المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

بسم الله الرحمن الرحيم يوم الخميس الرابع عشر من شهر محزم - البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج - جـ ٣١

[محمد بن علي بن آدم الأثيوبي]

فهرس الكتاب

بسم الله الرحمن الرحيم

يوم الخميس الرابع عشر من شهر محزم 14/ 1/ 431 هـ. أول الجزء الواحد والثلاثين من شرح "صحيح الإمام مسلم" المسمّى "البحر المحيط الثجّاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجّاج" رحمه الله تعالى.

(26) -) بَابُ كِتَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَى هِرَقْلَ يَدْعُوهُ إِلَى الإِسْلَامِ)

[4598]

(1773) - (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ، وَابْنُ أَبِي عُمَرَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ - وَاللَّفْظُ لِابْنِ رَافِع - قَالَ ابْنُ رَافِعٍ، وَابْنُ أَبِي عُمَرَ: حَدَّثَنَا، وَقَالَ الآخَرَانِ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاق، أخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزهْرِيّ، عَنْ عُبَيْدِ الله بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُتْبَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ أَخْبَرَهُ، مِنْ فِيهِ إِلَى فِيه، قَالَ: انْطَلَقْتُ فِي الْمُدَّةِ الَّتِي كَانَتْ بَيْنِي وَبَيْنَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: فَبَيْنَا أَنَا بِالشَّأْم، إِذْ جِيءَ بِكِتَابٍ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى هِرَقْلَ؛ يَعْنِي: عَظِيمَ الرُّومِ. قَالَ: وَكَانَ دِحْيَةُ الْكَلْبِيُّ جَاءَ بِه، فَدَفَعَهُ إِلَى عَظِيمِ بُصْرَى، فَدَفَعَهُ عَظِيمُ بُصْرَى إِلَى هِرَقْلَ، فَقَالَ هِرَقْلُ: هَلْ هَا هُنَا أَحَدٌ مِنْ قَوْمِ هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي يَزْعُمُ أنهُ نَبِيٌّ؟ قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: فَدُعِيتُ فِي نَفَرٍ مِنْ قُرَيْشٍ، فَدَخَلْنَا عَلَى هِرَقْلَ، فَأَجْلَسَنَا بَيْنَ يَدَيْه، فَقَالَ: أَيُّكُمْ أَقْرَبُ نَسَبًا مِنْ هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ؟ فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: فَقُلْتُ: أَنَا، فَأَجْلَسُونِي بَيْنَ يَدَيْه، وَأَجْلَسُوا أَصْحَابِي خَلْفِي، ثُمَّ دَعَا بِتَرْجُمَانِه، فَقَالَ لَهُ: قُلْ لَهُمْ: إِنِّي سَائِلٌ هَذَا عَنِ الرَّجُلِ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ، فَإِنْ كَذَبَنِي فَكَذِّبُوهُ، قَالَ: فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: وَايْمُ الله، لَوْلَا مَخَافَةَ أَنْ يُؤْثَرَ عَلَيَّ الْكَذِبُ لَكَذَبْتُ، ثُمَّ قَالَ لِتَرْجُمَانِهِ: سَلْهُ كَيْفَ حَسَبُهُ فِيكُمْ؟ قَالَ: قُلْتُ: هُوَ فِينَا ذُو حَسَبٍ، قَالَ: فَهَلْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مَلِكٌ؟ قُلْتُ: لَا، قَالَ: فَهَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ؟ قُلْتُ: لَا، قَالَ: وَمَنْ يَتَّبِعُهُ؟ أَشْرَافُ النَّاس، أَمْ

ص: 5

ضُعَفَاؤُهُمْ؟ قَالَ: قُلْتُ: بَلْ ضُعَفَاؤُهُمْ، قَالَ: أَيَزِيدُونَ أَمْ يَنْقُصُونَ؟ قَالَ: قُلْتُ: لَا، بَلْ يَزِيدُونَ، قَالَ: هَلْ يَرْتَدُّ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَنْ دِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِبهِ سَخْطَةً لَهُ؟ قَالَ: قُلْتُ: لَا، قَالَ: فَهَلْ قَاتَلْتُمُوهُ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: فَكَيْفَ

(1)

كَانَ قِتَالُكُمْ إِيَّاهُ؟ قَالَ: قُلْتُ: تَكُونُ الْحَرْبُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ سِجَالًا، يُصِيبُ مِنَّا، وَنُصِيبُ مِنْهُ، قَالَ: فَهَلْ يَغْدِرُ؟ قُلْتُ: لَا، وَنَحْنُ مِنْهُ فِي مُدَّةٍ لَا نَدْرِي مَا هُوَ صَانِعٌ فِيهَا؟ قَالَ: فَوَاللهِ مَا أَمْكَنَنِي مِنْ كَلِمَةٍ أدْخِلُ فِيهَا شَيْئًا غَيْرَ هَذِه، قَالَ: فَهَلْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ أَحَدٌ قَبْلَهُ؟ قَالَ: قُلْتُ: لَا.

قَالَ لِتَرْجُمَانِهِ: قُلْ لَهُ: إِنِّي سَأَلتُكَ عَنْ حَسَبِه، فَزَعَمْتَ أنَّهُ فِيكُمْ ذُو حَسَبٍ، وَكذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْعَثُ فِي أَحْسَابِ قَوْمِهَا، وَسَأَلتُكَ

(2)

هَلْ كَانَ فِي آبَائِهِ مَلِكٌ؛ فَزَعَمْتَ أَنْ لَا، فَقُلْتُ: لَوْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مَلِكٌ، قُلْتُ: رَجُلٌ يَطْلُبُ مُلْكَ آبَائِه، وَسَأَلتُكَ عَنْ أَتبَاعِه، أَضُعَفَاؤُهُمْ، أَمْ أَشْرَافُهُمْ؟ فَقُلْتَ: بَلْ ضُعَفَاؤُهُمْ، وَهُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُل، وَسَأَلتُكَ هَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ؟ فَزَعَمْتَ أَنْ لَا، فَقَدْ عَرَفْتُ

(3)

أنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيَدَع الْكَذِبَ عَلَى النَّاس، ثُمَّ يَدْهَبَ فَيَكْذِبَ عَلَى الله، وَسَأَلتُكَ هَلْ يَرْتَدُّ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَنْ دِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَهُ سَخْطَةً لَهُ؟ فَزَعَمْتَ أَنْ لَا، وَكَذَلِكَ الإِيمَانُ إِذَا خَالَطَ بَشَاشَةَ الْقُلُوب، وَسَأَلتُكَ هَلْ يَزِيدُونَ، أَوْ يَنْقُصُونَ؟

(4)

فَزَعَمْتَ أنَّهُمْ يَزِيدُونَ، وَكذَلِكَ الإِيمَانُ حَتَّى يَتِمَّ، وَسَأَلتُكَ هَلْ قَاتَلْتُمُوهُ؟ فَزَعَمْتَ أنَّكُمْ قَدْ قَاتَلْتُمُوهُ، فَتَكُونُ الْحَرْبُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ سِجَالًا، يَنَالُ مِنْكُمْ، وَتَنَالُونَ مِنْهُ، وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْتَلَى، ثُمَّ تَكُونُ لَهُمُ الْعَاقِبَةُ

(5)

، وَسَأَلتُكَ هَلْ يَغْدِرُ؟ فَزَعَمْتَ أَنَّهُ لَا يَغْدِرُ، وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ لَا تَغْدِرُ، وَسَأَلتُكَ هَلْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ أَحَدٌ قَبْلَهُ؟ فَزَعَمْتَ أَنْ لَا، فَقُلْتُ: لَوْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ أَحَدٌ قَبْلَهُ، قُلْتُ: رَجُلٌ ائْتَمَّ بِقَوْلٍ قِيلَ قَبْلَهُ، قَالَ: ثُمَّ قَالَ: بِمَ يَأْمُرُكُمْ؟ قُلْتُ: يَأْمُرُنَا بِالصَّلَاة، وَالزكَاة، وَالصِّلَة، وَالْعَفَافِ.

(1)

وفي نسخة: "قال: وكيف".

(2)

وفي نسخة: "وسألت هل كان".

(3)

وفي نسخة: "فعرفت".

(4)

وفي نسخة: "أم ينقصون".

(5)

وفي نسخة: "ثم تكون لها العاقبة".

ص: 6

قَالَ: إِنْ يَكُنْ مَا تَقُولُ فِيهِ حَقًّا، فَإِنَّهُ نَبِيٌّ، وَقَدْ كُنْتُ أَعْلَمُ أَنَّهُ خَارجٌ، وَلَمْ أَكُنْ أَظُنُّهُ مِنْكُمْ، وَلَوْ أَنِّي أَعْلَمُ أَنِّي أَخْلُصُ إِلَيْه، لأَحْبَبْتُ لِقَاءَهُ، وَلَوْ كُنْتُ عِنْدَهُ، لَغَسَلْتُ عَنْ قَدَمَيْه، وَلَيَبْلُغَنَّ مُلْكُهُ مَا تَحْتَ قَدَمَيَّ.

قَالَ: ثُمَّ دَعَا بِكِتَابِ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، فَقَرَأَهُ، فَإِذَا فِيهِ:"بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم، مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُول اللهِ إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّوم، سَلَامٌ عَلَى مَنِ اتبعَ الْهُدَى، أمَّا بَعْدُ فَإِنِّي أَدْعُوكَ بِدِعَايَةِ الإسْلَام، أَسْلِمْ تَسْلَمْ، وَأَسْلِمْ يُؤْتِكَ اللهُ أَجْرَكَ مَرَّتَيْن، وَإِنْ تَوَلَّيْتَ فَإِنَّ عَلَيْكَ إِثْمَ الأَرِيسيِّينَ، وَ {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 64] ".

فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ قِرَاءَةِ الْكِتَاب، ارْتَفَعَتِ الأَصْوَاتُ عِنْدَهُ، وَكَثُرَ اللَّغْطُ، وَأَمَرَ بِنَا فَأُخْرِجْنَا، قَالَ: فَقُلْتُ لأَصْحَابِي حِينَ خَرَجْنَا

(1)

: لَقَدْ أَمِرَ أَمْرُ ابْنِ أَبِي كَبْشَةَ، إِنَّهُ لَيَخَافُهُ مَلِكُ بَنِي الأَصْفَرِ. قَالَ: فَمَا زِلْتُ مُوقِنًا بِأَمْرِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ سَيَظْهَرُ، حَتَّى أَدْخَلَ اللهُ عَلَي الإِسْلَامَ).

رجال هذا الإسناد: عشرة:

1 -

(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ) ابن راهويه، أبو محمد المروزيّ، نزيل نيسابور، ثقةٌ حافظٌ حجة فقيه [10](238)(خ م د ت س) تقدم في "المقدمة" 5/ 28.

2 -

(ابْنُ أَبِي عُمَرَ) محمد بن يحيى بن أبي عمر الْعَدنيّ، نزيل مكة، صدوقٌ صنّف "المسند"[10](ت 243)(م ت س ق) تقدم في "المقدمة" 5/ 31.

3 -

(مُحَمَّدُ بْنُ رَافِع) القشيريّ مولاهم، أبو عبد الله النيسابوريّ، ثقةٌ حافظٌ عابد [11](245)(خ م د ت س) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.

4 -

(عَبْدُ بن حُمَيْدِ) بن نصر الْكِسيّ، أبو محمد، قيل: اسمه عبد الحميد، ثقةٌ حافظٌ [11](ت 249)(خت م ت) تقدم في "الإيمان" 7/ 131.

5 -

(عَبْدُ الرَّزَّاقِ) بن همّام بن نافع الحميريّ مولاهم، أبو بكر

(1)

وفي نسخة: "حين أخرجنا".

ص: 7

الصنعانيّ، ثقةٌ حافظٌ مصنّف، شهير، عمي في آخره، فتغيّر، وكان يتشيّع [9](ت 211) وله (80) سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.

6 -

(مَعْمَرُ) بن راشد الأزديّ مولاهم، أبو عروة البصريّ، نزيل اليمن، ثقةٌ ثبتٌ فاضل، من كبار [7](ت 154)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.

7 -

(الزُّهْرِيُّ) محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب بن عبد الله بن الحارث بن زهرة القرشيّ، أبو بكر المدنيّ الإمام الحافظ الفقيه المتّفق على جلالته، وإتقانه، رأس [4](ت 125) أو قبلها (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 348.

8 -

(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُتْبَةَ) الْهُذليّ، أبو عبد الله المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيه [3](ت 94) وقيل غير ذلك (ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 14.

9 -

(ابْنُ عَبَّاسٍ) عبد الله الحبر البحر رضي الله عنهما، مات سنة (68)(ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 124.

15 -

(أَبُو سُفْيَانَ) صخر بن حرب بن أُميّة بن عبد شمس بن عبد مناف الأمويّ الصحابيّ الشهير، أسلم عام الفتح، ومات سنة (32) أو بعدها (خ م د ت س) تقدم في "الزكاة" 44/ 2443.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من سباعيّات المصنّف رحمه الله، وأن فيه روايةَ صحابيّ، عن صحابيّ، وتابعيّ، عن تابعيّ، وفيه ابن عبّاس رضي الله عنهما أحد العبادلة الأربعة المجموعين في قولي:

وَإِنْ تُرِدْ مَعْرِفَةَ الْعَبَادِلَهْ

فَابْنُ الزُّبَيْرِ فَابْنُ عَمْرٍ وعَادَلَهْ

مَعَ ابْنِ عَبَّاسٍ وَنَجْلِ عُمَرَا

وَغَلِّطَنْ مَنْ غَيْرَ هَذَا ذَكَرَا

فَبَعْضُهُمْ نَجْلَ الزُّبَيْرِ تَرَكَا

وَنَجْلَ مَسْعُودٍ فَرِيقٌ أَشْرَكَا

وَكُلُّ ذَا غَيْرُ صَحِيحٍ فَاتَّبِعْ

سَبِيلَ مَنْ حَقَّقَ نَقْلًا تَنْتَفِعْ

وفيه عبيد الله بن عبد الله أحد الفقهاء السبعة المذكورين في قول الحافظ العراقيّ رحمه الله:

وَفِي الْكِبَارِ الْفُقَهَاءُ السَّبْعَةُ

خَارِجَةُ الْقَاسِمُ ثُمَّ عُرْوَةُ

ثُمَّ سُلَيْمَانُ عُبَيْدُ اللهِ

سَعِيدُ وَالسَّابِعُ ذُو اشْتِبَاهِ

إِمَّا أَبُو سَلَمَةٍ أَوْ سَالِمُ

أَوْ فَأَبُو بَكْرٍ خِلَافٌ قَائِمُ

ص: 8

شرح الحديث:

(عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما (أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ) واسمه صخر - بالمهملة، ثم بالمعجمة - ابن حرب - بالمهملة، والراء، وبالباء الموحدة - ابن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قُصَيّ القرشيّ الأمويّ المكيّ، ويُكنى بأبي حنظلة أيضًا، وُلِد قبل الفيل بعشر، وأسلم ليلة الفتح، وشَهِد الطائف، وحُنينًا، وأعطاه النبيّ صلى الله عليه وسلم من غنائم حنين مائة من الإبل، وأربعين أوقية، وفُقئت عينه الواحدة يوم الطائف، والأخرى يوم اليرموك تحت راية ابنه يزيد، فنزل بالمدينة، ومات بها سنة إحدى وثلاثين، وقيل: سنة أربع، وهو ابن ثمان وثمانين سنة، وصلى عليه عثمان بن عفان رضي الله عنه، وهو والد معاوية رضي الله عنهما

(1)

.

(أَخْبَرَهُ)؛ أي: أخبر ابن عبّاس رضي الله عنهما، (مِنْ فِيهِ إِلَى فِيهِ)؛ أي: مشافهةً بدون واسطة، ولفظ البخاريّ في "التفسير":"حدّثني أبو سفيان، من فيه إلى فيّ"، قال في "الفتح": إنما لم يقل: إلى أذني يشير إلى أنه كان متمكنًا من الإصغاء إليه، بحيث يجيبه إذا احتاج إلى الجواب، فلذلك جعل التحديث متعلقًا بفمه، وهو في الحقيقة إنما يتعلق بإذنه.

[تنبيه]: قال في "الفتح": واتّفق أكثر الروايات على أن الحديث كلّه من رواية ابن عباس، عن أبي سفيان، إلا ما وقع من رواية صالح بن كيسان، عن الزهريّ في "الجهاد"، فإنه ذكر أول الحديث عن ابن عباس إلى قوله: "فلما جاء قيصرَ كتابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال حين قرأه: التَمِسُوا لي ها هنا أحدًا من قومه؛ لأسألهم عنه. قال ابن عباس: فأخبرني أبو سفيان أنه كان بالشام

" الحديث، كذا وقع عند أبي يعلى من رواية الوليد بن محمد، عن الزهري، وهذه الرواية المفَصّلة تُشعر بأن فاعل "قال" الذي وقع هنا من قوله: "قال: وكان دحية

إلخ" هو ابن عباس، لا أبو سفيان، وفاعل "قال: وقال هرقل: هل هنا أحد"، هو أبو سفيان. انتهى

(2)

.

(قَالَ: انْطَلَقْتُ)؛ أي: ذهبت إلى الشام (فِي الْمُدَّةِ الَّتِي كَانَتْ بَيْني وَبَيْنَ

(1)

"عمدة القاري" 1/ 210.

(2)

"الفتح" 9/ 724، كتاب "التفسير" رقم (4553).

ص: 9

رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم)؛ أي: في مدّة الصلح التي عَقَدَتْها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت في سنة ست، وكانت مدتها عشر سنين، كما في السيرة، وأخرجه أبو داود من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، ولأبي نعيم في مسند عبد الله بن دينار: كانت أربع سنين، وكذا أخرجه الحاكم في "البيوع" من "المستدرك"، والأول أشهر، لكنهم نقضوا، فغزاهم سنة ثمان، وفَتَح مكة، قاله في "الفتح"

(1)

.

(قَالَ: فَبَيْنَا أنا بِالشَّأْمِ) مهموز، ويجوز تركه، وفيه لغة ثالثة: شَآمٍ، بفتح الشين، والمدّ، وهو مذكر، ويؤنث أيضًا، حكاه الجوهرقي، والنسبَة إليه: شاميّ، وشآم، بالمدّ، على فَعَال، وشآميّ بالمد، والتشديد، حكاها الجوهريّ عن سيبويه، وأنكرها غيره؛ لأن الألف عوض من ياء النسب، فلا يُجمع بينهما.

سُمِّي بشامات هناك حُمْر وسُود، وقال الرشاطيّ: الشام جمع شامة، سُمِّيت بذلك؛ لكثرة قراها، وتداني بعضها ببعض، فشُبِّهت بالشامات، وقيل: سُمّيت بسام بن نوح عليه السلام، وذلك لأنه أول من نزلها، فجُعلت السين شينًا، وقال أبو عبيد: لم يدخلها سام قط، وقال أبو بكر بن الأنباريّ: يجوز أن يكون مأخوذًا من اليد الشُّؤمَى، وهي اليسرى؛ لكونها من يسار الكعبة.

وحدّ الشام طولًا من العريش إلى الفرات، وقيل: إلى بالس، وقال أبو حيان في "صحيحه": أول الشام بالس، وآخره العريش، وأما حدّه عرضًا: فمن جبل طيّ من نحو القبلة إلى بحر الروم، وما يسامت ذلك من البلاد، وقال ابن حوقل: أما طول الشام فخمس وعشرون مرحلة، من ملطية إلى رفح، وأما عرضه فأعرض ما فيه طرفاه، فأحد طرفيه من الفرات من جسر منبح على منبح، ثم على قورص، في حد قنسرين، ثم على العواصم في حد أنطاكية، ثم مقطع جبل اللكام، ثم على المصيصة، ثم على أذنة، ثم على طرسوس، وذلك نحو عشر مراحل، وهذا هو السمت المستقيم، وأما الطرف الآخر، فهو من حدّ فلسطين، فيأخذ من البحر من حدّ يافا، حتى ينتهي إلى الرملة، ثم إلى بيت المقدس، ثم إلى أريحا، ثم إلى زعز، ثم إلى جبل الشراه، إلى أن ينتهي

(1)

"الفتح" 1/ 72 - 73، كتاب "بدء الوحي" رقم (7).

ص: 10

إلى معان، ومقدار هذا ست مراحل، فأما ما بين هذين الطرفين من الشام، فلا يكاد يزيد عرضه موضعًا من الأردنّ، ودمشق، وحمص، على أكثر من ثلاثة أيام، وقال الملك المؤيد: وقد عَدّ ابن حوقل ملطية من جملة بلاد الشام، وابن خرداذية جعلها من الثغور الجزيرية، والصحيح أنها من الروم.

ودخله النبيّ صلى الله عليه وسلم قبل النبوة وبعدها، ودخله أيضًا عشرة آلاف صحابيّ، قاله ابن عساكر في "تاريخه"، وقال الكرمانيّ دخله نبيّنا مرتين قبل النبوة: مرة مع عمه أبي طالب، وهو ابن ثنتي عشرة سنة، حتى بلغ بُصْرَى، وهو حين لقيه الراهب، والتمس الردّ إلى مكة، ومرة في تجارة خديجة رضي الله عنهما إلى سوق بُصْرَى، وهو ابن خمس وعشرين سنة، ومرتين بعد النبوة: إحداهما ليلة الإسراء، وهو من مكة، والثانية في غزوة تبوك، وهو من المدينة. انتهى

(1)

.

(إِذْ جِيءَ بِكِتَابٍ مِنْ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم إِلَى هِرَقْلَ) - بكسر الهاء، وفتح الراء - على المشهور، وحَكَى جماعة إسكان الراء، وكسر القاف، كخِنْدِف، منهم الجوهريّ، ولم يذكر القزاز غيره، وكذا صاحب "المرغب"، ولمّا أنشد صاحب "المحكم" بيت لبيد بن ربيعة [من الكامل]:

غَلَبَ اللَّيَالِي خَلْفَ آلِ مُحَرِّقٍ

وَكَمَا فَعَلْنَ بِتُبَّعٍ وَبِهِرْقِلِ

بكسر الهاء، وسكون الراء، قال: أراد هِرَقْلًا بفتح الراء، فاضطرّ، فَغَيَّر، والْهِرْقِل: الْمُنْخُلُ، ودلّ هذا أن تسكين الراء ضرورة، ليست بِلُغة.

وزعم الجواليقيّ أنه عجميّ تكلمت به العرب، وهو اسمٌ عَلَمٌ له، غير منصرف للعلمية والعجمة، مُلِّك إحدى وثلاثين سنة، ففي مُلكه مات النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولَقَبُه: قيصر، كما أن كل من ملك الفُرْس يقال له: كسرى، والترك يقال له: خاقان، والحبشة: النجاشيّ، والقبط: فرعون، ومصر: العزيز، وحمير: تُبَّع، والهند: دُهمى، والصين: فَغْفور، والزنج: غانة، واليونان: بطلميوس، واليهود: قِيطون، أو ماتح

(2)

، والبربر: جالوت

(3)

، والصابئة: نمرود، واليمن: تُبّعًا،

(1)

"التوضيح لشرح الجامع الصحيح" 2/ 382 - 383، و"عمدة القاري" 1/ 141 - 142.

(2)

كذا في "العمدة"، وفي "التوضيح": مالخ بلام، فخاء معجمة، فليحرّر.

(3)

وفي "التوضيح": ورأس جالوت لمن كان مَلِكًا منهم من بني داود خاصّة. انتهى.

ص: 11

وفرغانة: إخشيد، والعرب من قبل العجم: النعمان، وإفريقية: جرجير، وخلاط: شهرمان، والسِّنْد: فور، والحزر: رتبيل، والنوبة: كابل، والصقالبة: ماجد.

وهرقل أول من ضرب الدينار وأحدث البِيعة.

[فإن قلت]: ما معنى الحديث الصحيح: "إذا هلك قيصر، فلا قيصر بعده، وإذا هلك كسرى، فلا كسرى بعده"؟

(1)

.

[أجيب]: بأن معناه لا قيصر بعده بالشام، ولا كسرى بعده بالعراق، قاله الشافعيّ في "المختصر"، وسبب الحديث أن قريشًا كانت تأتي الشام والعراق كثيرًا للتجارة في الجاهلية، فلما أسلموا خافوا انقطاع سفرهم إليهما؛ لمخالفتهم أهل الشام والعراق بالإسلام، فقال صلى الله عليه وسلم:"لا قيصر، ولا كسرى"؛ أي: بعدهما في هذين الإقليمين، ولا ضرر عليكم، فلم يكن قيصر بعده بالشام، ولا كسرى بعده بالعراق، ولا يكون، وقال صلى الله عليه وسلم:"والذي نفسي بيده لتنفقنّ كنوزهما في سبيل الله"، متّفقٌ عليه، ففتحت الصحابة الإقليمين في زمن عمر رضي الله عنه.

[فائدة]: معنى قيصر: التبقير، والقاف على لغتهم غير صافية، وذلك أن أمه لمّا أتاها الطَّلْق به ماتت، فبُقِر بطنها عنه، فخرج حيًّا، وكان يفخر بذلك؛ لأنه لم يخرج من فرج، واسم قيصر في لغتهم مشتقّ من القطع؛ لأن أحشاء أمه قُطعت حتى أُخرج منها، وكان شجاعًا جبّارًا مِقدامًا في الحروب، نبّه على ذلك ابن دحية في "مرج البحرين"

(2)

.

قال ابن عبّاس، أو من دونه:(يَعْني عَظِيمَ الرُّومِ)؛ أي: يقصد أبو سفيان بقوله: هرقل، ولم يصفه بالمَلِك؛ لكونه معزولًا بالإسلام.

(قَالَ

(3)

: وَكَانَ دِحْيَةُ الْكَلْبِيُّ) قال النوويّ رحمه الله: هو بكسر الدال، وفتحها لغتان مشهورتان، اختُلِف في الراجحة منهما، وادَّعَى ابن السِّكِّيت أنه بالكسر

(1)

متّفقٌ عليه.

(2)

"التوضيح" 2/ 374 - 377، و "عمدة القاري" 1/ 137 - 138.

(3)

ظاهر هذا السياق أن فاعل "قال" هو أبو سفيان، لكن سيأتي عن "الفتح" ما يفيد أن فاعله ابن عبّاس، فليُتنبّه، والله تعالى أعلم.

ص: 12

لا غير، وأبو حاتم السجستانيّ أنه بالفتح لا غير. انتهى

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله بعد ذكر قول ابن السّكّيت، وأبي حاتم: وقال المطرِّز: الدِّحى: الرؤساء، واحدهم: دِحية.

قلت: وعلى هذا فالكسر هو الصواب، كما قال ابن السِّكِّيت؛ لأن: دِحْية، ودِحًى، كلِحْيةٍ، ولحًى، وفِدية، وفِدًى، وهو القياس؛ لأن نظيره من الصحيح: قِرْبة وقِرب، لكن لا يبعد أن يقال: إنه لمّا نُقل إلى العَلَمية غُيِّر بالفتح، كما قد فعلت العرب في كثير من الأعلام. انتهى

(2)

.

وقال في "الفتح": "دِحْيَةُ" بكسر الدال، وحُكي فتحها، لغتان، ويقال: إنه الرئيس بِلُغة أهل اليمن، وهو ابن خليفة الكلبيّ، صحابيّ جليل، كان أحسن الناس وجهًا، وأسلم قديمًا، وبعثه النبيّ صلى الله عليه وسلم في آخر سنة ست، بعد أن رجع من الحديبية بكتابه إلى هرقل، وكان وصوله إلى هرقل في المحرَّم سنة سبع، قاله الواقديّ، ووقع في "تاريخ خليفة" أن إرسال الكتاب إلى هرقل كان سنة خمس، والأول أثبت، بل هذا غلطٌ؛ لتصريح أبي سفيان بأن ذلك كان في مدة الْهُدْنة، والْهُدْنة كانت في آخر سنة ستّ اتفاقًا، ومات دحية في خلافة معاوية رضي الله عنهما. قاله في "الفتح"

(3)

.

وقال في "العمدة": "دحية" - بفتح الدال، وكسرها - ابن خليفة بن فَرْوة بن فَضَالة بن زيد بن امرئ القيس بن الخزرج - بخاء مفتوحة معجمة، ثم زاي ساكنة، ثم جيم - وهو العظيم، واسمه زيد مناة، سُمّي بذلك؛ لِعِظَم بطنه، ابن عامر بن بكر بن عامر الأكبر بن عوف وهو زيد اللات، وهو ما ساقه الْمِزّيّ أوّلًا، قال: وقيل: عامر الأكبر بن عوف بن بكر بن عوف بن عبد بن زيد اللات بن رُفيدة - بضم الراء، وفتح الفاء - ابن ثور بن كلب بن وَبَرَة - بفتح الباء - ابن تغلب - بالغين المعجمة - ابن حلوان بن عمران بن إلحاف - بالحاء المهملة، والفاء - ابن قُضاعة بن معدّ بن عدنان، وقيل: قضاعة إنما هو ابن مالك بن حمير بن سبا.

(1)

"شرح النوويّ" 12/ 103.

(2)

"المفهم" 3/ 601.

(3)

"الفتح" 1/ 80، كتاب "الإيمان" رقم (7).

ص: 13

كان من أجمل الصحابة وجهًا، ومن كبارهم، وكان جبريل عليه السلام يأتي النبيّ صلى الله عليه وسلم في صورته، وذكر السهيليّ عن ابن سلام في قوله تعالى:{أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا} [الجمعة: 11]، قال: كان اللهو نظرهم إلى وجه دحية لجماله، ورُوي أنه كان إذا قَدِم الشام لم تبق مُعْصِر

(1)

إلا خرجت للنظر إليه.

قال ابن سعد: أسلم قديمًا، ولم يشهد بدرًا، وشَهِد المشاهد بعدها، وبقي إلى خلافة معاوية، وقال غيره: شَهِد اليرموك، وسكن الْمِزّة، وهي بكسر الميم، وتشديد الزاي المعجمة: قرية بقرب دمشق

(2)

.

وليس في الصحابة من اسمه دحية سواه، ولم يخرّج من أصحاب الكتب الستة حديثه إلا أبو داود في "سننه"

(3)

، وهو من أصحاب المحدّثين، وقال البزار

(4)

لمّا ساق الحديث من طريق عبد الله بن شداد بن الهاد عنه: لم يحدّث عن النبيّ صلى الله عليه وسلم إلا هذا الحديث

(5)

.

(جَاءَ) دحية (بِهِ)؛ أي: بذلك الكتاب (فَدَفَعَهُ)؛ أي: الكتاب (إِلَى عَظِيمِ بُصْرَى) قال النوويّ رحمه الله: هي بضم الباء، وهي مدينة حُوران، ذات قلعة، وأعمال، قريبة من طرف البريّة التي بين الشام والحجاز، والمراد بعظيم بصرى: أميرُها. انتهى

(6)

.

وقال في "الفتح": "بُصْرَى" - بضم أوله، والقصر - مدينة بين المدينة ودمشق، وقيل: هي حوران، وعظيمها: هو الحارث بن أبي شَمِر الغسانيّ، وفي "الصحابة" لابن السكن: أنه أرسل بكتاب النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى هرقل مع عديّ بن حاتم، وكان عديّ إذ ذاك نصرانيًّا، فوصل به هو ودحية معًا، وكانت وفاة

(1)

"المعصِر" اسم فاعل من أعصرت المرأة: إذا بلغت شبابها، أو دخلت في الحيض، أو راهقت العشرين، أو وَلَدت، أو حُبست في البيت ساعةَ طمثت. اهـ "ق".

(2)

"التوضيح" 2/ 377 - 378.

(3)

راجع: "سنن أبي داود" رقم (2413 و 4116).

(4)

تعقّب الحافظ الهيثميّ كلام البزار هذا، فقال: له حديثان آخران. راجع: "كشف الأستار" 3/ 119.

(5)

"عمدة القاري" 1/ 138 - 139.

(6)

"شرح النوويّ" 12/ 104.

ص: 14

الحارث المذكور عام الفتح

(1)

.

(فَدَفَعَهُ عَظِيمُ بُصْرَى إِلَى هِرَقْلَ، فَقَالَ هِرَقْلُ) لمّا وصل إليه الكتاب لجلسائه: (هَلْ هَا هُنَا أَحَدٌ مِنْ قَوْمِ هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيُّ؟)؛ أي: هل يوجد في ناحيتنا أحد من قومه، نسأله عن حاله، ويخبرنا عن حقيقته؛ لأن قوم الرجل أعرف به من غيرهم، (قَالُوا: نَعَمْ)؛ أي: يوجد ههنا من قومه جماعة. (قَالَ) أبو سفيان (فَدُعِيتُ) بالبناء للمفعول؛ أي: طُلبت إلى مجلسه.

قال في "الفتح": قوله: "فدُعيت في نفر من قريش، فدخلنا على هرقل" فيه حذفٌ، تقديره: فجاءنا رسوله، فتوجهنا معه، فاستأذن لنا، فأُذن، فدخلنا، وهذه الفاء تُسَمَّى الفصيحة، وهي الدالة على محذوف قبلها، هو سبب لِمَا بعدها، سمِّيت فصيحةً؛ لإفصاحها عما قبلها، وقيل: لأنها تدل على فصاحة المتكلم بها، فوُصفت بالفصاحة على الإسناد المجازيّ، ولهذا لا تقع إلا في كلام بليغ.

ثم إن ظاهر السياق أن هرقل أرسل إليه بِعَيْنه، وليس كذلك، وإنما كان المطلوب مَن يوجد من قريش، ووقع عند البخاريّ في "الجهاد":"قال أبو سفيان: فوَجَدَنا رسول قيصر ببعض الشام، فانطَلَق بي، وباصحابي، حتى قَدِمنا إلى إيلياء"، والمراد ببعض الشام: غَزّة. انتهى

(2)

.

(فِي نَفَرٍ)؛ أي: مع جماعة، وفي رواية البخاريّ:"في رَكْب من قريش"، والركب: جمع راكب، كصحب وصاحب، وهم أولو الإبل العشرة فما فوقها، والمعنى أن أبا سفيان دُعي حال كونه في جملة نفر، وذاك لأنه كان كبيرهم، فلهذا خصه، وكان عدد الركب ثلاثين رجلًا. رواه الحاكم في "الإكليل"، ولابن السكن: نحو من عشرين، وسَمَّى منهم المغيرة بن شعبة في "مصنف ابن أبي شيبة" بسند مرسل، قال الحافظ: وفيه نظر؛ لأنه كان إذ ذاك مسلمًا، ويَحْتَمِل أن يكون رجع حينئذ إلى قيصر، ثم قَدِمَ المدينة مسلمًا، وقد وقع ذِكره أيضًا في أثر آخر في كتاب السِّيَرِ لأبي إسحاق الفزاريّ، وكتاب الأموال لأبي

(1)

"الفتح" 1/ 80.

(2)

"الفتح" 9/ 724، كتاب "التفسير" رقم (4553).

ص: 15

عبيد، من طريق سعيد بن المسيِّب، قال: "كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى كسرى وقيصر

" الحديث، وفيه: "فلما قرأ قيصر الكتاب، قال: هذا كتاب لم أسمع بمثله، ودعا أبا سفيان بن حرب، والمغيرة بن شعبة، وكانا تاجرين هناك، فسأل عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ". انتهى

(1)

.

(مِنْ قُرَيْشٍ) هم ولد النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة، واسمه عامر، دون سائر ولد كنانة، وهم مالك، وملكان، ومويلك، وغزوان، وعَمْرو، وعامر، إخوة النضر لأبيه وأمه، وأمهم مُرّة بنت مُرّ، أخت تميم بن مُرّ.

وهذا قول الشعبيّ، وابن هشام، وأبي عبيدة، ومعمر بن المثنى، وهو الذي ذكره الجوهريّ، ورجحه السمعانيّ، وغيره، قال النوويّ: وهو قول الجمهور، وقال الرافعيّ: قال الأستاذ أبو منصور: هو قول أكثر النسابين، وبه قال الشافعيّ، وأصحابه، وهو أصح ما قيل.

وقيل: إن قريشًا بنو فهر بن مالك، وفهر جِمَاع قريش، ولا يقال لمن فوقه: قرشيّ، وإنما يقال له: كنانيّ، ورجحه الزبير بن بكار، وحكاه عن عمه مصعب بن عبد الله، قال: وهو قول من أدركت من نسّاب قريش، ونحن أعلم بأمورنا، وأنسابنا، وذكر الرافعيّ وجهين غريبين، قال: ومنهم من قال: هم ولد إلياس بن مضر، ومنهم من قال: هم ولد مضر بن نزار.

وفي "العباب": قريش قبيلة، وأبوهم النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر، وكل من كان من ولد النضر، فهو قرشيّ، دون ولد كنانة، ومن فوقه.

وقال قوم: سُمِّيت قريش بقريش بن يخلد بن غالب بن فهر، وكان صاحب عِيرهم، فكانوا يقولون: قَدِمت عِيْر قريش، وخرجت عير قريش، قال الصغانيّ: ذكر إبراهيم الحربيّ في "غريب الحديث" من تأليفه في تسمية قريش قريشًا سبعة أقوال، وبَسَط الكلام، وأنا أجمع ذلك مختصرًا.

فقال: سأل عبد الملك أباه عن ذلك، فقال: لِتَجمّعهم إلى الحَرَم.

والثاني: أنهم كانوا يتقرّشون البياعات، فيشترونها.

(1)

"الفتح" 1/ 72.

ص: 16

والثالث: أنه جاء النضر بن كنانة في ثوب له؛ يعني: اجتمع في ثوبه، فقالوا: قد تقرّش في ثوبه.

والرابع: قالوا: جاء إلى قومه، فقالوا: كأنه جملٌ قريشٌ؛ أي: شديد. والخامس: أن ابن عباس سأله عمرو بن العاص رضي الله عنهم: لِمَ سُمّيت قريشًا؟ قال: بدابة في البحر تُسَمَّى قريشًا.

والسادس: قال عبد الملك بن مروان: سمعت أن قُصَيًّا كان يقال له: القرشيّ، لم يُسَمَّ قرشيّ قبله.

والسابع: قال معروف بن خَرَّبُوذ: سميت قريشًا لأنهم كانوا يُفَتِّشون الحاجَ فيسدّون خَلّتها. انتهى.

وقال الزهريّ: إنما نبذت فهرًا أمه بقريش، كما يسمى الصبيّ غرارة، وشملة، وأشباه ذلك، وقيل: من القَرْش وهو الكسب.

وقال الزبير بن بكّار: قال عمّي: سمّيت قريش برجل يقال له: قريش بن بدر بن مخلد بن النضر، كان دليل بني كنانة في تجاراتهم، فكان يقال: قَدِمت عير قريش، وأبوه بدر صاحب بدر الموضع، وقال غير عمّي: سميت بقريش بن الحارث بن يخلد، اسمه بدر التي سُمّيت به بدر، وهو احتفرها.

وقال الكرمانيّ: وسال معاوية ابن عباس رضي الله عنهم: بم سميت قريش؟ قال: بدابة في البحر تأكل ولا تؤكل، وتعلو ولا تُعْلَى، والتصغير للتعظيم.

وقال الليث: القَرْش الجمع من ههنا وههنا، وضَمَّ بعض إلى بعض، يقال: قَرَش يقرْش قرشًا

(1)

، وقال ابن عباد: قَرْشُ الشيء خفيقه وصوته، يقال: سمعت قَرْشه؛ أي: وقع حوافر الخيل، وقَرَش الشيءَ: إذا قطعه، وقَرَضه، وقال غيره: قَرِش بكسر الراء لغة في فتحها، والقرش: دابة من دواب البحر، وأقرشت الشجة: إذا صَدَعت العظم، ولم تَهْشِمه، والتقريش: التحريش، والإغراء، والتقريش: الاكتساب، وتقرّشوا: تجمعوا، وتقرّش فلان الشيء: إذا أخذه أوّلًا فأوّلًا، فإن أردت بقريش الحي صَرَفْته، وإن أردت به القبيلة لم تَصْرِفه، والأوْجَه صَرْفه، قال تعالى {لإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1)} ، والنسبة

(1)

من بابي نصر، وضرب، كما في "القاموس".

ص: 17

إليه: قرشيّ، وقريشيّ، بالياء، وحذفها

(1)

.

(فَدَخَلْنَا عَلَى هِرَقْلَ) وللبخاريّ في "الجهاد": "فأدخلنا عليه، فإذا هو جالس في مجلس مُلكه، وعليه التاج"، وفي رواية له في "الإيمان":"فدعاهم في مجلسه، وحوله عظماء الروم"، ولابن السكن:"فأدخلنا عليه، وعنده بطارقته، والقِسِّيسون، والرهبان".

والروم: من ولد عيص بن إسحاق بن إبراهيم عليه السلام على الصحيح، وفي خل فيهم طوائف من العرب، من تنوخ، وبهراء، وسليح، وغيرهم، من غسان، كانوا سكانًا بالشام، فلمّا أجلاهم المسلمون عنها دخلوا بلاد الروم، فاستوطنوها، فاختلطت أنسابهم

(2)

.

(فَأَجْلَسَنَا) بالبناء للفاعل؛ أي: أمر بإجلاسنا، ويَحْتَمِل أن يكون بالبناء للمفعول، (بَيْنَ يَدَيْهِ)؛ أي: قُدّامه، (فَقَالَ: أَيُّكُمْ أقرَبُ نَسَبًا) قال العلماء: إنما سأل قريب النسب؛ لأنه أعلم بحاله، وأبعد من أن يكذب في نسبه وغيره، ثم أَكَّد ذلك، فقال لأصحابه: إن كَذَبني فكَذِّبوه؛ أي: لا تستحيوا منه، فتسكتوا عن تكذيبه إن كَذَبَ، ذكره النوويّ

(3)

.

وقال في "الفتح": ظاهر هذا يقتضي أن هرقل خاطبهم أوّلًا بغير ترجمان، ثم دعا بالترجمان، لكن وقع عند البخاريّ في "الجهاد" بلفظ: "فقال لترجمانه: سلهم أيهم أقرب نسبًا

إلخ"، فيُجْمَع بين هذا الاختلاف بأن قوله: "ثم دعا بترجمانه"؛ أي: فأجلسه إلى جنب أبي سفيان، لا أن المراد أنه كان غائبًا، فأرسل في طلبه، فحضر، وكأن الترجمان كان واقفًا في المجلس، كما جرت به عادة ملوك الأعاجم، فخاطبهم هرقل بالسؤال الأول، فلما تحرّر له حال الذي أراد أن يخاطبه من بين الجماعة، أمر الترجمان بالجلوس إليه؛ ليعبِّر عنه بما أراد. انتهى

(4)

.

(مِنْ هَذَا الرَّجُلِ)"من" هنا كأنها ابتدائية، والتقدير: أيكم أقرب نسبًا

(1)

"عمدة القاري" 1/ 217، و"التوضيح" 2/ 386 - 387.

(2)

"الفتح" 1/ 74.

(3)

"شرح النوويّ" 12/ 154.

(4)

"الفتح" 9/ 724 - 725 رقم (4553).

ص: 18

مبدؤه من هذا الرجل؟ أو هي بمعنى الباء، ويؤيده أن في بعض الرواية بلفظ:"بهذا الرجل"، وفي بعضها:"إلى هذا الرجل"، ولا إشكال فيه، فإن أقرب يتعدى بـ "إلى"، قال الله تعالى:{وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق: 16]، والمفضَّل عليه محذوف تقديره: من غيره، ويَحْتَمِل أن تكون "من" في رواية الباب بمعنى الغاية، فقد ثبت ورودها للغاية مع قلة

(1)

، قاله في "الفتح"

(2)

.

(الَّذِي يَزْعُمُ أنَّهُ نَبِيٌّ؟) ولابن السكن: "الذي خرج بأرض العرب، يزعم أنه نبيّ"، (فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: فَقُلْتُ: أَنَا) وللبخاريّ: "قلت: أنا أقربهم نسبًا"، وفي رواية ابن السكن:"فقالوا: هذا أقربنا به نسبًا، هو ابن عمه، أخي أبيه"، وإنما كان أبو سفيان أقرب؛ لأنه من بني عبد مناف، وقد أوضح ذلك البخاريّ في "الجهاد" بقوله:"قال: ما قرابتك منه؟ قلت: هو ابن عمي، قال أبو سفيان: ولم يكن في الركب من بني عبد مناف غيري". انتهى.

وعبد مناف الأب الرابع للنبيّ صلى الله عليه وسلم، وكذا لأبي سفيان، وأَطلق عليه ابن عمّ؛ لأنه نَزّل كلًّا منهما منزلة جدّه، فعبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف ابن عم أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، وعلى هذا ففيما أطلق في رواية ابن السكن تَجَوُّز، وإنما خَصّ هرقل الأقرب؛ لأنه أحرى بالاطلاع على أموره ظاهرًا وباطنًا أكثر من غيره، ولأن الأبعد لا يُومَن أن يقدَح في نسبه، بخلاف الأقرب، وظهر ذلك في سؤاله بعد ذلك:"كيف نسبه فيكم؟ "

(3)

.

(فَأَجْلَسُونِي بَيْنَ يَدَيْه، وَأَجْلَسُوا أَصْحَابِي خَلْفِي) قال بعض العلماء: إنما فعل ذلك؛ ليكون عليهم أهون في تكذيبه إن كذب؛ لأن مقابلته بالكذب في وجهه صعبة، بخلاف ما إذا لم يستقبله، ذكره النوويّ

(4)

.

وفي رواية البخاريّ في "الجهاد": "عند كتفي"، وهي أخصّ، وعند الواقديّ:"فقال لترجمانه: قل لأصحابه: إنما جعلتكم عند كتفيه؛ لتردّوا عليه كذبًا إن قاله".

(1)

راجع: "مغني اللبيب عن كتب الأعاريب" 1/ 614.

(2)

"الفتح" 9/ 725 رقم (4553).

(3)

"الفتح" 1/ 74.

(4)

"شرح النوويّ" 12/ 104.

ص: 19

والحاصل أنه إنما أجلسهم خلفه، لئلا يستحيوا أن يواجهوه بالتكذيب إن كَذَبَ، كما صَرّحت بذلك رواية الواقديّ المذكورة، أفاده في "الفتح"

(1)

.

(ثُمَّ دَعَا بِتَرْجُمَانِهِ) قال النوويّ رحمه الله: هو بضم التاء، وفتحها، والفتح أفصح، وهو المعبِّر عن لغة بلغة أخرى، والتاء فيه أصلية، وأنكروا على الجوهريّ كونه جَعَلها زائدة. انتهى

(2)

.

وقال في "الفتح": "الترجمان": بفتح التاء المثناة، وضم الجيم، ورجّحه النوويّ، ويجوز ضم التاء إتباعًا، ويجوز فتح الجيم، مع فتح أوله، حكاه الجوهريّ، ولم يصرحوا بالرابعة، وهي ضم أوله، وفتح الجيم، والترجمان: المعبّر عن لغة بلغة، وهو معرَّب، وقيل: عربيّ، قاله في "الفتح"

(3)

.

وقال في موضع آخر: والترجمان من يفسر لغة بلغة، فعلى هذا لا يقال ذلك لمن فَسّر كلمة غريبة بكلمة واضحة، فإن اقتضى معنى الترجمان ذلك فليُعْرَف أنه الذي يفسِّر لفظًا بلفظ، وقد اختُلِف هل هو عربيّ، أو معرَّب؟ والثاني أشهر، وعلى الأول فنونه زائدة اتفاقًا، ثم قيل: هو من ترجيم الظنّ، وقيل: من الرجم، فعلى الثاني تكون التاء أيضًا زائدة، ويوجب كونه من الرجم: أن الذي يُلقِي الكلامَ كأنه يَرْجُم الذي يُلقيه إليه. انتهى

(4)

.

(فَقَالَ لَهُ)؛ أي: لترجمانه، (قُلْ لَهُمْ: إِنِّي سَائِلٌ هَذَا)؛ أي: أبا سفيان (عَنِ الرَّجُلِ) أشار إليه إشارةَ القرب؛ لِقُرب العهد بِذِكْره، أو لأنه معهود في أذهانهم؛ لاشتراك الجميع في معاداته، ووقع عند ابن إسحاق من الزيادة في هذه القصة:"قال أبو سفيان: فجعلت أُزَهِّده في شانه، وأُصغِّر أمره، وأقول: إن شأنه دون ما بلغك، فجعل لا يلتفت إلى ذلك"، (الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ) وفي رواية ابن إسحاق، عن الزهريّ:"يَدَّعِي"، و"زعم" قال الجوهريّ: بمعنى قال، وحكاه أيضًا ثعلب، وجماعة، كما سبق في قصة ضمام في "كتاب الإيمان"،

(1)

"الفتح" 9/ 725.

(2)

"شرح النوويّ" 12/ 104.

(3)

"الفتح" 1/ 74.

(4)

"الفتح" 9/ 724 - 725، كتاب "التفسير" رقم (4553).

ص: 20

وهو كثير، ويأتي موضع الشك غالبًا

(1)

.

(فَإنْ كَذَنَبِي) بتخفيف الذال؛ أي: نقل إلي الكذب، (فَكَذِّبُوهُ) بتشديد الدال؛ أَي: قولوا: إنه كَذَب؛ أي: قال لترجمانه: يقول لكم ذلك، ولمّا جرت العادة أن مجالس الأكابر لا يواجه أحد فيها بالتكذيب احترامًا لهم، أَذِن لهم هرقل في ذلك؛ للمصلحة التي أرادها، قال محمد بن إشماعيل التيميّ: كَذَب بالتخفيف يتعدى إلى مفعولين، مثل صَدَقَ، تقول: كَذَبني الحديث، وصَدَقني الحديث، قال الله تعالى:{لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ} الآية [الفتح: 27]، وكَذَّب بالتشديد يتعدى إلى مفعول واحد، وهما من غرائب الألفاظ؛ لمخالفتهما الغالب؛ لأن الزيادة تناسب الزيادة، وبالعكس، والأمر هنا بالعكس. انتهى

(2)

.

(قَالَ) ابن عبّاس رضي الله عنهما (فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: وَايْمُ اللهِ) مبتدأ، خبره محذوف؛ أي: يمين الله قَسَمي، وهي بالهمزة، وبغير الهمزة، وفيها لغات أخرى، تقدّم بيانها، وقال القرطبيّ رحمه الله:"وايم الله" هي كلمة محذوفة من "أيمن الله"، تستعملها العرب اسمًا مرفوعًا في القَسَم على الابتداء، والخبر محذوف، وقد اختَلَف النحويون فيها، هل هي: اسم مفرد، همزته همزة وصل، وإنما فتحت همزته؛ لأنه غير متصرف، فخالف جميع همزات الوصل؛ وهو مذهب سيبويه، أو هل هي: جَمْع يمين، وهمزته همزة قطع؛ لأنها همزة جمع؛ وهو قول الفراء، وهي عنده جمع يمين، وقول سيبويه أشبه، بدليل: أنهم كسروا همزتها، وأنهم تصرَّفوا فيها بلغات مختلفة، منها: إِيْمُنٌ بالكسر، وبالفتح: أَيْمُنٌ، وبحذف النون، والهمزة، وضم الميم، من "مُ الله"، وكسرها، وقد أبدل بعضهم من الهمزة هاء، فقال: هيمن الله، وهذا النحو من التصرف لم تفعله العرب في صيغ الجموع. انتهى

(3)

.

(لَوْلَا مَخَافَةَ أَنْ يُؤْثَرَ) بالبناء للمفعول؛ أي: يُنقَل، قال النوويّ رحمه الله: معناه: لولا خوفي أنّ رُفْقتي ينقلون عني الكذب إلى قومي، ويتحدثونه في

(1)

"الفتح" 1/ 74.

(2)

"الفتح" 9/ 725 رقم (4553).

(3)

"المفهم" 3/ 603.

ص: 21

بلادي، لكذبت عليه؛ لِبُغضي إياه، ومحبتي نَقْصه، وفي هذا بيان أن الكذب قبيح في الجاهلية، كما هو قبيح في الإسلام. انتهى

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: وإنما وقع له هذا في ذلك الوقت؛ لشدَّة عداوته للنبيّ صلى الله عليه وسلم، وحسده، وحرصه على إطفاء نوره، {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ} [التوبة: 32]، وفيه ما يدلّ على أن الكذب مذموم في الجاهلية، والإسلام، وأنه ليس من خلق الكرام. انتهى

(2)

.

ووقع في رواية البخاريّ: "لولا الحياء من أن يأثروا عليّ كَذِبًا لكذبت عنه"، وهو بضم الثاء وكسرها، من أَثَرت الحديث بالقصر، آثره بالمدّ وضمّ المثلثة، وكسرها، من باب نصر، وضرب أَثْرًا، ساكنة الثاء: حدَّثت به، ويقال: أَثَرت الحديث؛ أي: رويته، والمعنى هنا: أن يُنقَلَ (عَلَيَّ)؛ أي: عني، فـ "على" بمعنى "عن"، كما في قول الشاعر [من الوافر]:

إِذَا رَضِيَتْ عَلَيَّ بَنُو قُشَيْرٍ

لَعَمْرُ اللهِ أَعْجَبَنِي رِضَاهَا

أي: رضيت عنّي، أفاده في "العمدة"

(3)

.

(الْكَذِبُ لَكَذَبْتُ) ولفظ البخاريّ: "لكذبت عنه"؛ أي: لأخبرت عن حاله بكذب؛ لبغضي إياه، ولمحبتي نقصه.

ومعنى هذا الكلام: لولا مخافتي من أن رُفقتي يروون عني، ويحكون في بلدي عني كذبًا، فأُعابَ به؛ لأن الكذب قبيح، وإن كان على العدوّ، لكذبت عليه، ويُعلم منه قُبْح الكذب في الجاهلية أيضًا، أفاده في "العمدة"

(4)

.

وقال في "الفتح": قوله - عند البخاريّ -: "فوالله لولا الحياء من أن يأثروا"؛ أي: ينقلوا عليّ الكذب لكذبت عليه، وللأصيليّ:"عنه"؛ أي: عن الإخبار بحاله، وفيه دليل على أنهم كانوا يستقبحون الكذب، إما بالأخذ عن الشرع السابق، أو بالعُرف، وفي قوله:"يأثروا" دون قوله: يكذبوا دليل على أنه كان واثقًا منهم بعدم التكذيب أن لو كَذَب؛ لاشتراكهم معه في عداوة النبيّ صلى الله عليه وسلم، لكنه ترك ذلك استحياءً وأَنَفَةً من أن يتحدثوا بذلك بعد أن يرجعوا،

(1)

"شرح النوويّ" 12/ 104.

(2)

"المفهم" 3/ 603 - 604.

(3)

"عمدة القاري" 1/ 146.

(4)

"عمدة القاري" 1/ 146.

ص: 22

فيصير عند سامعي ذلك كذّابًا، وفي رواية ابن إسحاق التصريح بذلك، ولفظه:"فوالله أَبُو قد كذبت ما ردُّوا عليّ، ولكني كنت امرءًا سيّدًا، أتكرم عن الكذب، وعَلِمت أن أيسر ما في ذلك إن أنا كذبته أن يحفظوا ذلك عنّي، ثم يتحدثوا به، فلم أكذبه"، وزاد ابن إسحاق في روايته:"قال أبو سفيان: فوالله ما رأيت من رجل قطّ، كان أدهى من ذلك الأقلف"؛ يعني: هرقل. انتهى

(1)

.

(ثُمَّ قَالَ) هرقل (لِتَرْجُمَانِهِ: سَلْهُ) تقدّم أنه أمْرٌ من سأل يسأل، كخاف يخاف، لغة في سأل يسأل، كفتح يفتح، ويَحْتَمِل أن يكون تخفيفًا من اسأله. (كَيْفَ حَسَبُهُ فِيكُمْ؟) كذا في رواية مسلم بلفظ "حسبه"، وفسّره النوويّ بنَسَبه، وفيه نظرٌ، قال المجد رحمه الله:"الْحَسَبُ": ما تعُدّه من مفاخر آبائك، أو المال، أو الدِّين، أو الكرم، أو الشرفُ في الفِعْل، أو الفَعَالُ الصالح، أو الشرف الثابت في الآباء، أو البالُ، أو الحسب والكرم قد يكونان لمن لا آباء له شُرَفاء، والشرف والمجد لا يكونان إلا بهم. انتهى

(2)

.

وقال الفيّوميّ رحمه الله: "الحَسَبُ" - بفتحتين -: ما يُعَدّ من المآثر، وهو مصدر حَسُبَ وِزانُ شَرُفَ شَرَفًا، وكَرُمَ كَرَمًا، قال ابن السِّكِّيت: الحَسَبُ، والكرم يكونان في الإنسان، وإن لم يكن لآبائه شَرَفٌ، ورجل حَسِيبٌ كريم بنفسه، قال: وأما المجد، والشرف فلا يوصف بهما الشخص إلا إذا كانا فيه، وفي آبائه، وقال الأزهريّ: الحَسَبُ: الشرف الثابت له، ولآبائه، قال: وقوله صلى الله عليه وسلم: "تُنكح المرأة لِحَسَبها" أحوج أهل العلم إلى معرفة الْحَسَب؛ لأنه مما يُعتبر في مهر المثل، فَالحَسَبُ: الفَعَال له، ولآبائه، مأخوذ من الْحِسَاب، وهو عدّ المناقب؛ لأنهم كانوا إذا تفاخروا حَسَب كلّ واحد مناقبه، ومناقب آبائه، ومما يَشهد لقول ابن السّكِّيت قول الشاعر [من الطويل]:

وَمَنْ كَانَ ذَا نَسْبٍ

(3)

كَرِيمٍ وَلَمْ يَكُنْ

لَهُ حَسَبٌ كَانَ اللئِيمَ المُذَمَّمَا

جَعَل الحسب فَعَال الشخص، مثل الشجاعة، وحُسن الخُلق، والجود، ومنه قوله:"حَسَبُ المرء دينه"، وقولهم:"يُجْزَى المَرْءُ عَلَى حَسَبِ عَمَلِهِ"؛

(1)

"الفتح" 1/ 75 رقم (7).

(2)

"القاموس المحيط" ص 287.

(3)

يتعيّن تسكين السين حتى يستقيم الوزن، فتنبّه.

ص: 23

أي: على مقداره. انتهى

(1)

.

وفي رواية البخاريّ: "كيف نسبه فيكم؟ "؛ أي: ما حال نسبه فيكم؟ أهو من أشرافكم، أم لا؟، وفي رواية له في "التفسير":"كيف حسبه؟ " مثل ما هنا، قال في "الفتح": كذا هنا، وفي غيرها:"كيف نسبه؟ "، والنسب: الوَجْه الذي يحصل به الإدلاء من جهة الآباء، والحَسَب: ما يَعُدّه المرء من مفاخر آبائه.

(قَالَ) أبو سفيان (قُلْتُ: هُوَ فِينَا ذُو حَسَبٍ)؛ أي: حَسَبٍ رفيعٍ.

قال في "الفتح": استُشكِل هذا الجواب؛ لأنه لمَ يَزِد على ما في السؤال؛ لأن السؤال تضمَّن أن له نسبًا، أو حسبًا، والجواب كذلك.

وأجيب: بأن التنوين يدلّ على التعظيم، كأنه قال: هو فينا ذو نسب كبير، أو حسبٍ رفيعٍ، ووقع في رواية ابن إسحاق:"كيف نسبه فيكم؟ قال: في الذِّرْوَة"، وهي بكسر الذال المعجمة، وسكون الراء: أعلى ما في البعير من السنام، فكأنه قال: هو من أعلانا نسبًا، وفي حديث دحية عند البزار:"حَدِّثْنِي عن هذا الذي خَرَج بأرضكم، ما هو؟ قال: شابّ، قال: كيف حسبه فيكم؟ قال: هو في حسب، ما لا يُفَضل عليه أحدٌ، قال: هذه آية". انتهى.

(قَالَ) هرقل (فَهَلْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مَلِكٌ؟) هكذا أيضًا عند البخاريّ بإسقاط "من"، وعنده من رواية كريمة، والأصيليّ، وأبي الوقت:"من ملك" بزيادة "من" الجارّة، ولابن عساكر بفتح "مَنْ" و"مَلَكَ" فعلٌ ماض، قال الحافظ: والجارّة أرجح؛ لسقوطها من رواية أبي ذرّ، والمعنى في الثلاثة واحد. انتهى

(2)

.

وقال في "العمدة": قوله: "فهل كان من آبائه مِن مَلِك": فيه ثلاث روايات:

إحداها: أن كلمة "مِنْ" حرف جرّ، و"مَلِك" صفة مشبهة، أعني بفتح الميم، وكسر اللام، وهي رواية كريمة، والأصيليّ، وأبي الوقت.

والثانية: أن كلمة "مَنْ" موصولة، و"مَلَكَ" فعل ماض، وهي رواية ابن عساكر.

(1)

"المصباح المنير" 1/ 134 - 135.

(2)

"الفتح" 1/ 75 - 76.

ص: 24

والثالثة: بإسقاط حرف الجر، وهي رواية أبي ذرّ، والأولى أصحّ وأشهر، ويؤيده رواية مسلم:"هل كان في آبائه مَلِكٌ"، بحذف "مِنْ"، كما هي رواية أبي ذرّ، وكذا هو في "كتاب التفسير" في البخاريّ. انتهى

(1)

.

(قُلْتُ؛ لَا)؛ أي: لم يسبقه أحد من آبائه بالملك، (قَالَ) هرقل (فَهَلْ كنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ)؛ أي: على الناس، وإنما عَدَل إلى السؤال عن التهمة عن السؤال عن نفس الكذب؛ تقريرًا لهم على صدقه؛ لأن التهمة إذا انتفت انتفى سببها، ولهذا عقّبه بالسؤال عن الغدر، قاله في "الفتح"

(2)

.

(قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ؟)؛ أي: قبل أن يدّعي النبوّة، (قُلْتُ: لَا)؛ أي: لم يكن معروفًا بالكذب، بل هو معرف عندنا بأنه الصادق الأمين. (قَالَ) هرقل (وَمَنْ يَتَّبِعُهُ؟) "من" استفهاميّة؛ أي: أي نوع من أنواع الناس تبعه في الإيمان به، وطاعته؟ (أَشْرَافُ النَّاسِ) بتقدير همزة الاستفهام؛ أي: أأشراف الناس تبعوه؛ ولفظ البخاريّ: "فأشراف الناس اتبعوه"، قال في "الفتح": فيه إسقاط همزة الاستفهام، وهو قليل، وقد ثبتت للبخاريّ في "التفسير"، ولفظه:"أيتبعه أشراف الناس؟ "، والمراد بالأشراف هنا: أهل النخوة، والتكبّر منهم، لا كلّ شريف، حتى لا يَرِدَ مثلُ أبي بكر، وعمر، وأمثالهما ممن أسلم قبل هذا السؤال، ووقع في رواية ابن إسحاق:"تَبِعَه منا الضعفاء، والمساكين، والأحداث، فأما ذوو الأنساب والشرف، فما تبعه منهم أحد"، وهو محمول على الأكثر الأغلب. انتهى

(3)

.

(أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ؟)"أم" هنا متّصلة، معادلة لهمزة الاستفهام، وكذا في قوله الآتي:"أم ينقصون؟ ". (قَالَ) أبو سفيان (قُلْتُ: بَلْ ضُعَفَاؤُهُمْ) تقدّم أنه محمول على الأغلب، وإلا فقد تبعه من ذوي الشرف والحسب كثير، كأبي بكر، وعمر، وغيرهما، فتنبّه. (قَالَ) هرقل (أَيَزِيدُونَ أَمْ يَنْقُصُونَ؟) ولفظ البخاريّ في "التفسير":"قال: يزيدون، أم ينقصون؟ " بدون همزة، قال في "الفتح": كذا فيه بإسقاط همزة الاستفهام، وقد جزم ابن مالك بجوازه مطلقًا خلافًا لمن خصّه بالشعر. انتهى.

(1)

"عمدة القاري شرح صحيح البخاريّ" 1/ 150.

(2)

"الفتح" 1/ 76.

(3)

"الفتح" 1/ 76.

ص: 25

(قَالَ) أبو سفيان (قُلْتُ: لَا)؛ أي: لا ينقصون، (بَلْ يَزِيدُونَ، قَالَ) هرقل (هَلْ يَرْتَدُّ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَنْ دِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ) إنما لم يستغن هرقل بقوله: "بل يزيدون" عن هذا السؤال؛ لأنه لا ملازمة بين الارتداد، والنقص، فقد يرتدّ بعضهم، ولا يظهر فيهم النقص، باعتبار كثرة من يدخل، وقلّة من يرتدّ مثلًا

(1)

.

(سَخْطَةً لَهُ؟) - بفتح السين -

(2)

، والسُّخط: كراهة الشيء، وعدم الرضا به، فـ "فسخطةً" منصوب على التعليل، ويجوز نصبه على الحال، على تأويله بساخطًا، قال في "الفتح": وأخرجَ بهذا مَن ارتدّ مُكرَهًا، أو لا لسخط لدين الإسلام، بل لرغبة في غيره، كحظّ نفسانيّ، كما وقع لعبيد الله بن جحش. انتهى

(3)

.

وقال في "الفتح" في موضع آخر: قوله: "سخطةً له": يريد أن مَن دخل في الشيء على بصيرة يَبْعد رجوعه عنه، بخلاف من لم يكن ذلك من صميم قلبه، فإنه يتزلزل بسرعة، وعلى هذا يُحْمَل حال من ارتد من قريش.، ولهذا لم يُعَرِّج أبو سفيان على ذِكرهم، وفيهم صهره، زوج ابنته أم حبيبة، وهو عبيد الله بن جحش، فإنه كان أسلم، وهاجر إلى الحبشة بزوجته، ثم تنصّر بالحبشة، ومات على نصرانيته، وتزوج النبيّ صلى الله عليه وسلم أم حبيبة بعده، وكأنه ممن لم يكن دخل في الإسلام على بصيرة، وكان أبو سفيان وغيره من قريش يعرفون ذلك منه، ولذلك لم يُعَرِّج عليه؛ خشية أن يكذِّبوه.

ويَحْتَمِل أن يكونوا عرفوه بما وقع له من التنصّر، وفيه بُعْدٌ، أو المراد بالارتداد: الرجوع إلى الدين الأول، ولم يقع ذلك لعبيد الله بن جحش، ولم

(1)

"الفتح" 9/ 726.

(2)

وضبطه في "الفتح" بفتح السين، وضمّها، وتعقّبه العينيّ في الضم، ولقد أصاب في ذلك؛ لأن السَّخْطة هي المرّة، وهي فَعْلة بالفتح، لا بالضمّ، و"السُّخْطُ" بالضمّ، وبضمّتين كعُنُق، وبفتحتين، كجَبَل، وكمَقْعَد: ضدّ الرضا، وقد سَخِط، كفرح، وتسخّط. أفاده في "القاموس" ص 600.

(3)

"الفتح"1/ 76.

ص: 26

يطّلع أبو سفيان على من وقع له ذلك، زاد في حديث دحية:"أرأيت مَن خرج من أصحابه إليكم، هل يرجعون إليه؟ قال: نعم". انتهى

(1)

.

(قَالَ) أبو سفيان (قُلْتُ: لَا)؛ أي: لا يرتدّ أحد سخطة لدينه، (قَالَ) هرقل (فَهَلْ قَاتَلْتُمُوهُ؟) نَسَب ابتداءَ القتال إليهم، ولم يقل: قاتلكم، فينسِب ابتداء القتال إليه؛ محافظةً على احترامه، أو لاطّلاعه على أن النبيّ لا يبدأ قومه بالقتال حتى يقاتلوه، أو لِمَا عَرَفه من العادة من حَمِيّة مَن يُدْعَى إلى الرجوع عن دينه، وفي حديث دحية:"هل ينكب إذا قاتلكم؟ قال: قد قاتله قوم فهزمهم، وهزموه، قال: هذه آية". (قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ) هر قل (فَكَيْفَ

(2)

كَانَ قِتَالُكُمْ إِيَّاهُ؟ قَالَ) أبو سفيان (قُلْتُ: تَكُونُ الْحَرْبُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ سِجَالًا) - بكسر أوله -؛ أي: نُوَبًا: نوبةٌ لنا، ونوبةٌ له، قالوا: وأصله من المستقين بالسَّجْل، وهي الدلو الملأى، يكون لكل واحد منهما سَجْلٌ، قاله النوويّ

(3)

.

وقال في "العمدة": والسَّجْلُ: الدلو، والحرب: اسم جنس، ولهذا جَعَل خبره جمعًا، ويَحْتَمِل أن السجال بمعنى المساجلة، ولا يكون جمع سَجْل، فلا يَرِد السؤال أصلًا. انتهى

(4)

.

(يُصِيبُ مِنَّا، وَنُصِيبُ مِنْهُ)؛ أي: يُصيب بعضنا بالقتل، ونصيب بعض أتباعه بالقتل، فكأنه شبّه المحاربين بالمستقيين: يستقي هذا في دلوًا، وهذا دلوًا، وأشار أبو سفيان بذلك إلى ما وقع بينهم في غزوة بدر، وغزوة أُحد، وقد صرّح بذلك أبو سفيان يوم أُحد في قوله:"يومٌ بيوم بدر، والحرب سجال"، ولم يَرُدّ عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم ذلك، بل نطق النبيّ صلى الله عليه وسلم بذلك في حديث أوس بن حذيفة الثقفيّ لَمّا كان يُحَدِّث وفد ثقيف، أخرجه ابن ماجه، وغيره، ووقع في مرسل عروة:"قال أبو سفيان: غَلَبَنا مرةً يوم بدر، وأنا غائب، ثم غزوتهم في بيوتهم ببَقْر البطون، وجَدْع الآذان"، وأشار بذلك إلى يوم أُحد، قاله في "الفتح"

(5)

.

(1)

"الفتح" 9/ 726، كتاب "التفسير" رقم (4553).

(2)

وفي نسخة: "قال: وكيف".

(3)

"شرح النوويّ" 12/ 105.

(4)

"عمدة القاري" 1/ 156.

(5)

"الفتح" 1/ 76 - 77.

ص: 27

وقال في موضع آخر: قوله: "يصيب منّا، ونصيب منه": وقعت المقاتَلة بين النبيّ صلى الله عليه وسلم وبين قريش قبل هذه القصّة في ثلاثة مواطن: بدرٍ، وأُحُدٍ، والخندق، فأصاب المسلمون من المشركين في بدر، وعكسه في أُحد، وأصيب من الطائفتين ناس قليل في الخندق، فصح قول أبي سفيان:"يصيب منّا، ونصيب منه"، ولم يُصِب مَن تعقّب كلامه، وأن فيه دسيسةً لم ينبّه عليها، كما نَبَّه على قوله:"ونحن منه في مدة، لا ندري ما هو صانع فيها"، والحقّ أنه لم يدسّ في هذه القصة شيئًا، وقد ثبت مثل كلامه هذا من لفظ النبيّ صلى الله عليه وسلم. انتهى.

(قَالَ) هرقل (فَهَلْ يَغْدرُ؟) بكسر الدال، والغدرُ: ترك العهد، وعدم الوفاء به، (قُلْتُ: لَا)؛ أي: لم يغدر فيما مضى من الزمن، (وَنَحْنُ مِنْهُ فِي مُدَّةٍ) قال النوويّ رحمه الله: يعني: مدّة الْهُدْنة والصلح الذي جرى يوم الحديبية، وتعقّبه العينيّ، فقال بعد نقل كلامه: وليس كذلك، وإنما يريد غيبته عن الأرض، وانقطاع أخباره عنه، ولذلك قال:"ولم يمكنّي كلمة أُدخل فيها شيئًا"؛ لأن الإنسان قد يتغير، ولا يُدرى الآن: هل هو على ما فارقناه، أو بَدَّل شيئًا؟ انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: لا وجه لتعقّب العيني المذكور، فإن ما قاله النوويّ محتمل لأن يراد هنا، فتأمله بالإنصاف، والله تعالى أعلم.

(لَا نَدْرِي) قال الكرمانيّ رحمه الله: في قوله: "لا ندري" إشارة إلى أن عدم غدره غير مجزوم به، وتعقّبه العينيّ، فقال: ليس كذلك، بل لكون الأمر مغيَّبًا عنه، وهو في الاستقبال تردّد فيه، بقوله:"لا ندري". انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: لم يظهر لي وجه اعتراض العينيّ، فليُتأمّل.

(مَا هُوَ صَانِعٌ فِيهَا؟)؛ أي: في تلك المدة، (قَالَ) أبو سفيان (فَوَاللهِ مَا أَمْكَنَنِي مِنْ كَلِمَةٍ)"من" زائدة، و"كلمة" فاعل "أمكنني"، (أُدْخِلُ) بضمّ أوله، من الإدخال، (فِيهَا)؛ أي: في الكلمة، ذَكَرَ الكلمة، وأراد بها الكلام، (شَيْئًا) مفعول به لـ"ادخِل"، (غَيْرَ هَذِهِ) وقال القرطبيّ رحمه الله؛ يعني: أنه كان يعلم من خُلُق رسول الله صلى الله عليه وسلم الوفاء، والصدق، وأنه يفي بما عاقدهم عليه، لكن لمّا

(1)

"عمدة القاري" 1/ 156.

ص: 28

كان المستقبل غير حاصل في وقته ذلك لبَّس بتطريق الاحتمال، تمويهًا بما يعلم خلافه. انتهى

(1)

.

[تنبيه]: يجوز في "غير" الرفع، والنصبُ، أما الرفع فعلى كونه صفة لـ"كلمة"، وأما النصب فعلى كونه صفة لقوله:"شيئًا".

واعتُرِض كيف يكون "غير" صفة لهما، وهما نكرتان، و"غير" مضاف إلى المعرفة؟

وأجيب: بأن "غير" لا يتعرف بالإضافة، إلا إذا اشتهر المضاف بمغايرة المضاف إليه، وههنا ليس كذلك، قاله في "العمدة"

(2)

.

وقال في "الفتح" عند قول البخاريّ: "قوله: "ولم تمكني كلمة أدخل فيها شيئًا"؛ أي: أنتقصه به، على أن التنقيص هنا أمر نسبيّ، وذلك أن من يُقْطَع بعدم غدره أرفع رتبةً ممن يجوز وقوع ذلك منه في الجملة، وقد كان معروفًا عندهم بالاستقراء من عادته أنه لا يغدر، ولمّا كان الأمر مغيّبًا؛ لأنه مستقبَل أَمِنَ أبو سفيان أن يُنسَبَ في ذلك إلى الكذب، ولهذا أورده بالتردّد، ومن ثَمّ لم يُعَرِّج هرقل على هذا القدر منه، وقد صَرَّح ابن إسحاق في روايته عن الزهريّ بذلك، بقوله: "قال: فوالله ما التفت إليها مني"، ووقع في رواية أبي الأسود، عن عروة مرسلًا: "خرج أبو سفيان إلى الشام

" فذكر الحديث إلى أن قال: "فقال أبو سفيان: هو ساحرٌ كذّاب، فقال هرقل: إني لا أريد شتمه، ولكن كيف نَسَبه

" إلى أن قال: "فهل يغدر إذا عاهد؟ قال: لا، إلا أن يغدر في هُدنته هذه، فقال: وما يُخاف من هذه؟ فقال: إن قومي أمَدُّوا حلفاءهم على حلفائه، قال: إن كنتم بدأتم فأنتم أغدر". انتهى

(3)

.

(قَالَ: فَهَلْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ أَحَدٌ قَبْلَهُ؟)؛ يعني: سَبَقه أحد من قريش، أو العرب ادّعى ما ادّعاه من النبوّة، حتّى يتّبعه في ذلك؛، وفي رواية للبخاريّ:"فهل قال هذا القول منكم أحدٌ قطّ قبله؟ "، قال في "الفتح": وللكشميهنيّ، والأصيليّ بدل "قبله":"مثله"، فقوله:"منكم"؛ أي: من قومكم؛ يعني:

(1)

"المفهم" 3/ 604.

(2)

"عمدة القاري" 1/ 156.

(3)

"الفتح" 1/ 76.

ص: 29

قريشًا، أو العرب، وششفاد منه أن الشفاهيّ يعمّ؛ لأنه لم يُرِد المخاطبين فقط، وكذا قوله:"فهل قاتلتموه"، وقوله:"بماذا يأمركم"، واستعمل "قَطّ" بغير أداة النفي، وهو نادر، ومنه قول عمر رضي الله عنه:"صلينا أكثر ما كنا قطّ، وآمنه ركعتين"، ويَحْتَمِل أن يقال: إن النفي مُضَمَّنٌ فيه، كأنه قال: هل قال هذا القول أحد، أو لم يقله أحد قط؟ انتهى

(1)

.

(قَالَ) أبو سفيان (قُلْتُ: لَا)؛ أي: لم يقل هذا القول أحد منا قبله.

(قَالَ) هرقل (لِتَرْجُمَانِهِ: قُلْ لَهُ)؛ أي: لأبي سفيان، (إِنِّي سَأَلْتُكَ)؛ أي: قل له حاكيًا عن هرقل أني سألتك، أو المراد أني سألتك على لسان هرقل؛ لأن الترجمان يعيد كلام هرقل، ويعيد لهرقل كلام أبي سفيان، ولا يبعد أن يكون هرقل كان يفقه بالعربية، ويأنف من التكلم بغير لسان قومه، كما جرت به عادة الملوك من الأعاجم

(2)

.

(سَأَلْتُكَ عَنْ حَسَبِهِ) ذَكَر الأسئلة وهي تسعة، وسيأتي العاشر، وأجاب عن كل جواب بما يقتضيه الحال، وحاصل الجميع ثبوت علامات النبوة في الجميع، فالبعض مما تلقّفه من الكتب، والبعض مما استقرأه بالعادة.

(فَزَعَمْتَ)؛ أي: قلت (أَنَّهُ فِيكُمْ ذُو حَسَبٍ)؛ أي: شرف عظيم، (وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْعَثُ فِي أَحْسَابِ قَوْمِهَا) الظاهر أن إخبار هرقل بذلك بالجزم كان عن العلم المقرّر عنده في الكتب السالفة.

قال القرطبيّ رحمه الله: إنما كان ذلك؛ لِمَا خَصّ الله به الأشراف من مكارم الأخلاق، والتباعد عن سفسافها، والصدق، والأمانة، ولتنجذب النفوس إليهم، فإن الأبصار مع الصور، وأقلُّ ما في الوجود إدراك البصائر. انتهى

(3)

.

وقال النوويّ رحمه الله: قوله: "وكذلك الرسل تُبعث في أحساب قومها"؛ يعني: في أفضل أنسابهم، وأشرفها، قيل: الحكمة في ذلك أنه أبعد من انتحاله الباطل، وأقرب إلى انقياد الناس له، وأما قوله:"إن الضعفاء هم أتباع الرسل"؛ فَلِكَوْن الأشراف يَأنَفُون من تقدّم مثلهم عليهم، والضعفاء لا يأنفون،

(1)

"الفتح" 1/ 75.

(2)

"الفتح" 9/ 727.

(3)

"المفهم" 3/ 605.

ص: 30

فيُسرعون إلى الانقياد، واتِّباع الحق، وأما سؤاله عن الردّة؛ فلان من دخل على بصيرة في أمر محقَّق لا يرجع عنه، بخلاف من دخل في أباطيل، وأما سؤاله عن الغدر؛ فلأن من طلب حظّ الدنيا لا يبالي بالغدر وغيره، مما يُتَوَصَّل به إلى ذلك، ومَن طلب الآخرة لم يرتكب غدرًا، ولا غيره من القبائح. انتهى

(1)

.

(وَسَأَلتُكَ) وفي بعض النسخ: "وسألت" بدون الكاف، (هَلْ كَانَ فِي آبَائِهِ مَلِكٌ؛ فَزَعَمْتَ أَنْ لَا، فَقُلْتُ)؛ أي: قلت في نفسي، وأطلق على حديث النفس قولًا، (لَوْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مَلِكٌ، قُلْتُ: رَجُلٌ يَطْلُبُ مُلْكَ آبَائِهِ) وفي رواية للبخاريّ: "مُلك أبيه" بالإفراد. (وَسَأَلْتُكَ عَنْ أتبَاعِه، أَضُعَفَاؤهُمْ، أَمْ أَشْرَافُهُمْ؟ فَقلْتَ: بَلْ ضُعَفَاؤُهُمْ، وَهُمْ أَتْبَاعُ الرّسُلِ)؛ معناه: أن أتباع الرسل في الغالب أهل الاستكانة، لا أهل الاستكبار الذين أصرّوا على الشقاق بَغْيًا، وحَسَدًا، كأبي جهل، وأشياعه، إلى أن أهلكهم الله تعالى، وأنقذ بعد حين من أراد سعادته منهم.

وقال القرطبيّ رحمه الله: إنما كان أتباع الرسل الضعفاء؛ لاستيلاء الرئاسة على الأشراف، وصعوبة الانفكاك عنها، والأنَفَة من الانقياد للغير، والضعيف خَلِيّ عن تلك الموانع، وهذا غالب أحوال أهل الدنيا، وإلا فقد ظهر أن السُّباق للإسلام كانوا أشرافًا في الجاهلية والإسلام، كأبي بكر، وعمر، وحمزة، وغيرهم من الكبراء والأشراف رضي الله عنهم. انتهى

(2)

.

(وَسَأَلْتُكَ هَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِب قَبْلَ أَنْ يَقولَ مَا قَالَ؟ فَزَعَمْتَ أَنْ لَا، فَقَدْ عَرَفْت) وفي بعض النسخ: "فعرفت"، (أنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيَدَعَ) بكسر اللام، وهي تُسمّى لام الجحود؛ لملازمتها للجحد؛ أي: النفي، وفائدتها توكيد النفي، وهي الداخلة في اللفظ على الفعل مسبوقة بـ"ما كان"، أو "لم يكن" ناقصتين مسنَدتين لِمَا أُسند إليه الفعل المقرون باللام، نحو:{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ} [آل عمران: 179]، ونحو:{لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ} [النساء: 137 و 168]، وقال النحّاس: الصواب تسميتها لام النفي؛ لأن الجحود في اللغة إنكار ما

(1)

"شرح النوويّ" 12/ 105 - 106.

(2)

"المفهم" 3/ 604 - 605.

ص: 31

تعرفه، لا مطلق الإنكار، قاله في "العمدة"

(1)

؛ أي: لم يكن ليترك (الْكَذِبَ عَلَى النَّاس، ثُمَّ يَذْهَبَ فَيَكْذِبَ عَلَى الله، وَسَأَلْتُكَ هَلْ يَرْتَدُّ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَنْ دِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَهُ سَخْطَةً لَهُ؟ فَزَعَمْتَ أَنْ لَا، وَكَذَلِكَ الإِيمَانُ)؛ أي: أمرُ الإيمان، (إِذَا خَالَطَ) قال في "الفتح": هذا يرجّح أن الرواية التي عند البخاريّ في "بدء الوحي" بلفظ: "حتى يخالط" وَهَمٌ، والصواب "حين"، كما للأكثر. انتهى

(2)

. (بَشَاشَةَ الْقُلُوبِ)؛ يعني: انشراح الصدور، وأصلها: اللطف بالإنسان عند قدومه، وإظهار السرور برؤيته، يقال: بَشَّ به، وتبشبش

(3)

، قاله النوويّ رحمه الله.

وقال القرطبي رحمه الله: قوله: "وكذلك الإيمان حين يُخالط بشاشةَ القلوب"؛ هكذا وقعت هذه الرواية هنا، وفي البخاريّ:"حين تخالط بشاشته القلوبَ"، وهي أوضح، وأصل البشاشة: التلطف، والتأنس عند اللقاء، يقال: بَشّ به، وبشبش، ومعنى هذا أن القلوب المنشَرِحَة إذا سمعت الإيمان، وأصغت إليه بشَّت له، ورحّبت بلقائه، كما يُفْعَل بالغائب عند اللقاء، ثم إذا حَلَّ الإيمان في القلب انكشفت له محاسنه، وتوالت عليه أنواره، حتى يَكره أن يعود في الكفر، كما يَكره أن يُقْذَف في النار. انتهى

(4)

.

وزاد البخاريّ في رواية في "الإيمان": "لا يسخطه أحد"، وزاد ابن السكن في روايته في "معجم الصحابة": (يزداد به عَجَبًا، وفَرَحًا"، وفي رواية ابن إسحاق: "وكذلك حلاوة الإيمان لا تدخل قلبًا، فتخرجَ منه

(5)

.

(وَسَأَلْتُكَ هَلْ يَزِيدُونَ، أَوْ يَنْقُصُونَ؟

(6)

فَزَعَمْتَ أَنَّهُمْ يَزِيدُونَ، وَكَذَلِكَ الإِيمَانُ حَتى يَتِمَّ)؛ أي: أمر الإيمان؛ لأنه يظهر نورًا، ثم لا يزال في زيادة، حتى يتم بالأمور المعتبَرة فيه، من صلاة، وزكاة، وصيام، وغيرها، ولهذا نزلت في آخر سنيّ النبيّ صلى الله عليه وسلم:{أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} الآية [المائدة: 3]، ومنه:{وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ} الآية [التوبة: 32]، وكذا جرى لأتباع النبي صلى الله عليه وسلم لم يزالوا في زيادة، حتى كَمُل بهم ما أراد الله من

(1)

"عمدة القاري" 1/ 156.

(2)

"الفتح" 9/ 727 - 728.

(3)

"شرح النوويّ" 12/ 106.

(4)

"المفهم" 3/ 605.

(5)

"الفتح" 1/ 78.

(6)

وفي نسخة: "أم ينقصون".

ص: 32

إظهار دينه، وتمام نعمته، فله الحمد والمنّة

(1)

.

(وَسَأَلْتُكَ هَلْ قَاتَلْتُمُوهُ؟ فَزَعَمْتَ أنَّكُمْ قَدْ قَاتَلْتُمُوهُ، فَتَكُونُ الْحَرْبُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ سِجَالًا)؛ أي: نُوَبًا، (يَنَالُ مِنْكُمْ) كيوم بدر (وَتَنَالُونَ مِنْهُ) كيوم أُحد، (وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْتَلَى)؛ أي: بقومها، ومحاربتهم لها، قال القرطبيّ رحمه الله: ابتلاء الرسل بنحو ما ذُكِر إنما هو ترفيع لدرجاتهم، وستر لأحوالهم، حتى لا يصير العلم بهم ضروريًّا، والله تعالى أعلم.

(ثُمَّ تَكُونُ لَهُمُ الْعَاقِبَةُ)؛ أي: الخاتمة الحسنة، وفي بعض النسخ:"ثمّ تكون لها العاقبة" بإفراد ضمير المؤنّث، باعتبار الجماعة، قال النوويّ رحمه الله: معناه: يبتليهم الله تعالى بذلك؛ لِيَعْظُم أجرهم بكثرة صبرهم، وبَذْلهم وُسْعهم في طاعة الله تعالى.

(وَسَأَلْتُكَ هَلْ يَغْدِرُ؟ فَزَعَمْتَ أنَّهُ لَا يَغْدِرُ، وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ لَا تَغْدِرُ)؛ أي: لأنها لا تطلب حظّ الدنيا الذي لا يبالي طالبه بالغدر، بخلاف من طلب الآخرة، ولم يُعَرِّج هرقل على الدسيسة التي دَسَّها أبو سفيان، كما تقدم.

[فائدة]: قال المازريّ: هذه الأشياء التي سأل عنها هرقل ليست قاطعة على النبوة، إلا أنه يَحْتَمِل أنها كانت عنده علامات على هذا النبيّ بعينه؛ لأنه قال بعد ذلك:"قد كنت أعلم أنه خارج، ولم أكن أظنّ أنه منكم"، قال الحافظ: وما أورده احتمالًا جَزَم به ابن بطال، وهو ظاهر. انتهى

(2)

.

(وَسَأَلْتُكَ هَلْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ أَحَدٌ قَبْلَهُ؟ فَزَعَمْتَ أَنْ لَا، فَقُلْتُ: لَوْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ أَحَدٌ قَبْلَهُ، قُلْتُ) وللبخاريّ: "فقلت"، قال في "الفتح": وإنما لم يقل هرقل: "فقلت" إلا في هذا، وفي قوله:"هل كان من آبائه ملك؟ "؛ لأن هذين المقامين مقام فكر ونظر، بخلاف غيرهما من الأسئلة، فإنها مقام نَقْل. انتهى

(3)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "هل قال هذا القول أحد قبله؟ " يعني: من عرب قومه، وإلا فالرسل كثير، وقد كان في العرب غير قومه رسل، كهود،

(1)

"الفتح" 1/ 78.

(2)

"الفتح"1/ 78.

(3)

"الفتح" 1/ 77.

ص: 33

وصالح، كما ذكر في حديث أبي ذرّ، ولذلك قال تعالى:{لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ} [يس: 6]؛ أي: لم يبعث في آبائهم المشهورين عندهم رسول ينذرهم، وهو قول المحققين من المفسّرين، وقد دلّ عليه قوله تعالى في آية أخرى:{لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ} [السجدة: 3]

(1)

.

(رَجُلٌ ائْتَمَّ)؛ أي: اقتدى، وللبخاريّ:"رجلٌ يأتسي"، وفي رواية:"تأسّى"، وفي رواية:"يتأسّى"؛ أي: يقتدي (بِقَوْلٍ قِيلَ قَبْلَهُ، قَالَ) أبو سفيان (ثُمَّ قَالَ) هرقل (بِمَ يَأْمُرُكُمْ؟)"ما" استفهامتة، ولهذا حُذفت الألف منها، كما قال في "الخلاصة":

و"مَا" فِي الاسْتِفْهَامِ إِنْ جُزَتْ حُذِفْ

أَلِفُهَا وَأَوْلهَا الْهَا إِنْ تَقِفْ

وللبخاريّ: "بما يأمركم"، بالألف، وهو جائز أيضًا؛ لأن الجرّ بالحرف، كما أشار إليه في "الخلاصة" بقوله:

وَلَيْسَ حَتْمًا فِي سِوَى مَا انْخَفَضَا

بِاسْمٍ كَقَوْلِكَ "اقْتِضَاءَ مَ اقْتَضَى

ثم إن قوله: "بم يأمركم" يدلّ على أن الرسول من شأنه أن يأمر قومه.

(قُلْتُ: يَأْمُرُنَا بِالصَّلَاةِ) وفي رواية للبخاريّ في "بدء الوحي": "يقول: اعبدوا الله وحده، ولا تشركوا به شيئًا، واتركوا ما يقول آباؤكم، ويأمرنا بالصلاة، والزكاة، والصدق، والعفاف، والصلة".

وأراد بالصلاة: الصلاةَ المعهودة التي مُفْتَتَحها التكبير، ومُخْتَتَمها التسليم، قال في "الفتح": واستُدِلّ به على إطلاق الأمر على صيغة افْعَلْ، وعلى عكسه، وفيه نظر؛ لأن الظاهر أنه من تصرّف الرواة، ويستفاد منه أن المأمورات كلها كانت معروفة عند هرقل، ولهذا لم يستفسره عن حقائقها. انتهى

(2)

.

(وَالزَّكَاة، وَالصِّلَةِ) هي: كلُّ ما أمر الله تعالى أن يوصل، وذلك بالبرّ، والإكرام، وحسن المراعاة، ويقال: المراد بها: صلة الرحم، وهي تشريك ذوي القرابات في الخيرات، واختلفوا في الرحم، فقيل: هو كل ذي رَحِمٍ مَحْرَم، بحيث أَبُو كان أحدهما ذكرًا، والآخر أنثى، حرمت مناكحتهما، فلا يدخل أولاد

(1)

"المفهم" 3/ 606.

(2)

"الفتح" 9/ 728، كتاب "التفسير" رقم (4553).

ص: 34

الأعمام فيه، وقيل: هو عامّ في كل ذي رحم في الميراث مُحَرَّمًا، أو غيره

(1)

.

(وَالْعَفَافِ) - بفتح العين -: الكفّ عن المحارم، وخوارم المروءة، وقال صاحب "المحكم": العِفّة: الكف عما لا يحلّ، ولا يَجْمُل، يقال: عَفّ يَعِفّ عَفًّا وعَفَافًا، وعَفَافَةً، وعِفّةً، وتعفّف، واستعفّ، ورجل عَفٌّ، وعَفِيفٌ، والأنثى: عفيفة، وجمع العفيف: أعفّة، وأعفاء

(2)

.

(قَالَ) هرقل (إِنْ يَكُنْ مَا تَقُولُ فِيهِ) في حقّ هذا النبيّ صلى الله عليه وسلم (حَقًّا، فَإِنَّهُ نَبِيٌّ) ووقع في رواية البخاريّ في "الجهاد": "وهذه صفة نبيّ"، وفي مرسل سعيد بن المسيِّب، عند ابن أبي شيبة:"فقال: هو نبيّ"، قال العلماء: هذا الذي قاله هرقل أخذه من الكتب القديمة، ففي التوراة هذا أو نحوه من علامات رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعرفه بالعلامات، وأما الدليل القاطع على النبوّة فهو المعجزة الظاهرة الخارقة للعادة، فهكذا قاله المازريّ، والله أعلم، ذكره النوويّ

(3)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "إن يكن ما تقول حقًّا فإنه نبيّ"؛ هذا الكلام محذوف المقدمة الاستثنائية؛ لدلالة الكلام عليها، وتقديرها: لكن ما تقول حقٌّ، فهو نبيّ، ويدلّ على أن هذا مراده قطعًا الكلام الذي بَعْده، فإنه قَطَع فيه بنبوّته، فتأمله. انتهى

(4)

.

[تنبيه]: قال في "الفتح": وقع في "أمالي المحامليّ"، رواية الأصبهانيين، من طريق هشام بن عروة، عن أبيه، عن أبي سفيان: "أن صاحب بُصْرَى أخذه، وناسًا معه، وهم في تجارة

"، فذكر القصّة مختصرة، دون الكتاب، وما فيه، وزاد في آخرها: "قال: فأَخْبِرْني هل تعرف صورته إذا رأيتها؛ قلت: نعم، فأُدخلت كنيسة لهم فيها الصور، فلم أره، ثم أدخلت أخرى، فإذا أنا بصورة محمد، وصورة أبي بكر، إلا أنه دونه"، وفي "دلائل النبوّة" لأبي نعيم، بإسناد ضعيف: "أن هرقل أخرج لهم سَفَطًا

(5)

من ذهب،

(1)

"عمدة القاري" 1/ 147.

(2)

"عمدة القاري" 1/ 147.

(3)

"شرح النوويّ" 12/ 107.

(4)

"المفهم" 3/ 656 - 607.

(5)

"السَّفَطُ" محرّكة: ما يُخبأ فيه الطيب ونحوه، والجمع: أسفاط، مثلُ سَبَبٍ وأسباب. "المصباح" 1/ 279.

ص: 35

عليه قُفْل من ذهب، فأخرج منه حريرة مطويّةً، فيها صور، فعرضها عليهم إلى أن كان آخرها صورة محمد، فقلنا بأجمعنا: هذه صورة محمد، فذكر لهم أنها صور الأنبياء، وأنه خاتمهم صلى الله عليه وسلم ". انتهى

(1)

.

(وَقَدْ كُنْتُ أَعْلَمُ أَنَّهُ خَارجٌ)؛ أي: لِمَا في الكتب التي اطّلع عليها، والبشائر به، والإخبار بمجيئه، ووقته، وعلاماته.

(وَلَمْ كُنْ أَظُنُّهُ مِنْكُمْ)؛ أي: أعلم أن نبيًّا سيُبعث في هذا الزمان، لكن لم أعلم تعيين جنسه، وزعم بعض الشرّاح أنه كان يَظُنّ أنه من بني إسرائيل؛ لكثرة الأنبياء فيهم، وفيه نظرٌ؛ لأن اعتماد هرقل في ذلك كان على ما اطَّلع عليه من الإسرائيليات، وهي طافحة بأن النبيّ الذي يخرج في آخر الزمان من ولد إسماعيل، فيُحْمَل قوله: لم أكن أظنّ أنه منكم؛ أي: من قريش

(2)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: أولم أكن أظن أنه منكم": كأنه استبعَدَ أن يكون نبيّ من العرب، لِمَا كانوا عليه من الأعمال الجاهلية، والطبيعة الأمية، والحالة الضعيفة الزريّة، وتمسّكًا بكثرة الرسل في الملة الإسرائيلية، وقد كان كل ذلك، لكنْ جَبَرَ الله صدع هذه الأمة؛ بأن اختصهم بهذا الرسول العظيم؛ الذي شرّفهم به، وكرّمهم حتى صيّرهم خير أمة، والحمد لله على هذه النعمة

(3)

.

وقال العلّامة ابن الملقّن رحمه الله: استدلال هرقل من كونه صلى الله عليه وسلم ذا حسب ليس بدليل قاطع على النبوّة، وإنما القاطع المعجز الخارق للعادة المعدوم فيها المعارضة، قاله المازريّ، قال: ولعلّ هرقل كان عنده عِلْم بكونها علامات هذا النبيّ، وقد قال فيه: وقد كنت أعلم أنه خارج، لم أكن أظنّ أنه منكم

(4)

، وقطع ابن بطّال

(5)

بهذا، وقال: إخبار هرقل، وسؤاله عن كلّ فصل فصل إنما كان عن الكتب القديمة، وإنما ذلك كلّه نعْت للنبيّ صلى الله عليه وسلم مكتوب عندهم في

(1)

"الفتح" 9/ 728، كتاب "التفسير" رقم (4553).

(2)

"الفتح" 9/ 728.

(3)

"المفهم" 3/ 607.

(4)

راجع: "المعلم بفوائد مسلم" 2/ 144.

(5)

راجع: "شرح ابن بطّال على البخاريّ" 1/ 46.

ص: 36

التوراة، والإنجيل، وجزم به النوويّ في "شرحه"، فقال: هذا الذي قاله هرقل أَخَذه من الكتب القديمة، ففي التوراة هذا، أو نحوه من أعلام نبوّته. انتهى

(1)

.

(وَلَوْ أَنِّي أَعْلَمُ أَنِّي أَخْلُصُ إِلَيْهِ) بضمّ اللام؛ أي: أصل، يقال: خَلَصَ إلى كذا؛ أي: وصل، (لأَحْبَبْتُ لِقَاءَهُ) هكذا في رواية مسلم بلفظ:"أحببت"، وفي رواية البخاريّ:"لتجشّمت لقاءه " - بالجيم والشين المعجمة -؛ أي: تكلفت الوصول إليه، وارتكبت المشقّة في ذلك، وهذا يدلّ على أنه كان يتحقق أنه لا يَسْلَم من القتل إن هاجر إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، واستفاد ذلك بالتجربة، كما في قِصّة ضَغاطر الذي أظهر لهم إسلامه، فقتلوه، وللطبرانيّ من طريق ضعيف عن عبد الله بن شداد، عن دحية في هذه القصة مختصرًا:"فقال قيصر: أعرف أنه كذلك، ولكن لا أستطيع أن أفعل، إن فعلتُ ذَهَب مُلكي، وقتلني الروم"، وفي مرسل ابن إسحاق، عن بعض أهل العلم:"أن هرقل قال: ويحك، والله إني لأعلم أنه نبيّ مرسل، ولكني أخاف الروم على نفسي، ولولا ذلك لاتبعته"، لكن أَبُو تفطَّن هرقل لقوله صلى الله عليه وسلم في الكتاب الذي أرسل إليه:"أسلم تَسْلم"، وحَمَل الجزاء على عمومه في الدنيا والآخرة لسَلِمَ أَبُو أسلم من كل ما يخافه، ولكن التوفيق بيد الله تعالى

(2)

.

وقال في "الفتح" أيضًا في موضع آخر: قوله: "لأحببت لقاءه": في "بدء الوحي": "لتجشمت" بجيم ومعجمة؛ أي: تكلّفت، ورجّحها عياض، لكن نَسَبها لرواية مسلم خاصّة، وهي عند البخاريّ أيضًا، وقال النوويّ: قوله: "لتجشمت لقاءه"؛ أي: تكلّفت الوصول إليه، وارتكبت المشقّة في ذلك، ولكني أخاف أن أُقتَطَع دونه، قال: ولا عذر له في هذا؛ لأنه قد عَرَفَ صفة النبيّ صلى الله عليه وسلم، لكنه شحَّ بملكه، ورغب في بقاء رياسته، فآثرها على اتّباعه صلى الله عليه وسلم، وقد جاء ذلك مصرَّحًا به في "صحيح البخاريّ"، ولو أراد الله هدايته لوفّقه كما وفّق النجاشيّ، وما زالت عنه الرئاسة، ونسأل الله تعالى توفيقه

(3)

.

(1)

"التوضيح" 2/ 413.

(2)

"الفتح" 1/ 79.

(3)

"شرح النوويّ" 12/ 107.

ص: 37

قال الحافظ: قال شيخنا شيخ الإسلام - يعني: البلقينيّ -: كذا قال النوويّ، ولم أر في شيء من طرق الحديث في البخاريّ ما يدلّ على ذلك.

قال الحافظ: والذي يظهر لي أن النوويّ عَنَى ما وقع في آخر الحديث عند البخاريّ دون مسلم، من القضة التي حكاها ابن الناطور، وأن في آخرها في "بدء الوحي" أن هرقل قال:"إني قلت مقالتي آنفًا أختبر بها شدّتكم على دينكم، فقد رأيت"، وزاد في آخر حديث الباب:"فقد رأيت الذي أحببت"، فكأن النوويّ أشار إلى هذا، والله أعلم، وقد وقع التعبير بقوله:"شَحّ بملكه" في الحديث الذي أخرجه. انتهى

(1)

.

(وَلَوْ كُنْتُ عِنْدَهُ، لَغَسَلْتُ عَنْ قَدَمَيْهِ)؛ أي: إكرامًا له، واحترامًا، وخدمةً، وهذا منه مبالغة في العبودية صلى الله عليه وسلم، والخدمة، زاد عبد الله بن شداد، عن أبي سفيان:"لو علمت أنه هو لمشيت إليه، حتى أُقَبِّل رأسه، وأغسل قدميه"، وهي تدلّ على أنه كان بقي عنده بعض شكّ، وزاد فيها:"ولقد رأيت جبهته تتحادر عَرَقًا من كرب الصحيفة"؛ يعني: لَمّا قُرئ عليه كتاب النبيّ صلى الله عليه وسلم، وفي اقتصاره على ذكر غسل القدمين إشارة منه إلى أنه لا يَطلب منه إذا وصل إليه سالِمًا، لا ولاية، ولا منصبًا، وإنما يطلب ما تحصل له به البركة.

(وَلَيَبْلُغَنَّ مُلْكُهُ مَا تَحْتَ قَدَمَيَّ) قال القرطبيّ رحمه الله: يعني بذلك أرضه التي كان فيها، ومملكته التي كان عليها، وكذلك كان، وهذا منه تحقيق لنبوَّته صلى الله عليه وسلم، وعِلْم بما يفتح الله عليه، وبما ينتهي إليه أمره، ومع ذلك ففي البخاريّ: أنه استمرّ على كفره، فنعوذ بالله من علم لا ينفع.

وقال القرطبيّ أيضًا: إذا تأملت هذا الحديث علمت فِطنة هرقل، وجوّدة قريحته، وحسن نظره، وسياسته، وتثبّته، وأنه عَلِم صحة نبوَّة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وصدقه، غير أنه ظهر منه بعد هذا ما يدل على أنه لم يؤمن، ولم ينتفع بذلك العلم الذي حصل له، فإنه هو الذي جيَّش الجيوش على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقاتلهم، وألّب عليهم، ولم يقضر في تجهيز الجيوش عليهم، وإرساله إليهم الجموع العظيمة من الروم وغيرهم الكرَّة بعد الكرَّة، فيهزمهم الله،

(1)

"الفتح" 9/ 728 - 729.

ص: 38

ويهلكهم، ولا يرجع إليه منهم إلا فُلُّهم، واستمر على ذلك إلى أن مات، وقد فتح الله على المسلمين أكثر بلاد الشام، ثم وَلي ولده بعده، وعليه فتحت جميع البلاد الشامية، وبهلاكه هلكت المملكة الرومية. انتهى

(1)

.

وقال في "الفتح": قوله: "ما تحت قدميّ"؛ أي: بيت المقدس، وكنى بذلك؛ لأنه موضع استقراره، أو أراد الشام كله؛ لأن دار مملكته كانت حمص، ومما يقوي أن هرقل آثر مُلكه على الإيمان، واستمرّ على الضلال أنه حارب المسلمين في غزوة مؤتة، سنة ثمان بعد هذه القصة بدون السنتين، ففي مغازي ابن إسحاق: "وبلغ المسلمين لَمّا نزلوا مَعَان

(2)

من أرض الشام، أن هرقل نزل في مائة ألف من المشركين"، فحَكَى كيفية الوقعة، وكذا روى ابن حبان في "صحيحه"، عن أنس رضي الله عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كتب إليه أيضًا من تبوك يدعوه، وأنه قارب الإجابة، ولم يُجِب، فدلّ ظاهر ذلك على استمراره على الكفر، لكن يَحْتَمِل مع ذلك أنه كان يُضمر الإيمان، ويفعل هذه المعاصي مراعاة لِمُلْكه، وخوفًا من أن يقتله قومه.

إلا أن في مسند أحمد أنه كتب من تبوك إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم: إني مسلم، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"كَذَبَ، بل هو على نصرانيته".

وفي "كتاب الأموال" لأبي عبيد بسند صحيح، من مرسل بكر بن عبد الله المزنيّ نحوه، ولفظه:"فقال: كذب عدوّ الله، ليس بمسلم"، فعلى هذا إطلاق صاحب "الاستيعاب" أنه آمن؛ أي: أظهر التصديق، لكنه لم يستمرّ عليه، ولم يعمل بمقتضاه، بل شَحّ بملكه، وآثر الفانية على الباقية، والله تعالى وليّ التوفيق

(3)

.

(قَالَ: ثُمَّ دَعَا)؛ أي: من وَكَّل ذلك إليه، ولهذا عُدّي إلى الكتاب بالباء، والله أعلم. (بِكِتَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم)، زاد في رواية البخاريّ:"الذي بعث به دِحيةُ إلى عظيم بُصرَى، فدفعه إلى هرقل"، (فَقَرَأَهُ)؛ أي: أمر بقراءته؛ لأنه عجميّ لا يعرف الكتاب العربيّ، وقال في "الفتح": قوله: "ثم دعا بكتاب

(1)

"المفهم" 3/ 602.

(2)

بفتح الميم، كما في "ق".

(3)

"الفتح" 1/ 79 - 80.

ص: 39

رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقرأه": ظاهره أن هرقل هو الذي قرأ الكتاب، ويَحْتَمِل أن يكون الترجمان قرأه، ونُسبت قراءته إلى هرقل مجازًا؛ لكونه الآمر به، وفي رواية للبخاريّ في "الجهاد" بلفظ:"ثم دعا بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقرئ"، وفي مرسل محمد بن كعب القُرَظيّ عند الواقديّ، في هذه القصة:"فدعا الترجمان الذي يقرأ بالعربية، فقرأه"، ووقع في رواية "الجهاد" ما ظاهره أن قراءة الكتاب وقعت مرتين، فإن في أوله:"فلما جاء قيصرَ كتابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال حين قرأه: التمسوا لي ها هنا أحدًا من قومه؛ لأسالهم عنه، قال ابن عباس: فأخبرني أبو سفيان أنه كان بالشام، في رجال من قريش - فذكر القصّة إلى أن قال -: ثم دعا بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقرئ"، والذي يظهر لي أن هرقل قرأه بنفسه أوّلًا، ثم لَمّا جمع قومه، واْحضر أبا سفيان، ومن معه، وسأله، وأجابه، أمر بقراءة الكتاب على الجميع.

ويَحْتَمِل أن يكون المراد بقوله أوّلًا: "فقال حين قرأه"؛ أي: قرأ عنوان الكتاب؛ لأن كتاب النبيّ صلى الله عليه وسلم كان مختومًا بخَتْمه، وخَتْمه:"محمد رسول الله"، ولهذا قال: إنه يسأل عن هذا الرجل الذي يزعم أنه نبيّ، ويؤيد هذا الاحتمال أن من جملة الأسئلة قول هرقل:"بم يأمركم؟، فقال أبو سفيان: يقول: اعبدوا الله، ولا تشركوا به شيئًا"، وهذا بِعَيْنه في الكتاب، فلو كان هرقل قرأه أوّلًا ما احتاج إلى السؤال عنه ثانيًا، نعم يَحْتَمِل أن يكون سأل عنه ثانيًا مبالغةً في تقريره. انتهى

(1)

.

(فَإِذَا فِيهِ: "بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) قال النوويّ: فيه استحباب تصدير الكتب بـ"بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ"، وإن كان المبعوث إليه كافرًا، ويُحْمَل قوله في حديث أبي هريرة رضي الله عنه:"كل أمر ذي بال لا يُبدأ فيه بحمد الله، فهو أقطع"؛ أي: بذكر الله كما جاء في رواية أخرى، فإنه رُوي على أوجه:"بذكر الله"، "ببسم الله"، "بحمد الله"، قال: وهذا الكتاب كان ذا بال من المهمات العظام، ولم يبدأ فيه بلفظ الحمد، بل بالبسملة. انتهى

(2)

.

قال الحافظ رحمه الله: والحديث الذي أشار إليه أخرجه أبو عوانة في

(1)

"الفتح" 9/ 729.

(2)

"شرح النوويّ" 12/ 107 - 108.

ص: 40

"صحيحه"، وصححه ابن حبّان أيضًا، وفي إسناده مقال، وعلى تقدير صحته، فالرواية المشهورة فيه بلفظ: حَمْد الله، وما عدا ذلك من الألفاظ التي ذكرها النوويّ، وَرَدَت في بعض طرق الحديث بأسانيد واهية.

قال الجامع عفا الله عنه: قد تقدّم في مبحث البسملة من "شرح المقدّمة" أن هذا الحديث ضعيفٌ جدًّا، ولا يثبت منه شيء، فراجعه تستفد علمًا جمًّا، وبالله تعالى التوفيق.

قال: ثم اللفظ، وإن كان عامًّا لكن أريد به الخصوص، وهي الأمور التي تحتاج إلى تقدم الخطبة، وأما المراسلات فلم تجر العادة الشرعية، ولا العرفية بابتدائها بذلك، وهو نظير الحديث الذي أخرجه أبو داود، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أيضًا بلفظ:"كلُّ خطبة ليس فيها شهادة، فهي كاليد الجذماء"، وهو حديث صحيح.

فالابتداء بالحمد، واشتراط التشهد خاصّ بالخطبة، بخلاف بقية الأمور المهمة، فبعضها يُبدأ فيه بالبسملة تامّةً؛ كالمراسلات، وبعضها ببسم الله فقط، كما في أول الجِماع، والذبيحة، وبعضها بلفظ من الذكر مخصوصٍ؛ كالتكبير.

قال: وقد جمعتُ كُتبَ النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى الملوك وغيرهم، فلم يقع في واحد منها البداءة بالحمد، بل بالبسملة، وهو يؤيّد ما قررته، والله أعلم.

ووقع في مرسل سعيد بن المسيِّب عند ابن أبي شيبة: "أن هرقل لما قرأ الكتاب قال: هذا كتاب لم أسمعه بعد سليمان عليه السلام"، كأنه يريد الابتداء بـ "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ"، وهذا يؤيِّد ما قدمناه، أنه كان عالِمًا بأخبار أهل الكتاب. انتهى

(1)

.

(مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُول الله) فيه أن السُّنَّة أن يبدأ المرسِل الكتابَ بنفسه، وهو قول الجمهور، بل حَكَى فيه النحاسُ إجماع الصحابة، والحقّ إثبات الخلاف، وفيه أن "مِنْ" التي لابتداء الغاية تأتي من غير الزمان والمكان، كذا قاله أبو حيان، والظاهر أنها هنا أيضًا لم تخرج عن ذلك، لكن بارتكاب مجاز، زاد في حديث دحية: "وعنده ابن أخ له أحمر، أزرق، سبط الرأس. وفيه: لمّا قرأ

(1)

"الفتح" 9/ 730.

ص: 41

الكتاب نَخَرَ

(1)

، فقال: لا تقرأه، إنه بدأ بنفسه، فقال قيصر: لتقرأنّه، فقرأه"، وقد ذكر البزار في "مسنده" عن دحية الكلبيّ: أنه هو ناول الكتاب لقيصر، ولفظه: "بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتابه إلى قيصر، فأعطيته الكتاب"

(2)

.

وذكر المدائنيّ أن القارئ لما قرأ: "من محمد رسول الله إلى عظيم الروم" غَضِب أخو هرقل، واجتذب الكتاب، فقال له هرقل: ما لك؟ فقال: بدأ بنفسه، وسَمَّاك صاحبَ الروم، فقال هرقل: إنك لضعيف الرأي، أتريد أن أرمي بكتاب قبل أن أعلم ما فيه؟ لئن كان رسول الله إنه لأحقّ أن يبدأ بنفسه، ولقد صدق أنا صاحب الروم، والله مالكي ومالكهم"، وأخرج الحسن بن سفيان في "مسنده" من طريق عبد الله بن شداد، عن دحية: "بعثني النبيّ صلى الله عليه وسلم بكتاب إلى هرقل، فقَدِمت عليه، فأعطيته الكتاب، وعنده ابن أخ له أحمر، أزرق، سبط الرأس، فلما قرأ الكتاب نَخَرَ ابن أخيه نَخْرَةً، فقال: لا تقرأ، فقال قيصر: لِمَ؟ قال: لأنه بدأ بنفسه، وقال: صاحب الروم، ولم يقل: ملك الروم، قال: اقرأ، فقرأ الكتاب".

وفي رواية للبخاريّ: "من محمد عبد الله ورسوله"، وفيه إشارة إلى أن رسل الله، وإن كانوا أكرم الخلق على الله، فهم مع ذلك مقرون بأنهم عبيد الله، وكأن فيه إشارةً إلى بطلان ما تدّعيه النصارى في عيسى عليه السلام.

(إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ) بجر "عظيم" على البدليّة، ويجوز الرفع على القطع، والنصب على الاختصاص، والمراد: مَن تُعَظِّمه الروم، وتقدّمه للرياسة عليها، وفيه العدول عن ذكره بالْمُلْك، أو الإمرة؛ لأنه معزول بحكم الإسلام، لكنه لم يُخْلِهِ من إكرام؛ لمصلحة التأليف، وفي حديث دحية:"أن ابن أخي قيصر أنكر أيضًا كونه لم يقل: ملك الروم"، قاله في "الفتح".

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "عظيمِ الروم"؛ أي: الذي تعظّمه الروم، وهو مُفاتَحةٌ بخطاب استلطاف، ويقتضي التأنيس، والاستئلاف، مع أنه حقٌّ في نفسه، فإنه كان معظَّمًا في الروم، وكان أعظم ملوكهم

(3)

.

(1)

نخَر ينخْرُ، من بابي ضرب، ونصر: إذا مدّ النفس في الخياشيم.

(2)

"الفتح" 1/ 80.

(3)

"المفهم" 3/ 608.

ص: 42

(سَلَامٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى) وفي رواية البخاريّ في "الاستئذان": "السلام" بالتعريف، وقد ذُكِرت في قصة موسى وهارون مع فرعون؛ أي: في قوله تعالى: {وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى} [طه: 47]، وظاهر السياق يدلّ على أنه من جملة ما أُمرا به أن يقولاه.

قال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "سلام على من اتبع الهدى": عدول عن السلام عليه، لأن الكافر لا يُفاتَح بالسلام إلى التعريض له باتباع طريق الهداية، وقد رأى بعض أهل العلم أن السلام على أهل الكفر والبدع هكذا يكون

(1)

.

وقال النوويّ رحمه الله: هذا دليل لمن يقول: لا يُبتدأ الكافر بالسلام، وفي المسألة خلاف، فمذهب الشافعيّ، وجمهور أصحابه، وأكثر العلماء أنه لا يجوز للمسلم أن يبتدئ كافرًا بالسلام، وأجازه كثيرون من السلف، وهذا مردود بالأحاديث الصحيحة في النهي عن ذلك، وستأتي في موضعها - إن شاء الله تعالى - وجوّزه آخرون؛ لاستئلاف، أو لحاجة إليه، أو نحو ذلك. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: القول بالنهي عن ابتداء الكافر بالسلام هو الحقّ، لصحّة قوله صلى الله عليه وسلم:"لا تبدءوا اليهود والنصارى بالسلام. . ." الحديث، رواه الترمذيّ وقال: حديث حسنٌ صحيح، والله تعالى أعلم.

وقال في "الفتح": [فإن قيل]: كيف يُبدأ الكافر بالسلام؟.

[فالجواب]: أن المفسرين قالوا: ليس المراد من هذا التحية، إنما معناه: سَلِمَ من عذاب الله من أسلم، ولهذا جاء بعده:{أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [طه: 48]، وكذا جاء في بقية هذا الكتاب:"فإن توليت، فإن عليك إثم الأريسيين".

فمُحَصَّل الجواب أنه لم يبدأ الكافر بالسلام قصدًا، وإن كان اللفظ يُشعر به، لكنه لم يدخل في المراد؛ لأنه ليس ممن اتَّبع الهدى، فلم يُسَلَّم عليه

(3)

.

(أمّا بَعْدُ) في قوله: "أما" معنى الشرط، وتُستعمل لتفصيل ما يُذكَر بعدها

(1)

"المفهم" 3/ 608.

(2)

"شرح النوويّ" 12/ 110.

(3)

"الفتح" 1/ 80 - 81.

ص: 43

غالبًا، وقد تَرِدُ مستأنفةً، لا لتفصيل؛ كالتي هنا، وللتفصيل والتقرير، ولفظة "بعدُ" مبنية على الضم، وكان الأصل أن تُفتح لو كانت مضافةً لفظًا، لكنها قُطعت عن الإضافة لفظًا، فبُنيت على الضم.

وقال في "الفتح": قوله: "أما بعدُ" قال: سيبويه: إن معنى "أما بعدُ": مهما يكن من شيء، وكذا كل كلام أوله "أمّا"، وفيه معنى الجزاء، مثل: أما عبد الله فمنطلق، والفاء لازمة في أكثر الكلام، وقد تُحذف، وهو نادر، قال الكرماني: فإن قلت: "أمّا" للتفصيل، فأين القسيم؟ ثم أجاب بأن التقدير: أما الابتداء فهو بسم الله، وأما المكتوب فهو من محمد. . . إلخ، وأما المكتوب به فهو ما ذُكِر في الحديث، وهو توجيه مقبول، لكنه لا يطّرد في كل موضع، ومعناها: الفصل بين الكلامين، واختُلِف في أول من قالها، فقيل: داود عليه السلام، وقيل: يعرب بن قحطان، وقيل: كعب بن لؤيّ، وقيل: قُسّ بن ساعدة، وقيل: سحبان، وفي غرائب مالك للدارقطنيّ: أن يعقوب عليه السلام قالها، فإن ثبت، وقلنا: إن قحطان من ذرية إسماعيل، فيعقوب أول من قالها مطلقًا، وإن قلنا: إن قحطان قبل إبراهيم عليه السلام، فيعرب أوّل من قالها، والله أعلم. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قد استوفيت البحث في "أما بعدُ" في "شرح المقدّمة"، فراجعه، تستفد علْمًا جمًّا، والله تعالى وليّ التوفيق.

(فَإِنِّي أَدْعُوكَ بِدِعَايَةِ الإِسْلَامِ) - بكسر الدال - من قولك: دعا يدعو دِعايةً، نحو شَكَا يَشْكُو شِكَايةً، وفي الرواية التالية هنا:"بداعية الإسلام"؛ أي: بالكلمة الداعية إلى الإسلام، وهي شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، والباء بمعنى "إلى".

وقال النوويّ رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم: "أدعوك بدعاية الإسلام": هو بكسر الدال؛ أي: بدعوته، وهي كلمة التوحيد، وقال في الرواية الأخرى التي ذكرها مسلم بعد هذا:"أدعوك بداعية الإسلام"، وهو بمعنى الأولى، ومعناها: الكلمة الداعية إلى الإسلام، قال القاضي عياض: ويجوز أن تكون "داعية" هنا

(1)

"الفتح" 9/ 731، كتاب "التفسير" رقم (4553).

ص: 44

بمعنى دعوة، كما في قوله تعالى:{لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ} [النجم: 58]؛ أي: كشف. انتهى

(1)

.

وقوله: (أَسْلِمْ تَسْلَمْ)؛ أي: ادخل في دين الإسلام تسلم في الدنيا من الخزي، وفي الآخرة من العذاب، وهو من التجنيس البديع.

وقال في "الفتح": هو غاية في البلاغ، وفيه نوع من البديع، وهو الجناس الاشتقاقيّ، وفيه بشارة لمن دخل في الإسلام أنه يَسْلَم من الآفات اعتبارًا بأن ذلك لا يختصّ بهرقل، كما أنه لا يختص بالحُكم الآخَر، وهو قوله:"أسلم يؤتك الله أجرك مرتين"؛ لأن ذلك عامّ في حقّ من كان مؤمنًا بنبيّه، ثم آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم.

(وَأَسْلِمْ يُؤْتِكَ اللهُ أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ)؛ أي: باتباعه لدين عيسى عليه السلام، وباتباعه لدين محمد صلى الله عليه وسلم، قال القرطبيّ: وهذا كقوله صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة يؤتون أجرهم مرَّتين: رجل من أهل الكتاب آمن بنبيّه، ثم أدرك النبيّ صلى الله عليه وسلم، فآمن به واتبعه، فله أجران".

قال: وهذا إنما يتحصَّل للكتابيّ إذا كان متبعًا لدين نبيّه من الاعتقاد الصحيح، والعمل على مقتضى شريعته، أما لو اعتقد في عيسى، أو في الله تعالى ما لم تجئ به شريعته، فلا يحصل له أجران إذا أسلم، بل أجر الإسلام خاصّة؛ لأنه لم يكن على شريعة عيسى، ولا على غيرها، فلم يتبعه، فلا يحصل له أجر. انتهى

(2)

.

