُواتها، قال: وَقد حَمَل هذا المعنى بعض الناس على أن أزال هذا اللفظ من نسخته؛ تورّعًا عن إثبات مثل هذا، ولعله حَمَل الوهم على رُواته.
قال المازريّ: وإذا كان هذا اللفظ لا بُدّ من إثباته، ولم نُضِف الوهم إلى رُواته، فأجْود ما حُمِل عليه أنه صدر من العباس على جهة الإدلال على ابن أخيه؛ لأنه بمنزلة ابنه، وقال ما لا يعتقده، وما يعلم براءة ذمة ابن أخيه منه، ولعلّه قصد بذلك رَدْعه عما يعتقد أنه مُخطئ فيه، وأن هذه الأوصاف يتصف بها لو كان يفعل ما يفعله عن قصد، وأن عليّا كان لا يراها إلا موجبة لذلك في اعتقاده، وهذا كما يقول المالكيّ: شارب النبيذ ناقص الدين، والحنفيّ يعتقد أنه ليس بناقص، فكل واحد محقّ في اعتقاده، ولا بُدّ من هذا التأويل؛ لأن هذه القضيّة جرت في مجلس فيه عمر رضي الله عنه، وهو الخليفة، وعثمان، وسعد، وزبير، وعبد الرحمن رضي الله عنهم، ولم يُنكر أحد منهم هذا الكلام، مع تشددهم في إنكار المنكَر، وما ذلك إلا لأنهم فَهِموا بقرينة الحال أنه تكلم بما لا يعتقد ظاهره مبالغة في الزجر.
قال المازريّ: وكذلك قول عمر رضي الله عنه: "إنكما جئتما أبا بكر، فرأيتماه كاذبًا، آثمًا، غادرًا، خائنًا"، وكذلك ذكر عن نفسه أنهما رأياه كذلك، وتأويل هذا على نحو ما سبق، وهو أن المراد أنكما تعتقدان أن الواجب أن نفعل في هذه القضية خلاف ما فعلته أنا وأبو بكر، فنحن على مقتضى رأيكما لو أتينا ما أتينا، ونحن معتقدان ما تعتقدانه، لَكُنّا بهذه الأوصاف، أو يكون معناه: أن الإمام إنما يخالَف إذا كان على هذه الأوصاف، ويُتَّهَم في قضاياه، فكان مخالفتكما لنا تُشعر من رآها أنكما تعتقدان ذلك فينا، والله أعلم. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي أوّل به المازريّ قول العبّاس في عليّ رضي الله عنهما: "اقض بيني وبين هذا الكاذب الآثم الغادر الخائن" بأنه من باب
(1)
"شرح النوويّ" 12/ 72 - 73.
الإدلال على ابن أخيه، لا بأس به، لكن عندي أحسن منه ما أشار إليه القرطبيّ رحمه الله في كلامه السابق، وهو أن يُحمَل على أن هذا مما صدر منه حال غلبة الغضب، والإنسان يتكلّم في حال الغضب بمثل هذا، ويُعذر؛ لغلبة الغضب عليه، كما يُعذر في حالة السكر، فقد قال حمزة رضي الله عنه للنبيّ صلى الله عليه وسلم لَمّا لامه فيما فعل في شَارِفَي عليّ رضي الله عنه:"هل أنتم إلا عبيد لأبي؟ "، فعَذَره صلى الله عليه وسلم؛ لِسُكْره، ورجع القهقرى، والقصّة مشهورة في "الصحيح" وغيره.
والحاصل: أن ما يصدر في حال غلبة الغضب من الكلام القبيح، ومن سبّ الخصم بعضهم لبعض، يُتسامح فيه، ويُعذرون به، ولهذا سكت عمر، والحاضرون عنده، ولم يُنكروه؛ لِمَا ذكرناه، فتأمّل، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
وقال في "الفتح" عند شرح قوله: "استبّا": قال ابن التين: معنى قوله في هذه الرواية: "اسْتَبّا"؛ أي: نَسَب كل واحد منهما الآخر إلى أنه ظلمه، وقد صَرّح بذلك في هذه الرواية بقوله:"اقض بيني وبين هذا الظالم"، قال: ولم يُرِد أنه يظلم الناس، وإنما أراد ما تأوّله في خصوص هذه القصة، ولم يَرِد أن عليًّا سَبّ العباس بغير ذلك؛ لأنه صنو أبيه، ولا أن العباس سب عليًّا بغير ذلك؛ لأنه يعرف فضله، وسابقته.
وقال المازريّ: هذا اللفظ لا يليق بالعباس، وحاشا عليًّا من ذلك، فهو سهو من الرواة، وإن كان لا بُدّ من صحته فليؤَوَّل بأن العباس تكلم بما لا يعتقد ظاهره؛ مبالغةً في الزجر، ورَدْعًا لِمَا يعتقد أنه مخطئ فيه، ولهذا لم يُنكره عليه أحد من الصحابة، لا الخليفة، ولا غيره، مع تشددهم في إنكار المنكر، وما ذاك إلا أنهم فَهِموا بقرينة الحال أنه لا يريد به الحقيقة. انتهى.
قال الحافظ: ولم أَقِف في شيء من طرق هذه القصة على كلام لعليّ في ذلك، وإن كان المفهوم من قوله:"استَبّا" بالتثنية أن يكون وقع منه في حقّ العباس كلام.
وقال غيره: حاشا عليّا أن يكون ظالِمًا، والعباس أن يكون ظالِمًا بنسبة الظلم إلى عليّ، وليس بظالم.
وقيل: في الكلام حذف، تقديره؛ أي: هذا الظالم إن لم يُنْصِف، أو
التقدير: هذا كالظالم، وقيل: هي كلمة تقال في الغضب، لا يراد بها حقيقتها، وقيل: لَمّا كان الظلم يُفَسّر بأنه وضع الشيء في غير موضعه، تناول الذنب الكبير والصغير، وتناول الخصلة المباحة التي لا تليق عُرفًا، فيُحْمَل الإطلاق على الأخيرة، والله أعلم. انتهى
(1)
.
(فَقَالَ الْقَوْمُ)؛ أي: الحاضرون عند عمر، وهم: عثمان، ومن ذُكر معه رضي الله عنهم، وقال في "الفتح": ورأيت في رواية معمر، عن الزهريّ في "مسند ابن أبي عمر":"فقال الزبير بن العوّام: "اقض بينهما"، فأفادت تعيين من باشر سؤال عمر في ذلك. انتهى
(2)
.
(أَجَلْ) كنَعَم وزنًا ومعنًى، (يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَاقْضِ بَيْنَهُمْ، وَأَرِحْهُمْ) هذا يدلّ على أن الخصام طال بينهما، بحيث عرفه هؤلاء الحاضرون عند عمر رضي الله عنه، وإليه يشير قوله:(فَقَالَ مَالِكُ بْنُ أَوْسٍ: يُخَيَّلُ إِلَيَّ) ببناء الفعل للمفعول؛ أي: أظنّ، وأتوهّم (أَنَّهُمْ قَدْ كَانُوا قَدَّمُوهُمْ لِذَلِكَ)؛ يعني: أن العبّاس، وعليًّا، ومن معهما قدّموا عثمان، ومن معه إلى عمر؛ ليُكلّموه في أن يقضي بينهما قضاءً مبرمًا، يفصل النزاع بينهما. (فَقَالَ عُمَرُ) رضي الله عنه (اتَّئِدَا) بالتثنية خطابًا لعبّاس وعليّ رضي الله عنهما؛ أي: اصبرا، وتمهّلا، وفي بعض النسخ:"اتّئدوا" بالجمع خطابًا لهما، وللحاضرين. (أَنْشُدُكُمْ)؛ أي: أسالكم رافعًا نشيدتي؛ أي: صوتي، وقال القرطبيّ: أي: أقسم بالله، يُخاطب الحاضرين، (بِاللهِ الَّذِي بِإِذْنِهِ تَقُومُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ، أتعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا نُورَثُ، مَا تَرَكْنَا صَدَقَة"؟) قال القرطبيّ رحمه الله: جميع الرواة لهذه اللفظة في "الصحيحين"، وفي غيرهما، يقولون:"لا نورث" - بالنون - وهي نون جماعة الأنبياء، كما قال:"نحن معاشر الأنبياء لا نورث".
و"صدقة": مرفوع على أنه: خبر المبتدأ الذي هو: "ما تركنا"، والكلام جملتان: الأولى: فعلية، والثانية: اسمية، لا خلاف بين المحدثين في هذا، وقد صحَّفه بعض الشيعة، فقال:"لا يورث - بالياء - ما تركنا صدقةً" - بالنصب -
(1)
"الفتح" 17/ 179 - 180، كتاب "الاعتصام بالكتاب والسُّنَّة" رقم (7305).
(2)
"الفتح" 7/ 358، كتاب "فرض الخمس" رقم (3094).
وجعل الكلام جملة واحدة، على أن يجعل "ما" مفعولًا لِمَا لم يُسم فاعله، و"صدقة" يُنصب على الحال، ويكون معنى الكلام: إن ما يتركه صدقة لا يورث، وإنما فعلوا هذا، واقتحموا هذا المحرَّم؛ لِمَا يلزمهم على رواية الجمهور من إفساد قولهم، ومذهبهم، أنهم يقولون: إن النبيّ صلى الله عليه وسلم: يورث كما يورث غيره، متمسكين بعموم آية المواريث، معرضين عمَّا كان معلومًا عند الصحابة من الحديث الذي يدل على خصوصية النبيّ صلى الله عليه وسلم بأنه لا يورث.
وقد حَكَى الخطابي حكاية تدلّ على صحة مذهب أهل السُّنة، وعلى بطلان مذهب أهل البدع، حُكي عن ابن الأعرابي: أن أبا العبَّاس السفاح قام في أول مقام قامه خطيبًا في قرية تسمى العباسية بالأنبار، فحمد الله، وأثنى عليه، فلما جاء عند الفراغ، قام إليه رجلٌ، وفي عنقه المصحف، فقال: يا أمير المؤمنين! أُذَكِّرك الله الذي ذَكرته ألا قضيت لي على خصمي بما في كتاب الله، فقال: ومن خصمك؟ قال: أبو بكر الذي منع فاطمة فَدَك، فقال: هل كان بعده أحد؟ قال: نعم. قال: ومن؟ قال: عمر، قال: فأقام على ظلمكم؟ قال: نعم، قال: فهل كان بعده أحد؟ قال: نعم، قال: فمن؟ قال: عثمان، قال: فأقام على ظلمكم؟ قال: نعم، قال: فهل كان بعده أحد؟ قال: نعم. قال: فمن؟ قال: علي بن أبي طالب، قال: فأقام على ظلمكم؟ قال: فأسكت الرجل، وجعل يلتفت يمينًا وشمالًا يطلب مخلصًا، فقال أبو العباس: والله الذي لا إله إلا هو لولا أنه أول مقام قمته، ولم أكن تقدمت إليك، لأخذت الذي فيه عيناك، اجلس، ثم أخذ في خطبته.
وحاصل هذه الحكاية: أن الخلفاء رضي الله عنهم عَلِموا وتحققوا صحَّة قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: "لا نورث، ما تركنا صدقة"، وعَمِلوا على ذلك إلى أن انقرضت أزمانهم الكريمة بلا خلاف في ذلك.
فأما طلب فاطمة رضي الله عنها ميراثها من أبيها من أبي بكر، فكان ذلك قبل أن تسمع فاطمة الحديث الذي دلَّ على خصوص النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، وكانت متمسِّكة بما في كتاب الله من ذلك، فلما أخبرها أبو بكر بالحديث توقفت عن ذلك، ولم تعد عليه بطلب، وأما منازعة عليّ والعباس، فلم تكن في أصل الميراث، ولا طلبا أن يتملكا ما ترك النبيّ صلى الله عليه وسلم من أموال بني النضير؛ لأربعة أوجه:
أحدها: أنهما قد كانا، ترافعا لأبي بكر في ذلك، فمنعهما أبو بكر مستدلًّا بالحديث الذي تقدَّم، فلما سمعاه أذعنا، وسكتا، وسلَّما، إلى أن توفي أبو بكر، وولي عمر، فجاءاه، فسألاه أن يوليَهُما على النظر فيها، والعمل بأحكامها، وأخْذها من وجوهها، وصرْفها في مواضعها، فدفعها إليهما على ذلك، وعلى أن لا ينفرد أحدهما عن الآخر بعمل حتى يستشيره، ويكون معه فيه، فعملا كذلك إلى أن شقّ عليهما العمل فيها مجتمعين، فإنهما كانا بحيث لا يقدر أحدهما أن يستقلّ بأدنى عمل حتى يحضر الآخر، ويساعده، فلما شقّ عليهما ذلك، جاءا إلى عمر رضي الله عنه مرَّة ثانية، وهي هذه الكرّة التي ذُكرت هنا، يطلبان منه أن يقسمها بينهما، حتى يستقل كل واحد منهما بالنظر فيما يكون في يديه منها، فأبى عليهما عمر رضي الله عنه ذلك، وخاف إن فعل ذلك أن يَظُنّ ظانٌّ أن ذلك قسمة ميراث النبيّ صلى الله عليه وسلم، فيعتقد بطلان قوله:"لا نورث"، لا سيما لو قسمها نصفين، فإن ذلك كان يكون موافقًا لسُنَّة القسم في المواريث؛ فإن من ترك بنتًا، وعمًا، كان المال بينهما نصفين: للبنت النصف بالفرض، وللعم النصف بالتعصيب، فمنع ذلك عمر حسمًا للذريعة، وخوفًا من ذهاب حكم قوله:"لا نورث".
والوجه الثاني: أن عليًّا رضي الله عنه لمّا ولي الخلافة لم يغيّرها عما عُمل فيها في عهد أبي بكر، وعمر، وعثمان، ولم يتعرض لتملّكها، ولا لقسمة شيء منها، بل كان يصرفها في الوجوه التي كان مَنْ قبله يصرفها فيها، ثم كانت بيد حسن بن عليّ، ثم بيد حسين بن عليّ، ثم بيد علي بن الحسين، ثم بيد الحسين بن الحسن، ثم بيد زيد بن الحسن، ثم بيد عبد الله بن الحسن، ثم تولاها بنو العباس على ما ذكره أبو بكر الْبَرْقانيّ في "صحيحه".
وهؤلاء كبراء أهل البيت رضي الله عنهم، وهم معتمَد الشيعة وأئمتهم، لم يُرو عن واحد منهم: أنه تملّكها، ولا ورثها، ولا وُرثتْ عنه، فلو كان ما يقوله الشيعة حقًّا لأخذها عليّ، أو أحدٌ من أهل بيته لَمَا ظَفِروا بها.
والوجه الثالث: اعتراف عليّ والعبَّاس بصحة قوله صلى الله عليه وسلم: "لا نورث، ما تركنا صدقة"، وبعلم ذلك حين سألهما عن علم ذلك، ثم إنهما أذعنا، وسلَّما، ولم يبديا - ولا أحد منهما - في ذلك اعتراضًا، ولا مَدْفعًا، ولا يحل لمن
يؤمن بالله واليوم الآخر أن يقول: إنهما اتقيا على أنفسهما، لِمَا يُعلم من صلابتهما في الدين، وقوّتهما فيه، ولمَا يُعلم من عدل عمر، وأيضًا: فإن المحل محل مناظرة، ومباحثة عن حكم مال من الأموال، ليس فيه ما يفضي إلى شيء مما يقوله أهل الهذيان من الشيعة.
ثم الذي يقطع دابر العناد ما ذكرناه من تمكّن عليّ وأهل بيته من الميراث، ولم يأخذوه، كما قلناه.
والوجه الرابع: نصّ قول عمر رضي الله عنه هنا، وحكايته عنهما في آخر الحديث، حيث قال لهما:"ثم جئتني أنت وهذا، وأنتما جميع، وأمركما واحد، فقلتم: ادفعها إلينا، فقلت: إن شئتم دفعتها إليكما، على أن عليكما عهد لله أن تعملا فيها بالذي كان يعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذتماها بذلك، قال: أكذلك؟ قالا: نعم"، هذه نصوص منهم على صحة ما ذكرناه.
وإنما طوَّلنا الكلام في هذا الموضع لاستشكال كثير من الناس لهذا الحديث، وللآتي بعده، ولخوض الشيعة في هذا الموضع، ولتقوّلهم فيه بالعظائم على الخلفاء البررة الحنفاء رضي الله عنهم. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله بطوله، وهو تحقيق نفيسٌ، وبحثٌ أنيس، والله تعالى أعلم.
(قَالُوا: نَعَمْ)؛ أي: نعلم ذلك، (ثُمَّ أَقْبَلَ) عمر رضي الله عنه (عَلَى الْعَبَّاس، وَعَلِيٍّ) رضي الله عنهما (فَقَالَ: أَنْشُدُكُمَا بِاللهِ الَّذِي بِإِذْنِهِ تَقُومُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ، أَتعْلَمَانِ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا نُورَثُ، مَا تَرَكْنَاهُ صَدَقَةٌ؟ "، فَالَا: نَعَمْ)؛ أي: نعلم ذلك، (فَقَالَ عُمَرُ) رضي الله عنه (إِنَّ اللهَ جَلَّ وَعَزَّ كَانَ خَصَّ رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم بِخَاصَّةٍ، لَمْ يُخَصِّصْ بِهَا أَحَدًا غَيْرَهُ) ذكر القاضي عياض رحمه الله في معنى كلام عمر رضي الله عنه هذا احتمالين: أحدهما: تحليل الغنيمة له ولأمته، والثاني: تخصيصه بالفيء، إما كلِّه، أو بعضه، كما سبق من اختلاف العلماء، قال: وهذا الثاني أظهر؛ لاستشهاد عمر رضي الله عنه عليه بالآية. انتهى
(1)
.
وقال الأبيّ في "شرحه": قيل: إباحة الغنائم له ولأمته، أو كونها له خاصّةً، أو تخصيصه بما أفاء الله عليه، إما بمِلكه كلّه، كما قال الأكثر، أو
(1)
"إكمال المعلم" 6/ 82، و"شرح النوويّ" 12/ 75 - 77.
بمِلكه التصرّف والحكم فيه، كما قال الجمهور؛ أي: جعل حُكم ذلك له، يحكم فيه يما يراه، وهذا أظهر الوجوه؛ لاستشهاد عمر رضي الله عنه عليه بالآية. انتهى
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: يعني بذلك أن الله تعالى أحلّ له الصفيّة وطيّبه له، ولم يحل ذلك لأحد من الأنبياء قبله كما قال في الغنيمة:"احلت لي الغنائم، ولم تحل لأحد قبلي"، وليس معنى ذلك أن عمر كان يعتقد أن الله خصّ الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا الفيء المعين، فيصرفه حيث شاء، فتكون وجه الخصوصية أنه لا يُخمسه، ولا يَقسمه، بخلاف غيره من الفيء، فإنه يقسم عند الشافعية على خمسة، وعند الحنفية على ثلاثة، وعند مالك يقسم على الاجتهاد؛ لأنا نقول ذلك فاسدٌ من وجهين:
أحدهما: أن الآية التي استدلّ بها عمر على خصوصية النبيّ صلى الله عليه وسلم بذلك مصرّحة بالقسم، فإنه قال فيها:{مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الحشر: 7]، وحينئذٍ كانت تكون الآية مصرّحة بنقيض مقصوده.
والوجه الثاني: أن عمر المصرّح بالخصوصية حكم في كل فيء بالقسمة، ولمّا قرأ عمر هذه الآية إلى قوله:{وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} [الحشر: 10] قال: أرى هذه الآية قد استوعبت الناس كلهم، حتى الراعي بعدل، ونص بعدم الخصوصية في الآية، فوَجْهُ الخصوصية التي ذكر ما قلناه، والله أعلم.
وقد ذكرنا في كتاب الزكاةِ: الفقير، والمسكين، وابن السبيل، فأما ذوو القربى فهم قرابة النبيّ صلى الله عليه وسلم واختُلف فيمن هم؟ فالجمهور على أنهم بنو هاشم وبنو المطلب، وذهب بعض السلف إلى أنهم قريش، ثم هل يستحقه الفقراء منهم خاصة دون الأغنياء، أم جميعهم؛ ثم هل يقسم بينهم على السواء، أم على حكم قسمة المواريث؟ ومذهب الشافعيّ أنه حقّ لهم فيستوي فيه صغيرهم وكبيرهم، غنيهم وفقيرهم، لذَكَرِهم سهمان، وللأنثى سهم، ومذهب عليّ: قسمته على ما يؤدي إليه اجتهاد الإمام. انتهى
(2)
.
(1)
"شرح الأبيّ" 5/ 75.
(2)
"المفهم" 3/ 89/11، وهذا البحث لا يوجد في بعض نسخ "المفهم"، فتنبّه.
وقال في "الفتح" عند قوله: "إن الله قد خَصّ رسوله صلى الله عليه وسلم في هذا الفيء بشيء": في رواية مسلم: "بخاصّة لم يخصص بها غيره"، وفي رواية عمرو بن دينار، عن ابن شهاب في "التفسير":"كانت أموال بني النضير، مما أفاء الله على رسوله، فكانت له خاصّةً، وكان ينفق على أهله منها نفقة سنة، ثم يجعل ما بقي في السلاح والكراع عُدّةً في سبيل الله"، وفي رواية سفيان، عن معمر، عن الزهري عند البخاريّ في "النفقات":"كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يبيع نخل بني النضير، ويحبس لأهله قوت سنتهم"؛ أي: ثمر النخل، وفي رواية أبي داود، من طريق أسامة بن زيد، عن ابن شهاب:"كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث صَفَايا: بنو النضير، وخيبر، وفَدَك، فأما بنو النضير فكانت حُبْسًا لنوائبه، وأما فَدَك فكانت حُبْسًا لأبناء السبيل، وأما خيبر فجزأها بين المسلمين، ثم قسم جزءًا لنفقة أهله، وما فضل منه جعله في فقراء المهاجرين".
ولا تعارض بينهما؛ لاحتمال أن يُقسَم في فقراء المهاجرين، وفي مُشْتَرى السلاح والكراع، وذلك مفسِّر لرواية معمر عند مسلم:"ويجعل ما بَقِيَ منه مَجْعَل مال الله"، وزاد أبو داود في رواية أبي الْبَخْتَري المذكورة:"وكان ينفق على أهله، ويتصدق بفضله".
وهذا لا يعارض حديث عائشة رضي الله عنها: أنه صلى الله عليه وسلم تُوُفّي ودرعه مرهونة على
شعير"؛ لأنه يُجمع بينهما بأنه كان يدّخر لأهله قوت سنتهم، ثم في طول السنة يَحتاج لمن يَطْرُقه إلى إخراج شيء منه، فيُخرجه، فيحتاج إلى أن يُعَوِّض من يأخذ منها عِوَضه، فلذلك استدان. انتهى ما في "الفتح"
(1)
، وهو بحث مفيد جدًّا، والله تعالى أعلم.
(قَالَ: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ})، وقوله:(مَا أَدْرِي هَلْ قَرَأَ الآيَةَ الَّتِي قَبْلَهَا أَمْ لَا؟) هذا تردّد من بعض الرواة: هل قرأ عمر رضي الله عنه الآية السابقة مع هذه، أم لم يقرأها؟، وقد ثبت في رواية البخاريّ أنه قرأها، ونضه:"ثم قرأ: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ} إلى قوله: {قَدِيرٌ} "، قال في "العمدة": وتمام الآية: {فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ
(1)
"الفتح" 7/ 358 - 359، كتاب "فرض الخمس" رقم (3094).
يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الحشر: 6]؛ أي: وما رَدّ الله على رسوله صلى الله عليه وسلم، ورجع إليه، ومنه فيء الظل، والفيء كالعَوْد، والرجوع يُستعمل بمعنى المصير، وإن لم يتقدم ذلك.
وقوله: {فَمَا أَوْجَفْتُمْ} من الإيجاف، من الوَجِيف، وهو السير السريع، والمعنى: إنما جعل الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم من أموال بني النضير شيئًا لم تُحَصِّلوه بالقتال والغلبة، ولكن سَلّط الله رسوله صلى الله عليه وسلم عليهم، وعلى أموالهم، كما كان يسلط رسله على أعدائهم، فالأمر فيه مُفَوَّض إليه، يضعه حيث يشاء، وهو معنى قوله:"فكانت هذه خالصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا حقّ لأحد فيها، فكان يأخذ منها نفقته، ونفقة أهله، ويصرف الباقي في مصالح المسلمين". انتهى
(1)
.
(قَالَ: فَقَسَمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَكُمْ أَمْوَالَ بَنِي النَّضِير، فَوَاللهِ مَا اسْتَأْثَرَ عَلَيْكُمْ)؛ أي: ما اختصّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بها نفسه، وإنما أنفقها عليكم (وَلَا أخَذَهَا دُونَكُمْ، حَتَّى بَقِيَ هَذَا الْمَالُ)؛ أي: المال الذي وقعت فيه الخصومة بين العبّاس وعليّ رضي الله عنهما، وفي رواية للبخاريّ: "قال عمر: فإني أحدّثكم عن هذا الأمر، إن الله قد خصّ رسوله صلى الله عليه وسلم في هذا الفيء بشيء لم يُعطه أحدًا غيره، ثم قرأ:{وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ} إلى قوله: {قَدِيرٌ} [الحشر: 6]، فكانت هذه خالصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ووالله ما احتازها دونكم، ولا استأثر بها عليكم، قد أعطاكموها، وبثّها فيكم، حتى بقي منها هذا المال، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُنفق على أهله نفقة سنتهم
…
" الحديث.
(فَكَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَأْخُذُ مِنْهُ نَفَقَةَ سَنَةٍ، ثُمَّ يَجْعَلُ مَا بَقِيَ أُسْوَةَ الْمَالِ) بضمّ الهمزة، وكسرها؛ أي: تابعًا للمال المعذ لمصالح المسلمين، وفي رواية معمر التالية:"ثم يجعل ما بقي منه مَجْعل مال الله عز وجل ". (ثُمَّ قَالَ) عمر رضي الله عنه لعثمان، وعبد الرحمن، والزبير وسعد رضي الله عنه (أَنْشُدُكُمْ) بفتح أوله، وضمّ ثالثه، مضارع نَشَدَ ثلاثيًّا، من باب نصر، يقال: نشدتك اللهَ، وبالله أنشُدُك: ذَكَّرتك به، واستعطفتك، أو سألتك مُقسِمًا عليك
(2)
، وهذا المعنى الأخير هو المناسب
(1)
"عمدة القاري" 15/ 25.
(2)
"المصباح المنير" 2/ 605.
هنا، (بِاللهِ الَّذِي بإِذْنِهِ تَقُومُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ، أتعْلَمُونَ ذَلِكَ؟ قَالُوا: نَعَمْ، ثُمَّ نَشَدَ عَبَّاسًا وَعَلِيًّا) رضي الله عنهما (بِمِثْلِ مَا نَشَدَ بِهِ الْقَوْمَ، أتعْلَمَانِ ذَلِكَ؟ قَالَا: نَعَمْ، قَالَ) عمر رضي الله عنه (فَلَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وفي رواية للبخاريّ: "ثم تَوَفَّى الله نبيّه صلى الله عليه وسلم، فقال أبو بكر: أنا وفي رسول الله صلى الله عليه وسلم
…
"، (قَالَ أَبُو بَكْرٍ) الصدّيق رضي الله عنه (أَنَا وَلِيُّ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَجِئْتُمَا، تَطْلُبُ مِيرَاثَكَ) يريد العبّاس رضي الله عنه، (مِنَ ابْنِ أَخِيكَ) يريد النبيّ صلى الله عليه وسلم، (وَيَطْلُبُ هَذَا) يريد عليًّا رضي الله عنه، (مِيرَاثَ امْرَأَتِهِ) فاطمة رضي الله عنهما (مِنْ أَبِيهَا) صلى الله عليه وسلم، (فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ) رضي الله عنه (قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "ما) نافية؛ أي: لا، (نُورَثُ، مَا تَرَكْنَا)"ما" اسم موصول مبتدأ، والعائد محذوف، وقوله:(صَدَقَةٌ") خبر المبتدإ؛ أي: المال الذي تركناه بعد موتنا يكون صدقة على المحتاجين، (فَرَأَيْتُمَاهُ كَاذِبًا، آثِمًا، غَادِرًا، خَائِنًا)، وفي رواية عقيل: وأنتما حينئذ - وأقبل على عليّ وعباس - تزعمان أن أبا بكر كذا وكذا"، وفي رواية شعيب: "كما تقولان"، قال في "الفتح": وكأن الزهريّ كان يحدث به تارةً، فيصرّح، وتارةً، فيكني، وكذلك مالك، وقد حُذف ذلك في رواية بشر بن عمر عنه، عند الإسماعيليّ، وغيره، وهو نظير ما سبق من قول العباس لعليّ رضي الله عنهما، وهذه الزيادة من رواية عمر عن أبي بكر، حُذفت من رواية إسحاق الْفَرْويّ شيخ البخاريّ.
وقد ثبت أيضًا في رواية بشر بن عمر عنه عند أصحاب "السنن"، والإسماعيليّ، وعَمرو بن مرزوق، وسعيد بن داود، كلاهما عند الدارقطنيّ، عن مالك، على ما قال جويرية، عن مالك، واجتماع هؤلاء عن مالك يدلّ على أنهم حفظوه.
وهذا القدر المحذوف من رواية إسحاق ثبت من روايته في موضع آخر من الحديث، لكن جعل القصّة فيه لعُمر، حيث قال:"جئتني يا عباس تسألني نصيبك من ابن أخيك"، وفيه:"فقلت لكما: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا نورث"، فاشتمل هذا الفصل على مخالفة إسحاق لبقية الرواة عن مالك، في كونهم جعلوا القصّة عند أبي بكر، وجعلوا الحديث المرفوع من حديث أبي بكر، من رواية عمر عنه، وإسحاق الفَرْويّ جعل القصّة عند عمر، وجعل الحديث المرفوع من روايته، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم بغير واسطة أبي بكر.
وقد وقع في رواية شعيب، عن ابن شهاب نظير ما وقع في رواية إسحاق الْفَرْويّ سواءً، وكذلك وقع في رواية يونس، عن ابن شهاب، عند عُمر بن شَبّة.
وأما رواية عُقيل عند البخاريّ في "الفرائض" فاقتصر فيها على أن القصة وقعت عند عمر بغير ذكر الحديث المرفوع أصلًا، قال الحافظ: وهذا يُشعر بأن لسياق إسحاق الْفَرْويّ أصلًا، فلعل القصتين محفوظتان، واقتصر بعض الرواة على ما لم يذكره الآخر، ولم يتعرض أحد من الشراح لبيان ذلك.
وفي ذلك إشكال شديد، وهو أن أصل القصة صريح في أن العباس وعليًّا رضي الله عنهما قد عَلِما بأنه صلى الله عليه وسلم قال:"لا نورث"، فإن كانا سمعاه من النبيّ صلى الله عليه وسلم، فكيف يطلبانه من أبي بكر؟، وإن كانا إنما سمعاه من أبي بكر، أو في زمنه، بحيث أفاد عندهما العلم بذلك، فكيف يطلبانه بعد ذلك من عمر؟.
قال الحافظ: والذي يظهر - والله أعلم - حَمْلُ الأمر في ذلك كما سيأتي في الحديث الآتي في حقّ فاطمة رضي الله عنه، وأن كلًّا من عليّ، وفاطمة، والعباس رضي الله عنهم اعتقد أن عموم قوله:"لا نورث" مخصوص ببعض ما يَخْلُفُه دون بعض، ولذلك نَسَب عمر إلى عليّ وعباس أنهما كانا يعتقدان ظلم من خالفهما في ذلك.
وأما مخاصمة عليّ وعباس بعد ذلك ثانيًا عند عمر، فقال إسماعيل القاضي - فيما رواه الدارقطنيّ من طريقه -: لم يكن في الميراث إنما تنازعا في ولاية الصدقة، وفي صرفها، كيف تُصْرَف؟ كذا قال، لكن في رواية النسائيّ، وعُمر بن شَبَّة من طريق أبي الْبَخْتَريّ ما يدلّ على أنهما أرادا أن يَقْسِم بينهما على سبيل الميراث، ولفظه في آخره:"ثم جئتماني الآن تختصمان، يقول هذا: أريد نصيبي من ابن أخي، ويقول هذا: أريد نصيبي من امرأتي، والله لا أقضي بينكما إلا بذلك"؛ أي: إلا بما تقدَّم من تسليمها لهما على سبيل الولاية.
وكذا وقع عند النسائيّ من طريق عكرمة بن خالد، عن مالك بن أوس نحوه، وفي "السنن" لأبي داود وغيره: أرادا أن عمر يقسمها لينفرد كل منهما بنظر ما يتولاه، فامتنع عمر من ذلك، وأراد أن لا يقع عليها اسم قَسْم، ولذلك أقسم على ذلك، وعلى هذا اقتصر أكثر الشُّرّاح، واستحسنوه، وفيه من النظر ما تقدم.
وأعجب من ذلك جَزْم ابن الجوزيّ، ثم الشيخ محيي الدين بأن عليًّا وعباسًا لم يطلبا من عمر إلا ذلك، مع أن السياق صريح في أنهما جاءاه مرتين في طلب شيء واحد، لكن العذر لابن الجوزيّ والنوويّ أنهما شرحا اللفظ الوارد في مسلم دون اللفظ الوارد في البخاريّ، والله أعلم.
وأما قول عمر: "جئتني يا عباس تسألني نصيبك من ابن أخيك"، فإنما عبَّر بذلك لبيان قسمة الميراث، كيف يُقْسَم أن لو كان هناك ميراث؟ لا أنه أراد الغض منهما بهذا الكلام.
وزاد الإمامي عن ابن شهاب عند عُمر بن شَبّة في آخره: (فأَصْلِحا أمركما، وإلا لم يُرجع والله إليكما، فقاما، وتركا الخصومة، وأُمضيت صدقةً"، وزاد شعيب في آخره: "قال ابن شهاب: فحَدَّثت به عروة، فقال: صدق مالك بن أوس، أنا سمعت عائثة تقول، فذكر حديثًا، قال: وكانت هذه الصدقة بيد عليّ منعها عبّاسًا، فغلبه عليها، ثم كانت بيد الحسن، ثم بيد الحسين، ثم بيد عليّ بن الحسين، والحسن بن الحسن، ثم بيد زيد بن الحسن، وهي صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم حقًّا".
ورَوَى عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهرفي مثله، وزاد في آخره:"قال معمر: ثم كانت بيد عبد الله بن حسن، حتى ولي هؤلاء - يعني: بني العباس - فقبضوها"، وزاد إسماعيل القاضي:"أن إعراض العباس عنها كان في خلافة عثمان"، قال عمر بن شبة: سمعت أبا غسان - هو محمد بن يحيى المدني - يقول: "إن الصدقة المذكورة اليوم بيد الخليفة يَكْتب في عَهْده يولِّي عليها مِنْ قِبَله مَن يقبضها، ويفرّقها في أهل الحاجة، من أهل المدينة".
قال الحافظ: كان ذلك على رأس المائتين، ثم تغيّرت الأمور، والله المستعان. انتهى
(1)
.
وقد استشكل الكرمانيّ عز وجل، فقال: إن كان الدفع إليهما صوابًا، فلِمَ لم يدفعه عمر رضي الله عنه في أول الحال؛ وإلا فلم دفعه في الآخر؟
وأجاب بأنه مَنَعهما أوّلًا على الوجه الذي كانا يطلبانه من التملك، وثانيًا
(1)
"الفتح" 7/ 360 - 361، كتاب "فرض الخمس" رقم (3094).
أعطاهما على وجه التصرف فيها، كما تصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحباه: أبو بكر وعمر رضي الله عنهما.
وقال الخطابيّ هذه القصة مُشكِلة جدًّا، وذلك أنهما إذا كانا قد أخذا هذه الصدقة من عمر على الشريطة التي شَرَطها عليهم، وقد اعترفا بأنه قال صلى الله عليه وسلم:"ما تركنا صدقةٌ"، وقد شهد المهاجرون بذلك، فما الذي بدا لهما بعدُ حتى تخاصما؟
والمعنى في ذلك أنه كان يَشُقّ عليهما الشركة، فطلبا أن يُقْسَم بينهما؛ ليستبدّ كل واحد منهما بالتدبير، والتصرف فيما يصير إليه، فمنعهما عمر رضي الله عنه القَسْم؛ لئلا يجري عليها اسم المُلك؛ لأن القسمة إنما تقع في الأموال، ويتطاول الزمان، فتُظَنّ به الملكية، وقال أبو داود: ولمّا صارت الخلافة إلى عليّ رضي الله عنه لم يغيرها عن كونها صدقة. انتهى
(1)
.
(وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّهُ)؛ أي: إن أبا بكر رضي الله عنه، و"إنه" بكسر الهمزة؛ لدخول اللام في خبرها، كما قال في "الخلاصة":
وَبَعْدَ ذَاتِ الْكَسْرِ تَصْحَبُ الْخَبَرْ
…
لَامُ ابْتِدَاءٍ نَحْوُ "إِنِّي لَوَزَرْ"
(لَصَادِقٌ) فيما قاله، (بَارٌّ) بتشديد الراء: اسم فاعل من برّ، يقال: بَرَّ الرجلُ يَبَرّ بِرًّا، وزانُ عَلِمَ يَعْلَمُ عِلْمًا، فهو بَرّ بالفتح، وبارّ أيضًا؛ أي: صادقٌ، أو تقيّ، وهو خلاف الفاجر، وجمع الأول أَبْرَاز، وجمع الثاني: بَرَرَ"، مثلُ كافر وكَفَرَةٌ، ومنه قولهم للمؤذّن: "صدقتَ، وبَرَرتَ"؛ أي: صدقت في دعواك إلى الطاعات، وصِرْت بارًّا، دعاء له بذلك، ودعاءٌ له بالقبول، والأصل: بَرّ عملك، وبَرِرْتُ والدي أبرّه برًّا، وبُرُورًا: أحسنتُ الطاعة إليه، ورَفقتُ به، وتحرّيتُ محابّه، وتوقّيتُ مكارهه، قاله الفيّوميّ
(2)
.
(رَاشِدٌ) اسم فاعل، من رَشَدَ رَشَدًا، من باب تَعِبَ، ورَشَد يرشُد، من باب نصر، والاسم: الرَّشَادُ، من الرشد، وهو الصلاح، وهو خلاف الغيّ والضلال، وهو إصابة الحقّ
(3)
، وقوله:(تَابعٌ لِلْحَقِّ) مؤكّد لما سبق، (ثُمَّ تُوُفِّيَ) بالبناء
(1)
"عمدة القاري" 15/ 25.
(2)
"المصباح المنير" 1/ 43.
(3)
راجع: "المصباح المنير"1/ 227.
للمفعول؛ أي: مات (أَبُو بَكْرٍ) رضي الله عنه (وَأَنَا وَليُّ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَوَليُّ أَبِي بَكْرٍ) رضي الله عنه، وفي رواية البخاريّ:"ثم تَوَفَّى اللهُ أبا بكر، فكنت أنا وليّ أبي بكر"، (فَرَأَيْتُمَانِي كَاذِبًا، آثِمًا، غَادِرًا، خَائِنًا، وَاللهُ يَعْلَمُ إِنِّي) بكسر الهمزة على ما تقدّم توجيهه، (لَصَادِقٌ، بَارّ، رَاشِدٌ، تَابعٌ لِلْحَقّ، فَوَليتُهَا) بفتح الواو، وكسر اللام، من باب وَرَثَ؛ أي: صرت واليًا عليها، ومتصرّفًا فيها، ويَحْتَمل أن يكون بتشديد اللام، مبنيًّا للمفعول. (ثُمَّ جِئْتَنِي أَنْتَ) يريد عبّاسًا، (وَهَذَا) يريد عليًّا، وقوله:(وَأنتُمَا جَمِيعٌ) جملة في محلّ نصب على الحال؛ أي: والحال أنكما مجتمعان، لا اختلاف بينكما، فقوله:(وَأَمْرُكُمَا وَاحِدٌ) بمعناه، ومؤكّد له، (فَقُلْتُمَا: ادْفَعْهَا اِلَيْنَا، فَقُلْتُ: إِنْ شِئْتُمْ دَفَعْتُهَا إِلَيْكُمَا، عَلَى أَنَّ عَلَيْكُمَا عَهْدَ اللهِ) بنصب "عهدَ" على أنه اسم "أنّ" مؤخّرًا، وخبرها الجارّ والمجرور قبله؛ أي: على أن ميثاق الله عليكما، (أنْ تَعْمَلَا فِيهَا)"أن" مصدريّة، والمصدر المؤوّل مجرور بحرف جرّ مقدّر؛ أي: على العمل، (بالَّذِي)؛ أي: بالعمل الذي (كَانَ يَعْمَلُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم)؛ أي: به، فحذف العائد، (فَأَخَذْتُمَاهَا بِذَلِكَ)؛ أي: بالعهد المذكور. (قَالَ) عمر رضي الله عنه (أَكَذَلِكَ؟)؛ أي: هل الأمر كما ذكرت لكما؟، (قَالَا)؛ أي: عبّاس وعليّ رضي الله عنهما (نَعَمْ) الأمر كما ذكرت، (قَالَ) عمر رضي الله عنه (ثُمَّ جِئْتُمَانِي)؛ أي: الآن (لأَقضِيَ بَيْنَكُمَا)؛ أي: بغير ما ذُكر، وهو أن يقسمه بينهما، ويُعيّن لكلّ واحد منهما نصيبًا معيّنًا يقوم فيه وحده بلا مناعة أحد، (وَلَا وَاللهِ لَا أَقْضِي بَيْنَكُمَا)"لا" الثانية مؤكّدة للأولى، وتوسّط بينهما القسم، (بِغَيْرِ ذَلِكَ)؛ أي: بغير ما سبق بيانه؛ يعني: بأن يَقسم توليته بينهما بما يوهم أنه قسم الأرض بينهما تمليكًا، قال أبو داود رحمه الله في "سُننه" بعد روايته هذا الحديث:"إنما سألاه أن يكون يصيّره بينهما نصفين، لا أنهما جَهِلا أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: لا نورث، ما تركنا صدقة، فإنهما كانا لا يطلبان إلا الصواب، فقال عمر: لا أُوقع عليه اسم القسم، أَدَعُهُ على ما هو عليه". انتهى
(1)
.
(حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ)؛ يعني: أن هذا الحكم لا يتغيّر أبدًا؛ لأنه مبنيّ على ما سَنَّه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا نَسْخ بعده، (فَإِنْ عَجَزْتُمَا عَنْهَا)؛ أي: عن القيام
(1)
"سنن أبي داود" 3/ 139.
بهذه الصدقات حقّ القيام (فَرُدَّاهَا إِلَيَّ)؛ أي: حتى أقوم بها مثلما قمت بها سابقًا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عمر بن الخطّاب رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [15/ 4565 و 4566 و 4567 و 4568](1757)، و (البخاريّ) في "الجهاد"(2904) و"فرض الخمس"(3094) و"المغازي"(4033) و"التفسير"(4885) و"النفقات"(5357) و"الفرائض"(5358) و (6728) و"الاعتصام"(7305)، و (أبو داود) في "الجهاد"(2963 و 2965)، و (الترمذيّ) في "السير"(1610)، و (النسائيّ) في "قسم الفيء"(7/ 136 - 137) و"الكبرى"(3/ 49 و 4/ 64 - 65)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(9772)، و (الحميديّ) في "مسنده"(22)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 25 و 48 و 162 و 164 و 179 و 191)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6608)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 245 و 246 و 248)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(1/ 276)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(2 و 3 و 4)، و (ابن سعد) في "الطبقات"(2/ 314)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(2/ 4 و 5 و 3/ 28 و 307)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(6/ 297 - 298)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(2738) وفي "التفسير"(4/ 416)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان أن الأنبياء لا يورثون، قال العلماء: والحكمة في أنهم لا يورثون أنه لا يؤمَن أن يكون في الورثة من يتمنّى موتهم، فيهلك، ولئلا يُظنّ بهم الرغبة في الدنيا، وأنهم إنما يجمعون المال لوارثيهم، فيهلك الظانّ، وينفر الناس عنهم
(1)
.
2 -
(ومنها): أنه ينبغي أن يُوَلَّى أمرَ كل قبيلة سيدُهم، وتُفوَّض إليه
(1)
"شرح النوويّ" 12/ 74.
مصلحتهم؛ لأنه أعرف بهم، وأرفق بهم، وأبعد من أن يَأْنَفُوا من الانقياد له، ولهذا قال الله تعالى:{فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} [النساء: 35].
3 -
(ومنها): جواز مناداة الرجل الشريف الكبير باسمه، وبالترخيم حيث لم يُرَد بذلك تنقيصه.
4 -
(ومنها): جواز استعمال الترخيم، ولا عار على المنادَى بذلك، ولا نقيصة.
5 -
(ومنها): استعفاء الشخص من الولاية، وسؤاله الإمام ذلك بالرفق؛ لِعِظم مسؤوليّتها.
6 -
(ومنها): جواز احتجاب المتولي في وقت الحاجة؛ لطعامه، أو وضوئه، أو نحو ذلك.
7 -
(ومنها): جواز قبول خبر الواحد.
8 -
(ومنها): استشهاد الإمام على ما يقوله بحضرة الخصمين العدولَ؛ لتقوى حجته في إقامة الحقّ، وقمع الخصم.
9 -
(ومنها): جواز الجلوس بين يدي الإمام، والشفاعة عنده في إنفاذ الحكم، وتبيين الحاكم وجه حكمه.
10 -
(ومنها): إقامة الإمام من ينظر على الوقف نيابة عنه، والتشريك بين الاثنين في ذلك، ويؤخذ منه جواز أكثر منهما بحسب المصلحة.
11 -
(ومنها): جواز ادّخار القوت لسنة؛ خلافًا لقول من أنكره من متشددي المتزهدين، وأن ذلك لا ينافي التوكل.
12 -
(ومنها): جواز اتخاذ العَقار، واستغلال منفعته، ويؤخذ منه جواز اتخاذ غير ذلك من الأموال التي يحصل بها النماء والمنفعة، من زراعة، وتجارة، وغير ذلك.
13 -
(ومنها): أن الإمام إذا قام عنده الدليل صار إليه، وقضى بمقتضاه، ولم يَحْتَج إلى أخذه من غيره.
14 -
(ومنها): أنه يؤخذ منه جواز حكم الحاكم بعلمه.
15 -
(ومنها): أن الأتباع إذا رأوا من الكبير انقباضًا لم يفاتحوه، حتى يفاتحهم بالكلام.
16 -
(ومنها): أنه استُدِلّ به على أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان لا يملك شيئًا من الفيء، ولا خمس الغنيمة إلا قدر حاجته، وحاجة من يمونه، وما زاد على ذلك كان له فيه التصرف بالقسم، والعطية.
وقال آخرون: لم يجعل الله لنبيّه صلى الله عليه وسلم مُلك رقبة ما غَنِمه، وإنما مَلَّكه منافعه، وجعل له منه قدر حاجته، وكذلك القائم بالأمر بعده.
وقال ابن الباقلاني في الردّ على من زعم أن النبيّ صلى الله عليه وسلم يورث: احتجوا بعموم قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} [النساء: 11] قال: أما من أنكر العموم، فلا استغراق عنده لكل من مات أنه يورث، وأما من أثبته فلا يُسَلِّم دخول النبيّ صلى الله عليه وسلم في ذلك، ولو سُلِّم دخوله لوجب تخصيصه؛ لصحة الخبر، وخبر الآحاد يخصِّص، وإن كان لا يَنسخ، فكيف بالخبر إذا جاء مثل مجيء هذا الخبر، وهو:"لا نورث"؟ انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قول الباقلّانيّ: "وإن كان لا يَنسخ" فيه أن الحقّ جواز نسخ الكتاب بخبر الواحد، راجع ما كتبته على "الكوكب الساطع" في الأصول (ص 232 - 233)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "إنا لا نورث ما تركناه، فهو صدقة":
ذهب قوم من أهل البصرة منهم ابن علية إلى أن هذا مما خُصّ به نبينا صلى الله عليه وسلم زيادة في فضله، كما خُصّ بما خُصّ به من نكاح فوق الأربع بالموهوبة من غير صداق، إلى أشياء خصه الله بها؛ زيادةً في فضائله صلى الله عليه وسلم.
وذهب آخرون إلى أن ذلك للأنبياء كلهم، لا يورثون، وما تركوا فهو صدقة.
واحتجوا بما أخرجه الدارقطنيّ عن ابن شهاب، عن مالك بن أوس بن الحدثان، قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول: حدّثنا أبو بكر، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"إنا معشر الأنبياء ما تركنا فهو صدقة".
(1)
"الفتح" 7/ 359 - 360، كتاب "فرض الخمس" رقم (3094).
وبما أخرجه ابن عبد البرّ قال: حدّثنا سعيد بن نصر، قال: حدّثنا قاسم بن أصبغ، قال: حدّثنا محمد بن إسماعيل، قال: حدّثنا الحميديّ، قال: حدّثنا سفيان، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنا معشر الأنبياء لا نورث، ما تركنا فهو صدقة، بعد نفقة نسائي، ومؤنة عامِلِي".
ورواه مالك في "الموطأ" عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يقتسم ورثتي دنانير، ما تركت بعد نفقة نسائي، ومؤنة عاملي، فهو صدقة".
قال أبو عمر: هكذا قال يحيى: "دنانير"، وغيره من رواة "الموطأ" يقولون:"لا يقتسم ورثتي دينارًا".
قال: فعلى هذين القولين جماعة علماء السلف، إلا الروافض، وهم لا يُعَدُّون خلافًا؛ لشذوذهم فيما ذهبوا إليه في هذا الباب عن سبيل المؤمنين، ولا حجة لهم في قول الله تعالى:{وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ} [النمل: 16]، وقوله:{يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} [مريم: 6]؛ لأن سليمان إنما ورث من داود النبوة، والعلم، والحكمة، كذلك قال جماعة العلماء بتأويل القرآن، وكذلك قالوا في قوله تعالى:{يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} ، إلا الحسن، فإنه قال: يرثني مالًا، ويرث من آل يعقوب النبوة، والحكمة.
وكيف يسوغ لمسلم أن يظن أن أبا بكر رضي الله عنه منع فاطمة ميراثها من أبيها؟ ومعلوم عند جماعة العلماء أن أبا بكر رضي الله عنه كان يعطي الأحمر والأسود، ويسوي بين الناس في العطاء، ولم يستأثر لنفسه بشيء، ويستحيل في العقل أن يمنع فاطمة، ويردّه على سائر المسلمين، وقد أمر بنيه أن يردّوا ما زاد في ماله منذ وَلي أمر المسلمين إلى بيت المال، وقال: إنما كان لنا من أموالهم ما لَبِسنا على ظهورنا، وما أكلنا من طعامهم.
ورَوَى أبو ضمرة أنس بن عياض، عن عبيد الله بن عمر، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، أن أبا بكر لمّا حضرته الوفاة قال لعائشة: ليس عند آل أبي بكر شيء غير هذه اللِّقْحة، والغلام الصغير، كان يعمل سيوف
المسلمين، ويخدُمنا، فإذا مت فادفعيه إلى عمر، فلما مات دفعته إلى عمر، فقال عمر: رحم الله أبا بكر لقد أتعب مَن بعده.
قال أبو عمر: لم ير أبو بكر مما يخلفه رسول الله صلى الله عليه وسلم من بني النضير، وفدك، وسهمه بخيبر، وغير ذلك مما أفاء الله عليه، إلا أن يليه بما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه، فيُنفق منه على عيال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويأخذ منه لهم كل عام قوت العام، ويجعل ما فَضَل في الكراع والسلاح، كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل.
وفي هذه الولاية تخاصَم إليه عليّ والعباس ليليها كل واحد منهما بما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يليها به.
ورَوَى حماد بن سلمة، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن أبي بكر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا نورث"، ولكنى أعول من كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعول، وأُنفق على ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينفق. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: الذي يظهر من مجموع الأدلّة أن قوله صلى الله عليه وسلم: "لا نورث" عامّ يعمّه وغيره من الأنبياء، فهذا هو الصحيح، وما استدلّ به الآخرون من قوله تعالى:{وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ} ونحوه، فهو وراثة النبوّة والعلم، لا وراثة المال، فتأمل بالإمعان، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الخامسة): في اختلاف أهل العلم في مصرف الفيء:
ذهب مالك رحمه الله إلى أن الفيء والخمس سواءٌ، يُجعلان في بيت المال، ويُعطي الإمام أقارب النبيّ صلى الله عليه وسلم بحسب اجتهاده.
وذهب الجمهور إلى الفرق بين خُمس الغنيمة، وبين الفيء، فقالوا: الخُمس موضوع فيما عيّنه الله فيه من الأصناف المسمَّين في آية الخمس، من "سورة الأنفال"، لا يُتَعدَّى به إلى غيرهم، وأما الفيء فهو الذي يرجع النظر في مصرفه إلى رأي الإمام، بحسب المصلحة.
وانفرد الشافعيّ - كما قال ابن المنذر وغيره - بأن الفيء يخمس، وأن
(1)
"الاستذكار" 8/ 590 - 592.
أربعة أخماسه للنبيّ صلى الله عليه وسلم وله خمس الخمس، كما في الغنيمة، وأربعة أخماس الخمس لمستحق نظيرها من الغنيمة.
وقال الجمهور: مصرف الفيء كله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، واحتجوا بقول عمر رضي الله عنه:"فكانت هذه لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصّةً"، وتأول الشافعيّ قول عمر رضي الله عنه المذكور بأنه يريد الأخماس الأربعة
(1)
.
وقال الإمام ابن القيّم رحمه الله في "الهدي": وقد اختلف الفقهاء في الفيء، هل كان ملكًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، يتصرّف فيه كيف يشاء، أو لم يكن ملكًا له؟ على قولين في مذهب أحمد وغيره.
والذي تدلّ عليه سُنَنه، وهديه أنه كان يتصرّف فيه بالأمر، فيضعه حيث أمره الله، ويَقسمه على من أُمر بقسمته عليهم، فلم يكن يتصرّف فيه تصرّف المالك بشهوته، وإرادته، يُعطي من أحبّ، ويمنع من أحبّ، وإنما كان يتصرّف فيه تصرّف العبد المأمور، يُنقذ ما أمره به سيّده ومولاه، فيُعطي من أُمر بإعطائه، ويمنع من أُمر بمنعه، وقد صَزَحَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا، فقال:"والله إني لا أعطي أحدًا، ولا أمنعه، إنما أنا قاسم أضع حيث أُمرت"، فكان عطاؤه ومَنْعه وقَسْمه بمجرّد الأمر، فإن الله سبحانه خئره بين أن يكون عبدًا رسولًا، وبين أن يكون مَلِكًا رسولًا، فاختار أن يكون عبدًا رسولًا.
والفرق بينهما أن العبد الرسول لا يتصرّف إلا بأمر سيّده ومُرسله، والملِك الرسول له أن يُعطي من يشاء، وَيمنع من يشاء، كما قال تعالى للملك الرسول سليمان عليه السلام:{هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (39)} [ص: 39]؛ أي: أعط من شئت، وامنع من شئت، لا نُحاسبك، وهذه المرتبة التي عُرِضت على نبيّنا صلى الله عليه وسلم، فرغِب عنها إلى ما هو أعلى منها، وهي مرتبة العبوديّة المحضة التي تصرّف صاحبها فيها مقصور على أمر السيّد في كلّ دقيق وجليل.
والمقصود أن تصرّفه في الفيء بهذه المثابة، فهو ملك يُخالف حكم غيره من المالكين، ولهذا كان يُنفق مما أفاء الله عليه، مما لم يوجِف المسلمون عليه بِخَيْل، ولا رِكاب على نفسه، وأهله نفقة سنتهم، ويجعل الباقي في
(1)
"الفتح" 7/ 361، كتاب "فرض الخمس" رقم (3094).
الكُرَاع والسلاح، عُدَّةً في سبيل الله عز وجل، وهذا النوع من الأموال هو السهم الذي وقع فيه بعده فيه من النزاع ما وقع إلى اليوم.
فأما الزكوات، والغنائم، وقسمة المواريث، فإنها مُعيَّنَةٌ لأهلها، لا يَشرَكهم غيرهم فيها، فلم يُشكل على ولاة الأمر بعده من أمرها ما أشكل عليهم من الفيء، ولم يقع فيها من النزاع ما وقع فيه، ولولا إشكالُ أَمْره عليهم، لَمَا طَلَبت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ميراثها مِن تَرِكَته، وظنّت أنه يورث عنه ما كان مُلكًا له كسائر المالكين، وخفي عليها رضي الله عنها حقيقة الملك الذي ليس مما يورث عنه، بل هو صدقةٌ بعده، ولَمّا عَلِم ذلك خليفته الراشد البارّ الصّدّيق، ومن بعده من الخلفاء الراشدين، لم يجعلوا ما خلفه من الفيء ميراثًا يُقسم بين ورثته، بل دفعوه إلى عليّ والعبّاس، يعملان فيه عملَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى تنازعا فيه، وترافعا إلى أبي بكر الصّدّيق وعمر رضي الله عنهم، ولم يَقسِم أحدٌ منهما ذلك ميراثًا، ولا مكّنا منه عبّاسًا وعليًّا، وقد قال الله تعالى:{مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} إلى قوله: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} الآيات [الحشر: 7 - 10]، فأخبر سبحانه أن ما أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم بجملته لمن ذُكر في هذه الآيات، ولم يخصّ منه خمسه بالمذكورين، بل عمّم، وأطلق، واستوعب، ويُصرف على المصارف الخاصّة، وهم أهل الخمس، ثم على المصارف العامّة، وهم المهاجرون والأنصار، وأتباعهم إلى يوم الدين، فالذي عمِل به هو، وخلفاؤه الراشدون هو المراد من هذه الآيات، ولذلك قال عمر بن الخطّاب رضي الله عنه فيما رواه أحمد رحمه الله وغيره عنه:"ما أحد أحقّ بهذا المال من أحد، وما أنا أحقّ به من أحد، والله ما من المسلمين أحدٌ إلا وله في هذا المال نصيبٌ، إلا عبد مملوك، ولكنّا على منازلنا من كتاب الله، وقَسْمِنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالرجل وبلاؤه في الإسلام، والرجل وقِدَمه في الإسلام، والرجل وغَنَاؤه في الإسلام، والرجل وحاجته، ووالله لئن بقِيتُ لهم ليأتينّ الراعي بجبل صنعاء حظّه من هذا المال، وهو يرعى مكانه".
فهؤلاء المسمّون في آية الفيء هم المسمّون في آية الخمس؛ لأنهم المستحقّون لجملة الفيء، وأهل الخمس لهم استحقاقان: استحقاقٌ خاصّ من الخمس، واستحقاق عامّ من جملة الفيء، فإنهم داخلون في النصيبين، وكما
أن قسمته من جملة الفيء بين من جُعل له ليس قسمةَ الأملاك التي يشترك فيها المالكون؛ كقسمة المواريث، والوصايا، والأملاك المطلقة، بل بحسب الحاجة، والنفع، والغناء في الإسلام، والبلاء فيه، فكذلك قسمة الخمس في أهله، فإن مخرجهما واحد في كتاب الله، والتنصيص على الأصناف الخمسة يُفيد تحقيق إدخالهم، وأنهم لا يخرجون من الفيء بحال، وأن الخمس لا يعدوهم إلى غيرهم؛ كأصناف الزكاة لا تعدوهم إلى غيرهم، كما أن الفيء العامّ في آية الحشر للمذكورين فيها، لا يتعدّاهم إلى غيرهم، ولهذا أفتى أئمة الإسلام؛ كمالك، وأحمد، وغيرهما أن الرافضة لا حقّ لهم في الفيء؛ لأنهم ليسوا من المهاجرين، ولا من الأنصار، ولا من الذين جاؤوا من بعدهم يقولون: ربّنا اغفر لنا، ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، وهذا مذهب أهل المدينة، واختيار شيخ الإسلام ابن تيميّة، وعليه يدلّ القرآن، وفِعلُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخلفائه الراشدين.
وقد اختلف الناس في آية الزكاة، وآية الخمس، فقال الشافعيّ: تجب قسمة الزكاة والخمس على الأصناف كفها، ويُعطي من كلّ صنف من يُطلق عليه اسم الجمع. وقال مالك، وأهل المدينة: بل يُعطي في الأصناف المذكورة فيهما، ولا يعدوهم إلى غيرهم، ولا تجب قسمة الزكاة، ولا الفيء في جميعهم. وقال أحمد، وأبو حنيفة بقول مالك رحمهم الله تعالى في آية الزكاة، وبقول الشافعيّ رحمه الله تعالى في آية الخمس.
ومن تأمّل النصوص، وعَمَلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخلفائه، وجده يدلّ على قول أهل المدينة، فإن الله سبحانه وتعالى، جعل أهل الخمس هم أهل الفيء، وعيّنهم اهتمامًا بشأنهم، وتقديمًا لهم، ولَمّا كانت الغنائم خاصّةً بأهلها، لا يَشْرَكُهم فيها سواهم، نصّ على خمسها لأهل الخمس، ولمّا كان الفيء لا يختصّ بأحد، دون أحد، جعل جملته لهم، وللمهاجرين والأنصار، وتابعيهم، فسوّى بين الخمس، وبين الفيء في المصرف، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يَصرِف سهم الله، وسهمه في مصالح الإسلام، وأربعة أخماس الخمس في أهلها، مقدّمًا الأهمّ، فالأهمّ، والأحوج، فالأحوج، فيُزوّج منه عزّابهم، وَيقضي منه ديونهم، ويُعين ذا الحاجة منهم، ويُعطي عَزَبهم حظًّا، ومتزوّجهم حظّين، ولم يكن هو، ولا
أحدٌ من خلفائه يجمعون اليتامى، والمساكين، وأبناء السبيل، وذوي القربى، ويقسمون أربعة أخماس الفيء بينهم على السويّة، ولا على التفضيل، كما لم يكونوا يفعلون ذلك في الزكاة، فهذا هديه، وسيرته صلى الله عليه وسلم، وهو فصل الخطاب، ومحض الصواب. انتهى كلام العلامة ابن القيّم رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي حقّقه ابن القيّم رحمه الله تحقيقٌ حسنٌ جدًّا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة السادسة): قال أبو عبد الله القرطبيّ رحمه الله في "تفسيره": لم يختلف العلماء أن قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ} [الأنفال: 41] ليس على عمومه، وأنه يدخله التخصيص، فمما خصّصوه بإجماع أن قالوا: سلب المقتول لقاتله، إذا نادى به الإمام، وكذلك الأسارى، الخيرة فيهم إلى الإمام بلا خلاف. ومما خُصّ منه أيضًاا لأرض، والمعنى: ما غنِمتم من ذهب وفضّة، وسائر الأمتعة، والسبي. وأما الأرض فغير داخلة في عموم هذه الآية؛ لما روى أبو داود عن عمر بن الخطّاب رضي الله عنه أنه قال: لولا آخر الناس ما فتحت قريةً إلا قسمتها كما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر.
ومما يُصحّح هذا المذهب ما رواه مسلم في "صحيحه" عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال:"منَعَت العراق قفيزها، ودرهمها، ومَنَعت الشام مُدّها، ودينارها" الحديث. قال الطحاويّ: "منعت" بمعنى ستمنع، فدلّ ذلك على أنها لا تكون للغانمين؛ لأن ما ملكه الغانمون لا يكون فيه قفيزٌ، ولا درهم، ولو كانت الأرض تُقسم ما بقي لمن جاء بعد الغانمين شيء، والله تعالى يقول:{وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} [الحشر: 10] بالعطف على قوله: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ [الحشر: 8]. قال: وإنما يُقسم ما يُنقل من موضع إلى موضع. وقال الشافعيّ: كلّ ما حصل من الغنائم من أهل الحرب من شيء، قلّ، أو كثر من دار، أو أرض، أو متاع، أو غير ذلك، قُسم، إلا الرجال البالغين، فإن الإمام فيهم مخيّرٌ أن يمُنّ، أو يقتُل، أو يسبي، وسبيل ما أُخذ منهم، وسُبي سبيل الغنيمة، واحتجّ بعموم الآية، قال: والأرض مغنومة، لا
(1)
"زاد المعاد في هدي خير العباد" 5/ 83 - 87.
مَحالةَ، فوجب أن تُقسم كسائر الغنائم، وقد قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما افتتح عَنْوةَ من خيبر. قالوا: ولو جاز أن يُدّعى الخصوص في الأرض جاز أن يُدّعى في غير الأرض، فيبطل حكم الآية. وأما آية الحشر، فلا حجة فيها؛ لأن ذلك إنما هو في الفيء، لا في الغنيمة، وقوله:{وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} [الحشر: 10] استئناف كلام بالدعاء لمن سبقهم بالإيمان، لا لغير ذلك. قالوا: وليس يخلو فعل عمر في توقيفه الأرض من أحد وجهين: إما أن تكون غنيمة استطاب أنْفُس أهلها، وطابت بذلك، فوقفها، وكذلك روى جرير أن عمر استطاب أنفس أهلها. وكذلك صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبي هَوَازن لَمّا أتوه استطاب أنفس أصحابه عما كان في أيديهم. وإما أن يكون ما وقفه عمر فيئًا، فلم يحتج إلى مُراضاة أحد.
وذهب الكوفيّون إلى تخيير الإمام في قسمها، أو إقرارها، وتوظيف الخراج عليها، وتصير مُلكًا لهم كأرض الصلح. قال أبو العبّاس القرطبيّ: وكأنّ هذا جَمْعٌ بين الدليلين، ووسطٌ بين المذهبين، وهو الذي فهمه عمر رضي الله عنه قطعًا، ولذلك قال:"لولا آخر الناس"، فلم يُخبر بنسخ فعل النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولا بتخصيصه بهم، غير أن الكوفيين زادوا على ما فعل عمر، فإنه إنما وقفها على مصالح المسلمين، ولم يملّكها لأهل الصلح، وهم قالوا: للإمام أن يملّكها لأهل الصلح. انتهى.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي الأرجح هو القول بأن الرأي للإمام في قسم الأراضي، أو توقيفها، كما فعل عمر رضي الله عنه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة السابعة): في اختلاف أهل العلم في كيفيّة قسم الخمس:
اختلفوا في ذلك على ستّة أقوال:
[الأول]: ذهبت طائفة إلى أنه يقسم الخمس على ستة، فيُجعل سدسه للكعبة، وهو الذي لله سبحانه. والثاني: لرسول الله صلى الله عليه وسلم. والثالث: لذوي القربى. والرابع: لليتامى. والخامس: للمساكين. والسادس: لابن السبيل. وقال بعض أصحاب هذا القول: يردّ السهم الذي لله على ذوي الحاجة.
[القول الثاني]: قال أبو العالية، والربيع: تقسم الغنيمة على خمسة،
فيُعزل منها سهم واحد، وتقسم الأربعة على الناس، ثم يضرب الإمام بيده على السهم الذي عزله، فما قبض عليه من شيء جعله للكعبة، ثم يقسم بقيّة السهم الذي عزله على خمسة: سهم للنبيّ صلى الله عليه وسلم، وسهم لذوي القربى، وسهم لليتامى، وسهم للمساكين، وسهم لابن السبيل.
[القول الثالث]: قال المنهال بن عمرو: سألت عبد الله بن محمد بن عليّ، وعليّ بن الحسين، عن الخمس؟ فقالا: هو لنا، قلت لعليّ: إن الله تعالى يقول: {وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الأنفال: 41]، فقالا: أيتامنا، ومساكيننا.
[القول الرابع]: قال الشافعيّ: يقسم على خمسة، ورأى أن سهم الله ورسوله واحدٌ، وأنه يُصرف في مصالح المسلمين، والأربعة الأخماس على الأربعة الأصناف المذكورين في الآية.
[الخامس]: قال أبو حنيفة: يقسم على ثلاثة: اليتامى، والمساكين، وابن السبيل، وارتفع عنده حكم قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم بموته، كما ارتفع حكم سهمه، قالوا: ويبدأ من الخمس بإصلاح القناطر، وبناء المساجد، وأرزاق القضاة والجند. وروي نحو هذا عن الشافعيّ أيضًا.
[السادس]: قال مالكٌ: هو موكولٌ إلى نظر الإمام واجتهاده، فيأخذ منه من غير تقدير، ويُعطي منه القرابة باجتهاده، ويصرف الباقي في مصالح المسلمين، وبه قال الخلفاء الأربعة، وبه عملوا، وعليه يدلّ قوله صلى الله عليه وسلم:"ما لي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس، والخمس مردود عليكم"، فإنه لم يَقسمه أخماسًا، ولا أثلاثًا، وإنما ذكر في الآية من ذكر على وجه التنبيه عليهم؛ لأنهم من أهمّ من يُدفع إليه. قال الزجّاج محتجّا لمالك: قال الله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [البقرة: 215]، وللرجل جائز بالإجماع أن يُنفق في غير هذه الأصناف إذا رأى ذلك. وقد تقدّم عند النسائيّ، قول عطاء: خمس الله، وخمس رسوله واحد، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يَحمل منه، ويُعطي منه، وبضعه حيث شاء، ويصنع به ما شاء. ذكر هذا كلّه القرطبيّ في "تفسيره"
(1)
.