ووقع للبخاريّ في الجهاد بلفظ: "أَسْلِم، أَسْلِم يؤتك"، بتكرار "أَسْلِم"، فيَحْتَمِل - كما قال في "الفتح" -: التأكيد، ويَحْتَمِل أن يكون الأمر الأول للدخول في الإسلام، والثاني للدوام عليه، كما في قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} الآية [النساء: 136]، وهو موافق لقوله تعالى:{أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ} الآية [القصص: 54]، وإعطاؤه الأجر مرتين؛ لكونه كان مؤمنًا بنبيّه، ثم آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم، ويَحْتَمِل أن يكون تضعيف الأجر له من جهة إسلامه، ومن جهة أن إسلامه يكون سببًا لدخول أتباعه، وقد تقدّم

(1)

"شرح النوويّ" 12/ 110.

(2)

"المفهم" 3/ 608 - 609.

ص: 45

التصريح بذلك في "كتاب الإيمان" من حديث الشعبيّ، عن أبي بردة بن أبي موسى، عن أبيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين، رجل من أهل الكتاب آمن بنبيّه، وأدرك النبيّ صلى الله عليه وسلم، فآمن به، واتَّبعه، وصدّقه، فله أجران. . ." الحديث، متّفق عليه.

وقال في "الفتح" أيضًا في موضع آخر: أعاد "أَسْلِمْ" تأكيدًا، ويَحْتَمِل أن يكون قوله:"أَسْلِم" أوّلًا؛ أي: لا تعتقد في المسيح ما تعتقده النصارى، و"أَسْلم" ثانيًا؛ أي: ادخل في دين الإسلام، فلذلك قال بعد ذلك:"يؤتك الله أجرك مرتين".

[تنبيه]: لم يصرِّح في الكتاب بدعائه إلى الشهادة للنبيّ صلى الله عليه وسلم بالرسالة، لكن ذلك مُنطَوٍ في قوله:"والسلام على من اتّبع الهدى"، وفي قوله:"أدعوك بدعاية الإسلام"، وفي قوله:"أَسْلِمْ"، فإن جميع ذلك يتضمن الإقرار بالشهادتين

(1)

.

قال: واستنبط منه شيخنا شيخ الإسلام - يعني: البلقينيّ رحمه الله أن كلَّ من دان بدين أهل الكتاب كان في حكمهم في المناكحة، والذبائح؛ لأن هرقل هو وقومه ليسوا من بني إسرائيل، وهم ممن دخل في النصرانية بعد التبديل، وقد قال له ولقومه:{يَاأَهْلَ الْكِتَابِ} ، فدلّ على أن لهم حكمَ أهل الكتاب، خلافًا لمن خصَّ ذلك بالإسرائيليين، أو بمن عُلم أن سلفه ممن دخل في اليهودية، أو النصرانية قبل التبديل. انتهى

(2)

، وهو استنباط حسن، والله تعالى أعلم.

(وَإِنْ تَوَلَّيْتَ)؛ أي: أعرضت عن الإجابة إلى الدخول في الإسلام، وحقيقةُ التولِّي إنما هو بالوجه، ثم استُعمل مجازًا في الإعراض عن الشيء، وهي استعارة تبَعية

(3)

. (فَإِنَّ عَلَيْكَ إِثْمَ الأَرِيسيِّينَ) قال النوويّ رحمه الله: هكذا وقع في هذه الرواية الأولى في مسلم: "الأريسيين"، وهو الأشهر في روايات الحديث، وفي كتب أهل اللغة، وعلى هذا اختُلِف في ضبطه على أوجه:

(1)

"الفتح" 9/ 732 رقم (4553).

(2)

"الفتح" 1/ 81 - 82.

(3)

"الفتح" 1/ 81 - 82.

ص: 46

أحدها: بياءين بعد السين، والثاني: بياء واحدة بعد السين، وعلى هذين الوجهين الهمزة مفتوحة، والراء مكسورة، مخففةٌ، والثالث:"الإِرِّيسين" بكسر الهمزة، وتشديد الراء، وبياء واحدة بعد السين.

ووقع في الرواية الثانية في مسلم، وفي أول "صحيح البخاريّ":"إثم الْيَرِيسيين" بياء مفتوحة، في أوله، وبياءين بعد السين.

واختلفوا في المراد بهم على أقوال:

أصحها، وأشهرها: أنهم الأكّارون؛ أي: الفلاحون، والزراعون، ومعناه: إن عليك إثم رعاياك الذين يتبعونك، وينقادون بانقيادك، ونبّه بهؤلاء على جميع الرعايا؛ لأنهم الأغلب، ولأنهم أسرع انقيادًا، فإذا أسلم أسلموا، وإذا امتنع امتنعوا، وهذا القول هو الصحيح، وقد جاء مصرَّحًا به في رواية، رويناها في "كتاب دلائل النبوة" للبيهقيّ، وفي غيره:"فإن عليك إثم الأكّارين"، وفي رواية ذكرها أبو عبيد في "كتاب الأموال":"وإن لم تدخل في الإسلام، فلا تَحُلْ بين الفلاحين وبين الإسلام"، وفي رواية ابن وهب:"وإثمهم عليك"، قال أبو عبيد: ليس المراد بالفلاحين: الزراعين خاصّة، بل المراد بهم: جميع أهل مملكته.

الثاني: أنهم اليهود، والنصارى، وهم أتباع عبد الله بن أَرِيس الذي تُنسب إليه الأروسية من النصارى، ولهم مقالة في كتب المقالات، ويقال لهم: الأروسيون.

الثالث: أنهم الملوك الذين يقودون الناس إلى المذاهب الفاسدة، ويأمرونهم بها. انتهى

(1)

.

وقال في "الفتح": قوله: "إثمَ الأريسيين": هو جمع أريسيّ، وهو منسوب إلى أَرِيس بوزن فَعِيل، وقد تُقلب همزته ياءً، كما جاءت به رواية أبي ذرّ، والأصيليّ، وغيرهما هنا، قال ابن سِيدَهْ: الأريس: الأَكّار؛ أي: الفَلّاح عند ثعلب، وعند كُراع: الأريس: هو الأمير، وقال الجوهريّ: هي لغة شاميّة، وأنكر ابن فارس أن تكون عربية، وقيل في تفسيره غير ذلك، لكن هذا هو

(1)

"شرح النوويّ" 12/ 109 - 110.

ص: 47

الصحيح هنا، فقد جاء مصرَّحًا به في رواية ابن إسحاق، عن الزهريّ، بلفظ:"فإن عليك إثم الأَكّارين"، زاد الْبَرْقانيّ في روايته:"يعني الحرّاثين"، ويؤيده أيضًا ما في رواية المدائنيّ من طريق مرسلة:"فإن عليك إثم الفَلّاحين"، وكذا عند أبي عبيد في "كتاب الأموال"، من مرسل عبد الله بن شداد:"وإن لم تدخل في الإسلام فلا تَحُلْ بين الفلاحين وبين الإسلام"، قال أبو عبيد: المراد بالفَلّاحين: أهل مملكته؛ لأن كلّ من كان يزرع فهو عند العرب فلاح، سواء كان يلي ذلك بنفسه، أو بغيره.

قال الخطابيّ: أراد: أن عليك إثمَ الضعفاء، والأتباع، إذا لم يُسلموا تقليدًا له؛ لأن الأصاغر أتباع الأكابر.

قال الحافظ: وفي الكلام حذفٌ دلّ المعنى عليه، وهو: فإن عليك مع إثمك إثمَ الأريسيين؛ لأنه إذا كان عليه إثم الأتباع بسبب أنهم تبعوه على استمرار الكفر، فَلَأَنْ يكون عليه إثم نفسه أولى، وهذا يُعَدّ من مفهوم الموافقة، ولا يعارَض بقوله تعالى:{وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164]؛ لأن وزر الإثم لا يتحمله غيره، ولكن الفاعل المتسبِّب والمتلبِّس بالسيئات يَتَحَمَّل من جهتين: جهةِ فعله، وجهة تسبّبه.

وقد ورد تفسير "الأريسيين" بمعنى آخر، فقال الليث بن سعد، عن يونس، فيما رواه الطبرانيّ في "الكبير"، من طريقه:"الأريسيون": الْعَشّارون؛ يعني: أهل الْمَكْس، والأول أظهر، وهذا إن صحّ أنه المراد فالمعنى: المبالغة في الإثم، ففي "الصحيح"

(1)

في المرأة التي اعترَفَت بالزنى: "لقد تابت توبةً، لو تابها صاحب مَكْس لَقُبِلت"

(2)

.

وقال الحافظ في "الفتح" في موضع آخر: قوله: "إثم الأريسين": تقدّم ضَبْطه، وشَرْحه في "بدء الوحي"، ووجدته هناك في أصل معتمد بتشديد الراء، وحَكَى هذه الرواية أيضا صاحب "المشارق" وغيره، وفي أخرى:"الأريسين" بتحتانية واحدة، قال ابن الأعرابيّ: أَرَسَ يارس، بالتخفيف، فهو أريس،

(1)

أي: "صحيح مسلم"، فقد رواه في كتاب "الحدود" برقم (1695).

(2)

"الفتح" 1/ 82.

ص: 48

وأَرّس بالتشديد يؤرِّس، فهو إِرِّيسٌ

(1)

، وقال الأزهريّ: بالتخفيف، وبالتشديد: الأكّار، لغة شامية، وكان أهل السواد أهل فِلاحة، وكانوا مجوسًا، وأهل الروم أهل صِناعة، فأُعلموا بأنهم، وإن كانوا أهل كتاب، فإنّ عليهم إن لم يؤمنوا من الإثم إثم المجوس. انتهى، وهذا توجيه آخر لم يتقدم ذكره، وحَكَى غيره أن الأريسيين يُنسبون إلى عبد الله بن أَرِيس رجل كان تعظمه النصارى، ابتدع في دينهم أشياء مخالفة لدين عيسى عليه السلام، وقيل: إنه من قوم بُعث إليهم نبيّ، فقتلوه، فالتقدير على هذا: فإن عليك مثل إثم الأريسيين، وذكر ابن حزم أن أتباع عبد الله بن أَرِيس كانوا أهل مملكة هرقل، وردّه بعضهم بأن الأريسيين كانوا قليلًا، وما كانوا يُظهرون رأيهم، فإنهم كانوا يُنكرون التثليث، قال الحافظ: وما أظن قول ابن حزم إلا عن أصل، فإنه لا يجازف في النقل.

ووقع في رواية الأصيليّ: "اليريسيين" بتحتانية في أوله، وكأنه بتسهيل الهمزة، وقال ابن سِيدَهْ في "المحكم": الأريس: الأكّار عند ثعلب، والأمين عند كراع، فكأنه من الأضداد؛ أي: يقال للتابع والمتبوع، والمعنى في الحديث صالح على الرأيين، فإن كان المراد: التابع، فالمعنى: إن عليك مثل إثم التابع لك على ترك الدخول في الإسلام، وإن كان المراد: المتبوع، فكأنه قال: فإن عليك إثم المتبوعين، وإثمُ المتبوعين يضاعَف باعتبار ما وقع لهم من عدم الإذعان إلى الحقّ، من إضلال أتباعهم.

وقال النوويّ: نَبَّه بذكر الفلاحين على بقية الرعية؛ لأنهم الأغلب، ولأنهم أسرع انقيادًا.

وتُعُقّب بأن من الرعايا غير الفلاحين من له صرامةٌ، وقُوّة، وعشيرة، فلا يلزم من دخول الفلاحين في الإسلام دخول بقية الرعايا، حتى يصحّ أنه نبّه بذكرهم على الباقين.

(1)

قال في "القاموس": الإِرْسُ بالكسر: الأصل الطيِّب، والأَرِيسيّ، والإِرِّيسُ، كجَلِيسٍ، وسِكِّيتٍ: الأكّار، جمعه أَرِيسون، وإِرِّيسُونَ، وأَرارسةٌ، وأراريس، وأَرارس، وأَرَسَ يَأْرِس أَرْسًا - أي: من باب ضرب - وأرّس تأريسًا: صار أَريسًا، وكسِكِّيتٍ: الأمير. انتهى.

ص: 49

قال الحافظ: كذا تعقبه شيخنا شيخ الإسلام - يعني: البلقينيّ - والذي يظهر أن مراد النوويّ أنه نبّه بذكر طائفة من الطوائف على بقية الطوائف، كأنه يقول: إذا امتنعت كان عليك إثم كل من امتنِع بامتناعك، وكان يطيع لو أطعت؛ كالفلاحين، فلا وجه للتعقب عليه، نعَم قول أبي عبيد في "كتاب الأموال": ليس المراد بالفلاحين الزراعين فقط، بل المراد به جميع أهل المملكة، إن أراد به على التقرير الذي قررت به كلام النوويّ فلا اعتراض عليه، وإلا فهو معترَض.

وحَكَى أبو عبيد أيضًا: أن الأريسيين هم الْخَوَل والْخَدَم، وهذا أخصّ من الذي قبله، إلا أن يريد بالخوَل ما هو أعمّ بالنسبة إلى من يحكم الملِك عليه.

وحَكَى الأزهريّ أيضًا أن الأريسيين قوم من المجوس، كانوا يعبدون النار، ويُحَرِّمون الزنا، وصناعتهم الحراثة، ويُخرجون العُشر مما يزرعون، لكنهم يأكلون الموقوذة، وهذا أثبت، فمعنى الحديث: فإن عليك مثل إثم الأريسيين، كما تقدم. انتهى

(1)

.

(وَ {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ}) هكذا وقع بإثبات الواو في أوله، وذكر القاضي عياض أن الواو ساقطة من رواية الأصيليّ، وأبي ذرّ، وعلى ثبوتها فهي داخلة على مقدَّر، معطوف على قوله:"أدعوك"، فالتقدير: أدعوك بدعاية الإسلام، وأقول لك، ولأتباعك امتثالًا لقول الله تعالى:{يَاأَهْلَ الْكِتَابِ} ، ويَحْتَمِل أن تكون من كلام أبي سفيان؛ لأنه لم يَحفَظ جميع ألفاظ الكتاب، فاستحضر منها أول الكتاب، فذكره، وكذا الآية، وكأنه قال فيه: كان فيه كذا، وكان فيه:{يَاأَهْلَ الْكِتَابِ} ، فالواو من كلامه، لا من نفس الكتاب، وقيل: إن النبيّ صلى الله عليه وسلم كَتَبَ ذلك قبل نزول الآية، فوافق لفظه لفظها لَمّا نزلت، والسبب في هذا أن هذه الآية نزلت في قصة وَفْد نَجْران، وكانت قصتهم سنةَ الوفود، سنةَ تسع من الهجرة، وقصة أبي سفيان كانت قبل ذلك سنة ست، وقيل: بل نزلت سابقةً في أوائل الهجرة، وإليه يومئ كلام ابن إسحاق، وقيل: نزلت في اليهود، وجوّز بعضهم نزولها مرتين، وهو بعيد.

(1)

"الفتح" 732 - 733، كتاب "التفسير" رقم (4553).

ص: 50

[تنبيه]: قيل: في هذا دليل على جواز قراءة الجُنُب للآية، أو الآيتين، وبإرسال بعض القرآن إلى أرض العدوّ، وكذا بالسفر به، وأغرب ابن بطال، فادَّعَى أن ذلك نُسِخ بالنهي عن السفر بالقرآن إلى أرض العدوّ، وَيحتاج إلى إثبات التاريخ بذلك.

ويَحْتَمِل أن يقال: إن المراد بالقرآن في حديث النهي عن السفر به: المصحف، وأما الجنب فيَحْتَمِل أن يقال: إذا لم يقصد التلاوة جاز، على أن في الاستدلال بذلك من هذه القصّة نظرًا، فإنها واقعة عين، لا عموم فيها، فيُقيّد الجواز على ما إذا وقع احتياج إلى ذلك؛ كالإبلاغ، والإنذار، كما في هذه القصّة، وأما الجواز مطلقًا حيث لا ضرورة، فلا يتجه، قاله في "الفتح"

(1)

.

[تنبيه آخر]: قد اشتَمَلت هذه الْجُمَل القليلة التي تضمَّنها هذا الكتاب

(2)

على الأمر بقوله: "أسلم"، والترغيب بقوله:"تَسلَم، ويؤتك"، والزجر بقوله:"فإن توليت"، والترهيب بقوله:"فإن عليك"، والدلالة بقوله:{يَاأَهْلَ الْكِتَابِ} ، وفي ذلك من البلاغة ما لا يخفى، وكيف لا؛، وهو كلام من أُوتي جوامع الكلم صلى الله عليه وسلم

(3)

.

({تَعَالَوْا}) - بفتح اللام - وأصله تعاليوا، تقول: تَعَالَ، تعاليا، تعالَيُوا، قُلبت الياء ألفًا؛ لتحرّكها، وانفتاح ما قبلها، ثم حُذفت؛ لالتقاء الساكنين، فصار: تَعَالَوْا، والمراد من أهل الكتاب أهل الكتابين: اليهود، والنصارى، وقيل: وفد نَجْران، وقيل: يهود المدينة، قاله في "العمدة"

(4)

.

({إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ})؛ أي: مستوية بيننا وبينكم، لا يختلف فيها القرآن، والتوراة، والإنجيل، وتفسير الكلمة قوله:({أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ})؛ يعني: تعالَوْا إليها، حتى لا نقول: عزير ابن الله، ولا المسيح ابن الله؛ لأن كلّ واحد منهما بَشَرٌ

(1)

" الفتح" 1/ 83.

(2)

أي: الكتاب الذي كتبه النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى هرقل، وقُرئ عليه.

(3)

"الفتح" 1/ 83.

(4)

"عمدة القاري" 1/ 158.

ص: 51

مثلنا، ولا نطيع أحبارنا فيما أحدثوا من التحريم، والتحليل، من غير رجوع إلى ما شرع الله. ({فَإِنْ تَوَلَّوْا})؛ أي: عن التوحيد، وأصل "تَوَلَّوْا": تتولّوا، فحُذفت منه إحدى التاءين، كما في قوله تعالى:{نَارًا تَلَظَّى} ، وقوله:{تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ} ، قال في "الخلاصة":

وَمَا بِتَاءَيْنِ ابْتُدِي قَدْ يُقْتَصَرْ

فِيهِ عَلَى تَا كـ "تَبَيَّنُ الْعِبَرْ"

({فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ})؛ أي: لزمتكم الحجة، فوجب عليكم أن تعترفوا، وتُسَلِّمُوا، بإنا مسلمون دونكم، وقال الزمخشريّ: يجوز أن يكون من باب التعريض، ومعناه: اشهدوا، واعترفوا بأنكم كافرون، حيث توليتم عن الحقّ بعد ظهوره. انتهى.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ} : اليهود، والنصارى، نُسبوا إلى الكتابين المنزلين على موسى وعيسى عليه السلام، {تَعَالَوْا} بمعنى أجيبوا إلى ما دُعيتم إليه، وهو الكلمة العادلة المستقيمة، التي ليس فيها ميل عن الحقّ، وقد فسّرها بقوله:{أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} : "أربابًا": جمع ربّ، وقد تقدَّم تفسيره، و"دون" هنا بمعنى: غير، {فَإِنْ تَوَلَّوْا}: أعرضوا عمَّا دُعُوا إليه، {فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} أي: متّصفون بدين الإسلام، منقادون لأحكامه، معترفون بما لله علينا في ذلك من المنن، والإنعام. انتهى

(1)

.

(فَلَمَّا فَرَغَ)؛ أي: القارئ، ويَحْتَمِل أن يريد هرقل، ونُسب إليه مجازًا؛ لكونه الآمر به، ويؤيّده قوله بعده:"عنده"، فإن الضمير فيه، وفيما بعده لهرقل جزمًا

(2)

.

(مِنْ قِرَاءَةِ الْكِتَابِ) وفي رواية البخاريّ: "قال أبو سفيان: فلما قال ما قال، وفرغ من قراءة الكتاب"، (ارْتَفَعَتِ الأَصْوَاتُ عِنْدَهُ) ووقع عند البخاريّ في "الجهاد":"فلما أن قضى مقالته، عَلَتِ أصواتُ الذين حوله، من عظماء الروم، وكَثُر لغطهم، فلا أدري ما قالوا"، لكن يُعرف من قرائن الحال أن اللغط كان لِمَا فَهِمُوه من هرقل من ميله إلى التصديق.

(1)

"المفهم" 6/ 609.

(2)

"الفتح" 9/ 733.

ص: 52

(وَكَثُرَ اللَّغْطُ) بفتح الغين، وسكونها: اسم من لَغَطَ لَغْطًا، من باب نَفَعَ، وهو كلام فيه جَلَبَةٌ، واختلاطٌ، ولا يتبيّن، وألغط بالألف لغةٌ، قاله الفيّوميّ رحمه الله

(1)

.

وقال المجد رحمه الله: اللَّغْطُ - أي: بفتح، فسكون - ويُحَرَّكُ: الصوت، والْجَلَبَةُ، أو أصوات مُبْهَمة، لا تُفهَمُ، جمعه أَلْغَاطٌ، لَغَطُوا، كمَنَعوا، ولَغّطوا، وألغطوا. انتهى

(2)

.

زاد في رواية البخاريّ في "الجهاد": "فلا أدري ما قالوا".

(وَأَمَرَ بِنَا) بالبناء للفاعل؛ أي: أمر هرقلُ بإخراجنا من عنده، ويَحْتَمِل أن يكون بالبناء للمفعول، (فَأُخْرِجْنَا) بالبناء للمفعول، (قَالَ) أبو سفيان (فَقُلْتُ لأَصْحَابِي) المراد: أصحابه الذي جلسوا معه في مجلس هرقل، (حِينَ خَرَجْنَا) وفي بعض النسخ:"حين أُخرجنا"، وفي رواية للبخاريّ في "الجهاد":"حين خلوت بهم"، (لَقَدْ أَمِرَ أَمْرُ ابْنِ أَبِي كَبْشَةَ) قال النوويّ رحمه الله: أمّا "أَمِرَ" فبفتح الهمزة، وكسر الميم؛ أي: عَظُم، وأما قوله:"ابن أبي كبشة"، فقيل: هو رجل من خُزاعة، كان يعبد الشِّعْرَى، ولم يوافقه أحدٌ من العرب في عبادتها، فشبَّهوا النبيّ صلى الله عليه وسلم به؛ لمخالفته إياهم في دينهم، كما خالفهم أبو كبشة، رَوَينا عن الزبير بن بكار في "كتاب الأنساب"، قال: ليس مرادهم بذلك عيب النبيّ صلى الله عليه وسلم إنما أرادوا بذلك مجرد التشبيه، وقيل: إن أبا كبشة جدّ النبيّ صلى الله عليه وسلم من قبل أمه، قاله ابن قتيبة، وكثيرون، وقيل: هو أبوه من الرضاعة، وهو الحارث بن عبد العزى السعديّ، حكاه ابن بطال، وآخرون، وقال القاضي عياض: قال أبو الحسن الجرجانيّ النّسّابةُ: إنما قالوا: ابن أبي كبشة عداوةً له صلى الله عليه وسلم، فنسبوه إلى نَسَب له غير نَسَبه المشهور؛ إذ لم يمكنهم الطعن في نسبه المعلوم المشهور، قال: وقد كان وهب بن عبد مناف بن زُهرة جدّه، أبو آمنة، يُكنَى أبا كبشة، وكذلك عمرو بن زيد بن أسد الأنصاريّ النجاريّ، أبو سلمى أم عبد المطلب، كان يُدْعَى أبا كبشة، قال: وكان في أجداده أيضًا من قِبَل أمه أبو كبشة، وهو أبو قَيْلة، أم وهب بن عبد مناف، أبو آمنة، أم النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو

(1)

"المصباح المنير" 2/ 555.

(2)

"القاموس المحيط" ص 1180.

ص: 53

خُزَاعيّ، وهو الذي كان يعبد الشعرى، وكان أبوه من الرضاعة يُدْعَى أبا كبشة، وهو الحارث بن عبد العزى السعديّ، قال القاضي: وقال مثل هذا كله محمد بن حبيب البغداديّ، وزاد أبو نصر ابن ماكولا، فقال: وقيل: أبو كبشة عمّ والد حليمة مرضعته صلى الله عليه وسلم. انتهى

(1)

.

وقال في "الفتح": "أَمِرَ" الأولُ بفتح الهمزة، وكسر الميم، والثاني بفتح الهمزة، وسكون الميم، وحَكَى ابن التين أنه رُوي بكسر الميم أيضًا، وقد قال كراع في "المجرد": وَرَعٌ أَمِر بفتح، ثم كسر؛ أي: كثير، فحينئذ يصير المعنى: لقد كثُر كثيرُ ابنُ أبي كبشة، وفيه قلق، وفي كلام الزمخشريّ ما يُشعر بأن الثاني بفتح الميم، فإنه قال: أَمَرَةٌ، على وزن بَرَكة: الزيادة، ومنه قول أبي سفيان:"لقد أَمِرَ أَمَرُ محمد". انتهى، قال الحافظ: هكذا أشار إليه شيخنا شيخ الإسلام سراج الدين في "شرحه"، وردّه، والذي يظهر لي أن الزمخشريّ إنما أراد تفسير اللفظة الأولى، وهي "أَمِرَ" بفتح، ثم كسر، وأن مصدرها أَمَرٌ، بفتحتين، والأمر بفتحتين: الكثرة، والعظم، والزيادة، ولم يُرِد ضبط اللفظة الثانية، والله أعلم. انتهى

(2)

.

وقوله: (أَمْرُ ابْنِ أَبِي كبْشَةَ) أراد به النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ لأن أبا كبشة أحد أجداده، وعادة العرب إذا انتقصت نَسَبت إلى جدّ غامض، قال أبو الحسن النسابة الجرجانيّ: هو جدّ وَهَب جدّ النبيّ صلى الله عليه وسلم لأمه، وهذا فيه نظر؛ لأن وهبًا جدّ النبيّ صلى الله عليه وسلم اسم أمه عاتكة بنت الأوقص بن مرّة بن هلال، ولم يقل أحدٌ من أهل النسب أن الأوقص يكنى أبا كبشة، وقيل: هو جدّ عبد المطلب لأمه، وفيه نظر أيضًا؛ لأن أم عبد المطلب سَلْمَى بنت عمرو بن زيد الخزرجيّ، ولم يقل أحد من أهل النسب: إن عمرو بن زيد يكنى أبا كبشة، ولكن ذكر ابن حبيب في "المجتبى" جماعةً من أجداد النبيّ صلى الله عليه وسلم من قِبَل أبيه، ومن قِبَل أمه، كلُّ واحد منهم يكنى أبا كبشة، وقيل: هو أبوه من الرضاعة، واسمه الحارث بن عبد العزى، قاله أبو الفتح الأزديّ، وابن ماكولا.

(1)

"إكمال المعلم" 6/ 122، و"شرح النوويّ" 12/ 110 - 111.

(2)

"الفتح" 9/ 733 - 734، كتاب "التفسير" رقم (4553).

ص: 54

وذكر يونس بن بكير، عن ابن إسحاق، عن أبيه، عن رجال من قومه، أنه أسلم، وكانت له بنت تُسَمَّى كبشة، يكنى بها.

وقال ابن قتيبة، والخطابيّ، والدارقطنيّ: هو رجل من خُزاعة، خالف قريشًا في عبادة الأوثان، فعَبَد الشعرى، فنسبوه صلى الله عليه وسلم إليه؛ للاشتراك في مطلق المخالفة، وكذا قاله الزبير، قال: واسمه: وجز بن عامر بن غالب.

(إِنَّهُ لَيَخَافُهُ) هو بكسر الهمزة استئنافًا تعليليًا لا بفتحها، ولثبوت اللام في ليخافه في رواية أخرى، (مَلِكُ بَني الأَصْفَرِ) هم الروم، ويقال: إن جدّهم روم بن عيص تزوج بنت ملك الحبشة، فجاء لون ولده بين البياض والسواد، فقيل له: الأصفر، حكاه ابن الأنباريّ، وقال ابن هشام في "التيجان": إنما لُقِّب الأصفر؛ لأن جدته سارة زوج إبراهيم رضي الله عنها حَلَّته بالذهب، قاله في "الفتح"

(1)

.

وقال ابن الأنباريّ: سُمُّوا بني الأصفر؛ لأن جيشًا من الحبشة غلب على بلادهم في وقت، فوطئ نساءهم، فَوَلَدْن أولادًا صُفْرًا، من سواد الحبشة وبياض الروم، وقال أبو إسحاق بن إبراهيم الحربيّ: نُسِبوا إلى الأصفر بن روم بن عيصو بن إسحاق بن إبراهيم صلى الله عليه وسلم، قال القاضي عياض: هذا أشبه من قول ابن الأنباريّ. انتهى

(2)

.

(قَالَ) أبو سفيان (فَمَا زِلْتُ مُوقِنًا بِأَمْرِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنَّهُ سَيَظْهَرُ)؛ أي: سيغلب على المشركين، وفي حديث عبد الله بن شداد، عن أبي سفيان:"فما زلت مَرْعُوبًا من محمد، حتى أسلمت"، أخرجه الطبراني. (حَتَّى أَدْخَلَ اللهُ عَلَيَّ الإِسْلَامَ)؛ أي: فأظهرت ذلك اليقين، وليس المراد أن ذلك اليقين ارتفع.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي سفيان رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنف) هنا [26/ 4598 و 4599](1773)، و (البخاريّ) في

(1)

"الفتح" 1/ 84.

(2)

"إكمال المعلم" 6/ 122 - 123، و"شرح النوويّ" 12/ 111.

ص: 55

"بدء الوحي"(7) و"الإيمان"(51) و"الشهادات"(2681) و"الجهاد"(2936 و 2940، 2941 و 2978) و"الجزية والموادعة"(3174) و"التفسير"(4553) و"الأدب"(5980) و"الاستئذان"(6260) و"الأحكام"(7196) و"الأدب المفرد"(1/ 379)، و (الترمذيّ) في "الاستئذان"(2717)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(6/ 310)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(5/ 346)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 262 - 263)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6555)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(8/ 264 و 270)، و (الطبرانيّ) في "المعحم الكبير"(8/ 15 و 18 و 22) و"مسند الشاميين"(4/ 219)، و (ابن منده) في "الإيمان"(143)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(9/ 178)، و"دلائل النبوّة"(4/ 377 - 380)، و (اللالكائيّ) في "أصول الاعتقاد"(1457)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده، وإن تقدّم بعضها، إلا أن كونها مرتّبة في موضع واحد أنفع:

1 -

(منها): البداءة باسم الكاتب قبل المكتوب إليه، وقد أخرج أحمد، وأبو داود، عن العلاء بن الحضرميّ:"أنه كتب إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، وكان عامله على البحرين، فبدأ بنفسه: من العلاء إلى محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم "، وقال ميمون: كانت عادة ملوك المعجم إذا كتبوا إلى ملوكهم بدءوا باسم ملوكهم، فتبعتهم بنو أمية، وكتب ابن عمر إلى معاوية، فبدأ باسم معاوية، وإلى عبد الملك كذلك، وكذا جاء عن زيد بن ثابت إلى معاوية، وعند البزار بسند ضعيف، عن حنظلة الكاتب: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم وَجَّهَ عليًّا، وخالد بن الوليد، فكتب إليه خالد، فبدأ بنفسه، وكتب إليه عليّ، فبدأ برسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يَعِبْ على واحد منهما، قاله في "الفتح"

(1)

.

وقال في "العمدة": فإن قلت: كيف صدّر سليمان عليه السلام كتابه باسمه حيث قال: {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30)} ؟ [النمل: 30].

قلت: خاف من بلقيس أن تسُبّ، فقدم اسمه حتى إذا سبَّت يقع على اسمه، دون اسم الله تعالى

(2)

.

(1)

"الفتح" 9/ 735، كتاب (التفسير، رقم (4553).

(2)

"عمدة القاري" 1/ 167 - 168.

ص: 56

2 -

(ومنها): أنه يستفاد من قوله: "إلى عظيم الروم" ملاطفة المكتوب إليه، وتعظيمه، وإنما لم يقل: إلى ملك الروم؛ لأنه معزول عن الحكم بحكم دين الإسلام، ولا سلطنة لأحد إلا من قِبَل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما لم يقل: إلى هرقل فقط؛ ليكون فيه نوع من الملاطفة، فقال:"عظيم الروم"؛ أي: الذي تعظّمه الروم، وقد أمر الله تعالى بتليين القول لمن يُدْعَى إلى الإسلام، وقال تعالى:{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل: 125] وقال: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا} [طه: 44]

(1)

.

3 -

(ومنها): مشروعيّة مكاتبة الكفّار، وقد كاتب النبيّ صلى الله عليه وسلم سبعة من الملوك، فيما قاله الداوديّ: هرقل، وكسرى، والنجاشيّ، والمقوقس، وملك غسّان، وهوذة بن عليّ، والمنذر بن ساوى.

4 -

(ومنها): أن فيه دليلًا لمن قال بجواز معاملة الكفار بالدراهم المنقوشة، فيها اسم الله تعالى؛ للضرورة، وإن كان عن مالك الكراهة؛ لأن ما في هذا الكتاب أكثر مما في هذا المنقوش، من ذِكْر الله تعالى.

5 -

(ومنها): أن فيه وجوبَ العمل بخبر الواحد، وإلا لم يكن لِبَعْثه مع دحية فائدة، مع غيره من الأحاديث الدالة عليه.

6 -

(ومنها): أن خبر الجماعة أوقع من خبر الواحد، ولا سيّما إذا كانوا جَمْعًا يقع العلم بخبرهم، وهذه مأخوذة من قوله:"وقرّبوا أصحابه، فاجعلوهم عند ظهره"

(2)

.

7 -

(ومنها): أن فيه حجةً لمن منع أن يبتدأ الكافر بالسلام، وهو مذهب الشافعيّ، وأكثر العلماء، وأجازه جماعة مطلقًا، وجماعة للاستئلاف، أو الحاجة، وقد جاء عنه النهي في الأحاديث الصحيحة، وفي "صحيح مسلم": أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تبدؤا اليهود والنصارى بالسلام"، الحديث، وقال البخاريّ وغيره: ولا يسلِّم على المبتدع، ولا على من اقترف ذنبًا كبيرًا، ولم

(1)

"التوضيح" 2/ 418 - 419.

(2)

"التوضيح لشرح الجامع الصحيح" لابن الملقّن رحمه الله 2/ 413.

ص: 57

يتب منه، ولا يردّ عليهم السلام، واحتَجَّ البخاريّ بحديث كعب بن مالك، وفيه:"نَهَى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كلامنا".

8 -

(ومنها): أن فيه استحبابَ "أما بعدُ" في المكاتبة، والخطبة، وقد تقدّم الخلاف في أول من قالها قريبًا.

9 -

(ومنها): أن من أدرك من أهل الكتاب نبينا صلى الله عليه وسلم، فآمن به، فله أجران.

10 -

(ومنها): ما قال الخطابيّ رحمه الله: في هذا الخبر دليل على أن النهي عن المسافرة بالقرآن إلى أرض العدوّ، إنما هو في حمل المصحف، والسُّوَر الكثيرة، دون الآية، والآيتين، ونحوهما.

وقال ابن بطال رحمه الله: إنما فعله؛ لأنه كان في أول الإسلام، ولم يكن بُدٌّ من الدعوة العامّة، وقد نَهَى، وقال:"لا تسافروا بالقرآن إلى أرض العدوّ"، وهو حديث صحيح، وقال العلماء: ولا يُمَكَّن المشركون من الدراهم التي فيها ذكر الله تعالى.

قال العينيّ رحمه الله: كلام الخطابيّ أصوب؛ لأنه يلزم من كلام ابن بطال النسخ، ولا يلزم من كلام الخطابيّ، والحديث محمول على ما إذا خيف وقوعه في أيدي الكفار. انتهى

(1)

.

11 -

(ومنها): أن فيه دعاءَ الكفار إلى الإسلام قبل قتالهم، وهو واجب، والقتال قبله حرام، إن لم تكن بلغتهم الدعوة، وإن كانت بلغتهم فالدعاء مستحب، هذا مذهب الشافعيّ، وقد تقدّم بيان اختلاف العلماء في هذه المسألة في أوائل "كتاب الجهاد"، فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق.

12 -

(ومنها): أنه يدل على أن ذا الحسب أولى بالتقديم في أمور المسلمين، ومهمات الدين والدنيا، ولذلك جُعلت الخلفاء من قريش؛ لأن

(1)

"عمدة القاري" 1/ 168 - 169.

ص: 58

عادة الناس أن يطيعوا ويسمعوا لمن كان نسيبًا حسيبًا، ولا يأنفون عنه، فتجتمع به كلمة المسلمين، ولأنهم أحوط من أن يدنّسوا أحسابهم، وقد قال الحسن البصريّ: حدِّثوا عن الأشراف؛ فإنهم لا يرضون أن يدنّسوا شرفهم بالكذب، ولا بالخيانة

(1)

.

13 -

(ومنها): أن فيه دليلًا لجمهور الأصوليين: أن للأمر صيغةً معروفةً؛ لأنه أتى بقول: "اعبدوا الله" في جواب: "ما يأمركم"، وهو من أحسن الأدلّة؛ لأن أبا سفيان من أهل اللسان، وكذلك الراوي عنه ابن عباس، بل هو من أفصحهم، وقد رواه عنه مُقَرّرًا له، ومذهب بعض أصحاب الشافعيّ أنه مشترك بين القول والفعل بالاشتراك اللفظيّ، وقال آخرون: بالاشتراك المعنويّ، وهو التواطؤ، بأن يكون القدر المشترك بينهما على ما عُرِف في الأصول، قاله في "العمدة"

(2)

.

14 -

(ومنها): أن بعضهم استدلّ به على جواز مسّ المُحْدِث، والكافر كتابًا فيه آية، أو آيات يسيرة من القرآن، مع غير القرآن.

15 -

(ومنها): أن فيه استحبابَ البلاغة، والإيجاز، وتحري الألفاظ الْجَزْلة في المكاتبة، فإن قوله:"أسلم تسلم" في نهاية الاختصار، وغاية الإيجاز والبلاغة، وجمع المعاني، مع ما فيه من بديع التجنيس.

16 -

(ومنها): جواز المسافرة إلى أرض الكفار.

17 -

(ومنها): جواز البعث إليهم بالآية من القرآن، ونحوها.

18 -

(ومنها): أن من كان سببًا لضلالة، أو مَنْع هداية كان آثمًا، متحمّلًا لأوزار من تبعوه في ذلك، كما قال تعالى:{وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ} [العنكبوت: 13]، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه، لا ينقص ذلك من آثامهم شيئًا"، رواه مسلم.

(1)

"التوضيح" لابن الملقّن رحمه الله 2/ 413.

(2)

"عمدة القاري" 1/ 169.

ص: 59

19 -

(ومنها): أن الكذب مهجور، وعيب في كل أمة.

20 -

(ومنها): أنه يجب الاحتراز عن العدوّ؛ لأنه لا يُؤْمَن أن يكذب على عدوّه.

21 -

(ومنها): أن الرسل لا تُرسَل إلا من أكرم الأنساب؛ لأن من شَرُف نسبه كان أبعد من الانتحال لغير الحقّ، ومثله الخليفة ينبغي أن يكون من أشرف قومه.

22 -

(ومنها): البيان الواضح أن صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلاماته كان معلومًا لأهل الكتاب علمًا قطعيًّا، وإنما تَرَكَ الإيمان مَنْ تَرَكه منهم عنادًا، أو حسدًا، أو خوفًا على فوات مناصبهم في الدنيا.

23 -

(ومنها): أن الإمام، وكلّ من حاول مطلبًا عظيمًا إذا لم يتأسّ بأحد تقدّمه من أهله، ولا طلب رئاسة سلفه كان أبعد للظنّة، وأبرأ للساحة.

24 -

(ومنها): أن من أخبر بحديث، وهو معروف بالصدق قُبِل منه، بخلاف ضدّه

(1)

(2)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

[4599]

(. . .) - (وَحَدَّثناهُ حَسَنٌ الْحُلْوَانِيُّ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ - وَهُوَ ابْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ - حَدثنَا أَبِي، عَنْ صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، بِهَذَا الْإِسْنَاد، وَزَادَ فِي الْحَدِيثِ: وَكَانَ قَيْصَرُ لَمَّا كَشَفَ اللهُ عَنْهُ جُنُودَ فَارِسَ، مَشَى مِنْ حِمْصَ إِلَى إِيلِيَاءَ؛ شُكْرًا لِمَا أَبْلَاهُ اللهُ، وَقَالَ فِي الْحَدِيثِ: "مِنْ مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللهِ وَرَسُولِهِ"، وَقَالَ: "إِثْمَ الْيَرِيسِيِّينَ"، وَقَالَ: "بِدَاعِيَةِ الإِسْلَامِ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(حَسَن الْحُلْوَانِيُّ) ابن عليّ بن محمد الْهُذليّ، أبو عليّ الخلال، نزيل مكة، ثقةٌ حافظٌ، له تصانيف [11](ت 242)(خ م دت ق) تقدم في "المقدمة" 4/ 24.

2 -

(يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ) الزهريّ، أبو يوسف المدنيّ، نزيل

(1)

راجع: "عمدة القاري" 1/ 167 - 170.

(2)

راجع: "التوضيح لشرح الجامع الصحيح" للعلامة ابن الملقّن رحمه الله 2/ 413 - 424 و"عمدة القاري" للعلامة العينيّ رحمه الله 1/ 167 - 170.

ص: 60

بغداد، ثقةٌ فاضلٌ، من صغار [9](ت 208)(ع) تقدم في "الإيمان" 9/ 141.

3 -

(أَبُوهُ) إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهريّ، أبو إسحاق المدنيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ حجةٌ، تكلّم فيه بلا قادح [8](ت 185)(ع) تقدم في "الإيمان" 9/ 141.

4 -

(صَالِحُ) بن كيسان الغفاريّ مولاهم، أبو محمد، أو أبو الحارث المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيه [4](ت بعد 130 أوبعد 140)(ع) تقدم في "الإيمان" 9/ 141.

والباقيان ذُكرا قبله.

وقوله: (وَزَادَ فِي الْحَدِيثِ) فاعل "زاد" ضمير صالح بن كيسان؛ أي: زاد على رواية معمر قوله: "وكان قيصر. . . إلخ".

وقوله: (وَكَانَ قَيْصَرُ) هو لقب هرقل كما تقدّم.

(لَمَّا كَشَفَ اللهُ عَنْهُ جُنُودَ فَارِسَ)؛ أي: هزمهم عنه كما أخبر الله عز وجل بذلك، في "سورة الروم"، وحاصل ذلك أنه غلب سابور ملك الفرس على بلاد الشام، وما والاها من بلاد الجزيرة، وأقاصي بلاد الروم، واضطرّ هرقلَ ملكَ الروم حتى ألجأه إلى القسطنطينية، وحاصره فيها مدة طويلة، ثم عادت الدولة لهرقل، وكانت غلبة الروم على فارس يوم وقعة بدر على ما قاله كثير من أهل العلم، كابن عبّاس، والثوريّ، والسدّيّ، وغيرهم، وقال آخرون: بل غلبت الروم عام الحديبية، قاله عكرمة، والزهريّ، وقتادة، وغيرهم، وهذا أرجح؛ لأن كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما أتى قيصر لمّا جاء إلى بيت المقدس؛ ليفي بنذره لئن أظفره الله على كسرى ليمشينّ من حمص إلى إيلياء، وهو بيت المقدس شكرًا، كما في رواية مسلم هذه الرواية، ففعل، فلما بلغ بيت المقدس وافاه الكتاب، وكان ذلك بعد صلح الحديبية، كما سبق في كلام أبي سفيان أنه إنما استدعاه هرقل في المدة التي كانت بينه وبينه صلى الله عليه وسلم؛ وهي ما وقع في صلح الحديبية، والله تعالى أعلم.

أخرج الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"

(1)

، فقال: حدّثنا معاوية بن عمرو، حدّثنا أبو إسحاق، عن سفيان، عن حبيب بن أبي عمرة، عن سعيد بن جبير،

(1)

"المسند" 1/ 276، والنسائيّ في "السنن الكبرى"(11389).

ص: 61

عن ابن عباس رضي الله عنهما، في قوله تعالى:{الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3)} [الروم: 1 - 3] قال: غُلِبت وغَلَبَت. قال: كان المشركون يحبون أن تظهر فارس على الروم؛ لأنهم أصحاب أوثان، وكان المسلمون يحبون أن تظهر الروم على فارس؛ لأنهم أهل كتاب، فذُكر ذلك لأبي بكر، فذكره أبو بكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أما إنهم سيغلبون"، فذكره أبو بكر لهم، فقالوا: اجعل بيننا وبينك أَجَلًا، فإن ظَهَرْنا كان لنا كذا وكذا، وإن ظَهَرْتم كان لكم كذا وكذا، فجعل أجلًا خمس سنين، فلم يَظْهَروا، فذكر ذلك أبو بكر للنبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال:"ألا جعلتها إلى دون" أراه قال: "العشر"، قال سعيد بن جبير: البضع ما دون العشر، ثم ظهرت الروم بعد، قال: فذلك قوله: {الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5)} ، وأخرجه الترمذيّ بنحوه، وقال: هذا حديث حسن صحيح

(1)

.

وقوله: (مَشَى مِنْ حِمْصَ) - بكسر الحاء المهملة، وسكون الميم، بعدها صاد مهملة: بلدة معروفة بالشام، غير منصرف؛ للعلميّة والعجمة، قاله النوويّ رحمه الله

(2)

، وقال المجد رحمه الله: حِمْصُ: كورة بالشام، أهلها يمانون، وقد تذكّر. انتهى

(3)

.

قال الجامع عفا الله عنه: فعلى هذا يجوز صرفها أيضًا، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

وقوله: (إِلَى إِيلِيَاءَ)؛ أي: بيت المقدس، وفيه ثلاث لغات: أشهرها: إيلياء بكسر الهمزة واللام، وإسكان الياء بينهما، وبالمد، والثانية: كذلك، إلا أنها بالقصر، والثالثة: إِلْيَاءُ، بحذف الياء الأولى، ولإسكان اللام، وبالمدّ، حكاهنّ صاحب "المطالع"، وآخرون، وفي رواية لأبي يعلى الموصلي في مسند ابن عباس: الإيلياء بالألف واللام، قال صاحب "المطالع": قيل: معناه

(1)

"جامع الترمذيّ" رقم (3194).

(2)

"شرح النوويّ" 12/ 111.

(3)

"القاموس المحيط" ص 320.

ص: 62

بيت الله، والله أعلم، ذكره النوويّ رحمه الله

(1)

.

وقوله: (شُكْرًا لِمَا أَبْلَاهُ اللهُ)؛ أي: أنعم الله تعالى به عليه، وأناله إيّاه، ويُستعمل ذلك في الخير والشرّ، قال الله تعالى:{وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء: 35]، قال القرطبيّ رحمه الله: وأصل الابتلاء الاختبار، وفيه لغتان، يقال: بَلا ثلاثيًّا، وأبلى رباعيًّا، وقد جمعهما زهير في قوله [من الطويل]:

جَزَى اللهُ بِالإِحْسَانِ مَا فَعَلَا بِكُمْ

وَأَبْلَاهُمَا خَيْرَ الْبَلَاءِ الَّذِي يَبْلُو

وقيل: أبلى في الخير، وبَلا في الشرّ، والأول أشهر، قاله القرطبيّ

(2)

.

وقوله: (وَقَالَ فِي الْحَدِيثِ: "مِنْ مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللهِ وَرَسُولِهِ").

وقوله: (وَقَالَ: "إِثْمَ الْيَرِيسِيِّينَ")؛ أي: بالياء في أوله بدل الهمزة، وقد تقدّم تمام البحث فيه في الحديث الماضي.

وقوله: (وَقَالَ: بِدَاعِيَةِ الإِسْلَامِ)؛ أي: بالكلمة الداعية إلى الإسلام، وهي شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، أو الداعية هنا بمعنى الدعوة، كما قال بعضهم في قوله تعالى:{خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ} [غافر: 19]؛ أي: خيانتها، وأنه من المصادر التي جاءت على فاعلة، ومنه قوله تعالى:{لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ (58)} [النجم: 58]، أفاده القاضي عياض رحمه الله

(3)

.

[تنبيه]: رواية صالح بن كيسان، عن الزهريّ هذه ساقها البخاريّ رحمه الله في "الجهاد" من "صحيحه"، إلا أنه رواه بلفظ:"بِدِعَاية الإسلام"، كرواية معمر السابقة، فقال:

(2940)

- حدّثنا إبراهيم بن حمزة، حدثنا إبراهيم بن سعد، عن صالح بن كيسان، عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه أخبره: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى قيصر، يدعوه إلى الإسلام، وبعث بكتابه إليه مع دحية الكلبيّ، وأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدفعه إلى عظيم بصرى؛ ليدفعه إلى قيصر، وكان قيصر لَمّا كَشَف الله عنه جنود فارس، مشى من حمص إلى إيلياء؛ شُكْرًا لِمَا أبلاه الله، فلما جاء قيصر كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم

(1)

"شرح النوويّ" 12/ 111.

(2)

"المفهم" 3/ 611.

(3)

"إكمال المعلم" 6/ 124.

ص: 63

قال حين قرأه: التمسوا لي ها هنا أحدًا من قومه؛ لأسألهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال ابن عباس: فأخبرني أبو سفيان أنه كان بالشأم، في رجال من قريش، قَدِمُوا تِجَارًا في المدة التي كانت بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين كفار قريش، قال أبو سفيان: فوجدنا رسول قيصر ببعض الشأم، فانطلق بني، وبأصحابي، حتى قَدِمنا إيلياء، فأُدخلنا عليه، فإذا هو جالس في مجلس مُلكه، وعليه التاج، وإذا حوله عظماء الروم، فقال لترجمانه: سلهم أيُّهم أقرب نسبًا إلى هذا الرجل الذي يزعم أنه نبيّ؟ قال أبو سفيان: فقلت: أنا أقربهم إليه نسبًا، قال: ما قرابة ما بينك وبينه؟ فقلت: هو ابن عمي، وليس في الركب يومئذ أحد من بني عبد مناف غيري، فقال قيصر: أدنوه، وأمر بأصحابي، فجُعِلوا خلف ظهري، عند كتفي، ثم قال لترجمانه: قل لأصحابه: إني سائل هذا الرجل عن الذي يزعم أنه نبيّ، فإن كذب فكذبوه، قال أبو سفيان: والله لولا الحياء يومئذ من أن يأثْر أصحابي عني الكذب لكذبته، حين سألني عنه، ولكني استحييت أن يأثْروا الكذب عني، فصَدَقته، ثم قال لترجمانه: قل له: كيف نسب هذا الرجل فيكم؟ قلت: هو فينا ذو نسب، قال: فهل قال هذا القول أحد منكم قبله؟ قلت: لا، فقال: كنتم تتهمونه على الكذب قبل أن يقول ما قال؟ قلت: لا، قال: فهل كان من آبائه من مَلِك؟ قلت: لا، قال: فأشراف الناس يتّبعونه أم ضعفاؤهم؟ قلت: بل ضعفاؤهم، قال: فيزيدون أو ينقصون؟ قلت: بل يزيدون، قال: فهل يرتدّ أحد سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟ قلت: لا، قال: فهل يغدر؟ قلت: لا، ونحن الآن منه في مدّة نحن نخاف أن يغدِر - قال أبو سفيان: ولم يُمْكِنّي كلمة أن أدخل فيها شيئًا أنتقصه به، لا أخاف أن تؤثر عني غيرها - قال: فهل قاتلتموه، أو قاتلكم؟ قلت: نعم، قال: فكيف كانت حربه وحربكم؟ قلت: كانت دُوَلًا، وسِجَالًا، يُدال علينا المرة، ونُدال عليه الأخرى، قال: فماذا يأمركم؟ قال: يأمرنا أن نعبد الله وحده، لا نشرك به شيئًا، وينهانا عما كان يعبد آباؤنا، ويأمرنا بالصلاة، والصدقة، والعفاف، والوفاء بالعهد، وأداء الأمانة، فقال لترجمانه حين قلتُ ذلك له: قل له: إني سألتك عن نسبه فيكم، فزعمت أنه ذو نسب، وكذلك الرسل تُبعث في نسب قومها، وسألتك: هل قال أحد منكم هذا القول قبله؟، فزعمت أن لا، فقلت:

ص: 64

لو كان أحد منكم قال هذا القول قبله، قلت: رجل يأتمّ بقول قد قيل قبله، وسألتك: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فزعمت أن لا، فعرفت أنه لم يكن لِيَدَع الكذب على الناس، ويكذب على الله، وسألتك: هل كان من آبائه من ملك؟ فزعمت أن لا، فقلت: لو كان من آبائه مَلِك، قلت: يطلب مُلك آبائه، وسألتك: أشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم؟ فزعمت أن ضعفاؤهم اتبعوه، وهم أتباع الرسل، وسألتك: هل يزيدون أو ينقصون؟ فزعمت أنهم يزيدون، وكذلك الإيمان حتى يتمّ، وسألتك: هل يرتدّ أحد سَخْطةً لدينه بعد أن يدخل فيه؟ فزعمت أن لا، فكذلك الإيمان حين تخلط بشاشته القلوبَ، لا يسخطه أحدٌ، وسألتك: هل يغدر؟ فزعمت أن لا، وكذلك الرسل لا يغدرون، وسألتك: هل قاتلتموه، وقاتلكم؟ فزعمت أن قد فعل، وأن حربكم وحربه تكون دُوَلًا، ويدال عليكم المرة، وتدالون عليه الأخرى، وكذلك الرسل تبتلى، وتكون لها العاقبة، وسألتك: بماذا يأمركم؟ فزعمت أنه يأمركم أن تعبدوا الله، ولا تشركوا به شيئًا، وينهاكم عما كان يعبد آباؤكم، ويأمركم بالصلاة، والصدق، والعفاف، والوفاء بالعهد، وأداء الأمانة، قال: وهذه صفة النبيّ، قد كنت أعلم أنه خارج، ولكن لم أظنّ أنه منكم، وإن يك ما قلتَ حقًّا، فيوشك أن يملك موضع قدميّ هاتين، ولو أرجو أن أخلص إليه، لتجشمت لقاءه، ولو كنت عنده، لغسلت قدميه.

قال أبو سفيان: ثم دعا بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقرئ، فإذا فيه: "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، من محمد عبد الله ورسوله، إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى، أما بعدُ فإني أدعوك بدعاية الإسلام أسلم تَسْلَم، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فعليك إثم الأريسيين، و {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 64].

قال أبو سفيان: فلما أن قضى مقالته عَلَت أصواتُ الذين من حوله، من عظماء الروم، وكَثُر لَغَطُهم، فلا أدري ما قالوا، وأُمِر بنا، فأُخرجنا، فلما أن خرجت مع أصحابي، وخلوت بهم، قلت لهم: لقد أَمِرَ أَمْرُ ابن أبي كبشة، هذا مَلِك بني الأصفر يخافه، قال أبو سفيان: والله ما زلت ذليلًا، مستيقنًا بأن

ص: 65

أمره سيظهر، حتى أدخل الله قلبي الإسلام، وأنا كاره. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(27) - (بَابُ كُتُبِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَى مُلُوكِ الْكُفَّار، يَدْعُوهُمْ إِلَى اللهِ عز وجل

[4600]

(1774) - (حَدَّثَني يُوسُفُ بْنُ حَمَّادٍ الْمَعْنِيُّ، حَدَّثنَا عَبْدُ الأَعْلَى، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أنَسٍ: أَنَّ نَبِيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَتَبَ إِلَى كِسْرَى، وَإِلَى قَيْصَرَ، وَإِلَى النَّجَاشِيّ، وَإِلَى كُلِّ جَبَّارٍ يَدْعُوهُمْ إِلَى اللهِ تَعَالَى، وَلَيْسَ بِالنَّجَاشِيِّ الَّذِي صَلَّى عَلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(يُوسُفُ بْنُ حَمَّادٍ الْمَعْنِي) أبو يعقوب البصريّ، ثقةٌ [10](ت 245)(م ت س ق) تقدم في "الصلاة" 52/ 1143.

[تنبيه]: قوله: "المعنيّ" - بفتح الميم، وسكون العين المهملة، بعدها نون -: نسبة إلى معن، أحد أجداده، قال السمعانيّ: هو من ولد معن بن زائدة. انتهى

(2)

.

2 -

(عَبْدُ الأَعْلَى) بن عبد الأعلى الساميّ، أبو محمد البصريّ، ثقةٌ [8](ت 189)(ع) تقدم في "الطهارة" 5/ 557.

3 -

(سَعِيدُ) بن أبي عروبة مِهْران اليشكريّ مولاهم، أبو النضر البصريّ، ثقةٌ حافظ، له تصانيف، لكنه كثير التدليس، واختلط، وكان من أثبت الناس في قتادة [6](ت 6 أو 157)(ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 127.

4 -

(قَتَادَةُ) بن دِعامة السَّدوسيّ، أبو الخطّاب البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ، لكنه يدلّس، رأس الطبقة [4](ت 117) أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 70.

(1)

"صحيح البخاريّ" 3/ 1074.

(2)

راجع: "اللباب في تهذيب الأنساب" 3/ 237 - 238.

ص: 66

5 -

(أَنَسُ) بن مالك بن الضر بن ضمضم الأنصاريّ الخزرجيّ، أبو حمزة الصحابيّ الشهير، مات سنة (2 أو 93) وقد جاوز المائة (ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه كالإسنادين التاليين

(1)

مسلسل بالبصريين من أوله إلى آخره، ووقع في الإسناد التالي قول قتادة:"حدّثنا أنس بن مالك. . . إلخ"، فانتفى عنه تهمة التدليس في عنعنة هذا الإسناد، وفيه أنس رضي الله عنه خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحد المكثرين السبعة، روى (2286) حديثًا، وآخر من مات من الصحابة بالبصرة، ومن المعمّرين، كما أسلفته آنفًا، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ أنسٍ) رضي الله عنه (أَن نَبِيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم كتَبَ)؛ أي: أمر بالكتابة (إِلَى كِسْرَى) قال المجد رحمه الله: وكِسْرَى - أي: بكسر الكاف - ويُفتح: مَلِك الْفُرس، مُعَرَّبُ خُسْرَوْ؛ أي: واسع الملك، جمعه أكاسرةٌ، وكَساسرةٌ، وأكاسرُ، وكُسُورٌ، والقياس: كِسْرَوْنَ، كعِيسَوْنَ، والنسبة: كِسريّ، وكِسْرَويّ. انتهى

(2)

.

وقال الفيّوميّ رحمه الله: وكِسْرَى: مَلِك الفُرْس، قال أبو عمرو بن العلاء: بكسر الكاف لا غيرُ، وقال ابن السرّاج - كما رواه عنه الفارسيّ، واختاره ثعلبٌ، وجماعة - الكسر أفصح من الفتح، والنسبة إلى المكسور: كِسْريٌّ، وكِسْرَويّ، بحذف الألف، وبقلبها واوًا، والنسبة إلى المفتوح بالقلب لا غير، والجمع: أكاسرة. انتهى

(3)

.

وقد تقدّم أنه لقبٌ لكل من مَلَك الفرس، وقال في "الفتح": وكَسرى بفتح الكاف، وكسرها: هو ابن برويز بن هُرمز بن أنو شروان، وهو كسرى الكبير المشهور، وقيل: إن الذي بعث إليه النبيّ صلى الله عليه وسلم هو أنو شروان، وفيه نظر؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم أخبر أن ابنه زربان يقتله، والذي قتله ابنه هو كسرى بن برويز بن

(1)

ومحمد بن عبد الله الرّزّيّ، في السند التالي، وإن نزل بغداد، إلا أنه بصريّ الأصل، فتفطّن.

(2)

"القاموس المحيط" ص 1131.

(3)

"المصباح المنير" 2/ 533.

ص: 67

هرمز. انتهى

(1)

.

والصحابيّ الذي أرسله النبيّ صلى الله عليه وسلم إليه هو عبد الله بن حُذافة السهميّ رضي الله عنه.

(وَإِلَى قَيْصَرَ) بفتح القاف، وإسكان التحتانيّة، وفتح الصاد المهملة، بعدها راء، هو لقبٌ لكلّ من ملك الروم، والمراد هنا هرقل المذكور في الباب الماضي.

والصحابيّ المرسَل إليه هو دحية بن خليفة الكلبيّ رضي الله عنه، كما سبق في الباب الماضي.

(وَإِلَى النَّجَاشِيِّ) - بفتح النون، وتخفيف الجيم، بعدها شين معجمة -: لقبٌ لكلّ من مَلَك الحبشة، والمراد به هنا: أصحمة بن أبجر، وقيل: صَحْمة، بدون ألف.

قال في "الإصابة": أصحمة بن أبحر النجاشيّ، ملك الحبشة، واسمه بالعربية عطيّة، والنجاشي لقب له، أسلم على عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولم يهاجر إليه، وكان رِدْءًا للمسلمين، نافعًا، وقصته مشهورة في المغازي في إحسانه إلى المسلمين الذين هاجروا إليه في صدر الإسلام، وأخرج أصحاب الصحيح قصة صلاته صلى الله عليه وسلم صلاة الغائب من طُرُق.

منها: رواية سعيد بن مينا عن جابر، ومنها رواية عطاء، عن جابر: لما مات النجاشيّ قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "قد مات اليوم عبد صالح، يقال له: أصحمة، فقوموا، فصلوا على أصحمة، فصفَّنا خلفه"، هذا لفظ القطان، عن ابن جريج، عنه، وفي رواية ابن عيينة، عن ابن جريج:"قد مات اليوم عبد صالح، فقوموا، فصلوا على أصحمة".

قال الطبريّ، وجماعة: كان ذلك في رجب سنة تسع، وقال غيره: كان قبل الفتح.

قال ابن إسحاق، عن يزيد بن رُومان، عن عروة، عن عائشة: لما مات النجاشيّ كنا نتحدث أنه لا يزال يُرَى على قبره نور.

(1)

"الفتح" 1/ 275، كتاب "العلم" رقم (65) و 9/ 581، كتاب "المغازي" رقم (4424).

ص: 68

و"النجاشيّ" بفتح النون على المشهور، وقيل: تُكسر، عن ثعلب، وتخفيف الجيم، وأخطأ من شدّدها، عن المطرزيّ، وبتشديد آخره، وحَكَى المطرزيّ التخفيف، ورجحه الصغاني، و"أصحمة" بوزن أربعة، وحاؤه مهملة، وقيل: معجمة، وقيل: إنه بموحدة بدل الميم، وقيل "صحمة" بغير ألف، وقيل كذلك لكن بتقديم الميم على الصاد، وقيل: بزيادة ميم في أوله، بدل الألف، عن ابن إسحاق في "المستدرك" للحاكم، والمعروف عن ابن إسحاق الأول، قال: ويتحصل من هذا الخلاف في اسمه ستة ألفاظ، لم أرها مجموعة. انتهى

(1)

.

والصحابيّ المرسَل إليه هو عمرو بن أميّة الضمريّ رضي الله عنه.

(وَإِلَى كُلِّ جَبَّارٍ)؛ أي: وأرسل أيضًا إلى كلّ ملك جبّار، مسلّط على الناس، وقاهر لهم، مثل المقوقس صاحب الإسكندريّة، والمنذر بن ساوى، صاحب هَجَر، وهوذة بن عليّ، صاحب اليمامة، وغيرهم.

وقوله: (يَدْعُوهُمْ إِلَى اللهِ تَعَالَى) جملة في محلّ نصب على الحال من فاعل "كَتَب"، وفيه مشروعيّة مكاتبة الكفّار، ودعاؤهم إلى الإسلام، والعمل بالكتاب، وبخبر الواحد، والله تعالى أعلم.

[تنبيه]: عدد من كتب إليهم النبيّ صلى الله عليه وسلم من الملوك - فيما قاله الداوديّ - سبعة، وهم: هِرَقل، وكِسرى، والنجاشيّ، والمقوقس، وملك غسّان، وهَوْذة بن عليّ، والمنذر بن ساوى، وقد زاد ابن هشام عليهم، ودونك نصّه:

قال ابن هشام: وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى الملوك رسلًا من أصحابه، وكتب معهم إليهم يدعوهم إلى الإسلام، قال ابن هشام: حدّثني من أثق به، عن أبي بكر الْهُذَليّ، قال: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على أصحابه ذات يوم بعد عمرته التي صُدّ عنها يوم الحديبية، فقال:"أيها الناس إن الله قد بعثني رحمة، وكافة، فلا تختلفوا عليّ، كما اختَلَف الحواريون على عيسى ابن مريم"؛ فقال أصحابه: وكيف اختلف الحواريون يا رسول الله؟ قال: "دعاهم إلى الذي دعوتكم إليه، فأما من بعثه مبعثًا قريبًا، فرضي وسَلّم، وأما من بعثه

(1)

"الإصابة في تمييز الصحابة" 1/ 347 - 348.

ص: 69

مبعثًا بعيدًا فكره وجهه، وتثاقل، فشكا ذلك عيسى إلى الله، فأصبح المتثاقلون وكل واحد منهم يتكلم بلغة الأمة التي بُعِث إليها".

فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رسلًا من أصحابه، وكَتَب معهم كتبًا إلى الملوك، يدعوهم فيها إلى الإسلام، فبعث دحية بن خليفة الكلبيّ إلى قيصر ملك الروم؛ وبعث عبد الله بن حُذافة السَّهْميّ إلى كسرى، ملك فارس؛ وبعث عمرو بن أمية الضَّمْريّ إلى النجاشيّ، ملك الحبشة، وبعث حاطب بن أبي بلتعة إلى المقوقس، ملك الإسكندرية؛ وبعث عمرو بن العاص السهميّ إلى جيفر، وعياد ابني الْجُلُنديّ

(1)

الأزديين ملكي عمان؛ وبعث سَلِيط بن عمرو، أحد بني عامر بن لؤيّ، إلى ثمامة بن أُثال، وهَوْذة بن عليّ الحنفيين ملكي اليمامة؛ وبعث العلاء بن الحضرمي إلى المنذر بن سَاوَى العبديّ ملك البحرين؛ وبعث شجاع بن وهب الأسديّ إلى الحارث بن أبي شَمِر الغساني، ملك تخوم الشام، وبعث شجاع بن وهب إلى جَبَلة بن الأيهم الغَسّانيّ، وبعث المهاجر بن أبي أمية المخزوميّ إلى الحارث بن عبد كلال الحميريّ، ملك اليمن

(2)

.

وذكر ابن سعد: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما رجع من الحديبية في ذي الحجة سنة ست، أرسل الرسل إلى الملوك، يدعوهم إلى الإسلام، وكتب إليهم كتبًا، فقيل: يا رسول الله، إن الملوك لا يقرأون كتابًا إلا مختومًا، فاتخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم، يومئذ خاتمًا من فضة، فَصّه منه، نقشه ثلاثة أسطر: محمد رسول الله، وختم به الكتب، فخرج ستة نفر منهم في يوم واحد، وذلك في المحرم سنة سبع، وأصبح كل رجل منهم يتكلم بلسان القوم الذين بعثه إليهم، فكان أول رسول بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن أمية الضمريّ إلى النجاشيّ،

(1)

قال في "القاموس": وجُلَنْدَاءُ بضمّ أوله، وفتح ثانيه، ممدودةً، وبضمّ ثانيه مقصورة: اسم ملك عُمَان، ووهِم الجوهريّ، فقصره مع فتح ثانيه، قال الأعشى [من الخفيف]:

وَجُلَنْدَاءَ فِي عُمَانَ مُقِيمًا

ثُمَّ قَيْسًا فِي حَضْرَمَوتَ الْمُنِيفِ

انتهى.

(2)

"سيرة ابن هشام" 2/ 606 - 607.

ص: 70

وكتب إليه كتابين يدعوه في أحدهما إلى الإسلام، ويتلو عليه القرآن، فأخذ كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوضعه على عينيه، ونزل من سريره، فجلس على الأرض تواضعًا، ثم أسلم، وشَهِد شهادة الحقّ، وقال: لو كنت أستطيع أن آتيه لأتيته، وكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بإجابته، وتصديقه، وإسلامه، على يدي جعفر بن أبي طالب، لله رب العالمين؛ وفي الكتاب الآخر يأمره أن يزوجه أم حبيبة بنت أبي سفيان بن حرب، وكانت قد هاجرت إلى أرض الحبشة مع زوجها عبيد الله بن جحش الأسديّ، فتنصر هناك، ومات، وأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم، في الكتاب أن يبعث إليه بمن قِبَله من أصحابه، ويحملهم، ففعل، فزوّجه أم حبيبة بنت أبي سفيان وأصدق عنه أربعمائة دينار، وأمر بجهاز المسلمين وما يصلحهم، وحملهم في سفينتين مع عمرو بن أمية الضمريّ، ودعا بحُقّ من عاج، فجعل فيه كتابي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: لن تزال الحبشة بخير ما كان هذان الكتابان بين أظهرها. انتهى

(1)

.

وقوله: (وَلَيْسَ بِالنَّجَاشِيِّ الَّذِي صَلَّى عَلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم) هكذا نصّ في "صحيح مسلم" على أنه غير النجاشيّ الذي صلى عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم حين مات، ولكن ذكره الواقديّ وغيره من أهل السير أنه النجاشيّ الذي صلّى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه كتب جوابًا لكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إلى محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم من أصحمة النجاشيّ: سلام عليك يا رسول الله، ورحمة الله، وبركاته، فأشهد أنك رسول الله صدوقًا، وقد بايعتك"، نقله الأبيّ في "شرحه"

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: ما في "صحيح مسلم" لا يُعارَض بما في السِّيَر، ولا سيّما من مثل الواقديّ، فانتبه، والله تعالى أعلم.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: (وَلَيْسَ بِالنَّجَاشِيِّ. . . إلخ): هذا تحرّز من الراوي؛ لئلا يُظَنّ أن النجاشيّ المسمى أصحمة؛ الذي هاجر إليه أصحاب

(1)

"الطبقات الكبرى لابن سعد" 1/ 258 - 259.

(2)

"شرح الأبيّ" 5/ 105.

ص: 71

رسول الله صلى الله عليه وسلم هو هذا، وليس كذلك؛ لأن هذا احتاج في إسلامه إلى أن يدعوه النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام، ويكاتبه في ذلك، ولم يحتج أصحمة إلى شيء من ذلك، بل بنفس ما سَمِع القرآن من جعفر، وأصحابه الذين هاجروا إلى أرضه، وأُخبر بقواعد الإسلام، وبمحاسنه، ورأى ما كان الصحابة رضي الله عنهم عليه أحبَّ دين الإسلام، وانقاد إليه، وصرَّح بأنه على اعتقاد المسلمين في عيسى عليه السلام، وعَرَضَ على أهل مملكته الدخول في الإسلام، فلما رأى نفرتهم، ويئس منهم، كتم إسلامه تَقِيّةً على نفسه، منتظرًا المتخلص منهم، إلى أن تُوُفّي على الإسلام، والإيمان بشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم له بذلك، حيث نعاه لأصحابه، وقال:"إن أخًا لكم بأرض الحبشة قد مات، فقوموا، فَصَلُّوا عليه"، كما تقدَّم في "الجنائز".

وإنما النجاشيّ الذي كاتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم آخر، غير هذا من ملوك الحبشة، إمّا في جهة أخرى، أو بعد موت أصحمة رضي الله عنه. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أنس رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [27/ 4600 و 4600 و 4602](1774)، و (الترمذيّ) في "الاستئذان"(2716) و"الشمائل"(87)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(5266)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 133)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 274)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6553 و 6554)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(2/ 150)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(5/ 330)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(9/ 107)، وفوائد الحديث تقدّمت في الباب الماضي، ولله الحمد والمنّة.

(1)

"المفهم" 3/ 612 - 613.

ص: 72

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4601]

(. . .) - (وَحَدَّثنَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ الرُّزِّيُّ، حَدَّثنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عَطَاءٍ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، حَدَّثَنَا أنَسُ بْنُ مَالِكٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، بِمِثْلِه، وَلَمْ يَقُلْ: وَلَيْسَ بِالنَّجَاشِيِّ الَّذِي صَلَّى عَلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ الرُّزِّيُّ) ويقال: الأرزيّ، أبو جعفر البغداديّ، يقال: أصله من البصرة، ثقةٌ يَهِم [10].

رَوَى عن عبد الوهاب الثقفيّ، وعبد الوهاب بن عطاء، وابن عُلية، وخالد بن الحارث، ومعتمر بن سليمان، وأسد بن موسى، وغيرهم.

وروى عنه مسلم، وأبو داود، وعبد الله بن أحمد، وموسى بن هارون، وأبو حاتم، وأبو زرعة، ومحمد بن إسحاق الصاغاني، وابن أبي خيثمة، وعباس الدُّوريّ، وغيرهم.

قال يعقوب بن شيبة: كان شيخًا صدوقًا، وقال صالح بن محمد الأسديّ: ثقةٌ، وقال ابن عُقدة، عن عبد الله بن أحمد: كان ثقةً، وقال الحسن بن سفيان: ثنا محمد بن عبد الله الأرزيّ ببغداد، ثقةٌ، مأمون، قال الحسن: كتبت عنه مع أبي زرعة، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: كان من الحفاظ، ربما خالف.

قال ابن قانع: مات سنة إحدى وثلاثين ومائتين.

تفرّد به المصنّف، وأبو داود، وله في هذا الكتاب ثمانية أحاديث.

[تنبيه]: قوله: "الرّزّيّ" نسبة إلى الرزّ المعروف، ويقال فيه أيضًا: الأرزيّ، ولم يذكروا سبب نسبته إليه

(1)

، فليُنظر، والله تعالى أعلم.

2 -

(عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عَطَاء) الخفّاف، أبو نصر الْعِجليّ مولاهم البصريّ، نزيل بغداد، صدوقٌ، ربّما أخطأ [9].

(1)

ذكر صاحب "تكملة فتح الملهم"(3/ 150) أنه منسوب إلى طبخ الأرز، ولم يذكر مصدره، فليُنظر.

ص: 73

روى عن سليمان التيميّ، وحميد الطويل، وخالد الحذاء، وابن عون، وابن جريج، ومالك، وسعيد بن أبي عروبة، ولازمه، وعُرِف بصحبته، وجماعة.

وروى عنه أحمد، وإسحاق، وابن معين، وعمرو بن زُرارة النيسابوريّ، ومحمد بن عبد الله الرُّزيّ، والحسن بن محمد بن الصباح الزعفرانيّ، وغيرهم.

قال أحمد: كان يحيى بن سعيد حسن الرأي فيه، كان يعرفه معرفة قديمة، وقال المرُّوذيّ: قلت لأحمد بن حنبل: عبد الوهاب بن عطاء ثقة؟ فقال: ما تقول؟ إنما الثقة يحيى القطان، وقال الأثرم، عن أحمد: كان عالِمًا بسعيد، وقال الآجريّ: سئل أبو داود عن السهميّ، والخفاف في حديث ابن أبي عروبة، فقال: عبد الوهاب أقدم، فقيل له: عبد الوهاب سمع زمن الاختلاط، فقال: من قال هذا؟ سمعت أحمد يقول: عبد الوهاب أقدم، وقال يحيى بن طالب: بلغنا أن عبد الوهاب كان مُستملي سعيد، وقال ابن أبي خيثمة، وعثمان الدارميّ، عن ابن معين: لا بأس به، وقال ابن العلاء، عن ابن معين: يُكتب حديثه، وقال الدُّوريّ، عن ابن معين: ثقةٌ، وقال محمد بن سعد: لزم سعيد بن أبي عروبة، وعُرِف بصحبته، وكَتب كتبه، وكان كثير الحديث، معروفًا، قَدِم بغداد، فلم يزل بها حتى مات، وقال الساجيّ: صدوقٌ، ليس بالقويّ، وقال ابن أبي حاتم: سألت أبي عنه، فقال: يُكتب حديثه، محله الصدق، قلت: أهو أحب إليك، أو أبو زيد النحويّ في ابن أبي عروبة؟ فقال: عبد الوهاب، وليس عندهم بقويّ في الحديث، وقال البرذعيّ: قيل لأبي زرعة، وأنا شاهد: فالخفّاف؟ قال: هو أصلح منه قليلًا؛ يعني: من علي بن عاصم، وقال ابن أبي حاتم: سئل أبو زرعة عنه، فقال: روى عن ثور بن يزيد حديثين، ليسا من حديث ثور، وذكر عن يحيى بن معين هذين الحديثين، فقال: لم يذكر فيهما الخبر، وقال صالح بن محمد الأسديّ: أنكروا على الخفاف حديثًا، رواه عن ثور، عن مكحول، عن كُريب، عن ابن عباس، في فضل العبّاس، وما أنكروا عليه غيره، وكان ابن معين يقول: هذا الحديث موضوع، قال صالح: وعبد الوهاب لم يقل فيه: حدّثنا ثور، ولعله دلّس فيه، وهو ثقة، وقد رَوَى الترمذيّ الحديث المذكور في "المناقب" عن إبراهيم بن

ص: 74

سعيد الجوهريّ، عن عبد الوهاب، وقال: حسنٌ غريبٌ، لا نعرفه إلا من هذا الوجه.

وقال ابن سعد: كان صدوقًا إن شاء الله تعالى، وقال ابن شاهين في "الثقات": قال عثمان بن أبي شيبة: عبد الوهاب بن عطاء ليس بكذّاب، ولكن ليس هو ممن يُتَّكَل عليه، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: مات ببغداد سنة أربع ومائتين في المحرّم، وقال الدارقطنيّ: ثقةٌ، وقال الميمونيّ، عن أحمد بن حنبل: ضعيف الحديث، وقال البخاريّ: يُكتب حديثه، قيل له: يحتجّ به؟ قال: أرجو، إلا أنه كان يدلِّس عن ثور، وأقوام أحاديث مناكير، وقال النسائيّ: ليس به بأسٌ، وكذا قال ابن عديّ، وقال الحسن بن سفيان: ثقةٌ، وقال البزار: ليس بقويّ، وقد احتَمَلَ أهل العلم حديثه.

قال خليفة بن خياط: مات بعد المائتين، وقال يحيى بن أبي طالب: سمعنا منه في سنة (198) إلى آخر سنة (204)، وقال عبد الباقي بن قانع: مات سنة أربع، وقيل: سنة ست ومائتين.

أخرج له البخاريّ في "خلق أفعال العباد"، والمصنّف، والأربعة، وله في هذا الكتاب تسعة أحاديث.

والباقون ذُكروا قبله.

[تنبيه]: رواية عبد الوهّاب بن عطاء، عن سعيد بن أبي عروبة هذه لم أجد من ساقها بتمامها، فليُنظر، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4602]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِيهِ نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ الْجَهْضَمِيُّ، أَخْبَرَنِي أَبِي، حَدَّثَني خَالِدُ بْنُ قَيْسٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أنسٍ، وَلَمْ يَذْكُرْ: وَلَيْسَ بِالنَّجَاشِيِّ الَّذِي صَلَّى عَلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ الْجَهْضَمِيُّ) البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ، طُلب للقضاء، فامتنع [10](ت 250) أو بعدها (ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 30.

ص: 75

2 -

(أَبُوهُ) عليّ بن نصر بن عليّ بن صُهبان الْجَهْضميّ البصريّ، ثقةٌ، من كبار [9](ت 187)(ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 126.

3 -

(خَالِدُ بْنُ قَيْسِ) بن رَبَاح الأزديّ الْحُدّانيّ - بضم الحاء، وتشديد الدال المهملتين - ويقال: الطاحيّ البصريّ، صدوقٌ يُغرب [7].

رَوَى عن عطاء، وعمرو بن دينار، وقتادة، ومطر الوراق، وغيرهم.

وروى عنه أخوه نوح بن قيس، وعليّ بن نصر الجهضميّ الكبير، ومسلم بن إبراهيم.

قال ابن معين: ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال العجليّ: ثقةٌ، وقال ابن شاهين في "الثقات": قال ابن المدينيّ: ليس به بأس، وقال الأزديّ: خالد بن قيس، عن قتادة، فيها مناكير، روى عنه أخوه نوح، ونوح صدوق.

أخرج له المصنّف، وأبو داود، في "سننه"، وفي "الناسخ والمنسوخ"، والنسائيّ، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا برقم (1774)، وحديث (2092):"فصاغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتمًا حلقته فضّة. . .".

والباقيان ذُكرا قبله.

[تنبيه]: رواية خالد بن قيس، عن قتادة هذه ساقها البيهقيّ في "الكبرى"، فقال:

(18010)

- أخبرنا أبو طاهر الفقيه، أنبأ أبو حامد بن بلال، ثنا محمد بن يحيى - يعني: الذهليّ - (ح) وأخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرني أبو النضر الفقيه، ثنا عثمان بن سعيد الدارميّ، قالا: ثنا نصر بن عليّ الجهضميّ، أخبرني أبي، حدّثني خالد بن قيس، عن قتادة، عن أنس بن مالك رضي الله عنه:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كَتَب إلى كسرى، وقيصر، وإلى كل جبّار، يدعوهم إلى الله عز وجل". انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(1)

"سنن البيهقيّ الكبرى" 9/ 107.

ص: 76

(28) - (بَابٌ فِي غَزْوَةِ حُنَيْنٍ)

(اعلم): أن حنينًا - بحاء مهملة، ونون، مصغرًا -: وادٍ إلى جنب ذي المجاز، قريب من الطائف، بينه وبين مكة بضعة عشر ميلًا، من جهة عرفات، قال أبو عبيد البكريّ: سُمِّي باسم حنين بن قابثة بن مهلائيل، قال أهل المغازي: خرج النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى حنين لست خلت من شوال، وقيل: لليلتين بقيتا من رمضان، وجمع بعضهم بأنه بدأ بالخروج في أواخر رمضان، وسار سادس شوال، وكان وصوله إليها في عاشره، وكان السبب في ذلك أن مالك بن عوف النَّصْريّ جمع القبائل، من هوازن، ووافقه على ذلك الثقفيون، وقصدوا محاربة المسلمين، فبلغ ذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم، فخرج إليهم، قال عمر بن شَبّة في "كتاب مكة": حدّثنا الحزاميّ - يعني: إبراهيم بن المنذر - حدّثنا ابن وهب، عن ابن أبي الزناد، عن أبيه، عن عروة، أنه كَتَبَ إلى الوليد: أما بعدُ، فإنك كتبت إليّ تسألني عن قصة الفتح، فذكر له وقتها، فأقام عامئذ بمكة نصف شهر، ولم يزد على ذلك، حتى أتاه أن هوازن وثقيفًا قد نزلوا حُنينًا، يريدون قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا قد جمعوا إليه، ورئيسهم عوف بن مالك.

ولأبي داود بإسناد حسن، من حديث سهل ابن الحنظلية: أنهم ساروا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى حنين، فأطنبوا السير، فجاء رجل، فقال: إني انطلقت من بين أيديكم حتى طلعت جبل كذا وكذا، فإذا أنا بهوازن عن بكرة أبيهم، بظُعُنهم، ونَعَمهم، وشائهم، قد اجتمعوا إلى حنين، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال:"تلك غنيمة المسلمين غدًا إن شاء الله تعالى".

وعند ابن إسحاق، من حديث جابر ما يدلّ على أن هذا الرجل هو عبد الله بن أبي حدرد الأسلميّ، ذكره في "الفتح"

(1)

.

(1)

"الفتح" 9/ 423 - 424، كتاب "المغازي" رقم (4314).

ص: 77

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4603]

(1775) - (وَحَدَّثَني أَبُو الطَّاهِرِ أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ سَرْحٍ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي كَثِيرُ بْنُ عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِب، قَالَ: قَالَ عَبَّاسٌ: شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ حُنَيْنٍ، فَلَزِمْتُ أنَا وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَمْ نُفَارِقْه

(1)

، وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى بَغْلَةٍ لَهُ بَيْضَاءَ، أَهْدَاهَا لَهُ فَرْوَةُ بْنُ نُفَاثَةَ الْجُذَامِيُّ، فَلَمَّا الْتَقَى الْمُسْلِمُونَ وَالْكُفَّارُ، وَلَّى الْمُسْلِمُونَ مُدْبِرِينَ، فَطَفِقَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَرْكُضُ بَغْلَتَهُ قِبَلَ الْكُفَّار، قَالَ عَبَّاسٌ: وَأنَا آخِذ بِلِجَامِ بَغْلَةِ رَسُولِ اللهِ أكُفُّهَا؛ إِرَادَةَ أَنْ لَا تُسْرعَ، وَأَبُو سُفْيَانَ آخِذٌ بِرِكَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"أَيْ عَبَّاسُ نَادِ أَصْحَابَ السَّمُرَةِ"، فَقَالَ عَبَّاسٌ - وَكَانَ رَجُلَا صَيِّتًا - فَقُلْتُ بِأَعْلَى صَوْتِي: أَيْنَ أَصْحَابُ السَّمُرَةِ؟ قَالَ: فَوَاللهِ لَكَأَنَّ عَطْفَتَهُمْ حِينَ سَمِعُوا صَوْتِي عَطْفَةُ الْبَقَرِ عَلَى أَوْلَادِهَا، فَقَالُوا: يَا لَبَّيْكَ، يَا لَبَّيْكَ. قَالَ: فَاقْتَتَلُو اوَالْكُفَّارَ، وَالدَّعْوَةُ فِي الأنْصَارِ يَقُولُونَ: يَا مَعْشَرَ الأنْصَار، يَا مَعْشَرَ الأنْصَار، قَالَ: ثُمَّ قُصِرَتِ الدَّعْوَةُ عَلَى بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَج، فَقَالُوا: يَا بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَج، يَا بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ، فَنَظَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ عَلَى بَغْلَتِهِ؛ كالمُتَطَاوِلِ عَلَيْهَا إِلَى قِتَالِهِمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"هَذَا حِينَ حَمِيَ الْوَطيسُ"، قَالَ: ثُمَّ أَخَذَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَصَيَاتٍ، فَرَمَى بِهِنَّ وُجُوهَ الْكُفَارِ

(2)

، ثُمَّ قَالَ:"انْهَزَمُوا، وَرَبِّ مُحَمَّدٍ"، قَالَ: فَذَهَبْتُ أنْظُرُ، فَإِذَا الْقِتَالُ عَلَى هَيْئَتِهِ فِيمَا أَرَى. قَالَ: فَوَاللهِ مَا هُوَ إِلَّا أَنْ رَمَاهُمْ بِحَصَيَاتِه، فَمَا زِلْتُ أَرَى حَدَّهُمْ كَلِيلًا، وَأَمْرَهُمْ مُدْبِرًا).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(أَبُو الطَّاهِرِ أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ سَرْحٍ) المصريّ، ثقة [10](ت 250)(م دس ق) تقدم في "المقدمة" 3/ 10.

(1)

وفي نسخة: "ولم نفارقه".

(2)

وفي نسخة: "فرمى بهنّ في وجوه الكفّار".

ص: 78

2 -

(ابْنُ وَهْبٍ) عبد الله القرشيّ مولاهم، أبو محمد المصريّ، ثقةٌ حافظ فقيه عابد [9](197)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 10.

3 -

(يُونُسُ) بن يزيد الأمويّ مولاهم، أبو يزيد الأيليّ، ثقةٌ، من كبار [7](ت 159)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 14.

4 -

(ابْنُ شِهَابٍ) محمد بن مسلم الزهريّ، تقدّم في الباب الماضي.

5 -

(كَثِيرُ بْنُ عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ) الهاشميّ، أبو تمام، صحابيّ صغير، مات بالمدينة أيام عبد الملك (خ م دس) تقدّم في "الكسوف" 1/ 2094.

6 -

(عَبَّاسُ) بن عبد المطّلب بن هاشم، عمّ النبيّ صلى الله عليه وسلم الصحابيّ المشهور، مات رضي الله عنه سنة (32) أو بعدها، وهو ابن (88) سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 13/ 159.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من سداسيّات المصنّف رحمه الله، وفيه رواية صحابيّ، عن صحابيّ، والابن عن أبيه، وأن نصفه الأول مسلسل بالمصريّين، ويونس، وإن كان أيليًّا إلا أنه نزل مصر، والثاني مسلسل بالمدنيين.

شرح الحديث:

(عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) الزهريّ أنه (قَالَ: حَدَّثَني كثِيرُ بْنُ عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِب، قَالَ: قَالَ عَبَّاسٌ)؛ أيَ: ابن عبد المطّلب، (شَهِدْتُ) بكسر الهاء؛ أي: حضرتُ (مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ حُنَيْنٍ)؛ أي: يوم وقعة حُنين، بصيغة التصغير، واد بين مكة والطائف، سُمِّي باسم رجل لازمه، وهو مذكّر منصرفٌ، وقد يؤنّث على معنى البقعة، فيُمنع من الصرف؛ للعلميّة والتأنيث، وأنشد في "الصحاح":

نَصَرُوا نَبِيَّهُمْ وَشَدُّوا أَزْرَهُ

بِحُنَيْنَ يَوْمَ تَوَاكَلَ الأَبْطَالَ

والأغلب عليه الصرف، وبه جاء القرآن الكريم:{وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ} [التوبة: 25].

وقد تقدّم أن غزوة حنين كانت بعد فتح مكة بأيام، وذلك أن مكة فُتحت لعشر بقين من رمضان، سنة ثمان من الهجرة، وكانت وقعة هوازن يوم حنين في أول شوَّال، من تلك السَّنة.

ص: 79

(فَلَزِمْتُ) بكسر الزاي، وقوله:(أَنَا) أتى به؛ ليمكن عطف ما بعده على الضمير المتّصل، كما قال في "الخلاصة":

وَإِنْ عَلَى ضَمِيرِ رَفْعٍ مُتَّصِلْ

عَطَفْتَ فَافْصِلْ بِالضَّمِيرِ الْمُنْفَصِلْ

أَوْ فَاصِلٍ ما وَبِلَا فَصْلٍ يَرِدْ

فِي النَّظْمِ فَاشِيًا وَضُعْفَهُ اعْتَقِدْ

(وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ) بن هاشم الهاشميّ ابن عمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخوه من الرضاعة، أرضعتهما حليمة السعدية، قال ابن المبارك، وإبراهيم بن المنذر، وغيرهما: اسمه المغيرة، وقيل: اسمه كنيته، والمغيرة أخوه، وكان ممن يُشبه رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وأخرج الحاكم أبو أحمد، من طريق حماد بن سلمة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أبو سفيان بن الحارث سيد فتيان أهل الجنة"، قال: حَلَقه الحلاق بمنى، وفي رأسه ثؤلول، فقطعه، فمات، قال: فيرون أنه مات شهيدًا، هذا مرسل، رجاله ثقات.

وكان أبو سفيان ممن يؤذي النبيّ صلى الله عليه وسلم، ويهجوه، ويؤذي المسلمين، وإلى ذلك أشار حسان بن ثابت رضي الله عنه في قصيدته المشهورة [من الوافر]:

هَجَوْتَ مُحَمَّدًا فَأَجَبْتُ عَنْهُ

وَعِنْدَ اللهِ فِي ذَاكَ الْجَزَاءُ

ويقال: إن عليًّا علّمه لمّا جاء ليُسْلم أن يأتي النبيّ صلى الله عليه وسلم من قِبَل وجهه، فيقول:{تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا} [يوسف: 91]، ففعل، فأجابه:{لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ} [يوسف: 92] الآية، فأنشده أبو سفيان [من الطويل]:

لَعَمْرُكَ إِنِّي يَوْمَ أَحْمِلُ رَايَةً

لِتَغْلِبَ خَيْلُ اللَّاتِ خَيْلَ مُحَمَّدِ

فَكَالْمُدْلِجِ الْحَيْرَانِ أَظْلَمَ لَيْلُهُ

فَهَذَا أَوَاني حَينَ أُهْدَى فَأَهْتَدِي

الأبيات، وأسلم أبو سفيان في الفتح، لقي النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو متوجه إلى مكة، فأسلم، وشَهِد حنيًا، فكان ممن ثبت مع النبيّ صلى الله عليه وسلم، ويقال: إنه لم يرفع رأسه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حياء منه، وذكر محمد بن إسحاق له قصيدةً رَثَى بها النبيّ صلى الله عليه وسلم لما مات، يقول فيها [من الوافر]:

لَقَدْ عَظُمَتْ مُصيبَتُنَا وَجَلَّتْ

عَشِيَّةَ قِيلَ قَدْ مَاتَ الرَّسُولُ

وقد أُسند عنه حديثٌ، أخرجه الدارقطنيّ في "كتاب الإخوة"، وابن قانع، من طريق سماك بن حرب، سمعت شيخًا في عسكر مدرك بن المهلب،

ص: 80

بسجستان، يحدّث عن أبي سفيان بن الحارث، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يُقَدِّس الله أُمَّةً لا يأخذ الضعيفُ فيها حقَّه من القويّ"، قال الحافظ: وسنده صحيح لولا هذا الشيخ الذي لم يُسَمَّ.

يقال: إنه مات سنة خمس عشرة، في خلافة عمر رضي الله عنه، فصلى عليه، ويقال: سنة عشرين، ذكره الدارقطنيّ في "كتاب الإخوة"

(1)

.

وقوله: (رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم) منصوب على المفعوليّة، (فَلَمْ نُفَارِقْه) وفي بعض النسخ:"ولم نفارقه" بالواو، (وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى بَغْلَةٍ لَهُ بَيْضَاءَ) قال النوويّ رحمه الله: هكذا قال في هذه الرواية، ورواية أخرى بعدها أنها بغلة بيضاء، وقال في آخر الباب:"على بغلته الشهباء"، وهي واحدة، قال العلماء: لا يُعْرَف له صلى الله عليه وسلم بغلة سواها، وهي التي يقال لها: دُلْدُل. انتهى

(2)

.

(أَهْدَاهَا لَهُ فَرْوَةُ) بفتح الفاء، وإسكان الراء، (ابْنُ نُفَاثَةَ) - بنون مضمومة، ثم فاء مخففّة، ثم ألف، ثم ثاء مثلّثة - وفي الرواية التي بعدها روايةِ إسحاق بن إبراهيم قال:"فَروة بن نَعامة" بالعين والميم، والصحيح المعروف الأول، قال القاضي عياض رحمه الله: واختلفوا في إسلامه، فقال الطبريّ: أسلم، وعُمِّر عُمُرًا طويلًا، وقال غيره: لم يُسلم، قاله النوويّ.

وقال القرطبيّ رحمه الله: "فَروة بن نفاثة" صوابه: بالنون المضمومة، والفاء، والثاء المثلثة، كذا لجميع الرواة، وقد قيّده بعضهم:"نباتة" بالنون والباء بواحدة، والتاء باثنتين من فوقها، وكأنه تصحيف، وقد رواه مسلم من حديث معمر عن ابن شهاب، فقال: فروة بن نعامة، والأول أشهر

(3)

.

وقال في "الإصابة"

(4)

: فَرْوة بن عامر الْجُذاميّ، أو ابن عمرو، وهو أشْهَرُ. أسْلَم في عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم، وبعث إليه بإسلامه، ولم يُنقَل أنه اجتمع به صلى الله عليه وسلم، وسَمَّى أبو عمر جدّه: الناقدة، قال ابن إسحاق: وبعث فروة بن عمرو بن الناقدة البنانيّ الجذاميّ إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم رسولًا بإسلامه، وأهدى له بغلة

(1)

"الإصابة في تمييز الصحابة" 7/ 151 - 153.

(2)

"شرح النوويّ" 12/ 113.

(3)

"المفهم" 3/ 614.

(4)

"الإصابة في تمييز الصحابة" 5/ 386.

ص: 81

بيضاء، وكان فروة عاملًا للروم على من يليهم من العرب، وكان منزله المَعَان

(1)

وما حولها من أرض الشام، فبلغ الروم إسلامه، فطلبوه، فحبسوه، ثم قتلوه، فقال في ذلك أبياتًا، منها قوله [من الكامل]:

أَبْلِغْ سَرَاةَ الْمُسْلِمِينَ بَأَنَّنِي

سِلْم لِرَبِّي أَعْظُمِي وَبَنَانِي

وفي "صحيح البخاريّ": أن الذي أهداها له ملك أيلة، واسم ملك أيلة فيما ذكره ابن إسحاق: يُحَنّةُ بن رُوبة، والله أعلم

(2)

.

وقوله: (الْجُذَامِيُّ) - بضمّ الجيم، وذال معجمة، مخفّفة، بعد ميم -: نسبة إلى جُذام قبيلة من اليمن، وجُذَام: هو الصدف بن أسلم بن زيد بن مالك بن زيد بن حضرموت الأكبر، قاله في "اللباب"

(3)

.

قال القرطبيّ رحمه الله: قبوله صلى الله عليه وسلم هدية فروة يعارضه قوله صلى الله عليه وسلم: "إني نُهيت عن زَبْد المشركين"

(4)

، وامتنع من قبول هديتهم.

وقد اختُلِف في هذين الحديثين، فمن العلماء من ذهب إلى أن حديث فروة ناسخ للحديث الآخر، ومنهم من رام الجمع بينهما فقال: حيث قَبِل فإنما قُبل استئلافًا، وطمعًا في إسلام الْمُهدي، وحيث رَدّ لم يطمع في ذلك، وقيل: إنما ردّ حيث لم تكن فيه مصلحة للمسلمين، وقيل: حيث كان فيه ذلك، وقيل: إنما رَدَّ ما أهدي له في خاصة نفسه، وقيل: ما عَلِم منه خلاف ذلك؛ قاله الطبري، قال: ولا حجة لمن احتج بنسخ أحد الحديثين للآخر؛ إذ لم يأت في ذلك بيان، وقيل: إنما قَبِل هدية أهل الكتاب؛ إذ قد أبيح لنا طعامهم، وردَّ هدايا المشركين؛ إذ لم يُبَح لنا ذلك منهم، وأشبهُ هذه الأقوال قول من قال بالاستئلاف والمصلحة، والكل محتمل. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(5)

، وهو بحث جيّد، والله تعالى أعلم.

(1)

بالفتح: موضع بطريق حاجّ الشام. اهـ. "القاموس".

(2)

"شرح النوويّ" 12/ 113 - 114.

(3)

"اللباب في تهذيب الأنساب" 1/ 265.

(4)

رواه أبو داود (3057) والترمذيّ (1577) وقال: حديث حسن صحيح، والزَّبْدُ بفتح، فسكون: الرِّفد والعطاء.

(5)

"المفهم" 3/ 614.

ص: 82

وقال النوويّ رحمه الله: [فإن قيل]: ففي هذا الحديث قبوله صلى الله عليه وسلم هدية الكافر، وفي الحديث الآخر:"هدايا العُمّال غلول"، مع حديث ابن اللُّتْبيّة عامل الصدقات، وفي الحديث الآخر أنه صلى الله عليه وسلم رَدَّ بعض هدايا المشركين، وقال:"إنا لا نقبل زَبْدَ المشركين"؛ أي: رِفْدهم، فكيف يُجْمَع بين هذه الأحاديث؟.

قال القاضي عياض رحمه الله: قال بعض العلماء: إن هذه الأحاديث ناسخة لقبول الهدية، قال: وقال الجمهور: لا نسخ، بل سبب القبول أن النبيّ صلى الله عليه وسلم مخصوص بالفيء الحاصل بلا قتال، بخلاف غيره، فقَبِل النبيّ صلى الله عليه وسلم ممن طَمِع في إسلامه، وتأليفه؛ لمصلحة يرجوها للمسلمين، وكافأ بعضهم، ورَدّ هدية من لم يَطْمَع في إسلامه، ولم يكن في قبولها مصلحة؛ لأن الهدية توجب المحبة والمودّة، وأما غير النبيّ صلى الله عليه وسلم من العمال والولاة، فلا يحلّ له قبولها لنفسه عند جمهور العلماء، فإن قَبِلها كانت فيئًا للمسلمين؛ فإنه لم يُهدها إليه، إلا لكونه إمامهم، وإن كانت من قوم هو محاصرهم فهي غنيمة.

قال القاضي: وهذا قول الأوزاعيّ، ومحمد بن الحسن، وابن القاسم، وابن حبيب، وحكاه ابن حبيب عمن لقيه من أهل العلم.

وقال آخرون: هي للإمام خالصة، وبه قال أبو يوسف، وأشهب، وسحنون.

وقال الطبريّ: إنما ردَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم من هدايا المشركين ما عَلِم أنه أهدى له في خاصة نفسه، وقَبِل ما كان خلاف ذلك، مما فيه استئلاف المسلمين، قال: ولا يصحّ قول من ادَّعَى النسخ؛ إذ لم يأت في ذلك بيان، قال: وحكم الأئمة بعده إجراؤها مجرى مال الكفار من الفيء، أو الغنيمة، بحسب اختلاف الحال، وإلى هذا يرجع قوله:"هدايا العُمّال غُلُول"؛ أي: إذا خَصُّوا بها أنفسهم؛ لأنها لجماعة المسلمين، إما بحكم الفيء، أو بحكم الغنيمة، وقد يرجع إلى ما يُهديه إليهم رَعَاياهم، وأصل الغلول: الخيانة؛ لأنهم إنما أهدوا لهم من قِبَل ولايتهم، ولهذا أنكره صلى الله عليه وسلم، وقال:"هلّا جلس في بيت أبيه وأمّه، فينظر هل يُهدى له أم لا؟ ".

قال القاضي: كلّ هذا حماية عن الهوادة لهم في الحقوق بسببها، وإنما قَبِلها النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ لتنزّهه عن هذا، وعصمته منه.

ص: 83

وقيل: إنما قَبِل النبيّ صلى الله عليه وسلم هدايا كفار أهل الكتاب، ممن كان على النصرانية؛ كالمقوقس، وملوك الشام، فلا معارضة بينه وبين قوله صلى الله عليه وسلم:"لا نقبل زَبْد المشركين"، وقد أبيح لنا ذبائح أهل الكتاب، ومناكحتهم، بخلاف المشركين، عَبَدَة الأوثان. انتهى كلام القاضي عياض رحمه الله

(1)

.

وقال النوويّ رحمه الله: قال أصحابنا: متى أخذ القاضي، أو العامل هدية محرَّمَةً لزمه ردّها إلى مُهديها، فإن لم يعرفه وجب عليه أن يجعلها في بيت المال، والله أعلم. انتهى

(2)

.

(فَلَمَّا الْتَقَى الْمُسْلِمُونَ وَالْكُفَّارُ) بالرفع عطفًا على الفاعل، (وَلَّى الْمُسْلِمُونَ مُدْبِرِينَ) حال مؤكّد لعامله؛ لأن معنى التولّي والإدبار واحد، قال في "الخلاصة":

وَعَامِلُ الْحَالِ بِهَا قَدْ أُكِّدَا

فِي نَحْوِ لَا تَعْثُ فِي الأرْضِ مُفْسِدَا

(فَطَفِقَ) - بكسر الفاء، وفتحها -، يقال: طَفِق يفعل كذا، كفَرِحَ، وضَرَبَ طَفْقًا، وطُفُوقًا: إذا واصل الفعلَ، خاصّ بالإثبات، فلا يقال: ما طَفق، ويقال: طفق بمراده: ظَفِرَ، وأطفقه الله به، قاله المجد رحمه الله

(3)

. والمراد هنا: شَرَع، وأخذ (رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَرْكُضُ بَغْلَتَهُ) - بضم الكاف - من باب نصر، قال المجد رحمه الله: الرَّكْضُ: تحريك الرِّجْل، ومنه:{ارْكُضْ بِرِجْلِكَ} [ص: 42]، والدفعُ، واستحثاث الفرس للعدو، وتحرُّك الْجَنَاح، والْهَرَبُ، ومنه:{إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ} [الأنبياء: 12]، والْعَدْوُ. انتهى

(4)

.

والمعنى المناسب هنا: استحثاث بغلته. (قِبَلَ) بكسر القاف، وفتح الموحّدة؛ أي: جهة (الْكُفَّارِ) قال العلماء: ركوبه صلى الله عليه وسلم البغلة في موطن الحرب، وعند اشتداد البأس هو النهاية في الشجاعة والثبات، ولأنه أيضًا يكون مُعْتَمَدًا يرجع المسلمون إليه، وتطمئن قلوبهم به، وبمكانه، وإنما فَعَل هذا عمدًا، وإلا فقد كانت له صلى الله عليه وسلم أفراس معروفة، ومما ذكره في هذا الحديث من شجاعته صلى الله عليه وسلم تقدّمه يركض بغلته إلى جمع المشركين، وقد فَرّ الناس عنه، وفي الرواية

(1)

"إكمال المعلم" 6/ 127 - 128.

(2)

"شرح النوويّ" 12/ 114.

(3)

"القاموس المحيط" ص 805.

(4)

"القاموس المحيط" ص 528.

ص: 84

الأخرى أنه نَزَل إلى الأرض حين غَشُوه، وهذه مبالغة في الثبات، والشجاعة، والصبر، وقيل: فَعَل ذلك مواساةً لمن كان نازلًا على الأرض، من المسلمين، وقد أخبرت الصحابة رضي الله عنهم بشجاعته صلى الله عليه وسلم في جميع المواطن، وفي "صحيح مسلم": قال البراء رضي الله عنه: "كنّا والله إذا احمرّ البأس نتّقي به، وإن الشجاع منا الذي يُحاذي صلى الله عليه وسلم "

(1)

.

(قَالَ عَبَّاسٌ) رضي الله عنه (وَأَنَا آخِذٌ بِلِجَامِ) - بكسر اللام، ككتاب -: الحديدة التي تُجعل في فم الدابّة، (بَغْلَةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَكُفُّهَا) جملة حاليّة من "بغلة"؛ أي: أمنعها من السير (إِرَادَةَ أَنْ لَا تُسْرعَ) بنصب "إرادةَ" على أنه مفعول من أجله، كما قال في "الخلاصة":

يُنْصَبُ مَفْعُولًا لَهُ الْمَصْدَرُ إِنْ

أَبَانَ تَعْلِيلًا كـ "جُدْ شُكْرَا وَدِنْ"

(وَأبُو سُفْيَانَ) بن الحارث (آخِذٌ بِرِكَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) جملة اسميّة في محلّ نصب على الحال، و"الركاب": الحديدة التي يضع الراكب فيها قدمه، (فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"أَيْ عَبَّاسُ) "أَيْ" حرف لنداء القريب، وقيل: للأوسط، وقيل: للبعيد، وقد ذكرت ذلك بقولي:

"أَيْ" لِنَدَا الْقَرِيبِ أَوْ لِلأَوْسَطِ

أَوِ الْبَعِيدِ اخْتَلَفُوا فَلْتَضْبِطِ

(نَادِ أَصْحَابَ السَّمُرَةِ") - بفتح السين المهملة، وضمّ الميم -: واحد السَّمُر، كرَجُل: شجر الطَّلْح، وهو نوع من الْعِضَاه، وقال المرتضى في "التاج": والسمُر - بضمّ الميم - شجر معروف، صغار الورق، قصار الشوك، وله بَرَمَة

(2)

صفراء، يأكلها الناس، وليس في العضاه شيء أجود خشبًا من السمر، يُنقل إلى القرى، فتُغمى به البيوت. انتهى

(3)

.

والمراد هنا الشجرة التي بايعوه صلى الله عليه وسلم تحتها بيعة الرضوان، ومعناه: نادِ أهل بيعة الرضوان يوم الحديبية التي أنزل الله تعالى فيها: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح: 18]، وإنما ناداهم بأصحاب

(1)

شرح النوويّ" 12/ 120 - 121.

(2)

في "القاموس": الْبَرَمُ: محرّكة: ثمر العضاه.

(3)

"تاج العروس من جواهر القاموس" 3/ 278.

ص: 85

السمرة؛ لتذكيرهم عهدهم الذي عاهدوا به في الحديبية حيث بايعوه فيها على أن لا يفرّوا، ومنهم من بايعه على الموت.

وفي رواية ابن عيينة، عن الزهريّ عند أبي عوانة

(1)

، وسأذكرها قريبًا:"فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: يا عبّاس نادِ في الناس، يا أصحاب السمرة، يا أصحاب البقرة، قال سفيان: يذكّرهم البيعة التي بايعوه تحت الشجرة، والشجرة: سمرةٌ بايعوه تحتها على أن لا يفرّوا".

وقال القرطبيّ رحمه الله: "السمرة": هي شجرة الرضوان التي بايع النبيّ صلى الله عليه وسلم تحتها أصحابه بيعة الرضوان بالحديبية، وكانوا بايعوه على ألا يَفِرُّوا، فلما سمعوا النداء، تذكروا العهد معه، فارتجعوا رجعة واحدة، كرجل واحد، وهم يلبّون النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولسرعة رجعتهم واجتماعهم شبَّههم بعطفة البقر على أولادها، وهذا كله يدل على قربهم من النبيّ صلى الله عليه وسلم إذ ذاك، وأن انهزامهم لم يكن إلى بُعد، ولا من جميعهم، بل المنهزم إنما كان أكثرهم من أهل مكة والطلقاء، ومن في قلبه مرض، ولذلك كان بعضهم يقول في حال انهزامه: لا يردّهم إلا البحر. انتهى.

وقوله: (فَقَالَ عَبَّاسٌ) كلام مدرج من الراوي، والظاهر أنه كثير بن عبّاس رضي الله عنهما، بين "قال" ومقوله، وهو جملة:"فقلت بأعلى صوتي. . . إلخ"، ووقع في "سيرة ابن هشام" ما يدلّ على أنه من كلام العبّاس نفسِه، ونصّه:"قال: وكنت امرأ جسيمًا شديد الصوت". انتهى

(2)

.

(وَكَانَ رَجُلًا صَيِّتًا) - بفتح الصاد المهملة، وتشديد التحتانيّة -؛ أي: قويّ الصوت، ذَكَر الحازميّ في "المؤتلف"

(3)

: أن العباس رضي الله عنه كان يَقِفُ على سَلْع، فينادي غلمانه في آخر الليل، وهم في "الغابة"، فيُسمعهم، قال: وبين سَلْع والغابة ثمانية أميال

(4)

.

(1)

راجع: "مسند أبي عوانة" 4/ 279.

(2)

"سيرة ابن هشام" 2/ 444.

(3)

وذكر في هامش النسخة التركيّة ما نصّه: ومرّ في بعض الكتب أن العبّاس كان يزجر السباع عن الغنم، فيفتق مرارة السبع في جوفه، وهذا أغرب مما ذكره النوويّ، والله تعالى أعلم بصحة القصّتين.

(4)

"شرح النوويّ" 12/ 115.

ص: 86

(فَقُلْتُ بِأَعْلَى صَوْتِي: أَيْنَ أَصْحَابُ السَّمُرَةِ؟ قَالَ) عبّاس رضي الله عنه (فَوَاللهِ لَكَأَنَّ عَطْفَتَهُمْ)؛ أي: رجعتهم إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم (حِينَ سَمِعُوا صَوْتِي عَطْفَةُ الْبَقَرِ عَلَى أَوْلَادِهَا)؛ أي: عطفة أمهات البقر وعودتها على أولادها عند حنينها لفقد الأمهات، والمعنى: أن عودتهم إليه صلى الله عليه وسلم، وإلى مواقع قتالهم كان كمثل عودة أنثى البقر إلى أولادها عند حنينها إليها.

وفي رواية ابن هشام: قال: ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول - حين رأى ما رأى من الناس -: "أين أيها الناس؟ " فلم أَرَ الناس يَلْوُون على شيء، فقال:"يا عباس اصرُخ يا معشر الأنصار، يا معشر أصحاب السمرة"، قال: فأجابوا: لبيك، لبيك، قال: فيذهب الرجل لِيَثني بعيره، فلا يقدر على ذلك، فيأخذ درعه، فيقذفها في عنقه، ويأخذ سيفه، وترسه، ويقتحم عن بعيره، ويخلي سبيله، فيؤم الصوت، حتى ينتهي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا اجتمع إليه منهم مئة، استقبلوا الناس، فاقتتلوا. انتهى

(1)

.

قال العلماء: في هذا الحديث دليل على أن فرارهم لم يكن بعيدًا، وأنه لم يحصل الفرار من جميعهم، وإنما فتحه عليهم مَن في قلبه مرض، من مُسْلِمة أهل مكة المؤلَّفة، ومشركيها الذين لم يكونوا أسلموا، وإنما كانت هزيمتهم فَجأة، لانصبابهم عليهم دفعة واحدة، ورَشْقهم بالسهام، ولاختلاط أهل مكة معهم، ممن لم يستقرّ الإيمان في قلبه، وممن يتربص بالمسلمين الدوائر، وفيهم نساء، وصبيان خرجوا للغنيمة، فتقدّم أخفّاؤهم، فلما رَشَقُوهم بالنبل وَلَّوا، فانقلبت أُولاهم على أخراهم، إلى أن أنزل الله تعالى سكينته على المؤمنين، كما ذكر الله تعالى في القرآن

(2)

.

(فَقَالُوا: يَا لَبَّيْكَ، يَا لَبَّيْكَ)"يا" هنا قد وَلِيها ما لا يصلح للنداء، وهو "لبيك"، فهي حرف تنبيه، مثل "ألا"، وقيل: هي حرف نداء، والمنادى محذوف؛ أي: يا صاحب الصوت، أو يا رسول الله، والثاني أصوب؛ لأن في

(1)

"سيرة ابن هشام" 2/ 444.

(2)

"شرح النوويّ" 12/ 115 - 116.

ص: 87

رواية أبي عوانة التصريح به، ولفظه:"فأقبلوا، ولهم حنين، كحنين الإبل، فقالوا: لبيك يا رسول الله، وسعديك".

[فائدة]: قال ابن هشام الأنصاريّ رحمه الله في "مغنيه": وإذا وَلي "يا" ما ليس بمنادى؛ كالفعل في نحو {أَلَّا يَسْجُدُوا} [النمل: 25]، وقوله [من الطويل]:

أَلَا يَا اسْقِيَانِي قَبْلَ غَارَةِ سِنْجَالِ

وَقَبْلَ مَنَايَا عَادِيَاتٍ وَأَوْجَالِ

والحرف في نحو: {يَالَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا} الآية [النساء: 73]، وقوله صلى الله عليه وسلم: (يا رب كاسية في الدنيا، عارية في الآخرة"، رواه البخاريّ، والجملة الاسمية؛ كقوله [من البسيط]:

يَا لَعْنَةَ اللهِ وَالأَقْوَامِ كُلِّهِمِ

وَالصَّالِحِينَ عَلَى سِمْعَانَ مِنْ جَارِ

فقيل: هي للنداء، والمنادى محذوف، وقيل: هي لمجرد التنبيه؛ لئلا يلزم الإجحاف بحذف الجملة كلها، وقال ابن مالك: إن وَليها دعاء، كهذا البيت، أو أمر، نحو:{أَلَّا يَسْجُدُوا} ، فهي للنداء؛ لكثرة وقوع النداء قبلهما، نحو:{يَاآدَمُ اسْكُنْ} [البقرة: 35]، {يَانُوحُ اهْبِطْ} [هود: 48]، ونحو:{يَامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} [الزخرف: 77]، وإلا فهي للتنبيه. انتهى

(1)

.

والله تعالى أعلم.

(قَالَ) عبّاس رضي الله عنه (فَاقْتَتَلُوا وَالْكُفَّارَ) هكذا في النسخ بنصب "والكفّارَ"، على أنه مفعول معه، ويجوز رفعه عطفًا على الواو، لكنه ضعيف؛ لأن العطف على ضمير الرفع المتصل بلا فاصل ضعيف، كما قال في "الخلاصة":

وَإِنْ عَلَى ضَمِيرِ رَفْعٍ مُتَّصِلْ

عَطَفْتَ فَافْصِلْ بِالضَّمِيرِ الْمُنْفَصِلْ

أَوْ فَاصِلٍ مَا وَبِلَا فَصْل يَرِدْ

فِي النَّظْمِ فَاشِيًا وَضُعْفَهُ اعْتَقِدْ

وقال في باب المفعول معه:

يُنْصَبُ تَالِي الْوَاوِ مَفْعُولًا مَعَهْ

فِي نَحْوِ "سِيرِي وَالطَّرِيقَ مُسْرِعَهْ"

إلى أن قال:

وَالْعَطْفُ إِنْ يُمْكِنْ بِلَا ضُعْفٍ أَحَقّ

وَالنَّصْبُ مُخْتَارٌ لَدَى ضُعْفِ النَّسَقْ

(وَالدَّعْوَةُ) بفتح الدال؛ يعني: الاستغاثة، والمناداة، (فِي الأَنْصَارِ)؛ أي:

(1)

"مغني اللبيب عن كتب الأعاريب" 1/ 488 - 489.

ص: 88

إليهم، فـ "في "بمعنى "إلى" (يَقُولُونَ: يَا مَعْشَرَ الأَنْصَار، يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ) كُرّر للتأكيد. (قَالَ) عبّاس (ثُمَّ قُصِرَتِ الدَّعْوَةُ) ببناء الفعل للمفعول، (عَلَى بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَج، فَقَالُوا: يَا بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَج، يَا بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ) وفي رواية ابن هشام في "السيرة": وكانت الدعوة أوّل ما كانت: يا للأنصار، ثم خلصت أخيرًا: يا للخزرج، وكانوا صُبْرًا عند الحرب. انتهى

(1)

.

وفي رواية أبي عوانة الآتية: "قال العتاس: فناديتُ، فخَلَصت الدعوة إلى الأنصار، إلى بني الحارث بن الخزرج، فأقبلوا. . ." الحديث.

(فَنَظَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ عَلَى بَغْلَتِهِ؛ كالمُتَطَاوِلِ عَلَيْهَا)؛ أي: على بغلته؛ أي: المشرف والمتطلّع فوقها، (إِلَى قِتَالِهِمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "هَذَا حِينَ حَمِيَ) - بفتح، فكسر - يقال: حَمِيت الحديدة تَحْمَى، من باب تعبَ، فهي حامية: إذا اشتدّ حرّها بالنار، ويُعدّى بالهمزة، فيقال: أحميتها، فهي مُحماةٌ، ولا يقال: حَمَيتُها بغير ألف

(2)

. (الْوَطيسُ") - بفتح الواو، وكسر الطاء المهملة، وبالسين المهملة -.

والمعنى: أن هذا الوقت وقت اشتداد الحرب، فـ "هذا" مبتدأ، و"حين" خبره، وهو مبنيّ على الفتح؛ لإضافته إلى الجملة الماضويّة، على حدّ قول الشاعر [من الطويل]:

عَلَى حِينَ عَاتَبْتُ الْمَشِيبَ عَلَى الصِّبَا

فَقُلْتُ أَلَمَّا أَصْحُ وَالشَّيْبُ وَارعُ

وقد روي البيت: "على حينِ" بالكسر على الإعراب، ويجوز أيضًا هنا إعراب "حين" بالرفع؛ والأول هو المختار، وإلى هذا أشار ابن مالك رحمه الله في "الخلاصة"، فقال:

وَابْنِ أَوَ اعْرِبْ مَا كـ "إِذْ" قَدْ أُجْرِيَا

وَاخْتَرْ بِنَا مَتْلُوِّ فِعْلٍ بُنِيَا

وَقَبْلَ فِعْلٍ مُعْرَبٍ أَوْ مُبْتَدَا

أَعْرِبْ وَمَنْ بَنَى فَلَنْ يُفَنَّدَا

وفي رواية ابن هشام: "الآن حين حمي الوطيس"، قال السهيليّ: والوطيس: نُقْرة في حجر توقد حوله النار، فيُطبخ به اللحم، والوطيس: التَّنُّور، وفي غزوة أوطاس قال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"الآن حمي الوطيس"، وقال ذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم

(1)

"سيرة ابن هشام" 2/ 290.

(2)

"المصباح المنير" 1/ 153.

ص: 89

حين استَعَرت الحربُ، وهي من الكَلِم التي لم يُسْبَق إليها صلى الله عليه وسلم، فمنها هذه، ومنها:"مات حتف أنفه"، قالها في فضل من مات في سبيل الله في حديث رواه عنه عبد الله بن عتيك، قال ابن عتيك: وما سمعت هذه الكلمة - يعني: حتف أنفه - من أحد العرب قبله صلى الله عليه وسلم، ومنها:"لا يُلدغ المؤمن من جحر مرتين"، قالها لأبي عَزّة الْجُمَحيّ يوم أُحد، ومنها:"لا ينتطح فيها عنزان"، ومنها: قوله صلى الله عليه وسلم: "يا خيل الله اركبي" قالها يوم حنين أيضًا في حديث أخرجه مسلم. انتهى

(1)

.

وقال النوويّ رحمه الله: "الوطيس": قال الأكثرون: هو شبه التنور يُسجر فيه، ويُضرب مثلًا لشدة الحرب التي يُشبه حرّها حرّه، وقد قال آخرون: الوطيس هو التنور نفسه، وقال الأصمعيّ: هي حجارة مدوّرة، إذا حَمِيت لم يَقْدِر أحد يطأ عليها، فيقال: الآن حَمِي الوطيس، وقيل: هو الضرب في الحرب، وقيل: هو الحرب الذي يَطيس الناسَ؛ أي: يَدُقّهم، قالوا: وهذه اللفظة من فصيح الكلام، وبديعه الذي لم يُسمع من أحد قبل النبيّ صلى الله عليه وسلم

(2)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: و"حَمِيَ": استعَرّ واتّقد، و"الوطيس" موضع وقود النار، واستعاره هنا لشدة الحرب، وهذا نحو قوله تعالى:{كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ} [المائدة: 64]، وهذه الاستعارة العجيبة لا يُعرف من تكلم بها قبل النبيّ صلى الله عليه وسلم العرب، ومنه تُلُقّيت فصُيِّرت مَثَلًا في الأمر إذا اشتد، قاله ابن الأعرابيّ، وقال الأصمعيّ: الوطيس: الحجارة المحمَّاة، وعلى هذا فهو جمع وطيسة، وقال أبو عمر المطرّز: هو التنور، وحينئذ لا يكون جمعًا. انتهى

(3)

.

وقال بعضهم: فيها تورية، فإن وقعة حنين كما ذكره الحمويّ في "معجم البلدان"، وارتضاه الخفاجيّ في "حاشية البيضاويّ" كانت بوادٍ يُسمّى أوطاسًا، وهو من النوادر التي جاءت بلفظ الجمع للواحد، منقول من جمعِ: وطيس، كيمين وأيمان. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: كون وقعة حنين في أوطاس، وإن قال به بعض

(1)

"الروض الأنف" 7/ 275.

(2)

"شرح النوويّ" 12/ 116.

(3)

"المفهم" 3/ 616 - 617.

ص: 90

أهل السير، غير صحيح، فإن وقعة حنين كانت في حنين، ثم بعدها كانت وقعة أوطاس في أوطاس، وذلك أن هوازن بعد انهزامهم في حنين تفرّقوا، فصارت طائفة منهم إلى الطائف، وطائفة إلى بجيلة، وطائفة إلى أوطاس، فبعث صلى الله عليه وسلم إلى هؤلاء عسكرًا، فوقعت المعركة هناك، قال الحافظ رحمه الله متعقّبًا لقول عياض: أوطاس وادٍ في دار هوازن، وهو موضع حرب حنين - ما حاصله: وهذا الذي قاله ذهب إليه بعض أهل السير، والراجح أن وادي أوطاس غير وادي حنين، ويوضِّح ذلك ما ذكر ابن إسحاق أن الوقعة كانت في وادي حنين، وأن هوازن لمّا انهزموا، صارت طائفة منهم إلى الطائف، وطائفة إلى بَجِيلة، وطائفة إلى أوطاس، فأرسل النبيّ صلى الله عليه وسلم عسكرًا، مقدّمهم أبو عامر الأشعريّ إلى من مضى إلى أوطاس. انتهى

(1)

.

(قَالَ) عبّاس (ثُمَّ أَخَذَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَصَيَاتٍ) جمع حصى، وهي دقاق الحجارة، (فَرَمَى بِهِنَّ وُجُوهَ الْكُفَّارِ) وفي بعض النسخ:"في وجوه الكفّار"، وهذا من المعجزات الفعليّة، حيث رمى من حصيات قليلة جماعة المشركين. (ثُمَّ قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("انْهَزَمُوا، وَرَبِّ مُحَمَّدٍ") صلى الله عليه وسلم؛ وهذا الكلام إخبارٌ بما سيقع، فوقع كما أخبر صلى الله عليه وسلم، فهو من المعجزات القوليّة، حيث أخبر بالمغيّب، فوقع كما أخبر.

قال النوويّ رحمه الله: هذا فيه معجزتان، ظاهرتان لرسول الله صلى الله عليه وسلم، إحداهما: فعلية، والأخرى خبرية، فإنه صلى الله عليه وسلم أخبر بهزيمتهم، ورماهم بالحصيات، فوَلَّوا مُدْبِرين، وذَكَر مسلم في الرواية الأخرى في آخر هذا الباب: أنه صلى الله عليه وسلم قَبَضَ قبضة من تراب، من الأرض، ثم استقبل بها وجوههم، فقال:"شاهت الوجوه"، فما خَلَق الله منهم إنسانًا، إلا ملأ عينيه ترابًا، من تلك القبضة، وهذا أيضًا فيه معجزتان: خبرية، وفعلية، ويَحْتَمِل أنه أخذ قبضة من حصى، وقبضة من تراب، فرمى بذا مرّة، وبذا مرّة، ويَحْتَمِل أنه أخذ قبضة واحدة. انتهى

(2)

.

(1)

"الفتح" 9/ 446 - 447، كتاب "المغازي" رقم (4323).

(2)

"شرح النوويّ" 12/ 116.

ص: 91

(قَالَ) عبّاس (فَذَهَبْتُ أَنْظُرُ) إلى المتقاتلين (فَإِذَا الْقِتَالُ عَلَى هَيْئَتِهِ)؛ أي: صفته وحالته، (فِيمَا أَرَى)؛ أي: في مرأى عيني. (قَالَ: فَوَاللهِ مَا هُوَ)"ما" نافية، و"هو" ضمير شأن؛ أي: ما الأمر، والشأن (إِلَّا أَنْ) بفتح الهمزة مصدريّة، (رَمَاهُمْ) صلى الله عليه وسلم (بِحَصَيَاتِهِ)؛ أي: بالحصيات التي في يده؛ أي: فما الشأن إلا رميه صلى الله عليه وسلم بتلك الحصيات، (فَمَا زِلْتُ أَرَى حَدَّهُمْ) بفتح الحاء المهملة، وتشديد الدال؛ أي: قوّتهم، وشدّة بأسهم، (كَلِيلًا) بفتح الكاف، وكسر اللام؛ أي: ضعيفًا عاجزًا، (وَأَمْرَهُمْ مُدْبِرًا)؛ أي: شأنهم مولّيًا؛ يعني: أن عاقبتهم صارت هروبًا، فانهزموا بإذن الله تعالى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عبّاس بن عبد المطّلب رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [28/ 4603 و 4604 و 4605](1775)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(5/ 194 و 197)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(9741)، و (الحميديّ) في "مسنده"(459)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 207) و"فضائل الصحابة"(1775)، و (ابن سعد) في "الطبقات"(4/ 18 - 19)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(7049)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 276 و 277 و 279)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(7/ 298)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(6/ 289)، و (البزّار) في "مسنده"(4/ 129)، و (البغويّ) في "تفسيره"(2/ 278 - 28)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان قصّة غزوة حنين، وكيف سار أمرها، وكيف كانت الغلبة للمسلمين، ولله الحمد والمنّة.

2 -

(ومنها): بيان فضل الصحابيّين الفاضلين: العبّاس عمّ النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأبي سفيان بن الحارث ابن عمه صلى الله عليه وسلم، وقوّة إيمانهما، وشجاعتهما، حيث لزما

ص: 92

رسول الله صلى الله عليه وسلم في حال تولّى الجيش، مع أن الثاني قريب عهد بالإسلام، إلا أن الإيمان دخل في قلبه، واستقرّ فيه، فلم تزعزعه رياح المعركة، بل ثبت معه صلى الله عليه وسلم.

3 -

(ومنها): أن ركوبه صلى الله عليه وسلم البغلة في ذلك الموطن مبالغة في الثبات، والصبر، ويدلّ على قوّة العزم، وغاية الشجاعة، كما قد فعل حين انهزم الناس عنه، وهو مقبل على العدو، يُركض بغلته نحوهم، وقد زاد على ذلك، كما ذكر في الرواية الأخرى: إنه نزل بالأرض على عادة الشجعان في المنازلة، وهذا كله يدلّ: على أنه صلى الله عليه وسلم كان أشجع الناس، وأثبتهم في الحرب، ولذلك قالت الصحابة رضي الله عنهم: إن الشجاع منا لَلَّذي يلوذ بجانبه صلى الله عليه وسلم.

4 -

(ومنها): أن رميه صلى الله عليه وسلم في وجوه الكفار بالتراب، وإصابته أعين جميعهم من أعظم معجزاته؛ إذ ليس في قوة البشر إيصال ذلك إلى أعينهم، ولا يسع كفه ما يعمّهم، وإنما كان ذلك من صُنع الله لنبيّه صلى الله عليه وسلم، ولذلك قال تعالى:{وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} الآية [الأنفال: 17].

5 -

(ومنها): أن قوله صلى الله عليه وسلم: "انهزَمُوا ورب الكعبة" قبل وقوع الهزيمة، هو من معجزاته صلى الله عليه وسلم الخبرية، فإنه خبر عن الغيب، وقد وقع كما أخبر صلى الله عليه وسلم بأبي هو وأمي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4604]

(

) - (وَحَدَّثَنَاهُ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، جَمِيعًا عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاق، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، بِهَذَا الإِسْنَادِ نَحْوَهُ، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: فَرْوَةُ بْنُ نُعَامَةَ الْجُذَامِيُّ، وَقَالَ: "انْهَزَمُوا وَرَبِّ الْكَعْبَة، انْهَزَمُوا وَرَبِّ الْكَعْبَةِ"، وَزَادَ فِي الْحَدِيثِ: حَتَّى هَزَمَهُمُ اللهُ، قَالَ: وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَرْكُضُ خَلْفَهُمْ عَلَى بَغْلَتِهِ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

وكلّهم تقدّموا قبل باب.

وقوله: (غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ

إلخ) فاعل "قال" ضمير معمر بن راشد.

وقوله: (فَرْوَةُ بْنُ نُعَامَةَ) تقدّم ضبط "فَرْوَة"، وأما نُعامة فقد ضُبِط بالقلم

ص: 93

في النسخ المطبوعة من "صحيح مسلم" بضمّ النون، لكن الذي يقتضيه ظاهر عبارة "القاموس" أنه بفتح النون؛ لأنه ذكر عدّة أشخاص سُمّوا نَعَامة بفتح النون، ولم يذكر بضمّها أحدًا، والله تعالى أعلم.

والمراد أن معمرًا قال في رواية: "فروة بن نعامة" بدل قول يونس: "فُروة بن نُفاثة"، وقد تقدّم أن الصحيح المعروف هو الأول، والله تعالى أعلم.

[تنبيه]: رواية معمر، عن الزهريّ هذه ساقها ابن حبّان رحمه الله في "صحيحه"، إلا أنه قال:"فَرْوة بن نُفاثة الْجُذاميّ"، كرواية يونس، فقال:

(7049)

- أخبرنا ابن قتيبة، حدّثنا ابن أبي السريّ، حدّثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن الزهريّ، حدّثني الكثير بن عباس بن عبد المطلب، عن أبيه، قال: شَهِدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين، فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما معه إلا أنا وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، فلزمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم نفارقه، وهو على بغلة شهباء، وربما قال

(1)

: بيضاء، أهداها له فَرْوة بن نُفاثة الْجُذاميّ، فلما التقى المسلمون والكفار وَلَّى المسلمون مدبرون، وطَفِق رسول الله صلى الله عليه وسلم يَرْكُض على بغلته قِبَل الكفار، قال العباس: وأنا آخذ بلجام بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم أكفُّها، وهو لا يألو يُسرع نحو المشركين، وأبو سفيان بن الحارث آخذ بغَرْز رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"يا عباس نَادِ: يا أصحاب السَّمُرة"، وكنت رجلًا صَيِّتًا، وقلت بأعلى صوتي: يا أصحاب السمرة، فوالله لكأن عَطْفتهم حين سَمِعوا صوتي عَطْفة البقر على أولادها، يقولون: يا لبيك، يا لبيك، فأقبل المسلمون، فاقتتلوا هم والكفارُ، فنادت الأنصار: يا معشر الأنصار، ثم قُصِرت الدعوة علي بني الحارث بن الخزرج، فنادوا: يا بني الحارث بن الخزرج، قال: فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو على بغلته؛ كالمتطاول عليها إلى قتالهم، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"هذا حَينَ حَمِيَ الوطيسُ"، ثم أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم حَصَيَات، فرَمَى بهنّ وجوهَ الكفار، ثم قال:"انْهَزَمُوا وربِّ الكعبة، انْهَزَموا ورب الكعبة"، قال: فذهبت أنظر، فإذا القتال على هيئته، فيما أرى، فوالله ما هو، إلا أن رماهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بحصياته،

(1)

في رواية أبي عوانة: "وربما قال معمر: بيضاء".

ص: 94

فما أرى حَدَّهم إلا كليلًا، وأمرهم إلا مدبرًا، حتى هَزَمهم الله، قال: وكأني أنظر إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، يَرْكُض خلفهم على بغلته. انتهى

(1)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4605]

(

) - (وَحَدَّثَنَاهُ ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي كَثِيرُ بْنُ الْعَبَّاس، عَنْ أَبِيه، قَالَ: كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ حُنَيْنٍ، وَسَاقَ الْحَدِيثَ، غَيْرَ أَنَّ حَدِيثَ يُونُسَ، وَحَدِيثَ مَعْمَرٍ أَكْثَرُ مِنْهُ، وَأَتَمُّ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(ابْنُ أَبِي عُمَرَ) هو: محمد بن يحيى بن أبي عمر الْعَدنيّ، تقدّم قبل بابين.

2 -

(سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ) بن أبي عمران الهلاليّ مولاهم، أبو محمد الكوفيّ، نزيل مكة، الإمام الحافظ الحجة المشهور، من كبار [8](ت 198) عن (91) سنةً (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 383.

والباقون ذُكروا قبله.

[تنبيه]: رواية سفيان بن عيينة، عن الزهريّ هذه ساقها ابن أبي عاصم رحمه الله في "الآحاد والمثاني"، بسند المصنّف هنا، فقال:

(356)

- حدّثنا محمد بن أبي عمر، نا سفيان بن عيينة، نا الزهريّ، حدّثني كثير بن العباس، عن أبيه، قال: كنت مع النبيّ صلى الله عليه وسلم يوم حُنين، ورسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلة له، أهداها له الْجُذَاميّ، فلما وَلَّى المسلمون، قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا عباس ناد بأصحاب

(2)

السمرة، يا أصحاب سورة البقرة"، فرجعوا عَطْفَةً كعطفة البقرة على أولادها، وارتفعت الأصوات، وهم يقولون: يا معشر الأنصار، ثم قُصِرت الدعوة علي بني الحارث بن الخزرج، فنادى: يا بني الحارث بن الخزرج، فتطاول رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو على بغلته،

(1)

"صحيح ابن حبان" 15/ 523.

(2)

هكذا النسخة: "بأصحاب" بالباء الجارّة، والظاهر أنها مصحّفة من "يا أصحاب السمرة" بـ "يا" حرف النداء، فليُحرّر، والله تعالى أعلم.

ص: 95

فقال: "هذا حينُ حَمِيَ الوَطيسُ"، وهو يقول: "قدما

(1)

يا عباس"، وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم حصيات، فرماهم بها، ثم قال: "انْهَزَمُوا ورب الكعبة"، قال: وربما قال: "ورب محمد". انتهى.

وساقها أبو عوانة رحمه الله في "مسنده" مطوّلةً، فقال:

(5406)

- حدّثنا عبد الكريم بن الهيثم الدير عاقوليّ، قال: حدّثنا إبراهيم بن بشار، قال: حدثنا سفيان، قال: سمعت الزهريّ، يقول: أخبرني كثير بن عباس، عن العباس، قال: لما كان يوم حنين بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم القعقاع بن أبي حدرد رضي الله عنه يأتيه بالخبر، فذهب إليهم، فإذا مالك بن عوف النَّصْريّ في جمع كثير من هوازن، وهو يحرِّضهم على الجهاد، ويقول: الْقَوهم بالسيوف صلتةً، ولا تَلْقَوهم بسهم، ولا برمح، فإن منهزمهم لا يردّه شيء دون النحر

(2)

، فرجع إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأخبره، فدخل على المسلمين من ذلك رُعْب شديد، وقال عمر: كذب يا رسول الله - قال سفيان -: وإنما قال عمر كذب لما رأى المسلمين قد دخلهم، فقال القعقاع لعمر بن الخطاب: لئن كذَّبتني يا ابن الخطاب لربما كذّبت بالحق، فقال عمر: يا رسول الله، ألا تسمع ما يقول لي هذا؟، قال له النبيّ صلى الله عليه وسلم:"قد كنت ضالًّا فهداك الله"، قال: وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم يومئذ في نحوٍ من عشرة آلاف، فقال رجل من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم: لا نُغْلَبُ اليومَ من قلّة، فابتُلُوا بكلمته، فانهزموا، حتى لم يبق مع النبيّ صلى الله عليه وسلم إلا العباس، وأبو سفيان بن الحارث رضي الله عنه، قال العباس: وكنت آخذًا بلجام بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن يمينه، وأبو سفيان آخذ بركابه عن يساره، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"يا عباسُ نادِ في الناس: يا أصحاب السمرة، يا أصحاب سورة البقرة"، قال سفيان: يُذَكِّرهم البيعةَ التي بايعوه تحت الشجرة، والشجرة: سمرةٌ بايعوه تحتها، على أن لا يَفِرُّوا، قال العباس: فناديت، فخَلَصت الدعوة إلى الأنصار، إلى بني

(1)

لم أر من ضبطه، ولعله بفتح، فسكون من قَدَمَ القومَ، من باب نصر: إذا تقدّمهم، وصار أمامهم، فيكون المعنى: تقدّم أمام الشجعان، والله أعلم.

(2)

هكذا النسخة: "النحر" بالنون، ولعله مصحّف من "البحر"، فليُحرّر، والله تعالى أعلم.

ص: 96

الحارث بن الخزرج، فأقبلوا، ولهم حَنِين كحنين الإبل، فقالوا: لبيك يا رسول الله، وسعديك، فلما رآهم النبيّ صلى الله عليه وسلم قد أقبلوا قال:"هيه عَطْفَةَ البقرة على أولادها، الآن حَمِيَ الوَطِيس"، فأخذ كفًّا من حَصًى، فضرب بها وجوه المشركين، وقال:"شاهت الوجوه"، فهزمهم الله، وأعزّ نبيه صلى الله عليه وسلم، ونَزَل القرآن:{إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ} الآية [التوبة: 25] انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4606]

(1776) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا أَبُو خَيْثَمَةَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، قَالَ: قَالَ رَجُلٌ لِلْبَرَاءِ: يَا أَبَا عُمَارَةَ أَفَرَرْتُمْ يَوْمَ حُنَيْنٍ؟ قَالَ: لَا، وَاللهِ مَا وَلَّى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَكِنَّهُ خَرَجَ شُبَّانُ أَصْحَابِه، وَأَخِفَّاؤُهُمْ حُسَّرًا، لَيْسَ عَلَيْهِمْ سِلَاحٌ، أَوْ كَثِيرُ سِلَاحٍ، فَلَقُوا قَوْمًا رُمَاةً، لَا يَكَادُ يَسْقُطُ لَهُمْ سَهْمٌ، جَمْعَ هَوَازِنَ، وَبَنِي نَصْرٍ، فَرَشَقُوهُمْ رَشْقًا، مَا يَكَادُونَ يُخْطِئُونَ، فَأَقْبَلُوا هُنَاكَ

(2)

إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى بَغْلَتِهِ الْبَيْضَاء، وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ يَقُودُ بِه، فَنَزَلَ، فَاسْتَنْصَرَ، وَقَالَ:

"أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبْ

أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ"

ثُمَّ صَفَّهُمْ).

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) بن بكر التميميّ، أبو زكريّاء النيسابوريّ، ثقةٌ ثبتٌ إمامٌ [10](ت 226)(خ م ت س) تقدم في "المقدمة" 3/ 9.

2 -

(أَبُو خَيْثَمَةَ) زُهير بن معاوية بن حُديج الْجُعفيّ الكوفيّ، نزيل الجزيرة، ثقةُ ثبتٌ، إلا أن سماعه من أبي إسحاق بآخره [7](ت 2 أو 3 أو 174)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 62.

[فإن قلت]: كيف أخرج مسلم رواية زهير بن معاوية، عن أبي إسحاق، مع أن سماعه بعد اختلاطه؟.

(1)

"مسند أبي عوانة" 4/ 278 - 279.

(2)

وفي نسخة: "هنالك".

ص: 97

[قلت]: لم ينفرد زهير به، بل تابعه عليه جماعة، فقد أخرجه مسلم بعد هذا من رواية زكريّا بن أبي زائدة، وشعبة، والثوريّ كلهم عن أبي إسحاق، وتابعهم إسرائيل، وابن عيينة، عند البخاريّ، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

3 -

(أَبُو إِسْحَاقَ) عمرو بن عبد الله الْهَمْدانيّ السبيعيّ الكوفيّ، ثقةٌ مكثرٌ، عابدٌ، اختلط بآخره، ويدلّس [3](ت 129) أو قبل ذلك (ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 11.

4 -

(الْبَرَاءُ) بن عازب بن الحارث بن عديّ الأنصاريّ الصحابيّ ابن الصحابيّ، نزل الكوفة، واستصغر يوم بدر، مات رضي الله عنه سنة (72)(ع) تقدم في "الإيمان" 35/ 244.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (310) من رباعيّات الكتاب، وأنه مسلسل بالكوفيين، غير شيخه، وقد دخل الكوفة أيضًا.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ) عمرو بن عبد الله السَّبيعيّ، وسيأتي في الرواية الثالثة من طريق الثوريّ قال:"حدّثني أبو إسحاق"، (قَالَ: قَالَ رَجُلٌ) قال الحافظ: لم أقف على اسمه، وقد ذكر في رواية شعبة التالية أنه من قيس، (لِلْبَرَاءِ) بن عازب رضي الله عنه، (يَا أَبَا عُمَارَةَ) كنية البراء رضي الله عنه، (أَفَرَرْتُمْ يَوْمَ حُنَيْنٍ؟) الهمزة للاستفهام، وفي رواية زكريا:"أكنتم ولّيتم يوم حنين يا أبا عمارة؟ "، وفي رواية شعبة:"أفررتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين؟ "، وفي رواية للبخاريّ:"أتولّيت يوم حنين؟ "، (قَالَ) البراء رضي الله عنه (لَا)؛ أي: ليس الأمر كما ظننته، ثم بيّن وجه الصواب، فقال:(وَاللهِ مَا وَلَّى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) وفي رواية زكريّا: "فقال: أشهد على نبيّ الله صلى الله عليه وسلم ما ولَّى"، وفي رواية شعبة:"ولكنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفرّ"، وفي رواية للبخاريّ:"أما أنا فأشهد على النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه لم يُوَلّ".

قال في "الفتح": تضمَّن جواب البراء رضي الله عنه إثباتَ الفرار لهم، لكن لا على طريق التعميم، وأراد أن إطلاق السائل يَشْمَل الجميع، حتى النبيّ صلى الله عليه وسلم لظاهر الرواية الأخرى بلفظ:"أولّيتم مع النبيّ صلى الله عليه وسلم يوم حنين؟ ".

قال: ويمكن الجمع بين الروايتين بحمل المعية على ما قبل الهزيمة، فبادر إلى استثنائه، ثم أوضح ذلك، وختم حديثه بأنه لم يكن أحد يومئذ أشدّ منه صلى الله عليه وسلم.

ص: 98

قال النوويّ رحمه الله: هذا الجواب من بديع الأدب؛ لأن تقدير الكلام: فررتم كلُّكم، فيدخل فيهم النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال البراء: لا، والله، ما فرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن جرى كيت وكيت، فأوضح أن فرار مَن فَرّ لم يكن على نية الاستمرار في الفرار، وإنما انكشفوا من وقع السهام، وكأنه لم يستحضر الرواية الأخرى.

وقد ظهر من الأحاديث الواردة في هذه القصّة أن الجميع لم يفرّوا، كما سيأتي بيانه.

ويَحْتَمِل أن البراء فَهِمَ من السائل أنه اشتبه عليه حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه الذي أخرجه مسلم بلفظ: "ومررت برسول الله صلى الله عليه وسلم مُنهزِمًا"، فلذلك حلف أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يُوَلّ، ودل ذلك على أن "مُنهزمًا" حال من سلمة، ولهذا وقع في طريق أخرى:"ومررت برسول الله صلى الله عليه وسلم مُنهزمًا، وهو على بغلته، فقال: لقد رأى ابن الأكوع فَزَعًا".

ويَحْتَمِل أن يكون السائل أخذ التعميم من قوله تعالى: {ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} [التوبة: 25]، فَبَيَّن له أنه من العموم الذي أُريد به الخصوص. انتهى

(1)

.

(وَلَكِنَّهُ) الضمير للشأن، وهو الضمير الذي تفسّره الجملة بعده، وهي قوله:(خَرَجَ شُبَّانُ أَصْحَابِهِ) - بضم الشين المعجمة، وتشديد الموحّدة -: جمع شابّ، يقال: شبّ الصبيّ يَشِبّ، من باب ضرب شَبَابًا، وشَبِيبةً، وهو شابٌّ، وذلك سنّ الكُهُولة، قاله الفيّوميّ

(2)

. (وَأَخِفَّاؤُهُمْ) بفتح الهمزة، جمع خفيف، وهم المسارعون المستعجلون، قال النوويّ رحمه الله: ووقع هذا الحرف في رواية إبراهيم الحربيّ، والهرويّ، وغيرهم:"جُفَاء" بجيم مضمومة، وبالمدّ، وفسّرهم الْمُهْدويّ بالسُّرَّاع، قالوا: تشبيهًا بجُفَاء السيل، وهو غثاؤه، وقال غيره: إنما أراد أخلاط الناس، وضُعفاءهم، ممن لم يقصد القتال، بل الغنيمة، وفي قلبه مرضٌ، شبّههم بغُثاء السيل، وهو ما احتمله السيل، قاله

(1)

"الفتح" 9/ 425 - 426، كتاب "المغازي" رقم (4315).

(2)

"المصباح المنير" 1/ 302.

ص: 99

القرطبيّ رحمه الله

(1)

.

وقال القاضي عياض رحمه الله: إن صحّت هذه الرواية، فإنما معناها ما تقدّم من خروج مَن خرج معهم، من أهل مكة، ومَن انضاف إليهم، ممن لم يستعدّ للقتال، وإنما خرج للغنيمة، من النساء، والصبيان، والضعفاء، ومَن في قلبه مرض من مُسْلِمة الفتح، فهؤلاء شبه جُفاء السيل الذي لا يُنتفع به، ويرميه بجانبيه، وهو الغثاء أيضًا. انتهى

(2)

.

(حُسَّرًا)؛ أي: بغير دُروع، وهو - بضم الحاء، وتشديد السين المفتوحة -: جمع حاسر، وهو من لا درع عليه، ولا شيء يتّقي به النبي، وقد فسّره بقوله.:(لَيْسَ عَلَيْهِمْ سِلَاحٌ، أَوْ كَثِيرُ سِلَاحٍ)"أو" هنا للشكّ من الراوي؛ أي: أو قال: ليس عليهم كثير سلاح؛ يعني: أن أسلحتهم التي معهم قليلة، لا تمكّنهم من مواجهة هؤلاء الكفّار، وقوله:(فَلَقُوا) بضم القاف، أصله: لَقِيُوا بكسرها، بوزن عَلِمُوا، فنُقلت ضمة الياء إلى اللام بعد سلب حركتها، ثم حُذفت لالتقاء الساكنين، فصار: لَقُوا. (قَوْمًا رُمَاةً) - بضمّ الراء: جمع رام، (لَا يَكَادُ يَسْقُطُ لَهُمْ سَهْمٌ)؛ يعني: أنهم لا يُخطئون في رميهم، ولا يقع سهم على الأرض، وإنما يقع على من أرادوه من عدوّهم، وقوله:(جَمْعَ هَوَازِنَ) بالرفع خبر لمحذوف؛ أي: هم جمع هوازن، وبالنصب بدلًا من "قومًا"، أو مفعولًا لفعل مقدّر: أعني جمع هوازن، وهي: قبيلة كبيرة من العرب، فيها عدّة بطون، يُنسبون إلى هوازن بن منصور بن عكرمة بن خَصَفَة - بخاء معجمة، ثم صاد مهملة، ثم فاء مفتوحات - ابن قيس بن عَيلان بن إلياس بن مضر

(3)

.

(وَبَنِي نَصْرٍ) - بفتح النون، وإسكان الصاد المهملة، آخره راء -: قبيلة من ولد نصر بن معاوية بن بكر بن هَوَازن، وهوازن من قيس عيلان، قاله في "اللباب"

(4)

.

(فَرَشَقُوهُمْ رَشْقًا) - بفتح الراء، وسكون الشين المعجمة، آخره قاف -:

(1)

"المفهم" 3/ 618.

(2)

"المفهم" 6/ 130.

(3)

"الفتح" 9/ 426، كتاب "المغازي" رقم (4314).

(4)

"اللباب في تهذيب الأنساب" 3/ 311.

ص: 100

مصدر، رَشَقَ: إذا رمى، وأما الرِّشْق بالكسر، فهو اسم للسهام التي تَرميها الجماعة دَفعةً واحدةً، قال النوويّ رحمه الله: وضَبَط القاضي الرواية هنا بالكسر، وضبطه غيره بالفتح، كما ذكرنا أوّلًا، وهو الأجود، وإن كانا جَيِّدين، وأما قوله في الرواية التي بعد هذه:"فَرَموه بِرِشْق، من نبل"، فهو بالكسر، لا غير، والله أعلم، قال أهل اللغة: يقال: رَشَقَه يَرْشُقُه، من باب نصر، ثلاثيًّا، وأرشقه، رُباعيًّا، والثلاثيّ أشهر، وأفصح. انتهى

(1)

.

وقال الفيّوميّ رحمه الله: رَشَقْتُهُ بالسهم رَشْقًا، من باب قتل، وأرشقته بالألف لغةٌ: رميته به، والرِّشْقُ بالكسر: الوجهُ من الرمي، إذا رَمَى القومُ بأجمعهم جميعَ السهام، وحينئذ يقال: رَمَى القومُ رِشْقًا، وقال ابن دُريد: الرِّشْقُ: السهام نفسها التي تُرمَى، والجمع: أَرْشَاقٌ، مثلُ حِمْلٍ وأحمال، وربّما قيل: رَشَقته بالقول، وأرشقته. انتهى

(2)

.

(مَا يَكَادُونَ يُخْطِئُونَ)؛ أي: رميهم، (فَأَقْبَلُوا هُنَاكَ)؛ أي: في ذلك الموضع الذي أصابهم الرشق، وفي بعض النسخ:"هنالك"، (إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم)؛ أي: منهزمين، ومتوجّهين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد بُيّن في هذه الرواية سبب انهزامهم، وهو كثرة عدد عدوّهم، وشدّة بأسهم، بحيث لا يستطيعون المدافعة عنهم، وقال في "الفتح": والعذر لمن انهزم من غير المؤلفة أن العدوّ كانوا ضُعفهم في العدد، وأكثر من ذلك، وكذلك بيّن السبب في رواية شعبة الثالثة:"وكانت هوازن يومئذ رُماةً، وإنا لَمّا حملنا عليهم انكشفوا، فأكببنا على الغنائم، فاستقبلونا بالسهام"، وكذلك بيّن في رواية زكريّا التالية:"وهم قومٌ رُماةٌ، فرموهم برِشْقٍ من نَبْلٍ، كأنها رِجْل من جراد، فانكشفوا".

وذكر ابن إسحاق من حديث جابر وغيره في سبب انكشافهم أمرًا آخر، وهو أن مالك بن عوف سبق بهم إلى حنين، فأعَدُّوا، وتَهَيَّؤا في مضايق الوادي، وأقبل النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه حتى انحطّ بهم الوادي في عَماية الصبح، فثارت في وجوههم الخيل، فشَدّت عليهم، وانكفأ الناس منهزمين.

وفي حديث أنس رضي الله عنه الآتي عند مسلم وغيره، من رواية سليمان التيميّ،

(1)

"شرح النوويّ" 12/ 118.

(2)

"المصباح المنير" 1/ 228.

ص: 101

عن السُّمَيط السّدوسيّ، عن أنس قال:"افتتحنا مكة، ثم إنا غزونا حُنينًا، قال: فجاء المشركون بأحسن صفوف رأيت، صفّوا الخيل، ثم المقاتلة، ثم النساء من وراء ذلك، ثم الغنم، ثم النَّعم، قال: ونحن بشر كثير، وعلى ميمنة خيلنا خالد بن الوليد، فجعلت خيلنا تلوذ خلف ظهورنا، فلم نلبث أن انكشفت خيلنا، وفرَّت الأعراب، ومن نَعْلَم من الناس".

وفي رواية للبخاريّ من رواية هشام بن زيد، عن أنس: قال: "أقبلت هوازن، وغطفان بذراريهم، ونَعَمهم، ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة آلاف، ومعه الطُّلَقاء، قال: فأدبروا عنه حتى بَقِي وحده

" الحديث.

قال الحافظ رحمه الله: ويُجْمَع بين قوله: "حتى بَقِي وحده"، وبين الأخبار الدالة على أنه بقي معه جماعة، بأن المراد: بقي وحده متقدِّمًا، مقبلًا على العدوّ، والذين ثبتوا معه، كانوا وراءه، أو الوحدة بالنسبة لمباشرة القتال، وأبو سفيان بن الحارث وغيره كانوا يخدُمونه في إمساك البغلة، ونحو ذلك، ووقع في رواية أبي نعيم في "الدلائل" تفصيل المائة: بضعة وثلاثون من المهاجرين، والبقية من الأنصار، ومن النساء أم سليم، وأم حارثة. انتهى

(1)

.

وقوله: (وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى بَغْلَتِهِ الْبَيْضَاءِ) جملة في محلّ نصب على الحال، وكذا قوله:(وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ) بن هاشم، وهو ابن عم النبيّ صلى الله عليه وسلم، وكان فيمن ثبت معه صلى الله عليه وسلم، وتقدّمت ترجمته قريبًا.

وعند ابن أبي شيبة من مرسل الحكم بن عتيبة، قال: "لَمّا فَرّ الناس يوم حنين، جعل النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول:

أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبْ

أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ

فلم يبق معه إلا أربعة نفر، ثلاثة من بني هاشم، ورجل من غيرهم: عليّ، والعباس، بين يديه، وأبو سفيان بن الحارث آخذ بالعنان، وابن مسعود من الجانب الأيسر، قال: وليس يُقبل نحوه أحد إلا قُتل.

ورَوَى الترمذيّ من حديث ابن عمر رضي الله عنه بإسناد حسن قال: "لقد رأيتنا يوم حنين، وإن الناس لمولِّين، وما مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة رجل"، قال

(1)

"الفتح" 9/ 426 - 427 رقم (4314).

ص: 102

الحافظ: وهذا أكثر ما وقفت عليه من عدد مَن ثبت يوم حنين.

ورَوَى أحمد، والحاكم، من حديث عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود، عن أبيه، قال:"كنت مع النبيّ صلى الله عليه وسلم يوم حنين، فوَلَّى عنه الناس، وثبت معه ثمانون رجلًا، من المهاجرين، والأنصار، فكنا على أقدامنا، ولم نُوَلِّهم الدُّبُر، وهم الذين أنزل الله عليهم السكينة"، وهذا لا يخالف حديث ابن عمر، فإنه نفى أن يكونوا مائة، وابن مسعود أثبت أنهم كانوا ثمانين.

وأما ما ذكره النوويّ في "شرح مسلم" أنه ثبت معه اثنا عشر رجلًا، فكأنه أخذه مما ذكره ابن إسحاق في حديثه أنه ثبت معه: العباس، وابنه الفضل، وعليّ، وأبو سفيان بن الحارث، وأخوه ربيعة، وأسامة بن زيد، وأخوه من أمه أيمن ابن أم أيمن، ومن المهاجرين أبو بكر، وعمر، فهؤلاء تسعة، وقد تقدم ذِكْرُ ابن مسعود في مرسل الحاكم، فهؤلاء عشرة، ووقع في شِعر العباس بن عبد المطلب أن الذين ثبتوا كانوا عشرة فقط، وذلك قوله:

نَصَرْنَا رَسُولَ اللهِ فِي الْحَرْبِ تِسْعَةً

وَقَدْ فَرَّ مَنْ قَدْ فَرَّ عَنْهُ فَأَقْشَعُوا

وَعَاشِرُنَا وَافَى الْحِمَامَ بِنَفْسِهِ

لِمَا مَسَّهُ فِي اللهِ لَا يَتَوَجَّعُ

ولعل هذا هو الثبت، ومن زاد على ذلك يكون عَجِلَ في الرجوع، فعُدّ فيمن لم ينهزم.

وممن ذكر الزبير بن بكار وغيره أنه ثبت يوم حنين أيضًا: جعفر بن أبي سفيان بن الحارث، وقثم بن العباس، وعتبة، ومُعَتِّب ابنا أبي لهب، وعبد الله بن الزبير بن عبد المطلب، ونوفل بن الحارث بن عبد المطلب، وعَقِيل بن أبي طالب، وشيبة بن عثمان الْحَجَبيّ، فقد ثبت عنه أنه لما رأى الناس قد انهزموا استدبر النبيّ صلى الله عليه وسلم ليقتله، فأقبل عليه، فضربه في صدره، وقال له: قاتل الكفار، فقاتلهم حتى انهزموا.

قال الطبريّ: الانهزام المنهيّ عنه هو ما وقع على غير نية العود، وأما الاستطراد للكثرة، فهو كالتحيُّز إلى فئة. انتهى

(1)

.

(يَقُودُ بِهِ) يقال: قَاد الرجلُ الفرسَ قَوْدًا، من باب قال، وقِيَادًا بالكسر،

(1)

"الفتح" 9/ 427 - 428.

ص: 103

وقِيَادَةً، قال الخليل: القَوْدُ: أن يكون الرجل أَمَامَ الدابة، آخذًا بقِيَادها، والسَّوْق: أن يكون خلفها، فإن قَادَهَا لنفسه قيل: اقْتَادَهَا، ويُطلق على الخيل التي تُقَادُ بمقَاوِدِهَا، ولا تُركَب، قاله الأزهريّ، والمِقْوَدُ بالكسر: الحبلُ يُقادُ به، والجمع: مَقَاوِدُ، والقِيَادُ: مثل المِقْوَد، ومثله لِحَاف ومِلْحَفٌ، وإِزارٌ، ومِئْزرٌ. انتهى

(1)

.

وفي رواية زكريّا: "وأبو سفيان بن الحارث يقود به بغلته"، وفي رواية شعبة:"وإن أبا سفيان بن الحارث آخذ بلجامها"، وفي رواية للبخاريّ:"وأبو سفيان بن الحارث آخذ برأس بغلته البيضاء".

(فَنَزَلَ)؛ أي: بغلته، (فَاسْتَنْصَرَ)؛ أي: دعا الله تعالى بالنصر، فقال:"اللهم أنزل نصرك"، وقع مصرَّحًا به في رواية زكريّا التالية.

(وَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبْ) قال النوويّ رحمه الله: معناه: أنا النبيّ حقًّا، فلا أفِرّ، ولا أزول، وفي هذا دليل على جواز قول الإنسان في الحرب: أنا فلان، وأنا ابن فلان، ومثله قول سلمة رضي الله عنه: أنا ابن الأكوع، وقول عليّ رضي الله عنه: أنا الذي سَمَّتني أمي حَيْدَرَهْ، وأشباه ذلك، وقد صَرَّح بجوازه علماء السلف، وفيه حديث صحيح، قالوا: وإنما يُكره قول ذلك على وجه الافتخار، كفعل الجاهلية، والله أعلم. انتهى

(2)

.

وقال في "الفتح": فيه إشارة إلى أن صفة النبوة يستحيل معها الكذب، فكأنه قال: أنا النبيّ، والنبيّ لا يكذب، فلست بكاذب فيما أقول، حتى أنهزم، وأنا متيقن بأن الذي وعدني الله به من النصر حقّ، فلا يجوز عليّ الفرار، وقيل: معنى: "لا كذب"؛ أي: أنا النبيّ حقًّا، لا كَذِبَ في ذلك. انتهى.

[تنبيه]: قوله: "أنا النبي لا كذب

إلخ" قال ابن التين: كان بعض أهل العلم يقوله بفتح الباء، من قوله: "لا كذب"؛ لِيُخرجه عن الوزن.

وقد أجيب عن مقالته صلى الله عليه وسلم هذا الرجز بأجوبة:

[أحدها]: أنه نَظْم غيره، وأنه كان فيه:

أَنْتَ النَّبِيُّ لَا كَذِبْ

أَنْتَ ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ

(1)

"المصباح المنير" 2/ 518.

(2)

"شرح النوويّ" 12/ 120.

ص: 104

فذكره بلفظ "أنا" في الموضعين.

[ثانيها]: أن هذا رَجَز، وليس من أقسام الشعر، وهذا مردود، فإن الرجز من البحور التي أسسها الخليل، ومشى عليها مَنْ بعده، فتنبّه.

[ثالثها]: أنه لا يكون شعرًا حتى يتم قطعةً، وهذه كلمات يسيرة، ولا تسمى شعرًا.

[رابعها]: أنه خرج موزونًا، ولم يَقصِد به الشعر، وهذا أعدل الأجوبة

(1)

.

وقال القاضي عياض: قال المازريّ: أنكر بعض الناس كون الرجز شعرًا؛ لوقوعه من النبيّ صلى الله عليه وسلم، مع قوله تعالى:{وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} [يس: 69]، وهذا مذهب الأخفش، واحتَجَّ به على فساد مذهب الخليل في أنه شعر، وجواب الجليل عن هذا أن الشعر هو ما قُصِد إليه، واعتَمَد الإنسان أن يوقعه موزونًا مُقَفًّى يقصد إلى القافية والرويّ، وقد يقع في ألفاظ العامّة كثير من الألفاظ الموزونة، ولا يقول أحد: إنها شعر، ولا صاحبها شاعر، فإن الجزار يقول في ندائه على اللحم:"لحم الخروف بزبد أمه"، ولا يظنّ بالجزار أنه شاعر، قصد إلى عمل الشعر.

وهكذا الجواب عما وقع في القرآن؛ كقوله تعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92]، وقوله تعالى:{نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ} [الصف: 13]، ولا شك أن هذا لا يسميه أحد من العرب شعرًا؛ لأنه لم تقصد تقفيته، وجعله شعرًا، قال: وقد غَفَل بعض الناس عن هذا القول، فأوقعه ذلك في أن قال الرواية: أنا النبي لا كَذِبَ، بفتح الباء حرصًا منه على أن يَفْسُد الرويّ، فيُستغنى عن الاعتذار، وإنما الرواية بإسكان الباء. انتهى كلام القاضي عياض

(2)

.

قال النوويّ: وقد قال الإمام أبو القاسم عليّ بن أبي جعفر بن عليّ السعدي الصقليّ المعروف بابن القطاع في كتابه "الشافي في علم القوافي": قد

(1)

"الفتح" 9/ 429.

(2)

"إكمال المعلم" 6/ 131.

ص: 105

رأى قوم منهم الأخفش، وهو شيخ هذه الصناعة بعد الخليل، أن مشطور الرجز، ومنهوكه ليس بشعر؛ كقول النبيّ صلى الله عليه وسلم:

اللهُ مَوْلَانَا وَلَا مَوْلَى لَكُمْ

وقوله صلى الله عليه وسلم:

هَلْ أَنْتِ إِلَّا إِصْبَعٌ دَمِيتِ

وَفِي سَبِيلِ اللهِ مَا لَقِيتِ

وقوله صلى الله عليه وسلم:

أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبْ

أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ

وأشباه هذا. قال ابن القطاع: وهذا الذي زعمه الأخفش وغيره غَلَطٌ بَيِّنٌ، وذلك لأن الشاعر إنما سُمّي شاعرًا؛ لوجوه: منها أنه شَعَر القول، وقصده، وأراده، واهتدى إليه، وأتى به كلامًا موزونًا على طريقة العرب، مُقَفًّى، فإن خلا من هذه الأوصاف، أو بعضها لم يكن شعرًا، ولا يكون قائله شاعرًا، بدليل أنه لو قال كلامًا موزوًا على طريقة العرب، وقصد الشعر، وأراده ولم يُقَفِّه لم يُسَمَّ ذلك الكلام شعرًا، ولا قائله شاعرًا، بإجماع العلماء، والشعراء، وكذا لو قَفّاه، وقصد به الشعر، ولكن لم يأت به موزونًا لم يكن شعرًا، وكذا لو أَتَى به موزونًا مقفًّى لكن لم يقصد به الشعر، لا يكون شعرًا، ويدلّ عليه أن كثيرًا من الناس يأتون بكلام موزون مقفى، غير أنهم ما قصدوه، ولا أرادوه، لا يسمى شعرًا، وإذا تُفُقِّد ذلك وُجد كثيرًا في كلام الناس، كما قال بعض السُّؤَّال: اخْتِمُوا صَلَاتَكُمْ بِالدُّعَاءِ وَالصَّدَقَة، وأمثال هذا كثيرة فدلّ على أن الكلام الموزون لا يكون شعرًا إلا بالشروط المذكورة، وهي القصد وغيره مما سبق، والنبيّ صلى الله عليه وسلم لم يقصد بكلامه ذلك الشعر، ولا أراده، فلا يُعَدّ شعرًا، وإن كان موزونًا. انتهى

(1)

، وهو تحقيق نفيس جدًّا، والله أعلم.

وقال القرطبيّ رحمه الله: لا يقال: كيف يصح أن ينسب هذا الشعر للنبيّ صلى الله عليه وسلم مع قوله تعالى: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} [يس: 69]؟ لأنا نجيب عن ذلك بأوجه:

(1)

"شرح النوويّ" 12/ 119.

ص: 106

[أحدها]: أن هذا قَصَد به السجع لا الشعر، فليس بشعر، قيل: قد قال الأخفش: إن هذا رجز، والرجز ليس من الشعر.

[والثاني]: أنه صلى الله عليه وسلم لم يقصده نظمًا ووزنًا فيكونَ شعرًا، فقد يأتي في الكلام والقرآن ما يتّزن بوزن الشعر وليس بشعر؛ كقوله تعالى:{لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92]، وقوله:{نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ} [الصف: 13]، وكثيرًا ما يقع للعوام في كلامهم الكلام المقفى الموزون، وليس بشعر، ولا يسمى قائله شاعرًا؛ لأنه لم يقصده، ولا شعر به، والشعر إنما سمي بذلك؛ لأن قائله يشعر به، ويقصده نظمًا، ووزنًا، ورويًا، وقافية، ومعنى.

[والثالث]: على تسليم أن هذا شعر فلا يلزم منه أن يكون النبيّ صلى الله عليه وسلم عالِمًا بالشعر، ولا شاعرًا؛ فإن التمثّل بالبيت الندر، وإصابة القافيتين من الرجز وغيره؛ لا يوجب أن يكون قائلها عالمًا بالشعر، ولا يسمى شاعرًا باتفاق العقلاء، وأما الذي نفى الله عن نبيه صلى الله عليه وسلم، فهو العلم بالشعر، وأصنافه، وأعاريضه، وقوافيه، والاتصاف بقوله، ولم يكن موصوفًا بشيء من ذلك بالاتفاق، ألا ترى أن قريشًا تراوضت فيما يقولون للعرب فيه إذا قدموا عليهم الموسم، فقال بعضهم: نقول: إنه شاعر، فقال أهل الفطنة منهم: والله لتكذبنكم العرب، فإنهم يعرفون أصناف الشعر، فوالله ما يشبه شيئًا منها، وما قوله بشعر، وقال أنيس أخو أبي ذر: لقد وضعت قوله على أقراء الشعر فلم يلتئم أنه شعر، وكان أنيس من أشعر العرب، وهذا الوجه هو المعتمد في الانفصال، والله تعالى أعلم. انتهى

(1)

.

(أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ") إنما انتسب صلى الله عليه وسلم إلى عبد المطلب دون أبيه عبد الله، فكأنها لشهرة عبد المطلب بين الناس؛ لِمَا رُزق من نباهة الذكر، وطول العمر، بخلاف عبد الله، فإنه مات شابًّا، ولهذا كان كثير من العرب يدعونه ابن عبد المطلب، كما قال ضمام بن ثعلبة لَمّا قَدِم:"أَيُّكُم ابن عبد المطلب؟ "، وقيل: لأنه كان اشتهر بين الناس أنه يخرج من ذرية عبد المطلب رجل يدعو إلى الله، ويهدي الله الخلقَ على يديه، ويكون خاتم

(1)

"المفهم" 3/ 619 - 625.

ص: 107

الأنبياء، فانتسب إليه؛ ليتذكر ذلك من كان يعرفه، وقد اشتهر ذلك بينهم، وذكره سيف بن ذي يزن قديمًا لعبد المطلب قبل أن يتزوج عبد الله آمنة، وأراد النبيّ صلى الله عليه وسلم تنبيه أصحابه بأنه لا بُدّ من ظهوره، وأن العاقبة له؛ لِتَقْوَى قُلوبُهُم إذا عرفوا أنه ثابتٌ، غير منهزم. انتهى

(1)

.

وقال النوويّ رحمه الله: [فإن قيل]: كيف قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "أنا ابن عبد المطلب"، فانتسب إلى جده دون أبيه، وافتخر بذلك، مع أن الافتخار في حقّ أكثر الناس من عمل الجاهلية؟.

[فالجواب]: أنه صلى الله عليه وسلم كانت شهرته بجده أكثر؛ لأن أباه عبد الله تُوُفّي شابًّا في حياة أبيه عبد المطلب، قبل اشتهار عبد الله، وكان عبد المطلب مشهورًا شهرة ظاهرة شائعةً، وكان سيد أهل مكة، وكان كثيرٌ من الناس يدعون النبيّ صلى الله عليه وسلم ابنَ عبد المطلب، ينسبونه إلى جدّه؛ لشهرته، ومنه حديث ضمام بن ثعلبة في قوله:"أيكم ابن عبد المطلب؟ "، وقد كان مشتهرًا عندهم أن عبد المطلب بَشَّر بالنبيّ صلى الله عليه وسلم، وأنه سيظهر، وسيكون شأنه عظيمًا، وكان قد أخبره بذلك سيف بن ذي يزن، وقيل: إن عبد المطلب رأى رؤيا تدلّ على ظهور النبيّ صلى الله عليه وسلم، وكان ذلك مشهورًا عندهم، فأراد النبيّ صلى الله عليه وسلم تذكيرهم بذلك، وتنبيههم بأنه صلى الله عليه وسلم لا بُدّ من ظهوره على الأعداء وأن العاقبة له؛ لتَقْوَى نفوسهم، وأعلمهم أيضًا بأنه ثابت ملازم للحرب، لم يُوَلِّ مع من وَلَّى، وعرّفهم موضعه، ليرجع إليه الراجعون، والله أعلم. انتهى

(2)

.

(ثُمَّ صَفَّهُمْ)؛ أي: ثمّ بعد أن نزل عن بغلته، واستنصر ربّه صفّ أصحابه؛ أي: جعلهم مصطفّين للقتال، فقاتلوا الكفّار، فهزمهم الله تعالى، كما أخبر الله عز وجل بذلك حيث قال:{لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25) ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (26)} [التوبة: 25، 26]، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1)

"الفتح" 9/ 429.

(2)

"شرح النوويّ" 12/ 119 - 120.

ص: 108

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث البراء بن عازب رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنف) هنا [28/ 4606 و 4607 و 4608 و 4609](1776)، و (البخاريّ) في "الجهاد"(2864 و 2874 و 2930 و 3042) و"المغازي"(4315 و 4316 و 4317)، و (الترمذيّ) في "الجهاد"(1688)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(5/ 188 و 191)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(707)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(14/ 521 و 522 و 12/ 507)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 280 و 281 و 289 و 304)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4770)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(1/ 167)، و (الطبريّ) في "تفسيره"(16580 و 16581)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(3/ 271)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 280 و 281 و 282)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(3/ 271)، و (ابن الجعد) في "مسنده"(1/ 364)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(7/ 43 و 9/ 154 و 155) و"دلائل النبوّة"(1/ 177 و 5/ 133)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(2706) و"تفسيره"(2/ 278)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): أن فيه حسنَ الأدب في الخطاب، والإرشاد إلى حسن السؤال بحسن الجواب، وذم الإعجاب.

2 -

(ومنها): جواز الانتساب إلى الآباء، ولو ماتوا في الجاهلية، والنهي عن ذلك محمول على ما هو خارج الحرب، ومثله الرخصة في الخيلاء في الحرب، دون غيرها.

3 -

(ومنها): جواز التعرّض إلى الهلاك في سبيل الله، ولا يقال: كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم متيقنًا للنصر لوعد الله تعالى له بذلك، وهو حقّ؛ لأن أبا سفيان بن الحارث، قد ثبت معه، آخذًا بلجام بغلته، وليس هو في اليقين مثل النبيّ صلى الله عليه وسلم، وكذلك العبّاس، ومن ثبت معه صلى الله عليه وسلم في تلك الحالة، وقد استُشهد في تلك الحالة أيمن ابن أم أيمن، كما تقدمت الإشارة إليه في شعر العباس.

4 -

(ومنها): أن ركوب البغلة إشارة إلى مزيد الثبات؛ لأن ركوب

ص: 109

الفحولة مَظِنّة الاستعداد للفرار والتولّي، وإذا كان رأس الجيش قد وَطَّن نفسه على عدم الفرار، وأخذ بأسباب ذلك كان ذلك أَدْعَى لأتباعه على الثبات.

5 -

(ومنها): أن فيه تشهيرَ الرئيس نفسه في الحرب؛ مبالغةً في الشجاعة، وعدم المبالاة بالعدوّ، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4607]

(

) - حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ جَنَابٍ الْمِصِّيصِيُّ، حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، عَنْ زَكَرِيَّاءَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى الْبَرَاء، فَقَالَ: "أَكُنْتُمْ وَلَّيْتُمْ يَوْمَ حُنَيْنٍ يَا أَبَا عُمَارَةَ؟ فَقَالَ: أَشْهَدُ عَلَى نَبِيِّ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَا وَلَّى، وَلَكِنَّهُ انْطَلَقَ أَخِفَّاءُ مِنَ النَّاس، وَحُسَّرٌ إِلَى هَذَا الْحَيِّ، مِنْ هَوَازِنَ، وَهُمْ قَوْمٌ رُمَاةٌ، فَرَمَوْهُمْ بِرِشْقٍ مِنْ نَبْلٍ، كَأَنَّهَا رِجْلٌ مِنْ جَرَادٍ، فَانْكَشَفُوا، فَأَقبَلَ الْقَوْمُ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ يَقُودُ بِهِ بَغْلَتَهُ، فَنَزَلَ، وَدَعَا، وَاسْتَنْصَرَ، وَهُوَ يَقُولُ:

"أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبْ

أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ

اللَّهُمَّ نَزِّلْ

(1)

نَصْرَكَ"، قَالَ الْبَرَاءُ: كُنَّا وَاللهِ إِذَا احْمَرَّ الْبَأْسُ نَتَّقِي بِه، وَإِنَّ الشُّجَاعَ مِنَّا لَلَّذِي يُحَاذِي بِهِ؛ يَعْنِي: النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أَحْمَدُ بْنُ جَنَابٍ

(2)

الْمِصِّيصِيُّ)

(3)

هو: أحمد بن جَنَاب بن المغيرة الْمِصِّيصيّ، أبو الوليد الْحَدَثِيّ، يقال: إنه بغداديُّ الأصل، صدوقٌ [10].

روى عن عيسى بن يونس، والحكم بن ظُهير، وغيرهما.

وروى عنه مسلم، وأبو داود، والنسائيّ بواسطة، ويعقوب بن شيبة، وصاعقة، وأبو زرعة، والدَّراورديّ، وكتب عنه أحمد بن حنبل، وابنه عبد الله، وآخرون.

(1)

وفي نسخة: "أنزِل".

(2)

بفتح الجيم، وتخفيف النون.

(3)

بكسر الميم، وتشديد الصاد الأولى، هذا هو المشهور، ويقال أيضًا: بفتح الميم، وتخفيف الصاد، قاله النوويّ 12/ 120. وبالضبط الأول ضبطه ابن الأثير، وقال: نسبة إلى الْمِصِّيصة، مدينة على ساحل البحر. انتهى. "اللباب في تهذيب الأنساب" 3/ 221.

ص: 110

قال صالح جَزَرَة: صدوقٌ، وقال الحاكم: ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال ابن أبي حاتم: روى عنه أبي، وقال: هو صدوق، وقال ابن أبي عاصم: مات سنة (230).

انفرد به المصنّف، وأبو داود، والنسائيّ، وله في هذا الكتاب أربعة أحاديث فقط، برقم (1776) و (1783) و (1900) و (2448).

2 -

(عِيسَى بْنُ يُونُسَ) بن أبي إسحاق السَّبِيعيّ الكوفيّ، ثقةٌ مأمون [8](ت 187)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 28.

3 -

(زكَرِيَّاءُ) بن أبي زائدة خالد، أو هُبيرة بن ميمون بن فَيْروز الْهَمْدانيّ الْوَادعيّ، أبو يحيى الكوفيّ، ثقةٌ يدلّس، وسماعه من أبي إسحاق بآخره [6](ت 7 أو 8 أو 149)(ع) تقدم في "الإيمان" 83/ 449.

والباقيان ذُكرا قبله.

وقوله: (فَرَمَوْهُمْ بِرِشْقٍ مِنْ نَبْلٍ) بكسر الراء: اسم للسهام التي ترميها الجماعة دفعة واحدة.

وقوله: (كَأَنَّهَا رِجْلٌ مِنْ جَرَادٍ)؛ أي: كأنها قطعة من جراد، وكأنها شُبّهت برجل الحيوان؛ لكونها قطعة منه، قاله النوويّ

(1)

.

وقوله: (فَانْكَشَفُوا)؛ أي: انهزموا، وفارقوا مواضعهم، وكشفوها.

وقوله: (فنَزَلَ)؛ أي: نزل النبيّ صلى الله عليه وسلم عن بغلته إلى الأرض، وَدَعَا الله سبحانه وتعالى، وَاسْتَنْصَرَه؛ أي: طلب منه النصر.

وقوله: (اللَّهُمَّ نَزِّلْ نَصْرَكَ) بتشديد الزاي المكسورة، وفي بعض النسخ:"أنزل".

وقوله: (كُنَّا وَاللهِ إِذَا احْمَرَّ الْبَأْسُ) قال النوويّ رحمه الله: احمرار البأس: كناية عن شدّة الحرب، واستعير ذلك لحمرة الدماء الحاصلة فيها في العادة، أو لاستعار الحرب، واشتعالها، كاحمرار الجمر، كما في الرواية السابقة:"حَمِيَ الْوَطِيسُ"، وفيه بيان شجاعته صلى الله عليه وسلم، وعظيم وُثوقه بالله تعالى. انتهى

(2)

.

وقوله: (نَتَّقِي بِهِ)؛ أي: نتستّر بالنبيّ صلى الله عليه وسلم، ونتّخذه وِقايةً، وهذا فيه كمال

(1)

"شرح النوويّ" 12/ 120.

(2)

"شرح النوويّ" 12/ 121.

ص: 111

شجاعته صلى الله عليه وسلم، وأن من رآه امتلأ قلبه شجاعة، استمدادًا منه صلى الله عليه وسلم، ولذلك قال البراء رضي الله عنه:"وَإِنَّ الشُّجَاعَ مِنَّا لَلَّذِي يُحَاذِي بِهِ".

وقوله: (وَإِنَّ الشُّجَاعَ) مثلّث الشين، يقال: شَجُعَ بالضمّ شَجَاعَةً: قَوِيَ قلبه، واستهان بالحروب جَرَاءةً وإقدامًا، فهو شَجِيعٌ، وشُجاعٌ، وبنو عُقَيل تفتح الشين؛ حملًا على نقيضه، وهو جَبَانٌ، وبعضهم يكسر؛ للتخفيف، قاله الفيّوميّ

(1)

.

وقوله: (لَلَّذِي يُحَاذِي بِهِ) اللام لام الابتداء؛ أي: الشخص الذي يوازيه، ويقابله.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4608]

(

) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ - وَاللَّفْظُ لِابْنِ الْمُثَنَّى - قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي إسْحَاقَ، قَالَ: سَمِعْتُ الْبَرَاءَ، وَسَأَلَهُ رَجُلٌ مِنْ قَيْسٍ: أَفَرَرْتُمْ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ حُنَيْنٍ؟ فَقَالَ الْبَرَاءُ: وَلَكِنْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَفِرَّ، وَكَانَتْ هَوَازِنُ يَوْمَئِذٍ رُمَاةً، وَإِنَّا لَمَّا حَمَلْنَا عَلَيْهِمُ انْكَشَفُوا، فَأَكْبَبْنَا عَلَى الْغَنَائِم، فَاسْتَقْبَلُونَا بِالسِّهَام، وَلَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى بَغْلَتِهِ الْبَيْضَاء، وَإِنَّ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ الْحَارِثِ آخِذٌ بِلِجَامِهَا، وَهُوَ يَقُولُ:

"أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبْ

أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ")

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) أبو موسى الْعَنَزيّ البصريّ المعروف بالزَّمِن، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 252)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.

2 -

(ابْنُ بَشَّارٍ) محمد المعروف ببندار، أبو بكر البصريّ، ثقةٌ [10](ت 252)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.

(1)

"المصباح المنير" 1/ 305.

ص: 112

3 -

(مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ) المعروف بغُندر، أبو عبد الله البصريّ، ثقةٌ صحيح الكتاب، [9](ت 193)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.

4 -

(شُعْبَةُ) بن الحجاج الإمام الحافظ الحجة الثبت الناقد، أو بسطام الواسطيّ، ثم البصريّ [7](ت 160)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 381.

والباقيان ذُكرا قبله.

وقوله: (وَلَكِنْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَفِرَّ) تقدّم أنه يجوز في رائه الكسر على أصل التخلّص من التقاء الساكنين، والفتح على التخفيف، قال القرطبيّ رحمه الله: هذا هو المعلوم من حاله صلى الله عليه وسلم، وحال الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - من إقدامهم، وشجاعتهم، وثقتهم بوعد الله تعالى، ورغبتهم في الشهادة، وفي لقاء الله تعالى، ولم يثبت قط عن واحد منهم: أنه فرَّ، أو انهزم، ومن قال ذلك عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: فرَّ، أو انهزم قُتِل، ولم يُستَتَبْ؛ لأنه صار بمنزلة من قال: إنه صلى الله عليه وسلم كان أسود، أو أعجميًا، فأنكر ما عُلِم من وصفه قطعًا، وكَذّب به، وذلك كفر، ولأنه قد أضاف إليه نقصًا وعيبًا، وقد حكى أصحابنا الإجماع على قتل من أضاف إليه صلى الله عليه وسلم نقصًا أو عيبًا، وقيل: يستتاب، فإن تاب، وإلا قُتِلَ. انتهى

(1)

.

وقوله: (وَإِنَّا لَمَّا حَمَلْنَا عَلَيْهِمُ)؛ أي: لمّا هجمناهم، وواجهناهم بشدّة القتال.

وقوله: (فَأَكْبَبْنَا عَلَى الْغَنَائِمِ)؛ أي: أقبلنا عليها، ولازمنها، يقال: أكبّ عليه: أقبل، ولزِمَ، كانكبّ، وكَبّه: قلبه، وصَرَعه، كأكبّه، وكَبْكَبه، فأكبّ، وهو لازمٌ متعدّ، قاله المجد رحمه الله

(2)

.

وقال الفيّوميّ رحمه الله: كَبَبْتُ الإناءَ كَبًّا، من باب قَتَلَ: قلبته على رأسه، وكَبَبْتُ زيدًا كَبًّا أيضًا: ألقيته على وجهه، فأكَبَّ هو بالألف، وهو من النوادر التي تَعَدَّى ثلاثيُّها، وقَصَرَ رباعيُّها، وفي التنزيل:{فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ} [النمل: 90]، {أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ} [الملك: 22]، وأَكَبَّ على كذا بالألف: لازمه. انتهى

(3)

.

(1)

"المفهم" 3/ 620 - 621.

(2)

"القاموس المحيط " ص 1109.

(3)

"المصباح المنير" 2/ 523.

ص: 113

قال الجامع عفا الله عنه: قد تقدّم في كلام المجد أن أكبّ رباعيًّا يتعدّى ويلزم، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

وقوله: (فَاسْتَقْبَلُونَا بِالسّهَامِ)؛ أي: واجهونا، وكرُّوا علينا برمي السهام بالكسر: جمع سهم، وهو واحدٌ من النَّبْل، وقيل: السهم: نفس النصل

(1)

.

وقوله: (وَلَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى بَغْلَتِهِ الْبَيْضَاءِ) تقدّم في حديث العباس رضي الله عنه: "وكان على بغلةٍ له بيضاء، أهداها له فَرْوة بن نُفَاثة الْجُذاميّ"، وسيأتي في حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه:"وكان على بغلته الشهباء"، ووقع عند ابن سعد، وتبعه جماعة ممن صنَّف السيرة: أنه صلى الله عليه وسلم كان على بغلته دُلْدُل.

قال الحافظ رحمه الله: وفيه نظر؛ لأن دُلْدُل أهداها له المقوقس، وقد ذكر القطب الحلبيّ أنه استَشْكَل عند الدمياطيّ ما ذكره ابن سعد، فقال له: كنت تبعته، فذكرت ذلك في السيرة، وكنت حينئذ سِيرِيًّا مَحْضًا، وكان ينبغي لنا أن نذكر الخلاف، قال القطب الحلبيّ: يَحْتَمِل أن يكون يومئذ ركب كُلًّا من البغلتين، إن ثبت أنها كانت صَحِبته، وإلا فما في "الصحيح" أصحّ.

قال الحافظ: ودلّ قول الدمياطيّ أنه كان يعتقد الرجوع عن كثير مما وافق فيه أهل السِّير، وخالف الأحاديث الصحيحة، وأن ذلك كان منه قبل أن يتضلع من الأحاديث الصحيحة، ولخروج نُسَخ من كتابه، وانتشاره، لم يتمكن من تغييره. انتهى

(2)

.

وقوله: (وَإِنَّ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ الْحَارِثِ آخِذٌ بِلِجَامِهَا) هذا ظاهر في أن الآخذ بلجام بغلته صلى الله عليه وسلم هو أبو سفيان بن الحارث، وقد تقدّم قول العبّاس رضي الله عنه:"وأنا آخذ بلجام رسول الله صلى الله عليه وسلم أَكُفُّها إرادةَ أن لا تُسرع، وأبو سفيان آخذ بركابه"، فكيف الجمع بينهما؟.

قلت: يُجمع بينهما بأن أبا سفيان كان آخذًا أوّلًا بزمامها، فلما رَكَضَها النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى جهة المشركين خَشِي العباس، فأخذ بلجام البغلة يكُفّها، وأخذ أبو سفيان بالرِّكاب، وترك اللجام للعباس؛ إجلالًا له؛ لأنه كان عمه.

(1)

"المصباح" 1/ 293.

(2)

"الفتح" 9/ 428 - 429، كتاب "المغازي" رقم (4317).

ص: 114

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام شرحه، وبيان مسائله قبل حديث، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4609]

(

) - (وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ خَلَّادٍ، قَالُوا: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ سُفْيَانَ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاء، قَالَ: قَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا أَبَا عُمَارَةَ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، وَهُوَ أَقَلُّ مِنْ حَدِيثِهِمْ، وَهَؤُلَاءِ أَتَمُّ حَدِيثًا).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبِ) بن شدّاد، أبو خيثمة النسائيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 234)(خ م د س ق) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.

2 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ خَلَّادٍ) محمد بن خلّاد بن كثير الباهليّ البصريّ، ثقة [10](ت 240)(م د س ق) تقدم في "المقدمة" 5/ 31.

3 -

(يَحْيَى بْنُ سَعِيدِ) بن فرّوخ القطّان، أبو سعيد البصريّ الحجة الفقيه الثبت الناقد الشهير، من كبار [9](ت 198)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 385.

4 -

(سُفْيَانُ) بن سعيد بن مسروق الثوريّ، أبو عبد الله الكوفيّ، الإمام الفقيه الثبت الحجة، رأس الطبقة [7](ت 161)(ع) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.

والباقون ذُكروا قبله.

وقوله: (فَذَكَرَ الْحَدِيثَ) فاعل "ذَكَرَ" ضمير سفيان.

وقوله: (وَهُوَ أقَلُّ مِنْ حَدِيثِهِمْ)؛ يعني: أن حديث سفيان أقلّ سياقًا من حديث الثلاثة المتقدّمين، وهم: يونس بن يزيد، وزكريّا بن أبي زائدة، وشعبة بن الحجاج، وكون حديثه أقل من حديثهم يتبيّن بما أذكره في التنبيه التالي - إن شاء الله تعالى -.

وقوله: (وَهَؤُلَاءِ أَتَمُّ حَدِيثًا) تصريح بما عُلم مما قبله، ومؤكّد له؛ يعني: أن هؤلاء الثلاثة أطول حديثًا من حديث سفيان الثوريّ، والله تعالى أعلم.

[تنبيه]: رواية سفيان الثوريّ، عن أبي إسحاق هذه ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:

ص: 115

(4061)

- حدّثنا محمد بن كثير، حدّثنا سفيان، عن أبي إسحاق، قال: سمعت البراء رضي الله عنه، وجاءه رجل، فقال: يا أبا عمارة، أتوليتَ يوم حنين؟ فقال: أما أنا فأشهد على النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه لم يُوَلّ، ولكن عَجِلَ سَرَعان القوم، فَرَشَقتهم هوازنُ، وأبو سفيان بن الحارث آخذ برأس بغلته البيضاء، يقول:

أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبْ

أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ

(1)

والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4610]

(1777) - (وَحَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ يُونُسَ الْحَنَفِيُّ، حَدَّثَنَا عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ، حَدَّثَنِي إِيَاسُ بْنُ سَلَمَةَ، حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: غَزَوْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم حُنَيْنًا، فَلَمَّا وَاجَهْنَا الْعَدُوَّ تَقدَّمْتُ، فَأَعْلُو ثَنِيَّةً، فَاسْتَقْبَلَنِي رَجُلٌ مِنَ الْعَدُوِّ، فَأَرْمِيهِ بِسَهْم، فَتَوَارَى عَنِّي، فَمَا دَرَيْتُ مَا صَنَعَ، وَنَظَرْتُ إِلَى الْقَوْم، فَإِذَا هُمْ قَدْ طَلَعُوا مِنْ ثَنِيَّةٍ أُخْرَى، فَالْتَقَوْا هُمْ وَصَحَابَةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَوَلَّى صَحَابَةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَأَرْجِعُ مُنْهَزِمًا، وَعَلَيَّ بُرْدَتَان، مُتَّزِرًا بِإِحْدَاهُمَا، مُرْتَدِيًا بِالأُخْرَى، فَاسْتَطْلَقَ إِزَارِي، فَجَمَعْتُهُمَا جَمِيعًا، وَمَرَرْتُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مُنْهَزِمًا، وَهُوَ عَلَى بَغْلَتِهِ الشَّهْبَاء، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَقَدْ رَأَى ابْنُ الأَكْوَعِ فَزَعًا"، فَلَمَّا غَشُوا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَزَلَ عَنِ الْبَغْلَة، ثُمَّ قَبَضَ قَبْضَةً مِنْ تُرَابٍ مِنَ الأَرْض، ثُمَّ اسْتَقْبَلَ بِهِ وُجُوهَهُمْ، فَقَالَ: "شَاهَتِ الْوُجُوهُ"، فَمَا خَلَقَ اللهُ مِنْهُمْ إِنْسَانًا إِلَّا مَلأَ عَيْنَيْهِ تُرَابًا بِتِلْكَ الْقَبْضَة، فَوَلَّوْا مُدْبِرِينَ، فَهَزَمَهُمُ اللهُ عز وجل، وَقَسَمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم غَنَائِمَهُمْ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) المذكور في السند الماضي.

2 -

(عُمَرُ بْنُ يُونُسَ الْحَنَفِيُّ) أبو حفص اليماميّ، ثقةٌ [9](ت 206)(ع) تقدم في "الإيمان" 12/ 155.

(1)

"صحيح البخاريّ" 4/ 1568.

ص: 116

3 -

(عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ) الْعِجليّ، أبو عمّار اليماميّ، بصريّ الأصل، صدوق يغلط، في روايته عن يحيى بن أبي كثير اضطراب، ولم يكن له كتاب [5] مات قبيل (160)(خت م س ق) تقدم في "الإيمان" 12/ 155.

[فإن قيل]: كيف أخرج مسلم لعكرمة بن عمّار، وهو متكلّم فيه، وقد تفرّد برواية هذا الحديث عن إياس بن سلمة، فلم يتابعه عليه أحد؟.

[أجيب]: بأنه إنما تُكلّم فيه في روايته عن يحيى بن أبي كثير، فإن فيها اضطرابًا، وأما روايته عن إياس بن سلمة، فقد أثنى عليها الإمام أحمد رحمه الله، فقال في "تهذيب التهذيب": قال عبد الله بن أحمد بن حنبل، عن أبيه: عكرمة مضطرب الحديث عن غير إياس بن سلمة، وكان حديثه عن إياس صالحًا. انتهى

(1)

.

4 -

(إِيَاسُ بْنُ سَلَمَةَ) بن عمرو بن الأكوع الأسلميّ، أبو سلمة، ويقال: أبو بكر المدنيّ، ثقةٌ [3](ت 119) وهو ابن (77) سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 44/ 288.

5 -

(أَبُوهُ) سلمة بن عَمرو بن الأكوع الأسلميّ، أبو مسلم، أو أبو إياس الصحابيّ الشهير، شَهِد بيعة الرضوان، ومات بالمدينة سنة (64)(ع) تقدم في "الإيمان" 44/ 288.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وفيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ، والابن عن أبيه، وأنه مسلسل بالتحديث من أوله إلى آخره.

شرح الحديث:

(عَنْ إِيَاسِ بْنِ سَلَمَةَ الأسلمي، أنه قال: "حَدَّثَنِي أَبِي) سلمة بن الأكوع رضي الله عنه (قَالَ: غَزَوْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) يقال: غزاه: إذا أرإده، وطلبه، وقصده، كاغتزاه، وغزا العدوَّ: إذا سار إلى قتالهم، وانتهابهم غَزْوًا، وغَزَوَانًا، وغَزَاةً، قاله المجد رحمه الله

(2)

. (حُنَيْنًا) تقدّم الكلام فيه قريبًا، (فَلَمَّا وَاجَهْنَا الْعَدُوَّ) هم هوازن، كما سبق. (تَقَدَّمْتُ)؛ أي: سبقت جيش المسلمين نحو العدوّ

(1)

"تهذيب التهذيب" 3/ 133.

(2)

"القاموس المحيط" ص 947.

ص: 117

(فَأَعْلُو) مضارع علا، مرفوع، وإنما عبّر به، وإن المراد الماضي؛ لاستحضار صورة الحال، كأنه يشاهدها الآن، ففيه تأكيدٌ لخبره.

وقوله: (ثَنِيَّةً) قال المجد رحمه الله: "الثنيّةُ: الْعَقَبةُ، أو طريقها، أو الْجبل، أو الطريقة فيه، أو إليه". انتهى

(1)

.

(فَاسْتَقْبَلَنِي رَجُلٌ) يقال: استقبلتُ الشيءَ: واجهتُهُ، فهو مُستَقْبَلٌ، بفتح الباء، اسم مفعول

(2)

، وقوله:(مِنَ الْعَدُوِّ) قال صاحب "التنبيه": لا أعرفه

(3)

. (فَأَرْمِيهِ بِسَهْمٍ) الكلام في "أرميه" كالكلام السابق في "فأعلو"، فتنبه. (فَتَوَارَى عَنِّي)؛ أي: اختفى منّي، (فَمَا دَرَيْتُ)؛ أي: علمتُ (مَا صَنَعَ)؛ أي: ذلك الرجل، وفي رواية ابن حبّان:"فما دريتُ ما أصنع" بالإسناد للمتكلّم، (وَنَظَرْتُ إِلَى الْقَوْمِ)؛ أي: العدوّ، (فَإِذَا هُمْ قَدْ طَلَعُوا) هي "إذا" الْفُجائيّة؛ أي: ففاجأني طلوعهم (مِنْ ثَنِيَّةٍ)؛ أي: طريق (أُخْرَى، فَالْتَقَوْا) بفتح القاف؛ لأن أصله التَقَيُوا، فقلبت الياء ألفًا؛ لتحرّكها، وانفتاح ما قبلها، وقوله:(هُمْ) ضمير منفصل أتى به؛ ليمكنه العطف على الضمير المتّصل، وليس مفعولًا به، ولذا كُتبت في "التقوا" الألف الفارقة بين واو العطف، وواو الجمع. (وَصَحَابَةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) بفتح الصاد المهملة: جمع صاحب، وهو مرفوع بالعطف على الضمير الفاعل، (فَوَلَّى)؛ أي: أدبر عن القتال (صَحَابَةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَأَرْجِعُ) مضارع بمعنى الماضي، كما تقدّم نكتة التعبير به قريبًا؛ أي: ورجعت (مُنْهَزِمًا)؛ أي: هاربًا من العدوّ، وقوله:(وَعَلَيَّ بُرْدَتَانِ) جملة حاليّة، كـ"منهزمًا"، و"بُردتان" تثنية بُرد، بضمّ، فسكون، قال المجد رحمه الله:"الْبُرْدُ" بالضمّ: ثوبٌ مخطّطٌ، جمعه أبراد، وأَبْرُدٌ، وبُرُودٌ، وأكسيةٌ يُلْتَحَف بها، الواحدة: بُرْدةٌ بِهَاء. انتهى

(4)

.

وقال الفيّوميّ رحمه الله: "الْبُرْدُ": معروفٌ، وجمعه أبراد، وبُرُودٌ، ويُضاف للتخصيص، فيقال: بُرْدُ عصب، وبُرْد وَشْيٍ، والْبُرْدة: كساء صغيرٌ، مربّعٌ، ويقال: كساء أسود صغير. انتهى

(5)

.

(1)

"القاموس المحيط" ص 183.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 488.

(3)

"تنبيه المعلم" ص 308.

(4)

"القاموس المحيط" ص 92.

(5)

"المصباح المنير" 1/ 43.

ص: 118

وقوله: (مُتَّزِرًا بِإِحْدَاهُمَا، مُرْتَدِيًا بِالأُخْرَى) منصوبتان على الحال من الحال قبله، أعني: وعليّ بردتان، والمعنى: حال كوني جاعلًا إحداهما إزارًا، والأخرى رداء، (فَاسْتَطْلَقَ إِزَارِي)؛ أي: انحلّ إزاري؛ لكوني مستعجلًا، (فَجَمَعْتُهُمَا جَمِيعًا)؛ أي: جمعت الإزار والرداء، وأمسكتهما؛ لئلا يسقطا، وهذا كناية عن كونه لم يجد فرصة لإعادتهما إلى ما كانا عليه، لشدّة الفزع، والله تعالى أعلم.

(وَمَرَرْتُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) وقوله: (مُنْهَزِمًا) حال من تاء المتكلّم، فالانهزام لسلمة، لا للنبيّ صلى الله عليه وسلم؛ لِمَا سبق في الروايات السابقة أنه صلى الله عليه وسلم لم يفرّ، بل ثبت، وكما يدلّ عليه قوله:(وَهُوَ عَلَى بَغْلَتِهِ الشَّهْبَاءِ)؛ أي: والحال أنه صلى الله عليه وسلم ثابت مستقرّ على بغلته الشهباء؛ أي: البيضاء.

قال النوويّ رحمه الله: قال العلماء: قوله: "منهزمًا" حال من ابن الأكوع، كما صرّح أوّلًا بانهزامه، ولم يُرِد أن النبيّ صلى الله عليه وسلم انهزم، وقد قالت الصحابة كلهم رضي الله عنهم: إنه صلى الله عليه وسلم ما انهزم، ولم يَنْقُل أحد قطّ أنه صلى الله عليه وسلم انهزم في موطن من المواطن، وقد نقلوا إجماع المسلمين على أنه لا يجوز أن يُعتقد انهزامه صلى الله عليه وسلم، ولا يجوز ذلك عليه، بل كان العباس، وأبو سفيان بن الحارث آخذين بلجام بغلته، يَكفّانها عن الإسراع، والتقدم إلى العدوّ، وقد صرَّح بذلك البراء رضي الله عنه في حديثه السابق. انتهى

(1)

، وهو تحقيق حسنٌ جدًّا، والله أعلم.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قول سلمة رضي الله عنه: "ومررت على رسول الله صلى الله عليه وسلم منهزمًا" يُفْهَم منه ثبوت النبيّ صلى الله عليه وسلم، وتوجهه نحو الكفار، بل كان يركض بغلته نحوهم، ولمّا غشيه القوم، نزل عن البغلة، وثبت لهم قائمًا، حتى تراجع الناس إليه عند نداء العباس، ولم يُسمع لأحد من الشجعان مثل هذا، والله تعالى أعلم. انتهى

(2)

.

(فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَقَدْ رَأَى ابْنُ الأَكْوَعِ فَزَعًا")؛ أي: خوفًا، أو المراد: الأمر الذي يُفزع منه، من إطلاق السبب، وإرادة المسبّب، (فَلَمَّا غَشُوا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم) بفتح الغين، وضمّ الشين المعجمتين، وأصله غَشِيُوا، بفتح

(1)

"شرح النوويّ" 12/ 122.

(2)

"المفهم" 3/ 621.

ص: 119

الغين، وكسر الشين، وضمّ الياء، بوزن عَلِمُوا، فنُقلت ضمة الياء إلى الشين بعد سلب حركتها، ثم حُذفت الياء لالتقائها ساكنةً مع ضمير الجماعة، والمعنى: أن جماعة العدّو لَمَّا أحاطوا برسول الله صلى الله عليه وسلم، ودنوا منه (نَزَلَ عَنِ الْبَغْلَةِ) إلى الأرض، (ثُمَّ قَبَضَ قَبْضَةً مِنْ تُرَابٍ مِنَ الأَرْضِ)؛ أي: أخذ كفًّا من تراب الأرض، وهذا لا يعارض ما سبق في حديث العبّاس رضي الله عنه من أنه صلى الله عليه وسلم أخذ حصيات، فرمى بهنّ؛ لإمكان أن يكون فعل الاثنين، والله تعالى أعلم.

(ثُمَّ اسْتَقْبَلَ بِهِ)؛ أي: بذلك التراب الذي أخذه من الأرض (وُجُوهَهُمْ)؛ يعني: أنه رماهم به، (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم عند رمي وجوههم ("شَاهَتِ الْوُجُوهُ")؛ اْي: قبُحت، ورجعت خائبة مما قصدته، منهزمة مأسورة، ذليلةً، قال المجد رحمه الله: شاه وجهه شَوْهًا - أي: كقال - وشَوْهَةً: قَبُحَ، كَشَوِهَ، كَفَرِحَ، فهو أشوه. انتهى

(1)

، وقال الفيّوميّ رحمه الله: والشَّوَهُ: قُبْحُ الخلقة، وهو مصدر، من باب تَعِبَ، ورجلٌ أشوهُ: قَبيح المنظر، وامرأة شَوْهاءُ، والجمع: شُوهٌ، مثل أحمر، وحمراء، وحُمْرٍ، وشاهت الوجوه: قَبُحت، وشوّهتها: قَبَّحتها. انتهى

(2)

.

قال سلمة رضي الله عنه: (فَمَا خَلَقَ اللهُ مِنْهُمْ)؛ أي: هوازن العدوّ، (إِنْسَانًا إِلَّا مَلأَ عَيْنَيْهِ تُرَابًا بِتِلْكَ الْقَبْضَةِ) هذا من معجزاته صلى الله عليه وسلم، حيث إن القبضة من التراب عمّت، وملأت وجوه آلاف من الكفّار، وهو معنى قوله عز وجل:{وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال: 17]، (فَوَلَّوْا) بفتح اللام، كما تقدّم بيان تصريفه قريبًا؛ أي: رجعوا وراءهم، وقوله:(مُدْبِرِينَ) حال مؤكّدة لعاملها، كما قوله تعالى:{وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [هود: 85]، قال في "الخلاصة":

وَعَامِلُ الْحَالِ بِهَا قَدْ أُكِّدَا

فِي نَحْوِ "لَا تَعْثُ فِي الأَرْضِ مُفْسِدَا"

(فَهَزَمَهُمُ اللهُ عز وجل كما أخبر الله عز وجل بذلك في قوله: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25) ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (26)} [التوبة: 25، 26].

(1)

"القاموس المحيط" ص 719.

(2)

"المصباح" 1/ 328.

ص: 120

(وَقَسَمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم غَنَائِمَهُمْ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ) كانت الغنائم ستة آلاف نفس من النساء والأطفال، وكانت الإبل أربعة وعشرين ألفًا، والغنم أربعين ألف شاة

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [28/ 4610](1777)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6520)، و (البيهقيّ) في "دلائل النبوّة"(5/ 140)، وفوائد الحديث تقدّمت قريبًا، ولله الحمد والمنّة.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(29) - (بَابُ غَزْوَةِ الطَّائِفِ)

قال الفيّوميّ رحمه الله: "الطائف": بلاد الْغَوْر، وهي على ظهر جبل غَزْوان، وهو أبرد مكان بالحجاز، والطائف بلاد ثقيف. انتهى

(2)

.

وقال في "القاموس"، و"شرحه":"الطائف": بلاد ثقيف، قال أبو طالب بن عبد المطلب [من الوافر]:

مَنَعْنَا أَرْضَنَا مِنْ كُلِّ حَيٍّ

كَمَا امْتَنَعَتْ بِطَائِفِهَا ثَقِيفُ

وهي في وادٍ بالغَوْر، قراها لُقَيم، وآخرها الْوَهْط، سُمِّيت؛ لأنها طافت على الماء في الطُّوفان، أو لأن جبريل عليه السلام طاف بها على البيت سبعًا، نقله الميورقيّ عن الأزرقيّ، أو لأنها كانت قرية بالشام، فنقلها الله تعالى إلى الحجاز بدعوة إبراهيم عليه السلام اقتلاعًا من تخوم الثرى بعيونها، وثمارها، ومزارعها، وذلك لمّا قال: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ

(1)

"الفتح" 9/ 456، كتاب "المغازي" رقم (4330).

(2)

"المصباح المنير" 2/ 380 - 381.

ص: 121

بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37)} [إبراهيم: 37]، نقله أبو داود الأزرقيّ في "تاريخ مكة"، وأبو حذيفة إسحاق بن بشر القرشيّ في "كتاب المبتدأ"، وهو قول الزهريّ، وقال القسطلانيّ في "المواهب": إن جبريل عليه السلام اقتلع الجنة التي كانت لأصحاب الصَّرِيم، فسار بها إلى مكة، فطاف بها حول البيت، ثم أنزلها حيث الطائفُ، فسُمّي الموضع بها، وكانت أوّلًا بنواحي صنعاء، واسم الأرض وَجّ، وهي بلدة كبيرة على ثلاث مراحل، أو اثنتين من مكة، من جهة المشرق، كثيرة الأعناب، والفواكه، وروى الحافظ ابن عاتٍ في "مجالسه" أن هذه الجنة كانت بالطائف، فاقتلعها جبريل، وطاف بها البيت سبعًا، ثم ردّها إلى مكانها، ثم وضعها مكانها اليوم، قال أبو العباس الميورقيّ: فتكون تلك البقعة من سائر بقع الطائف طيف بها بالبيت مرتين في وقتين، أو لأن رجلًا من الصَّدِفِ أصاب دمًا في قومه بحضرموت، ففرّ إلى وَجّ، ولحق بثقيف، وأقام بها، وحالف مسعود بن مُعَتِّب الثقفيّ، أحد من قيل فيه: إنه المراد من الآية {عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف: 31]، وكان له مال عظيم، فقال لهم: هل لكم أن أبني لكم طوفًا عليكم يطيف ببلدكم، يكون لكم رِدْءًا من العرب؟ فقالوا: نعم، فبناه، وهو الحائط المطيف المحدق به، وهذا القول نقله السهيليّ في "الروض" عن البكريّ، وأعرض عنه، وذكر ابن الكلبيّ ما يوافق هذا القول، وقد خُصّت الطائف بتصانيف، وذكروا الخلاف المذكور، وبسطوا فيه، أورد بعض ذلك الحافظ ابن فهد الهاشميّ في تاريخ له خصه بذكر الطائف، جزاهم الله عنا كل خير. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنها: هذه الأقوال تحتاج إلى ما يُثبتها من الآثار الصحاح، وهيهات هيهات، والله تعالى أعلم.

وقال في "الفتح": "الطائف: بلد كبير، مشهور، كثير الأعناب، والنخيل، على ثلاث مراحل، أو اثنتين من مكة، من جهة المشرق، قيل: أصلها أن جبريل عليه السلام اقتلع الجنة التي كانت لأصحاب الصَّرِيم، فسار بها إلى

(1)

"تاج العروس من جواهر القاموس" 6/ 184.

ص: 122

مكة، فطاف بها حول البيت، ثم أنزلها حيثُ الطائفُ، فسُمِّي الموضع بها، وكانت أوّلًا بنواحي صنعاء، واسم الأرض وجّ - بتشديد الجيم - سُمّيت برجل، وهو ابن عبد الجنّ من العمالقة، وهو أول من نزل بها، وسار النبيّ صلى الله عليه وسلم إليها بعد مُنصرفه من حُنين، وحَبَس الغنائم بالجعرانة، وكان مالك بن عوف النصّريّ، قائد هوازن لَمّا انهزم دخل الطائف، وكان له حصن بَلِيَة، وهي بكسر اللام، وتخفيف التحتانية، على أميال من الطائف، فمرّ به النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو سائر إلى الطائف، فأمر بهدمه. انتهى

(1)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4611]

(1778) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَابْنُ نُمَيْرٍ، جَمِيعًا عَنْ سُفْيَانَ، قَالَ زُهَيْرٌ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ الشَّاعِرِ الأَعْمَى، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: حَاصَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَهْلَ الطَّائِف، فَلَمْ يَنَلْ مِنْهُمْ شَيْئًا، فَقَالَ: "إِنَّا قَافِلُونَ إِنْ شَاءَ اللهُ")، قَالَ أَصْحَابُهُ: نَرْجِعُ، وَلَمْ نَفْتَتِحْهُ؟

(2)

، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"اغْدُوا عَلَى الْقِتَالِ"، فَغَدَوْا عَلَيْه، فَأَصَابَهُمْ جِرَاحٌ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"إِنَّا قَافِلُونَ غَدًا"، قَالَ: فَأَعْجَبَهُمْ ذَلِكَ، فَضَحِكَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) عبد الله بن محمد بن أبي شيبة إبراهيم بن عثمان العبسيّ الكوفيّ، واسطيّ الأصل، ثقةٌ حافظٌ صاحب تصانيف [10](ت 235)(خ م د س ق) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.

2 -

(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) المذكور في السند الماضي.

3 -

(ابْنُ نُمَيْرٍ) محمد بن عبد الله بن نُمير الْهَمْدانيّ، أبو عبد الرحمن الكوفيّ، ثقة حافظٌ فاضلٌ [10](ت 234)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 5.

4 -

(سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ) تقدّم في الباب الماضي.

(1)

"الفتح" 9/ 449 - 450، كتاب "المغازي" رقم (4324).

(2)

وفي نسخة: "ولم نفتحه".

ص: 123

5 -

(عَمْرُو) بن دينار الأثرم الْجُمحيّ مولاهم، أبو محمد المكيّ، ثقة ثبتٌ [4](ت 126)(ع) تقدم في "الإيمان" 21/ 184.

6 -

(أَبُو الْعَبَّاسِ الشَّاعِرُ الأَعْمَى) السائب بن فَرُّوخ المكيّ، ثقةٌ [3] تقدم في "الصيام" 37/ 2734.

7 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو) بن العاص رضي الله عنهما، سيأتي الكلام عليه قريبًا - إن شاء الله تعالى -.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالمكيين، غير شيوخه، فالأول والثالث كوفيّان، والثاني نسائيّ، ثم بغداديّ، والصحابيّ طائفيّ، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ.

شرح الحديث:

(عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو) - بفتح العين، وسكون الميم، هكذا في النسخ، ووقع في بعضها - كما أشار إليه في هامش الهنديّ - "ابن عُمَر" بضمّ العين، وفتح الميم، وهو الصواب، كما سيأتي تحقيقه.

قال الحافظ الجيّاني رحمه الله في "التقييد" بعد أن ساق سند مسلم المذكور هنا، وقال فيه:"عن عبد الله بن عمر بن الخطّاب" ما نصّه: هكذا إسناده عند أبي العلاء بن ماهان، جعله من مسند عبد الله بن عمر بن الخطّاب، وعند أبي العبّاس الرازيّ:"عن عبد الله بن عمرو بن العاص"، وكذلك جعله ابن أبي شيبة في مسند عبد الله بن عمرو، أخبرناه أبو عمر، نا سعيد بن نصر، نا قاسم، نا ابن وضّاح، نا أبو بكر، نا سفيان، عن عمرو، عن أبي العبّاس، عن ابن عمرو، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنا قافلون غدًا" في غزوة الطائف، ثم قال أبو بكر: وقد سمعت ابن عيينة يُحدّث به مرّة أخرى: "عن ابن عمر".

ورواه البخاريّ عن عليّ بن المدينيّ، وقتيبة بن سعيد، وعبد الله بن محمد المسنديّ، عن سفيان بن عيينة، وذكره من حديث عبد الله بن عمر بن الخطّاب.

وقال الدارقطنيّ وغيره: الصواب أنه من مسند عبد الله بن عمر بن

ص: 124

الخطّاب

(1)

. انتهى كلام الحافظ الجيّانيّ رحمه الله

(2)

، وهو تحقيق نفيسٌ.

وقال في "الفتح": قوله: "عن عبد الله بن عمر"، في رواية الكشميهنيّ:"عبد الله بن عَمرو" بفتح العين، وسكون الميم، وكذا وقع في رواية النسفيّ، والأصيليّ، وقرئ على ابن زيد المروزيّ كذلك، فرَدّه بضم العين.

وقد ذكر الدارقطنيّ الاختلاف فيه، وقال: الصواب: عبد الله بن عمر بن الخطاب، قال الحافظ: والأول هو الصواب في رواية عليّ بن المدينيّ، وكذلك الحميديّ، وغيرهما، من حفاظ أصحاب ابن عيينة، وكذا أخرجه الطبرانيّ من رواية إبراهيم بن يسار، وهو ممن لازم ابن عيينة جدًّا، والذي قال عن ابن عيينة في هذا الحديث:"عبد الله بن عَمْرو": هم الذين سمعوا منه متأخرًا، كما نبّه عليه الحاكم.

وقد بالغ الحميديّ في إيضاح ذلك، فقال في "مسنده" في روايته لهذا الحديث، عن سفيان:"عبد الله بن عمر بن الخطاب".

وأخرجه البيهقيّ في "الدلائل" من طريق عثمان الدارميّ، عن عليّ بن المدينيّ، قال: حدّثنا به سفيان غير مرة يقول: عبد الله بن عمر بن الخطاب، لم يقل: عبد الله بن عمرو بن العاص، وأخرجه ابن أبي شيبة، عن ابن عيينة، فقال:"عبد الله بن عَمرو"، وكذا رواه عنه مسلم.

وأخرجه الإسماعيليّ، من وجه آخر عنه، فزاد: قال أبو بكر: سمعت ابن عيينة مرّة أخرى، يُحدّث به عن ابن عُمَر.

وقال المفضل الغلابيّ

(3)

، عن يحيى بن معين: أبو العباس، عن عبد الله بن عمرو، وعبد الله بن عُمر، في الطائف: الصحيح ابن عُمَر. انتهى

(4)

.

(1)

قال الحميديّ: وليس لأبي العبّاس في مسند ابن عمر بن الخطاب غير هذا الحديث المختَلَف فيه. ذكره النوويّ 12/ 123.

(2)

"تقييد المهمل" 3/ 877 - 878.

(3)

وقع في نسخة "الفتح": العلائيّ، والظاهر أنه تصحيف من "الغلابيّ"، كما هو معروف.

(4)

"الفتح" 9/ 451، كتاب "المغازي" رقم (4325).

ص: 125

قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن مما سبق من كلام الحفّاظ المتقنين أن الصواب في حديث الباب أنه من رواية عبد الله بن عمر بن الخطّاب، لا من رواية عبد الله بن عمرو بن العاص، وإن وقع هنا في معظم نسخ "صحيح مسلم" التي بين أيدينا، فتنبّه، وبالله تعالى التوفيق.

(قَالَ: حَاصَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَهْلَ الطَّائِفِ) وفي رواية البخاريّ: "لَمّا حاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم الطائف"، (فَلَمْ يَنَلْ مِنْهُمْ شَيْئًا)؛ أي: لم يُصب من أهل الطائف شيئًا من الغنائم، وفي مرسل ابن الزبير، عند ابن أبي شيبة، قال:"لَمّا حاصر النبيّ صلى الله عليه وسلم الطائف، قال أصحابه: يا رسول الله أحرقتنا نبال ثقيف، فادع الله عليهم، فقال: اللهم اهد ثقيفًا"، وذكر أهل المغازي أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لَمّا استعصى عليه الحصن، وكانوا قد أعدّوا فيه ما يكفيهم لحصار سنة، ورَمَوا على المسلمين سكك الحديد المحمّاة، ورَمَوْهم بالنبل، فأصابوا قومًا، فاستشار نوفلَ بن معاوية الدِّيليّ، فقال: هم ثعلب في جُحْر، إن أقمت عليه أخذته، وإن تركته لم يضرّك، فرَحَل عنهم، وذكر أنس في حديثه عند مسلم أن مدّة حصارهم كانت أربعين يومًا، وعند أهل السير اختلاف، قيل: عشرين يومًا، وقيل: بضع عشرة، وقيل: ثمانية عشر، وقيل: خمسة عشر، ذكره في "الفتح"

(1)

.

(فَقَالَ: "إِنَّا قَافِلُونَ)؛ أي: راجعون إلى المدينة، وقال القرطبيّ رحمه الله: القافل: هو الراجع من السفر، والجماعة القافلة، ولا يقال لهم في ابتداء سيرهم: قافلة، بل رُفقة. انتهى

(2)

. (إِنْ شَاءَ اللهُ"، قَالَ أَصْحَابُهُ: نَرْجِعُ) بتقدير همزة الاستفهام؛ أي: أنرجع إلى المدينة؟، وقوله:(وَلَمْ نَفْتَتِحْهُ؟) جملة في محلّ نصب على الحال من فاعل "نرجع"، والضمير للطائف، وفي بعض النسخ:"ولم نفتتحه"، وفي رواية البخاريّ:"فثَقُل عليهم، وقالوا: نذهب، ولا نفتحه"، (فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"اغْدُوا عَلَى الْقِتَالِ"، فَغَدَوْا عَلَيْه، فَأَصَابَهُمْ جِرَاحٌ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"إِنَّا قَافِلُونَ غَدًا"، قَالَ: فَأَعْجَبَهُمْ ذَلِكَ،

(1)

"الفتح" 9/ 451 - 452، كتاب "المغازي" رقم (4324).

(2)

"المفهم" 3/ 625.

ص: 126

فَضَحِكَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) قال النوويّ رحمه الله: معنى الحديث: أنه صلى الله عليه وسلم قصد الشفقة على أصحابه، والرفق بهم بالرَّحِيل عن الطائف؛ لصعوبة أمره، وشدّة الكفار الذين فيه، وتَقَوِّيهم بحصنهم، مع أنه صلى الله عليه وسلم عَلِم، أو رَجَى أنه سيفتحه بعد هذا بلا مشقّة، كما جرى، فلمّا رأى حرص أصحابه على الْمُقام والجهاد أقام، وجدّ في القتال فلمّا أصابتهم الجراح، رَجَع إلى ما كان قَصَده أوّلًا من الرفق بهم، ففرحوا بذلك؛ لِمَا رأوا من المشقة الظاهرة، ولعلهم نظروا، فعلموا أن رأي النبيّ صلى الله عليه وسلم أبرك، وأنفع، وأحمد عاقبةً، وأصوب من رأيهم، فوافقوا على الرحيل، وفرحوا، فضَحِك النبيّ صلى الله عليه وسلم تعجبًا من سرعة تغيّر رأيهم، والله أعلم. انتهى

(1)

.

وقال في "الفتح": وحاصل الخبر أنهم لمّا أخبرهم بالرجوع بغير فتح لم يعجبهم، فلما رأى ذلك أَمَرَهم بالقتال، فلم يُفْتَح لهم، فأصيبوا بالجراح؛ لأنهم رَمَوا عليهم من أعلى السور، فكانوا ينالون منهم بسهامهم، ولا تصل السهام إلى من على السور، فلمّا رأوا ذلك تبيّن لهم تصويب الرجوع، فلما أعاد عليهم القول بالرجوع أعجبهم حينئذ، ولهذا قال:"فضحك"

(2)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "حاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الطائف": كان هذا الحصار بعد هزيمة هوازن، وذلك: أنه لجأ إليها فَلُّهم

(3)

، واجتمع بهما شوكتهم، ورماتهم مع رماة ثقيف، وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم لما رأى جدّهم وامتناعهم قال لأصحابه:"إنا قافلون غدًا إن شاء الله" على جهة الرفق بهم، والشفقة عليهم، فعَظُم عليهم أن يرجعوا، ولم يفتتحوا ذلك الحصن، ورأوا أن هذا العَرْض من النبيّ صلى الله عليه وسلم على جهة المشورة، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم جِدّهم في هذا، وما ظهر لهم، قال لهم:"اغدوا على القتال"، فلما أصابتهم الجراح، وقُتل منهم جماعة على ما ذكر أهل التواريخ، قال لهم:"إنا قافلون غدًا"، فأعجبهم ذلك؛ لِمَا أصابهم من شدّة الحال، ولمَا لَقُوا، فضحك النبيّ صلى الله عليه وسلم لِمَا

(1)

"شرح النوويّ" 12/ 124.

(2)

"الفتح" 9/ 451 - 452، كتاب "المغازي" رقم (4324).

(3)

أي: مُنْهَزِمهم.

ص: 127

رأى من اختلاف قولهم عند اختلاف الحالين، ورجوعهم إلى الرأي السديد، لكن بعد مشقة.

قال: وفيه من الفقه: جواز محاصرة العدو، والتضييق عليهم، ومشاورة الإمام أصحابه، وعَرْضه عليهم ما في نفسه، وسلوكه بهم طريق الرفق والرحمة. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما وأسلفت أن الصواب عبد الله بن عُمر رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [29/ 4611](1778)، و (البخاريّ) في "المغازي"(4325) و"الأدب"(6086) و"التوحيد"(7480)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(8599 و 8872)، و (الحميديّ) في (مسنده" (706)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(14/ 507)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 11)، و (سعيد بن منصور) في "سننه"(2863)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 282)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4779)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(10/ 150)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(9/ 43) و"دلائل النبوّة"(5/ 165 - 167)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(30) - (بَابُ غَزْوَةِ بَدْرٍ)

قال في "الفتح": "بَدْرٌ: هي قرية مشهورة، نُسبت إلى بدر بن مَخلد بن النضر بن كنانة، كان نزلها، ويقال: بدر بن الحارث، ويقال: بدر اسم البئر التي بها، سُمّيت بذلك؛ لاستدارتها، أو لصفاء مائها، فكان البدر يُرَى فيها، وحَكَى الواقديّ إنكار ذلك كله عن غير واحد من شيوخ بني غِفَار، وإنما هي

(1)

"المفهم" 3/ 624 - 625.

ص: 128

ماؤنا، ومنازلنا، وما مَلَكها أحدٌ قط، يقال له: بدر، وإنما هو عَلَمٌ عليها كغيرها من البلاد". انتهى

(1)

.

وقال الفيّوميّ رحمه الله: بَدْرٌ: موضع بين مكة والمدينة، وهو إلى المدينة أقرب، ويقال: هو على ثمانية وعشرين فَرْسخًا، على منتصف الطريق تقريبًا، وعن الشعبيّ أنه اسم بئر هناك، قال: وسُمّيت بدرًا؛ لأن الماء كان لرجل من جُهينة، اسمه بَدْرٌ، وقال الواقديّ: كان شيوخ غِفَار يقولون: بدرٌ ماؤنا، ومنزلنا، وما ملكه أحد قبلنا، وهو من ديار غِفَار. انتهى

(2)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4612]

(1779) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَس، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ بَلَغَهُ إِقْبَالُ أَبِي سُفْيَانَ، قَالَ: فَتَكَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ، ثُمَّ تَكَلَّمَ عُمَرُ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ، فَقَامَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، فَقَالَ: إِيَّانَا تُرِيدُ يَا رَسُولَ اللهِ؟ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِه، لَوْ أَمَرْتَنَا أَنْ نُخِيضَهَا الْبَحْرَ لأَخَضْنَاهَا، وَلَوْ أَمَرْتَنَا أَنْ نَضْرِبَ أَكْبَادَهَا إِلَى بَرْكِ الْغِمَادِ لَفَعَلْنَا، قَالَ: فَنَدَبَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم النَّاسَ، فَانْطَلَقُوا حَتَّى نَزَلُوا بَدْرًا، وَوَرَدَتْ عَلَيْهِمْ رَوَايَا قُرَيْشٍ، وَفِيهِمْ غُلَامٌ أَسْوَدُ لِبَنِي الْحَجَّاج، فَأَخَذُوهُ، فَكَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَسْأَلُونَهُ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ، وَأَصْحَابِه، فَيَقُولُ: مَا لِي عِلْمٌ بِأَبِي سُفْيَانَ، وَلَكِنْ هَذَا أَبُو جَهْلٍ، وَعُتْبَةُ، وَشَيْبَةُ، وَأُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ، فَإِذَا قَالَ ذَلِكَ ضَرَبُوهُ، فَقَالَ: نَعَمْ، أنا أُخْبِرُكُمْ، هَذَا أَبُو سُفْيَانَ، فَإِذَا تَرَكُوهُ، فَسَأَلُوهُ فَقَالَ: مَا لِي بِأَبِي سُفْيَانَ عِلْمٌ، وَلَكِنْ هَذَا أَبُو جَهْلٍ، وَعُتْبَةُ، وَأُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ فِي النَّاس، فَإِذَا قَالَ هَذَا أَيْضًا ضَرَبُوهُ، وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَائِمٌ يُصَلِّي، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ انْصَرَفَ، قَالَ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَضْرِبُوهُ

(3)

إِذَا صَدَقَكُمْ، وَتَتْرُكُوهُ إِذَا كَذَبَكُمْ"، قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "هَذَا مَصْرَعُ فُلَانٍ"، قَالَ: وَيَضَعُ يَدَهُ عَلَى

(1)

"الفتح" 9/ 15، كتاب "المغازي" رقم (3951).

(2)

"المصباح المنير" 1/ 38.

(3)

وفي نسخة: "لتضربونه".

ص: 129

الأَرْضِ هَا هُنَا، وَهَا هُنَا، قَالَ: فَمَا مَاطَ أَحَدُهُمْ عَنْ مَوْضِعِ يَدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) المذكور في السند السابق.

2 -

(عَفَّانُ) بن مسلم الصفّار، أبو عثمان البصريّ، ثقة ثبتٌ، من كبار [10](ت هـ 22)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 44.

3 -

(حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ) بن دينار، أبو سلمة البصريّ، ثقةٌ عابدٌ، أثبت الناس في ثابت، وتغيّر بآخره، من كبار [8](167)(خت م 4) تقدم في "المقدمة" 6/ 80.

4 -

(ثَابِتُ) بن أسلم الْبُنَانيّ، أبو محمد البصريّ، ثقة عابدٌ [4] مات سنة بضع (120) وله (86) سنةً تقدم في "المقدمة" 6/ 80.

5 -

(أَنَسُ) بن مالك رضي الله عنه، تقدّم قبل بابين.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف رضي الله عنه، وأنه مسلسل بالبصريين، غير شيخه، فكوفيّ، وفيه أنس بن مالك، وتقدّم الكلام فيه قريبًا.

شرح الحديث:

(عَنْ أَنَس) بن مالك رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم شَاوَرَ) يقال: شَاوَرْتُهُ في كذا، واسْتَشَرْتُهُ: راجعته؛ لأرى رأيه فيه، فَأَشَارَ عليّ بكذا: أراني ما عنده فيه من المصلحة، فكانت إِشَارَةً حسنةً، والاسم: المَشُورَةُ، وفيها لغتان: سكون الشين، وفتح الواو، والثانية ضم الشين، وسكون الواو، وزانُ معونةٍ، ويقال: هي من شَارَ الدابة: إذا عَرَضَها في الْمِشْوَار، بكسر الميم، وهو المكان الذي تُجرى فيه الدابّة لعرضها للبيع، ويقال: مِنْ شُرْت العسلَ: إذا جنيته، أو شَرِبته، شُبّه حُسن النصيحة بشرب العسل، قاله الفيّوميّ رحمه الله

(1)

.

(حِينَ بَلَغَهُ إِقْبَالُ أَبِي سُفْيَانَ) صخر بن حرب؛ أي: من الشام متوجهًا إلى مكة، قال الأبّيّ رحمه الله: ظاهره أنه صلى الله عليه وسلم إنما شاور للعير التي مع أبي سفيان، والذي في كُتب السيرة: أنه إنما شاور في لقاء أهل مكة حين بلغه إقبال قريش

(1)

"المصباح المنير" 1/ 327.

ص: 130

إلى بدر، وأما وهو بالمدينة، فإنه لَمّا سمع بإقبال العير مع أبي سفيان ندب الناس إلى الخروج، فقال: هذه عير قريش أقبلت من الشام، فيها أموالهم، فاخرجوا إليها، لعلّ الله أن يُنفّلكموها، فخفّ بعض الناس للخروج، وتثاقل بعض الناس، وإنما تثاقل من تثاقل؛ لظنّه أنه لا يلقى حربًا. انتهى

(1)

.

ولم يتعرّض الأبيّ لدفع التعارض بين حديث الباب، وبين ما رواه أصحاب السير، وقد تعرّض له الحافظ في "الفتح"، فقال: ويمكن الجمع بأن النبيّ صلى الله عليه وسلم استشارهم في غزوة بدر مرّتين: الأولى، وهو بالمدينة أوّل ما بلغه خبر العِير مع أبي سفيان، وذلك بَيِّنٌ في رواية مسلم هنا، حيث قال: إنه "شاور حين بلغه إقبال أبي سفيان"، والثانية: كانت بعد أن خرج، كما في رواية البخاريّ.

وتعقّب بعضهم الحافظ في الجمع المذكور، فقال: ولكن الظاهر أن المشاورة المذكورة في أول حديث الباب التي تكلّم فيها أبو بكر، وعمر، وسعد رضي الله عنهم إنما وقعت بعد الخروج من المدينة بموضع الصفراء حين بلغه أن قريشًا قصدت بدرًا، وأن أبا سفيان نجا بمن معه؛ لأن هذه المشاورة الطويلة، والحماس الذي أظهره الصحابة حينذاك يدلّ على أن أمامهم معركة شديدة، وإنما ظهر لهم ذلك عند وصولهم إلى الصفراء، ولو كان الأمر مجرّد الإغارة على عير أبي سفيان، كما كان بين أيديهم في المدينة لَمَا احتاجوا إلى هذه المشاورة الطويلة، ولا إلى إبداء هذا الحماس والتفاني، وبذلك يظهر رُجحان ما رواه سائر أصحاب السِّير من أن هذه المشاورة وقعت بعد الخروج من المدينة. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: عندي أنه لا تَخَالُف بين هذا الحديث وبين ما رواه أصحاب السير؛ لأن المراد بقوله هنا: "حين بلغه إقبال أبي سفيان" إقباله على مكة، ونجاته من إغارة المسلمين عليه؛ يعني: أنه صلى الله عليه وسلم لَمّا بلغه أن أبا سفيان فاتَهُم، وأقبل على مكة، وذلك بعدما بلغ الصفراء، فعند ذلك شاور

(1)

"شرح الأبيّ" 5/ 111.

(2)

راجع: "تكملة فتح الملهم" 3/ 165.

ص: 131

أصحابه في مواجهة العدوّ في بدر، وهذا هو أحسن التوجيهات بينهما، فتأمله بالإمعان، والله تعالى وليّ التوفيق.

[تنبيه]: العير التي مع أبي سفيان يقال: كانت ألف بعير، وكان المال خمسين ألف دينار، وكان فيها ثلاثون رجلًا من قريش، وقيل: أربعون، وقيل: ستّون، قاله في "الفتح"

(1)

.

[تنبيه آخر]: قوله تعالى: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ} الآية [الأنفال: 7] نزل في قصة بدر بلا خلاف، بل جميع سورة الأنفال، أو معظمها نزلت في قصة بدر، وعن سعيد بن جبير: قلت لابن عباس: "سورة الأنفال؟ " قال: نزلت في بدر، والمراد بالطائفتين: العير، والنفير، فكان في العير: أبو سفيان، ومن معه، كعمرو بن العاص، ومخرمة بن نوفل، وما معه من الأموال، وكان في النفير: أبو جهل، وعتبة بن ربيعة، وغيرهما، من رؤساء قريش، مستعدِّين بالسلاح، متأهبين للقتال، وكان ميل المسلمين إلى حصول العِير لهم، وهو المراد بقوله:{وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ} [الأنفال: 7]، والمراد بذات الشوكة الطائفة التي فيها السلاح.

وروى الطبرانيّ، وأبو نعيم في "الدلائل"، من طريق عليّ بن طلحة، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أقبلت عير لأهل مكة من الشام، فخرج النبيّ صلى الله عليه وسلم يريدها، فبلغ ذلك أهل مكة، فأسرعوا إليها، وسَبقت العير المسلمين، وكان الله وعدهم إحدى الطائفتين، وكانوا أن يَلْقَوا العير أحب إليهم، وأيسر شوكةً، وأخصّ مغنمًا من أن يلقوا النفير، فلمّا فاتهم العير نزل النبيّ صلى الله عليه وسلم بالمسلمين بدرًا، فوقع القتال، ذكره "الفتح"

(2)

.

(قَالَ: فَتَكَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ) الصدّيق رضي الله عنه (فَأَعْرَضَ عَنْهُ)؛ يعني: أنه صلى الله عليه وسلم لم يلتفت إلى أبي بكر، ولم يقنع بما أشار إليه، (ثُمَّ تَكَلَّمَ عُمَرُ) بن الخطّاب رضي الله عنه، ذكر ابن هشام رحمه الله ما حاصله: أنه صلى الله عليه وسلم لمّا أتاه الخبر عن قريش بمسيرهم؛

(1)

"الفتح" 9/ 16، كتاب "المغازي" رقم (3051).

(2)

"الفتح" 9/ 16.

ص: 132

ليمنعوا عيرهم، فاستشار الناس، فقام أبو بكر الصديق، فقال وأحسن، ثم قام عمر بن الخطاب، فقال وأحسن، ثم قام المقداد بن عمرو، فقال: يا رسول الله امض لِمَا أراك الله، فنحن معك، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى:{فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة: 24]، ولكن اذهب أنت وربك، فقاتلا إنا معكما مقاتلون، فوالذي بعثك بالحقّ لو سرت بنا إلى بَرْك الغماد لجالدنا معك مَنْ دونه، حتى تبلغه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرًا، ودعا له به. انتهى

(1)

.

(فَأَعْرَضَ) صلى الله عليه وسلم (عَنْهُ)؛ أي: عما أشار به عمر رضي الله عنه، (فَقَامَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ) رضي الله عنه، كذا وقع في جميع نسخ "صحيح مسلم"، ولكنه مُشكِل جدًّا؛ لأن المعروف أن سعد بن عُبادة لم يشهد بدرًا، كان يتهيّأ للخروج، فنُهس، فأقام، ولكن ضرب له رسول الله صلى الله عليه وسلم بسهم؛ لكونه كان حريصًا على الخروج، وقعوده إنما هو من أجل عذر مُفاجئ، كما في "الإصابة"

(2)

، و"الفتح"

(3)

.

فالصحيح المحفوظ في سائر الروايات أن الذي قال هذا الكلام إنما هو سعد بن معاذ، لا سعد بن عبادة، بذلك اتَّفَقَت روايات أصحاب السِّيَر

(4)

.

وقال الحافظ في "الفتح": ووقع في مسلم أن سعد بن عبادة هو الذي قال ذلك، وكذا أخرجه ابن أبي شيبة من مرسل عكرمة، وفيه نظرٌ؛ لأن سعد بن عبادة لم يشهد بدرًا، ثم قال: ووقع عند الطبرانيّ أن سعد بن عبادة قال ذلك بالحديبية، وهذا أولى بالصواب.

(فَقَالَ) سعد رضي الله عنه (إِيَّانَا تُرِيدُ يَا رَسُولَ اللهِ؟) قال القرطبيّ رحمه الله: مشاورة النبيّ صلى الله عليه وسلم أصحابه حين بلغه إقبال أبي سفيان، وإعراضه عن تكليم المهاجرين إنما كان ليستخرج ما عند الأنصار من خروجهم معه للحرب، وذلك أنهم إنما

(1)

"سيرة ابن هشام" 1/ 614.

(2)

"الإصابة في تمييز الصحابة" 2/ 27.

(3)

"الفتح" 7/ 288.

(4)

راجع: "سيرة ابن هشام" مع "الروض الأنُف" 2/ 64، و"عيون الأثر" لابن سيّد الناس ص 247، و"البداية والنهاية" لابن كثير 3/ 262، و"المواهب اللدنية" مع "شرح الزرقاني" 1/ 413.

ص: 133

كانوا بايعوه ليمنعوه من الأحمر والأسود، ولم يأخذ عليهم أن يخرجوا معه، فأراد أن يَعْلَم ما عندهم من ذلك، فعَرَض عليهم ذلك، فأجابوه بالجواب الذي ذكره سعد بن عبادة، الذي حصل لهم به المقام المحمود، والشرف المشهود. انتهى

(1)

.

وقال ابن هشام رحمه الله في "سيرته": ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أشيروا عليّ أيها الناس"، وإنما يريد الأنصار، وذلك أنهم عدد الناس، وأنهم حين بايعوه بالعقبة قالوا: يا رسول الله إنا براء من ذمامك حتى تصل إلى ديارنا، فإذا وصلت إلينا، فأنت في ذمتنا نمنعك مما نمنع منه أبناءنا ونساءنا. فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخوّف أن لا تكون الأنصار ترى عليها نَصْرَهُ إلا ممن دهمه بالمدينة من عدوه، وأن ليس عليهم أن يسير بهم إلى عدوّ من بلادهم، فلما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له سعد بن معاذ: والله لكأنك تريدنا يا رسول الله؟ قال: "أَجَلْ"، قال: فقد آمنا بك، وصدّقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحقّ، وأعطيناك على ذلك عهودنا، ومواثيقنا، على السمع، والطاعة، فامْضِ يا رسول الله لِمَا أردت، فنحن معك، فوالذي بعثك بالحقّ لو استَعْرَضت بنا هذا البحر، فخُضته لخضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدوّنا غدًا، إنا لَصُبُر في الحرب، صُدُقٌ في اللقاء، لعل الله يريك منا ما تَقَرّ به عينك، فَسِرْ بنا على بركة الله، فَسُرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول سعد، ونَشّطه ذلك، ثم قال:"سِيروا، وأبشروا، فإن الله تعالى قد وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم". انتهى

(2)

.

(وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِه، لَوْ أَمَرْتَنَا أَنْ نُخِيضَهَا) بضم أوله، من الإخاضة، يقال: خاض الماءَ يَخُوضه خَوْضًا، وخِيَاضًا: دخله، كخوّضه، واختاضه، وبالفرس: أورده، كأخاضه، وخاوضه، قا له المجد رحمه الله

(3)

، والضمير ههنا للخيل، وكانت العرب قد تُضمر بعض الأشياء بدون ذكرها، كأنها معهودة في الذهن، منها الخيل والنوق

(4)

. (الْبَحْرَ لأَخَضْنَاهَا)؛ أي: لأدخلناها فيه،

(1)

"المفهم" 3/ 625 - 626.

(2)

"سيرة ابن هشام" 1/ 615.

(3)

"القاموس المحيط" ص 404.

(4)

"تكملة فتح الملهم" 3/ 167.

ص: 134

(وَلَوْ أَمَرْتَنَا أَنْ نَضْرِبَ أَكْبَادَهَا) بالفتح: جمع كَبِد، قال المجد رحمه الله: الْكَبِدُ بالفتح، والكسر، وكَكَتِفٍ: معروف، وقد يذكّر، جمعه: أكباد، وكُبُود، وقال أيضًا: والكبد، ككَتِفٍ: الجوف بكماله. انتهى

(1)

، والظاهر أن المراد هنا: الكبد بمعنى الجوف؛ لأنه الذي يمكن الراكب أن يضربه، والله تعالى أعلم. (إِلَى بَرْكِ الْغِمَادِ) اسم موضع، (لَفَعَلْنَا)؛ أي: ما أمرتنا به من ذلك، قال النوويّ رحمه الله: قوله: "برك الغماد": أما "برك" فهو بفتح الباء، وإسكان الراء، هذا هو المعروف المشهور في كتب الحديث، وروايات المحدثين، وكذا نقله القاضي عن رواية المحدثين، قال: وقال بعض أهل اللغة: صوابه كسر الراء، قال: وكذا قيّده شيوخ أبي ذرّ في البخاريّ، كذا ذكره القاضي في "شرح مسلم"، وقال في "المشارق": هو بالفتح لأكثر الرواة، قال: ووقع للأصيليّ، والمستملي، وأبي محمد الحمويّ بالكسر.

قال النوويّ: وذكره جماعة من أهل اللغة بالكسر لا غير، واتفق الجميع على أن الراء ساكنة، إلا ما حكاه القاضي عن الأصيليّ أنه ضبطه بإسكانها، وفتحها، وهذا غريب ضعيف.

وأما "الغماد" فبغين معجمة مكسورة، ومضمومة، لغتان مشهورتان، لكن الكسر أفصح، وهو المشهور في روايات المحدثين، والضم هو المشهور في كتب اللغة، وحَكَى صاحب "المشارق"، و"المطالع" الوجهين عن ابن دُريد، وقال القاضي عياض في "الشرح": ضبطناه في "الصحيحين" بالكسر، قال: وحَكَى ابن دُريد فيه الضم والكسر، وقال الحازميّ في كتابه "المؤتلف والمختلف في أسماء الأماكن": هو بكسر الغين، ويقال: بضمّها، قال: وقد ضبطه ابن الفرات في أكثر المواضع بالضم، لكن أكثر ما سمعته من المشايخ بالكسر، قال: وهو موضع من وراء مكة، بخمس ليال، بناحية الساحل، وقيل: بلدتان، هذا قول الحازميّ، وقال القاضي وغيره: هو موضع بأقاصي هَجَر، وقال إبراهيم الحربيّ: برك الغماد، وسعفات هجر، كناية يقال فيما تباعد. انتهى

(2)

.

(1)

"القاموس المحيط" ص 1110.