(1)
"الجامع لأحكام القرآن" 8/ 4 - 5.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: أرجح الأقوال عندي هو ما ذهب إليه الإمام مالك رحمه الله؛ لأنه الذي كان هدي النبيّ صلى الله عليه وسلم، وسيرته عليه، واقتدى به في ذلك الخلفاء الراشدون، كما تقدّم في كلام ابن القيّم رحمه الله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4568]
(
…
) - (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ ابْنُ رَافِعٍ: حَدَّثَنَا، وَقَالَ الآخَرَانِ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاق، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَوْسِ بْنِ الْحَدَثَان، قَالَ: أَرْسَلَ إِلَيّ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّاب، فَقَالَ: إِنَّهُ قَدْ حَضَرَ أَهْلُ أَبْيَاتٍ مِنْ قَوْمِكَ. بِنَحْوِ حَدِيثِ مَالِكٍ، غَيْرَ أَنَّ فِيهِ: فَكَانَ يُنْفِقُ عَلَى أَهْلِهِ مِنْهُ سَنَةً، وَرُبَّمَا قَالَ مَعْمَرٌ: يَحْبِسُ قُوتَ أَهْلِهِ مِنْهُ سَنَةً، ثُمَّ يَجْعَلُ مَا بَقِيَ مِنْهُ مَجْعَلَ مَالِ اللهِ عز وجل).
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(عَبْدُ بْنُ حُمَيْدِ) بن نصر الكسّيّ، تقدّم قريبًا.
والباقون ذُكروا في الباب.
وقوله: (بِنَحْوِ حَدِيثِ مَالِكٍ)؛ يعني: أنَّ حديث معمر عن الزهريّ، نحو حديث مالك عنه؛ يعني: المذكور قبله.
[تنبيه]: رواية معمر عن الزهريّ هذه ساقها البيهقيّ في "الكبرى"، فقال:
(12509)
- أخبرنا أبو محمد عبد الله بن يحيى بن عبد الجبار السكريّ ببغداد، أنا إسماعيل بن محمد الصفّار، ثنا أحمد بن منصور الرماديّ، ثنا عبد الرزاق، أنا معمر، عن الزهريّ، عن مالك بن أوس بن الْحَدَثان، قال: جاءني رسول عمر رضي الله عنه، فأتيته، فقال: إنه قد حضر في المدينة أهل أبيات من قومك، وقد أمرنا لهم برَضَخ
(1)
فخذه، فاقسمه، فقلت: يا أمير المؤمنين مُرْ به
(1)
يقال: رَضَخت له رَضْخًا، من باب نفع، ورَضِيخًا: أعطيته شيئًا ليس بالكثير، والمالُ رَضْخٌ؛ تسميةً بالمصدر، أو فَعْلٌ بمعنى مفعول، مثلُ ضَرْبِ الأمير، وعنده رَضْخ من خير: أي شيء منه، قاله في "المصباح" 1/ 228 - 229.
غيري، قال: اقبضه أيها المرء، قال: فبينا أنا على ذلك، دخل عليه مولاه يَرْفَأ، فقال: هذا عثمان، وعبد الرحمن، والزبير، وسعد، ولا أدري أذكر طلحة أم لا؟ يستأذنون عليك، قال: ائذن لهم، ثم مكث ساعة، فقال: هذا العباس، وعليّ رضي الله عنهما يستأذنان عليك، قال: فَأَذِن لهما، فدخلا، قال: فقال العباس: يا أمير المؤمنين اقض بيني وبين هذا، قال: فقال القوم: اقض بينهما، وأَرِحْ كل واحد منهما من صاحبه، فإنهما قد طالت خصومتهما، قال: وهما حينئذ يختصمان فيما أفاء الله على رسوله، من أموال بني النضير، قال القوم: أجل اقض بينهما، وأرح كل واحد منهما من صاحبه، قال: فقال عمر رضي الله عنه: أنشدكم بالله الذي بإذنه تقوم السماوات والأرض، أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لا نورث، ما تركنا صدقةٌ"؟ فقال القوم: نعم، قد قال ذلك، ثم أقبل عليهما، فقالا مثل ذلك، فقال عمر رضي الله عنه: إني سأخبركم عن هذا المال، إن الله خَصّ نبيّه صلى الله عليه وسلم بشيء لم يُعْطِه غيره، قال:{وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ} الآية، قال: والله ما حازها رسول الله صلى الله عليه وسلم دونكم، ولا استأثرها عليكم، لقد قسمها فيكم، وبَثّها فيكم، حتى بقي هذا المال، وكان ينفق على أهله منه سنته، - وربما قال معمر -: يحبس قوت أهله منه سنة، ثم يجعل ما بقي منه مَجْعَل مال الله عز وجل، فلما تُوُفّي رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أبو بكر: أنا وليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، أعمل فيها بما كان يعمل، ثم أقبل على عليّ والعباس رضي الله عنهما، ثم قال: وأنتما تزعمان أنه فيها ظالم، والله يعلم أنه فيها صادقٌ بارّ، تابعٌ للحقّ، ثم وَليتُها بعد أبي بكر رضي الله عنه سنتين من إمارتي، ففعلت فيها بما عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر، وأنتما تزعمان أني فيها ظالم، والله يعلم أني فيها صادقٌ، بارّ تابع للحقّ، ثم جاءني هذا - يعني: العباس رضي الله عنه يسألني ميراثه من ابن أخيه، وجاءني هذا - يريد عليًّا رضي الله عنه يسألني ميراث امرأته من أبيها، فقلت لكما: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا نورث، ما تركناه صدقة"، ثم بدا لي أن أدفعها إليكما، فأخذت عليكما عهد الله وميثاقه، أن تعملا فيها بما عَمِل فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر بعده، وأنا ما وليتها، فقلتما: ادفعها إلينا على ذلك، فتريدان مني قضاء غير هذا، والذي بإذنه تقوم السماء والأرض لا أقضي بينكما فيها بقضاء غير هذا، إن كنتما عجزتما عنها، فادفعاها إليّ، قال: فغلبه
عليّ رضي الله عنه عليها، فكانت بيد عليّ رضي الله عنه، ثم بيد حسن، ثم بيد حسين، ثم بيد عليّ بن الحسين، ثم بيد حسن بن حسن، ثم بيد زيد بن حسن، قال معمر: ثم كانت بيد عبد الله بن حسن، حتى وَليَ - يعني: بني العباس - فقبضوها.
انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(16) - (بابُ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "لَا نُورَثُ، مَا تَرَكْنَا فَهُوَ صَدَقَةٌ")
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4569]
(1758) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّهَا قَالَتْ: إِنَّ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حِينَ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَرَدْنَ أَنْ يَبْعَثْنَ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ، فَيَسْأَلْنَهُ مِيرَاثَهُنَّ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ عَائِشَةُ لَهُن: أَلَيْسَ قَدْ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا نُورَثُ، مَا تَرَكْنَا فَهُوَ صَدَقَةٌ"؟).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(عُرْوَةُ) بن الزبير بن العوّام الأسديّ، أبو عبد الله المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيه مشهور [3](ت 94)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 407.
2 -
(عَائِشَةُ) بنت الصدّيق، أم المؤمنين رضي الله عنها، تقدّمت في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 315.
والباقون تقدّموا في الباب الماضي.
(عَنْ عَائِشَةَ) رضي الله عنها (أَنَّهَا قَالَتْ: إِنَّ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) رضي الله تعالى عنهنّ، وهنّ اللاتي تُوُفِّي عنهنّ، (حِينَ تُوُفِّيَ) بالبناء للمفعول، (رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَرَدْنَ أَنْ يَبْعَثْنَ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ) رضي الله عنه (إِلَى أَبِي بَكْرٍ) الصدّيق رضي الله عنه (فَيَسْأَلْنَهُ مِيرَاثَهُنَّ) عملًا بعموم آية الميراث، (مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) وفي رواية:"يسألنه ثمنهنّ". (قَالَتْ عَائِشَةُ) رضي الله عنها (لَهُنَّ) وفي رواية للبخاريّ: "فقلت لهنّ: ألا
(1)
"سنن البيهقيّ الكبرى" 6/ 298.
تتقين الله؟ ألم تعلمن أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يقول
…
"، (أَلَيْسَ قَدْ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا) نافية، ولذا رُفع الفعل بعدها (نُورَثُ) - بضم النون، وفتح الراء المخففة -، وعند النسائيّ:"إنا معاشرَ الأنبياء لا نورث"، (مَا تَرَكْنَا)"ما" اسم موصول، والعائد محذوف؛ أي: الذي تركناه (فَهُوَ صَدَقَةٌ"؟) بالرفع قطعًا، خبر لقوله:"فهو"، والجملة خبر "ما تركنا"، قال الزرقاني رحمه الله: وهذا يؤيد الرواية في حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه: "ما تركنا صدقة" بإسقاط "فهو"، ورفع "صدقةٌ"، كما توارد عليه أهل الحديث في القديم والحديث، خبر المبتدإ الذي هو "ما تركنا"، فالكلام جملتان: الأولى فعلية، والثانية اسمية.
قال: وادَّعَى بعض الرافضة أن الصواب قراءة "لا يورث" بتحتانية أوله، ونصب "صدقةً" على الحال، وهو خلاف الرواية.
وقد احتَجّ بعض المحدثين على بعض الإمامية بأن أبا بكر احتجّ به على فاطمة، وهما من أفصح الفصحاء، وأعلم بمدلولات الألفاظ، فلو كان الأمر، كما يقول الروافض لم يكن فيما احتَجّ به أبو بكر حجةٌ، ولا كان جوابه مطابقًا لسؤالها، وهذا واضح لمن أنصف، كما في "فتح الباري".
وقال الحافظ رحمه الله في تخريجه لأحاديث "مختصرة ابن الحاجب": إن الحديث لم يوجد بلفظ: "نحن معاشرَ الأنبياء"، ووُجد بلفظ:"إنا"، ومفادهما واحد، فلعل من ذكره بلفظ "نحن" ذكره بالمعنى، وهو في "الصحيحين"، و"السنن" الثلاثة عن الصدّيق بلفظ:"لا نورثُ، ما تركنا صدقةٌ". انتهى.
وذهب النحّاس إلى صحة نصب "صدقةً" على الحال، وأنكره عياض؛ لتأييده مذهب الإمامية، لكن قدّره ابن مالك: ما تركنا متروكٌ صدقةً، فحُذف الخبر، وبقي الحال
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا متّفقٌ عليه.
[تنبيه]: قال في "الفتح": هذا الحديث في "الموطأ"، ووقع في رواية ابن
(1)
"شرح الزرقانيّ على الموطأ" 4/ 531.
وهب، عن مالك: حدّثني ابن شهاب، وفي "الموطأ" للدارقطنيّ من طريق القعنبيّ:"يسألنه ثمنهن"، وكذا أخرجه من طريق جويرية بن أسماء، عن مالك، وفي "الموطأ" أيضًا:"أرسلن عثمان بن عفان إلى أبي بكر الصديق - وفيه -: فقالت لهنّ عائشة - وفيه -: ما تركنا فهو صدقة"، وظاهر سياقه أنه من مسند عائشة رضي الله عنها، وقد رواه إسحاق بن محمد الفَرْويّ، عن مالك، بهذا السند، عن عائشة، عن أبي بكر الصديق، أورده الدارقطنيّ في "الغرائب"، وأشار إلى أنه تفرد بزيادة أبي بكر في سنده، وهذا يوافق رواية معمر، عن ابن شهاب، فإن فيه عن عائشة: أن أبا بكر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول، فذكره، فَيَحْتَمِل أن تكون عائشة سمعته من النبيّ صلى الله عليه وسلم كما سمعه أبوها، ويَحْتَمِل أن تكون إنما سمعته من أبيها، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأرسلته عن النبيّ صلى الله عليه وسلم لَمّا طالب الأزواج ذلك، والله أعلم. انتهى
(1)
.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [16/ 4569](1758)، و (البخاريّ) في "المغازي"(4034)، و"الفرائض"(6730)، و (أبو داود) في "الخراج"(2976 و 2977)، و (مالك) في "الموطإ"(2/ 993)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(9773)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 145 و 262)، و (ابن راهويه) في "مسنده"(2/ 341)، و (ابن سعد) في "الطبقات"(2/ 314)، و (أبو عوانة)(4/ 250)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6611)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(6/ 302)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(3839)، وفوائده تقدّمت في الباب الماضي، ولله الحمد والمنّة.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4570]
(1759) - (حَدَّثَني مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، أَخْبَرَنَا حُجَيْنٌ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَاب، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْر، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّهَا أَخْبَرَتْهُ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَرْسَلَتْ إِلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيق، تَسْأَلَهُ مِيرَاثَهَا مِنْ
(1)
"الفتح" 15/ 427 - 428، كتاب "الفرائض" رقم (6730).
رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِمَّا أفَاءَ اللهُ عَلَيْهِ بِالْمَدِينَة، وَفَدَكٍ، وَمَا بَقِيَ مِنْ خُمْسِ خَيْبَرَ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا نُورَثُ، مَا تَرَكْنَا صَدَقَة، إِنَّمَا يَأْكُلُ آلُ مُحَمَّدٍ في فِي هَذَا الْمَالِ"، وَإِنِّي وَاللهِ لَا أُغَيِّرُ شَيْئًا مِنْ صَدَقَةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ حَالِهَا الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهَا فِي عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَلأَعْمَلَنَّ فِيهَا بِمَا عَمِلَ بِهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَبَى أَبُو بَكْرٍ أَنْ يَدْفَعَ إِلَى فَاطِمَةَ شَيْئًا، فَوَجَدَتْ فَاطِمَةُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ فِي ذَلِكَ. قَالَ: فَهَجَرَتْهُ، فَلَمْ تُكَلِّمْهُ حَتَّى تُوُفِّيَتْ، وَعَاشَتْ بَعْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم سِتَّةَ أَشْهُرٍ، فَلَمَّا تُوُفِّيَتْ دَفَنَهَا زَوْجُهَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبِ لَيْلًا، وَلَمْ يُؤْذِنْ بِهَا أَبَا بَكْرٍ، وَصَلّى عَلَيْهَا عَلِيُّ، وَكَانَ لِعَلِيٍّ مِنَ الئاسِ وِجْهَةٌ حَيَاةَ فَاطِمَةَ، فَلَمَّا تُوُفِّيَتِ اسْتَنْكَرَ عَلِيُّ وُجُوهَ النَّاس، فَالْتَمَسَ مُصَالَحَةَ أَبِي بَكْرٍ، وَمُبَايَعَتَهُ، وَلَمْ يَكُنْ بَايَعَ تِلْكَ الأَشْهُرَ، فَأَرْسَلَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ أَنِ ائْتِنَا، وَلَا يَأْتِنَا مَعَكَ أَحَدٌ - كَرَاهِيَةَ مَحْضَرِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - فَقَالَ عُمَرُ لأَبِي بَكْرٍ: وَاللهِ لَا تَدْخُلْ عَلَيْهِمْ وَحْدَكَ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَمَا عَسَاهُمْ أَنْ يَفْعَلُوا بِي؛ إِنِّي وَاللهِ لآتِيَنَّهُمْ، فَدَخَلَ عَلَيْهِمْ أَبُو بَكْرٍ، فَتَشَهَّدَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِب، ثُمَّ قَالَ: إِنَّا قَدْ عَرَفْنَا يَا أَبَا بَكْرٍ فَضِيلَتَكَ، وَمَا أَعْطَاكَ اللهُ، وَلَمْ نَنْفَسْ عَلَيْكَ خَيْرًا سَاقَهُ اللهُ إِلَيْكَ، وَلَكِنَّكَ اسْتَبْدَدْتَ عَلَيْنَا بِالأَمْر، وَكُنَّا نَحْنُ نَرَى لَنَا حَقًّا لِقَرَابَتِنَا مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَمْ يَزَلْ يُكَلِّمُ أَبَا بَكْرٍ حَتَّى فَاضَتْ عَيْنَا أَبِي بَكْرٍ، فَلَمَّا تَكَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَرَابَةُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَحَبُّ إِلَئَ أَنْ أَصِلَ مِنْ قَرَابَتِي، وَأمّا الَّذِي شَجَرَ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ مِنْ هَذِهِ الأَمْوَال، فَإِنِّي لَمْ آلُ فِيهِ عَنِ الْحَقّ، وَلَمْ أَترُكْ أَمْرًا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَصْنَعُهُ فِيهَا إِلَّا صَنَعْتُهُ، فَقَالَ عَلِيّ لأَبِي بَكْرٍ: مَوْعِدُكَ الْعَشِيَّةُ لِلْبَيْعَة، فَلَمَّا صَلَّى أَبُو بَكْرٍ صَلَاةَ الظُّهْرِ رَقيَ عَلَى الْمِنْبَر، فَتَشَهَّدَ، وَذَكَرَ شَأْنَ عَلِيٍّ، وَتَخَلُّفَهُ عَنِ الْبَيْعَة، وَعُذْرَهُ بِالَّذِي اعْتَذَرَ إِلَيْه، ثُمَّ اسْتَغْفَرَ، وَتَشَهَّدَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، فَعَظَّمَ حَقَّ أَبِي بَكْرٍ، وَأَنَّهُ لَمْ يَحْمِلْهُ عَلَى الَّذِي صَنَعَ نَفَاسَةً عَلَى أَبِي بَكْرٍ، وَلَا إِنْكَارًا لِلَّذِي فَضَّلَهُ اللهُ بِه، وَلَكِنَّا كُنَّا نَرَى لَنَا فِي الأَمْرِ نَصِيبًا، فَاسْتُبِدَّ عَلَيْنَا بِه، فَوَجَدْنَا فِي أنفُسِنَا، فَسُرَّ بِذَلِكَ الْمُسْلِمُونَ، وَقَالُوا: أَصَبْتَ، فَكَانَ الْمُسْلِمُونَ إِلَى عَلِيٍّ قَرِيبًا حِينَ رَاجَعَ الأَمْرَ الْمَعْرُوفَ).
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ) تقدّم في الباب الماضي.
2 -
(حُجَيْنُ) بن المثنّى اليماميّ، أبو عُمير سكن بغداد، وولي قضاء خراسان، ثقةٌ [9](ت 205)(خ م د ت س) تقدم في "الإيمان" 81/ 437.
3 -
(لَيْثُ) بن سعد، تقدّم قبل بابين.
4 -
(عُقَيْلُ) بن خالد، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
5 -
(أَبُو بكر الصّدّيقُ) عبد الله بن عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مُرّة التيميّ، ابن أبي قحافة، خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، مات في جمادى الأولى سنة (13)، وله (63) سنة (ع) تقدم في "الإيمان" 8/ 133.
والباقون ذُكروا قبله.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أن فيه رواية صحابيّة، عن صحابيّ هو أبوها، وتابعيّ، عن تابعيّ، وهو عن خالته، وفيه أبو بكر الصدّيق أحد الخلفاء الراشدين الأربعة، بل هو أفضلهم على الإطلاق، وفيه عائشة رضي الله عنها من المكثرين السبعة، روت (2210)، وفيه أحد الفقهاء السبعة: عروة.
شرح الحديث:
(عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْر، عَنْ عَائِشَةَ) رضي الله عنها (أَنَّهَا أَخْبَرَتْهُ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) رضي الله عنها (أَرْسَلَتْ إِلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ) رضي الله عنه، وفي رواية معمر الآتية: "أن فاطمة، والعبّاس أتيا أبا بكر، يلتمسان ميراثهما من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهما حينئذ يطلبان أرضه من فدك، وسهمه من خيبر
…
" الحديث. (تَسْأَلُهُ مِيرَاثَهَا) جملة في محلّ نصب على الحال، وقوله: (مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) متعلّق بـ "ميراثها"، وقوله: (مِمَّا أفَاءَ اللهُ عَلَيْهِ) متعلّق بحال مقدّر؛ أي: حال كون ذلك الميراث من جملة ما ردّ الله تعالى على النبيّ صلى الله عليه وسلم من أموال الكفّار، (بِالْمَدِينَةِ) النبويّة، قال في "الفتح": وأما صدقته بالمدينة: فرَوَى أبو داود، من طريق معمر، عن الزهريّ، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، عن رجل من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم، فذكر قصة بني النضير، فقال في آخره: وكانت نخل بني
النضير لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصّةً، أعطاها إياه، فقال:{وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ} [الحشر: 6] قال: فأعطى أكثرها للمهاجرين، وبقي منها صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي في أيدي بني فاطمة.
ورَوَى عُمر بن شَبّة، من طريق أبي عون، عن الزهريّ، قال: كانت صدقة النبيّ صلى الله عليه وسلم بالمدينة أموالًا لِمُخَيْريق - بالمعجمة، والقاف، مصغرًا
(1)
- وكان يهوديًّا، من بقايا بني قَينُقاع نازلًا ببني النضير، فأسلم وشَهِدَ أُحُدًا، فقُتِل به، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"مُخَيْريقٌ سابقُ يهود"، وأوصى مخيريق بأمواله للنبيّ صلى الله عليه وسلم. ومن طريق الواقديّ بسنده عن عبد الله بن كعب، قال: قال مخيريق: إن أُصِبتُ فأموالي لمحمد صلى الله عليه وسلم يضعها حيث أراه الله، فهي عامّة صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: وكانت أموال مخيريق في بني النضير. انتهى
(2)
.
(1)
مخيريق هذا له ترجمة في "الإصابة في تمييز الصحابة" 6/ 57، ودونك ملخّصها:
(7855)
- مخيريق النَّضْري الإسرائيليّ، من بني النضير، ذكر الواقديّ أنه أسلم، واستُشهد بأُحد، وقال الواقديّ، والبلاذريّ، ويقال: إنه من بني قينقاع، ويقال: من بني القطيون، كان عالِمًا، وكان أوصى بأمواله للنبيّ صلى الله عليه وسلم، وهي: سبع حوائط: الميثب، والصائفة، والدلال، وحسنى، وبرقة، والأعواف، ومشربة أم إبراهيم، فجعلها النبيّ صلى الله عليه وسلم صدقةً. أخرج عمر بن شبة في "أخبار المدينة" بسنده عن ابن شهاب، قال: كانت صدقات رسول الله صلى الله عليه وسلم أموالًا لمخيريق، فأوصى بها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وشَهِد أُحدًا، فقُتل بها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"مخيريق سابق يهود، وسلمان سابق فارس، وبلال سابق الحبشة"، قال عبد العزيز: وبلغني أنه كان من بقايا بني قينقاع، وأخرج الزبير بن بكار في "أخبار المدينة" بسنده عن عثمان بن كعب بن محمد بن كعب: أن صدقات رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت أموالًا لمخيريق اليهوديّ، فلما خرج النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى أُحد قال لليهود: ألا تنصرون محمدًا، والله إنكم لتعلمون أن نصرته حقّ عليكم، فقالوا: اليوم يوم السبت، فقال: لا سبت، وأخذ سيفه، ومضى إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقاتل، حتى أثبتته الجراحة، فلما حضره الموت، قال: أموالي إلى محمد، يضعها حيث شاء، وذكر قصة وصيته بأمواله، وسمّاها، لكن قال: الميثر بدل الميثب، والمعوان عوض الأعواف، وزاد مشربة أم إبراهيم الذي يقال له: مهروز. انتهى.
(2)
"الفتح" 7/ 353، كتاب "فرض الخمس" رقم (3094).
(وَفَدَكٍ) بفتح الفاء، والدال المهملة، آخره كاف: بلدة بينها وبين مدينة النبيّ صلى الله عليه وسلم ثلاث مراحل، وكان من شأنها ما ذكر أصحاب المغازي قاطبةً: أن أهل فدك كانوا من يهود، فلما فُتِحَت خيبر أرسل أهل فدك يطلبون من النبيّ صلى الله عليه وسلم الأمان على أن يتركوا البلد، ويرحلوا، وروى أبو داود من طريق ابن إسحاق، عن الزهري وغيره، قالوا: بقيت بقية من خيبر تحصّنوا، فسألوا النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يَحْقِن دماءهم، ويُسَيِّرهم، فَفَعَل، فسمع بذلك أهل فدك، فنزلوا على مثل ذلك، وكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصّةً.
لأبي داود أيضًا من طريق معمر، عن ابن شهاب: "صالَحَ النبيّ صلى الله عليه وسلم أهل فدك، وقُرًى سمّاها، وهو يحاصر قومًا آخرين؛ يعني: بقية أهل خيبر. انتهى
(1)
.
(وَمَا بَقِيَ)؛ أي: بعد قسمة الغنائم على أهلها، (مِنْ خُمْسِ خَيْبَرَ)، وفي رواية معمر المذكورة:"وسهمه من خيبر"، وقد روى أبو داود بإسناد صحيح إلى سهل بن أبي خيثمة قال:"قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر نصفين: نصفها لنوائبه، وحاجته، ونصفها بين المسلمين، قسمها بينهم على ثمانية عشر سهمًا"، ورواه بمعناه من طرق أخرى عن بشير بن يسار مرسلًا، ليس فيه سهل. انتهى.
قال في "الفتح": وهذا يؤيّد ما تقدّم أنها لم تَطلب من جميع ما خلّف، وإنما طلبت شيئًا مخصوصًا.
(فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِن رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ)، وفي رواية معمر المذكورة:"فقال لهما أبو بكر: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم"، قال في "الفتح": وهو يردّ تأويل الداوديّ الشارح في قوله: إن فاطمة حملت كلام أبي بكر على أنه لم يسمع ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما سمعه من غيره. انتهى
(2)
.
("لَا نُورَثُ، مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ) قال السنديّ رحمه الله في "شرح النسائيّ": قوله: "لا نورث"؛ أي: نحن، يريد معاشر الأنبياء، وهذا الخبر قد رواه غير أبي بكر أيضًا، وتكفي رواية أبي بكر لوجوب العمل به، ولا يَرِدُ أن خبر الآحاد كيف
(1)
"الفتح" 7/ 352 - 353.
(2)
"الفتح" 7/ 351 "فرض الخمس" رقم (3092).
يُخَصِّص عموم القرآن؛ لأن ذلك بالنظر إلى من بلغه الحديث بواسطة، وأما من أخذه بلا واسطة، فالحديث بالنظر إليه كالقرآن في وجوب العمل، فيصحّ به التخصيص، على أن كثيرًا من العلماء جوّز التخصيص بأخبار الآحاد، فلا غبار أصلًا. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الحقّ أن القول بجواز التخصيص بخبر الآحاد هو الصواب، وهو قول الجمهور، ومنهم الأئمة الأربعة، فيما حكاه ابن الحاجب، وقد أُجيب عن قول المانعين بأنه إن جاز يلزم ترك القطعيّ بالظنّي، بأن محل التخصيص دلالة العامّ، وهي ظنيّة، والعمل بالظنَّين أولى من إلغاء أحدهما، وإلى الأقوال في مسألة نسخ الكتاب بالسُّنَّة وعكسه أشار في "الكوكب الساطع" حيث قال:
وَجَازَ أَنْ يُخَصَّ فِي الصَّوَابِ
…
سُنَّتُهُ بِهَا وَبِالْكِتَابِ
وَهْوَ بِهِ وَخَبَرِ التَّوَاتُرِ
…
وَخَبَرِ الْوَاحِدِ عِنْدَ الأَكْثَرِ
وَقِيلَ إِنْ خُصَّ بِقَاطِعٍ جَلِي
…
وَعَكْسُهُ وَقِيلَ بِالْمُنْفَصِلِ
انظر ما كتبته على هذه الأبيات في "الجليس الصالح النافع، شرح الكوكب الساطع"(ص 194 - 196).
[تنبيه]: قال "الفتح": وأما ما اشتهر في كتب أهل الأصول وغيرهم بلفظ: "نحن معاشر الأنبياء، لا نورث"، فقد أنكره جماعة من الأئمة، وهو كذلك بالنسبة لخصوص لفظ "نحن"، لكن أخرجه النسائيّ من طريق ابن عيينة، عن أبي الزناد، بلفظ: "إنا معاشر الأنبياء لا نورث
…
" الحديث أخرجه عن محمد بن منصور، عن ابن عيينة، عن الزهريّ، وهو كذلك في "مسند الحميديّ"، عن ابن عيينة، وهو من أتقن أصحاب ابن عيينة فيه، وأورده الهيثم بن كُليب في "مسنده" من حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه باللفظ المذكور، وأخرجه الطبرانيّ في "الأوسط" بنحو اللفظ المذكور، وأخرجه الدارقطنيّ في "العلل" من رواية أم هانئ، عن فاطمة عليها السلام عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه بلفظ: "إن الأنبياء لا يورثون". انتهى
(2)
.
(1)
"شرح السنديّ على النسائيّ" 7/ 132.
(2)
"الفتح" 15/ 426، كتاب "الفرائض" رقم (6730).
(إِنَّمَا يَأْكُلُ آلُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم) قال القرطبيّ رحمه الله: يعني: بـ "آل محمد" نساءه، كما قال في الحديث الآخر:"ما تركت بعد نفقة نسائي". انتهى.
(1)
(فِي هَذَا الْمَالِ") وفي رواية للبخاريّ: "إنما يأكل آل محمد من هذا المال"، قال في "الفتح": كذا وقع، وظاهره الحصر، وأنهم لا ياكلون إلا من هذا المال، وليس ذلك مرادًا، وإنما المراد العكس، وتوجيهه أن "من" للتبعيض، والتقدير: إنما يأكل آل محمد صلى الله عليه وسلم بعض هذا المال؛ يعني: بقدر حاجتهم، وبقيّته للمصالح. انتهى
(2)
.
(وَإِنِّي وَاللهِ لَا أُغَيِّرُ شَيْئًا مِنْ صَدَقَةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ حَالِهَا الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهَا فِي عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَلأَعْمَلَنَّ فِيهَا بِمَا عَمِلَ بِهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) قال في "الفتح": وهذا تمسَّك به من قال: إن سهم النبيّ صلى الله عليه وسلم يصرفه الخليفة بعده لمن كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يصرفه له، وما بقي منه يُصرف في المصالح، وعن الشافعيّ: يُصرف في المصالح، وفي وجه: هو للإمام، وقال مالك، والثوريّ: يجتهد فيه الإمام، وقال أحمد: يُصرف في الخيل والسلاح، وقال ابن جرير: يُرَدّ إلى الأربعة، قال ابن المنذر: كان أحقّ الناس بهذا القول من يوجب قَسْمَ الزكاة بين جميع الأصناف، فإن فُقِد صِنْفٌ ردّ على الباقين - يعني: الشافعيّ - وقال أبو حنيفة: يُرَدّ مع سهم ذوي القربى إلى الثلاثة، وقيل: يردّ خمس الخمس من الغنيمة إلى الغانمين، ومن الفيء إلى المصالح. انتهى
(3)
.
(فَأَبَى أَبُو بَكْر أَنْ يَدْفَعَ إِلَى فَاطِمَةَ شَيْئًا، فَوَجَدَتْ)؛ أي: غضبت (فَاطِمَةُ عَلَى أَبِي بَكْم فِي ذَلُك)؛ أي: بسبب ذلك، فـ "في" سببيّة. (قَالَ: فَهَجَرَتْهُ، فَلَمْ تُكَلِّمْهُ حَتَّى تُوُفِّيَتْ) بالبناء للمفعول؛ أي: ماتت، وفي رواية معمر:"فهجرته فاطمة، فلم تكلّمه حتى ماتت"، ووقع عند عُمر بن شَبّة من وجه آخر عن معمر:"فلم تكلمه في ذلك المال"، وكذا نَقَل الترمذيّ عن بعض مشايخه أن معنى قول فاطمة لأبي بكر وعمر:"لا أكلمكما"؛ أي: في هذا الميراث.
(1)
"المفهم" 3/ 568.
(2)
"الفتح" 15/ 424، كتاب "الفرائض"(6726).
(3)
"الفتح"(7353).
وتعقبه الشاشيّ بأن قرينة قوله: "غَضِبت" تدل على أنها امتنعت من الكلام جملة، وهذا صريح الهجر.
وأما ما أخرجه أحمد، وأبو داود، من طريق أبي الطفيل، قال:"أرسلت فاطمة إلى أبي بكر: أنت وَرِثت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أم أهله؟ قال: لا، بل أهله، قالت: فأين سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله إذا أطعم نبيًّا طعمة، ثم قبضه، جعلها للذي يقوم من بعده، فرأيت أن أردّه على المسلمين، قالت: فأنت وما سمعته".
فلا يعارض ما في "الصحيح" من صريح الهجران، ولا يدلّ على الرضا بذلك، ثم مع ذلك ففيه لفظة منكرة، وهي قول أبي بكر:"بل أهله"، فإنه معارض للحديث الصحيح أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لا يورث.
نعم، رَوَى البيهقيّ، من طريق الشعبيّ، أن أبا بكر عاد فاطمة، فقال لها عليّ: هذا أبو بكر يستأذن عليك، قالت: أتحب أن آذن له؟ قال: نعم، فأذِنَتْ له، فدخل عليها، فترضّاها حتى رضيت، وهو وإن كان مرسلًا، فإسناده إلى الشعبيّ صحيح، وبه يزول الإشكال في جواز تمادي فاطمة عليها السلام على هجر أبي بكر رضي الله عنه.
وقد قال بعض الأئمة: إنما كانت هجرتها انقباضًا عن لقائه، والاجتماع به، وليس ذلك من الهجران المحرَّم؛ لأن شرطه أن يلتقيا، فيُعْرِض هذا وهذا، وكأن فاطمة عليها السلام لمّا خرجت غضبى من عند أبي بكر تمادت في اشتغالها بحزنها، ثم بمرضها، وأما سبب غضبها مع احتجاج أبي بكر بالحديث المذكور، فلاعتقادها تأويل الحديث على خلاف ما تمسَّك به أبو بكر، وكأنها اعتقدت تخصيص العموم في قوله:"لا نورث"، ورأت أن منافع ما خلّفه من أرض، وعقار، لا يمتنع أن تورث عنه، وتمسَّك أبو بكر بالعموم، واختلفا في أمر مُحْتَمِل للتأويل، فلمّا صَمَّم على ذلك انقطعت عن الاجتماع به لذلك، فإن ثبت حديث الشعبيّ أزال الإشكال، وأَخْلِقْ بالأمر أن يكون كذلك؛ لِمَا عُلِم من وفور عقلها، ودينها عليها السلام.
وقد وقع في حديث أبي سلمة، عن أبي هريرة، عند الترمذيّ: "جاءت فاطمة إلى أبي بكر، فقالت: من يرثك؟ قال: أهلي، وولدي، قالت: فما لي
لا أرث أبي؟ قال أبو بكر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا نورث"، ولكني أعول من كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعوله"
(1)
.
(وَعَاشَتْ) فاطمة رضي الله عنها (بَعْدَ) وفاة (رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم سِتَّةَ أَشْهُرٍ)، والصحيح أنها توفّيت لثلاث مضين من شهر رمضان، سنة إحدى عشرة من الهجرة، قاله النوويّ
(2)
.
وقال في "الفتح": قوله: "ستة أشهر" هذا هو الصحيح في بقائها بعده صلى الله عليه وسلم، ورَوَى ابن سعد من وجهين: أنها عاشت بعده ثلاثة أشهر، ونُقِل عن الواقديّ، وأن ستة أشهر هو الثَّبْتُ، وقيل: عاشت بعده سبعين يومًا، وقيل: ثمانية أشهر، وقيل: شهرين، جاء ذلك عن عائشة رضي الله عنها أيضًا.
قال الحافظ رحمه الله: وأشار البيهقيّ إلى أن في قوله: "وعاشت
…
إلخ" إدراجًا، وذلك أنه وقع عند مسلم من طريق أخرى، عن الزهريّ، فذكر الحديث، وقال في آخره: قلت للزهري: كم عاشت فاطمة بعده؟ قال: ستة أشهر، وعزا هذه الرواية لمسلم، ولم يقع عند مسلم هكذا، بل فيه كما عند البخاريّ موصولًا، والله أعلم. انتهى
(3)
.
(فَلَمَّا تُوُفِّيَتْ دَفَنَهَا زَوْجُهَا عَلِيُّ بْنُ أبِي طَالِبٍ) رضي الله عنها (لَيْلًا) قال النوويّ رحمه الله: فيه جواز الدفن ليلًا، وهو مُجْمَع عليه، لكن النهار أفضل إذا لم يكن عذر. انتهى
(4)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: ودفْنُ عليّ لفاطمة رضي الله عنها ليلًا يَحْتَمِل أن يكون ذلك مبالغةً في صيانتها، وكونُهُ لم يُؤذِن أبا بكر بها؛ لعله إنما لم يفعل ذلك؛ لأن غيرَه قد كفاه ذلك، أو خاف أن يكون ذلك من باب النعي المنهيّ عنه، وليس في الخبر ما يدلّ على أن أبا بكر لم يعلم بموتها، ولا صلَّى عليها، ولا شاهد جنازتها، بل اللائق بهم، المناسب لأحوالهم حضور جنازتها، واغتنام بركتها، ولا تسمع أكاذيب الرَّافضة المُبْطِلين، الضالين، المُضلِّين. انتهى
(5)
.
(1)
"الفتح" 7/ 351 - 352.
(2)
"شرح النوويّ" 12/ 77.
(3)
"الفتح" 9/ 342، كتاب "المغازي" رقم (4240).
(4)
"شرح النوويّ" 12/ 77.
(5)
"المفهم" 3/ 569.
(وَلَمْ يُؤْذِنْ) بضمّ أوله، وكسر ثالثه، من الإيذان، وهو الإعلام؛ أي: لم يُعْلِم (بِهَا)؛ أي: بموتها، (أَبَا بَكْرٍ) الصدّيق رضي الله عنه، قال في "الفتح": ورَوَى ابن سعد من طريق عمرة بنت عبد الرحمن، أن العباس صلّى عليها، ومن عدّة طرق أنها دُفنت ليلًا، وكان ذلك بوصية منها؛ لإرادة الزيادة في التستر، ولعله لم يُعْلِم أبا بكر بموتها؛ لأنه ظنّ أن ذلك لا يخفى عنه، وليس في الخبر ما يدلّ على أن أبا بكر لم يَعلم بموتها، ولا صلى عليها.
وأما الحديث الذي أخرجه مسلم، والنسائيّ، وأبو داود، من حديث جابر رضي الله عنه في النهي عن الدفن ليلًا، فهو محمول على حال الاختيار؛ لأن في بعضه إلا أن يَضطَرّ إنسان إلى ذلك. انتهى
(1)
.
(وَصَلَّى عَلَيْهَا عَلِيٌّ) رضي الله عنه (وَكَانَ لِعَلِيٍّ) رضي الله عنه (مِنَ النَّاسِ وِجْهَة حَيَاةَ فَاطِمَةَ) رضي الله عنها؛ أي: كان الناس يحترمونه إكرامًا لفاطمة رضي الله عنها، فلما ماتت، واستمرّ على عدم الحضور عند أبي بكر رضي الله عنه قَصَر الناس عن ذلك الاحترام؛ لإرادة دخوله فيما دخل فيه الناس، ولذلك قالت عائشة رضي الله عنها في آخر الحديث:"لَمّا جاء، وبايع كان الناس قريبًا إليه، حين راجع الأمر بالمعروف"، وكأنهم كانوا يعذرونه في التخلّف عن أبي بكر في مدّة حياة فاطمة رضي الله عنها؛ لِشُغْله بها، وتمريضها، وتسليتها عما هي فيه من الحزن على أبيها صلى الله عليه وسلم، ولأنها لمّا غَضِبت من ردّ أبي بكر عليها، فيما سألته من الميراث، رأى عليّ رضي الله عنه أن يوافقها في الانقطاع عنه.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "وكان لعليّ من الناس وجهة حياة فاطمة"؛ أي: جاه واحترام، فكان الناس يحترمون عليًّا في حياتها كرامة لها؛ لأنها بضعة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو مباشر لها، فلمّا ماتت وهو لم يبايع أبا بكر، انصرف الناس عن ذلك الاحترام؛ ليدخل فيما دخل فيه الناس، ولا يفرّق جماعتهم، ألا ترى أنه لما بايع أبا بكر أقبل الناس عليه بكل إكرام وإعظام؟!. انتهى
(2)
.
(1)
"الفتح" 9/ 342، كتاب "المغازي" رقم (4240).
(2)
"المفهم" 3/ 569.
(فَلَمَّا تُوُفِّيَتِ) فاطمة رضي الله عنها (اسْتَنْكَرَ) بالبناء للفاعل، بمعنى أنكر، قال المجد رحمه الله: نَكِرَ فلانٌ الأمرَ، كفَرِحَ نَكَرًا، محرّكةً، ونُكْرًا، ونُكورًا، بضمّهما، ونَكِيرًا، وأنكره، واستنكره، وتناكره: جَهِلَهُ. انتهى
(1)
.
وقوله: (عَلِيٌّ) مرفوع على الفاعليّة، وقوله:(وُجُوهَ النَّاسِ) منصوب على المفعوليّة.
(فَالْتَمَسَ مُصَالَحَةَ أَبِي بَكْرٍ، وَمُبَايَعَتَهُ، وَلَمْ يَكُنْ بَايَعَ تِلْكَ الأَشْهُرَ)؛ أي: الستّة التي عاشتها فاطمة رضي الله عنها بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال القرطبيّ رحمه الله: ولا يُظن بعليّ رضي الله عنه أنه خالف الناس في البيعة، لكنه تأخر عن الناس لمانع منعه، وهو الموجدة التي وجدها، حيث استُبِدَّ بمثل هذا الأمر العظيم، ولم ينتظر مع أنه كان أحقّ الناس بحضوره، ومَشُورته، لكن العذر للمبايعين لأبي بكر على ذلك الاستعجالِ مخافةَ ثوران فتنة بين المهاجرين والأنصار، كما هو معروف في حديث السقيفة، فسابقوا الفتنة، فلم يتأتَّ لهم انتظاره لذلك، وقد جرى بينهما في هذا المجلس من المحاورة والمكالمة، والإنصاف ما يدلّ على معرفة بعضهم بفضل بعض، وأن قلوبهم متفقة على احترام بعضهم لبعض، ومحبة بعضهم لبعضٍ، ما يَشْرَق به الرافضيّ اللعين، وتُشْرِقُ به قلوبُ أهل الدِّين. انتهى
(2)
.
قال المازريّ: العذر لعليّ رضي الله عنه في تخلفه مع ما اعتذر هو به أنه يكفي في بيعة الإمام أن يقع من أهل الحلّ والعقد، ولا يجب الاستيعاب، ولا يلزم كلَّ أحد أن يحضر عنده، ويضع يده في يده، بل يكفي التزام طاعته، والانقياد له بأن لا يخالفه، ولا يَشُقّ العصا عليه، وهذا كان حالَ عليّ رضي الله عنه لم يقع منه إلا التأخر عن الحضور عند أبي بكر
(3)
.
(فَأَرْسَلَ) عليّ رضي الله عنه (إِلَى أَبِي بَكْرٍ) الصدّيق رضي الله عنه (أَنِ ائْتِنَا، وَلَا يَأْتِنَا مَعَكَ أَحَدٌ - كَرَاهِيَةَ مَحْضَرِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ) رضي الله عنه، والسبب في ذلك ما أَلِفُوه من قوة عمر رضي الله عنه، وصلابته في القول والفعل، وكان أبو بكر رضي الله عنه رقيقًا ليّنًا،
(1)
"القاموس المحيط" ص 1314.
(2)
"المفهم" 3/ 570 - 571.
(3)
"الفتح" 9/ 342.
فكأنهم خَشُوا من حضور عمر كثرة المعاتبة التي قد تفضي إلى خلاف ما قصدوه من المصافاة.
وقال النوويّ رحمه الله: إنما كرهوا محضر عمر رضي الله عنه لِمَا عَلِموا من شدّته، وصَدْعه بما يظهر له، فخافوا أن ينتصر لأبي بكر رضي الله عنه، فيتكلم بكلام يوحش قلوبهم على أبي بكر، وكانت قلوبهم قد طابت عليه، وانشرحت له، فخافوا أن يكون حضور عمر سببًا لتغيّرها. انتهى
(1)
.
(فَقَالَ عُمَرُ لأَبِي بَكْرٍ) رضي الله عنه (وَاللهِ لَا تَدْخُلْ عَلَيْهِمْ وَحْدَكَ)؛ أي: لئلا يتركوا من تعظيمك ما يجب لك، وقال النوويّ رحمه الله: معنى قول عمر رضي الله عنه: لا تدخل عليهم وحدك: أنه خاف أن يُغلظوا عليه في المعاتبة، ويحملهم على الإكثار من ذلك لينُ أبي بكر، وصبره عن الجواب عن نفسه، وربما رأى من كلامهم ما غيَّر قلبه، فيترتب على ذلك مفسدة خاصّة، أو عامة، وإذا حضر عمر امتنعوا من ذلك. انتهى
(2)
.
(فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ) رضي الله عنه (وَمَا عَسَاهُمْ أَنْ يَفْعَلُوا بِي؟) قال ابن مالك رحمه الله: في هذا شاهدٌ على صحة تضمين بعض الأفعال معنى فعل آخر، وإجرائه مُجراه في التعدية، فإن "عسيت" في هذا الكلام بمعنى حَسِبت، وأجريت مُجراها، فنصبت ضمير الغائبين على أنه مفعول ثان، وكان حقّه أن يكون عاريًا من "أَنْ"، لكن جيء بها؛ لئلا تخرج "عسى" عن مقتضاها بالكلية، وأيضًا فإن "أَنْ" قد تسدّ بصلتها مسدّ مفعولي حَسِبت، فلا يستبعد مجيئها بعد المفعول الأول بدلًا منه، قال: ويجوز جعل "ما عسيتهم" حرف خطاب، والهاء والميم اسم عسى، والتقدير: ما عساهم أن يفعلوا بي؟ وهو وجهٌ حسنٌ. انتهى
(3)
.
(إِنِّي وَاللهِ لآتِيَنَّهُمْ، فَدَخَلَ عَلَيْهِمْ أَبُو بَكْرٍ) رضي الله عنه، قال النوويّ رحمه الله: أما كون عمر رضي الله عنه حَلَفَ ألا يدخل عليهم أبو بكر وحده، فحَنّثه أبو بكر رضي الله عنه، ودخل وحده، ففيه دليل على أن إبرار القسم إنما يؤمر به الإنسان إذا أمكن
(1)
"شرح النوويّ" 12/ 78.
(2)
"شرح النوويّ" 12/ 78.
(3)
راجع: "الفتح" 9/ 343.
احتماله بلا مشقة، ولا تكون فيه مفسدة، وعلى هذا يُحْمَل الأمر بإبرار القسم في الحديث
(1)
.
(فَتَشَهَّدَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ) رضي الله عنه (ثُمَّ قَالَ: إِنَّا قَدْ عَرَفْنَا يَا أَبَا بَكْرٍ فَضِيلَتَكَ، وَمَا أَعْطَاكَ اللهُ، وَلَمْ نَنْفَسْ عَلَيْكً خَيْرًا سَاقَهُ اللهُ إِلَيْكَ) - بفتح الفاء من "ننفس" -؛ أي: لم نحسُدك على الخلافة، يقال: نَفِست - بكسر الفاء - أنفس - بالفتح، من باب تعب - نَفَاسَةً، وقال المجد رحمه الله: ونَفِسَ به، كفَرِحَ: ضَنَّ، وعليه بخير: حَسَدَ، ونَفَس عليه الشيءَ نَفَاسَةً: لم يره أهلًا له. انتهى
(2)
.
(وَلَكِنَّكَ اسْتَبْدَدْتَ عَلَيْنَا بِالأَمْرِ)، و"استبددت" بِدالَيْن، كذا هو في الرواية، قال في "الفتح": وفي رواية غير أبي ذرّ: "واستبدت" بدال واحدة، وهو بمعناه، وأُسقطت الثانية تخفيفًا؛ كقوله:{فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ} [الواقعة: 65]، أصله: ظللتم؛ أي: لم تشاورنا، والمراد بالأمر: الخلافة. (وَكُنَّا نَحْنُ نَرَى) بضمّ النون، ويجوز فتحها؛ أي: نظنّ (لَنَا حَقًّا لِقَرَابَتِنَا)؛ أي: لأجل قرابتنا (مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم)، وفي رواية البخاريّ:"وكنا نرى لقرابتنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم نصيبًا"؛ أي: حظًّا لنا في هذا الأمر.
(فَلَمْ يَزَلْ يُكَلِّمُ أَبَا بَكْرٍ حَتَّى فَاضَتْ عَيْنَا أَبِي بَكْرٍ)؛ أي: لم يزل عليّ رضي الله عنه يذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى فاضت عينا أبي بكر رضي الله عنه من الرقة، قال المازريّ: ولعل عليًّا أشار إلى أن أبا بكر استبدّ عليه بأمور عظام، كان مِثْله عليه أن يُحضره فيها، ويشاوره، أو أنه أشار إلى أنه لم يستشره في عقد الخلافة له، أوّلًا، والعذر لأبي بكر رضي الله عنه أنه خَشِيَ من التأخر عن البيعة الاختلافَ لِمَا كان وقع من الأنصار، كما هو مشهور في حديث السقيفة، فلم ينتظروه. (فَلَمَّا تَكَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ) رضي الله عنه (قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَرَابَةُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ أَصِلَ مِنْ قَرَابَتِي) إنما قال أبو بكر رضي الله عنه هذا معتذرًا عن منعه القسمة، وأنه لا يلزم منها أن لا يصلهم ببرّه من جهة أخرى، ومحصّل كلامه أن قرابة الشخص مقدّمة في برّه إلا إن عارضهم في ذلك من هو أرجح منهم، قاله في "الفتح"
(3)
.
(1)
"شرح النوويّ" 12/ 78 - 79.
(2)
"القاموس المحيط" ص 1304.
(3)
"الفتح" 9/ 95، كتاب "المغازي" رقم (4035).
(وَأَمَّا الَّذِي شَجَرَ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ)؛ أي: وقع من الاختلاف والتنازع (مِنْ هَذِهِ الأَمْوَالِ)؛ أي: التي تركها النبيّ صلى الله عليه وسلم من أرض خيبر وغيرها، (فَإِنِّي لَمْ آلُ)؛ أي: لم أُقصِّر (فِيهِ عَنِ الْحَقِّ، وَلَمْ أَتْرُكْ أَمْرًا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَصْنَعُهُ فِيهَا إِلَّا صَنَعْتُهُ، فَقَالَ عَلِيٌّ لأَبِي بَكْرٍ) رضي الله عنه (مَوْعِدُكَ الْعَشِيَّةُ) بالرفع مبتدأ وخبره، ويجوز النصب على الظرفيّة، ويتعلّق بخبر محذوف؛ أي: كائن العشيّة، والعشيّ، والعشيّة: من زوال الشمس، ومنه الحديث:"صلى إحدى صلاتي العشيّ: إما الظهر، وإما العصر"، والله تعالى أعلم.
(لِلْبَيْعَة، فَلَمَّا صَلَّى أَبُو بَكْرٍ) رضي الله عنه (صَلَاةَ الظُّهْرِ رَقِيَ عَلَى الْمِنْبَرِ) - بكسر القاف، بعدها تحتانية - أي: علا، وحَكَى ابن التين أنه رآه في نسخة بفتح القاف، بعدها ألف، وهو تحريف، قاله في "الفتح"
(1)
.
وقال النوويّ رحمه الله: قوله: "رقِيَ على المنبر": هو بكسر القاف، يقال: رَقِيَ يَرْقَى، كعَلِم يَعْلَم. انتهى.
(فَتَشَهَّدَ، وَذَكَرَ شَأْنَ عَلِيٍّ، وَتَخَلُّفَهُ عَنِ الْبَيْعَة، وَعُذْرَهُ) - بضم العين، وإسكان الذال؛ عطفًا على مفعول "وذَكَرَ"، (بِالَّذِي اعْتَذَرَ اِلَيْه، ثُمَّ اسْتَغْفَرَ، وَتَشَهَّدَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، فَعَظَّمَ حَقَّ أَبِي بَكْرٍ) زاد في رواية معمر المذكورة: "وذَكَر فضيلته، وسابقيّته، ثم مضى إلى أبي بكر، فبايعه"، (وَأَنَّهُ لَمْ يَحْمِلْهُ عَلَى الَّذِي صَنَعَ نَفَاسَةً)؛ أي: حسدًا (عَلَى أَبِي بَكْر، وَلَا إِنْكَارًا لِلَّذِي فَضَّلَهُ اللهُ بِه، وَلَكنَّا كُنَّا نَرَى) بالضمّ، أو الفتح، (لَنَا فِي الأَمْرِ نَصِيبًا، فَاسْتُبِدَّ عَلَيْنَا بِهِ) ببناء الفعل للمفعول، و"علينا" هو النائب عن الفاعل، ويَحْتَمل أن يكون بالبناء للفاعل، والفاعل ضمير أبي بكر رضي الله عنه. (فَوَجَدْنَا فِي أَنْفُسِنَا)؛ أي: غضبنا عليه بسبب ذلك، (فَسُرَّ) بالبناء للمفعول، (بِذَلِكَ الْمُسْلِمُونَ، وَقَالُوا: أَصَبْتَ)؛ أي: وُفّقت للصواب، (فَكَانَ الْمُسْلِمُونَ إِلَى عَلِيٍّ) رضي الله عنه (قَرِيبًا)؛ أي: كان وُدّهم له قريبًا، (حِينَ رَاجَعَ الأَمْرَ الْمَعْرُوفَ)؛ أي: من الدخول فيما دخل فيه الناس.
قال النوويّ رحمه الله: أما تأخر عليّ رضي الله عنه عن البيعة فقد ذكره عليّ رضي الله عنه في هذا الحديث، واعتذر إلى أبي بكر رضي الله عنه، ومع هذا فتأخره ليس بقادح في
(1)
"الفتح" 9/ 343.
البيعة، ولا فيه، أما البيعة فقد اتَّفَق العلماء على أنه لا يُشترط لصحتها مبايعة كلّ الناس، ولا كلّ أهل الحلّ والعقد، وإنما يشترط مبايعة من تيسَّر إجماعهم من العلماء، والرؤساء، ووجوه الناس، وأما عدم القدح فيه، فلأنه لا يجب على كلّ واحد أن يأتي إلى الإمام، فيضع يده في يده، ويبايعه، وإنما يلزمه إذا عَقَد أهلُ الحلّ والعقد للإمام الانقيادُ له، وأن لا يُظهِر خلافًا، ولا يَشُقّ عصًا، وهكذا كان شأن عليّ رضي الله عنه في تلك المدّة التي قبل بيعته، فإنه لم يُظهر على أبي بكر خلافًا، ولا شقّ العصا، ولكنه تأخَّر عن الحضور عنده؛ للعذر المذكور في الحديث، ولم يكن انعقاد البيعة، وانبرامها متوقفًا على حضوره، فلم يجب عليه الحضور لذلك، ولا لغيره، فلمّا لم يجب لم يحضر، وما نُقِل عنه قدح في البيعة، ولا مخالفة، ولكن بقي في نفسه عَتْبٌ، فتأخر حضوره إلى أن زال العتب، وكان سبب العتب أنه مع وَجَاهته، وفضيلته في نفسه في كل شيء، وقُرْبه من النبيّ صلى الله عليه وسلم، وغير ذلك رأى أنه لا يُستَبَدّ بأمر إلا بمشورته وحضوره، وكان عذر أبي بكر، وعمر، وسائر الصحابة رضي الله عنهم واضحًا؛ لأنهم رأوا المبادرة بالبيعة من أعظم مصالح المسلمين، وخافوا من تأخيرها حصول خلاف ونزاع، تترتب عليه مفاسد عظيمة، ولهذا أخروا دفن النبيّ صلى الله عليه وسلم حتى عقدوا البيعة؛ لكونها كانت أهمّ الأمور، كيلا يقع نزاع في مدفنه، أو كَفَنه، أو غُسْله، أو الصلاة عليه، أو غير ذلك، وليس لهم من يَفْصِل الأمور، فرأوا تقدّم البيعة أهمّ الأشياء، والله أعلم. انتهى
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: من تأمل ما دار بين أبي بكر وعليّ رضي الله عنهما من المعاتبة، ومن الاعتذار، وما تضمَّن ذلك من الإنصاف، عَرَف أن بعضهم كان يعترف بفضل الآخر، وأن قلوبهم كانت متفقة على الاحترام والمحبة، وإن كان الطبع البشريّ قد يغلب أحيانًا، لكن الديانة تردّ ذلك، والله الموفق.
وقد تمسَّك الرافضة بتأخر عليّ عن بيعة أبي بكر رضي الله عنه إلى أن ماتت فاطمة رضي الله عنها، وهذيانهم في ذلك مشهور، وفي هذا الحديث ما يدفع في حجتهم، وقد صحح ابن حبان وغيره من حديث أبي سعيد الخدريّ وغيره: أن
(1)
"شرح النوويّ" 12/ 77 - 78.
عليًّا بايع أبا بكر في أول الأمر، وأما ما وقع في مسلم عن الزهريّ أن رجلًا قال له: لم يبايع عليّ أبا بكر حتى ماتت فاطمة، قال: لا، ولا أحد من بني هاشم، فقد ضعّفه البيهقيّ بأن الزهريّ لم يُسنده، وأن الرواية الموصولة عن أبي سعيد أصحّ.
وجَمَع غيره بأنه بايعه بيعة ثانيةً مؤكدةً للأولى؛ لإزالة ما كان وقع بسبب الميراث، كما تقدم، وعلى هذا فيُحْمَل قول الزهريّ:"لم يبايعه عليّ في تلك الأيام" على إرادة الملازمة له، والحضور عنده، وما أشبه ذلك، فإن في انقطاع مِثله عن مِثله ما يوهم من لا يعرف باطن الأمر أنه بسبب عدم الرضا بخلافته، فأَطلق من أَطلق ذلك، وبسبب ذلك أظهر عليّ المبايعة التي بعد موت فاطمة عليها السلام لإزالة هذه الشبهة، قاله في "الفتح"
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: عندي أن القول الأخير، وهو أن مبايعة عليّ لأبي بكر رضي الله عنه في هذه القصّة بيعة ثانية مؤكّدة للأُولى، لا أنها هي الأُولى هو الأظهر، لِمَا لا يخفى عن من تأمله بالإمعان والإنصاف، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [16/ 4570 و 4571 و 4572](1759)، و (البخاريّ) في "فرض الخمس"(3092 و 3093) و"فضائل الصحابة"(3711 و 3712) و"المغازي"(4036 و 4240 و 4241) و"الفرائض"(6725 و 6726)، و (أبو داود) في "الخراج"(2968 و 2969 و 2970)، و (النسائيّ) في "كتاب قسم الفيء"(7/ 132) و"الكبرى"(3/ 46)، و (مالك) في "الموطّأ"(1875)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(9774)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 4 و 6 - 7 و 9 - 10)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4823 و 6607)، و (أبو يعلى) في
(1)
"الفتح" 9/ 344، كتاب "المغازي" رقم (4240).
"مسنده"(43)، و (ابن سعد) في "الطبقات"(2/ 315)، و (المروزيّ) في "مسند أبي بكر"(36)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 253)، و (الطبرانيّ) في "مسند الشاميين"(4/ 198)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(2/ 4)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(1/ 276)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(6/ 300 - 301 و 7/ 65)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(2741)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان أن الأنبياء لا يورَثون، قال في "الفتح": قال ابن بطال وغيره: ووجه ذلك - والله أعلم - أن الله بعثهم مبلِّغين رسالته، وأمَرهم أن لا يأخذوا على ذلك أجرًا، كما قال تعالى:{قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا} [الأنعام: 90]، وقال نوح، وهود، وغيرهما نحو ذلك، فكانت الحكمة في أن لا يورثوا؛ لئلا يُظَنّ أنهم جمعوا المال لوارثهم. قال: وقوله تعالى: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ} [النمل: 16] حَمَله أهل العلم بالتأويل على العلم والحكمة، وكذا قول زكريا:{فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي} [مريم: 5 - 6].
وقد حَكَى ابن عبد البر رحمه الله أن للعلماء في ذلك قولين، وأن الأكثرين على أن الأنبياء لا يورثون، وذَكَرَ أن ممن قال بذلك من الفقهاء: إبراهيم بن إسماعيل ابن علية، ونقله عن الحسن البصريّ عياض في "شرح مسلم"، وأخرج الطبريّ من طريق إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي صالح، في قوله تعالى حكاية عن زكريا:{وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ} [مريم: 5] قال: العصبة، ومن قوله:{يَرِثُنِي} قال: يرث مالي، ويرث من آل يعقوب النبوة.
ومن طريق قتادة، عن الحسن نحوه، لكن لم يذكر المال، ومن طريق مبارك بن فَضَالة، عن الحسن رفعه مرسلًا:"رَحِمَ اللهُ أخي زكريا ما كان عليه من يرث ماله".
قال الحافظ رحمه الله: وعلى تقدير تسليم القول المذكور، فلا مُعارض من القرآن لقول نبينا صلى الله عليه وسلم:"لا نورث، ما تركنا صدقة"، فيكون ذلك من خصائصه صلى الله عليه وسلم التي أُكرم بها، بل قول عمر:"يريد نفسه" يؤيّد اختصاصه بذلك.
وأما عموم قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} الآية [النساء: 11]، فأجيب عنها بأنها عامّة فيمن ترك شيئًا كان يملكه، وإذا ثبت أنه وقفه قبل
موته، فلم يخلُف ما يورث عنه، فلم يورث، وعلى تقدير أنه خَلَّف شيئًا مما كان يملكه، فدخوله في الخطاب قابل للتخصيص؛ لِمَا عُرِف من كثرة خصائصه صلى الله عليه وسلم، وقد اشتَهَرَ عنه أنه لا يورث، فظهر تخصيصه بذلك دون الناس.
وقيل: الحكمة في كونه لا يورث: حسم المادّة في تمني الوارث موت المورِّث، من أجل المال، وقيل: لكون النبيّ كالأب لأمته، فيكون ميراثه للجميع، وهذا معنى الصدقة العامّة. انتهى
(1)
.
2 -
(ومنها): ما قاله ابن الْمُنَيِّر رحمه الله في "الحاشية": يستفاد من الحديث أن من قال: داري صدقةٌ، لا تورث أنَّها تكون حَبْسًا، ولا يحتاج إلى التصريح بالوقف، أو الحبس، قال الحافظ: وهو حسن، لكن هل يكون ذلك صريحًا، أو كناية يحتاج إلى نية؟. انتهى
(2)
.
3 -
(ومنها): ما قاله القرطبيّ رحمه الله عند قوله: "مما أفاء الله عليه بالمدينة، وفَدَك": كانت الأراضي التي تصدق بها رسول الله صلى الله عليه وسلم صارت إليه بثلاثة طرق:
[أحدها]: ما وَصّى له به عند موته مُخَيْريق اليهوديّ لَمّا أسلم يوم أُحد، وكانت سبعة حوائط في بني النضير، وما أعطاه الأنصار من أراضيهم.
[والثاني]: حقه من الفيء من سائر أرض بني النضير، حين أجلاهم، وكذلك نصف أرض فدك، صالح أهلها على النصف بعد حنين، وكذلك ثلث أرض وادي القري، صالح عليه يهود، وكذلك حصنان من حصون خيبر: الوَطِيح، والسُّلالم، فَتَح أحدهما صلحًا، وأجلى أهلها.
[والثالث]: سهمه من خمس خيبر، وما افتتح منه عنوة، وهو حصن الكتيبة، خرج كله في خمس الغنيمة منها، وأقسم الناس سائرها؛ حكاه أبو الفضل عياض.
فهذه الأراضي التي وصلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان يأخذ منها حاجة
(1)
"الفتح" 15/ 426 - 427، كتاب "الفرائض" رقم (6729).
(2)
"الفتح" 15/ 426 - 427، كتاب "الفرائض" رقم (6729).
عياله، ويصرف الباقي في مصالح المسلمين، وهي التي تصدَّق بها، حيث قال:"ما تركت بعد نفقة نسائي، ومؤنة عاملي فهو صدقة"، فلما مات عمل فيه أبو بكر رضي الله عنه كذلك، ثم عمر، ثم عثمان، غير أنه يُروى: أن عثمان أقطع مروان فدك، وهو مما نُقم على عثمان، قال الخطابيّ: لعل عثمان تأوّل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أطعم الله نبيًّا طُعمةً فهي للذي يقوم من بعده"
(1)
، فلما استغنى عثمان عنها بماله، جعلها لأقربائه.
قال القرطبيّ رحمه الله: وأولى من هذا أن يقال: لعل عثمان رضي الله عنه دفعها له على جهة المساقاة، وخَفِي وجه ذلك على الراوي، فقال: أقطع، والله تعالى أعلم. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا التأويل الذي ذكره القرطبيّ رحمه الله فيما عمل به عثمان رضي الله عنه هو المتعيّن؛ تحسينًا للطن به رضي الله عنه، فتنبّه، ولا تنغرّ بما يُثيره المنحرفون، والله تعالى المستعان.
4 -
(ومنها): ما قاله القرطبيّ رحمه الله أيضًا عند قوله: "فوَجَدت فاطمة على أبي بكر في ذلك فهجرته
…
إلخ": لا يُظَنّ بفاطمة رضي الله عنها أنَّها اتَّهَمَت أبا بكر فيما ذكره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكنها عَظُم عليها ترك العمل بالقاعدة الكلية، المقررة بالميراث، المنصوصة في القرآن، وجوّزت السهو والغلط على أبي بكر، ثم إنها لَمْ تلتق بأبي بكر لِشُغلها بمصيبتها برسول الله صلى الله عليه وسلم، ولملازمتها بيتها، فعبَّر الراوي عن ذلك بالهجران، وإلا فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث"، وهي أعلم الناس بما يَحِلّ من ذلك ويَحْرُم، وأبعد الناس عن مخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كيف لا يكون كذلك وهي بضعة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسيدة نساء أهل الجَنَّة؟. انتهى
(3)
.
5 -
(ومنها): في هذا الحديث بيان صحة خلافة أبي بكر وانعقاد الإجماع عليها.
6 -
(ومنها): أن في قوله: "فلما صلّى أبو بكر رضي الله عنه صلاة الظهر
…
(1)
رواه البيهقيّ في "السنن الكبرى" 6/ 301 - 303.
(2)
"المفهم" 3/ 567 - 568.
(3)
"المفهم" 3/ 568 - 569.
إلخ" ما يدلّ على أنَّ العشيّة من بعد الزوال، كما جاء في الحديث الآخر: "صلى إحدى صلاتي العشيّ: إما الظهر، وإما العصر"، أفاده القاضي عياض رحمه الله
(1)
.
7 -
(ومنها): أن بيعة الأئمة يجب أن تكون بمحضر من الملأ والجمع، ولا يُستَتَر بها، وأن التزامها واجب لجميع الناس، وإن لَمْ يبايعه كلّ أحد؛ لأنَّ المعتبَر مبايعة أهل الحلّ والعقد، وأما سائر الناس، فالواجب عليهم طاعته، ونُصرته، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى المؤلِّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4571]
(
…
) - (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ ابْنُ رَافِعٍ: حَدَّثَنَا، وَقَالَ الآخَرَانِ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاق، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ فَاطِمَةَ، وَالْعَبَّاسَ، أَتَيَا أَبَا بَكْرٍ، يَلْتَمِسَانِ مِيرَاثَهُمَا مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَهُمَا حِينَئِذٍ يَطْلُبَانِ أَرْضَهُ مِنْ فَدَكٍ، وَسَهْمَهُ مِنْ خَيْبَرَ، فَقَالَ لَهُمَا أَبُو بَكْرٍ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِمِثْلِ مَعْنَى حَدِيثِ عُقَيْلٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: ثُمَّ قَامَ عَلِيُّ، فَعَظَّمَ مِنْ حَقِّ أَبِي بَكْرٍ، وَذَكَرَ فَضِيلَتَهُ، وَسَابِقَتَهُ، ثُمَّ مَضَى إِلَى أَبِي بَكْرٍ، فَبَايَعَهُ، فَأَقْبَلَ النَّاسُ إِلَى عَلِي، فَقَالُوا: أَصَبْتَ، وَأَحْسَنْتَ، فَكَانَ النَّاسُ قَرِيبًا
(2)
إِلَى عَلِيٍّ حِينَ قَارَبَ الأَمْرَ الْمَعْرُوفَ).
رجال هذا الإسناد: تسعة:
وكلّهم ذُكروا في الباب وقبله.