(2)

"شرح النوويّ" 12/ 124 - 125.

ص: 135

وقال في "الفتح": قوله: "برك الغماد": أما "برك" فهو بفتح الموحدة، وسكون الراء، بعدها كاف، وحُكِيَ كسر أوله، وأما "الغماد": فهو بكسر المعجمة، وقد تضمّ، وبتخفيف الميم، وحَكَى ابن فارس فيها ضم الغين: موضع على خمس ليال من مكة إلى جهة اليمن، وقال البكريّ: هي أقاصي هَجَر، وحَكَى الْهَمْدانيّ في أنساب اليمن: هو في أقصى اليمن، والأول أولى، وقال ابن خالويه: حضرت مجلس المحامليّ، وفيه زُهاء ألف، فأملى عليهم حديثًا فيه:"فقالت الأنصار: لو دعوتنا إلى برك الغماد"، قالها بالكسر، فقلت للمستملي: هو بالضم، فذكر له ذاك، فقال لي: وما هو؟ قلت: سألت ابن دُريد عنه، فقال: هو بقعة في جهنم، فقال المحامليّ: وكذا في كتابي على الغين ضمة، قال ابن خالويه: وأنشد ابن دُريد [من مجزوء الكامل]:

وَإِذَا تَنَكَّرَتِ الْبِلَا

دُ فَأَوْلِهَا كَنَفَ الْبِعَادْ

وَاجْعَلْ مُقَامَكَ أَوْ مَقَرْ

رَكَ جَانِبَيْ بُرْكِ الْغِمَادْ

لَسْتَ ابْنَ أُمِّ الْقَاطِنِيـ

ـنَ وَلَا ابْنَ عَمٍّ لِلْبِلَادْ

قال ابن خالويه: وسألت أبا عمر - يعني: غلام ثعلب - فقال: هو بالكسر والضم: موضع باليمن، قال: وموضع باليمن أوله بالكسر، لكن آخره راء مهملة، وهو عند بئر برهوت، الذي يقال: إن أرواح الكفار تكون فيها. انتهى.

واستبعد بعض المتأخرين ما ذكره ابن دُريد، فقال: القول بأنه موضع باليمن أنسب؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم لا يَدْعُوهم إلى جهنم، وخَفِي عليهم أن هذا بطريق المبالغة، فلا يراد به الحقيقة، ثم ظهر لي أن لا تنافي بين القولين، فيُحْمَل قوله: جهنم على مجاز المجاورة؛ بناءً على القول بأن برهوت مأوى أرواح الكفار، وهم أهل النار. انتهى

(1)

.

(قَالَ) أنس رضي الله عنه (فَنَدَبَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم النَّاسَ)؛ أي: دعاهم إلى مواجهة النفير؛ لأن العير التي كانوا يُحبّون أن يلقوها، قد فاتت، كما أخبر الله حيث قال: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ

(1)

"الفتح" 8/ 674 - 675، كتاب "مناقب الأنصار" رقم (3905).

ص: 136

تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (7)} [الأنفال: 7].

(فَانْطَلَقُوا)؛ أي: ذهبوا إلى جهة العدوّ، وواصلوا المسير، (حَتَّى نَزَلُوا بَدْرًا) تقدّم الكلام فيه مستوفًى في أول الباب. (وَوَرَدَتْ عَلَيْهِمْ رَوَايَا قُرَيْشٍ) بفتح الراء: جمع راوية؛ يعني: الإبل التي يُستقى عليها، واحدتها راوية، وأصل الراوية: المزادة، فقيل للبعير: راوية؛ لحمله المزادة، قال الخطّابيّ رحمه الله

(1)

.

وقال الفيّوميّ رحمه الله: وروى البعير الماءَ يرويه، من باب رَمَى: حَمَله، فهو راويةٌ، والهاء فيه للمبالغة، ثمّ أُطلقت الراوية على كلّ دابّة يُسْتَقَى الماءُ عليها. انتهى

(2)

.

وقوله: (وَفِيهِمْ غُلَامٌ أَسْوَدُ) جملة حاليّة؛ أي: والحال أن في جملة الرَّوَايا عبد أسود (لِبَنِي الْحَجَّاجِ) قبيلة معروفة، (فَأَخَذُوهُ)؛ أي: أخذ أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم ذلك الغلام الأسود، (فَكَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَسْأَلُونَهُ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ)؛ أي: عن خبره هل هو فاتهم أم لا؟ (وَأَصْحَابِهِ)؛ أي: وعن خبر أصحاب أبي سفيان الذين جاءوا معه من الشام ببضائع أهل مكة، (فَيَقُولُ) ذلك الغلام:(مَا لِي عِلْمٌ بِأَبِي سُفْيَانَ، وَلَكِنْ هَذَا) مشيرًا إلى من هم قريبون منهم، وهم:(أَبُو جَهْلٍ) عمرو بن هشام، وأبو جهل لَقَبُه في الإسلام، وكان يُكنى في الجاهليّة بأبي الحكم، ثم كُني بأبي جهل؛ لجهله بالإسلام الذي هو كان شرفًا له في الدنيا والآخرة لو دخل فيه. (وَعُتْبَةُ) بن ربيعة (وَشَيْبَةُ) بن ربيعة أخو عتبة (وَأُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ، فَإِذَا قَالَ ذَلِكَ)؛ أي: قوله: هذا أبو جهل

إلخ (ضَرَبُوهُ) لظنّهم كذبه في ذلك، (فَقَالَ) الغلام إذا ضربوه:(نَعَمْ، أَنَا أُخْبِرُكُمْ، هَذَا أَبُو سُفْيَانَ) إنما قال هذا؛ لتألمه بالضرب، لا لكونه يعلم مكان أبي سفيان، كما بيّنه بقوله:(فَإِذَا تَرَكُوهُ) عن الضرب (فَسَأَلُوهُ) عن أبي سفيان وأصحابه (فَقَالَ: مَا لِي بِأَبِي سُفْيَانَ عِلْمٌ، وَلَكِنْ هَذَا أَبُو جَهْلٍ، وَعُتْبَةُ، وَأُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ فِي النَّاس، فَإِذَا قَالَ هَذَا أَيْضًا ضَرَبُوهُ)؛ أي: كما ضربوه أوّلًا على هذا القول، وذلك لأنّ الغلام رأى هؤلاء الصناديد في الجيش الذي قَدِم من مكة، ولم ير أبا سفيان؛

(1)

"معالم السنن" 4/ 19.

(2)

"المصباح المنير" 1/ 246.

ص: 137

لأنه هَرب عادلًا عن الطريق المعتاد إلى طريق الساحل، فنجا، ولم يكن الصحابة رضي الله عنهم عارفين بقدوم جيش قريش: أبي جهل وأصحابه، فظنّوا أن الغلام يَكْذِبهم، فضربوه لذلك.

وقوله: (وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَائِمٌ) جملة حاليّة مما قبله، وكذا قوله:(يُصَلِّي) حال من رسول الله، (فَلَمَّا رَأَى) صلى الله عليه وسلم (ذَلِكَ)؛ أي: ضَرْبَهم العبد إذا صدقهم بإخبار الواقع، وتَرْكَهم له إذا أخبرهم بخلاف الواقع، (انْصَرَفَ)؛ أي: سلّم صلى الله عليه وسلم من صلاته، قال النوويّ رحمه الله: معنى قوله: "انصرف" سَلّم من صلاته، ففيه استحباب تخفيفها إذا عرض أمر في أثنائها. انتهى

(1)

.

(قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَضْرِبُوهُ) اللام فيه لام الابتداء، جِيءَ بها للتوكيد، قال النوويّ رحمه الله: هكذا وقع في النسخ: "تضربوه"، و"تتركوه" بغير نون، وهي لغة، سبق بيانها مرّات، أعني حذف النون بغير ناصب، ولا جازم. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: حذف نون الرفع بلا ناصب، ولا جازم جائز بقلّة، وقد بيّن ذلك ابن مالك رحمه الله في "الكافية الشافية"، حيث قال:

بِالنُّونِ رَفْعُ نَحْوِ "تَذْهَبُونَا"

و"تَذْهَبَانِ" ثُمَّ "تَذْهَبِينَا"

وَاحْذِفْ إِذَا جَزَمْتَ أَوْ نَصَبْتَا

كَـ"لَمْ تَكُونَا لِتَرُومَا سُحْتَا"

وَحْذْفُهَا فِي الرَّفْعِ قَبْلَ "نِي" أَتَى

وَالْفَكُّ وَالإِدْغَامَ أَيْضًا ثَبَتَا

وَدُونَ "نِي" فِي الرَّفْعِ حَذْفَهَا حَكَوْا

فِي النَّثْرِ وَالنَّظْمِ وَمِمَّا قَدْ رَوَوْا

(3)

"أَبِيتُ أَسْرِي وَتَبِيتِي تَدْلُكِي

وَجْهَكِ بِالْعَنْبَرِ وَالْمِسْكِ الذَّكِي"

وقال في "شرحه": ومثال ذلك في النثر ما رُوي من قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: "والذي نفس محمد بيده لا تدخلوا الجنّة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى

(1)

"شرح النوويّ" 12/ 126.

(2)

"شرح النوويّ" 12/ 126.

(3)

وفي في بعض النسخ بدل هذا البيت:

وَقَلَّ حَذْفٌ دُونَ "نِي" نَثْرًا كَمَا

"لَا تُؤْمِنُوا حَتَّى" وَمِمَّا نُظِمَا

وفي نسخة:

وَدُونَ "نِي" فِي الرَّفْعِ حَذْفَهَا حَكَوْا

نَظْمًا وَنَثْرًا نَادِرًا وَقَدْ رَوَوْا

ص: 138

تحابّوا

" الحديث

(1)

، والأصل:"لا تدخلون، ولا تؤمنون"؛ لأن "لا" نافية، و"لا" النافية تعمل في الفعل شيئًا. انتهى.

(إِذَا صَدَقَكُمْ) بإخبار الواقع، وهو خبر أبي جهل وأصحابه، (وَتَتْرُكُوهُ إِذَا كَذَبَكُمْ") بإخبار خلاف الواقع، وهو خبر أبي سفيان وأصحابه. (قَالَ) أنس رضي الله عنه (فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"هَذَا) مشيرًا إلى مكان معيّن من بدر (مَصْرَعُ فُلَانٍ") - بفتح الميم، وسكون الصاد المهملة، وفتح الراء، آخره عين مهملة -؛ أَي: محلّ قتله. (قَالَ) أنس رضي الله عنه (وَيَضَعُ) صلى الله عليه وسلم (يَدَهُ عَلَى الأَرْضِ) المشار إليها، قائلًا (هَا هُنَا) مصرع فلان (وَهَا هُنَا) مصرع فلان؛ يعني: أنه صلى الله عليه وسلم أرى أصحابه رضي الله عنهم مصارع صناديد قريش التي سيُصرعون فيها عند مواجهة المسلمين لهم في المعركة، وهذا من معجزاته صلى الله عليه وسلم، حيث أخبر بالمغيّبات، وفيه تثبيت وتقوية لعزائم الصحابة رضي الله عنهم حيث إنهم يستيقنون أن النصر لهم، وأن الدائرة على أعدائهم.

[تنبيه]: "ها هنا": اسم إشارة إلى المكان القريب، كما قال في "الخلاصة":

وبِـ "هُنَا" أو "هَا هُنَا" أَشِرْ إِلَى

دَانِ الْمَكَانِ وِبِهِ الْكَافِ صِلَا

فِي الْبُعْدِ أَوْ بِـ "ثَمَّ" فُهْ أَ "هَنَّا"

أَوْ بِـ "هُنَالِكَ" انْطِقَنْ أَوْ "هِنَّا"

(قَالَ) أنس (فَمَا مَاطَ أَحَدُهُمْ)؛ أي: ما تباعد أحد أولئك الذي أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن هذا مصرع فلان، وهذا مصرع فلان، قال المجد رحمه الله: ماط عنّي يَمِيط مَيْطًا: تنحّى، وبَعُدَ، ونَحَّى، وأبعد، كأماط. انتهى

(2)

. (عَنْ مَوْضِعِ

(1)

حديث رواه مسلم وأبو داود، عن أبي هريرة رضي الله عنه، مرفوعًا:"والذي نفسي بيده لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم، أفشوا السلام بينكم".

ولفظ أبي داود: "والذي نفسي بيده، لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أفلا أدلكم على أمر إذا فعلتموه تحاببتم، أفشوا السلام بينكم". انتهى.

(2)

"القاموس المحيط" ص 1251.

ص: 139

يَدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) الجارّ متعلّق بـ "ماط"، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أنس رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [30/ 4612](1779)، و (أبو داود) في "الجهاد"(1871 و 1872 و 3024)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(5/ 92 و 170 و 6/ 334)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(7/ 362 و 471)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 292 و 538)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(2758)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4722)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 283 و 285)، و (أبو نعيم) في "الحلية"(1/ 173)، و (ابن سعد) في "الطبقات"(2/ 14)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(10/ 109)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان قصّة غزوة بدر، وبيان سببها.

2 -

(ومنها): بيان مناقب الأنصار، ومدى محبّتهم للنبيّ صلى الله عليه وسلم، ونُصرتهم له، وعلى رأسهم سعد بن معاذ رضي الله عنه.

3 -

(ومنها): جواز ضرب الكافر الذي لا عهد له، وإن كان أسيرًا، قال القرطبيّ رحمه الله: وفي ضرب الصحابة رضي الله عنهم للغلام، وإقرار النبيّ صلى الله عليه وسلم إيَّاهم عليه ما يدلّ على جواز ضرب الأسير، وتعزير الْمُتَّهَم، إذا كان هنالك سبب يقتضي ذلك، وأنه يُضرب في التعزير فوق العشرة، خلافًا لمن أبى ذلك، وقال: لا يُضرب فوق العشرة. وستأتي المسألة إن شاء الله تعالى.

واختُلِف في إقرار المتهم عند الضرب، فعند الشافعيّ وكثير من أصحابه: لا يُقبل إقراره حتى يتمادى

(1)

؛ سواء عَيَّن ما أقرّ به من سرقة، أو قتل، أو لم يعيّن، ومن أصحابنا - يعني: المالكيّة - مَن ألزمه في ذلك إذا عَيَّن المُقَرَّ به،

(1)

أي: حتى يمضي في إقراره، ويُداوم عليه، ولا يرجع عنه.

ص: 140

وإن رجع عن إقراره، ومنهم من أجازه وإن لم يعيِّن، ومنهم من منعه وإن تمادى عليه؛ لأن خوفه أن يعاد عليه العذاب باق. انتهى

(1)

.

4 -

(ومنها): أن فيه معجزتين من أعلام النبوة:

إحداهما إخباره صلى الله عليه وسلم بمصرع جبابرتهم، فلم يجاوز أحد منهم مصرعه الذي حدّه له النبيّ صلى الله عليه وسلم.

الثانية: إخباره صلى الله عليه وسلم بأن الغلام الذي كانوا يضربونه يَصدُق إذا تركوه، ويَكْذِب إذا ضربوه، وكان كذلك في نفس الأمر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(31) - (بَابُ فَتْحِ مَكَّةَ، وَإِزَالَةِ الأَصْنَامِ مِنْ حَوْلِ الْكَعْبَة، وَقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا يُقْتَلُ قُرَشِيٌّ بَعْدَ الْيَوْمِ صَبْرًا")

مسألتان تتعلّقان بقوله: "فتح مكة":

(المسألة الأولى): قال الفيّوميّ رحمه الله: "مكة" شرّفها الله تعالى، وقيل فيها: بَكّةُ على البدل، وقيل بالباء: البيتُ، وبالميم: ما حوله، وقيل بالباء: بطن مكة. انتهى

(2)

.

وقال في "القاموس"، و"شرحه": مَكّة - شرفها الله تعالى - اختُلف فيها، فقيل: اسم للبلد الحرام، أو للحرم كلِّه، وقال يعقوب في البدل: مكة: الحرم كله، فأما بكة بين الجبلين، قال ابن سِيدَهْ: ولا أدري كيف هذا؟؛ لأنه قد فرّق بين مكة وبكة في المعنى، وبَيَّن أن معنى البدل والمبدَل منه سواء، واختُلِف في وجه تسميتها، فقيل: لأنها تَنْقُصُ الذنوبَ، أو تُفنيها، أو لأنها تُهلك مَن ظَلَم فيها، وألحد، وفي كتاب تلبية أهل الجاهلية: كانت تلبية عُكّ، ومَذْحِج جميعًا:

يَا مَكَّةُ الْفَاجِرَ مُكِّي مَكًّا

وَلَا تَمُكِّي مَذْحِجًا وَعَكَّا

(1)

"المفهم" 3/ 626 - 627.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 577.

ص: 141

فَنَتْرُكَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ دَكَّا

جِئْنَا إَلَى رَبِّكِ لَا نَشُكَّا

وقيل: لقلة مائها، وذلك أنهم كانوا يمتكّون الماءَ فيها؛ أي: يستخرجونه، وقيل: لجذب الناس إليها، والْمَكّ: الجذب، نقله السيوطيّ في "المزهر" في الأضداد، عن أبي العباس، وقيل: الْمَكّ: الازدحام؛ كالبَكّ، وسمّيت به؛ لازدحام الناس فيها، فهذه خمسة أوجه في سبب تسميتها. انتهى

(1)

.

(المسألة الثانية): في بيان سبب فتح مكة زادها الله تعالى شرفًا:

(اعلم): أن سبب فتح مكة أن قريشًا نقضوا العهد الذي وقع بالحديبية، فبلغ ذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم، فغزاهم، قال ابن إسحاق: حدّثني الزهريّ، عن عروة، عن الْمِسْوَر بن مَخْرَمة، أنَّه كان في الشرط: مَن أحبّ أن يدخل في عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهده فليدخل، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم فليدخل، فدخلت بنو بكر - أي: ابن عبد مناة بن كنانة - في عهد قريش، ودخلت خزاعة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال ابن إسحاق: وكان بين بني بكر وخزاعة حروب، وقتلى في الجاهلية، فتشاغلوا عن ذلك لَمّا ظهر الإِسلام، فلما كانت الْهُدْنة خرج نوفل بن معاوية الدِّيليّ من بني بكر في بني الديل، حتى بَيَّت خزاعة على ماء لهم، يقال له: الْوَتِير، فأصاب منهم رجلًا، يقال له: مُنَبِّه، واستيقظت لهم خزاعة، فاقتتلوا إلى أن دخلوا الحرم، ولم يتركوا القتال، وأمدَّت قريش بني بكر بالسلاح، وقاتل بعضهم معهم ليلًا في خفية، فلما انقضت الحرب خرج عمرو بن سالم الخزاعيّ، حتى قَدِمَ على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو جالس في المسجد، فقال:

يَا رَبِّ إِنِّي نَاشِدٌ مُحَمَّدَا

حِلْفَ أَبِينَا وَأَبِيهِ الأَتْلَدَا

فَانْصُرْ هَدَاكَ اللهُ نَصْرًا أَيَّدَا

وَادْعُ عِبَادَ اللهِ يَأْتُوا مَدَدَا

إِنَّ قُرَيْشًا أَخْلَفُوكَ الْمَوْعِدَا

وَنَقَضُوا مِيثَاقَكَ الْمُؤَكَّدَا

هُمْ بَيَّتُونَا بِالْوَتِيرِ هُجَّدَا

وَقَتَلُونَا رُكَّعًا وَسُجَّدَا

وَزَعَمُوا أَنْ لَسْتُ أَدْعُو أَحَدَا

وَهُمْ أَذَلُّ وَأَقَلُّ عَدَدَا

(1)

"تاج العروس" 7/ 179 - 180.

ص: 142

قال ابن إسحاق: فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: نُصِرتَ يا عمرو بن سالم، فكان ذلك ما هاج فتح مكة.

وقد رَوَى البزار من طريق حماد بن سلمة، عن محمَّد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه بعض الأبيات المذكورة في هذه القصة، وهو إسناد حسن موصول، ولكن رواه ابن أبي شيبة، عن يزيد بن هارون، عن محمَّد بن عمرو، عن أبي سلمة مرسلًا، وأخرجه أيضًا من رواية أيوب، عن عكرمة مرسلًا مطوَّلًا، قال فيه: لمّا وادع رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل مكة، وكانت خزاعة في صُلحه، وبنو بكر في صلح قريش، فكان بينهم قتال، فأمدتهم قريش بسلاح وطعام، فظهروا على خزاعة، وقتلوا منهم، قال: وجاء وفد خزاعة إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فدعاه إلى النصر، وذكر الشعر، وأخرجه عبد الرزاق، من طريق مِقْسَم، عن ابن عباس رضي الله عنهما مطوّلًا، وليس فيه الشعر.

وأخرجه الطبرانيّ من حديث ميمونة بنت الحارث مطوّلًا، وفيه أيضًا: أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ليلًا وهو في متوضئه: "نُصِرتَ، نُصِرت"، فسألته، فقال:"هذا راجز بني كعب يستصرخني، وزعم أن قريشًا أعانت عليهم بني بكر"، قالت: فأقمنا ثلاثًا، ثمَّ صلى الصبح بالناس، ثمَّ سمعت الراجز ينشده.

وعند موسى بن عقبة في هذه القصّة: قال: ويذكرون أن ممن أعانهم من قريش: صفوان بن أمية، وشيبة بن عثمان، وسهل بن عمرو، ذكره في "الفتح"

(1)

.

[4613]

(1780) - (حَدَّثَنَا شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ الْمُغِيرَة، حَدَّثَنَا ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ رَبَاحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: وَفَدَتْ وُفُودٌ إِلَى مُعَاوِيَةَ، وَذَلِكَ فِي رَمَضَانَ، فَكَانَ يَصْنَعُ بَعْضُنَا لِبَعْضٍ الطَّعَامَ، فَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ مِمَّا يُكْثِرُ أَنْ يَدْعُوَنَا إِلَى رَحْلِه، فَقُلْتُ: أَلَا أَصْنَعُ طَعَامًا، فَأَدْعُوَهُمْ إِلَى رَحْلِي، فَأَمَرْتُ بِطَعَامٍ يُصْنَعُ، ثُمَّ لَقِيتُ أَبَا هُرَيْرَةَ مِنَ الْعَشِيّ، فَقُلْتُ: الدَّعْوَةُ عِنْدِي اللَّيْلَةَ، فَقَالَ:

(1)

"الفتح" 9/ 381 - 382، كتاب "المغازي" رقم (4274).

ص: 143

سَبَقْتَنِي، قُلْتُ: نَعَمْ، فَدَعَوْتُهُمْ، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: أَلَا أُعْلِمُكُمْ بِحَدِيثٍ مِنْ حَدِيثِكُمْ يَا مَعْشَرَ الأَنْصَار، ثُمَّ ذَكَرَ فَتْحَ مَكَّةَ، فَقَالَ: أَقْبَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى قَدِمَ مَكَّةَ

(1)

، فَبَعَثَ الزُّبَيْرَ عَلَى إِحْدَى الْمُجَنِّبَتَيْن، وَبَعَثَ خَالِدًا عَلَى الْمُجَنِّبَةِ الأُخْرَى، وَبَعَثَ أَبَا عُبَيْدَةَ عَلَى الْحُسَّر، فَأَخَذُوا بَطْنَ الْوَادِي، وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي كَتِيبَةٍ، قَالَ: فَنَظَرَ، فَرَآنِي، فَقَالَ:"أَبُو هُرَيْرَةَ؟ "، قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ الله، فَقَالَ:"لَا يَأْتِينِي إِلَّا أَنْصَارِيٌّ"، زَادَ غَيْرُ شَيْبَانَ، فَقَالَ:"اهْتِفْ لِي بِالأَنْصَارِ"، قَالَ: فَأَطَافُوا بِه، وَوَبَّشَتْ قُرَيْشٌ أَوْبَاشًا لَهَا وَأَتْبَاعًا، فَقَالُوا: نُقَدِّمُ هَؤُلَاء، فَإِنْ كَانَ لَهُمْ شَيْءٌ كُنَّا مَعَهُمْ، وَإِنْ أُصِيبُوا أَعْطَيْنَا الَّذِي سُئِلْنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"تَرَوْنَ إِلَى أَوْبَاشِ قُرَيْشٍ، وَأَتْبَاعِهِمْ؟ "، ثُمَّ قَالَ بِيَدَيْه، إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى، ثُمَّ قَالَ:"حَتَّى تُوَافُونِي بِالصَّفَا"، قَالَ: فَانْطَلَقْنَا، فَمَا شَاءَ أَحَدٌ مِنَّا أَنْ يَقْتُلَ أَحَدًا إِلَّا قَتَلَهُ، وَمَا أَحَدٌ مِنْهُمْ يُوَجِّهُ إِلَيْنَا شَيْئًا، قَالَ: فَجَاءَ أَبُو سُفْيَانَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ أُبِيحَتْ خَضْرَاءُ قُرَيْشٍ، لَا قُرَيْشَ بَعْدَ الْيَوْم، ثُمَّ قَالَ:"مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ"، فَقَالَتِ الأَنْصَارُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: أَمَّا الرَّجُلُ فَأَدْرَكَتْهُ رَغْبَةٌ فِي قَرْيَتِه، وَرَأْفَةٌ بِعَشِيرَتِه، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: وَجَاءَ الْوَحْيُ، وَكَانَ إِذَا جَاءَ الْوَحْيُ لَا يَخْفَى عَلَيْنَا

(2)

، فَإِذَا جَاءَ فَلَيْسَ أَحَدٌ يَرْفَعُ طَرْفَهُ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى يَنْقَضِيَ الْوَحْيُ، فَلَمَّا انْقَضَى الْوَحْيُ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ"، قَالُوا: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ الله، قَالَ:"قُلْتُمْ: أَمَّا الرَّجُلُ فَأَدْرَكَتْهُ رَغْبَةٌ فِي قَرْيَتِهِ"، قَالُوا: قَدْ كَانَ ذَاكَ، قَالَ:"كَلَّا، إِنِّي عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، هَاجَرْتُ إِلَى الله، وَإِلَيْكُمْ، وَالْمَحْيَا مَحْيَاكُمْ، وَالْمَمَاتُ مَمَاتُكُمْ"، فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَبْكُونَ، وَيَقُولُونَ: وَاللهِ مَا قُلْنَا الَّذِي قُلْنَا، إِلَّا الضِّنَّ بِالله، وَبِرَسُولِه، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"إِنَّ اللهَ وَرَسُولَهُ يُصَدِّقَانِكُمْ، وَيَعْذِرَانِكُمْ"، قَالَ: فَأَقْبَلَ النَّاسُ إِلَى دَارِ أَبِي سُفْيَانَ، وَأَغْلَقَ النَّاسُ أَبْوَابَهُمْ، قَالَ: وَأَقْبَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى أَقْبَلَ إِلَى الْحَجَر، فَاسْتَلَمَهُ، ثُمَّ طَافَ بِالْبَيْت، قَالَ:

(1)

وفي نسخة: "حين قَدِمَ مكة".

(2)

وفي نسخة: "وكان إذا جاء لا يخفى علينا".

ص: 144

فَأَتَى عَلَى صَنَمٍ إِلَى جَنْبِ الْبَيْتِ

(1)

، كَانُوا يَعْبُدُونَهُ، قَالَ: وَفِي يَدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَوْسٌ، وَهُوَ آخِذٌ بِسِيَةِ الْقَوْس، فَلَمَّا أَتَى عَلَى الصَّنَمِ جَعَلَ يَطْعُنُهُ فِي عَيْنِه، وَيَقُولُ:"جَاءَ الْحَقُّ، وَزَهَقَ الْبَاطِلُ"، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ طَوَافِهِ أَتَى الصَّفَا، فَعَلَا عَلَيْه، حَتَّى نَظَرَ إِلَى الْبَيْت، وَرَفَعَ يَدَيْه، فَجَعَلَ يَحْمَدُ اللهَ، وَيَدْعُو بِمَا شَاءَ أَنْ يَدْعُوَ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ) الْحَبَطيّ، أبو محمَّد الأُبُليّ، صدوقٌ يَهِمُ، ورُمي بالقدر، قال أبو حاتمٍ: اضطرّ الناس إليه أخيرًا، من صغار [9](ت 5 أو 236) وله بضع وتسعون سنة (م د س) تقدم في "الإيمان" 12/ 157.

2 -

(سُلَيْمَانُ بْنُ الْمُغِيرَةِ) الْقَيسيّ مولاهم، أبو سعيد البصريّ، ثقة ثبتٌ [7](ت 165)(ع) تقدم في "الإيمان" 3/ 111.

3 -

(ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ) بن أسلم البصريّ المذكور في السند الماضي.

4 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ رَبَاحٍ) الأنصاريّ، أبو خالد المدنيّ، سكن البصرة، ثقةٌ [3] قتله الأزارقة (م 4) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 57/ 1562.

5 -

(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه تقدم في "المقدمة" 2/ 4.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنَّه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالبصريين، سوى الصحابيّ، فمدنيّ، وفيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه أحفظ من روى الحديث في دهره، روى (5374) حديثًا.

شرح الحديث:

(عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ رَبَاحٍ) بفتح الراء، وتخفيف الموحّدة الأنصاريّ، (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (قَالَ: وَفَدَتْ) يقال: وَفَدَ إليه، وعليه، يَفِدُ وَفْدًا، ووُفُودًا، ووِفَادةً، وإفادةً: إذا قَدِمَ، وورَدَ، وأوفد عليه، وإليه، وهم: وُفُودٌ، ووَفْدٌ، وأوفادٌ، ووُفَّدٌ، قاله المجد رحمه الله

(2)

.

وقال الفيّوميّ رحمه الله: وَفَدَ على القوم وَفْدًا، من باب وَعَدَ، ووُفُودًا، فهو

(1)

وفي نسخة: "إلى جانب البيت".

(2)

"القاموس المحيط" ص 1410.

ص: 145

وافد، وقد يُجْمَعُ على وُفّاد، ووُفَّدٍ، وعلى وَفْدٍ، مثلُ صاحب وصَحْبٍ، ومنه:"الحاجّ وَفْدُ الله"، وجمع الْوَفْد: أوفادٌ، ووُفُودٌ. انتهى

(1)

.

(وُفُودٌ) بضمّ الواو: جمع وافد، أو وَفْد، كما سبق آنفًا. (إِلَى مُعَاوِيَةَ) بن أبي سفيان رضي الله عنهما المتوفّى في رجب سنة (60 هـ) تقدّمت ترجمته في "الصلاة" 8/ 858.

وفي الرواية الآتية من طريق حمّاد بن سلمة، عن ثابت، عن عبد الله بن رباح قال:"وفَدْنا إلى معاوية بن أبي سفيان، وفينا أبو هريرة"، (وَذَلِكَ)؛ أي: وُفودهم (فِي) شهر (رَمَضَانَ) قاله عبد الله بن رَبَاح، وقوله:(فَكَانَ) هي هنا شأنيّة؛ أي: كان الشأن والحال، (يَصْنَعُ بَعْضُنَا لِبَعْضٍ الطَّعَامَ) وفي الرواية التالية:"كان كلُّ رجل منَّا يصنع طعامًا يومًا لأصحابه، فكانت نوبتي"، قال القرطبيّ رحمه الله: هذه المناوبة في الطعام كانت منهم على جهة المكارَمة، والمطايبة، والتبرك بالمؤاكلة، والمشاركة فيها، لا على جهة المعاوضة، والمشاحَّة؛ ولذلك قال أبو هريرة رضي الله عنه للذي دعاه:"سبقتني"، ففيه ما كان السلف عليه من حسن التودد، والمزاورة، والمواصلة، والمكارمة. انتهى

(2)

.

(فَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (مِمَّا يُكْثِرُ)"ما" هنا مستعملة في العاقل؛ أي: ممن يُكثر (أَنْ يَدْعُوَنَا إِلَى رَحْلِهِ) بفتح، فسكون؛ أي: مكان نزوله، قال الفيّوميّ رحمه الله: رَحْلُ الشخص: مأواه في الحضر، ثمّ أُطلق على أمتعة المسافر؛ لأنها هناك مأواه. انتهى

(3)

. (فَقُلْتُ: أَلَا) بفتح الهمزة، وتخفيف اللام: أداة عَرْض، وتحضيض، والمراد: حضّ نفسه، وحثّها على صنع الطعام لهم. (أَصْنَعُ طَعَامًا، فَأَدْعُوَهُمْ) بالنصب بـ"أن" مضمرةً بعد الفاء السببيّة الواقعة في جواب العرض، كما في قول الشاعر:

يَا ابْنَ الْكِرَامِ أَلَا تَدْنُو فَتُبْصِرَ مَا

قَدْ حَدَّثُوكَ فَمَا رَاءِ كَمَنْ سَمِعَا

وإلى هذا أَشار ابن مالك رحمه الله في "خلاصته"، حيث قال:

وَبَعْدَ فَا جَوَابِ نَفْيٍ أَوْ طَلَبْ

مَحْضَيْنِ "أَنْ" وَسَتْرُهُ حَتْمٌ نَصَبْ

(إِلَى رَحْلِي، فَأَمَرْتُ)؛ أي: الخادم، (بِطَعَامٍ يُصْنَعُ) بالبناء للمفعول في

(1)

"المصباح المنير" 2/ 666.

(2)

"المفهم" 3/ 628.

(3)

"المصباح المنير" 1/ 222.

ص: 146

محلّ جرّ صفة لـ"طعام"، (ثُمَّ لَقِيتُ) بكسر القاف، من باب عَلِم، (أَبَا هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (مِنَ الْعَشِيِّ)"من" بمعنى "في"، و"العشيّ" - بفتح العين المهملة، وكسر الشين المعجمة، وتشديد الياء -: قيل: هو ما بين الزوال إلى الغروب، ومنه يقال للظهر والعصر: صلاتا العشيّ، وقيل: هو آخر النهار، وقيل: العشيّ من الزوال إلى الصباح، وقيل: العشيّ، والعِشَاء من صلاة المغرب إلى الْعَتَمَة، وعليه قول ابن فارس: العِشاءان: المغربُ والْعَتَمةُ، قاله الفيّوميّ

(1)

.

(فَقُلْتُ: الدَّعْوَةُ) قال الفيّوميّ رحمه الله: "الدَّعْوة" بالفتح في الطعام، اسم من دَعَوْتُ الناسَ: إذا طلبتهم ليأكلوا عندك، يقال: نحنُ في دَعْوَة فلان، ومَدْعاته، ودُعائه بمعنًى، وقال قبل ذلك: الدِّعْوة بالكسر في النسبة، يقال: دَعَوته بابن زيد، قال الأزهريّ: الدِّعْوة بالكسر: ادّعاءُ الولد الدّعِيّ غيرَ أبيه، ثمَّ قال: قال أبو عُبيد: وهذا كلام أكثر العرب، إلا عَدِيّ الرباب، فإنهم يَعْكسون، ويَجعلون الفتح في النسب، والكسر في الطعام. انتهى باختصار

(2)

.

(عِنْدِي اللَّيْلَةَ) الظرفان متعلّقان بـ"الدَّعْوَة"، وفي الرواية الآتية:"فكانت نوبتي، فقلت: يا أبا هريرة اليومُ نوبتي". (فَقَالَ) أبو هريرة رضي الله عنه (سَبَقْتَنِي)؛ أي: إلى الدَّعْوة، فإني كنت أريدها لنفسي، قال عبد الله:(قُلْتُ: نَعَمْ) سبقتك إليها، فلتُجب دعوتي؛ للأمر بذلك في قوله صلى الله عليه وسلم حين ذكر حقّ المسلم على المسلم، فقال:"حقّ المسلم على المسلم ستٌّ: إذا لَقِيْتَه فسلم عليه، وإذا دعاك فأجبه، وإذا استنصحك فانصح له، وإذا عَطَس فحمد الله، فشَمِّته، وإذا مَرِض فعُدْه، وإذا مات فاتّبعه"، رواه مسلم.

قال عبد الله: (فَدَعَوْتُهُمْ)؛ أي: دعوت أبا هريرة، ورِفقته إلى الطعام، (فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (أَلَا) أداة عرض وتحضيض (أُعْلِمُكُمْ) - بضمّ أوله، وكسر اللام المخفّفة -، من الإعلام، ويَحْتَمِل أن يكون بتشديدها، من التعليم، (بِحَدِيثٍ مِنْ حَدِيثِكُمْ)؛ أي: بعض حديث فيه شرفكم، وفضلكم، (يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ) ظاهر هذه الرواية يدلّ على أن أبا هريرة رضي الله عنه بدأهم بالتحديث، من غير طَلَب منهم، لكن سيأتي ما يُعارضه في الرواية الثالثة، ولفظه: "فجاءوا إلى

(1)

"المصباح المنير" 2/ 412.

(2)

راجع: "المصباح المنير" 1/ 195.

ص: 147

المنزل، ولم يُدرِك الطعام، فقلت: يا أبا هريرة لو حدّثتنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يُدرِك الطعام، فقال: كنّا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح. . ."، فإن هذا يدلّ على طلب عبد الله بن رَبَاح من أبي هريرة رضي الله عنه أن يُحدّثهم.

ويُجمع بينهما بأن عبد الله طلب منه أوّلًا أن يُحدّثهم، ثمَّ ذكر أبو هريرة رضي الله عنه حديث فتح مكة إجابة لطلبه، والله تعالى أعلم.

(ثُمَّ ذَكَرَ) بالبناء للفاعل؛ أي: ذكر أبو هريرة رضي الله عنه (فَتْحَ مَكَّةَ) قال القاضي عياض رحمه الله: إنما اختار أبو هريرة رضي الله عنه ذِكْر فتح مكة؛ لِيُعْلم من لم يحضره من أبناء الأنصار، ولذلك قال لهم:"ألا أُعْلِمُكم بحديث من حديثكم". انتهى

(1)

.

(فَقَالَ) أبو هريرة رضي الله عنه في سوقه الحديث: (أَقْبَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) من المدينة إلى مكة، (حَتَّى قَدِمَ مَكَّةَ) ووقع في بعض النسخ:"حين قدم مكة"، والأول أوضح. (فَبَعَثَ) صلى الله عليه وسلم (الزُّبَيْرَ) بن العوّام بن خُويلد بن أسد بن عبد الْعُزَّى بن قُصيّ بن كلاب، أبا عبد الله القرشيَّ الأسديّ، أحد العشرة المشهود لهم بالجنّة، قُتل سنة (36 هـ) بعد مُنصرفه من وقعة الْجَمَل. (عَلَى إِحْدَى الْمُجَنِّبَتَيْنِ) - بضمّ الميم، وفتح الجيم، وكسر النون المشدّدة -؛ أي: على إحدى القطعتين اللتين تمشيان في جانبي الجيش، والمراد هنا: الميسرة، كما بيّنه في الرواية الثالثة بقوله:"فجعل خالد بن الوليد على المجنّبة اليُمنى، وجعل الزبير على المجنّبة اليُسرى"، وذلك أن العادة أن الجيش يُقسّم خمسة أقسام: المقدّمة، وهي القطعة التي تمشي أمام الجيش، والقلب، وهو الذي يكون في الوسط، والميمنة، وهي التي تمشي في جانب يمين الجيش، والميسرة، وهي التي تمشي في جانب يساره، والساقة، وهي التي تمشي خلف الجيش، والله تعالى أعلم.

(وَبَعَثَ خَالِدًا)؛ أي: ابن الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عُمَر بن المخزوم، سيف الله، أبو سليمان، من كبار الصحابة رضي الله عنهم، أسلم بين الحديبية والفتح، ومات رضي الله عنه سنة (1 أو 22 هـ). (عَلَى الْمُجَنِّبَةِ الأُخْرَى) هي اليمين،

(1)

"إكمال المعلم" 6/ 138.

ص: 148

كما أسلفته آنفًا، (وَبَعَثَ أَبَا عُبَيْدَةَ) بن الْجَرّاح، واسمه عامر بن عبد الله الْجَرّاح بن هلال بن أُهيب بن ضبّة بن الحارث بن فِهْر القرشيّ الفِهريّ، أحد العشرة المبشّرين بالجنّة، أسلم قديمًا، وشَهِد بدرًا، مات شهيدًا بطاعون عَمَوَاس، سنة (18 هـ). (عَلَى الْحُسَّرِ) - بضمّ الحاء، وتشديد السين المهملتين -: جمع حاسر؛ أي: الذين لا دُرُوع عليهم، والمراد بهم هنا: الرّجّال، كما سيأتي في الرواية الثالثة بلفظ:"على البياذقة"، وهم الرّجّالة. (فَأَخَذُوا بَطْنَ الْوَادِي)؛ أي: جعلوا طريقهم في بطن الوادي، وقوله:(وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي كَتِيبَةٍ) جملة في محلّ نصب على الحال؛ أي: والحال أنَّه صلى الله عليه وسلم كائن في كتيبة من الجيش، و"الكتيبة": بفتح، فكسر: هي الطائفة من الجيش مجتمعةً، والجمع: كتائب، والمراد بهم هنا القلب.

والحاصل أنَّه كان الزبير، وخالد على المجنِّبتين، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في القلب، وكان أبو عبيدة على الرّجّالة، والله تعالى أعلم.

(قَالَ) أبو هريرة رضي الله عنه (فَنَظَرَ)؛ أي: نظر النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى الصحابة رضي الله عنهم (فَرَآنِي، فَقَالَ: "أَبُو هُرَيْرَةَ؟ ")؛ أي: أنت أبو هريرة؟ ففيه حذف أداة الاستفهام (قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ)؛ أي: أجيب نداءك إجابة بعد إجابة، وهو كناية عن شدّة عنايته بالطاعة، وتوجهه إليه بكلّيّته، (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("لَا يَأْتِينِي إِلَّا أَنْصَارِيٌّ") وقوله:(زَادَ غَيْرُ شَيْبَانَ) هو: ابن فرّوخ شيخ المصنّف في السند الماضي، ومفعول "زاد" قوله:(فَقَالَ. . . إلخ) فهو في محكيّ؛ لقصد لفظه.

[تنبيه]: قوله: "زاد غير شيبان. . . إلخ" قال الحافظ رشيد الدين العطّار رحمه الله في "غرر الفوائد": وهذه الزيادة غير متّصلة في الكتاب. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: مراد الرشيد: أن قول مسلم رحمه الله: "زاد غير شيبان" ليس متّصلًا؛ لأنه لم يذكر مسلم سماعه، من ذلك الغير، ولم يُعرف أيضًا من هو؟.

لكن قد تبيّن أن الحديث متّصل من غير طريق شيبان أيضًا، فقد رواه عن سليمان بن المغيرة غيره، منهم أبو بكر بن أبي شيبة، في "مصنّفه"، وبهز بن

(1)

"غرر الفوائد المجموعة" ص 53.

ص: 149

أسد، وهاشم بن القاسم كلاهما عند أحمد في "مسنده"، وزيد بن الحباب عند البيهقيّ في "السنن الكبرى"، وعمرو بن عاصم الكلابيّ عند أبي عوانة في "مسنده"، ويحيى بن زكريّا بن أبي زائدة عند الطحاويّ في "شرح معاني الآثار"، فكلّ هؤلاء الستّة رووه عن سليمان بن المغيرة، بسنده، بلفظ:"اهتف لي بالأنصار"، ولنذكر رواية أبي بكر بن أبي شيبة، في "مصنفه"، قال:

(36899)

- حدّثنا أبو بكر

(1)

، قال: حدّثنا أبو أسامة، قال: حدّثنا سليمان بن المغيرة، قال: حدّثنا ثابت البنانيّ، عن عبد الله بن رَبَاح، قال: وَفَدَتْ وفودٌ إلى معاوية، وفينا أبو هريرة، وذلك في رمضان، فجعل بعضنا يصنع لبعض الطعام، قال: فكان أبو هريرة ممن يصنع لنا، فيُكْثِر، فيدعونا إلى رحله، قال: قلت: ألا أصنع لأصحابنا، فأدعُوَهم إلى رحلي، قال: فأمرت بطعام يُصْنَع، ولقيت أبا هريرة من العشيّ، فقلت: الدَّعْوَة عندي الليلةَ، قال: أسبقتني؟ قال: قلت: نعم، قال: فدعوتهم، فهم عندي، قال: قال أبو هريرة: ألا أعلمكم بحديث من حديثكم، يا معشر الأنصار؟ قال: ثمَّ ذكر فتح مكة، قال: أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دخل مكة، وبَعَثَ الزبير بن العوّام على إحدى الْمُجَنِّبتين، وبَعَث خالد بن الوليد على المجنبة الأخرى، وبعث أبا عبيدة على الْحُسَّر، فأخذوا بطن الوادي، قال: ورسول الله صلى الله عليه وسلم في كَتِيبة، قال: فناداني، قال:"يا أبا هريرة"، قلت: لبيك يا رسول الله، قال:"اهْتِفْ لي بالأنصار، ولا يأتيني إلا أنصاريّ"، قال: فهتفت بهم، قال: فجاؤوا، حتى أطافوا به، قال: وقد وَبَّشَتْ قريشٌ أوباشًا لها، وأتباعًا، قالوا: فإن تقدَّم هؤلاء كان لهم شيء كُنّا معهم، وإن أصيبوا أَعْطَيْنا الذي سُئلنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للأنصار حين أطافوا به:"أَتَرَون إلى أوباش قريش، وأتباعهم؟ " ثمَّ قال بيديه إحداهما على الأخرى: "احصُدُوهم"، ثمَّ ضرب سليمان بحرف كفه اليمنى على بطن كفه اليسرى:"احصُدوهم حَصْدًا حتى توافوا بالصفا"، فانطلقنا، فما أحدٌ منا يشاء أن يَقتل منهم أحدًا إلا قتله، وما أحد منهم يوجِّه إلينا شيئًا، فقال أبو

(1)

قائل: "حدّثنا أبو بكر" هو الراوي عن ابن أبي شيبة، وهو أبو بكر، فتنبّه، وبالله تعالى التوفيق.

ص: 150

سفيان: يا رسول الله أبيحت خضراء قريش، بعد هذا اليوم، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أغلق بابه فهو آمن"، قال: فغَلّق الناس أبوابهم، قال: فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى استلم الحجر، وطاف بالبيت، فأتى على صنم إلى جنب البيت يعبدونه، وفي يده قَوْسٌ، وهو آخذ بِسِيَةِ القوس، فجعل يَطْعُن بها في عينه، ويقول:{جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ} [الإسراء: 81]، حتى إذا فرغ من طوافه أتى الصفا، فعلاها، حيث ينظر إلى البيت، فرفع يديه، وجعل يحمد الله، ويذكره، ويدعو بما شاء أن يدعو، قال: والأنصار تحته، قال: يقول الأنصار بعضها لبعض: أما الرجل فأدركته رغبة في قريته، ورأفة بعشيرته، قال: قال أبو هريرة: وجاء الوحي، وكان إذا جاء الوحي، لم يَخْفَ علينا، فليس أحد من الناس يرفع طَرَفه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يَقْضِي، فلما قضي الوحيُ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"يا معشر الأنصار"، قالوا: لبيك يا رسول الله، قال: قلتم: أما الرجل فأدركته رغبة في قريته، ورأفة بعشيرته؟ قالوا: قد قلنا ذلك يا رسول الله، قال:"فما اسمي إذًا؟ كلّا إني عبد الله ورسوله، هاجرت إلى الله، وإليكم، المحيا محياكم، والممات مماتكم"، قال: فأقبلوا إليه يبكون، يقولون: والله يا رسول الله ما قلنا الذي قلنا، إلا للضِّنِّ بالله ورسوله، قال:"فإن الله ورسوله يَعْذِرانكم، ويُصَدِّقانكم". انتهى

(1)

.

والحاصل أن هذه الزيادة - أعني قوله: "اهتف لي بالأنصار" ثابتة صحيحة، ولعلّ المصنّف رحمه الله لاعتماده على صحتها، حيث رآها من رواية هؤلاء الستّة، أوردها خلال الحديث، ولم يُفصح بمن زادها؛ لكثرتهم، والله تعالى أعلم.

(اهْتِفْ) بوصل الهمزة، وكسر التاء، (لِي بِالأَنْصَارِ")؛ أي: ادعُهم إليّ، يقال: هَتَفَ به هَتْفًا، من باب ضَرَبَ: صاح به، ودعاه، وهَتَفَ به هاتفٌ: سَمِع صوتَهُ، ولم يَرَ شَخْصَهُ، وهَتَفَت الحمامةُ: صَوَّتَت، قاله الفيّوميّ رحمه الله

(2)

.

وقال المنذريّ في "تلخيص أبي داود": الْهَتْفُ: الصوتُ، وهَتَفَ به؛ أي: صاح به، وهذا ثقةٌ منه صلى الله عليه وسلم بالأنصار، واستنابة إليهم، وتقريبٌ لهم لمّا

(1)

"مصنف ابن أبي شيبة" 7/ 397.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 633.

ص: 151

قرُب من قومه ودارهم، وقد كان معه هناك المهاجرون أيضًا، يُحيطون به. انتهى

(1)

.

وقال النوويّ رحمه الله: إنما خصّ الأنصار؛ لثقته بهم، ورفعًا لمراتبهم، وإظهارًا لجلالتهم، وخصوصيّتهم. انتهى

(2)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: ونداؤه صلى الله عليه وسلم للأنصار خاصة، إما لأنَّ المهاجرين كانوا حضورًا معه، فلم يحتج إلى ندائهم، وإما ليُظْهِر لهم شدّة اعتنائه بهم، وتعويله عليهم، قال: ويظهر لي أن اختصاصه بالأنصار في هذا الموضع، وقولَهُ:"لا يأتيني إلا أنصاريٌّ"، كما جاء في الرواية الأخرى، إنما كان لأنه وصَّاهم بقتل مَن تَعَرَّض لهم من قريش؛ إذ لا قرابة، ولا رَحِمَ بينهم، فلا موجب للعطف عليهم، بخلاف المهاجرين؛ فإن بينهم قرابات، وأرحامًا، فلا جَرَم لمّا سمعت الأنصار أمْره مَضَوْا لذلك، فلم يتعرض لهم أحد إلا أناموه؛ أي: قتلوه، فصيّروه كالنائم، والله تعالى أعلم. انتهى

(3)

.

(قَالَ) أبو هريرة: (فَأَطَافُوا بِهِ)؛ أي: أحاط الأنصار بالنبيّ صلى الله عليه وسلم، وقال القاضي عياض رحمه الله: قوله: "لا يأتيني إلا أنصاريّ" ثقة منه بهم، وليستمع إليهم، وتقريبًا لهم لمّا قرُب من داره وقومه، وقد كان معه المهاجرون أيضًا يحيطون به، كما كان في كتيبته، وإنما أراد: لا يأتيني مَا قابل العرب النافرين معه - والله أعلم - غير الأنصار، وهذا يجمع بين ما جاء في "صحيح البخاريّ" من أن كتيبة الأنصار كانت مع سعد بن عبادة، وأن كتيبة المهاجرين مع الزبير، فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعض ما جاء في "السَّيَر" أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان في كتيبة من المهاجرين والأنصار، فيدلّ ما في "صحيح مسلم" أنَّه دعا الأنصار، فجمعهم بعد افتراقهم، وأنه فرّقهم بعد هذا الاجتماع بذي طوى على ما جاء في "السِّيَر"، فوجّه بعضهم من أسفلها، وبعضهم من أعلاها، والله تعالى أعلم

(4)

.

(1)

"تلخيص سنن أبي داود" للمنذريّ 4/ 242.

(2)

"شرح النوويّ" 12/ 127.

(3)

"المفهم" 3/ 629.

(4)

"إكمال المعلم" 6/ 139 - 140.

ص: 152

(وَوَبَّشَتْ) بتشديد الباء الموحّدة؛ أي: جمعت (قُرَيْشٌ أَوْبَاشًا لَهَا)؛ أي: جموعًا من قبائل شتّى، ويقال: هم أوباش، وأوشاب بمعنى واحد، ذكره عياض رحمه الله

(1)

، وقال المجد: الْوَبَشُ بالتحريك: واحد الأوباش، وهم الأخلاط، والسَّفِلَةُ. انتهى

(2)

. (وَأَتْبَاعًا، فَقَالُوا)؛ أي: قالت قريشٌ فيما بينهم، (نُقَدِّمُ هَؤُلَاءِ) الأوباش والأتباع إلى المسلمين؛ ليقاتلوهم (فَإِنْ كَانَ لَهُمْ شَيْءٌ) من النصر والغلبة (كُنَّا مَعَهُمْ)؛ أي: ننضمّ إليهم، ونقاتل المسلمين معهم، (وَإِنْ أُصِيبُوا)؛ أي: أصابهم المسلمون، وانتصروا عليهم (أَعْطَيْنَا الَّذِي سُئِلْنَا) بالبناء للمفعول؛ أي: انقدنا، وخضعنا للمسلمين، وأعطيناهم ما طلبوا منّا، من مال أو غيره.

وحاصل المعنى: أنهم قالوا: إن ثبت هؤلاء الأوباش، والأتباع على قتال المسلمين، وقرُب انتصارهم عليهم لَحِقْنا بهم، وقاتلنا معهم حتى يضاف النصر والغلبة إلينا، وإن انهزم هؤلاء أعطينا المسلمين ما يريدون منّا من الاستسلام، أو الجزية، أو الفدية، ونحو ذلك، والله تعالى أعلم.

(فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) للأنصار ("تَرَوْنَ) بتقدير أداة الاستفهام؛ أي: أترون (إِلَى أَوْبَاشِ قُرَيْشٍ، وَأَتْبَاعِهِمْ؟ "، ثُمَّ قَالَ)؛ أي: أشار صلى الله عليه وسلم، ففيه إطلاق القول على الفعل، (بِيَدَيْهِ) الشريفتين، وقوله:(إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى) جملة حاليّة؛ أي: والحال أن إحدى يدي النبيّ صلى الله عليه وسلم موضوعة فوق الأخرى، والموضوعة هي اليمنى، والموضوعة عليها هي اليسرى، وهذا كناية قتلهم، وذبحهم، وقد أوضح ذلك في الرواية الثالثة حيث قال: "فقال: يا معشر الأنصار، هل ترون أوباش قريش؟، قالوا: نعم، قال: انظروا إذا لقيتموهم غدًا أن تحصدوهم حَصْدًا، وأحفى بيده

(3)

، ووضع يمينه على شماله". (ثُمَّ) بعد أن أشار إليهم

(1)

"إكمال المعلم" 6/ 140.

(2)

"القاموس المحيط" ص 1377.

(3)

قوله: "وأحفى" صحيح الرواية - كما قال القرطبيّ - بالحاء المهملة؛ أي: استأصل، وبعضهم رواه:"وأكفى" بالكاف؛ أي: أمال بيده، فكأنه صلى الله عليه وسلم وضع يمينه على شماله أمرّها عليها مشيرًا إلى الاستئصال، ووقع في بعض النسخ بلفظ:"وأخفى" بالخاء المعجمة، وليس بواضح المعنى، فتأمل، والله تعالى أعلم.

ص: 153

بقتلهم، وإبادتهم (قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("حَتَّى تُوَافُونِي بِالصَّفَا")؛ أي: استمرّوا على ما ذكرت لكم حتى تلقوني على جبل الصفا، وفي الرواية الأخرى:"موعدكم الصفا"، قال القرطبيّ رحمه الله: ظاهره أن خطابه للأنصار، فكأنه صلى الله عليه وسلم سلك الطريق الأعلى من مكة، وسلكت الأنصار من أسفلها، حتى اجتمعوا عند الصفا.

و"الموعد" هنا: موضع الوعد، وقد يأتي كذلك في الزمان؛ كقوله تعالى:{إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ} [هود: 81]، ويأتي كذلك للمصدر، وهو في كل ذلك مكسور العين. انتهى

(1)

.

(قَالَ) أبو هريرة رضي الله عنه: (فَانْطَلَقْنَا، فَمَا شَاءَ أَحَدٌ مِنَّا)؛ أي: من المسلمين، (أَنْ يَقْتُلَ أَحَدًا)؛ أي: من الأوباش والأتباع، (إِلَّا قَتَلَهُ) وفي الرواية الآتية:"فما أشرف أحد إلا أناموه"؛ أي: قتلوه، وأسقطوه على الأرض، (وَمَا أَحَدٌ مِنْهُمْ يُوَجِّهُ إِلَيْنَا شَيْئًا)؛ أي: من السلاح ونحوه، وذلك لشدّة رعبهم، وخوفهم، والمراد: أنهم لا يقدرون على الدفاع عن أنفسهم؛ لِمَا ذُكر.

(قَالَ) أبو هريرة: (فَجَاءَ أَبُو سُفْيَانَ) صخر بن حرب، وكان قد أسلم قبل ذلك بقليل، (فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ أُبِيحَتْ خَضْرَاءُ قُرَيْشٍ)؛ أي: أُبيح قتلها، وفي الرواية الآتية:"أُبيدت خضراء قريش"؛ أي: أُهلكت، وأُفنيت، قال النوويّ رحمه الله: كذا في هذه الرواية: "أُبيحت"، وفي التي بعدها:"أُبيّدت"، وهما متقاربان؛ أي: استُؤصِلت قريش بالقتل، وأُفنيت، وخضراؤهم: بمعنى جماعتهم، ويُعَبَّر عن الجماعة المجتمعة بالسواد، والخضرة، ومنه: السواد الأعظم. انتهى

(2)

.

(لَا قُرَيْشَ بَعْدَ الْيَوْمِ) لا يوجد أحد منهم إن استمرَّ فيها هذا الحال، وهذا صريح في أنهم أثخنوا فيهم بالقتل، وأكثروا، فهو يؤيّد رواية الطبرانيّ أن خالدًا قتل منهم سبعين.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "لا قريش بعد اليوم"؛ أي: لا وجود لقريش بعد هذا، وذلك لِمَا رأى من هول الأمر، والغلبة، والقهر، والاستطالة، والاستيلاء عليهم، وهذا الحديث لمالك نصّ على أن النبيّ صلى الله عليه وسلم دخلها عنوة،

(1)

"المفهم" 3/ 630.

(2)

"شرح النوويّ" 12/ 127.

ص: 154

وقهرًا، وهو الذي صار إليه جمهور العلماء، والفقهاء: مالك، وغيره، عدا الشافعيّ، فإنَّه قال: فُتِحَت صلحًا، وقد اعتَذَر عنه بعض أصحابه عنه في ذلك بأن قال: أراد الشافعيّ بقوله: إنه دخل مكة صلحًا؛ أي: فَعَلَ فيها ما يفعله مَنْ صَالَحَ، فملّكهم أنفسهم، ومالهم، وأرضيهم.

قال القرطبيّ رحمه الله: والكل متفقون على أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لَمّا دخل مكة أَمَّنَ أهلها، ولم يَغْنَمهم، وترك لهم أموالهم، وذراريهم، وأراضيهم، ولم يُجْرِ عليها حكم الغنيمة، ولا حكم الفيء، فكان ذلك أمرًا خاصًّا بمكة؛ لشرفها، وحرمتها، ولا يساويها في ذلك غيرها من البلاد بوجه من الوجوه، والله تعالى أعلم، وقد تقدم الكلام في بيع دور مكة وإجاراتها. انتهى

(1)

.

(ثُمَّ قَالَ) صلى الله عليه وسلم تأليفًا لقلب أبي سفيان؛ لكونه حديث عهد بالكفر ("مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ")؛ أي: لا يجوز التعرض له بالقتل ونحوه، قال النوويّ رحمه الله: استَدَلّ به الشافعيّ، وموافقوه على أن دُور مكة مملوكة، يصح بيعها، وإجارتها؛ لأنَّ أصل الإضافة إلى الآدميين تقتضي الملك، وما سوى ذلك مجاز، وفيه تأليف لأبي سفيان، وإظهار لشرفه. انتهى

(2)

.

(فَقَالَتِ الأَنْصَارُ بَعْضُهُمْ) مرفوع على البدليّة، (لِبَعْضٍ: أَمَّا الرَّجُلُ) يريدون النبيّ صلى الله عليه وسلم، (فَأَدْرَكَتْهُ رَغْبَةٌ فِي قَرْيَتِهِ) يريدون مكة؛ أي: رغِب في سكنى مكة بدلًا من المدينة، (وَرَأْفَةٌ بِعَشِيرَتِهِ)؛ أي: قومه قريش، قال الفيّوميّ رحمه الله: العَشِيرة: القبيلةُ، ولا واحد لها من لفظها، والجمع: عَشِيراتٌ، وعَشَائر. انتهى

(3)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قول الأنصار هذا ليس فيه تنقيص، ولا تصغير، وإنما هم لَمّا رأوا منه صلى الله عليه وسلم ما تقتضيه خلق الكرام، وجِبِلّات الفضلاء من الرأفة على العشيرة، والميل للوطن، والحنين له، خافوا أن يؤثر المقام فيها على المقام بالمدينة، فحملهم شدة محبتهم له، وكراهة مفارقته، أو مفارقة أوطانهم، على أن قالوا هذا الكلام، وقد بيَّنوا عذرهم عن هذا حيث قالوا: "ما قلناه إلا

(1)

"المفهم" 3/ 630 - 631.

(2)

"شرح النوويّ" 12/ 127.

(3)

"المصباح المنير" 2/ 411.

ص: 155

ضنًّا برسول الله صلى الله عليه وسلم"؛ أي: بخلًا، وإخباره صلى الله عليه وسلم إياهم ما قالوا، معجزةٌ من معجزاته. انتهى

(1)

.

(قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه: (وَجَاءَ الْوَحْيُ)؛ أي: حامل الوحي، وهو الملك، وقوله:(وَكَانَ) هي شأنيّة؛ أي: الشأن والأمر (إِذَا جَاءَ الْوَحْيُ) إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (لَا يَخْفَى عَلَيْنَا)؛ أي: مجيء الوحي، وفي بعض النسخ:"وكان إذا جاء لا يخفى علينا"، والمعنى: أن الوحي إذا نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم يظهر لنا نزوله؛ لأنه كان يأخذه الرحضاء، كأنما يُغشى عليه. (فَإِذَا جَاءَ)؛ أي: إذا نزل الوحي على النبيّ صلى الله عليه وسلم (فَلَيْسَ أَحَدٌ يَرْفَعُ طَرْفَهُ) بسكون الراء؛ أي: بصره للنظر (إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) من شدّة الهيبة (حَتَّى يَنْقَضِيَ الْوَحْيُ)؛ أي: ينتهي، قال:(فَلَمَّا انْقَضَى الْوَحْيُ)؛ أي: انتهى، وذهب الملك من عنده، (قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ"، قَالُوا: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ الله، قَالَ:"قُلْتُمْ: أَمَّا الرَّجُلُ فَأَدْرَكَتْهُ رَغْبَةٌ)؛ أي: طَمَعٌ (فِي قَرْيَتِهِ")؛ أي: في سكناها، (قَالُوا)؛ أي: الأنصار (قَدْ كَانَ ذَاكَ)؛ أي: حصل هذا القول منا (قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("كَلَّا)؛ أي: انزجروا من هذا القول، فـ "كلّا" هي كلمة زجر لِمَا قبلها، ويحتمل أن تكون بمعنى حقًّا، فترتبط بما بعدها.

وقال النوويّ رحمه الله: قوله: "وقالت الأنصار بعضهم لبعض إلى قوله: إن الله ورسوله يصدّقانكم، ويعذِرانكم": معنى هذه الجملة أنهم رأوا رأفة النبيّ صلى الله عليه وسلم بأهل مكة، وكفّ القتلَ عنهم، فظنُّوا أنَّه يرجع إلى سكنى مكة، والمقام فيها دائمًا، ويرحل عنهم، ويَهْجُر المدينة، فشقّ ذلك عليهم، وأوحى الله تعالى إليه صلى الله عليه وسلم، فأعلمهم بذلك، فقال لهم صلى الله عليه وسلم: قلتم كذا وكذا؟ قالوا: نعم، قد قلنا هذا، فهذه معجزة من معجزات النبوة، فقال:"كلا إني عبد الله ورسوله": معنى "كلّا" هنا حَقًّا، ولها معنيان: أحدهما حقًّا، والآخر النفي. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: المناسب هنا لـ"كلّا" معنيان: أحدهما الزجر، والرَّدْع؛ أي: انزجروا عما قلتم، والمعنى الثاني أن تكون بمعنى "ألا"

(1)

"المفهم" 3/ 631 - 632.

(2)

"شرح النوويّ" 12/ 128.

ص: 156

الاستفتاحيّة، فقد ذكر ابن هشام في "مغنيه"

(1)

: أن "كَلّا" تكون للردع والزجر، وعليه الجمهور، وزاد غيرهم معنى آخر، ثمَّ اختلفوا فيه، فقال الكسائيّ ومَنْ تابَعه: تكون بمعنى حقًّا، وقال أبو حاتم السجستانيّ، ومن تابعه: تكون بمعنى "ألا" الاستفتاحيّة، وقال النضر بن شُميل، والفرّاء: تكون حرف جواب، بمنزلة "إِيْ"، و"نعم"، وارتضى ابن هشام من هذه الأقوال قول أبي حاتم ومتابعيه، وهو كونها بمعنى "ألا"، وهو أيضًا معنى مناسب لهذا الحديث، فتأمله، والله تعالى أعلم.

وقوله: (إِنِّي) بكسر الهمزة، (عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ) قال النوويّ رحمه الله: يَحْتَمِل وجهين: أحدهما: إني رسول الله حقًّا، فيأتيني الوحي، وأُخبر بالمغيَّبات، كهذه القضيّة، وشِبْهها، فَثِقُوا بما أقول لكم، وأخبركم به، في جميع الأحوال، والآخر: لا تفتتنوا بإخباري إياكم بالمغيبات، وتُطروني كما أطرت النصارى عيسى - صلوات الله عليه - فإني عبد الله، ورسوله. انتهى

(2)

.

(هَاجَرْتُ إِلَى اللهِ)؛ أي: ابتغاء مرضاته، (وَإِلَيْكُمْ)؛ أي: إلى بلدكم أيها الأنصار، (وَالْمَحْيَا مَحْيَاكُمْ) بفتح الميم مصدر ميميّ؛ أي: الحياة حياتكم؛ يعني: أنَّه يحيا عندهم، ولا ينتقل في حياته إلى غيرهم، (وَالْمَمَاتُ مَمَاتُكُمْ")؛ يعني: أنَّه يموت في بلدهم، لا في بلد آخر، وهذا الظاهر أنَّه أوحي إليه بهذا، ويَحتَمِل أن يكون رجاء منه صلى الله عليه وسلم، والأول أقرب.

وقال النوويّ رحمه الله: معنى هذا الكلام أني هاجرت إلى الله، وإلى دياركم؛ لاستيطانها، فلا أتركها، ولا أرجع عن هجرتي الواقعة لله تعالى، بل أنا ملازم لكم، المحيا محياكم، والممات مماتكم؛ أي: لا أَحْيَا إلا عندكم، ولا أموت إلا عندكم، وهذا أيضًا من معجزاته صلى الله عليه وسلم، فلمّا قال لهم هذا بَكَوْا، واعتذروا، وقالوا: والله ما قلنا كلامنا السابق إلا حِرْصًا عليك، وعلى مصاحبتك، ودوامك عندنا؛ لنستفيد منك، ونتبرّك بك، وتهدينا الصراط المستقيم، كما قال الله تعالى:{وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52]،

(1)

راجع: "مغني اللبيب عن كتب الأعاريب" 1/ 378.

(2)

"شرح النوويّ" 12/ 128.

ص: 157

وهذا معنى قولهم: "ما قلنا الذي قلنا إلا الضِّنَّ بك"، هو بكسر الضاد؛ أي: شُحًّا بك أن تفارقنا، ويختصّ بك غيرنا، وكان بكاؤهم فرحًا بما قال لهم، وحياءً مما خافوا أن يكون بلغه عنهم مما يُستحيا منه. انتهى

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: معنى هذه الجملة أنهم رأوا رأفة النبيّ صلى الله عليه وسلم بأهل مكة، وكفّ القتل عنهم، فظنّوا أنَّه يرجع إلى سكنى مكة، والمقام فيها دائمًا، ويرحل عنهم، ويهجر المدينة، فشقّ ذلك عليهم، وأوحى الله تعالى إليه صلى الله عليه وسلم، فأعلمهم بذلك، فقال لهم صلى الله عليه وسلم: قلتم: كذا وكذا، قالوا: نعم قد قلنا هذا، فهذه معجزة من معجزات النبوة، فقال:"كلا إني عبد الله ورسوله". معنى "كَلَّا" هنا حقًّا، ولها معنيان: أحدهما: حقًّا، والآخر النفي. انتهى.

(فَأَقْبَلُوا) بقطع الهمزة، فعل ماض من الإقبال؛ أي: فلما قال صلى الله عليه وسلم لهم هذا الكلام توجّهوا (إِلَيْهِ) صلى الله عليه وسلم حال كونهم (يَبْكُونَ) اعتذارًا على ما صدر منهم بظنّ خاطئ، وفي رواية النسائيّ في "الكبرى":"قال أبو هريرة: فرأيت الشيوخ يبكون، حتى بَلّ الدموع لِحَاهم، ثمَّ قالوا: معذرةً إلى الله، ورسوله، والله ما قلنا الذي قلنا إلا ضِنًّا بالله، وبرسوله، قال: "فإن الله قد صدّقكم، ورسوله، وقَبِلَ قولكم"

(2)

، وفي رواية أبي يعلى:"قالوا: يا رسول الله، ما قلنا ذلك إلا مخافةَ أن تفارقنا، قال: أنتم صادقون عند الله، وعند رسوله، فوالله ما منهم أحدٌ إلا بَلّ نحره بدموع من عينه"

(3)

.

(وَيَقُولُونَ: وَاللهِ مَا قُلْنَا الَّذِي قُلْنَاه)؛ أي قولهم: أما الرجل فأدركته رغبة. . . إلخ، (إِلَّا الضِّنَّ)؛ أي: البخل والشحّ، يقال: ضَنَّ بالشيء يَضَنُّ، من باب تَعِبَ، ضِنًّا، وضِنَّةً بالكسر، وضَنَانَةً بالفتح: بَخِلَ، فهو ضَنِينٌ، ومن باب ضَرَبَ لُغةٌ، قاله الفيّوميّ رحمه الله

(4)

.

فقوله: "الضِّنَّ" منصوب على أنَّه مفعول لأجله، وفي الرواية الآتية:"إلا ضِنًّا بالله ورسوله" بالتنكير، وهو الأكثر في الاستعمال، فإن المفعول لأجله إذا كان بـ"أل" فالغالب فيه جرّه بحرف الجرّ، نحو: ضربته للتأديب، ويقلّ فيه

(1)

"شرح النوويّ" 12/ 129.

(2)

"السنن الكبرى" للنسائيّ 6/ 382.

(3)

"مسند أبي يعلى" 11/ 524.

(4)

"المصباح المنير" 2/ 365.

ص: 158

النصب، كهذا الحديث، وإلى هذا أشار ابن مالك رحمه الله في "الخلاصة" حيث قال:

يُنْصَبُ مَفْعُولًا لَهُ الْمَصْدَرُ إِنْ

أَبَانَ تَعْلِيلًا كَـ"جُدْ شُكْرًا وَدِنْ"

وَهْوَ بِمَا يَعْمَلُ فِيهِ مُتَّحِدْ

وَقْتًا وَفَاعِلًا وَإِنْ شَرْطٌ فُقِدْ

فَاجْرُرْهُ بِالْحَرْفِ وَلَيْسَ يَمْتَنِعْ

مَعَ الشُّرُوطِ كَـ"لِزُهْدٍ ذَا قَنِعْ"

وَقَلَّ أَنْ يَصْحَبَهَا الْمُجَرَّدُ

وَالْعَكْسُ فِي مَصْحُوبِ "أَلْ" وَأَنْشَدُوا

"لَا أَقْعُدُ الْجُبْنَ عَنِ الْهَيْجَاءِ

وَلَوْ تَوَالَتْ زُمَرُ الأَعْدَاءِ"

(بِاللهِ) سبحانه وتعالى (وَبِرَسُولِهِ) صلى الله عليه وسلم، والمعنى: أنَّه ما حملنا على ما قلناه إلا البخل بالله تعالى، وبرسوله صلى الله عليه وسلم، حرصًا على أن يكون بلدنا بلد انطلاق الدعوة إلى الله، ومسكن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومحلّ نزول الوحي من السماء، فيدوم لنا الفخر الموطّد، والشرف المؤبّد. (فَقَالَ) لهم (رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللهَ) تعالى (وَرَسُولَهُ) صلى الله عليه وسلم (يُصَدِّقَانِكُمْ) بضمّ أوله، وتشديد الدال المهملة المكسورة، من التصديق؛ أي: يريانكم صادقين فيما قلتم الآن، (وَيَعْذِرَانِكُمْ) بكسر الذال المعجمة، يقال: عَذَرْتُهُ فيما صَنَعَ عَذْرًا، من باب ضَرَبَ: رَفَعتُ عنه اللوم، فهو معذورٌ؛ أي: غير ملُومٍ، والاسم: الْعُذْرُ، وتُضمّ الذال للإتباع، وتُسكّن، والجمع: أَعْذَار، قاله الفيّوميّ رحمه الله

(1)

.

(قَالَ) أبو هريرة رضي الله عنه: (فَأَقْبَلَ النَّاسُ) لمّا سمعوا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من دخل دار أبي سفيان، فهو آمن"، (إِلَى دَارِ أَبِي سُفْيَانَ) صخر بن حرب رضي الله عنه، (وَأَغْلَقَ النَّاسُ أَبْوَابَهُمْ) لمّا سمعوا قوله صلى الله عليه وسلم:"ومن أغلق بابه فهو آمن". (قَالَ) أبو هريرة: (وَأَقْبَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) إلى الكعبة (حَتَّى أَقْبَلَ إِلَى الْحَجَرِ)؛ أي: الأسود، (فَاسْتَلَمَهُ)؛ أي: قبّله، قال المجد رحمه الله: واستَلَم الحجرَ: لَمَسَهُ، إما بالقُبْلة، أو باليد، كاستلأمه. انتهى

(2)

.

وقال الفيّوميّ رحمه الله: واستلأَمْتُ الحَجَرَ، قال ابن السِّكِّيتِ: هَمَزته العربُ، على غير قياس، والأصل: استَلَمْتُ؛ لأنه من السِّلام، وهي الحجارة، وقال ابن الأعرابيّ: الاستلام أصله مهموز، من الْمُلاءمة، وهي الاجتماعُ،

(1)

"المصباح المنير" 2/ 398.

(2)

"القاموس المحيط" ص 634.

ص: 159

وحكَى الجوهريّ القولين. انتهى

(1)

.

(ثُمَّ طَافَ بِالْبَيْتِ) قال النوويّ رحمه الله: فيه الابتداء بالطواف في أول دخول مكة، سواء كان مُحْرمًا بحجّ، أو عمرة، أو غير مُحْرم، وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم دخلها في هذا اليوم، وهو يوم الفتح غير مُحْرم بإجماع المسلمين، وكان على رأسه الْمِغْفَر، والأحاديث متظاهرة على ذلك، والإجماع منعقد عليه.

وأما قول القاضي عياض رحمه الله: أجمع العلماء على تخصيص النبيّ صلى الله عليه وسلم بذلك، ولم يختلفوا في أن من دخلها بعده لحرب، أو بغي أنَّه لا يحل له دخولها حلالًا، فليس كما نَقَلَ، بل مذهب الشافعيّ، وأصحابه، وآخرين أنَّه يجوز دخولها حلالًا للمحارب، بلا خلاف، وكذا لمن يخاف من ظالم لو ظهر للطواف وغيره، وأما من لا عذر له أصلًا فللشافعي رحمه الله فيه قولان مشهوران: أصحهما أنَّه يجوز له دخولها بغير إحرام، لكن يستحب له الإحرام، والثاني لا يجوز، وقد سبقت المسألة في أول "كتاب الحج". انتهى

(2)

.

(قَالَ: فَأَتَى عَلَى صَنَمٍ) - بفتحتين - هو الوثَنُ الْمُتَّخذ من الحجارة، أو الخشب، ويُروَى عن ابن عبّاس رضي الله عنهما، ويقال: الصنم: الْمُتَّخذ من الجواهر الْمَعدنيّة التي تذوب، والْوَثَنُ: هو المتّخذ من حجر، أو خشب، وقال ابن فارس: الصنم: ما يُتّخذ من خشب، أو نُحاس، أو فضّة، والجمع: أصنام، قاله الفيّوميّ رحمه الله

(3)

.

وقوله: (إِلَى جَنْبِ الْبَيْتِ) وفي بعض النسخ: "إلى جانب البيت"، وهو متعلّق بصفة لـ"صنم"، وكذا جملة قوله:(كَانُوا يَعْبُدُونَهُ) أو هي في موضع الحال. (قَالَ) أبو هريرة رضي الله عنه: (وَفِي يَدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَوْسٌ)"القوسُ" قيل: يُذكّر، ويؤنّث، وإذا صُغّرت على التأنيث قيل: قُويسةٌ، والجمع: قِسِيٌّ، بكسر القاف، وهو على القلب، والأصل على فُعُول، ويُجمع أيضًا على أقواس، وقِيَاسٍ، وهو القياسُ، مثلُ ثوب وأثواب، وثياب، وقال ابن الأنباريّ: القوسُ أُنثى، وتصغيرها قُوَيسٌ، وربّما قيل: قُويسةٌ، والجمع: أقوُسٌ، وربّما قيل:

(1)

"المصباح المنير" 1/ 287.

(2)

"شرح النوويّ" 12/ 129.

(3)

"المصباح المنير" 1/ 349.

ص: 160

قياسٌ، قاله الفيّوميّ رحمه الله

(1)

، والجملة في محلّ نصب على الحال، وكذا قوله:(وَهُوَ آخِذٌ بِسِيَةِ الْقَوْسِ) قال النوويّ رحمه الله: "السِّيَةُ" بكسر السين المهملة، وتخفيف الياء المفتوحة: المُنْعَطِف من طَرَفي القوس. انتهى

(2)

.

وقال الفيّوميّ رحمه الله: سيةُ القوس: خفيفةُ الياء، ولامها محذوفةٌ، وتُرَدُّ في النسبة، فيقال: سِيَويّ، والهاء عِوَضٌ عنها، وهو طرفها الْمُحَنِي، قال أبو عبيدة: وكان رؤبة يَهْمِزُه، والعربُ لا تَهْمِزه، ويقال لِسِيَتها العليا: يدها، ولِسِيَتها السُّفلى: رجلها. انتهى

(3)

.

(فَلَمَّا أَتَى) صلى الله عليه وسلم (عَلَى الصَّنَمِ جَعَلَ)؛ أي: شرَعَ وأخذ (يَطْعُنُهُ) بضمّ العين المهملة على المشهور، ويجوز فتحها في لغة، قاله النوويّ، وقال المجد: طَعَنَه بالرُّمح، كمنعه، ونصره طعنًا: ضربه، ووخزه، فهو مطعون، وطَعِين. انتهى

(4)

. (فِي عَيْنِهِ) هذا الفعل منه صلى الله عليه وسلم إذلال للأصنام، ولعابديها، وإظهار لكونها لا تضرّ، ولا تنفع، ولا تدفع عن نفسها، كما قال الله تعالى:{وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ} [الحج: 73]

(5)

.

وقوله: (وَيَقُولُ) عطفٌ على "يطعُن"، ويحتمل أن يكون في محلّ نصب على الحال بتقدير مبتدإ؛ لاقترانه بالواو، كما قال في "الخلاصة":

وَذَاتُ بَدْءٍ بِمُضَارعٍ ثَبَتْ

حَوَتْ ضَمِيرًا وَمِنَ الْوَاوِ خَلَتْ

وَذَاتُ وَاوٍ بَعْدَهَا انْوِ مُبْتَدَا

لَهُ الْمُضَارعَ اجْعَلَنَّ مُسْنَدَا

أي: وهو يقول.

("جَاءَ الْحَقُّ، وَزَهَقَ الْبَاطِلُ") وفي حديث عبد الله بن مسعود الآتي: "دخل النبيّ صلى الله عليه وسلم مكة، وحول البيت ثلاثمائة وستون نُصُبًا، فجعل يطعنها بعُود كان في يده، ويقول: {جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء: 81]، {جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ} [سبأ: 49] "، قال النوويّ رحمه الله: النُّصُبُ: الصنم، قال: وفي هذا استحباب قراءة هاتين الآيتين عند إزالة المنكر. انتهى

(6)

.

(1)

"المصباح المنير" 12/ 519.

(2)

"شرح النوويّ" 12/ 129 - 130.

(3)

"المصباح المنير" 1/ 300.

(4)

"القاموس المحيط" ص 803.

(5)

"شرح النوويّ" 12/ 130.

(6)

"شرح النوويّ" 12/ 130.

ص: 161

وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله في "تفسيره": قوله: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ} الآية [الإسراء: 81] تهديدٌ، ووعيد لكفار قريش، فإنَّه قد جاءهم من الله الحق الذي لا مِرْية فيه، ولا قِبَل لهم به، وهو ما بعثه الله به من القرآن، والإيمان، والعلم النافع، وزهق باطلهم؛ أي: اضمَحَلّ، وهلك، فإن الباطل لا ثبات له مع الحقّ، ولا بقاء:{بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} [الأنبياء: 18]. انتهى

(1)

.

وقال الإمام ابن جرير الطبريّ رحمه الله في "تفسيره": اختَلَف أهل التأويل في معنى الحق الذي أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يُعْلِم المشركين أنَّه قد جاء، والباطل الذي أمره أن يُعْلِمهم أنَّه قد زَهَق، فقال بعضهم: الحق هو القرآن في هذا الموضع، والباطل هو الشيطان.

وقال آخرون: بل عَنَى بالحقّ: جهاد المشركين، وبالباطل: الشرك.

قال: وأَولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: أمر الله تبارك وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يخبر المشركين أن الحقّ قد جاء، وهو كلُّ ما كان لله فيه رضًا وطاعةٌ، وأن الباطل قد زَهَق، يقول: وذهب كلُّ ما كان لا رضا لله فيه، ولا طاعة، مما هو له معصية، وللشيطان طاعة، وذلك أن الحق هو كل ما خالف طاعة إبليس، وأن الباطل هو كل ما وافق طاعته، ولم يخصص الله - عز ذكره - بالخبر عن بعض طاعاته، ولا ذهاب بعض معاصيه، بل عمّ الخبر عن مجيء جميع الحقّ، وذهاب جميع الباطل، وبذلك جاء القرآن، والتنزيل، وعلى ذلك قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الشرك بالله، أعني على إقامة جميع الحقّ، وإبطال جميع الباطل.

قال: وأما قوله عز وجل: {وَزَهَقَ الْبَاطِلُ} فإن معناه ذهب الباطل، من قولهم زَهَقت نفسه: إذا خرجت، وأزهقتها أنا، ومن قولهم أزهق السهمُ: إذا جاوز الغرضَ، فاستمرّ على جهته، يقال منه: زهق الباطل يَزْهَق زُهُوقًا، وأزهقه الله؛ أي: أذهبه. انتهى كلام ابن جرير رحمه الله

(2)

، وهو تحقيق مفيدٌ، والله أعلم.

(فَلَمَّا فَرَغَ) صلى الله عليه وسلم (مِنْ طَوَافِهِ) بالبيت، (أَتَى الصَّفَا) الجبل بمكة، (فَعَلَا

(1)

"تفسير ابن كثير" 3/ 60.

(2)

"تفسير الطبريّ" 15/ 151 - 152.

ص: 162

عَلَيْهِ)؛ أي: صعد فوقه، (حَتَّى نَظَرَ إِلَى الْبَيْت، وَرَفَعَ يَدَيْهِ) فيه استحباب رفع اليدين عند الدعاء، (فَجَعَلَ يَحْمَدُ اللهَ) تعالى على ما منّ به عليه من فتح مكة، وانتشار الإِسلام في كثير من القرى والمدن، (وَيَدْعُو) الله سبحانه وتعالى (بِمَا شَاءَ أَنْ يَدْعُوَه)؛ أي: من خَيْرَي الدنيا والآخرة، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسائل تتعلّق بحديث الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [31/ 4613 و 4614 و 4615](1780)، و (أبو داود) في "المناسك"(1872) مختصرًا، و"الخراج والإمارة"(3023)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(6/ 382)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(2424)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(14/ 471 - 473)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 538)، و (ابن راهويه) في "مسنده"(1/ 300)، و (ابن حبَّان) في "صحيحه"(4760)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(3/ 324)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 289)، و (الدارقطنيّ) في "سننه"(3/ 60)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(9/ 117 - 118)، و (ابن حزم) في "المحلّى"(5/ 215)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): مشروعيّة مكارمة الرفقاء بعضهم بعضًا، وجواز جعل ذلك نُوَبًا بينهم، وأن هذا من باب المكارمة، لا من باب المعاوضة، قاله القاضي عياض رحمه الله

(1)

.

وقال النوويّ رحمه الله: فيه دليل على استحباب اشتراك المسافرين في الأكل، واستعمالهم مكارم الأخلاق، وليمس هذا من باب المعارضة، حتى يُشتَرط فيه المساواة في الطعام، وأن لا يأكل بعضهم أكثر من بعض، بل هو من باب المروءات، ومكارم الأخلاق، وهو بمعنى الإباحة، فيجوز، وإن

(1)

"إكمال إكمال المعلم" 6/ 138.

ص: 163

تفاضَلَ الطعام، واختلفت أنواعه، ويجوز وإن أكل بعضهم أكثر من بعض، لكن يُستحبّ أن يكون شأنهم إيثار بعضهم بعضًا. انتهى

(1)

.

2 -

(ومنها): أن فيه استحبابَ الاجتماع على الطعام، وجواز دعائهم إليه قبل إدراكه، واستحباب حديثهم في حال الاجتماع بما فيه بيان أحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وغزواتهم، ونحوها مما تنشط النفوس لسماعه، وكذلك غيرها من الحروب، ونحوها مما لا إثم فيه، ولا يتولد منه في العادة ضرر في دين، ولا دنيا، ولا أَذًى لأحد؛ لتنقطع بذلك مدّة الانتظار، ولا يَضْجَروا، ولئلا يشتغل بعضهم مع بعض في غِيْبة، أو نحوها من الكلام المذموم

(2)

.

3 -

(ومنها): أنَّه يُستحبّ إذا كان في الجماعة مشهور بالفضل، أو بالصلاح، أن يُطْلَب منه الحديث، فإن لم يطلبوا استُحِبّ له الابتداء بالحديث، كما كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يبتديهم بالتحديث من غير طلب منهم

(3)

.

4 -

(ومنها): بيان ما كان عليه الصدر الأوّل من الكرم والمسابقة فيه، وبِرّ بعضهم بعضًا.

5 -

(ومنها): أن في قول أبي هريرة رضي الله عنه: "سبقتني" دليلًا على أن نُوَبهم، ومكارمتهم لم تكن على المشاحّة والمنافسة.

6 -

(ومنها): أن حديث أبي هريرة رضي الله عنه لهم بفتح مكة ليستفيد بذلك من لم يحضر من أبناء الأنصار، ولذلك قال لهم:"ألا أعلمكم بحديث من حديثكم".

7 -

(ومنها): أن أحسن ما يُتحدّث به عند الاجتماع في الولائم، وانتظار الطعام أمثال هذا من أخبار الحدثان، وما جرى من الحروب وغيرها؛ لنشاط النفوس لسماعه، وقطع مدّة الانتظار بذلك؛ إذ ليس في ذلك ما يُدخل إثمًا، ولا سيّما فيه للنبيّ صلى الله عليه وسلم فخر، قاله القاضي عياض رحمه الله

(4)

.

8 -

(ومنها): بيان فتح مكة، وكيف دخلها النبيّ صلى الله عليه وسلم فاتحًا لها.

(1)

"شرح النوويّ" 12/ 131.

(2)

"شرح النوويّ" 12/ 131 - 132.

(3)

"شرح النوويّ" 12/ 132.

(4)

"إكمال المعلم" 6/ 138.

ص: 164

9 -

(ومنها): معرفة النبيّ صلى الله عليه وسلم بتدبير شؤون الحرب، وكيف يُفتح البلد، حيث قسّمهم أقسامًا، وجعل لكلّ قسم قائدًا خبيرًا بتدبير الأمور.

10 -

(ومنها): بيان محبّة النبيّ صلى الله عليه وسلم للأنصار، واستلطافهم، واستعطافهم حيث دخل بلده مكة، وعلم أنهم يظنون به تَرْكهم، وتَرْك بلدهم بالرجوع إلى بلده، وعشيرته، لكنه بيّن لهم بأسلوب بديع أنَّه إنما هاجر لله، فلا يتركهم، ولا يترك بلدهم محياه ومماته.

11 -

(ومنها): بيان ما كان عليه الأنصار من شدّة محبتهم للنبيّ صلى الله عليه وسلم، فإنهم ما قالوا الذي قالوه إلا ضنًّا به صلى الله عليه وسلم، ولذلك بكوا حين بيّن لهم أنَّه لا يتركهم محياه ومماته، رضي الله عنهم أجمعين.

12 -

(ومنها): استحباب البَدْء بطواف البيت لمن دخل مكة، وإن لم يكن مُحْرمًا بحجّ، أو عمرة.

13 -

(ومنها): جواز دخول مكة بلا إحرام لمن لم يُرِد أحد النسكين، وبه قال الشافعيّ، وأصحابه، وهو رواية عن أحمد، رجّحها شيخ الإِسلام ابن تيمية؛ لأنه صلى الله عليه وسلم دخلها غير محرم، وكان على رأسه المغفر، والأحاديث متظاهرة على ذلك، وخالف في ذلك الحنفيّة، والمالكيّة، على تفصيل في مذهبهم، فقالوا: لا يجوز لأهل الآفاق أن يدخلوا مكة بلا إحرام، أرادوا الحج أو العمرة، أو لم يريدوا، واعتذروا عن فعل النبيّ صلى الله عليه وسلم بحمله على الخصوصيّة.

وما قاله الأولون هو الأرجح؛ لحديث الباب، وحَمْلُهُ على الخصوصيّة يردّه أن الخصوصيّة لا تثبت إلا بصريح النقل، ومما يُبطله أيضًا أن الصحابة الذين كانوا معه صلى الله عليه وسلم لم يُحرم أحد منهم، ويؤيّده أيضًا حديث بيانه صلى الله عليه وسلم المواقيت، فقد قال في آخره:"هنّ لهنّ، ولمن أتى عليهنّ ممن يريد الحجّ والعمرة"، فقد بيّن فيه أن المواقيت لمن يريد النسكين، وأما من لم يردهما، فليس عليه أن يُحرم من الميقات، بل يجوز دخوله بلا إحرام، كما فعل النبيّ صلى الله عليه وسلم في عام الفتح، وقد مضى تمام البحث في هذا في "كتاب الحج"، "باب جواز دخول مكة بغير إحرام"[81/ 3309](1357)، فراجعه تستفد علمًا جَمًّا، وبالله تعالى التوفيق.

ص: 165

14 -

(ومنها): استحباب الصعود على الصفا، وذِكْر الله عز وجل عليه، والدعاء بما شاء.

15 -

(ومنها): استحباب رفع اليدين حال الدعاء، وهو من أسباب إجابته، فقد أخرج أبو داود بسند صحيح، عن سلمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن ربكم تبارك وتعالى حَيِيٌّ كَرِيم، يستحي من عبده، إذا رفع يديه إليه، أن يَرُدّهما صِفْرًا".

16 -

(ومنها): أن فيه بيان أن مكة فُتحت عنوة، لا صلحًا، وهو قول الجمهور، وخالف في ذلك الشافعيّ رحمه الله، فقال: إنها فُتحت صلحًا، والأرجح قول الجمهور؛ لوضوح حجّته، وسيأتي بيان الخلاف في المسألة التالية - إن شاء الله تعالى - ومنه تعالى التوفيق، وعليه التكلان.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في فتح مكة: هل كان عَنْوَةً، أو صلحًا؟:

قال في "الفتح": وقد تمسَّك بهذه القصة - يعني: القصّة المذكورة في حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا - من قال: إن مكة فُتحت عَنْوَةً، وهو قول الأكثر، وعن الشافعيّ، ورواية عن أحمد: أنها فُتحت صلحًا؛ لما وقع هذا التأمين، ولإضافة الدور إلى أهلها، ولأنها لم تُقْسَم، ولأن الغانمين لم يملكوا دورها، وإلا لجاز إخراج أهل الدور منها.

وحجة الأولين: ما وقع من التصريح من الأمر بالقتال، ووقوعه من خالد بن الوليد، وبتصريحه صلى الله عليه وسلم بأنها أُحِلّت ساعة من نهار، ونهيه عن التأسي به في ذلك.

وأجابوا عن ترك القسمة بأنها لا تستلزم عدم العنوة، فقد تُفتح البلدة عنوة، ويُمَنّ على أهلها، ويُترك لهم دورهم، وغنائمهم؛ لأنَّ قسمة الأرض المغنومة ليست متفقًا عليها، بل الخلاف ثابت عن الصحابة رضي الله عنهم، فمَنْ بَعْدَهم، وقد فُتِحت أكثر البلاد عنوة، فلم تُقْسَم، وذلك في زمن عمر، وعثمان رضي الله عنهما، مع وجود أكثر الصحابة، وقد زادت مكة عن ذلك بأمر يُمكن أن يُدَّعَى اختصاصُها به دون بقية البلاد، وهي أنها دار النُّسُك، ومتعبَّد الخلق، وقد جعلها الله تعالى حَرَمًا، سواءٌ العاكفُ فيه والباد.

ص: 166

وأما قول النوويّ: احتجّ الشافعيّ بالأحاديث المشهورة بأن النبيّ صلى الله عليه وسلم صالحهم بِمَرِّ الظهران، قبل دخول مكة، ففيه نظر؛ لأنَّ الذي أشار إليه إن كان مراده ما وقع له من قوله صلى الله عليه وسلم:"من دخل دار أبي سفيان، فهو آمنٌ"، كما تقدم، وكذا:"من دخل المسجد"، كما عند ابن إسحاق، فإن ذلك لا يُسَمَّى صلحًا إلا إذا التزم من أشير إليه بذلك الكفّ عن القتال، والذي ورد في الأحاديث الصحيحة ظاهر في أن قريشًا لم يلتزموا ذلك؛ لأنهم استعدُّوا للحرب، كما ثبت في حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند مسلم:"إن قريشًا وَبَّشَت أوباشًا لها، وأتباعًا، فقالوا: نُقدِّم هؤلاء، فإن كان لهم شيء كنا معهم، وإن أصيبوا أعطيناه الذي سُئِلْنَا"، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"أتَرَون أوباش قريش؟ ثمَّ قال بإحدى يديه على الأخرى؛ أي: احصُدُوهم حَصْدًا، حتى توافوني على الصفا، قال: فانطلقنا فما نشاء أن نقتل أحدًا إلا قتلناه".

وإن كان مراده بالصلح وقوع عَقْدٍ به فهذا لم يُنْقَل، قال الحافظ رحمه الله: ولا أظنه عَنَى إلا الاحتمال الأوّل، وفيه ما ذكرته.

وتمسَّك أيضًا من قال: إنه مُبْهَم بما وقع عند ابن إسحاق في سياق قصة الفتح، فقال العباس: لَعَلِّي أجد بعض الحطّابة، أو صاحب لَبَن، أو ذا حاجة يأتي مكة، فيخبرهم بمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليخرجوا إليه، فيستأمنوه قبل أن يدخلها عَنْوَةً، ثمَّ قال في القصة بعد قصة أبي سفيان:"من دخل دار أبي سفيان، فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه، فهو آمن، فتفرَّق الناس إلى دورهم، وإلى المسجد".

وعند موسى بن عقبة في "المغازي" - وهي أصحّ ما صُنِّف في ذلك عند الجماعة - ما نصّه: إن أبا سفيان، وحكيم بن حزام قالا: يا رسول الله كنت حقيقًا أن تجعل عُدّتك، وكيدك بهوازن، فإنهم أبعد رحمًا، وأشدّ عداوةً، فقال:"إني لأرجو أن يجمعهما الله لي: فتح مكة، وإعزاز الإِسلام بها، وهَزِيمة هوازن، وغنيمة أموالهم"، فقال أبو سفيان، وحكيم: فادع الناس بالأمان، أرأيت إن اعتزلت قريش، فكفّت أيديها أآمنون هم؟ قال:"مَن كَفّ يده، وأغلق داره، فهو آمن"، قالوا: فابعثنا نُؤَذِّن بذلك فيهم، قال:"انطلقوا، فمن دخل دار أبي سفيان، فهو آمن، ومن دخل دار حكيم، فهو آمن"، ودار

ص: 167

أبي سفيان بأعلى مكة، ودار حكيم بأسفلها، فلما توجها قال العباس:"يا رسول الله إني لا آمن أبا سفيان أن يرتدّ، فَرُدّه حتى تُريه جنود الله، قال: أفعل" فذكر القصة، وفي ذلك تصريح بعموم التأمين، فكان هذا أمانًا منه لكل من لم يقاتل من أهل مكة، فمن ثَمّ قال الشافعي: كانت مكة مأمونةً، ولم يكن فتحها عَنْوَة، والأمان كالصلح، وأما الذين تعرضوا للقتال، أو الذين استثنُوا من الأمان، وأَمَرَ صلى الله عليه وسلم أن يُقْتَلُوا، ولو تعلقوا بأستار الكعبة، فلا يستلزم ذلك أنها فتحت عَنْوَة.

ويُمكن الجمع بين حديث أبي هريرة في أمره صلى الله عليه وسلم بالقتال، وبين تأمينه صلى الله عليه وسلم لهم بأن يكون التأمين عُلِّق بشرط، وهو ترك قريش المجاهرة بالقتال، فلما تفرقوا إلى دورهم، ورضوا بالتأمين المذكور، لم يستلزم أن أوباشهم الذين لم يقبلوا ذلك، وقاتلوا خالد بن الوليد، ومن معه، فقاتلهم حتى قتلهم، وهزمهم أن تكون البلد فتحت عَنْوَة؛ لأنَّ العبرة بالأصول، لا بالأتباع، وبالأكثر، لا بالأقل، ولا خلاف مع ذلك أنَّه لم يَجر فيها قسم غنيمة، ولا سُبِيَ من أهلها ممن باشر القتال أحدٌ، وهو مما يؤيِّد قول من قال: لم يكن فتحها عَنْوَة.

وعند أبي داود بإسناد حسن، عن جابر رضي الله عنه أنَّه سئل: هل غَنِمتم يوم الفتح شيئًا؟ قال: لا.

وجنحت طائفة، منهم الماورديّ إلى أن بعضها فُتح عَنْوة؛ لِمَا وَقَع من قصة خالد بن الوليد المذكورة، وقرر ذلك الحاكم في "الإكليل".

قال الحافظ رحمه الله: والحقّ أن صورة فتحها كان عَنْوَةً، ومعاملة أهلها معاملة من دخلت بأمان.

ومَنَع جمعٌ منهم السهيليّ تَرَتُّب عدم قسمتها، وجواز بيع دورها، وإجارتها على أنها فُتحت صلحًا:

أما أوّلًا، فلأن الإمام مُخَيَّر في قسمة الأرض بين الغانمين، إذا انتُزِعت من الكفار، وبين إبقائها وقفًا على المسلمين، ولا يلزم من ذلك مَنْعُ بيع الدور، وإجارتها.

وأما ثانيًا: فقال بعضهم: لا تدخل الأرض في حكم الأموال؛ لأنَّ من مضى كانوا إذا غلبوا على الكفار لم يغنموا الأموال، فتنزل النار، فتأكلها،

ص: 168

وتصير الأرض عمومًا لهم، كما قال الله تعالى:{ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} الآية [المائدة: 21]، وقال:{وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا} الآية [الأعراف: 137].

قال الجامع عفا الله عنه: لا يخفى أن القول يكون فتح مكة عنوة - كما هو قول الجمهور - هو الأرجح؛ لقوّة أدلّته، فتأملها بالإمعان، وبالله تعالى المستعان.

قال: والمسألة مشهورة، فلا نطيل بها هنا، وقد تقدم كثير من مباحث دور مكة في "باب توريث دور مكة"، من "كتاب الحج". انتهى ما في "الفتح"

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي ذكره إنما هو بالنسبة لـ"صحيح البخاريّ"، وأما بالنسبة لـ"صحيح مسلم"، فقد سبق البحث المذكور أيضًا في "كتاب الحجّ" في (77) - "باب نزول الحاجّ بمكة، وتوريث دورها" الحديث [3295](1351)، فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4614]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِيهِ عَبْدُ اللهِ بْنُ هَاشِمٍ، حَدَّثَنَا بَهْزٌ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ الْمُغِيرَة، بِهَذَا الإِسْنَادِ، وَزَادَ فِي الْحَدِيثِ: ثُمَّ قَالَ بِيَدَيْه، إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى:"احْصُدُوهُمْ حَصْدًا"، وَقَالَ فِي الْحَدِيثِ

(2)

: قَالُوا: قُلْنَا ذَاكَ يَا رَسُولَ الله، قَالَ:"فَمَا اسْمِي إِذًا؟ كَلَّا إِنِّي عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ").

رجال هذا الإسناد: ثلاثة:

1 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ هَاشِمِ) بن حيّان - بتحتانيّة - الْعَبْديّ، أبو عبد الرحمن الطُّوطيّ، سكن نيسابور، ثقةٌ صاحب حديث، من صغار [10] مات سنة بضع و (250)(م) من أفراد المصنّف تقدم في "الإيمان" 3/ 112.

2 -

(بَهْزُ) بن أسد الْعَميّ، أبو الأسود البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [9] مات بعد المائتين أو قبلها (ع) تقدم في "الإيمان" 3/ 112.

(1)

"الفتح" 9/ 398 - 400.

(2)

وفي نسخة: "قال: وفي الحديث".

ص: 169

و"سليمان" ذُكر قبله.

وقوله: (بِهَذَا الإِسْنَادِ)؛ أي: بالإسناد المذكور قبله، وهو: عن ثابت البُنانيّ، عن عبد الله بن رَبَاح، عن أبي هريرة رضي الله عنه.

وقوله: (وَزَادَ فِي الْحَدِيثِ) فاعل "زاد" ضمير بهز؛ أي: زاد بهز في روايته قوله: "ثُمَّ قَالَ" صلى الله عليه وسلم. . . إلخ.

وقوله: (إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى) جملة في محلّ نصب على الحال.

وقوله: (احْصُدُوهُمْ حَصْدًا) بضم الصاد المهملة، وكسرها، من بابي نصر، وضرب؛ أي: استأصلوهم قتلًا.

وقوله: (قُلْنَا ذَاكَ يَا رَسُولَ اللهِ)؛ أي: قولهم السابق: أما الرجل فأدركته رغبة في قريته، ورأفة بعشيرته.

وقوله: (فَمَا اسْمِي إِذًا)؛ أي: إذا رجعت إلى استيطان مكة، وتركتكم، وتركت بلدكم، يكون اسمي مُذَمّمًا، لا محمدًا، وأنا محمَّد، لا يمكن أن أنقض العهد، وأخالف ما دلّ عليه اسمي، وهذا ما أشار إليه حسّان بن ثابت رضي الله عنه في مدحه صلى الله عليه وسلم حيث قال [من الطويل]:

أَغَرُّ عَلَيْهِ لِلنُّبُوَّةِ خَاتَمٌ

مِنَ اللهِ مِنْ نُورٍ يَلُوحُ وَيَشْهَدُ

وَضَمَّ الإِلهُ اسْمَ النَّبِيِّ إِلَى اسْمِهِ

إِذَا قَالَ فِي الْخَمْسِ الْمُؤَذِّنُ أَشْهَدُ

وَشَقَّ لَهُ مِنِ اسْمِهِ لِيُجِلَّهُ

فَذُو الْعَرْشِ مَحْمُودٌ وَهَذَا مُحَمَّدُ

وقال القاضي عياض رحمه الله: هذا يَحْتَمِل وجهين:

أحدهما: أنَّه صلى الله عليه وسلم أراد: إني نبي؛ لإعلامي إياكم بما تحدّثتم به سرًّا.

والثاني: لو فعلت هذا الذي خِفتم منه، وفارقتكم، ورجعتُ إلى استيطان مكة، لكنت ناقضًا لعهدكم في ملازمتكم، ولكان هذا غير مطابق لِمَا اشتُقَ منه اسمي، وهو الحمد، فإني كنت أوصف حينئذ بغير الحمد. انتهى

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم: "ألا فما اسمي إذًا؟ " قيل: إنما قال ذلك تنبيهًا على صِدْقه لمّا ظهرت معجزته بإخباره عما غاب عنه، كما كان يقول عند ظهور الخوارق على يديه:"أشهد أني رسول الله"، وقيل: إنما قال ذلك تنبيهًا

(1)

"إكمال المعلم" 6/ 145.

ص: 170

على أن صِدْق اسمه "محمَّد" عليه يمنعه من نقض العهد، وترك القيام بحقّ من له حقّ، فكأنه قال: لو فعلت ذلك لَمَا استحققت أن أسمّى محمدًا، ولا أحمد؛ إذ كلاهما مأخوذ من الحمد، ويدلّ على صحة هذا التأويل قوله:"المحيا محياكم، والممات مماتكم": أني لا أفارقكم حياتي ولا موتي، وبكاء الأنصار إنما كان فرحًا، وصبابة برسول الله صلى الله عليه وسلم. انتهى

(1)

.

[تنبيه]: رواية بهز، عن سليمان بن المغيرة هذه ساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده" مقرونة برواية هاشم بن القاسم، فقال:

(10961)

- حدّثنا عبد الله، حدّثني أبي، ثنا بهز، وهاشم، قالا: ثنا سليمان بن المغيرة، عن ثابت، قال هاشم: قال: حدّثني ثابت البنانيّ، ثنا عبد الله بن رباح، قال: وَفَدَتَ وُفودٌ إلى معاوية، أنا فيهم، وأبو هريرة، في رمضان، فجعل بعضنا يصنع لبعض الطعام، قال: وكان أبو هريرة يُكثر ما يدعونا، قال هاشم: يكثر أن يدعونا إلى رحله، قال: فقلت: ألا أصنع طعامًا، فأدعوَهم إلى رحلي، قال: فأمرت بطعام يُصْنَعُ، ولقيت أبا هريرة من العشاء، قال: قلت: يا أبا هريرة الدعوة عندي الليلة، قال: أسبقتني؟ قال هاشم: قلت: نعم، قال: فدعوتهم، فهم عندي، قال أبو هريرة: ألا أعلمكم بحديث من حديثكم، يا معاشر الأنصار، قال: فذكر فتح مكة، قال: أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدخل مكة، قال: فبعث الزبير على إحدى الْمُجَنِّبتين، وبعث خالدًا على المجنبة الأخرى، وبعث أبا عبيدة على الْحُسّر، فأخذوا بطن الوادي، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في كتيبته، قال: وقد وَبَّشت قريش أوباشها، قال: فقالوا: نُقَدِّم هؤلاء، فإن كان لهم شيء كنا معهم، وإن أصيبوا أعطينا الذي سُئِلْنا، قال: فقال أبو هريرة: فنظر، فرآني، فقال:"يا أبا هريرة"، فقلت: لبيك رسول الله، قال: فقال: "اهتف لي بالأنصار، ولا يأتيني إلا أنصاريّ"، فهتفت بهم، فجاؤوا، فأطافوا برسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تَرَون إلى أوباش قريش، وأتباعهم؟ - ثمَّ قال بيديه: إحداهما على الأخرى - حصدًا، حتى توافوني بالصفا"، قال: فقال أبو هريرة: فانطلقنا، فما يشاء أحد

(1)

"المفهم" 3/ 632.

ص: 171

منا أن يقتل منهم ما شاء، وما أحدٌ يوجه إلينا منهم شيئًا، قال: فقال أبو سفيان: يا رسول الله، أبيحت خضراء قريش، لا قريش بعد اليوم، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أغلق بابه، فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان، فهو آمن"، قال: فغلّق الناس أبوابهم، قال: فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحجر، فاستلمه، ثمَّ طاف بالبيت، قال: وفي يده قوس آخِذٌ بسية القوس، قال: فأتى في طوافه على صنم إلى جنب البيت يعبدونه، قال: فجعل يطعُن بها في عينه، ويقول:{جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ} [الإسراء: 81]، قال: ثمَّ أتى الصفا، فعلاه، حيث ينظر إلى البيت، فرفع يديه، فجعل يذكر الله بما شاء أن يذكره، ويدعوه، قال: والأنصار تحته، قال: يقول بعضهم لبعض: أما الرجل فأدركته رغبة في قريته، ورأفة بعشيرته، قال أبو هريرة: وجاء الوحي، وكان إذا جاء لم يَخْفَ علينا، فليس أحد من الناس يرفع طَرْفه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يقضي، قال هاشم: فلما قضى الوحي، رفع رأسه، ثمَّ قال:"يا معاشر الأنصار، أقلتم: أما الرجل فأدركته رغبة في قريته، ورأفة بعشيرته؟ " قالوا: قلنا ذلك يا رسول الله، قال:"فما اسمي إذًا، كَلَّا، إني عبد الله ورسوله، هاجرت إلى الله، وإليكم، فالمحيا محياكم، والممات مماتكم"، قال: فأقبلوا إليه يبكون، ويقولون: والله ما قلنا الذي قلنا إلا الضِّنَّ بالله ورسوله، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فإن الله ورسوله يُصَدِّقانكم، ويَعْذِرانكم". انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4615]

(. . .) - (حَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّارِمِيُّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حَسَّانَ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، أَخْبَرَنَا ثَابِتٌ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ رَبَاحٍ، قَالَ: وَفَدْنَا إِلَى مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، وَفِينَا أَبُو هُرَيْرَةَ، فَكَانَ كُلُّ رَجُلٍ مِنَّا يَصْنَعُ طَعَامًا يَوْمًا لأَصْحَابِه، فَكَانَتْ نَوْبَتِي، فَقُلْتُ: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ الْيَوْمُ نَوْبَتِي

(2)

، فَجَاءُوا

(1)

"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 2/ 538.

(2)

وفي نسخة: "اليوم يومي".

ص: 172

إِلَى الْمَنْزِل، وَلَمْ يُدْرِكْ طَعَامُنَا، فَقُلْتُ: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ لَوْ حَدَّثْتَنَا عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى يُدْرِكَ طَعَامُنَا، فَقَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْفَتْح، فَجَعَلَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ عَلَى الْمُجَنِّبَةِ الْيُمْنَى، وَجَعَلَ الزُّبَيْرَ عَلَى الْمُجَنِّبَةِ الْيُسْرَى، وَجَعَلَ أَبَا عُبَيْدَةَ عَلَى الْبَيَاذِقَة، وَبَطْنِ الْوَادِي، فَقَالَ:"يَا أَبَا هُرَيْرَةَ ادْعُ لِي الأَنْصَارَ"، فَدَعَوْتُهُمْ، فَجَاءُوا يُهَرْوِلُونَ، فَقَالَ:"يَا مَعْشَرَ الأَنْصَار، هَلْ تَرَوْنَ أَوْبَاشَ قُرَيْشٍ؟ "، قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ:"انْظُرُوا إِذَا لَقِيتُمُوهُمْ غَدًا أَنْ تَحْصِدُوهُمْ حَصْدًا"، وَأَخْفَى بِيَدِه، وَوَضَعَ يَمِينَهُ عَلَى شِمَالِه، وَقَالَ:"مَوْعِدُكُمُ الصَّفَا"، قَالَ: فَمَا أَشْرَفَ يَوْمَئِذٍ لَهُمْ أَحَدٌ إِلَّا أَنَامُوهُ، قَالَ: وَصَعِدَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الصَّفَا، وَجَاءَتِ الأَنْصَارُ، فَأَطَافُوا بِالصَّفَا، فَجَاءَ أَبُو سُفْيَانَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ أُبِيدَتْ خَضْرَاءُ قُرَيْشٍ، لَا قُرَيْشَ بَعْدَ الْيَوْمِ. قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ، فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ أَلْقَى السِّلَاحَ، فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ أَغْلَقَ بَابَهُ، فَهُوَ آمِنٌ"، فَقَالَتِ الأَنْصَارُ: أَمَّا الرَّجُلُ فَقَدْ أَخَذَتْهُ رَأْفَةٌ بِعَشِيرَتِه، وَرَغْبَةٌ فِي قَرْيَتِهِ. وَنَزَلَ الْوَحْيُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:"قُلْتُمْ: أَمَّا الرَّجُلُ فَقَدْ أَخَذَتْهُ رَأْفَةٌ بِعَشِيرَتِه، وَرَغْبَةٌ فِي قَرْيَتِه، أَلَا، فَمَا اسْمِي إِذًا؟ - ثَلَاثَ مَرَّاتٍ - أَنَا مُحَمَّدٌ، عَبْدُ الله، وَرَسُولُهُ، هَاجَرْتُ إِلَى الله، وَإِلَيْكُمْ، فَالْمَحْيَا مَحْيَاكُمْ، وَالْمَمَاتُ مَمَاتُكُمْ"، قَالُوا: وَاللهِ مَا قُلْنَا إِلَّا ضِنًّا بِالله، وَرَسُولِه، قَالَ:"فَإِنَّ اللهَ وَرَسُولَهُ يُصَدِّقَانِكُمْ، وَيَعْذِرَانِكُمْ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّارِمِيُّ) أبو محمَّد السَّمَرْقَنديّ الحافظ، صاحب "المسند"، ثقةٌ فاضلٌ متقنٌ [11](ت 255) وله (74) سنةً (م د ت) تقدم في "المقدمة" 5/ 29.

2 -

(يَحْيَى بْنُ حَسَّانَ) البصريّ، نزيل تِنِّيس، ثقةٌ [9](ت 208)(خ م د ت س) تقدم في "الحيض" 7/ 723.

3 -

(حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ) تقدّم في الباب الماضي.

والباقون ذُكروا قبله.

وقوله: (فَكَانَتْ نَوْبَتِي)"كان" هنا تامّة، بمعنى جاء، والنوبة - بفتح، فسكون -: اسمٌ مِنْ ناوبته مناوبةً: إذا ساهمته مُساهمةً، والجمع نُوَبٌ، مثلُ

ص: 173

قَرْية وقُرًى، وتناوبوا عليه: تداولوه بينهم، يفعله هذا مرّةً، وهذا مرّةً، قاله الفيّوميّ رحمه الله

(1)

.

وقوله: (الْيَوْمُ نَوْبَتِي) وفي بعض النسخ: "اليوم يومي".

وقوله: (وَلَمْ يُدْرِكْ طَعَامُنَا) بضمّ حرف المضارعة، مضارع أدرك رباعيًّا، يقال: أدركت الثمار: إذا نَضِجَتْ، وأدرك الشيءُ: إذا بلغ وقتَهُ

(2)

.

وقوله: (لَوْ حَدَّثْتَنَا)"لو" هنا للتمنّي، أو شرطيّة، جوابها محذوف؛ أي: لكان خيرًا.

وقوله: (عَلَى الْبَيَاذِقَةِ) قال النوويّ رحمه الله: "البياذقة" - بباء موحّدة، ثمَّ مثناة تحتُ، وبذال معجمة، وقاف - هم الرّجّالة

(3)

، قالوا: وهو فارسيّ مُعَرَّب، وأصله بالفارسية: أصحاب ركاب الملك، ومن يتصرف في أموره، قيل: سُمُّوا بذلك؛ لخفّتهم، وسرعة حركتهم، هكذا الرواية في هذا الحرف هنا، وفي غير مسلم أيضًا. انتهى

(4)

.

وقال القاضي عياض: هكذا روايتنا فيه، قال: ووقع في بعض الروايات: "الساقة"، وهم الذين يكونون آخر العسكر، وقد يُجْمَع بينه وبين البياذقة بأنهم رَجّالة، وساقة، ورواه بعضهم:"الشارفة"، وفَسَّروه بالذين يُشرفون على مكة، قال القاضي: وهذا ليس بشيء؛ لأنهم أخذوا في بطن الوادي، والبياذقة هنا هم الْحُسَّر في الرواية السابقة، وهم رَجّالةٌ، لا دروع عليهم. انتهى

(5)

.

وقوله: (فَجَاءُوا يُهَرْوِلُونَ)؛ أي: يُسرعون.

وقوله: (أَنْ تَحْصِدُوهُمْ حَصْدًا") تقدَّم أنَّه من بابي نصر، وضرب؛ أي: استأصلوهم استئصالًا.

وقوله: (وَأَخْفَى بِيَدِهِ. . . إلخ) هكذا النسخ: "وأخفى" بالخاء المعجمة، والذي عند القرطبيّ في "مختصره":"وأحفى" بالحاء المهملة، قال: كذا صحيح الرواية بالحاء المهملة، معناه: استأصل؛ أي: أشار إلى ذلك،

(1)

"المصباح المنير" 2/ 629.

(2)

"المصباح المنير" 1/ 192.

(3)

"الرّجَّالة بفتح الراء، وتشديد الجيم: جمع راجل، وهو خلاف الفارس.

(4)

"شرح النوويّ" 12/ 132.

(5)

"إكمال المعلم" 6/ 139.

ص: 174

وبعضهم رواه "وأكفى" بالكاف؛ أي: أمال بيده، فكأنه صلى الله عليه وسلم وضع يمناه على يسراه، وأمرّها عليها مشيرًا إلى الاستئصال، والله تعالى أعلم. انتهى

(1)

.

وقوله: (وَوَضَعَ يَمِينَهُ عَلَى شِمَالِهِ) قال القاضي عياض رحمه الله: وضع يمينه على شماله يحاكي صفة الحصد، والقطع باليد اليمنى لِمَا قَبَضَتْ عليه بالشمال، يريد: قَتْلَهم، واستئصالهم. انتهى

(2)

.

وقوله: (فَمَا أَشْرَفَ يَوْمَئِذٍ لَهُمْ أَحَدٌ إِلَّا أَنَامُوهُ)؛ أي: ما ظهر لهم أحد من المشركين، إلا قتلوه، فوقع في الأرض كالنائم، وقد يكون بمعنى: أسكنوه؛ أي: قطعوا حياته بقتله، يقال: قامت الريح: إذا أسكنت، كما قالوا: ضربه حتى سكن؛ أي: مات، قال المازريّ: يقال: نامت الشاة وغيرها: إذا ماتت، ونامت السوق: كسدت، وقال الفرّاء: النائمة: الميتة، وفي حديث عليّ رضي الله عنه في قتال الخوارج:"إذا أتيتموهم، فأنيموهم"؛ أي: اقتلوهم. انتهى من "الإكمال" بتصرّف

(3)

.

وقوله: (أُبِيدَتْ خَضْرَاءُ قُرَيْشٍ) وفي الرواية السابقة: "أُبيحت خضراء قريش"، وكلاهما بمعنى متقارب؛ أي: استئصلوا، و"خضراء قريش" كناية عن جماعتهم، ويُعبّر عن الجماعة المجتمعة بالسواد، والخضرة، ولهذا قالوا: السواد الأعظم، وقال المازريّ: قال الهرويّ: أباد الله خضراءهم؛ أي: جماعاتهم، وقال ابن الأعرابيّ: معناه: أباد الله سوادهم، وقال ابن الأنباريّ: سواد القوم: معظمهم، قال ابن الأعرابيّ: الخضرة عند العرب: السواد، يقال للّيل: أخضر؛ لسواده، وأنشد:

يَا نَاقُ خُبِّي خَبَبًا زِوَرَّا

وَعَارِضِي اللَّيْلَ إِذَا مَا اخْضَرَّا

ويقال: أباد الله خضراءهم؛ أي: خِصْبهم، وَسَعَتَهم، قال النابغة:

يَصُونُونَ أَبْدَانًا قَدِيمًا نَعِيمُهَا

بِخَالِصَةِ الأَرْدَانِ خُضْرِ الْمَنَاكِبِ

أراد به: سعة ما هم فيه من الْخِصب، وقيل: معناه: أذهب الله نعيمهم، وخِصْبهم

(4)

.

(1)

"المفهم" 3/ 630.

(2)

"إكمال المعلم" 6/ 141.

(3)

"إكمال المعلم" 6/ 141.

(4)

"إكمال المعلم" 6/ 142، و"لسان العرب" 4/ 246.

ص: 175

والحديث من أفراد المصنّف رحمه الله، وقد مضى تمام البحث فيه قريبًا، ولله الحمد والمنة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4616]

(1781) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَمْرٌو النَّاقِدُ، وَابْنُ أَبِي عُمَرَ - وَاللَّفْظُ لِابْنِ أَبِي شَيْبَةَ - قَالُوا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ، عَنْ عَبْدِ الله، قَالَ: دَخَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ، وَحَوْلَ الْكَعْبَةِ ثَلَاثُمِائَةٍ وَسِتُّونَ نُصُبًا، فَجَعَلَ يَطْعُنُهَا بِعُودٍ كَانَ بِيَدِه، وَيَقُولُ: {جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء: 81]، {جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ} [سبأ: 49]، زَادَ ابْنُ أَبِي عُمَرَ: يَوْمَ الْفَتْحِ).

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدَّم في الباب الماضي.

2 -

(عَمْرٌو النَّاقِدُ) هو: ابن محمَّد بن بُكير، أبو عثمان البغداديّ، نزيل الرقّة، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 232)(خ م د س) تقدم في "المقدمة" 4/ 23.

3 -

(ابْنُ أَبِي عُمَرَ) هو: محمَّد بن يحيى بن أبي عمر الْعَدَنيّ، نزيل مكة، ثقةٌ [10](ت 243)(م ت س ق) تقدم في "المقدمة" 5/ 31.

4 -

(سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ) تقدَّم قبل باب.

5 -

(ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ) هو: عبد الله بن أبي نَجِيح يسار الثقفيّ مولاهم، أبو يسار المكيّ، ثقةٌ رُمي بالقدر، وربّما دلّس [6](ت 131) أو بعدها (ع) تقدم في "الجنائز" 6/ 2134.

6 -

(مُجَاهِدُ) بن جبر المخزوميّ مولاهم، أبو الحجّاج المكيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيه إمام في التفسير [3](ت 1 أو 2 أو 3 أو 104) وله (83) سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 21.