وقوله: (وَسَاقَ الْحَدِيثَ) فاعل "ساق" ضمير معمر.
وقوله: (فَكَانَ النَّاسُ قَرِيبًا) إنما أفرد قريبًا؛ لأنه يجوز أن يُستعمل بلفظ المفرد للواحد، والمثنّى، والجمع، والمذكّر، والمؤنّث، قال الفيّوميّ رحمه الله: قال أبو عمرو بن العلاء: لِلقَرِيبِ في اللغة معنيان:
[أحَدُهُما]: قَرِيبُ قُرْبٍ، فيستوي فيه المذكر، والمؤنث، يقال: زيد
(1)
"إكمال المعلم" 6/ 85.
(2)
وفي نسخة: "فكانوا قريبًا".
قريب منك، وهند قَرِيبٌ منك؛ لأنه من قُرْب المكان والمسافة، فكأنه قيل: هند موضعها قَرِيبٌ، ومنه قوله تعالى:{إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف: 56].
[والثاني]: قَرِيبٌ قرابة، فيطابَقُ، فيقال: هند قَرِيَبةٌ، وهما قَرِيبَتَانِ.
وقال الخليل: القَرِيبُ، والبعيد يستوي فيهما المذكر، والمؤنث، والجمع.
وقال ابن الأنباريّ: قَرِيبٌ مُذكَّر، مُوَحَّد، تقول: هند قَرِيبٌ، والهندات قَرِيِبٌ؛ لأنَّ المعنى: الهندات مكان قَرِيبٌ
(1)
، وكذلك بعيدٌ ويجوز أن يقال: قَرِيبَةٌ، وبعيدة؛ لأنك تبنيهما على قَرُبتْ، وبَعُدت، وقال في قوله تعالى:{إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} : لا يجوز حمل التذكير على معنى: إن فضل الله؛ لأنه صرف اللفظ عن ظاهره، بل لأنَّ اللفظ وُضع للتذكير، والتوحيد، وحَمَله الأخفش على التأويل، فقال: المعنى: إنَّ نَظَر الله. انتهى
(2)
.
[تنبيه]: رواية معمر، عن الزهريّ هذه ساقها أبو عوانة رحمه الله في "مسنده"، فقال:
(6679)
- حدّثنا محمد بن يحيى، قثنا عبد الرزاق، وحدّثنا محمد بن عليّ الصنعانيّ، قال: أنبأ عبد الرزاق، قال أنبأ معمر (ح) وحدّثنا الدَّبَرِيّ، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهريّ، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها أن فاطمة والعباس رضي الله عنهما أتيا أبا بكر رضي الله عنه يلتمسان ميراثهما من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهما حينئذ يطلبان أرضه من فدك، وسهمه من خيبر، فقال لهما أبو بكر: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يقول: "لا نورث، ما تركنا صدقة، إنما يأكل آل محمد صلى الله عليه وسلم من هذا المال"، وإني والله لا أدع أمرًا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنعه فيه إلَّا صنعته، قال: فهَجَرته فاطمة، فلم تكلمه في ذلك حتى ماتت، فدفنها
(1)
هكذا النسخة "لأنَّ المعنى: الهندات مكان قريب"، ولعل الأَولى:"مكان الهندات قريبٌ"، فليُحرّر، والله تعالى أعلم.
(2)
"المصباح المنير" 2/ 495 - 496.
عليّ رضي الله عنه ليلًا، ولم يُؤْذِن بها أبا بكر، قالت عائشة: وكان لعليّ من الناس وجهٌ حياةَ فاطمة، فلما تُوُفِّيت فاطمة انصرفت وجوه الناس عن عليّ، فمكثت فاطمة ستة أشهر بعد النبيّ صلى الله عليه وسلم، ثم توفيت - قال رجل للزهريّ: فلم يبايعه عليّ ستة أشهر؟ قال: ولا أحد من بني هاشم، حتى بايعه عليّ - فلما رأى عليّ انصراف وجوه الناس عنه، ضَرَعَ إلى مصالحة أبي بكر، فأرسل عليّ إلى أبي بكر أن ائتنا، ولا تأتنا معك بأحد، وكَرِه أن يأتيه عمر؛ لِمَا عَلِم من شدّته، فقال عمر: لا تأتيهم وحدك، فقال أبو بكر: والله لآتينهم، وما عسى أن يصنعوا بي؟ فانطَلَق أبو بكر، فدخل على عليّ، وقد جَمَع بني هاشم عنده، فقام عليّ، فحَمِد الله، وأثنى عليه بما هو أهله، ثمَّ قال: أما بعدُ فإنه لَمْ يمنعنا أن نبايعك يا أبا بكر إنكارًا لفضيلتك، ولا نَفَاسَةً عليك لخير ساقه الله إليك، ولكنا كنا نُرَى أن لنا في هذا الأمر حقًّا، فاستبددتم به علينا، ثم قال: ثم ذكر قرابتهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحقهم، فلم يزل عليّ يذكر ذلك حتى بكى أبو بكر، فلما سكت عليّ تشهّد أبو بكر، فحمد الله، وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: أما بعد، فوالله لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحبَّ إليّ أن أصل من قرابتي، وإني والله ما أَلَوْتُ في هذه الأموال التي كانت بيني وبينكم على الخير، ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"لا نورث، ما تركنا صدقةٌ، إنما يأكل آل محمد من هذا المال"، وإني والله لا أدع أمرًا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنعه فيه إلَّا صنعته، إن شاء الله، قال عليّ: موعدك العشية للبيعة، فلما صلى أبو بكر الظهر أقبل على الناس بوجهه، ثم عَذَرَ عليًّا ببعض ما اعتذر به، ثم قام عليّ، فعَظَّم من حقّ أبي بكر، وذكر من فضيلته، وسابقته، ثم مضى إلى أبي بكر فبايعه، فأقبل الناس إلى عليّ، فقالوا: أصبت، وأحسنت، قالت عائشة: فكان الناس قريبًا إلى عليّ، حين راجع الأمر، وقال أحدهما: قارب الأمر والمعروف. انتهى
(1)
.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4572]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا أَبِي (ح) وَحَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَالْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْحُلْوَانِيُّ قَالَا: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ
(1)
مسند أبي عوانة 4/ 251 - 252.
- وَهُوَ ابْنُ إِبْرَاهِيمَ - حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْر، أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَخْبَرَتْهُ، أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم سَأَلتْ أَبَا بَكْرٍ بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَقْسِمَ لَهَا مِيرَاثَهَا، مِمَّا تَرَكَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، مِمَّا أَفَاءَ اللهُ عَلَيْه، فَقَالَ لَهَا أَبُو بَكْرٍ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا نُورَثُ، مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ"، قَالَ: وَعَاشَتْ بَعْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم
(1)
سِتَّةَ أَشْهُرٍ، وَكَانَتْ فَاطِمَةُ تَسْأَلُ أَبَا بَكْرٍ نَصِيبَهَا مِمَّا تَرَكَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ خَيْبَرَ، وَفَدَكٍ، وَصَدَقَتِهِ بِالْمَدِينَةِ
(2)
، فَأَبَى أَبُو بَكْرٍ عَلَيْهَا ذَلِكَ، وَقَالَ: لَسْتُ تَارِكًا شَيْئًا كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَعْمَلُ بِهِ إِلَّا عَمِلْتُ بِه، إِنِّي أَخْشَى إِنْ تَرَكْتُ شَيْئًا مِنْ أَمْرِهِ أَنْ أَزِيغَ، فَأَمَّا صَدَقَتُهُ بِالْمَدِينَة، فَدَفَعَهَا عُمَرُ إِلَى عَلِيٍّ، وَعَبَّاسٍ، فَغَلَبَهُ عَلَيْهَا عَلِيٌّ، وَأَمَّا خَيْبَرُ، وَفَدَكُ، فَأَمْسَكَهُمَا عُمَرُ، وَقَالَ: هُمَا صَدَقَةُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَتَا لِحُقُوقِهِ الَّتِي تَعْرُوهُ، وَنَوَائِبِه، وَأَمْرُهُمَا إِلَى مَنْ وَلِيَ الأَمْرَ، قَالَ: فَهُمَا عَلَى ذَلِكَ إِلَى الْيَوْمِ).
رجال هذا الإسناد: تسعة:
1 -
(ابْنُ نُمَيْرٍ) هو: محمد بن عبد الله بن نُمير الْهَمْدانيّ الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ فاضلٌ [10](ت 234)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 5.
2 -
(يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) بن سعد الزهريّ، أبو يوسف المدنيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ فاضلٌ، من صغار [9](ت 208)(ع) تقدم في "الإيمان" 9/ 141.
3 -
(أَبُوهُ) إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرَّحمن بن عوف الزهريّ، أبو إسحاق المدني، نزيل بغداد، ثقةٌ، تُكُلّم فيه بلا قادح [8](ت 185)(ع) تقدم في (الإيمان) 9/ 141.
4 -
(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) أبو خيثمة، تقدَّم قبل باب.
5 -
(الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْحُلْوَانِيُّ) تقدَّم قريبًا.
(1)
وفي نسخة: "بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم".
(2)
وفي نسخة: "ومن صدقته بالمدينة".
6 -
(صَالِحُ) بن كيسان الغفاريّ مولاهم، أبو محمد المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ [4] مات بعد (130) أو (140)(ع) تقدم في "الإيمان" 9/ 141.
والباقون ذُكروا قبله.
[تنبيه]: قال الحافظ أبو عليّ الجيّانيّ رحمه الله في "تقييده": قال مسلم: حدّثنا زهير، وحسن الحلوانيّ، قالا: نا يعقوب بنْ إبراهيم، نا أبي، عن صالح، عن ابن شهاب، قال: أخبرني عروة، أن عائشة أخبرته أن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم سألت أبا بكر الصدّيق
…
الحديث.
هكذا إسناده عند أبي أحمد - أي: بدون ذكر "وحدّثنا ابن نُمير" كما هنا في المطبوع -.
وفي نسخة أبي العلاء بن ماهان: حدّثنا ابن نُمير، نا يعقوب بن إبراهيم، وخرّجه أبو مسعود الدمشقيّ عن مسلم، فقال: حدّثنا زهير بن حرب، وحسن الحلوانيّ، ومحمد بن عبد الله بن نمير، ثلاثتهم عن يعقوب بن إبراهيم بن سعد بذلك.
قال أبو عليّ: وأكثر ما يجيء مسلم بنسخة صالح بن كيسان هذه عن زهير بن حرب، وحسن الحلوانيّ جميعًا عن يعقوب بن إبراهيم، عن أبيه، فالله أعلم. انتهى
(1)
.
وقوله: (أَنْ أَزِيغَ)؛ أي: أميل عن الحقّ، يقال: زاغت الشمس تزيغ زيغًا: مالت، وزاغ الشيء كذلك، ويزوغ زَوْغًا لغةٌ، وأزاغه إزاغةً في التعدّي، قاله الفيّوميّ
(2)
، فأفاد أن فيه لغتين، زاغ يزيغ، كباع يبيع، وزاغ يزوغ؛ كقال يقول.
وقوله: (فَأَمَّا صَدَقَتُهُ بِالْمَدِينَة، فَدَفَعَهَا عُمَرُ إِلَى عَلِيٍّ، وَعَبَّاسٍ) تقدّمت قصّة دَفْعه إليهما في حديث أول الباب.
وقوله: (فَغَلَبَهُ عَلَيْهَا عَلِيٌّ) زاد البخاريّ: "فكانت بيده، ثم كانت بيد حسين بن عليّ، ثم بيد عليّ بن حسين، وحسن بن حسن، كلاهما كانا يتداولانها، ثم بيد زيد، وهي صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم حقًّا".
(1)
تقييد المهمل" 3/ 876 - 877.
(2)
"المصباح المنير" 1/ 261.
وقال أبو بكر الخوارزميّ البرقانيّ بعد قوله: "ثم بيد عليّ بن حسين، ثم بيد الحسن بن الحسن، ثم بيد زيد بن الحسن - قال معمر -: ثم بيد عبد الله بن الحسن": ثم وليها بنو العباس. انتهى
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "فغلبه عليّ عليها"؛ يعني: على الولاية عليها، والقيام بها، وكأن العبّاس رأى عليًّا أقوى عليها، وأضلع بها، فلم يعرض له بسببها، فعبّر الراوي عن هذا بالغلبة، قال: وفيه بُعد. انتهى
(2)
.
وقوله: (وَأَمَّا خَيْبَرُ)؛ أي: الذي كان يخصّ النبيّ صلى الله عليه وسلم منها.
وقوله: (فَأَمْسَكَهُمَا عُمَرُ)؛ أي: لَمْ يدفعها لغيره، وبَيَّن سبب ذلك بقوله: "هما صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم
…
إلخ"، قال في "الفتح": وقد ظهر بهذا أن صدقة النبيّ صلى الله عليه وسلم بما كان من بني النضير، وأما سهمه من خيبر وفدك فكان حكمه إلى من يقوم بالأمر بعده، وكان أبو بكر رضي الله عنه يُقَدِّم نفقة نساء النبيّ صلى الله عليه وسلم وغيرها، مما كان يصرفه، فيصرفه من خيبر، وفدك، وما فضل من ذلك جعله في المصالح، وعمل عمر رضي الله عنه بعده بذلك، فلما كان عثمان تصرّف في فدك بحسب ما رآه، فرَوَى أبو داود، من طريق مغيرة بن مِقْسَم، قال: جَمَعَ عمر بن عبد العزيز بني مروان، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينفق من فدك علي بني هاشم، ويزوّج أَيِّمهم، وأن فاطمة سألته أن يجعلها لها، فأبي، وكانت كذلك في حياة النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وعمر، ثم أقطعها مروان؛ يعني: في أيام عثمان.
قال الخطابيّ: إنما أقطع عثمان فدك لمروان؛ لأنه تأول أن الذي يختص بالنبيّ صلى الله عليه وسلم يكون للخليفة بعده، فاستغنى عثمان عنها بأمواله، فوصل بها بعض قرابته.
ويشهد لصنيع أبي بكر حديث أبي هريرة رضي الله عنه المرفوع الآتي بعد هذا بلفظ: "ما تركت بعد نفقة نسائي، ومؤنة عاملي، فهو صدقة"، فقد عَمِل أبو بكر وعمر بتفصيل ذلك بالدليل الذي قام لهما. انتهى
(3)
.
(1)
راجع: "مشارق الأنوار" 2/ 404.
(2)
"المفهم" 3/ 571.
(3)
"الفتح" 7/ 354، كتاب "فرض الخمس" رقم (3092).
وقوله: (كَانَتَا لِحُقُوقِهِ الَّتِي تَعْرُوهُ، وَنَوَائِبِهِ) قال النوويّ رحمه الله: معناه: ما يطرأ عليه من الحقوق الواجبة والمندوبة، ويقال: عروته، واعتريته، وعررته، واعتررته: إذا أتيته تطلب منه حاجة. انتهى
(1)
.
وقوله: (قَالَ: فَهُمَا عَلَى ذَلِكَ إِلَى الْيَوْمِ) هذا من كلام الزهريّ رحمه الله؛ يعني: إلى يوم حدّث بهذا الحديث.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام شرحه، وبيان مسائله قبل حديث، ولله الحمد والمنّة.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4573]
(1760) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنْ أَبِي الزِّنَاد، عَنِ الأَعْرَج، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا يَقْتَسِمُ وَرَثَتِي دِيِنَارًا، مَا تَرَكْتُ بَعْدَ نَفَقَةِ نِسَائِي، وَمَئُونَةِ عَامِلِي، فَهُوَ صَدَقَةٌ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(أَبُو الزِّنَادِ) عبد الله بن ذكون المدنيّ، تقدّم قريبًا.
2 -
(الأَعْرَجُ) عبد الرَّحمن بن هرمز المدنيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
3 -
(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه تقدّم في الباب الماضي.
والباقيان ذُكرا أول الباب.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه أصحّ أسانيد أبي هريرة رضي الله عنه على ما رُوي عن البخاريّ رحمه الله، وفيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ، وهو مسلسل بالمدنيين، وشيخه، وإن كان نيسابوريًّا إلَّا أنه دخل المدينة للأخذ عن مالك، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه أحفظ من روى الحديث في دهره، روى (5374) حديثًا.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا يَقْتَسِمُ)"لا" ناهية، والفعل بعدها مجزوم، ويَحْتَمِل أن تكون نافية، والفعل مرفوع، قال في
(1)
"شرح النوويّ" 12/ 81.
"الفتح": وهو الأشهر، وبه يستقيم المعنى، حتى لا يعارض حديث عائشة وغيرها أنه صلى الله عليه وسلم لَمْ يترك مالًا يورث عنه، قال: وتوجيه رواية النهي أنه لَمْ يَقطع بأنه لا يَخْلُف شيئًا، بل كان ذلك مُحْتَمِلًا، فنهاهم عن قسمة ما يُخَلِّف إن اتفق أنه خَلّف. انتهى
(1)
.
وقال في موضع آخر: قوله: "لا يقتسم" كذا لأبي ذرّ، عن غير الكشميهنيّ، وللباقين:"لا يَقْسِم" بحذف التاء الثانية، قال ابن التين: الرواية في "الموطأ"، وكذا قرأته في البخاريّ برفع الميم، على أنَّه خبر، والمعنى: ليس يقسم، ورواه بعضهم بالجزم، كأنه نهاهم إن خَلَّف شيئًا لا يقسم بعده، فلا تعارض بين هذا وبين حديث عمرو بن الحارث الخزاعيّ:"ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم دينارًا، ولا درهمًا"، ويَحْتَمِل أن يكون الخبر بمعنى النهي، فيتحد معنى الروايتين، ويستفاد من رواية الرفع أنه أخبر أنه لا يُخَلِّف شيئًا، مما جرت العادة بقسمته؛ كالذهب، والفضة، وأن الذي يُخلِّفه من غيرهما لا يُقسَم أيضًا بطريق الإرث، بل تقسم منافعه لمن ذَكَرَ. انتهى
(2)
.
(وَرَثَتِي)؛ أي: بالقة، لو كنت ممن يورث، أو المراد: لا يُقْسَم مالٌ تركه لجهة الإرث، فأتى بلفظ:"ورثتي"؛ ليكون الحكم مُعَلَّلًا بما به الاشتقاق، وهو الإرث، فالمنفي اقتسامهم بالارث عنه، قاله السبكي الكبير، ذكره في "الفتح"
(3)
.
وقال في موضع آخر: سمّاهم ورثةً باعتبار أنهم كذلك بالقوّة، لكن منعهم من الميراث الدليل الشرعيّ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم:"لا نورث، ما تركنا صدقةٌ"
(4)
.
وقوله: (دِيِنَارًا) منصوب على المفعوليّة لـ"يقتسم"، قال في "الفتح": قوله في هذه الرواية: "دينارًا" كذا وقع في رواية مالك، عن أبي الزناد، في
(1)
"الفتح" 7/ 24، كتاب "الوصايا" رقم (2776).
(2)
"الفتح" 15/ 424 - 425، كتاب "الفرائض" رقم (6729).
(3)
"الفتح" 15/ 425، كتاب "الفرائض" رقم (6729).
(4)
"الفتح" 7/ 24، كتاب "الوصايا" رقم (2776).
"الصحيحين"، فقيل: هو تنبيه بالأدنى على الأعلى، وأخرجه مسلم من رواية سفيان بن عيينة، عن أبي الزناد، بلفظ:"دينارًا، ولا درهمًا"، وهي زيادة حسنة، وتابعه عليها سفيان الثوريّ، عن أبي الزناد، عند الترمذيّ في "الشمائل"، واستُدِلّ به على أجرة القسام. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: عَزْوُه رواية ابن عيينة بلفظ: "دينارًا، ولا درهمًا" إلى مسلم غير صحيح، فإنه ما ساق هذا اللفظ، وإنما ساق سنده، ثم أحاله على رواية مالك، كما هو واضح من الرواية التالية، ولفظ مالك ليس فيه إلَّا قوله:"دينارًا" فقط، كما هو سانبّه عليه في التنبيه الآتي - إن شاء الله تعالى -.
وأما رواية ابن عيينة التي فيها ما ذُكِرَ: أخرجها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:
(7301)
- حدّثنا سفيان، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، يبلغ به، وقال مرّة: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تقتسم ورثتي دينارًا، ولا درهمًا، ما تركت بعد نفقة نسائي، ومؤونة عاملي، فهو صدقة". انتهى
(2)
.
وقال ابن عبد البرّ رحمه الله: الرواية في هذا الحديث: "يقتسم" برفع الميم على الخبر؛ أي: ليس يقتسم ورثتي دينارًا؛ لأني لا أخلِّف دينارًا، ولا درهمًا، ولا شاةً، ولا بعيرًا، وهذا معنى حديث مسروق، عن عائشة رضي الله عنها، وأن ما تخلف عقارًا تُجرى غلته على نسائه، بعد مئونة عامله، قال: وهكذا قال يحيى: "دنانير"، وتابعه ابن كنانة، وأما سائر رواة "الموطأ"، فيقولون:"دينارًا"، وهو الصواب؛ لأنَّ الواحد في هذا الموضع أهم عند أهل اللغة؛ لأنه يقتضي الجنس، والقليل، والكثير، وممن قال:"دينارًا" من أصحاب مالك: ابنُ القاسم، وابن وهب، وابن نافع، وابن بكير، والقعنبيّ، وأبو مصعب، ومطرّف، وهو المحفوظ في هذا الحديث، وكذلك قال ورقاء بن عمر، عن أبي الزناد، بإسناده، وقال ابن عيينة، عن أبي الزناد بهذا الإسناد: "لا يقتسم ورثتي بعدي ميراثي، ما تركت بعد نفقة نسائي، ومئونة عاملي، فهو
(1)
"الفتح" 7/ 363 - 364، كتاب "فرض الخمس" رقم (3096).
(2)
"مسند الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله" 2/ 242.
صدقة"، قال ابن عيينة: يقول: لا أُورث، وأما قوله: "مئونة عاملي"، فإنهم يقولون: أراد بعامله: خادمه في حوائطه، وقَيِّمه، ووكيله، وأجيره، ونحو هذا. انتهى كلام ابن عبد البرّ رحمه الله
(1)
.
وقال النوويّ رحمه الله: قال العلماء: هذا التقييد بالدينار هو من باب التنبيه على ما سواه، كما قال الله تعالى:{فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7)} [الزلزلة: 7]، وقال تعالى:{وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} [آل عمران: 75] قالوا: وليس المراد بهذا اللفظ النهي؛ لأنه إنما يُنْهَى عما يمكن وقوعه، وإرثه صلى الله عليه وسلم غير ممكن، وإنما هو بمعنى الإخبار، ومعناه: لا يقتسمون شيئًا؛ لأني لا أُورَثُ، هذا هو الصحيح المشهور من مذاهب العلماء في معنى الحديث، وبه قال جماهيرهم.
وحَكَى القاضي عياض: عن ابن علية، وبعض أهل البصرة أنهم قالوا: إنما لَمْ يورث؛ لأنَّ الله تعالى خصّه أن جعل ماله كلّه صدقة، والصواب الأول، وهو الذي يقتضيه سياق الحديث.
ثم إن جمهور العلماء على أنَّ جميع الأنبياء - صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين - لا يورثون.
وحَكَى القاضي عن الحسن البصريّ أنه قال: عدم الإرث بينهم مختص بنبيّنا صلى الله عليه وسلم؛ لقوله تعالى عن زكريا: {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} [مريم: 6]، وزعم أن المراد: وراثة المال، وقال: ولو أراد وراثة النبوة لَمْ يقل: {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي} [مريم: 5]؛ إذ لا يخاف الموالي على النبوة، ولقوله تعالى:{وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ} [النمل: 16]، والصواب ما حكيناه عن الجمهور أن جميع الأنبياء لا يورثون، والمراد بقصة زكريا وداود وراثة النبوة، وليس المراد حقيقة الإرث، بل قيامه مقامه، وحلوله مكانه، والله أعلم. انتهى
(2)
.
وقوله: (مَا تَرَكْتُ)"ما" اسم موصول مبتدأ، و"تركت" صلته، حذف منه العائد؛ أي: الذي تركته (بَعْدَ نَفَقَةِ نِسَائِي، وَمَئُونَةِ عَامِلِي) اختُلف في المراد
(1)
"التمهيد" لابن عبد البرّ 18/ 171 - 172.
(2)
"شرح النوويّ" 12/ 81.
بقوله: "عاملي"، فقيل: الخليفة بعده، وهذا هو المعتمد، وهو الذي يوافق ما تقدم في حديث عمر رضي الله عنه، وقيل: يريد بذلك: العامل على النخل، وبه جزم الطبريّ، وابن بطال، وأبعدَ من قال: المراد بعامله حافر قبره صلى الله عليه وسلم، وقال ابن دحية في "الخصائص": المراد بعامله خادمه، وقيل: العامل على الصدقة، وقيل: العامل فيها كالأجير، قاله في "الفتح"
(1)
.
وأفاد في موضع آخر أن الخلاف على خمسة أقوال: الأول: الخليفة، والثاني: الصانع، والثالث: الناظر، والرابع: الخادم، والخامس: حافر قبره صلى الله عليه وسلم، وهذا إن كان المراد بالخادم الجنس، وإلا فإن كان الضمير للنخل، فيتحد مع الصانع، أو الناظر، وقد أشار البخاريّ: إلى ترجيح حمل العامل على الناظر، حيث ترجم في "الوصايا""باب نفقة قيّم الوقف"، ثم أورد الحديث. انتهى
(2)
.
وقوله: (فَهُوَ صَدَقَةٌ") جملة في محلّ خبر المبتدأ، وهو "ما تركت"، ودخلت الفاء؛ لِمَا في المبتدأ من معنى العموم، كما هو مشهور في محلّه من كتب النحو.
[تنبيه]: قال في "الفتح": ومما يُسأل عنه تخصيص النساء بالنفقة، والمؤنة بالعامل، وهل بينهما مغايرة؟.
وقد أجاب عنه السبكيّ الكبير بأن المؤنة في اللغة: القيام بالكفاية، والإنفاقُ: بذل القوت، قال: وهذا يقتضي أن النفقة دون المؤنة، والسرّ في التخصيص المذكور الإشارة إلى أن أزواجه صلى الله عليه وسلم لَمّا اخترن الله ورسوله والدار الآخرة كان لا بُدّ لهنّ من القوت، فاقتصر على ما يدلُّ عليه، والعاملُ لَمّا كان في صورة الأجير، فيحتاج إلى ما يكفيه اقتصر على ما يدلّ عليه. انتهى ملخصًا.
ويؤيده قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه: "إن حرفتي كانت تكفي عائلتي، فاشتغلت عن ذلك بأمر المسلمين"، فجعلوا له قَدْر كفايته.
(1)
"الفتح" 7/ 363، كتاب "فرض الخمس" رقم (3096).
(2)
راجع: "الفتح" 15/ 425، كتاب"الفرائض" رقم (6729).
ثم قال السبكيّ: لا يُعترض بأن عمر رضي الله عنه كان فَضّل عائشة رضي الله عنها في العطاء؛ لأنه عَلَّل ذلك بمزيد حبّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لها.
قال الحافظ: وهذا ليس مما بدأ به؛ لأنَّ قسمة عمر كانت من الفتوح، وأما ما يتعلق بحديث الباب ففيما يتعلق بما خَلَّفه النبيُّ صلى الله عليه وسلم، وأنه يبدأ منه بما ذُكِرَ.
وأفاد رحمه الله أنه يدخل في لفظ "نفقة نسائي": كسوتهنّ، وسائر اللوازم، وهو كما قال، ومن ثَمّ استمرت المساكن التي كُنّ فيها قبل وفاته صلى الله عليه وسلم كلّ واحدة باسم التي كانت فيه. انتهى.
[تنبيه آخر]: قال القاضي عياض في تفسير صدقات النبيِّ صلى الله عليه وسلم المذكورة في هذه الأحاديث، قال: صارت إليه بثلاثة حقوق:
[أحدها]: ما وُهِب له صلى الله عليه وسلم، وذلك وصية مُخيريق اليهوديّ له عند إسلامه يوم أحد، وكانت سبع حوائط في بني النضير، وما أعطاه الأنصار من أرضهم، وهو ما لا يبلغه الماء، وكان هذا مُلكًا له صلى الله عليه وسلم.
[الثاني]: حقّه صلى الله عليه وسلم من الفيء، من أرض بني النضير، حين أجلاهم كانت له خاصّة؛ لأنَّها لَمْ يوجف عليها المسلمون بخيل ولا ركاب، وأما منقولات بني النضير، فحملوا منها ما حملته الإبل، غير السلاح، كما صالَحهم، ثم قَسَم صلى الله عليه وسلم الباقي بين المسلمين، وكانت الأرض لنفسه، ويخرجها في نوائب المسلمين، وكذلك نصف أرض فدك صالح أهلها بعد فتح خيبر على نصف أرضها، وكان خالصًا له، وكذلك ثلث أرض وادي القري، أخذه في الصلح حين صالح أهلها اليهود، وكذلك حصنان من حصون خيبر، وهما: الوطيح، والسُّلالم
(1)
، أخذهما صلحًا.
[الثالث]: سهمه صلى الله عليه وسلم من خمس خيبر، وما افتتح فيها عَنْوة، فكانت هذه كلها مُلكًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصّة، لا حقّ فيها لأحد غيره، لكنه صلى الله عليه وسلم كان لا يستأثر بها، بل ينفقها على أهله، والمسلمين، وللمصالح العامة، وكل هذه
(1)
الوطيح؛ كشريف: حصن بخيبر، و"السُّلالم" بالضمّ: حصن بخيبر أيضًا، قاله في "القاموس".
صدقات محرَّمات التملك بعده. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [16/ 4573 و 4574](1760)، و (البخاريّ) في "الوصايا"(2776) و"الجهاد"(3096) و"الفرائض"(6729)، و (أبو داود) في (2974)، و (الترمذيّ) في "الشمائل"(403)، و (مالك) في "الموطّأ"(2/ 993)، و (الحميديّ) في "مسنده"(1134)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 242 و 376 و 463)، و (ابن سعد) في "الطبقات"(2/ 314)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6609 و 6610 و 6612) و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 253)، و (الطبرانيّ) في "مسند الشاميين"(4/ 296)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(6/ 302)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(3838)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان أنه صلى الله عليه وسلم لا يورث، وكذلك سائر الأنبياء عند الجمهور، والصحيح.
2 -
(ومنها): بيان وجوب نفقات أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم فيما تركه بعد موته، ويدخل فيه كسوتهنّ، وسائر اللوازم؛ كالمساكين؛ لأنهن أزواجه في الدنيا والآخرة، فحبَسَهنّ على عصمته، فوجبت لهنّ النفقات.
3 -
(ومنها): أن من كان مشتغلًا بشيء من مصالح المسلمين؛ كعالم، وقاض، وأمير، له أخذ الرزق من الفيء، على اشتغاله به، وأنه مع ذلك مأجور، وفيه ردّ على من حَرّم على الْقَسّام أخذ الأجر، قاله المناويّ رحمه الله
(2)
.
4 -
(ومنها): ما قاله العلّامة ابن الملقّن رحمه الله: فيه جواز أخذ أجرة
(1)
"إكمال المعلم" 6/ 87 - 89.
(2)
"فيض القدير على الجامع الصغير" للمناويّ 2/ 205.
القسّام من المال المقسوم، وإنما كره العلماء أجرة القسّام؛ لأنَّ على الإمام أن يرزقهم من بيت المال، فإن لَمْ يفعل فلا غَنَاء بالناس عن قاسم يَقْسم بينهم، كما لا غنى عن عامل يعمل في المال. انتهى
(1)
.
5 -
(ومنها): ما قال ابن الملقّن رحمه الله أيضًا: قوله: "ما تركت
…
إلخ" يبيّن فساد قول من أبطل الأوقاف، والأحباس من أجل أنَّها كانت مملوكة قبل الوقف، وأنه لا يجوز أن يكون مُلك مالك ينتقل إلى غير مالك، فيقال له: إن أموال بني النضير، وفدك، وخيبر لَمْ تُنقل بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أحدٍ مَلَكها، بل هي صدقة منه ثابتة على الأيّام والليالي، تجري عنه في السبل التي أجراها فيها منذ قُبض، فكذلك حُكْم الصدقات المحرّمة قائمة على أصولها، جارية عليها فيما سبّلها فيه، لا يباع أصلها، ولا يوهب، ولا يُملك. انتهى
(2)
.
6 -
(ومنها): أنه يدلّ على مشروعية أجرة العامل على الوقف، والمراد بالعامل في هذا الحديث: الْقَيِّم على الأرض، والأجير، ونحوهما، أو الخليفة بعده صلى الله عليه وسلم، ووَهِمَ من قال: إن المراد به أجرة حافر قبره، قاله في "الفتح"
(3)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى المؤلِّف رحمه الله أَوَّل الكتاب قال:
[4574]
(
…
) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ أَبِي عُمَرَ الْمَكِّيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي الزِّنَاد، بِهَذَا الْإِسْنَاد، نَحْوَهُ).
رجال هذا الإسناد: ثلاثة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ أَبِي عُمَرَ الْمَكِّيُّ) تقدّم قريبًا.
2 -
(سُفْيَانُ) بن عيينة، تقدّم في الباب الماضي.
و"أبو الزناد" ذُكر قبله.
[تنبيه]: رواية سفيان بن عيينة، عن أبي الزناد هذه ساقها البيهقيُّ رحمه الله في "الكبرى"، فقال:
(1)
"التوضيح لشرح الجامع الصحيح" 17/ 295 رقم (2776).
(2)
"التوضيح شرح صحيح البخاريّ" 17/ 296.
(3)
"الفتح" 7/ 24، كتاب "الوصايا" رقم (2776).
(13177)
- أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، وأبو زكريا بن أبي إسحاق، وأبو بكر بن الحسن، قالوا: ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، أنبأ الربيع بن سليمان، أنبأ الشافعيّ، أنبأ ابن عيينة (ح) وأخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرني أبو عمرو بن أبي جعفر، ثنا عبد الله بن محمد، ثنا محمد بن يحيى بن أبي عمر المكيّ، ثنا سفيان، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يقتسم ورثتي دينارًا، ما تركت بعد نفقة نسائي، ومؤنة عاملي، فهو صدقة". انتهى
(1)
.
وقد تابع ابن عيينة فيه سفيان الثوري، أخرجه الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:
(8879)
- حدّثنا عبد الرزاق، أنا سفيان، عن ابن ذكوان، عن عبد الرَّحمن الأعرج، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يقتسم ورثتي دينارًا، ما تركته بعد نفقة نسائي، ومؤونة عاملي - يعني: عامل أرضه - فهو صدقة". انتهى
(2)
، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4575]
(1761) - (وَحَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي خَلَفٍ، حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ بْنُ عَدِيٍّ، أخْبَرَنَا ابْنُ الْمُبَارَك، عَنْ يُونُسَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنِ الأَعْرَج، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا نُورَثُ، مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(ابْنُ أبِي خَلَفٍ) هو: محمد بن أحمد بن أبي خلف السّلميّ، أبو عبد الله البغداديّ القطيعيّ، ثقةُ [10](237)(م د) تقدم في "الإيمان" 92/ 502.
2 -
(زَكَرِيَّاءُ بْنُ عَدِيِّ) بن الصَّلْت التيميّ مولاهم، أبو يحيى الكوفيّ، ثقةٌ حافظ جليلٌ، من كبار [10](ت 1 أو 212)(خ م مد ت س ق) تقدم في "المقدمة" 6/ 88.
(1)
"سنن البيهقيّ الكبرى" 7/ 65.
(2)
"مسند الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله" 2/ 376.
3 -
(ابْنُ الْمُبَارَكِ) هو: عبد الله الإمام المشهور، تقدَّم قبل ثلاثة أبواب.
4 -
(يُونُسُ) بن يزيد الأيليّ، تقدَّم أيضًا قبل ثلاثة أبواب.
والباقون ذُكروا قبله، وشرح الحديث مضى مستوفًى في هذا الباب وما قبله.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [16/ 4575](1761)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(2488)، والله تعالى أعلم.
[تنبيه]: أخرج البيهقيّ رحمه الله حديث أبي هريرة هذا من روايته عن أبي بكر، وعمر رضي الله عنهما، فقال رحمه الله في "الكبرى":
(12520)
- أخبرنا عبد الله بن يوسف الأصبهانيّ، أنا أبو سعيد بن الأعرابيّ، ثنا عباس بن محمد الدُّوريّ، ثنا عبد الوهاب، ثنا محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، قال: جاءت فاطمة إلى أبي بكر، وعمر رضي الله عنهم تطلب ميراثها، فقالا: سمعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا نورث، ما تركنا صدقة". انتهى، والله تعالى أعلم.
(17) - (بَابُ كَيْفِيَّةِ قِسْمَةِ الْغَنِيمَةِ بَيْنَ الْحَاضِرِينَ)
[4576]
(1762) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَأَبُو كَامِلٍ فُضَيْلُ بْنُ حُسَيْنٍ، كِلَاهُمَا عَنْ سُلَيْمٍ، قَالَ يَحْيَى: أَخْبَرَنَا سُلَيْمُ بْنُ أَخْضَرَ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، حَدَّثَنَا نَافِعٌ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ: "أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَسَمَ فِي النَّفَلِ لِلْفَرَسِ سَهْمَيْن، وَلِلرَّجُلِ سَهْمًا").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(أَبُو كَامِلٍ فُضَيْلُ بْنُ حُسَيْنٍ) الْجَحْدريّ البصريّ، ثقةٌ حافظ [10](ت 237)(خت م د ت س) تقدم في "المقدمة" 6/ 57.
2 -
(سُلَيْمُ بْنُ أَخْضَرَ) البصريّ، ثقةٌ حافظ [8](م د ت س) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 20/ 1308.
والباقون تقدموا في الباب الماضي، وقبل أربعة أبواب.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أن فيه ابن عمر رضي الله عنهما أحد العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة، وأشد الناس اتّباعًا للأثر، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ.
شرح الحديث:
(عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ) رضي الله عنهما (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَسَمَ فِي النَّفَلِ)"في" بمعنى "من"، و"النَّفَل" - بفتحتين -: الغنيمة، والجمع أنفال، مثلُ سبب وأسباب، وقال النوويّ رحمه الله: المراد بالنفل هنا: الغنيمة، وأُطلق عليها اسم النَّفَل؛ لكونها تُسَمَّى نَفَلًا لغةً، فإن النفل في اللغة: الزيادة، والعطية، وهذه عطية من الله تعالى، فإنها أُحِلّت لهذه الأمة، دون غيرها. انتهى
(1)
.
(لِلْفَرَسِ سَهْمَيْن، وَلِلرَّجُلِ سَهْمًا) قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في أكثر الروايات: "للفرس سهمين، وللرجل سهمًا"، وفي بعضها:"للفرس سهمين، وللراجل سهمًا"، بالألف في "الراجل"، وفي بعضها:"للفارس سهمين"
(2)
.
وفي رواية البخاريّ: "جعل للفرس سهمين، ولصاحبه سهمًا"، قال في "الفتح"؛ أي: غير سَهْمَي الفرس، فيصير للفارس ثلاثة أسهم، وقد فسّره نافع كذلك، ولفظه: إذا كان مع الرجل فرس، فله ثلاثة أسهم، فإن لَمْ يكن معه فرس، فله سهم، ولأبي داود، عن أحمد، عن أبي معاوية، عن عبيد الله بن عمر، بلفظ:"أَسْهَم لرجل، ولفرسه ثلاثة أسهم: سهمًا له، وسهمين لفرسه"، وبهذا التفسير يتبيّن أَنْ لا وَهَمَ فيما رواه أحمد بن منصور الرماديّ، عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن أبي أسامة، وابن نمير، كلاهما عن عبيد الله بن عمر، فيما أخرجه الدارقطنيّ، بلفظ:"أَسْهَم للفارس سهمين"، قال الدارقطنيّ عن شيخه أبي بكر النيسابوريّ: وَهِمَ فيه الرماديّ، وشيخه، قلت: لا؛ لأنَّ المعنى: أَسْهَم للفارس بسبب فرسه سهمين، غير سهمه المختصّ به.
(1)
"شرح النوويّ" 12/ 83.
(2)
"شرح النوويّ" 12/ 83.
وقد رواه ابن أبي شيبة في "مصنّفه"، و"مسنده" بهذا الإسناد، فقال:"للفرس"، وكذلك أخرجه ابن أبي عاصم، في "كتاب الجهاد" له عن ابن أبي شيبة، وكأن الرماديّ رواه بالمعنى.
وقد أخرجه أحمد، عن أبي أسامة، وابن نمير معًا، بلفظ:"أسهم للفرس"، وعلى هذا التأويل أيضًا يُحْمَل ما رواه نعيم بن حماد، عن ابن المبارك، عن عبيد الله، مثل رواية الرماديّ، أخرجه الدارقطنيّ، وقد رواه عليّ بن الحسن بن شقيق، وهو أثبت من نعيم، عن ابن المبارك، بلفظ:"أسهم للفرس".
واستُدِلّ به على أنَّ المشرك إذا حضر الوقعة، وقاتل مع المسلمين يُسهَم له، وبه قال بعض التابعين؛ كالشعبيّ، ولا حجة فيه؛ إذ لَمْ يَرِدْ هنا صيغة عموم.
واستُدِلّ للجمهور بحديث: "لَمْ تَحِلّ الغنائم لأحد قبلنا".
واختُلِف فيمن خرج إلى الغزو، ومعه فرس فمات قبل حضور القتال، فقال مالك: يستحقّ سهم الفرس، وقال الشافعيّ، والباقون: لا يُسهم له إلَّا إذا حضر القتال، فلو مات الفرس في الحرب استحقّ صاحبه، وإن مات صاحبه استمرّ استحقاقه، وهو للورثة، وعن الأوزاعيّ فيمن وصل إلى موضع القتال، فباع فرسه: يسهم له، لكن يستحقّ البائع مما غَنِموا قبل العقد، والمشتري مما بعده، وما اشتَبَهَ قسم، وقال غيره: يوقف حتى يصطلحا، وعن أبي حنيفة: من دخل أرض العدو راجلًا لا يُقسم له إلَّا سهم راجل، ولو اشترى فرسًا، وقاتل عليه.
واختُلِف في غزاة البحر، إذا كان معهم خيل، فقال الأوزاعيّ، والشافعيّ: يُسهم له.
[تكميل]: هذا الحديث يذكره الأصوليون في مسائل القياس، في مسألة الإيماء؛ أي: إذا اقترن الحكم بوصف، لولا أن ذلك الوصف للتعليل، لَمْ يقع الاقتران، فلما جاء سياق واحد، أنه صلى الله عليه وسلم أعطى للفرس سهمين، وللراجل سهمًا، دَلّ على افتراق الحكم. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(1)
"الفتح" 7/ 141 - 142، كتاب "الجهاد" رقم (2863).
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [17/ 4576 و 4577](1762)، و (البخاريّ) في "الجهاد"(2863) و"المغازي"(4228)، و (أبو داود) في "الجهاد"(2733)، و (الترمذيّ) في "السير"(1554)، و (ابن ماجة) في "الجهاد"(2854)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(9320)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(12/ 396 - 397)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 2 و 62 و 72 و 80)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 225 - 226)، و (سعيد بن منصور) في "سننه"(2760 و 2762)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(1084)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4810 و 4811 و 4812)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 254)، و (الدارقطنيّ) في "سننه"(4/ 102 و 104 و 106 و 107)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(6/ 324 - 325)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(2722)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان أن للفرس سهمين، ولصاحبه سهم، فيكون المجموع ثلاثة أسهم، وهذا قول أكثر أهل العلم، من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم، وغيره، وخالف في ذلك أبو حنيفة، فقال: يُسهم للفرس سهم واحد، وقد رُدّ عليه؛ لمخالفته الأدلة الصحيحة، وقول الجمهور. قال العلامة ابن الملقّن - بعد ذكر الأدلة الكثيرة - ما نصّه: إذا تقرّر. ذلك، قال الله تعالى:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]، ورسوله صلى الله عليه وسلم قد قسم للفارس ثلاثة أسهم: سهمًا له، وسهمين لفرسه، واتّباعه، وطاعته فرض، وكذا فعله عمر بن الخطّاب، وعليّ، ولا مخالف لهما من الصحابة، وهو قول عامّة العلماء قديمًا، وحديثًا، غير أبي حنيفة، فإنه قال: لا يسهم للفرس إلَّا سهم واحد، وقال: أكره أن أفضّل بهيمة على مسلم، وخالفه أصحابه، فبقي وحده، وخالفه العلماء الثلاثة: الشافعي، ومالك، وأحمد، وأبو يوسف، ومحمد بن الحسن، وذكر المنذريّ أن قوله رُوي عن عليّ، وأبي موسى، قال ابن سحنون: ما أرى أن يُدخل قول أبي حنيفة هذا في الاختلاف؛ لمخالفته جميع العلماء، وما ذكره
من تفضيل الفرس على المسلم شبهة ضعيفة؛ لأنَّ السهام كلها في الحقيقة للرجل، وحجته رواية المقداد أنه صلى الله عليه وسلم أعطاه يوم بدر سهمًا له، وسهمًا لفرسه، وجوابه أن ما سلف أكثر، فهو أولي، ولأنه متأخّر، فهو ينسخ المتقدّم، ذكره ابن التين. انتهى
(1)
.
2 -
(ومنها): عناية الشرع بإعطاء كلّ ذي حقّ حقّه، فلما كان صاحب الفرس يتكلّف بمؤنة فرسه، بعلفه، وسقيه، ورعايته، فيزداد بذلك تعبه، مع أنه أكثر غناء في مواجهة العدوِّ من الراجل جعل له سهمين، حتى يعوّضه تعبه؛ إذ الثواب على قدر النصب.
3 -
(ومنها): أن فيه الحَضَّ على اكتساب الخيل، واتخاذها للغزو؛ لِمَا فيها من البركة، وإعلاء كلمة الله، وإعزاز حزبه، ولتعظم شوكة المسلمين بالخيل الكثير، كما قال تعالى:{وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60]، والله تعالى أعلم.
(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في سهم الفارس والراجل:
ذهب الجمهور إلى أنه يكون للراجل سهم واحد، وللفارس ثلاثة أسهم: سهمان بسبب فرسه، وسهم بسبب نفسه، وممن قال بهذا: ابنُ عباس، ومجاهد، والحسن، وابن سيرين، وعمر بن عبد العزيز، ومالك، والأوزاعيّ، والثوريّ، والليث، والشافعيّ، وأبو يوسف، ومحمد بن الحسن، وأحمد، وإسحاق، وأبو عبيد، وابن جرير، وآخرون.
وقال أبو حنيفة: للفارس سهمان فقط: سهم لها، وسهم له، قالوا: ولم يقل بقوله هذا أحد، إلَّا ما روي عن عليّ، وأبي موسى.
وحجة الجمهور هذا الحديث الصحيح، وهو صريح على رواية مَن رَوَى:"جعل للفرس سهمين، وللرجل سهمًا" بغير ألف في "الرجل"، وهي رواية الأكثرين، ومَن روى:"وللراجل" روايته مُحْتَمِلة، فيتعيّن حملها على موافقة الأولى؛ جمعًا بين الروايتين.
قال النوويّ رحمه الله: قال أصحابنا وغيرهم: وَيرْفع هذا الاحتمال ما وَرَد مُفَسَّرًا
(1)
"التوضيح" لابن الملقّن رحمه الله 17/ 534 - 535.
في غير هذه الرواية، في حديث ابن عمر هذا من رواية أبي معاوية، وعبد الله بن نمير، وأبي أسامة، وغيرهم، بإسنادهم عنه:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسهم لرجل، ولفرسه ثلاثة أسهم: سهم له، وسهمان لفرسه"، ومثله من رواية ابن عباس، وأبي عمرة الأنصاريّ رضي الله عنهم. انتهى
(1)
.
وقال في "الفتح": وتمسَّك بظاهر الرواية المتقدّمة عند الدارقطنيّ، بلفظ:"أسهم للفارس سهمين" بعضُ مَن احتج لأبي حنيفة، في قوله: إن للفرس سهمًا واحدًا، ولراكبه سهم آخر، فيكون للفارس سهمان فقط، ولا حجة فيه؛ لِمَا ذكرنا، من أن المعنى: أسهم للفارس بسبب فرسه سهمين، غير سهمه المختصّ به.
واحتُجَّ له أيضًا بما أخرجه أبو داود، من حديث مُجَمِّع بن جارية - بالجيم، والتحتانية - في حديث طويل، في قصّة خيبر، قال:"فأعطى للفارس سهمين، وللراجل سهمًا"، وفي إسناده ضعف، ولو ثبت يُحْمَل على ما تقدم؛ لأنه يَحْتَمِل الأمرين، والجمع بين الروايتين أولي، ولا سيما والأسانيد الأُوَلُ أثبت، ومع رُواتها زيادة علم.
وأصرح من ذلك ما أخرجه أبو داود، من حديث أبي عمرة:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أعطى للفرس سهمين، ولكل إنسان سهمًا، فكان للفارس ثلاثة أسهم"، وللنسائيّ من حديث الزبير:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم ضرب له أربعة أسهم: سهمين لفرسه، وسهمًا له، وسهمًا لقرابته".
قال محمد بن سحنون: انفرد أبو حنيفة بذلك دون فقهاء الأمصار، ونُقِل عنه أنه قال: أكره أن أفضل بهيمة على مسلم، وهي شُبهة ضعيفة؛ لأنَّ السهام في الحقيقة كلها للرجل. قال الحافظ: لو لَمْ يثبت الخبر، لكانت الشبهة قويّةً؛ لأنَّ المراد: المفاضلة بين الراجل والفارس، فلولا الفرس ما ازداد الفارس سهمين عن الراجل، فمن جعل للفارس سهمين، فقد سَوَّى بين الفرس وبين الرجل.
وقد تُعُقّب هذا أيضًا؛ لأنَّ الأصل عدم المساواة بين البهيمة والإنسان،
(1)
"شرح النوويّ" 12/ 83.
فلما خرج هذا عن الأصل بالمساواة، فلتكن المفاضلة كذلك.
وقد فَضّل الحنفية الدابة على الإنسان في بعض الإحكام، فقالوا: لو قَتَل كلبَ صَيْد قيمته أكثر من عشرة آلاف أدّاها، فإن قتل عبدًا مسلمًا لَمْ يؤد فيه إلَّا دون عشرة آلاف درهم، والحقّ أن الاعتماد في ذلك على الخبر، ولم ينفرد أبو حنيفة بما قال، فقد جاء عن عمر، وعليّ، وأبي موسى، لكن الثابت عن عمر، وعليّ؛ كالجمهور.
واستُدِلّ للجمهور من حيث المعنى بأن الفرس يحتاج إلى مؤنة؛ لخدمتها، وعَلفها، وبأنه يحصل بها من الغنى في الحرب ما لا يخفى. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن بما سبق من الأقوال، وحججها أن الصحيح ما ذهب إليه الجمهور من أن للفارس ثلاثة أسهم: سهمان لفرسه، وسهم له، وللراجل سهم واحد؛ لوضوح أدلّته، فتأمل بالإنصاف، والله تعالى أعلم.
[تنبيه]: زاد البخاريّ في آخر هذا الحديث ما نصّه: وقال مالك: يُسهم للخيل، والبراذين منها، لقوله تعالى:{وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا} [النحل: 8]، ولا يُسهم لأكثر من فرس. انتهى.
قال في "الفتح": قوله: "وقال مالك: يُسهَم للخيل والبراذين": جَمْع بِرْذَون - بكسر الموحّدة، وسكون الراء، وفتح المعجمة - والمراد: الْجُفاة الْخِلْقة، من الخيل، وأكثر ما تُجْلَب من بلاد الروم، ولها جَلَدٌ على السير في الشعاب، والجبال، والوعر، بخلاف الخيل العربية.
وقوله: "لقوله تعالى: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا} ": قال ابن بطال: وجه الاحتجاج بالآية، أن الله تعالى امْتَنّ بركوب الخيل، وقد أسهم لها رسول الله صلى الله عليه وسلم، واسم الخيل يقع على البرذون، والْهَجِين، بخلاف البغال، والحمير، وكأن الآية استوعبت ما يُرْكَب من هذا الجنس؛ لِمَا يقتضيه الامتنان، فلمّا لَمْ يَنُصّ على البرذون، والهجين فيها دلّ على دخولها في الخيل.
(1)
"الفتح" 7/ 141، كتاب "الجهاد" رقم (2863).
قال الحافظ: وإنما ذكر الْهَجِين؛ لأنَّ مالكًا ذكر هذا الكلام في "الموطأ"، وفيه:"والهجين"، والمراد بالهجين: ما يكون أحد أبويه عربيًّا، والآخر غير عربيّ، وقيل: الهجين: الذي أبوه فقط عربيّ، وأما الذي أمه فقط عربية، فيسمى؛ الْمُقْرِف
(1)
، وعن أحمد: الهجين: البرذون، ويَحْتَمِل أن يكون أراد في الحكم.
وقد وقع لسعيد بن منصور، وفي "المراسيل" لأبي داود، عن مكحول:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم هَجَّن الهجين يوم خيبر، وعَرّب العراب، فجعل للعربيّ سهمين، وللهجين سهمًا"، وهذا منقطع، ويؤيده ما روى الشافعيّ في "الأم"، وسعيد بن منصور، من طريق عليّ بن الأقمر، قال: أغارت الخيل، فأدركت العرابُ، وتأخرت البراذن، فقام المنذر
(2)
الوادعيّ، فقال: لا أجعل ما أَدْرَك كمن لَمْ يدرك، فبلغ ذلك عمر، فقال: هُبلت الوادعيَّ أمُّه، لقد أذكرت به، أمضوها على ما قال، فكان أوّل من أسهم للبراذين دون سهام العراب، وفي ذلك يقول شاعرهم [من الطويل]:
وَمِنَّا الَّذِي قَدْ سَنَّ فِي الْخَيْلِ سُنَّةً
…
وَكَانَتْ سَوَاءً قَبْلَ ذَاكَ سِهَامُهَا
وهذا منقطع أيضًا.
وقد أخذ أحمد بمقتضى حديث مكحول في المشهور عنه كالجماعة، وعنه: إن بلغت البراذين مبالغ العربية سُوِّي بينهما، وإلا فُضِّلت العربية، واختارها الجوزجانيّ، وغيره.
وعن الليث: يُسهَم للبرذون، والهجين، دون سهم الفرس.
وقوله: "ولا يُسْهَم لأكثر من فرس" هو بقية كلام مالك، وهو قول الجمهور، وقال الليث، وأبو يوسف، وأحمد، وإسحاق: يُسْهَم لفرسين، لا لأكثر، وفي ذلك حديث، أخرجه الدارقطنيّ بإسناد ضعيف، عن أبي عمرة، قال: أسهم لي رسول الله صلى الله عليه وسلم لِفَرَسَيَّ أربعة أسهم، ولي سهمًا، فأخذت خمسة أسهم.
(1)
"الْمُقْرِف" بصيغة اسم الفاعل، كمُحْسِنِ: الخيل الذي أمه عربيّة، لا أبوه. اهـ "ق".
(2)
كذا في "التوضيح" لابن الملقّن، ووقع في نسخة "الفتح": ابن المنذر، والظاهر أنه غلط، فليُحرّر.
قال القرطبيّ: ولم يقل أحد أنه يُسْهَم لأكثر من فرسين، إلَّا ما رُوي عن سليمان بن موسى: أنه يسهم لكل فرس سهمان بالغًا ما بلغت، ولصاحبه سهمًا؛ أي: غير سَهْمَي الفرس. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: الذي يظهر لي أن ما ذهب إليه الجمهور من أنه لا يُسهم لأكثر من فرس هو الأرجح؛ لعدم دليل يدلُّ على خلافه، قال ابن الملقّن رحمه الله: حجة القول الأول أنهم أجمعوا على أنَّ سهم فرس واحد يجب مع ثبوت الخبر بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فثبت القول به؛ إذ هو سنّة، وإجماع، ووجب التوقّف عن القول بأكثر من ذلك؛ إذ لا حجة مع القائلين به. انتهى
(2)
.
والحاصل أن الأرجح أنه لا يُسهم لأكثر من فرس واحد، لِمَا ذُكر، فتأمل بالإمعان، والإنصاف، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
[4577]
(
…
) - (حَدَّثَنَاهُ ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ الله، بِهَذَا الْإِسْنَاد، مِثْلَهُ، وَلَمْ يَذْكُرْ: "في النَّفَلِ").
رجال هذا الإسناد: ثلاثة:
1 -
(ابْنُ نُمَيْرٍ) هو: محمد بن عبد الله بن نُمير، تقدّم في الباب الماضي.
2 -
(أَبُوهُ) عبد الله بن نُمير الْهَمْدانيّ الكوفيّ، تقدّم قريبًا.
[تنبيه]: رواية عبد الله بن نُمير، عن نافع هذه ساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:
(6297)
- حدّثنا عبد الله
(3)
، حدّثني أبي، ثنا ابن نُمَير، ثنا عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَسَمَ للفرس سهمين، وللرجل سهمًا". انتهى
(4)
، والله تعالى أعلم.
(1)
"الفتح" 7/ 140 - 141، كتاب "الجهاد" رقم (2863).
(2)
"التوضيح" لابن الملقّن 17/ 537.
(3)
هو ابن الإمام أحمد، راوي "المسند" عنه.
(4)
"مسند الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله" 2/ 143.
(18) - (بَابُ الإِمْدَادِ بِالْمَلَائِكَةِ في غَزْوَةِ بَدْرٍ، وَإِبَاحَةِ الْغَنَائِمِ)
[4578]
(1763) - (حَدَّثَنَا هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ، حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُبَارَك، عَنْ عِكْرِمَةَ بْنِ عَمَّارٍ، حَدَّثَنِي سِمَاكٌ الْحَنَفِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّاب، قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ (ح) وَحَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ - وَاللَّفْظُ لَهُ - حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ يُونُسَ الْحَنَفِيُّ، حَدَّثَنَا عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ، حَدَّثَني أَبُو زُمَيْلٍ - هُوَ سِمَاكٌ الْحَنَفِيُّ - حَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبَّاسٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّاب، قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ، نَظَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْمُشْرِكِينَ، وَهُمْ أَلْفٌ، وَأَصْحَابُهُ ثَلَاثُمِائَةٍ وَتِسْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا، فَاسْتَقْبَلَ نَبِيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْقِبْلَةَ، ثُمَّ مَدَّ يَدَيْه، فَجَعَلَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ:"اللَّهُمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي، اللَّهُمَّ آتِ مَا وَعَدْتَنِي، اللَّهُمَّ إِنْ تَهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةُ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَام، لَا تُعْبَدْ فِي الأَرْضِ"، فَمَا زَالَ يَهْتِفُ بِرَبِّه، مَادًّا يَدَيْه، مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَة، حَتَّى سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ مَنْكِبَيْه، فَأَتَاهُ أَبُو بَكْرٍ، فَأَخَذَ رِدَاءَهُ، فَأَلْقَاهُ عَلَى مَنْكِبَيْه، ثُمَّ الْتَزَمَهُ مِنْ وَرَائِه، وَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللهِ كَفَاكَ مُنَاشَدَتُكَ رَبَّكَ، فَإِنَّهُ سَيُنْجزُ لَكَ مَا وَعَدَكَ، فَأَنْزَلَ اللهُ عز وجل:{إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9)} [الأنفال: 9]، فَأَمَدَّهُ اللهُ بِالْمَلَائِكَةِ. قَالَ أَبُو زُمَيْلٍ: فَحَدَّثَنِي ابْنُ عَبَّاسٍ، قَالَ: بَيْنَمَا رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَئِذٍ يَشْتَدُّ فِي أَثَرِ رَجُلٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ أَمَامَهُ؛ إِذْ سَمِعَ ضَرْبَةً بِالسَّوْطِ فَوْقَهُ، وَصَوْتَ الْفَارِسِ يَقُولُ: أَقْدِمْ حَيْزُومُ، فَنَظَرَ إِلَى الْمُشْرِكِ أَمَامَهُ، فَخَرَّ مُسْتَلْقِيًا، فَنَظَرَ إِلَيْه، فَإِذَا هُوَ قَدْ خُطِمَ أَنْفُهُ، وَشُقَّ وَجْهُهُ؛ كَضَرْبَةِ السَّوْط، فَاخْضَرَّ ذَلِكَ أَجْمَعُ، فَجَاءَ الأَنْصَارِيُّ، فَحَدَّثَ بِذَلِكَ
(1)
رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:"صَدَقْتَ، ذَلِكَ مِنْ مَدَدِ السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ"، فَقَتَلُوا يَوْمَئِذٍ سَبْعِينَ، وَأَسَرُوا سَبْعِينَ. قَالَ أَبُو زُمَيْلٍ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَلَمَّا أَسَرُوا الأُسَارَي، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ: "مَا تَرَوْنَ فِي
(1)
وفي نسخة: "فحدّث ذلك".
هَؤُلَاءِ الأُسَارَى؟ "، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا نَبِيَّ الله، هُمْ بَنُو الْعَمِّ، وَالْعَشِيرَة، أَرَى أَنْ تَأْخُذَ مِنْهُمْ فِدْيَةً، فَتَكُونُ لنَا قُوَّةً عَلَى الْكُفَّار، فَعَسَى اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُمْ لِلإسْلَام، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "ما تَرَى يَا ابْنَ الْخَطَّابِ؟ "، قُلْتُ: لَا، وَاللهِ يَا رَسُولَ الله، مَا أَرَى الَّذِي رَأَى أَبُو بَكْرٍ، وَلَكِنِّي أَرَى أَنْ تُمَكِّنَّا، فَنَضْرِبَ أَعْنَاقَهُمْ، فَتُمَكِّنَ عَلِيًّا مِنْ عَقِيلٍ، فَيَضْرِبَ عُنُقَهُ، وَتُمَكِّنِّي مِنْ فُلَانٍ - نَسِيبًا لِعُمَرَ - فَأَضْرِبَ عُنُقَهُ، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ أَئِمَّةُ الْكُفْر، وَصَنَادِيدُهَا، فَهَوِيَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ، وَلَمْ يَهْوَ مَا قُلْتُ، فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ جِئْتُ، فَإِذَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَبُو بَكْرٍ قَاعِدَيْنِ يَبْكِيَان، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ أَخْبِرْنِي مِنْ أَي شَيْءٍ تَبْكِي أَنْتَ وَصَاحِبُكَ؟ فَإِنْ وَجَدْتُ بُكَاءً بَكَيْتُ، وَإِنْ لَمْ أَجِدْ بُكَاءً تَبَاكَيْتُ لِبُكَائِكُمَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَبْكِي لِلَّذِي عَرَضَ عَلَيَّ أَصْحَابُكَ مِنْ أَخْذِهِمُ الْفِدَاءَ، لَقَدْ عُرِضَ عَلَيَّ عَذَابُهُمْ أَدْنَى مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ"، شَجَرَةٍ قَرِيبَةٍ مِنْ نَبِيِّ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَأنزَلَ اللهُ عز وجل:{مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} [الأنفال: 67] إِلَى قَوْلهِ: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا} [الأنفال: 69]، فَأَحَلَّ اللهُ الْغَنِيمَةَ لَهُمْ).
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ) التميميّ، أبو السّريّ الكوفيّ، ثقةٌ [10](ت 243) وله (91) سنةً (عخ م 4) تقدم في "الإيمان" 64/ 365.
2 -
(ابْنُ الْمُبَارَكِ) عبد الله، تقدّم قبل باب.
3 -
(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) تقدّم أيضًا قبل باب.
4 -
(عُمَرُ بْنُ يُونُسَ الْحَنَفِيُّ) اليماميّ، تقدّم قبل أربعة أبواب.
5 -
(عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ) تقدّم أيضًا قبل أربعة أبواب.
6 -
(أَبُو زُمَيْلٍ سِمَاكٌ الْحَنَفِيُّ) هو: سماك بن الوليد اليماميّ، ثم الكوفيّ، ثقةٌ [3](بخ م 4) تقدم في "الإيمان" 34/ 241.
7 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما، تقدّم قريبًا.
8 -
(عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ) رضي الله عنه، تقدّم قبل بابين.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أن فيه رواية صحابيّ عن صحابيّ، وتابعيّ عن تابعيّ، وأنه مسلسل بالتحديث.
شرح الحديث:
عَنْ عبد الله (ابْنِ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما (حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ) رضي الله عنه (قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ) برفع "يوم" على أن "كان" تامّة؛ أي: لَمّا جاء، وحضر يوم بدر، وَيَحْتَمِل أن تكون ناقصةً، و"يومُ" بالرفع اسمها، وخبرها محذوف؛ أي: حاضرًا، وَيَحْتَمِل أن يكون اسمها محذوفًا؛ أي: لما كان الوقت، و"يوم" بالنصب خبرها.
قال النوويّ رحمه الله: (اعلم): أن بدرًا هو موضع الغزوة العظمى المشهورة، وهو ماء معروف، وقرية عامرة، على نحو أربع مراحل من المدينة، بينها وبين مكة، قال ابن قتيبة: بدر بئر كانت لرجل يسمى بدرًا، فسُمّيت باسمه، قال أبو اليقظان: كانت لرجل من بني غِفَار، وكانت غزوة بدر يوم الجمعة، لسبع عشرة خلت من شهر رمضان، في السنة الثانية من الهجرة، وروى الحافظ أبو القاسم بإسناده في "تاريخ دمشق"، فيه ضعفاء: أنَّها كانت يوم الاثنين، قال الحافظ: والمحفوظ أنَّها كانت يوم الجمعة، وثبت في "صحيح البخاري": عن ابن مسعود رضي الله عنه أن يوم بدر كان يومًا حارًّا. انتهى
(1)
.
(نَظَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْمُشْرِكينَ)؛ أي: مشركي مكة، وهم قريش، (وَهُمْ أَلْفٌ، وَأَصْحَابُهُ ثَلَاثُمِائَةٍ وَتِسْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا) قال القرطبيّ رحمه الله: هذه رواية شاذّة، والمشهور بين أهل التواريخ أن جميع مَن شَهِدَ بدرًا مع مَن ضَرَبَ له رسول الله صلى الله عليه وسلم بسهمه وأجره، في عدّ ابن إسحاق: ثلاثمائة وأربعة عشر، وفي عدّ موسى بن عقبة: ثلاثمائة وستة عشر. انتهى
(2)
.
(فَاسْتَقْبَلَ نَبِيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْقِبْلَةَ ثُمَّ مَدَّ يَدَيْه، فَجَعَلَ يَهْتِفُ) بفتح أوله، وكسر التاء المثناة، فوقُ بعد الهاء، ومعناه: يصيح، ويستغيث بالله بالدعاء، قاله النوويّ
(3)
.
(1)
"شرح النوويّ" 12/ 84.
(2)
"المفهم" 3/ 572.
(3)
"شرح النوويّ" 12/ 84.
وقال الفيّوميّ: هَتَفَ به هَتْفًا، من باب ضَرَبَ: صاح به، ودعاه، وهَتَفَ به هاتفٌ: سمع صوته، ولم يَرَ شَخْصَهُ، وهَتَفَت الحمامة: صَوَّتت. انتهى
(1)
.
وقوله: (بِرَبِّهِ) متعلِّق بـ "يهتف"، (اللَّهُمَّ أَنْجِزْ)؛ أي: عَجِّل (لِي مَا وَعَدْتَنِي)؛ أي: من النصر على أعدائي، وكأنه صلى الله عليه وسلم لَمْ يتبيّن له وقت نصره، فطلب تعجيله
(2)
. (اللَّهُمَّ آتِ)؛ كأعط وزنًا ومعنًى، (مَما وَعَدْتَنِي، اللَّهُمَّ إِنْ تَهْلِكْ) بفتح أوله، وكسر ثالثه، من باب ضرب، ويَحْتَمل أن يكون بضمّ أوله، وكسر ثالثه، من الإهلاك، قال النوويّ: ضبطوه "تَهْلِك" بفتح التاء، وضمّها، فعلى الأول تُرفع "العصابةُ" على أنَّها فاعل، وعلى الثاني تُنصب، وتكون مفعولة. انتهى.
(هَذِهِ الْعِصَابَةُ) بكسر العين المهملة: الجماعة، وقال القرطبيّ رحمه الله: العصابة: الجماعة من الناس، واعصَوْصَب القوم: صاروا عصابة، وعصب القوم بفلان؛ أي: أحاطوا به، وبه سُميت قرابة الرَّجل: عصبة. انتهى
(3)
.
وقوله: (مِنْ أَهْلِ الإِسْلَامِ) بيان للعصابة، وقوله:(لَا تُعْبَدْ فِي الأَرْضِ")"لا" نافية، و"تعبد" بالبناء للمفعول مجزوم على أنَّه جواب "إن".
قال الحافظ رحمه الله في "الفتح": إنما قال ذلك؛ لأنه عَلِمَ أنه خاتم النبيين، فلو هَلَك هو ومن معه حينئذ لَمْ يُبْعَث أحدٌ ممن يدعو إلى الإيمان، ولاستمرّ المشركون يعبدون غير الله، فالمعنى لا يعبد في الأرض بهذه الشريعة. انتهى
(4)
.
وقال القرطبيُّ رحمه الله: وقد أشكل هذا الحديث على طوائف من العلماء، ووجه الإشكال أنه صلى الله عليه وسلم أشار إلى أصحابه من أهل بدر، مع أنه قد كان انتشر الإسلام بمكة والمدينة، وكَثُر أهله في مواضع كثيرة، بحيث يكون أهل بدر بالنسبة إليهم قليلًا، وعلى تقدير هلاك هؤلاء المشار إليهم، فيبقى من كان بالمدينة من المسلمين، وبمكة، وغيرهما من المواضع التي أسلم أهلها. ولو لَمْ يكن في الوجود مسلم غير أهل بدر تقديرًا، ففي الإمكان إيجاد قوم آخرين
(1)
"المصباح المنير" 2/ 633.
(2)
"المفهم" 3/ 572.
(3)
"المفهم" 3/ 572 - 573.
(4)
راجع: "تحفة الأحوذيّ" 8/ 373.
يعبدون الله، والقدرة صالحة لذلك، كما قال تعالى:{وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد: 38]، وإذا كانت قدرة الله صالحة لهذا، فمن أين يجزم بذلك؟ ومن أين يلزم من هلاك هؤلاء عدم عبادة الله تعالى في الأرض؟.
وقد رَسَخَ هذا الإشكال عند بعض المتشدِّقين، وقال: إنها بادرة بَدَرَت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقدَّر معاتبة له من الله له على ذلك في كلام تفاصَحَ فيه، فَعُدّ ذلك من زلَّات هذا القائل؛ إذ قد جَهِلَ من حال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما نزهه الله تعالى عنه بقوله:{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3)} [النجم: 3]، وقد قال صلى الله عليه وسلم حين قال له عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: أنكتب عنك في السخط والرضى؟ قال: "نعم، لا ينبغي لي أن أقول إلَّا حقًّا"
(1)
.
وقد انفصل أهل التحقيق عن ذلك بأوجهٍ:
[أحدها]: أنه يَحْتَمِل أن يكون قال ذلك عن وحي، أوحي إليه بذلك، فمن الإشكال الجائز أن يكون: لو هلكت تلك العصابة في ذلك الوقت على يدي عدوّهم؛ أن يفتتن غيرهم، فلا يبقى على الأرض مسلم يعبد الله، ثم لا يُبعَث نبي آخر، وتنقطع العبادة.
[والثاني]: أن هذا اللفظ وَهَمٌ من بعض الرُّواة في حديث عُمَر؛ وإلا فقد رُوي هذا الحديثُ من جهات متعددة من حديث أنس، وابن عباس، وليس فيها هذا اللفظ، وإنما فيها:"اللهم إنك إن تشأ لا تعبدْ في الأرض"
(2)
، وقد تقدم الكلام عليه.
[وثالثها]: أن هذه العصابة ليس المراد بها الحاضرون في بدر فقط، بل المسلمون كلهم في المدينة وغيرها، وسمّاهم عصابة بالنسبة إلى كثرة عدوّهم، كما قال صلى الله عليه وسلم:"عُصيبة من المسلمين يفتتحون البيت الأبيض، بيت كسرى"
(3)
،
(1)
حديث صحيح، رواه أحمد في "مسنده"(2/ 207 و 215)، وأبو داود في "سننه"(3646).
(2)
رواه مسلم برقم (1313)، وأحمد 3/ 152.
(3)
رواه مسلم برقم (1822).
فقلّلهم بالنسبة إلى عدوهم، فكأنه صلى الله عليه وسلم لَمّا عَلِم أنه لا نبيَّ بعده، وقدَّر في نفسه الهلاك عليه، وعلى كلّ من آمن به، ونظر إلى سُنَّة الله في العبادة التي لا تُتلقّى إلَّا من جهة الأنبياء، لزم من ذلك نفي العبادة جزمًا، والله تعالى أعلم، وهذا أحسن الأوجه، وأولاها. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(1)
، وهو تحقيق نفيسٌ جدًّا، والله تعالى أعلم.
(فَمَا زَالَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ) حال كونه (مَادًّا يَدَيْه، مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَة، حَتَّى سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ مَنْكِبَيْهِ) قال القرطبيّ رحمه الله: هذا منه صلى الله عليه وسلم قيامٌ بوظيفة ذلك الوقت، من الدُّعاء، والالتجاء إلى الله تعالى، وتعليم لأمته ما يلجؤون إليه عند الشدائد، والكرب الواقعة بهم، فإن ذلك الوقت كان وقت اضطرار، وشدة، وقد وعد الله المضطرّ بالإجابة، حيث قال:{أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} [النمل: 62]؛ يعني: عن المضطرّ عند الدُّعاء، فقام بعبادة ذلك الوقت، ولا يلزم من اجتهاده في الدعاء في ذلك الوقت أن يكون ارتاب في أن الله سينجز له ما وعده به، كما ظهر مما وقع لأبي بكر رضي الله عنه حيث قال له:"كفاك مناشدتك ربك؛ فإنه سينجز لك ما وعدك"، كما لا يلزم من دعائه في أن يدخله الله الجَنَّة، وينجيه من النار، ويغفر له ذنوبه أن يكون في شكّ من شيء من ذلك، فإن الله قد أعلمه قطعًا أنه يدخله الجَنَّة، وينجيه من النار، ويغفر له، لكنه قام بحقّ العبودية، من إظهار الفاقة، وامتثال العبادة؛ فإن الدعاء مُخّ العبادة، فقلبه صلى الله عليه وسلم مستغرق بمعرفة الواعد، وإنجاز الموعود، ولسانه، وجوارحه مستغرقة بالقيام بحقّ عبادة المعبود، فقام في كلّ جارحة بوظيفتها، ولكل عبادة بحقيقتها.
وسقوط ردائه صلى الله عليه وسلم عن منكبيه أوجبه غَيْبة عن ظاهره بما وجده في باطنه، وردُّ أبي بكر رضي الله عنه رداء رسول الله صلى الله عليه وسلم على منكبيه بعد سقوطه أوجبه مراعاة أبي بكر رضي الله عنه أحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تتحفظ عليه محاسن آدابه، والتزامه إيَّاه، وتثبيته له بما قاله له أوجبه فرط محبته، وشفقته، وقصرُ نظره على ظاهره، مع ذهوله بما استغرقه من ذلك عن الالتفات إلى ما ذكرناه من المعاني، والأسرار التي لاحت للنبيِّ صلى الله عليه وسلم في باطنه.
(1)
"المفهم" 3/ 573 - 574.
ولا يَظُنّ أحدٌ أن أبا بكر رضي الله عنه كان في تلك الحالة أقوى من النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وأوثق بما وعده الله به من النصر، فإن ذلك ظنُّ مَن لَمْ يَعْرِف محمدًا صلى الله عليه وسلم حقّ معرفته، ولا قَدَره حقّ قدره. وكيف يصير إلى غير هذا المعنى مَن سمع قوله له في الغار، ويوم سراقة:{لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40]، وكيف يَظُنُّ ذلك مَن يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سيد ولد آدم، وأكملهم، وأقواهم، ولو وُزِن بجميع أمته لرجحهم، وبلا شك أن الأنبياء أفضل الناس، وأعلمهم بالله، وبحدوده، ولا شكّ في أنه صلى الله عليه وسلم أفضل الأنبياء، وأجلّهم، وإذا كانت هذه حاله صلى الله عليه وسلم مع الأنبياء، فحاله مع من ليس بنبيٍّ أعلى، وأكمل، وهو فيها أقوى.
وكيف لا يكون صلى الله عليه وسلم في هذه القصة حاله أتمّ، وأقوى من حال أبي بكر رضي الله عنه؟ وقبل ذلك الوقت بيسير كان قد أخبر أصحابه بأن الله ينصره على عدوه ذلك، ذلك حتى أراهم مصارعَهُم واحدًا واحدًا باسمه وعينه، فكان الأمر كما ذُكِرَ، فثبت ما قلناه. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(1)
، وهو بحث نفيسٌ جدًّا، والله تعالى أعلم.
(فَأَتَاهُ أَبُو بَكْرٍ، فَأَخَذَ رِدَاءَهُ، فَأَلْقَاهُ عَلَى مَنْكِبَيْه، ثُمَّ الْتَزَمَهُ مِنْ وَرَائِه، وَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللهِ كَذَاكَ مُنَاشَدَتُكَ رَبَّكَ) قال النوويّ رحمه الله: هكذا وقع لجماهير رُواة مسلم: "كذاك" بالذال، ولبعضهم:"كفاك" بالفاء، وفي رواية البخاريّ:"حَسْبُك مناشدتك ربك"، وكلٌّ بمعنًى.
وقال القرطبيّ رحمه الله: وقوله: "كفاك مناشدتك ربك"، هكذا رواية العذريّ:"كفاك" بالفاء، ورواية الكافّة:"كذاك مناشدتك ربك"، ورواه البخاريّ:"حَسْبُك"، وكلها متقاربة، إلَّا أن "كذاك" بابُها باب الإغراء، كـ"إليك"، كما أنشدوا [من الوافر]:
يَقُلْنَ وَقَدْ تَلَاحَقَتِ الْمَطَايَا
…
كَذَاكَ الْقَوْلَ إِنَّ عَلَيْكَ عَيْنَا
قال: والرواية: "مناشدَتُك" بالرفع، على أنَّه فاعلٌ بما في "كفاك"، و"كذاك" من معنى الفعل، وقد ضُبِط عن أبي بحر بالنصب على المفعول، ويكون الفاعل مضمرًا في الأمر المقدَّر الذي ناب "كذاك" عنه. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(2)
.
(1)
"المفهم" 3/ 574 - 576.
(2)
"المفهم" 3/ 576.
وقال النوويّ رحمه الله: والمناشدة: السؤال، مأخوذة من النَّشِيد: وهو رفع الصوت.
قال: وضبطوا "مناشدتك" بالرفع، والنصب، وهو الأشهر، قال القاضي: من رفعه جعله فاعلًا بـ "كفاك"، ومن نصبه فعلى المفعول بما في "حسبك"، و"كفاك"، و"كذاك" من معنى الفعل، من الكفّ، قال العلماء: هذه المناشدة إنما فعلها النبيّ صلى الله عليه وسلم ليراه أصحابه بتلك الحال، فتَقْوَى قلوبهم بدعائه، وتضرعه، مع أن الدعاء عبادة، وقد كان وعده الله تعالى إحدى الطائفتين: إما الْعِير، وإما الجيش، وكانت العِير قد ذهبت، وفاتت، فكان على ثقةٌ من حصول الأخرى، لكن سأل تعجيل ذلك، وتنجيزه من غير أَذًى يلحق المسلمين. انتهى
(1)
.
وقال البغويُّ رحمه الله في "شرح السُّنَّة": ليس قول أبي بكر رضي الله عنه هذا لأنَّ حاله في الثقة بربّه كان أرفع منه صلى الله عليه وسلم، ولا يجوز لأحد أن يَظُنّ ذلك، وإنما المعنى فيه الشفقة منه صلى الله عليه وسلم على قلوب أصحابه، والتقوية لِمُنّتهم
(2)
؛ إذ كان أول مشهد شهدوه، وكانوا مكثورين بأضعاف من أعدائهم، فابتهل صلى الله عليه وسلم في الدعاء والمسألة، يُسكّن بذلك ما في نفوسهم؛ إذ كانوا يعلمون أن دعوته مستجابة، فلما قال له أبو بكر: حسبك كفّ عن الدعاء؛ إذ قد عَلِم أنه قد استجيب دعاؤه بما وجده أبو بكر في نفسه من الْمُنّة والقوّة، حتى قال هذا القول. انتهى
(3)
.
(فَإِنَّهُ سَيُنْجِزُ لَكَ مَما وَعَدَكَ، فَأَنْزَلَ اللهُ عز وجل {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ})؛ أي: تطلبون الغَوْثَ، وهو النصر ({رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ})؛ أي: أجابكم ({أَنِّي مُمِدُّكُمْ})؛ أي: مقوّيكم، ومُعِينكم، والإمداد: الإعانة، ({بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ}) [الأنفال: 9])؛ أي: متتابعين، وقيل غير ذلك، قاله النوويّ رحمه الله.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: {مُرْدِفِينَ} - بفتح الدال - اسم مفعول؛
(1)
"شرح النوويّ" 12/ 85.
(2)
"الْمُنّةُ" بالضمّ: القوّة. اهـ. "القاموس".
(3)
راجع: "شرح السُّنَّة" 13/ 381.
أي: أردف الله بهم المسلمين، وبكسر الدال: اسم فاعل، قال أبو علي: يحتمل وجهين:
[أحدهما]: مردفين مثلهم، يقال: أردفت زيدًا دابتي، فيكون المفعول الثاني محذوفًا.
[والثاني]: أن يكون المعنى: جاؤوا بعدكم، تقول العرب: بنو فلان مردفونا؛ أي: يجيئون بعدنا، {مِنْ فَوْرِهِمْ}: وجههم وحينهم، {مُسَوِّمِينَ} - بفتح الواو -: اسم مفعول؛ أي: معلَّمين، من السِّيما، وهي العلامة؛ أي: قد عُلّموا بعلامة، وبكسر الواو: اسم فاعل؛ أي: عَلَّموا أذناب خيلهم بصوف أبيض، وقيل: أنفسهم بعمائم صفر. انتهى
(1)
.
(فَأَمَدَّهُ اللهُ بِالْمَلَائِكَة، قَالَ أَبُو زُمَيْلٍ) هو سماك بن الوليد، (فَحَدَّثَنِي ابْنُ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما (قَالَ: بَيْنَمَا رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَئِذٍ يَشْتَدُّ فِي أَثَرِ رَجُلٍ) قال صاحب "التنبيه": لا أعرف الرجلين
(2)
. (مِنَ الْمُشْرِكِينَ أَمَامَهُ) منصوب على الظرفيّة متعلّق بحال مقدَّر؛ أي: حال كونه أمامه، (إِذْ سَمِعَ ضَرْبَةً بِالسَّوْطِ فَوْقَهُ، وَصَوْتَ الْفَارِسِ يَقُولُ: أَقْدِمْ) قال القرطبيّ رحمه الله: ضُبط عن أبي بحر بضمّ الدال من "اقْدُم"، فيكون من القدوم، بمعنى التقدّم؛ كقوله تعالى:{يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [هود: 98]؛ أي: يتقدّمهم إلى النار، وقال ابن دريد بقطع الألف، وكسر الدال، من الإقدام
(3)
. وقوله: (حَيْزُومُ) قال النوويّ رحمه الله: هو بحاء مهملة، مفتوحة، ثم مثناة تحتُ، ساكنةٍ، ثم زاي مضمومة، ثم واو، ثم ميم، قال القاضي: وقع في رواية العذريّ: "حيزون" بالنون، والصواب الأول، وهو المعروف لسائر الرواة، والمحفوظ، وهو اسم فرس الملَك، وهو منادى بحذف حرف النداء؛ أي: يا حيزوم، وأما "أقدم" فضبطوه بوجهين: أصحهما، وأشهرهما، ولم يَذكر ابن دريد، وكثيرون، أو الأكثرون غيره، أنه بهمزة قطع، مفتوحة، وبكسر الدال، من الإقدام، قالوا: وهي كلمة زجر للفرس، معلومة في كلامهم، والثاني: بضم الدال، وبهمزة وصل مضمومة، من المتقدم. انتهى
(4)
.
(1)
"المفهم" 3/ 576 - 577.
(2)
"تنبيه المعلم" ص 306.
(3)
"المفهم" 3/ 577.
(4)
"شرح النوويّ" 12/ 85.
(فَنَظَرَ) ذلك الرجلُ (إِلَى الْمُشْرِكِ أَمَامَهُ، فَخَرَّ)؛ أي: سقط ذلك المشرك (مُسْتَلْقِيًا، فَنَظَرَ إِلَيْه، فَإِذَا هُوَ قَدْ خُطِمَ أَنْفُهُ) ببناء الفعل للمفعول؛ أي: أثّر فيه أثرًا؛ كالخطام، وهو الزمام، إلَّا أنه أرقّ منه، والخطم، والخرطوم: الأنف
(1)
. (وَشُقَّ وَجْهُهُ) ببناء الفعل للمفعول أيضًا، (كَضَرْبَةِ السَّوْط، فَاخْضَرَّ ذَلِكَ أَجْمَعُ، فَجَاءَ الأَنْصَارِيُّ، فَحَدَّثَ بِذَلِكَ) وفي بعض النسخ: "فحدّث ذلك"، (رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("صَدَقْتَ)؛ أي: في هذا الذي أخبرت به، من هذه القصّة، (ذَلِكَ)؛ أي: القائل: أقدم حيزوم، وقاتِل ذلك الرجل بضربه، (مِنْ مَدَدِ السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ")؛ أي: من ملائكة السماء الثالثة التي أُمِدُّوا بهم، وهذا يدلّ على أنهم كانوا أُمدّوا بملائكة من كلّ سماء، ويدلّ هذا الخبر على أنَّ الملائكة قاتلت يومئذ، وهو قول أكثر أهل العلم، قاله القرطبيُّ رحمه الله
(2)
. (فَقَتَلُوا) بالبناء للفاعل؛ أي: قتل المسلمون (يَوْمَئِذٍ)؛ أي: يوم بدر، (سَبْعِينَ) من المشركين، (وَأَسَرُوا)؛ أي: أخذوا من المشركين (سَبْعِينَ. قَالَ أَبُو زُمَيْلٍ) سماك الحنفيّ (قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما (فَلَمَّا أَسَرُوا الأُسَارَى) بضمّ الهمزة: جمع أسير، ويُجمع أيضًا على أَسْرَي، كسُكَارَي، وسَكْرَي، (قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ) رضي الله عنهما ("مَا تَرَوْنَ فِي هَؤُلَاءِ الأُسَارَى؟ ") "ما" استفهاميّة؛ أي: أيّ شيء ترون فيهم؟.
قال القرطبيُّ رحمه الله: هذا يدلّ على أنَّه صلى الله عليه وسلم ما كان أُوحي إليه في أمرهم بشيء، فاستشارهم لينظروا في ذلك بالنظر الأصلح، فاختلف نظر أبي بكر وعمر، فمال أبو بكر إلى الإبقاء طمعًا في إسلامهم، وإلى الفداء؛ ليكون ذلك قوة عليهم، ومال عمر إلى القتل محْقًا للكفر، وقصاصًا منهم، وردعًا لأهله، فمال رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ما قال أبو بكر على مقتضى رأفته، ورحمته بالمؤمنين؛ ليتقوَّوا على عدوهم، وعلى مقتضى حرصه على إيمان من أُسر منهم. وكلٌّ من النظرين له أصول تشهد بصحته، بل نقول: إن نظر أبي بكر يشهد لصحته قضية سَرِيّة عبد الله بن جحش، وكانت قبل بدر بنحو ثلاثة أشهر، قُتِل فيها ابنُ الحضرميّ، وأُسِر عثمان بن عبد الله، والحكم بن كيسان، وأخذوا عِيْرهم، وقَدِمُوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَقِبل فداء الأسيرين، ولَمّا عَظُم على الناس قتل
(1)
"المفهم" 3/ 577.
(2)
"المفهم" 3/ 577.
ابن الحضرميّ في الشهر الحرام، سألوا النبيِّ صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فأنزل الله تعالى:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ} الآية [البقرة: 217]، وسوَّغ الله لهم الفداء، فكان ذلك دليلًا على صحة ما اختاره أبو بكر رضي الله عنه، وكذلك مال إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهَويَه.
وعند هذا يُشكل ما جاء في آخر هذا الحديث من عتب الله لنبيّه صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} [الأنفال: 67]، وبقوله صلى الله عليه وسلم:"لقد عُرِضَ عليّ عذابهم أدنى من هذه الشجرة".
ووجه هذا الإشكال: أن هذا الاجتهاد الذي صدر من أبي بكر رضي الله عنه، ووافقه عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم إما أن يكون الله قد سوَّغه لهم أو لا، فإن كانت الأُولي، فكيف يعاقبون؟، ويُتَوعّدون على ما سُوّغ لهم؟ وإن لَمْ يكن مسوَّغًا، فكيف يُقْدِمون عليه؟ لا سيما النبيّ صلى الله عليه وسلم الذي قد برأ الله نطقه عن الهوي، واجتهاده عن الخطأ؟!.
ولمّا أشكل هذا اختَلَفت أجوبة العلماء عنه، فقيل فيه أقوال:
[أحدهما]: أنهم أقدموا عليه لأنه أمر مَصْلَحيّ دنيويّ، والأمور المصلحية الإقدام عليها مسوّغ، ولا يُعَدّ في العتب على تركهم المصلحة الراجحة، وإن كانت دنيوية، وهذا فاسد من وجهين:
أحدهما: أن هذا الاجتهاد منهم إنما كان في أمر شرعيّ حكميّ؛ لأنه يقتضي سفك دماء واستباحة أموال، وإرقاق أحرار، وهذه لا تستباح إلَّا بالشرع.
وثانيهما: أن العتب الشرعيّ لا يتوجه على ترك مصلحة دنيوية، لا يتعلّق بها مقصود شرعيّ، كما لَمْ يتوجه على النبيِّ صلى الله عليه وسلم عتب في قضية إبَار النخل، وإن كان عدلَ فيه عن المصلحة الدنيوية الراجحة، وهذا من نوع الأول.
[الثاني]: إنهم إنما عوتبوا؛ لأنَّ قضية بدر عظيمة الموقع، والتصرف في صناديد قريش، وساداتهم وأموالهم بالقتل، والاسترقاق، والتملك، ذلك كله عظيم الموقع، فكان حقهم أن ينتظروا الوحي، ولا يستعجلوا، فلما استعجلوا، ولم ينتظروا توجّه عليهم ما توجه. وهذا أيضًا فاسد؛ لأنه لا يلزم منه أن يكونوا أقدموا على ما لا يجوز لهم شرعًا، ووافقهم على ذلك النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وكلُّ
ذلك عليهم مُحال بما قدّمناه من وجوب عصمة النبيِّ صلى الله عليه وسلم عن الخطأ في الشريعة، ومن ظهور الأدلة المرجحة بما قدمناه.
[الثالث]: أن ذلك إنما توجه على من أراد بفعله عَرَض الدنيا، ولم يُرد الدِّين ولا الدَّار الآخرة، بدليل قوله تعالى:{تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} [الأنفال: 67]، ولم يكن النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولا أبو بكر، ولا من نحا نحوهما ممن يريد عرض الدنيا، فالوعيد، والتوبيخ والوعيد متوجهان إلى غيرهم ممن أراد ذلك، وهذا أحسنها، والله تعالى أعلم.
وبكاء النبيّ صلى الله عليه وسلم وأبي بكر لَمْ يكن لأنهما دخلا فيمن تُوُعِّد بالعذاب، بل شفقة على غيرهما ممن توعد بذلك؛ بدليل قوله صلى الله عليه وسلم:"أبكي للذي عَرَضَ عليّ أصحابك من أخذهم الفداء، لقد عُرِضَ عليّ عذابهم أدنى من هذه الشجرة"، لا سيما وقد أُوحي إليه: أنه يُقْتَل منهم عامًا قابلًا مثلهم، فبكى لذلك.
وأما قوله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} [الأنفال: 67]، فليس بتوبيخ، ولا ذمّ، وإنما هو من باب التنبيه على أنَّ القتل كان الأَولي، والأردع، مع أنه ما كان الله تعالى تقدَّم له في ذلك بشيء، كما قررناه، وهذا من باب قوله تعالى:{عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} [التوبة: 43]، فقدَّم العفو على المعاتبة؛ إذ لَمْ يتقدَّم له في إذنهم بشيء، والله تعالى أعلم. انتهى كلام القرطبيّ
(1)
.
(فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا نَبِيَّ الله، هُمْ بَنُو الْعَمِّ، وَالْعَشِيرَةِ)؛ أي: القبائل، ولا واحد لها من لفظها، والجمع: عَشِيرات، وعشائر. (أَرَى أَنْ تَأْخُذَ مِنْهُمْ فِدْيَةً) بكسر الفاء، وسكون الدال المهملة: اسم للمال الذي يُدفع عِوَضَ الأسير، وجمعها: فِدًى، وفِدْيَاتٌ، مثلُ سِدْرة، وسِدَرٍ، وسِدْرات، يقال: فداه من الأسر يَفْديه فِدًى مقصورًا، وتُفتح الفاء، وتُكْسَر: إذا استنقذته بمال، وفاديته مُفاداةً، وفِداءً، مثلُ قاتلته مُقاتلةً وقِتالًا: أطلقته، وأخذتُ فِديته، وقال المبرّد: المفاداة: أن تَدْفع رجلًا، وتأخذ رجلًا، والفِدى أن تشتريه، وقيل: هما
(1)
"المفهم" 3/ 578 - 581.
واحد، أفاده الفيّوميّ
(1)
. (فَتَكُونُ لَنَا) تلك الفديةُ (قُوَّةً عَلَى الْكُفَّار، فَعَسَى اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُمْ لِلإسْلَام، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "ما تَرَى يَا ابْنَ الْخَطَّاب؟ "، قُلْتُ: لَا)؛ أي: لا نأخذ منهم الفدية، ونطلقهم (وَاللهِ يَا رَسُولَ الله، مَا أَرَى الَّذِي رَأى أَبُو بَكْرٍ، وَلَكِنِّي أَرَى أَنْ تُمَكِّنَّا) بتشديد الكاف، والنون، وأصله تُمكّننا بنونين: الأولى لام الكلمة، والثانية نون الضمير، أدغمت الأولى في الثانية، وهو جائز في سعة الكلام. (فَنَضْرِبَ) بالنصب عطفًا على المنصوب، (أَعْنَاقَهُمْ، فَتُمَكِّنَ عَلِيًّا)؛ أي: ابن أبي طالب (مِنْ عَقِيلٍ) بفتح العين، وكسر القاف، هو أخو عليّ، (فَيَضْرِبَ عُنُقَهُ، وَتُمَكِّنِّي مِنْ فُلَانٍ) قال صاحب "التنبيه": لا أعرفه
(2)
. (نَسِيبًا لِعُمَرَ)؛ أي: قريبًا لعمر بن الخطّاب رضي الله عنه، (فَأَضْرِبَ عُنُقَهُ، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ أَئِمَّةُ الْكُفْر، وَصَنَادِيدُهَا) قال النوويّ رحمه الله: يعني أشرافها، الواحد صِنْدِيد، بكسر الصاد، والضمير في "صناديدها" يعود على أئمة الكفر، أو مكة. انتهى
(3)
. (فَهَوِيَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) بكسر الواو من "هَوِيَ"؛ أي: أحب ذلك، واستحسنه، يقال: هَوِيَ الشيءَ، بكسر الواو، يَهْوَاهُ، بفتحها، هَوًى، والهوى: المحبة، قاله النوويّ
(4)
.
وأما هَوَى يَهْوِي، من باب ضرب، هُوِيًّا بضمَ الهاء، وفتحها، وهَوَاءً: فإنه بمعنى سقط، وكذا هَوَى يَهْوِي بمعنى ارتفع، من باب ضرب أيضًا، أفاده الفيّوميّ
(5)
.
(مَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ)"ما" اسم موصول مفعول "هَوِيَ"؛ أي: أحبّ النبيّ صلى الله عليه وسلم القول الذي قاله أبو بكر الصدّيق صلى الله عليه وسلم، (وَلَمْ يَهْوَ) بفتح أوله، وثالثه؛ أي: لَمْ يُحِبّ، هكذا هو في بعض النسخ:"ولم يهو"، وفي كثير منها:"ولم يهوى" بالألف، وهي لغة قليلة، إثبات حرف العلّة مع الجازم، ومنه قراءة من قرأ:(إنه من يتّقي ويصبر) بإثبات الياء، ومنه قوله الشاعر:
أَلَمْ تأْتِيكَ وَالأَنْبَاءُ تَنْمِي
…
بِمَا لَاقَتْ لَبُونُ بَنِي زِيادِ
(6)
(1)
راجع: "المصباح المنير" 2/ 465.
(2)
"تنبيه المعلم" ص 356.
(3)
"شرح النوويّ" 12/ 86.
(4)
"شرح النوويّ" 12/ 86.
(5)
راجع: "المصباح المنير" 2/ 643.
(6)
راجع: "شرح النوويّ" 12/ 86 - 87.
(مَا قُلْتُ) هو من كلام عمر رضي الله عنه، (فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ) يَحْتَمل أن تكون "من" بمعنى بعض، وَيَحْتَمل أن تكون زائدة، و"كان" فيهما تامّة، أو ناقصة، كما تقدّم توجيهه في أول الحديث. (جِئْتُ، فَإِذَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَبُو بَكْرٍ) رضي الله عنه (قَاعِدَيْنِ) منصوب على الحال، (يَبْكِيَانِ) جملة حاليّة، (قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ أَخْبِرْنِي مِنْ أي شَيْءٍ تَبْكِي أَنْتَ وَصَاحِبُكَ؟)؛ يعني: أبا بكر رضي الله عنه، (فَإِنْ وَجَدْتُ بُكَاءً بَكَيْتُ، وَإِنْ لَمْ أَجِدْ بُكَاءً تَبَاكَيْتُ)؛ أي: تكلّفت البكاء (لِبُكَائِكمَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (أَبْكِي لِلَّذِي عَرَضَ) بفتح العين، والراء مبنيًّا للفاعل؛ أي: أظهر (عَلَيَّ أَصْحَابُكَ)؛ يعني: أبا بكر، ومن مال إلى رأيه (مِنْ أَخْذِهِمُ الْفِدَاءَ، لَقَدْ عُرِضَ) بالبناء للمفعول، (عَلَيَّ عَذَابُهُمْ أَدْنَى مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ"، شَجَرَةٍ) بدل مما قبله، (قَرِيبَةٍ) بالجرِّ صفة لـ "شجرة"، (مِنْ نَبِيِّ اللهِ صلى الله عليه وسلم) متعلِّق بقريبة، (وَأَنْزَلَ اللهُ عز وجل {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى}) جمعٌ أسير، وأصل الأسر: الشدّ، والرَّبط، وقرأ أبو جعفر:{أُسْارَى} ، قال الفراء: أهل الحجاز يقولون: أُسَارَى، وأهل نجد يقولون: أَسْرَى في أكثر كلامهم، وهو أصوبها في العربية؛ لأنه بمنزلة جريح، وجَرْحَى، قال الزجاج: فَعْلَى: جمعٌ لكل ما أصيب به الناس في أبدانهم، وعقولهم، يقال: هالك وهَلْكَى، ومَرِيض ومرْضى، ومن قرأ:{أُسْارَى} فهو جمع الجمع؛ لأنَّ جَمْع أَسِير: أسرى، وجَمْع أسرى: أُسارى، قال أبو عمرو: أُسارى في الْقِدِّ، وأَسْرَى في اليد. انتهى
(1)
.
({حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ})؛ أي: يُكثر القتل، والقهر في العدوّ، قال القرطبيّ:"الإثخان": إكثار القتل، والمبالغة فيه، ومنه الثخانة في الثوب، وهي: غِلَظه، وكثرة سُداه. انتهى
(2)
.
(إِلَى قَوْلِهِ: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا}، فَأَحَلَّ اللهُ الْغَنِيمَةَ لَهُمْ). {وَاللَّهُ عَزِيزٌ} في قهر الأعداء {حَكِيمٌ} في عتاب الأولياء.
[تنبيه]: قال أبو العبّاس القرطبيُّ رحمه الله في "المفهم": قوله تعالى: {لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ} [الأنفال: 68]، فيها أربعة أقوال:
(1)
"المفهم" 3/ 581.
(2)
"المفهم" 3/ 581.
[أحدها]: لولا أنه سبق في أم الكتاب: أنه سيُحِلّ لهم الغنائم والفداء، قاله ابن عباس رضي الله عنهما.
[الثاني]: لولا ما سبق لأهل بدر من أنه لا يعذبهم؛ قاله الحسن.
[الثالث]: لولا ما سبق من أنه لا يُعَذِّب من غير أن يتقدَّم بالإنذار، قاله ابن إسحاق.
[الرابع]: لولا ما سبق من أنه يَغْفِر لمن عمل الخطايا ممن تاب؛ قاله الزجاج.
فيتخرَّج على هذه الأقوال في الكتاب قولان:
أحدهما: أنه كتاب مكتوب.
والثاني: أنه قضاء مقضّى.
وقد أفاد هذا الحديث: أن الإمام مخير في الأسارى بين الفداء، والقتل، والمنّ، فإنه قَتَلَ منهم، وفَدَى، ومَنَّ، وقد سوغَّ الله تعالى لهم كلَّ ذلك. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عمر بن الخطّاب رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [18/ 4578](1763)، و (أبو داود) في "الجهاد"(2690)، و (الترمذيّ) في "التفسير"(3081)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(14/ 365 و 368)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 30)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4793)، و (الطبريّ) في "تفسيره"(16294)، و (أبو نعيم) في "الدلائل"(408)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(6/ 321) و"الدلائل"(3/ 51 - 52)، و (البغويّ) في "التفسير" - (2/ 235) - و"شرح السُّنَّة"(3777)، والله تعالى أعلم.
(1)
"المفهم" 3/ 581 - 582.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان استحباب الدعاء والتضرّع عند ملاقاة العدوّ.
2 -
(ومنها): استحباب المبالغة في التضرّع عند الدعاء؛ والإلحاح فيه؛ لقوله تعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} الآية [النمل: 62].
3 -
(ومنها): استحباب استقبال القبلة في الدعاء.
4 -
(ومنها): استحباب رفع اليدين في الدعاء.
5 -
(ومنها): أنه لا بأس برفع الصوت في الدعاء.
6 -
(ومنها): بيان ما صدق الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين حيث وعدهم أن ينصرهم، ويمدّهم بمدد الملائكة، فظهر مصداق ذلك، حيث إن بعض الصحابة شاهد قتالهم في المعركة، فأخبر به النبيّ صلى الله عليه وسلم.
7 -
(ومنها): بيان عظيم نصر الله تعالى في بدر، حيث قتلوا سبعين، وأسروا سبعين، مع قلّة عددهم، وعُددهم.
8 -
(ومنها): بيان ما كان عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم من الشفقة والعطف على أمته حيث بكى لمّا عُرض عليه عقابهم في هذه القضيّة، وهو مصداق قوله:{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَاعَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)} [التوبة: 128].
9 -
(ومنها): بيان منقبة أبي بكر رضي الله عنه، حيث إنه جُبل على الرأفة واللين، ولذا هَوِيَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم رأيه في الأسرى.
10 -
(ومنها): بيان ما جُبل عليه عمر رضي الله عنه من الشدّة والغلظة لأعداء الدين، ولذا جاء من الله تعالى تصويب رأيه فيهم.
11 -
(ومنها): أن فيه حبّ عمر صلى الله عليه وسلم موافقة النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأبا بكر في كلّ شيء حتى في البكاء.
12 -
(ومنها): بيان عظيم نعمة الله تعالى على هذه الأمة حيث أباح لهم في تلك الغزوة الغنائم، بعد أن كانت محرَّمة على الأنبياء الأولين، فهي من خصائصه صلى الله عليه وسلم، كما قال في الحديث المتّفق عليه:"وأُحلّت لي الغنائم"، والله تعالى أعلم.
(19) - (بَابُ رَبْطِ الأَسِير، وَحَبْسِه، وَجَوَازِ الْمَنِّ عَلَيْهِ)
[4579]
(1764) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ، يَقُولُ: بَعَثَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَيْلًا، قِبَلَ نَجْدٍ، فَجَاءَتْ بِرَجُلٍ مِنْ بَنِي حَنِيفَةَ، يُقَالُ لَهُ: ثُمَامَةُ بْنُ أُثَالٍ، سَيِّدُ أَهْلِ الْيَمَامَة، فَرَبَطُوهُ بِسَارَيةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِد، فَخَرَجَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: "ماذَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ؟ "، فَقَالَ: عِنْدِي يَا مُحَمَّدُ خَيْرٌ، إِنْ تَقْتُلْ تَقْتُلْ ذَا دَمٍ، وَإِنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شَاكِرٍ، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ الْمَالَ، فَسَلْ تُعْطَ مِنْهُ مَا شِئْتَ، فَتَرَكَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى كَانَ بَعْدَ الْغَد، فَقَالَ: "ما عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ؟ "، قَالَ: مَا قُلْتُ لَكَ: إِنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شَاكِرٍ، وَإِنْ تَقْتُلْ تَقْتُلْ ذَا دَمٍ، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ الْمَالَ، فَسَلْ تُعْطَ مِنْهُ مَا شِئْتَ، فَتَرَكَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى كَانَ مِنَ الْغَد، فَقَالَ: "ماذَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ؟ "، فَقَالَ: عِنْدِي مَا قُلْتُ لَكَ: إِنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شَاكِرٍ، وَإِنْ تَقْتُلْ تَقْتُلْ ذَا دَمٍ، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ الْمَالَ، فَسَلْ تُعْطَ مِنْهُ مَا شِئْتَ، فَقَالَ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَطْلِقُوا ثُمَامَةَ"، فَانْطَلَقَ إِلَى نَخْلٍ قَرِيبٍ مِنَ الْمَسْجِد، فَاغْتَسَلَ، ثُمَّ دَخَلَ الْمَسْجِدَ، فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَشْهَدُ أَن مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، يَا مُحَمَّدُ، وَاللهِ مَا كَانَ عَلَى الأَرْضِ وَجْهٌ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ وَجْهِكَ، فَقَدْ أَصْبَحَ وَجْهُكَ أَحَبُّ الْوُجُوهِ كُلِّهَا إِلَيَّ، وَاللهِ مَا كَانَ مِنْ دِينٍ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ دِينِكَ، فَأَصْبَحَ دِينُكَ أَحَبَّ الدِّينِ كُلِّهِ إِلَيَّ، وَاللهِ مَا كَانَ مِنْ بَلَدٍ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ بَلَدِكَ، فَأَصْبَحَ بَلَدُكَ أَحَبُّ الْبِلَادِ كُلِّهَا إِلَيَّ، وَإِنَّ خَيْلَكَ أَخَذَتْنِي، وَأَنَا أرِيدُ الْعُمْرَةَ، فَمَاذَا تَرَى؟ فَبَشَّرَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَمَرَهُ أَنْ يَعْتَمِرَ، فَلَمَّا قَدِمَ مَكَّةَ، قَالَ لَهُ قَائِل: أَصَبَوْتَ؟ فَقَالَ: لَا، وَلَكِنِّي أَسْلَمْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَا، وَالله، لَا يَأْتِيكُمْ مِنَ الْيَمَامَةِ حَبَّةُ حِنْطَةٍ، حَتَّى يَأْذَنَ فِيهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم).
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) الثقفيّ البغلانيّ، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
2 -
(لَيْثُ) بن سعد الإمام المصريّ، تقدّم قبل بابين.
3 -
(سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ) كيسان المقبريّ، أبو سعد المدنيّ، ثقةٌ [3] مات في حدود (120) أو قبلها، أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 36/ 250.
4 -
(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه تقدّم قبل بابين.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (306) من رباعيّات الكتاب.
شرح الحديث:
(عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه، فيه تصريح سعيد بسماعه من أبي هريرة رضي الله عنه، وأخرجه ابن إسحاق، عن سعيد، فقال:"عن أبيه، عن أبي هريرة"، قال الحافظ رحمه الله: وهو من المزيد في متصل الأسانيد، فإن الليث موصوف بأنه أتقن الناس لحديث سعيد المقبريّ، ويَحْتَمِل أن يكون سعيد سمعه من أبي هريرة، وكان أبوه قد حدّثه به قبلُ، أو ثَبَّته في شيء منه، فحدَّث به على الوجهين. انتهى
(1)
.
(يَقُولُ: بَعَثَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَيْلًا)؛ أي: فرسان خيل، وهذا من ألطف المجازات، وأحسنها.
وقال الطيبيّ رحمه الله: قوله: "خيلًا" هو على حذف المضاف؛ أي: فرسان الخيل، وفي الحديث:"يا خيل الله اركبي"
(2)
؛ أي: يا فُرسان خيل الله، وسُمّيت الجماعة خيلًا؛ لأنهم تجرّدوا لِمَا لا يتمّ إلَّا بها، كما سُمّيت الربيئة عينًا. انتهى
(3)
.
[تنبيه]: قال ابن إسحاق رحمه الله: السرية التي أخذت ثمامة، كان أميرها محمد بن مسلمة، أرسله النبيّ صلى الله عليه وسلم في ثلاثين راكبًا إلى الْقُرَطاء، من بني أبي بكر بن كلاب، جناحية ضَرِيّة، بالبكرات، لعشر ليال خلون من المحرم، سنة
(1)
"الفتح" 9/ 518 - 519، كتاب "المغازي" رقم (4372).
(2)
قال في "الفتح": وروى ابن عائذ من مرسل قتادة قال: "بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم مناديًا ينادي، فنادى: يا خيل الله اركبي". انتهى.
(3)
راجع: "الكاشف عن حقائق السنن" 9/ 2739.
ست، وعند ابن سعد على رأس تسعة وخمسين شهرًا من الهجرة، وكانت غَيْبته بها تسع عشرة ليلة، وقَدِم لليلة بقيت من المحرم.
وقوله: "القُرَطاء" - بضم القاف، وفتح الراء، والطاء المهملة - وهم نفر من بني أبي بكر بن كلاب، وكانوا ينزلون الْبَكَرات، بناحية ضَرِيّة، وبين ضريّة والمدينة سبع ليال.
و"ضَرِيَّة" - بفتح الضاد المعجمة، وكسر الراء، وتشديد الياء، آخرِ الحروف - وهي أرض كثيرة الْعُشب، وإليها يُنسب الْحِمَي، وضَرِيّة في الأصل بنت ربيعة بن نذار بن معدّ بن عدنان، وسمّي الموضع المذكور باسمها.
و"الْبَكَرات" - بفتح الباء الموحّدة - في الأصل جمع بَكَرَة، وهي ماء بناحية ضريّة، قاله في "العمدة"
(1)
.
وقال في "الفتح": وزعم سيف في "كتاب الردّة
(2)
" له أن الذي أخذ ثُمامة وأَسَره، هو العباس بن عبد المطلب، وفيه نظر؛ لأنَّ العباس إنما قَدِم على رسول الله صلى الله عليه وسلم في زمان فتح مكة، وقصة ثُمامة تقتضي أنَّها كانت قبل ذلك، بحيث اعتمر ثُمامة، ثم رجع إلى بلاده، ثم منعهم أن يُميروا أهل مكة، ثم شكا أهل مكة إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم ذلك، ثم بَعَث يشفع فيهم عند ثمامة، قاله في "الفتح"
(3)
.
(قِبَلَ نَجْدٍ)؛ أي: إلى جهة نجد، قال في "العمدة":"نجد" - بفتح النون، وسكون الجيم - وهو في جزيرة العرب، قال المدائني: جزيرة العرب خمسة أقسام: تهامة، ونجد، وحجاز، وعروض، ويمن، أما تهامة: فهي الناحية الجنوبية من الحجاز، وأما نجد فهي الناحية التي بين الحجاز والعراق، وأما الحجاز فهو جبل سدّ من اليمن حتى يتصل بالشام، وفيه المدينة، وعمان، وأما العروض: فهي اليمامة إلى البحرين.
وقال الواقديّ: الحجاز من المدينة إلى تبوك، ومن المدينة إلى طريق
(1)
"عمدة القاري" 7/ 120.
(2)
هكذا وقع في "عمدة القاري"، ووقع في "الفتح":"في كتاب الزهد" له، فليُحرّر.
(3)
"الفتح" 9/ 519، كتاب "المغازي" رقم (4372).
الكوفة، ومن وراء ذلك إلى أن يشارف أرض البصرة، فهو نجد، وما بين العراق، وبين وجرة وعمرة الطائف نَجْد، وما كان وراء وجرة إلى البحر، فهو تهامة، وما كان بين تهامة ونَجْد، فهو حجاز، سُمِّي حجازًا؛ لأنه يحجز بينهما. انتهى
(1)
.
(فَجَاءَتْ بِرَجُلٍ مِنْ بَنِي حَنِيفَةَ) قبيلة كبيرة مشهورة، ينزلون اليمامة بين مكة واليمن، قاله في "الفتح"
(2)
.
وقال ابن الأثير رحمه الله في "اللباب": بنو حنيفة قبيلة كبيرة من ربيعة بن نِزار، نزلوا اليمامة، وهم: حنيفة بن لجيم بن صعب بن عليّ بن بكر بن وائل بن قاسط بن هِنْب بن أفْصَى بن دُعْمَى بن جَدِيلةَ بن أسد بن ربيعة بن نزار. انتهى
(3)
.
(يُقَالُ لَهُ: ثُمَامَةُ) بضمّ الثاء المثلَّثة، وتخفيف الميمين، بينهما ألف، (ابْنُ أُثالٍ) - بضمّ الهمزة، وبمثلَّثة خفيفة - ابن النعمان بن سلمة بن عُتبة بن ثعلبة بن يربوع بن ثعلبة بن الدئل بن حَنِيفة الحنفيّ، كان من فضلاء الصحابة رضي الله عنهم، (سَيِّدُ أَهْلِ الْيَمَامَةِ)؛ أي: رئيسهم، و"اليمامة" - بفتح الياء، وتخفيف الميمين -: بلدة من بلاد العوالي، وهي بلاد بني حنيفة، قيل: من عروض اليمن، وقيل: من بلاد الحجاز، قاله الفيُّوميُّ: رحمه الله
(4)
.
(فَرَبَطُوهُ بِسَارِيةٍ) هي الأُسْطوانة، (مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ)؛ أي: النبويّ، (فَخَرَجَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: "مَاذَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ؟ ")؛ أي: أَيُّ شيء عندك؟ ويَحْتَمِل أن تكون "ما" استفهامية، و"ذا" موصولةً، و"عندك" صلتها؛ أي: ما الذي استقرّ في ظنك أن أفعله بك؟ فأجاب بأنه ظنّ خيرًا، (فَقَالَ: عِنْدِي يَا مُحَمَّدُ خَيْرٌ)؛ أي: لأنك لست ممن يَظْلِم، بل ممن يعفو، ويُحسن، قاله في "الفتح"
(5)
.
(1)
"عمدة القاري" 7/ 12.
(2)
"الفتح" 9/ 519، كتاب "المغازي" رقم (4372).
(3)
"اللباب في تهذيب الأنساب" 1/ 396 - 397.
(4)
"المصباح المنير" 2/ 681.
(5)
"الفتح" 9/ 519، كتاب "المغازي" رقم (4372).
وقال في "العمدة": إعراب "ماذا" يأتي على أوجه:
الأول: أن تكون "ما" استفهامية، و"ذا" إشارة، نحو: ماذا الوقوفُ؟.
الثاني: أن تكون "ما" استفهامية، و"ذا" موصولة، بدليل افتقارها للجملة بعدها.
الثالث: أن يكون "ماذا" كله استفهامًا، على التركيب؛ كقولك: لماذا جئت؟.
الرابع: أن يكون "ماذا" كله اسم جنس، بمعنى: شيء، أو موصولًا، بمعنى: الذي.
الخامس: أن تكون "ما" زائدة، و"ذا" للإشارة.
السادس: أن تكون "ما" استفهامًا، و"ذا" زائدة على خلاف فيه. انتهى
(1)
.
وقوله: (إِنْ تَقْتُلْ تَقْتُلْ
…
إلخ) تفصيل لقوله: "عندي خيرٌ"؛ لأنَّ فعل الشرط إذا كُرّر في الجزاء دلّ على فخامة الأمر
(2)
.
(ذَا دَمٍ) كذا للأكثر بدال مهملة، مخفف الميم، ووقع عند البخاريّ في رواية للكشميهنيّ:"ذم" بذال معجمة، مُثَقَّل الميم.
قال النوويّ: معنى رواية الأكثر: إن تقتل تقتل ذا دم؛ أي: صاحب دم، لدمه مَوْقِع يَشتفي قاتله بقتله، ويُدرك به ثأره لرياسته، وعظمته، ويَحْتَمِل أن يكون المعنى: أنه عليه دم، وهو مطلوب به، فلا لوم عليك في قتله.
وأما الرواية بالمعجمة: فمعناها ذا ذِمّة، وثبت كذلك في رواية أبي داود، وضعّفها عياض بأنه يَقْلِب المعنى؛ لأنه إذا كان ذا ذمّة يَمتنع قتله، قال النوويّ: يمكن تصحيحها بأن يُحْمَل على الوجه الأول، والمراد بالذمة: الحرمة في قومه، وأَوْجَه الجميع: الوجه الثاني؛ لأنه مُشاكِل لقوله بعد ذلك: "وإِن تُنعم تنعم على شاكر"، وجميع ذلك تفصيل لقوله:"عندي خير"، وفعل الشرط إذا كُرّر في الجزاء دلّ على فخامة الأمر، قاله في "الفتح"
(3)
.
(1)
"عمدة القاري" 18/ 22.
(2)
راجع: "الكاشف عن حقائق السنن" 9/ 2739.
(3)
"الفتح" 9/ 519، كتاب "المغازي" رقم (4372).
وقال الأشرف رحمه الله: في تقديم ثُمامة قوله: "إن تقتل تقتل ذا دم" على قسيميه في اليوم الأول، وتوسيطه بينهما في اليوم الثاني، والثالث ما يُرشد إلى حذاقته وحَدْسه، فإنه لَمَّا رأى غضب النبيّ صلى الله عليه وسلم في اليوم الأول قدّم فيه القتل؛ تسليةً، فلمَّا رأى أنه لَمْ يقتله رجا أن يُنعم عليه، فقدّم في اليوم الثاني، والثالث قوله: "إن تُنعم
…
إلخ".
قال الطيبيّ رحمه الله: ويُمكن أن يقال: إنه لَمَّا نفى الظلم عن ساحته صلى الله عليه وسلم عليه، ونظر إلى استحقاقه القتل قدَّمه، وحين نظر إلى إحسانه، ولطفه صلى الله عليه وسلم عليه أخرّ القتل، وهذا أدعى للاستعطاف والعفو، كما قال عيسى عليه السلام:{إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118)} [المائدة: 118]. انتهى
(1)
.
(وَإِنْ تُنْعِمْ) بضمِّ أوله، وكسر ثالثه، من الإنعام رباعيًّا؛ أي: إن تنعم عليّ بالمن بلا فداء، (تُنْعِمْ عَلَى شَاكِرٍ)؛ يعني: أنه يشكره على معروفه هذا، (وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ الْمَالَ)؛ أي: الفدية، (فَسَلْ تُعْطَ مِنْهُ مَا شِئْتَ)"ما" موصولة تنازعها الفعلان قبلها. (فَتَرَكَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَتى كَانَ مِنَ الْغَدِ) هكذا في النسخة التي عليها شرح القاضي عياض بـ "من"، ووقع في مختصر القرطبيّ بلفظ:"حتى كان الغد"، وهو الموافق لِمَا في "صحيح البخاريّ"، ووقع في بقيّة النسخ بلفظ:"حتى كان بعد الغد" بزيادة لفظة "بعد"، والظاهر أنه تصحيف، والله تعالى أعلم.
فقوله: "حتى كان من الغد" اسم "كان" ضمير عائد إلى ما هو مذكور حكمًا؛ أي: حتى كان ما هو عليه ثمامة من الغد، نحو قولهم: إذا كان الغد فأْتني؛ أي: إذا كان ما نحن عليه غدًا، أفاده الطيبيّ، و"من" في النسخة المذكورة للتبعيض؛ أي: إذا كان بعض الغد، ويَحتمل أن تكون بمعنى "في"، والله تعالى أعلم.
(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ؟ "، قَالَ: مَا قُلْتُ لَكَ: إِنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شَاكِرٍ، وَإِنْ تَقْتُلْ تَقْتُلْ ذَا دَمٍ، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ الْمَالَ، فَسَلْ تُعْطَ مِنْهُ مَا شِئْتَ، فَتَرَكَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى كَانَ مِنَ الْغَد، فَقَالَ:"ماذَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ؟ "، فَقَالَ:
(1)
راجع: "الكاشف عن حقائق السنن" 9/ 2740.
عِنْدِي مَا قُلْتُ لَكَ: إِنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شَاكِرٍ، وَإِنْ تَقْتُلْ تَقْتُلْ ذَا دَمٍ، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ الْمَالَ، فَسَلْ تُعْطَ مِنْهُ مَا شِئْتَ) ووقع في رواية البخاريّ بلفظ: "فتُرك حتى كان الغدُ، ثم قال له: ما عندك يا ثمامة؟ فقال: ما قلت لك: إن تُنعم تُنعم على شاكر، فتركه حتى كان بعد الغد، فقال: ما عندك يا ثمامة؟ فقال: عندي ما قلتُ لك
…
" الحديث، فقال رحمه الله في "الفتح":
قوله: "قال: عندي ما قلت لك"؛ أي: إن تنعم تنعم على شاكر، هكذا اقتصر في اليوم الثاني على أحد الشقين، وحذف الأمرين في اليوم الثالث، وفيه دليل على حذفه، وذلك أنه قَدَّم أوّلَ يوم أشقّ الأمرين عليه، وأشفى الأمرين لصدر خصومه، وهو القتل، فلمّا لَمْ يقع اقتَصَر على ذكر الاستعطاف، وطلَبِ الإنعام في اليوم الثاني، فكأنه في اليوم الأول رأى أمارات الغضب، فقَدَّم ذِكر القتل، فلما لَمْ يقتله طَمِع في العفو، فاقتصر عليه، فلما لَمْ يَعْمَل شيئًا مما قال اقتصر في اليوم الثالث على الإجمال؛ تفويضًا إلى جميل خُلُقه صلى الله عليه وسلم، وقد وافق ثمامةُ في هذه المخاطبة قول عيسى عليه السلام:{إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118)} [المائدة: 118]؛ لأنَّ المقام يليق بذلك. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: مما يُستغرب على الحافظ شرحه لهذا المحلّ، فكيف شرح ما وقع في "صحيح البخاريّ " فقط، ولم يراجع ما وقع في "صحيح مسلم" من أن ثمامة ذكر في اليومين: الثاني، والثالث جميعًا قوله:"ما قلت لك، إن تنعم تنعم على شاكر، وإن تقتل تقتل ذا دم، وإن كنت تريد المال، فسل تعط منه ما شئت"، فلم يقتصر في كلا اليومين، كما ادّعاه الحافظ، فتأمله بالإمعان، والله تعالى وليّ التوفيق.
(فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَطْلِقُوا ثُمَامَةَ")، وفي رواية ابن إسحاق:"قال: قد عفوت عنك يا ثمامة، وأعتقتك"، وزاد ابن إسحاق في روايته: أنه لما كان في الأسر جَمَعوا ما كان في أهل النبيّ صلى الله عليه وسلم من طعام، ولبن، فلم يقع ذلك من ثمامة موقعًا، فلما أسلم جاءوه بالطعام، فلم يُصب منه إلَّا قليلًا، فتعجبوا، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "إن الكافر يأكل في سبعة أمعاء، وإن المؤمن يأكل
في مِعًى واحدٍ"
(1)
.
(فَانْطَلَقَ)؛ أي: فأطلقوه، فانطلق؛ أي: ذهب (إِلَى نَخْلٍ قَرِيبٍ مِنَ الْمَسْجِدِ) النبويّ، قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في البخاريّ، ومسلم، وغيرهما:"نَخْل" - بالخاء المعجمة - وتقديره: انطلق إلى نخل، فيه ماءٌ، فاغتَسَل منه، قال القاضي: قال بعضهم: صوابه نَجْلٌ - بالجيم - وهو الماء القليل المنبعث، وقيل: الجاري.
قال النوويّ: بل الصواب الأول؛ لأنَّ الروايات صَحَّت به، ولم يُرْوَ إلَّا هكذا، وهو صحيح، فلا يجوز العدول عنه. انتهى
(2)
.
وقال في "الفتح": قوله: "إلى نخل" في أكثر الروايات بالخاء المعجمة، وفي النسخة المقروءة على أبي الوقت بالجيم، وصوَّبها بعضهم، وقال: النجل: الماء القليل النابع، وقيل: الجاري، قلت
(3)
: ويؤيِّد الرواية الأولى أن لفظ ابن خزيمة في "صحيحه" في هذا الحديث: "فانطلقت إلى حائط أبي طلحة". انتهى
(4)
.
وقال في "العمدة": قوله: "فانطلق إلى نجل"، ونَجْل - بفتح النون، وسكون الجيم، وفي آخره لام - وهو الماء النابع من الأرض، وقال الجوهريّ: استنجل الموضع؛ أي: كَثُر به النجل، وهو الماء يظهر من الأرض، وهكذا وقع في النسخة المقروءة على أبي الوقت، وكذا زعم ابن دُريد، وفي أكثر الروايات "إلى نخل" بالخاء المعجمة، وكذا في رواية مسلم، ويؤيِّد هذا ما رواه ابن خزيمة في "صحيحه" من حديث أبي هريرة: أن ثمامة أُسر، وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم يغدو إليه، فيقول:"ما عندك يا ثمامة؟ "، فيقول: إن تقتل تقتل ذا دم، وإن تَمُنّ تمنّ على شاكر، وإن تُرِد المال نعطك منه ما شئت، وكان أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم يحبّون الفداء، ويقولون: ما نصنع بقتل هذا؟ فمَرّ عليه النبيُّ صلى الله عليه وسلم يومًا، فأسلم، فحَلّه، وبَعَث به إلى حائط أبي طلحة، فأمره أن
(1)
"الفتح" 9/ 520، كتاب "المغازي" رقم (4372).
(2)
"شرح النوويّ" 12/ 88 - 89.
(3)
القائل هو الحافظ رحمه الله.
(4)
"الفتح" 1/ 663، طبعة دار الريّان.
يغتسل، فاغتسل، وصلى ركعتين، فقال:"لقد حَسُن إسلام أخيكم"، وبهذا اللفظ أخرجه أيضًا ابن حبان في "صحيحه"، وأخرجه البزّار أيضًا بهذه الطريق، وفيه: فأمره النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يغتسل بماء وسدر، وفي بعض الروايات: أن ثمامة ذهب إلى المصانع، فغسل ثيابه، واغتسل، وفي "تاريخ الْبَرْقيّ": فأمره أن يقوم بين أبي بكر وعمر، فيعلّمانه. انتهى
(1)
.
(فَاغْتَسَلَ) ظاهره أنه فعل ذلك من غير أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم، لكن الروايات المتقدّمة تدلّ على أنَّ اغتساله بأمره صلى الله عليه وسلم، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
(ثُمَّ) بعد اغتساله (دَخَلَ الْمَسْجِدَ) النبويّ (فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، يَا مُحَمَّدُ) ناداه باسمه؛ لكونه لا يعلم النهي عن ذلك، أو أنه كان قبل النهي، (وَاللهِ مَا كَانَ عَلَى الأَرْضِ وَجْهٌ) مرفوع على أنَّه اسم "كان"، والجارّ والمجرور قبله صفة مقدّمة على موصوف نكرة، فيُعرب حالًا، بناء على القاعدة في نعت النكرة إذا قُدّم يُعرب حالًا، كما في قوله [من مجزوّ الرمل]:
لِمَيَّةَ مُوحِشًا طَلَلُ
…
يَلُوحُ كَأَنَّهُ خِلَلُ
وقوله: (أَبْغَضَ) منصوب على أنَّه خبرها، (إِلَيَّ مِنْ وَجْهِكَ) متعلّق بـ"أبغض"، وهذا إخبار منه بما كان عليه من عداوة النبيِّ صلى الله عليه وسلم.
[تنبيه]: قال الطيبيّ رحمه الله: وُجد قوله: "أبغضُ" بالرفع على أنَّه صفة "وجهٌ"، وهو اسم"كان"، و"على وجه الأرض" خبرها، وهذا ليس بصحيح؛ لأنَّ قوله:"أحبَّ الوجوه" خبر "أصبح" قطعًا، وقد قوبل به، ولأن "أبغض" في القرينتين الأخيرتين وقع خبرًا لـ"كان"، ولأنه أخبر عن الوجه بالأبغضيّة، لا أن وجهًا أبغض كائنًا على وجه الأرض، فإذا قلنا بجواز وقوع الحال عن اسم "كان"، فقوله:"على وجه الأرض" كان صفةً لقوله: "وجهٌ"، فقُدّم، فصار حالا، وإذا منعناه، قلنا: إنه ظرف لغوٌ، قُدّم للاهتمام؛ ليُؤذِن في بدء الحال باهتمام العموم والشمول، كما في قوله تعالى:{وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ} الآية [الزمر: 67]. انتهى
(2)
.
(1)
"عمدة القاري" 7/ 120.
(2)
راجع: "الكاشف عن حقائق السنن" 9/ 2741.
(فَقَدْ أَصْبَحَ وَجْهُكَ أَحَبَّ الْوُجُوهِ كُلِّهَا) بالجرّ توكيدًا للضمير المجرور، وقوله:(إِلَيَّ) متعلّق بـ"أحبّ"، (وَاللهِ مَا كَانَ مِنْ دِينٍ)"من" زائدة، و"دين" اسم "كان"، وخبرها قوله:(أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ دِينِكَ، فَأَصْبَحَ دِينُكَ أَحَبَّ الدِّينِ كُلِّهِ إِلَيَّ، وَاللهِ مَا كَانَ مِنْ بَلَدٍ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ بَلَدِكَ، فَأَصْبَحَ بَلَدُكَ أَحَبَّ الْبِلَادِ كُلِّهَا إِلَيَّ)، وهذا من ثمامة رضي الله عنه إخبار لحالته التي هو عليها بعد هداية الله عز وجل له إلى الإسلام، فقد انقلبت العداوة إلى الصداقة، والبغض إلى المحبّة سبحان من بيده قلوب عباده، يصرّفها كيف يشاء، اللهم يا مقلّب القلوب ثبّت قلوبنا على دينك، اللهم يا مصرّف القلوب صرّف قلوبنا على طاعتك، إنك سميع قريب مجيب آمين.
(وَإِنَّ خَيْلَكَ)؛ أي: فُرسانك، والمراد به: السريّة التي بعثها النبيّ صلى الله عليه وسلم قِبَل نجد، كما تقدّم في أول الحديث.
وقال ابن منظور رحمه الله: والخَيْل: الفُرْسان، وفي "المحكم": جماعة الأَفراس، لا واحد له من لفظه، قال أَبو عبيدة: واحدها خائل؛ لأَنه يَخْتال في مِشْيَتِه، قال ابن سِيدَهْ: وليس هذا بمعروف، وفي التنزيل العزيز:{وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ} [الإسراء: 64]؛ كما أي: بفُرْسانك، ورَجَّالتك، والخَيْل: الخُيول، وفي التنزيل العزيز:{وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا} [النحل: 8]، وفي الحديث:"يا خَيْلَ الله ارْكَبي"، قال ابن الأَثير: هذا على حذف المضاف: أَراد: يا فُرْسانَ خَيْلِ الله اركبي، وهذا من أَحسن المجازات، وأَلطفها. انتهى
(1)
.
(أَخَذَتْنِي)؛ أي: أسرتني، (وَأَنَا أُرِيدُ الْعُمْرَةَ) جملة في محلّ نصب على الحال (فَمَاذَا تَرَى؟)؛ أي: في شأني في هذه العمرة التي أنشأتها قبل أن أسلم، هل صحيحة، فأمضي فيها، أم غير صحيحة، فأرفضها؟ (فَبَشَّرَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم)؛ أي: بخيري الدنيا والآخرة أو بشّره بالجنة، أو بمحو ذنوبه وتبعاته السابقة، قاله في "الفتح"
(2)
.
وقال النوويّ رحمه الله: يعني: بَشّره بما حَصَل له من الخير العظيم
(1)
"لسان العرب" 11/ 226.
(2)
"الفتح" 9/ 520، كتاب "المغازي" رقم (4372).
بالإسلام، وأن الإسلام يَهْدِم ما كان قبله. انتهى
(1)
.
ويَحْتَمِل أن يكون المعنى: فبشّره؛ أي: أفرحه بذكر حسن إسلامه للصحابة، ففي رواية ابن خزيمة المتقدّمة:"فقال صلى الله عليه وسلم: لقد حسُن إسلام أخيكم"، يعني: أنه لما سمع ذلك استبشر.
وقوله: "فبشّره" يحتمل أن يكون بتخفيف الشين المعجمة، ثلاثيًّا، وأن يكون بتشديدها مضعّفًا، قال الجوهريّ: بَشَرْتُ الرجلَ أَبْشُرُه، بالضم بَشْرًا، وبُشُورًا، من البُشْرَى، وكذلك الإِبشارُ، والتَّبْشِيرُ، ثلاثُ لغات، والاسم: الْبِشارَةُ، والبُشارَةُ بالكسر، والضم، يقال: بَشَرْتُه بمولود، فَأَبْشَرَ إِبْشارًا؛ أي: سُرَّ، وتقول: أَبْشِرْ بخير، بقطع الأَلف، وبَشِرْتُ بكذا، بالكسر، أَبْشَرُ؛ أي: اسْتَبْشَرْتُ به، وبَشَرني فلان بوجه حسن؛ أي: لقيني، وهو حسن البِشْر، بالكسر؛ أي: طَلْقُ الوجه. انتهى باختصار
(2)
.
(وَأَمَرَهُ) صلى الله عليه وسلم (أَنْ يَعْتَمِرَ)؛ أي: يُكمّل عمل عمرته التي أنشأها قبل إسلامه، وفيه دليل على أنَّ من نوى قربة قبل إسلامه، فاسلم ينبغي له أن يفعلها بعده، وهذا نظير ما أمر به النبيّ صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يعتكف في المسجد الحرام من أجل نذر نَذَره في الجاهليّة، فاعتكف، متّفقٌ عليه.
هذا هو الذي دلّ عليه ظاهر السياق، وأما ما قاله بعض الشرّاح
(3)
من أن المعنى: أمَره أن يُحرم إحرامًا جديدًا؛ لأنَّ الأولى لا تصحّ؛ لوقوعها في حال الشرك، فمما لا يخفى بُعده، والتعليل الذي علّل به يردّه قوله صلى الله عليه وسلم:"أسلمتَ على ما سلف لك من خير"، فإن الراجح أن مَن عَمِل خيرًا في كفره، ثم أسلم، وحسُن إسلامه، قَبِل الله عز وجل منه ما عمله من الخير في الكفر بسبب إسلامه، فتفطّن، والله تعالى أعلم.
وقال النوويّ رحمه الله: أما أمْره صلى الله عليه وسلم له بالعمرة فاستحباب؛ لأنَّ العمرة مستحبة في كلّ وقت، لا سيما من هذا الشريف المطاع إذا أسلم، وجاء
(1)
"شرح النوويّ" 12/ 89.
(2)
"لسان العرب" 4/ 59.
(3)
ومنهم القرطبيّ في "المفهم"، وكذا قال بعض من عاصرناه في شرحه لهذا الكتاب.
مُراغِمًا لأهل مكة، فطاف، وسعى، وأظهر إسلامه، وأغاظهم بذلك، والله أعلم. انتهى
(1)
.
(فَلَمَّا قَدِمَ مَكَّةَ) زاد ابن هشام: "قال: بلغني أنه خرج معتمرًا، حتى إذا كان ببطن مكة لَبَّى، فكان أول من دخل مكة يلبي، فأخذته قريش، فقالوا: لقد اجترأت علينا، وأرادوا قتله، فقال قائل منهم: دعوه، فإنكم تحتاجون إلى الطعام من اليمامة، فتركوه. (قَالَ لَهُ قَائِلٌ: أَصَبَوْتَ؟) قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في الأصول: "أصبوت"، وهي لغة، والمشهور: "أصبأت" بالهمز، وعلى الأول جاء قولهم: "الصُّبَاة"؛ كقاضٍ، وقُضَاةٍ. انتهى
(2)
.
وقال في "الفائق": صبأ: إذا خرج من دين إلى دين، صبأ ناب البعير: إذا طلع، وصبا النجم. انتهى
(3)
.
وقال الفيّوميّ رحمه الله: وصَبَأَ من دين إلى دين يَصْبَأُ، مهموزٌ بفتحتين: خَرَجَ، فهو صَابِئٌ، ثم جُعِل هذا اللقب عَلَمًا على طائفة من الكفار، يقال: إنها تعبد الكواكب في الباطن، وتُنسَب إلى النصرانية في الظاهر، وهم: الصَّابِئَةُ، والصَّابِئُونَ، ويَدَّعُون أنهم على دين صابئ بن شيث بن آدم، ويجوز التخفيف، فيقال: الصَّابُونُ، وقرأ به نافعٌ. انتهى
(4)
.