7 -

(أَبُو مَعْمَرٍ) عبد الله بن سخبرة الأزديّ الكوفيّ، ثقةٌ [2] مات في إمارة عبيد الله بن زياد (ع) تقدم في "شرح المقدمة" ج 2 ص 470.

8 -

(عَبْدُ اللهِ) بن مسعود بن غافل بن حبيب الهُذلي، أبو عبد الرحمن، من السابقين الأولين، ومن كبار العلماء من الصحابة رضي الله عنهم، مات سنة (32) أو بعدها (ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 11.

ص: 176

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنَّه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وفيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ، وفيه عبد الله مهملًا، وهو ابن مسعود؛ للقاعدة المشهورة أنَّه إذا أُطلق عبد الله في الصحابة يُنظر، فإن كان السند كوفيًّا كما هنا فهو ابن مسعود رضي الله عنه، وقد ذكرنا أبياتًا تبيّن هذه القاعدة قريبًا، فراجعها تستفد، وبالله تعالى التوفيق.

شرح الحديث:

(عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ) وفي رواية عند البخاريّ: "عن ابن عيينة، حدّثنا ابن أبي نَجِيح"، وتقدّم أن اسم أبيه يسار، قال في "الفتح": ولابن عيينة في هذا الحديث إسناد آخر، أخرجه الطبرانيّ، من طريق عبد الغفار بن داود، عن ابن عيينة، عن جامع بن أبي راشد، عن أبي وائل، عن ابن مسعود رضي الله عنه

(1)

.

(عَنْ مُجَاهِدٍ) ابن جَبْر (عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ) عبد الله بن سَخْبَرَة (عَنْ عَبْدِ اللهِ) بن مسعود رضي الله عنه أنَّه (قَالَ: دَخَلَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ)؛ أي: يوم الفتح، وقوله:(وَحَوْلَ الْكَعْبَةِ ثَلَاثُمِائَةٍ وَسِتُّونَ نُصُبًا) جملة في محلّ نصب على الحال من الفاعل، ولفظ البخاريّ:"ستون وثلاثمائة نُصُبٍ"، و"نُصُبًا" هنا منصوب على التمييز، وفي رواية البخاريّ مجرور بالإضافة، وهو بضم النون، والصاد المهملة، وقد تسكّن، بعدها موحّدة، هي واحدة الأنصاب، وهو ما يُنْصَب للعبادة من دون الله تعالى، ووقع في رواية الثوريّ التالية:"صَنَمًا" بدل "نُصُبًا"، ويطلق النُّصُب ويراد به: الحجارة التي كانوا يذبحون عليها للأصنام، وليست مرادة هنا، وتطلق الأنصاب على أعلام الطريق، وليست مرادة أيضًا هنا، ولا في الآية

(2)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: إنما كانت الأصنام بهذا العدد؛ لأنهم كانوا يعظّمون في كلّ يوم صنمًا، ويخصّون أعظمها بيومين. انتهى

(3)

.

(1)

"الفتح" 9/ 405، كتاب "المغازي" رقم (4287).

(2)

"الفتح" 9/ 405، كتاب "المغازي" رقم (4287).

(3)

"المفهم" 3/ 633.

ص: 177

(فَجَعَلَ)؛ أي: شرع النبيّ صلى الله عليه وسلم (يَطْعُنُهَا) بضمّ العين المهملة، وفتحها، والضمّ أشهر، (بِعُودٍ كَانَ بِيَدِهِ) وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه الماضي:"يَطْعُنُ في عينيه بِسِيَةِ القوس"، وفي حديث ابن عمر رضي الله عنهما عند الفاكهيّ، وصححه ابن حبَّان:"فيَسْقُط الصنم، ولا يمسّه"، وللفاكهيّ، والطبرانيّ، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما:"فلم يَبْقَ وَثَنٌ استقبله، إلا سَقَطَ على قفاه، مع أنها كانت ثابتةً بالأرض، وقد شَدّ لهم إبليس أقدامها بالرصاص"، وإنما فَعَلَ النبيّ صلى الله عليه وسلم ذلك لإذلال الأصنام، وعابديها، ولإظهار أنها لا تنفع، ولا تضر، ولا تدفع عن نفسها شيئًا

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: يقال: إن الأصنام المذكورة كانت مثبّتةً بالرصاص، وأنه صلى الله عليه وسلم كلّما طَعَن منها صنمًا في وجهه خَرّ لقفاه، أو في قفاه خرّ لوجهه، ذكر هذا القاضي عياض في كتاب "الشفا"

(2)

.

(وَيَقُولُ) صلى الله عليه وسلم عند طعنها: ({جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا}) تقدَّم أن هذا تهديدٌ، ووعيد لكفار قريش، فإنَّه قد جاءهم من الله الحقّ الذي لا مرية فيه، ولا قِبَل لهم به، وهو ما بعثه الله به من القرآن، والإيمان، والعلم النافع، وزهق باطلهم؛ أي: اضْمَحَلّ، وهلك، فإن الباطل لا ثبات له مع الحقّ، ولا بقاء، وسبق بيان اختلاف العلماء في معنى الحقّ والباطل. ({جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ}) قال الإمام ابن جرير الطبريّ رحمه الله: يقول الله جلّ ذكره: قل لهم يا محمَّد: جاء القرآن، ووحي الله، وما يبدئ الباطل: يقول: وما ينشئ الباطلُ خَلْقًا، والباطل هو فيما فسّره أهل التأويل: إبليس، وما يعيد: يقول: ولا يعيده حيًّا بعد فنائه. انتهى

(3)

.

وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله: {قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ} ؛ أي: جاء الحقّ من الله، والشرع العظيم، وذهب الباطل، وزهق، واضْمَحَلّ؛ كقوله تعالى:{بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} [الأنبياء: 18]؛ أي: لم يبق للباطل مقالة، ولا رياسة، ولا كلمة، وزعم قتادة،

(1)

"الفتح" 9/ 405.

(2)

"المفهم" 3/ 633.

(3)

"تفسير الطبريّ" 22/ 105 - 106.

ص: 178

والسديّ أن المراد بالباطل ها هنا: إبليس؛ أي: أنَّه لا يَخْلُق أحدًا، ولا يعيده، ولا يقدر على ذلك، وهذا وإن كان حقًّا، ولكن ليس هو المرادَ ها هنا، والله أعلم. انتهى

(1)

.

قال الطبريّ رحمه الله: في حديث ابن مسعود رضي الله عنه هذا جواز كسر آلات الباطل، وما لا يصلح إلا في المعصية حتى تزول هيئتها، ويُنتفع برضاضها. انتهى

(2)

.

وقوله: (زَادَ ابْنُ أَبِي عُمَرَ) هو محمَّد بن يحيى العدنيّ شيخه الثالث في هذا السند، ومفعول "زاد" قوله:(يَوْمَ الْفَتْحِ)؛ يعني: أن ابن أبي عمر زاد في روايته لهذا الحديث عن ابن عيينة قوله: "يوم الفتح" بعد قوله: "دخل النبيّ صلى الله عليه وسلم مكة"، وتابعه عليه صدقة بن الفضل عند البخاريّ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [31/ 4616 و 4617](1781)، و (البخاريّ) في "المظالم"(2478) و"المغازي"(4287) و"التفسير"(4720)، و (الترمذيّ) في "التفسير"(3138)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(6/ 438)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(7/ 403)، و (الحميديّ) في "مسنده"(1/ 46)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 377)، و (ابن حبَّان) في "صحيحه"(5862)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 292)، و (الطبرانيّ) في "الصغير"(210) و"الأوسط"(1/ 102 و 3/ 8) و"الكبير"(10535)، و (الطبريّ) في "التفسير"(15/ 152)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(8/ 377)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(6/ 101)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(3813) و"التفسير"(3/ 133)، وفوائده تقدّمت قريبًا، ولله الحمد والمنّة.

(1)

"تفسير ابن كثير" 3/ 545.

(2)

راجع: "الفتح" 6/ 300، كتاب "المظالم" رقم (2478).

ص: 179

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4617]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَاهُ حَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْحُلْوَانِيُّ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، كِلَاهُمَا عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاق، أَخْبَرَنَا الثَّوْرِيُّ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، بِهَذَا الإِسْنَاد، إِلَى قَوْلِهِ: {زَهُوقًا}، وَلَمْ يَذْكُرِ الآيَةَ الأُخْرَى، وَقَالَ بَدَلَ نُصُبًا: صَنَمًا).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(حَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْحُلْوَانِيُّ) تقدَّم قريبًا.

2 -

(عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ) الْكِسّيّ، تقدَّم أيضًا قريبًا.

3 -

(عَبْدُ الرَّزَّاقِ) بن همّام الصنعانيّ، تقدَّم أيضًا قريبًا.

4 -

(الثَّوْرِيُّ) سفيان بن سعيد الإمام الشهير، تقدَّم قبل بابين.

و"ابن أبي نَجِيح" ذُكر قبله.

[تنبيه]: رواية الثوريّ، عن ابن أبي نَجِيح هذه ساقها أبو عوانة رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(6788)

- حدّثنا إبراهيم بن محمَّد بن برة الصنعانيّ، والحسن بن عبد الأعلى البوسيّ الصنعانيّ، قالا: ثنا عبد الرزاق، قال: أنبأ سفيان الثوريّ، عن ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد، عن أبي معمر، عن ابن مسعود: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم دخل مكة يوم الفتح، وحول الكعبة ثلاثمائة وستون صنمًا، فجعل يَطْعُنها، وهو يقول:{جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء: 81]. انتهى

(1)

.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان ما يتعلّق به من المسائل، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4618]

(1782) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، وَوَكِيعٌ، عَنْ زَكَرِيَّاءَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ مُطِيعٍ، عَنْ أَبِيه،

(1)

"مسند أبي عوانة" 4/ 292.

ص: 180

قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ: "لَا يُقْتَلُ قُرَشِيٌّ صَبْرًا بَعْدَ هَذَا الْيَوْمِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدَّم قبل حديث.

2 -

(عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ) القرشيّ الكوفيّ، قاضي الْمَوْصِل، ثقةٌ [8](ت 189)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 6.

3 -

(وَكِيعُ) بن الجرّاح بن مَلِيح الرؤاسي، أبو سفيان الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ عابدٌ، من كبار [9](ت 6 أو 197)(ع) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.

4 -

(زَكَرِيَّاءُ) بن أبي زائدة، تقدَّم قبل بابين.

5 -

(الشَّعْبِيُّ) عامر بن شَرَاحيل الْهَمْدانيّ، أبو عمرو الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ مشهور [3] مات بعد المائة، وله نحو من (80) سنة (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.

6 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ مُطِيعِ) بن الأسود بن حارثة بن نَضْلة بن عوف بن عُبيد بن عُويج بن عديّ بن كعب الْعَدَويّ المدنيّ، وُلد في حياة النبيّ صلى الله عليه وسلم، وكان رأس قريش يوم الحرّة، وأمّره ابن الزبير على الكوفة، ثمَّ قُتل معه [2](بخ م).

رَوَى عن أبيه، وعنه: ابناه إبراهيم، ومحمد، والشعبيّ، وعيسى بن طلحة، ومحمد بن أبي موسى، قال الزبير: كان من رجال قريش، جَلْدًا وشجاعةً، وكان على قريش يوم الحرّة، واستعمله ابن الزبير على الكوفة، فأخرجه المختار بن أبي عُبيد منها، وقال ابن حبَّان: له صحبة، ووَهِمَ في نسبه، وقال يحيى بن سعيد الأنصاريّ: أذكر أني رأيت ثلاثة أرؤس قُدِم بها المدينةَ: رأس ابن الزبير، ورأس ابن مطيع، ورأس ابن صفوان، رواه البخاري في "تاريخه"، قال: وقال لي عليّ: نُقِلُوا في يوم واحد؛ يعني: سنة ثلاث وسبعين.

انفرد به البخاريّ في "الأدب المفرد"، والمصنّف، وله في الكتابين حديث الباب فقط.

7 -

(أَبُوهُ) مطيع بن الأسود بن حارثة بن نَضْلة بن عوف بن عُبيد بن

ص: 181

عُويج بن عديّ بن كعب القرشيّ العدويّ، كان اسمه العاص، فسمّاه رسول الله صلى الله عليه وسلم مطيعًا، رَوَى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، ورَوَى عنه ابنه عبد الله، وعيسى بن طلحة بن عبيد الله.

قال مصعب: مات بالمدينة في خلافة عثمان رضي الله عنهما، وذكره ابن سعد في مُسّلِمة الفتح، وقال ابن الْبَرْقيّ: ذكر بعض أهل الحديث أنَّه قُتِل يوم الْجَمَل، ويقال: لم يدرك من عصاة قريش الإِسلام أحدٌ غيره.

تفرّد به البخاريّ في "الأدب المفرد"، والمصنّف، وله هذا الحديث فقط.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنَّه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وفيه تابعيّ، عن تابعيّ، والابن عن أبيه، وأن صحابيّه من المقلّين من الرواية، فليس له إلا هذا الحديث فقط

(1)

، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ زَكَرِيَّاءَ) بن أبي زائدة (عَنِ الشَّعْبِيِّ) عامر بن شَرَاحيل، أنَّه (قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ مُطِيعٍ، عَنْ أَبِيهِ) مطيع بن الأسود رضي الله عنه، أنَّه (قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ: "لَا يُقْتَلُ) بضمّ أوله مبنيًّا للمفعول، (قُرَشِيٌّ صَبْرًا)؛ أي: قَتْل صَبْر بسبب الكفر؛ أي: لا يرتدّ، فيقتلَ صبرًا على ردته، وقال أبو عبيد رحمه الله: ليس معناه - والله أعلم - أنَّه نَهَى أن يُقْتَلَ إذا استوجب القتل، وما كانت قريش وغيرها عنده في الحقّ إلا سواءً، ولكن وَجْهه إنما هو على الخبر، أنَّه لا يرتدّ قرشيّ، فيُقْتَلَ صبرًا على الكفر. انتهى

(2)

.

(بَعْدَ هَذَا الْيَوْمِ) يريد يوم الفتح، (إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ") قال القرطبيّ رحمه الله: أصل الصبر: الحبس، فمعنى:"قُتِل صبرًا"؛ أي: محبوسًا، مأسورًا، لا في معركة، ومنه: المصبورة: المنهيّ عن قتلها، قال الحميديّ: وقد تأوَّل بعض

(1)

راجع: "تحفة الأشراف بمعرفة الأطراف" 8/ 392 - 393.

(2)

"غريب الحديث لابن سلّام" 3/ 191.

ص: 182

العلماء هذا الحديث على معنى: أنَّه لا يُقْتَل قرشيّ مرتدًّا ثابتًا على الكفر صبرًا؛ إذ قد وُجِد من قُتل منهم صبرًا في القتال وغيره، ولم يوجد من قُتِل منهم صبرًا، وهو ثابث على الكفر.

وقال القاضي عياض: هذا إعلام منه صلى الله عليه وسلم أنهم يُسلمون كلهم، كما كان، وأنهم لا يرتدّون بعده كما ارتدّ غيرهم ممن حورب، وقُتِل صبرًا. انتهى

(1)

.

وقال النوويّ رحمه الله: قال العلماء: معناه: الإعلام بأن قريشًا يُسلمون كلُّهم، ولا يرتدّ أحد منهم كما ارتدّ غيرهم بعده صلى الله عليه وسلم ممن حورب، وقُتِل صبرًا، وليس المراد: أنهم لا يُقتَلون ظلمًا صبرًا، فقد جرى على قريش بعد ذلك ما هو معلوم، والله أعلم. انتهى

(2)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث مطيع بن الأسود رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [31/ 4618 و 4619](1782)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(9399)، و (الحميديّ) في "مسنده"(568)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(14/ 490)، و (البخاريّ) في "الأدب المفرد"(826)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 412 و 4/ 213)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 198)، و (الطحاويّ) في "مشكل الآثار"(2/ 227) و"معاني الآثار"(3/ 226)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(20/ 692 و 693)، و (ابن حبَّان) في "صحيحه"(3718)، و (الحاكم) في "المستدرك"(4/ 275)، و (ابن سعد) في "الطبقات"(5/ 450)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 293)، و (ابن أبي عاصم) في "السُّنَّة"(2/ 638)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان معجزة النبيّ صلى الله عليه وسلم حيث أخبر بما يكون بعده، وهو أن

(1)

"المفهم" 3/ 633 - 634.

(2)

"شرح النوويّ" 12/ 134.

ص: 183

قريشًا تدخل في الإِسلام، ولا ترتدّ منه، فلا يُقتل منها أحد صبرًا، فكان كما أخبر به، فلم يُسمع بقرشيّ قُتل مرتدًّا بخلاف سائر القبائل العربيّة، فقد ارتد منهم كثير بعد موته صلى الله عليه وسلم، حتى قاتلهم أبو بكر رضي الله عنه.

2 -

(ومنها): بيان فضل قريش حيث تبيّن ثباتها على الإِسلام بعد دخولها فيه، ولم تُصِبْها محنة الردّة، فلم يُقتل واحد منهم بسبب الردّة.

3 -

(ومنها): أن من ارتدّ عن الإِسلام يُقتل صبرًا، إن لم يرجع إلى الإِسلام، وهذا ما دلّ عليه قوله صلى الله عليه وسلم:"من بدّل دينه، فاقتلوه"، رواه البخاريّ.

4 -

(ومنها): أن فيه تغيير الاسم القبيح إلى الاسم الحسن، كما غيّر النبيّ صلى الله عليه وسلم اسم العاصي إلى المطيع، كما في الرواية الثانية، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4619]

(. . .) - (حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ، بِهَذَا الإِسْنَاد، وَزَادَ: قَالَ: وَلَمْ يَكُنْ أَسْلَمَ أَحَدٌ مِنْ عُصَاةِ قُرَيْشٍ غَيْرَ مُطِيعٍ، كَانَ اسْمُهُ الْعَاصِيَ

(1)

، فَسَمَّاهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مُطِيعًا).

رجال هذا الإسناد: ثلاثة:

1 -

(ابْنُ نُمَيْرٍ) هو: محمَّد بن عبد الله بن نُمير الْهَمْدانيّ الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ فاضلٌ [10](234)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 5.

2 -

(أَبُوهُ) عبد الله بن نُمير الْهَمْدانيّ، أبو هشام الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ، سنّيّ، من كبار [9](ت 199)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 5.

و"زكريّاء" بن أبي زائدة ذُكر قبله.

وقوله: (وَلَمْ يَكُنْ أَسْلَمَ أَحَدٌ مِنْ عُصَاةِ قُرَيْشٍ. . . إلخ) قال القاضي

عياض رحمه الله: "عُصاة" هنا جمع العاص من أسماء الأعلام، لا من الصفات؛ أي: ما أسلم ممن كان اسمه العاص، مثل العاص بن وائل السَّهْميّ،

(1)

وفي نسخة: "العاص" بحذف الياء.

ص: 184

والعاص بن هشام، أبي البختريّ، والعاص بن سعيد بن العاص بن أمية، والعاص بن هشام بن المغيرة المخزوميّ، والعاص بن مُنَبِّه بن الحجاج، وغيرهم سوى العاص بن الأسود العذريّ، فَغَيَّر النبيّ صلى الله عليه وسلم اسمه، فسماه مُطيعًا، وإلا فقد أسلمت عُصاة قريش وعُتاتهم كلُّهم بحمد الله تعالى، ولكنه ترك أبا جَنْدَل بن سُهيل بن عمرو، وهو ممن أسلم، واسمه أيضًا العاص، فإذا صحّ هذا فَيَحْتَمِل أن هذا لَمَّا غَلَبَت عليه كنيته، وجُهِل اسمه لم يعرفه المُخْبِر باسمه، فلم يستثنه، كما استثنى مطيع بن الأسود، والله أعلم. انتهى

(1)

.

[تنبيه]: رواية عبد الله بن نُمير، عن زكريّاء بن أبي زائدة هذه لم أجد من ساقها بتمامها، فليُنظر، والله تعالى أعلم.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(32) - (بَابُ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ)

" الْحُديبية": بتشديد الياء وتخفيفها لغتان، وأنكر كثير من أهل اللغة التخفيف، وقال أبو عبيد البكريّ: أهل العراق يثقّلون، وأهل الحجاز يُخفّفون. انتهى

(2)

.

وهي بئر بقرب مكة على طريق جُدّة دون مرحلة، ثمَّ أُطلق على الموضع، ويقال: بعضه في الحِلّ، وبعضه في الحَرَم، وهو أبعد أطراف الحرم عن البيت.

وقال في "الفتح": الحديبية بئر، سُمّي المكان بها، وقيل: شجرة حَدْباء صُغِّرت، وسُمّي المكان بها، قال المحبّ الطبريّ: الحديبية قرية قريبة من مكة، أكثرها في الحرم. انتهى

(3)

.

وقد تقدَّم البحث في هذا مستوفى في "كتاب الحجّ"[32/ 3034](1253).

(1)

"إكمال المعلم" 6/ 147.

(2)

"الفتح" 9/ 255، كتاب "المغازي" رقم (4147).

(3)

"الفتح" 6/ 626.

ص: 185

[تنبيه]: وقع في رواية ابن إسحاق في "المغازي" عن الزهريّ: "خرج صلى الله عليه وسلم عام الحديبية يريد زيارة البيت، لا يريد قتالًا".

ووقع عند ابن سعد أنَّه صلى الله عليه وسلم خرج يوم الاثنين لهلال ذي القعدة، زاد سفيان عن الزهريّ عند البخاريّ في "المغازي"، وكذا في رواية أحمد عن عبد الرزاق:"في بضع عشرة مائة، فلما أتى ذا الحليفة، قَلَّد الهدي، وأشعره، وأحرم منها بعمرة، وبعث عينًا له من خزاعة".

ورَوَى عبد العزيز الإماميّ، عن الزهريّ في هذا الحديث، عند ابن أبي شيبة رحمه الله:"خرج صلى الله عليه وسلم في ألف وثمانمائة، وبعث عينًا له من خزاعة، يُدْعَى ناجية، يأتيه بخبر قريش"، قال الحافظ رحمه الله: كذا سماه ناجية، والمعروف أن ناجية اسم الذي بَعَث معه الهديَ، كما صرح به ابن إسحاق وغيره، وأما الذي بعثه عينًا لخبر قريش، فاسمه بُسْر بن سفيان، كذا سماه ابن إسحاق، وهو بضمّ الموحدة، وسكون المهملة، على الصحيح. انتهى

(1)

.

وقال في "الفتح" في موضع آخر: وكان توجُّهه صلى الله عليه وسلم من المدينة يوم الاثنين مُسْتَهَلَّ ذي القعدة، سنة ستّ من الهجرة، فخرج قاصدًا إلى العمرة، فصدّه المشركون عن الوصول إلى البيت، ووقعت بينهم المصالحة، على أن يدخل مكة في العام المقبل.

وجاء عن هشام بن عروة، عن أبيه، أنَّه خرج في رمضان، واعتمر في شوّال، وشذّ بذلك، وقد وافق أبو الأسود عن عروة الجمهورَ، ومضى في "كتاب الحجّ" قول عائشة رضي الله عنها:"ما اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا في ذي القعدة"

(2)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4620]

(1783) - (حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ الْعَنْبَرِيُّ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، قَالَ: سَمِعْتُ الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ، يَقُولُ: كَتَبَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ الصُّلْحَ بَيْنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَبَيْنَ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَة، فَكَتَبَ:

(1)

"الفتح" 6/ 626، كتاب "الشروط" رقم (2731).

(2)

"الفتح" 9/ 255، كتاب "المغازي" رقم (4147).

ص: 186

"هَذَا مَا كَاتَبَ عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ"، فَقَالُوا: لَا تَكْتُبْ "رَسُولُ اللهِ"، فَلَوْ نَعْلَمُ أَنَّكَ رَسُولُ اللهِ لَمْ نُقَاتِلْكَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِعَلِيٍّ:"امْحُهُ"، فَقَالَ: مَا أَنَا بِالَّذِي أَمْحَاهُ، فَمَحَاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِيَدِه، قَالَ: وَكَانَ

(1)

فِيمَا اشْتَرَطُوا: أَنْ يَدْخُلُوا مَكَّةَ، فَيُقِيمُوا بِهَا ثَلَاثًا، وَلَا يَدْخُلَهَا بِسِلَاحٍ، إِلَّا جُلُبَّانَ السِّلَاح، قُلْتُ لأَبِي إِسْحَاقَ: وَمَا جُلُبَّانُ السِّلَاحِ؟ قَالَ: الْقِرَابُ، وَمَا فِيهِ).

رجال هذا الإسناد: خمسةٌ:

1 -

(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ الْعَنْبَرِيُّ) أبو عمرو البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 237)(خ م د س) تقدم في "المقدمة" 3/ 7.

2 -

(أَبُوهُ) معاذ بن معاذ بن نصر بن حسّان الْعَنْبَريّ، أبو الْمُثَنَّى البصريّ القاضي، ثقةٌ متقنٌ، من كبار [9](ت 196)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 7.

3 -

(شُعْبَةُ) بن الحجّاج الإمام الشهير، تقدَّم قبل ثلاثة أبواب.

4 -

(أَبُو إِسْحَاقَ) عمرو بن عبد الله الْهَمْداني السَّبِيعيّ، تقدَّم أيضًا قبل ثلاثة أبواب.

5 -

(الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبِ) بن الحارث الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، تقدَّم أيضًا قبل ثلاثة أبواب.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنَّه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسلٌ بالبصريين إلى شعبة، والباقيان كوفيّان.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ) السبيعيّ أنَّه (قَالَ: سَمِعْتُ الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ) رضي الله عنهما (يَقُولُ: كَتَبَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ) رضي الله عنه (الصُّلْحَ)؛ أي: عَقْد الصلح الذي جرى (بَيْنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَبَيْنَ الْمُشْرِكِينَ) سنة ستّ من الهجرة (يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ) تقدَّم أنها بتشديد الياء، وتخفيفها، والأكثرون على التخفيف، (فَكَتَبَ) بالبناء للفاعل؛ أي: كَتَب عليّ رضي الله عنه، وقوله:("هَذَا مَا كَاتَبَ عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ") مفعول به

(1)

وفي نسخة: "فكان".

ص: 187

لـ"كتَبَ" محكيّ؛ لقصد لفظه، وفي الرواية الآتية:"هذا ما قاضى عليه محمَّد صلى الله عليه وسلم"، قال العلماء: معنى قاضى هنا: فاصل، وأمضى أمره عليه، ومنه: قضى القاضي؛ أي: فَصَل الحكمَ، وأمضاه، ولهذا سُمِّيت تلك السنة عام المقاضاة، وعمرة القَضِيّة، وعمرة القضاء، كله من هذا، وغَلَّطُوا من قال: إنها سُمِّيت عمرة القضاء؛ لقضاء العمرة التي صُدَّ عنها؛ لأنه لا يجب قضاء المصدود عنها، إذا تحلل بالإحصار، كما فَعَلَ النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه في ذلك العام، قاله النوويّ رحمه الله

(1)

.

(فَقَالُوا)؛ أي: المشركون الذين أتوا لإبرام الصلح معه صلى الله عليه وسلم، وأصحابه رضي الله عنهم، (لَا) ناهية، ولذا جُزم بها قوله:(تَكْتُبْ "رَسُولُ اللهِ") يَحْتَمِل أن يكون مرفوعًا على الحكاية لقوله: "هذا ما كاتب عليه محمَّد رسول الله"، ويَحْتَمِل أن يكون منصوبًا على المفعوليّة بترك الحكاية، (فَلَوْ نَعْلَمُ أَنَّكَ رَسُولُ اللهِ لَمْ نُقَاتِلْكَ) وفي رواية للبخاريّ:"لو نعلم أنك رسول الله ما منعناك شيئًا"، زاد في رواية:"ولبايعناك"، وعند النسائي:"ما منعناك بيته"، وفي رواية شعبة عن أبي إسحاق:"لو كنت رسول الله لم نقاتلك"، وفي حديث أنس:"لاتبعناك"، وفي حديث المسور:"فقال سهيل بن عمرو: والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت، ولا قاتلناك"، وفي رواية أبي الأسود، عن عروة في "المغازي":"فقال سهيل: ظلمناك إن أقررنا لك بها، ومنعناك"، وفي حديث عبد الله بن مغفل:"لقد ظلمناك إن كنت رسولًا".

وهذا كلّه من جراءتهم، وعنادهم، وإلا فهم يعلمون أنَّه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لظهور الآيات والمعجزات التي تدلّ على صدقه، ولذلك قاله الله له صلى الله عليه وسلم:{فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام: 33]، وقال تعالى:{وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} الآية [النمل: 14].

(فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِعَلِيٍّ) رضي الله عنه ("امْحُهُ")؛ أي: أزل لفظ "محمَّد رسول الله" من الكتاب، حتى لا يتركوا الصلح بسببه، (فَقَالَ) عليّ رضي الله عنه:(مَا) نافية، (أَنَا بِالَّذِي أَمْحَاهُ) هكذا هو في جميع النسخ:"بالذي أمحاه"، وهي لغة في

(1)

"شرح النوويّ" 12/ 135.

ص: 188

"أمحوه"، وفي رواية للبخاريّ:"فقال: لا والله لا أمحوك أبدًا"، وللنسائيّ من طريق علقمة بن قيس، عن عليّ:"قال: كنت كاتب النبيّ صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية، فكتبت: هذا ما صالح عليه محمَّد رسول الله، فقال سهيل: لو علمنا أنَّه رسول الله ما قاتلناه، امحها، فقلت: هو والله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن رَغِمَ أنفك، لا والله لا أمحوها".

قال في "الفتح": وكأن عليًّا فَهِم أن أمره له بذلك ليس متحتمًا، فلذلك امتنع من امتثاله، وزاد في حديث عليّ رضي الله عنه عند النسائيّ:"وقال: أما إن لك مثلها، وستأتيها، وأنت مضطرّ"، يشير صلى الله عليه وسلم إلى ما وقع لعليّ يوم الحكمين، فكان كذلك. انتهى

(1)

.

وقال النوويّ رحمه الله: وهذا الذي فعله عليّ رضي الله عنه من باب الأدب المستحبّ؛ لأنه لم يَفْهَمْ من النبيّ صلى الله عليه وسلم تحتيم محو عليّ بنفسه، ولهذا لم يُنكِر عليه، ولو حَتَمَ محوه بنفسه لم يجز لعليّ تركه، ولَمَا أقرّه النبيّ صلى الله عليه وسلم على المخالفة. انتهى

(2)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "يمحاها": يذهبها، ويزيلها؛ يعني: الكلمة التي نازعوه فيها، يقال: محوت الشيءَ أمحوه، من باب نصر، ومحيته أمحاه، من باب نفع، محوًا، ومحيًا.

وامتناع عليّ من المحو مع أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بذلك، إنما كان؛ لأنه لم يفهم من ذلك الأمرَ الجزمَ، ولا الإيجاب، وإنما فَهِمَ أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أمره بذلك على جهة المصلحة في موافقتهم على ما طلبوه، لكن خَفِي على عليّ وعمر وغيرهما وجه المصلحة في ذلك؛ ولذلك عَظُمت عليهم تلك الحال، واشتدت عليهم حتى قال عمر ما قال، وحلف عليّ ألا يمحو ما أمره بمحوه تعظيمًا لمحو اسم الرسالة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، والنبيّ صلى الله عليه وسلم في كل ذلك مُقبل على ما أراه الله، وممتثل أمر الله تعالى، ساكن الجأش، واثقًا بأن الله لا يضيّعه، وأن الله سيجعل لهم في ذلك خيرًا وفرجًا، ولذلك كان حال أبي بكر من سكون الجأش، والثقة

(1)

"الفتح" 9/ 356، كتاب "المغازي" رقم (4251).

(2)

"شرح النوويّ" 12/ 135 - 136.

ص: 189

بالله، حتى قال لعمر ما قال، مما يدلّ على موافقته رسول الله صلى الله عليه وسلم ظاهرًا، وباطنًا، حتى نصَّ على عمر ما قاله له رسول الله صلى الله عليه وسلم حرفًا، حرفًا، حسب ما نصّه في حديث سهل بن حنيف. انتهى

(1)

.

(فَمَحَاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِيَدِهِ) وفي الرواية الثالثة: "فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرني مكانها، فمحاها، وكتب: ابن عبد الله"، قال القاضي عياض رحمه الله: احتج بهذا اللفظ بعض الناس على أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كَتَبَ ذلك بيده، على ظاهر هذا اللفظ، وقد ذكر البخاريّ نحوه من رواية إسرائيل، عن أبي إسحاق، وقال فيه:"أَخَذ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الكتابَ، فكتب"، وزاد عنه في طريق آخر:"ولا يُحسِن أن يكتب، فكتب"، قال أصحاب هذا المذهب: إن الله تعالى أجرى ذلك على يده، إما بأن كَتَبَ ذلك القلم بيده، وهو غير عالم بما يَكْتُب، أو أن الله تعالى عَلَّمه ذلك حينئذ حتى كَتَب، وجعلوا هذا زيادة في معجزته، فإنَّه كان أميًّا فكما علَّمه ما لم يَعْلَم من العلم، وجعله يقرأ ما لم يقرأ، ويتلو ما لم يكن يتلو، كذلك علَّمه أن يَكتُب ما لم يكن يكتب، وخَطَّ ما لم يكن يخطّ بعد النبوة، أو أجرى ذلك على يده، قالوا: وهذا لا يقدح في وصفه بالأمي، واحتجوا بآثار جاءت في هذا عن الشعبيّ، وبعض السلف، وأن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يمت حتى كتب.

قال القاضي: وإلى جواز هذا ذهب الباجيّ، وحكاه عن السمنانيّ، وأبي ذرّ، وغيره.

وذهب الأكثرون إلى مَنْع هذا كله، قالوا: وهذا الذي زعمه الذاهبون إلى القول الأوّل يُبطله وَصْف الله تعالى إياه بالنبيّ الأميّ صلى الله عليه وسلم، وقوله تعالى:{وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} الآية [العنكبوت: 48]، وقوله صلى الله عليه وسلم:"إنّا أُمّة أُمِّيّة لا نكتب، ولا نحسُب"، متّفقٌ عليه، قالوا: وقوله في هذا الحديث: "كَتَبَ"؛ معناه: أمر بالكتابة، كما يقال: رَجَمَ ماعزًا، وقَطَع السارق، وجَلَد الشارب؛ أي: أمر بذلك، واحتجوا بالرواية الأخرى:"فقال لعليّ رضي الله عنه: اكتب: محمَّد بن عبد الله".

(1)

"المفهم" 3/ 635 - 636.

ص: 190

قال القاضي: وأجاب الأولون بأنّه إنما وصفه الله تعالى بأنّه لم يَتْلُ، ولم يخطّ؛ أي: من قبل تعليمه، كما قال الله تعالى:{مِنْ قَبْلِهِ} ، فكما جاز أن يتلو جاز أن يكتب، ولا يَقدَح هذا في كونه أُمّيًّا؛ إذ ليست المعجزة مجرد كونه أميًّا، وإنما المعجزة حاصلة أن كان أوّلًا كذلك، ثمَّ جاء بالقرآن، وبعلوم لا يعلمها الأميون، ولم يقدح ذلك في حالته، فكذلك يجوز أن يكون يخطّ، فلا يقدح فيه، بل يكون تأكيدًا في معجزته، قالوا: وظاهر قوله: "ولا يُحْسِن أن يكتب، فكتب" كالنص أنَّه كتب بنفسه، والعدول إلى غيره تجوّز في الكلام، وحملٌ على ما لم يُفهم منه لغير ضرورة، قال: وقد طال كلام كل فرقة في هذه المسألة، وشَنَّعَت كل فرقة على الأخرى في هذا، {فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا} [الإسراء: 84]

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "أرني مكانها، فأراه، فمحاها وكتب"، ظاهر هذا أنَّه صلى الله عليه وسلم مَحَى تلك الكلمة التي هي "رسول الله صلى الله عليه وسلم " بيده، وكتب مكانها:"ابن عبد الله"، وقد رواه البخاريّ بأظهر من هذا، فقال:"فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتاب، فكتب"، وزاد في طريق أخرى:"ولا يُحسن أن يكتب"، فقال جماعة بجواز هذا الظاهر عليه، وأنه كتب بيده، منهم: السمنانيّ، وأبو ذرّ، والباجيّ، ورأوا أن ذلك غير قادح في كونه أمِّيًا، ولا معارض لقوله تعالى:{وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} [العنكبوت: 48]، ولا لقوله:"إنا أمة أميّة، لا نكتب، ولا نحسب"، متّفق عليه، بل رأوه زيادة في معجزاته، واستظهارًا على صدقه، وصحة رسالته، وذلك أنَّه كتب من غير تعلم الكتابة، ولا تَعاطٍ لأسبابها، فكان ذلك خارقًا للعادة، كما أنَّه صلى الله عليه وسلم عَلِم عِلم الأولين والآخرين من غير تعلُّم، ولا اكتساب، فكان ذلك أبلغ في معجزاته، وأعظم في فضائله، هذا لو فُرض أنَّه عَلِم الكتابة كلها، ودام عليها، فكيف ولم يُرْوَ عنه قط أنَّه كتب في غير ذلك الموطن الخاص، بل لم يفارق ما كان عليه من عدم معرفته بالكتابة حالة كتابته تلك، وإنما أجرى الله تعالى على يده، وقلمه حركاتٍ كانت عنها خطوط مفهومها:"ابن عبد الله" لمن قرأها، ثمَّ هل كان

(1)

"إكمال المعلم" 6/ 151 - 152.

ص: 191

عالِمًا في تلك الحال بنظم تلك الحروف الخاصة؟ كل ذلك مُحْتَمِلٌ، وعلى التقديرين، فلا يزول عنه اسم الأميّ بذلك؛ ولذلك قال الراوي عنه في هذه الحالة:"ولا يُحسِن أن يكتب"، فبقي عليه اسم الأميّ مع كونه قال:"كَتَبَ".

وقد أنكر هذا كثير من متفقهة الأندلس وغيرهم، وشدّدوا النكير فيه، ونسبوا قائله إلى الكفر، وذلك دليل على عدم العلوم النظرية، وعدم التوقف في تكفير المسلمين، ولم يتفطنوا أن تكفير المسلم كقتله، على ما جاء عنه صلى الله عليه وسلم في "الصحيح"، لا سيما رَمْيُ مَن شَهِدَ له أهل عصره بالعلم، والفضل، والإمامة، على أن المسألة ليست قطعية، بل مستندها ظواهر أخبار آحاد صحيحة، غير أن العقل لا يُحيلها، وليس في الشريعة قاطع يُحيل وقوعها على ما تقدَّم. انتهى

(1)

.

وقال في "الفتح" عند قوله: "قوله: فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتاب، وليس يحسن يكتب

إلخ" ما نصّه: وقد تمسّك بظاهر هذه الرواية أبو الوليد الباجيّ، فادَّعَى أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كتب بيده بعد أن لم يكن يحسن يكتب، فشَنَّع عليه علماء الأندلس في زمانه، ورموه بالزندقة، وأن الذي قاله مخالف القرآن، حتى قال قائلهم:

بَرِئْتُ مِمَّنْ شَرَى دُنْيَا بِآخِرَةٍ

وَقَاَل إِنَّ رَسُولَ اللهِ قَدْ كَتَبَا

فجَمَعهم الأمير، فاستظهر الباجيّ عليهم بما لديه من المعرفة، وقال للأمير: هذا لا ينافي القرآن، بل يؤخذ من مفهوم القرآن؛ لأنه قَيَّدَ النفي بما قبل ورود القرآن، فقال:{وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} الآية [العنكبوت: 48]، وبعد أن تحققت أميته، وتقررت بذلك معجزته، وأُمِن الارتياب في ذلك، لا مانع من أن يعرف الكتابة بعد ذلك، من غير تعليم، فتكون معجزة أخرى.

وذكر ابن دحية أن جماعة من العلماء وافقوا الباجيّ في ذلك، منهم شيخه أبو ذرّ الهرويّ، وأبو الفتح النيسابوريّ، وآخرون، من علماء إفريقية، وغيرها.

(1)

"المفهم" 3/ 637 - 638.

ص: 192

واحتج بعضهم لذلك بما أخرجه ابن أبي شيبة، وعُمَر بن شَبّة، من طريق مجاهد، عن عون بن عبد الله، قال:"ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كتب، وقرأ"، قال مجاهد: فذكرته للشعبيّ، فقال: صَدَقَ، قد سمعت من يذكر ذلك.

ومن طريق يونس بن ميسرة، عن أبي كبشة السَّلُوليّ، عن سهل بن الحنظلية:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أمر معاوية أن يكتب للأقرع، وعيينة، فقال عيينة: أتراني أذهب بصحيفة المتَلَمِّس؟ فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحيفة، فنظر فيها، فقال: قد كَتَب لك بما أُمِر لك"، قال يونس: فنَرَى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب بعدما أنزل عليه.

قال عياض: وردت آثار تدل على معرفة حروف الخطّ، وحُسْن تصويرها؛ كقوله لكاتبه:"ضَعِ القلم على أذنك، فإنه أذكر لك"، وقوله لمعاوية:"ألق الدواة، وحرِّف القلم، وأقم الباء، وفرّق السين، ولا تُعَوِّر الميم"، وقوله:"لا تمدّ بسم الله"، قال: وهذا وإن لم يُثْبِت أنه كتب، فلا يبعد أن يُرْزَق علم وضع الكتابة، فإنه أوتي علم كل شيء.

وأجاب الجمهور بضَعف هذه الأحاديث، وعن قصة الحديبية بأن القصة واحدة، والكاتب فيها عليّ، وقد صَرَّح في حديث المسور بأن عليًّا هو الذي كَتَب، فيُحْمَل على أن النكتة في قوله:"فأخذ الكتاب، وليس يحسن يكتب"، لبيان أن قوله:"أرني إياها" أنه ما احتاج إلى أن يريه موضع الكلمة التي امتنع عليّ من محوها، إلا لكونه كان لا يحسن الكتابة، وعلى أن قوله بعد ذلك:"فكتب" فيه حذف، تقديره: فمحاها، فأعادها لعليّ، فكتب، وبهذا جزم ابن التين، وأطلق "كَتَب" بمعنى أَمَر بالكتابة، وهو كثير؛ كقوله: كتب إلى قيصر، وكتب إلى كسرى، وعلى تقدير حمله على ظاهره، فلا يلزم من كتابة اسمه الشريف في ذلك اليوم، وهو لا يحسن الكتابة أن يصير عالمًا بالكتابة، ويخرج عن كونه أميًّا، فإن كثيرًا ممن لا يحسن الكتابة يعرف تصوّر بعض الكلمات، ويُحسن وضعها بيده، وخصوصًا الأسماء، ولا يخرج بذلك عن كونه أميًّا، ككثير من الملوك.

ويَحْتَمِل أن يكون جرت يده بالكتابة حينئذ، وهو لا يحسنها، فخرج المكتوب على وفق المراد، فيكون معجزة أخرى في ذلك الوقت خاصّة، ولا

ص: 193

يخرج بذلك عن كونه أميًّا، وبهذا أجاب أبو جعفر السمناني، أحد أئمة الأصول من الأشاعرة، وتبعه ابن الجوزيّ.

وتعقب ذلك السهيليّ وغيره بأن هذا، وإن كان ممكنًا، ويكون آية أخرى، لكنه يناقض كونه أميًّا لا يكتب، وهي الآية التي قامت بها الحجة، وأُفْحِم الجاحد، وانحسمت الشبهة، فلو جاز أن يصير يكتب بعد ذلك لعادت الشبهة.

وقال المعاند: كان يحسن يكتب، لكنه كان يكتم ذلك.

قال السهيليّ: والمعجزات يستحيل أن يدفع بعضها بعضًا، والحقّ أن معنى قوله:"فكتب"؛ أي: أمر عليًّا أن يكتب. انتهى.

قال الحافظ: وفي دعوى أن كتابة اسمه الشريف فقط على هذه الصورة تستلزم مناقضة المعجزة، وتُثبت كونه غير أميّ نظر كبير، والله أعلم. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: لا يخفى أن كتابته صلى الله عليه وسلم في ذلك الوقت لا يستلزم نقض كونه أميًّا - كما أشار إليه الحافظ في كلامه المذكور -؛ لأن هذه معجزة له جرت في نادر من الأوقات، غير مسبوقة بمثلها، ولا استمرّت له بعد ذلك، فلا داعي للشقاق والخلاف؛ إذ لا تعارض بين الوصفين، ولا اختلاف.

والحاصل أن حمل قوله: "فكتب" على النبيّ صلى الله عليه وسلم كما هو الظاهر - هو الأَولى، وكما أيّده قوله في رواية البخاريّ:"فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتاب، وليس يُحسن يكتب، فكتب" الحديث، فهذا ظاهر في كونه صلى الله عليه وسلم هو الكاتب، لا عليّ رضي الله عنه، فتأمله بالإمعان، والإنصاف، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

(قَالَ: وَكَانَ) وفي نسخة: "فكان"، (فِيمَا اشْتَرَطُوا)؛ أي: الكفار على النبيّ صلى الله عليه وسلم في ذلك الصلح، (أَنْ يَدْخُلُوا)؛ أي: يدخل النبيّ صلى الله عليه وسلم، والمسلمون في العام القابل (مَكَّةَ، فَيُقِيمُوا بِهَا ثَلَاثًا)؛ أي: ثلاث ليال.

قال العلماء: سبب هذا التقدير: أن المهاجر من مكة لا يجوز له أن يقيم بها أكثر من ثلاثة أيام، وهذا أصل في أن الثلاثة ليس لها حكم الإقامة، وأما ما فوقها فله حكم الإقامة. وقد رتّب الفقهاء على هذا: قَصْر الصلاة فيمن نوى إقامة في بلد في طريقه، وقاسوا على هذا الأصل مسائل كثيرة.

(1)

"الفتح" 9/ 356 - 358، كتاب "المغازي" رقم (4251).

ص: 194

(وَلَا يَدْخُلَهَا) هكذا وقع في النسخ مجرّدًا عن واو الجماعة، مع المناسب لِمَا قبله أن يكون بها، فيكون الضمير للنبيّ صلى الله عليه وسلم، أو يقدّر:"ولا يدخلها أحدٌ"(بِسِلَاحٍ، إِلَّا جُلُبَّانَ السِّلَاحِ) قال في "الفتح": ضبطه ابن قتيبة، وابن دُريد، وجماعة بضمتين، وتشديد الموحّدة، وضبطه ثابت في "الدلائل"، وأبو عبيد الهرويّ بسكون اللام، مع التخفيف، ونَقَل عن بعض المتقنين أنه بالراء بدل اللام، مع التشديد، وكأنه جمع جِرَاب، لكن لم يقع في رواية "الصحيح" إلا باللام، قال: ووقع في نسخة متقنة بكسر الجيم، واللام، مع التشديد، وهو خلاف ما اتَّفَقَ عليه أهل اللغة، والعربية، فلا تغتر بذلك. انتهى

(1)

.

وقال القاضي عياض في "المشارق": ضبطناه جُلُبّان - بضم الجيم، واللام، وتشديد الباء الموحّدة - قال: وكذا رواه الأكثرون، وصوّبه ابن قتيبة، وغيره، ورواه بعضهم بإسكان اللام، وكذا ذكره الهرويّ، وصوّبه هو، وثابت، ولم يذكر ثابت سواه، وهو ألطف من الجراب، يكون من الأَدَم، يوضع فيه السيف مُغْمَدًا، ويَطْرَح فيه الراكب سوطه، وأداته، ويُعَلِّقه في الرحل.

قال العلماء: وإنما شرطوا هذا؛ لوجهين: أحدهما: أن لا يظهر منه دخولُ الغالبين القاهرين، والثاني: أنه إن عرض فتنة، أو نحوها يكون في الاستعداد بالسلاح صعوبة. انتهى

(2)

.

وقال البغويّ في "شرح السُّنَّة": قد جاء في تفسير "الجُلبّان" في الحديث، قال: فسألته ما جلبّان السلاح؟ قال: القراب بما فيها، وإنما شُرط هذا؛ ليكون أمارةً للسِّلم، فلا يُظنّ أنهم يدخلون قهرًا، قال الأزهريّ: القراب: غِمْد السيف، والجلبّانُ: شِبْهُ الجراب من الأدم يوضع فيه السيف مغمودًا، ويَطرَح فيه الراكب سوطه، وأداته، ويُعلّقه في آخرة الرحل، أو واسطته، قال شَمِر: كأن اشتقاقه من الجلبة، وهي الجلدة التي تُجعل على القَتَب، والجلدة التي تغشى التميمة؛ لأنها كالغشاء للقراب. انتهى

(3)

.

(1)

"الفتح" 6/ 584، كتاب "الصلح" رقم (2700).

(2)

راجع: "إكمال المعلم" 6/ 152 - 153.

(3)

"شرح السنّة" 11/ 160.

ص: 195

وقال ابن الأثير رحمه الله: "الجُلْبان" - بضم الجيم، وسكُون اللَّام -: شِبه الجِرَاب، من الأَدَم، يُوضع فيه السيف مَغْمُودًا، وَيطْرَح فيه الراكِبُ سوطَه، وأدَاته، ويُعَلِّقه في آخره الكُور، أو واسطته، واشتِقَاقه من الجُلْبَة، وهي الجلْدَة التي تُجْعَل على القَتَب، ورواه القتيبي بضم الجيم، واللام، وتَشْدِيد الباء، وقال: هو أوعِيَةُ السلاح بما فيها، ولا أُراه سُمِّي به إلا لجفائه، ولذلك قيل للمرأة الغليظة الجافية: جُلُبَّانة، وفي بعض الروايات:"ولا يَدْخُلها إلا بجُلُبَّان السلاح": السيف، والقَوس، ونحوه، يريد: ما يُحْتاج في إظْهاره، والقِتَال به إلى مُعانَاة، لا كالرّماح؛ لأنها مُظْهَرةٌ، يمكن تعجيل الأذى بها، وإنما اشْترطوا ذلك؛ ليكُون عَلَمًا، وأمارة للسِّلْم؛ إذ كان دُخولهم صُلْحًا. انتهى

(1)

.

قال شعبة: (قُلْتُ لأَبِي إسْحَاقَ) السِّبيعي: (وَمَا جُلُبَّانُ السِّلَاح؟)"ما" استفهاميّة؛ أي: أيّ شيء معناه؟، (قَالَ) أبو إسحاق:(الْقِرَابُ) خبر لمحذوف بدليل السؤال، كما قال في "الخلاصة":

وَحَذْفُ مَا يُعْلَمُ جَائِزٌ كَمَا

تَقُول: "زَيْدٌ" بَعْدَ "مَنْ عِنْدَكُمَا؟ "

أي معناه: القراب، وهو بكسر القاف، وتخفيف الراء، وبعد الألف موحّدةٌ، قال الجوهريّ رحمه الله: قِرَابُ السيف: جَفْنُهُ، وهو وِعاءٌ يكون فيه السيف بغِمْده، وحِمَالته. انتهى

(2)

.

وقال الفيّوميّ رحمه الله: قِراب السيف معروفٌ، والجمع: قُرُبٌ، وأقرِبةٌ، مثلُ حِمَارٍ، وحُمُرٍ، وأَحْمِرةٍ. انتهى

(3)

.

(وَمَا فِيهِ)؛ أي: مع الذي في داخله مما يضعه الراكب فيه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث البراء بن عازب رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

(1)

"النهاية في غريب الأثر" 1/ 784.

(2)

"الصحاح" ص 846.

(3)

"المصباح المنير" 2/ 496.

ص: 196

أخرجه (المصنّف) هنا [32/ 4620 و 4621 و 4622](1783)، و (البخاريّ) في "الصلح"(2698) و (2700) و"الجزية والموادعة"(3184)، و (أبو داود) في "المناسك"(1832)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(5/ 168)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(713)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(7/ 383)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 289 و 291)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(1713)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4869 و 4873)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 294 و 296)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(9/ 226)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(2749)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): أن فيه حجَّة لأرباب الوثائق على افتتاحهم الوثائق التي لها بالٌ بهذا؛ كقولهم: هذا ما اشترى، وهذا ما اعْتَق، وهذا ما أصدق.

2 -

(ومنها): أنه يدلّ على تقديم الرجل الكبير في صدر الوثيقة، بائعًا كان، أو مبتاعًا.

3 -

(ومنها): أنه يدلّ على جواز أن يُكْتَب في أول الوثائق، وكُتُب الأملاك، والصداق، والعتق، والوقف، والوصية، ونحوها: هذا ما اشترى فلان، أو هذا ما أصدق، أو وَقَف، أو أَعتَق، ونحوه، وهذا هو الصواب الذي عليه الجمهور، من العلماء، وعليه عمل المسلمين في جميع الأزمان، وجميع البلدان من غير إنكار.

وقال المازريّ رحمه الله: أنكر بعض المتأخّرين أن يقال في افتتاح الوثائق: هذا ما اشترى فلان، وهذا ما أصدق فلان، وشبه ذلك؛ هروبًا من أن يدلّ ذلك على الجحد والنفي، وهذا الحديث حجة عليهم؛ لأنه كُتب باللفظ الذي كرهوه، فقال: "هذا ما كاتب

إلخ". انتهى.

4 -

(ومنها): أنه يدلّ على أنه يُكْتَفَى في ذلك بالاسم المشهور، من غير زيادة، خلافًا لمن قال: لا بد من أربعة: المذكور، وأبيه، وجدّه، ونسبه.

5 -

(ومنها): أن فيه بيان أن المهاجر يجوز أن يقيم بمكة ثلاثة أيام، لا أكثر من ذلك، قال القاضي عياض رحمه الله: وهذا أصل في مدة الإقامة في تقصير

ص: 197

الصلاة في السفر أنها فيما زاد على الثلاث، وأن الثلاث غير إقامة. انتهى

(1)

.

6 -

(ومنها): أن للإمام أن يعقد الصلح على ما رآه مصلحة للمسلمين، وإن كان لا يظهر ذلك لبعض الناس في بادئ الرأي.

قال القاضي عياض: وفي هذا الحديث على الجملة جواز مصالحة الكفار لِمَا فيه من مصلحة المسلمين ومهادنتهم، ولم يختلفوا إذا دعت إلى ذلك ضرورة، إذا كان على غير شيء، أو على مال يأخذه منهم، فإن لم تدع إلى ذلك ضرورة، ولم يكن في العدوّ قوة إلا لما بذلوه من أموالهم، فأجاز ذلك جماعة، منهم الأوزاعيّ وغيره، ومنع ذلك مالك وأصحابه وعلماء أهل المدينة، وغيرهم؛ لِمَا فيه من ضيعة الثغور تلك المدّة، وأن المسلمين بمغاوراتهم وجيوشهم قد ينالون منهم أكثر من ذلك غالبًا، وإنما صالح النبيّ صلى الله عليه وسلم أهل مكة؛ لقلّة أهل الإسلام حينئذ.

واختَلَف العلماء في أمَدِها: فمالك يرى ذلك مفوَّضًا إلى اجتهاد الإمام، ولا حدّ له من القلة والكثرة، إلا لِمَا يراه مصلحة لهم، والشافعيّ يحدّ أكثرها بعشرة أعوام لا يكون أكثر؛ لأنه الأمد الذي عاقد عليه صلى الله عليه وسلم أهل مكة.

وقيل: إنما كان عاقدهم على ثلاث سنين، وقيل: على أربع.

قال الجامع عفا الله عنه: تقدّم أن ما ذهب إليه مالك من الإطلاق، هو الظاهر؛ لعدم دليل يدلّ على التقييد بزمن معيّن، وإنما هو مجرد فعل من النبيّ صلى الله عليه وسلم، فتأمله بالإمعان، والله تعالى أعلم.

قال: فأما على ما يؤخذ من الكفار فجائز ما كان من مال، أو رؤوس من أحرارهم أو عبيدهم، وإن كانت مما يُغِيرون به، ويأخذونه من غيرهم، وهو قول الأوزاعيّ، وأحمد، وإسحاق، واخُتِلف إذا كان من أبنائهم ونسائهم، فمنعه أبو حنيفة قال: لأن الصلح وقع عليهم وعلى ذراريهم، وأجازه أصحاب مالك إذا كتبوا ذلك في شَرْط عهدهم، فإن لم يكتبوه فلا يجوز، ولهؤلَاء من العهد ما لرجالهم، ونحوه عن مالك.

واختُلِف إذا دعت ضرورة لشغل المسلمين بفتنة، أو غدر آخر، أو خوف

(1)

"إكمال المعلم" 6/ 152.

ص: 198

استيلَاء العدوّ عليهم، هل يصالحونه على أن يعطيهم المسلمون مالًا؟ فأجاز ذلك الأوزاعيّ، ومنعه الشافعيّ إلا أن يخافوا استئصال العدوّ لهم

(1)

. انتهى كلام عياض

(2)

.

7 -

(ومنها): احتمال المفسدة اليسيرة؛ لدفع أعظم منها، أو لتحصيل مصلحة أعظم منها، إذا لم يمكن ذلك إلا بذلك

(3)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4621]

(

) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، قَالَ: سَمِعْتُ الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ يَقُولُ: لَمَّا صَالَحَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَهْلَ الْحُدَيْبِيَة، كتَبَ عَلِيٌّ كِتَابًا بَيْنَهُمْ، قَالَ: فَكَتَبَ: "مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ"، ثُمَّ ذَكَرَ بِنَحْوِ حَدِيثِ مُعَاذٍ، غَيْرَ أنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ فِي الْحَدِيثِ: "هَذَا مَا كَاتَبَ عَلَيْهِ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

2 -

(ابْنُ بَشَّارٍ) هو: محمد المعروف ببندار، تقدّم أيضًا قبل ثلاثة أبواب.

3 -

(مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ) المعروف بغندر، تقدّم أيضًا قبل ثلاثة أبواب.

والباقون ذُكروا قبله.

وقوله: (ثُمَّ ذَكَرَ

إلخ) فاعل "ذَكَرَ" ضمير محمد بن جعفر غندر.

[تنبيه]: رواية محمد بن جعفر، عن شعبة هذه ساقها النسائيّ في "السنن الكبرى"، فقال:

(8577)

- أخبرنا محمد بن المثنى، ومحمد بن بشار، قالا: حدّثنا

(1)

راجع: "التمهيد" 2/ 34 و 12/ 124، و"الحاوي الكبير" 14/ 296 - 297.

(2)

"إكمال المعلم" 6/ 153 - 154.

(3)

راجع: "إكمال المعلم" 6/ 148 - 149 و"شرح النوويّ" 12/ 135.

ص: 199

محمد، قال: حدّثنا شعبة، عن أبي إسحاق، قال: سمعت البراء قال: لمّا صالح رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الحديبية - وقال ابن بشار: أهل مكة - كتَبَ عليٌّ كتابًا بينهم، قال: فكتب "محمد رسول الله"، فقال المشركون: لا تكتب "محمد رسول الله" لو كنت رسول الله لم نقاتلك، فقال لعليّ:"امحُهُ"، قال: ما أنا بالذي أمحاه، فمحاه رسول الله بيده، فصالحهم على أن يَدْخُل هو وأصحابه ثلاث أيام، ولا يدخلها إلا بِجُلُبّان السلاح، فسألته، قال ابن بشار: فسألوه: ما جلبان السلاح؟ قال: القراب بما فيه. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4622]

(

) - (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ، وَأَحْمَدُ بْنُ جَنَابٍ الْمِصِّيصِيُّ، جَمِيعًا عَنْ عِيسَى بْنِ يُونُسَ - وَاللَّفْظُ لإسْحَاقَ - أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، أَخْبَرَنَا زَكَرِيَّاءُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاء، قَالَ: لَمّا أُحْصِرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ الْبَيْت، صَالَحَهُ أَهْلُ مَكَةَ عَلَى أَنْ يَدْخُلَهَا، فَيُقِيمَ بِهَا ثَلَاثًا، وَلَا يَدْخُلَهَا إِلَّا بِجُلُبَّانِ السِّلَاحِ: السَّيْف، وَقرَابِه، وَلَا يَخْرُجَ بِأَحَدٍ مَعَهُ مِنْ أَهْلِهَا، وَلَا يَمْنَعَ أَحَدًا يَمْكُثُ بِهَا مِمَّنْ كَانَ مَعَهُ، قَالَ لِعَلِيٍّ: "اكْتُب الشَّرْطَ بَيْنَنَا: بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم، هَذَا مَا قَاضَى عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ

(2)

"، فَقَالَ لَهُ الْمُشْرِكُونَ: لَوْ نَعْلَمُ أنَّكَ رَسُولُ اللهِ تَابَعْنَاكَ، وَلَكِنِ اكْتُبْ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الله، فَأمَرَ عَلِيًّا أَنْ يَمْحَاهَا، فَقَالَ عَلِيٌّ: لَا، وَاللهِ لَا أَمْحَاهَا، فَقَالَ

(3)

رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَرِني مَكَانَهَا"، فَأَرَاهُ مَكَانَهَا، فَمَحَاهَا، وَكَتَبَ:"ابْنُ عَبْدِ اللهِ"، فَأَقامَ بِهَا ثَلَاَثةَ أيَّامٍ، فَلَمَّا أَنْ كَانَ الْيَوْمُ الثَّالِثُ

(4)

، قَالُوا لِعَلِيٍّ: هَذَا آخِرُ يَوْم مِنْ شَرْطِ صَاحِبِكَ، فَأمُرْهُ، فَلْيَخْرُجْ، فَأخْبَرَهُ بِذَلِكَ، فَقَالَ:"نَعَمْ"، فَخَرَجَ، وَقَالَ ابْنُ جَنَابٍ في رِوَايَتِهِ مَكَانَ تَابَعْنَاكَ: بَايَعْنَاكَ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ) ابن راهويه، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

(1)

"السنن الكبرى" للنسائيّ رحمه الله 5/ 168.

(2)

وفي نسخة زيادة "صلى الله عليه وسلم".

(3)

وفي نسخة: "فقال له".

(4)

وفي نسخة: "فلما كان يوم الثالث" بالإضافة.

ص: 200

2 -

(أَحْمَدُ بْنُ جَنَابٍ الْمِصِّيصِيُّ)

(1)

تقدّم أيضًا قبل ثلاثة أبواب.

3 -

(عِيسَى بْنُ يُونُسَ) بن أبي إسحاق السَّبيعيّ، تقدّم أيضًا قبل ثلاثة أبواب.

4 -

(زَكَرِيَّاءُ) بن أبي زائدة، تقدّم أيضًا قبل ثلاثة أبواب.

والباقيان ذُكرا قبله.

وقوله: (لَمَّا أُحْصِرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم) بضمّ الهمزة، مبنيًّا للمفعول، هكذا رواية السمرقنديّ لمسلم، وفي رواية الأكثرين:"لَمّا حُصِر" ثلاثيًّا، مبنيًّا للمفعول أيضًا، كما قاله عياض رحمه الله.

قال الفيّوميّ رحمه الله: حَصَرَهُ العدوّ حَصرًا، من باب قَتَل: أحاطوا به، ومنعوه من المضيّ لأمره، وقال ابن السِّكِّيت، وثعلب: حَصَرَهُ العدوّ في منزله: حبسه، وأَحْصَرَهُ المرض بالألف: منعه من السفر، وقال الفراء: هذا هو كلام العرب، وعليه أهل اللغة، وقال ابن الْقُوطِيَّة، وأبو عمرو الشيبانيّ: حَصَرَهُ العدوّ، والمرض، وأَحْصَرَهُ كلاهما بمعنى حبسه. انتهى

(2)

.

فدلّ ما ذُكر أن حُصِرَ، ثلاثيًّا، وأُحْصِر رباعيًّا جائزان في هذا الحديث، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

وقوله: (عِنْدَ الْبَيْتِ) قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في جميع نسخ بلادنا: "أُحْصِرَ عند البيت"، وكذا نقله القاضي عن رواية جميع الرواة، سوى ابن الحذاء، فإن في روايته:"عن البيت"، وهو الوجه. انتهى

(3)

.

قال الجامع عفا الله عنه: أما قوله: "أُحصر عن البيت" فوجهه واضح، كما قال النوويّ رحمه الله؛ أي: مُنع عن الوصول إلى البيت؛ لأداء العمرة، وأما على ما في معظم النسخ:"أُحصر عند البيت" فيكونه معناه: مُنع عند قُربه من البيت عن الوصول إليه، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

وقوله: (صَالَحَهُ أَهْلُ مَكَّةَ) المراد به المشركون، وفي رواية ابن إسحاق:

(1)

قوله: "جناب" بالجيم، والنون، وقوله:"الْمِصِّيصيّ" بكسر الميم، وتشديد الصاد الأولى، هذا هو المشهور، ويقال أيضًا: بفتح الميم، وتخفيف الصاد. اهـ. "شرح النوويّ" 12/ 120.

(2)

"المصباح المنير" 1/ 138.

(3)

"شرح النوويّ" 12/ 136.

ص: 201

"فلما انتهى - يعني: سهيل بن عمرو - إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم جرى بينهما القول حتى وقع بينهما الصلح على أن توضع الحرب بينهما عشر سنين، وأن يأمن الناس بعضهم بعضًا، وأن يرجع عنهم عامَهُم هذا".

قال الحافظ رحمه الله: هذا القدر الذي ذكره ابن إسحاق أنه مدّة الصلح هو المعتمد، وبه جزم ابن سعد، وأخرجه الحاكم من حديث عليّ رضي الله عنه نفسِه، ووقع في "مغازي ابن عائذ" في حديث ابن عباس رضي الله عنهما وغيره أنه كان سنتين، وكذا وقع عند موسى بن عقبة.

ويُجْمَعُ بينهما بأن الذي قاله ابن إسحاق هي المدّة التي وقع الصلح عليها، والذي ذكره ابن عائذ وغيره هي المدّة التي انتهى أمر الصلح فيها، حتى وقع نقضه على يد قريش.

وأما ما وقع في "كامل ابن عديّ"، و"مستدرك الحاكم"، و"الأوسط" للطبرانيّ من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن مدّة الصلح كانت أربع سنين، فهو مع ضَعف إسناده منكَر، مخالف للصحيح.

قال: وقد اختَلَف العلماء في المدّة التي تجوز المهادنة فيها مع المشركين، فقيل: لا تُجاوز عشر سنين على ما في هذا الحديث، وهو قول الشافعيّ، والجمهور، وقيل: تجوز الزيادة، وقيل: لا تجاوز أربع سنين، وقيل: ثلاثًا، وقيل: سنتين، والأول هو الراجح. انتهى ما في "الفتح"

(1)

، وهو بحثٌ نفيسٌ، والله تعالى أعلم.

وقوله: (عَلَى أَنْ يَدْخُلَهَا)؛ أي: يدخل النبيّ صلى الله عليه وسلم مع أصحابه رضي الله عنهم مكة في العام المقبل.

وقوله: (فَيُقِيمَ بِهَا ثَلَاثًا)؛ أي: ثلاث ليال.

وقوله: (وَلَا يَدْخُلَهَا إِلَّا بِجُلُبَّانِ السِّلَاحِ) تقدّم الخلاف في ضبطه، ومعناه: الْجِراب، من الأَدَم، أو قِرَاب الغِمْدِ

(2)

.

وقوله: (السَّيْف، وَقِرَابِهِ) بالجر بدلٌ من "السلاح".

(1)

"الفتح" 6/ 640 - 641، كتاب "الشروط" رقم (2731).

(2)

"القاموس المحيط" ص 226.

ص: 202

وقوله: (وَلَا يَخْرُجَ) بالبناء للفاعل؛ أي: لا يخرج النبيّ صلى الله عليه وسلم من مكة.

وقوله: (بِأَحَدٍ مَعَهُ مِنْ أَهْلِهَا)؛ أي: من أهل مكة، من المستضعفين الذين عجزوا عن الهجرة.

وقوله: (وَلَا يَمْنَعَ أَحَدًا يَمْكُثُ بِهَا)؛ أي: بمكة (مِمَّنْ كَانَ مَعَهُ)؛ أي: جاءوا معه صلى الله عليه وسلم من المدينة.

وقوله: (قَالَ لِعَلِيٍّ)؛ أي: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم لعليّ بن أبي طالب رضي الله عنه.

وقوله: (اكْتُب الشَّرْطَ بَيْنَنَا)؛ أي: بين المسلمين، والمشركين، وكون الكاتب هو عليّ بن أَبي طالب رضي الله عنه، كما نصّ عليه في هذا الحديث هو المشهور.

ويُروَى أن الكاتب هو محمد بن مسلمة، قال في "الفتح": وأخرج عمر بن شَبّة من طريق عمرو بن سهيل بن عمرو، عن أبيه:"الكتاب عندنا، كاتِبُه محمد بن مسلمة". انتهى.

قال: ويُجْمَع بأن أصل كتاب الصلح بخطّ عليّ رضي الله عنه، كما هو في "الصحيح"، ونَسَخَ مثله محمد بن مسلمة لسهيل بن عمرو.

قال: ومن الأوهام ما ذكره عمر بن شبة بعد أن حَكَى أن اسم كاتب الكتاب بين المسلمين وقريش عليّ بن أبي طالب من طُرُق، ثم أخرج من طريق أخرى أن اسم الكاتب محمد بن مسلمة، ثم قال: حدّثنا ابن عائشة يزيد بن عبيد الله بن محمد التيميّ، قال: كان اسم هشام بن عكرمة: بَغِيضًا، وهو الذي كتب الصحيفة، فَشُلّت يده، فسمّاه رسول الله صلى الله عليه وسلم هشامًا.

قال الحافظ: وهو غلطٌ فاحشٌ، فإن الصحيفة التي كتبها هشام بن عكرمة هي التي اتَّفَقَت عليها قريش لمّا حَصَرُوا بني هاشم في الشِّعْب، وذلك بمكة قبل الهجرة، والقصة مشهورة في السيرة النبوية، فتوهّم عمر بن شبة أن المراد بالصحيفة هنا كتاب القصّة التي وقعت بالحديبية، وليس كذلك، بل بينهما نحو عشر سنين، قال: وإنما كَتَبْت ذلك هنا خشية أن يَغترّ بذلك من لا معرفة له، فيعتقده اختلافًا في اسم كاتب القصّة بالحديبية، وبالله تعالى التوفيق. انتهى

(1)

، وهو تحقيقٌ مفيد جدًّا، والله تعالى أعلم.

(1)

"الفتح" 6/ 641 - 642، كتاب "الشروط" رقم (2731).

ص: 203

وقوله: (هَذَا مَا قَاضَى عَلَيْهِ) بوزن فَاعَلَ، من قضيتُ الشيءَ؛ أي: فَصَلتُ الحكم فيه.

وفيه جواز كتابة مثل ذلك في المعاقدات، والردّ على من منعه مُعتلًّا بخشية أن يُظَنّ فيها أنها نافية، نَبّه عليه الخطابيّ رحمه الله

(1)

.

وقوله: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ) وفي نسخة: زيادة "صلى الله عليه وسلم".

وقوله: (فَأمَرَ عَلِيًّا أَنْ يَمْحَاهَا) تقدّم أنه لغة في "يمحوها".

وقوله: (فَلَمَّا أَنْ كَانَ)"أن" بعد "لمّا" زائدة للتوكيد، و"كان" هنا تامّة بمعنى جاء، أو حضر، ويَحْتَمِل اْن تكون ناقصةً، ويُقدّر خبرها؛ أي: فلما كان اليومُ الثالث حاضرًا.

وقوله: (الْيَوْمُ الثَّالِثُ) كذا في بعض النسخ بالتوصيف، وهو واضح، ووقع في بعضها:"يومُ الثالثِ" بالإضافة، فيكون كمسجد الجامع، وصلاة الأُولى، من إضافة الموصوف إلى الصفة، ومثله يؤوّل عند البصريين، على حذف مضاف؛ أي: مسجد المكان الجامع، وصلاة الساعة الأولى، ويقدَّر هنا: يوم الزمان الثالث، والله تعالى أعلم.

ووقع في نسخة شرح النوويّ بالإضافة، فقال: هكذا هو في النسخ كلِّها: "يوم الثالث" بإضافة "يوم" إلى "الثالث"، وهو من إضافة الموصوف إلى الصفة، وقد سبق بيانه مرّات، ومذهب الكوفيين جوازه على ظاهره، ومذهب البصريين تقدير محذوف منه؛ أي: يوم الزمان الثالث. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: قوله: "في النسخ كلّها" فيه نظر؛ لأنه وقع في بعضها؛ كالنسخة الهنديّة، والنسخة التركيّة، وهما من أجود نسخ مسلم، بلفظ:"اليوم الثالث" بالتوصيف، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

وقوله: (مِنْ شَرْطِ صَاحِبِكَ) يريدون النبيّ صلى الله عليه وسلم.

وقوله: (فَأْمُرْهُ) بهمزة ساكنة، لتقدّم حرف العطف عليه، وهي الفاء، فعل أمر من أمر يأمر، من باب نصر، قال الفيّوميّ رحمه الله: وإذا أمرت من هذا الفعل، ولم يتقدّمه حرف عطف، حَذَفت الهمزة على غير قياس، وقلت: مُرْه

(1)

"الفتح" 6/ 641 - 642، كتاب "الشروط" رقم (2731).

ص: 204

بكذا، ونظيره:"كُلْ، وخُذْ"، وإنْ تقدّمه حرف عطف، فالمشهور ردّ الهمزة على القياس، فيقال: وأمر بكذا، قال تعالى:{وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ} الآية [طه: 132]، ولا يُعرف في "كُلْ"، و"خُذْ" إلا التخفيف مطلقًا. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قوله: ولا يُعرَف في "كُلْ"، و"خُذ" إلا التخفيف مطلقًا، قد أثبت فيهما أيضًا بقلّة ابن مالك رحمه الله، فقال في "لاميّته":

وَشَذَّ بِالْحَذْفِ "مُرْ" و"خُذْ" وَفَشَا

و"أمُرْ" وَمُسْتَنْدَرٌ تَتْمِيمُ "خُذْ" و"كُلَا"

وقوله: (قَالُوا لِعَلِيٍّ: هَذَا آخِرُ يَوْم مِنْ شَرْطِ صَاحِبِكَ، فَأْمُرْهُ، فَلْيَخْرُجْ، فَأخْبَرَهُ بِذَلِكَ، فَقَالَ: "نَعَمْ"، فَخَرَجَ) قال النوويّ رحمه الله: هذا الحديث فيه حذف، واختصار، والمقصود أن هذا الكلام لم يقع في عام صلح الحديبية، وإنما وقع في السنة الثانية، وهي عمرة القضاء، وكانوا شارطوا النبيّ صلى الله عليه وسلم في عام الحديبية أن يجيء بالعام المقبل، فيعتمر، ولا يقيم أكثر من ثلاثة أيام، فجاء في العام المقبل، فأقام إلى أواخر اليوم الثالث، فقالوا لعليّ رضي الله عنه هذا الكلامَ، فاختَصر الحديثَ، ولم يذكر أن الإقامة وهذا الكلام كانا في العام المقبل، واستغنى عن ذكره بكونه معلومًا، وقد جاء مبيّنًا في روايات أُخَر، مع أنه قد عُلِمَ أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يدخل مكة عام الحديبية، والله أعلم.

قال: فإن قيل: كيف أحوجوهم إلى أن يطلبوا منهم الخروج، ويقوموا بالشرط؟.

فالجواب: أن هذا الطلب كان قبل انقضاء الأيام الثلاثة بيسير، وكان عزم النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأصحابه رضي الله عنهم على الارتحال عند انقضاء الثلاثة، فاحتاط الكفار لأنفسهم، وطلبوا الارتحال قبل انقضاء الثلاثة بيسير، فخرجوا عند انقضائها؛ وفاءً بالشرط، لا أنهم كانوا مقيمين، لو لم يُطْلَب ارتحالهم. انتهى كلام النوويّ رحمه الله

(2)

، وهو بحث نفيسٌ جدًّا، والله تعالى أعلم.

وقوله: (وَقَالَ ابْنُ جَنَابٍ

إلخ) بيّن به اختلاف شيخيه: إسحاق بن إبراهيم، وأحمد بن جناب، فقال إسحاق في لفظة:"تَابَعْنَاكَ"، وقال أحمد:"بَايَعْنَاكَ".

(1)

"المصباح المنير" 1/ 21.

(2)

"شرح النوويّ" 12/ 138 - 139.

ص: 205

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى بيان تمام شرحه، وبيان مسائله قبل حديث، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4623]

(1784) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أنَسٍ، أَنَّ قُرَيْشًا صَالَحُوا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فِيهِمْ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِعَلِيٍّ:"اكْتُبْ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم"، قَالَ سُهَيْلٌ: أمَّا بِاسْمِ اللهِ

(1)

، فَمَا نَدْرِي مَا بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ؟ وَلَكِنِ اكتُبْ مَا نَعْرِفُ: بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ، فَقَالَ:"اكتُبْ مِنْ مُحَمّدٍ رَسُول اللهِ"، قَالُوا: لَوْ عَلِمْنَا أنَّكَ رَسُولُ اللهِ لَاتَّبَعْنَاكَ، وَلَكِنِ اكْتُبِ اسْمَكَ، وَاسْمَ أَبِيكَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"اكتُبْ مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ لا، فَاشْتَرَطُوا عَلَى النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ مَنْ جَاءَ مِنْكُمْ لَمْ نَرُدَّهُ عَلَيْكُمْ، وَمَنْ جَاءَكُمْ مِنَّا، رَدَدْتُمُوهُ عَلَيْنَا، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ الله، أنكْتُبُ هَذَا؟ قَالَ: "نَعَمْ، إِنَّهُ مَنْ ذَهَبَ مِنَّا إِلَيْهِمْ، فَأَبْعَدَهُ اللهُ، وَمَنْ جَاءَنَا مِنْهُمْ سَيَجْعَلُ اللهُ لَهُ فَرَجًا، وَمَخْرَجًا").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

وتقدّم نفسه قبل باب.

شرح الحديث:

(عَنْ ثَابِتِ) بن أسلم البُنانيّ (عَنْ أنس) بن مالك رضي الله عنه (أَنَّ قُرَيْشًا صَالَحُوا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم)؛ أي: في الحديبية، (فِيهِمْ)؛ أي: في جملة من صالح، (سُهَيْلُ بْنُ عَمْرِو) بن عبد شمس بن عبد وَدّ بن نصر بن مالك بن حِسْل بن عامر بن لؤيّ القرشيّ العامريّ، خطيب قريش، أبو يزيد، قال البخاريّ: سكن مكة، ثم المدينة، وذكره ابن سميع في الأُولى ممن نزل الشام، وهو الذي تَوَلّى أمر الصلح بالحديبية.

وله ذِكر في حديث ابن عمر رضي الله عنهما في الذين دعا النبيّ صلى الله عليه وسلم عليهم في

(1)

وفي نسخة: "أما اسم الله".

ص: 206

القنوت، فنزلت:{لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} الآية [آل عمران: 128]، زاد أحمد في روايته:"فتابوا كلُّهم".

وروى حميد بن زنجويه في "كتاب الأموال" من طريق ابن أبي حسين، قال:"لما فَتَحَ رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة دخل البيت، ثم خرج، فوضع يده على عِضَادتي الباب، فقال: ماذا تقولون؟ فقال سهيل بن عمرو: نقول خيرًا، ونظنّ خيرًا، أخٌ كريمٌ، وابن أخ كريم، وقد قَدَرت، فقال: أقول كما قال أخي يوسف: {لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ} [يوسف: 92] ".

وذكره ابن إسحاق فيمن أعطاه النبيّ صلى الله عليه وسلم مائة من الإبل، من المؤلَّفة.

وذكر ابن أبي حاتم، عن عبد الله بن أحمد، عن أبيه، عن الشافعيّ: كان سهيل محمود الإسلام، من حين أسلم.

ورَوَى البيهقيّ في "الدلائل" من طريق الحسن بن محمد ابن الحنفية، قال: قال عمر للنبيّ صلى الله عليه وسلم: دَعْني أَنرخ ثنيتي سهيل، فلا يقوم علينا خطيبًا، فقال:"دعها، فلعلها أن تَسُرّك يومًا"، فلما مات النبيّ صلى الله عليه وسلم قام سهيل بن عمرو، فقال لهم: من كان يعبد محمدًا، فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله، فإن الله حيّ لا يموت.

وروى أوله يونس بن بكير في مغازي ابن إسحاق عنه، عن محمد بن عمرو بن عطاء، وهو في "المحامليات" موصول من طريق سعيد بن أبي هند، عن عمرة، عن عائشة.

وذكر ابن خالويه أن السرّ في قوله: أنزع ثنيتيه، أنه كان أعلم، والأعلم إذا نُزِعت ثنيتاه لم يستطع الكلام.

وذكر الواقديّ من طريق مصعب بن عبد الله، عن مولى لسهيل، عن سهيل، أنه سمعه يقول: لقد رأيت يوم بدر رجالًا بِيضًا على خيل بُلْق، بين السماء والأرض، مُعَلِّمين، يقاتلون، ويأسرون.

ورَوَى أبو قُرّة من طريق ابن أبي حسين، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم استهداه من ماء زمزم.

وروى البخاريّ في "تاريخه"، والباورديّ، من طريق حُميد، عن الحسن قال: كان المهاجرون والأنصار بباب عمر، فجعل يَأذَن لهم على قَدْر منازلهم،

ص: 207

وثَمَّ جماعة من الطُّلَقاء، فنظر بعضهم إلى بعض، فقال لهم سهيل بن عمرو: على أنفسكم فاغضبوا، دُعِي القومُ، ودُعيتم، فأسرعوا، وأبطأتم، فكيف بكم إذا دُعيتم إلى أبواب الجنة؟ ثم خرج إلى الجهاد. وأخرجه ابن المبارك في "الجهاد" أتم منه.

وروى ابن شاهين من طريق ثابت البنانيّ، قال: قال سهيل بن عمرو: والله لا أدع موقفًا وقفته مع المشركين، إلا وقفت مع المسلمين مثله، ولا نفقةً أنفقتها مع المشركين، إلا أنفقت على المسلمين مثلها، لعل أمري أن يتلو بعضه بعضها.

وقال ابن أبي خيثمة: مات سهيل بالطاعون سنة ثمان عشرة، ويقال: قُتِل باليرموك، وقال خليفة: بمرج الصفر، والأول أكثر، واْنه مات بالطاعون.

وأخرج ابن سعد، بإسناد له إلى أبي سعد بن أبي فَضَالة، وكانت له صحبة، قال: اصطحبت أنا وسهيل بن عمرو إلى الشام، فسمعته يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "مقام أحدكم في سبيل الله ساعة من عمره خير من عمله عمره في أهله"، قال سهيل: فإنما أرابط حتى أموت، ولا أرجع إلى مكة، قال: فلم يزل مقيمًا بالشام، حتى مات في طاعون عَمَوَاس، ذكر هذا كلّه في "الإصابة"

(1)

.

(فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِعَلِيٍّ)؛ أي: ابن أبي طالب رضي الله عنه، ("اكْتُبْ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم"، قَالَ سُهَيْلٌ: أمَّا بِاسْمِ اللهِ) وفي بعض النسخ: "أما اسم الله"(فَمَا نَدْرِي)؛ أي: لا نعلم (مَا بِسْم اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم؟)؟ أي: لأنهم لا يعرفون الرحمن، كما قال تعالى:{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ} الآية [الفرقان: 60]، أو لأنهم لا يعرفون إلا رحمن اليمامة، قال في "الكشّاف": كانوا يقولون: ما نعرف الرحمن إلا الذي باليمامة - يعنون مسيلمة الكذّاب -، وكان يقال له: رحمان اليمامة، وهذا من تعنّتهم، وشدّة كفرهم، وإلا فقد كانوا يسمّون الله تعالى في جاهليّتهم بالرحمن، قال الإمام ابن كثير رحمه الله في "تفسيره": وقد زعم بعضهم أن العرب لا تعرف الرحمن، حتى

(1)

"الإصابة في تمييز الصحابة" للحافظ ابن حجر رحمه الله 3/ 177 - 178.

ص: 208

ردّ الله عليهم ذلك بقوله: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الإسراء: 110]؛ ولهذا قال كفار قريش يوم الحديبية لمّا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعَليّ: "اكتب {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1)} "، فقالوا: لا نعرف الرحمن، ولا الرحيم، رواه البخاريّ، وفي بعض الروايات: لا نعرف الرحمن إلا رحمن اليمامة، وقال تعالى:{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا (60)} [الفرقان: 60].

قال: والظاهر أن إنكارهم هذا إنما هو جُحود، وعناد، وتعنّت في كفرهم؛ فإنه قد وُجد في أشعارهم في الجاهلية تسمية الله تعالى بالرحمن، قال ابن جرير: وقد أنشد لبعض الجاهلية الجُهَّال [من الطويل]:

ألا ضَرَبَتْ تلك الفتاةُ هَجِينَها

ألا قَضَبَ الرحمنُ رَبّي يمينها

وقال سلامة بن جندب الطهويّ [من الطويل]:

عَجِلتم علينا عَجْلَتينَا عليكُمُ

وما يَشَأِ الرّحْمَنُ يُعْقَد ويُطْلَقِ

(1)

ومما ذُكر من إطلاقهم الرحمن على مسيلمة قول بعضهم:

سَمَوْتَ بِالْمَجْدِ يَا ابْنَ الأَكْرَمَيْنِ أَبًا

وَأَنْتَ غَيْثُ الْوَرَى لَا زِلْتَ رَحْمَانَا

وقد هجاه بعض المسلمين بقوله:

سُمِيتَ بِالْخُبْثِ يَا ابْنَ الأَخْبَثَيْنِ أَبًا

وَأَنْتَ شَرُّ الْوَرَى لا زِلْتَ شَيْطَانَا

(وَلَكِنِ اكْتُبْ مَا نَعْرِفُ: بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ) وفي حديث المسور عند البخاريّ: "قال: فدعا النبيّ صلى الله عليه وسلم الكاتب، فقال: اكتب بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، فقال سهيل: أما الرحمن فوالله ما أدري ما هو؟، ولكن اكتب: باسمك اللهم، كما كنت تكتب، فقال المسلمون: لا نكتبها إلا بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: اكتب باسمك اللهم".

(فَقَالَ: "اكْتُبْ مِنْ مُحَمّدٍ رَسُول اللهِ لا، قَالُوا: لَوْ عَلِمْنَا أَنَّكَ رَسُولُ اللهِ لَاتَّبَعْنَاكَ)، وفي حديث البراء:"لو نعلم أنك رسول الله ما منعناك شيئًا، ولبايعناك"، وعند النسائيّ:"ما منعناك بيته"، وفي رواية:"لو كنت رسول الله لم نقاتلك"، وفي حديث المسور: "فقال سهيل بن عمرو: والله لو كنا نعلم

(1)

"تفسير ابن كثير" 1/ 127 - 128.

ص: 209

أنك رسول الله ما صددناك عن البيت، ولا قاتلناك"، وفي رواية عروة في "المغازي": "فقال سهيل: ظلمناك إن أقررنا لك بها، ومنعناك"، وفي حديث عبد الله بن مُغَفَّل: "لقد ظلمناك إن كنت رسولًا".

(وَلَكِنِ اكْتُبِ اسْمَكَ، وَاسْمَ أَبِيكَ) وفي حديث عبد الله بن مغفل: "فقال: اكتب: هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله بن عبد المطلب"، (فَقَالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم:"اكْتُبْ مِنْ مُحَمّدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ")، وفي حديث المسور عند البخاريّ:"فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: والله إني لرسول الله، وإن كذّبتموني، اكتب: محمد بن عبد الله".

قال القرطبيّ رحمه الله: ليس معارِضًا للرواية التي تقدَّم ذكرها؛ إذ ليس فيها أن عليًّا كتب بيده، وإنما فيها: أنه صلى الله عليه وسلم أمره بالكتابة كما أمره بالمحو، فلم يمح عليّ، ولم يكتب، فلمَّا امتنع عليٌّ منهما جميعًا للوجه الذي ذكرناه، قال له صلى الله عليه وسلم:"أرني مكانها"، فأراه إيَّاه، فمحاه النبيّ صلى الله عليه وسلم، وكتب بيده، على ما تقرر من المذهب الأول، وعليه تجتمع الروايات المختلفة. انتهى

(1)

.

(فَاشْتَرَطُوا عَلَى النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ مَنْ جَاءَ مِنْكُمْ)؛ أي: من المسلمين، (لَمْ نَرُدَّهُ عَلَيْكُمْ، وَمَنْ جَاءَكُمْ مِنَّا، رَدَدْتُمُوهُ عَلَيْنَا) وفي حديث المسور عند البخاريّ: "فقال سهيل: وعلى أنه لا يأتيك منّا رجل، وإن كان على دينك إلا رددته إلينا"، وفي رواية ابن إسحاق:"على أنه من أتى محمدًا من قريش بغير إذن وليّه ردّه عليهم، ومن جاء قريشًا ممن يتّبع محمدًا لم يردّوه عليه".

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "فاشترطوا عليه أن من جاء منكم لم نردّه، ومن جاء منا رددتموه علينا" لا خلاف بين الرواة والمتأولين أن الرجال داخلون في هذا اللفظ العامّ، واختلفوا: هل دخل فيهم النساء؟ فمنهم من منع ذلك، واستدلّ بما جاء في البخاريّ في "كتاب الشروط"، في هذا الحديث، وهو أنه قال:"ولا يأتيك منا رجل على دينك، إلا رددته إلينا"، وهذا نصّ، وعلى هذا، فلا يُحتاج إلى الاعتذار عن حبس النبيّ صلى الله عليه وسلم النساء اللاتي أسلمن، وهاجرن إلى المدينة، ولا أن نقول في قوله تعالى:{فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} [الممتحنة: 10] إنه ناسخ، والأكثر على أنهنّ دخلن في ذلك العموم، وقد رُوي

(1)

"المفهم" 3/ 638.

ص: 210

أن سُبيعة بنت الحارث الأسلمية جاء زوجها صَيْفيّ يطلبها، وكانت أسلمت، وهاجرت، وكذلك أم كلثوم بنت عقبة، فجاء زوجها مسافرٌ يطلبها بالشروط، فأنزل الله تعالى الآية في النهي عن ردّهن، ورأوا أن هذه الآية ناسخة لِمَا تقرر بالشرط المتقدِّم الذي هو ردّهن إلى الكفار، والطريقة الأولى أحسن، وأبعد عن الإشكال؛ إذ لم يدخلن في الشرط.

ثم اختلفوا فيما إذا صولح العدوّ على مثل هذا الشرط، فذهب الكوفيون إلى أن ذلك لا يجوز، لا في الرجال، ولا في النساء، ورأوا: أن كل ذلك منسوخ، ونحوَه حَكَى مكيّ في "الناسخ والمنسوخ" له عن المذهب، وذهب مالك في المشهور عنه، وحُكِي عن أصحاب الشافعيّ جواز ذلك، ولزومه في الرجال دون النساء، لكن بشرط أن يكونوا مأمونين على دمه.

وقيل: إنما فعل النبيّ صلى الله عليه وسلم ذلك لِضَعف المسلمين عن مقاومة عدوّهم في ذلك الوقت، وذلك لأنه إنما ردّ من ردّ، ممن جاء مسلمًا لآبائهم، وذوي أرحامهم؛ لِعَطْفهم عليهم، ولحبّهم فيهم، ولصحة إسلام من أسلم منهم، وللذي عَلِمَه النبيّ صلى الله عليه وسلم من حال من رُدّ أنه سيجعل الله له فرجًا ومخرجًا، وكذلك كان، وكلُّ هذه الأمور معدومة في حقّ غيره صلى الله عليه وسلم، فلا يحتجّ بتلك القضية على جواز ذلك، والله تعالى أعلم. انتهى

(1)

.

وقال النوويّ رحمه الله: قال العلماء: وافقهم النبيّ صلى الله عليه وسلم في ترك كتابة "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ"، وأنه كتب "باسمك اللهم"، وكذا وافقهم في "محمد بن عبد الله"، وترك كتابة "رسول الله صلى الله عليه وسلم"، وكذا وافقهم في ردّ من جاء منهم إلينا، دون من ذهب منا إليهم، وإنما وافقهم في هذه الأمور؛ للمصلحة المهمّة الحاصلة بالصلح، مع أنه لا مفسدة في هذه الأمور، أما البسملة، و"باسمك اللهم"، فمعناهما واحد، وكذا قوله:"محمد بن عبد الله"، هو أيضًا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس في ترك وصف الله سبحانه وتعالى في هذا الموضع بالرحمن الرحيم ما ينفي ذلك، ولا في ترك وصفه صلى الله عليه وسلم أيضًّا هنا بالرسالة ما ينفيها، فلا مفسدة فيما طلبوه، وإنما كانت المفسدة تكون لو طلبوا أن يكتب ما لا يحل من تعظيم آلهتهم، ونحو ذلك.

(1)

"المفهم" 3/ 638 - 639.

ص: 211

وأما شرطُ ردّ من جاء منهم، ومنعُ من ذهب إليهم، فقد بيَّن النبيّ صلى الله عليه وسلم الحكمة فيهم، في هذا الحديث بقوله:"من ذهب منّا إليهم، فأبْعَدَه الله، ومن جاءنا منهم سيجعل الله له فرجًا ومخرجًا"، ثم كان كما قال صلى الله عليه وسلم، فجعل الله للذين جاءونا منهم، وردّهم إليهم فرجًا ومخرجًا - ولله الحمد - وهذا من المعجزات.

قال العلماء: والمصلحة المترتبة على إتمام هذا الصلح ما ظهر من ثمراته الباهرة، وفوائده المتظاهرة التي كانت عاقبتها فتح مكة، وإسلام أهلها كلّهم، ودخول الناس في دين الله أفواجًا، وذلك أنهم قبل الصلح لم يكونوا يختلطون بالمسلمين، ولا تتظاهر عندهم أمور النبيّ صلى الله عليه وسلم كما هي، ولا يَحِلُّون بمن يعلِّمهم بها مفصّلة، فلما حصل صلح الحديبية، اختلطوا بالمسلمين، وجاءوا إلى المدينة، وذهب المسلمون إلى مكة، وحَقوا باهلهم، وأصدقائهم، وغيرهم، ممن يستنصحونه، وسمعوا منهم أحوال النبيّ صلى الله عليه وسلم مفصَّلة بجزئياتها، ومعجزاته الظاهرة، وأعلام نبوّته المتظاهرة، وحسن سيرته، وجميل طريقته، وعاينوا بأنفسهم كثيرًا من ذلك، فمالت نفوسهم إلى الإيمان، حتى بادر خَلْق منهم إلى الإسلام قبل فتح مكة، فأسلموا بين صلح الحديبية وفتح مكة، وازداد الآخرون ميلًا إلى الإسلام، فلما كان يوم الفتح أسلموا كلهم؛ لِمَا كان قد تَمَهّد لهم من الميل، وكانت العرب من غير قريش في البوادي ينتظرون بإسلامهم إسلام قريش، فلما أسلمت قريش أسلمت العرب في البوادي، قال تعالى:{إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2)} [النصر: 1، 2]. انتهى كلام النوويّ

(1)

، وهو بحث نفيسٌ جدًّا، والله تعالى أعلم.

(فَقَالُوا)؛ أي: الصحابة رضي الله عنهم (يَا رَسُولَ الله، أنكْتُبُ هَذَا؟) إنما قالوا هذا استبعادًا، واستنكارًا لهذا الشرط القاسي، ولكنه صلى الله عليه وسلم أجابهم، فـ (قَالَ: "نَعَمْ) نكتبه، ثم زاد لهم إيضاحًا يزيل عنهم الغيظ، فقال:(إِنَّهُ) الضمير للشأن؛ أي: إن الشأن والحال، (مَنْ ذَهَبَ مِنَّا إِلَيْهِمْ) مرتدًّا عن الإسلام (فَأَبْعَدَهُ اللهُ) يحتَمِل

(1)

"شرح النوويّ" 12/ 139 - 140.

ص: 212

أن يكون دعاء عليه بالإبعاد عن رحمة الله سبحانه وتعالى، وَيحْتَمل أن يكون إخبارًا بذلك، (وَمَنْ جَاءَنَا مِنْهُمْ) مسلمًا، فرددناه إليهم بهذا الشرط، فـ (سَيَجْعَلُ اللهُ) سبحانه وتعالى (لَهُ فَرَجًا)؛ أي: انكشاف ما وقع له من إيذائهم (وَمَخْرَجًا")؛ أي: مكان خروج من بلدة الكفر، إما بالهجرة، أو بفتح مكة، وكونها دار إسلام، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أنس بن مالك رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [32/ 4623](1784)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(7/ 385 و 386)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 268)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(3323)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4870)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 296)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(9/ 226)، وأما فوائد الحديث، فقد تقدّمت، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4624]

(1785) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ نُمَيْرٍ (ح) وَحَدَّثنَا ابْنُ نُمَيْرٍ - وَتَقَارَبَا في اللَّفْظِ - حَدَّثنَا أَبِي، حَدَّثنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ سِيَاهٍ، حَدَّثَنَا حَبيبُ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، قَالَ: قَامَ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ يَوْمَ صِفِّينَ، فَقَالَ: أيّهَا النَّاسُ اتَّهِمُوا أنفُسَكُمْ، لَقَدْ كُنَّا مَعَ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْحُدَيْبِيَة، وَلَوْ نَرَى قِتَالًا لَقَاتَلْنَا، وَذَلِكَ فِي الصُّلْحِ الّذِي كَانَ بَيْنَ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم وَبَيْنَ الْمُشْرِكينَ، فَجَاءَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّاب، فَأتَى رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله، ألَسْنَا عَلَى حَقٍّ، وَهُمْ عَلَى بَاطِلٍ؟ قَالَ:"بَلَى"، قَالَ: ألَيْسَ قَتْلَانَا فِي الْجَنَّة، وَقَتْلَاهُمْ فِي النَّارِ؟ قَالَ:"بَلَى"، قَالَ: فَفِيمَ نُعْطي الدَّنِيَّةَ في دِينِنَا، وَنَرْجعُ وَلَمَّا يَحْكُمِ اللهُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ؟، فَقَالَ:"يَا ابْنَ الْخَطَّاب، إِنِّي رَسُولُ الله، وَلَنْ يُضَيِّعَنِي اللهُ أبدًا"، قَالَ: فَانْطَلَقَ عُمَرُ، فَلَمْ يَصْبِرْ مُتَغَيِّظًا، فَأتَى أَبَا بَكْرٍ، فَقَالَ:

ص: 213

يَا أبا بَكْرٍ، ألَسْنَا عَلَى حَقٍّ، وَهُمْ عَلَى بَاطِلٍ؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ: ألَيْسَ قَتْلَانَا فِي الْجَنَّةِ، وَقَتْلَاهُمْ فِي النَّارِ؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ: فَعَلَامَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا، وَنَرْجِعُ، وَلَمَّا يَحْكُمِ اللهُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ؟ فَقَالَ: يَا ابْنَ الْخَطَّاب، إِنَّهُ رَسُولُ الله، وَلَنْ يُضَيِّعَهُ اللهُ أبدًا، قَالَ: فَنَزَلَ الْقُرْآنُ عَلَى رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم بِالْفَتْح، فَأَرْسَلَ إِلَى عُمَرَ، فَأقرَأَهُ إِيَّاهُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله، أَوَ فَتْحٌ هُو؟ قَالَ:"نَعَمْ"، فَطَابَتْ نَفْسُهُ، وَرَجَعَ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) المذكور قبله.

2 -

(ابْنُ نُمَيْرٍ) هو: محمد بن عبد الله بن نُمير، تقدّم قبل باب.

3 -

(أَبُوهُ) عَبْدُ اللهِ بْنُ نُمَيْرٍ الهمدانيّ، تقدّم أيضًا قبل باب.

4 -

(عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ سِيَاهٍ) - بكسر السين المهملة، وتخفيف الياء التحتانيّة

(1)

- الأسديّ الْحِمّانيّ الكوفيّ، صدوقٌ يتشيّع [7].

رَوَى عن أبيه سياه، وحبيب بن أبي ثابت، وابن أبي عمرة، والأعمش، والشعبيّ، ومسلم الملائيّ، والأعور، والحكم بن عتيبة، وغيرهم.

ورَوى عنه ابنه يزيد، وعبد الله بن نمير، وأبو معاوية، ويعلى بن عبيد، ويونس بن بكير، وعبيد الله بن موسى، ووكيع، وأبو نعيم، وغيرهم.

قال ابن معين، وأبو داود: ثقةٌ، وقال أبو زرعة: لا بأس به، وهو من كبار الشيعة، وقال أبو حاتم: محلّه الصدق، ووثّقه العجليّ، وابن نمير، ويعقوب بن سفيان، وذكره ابن حبان في "الثقات".

أخرج له البخاريّ، والمصنّف، والترمذيّ، والنسائيّ، وابن ماجهْ، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.

(1)

وقال النوويّ في "شرحه"(12/ 140): هو بسين مهملة مكسورة، ثم ياء مثنّاة من تحتُ مخفّفة، ثم ألف، ثم هاء في الوقف والدرج، على وزن مِيَاهٍ، وشِيَاهٍ. انتهى.

وقال في "الفتح": "سياه" بالمهملة المكسورة، بعدها تحتانيّة خفيفةٌ، وبالهاء وصلًا ووقفًا، وهو مصروف، مع أنه أعجميّ، وكأنه ليس بِعَلَم عندهم. انتهى. "الفتح" 7/ 477، كتاب "الجزية" رقم (3182).

ص: 214

5 -

(حَبِيبُ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ) قيس، ويقال: هند بن دينار الأسديّ مولاهم، أبو يحيى الكوفيّ، ثقةٌ فقيهٌ جليلٌ، وكان كثير الإرسال، والتدليس [3](ت 119)(ع) تقدّم في "المقدّمة" 1/ 1.

6 -

(أَبُو وَائِلٍ) شقيق بن سلمة الأسديّ الكوفيّ، ثقةٌ مخضرمٌ [2](ت 82)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 57.

7 -

(سَهْلُ بْنُ حُنَيْفِ) بن واهب الأنصاريّ الأوسيّ، الصحابيّ البدريّ، واستخلفه عليّ على البصرة، ومات في خلافته رضي الله عنهما (ع) تقدم في "الجنائز" 23/ 2225.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وهو مسلسل بالكوفيين، وفيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ مخضرم.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي وَائِلٍ) شقيق بن سلمة، أنه (قَالَ: قَامَ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ) رضي الله عنه بتصغير الاسم الثاني - (يَوْمَ صِفِّينَ) - بكسر الصاد، مثقّل الفاء -: موضع على الفرات، من الجانب الغربيّ، بطرف الشام، مقابل قَلْعَة نَجْم، وكان هناك وَقْعةٌ بين عليّ وبين معاوية رضي الله عنهما، وهو فِعْلِينٌ، من الصفّ، أو فِعّيلٌ، من الصُّفُون، فالنون أصليّة على الثاني، قاله الفيّوميّ

(1)

.

وقال ابن الأثير رحمه الله: وفي حديث أبي وائل: "شَهِدتُ صِفِّين، وبئسَتِ الصِّفُّون": فيها، وفي أمَثالها لُغَتان: إحدَاهُما: إجْرَاء الإعْراب على ما قبل النون مفتوحة؛ كجمْع السَّلامة، كما قال أبو وائل، والثانيةُ: أن تجعَل النون حرف الإعراب، وتُقَرّ الياء بحَالها، فتقولُ: هذه صِفّينُ، ومررتُ بصفِّينَ، وكذلك تقول: في قِنَّسْرِين، وفِلَسْطِين، وَيبْرِين. انتهى

(2)

.

وقال المجد رحمه الله: وصِفِّينُ كسِجِّينٍ: موضع قُرب الرَّقّة، بشاطئ الفُرات، كانت به الوقعة الْعُظمى بين عليّ ومعاوية رضي الله عنهما، غُرّة شهر صفر سنة

(1)

"المصباح المنير" 1/ 343.

(2)

"النهاية في غريب الأثر" 3/ 72.

ص: 215

(37)

من الهجرة، فمن ثَمّ احتَرَزَ الناسُ السفر في صفر

(1)

. انتهى

(2)

.

وقال الشارح المرتضى رحمه الله في "شرحه": ولا اعتداد بفعل الناس، واحترازهم، فلا يُعتبر مع ورود الخبر بقوله صلى الله عليه وسلم:"لا عدوى، ولا طيرة، ولا صفر".

قال: قال ابن بَرّيّ: وحقُّ صِفِّين أن يذكر في باب الفاء؛ لأن نونه زائدة، بدليل قولهم: صِفون، فيمن أعربه بالحروف، وفي حديث أبي وائل:"شَهِدت صِفِّين، وبئست الصِّفُّون"، وفي "تقريب المطالع": الأغلب عليه التأنيث، وفي إعرابه أربع لغات: إعراب جمع المذكر السالم، وإعراب عَرْبُون، وإعراب غِسْلِين، ولزوم الواو مع فتح النون، وأصله في "المشارق" لعياض رحمه الله، وبقي عليه إعراب ما لا ينصرف؛ للعَلَمية والتأنيت، أو شِبْهِ الزيادة، كما قاله عياض وغيره.

وفي "المصباح" في صَفّ: هو فِعْلينٌ، من الصّفّ، أو فِعِّيل، من الصُّفُون، فالنون أصلية على الثاني، وكلُّ ذلك واجب الذكر، وقد تركه المصنّف رحمه الله. انتهى كلام المرتضى رحمه الله

(3)

، وهو تحقيق مفيدٌ.

(فَقَالَ) سهل رضي الله عنه (أيُّهَا النَّاسُ) بحذف حرف النداء، وهو جائز، كما قال الحريريّ رحمه الله في "مُلحته":

وَحَذْفُ "يَا" يَجُوزُ فِي النِّدَاءِ

كَقَوْلِهِمْ "رَبِّ اسْتَجِبْ دُعَائِي"

(اتَّهِمُوا أنفُسَكُمْ)؛ أي: في هذا الرأي؛ لأن كثيرًا منهم أنكروا التحكيم، وقالوا: لا حُكْم إلا لله، فقال عليّ رضي الله عنه: كلمة حق أريد بها باطلٌ، وأشار

(1)

هذا من مزاعم الجاهليّة، وأثر من آثار الشرك، جاء الإسلام يُبطله، فلا يجوز لمسلم أن يشاءم بأيّ شهر، ولا بأيّ يوم، ففي "الصحيحين" عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا:"لا عدوى، ولا صَفَر، ولا هامة"، فقد فُسّر قوله:"ولا صفر" بأنه الشهر المعروف، كانوا يتشاءمون بدخوله، ويزعمون أن فيه يكثر الدواهي والفتن، وقيل غير ذلك.

(2)

"القاموس المحيط" ص 745.

(3)

"تاج العروس من جواهر القاموس" 9/ 260 - 261.

ص: 216

عليهم كبار الصحابة بمطاوعة عليّ رضي الله عنه، وأن لا يُخالَف ما يشير به؛ لكونه أعلم بالمصلحة، وذكر لهم سهل بن حُنيف ما وقع لهم بالحديبية، وأنهم رأوا يومئذ أن يستمرّوا على القتال، ويخالفوا ما دُعُوا إليه، من الصلح، ثم ظهر أن الأصلح هو الذي كان شرع النبيّ صلى الله عليه وسلم فيه، قاله في "الفتح"

(1)

.

وقال في موضع آخر: وإنما قال سهل بن حُنيف رضي الله عنه لأهل صِفِّين ما قال؛ لِمَا ظَهر من أصحاب عليٍّ رضي الله عنه كراهية التحكيم، فأعلمهم بما جرى يوم الحديبية، من كراهة أكثر الناس للصلح، ومع ذلك فأعقب خيرًا كثيرًا، وظهر أن رأي النبيّ صلى الله عليه وسلم في الصلح أتمّ، وأحمدُ من رأيهم في المناجزة. انتهى

(2)

.

وقال أيضًا: والسبب في قول سهل رضي الله عنه ذلك أن أهل الشام لمّا استشعروا أن أهل العراق شارفوا أن يغلبوهم، وكان أكثر أهل العراق من القراء الذين يبالغون في التديّن، ومن ثَمّ صار منهم الخوارج الذين مضى ذِكرهم، فأنكروا على عليّ رضي الله عنه، ومن أطاعه الإجابة إلى التحكيم، فاستند عليّ إلى قصة الحديبية، وأن النبيّ صلى الله عليه وسلم أجاب قريشًا إلى المصالحة، مع ظهور غَلَبته لهم، وتوقف بعض الصحابة أوّلًا، حتى ظهر لهم أن الصواب ما أمرهم به.

قال: وأوّل الكرمانيّ كلام سهل بن حُنيف بحسب ما احتمله اللفظ، فقال: كأنهم اتهموا سهلًا بالتقصير في القتال حينئذ، فقال لهم: بل اتهموا أنتم رأيكم، فإني لا أُقصِّر، كما لم أكن مقصِّرًا يوم الحديبية وقت الحاجة، فكما توقفت يوم الحديبية من أجل أني لا أخالف حُكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، كذلك أتوقف اليوم لأجل مصلحة المسلمين. انتهى

(3)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قول سهل بن حنين رضي الله عنه: "أيها الناس اتهموا أنفسكم"، وفي الأخرى:"رأيكم"؛ يعني به: التثبت فيما كانوا فيه، والتبصر، وألا يستعجلوا في أمورهم، ووجه استدلاله بها، أن تلك الحالة كان ظاهرها

(1)

"الفتح" 8/ 588.

(2)

"الفتح" 7/ 477، كتاب "الجزية" رقم (3182).

(3)

"الفتح" 17/ 192.

ص: 217

مكروهًا لهم، صعبًا عليهم، فلما تثبتوا في أمرهم، وأطاعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل الله لهم من أمرهم فرجًا ومخرجًا، فكأنه يقول لهم: إن صبرتم على المكروه، وتثبّتم في أمركم، واتقيتم الله، جعل الله لكم من هذه الفتن مخرجًا، كما جعله لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية. انتهى

(1)

.

وقال القاضي عياض رحمه الله: وقول سهل بن حنيف رضي الله عنه: "اتهموا أنفسكم" وذَكَر كراهة المسلمين صلح الحديبية: يريد سهل بن حنيف تبصير الناس بما في الصلح من الخير، وأنه قد يدل - وإن كان ظاهره مكروهًا - إلى المحبوب، كما كان في شأن الحديبية، وإنما كان ذلك لِمَا ظهر في أصحاب عليّ رضي الله عنه من كراهة شأن التحكيم، ومراوضة الصلح، وكان الظهور لهم حتى رفع لهم أهل الشام المصاحف ودعوهم إليها، ورغبوا في المصالحة.

وما كان مراجعة عمر رضي الله عنه النبيّ صلى الله عليه وسلم في شأن صلح الحديبية وما عَظُم على قلوب المسلمين منه وكرهوه، وما خالطهم من الحزن والكآبة، لرجوعهم دون تمام عمرتهم، وصدّ الكفار لهم عن البيت، وتثبطهم عن التحلل، رَجاءَ تمام ما خرجوا عليه، وقهْر النبيّ صلى الله عليه وسلم لهم على الصلح، وكانوا متبصرين في قتال عدوّهم، وكان ذلك رأيهم، والله ورسوله أعلم بمصلحتهم، ولهذا قال عمر رضي الله عنه:"علام نعطي الدنية في ديننا، ونرجع ولمّا يحكم الله بيننا وبينهم؟ ". والدنية: النقيصة، والحالة الخسيسة.

والدنيّ بغير هَاء: الخسيس من كل شيء، ومنه قوله: المنيّة ولا الدنيّة؛ أي: ولا الحالة التي توجب على الإنسان ذلًا وخساسة.

وجواب النبيّ صلى الله عليه وسلم بما جاوبهم به من تثبّته ووعْده الفتح الذي كان من خيبر، ثم من مكة، ولم يكن ما كان من عمر رضي الله عنه وسؤاله له صلى الله عليه وسلم عما سأله عنه شكًّا من عمر ولا ريبًا، بل كشفًا لِمَا خفي عنه من ذلك، وحَثًّا على إذلال الكفر، وحرصًا على ظهور المسلمين، بما كان عليه من القوّة والعزة في دين الله، وموافقة جواب أبي بكر رضي الله عنه بما جاوبه به النبيّ صلى الله عليه وسلم دليل على فضل علمه وإيمانه، وقوّة يقينه على سائرهم. انتهى كلام القاضي

(1)

"المفهم" 3/ 640.

ص: 218

عياض رحمه الله

(1)

، وهو بحث نفيسٌ، والله تعالى أعلم.

وقال في "العمدة" عند قوله: "اتهموا رأيكم": قال ذلك يوم صفين، وكان مع عليّ رضي الله عنه؛ يعني: اتهموا رأيكم في هذا القتال، يَعِظُ الفريقين؛ لأن كلَّ فريق منهما يقاتل على رأي يراه، واجتهاد يجتهده، فقال لهم سهل: اتهموا رأيكم، فإنما تقاتلون في الإسلام إخوانكم، برأي رأيتموه، وكانوا يتهمون سهلًا بالتقصير في القتال، فقال: اتهموا رأيكم، فإني لا أُقَصِّر، وما كنت مقصِّرًا في الجماعة، كما في يوم الحديبية. انتهى

(2)

.

وقال النوويّ رحمه الله: أراد سهل رضي الله عنه بهذا الكلام تصبير الناس على الصلح، وإعلامهم بما يُرجَى بعده من الخير، فإنه يُرجَى مصيره إلى خير، وإن كان ظاهره في الابتداء مما تكرهه النفوس، كما كان شأن صلح الحديبية، وإنما قال سهل هذا القول حين ظهر من أصحاب عليّ رضي الله عنه كراهة التحكيم، فأعلَمَهم بما جرى يوم الحديبية، من كراهة أكثر الناس الصلح، وأقوالهم في كراهته، فأعقب خيرًا عظيمًا، فقرّرهم النبيّ صلى الله عليه وسلم على الصلح، مع أن إرادتهم كانت مناجزة كفّار مكة بالقتال، ولهذا قال عمر رضي الله عنه:"فعلامَ نُعطي الدنيّة في ديننا؟ "، والله تعالى أعلم. انتهى

(3)

.

(لَقَدْ كُنَّا مَعَ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ)؛ أي: يوم صدّ المشركين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصحابه بالحديبية عن الوصول إلى مكة لأداء العمرة، (وَلَوْ نَرَى قِتَالًا لَقَاتَلْنَا)؛ أي: لو نرى قتال المشركين مصلحة لَقاتَلْنا، والمعنى: إنما تركنا القتال في ذلك الوقت ليس جُبنًا، وفرارًا عنه، وإنما تركناه لمصلحة رأيناها في تركه، وإبرام الصلح معهم، فلو رأينا القتال مصلحة لَقاتَلنا.

(وَذَلِكَ)؛ أي: ترْكُنا القتال، وميْلُنا إلى الصلح، (فِي الصُّلْحِ الَّذِي كَانَ بَيْنَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَبَيْنَ الْمُشْرِكِينَ) على أن يتركوا القتال مدّة عشر سنين، كما سبق بيانه (فَجَاءَ)؛ أي: فلمّا وقع الصلح على أمور صعبة على المسلمين، كأن يرجعوا إلى المدينة بلا أداء العمرة، وأن يردّوا إلى المشركين من جاء إليهم

(1)

"إكمال المعلم" 6/ 154 - 155.

(2)

"عمدة القاري" 15/ 103.

(3)

"شرح النوويّ" 12/ 140 - 141.

ص: 219

مسلمًا، وأن لا يطالبوا بمن جاء إلى المشركين منهم، (عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ) رضي الله عنه من رَحْله، (فَأَتَى رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله، ألَسْنَا عَلَى حَقٍّ) هو الإسلام، (وَهُمْ)؛ أي: كفّار قريش (عَلَى بَاطِلٍ؟) هو الكفر، وفي حديث المسور عند البخاريّ:"قال عمر بن الخطاب: فأتيت نبيّ الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: ألست نبي الله حقًّا؟ قال: بلى"، زاد الواقديّ من حديث أبي سعيد:"قال عمر: لقد دخلني أمر عظيمٌ، وراجعت النبيّ صلى الله عليه وسلم مراجعةً، ما راجعته مثلها قطّ".

وفي حديث المسور أيضًا من قول عمر للنبيّ صلى الله عليه وسلم: "أوَ ليس كنت حدّثتنا أنا سنأتي البيت، فنطوف به؟ "، وفي رواية ابن إسحاق:"كان الصحابة لا يشكّون في الفتح؛ لرؤيا رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلمّا رأوا الصلح دخلهم من ذلك أمر عظيمٌ، حتى كادوا يهلكون"، وعند الواقديّ:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان رأى في منامه قبل أن يعتمر أنه دخل هو وأصحابه البيت، فلمّا رأوا تأخير ذلك شقّ عليهم".

ويستفاد من هذا الفصل جواز البحث في العلم حتى يظهر المعنى، وأن الكلام يُحمل على عمومه، وإطلاقه حتى تظهر إرادة التخصيص والتقييد، وأن من حَلَف على فعل شيء، ولم يذكر مدّة معينة لم يحنَث، حتى تنقضي أيام حياته، قاله في "الفتح"

(1)

.

(قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("بَلَى"، قَالَ) عمر رضي الله عنه (أَليْسَ قَتْلَانَا فِي الْجَنَّة، وَقَتْلَاهُمْ فِي النَّارِ؟ قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("بَلَى"، قَالَ: فَفِيمَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ) بفتح الدال المهملة، وكسر النون، وتشديد الياء آخر الحروف، وهي: النَّقِيصة، والخصلة الخسيسة، قال القرطبيّ رحمه الله: قول عمر: "لِمَ نعطي الدنية في ديننا"؛ يعني بالدنيّة: الحالة الخسيسة، ويعني به: الصلح على ما شرطوا، ولم يكن ذلك من عمر شكًّا، ولا معارضة، بل كان استكشافًا لِمَا خَفِي عنه، وحثًّا على قتال أهل الكفر، وإذلالهم، وحرصًا على ظهور المسلمين على عدوهم، وهذا على مقتضى ما كان عنده من القوّة في دين الله، والجرأة والشجاعة التي خصَّه الله بها، وجواب النبيّ صلى الله عليه وسلم وأبي بكر رضي الله عنه بما جاوباه به يدل على أن عندهما من عِلْمِ

(1)

"الفتح" 6/ 646، كتاب "الشروط" رقم (2731).

ص: 220

باطن ذلك، وعاقبة أمره ما ليس عند عمر، ولذلك لم يسكن عمر حتى بشّره النبيّ صلى الله عليه وسلم بالفتح، فسكن جأشه، وطابت نفسه. انتهى

(1)

.

(فِي) أمر (دِينِنَا، وَنَرْجِعُ) إلى المدينة، (وَلَمَّا) نافية؛ أي: لم (يَحْكُمِ اللهُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ؟) بإظهار الحقّ، ودحض الكفر، (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("يَا ابْنَ الْخَطَّاب، إِنِّي رَسُولُ الله، وَلَنْ يُضَيِّعَنِي اللهُ أبدًا")؛ أي: بعدم نصري، وإظهار الإسلام، وفي رواية للبخاريّ:"قال: إني رسول الله، ولست أعصيه"، وهذا تنبيه منه صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله عنه؛ أي: إنما أفعل هذا من أجل ما أطلعني الله عليه من حبس الناقة، وإني لست أفعل ذلك برأي، وإنما هو بوحي.

(قَالَ: فَانْطَلَقَ)؛ أي: ذهب (عُمَرُ) رضي الله عنه (فَلَمْ يَصْبِرْ)؛ أي: لم يحبس نفسه في مجلس النبيّ صلى الله عليه وسلم، بل ذهب، وقوله:(مُتَغَيِّظًا) حال من "عمر"؛ أي: انطلق من المجلس حال كونه ممتلئ الغيظ من الصلح، و"الغيظ": شدّة الغضب، قال الفيّوميّ رحمه الله: الغَيْظُ: الغضب المحيط بالْكَبِد، وهو أشدّ الْحَنَق، وفي التنزيل:{قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ} [آل عمران: 119]، وهو مصدر مِنْ غَاظَهُ الأمرُ، من باب سار، قال ابن الأعرابيّ - كما حكاه الأزهريّ -: غَاظَهُ يَغِيظُهُ، وأَغَاظَهُ بالألف، واسم المفعول من الثلاثيّ مَغِيظٌ، قال الشاعر [من البسيط]:

مَا كَانَ ضَرَّكَ لَوْ مَنَنْتَ وَرُبَّمَا

مَنَّ الفَتَى وَهُوَ المَغِيظُ المُحْنَقُ

واغْتَاظَ فلان من كذا، ولا يكون الغَيْظُ إلا بوصول مكروه إلى المُغْتَاظ، وقد يقام الغَيْظُ مقام الغضب في حقّ الإنسان، فيقال: اغْتَاظَ من لا شيءٍ، كما يقال: غَضِب من لا شيءٍ، وكذا عكسه. انتهى

(2)

.

(فَأَتى) عمر رضي الله عنه (أبا بَكْرٍ) الصدّيق رضي الله عنه (فَقَالَ: يَا أبا بَكْرٍ، ألَسْنَا عَلَى حَقٍّ، وَهُمْ عَلَى بَاطِلٍ؟ قَالَ) أبو بكر رضي الله عنه (بَلَى، قَالَ) عمر رضي الله عنه (ألَيْسَ قَتْلَانَا فِي الْجَنَّة، وَقَتْلَاهُمْ فِي النَّارِ؟ قَالَ) أبو بكر (بَلَى، قَالَ) عمر (فَعَلَامَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا، وَنَرْجِعُ، وَلَمَّا يَحْكُمِ اللهُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ؟ فَقَالَ) أبو بكر رضي الله عنه (يَا ابْنَ الْخَطَّاب، إِنَّهُ رَسُولُ الله، وَلَنْ يُضَيِّعَهُ اللهُ أبَدًا) قال النوويّ: رحمه الله: قال العلماء: لم يكن سؤال عمر رضي الله عنه، وكلامه المذكور شكًّا، بل طلبًا لكشف ما خفي

(1)

"المفهم" 3/ 640.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 459.