(فَقَالَ) ثمامة رضي الله عنه (لَا) قال في "الفتح": كأنه قال: لا، ما خرجت من الدين؛ لأنَّ عبادة الأوثان ليست دينًا، فإذا تركتها لا أكون خرجت من دين، بل استحدثت دين الإسلام. انتهى.
وقال بعضهم: فإن قيل: كيف قال: "لا"، وهو قد خرج من الشرك إلى التوحيد؟
قلت: مرادهم بـ"صبوت": خرجت من الحقّ إلى الباطل، فجوابه بـ"لا" مطابق لِمَا في نفس الأمر وحقيقة الحقّ، أو هو من الأسلوب الحكيم، كأنه قال: ما خرجت من الدين؛ لأنكم لستم على دين، فأخرج منه، بل اخترت
(1)
"شرح النوويّ" 12/ 89.
(2)
"شرح النوويّ" 12/ 89 - 90.
(3)
راجع: "الكاشف عن حقائق السنن" 9/ 2741.
(4)
"المصباح المنير" 1/ 332.
دين الله تعالى، وأسلمت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لله رب العالمين. انتهى
(1)
.
وقوله: (وَلَكِنِّي أَسْلَمْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) ولفظ البخاريّ: "ولكن أسلمت مع محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم "؛ أي: وافقته على دينه، فصرنا متصاحبين في الإسلام، أنا بالابتداء، وهو بالاستدامة، ووقع في رواية ابن هشام:"ولكن تَبِعت خير الدين، دينَ محمد صلى الله عليه وسلم".
وقال الطيبيّ رحمه الله: فإن قلت: "مع" تقتضي استحداث المصاحبة؛ لأنَّ معنى المعيّة المصاحبةُ، وهي مفاعلة، وقد قيّد الفعل بها، فيجب الاشتراك فيه.
قلت: لا يبعد ذلك، فلعلّه صلى الله عليه وسلم وافقه، فيكون منه صلى الله عليه وسلم استدامةً، ومنه استحداثًا. انتهى
(2)
.
(وَلَا، وَاللهِ) فيه حذف، تقديره: والله لا أرجع إلى دينكم، ولا أَرْفُق بكم، فأترك الْمِيرة تأتيكم من اليمامة، قاله في "الفتح".
وقال الطيبيّ رحمه الله: قوله: "ولا والله" لا يقتضي منفيًّا، والواو معطوف عليه؛ أي: لا أوافقكم في دينكم، ولا أرفُق بكم في هذه السنين المجدبة، ثم أقسم عليه بقوله:"ولا والله لا يأتيكم من اليمامة". انتهى
(3)
.
(لَا يَأْتِيكُمْ) هكذا بالياء، وللبخاريّ:"لا تأتيكم" بالتاء، وكلاهما جائز. (مِنَ الْيَمَامَةِ حَبَّةُ حِنْطَةٍ، حَتَّى يَأْذَنَ فِيهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) زاد ابن هشام: "ثم خرج إلى اليمامة، فمنعهم أن يَحملوا إلى مكة شيئًا، فكتبوا إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم: إنك تأمر بصلة الرحم، فكتب إلى ثمامة أن يُخَلِّي بينهم وبين الحمل إليهم"
(4)
.
[تنبيه]: قصّة ثمامة بن أُثال رضي الله عنه هذه ساقها ابن إسحاق في "المغازي"، كما في "الإصابة"
(5)
، ومن طريقه ساقها ابن الأثير في "أُسد الغابة"، فقال:
(1)
راجع: "الكاشف عن حقائق السنن" 9/ 2741.
(2)
راجع: "الكاشف عن حقائق السنن" 9/ 2741.
(3)
راجع: "الكاشف عن حقائق السنن" 9/ 2741.
(4)
"الفتح" 9/ 520، كتاب "المغازي" رقم (4372).
(5)
راجع: "الإصابة" 2/ 27.
أخبرنا أبو جعفر عبيد الله بن أحمد بن عليّ، بإسناده إلى يونس بن بكرٍ، عن ابن إسحاق، عن سعيد المقبريّ، عن أبي هريرة، قال: كان إسلام ثُمامة بن أُثال الحنفيّ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا الله حين عَرَضَ لرسول الله صلى الله عليه وسلم بما عَرَض أن يمكّنه منه، وكان عَرَض لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو مشرك، فأراد قتله، فأقبل ثُمامة معتمرًا، وهو على شِركه، حتى دخل المدينة، فتحيَّر فيها، حتى أُخِذ، فأتِي به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر به، فرُبط إلى عمود من عُمُد المسجد، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه، فقال:"ما لك يا ثمام هل أمكن الله منك؟ " فقال: قد كان ذلك يا محمد، إن تقتل تقتل ذا دم، وإن تعف تعف عن شاكر، وإن تسأل مالًا تُعطه، فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم وتركه، حتى إذا كان من الغد مرَّ به، فقال:"ما لك يا ثمام؟ " قال: خير يا محمد؛ إن تقتل تقتل ذا دم، وإن تعف تعف عن شاكر، وإن تسأل مالًا تعطه، ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال أبو هريرة: فجعلنا، المساكين، نقول بيننا: ما نصنع بدم ثمامة؛ والله لأكلة من جزور سمينة من فدائه أحب إلينا من دم ثمامة، فلمّا كان من الغد مرّ به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:"ما لك يا ثمام؟ " قال: خير يا محمد، إن تقتل تقتل ذا دم، وإن تعف تعف عن شاكر، وإن تسأل مالًا تعطه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أطلقوه قد عفوت عنك يا ثمام"، فخرج ثمامة حتى أتى حائطًا من حيطان المدينة، فاغتسل فيها، وتطهّر، وطهّر ثيابه، ثم جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو جالس في المسجد، فقال: يا محمد، لقد كنت وما وجه أبغض إليّ من وجهك، ولا دين أبغض إليّ من دينك، ولا بلد أبغض إليّ من بلدك، ثم لقد أصبحت وما وجه أحبّ إلي من وجهك، ولا دين أحبّ إليّ من دينك، ولا بلد أحبّ إلي من بلدك؛ وإني أشهد أن لا إله إلَّا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، يا رسول الله، إني كنت خرجت معتمرًا، وأنا على دين قومي، فأسرني أصحابك في عمرتي؛ فسيِّرني، صلى الله عليك، في عمرتي، فسيَّره رسول الله صلى الله عليه وسلم في عمرته، وعلمه، فخرج معتمرًا، فلما قدم مكة، وسمعته قريش يتكلم بأمر محمد، قالوا: صبأ ثمامة، فقال: والله ما صبوت، ولكنني أسلمت، وصدّقت محمدًا، وآمنت به، والذي نفس ثمامة بيده لا تأتيكم حبة من اليمامة - وكانت رِيفَ أهل مكة - حتى يأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانصرف إلى بلده، ومنع الحَمْل إلى
مكة، فجهدت قريش، فكتبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونه بأرحامهم، إلَّا كتب إلى ثمامة يخلي لهم حمل الطعام؛ ففعل ذلك رسول الله.
ولمّا ظهر مسيلمة، وقَوِيَ أمره، أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم فُرَات بن حَيَّان العجلي إلى ثمامة في قتال مسيلمة وقتله.
قال محمد بن إسحاق: لمّا ارتدّ أهل اليمامة عن الإسلام لَمْ يرتدّ ثمامة، وثبت على إسلامه، هو ومن اتبعه من قومه، وكان مقيمًا باليمامة ينهاهم عن اتّباع مسيلمة وتصديقه، ويقول: إياكم وأمرًا مظلمًا لا نور فيه، وإنه لشقاء كتبه الله عز وجل على من أخذ به منكم، وبلاء على من لَمْ يأخذ به منكم يا بني حنيفة، فلما عصوه وأصفقوا على اتباع مسيلمة عزم على مفارقتهم، ومَرّ العلاء بن الحضرمي ومن معه على جانب اليمامة يريدون البحرين، وبها الحطم ومن معه من المرتدين من ربيعة، فلما بلغه ذلك قال لأصحابه من المسلمين: إني والله ما أرى أن أقيم مع هؤلاء، وقد أحدثوا، وإن الله ضاربهم ببلية لا يقومون بها ولا يقعدون، وما أرى أن نتخلف عن هؤلاء، يعني ابن الحضرميّ وأصحابه وهم مسلمون، وقد عرفنا الذي يريدون، وقد مروا بنا، ولا أرى إلَّا الخروج معهم، فمن أراد منكم فليخرج، فخرج ممدًا للعلاء ومعه أصحابه من المسلمين، ففتّ ذلك في أعضاد عدوّهم حين بلغهم مدد بني حنيفة، وشهد مع العلاء قتال الحطم، فانهزم المشركون، وقُتلوا، وقسم العلاء الغنائم، ونَفّل رجالا، فأعطى العلاء خميصة - كانت للحطم يباهي بها - رجلًا من المسلمين، فاشتراها منه ثمامة، فلمّا رجع ثمامة بعد هذا الفتح رأى بنو قيس بن ثعلبة، قوم الحطم، خميصته على ثمامة، فقالوا: أنت قتلت الحطم، قال: لَمْ أقتله، ولكني اشتريتها من المغنم، فقتلوه
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(1)
"أسد الغابة" 1/ 156 - 157.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [19/ 4579 و 4580](1764)، و (البخاريّ) في "الصلاة"(462 و 469) و"الخصومات"(2422 و 2423) و"المغازي"(4372)، و (أبو داود) في "الجهاد"(1764)، و (النسائيّ) في "الطهارة"(1/ 109 - 110) و"الصلاة"(2/ 46)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(6/ 9)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 246 - 247 و 453)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(15)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(253)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1239)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 257 و 258)، و (البيهقيُّ) في "الكبرى"(1/ 171) و"دلائل النبوَّة"(4/ 78 - 79 و 81)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): جواز ربط الكافر في المسجد، وفي الحديث: جواز ربط الأسير، وحبسه؛ لينظر حسن صلاة المسلمين، واجتماعهم عليها، وحسن آدابهم في جلوسهم في المسجد، فيانس بذلك، كما اتفق لثمامة رضي الله عنه هنا، وفي "صحيح ابن خزيمة" عن عثمان بن أبي العاص:"إن وفد ثقيف لَمّا قَدِموا أنزلهم النبيّ صلى الله عليه وسلم المسجد؛ ليكون أرق لقلوبهم"، وقال جبير بن مطعم رضي الله عنه، فيما ذكره أحمد في "مسنده":"دخلت المسجد، والنبيّ صلى الله عليه وسلم يصلي المغرب، فقرأ بـ {الطُّورِ} فكأنهما صُدِع قلبي حين سمعت القرآن"، وفي رواية الشيخين عنه أنه قال:"سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور، وذلك أولَ ما وقر الإيمان في قلبي".
2 -
(ومنها): جواز إدخال المسجد الكافر، قال النوويّ رحمه الله: مذهب الشافعيّ جوازه بإذن مسلم، سواء كان الكافر كتابيًّا، أو غيره، وقال عمر بن عبد العزيز، وقتادة، ومالك: لا يجوز، وقال أبو حنيفة: يجوز لكتابيّ دون غيره، ودليلنا على الجميع هذا الحديث، وأما قوله تعالى:{إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} الآية [التوبة: 28"، فهو خاصّ بالحَرَم، ونحن نقول: لا يجوز إدخاله الحرم، والله أعلم. انتهى
(1)
.
(1)
"شرح النوويّ" 12/ 87.
قال الجامع عفا الله عنه: لا يخفى أن ما ذهب إليه الشافعيّ من جواز دخول الكافر المسجد أقوى وأرجح؛ لوضوح حجته؛ كحديث الباب.
3 -
(ومنها): جواز المنّ على الأسير الكافر، قال النوويّ رحمه الله: هو مذهبنا، ومذهب الجمهور.
4 -
(ومنها): تعظيم أمر العفو عن المسيء؛ لأنَّ ثمامة أقسم أن بغضه انقلب حُبًّا في ساعة واحدة؛ لِمَا أسداه النبيّ صلى الله عليه وسلم إليه من العفو، والمنّ بغير مقابل.
5 -
(ومنها): مشروعيّة الاغتسال عند الإسلام، قال النوويّ رحمه الله: ومذهبنا أن اغتساله واجب، إن كان عليه جنابة في الشرك، سواء كان اغتسل منها أم لا، وقال بعض أصحابنا: إن كان اغتسل أجزأه، وإلا وجب، وقال بعض أصحابنا، وبعض المالكية: لا غسل عليه، ويسقط حكم الجنابة بالإسلام، كما تسقط الذنوب، وضَعَّفوا هذا بالوضوء، فإنه يلزمه بالإجماع، ولا يقال: يسقط أثر الحدث بالإسلام، هذا كله إذا كان أجنب في الكفر، أما إذا لَمْ يُجنب أصلًا، ثم أسلم فالغسل مستحب له، وليس بواجب، هذا مذهبنا، ومذهب مالك وآخرين، وقال أحمد، وآخرون: يلزمه الغسل. انتهى
(1)
.
6 -
(ومنها): ما قال النوويّ رحمه الله: قال أصحابنا: إذا أراد الكافر الإسلام بادر به، ولا يؤخره للاغتسال، ولا يحلّ لأحد أن ياذن له في تأخيره، بل يبادر به، ثم يغتسل. انتهى
(2)
.
7 -
(ومنها): أن الإحسان يزيل البغض، ويثبت الحبّ.
8 -
(ومنها): أن الكافر إذا أراد عمل خير، ثم أسلم شُرع له أن يستمرّ في عمل ذلك الخير.
9 -
(ومنها): أنه ينبغي الملاطفة بمن يرجى إسلامه من الأساري، إذا كان في ذلك مصلحة للإسلام، ولا سيما من يتبعه على إسلامه العدد الكثير، من قومه، كما هو الواقع في قصّة ثمامة رضي الله عنه.
(1)
"شرح النوويّ" 12/ 87.
(2)
"شرح النوويّ" 12/ 87.
10 -
(ومنها): أن فيه بعثَ السرايا إلى بلاد الكفار، وأسرَ من وُجِد منهم، والتخيير بعد ذلك في قتله، أو الإبقاء عليه.
11 -
(ومنها): ما قاله ابن حبّان رحمه الله: في هذا الخبر دليلٌ على إباحة التجارة إلى دار الحرب لأهل الورع
(1)
.
12 -
(ومنها): أن ابن المنذر رحمه الله أخذ من هذا الحديث جواز دخول الجنب المسلم المسجد، وأنه أَولى من المشرك؛ لأنه ليس بنجس.
قال الجامع عفا الله عنه: لكن يَرُدّ عليه حديث عائشة رضي الله عنها مرفوعًا: "لا أحل المسجد لحائض ولا لجنب"، رواه أبو داود، وحديث أم سلمة رضي الله عنها مرفوعًا:"إن المسجد لا يحل لحائض ولا لجنب"، رواه ابن ماجة، والحديثان وإن ضَعَّف ابنُ حزم إسنادهما بأنَّ أفلَتَ بن خليفة مجهول، فقد رَدّوا عليه بأن ابن حبان وثقه، وقال أبو حاتم: هو شيخ، وقال أحمد: لا بأس به، وروى عنه سفيان الثوريّ، وعبد الواحد بن زياد، وقال في "الكاشف": صدوق، وقال في "البدر المنير": بل هو مشهور ثقةٌ.
وكذا قول البخاري في جَسْرَة الراوية عن عائشة: إن عندها عجائب، قال ابن القطان: لا يكفي في ردّ أخبارها، وقال العجليّ: تابعية ثقةٌ، وذكرها ابن حبان في "الثقات"، وقد حسَّن ابن القطان حديثهما هذا، وصححه ابن خزيمة، قال ابن سيد الناس: ولعمري إن التحسين لَأقلُّ مراتبه؛ لثقة رواته، ووجود الشواهد له من خارج، فلا حجة لأبي محمد بن حزم في ردّه، أفاده الشوكانيّ رحمه الله في "نيله"
(2)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الحاصل أن دخول الجنب المسجد، وكذا الحائض ممنوع؛ للحديثين المذكورين، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في وجوب الغسل على من أسلم، وعدمه:
ذهب جماعة إلى وجوبه، وبه يقول مالك، وأحمد، وأبو ثور، قاله
(1)
"صحيح ابن حبّان" 4/ 44.
(2)
"نيل الأوطار" 1/ 345 - 346.
النوويّ
(1)
، واختاره ابن المنذر، والخطابي.
واحتجوا بحديث قيس بن عاصم رضي الله عنه أنه أسلم، فأمره النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يغتسل بماء وسِدْر، وهو حديث صحيح، رواه أبو داود، والترمذيّ، والنسائيّ، وبحديث أبي هريرة رضي الله عنه في قصّة ثمامة بن أُثال رضي الله عنه المذكور في الباب، وفيه: "فانطلق إلى نخل قريب من المسجد، فاغتسل
…
"، وفي رواية للبيهقيّ وغيره: "أن رسول الله مَرَّ عليه، فأسلم، فأطلقه، وبعث به إلى حائط أبي طلحة، وأمره أن يغتسل، فاغتسل، وصلى ركعتين".
وبحديث أمْره صلى الله عليه وسلم بالغسل واثلة، وقتادة الرهاوي، عند الطبرانيّ، وعَقيل بن أبي طالب، عند الحاكم في "تاريخ نيسابور"، وفي أسانيد الثلاثة ضعف، كما قال الحافظ.
وذهب جماعة إلى استحبابه، وبه يقول الشافعيّ، إذا لَمْ يجنب في حال الكفر، وإلا وجب عليه الغسل، سواء قد اغتسل أم لا؟ لعدم صحة الغسل، وفيه خلاف في مذهب الشافعيّ، أصحهما وجوب الإعادة، كما في "المجموع" للنوويّ.
واحتجوا بأنه صلى الله عليه وسلم لَمْ يأمر كلّ من أسلم بالغسل، ولو كان واجبًا لَمَا خَصَّ بالأمر به بعضًا دون بعض، فيكون ذلك قرينة صارفة للأمر إلى الندب.
وأما وجوبه على من أجنب فللأدلة القاضية بوجوبه؛ لأنَّها لَمْ تفرِّق بين كافر، ومسلم.
وذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى وجوبه على من أجنب، ولم يغتسل حال كفره، فإن اغتسل لا يجب، ولا يصح قياسه على الصلاة، والزكاة؛ لأنهما لا يصحان بدون النية، بخلاف اغتساله؛ لأنَّ الماء مطهِّر بنفسه فلا يحتاج إلى النية.
وذهب بعضهم إلى استحبابه مطلقًا، وإن لَمْ يغتسل من جنابة أصابته في كفره؛ لحديث:"الإسلام يَجُبُّ ما قبله".
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: أرجح المذاهب عندي مذهب من قال
(1)
راجع: "المجموع" للنوويّ رحمه الله 2/ 153.
بالاستحباب؛ إذ لو كان واجبًا لَمَا خصَّ به النبيّ صلى الله عليه وسلم بعضَ من أسلم، ولو أمر به الكلّ لنُقِل إلينا نقلًا مشتهرًا، ومعلوم انتشار الإسلام في الناس، ولكن لَمْ يُحفَظ عن كلّ من أسلم أنه أُمر بالاغتسال لا في عهد النبوة، ولا بعدهُ، إلَّا عن طائفة قليلة، فدل على الاستحباب، والله أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الخامسة): في اختلاف أهل العلم في دخول الكافر المسجد:
ذهبت طائفة من العلماء إلى جواز دخول الكافر المسجد، سواء كان كتابيًّا، أو غيره، وبه قال الشافعيُّ رحمه الله، واستثنى من ذلك مسجد مكة وحرمه، واحتجّ بحديث ثمامة المذكور في الباب، وبأن ذات المشرك ليست بنجسة.
وذهبت طائفة إلى أنه لا يجوز للكافر دخول المسجد مطلقًا، وبه قال عمر بن عبد العزيز، وقتادة، ومالك، والمزنيّ.
واحتجوا بقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} [التوبة: 28]، وبقوله:{فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [النور: 36]، ودخول الكفار فيها مناقض لرفعها، وبقوله صلى الله عليه وسلم:"إن هذه المساجد لا يصلح فيها شيء من البول والقذر"، رواه مسلم، والكافر لا يخلو عن ذلك، وبقوله صلى الله عليه وسلم:"لا أُحل المسجد لحائض ولا جنب"، والكافر جنب، أفاده في "العمدة"
(1)
.
قال الجامع: الحديث رواه أبو داود، وحسَّنه ابن القطان، وابن سيد الناس.
وقال أبو عبد الله القرطبيّ رحمه الله في "تفسيره" ما حاصله: وقال قتادة: لا يقرب مشرك؛ إلَّا أن يكون صاحب جزية، أو عبدًا كافرًا لمسلم، وروى إسماعيل بن إسحاق، حدّثنا يحيى بن عبد الحميد، قال: حدّثنا شريك، عن أشعث، عن الحسن، عن جابر، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم:"لا يقرب المسجد مشرك، إلَّا أن يكون عبدًا، أو أمة، فيدخله لحاجة"، وبهذا قال جابر بن عبد الله؛ فإنه قال: العموم يمنع المشرك عن قربان المسجد الحرام، وهو مخصوص في العبد، والأمة.
(1)
"عمدة القاري" 4/ 237.
قال الجامع: تقدم آنفًا أن قتادة ممن يقول بالمنع مطلقًا، فلعل له قولين في المسألة، والله تعالى أعلم.
وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله: وقال عبد الرزاق: أخبرنا ابن جريجٍ، أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول في قوله تعالى:{إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة: 28]: إلَّا أن يكون عبدًا أو أحدًا من أهل الذِّمة، وقد روي مرفوعًا من وجه آخر، فقال الإمام أحمد: حدّثنا أسود بن عامر، حدّثنا شريك، عن أشعث بن سوَّار، عن الحسن، عن جابر رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يدخل مسجدنا بعد عامنا هذا مشرك، غير أهل الكتاب، وخدمهم"، وفي لفظ:"لا يدخل مسجدنا بعد عامنا هذا إلَّا أهل العهد، وخدمهم"
(1)
.
قال الحافظ ابن كثير: تفرّد به الإمام أحمد مرفوعًا، والموقوف أصح إسنادًا
(2)
.
قال الجامع: في سند أحمد: شريك القاضي، وهو متكلَّم فيه، وأشعث بن سوار الكِنْديّ ضعيف، كما قاله الحافظ في "التقريب"، والله تعالى أعلم.
وذهب أبو حنيفة رحمه الله: إلى أنه يجوز للكتابيّ دخول المسجد، دون غيره، واحتَجّ بالحديث المذكور.
وقال أبو محمد بن حزم رحمه الله: ودخول المشركين في جميع المساجد جائز، حاشا حرم مكة كله، المسجد وغيره، فلا يحل البتة أن يدخله كافر، وهو قول الشافعيّ، وأبي سليمان. وقال أبو حنيفة: لا بأس أن يدخله اليهوديّ، والنصرانيّ، ومنع سائر الأديان، وكره مالك دخول أحد من الكفار في شيء من المساجد، قال الله تعالى:{إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة: 28]، فخصَّ الله المسجد الحرام، فلا يجوز تعدّيه إلى غيره بغير نصّ، وقد كان الحرم قبل بنيان المسجد، وقد زِيد فيه،
(1)
راجع: "مسند أحمد" 3/ 339، 392.
(2)
راجع: "تفسير ابن كثير" 2/ 360.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "جُعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا"، فصح أن الحرم كله هو المسجد الحرام، ثم ذكر حديث قصّة ثمامة المذكور.
وقال أبو محمد رحمه الله: وأما أبو حنيفة فإنه قال: إن الله تعالى قد فرَّق بين المشركين، وبين سائر الكفار، فقال تعالى:{لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ} [البينة: 1]. وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ} [الحج: 17]، قال: والمشرك هو من جعل لله شريكًا لا من لَمْ يجعل له شريكًا.
قال: فأما تعلقه بالآيتين فلا حجة له فيهما؛ لأنَّ الله تعالى قال: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (68)} [الرَّحمن: 68]، والرمان من الفاكهة، وقال تعالى:{مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} [البقرة: 98] وهما من الملائكة، وقال تعالى:{وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى} الآية [الأحزاب: 7]، وهؤلاء من النبيين، إلى آخر ما قاله ابن حزم في الردِّ على أبي حنيفة رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: أرجح الأقوال عندي هو ما رجحه ابن حزم، وهو قول الشافعيّ وداود الظاهريّ - رحمهم الله تعالى -، وحاصله جواز دخول الكافر مطلقًا المساجد، إلَّا المسجد الحرام؛ لظاهر الآية، ولحديث قصّة ثمامة بن أثال رضي الله عنه المذكورة في الباب، وهذا هو الأَولى مما ادّعاه القائلون بالمنع مطلقًا من نَسْخ الحديث بالآية، وغير ذلك من التأويلات التي ذكرها القرطبيّ رحمه الله في "تفسيره"
(2)
؛ لأنَّ الجمع إذا أمكن لا يصار إلى النسخ، أو غيره، فتأمله بالإمعان، والإنصاف، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
[4580]
(
…
) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ الْحَنَفِيُّ، حَدَّثَنِي عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيُّ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ، يَقُولُ: بَعَثَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَيْلًا لَهُ نَحْوَ أَرْضِ نَجْدٍ، فَجَاءَتْ بِرَجُلٍ، يُقَالُ لَهُ:
(1)
راجع: "المحلى" لابن حزم 4/ 243 - 246.
(2)
راجع: "الجامع لأحكام القرآن" 8/ 105.
ثُمَامَةُ بْنُ أَثَالٍ الْحَنَفِيُّ، سَيِّدُ أَهْلِ الْيَمَامَة، وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِمِثْلِ حَدِيثِ اللَّيْث، إِلَّا أنهُ قَالَ: إِنْ تَقْتُلْني تَقْتُلْ ذَا دَمٍ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) أبو موسى العنزيّ البصريّ، تقدّم قريبًا.
2 -
(أَبُو بَكْرٍ الْحَنَفِيُّ) عبد الكبير بن عبد المجيد بن عبيد الله البصريّ، ثقةٌ [9](ت 204)(ع) تقدم في "الصلاة" 49/ 1136.
3 -
(عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرِ) بن عبد الله بن الحكم بن رافع الأنصاريّ المدنيّ، صدوقُ رُمي بالقدر، وربّما وَهِمَ [6](ت 153)(خت م 4) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 4/ 1190.
والباقون ذُكروا قبله.
وقوله: (وَسَاقَ الْحَدِيثَ) فاعل "ساق" ضمير عبد الحميد بن جعفر.
وقوله: (إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: إِنْ تَقْتُلْنِي تَقْتُلْ ذَا دَمٍ) قال النوويّ رحمه الله: هكذا في النسخ المحقّقة: "إن تقتلني" بالنون، والياء في آخرها، وفي بعضها بحذفها، وهو فاسدٌ؛ لأنه يكون حينئذ مثل الأول، فلا يصحّ استثناؤه. انتهى.
[تنبيه]: رواية عبد الحميد بن جعفر عن سعيد بن أبي سعيد المقبريّ، ساقها البيهقيّ رحمه الله في "الكبرى"، فقال:
(17809)
- أخبرناه أبو عبد الله الحافظ، أنبا أبو بكر أحمد بن إسحاق الفقيه، وأبو الفضل بن إبراهيم المزكي، قالا: ثنا أحمد بن سلمة، ثنا محمد بن المثني، ثنا أبو بكر الحنفيّ، ثنا عبد الحميد بن جعفر، حدّثني سعيد بن أبي سعيد المقبريّ، أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه يقول: بَعَث رسول الله صلى الله عليه وسلم خيلَا، نحو أرض نجد، فجاءت برجل يقال له: ثُمامة بن أُثال الحنفيّ، سيد أهل اليمامة، فربطوه بسارية من سواري المسجد، فخرج عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:"ما عندك يا ثمامة؟ "، قال: عندي يا محمد خير، إن تقتلني تقتل ذا دم، وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن تُرِد المال فَسَلْ تُعْطَ منه ما شئت، فتركه رسول الله صلى الله عليه وسلم: حتى إذا كان من الغد، ثم قال:"ما عندك يا ثمامة؟ "، فقال: عندي ما قلت لك، فردّها عليه، ثم أتاه اليوم الثالث، فردّها عليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أطلقوا ثُمامة"، فخرج ثمامة إلى نخل قريب من المسجد، فاغتسل من الماء،
ثم دخل المسجد، فقال: أشهد أن لا إله إلَّا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله، يا محمد، والله ما كان على وجه الأرض وجه أبغض إليّ من وجهك، وقد أصبح وجهك أحبّ الوجوه إليّ، والله ما كان دين أبغض إليّ من دينك، وقد أصبح دينك أحبّ الأديان إليّ، ووالله ما كان من بلد أبغض إليّ من بلدك، وقد أصبح بلدك أحبّ البلدان كلها إليّ، وإن خيلك أخذتني، وأنا أريد العمرة، فماذا ترى؟ فبشّره رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمره أن يعتمر، فلما قَدِم، قال له رجال بمكة: أصبوت يا ثمامة؟ فقال: لا، والله ما صبوت، ولكني أسلمت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله لا يأتيكم حبة حنطة من اليمامة، حتى يأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم.
(20) - (بَابُ إِجْلَاءِ الْيَهُودِ مِنَ الْحِجَازِ)
وبالسند المتّصل إلى المؤلِّف رحمه الله أَوَّل الكتاب قال:
[4581]
(1765) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا لَيْثْ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ أَبِيه، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّهُ قَالَ: بَيْنَا نَحْنُ فِي الْمَسْجِد، إِذْ خَرَجَ إِلَيْنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: "انْطَلِقُوا إِلَى يَهُودَ"، فَخَرَجْنَا مَعَهُ، حَتَّى جِئْنَاهُمْ، فَقَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَنَادَاهُمْ، فَقَالَ: "يَا مَعْشَرَ يَهُودَ، أَسْلِمُوا تَسْلَمُوا"، فَقَالُوا: قَدْ بَلَّغْتَ يَا أَبَا الْقَاسِم، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "ذَلِكَ أُرِيدُ، أَسْلِمُوا تَسْلَمُوا"، فَقَالُوا: قَدْ بَلَّغْتَ يَا أَبَا الْقَاسِم، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "ذَلِكَ أُرِيدُ"، فَقَالَ لَهُمُ الثَّالِثَةَ، فَقَالَ: "اعْلَمُوا أَنَّمَا الأَرْضُ للهِ وَرَسُولِه، وَأَنِّي أُرِيدُ أَنْ أُجْلِيَكُمْ مِنْ هَذِهِ الأَرْض، فَمَنْ وَجَدَ مِنْكُمْ بِمَالِهِ شَيْئًا فَلْيَبِعْهُ، وَإِلا فَاعْلَمُوا أَنَّ الأَرْضَ للهِ وَرَسُولِهِ").
(1)
"سنن البيهقيّ الكبرى" 9/ 65.
رجال هذا الإسناد: خمسة:
وكلّهم تقدّموا في الباب الماضي، إلَّا والد سعيد المقبريّ، وهو:
1 -
(أبو سعيد) كيسان المقبريّ المدنيّ، مولى أم شريك، ثقةٌ ثبتٌ [2](ت 100)(ع) تقدم في "الإيمان" 74/ 392.
شرح الحديث:
(عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ) المقبريّ - بفتح الميم، وسكون القاف، وضمّ الباء الموحّدة -: نسبة إلى المقبرة، واشتَهَر بها سعيد بن أبي سعيد؛ لِسُكْناه بالقرب من المقبرة، قاله في "العمدة"
(1)
. (عَنْ أَبِيهِ) أبي سعيد، واسمه كيسان (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (أَنَّهُ قَالَ: بَيْنَا) هي "بين" الظرفيّة، أُشبعت فتحتها، فتولّدت منها الألف، وقد تقدّم البحث فيها مستوفًى في مواضع من هذا الشرح. (نَحْنُ: فِي الْمَسْجِدِ) النبويّ.
[تنبيه]: أورد مسلم رحمه الله حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا هنا، ثم عقّبه بحديث ابن عمر رضي الله عنهما، فأوهم أن اليهود المذكورين في حديث أبي هريرة هم بنو النضير، قال الحافظ رحمه الله: وفيه نظر؛ لأنَّ أبا هريرة إنما جاء بعد فتح خيبر، وكان فَتْحها بعد إجلاء بني النضير، وبني قينقاع، وقيل: بني قريظة، قال: وقد تقدمت قصة بني النضير في "المغازي" قبل قصة بدر، وتقدم قول ابن إسحاق: إنها كانت بعد بئر معونة، وعلى الحالين، فهي قبل مجيء أبي هريرة، وسياق إخراجهم مخالف لسياق هذه القصّة، فإنهم لَمْ يكونوا داخل المدينة، ولا جاءهم النبيّ صلى الله عليه وسلم إلَّا ليستعين بهم في دية رجلين، قتلهما عمرو بن أمية، من حلفائهم، فأرادوا الغدر به، فرجع إلى المدينة، وأرسل إليهم يخيِّرهم بين الإسلام وبين الخروج، فأبوا، فحاصرهم، فَرَضُوا بالجلاء، وفيهم نزل أول "سورة الحشر".
فيَحْتَمِل أن يكون مَن ذُكِر في حديث أبي هريرة بقيةٌ منهم، أو من بني قريظة، كانوا ساكنين داخل المدينة، فاستمرّوا فيها على حكم أهل الذِّمة، حتى أجلاهم بعد فتح خيبر.
(1)
"عمدة القاري" 14/ 303.
ويَحْتَمِل أن يكونوا من أهل خيبر؛ لأنَّها لَمّا فُتِحت أقرّ أهلها على أنَّ يزرعوا فيها، ويعملوا فيها ببعض ما يخرج منها، فاستمرّوا بها حتى أجلاهم عمر رضي الله عنه من خيبر، فيَحْتَمِل أن يكون هؤلاء طائفة منهم، كانوا يسكنون بالمدينة، فأخرجهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم، وأوصى عند موته أن يُخرِجوا المشركين من جزيرة العرب، ففعل ذلك عمر رضي الله عنه. انتهى
(1)
.
وقوله: (إِذْ خَرَجَ إِلَيْنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) جواب "بينا"، وقد تقدّم أن الأفصح في جوابها أن يكون بلا "إذ"، و "إذا". (فَقَالَ:"انْطَلِقُوا إِلَى يَهُودَ") بمنع الصرف؛ للعليّة والتأنيث، باعتبار القبيلة، قال الحافظ رحمه الله: ولم أر من صَرّح بنسب اليهود المذكورين، والظاهر أنهم بقايا من اليهود، تأخروا بالمدينة بعد إجلاء بني قينقاع، وقريظة، والنضير، والفراغ من أمرهم؛ لأنه كان قبل إسلام أبي هريرة، وإنما جاء أبو هريرة بعد فتح خيبر، وقد أقرّ النبيّ صلى الله عليه وسلم يهود خيبر على أنَّ يعملوا في الأرض، واستمروا إلى أن أجلاهم عمر رضي الله عنه.
ويَحْتَمِل - والله أعلم - أن يكون النبيّ صلى الله عليه وسلم بعد أن فتح ما بقي من خيبر هَمَّ بإجلاء من بقي ممن صالح من اليهود، ثم سألوه أن يُبقيهم، ليعملوا في الأرض، فبقّاهم، أو كان قد بقي بالمدينة من اليهود المذكورين طائفة استمروا فيها، معتمدين على الرضا بإبقائهم للعمل في أرض خيبر، ثم منعهم النبيّ صلى الله عليه وسلم من سكنى المدينة أصلًا، والله أعلم، بل سياق كلام القرطبيّ في "شرح مسلم" يقتضي أنه فَهِمَ أن المراد بذلك بنو النضير، ولكن لا يصح ذلك؛ لتقدمه على مجيء أبي هريرة، وأبو هريرة يقول في هذا الحديث: إنه كان مع النبيّ صلى الله عليه وسلم. انتهى
(2)
.
(فَخَرَجْنَا مَعَهُ، حَتَّى جِئْنَاهُمْ) وفي رواية البخاريّ: "حتى جئنا بيت المدراس"، وهو بكسر الميم، وأَخره سين مهملة، مِفْعال من الدَّرْس، والمراد به: البيت الذي يُدرس فيه كتابهم، أو: هو كبير اليهود، ونُسِب البيت إليه؛
(1)
"الفتح" 16/ 222 - 223، كتاب "الإكراه" رقم (6944).
(2)
"الفتح" 7/ 460 - 461 كتاب "الجزية" رقم (3168).
لأنه هو الذي كان صاحب دراسة كتبهم؛ أي: قراءتها، والأول أرجح.
ووقع في بعض الطرق: "حتى إذا أتى المدراس"، ففسره في "المطالع" بالبيت الذي تُقرأ فيه التوراة، ووجّهه الكرمانيّ بأن إضافة البيت إليه من إضافة العامّ إلى الخاصّ، مثل شجر أراك، وقال في "النهاية": مِفْعَال غريب في المكان، والمعروف أنه من صيغ المبالغة للرجل.
قال الحافظ: والصواب أنه على حذف الموصوف، والمراد الرجل، وقد وقع في الرواية الماضية - أي: عند البخاريّ - في "الجزية": "حتى جئنا بيت الْمُدارس" بتأخير الراء عن الألف، بصيغة الْمُفَاعِل، وهو مَن يدرس الكتاب، ويعلّمه غيره، وفي حديث الرجم:"فوضع مِدارسها الذي يدرسها يده على آية الرجم"، وفُسِّر هناك بأنه ابن صوريا، فَيَحْتَمِل أن يكون هو المراد هنا. انتهى
(1)
.
(فَقَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَنَادَاهُمْ، فَقَالَ: "يَا مَعْشَرَ يَهُودَ، أَسْلِمُوا) بفتح الهمزة، من الإسلام، (تَسْلَمُوا") مجزوم؛ لأنه جواب الأمر، وهو من السلامة، وفيه الجناس الحسن؛ لسهولة لفظه، وعدم كُلْفته، ونظيره في كتاب هرقل:"أَسْلِمْ تَسْلَمْ".
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "أسلموا تسلموا"؛ أي: ادخلوا في دين الإسلام طائعين تسلموا من القتل، والسباء مأجورين، وفيه دليلٌ على استعمال التجنيس، وهو نوع من أنواع البلاغة. انتهى
(2)
.
(فَقَالُوا: قَدْ بَلَّغْتَ يَا أَبَا الْقَاسِمِ) قال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "قد بلّغت" كلمة مَكَرٍ، ومداجاة
(3)
؛ ليدافعوه بما يوهمه ظاهرها، وذلك أن ظاهرها يقتضي أنه قد بلّغ رسالة ربِّه تعالى، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ذلك أريد"؛ أي:
(1)
"الفتح" 16/ 222 - 223، كتاب "الإكراه" رقم (6944).
(2)
"المفهم" 3/ 587.
(3)
يقال: داجاه مُداجاةً: ساتره بالعداوة، ولم يُبدها له.
التبليغ، قالوا ذلك، وقلوبهم منكرة، مُكَذِّبة، ويَحْتَمِل أن يكونوا قالوا ذلك خوفًا منه، وتطييبًا له، والله تعالى أعلم. انتهى
(1)
.
(فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "ذَلِكَ أُرِيدُ) - بضم الهمزة، وكسر الراء - أي: التبليغُ هو مقصودي، وقال في "الفتح": قوله: "ذلك أريد"؛ أي: بقولي: أسلموا؛ أي: إن اعترفتم أنني بلّغتكم سقط عني الحرج. انتهى
(2)
، وقال في موضع آخر؛ أي: أريد أن تُقِرّوا بأني بَلَّغت؛ لأنَّ التبليغ هو الذي أُمر به. انتهى
(3)
.
[تنبيه]: قوله: "أريد" كذا وقع عند مسلم، وكذا هو عند البخاريّ بلفظ "أريد" بضم أوله، بصيغة المضارعة، من الإرادة، قال في "الفتح": ووقع في رواية أبي زيد المروزيّ فيما ذكره القابسيّ بفتح أوله، وبزاي معجمة، وأطبقوا على أنَّه تصحيف، لكن وَجّهه بعضهم بأن معناه: أُكَرِّر مقالتي؛ مبالغةً في التبليغ. انتهى
(4)
.
(أَسْلِمُوا تَسْلَمُوا"، قالُوا: قَدْ بَلَّغْتَ يَا أَبَا الْقَاسِم، قالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "ذَلِكَ أُرِيدُ"، فَقَالَ لَهُمُ الثَّالِثَةَ، فَقَالَ: "اعْلَمُوا أَنَّمَا الَأَرْضُ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ) قال في "الفتح": قوله: "واعلموا" جملة مستأنفة؛ كانهم قالوا في جواب قوله: "أسلموا، تسلموا": لِمَ قلت هذا، وكررته؟ فقال: اعلموا أني أريد أن أُجليكم، فإن أسلمتم سَلِمتم من ذلك، ومما هو أشقّ منه. انتهى
(5)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "اعلموا: أن الأرض لله ولرسوله"؛ يعني: مُلكًا، وحُكمًا، ويعني بها: أرضهم التي كانوا فيها، أعْلَمَهم بهذه اللفظة أنه يُجليهم منها، ولا يتركهم فيها، وأن ذلك حُكم الله فيهم. انتهى
(6)
.
(1)
"المفهم" 3/ 588.
(2)
"الفتح" 16/ 222 - 223، كتاب "الإكراه" رقم (6944).
(3)
"الفتح" 17/ 236، كتاب "الاعتصام" رقم (7348).
(4)
"الفتح" 17/ 236، كتاب "الاعتصام" رقم (7348).
(5)
"الفتح" 7/ 461، كتاب "الجزية" رقم (3167)، و"عمدة القاري" 15/ 90.
(6)
"المفهم" 3/ 588.
(وَأَنِّي أُرِيدُ أَنْ أُجْلِيَكُمْ) بضمّ أوله، وسكون الجيم؛ أي: أُخرجكم وزنًا ومعنًى.
(مِنْ هَذِهِ الأَرْض، فَمَنْ وَجَدَ مِنْكُمْ بِمَالِهِ شَيْئًا) الباء بمعنى البدل، كما في قول الشاعر [من البسيط]:
فَلَيْتَ لِي بِهِمُ قَوْمًا إِذَا رَكِبُوا
…
شَنُّوا الإِغَارَةَ فُرْسَانًا وَرُكْبَانَا
وقال في "الفتح": قوله: "فمن وجد" كذا هنا بلفظ الفعل الماضي، وقوله:"بماله شيئًا" الباء متعلقة بشيء محذوف، أو ضَمَّن "وجَدَ" معنى نَحَل فعدّاه بالباء، أو "وجَدَ" من الوجدان، والباء سببية؛ أي: فمن وجد بماله شيئًا من المحبة، وقال الكرمانيّ: الباء هنا للمقابلة، فجعل وَجَدَ من الوجدان. انتهى
(1)
.
ووقع في رواية عند البخاريّ بلفظ: "فمن يجد منكم بماله شيئًا"، فقال في "الفتح": من الوجدان؛ أي: يجد مشتريًا، أو من الوَجْد؛ أي: المحبّة؛ أي: يُحبّه، والغرض أن منهم من يشقّ عليه فراق شيء من ماله، مما يعسر تحويله، فقد أُذن له في بيعه. انتهى
(2)
.
وقولى: (فَلْيَبعْهُ) جوابُ "منْ"، والمعنى: أن من كان له شيء مما لا يمكن تحويله، فله أَن يبيعه (وَإِلَّا)؛ أي: وإن لَمْ تسمعوا ما قلت لكم من ذلك، (فَاعْلَمُوا أَنَّ الأَرْضَ) وفي رواية للبخاريّ:"أنما الأرض"، (لِلَّهِ وَرَسُولِهِ")؛ أي: تعلقت مشيئة الله بأن يورث أرضكم هذه للمسلمين، ففارقوها، وهذا كان بعد قتل بني قريظة، وإجلاء بني النضير؛ لأنَّ هذا كان قبل إسلام أبي هريرة؛ لأنَّ أبا هريرة إنما جاء بعد فتح خيبر، قاله في "العمدة"
(3)
.
وقال النوويّ رحمه الله: قوله: "إنما الأرض لله ورسوله": معناه: مِلْكُها، والحكم فيها، وإنما قال لهم هذا؛ لأنهم حاربوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما ذكره ابن عمر رضي الله عنهما في روايته التي ذكرها مسلم بعد هذه. انتهى
(4)
.
(1)
"الفتح" 16/ 224، كتاب "الإكراه" رقم (6944).
(2)
"الفتح" 7/ 461، كتاب "الجزية" رقم (3168).
(3)
"عمدة القاري" 15/ 90.
(4)
"شرح النوويّ" 12/ 90 - 91.
وقال في "الفتح": قال الداوديّ: "لله" افتتاح كلام، و"لرسوله" حقيقةٌ؛ لأنَّها مما لَمْ يوجف المسلمون عليه بخيل، ولا ركاب، كذا قال، والظاهر ما قال غيره: إن المراد أن الحكم لله تعالى في ذلك، ولرسوله صلى الله عليه وسلم؛ لكونه المبلِّغ عنه، القائم بتنفيذ أوامره. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، واليه المرجع والمآب.
مسائل تتعلق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متَّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [20/ 4581](1765)، و (البخاريّ) في "الجزية"(3167) و "الإكراه"(6944) و"الاعتصام"(7348)، و (أبو داود) في "سننه"(3003)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(5/ 210)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 451)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 259)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(9/ 208)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان ما كان عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم من شدّة عنايته بدعوة اليهود إلى الإسلام، وشدّة عتوّهم وعنادهم عن الحقّ.
2 -
(ومنها): بيان أن الأرض وما عليها لله عز وجل، ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وللمؤمنين، وليس لليهود، ولا لغيرهم من أهل الكفر فيها حقّ، فلذا سُمّي ما يحصل للمسلمين من قِبَل الكفّار من الأموال فيئًا؛ لأنه رجع إلى محلّه الأصليّ، ممن اغتصبه وأخذه قهرًا، كما قال تعالى:{قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} الآية [الأعراف: 32].
3 -
(ومنها): استحباب تجنيس الكلام؛ كقوله صلى الله عليه وسلم: "أسلموا تسلموا"، وهو من بديع الكلام، وأنواع الفصاحة، وهو من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم.
4 -
(ومنها): ما قال القرطبيّ رحمه الله: إن قوله صلى الله عليه وسلم: "من كان له مال
(1)
"الفتح" 16/ 222 - 223، كتاب "الإكراه" رقم (6944).
فليبعه"؛ دليل على أنَّهم كان لهم عهد على نفوسهم، وأموالهم، لا على المقام في أرضهم، ولذلك أجلاهم منها، وهؤلاء هم يهود بني قينقاع، وبنو حارثة، ويهود المدينة المذكورون بعد هذا. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قوله: "هم بنو قينقاع
…
إلخ " فيه نظر لا يخفى - كما تقدّم عن الحافظ - لأنَّ هذه القصّة قد شهدها أبو هريرة رضي الله عنه، وهو ما أسلم إلَّا بعد خيبر، وهؤلاء كان إجلاؤهم قبل خيبر، فلا يصحّ أن يكونوا معنيين بهذه القصّة، اللهمّ إلَّا أن يريد أنهم من بقاياهم، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
5 -
(ومنها): أن من نقض العهد من العدوّ جاز قتله وإجلاؤه من البلد، ولا خلاف فيه إذا حاربوا، أو عاونوا أهل الحرب، قال أبو عبيد: وكذلك لو تيقّن غدرًا أو غشًّا، قال الأوزاعيّ رحمه الله: وكذلك لو اطّلع أهل الحرب على عورة المسلمين، أو آووا عيونهم، وليس هذا نقضًا عند الشافعيّ رحمه الله
(2)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4582]
(1766) - (وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، وَإِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ ابْنُ رَافِعٍ: حَدَّثَنَا، وَقَالَ إِسْحَاقُ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاق، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ يَهُودَ بَنى النَّضِير، وَقُرَيْظَةَ، حَارَبُوا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَجْلَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَنِي النَّضِير، وَأَقَرَّ قُرَيْظَةَ، وَمَنَّ عَلَيْهِمْ، حَتَّى حَارَبَتْ قُرَيْظَةُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَقَتَلَ رِجَالَهُمْ، وَقَسَمَ نِسَاءَهُمْ، وَأَوْلَادَهُمْ، وَأَمْوَالَهُمْ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، إِلَّا أَنَّ بَعْضَهُمْ لَحِقُوا بِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَآمنَهُمْ، وَأَسْلَمُوا، وَأَجْلَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَهُودَ الْمَدِينَة، كُلَّهُمْ بَنِي قَيْنُقَاعَ - وَهُمْ قَوْمُ عَبْدِ اللهِ بْنِ سَلَامٍ - وَيَهُودَ بَني حَارِثَةَ، وَكُلَّ يَهُودِيٍّ كَانَ بِالْمَدِينَةِ).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ) تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
(1)
"المفهم" 3/ 588.
(2)
راجع: "المفهم" 3/ 588.
2 -
(إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ) الْكَوسج التميميّ، أبو يعقوب المروزيّ، ثقةٌ ثبتٌ [11](ت 251)(خ م ت س ق) تقدم في "الإيمان" 12/ 156.
3 -
(عَبْدُ الرَّزَّاقِ) بن همّام الصنعانيّ، تقدّم قبل أربعة أبواب.
4 -
(ابْنُ جُرَيْجٍ) عبد الملك بن عبد العزيز بن جُريج، تقدّم أيضًا قريبًا.
5 -
(مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ) بن أبي عيّاش، تقدَّم قريبًا.
6 -
(نَافِعٌ) مولى ابن عمر، تقدّم قبل بابين.
7 -
(ابْنُ عُمَرَ) عبد الله رضي الله عنهما، تقدَّم أيضًا قبل بابين.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه مسلسل بالمدنيين من موسى بن عقبة، وفيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ: موسى، عن نافع، وفيه ابن عمر رضي الله عنهما أحد العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة، والمشهور بشدّة اتّباعه للآثار، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنِ ابْنِ عُمَرَ) رضي الله عنهما (أَن يَهُودَ بَنِي النَّضِيرِ) بفتح النون، وكسر الضاد المعجمة: هم قبيلة كبيرة من اليهود، (وَقُرَيْظَةَ) بصيغة التصغير، وهم إخوة بني النضير، وهم حيّان من اليهود، كانوا بالمدينة، ويقال: إنهم دخلوا في العرب مع بقائهم في أنسابهم
(1)
.
وقال في "الفتح": وذكر عبد الملك بن يوسف في "كتاب الأنواء" له أنهم كانوا يزعمون أنهم من ذرية شعيب، نبيّ الله عليه السلام، وهو مُحْتَمِلٌ، وأن شعيبًا كان من بني جُذَام القبيلة المشهورة، وهو بعيد جدًّا، وكان توجَّه النبيّ صلى الله عليه وسلم إليهم لسبع بقين من ذي القعدة، وأنه خرج إليهم في ثلاثة آلاف، وذكر ابن سعد أنه كان مع المسلمين ستة وثلاثون فرسًا. انتهى
(2)
.
(حَارَبُوا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم) ذكر ابن إسحاق رحمه الله في قصته أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لمّا أرسل إلى بني النضير أن اخرجوا، وأَجَّلهم عَشْرًا، وأرسل إليهم عبد الله بن
(1)
راجع: "المصباح المنير" 2/ 499.
(2)
"الفتح" 9/ 206، كتاب "المغازي" رقم (4117).
أُبَيّ يثبّطهم، أرسلوا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم: إنا لا نخرج، فاصنع ما بدا لك، فقال:"الله أكبر، حاربت يهود"، فخرج إليهم، فخذلهم ابن أُبَيّ، ولم تُعِنْهم قريظة.
وروى عبد بن حميد في "تفسيره"، من طريق عكرمة: أن غزوة بني النضير كانت صبيحة قتل كعب بن الأشرف؛ يعني: الآتي ذكره
(1)
.
[تنبيه]: قال في "الفتح": كان الكفار بعد الهجرة مع النبيّ صلى الله عليه وسلم على ثلاثة أقسام:
قسم وادعهم على أنَّ لا يحاربوه، ولا يمالئوا عليه عدوّه، وهم طوائف اليهود الثلاثة: قريظة، والنضير، وقينقاع.
وقسم حاربوه، ونصبوا له العداوة، كقريش.
وقسم تاركوه، وانتظروا ما يئول إليه أمره؛ كطوائف من العرب، فمنهم من كان يحبّ ظهوره في الباطن؛ كخزاعة، وبالعكس كبني بكر، ومنهم من كان معه ظاهرًا، ومع عدوه باطنًا، وهم المنافقون. فكان أول من نقض العهد من اليهود بنو قينقاع، فحاربهم في شوال بعد وقعة بدر، فنزلوا على حكمه، وأراد قتلهم، فاستوهبهم منه عبد الله بن أُبَيّ، وكانوا حلفاءه، فوهبهم له، وأخرجهم من المدينة إلى أذرعات، ثم نقض العهد بنو النضير، وكان رئيسهم حُيَيّ بن أخطب، ثم نقضت قريظة. انتهى
(2)
.
(فَأَجْلَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) قال الفيّوميّ رحمه الله: جَلَوْتُ عن البلد جَلاءً بالفتح، والمدّ: خرجت، وأَجْلَيْتُ بالألف مثله، ويستعمل الثلاثيّ والرباعيّ متعديين أيضًا، فيقال: جَلَوْتُهُ، وأَجْلَيْتُهُ، والفاعل من الثلاثيّ جَالٍ، مثل قاضٍ، والجماعة: جَالِيَةٌ، ومنه قيل لأهل الذِّمة الذين أجلاهم عمر رضي الله عنه عن جزيرة العرب: جَالِيَةٌ، ثم نُقِلت الجَالِيَةُ إلى الجزية التي أُخذَتْ منهم، ثم استُعملت في كلّ جزية تؤخذ، وإن لَمْ يكن صاحبها جَلا عن وطنه، فيقال: استُعْمِل فلانٌ على الجَالِيَة، والجمع: الجَوَالِي. انتهى
(3)
.
(1)
"الفتح" 9/ 89، كتاب "المغازي" رقم (4028).
(2)
"الفتح" 9/ 85 - 86، كتاب "المغازي" رقم (4028).
(3)
"المصباح المنير" 1/ 106.
(بَنِي النَّضِيرِ)؛ أي: أخرجهم من ديارهم، كما قال الله تعالى:{هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ} الآية [الحشر: 2]، قال البخاريّ رحمه الله: قال الزهريّ: كانت - يعني: قصّة إخراجهم - على رأس ستة أشهر من وقعة بدر قبل وقعة أُحد، وجعله ابن إسحاق بعد بئر معونة وأُحد.
قال في "الفتح": قول الزهريّ المذكور وصله عبد الرزاق في "مصنفه" عن معمر، عن الزهريّ، أتمّ من هذا، ولفظه: عن الزهريّ، وهو في حديثه عن عروة، ثم كانت غزوة بني النضير، وهم طائفة من اليهود، على رأس ستة أشهر من وقعة بدر، وكانت منازلهم، ونخلهم بناحية المدينة، فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزلوا على الجلاء، وعلى أنَّ لهم ما أقلّت الإبل من الأمتعة، والأموال، لا الحلقة - يعني: السلاح - فأنزل الله فيهم: {سَبَّحَ لِلَّهِ} إلى قوله {لِأَوَّلِ الْحَشْرِ} [الحشر: 1، 2] وقاتلهم حتى صالحهم على الجلاء، فأجلاهم إلى الشام، وكانوا من سبطٍ لَمْ يُصبهم جلاء فيما خلا، وكان الله قد كتب عليهم الجلاء، ولولا ذلك لعذّبهم في الدنيا بالقتل والسباء. انتهى
(1)
.
وقد ذكر ابن إسحاق رحمه الله قصّة محاربتهم، وسبب إجلائهم، فذكر عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم وغيره من أهل العلم، أن عامر بن الطُّفيل أعتق عمرو بن أمية لَمّا قَتَل أهل بئر معونة عن رقبة كانت على أمه، فخرج عمرو إلى المدينة، فصادف رجلين من بني عامر، معهما عقد، وعهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم لَمْ يشعر به عمرو، فقال لهما عمرو: ممن أنتما؟ فذكرا أنهما من بني عامر، فتركهما حتى ناما، فقتلهما عمرو، وظَنّ أنه ظَفِر ببعض ثأر أصحابه، فأَخْبَر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، فقال: لقد قتلت قتيلين لَأُودِيَنَّهما. انتهى.
قال ابن إسحاق: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني النضير يستعينهم في ديتهما، فيما حدّثني يزيد بن رُومان، وكان بين بني النضير وبني عامر عقد، وحِلْف، فلمّا أتاهم يستعينهم، قالوا: نعم، ثم خلا بعضهم ببعض، فقالوا: إنكم لن تجدوه على مثل هذه الحال. قال: وكان جالسًا إلى جانب جدار لهم، فقالوا: مَن رجلٌ يعلو على هذا البيت، فيلقي هذه الصخرة عليه، فيقتله،
(1)
"الفتح" 9/ 85 - 86، كتاب "المغازي" رقم (4028).
ويريحنا منه؟ فانتدب لذلك عمرو بن جحاش بن كعب، فأتاه الخبر من السماء، فقام مظهرًا أنه يقضي حاجة، وقال لأصحابه: لا تبرحوا، ورجع مسرعًا إلى المدينة، واستبطأه أصحابه، فأُخبروا أنه توجه إلى المدينة، فلحقوا به، فأمر بحربهم، والمسير إليهم، فتحصّنوا، فأمر بقطع النخل والتحريق.
وذكر ابن إسحاق أنه حاصرهم ست ليال، وكان ناس من المنافقين بَعَثُوا إليهم أن اثبتوا، وتمنّعوا، فإن قوتلتم قاتلنا معكم، فتربصوا، فقذف الله في قلوبهم الرعب، فلم ينصروهم، فسألوا أن يُجْلَوا عن أرضهم، على أنَّ لهم ما حملت الإبل، فصولحوا على ذلك.
وروى البيهقيّ في "الدلائل" من حديث محمد بن مسلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه إلى بني النضير، وأمره أن يؤجلهم في الجلاء ثلاثة أيام.
قال ابن إسحاق: فاحتملوا إلى خيبر، وإلى الشام، قال: فحدّثني عبد الله بن أبي بكر أنهم خَلَّوا الأموال من الخيل والمزارع، فكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصّة، قال ابن إسحاق: ولم يُسْلِم منهم إلَّا يامين بن عمير، وأبو سعيد بن وهب، فأحرزا أموالهما.
وروى ابن مردويه قصة بني النضير بإسناد صحيح إلى معمر، عن الزهريّ، أخبرني عبد الله بن عبد الرَّحمن بن كعب بن مالك، عن رجل من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال: كتب كفار قريش إلى عبد الله بن أُبَيّ وغيره ممن يعبد الأوثان قبل بدر يُهَدِّدونهم بإيوائهم النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ويتوعدونهم أن يغزوهم بجميع العرب، فَهَمّ ابن أُبَيّ ومن معه بقتال المسلمين، فأتاهم النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: ما كادكم أحد بمثل ما كادتكم قريش، يريدون أن تُلْقُوا بأسكم بينكم، فلما سمعوا ذلك عرفوا الحقّ، فتفرقوا، فلما كانت وقعة بدر كتبت كفار قريش بعدها إلى اليهود: إنكم أهل الحلقة والحصون، يتهددونهم، فاجمع بنو النضير على الغدر، فارسلوا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم: اخرُجْ إلينا في ثلاثة من أصحابك، ويلقاك ثلاثة من علمائنا، فإن أَمنوا بك اتّبعناك، ففعل، فاشتمل اليهود الثلاثة على الخناجر، فأرسلت امرأة من بني النضير إلى أخ لها من الأنصار مسلم تخبره بأمر بني النضير، فأخبر أخوها النبيّ صلى الله عليه وسلم قبل أن يَصِلَ إليهم، فرجع، وصَبَّحَهم بالكتائب، فحصرهم يومه، ثم غدا علي بني قريظة، فحاصرهم، فعاهدوه،
فانصرف عنهم إلى بني النضير، فقاتلهم حتى نزلوا على الجلاء، وعلى أنَّ لهم ما أقلّت الإبل، إلَّا السلاح، فاحتملوا حتى أبواب بيوتهم، فكانوا يُخْرِبون بيوتهم بأيديهم، فيهدمونها، ويحملون ما يوافقهم من خشبها، وكان جلاؤهم ذلك أول حشر الناس إلى الشام، وكذا أخرجه عبد بن حميد في "تفسيره" عن عبد الرزاق، وفي ذلك ردّ على ابن التين في زعمه أنه ليس في هذه القصّة حديث بإسناد.
قال الحافظ: فهذا أقوى مما ذكر ابن إسحاق، من أن سبب غزوة بني النضير طَلَبه صلى الله عليه وسلم أن يُعِينوه في دية الرجلين، لكن وافق ابنّ إسحاق جلُّ أهل المغازي، فالله أعلم.
وإذا ثبت أن سبب إجلاء بني النضير ما ذُكِر من همَّهم بالغدر به صلى الله عليه وسلم، وهو إنما وقع عندما جاء إليهم ليستعين بهم في دية قتيلي عمرو بن أمية، تعيَّن ما قال ابن إسحاق؛ لأنَّ بئر معونة كانت بعد أُحد بالاتفاق، وأغرب السهيليّ، فرجّح ما قال الزهريّ، ولولا ما ذُكر في قصة عمرو بن أمية، لأمكن أن يكون ذلك في غزوة الرجيع، والله أعلم. انتهى
(1)
.
(وَأقَرَّ قُرَيْظَةَ)؛ أي: تركهم في ديارهم، ولم يُخرجهم كما أخرج النضير، (وَمَنَّ عَلَيْهِمْ) بسبب أن عبد الله بن أُبَيّ استوهبهم منه صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم حلفاؤه، فوهبهم له، (حَتَّى حَارَبَتْ قُرَيْظَةُ) ذكر ابن سعد من طريق سليمان بن المغيرة، عن حميد بن هلال: "كان بين بني قريظة وبين النبيّ صلى الله عليه وسلم عهد، فلما جاءت الأحزاب نقضوه، وظاهروهم، فلما هَزَم الله عز وجل، الأحزاب تحصَّنوا، فجاء جبريل، ومن معه من الملائكة، فقال: يا رسول الله انْهَضْ إلى بني قريظة، فقال: إن في أصحابي جَهْدًا، قال: انهض إليهم، فلأُضعضعنّهم، قال: فأدبر جبريل، ومن معه من الملائكة، حتى سطع الغبار في زُقاق بني غنم من الأنصار، وقوله:(بَعْدَ ذَلِكَ)؛ أي: المنّ المذكور؛ يعني: أن إقراره صلى الله عليه وسلم، ومَنّه عليهم إلى أن حاربوا، (فَقَتَلَ رِجَالَهُمْ)؛ أي: فلما حاربوا رسول الله صلى الله عليه وسلم حاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسة وعشرين يومًا حتى جهدهم الحصار، وقَذَف الله
(1)
"الفتح" 9/ 87 - 88، كتاب "المغازي" رقم (4028).
في قلوبهم الرعب، فنزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقتل رجالهم (وَقَسَمَ نِسَاءَهُمْ، وَأَوْلَادَهُمْ، وَأَمْوَالَهُمْ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ)؛ أي: بعدما أخرج الخمس، فأعطى للفارس ثلاثة أسهم: سهمين للفرس، وسهمًا لفارسه، وسهمًا للراجل، وكانت الخيل ستة وثلاثين.
(إِلَّا أَنَّ بَعْضَهُمْ)؛ أي: بعض بني قريظة (لَحِقُوا) بكسر الحاء المهملة، من باب تَعِبَ، (بِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) عدّاه بالباء؛ لأنه يجوز أن يتعدّى به، وبنفسه، يقال: لَحِقته، ولَحِقت به أَلْحَقُ، لَحَاقًا بالفتح: أدركته، وألحقته بالألف مثله، قاله الفيّوميّ
(1)
.
وقوله: (فَآمَنَهُمْ) بالمدِّ؛ أي: أعطاهم الأمان، وقوله:(وَأَسْلَمُوا) من عَطْف السبب على المسبّب، فإن سبب إعطائهم الأمان هو إسلامهم، (وَأَجْلَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَهُودَ الْمَدِينَة، كُلَّهُمْ)، وقوله:(بَنِي قَيْنُقَاعَ) منصوب على البدليّة من "يهود المدينة"، ونون قينقاع مثلّثة، والأشهر فيها الضمّ، (وَهُمْ قَوْمُ عَبْدِ اللهِ بْنِ سَلَامٍ) رضي الله عنه، وهم أول من نقض العهد من اليهود، وأول من أُخرج من المدينة كما تقدم قريبًا.
وروى ابن إسحاق في "المغازي" عن أبيه، عن عبادة بن الوليد، عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه، قال: لَمّا حاربت بنو قينقاع، قام بأمرهم عبد الله بن أُبَيّ، فمشى عبادة بن الصامت، وكان له من حلفهم مثل الذي لعبد الله بن أُبَيّ، فتبرأ عبادة منهم، قال: فنزلت: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} إلى قوله: {يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ} الآية [المائدة: 51 - 52]، وكان عبد الله بن أُبيّ لمّا سأل النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يَمُنّ عليهم، قال: يا محمد إنهم منعوني من الأسود والأحمر، وإني امرؤ أخشى الدوائر، فوهبهم له.
وذكر الواقديّ أن إجلاءهم كان في شوال سنة اثنتين - يعني: بعد بدر بشهر - ويؤيده ما روى ابن إسحاق بإسناد حسن، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشًا يوم بدر، جمع يهود في سوق بني قينقاع، فقال: يا يهود أسلموا قبل أن يصيبكم ما أصاب قريشًا يوم بدر، فقالوا: إنهم كانوا لا
(1)
"المصباح المنير" 2/ 550.
يعرفون القتال، ولو قاتلتنا لعرفت أنّا الرجال، فأنزل الله تعالى:{قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ} إلى قوله: {لِأُولِي الْأَبْصَارِ} [آل عمران: 12، 13].
وأغرب الحاكم، فزعم أن إجلاء بني قينقاع، وإجلاء بني النضير، كان في زمن واحد، ولم يوافَق على ذلك؛ لأنَّ إجلاء بني النضير كان بعد بدر بستة أشهر، على قول عروة، أو بعد ذلك بمدة طويلة، على قول ابن إسحاق، قاله في "الفتح"
(1)
.
وقال ابن إسحاق: وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة: أن بني قينقاع كانوا أول يهود نقضوا ما بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحاربوا فيما بين بدر وأُحد، قال ابن هشام: وذكر عبد الله بن جعفر بن المسور بن مخرمة، عن أبي عون قال: كان من أمر بني قينقاع أن امرأة من العرب قدمت بجَلَب لها، فباعته بسوق بني قينقاع، وجلست إلى صائغ بها، فجعلوا يريدونها على كشف وجهها، فأبت، فعمد الصائغ إلى طرف ثوبها فعقده إلى ظهرها، فلما قامت انكشفت سوءتها، فضحكوا بها، فصاحت، فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله، وكان يهوديًّا، وشدّت اليهود على المسلم، فقتلوه، فاستصرخ أهل المسلم المسلمين على اليهود، فغضب المسلمون، فوقع الشر بينهم وبين بني قينقاع، واستعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم على المدينة في محاصرته إياهم بشير بن عبد المنذر، وكانت محاصرته إياهم خمس عشرة ليلة.
قال ابن إسحاق: وحدّثني أبي إسحاقُ بن يسار، عن عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت، قال: لمَّا حاربت بنو قينقاع رسول الله صلى الله عليه وسلم تشبّث بأمرهم عبد الله بن أُبَيِّ ابن سَلُول، وقام دونهم، ومشى عبادة بن الصامت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أحد بني عوف لهم من حِلْفه مثل الذي لهم من عبد الله بن أبيّ، فخلعهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتبرأ إلى الله وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم من حِلْفهم، وقال: يا رسول الله أتولى الله رسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، وأبرأ من حلف هؤلاء الكفار، وولايتهم، قال: ففيه وفي عبد الله بن أُبَيّ نزلت هذه القصة من المائدة: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ
(1)
"الفتح" 9/ 87 - 88، كتاب "المغازي" رقم (4028).
مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} [المائدة: 51، 52]؛ أي: لعبد الله ابن أُبَيّ وقوله: "إني أخشى الدوائر"، {يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (52) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} [المائدة: 52، 53]، ثم القصة إلى قوله تعالى:{إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55)} [المائدة: 55]، وذَكَر لتولّي عبادة بن الصامت الله ورسوله والذين آمنوا وتبرّئه من بني قينقاع وحِلْفهم وولايتهم:{وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (56)} [المائدة: 56]. انتهى
(1)
.
(وَيَهُودَ بَنِي حَارِثَةَ)، وقوله:(وَكُلَّ يَهُودِيٍّ كَانَ بِالْمَدِينَةِ) هذا من باب التعميم بعد التخصيص، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [20/ 4582 و 4583](1766)، و (البخاريّ) في "المغازي"(4028)، و (أبو داود) في "الخراج"(3005)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(6/ 54 و 10/ 358)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 149)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(1/ 277)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 259 و 260)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(6/ 323 و 9/ 63)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان إجلاء اليهود من المدينة؛ لاعتدائهم بنقض العهود.
2 -
(ومنها): بيان شدّة عداوة اليهود للمسلمين، كما قال الله عز وجل:{لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ} الآية [المائدة: 82].
3 -
(ومنها): بيان أن المعاهَد، والذميّ إذا نقض العهد صار حربيًّا،
(1)
"سيرة ابن هشام" 3/ 316.
وجَرَت عليه أحكام أهل الحرب، وللإمام سبي من أراد منهم، وله المنّ على من أراد.
4 -
(ومنها): أنه إذا منّ على ناقض العهد، ثم ظهرت منه محاربة انتقض عهده، وإنما ينفع المنّ فيما مضي، لا فيما يُستقبل، فكانت قريظة في أمان، ثم حاربوا النبيّ صلى الله عليه وسلم، ونقضوا العهد، وظاهروا قريشًا على قتال النبيّ صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى:{وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا (26)} إلى آخر الآية الأخرى [الأحزاب: 26]، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى المؤلِّف رحمه الله أَوَّل الكتاب قال:
[4583]
(
…
) - (وَحَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِر، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي حَفْصُ بْنُ مَيْسَرَةَ، عَنْ مُوسَى، بِهَذَا الإِسْنَاد، هَذَا الْحَدِيثَ، وَحَدِيثُ ابْنُ جُرَيْجٍ أَكْثَرُ، وَأَتَمُّ).
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(أَبُو الطَّاهِرِ) أحمد بن عمرو بن السرح المصريّ، تقدّم قريبًا.
2 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْبٍ) الحافظ العابد الفقيه المصريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
3 -
(حَفْصُ بْنُ مَيْسَرَةَ) الْعُقيليّ، أبو عمر الصنعانيّ، نزيل عسقلان، ثقةٌ ربّما وَهِمَ [8](ت 181)(خ م مد س ق) تقدم في "الإيمان" 87/ 461.
و"موسى بن عقبة" ذُكر قبله.
وقوله: (وَحَدِيثُ ابْنُ جُرَيْجٍ أَكْثَرُ، وَأَتَمُّ)؛ يعني: أن حديث ابن جريجٍ الماضي أكثر، وأتمّ من حديث حفص بن ميسرة، كما يظهر لك الفرق بينهما في التنبيه التالي.
[تنبيه]: رواية حفص بن ميسرة، عن موسى بن عقبة هذه ساقها أبو عوانة رحمه الله في "مسنده"، فقال:
(6702)
- حدّثنا يونس بن عبد الأعلى، في المغازي، قال: أنبأ ابن وهب، قال: حدّثني حفص بن ميسرة، عن موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما، أن يهود بني النضير، وقريظة، قَتَلَ رجالهم، وقسم نساؤهم،
وأموالهم، وأولادهم بين المسلمين، إلَّا أن بعضهم لَحِقُوا برسول الله صلى الله عليه وسلم، فآمنهم، وأسلموا، وأجلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يهود المدينة كلهم، من بني قينقاع، وهم قوم عبد الله بن سلام رضي الله عنه، ويهود بني حارثة، وكلَّ يهوديّ كان بالمدينة. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم.
(21) - (بَابُ إِخْرَاجِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ)
[4584]
(1767) - (وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا الضَّحَّاكُ بْنُ مَخْلَدٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ (ح) وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ - وَاللّفْظُ لَه - حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَاق، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْر، أنهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ يَقُولُ: أَخْبَرَنِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّاب، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:"لأُخْرِجَنَّ الْيَهُودَ، وَالنَّصَارَي، مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَب، حَتَّى لَا أَدَعَ إِلَّا مُسْلِمًا").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) تقدّم قريبًا.
2 -
(الضَّحَّاكُ بْنُ مَخْلَدٍ) النبيل، أبو عاصم البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [9](ت 212) أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 129.
3 -
(أَبُو الزُّبَيْرِ) محمد بن مسلم بن تَدْرُس الأسديّ مولاهم المكيّ، صدوق، يدلّس [4](126)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 119.
4 -
(جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) رضي الله عنهما، تقدّم قريبًا.
والباقون تقدَّموا في الباب الماضي.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه مسلسل بالتحديث، والإخبار، والسماع، وفيه تصريح أبي الزبير بالسماع، فإنه مدلّس، وفيه جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، من مشاهير الصحابة رضي الله عنهم، ومن المكثرين السبعة، روى (1540) حديثًا.
(1)
"مسند أبي عوانة" 4/ 259.
شرح الحديث:
عَنْ أبي الزُّبَيْرِ (أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ الله) رضي الله عنهما (يَقُولُ: أَخْبَرَنِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّاب) رضي الله عنه (أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لأُخْرِجَنَّ) اللام هي الموطّئة للقسمَ، و"أخرجنّ" جواب للقسم المقدّر؛ أي: والله لأخرجنّ (الْيَهُودَ، وَالنَّصَارَى، مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ)"الجَزِيرَةُ"، مشتقّة من الْجَزْر، وهو الانحسار، سُمِّيت بذلك؛ لانحسار الماء عنها، يقال: جَزَرَ الماءُ جَزْرًا، من بابي ضَرَبَ، وقَتَلَ: إذا انحسر، وهو رجوعه إلى خلف.
قال الفيّوميّ رحمه الله: وأما "جَزِيرَةُ العَرَب": فقال الأصمعيّ: هي ما بين عَدَنِ أبْيَن إلى أطراف الشام طولًا، وأما العَرض فمن جُدّة، وما والاها، من شاطئ البحر إلى رِيف العراق، وقال أبو عُبيدة: هي ما بين حَفَر أبي موسى إلى أقصى تهامة طولًا، أما العرض فما بين يَبْرِين إلى مُنْقَطَع السماوة، والعاليةُ ما فوق نجد إلى أرض تهامة، إلى ما وراء مكة، وما كان دون ذلك إلى أرض العراق، فهو نجد، ونَقَل البكريّ أن جزيرة العرب: مكة، والمدينة، واليمن، واليمامة، وقال بعضهم: جَزِيرَةُ العَرَبِ: خمسة أقسام: تهامةَ، ونجد، وحِجازٍ، وعَروضٍ، وَيمَنٍ، فأما تِهَامَةُ: فهي الناحية الجنوبية من الحجاز، وأما نَجْدٌ: فهي الناحية التي بين الحجاز والعراق، وأما الحِجَازُ: فهو جبل يُقْبِل من اليمن حتى يتصل بالشام، وفيه المدينة، وعمان، وسُمّي حجازًا؛ لأنه حجز بين نجد وتهامة، وأما العَروض: فهو اليمامة إلى البحرين، وأما اليمن، فهو أعلى من تهامة، وهذا قريب من قول الأصمعيّ. انتهى
(1)
.
وقال أبو عمر بن عبد البرّ رحمه الله: قال بعض أهل العلم: إنما سُمّي الحجاز حجازًا؛ لأنه حجر بين تهامة ونجد، وإنما قيل لبلاد العرب: جزيرة؛ لإحاطة البحر، والأنهار بها، من أقطارها، وأطرارها، فصاروا فيها في مثل جزيرة من جزائر البحر. انتهى
(2)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قال الخليل: جزيرة العرب: معدنها، ومسكنها، وإنما قيل لها: جزيرة العرب؛ لأنَّ بحر الحبش، وبحر فارس، ودجلة،
(1)
"المصباح المنير" 1/ 98 - 99.
(2)
"التمهيد" 1/ 173.
والفرات، قد أحاطت بها. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قد تقدّم هذا البحث بأتمّ مما هنا في "كتاب الوصيّة" برقم [6/ 4224](1637)، فراجعه تزدد علمًا، والله تعالى وليّ التوفيق.
(حَتَّى لَا أَدَعَ)؛ أي: لا أترك في الجزيرة (إِلَّا مُسْلِمًا")، وفي رواية ابن حبّان:"لئن عشتُ إن شاء الله، لأخرجنّ اليهود، والنصارى من جزيرة العرب، حتى لا يبقى فيها إلَّا مسلم". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عمر رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [21/ 4584 و 4585](1767)، و (أبو داود) في "الخراج"(303)، و (الترمذيّ) في "السير"(1606 و 1607)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(5/ 210)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(9985)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(12/ 345)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 29 و 3/ 345)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(1/ 278)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(3753)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 156 و 260)، و (البزّار) في "مسنده"(1/ 348 و 351)، و (الطحاويّ) في "مشكل الآثار"(4/ 12)، و (الحاكم) في "المستدرك"(4/ 274)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(9/ 207)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(2756)، والله تعالى أعلم.
[ننبيه]: قول صاحب "تكملة فتح الملهم": "هذا الحديث لَمْ يُخرجه من أصحاب الكتب الست إلَّا مسلم" غير صحيح، فقد عرفت أنه أخرجه أبو داود، والترمذي، والنسائي في "الكبرى"، وغيرهم، فتنبّه، والله تعالى وليّ التوفيق.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان شدّة عناية النبيّ صلى الله عليه وسلم بإبعاد الكفر وأهله عن أرض
(1)
"المفهم" 3/ 589.
العرب التي هي مهد الرسالة، ومهبط الوحي، ومحل تنزّل الملائكة.
2 -
(ومنها): بيان شرف الجزيرة العربيّة، وأنها أشرف البقاع على الإطلاق؛ لاحتوائها على الحرمين الشريفين، مهبط الوحي، ومهد الرسول صلى الله عليه وسلم.
3 -
(ومنها): أنه لا يجوز سكنى الجزيرة العربية للكافر، قال العلامة ابن قُدامة رحمه الله: لا يجوز لأحد من المشركين سكنى الحجاز، وبهذا قال مالك، والشافعيّ، إلَّا أن مالكًا قال: أرى أن يُجْلَوا من أرض العرب كلها؛ لأنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يجتمع دينان في جزيرة العرب"، ولحديث عمر رضي الله عنه، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"لأخرجنّ اليهود والنصارى من جزيرة العرب، فلا أترك فيها إلَّا مسلمًا"، رواه مسلم، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال:"أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم بثلاثة أشياء: قال: أخرجوا المشركين من جزيرة العرب، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم" وسكت عن الثالث، متّفقٌ عليه.
قال: وقال أحمد: جزيرة العرب: المدينة، وما والاها؛ يعني: أن الممنوع من سكنى الكفار: المدينة، وما والاها، وهو مكة، واليمامة، وخيبر، ويُنبع، وفدك، ومخاليفها، وما والاها، وهذا قول الشافعيّ؛ لأنهم لَمْ يُجْلَوا من تيماء، ولا من اليمن. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلِّف رحمه الله أَوَّل الكتاب قال:
[4585]
(
…
) - (وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ (ح) وَحَدَّثَنِي سَلَمَةُ بْنُ شَبِيبٍ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَعْيَنَ، حَدَّثَنَا مَعْقِل - وَهُوَ ابْنُ عُبَيْدِ اللهِ - كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي الزُّبَيْر، بِهَذَا الْإِسْنَاد، مِثْلَهُ).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(رَوْحُ بْنُ عُبادَةَ) بن العلاء بن حسّان القيسيّ، أبو محمد البصريّ، ثقةٌ فاضلٌ، له تصانيف [9](ت 5 أو 207)(ع) تقدم في "الإيمان" 90/ 476.
2 -
(سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ) هو: ابن سعيد بن مسروق، أبو عبد الله الكوفيّ،
(1)
"المغني" 10/ 603.
ثقةٌ ثبتٌ حجة فقيه عابد إمام، من رؤوس [7](161)(ع) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.
3 -
(سَلَمَةُ بْنُ شَبِيبٍ) المِسْمَعي النيسابوريّ، نزيل مكة، ثقةٌ، من كبار [11] مات سنة بضع و (240)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 60.
4 -
(الْحَسَنُ بْنُ أَعْيَنَ) هو: الحسن بن محمد بن أعين الحرّانيّ، أبو عليّ، نسب لجدّه، صدوقٌ [9](ت 210)(خ م س) تقدم في "الإيمان" 4/ 119.
5 -
(مَعْقِلُ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ) الْجَزَريّ، أبو عبد الله الْعَبسيّ مولاهم، صدوقٌ يُخطئ [8](ت 166)(م د س) تقدم في "الإيمان" 4/ 119.
والباقيان ذُكرا قبله.
وقوله: (كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ) ضمير التثنية لسفيان الثوريّ، ومعقل بن عبيد الله.
[تنبيه]: رواية سفيان الثوريّ، عن أبي الزبير ساقها الترمذيّ رحمه الله في "الكبرى"، فقال:
(1606)
- حدّثنا موسى بن عبد الرَّحمن الكنديّ، حدّثنا زيد بن الْحُبَاب، أخبرنا سفيان الثوريّ، عن أبي الزبير، عن جابر، عن عمر بن الخطاب: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لئن عشت، إن شاء الله، لأخرجنّ اليهود، والنصارى، من جزيرة العرب". انتهى
(1)
.
ورواية معقِل بن عُبيد الله، عن أبي الزبير، ساقها أبو عوانة رحمه الله في "مسنده"، فقال:
(6707)
- حدّثنا محمد بن كثير الحرانيّ، قثنا عبد الرَّحمن بن عمرو الحرانيّ، قال: قرئ على مَعْقِل بن عبيد الله، وأنا حاضر، عن أبي الزبير، عن جابر عن عمر بن الخطاب، سمع النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول:"لأُخرجنّ اليهود، والنصارى، من جزيرة العرب". انتهى
(2)
، والله تعالى أعلم.
(1)
"سنن الترمذيّ" 4/ 156.
(2)
"مسند أبي عوانة" 4/ 261.
(22) - (بَابُ جَوَازِ قِتَالِ مَنْ نَقَضَ الْعَهْدَ، وَجَوَازِ إِنْزَالِ أَهْلِ الْحِصْنِ عَلَى حُكْمِ حَاكِم عَدْلٍ أَهْلٍ لِلْحُكْمِ)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أَوَّل الكتاب قال:
[4586]
(1768) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ - وَأَلْفَاظُهُمْ مُتَقَارِبَةٌ - قَالَ أَبُو بَكْرٍ: حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، عَنْ شُعْبَةَ، وَقَالَ الآخَرَانِ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ - عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا أُمَامَةَ بْنَ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ قَالَ: نَزَلَ أَهْلُ قُرَيْظَةَ عَلَى حُكْمِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى سَعْدٍ، فَأَتَاهُ عَلَى حِمَارٍ، فَلَمَّا دَنَا قَرِيبًا مِنَ الْمَسْجِد، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِلأَنْصَارِ: "قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ - أَوْ خَيْرِكُمْ"، ثُمَّ قَالَ: "إِنَّ هَؤُلَاءِ نَزَلُوا عَلَى حُكْمِكَ"، قَالَ: تَقْتُلُ مُقَاتِلَتَهُمْ، وَتَسْبِي ذُرِّيَّتِهُمْ، قَالَ: فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: (قَضَيْتَ بِحُكْمِ اللهِ - وَرُبَّمَا قَالَ -: قَضَيْتَ بِحُكْمِ الْمَلِكِ"، وَلَمْ يَذْكُرِ ابْنُ الْمُثَنَّى: وَرُبَّمَا قَالَ: "قَضَيْتَ بِحُكْمِ الْمَلِكِ").
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدَّم قريبًا.
2 -
(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) تقدّم قبل بابين.
3 -
(ابْنُ بَشَّارٍ) محمد المعروف ببندار، تقدّم أيضًا قريبًا.
4 -
(مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ) المعروف بغُندر، تقدّم أيضًا قريبًا.
5 -
(شُعْبَةُ) بن الحجّاج الإمام الشهير، تقدّم أيضًا قريبًا.
6 -
(سَعْدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) بن عبد الرَّحمن بن عوف الزهريّ المدنيّ قاضيها، ثقةٌ فاضلٌ عابدٌ [5](ت 125) أو بعدها، وهو ابن (72) سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 31.
7 -
(أَبُو أُمَامَةَ بْنُ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ) اسمه أسعد، معروف بكنيته، معدود في الصحابة لرؤيته، لكنه لَمْ يسمع منه صلى الله عليه وسلم[2](ت 100) وله (92) سنةً (ع) تقدم في "الحيض" 18/ 779.
8 -
(أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ) سعد بن مالك بن سنان رضي الله عنهما، تقدَّم قريبًا.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أن فيه رواية صحابيّ، عن صحابيّ، فأبو أمامة صحابيّ رؤيةً، وهو مشهور بكنيته، وأن شيخيه: ابن المثنّى، وابن بشّار من المشايخ التسعة الذين روى عنهم أصحاب الكتب الستة بلا واسطة، وقد تقدّموا غير مرّة، وأن نصفه الأول مسلسلٌ بالبصريين غير أبي بكر، فكوفيّ، ونصفه الثاني مسلسلٌ بالمدنيين، وفيه أبو سعيد الخدريّ رضي الله عنه من المكثرين السبعة، روى (1170) حديثًا، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ) الزهريّ قاضي المدينة، قال في "الفتح": هكذا رواه شعبة عن سعد بن إبراهيم - يعني: عن أبي أمامة - ورواه محمد بن صالح بن دينار التّمّار المدنيّ، عن سعد بن إبراهيم، فقال: عن عامر بن سعد بن أبي وقاص، عن أبيه، أخرجه النسائيّ، ورواية شعبة أصح، ويَحْتَمِل أن يكون لسعد بن إبراهيم فيه إسنادان. انتهى
(1)
.
وقال في "الفتح" أيضًا في موضع آخر: وحَكَى الدارقطنيّ في "العلل" أن أبا معاوية رواه عن عياض بن عبد الرَّحمن، عن سعد بن إبراهيم، عن أبيه، عن جدّه، والمحفوظ عن سعد، عن أبي أمامة، عن أبي سعيد. انتهى
(2)
.
(قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا أُمَامَةَ بْنَ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ) الأنصاريّ المدنيّ، مشهور بكنيته، وُلد في حياة النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولكن لَمْ يسمع منه، روى عن جَمْع من الصحابة رضي الله عنهم، وكان يُعدّ من أكابر الأنصار، وعلمائهم، وسُمّي باسم جدّه أسعد بن زُرارة، وكُني بكنيته. (قَالَ) أبو أمامة (سَمِعْتُ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ) سعد بن مالك رضي الله عنهما (قَالَ: نَزَلَ أَهْلُ قُرَيْظَةَ عَلَى حُكْمِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ) رضي الله عنه، سيأتي في حديث عائشة رضي الله عنها التاليّ بيان قصّة نزولهم على حكمه.
(1)
"الفتح" 9/ 213، كتاب "المغازي" رقم (4121).
(2)
"الفتح" 14/ 203، كتاب "الاستئذان" رقم (6262).
وسعد بن معاذ رضي الله عنه هو: سعد بن معاذ بن النعمان الأنصاريّ الأشهليّ، أبو عمرو، سيّد الأوس، شَهِدَ بدرًا، واستُشهِد من سهم أصابه بالخندق، ومناقبه كثيرة رضي الله عنه، له عند البخاريّ رواية، وليس له عند مسلم رواية، بل له ذِكْر، كما هنا، فتنبّه.
(فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى سَعْدٍ) رضي الله عنه (فَأَتَاهُ)؛ أي: أتى سعد رضي الله عنه النبيَّ صلى الله عليه وسلم، (عَلَى حِمَارٍ)؛ أي: حمال كونه راكبًا على حمار، (فَلَمَّا دَنَا قَرِيبًا مِنَ الْمَسْجِدِ) قيل: المراد: المسجد الذي كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم أعدّه للصلاة فيه في ديار بني قريظة أيام حصارهم، وليس المراد به المسجد النبويّ بالمدينة، لكن كلام ابن إسحاق يدلُّ على أنَّه كان مقيمًا في مسجد المدينة، حين بعث إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحكم في بني قريظة، فإنه قال:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل سعدًا في خيمة رُفَيدة عند مسجده، وكانت امرأةً تداوي الجرحي، فقال: اجعلوه في خيمتها؛ لأعوده من قريب، فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني قريظة، وحاصرهم، وسأله الأنصار أن ينزلوا على حكم سعد، أرسل إليه، فحملوه على حمار، ووَطّؤوا له، وكان جسيمًا"، فدل قوله:"فلما خرج إلى بني قريظة" أن سعدًا كان في مسجد المدينة، قاله في "الفتح"
(1)
.
وقال القاضي عياض: قال بعضهم: قوله: "دنا من المسجد" كذا هو في البخاريّ، ومسلم، من رواية شعبة، وأراه وهمًا، إن كان أراد مسجد النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ لأنَّ سعد بن معاذ رضي الله عنه جاء منه، فإنه كان فيه، كما صُرِّح به في الرواية الثانية، وإنما كان النبيّ صلى الله عليه وسلم حين أَرسل إلى سعد نازلًا علي بني قريظة، ومن هناك أرسل إلى سعد؛ ليأتيه، فإن كان الراوي أراد مسجدًا اختطه النبيّ صلى الله عليه وسلم هناك كان يصلي فيه مدة مقامه، لَمْ يكن وَهَمًا، قال: والصحيح ما جاء في غير "صحيح مسلم"، "قال: فلما دنا من النبيِّ صلى الله عليه وسلم، أو فلما طلع على النبيّ صلى الله عليه وسلم"، كذا وقع في كتاب ابن أبي شيبة، وسنن أبي داود، فَيَحْتَمِل أن المسجد تصحيف من لفظ الراوي، والله أعلم. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: الحقّ أنه لا وهم في قوله: "دنا من المسجد"؛
(1)
"الفتح" 9/ 213 - 214، كتاب "المغازي" رقم (412).
لأنَّ المراد: المسجد الذي كان يصلي فيه النبيّ صلى الله عليه وسلم أيام حصاره لبني قريظة، وكيف يدّعي الوهم، وقد اتّفق الشيخان عليه، فقد أورداه في "صحيحيهما" بهذا اللفظ:"فلما دنا من المسجد"، لفظ البخاريّ، ولفظ مسلم:"فلما دنا قريبًا من المسجد"، فلا وَهَمَ، فتأمله بالإمعان، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
(قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِلأَنْصَارِ: "قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ)، ووقع في مسند عائشة رضي الله عنها من "مسند أحمد"، من طريق علقمة بن وقاص، عنها، في أثناء حديث طويل:"قال أبو سعيد: فلما طَلَعَ، قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: قوموا إلى سيدكم، فأَنْزِلُوه، فقال عمر: السيد هو الله".
قال القرطبيّ رحمه الله: السيّد: هو المتقدّم على قومه بما فيه من الخصال الحميدة. انتهى
(1)
.
قال القرطبيّ رحمه الله أيضًا: استَدَلّ بهذا الحديث من قال بجواز القيام للفضلاء، والعلماء، إكرامًا لهم، واحترامًا. وإليه مال عياض، وقال: إنما القيام المنهيّ عنه: أن يقام عليه، وهو جالس، وهو الذي أنكره النبيّ صلى الله عليه وسلم على أصحابه، حيث صَلَّوا قيامًا، وهو قاعد للخدش الذي أصابه، فقال لهم:"ما لكم تفعلون فعل فارس والروم، يقومون على ملوكهم وهم قعود"
(2)
، وعليه حُمِل قول عمر بن عبد العزيز: إن تقوموا نقم، وإن تقعدوا نقعد، وإنما يقوم الناس لرب العالمين. وقد رَوَيتُ لعبد الملك جواز قيام الرجل لوالديه، والزوجة لزوجها.
ومذهب مالك: كراهية القيام لأحد مطلقًا، واستُدِلّ له على ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم:"من سرَّه أن يتمثل له الناس قيامًا، فليتبوأ مقعده من النار"
(3)
، وعليه حُمل قول عمر بن عبد العزيز، وقد جاء في كتاب أبي داود مرفوعًا: "لا
(1)
"المفهم" 3/ 593.
(2)
حديث صحيح، رواه ابن ماجة (3836) بلفظ:"لا تفعلوا كما يفعل أهل فارس بعظمائها".
(3)
حديث صحيح، رواه الترمذيّ (2755)، وأبو داود (5229)، وابن أبي شيبة 8/ 398.
تقوموا كما تقوم الأعاجم، يعظم بعضهم بعضًا"
(1)
. ويعتضد هذا: بأن النبيّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يكن يقم له أحد، ولا يقوم هو لأحد، هذا هو المنقول من سيرته، وعليه درج الخلفاء - رضوان الله عليهم - ولو كان القيام لأحد من العظماء مشروعًا، لكان أحق الناس بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخلفاؤه، ولم فلا.
وتأوَّل بعض أصحابنا حديث: "قوموا إلى سيدكم" على أنَّ ذلك مخصوص بسعد، لِمَا تقتضيه تلك الحال المعيَّنة، وقال بعضهم: إنما أمرهم بالقيام له لينزلوه عن الحمار لمرضه، وفيه بُعد، والله تعالى أعلم. انتهى
(2)
.
وقوله: (أَوْ) للشكّ من الراوي؛ أي: أو قال: (خَيْرِكُمْ") بدل "سيّدكم"، قال القاضي عياض رحمه الله: واختلفوا في الذين عناهم النبيّ صلى الله عليه وسلم بقوله: "قوموا إلى سيدكم"، هل هم الأنصار خاصّةً، أم جميع من حضر من المهاجرين معهم؟. انتهى.
(ثُمَّ قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("إِنَّ هَؤُلَاءِ)؛ يعني: أهل قريظة (نَزَلُوا عَلَى حُكْمِكَ") وذلك بعد نزولهم على حكمه صلى الله عليه وسلم، ففي حديث عائشة رضي الله عنها التالي:"فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلوا على حُكمه، فردّ الحكم إلى سعد"، قال القاضي عياض رحمه الله: يُجمع بين الروايتين بأنهم نزلوا على حُكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرَضُوا بردّ الحكم إلى سعد، فنُسِب إليه، قال: والأشهر أن الأوس طلبوا من النبيّ صلى الله عليه وسلم العفو عنهم؛ لأنهم كانوا حلفاءهم، فقال لهم النبيّ صلى الله عليه وسلم:"أما ترضون أن يحكم فيهم رجل منكم؟ "؛ يعني: من الأوس، يُرضيهم بذلك، فرَضُوا به، فردّه إلى سعد بن معاذ الأوسيّ. انتهى
(3)
.
(قَالَ) سعد رضي الله عنه (تَقْتُلُ مُقَاتِلَتَهُمْ) ببناء الفعل للفاعل، وكذا قوله:(وَتَسْبِي ذُرَّيَّتَهُمْ) تقدّم أن الذريّة تُطلق على النساء والصبيان معًا، وفي حديث عائشة رضي الله عنها المذكور:"قال: فإني أحكم فيهم أن تُقتَل المقاتلة، وأن تُسبى النساء، والذرّيّة، وأن تُقسم أموالهم".
قال القرطبيّ رحمه الله: إنما حكم سعد رضي الله عنه فيهم بذلك؛ لعظيم جناياتهم،
(1)
حديث صحيح، رواه أبو داود (5230)، وابن ماجة (3836).
(2)
"المفهم" 3/ 502 - 593.
(3)
راجع: "شرح النوويّ" 12/ 63.
وذلك: أنهم نقضوا ما بينهم وبين النبيّ صلى الله عليه وسلم من العهد، ومالؤوا عليه قريشًا، وقاتلوه، وسبُّوه أقبح سبٍّ، فاستحقوا ذلك - لعنهم الله -، فلمّا حكم فيهم سعد بذلك، أخبره بأنه قد أصاب فيهم حكم الله؛ تنويهًا به، وإخبارًا بفضيلته، وانشراح صدره، وردعًا للقوم الذين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في أن يتركهم، وأن يُحسن فيهم، فإنهم كانوا حلفاءهم، فلما جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم حكمهم إلى سعد انطلق مواليهم إلى سعد، فكلموه في ذلك، وقالوا له: أحسن في مواليك، فلما أكثروا عليه، قال: أما إنه قد آن لسعد ألا تأخذه في الله لومة لائم، فلما سمعوا ذلك يئسوا مما طلبوا منه، وعَزّى بعضهم بعضًا في بني قريظة.
قال: ومن ها هنا تظهر خصوصية سعد بقوله: "قوموا إلى سيدكم"، وإن الأَولى أنه إنما قال ذلك لقومه خاصة دون غيرهم؛ لأنَّ قومه كلهم مالوا إلى إبقاء بني قريظة، والعفو عنهم، إلَّا ما كان منه رضي الله عنه، لا جرم لما مات اهتز له عرش الرَّحمن، وسيأتي بيان معناه، إن شاء الله تعالى.
وفيه دليل لمذهب مالك في تصويب أحد المجتهدين، وأن لله في الوقائع حُكْمًا معيَّنًا، فمن أصابه فهو المصيب، ومن لَمْ يُصبه، فهو المخطيء، لكنه لا إثم عليه إذا اجتهد، وقد تقدَّم هذا المعنى.
وغاية ما في هذا الحديث: أن بعض الوقائع فيها حكم معيَّن لله، لكن من أين يلزم منه أن يكون حكم كلّ واقعة كذلك؟ بل يقال: إنها منقسمة إلى ما لله فيه حكم معيَّن، ومنها ما ليس لله فيه ذلك، وتكميل ذلك في علم الأصول. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قوله: "بل يقال: إنها منقسمة
…
إلخ" هذا فيه نَظَر لا يَخفى، بل الصواب أن لله تعالى حكمًا معيّنًا في كلّ واقعة، من أصابه له أجران، ومن أخطأه لَمْ يأثم إذا بذل اجتهاده، بل يثاب أجرًا واحدًا على اجتهاده، وقد استوفيت البحث في هذا في "التحفة المرضيّة"، و"شرحها" في الأصول، فراجعهما، تستفد علمًا جمًّا، وبالله تعالى التوفيق.
(قَالَ) أبو سعيد رضي الله عنه (فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "قَضَيْتَ بِحُكْمِ اللهِ) سبحانه وتعالى (وَرُبَّمَا
(1)
"المفهم" 3/ 594 - 595.
قَالَ: قَضَيْتَ بِحُكْمِ الْمَلِكِ") بكسر اللام، وهو الله تعالى، وقال النوويّ رحمه الله: قوله: "بحكم الملك": الرواية المشهورة الملك بكسر اللام، وهو الله سبحانه وتعالى، وتؤيدها الروايات التي قال فيها: "لقد حكمت فيهم بحكم الله"، قال القاضي: رويناه في "صحيح مسلم" بكسر اللام، بغير خلاف، قال: وضَبَطه بعضهم في "صحيح البخاري" بكسرها، وفتحها، فإن صح الفتح، فالمراد به جبريل عليه السلام، وتقديره: بالحكم الذي جاء به الملك عن الله تعالى. انتهى
(1)
.
وقال ابن التين: قوله في هذه الرواية: "حكمت فيهم بحكم الملك" ضبطناه في رواية القابسيّ بفتح اللام؛ أي: جبريل فيما أخبر به عن الله، وفي رواية الأصيليّ بكسر اللام؛ أي: بحكم الله؛ أي: صادفت حكم الله. انتهى
(2)
.
وقال في "الفتح": قوله: "وربّما قال: بحكم الملِك"، والشك فيه من أحد رواته، أي اللفظين قال؟ وفي رواية محمد بن صالح المذكورة:"لقد حكمت فيهم اليوم بحكم الله الذي حَكَم به من فوق سبع سماوات".
وفي حديث جابر عند ابن عائذ: "فقال: احكُم فيهم يا سعد، قال: الله ورسوله أحقّ بالحكم، قال: قد أمرك الله تعالى أن تحكم فيهم".
وفي رواية ابن إسحاق، من مرسل علقمة بن وقاص:"لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة"، و"أرقعة" بالقاف: جمع رَقِيع؛ كرغيف وأرغفة، وهو من أسماء السماء، قيل: سُمّيت بذلك؛ لأنَّها رُقِعت بالنجوم.
وهذا كله يَدْفَع ما وقع عند الكرمانيّ "بحكم الملَك" بفتح اللام، وفسَّره بجبريل؛ لأنه الذي يَنزل بالأحكام.
قال السهيليّ: قوله: "من فوق سبع سماوات": معناه: أن الحكم نزل من فوقُ، قال: ومثله قول زينب بنت جحش رضي الله عنها: "زَوّجني الله من نبيّه صلى الله عليه وسلم من فوق سبع سماوات"؛ أي: نزل تزويجها من فوقُ، قال: ولا يستحيل وصفه تعالى بالفوق على المعنى الذي يليق بجلاله، لا على المعنى الذي يسبق إلى
(1)
راجع: "شرح النوويّ" 12/ 64.
(2)
راجع: "الفتح" 14/ 211، كتاب "الاستئذان" رقم (6262).
الوهم من التحديد الذي يفضي إلى التشبيه
(1)
، وبقية الكلام على هذا الحديث في شرح حديث عائشة رضي الله عنها الذي بعده - إن شاء الله تعالى -.
وقوله: (وَلَمْ يَذْكُرِ ابْنُ الْمُثَنَّى: وَرُبَّمَا قَالَ: "قَضَيْتَ بِحُكْمِ الْمَلِكِ")؛ يعني: أن شيخه محمد بن المثنّى لَمْ يذكر في روايته التردّد؛ أي: قوله: "وربما قال
…
إلخ"، وإنما ذكره شيخاه: أبو بكر، وابن بشّار، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه هذا متَّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [22/ 4586 و 4587](1768)، و (البخاريّ) في "الجهاد"(3043) و"المناقب"(3804) و"المغازي"(4121) و"الاستئذان"(6262)، و (أبو داود) في "الأدب"(5215 و 5216)، و (النسائيّ) في "الكبرى"
(1)
قد مضى غير مرّة أن الحقّ إثبات الفوقيّة لله سبحانه وتعالى، كما أثبته لنفسه، في عدّة آيات من كتابه، وكما أثبته رسوله صلى الله عليه وسلم في أحاديثه الصحيحة، وقد زلّ قلم القرطبيّ هنا في شرحه لهذا الحديث، حيث قال: والفوقية هنا راجعة إلى أن الله تعالى أظهر الحكم لمن هناك من ملائكته، أو أثبته في اللوح المحفوظ، ونسبة الفوقية المكانية إلى الله تعالى محال؛ لأنه منزه عن الفوقية، كما هو منزه عن التحتية؛ إذ كلّ ذلك من لوازم الأجرام، وخصائص الأجسام، ويتقدّس عنها الذي ليس كمثله شيء من جميع الأنام. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا المسلك الذي سلكه القرطبيّ مسلك مخالف لما كان عليه السلف، فإن مذهبهم إثبات ما أثبته الله تعالى، أو أثبته رسوله صلى الله عليه وسلم على ظاهره من غير تأويل، ولا تحريف، ولا تمثيل، ولا تشبيه، ولا تعطيل، فنحن نقول بما قال به السلف، فنثبت لله عز وجل من الاستواء على العرش، والنزول إلى سماء الدنيا كلّ ليلة، وقوله عز وجل:{وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22)} [الفجر: 22]، وغير ذلك من سائر الصفات العليّة ما أثبته لنفسه، إثباتًا حقيقيًّا كما ينبغي لجلاله وكماله وننزهه عن مشابهة خلقه، إثباتًا بلا تمثيل، وتنزيهًا بلا تعطيل، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
(118)
، و (ابن أبي شيبة) في "مصنفه"(7/ 374 و 380)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 22 و 71)، و (ابن راهويه) في "مسنده"(2/ 547)، و (عبد بن حُميد) في "مسنده"(1/ 307)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(1188)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(7026)، و (ابن سعد) في "الطبقات"(3/ 424)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 262 و 264)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(5323)، و (البيهقيُّ) في "الكبرى"(6/ 57 - 58 و 9/ 63)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(2718)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): جواز التحكيم في أمور المسلمين، وفي مهماتهم العظام، وقد أجمع العلماء عليه، ولم يخالف فيه إلَّا الخوارج، فإنهم أنكروا على عليّ رضي الله عنه التحكيم، وأقام الحجة عليهم.
2 -
(ومنها): جواز مصالحة أهل قرية، أو حصن على حكم حاكم مسلم عدل صالح للحكم، آمين على هذا الأمر، وعليه الحكم بما فيه مصلحة للمسلمين.
3 -
(ومنها): أن الْمُحَكَّم إذا حكم بين الناس بشيء لزمهم حكمه، ولا يجوز للإمام، ولا لغيره الرجوع عنه، ولهم الرجوع قبل الحكم، والله أعلم، قاله النوويّ
(1)
، وقال ابن المنيّر رحمه الله: يستفاد من الحديث: لزوم حكم المحكّم برضا الخصمين. انتهى
(2)
.
4 -
(ومنها): استحباب أمر الإمام الأعظم بإكرام الكبير من المسلمين، ومشروعية إكرام أهل الفضل في مجلس الإمام الأعظم، والقيام فيه لغيره من أصحابه، وإلزام الناس كافّة بالقيام إلى الكبير منهم، وقد منع من ذلك قوم، قاله ابن بطّال رحمه الله.
وقال النوويّ رحمه الله: فيه إكرام أهل الفضل، وتلقّيهم بالقيام لهم إذا أقبلوا، هكذا احتَجّ به جماهير العلماء لاستحباب القيام، قال القاضي: وليس
(1)
شرح النوويّ " 12/ 92.
(2)
"الفتح" 7/ 293.
هذا من القيام المنهيّ عنه، وإنما ذلك فيمن يقومون عليه، وهو جالس، ويَمْثُلون قيامًا طول جلوسه.
قال النوويّ رحمه الله: القيام للقادم من أهل الفضل مستحب، وقد جاء فيه أحاديث، ولم يصح في النهي عنه شيء صريح. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: هكذا قال النوويّ رحمه الله، وفي قوله: "ولم يصحّ
…
إلخ " نظر، سيأتي تحقيقه في المسألة التالية - إن شاء الله تعالى - وبالله تعالى التوفيق.
(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في حكم القيام للقادم:
ذهب قوم إلى مشروعيّة القيام للقادم، واحتجّوا بحديث الباب.
وذهب قوم إلى المنع من ذلك، واحتجّوا بحديث أبي أمامة رضي الله عنه قال:"خرج علينا النبيّ صلى الله عليه وسلم متوكئًا على عصًا، فقمنا له، فقال: لا تقوموا كما تقوم الأعاجم بعضهم لبعض".
وأجاب عنه الطبريّ بأنه حديث ضعيف، مضطرب السند، فيه من لا يُعْرَف.
واحتجّوا أيضًا بحديث عبد الله بن بُريدة، أن أباه دخل على معاوية، فأخبره أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"مَن أحب أن يتمثّل له الرجال قيامًا، وجبت له النار".
وأجاب عنه الطبريّ بأن هذا الخبر إنما فيه نهيُ من يقام له عن السرور بذلك، لا نهيَ من يقوم له إكرامًا له.
وأجاب عنه ابن قتيبة بأن معناه: من أراد أن يقوم الرجال على رأسه كما يقام بين يدي ملوك الأعاجم، وليس المراد به: نهي الرجل عن القيام لأخيه، إذا سلّم عليه.
واحتَجّ ابن بطال للجواز بما أخرجه النسائيّ، من طريق عائشة بنت طلحة، عن عائشة رضي الله عنها:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رأى فاطمة بنته قد أقبلت، رَحّب بها، ثم قام، فقبّلها، ثم أخذ بيدها، حتى يُجلسها في مكانه".
(1)
"شرح النوويّ" 12/ 93.
قال الحافظ: وحديث عائشة رضي الله عنها هذا أخرجه أبو داود، والترمذيّ، وحسّنه، وصححه ابن حبان، والحاكم، وأصله في "الصحيح"، كما مضى في "المناقب"، وفي "الوفاة النبوية"، لكن ليس فيه ذكر القيام، وترجم له أبو داود:"باب القيام"، وأورد معه فيه حديث أبي سعيد، وكذا صنع البخاريّ في "الأدب المفرد"، وزاد معهما حديث كعب بن مالك في قصّة توبته، وفيه:"فقام إليّ طلحة بن عبيد الله، يُهروِلُ"، وقد أشار إليه في الباب الذي يليه، وحديث أبي أمامة المُبدأ به، أخرجه أبو داود، وابن ماجة، وحديث ابن بريدة أخرجه الحاكم، من رواية حسين المعلِّم، عن عبد الله بن بريدة، عن معاوية، فذكره، وفيه:"ما من رجل يكون على الناس، فيقوم على رأسه الرجال، يحب أن يكثر عنده الخصوم، فيدخل الجَنَّة"، وله طريق أخرى عن معاوية، أخرجه أبو داود، والترمذيّ، وحسَّنه، والبخاريّ في "الأدب المفرد" من طريق أبي مِجْلَز، قال: خرج معاوية على ابن الزبير، وابن عامر، فقام ابن عامر، وجلس ابن الزبير، فقال معاوية لابن عامر: اجلس، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"من أحب أن يتمثل له الرجال قيامًا، فليتبوأ مقعده من النار"، هذا لفظ أبي داود، وأخرجه أحمد من رواية حماد بن سلمة، عن حبيب بن الشهيد، عن أبي مِجْلَز، وأحمد عن إسماعيل ابن علية، عن حبيب مثله، وقال:"العباد" بدل "الرجال"، ومن رواية شعبة، عن حبيب مثله، وزاد فيه:"ولم يقم ابن الزبير، وكان أرزنهما"، قال: فقال: مَهْ؟ فذكر الحديث، وقال فيه:"من أحبّ أن يتمثّل له عباد الله قيامًا"، وأخرجه أيضًا عن مروان بن معاوية، عن حبيب، بلفظ:"خرج معاوية، فقاموا له"، وباقيه كلفظ حماد، وأما الترمذيّ فإنه أخرجه من رواية سفيان الثوريّ، عن حبيب، ولفظه:"خرج معاوية، فقام عبد الله بن الزبير، وابن صفوان، حين رأوه، فقال: اجلسا"، فذكر مثل لفظ حماد، وسفيانُ وإن كان من جبال الحفظ، إلَّا أن العدد الكثير، وفيهم مثل شعبة أولى بأن تكون روايتهم محفوظة من الواحد، وقد اتفقوا على أنَّ ابن الزبير لَمْ يقم، وأما إبدال ابن عامر بابن صفوان، فسَهْل؛ لاحتمال الجمع بأن يكونا معًا وقع لهما ذلك، ويؤيده الإتيان فيه بصيغة الجمع، وفي رواية مروان بن معاوية المذكورة، وقد أشار البخاريّ في "الأدب المفرد" إلى الجمع
المنقول عن ابن قتيبة، فترجم أَوّلًا:"باب قيام الرجل لأخيه"، وأورد الأحاديث الثلاثة التي أشرت إليها، ثم ترجم:"باب قيام الرجل للرجل القاعد"، و"باب مَن كَرِه أن يقعد، ويقوم له الناس"، وأورد فيهما حديث جابر:"اشتكى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فصلّينا وراءه، وهو قاعد، فالتفت إلينا، فرآنا قيامًا، فأشار إلينا، فقعدنا، فلمّا سلّم قال: إن كدتم لتفعلوا فعل فارس والروم، يقومون على ملوكهم، وهم قعود، فلا تفعلوا"، وهو حديث صحيح، أخرجه مسلم، وترجم البخاريّ أيضًا:"قيام الرجل للرجل تعظيمًا"، وأورد فيه حديث معاوية، من طريق أبي مِجلز.
ومحصّل المنقول عن مالك إنكار القيام ما دام الذي يقام لأجله لَمْ يجلس، ولو كان في شغل نفسه، فإنه سئل عن المرأة تبالغ في إكرام زوجها، فتتلقاه، وتنزع ثيابه، وتقف حتى يجلس، فقال: أما التلقي فلا بأس به، وأما القيام حتى يجلس فلا، فإن هذا فعل الجبابرة، وقد أنكره عمر بن عبد العزيز.
وقال الخطابيّ: في حديث الباب: جواز إطلاق السيد على الخيِّر الفاضل، وفيه أن قيام المرءوس للرئيس الفاضل، والإمام العادل، والمتعلم للعالم مستحبّ، وإنما يُكره لمن كان بغير هذه الصفات، ومعنى حديث:"مَن أحبّ أن يقام له"؛ أي: بأن يُلزمهم بالقيام له صفوفًا على طريق الكبر، والنخوة.
ورجَّح المنذريّ ما تقدم من الجمع عن ابن قتيبة، والبخاريّ، وأن القيام المنهيّ عنه أن يقام عليه، وهو جالس.
وقد رَدّ ابن الْقَيِّم في "حاشية السنن" على هذا القول بأن سياق حديث معاوية يدلّ على خلاف ذلك، وإنما يدلّ على أنَّه كَرِه القيام له لَمّا خرج تعظيمًا، ولأن هذا لا يقال له: القيام للرجل، وإنما هو القيام على رأس الرجل، أو عند الرجل، قال: والقيام ينقسم إلى ثلاث مراتب: قيام على رأس الرجل، وهو فعل الجبابرة، وقيام إليه عند قدومه، ولا بأس به، وقيام له عند رؤيته، وهو المتنازَع فيه.
قال الحافظ: وَوَرَد في خصوص القيام على رأس الكبير الجالس ما
أخرجه الطبرانيّ في "الأوسط" عن أنس رضي الله عنه قال: "إنما هَلَك مَن كان قبلكم بأنهم عَظَّموا ملوكهم، بأن قاموا، وهم قعود".
ثم حَكَى المنذريّ قول الطبريّ، وإنه قَصَر النهي على مَن سَرَّه القيام له؛ لِمَا في ذلك من محبة التعاظم، ورؤية منزلة نفسه، وسيأتي ترجيح النوويّ لهذا القول.
ثم نَقَل المنذريّ عن بعض مَن مَنَع ذلك مطلقًا أنه رَدّ الحجة بقصّة سعد بأنه صلى الله عليه وسلم إنما أمرهم بالقيام لسعد؛ لينزلوه عن الحمار؛ لكونه كان مريضًا، قال: وفي ذلك نظرٌ.
قال الحافظ: كأنه لَمْ يقف على مستند هذا القائل، وقد وقع في مسند عائشة رضي الله عنها عند أحمد، من طريق علقمة بن وقاص، عنها، في قصّة غزوة بني قريظة، وقصّة سعد بن معاذ، ومجيئه مطوّلًا، وفيه: قال أبو سعيد: فلما طَلَع، قال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"قوموا إلى سيدكم، فأنزلوه"، وسنده حسن، وهذه الزيادة تَخْدُش في الاستدلال بقصة سعد على مشروعية القيام المتنازع فيه.
وقد احتَجّ به النوويّ في "كتاب القيام"، ونَقَل عن البخاريّ، ومسلم، وأبي داود، أنهم احتجُّوا به، ولفظ مسلم: لا أعلم في قيام الرجل للرجل حديثًا أصحّ من هذا.
وقد اعتَرَض عليه الشيخ أبو عبد الله ابن الحاج، فقال ما ملخصه: لو كان القيام المأمور به لسعد هو المتنازع فيه، لَمَا خَصّ به الأنصار، فإن الأصل في أفعال القُرَب التعميم، ولو كان القيام لسعد على سبيل البرّ والإكرام، لكان هو صلى الله عليه وسلم أوّل من فعله، وأمر به من حضر، من أكابر الصحابة رضي الله عنهم، فلما لَمْ يأمر به، ولا فَعَله، ولا فعلوه دلّ ذلك على أنَّ الأمر بالقيام لغير ما وقع فيه النزاع، وإنما هو ليُنزلوه عن دابته؛ لِمَا كان فيه من المرض، كما جاء في بعض الروايات، ولأن عادة العرب أن القبيلة تخدُم كبيرها، فلذلك خَصّ الأنصار بذلك، دون المهاجرين، مع أن المراد بعض الأنصار، لا كلهم، وهم الأوس منهم؛ لأنَّ سعد بن معاذ كان سيدهم، دون الخزرج، وعلى تقدير تسليم أن القيام المأمور به حينئذ لَمْ يكن للإعانة، فليس هو المتنازَع فيه، بل لأنه غائب قَدِمَ، والقيام للغائب إذا قَدِم مشروع.
قال: ويَحْتَمِل أن يكون القيام المذكور إنما هو لتهنئته بما حصل له من تلك المنزلة الرفيعة، من تحكيمه، والرضا بما يحكم به، والقيامُ لأجل التهنئة مشروع أيضًا.
ثم نقل عن أبي الوليد ابن رشد أن القيام يقع على أربعة أوجه:
الأول: محظور، وهو أن يقع لمن يريد أن يقام إليه تكبّرًا وتعاظُمًا على القائمين إليه.
والثاني: مكروه وهو أن يقع لمن لا يتكبَّر، ولا يتعاظم على القائمين، ولكن يُخْشَى أن يَدْخُل نفْسَه بسبب ذلك ما يُحْذَر، ولمَا فيه من التشبه بالجبابرة.
والثالث: جائز، وهو أن يقع على سبيل البرّ والإكرام لمن لا يريد ذلك، ويؤمَن معه التشبه بالجبابرة.
والرابع: مندوب، وهو أن يقوم لمن قَدِم من سفر فرحًا بقدومه؛ ليسلِّم عليه، أو إلى من تجددت له نعمة، فيهنّئه بحصولها، أو مصيبة، فيعزِّيه بسببها.
وقال التوربشتيّ في "شرح المصابيح": معنى قوله: "قوموا إلى سيدكم"؛ أي: إلى إعانته، وإنزاله من دابته، ولو كان المراد التعظيم لقال: قوموا لسيدكم.
وتعقبه الطيبيّ بأنه لا يلزم من كونه ليس للتعظيم أن لا يكون للإكرام، وما اعتَلَّ به من الفرق بين "إلى"، واللام ضعيف؛ لأن "إلى" في هذا المقام أفخم من اللام؛ كأنه قيل: قوموا، وامشوا إليه تلقيًا وإكرامًا، وهذا مأخوذ من ترتب الحكم على الوصف المناسب المشعر بالعِلِّية، فإن قوله:"سيدكم" علة للقيام له، وذلك لكونه شريفًا عليّ القدر.
وقال البيهقيّ: القيام على وجه البرّ والإكرام جائز، كقيام الأنصار لسعد، وطلحة لكعب، ولا ينبغي لمن يقام له أن يعتقد استحقاقه لذلك، حتى إن تَرَك القيام له حَنِقَ
(1)
عليه، أو عاتبه، أو شكاه، قال أبو عبد الله: وضابط ذلك أن
(1)
بكسر النون، من باب تَعِب: اغتاظ.
كلّ أمر نَدَبَ الشرع المكفَفَ بالمشي إليه، فتأخر حتى قَدِم المأمور لأجله، فالقيام إليه يكون عوضًا عن المشي الذي فات.
واحتجّ النووي أيضًا بقيام طلحة لكعب بن مالك.
وأجاب ابن الحاجّ بأن طلحة إنما قام لتهنئته، ومصافحته، ولذلك لم يحتجّ به البخاريّ للقيام، وإنما أورده في المصافحة، ولو كان قيامه محل النزاع لَمَا انفرد به، فلم يُنْقَل أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قام له، ولا أمَر به، ولا فعله أحد ممن حضر، وإنما انفرد طلحة؛ لقوة المودّة بينهما على ما جرت به العادة أن التهنئة، والبشارة، ونحو ذلك تكون على قدر المودّة، والْخُلْطة، بخلاف السلام، فإنه مشروع على من عَرَفْتَ، ومن لم تَعْرف، والتفاوت في المودّة يقع بسبب التفاوت في الحقوق، وهو أمر معهود.
قال الحافظ: ويَحْتَمِل أن يكون من كان لكعب عنده من المودّة مثل ما عند طلحة لم يَطّلع على وقوع الرضا عن كعب، واطَّلَع عليه طلحة؛ لأن ذلك عَقِب منع الناس من كلامه مطلقًا، وفي قول كعب: لم يقم إليّ من المهاجرين غيره إشارة إلى أنه قام إليه غيره من الأنصار.
ثم قال ابن الحاجّ: وإذا حُمِل فِعل طلحة على محل النزاع لزم أن يكون مَن حَضَر من المهاجرين قد تَرَك المندوب، ولا يُظَنّ بهم ذلك.
واحتجّ النوويّ بحديث عائشة رضي الله عنها المتقدم في حق فاطمة.
وأجاب عنه ابن الحاجّ باحتمال أن يكون القيام لها لأجل إجلاسها في مكانه؛ إكرامًا لها، لا على وجه القيام المتنازَع فيه، ولا سيّما ما عُرِف من ضِيْق بيوتهم، وقِلّة الفُرُش فيها، فكانت إرادة إجلاسه لها في موضعه مستلزمة لقيامه، وأمعن في بسط ذلك.
واحتجّ النووي أيضًا بما أخرجه أبو داود: "أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان جالسًا يومًا، فأقبل أبوه من الرضاعة، فوضع له بعض ثوبه، فجلس عليه، ثم أقبلت أمه، فوضع لها شِقّ ثوبه من الجانب الآخر، ثم أقبل أخوه من الرضاعة، فقام، فأجلسه بين يديه".
واعترضه ابن الحاجّ بأن هذا القيام لو كان محل النزاع لكان الوالدان أولى به من الأخ، وإنما قام للأخ إما لأن يوسع له في الرداء، أو في المجلس.
واحتجّ النووي أيضًا بما أخرجه مالك في قصّة عكرمة بن أبي جهل، أنه لمّا فَرّ إلى اليمن يوم الفتح، ورحلت امرأته إليه، حتى أعادته إلى مكة مسلمًا، فلما رآه النبيّ صلى الله عليه وسلم وثب إليه فرحًا، وما عليه رداء.
وبقيام النبيّ صلى الله عليه وسلم لَمّا قَدِم جعفر من الحبشة، فقال: ما أدري بأيهما أنا أُسَرّ: بقدوم جعفر، أو بفتح خيبر؟.
وبحديث عائشة رضي الله عنها: قَدِم زيد بن حارثة المدينة، والنبيّ صلى الله عليه وسلم في بيتي، فقرع الباب، فقام إليه، فاعتنقه، وقبّله.
وأجاب ابن الحاجّ بأنها ليست من محل النزاع، كما تقدم.
واحتجّ أيضًا بما أخرجه أبو داود، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال:"كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يحدّثنا، فإذا قام قمنا قيامًا حتى نراه قد دخل".
وأجاب ابن الحاجّ بأن قيامهم كان لضرورة الفراغ؛ ليتوجهوا إلى أشغالهم، ولأن بيته كان بابه في المسجد، والمسجد لم يكن واسعًا إذ ذاك، فلا يتأتى أن يستووا قيامًا الا وهو قد دخل.
قال الحافظ: كذا قال، والذي يظهر لي في الجواب أن يقال: لعل سبب تأخيرهم حتى يدخل لِمَا يَحْتَمِل عندهم من أمر يحدُث له حتى لا يحتاج إذا تفرقوا أن يتكلف استدعاءهم، ثم راجعت "سنن أبي داود"، فوجدت في آخر الحديث ما يؤيد ما قلته، وهو قصّة الأعرابيّ الذي جَبَذَ رداءه صلى الله عليه وسلم، فدعا رجلًا، فأمره أن يَحمل له على بعيره تمرًا وشعيرًا، وفي آخره:"ثم التفت إلينا، فقال: انصرفوا رحمكم الله تعالى".
ثم احتجّ النوويّ بعمومات تنزيل الناس منازلهم، وإكرام ذي الشيبة، وتوقير الكبير.
واعترضه ابن الحاجّ بما حاصله: أن القيام على سبيل الإكرام داخل في العمومات المذكورة، لكن محل النزاع قد ثبتٌ النهي عنه، فيُخَصّ من العمومات.
واستدل النوويّ أيضًا بقيام المغيرة بن شعبة على رأس النبيّ صلى الله عليه وسلم بالسيف.
واعترضه ابن الحاجّ بأنه كان بسبب الذبّ عنه في تلك الحالة من أذى من يَقْرُب منه، من المشركين، فليس هو من محل النزاع.
ثم ذكر النوويّ حديث معاوية، وحديث أبي أمامة المتقدِّمَين، وقَدَّم قبل ذلك ما أخرجه الترمذيّ، عن أنس رضي الله عنه قال:"لم يكن شخصٌ أحبّ إليهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا إذا رأوه لم يقوموا؛ لِمَا يعلمون من كراهيته لذلك"، قال الترمذيّ: حسنٌ صحيحٌ غريب، وترجم له:"باب كراهية قيام الرجل للرجل"، وترجم لحديث معاوية:"باب كراهية القيام للناس"، قال النوويّ: وحديث أنس أقرب ما يُحتجّ به.
والجواب عنه من وجهين: أحدهما: أنه خاف عليهم الفتنة، إذا أفرطوا في تعظيمه، فكَرِه قيامهم له؛ لهذا المعنى، كما قال:"لا تُطروني"، ولم يكره قيام بعضهم لبعض، فإنه قد قام لبعضهم، وقاموا لغيره بحضرته، فلم يُنكر عليهم، بل أقرّه، وأَمر به.
ثانيهما: أنه كان بينه وبين أصحابه من الأُنس، وكمال الودّ والصفاء ما لا يَحْتَمِل زيادةً بالإكرام بالقيام، فلم يكن في القيام مقصود، وإن فُرض للإنسان صاحب بهذه الحالة لم يَحتج إلى القيام.
واعترض ابن الحاجّ بأنه لا يتم الجواب الأول، إلا لو سَلَّم أن الصحابة لم يكونوا يقومون لأحد أصلًا، فإذا خصّوه بالقيام له دخل في الإطراء، لكنه قرّر أنهم يفعلون ذلك لغيره، فكيف يَسُوغ لهم أن يفعلوا مع غيره ما لا يُؤمَن معه الإطراء، ويتركوه في حقه؟ فإن كان فِعْلهم ذلك للإكرام، فهو أَولى بالإكرام؛ لأن المنصوص على الأمر بتوقيره فوق غيره، فالظاهر أن قيامهم لغيره إنما كان لضرورة قدوم، أو تهنئة، أو نحو ذلك، من الأسباب المتقدمة، لا على صورة محل النزاع، وأن كراهته لذلك، إنما هي في صورة محل النزاع، أو للمعنى المذموم في حديث معاوية.
قال: والجواب عن الثاني أنه لو عَكَس، فقال: إن كان الصاحب لم تتأكد صحبته له، ولا عُرف قدره فهو معذور بترك القيام، بخلاف من تأكدت صحبته له، وعظمت منزلته منه، وعُرف مقداره، لكان متجهًا، فإنه يتأكد في حقه مزيد البر والإكرام والتوقير، أكثر من غيره، قال: ويلزم على قوله أن مَن
كان أحقّ به، وأقرب منه منزلةً، كان أقلّ توقيرًا له ممن بَعُدَ؛ لأجل الأُنس، وكمال الوُدّ، والواقع في صحيح الأخبار خلاف ذلك، كما وقع في قصة السهو:"وفي القوم أبو بكر، وعمر، فهابا أن يكلماه"، وقد كلمه ذو اليدين، مع بُعد منزلته منه بالنسبة إلى أبي بكر وعمر، قال: ويلزم على هذا أن خواصّ العالم والكبير والرئيس لا يعظمونه، ولا يوقرونه، لا بالقيام، ولا بغيره، بخلاف من بَعُد منه، وهذا خلاف ما عليه عمل السلف والخلف. انتهى كلامه.
وقال النوويّ في الجواب عن حديث معاوية: إن الأصح، والأَولى، بل الذي لا حاجة إلى ما سواه أن معناه: زجرُ المكلَّف أن يحب قيام الناس له، قال: وليس فيه تعرّض للقيام بنهي ولا غيره، وهذا متفق عليه، قال: والمنهي عنه محبة القيام، فلو لم يخطر بباله، فقاموا له، أو لم يقوموا فلا لوم عليه، فإن أحبّ ارتكب التحريم، سواء قاموا، أو لم يقوموا، قال: فلا يصح الاحتجاج به لترك القيام.
فإن قيل: فالقيام سبب للوقوع في المنهيّ عنه.
قلنا: هذا فاسدٌ؛ لأنّا قَدَّمنا أن الوقوع في المنهي عنه يتعلق بالمحبة خاصّةً. انتهى ملخصًا.
قال الحافظ: ولا يخفى ما فيه، واعترضه ابن الحاجّ بأن الصحابيّ الذي تلقّى ذلك من صاحب الشرع قد فَهِمَ منه النهي عن القيام الموقِع للذي يقام له في المحذور، فَصَوَّب فعل من امتنع من القيام، دون من قام، وأقرّوه على ذلك، وكذا قال ابن القيِّم في "حواشي السنن": في سياق حديث معاوية رَدٌّ على من زعم أن النهي إنما هو في حقّ من يقوم الرجال بحضرته؛ لأن معاوية إنما روى الحديث حين خرج، فقاموا له.
ثم ذكر ابن الحاجّ من المفاسد التي تترتب على استعمال القيام أن الشخص صار لا يتمكن فيه من التفصيل بين مَن يُستَحَبّ إكرامه، وبرّه، كأهل الدِّين، والخير، والعلم، أو يجوز؛ كالمستورين، وبين من لا يجوز؛ كالظالم المعلِن بالظلم، أو يُكره، كمن لا يتصف بالعدالة، وله جاه، فلولا اعتياد
القيام ما احتاج أحد أن يقوم لمن يَحرُم إكرامه، أو يُكره، بل جرّ ذلك إلى ارتكاب النهي؛ لِمَا صار يترتب على الترك من الشرّ.
وفي الجملة متى صار ترك القيام يُشعر بالاستهانة، أو يترتب عليه مفسدة امتَنَعَ، وإلى ذلك أشار ابن عبد السلام.
ونقل ابن كثير في "تفسيره" عن بعض المحققين التفصيل فيه، فقال: المحذور أن يُتَّخَذ ديدنًا، كعادة الأعاجم، كما دلّ عليه حديث أنس رضي الله عنه، وأما إن كان لقادم من سفر، أو لحاكم في محل ولايته، فلا بأس به.
قال الحافظ: ويلتحق بذلك ما تقدم في أجوبة ابن الحاج؛ كالتهنئة لمن حدثت له نعمة، أو لإعانة العاجز، أو لتوسيع المجلس، أو غير ذلك، والله أعلم.
وقد قال الغزاليّ: القيام على سبيل الإعظام مكروه، وعلى سبيل الإكرام لا يُكره، وهذا تفصيل حسن. انتهى كلام الحافظ رحمه الله في "الفتح"
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا البحث الطويل من الحافظ رحمه الله بحث نفيسٌ، وتحقيق أنيسٌ، ولقد أجاد رحمه الله حيث ساق ردود ابن الحاجّ على النوويّ حيث كتب رسالة في مشروعيّة القيام، فأقرّ رُدوده كلّها، بل زاد جوابات فيما قصّر فيه في الردّ عليه، كما سبق لك بيان ذلك كلّه في كلامه.
وخلاصة هذا كلّه: أن القيام للإنسان مشروع إذا كان القصد حسنًا؛ كان يقوم لاستقبال قادم من سفر، أو لتهنئة شخص بحدوث نعمة، أو دفع نقمة، أو تعزيته على مصيبة، أو لإعانته، بأن كان عاجزًا، أو لتوسعة مجلس له، أو نحو ذلك من المقاصد الحسنة، وما عدا ذلك فليس مشروعًا، فتأمّله بالإنصاف، والإمعان، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوَّل الكتاب قال:
[4587]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، عَنْ شُعْبَةَ، بِهَذَا الإِسْنَاد، وَقَالَ فِي حَدِيثِهِ: فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَقَدْ حَكَمْتَ فِيهِمْ بِحُكْمِ اللهِ"، وَقَالَ مَرَّةً: "لَقَدْ حَكَمْتَ بِحُكْمِ الْمَلِكِ").
(1)
"الفتح" 14/ 204 - 211 كتاب "الاستئذان" رقم (6262).
رجال هذا الإسناد: ئلاثة:
1 -
(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ) تقدّم قريبًا.
والباقيان ذُكرا في الإسنادين الماضيين.
وقوله: (وَقَالَ في حَدِيثِهِ) فاعل "قال" ضمير عبد الرحمن بن مهديّ. [تنبيه]: رواية عبد الرحمن بن مهديّ، عن شعبة هذه ساقها ابن حبّان رحمه الله في "صحيحه"، فقال:
(7026)
- أخبرنا أحمد بن عليّ بن المثنى، حدّثنا أبو خيثمة، حدّثنا عبد الرحمن بن مهديّ، عن شعبة، عن سعد بن إبراهيم، قال: سمعت أبا أمامة بن سهل، يحدث عن أبي سعيد الخدريّ: أن بني قريظة نزلوا على حكم سعد بن معاذ، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سعد، فجاء على حمار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"قوموا إلى خيركم، أو إلى سيدكم". قال: إن هؤلاء قد نزلوا على حكمك"، قال: فإني أحكم فيهم أن تَقتل مقاتلتهم، وتسبي ذريتهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد حكمت فيهم بحكم الله"، وقال مرّةً: "لقد حكمت بحكم الملِك". انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أول الكتاب قال:
[4588]
(1769) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ الْهَمْدَانِيُّ، كِلَاهُمَا عَنِ ابْنِ نُمَيْرٍ، قَالَ ابْنُ الْعَلَاءِ: حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ أَبِيه، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: أُصِيبَ سَعْدٌ يَوْمَ الْخَنْدَق، رَمَاهُ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ، يُقَالُ لَهُ: ابْنُ الْعَرِقَة، رَمَاهُ فِي الأَكْحَل، فَضَرَبَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَيْمَةً فِي الْمَسْجد، يَعُودُهُ مِنْ قَرِيبٍ، فَلَمَّا رَجَعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْخَنْدَق، وَضَعَ السِّلَاحَ
(2)
، فَاغْتَسَلَ، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ، وَهُوَ يَنْفُضُ رَأسَهُ مِنَ الْغُبَار، فَقَالَ: وَضَعْتَ السِّلَاحَ، وَاللهِ مَا وَضَعْنَاهُ، اخْرُجْ إِلَيْهِمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"فَأَيْنَ؟ "، فَأَشَارَ إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ، فَقَاتَلَهُمْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَنَزَلُوا عَلَى حُكْمِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَرَدَّ
(1)
"صحيح ابن حبان" 15/ 496.
(2)
وفي نسخة: "ووضع السلاح".
رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْحُكْمَ فِيهِمْ إِلَى سَعْدٍ، قَالَ: فَإِنِّي أَحْكُمُ فِيهِمْ أَنْ تُقْتَلَ الْمُقَاتِلَةُ، وَأَنْ تُسْبَى الذُّرِّيَّةُ، وَالنِّسَاءُ، وَتُقْسَمَ أَمْوَالُهُمْ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(أبُو بَكْرِ بْنُ أبِي شَيْبَةَ) تقدّم قبل حديث.
2 -
(مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ الْهَمْدَانِيُّ) أبو كريب، تقدّم قريبًا.
3 -
(ابْنُ نُمَيْرٍ) هو: عبد الله بن نُمير الهمدانيّ، تقدّم قبل أربعة أبواب.
4 -
(هِشَامُ) بن عروة بن الزبير الأسديّ، أبو المنذر المدنيّ، ثقةٌ فقيه، ربّما دلّس [5](ت 5 أو 146) وله (87) سنةً (ع)، تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 350.
5 -
(أَبُوهُ) عروة بن الزبير بن العوّام، تقدّم قبل خمسة أبواب.
6 -
(عَائِشَةُ) أم المؤمنين رضي الله عنها، تقدّمت أيضًا قبل خمسة أبواب.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خماسيّات المصنّف، وأنه مسلسلٌ بالمدنيين من هشام، والباقون كوفيّون، وفيه رواية الراوي عن أبيه، عن خالته، ورواية تابعيّ، عن تابعيّ، وفيه محمد بن العلاء أحد التسعة الذين روى عنهم أصحاب الأصول الستّة بلا واسطة، وفيه عروة أحد الفقهاء السبعة، وفيه عائشة رضي الله عنها من المكثرين السبعة، روت (2210) أحاديث، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ عَائِشَةَ) أم المؤمنين رضي الله عنها أنها (قَالَتْ: أُصِيبَ سَعْدٌ) ببناء الفعل للمفعول؛ أي: ضُرب سعد بن معاذ رضي الله عنه بسهم.