ص: 221

عليه، وحَثًّا على إذلال الكفار، وظهور الإسلام، كما عُرِف من خُلُقه رضي الله عنه، وقوّته في نُصرة الدين، وإذلال المبطلين، وأما جواب أبي بكر رضي الله عنه لعمر بمثل جواب النبيّ صلى الله عليه وسلم فهو من الدلائل الظاهرة على عَظِيم فضله، وبارع علمه، وزيادة عرفانه، ورسوخه في كل ذلك، وزيادته في ذلك كلِّه على غيره رضي الله عنه. انتهى

(1)

.

وقال في "الفتح" ما حاصله: لم يراجع عمر رضي الله عنه أحدًا في ذلك بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم غير أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وذلك لجلالة قدره، وسعة علمه عنده، وفي جواب أبي بكر لعمر رضي الله عنهما بنظير ما أجابه النبيّ صلى الله عليه وسلم سواءً دلالة على أنه كان أكمل الصحابة رضي الله عنهم، وأعرفهم بأحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعلمهم بأمور الدين، وأشدّهم موافقةً لأمر الله تعالى، وقد وقع التصريح في هذا الحديث بأن المسلمين استنكروا الصلح المذكور، وكانوا على رأي عمر في ذلك، وظهر من هذا الفصل أن الصدّيق لم يكن في ذلك موافقًا لهم، بل كان قلبه على قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم سواءً، وفي الهجرة أن ابن الدَّغِنَة وَصَفَ أبا بكر الصديق رضي الله عنه بنظير ما وصفت به خديجة رسول الله صلى الله عليه وسلم سواءً، من كونه يَصِل الرحم، ويَحْمِل الْكَلّ، ويعين على نوائب الحقّ، وغير ذلك، فلما كانت صفاتهما متشابهة من الابتداء استمرّ ذلك إلى الانتهاء. انتهى

(2)

.

(قَالَ) سهل بن حُنيف رضي الله عنه (فَنَزَلَ الْقُرْآنُ) المراد أنه نزل قوله تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1)} [الفتح: 1]، ففيه إطلاق القرآن على بعضه، (عَلَى رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم بِالْفَتْح)؛ أي: قوله عز وجل: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1)}

إلخ (فَأَرْسَلَ) النبيّ صلى الله عليه وسلم (إِلَى عُمَرَ) رضي الله عنه (فَاقرأَهُ إِيَّاهُ)؛ أي: القرآن المنزل بالفتح (فَقَالَ) رضي الله عنه (يَا رَسُولَ الله، أَوَ فَتْحٌ هُوَ؟)؛ أي: الصلح الواقع في الحديبية يعدّ فتحًا، والهمزة للاستفهام، والواو عاطفة على محذوف خبرٍ لمقدّر؛ أي: أهذا نصر، وفتح؟ (قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("نَعَمْ") هو فتح عظيم، ونصر جسيم؛ إذ ترتّب عليه مصالح عظيمة، وفتوحات جسيمة، فقد حصل في زمن الهدنة فتح خيبر،

(1)

"شرح النوويّ" 12/ 141.

(2)

"الفتح" 6/ 646، كتاب "الشروط" رقم (2731).

ص: 222

وقسمة غنائمها على المسلمين، وكذلك مغانم أخرى، وانتشرت الدعوة الإسلاميّة في البلدان النائية، واستطاعوا أن يرسلوا كتب الدعوة إلى ملوك الأقاليم، وقد بيَّن الله سبحانه وتعالى فتحًا عظيمًا، فقال تعالى:{لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (18) وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (19) وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (20) وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (21)} [الفتح: 18 - 21].

(فَطَابَتْ نَفْسُهُ)؛ أي: انشرح صدر عمر رضي الله عنه لهذا الصلح، (وَرَجَعَ) إلى رَحْله راضيًا مسرورًا، قال النوويّ رحمه الله: وكان الفتح هو صلحَ يوم الحديبية، فقال عمر رضي الله عنه: أَوَ فتحٌ هو؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نعم"؛ لِمَا فيه من الفوائد التي قدّمنا ذكرها، وفيه إعلام الإمام، والعالم كبار أصحابه بما يقع له من الأمور المهمّة، والبعث إليهم لإعلامهم بذلك

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث سهل بن حُنيف رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [32/ 4624 و 4625 و 4626 و 4627](1785)، و (البخاريّ) في "الجزية"(3181 و 3182) و"المغازي"(4189) و"التفسير"(4844) و"الاعتصام"(7308)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(6/ 463)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(7/ 551)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 485)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 296 و 297 و 298)، و (الطبرانيّ) في "الصغير"(2/ 57) و" الكبير"(6/ 88)، و (الطبريّ) في "تفسيره"(26/ 70)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(9/ 222)، والله تعالى أعلم.

(1)

"شرح النوويّ" 12/ 142.

ص: 223

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان ما أصاب المسلمين من شدّة الغضب على صلح الحديبية؛ لظنهم أنه فيه هضمًا لهم، وإذلالًا، إلا أنه صلى الله عليه وسلم رأى ما هو أصلح من ذلك، فوافق على الصلح، فكان خيرًا لهم.

2 -

(ومنها): بيان ما كان عليه عمر رضي الله عنه من الشدّة والصلابة في الدين، بحيث إنه لم يستطع أن يسكت، فأتى إليه صلى الله عليه وسلم، فكلّمه، بغلظة، إلا أنه أجابه بما اقتنع به، فرجع مقتنعًا.

3 -

(ومنها): بيان فضل أبي بكر رضي الله عنه على سائر الصحابة، فإنهم انزعجوا لذلك الصلح، وهو ثابتٌ غير قَلِق؛ لقوّة إيمانه، وشدّة تمسّكه بوعد الله تعالى الذي لا يُخلف:{إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51)} [غافر: 51].

4 -

(ومنها): بيان سبب نزول "سورة الفتح"، وهو قضيّة الحديبية.

5 -

(ومنها): أن ما ترتّب عليه الفتح يسمّى فتحًا، فإن صلح الحديبية جاء بعد فتح خيبر، وغيرها، فسُمي فتحًا، حتى قال عمر رضي الله عنه:"أوَ فتح هو؟ "، فقال صلى الله عليه وسلم:"نعم".

6 -

(ومنها): بيان ذمّ الرأي، فقد قال سهل رضي الله عنه:"أيها الناس اتّهموا رأيكم على دينكم"، وقد جاء عن عمر رضي الله عنه نحوه، ولفظه:"اتقوا الرأي في دينكم"، أخرجه البيهقيّ في "المدخل"، هكذا مختصرًا، وأخرجه هو والطبريّ، والطبرانيّ مُطَوَّلًا، بلفظ: اتهموا الرأي على الدين، فلقد رأيتُني أردّ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برأيي اجتهادًا، فوالله ما آلو عن الحقّ، وذلك يوم أبي جندل، حتى قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم:"تراني أَرْضى، وتأبى".

والحاصل أن المصير إلى الرأي إنما يكون عند فقد النصّ، وإلى هذا يومئ قول الشافعيّ رحمه الله فيما أخرجه البيهقيّ بسند صحيح، إلى أحمد بن حنبل، قال: سمعت الشافعيّ يقول: القياس عند الضرورة، ومع ذلك فليس العامل برأيه على ثقة من أنه وقع على المراد، من الحُكْم في نفس الأمر، وإنما عليه بذل الوسع في الاجتهاد؛ ليؤجَر، ولو أخطأ، وبالله التوفيق.

وأخرج البيهقيّ في "المدخل"، وابن عبد البر في "بيان فضل العلم" عن

ص: 224

جماعة من التابعين؛ كالحسن، وابن سيرين، وشُريح، والشعبيّ، والنخعيّ، بأسانيد جياد ذَمَّ القول بالرأي المجرّد، وَيجمَع ذلك كلَّه حديثُ أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا:"لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لِمَا جئت به"، أخرجه الحسن بن سفيان وغيره، ورجاله ثقات، وقد صححه النوويّ في آخر "الأربعين".

وأما ما أخرجه البيهقيّ من طريق الشعبيّ، عن عمرو بن حريث، عن عمر رضي الله عنه، قال:"إياكم وأصحاب الرأي، فإنهم أعداء السنن، أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها، فقالوا بالرأي، فضَلُّوا، وأضلوا"، فظاهرٌ في أنه أراد ذمّ من قال بالرأي مع وجود النصّ من الحديث؛ لإغفاله التنقيب عليه، فهذا يلام، وأولى منه باللوم مَن عَرَف النصّ، وعَمِل بما عارضه من الرأي، وتكَلَّف لردّه بالتأويل.

وقال ابن عبد البرّ رحمه الله في "بيان فضل العلم" بعد أن ساق آثارًا كثيرةً في ذمّ الرأي ما مُلَخَّصه: اختَلَفَ العلماء في الرأي المقصود إليه بالذمّ في هذه الآثار، مرفوعِهَا، وموقوفها، ومقطوعها، فقالت طائفة: هو القول في الاعتقاد بمخالفة السنن؛ لأنهم استعملوا آراءهم، وأقيستهم في ردّ الأحاديث، حتى طَعَنوا في المشهور منها الذي بلغ التواتر، كأحاديث الشفاعة، وأنكروا أن يَخْرُج أحدٌ من النار، بعد أن يدخلها، وأنكروا الحوض، والميزان، وعذاب القبر، إلى غير ذلك، من كلامهم في الصفات، والعلم، والنظر.

وقال أكثر أهل العلم: الرأي المذموم الذي لا يجوز النظر فيه، ولا الاشتغال به هو ما كان في نحو ذلك من ضروب البِدَع، ثم أسند عن أحمد بن حنبل، قال: لا تكاد ترى أحدًا نظر في الرأي إلا وفي قلبه دَغَلٌ.

قال: وقال جمهور أهل العلم: الرأي المذموم في الآثار المذكورة هو القول في الأحكام بالاستحسان، والتشاغل بالأُغلوطات، وردّ الفروع بعضها إلى بعض، دون ردّها إلى أصول السنن، وأضاف كثير منهم إلى ذلك من يتشاغل بالإكثار منها قبل وقوعها؛ لِمَا يلزم من الاستغراق في ذلك من تعطيل السنن.

وقوَّى ابن عبد البرّ هذا القول الثاني، واحتَجَّ له، ثم قال: ليس أحد من

ص: 225

علماء الأمة يَثْبُت عنده حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء، ثم يردّه إلا بادّعاء نسخ، أو معارضة أثر غيره، أو إجماع، أو عمل يجب على أصله الانقياد إليه، أو طعن في سنده، ولو فعل ذلك بغير ذلك لسقط ت عدالته، فضلًا عن أن يُتَّخَذ إمامًا، وقد أعاذهم الله تعالى من ذلك.

ثم ختم الباب بما بلغه عن سهل بن عبد الله التستريّ الزاهد المشهور، قال: ما أحدث أحدٌ في العلم شيئًا إلا سئل عنه يوم القيامة، فإن وافق السُّنَّة سَلِمَ، وإلا فلا، ذكر هذا كلّه في "الفتح"

(1)

، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4625]

(

) - (وَحَدَّثَنَا أَبو كُرَيْبٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاء، وَمُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا أَبو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الأَعْمَش، عَنْ شَقِيقٍ، قَالَ: سَمِعْتُ سَهْلَ بْنَ حُنَيْفٍ، يَقُولُ بِصِفِّينَ: أيُّهَا النَّاسُ

(2)

اتَّهِمُوا رَأيَكُمْ، وَاللهِ لَقَدْ رَأَيْتُنِي يَوْمَ أَبِي جَنْدَلٍ، وَلَوْ أنِّي أَسْتَطِيعُ أَنْ أَرُدَّ أَمْرَ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم لَرَدَدْتُهُ، وَاللهِ مَا وَضَعْنَا سُيُوفَنَا عَلَى عَوَاتِقِنَا إِلَى أَمْرٍ قَطُّ، إِلا أَسْهَلْنَ بِنَا إِلَى أَمْرٍ نَعْرِفُهُ، إِلَّا أَمْرَكُمْ هَذَا، لَمْ يَذْكُرِ ابْنُ نُمَيْرٍ: إِلَى أَمْرٍ قَط).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(أبُو كُرَيْب مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ) الْهَمْدانيّ الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 247)، وهو ابن (87) سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 117.

2 -

(أَبُو مُعَاوَيةَ) محمد بن خازم الضرير الكوفيّ، ثقةٌ أحفظ الناس لحديث الأعمش، وقد يَهِم في حديث غيره، من كبار [9](ت 195) وله (82) سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 117.

3 -

(الأَعْمَشُ) سليمان بن مِهْران الأسديّ الكاهليّ مولاهم، أبو محمد الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ عارف بالقراءة، ورع، لكنه يدلّس [5](ت 7 أو 148)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 297.

(1)

"الفتح" 17/ 193 - 194، كتاب "الاعتصام" رقم (7308).

(2)

وفي نسخة: "يا أيها الناس".

ص: 226

والباقون ذُكروِا قبله.

وقوله: (بِصِفِّينَ) قال في "الفتح": المشهور في "صِفّين" كسر الصاد المهملة، وبعضهم فَتَحها، وجزم بالكسر جماعة من الأئمة، والفاء مكسورة، مثقَّلة، اتفاقًا، والأشهر فيها بالياء قبل النون؛ كمارِدِين، وفلسطين، وقِنِّسرين، وغيرها، ومنهم من أبدل الياء واوًا في الأحوال، وعلى هاتين اللغتين فإعرابها إعراب غِسْلين، وعَرْبون، ومنهم من أعربها إعراب جمع المذكر السالم، فتتصرف بحسب العوامل، مثل:{لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ} [المطففين: 18، 19]، ومنهم من فتح النون مع الواو لزومًا، نَقَل كل ذلك ابن مالك، ولم يذكر فتح النون مع الياء لزومًا. انتهى

(1)

.

وقوله: (اتَّهِمُوا رَأْيَكُمْ) وفي الرواية: "اتهموا رأيكم على دينكم"؛ أي: لا تعملوا في أمر الدين بالرأي المجرّد الذي لا يستند إلى أصل من الدين، وهو كنحو قول عليّ رضي الله عنه فيما أخرجه أبو داود بسند حسن:"لو كان الدين بالرأي، لكان مسح أسفل الخفّ أولى من أعلاه".

وقوله: (لَقَدْ رَأَيْتُني)؛ أي: رأيت نفسي.

وقوله: (يَوْمَ أَبِي جَنْدَلٍ) - بالجيم، والنون، وزانُ جعفر - وكان اسمه العاصي، فتركه لَمّا أسلم، وله أخ اسمه عبد الله، أسلم أيضًا قديمًا، وحضر مع المشركين بدرًا، ففرّ منهم إلى المسلمين، ثم كان معهم بالحديبية، ووَهِمَ من جعلهما واحدًا، وقد استُشهِد عبدُ الله باليمامة، قبل أبي جندل بمدّة، وأما أبو جندل، فكان حُبِس بمكة، ومُنِع من الهجرة، وعُذِّب بسبب الإسلام، وفي رواية ابن إسحاق:"فإن الصحيفة لتُكْتَب إذ طلع أبو جندل بن سهيل، وكان أبوه حبسه، فأفلت"، وفي رواية أبي الأسود، عن عروة:"وكان سُهيل أوثقه، وسجنه حين أسلم، فخرج من السجن، وتنكّب الطريق، وركب الجبال، حتى هبط على المسلمين، ففرِحَ به المسلمون، وتلقوه"، ذكره في "الفتح"

(2)

.

وقوله: (يَوْمَ أَبِي جَنْدَلٍ) هو يوم الحديبية، و"أبو جندل" - بفتح الجيم،

(1)

"الفتح" 17/ 192، كتاب "الاعتصام" رقم (7308).

(2)

"الفتح" 6/ 643 - 644، كتاب "الشروط" رقم (2731).

ص: 227

وسكون النون - واسمه العاص بن سُهيل بن عمرو، وإنما نَسَبَ اليوم إليه، ولم يقل: يوم الحديبية؛ لأن ردّه إلى المشركين كان شاقًّا على المسلمين، وكان ذلك أعظم عليهم من سائر ما جرى عليهم من سائر الأمور، وكان أبو جَنْدَل جاء إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم من مكة مسلمًا، وهو يجرّ قيوده، وكان قد عُذِّب على الإسلام، فقال سهل والده: يا محمد هذا أوّلُ ما أقاضيك عليه، فَرَدّ عليه أبا جندل، وهو ينادي: أتردّونني إلى المشركين، وأنا مسلم، وترون ما لقيت من العذاب في الله؟ فقام سهل إلى ابنه بحجر، فكسر قيده، فغارت نفوس المسلمين يومئذ، حتى قال عمر رضي الله عنه: ألسنا على الحقّ؟ فعلى ما نعطي الدنيّة في ديننا؟ أي: لِمَ نَرُدُّ أبا جندل إليهم، ولا نقاتلهم، ولا نرضى بهذا الصلح؟

(1)

.

وفي حديث المسور عند البخاريّ: "قال أبو جندل: أي معشر المسلمين، أُردّ إلى المشركين، وقد جئت مسلمًا؟ ألا ترون ما قد لقِيتُ؟ وكان قد عُذّب عذابًا شديدًا في الله"، زاد ابن إسحاق:"فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا جندل اصْبِرْ، واحتسب، فإنا لا نَغْدِر، وإن الله جاعل لك فرجًا، ومخرجًا"، وفي رواية أبي المليح:"فأوصاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فوثب عمر مع أبي جندل يمشي إلى جنبه، ويقول: اصبر، فإنما هم مشركون، وإنما دم أحدهم كدم كلب، قال: ويُدني قائمة السيف منه، يقول عمر: رجوت أن يأخذه مني، فيضرب به أباه، فضَنّ الرجل"؛ أي: بخل بأبيه، ونفذت القضية.

قال الخطابيّ رحمه الله: تأوّل العلماء ما وقع في قصة أبي جندل على وجهين:

أحدهما: أن الله قد أباح التقِيَّةَ للمسلم، إذا خاف الهلاك، ورَخَّصَ له أن يتكلم بالكفر مع إضمار الإيمان، إن لم يُمكنه التورية، فلم يكن ردّه إليهم إسلامًا لأبي جندل إلى الهلاك مع وجوده السبيل إلى الخلاص من الموت بالتقية.

والوجه الثاني: أنه إنما ردّه إلى أبيه، والغالب أن أباه لا يبلغ به الهلاكَ،

(1)

"عمدة القاري" 15/ 103 - 103.

ص: 228

وإن عذبه، أو سجنه، فله مندوحة بالتقية أيضًا، وأما ما يُخاف عليه من الفتنة، فإن ذلك امتحان من الله يبتلي به صبر عباده المؤمنين.

واختَلَفَ العلماء: هل يجوز الصلح مع المشركين على أن يُرَدّ إليهم من جاء مسلمًا من عندهم إلى بلاد المسلمين، أم لا؟ فقيل: نعم، على ما دلّت عليه قصة أبي جندل، وأبي بصير، وقيل: لا، وأن الذي وقع في القصة منسوخ، وأن ناسخه حديث:"أنا بريء من مسلم بين مشركين"، وهو قول الحنفية، وعند الشافعية تفصيل بين العاقل والمجنون والصبيّ، فلا يُردّان، وقال بعض الشافعية: ضابط جواز الردّ: أن يكون المسلم بحيث لا تجب عليه الهجرة من دار الحرب، والله أعلم، قاله في "الفتح"

(1)

.

وقوله: (وَلَوْ أنِّي أَسْتَطِيعُ أَنْ أَرُدَّ أَمْرَ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم لَرَدَدْتُهُ) أشار سهل رضي الله عنه بهذا الكلام إلى جواب الذين اتهموه بالتقصير في القتال يوم صفين، فقال: كيف تنسبونني إلى التقصير؟ فلو كان لي استطاعة على ردّ أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية لرددته، ولم يكن امتناعي عن القتال يومئذ للتقصير، وإنما كان لأجل أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بالصلح.

وقوله: (وَاللهِ مَا وَضَعْنَا سُيُوفَنَا عَلَى عَوَاتِقِنَا

إلخ)؛ يعني: ما جرّدنا سيوفنا في الله.

وقوله: (إِلَى أَمْرٍ قَطُّ) وفي الرواية التالية: "إلى أمر يُفظعنا" - بالظاء المعجمة المكسورة، بعد الفاء الساكنة -؛ أي: يوقعنا في أمر فظيع، وهو الشديد في القبح ونحوه، قاله في "الفتح"

(2)

.

وقال الفيّوميّ رحمه الله: فَظُع الأمر فَظَاعةً: جاوز الحدّ في القُبح، فهو فَظِيعٌ، وأفظع إفظاعًا، فهو مُفظع مثله، وأُفْظِعَ الرجلُ، بالبناء للمفعول: نَزَلَ به أمر شديدٌ. انتهى

(3)

.

(1)

"الفتح" 6/ 645، كتاب "الشروط" رقم (2731).

(2)

"الفتح" 17/ 191، كتاب "الاعتصام" رقم (7308).

(3)

"المصباح المنير" 2/ 478.

ص: 229

وقوله: (إِلَّا أَسْهَلْنَ بِنَا إِلَى أَمْرٍ نَعْرِفُهُ)؛ أي: سلكن بنا طريقًا سهلًا يوصلنا إلى الأمر الذي نعرف كونَهُ صالحًا لنا، ورافقًا بنا.

وقال في "الفتح": قوله: "أسهلن" بسكون اللام، بعد الهاء والنون المفتوحتين، والمعنى: أنزلننا في السهل من الأرض؛ أي: أفْضَيْنَ بنا، وهو كناية عن التحوّل من الشدّة إلى الفرج

(1)

.

وقال عياض رحمه الله: استعارة من نزول السهل من الأرض، والخروج إلى السعة من الضيق، وإلى اللين من الشدة

(2)

.

وقوله: (إِلَّا أَمْرَكُمْ هَذَا)؛ يعني: أمر الفتنة التي وقعت بين المسلمين في صفّين وغيره، فإنها مشكلة حيث حَلَّت المصيبة بقتل المسلمين.

ومراد سهل رضي الله عنه: أنهم كانوا إذا وقعوا في شدّة يحتاجون فيها إلى القتال في المغازي، والثبوت، والفتوح العُمَرية، عَمَدُوا إلى سيوفهم، فوضعوها على عواتقهم، وهو كناية عن الجِدّ في الحرب، فإذا فعلوا ذلك انتصروا، وهو المراد بالنزول في السهل، ثم استثنى الحرب التي وقعت بصفِّين؛ لِمَا وقع فيها من إبطاء النصر، وشدّة المعارضة من حجج الفريقين؛ إذ حجة عليّ ومن معه ما شُرع لهم من قتال أهل البغي، حتى يرجعوا إلى الحقّ، وحجة معاوية، ومن معه ما وقع من قتل عثمان مظلومًا، ووجود قَتَلَتِه بأعيانهم في العسكر العراقيّ، فعظُمت الشبهة حتى اشتدّ القتال، وكثر القتل في الجانبين، إلى أن وقع التحكيم، فكان ما كان

(3)

.

وقوله: (لَمْ يَذْكُرِ ابْنُ نُمَيْرٍ: إِلَى أَمْرٍ قَط) أراد به بيان اختلاف شيخيه: محمد بن العلاء، ومحمد بن نُمير، فالأول قال بعد قوله:"على عواتقنا": "إلى أمر قطّ"، والثاني لم يذكر ذلك في روايته.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، ولله الحمد والمنّة.

(1)

"الفتح" 17/ 191، كتاب "الاعتصام" رقم (7308).

(2)

"إكمال المعلم" 6/ 155.

(3)

"الفتح" 17/ 191 - 192، كتاب "الاعتصام" رقم (7308).

ص: 230

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4626]

(

) - (وَحَدَّثَنَاهُ عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَإِسْحَاقُ، جَمِيعًا عَنْ جَرِيرٍ (ح) وَحَدَّثَنِي أَبُو سَعِيدٍ الأَشَجُّ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، كِلَاهُمَا عَنِ الأَعْمَش، بِهَذَا الإسْنَاد، وَفي حَدِيثِهِمَا: إِلَى أَمْرٍ يُفْظِعُنَا).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) هو: عثمان بن محمد بن أبي شيبة إبراهيم بن عثمان العبسيّ، أبو الحسن الكوفيّ، واسطيّ الأصل، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 239) وله (83) سنةً (خ م د س ق) تقدم في "الإيمان" 35/ 246.

2 -

(إِسْحَاقُ) بن إبراهيم الحنظليّ المعروف بابن راهويه، ذُكر في الباب.

3 -

(جَرِيرُ) بن عبد الحميد بن قُرط الضبيّ، أبو عبد الله الكوفيّ، ثقةٌ، صاحب كتاب [8](ت 188)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.

4 -

(أَبُو سَعِيدٍ الأَشَجُّ) عبد الله بن سعيد بن حُصين الْكِنديّ الكوفيّ، ثقةٌ، من صغار [10](ت 257)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 17.

5 -

(وَكِيعُ) بن الْجَرّاح، تقدّم في الباب الماضي.

و"الأعمش" ذُكر قبله.

[تنبيه]: رواية جرير، ووكيع كلاهما عن الأعمش التي أحالها المصنّف على رواية أبي معاوية الماضية، لم أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4627]

(

) - (وَحَدَّثَني إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعِيدٍ الْجَوْهَرِيُّ، حَدَّثنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ مَالِكِ بْنِ مِغْوَلٍ، عَنْ أَبِي حَصِينٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، قَالَ: سَمِعْتُ سَهْلَ بْنَ حُنَيْفٍ بِصِفِّينَ، يَقُولُ

(1)

: اتَّهِمُوا رَأْيَكُمْ عَلَى دِينِكُمْ، فَلَقَدْ رَأَيْتُني يَوْمَ أَبِي جَنْدَلٍ، وَلَوْ أَسْتَطِيعُ أَنْ أَرُدَّ أَمْرَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، مَا فَتَحْنَا مِنْهُ فِي خُصْمٍ، إِلَّا انْفَجَرَ عَلَيْنَا مِنْهُ خُصْمٌ).

(1)

وفي نسخة: "يقول بصفّين".

ص: 231

رجال هذا الاسنادة ستة:

1 -

(إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعِيدٍ الْجَوْهَرِيُّ) أبو إسحاق الطبريّ، نزيل بغداد، ثقةٌ، حافظٌ، تُكُلّم فيه بلا حجة [10] مات في حدود (250)(م 4) تقدم في "الإيمان" 16/ 172.

2 -

(أَبُو أُسَامَة) حمّاد بن أُسامة بن زيد القرشيّ مولاهم، الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار [9](201)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 51.

3 -

(مَالِكُ بْنُ مِغْوَلٍ) - بكسر الميم، وسكون الغين المعجمة - أبو عبد الله الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار [7](ت 159)(ع) تقدم في "الإيمان" 10/ 146.

4 -

(أَبُو حَصِينٍ) عثمان بن عاصم بن حصين الأسديّ الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ سنّيّ، ربّما دلّس [4](ت 127)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 4.

والباقيان ذُكرا قبله.

وقوله: (وَلَوْ أَسْتَطِيعُ أَنْ أَرُدَّ أَمْرَ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم) جواب "لو" محذوف؛ أي: لفعلت ذلك.

وقال النوويّ رحمه الله: هكذا وقع الحديث في نسخ "صحيح مسلم" كلِّها، وفيه محذوف، وهو جواب "لَوْ" تقديره: ولو أستطيع أن أردّ أمره صلى الله عليه وسلم لرددته، ومنه قوله تعالى:{وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ} [السجدة: 12]، {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ} [الأنعام: 93]، {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ} [سبأ: 31]، ونظائرُهُ، فكله محذوف جواب "لو"؛ لدلالة الكلام عليه. انتهى

(1)

.

وقوله: (مَا فَتَحْنَا مِنْهُ فِي خُصْمٍ، إِلا انْفَجَرَ عَلَيْنَا مِنْهُ خُصْمٌ) قال النوويّ رحمه الله: قوله: "ما فتحنا منه خُصْمًا، فالضمير في "منه" عائد إلى قوله: "اتهموا رأيكم"، ومعناه: ما أصلحنا من رأيكم، وأمركم هذا ناحيةً، إلا انفتحت أخرى، ولا يصح إعادة الضمير إلى غير ما ذكرناه.

وقال القاضي عياض رحمه الله: قوله: "ما فتحنا منه خُصْمًا"، كذا هو جاء الكلام في "صحيح مسلمًا، وهو غلط أو تغيير وصوابه: ما سددنا منه خصمًا، وكذا هو في رواية البخاريّ: "ما سَدَدْنا"، وبه يستقيم الكلام، ويتقابل سددنا بقوله: إلا انفجر، وأما الْخُصْم فبضم الخاء، وخصم كلّ شيء: طرفه وناحيته،

(1)

"شرح النوويّ" 12/ 142 - 143.

ص: 232

وشَبَّهه بخصم الراوية، وانفجار الماء من طرفها، أو بخصم الْغِرَارة، والْخُرْج، وانصباب ما فيه بانفجاره

(1)

.

وقال النوويّ رحمه الله: وفي هذه الأحاديث دليل لجواز مصالحة الكفار إذا كان فيها مصلحة، وهو مجمع عليه عند الحاجة، ومذهبنا أن مدّتها لا تزيد على عشر سنين، إذا لم يكن الإمام مستظهرًا عليهم، وان كان مستظهرًا لم يزد على أربعة أشهر، وفي قولٍ يجوز دون سنة، وقال مالك: لا حدّ لذلك، بل يجوز ذلك قلّ أم كثر، بحسب رأي الإمام، والله أعلم. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: تقدّم أن ما ذهب إليه مالك من الإطلاق، هو الظاهر، والله تعالى أعلم بالصواب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4628]

(1786) - (وَحَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ الْجَهْضَمِيّ، حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ الْحَارِث، حَدَّثنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قتَادَةَ، أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ حَدَّثَهُمْ، قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ} إِلَى قَوْلِهِ: {فَوْزًا عَظِيمًا} [الفتح: 1 - 5]، مَرْجِعَهُ مِنَ الْحُدَيْبِيَة، وَهُمْ يُخَالِطُهُمُ الْحُزْنُ وَالْكَآبَةُ، وَقَدْ نَحَرَ الْهَدْيَ بِالْحُدَيْبِيَة، فَقَالَ:"لَقَدْ أُنْزِلَتْ عَلَيَّ آيةٌ هِيَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الدُّنْيَا جَمِيعًا").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(نَصْرُ بْنُ عَليٍّ الْجَهْضَمِيِّ) البصريّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ) بن عُبيد الْهُجيميّ، أبو عثمان البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 186)(ع) تقدم في "الإيمان" 35/ 243.

3 -

(سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ) مهران البصريّ، تقدّم قريبًا.

4 -

(قَتَادَةُ) بن دِعامة السدوسيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

و"أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رضي الله عنه" ذُكر في الباب.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالبصريين، من أوله إلى

(1)

"إكمال المعلم" 6/ 156 - 157.

(2)

"شرح النوويّ" 12/ 143.

ص: 233

آخره، وفيه أنس بن مالك رضي الله عنه المشهور بخدمة النبيّ صلى الله عليه وسلم، خدمه عشر سنين، وهو أحد المكثرين السبعة، روى (2286) حديثًا، وهو آخر من مات من الصحابة رضي الله عنهم بالبصرة، وقد عُمّر أكثر من مائة سنة بدعاء النبيّ صلى الله عليه وسلم.

شرح الحديث:

(عَنْ قَتَادَةَ) بن دعامة السدوسيّ البصريّ (أَنَّ أنسَ بْنَ مَالِكٍ) رضي الله عنه (حَدَّثَهُمْ، قَالَ) أنس رضي الله عنه (لَمَّا نَزَلَتْ: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ} إِلَى قَوْلِهِ {فَوْزًا عَظِيمًا} ، مَرْجِعَهُ) بفتح الميم، وسكون الراء، والجيم مكسورةٌ، ويجوز فتحها، وهو منصوب على الظرفية متعلّق بـ "نزلت"؛ أي: وقت رجوعه (مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ)؛ أي: من غزوتها.

[تنبيه]: اختُلِف في المكان الذي نزلت فيه على النبيّ صلى الله عليه وسلم، فوقع عند محمد بن سعد: بِضَجْنان، وهي - بفتح المعجمة، وسكون الجيم، ونون خفيفة - وعند الحاكم في "الإكليل": بكُرَاع الْغَمِيم، وعن أبي معشر: بالجحفة، والأماكن الثلاثة متقاربة، ذكره في "الفتح"

(1)

.

(وَهُمْ)؛ أي: الحال أن الصحابة رضي الله عنهم (يُخَالِطُهُمُ الْحُزْنُ) بضمّ، فسكون، أو بفتحتين، قال المجد: رحمه الله: الْحُزْن بالضمّ، ويُحرَّكُ: الْهَمّ، جمْعُه أَحْزانٌ، حَزِن، كفَرِح، وتحزّن، وتحازنَ، واحتزن. انتهى

(2)

.

وقال الفيّوميّ رحمه الله: حَزِنَ حَزَنًا، من باب تَعِبَ، والاسم: الْحُزْنُ بالضمّ، فهو حزينٌ، ويتعدّى في لغة قريش بالحركة، يقال: حَزَنني الأمرُ يَحْزُنني، من باب قَتَلَ، قاله ثعلبٌ، والأزهريّ، وفي لغة تميم بالألف. انتهى

(3)

.

(وَالْكَآبَةُ) قال ابن الأثير رحمه الله: الكآبة: تغيّر النفس بالانكسار من شدّة الهمّ والحزن. انتهى

(4)

.

وقال المجد رحمه الله: الْكَأْبُ والْكَآبَة، والْكَآبَةُ: الْغَمُّ، وسوء الحال، والانكسار من الحزن، كَئِبَ؛ كسَمِعَ، واكتَأبَ، فهو كَئِبٌ، وكَئِيبٌ، ومُكْتَئِبٌ. انتهى

(5)

.

(1)

"الفتح" 10/ 599 - 600، كتاب "التفسير" رقم (4833).

(2)

"القاموس المحيط"(286).

(3)

"المصباح المنير" 1/ 134.

(4)

"النهاية" 4/ 137.

(5)

"القاموس المحيط"(1109).

ص: 234

وإنما خالطهم الحزن والكآبة رضي الله عنهم؛ لِمَا فاتهم من إتمام العمرة التي أحرموا بها، وأتوا من أجل أدائها، وبسبب ما وقع عليه الصلح، من الشروط التي ظاهرها يدلّ على ضعف المسلمين، وإن كان باطنها خيرًا لهم، كما هو الحاصل لهم، وكما دلّت عليه السورة المذكورة، والله تعالى أعلم.

وقوله: (وَقَدْ نَحَرَ الْهَدْيَ بالْحُدَيْبيَةِ) جملة في محلّ نصب على الحال، (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("لَقَدْ أُنزِلَتْ عَلَيَّ آيَةٌ هِيَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الدُّنْيَا جَمِيعًا")؛ أي: من متاعها كلّها، قال الأبيّ رحمه الله: إما باعتبار كونها قرآنًا، فآية واحدة خير من الدنيا، وما فيها، والأظهر أنه يريد: لِمَا اشتملت عليه من الفتح الذي نزل الإعلام به، وأصحابه في حال شدّة. انتهى

(1)

.

زاد بعضهم: وتضمّنت الآية أيضًا لمغفرة العامّة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وإتمام نعمة الله تعالى عليه، ونَصْره نصرًا عزيزًا، وكل ذلك فيه بشارة موجبة للفرح. انتهى

(2)

.

وفي رواية البخاريّ من حديث عمر رضي الله عنه: "فقال: لقد أنزلت عليّ الليلةَ سورة لهي أحبّ إليّ مما طلعت عليه الشمس، ثم قرأ: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1)} [الفتح: 1] ".

قال في "الفتح": قوله: "لهي أحبّ إليّ مما طلعت عليه الشمس"؛ أي: لِمَا فيها من البشارة بالمغفرة، والفتح، قال ابن العربيّ: أَطلق المفاضلة بين المنزلة التي أُعطيها، وبين ما طلعت عليه الشمس، ومن شرط المفاضلة استواء الشيئين في أصل المعنى، ثم يزيد أحدهما على الآخر، ولا استواء بين تلك المنزلة والدنيا بأسرها.

وأجاب ابن بطال بأن معناه: أنها أحبّ إليه من كل شيء؛ لأنه لا شيء إلا الدنيا والآخرة، فأخرج الخبر عن ذكر الشيء بذكر الدنيا؛ إذ لا شيء سواها إلا الآخرة.

وأجاب ابن العربيّ بما حاصله: أنّ أَفْعَلَ قد لا يراد بها المفاضلة؛ كقوله تعالى: {خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا} [الفرقان: 24]، ولا مفاضلة بين الجنة

(1)

"شرح الأبيّ" 5/ 128.

(2)

"تكملة فتح الملهم" 3/ 187.

ص: 235

والنار، أو الخطاب وقع على ما استقرّ في أنفس أكثر الناس، فإنهم يعتقدون أن الدنيا لا شيء مثلها، أو أنها المقصودة، فأخبر بأنها عنده خير مما يظنون أن لا شيء أفضل منه. انتهى.

قال الحافظ رحمه الله: ويَحْتَمِل أن يراد المفاضلة بين ما دلّت عليه، وبين ما دلّ عليه غيرها من الآيات المتعلقة به، فرجّحها، وجميع الآيات، وإن لم تكن من أمور الدنيا، لكنها أُنزلت لأهل الدنيا، فدخلت كلها فيما طلعت عليه الشمس. انتهى

(1)

.

وأخرج البخاريّ أيضًا، من طريق شعبة، عن قتادة، عن أنس بن مالك رضي الله عنه:{إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1)} قال: الحديبية، قال أصحابه: هنيئًا مريئًا، فما لنا؟ فأنزل الله:{لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [الفتح: 5]، قال شعبة: فقدِمتُ الكوفة، فحدّثت بهذا كلِّه عن قتادة، ثم رجعت، فذكرت له، فقال: أما {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ} ، فعن أنس، وأما هنيئًا مريئًا، فعن عكرمة. انتهى

(2)

.

وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، والحاكم، وابن مردويه، عن أنس رضي الله عنه قال: لَمّا رجعنا من الحديبية، وأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم قد خالطوا الحزن، والكآبة، حيث ذبحوا هديهم في أمكنتهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أُنزلت علي ضحًى آية، هي أحبّ إليّ من الدنيا جميعًا" ثلاثًا، قلنا: ما هي يا رسول الله؟ فقرأ: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1)} الآيتين، قلنا: هنيئًا لك يا رسول الله، فما لنا؟ فقرًا:{لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} الآية [الفتح: 5]، فلما أتينا خيبر، فأبصروا خَمِيس رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني: جيشه - أدبروا هاربين إلى الحصن، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"خَرِبت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين". انتهى

(3)

.

قال الجامع عفا الله عنه: كلام أنس رضي الله عنه المذكور صريحٌ في أن صلح الحديبية هو الفتح المعنيّ في هذه السورة، وقد تقدّم التصريح بذلك عنه صلى الله عليه وسلم

(1)

"الفتح" 10/ 600 - 601، كتاب "التفسير" رقم (4833).

(2)

"صحيح البخاريّ" 4/ 1530.

(3)

"الدر المنثور" 7/ 515.

ص: 236

حيث إن عمر رضي الله عنه قال له: أَوَ فتح هو؟، قال:"نعم".

قال الحافظ رحمه الله: وسُمّي ما وقع في الحديبية فتحًا؛ لأنه كان مقدّمة الفتح، وأوّل أسبابه. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أنس بن مالك رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [32/ 4628 و 4629](1786)، و (البخاريّ) في "المغازي"(4172) و"التفسير"(4834)، و (الترمذيّ) في "التفسير"(3263)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(7/ 408)، و (أحمد) في "مسند "(3/ 122 و 134 و 173 و 197 و 252)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(370)، و (الحاكم) في "المستدرك"(2/ 499)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 229 و 300)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(7/ 100)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(5/ 472)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 217)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(4019)، و (ابن حزم) في "المحلَّى"(7/ 363) وفوائده تقدّمت، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان نزول "سورة الفتح".

2 -

(ومنها): بيان عِظَم ما أنعم الله سبحانه وتعالى على نبيّه محمد صلى الله عليه وسلم من الفتح العظيم؛ حيث قال له: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1)} الآيتين.

3 -

(ومنها): بيان ما منّ الله تعالى على الصحابة رضي الله عنهم لَمَّا خضعوا لأمره صلى الله عليه وسلم، وانقادوا، حيث أنزل لهم قوله تعالى:{لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} الآية.

4 -

(ومنها): استحباب تهنئة من حصل له خير، حتى يزداد بذلك غبطةً وسُرُورًا، فيعظم شكره لربه سبحانه وتعالى.

(1)

"الفتح" 10/ 601.

ص: 237

5 -

(ومنها): أن صلح الحديبية هو الفتح الذي بيّنه الله تعالى بقوله: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1)} ، وذلك؛ لأنه مقدّمة الفتوحات الكبرى؛ كفتح مكة، وفتح خيبر، ومن ثمّ جُعلت غنائم خيبر لأهل الحديبية، فقد أخرج الإمام أحمد في "مسنده" بسنده عن مُجَمِّع بن جارية الأنصاريّ، وكان أحد القراء الذين قرؤوا القرآن، قال: شَهِدنا الحديبية، فلمّا انصرفنا عنها إذا الناس يُنَفِّرون الأباعر، فقال الناس بعضهم لبعض: ما للناس؟ قالوا: أوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرجنا مع الناس نُوجف، حتى وجدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على راحلته عند كُراع الْغَمِيم، واجتمع الناس إليه، فقرأ عليهم:{إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1)} ، فقال رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي رسول الله، وفَتحٌ هو؟ قال:"إي والذي نفس محمد بيده، إنه لفتح"، فقُسِمت خيبر على أهل الحديبية لم يُدْخِل معهم فيها أحدًا، إلا من شَهِد الحديبية، فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم على ثمانية عشر سهمًا، وكان الجيش ألفًا وخمسمائة، فيهم ثلاثمائة فارس، فأعطى الفارس سهمين، وأعطى الراجل سهمًا

(1)

. انتهى

(2)

، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4629]

(

) - (وَحَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ النَّضْرِ التَّيْمِيُّ، حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي، حَدَّثنا قَتَادَةُ، قَالَ: سَمِعْتُ أنسَ بْنَ مَالِكٍ (ح) وَحَدَّثنا ابْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثنَا أبو دَاوُدَ، حَدَّثنَا هَمَّامٌ (ح) وَحَدَّثنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، حَدَّثنَا يُونُسُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثنَا شَيْبَانُ، جَمِيعًا عَنْ قتادَةَ، عَنْ أنسٍ، نَحْوَ حَدِيثِ ابْنِ أَبِي عَرُوبَةَ).

رجال هذا الإسناد: أحد عشر:

1 -

(عَاصِمُ بْنُ النَّضْرِ التَّيْمِيُّ) أبو عُمر البصريّ، وقيل: هو: عاصم بن محمد بن النضر، صدوقٌ [10](م د س) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 26/ 1350.

2 -

(مُعْتَمِرُ) بن سليمان التيميّ، أبو محمد البصريّ، يُلقّب بالطُّفيل، ثقةٌ، من كبار [9](ت 187)(ع) تقدم في "الايمان" 1/ 105.

(1)

في سنده يعقوب بن مجمّع بن جارية، قال في "التقريب": مقبول من الرابعة.

(2)

"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 3/ 420.

ص: 238

3 -

(أَبُوهُ) سليمان بن طَرْخان التيميّ، أبو المعتمر البصريّ، نزل في بني تيم، فنُسب إليهم، ثقةٌ عابدٌ [4](ت 143)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 9.

4 -

(أَبُو دَاوُدَ) سليمان بن داود بن الجارود الطيالسيّ البصريّ، ثقةٌ حافظ [9](ت 204)(خت م 4) تقدم في "المقدمة" 6/ 73.

5 -

(هَمَّامُ) بن يحيى بن دينار الْعَوْذيّ، أبو عبد الله، أو أبو بكر البصريّ، ثقةٌ [7](ت 4 أو 165)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 70.

6 -

(عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ) الكِسيّ، تقدّم في الباب الماضي.

7 -

(يُونُسُ بْنُ مُحَمَّدِ) بن مسلم المؤدّب، أبو محمد البغداديّ، ثقةٌ ثبتٌ، من صغار [9](ت 207)(ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 105.

8 -

(شَيْبَانُ) بن عبد الرحمن التميميّ مولاهم، النحويّ، أبو معاوية البصريّ، نزيل الكوفة، ثقةٌ صاحب كتاب [7](ت 164)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 118.

والباقون ذُكروا في الباب.

وقوله: (جَمِيعًا عَنْ قَتَادَةَ)؛ يعني: أن همّام بن يحيى، وشيبان النحويّ كلاهما رويا هذا الحديث عن قتادة بن دِعامة، عن أنس بن مالك رضي الله عنه.

[تنبيه]: رواية سليمان التيمي، عن قتادة ساقها أبو عوانة رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(5451)

- حدّثنا أبو الحسن جعفر بن محمد بن الحجاج بن فرقد الرقّيّ، قال: حدّثنا عبد الله بن عمر الخطابيّ، وحدّثنا موسى بن أبي عوف الدمشقيّ، وأحمد بن سهل بن أيوب الأهوازيّ، قالا: حدثنا عاصم بن النضر، قالا: حدثنا المعتمر بن سليمان، قال: سمعت أبي، قال: حدّثنا قتادة، عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: لمّا رجعنا من غزوة الحديبية، وقد حيل بيننا وبين نُسكنا، قال: فنحن بين الحزن والكآبة، قال: فأنزل الله عز وجل: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ} [الفتح: 1]، إلى قوله:{مُسْتَقِيمًا} [الفتح: 2]، أو كما شاء الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لقد أُنزلت عليّ آية هي أحبّ إليّ من الدنيا جميعًا"، وقال عاصم: آية خير من الدنيا جميعًا. انتهى

(1)

.

(1)

"مستخرج أبي عوانة" 8/ 18.

ص: 239

ورواية همّام بن يحيى، عن قتادة، ساقها أبو بكر بن أبي شيبة في "مصنّفه"، فقال:

(36937)

- حدّثنا عفّان، قال: حدّثنا همّام، قال: حدّثنا قتادة، عن أنس، قال: أُنزلت على النبيّ صلى الله عليه وسلم: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1)} إلى آخر الآية مَرْجِعه من الحديبية، وأصحابه مخالطو الحزن والكآبة، قال: نزلت عليّ آية هي أحبّ إلي من الدنيا وما فيها جميعًا، فلما تلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال رجل من القوم: هنيئًا مريئًا، قد بَيَّن الله ما يَفْعَل بك، فماذا يَفعل بنا؟ فأنزل الله الآية التي بعدها:{لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} ، حتى ختم الآية. انتهى

(1)

.

ورواية شيبان، عن قتادة، ساقها البيهقيّ رحمه الله في "الكبرى"، فقال:

(9864)

- أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أنا أبو عبد الله محمد بن يعقوب، وأبو أحمد بن إسحاق، واللفظ لأبي أحمد، قالا: ثنا محمد بن إسحاق بن إبراهيم، ثنا محمد بن عبد الله الْمُخَرِّميّ، ثنا يونس بن محمد، ثنا شيبان، عن قتادة، قوله:{لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (2)} ، قال: حدّثنا أنس بن مالك أنها أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم مرجعه من الحديبية، وأصحابه مخالطون الحزن والكآبة، قد حيل بينهم وبين مناسكهم، ونحروا الهدي بالحديبية، فقال نبيّ الله صلى الله عليه وسلم:"لقد أُنزلت عليّ آية، هي أحبّ إليَّ من الدنيا جميعًا"، فقرأها على أصحابه، فقالوا: هنيئًا مريئًا يا نبيّ الله، قد بَيَّن الله ماذا يَفعل بك، فماذا يفعل بنا؟ فأنزل الله عز وجل في ذلك:{لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} . انتهى

(2)

، والله تعالى أعلم.

[خاتمة]: فائدتين نختم بهما باب صلح الحديبية:

(الفائدة الأولى): في ذكر قصّة الحديبية من "صحيح البخاريّ"، حيث إنه ساقه مطوّلًا جدًّا، قال رحمه الله في "كتاب الشروط":

(2731)

- حدّثني عبد الله بن محمد، حدّثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر،

(1)

"مصنف ابن أبي شيبة" 7/ 408.

(2)

"السنن الكبرى" للبيهقيّ رحمه الله 5/ 217.

ص: 240

قال: أخبرني الزهريّ، قال: أخبرني عروة بن الزبير، عن المسور بن مخرمة، ومروان، يُصَدِّق كلُّ واحد منهما حديث صاحبه، قالا: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية، حتى كانوا ببعض الطريق، قال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"إن خالد بن الوليد بالغميم، في خيل لقريش، طَليعةً، فخذوا ذات اليمين"، فوالله ما شَعَر بهم خالد حتى إذا هم بقَتَرة الجيش

(1)

، فانطلق يركض نذيرًا لقريش، وسار النبيّ صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان بالثنيّة التي يُهْبَط عليهم منها، بَرَكت به راحلته، فقال الناس: حَلْ حَلْ

(2)

، فألَحّت، فقالوا: خلأت القصواء، خلأت القصواء، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"ما خلأت القصواء، وما ذاك لها بخُلُق، ولكن حبسها حابس الفيل"، ثم قال:"والذي نفسي بيده، لا يسألونني خُطّةً يعظّمون فيها حرمات الله، إلا أعطيتهم إياها"، ثم زجرها، فوَثَبت، قال: فعَدَل عنهم حتى نزل بأقصى الحديبية، على ثَمَد

(3)

، قليل الماء، يتبرّضه الناس تبرّضًا

(4)

، فلم يُلبثه الناس، حتى نزحوه، وشُكِي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العطش، فانتزع سهمًا من كنانته، ثم أمرهم أن يجعلوه فيه، فوالله ما زال يَجيش

(5)

لهم بالرِّيّ حتى صدروا عنه

(6)

. فبينما هم كذلك إذ جاء بُديل بن ورقاء الخزاعيّ، في نفر من قومه، من خزاعة، وكانوا عَيْبة نُصْح رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل تهامة، فقال: إني تركت كعب بن لؤيّ، وعامر بن لؤيّ نزلوا أعداد مياه الحديبية، ومعهم الْعُوذُ المطافيل

(7)

، وهم مقاتلوك، وصادّوك عن البيت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنا لم نجئ لقتال أحد، ولكنا جئنا معتمرين، وإن قريشًا قد نهكتهم الحرب، وأضرّت بهم، فإن شاؤوا ماددتهم مُدّة، ويخلّوا بيني وبين الناس، فإن أظهر، فإن شاؤوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا، وإلا فقد جَمّوا، وإن هم أبوا، فوالذي نفسي بيده لأقاتلنّهم على أمري هذا، حتى تنفرد سالفتي

(8)

، ولينفذنّ الله أمره"، فقال

(1)

"القترة": الغبار الأسود.

(2)

كلمة تقال للناقة إذا تركت السير.

(3)

بفتحتين: حفيرة فيها ماء مثمود؛ أي: قليل.

(4)

التبرّض: هو الأخذ قليلًا قليلًا.

(5)

أي: يفور.

(6)

الرّي: بكسر الراء، وتُفتح، وصدروا؛ أي: رجعوا رِواء.

(7)

"الْعُوذ" بالضمّ: جمع عائذ، الناقة ذات اللبن، والمطافيل: اللاتي معها أطفالها.

(8)

السالفة: صفحة العنق.

ص: 241

بديل: سأبلغهم ما تقول، قال: فانطلق حتى أتى قريشًا، قال: إنا قد جئناكم من هذا الرجل، وسمعناه يقول قولًا، فإن شئتم أن نَعرضه عليكم فعلنا، فقال سفهاؤهم: لا حاجة لنا أن تخبرنا عنه بشيء، وقال ذوو الرأي منهم: هات ما سمعته يقول، قال: سمعته يقول كذا وكذا، فحَدّثهم بما قال النبيّ صلى الله عليه وسلم.

فقام عروة بن مسعود، فقال: أي قوم، ألستم بالوالد؟ قالوا: بلى، قال: أو لست بالولد؟ قالوا: بلى، قال: فهل تتهمونني؟ قالوا: لا، قال: ألستم تعلمون أني استنفرت أهل عكاظ، فلما بَلَّحُوا

(1)

عليّ جئتكم بأهلي، وولدي، ومَنْ أطاعني؟ قالوا: بلى، قال: فإن هذا قد عَرَض لكم خُطة رُشْد، اقبلوها، ودعوني آتيه، قالوا: ائته، فأتاه، فجعل يكلم النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم نحوًا من قوله لبديل، فقال عروة عند ذلك: أي محمدُ، أرأيت إن استأصلت أمر قومك، هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أهله قبلك؟ وإن تكن الأخرى، فإني والله لأرى وجوهًا، وإني لأرى أشوابًا من الناس خليقًا أن يَفِرُّوا، ويَدَعُوك، فقال له أبو بكر: امْصُصْ ببِظْر اللات، أنحن نفرّ عنه، ونَدَعه؟ فقال: من ذا؟ قالوا: أبو بكر، قال: أما والذي نفسي بيده، لولا يَدٌ كانت لك عندي، لم أَجْزِك بها لأجبتك، قال: وجعل يكلم النبيّ صلى الله عليه وسلم، فكلما تكلم أخذ بلحيته، والمغيرة بن شعبة قائم على رأس النبيّ صلى الله عليه وسلم، ومعه السيف، وعليه الْمِغْفَر، فكلما أهوى عروة بيده إلى لحية النبيّ صلى الله عليه وسلم ضرب يده بنعل السيف، وقال له: أَخِّر يدك عن لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرفع عروة رأسه، فقال: من هذا؟ قالوا: المغيرة بن شعبة، فقال: أي غُدَرُ، ألستُ أسعى في غَدْرتك؛ وكان المغيرة صَحِب قومًا في الجاهلية، فقتلهم، وأخذ أموالهم، ثم جاء، فأسلم، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"أما الإسلام فأقبل، وأما المال، فلست منه في شيء"، ثم إن عروة جعل يرمُق أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم بعينه، قال: فوالله ما تنخم رسول الله صلى الله عليه وسلم نخامة، إلا وقعت في كفّ رجل منهم، فدلك بها وجهه وجِلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وَضوئه، وإذا تكلم خَفَضوا أصواتهم عنده، وما يُحِدّون إليه النظر؛ تعظيمًا له، فرجع عروة إلى أصحابه،

(1)

أي: امتنعوا.

ص: 242

فقال: أي قوم، والله لقد وفدت على الملوك، ووفدت على قيصر، وكسرى، والنجاشيّ، والله إن رأيت مَلِكًا قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم محمدًا، والله إن تنخم نخامة إلا وقعت في كفّ رجل منهم، فدلك بها وجهه وجِلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وَضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يُحِدّون إليه النظر؛ تعظيمًا له، وإنه قد عَرَض عليكم خُطّة رُشْد، فاقبلوها.

فقال رجل من بني كنانة: دعوني آتيه، فقالوا: ائته، فلما أشرف على النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"هذا فلان، وهو من قوم يُعَظِّمون البُدْن، فابعثوها له"، فبُعثت له، واستقبله الناس يُلَبّون، فلما رأى ذلك، قال: سبحان الله ما ينبغي لهؤلاء أن يُصَدُّوا عن البيت، فلما رجع إلى أصحابه، قال: رأيت قد قُلِّدت، وأُشعرت، فما أرى أن يُصَدُّوا عن البيت.

فقام رجل منهم يقال له: مِكْرَز بن حفص، فقال: دعوني آتيه، فقالوا: ائته، فلما أشرف عليهم، قال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"هذا مِكْرز، وهو رجل فاجر"، فجعل يكلم النبيّ صلى الله عليه وسلم، فبينما هو يكلمه؛ إذ جاء سهيل بن عمرو.

قال معمر: فأخبرني أيوب، عن عكرمة، أنه لما جاء سهيل بن عمرو، قال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"لقد سهل لكم من أمركم"، قال معمر: قال الزهري في - حديثه: فجاء سهيل بن عمرو، فقال: هاتِ اكتب بيننا وبينكم كتابًا، فدعا النبيّ صلى الله عليه وسلم الكاتب، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ"، قال سهيل: أما الرحمن فوالله ما أدري ما هو؛ ولكن اكتب: باسمك اللهم، كما كنت تكتب، فقال المسلمون: والله لا نكتبها، إلا بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"اكتب باسمك اللهم"، ثم قال:"هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله"، فقال سهيل: والله لو كنا نعلم أنك رسول الئه، ما صددناك عن البيت، ولا قاتلناك، ولكن اكتب: محمد بن عبد الله، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"والله إني لرسول الله، وإن كذبتموني، اكتب: محمد بن عبد الله"، قال الزهريّ: وذلك لقوله: "لا يسألونني خُطّةً، يُعظّمون بها حُرُمات الله، إلا أعطيتهم إياها"، فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم:"على أن تخلوا بيننا وبين البيت، فنطوف به"، فقال سهيل: والله لا تتحدث العرب أنا أُخذنا ضُغْطةً، ولكن ذلك من العام المقبل، فكتب، فقال

ص: 243

سهيل: وعلى أنه لا يأتيك منا رجل، وإن كان على دينك إلا رددته إلينا، قال المسلمون: سبحان الله، كيف يُرَدّ إلى المشركين، وقد جاء مسلمًا؟ فبينما هم كذلك؛ إذ دخل أبو جَنْدَل بن سهيل بن عمرو يَرْسُفُ في قيوده

(1)

، وقد خرج من أسفل مكة، حتى رَمَى بنفسه بين أظهر المسلمين، فقال سهيل: هذا يا محمد أوّلُ ما أقاضيك عليه أن ترده إليّ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"إنا لم نَقْضِ الكتابَ بعدُ"، قال: فوالله إذًا لم أصالحك على شيء أبدًا، قال النبيّ صلى الله عليه وسلم، "فأَجِزْه لي"، قال: ما أنا بمجيزه لك، قال:"بلى، فافعل"، قال: ما أنا بفاعل، قال مِكْرَز: بل قد أجزناه لك، قال أبو جَنْدَل: أي معشر المسلمين، أُرَدّ إلى المشركين، وقد جئت مسلمًا؟ ألا ترون ما قد لقيت؟ وكان قد عُذِّب عذابًا شديدًا في الله، قال: فقال عمر بن الخطاب: فأتيت نبيّ الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: ألست نبيّ الله حقًّا؟ قال: "بلى"، قلت: ألسنا على الحق وعدؤنا على الباطل؟ قال: "بلى"، قلت: فلم نُعطي الدَّنِيَّة في ديننا إذًا؟ قال: "إني رسول الله، ولست أعصيه، وهو ناصري"، قلت: أوَ ليس كنت تحدّثنا أنا سنأتي البيت، فنطوف به؟ قال:"بلى، فأخبرتك أنا نأتيه العام؟ "، قال: قلت: لا، قال:"فإنك آتيه، ومُطَّوِّف به"، قال: فأتيت أبا بكر، فقلت: يا أبا بكر، أليس هذا نبيّ الله حقًّا؟ قال: بلى، قلت: ألسنا على الحق، وعدؤنا على الباطل؟ قال: بلى، قلت: فلِمَ نُعطي الدنية في ديننا إذًا؟ قال: أيها الرجل إنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس يعصي ربه، وهو ناصره، فاستَمْسِك بغرزه

(2)

، فوالله إنه على الحقّ، قلت: أليس كان يحدّثنا أنا سنأتي البيت، ونطوف به؟ قال: بلى، أفأخبَرَك أنك تأتيه العام؟ قلت: لا، قال: فإنك آتيه، ومُطّوِّف به.

قال الزهريّ: قال عمر: فَعَمِلت لذلك أعمالًا، قال: فلما فرغ من قضية الكتاب، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه:"قوموا، فانحروا، ثم احلقوا"، قال: فوالله ما قام منهم رجل، حتى قال ذلك ثلاث مرات، فلمّا لم يقم منهم أحد، دخل على أم سلمة، فذكر لها ما لقي من الناس، فقالت أم سلمة: يا نبيّ الله،

(1)

أي: يمشي مشيًا بطيئًا بسبب القيد.

(2)

أي: تمسّك بأمره، واترك المخالفة له.

ص: 244

أتحبّ ذلك؟ اخْرُج، لا تكلم أحدًا منهم كلمةً، حتى تنحر بُدُنك، وتدعو حالقك، فيحلقك، فخرج، فلم يكلم أحدًا منهم، حتى فَعَل ذلك، نحر بُدُنه، ودعا حالقه، فحلقه، فلما رأوا ذلك، قاموا، فنحروا، وجعل بعضهم يحلق بعضًا، حتى كاد بعضهم يقتل بعضًا غَمًّا، ثم جاءه نسوة مؤمنات، فأنزل الله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ} [الممتحنة: 10]، فطلّق عمر يومئذ امرأتين، كانتا له في الشرك، فتزوج إحداهما معاوية بن أبي سفيان، والأخرى صفوان بن أمية، ثم رجع النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فجاءه أبو بصير رجلٌ من قريش، وهو مسلم، فأرسلوا في طلبه رجلين، فقالوا: العهدَ الذي جعلت لنا، فدفعه إلى الرجلين، فخرجا به حتى إذا بلغا ذا الحليفة، فنزلوا يأكلون من تمر لهم، فقال أبو بصير لأحد الرجلين: والله إني لأرى سيفك هذا يا فلان جيّدًا، فاستلّه الآخرُ، فقال: أجل، والله إنه لجيّد، لقد جَرّبت به، ثم جربت، فقال أبو بصير: أرني أنظر إليه، فأمْكَنه منه، فضربه، حتى بَرَد

(1)

، وفَرَّ الآخر، حتى أتى المدينة، فدخل المسجد يَعْدُو، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآه:"لقد رأى هذا ذُعْرًا"، فلما انتهى إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: قُتِل والله صاحبي، وإني لمقتول، فجاء أبو بصير، فقال: يا نبيّ الله قد والله أوفى الله ذمتك، قد رددتني إليهم، ثم نجاني الله منهم، قال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"ويل أمه، مِسْعَرُ حرب، لو كان له أحد"، فلما سَمِع ذلك عَرَف أنه سيردّه إليهم، فخرج، حتى أتى سِيفَ البحر

(2)

قال: وينفلت منهم أبو جَنْدل بن سهيل، فلحق بأبي بصير، فجعل لا يخرج من قريش رجل قد أسلم، إلا لَحِق بأبي بصير، حتى اجتمعت منهم عصابة، فوالله ما يسمعون بعير خرجت لقريش إلى الشأم، إلا اعترضوا لها، فقتلوهم، وأخذوا أموالهم، فأرسلت قريش إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم تناشده بالله والرحم لَمّا أرسل، فمن أتاه فهو آمن، فأرسل النبيّ صلى الله عليه وسلم إليهم، فأنزل الله تعالى:{وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ} [الفتح: 24]، وكانت

(1)

أي: مات.

(2)

"سيف البحر" بكسر السين: ساحله.

ص: 245

حميّتهم أنهم لم يُقِرّوا أنه نبيّ الله، ولم يقرّوا ببِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وحالوا بينهم وبين البيت. انتهى.

(الفائدة الثانية): قد تكلّم الإمام ابن القيّم رحمه الله على الفوائد، والحكم التي تضمّنها صلح الحديبية، فقال رحمه الله:

فصل: في بعض ما في قصة الحديبية من الفوائد الفقهية:

1 -

(فمنها): اعتمار النبيّ صلى الله عليه وسلم في أشهر الحجّ، فإنه خرج إليها في ذي القعدة.

2 -

(ومنها): أن الإحرام بالعمرة من الميقات أفضل، كما أن الإحرام بالحج كذلك، فإنه أحرم بهما من ذي الحليفة، وبينها وبين المدينة ميل أو نحوه، وأما حديث:"من أحرم بعمرة من بيت المقدس غُفر له ما تقدم من ذنبه، وما تأخر"، وفي لفظ:"كانت كفارةً لِمَا قبلها من الذنوب"

(1)

، فحديث لا يثبت، وقد اضطُرب فيه إسنادًا ومتنًا اضطرابًا شديدًا.

3 -

(ومنها): أن سوق الهدي مسنون في العمرة المفردة، كما هو مسنون في القران.

4 -

(ومنها): أن إشعار الهدي سُنَّةٌ، لا مُثلةٌ منهيّ عنها.

5 -

(ومنها): استحباب مغايظة أعداء الله، فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم أهدى في جملة هديه جملًا لأبي جهل في أنفه بُرَةٌ من فضة، يُغيظ به المشركين، وقد قال تعالى في صفة النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأصحابه:{وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الفتح: 29]، وقال عز وجل:{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [التوبة: 120].

6 -

(ومنها): أن أمير الجيش ينبغي له أن يبعث العيون أمامه نحو العدوّ.

7 -

(ومنها): أن الاستعانة بالمشرك المأمون في الجهاد جائزة عند

(1)

رواه أبو داود (1741)، وابن ماجه (3001 - 3002)، وابن حبّان (1021)، وفي سنده مجهولان.

ص: 246

الحاجة؛ لأن عَيْنَه صلى الله عليه وسلم الخزاعيُّ كان كافرًا إذ ذاك، وفيه من المصلحة أنه أقرب إلى اختلاطه بالعدوّ، وأخْذه أخبارهم.

8 -

(ومنها): استحباب مشورة الإمام رعيّته، وجيشه؛ استخراجًا لوجه الرأي، واستطابةً لنفوسهم، وأمنًا لِعَتَبِهم، وتعرّفًا لمصلحة يختص بعلمها بعضهم دون بعض، وامتثالًا لأمر الرب في قوله تعالى:{وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران: 159]، وقد مدح سبحانه وتعالى عباده بقوله:{وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38].

9 -

(ومنها): جواز سبي ذراريّ المشركين إذا انفردوا عن رجالهم قبل مقاتلة الرجال.

10 -

(ومنها): ردّ الكلام الباطل، ولو نُسب إلى غير مكلَّف، فإنهم لمّا قالوا - حين بركت ناقته صلى الله عليه وسلم: خلأت القصواء؛ يعني: حَرَنت، وألحت، فلم تسر، والْخِلاء في الإبل - بكسر الخاء، والمدّ - نظير الْحِران في الخيل، فلما نسبوا إلى الناقة ما ليس من خُلُقها وطبعها، رَدّه صلى الله عليه وسلم عليهم، وقال:"ما خلأت، وما ذاك لها بخُلُق"، ثم أخبر صلى الله عليه وسلم عن سبب بروكها، وأن الذي حبس الفيل عن مكة حبسها للحكمة العظيمة التي ظهرت بسبب حبسها، وما جرى بعده.

11 -

(ومنها): أن تسمية ما يلابسه الرجل من مراكبه ونحوها سُنَّة.

12 -

(ومنها): جواز الحلف، بل استحبابه على الخبر الديني الذي يريد تأكيده، وقد حُفِظ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم الحلف في أكثر من ثمانين موضعًا، وأمره الله تعالى بالحلف على تصديق ما أخبر به في ثلاثة مواضع في "سورة يونس

(1)

"، و"سبأ

(2)

"، و"التغابن

(3)

".

(1)

هو في قوله تعالى: {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (53)} [يونس: 53].

(2)

هو قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ

} [سبأ: 3].

(3)

هو قوله تعالى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (7)} [التغابن: 7].

ص: 247

13 -

(ومنها): إذا طلب المشركون، وأهل البدع، والفجور، والبغاة، والظَّلَمة أمرًا يعظِّمون فيه حرمة من حرمات الله أجيبوا إليه، وأُعطوه، وأُعينوا عليه، وإن مَنعوا غيره، فيعاوَنون على ما فيه تعظيم حرمات الله تعالى، لا على كفرهم، وبَغْيهم، ويُمنعون مما سوى ذلك، فكل من التمس المعاونة على محبوب لله تعالى مُرْضٍ له، أجيب إلى ذلك كائنًا من كان، ما لم يترتب على إعانته على ذلك المحبوب مبغوض لله أعظم منه، وهذا من أدقّ المواضع، وأصعبها، وأشقّها على النفوس، ولذلك ضاق عنه من الصحابة من ضاق، وقال عمر ما قال، حتى عَمِل له أعمالًا بعده، والصدّيق تلقاه بالرضى والتسليم، حتى كان قلبه فيه على قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأجاب عمر عما سأل عنه من ذلك بعين جواب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك يدل على أن الصدّيق رضي الله عنه أفضل الصحابة، وأكملهم، وأعرفهم بالله تعالى، ورسوله صلى الله عليه وسلم، وأعلمهم بدينه، وأقْوَمهم بمحابّه، وأشدّهم موافقة له، ولذلك لم يسأل عمرُ عما عَرَض له إلا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، وصِدِّيقه خاصّةً، دون سائر أصحابه.

14 -

(ومنها): أن النبيّ صلى الله عليه وسلم عدل ذات اليمين إلى الحديبية، قال الشافعيّ: بعضها من الحِلّ وبعضها من الحرم.

وروى الإمام أحمد

(1)

في هذه القصّة أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يصلي في الحرم، وهو مضطرب في الحِلّ، وفي هذا كالدلالة على أن مضاعفة الصلاة بمكة تتعلق بجميع الحرم، لا يخصّ بها المسجد الذي هو مكان الطواف، وأن قوله صلى الله عليه وسلم:"صلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة صلاة في مسجدي"؛ كقوله تعالى: {فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} [التوبة: 28]، وقوله تعالى:{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [الإسراء: 1]، وكان الإسراء من بيت أم هانئ.

15 -

(ومنها): أن من نزل قريبًا من مكة، فإنه ينبغي له أن ينزل في الحِلّ، ويصلي في الحَرَم، وكذلك كان ابن عمر يصنع.

16 -

(ومنها): جواز ابتداء الإمام بطلب صلح العدوّ إذا رأى المصلحة

(1)

أخرجه أحمد في "مسنده" 4/ 326، ورجاله ثقات.

ص: 248

للمسلمين فيه، ولا يتوقف ذلك على أن يكون ابتداءُ الطلب منهم.

17 -

(ومنها): أن في قيام المغيرة بن شعبة على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسيف، ولم يكن عادته أن يقام على رأسه، وهو قاعد سُنَّة يُقتَدى بها عند قدوم رُسُل العدوّ من إظهار العزّ، والفخر، وتعظيم الإمام، وطاعته، ووقايته بالنفوس، وهذه هي العادة الجارية عند قدوم رسل المؤمنين على الكافرين، وقدوم رسل الكافرين على المؤمنين، وليس هذا من هذا النوع الذي ذمّه النبيّ صلى الله عليه وسلم بقوله:"من أحب أن يتمثل له الرجال قيامًا، فليتبوأ مقعده من النار"

(1)

، كما أن الفخر والخيلاء في الحرب ليسا من هذا النوع المذموم في غيره.

18 -

(ومنها): أن في بعث البُدُن في وجه الرسول الآخر دليلٌ على استحباب إظهار شعائر الإسلام لرسل الكفّار.

19 -

(ومنها): أن في قول النبيّ صلى الله عليه وسلم للمغيرة: "أما الإسلام فأقبل، وأما المال فلست منه في شيء" دليلًا على أن مال المشرك المعاهد معصوم، وأنه لا يُملك، بل يُرَدّ عليه، فإن المغيرة كان قد صَحِبهم على الأمان، ثم غَدَر بهم، وأخَذَ أموالهم، فلم يتعرض النبيّ صلى الله عليه وسلم لأموالهم، ولا ذَبّ عنها، ولا ضَمِنها لهم؛ لأن ذلك كان قبل إسلام المغيرة.

20 -

(ومنها): أن في قول الصدّيق رضي الله عنه لعروة: "امْصُص ببظْر اللات" دليلًا على جواز التصريح باسم العورة، إذا كان فيه مصلحة تقتضيها تلك الحال، كما أَذِن النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يصرِّح لمن ادَّعَى دعوى الجاهلية بِهَنِ أبيه، ويقال له: اعْضَض أَيْرَ

(2)

أبيك، ولا يُكنَى له، فلكل مقام مقال.

211 -

(ومنها): احتمال قلة أدب رسول الكفار، وجهله، وجفوته، ولا يقابل على ذلك؛ لِمَا فيه من المصلحة العامة، ولم يقابل النبيّ صلى الله عليه وسلم عروة على أخْذه بلحيته وقت خطابه، وإن كانت تلك عادة العرب، لكن الوقار والتعظيم خلاف ذلك، وكذلك لم يقابل رسول الله صلى الله عليه وسلم رسولَيْ مسيلمة الكذّاب، حين

(1)

أخرجه أحمد، وأبو داود، والترمذيّ بإسناد صحيح.

(2)

"الأير": الذَّكر.

ص: 249

قالا: نشهد أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال:"لولا أن الرسل لا تُقتل لقتلتكما"

(1)

.

22 -

(ومنها): طهارة النخامة، سواء كانت من رأس أو صدر.

23 -

(ومنها): طهارة الماء المستعمَل.

24 -

(ومنها): استحباب التفاؤل، وأنه ليس من الطِّيَرة المكروهة؛ لقوله لَمّا جاء سهيل:"سَهُل أمركم".

25 -

(ومنها): أن المشهود عليه إذا عُرف باسمه، واسم أبيه، أغنى ذلك عن ذكر الجَدّ؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يزد على محمد بن عبد الله، وقَنِع من سهيل بذكر اسمه، واسم أبيه خاصّةَ، واشتراط ذِكر الجدّ لا أصل له، ولَمّا اشترى العَدّاء بن خالد منه صلى الله عليه وسلم الغلام، فكَتَب له:"هذا ما اشترى العَدّاء بن خالد بن هَوْذة"

(2)

، فذكر جدّه، فهو زيادة بيان، تدلّ على أنه جائز، لا بأس به، ولا تدلّ على اشتراطه، ولفا لم يكن في الشهرة بحيث يكتفى باسمه، واسم أبيه، ذَكَر جدّه فيشترط ذِكْر الجدّ عند الاشتراك في الاسم، واسم الأب، وعند عدم الاشتراك اكتُفِي بذكر الاسم، واسم الأب، والله أعلم.

26 -

(ومنها): أن مصالحة المشركين ببعض ما فيه ضَيْم على المسلمين جائزة؛ للمصلحة الراجحة، ودَفْع ما هو شرّ منه، ففيه دفع أعلى المفسدتين باحتمال أدناهما.

27 -

(ومنها): أن مَن حَلَف على فعل شيء، أو نَذَره، أو وعد غيره به، ولم يعيّن وقتًا، لا بلفظه، ولا بنيّته، لم يكن على الفور، بل على التراخي.

28 -

(ومنها): أن الْحلق نسكٌ، وأنه أفضل من التقصير، وأنه نُسك في العمرة، كما هو نُسك في الحج، وأنه نُسك في عمرة المحصور، كما هو نُسك في عمرة غيره.

29 -

(ومنها): أن المحصَر ينحر هديه حيث أُحصر من الحِلّ، أو الحرم، وأنه لا يجب عليه أن يواعد مَن ينحره في الحرم، إذا لم يصل إليه،

(1)

أخرجه أحمد، وأبو داود بإسناد صحيح.

(2)

حديث حسنٌ، أخرجه الترمذيّ، وابن ماجه بسند قويّ.

ص: 250

وأنه لا يتحلل حتى يصل إلى محلّه، بدليل قوله تعالى:{وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} [الفتح: 25].

30 -

(ومنها): أن الموضع الذي نُحر فيه الهدي كان من الحلّ، لا من الحرم؛ لأن الحرم كله محل الهدي.

31 -

(ومنها): أن المحصر لا يجب عليه القضاء؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أمرهم بالحلق والنحر، ولم يأمر أحدًا منهم بالقضاء، والعمرة من العام القابل لم تكن واجبةً، ولا قضاءً عن عمرة الإحصار، فإنهم كانوا في عمرة الإحصار ألفًا وأربعمائة، وكانوا في عمرة القَضِيَّة دون ذلك، وإنما سُمِّيت عمرة القضية، والقضاء؛ لأنها العمرة التي قاضاهم عليها، فأضيفت العمرة إلى مصدر فعله.

32 -

(ومنها): أن الأمر المطلق على الفور، وإلا لم يغضب لتأخيرهم الامتثال عن وقت الأمر، وقد اعتذر عن تأخيرهم الامتثال بأنهم كانوا يرجون النسخ، فأخَّروا متأوّلين لذلك، وهذا الاعتذار أولى أن يُعتذر عنه، وهو باطل؛ فإنه صلى الله عليه وسلم لو فَهِم منهم ذلك، لم يشتدّ غضبه لتأخير أمره، ويقول: ما لي لا أغضب، وأنا آمر بالأمر، فلا أُتَّبَعُ؟ وإنما كان تأخيرهم من السعي المغفور، لا المشكور، وقد رضي الله عنهم، وغَفَر لهم، وأوجب لهم الجنة.

قال الجامع عفا الله عنه: هكذا قال ابن القيّم رحمه الله، والذي يظهر لي أن التأويل الأول هو الأَولى، المناسب لحال الصحابة رضي الله عنهم، ولا وجه لردّه، بل هو أولى، ثم أولى مما أوّله هو به، فتأمله بالإمعان، والله تعالى أعلم.

33 -

(ومنها): أن الأصل مشاركة أمته له صلى الله عليه وسلم في الأحكام، إلا ما خصه الدليل، ولذلك قالت أم سلمة رضي الله عنها: اخرُج، ولا تُكَلِّم أحدًا حتى تحلق رأسك، وتنحر هديك، وعَلِمَت أن الناس سيتابعونه.

[فإن قيل]: فكيف فعلوا ذلك اقتداء بفعله، ولم يمتثلوه حين أمرهم به؟.

[قيل]: هذا هو السبب الذي لأجله ظَنّ من ظَنّ أنهم أخَّروا الامتثال طمعًا في النَّسخ، فلما فَعَل النبيّ صلى الله عليه وسلم ذلك علموا حينئذ أنه حكم مستقرّ، غير منسوخ، وقد تقدم فساد هذا الظنّ، ولكن لمّا تغيّظ عليهم، وخرج، ولم يكلمهم، وأراهم أنه بادر إلى امتثال ما أَمَر به، وأنه لم يؤخر كتأخيرهم، وأن اتباعهم له، وطاعتهم توجب اقتداءهم به، بادروا حينئذ إلى الاقتداء به، وامتثال أمره.

ص: 251

قال الجامع عفا الله عنه: تقدّم أنّه لا يخفى كون هذا الظنّ الذي شنّ الغارة عليه ابن القيّم، من أقوى ما يُستدل به على صحة التأويل الماضي، فتأمله بالإنصاف، والله تعالى أعلم.

34 -

(ومنها): جواز صلح الكفار على ردّ من جاء منهم إلى المسلمين، وأن لا يُرَدّ من ذهب من المسلمين إليهم، هذا في غير النساء، وأما النساء فلا يجوز اشتراط ردهنّ إلى الكفار، وهذا موضع النسخ خاصّة في هذا العقد، بنصّ القرآن، ولا سبيل إلى دعوى النسخ في غيره بغير موجب.

35 -

(ومنها): أن خروج البُضْع من ملك الزوج متقوَّم، ولذلك أوجب الله سبحانه وتعالى ردّ المهر على من هاجرت امرأته، وحيل بينه وبينها، وعلى من ارتدت امرأته من المسلمين، إذا استحقّ الكفار عليهم ردّ مهور من هاجر إليهم من أزواجهم، وأخبر أن ذلك حكمه الذي حكم به بينهم، ثم لم ينسخه شيء، وفي إيجابه ردّ ما أعطى الأزواج من ذلك دليل على تقوّمه بالمسمى، لا بمهر المثل.

36 -

(ومنها): أن ردّ من جاء من الكفار إلى الإمام، لا يتناول من خرج منهم مسلمًا إلى غير بلد الإمام، وأنه إذا جاء إلى بلد الإمام لا يجب عليه ردّه بدون الطلب، فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يردّ أبا بصير حين جاءه، ولا أكرهه على الرجوع، ولكن لمّا جاءوا في طلبه مَكَنهم من أخذه، ولم يُكرهه على الرجوع.

37 -

(ومنها): أن المعاهَدين إذا تسلموه، وتمكنوا منه، فقَتَل أحدًا منهم لم يضمنه بِدِيَة، ولا قَوَد، ولم يضمنه الإمام، بل يكون حكمه في ذلك حكم قَتْله لهم في ديارهم، حيث لا حكم للإمام عليهم، فإن أبا بصير قَتَل أحد الرجلين المعاهَدين بذي الحليفة، وهي من حُكم المدينة، ولكن كان قد تسلّموه، وفُصِل عن يد الإمام، وحكمه.

38 -

(ومنها): أن المعاهَدين إذا عاهدوا الإمام، فخرجت منهم طائفة فحاربتهم، وغَنِمت أموالهم، ولم يتحيزوا إلى الإمام، لم يجب على الإمام دفعهم عنهم، ومنعهم منهم، وسواء دخلوا في عقد الإمام، وعهده، ودينه، أو لم يدخلوا، والعهد الذي كان بين النبيّ صلى الله عليه وسلم وبين المشركين لم يكن عهدًا بين أبي بصير وأصحابه وبينهم، وعلى هذا فإذا كان بين بعض ملوك المسلمين،

ص: 252

وبعض أهل الذمة من النصارى، وغيرهم، عَهْدٌ جاز لملك آخر من ملوك المسلمين أن يغزوهم، ويغنم أموالهم، إذا لم يكن بينه وبينهم عهدٌ، كما أفتى به شيخ الإسلام في نصارى مَلَطْيَةَ، وسبيهم مستدلًّا بقصة أبي بصير مع المشركين

(1)

.

قال رحمه الله:

[فصل]: في الإشارة إلى بعض الْحِكَم التي تضمنتها هذه الهدنة، وهي أكبر وأجلّ من أن يحيط بها إلا الله الذي أحكم أسبابها، فوقعت الغاية على الوجه الذي اقتضته حكمته، وحمده.

1 -

(فمنها): أنها كانت مقدمةً بين يدي الفتح الأعظم الذي أعزّ الله به رسوله صلى الله عليه وسلم، وجنده، ودخل الناس به في دين الله أفواجًا، فكانت هذه الهدنة بابًا له، ومفتاحًا، ومُؤْذِنًا بين يديه، وهذه عادة الله سبحانه وتعالى في الأمور العظام التي يقضيها قدرًا وشرعًا أن يوطئ لها بين يديها مقدمات، وتوطئات، تُؤْذِن بها، وتدلّ عليها.

2 -

(ومنها): أن هذه الهدنة كانت من أعظم الفتوح، فإن الناس أَمِن بعضهم بعضًا، واختلط المسلمون بالكفار، وبادءوهم بالدعوة، وأسمعوهم القرآن، وناظروهم على الإسلام جهرةً، آمنين، وظهر من كان مختفيًا بالإسلام، ودخل فيه في مدة الهدنة من شاء الله أن يدخل، ولهذا سَمّاه الله فتحًا مبينًا، قال ابن قتيبة: قضينا لك قضاءً عظيمًا، وقال مجاهد: هو ما قضى الله له بالحديبية، وحقيقة الأمر أن الفتح - في اللغة - فتح المغلَق، والصلح الذي حصل مع المشركين بالحديبية كان مسدودًا مغلقًا حتى فتحه الله، وكان من أسباب فتحه صدّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه عن البيت، وكان في الصورة الظاهرة ضيمًا، وهضمًا للمسلمين، وفي الباطن عزًا وفتحًا ونصرًا، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إلى ما وراءه من الفتح العظيم، والعز، والنصر، من وراء ستر رقيق، وكان يعطي المشركين كلّ ما سألوه من الشروط التي لم يحتملها أكثر أصحابه، ورؤوسهم، وهو صلى الله عليه وسلم يعلم ما في ضمن هذا المكروه من محبوب، {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 216].

(1)

"زاد المعاد" 3/ 300 - 309.

ص: 253

وَرُبَّمَا كَانَ مَكْرُوهُ النُّفُوسِ إِلَى

مَحْبُوبِهَا سَبَبًا مَا مِثْلُهُ سَبَبُ

فكان يدخل على تلك الشروط دخول واثق بنصر الله له، وتأييده، وأن العاقبة له، وأن تلك الشروط، واحتمالها هو عين النصرة، وهو من أكبر الجند الذي أقامه المشترطون، ونصبوه لحربهم، وهم لا يشعرون، فذلُّوا من حيث طلبوا العزّ، وقُهِروا من حيث أظهروا القدرة، والفخر، والغلبة، وعَزَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وعساكر الإسلام، من حيث انكسروا لله، واحتملوا الضيم له، وفيه، فدار الدَّوْر، وانعكس الأمر، وانقلب العزّ بالباطل ذلًّا بحقّ، وانقلبت الكسرة لله عزًّا بالله، وظهرت حكمة الله، وآياته، وتصديق وعده، ونصرة رسوله صلى الله عليه وسلم على أتم الوجوه، وأكملها التي لا اقتراح للعقول وراءها.

3 -

(ومنها): ما سَبَّبَهُ سبحانه وتعالى للمؤمنين من زيادة الإيمان، والإذعان، والانقياد، على ما أحبوا، وكرهوا، وما حصل لهم في ذلك من الرضى بقضاء الله، وتصديق موعوده، وانتظار ما وُعِدوا به، وشهود منة الله، ونعمته عليهم بالسكينة التي أنزلها في قلوبهم، أحوج ما كانوا إليها في تلك الحال التي تزعزع لها الجبال، فأنزل الله عليهم من سكينته، ما اطمأنت به قلوبهم، وقَوِيت به نفوسهم، وازدادوا به إيمانًا.

4 -

(ومنها): أنه سبحانه وتعالى جعل هذا الحكم الذي حكم به لرسوله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين سببًا لِمَا ذكره من المغفرة لرسوله صلى الله عليه وسلم ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ولإتمام نعمته عليه، ولهدايته الصراط المستقيم، ونَصْره النصر العزيز، ورضاه به، ودخوله تحته، وانشراح صدره به، مع ما فيه من الضيم، وإعطاء ما سألوه كان من الأسباب التي نال بها الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه ذلك، ولهذا ذكره الله سبحانه وتعالى جزاء وغاية، وإنما يكون ذلك على فعل قام بالرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين عند حكمه تعالى وفتحه.

وتأمل كيف وصف سبحانه وتعالى النصر بأنه عزيز في هذا الموطن، ثم ذكر إنزال السكينة في قلوب المؤمنين في هذا الموطن الذي اضطربت فيه القلوب، وقَلِقَت أشد القلق، فهي أحوج ما كانت إلى السكينة، فازدادوا بها إيمانًا إلى إيمانهم.

ثم ذكر بيعتهم لرسوله صلى الله عليه وسلم، وأكّدها بكونها بيعة له سبحانه وتعالى، وأن يده تعالى كانت فوق أيديهم؛ إذ كانت يد رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك، وهو رسوله، ونبيّه،

ص: 254

فالعقد معه عقد مع مرسِله، وبيعته بيعته، فمن بايعه فكأنما بايع الله، ويد الله فوق يده، وإذا كان الحجر الأسود يمين الله في الأرض

(1)

، فمن صافحه، وقَبَّله فكأنما صافح الله، وقبّل يمينه، فيدُ رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى بهذا من الحجر الأسود.

ثم أخبر أن ناكث هذه البيعة، إنما يعود نكثه على نفسه، وأن للموفي بها أجرًا عظيمًا، فكل مؤمن فقد بايع الله على لسان رسوله بيعة على الإسلام، وحقوقه، فناكثٌ، ومُوفٍ.

ثم ذكر حال من تخلف عنه من الأعراب، وظنهم أسوأ الظن بالله، أنه يخذل رسوله، وأولياءه، وجنده، ويُظفر بهم عدوهم، فلن ينقلبوا إلى أهليهم، وذلك من جهلهم بالله سبحانه وتعالى، وأسمائه، وصفاته، وما يليق به، وجهلهم برسوله صلى الله عليه وسلم، وما هو أهلٌ أن يعامله به ربه ومولاه.

ثم أخبر سبحانه عن رضاه عن المؤمنين بدخولهم تحت البيعة لرسوله صلى الله عليه وسلم، وأنه سبحانه وتعالى عَلم ما في قلوبهم حينئذ من الصدق والوفاء، وكمال الانقياد، والطاعة، وإيثار الله ورسوله صلى الله عليه وسلم على ما سواه، فأنزل الله السكينة، والطمأنينة، والرضى في قلوبهم، وأثابهم على الرضى بحكمه، والصبر لأمره فتحًا قريبًا، ومغانم كثيرةً، يأخذونها، وكان أول الفتح والمغانم فتح خيبر، ومغانمها، ثم استمرت الفتوح، والمغانم إلى انقضاء الدهر.

ووعدهم سبحانه مغانم كثيرة يأخذونها، وأخبرهم أنه عَجَّل لهم هذه الغنيمة، وفيها قولان:

أحدهما: أنه الصلح الذي جرى بينهم وبين عدوهم.

والثاني: أنها فتح خيبر وغنائمها، ثم قال:{وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ} [الفتح: 20]، فقيل: أيدي أهل مكة أن يقاتلوهم.

وقيل: أيدي اليهود حين هموا بأن يغتالوا مَن بالمدينة بعد خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن معه من الصحابة منها.

(1)

"الحجر الأسود يمين الله في الأرض

" حديث منكر لا يصحّ ذكره للاحتجاج به كما فعل ابن القيّم، فتنبّه.

ص: 255

وقيل: هم أهل خيبر، وحلفاؤهم الذين أرادوا نصرهم من أسد، وغطفان.

والصحيح تناول الآية للجميع.

وقوله: {وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ} [الفتح: 20] قيل: هذه الفعلة التي فعلها بكم، وهي كفّ أيدي أعدائكم عنكم، مع كثرتهم، فإنهم حينئذ كان أهل مكة ومن حولها، وأهل خيبر ومن حولها، وأسد، وغطفان، وجمهور قبائل العرب أعداء لهم، وهم بينهم كالشامة، فلم يصلوا إليهم بسوء، فمن آيات الله سبحانه كفّ أيدي أعدائهم عنهم، فلم يصلوا إليهم بسوء، مع كثرتهم، وشدة عداوتهم، وتولي حراستهم، وحِفْظِهم في مشهدهم ومَغِيبهم.

وقيل: هي فتح خيبر، جعلها آية لعباده المؤمنين، وعلامة على ما بعدها من الفتوح، فإن الله سبحانه وعدهم مغانم كثيرة، وفتوحًا عظيمة، فعَجّل لهم فتح خيبر، وجعلها آية لِمَا بعدها، وجزاءً لصبرهم ورضاهم يوم الحديبية، وشكرانًا، ولهذا خُصّ بها وبغنائمها من شهد الحديبية.

ثم قال: {وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} [الفتح: 20] فجمع لهم إلى النصر والظفر والغنائم الهداية، فجعلهم مهديين، منصورين، غانمين، ثم وعدهم مغانم كثيرة، وفتوحًا أخرى، لم يكونوا ذلك الوقت قادرين عليها، فقيل: هي مكة، وقيل: هي فارس والروم، وقيل: الفتوح التي بعد خيبر من مشارق الأرض ومغاربها.

ثم أخبر سبحانه أن الكفار لو قاتلوا أولياءه لولى الكفار الأدبار، غير منصورين، وأن هذه سُنَّته في عباده قبلهم، ولا تبديل لسُنَّته.

[فإن قيل]: فقد قاتلوهم يوم أُحد، وانتصروا عليهم، ولم يولوا الأدبار؟.

[قيل]: هذا وعد معلَّق بشرط مذكور في غير هذا الموضع، وهو الصبر والتقوى، وفات هذا الشرط يوم أحد بفشلهم المنافي للصبر، وتنازعهم وعصيانهم المنافي للتقوى، فصرفهم عن عدوهم، ولم يحصل الوعد؛ لانتفاء شرطه.

ثم ذكر - سبحانه - أنه هو الذي كفّ أيدي بعضهم عن بعض من بعد أن أظفر المؤمنين بهم لِمَا له في ذلك من الحكم البالغة التي منها: أنه كان فيهم

ص: 256

رجال ونساء قد آمنوا، وهم يكتمون إيمانهم، لم يعلم بهم المسلمون، فلو سلطكم عليهم لأصبتم أولئك بمعرّة الجيش، وكان يصيبكم منهم معرّة العدوان، والإيقاع بمن لا يستحق الإيقاع به.

وذكر سبحانه حصول المعرّة بهم من هؤلاء المستضعفين المستخفين بهم؛ لأنها موجب المعرّة الواقعة منهم بهم.

وأخبر سبحانه أنهم لو زايلوهم، وتميزوا منهم لعذّب أعداءه عذابًا أليمًا في الدنيا، إما بالقتل والأسر، وإما بغيره، ولكن دَفَع عنهم هذا العذاب؛ لوجود هؤلاء المؤمنين بين أظهرهم، كما كان يدفع عنهم عذاب الاستئصال، ورسوله صلى الله عليه وسلم أظهرهم.

ثم أخبر سبحانه عما جعله الكفار في قلوبهم من حمية الجاهلية التي مصدرها الجهل والظلم التي لأجلها صدّوا رسوله وعباده عن بيته، ولم يقرّوا بـ "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ"، ولم يقروا لمحمد بأنه رسول الله صلى الله عليه وسلم مع تحققهم صدقه، وتيقنهم صحة رسالته بالبراهين التي شاهدوها، وسمعوا بها في مدة عشرين سنة، وأضاف هذا الجعل إليهم، وإن كان بقضائه وقدره، كما يضاف إليهم سائر أفعالهم التي هي بقدرتهم وإرادتهم.

ثم أخبر - سبحانه - أنه أنزل في قلب رسوله صلى الله عليه وسلم وأوليائه من السكينة ما هو مقابل لِمَا في قلوب أعدائه من حمية الجاهلية، فكانت السكينة حظّ رسوله صلى الله عليه وسلم وحزبه، وحمية الجاهلية حظ المشركين وجندهم، ثم ألزم عباده المؤمنين كلمة التقوى، وهي جنس يعمّ كل كلمة يتقى الله بها، وأعلى نوعها كلمة الإخلاص، وقد فُسّرت بـ "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ"، وهي الكلمة التي أبت قريش أن تلتزمها، فألزمها الله أولياءه وحزبه، وإنما حَرَمها أعداءه؛ صيانةً لها عن غير كفئها، وألزمها من هو أحقّ بها وأهلها، فوضعها في موضعها، ولم يضيّعها بوضعها في غير أهلها، وهو العليم بمحالّ تخصيصه ومواضعه.

ثم أخبر سبحانه أنه صَدَقَ رسوله رؤياه في دخولهم المسجد آمنين، وأنه سيكون ولا بدّ، ولكن لم يكن قد آن وقت ذلك في هذا العام، والله سبحانه علم من مصلحة تأخيره إلى وقته ما لم تعلموا أنتم، فأنتم أحببتم استعجال

ص: 257

ذلك، والرب تعالى يعلم من مصلحة التأخير وحكمته، ما لم تعلموه، فقدّم بين يدي ذلك فتحًا قريبًا توطئة له وتمهيدًا.

ثم أخبرهم بأنه هو الذي أرسل رسوله بالهدى، ودين الحقّ؛ ليظهره على الدين كله، فقد تكفل الله لهذا الأمر بالتمام، والإظهار على جميع أديان أهل الأرض، ففي هذا تقوية لقلوبهم، وبشارة لهم، وتثبيت، وأن يكونوا على ثقةٌ من هذا الوعد الذي لا بدّ أن يُنجزه، فلا تظنوا أن ما وقع من الإغماض والقهر يوم الحديبية نصرة لعدوه، ولا تخليًا عن رسوله صلى الله عليه وسلم ودينه، كيف وقد أرسله بدينه الحقّ، ووعده أن يظهره على كل دين سواه.

ثم ذَكَّر - سبحانه - رسوله وحزبه الذين اختارهم له، ومدحهم بأحسن المدح، وذكر صفاتهم في التوراة والإنجيل، فكان في هذا أعظم البراهين على صدق من جاء بالتوراة، والإنجيل، والقرآن، وأن هؤلاء هم المذكورون في الكتب المتقدمة، بهذه الصفات المشهورة فيهم، لا كما يقول الكفار عنهم: إنهم متغلبون، طالبو ملك ودنيا، ولهذا لما رآهم نصارى الشام، وشاهدوا هديهم، وسيرتهم، وعَدْلهم، وعِلمهم، ورحمتهم، وزهدهم في الدنيا، ورغبتهم في الآخرة، قالوا: ما الذين صَحِبُوا المسيح بافضل من هؤلاء، وكان هؤلاء النصارى أعرف بالصحابة، وفضلهم، من الرافضة أعدائهم، والرافضة تصفهم بضدّ ما وصفهم الله به في هذه الآية، وغيرها، و:{مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا} [الكهف: 17]. انتهى ما كتبه ابن القيّم رحمه الله، بطوله، وهو بحث نفيسٌ، وتحقيق أنيس، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(33) - (بَابُ الْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4630]

(1787) - (وَحَدَّثَنَا أبو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أبو أُسَامَةَ، عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ جُمَيْعٍ، حَدَّثَنَا أبو الطُّفَيْلِ، حَدَّثَنَا حُذَيْفَة بْنُ الْيَمَان، قَالَ: مَا مَنَعَني أَنْ أَشْهَدَ بَدْرًا، إِلَّا أنِّي خَرَجْتُ أَنَا وَأَبِي حُسَيْلٌ، قَالَ: فَأَخَذَنَا كُفَّارُ قُرَيْشٍ،

ص: 258

قَالُوا: إِنَّكُمْ تُرِيدُونَ مُحَمَّدًا، فَقُلْنَا: مَا نُرِيدُهُ، مَا نُرِيدُ إِلَّا الْمَدِينَةَ، فَأَخَذُوا مِنَّا عَهْدَ اللهِ وَمِيثَاقَهُ، لَنَنْصَرِفَنَّ إِلَى الْمَدِينَة، وَلَا نُقَاتِلُ مَعَهُ، فَأَتيْنَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَخْبَرْنَاهُ الْخَبَرَ، فَقَالَ:"انْصَرِفَا نَفِي لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ، وَنَسْتَعِينُ اللهَ عَلَيْهِمْ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(أَبُو أُسَامَةَ) حمّاد بن أسامة، تقدّم قبل حديثين.

3 -

(الْوَليدُ بْنُ جُمَيْعٍ) هو: الوليد بن عبد الله بن جُميع - بالتصغير - نُسب هنا إلى جدّه، الزهريّ المكيّ، نزيل الكوفة، صدوق يَهِمُ، ورُمي بالتشيّع [5].

رَوَى عن أبي الطُّفيل، وعكرمة، ومجاهد، وأبي سلمة بن عبد الرحمن، وعبد الرحمن بن خلاد، وإبراهيم النخعيّ، وغيرهم.

ورَوَى عنه ابنه ثابت، وحفص بن غياث، ووكيع، ويحيى القطان، وأبو أحمد الزبيريّ، وابن فضيل، وأبو أسامة، ويزيد بن هارون، وغيرهم.

قال أحمد، وأبو داود: ليس به بأسٌ، وقال ابن معين، والعجليّ: ثقةٌ، وقال أبو زرعة: لا بأس به، وقال أبو حاتم: صالح الحديث، وقال عمرو بن عليّ: كان يحيى بن سعيد لا يُحدّثنا عنه، فلما كان قبل موته بقليل حدّثنا عنه، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وذكره أيضًا في "الضعفاء"، وقال: ينفرد عن الأثبات بما لا يشبه حديث الثقات، فلما فَحُش ذلك منه بطل الاحتجاج به، وقال ابن سعد: كان ثقةٌ، له أحاديث، وقال البزار: احتَملوا حديثه، وكان فيه تشيع، وقال العقيليّ: في حديثه اضطراب، وقال الحاكم: لو لم يُخرج له مسلم لكان أولى.

أخرج له البخاريّ في "الأدب المفرد"، والمصنّف، وأبو داود، والترمذيّ، والنسائيّ، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا برقم (1787)، وحديث آخر سيأتي في "كتاب صفات المنافقين" (2779): "إن الماء قليل، فلا يسبقني إليه أحد

" الحديث.

4 -

(أَبُو الطُّفَيْلِ) عامر بن واثلة بن عبد الله بن عمرو بن جحش الليثيّ،

ص: 259

وُلد عام أُحُد، ورأى النبيّ صلى الله عليه وسلم، وروى عن أبي بكر رضي الله عنه، ومن بعده، وعُمّر إلى أن مات سنة (110 هـ)، وهو آخر من مات من الصحابة رضي الله عنهم، قاله مسلم وغيره (ع) تقدّم في "صلاة المسافرين وقصرها" 7/ 1631.

5 -

(حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ) اسم اليمان حُسيل - مصغّرًا - أو حِسْل - بكسر، فسكون - الْعَبْسيّ، حليف الأنصار الصحابيّ الشهير، مات رضي الله عنه في خلافة عليّ رضي الله عنه سنة (36 هـ)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 457.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالتحديث إلا في موضع واحد، وفيه رواية صحابيّ، عن صحابيّ، وأن أبا الطُّفيل من صغار الصحابة رضي الله عنهم، وُلد عام أُحُد، ورأى النبيّ صلى الله عليه وسلم، وروى عن أبي بكر رضي الله عنه، ومَنْ بعده، وعُمّر إلى أن مات سنة (110 هـ)، وهو آخر من مات من الصحابة رضي الله عنهم، قاله مسلم وغيره، وأن حذيفة، من مشاهير الصحابة رضي الله عنهم، من السابقين الأولين، وصحّ في "صحيح مسلم" أنه صلى الله عليه وسلم أعلمه بما كان وبما يكون إلى أن تقوم الساعة، وأبوه صحابى أيضًا، استُشهِد بأُحد رضي الله عنه.

شرح الحديث:

(عَنِ الْوَليدِ بْنِ جُمَيْعٍ) بالتصغير، تقدّم أنه الوليد بن عبد الله بن جُميع، أنه قال:(حَدَّثَنَا أبو الطُّفَيْلِ) مصغّرًا، هو عامر بن واثلة الليثيّ رضي الله عنه، قال:(حَدَّثَنَا حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ) رضي الله عنهما، أنه (قَالَ: مَا) نافيةٌ، (مَنَعَنِي أَنْ أَشْهَدَ بَدْرًا)؛ أي: غزوتها، (إِلَّا أَنِّي) بفتح همزة "أنّ"، والاستثناء مفرّغ؛ لتفرّغ ما قبل "إلا" للعمل فيما بعدها، ولذلك تُفتح "أنّ"؛ لأنها مصدريّة، والمصدر المؤوّل فاعل "يمنعني"، وقوله:"أن أشهد بدرًا" في تأويل المصدر مفعول ثانٍ لـ "يمنعني"، أو مجرورب "من" مقدّرةً؛ لأنه يقال: منعته الأمرَ، ومن الأمر مَنْعًا، فهو ممنوع منه؛ أي: مَحْرُوم

(1)

.

والمعنى هنا: لم يمنعني شهودي غزوة بدر غيرُ خروجي

إلخ.

(1)

"المصباح المنير" 2/ 580.

ص: 260

(خَرَجْتُ أَنَا وَأَبِي)؛ أي: من المدينة إلى بدر، وقوله:(حُسَيْلٌ) بالرفع على بدل، أو عطف بيان لـ "أبي"، قال النوويّ رحمه الله: وهو: حُسَيل - بحاء مضمومة، ثم سين مفتوحة مهملتين، ثم ياء، ثم لام - ويقال له أيضًا: حِسْل - بكسر الحاء، وإسكان السين - وهو والدُ حُذَيفة، واليمان لقب له، والمشهور في استعمال المحدثين أنه اليمان، بالنون، من غير ياء بعدها، وهي لغة قليلة، والصحيح اليماني، بالياء، وكذا عمرو بن العاص، وعبد الرحمن بن أبي الموالي، وشدّاد بن الهادي، والمشهور للمحدثين حذف الياء، والصحيح إثباتها. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قد أشار ابن مالك رحمه الله إلى هذه القاعدة في "الخلاصة" حيث قال:

وَحَذْفُ يَا الْمَنْقُوصِ ذِي التَّنْوِينِ مَا

لَمْ يُنْصَبَ اوْلَى مِنْ ثُبُوتٍ فَاعْلَمَا

وَغَيْرُ ذِي التَّنْوِينِ بِالْعَكْسِ وَفِي

نَحْوِ "مُرٍ" لُزُومُ رَدِّ الْيَا اقْتُفِي

وقال القاضي عياض رحمه الله: قوله: "وأبي حُسيلٌ" كذا صوابه مرفوعًا على البدليّة، وهو اسم اليمان، والد حُذيفة رضي الله عنهما، وهو رواية ابن أبي جعفر، ورواه الصدفيّ، عن العذريّ:"حسرًا"، ورواه أبو بحر:"حسيرًا" بالراء مكان "حُسل"، وكلاهما وَهَمٌ، وإنما سُمّي اليمان؛ لأنه أصاب دمًا في قومه، ففرّ إلى المدينة، فحالف بني عبد الأشهل، فسمّاه قومه اليمان؛ لحِلْفه اليمانية، وقيل: بل سُمّي بذلك، لأنه اسم جدّه الأعلى، وهو حُذيفة بن حُسيل بن جابر بن ربيعة بن عمرو بن اليمان الْعَبْسيّ. انتهى

(2)

.

وكتب الأبيّ رحمه الله بعد نقله كلام عياض هذا ما نصّه: يعني باليمانية: الأنصار؛ لأنهم ليسوا من مَعَدّ، وتقدّم أن العرب عربان: يمنيّة، ومعَدّيّةٌ، والمعديّة ما كان من ذرّيّة إسماعيل عليه السلام، واليمنيّة غيرهم. انتهى

(3)

.

(قَالَ) حذيفة رضي الله عنه (فَأَخَذَنَا كُفَّارُ قُوَيْشٍ)، وفي رواية الحاكم في "المستدرك": "أخذ حذيفةَ وأباه المشركون قبل بدر، فأرادوا أن يقتلوهما،

(1)

"شرح النوويّ" 12/ 144.

(2)

"إكمال المعلم" 6/ 158.

(3)

"شرح الأبيّ" 5/ 129.

ص: 261

فأخذوا عليهما عهد الله، وميثاقه، أن لا يعينان عليهم، فحلفا لهم، فأرسلوهما، فأتيا النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأخبرا، فقالا: إنا قد حلفنا لهم، فإن شئت قاتلنا معك، فقال:"نفي لهم بعهدهم، ونستعين الله عليهم"

(1)

".

وفي رواية أبي عوانة: "عن حذيفة قال: ما منعنا أن نشهد بدرًا إلا أنّا أقبلنا أنا وأبي؛ يعني: اليمان، نريد رسول الله صلى الله عليه وسلم ببدر، فعارضنا كفار قريش، فأخذونا، فقا لوا: إنكم تريدون محمدًا، قال: قلنا: ما نريده، قالوا: فأعطونا عهد الله وميثاقه لتنصرفن إلى المدينة، ولا تقاتلونا، فأعطيناهم عهد الله وميثاقه لننصرفنّ إلى المدينة، قال: فأتينا النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأخبرناه بذلك، فقال: نستعين الله عليهم، ونفي لهم بعهدهم، ارجعا إلى المدينة، فذلك الذي منعنا"

(2)

.

(قَالُوا: إِنَّكُمْ تُرِيدُونَ مُحَمَدًا) صلى الله عليه وسلم؛ أي: نَصْره والقتال معه في بدر، (فَقُلْنَا: مَا نُرِيدُهُ، مَا نُرِيدُ إِلَّا الْمَدِينَةَ) فيه جواز الكذب، والتعريض للخائف؛ للضرورة، (فَأَخَذُوا مِنَا عَهْدَ اللهِ وَمِيثَاقَهُ) - بكسر الميم -: العهد المؤكّد باليمين، (لَنَنْصَرِفَنَّ)؛ أي: لنرجعن (إِلَى الْمَدِينَة، وَلَا نُقَاتِلُ مَعَهُ) في بدر، (فَأَتَيْنَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَخْبَرْنَاهُ الْخَبَرَ)؛ أي: قصّة ما جرى بيننا وبين كفّار قريش، من العهد والميثاق على أن نرجع إلى المدينة، ولا نقاتل معه صلى الله عليه وسلم، (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("انْصَرِفَا) إلى المدينة، ولا تقاتلا معنا، ثمّ علّل ذلك بقوله:(نَفِي) مضارع وفي، من باب رمى وفاءً، وفي بعض النسخ:"فَفِيا" بالتثنية لحُذيفة وأبيه رضي الله عنهما ("لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ)؛ أي: نؤدّي ما التزمتماه لهم بعدم مقاتلكتما معنا، (وَنَسْتَعِينُ اللهَ عَلَيْهِمْ")؛ أي: نطلب من الله عز وجل أن يُعيننا على قتالهم، فإنه وعدنا بالنصر، حيث قال:{إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51)} [غافر: 51]، وقال تعالى:{وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (173)} [الصافات: 171 - 173]، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1)

"المستدرك على الصحيحين" 3/ 427.

(2)

"مسند أبي عوانة" 4/ 318.

ص: 262

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله

(1)

.

(المسألة الثانية): فىِ تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [33/ 4630](1787)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(6/ 451 و 7/ 363)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 317 - 318)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(8/ 214)، و (الحاكم) في "المستدرك"(3/ 427)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(9/ 145)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان جواز الكذب في الحرب، وإذا أمكن التعريض في الحرب، فهو أَولى، ومع هذا يجوز الكذب في الحرب، وفي الإصلاح بين الناس، وكَذِب الزوج لامرأته، كما صرح به الحديث الصحيح.

أخرج مسلم في "صحيحه" من طريق ابن شهاب، عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف، عن أمه أم كلثوم بنت عقبة بن أبي مُعيط، أخبرته أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يقول:"ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس، ويقول خيرًا، وينمي خيرًا". قال ابن شهاب: ولم أسمع يُرَخَّص في شيء مما يقول الناس: كذب، إلا في ثلاث: الحرب، والإصلاح بين الناس، وحديث الرجل امرأته، وحديث المرأة زوجها.

وفي رواية صالح بن كيسان، عن ابن شهاب:"قالت: ولم أسمعه يرخّص في شيء مما يقول الناس إلا في ثلاث".

وأخرج ابن عديّ، عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يصلح الكذب إلا في ثلاث: الرجل يُرضي امرأته، وفي الحرب، وفي صلح بين الناس".

وأخرج البيهقيّ، عن النوّاس بن سَمْعان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الكذب لا يصلح إلا في ثلاث: الحرب، فإنها خدعة، والرجل يُرضِي امرأته، والرجل يصلح بين اثنين".

(1)

بل لم يُخرجه من أصحاب الكتب الستّة غيره.

ص: 263

وأخرج البيهقيّ، عن أسماء بنت يزيد، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يصلح الكذب إلا في ثلاث: الرجل يكذب لامرأته؛ لترضى عنه، أو إصلاح بين الناس، أو يكذب في الحرب"

(1)

.

2 -

(ومنها): مشروعيّة الوفاء بالعهد، قال النوويّ رحمه الله: وقد اختَلَف العلماء في الأسير يعاهد الكفار، أن لا يَهْرُب منهم، فقال الشافعيّ، وأبو حنيفة، والكوفيون: لا يلزمه ذلك، بل متى أمكنه الهرب هرب، وقال مالك: يلزمه. واتفقوا على أنه لو أكرهوه، فحلف لا يهرب لا يمين عليه؛ لأنه مُكرَه.

وأما قضية حذيفة، وأبيه، فإن الكفار امشحلفوهما لا يقاتلان مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر، فأمرهما النبيّ صلى الله عليه وسلم بالوفاء، وهذا ليس للإيجاب، فإنه لا يجب الوفاء بترك الجهاد مع الإمام، ونائبه، ولكن أراد النبيّ صلى الله عليه وسلم أن لا يَشيع عن أصحابه نقض العهد، وإن كان لا يلزمهم ذلك؛ لأن المُشِيع عليهم لا يذكر تأويلًا. انتهى

(2)

، والله تعالى أعلم بالصواب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(34) - (بَابُ غَزْوَةِ الأَحْزَابِ)

قال الجامع عفا الله عنه: كان الأولى للمصنّف رحمه الله أن يجمع حديث حذيفة رضي الله عنه هذا إلى حديث البراء بن عازب، وسهل بن سعد، وأنس بن مالك رضي الله عنهم الآتية بعد أبواب؛ لأنها كلّها في غزوة الأحزاب فجمعها في محلّ واحد هو الأنسب، والله تعالى أعلم.

و"الأحزاب": بفتح الهمزة: جمع حِزْب بكسر الحاء المهملة، وسكون الزاي، وهي الطائفة من الناس، وتُسمّى الخندق، فلها اسمان، قال في "الفتح": فأما تسميتها الخندق، فلأجل الخندق الذي حُفِر حول المدينة بأمر النبيّ صلى الله عليه وسلم، وكان الذي أشار بذلك سلمان رضي الله عنه، فيما ذكر أصحاب المغازي،

(1)

الأحاديث صحاح، راجع:"السلسلة الصحيحة" 2/ 83، و"صحيح الترمذيّ" 4/ 331.

(2)

"شرح النوويّ" 12/ 144 - 145.

ص: 264

منهم أبو معشر، قال: قال سلمان للنبيّ صلى الله عليه وسلم: إنا كنا بفارس إذا حُوصرنا خَندقنا علينا، فأمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بحفر الخندق حول المدينة، وعَمِلَ فيه بنفسه؛ ترغيبًا للمسلمين، فسارعوا إلى عمله، حتى فرغوا منه، وجاء المشركون، فحاصروهم.

وأما تسميتها الأحزابَ؛ فلاجتماع طوائفَ من المشركين على حرب المسلمين، وهم: قريش، وغَطَفان، واليهود، ومن تبعهم، وقد أنزل الله تعالى في هذه القصّة صدر "سورة الأحزاب".

وذكر موسى بن عقبة في "المغازي" قال: خرج حُييّ بن أخطب بعد قتل بني النضير إلى مكة يُحَرِّض قريشًا على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم كليب، وخرج كنانة بن الربيع بن أبي الْحُقَيق يسعى في بني غطفان، وَيحُضّهم على قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن لهم نصفَ ثمر خيبر، فأجابه عيينة بن حصن بن حُذيفة بن بدر الفزاريّ إلى ذلك، وكتبوا إلى حلفائهم من بني أسد، فأقبل إليهم طلحة بن خُويلد فيمن أطاعه، وخرج أبو سفيان بن حرب بقريش، فنزلوا بِمَرّ الظَّهْران، فجاءهم من أجابهم من بني سُليم مددًا لهم، فصاروا في جمع عظيم، فهم الذين سماهم الله تعالى الأحزاب.

وذكر ابن إسحاق بأسانيده أن عِدّتهم عشرة آلاف، قال: وكان المسلمون ثلاثة آلاف، وقيل: كان المشركون أربعة آلاف، والمسلمون نحو الألف.

وذكر موسى بن عقبة أن مُدّة الحصار كانت عشرين يومًا، ولم يكن بينهم قتال إلا مُراماة بالنبل والحجارة، وأصيب منها سعد بن معاذ بسهم، فكان سبب موته، كما سيأتي.

وذكر أهل المغازي سبب رحيلهم، وأن نعيم بن مسعود الأشجعيّ ألقى بينهم الفتنة، فاختلفوا، وذلك بأمر النبيّ صلى الله عليه وسلم له بذلك، ثم أرسل الله عليهم الريح، فتفرقوا، وكفى الله المؤمنين القتال. انتهى

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: "الأحزاب": جمع حزب، وهو الجماعة من الناس، والجملة من الشيء. وتحزّب الناس: اجتمعوا، والحزب من القرآن جملة

(1)

"الفتح" 9/ 182 - 183، كتاب "المغازي" رقم (4098).

ص: 265

مجتمعة منه، ويوم الأحزاب: عبارة عن غزوة الأحزاب، وهي غزوة الخندق، وكانت في السنة الخامسة من الهجرة في شهر شوال، وكان سببها: أن نفرًا من رؤساء اليهود انطلقوا إلى مكة مؤلبين على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومشجعين عليه، فجمعوا الجموع، وحزّبوا الأحزاب، فاجتمعت قريش وقادتها، وغطفان وقادتها، وفزارة وقادتها، وغيرهم من أخلاط الناس، وخرجوا بحدّهم وجدّهم في عشرة آلاف حتى نزلوا المدينة، ولمّا سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم شاور أصحابه، فأشار سلمان رضي الله عنه بالخندق، فحفروا الخندق، وتحصنوا به، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من المدينة بمن معه من المسلمين في ثلاثة آلاف، فبرز، وأقام على الخندق، وجاءت الأحزاب، ونزلت من الجانب الآخر، ولم يكن بينهم حرب إلا الرمي بالنبل، غير أن فوارس من قريش اقتحموا الخندق، فخرج عليُّ بن أبي طالب رضي الله عنه في فرسانٍ من المسلمين، فأخذوا عليهم الثغرة التي اقتحموا منها، فقتل عليٌّ عمرو بن وَدّ مبارزةً، واقتحم الآخرون بخيلهم الخندق منهزمين إلى قومهم، ونقضت قريظة ما كان بينها وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعاونوا الأحزاب عليه، واشتد البلاء على أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ إذ جاء عدوّهم من فوقهم، ومن أسفل منهم، فأقام المسلمون على تلك الحال قريبًا من شهر إلى أن خذل الله بين قريش وبين بني قريظة على يدي نعيم بن مسعود الأشجعيّ، فاختلفوا، وأرسل الله عليهم ريحًا عاصفةً في ليالي شديدة البرد، فجعلت تقلب أبنيتهم، وتطفئ نيرانهم، وتكفأ قدورهم، حتى أشرفوا على الهلاك، فارتحلوا متفرقين في كل وجه، لا يلوي أحدٌ على أحدٍ، وكفى الله المؤمنين القتال.

ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى بني قريظة، فحاصرهم حتى نزلوا على حكم سعد بن معاذ، كما تقدم. انتهى

(1)

.

[تنبيه]: اختُلف في أي سنة كانت الأحزاب؟ فقال موسى بن عقبة: كانت في شوّال سنة أربع، قال في "الفتح": وتابع موسى على ذلك: مالكٌ، وأخرجه أحمد عن موسى بن داود، عنه، وقال ابن إسحاق: كانت في شوال سنة

(1)

"المفهم" 3/ 643 - 644.

ص: 266

خمس، وبذلك جزم غيره من أهل المغازي، ومال البخاريّ إلى قول موسى بن عقبة، وقوّاه بما أخرجه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أنه عُرِض يوم أُحُد، وهو ابن أربع عشرة، ويوم الخندق، وهو ابن خمس عشرة، فيكون بينهما سنة واحدة، وأُحد كانت سنة ثلاث، فيكون الخندق سنة أربع.

قال الحافظ رحمه الله: ولا حجة فيه إذا ثبت أنها كانت سنة خمس؛ لاحتمال أن يكون ابن عمر في أُحُد كان في أول ما طعن في الرابعة عشر، وكان في الأحزاب قد استكمل الخمس عشرة، وبهذا أجاب البيهقيّ.

قال: ويؤيد قول ابن إسحاق أن أبا سفيان قال للمسلمين لَمّا رجع من أُحد: موعدكم العامُ المقبلُ ببدر، فخرج النبيّ صلى الله عليه وسلم من السنة المقبلة إلى بدر، فتأخر مجيء أبي سفيان تلك السنة للجدب الذي كان حينئذ، وقال لقومه: إنما يصلح الغزو في سنة الْخِصْب، فرجعوا بعد أن وصلوا إلى عُسْفان، أو دونها، ذكر ذلك ابن إسحاق وغيره من أهل المغازي.

وقد بَيَّن البيهقي سبب هذا الاختلاف، وهو أن جماعة من السلف كانوا يَعُدّون التاريخ من المحرّم الذي وقع بعد الهجرة، ويُلغون الأشهر التي قبل ذلك إلى ربيع الأول، وعلى ذلك جرى يعقوب بن سفيان في "تاريخه"، فذكر أن غزوة بدر الكبرى كانت في السنة الأولى، وأن غزوة أُحد كانت في الثانية، وأن الخندق كانت في الرابعة، وهذا عمل صحيح على ذلك البناء، لكنه بناءٌ وَاهٍ، مخالف لِمَا عليه الجمهور، من جَعْل التاريخ من المحرّم سنة الهجرة، وعلى ذلك تكون بدر في الثانية، واحد في الثالثة، والخندق في الخامسة، وهو المعتمد. انتهى

(1)

، وهو بحث نفيسٌ، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4613]

(1788) - (حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، جَمِيعًا عَنْ جَرِيرٍ، قَالَ زُهَيْرٌ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الأَعْمَش، عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيّ، عَنْ أَبِيه، قَالَ: كُنَّا عِنْدَ حُذَيْفَةَ، فَقَالَ رَجُلٌ: لَوْ أَدْرَكْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَاتَلْتُ مَعَهُ،

(1)

"الفتح" 9/ 183 - 184، كتاب "المغازي" رقم (4097).