قال في "العمدة": هو سعد بن معاذ، أبو عمرو سيد الأوس، بدريّ كبير، قال أبو نعيم: مات في شوال سنة خمس، وكذا قال ابن إسحاق، ونزل في جنازته سبعون ألف ملك، ما وطئوا الأرض قبلُ، واهتزّ له عرش الرحمن، وفي رواية:"العرش".
[فإن قلت]: ما وجه اهتزاز العرش له؟.
[قلت]: أجيب بأجوبة:
الأول: أنه اهتزّ استبشارًا بقدوم روحه.
الثاني: أن المراد: اهتزاز حملة العرش، ومن عنده من الملائكة.
الثالث: أن المراد بالعرش: الذي وُضِع عليه. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: لا يخفى ضعف القول الثالث، بل بطلانه؛ لأنه صحّ قوله صلى الله عليه وسلم:"اهتزّ عرش الرحمن لموت سعد"، متّفقٌ عليه، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
(يَوْمَ الْخَنْدَقِ)؛ أي: يوم غزوة الخندق، وهي غزوة الأحزاب، سُمّيت بالخندق؛ لأجل الخندق الذي حُفِر حول المدينة بأمر النبيّ صلى الله عليه وسلم، وسُمّيت بالأحزاب؛ لاجتماع طوائف من المشركين على حرب المسلمين، ذكر ابن سعد أنها كانت في ذي القعدة، وذكر موسى بن عقبة أنها في شوال سنة أربع، وقال ابن إسحاق رحمه الله في شوال سنة خمس، وزعم أبو عمر وغيره: أن سعدًا مات بعد الخندق بشهر، وبعد قريظة بليال، قاله في "العمدة"
(2)
.
قال الجامع عفا الله عنه: سيأتي تمام البحث في هذه الغزوة قريبًا في "باب غزوة الأحزاب" - إن شاء الله تعالى -.
(رَمَاهُ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ) قال القرطبيّ رحمه الله في "تفسيره": واختُلِف فيمن رماه، فقيل:
رماه حِبَّان بن قيس بن الْعَرِقة، أحد بني عامر بن لؤيّ، فلمّا أصابه قال له: خُذها، وأنا ابن العَرِقة، فقال له سعد: عَرَّق الله وجهك في النار، وقيل: إن الذي رماه: خفاجة بن عاصم بن حبان، وقيل: بل الذي رماه: أبو أسامة الجشميّ، حليف بني مخزوم. انتهى
(3)
.
قال الجامع عفا الله عنه: ما في "الصحيح" أصحّ، وهو أن الذي رماه هو الذي (يُقَالُ لَهُ: ابْنُ الْعَرِقَةِ) هو: حِبّان - بكسر الحاء المهملة، وتشديد الموحّدة - ابن الْعَرِقَة - بفتح العين المهملة، وكسر الراء، ثمّ قاف - قال
(1)
"عمدة القاري شرح صحيح البخاريّ" 7/ 126.
(2)
"عمدة القاري شرح صحيح البخاريّ" 7/ 127.
(3)
"الجامع لأحكام القرآن" 14/ 135.
النوويّ: قوله: "ابن العرقة: هو بعين مهملة مفتوحة، وراء مكسورة، ثم قاف، قال القاضي: قال أبو عبيد: هي أمه، قال ابن الكلبيّ: اسم هذا الرجل: حِبّان - بكسر الحاء - ابن أبي قيس
(1)
بن علقمة بن عبد مناف بن الحارث بن منقذ بن عمرو بن مَعِيص
(2)
بن عامر بن لُؤيّ بن غالب، قال: واسم الْعَرِقة: قلابة - بقاف مكسورة، وباء موحدة - بنت سعد
(3)
بن سهل بن عبد مناف بن الحارث، وسُمِّيت بالعرقة؛ لطيب ريحها، وكنيتها أم فاطمة. انتهى
(4)
.
(رَمَاهُ فِي الأَكْحَلِ) - بفتح الهمزة، والمهملة، بينهما كاف ساكنة - وهو عِرْق في وسط الذراع، قال الخليل: هو عِرْق الحياة، ويقال: إن في كل عضو منه شُعبة، فهو في اليد: الأكحل، وفي الظهر: الأبهر، وفي الفخذ: النَّسَا، إذا قُطع لم يرقأ الدم. انتهى
(5)
.
قال الجامع عفا الله عنه: نظمت أسماء عِرْق الحياة التي في البَدن، فقلت:
يُقَالُ فِي الْجَسَدِ عِرْقٌ حَيْثُمَا
…
قُطِعَ صَاحِبُهُ مَاتَ أَلَمَا
لَهُ تَشَعُّبٌ بِأَعْضَاءِ الْجَسَدْ
…
فِي كُلِّ عُضْوٍ خُصَّ بِاسْمٍ انْفَرَدْ
فَخُصَّ فِي الْعُنُقِ بِالْوَرِيدِ
…
كَذَلِكَ الْوَدَجُ ذُو تَسْدِيدِ
فِي الظَّهْرِ بِالنِّيَاطِ يُدْعَى وَإِذَا
…
اسْتَبْطَنَ الصُّلْبَ بِأَبْهَرٍ خُذِ
وَذَا بِهِ الْقَلْبُ غَدَا يَتَّصِلُ
…
فِي الْبَطْنِ بِالْوَتِينِ صَارَ يُعْقَلُ
فِي الْيَدِ بِالأَكْحَلِ أَمَّا إِذْ غَدَا
…
فِي الْفَخْذِ بِالنَّسَا بِقَصْرٍ يُقْتَدَى
فِي الْسَّاقِ بِالصَّافِنِ يُدْعَى وَانْتَهَى
…
نَظْمِي لِمَنْ يَرْغَبُ مِنْ ذَوِي النُّهَى
(1)
وقال في "الفتح": وهو حِبّان بن قيس، ويقال: ابن أبي قيس بن علقمة بن عبد مناف.
(2)
بفتح الميم، وكسر العين المهملة، ثم تحتانيّة ساكنة، ثم صاد مهملة، قاله في "الفتح" 9/ 215.
(3)
وفي "الفتح": الْعَرِقة بنت سعيد بن سعد بن سهم.
(4)
"شرح النوويّ" 12/ 94.
(5)
"الفتح" 9/ 215، كتاب "المغازي" رقم (4122).
(فَضَرَبَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَيْمَةً) قال في "العمدة": "ضَرَبَ" يُستعمل لمِعانٍ كثيرة، وأصل التركيب يدلّ على الإيقاع، والباقي يُستعمل، ويُحمل عليه، وههنا المعنى: نَصَب خيمة، وأقامها على أوتاد مضروبة في الأرض، والخيمة: بيت تبنيه العرب من عِيدان الشجر، والجمع خَيْمات، وخِيَمٌ، مثل بَدْرة وبِدَر، والخيم: مثل الخيمة، والجمع خيام، مثل فَرْخ وفِراخ، وعند أبي نعيم الأصبهانيّ:"ضَرب له النبيّ صلى الله عليه وسلم خباء في المسجد"، والخباء واحد الأخبية، من وَبَر، أو صوف، ولا يكون من شَعر، وهو على عمودين، أو ثلاثة، وما فوق ذلك فهو بيت. انتهى
(1)
.
(فِي الْمَسْجِدِ)؛ أي: النبويّ، وقول بعض الشرّاح
(2)
: "أي: في المصلى الذي اتّخذه في ديار بني قريظة" فيه نظر لا يخفى، والصواب ما قدّمته، كما هو ظاهر من سياق القصّة، فإن سعدًا لم يذهب إلى قريظة إلا بعد استدعائه صلى الله عليه وسلم له؛ للحكم عليهم.
ومما يوضّح ذلك رواية أبي عوانة في "مسنده"، ولفظه: "فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم خيمة في المسجد؛ ليداويه، وليعوده من قريب، فلما رجع رسول صلى الله عليه وسلم الله من الخندق، وضع السلاح، ثم اغتسل، فأتاه جبريل عليه السلام، قد عصب رأسه الغبارُ فقال: قد وضعت السلاح، فوالله ما وضعت الملائكة، فاخرج إلى القوم
…
" الحديث
(3)
.
فهذا نصّ في كون ضَرْب الخيمة في المسجد النبويّ، لا في بني قريظة؛ لأنه قَبْل خروجه إليهم قطعًا، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
وقوله: (يَعُودُهُ مِنْ قَرِيبٍ) جملة مستأنفة استئنافًا بيانيًّا، وهو ما وقع جوابًا عن سؤال مقدّر، فكأنه قيل هنا: لماذا ضرب الخيمة في المسجد؟، فأجيب:"يعوده"؛ أي: يزوره من مكان قريب منه صلى الله عليه وسلم، ولفظ البخاريّ:"ليعوده من قريب"، وَيحتمل أن تكون جملة "يعوده" حاليّة.
(فَلَمَّا رَجَعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْخَنْدَق، وَضَعَ السِّلَاحَ)، وفي بعض
(1)
"عمدة القاري شرح صحيح البخاريّ" 7/ 127.
(2)
هو: الشيخ الهرريّ.
(3)
"مسند أبي عوانة" 4/ 262.
النسخ: "ووضع السلاح" بواوين، (فَاغْتَسَلَ، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ) قال في "الفتح" عند قوله: "فلما رجع النبيّ صلى الله عليه وسلم من الخندق، وضع السلاح، واغتسل، فأتاه جبريل" ما نصّه: هذا السياق يُبين أن الواو زائدة في الطريق التي في "الجهاد"، حيث وقع فيه بلفظ:"لمّا رجع يوم الخندق، ووضع السلاح، فأتاه جبريل"، وهو أَولى من دعوى القرطبيّ أن الفاء زائدة، قال: وكأنها زيدت كما زيدت الواو في جواب لَمّا. انتهى، ودعوى زيادة الواو في قوله:"ووضع" أَولى من دعوى زيادة الفاء؛ لكثرة مجيء الواو زائدة، ووقع في أول هذه الغزاة:"لَمّا رجع من الخندق، ووضع السلاح، واغتسل أتاه جبريل"، فمن هنا ادَّعَى القرطبي أن الفاء زائدة.
ووقع عند الطبرانيّ، والبيهقيّ من طريق القاسم بن محمد، عن عائشة رضي الله عنها قالت:"سَلَّم علينا رجل، ونحن في البيت، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فَزِعًا، فقمت في أثره، فإذا بدحية الكلبيّ، فقال: هذا جبريل"، وفي حديث علقمة:"يأمرني أن أذهب إلى بني قريظة"، وذلك لمّا رجع من الخندق، قالت: فكأني برسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح الغبار عن وجه جبريل.
وفي حديث علقمة بن وقاص، عن عائشة، عند أحمد، والطبرانيّ:"فجاءه جبريل، وإن على ثناياه لنقع الغبار"، وفي مرسل يزيد بن الأصم، عند ابن سعد:"فقال له جبريل: عفا الله عنك، وضعت السلاح، ولَمْ تضعه ملائكة الله"، وفي رواية حماد بن سلمة، عن هشام بن عروة، في حديث الباب:"قالت عائشة: لقد رأيته من خلل الباب، قد عَصَب الترابُ رأسه"، وفي رواية جابر، عند ابن عائذ:"فقال: قم، فشُدّ عليك سلاحك، فوالله لأَدُقّنهم دَقّ البِيضِ على الصفا". انتهى"
(1)
.
وقوله: (وَهُوَ يَنْفُضُ رَأْسَهُ مِنَ الْغُبَارِ) جملة في محلّ نصب على الحال من"جبريل"؛ أي: والحال أن جبريل عليه السلام يُحرّك رأسه من الغبار الذي أصابه في الطريق، يقال: نَفَضَه نَفْضًا، من باب نصر: حرّكه؛ ليزول عنه الغبار
(1)
"الفتح" 9/ 215، كتاب "المغازي" رقم (4122).
ونحوه، فانتفض؛ أي: تحرّك لذلك، ونفضتُ الْوَرَقَ من الشجرة نَفْضًا: أسقطته، والنَّفَضُ بفتحتين: ما تساقط، فَعَلٌ بمعنى مفعول
(1)
.
(فَقَالَ) جبريل عليه السلام (وَضَعْتَ السِّلَاحَ) الخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو بتقدير الاستفهام، على جهة الإنكار، كما تقدّم من مرسل يزيد بن الأصمّ بلفظ:"فقال له جبريل: عفا الله عنك وضعت السلاح، ولَمْ تضعه ملائكة الله؟ "(وَاللهِ مَا وَضَعْنَاهُ) يعني الملائكة، وفيه إشارة إلى أن الملائكة أمدّت المسلمين في غزوة الخندق، ثم بعدها في غزوة قريظة، إلا أنه لم يُذكر أنها قاتلت فيها.
(اخْرُجْ إِلَيْهِمْ)؛ أي: إلى قتالهم، (فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، "فَأَيْنَ؟ ")؛ أي: أين القوم الذين أخرج إليهم؟ (فَأَشَارَ اِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ)؛ أي: فانت مأمور بقتالهم؛ لكونهم نقضوا العهد، ومالئوا المشركين، وأمدّوهم في غزوة الأحزاب، وسبب ذلك أنه لمّا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من حفر الخندق أقبلت قريش، في نحو عشرة آلاف بمن معهم من كنانة، وأهل تهامة، وأقبلت غطفان بمن معها، من أهل نجد، حتى نزلوا إلى جانب أُحد، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون حتى نزلوا بظهر سَلْع
(2)
في ثلاثة آلاف، وضربوا عسكرهم، والخندق بينهم وبين المشركين، واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم - في قول ابن شهاب - وخرج عدوّ الله حُيَيّ بن أخطب النَّضْريّ حتى أتى كعب بن أسد الْقُرَظيّ، وكان صاحب عقد بني قريظة، ورئيسهم، وكان قد وادع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعاقده وعاهده، فلما سمع كعب بن أسد حيي بن أخطب أغلق دونه باب حصنه، وأبى أن يفتح له، فقال له: افتح لي يا أخي، فقال له: لا أفتح لك، فإنك رجل مشئوم، تدعوني إلى خلاف محمد، وأنا قد عاقدته وعاهدته، ولم أر منه إلا وفاءً وصدقًا، فلست بناقض ما بيني وبينه.
فقال حيُيّ: افتح لي حتى أكلمك، وأنصرف عنك، فقال: لا أفعل، فقال: إنما تخاف أن آكل معك جَشِيشتك، فغضب كعب، وفتح له، فقال: يا كعب! إنما جئتك بعزّ الدهر، جئتك بقريش وسادتها، وغطفان وقادتها، قد تعاقدوا على أن يستأصلوا محمدًا ومن معه، فقال له كعب: جئتني والله بذلّ
(1)
"المصباح المنير" 2/ 618.
(2)
اسم جبل بالمدينة.
الدهر وبجهام
(1)
لا غيث فيه! ويحك يا حيي، دعني فلست بفاعل ما تدعوني إليه، فلم يزل حيي بكعب يَعِدُه وَيغُرّه حتى رجع إليه وعاقده على خذلان محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وأن يسير معهم، وقال له حيي بن أخطب: إن انصرفت قريش وغطفان دخلت عندك بمن معي من اليهود
…
إلى آخر قصّتهم
(2)
.
(فَقَاتَلَهُمْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) وللبخاريّ: "فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم "؛ أي: فحاصرهم، ورَوَى ابن عائذ من مرسل قتادة، قال:"بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم مناديًا ينادي، فنادى: يا خيل الله اركبي"، وفي رواية أبي الأسود، عن عروة عند الحاكم، والبيهقيّ:"وبعث عليًّا على المقدمة، ودفع إليه اللواء، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أثره"، وعند موسى بن عقبة نحوه، وزاد:"وحاصرهم بضع عشرة ليلة"، وعند ابن سعد:"خمس عشرة"، وفي حديث علقمة بن وقاص المذكور:"خمسًا وعشرين"، ومثلها عند ابن إسحاق، عن أبيه، عن معبد بن كعب:"قال: حاصرهم خمسًا وعشرين ليلة، حتى أجهدهم الحصار، وقذف في قلوبهم الرعب، فعَرَضَ عليهم رئيسهم كعب بن أسد أن يؤمِنوا، أو يقتُلوا نساءهم، وأبناءهم، ويخرجوا مستقتلين، أو يبيّتوا المسلمين ليلة السبت، فقالوا: لا نؤمن، ولا نستحل ليلة السبت، وأيّ عيش لنا بعد أبنائنا ونسائنا؟ فأرسلوا إلى أبي لبابة بن عبد المنذر، وكانوا حلفاءه، فاستشاروه في النزول على حكم النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأشار إلى حَلْقه؛ يعني: الذبح، ثم نَدِمَ، فتوجه إلى مسجد النبيّ صلى الله عليه وسلم، فارتبط به، حتى تاب الله عليه"
(3)
.
(فَنَزَلُوا عَلَى حُكْم رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَرَدَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْحُكْمَ فِيهِمْ إِلَى سَعْدٍ) قال في "الفتح": كأنهم أذعنوا للنزول على حكمه صلى الله عليه وسلم، فلما سأله الأنصار فيهم رَدَّ الحكم إلى سعد، ووقع بيان ذلك عند ابن إسحاق، قال: "لمّا اشتَدَّ بهم الحصار أذعنوا إلى أن ينزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتواثبت الأوس، فقالوا: يا رسول الله قد فعلت في موالي الخزرج - أي: بني قينقاع -
(1)
"الجِهام": سحاب لا ماء فيه.
(2)
راجع: "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبيّ 14/ 131 - 132.
(3)
"الفتح" 9/ 215، كتاب "المغازي" رقم (4122).
ما علمت، فقال: ألا ترضون أن يحكم فيهم رجل منكم؟ قالوا: بلى، قال: فذلك إلى سعد بن معاذ".
وفي كثير من السِّير أنهم نزلوا على حكم سعد، ويُجمع بأنهم نزلوا على حكمه قبل أن يَحكم فيه سعد.
وفي رواية علقمة بن وقاص المذكورة: "فلما اشتد بهم البلاء قيل لهم: انزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما استشاروا أبا لبابة، قال: ننزل على حكم سعد بن معاذ"، ونحوه في حديث جابر، عند ابن عائذ، فحصل في سبب ردّ الحكم إلى سعد بن معاذ أمران: أحدهما: سؤال الأوس، والآخر: إشارة أبي لبابة.
ويَحْتَمِل أن تكون الإشارة إثر توقّفهم، ثم لمّا اشتد الأمر بهم في الحصار عرفوا سؤال الأوس، فأذعنوا إلى النزول على حكم النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأيقنوا بأنه يردّ الحكم إلى سعد.
وفي رواية عليّ بن مسهر، عن هشام بن عروة، عند مسلم:"فرّد الحكم فيهم إلى سعد، وكانوا حلفاءه"
(1)
.
(قَالَ) سعد رضي الله عنه (فَإِنِّي أَحْكُمُ فِيهِمْ)؛ أي: في هذا الأمر، قال في "الفتح": وفي رواية النسفيّ: "وإني أحكم فيهم"، (أَنْ تُقْتَلَ الْمُقَاتِلَةُ) فعل ونائب فاعله، ويَحْتَمِل أن يكون بالبناء للفاعل، وفاعله ضمير النبيّ صلى الله عليه وسلم، و"المقاتلةَ" منصوب على المفعوليّة، وكذا قوله:(وَأَنْ تُسْبَى الذُّرِّيَّةُ)؛ أي: الصبيان الذين لم يبلغوا، (وَالنِّسَاءُ)، وقوله:(وَتُقْسَمَ أَمْوَالُهُمْ) بالبناء للفاعل، أو المفعول؛ كسابقيه.
[تنبيه]: ذكر ابن إسحاق أن بني قريظة حُبسوا في دار بنت الحارث، وفي رواية أبي الأسود، عن عروة: في دار أسامة بن زيد، ويُجمع بينهما بأنهم جُعلوا في بيتين، ووقع في حديث جابر عند ابن عائذ التصريح بأنهم جُعِلوا في بيتين.
(1)
هكذا عزا في "الفتح" رواية عليّ بن مسهر، عن هشام هذه إلى مسلم، ولم أرها عنده، فليُنظر، والله تعالى أعلم.
قال ابن إسحاق: "فَخَندقوا لهم خنادق، فضُربت أعناقهم، فجرى الدم في الخنادق، وقَسَم أموالهم، ونساءهم، وأبناءهم على المسلمين، وأسهم للخيل، فكان أول يوم وقعت فيه السُّهْمان لها".
وعند ابن سعد من مرسل حميد بن هلال: "أن سعد بن معاذ حكم أيضًا أن تكون دارهم للمهاجرين دون الأنصار، فلاموه، فقال: إني أحببت أن تستغنوا عن دُورهم"
(1)
.
[تنبيه آخر]: اختُلف في عَدد بني قريظة، فعند ابن إسحاق: أنهم كانوا ستمائة، وبه جزم أبو عمرو في ترجمة سعد بن معاذ، وعند ابن عائذ من مرسل قتادة: كانوا سبعمائة، وقال السهيليّ: المُكثر يقول: إنهم ما بين الثمانمائة إلى التسعمائة، وفي حديث جابر رضي الله عنه، عند الترمذيّ، والنسائيّ، وابن حبان، بإسناد صحيح: أنهم كانوا أربعمائة مقاتل، فَيَحْتَمِل في طريق الجمع أن يقال: إن الباقين كانوا أتباعًا، وقد حكى ابن إسحاق أنه قيل: إنهم كانوا تسعمائة. انتهى
(2)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والماب.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنف) هنا [22/ 4588 و 4589 و 4590 و 4591](1769)، و (البخاريّ) في "الصلاة"(463) و"المغازي"(4122)، و (أبو داود) في "الجنائز"(3101)، و (النسائيّ) في "المسا جد"(2/ 45) و"الكبرى"(1/ 261)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(7/ 376)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 56)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(7027)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 261)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(3/ 381 و 9/ 97).
(المسألة الثالثة): في فوائده:
(1)
"الفتح" 9/ 216، كتاب "المغازي" رقم (4122).
(2)
"الفتح" 9/ 217، كتاب "المغازي" رقم (4122).
1 -
(منها): جواز ضرب الخباء في المسجد.
2 -
(ومنها): جواز النوم في المسجد.
3 -
(ومنها): جواز مُكث المريض في المسجد، وإن كان جريحًا، يُظنّ منه خروج شيء يتلوّث به المسجد.
وقال القرطبيّ رحمه الله: ويستفاد من ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم الخيمة لسعد رضي الله عنه في المسجد مع ما كان عليه من الجراح والدَّم أن الضرورة، أو الحاجة إذا دعت إلى مثل ذلك جاز، وإن أدَّى إلى تلطيخ المسجد بشيء مما يكون من المريض، لكن ذلك على حسب الحاجة والضرورة، والله تعالى أعلم.
هذا إن تنزّلنا على أنه كان بمسجد مخصوص مباح للمسلمين، وإن تنزلنا على أنه كان بمسجد بيته كما تقدم لم ينتزع منه شيء من ذلك، والله تعالى أعلم.
قال الجامع عفا الله عنه: سياق الروايات واضح في كونه في المسجد النبويّ، لا في مكان آخر، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
قال: وقد قدَّمنا: أن المساجد الأصل فيها الأمر بتطييبها، وتنظيفها، ومباعدتها عن الأنجاس، والأقذار، ووجه الضرورة في حديث سعد: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يجد له موضعًا غير المسجد، وكان بالنبيّ صلى الله عليه وسلم حاجة إلى معاهدته، وتفقّد أحواله، فلو حُمِل إلى موضع بعيد منه، أدَّى إلى الحرج والمشقة على النبيّ صلى الله عليه وسلم وعلى هذا المعنى نبَّه الراوي بقوله:"يعوده من قريب". انتهى
(1)
.
4 -
(ومنها): أن فيه منقبةً لسعد بن معاذ رضي الله عنه.
5 -
(ومنها): أن على الإمام العنايةَ برعاياه، فيقوم بمصالحهم، من تمريض المريض، وعيادته، وإعطاء الدواء له.
6 -
(ومنها): ما كان عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم من حُسن الخُلق، وشدّة الرأفة بأصحابه رضي الله عنهم.
7 -
(ومنها): مشروعيّة عيادة المريض.
8 -
(ومنها): ما قال في "العمدة": استَدَلّ به مالك، وأحمد على أن
(1)
"المفهم" 3/ 598.
النجاسات ليست إزالتها بفرض، ولو كانت فرضًا لَمَا أجاز النبيّ صلى الله عليه وسلم للجريح أن يسكن في المسجد، وبه قال الشافعيّ في القديم، ولقائل أن يقول: إن سكنى سعد في المسجد إنما كان بعدما اندمل جرحه، والجرح إذا اندمل زال ما يُخشى من نجاسته. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا كلّه عند من يرى الدم الخارج من البدن نجسًا، وقد تقدّم في "كتاب الطهارة" أن الأرجح أن دم الجرح ونحوه ليس نجسًا، وقد علّق البخاريّ رحمه الله في "صحيحه" قال: وقال الحسن: ما زال المسلمون يصلّون في جراحاتهم، وصله سعيد بن منصور بإسناد صحيح، وقال أيضًا:"وبزق ابن أبي أوفى دمًا، فمضى في صلاته"، وصله الثوريّ في "جامعه" بإسناد صحيح
(2)
.
9 -
(ومنها): أن السلطان، أو العالم إذا شقّ عليه النهوض إلى عيادة مريض يزوره، ممن يُهمه أمره ينقل المريض إلى موضع يَخِفّ عليه فيه زيارته، ويَقْرُب منه.
10 -
(ومنها): بيان ما كان عليه اليهود، من شدّة عداوتهم للمسلمين، وما جُبلوا عليه من الغدر، ونقض العهد، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4589]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، قَالَ: قَالَ أَي، فَأُخْبِرْتُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَقَدْ حَكَمْتَ فِيهِمْ بِحُكْمِ اللهِ عز وجل").
رجال هذا الإسناد: أربعة:
وكلّهم ذُكروا قبله، و"ابن نُمير" هو: عبد الله بن نُمير.
[تنبيه]: ذكر الحافظ الرشيد العطّار رحمه الله في "غرر الفوائد"، قول هشام: قال أبي: فأخبرتُ
…
إلخ وقال: ليس بمتّصل على مذهب الحاكم وغيره، كما تقدّم.
والجواب عنه أن مسلمًا رحمه الله قد أخرج هذا اللفظ بعينه متصلًا من رواية
(1)
"عمدة القاري" 7/ 129.
(2)
راجع: "الفتح" 1/ 481 - 483.
أبي سعيد الخدريّ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وإذا ثبتٌ اتصاله من وجه صحيح، فلا يؤثّر قول بعض الرواة فيه:"فأخبرت" من وجه آخر، والله أعلم. انتهى
(1)
.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4590]
(
…
) - (حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، عَنْ هِشَامٍ، أَخْبَرَنِي أَبِي، عَنْ عَائِشَةَ، أَن سَعْدًا قَالَ: وَتَحَجَّرَ كَلْمُهُ لِلْبُرْء، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنْ لَيْسَ
(2)
أَحَدٌ أَحَبَّ إلَيَّ أَنْ أُجَاهِدَ فِيكَ، مِنْ قَوْم كَذَّبُوا رَسُولَكَ صلى الله عليه وسلم، وَأَخْرَجُوهُ، اللَّهُمَّ فَإِنْ كَانَ بَقِيَ مِنْ حَرْبٍ قُرَيْشٍ شَيْءٌ، فَأَبْقِنِي، أُجَاهِدْهُمْ فِيكَ، اللَّهُمَّ فَإِنِّي أَظُنُّ أَنَّكَ قَدْ وَضَعْتَ الْحَرْبَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ، فَإِنْ كُنْتَ وَضَعْتَ الْحَرْبَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ، فَافْجُرْهَا، وَاجْعَلْ مَوْتِي فِيهَا، فَانْفَجَرَتْ مِنْ لَبَّتِه، فَلَمْ يَرُعْهُمْ - وَفِي الْمَسْجِدِ مَعَهُ خَيْمَةٌ مِنْ بَنى غِفَارٍ - إِلَّا وَالدَّمُ يَسِيلُ إِلَيْهِمْ، فَقَالُوا: يَا أَهْلَ الْخَيْمَة، مَا هَذَا الَّذِي يَأْتِينَا مِنْ قِبَلِكُمْ؟ فَإِذَا سَعْدٌ جُرْحُهُ يَغِذُّ دَمًا، فَمَاتَ مِنْهَا).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
وكلهم ذُكروا قبله.
شرح الحديث:
(عَنْ عَائِشَةَ) رضي الله عنه (أَن سَعْدًا قَالَ)؛ يعني: أن سعد بن معاذ رضي الله عنه، وقوله:(وَتَحَجَّرَ كَلْمُهُ لِلْبُرْءِ) جملة حاليّة من"سعدًا"، ومعنى "تحجّر" بتشديد الجيم؛ أي: يبِس، وكاد يبرأ، و"الكَلْم" بفتح الكاف، وسكون اللام: الجرح؛ يعني: أن جرحه كاد يبرأ.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "وتحجَّر كَلْمُهُ للبُرْءِ"؛ أي: تجمَّد، وتهيَّأ للإفاقة، فظَنّ عند ذلك أنها تُفِيق، فقال عند ذلك ما ذكره من الدُّعاء. انتهى
(3)
.
وقوله: (فَقَالَ) عطف على "قال" الأول مؤكّد له، ومقول "قال" قوله: (اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ
…
إلخ)، والمعنى: أن سعد بن معاذ رضي الله عنه دعا بهذا الدعاء
(1)
"غرر الفوائد" 1/ 226.
(2)
وفي نسخة: "أنه ليس".
(3)
"المفهم" 3/ 595 - 596.
بعد أن كاد يبرأ جرحه. (أَنْ لَيْسَ)"أن" مخفّفة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن محذوفًا، وخبرها جملة: "ليس أحد أحبَّ
…
إلخ"، وإلى هذا أشار ابن مالك في "الخلاصة" بقوله:
وَإِنْ تُخَفَفْ "أَنَّ" فَاسْمُهَا اسْتَكَنْ
…
وَالْخَبَرَ اجَعَلْ جُمْلَةً مِنْ بَعْدِ "أَنْ"
وَإِنْ يَكُنْ فِعْلًا وَلَمْ يَكُنْ دُعَا
…
وَلَمْ يَكُنْ تَصْرِيفُهُ مُمْتَنِعَا
فَالأَحْسَنُ الْفَصْلُ بِـ "قَدْ" أَوْ نَفْيٍ
…
أوْ تَنْفِيسٍ أوْ "لَوْ"، وقَلِيلٌ ذِكْرُ "لَوْ"
ووقع في بعض النسخ بلفظ: (أنه ليس) وعليه فالنون مشدّدة، وقوله:(أَحَدٌ) بالرفع على أنه اسم "ليس"، قال الفيّوميّ:"أَحَدٌ" أصله وَحَدٌ، فأُبدلت الواو همزة، ويقع على الذكر والأنثى، وفي التنزيل:{يَانِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ} الآية [الأحزاب: 32]، ويكون بمعنى "شيءٍ"، وعليه قراءة ابن مسعود رضي الله عنه:(وإن فاتكم أحدٌ من أزواجكم) الآية؛ أي: شيء. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: المناسب هنا كونه بمعنى "شيءٌ"، والله تعالى أعلم.
وقوله: (أَحَبَّ اِلَيَّ) بنص "أَحَبَّ" على أنه خبر "ليس".
وقوله: (أَنْ أُجَاهِدَ فِيكَ)"أن" مصدريّة، والمصدر المؤوّل مجرور بـ "من" المقدّر؛ أي: من مجاهدتي فيك؛ أي: في إعلاء كلمتك، وقوله:(مِنْ قَوْمٍ) صلة "أحبّ"، (كَذَّبُوا رَسُولَكَ صلى الله عليه وسلم، وَأَخْرَجُوهُ)؛ أي: من مكة، وهم كفّار قريش، (اللَّهُمَّ) كرَّره للتأكيد، (فَإِنْ كَانَ بَقِيَ مِنْ حَرْبٍ قُرَيْشٍ شَيْءٌ، فَأَبْقِنِي)؛ أي: أَطِلْ عمري، ولفظ البخاريّ:"فأبقني له"؛ أي: للحرب، وفي رواية الكشميهنيّ:"فأبقني لهم"، (أُجَاهِدْهُمْ فِيكَ) بجزم "أجاهد" على أنه جواب الأمر، كما قال في "الخلاصة":
وَبَعْدَ غَيْرِ النَّفْي جَزْمًا اعْتَمِدْ
…
إِنْ تَسْقُطِ الْفَا وَالْجَزَاءُ قَدْ قُصِدْ
وقد اختلفوا في جازمه على أقوال قد ذُكرت في محلّها.
(اللَّهُمَّ فَإِنِّي أَظُنُّ أَنَّكَ قَدْ وَضَعْتَ)؛ أي: أسقطتَ (الْحَرْبَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ)؛ أي: وبين قريش.
(1)
"المصباح المنير" 2/ 650.
قال في "الفتح": قال بعض الشراح: ولم يُصِب في هذا الظنّ؛ لِمَا وقع من الحروب في الغزوات بعد ذلك، قال: فيُحْمَل على أنه دعا بذلك، فلم تقع الإجابة، وادُّخِر له ما هو أفضل من ذلك، كما ثبتٌ في الحديث الآخر في دعاء المؤمن، أو أنّ سعدًا أراد بوضع الحرب؛ أي: في تلك الغزوة الخاصّة، لا فيما بعدها.
وذكر ابن التين عن الداوديّ أن الضمير لقريظة، قال ابن التين: وهو بعيد جدًّا؛ لنصّه على قريش.
وقال الحافظ: إن قوله: "من قوم كذّبوا رسولك، وأخرجوه"، مختصّ بقريش؛ لأنهم الذين أخرجوه، وأما قُريظة فلا
(1)
، قال: والذي يظهر لي أن ظنّ سعد رضي الله عنه كان مصيبًا، وأن دعاءه في هذه القصّة كان مجابًا، وذلك أنه لم يقع بين المسلمين وبين قريش من بعد وقعة الخندق حرب يكون ابتداءًا لقصدُ فيها من المشركين، فإنه صلى الله عليه وسلم تجهّز إلى العمرة، فصدّوه عن دخول مكة، وكاد الحرب أن يقع بينهم، فلم يقع، كما قال تعالى:{وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ} الآية [الفتح: 24]، ثم وقعت الْهُدْنة، واعتمر صلى الله عليه وسلم من قابل، واستمرّ ذلك إلى أن نَقَضُوا العهد، فتوجه إليهم غازيًا، ففُتِحَت مكةُ، فعلى هذا فالمراد بقوله:"أظن أنك وضعت الحرب"؛ أي: أن يقصدونا محاربين، وهو كقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر:"الآنَ نغزوهم، ولا يغزوننا"
(2)
. انتهى
(3)
.
(فَإِنْ كُنْتَ وَضَعْتَ الْحَرْبَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ، فَافْجُرْهَا)؛ أي: شُقّ الجراحةَ، وهو بوصل الهمزة، وضمّ الجيم، من فَجَرَ يَفْجُرُ، يقال: فَجَر الرجلُ القَنَاةَ فَجْرًا، من باب قَتَلَ: شقّها، وفَجَرَ الماءَ: فَتَحَ له طريقًا، فانفجر؛ أي:
(1)
راجع: "الفتح" 8/ 671، كتاب "مناقب الأنصار" رقم (3901).
(2)
هو ما أخرجه البخاريّ في "صحيحه"(4/ 1509) من حديث سليمان بن صرد رضي الله عنه: سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول حين أجلى الأحزاب عنه: "الآن نغزوهم، ولا يغزوننا، نحن نسير إليهم"، والحديث انفرد به البخاريّ.
(3)
"الفتح" 9/ 217 - 218، كتاب "المغازي" رقم (4122).
فجرى، قاله الفيّوميّ رحمه الله
(1)
. (وَاجْعَلْ مَوْتِي فِيهَا)؛ أي: بسببها، فـ "في" سببيّة، كما في حديث: "دخلت امرأة النار في هرّة ربطتها
…
" الحديث، متّفقٌ عليه.
قال النوويّ رحمه الله: هذا ليس من تمنّي الموت المنهيّ عنه؛ لأن ذلك فيمن تمنّاه لضرّ نزل به، وهذا إنما تمنّى انفجارها؛ ليكون شهيدًا. انتهى
(2)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: هذا منه تَمَنٍّ للشهادة، وشوق لِمَا عند الله تعالى، وليس تمنّيًا للموت؛ لضرّ نزل به، الذي نُهى عنه. انتهى
(3)
.
(فَانْفَجَرَتْ)؛ أي: انشقّت الجرحة، (مِنْ لَبَّتِهِ) أي من صدره، وهو بفتح اللام، وتشديد الموحدة: هي موضع القلادة من الصدر، وهكذا في رواية البخاريّ، والإسماعيليّ، بلفظ:"من لبّته"، ووقع في رواية الكشميهنيّ:"من ليلته"، قال الحافظ: وهو تصحيف، فقد رواه حماد بن سلمة، عن هشام، فقال في روايته:"فإذا لَبَّته قد انفجرت من كَلْمِهِ"؛ أي: من جرحه، أخرجه ابن خزيمة، وكان موضعُ الجرح وَرِمَ حتى اتصل الوَرَمُ إلى صدره، فانفجر من ثَمَّ.
وقال النوويّ رحمه الله: قوله: "فانفجرت من لبته": هكذا هو في أكثر الأصول المعتمدة: "لَبَّتِه" - بفتح اللام، وبعدها باء موحدة مشددة مفتوحة - وهي النحر، وفي بعض الأصول:"مِن لِيتِهِ" - بكسر اللام، وبعدها ياء مثناة من تحتُ ساكنةٌ - واللِّيت: صفحة العنق، وفي بعضها:"مِن لَيْلَته"، قال القاضي عياض: قالوا: وهو الصواب، كما اتفقوا عليه في الرواية التي بعد هذه. انتهى
(4)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "فانفجرت من لبته": كذا للرواية عن الأسديّ، بالباء بواحدة، وعن الصدفيّ:"من لِيته" بلام مكسورة، وياء باثنتين من تحتها ساكنة، وعند الْخُشَنيّ:"من ليلته"، قال: وهو الصواب، واللبة: الْمَنْحَر، واللِّيتُ: صفحة العنق. انتهى
(5)
.
[تنبيه]: بُيِّن سببُ انفجار الجرح في مرسل حميد بن هلال، عند ابن
(1)
"المصباح المنير" 2/ 462.
(2)
شرح النوويّ" 12/ 95.
(3)
"المفهم" 3/ 596.
(4)
"شرح النوويّ" 12/ 95.
(5)
"المفهم" 3/ 596.
سعد، ولفظه:"إنه مَرَّت به عَنْزٌ، وهو مضطجع، فأصاب ظِلْفها موضعَ الجرح، فانفجر، حتى مات"، قاله في "الفتح"
(1)
.
(فَلَمْ يَرُعْهُمْ)؛ أي: لم يُفزع أهل خيمة بني غفار، أو أهلَ المسجد، وهو - بفتح أوله، وضمّ الراء، بعده عين مهملة - يقال: راعني الشيءُ رَوْعًا - من باب قال -: أفزعني، ورَوّعني مِثْلُه
(2)
.
وقال النوويّ رحمه الله: قوله: "فلم يرُعهم"؛ أي: لم يفجاهم، ويأتيهم بغتةً. انتهى.
وقوله: (وَفِي الْمَسْجِدِ مَعَهُ خَيْمَةٌ) جملة في محلّ نصب على الحال؛ أي: والحال أن داخل المسجد النبويّ مع خيمة سعد رضي الله عنه خيمة أخرى لامرأة (مِنْ بَنِي غِفَارٍ) وذكر ابن إسحاق أن الخيمة لرُفيدة الأسلميّة، فيَحْتَمِل أن تكون كان لها زوج من بني غفار، قاله في "الفتح"
(3)
.
و"بنو غِفَار" - بكسر الغين المعجمة، وتخفيف الفاء -: قبيلة مشهورة، يُنسبون إلى غِفَار بن مليل بن ضمرة بن بكر بن عبد مناة بن كنانة، أفاده في "اللباب"
(4)
.
(إِلَّا وَالدَّمُ يَسِيلُ إِلَيْهِمْ) الواو بعد الاستثناء زائدة، وهي غير موجودة في رواية البخاريّ، والمعنى: فلم يفزع أهل خيمة بني غفار، إلا أن الدم الذي جرى إليهم، وهو دم سعد أتاهم بغتةً يسيل إليهم، (فَقَالُوا: يَا أَهْلَ الْخَيْمَةِ) يريدون أهل خيمة سعد رضي الله عنه، (مَا هَذَا الَّذِي يَأْتِينَا مِنْ قِبَلِكُمْ؟ فَإِذَا سَعْدٌ جُرْحُهُ يَغِذُّ دَمًا)؛ أي: يسيل دمه، قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في معظم الأصول المعتمدة: "يَغِذّ" - بكسر الغين المعجمة، وتشديد الذال المعجمة أيضًا، ونقله القاضي عن جمهور الرواة، وفي بعضها "يَغْذُو" - بإسكان الغين، وضم الذال المعجمة - وكلاهما صحيح، ومعناه: يسيل، يقال: غَذّ الجرحُ يَغُذُّ - من بابي
(1)
"الفتح" 9/ 218، كتاب "المغازي" رقم (4122).
(2)
"المصباح" 1/ 246.
(3)
"الفتح" 9/ 218، كتاب "المغازي" رقم (4122).
(4)
"اللباب في تهذيب الأنساب" 2/ 387.
نصر، وضرب -
(1)
: إذا دام سيلانه، وغَذَا يَغْذُو: سال، كما قال في الرواية الأخرى:"فما زال يسيل حتى مات". انتهى
(2)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "فإذا سعد جرحه يغِذُّ" بكسر الغين، وتشديد الذال عند كافة الرواة، وعند بعضهم:"يَغْذو"، ومعناه: يسيل، وهما لغتان، يقال: غَذَّ الجرحُ يغُذُّ مشددًا، وغذا يغْذو، وأنشد:
بطعْنٍ كَفَمِ الزّقِّ
…
غَذَا والزِّقُّ مَلآنُ
وعند ابن ماهان: "يصبُّ" مكان "يغذو"، وهو تفسير للَّفظ الأول. انتهى
(3)
.
(فَمَاتَ مِنْهَا)؛ أي: بسبب تلك الجراحة، فـ "من" سببيّة، وفي رواية ابن خزيمة في آخر هذه القصّة:"فإذا الدم له هَدِير"، ووقع في رواية علقمة بن وقاص، عن عائشة رضي الله عنها، عند أحمد:"فانفجر كَلْمُهُ، وكان قد بَرِئ، إلا مثل الْخُرْص"، وهو بضم الخاء المعجمة، وسكون الراء، ثم صاد مهملة، وهو من حليّ الأذن. ولمسلم في الرواية التالية:"فما زال الدم يسيل حتى مات".
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا متّفق عليه، وقد مضى تخريجه قبل حديث.
(المسألة الثانية): في فوائده:
1 -
(منها): جوازُ تمني الشهادة، وهو مخصوص من عموم النهي عن تمني الموت.
2 -
(ومنها): أن فيه تحكيمَ الأفضل مَن هو مفضول.
3 -
(ومنها): جواز الاجتهاد في زمن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهي مسألة خلافيّة في أصول الفقه، والمختار: الجواز، سواء كان بحضور النبيّ صلى الله عليه وسلم أم لا، وإنما استَبْعَد المانعُ وقوع الاعتماد على الظنّ مع إمكان القطع، ولا يضرّ ذلك؛ لأنه
(1)
وفي "القاموس": غَذَّ الْجُرْحُ يَغُذُّ - أي: من باب نصر - ويَغِذّ - أي: من باب ضرب -: سال بما فيه؛ كأغذّ، أو وَرِمَ. انتهى.
(2)
"شرح النوويّ" 12/ 96.
(3)
"المفهم" 3/ 596.
بالتقرير يصير قطعيًّا، وقد ثبت وقوع ذلك بحضرته صلى الله عليه وسلم، كما في هذه القصّة، وقصّة أبي بكر الصديق رضي الله عنه في قتيل أبي قتادة، كما سبق قصّته، وغير ذلك، قاله في "الفتح"
(1)
، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4591]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ سُلَيْمَانَ الْكُوفِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدَةُ، عَنْ هِشَامٍ، بِهَذَا الإِسْنَادِ نَحْوَهُ، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: فَانْفَجَرَ مِنْ لَيْلَتِه، فَمَا زَالَ يَسِيلُ، حَتَّى مَاتَ، وَزَادَ: فِي الْحَدِيثِ: قَالَ: فَذَاكَ حِينَ يَقُولُ الشَّاعِرُ [من الوافر]:
ألَا يَا سَعْدُ سَعْدَ بَنْ مُعَاذٍ
…
فَمَا فَعَلَتْ قُرَيْظَةُ وَالنَّضِيرُ
لَعَمْرُكَ إِنَّ سَعْدَ بَنِي مُعَاذٍ
…
كَدَاةَ تَحَمَّلُوا لَهُوَ الصَّبُورُ
تَرَكْتُمْ قِدْرَكُمْ لَا شَيْءَ فِيهَا
…
وَقِدْرُ الْقَوْمِ حَامِيَةٌ تَفُورُ
وَقَدْ قَالَ الْكَرِيمُ أَبُو حُبَابٍ
…
أَقِيمُوا قَيْنُقَاعُ وَلَا تَسِيرُوا
وَقَدْ كَانُوا بِبَلْدَتِهِمْ ثِقَالًا
…
كَمَا ثَقُلَتْ بِمَيْطَانَ الصُّخُورُ)
رجال هذا الإسناد: ثلاثة:
1 -
(عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ سُلَيْمَانَ الْكُوفِيُّ) الحضرميّ، واسطيّ الأصل، يُعرف بأبي الشَّعْثاء، وكنيته أبو الحسن، ويقال: أبو الحسين، ثقةٌ [10].
رَوَى عن حفص بن غياث، وعيسى بن يونس، وعبد الله بن إدريس، ووكيع، وأبي بكر بن عياش، وأبي معاوية الضرير، وعلي بن غُراب، وعبدة بن سليمان، وغيرهم.
ورَوَى عنه مسلم، ورَوَى ابن ماجه، عن أبي زرعة الرازيّ عنه، وأبو بكر بن عليّ المروزيّ، وصالح جَزَرة، وعبد الله بن أحمد، وأسلم بن سهل الواسطيّ، وغيرهم.
قال الآجريّ، عن أبي داود: ثقةٌ، ولم أسمع منه شيئًا، وقال الحاكم: ثقةٌ مأمونٌ.
(1)
"الفتح" 9/ 219 - 220، كتاب "المغازي" رقم (4121).
قال بَحْشَل: تُوُفّي في آخر سنة (236)، وقال ابن حبان في "الثقات": تُوفّي سنة (237).
تفرّد به المصنّف، وابن ماجه، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث، وكذا له عند ابن ماجه حديث واحد في "الصيام"، وهو حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال:"من ذرعه القيء فلا قضاء عليه، ومن استقاء فعليه القضاء"، وهو حديث صحيح.
2 -
(عَبْدَةُ) بن سليمان الكلابيّ، أبو محمد الكوفي، ويقال: اسمه عبد الرحمن، ثقةٌ ثبتٌ، من صغار [8](ت 187) أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 61/ 339.
و"هشام" ذُكر قبله.
وقوله: (وَزَادَ فِي الْحَدِيثِ) فاعل "زاد" ضمير عبدة، وقوله: (قَالَ: فَذَاكَ
…
إلخ) مفعول "زاد" محكيّ؛ لقصد لفظه.
وقوله: (فَذَاكَ)؛ أي: ذاك الوقت الذي حكم فيه سعد بقتل بني قريظة، فاسم الإشارة مبتدأ، خبره قوله:"حين يقول الشاعر"؛ أي: ذلك الوقت وقت قول الشاعر.
وقوله: (حِينَ يَقُولُ الشَّاعِرُ) يجوز بناء "حين" على الفتح؛ لإضافته إلى الجملة، ويجو إعرابه بالرفع؛ لأن إضافته إلى جملة مضارعيّة، قال ابن مالك رحمه الله في "الخلاصة":
وَابْنِ أَوَ اعْرِبْ مَا كَـ "إِذْ" قدْ أُجْرِيَا
…
وَاخْتَرْ بِنَا مَتْلُوِّ فِعْلٍ بُنِيَا
وَقَبْلَ فِعْلٍ مُعْرَبٍ أَوْ مُبْتَدَا
…
أَعْرِبْ وَمَنْ بَنَى فَلَنْ يُفَنَّدَا
وقوله: (أَلَا يَا سَعْدُ)"ألا" أداة استفتاح، وتنبيه، وقوله:(سَعْدَ بَنْ مُعَاذٍ) بنصب "سعد" بدلًا من"سعدُ" المنادى، أو عطف بيان.
وقوله: (فَمَا فَعَلَتْ قُرَيْظَةُ وَالنَّضِيرُ) هكذا هو في معظم النسخ، وكذا حكاه القاضي عن المعظم، وفي بعضها:"لِماَ فَعَلَتْ" باللام بدل الفاء، وقال: وهو الصواب، والمعروف في السير، قاله النوويّ: رحمه الله
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: (فَمَا فَعَلَتْ) الرواية عند الكافة بالفاء هكذا،
(1)
"شرح النوويّ" 12/ 96.
والصواب: "لِمَا فَعَلَت" باللام المكسورة، وقد رواه بعضهم هنا كذلك، وهي الرواية في السير، ليس فيها غيرها.
وقوله: (لَعَمْرُكَ) بفتح العين؛ أي: لحياتك، والحلف بالحياة لا يجوز، فيحتمل أن يكون هذا قبل النهي، أو لم يُرِد به القَسَم، والله تعالى أعلم.
وقوله: (إِنَّ سَعْدَ بَنِي مُعَاذٍ غَدَاةَ تَحَمَّلُوا لَهُوَ الصَّبُورُ)؛ يعني: أنه كثير الصبر على ما أصاب قريظة حلفاءه بسبب حكمه بقتلهم، وهذ من باب الذمّ بما يشبه المدح، يذمّه على حكمه في حلفائه.
وقوله: (تَرَكْتُمْ)؛ أي: جعلتم.
وقوله: (قِدْرَكمْ لَا شَيْءَ فِيهَا)"الْقِدْر" بكسر القاف، وسكون الدال المهملة: إناء يُطبخ فيه، جمعه قُدُورٌ، مثلُ حِمْلٍ وحُمُول
(1)
.
قال النوويّ رحمه الله: هذا مَثَل لعدم الناصر، وأراد بقوله:"تركتم قدركم": الأوس؛ لقلة حلفائهم، فإن حلفاءهم قريظة، وقد قُتِلوا، وأراد بقوله:"وقدر القوم حاميةٌ تفور": الخزرج؛ لشفاعتهم في حلفائهم بني قينقاع، حتى مَنَّ عليهم النبيّ صلى الله عليه وسلم، وتركهم لعبد الله بن أُبَيّ ابن سَلُولَ، وهو أبو حباب المذكور في البيت الآخر. انتهى
(2)
.
وقال في "الفتح": وقوله: "تركتم قدركم" أراد به ضرب المَثَل، و"ميطان": موضع في بلاد مُزينة من الحجاز، كثير الأوعار، وأشار بذلك إلى أن بني قريظة كانوا في بلادهم راسخين، من كثرة ما لَهُم من القوّة والنَّجْدة، والمال، كما رسخت الصخور بتلك البلدة.
وذكر ابن إسحاق أن هذه الأبيات لِجَبَل بن جَوَّال الثعلبيّ، وهو بفتح الجيم، والموحدة، وأبوه بالجيم، وتشديد الواو، والثعلبيّ بمثلثة، ومهملة، ثم موحدة، ووقع عنده بدل قوله: "وقد قال الكريم
…
" البيت:
وَأَمَّا الْخَزْرَجِيُّ أَبُو حُبَاثٍ
…
فَقَالَ لِقَيْنُقَاعَ لَا تَسِيرُوا
وزاد فيها أبياتًا، منها:
أَقِيمُوا يَا سَرَاةَ الْأَوْسِ فِيهَا
…
كَأَنَّكُمْ مِنَ الْمَخْزَاةِ غُورُ
(1)
"المصباح المنير" 2/ 492.
(2)
"شرح النوويّ" 12/ 96 - 97.
وأراد بذلك توبيخ سعد بن معاذ؛ لأنه رئيس الأوس، وكان جَبَلُ بن جَوّال حينئذ كافرًا، ولعل قصيدة كعب بن مالك التي قدمناها في غزوة بني النضير كانت جَوَابًا لجبل، والله أعلم.
وذكر ابن إسحاق لحسان بن ثابت قصيدة، على هذا الوزن والقافية، يقول فيها:
تَفَاقَدَ مَعْشَرٌ نَصَرُوا قُرَيْشًا
…
وَلَيْسَ لَهُمْ بِبَلَدِتِهْم نَصِيرُ
وَهُمْ أُوتُوا الْكِتَابَ فَضَيَّعُوهُ
…
فَهُمْ عُمْيٌ عَنِ التوْرَاةِ بُورُ
كَفَرْتُمْ بِالْقُرْآنِ لَقَدْ لَقِيتُمْ
…
بِتَصْدِيقِ الَّذِي قَالَ النَّذِيرُ
انتهى
(1)
.
وقوله: (أَبُو حُبَابٍ) هكذا الرواية في مسلم: "أبو حُبَاب" بضمّ الحاء المهملة، وباء موحّدةً مكرّرة، بينهم ألف، ووقع في نسخة "الفتح":"أبو حُباث" بمثلّثة آخره، قال في "الفتح": وقوله: "أبو حباث" - بضم المهملة، وتخفيف الموحدة، وآخرها مثلثة -.
قال الجامع عفا الله عنه: كذا ضبطه بالثاء المثلثة، ووقع له في موضع آخر:"أبو حباب" بباءين، والظاهر أن ضبطه بالمثلثّة غير صحيح، وإنما هو "أبو حباب" بموحّدتين، فليُتأمّل، والله تعالى أعلم.
قال: هو عبد الله بن أُبَيّ رئيس الخزرج، وكان شَفَع في بني قينقاع، فوهبهم النبيّ صلى الله عليه وسلم له، وكانوا حلفاءه، وكانت قريظة حلفاء سعد بن معاذ، فحكم بقتلهم، فقال هذا الشاعر يوبخه بذلك. انتهى
(2)
.
وقوله: (وَقَدْ قَالَ الْكَرِبمُ أَبُو حُبَابٍ)؛ أي: عبد الله بن أبيّ ابن سلول لحلفائه: (أَقِيمُوا قَيْنُقَاعُ) منادى بحذف حرف النداء؛ أي: يا قينقاع، (وَلَا تَسِيرُوا)؛ أي: ولا ترحلوا عن منازلكم.
وقوله: (وَقَدْ كَانُوا)؛ أي: بنو قريظة، (بِبَلْدَتِهِمْ) التي كانوا مقيمين فيها، (ثِقَالًا)؛ أي: راسخين مطمئنين، لا يخشون أحدًا؛ لشدّة بأسهم، وقوّتهم،
(1)
"الفتح" 9/ 219، كتاب "المغازي" رقم (4122).
(2)
"الفتح" 9/ 219، كتاب "المغازي" رقم (4122).
وعَددهم، وعُددهم، (كلمَا ثَقُلَتْ بِمَيْطَانَ الصُّخُورُ)؛ أي: كما رسخت الصخور، وهي الحجارة الكبار بميطانها؛ أي: بالبلدة التي تسمّى بهذا الاسم.
وقوله: (كَمَا ثَقُلَتْ بِمَيْطَانَ الصُّخُورُ) هو اسم جبل من أرض الحجاز، في ديار بني مُزينة، وهو بفتح الميم على المشهور، وقال أبو عبيد البكريّ، وجماعة: هو بكسرها، وبعدها ياء مثناة تحتُ، وآخره نون، هذا هو الصحيح المشهور، ووقع في رواية العذريّ:"بميطار" بالراء، وفي رواية ابن ماهان:"بحيطان" بالحاء مكان الميم، قال القاضي عياض: والصواب الأول
(1)
.
وقال في "معجم البلدان": "مَيْطان" بفتح الميم، وسكون الياء: من جبال المدينة، وقال في "القاموس": و"ميطان" كميزان: من جبال المدينة، وقال في "النهاية": إنه بكسر الميم: موضع في بلاد مُزينة بالحجاز، ومثله في "لسان العرب".
قال عياض: وإنما قصد هذا الشاعر تحريض سعد على استبقاء بني قريظة حلفائِه، ويلومه على حكمه فيهم، ويُذَكِّره بفعل عبد الله بن أُبَيّ، ويمدحه بشفاعته في حلفائه بني قينقاع، ويمدحه بذلك
(2)
، والله تعالى أعلم.
(23) - (بَابُ الْمُبَادَرَةِ بِالْغَزْوِ، وَتَقْدِيمِ أَهَمِّ الأَمْرَيْنِ الْمُتَعَارِضَيْنِ)
[4592]
(1775) - (وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَسْمَاءَ الضُّبَعِيُّ، حَدَّثَنَا جُوَيْرِيَةُ بْنُ أَسْمَاءَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ الله، قَالَ: نَادَى فِينَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ انْصَرَفَ عَنِ الأَحْزَابِ: "أَنْ لَا يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ الظُّهْرَ إِلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ"، فَتَخَوَّفَ نَاسٌ فَوْتَ الْوَقْتِ، فَصَلَّوْا دُونَ بَنِي قُرَيْظَةَ، وَقَالَ آخَرُونَ: لَا نُصَلِّي إِلَّا حَيْثُ أَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَإِنْ فَاتَنَا الْوَقْتُ، قَالَ: فَمَا عَنَّفَ وَاحِدًا مِنَ الْفَرِيقَيْنِ).
(1)
"إكمال المعلم" 6/ 108.
(2)
"إكمال المعلم" 6/ 108، و"شرح النوويّ" 12/ 97، و"المفهم" 3/ 598.
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَدِ بْنِ أَسْمَاءَ الضُّبَعِيُّ)
(1)
أبو عبد الرحمن البصريّ، ثقةٌ جليلٌ [10](ت 231)(خ م د س) تقدم في "الإيمان" 47/ 297.
2 -
(جُويرِيَةُ بْنُ أَسْمَاءَ) - تصغير جارية - ابن أسماء بن عُبيد الضُّبَعيّ البصريّ، عمّ عبد الله الراوي عنه، صدوقٌ [7](173)(خ م د س ق) تقدّم في "الإيمان" 73/ 390.
3 -
(نَافِعٌ) مولى ابن عمر، تقدّم قريبًا.
4 -
(عَبْدُ اللهِ) بن عمر بن الخطّاب رضي الله عنهما، تقدّم أيضًا قريبًا.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (307) من رباعيّات الكتاب، وفيه "عبد الله" مهملًا، وهو ابن عمر، كما هو القاعدة أنه إذا أُطلق في الصحابة عبد الله: فإن كان في سند المدنيين، فهو ابن عمر بن الخطّاب، وفي المكيين، فهو ابن الزبير، وفي البصريين، فهو ابن عبّاس، وفي الكوفيين، فهو ابن مسعود، وفي المصريين، والشاميين، فهو ابن عمرو بن العاص رضي الله عنهم، وإلى هذا أشار السيوطيّ رحمه الله في "ألفيّة الحديث" حيث قال:
وَحَيْثُمَا أُطْلِقَ "عَبْدُ اللهِ" فِي
…
طَيْبَةَ فَابْنُ عُمَرٍ وَإِنْ يَفِي
بِمَكَّةٍ فَابْنُ الزُّبَيْرِ أَوْ جَرَى
…
بِكُوفَةٍ فَهْوَ ابْنُ مَسْعُودٍ يُرَى
وَالْبَصْرَةِ الْبَحْرُ وَعِنْدَ مِصْرِ
…
وَالشَامِ مَهْمَا أُطْلِقَ ابْنُ عَمْرِ
وقد تقدّم هذا غير مرّة، وإنما أعدته؛ تذكيرًا؛ لطول العهد به، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ عَبْدِ اللهِ) بن عمر رضي الله عنهما أنه (قَالَ: نَادَى فِينَا)؛ أي: في معاشر الصحابة رضي الله عنهم، (رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ انْصَرَفَ) بإضافة "يوم" إلى الجملة الماضيّة، وهو يَحتمل أن يكون مبنيًّا على الفتح؛ لإضافته إلى جملة ماضية، ويَحْتَمل أن
(1)
بضم الضاد المعجمة، وفتح الموحّدة، بعدها عين مهملة: نسبة إلى ضُبيعة بن قيس بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن عليّ بن بكر بن وائل، قاله في "اللباب" 2/ 260.
يكون معربًا منصوبًا على الظرفيّة، كما تقدّم في قول ابن مالك رحمه الله في "خلاصته":
وَقَبْلَ فِعْلٍ مُعْرَبٍ أَوْ مُبْتَدَا
…
أَعْرِبْ وَمَنْ بَنَى فَلَنْ يُفَنَّدَا
وقوله: (عَنِ الأَحْزَابِ)؛ أي: عن غزوة الأحزاب، وسُمّيت بذلك؛ لاجتماع طوائف من المشركين على حرب المسلمين، وهم قريشٌ، وغطفان، واليهود، ومن تبعهم، وتسمّى بالخندق أيضًا، وكانت في شوّال سنة أربع من الهجرة، وقيل: سنة خمس، وسيأتي تمام البحث في هذا في بابه - إن شاء الله تعالى. ("أَنْ لَا يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ الظُّهْرَ) هكذا في رواية مسلم بلفظ:"الظهر"، ووقع في رواية البخاريّ بلفظ:"العصر".
قال في "الفتح": قوله: "لا يصلينّ أحدٌ العصرَ" كذا وقع في جميع النسخ عند البخاريّ، ووقع في جميع النسخ عند مسلم:"الظهر"، مع اتفاق البخاريّ ومسلم على روايته عن شيخ واحد، بإسناد واحد، وقد وافق مسلمًا أبو يعلى، وآخرون، وكذلك أخرجه ابن سعد، عن أبي عِتبان مالك بن إسماعيل، عن جويرية، بلفظ:"الظهر"، وابن حبان، من طريق أبي عتبان كذلك، قال الحافظ: ولم أره من رواية جويرية إلا بلفظ: "الظهر"، غير أن أبا نعيم في "المستخرج" أخرجه من طريق أبي حفص السلميّ، عن جويرية، فقال:"العصر"، وأما أصحاب المغازي: فاتفقوا على أنها العصر.
قال ابن إسحاق: لَمّا انصرف النبيّ صلى الله عليه وسلم من الخندق، راجعًا إلى المدينة، أتاه جبريل الظُّهر، فقال: إن الله يأمرك أن تسير إلى بني قريظة، فأمر بلالًا، فأذّن في الناس: من كان سامعًا مطيعًا، فلا يصلينّ العصر إلا في بني قريظة، وكذلك أخرجه الطبرانيّ، والبيهقيّ في "الدلائل" بإسناد صحيح إلى الزهريّ عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك، عن عمه عبيد الله بن كعب: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لَمّا رجع من طلب الأحزاب، وجَمَع عليه اللَّأْمَة، واغتَسَل، واستجمر، تبدَّى له جبريل، فقال: عَذِيرَك من محارب
(1)
، فَوَثَبَ فَزِعًا، فعَزَم
(1)
قال ابن الأثير رحمه الله: يقال: عَذِيرَكَ من فلان بالنصب؛ أي: هات من يعذُرك فيه، فعيلٌ بمعنى فاعل. انتهى. "النهاية" 3/ 197.
على الناس أن لا يصلوا العصر حتى يأتوا بني قريظة، قال: فلبس الناس السلاح، فلم يأتوا قريظة حتى غربت الشمس، قال: فاختصموا عند غروب الشمس، فصلّت طائفة العصر، وتركتها طائفة، وقالت: إنا في عَزْمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فليس علينا إثم، فلم يُعَنِّف واحدًا من الفريقين".
وأخرجه الطبرانيّ من هذا الوجه موصولًا بذكر كعب بن مالك فيه، وللبيهقيّ من طريق القاسم بن محمد، عن عائشة رضي الله عنها نحوه مطوّلًا، وفيه:"فصلّت طائفة إيمانًا واحتسابًا، وتركت طائفة إيمانًا، واحتسابًا"، وهذا كله يؤيد رواية البخاريّ في أنها العصر.
وقد جمع بعض العلماء بين الروايتين باحتمال أن يكون بعضهم قبلَ الأمر كان صلى الظهر، وبعضهم لم يصلِّها، فقيل لمن لم يصلِّها:"لا يصلِّين أحد الظهر"، ولمن صلّاها:"لا يصلِّين أحد العصر".
وجمع بعضهم باحتمال أن تكون طائفة منهم راحت بعد طائفة، فقيل للطائفة الأولى:"الظهر"، وقيل للطائفة التي بعدها:"العصر"، وكلاهما جمعٌ لا بأس به، لكن يُبعده اتّحاد مخرج الحديث؟ لأنه عند الشيخين كما بيّناه بإسناد واحد، من مبدئه إلى منتهاه، فيَبْعُد أن يكون كلّ من رجال إسناده قد حدّث به على الوجهين؛ إذ لو كان كذلك لحَمَله واحد منهم عن بعض رواته على الوجهين، ولم يوجد ذلك.
قال: ثم تأكد عندي أن الاختلاف في اللفظ المذكور من حِفْظ بعض رواته، فإن سياق البخاريّ وحده مخالف لسياق كلّ من رواه عن عبد الله بن محمد بن أسماء، وعن عمه جويرية، ولفظ البخاريّ:"قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: لا يصلينّ أحد العصر إلا في بني قريظة، فأدرك بعضهم العصر في الطريق، فقال بعضهم: لا نصلي حتى نأتيها، وقال بعضهم: بل نصلي، لم يُرَدْ منّا ذلك، فذُكِرَ للنبيّ صلى الله عليه وسلم، فلم يُعَنِّف واحدًا منهم".
ولفظ مسلم، وسائر من رواه:"نادى فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم انصرف عن الأحزاب، أن لا يصلينّ أحدٌ الظهر إلا في بني قريظة، فتخوّف ناس فوت الوقت، فصَلَّوا دون بني قريظة، وقال آخرون: لا نصلي إلا حيث أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن فاتنا الوقت، قال: فما عَنَّفَ واحدًا من الفريقين".
فالذي يظهر من تغاير اللفظين أن عبد الله بن محمد بن أسماء شيخ الشيخين فيه لَمّا حدّث به البخاريّ حدّث به على هذا اللفظ، ولمّا حدّث به الباقين حدّثهم به على اللفظ الأخير، وهو اللفظ الذي حدّث به جويرية بدليل موافقة أبي عِتبان له عليه، بخلاف اللفظ الذي حدّث به البخاريّ، أو أن البخاريّ كتبه من حفظه، ولم يراع اللفظ، كما عُرِف من مذهبه في تجويز ذلك، بخلاف مسلم، فإنه يحافظ على اللفظ كثيرًا، وإنما لم أجوِّز عكسه؛ لموافقة من وافق مسلمًا على لفظه، بخلاف البخاريّ، لكن موافقة أبي حفص السلمي له تؤيِّد الاحتمال الأول.
وهذا كله من حيث حديث ابن عمر، أما بالنظر إلى حديث غيره، فالاحتمالان المتقدمان في كونه قال الظهر لطائفة، والعصر لطائفة مُتَّجِهٌ، فَيَحْتَمِل أن تكون رواية الظهر هي التي سمعها ابن عمر، ورواية العصر هي التي سمعها كعب بن مالك وعائشة، والله أعلم. انتهى، وهو بحث نفيسٌ جدًّا، والله أعلم.
(إِلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ)؛ أي: إلا في قريتهم. (فَتَخَوَّفَ نَاسٌ فَوْتَ الْوَقْتِ)؛ أي: وقت صلاة العصر، (فَصَلَّوْا) بفتح اللام المشدّدة، فما وقع في بعض النسخ من ضَبْطه بالقلم بضمّ اللام فغَلَط؛ لأنه حينئذ يكون فعل أمْر، والمراد هنا: فعل الماضي، وأصله: صَلَّيُوا بوزن عَلَمُوا وكَلّموا، فقُلبت الياء ألفًا؛ لتحرّكها، وانفتاح ما قبلها، ثم حُذفت؛ لالتقاء الساكنين، فبقي: صَلَّوْا، بفتح اللام، وأما فعل الأمر، فهو صلُّوا بضمّ اللام المشدّدة، وأصله: صَلِّيُوا بكسر اللام، وضمّ الياء، بوزن عَلِّمُوا، وكَلِّموا، فنُقلت ضمّة الياء، إلى اللام، ثمّ حُذِفَت لالتقاء الساكنين، فصار: صلُّوا بضمّ اللام بالضمة التي نُقلت إليها، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
(دُونَ بَنِي قُرَيْظَةَ)؛ أي: قبل الوصول إليهم، وذلك تقديمًا للأهمّ، حسبما اعتقدوه، فإنهم ظنّوا أنه صلى الله عليه وسلم إنما قال لهم: "لا يصلّيَنّ
…
إلخ"؛ حثًّا على سرعة الخروج إليهم، ومواصلة المسير بلا انقطاع، ولا فتور، لا قصدًا لتفويت الصلاة.