ص: 267

وَأَبْلَيْتُ، فَقَالَ حُذَيْفَةُ: أَنْتَ كُنْتَ تَفْعَلُ ذَلِكَ؟ لَقَدْ رَأَيْتُنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةَ الأَحْزَاب، وَأَخَذَتْنَا رِيحٌ شَدِيدَةٌ، وَقُرٌّ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"أَلا رَجُلٌ يَأْتِينِي بِخَبَرِ الْقَوْم؟ جَعَلَهُ اللهُ مَعِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ"، فَسَكَتْنَا، فَلَمْ يُجِبْهُ مِنَّا أَحَدٌ، ثُمَّ قَالَ:"أَلا رَجُلٌ يَأتِينَا بِخَبَرِ الْقَوْمِ؟ جَعَلَهُ اللهُ مَعِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ"، فَسَكَتْنَا، فَلَمْ يُجِبْهُ مِنَّا أَحَدٌ، ثُمَّ قَالَ:"أَلا رَجُلٌ يَأْتِينَا بِخَبَرِ الْقَوْمِ؟ جَعَلَهُ اللهُ مَعِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ"، فَسَكَتْنَا، فَلَمْ يُجِبْهُ مِنَّا أَحَدٌ، فَقَالَ:"قُمْ يَا حُذَيْفَةُ، فَأْتِنَا بِخَبَرِ الْقَوْمِ"، فَلَمْ أَجِدْ بُدًّا إِذْ دَعَانِي بِاسْمِي أَنْ أَقُومَ، قَالَ:"اذْهَبْ فَأْتِنِي بِخَبَرِ الْقَوْم، وَلَا تَذْعَرْهُمْ عَلَيَّ"، فَلَمَّا وَلَّيْتُ مِنْ عِنْدِه، جَعَلْتُ كَأَنَّمَا أَمْشِي فِي حَمَّامٍ، حَتَّى أَتَيْتُهُمْ، فَرَأَيْتُ أَبَا سُفْيَانَ يَصْلِي ظَهْرَهُ بِالنَّار، فَوَضَعْتُ سَهْمًا فِي كَبِدِ الْقَوْس، فَأَرَدْتُ أَنْ أَرْمِيَهُ، فَذَكَرْتُ قَوْلَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"وَلَا تَذْعَرْهُمْ عَلَيَّ"، وَلَوْ رَمَيْتُهُ لأَصَبْتُهُ، فَرَجَعْتُ، وَأَنَا أَمْشِي فِي مِثْلِ الْحَمَّام، فَلَمَّا أَتَيْتُهُ، فَأَخْبَرْتُهُ بِخَبَرِ الْقَوْم، وَفَرَفْتُ، قُرِرْتُ، فَأَلْبَسَنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ فَضْلِ عَبَاءَةٍ، كَانَتْ عَلَيْه، يُصَلِّي فِيهَا، فَلَمْ أَزَلْ نَائِمًا، حَتَّى أَصْبَحْتُ، فَلَمَّا أَصْبَحْتُ قَالَ: "قُمْ يَا نَوْمَانُ

(1)

").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) تقدّم قريبًا.

2 -

(إِسْحَاقُ بْنُ إِبرَاهِيمَ) ابن راهويه، تقدّم قبل باب.

3 -

(جَرِيرُ) بن عبد الحميد الضبيّ، تقدّم أيضًا قبل باب.

4 -

(الأَعْمَشُ) سليمان بن مهران، تقدّم أيضًا قبل باب.

5 -

(إِبْرَاهِيمُ التَّيْمِيُّ) ابن يزيد، أبو أسماء الكوفيّ، ثقةٌ عابدٌ، إلا أنه يدلّس، ويرسل [5](ت 92)(ع) تقدم في "الإيمان" 78/ 406.

6 -

(أَبُوهُ) يزيد بن شريك بن طارق التيميّ الكوفيّ، ثقةٌ، يقال: إنه أدرك الجاهليّة [2] مات في خلافة عبد الملك (ع) تقدم في "الإيمان" 78/ 406.

7 -

(حُذَيْفَةُ) بن اليمان رضي الله عنهما المذكور في السند الماضي.

(1)

وفي نسخة: "حتى أصبحت، قال: قم".

ص: 268

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالكوفيين، سوى شيخيه، فالأول نسائيّ، ثم بغداديّ، والثاني مروزيّ، وفيه الابن عن أبيه، وتابعيّ، عن تابعيّ.

شرح الحديث:

(عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَبِيهِ) يزيد بن شريك، أنه (قَالَ: كُنَّا عِنْدَ حُذَيْفَةَ) بن اليمان رضي الله عنهما، (فَقَالَ رَجُلٌ) قال صاحب "التنبيه": لا أعرفه

(1)

، وذكر ابن إسحاق في "السيرة" أنه رجل من أهل الكوفة. (لَوْ) شرطيّة، جوابها "قاتلت"، قال في "الخلاصة":

"لَو"حَرْفُ شَرْطٍ فِي مُضِيٍّ وَيَقِلّ

إِيلَاؤُهُ مُسْتَقْبَلًا لَكِنْ قُبِلْ

(أدْرَكْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم)؛ أي: حياته وجهاده في سبيل الله تعالى، (قَاتَلْتُ) الكفّار (مَعَهُ) صلى الله عليه وسلم، (وَأَبْلَيْتُ) بالبناء للفاعل؛ أي: بالغت في ذلك، واجتهدت فيه حتى يظهر منّي ما يُبْتَلَى؛ أي: ما يُختبَر، وقد تقدّم أن أصل هذا اللفظ الاختبار، وأن فيه لغتين، جمعهما زُهير في قوله [من الطويل]:

جَزَى اللهُ بِالإِحْسَانِ مَا فَعَلَا بِكُمْ

فَأَبْلَاهُمَا خَيْرَ الْبَلَاءِ الَّذِي يَبْلُو

وقد قيل: إن "بلا" في الخير، و"أبلى"، في الشر، قاله القرطبيّ رحمه الله

(2)

.

وقال في "النهاية": قال القتبي: يقال من الخير: أبليته إبلاءً، ومن الشرّ: بَلَوتُهُ أَبْلُوهُ بَلاءً، والمعروف أن الابتلاء يكون في الخير والشرّ معًا، من غير فرق بين فعليهما، ومنه قوله تعالى:{وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء: 35]. انتهى

(3)

.

(فَقَالَ حُذَيْفَةُ) رضي الله عنه منكرًا على الرجل قوله هذا، (أَنْتَ كُنْتَ تَفْعَلُ ذَلِكَ؟) هو على تقدير همزة الاستفهام الإنكاريّ؛ أي: أأنت تفعل ذلك؟؛ أي: من القتال، والإبلاء، والمعنى: لست ممن يفعله، قال النوويّ رضي الله عنه: معنى كلام

(1)

"تنبيه المعلم" ص 309.

(2)

"المفهم" 3/ 646.

(3)

"النهاية" 1/ 155.

ص: 269

حذيفة رضي الله عنه أنه فَهِم من الرجل أنه لو أدرك النبيّ صلى الله عليه وسلم لبالغ في نُصرته، ولزاد على الصحابة رضي الله عنهم، فأخبره بخبره في ليلة الأحزاب، وقصدُهُ زجره عن ظنّه أنه يفعل أكثر من فعل الصحابة رضي الله عنه. انتهى

(1)

.

وقال ابن إسحاق رحمه الله في "السيرة": حدّثني يزيد بن زياد، عن محمد بن كعب الْقُرَظيّ، قال: قال رجل من أهل الكوفة لحذيفة بن اليمان: يا أبا عبد الله، أرأيتم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصحبتموه؟ قال: نعم يا ابن أخي، قال: فكيف كنتم تصنعون؟ قال: والله لقد كنّا نَجْهَد، قال: فقال: والله لو أدركناه ما تركناه يمشي على الأرض، ولحملناه على أعناقنا، قال: فقال حذيفة: يا ابن أخي، والله لقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخندق

فذكر الحديث

(2)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: لَمَّا قال هذا الرجل هذا الكلام، ولم يستثن فيه، فَهِمَ منه حذيفة رضي الله عنه الجزم، والقطع بأنه كذلك كان يفعل، فأنكر ذلك عليه، وأخبره بما يَفْهَم منه أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا أقوى في دين الله، وأحرص على إظهاره، وأحب في رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأشجع منك، ومع ذلك فقد انتهت بهم الشدائد، والمشاقّ إلى أن حصل منهم ما ذكره، وإذا كان هذا فغيرهم بالضَّعف أَولى.

وحاصله: أن الإنسان ينبغي له أن لا يتمنى الشدائد، والامتحان، فإنه لا يدري كيف يكون حاله فيها، فإن ابتُلِي صبر، وإن عوفي شكر. انتهى

(3)

.

وقال الأبيّ رحمه الله: قوله: "أنت تفعل ذلك؟ " إنكار على الرجل؛ لأنه فَهِمَ منه أنه يزيد على الصحابة، فأخبره بخبر ليلة الأحزاب، قال: ويَحْتَمِل أنه إنما أنكر عليه؛ لأنه أمر مغيّبٌ، لو حضَر لأمكن أن يعجز، كما سكت القوم، ولم يجبه أحدٌ؛ لعظم المشقّة، مع أنهم أحرص الناس على عمل البرّ، لا سيّما وقد ضمن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجعله الله تعالى معه يوم القيامة

(4)

.

(لَقَدْ رَأَيْتُنَا)؛ أي: رأيت أنفسنا أيها الصحابة، (مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةَ

(1)

"شرح النوويّ" 12/ 145.

(2)

"سيرة ابن هشام" 2/ 231.

(3)

"سيرة ابن هشام" 2/ 231 و"المفهم" 3/ 646 - 647.

(4)

راجع: "شرح الأبيّ" 5/ 130.

ص: 270

الأَحْزَابِ)؛ أي: ليلة من ليالي غزوة الأحزاب، وقوله:(وَأَخَذَتْنَا رِيحٌ شَدِيدَةٌ) جملة في محلّ نصب على الحال، والريح: الْهَوَاءُ المسخّر بين السماء والأرض، وهي مؤنّثة على الأكثر، فيقال: هي الريح، ولذا أنّث وَصْفها هنا، وقد تُذكّر على معنى الْهَوَاء، فيقال: هو الريح، وهَبَّ الريحُ، نقله أبو زيد، وقال ابن الأنباريّ: الريح مؤنّثة، لا علامة فيها، وكذلك سائر أسمائها، إلا الإعصار، فإنه مذكّر.

[تنبيه]: (اعلم): أن "الريح" أصلها واو بدليل تصغيرها على رُوَيْحَةٍ، ولكن قُلبت ياءً؛ لانكسار ما قبلها، والجمع: أَرْوَاحٌ، ورِيَاحٌ، وبعضهم يقول: أَرْيَاحٌ بالياء على لفظ الواحد، وغَلّطه أبو حاتم، قال: وسألته عن ذلك، فقال: ألا تراهم قالوا: رِيَاحٌ بالياء على لفظ الواحد، قال: فقلت له: إنما قالوا: رِيَاحٌ بالياء؛ للكسرة، وهي غير موجودة في أَرْيَاحٍ، فسَلَّمَ ذلك.

[تنبيه آخر]: الرِّيحُ أربع: الشَّمَالُ، وتأتي من ناحية الشام، وهي حارّة في الصيف، بَارحٌ

(1)

، والْجَنُوبُ: تقابلها، وهي الريح اليمانية، والثالثة: الصَّبَا، وتأتي من مطلع الشمس، وهي القَبول أيضًا، والرابعة: الدَّبُّورُ، وتأتي من ناحية المغرب، أفاده الفيّوميّ رحمه الله

(2)

.

(وَقُرٌّ) - بضمّ القاف، وتشديد الراء -، قال المجد رحمه الله: الْقُرّ بالضمّ: البردُ، أو يُخَصُّ بالشتاء، قال: وقُرّ الرجل بالضمّ: أصابه الْقُرّ، وأقرّه الله تعالى، فهو مقرورٌ، ولا تقل: قَرَّه، وقد قرّ يقرّ مثلّثة القاف. انتهى باختصار

(3)

.

وقال الفيّوميّ رحمه الله: قَرَّ اليومُ - أي: من باب ضرب -: بَرَدَ، والاسم: القُرُّ بالضم، فهو قَرٌّ تسميةً بالمصدر، وقَارٌّ، على الأصل؛ أي: باردٌ، وليلةٌ قَرَّةٌ، وقَارَّةٌ، وفي المثل:"وَلِّ حَارَّهَا مَنْ تَوَلَّى قارَّهَا"؛ أي: وَلِّ شَرَّها مَن تَوَلَّى خيرها، أو حَمِّلْ ثِقَلَكَ مَن ينتفع بك، وقَرَّتِ العين قُرَّة بالضمّ، وقُرُورًا: بَرَدَتْ سُرورًا، وفي الكلّ لغة أخرى، من باب تَعِبَ. انتهى

(4)

.

قال الجامع عفا الله عنه: أفاد كلام الفيّومي المذكور أن يقرّ من بابي

(1)

أي: حاملة للتراب.

(2)

"المصباح المنير" 1/ 244.

(3)

"القاموس المحيط" ص 1041.

(4)

"المصباح المنير" 2/ 496 - 497.

ص: 271

ضرب، وتَعِب، وما سبق عن المجد يدلّ على أنه مثلّث؛ أي: من باب نصر، وضرب، وتَعِب، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

(فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (أَلَا) أداة استفتاح وتنبيه (رَجُلٌ) مبتدأ سوّغه الوصف بما بعده، وخبره محذوف؛ أي: موجود (يَأْتِينِي بِخَبَرِ الْقَوْمِ؟)؛ أي: المشركين الذين تحزّبوا لقتال المسلمين.

وقال الأبيّ رحمه الله: قوله: "ألا رجلٌ؟ " هو حضّ لحواشي الجيش، ليس لأكابرهم؛ كأبي بكر رضي الله عنه، وأنظاره، حتى إنه لو أراد أبو بكر لنهاه، ولذا لم يُبادر أكابر الصحابة إلى الإجابة، وما ذاك إلا؛ لأنهم فَهِموا أن المراد غيرهم، وإلا فهم أسبق الناس إلى الخير، وأصبرهم على ارتكاب المشاقّ الدينيّة. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي قاله الأبيّ رحمه الله من أن قوله صلى الله عليه وسلم: "ألا رجل

إلخ" الحواشي الجيش لا لأكابرهم تأويل حسن موافق لحال أكابر الصحابة رضي الله عنه، لو ساعده النصّ، لكنك إذا تأملت إطلاق النصّ استبعدت ما قاله، فتأمله بالإمعان، والله تعالى أعلم.

وقوله: (جَعَلَهُ اللهُ مَعِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ") جملة في محل رفع صفة بعد صفة، وهو بمعنى المضارع؛ أي: يجعله الله تعالى معي في الجنّة؛ أي: مصاحبًا لي، وملازمًا لحضرتي، وكلُّ واحد منهما على منزلته في الجنّة، فإن منزلة النبيّ صلى الله عليه وسلم لا يلحقها أحد، قاله القرطبيّ رحمه الله

(2)

.

(فَسَكَتْنَا، فَلَمْ يُجبْهُ مِنَّا أَحَدٌ) هذا يدلّ على مدى شدّة المشقّة، والنصب الذي لحق بالصحابة رضي الله عنهم في تلك الغزوة، وإلا فإنهم كانوا أسرع الناس إجابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأكثرهم شوقًا إلى الاستشهاد في سبيل الله، وأقواهم استعدادًا لاقتحام الأخطار والمتاعب في سبيل الله تعالى، ولم يكونوا ليتخلّفوا عما يدعوهم إليه صلى الله عليه وسلم بهذه البشارة العظيمة ثلاث مرّات، فسكوتهم في ذلك الحين لا يمكن إلا إذا بلغوا من التعب والنصب نهايته، بما أدّاهم إلى حال الاضطرار الشديد، رضي الله عنهم أجمعين

(3)

.

(1)

"شرح الأبيّ" 5/ 130.

(2)

"المفهم" 3/ 647.

(3)

راجع: "تكملة فتح الملهم" 3/ 190.

ص: 272

(ثُمَّ قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("أَلَا رَجُلٌ يَأْتِينَا بِخَبَرِ الْقَوْمِ؛ جَعَلَهُ اللهُ مَعِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ"، فَسَكَتْنَا، فَلَمْ يُجِبْهُ مِنَّا أَحَدٌ، ثُمَّ قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("أَلَا رَجُلٌ يَأْتِينَا بِخَبَرِ الْقَوْم؟ جَعَلَهُ اللهُ مَعِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ"، فَسَكَتْنَا، فَلَمْ يُجِبْهُ مِنَّا أَحَدٌ، فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("قُمْ يَا حُذَيْفَةُ، فَأْتِنَا بِخَبَرِ الْقَوْم"، فَلَمْ أَجِدْ بُدًّا) بضمّ الموحّدة؛ أي: غنًى، وكفاية، يقال: لا بُدّ من كذا؛ أَي: لا مَحِيدَ عنه، ولا يُعرف استعماله إلا مقرونًا بالنفي، قاله الفيّومي

(1)

.

والمعنى: لم أجد من يكفيني، ويقوم مقامي في ذلك، (إِذْ) تعليليّة؛ أي: لأنه صلى الله عليه وسلم (دَعَانِي بِاسْمِي)؛ أي: عيّنني باسمي الخاصّ، وقوله:(أَنْ أَقُومَ) في تأويل المصدر مجرور بـ "من" مقدّرة متعلّق بـ "ببُدًّا"، (قَالَ: اذْهَبْ فَأْتِنِي بِخَبَرِ الْقَوْم، وَلَا تَذْعَرْهُمْ عَلَيَّ) - بفتح التاء المثنّاة فوقُ، وسكون الذال المعجمة، وفتح العين المهملة: يقال: ذَعَرته ذَعْرًا، من باب نَفَعَ: أفزعته، والذُّعْرُ بالضمّ اسم منه

(2)

.

وقال النوويّ رحمه الله: معناه: لا تُفزعهم، ولا تحرّكهم، فتُهيّجهم عليّ، وقيل: معناه: لا تُنفّرهم، وهو قريب من المعنى الأول، والمراد: لا تحرّكهم عليك، فإنهم إن أخذوك كان ذلك ضررًا عليّ؛ لأنك رسولي، وصاحبي. انتهى

(3)

.

(فَلَمَّا وَلَّيْتُ)؛ أي: أدبرتُ وذهبت، (مِنْ عِنْدِهِ) صلى الله عليه وسلم، (جَعَلْتُ)؛ أي: شرعت، وأخذت (كَأَنَّمَا أَمْشِي في حَمَّامٍ) - بفتح الحاء المهملة، وتشديد الميم - قال المجد رحمه الله: "الْحَمّامُ؛ كشدّاد: الدِّيماسُ

(4)

، مذكّرٌ

(5)

، جمعه حمّامات". انتهى

(6)

.

(1)

"المصباح المنير"" 1/ 208.

(2)

"المصباح المنير" 1/ 38.

(3)

"شرح النوويّ" 12/ 145.

(4)

في "القاموس": الدِّيْمَاسُ - أي: بالفتح - ويُكسر: الْكِنُّ، والسَّرَبُ، والْحَمَّامُ. اهـ.

(5)

وكونه مذكّرًا هو الذي سيأتي عن "القاموس"، وهو الذي مشى عليه في شرحه "التاج"، وما قاله الفيّومي من أن تأنيثه هو الأغلب، نقل في "التاج" عن بعضهم تغليطه، فليُراجع.

(6)

"القاموس المحيط" ص 323.

ص: 273

وقال الفيّوميّ رحمه الله: الْحَمّامُ مثقّل: معروفٌ، والتأنيث أغلب، فيقال: هي الْحَمّامُ، وجمعها حمّاماتٌ على القياس، ويُذَكَّر، فيقال: هو الْحَمّامُ. انتهى

(1)

.

وقال النوويّ رحمه الله: لفظة "الحمّام" عربية، وهو مُذَكَّر، مشتقّ من الحميم، وهو الماء الحارّ.

ومعنى كلام حذيفة رضي الله عنه هذا أنه لم يجد البرد الذي يجده الناس، ولا من تلك الريح الشديدة شيئًا، بل عافاه الله منه، ببركة إجابته للنبيّ صلى الله عليه وسلم، وذهابِهِ فيما وجهّه له، ودعائه صلى الله عليه وسلم له، واستمَرَّ ذلك اللطف به، ومعافاته من البرد، حتى عاد إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فلما رجع، ووصل عاد إليه البرد الذي يجده الناس، وهذه من معجزات رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله تعالى أعلم

(2)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "كأنما أمشي في حَمَّام"؛ أي: لم يصبه شيء من ذلك البرد ببركة طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي من كراماته، ألا ترى أنه لما فَرَغ من ذلك العمل أخذه البرد كما كان أول مرة؟! انتهى

(3)

.

(حَتَّى أَتَيْتُهُمْ)؛ أي: القوم المتحزّبين، (فَرَأَيْتُ أَبا سُفْيَانَ) صخر بن حرب، (يَصْلِي ظَهْرَهُ بِالنَّارِ) - بفتح الياء، وإسكان الصّاد -؛ أي: يُسخّنه، ويُدنيه منها، وهو الصَّلا - بفتح الصاد، والقصر - والصِّلاء - بكسرها، والمد -، قاله النوويّ

(4)

.

وقال الفيّوميّ رحمه الله: صَلِيَ بالنار، وصَلِيهَا صَلًى، من باب تَعِبَ: وَجَدَ حَرّها، والصِّلاءُ، وزانُ كتاب: حرّ النار، وصَلَيْتُ اللحمَ أَصْلِيه، من باب رَمَى: شَوَيْتُهُ. انتهى

(5)

.

وقال المجد رحمه الله: صَلَى اللَّحمَ يَصْليه صَلْيًا: شَوَاه، أو ألقاه في النار للإحراق؛ كأصلاه، وصَلَّاهُ، وَيدَه بالنار: سَخَّنَها، قال: وَصَلِيَ النارَ؛ كرَضِيَ، وبها صُلِيًّا، وصِلِيًّا، وصَلَاءً، ويُكسَرُ: قاسى حرّها. انتهى

(6)

.

(1)

"المصباح المنير" 1/ 152 - 153.

(2)

"شرح النوويّ" 12/ 146.

(3)

"المفهم" 3/ 648.

(4)

"شرح النوويّ" 12/ 146.

(5)

"المصباح المنير" 1/ 346.

(6)

"القاموس المحيط" ص 752.

ص: 274

(فَوَضَعْتُ سَهْمًا فِي كَبِدِ الْقَوْسِ)؛ أي: وسطها حيث يَقبِض الرامي، قال الخليل: كَبِدُ كلِّ شيء: وسطه

(1)

. (فَأَرَدْتُ أَنْ أَرْمِيَهُ)؛ أي: أبا سفيان، (فَذَكَرْتُ قَوْلَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"وَلَا تَذْعَرْهُمْ عَلَيَّ")؛ أي: لا تُفزعهم، وتُحرّكهم، (وَلَوْ رَمَيْتُهُ لأَصَبْتُهُ)؛ أي: لكونه قريبًا منه، وعند ابن هشام:"قال: فذهبت، فدخلت في القوم، والريح، وجنود الله تفعل بهم ما تفعل، لا تُقِرّ لهم قِدْرًا، ولا نارًا، ولا بناءً، فقام أبو سفيان، فقال: يا معشر قريش: لينظر امرؤ من جليسه؟ قال حذيفة: فأخذت بيد الرجل الذي كان إلى جنبي، فقلت: من أنت؟ قال: فلان بن فلان"

(2)

.

(فَرَجَعْتُ) إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقوله:(وَأَنَا أَمْشِي فِي مِثْلِ الْحَمَّامِ) جملة في محلّ نصب على الحال من الفاعل، (فَلَمَّا أَتَيْتُهُ) صلى الله عليه وسلم (فَأَخْبَرْتُهُ بِخَبَرِ الْقَوْمِ)؛ أي: بما حصل لهم من البرد، والريح الشديد، وأزعجهم، وقد ذكر ابن هشام ما حصل لهم، وما قاله أبو سفيان لجيشه في ذلك، فقال:"ثم قال أبو سفيان: يا معشر قريش، إنكم والله ما أصبحتم بدار مُقام، لقد هَلَك الْكُراع، والْخُفّ، وأخلفتنا بنو قريظة، وبلغنا عنهم الذي نكره، ولقينا من شِدّة الريح ما ترون، ما تطمئنّ لنا قِدْرٌ، ولا تقوم لنا نار، ولا يستمسك لنا بناءُ، فارتحلوا، فإني مرتحلٌ، ثم قام إلى جمله، وهو معقول، فجلس عليه، ثم ضربه، فوثب به على ثلاث، فوالله ما أَطلق عقاله إلا وهو قائم، ولولا عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إليّ: "أن لا تُحدِث شيئًا حتى تأتيني"، ثم شئت، لقتلته بسهم، قال: وسَمِعت غَطَفانُ بما فعلت قريش، فانشمَرُوا راجعين إلى بلادهم

(3)

.

قال الجامع عفا الله عنه: وهذا ما أخبر الله عز وجل به بقوله: {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا (25)} [الأحزاب: 25].

(وَفَرَغْتُ، قُرِرْتُ) - بضمّ القاف مبنيًّا للمفعول؛ أي: أصابني القُرّ؛ أي: البرد، (فَأَلْبَسَنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ فَضْلِ عَبَاءَةٍ) قال النوويّ رحمه الله:"الْعَبَاءة"

(1)

"المفهم" 3/ 648.

(2)

"سيرة ابن هشام" 2/ 231.

(3)

"سيرة ابن هشام" 2/ 232.

ص: 275

- بالمدّ -، والْعَبَاية بزيادة ياء، لغتان مشهورتان، معروفتان، والجمع: عَبَاءٌ بحذف الهاء، وعباآتٌ أيضًا. انتهى

(1)

.

وقال المجد رحمه الله: "الْعَابَاءُ": كساءٌ معروفٌ؛ كالعَبَاءة. انتهى

(2)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: "العباءة" - بفتح العين، والمدّ -: هي الشملة، وهي كساء يُشْتَمَل به؛ أي: يُلْتَفُّ فيه. انتهى

(3)

.

وفي رواية ابن هشام رحمه الله: "قال حذيفة: فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو قائم يصلي في مِرْط لبعض نسائه مَرَاجل - قال ابن هشام: المراجل: ضرب من وَشْي اليمن - فلما رآني أدخلني إلى رجليه، وطَرَح عليّ طَرَفَ الْمِرْط، ثم ركعَ وسجد، وإني لفيه، فلما سلّم أخبرته الخبر. انتهى

(4)

.

(كَانَتْ عَلَيْه، يُصَلِّي فِيهَا، فَلَمْ أَزَلْ نَائِمًا، حَتَّى أَصْبَحْتُ)؛ أي: دخلت في الصباح حين طلع الفجر، (فَلَمَّا أَصْبَحْتُ قَالَ: (قُمْ يَا نَوْمَانُ"

(5)

" هو - بفتح النون، وإسكان الواو، وهو كثير النوم، وأكثر ما يُستعمل في النداء، كما استعمله هنا، قاله النوويّ رحمه الله.

قال الجامع عفا الله عنه: "نَوْمانُ" من الأسماء التي لازمت النداء، وقد ذكر بعضها ابن مالك رحمه الله في "الخلاصة"، فقال:

و"فُلُ" بعْضُ مَا يَخْتَصُّ بِالندَا

"لُومَانُ""نَوْمَانُ" كَذَا وَاطَّرَدَا

فِي سَبِّ الانْثَى وَزَنُ "يَا خَبَاثِ"

وَالأَمْرُ هَكَذَا مِنَ الثُّلَاثِي

وَشَاعَ فِي سَبِّ الذُّكُورِ "فُعَلُ"

وَلَا تَقِسْ وَجُرَّ فِي الشِّعْرِ "فُلُ"

وقال القرطبيّ رحمه الله: نسبه إلى النوم؛ لأنه نام حتى دخل عليه وقت صلاة الصبح

(6)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1)

"شرح النوويّ" 12/ 146 بزيادة من "المصباح" 2/ 391.

(2)

"القاموس المحيط" ص 830.

(3)

"المفهم، 3/ 648.

(4)

"سيرة ابن هشام" 2/ 231.

(5)

وفي نسخة: "حتى أصبحت، قال: قم".

(6)

"المفهم" 3/ 648.

ص: 276

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث حُذيفة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [34/ 4631](1788)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(7125)، و (البزّار) في "مسنده"(1809)، و (الحاكم) في "المستدرك"(3/ 31)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 319)، و (أبو نعيم) في "الحلية"(1/ 354)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(9/ 148 - 149) و"دلائل النبوّة"(3/ 449 - 450)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): أن في إنكار حذيفة على الرجل قوله: "لو أدركت رسول الله صلى الله عليه وسلم

إلخ" بيان أنه لا ينبغي أن يتمنّى الشدائد، والامتحانات؛ لأنه لا يدري كيف يكون حاله فيها؛ ولهذا المعنى قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "يا أيها الناس، لا تتمنوا لقاء العدوّ، واسألوا الله العافية، فإذا لقيتم، فاصبروا

" الحديث، متّفقٌ عليه.

والحاصل أنه ينبغي للعبد أن لا يتمنّى الابتلاء، والامتحان؛ لما ذكرناه، ولكن إذا ابتلي صبر، وثَبَت، ودعا الله تعالى أن يثبّته عليه، فإنه سبحانه وتعالى وعد بذلك، فقال:{يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [إبراهيم: 27].

2 -

(ومنها): بيان ما حلّ بالمسلمين في غزوة الأحزاب من شدّة الحال، بحيث منعهم ذلك من استجابة دعوة النبيّ صلى الله عليه وسلم في الاستطلاع على العدوّ، مع أنهم أحرص الناس على استجابته إلا أن شدّة الحال اضطرّهم إلى السكوت.

3 -

(ومنها): بيان فضل حذيفة رضي الله عنه حيث عيّنه النبيّ صلى الله عليه وسلم شأن الاستطلاع، وقد أخبرهم بأن من فعل ذلك يكون معه يوم القيامة.

4 -

(ومنها): بيان معجزة للنبيّ صلى الله عليه وسلم، وكرامة لحذيفة رضي الله عنه، وذلك أنه لما استجاب لدعوته انطلق إلى القوم؛ كأنما يمشي في حمّام، مع شدّة البرد، والريح، واستمرّ له ذلك إلى أن قضى مهمّته، وعاد إليه صلى الله عليه وسلم.

ص: 277

5 -

(ومنها): بيان أنه ينبغي للإمام، وأمير الجيش بعث الجواسيس، والطلائع؛ لكشف خبر العدوّ.

6 -

(ومنها): جواز الصلاة في الصوف، قال النوويّ رحمه الله: وهو جائز بإجماع مَن يُعْتَدّ به، وسواء الصلاة عليه، وفيه، ولا كراهية في ذلك، قال العبدريّ من أصحابنا: وقالت الشيعة: لا تجوز الصلاة على الصوف، وتجوز فيه، وقال مالك: يُكره كراهة تنزيه. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(35) - (بَابُ غَزْوَةِ أُحُدٍ)

مسائل تتعلّق بهذه الترجمة:

(المسألة الأولى): في ضبط "لفظ أُحُدٌ"، واشتقاقه، قال الفيّوميّ رحمه الله:"أُحُدٌ" - بضمّتين -: جبَل بقرب مدينة النبيّ صلى الله عليه وسلم، من جهة الشام، وكانت به الوقعة المشهورة، في شوّال، سنة ثلاث من الهجرة، وهو مذكّر، فينصرف، وقيل: يجوز تأنيثه على توهّم الْبُقعة، فيُمنَع من الصرف، وليس هذا القول بالقويّ. انتهى

(2)

.

وقال في "التاج": أُحُدٌ - بضمّتين - جبلٌ بالمدينة، وقال الزمخشريّ: رأيت بخطّ المبرّد "أُحْد" بكون الحاء منوّنًا، قال: وأنكره جماعة، وقالوا: إنه لا يُسكّن إلا في الضرورة، ولعلّ رآه كذلك. انتهى بتصرّف

(3)

.

وقال في "الفتح": "أُحُدٌ" - بضم الهمزة، والمهملة -: جبل معروف، بينه وبين المدينة أقلّ من فرسخ، وهو الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم:"هذا جَبل يُحبّنا، ونحبّه"، كما سبق في "كتاب الحجّ".

وقال السهيليّ رحمه الله: سُمّيَ أُحُدًا؛ لتوحّده، وانقطاعه عن جبال أخرى، أو لِمَا وقَعَ من أهله من نَصْر التوحيد.

(1)

"شرح النوويّ" 3/ 146.

(2)

راجع: "المصباح المنير" 1/ 6.

(3)

"تاج العروس من جواهر القاموس" 2/ 288.

ص: 278

ونقل السهيليّ عن الزبير بن بكار في فضل المدينة أن قبر هارون عليه السلام بأُحد، وأنه قَدِمَ مع موسى عليه السلام في جماعة من بني إسرائيل حُجّاجًا، فمات هناك.

قال الحافظ رحمه الله: وسند الزبير بن بكار في ذلك ضعيف جدًّا، من جهة شيخه محمد بن الحسن بن زِبالة، ومنقطع أيضًا، وليس بمرفوع. انتهى

(1)

.

(المسألة الثانية): في اختلاف أهل العلم في وقت غزوة أُحد:

قال في "الفتح": كانت عنده وقعة أُحُد في شوال سنة ثلاث، باتفاق الجمهور، وشَذّ من قال: سنة أربع، قال ابن إسحاق: لإحدى عشرة ليلةً خلت منه، وقيل: لسبع ليال، وقيل: لثمان، وقيل: لتسع، وقيل: في نصفه، وقال مالك: كانت بعد بدر بسنة، وفيه تجوُّزٌ؛ لأن بدرًا كانت في رمضان باتفاق، فهي بعدها بسنة وشهر لم يَكْمُل، ولهذا قال مرّةً أخرى: كانت بعد الهجرة بأحد وثلاثين شهرًا. انتهى

(2)

.

(المسألة الثالثة): في بيان سبب غزوة أُحُد:

(اعلم) أن سببها هو ما ذكره ابن إسحاق عن شيوخه، وموسى بن عقبة، عن ابن شهاب، وأبو الأسود، عن عروة، وهذا مُلَخّص ما ذكره موسى بن عقبة، في سياق القصّة كلِّها، قال: لمّا رجعت قريشٌ استجلبوا من استطاعوا من العرب، وسار بهم أبو سفيان، حتى نزلوا ببطن الوادي، من قبل أُحُد، وكان رجال من المسلمين أَسِفُوا

(3)

على ما فاتهم من مشهد بدر، وتَمَنَّوا لقاء العدوّ، ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجمعة رؤيا، فلما أصبح قال:"رأيت البارحة في منامي بَقَرًا تُذْبَح، والله خيرٌ وأبقى، ورأيت سيفي ذا الْفَقَار انقصم من عند ظُبَته - أو قال -: به فُلُولٌ، فكرِهته، وهما مصيبتان، ورأيت أني في دِرْعٍ حَصِينة، وأني مُردف كبشًا"، قالوا: وما أوّلتها؛ قال: "أوّلت البقر بَقْرًا يكون فينا، وأولت الكبش كبش الكتيبة، وأولت الدرع الحصينة المدينة، فامكثوا، فإن دَخَل القوم الأَزِقّة قاتلناهم، ورُمُوا من فوق البيوت"، فقال أولئك القوم:

(1)

"الفتح" 9/ 108 - 109 و 159، كتاب "المغازي".

(2)

"الفتح" 9/ 109، كتاب "المغازي".

(3)

من باب تَعِبَ؛ أي: حزِنُوا.

ص: 279

يا نبي الله كنا نتمنّى هذا اليوم، وأبى كثير من الناس إلا الخروج، فلما صلى الجمعة، وانصرف دعا باللَّأَمَة، فلبسها، ثم أَذَّن في الناس بالخروج، فنَدِم ذوو الرأي منهم، فقالوا: يا رسول الله امكُث كما أمرتنا، فقال:"ما ينبغي لنبيّ إذا أَخَذَ لَأَمَةَ الحرب أن يرجع حتى يقاتل".

فخرج بهم، وهم ألف رجل، وكان المشركون ثلاثة آلاف، حتى نزل بأُحُد، ورجع عنه عبد الله بن أبي ابنُ سَلُول في ثلاثمائة، فبقي في سبعمائة، فلما رجع عبد الله سقط في أيدي طائفتين من المؤمنين، وهما بنو حارثة، وبنو سَلِمة، وَصَفّ المسلمون بأصل أُحد، وصفّ المشركون بالسَّبِخة، وتَعَبَّوا للقتال، وعلى خيل المشركين، وهي مائة فرس خالد بن الوليد، وليس مع المسلمين فَرَس.

وصاحب لواء المشركين طلحة بن عثمان، وأَمَّر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن جبير على الرُّماة، وهم خمسون رجلَا، وعَهِد إليهم أن لا يتركوا منازلهم.

وكان صاحب لواء المسلمين مصعب بن عُمير، فبارز طلحة بن عثمان فقتله، وحَمَل المسلمون على المشركين حتى أجهضوهم عن أثقالهم، وحَملت خيل المشركين، فنضحتهم الرُّماة بالنَّبْل ثلاث مرات، فدخل المسلمون عسكر المشركين، فانتبهوهم، فرأى ذلك الرماة، فتركوا مكانهم، ودخل العسكر، فأبصر ذلك خالد بن الوليد، ومن معه، فحملوا على المسلمين في الخيل، فمزقوهم، وصَرَخ صارخ: قُتل محمد، أخراكم، فعَطَف المسلمون يقتل بعضهم بعضًا، وهم لا يشعرون، وانهزم طائفة منهم إلى جهة المدينة، وتفرق سائرهم، ووقع فيهم القتل، وثبت نبيّ الله صلى الله عليه وسلم حين انكشفوا عنه، وهو يدعوهم في أُخراهم، حتى رجع إليه بعضهم، وهو عند الْمِهْراس في الشِّعْب، وتوجه النبيّ صلى الله عليه وسلم يلتمس أصحابه، فاستقبله المشركون، فَرَمَوا وجهه، فأدموه، وكسروا رَبَاعيته، فَمَرّ مصعدًا في الشِّعب، ومعه طلحة، والزبير، وقيل: معه طائفة من الأنصار، منهم سهل ابن بيضاء، والحارث بن الصِّمّة، وشُغل المشركون بقتلى المسلمين، يُمثِّلون بهم، يقطعون الآذان، والأنوف، والفروج، وَيبقُرون البطون، وهم يظنون أنهم أصابوا النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأشراف أصحابه، فقال أبو سفيان، يفتخر بآلهته: اعْلُ هُبَل، فناداه عمر: الله أعلى وأجلّ، ورجع

ص: 280

المشركون إلى أثقالهم، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم لأصحابه:"إن رَكِبوا، وجعلوا الأثقال تتبع آثار الخيل، فهم يريدون البيوت، وإن رَكِبُوا الأثقال، وتجنبوا الخيل فهم يريدون الرجوع"، فتبعهم سعد بن أبي وقاص، ثم رجع، فقال: رأيت الخيل مجنوبة، فطابت أنفس المسلمين، ورجعوا إلى قتلاهم، فدفنوهم في ثيابهم، ولم يغسلوهم، ولم يصلوا عليهم، وبَكَى المسلمون على قتلاهم، فَسُرّ المنافقون، وظهر غَشّ اليهود، وفارت المدينة بالنفاق، فقالت اليهود: لو كان نبيًّا ما ظهروا عليه، وقالت المنافقون: لو أطاعونا ما أصابهم هذا.

(المسألة الرابعة): في بيان ما ذكره أهل العلم من الْحِكَم الجليلة، والفوائد النبيلة في قصّة غزوة أُحُد:

(اعلم) أن العلماء قالوا: كان في قصة أُحُد، وما أصيب به المسلمون فيها من الفوائد، والْحِكَم الربانية، أشياء عظيمة:

1 -

(منها): تعريف المسلمين سوء عاقبة المعصية، وشؤم ارتكاب النهي؛ لِمَا وقع من ترك الرُّماة موقفهم الذي أمرهم الرسول صلى الله عليه وسلم أن لا يبرحوا منه.

2 -

(ومنها): أن عادة الرسل أن تُبْتَلَى، وتكون لها العاقبة، كما تقدم في قصّة هرقل مع أبي سفيان، والحكمة في ذلك أنهم لو انتصروا دائمًا دخل في المؤمنين من ليس منهم، ولم يتميّز الصادق من غيره، ولو انكسروا دائمًا لم يحصل المقصود من البعثة، فاقتضت الحكمة الجمع بين الأمرين، لتمييز الصادق من الكاذب، وذلك أن نفاق المنافقين كان مخفيًّا عن المسلمين، فلمّا جرت هذه القصة، وأظهر أهل النفاق ما أظهروه من الفعل والقول، عاد التلويح تصريحًا، وعَرَفَ المسلمون أن لهم عدوًّا في دُورهم، فاستعدُّوا لهم، وتحرّزوا منهم.

3 -

(ومنها): أن في تأخير النصر في بعض المواطن هَضْمًا للنفس، وكسرًا لشَمَاختها، فلما ابْتُلِي المؤمنون صبروا، وجَزِع المنافقون.

4 -

(ومنها): أن الله تعالى هيّأ لعباده المؤمنين منازل في دار كرامته، لا تبلغها أعمالهم، فقيّض لهم أسباب الابتلاء والمحن؛ لِيَصِلوا إليها.

5 -

(ومنها): أن الشهادة من أعلى مراتب الأولياء، فساقها إليهم.

6 -

(ومنها): أنه أراد إهلاك أعدائه، فقيّض لهم الأسباب التي يستوجبون

ص: 281

بها ذلك من كفرهم، وبغيهم، وطغيانهم في أذى أوليائه، فمَحَّصَ بذلك ذنوب المؤمنين، ومَحَقَ بذلك الكافرين

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4632]

(1789) - (وَحَدثنَا هَدَّابُ بْنُ خَالِدٍ الأَزدِيُّ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ عَلِيٍّ بْنِ زيدٍ، وَثَابتٍ الْبُنَانِيُّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أُفْرِدَ يَوْمَ أُحُدٍ، فِي سَبْعَةٍ مِنَ الَأنصَار، وَرَجُلَيْنِ مِنْ قُرَيْشٍ، فَلَمَّا رَهِقُوهُ، قَالَ: "مَنْ يَرُدُّهُمْ عَنَّا، وَلَهُ الْجَنَّةُ، أَوْ هُوَ رَفِيقِي فِي الْجَنَّةِ؟ "، فَتَقَدَّمَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَار، فَقَاتَلَ، حَتَّى قُتِلَ، ثُمَّ رَهِقُوهُ أَيْضًا، فَقَالَ: "مَنْ يَرُدُّهُمْ عَنَّا، وَلَهُ الْجَنَّةُ، أَوْ هُوَ رَفِيقِي فِي الْجَنَّةِ؟ "، فَتَقَدَّمَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَار، فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ، فَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى قُتِلَ السَّبْعَةُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِصَاحِبَيْهِ: "مَا أَنْصَفْنَا أَصْحَابَنَا").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(هَدَّابُ بْنُ خَالِدٍ الأَزْدِيُّ) أبو خالد البصريّ، ثقةٌ عابدٌ، تفرّد النسائيّ بتليينه، من صغار [9] مات سنة بضع و (23)(خ م د) تقدم في "الإيمان" 11/ 151.

[تنبيه]: قوله: (الأَزْدِيُّ) قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في جميع النسخ: "الأزديّ"، وكذا قاله البخاريّ في "التاريخ"، وابن أبي حاتم في كتابه، وغيرهما، وذكره ابن عديّ، والسمعانيّ، فقالا: هو قيسيّ، فقد ذكر البخاريّ أخاه أُمَيّة بن خالد، فنسبه قيسيًّا، وذكره الباجيّ، فقال: القيسيّ الأزديّ، قال القاضي عياض: هذان نسبان في الظاهر مختلفان؛ لأن الأزد من اليمن، وقيس من مَعَدّ، قال: ولكن قيس هنا ليس قيس عَيلان، بل قيس بن ثوبان، من الأزد، فتصح النسبتان، قال القاضي: وقد جاء مثل هذا في "صحيح مسلم" في زياد بن رَبَاح القيسيّ، ويقال: رياح، كذا نَسَبَه مسلم في غير موضع: القيسيّ، وقال في "النذور": التيميّ، قيل: لعله من تيم بن قيس بن ثعلبة بن بكر بن وائل، فيجتمع النسبان، وإلا فتيم قريش لا تجتمع هي وقيس، هذا كلام القاضي

(2)

.

(1)

راجع: "الفتح" 9/ 110 - 111، كتاب "المغازي".

(2)

"إكمال المعلم" 6/ 162.

ص: 282

وقد سبق بيان ضبط هَدّاب هذا مَرّات، وأنه بفتح الهاء، وتشديد الدّال، وأنه يقال له: هُدْبة، بضم الهاء، قيل: هُدْبة اسم، وهَدَّاب لقَبٌ، وقيل: عكسه. انتهى

(1)

.

2 -

(عَلِيُّ بْنُ زَيْدِ) بن عبد الله بن زُهير بن عبد الله بن أبي مُليكة زُهير بن عبد الله بن جُدْعان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مُرّة التيميّ، أبو الحسن البصريّ، أصله من مكة، وهو المعروف بعليّ بن زيد بن جُدعان، يُنسب أبوه إلى جدّ جدّه، ضعيف [4].

روى عن أنس بن مالك، وسعيد بن المسيب، والحسن البصريّ، وغيرهم.

وروى عنه قتادة، ومات قبله، والحمادان، وزائدة، والسفيانان، وسفيان بن حسين، وشعبة، قال ابن سعد: وُلد وهو أعمى، وكان كثير الحديث، وفيه ضَعف، ولا يُحتجّ به، وقال صالح بن أحمد عن أبيه: ليس بالقويّ، وقد روى عنه الناس، وقال حنبل عن أحمد: ضعيف الحديث، وقال معاوية بن صالح عن يحيى: ضعيف، وقال العجليّ: كان يتشيع، لا بأس به، وقال مرة: يُكتب حديثه، وليس بالقويّ، وقال يعقوب بن شيبة: ثقةٌ صالح الحديث، وإلى اللِّين ما هو، وقال الْجُوزَجانيّ: واهي الحديث، ضعيف، وفيه ميل عن القصد، لا يُحتج بحديثه، وقال أبو زرعة: ليس بقويّ، وقال أبو حاتم: ليس بقويّ، يُكتب حديثه، ولا يحتجّ به، وهو أحب إلي من يزيد بن زياد، وكان ضريرًا، وكان يتشيع، وقال الترمذيّ: صدوق، إلا أنه ربما رفع الشيء الذي يوقفه غيره، وقال النسائيّ: ضعيف، وقال ابن خزيمة: لا أحتج به؛ لسوء حفظه، وقال ابن عديّ: لم أر أحدًا من البصريين وغيرهم امتنع من الرواية عنه، وكان يغلو في التشيع، ومع ضَعفه يُكتب حديثه، وقال الحاكم أبو أحمد: ليس بالمتين عندهم، وقال الدارقطنيّ: أنا أقف فيه، لا يزال عندي فيه لين، وقال معاذ بن معاذ، عن شعبة: حدّثنا عليّ بن زيد قبل أن يَختلط، وقال أبو الوليد وغيره، عن شعبة: ثنا عليّ بن زيد، وكان رَفّاعًا، وقال سليمان بن

(1)

"شرح النوويّ" 12/ 147.

ص: 283

حرب، عن حماد بن زيد: ثنا عليّ بن زيد، وكان يقلب الأحاديث، وفي رواية: كان يحدّثنا اليوم بالحديث، ثم يحدّثنا غدًا، فكأنه ليس ذلك، وقال عمرو بن عليّ: كان يحيى بن سعيد يتقي الحديث عن عليّ بن زيد، حدّثنا عنه مرةً، ثم تركه، وقال: دَعْهُ، وكان عبد الرحمن يحدّث عن شيوخه عنه، وقال أبو معمر القَطِيعيّ، وقال يزيد بن زريع: رأيته، ولم أحمل عنه؛ لأنه كان رافضيًّا، وقال أبو سلمة: كان وهيب يضغف عليّ بن زيد، قال أبو سلمة: فذكرت ذلك لحماد بن سلمة، فقال: ومن أين كان يَقْدِر وهيب على مجالسة عليّ؟ إنما كان يجالس عليّ وجوه الناس، وقال ابن الجنيد: قلت لابن معين: عليّ بن زيد اختلط؟ قال: ما اختلط قطّ، وقال خالد بن خِدَاش، عن حماد بن زيد: سمعت سعيد الْجُريري يقول: أصبح فقهاء البصرة عُميان: قتادة، وعليّ بن زيد، وأشعث الحدّاني.

قال الحضرميّ: مات سنة (129)، وقال خليفة: مات سنة (31).

أخرج له البخاري في "الأدب المفرد"، والمصنف، والأربعة، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث، أخرج له مقرونًا بثابت.

والباقون تقدّموا قبل بابين.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (311) من رباعيّات الكتاب، وأنه مسلسل بالبصريين، من أوله إلى آخره، وفيه أنس رضي الله عنه، وتقدّم الكلام عليه قريبًا.

شرح الحديث:

(عَنْ أنسِ بْنِ مَالِكٍ) رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أُفْرِدَ) بالبناء للمفعول؛ أي: جُعل منفردًا، يقال: فَرَدَ يَفْرُدُ، من باب قَتَلَ: صار فَرْدًا، وأفردته بالألف: جعلته كذلك، قاله الفيّوميّ

(1)

. (يَوْمَ أُحُدٍ) منصوب على الظرفيّة؛ أي: يوم غزوة أُحُد، وقوله:(فِي سَبْعَةٍ) متعلّق بحال مقدّر؛ أي: حال كونه كائنًا في جملة

(1)

"المصباح المنير" 2/ 466 - 467.

ص: 284

سبعة (مِنَ الأَنْصَارِ)، وقوله:(وَرَجُلَيْنِ) بالجرّ عطفًا على سبعة، (مِنْ قُرَيْشٍ، فَلَمَّا رَهِقُوهُ)؛ أي: غَشيه العدوّ، ولَحِقوه، وهو مكسور الهاء ثلاثيًّا، ويقال: أرهقه رباعيًّا، بمعناه، ومنه قوله تعالى:{وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا} [الكهف: 73]، قال ابن الأعرابيّ: رَهِقْتُهُ، وأرهقته بمعنى واحد، ذكره القرطبيّ

(1)

.

وقال النوويّ: قوله: "فلما رَهِقُوه" هو بكسر الهاء؛ أي: غَشُوه، وقَرُبُوا منه، يقال: أرهقه؛ أي: غَشِيه، قال صا حب "الأفعال": رَهِقْتُهُ، وأرهقته؛ أي: أدركته، قال القاضي عياض في "المشارق": قيل: لا يُستعمل ذلك إلا في المكروه، قال: وقال ثابتٌ: كلُّ شيء دَنَوْتَ منه، فقد رَهِقْتَه، والله أعلم. انتهى

(2)

.

(قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("مَنْ يَرُدُّهُمْ)؛ أي: المشركين الذي رَهِقُوه، (عَنَّا، وَلَهُ الْجَنَّةُ، أَوْ) للشكّ من الراوي؛ أي: أو قال (هُوَ رَفِيقِي فِي الْجَنَّةِ؟)"، فَتَقَدَّمَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَار، فَقَاتَلَ، حَتَّى قُتِلَ) بالبناء للمفعول، (ثُمَّ رَهِقُوهُ أَيْضًا)؛ أي: غَشُوه مرّةً أُخرى (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("مَنْ يَرُدُّهُمْ عَنَّا، وَلَهُ الْجَنَّةُ، أَوْ هُوَ رَفِيقِي فِي الْجَنَّةِ؟ "، فَتَقَدَّمَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَار، فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ، فَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى قُتِلَ السَّبْعَةُ)، وفي "سيرة ابن هشام": قال ابن إسحاق: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين غَشِيه القوم: "مَن رجلٌ يشري لنا نفسه؟ "، قال: فقام زياد بن السَّكَن في نفر خمسة من الأنصار، وبعض الناس يقول: إنما هو عُمارة بن يزيد بن السكن، فقاتلوا دون رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلًا، ثم رجلًا، يُقتَلون دونه، حتى كان آخرَهم زيادٌ، أو عمارةُ، فقاتل حتى أثبتته الجراحة، ثم فاءت فئة من المسلمين، فأجهضوهم عنه

(3)

، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أدنوه مني"، فأدنوه منه، فوَسَّده قَدَمَه، فمات، وخدّه على قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم. انتهى

(4)

.

وقال ابن عبد البرّ رحمه الله في ترجمة زياد بن السكن: رَوَى ابن المبارك، عن محمد بن إسحاق بسنده، عن محمود بن عمرو بن يزيد بن السكن: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لَمّا لحمه القتال يوم أُحد، وخَلَص إليه، ودنا منه الأعداء ذَبّ

(1)

"المفهم" 3/ 648.

(2)

"شرح النوويّ" 12/ 147.

(3)

أي: نَحَّوْهم عنه، وغلبوهم.

(4)

"سيرة ابن هشام" 2/ 80.

ص: 285

عنه المصعب بن عمير، حتى قُتل، وأبو دُجانة سماك بن خَرَشة، حتى كثرت فيه الجراح، وأصيب وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وثلمت رَباعيته، وكُلمت شفته، وأصيبت وَجْنَته، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ظاهر يومئذ بين درعين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"مَن رجل يبيع لنا نفسه؟ "، فوَثَب إليه فتية من الأنصار خمسة، منهم زياد بن السكن، فقاتلوا، حتى كان آخرهم زياد بن السكن، فقاتل حتى أُثبت، ثم ثاب إليه ناس من المسلمين، فقاتلوا عنه، حتى أجهضوا عنه العدوّ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لزياد بن السكن: (ادْنُ مني" - وقد أثبتته الجراحة - فوسّده رسول الله صلى الله عليه وسلم قدمه، حتى مات عليها.

قال: وأخرج هذا الخبر الطبريّ بسنده، عن محمود بن عمرو بن يزيد بن السكن قال: فقام زياد بن السكن في نفر خمسة من الأنصار، وبعض الناس يقول: إنما هو عُمارة بن زياد السكن. انتهى

(1)

.

(فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِصَاحِبَيْهِ)؛ يعني: بهما القرشيين المذكورين في أول الحديث، ("مَا أَنْصَفْنَا أَصْحَابَنَا) " قال النوويّ رحمه الله: الرواية المشهورة فيه: "ما أنصفنا" بإسكان الفاء، و"أصحابَنَا" منصوب، مفعول به، هكذا ضبطه جماهير العلماء، من المتقدمين، والمتأخرين، ومعناه: ما أنصفت قريشٌ الأنصار؛ لكون القرشيين لم يخرجا للقتال، بل خرجت الأنصار واحدًا بعد واحد، وذكر القاضي عياض وغيره: أن بعضهم رواه: "ما أنصَفَنا" بفتح الفاء، والمراد على هذا: الذين فَرُّوا من القتال، فإنهم لم يُنصفوا؛ لفرارهم. انتهى

(2)

.

وقال في "المشارق": "ما أنصفنا أصحابنا" كذا رويناه عن الأسديّ، بسكون الفاء، وفتح الباء، ورواه بعضهم:"أنصفَنا أصحابُنا" بفتح الفاء، ورفع الباء، والصواب الرواية الأولى، ومساق الخبر يدلّ على ترجيح هذه الرواية. انتهى

(3)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1)

"الاستيعاب" لابن عبد البرّ رحمه الله 1/ 158.

(2)

"شرح النوويّ" 12/ 147 - 148.

(3)

"مشارق الأنوار" 2/ 357.

ص: 286

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أنس بن مالك رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله

(1)

.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [35/ 4632](1789)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(7/ 370)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 286)، و (عبد بن حُميد) في "مسنده"(1/ 408)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4718)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 330)، و (ابن أبي عاصم) في "الجهاد"(2/ 554)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(6/ 67 و 7/ 68 و 72)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(9/ 44)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان ما أصاب النبيّ صلى الله عليه وسلم في سبيل الله تعالى، حيث تكالب عليه الأعداء، ورَهِقُوه، يريدون إلحاق الضرر به، ولكنّ الله عز وجل وعده بالعصمة، حيث قال:{وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67].

2 -

(ومنها): بيان ما حصل للمسلمين من الابتلاء في أُحُد، حيث تركوا النبيّ صلى الله عليه وسلم مع تسعة من الصحابة، وولّوا مدبرين؛ لأمر قضاه الله تعالى.

3 -

(ومنها): بيان فضل الأنصار السبعة، حيث استُشهدوا في الدفاع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي الله عنهم.

4 -

(ومنها): أن الحكمة فيما جرى بأُحد أن الله تعالى أجرى سُنَّته في رسله، وأتباعهم بأن يدالُوا مرّة، ويدال عليهم أخرى، لكن تكون لهم العاقبة، فإنهم لو انتصروا دائمًا دخل معهم المؤمنون، وغيرهم، ولم يتميز الصادق من غيره، ولو انتُصِر عليهم دائمًا لم يحصل المقصود من البعثة والرسالة، فاقتضت حكمة الله تعالى أن جَمَع لهم بين الأمرين؛ ليتميّز من يتبعهم، ويطيعهم للحقّ، وما جاءوا به، ممن يتبعهم على الظهور، والغلبة خاصة.

ثم أن هذا من أعلام الرسل، كما قال هرقل لأبي سفيان: هل قاتلتموه؟

(1)

بل لم يُخرجه من أصحاب الكتب الستّة إلا هو.

ص: 287

قال: نعم، قال: كيف الحرب بينكم وبينه؟ قال: سِجَال، يُدال علينا المرّة، وندال عليه الأخرى، قال: كذلك الرسل تُبْتَلَى، ثم تكون لهم العاقبة

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[14633]

(1790) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى التَّمِيمِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبي حَازِم، عَنْ أَبِيه، أَنَّهُ سَمِعَ سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ، يُسْأَلُ عَنْ جُرْحِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ أحُدٍ، فَقَالَ: جُرحَ وَجْهُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَكُسِرَتْ رَبَاعِيَتُهُ، وَهُشِمَتِ الْبَيْضَةُ عَلَى رَأْسِه، فَكَانَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم تَغْسِلُ الدَّمَ، وَكَانَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ يَسْكُبُ عَلَيْهَا بِالْمِجَنّ، فَلَمَّا رَأَتْ فَاطِمَةُ أَنَّ الْمَاءَ لَا يَزِيدُ الدَّمَ إِلَّا كَثْرَةً، أَخَذَتْ قِطْعَةَ حَصِيرٍ، فَأَحْرَقَتْهُ، حَتى صَارَ رَمَادًا، ثُمَّ أَلْصَقَتْهُ بِالْجُرْح، فَاسْتَمْسَكَ الدَّمُ).

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى التَّمِيمِيُّ) تقدّم قريبًا.

2 -

(عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي حَازِمٍ) المدنيّ، ثقةٌ فقية [8](ت 184)، أو قبل ذلك (ع) تقدم في "الإيمان" 45/ 290.

3 -

(أَبُوهُ) سلمة بن دينار، أبو حازم الأعرج التمّار المدنيّ القاصّ، مولى الأسود بن سفيان، ثقةٌ عابد [5](ت 140)، أو قبلها، أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 50/ 313.

4 -

(سَهْلُ بْنُ سَعْدِ) بن مالك بن خالد الأنصاريّ الخزرجيّ الساعديّ، أبو العبّاس المدنيّ الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، مات سنة (88) أو بعدها، وقد جاوز المائة (ع) تقدم في "الإيمان" 50/ 313.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله؛ كسابقه، ولاحقه، وهو (312) من رباعيّات الكتاب، وأنه مسلسل بالمدنيين، سوى شيخه، فنيسابوريّ، وقد دخل المدينة، وأن صحابيّه آخر من مات من الصحابة رضي الله عنهم بالمدينة على بعض الأقوال، والله تعالى أعلم.

(1)

"زاد المعاد في هدي خير العباد" 3/ 196.

ص: 288

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي حَازِمٍ) سلمة بن دينار (أَنَّهُ سَمِعَ سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ) رضي الله عنهما (يُسْأَلُ) بالبناء للمفعول، وفي الرواية التالية:"عن أبي حازم أنه سمع سهل بن سعد، وهو يُسأل عن جُرح رسول الله صلى الله عليه وسلم"، وفي رواية للبخاريّ من طريق ابن عُيينة، عن أبي حازم، سمع سهل بن سعد الساعديَّ، وسأله الناس، وما بيني وبينه أحد: بأيّ شيء دُووي جُرح رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ "، ووقع في رواية الحميديّ عن سفيان: "اختَلَف الناس بأيّ شيء دُووي جرح رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ".

(عَنْ جُرْحِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) الجُرْح بالضمّ: اسم من جَرَحَه يَجْرَحه، جَرْحًا، من باب نَفَعَ، (يَوْمَ أُحُدٍ، فَقَالَ: خرِحَ) بالبناء للمفعول، ونائب فاعله قوله:(وَجْه رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) وفي الرواية التالية: "فقال: أَمَ، والله إني لأعرف من كان يغسل جُرح رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن كان يسكب الماء، وبماذا دُووي جرحه

"، وفي رواية البخاريّ المذكورة: "فقال: ما بقي أحدٌ أعلم به مني، كان عليّ يجيء بترسه فيه ماءٌ"، فذكره.

وإنما قال سهل رضي الله عنه: "ما بقي أحد

إلخ "؛ لأنه كان آخر من بقي من الصحابة رضي الله عنهم بالمدينة، كما صرّح به البخاريّ في "النكاح"، ولفظه: "فسألوا سهل بن سعد الساعديّ، وكان من آخر من بقي من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم بالمدينة".

وقوله: "وكان من آخر من بقي من الصحابة بالمدينة" فيه احتراز عمن بقي من الصحابة بالمدينة، وبغير المدينة، فأما المدينة فكان بها في آخر حياة سهل بن سعد محمود بن الربيع، ومحمد بن لبيد، وكلاهما له رؤية، وعُدّ في الصحابة، وأما من الصحابة الذين ثبت سماعهم من النبيّ صلى الله عليه وسلم فما كان بقي بالمدينة حينئذ إلا سهل بن سعد، على الصحيح، وأما بغير المدينة، فبقي أنس بن مالك رضي الله عنه بالبصرة، وغيرُه بغيرها، قاله في "الفتح"

(1)

.

[تنبيه]: كان بين وقعة أُحد، وبين إخبار سهل بن سعد رضي الله عنهما بذلك أكثر من ثمانين سنةً، قاله في "الفتح"

(2)

.

(1)

"الفتح" 11/ 706، كتاب "النكاح، رقم (5248).

(2)

"الفتح" 1/ 604 - 605، كتاب "الطهارة" رقم (243).

ص: 289

[تنبيه آخر]: ذكر ابن عائذ، قال: أخبرنا الوليد بن مسلم، حدّثني عبد الرحمن بن يزيد بن جابر: أن الذي رَمَى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأُحد، فجرحه في وجهه، قال: خُذها مني، وأنا ابن قمئة، فقال:"أقمأك الله"

(1)

، قال: فانصرف إلى أهله، فخرج إلى غنمه، فوافاها على ذِرْوة جبل، فدخل فيها، فَشَدَّ عليه تيسها، فنَطَحه نَطْحَةً أدراه من شاهق الجبل، فتقطع

(2)

.

(وَكُسِرَتْ) بالبناء للمفعول أيضًا، ونائب فاعله قوله:(رَبَاعِيَتُهُ) - بفتح الراء، وتخفيف الموحّدة -: هي السنّ التي تلي الثنية، من كل جانب، وللإنسان أربع رَبَاعِيَات، قاله النوويّ

(3)

.

وقال الفيّوميّ: "الرباعية بوزن الثمانية: السنّ التي بين الثنيّة والناب، والجمع رَبَاعيات بالتخفيف أيضًا". انتهى

(4)

.

(وَهُشِمَتِ) بالبناء للمفعول أيضًا، قال الفيّوميّ: الْهَشْمُ: كسرُ الشيء اليابس، والأجوف، وهو مصدرٌ، من باب ضرب، ومنه الهاشمة، وهي الشَّجَّة التي تَهْشِم العظم. انتهى

(5)

، وقوله:(الْبَيْضَةُ) مرفوع على أنه نائب الفاعل، وهي بفتح الموحّدة، وسكون التحتانيّة، ثم ضاد معجمة - وهي الْخُوذَة بالضمّ؛ أي: الْمِغْفر، وقوله:(عَلَى رَأْسِهِ) متعلّق بحال مقدّر؛ أي: حال كون البيضة كائنةً على رأس النبيّ صلى الله عليه وسلم.

[تنبيه]: قال في "الفتح": مجموع ما ذُكِر في الأخبار - أي: مما أصاب النبيّ صلى الله عليه وسلم يوم أُحد - أنه: شُجّ وجهه، وكُسرت رَباعيته، وجُرحت وجنته، وشفته السفلى، من باطنها، ووَهَى مَنْكِبه، من ضربة ابن قَمِئة، وجُحِشت ركبته.

ورَوَى عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهريّ، قال: ضُرِب وجهُ النبيّ صلى الله عليه وسلم

(1)

أي: أذلّك، يقال: قَمَأَ، كجَمَعَ، وكَرُم قمأةً، وقَماءةً، وقُمْأةً بالضمّ، والكسر: ذَلَّ، وصَغُرَ، وأقمأه: صَغّره، وأذلّه، قاله في "القاموس" ص 1088.

(2)

"الفتح" 9/ 152، كتاب "المغازي" رقم (4075).

(3)

"شرح النوويّ" 12/ 148.

(4)

"المصباح المنير" 1/ 216.

(5)

"المصباح المنير" 2/ 638.

ص: 290

يومئذ بالسيف سبعين ضربة، وقاه الله شرّها كلَّها، وهذا مرسل قويّ، ويَحْتَمِل أن يكون أراد بالسبعين حقيقتها، أو المبالغة في الكثرة. انتهى

(1)

.

(فَكَانَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) رضي الله عنها، أم الحسنين، سيّدة نساء هذه الأمة، تزوّجها عليّ رضي الله عنه في السنة الثانية من الهجرة، وتُوفّيت بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بستّة أشهر، وقد جاوزت العشرين بقليل.

وقد أوضح سعيد بن عبد الرحمن، عن أبي حازم، فيما أخرجه الطبرانيّ من طريقه، سبب مجيء فاطمة رضي الله عنها إلى أُحُد، ولفظه: "لَمّا كان يومُ أُحد، وانصرف المشركون خرج النساء إلى الصحابة يعينونهم، فكانت فاطمة فيمن خرج، فلما رأت النبيّ صلى الله عليه وسلم اعتنقته، وجعلت تغسل جراحاته بالماء، فيزداد الدم، فلما رأت ذلك أخذت شيئًا من حصير، فأحرقته بالنار، وكَمَّدته

(2)

به، حتى لَصِقَ بالجرح، فاستمسك الدم.

وله من طريق زهير بن محمد، عن أبي حازم:"فأَحْرَقت حصيرًا، حتى صارت رمادًا، فأخذت من ذلك الرماد، فوضعته فيه، حتى رقأ الدم"، وقال في آخر الحديث:"ثم قال يومئذ: اشتَدَّ غضب الله على قوم دَمَّوا وجه رسوله"، ثم مكث ساعة، ثم قال:"اللهم اغفر لقومي، فإنهم لا يعلمون"

(3)

.

(تَغْسِلُ الدَّمَ، وَكَانَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ) رضي الله عنه المتوفّى سنة أربعين من الهجرة، وتقدّمت ترجمته في "المقدمة" 2/ 2. (يَسْكُبُ) بضمّ الكاف، من باب نصر؛ أي: يصبّ، يقال: سَكَبَ الماءُ سَكْبًا، وسُكُوبًا: انصبّ، وسَكَبه غيره، يتعدّى، ولا يتعدَّى

(4)

، وما هنا من المتعدّي، ومفعوله محذوف؛ أي: يصبّ الماءَ، وفي رواية للبخاريّ:"وعليّ يسكُبُ الماء بالمِجَنّ"، (عَلَيْهَا)؛ أي: على

(1)

راجع: "الفتح" 9/ 151، كتاب "المغازي"(4073).

(2)

قال في "القاموس": "الْكِمَادُ، ككتاب: خِرْقة، وسِخَةٌ، تُسخّن، وتوضع على الْمَوْجُوع، يَشتفي بها من الريح، ووجعِ البطن؛ كالكمادة، وتكميد العضو: تسخينه بها". انتهى.

(3)

"الفتح" 9/ 152، كتاب "المغازي" رقم (4075).

(4)

"المصباح" 1/ 281.

ص: 291

فاطمة رضي الله عنها، والمراد أنه يصبّ على موضع غسلها. (بِالْمِجَنِّ) - بكسر الميم، وفتح الجيم، وتشديد النون -: التُّرْس، (فَلَمَّا رَأَتْ فَاطِمَةُ) رضي الله عنها (أَنَّ الْمَاءَ لَا يَزِيدُ الدَّمَ إِلَّا كَثْرَةً، أَخَذَتْ قِطْعَةَ حَصِيرٍ) - بفتح الحاء، وكسر الصاد المهملتين -: هي البَاريّة، وجمعها حُصُرٌ، مثلُ بريد وبُرُد، وتأنيثها بالهاء عاميّ، قاله الفيّوميّ

(1)

. (فَأَحْرَقَتْهُ، حَتى صَارَ رَمَادًا، ثُمَّ ألْصَقَتْهُ بِالْجُرْحِ) ووقع عند ابن ماجه، من وجه آخر، عن سهل بن سعد رضي الله عنه:"أَحرقت له حين لم يرقأ قطعة حصير، خَلَقٍ، فوضعت رماده عليه"، (فَاسْتَمْسَكَ الدَّمُ)؛ أي: توقّف خروجه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث سهل بن سعد رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [35/ 4633 و 4634 و 4635](1790)، و (البخاريّ) في "الوضوء"(243) و"الجهاد"(2903 و 2911 و 3037) و"المغازي"(4073 و 4075) و"النكاح"(5248) و"الطبّ"(5722)، و (الترمذيّ) في "الطبّ"(2085)، و (ابن ماجه) في "الطبّ"(3464)، و (الحميديّ) في "مسنده"(929)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 330 و 334)، و (عبد بن حميد) في "مسنده"(1/ 167)، و (سعيد بن منصور) في "سننه"(2/ 354)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 328)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6579)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(5897)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(1/ 501)، و (الرويانيّ) في "مسنده"(2/ 197)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(9/ 30) و"دلائل النبوّة"(3/ 259 - 260 و 261)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): أن الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - قد يصابون ببعض العوارض الدنيوية، من الجراحات، والآلام، والأسقام؛ لِيَعْظُم لهم بذلك

(1)

"المصباح المنير" 1/ 138 - 139.

ص: 292

الأجر، وتزداد درجاتهم رفعةً، وليتأسى بهم أتباعهم في الصبر على المكاره، والعاقبة للمتقين، قال القاضي عياض رحمه الله: وليُعْلَم أنهم من البشر، تصيبهم مِحَنُ الدنيا، ويطرأ على أجسامهم ما يطرأ على أجسام البشر؛ لِيُتَيَقَّنَ أنهم مخلوقون، مربوبون، ولا يُفْتَتَن بما ظهر على أيديهم من المعجزات، وتلبيس الشيطان من أمرهم ما لبَّسه على النصارى وغيرهم، حتى اعتقدوا في عيسى عليه السلام أنه إله. انتهى

(1)

.

2 -

(ومنها): جواز التداوي، ومعالجة الجراح، واتخاذ التُّرْس في الحرب، وأن جميع ذلك لا يَقْدَح في التوكل؛ لصدوره من سيد المتوكلين صلى الله عليه وسلم، مع قول الله تعالى له:{وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ} الآية [الفرقان: 58].

3 -

(ومنها): أن فيه مباشرةَ المرأة لأبيها، وكذلك لغيره من ذوي محارمها، ومداواتها لأمراضهم، وقد احتجّ البخاريّ رحمه الله به على جواز إبداء المرأة زينتها لأبيها، وكذا لسائر من ذُكر في آية:{وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ} [النور: 31] وهو احتجاج واضحٌ.

4 -

(ومنها): أن فيه إشعارًا بأن الصحابة والتابعين كانوا يتّبعون أحوال النبيّ صلى الله عليه وسلم في كل شيء حتى في مثل هذا، فإن الذي يُداوى به الجرح لا يختلف الحكم فيه، إذا كان طاهرًا، ومع ذلك فترددوا فيه، حتى سألوا مَن شاهد ذلك، وهو سهل بن سعد رضي الله عنهم.

5 -

(ومنها): مشروعيّة التداوي برماد الحصير.

قال في "الفتح": وقد كان أبو الحسن القابسيّ يقول: وَدِدْنا لو علمنا ذلك الحصير، مم كان؟ لنتخذه دواء لقطع الدم.

قال ابن بطال

(2)

: قد زعم أهل الطبّ أن الحصير كلّها إذا أُحرقت تُبطل

(1)

"إكمال المعلم" 6/ 164.

(2)

راجع: "شرح ابن بطّال على البخاريّ" 9/ 420.

ص: 293

زيادة الدم، بل الرماد كلّه كذلك؛ لأن الرماد من شأنه القبض، ولهذا ترجم الترمذيّ لهذا الحديث:"التداوي بالرماد".

وقال المهلَّب: فيه أن قَطْع الدم بالرماد كان معلومًا عندهم، لا سيما إن كان الحصير من دبس السعد، فهي معلومة بالقبض، وطيب الرائحة، فالقبض يَسُدّ أفواه الجرح، وطيب الرائحة يُذهب بزهم الدم، وأما غسل الدم أوّلًا، فينبغي أن يكون إذا كان الجرح غير غائر، أما لو كان. غائرًا، فلا يؤمَن معه ضرر الماء إذا صُبّ فيه.

وقال الموفق عبد اللطيف: الرماد فيه تجفيفٌ، وقلة لَذْع، والمجفف إذا كان فيه قُوّة لَذْع ربما هيّج الدم، وجلب الْوَرَم

(1)

، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4634]

(

) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ - يَعْنِي: ابْنَ عَبْدِ الرحمن الْقَارِيَّ - عَنْ أَبِي حَازِمٍ، أَنهُ سَمِعَ سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ، وَهُوَ يُسْأَلُ عَنْ جُرْحِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: أَمَ وَالله، إِنِّي لأَعْرِفُ مَنْ كَانَ يَغْسِلُ جُرْحَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَمَنْ كَانَ يَسْكُبُ الْمَاءَ، وَبِمَاذَا دُووِيَ

(2)

جُرْحُهُ، ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ عَبْدِ الْعَزِيز، غَيْرَ أنهُ زَادَ: وَجُرِحَ وَجْهُهُ، وَقَالَ مَكَانَ هُشِمَتْ: كُسِرَتْ).

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) الثقفيّ، أبو رجاء البَغْلانيّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](240)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 55.

2 -

(يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْقَارِيُّ) المدنيّ، نزيل الإسكندريّة، حليف بني زُهرة، ثقةٌ [8](ت 181)(خ م دت س) تقدم في "الإيمان" 35/ 245.

والباقيان ذُكرا قبله.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله؛ كسابقيه، وهو (313) من رباعيّات الكتاب.

(1)

"الفتح" 13/ 121، كتاب "الطبّ" رقم (5722).

(2)

وفي نسخة: "وبماذا دُوي، ثم ذكر".

ص: 294

وقوله: (أَمَ وَاللهِ)"أَمَ" هي "أما" التي هي أداة استفتاح، وتنبيه، ك"ألا"، حُذفت ألفها؛ تخفيفًا، قال ابن هشام رحمه الله في "مغنيه":"أما" حرف استفتاح، بمنزلة "ألا"، وتكثر قبل القسم؛ كقوله [من الطويل]:

أَمَا وَالَّذِي أَبْكَى وَأَضْحَكَ وَالَّذِي

أَمَاتَ وَأَحْيَا وَالَّذِي أَمْرُهُ الأَمْرُ

وقد تُبدل همزتها هاء، أو عينًا قبل القسم، وكلاهما مع ثبوت الألف، وحذفها، أو تحذف الألف مع ترك الإبدال، وإذا وقعت "أَنْ" بعد أما هذه كُسِرت، كما تكسر بعد "ألا" الاستفتاحية. انتهى

(1)

.

وقوله: (لأَعْرِفُ مَنْ كَانَ يَغْسلُ

إلخ) "من" موصولة مفعول "أعرف".

وقوله: (وَبِمَاذَا دُووِيَ جُرْحُهُ)؛ أي: وبأيّ شيء عُولج جرح النبيّ صلى الله عليه وسلم، فـ "ماذا" استفهاميّة، مركبة من "ما"، و"ذا"، ويَحْتَمِل أن تكون "ما" استفهاميّة، و"ذا" موصولةً، كما قال في "الخلاصة".

وَمِثْلُ "مَا""ذَا" بعْدَ "مَا" اسْتِفْهَامِ

أَوْ"مَنْ" إِذَا لَمْ تُلْغَ فِي الْكَلَامِ

وقوله: "دُووِيَ"؛ كقُوتِل، مجهول دَاوَى، مكتوب بواوين، بلا إدغام، ووقع في بعض النسخ:"دُويَ" بواو واحدة، فتكون الأخرى محذوفة تخفيفًا، كما حُذفت من داود في الخطّ

(2)

.

وقوله: (ثُمَّ ذَكرَ نَحْوَ حَدِيثِ عَبْدِ الْعَزِيزِ) فاعل "ذَكَرَ" ضمير يعقوب بن عبد الرحمن.

وقوله: (غَيْرَ أَنَّهُ زَادَ: وَجُرِحَ وَجْهُهُ) هذا محلّ نظر، فإن هذا مذكور في حديث عبد العزيز الماضي، في قوله:"جُرح وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم"، فكيف يكون زائدًا؟ فليُتأمّل.

[تنبيه]: رواية يعقوب بن عبد الرحمن القاريّ، عن أبي حازم ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه" بسند المصنّف، فقال:

(3847)

- حدّثنا قتيبة بن سعيد، حدّثنا يعقوب، عن أبي حازم، أنه سمع سهل بن سعد، وهو يُسأل عن جرح رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أما والله إني

(1)

"مغني اللبيب عن كتب الأعاريب" 1/ 117.

(2)

"شرح النوويّ" 12/ 149 - 150.

ص: 295

لأعرف، من كان يَغسل جرح رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن كان يسكب الماء، وبما دُووي، قال: كانت فاطمة رضي الله عنها بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم تغسله، وعليّ بن أبي طالب يسكب الماء بالْمِجَنّ، فلما رأت فاطمة أن الماء لا يزيد الدم إلا كثرة، أخذت قطعة من حصير، فأحرقتها، وألصقتها، فاستمسك الدم، وكُسرت رباعيته يومئذ، وجُرح وجهه، وكُسرت البيضة على رأسه. انتهى

(1)

.

وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4635]

(

) - (وَحَدَّثَنَاهُ أبو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ، وَابْنُ أَبِي عُمَرَ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ (ح) وَحَدَّثنَا عَمْرُو بْنُ سَوَّادٍ الْعَامِرِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِث، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلَالٍ (ح) وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَهْلٍ التَّمِيمِيُّ، حَدثنِي ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ - يَعْنِي: ابْنَ مُطَرِّفٍ - كُلُّهُمْ عَنْ أَبِي حَازِم، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، بِهَذَا الْحَدِيث، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فِي حَدِيثِ ابْنِ أَبِي هِلَالٍ: أصِيبَ وَجْهُهُ، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ مُطَرَّفٍ: جُرِحَ وَجْهُهُ).

رجال هذا الإسناد: أربعة عشر:

1 -

(ابْنُ أَبِي عُمَرَ) محمد بن يحيى بن أبي عمر الْعَدَنيّ، ثمّ المكيّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(ابْنُ عُيَيْنَةَ) سفيان، تقدّم أيضًا قريبًا.

3 -

(عَمْرُو بْنُ سَوَّادٍ

(2)

الْعَامِرِيُّ) أبو محمد المصريّ، ثقةٌ [11](ت 245)(م د س ق) تقدم في "الإيمان" 34/ 239.

4 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْبٍ) تقدّم قريبًا.

5 -

(عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ) بن يعقوب الأنصاريّ مولاهم، أبو أيوب المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ [7] مات قبل (150)(ع) تقدم في "الإيمان" 16/ 169.

6 -

(سَعِيدُ بْنُ أَبِي هِلَالٍ) الليثيّ مولاهم، أبو العلاء المصريّ، قيل: مدنيّ الأصل، وقال ابن يونس: بل نشأ بها، صدوقٌ، قيل: إنه اختلط [6]

(1)

"صحيح البخاريّ" 4/ 1496.

(2)

بتشديد الواو.

ص: 296

مات بعد (130) وقيل: قبلها، وقيل: قبل الخمسين بسنة (ع) تقدم في "الإيمان" 87/ 462.

7 -

(مُحَمَّدُ بْنُ سَهْلٍ التَّمِيمِيُّ) مولاهم، أبو بكر البخاريّ، نزيل بغداد، ثقةٌ [11](ت 251)(م ت س) تقدم في "الصيام" 8/ 2535.

8 -

(ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ) سعيد بن الحكم بن محمد بن أبي مريم الْجُمَحيّ مولاهم، أبو محمد المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ، من كبار [10](ت 224) وله ثمانون سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 22/ 188.

9 -

(مُحَمَّدُ بْنُ مُطَرِّفِ) بن داود الليثيّ، أبو غسّان المدنيّ، نزيل عسقلان، ثقةٌ [7] مات بعد (160)(ع) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 52/ 1525.

والباقون ذُكروا في الباب، والبابين الماضيين.

[تنبيه]: سند المصنّف الأول - أعني: سند ابن عيينة - من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (314) من رباعيّات الكتاب.

وقوله: (جَمِيعًا عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ)؛ يعني: أن الأربعة، وهم: ابن أبي شيبة، وزُهير، وإسحاق، وابن أبي عمر رووا هذا الحديث عن سفيان بن عيينة بسنده الماضي.

وقوله: (كُلُّهُمْ عَنْ أَبِي حَازِمٍ)؛ يعني: أن الثلاثة، وهم: ابن عيينة، وسعيد بن أبي هلال، ومحمد بن مطرّف رووا هذا الحديث عن أبي حازم بسنده الماضي.

[تنبيه]: رواية ابن عيينة، عن أبي حازم لم أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم.

وأما رواية سعيد بن أبي هلال، عن أبي حازم، فقد ساقها الطبرانيّ رحمه الله في "المعجم الكبير"، فقال:

(5986)

- حدّثنا أحمد بن رِشدين، وعبدان بن أحمد، قالا: ثنا عمرو بن سوّاد السرحيّ، ثنا ابن وهب، عن عمرو بن الحارث، عن سعيد بن أبي هلال، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أُحد، أصيب وجهه، وأصيبت رباعيته، وهُشمت بيضته، فأتاه عليّ رضي الله عنه بماء في مِجَنّ، فأتت فاطمة رضي الله عنها، فغسلت عنه الدم، وأُحرق قطعة حصير، فجعلته

ص: 297

على جرحه. انتهى

(1)

.

وأما رواية محمد بن مطرّف، عن أبي حازم، فقد ساقها أبو عوانة رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(6864)

- حدّثنا الصغانيّ، قال: أنبا ابن أبي مريم، قثنا أبو غسان محمد بن مطرِّف، قال: حدّثني أبو حازم، عن سهل بن سعد، قال: هُشمت البيضة على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أُحُد، وكُسرت رَبَاعيته، وجُرح وجهه، قال: فكانت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم تغسل عنه الدم، وعليّ بن أبي طالب يأتيها بالماء، فلمّا أصاب الجرحَ الماءُ أكثر دمه، فلم يرقأ الدم، حتى أَخَذت قطعة حصير، فأحرقته، حتى عاد رمادًا، ثم جعلته على الجرح، فرقأ الدم. انتهى

(2)

، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4636]

(1791) - (حَدَّثنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ بْنِ قَعْنَبٍ، حَدَّثنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كُسِرَتْ رَبَاعِيَتُهُ يَوْمَ أُحُدٍ، وَشُجَّ فِي رَأسِه، فَجَعَلَ يَسْلُتُ الدَّمَ عَنْهُ، وَيَقُولُ:"كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ، شَجُّوا نَبِيَّهُمْ، وَكَسَرُوا رَبَاعِيَتَهُ، وَهُوَ يَدْعُوهُمْ إِلَى اللهِ؟ "، فَأَنْزَلَ اللهُ عز وجل:{لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} .

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ بْنِ قَعْنَبٍ) الحارثيّ، أبو عبد الرحمن البصريّ، مدنيّ الأصل، وقد سكن المدينة مدَّةً، ثقةٌ عابدٌ، من صغار [9](ت 221) بمكة (خ م دت س) تقدم في "الطهارة" 17/ 617.

والباقون ذُكروا في الباب.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله؛ كالأسانيد الأربعة الماضية، وهو (315) من رباعيّات الكتاب.

(1)

"المعجم الكبير" 6/ 197.

(2)

"مسند أبي عوانة" 4/ 328.

ص: 298

شرح الحديث:

(عَنْ أنَسِ) بن مالك رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كُسِرَتْ) بالبناء للمفعول، ونائب فاعله قوله:(رَبَاعِيَتُهُ) تقدّم أنه بفتح الراء، وتخفيف الموحّدة، وهو السنّ التي تلي الثنيّة، من الجانبين.

وقال في "الفتح": والمراد بكسر الرباعية، وهي السن التي بين الثنية والناب، أنها كُسرت، فذهب منها فِلْقة، ولم تُقْلَع من أصلها.

قال: وذكر ابن هشام في حديث أبي سعيد الخدريّ أن عتبة بن أبي وقّاص هو الذي كسر رباعية النبيّ صلى الله عليه وسلم السفلى، وجَرَح شفته السفلى، وأن عبد الله بن شهاب الزهريّ هو الذي شجّه في جبهته، وأن عبد الله بن قَمِئة جرحه في وجنته، فدخلت حلقتان من حِلَق الْمِغْفَر في وجنته، وأن مالك بن سنان مَصّ الدم من وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ازدرده، فقال:"لن تمسك النار".

وروى ابن إسحاق من حديث سعد بن أبي وقاص، قال: فما حَرَصت على قتل رجل قطّ حرصي على قتل أخي عتبة بن أبي وقاص لِمَا صنع برسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أُحد.

وفي الطبرانيّ من حديث أبي أمامة قال: رَمَى عبد الله بن قَمِئة رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أُحد فشجّ وجهه، وكسر رباعيته، فقال: خذها، وأنا ابن قَمِئة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يمسح الدم عن وجهه -:"ما لك أقمأك الله"، - فسلط الله عليه قيس جبل، فلم يزل ينطحه، حتى قطّعه قطعة قطعة

(1)

.

(يَوْمَ أحُدٍ) ظرف لـ"كُسرت"، (وَشُجَّ فِي رَأْسِهِ) بالبناء للمفعول أيضًا، يقال: شجّه شَجًّا، من باب نَصَرَ على القياس، وفي لغة من باب ضَرَب: إذا شقّ جِلْده، ويقال: هو مأخوذ من شَجَّتِ السفينةُ البحرَ: إذا شقّته جارية، والشَّجَةُ: الْجِراحة، وإنما تُسمّى بذلك إذا كانت في الوجه والرأس، والجمع: شِجَاجٌ، مثلُ كَلْبَةٍ وكِلَابٍ

(2)

. (فَجَعَلَ)؛ أي: شرع، وأخذ (يَسْلُبُ الدَّمَ عَنْهُ) بفتح حرف المضارعة، وضمّ اللام؛ أي: يزيله، يقال: سَلَتت المرأة خِضَابها

(1)

"الفتح" 9/ 141، كتاب "المغازي" رقم (4069).

(2)

راجع: "المصباح المنير" 1/ 305.

ص: 299

من يدها سَلْتًا، من باب نَصَر: نَحّته، وأزالته، وقوله:(وَيَقُولُ) جملة في محلّ نصب على الحال، ("كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ) بضمّ حرف المضارعة، وكسر اللام، من الإفلاح، يقال: أفلح الرجل: إذا فاز، وظَفِرَ، قاله الفيّوميّ

(1)

، وقال المجد: الْفَلَحُ مُحَرَّكَةً، والفَلَاحُ: الفوز، والنجاةُ، والبقاء في الخير. انتهى

(2)

. (شَجُّوا نَبِيَّهُمْ) صلى الله عليه وسلم (وَكَسَرُوا رَبَاعِيَتَهُ) وقوله: (وَهُوَ يَدْعُوهُمْ اِلَى اللهِ؟ ") جملة في محلّ نصب على الحال من "نبيّهم"، وإنما جاز إتيان الحال من المضاف إليه؛ لكون المضاف جزءًا له، قال في "الخلاصة":

وَلَا تُجِزْ حَالًا مِنَ الْمُضَافِ لَهْ

إِلا إِذَا اقْتَضَى الْمُضَافُ عَمَلَهْ

أَوْ كَانَ جُزْءَ مَا لَهُ أُضِيفَا

أَوْ مِثْلَ جُزْئِهِ فَلَا تَحِيفَا

قال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "كيف يُفلح قوم

إلخ" هذا منه صلى الله عليه وسلم استبعاد لتوفيق مَن فَعَل به ذلك.

قال: وقوله تعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران: 128] تقريب لِمَا استبعده، وإطماع في إسلامهم، ولمّا اطمع في ذلك، قال صلى الله عليه وسلم:"اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون"، وإذا تأمل الفَطِن هذا الدعاء في مثل تلك الحال عَلِم معنى قوله تعالى:{وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)} [القلم: 4] فإنه صلى الله عليه وسلم لم يدع عليهم، فينتصر، ولم يقتصر على العفو، حتى دعا لهم، ولم يقتصر على الدعاء لهم، حتى أضافهم لنفسه على جهة الشفقة، ولم يقتصر على ذلك، حتى جَعَل لهم جهلهم بحاله كالعذر، وإن لم يكن عذرًا، وهذا غاية الفضل والكرم التي لا يشارَكُ فيها، ولا يوصل إليها. انتهى

(3)

.

(فَأَنزَلَ اللهُ عز وجل {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ}) قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: قوله تعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} أي: بل الأمر كله إليّ، كما قال تعالى:{فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ} [الرعد: 40] وقال: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [البقرة: 272] وقال: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص: 56] وقال محمد بن إسحاق في

(1)

"المصباح المنير" 2/ 480.

(2)

"القاموس المحيط" ص 1008.

(3)

"المفهم" 3/ 651.

ص: 300

قوله: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} ؛ أي: ليس لك من الحكم شيء في عبادي، إلا ما أمرتك به فيهم، ثم ذكر بقية الأقسام، فقال:{أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} [آل عمران: 128]؛ أي: مما هم فيه من الكفر، فيهديهم بعد الضلالة، {أَوْ يُعَذِّبَهُمْ} [آل عمران: 128]؛ أي: في الدنيا والآخرة على كفرهم، وذنوبهم، ولهذا قال:{فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [ال عمران: 128]؛ أي: يستحقون ذلك. انتهى

(1)

.

وقال إمام المفسّرين ابن جرير الطبريّ رحمه الله؛ في تأويل هذه الآية: ليس إليك يا محمد مِن أمر خَلْقي إلا أن تُنَفِّذ فيهم أمري، وتنتهي فيهم إلى طاعتي، وإنما أمرهم إليّ، والقضاء فيهم بيدي، دون غيري، أَقضي فيهم، وأحكم بالذي أشاء، من التوبة على من كفر بي، وعصاني، وخالف أمري، أو العذاب، إما في عاجل الدنيا، بالقتل، والنِّقَم الْمُبِيرة، وإما في آجل الآخرة، بما أعددت لأهل الكفر بي. ثم أخرج بسنده عن ابن إسحاق قال: ثم قال لمحمد صلى الله عليه وسلم: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ (128)} ؛ أي: ليس لك من الْحُكْم في شيء في عبادي، إلا ما أمرتك به فيهم، أو أتوبَ عليهم برحمتي، فإن شئت فعلت، أو أعذبهم بذنوبهم، فإنهم ظالمون؛ أي: قد استحقّوا ذلك بمعصيتهم إياي.

وذكر أن الله عز وجل إنما أنزل هذه الآية على نبيّه محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لما أصابه بأُحد ما أصابه من المشركين قال كالآيس لهم من الهدى، أو من الإنابة إلى الحقّ:"كيف يُفلح قوم فعلوا هذا بنبيّهم".

قال: قال الربيع بن أنس: أُنزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أُحد، وقد شُجّ رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجهه، وأصيبت رباعيته، فَهَمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدعو عليهم، فقال: "كيف يفلح قوم أَدْمَوا وجه نبيّهم، وهو يدعوهم إلى الله، وهم يدعونه إلى الشيطان، ويدعوهم إلى الهدى، ويدعونه إلى الضلالة، ويدعوهم إلى الجنة، ويدعونه إلى النار، فَهَمّ أن يدعو عليهم، فأنزل الله عز وجل:{لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ (128)} ، فكَفّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الدعاء عليهم. انتهى

(2)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1)

"تفسير ابن كثير" 1/ 403.

(2)

"تفسير الطبريّ" 4/ 86 - 87.

ص: 301

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أنس رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله، وعلّقه البخاريّ في "المغازي".

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [35/ 4636](1791)، و (الترمذيّ) في "التفسير"(3002 و 3003)، و (النسائيُّ) في "الكبرى"(9/ 314)، و (ابن ماجه) في "الفِتَن"(4027)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(7/ 333)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 99 و 178 و 201 و 206 و 253 و 288)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6574 و 6575)، و (الطبريّ) في "التفسير"(7805 و 7806 و 7807)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 327)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(6/ 55 و 391)، و (عبد بن حُميد) في "مسنده"(1/ 362)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(1/ 502)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(3748)، و (البيهقيّ) في "دلائل النبوّة"(3/ 262)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان ما أصاب النبي صلى الله عليه وسلم من أذى المشركين في الجهاد في سبيل الله تعالى.

2 -

(ومنها): بيان سبب نزول آية {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} ، وقد ورد لها سبب آخر، وهو فيما أخرجه البخاريّ من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أنه سمع النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه من الركوع في الركعة الأخيرة من الفجر يقول:"اللهم الْعَنْ فلانًا وفلانًا"، فأنزل الله:{لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} إلى قوله: {فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} .

قال في "الفتح": وطريق الجمع بينهما أنه صلى الله عليه وسلم دعا على المذكورين بعد ذلك في صلاته، فنزلت الآية في الأمرين معًا فيما وقع له من الأمر المذكور، وفيما نشأ عنه من الدعاء عليهم، وذلك كله في أُحُد، بخلاف قصّة رِعْل وذكوان، فإنها أجنبية

(1)

.

(1)

أشار به إلى ما أخرجه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول=

ص: 302

قال: ويَحْتَمِل أن يقال: إنْ قصّتهم كانت عقب ذلك، وتأخر نزول الآية عن سببها قليلًا، ثم نزلت في جميع ذلك، والله أعلم. انتهى

(1)

.

3 -

(ومنها): أن الأمر كلّه لله سبحانه وتعالى يفعل ما يشاء، وليس للعبد إلا القيام بما أُمر به، لا المنازعة في حكم الله عز وجل.

4 -

(ومنها): أنه قد تبيّن، واتّضح بعدُ حكمةُ نهي الله تعالى نبيّه صلى الله عليه وسلم عن أن يدعو على هؤلاء المشركين الذين ألحقوا به الضرر، وذلك أن كثيرًا منهم أسلم، وكان قائد جيش الإسلام، بعد أن كان في تلك المعركة قائد جيش الكفر والطغيان، وفتح الله على يديه في معارك كثيرة، كخالد بن الوليد الذي كان سبب انهزام المسلمين في أُحد، حيث دخل من وراء الجيش من محلّ الرماة، فوقع ما وقع من الابتلاء والامتحان، ثم هداه الله تعالى للإسلام، ففتح الله على يديه كثيرًا من البلدان، فقد فتح الله له في غزوة مؤتة، وغيرها، وكذلك أبو سفيان، ورئيس المشركين في معركة أُحد، وولده معاوية، وغيرهم، من رؤساء قريس، فقد هداهم الله تعالى، وأبلوا في الإسلام بلاء عظيمًا، {لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْد} [الروم: 4] فلك الحمد لا إله إلا أنت سبحانك، لا نُحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيث على نفسك، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4637]

(1792) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْن عَبْدِ اللهِ بْنِ نمَيْرٍ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ، عَنْ شَقِيقٍ، عَنْ عَبْدِ الله، قَالَ: كَأَنِّي أنظُرُ إِلَى رَسُولٍ اللهِ صلى الله عليه وسلم

= حين يفرغ من صلاة الفجر من القراءة، ويكبّر، ويرفع رأسه:"سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد" ثم يقول، وهو قائم:"اللهم أنج الوليد بن الوليد، وسلمة بن هشام، وعياش بن أبي ربيعة، والمستضعفين من المؤمنين، اللهم اشدد وطأتك على مُضَر، واجعلها عليهم كَسِنِي يوسف، اللهم العين لِحيان، ورِعْلًا، وذكوان، وعُصيّة عصت الله ورسوله"، ثم بلغنا أنه ترك ذلك لمّا أنزل:{لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ (128)} [آل عمران: 128].

(1)

"الفتح" 10/ 11 - 12، كتاب "التفسير" رقم (4559).

ص: 303

يَحْكِي نَبِيًّا مِنَ الأنبِيَاء، ضَرَبَهُ قَوْمُهُ، وَهُوَ يَمْسَحُ الدَّمَ عَنْ وَجْهِه، وَيَقُولُ

(1)

: "رَبِّ اغْفِرْ لِقَوْمِي، فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ) تقدّم قبل بابين.

2 -

(وَكِيعُ) بن الجرّاح، تقدّم أيضاَ قبل بابين.

3 -

(الأَعْمَشُ) سليمان بن مِهْران، تقدّم أيضًا قبل بابين.

4 -

(شَقِيقُ) بن سلمة، أبو وائل، تقدّم أيضًا قبل بابين.

5 -

(عَبْدُ اللهِ) بن مسعود رضي الله عنه، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالكوفيين، من أوله إلى آخره، وأن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ، وفيه عبد الله بن مسعود من مشاهير الصحابة رضي الله عنه، ومن أفقههم، وأقرئهم لكتاب الله سبحانه وتعالى.

شرح الحديث:

(عَنْ شَقِيقٍ) هو ابن سلمة المعروف بأبي وائل، (عَنْ عَبْدِ اللهِ) بن مسعود رضي الله عنه، أنه (قَالَ: كَأَنِّي أنْظُرُ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَحْكِي نَبِيًّا مِنَ الأنبِيَاءِ) قال الحافظ رحمه الله: لم أقف على اسم هذا النبيّ صريحًا، ويَحْتَمِل أن يكون هو نوح عليه السلام، فقد ذكر ابن إسحاق في "المبتدأ"، وأخرجه ابن أبي حاتم في "تفسير الشعراء" من طريق ابن إسحاق، قال: حدّثني من لا أَتَّهِم، عن عُبيد بن عُمير الليثيّ، أنه بلغه أن قوم نوح، كانوا يبطشون به، فيخنُقُونه، حتى يُغْشَى عليه، فإذا أفاق قال:"اللهم اغفر لقومي، فإنهم لا يعلمون"

(2)

.

(1)

وفي نسخة: "وهو يقول".

(2)

وذكر في "الفتح" في، كتاب "استتابة المرتدّين" 16/ 163 عند شرح حديث ابن مسعود رضي الله عنه المذكور هنا ما حاصله: أخرج ابن عساكر في ترجمة نوح عليه السلام من "تاريخ دمشق" من رواية يعقوب بن عبد الله الأشعريّ، عن الأعمش، عن مجاهد، عن عُبيد بن عُمير قال: إِنْ كان نوك ليَضربه قومه، حتى يُغْمَى عليه، ثم يُفيق، =

ص: 304

قال الحافظ: وإن صحَّ ذلك، فكان ذلك كان في ابتداء الأمر، ثم لما يئس منهم قال:{رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26)} [نوح: 26]، وقد ذكر مسلم بعد تخريج هذا الحديث حديث: أنه صلى الله عليه وسلم قال في قصة أُحُد: "كيف يُفلح قوم دَمَّوا وجه نبيّهم؟ "، فانزل الله {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} ".

قال الجامع عفا الله عنه: قوله: "وقد ذكر مسلم بعد تخريج هذا الحديث" فيه نظر، فإن الحديث عند مسلم قبله، لا بعده، إلا أن يكون قد وقعت له نسخة على ما ذكره، فتنبّه.

قال: ومن ثَمّ قال القرطبيّ: إن النبيّ صلى الله عليه وسلم هو الحاكي والمحكيّ

(1)

، وأما النوويّ: فقال: هذا النبيّ الذي جرى له ما حكاه النبيّ صلى الله عليه وسلم من المتقدمين، وقد جرى لنبيّنا صلى الله عليه وسلم نحو ذلك يوم أُحد

(2)

. انتهى

(3)

.

قال الجامع عفا الله عنه: ما قاله النوويّ رحمه الله هو الأظهر عندي، وعليه يدلّ صنيع الإمام البخاريّ، حيث أورد الحديث خلال أحاديث الأنبياء، فالأحاديث التي قبله، والتي بعده كلّها في الأنبياء الأنبياء السابقين، وأممهم، فتأمل، والله تعالى أعلم.

(ضَرَبَهُ قَوْمُهُ، وَهُوَ يَمْسَحُ الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ) قال في "الفتح": يَحْتَمِل أنّ ذلك لمّا وقع للنبيّ صلى الله عليه وسلم ذَكَر لأصحابه أنه وقع لنبيّ آخر قبله، وذلك فيما وقع له يوم أُحد لَمّا شج وجهه، وجرى الدم منه، فاستَحْضَر في تلك الحالة قصّة ذلك النبيّ الذي كان قبله، فذكر قصّته لأصحابه رضي الله عنهم؛ تطييبًا لقلوبهم.

وأغرب القرطبيّ، فقال: إن النبيّ صلى الله عليه وسلم هو الحاكي، وهو المحكي عنه، قال: وكأنه أُوحى إليه بذلك قبل وقوع القصّة، ولم يُسَمَّ ذلك النبيّ، فلمّا وقع له ذلك تَعَيَّن أنه هو المعنيّ بذلك.

= فيقول: اهد قومي، فإنهم لا يعلمون. وبه عن الأعمش، عن شقيق، عن عبد الله، فذكر نحو حديث الباب. انتهى.

(1)

"المفهم" 3/ 651.

(2)

"شرح النوويّ" 12/ 150.

(3)

"الفتح" 8/ 134 - 135، كتاب "أحاديث الأنبياء" رقم (3477).

ص: 305

قال الحافظ: ويَعْكُر عليه أن الترجمة لبني إسرائيل، فيتعيّن الحمل على بعض أنبيائهم.

وفي "صحيح ابن حبان" من حديث سهل بن سعد رضي الله عنها أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "اللهم اغفر لقومي، فإنهم لا يعلمون"، قال ابن حبان: معنى هذا الدعاء الذي قال يوم أُحد لَمّا شُجّ وجهه؛ أي: اغفر لهم ذنبهم في شَجّ وجهي، لا أنه أراد الدعاء لهم بالمغفرة مطلقًا؛ إذ لو كان كذلك لأجيب، ولو أجيب لأسلموا كلُّهم.

قال الحافظ: كذا قال، وكأنه بناه على أنه لا يجوز أن يتخلف بعض دعائه على بعض، أو عن بعض، وفيه نظر؛ لثبوت:"أعطاني اثنتين، ومنعني واحدة"

(1)

.

قال: ثم وجدت في "مسند أحمد" من طريق عاصم، عن أبي وائل ما يمنع تأويل القرطبيّ، ويعَيِّن الغزوة التي قال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، ولفظه:"قسم رسول صلى الله عليه وسلم غنائم حُنين بالجعرانة، قال: فازدحموا عليه، فقال: إن عبدًا من عباد الله بعثه الله إلى قومه، فكذّبوه، وشَجُّوه، فجعل يمسح الدم عن جبينه، ويقول: رب اغفر لقومي، فإنهم لا يعلمون، قال عبد الله: فكأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح جبهته، يحكي الرجل".

قال الحافظ: ولا يلزم من هذا الذي قاله عبد الله أن يكون النبيّ صلى الله عليه وسلم مسح أيضًا، بل الظاهر أنه حَكَى صفة مسح جبهته خاصّة، كما مسحها ذلك النبيّ، وظهر بذلك فساد ما زعمه القرطبيّ. انتهى ما قاله الحافظ رحمه الله

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي ذكره الحافظ رحمه الله في معنى حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه تحقيق نفيسٌ جدًّا.

(1)

هو ما أخرجه الطبرانيّ، عن عليّ رضي الله عنه مرفوعًا:"سألت ربي ثلاث خصال، أعطافي اثنتين، ومنعني واحدة، قلت: يا رب لا تهلك أمتي جوعًا، قال: هذه لك، قلت: يا رب لا تسلط عليهم عدوًّا من غيرهم - يعني: أهل الشرك - فيجتاحهم، قال: هذه لك، قلت: يا رب لا تجعل بأسهم بينهم، فمنعنيها". انتهى.

(2)

"الفتح" 8/ 135، كتاب "أحاديث الأنبياء" رقم (3477).

ص: 306

والحاصل أن المحكيّ عنه غير النبيّ صلى الله عليه وسلم من الأنبياء السابقين، لا هو، كما تبيّن ذلك من رواية أحمد المذكورة، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

(ويقُولُ

(1)

: "رَبِّ) بحذف حرف النداء" أي: يا ربّ، قال الحريريّ رحمه الله في "ملحته":

وَحَذْفُ "يَا" يَجُوزُ فِي النِّدَاءِ

كَقَوْلِهِمْ "ربِّ اسْتَجِبْ دُعَائِي"

(اغْفِرْ لِقَوْمِي، فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ")؛ أي: لأنهم لا يعلمون حقّيّة ما أدعوهم إليه، وإلا لَمَا تمرّدوا، بل استجابوا، أو إنهم لا يعلمون ما يأتي من العذاب في الدنيا والآخرة بتمرّدهم، وعنادهم.

قال النوويّ رحمه الله: فيه ما كان عليه الأنبياء - صلوات الله وسلامه عليهم - من الحلم، والتصبر، والعفو، والشفقة على قومهم، ودعائهم لهم بالهداية، والغفران، وعذرهم في جنايتهم على أنفسهم بأنهم لا يعلمون. انتهى

(2)

.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [35/ 4637 و 4638](1792)، و (البخاريّ) في "الأنبياء"(3477) و"استتابة المرتدّين"(6929)، و (ابن ماجه) في "الْفِتَن"(4025)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 427 و 453 و 456 - 457)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6576)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(4992 و 5072 و 5205 و 5216)، و (الطبريّ) في "تفسيره"(29/ 102)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 329)، و (البغويّ) في "شرح السُّنة"(3749)، وفوائده تقدّمت قبله، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4638]

(

) - (حَدَّثَنَا أبو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثنا وَكِيعٌ، وَمُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ، عَنِ الأَعْمَش، بِهَذَا الإِسْنَاد، غَيْرَ أنَّهُ قَالَ: فَهُوَ يَنْضِحُ

(3)

الدَّمَ عَنْ جَبِينِهِ).

(1)

وفي نسخة: "وهو يقول".

(2)

"شرح النوويّ" 12/ 150.

(3)

وفي نسخة: "وهو ينضح".

ص: 307

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ) العَبْديّ، أبو عبد الله الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ [9](ت 203)(ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 157.

والباقون ذُكروا في الباب.

[تنبيه]: رواية وكيع، عن الأعمش، ساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده" مقرونًا بأبي معاوية، فقال:

(4107)

- حدّثنا عبد الله

(1)

، حدّثني أبي، ثنا وكيع، وأبو معاوية، قالا: ثنا الأعمش، عن أبي وائل، قال: قال عبد الله: كأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يحكي نبيّا من الأنبياء، ضربه قومه، فهو ينضح الدم، قال أبو معاوبة: يمسح الدم عن جبينه، ويقول:"رب اغفر لقومي، فإنهم لا يعلمون". انتهى

(2)

.

ورواية محمد بن بشر، عن الأعمش، ساقها أبو عوانة رحمه الله في "مسنده"، مقرونًا بأبي معاوية أيضًا، فقال:

(6869)

- حدّثنا عليّ بن حرب، قال: ثنا محمد بن بِشْر، وأبو معاوية، قالا: ثنا الأعمش، عن شقيق، عن عبد الله، قال: كأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يَحكي نبيًّا ضربه قومه، يمسح الدم عن وجهه، ويقول:"رب اغفر لقومي، فإنهم لا يعلمون". انتهى

(3)

.

(36) - (بَابُ اشْتِدَادِ غَضَبِ اللهِ تَعَالَى عَلَى مَنْ قَتَلَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم

-)

وبالسند المتّصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4639]

(1793) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزاق، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ، قَالَ: هَذَا مَا حَدَّثَنَا أبو هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم،

(1)

هو عبد الله بن أحمد، ولد الإمام وراوي "المسند" عنه.

(2)

"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 1/ 432.

(3)

"مسند أبي عوانة" 4/ 329.

ص: 308

فَذَكَرَ أَحَادِيثَ، مِنْهَا: وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "اشْتَدَّ غَضَبُ اللهِ عَلَى قَوْم فَعَلُوا هَذَا بِرَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم

(1)

"، وَهُوَ حِينَئِذٍ يُشِيرُ إِلَى رَبَاعِيَتِه، وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "اشْتَدَّ غَضَبُ اللهِ عَلَى رَجُلٍ يَقْتُلُهُ رَسُولُ اللهِ فِي سَبِيلِ اللهِ عز وجل").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ) النيسابوريّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(عَبْدُ الرَّزَّاقِ) بن همّام الصنعانيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

3 -

(مَعْمَرُ) بن راشد، تقدّم أيضًا قريبًا.

4 -

(هَمَّامُ بْنُ مُنَبِّهِ) بن كامل الأبناويّ، أبو عقبة الصنعانيّ، ثقةٌ [4](ت 132)(ع) تقدم في "الإيمان" 26/ 213.

5 -

(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه تقدم في "المقدمة" 2/ 4.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل باليمنيين، غير شيخه، وقد دخل اليمن، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه، أحفظ من روى الحديث في دهره.

شرح الحديث:

(عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنبِّهٍ) أنه (قَالَ: هَذَا)؛ أي: الحديث الآتي، فاسم الإشارة مبتدأ، وقوله:(مَا) اسم موصول خبر عن "هذا"، (حَدَّثنَا أبو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَ) همّام (أَحَادِيثَ)، وقد تقدّم أن المراد بهذا هي الأحاديث المذكورة في "صحيفة همّام بن منبّه"، وهي (138) حديثًا، وهذا الحديث هو الحديث المائة منها، وقوله:(مِنْهَا) جارّ ومجرور خبر مقدّم، وقوله:(وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) مبتدأ مؤخّر، محكيّ؛ لِقَصْد لفظه، ("اشْتَدَّ غَضَبُ اللهِ عَلَى قَوْمٍ فَعَلُوا هَذَا)؛ أي: كَسْر رباعيته صلى الله عليه وسلم، كما فسّره بَعْدُ، وسقط من بعض النسخ لفظ:"هذا"، ولا بدّ من تقديره، والله تعالى أعلم

(1)

في بعض النسخ: "فعلوا برسول الله صلى الله عليه وسلم"، كلمة "هذا" ساقطة، فيقدّر المفعول؛ أي: فعلوا هذا الفعل.

ص: 309

(بِرَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم

(1)

")، وفي حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما: "اشتدّ غضب الله على قوم دَمَّوْا وجهَ نبيّ الله صلى الله عليه وسلم"، رواه البخاريّ، (وَهُوَ) صلى الله عليه وسلم (حِينَئِذٍ)؛ أي: حين قال هذا الكلام، (يُشِيرُ) بقوله: "هذا" (إلَى رَبَاعِيَتِهِ)؛ أي: إلى كسر رباعيته صلى الله عليه وسلم، وهو بفتح الراء، وتخفيف الموحّدة: السنّ التي بين الثنيّة والناب.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "اشتد غضب الله على قوم كسروا رباعية نبيّهم": يعني بذلك المباشِرَ لكسرها، ولشجّه، وهو: عمرو بن قَمِئة، فإنه لم يُسلم، ومات كافرًا، فهذا عموم، والمراد به الخصوص، وإلا فقد أسلم جماعة ممن شَهِدَ أُحُدًا كافرًا، ثم أسلموا، وحَسُن إسلامهم. انتهى

(2)

.

(وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (اشْتَدَّ غَضَبُ اللهِ عَلَى رَجُلٍ يَقْتُلُهُ رَسُولُ اللهِ) زاد سعيد بن منصور من مرسل عكرمة: "يقتله رسول الله بيده"، ولابن عائذ من طريق الأوزاعيّ:"بلغنا أنه لمّا جُرح رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أُحد أخذ شيئًا، فجعل يُنَشِّف به دمه، وقال: لو وقع منه شيء على الأرض، لنزل عليكم العذاب من السماء، ثم قال: اللهم اغفر لقومي، فإنهم لا يعلمون"

(3)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "اشتد غضب الله على رجل قتله رسول الله صلى الله عليه وسلم" هذا خصوص، والمراد به العموم في كل كافر قتله نبيّ من الأنبياء على الكفر، فيستوي في هذا الأنبياء كلهم، وقد جاء هذا نصًّا فيما ذكره البزار، عن ابن مسعود رضي الله عنه، مرفوعًا:"أشدّ الناس عذابًا يوم القيامة مَن قتل نبيًّا، أو قتله نبيّ، أو إمام ضلالة"

(4)

.

[تنبيه]: الذي قتله النبي صلى الله عليه وسلم بيده هو أُبيّ بن خلف، الجمحيّ، ولم يقتل

(1)

في بعض النسخ: "فعلوا برسول الله صلى الله عليه وسلم"، كلمة "هذا" ساقطة، فيقدّر المفعول؛ أي: فعلوا هذا الفعل.

(2)

"المفهم" 3/ 651.

(3)

"الفتح" 9/ 151، كتاب "المغازي" رقم (4073).

(4)

نقل المناوي في "فيض القدير"1/ 517: وروى أحمد، والبزار من حديث ابن مسعود موقوفًا:، أشد الناس عذابًا يوم القيامة من قتل نبيًّا، أو قتله نبيّ، وإمام جائر"، قال زين الدين الحفاظ العراقيّ في "شرح الترمذيّ": إسناده صحيح.

وقد حسّنه الشيخ الألباني في "صحيح الترغيب والترهيب".

ص: 310

بيده غيره، وقد ذكر ابن هشام رحمه الله في "السيرة" قصّة قتله، فقال: فلما أُسند رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشِّعب أدركه أُبَيَ بن خَلَف، وهو يقول: أي محمدُ لا نجوتُ إن نجوتَ، فقال القوم: يا رسول الله أيَعْطِف عليه رجل منا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "دعوه"، فلما دنا، تناول رسول الله صلى الله عليه وسلم الحربة من الحارث بن الصِّمّة، يقول بعض القوم فيما ذُكِر في: فلما أخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم منه انتفض بها انتفاضة، تطايرنا عنه تطاير الشعراء عن ظهر البعير، إذا انتفض بها - قال ابن هشام: الشعراء: ذباب له لَدّغٌ - ثم استقبله، فطعنه في عنقه طعنةً تدأدأ منها عن فرسه مرارًا - قال ابن هشام: تدأدأ: يقول: تَقَلّب عن فرسه - فجعل يتدحرج، قال ابن إسحاق: وكان أُبَيّ بن خلف، كما حدّثني صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، يلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، فيقول: يا محمد إن عندي الْعَوْذَ فرسًا أعلفه كلَّ يوم فَرَقًا من ذُرَةٍ، أقتلك عليه، فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:"بل أنا أقتلك إن شاء الله"، فلما رجع إلى قريش، وقد خَدَشه في عنقه خَدْشًا غير كبير، فاحتقن الدم، قال: قتلني والله محمد، قالوا له: ذهب والله فؤادك، والله إن بك من بأس، قال: إنه قد كان قال لي بمكة: أنا أقتلك، فوالله لو بَصَقَ عليّ لقتلني، فمات عدو الله بسَرِف، وهم قافلون به إلى مكة.

قال ابن إسحاق: فقال حسان بن ثابت رضي الله عنه في ذلك [من الوافر]:

لَقَدْ وَرِثَ الضّلَالَةَ عَنْ أَبِيهِ

أُبَيّ يَوْمَ بَارَزَهُ الرّسُولُ

أَتَيْتَ إلَيْهِ تَحْمِلُ رِمّ عَظْمٍ

وَتُوعِدُهُ وَأَنْتَ بِهِ جَهُولُ

وَقَدْ قَتَلَتْ بَنُو النّجّارِ مِنْكُم

أُمَيّةَ إذْ يُغَوّثُ يَا عَقِيلُ

وَتَبّ ابْنَا رَبِيعَةَ إذْ أَطَاعَا

أَبَا جَهْل لِأُمّهِمَا الْهَبُول

وَأَفْلَتْ حَارِثٌ لَمّا شَغَلْنَا

بِأسْرِ الْقَوْمِ أُسْرَتُهُ فَلَيْلُ

قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: أُسْرَتُهُ قَبِيلَتُهُ. وَقَالَ حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ رضي الله عنه أَيْضًا فِي ذَلِكَ [من الوافر أيضًا]:

أَلَا مَنْ مُبْلِغٌ عَنّي أُبَيّا

لَقَدْ أُلْقِيْتَ فِي سُحْقِ السّعِيرِ

تَمَنّى بِالضّلَالَةِ مِنْ بَعِيدٍ

وَتُقْسِمُ أَنْ قَدَرْت مَعَ النّذُورِ

تَمَنّيك الْأَمَانِيّ مِنْ بَعِيدٍ

وَقَوْلُ الْكُفْرِ يَرْجِعُ فِي غُرُورِ

ص: 311

فَقَدْ لَاقَتْك طَعْنَةُ ذِي حِفَاظٍ

كَرِيمِ الْبَيْتِ لَيْسَ بِذِي فُجُورِ

لَهُ فَضْلٌ عَلَى الْأَحْيَاءِ طُرّا

إذًا نَابَتْ مُلِمّاتُ الْأُمُورِ

(1)

وقوله: (فِي سَبِيلِ اللهِ عز وجل") احتراز ممن يقتله في حدّ، أو قصاص؛ لأن من يقتله في سبيل الله كان قاصدًا قتل النبيّ صلى الله عليه وسلم، قاله النوويّ رحمه الله

(2)

.

[تنبيه]: حديث أبي هريرة رضي الله عنه المذكور هنا، وكذا حديث ابن عباس رضي الله عنهما الذي أخرجه البخاريّ، وقد أشرت إليه آنفًا من مراسيل الصحابة، فإنهما لم يشهدا الوقعة، فكأنهما حملاها عمن شهدها، أو سمعاها من النبيّ صلى الله عليه وسلم بعد ذلك، أفاده في "الفتح"، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [36/ 4639](1793)، و (البخاريّ) في "المغازي"(4073)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 317 و 492)، و (إسحاق بن راهويه) في "مسنده"(1/ 433)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 330)، والله تعالى أعلم.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(37) - (بَابُ مَا لَقِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَذَى الْمُشْرِكِينَ)

(3)

وبالسند المتّصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4640]

(1794) - (وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبَانَ الْجُعْفِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحِيمِ - يَعْنِي: ابْنَ سُلَيْمَانَ - عَنْ زَكَرِيَّاءَ، عَنْ أَبِي إسْحَاقَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ الأَوْدِيّ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: بَيْنَمَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم

(1)

"سيرة ابن هشام" 2/ 84.

(2)

"شرح النووي" 12/ 150.

(3)

زاد الشرّاح هنا: "والمنافقين"، ولا حاجة إليه؛ لأنه لا ذِكر للمنافقين هنا، بل الباب التالي معقود لهم، ولذا أسقطته، فتنبّه.

ص: 312

يُصَلِّي عِنْدَ الْبَيْت، وَأَبُو جَهْلٍ وَأَصحَاب لَهُ جُلُوسٌ، وَقَدْ نُحِرَتْ جَزُورٌ بِالأَمْس، فَقَالَ أبو جَهْلٍ: أيُّكُمْ يَقُومُ إِلَى سَلَا جَزُورِ بَنِي فُلَانٍ، فَيَأْخُذُهُ، فَيَضَعُهُ فِي كتِفَيْ مُحَمَّدٍ، إِذَا سَجَدَ؟ فَانْبَعَثَ أَشْقَى الْقَوْم، فَأخَذَهُ، فَلَمَّا سَجَدَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَضَعَهُ بَيْنَ كَتِفَيْه، قَالَ: فَاسْتَضْحَكُوا، وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَمِيلُ عَلَى بَعْضٍ، وَأَنَا قَائِمٌ أنْظُرُ، لَوْ كَانَتْ لِي مَنَعَةٌ، طَرَحْتُهُ عَنْ ظَهْرِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم سَاجِدٌ، مَا يَرْفَعُ رَأسَهُ، حَتَّى انْطَلَقَ إِنْسَانٌ، فَأَخْبَرَ فَاطِمَةَ، فَجَاءَتْ، وَهِيَ جُويرِيَةُ، فَطَرَحَتْهُ عَنْهُ، ثمَّ أقبَلَتْ عَلَيْهِمْ تَشْتِمُهُمْ

(1)

، فَلَمَّا قَضَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم صَلَاَتهُ، رَفَعَ صَوْتَهُ، ثُمَّ دَعَا عَلَيْهِمْ، وَكَانَ إِذَا دَعَا دَعَا ثَلَاثًا، وَاِذَا سَأَلَ سَأَلَ ثَلَاثًا، ثُمَّ قَالَ:"اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ"، ثَلَاثَ مَرَّات، فَلَمَّا سَمِعُوا صَوْتَهُ ذَهَبَ عَنْهُمُ الضِّحْكُ، وَخَافُوا دَعْوَتَهُ، ثُمَّ قَالَ: "اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِأَيِي جَهْلِ بْنِ هِشَامٍ، وَعُتبةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَشَيْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَالْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ، وَأُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ، وَعُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ،، وَذَكَرَ السَّابعَ، وَلَمْ أحْفَظْهُ، فَوَالَّذِي بَعَثَ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم بِالْحَقِّ، لَقَدْ رَأَيْتُ الَّذِينَ سَمَّى صَرْعَى يَوْمَ بَدْرٍ، ثُمَّ سُحِبُوا إِلَى الْقَلِيب، قَلِيبِ بَدْرٍ.