[تنبيه]: "دُونَ" تأتي لتسعة معان، جمعتها في قولي:
لِـ "دُونَ" تِسْعَةٌ مِنَ الْمَعَانِي
…
قَبْلُ وَفَوقُ تَحْتُ خُذْ بَيَانِي
أَمَامُ وَالسَّاقِطُ والإِغْرَاءُ
…
وَالأَمْرُ وَالْوَعِيدُ زِدْ وَرَاءُ
وَعَلَّ عِنْدَ وَبِمَعْنَى بَعْدُ
…
فَاحْفَظْ فَحِفْظُ الْعِلْمِ نِعْمَ السَّعْدُ
(وَقَالَ آخَرُونَ) من الصحابة: (لَا نُصَلِّي إِلَّا حَيْثُ أَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم)؛ أي: إلا في المكان الذي أمرنا صلى الله عليه وسلم أن نصلّي العصر، وهو مكان بني قريظة؛ عملًا بظاهر أمره صلى الله عليه وسلم، (وَإِنْ) وصليّة؛ أي: ولو (فَاتَنَا الْوَقْتُ)؛ أي: وقت صلاة العصر، وفي رواية البخاريّ:"فأدرك بعضُهُم العصرَ في الطريق، فقال بعضهم: لا نُصلّي حتى نأتيهم، وقال بعضهم: بل نُصلّي، لم يُرَدْ منّا ذلك".
(قَالَ) الراوي، والظاهر أنه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، (فَمَا عَنَّفَ) بتشديد النون، مبنيًّا للفاعل، والفاعل ضمير النبيّ صلى الله عليه وسلم، يقال: عَنّفه تعنيفًا؛ أي: لامه، وعَتَبَ عنيه
(1)
؛ يعني: أن كلّهم لمَّا وصلوا إلى بني قريظة، واجتمعوا بالنبيّ صلى الله عليه وسلم، ذَكرُوا ما فعلوه في صلاة العصر في الطريق، من تفويت بعضهم، وصلاة الآخرين في الوقت فلم يَلُم النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولم يعاتب (وَاحِدًا مِنَ الْفَرِيقَيْنِ) المختلِفَين؛ لأن كلًّا مجتهد محتسِب، مستنِد إلى دليل شرعيّ، وفي رواية البخاريّ:"فذُكر ذلك للنبيّ صلى الله عليه وسلم، فلم يُعنّف واحدًا منهم".
قال النوويّ رحمه الله وأما اختلاف الصحابة رضي الله عنهم في المبادرة بالصلاة عند ضيق وقتها، وتأخيرها، فسببه أن أدلّة الشرع تعارضت عندهم، بأن الصلاة مأمور بها في الوقت، مع اْن المفهوم من قول النبيّ صلى الله عليه وسلم:"لا يُصلين أحدٌ الظهر، أو العصر إلا في بني قريظة" المبادرة بالذهاب إليهم، وأن لا يُشْتَغَل عنه بشيء، لا أن تأخير الصلاة مقصود في نفسه، من حيث إنه تأخير، فأخذ بعض الصحابة بهذا المفهوم؛ نظرًا إلى المعنى، لا إلى اللفظ، فصَلَّوا حين خافوا فوت الوقت، وأخذ آخرون بظاهر اللفظ، وحقيقته، فأخَّروها، ولم يعنِّف النبيّ صلى الله عليه وسلم واحدًا من الفريقين؛ لأنهم مجتهدون، ففيه: دلالة لمن يقول بالمفهوم، والقياس، ومراعاة المعنى، ولمن يقول بالظاهر أيضًا، والله أعلم. انتهى
(2)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(1)
"المصباح المنير" 2/ 432.
(2)
"شرح النوويّ" 12/ 98.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [23/ 4592](1770)، و (البخاريّ) في "صلاة الخوف"(946) و"المغازي"(4119)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1462 و 4719)، و (ابن سعد) في "الطبقات"(4/ 76)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 264)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(10/ 119) و"دلائل النبوّة"(4/ 6)، و (البغويّ) في "شرح السُّنة"(3798)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان المبادرة بالغزو، وتقديم أهمّ الأمرين المتعارضين.
2 -
(ومنها): بيان أنه لا يُعَنَّف المجتهد فيما فعله باجتهاده، إذا بذل وُسعه في الاجتهاد.
3 -
(ومنها): أنه قيل: يُستدلّ به على أن كل مجتهد مصيب، وللقائل الآخر أن يقول: لم يُصَرِّح بإصابة الطائفتين، بل توك تعنيفهم، ولا خلاف في ترك تعنيف المجتهد، وإن أخطأ، إذا بذل وُسْعه في الاجتهاد.
4 -
(ومنها): ما قال السهيليّ رحمه الله: أنه لا يعاب على من أخذ بظاهر حديث، أو آية، فقد صلّت منهم طائفة قبل أن تغرب الشمس، وقالوا: لم يُرِد النبيّ صلى الله عليه وسلم إخراج الصلاة عن وقتها، وإنما أراد الحثّ، والإعجال، فما عَنَّف أحدًا من الفريقين.
5 -
(ومنها): ما قال السهيليّ أيضًا: فيه دليل على أن كل مختلفين في الفروع من المجتهدين مصيب، وفي حُكم داود وسليمان في الحرث أصل لهذا الأصل أيضًا، فإنه قال سبحانه وتعالى:{فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء: 79]، ولا يستحيل أن يكون الشيء صوابًا في حقّ إنسان، وخطأ في حقّ غيره، فيكون من اجتهد في مسألة، فادّاه اجتهاده إلى التحليل مصيبًا في استحلاله، وآخر اجتهد فأذاه اجتهاده، ونَظَره إلى تحريمها مصيبًا في تحريمها، وإنما المحال أن يَحْكُم في النازلة بحكمين متضادَّين في حقّ شخص واحد، وإنما عَسُر فهم هذا الأصل على طائفتين: الظاهرية، والمعتزلة، أما الظاهرية،
فإنهم عَلَّقوا الأحكام بالنصوص، فاستحال عندهم أن يكون النصّ يأتي بحظر وإباحة معًا، إلا على وجه النسخ، وأما المعتزلة، فإنهم عَلَّقوا الأحكام بتقبيح العقل وتحسينه، فصار حُسن الفعل عندهم أو قُبْحه صفةَ عين، فاستحال عندهم أن يتصف فعل بالحُسن في حق زيد، والقُبح في حق عمرو، كما يستحيل ذلك في الألوان، والأكوان، وغيرهما من الصفات القائمة بالذوات، وأما ما عدا هاتين الطائفتين من أرباب الحقائق، فليس الحظر والإباحة عندهم بصفات أعيان، وإنما هي صفات أحكام، والحكم من الله تعالى يحكم بالحظر في النازلة على من أداه اجتهاده إلى الحظر، وكذلك الإباحة والندب والإيجاب والكراهة كلها صفات أحكام، فكل مجتهد وافق اجتهاده وجهًا من التأويل، وكان عنده من أدوات الاجتهاد ما يترفع به عن حضيض التقليد إلى هَضْبَة النظر، فهو مصيب في اجتهاده، مصيب للحكم الذي تُعُبِّد به، وإن تُعُبِّد غيره في تلك النازلة بعينها بخلاف ما تُعُبّد هو به، فلا يُعَدّ في ذلك مخطئًا، إلا على من لا يعرف الحقائق، أو عَدَلَ به الهوى عن أوضح الطرائق. انتهى كلام السهيليّ رحمه الله
(1)
.
قال الحافظ بعد نقل كلام السهيليّ المذكور باختصار ما نصّه: والمشهور أن الجمهور ذهبوا إلى أن المصيب في القطعيّات واحد، وخالف الجاحظ، والعنبريّ، وأما ما لا قطع فيه: فقال الجمهور أيضًا: المصيب واحد، وقد ذكر ذلك الشافعيّ، وقرّره، ونَقَل عن الأشعريّ أن كل مجتهد مصيب، وأن حكم الله تابع لظنّ المجتهد، وقال بعض الحنفية، وبعض الشافعية: هو مصيب باجتهاده، وإن لم يُصب ما في نفس الأمر، فهو مخطئ، وله أجر واحد.
قال: ثم الاستدلال بهذه القصّة على أن كل مجتهد مصيب على الإطلاق ليس بواضح، وإنما فيه ترك تعنيف مَن بَذَل وُسْعه، واجتهد، فيستفاد منه عدم تأثيمه.
وحاصل ما وقع في القصة: أن بعض الصحابة رضي الله عنهم حَمَلوا النهي على حقيقته، ولم يبالوا بخروج الوقت؛ ترجيحًا للنهي الثاني على النهي الأول،
(1)
"الروض الأنف" 6/ 225 - 226.
وهو ترك تأخير الصلاة عن وقتها، واستدلوا بجواز التأخير لمن اشتَغَل بأمر الحرب بنظير ما وقع في تلك الأيام بالخندق، فقد تقدم حديث جابر رضي الله عنه المصرِّح بأنهم صَلَّوُا العصرَ بعدما غربت الشمس، وذلك لِشُغلهم بأمر الحرب، فجوَّزوا أن يكون ذلك عامًّا في كل شغل، يتعلق بأمر الحرب، ولا سيما والزمان زمان التشريع، والبعض الآخر حَمَلوا النهي على غير الحقيقة، وأنه كناية عن الحثّ، والاستعجال، والإسراع إلى بني قريظة. انتهى
(1)
.
6 -
(ومنها): أنه قد استدلّ به الجمهور على عدم تأثيم من اجتهد؛ لأنه صلى الله عليه وسلم يُعَنِّف أحدًا من الطائفتين، فلو كان هناك إثم لَعَنَّف مَن أَثِمَ.
7 -
(ومنها): أنه استَدَلّ به ابن حبان على أن تارك الصلاة حتى يخرج وقتها لا يكفر، وفيه نظر لا يخفى، واستَدَلّ به غيره على جواز الصلاة على الدواب في شدة الخوف، وفيه نظر.
8 -
(ومنها): أنه استُدلّ به على أن الذي يتعمد تأخير الصلاة حتى يخرج وقتها يقضيها بعد ذلك؛ لأن الذين لم يصلّوا العصر صلّوها بعد ذلك، كما وقع عند ابن إسحاق أنهم صلَّوها في وقت العشاء، وعند موسى بن عقبة أنهم صلوها بعد أن غابت الشمس، وكذا في حديث كعب بن مالك، وفيه نَظَر أيضًا؛ لأنهم لم يؤخروها إلا لعذر تأوّلوه، والنزاع إنما هو فيمن أخَّر عمدًا بغير تأويل.
وأغرب ابن الْمُنَيِّر فادَّعَى أن الطائفة الذين صلّوا العصر لمّا أدركتهم في الطريق، إنما صلّوها وَهُمْ على الدوابّ، واستند إلى أن النزول إلى الصلاة ينافي مقصود الإسراع في الوصول، قال: فإن الذين لم يصلّوا عَمِلوا بالدليل الخاصّ، وهو الأمر بالإسراع، فتركوا عموم إيقاع العصر في وقتها إلى أن فات، والذين صَلَّوا جمعوا بين دليلي وجوب الصلاة، ووجوب الإسراع، فصَلَّوا ركبانًا؛ لأنهم لو صلوا نزولًا لكان مضادّة لِمَا أُمروا به من الإسراع، ولا يُظَنّ ذلك بهم مع ثقوب أفهامهم. انتهى.
قال الحافظ: وفيه نظر؛ لأنه لم يُصَرَّح لهم بترك النزول، فلعلهم فَهِموا
(1)
"الفتح" 9/ 209، 211، كتاب "المغازي" رقم (4119).
أن المراد بأمرهم أن لا يصلّوا العصر إلا في بني قريظة: المبالغة في الأمر بالإسراع، فبادروا إلى امتثال أمره، وخَصُّوا وقت الصلاة من ذلك؛ لِمَا تقرّر عندهم من تأكيد أمرها، فلا يمتنع أن ينزلوا، فيصلّوا، ولا يكون في ذلك مضادّة لِمَا أُمروا به، ودعوى أنهم صفوا ركبانًا يحتاج إلى دليل، قال: ولم أره صريحًا في شيء من طرق هذه القصّة.
وقال ابن القيّم في "الهدي" ما حاصله: كلٌّ من الفريقين مأجور بقصده، إلا أن من صلى حاز الفضيلتين: امتثال الأمر في الإسراع، وامتثال الأمر في المحافظة على الوقت، ولا سيما ما في هذه الصلاة بعينها من الحثّ على المحافظة عليها، وأن من فاتته حَبِط عمله، وإنما لم يُعَنِّف الذين أخَّروها؛ لقيام عذرهم في التمسك بظاهر الأمر، ولأنهم اجتهدوا، فأخَّروا، لامتثالهم الأمر، لكنهم لم يَصِلُوا إلى أن يكون اجتهادهم أصوب من اجتهاد الطائفة الأخرى، وأما من احتج لمن أخَّر بأن الصلاة حينئذ كانت تؤخَّر، كما في الخندق، وكان ذلك قبل صلاة الخوف، فليس بواضح؛ لاحتمال أن يكون التأخير في الخندق كان عن نسيان، وذلك بَيِّن في قوله صلى الله عليه وسلم لعمر لمّا قال له: ما كِدت أصلي العصر حتى كادت الشمس أن تغرب، فقال:"والله ما صلَّيتُها"؛ لأنه لو كان ذاكرًا لها لبادر إليها، كما صنع عمر. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: مسألة هل كلّ مجتهد مصيب؟ قد حقّقتها في "التحفة المرضيّة"، حيث قلت:
هَذَا الْكَلَامُ مُجْمَلٌ يُسْتَفْصَلُ
…
فَإِنْ يُرَدْ لِلْحَق قُلْ لَا يُقْبَلُ
وَإِنْ يُرَدْ بِهِ إِصَابَةُ الثَّوَابْ
…
وَالأَجْرِ عِنْدَ اللهِ قُلْ هَا صَوَابْ
فَالْحَقُّ وَاحِدٌ فَمَنْ يُصِيبُهُ
…
أُثِيبَ أَجْرَيْنِ بِمَا يُجِيبُهُ
وَمُخْطِئٌ يَحْظَى بِأَجْرٍ وَاحِدِ
…
بِبَذْلِهِ الْجُهْدَ وَإِنْ لَمْ يَهْتَدِ
لِذَاكَ أَرْشَدَ النَّبِيُّ الْمُنْتَقَى
…
فِي الْخَبَرِ الَّذِي عَلَيْهِ اتُّفِقَا
وأعني بالخبر المذكور: ما أخرجه الشيخان في "صحيحيهما" عن عمرو بن
(1)
"الفتح" 9/ 209، 211، كتاب "المغازي" رقم (4119).
العاص رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا حَكَم الحاكم فاجتهد، ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم، فاجتهد، ثم أخطأ، فله أجر"، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(24) - (بَابُ رَدِّ الْمُهَاجِرِينَ إِلَى الأَنْصَارِ مَنَائِحَهُمْ، مِنَ الشَّجَر، وَالثَّمَر، حِينَ اسْتَغْنَوْا عَنْهَا بِالْفُتُوحِ)
[4593]
(1771) - (وَحَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِر، وَحَرْمَلَةُ، قَالَا: أخْبَرَنَا ابْنُ وَهْب، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: لَمَّا قَدِمَ الْمُهَاجِرُونَ مِنْ مَكَّةَ الْمَدِينَةَ، قَدِمُوا، ولَيْسَ بِأَيْدِيهِمْ شَيْءٌ، وَكَانَ الأَنْصَارُ أَهْلَ الأَرْض، وَالْعَقَارِ، فَقَاسَمَهُمُ الأَنْصَارُ، عَلَى أَنْ أَعْطَوْهُمْ أَنْصَافَ ثِمَارِ أمْوَالِهِمْ كُلَّ عَامٍ، وَيَكْفُونَهُمُ الْعَمَلَ، وَالْمَئُونَةَ، وَكَانَتْ أُمُّ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، وَهْيَ تُدْعَى أُمَّ سُلَيْمٍ - وَكَانَتْ أمَّ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، كَانَ أَخًا لأَنَسٍ لأُمِّه - وَكَانَتْ أَعْطَتْ أُمُّ أنُسٍ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عِذَاقًا لَهَا، فَأَعْطَاهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أُمَّ أَيْمَنَ مَوْلَاتَهُ، أمّ أُسَامَةَ بْنِ زيدٍ. قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَأخْبَرَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا فَرَغَ مِنْ قِتَالِ أَهْلِ خَيْبَرَ، وَانْصَرَفَ إِلَى الْمَدِينَة، رَدَّ الْمُهَاجِرُونَ إِلَى الأَنْصَارِ مَنَائِحَهُمُ الَّتِي كَانُوا مَنَحُوهُمْ، مِنْ ثِمَارِهِمْ. قَالَ: فَرَدَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى أُمِّي عِذَاقَهَا، وَأَعْطَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أُمَّ أَيْمَنَ مَكَانَهُنَّ مِنْ حَائِطِهِ. قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: وَكَانَ مِنْ شَأْنِ أُمِّ أَيْمَنَ، أُمِّ أُسَامَةَ بْنِ زيدٍ، أَنَّهَا كَانَتْ وَصِيفَةً لِعَبْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِب، وَكَانَتْ مِنَ الْحَبَشَة، فَلَمَّا وَلَدَتْ آمِنَةُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَعْدَمَا تُوُفِّيَ أَبُوهُ، فَكَانَتْ أُمُّ أَيْمَنَ تَحْضُنُهُ، حَتَّى كَبِرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَعْتَقَهَا، ثُمَّ أَنْكَحَهَا زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ، ثُمَّ تُوُفِّيَتْ بَعْدَمَا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِخَمْسَةِ أَشْهُرٍ).
رجال هذا الإسناد: ستّةٌ:
1 -
(أَبُو الطَّاهِرِ) أحمد بن عمرو بن السرح المصريّ، تقدّم قبل بابين.
2 -
(حَرْمَلَةُ) بن يحيى التُّجيبيّ المصريّ، تقدّم قريبًا.
3 -
(ابْنُ وَهْبٍ) عبد الله، تقدّم قبل بابين.
4 -
(يُونُسُ) بن يزيد الأيليّ، تقدّم قريبًا.
5 -
(ابْنُ شِهَابٍ) محمد بن مسلم الإمام الزهريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
6 -
(أَنَسُ بْنُ مَالِكِ) بن النضر بن ضمضم الأنصاريّ الخزرجيّ، الخادم الشهير، مات رضي الله عنه سنة (2 أو 93)، وقد جاوز المائة (ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأن فيه أنس بن مالك رضي الله عنه من المكثرين السبعة، روى (2286) حديثًا، وهو الخادم الشهير خدم النبيّ صلى الله عليه وسلم عشر سنين، ونال دعوته المباركة، فكثُر ماله، وأولاده، وطال عمره حتى جاوز المائة، وهو آخر من مات من الصحابة بالبصرة رضي الله عنه.
شرح الحديث:
(عَنْ أنسِ بْنِ مَالِكٍ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: لَمَّا قَدِمَ) بكسر الدال، (الْمُهَاجِرُونَ مِنْ مَكَّةَ الْمَدِينَةَ) منصوب على المفعوليّة لـ "قَدِمَ"، (قَدِمُوا)؛ أي: المدينة، وقوله:(وَلَيْسَ بِأَيْدِيهِمْ شَيْءٌ) جملة حاليّة من الفاعل؛ أي: لا يوجد بأيدي المهاجرين شيء من أموالهم؛ لأن المشركين منعوهم من أخذ أموالهم عند الهجرة. (وَكَانَ الأَنْصَارُ) هم الأوس والخزرج، (أَهْلَ الأَرْض، وَالْعَقَارِ) قال ابن الأثير رحمه الله: "العَقَار" بالفتح": الضَّيْعَةُ، والنخل، والأرض، ونحو ذلك. انتهى
(1)
، وقال الفيّوميّ رحمه الله:"العَقَار" مثلُ سَلَامٍ: كلُّ مُلك ثابتٍ، له أصل؛ كالدار، والنخل، قال بعضهم: ورُبّما أُطلق على المتاع، والجمع: عَقَارات. انتهى
(2)
.
وقال النوويّ رحمه الله: أراد بالعقار هنا: النخل، قال الزجّاج: العقار كلُّ ما له أصلٌ، قال: وقيل: إن النخل خاصّةً يقال له: العقار. انتهى
(3)
.
والظاهر أنه أراد بالعقار هنا: النخل، والله تعالى أعلم.
(1)
"النهاية" 3/ 274.
(2)
"المصباح المنير" 2/ 421.
(3)
"شرح النوويّ" 12/ 99.
(فَقَاسَمَهُمُ الأَنْصَارُ) قال في "الفتح": ظاهره مغاير لقوله في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قالت الأنصار للنبيّ صلى الله عليه وسلم: اقسِمْ بيننا وبين إخواننا النخيل، قال:"لا"، والجمع بينهما أن المراد بالمقاسمة هنا: القسمة المعنوية، وهي التي أجابهم إليها في حديث أبي هريرة رضي الله عنه، حيث قال: قالوا: فيكفوننا المؤنة، ونُشركهم في الثمر، فكان المراد هنا: مقاسمة الثمار، والمنفيّ هناك: مقاسمة الأصول
(1)
.
قال: وزعم الداوديّ، وأقره ابن التين أن المراد بقوله هنا:"قاسمهم الأنصار"؛ أي: حالفوهم، جعله من القَسَم - بفتح القاف، والمهملة - لا من القَسْم - بسكون المهملة - وفيه نظر لا يخفى
(2)
.
وقال النوويّ رحمه الله: قال العلماء: لَمّا قَدِمَ المهاجرون آثرهم الأنصار بمنائح من أشجارهم، فمنهم من قَبِلها منيحة محضةً، ومنهم من قَبِلها بشرط أن يعمل في الشجر، والأرض، وله نصف الثمار، ولم تَطِب نفسه أن يقبلها منيحةً محضةً؛ لشرف نفوسهم، وكراهتهم أن يكونوا كَلًّا، وكان هذا مساقاة، أو في معنى المساقاة، فلما فُتِحت عليهم خيبرُ استغنى المهاجرون بأنصبائهم فيها عن تلك المنائح، فرَدّوها إلى الأنصار. انتهى
(3)
.
(عَلَى أَنْ أَعْطَوْهُمْ)؛ أي: أعطى الأنصارُ المها جرين، (أَنْصَافَ ثِمَارِ أَمْوَالِهِمْ كُل عَامٍ) منصوب على الظرفيّة، (وَيَكْفُونَهُمُ الْعَمَلَ)؛ أي: يكفي المهاجرون الأنصارَ العمل في أراضيهم، ونخلاتهم. (وَالْمَئُونَةَ)؛ أي: ثِقَلهم، وتكاليفهم، قال الفيّوميّ رحمه الله:"المَئُونَة": الثِّقَلُ، وفيها لغات: إحداها: على "فَعُولة" - بفتح الفاء، وبهمزة مضمومة - والجمع مَئُونات، على لفظها، ومَأَنْتُ القومَ أَمْأَنُهُمُ - مهموز، بفتحتين - واللغة الثانية:"مُؤنَةٌ" - بهمزة ساكنة - قال الشاعر:
أَمِيرُنَا مُؤْنَتُهُ خَفِيفَةٌ
والجمع: مُؤَنٌ، مثل: غُرْفة وغُرَف، والثالثة:"مَوْنَةٌ" بالواو، والجمع:
(1)
"الفتح" 6/ 488، كتاب "الهبة" رقم (2630).
(2)
"عمدة القاري" 13/ 186.
(3)
"شرح النوويّ" 12/ 99.
مُوَنٌ، مثل سُورة وسُوَر، يقال منها: مَانَهُ يَمُونُهُ، من باب قال. انتهى
(1)
.
(وَكَانَتْ أُمُّ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ) رضي الله عنهما، وخبر "كان":(أعطت رسول الله صلى الله عليه وسلم)، ولفظ البخاريّ:"وكانت أمه أم أنس". قال في "الفتح": الضمير في "أمه" يعود على أنس، و"أم أنس" بدل منه، وكذا "أمّ سُليم". انتهى
(2)
.
وقال في "العمدة": قوله: "وكانت أم أنس
…
" إلى قوله: "أبي طلحة" من كلام الزهريّ الراوي عن أنس، كذا قال بعضهم
(3)
، ولكن ظاهر السياق أنه يقتضي أنه من رواية الزهريّ، عن أنس، فيكون من باب التجريد، وهو أن يُنتزَع من أمير ذي صفة أمرٌ آخرُ مثلُ الأمر الأول في تلك الصفة، وإنما يُفعَل ذلك مبالغةً في كمال الصفة في الأمر الأول، والتجريد على أقسام، منها: مخاطبة الإنسان نفسه، كأنه ينتزع من نفسه شخصًا، فيخاطبه، والتجريد هنا من هذا القِسْم. انتهى
(4)
.
(وَهْيَ تُدْعَى)؛ أي: تسمَّى (أُمَّ سُلَيْم) بنت مِلْحان بن خالد الأنصاريّة، يقال: اسمها سهلة، أو رُنيلة، أو رُميثة، أَو مُليكة، أو انيثة، والغُميصاء، أو الرُّميصاء، اشتهرت بكنيتها، وكانت من الصحابيّات الفاضلات، ماتت رضي الله عنها في خلافة عثمان رضي الله عنه، تقدّمت ترجمتها في "الحيض" 7/ 716.
(وَكَانَتْ) هكذا هو في النسخ الموجودة عندي بالواو، ولعلّ الصواب حَذْفها - كما هو الواقع في "صحيح البخاريّ" -؛ لأنه خبر "كانت"؛ أي: كانت أمُّ أنس بن مالك (أُمَّ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ) زيد بن سهل، (كَانَ أَخًا لأَنَسٍ لأُمِّهِ) الأنصاريّ النجاريّ المدنيّ، حَنَّكه النبيّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا وُلد، يروي عن أبيه، وأخيه أنس، وعنه ابناه: إسحاق، وعبد الله، وابن ابنه يحيى بن إسحاق، وغيرهم.
(1)
"المصباح المنير" 2/ 586.
(2)
"الفتح" 6/ 488، كتاب "الهبة" رقم (2630).
(3)
هو: الحافظ ابن حجر، وتعقبُ العينيّ له هنا جيّد، ولذا أشار هو في آخر كلامه إلى التراجع، فراجع:"الفتح" 6/ 488.
(4)
"عمدة القاري" 13/ 186.
قال محمد بن سعد: كانت أمه أم سُليم حاملًا يوم حنين، ولم يزل عبد الله بالمدينة في دار أبي طلحة، وكان ثقةً قليل الحديث، وذكره ابن حبان في "الثقات".
وقال عبد الرزاق: أنا معمر، عن ثابت، عن أنس: كان لأبي طلحة من أم سُليم ولدٌ، فمات، فذكر القصة، وفي آخرها: فولدت غلامًا اسمه عبد الله، فكان من خير أهل زمانه، قال أبو نعيم الأصبهانيّ في "معرفة الصحابة": استُشْهِد بفارس، وحُكي عن غيره أنه تُوُفّي بالمدينة في خلافة الوليد، وأرّخه أبو أحمد الدمياطيّ سنة أربع وثمانين
(1)
.
(وَكَانَتْ أَعْطَتْ أُمُّ أنسٍ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم) فيه أن "كانت"، و "أعطت" تنازعا في رَفْع "أمُّ أنس"، ونَصْب "رسولَ الله صلى الله عليه وسلم"، وقوله:(عِذَاقًا لَهَا) - بكسر العين المهملة، وبذال معجمة خفيفة - جمع عَذْق - بفتح، ثم سكون - كحَبْل وحِبَال، والْعَذْق: النخلة، وقيل: إنما يقال لها ذلك: إذا كان حَمْلها موجودًا، والمراد: أنها وهبت له ثمرها.
(فَأَعْطَاهَا)؛ أي: أعطى تلك الْعِذَاقَ (رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أُمَّ أَيْمَنَ) بنصب "أمَّ" على أنها المفعول الأول لـ "أعطى"، والثاني "ها" مقدّمًا، وقوله:(مَوْلَاتَهُ) على البدليّة من"أمّ أيمن"؛ أي: مولاة النبيّ صلى الله عليه وسلم وَرِثها من أبيه، ثم أعتقها، ثم زوّجها زيد بن حارثة، فولدت له أسامة بن زيد رضي الله عنهما، كما أشار إليه بقوله:(أُمَّ أسَامَةَ بْنِ زيدٍ) رضي الله عنهما، و"أمّ أسامة" منصوب على البدليّة أيضًا.
وقوله: (قَالَ ابْنُ شِهَابٍ) موصول بالإسناد السابق، وكذا هو عند البخاريّ، (فَأَخْبَرَنِي أَنَسُ ابْنُ مَالِكٍ) رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا فَرَغَ مِنْ قِتَالِ أَهْلِ خَيْبَرَ، وَانْصَرَفَ إِلَى الْمَدِينَة، رَدَّ الْمُهَاجِرُونَ اِلَى الأَنْصَارِ مَنَائِحَهُمُ) جمع مَنِيحة؛ أي: عطاياهم، قال الفيّوميّ رحمه الله: الْمِنْحةُ - بالكسر - في الأصل: الشاة، أو الناقة يُعطيها صاحبها رجلًا يشرب لبنها، ثم يردّها إذا انقطع اللبن، ثم كَثُر استعماله حتى أُطلق على كلّ عطاء، ومَنَحته مَنْحًا، من بابي نفع، وضرب: أعطيته، والاسم: الْمَنِيحة. انتهى
(2)
. (الَّتِي كَانُوا مَنَحُوهُمْ)؛ أي: أعطوهم (مِنْ ثِمَارِهِمْ)"من"
(1)
"تهذيب التهذيب" 5/ 236.
(2)
"المصباح المنير" 2/ 580.
للتبعيض؛ أي: بعض ثمارهم، وهم يأخذون بعضها.
(قَالَ) أنس رضي الله عنه (فَرَدَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى أُمِّي عِذَاقَهَا، وَأَعْطَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أُمَّ أَيْمَنَ مَكَانَهُنَّ)؛ أي: بدل تلك الْعِذاق (مِنْ حَائِطِهِ)؛ أي: من بستانه صلى الله عليه وسلم، والمفعول الثاني لـ "أعطى" محذوف؛ أي: عِذاقًا أخرى، وَيحْتَمل أن تكون "من" هي الثاني؛ لأنها اسم بمعنى بعض، عند بعض النحاة.
وفي رواية عند البخاريّ: "من خالصه" بدل "حائطه"؛ أي: من خالص ماله.
وحاصل القصّة: أن الأنصار كانوا واسَوْا المهاجرين بنخيلهم؛ لينتفعوا بثمرها، فلمّا فتح الله النضير، ثم قريظة، قَسَم النبيّ صلى الله عليه وسلم في المهاجرين من غنائمهم، فأكثر، وأمَرَهم بردّ ما كان للأنصار؛ لاستغنائهم عنه، ولأنهم لم يكونوا مَلَّكوهم رقاب ذلك، وامتنعت أم أيمن من ردّ ذلك؛ ظنًّا أنها ملكت الرقبة، فلاطفها النبيّ صلى الله عليه وسلم لِمَا كان لها عليه من حقّ الحضانة، حتى عَوَّضها عن الذي كان بيدها بما أرضاها. انتهى
(1)
.
(قَالَ ابْنُ شِهَابٍ) الزهريّ، الظاهر أن هذا من كلام الزهريّ، فيكون مرسلًا، بخلاف ما تقدّم، فإنه عن الزهريّ، عن أنس، كما صرّح به هناك، وليست هذه الزيادة عند البخاريّ، بخلاف ما تقدّم، فتنبّه.
(وَكَانَ مِنْ شَأْنِ أُمِّ أَيْمَنَ، أُمِّ أُسَامَةَ بْنِ زيدٍ) بجرّ "أمّ" على البدليّة، (أَنَّهَا كَانَتْ وَصِيفَةً)؛ أي: أَمَةً، قال الفيّوميّ رحمه الله: الوَصِيف: الغلام دون المراهق، والوصيفة: الجارية كذلك، والجمع: وُصَفاء، ووصائف، مثلُ كريم، وكرماء، وكريمة وكرائم. انتهى
(2)
. (لِعَبْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطلِبِ) والد النبيّ صلى الله عليه وسلم، (وَكَانَتْ مِنَ الْحَبَشَةِ) قال النوويّ رحمه الله: هذا نصريح من ابن شهاب أن أم أيمن، أمَّ أسامة بن زيد حبشيةٌ، وكذا قاله الواقديّ، وغيره، ويؤيده ما ذَكره بعض المؤرخين أنها كانت من سبي الحبشة، أصحابِ الفيل، وقيل: إنها لم تكن حبشية، وإنما الحبشية امرأة أخرى، واسم أم أيمن التي هي أم أسامة: بَرَكة،
(1)
"الفتح" 9/ 211، كئاب "المغازي" رقم (4120).
(2)
"المصباح المنير" 2/ 661.
كُنيت بابنها أيمن بن عبيد الحبشيّ، صحابي استُشْهِد يوم خيبر، قاله الشافعيّ وغيره، وقد سبق ذِكر قطعةً من أحوال أم أيمن في "باب القافة". انتهى
(1)
.
(فَلَمَّا وَلَدَتْ آمِنَةُ) بنت وهب والدة رسول الله صلى الله عليه وسلم، (رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم) بالنصب على المفعوليّة، (بَعْدَمَا تُوُفِّيَ) بالبناء للمفعول، و"بعد" ظرف لـ "ولدت"، ونائب الفاعل قوله:(أَبُوهُ) عبد الله بن عبد المطّلب، (فَكَانَتْ أُمُّ أَيْمَنَ تَحْضُنُهُ) بضمّ الضاد المعجمة، من باب نصر، يقال: حضن الصبيَّ يَحضُنُه حَضْنًا، وحِضانةً بالكسر: إذا جعله في حِضْنه، أو ربّاه؛ كاحتضنه، قاله المجد، وقال أيضًا: الْحِضن بالكسر: ما دون الإبط إلى الكَشْح، أو الصدرُ، والعضدان، وما بينهما، وجانب الشيء، وناحيته، جمعه أحضان. انتهى
(2)
. (حَتَّى كَبِرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) بكسر الباء الموحّدة، يقال: كَبر، كفَرِح كِبَرًا، كعِنَبٍ، ومَكْبِرًا، كمَنْزِلٍ: طَعَن في السنّ
(3)
؛ أي: وقد كِبَر سَنّه صلى الله عليه وسلم، (فَأَعْتَقَهَا، ثُمَّ أَنْكَحَهَا زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ) مولاه رضي الله عنه، (ثُمَّ تُوُفِّيَتْ بَعْدَمَا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) ببناء الفعلين للمفعول (بِخَمْسَةِ أَشْهُرٍ) رضي الله عنها.
وفي "تهذيب التهذيب": أم أيمن حاضنةُ النبيّ صلى الله عليه وسلم، يقال: اسمها بركة، رَوَت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعنها أنس بن مالك، وحَنَش بن عبد الله الصنعانيّ، وأبو يزيد المدنيّ، قال ابن عبد البرّ: بركة بنت ثعلبة بن عمرو بن حِصن بن مالك بن سلمة بن عمرو بن النعمان، هي أم أيمن غَلَبت عليها كنيتها، كُنيت بابنها أيمن بن عبيد، وهي أم أسامة بن زيد بن حارثة، تزوجها زيد بعد عُبيد الحبشيّ، هاجرت الهجرتين، قال الواقديّ: كانت لعبد الله بن عبد المطلب، فصارت للنبيّ صلى الله عليه وسلم ميراثًا، وقال ابن أبي خيثمة، عن سليمان بن أبي شيخ: أم أيمن اسمها بركة، وكانت لأمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يقول: أم أيمن أمي بعد أمي، وروى سليمان بن المغيرة، عن ثابت، عن أنس، قال: قال أبو بكر لعمر: انطلق بنا إلى أم أيمن نزورها، كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزورها.
(1)
"شرح النوويّ" 12/ 100.
(2)
"القاموس المحيط" ص 298 - 299.
(3)
"القاموس المحيط" ص 1110.
قال الواقديّ، وابن حبان: ماتت في خلافة عثمان رضي الله عنهما. انتهى
(1)
.
تفرّد بها ابن ماجه، ولها في "الصحيحين" ذكر فقط، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أنس بن مالك رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [24/ 4593 و 4594](1771)، و (البخاريّ) في "الهبة"(2630) و"فرض الخمس"(3128) و"المغازي"(4030 و 4120)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(5/ 86)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6282)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 265)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(6/ 116)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان فضيلة ظاهرة للأنصار رضي الله عنهم في مواساتهم، وإيثارهم، وما كانوا عليه من حبّ الإسلام، وإكرام أهله، وأخلاقهم الجميلة، ونفوسهم الطاهرة، وقد شَهِد الله تعالى لهم بذلك، فقال تعالى:{وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ} الآية [الحشر: 9].
2 -
(ومنها): مشروعية هبة المنفعة، دون الرقبة.
3 -
(ومنها): بيان فَرْط جود النبيّ صلى الله عليه وسلم، وكثرة حلمه، وبِرِّه، حيث عامل أم أيمن رضي الله عنها هذه المعاملة الحسنة.
4 -
(ومنها): بيان منزلة أم أيمن رضي الله عنها عند النبيّ صلى الله عليه وسلم، وكانت حاضنته، وهي والدة أسامة بن زيد، وابنها أيمن أيضًا له صحبة، واستُشهد بحنين، وهو أسن من أسامة رضي الله عنه
(2)
.
5 -
(ومنها): ما قال النوويّ رحمه الله: قوله: "فأعطاها رسول الله صلى الله عليه وسلم أمَّ
(1)
"تهذيب التهذيب" 12/ 486.
(2)
راجع: "الفتح" 9/ 212، كتاب "المغازي" رقم (4120).
أيمن": هذا دليل لِمَا قدّمنا عن العلماء أنه لم يكن كلّ ما أعطت الأنصار على المساقاة، بل كان فيه ما هو منيحةٌ، ومواساةٌ، وهذا منه، وهو محمول على أنها أعطته صلى الله عليه وسلم ثمارها، يفعل فيها ما شاء، من أَكْله بنفسه، وعياله، وضيفه، وإيثاره بذلك لمن شاء، فلهذا آثر بها أم أيمن رضي الله عنها، ولو كانت إباحة له خاصّة لَمَا أباحها لغيره؛ لأن المباح له بنفسه لا يجوز له أن يبيح ذلك الشيء لغيره، بخلاف الموهوب له نفس رقبة الشيء، فإنه يتصرف فيه كيف شاء. انتهى
(1)
.
6 -
(ومنها): ما قال النوويّ رحمه الله أيضًا: قوله: "رد المهاجرون إلى الأنصار منائحهم
…
إلخ" هذا دليل على أنها كانت منائحَ ثمار؛ أي: إباحةً للثمار، لا تمليكًا لرقاب النخل، فإنها لو كانت هبةً لرقبة النخل، لم يرجعوا فيها، فإن الرجوع في الهبة بعد القبض لا يجوز، وإنما كانت إباحةً كما ذكرنا، والإباحة يجوز الرجوع فيها متى شاء، ومع هذا لم يرجعوا فيها، حتى اتسعت الحال على المهاجرين بفتح خيبر، واستغنَوْا عنها، فردُّوها على الأنصار، فقبلوها، وقد جاء في الحديث: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال لهم ذلك. انتهى
(2)
.
7 -
(ومنها): أن في قصة أم أيمن رضي الله عنها أنها امتنعت من ردّ تلك المنائح حتى عوَّضها رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة أمثالها، كما ذُكر في الرواية التالية، قال النوويّ رحمه الله: وإنما فعلت هذا؛ لأنها ظَنّت أنها كانت هبة مؤتدة، وتمليكًا لأصل الرقبة، وأراد النبيّ صلى الله عليه وسلم استطابة قلبها في استرداد ذلك، فما زال يزيدها في العِوَض حتى رَضِيت، وكلُّ هذا تبرعّ منه صلى الله عليه وسلم، وإكرام لها لِمَا لها من حقّ الحضانة والتربية. انتهى
(3)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4594]
(
…
) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَحَامِدُ بْنُ عُمَرَ الْبَكْرَاوِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى الْقَيْسِيُّ، كُلُّهُمْ عَنِ الْمُعْتَمِرِ - وَاللَّفْظُ لِابْنِ أَبِي شَيْبَةَ - حَدَّثَنَا مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيُّ، عَنْ أَبِيه، عَنْ أنسٍ، أَنَّ رَجُلًا - وَقَالَ حَامِدٌ،
(1)
"شرح النوويّ" 12/ 99 - 100.
(2)
"شرح النوويّ" 12/ 99 - 100.
(3)
"شرح النوويّ" 12/ 101.
وَابْنُ عَبْدِ الأَعْلَى: أَنَّ الرَّجُلَ - كَانَ يَجْعَلُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم النَّخَلَاتِ مِنْ أَرْضِه، حَتَّى فُتِحَتْ عَلَيْهِ قُرَيْظَةُ، وَالنَّضِيرُ، فَجَعَلَ بَعْدَ ذَلِكَ يَرُدُّ عَلَيْهِ مَا كَانَ أَعْطَاهُ، قَالَ أَنَسٌ: وَإِنَّ أَهْلِي أَمَرُونِي أَنْ آتِيَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم، فَأَسْأَلَهُ مَا كَانَ أَهْلُهُ أَعْطَوْهُ، أَوْ بَعْضَهُ، وَكَانَ نَبِيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ أَعْطَاهُ أمّ أَيْمَنَ، فَأتَيْتُ النَّبِي صلى الله عليه وسلم، فَأَعْطَانِيهِنَّ، فَجَاءَتْ أمّ أَيْمَنَ، فَجَعَلَتِ الثَّوْبَ فِي عُنُقِي، وَقَالَتْ: وَاللهِ لَا نُعْطِيكَاهُنَّ، وَقَدْ أَعْطَانِيهِنَّ، فَقَالَ نَبِيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"يَا أُمَّ أَيْمَنَ اتْرُكِيه، وَلَكِ كَذَا وَكَذَا"، وَتَقُولُ: كَلَّا، وَالَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، فَجَعَلَ يَقُولُ: كَذَا، حَتى أَعْطَاهَا عَشْرَةَ أَمْثَالِه، أَوْ قَرِيبًا مِنْ عَشْرَةِ أَمْثَالِهِ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم قبل باب.
2 -
(حَامِدُ بْنُ عُمَرَ الْبَكْرَاوِيُّ) هو: حامد بن عمر بن حفص بن عمر بن عبيد الله بن أبي بكرة الثقفيّ البكراويّ، أبو عبد الرحمن البصريّ، قاضي كرمان، وقيل: إن حفصًا جدّه هو ابن عبد الرحمن بن أبي بكرة، ثقةٌ [10](ت 233)(خ م) تقدم في "الطهارة" 26/ 649.
[تنبيه]: قوله: "البكراويّ": نسبة إلى جدّه الأعلى أبي بكر الصحابيّ المشهور رضي الله عنه.
3 -
(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى الْقَيْسِيُّ) الصنعانيّ، أبو عبد الله البصريّ، ثقةٌ [10](ت 245)(م قد ت س ق) تقدم في "الإيمان" 92/ 503.
4 -
(مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيُّ) أبو محمد البصريّ، يُلقّب بالطفيل، ثقةٌ، من كبار [9](ت 187)، وقد جاوز الثمانين (ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 105.
5 -
(أَبُوهُ) سليمان بن طَرْخان التيميّ، أبو المعتمر البصريّ، نزل في بني تيم، فنُسب إليهم، ثقةٌ عابدٌ [4](ت 143)، وهو ابن (97)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 9.
و"أنس بن مالك رضي الله عنه " ذُكر قبله.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (308) من رباعيّات الكتاب، وأنه مسلسل بالبصريين، سوى شيخه أبي بكر، فكوفيّ.
وقوله: (أَنَّ رَجُلًا) أراد به جنس الرجل.
وقوله: (أَنَّ الرَّجُلَ)"أل" فيه جنسيّة.
وقوله: (حَتَّى فُتِحَتْ عَلَيْهِ قُرَيْظَةُ) ببناء الفعل للمفعول، و"قريظة" نائب فاعله.
وقوله: (فَجَعَلَ) بالبناء للفاعل، وهو بمعنى شَرَع، وفاعله ضمير النبيّ صلى الله عليه وسلم.
وقوله: (بَعْدَ ذَلِكَ)؛ أي: بعدما فُتحت قريظة والنضير.
وقوله: (يَرُدُّ عَلَيْهِ)؛ أي: يردّ النبيّ صلى الله عليه وسلم على ذلك الرجل جعل النخلات له.
وقوله: (مَا كَانَ أَعْطَاهُ)"ما" موصولة مفعول "يرُدّ".
وقوله: (وَإِنَّ أَهْلِي
…
إلخ)؛ أي: أمه ومن معها، كزوجها أبي طلحة رضي الله عنهما.
وقوله: (مَا كَانَ أَهْلُهُ أَعْطَوْهُ
…
الخ) فيه التفات من التكلّم إلى الغيبة، إذ حقّه أن يقول: ما كان أهلي أعطوه، والمعنى: أمروني بأن أستردّ منه صلى الله عليه وسلم الذي كانوا أعطوه، قيل: ولعل مبادرتهم إلى ذلك للتبرك بما استعمله صلى الله عليه وسلم، وإلا فهم أكثر الناس إيثارًا للنبيّ صلى الله عليه وسلم، وأصحابه، والله تعالى أعلم.
وقوله: (فَأَعْطَانِيهِنَّ)؛ أي: أعطاني صلى الله عليه وسلم العِذَاق التي أعطتها له أم سُليم رضي الله عنها.
وقوله: (فَجَعَلَتِ الثَّوْبَ فِي عُنُقِي) كناية عن أخذها من ثيابه، وتلبيبها إياه، لتجرّه وتخرجه من عِذاقها التي أعطاها صلى الله عليه وسلم.
وقوله: (وَقَالَتْ: وَاللهِ لَا نُعْطِيكَاهُنَّ) قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في معظم النسخ: "نعطيكاهن" بالألف بعد الكاف، وهو صحيح، فكأنه أشبع فتحة الكاف، فتولدت منها أَلِف، وفي بعض النسخ:"والله ما نُعطاكهنّ"، وفي بعضها:"لا نعطيكهنّ"، والنه أعلم. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قد اختلفت النسخ في هذه الكلمة، ففي بعضها:"لا يُعطيكهنّ" بياء الغيبة، والفاعل عليها ضمير النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهي واضحة، وفي بعضها:"لا نعطيكهنّ"، بنون المتكلّم، وهي أيضًا واضحة،
(1)
شرح النوويّ" 12/ 101.
وفي بعضها: "لا نعطيكاهنّ" بالنون، وألف بعد الكاف، وهي كما قال النوويّ: أكثر النسخ، وفي بعضها:"ما نعطكاهنّ"، وهاتان النسختان عندي أنهما دخلهما التصحيف، فتصحيح النوويّ لهما محلّ نظر، والله تعالى أعلم.
وقولها: (وَقَدْ أَعْطَانِيهِنَّ) جملة حاليّة من فاعل، يُعطيكهنّ".
وقوله: (وَلَكِ كَذَا وَكَذَا)؛ أي: مثل الذي لكِ مرةً.
وقوله: (وَتَقُولُ: كَلَّا
…
إلخ)؛ أي: لترتدع، ولينزجر عن أخذها.
وقوله: (فَجَعَلَ يَقُولُ: كَذَا
…
إلخ)؛ أي: شرع النبيّ صلى الله عليه وسلم يزيدها مرتين، أو ثلاثًا إلى أن بَلّغها عشرة أمثالها، والله تعالى أعلم.
(25) - (بَابُ جَوَازِ الأَكْلِ مِنْ طَعَام الْغَنِيمَة في دَارِ الْحَرْبِ)
(1)
[4595]
(1772) - (حَدَّثَنَا شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ - يَعْني: ابْنَ الْمُغِيرَةِ - حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ هِلَالٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُغَفَّلٍ، قَالَ: أَصَبْتُ جِرَابًا مِنْ شَحْمٍ يَوْمَ خَيْبَرَ. قَالَ: فَالْتَزَمْتُهُ، فَقُلْتُ: لَا أُعْطي الْيَوْمَ أَحَدًا مِنْ هَذَا شَيْئًا. قَالَ: فَالْتَفَت، فَإِذَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مُتبَسِّمًا).
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ) الْحَبَطيّ، أبو محمد الأُبُلّيّ، صدوقٌ يَهِمُ، ورُمي بالقدر، قال أبو حاتم: اضطرّ الناس إليه أخيرًا، من صغار [9](ت 5 أو 236)، وله بضعة و (90) سنةً (م د س) تقدم في "الإيمان" 12/ 157.
2 -
(سُلَيْمَانُ بْنُ الْمُغِيرَةِ) الْقَيْسيّ مولاهم، أبو سعيد البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [7](ت 165)(ع) تقدم في "الإيمان" 3/ 111.
3 -
(حُمَيْدُ بْنُ هِلَالٍ) العدويّ، أبو نصر البصريّ، ثقةٌ فقيهٌ [3](ع)(بخ م 4) تقدم في "الحيض" 21/ 791.
(1)
وترجم في بعض النسخ بقوله: "بابُ أَخْذِ الطَّعَامِ مِنْ أَرْضِ الْعَدُوِّ"، وهو قريب من الأول.
4 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ مُغَفَّلِ) بن عُبيد بن نَهْم المزنيّ، أبو عبد الرحمن الصحابيّ، بايع تحت الشجرة، ثم نزل البصرة، مات رضي الله عنه سنة (57) أو بعد ذلك (ع) تقدم في "الطهارة" 27/ 659.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله؛ كسابقه، وهو (309) من رباعيّات الكتاب، وأنه مسلسل بالبصريين من أوله إلى آخره، وشيخه أُبُلّيّ، وأُبُلّة قرية من قرى البصرة، والإسناد التالي مسلسلٌ بالتحديث والسماع.
شرح الحديث:
(عَنْ عَبْدِ الله بْنِ مُغَفَّلٍ) بصيغة اسم المفعول المشدّد، بوزن مُحَمَّد، ويجوز فيه "المغفّل" بـ "أل"؛ للمح الأصل، كما في "الخلاصة":
وَبَعْضُ الاعْلَامِ عَلَيْهِ دَخَلَا
…
لِلَمْحِ مَا قَدْ كَانَ عَنْهُ نُقِلَا
وفي الرواية التالية: "قال: سمعت عبد الله بن مغفّل".
(قَالَ: أَصَبْتُ جِرَابًا) وفي الرواية التالية: "رُمي إلينا جراب، فيه طعام وشحم"، وفي رواية البخاريّ:"كنّا محاصِري خيبر، فرمى إنسان بجراب فيه شحم"، وفي رواية أبي داود:"دُلِّيَ بجراب، يوم خيبر، فالتزمته".
و"الْجِرَابُ" - بكسر الجيم، وفتحها - لغتان، والكسر أفصح وأشهر، وهو وعاء من جلد، هكذا أثبت النوويّ تبعأ لعياض الكسر، والفتح في الجيم
(1)
، ونفى الفيّوميّ رحمه الله الفتح، ودونك عبارته، قال: والْجِراب معروف، والجمع: جُرُبٌ، مثلُ كتاب وكُتُب، وسُمع أجربة أيضًا، ولا يقال: جَرَابَ بالفتح، قاله ابن السكّيت غيره. انتهى
(2)
.
وقال المجد رحمه الله: والْجِرَابُ - أي: بالكسر - ولا يُفتح، أو لُغيّةٌ، فيما حكاه عياض، وغيره: الْمِزْود، أو الوعاء، جمعه: جُرُبٌ، وجُرْبٌ، وأَجربة. انتهى
(3)
.
(1)
"شرح النوويّ" 12/ 102.
(2)
"المصباح المنير" 1/ 95.
(3)
"القاموس المحيط" ص 254.
وقوله: (مِنْ شَحْمٍ)؛ أي: مشحون ذلك الجراب من شحم، (يَوْمَ خَيْبَرَ) ظرف لـ"أصبتُ". (قَالَ) عبد الله بن مغفّل رضي الله عنه (فَالْتَزَمْتُهُ)؛ أي: أخذت ذلك الجراب، وفي الرواية التالية:"فوثبتُ لآخذه"، وفي رواية البخاريّ:"فنزوت لآخذه"، وهو بمعنى وَثَبْت، (فَقُلْتُ) يَحْتَمِل أنه قال ذلك جهرًا، فلذا سمعه النبيّ صلى الله عليه وسلم، فتبسّم منه، ويَحْتَمِل أن يكون قاله في نفسه، وتبسّمه صلى الله عليه وسلم إنما هو لأخذه له، مسابقًا غيره. (لَا أعْطِي الْيَوْمَ أَحَدًا مِنْ هَذَا شَيْئًا. قَالَ) عبد الله (فَالْتَفَتُّ) بضمّ التاء المشدّدة؛ لكون تاء الفعل أُدغمت في تاء المتكلّم، (فَإِذَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) "إذا" هنا هي الفجائية؛ أي: ففاجأني حضوره صلى الله عليه وسلم، حال كونه (مُتَبَسِّمًا) تبسّم تعجّب على شدّة حرصه، وقد أخرج ابن وهب بسند مُعْضَل:"أن صاحب المغانم كعب بن عمرو بن زيد الأنصاريّ، أخذ منه الجراب، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: خَلِّ بينه وبين جرابه"، قال في "الفتح": وبهذا يتبيَّن معنى قوله: "فاستحييت من رسول الله صلى الله عليه وسلم"، ولعله استحيا من فعله ذلك، ومن قوله معًا، وموضع الحجة منه عدم إنكار النبيّ صلى الله عليه وسلم، بل قوله في رواية مسلم:"فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم متبسمًا" يدلّ على رضاه بأخذه، بل زاد أبو داود الطيالسيّ في آخره:"فقال: هو لك"، وكأنه عَرَفَ شدّة حاجته إليه، فسوغّ له الاستئثار به
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عبد الله بن مغفّل هذا متفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [25/ 4595 و 4596 و 4597](1772)، و (البخاريّ) في "فرض الخمس"(3153) و"المغازي"(4214) و"الذبائح"(5508)، و (أبو داود) في "الجهاد"(2702)، و (النسائيّ) في "الضحايا"(4437)، و"الكبرى"(4524)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(6/ 504 و 7/ 359)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1/ 123)، و (أحمد) في "مسنده" (16349
(1)
"الفتح" 7/ 436 - 437، كتاب "فرض الخمس" رقم (3153).
و 20044)، و (الدارميّ) في "سننه"(2500)، و (أبو نعيم) في "الحلية"(2/ 253)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 232)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(9/ 59 و 10/ 9)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان إباحة أكل طعام الغنيمة في دار الحرب.
2 -
(ومنها): بيان حِلّ ذبائح أهل الكتاب، وهو مجمَع عليه، ولم يخالف إلا الشيعة، قال النوويّ رحمه الله: ومذهبنا، ومذهب الجمهور إباحتها، سواء سَمَّوا الله تعالى عليها أم لا، وقال قوم: لا يحل إلا أن يسموا الله تعالى، فأما إذا ذبحوا على اسم المسيح، أو كنيسة، ونحوها، فلا تحل تلك الذبيحة عندنا، وبه قال جماهير العلماء. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: القول بإباحة ذبائح أهل الكتاب مطلقًا هو الموافق لظاهر النصّ، فتنبّه.
3 -
(ومنها): جواز أكل الشحوم التي توجد عند اليهود، وكانت محرّمة على اليهود، وهو مذهب مالك، وأبي حنيفة، والشافعيّ، وجماهير العلماء، قال الشافعيّ، وأبو حنيفة، والجمهور: لا كراهة فيها، وقال مالك: هي مكروهة، وقال أشهب، وابن القاسم المالكيان، وبعض أصحاب أحمد: هي محرمة، وحُكي هذا أيضًا عن مالك، واحتجّ الشافعيّ، والجمهور بقوله تعالى:{وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} الآية [المائدة: 5]، قال المفسرون: المراد به: الذبائح، ولم يَستثن منها شيئًا، لا لحمًا، ولا شحمًا، ولا غيره، قاله النوويّ رحمه الله
(2)
، وسيأتي تمام البحث في هذا في المسألة الخامسة - إن شاء الله تعالى -.
4 -
(ومنها): أن فيه حجةً على مَن مَنَع ما حُرِّم عليهم؛ كالشحوم؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم، أقرّ عبد الله بن مغفل رضي الله عنه على الانتفاع بالجراب المذكور.
5 -
(ومنها): أن فيه جواز أكل الشحم مما ذبحه أهل الكتاب، ولو كانوا أهل حرب؛ لأن الله تعالى لم يخصّ حين أحلّ ذبائحهم ذميًّا من حربيّ، ولا لحمًا من شحم.
(1)
"شرح النوويّ" 12/ 102.
(2)
"شرح النوويّ" 12/ 102.
6 -
(ومنها): بيان ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم من توقير النبيّ صلى الله عليه وسلم، ومن معاناة التنزّه عن خوارم المروءة، والله تعالى أعلم.
(المسألة الرابعة): في أقوال أهل العلم في أكل طعام الغنيمة في دار الحرب:
قال القاضي عياض رحمه الله: أجمع العلماء على جواز أكل طعام الحربيين ما دام المسلمون في دار الحرب، فيأكلون منه قَدْر حاجاتهم، ويجوز بإذن الإمام، وبغير إذنه، ولم يشترط أحد من العلماء استئذانه إلا الزهريّ، وجمهورهم على أنه لا يجوز أن يُخْرِج معه منه شيئًا إلى عمارة دار الإسلام، فإن أخرجه لزمه رده إلى المغنم، وقال الأوزاعيّ: لا يلزمه، وأجمعوا على أنه لا يجوز بيع شيء منه في دار الحرب، ولا غيرها، فإن بِيْع منه شيء لغير الغانمين كان بَدَله غنيمته، ويجوز أن يَرْكب دوابهم، ويلبس ثيابهم، ويستعمل سلاحهم في حال الحرب بالإجماع، ولا يفتقر إلى إذن الإمام، وشَرَط الأوزاعيّ إذنه، وخالف الباقين. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: ما ذهب إليه الجمهور من جواز الأكل بلا استئذان الإمام، وكذا ركوب دوابهم عند الحاجة، واستعمال سلاحهم، ونحو ذلك هو الأرجح؛ لقوّة دليله، فتأمل بالإمعان، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الخامسة): في اختلاف أهل العلم في حكم ذبائح أهل الكتاب:
قال الإمام ابن قُدامة رحمه الله: أجمع أهل العلم على إباحة ذبائح أهل الكتاب؛ لقول الله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} الآية [المائدة: 5]؛ يعني: ذبائحهم. قال البخاريّ: قال ابن عباس رضي الله عنهما: طعامهم: ذبائحهم، وكذلك قال مجاهد، وقتادة، ورُوي معناه عن ابن مسعود، وأكثر أهل العلم يرون إباحة صيدهم أيضًا، قال ذلك: عطاء، والليث، والشافعيّ، وأصحاب الرأي، ولا نعلم أحدًا حَرَّم صيد أهل الكتاب، إلا مالكًا، أباح ذبائحهم،
(1)
"شرح النوويّ" 12/ 102.
وحرّم صيدهم، ولا يصح؛ لأن صيدهم من طعامهم، فيدخل في عموم الآية؛ ولأن من حلّت ذبيحته حلّ صيده؛ كالمسلم.
قال: ولا فرق بين العدل والفاسق، من المسلمين، وأهل الكتاب، وعن ابن عباس رضي الله عنهما: لا تؤكل ذبيحة الأقلف، وعن أحمد مثله، والصحيح: إباحته، فإنه مسلم، فأشبه سائر المسلمين، وإذا أبيحت ذبيحة القاذف، والزاني، وشارب الخمر، مع تحقُّق فسقه، وذبيحة النصراني، وهو كافر أقلف، فالمسلم أولى.
قال: ولا فرق بين الحربيّ والذميّ، في إباحة ذبيحة الكتابيّ منهم، وتحريم ذبيحة من سواه، وسئل أحمد عن ذبائح نصارى أهل الحرب، فقال: لا بأس بها، حديث عبد الله بن مُغَفَّل رضي الله عنه في الشحم، قال إسحاق: أجاد، وقال ابن المنذر: أجمع على هذا كل من نَحفَظ عنه من أهل العلم، منهم مجاهد، والثوريّ، والشافعيّ، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وأصحاب الرأي، ولا فرق بين الكتابيّ العربيّ، وغيره، إلا أن في نصارى العرب اختلافًا، ذكرناه في باب الجزية. وسُئل مكحول عن ذبائح العرب؟ فقال: أمّا بَهْرَا، وتَنُوخ، وسُلَيح، فلا بأس، وأما بنو تَغْلِب، فلا خير في ذبائحهم، والصحيح: إباحة ذبائح الجميع؛ لعموم الآية فيهم.
قال: فإن كان أحد أبوي الكتابي، ممن لا تحل ذبيحته، والآخر ممن تحل ذبيحته، فقال أصحابنا - يعني: الحنبليّة -: لا يحل صيده، ولا ذبيحته، وبه قال الشافعيّ، إذا كان الأب غير كتابي. وإن كان الأب كتابيًّا، ففيه قولان:
[أحدهما]: تباح، وهو قول مالك، وأبو ثور.
[والثاني]: لا تباح؛ لأنه وُجد ما يقتضي التحريم والإباحة، فغُلِّب ما يقتضي التحريم، كما أَبُو جرحه مسلم ومجوسي، وبيانُ وجود ما يقتضي التحريم أَنَّ كونه ابن مجوسيّ، أو وثني، يقتضي تحريم ذبيحته.
وقال أبو حنيفة: تباح ذبيحته، بكل حال؛ لعموم النص، ولأنه كتابي يُقَرُّ على دينه، فتحل ذبيحته، كما لو كان ابن كتابيين، وأما إن كان ابن وثنيين، أو مجوسيين، فمقتضى مذهب الأئمة الثلاثة تحريمه، ومقتضى مذهب أبي حنيفة
حِلّه؛ لأن الاعتبار بدين الذابح، لا بدين أبيه، بدليل أن الاعتبار في قبول الجزية بذلك، ولعموم النص والقياس.
قال: فأما ما ذبحوه لكنائسهم وأعيادهم، فننظر فيه، فإن ذبحه لهم مسلم، فهو مباح، نُصَّ عليه. وقال أحمد، وسفيان الثوري، في المجوسي يذبح لإلهه، ويدفع الشاة إلى المسلم يذبحها، فيسمي: يجوز الأكل منها، وقال إسماعيل بن سعيد: سألت أحمد عما يُقَرَّب لآلهتهم، يذبحه رجل مسلم؟ قال: لا بأس به، وإن ذبحها الكتابي، وسمّى الله وحده، حَلَّت أيضًا؛ لأن شَرْط الحِلّ وُجد، وإن عُلم أنه ذَكَر اسم غير الله عليها، أو ترك التسمية عمدًا لم تَحِل. قال حَنْبَل: سمعت أبا عبد الله قال: لا يؤكل - يعني ما ذُبِح لأعيادهم وكنائسهم؛ لأنه أُهِلّ لغير الله به. وقال في موضع: يَدَعُون التسمية على عمد، إنما يذبحون للمسيح، فأما ما سوى ذلك، فرُويت عن أحمد الكراهة فيما ذُبح لكنائسهم، وأعيادهم مطلقًا، وهو قول ميمون بن مهران؛ لأنه ذُبح لغير الله، وروي عن أحمد إباحته. وسُئل عنه العرباض بن سارية؛ فقال: كلوا، وأطعموني. وروي مثل ذلك عن أبي أمامة الباهليّ، وأبي مسلم الخولانيّ، وأكله أبو الدرداء، وجبير بن نفير، ورخَّص فيه عمرو بن الأسود، ومكحول، وضمرة بن حبيب؛ لقول الله تعالى:{وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: 5]، وهذا من طعامهم، قال القاضي: ما ذبحه الكتابي لعيده، أو نجم، أو صنم، أو نبي، فسمّاه على ذبيحته حَرُم؛ لقوله تعالى:{وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} الآية [المائدة: 3]، وإن سمّى الله وحده حَلّ؛ لقول الله تعالى:{فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} الآية [الأنعام: 118]، لكنه يُكره؛ لِقَصْده بقلبه الذبح لغير الله. انتهى كلام ابن قُدامة رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي القول بحِلّ ذبائح أهل الكتاب على الإطلاق هو الأرجح؛ لإطلاق النصّ بذلك، دون تفصيل؛ فإن الله تعالى في الوقت الذي أخبرنا بأن أهل الكتاب بدّلوا، وغَيَّرُوا، فقال:{وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} الآية [التوبة: 30]، وقال:
(1)
"المغني" 13/ 293 - 295.
{لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ} الآية [المائدة: 73]، فقد أحلّ ذبائحهم، فقال:{وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} الآية، فدلّ على أن الحل على إطلاقه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4596]
(
…
) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ الْعَبْدِيُّ، حَدَّثَنَا بَهْزُ بْنُ أَسَدٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنِي حُمَيْدُ بْنُ هِلَالٍ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ مُغَفَّلٍ، يَقُولُ: رُمِيَ إِلَيْنَا جِرَابٌ، فِيهِ طَعَامٌ، وَشَحْمٌ، يَوْمَ خَيْبَرَ، فَوَثَبْتُ لآخُذَهُ، قَالَ: فَالْتَفَتُّ، فَإذَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَاسْتَحْيَيْتُ مِنْهُ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ الْعَبْدِيُّ) المعروف ببندار البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 252)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.
2 -
(بَهْزُ بْنُ أَسَدٍ) الْعَمّيّ، أبو الأسود البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [9] مات بعد المائتين، أو قبلها (ع) تقدم في "الإيمان" 3/ 112.
3 -
(شُعْبَةُ) بن الحجّاج الإمام الحجة الثبت الناقد [7](ت 160)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 381.
والباقيان ذُكرا قبله.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله في الحديث المذكور قبله، ولله الحمد والمنّة.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4597]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَاهُ مُحَمَّد بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، بِهَذَا الْإِسْنَاد، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: جِرَابٌ مِنْ شَحْمٍ، وَلَمْ يَذْكُرِ الطَّعَامَ).
رجال هذا الإسناد: ثلاثة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) أبو موسى الْعَنَزيّ البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 252)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.
2 -
(أَبُو دَاوُدَ) سليمان بن داود بن الجارود الطيالسيّ البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [9](ت 204)(خت م 4) تقدم في "المقدمة" 6/ 73.
و"شعبة" ذُكر قبله.
[تنبيه]: رواية شعبة، عن حميد بن هلال هذه ساقها ابن أبي شيبة رحمه الله في "مصنّفه"، فقال:
(36890)
- حدّثنا أبو داود، عن شعبة، عن حميد بن هلال، عن عبد الله بن مغفّل، قال: سمعته يقول: دُلِّي جراب من شحم، يوم خيبر، قال، فالتزمته، وقلت: هذا لا أعطي أحدًا منه شيئًا، قال: فالتفتّ، فإذا النبيّ صلى الله عليه وسلم يتبسم، فاستحييت. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
قال الجامع الفقير إلى مولاه الغنيّ القدير محمد ابن الشيخ العلامة عليّ بن آدم بن موسى خُويدم العلم بمكة المكرّمة:
قد انتهيتُ من كتابة الجزء الثلاثين من "شرح صحيح الإمام مسلم" المسمَّى "البحرَ المحيطَ الثّجّاج شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجّاج"، وقت الضحى يوم الخميس المبارك، وهو اليوم الرابع عشر من شهر محرّم (14/ 1/ 1431 هـ) الموافق (31 ديسمبر 2009 م).
أسأل الله العليّ العظيم ربّ العرش العظيم أن يجعله خالصًا لوجهه الكريم، وسببًا للفوز بجنات النعيم لي ولكلّ من تلقّاه بقلب سليم، إنه بعباده رؤوف رحيم.
وآخر دعوانا: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس: 10].
{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} الآية [الأعراف: 43].
{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (182)} [الصافات: 180 - 182].
"اللهم صلّ على محمد، وعلى آل محمد، كما صلّيت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد، وعلى آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد".
(1)
"مصنف ابن أبي شيبة" 7/ 395.
"السلام على النبيّ ورحمة الله وبركاته".
ويليه - إن شاء الله تعالى - الجزء الواحد والثلاثون مفتتحًا بـ (26) - (بَابُ كِتَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَى هِرَقْلَ يَدْعُوهُ إِلَى الإِسْلَامِ) رقم [4598](1773).
"سبحانك اللهمّ وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك".
* * *