قَالَ أبو إِسْحَاقَ: الْوَلِيدُ بْنُ عُقْبَةَ غَلَطٌ فِي هَذَا الْحَدِيثِ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ مُحَمَّدِ بْن أَبَانَ الْجُعْفِيُّ)

(2)

الأمويّ مولاهم، أبو عبد الرحمن الكوفيّ الملقّب مُشْكُدانه

(3)

، صدوقٌ فيه تشيّع [10](ت 239)(م د س) تقدم في "الاستسقاء" 5/ 2088.

2 -

(عَبْدُ الرَّحِيمِ بْنُ سُلَيْمَانَ) الكِنَانيّ، أو الطاليّ، أبو عليّ الأشلّ المروزيّ، نزيل الكوفة، ثقةٌ، له تصانيف، من صغار [8](187)(ع) تقدم في "الحيض" 26/ 817.

(1)

وفي نسخة: "تسبّهم".

(2)

في "التقريب": يقال له: الْجُعفيّ نسبة إلى خاله عليّ بن الحسين. اهـ.

(3)

بضم الميم، والكاف، بينهما شين معجمة ساكنة، وبعد الألف نون، ومعناه بالفارسيّة: وعاء المسك.

ص: 313

3 -

(زَكرِيَّاءُ) بن أبي زائدة، تقدّم قبل أربعة أبواب.

4 -

(أَبُو إِسْحَاقَ) عمرو بن عبد الله السَّبِيعيّ، تقدّم أيضًا قبل أربعة أبواب.

5 -

(عَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ الأَوْدِيُّ) أبو عبد الله، أو أبو يحيى اليمنيّ، نزيل الكوفة، مخضرمٌ ثقةٌ، عابدٌ، مشهورٌ [2](ت 74) أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 11/ 152.

6 -

(ابْنُ مَسْعُودٍ) عبد الله رضي الله عنه المذكور قبل حديث.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسلٌ بالكوفيين من أوله إلى آخره، وفيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ.

شرح الحديث:

(عَنْ زَكرِيَّاءَ) بن أبي زائدة خالد، وقيل غيره، (عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ) عمرو بن عبد الله السَّبيعيّ، (عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ الأَوْدِيِّ) وفي رواية للبخاريّ من طريق إبراهيم بن يوسف، عن أبيه، عن أبي إسحاق، قال:"حدّثني عمرو بن ميمون، أن عبد الله بن مسعود حدّثه"، فصرّح كلّ من أبي إسحاق، وعمرو بن ميمون بالتحديث فانتفت تهمة التدليس عن أبي إسحاق؛ لأنه مدلّس، وعمرو بن ميمون الأوديّ، تابعيّ، كبير، مخضرم، أسلم في عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولم يره، ثم نزل الكوفة، وهو غير عمرو بن ميمون الجزريّ. [تنبيه]: قال في "الفتح": هذا الحديث لا يروى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم إلا بإسناد أبي إسحاق هذا، وقد رواه الشيخان من طريق الثوريّ، والبخاريُّ أيضًا من طريق إسرائيل، وزهيرٍ، ومسلم من رواية زكريا بن أبي زائدة، وكلهم عن أبي إسحاق، وسنذكر ما في اختلاف رواياتهم من الفوائد، مبيّنًا إن شاء الله تعالى. انتهى

(1)

.

(عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ) رضي الله عنه، أنه (قَالَ: بَيْنَمَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي عِنْدَ الْبَيْتِ) الحرام، و"البيت" عَلَم بالغلبة للكعبة الشريفة، كما قال في "الخلاصة":

(1)

"الفتح" 1/ 595، كتاب "الوضوء" رقم (240).

ص: 314

وَقَدْ يَصِيرُ عَلَمًا بِالْغَلَبَهْ

مَضَافٌ أوْ مَصْحُوبُ "أَلْ" كَالْعَقَبَهْ

(وَأَبُو جَهْلٍ) هو عمرو بن هشام بن المغيرة المخزوميّ، فرعون هذه الأمة، وأبو جهل لقبله بصورة الكنية، وكانت قريش تكنّيه بأبي الحاكم، فكنّاه رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا جهل، ولهذا قال الشاعر [من الكامل]:

النَّاسُ كَنَّوْهُ أَبَا حَكَمٍ

وَاللهُ كَنَّاهُ أَبَا جَهْلِ

ويقال: كان يُكْنَى أبا الوليد، وكان يُعْرَف بابن الحنظلية، وكان أحول، وفي "الوشاح" لابن دريد: هو أول من حُزّ رأسه، ولما رآه صلى الله عليه وسلم قال:"هذا فرعون هذه الأمة"

(1)

.

(وَأَصْحَابٌ لَهُ) هم السبعة المدعوّ عليهم بعدُ، بيّنه البزّار من طريق الأجلح، عن أبي إسحاق. (جُلُوسٌ) جمع جالس، فقوله:"وأبو جهل" مبتدأ، و"أصحاب له" عطف عليه، و"جلوس" مرفوع على الخبريّة، ويجوز أن يكون "جلوس" خبرًا لـ"وأصحابٌ له"، وخبر "وأبو جهل" محذوف؛ لدلالة ما بعده عليه، على حدّ قول الشاعر:

نَحْنُ بِمَا عِنْدَنَا وَأَنْتَ بِمَا

عِنْدَكَ رَاضٍ وَالرَّأيُ مُخْتَلِفُ

والتقدير: ونحن راضون.

وجملة "وأبو جهل

إلخ " في محلّ نصب على الحال، وكذا قوله:(وَقَدْ نُحِرَتْ) بالبناء للمفعول، يقال: نحَرَه، كمَنَعَه نَحْرًا، وتنْحَارًا: إذا أصاب نَحْرَه، وهو أعلى الصدر، ونَحَر البَعِير: طَعَنه حيث يبدو الْحُلْقُومُ على الصدر، أفاده المجد

(2)

. (جَزُورٌ) - بفتح الجيم -: ما يُنحرُ من الإبل، يُطلق على الذكر والأنثى.

وقال المجد رحمه الله: "الْجَزُورُ": البعير، أو خاصّ بالناقة المَجْزورة، جَمْعه

(1)

راجع: "عمدة القاري" 3/ 258. وحديث: "هذا فرعون هذه الأمة" أخرجه البيهقيّ في "الكبرى"، وفي سنده انقطاع؛ لأن أبا عبيدة لم يسمع من أبيه ابن مسعود رضي الله عنه، وبعض أهل العلم يصحّح رواية أبي عبيدة عن أبيه، لأنه يرويها عن أكابر أصحابه؛ كعلقمة، وعَبِيدة، والأسود، ونحوهم.

(2)

راجع: "القاموس المحيط" ص 1267.

ص: 315

جزائرُ، وجُزُر، وجُزُرات، وما يُذبح من الشاء، واحدتها: جَزْرَة. انتهى

(1)

.

وقال الفيّوميّ رحمه الله: "الجَزُورُ" من الإبل خاصّةً، يقع على الذكر والأنثى، والجمع: جُزُرٌ، مثلُ رَسُول ورُسُل، ويجمع أيضًا على جُزُرَاتٍ، ثم على جَزَائِرَ، ولفظ الجزور أُنثى، يقال: رَعَت الجَزُورُ، قاله ابن الأنباريّ، وزاد الصغانيّ: وقيل: الجَزُورُ: الناقة التي تُنْحَر، وجَزَرْتُ الجَزُورَ وغيرها، من باب قَتَلَ: نَحَرتُها، والفاعل: جَزَّارٌ، والْحِرْفة: الجِزَارَةُ بالكسر، والمَجْزَرُ: موضع الْجَزْر، مثلُ جعفر، وربما دخلته الهاء، فقيل: مَجْزَرَةٌ. انتهى

(2)

.

وقوله: (بِالأَمْسِ) اسمٌ عَلَمٌ على اليوم الذي قبل يومك، ويُستعمَل فيما قبله مجازًا، وهو مبنيّ على الكسر، وبنو تميم تُعْربه إعراب ما لا ينصرف، فتقول: ذَهَبَ أَمْسُ بما فيه، بالرفع، قال الشاعر [من الرجز]:

لَقَدْ رَأَيْتُ عَجَبًا مُذْ أَمْسَا

عَجَائِزَا مَثْلَ السَّعالِي خَمْسًا

يَأْكُلْنَ مَا فِي رَحْلِهِنَّ هَمْسَا

لَا تَرَكَ اللهُ لَهُن ضِرْسَا

(3)

(فَقَالَ أبو جَهْلٍ: أَيُّكُمْ يَقُومُ إِلَى سَلَا جَزُورِ بَني فُلَانٍ) هو: بنو جُمَح

(4)

، و"السَّلَى" - بفتح السين المهملة مقصورًا - وزانُ الْحَصَى: هي الجلدة التي يكون فيها الولد، يقال لها ذلك من البهائم، وأما من الآدميات فالْمَشِيمة، وحَكَى صاحب "المحكم" أنه يقال فيهنّ أيضًا: سَلَى، وجمعه أسلاءٌ، مثلُ سَبَبٍ وأسباب

(5)

.

(فَيَأْخُذُهُ، فَيَضَعُهُ فِي كَتِفَيْ مُحَمَّدٍ) صلى الله عليه وسلم (إِذَا سَجَدَ)، وفي رواية للبخاريّ من طريق إسرائيل، عن أبي إسحاق:"فَيَعْمِدُ إلى فَرْثها، ودمها، وسلاها، ثم يمهله، حتى يسجد". (فَانْبَعَثَ)؛ أي: أسرع، وهو مطاوع بَعَثَه؛ أي: أرسله، فانبعث

(6)

. (أَشْقَى الْقَوْمِ)؛ أي: أشدّ القوم شَقَاوةً، هو: عقبة بن أبي معيط،

(1)

راجع: "القاموس المحيط" ص 213.

(2)

"المصباح المنير" 1/ 98.

(3)

"المصباح المنير"1/ 22.

(4)

"تنبيه المعلم" ص 311.

(5)

راجع: "الفتح" 1/ 595، و"المصباح المنير" 1/ 287.

(6)

"عمدة القاري"3/ 256.

ص: 316

كما بيّنه شعبة في الرواية التالية، وأبو مُعَيط - بعين وطاء مهملتين، مصغّرًا - وقيل: المنبعثُ هو أبو جهل، والأول هو الصحيح.

وإنما كان أشقاهم، مع أن فيهم أبا جهل، وهو أشدّهم كفرًا، وأذيً لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لكون عقبة باشر العملَ، فالشَّقَاء هنا بالنسبة إلى هذه القضية، فإنهم اشتركوا في الأمر والرِّضى، ولكن انفرد عقبةُ بالمباشرة، فكان أشقى، ولهذا قُتلُوا في الحرب، وقُتل هو صبرًا، أفاده في "الفتح".

(فَأَخَذَهُ)؛ أي: ذلك السَّلَى، (فَلَمَّا سَجَدَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَضَعَهُ بَيْنَ كَتِفَيْهِ) صلى الله عليه وسلم، وفي رواية:"فذهب به، ثمّ أمهله، فلَمّا خرّ ساجدًا، وضعه على ظهره".

(قَالَ) ابن مسعود رضي الله عنه (فَاسْتَضْحَكُوا) بالبناء للفاعل، هذا هو الظاهر، وضبطه القرطبيّ بالبناء للمفعول، وهو محلّ نظر، فتأمله، والمعنى: أنهم حَمَلوا أنفسهم على الضحك والسُّخريّة، ثم أخذ منهم الضحك جدًّا، (وَجَعَلَ)؛ أي: شَرَع (بَعْضُهُمْ يَمِيلُ عَلَى بَعْضٍ) من كثرة الضحك، قاتلهم الله تعالى، وقوله: "يميل

إلخ " كذا هو عند المصنّف، وكذا هو في رواية عند البخاريّ، وفي رواية له: "ويُحيل بعضهم على بعض"، قال في "الفتح": كذا هنا بالمهملة، من الإحالة، والمراد أن بعضهم يَنْسب فعل ذلك إلى بعض بالإشارة؛ تَهَكُّمًا، ويَحْتَمِل أن يكون من حال يَحِيل، بالفتح: إذا وَثَبَ على ظهر دابته؛ أي: يثب بعضهم على بعض من الْمَرَح، والْبَطَر. انتهى

(1)

.

وقوله: (وَأَنَا قَائِمٌ أَنْظُرُ) جملة حالية؛ أي: قال ابن مسعود رضي الله عنه: فعلوا هذا، والحال أني أنظر إلى ما يفعلون، (لَوْ كَانَتْ لِي مَنَعَة) قال النوويّ:"الْمَنَعَة" - بفتح النون -: الْقُوّة، قال: وحُكِي الإسكانُ، وهو ضعيف، وجزم القرطبي بسكون النون، قال: ويجوز الفتح على أنه جمعُ مانعٍ ككاتب وكَتَبَة، وقد رَجَّح القزاز، والهروي الإسكان في المفرد، وعكس ذلك صاحب "إصلاح المنطق"، وهو مُعتمد النوويّ، قال: وإنما قال ذلك؛ لأنه لم يكن له بمكة عشيرة؛ لكونه هُذَليًّا، حَلِيفًا، وكان حلفاؤه إذ ذاك كُفّارًا، وفي رواية البزار:"فأنا أرهب"؛ أي: أخاف منهم، وقوله:(طَرَحْتُهُ عَنْ ظَهْرِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم)

(1)

"الفتح" 1/ 596، كتاب "الوضوء" رقم (240).

ص: 317

جواب "لو"، وقوله:(وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم سَاجِدٌ) جملة حاليّة، (مَا) نافية؛ أي: لا (يَرْفَعُ رَأسَهُ) من السجود، (حَتَّى انْطَلَقَ إِنْسَانٌ) قيل: لعله ابن مسعود

(1)

. (فَأَخْبَرَ فَاطِمَةَ) بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنكحها عليّ بن أبي طالب بعد وقعة أُحد

(2)

، وسنُّها يومئذ خمس عشرة سنة وخمسة أشهر ونصفًا، رُوي لها عن رسول الله ثمانية عشر حديثًا، وفي "الصحيحين" لها حديث واحد، روت عنها عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، توفيت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بستة أشهر بالمدينة، وقيل بمائة يوم، وقيل غير ذلك، والأول أصحّ، وغسلها على رضي الله عنه، وصلى عليها، ودفنت ليلًا، وفضائلها لا تحصى، وكفى لها شرفًا كونها بضعة من رسول الله صلى الله عليه وسلم

(3)

.

قال عبد الرزاق، عن ابن جريج: قال لي غير واحد: كانت فاطمة أصغرهنّ - أي: أصغر بناته صلى الله عليه وسلم وأحبّهن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال ابن عبد البرّ: اضطرب مصعب بن الزبير في بنات رسول الله صلى الله عليه وسلم أيتهن أكبر وأصغر اضطرابًا يوجب أن لا يُلْتَفت إليه في ذلك، والذي تَسكن إليه النفس من ذلك أن الأولى: زينب، ثم رُقِّية، ثم أم كلثوم، ثم فاطمة، ويقال: إنَّ عليًّا تزوجها بعد أن ابتنى النبي صلى الله عليه وسلم بعائشة بأربعة ونصف، وذلك في سنة اثنتين من الهجرة، وكان سنها يوم تزوجها خمس عشرة سنة، وخمسة أشهر ونصفًا، ولم يتزوج عليها حتى ماتت.

وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فاطمة سيدة نساء أهل الجنّة"، وفي لفظ:"سيدة نساء المؤمنين"، وفي لفظ؛ "سيدّة نساء هذه الأمة"، متّفقٌ عليه.

(فَجَاءَتْ، وَهِيَ جُويرِيَةُ) تصغير جارية، وهي الْفَتِيّةُ من النساء، وجمعها جوارٍ

(4)

. (فَطَرَحَتْهُ)؛ أي: ذلك السلى (عَنْهُ)؛ أي: ظَهْره صلى الله عليه وسلم، (ثمَّ أقبَلَتْ) فاطمة رضي الله عنها (عَلَيْهِمْ)؛ أي: جماعة قريش الذين فعلوا الفعل القبيح بأشرف الأنبياء والمرسلين، وسيّد ولد آدم أجمعين، قبّحهم الله تعالى، وشانهم إلى يوم الدين، وقوله:(تَشْتِمُهُمْ) جملة حاليّة من الفاعل، وفي بعض النسخ:"تسبّهم"،

(1)

"تنبيه المعلم" ص 311.

(2)

وقيل: تزوجها عليّ رضي الله عنه بعدما ابتنى النبي صلى الله عليه وسلم بعائشة رضي الله عنها بأربعة أشهر ونصف.

(3)

راجع: "عمدة القاري" 3/ 258.

(4)

"القاموس" ص 212.

ص: 318

وزاد البزّار: "فلم يرُدّوا عليها شيئًا". (فَلَمَّا قَضَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم صَلَاَتهُ)؛ أي: فرغ من صلاته، وخرج منها بالتسليم، (رَفَعَ صَوْتَهُ ثُمَّ دَعَا عَلَيْهِمْ) وفي البزّار من طريق زيد بن أبي أُنيسة، عن أبي إسحاق:"فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد، اللهم"، قال البزّار: تفرّد بقوله: "أما بعد" زيدٌ، وفي رواية الأجلح، عند البزار:"فرفع رأسه، كما كان يرفعه عند تمام سجوده، فلما قَضَى صلاته، قال: اللهم". قال الحافظ: والظاهر منه أن الدعاء المذكور وقع خارج الصلاة، لكن وقع، وهو مستقبل الكعبة، كما ثبت من رواية زُهير، عن أبي إسحاق عند الشيخين

(1)

.

(وَكَانَ) صلى الله عليه وسلم (إِذَا دَعَا دَعَا ثَلَاثًا)؛ أي: ثلاث مرّات، (وَإِذَا سَأَلَ سَأَلَ ثَلَاثًا) قال النوويّ رحمه الله: السؤال هنا هو الدعاء، وإنما عَطَفه؛ لاختلاف اللفظ توكيدًا، (ثُمَّ قَالَ:"اللَّهُمَّ) أصله: يا ألله، حُذف منه حرف النداء، وعُوِّض عنه الميم المشدّدة، ولا يُسْتَعْمَل إلا في نداء لفظ الجلالة، ولا يُجْمَع بين "يا" والميم إلا في الضرورة الشعرية؛ كقوله:

إِنِّي إِذَا ما حَدَثٌ أَلَمَّا

أَقُولُ ياَ اللَّهُمَّ، يَا اللَّهُمَّا

قال في "الخلاصة":

وَالأكْثَرُ اللَّهُمَّ بالتَّعْويضِ

وَشَذَّ ياَ اللَّهُمَّ فِي قَريضِ

(عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ")؛ أي: ألحق نقمتك بهم، وأهلكهم، والمراد: الكفّار منهم، أو مَن سَمَّى منهم، فهو عامّ أُريد به الخصوص.

[فائدة]: "عليك": اسم فعل بمعنى الْزَمْ، وزيدًا مفعوله، وقد يتعدى إليه بالباء كـ"عليك بذات الدين"، فيكون بمعنى استمسك مثلًا، وقد صَرّح الرضيُّ بأنها زائدة؛ لأنها تُزاد كثيرًا في مفعول اسم الفعل؛ لِضَعف عمله.

وأما الكاف فهي ضمير عند الجمهور، لا حرف خطاب؛ لأن الجار لا يُستعمل بدونها، ولأن الياء والهاء في قولهم:"عَلَيَّ"، و"عليه"، ضميران اتّفاقًا، وهل هي فاعل باسم الفعلِ؟ أو مفعوله، والفاعل مستتر؛ أي: أَلْزِم أنت نفسك زيدًا، و"إليك"، بمعنى: نحِّ نفسك، وكذا الباقي؟ أو مجرورةٌ بالحرف

(1)

"الفتح" 1/ 596، كتاب "الوضوء" رقم (240).

ص: 319

في نحو "عليك؟ " وبالإضافة في نحو "دونك"، نظرًا للأصل قبل النقل، والفاعل مستتر، أقوال: أصحها ثالثها، فإذا قلت: عليكم كُلكُمْ زيدًا، جاز رفع "كلّ " توكيدًا للمستكنّ، وجرّه توكيدًا للمجرور.

وبهذا يُعْلَم أن اسم الفعل هو الجارّ فقط، وفاعله مستتر فيه، والكاف كلمة مستقلة، وقولهم: منقول من جار ومجرور فيه تسامح، ولم تجعل الكاف مجرورة به. ضافته بعد النقل؛ لأن اسم الفعل لا يَعْمَل الجرَّ، ولا يُضاف، فتدبّر، قاله الخضريّ رحمه الله في "حاشيته على شرح ابن عَقِيل على الخلاصة"

(1)

.

وقوله أيضًا: (عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ") - بصيغة التصغير - القبيلة المعروفة، وهو النضر بن كنانة، ومن لم يلده فليس من قريش، وقيل: قريش هو فهر بن مالك، ومن لم يلده فليس من قريش، نقله السهيلي، وغيره، والثاني أصح، وإن كان الأول قول الأكثرين، كما قال الحافظ العراقي في "ألفية السيرة":

أمَّا قُرَيْشٌ فَالأصَحُّ فِهْرُ

جَمَّاعُهَا والأكْثَرُونَ النَّضْرُ

وأصل الْقَرْش: الجمع، وتَقَرّشوا: إذا اجتمعوا، وبذلك سمّيت قريش؛ لتجمّعهم إلى مكة من حواليها بعد تفرقها في البلاد حين غلب عليها قصي بن كلاب، وبه سُمِّي قصي: مُجَمّعًا، وقيل: قريش دابة في البحر، لا تَدَعُ دابة إلا أكلتها، فجميع الدواب تخافها، ومنه اشتق قريش، قال الشاعر:

وَقُرَيْشُ التِي تَسْكُنُ الْبَحـ

ـرَ بِهَا سُمّيَتْ قُرَيْشٌ قُرَيْشَا

وقيل: سُمِّيت بقريش بن مخلد بن غالب بن فهر، كان صاحب عيرهم، فكانوا يقولون: قدمت عير قريش، وخرجت عير قريش، وقيل: سميت بذلك لِتَجْرهَا وَتَكَسُّبهَا، وضَرْبها في البلاد تبتغي الرزق، وقيل: سميت بذلك؛ لأنهم كانوا أهل تجارة، ولم يكونوا أصحاب زرع وضرع، من قولهم: فلان يقترش المال؛ أي: يجمعه، قال سيبويه: ومما غلب على الحيّ قريش، وإن جعلت قريشًا اسم قبيلة فعربيّ، وقال الجوهريّ: إن أردت بقريش الحيّ صرفته، وإن أردت القبيلة لم تصرفه، وفي "التهذيب": إذا نَسبوا إلى قريش قالوا: قُرَشي

(1)

"حاشية الخضريّ على شرح ابن عَقِيل على الخلاصة" 2/ 90.

ص: 320

بحذف الزيادة، وللشاعر إذا اضطر أن يقول: قريشيّ

(1)

.

(ثَلَاثَ مَرَّاتٍ)؛ أي: دعا عليهم ثلاث مرّات، وكرّره إسرائيل في روايته لفظًا، لا عددًا. (فَلَمَّا سَمِعُوا صَوْتَهُ ذهَبَ عَنْهُمُ الضِّحْكُ، وَخَافُوا دَعْوَتَهُ)، وفي رواية البخاريّ:"فشقّ عليهم إذ دعا عليهم، قال: وكانوا يَرَون أن الدعوة في ذلك البلد مستجابة".

قال في "الفتح": وقوله: "وكانوا يَرون" بفتح أوله في روايتنا، من الرأي؛ أي: يعتقدون، وفي غيرها بالضم؛ أي: يَظُنُّون، والمراد بالبلد: مكة، ووقع في "مُستَخرج أبي نعيم" من الوجه الذي أخرجه منه البخاريّ:"في الثالثة" بدل قوله: "في ذلك البلد"، ويناسبه قوله:"ثلاث مرّات"، ويمكن أن يكون ذلك مما بقي عندهم من شريعة إبراهيم عليه السلام. انتهى

(2)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: وخوفهم من دعوة النبيّ صلى الله عليه وسلم دليل على علمهم بفضله، وبصحة حاله، ومكانته عند الله تعالى، وأنه من الله تعالى بحيث يجيبه إذا دعاه، ولكن لم ينتفعوا بذلك للحسد، والشِّقْوة الغالبة عليهم. انتهى

(3)

.

(ثُمَّ قَالَ) وفي رواية البخاريّ: "ثم سَمَّى"؛ أي: فصّل مَن أَجمل، ("اللَّهُم عَلَيْكَ بِأَبِيِ جَهْلِ بْنِ هِشَامٍ) وفي رواية للبخاريّ:"اللهمّ عليك بعمرو بن هشام"، وهو اسم أبي جهل، فلعلّه سمّاه، وكَنَاه جميعًا. (وَعُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، و) أخيه (شَيْبَةَ بْن رَبِيعَةَ) بن عبد شمس، من بني أميّة بن عبد شمس بن عبد مناف، (وَالوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ) قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في جميع نسخ مسلم: "والوليد بن عقبة" بالقاف، واتَّفَق العلماء على أنه غلطٌ، وصوابه:"والوليد بن عُتْبة" بالتاء، كما ذكره مسلم في رواية أبي بكر بن أبي شيبة بعد هذا، وقد ذكره البخاريّ في "صحيحه"، وغيره، من أئمة الحديث على الصواب، وقد نَبَّهَ عليه إبراهيم بن سفيان في آخر الحديث، فقال:"الوليد بن عقبة" في هذا الحديث غلطٌ، قال العلماء: والوليد بن عقبة بالقاف، هو ابن

(1)

"لسان العرب" 5/ 358 بتصرّف، واختصار، وزيادة من "المصباح المنير".

(2)

" الفتح" 1/ 595، كتاب "الوضوء" رقم (240).

(3)

"المفهم" 3/ 653.

ص: 321

أبي مُعَيط، ولم يكن ذلك الوقت موجودًا، أو كان طفلًا صغيرًا جدًّا، فقد أُتي به النبيّ صلى الله عليه وسلم يوم الفتح، وهو قد ناهز الاحتلام؛ ليمسح على رأسه. انتهى

(1)

.

وقال في "الفتح": قوله: "والوليد بن عتبة" هو ولد عُتبة المذكور بعد أبي جهل، ولم تَختلف الروايات في أنه بعين مهملة، بعدها مثناة ساكنة، ثم مُوحّدة، لكن عند مسلم من رواية زكريا بالقاف بدل المثناة، وهو وَهَمٌ قديم، نَبَّهَ عليه ابن سفيان الراوي عن مسلم، وقد أخرجه الإسماعيليّ من طريق شيخ مسلم على الصواب. انتهى

(2)

.

(وَأُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ) كذا في رواية زكريّا بدون شكّ، وفي رواية شعبة التالية:"وأميّة بن خلف، أوابن بن خَلَف"، شعبة الشاكّ، قال في "الفتح": قوله: "وأمية بن خلف، في رواية شعبة: "أو أُبي بن خلف" شَكّ شعبة، وقد ذكر البخاريّ الاختلاف فيه عَقِب رواية الثوريّ في "الجهاد"، وقال: الصحيح أمية، لكن وقع عنده هناك أُبَيّ بن خلف، وهو وَهَمٌ منه، أو من شيخه أبي بكر عبد الله بن أبي شيبة إذ حدثه، فقد رواه شيخه أبو بكر في "مسنده"، فقال: "أمية"، وكذا رواه مسلم عن أبي بكر، والإسماعيليّ، وأبو نعيم، من طريق أبي بكر كذلك، وهو الصواب، وأطبق أصحاب المغازي على أن المقتول ببدر أمية، وعلى أن أخاه أُبيًّا قُتل بأحد. انتهى

(3)

.

(وَعُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ)، واسم أبي مُعَيط أبان بن أبي عمرو، (وَذَكَرَ السَّابعَ، وَلَمْ أَحْفَظْهُ)، وقد وقع في رواية البخاريّ تسمية السابع: أنه عُمارة بن الوليد، وفي رواية البخاريّ:"وعَدَّ السابع، فلم نحفظه".

قال في "الفتح": قوله: "وعَدَّ السابع، فلم نحفظه" وقع في روايتنا بالنون، وهي للجمع، وفي غيرها بالياء التحتانية، قال الكرمانيّ: فاعل "عَدَّ" رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو ابن مسعود، وفاعل:"فلم نحفظه" ابن مسعود، أو عمرو بن ميمون.

(1)

"شرح النوويّ" 12/ 152.

(2)

"الفتح" 1/ 595، كتاب "الوضوء" رقم (240).

(3)

"الفتح" 1/ 595، كتاب "الوضوء" رقم (240).

ص: 322

قال الحافظ: ولا أدري من أين تهيأ له الجزم بذلك؟ مع أن في رواية الثوريّ عند مسلم ما يدلّ على أن فاعل: "فلم نحفظه" أبو إسحاق، ولفظه:"قال أبو إسحاق: ونسيت السابع"، وعلى هذا ففاعل "عَدَّ" عمرو بن ميمون، على أن أبا إسحاق قد تذكّره مرة أخرى، فسمّاه عُمارة بن الوليد، كذا أخرجه البخاريّ في "الصلاة" من رواية إسرائيل، عن أبي إسحاق، وسماع إسرائيل من أبي إسحاق في غاية الإتقان؛ للزومه إياه؛ لأنه جدّه، وكان خِصِّيصًا به، قال عبد الرحمن بن مهديّ: ما فاتني الذي فاتني من حديث الثوريّ، عن أبي إسحاق، إلا اتكالًا على إسرائيل؛ لأنه كان يأتي به أتمّ، وعن إسرائيل قال: كنت أحفظ حديث أبي إسحاق، كما أحفظ سورة الحمد.

واستَشْكَل بعضهم عَدَّ عُمارة بن الوليد في المذكورين؛ لأنه لم يُقتل ببدر، بل ذكر أصحاب المغازي أنه مات بأرض الحبشة، وله قِصّة مع النجاشيّ؛ إذ تَعَرَّض لامرأته، فأمر النجاشيّ ساحرًا، فنفخ في إحليل عمارة من سحره؛ عقوبةً له، فتوحّش، وصار مع البهائم، إلى أن مات في خلافة عمر، وقصته مشهورة.

والجواب أن كلام ابن مسعود رضي الله عنه في أنه رآهم صرعى في القليب، محمول على الأكثر، ويدلّ عليه أن عقبة بن أبي معيط لم يُطْرَح في القليب، وإنما قُتل صبرًا بعد أن رَحَلوا عن بدر مرحلةً، وأمية بن خلف لم يُطْرح في القليب كما هو، بل مُقطّعًا. انتهى

(1)

.

وقال في "العمدة": وكان عقبة بن أبي معيط من المستهزئين أيضًا، وذكر محمد بن حبيب أنه من زنادقة قريش، واسم أبي مُعيط: أبان بن أبي عمرو، والذي دعا عليهم النبيّ صلى الله عليه وسلم سبعة أنفس كما ذُكروا، وهم: أبو جهل، وعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة، وأمية بن خلف، وعقبة بن أبي مُعيط، وعمارة بن الوليد بن المغيرة.

أما أبو جهل فقتله معاذ بن عمرو بن الْجَمُوح، ومعاذ ابن عفراء، ذكره في "الصحيح"، ومَرّ عليه ابن مسعود، وهو صريع، واحتزّ رأسه، وأتى به

(1)

"الفتح" 1/ 598، كتاب "الوضوء" رقم (240).

ص: 323

رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: هذا رأس عدو الله، ونَفّله رسول الله صلى الله عليه وسلم سيفه، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"الحمد لله الذي أخزاك يا عدو الله، هذا كان فرعون هذه الأمة، ورأس أئمة الكفر"، وفي رواية البيهقيّ: فخَرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ساجدًا.

وأما عتبة بن ربيعة فقتله حمزة رضي الله عنه، وقيل: اشترك حمزة وعليّ رضي الله عنهما في قتله.

وأما شيبة بن ربيعة بن عبد شمس أخو عتبة بن ربيعة، فقتله حمزة أيضًا.

وأما الوليد بن عتبة - بالتاء المثناة من فوقُ - فقتله عُبيدة بن الحارث، وقيل: عليّ، وقيل: حمزة، وقيل: اشتركا في قتله.

وأما أمية بن خلف بن صفوان بن أمية، فقد اختَلَف أهل السير في قتله، فذكر موسى بن عقبة أنه قتله رجل من الأنصار، من بني مازن، وقال ابن إسحاق: إن معاذ ابن عَفْراء، وخارجة بن زيد، وحبيب بن إساف اشتركوا في قتله، وادَّعى ابن الجوزيّ أنه صلى الله عليه وسلم قتله، وفي "السِّيَر" من حديث عبد الرحمن بن عوف أن بلالًا رضي الله عنه خرج إليه، ومعه نفر من الأنصار، فقتلوه، وكان بدينًا

(1)

، فلما قُتل انتفخ، فألقوا عليه التراب حتى غيَّبه، ثم جُرّ إلى القليب، فتقطّع قبل وصوله إليه، وكان من المستهزئين، وفيه نزل قوله تعالى:{وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1)} [الهمزة: 1] وهو الذي كان يُعَذّب بلالًا في مكة.

وأما عقبة بن أبي مُعيط فقتله عليّ رضي الله عنه، وقيل: عاصم بن ثابت، والأصح أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قتله بعِرْق الظُّبْية.

وأما عُمارة بن الوليد فقد ذكرنا أمره مع النجاشيّ، ومات زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في أرض الحبشة. انتهى

(2)

.

قال ابن مسعود رضي الله عنه: (فَوَالَّذِي بَعَثَ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم بِالْحَقِّ)، وفي رواية البخاريّ:"فوالذي نفسي بيده"، وفي رواية النسائيِّ:"والذي أنزل عليه الكتاب"، وكأن عبد الله قال كلّ ذلك تأكيدًا. الَقَدْ رَأَيْتُ الَّذِينَ سَمَّى) أي: سمّاهم النبيّ صلى الله عليه وسلم، (صَرْعَى) جمع صَرِيع، قال الفيوميّ رحمه الله: والصَّريع من الأغصان ما

(1)

وقع في النسخة: "بينا"، والظاهر أنه تصحيف من "بدينًا"، فتأمل.

(2)

"عمدة القاري" 3/ 259.

ص: 324

تَهَدَّلَ، وسقط إلى الأرض، ومنه قيل للقتيل: صَريع، والجمع صَرْعَى. انتهى.

(يَوْمَ بَدْرٍ، ثُمَّ سُحِبُوا إِلَى الْقَلِيبِ)، وفي رواية إسرائيل عند البخاريّ:"لقد رأيتهم صرعى يوم بدر، ثم سحبوا إلى القليب قليب بدر"، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"وأُتبع أصحاب القليب لعنةً".

قال في "الفتح": وهذا يَحْتَمِل أن يكون من تمام الدعاء الماضي، فيكون فيه عَلَمٌ عظيم من أعلام النبوة، ويَحْتَمِل أن يكون قاله النبيّ صلى الله عليه وسلم عدم بعد أن أُلقوا في القليب، وزاد شعبة في روايته:"إلا أمية، فإنه تقطّعت أوصاله"، زاد:"لأنه كان بادنًا". انتهى

(1)

.

وقوله: (قَلِيبِ بَدْرٍ) بجرّ "قليب" على البدليّة، و"القليب" بفتح القاف، وآخره موحّدة: هي البئر التي لم تُطْوَ، وقيل: هي البئر العاديّة القديمة التي لا يُعرف صاحبها.

قال العلماء: وإنما وُضِعوا في القليب؛ تحقيرًا لهم، ولئلا يتأذى الناس برائحتهم، وليس هو دفنًا؛ لأن الحربيّ لا يجب دفنه، قال النوويّ: قال أصحابنا: بل يُترَك في الصحراء، إلا أن يُتأذى به

(2)

.

وقال الحافظ: والظاهر أن البئر لم يكن فيها ماءٌ مَعِينٌ

(3)

.

وقال القاضي عياض: اعتَرَض بعضهم على هذا الحديث في قوله: "رأيتهم صرعى ببدر"، ومعلوم أن أهل السِّير قالوا: إن عُمارة بن الوليد، وهو أحد السبعة كان عند النجاشيّ، فاتهمه في حُرْمته، وكان جميلًا وَسِيمًا، فنفخ في إحليله سِحْرًا، فهام مع الوحوش في بعض جزائر الحبشة، فهلك.

قال القاضي: وجوابه: أن المراد أنه رأى أكثرهم، بدليل أن عقبة بن أبي مُعيط منهم، ولم يُقتل ببدر، بل حُمل منها أسيرًا، وإنما قتله النبيّ صلى الله عليه وسلم صبرًا بعد انصرافه من بدر، بعِرْق الظُّبية

(4)

.

قال النوويّ: "الظُّبية" بظاء معجمة مضمومة، ثم جاء موحدة ساكنة، ثم

(1)

"الفتح" 1/ 599، كتاب "الوضوء" رقم (240).

(2)

"شرح النوويّ" 12/ 153.

(3)

"الفتح" 1/ 599.

(4)

"إكمال المعلم" 6/ 167 - 168.

ص: 325

ياء مثناة تحتُ، ثم هاء، هكذا ضبطه الحازميّ في كتابه "المؤتلف في الأماكن"، قال: قال الواقديّ: هو من الرَّوْحاء على ثلاثة أميال، مما يلي المدينة. انتهى

(1)

.

[فائدة]: رَوَى هذا الحديث ابن إسحاق في "المغازي"، قال: حدّثني الأجلح، عن أبي إسحاق، فذكر هذا الحديث، وزاد في آخره قصة أبي الْبَخْتَريّ مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في سؤاله إياه عن القصة، وضَرْب أبي البختريّ أبا جهل، وشجّه إياه، والقصة مشهورة في "السيرة"، وأخرجها البزار من طريق أبي إسحاق، وأشار إلى تفرد الأجلح بها، عن أبي إسحاق، قاله في "الفتح"

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قصَّة أبي البختريّ التي أشار إليها في "الفتح"، أخرجها أبو بكر البزّار رحمه الله في "مسنده"، فقال؛

(1853)

- حدَّثنا إبراهيم بن عبد الله بن الجنيد، قال: حدَّثنا داود بن عمرو، قال: حدَّثنا المثنى بن زرعة أبو راشد، عن محمد بن إسحاق، قال: حدّثني الأجلح، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون الأوديّ، عن عبد الله، قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، وأبو جهل بن هشام، وشيبة، وعتبة، ابنا ربيعة، وعقبة بن أبي مُعيط، وأُمتة بن خلف، قال أبو إسحاق: ورجلان آخران لا أحفظ أسماءهما كانوا سبعة، وهم في الْحِجْر، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي، فلما سجد أطال السجود، فقال أبو جهل: أيّكم يأتي جَزور بني فلان، فيأتينا بفرثها، فيلقيه على محمد صلى الله عليه وسلم؟ فانطلق أشقاهم عقبة بن أبي معيط، فأَتَى به، فألقاه على كتفيه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ساجد، قال ابن مسعود: وأنا قائم، لا أستطيع أن أتكلم، ليس عندي عَشِيرة تمنعني، فأنا أرهب، إذ سَمِعَت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبلت حتى ألقت ذلك عن عاتقه، ثم استقبلت قريشًا، فسبّتهم، فلم يرجعوا إليها شيئًا، ورفع رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه، كما كان يرفعه عند تمام سجوده، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاته، قال: "اللهم عليك بقريش

(1)

"شرح النوويّ" 12/ 152.

(2)

"الفتح" 1/ 599، كتاب "الوضوء" رقم (240).

ص: 326

- ثلاثًا - عليك بعتبة، وعقبة، وأبي جهل، وشيبة". ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من المسجد، فلقيه أبو الْبَخْتَريّ، ومع أبي البختري سوط يتخصر به، فلما رأى النبيّ صلى الله عليه وسلم أنكر وجهه، فقال: ما لك؟ فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم ـ: خَلِّ عني، قال: عَلِم الله لا أخلي عنك، أو تخبرَني ما شأنك؟ فلقد أصابك شيء، فلما علم النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه غير مُخَلٍّ عنه أخبره، فقال: إن أبا جهل أَمَر، فطُرِح عليّ فرثٌ، فقال أبو البختريّ: هلم إلى المسجد، فأتى النبيّ صلى الله عليه وسلم وأبو البختري، فدخلا المسجد، ثم أقبل أبو البختريّ إلى أبي جهل، فقال: يا أبا الحكم، أنت الذي أمرت بمحمد، فطُرح عليه الفرث؟ قال: نعم، قال: فرفع السوط، فضرب به رأسه، قال: فثارت الرجال بعضها إلى بعض، قال: وصاح أبو جهل: ويحكم هي له، إنما أراد محمد أن يُلقي بيننا العداوة، وينجو هو وأصحابه.

قال البزّار: وهذا الحديث بهذا اللفظ لا نعلم رواه - إلا الأجلح، وقد رواه إسرائيل، وشعبة، وزيد بن أبي أنيسة، وغيرهم، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون، عن عبد الله. انتهى

(1)

.

وقوله: (قَالَ أبو إِسْحَاقَ) هو: إبراهيم بن محمد بن سفيان النيسابوريّ المتوفّى سنة (257 هـ) راوي "صحيح مسلم" عنه، وقد تقدّمت ترجمته في "المقدّمة" 6/ 73.

(الْوَليدُ بْنُ عُقْبَةَ غَلَطٌ في هَذَا الْحَدِيثِ)؛ يعني: أن الصواب هو الوليد بن عتبة، لا الوليد بن عقبة، كما أسلفنا تحقيقه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث ابن مسعود رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [37/ 4640 و 4641 و 4642 و 4643](1794)، و (البخاريّ) في "الوضوء"(240) و"الصلاة"(520) و"الجهاد"(2934)

(1)

"مسند البزار" 2/ 429 - 430.

ص: 327

و"الجزية والموادعة"(3185) و"مناقب الأنصار"(3854) و"المغازي"(3960)، و (النسائيّ) في "المجتبى"(1/ 162) و"الكبرى"(1/ 130 و 5/ 203)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(7/ 332 و 355)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 393 و 397 و 417)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(785)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 285 و 287 و 288)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(1/ 232)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(9/ 211)، و (البزار) في "مسنده"(5/ 241 و 248)، و (أبو نعيم) في "دلائل النبوّة"(1/ 64)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(9/ 7)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان ما لقيه النبيّ صلى الله عليه وسلم من أذى قريش له في سبيل الدعوة إلى الله عز وجل.

2 -

(ومنها): تعظيم الدعاء بمكة عند الكفار، وما ازداد عند المسلمين إلا تعظيمًا عظيمًا.

3 -

(ومنها): معرفة الكفّار بصدق النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ لخوفهم من دعائه، ولكن لأجل شقائهم الأزليّ، حملهم الحسَدُ والعِناد على ترك الانقياد له.

4 -

(ومنها): تحلّمه صلى الله عليه وسلم عمن آذاه، ففي رواية الطيالسيّ، عن شعبة في هذا الحديث:"أن ابن مسعود رضي الله عنه قال: لم أره دعا عليهم إلا يومئذ"، وإنما استحقّوا الدعاء حينئذ؛ لِمَا أقدموا عليه من التهكم به حال عبادته لربه سبحانه وتعالى، قال النوويّ رحمه الله: هذه إحدى دعواته صلى الله عليه وسلم المجابة.

5 -

(ومنها): استحباب الدعاء ثلاثًا.

6 -

(ومنها): بيان محبَّة الله تعالى لنبيِّه صلى الله عليه وسلم وإجابته في مثل هذا الدعاء، وهو من أدلّة نبوّته، وصحّتها

(1)

.

7 -

(ومنها): جواز الدعاء على الظالم، وقال بعضهم: محلّه ما إذا كان كافرًا، فأما المسلم فيستحب الاستغفار له، والدعاء له بالتوبة.

ولو قيل: لا دلالة فيه على الدعاء على الكفار، لَمَا كان بعيدًا؛ لاحتمال

(1)

"المفهم" 3/ 654.

ص: 328

أن يكون صلى الله عليه وسلم عَلِمَ أن المذكورين لا يؤمنون، والأولى أن يُدعى لكل حي بالهداية.

8 -

(ومنها): أن المباشرة أقوى من السبب وآكد، وذلك؛ لأنه قال في عقبة بن أبي مُعيط:"أشقى القوم" مع أنه كان فيهم أبو جهل، وهو أشدّ منه كفرًا، ولكن كان عقبة مباشرًا على ما مرّ بيانه.

9 -

(ومنها): قُوّة نفس فاطمة رضي الله عنها من صِغَرها؛ لِشَرَفها في قومها ونفسها، حيث صرخت بشتمهم، وهم رؤوس قريش، فلم يردّوا عليها.

10 -

(ومنها): أنه استُدِلّ به على أن مَن حَدَث له في صلاته ما يمنع انعقادها ابتداءً، لا تبطل صلاته، ولو تمادى، فلو كانت نجاسةَ، فأزالها في الحال، ولا أثر لها صحت صلاته اتفاقًا.

11 -

(ومنها): ما قال النوويّ: وفي هذا الحديث إشكالٌ، فإنه يقال: كيف استمرّ في الصلاة، مع وجود النجاسة على ظهره؟

وأجاب القاضي عياض بأن هذا ليس بنجس، قال: لأن الفرث، ورطوبة البدن طاهران، والسَّلا من ذلك، وإنما النجس الدم.

قال النوويّ: وهذا الجواب يجيء على مذهب مالك، ومن وافقه أن روث ما يؤكل لحمه طاهر، ومذهبنا، ومذهب أبي حنيفة، وآخرين نجاسته، وهذا الجواب الذي ذكره القاضي ضعيفٌ، أو باطل؛ لأن هذا السَّلا يتضمن النجاسة من حيث إنه لا ينفك من الدم في العادة، ولأنه ذبيحة عبّاد الأوثان، فهو نجس، وكذلك اللحم، وجميع أجزاء هذا الجزور.

وأما الجواب المرضيُّ أنه صلى الله عليه وسلم يَعْلَم ما وُضع على ظهره، فاستمرّ في سجوده؛ استصحابًا للطهارة، وما ندري هل كانت هذه الصلاة فريضة، فتجبَ إعادتها على الصحيح عندنا، أم غيرها، فلا تجب؟ فإن وجبت الإعادة فالوقت موسَّع لها، فإن قيل: يَبْعُد أن لا يُحِسّ بما وقع على ظهره، قلنا: وإن أَحَسّ به فما يتحقق أنه نجاسة. انتهى كلام النوويّ

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: جواب القاضي عياض: هو الصحيح، لا كما

(1)

"شرح النوويّ" 12/ 151.

ص: 329

قال النوويّ: إنه ضعيف، أو باطل، فالمذهب الصحيح في هذه المسألة هو ما ذهب إليه من قال بطهارة روث ما يؤكل لحمه، وبوله؛ لأدلّة صحيحة، تقدّم بيانها في "كتاب الطهارة"، ومنها هذا الحديث، فتأمل بالإنصاف، ولا تكن أسير التقليد، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4641]

(

) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَمُحَمَّدُ بْنُ بَشَارٍ - وَاللَّفْظُ لِابْنِ الْمُثَنَّى - قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدثنَا شُعْبَةُ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا إِسْحَاقَ يُحَدِّثُ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ، عَنْ عَبْدِ الله، قَالَ: بَيْنَمَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم سَاجِدٌ، وَحَوْلَهُ نَاسٌ مِنْ قُرَيْشٍ، إِذْ جَاءَ

(1)

عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ بِسَلَا جَزُورٍ، فَقَذَفَهُ عَلَى ظَهْرِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَمْ يَرْفَعْ رَأْسَهُ، فَجَاءَتْ فَاطِمَةُ، فَأَخَذَتْهُ عَنْ ظَهْرِه، وَدَعَتْ عَلَى مَنْ صَنَعَ ذَلِكَ، فَقَالَ: (اللَّهُم عَلَيْكَ الْمَلأَ مِنْ قُرَيْشٍ: أَبَا جَهْلِ بْنَ هِشَامٍ، وَعُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، وَعُقْبَةَ بْنَ أَبِي مُعَيْطٍ، وَشَيْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، وَأُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ، أَوْ أُبَيَّ بْنَ خَلَفٍ"، شُعْبَةُ الشَّاكُّ، قَالَ: فَلَقَدْ رَأَيْتُهُمْ قُتِلُوا يَوْمَ بَدْرٍ، فَأُلْقُوا فِي بِئْرٍ، غَيْرَ أَنَّ أُمَيةَ، أَوْ أُبَيًّا تَقَطعَتْ

(2)

أَوْصَالُهُ، فَلَمْ يُلْقَ في الْبِئْرِ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) أبو موسى الْعَنَزيّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ) الملقّب ببندار، تقدّم أيضًا قريبًا.

3 -

(مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ) الملقّب بغندر، تقدّم أيضًا قريبًا.

4 -

(شُعْبَةُ) بن الحجّاح الإمام الشهير، تقدّم أيضًا قريبًا.

والباقون ذُكروا قبله.

وقوله: (بَيْنَمَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم سَاجِدٌ) قال في (اللسان: أَصلُ "بَيْنا" بيْنَ، فأُشبِعتْ الفتحة، فصارت أَلفًا، ويقال: بَيْنا، وبَيْنما، وهما ظرفا زمانٍ، بمعنى المفاجأَة، ويضافان إلى جملة، من فعلٍ وفاعلٍ، ومبتدإِ وخبر، ويحْتاجان إلى جواب يَتِمُّ به المعنى، قال: والأَفصَح في جوابهما أَن لا يكون فيه "إذْ"،

(1)

"ونسخة: "إذ جاءه".

(2)

وفي نسخة: "انقطعت".

ص: 330

و"إذا"، وقد جاءا في الجواب كثيرًا، تقول: بَينا زيدٌ جالسٌ دخَل عليه عمرٌو، وإذ دخَل عليه، وإذا دخل عليه، ومنه قول الحُرَقة بنت النُّعمان [من الطويل]:

فَبَيْنا نَسوسُ الناسَ والأَمرُ أَمْرُنا

إذا نحنُ فيهمْ سُوقةٌ نَتَنَصَّفُ

(1)

.

وقوله: ("اللَّهُمَّ عَلَيْكَ الْمَلأَ)؛ أي: خذهم، وأهلكهم، قال الفيومي:"الملأ" - مهموزًا: أشراف القوم، سُمُّوا بذلك؛ لمَلَاءَتهم بما يُلتَمَس عندهم من المعروف، وجَوْدة الرأي، أو لأنهم يملأون العيون أُبَّهَةً، والصدور هَيْبةً، والجمع: أمْلاء، مثل سَبَب وأسْبَاب. انتهى.

وقوله: (أَبَا جَهْلِ بْنَ هِشَامٍ

إلخ) بنصب "أبا"ـ، وما عُطف عليه على البدليّة من "الملأَ".

وقوله: (وَأُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ، أوْ أُبَي بْنَ خَلَفٍ"، شُعْبَةُ الشَّاكُّ) تقدّم أن الصحيح أنه أُميّة بن خلف، لا أخوه أُبيّ بن خلف؛ لأنه لم يُقتل مع هؤلاء ببدر، وإنما قتله النبيّ صلى الله عليه وسلم بأُحُد، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

وقوله: (غَيْرَ أَنَّ أُمَيَّةً، أَوْ أُبيًّا) قد عرفت آنفًا أن الصحيح أنه أُميّة، لا أُبيّ، فلا تنس. وقوله:(تَقَطعَتْ)، وفي بعض النسخ:"انقطعت".

وقوله: (أَوْصَالُهُ) بفتح الهمزة؛ أي: ممّا صله، وقال المجد: الأوصالُ: المفاصل، أو مُجتَمَعُ العظام، وجمعُ وُصل - بالكسر والضمّ - لكلّ عظم لا يُكسر، ولا يَختلط بغيره. انتهى

(2)

.

وقوله: (فَلَمْ يُلْقَ فِي الْبِئْرِ) هكذا هو في بعض النسخ: "فلم يُلْقَ" بالقاف فقط، وفي أكثرها:"فلم يُلْقَى" بالألف؛ يقول الشاعر [من الطويل]:

وَتَضْحَكُ مِنِّي شَيْخَة عَبْشَمِيَّةٌ

كَأَنْ لَمْ تَرَى قَبْلِي أَسِيرًا يَمَانِيَا

قيل: هو ضرورةٌ، وذكر في "همع الهوامع" أنه لغة، وخُرّج عليها قراءة قُنبُل:(إنه من يتّقي ويصبِرْ) بإثبات ياء (يَتَّقِي)، مع جزم (يصبِرْ

(3)

.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام شرحه، وبيان المسائل المتعلّقة به في الحديث الماضي، ولله الحمد والمنّة.

(1)

"لسان العرب" 13/ 62.

(2)

"القاموس المحيط"ص 1402.

(3)

راجع: "حاشية الخضريّ على شرح ابن عَقِيل" 1/ 67.

ص: 331

وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4642]

(

) - (وَحَدَّثَنَا أبو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ عَوْنٍ، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، بِهَذَا الإِسْنَادِ نَحْوَهُ، وَزَادَ: وَكَانَ يَسْتَحِبُّ ثَلَاثًا، يَقُولُ: "اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ، اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ، اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ، ثَلَاثًا، وَذَكَرَ فِيهِمُ الْوَلِيدَ بْنَ عُتْبَةَ، وَأُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ، وَلَمْ يَشُك، قَالَ أبو إِسْحَاقَ: وَنَسِيتُ السَّابعَ).

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم قبل باب.

2 -

(جَعْفَرُ بْنُ عَوْنِ) بن جعفر بن عمرو بن حُريث المخزوميّ، أبو عون الكوفيّ، صدوقٌ [9](ت 6 أو 207)(ع) تقدم في "الإيمان" 46/ 295.

3 -

(سُفْيَانُ) الثوريّ، تقدّم قريبًا.

و"أبو إسحاق" هو السبيعيّ، ذُكر قبله.

وقوله: (وَزَادَ) فاعل "زاد" ضمير سفيان الثوريّ.

وقوله: (وَكَانَ يَسْتَحِبُّ ثَلَائًا) قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في نسخ بلادنا "يستحبّ" بالموحّدة في آخره، وذكر القاضي عياض أنه رُوي بالموحّدة، وبالمثلّثة، قال: وهو الأظهر، ومعناه الإلحاح. انتهى

(1)

.

وقوله: (وَذَكَرَ فِيهِمُ الْوَلِيدَ بْنَ عُتْبَةَ، وَأُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ، وَلَمْ يَشُكَّ) فاعل "ذَكَر" أيضًا ضمير "سفيان"، ثم إن ذِكْره الوليد بن عتبة، هو الصواب، كما تقدّم؛ لأن في رواية زكريّا المتقدّمة ذِكْر الوليد بن عقبة، وقد سبق أنه غلط، وكذا عدم شكه في أميّة بن خلف، هو الصواب، وقد سبق أن شعبة شكّ في أميّة بن خلف، أو أُبيّ بن خلف، وسبق أن الصواب أنه أميّة بن خلف، فتنبّه.

وقوله: (قَالَ أبو إِسْحَاقَ: وَنَسِيتُ السَّابعَ) هو موصول با لإسناد المذكور، قال في "الفتح": وكأن أبا إسحاق لَمّا حدّث سفيان الثوريّ بهذا الحديث كان نسي السابع، وقد ثبت في رواية أن السابع هو عُمارة بن الوليد، أخرجه

(1)

"شرح النوويّ" 12/ 154 - 155.

ص: 332

البخاريّ في "الصلاة" من "صحيحه"، من رواية إسرائيل بن يونس، عن أبي إسحاق السبيعيّ، فتنبّه.

[تنبيه]: رواية سفيان الثوريّ، عن أبي إسحاق هذه ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه" بسند المصنّف، فقال:

(2934)

- حدّثنا عبد الله بن أبي شيبة، حدّثنا جعفر بن عون، حدّثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون، عن عبد الله رضي الله عنه قال: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يصلي في ظلّ الكعبة، فقال أبو جهل، وناس من قريش، ونُحِرت جَزُور بناحية مكة، فأرسلوا، فجاؤوا من سَلاها، وطرحوه عليه، فجاءت فاطمة، فألقته عنه، فقال:"اللهم عليك بقريش، اللهم عليك بقريش، اللهم عليك بقريش"، لأبي جهل بن هشام، وعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة، وأُبَيّ بن خَلَف، وعقبة بن أبي مُعيط، قال عبد الله: فلقد رأيتهم في قليب بدر قتلى.

قال أبو إسحاق: ونسيت السابع، وقال يوسف بن إسحاق، عن أبي إسحاق:"أمية بن خلف"، وقال شعبة:"أمية، أو أُبَيّ"، والصحيح:"أُمية". انتهى

(1)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4643]

(

) - (وَحَدَّثَنِي سَلَمَةُ بْنُ شَبِيبٍ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَعْيَنَ، حَدَّثنَا زُهَيْرٌ، حَدَّثنَا أبو إِسْحَاقَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ، عَنْ عَبْدِ الله، قَالَ: اسْتَقْبَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْبَيْتَ، فَدَعَا عَلَى سِتَّةِ نَفَرٍ مِنْ قُرَيْشٍ، فِيهِمْ أبو جَهْلٍ، وَأُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ، وَعُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَشَيْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَعُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ، فَأُقْسِمُ بِالله، لَقَدْ رَأَيْتُهُمْ صَرْعَى عَلَى بَدْرٍ، قَدْ غَيَّرَتْهُمُ الشَّمْسُ

(2)

، وَكَانَ يَوْمًا حَارًّا).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(سَلَمَةُ بْنُ شَبِيبٍ) المِسْمَعيّ النيسابوريّ، نزيل مكة، ثقةٌ، من كبار [11] مات سنة بضع و (240)(م 4) تقدم في "المقدمة" 6/ 60.

(1)

"صحيح البخاريّ" 3/ 1072.

(2)

وفي نسخة: "وقد غيّرتهم".

ص: 333

2 -

(الْحَسَنُ بْنُ أَعْيَنَ) هو: الحسن بن محمد بن أعين، نُسب لجدّه، أبو عليّ الْحَرّانيّ، صدوقٌ [9](ت 210)(خ م س) تقدم في "الإيمان" 4/ 119.

3 -

(زُهَيْرُ) بن معاوية بن حُدَيج، تقدّم قريبًا.

والباقون ذُكروا قبله.

وقوله: (عَلَى سِتَّةِ نَفَرٍ

إلخ) تقدّم أنهم سبعة، وسادسهم: عمارة بن الوليد، وسابعهم: أمية بن خلف.

وقوله: (فَأُقْسِمُ بِاللهِ) إنما حلف ابن مسعود رضي الله عنه على ذلك للمبالغة في تأكيد خبره.

وقوله: (لَقَدْ رَأَيتُهُمْ صَرْعَى)؛ كقتلى وزنًا ومعنًى.

وقوله: (عَلَى بَدْرٍ) متعلّق بـ "رأيتهم"، أو "على" بمعنى "في"؛ أي: مَرْميين في بئر بدر.

وقوله: (قَدْ غَيَّرَتْهُمُ الشَّمْسُ)، وفي بعض النسخ:"وقد غيّرتهم الشمس"؛ أي: غيّرت ألوانهم إلى السواد، أو غيّرت أجسادهم بالانتفاخ، وقد بيَّن سبب ذلك بقوله:"وكان يومًا حارًّا".

وقوله: (وَكَانَ يَوْمًا حَارًّا)؛ أي: كان اليومُ يومًا شديد الحرارة، و"الحَرُّ" بالفتح: خلاف البرد، يقال: حَرّ اليومُ، والطعام يَحَرُّ، من باب تَعِبَ، وحَرَّ حَرًّا، وحُرُورًا، من بابي ضَرَبَ، وقَعَدَ لغةٌ، والاسم: الحَرَارَةُ، فهو حَارّ، وحَرَّتِ النارُ تَحَرُّ، من باب تَعِبَ: تَوَقَّدت، واسْتَعَرَتْ

(1)

.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى البحث فيه مستوفًى قبل حديثين، ولله الحمد والمنة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4644]

(1795) - (وَحَدَّثَنِي أبو الطَّاهِرِ أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ سَرْحٍ، وَحَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، وَعَمْرُو بْنُ سَوَّادٍ الْعَامِرِيُّ - وَألفَاظُهُمْ مُتَقَارِبَةٌ - قَالُوا: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، حَدَّثَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْر، أَنَّ

(1)

"المصباح المنير" 1/ 129.

ص: 334

عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَدَّثَتْهُ أَنَّهَا قَالَتْ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: يَا رَسُولَ الله، هَلْ أَتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ كَانَ أَشَدَّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ؟ فَقَالَ: "لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِك، وَكَانَ أَشَدَّ مَا لَقِيتُ مِنْهُمْ يَوْمَ الْعَقَبَةِ؛ إِذْ عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَى ابْنِ عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ عَبْدِ كُلَالٍ، فَلَمْ يُجِبْنِي إِلَى مَا أَرَدْتُ، فَانْطَلَقْتُ، وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي، فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلَّا بِقَرْنِ الثَّعَالِب، فَرَفَعْتُ رَأسِي، فَإِذَا أَنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِي، فَنَظَرْتُ، فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ، فَنَادَانِي، فَقَالَ: إِنَّ اللهَ عز وجل قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ، وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ، وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الْجِبَالِ؛ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ، قَالَ: فَنَادَانِي مَلَكُ الْجِبَال، وَسَلَّمَ عَلَيَّ، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّ اللهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ، وَأَنَا مَلَكُ الْجبَال، وَقَدْ بَعَثَنِي رَبُّكَ إِلَيْكَ؟ لِتَأمُرَنِي بِأْمْرِكَ، فَمَا شِئْتَ؟ إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ

(1)

عَلَيْهِمُ الأَخْشَبَيْنِ"، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللهُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ وَحْدَهُ، لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا").

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(أَبُو الطَّاهِرِ أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ سَرْحٍ) المصريّ، ثقةٌ [10](ت 250)(م د س ق) تقدم في "المقدمة" 3/ 10.

2 -

(حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى) التُّجيبيّ، أبو حفص المصريّ، صاحب الشافعيّ، صدوقٌ [11](ت 3 أو 244)(م س ق) تقدم في "المقدمة" 3/ 14.

3 -

(عَمْرُو بْنُ سَوَّادٍ

(2)

الْعَامِرِيُّ) أبو محمد المصريّ، تقدّم قبل باب.

4 -

(ابْنُ وَهْبٍ) عبد الله القرشيّ مولاهم، أبو محمد المصريّ، تقدّم أيضًا قبل باب.

5 -

(يُونُسُ) بن يزيد الأيليّ، أبو يزيد الأمويّ مولاهم، ثقةُ ثبتٌ، من كبار [7](ت 159)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 14.

6 -

(ابْنُ شِهَابٍ) محمد بن مسلم الإمام الحجة المشهور، من رؤوس [4](ت 12)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" ج 1 ص 348.

(1)

"وفي نسخة: "أن أطبقتُ".

(2)

بتشديد الواو.

ص: 335

7 -

(عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ) بن الْعَوّام الأسديّ، أبو عبد الله المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ [3](ت 94) وقيل غير ذلك (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" ج 2 ص 407.

8 -

(عَائِشَةُ) بنت الصدّيق رضي الله عنهما (ت 57)(ع) تقدّمت في "شرح المقدّمة" ج 1 ص 315.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وأن نصفه الأول مسلسل بالمصريين، ويونس، وإن كان أيليًّا، إلا أنه نزل مصر، والثاني بالمدنيين، وفيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ، وفيه عروة أحد الفقهاء السبعة المجموعين في قول الحافظ العراقيّ رحمه الله في "ألفيّة الحديث":

وَفِي الْكِبَارِ الْفُقَهَاءُ السَّبْعَةُ

خَارِجَةُ الْقَاسِمُ ثُمَّ عُرْوَةُ

ثُمَّ سُلَيْمَانُ عُبَيْدُ اللهِ

سَعِيدُ وَالسَّابِعُ ذُو اشْتِبَاهِ

إِمَّا أبو سَلَمَةٍ أَوْ سَالِمُ

أَوْ فَأبُو بَكْرٍ خِلَافٌ قَائِمُ

وفيه عائشة رضي الله عنها من المكثرين السبعة المجموعين في قولي:

الْمُكْثِرُونَ فِي رِوَايَةِ الْخَبَرْ

مِنَ الصَّحَابَةِ الأَكَارِمِ الْغُرَرْ

أَبُو هُرَيْرَةَ يَلِيهِ ابْنُ عُمَرْ

فَأنَسٌ فَزَوْجَةُ الْهَادِي الأَبَرّْ

ثُمَّ ابْنُ عَبَّاسٍ يَلِيهِ جَابِرُ

وَبَعْدَهُ الْخُدْرِيُّ فَهْوَ الآخِرُ

شرح الحديث:

(عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) محمد بن مسلم الزهريّ، أنه قال:(حَدَّثَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ) بن العوّام (أَن) خالته (عَائِشَةَ) رضي الله عنها (زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَدَّثَتْهُ أنَّهَا قَالَتْ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: يَا رَسُولَ الله، هَلْ أتى)؛ أي: مضى، (عَلَيْكَ يَوْمْ كَانَ أَشَدَّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ؟)؛ تعني: يوم غزوة أحد التي كانت في سنة ثلاث من الهجرة؛ كأن عائشة رضي الله عنها تظنّ أن ما لقيه النبيّ صلى الله عليه وسلم يوم أُحد أشدّ ما لقيه. (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("لَقَدْ لَقِيتُ) بكسر القاف، (مِنْ قَوْمِكِ) - بكسر الكاف - خطابًا لعائشة رضي الله عنها، والمراد بقومها: كفّار قريش، ومفعول "لقِيت" محذوف: لقيتُ الأذى منهم، ولفظ البخاريّ:"لقد لقِيتُ من قومك ما لقيتُ"، (وَكَانَ أَشَدَّ مَا لَقِيتُ مِنْهُمْ يَوْمَ الْعَقَبَةِ) ضُبط "أشدّ" في مطبوع البخاريّ على النسخة اليونينيّة بالرفع والنصب، كما أشار

ص: 336

إليه القسطلّانيّ، واقتصر ابن الملك على النصب، على أنه خبر "كان"، واسمها ضمير عائد على مقدّر، وهو المفعول المحذوف، فيكون المعنى: كان ما لقيتُ من قومك يوم العقبة أشدَّ ما لقيتُ منهم، و"يوم العقبة" هو اليوم الذي وقف فيه النبيّ صلى الله عليه وسلم عند العقبة التي بمنى، وهي التي تُنْسَب إليها جمرة العقبة، داعيًا الناس إلى الإسلام، فما أجابوه، بل آذوه، وذلك اليوم صار معروفًا.

وقال القرطبيّ رحمه الله: "يوم العقبة": هو اليوم الذي لَقِي فيه ابنَ عبد ياليل بن عبد كُلال في آخرين، فكَذَّبوه، وسبُّوه، واستهزؤوا به، فرجع عنهم، فلقيه سُفهاء قريش، فرَمَوه بالحجارة، حتى أدموا رجليه، وآذوه أذًى كثيرًا. انتهى

(1)

.

(إِذْ) ظرف لـ"لقِيتُ"، (عَرَضْتُ نَفْسِي)؛ أي: حين عَرَضت نفسي، و"عَرَضتُ" بفتح الراء، مبنيًّا للفاعل، يقال: عَرَضتُ المتاع للبيع، من باب ضرب: إذا أظهرته لذوي الرغبة؛ ليشتروه

(2)

، والمعنى هنا: أنه صلى الله عليه وسلم أظهر نفسه لهم؛ ليقبلوا دعوته. (عَلَى ابْنِ عَبْدِ يَالِيلَ) متعلّق بـ "عَرَضتُ"، و"ياليل" - بتحتانية، وبعد الألف لام مكسورة، ثم تحتانية ساكنة، ثم لام - (ابْنِ عَبْدِ كُلَالٍ) - بضم الكاف، وتخفيف اللام، وآخره لام - واسمه كِنَانة، والذي في "المغازي" أن الذي كلّمه هو عبد ياليل نفسه، وعند أهل النسب أن عبد كلال أخوه، لا أبوه، وأنه عبد ياليل بن عمرو بن عُمير بن عوف، ويقال: اسم ابن عبد ياليل: مسعود، وله أخ أعمى، له ذِكْر في "السيرة" في قذف النجوم عند المبعث النبويّ، وكان ابن عبد ياليل من أكابر أهل الطائف، من ثقيف.

وقد روى عبد بن حميد في "تفسيره" من طريق ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد في قوله تعالى:{عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف: 31] قال: نزلت في عُتبة بن ربيعة، وابن عبد ياليل الثقفيّ، ومن طريق قتادة قال: هما الوليد بن المغيرة، وعروة بن مسعود، ورواه ابن أبي حاتم من وجه آخر، عن مجاهد، وقال فيه: يعني: كنانة.

وروى الطبريّ من طريق السُّدّيّ قال: هما الوليد بن المغيرة، وكنانة بن عبد بن عَمرو بن عُمير عظيم أهل الطائف.

(1)

"المفهم" 3/ 654.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 403.

ص: 337

وقد ذكر موسى بن عقبة، وابن إسحاق أن كنانة بن عبد ياليل وَفَدَ مع وفد الطائف سنة عشر، فأسلموا.

وذكره ابن عبد البرّ في الصحابة لذلك، لكن ذكر المدينيّ أن الوفد أسلموا إلا كنانة، فخرج إلى الروم، ومات بها بعد ذلك، والله أعلم.

وذكر موسى بن عقبة في "المغازي"، عن ابن شهاب أنه صلى الله عليه وسلم لما مات أبو طالب، توجه إلى الطائف؛ رَجَاءَ أن يُؤووه، فعمد إلى ثلاثة نفر، من ثقيف، وهم سادتهم، وهم إخوةٌ: عبد ياليل، وحبيب، ومسعود، بنو عمرو، فعَرَض عليهم نفسه، وشَكَى إليهم ما انتَهَك منه قومه، فرَدُّوا عليه أقبح ردّ، وكذا ذكره ابن إسحاق بغير إسناد مُطَوَّلًا، وذكر ابن سعد أن ذلك كان في شوال سنة عشر من المبعث، وأنه كان بعد موت أبي طالب وخديجة.

(فَلَمْ يُجِبْني) بضمّ أوله، من الإجابة، يقال: أجابه إجابةً، وأجاب قوله، واستجاب له: إذا دعاه إلى شيء، فأطاع

(1)

، والمعنى: أن ابن عبد ياليل لم يُطِعني (إِلَى) تحقيق (مَا أَرَدْتُ) بحذف العائد؛ أي: طلبته منه. (فَانْطَلَقْتُ)؛ أي: ذهبت من عنده (وَأَنَا مَهْمُومٌ) جملة في محلّ نصب على الحال من الفاعل، (عَلَى وَجْهِي) متعلّق بـ "انطلقتُ"؛ أي: ذهبت هائمًا على الجهة المواجهة لي، لا أدري أين أتوجّه، من شدّة ما استتبعه عدم إجابته، من أقبح الردود من غيره إلى أن اجترؤوا على الرضخ بالحجارة، (فَلَمْ أَسْتَفِقْ)؛ أي: لم أرجع مما أنا فيه من الهمّ، والغمّ. والإفاقة، والاستفاقة: رجوع الفهم إلى الإنسان بعدما شُغل عنه، وقال المجد رحمه الله: أفاق من مرضه: رجعت الصحّة إليه، أو رجع إلى الصحّة، كاستفاق. انتهى

(2)

.

وقال النوويّ: "لم أستفق"؛ أي: لم أُوَطِّن لنفسي، وأتنبّه لحالي، وللموضع الذي أنا ذاهب إليه، وفيه، إلا وأنا عند قرن الثعالب؛ لكثرة همّي الذي كنت فيه

(3)

.

وقال الأبيّ: "لم أستفق"؛ أي: لم أنتبه، وقال السنوسيّ: لم أفطن

(1)

"المصباح المنير" 1/ 113.

(2)

"القاموس المحيط" ص 1018.

(3)

شرح النوويّ" 12/ 155.

ص: 338

لنفسي. انتهى

(1)

.

وحاصل المعنى: أنه صلى الله عليه وسلم لم يرجع إليه ما غاب من حسّه بسبب تحيّره، واغتمامه بردّ هذا الرجل عَرْض نفسه عليه إلا وهو بالمكان المسمّى بقرن الثعالب.

(إلَّا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ)؛ أي: إلا بالمكان المسمّى به، وهو بفتح القاف، وسكون الراء، و"الثعالب": جمع الثعلب الحيوان المشهور، وهو موضع بقرب مكة.

وقال النوويّ: هو ميقات أهل نجد، ويقال له: قرن المنازل - بفتح الميم - ويقال: هو على مرحلتين من مكة، وأصل القرن: كلُّ جبل صغير منقطع من جبل كبير.

وقال القاضي عياض: يقال فيه: قرنٌ غير مضاف، على يوم وليلة من مكة، قال: ورواه بعضهم بفتح الراء، وهو غلط.

وقال القابسيّ: مَن سَكَّن الراءَ أراد الجبل الْمُشرِف على الموضع، ومن فتحها أراد الطريق الذي يتفرق منه، فإنه موضع فيه طُرُق متفرقة. انتهى

(2)

.

وفي "أخبار مكة" للفاكهيّ: أن قرن الثعالب جبل مشرف على أسفل منى، بينه وبين مسجد منى ألف وخمسمائة ذراع، وقيل له: قرن الثعالب؛ لكثرة ما كان يأوي إليه من الثعالب.

وأفاد ابن سعد أن مدة إقامته صلى الله عليه وسلم بالطائف كانت عشرة أيام

(3)

.

(فَرَفَعْتُ رَأسِي) إلى السماء (فَإِذَا أَنَا بسَحَابَةٍ)"إذا" هي الفجائيّة؛ أي: ففاجأني وجود سحابة، وقوله:(قَدْ أَظَلَّتْنِي) جملة في محلّ جرّ صفة لـ "سحابة"، (فَنَظَرْتُ) إلى تلك السحابة (فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ) عليه السلام (فَنَادَانِي، فَقَالَ: إِنَّ اللهَ عز وجل قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ) فيه إثبات صفة السمع لله عز وجل، وقد أورد الحديث البخاريّ رحمه الله في "كتاب التوحيد" من "صحيحه" استدلالًا على إثبات هذه الصفة. (وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ)؛ أي: أجابوك به، ويَحْتَمِل أن يكون أراد:

(1)

"شرح الأبّي" 5/ 135.

(2)

"عمدة القاري" 15/ 142.

(3)

راجع: "الفتح" 7/ 530، كتاب "بدء الخلق" رقم (3224).

ص: 339

ردّهم ما دعاهم إليه من التوحيد بعدم قبولهم له

(1)

. (وَقَدْ بَعَثَ) بالبناء للفاعل؛ أي: أرسل الله تعالى (إِلَيْكَ مَلَكَ الْجِبَالِ)؛ أي: الملك الموكّل بالتصرّف في الجبال، (لِتَأمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ)؛ أي: من إهلاكهم بإطباقها عليهم. (قَالَ) صلى الله عليه وسلم (فَنَادَانِي مَلَكُ الْجِبَالِ، وَسَلَّمَ عَلَيَّ، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّ اللهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ)؛ أي: قول قريش لك، حيث ردّت الدعوى، وآذت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنعت أن يؤدّي رسالة ربّه سبحانه وتعالى، ولذا توجّه إلى الطائف؛ ليبحث عمن يؤويه، وينصره حتى يؤدّي الرسالة، ويواصل الدعوة، غير أن أهل الطائف أيضًا لم يُحسنوا، بل أساءوا، فردّوا عليه، فرجع مهمومًا أشدّ الهمّ، حتى نسي المكان الذي هو فيه، فما أفاق إلا وهو بقرن الثعالب. (وَأنا مَلَكُ الْجِبَال، وَقَدْ بَعَثَنِي رَبُّكَ إِلَيْكَ؛ لِتَأَمُرَنِي بِأَمْرِكَ، فَمَا شِئْتَ؟)"ما" استفهاميّة مفعول مقدّم لـ"شئت"؛ أي: أي شيء شئتَ؟، حتى أفعَلَهُ، ويَحْتَمِل أن تكون موصولة مبتدأ، والخبر محذوف؛ أي: فالذي شئته فعلته.

وفي رواية البخاريّ: "فقال: ذلك فيما شئت إن شئت". قال في "الفتح": كذا لأبي ذرٍّ، عن شيخيه، وله عن الكشميهنيّ مثله، إلا أنه قال:"فما شئت"، وقد رواه الطبرانيّ عن مِقْدام بن داود، عن عبد الله بن يوسف، شيخ البخاريّ:"فقال: يا محمد، إن الله بعثني إليك، وأنا ملك الجبال؛ لتأمرني بأمرك فيما شئت، إن شئت".

وقوله: "ذلك" مبتدأ، وخبره محذوف، تقديره: كما عَلِمتَ، أو كما قال جبريل، وقوله:"ما شئت؟ " استفهام، وجزاء الشرط مقدر؛ أي: إن شئت فعلتُ

(2)

.

(إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ) بضمّ حرف المضارعة، من الإطباق؛ أي: أجعلهما عليهم كالطَّبَق، وجواب "إن" محذوف؛ أي: فعلتُ، والمعنى: إن شئت أن أضُمَّ الجبلين، وأجعلهما كالطبَق عليهم حتى يهلكوا فعلتُ، ووقع في بعض النسخ:"أن أَطْبقتُ" بصيغة الماضي، والأولى أوضح. (عَلَيْهِمُ الأَخْشَبَيْنِ) - بفتح

(1)

"الفتح" بتصرّف يسير 17/ 330، كتاب "التوحيد" رقم (7389).

(2)

"الفتح" 7/ 530، كتاب "بدء الخلق" رقم (3224).

ص: 340

الهمزة، وبالخاء، والشين المعجمتين -: هما جبلا مكة: أبو قُبيس، والذي يقابله، وكأنه قُعيقعان، وقال الصغانيّ: بل هو الجبل الأحمر الذي يُشرف على قُعيقعان.

قال الحافظ رحمه الله: ووَهِمَ من قال: هو ثور؛ كالكرمانيّ، وسُمِّيا بذلك؛ لصلابتهما، وغِلَظ حجارتهما، والمراد بإطباقهما: أن يَلتقيا على مَن بمكة، ويَحْتَمِل أن يريد أنهما يصيران طَبَقًا واحدًا. انتهى

(1)

.

(فَقَالَ لَهُ)؛ أي: لمَلَك الجبال عليه السلام، (رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) لا أريد هذا، (بَلْ أَرْجُو) كذا هو عند البخاريّ للأكثرين، وللكشميهني:"أنا أرجو"، (أَنْ يُخْرِجَ اللهُ) بضم الياء، من الإخراج، (مِنْ أَصْلَابِهِمْ) - بفتح الهمزة: جمع صُلْب؛ أي: ظهورهم، قال المجد رحمه الله:"الصُّلْب" بالضمّ، وبالتحريك: عظمٌ من لدن الكاهل إلى الْعَجْب؛ كالصَّالب، جمعه: أَصْلُبٌ، وأَصلابٌ، وصِلَبَةٌ. انتهى

(2)

. (مَنْ يَعْبُدُ اللهَ وَحْدَهُ) منصوب على الحال، وإن كان معرفةً؛ لتأويله بالنكرة؛ أي: منفردًا، كما قال ابن مالك رحمه الله في "الخلاصة":

وَالْحَالُ إِنْ عُرِّفَ لَفْظًا فَاعْتَقِدْ

تَنْكِيرَهُ مَعْنًى كـ "وحْدَكَ اجْتَهِدْ"

وقوله: (لَا يُشْرِكُ بهِ شَيْئًا") تفسير لـ"وحْدَهُ"، وقد حقّق الله سبحانه وتعالى رجاءه، فأخرج الله تعالى من أصلابهم رجالًا كانوا يعبدونه حقّ عبادته، قاموا بالتوحيد، ونَشْر الدعوة إلى الله عز وجل في أصقاع الأرض، {رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [النور: 37] وهم: مِن الصحابة، والتابعين، ومَن بعدهم.

وقال القرطبي رحمه الله: وإذا تأمّلتَ هذا الحديث انكشف لك من حاله صلى الله عليه وسلم معنى قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)} [الأنبياء: 107]

(3)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا متّفقٌ عليه.

(1)

"الفتح"7/ 530، كتاب "بدء الخلق" رقم (3224).

(2)

"القاموس المحيط" ص 747.

(3)

"المفهم" 3/ 654.

ص: 341

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [37/ 4644](1795)، و (البخاريّ) في "بدء الخلق"(3231) و"التوحيد"(7389)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(4/ 405)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6561)، و (أبو نعيم) في "دلائل النبوّة"(312)، و (ابن خزيمة) في "التوحيد"(ص 47 - 48)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 340)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(8/ 370)، و (الآجرّيّ) في "الشريعة"(ص 459)، و (البيهقي) في "الأسماء والصفات"(ص 176)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان ما لاقاه النبيّ صلى الله عليه وسلم من أذى قومه له، وإدبارهم عن قبول الدعوة، وشدّة صبره على ذلك حتى فتح الله عليه، ودخل الناس في دين الله أفواجًا، فحقّق الله تعالى له ما وعده بقوله:{وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (173)} [الصافات: 171 - 175]، وقوله:{إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51)} الآية [غافر: 51].

2 -

(ومنها): بيان ما كان عليه الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من الابتلاء بقومهم حتى يعظم لهم الأجر، وتُرفع درجاتهم عند الله تعالى.

3 -

(ومنها): بيان شفقة النبيّ صلى الله عليه وسلم على قومه، ومزيد صبره، وحِلْمه، وهو موافق لقوله تعالى:{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} [آل عمران: 159]، وقوله:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)} [الأنبياء: 107].

4 -

(ومنها): حِرص عائشة رضي الله عنها، وشدّة رغبتها في طلب العلم.

5 -

(ومنها): إثبات صفة العلم لله تعالى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4645]

(1796) - (حَدَّثنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَقتيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي عَوَانَةَ، قَالَ يَحْيَى: أَخْبَرَنَا أبو عَوَانَةَ، عَنِ الأَسْوَدِ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ جُنْدُبِ بْنِ سُفْيَانَ، قَالَ: دَمِيَتْ إِصْبَعُ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَعْضِ تِلْكَ الْمَشَاهِد، فَقَالَ:

ص: 342

"هَلْ أَنْتِ إِلَّا إِصْبَعٌ دَمِيتِ

وَفي سَبِيلِ اللهِ مَا لَقِيتِ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أَبُو عَوَانَةَ) الوضّاح بن عبد الله اليشكريّ الواسطيّ، ثقةٌ ثبتٌ [7](ت 5 أو 176)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 4.

2 -

(الأَسْوَدُ بْنُ قَيْسٍ) العَبديّ، ويقال: العجليّ، أبو قيس الكوفيّ، ثقةٌ [4](ع) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 36/ 1430.

3 -

(جُنْدُبُ بْنُ سُفْيَانَ) هو: جندب بن عبد الله بن سفيان، نُسب لجدّه، البجليّ، ثم الْعَلَقيّ، أبو عبد الله الصحابيّ، نزل الكوفة، ثم البصرة (ع) تقدم في "الإيمان" 43/ 286.

والباقيان تقدّما قبل باب.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (316) من رباعيات الكتاب، وله فيه شيخان، وأن صحابيّه ممّن نُسب إلى جدّه.

شرح الحديث:

(عَنْ جُنْدُبِ) - بضمّ أوله، والدال تُفتح، وتُضمّ - (ابْنِ سُفْيَانَ) تقدّم أنه ابن عبد الله بن سفيان، فهو في هذا السند منسوب إلى جدّه، (قَالَ: دَمِيَتْ) - بفتح الدال، وكسر الميم -؛ أي: جُرِحت، وخَرَج منها الدم، قال الفيّوميّ رحمه الله: دَمِيَ الجرحُ دَمّى، من باب تَعِبَ، وَدَمْيًا أيضًا على التصحيح: خرَجَ منه الدم، فهو دَم، على النقص، ويتعدَّى بالألف والتشديد

(1)

. (إِصْبَعُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) قال بعضهم: الإصبع فيها عشر لغات: تثليث الهمزة، مع تثليث الموحّدة، والعاشرة: أُصبوع، بوزن عُصْفُور، وأشهرها كسر الهمزة، مع فتح الموحّدة، وهو الذي ارتضاه الفُصحاء.

قال الفيّوميّ: "الأصْبَعُ": مؤنثة، وكذلك سائر أسمائها، مثلُ الخنصر، والبنصر، وفي كلام ابن فارس ما يدلّ على تذكير الإصبع، فإنه قال: الأجود في أصبع الإنسان التأنيث، وقال الصغانيّ أيضًا: يُذَكَّر، ويؤنّث، والغالب

(1)

"المصباح المنير" 1/ 200.

ص: 343

التأنيث. انتهى

(1)

.

(فِي بَعْضِ تِلْكَ الْمَشَاهِدِ) جمع مَشْهَد، بالفتح؛ كمَحْضَرٍ وزنًا ومعنى، والمراد: مكان الغزوات؛ أي: في بعض أماكن الغزوات التي شهدها النبيّ صلى الله عليه وسلم، وفي الرواية التالية:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في غار، فنُكِبت إصبعه"، وسيأتي الكلام عليه، وفي رواية للبخاريّ:"بينما النبيّ صلى الله عليه وسلم يمشي، إذ أصابه حجرٌ، فَعَثَرَ، فَدَمِيت إصبَعهُ"، وفي رواية:"خرج إلى الصلاة"، وفي رواية الطيالسيّ، وأحمد:"كنت مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في غار"، (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("هَلْ أَنْتِ) بكسر التاء خطابًا للإصبع، و"هل" هنا للنفي، كما في قوله تعالى:{هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ (60)} [الرحمن: 60]، قال ابن هشام الأنصاريّ رحمه الله: يراد بالاستفهام بـ "هل" النفي، ولذلك دخلت على الخبر بعدها "إلا"، كما في الآية المذكورة

(2)

. (إِلا إِصْبَعٌ دَمِيتِ)؛ أي: خرج منك الدم، (وَفي سَبِيلِ اللهِ مَا لَقِيتِ") قال النوويّ رحمه الله: لفظ "ما" هنا بمعنى "الذي"؛ أي: الذي لقيته محسوب في سبيل الله، وقد سبق في "باب غزوة حُنين" أن الرجز هل هو شعر؟ وأن من قال: هو شعر قال: شَرْط الشعر أن يكون مقصودًا، وهذا ليس مقصودًا، وأن الرواية المعروفة:"دَمِيتْ"، و"لَقِيتْ" بكسر التاء، وأن بعضهم أسكنها. انتهى

(3)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: هذا البيث أنشده النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو لغيره، قيل: إنه للوليد بن المغيرة، وقيل: لعبد الله بن رواحة، ولو كان من قوله، فقد تقدَّم العذر عنه في غزوة حنين. انتهى

(4)

.

وقال في "الفتح": قوله: فقال:

"هَلْ أَنْتِ إِلا إِصبَعٌ دَمِيتِ

وَفي سَبِيلِ اللهِ مَا لَقِيتِ"

هذان قسمان من رجز، والتاء في آخرهما مكسورة، على وفق الشعر، وجزم الكرمانيّ بأنهما في الحديث بالسكون، وفيه نظرٌ، وزعم غيره أن النبيّ صلى الله عليه وسلم تعمّد إسكانهما، ليُخْرِج القِسْمَين عن الشعر، وهو مردود، فإنه يصير

(1)

راجع: "المصباح المنير" 1/ 332.

(2)

"مغني اللبيب" 1/ 659.

(3)

"شرح النوويّ" 12/ 155 - 156.

(4)

"المفهم" 3/ 655.

ص: 344

من ضرب آخر من الشعر، وهو من ضروب البحر الملَقَّب "الكامل"، وفي الثاني زِحاف جائز، قال عياض: وقد غَفَل بعض الناس، فرَوَى "دَمِيت"، و"لقيت"، بغير مدّ، فخالف الرواية؛ لِيَسْلَم من الإشكال، فلم يُصِبْ، وقد اختُلِف هل قاله النبيّ صلى الله عليه وسلم متمثلًا، أو قاله من قبل نفسه، غيرَ قاصد لإنشائه، فخرج موزونًا؟ وبالأول جزم الطبريّ وغيره، ويؤيده أن ابن أبي الدنيا في "محاسبة النفس" أوردهما لعبد الله بن رواحة، فذكر أن جعفر بن أبي طالب لَمّا قُتِل في غزوة مؤتة، بعد أن قُتل زيد بن حارثة، أخذ اللواء عبد الله بن رواحة، فقاتل، فأصيب إصبعه، فارتجز، وجعل يقول هذين القِسْمين، وزاد:

يَا نَفْسُ إِنْ لَا تُقْتَلِي تَمُوتِي

هَذِي حِيَاضُ الْمَوْتِ قَدْ صَلِيتِ

وَمَا تَمَنَّيْتِ فَقَدْ لَقِيتِ

إِنْ تَفْعَلِي فِعْلَهُمَا هُدِيتِ

وهكذا جزم ابن التين بأنهما من شعر ابن رواحة.

وذكر الواقديّ أن الوليد بن الوليد بن المغيرة كان رافق أبا بَصِير في صلح الحديبية، على ساحل البحر، ثم إن الوليد رجع إلى المدينة، فعَثَرَ بالْحَرَّة، فانقطعت إصبعه، فقال هذين القسمين.

وأخرجه الطبرانيّ من وجه آخر موصولٍ بسند ضعيف، وقال ابن هشام في زيادات "السيرة": حدّثني من أثق به أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ لي بعباس بن أبي ربيعة؟ "، فقال الوليد بن الوليد: أنا، فذكر قصة فيها: فعَثَرَ، فدَمِيت إصبعه، فقالهما، وهذا إن كان محفوظًا احْتَمَلَ أن يكون ابن رواحة ضَمّنهما شعره، وزاد عليهما، فإن قصة الحديبية قبل قصة مؤتة، وقد تقدم نحو هذا الاحتمال في أوائل غزوة خيبر في الرجز المنسوب لعامر بن الأكوع:

اللَّهُمَّ لَوْلَا أَنْتَ مَا اهْتَدَيْنَا

وأنه نُسِب في رواية أخرى لابن رواحة.

وقد اختُلف في جواز تمثّل النبيّ صلى الله عليه وسلم بشيء من الشعر، وإنشاده، حاكيًا عن غيره، فالصحيح جوازه.

وقد أخرج البخاري في "الأدب المفرد"، والترمذيّ، وصحّحه، والنسائيّ، من رواية الْمِقْدام بن شُريح، عن أبيه، قلت لعائشة: أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتمثّل بشيء من الشعر؟ قالت: كان يتمثّل من شعر ابن رواحة:

ص: 345

وَيَأتِيكَ بِالأَخْبَارِ مَنْ لَمْ تُزَوِّدِ

وأخرج ابن أبي شيبة نحوه، من حديث ابن عباس، وأخرج أيضًا من مرسل أبي جعفر الخطميّ، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبني المسجد، وعبد الله بن رواحة يقول:

أَفْلَحَ مَنْ يُعَالِجُ الْمَسَاجِدَا

فيقولها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقول ابن رواحة:

يَتْلُو الْقُرْآنَ قَائِمًا وَقَاعِدَا

فيقولها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما ما أخرجه الخطيب في "التاريخ" عن عائشة رضي الله عنها:

تَفَاءَلْ بِمَا تَهْوَى يَكُنْ فَلَقَلَّمَا

يُقَالُ لِشَيءِ كَانَ إِلَّا تَحَقَّقْ

قال: وإنما لم يُعربه؛ لئلا يكون شعرًا

(1)

، فهو شيء لا يصحّ، ومما يدلّ على وهائه التعليل المذكور.

يؤيد ذلك ما أخرجه الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "أصدق كَلِمَة قالها الشاعر كلمةُ لبيد:

أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللهَ بَاطِلُ"

وأنه صلى الله عليه وسلم كان يجوز له أن يَحْكي الشعر عن ناظمه، وقد تقدم في غزوة حنين قوله صلى الله عليه وسلم:

أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبْ

أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ

وأنه دلّ على جواز وقوع الكلام منه منظومًا من غير قصد إلى ذلك، ولا يُسَمَّى ذلك شعرًا، وقد وقع الكثير من ذلك في القرآن العظيم، لكن غالبها أشطار أبيات، والقليل منها وقع وَزْن بيت تامّ، فمن التام قوله تعالى:

{التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ} [التوبة: 112]، {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} [النمل: 23]، {مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ} [التحريم: 5]، {فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26)}

(1)

ولفظ البيهقي في "السنن الكبرى" 7/ 43: قالت عائشة رضي الله عنها: ولم يقل تحققَا؛ لئلا يعربه فيصير شعرًا. انتهى.

ص: 346

[الذاريات: 26]، {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49)} [الحجر: 49]، و {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92]، و {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ} [الأنفال: 38]، و {وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ} [سبأ: 13]، و {وَاتَّقُونِ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ} [البقرة: 197]، و {إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ (54)} [ص: 54]، و {تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [البقرة: 85]، و {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ} [الروم: 30]، و {وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ (49)} [الطور: 49]، وكذلك السجود، و {وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة: 213]، و {إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا} الآية [النمل: 23]، و {يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ} الآية [البقرة: 248]، {وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ} الآية [آل عمران: 15]، {وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ} الآية [التوبة: 14]، و {وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (71)} [الصافات: 71] و {وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا (14)} [الإنسان: 14]، و {وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا (19) وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا (20)} [الفجر: 19 - 20]، والواو في كل منهما وإن كانت زائدة على الوزن، لكنه يجوز في النظم، ويسمى الْخَزْم بالزاي، بعد الخاء المعجمة.

وأما الأشطار فكثيرة جدًّا، فمنها:

{فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29]، {لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا} [الأنفال: 42]، {فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُم} [الأحقاف: 25]، {فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ} [الرعد: 30]، {فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ} [يوسف: 32]، {فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} [الأنفال: 58]، {ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ (46)} [الحجر: 46]، {كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا} [المزمل: 18]، {حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ} [البقرة: 109]، {أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ} [هود: 60]، {وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَار} [الأنعام: 60]، {وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا} [الشورى: 45]، {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} [الأحزاب: 25]، {وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا} [النساء: 88]، {حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [النساء: 140]، {قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ} [الملك: 29]، {أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ} [الشورى: 53]، {نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ} [الصف: 13]، {ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [الأنعام: 96]، {نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ} [الأنبياء: 18]، {الْيَوْمَ

ص: 347

أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3]، {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ} [الحج: 1]، {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم: 7]، {قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17)} [عبس: 17]، {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} [التوبة: 40]، {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ} [ق: 4]، {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى} [القصص: 76]، {إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ} [يوسف: 50]، {وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا (3)} [الفتح: 3]، {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2)} [العلق: 2]، {وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ} [يونس: 10]، {وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ} [إبراهيم: 28]، {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ} [الإسراء: 33]، {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ} [التوبة: 112]، {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ} [الأنفال: 38]، {كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ} [البقرة: 20]، {وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ} [طه: 102]، {يَاأَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ} [الانشقاق: 6]، {يَاأَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ} [الانفطار: 6]، {وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً} [آل عمران: 8]، {وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا (3)} [الفتح: 3]، {وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (19)} [ص: 19]، {وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ (52)} [ص: 52]، {فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} [المؤمنون: 107]، {زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} [الحج: 1]، {أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ} [يس: 47]، {ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ} [النحل: 67]، {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة: 2].

ومن التامّ أيضًا: {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا (106)} [الإسراء: 106]، وإذا انتهى إلى {النَّاسِ} تمّ أيَضًا، وأيضًا:{لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا} .

وقيل في الجواب عن الحديث: إن وقوع البيت الواحد من الفصيح، لا يُسَمَّى شعرًا، ولا يسمى قائله شاعرًا. انتهى ما في "الفتح"

(1)

، وهو بحث مفيدٌ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث جندب بن عبد الله بن سُفيان رضي الله عنه هذا متفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

(1)

"الفتح" 10/ 542.

ص: 348

أخرجه (المصنّف) هنا [37/ 4645 و 4646](1796)، و (البخاريّ) في "الجهاد"(2802) و"الأدب"(6146)، و (الترمذيّ) في "التفسير"(3345)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(6/ 143 و 159)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1/ 126)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(8/ 716) و (الحميديّ) في "مسنده"(776)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 312 و 313)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6577)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(1708)، و (الطحاويّ) في "شرح مشكل الآثار"(4/ 299)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(3/ 101)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 341 و 342)، و (الرويانيّ) في "مسنده"(2/ 138)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(7/ 43) و"دلائل النبوّة"(7/ 43 - 44)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(3401)، وفوائده تُعلم مما سبق، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4646]

(

) - (وَحَدَّثَنَاهُ أبو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنِ الأَسْوَدِ بْنِ قَيْسٍ، بِهَذَا الإسْنَاد، وَقَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي غَارٍ، فَنكِبَتْ إِصْبَعُه).

رجال هذا الإسناد: أربعة:

وكلّهم ذُكروا في الباب، وقبل باب.

وقوله: (كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي غَار، فَنُكِبَتْ إِصْبَعُه) كذا هو في الأصول "في غار"، قال القاضي عياض: قال أَبو الوليد الكنانيّ: لعله "غازيًا"، فتصحّف، كما قال في الرواية الأخرى:"في بعض المشاهد"، وكما جاء في رواية البخاريّ:"بينما النبيّ صلى الله عليه وسلم يمشي إذ أصابه حجرٌ"، قال القاضي: وقد يراد بالغار هنا: الجيش والجمع، لا الغار الذي هو الكهف، فيوافق رواية:"بعض المشاهد"، ومنه قول عليّ رضي الله عنه:"ما ظنّك بامرئ بين هذين الغارين"؛ أي: العسكرين، والجمعين. انتهى

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "في غار، فنُكبت إصبعه"؛ أي: أصابتها

(1)

"شرح النوويّ" 12/ 156.

ص: 349

نَكْبة، دَمِيت لأجلها، وفي الرواية الأخرى: أنه كان في بعض المشاهد، وفي البخاريّ:"بينا النبيّ صلى الله عليه وسلم يمشي إذْ أصابه حجر"، فقال البيت المذكور، ظاهر هاتين الروايتين مختلف، وأنهما قضيتان، ولكن العلماء حملوا الروايتين على أنهما قضية واحد، فقال القاضي أبو الوليد: لعل قوله: "في غار" مصحّف من غزو، وقال القاضي عياض: قد يراد بالغار هنا: الجيش والجمع، لا واحد غِيران التي هي الكهوف، فيوافق قوله:"في بعض المشاهد"، وقوله:"يمشي"، ولا يُعَدّ ذلك وهمًا.

قال القرطبيّ: وهذا ليس بشيء؛ إذ الغار ليس من أسماء الجيش. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قوله: "ليس من أسماء الجيش" فيه نظر لا يخفى، بل إطلاق الغار على الجمع والجيش ذكره أهل اللغة، فقال الجوهريّ: والغارُ: الجيش، يقال: التقى الغاران؛ أي: الجيشان

(2)

، وذكر المجد أيضًا من معاني الغار: الجمع الكثير من الناس، والجيش

(3)

.

والحاصل أن ما أوَّل به القاضي عياض تأويل صحيح، وعليه فلا حاجة لدعوى تعدّد القصّة، بل هي قصّة واحدة، فتأمل بالإمعان، والله تعالى وليّ التوفيق.

[تنبيه]: رواية ابن عيينة، عن الأسود بن قيس ساقها أبو بكر بن أبي شيبة رحمه الله في "مصنّفه"، فقال:

(26071)

- حدّثنا سفيان بن عيينة، عن الأسود بن قيس، عن جندب بن سفيان، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان في غار، فنكِبت إصبعه، فقال:

"هَلْ أنتِ إِلَّا إِصْبَعٌ دَمِيتِ

وَفي سَبِيلِ اللهِ مَا لَقِيتِ"

(4)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4647]

(1797) - (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الأَسْوَدِ بْنِ قَيْسٍ، أنهُ سَمِعَ جُنْدُبًا يَقُولُ: أَبْطَأَ جِبْرِيلُ عَلَى رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ

(1)

"المفهم" 3/ 655 - 656.

(2)

"الصحاح" ص 788.

(3)

راجع: "القاموس المحيط" ص 965.

(4)

"مصنف ابن أبي شيبة" 5/ 280.

ص: 350

الْمُشْرِكُونَ: قَدْ وُدِّعَ مُحَمَّد، فَأنزَلَ اللهُ عز وجل:{وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3)} [الضحي: 1 - 3]).

رجال هذا الإسناد: أربعة:

وهم المذكورون قبله، و"سفيان" هو: ابن عيينة، والسند من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (317) من رباعيّات الكتاب.

[تنبيه]: قال الحافظ أبو عليّ الجيّانيّ رحمه الله في "تقييده" بعد إيراد الإسناد المذكور ما نصّه: هكذا إسناده عند الجلوديّ، والكسائيّ: إسحاق بن إبراهيم وحده، عن ابن عيينة، وكذلك خرّجه أبو مسعود الدمشقيّ من حديث مسلم، وفي نسخة أبي العلاء بن ماهان: حدّثنا أبو بكر بن أبي شيبة، وإسحاق بن إبراهيم، عن ابن عيينة، عن الأسود بن قيس، عن جندب، زاد في الإسناد رجلًا، وهو أبو بكر بن أبي شيبة، قال أبو عليّ: ورواية الجماعة أولى. انتهى

(1)

.

شرح الحديث:

(عَنِ الأَسوَدِ بْنِ قَيْسٍ) العَبْديّ، أو العجليّ (أنَّهُ سَمِعَ جُنْدُبًا)؛ أي: ابن عبد الله بن سفيان رضي الله عنه (يَقُولُ: أَبْطَأَ)؟ أي: تأخّر (جِبْرِيلُ) عليه السلام (عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم)؛ يعني: أنه تأخّر مجيؤه إليه، قيل: إن اشتكاء النبيّ صلى الله عليه وسلم كما يأتي في الرواية التالية - كان سببه استبطاء الوحي، وبه يُجمع بين الروايتين. (فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ) وفي رواية للبخاريّ: "قال: احتَبَسَ جبريل عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقالت امرأة من قريش: أبطأ عليه شيطانه

" الحديث، وفي رواية الطبريّ: "فقالت امرأة من أهله".

قال في "الفتح": ولا مخالفة بينها؛ لأنهم قد يُطلقون لفظ الجمع، ويكون القائل، أو الفاعل واحدًا، بمعنى أن الباقين راضون بما وقع من ذلك الواحد. انتهى

(2)

.

(1)

"تقييد المهمل" 3/ 880.

(2)

"الفتح" 11/ 95 - 96، كتاب "التفسير" رقم (4950).

ص: 351

وتلك المرأة هي أم جميل بنت حرب امرأة أبي لهب، كما يأتي بيان ذلك، وجاء في بعض الروايات أنها خديجة، فقد وقع في رواية عند الحاكم:"فقالت خديجة"، وأخرجه الطبريّ من طريق عبد الله بن شدّاد:"فقالت خديجة: ولا أرى ربّك"، ومن طريق هشام بن عروة، عن أبيه:"فقالت خديجة لِمَا ترى من جَزَعه"، قال في "الفتح": وهذان طريقان مرسلان، ورواتهما ثقات، فالذي يظهر أن كُلًّا من أم جميل وخديجة قالت ذلك، لكن أم جميل عَبَّرت؛ لكونها كافرة بلفظ:"شيطانك"، وخديجة عَبَّرت؛ لكونها مؤمنة بلفظ "ربك"، أو "صاحبك"، وقالت أم جميل شماتةً، وخديجة توجعًا. انتهى

(1)

.

(قَدْ وُدِّعَ مُحَمَّد) ببناء الفعل للمفعول، من التوديع؛ أي: تُرك، يعنون أن المَلَك الذي كان يجيؤه ودّعه، وترك المجيء إليه، (فَأنزَلَ اللهُ عز وجل) ردًّا على مزاعمهم ({وَالضُّحَى (1)}) قَسَمٌ من الله سبحانه وتعالى بوقت الضحى، وما جعل فيه من الضياء، قال الفرّاء: الضحى: النهار، ({وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى})؛ أي: سكن، فأظلم، وادْلَهَمَّ، وقال الفرّاء:{وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2)} : إذا أظلم، وركد في طوله، تقول: بحر ساجٍ، وليلٌ ساج: إذا سكن، وروى الطبريّ عن قتادة:{إِذَا سَجَى} : إذا سكن بالخلق، كذا في "الفتح"

(2)

، وجواب القسم قوله:({مَا وَدَّعَكَ}) بتشديد الدال؛ أي: تركك، وعن ابن عبّاس رضي الله عنهما:{مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ} ؛ أي: ما قطعك منذ أرسلك، ({وَمَا قَلَى})؛ أي: وما أبغضك.

[تنبيه]: قوله: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ} هو بتشديد الدّال، على القراءات الصحيحة المشهورة التي قرأ بها القُرّاء السبعة، وقُرئ في الشاذّ بتخفيفها، قال أبو عبيد: هو من وَدَعَه يَدَعه، معناه: ما تركك، قال القاضي عياض: النحويون ينكرون أن يأتي منه ماض، أو مصدرٌ، قالوا: وإنما جاء منه المستقبل، والأمر، لا غيرُ، وكذلك يَذَرُ، قال القاضي: وقد جاء الماضي، والمستقبل منهما جميعًا، وفي "صحيح مسلم":"لَيَنتهِيَنَّ قوم عن وَدْعِهِم الجمعة"، وفيه أيضًا: "إن شرّ الناس عند الله منزلة يوم القيامة من وَدَعه

(1)

"الفتح" 11/ 96، كتاب "التفسير" رقم (4951).

(2)

"الفتح" 11/ 94، كتاب "التفسير".

ص: 352

الناس، أو تركه الناس اتّقاء فُحْشهِ"، وقال الشاعر:

وَكَانَ مَا قَدَّمُوا لأنفُسِهِمْ

أَكْثَرُ نَفْعًا مِنَ الَّذِي وَدُعوا

وقال الآخر:

لَيْتَ شِعْرِي عَنْ خَلِيلِي مَا الَّذِي

غَالَهُ فِي الْحُبِّ حَتَّى وَدَعَهْ

"غاله" بِالْغَين المعجمة؛ أي: أخذه

(1)

.

وقال الفيّوميّ رحمه الله: وَدَعْتُهُ أَدَعُهُ وَدْعًا: تركته، وأصل المضارع الكسر، ومن ثَمّ حُذفت الواو، ثم فُتِح؛ لمكان حرف الحلق، قال بعض المتقدّمين: وزعمت النّحاة أن العرب أماتت ماضي يَدَعُ، ومصدره، واسم الفاعل، وقد قرأ مجاهد، وعروة، ومقاتل، وابن أبي عَبْلة، ويزيد النَّحويُّ:(مَا وَدَعَك رَبُّكَ) بالتّخفيف، وفي الحديث:"لَيَنْتَهِيَنَّ قَوْمٌ عَنْ وَدْعِهِمُ الجُمُعَاتِ"؛ أي: عن تركهم، فقد رُويت هذه الكلمة عن أفصح العرب، ونُقِلت من طريق القرّاء، فكيف يكون إمانةً، وقد جاء الماضي في بعض الأشعار، وما هذه سبيله فيجوز القول بقلّة الاستعمال، ولا يجوز القول بالإماتة. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي قاله الفيّوميّ رحمه الله تحقيق نفيسٌ جدًّا.

والحاصل أن وَدَعَ ماضيًا ثابت فصيح، غير أنه قليل الاستعمال، فتبصّر، والله تعالى أعلم.

وقوله: {وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى (4)} ؛ أي: ولَلدار الآخرة خير لك من هذه الدار، ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أزهد الناس في الدنيا، وأعظمهم لها اطِّراحًا كما هو معلوم بالضرورة من سيرته صلى الله عليه وسلم، ولمّا خُيِّر صلى الله عليه وسلم في آخر عمره بين الخلد في الدنيا إلى آخرها، ثم الجنة، وبين الصيرورة إلى الله عز وجل اختار ما عند الله على هذه الدنيا الدنية.

أخرج الإمام أحمد، والترمذيّ، وابن ماجه، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: اضطجع رسول الله صلى الله عليه وسلم على حصير، فأَثَّر في جنبه، فلما استيقظ جعلتُ أمسح جنبه، وقلت: يا رسول الله ألا آذنتنا حتى نبسط لك على الحصير شيئًا؟

(1)

"إكمال المعلم" 6/ 170 - 171 و"شرح النوويّ" 12/ 157.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 653.

ص: 353

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما لي وللدنيا، إنما مثلي ومثل الدنيا، كراكب ظَلّ تحت شجرة، ثم راح، وتركها"، وقال الترمذيّ: حسن صحيح.

وقوله تعالى: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5)} ؛ أي: في الدار الآخرة يعطيه حتى يرضيه في أمته، وفيما أعدّه له من الكرامة، ومن جملته نهر الكوثر الذي حافّتاه قباب اللؤلؤ المجوَّف، وطينه مسكٌ أذفر.

وقال الإمام أبو عمرو الأوزاعيّ، عن إسماعيل بن عبد الله بن أبي المهاجر المخزوميّ، عن عليّ بن عبد الله بن عباس، عن أبيه، قال: عُرِض على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما هو مفتوح على أمته من بعده كنزًا كنزًا، فَسُرّ بذلك، فأنزل الله:{وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5)} ، فأعطاه في الجنة ألف ألف قصر، في كل قصر ما ينبغي له من الأزواج والخدم. رواه ابن جرير، من طريقه.

قال الحافظ ابن كثير: وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس، ومثلُ هذا ما يقال إلا عن توقيف.

وقال السديّ، عن ابن عباس: من رضاء محمد صلى الله عليه وسلم ألا يدخل أحد من أهل بيته النار. رواه ابن جرير، وابن أبي حاتم.

وقال الحسن: يعني بذلك: الشفاعة. وهكذا قال أبو جعفر الباقر.

ثم قال تعالى يعدد نعَمه على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (6)} ، وذلك أن أباه تُوفّي وهو حَمْلٌ في بطن أمه، وقيل: بعد أن وُلد صلى الله عليه وسلم، ثم توفيت أمه آمنة بنت وهب وله من العمر ست سنين. ثم كان في كفالة جدّه عبد المطلب، إلى أن تُوُفّي وله من العمر ثمان سنين، فكفله عمه أبو طالب، ثم لم يزل يحوطه وينصره وَيرفع من قَدره وُيوقّره، ويكفّ عنه أذى قومه بعد أن ابتعثه الله على رأس أربعين سنة من عمره، هذا وأبو طالب على دين قومه من عبادة الأوثان، وكل ذلك بقَدَر الله وحُسن تدبيره، إلى أن تُوفي أبو طالب قبل الهجرة بقليل، فأقدم عليه سفهاء قريش وجُهالهم، فاختار الله له الهجرة من بين أظهرهم إلى بلد الأنصار من الأوس والخزرج، كما أجرى الله سُنَّته على الوجه الأتم والأكمل، فلما وصل إليهم آوَوه ونَصَرُوه وحاطوه وقاتلوا بين يديه، رضي الله عنهم أجمعين، وكل هذا من حفظ الله له وكلاءته وعنايته به.

ص: 354

وقوله: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7)} ؛ كقوله: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52)} [الشورى: 52]، ومنهم من قال:[إن] المراد بهذا أنه عليه السلام، ضلّ في شعاب مكة وهو صغير، ثم رجع، وقيل: إنه ضلّ وهو مع عمه في طريق الشام، وكان راكبًا ناقة في الليل، فجاء إبليس يعدل بها عن الطريق، فجاء جبريل، فنفخ إبليس نفخة ذهب منها إلى الحبشة، ثم عدل بالراحلة إلى الطريق، حكاهما البغوي.

وقوله: {وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى (8)} أي: كنت فقيرًا ذا عيال، فأغناك الله عمن سواه، فجمع له بين مقامي: الفقير الصابر والغني الشاكر، صلوات الله وسلامه عليه.

وقال أبو عبيدة: {عَائِلًا} : ذا عيال، وقال الفرّاء: معناه فقيرًا، وقد وجدتها في مصحف عبد الله:(عَدِيمًا)، والمراد: أنه أغناه بما أرضاه، لا بكثرة المال

(1)

.

وقال قتادة في قوله: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى (8)} قال: كانت هذه منازل الرسول صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعثه الله عز وجل. رواه ابن جرير، وابن أبي حاتم.

وفي الصحيحين - من طريق عبد الرزاق - عن مَعْمَر، عن همام بن مُنَبّه قال: هذا ما حَدّثنا أبو هُرَيرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس الغنى عن كثرة العَرَض، ولكن الغنى غنى النفس".

وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قد أفلح من أسلم، ورُزق كفافًا، وقنّعه الله بما آتاه".

ثم قال: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9)} ؛ أي: كما كنت يتيمًا، فآواك الله فلا تقهر اليتيم؛ أي: لا تُذِلَّه، وتنهره، وتُهِنْه، ولكن أحسِنْ إليه، وتلّطف به.

قال قتادة: كن لليتيم كالأب الرحيم.

{وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10)} ؛ أي: وكما كنت ضالًّا فهداك الله، فلا تنهر السائل في العلم المسترشد.

(1)

"الفتح" 11/ 94، كتاب "التفسير".

ص: 355

قال ابن إسحاق: {وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10)} ؛ أي: فلا تكن جبارًا، ولا متكبرًا، ولا فَحَّاشًا، ولا فَظًّا على الضعفاء من عباد الله.

وقال قتادة: يعني: رُدَّ المسكين برحمة ولين.

{وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)} ؛ أي: وكما كنت عائلًا فقيرًا فأغناك الله، فحدِّث بنعمة الله عليك، كما جاء في الدعاء المأثور النبوي:"واجعلنا شاكرين لنعمتك، مثنين بها، قابليها، وأتمّها علينا".

وأخرج ابن جرير عن أبي نضرة قال: كان المسلمون يرون أن مِنْ شكر النِّعم أن يحدّث بها.

وأخرج الترمذيّ عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"لا يشكر الله من لا يشكر الناس"، وقال الترمذيّ: حديث صحيح

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث جندب بن عبد الله رضي الله عنه هذا متفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنف) هنا [37/ 4647 و 4648 و 4649](1797)، و (البخاريّ) في "التهجّد"(1124 و 1125) و"التفسير"(4951) و"فضائل القرآن"(4983)، و (الترمذيّ) في "التفسير"(5/ 442)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(6/ 517)، و (الصنعانيّ) في "تفسيره"(3/ 379)، و (الحميديّ) في "مسنده"(2/ 342)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 321 و 313)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(2/ 173)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 342 و 343)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(3/ 14)، والله تعالى أعلم

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان سبب نزول هذه السورة الكريمة، وأنه إبطاء جبريل عليه السلام على النبيّ صلى الله عليه وسلم، ويأتي في الرواية التالية: "أنه صلى الله عليه وسلم اشتكى، فلم يقم ليلتين، أو

(1)

راجع: "تفسير ابن كثير" رحمه الله 8/ 423 - 428.

ص: 356

ثلاثًا، فجاءته امرأة فقالت: يا محمد إني لأرجو أن يكون شيطانك قد تركك

" الحديث، قال الحافظ رحمه الله في "الفتح": لم تُرِد الشكوى المذكورة بعينها، وأن من فَسَّرها بإصبعه التي دَمِيت لم يُصِب، ووجدت الآن في الطبرانيّ بإسناد فيه مَن لا يُعْرَف أن سبب نزولها وجود جِرْوِ كلبٍ تحت سريره صلى الله عليه وسلم لم يشعر به، فابطأ عنه جبريل لذلك، وقصّة إبطاء جبريل بسبب كون الكلب تحت سريره مشهورة، لكن كونها سبب نزول هذه الآية غريب، بل شاذ مردود بما في "الصحيح"، والله أعلم.

وورد لذلك سبب ثالث، وهو ما أخرجه الطبريّ من طريق الْعَوْفيّ، عن ابن عباس رضي الله عنه قال:"لمّا نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن أبطأ عنه جبريل أيامًا، فتغيّر بذلك، فقالوا: وَدَّعَهُ ربه، وقلاه، فأنزل الله تعالى: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3)}، ومن طريق إسماعيل مولى آل الزبير قال: "فَتَرَ الوحي حتى شَقَّ ذلك على النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأحزنه، فقال: لقد خَشيت أن يكون صاحبي قلاني، فجاء جبريل بسورة: والضحى"، وذكر سليمان التيميّ في "السيرة" التي جمعها، ورواها محمد بن عبد الأعلى، عن معتمر بن سليمان، عن أبيه، قال: "وفَتَر الوحي، فقالوا: لو كان من عند الله لَتَتابَع، ولكن الله قلاه، فأنزل الله:{وَالضُّحَى (1)} ، {أَلَمْ نَشْرَحْ} بكمالهما".

وكل هذه الروايات لا تثبت، والحقّ أن الفترة المذكورة في سبب نزول {وَالضُّحَى} غير الفترة المذكورة في ابتداء الوحي، فإن تلك دامت أيامًا، وهذه لم تكن إلا ليلتين أو ثلاثًا، فاختلطتا على بعض الرواة، وتحرير الأمر في ذلك ما بيّنته، وقد أوضحت ذلك في التعبير، ولله الحمد.

ووقع في "سيرة ابن إسحاق" في سبب نزول {وَالضُّحَى (1)} شيء آخر، فإنه ذكر أن المشركين لمّا سألوا النبيّ صلى الله عليه وسلم عن ذي القرنين، والروح، وغير ذلك، ووعدهم بالجواب، ولم يستثن، فأبطأ عليه جبريل اثنتي عشرة ليلة، أو أكثر، فضاق صدره، وتكلم المشركون، فنزل جبريل بسورة: والضحى، وبجواب ما سألوا، وبقوله تعالى:{وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف: 23 - 24] انتهى، وذِكْر سورة الضحى هنا بعيد، لكن يجوز أن يكون الزمان في القصتين متقاربًا، فضمّ بعض الرواة إحدى

ص: 357

القصتين إلى الأخرى، وكل منهما لم يكن في ابتداء البعث، وإنما كان بعد ذلك بمدّة، والله أعلم. انتهى

(1)

.

2 -

(ومنها): بيان عناية الله تعالى بنبيّه صلى الله عليه وسلم، حيث أنزل عليه هذه السورة العظيمة لَمّا قال المشركون: ودَّعه ربه.

3 -

(ومنها): ما كان عليه المشركون من التربّص برسول الله صلى الله عليه وسلم، وبأصحابه؛ كي يطعنوا فيهم، ويلمزوهم، ويغمزوهم، وفيهم أنزل الله عز وجل:{وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1)} إلى آخر السورة.

4 -

(ومنها): أن من حكمة تأخر جبريل عليه السلام عن النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ ليشتاق إليه أشدّ اشتياق، ويُقبل عليه أتمّ إقبال، وأيضًا فإنه لا ينزل إلا بأمر الله - سبحانه تعالى -، فقد أخرج البخاريّ عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"يا جبريل ما يمنعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا؟ "، فنزلت:{وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا} إلى آخر الآية [مريم: 64].

وقال في "الفتح" ما حاصله: إن تأخير نزول الوحي أحيانًا إنما كان يقع لحكمة تقتضي ذلك، لا لِقَصْد تركه أصلًا، فكان نزوله على أنحاء شتى، تارةً يتتابع، وتارة يتراخى، وفي إنزاله مفرَّقًا وجوه من الحكمة:

[منها]: تسهيل حفظه؛ لأنه لو نزل جملة واحدة على أمة أمية، لا يقرأ غالبهم، ولا يكتب لشقّ عليهم حفظه، وأشار سبحانه وتعالى إلى ذلك بقوله ردًّا على الكفار: وقالوا: {لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ} - أي: أنزلناه مفرقًا - {لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} [الفرقان: 32]، وبقوله تعالى:{وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ} [الإسراء: 106].

[ومنها]: ما يستلزمه من الشرف له، والعناية به؛ لكثرة تردّد رسول ربه إليه، يُعْلِمه بأحكام ما يقع له، وأجوبة ما يُسأل عنه، من الأحكام، والحوادث.

[ومنها]: اْنه أُنزل على سبعة أحرف، فناسب أن ينزل مفرّقًا؛ إذ لو نزل دَفْعَة واحدةً لشقّ بيانها عادةً.

(1)

"الفتح" 94 - 96، كتاب "التفسير" رقم (4950).

ص: 358

[ومنها]: أن الله قدَّر أن يَنسَخ من أحكامه ما شاء، فكان إنزاله مفرَّقًا لينفصل الناسخ من المنسوخ أَولى من إنزالهما معًا.

وقد ضَبَط النَّقَلة ترتيب نزول السور، ولم يَضبطوا من ترتيب نزول الآيات إلا قليلًا، وقد تقدّم في "تفسير اقرأ باسم ربك" أنها أول سورة نزلت، ومع ذلك فنزل من أولها أولًا خمس آيات، ثم نزل باقيها بعد ذلك، وكذلك سورة المدّثر التي نزلت بعدها، نزل أولها أولًا، ثم نزل سائرها بعدُ، وأوضحُ من ذلك ما أخرجه أصحاب السنن الثلاثة، وصححه الحاكم وغيره، من حديث ابن عباس عن عثمان رضي الله عنهم قال: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم تنزل عليه الآيات، فيقول:"ضعوها في السورة التي يُذكَر فيها كذا". انتهى

(1)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4648]

(

) - (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَمُحَمّدُ بْنُ رَافِعٍ - وَاللَّفْظُ لِابْنِ رَافِعٍ - قَالَ إِسْحَاقُ: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ ابْنُ رَافِعٍ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آَدَمَ، حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، عَنِ الأَسْوَدِ بْنِ قَيْسٍ، قَالَ: سَمِعْتُ جُنْدُبَ بْنَ سُفْيَانَ يَقُولُ: اشْتَكَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَمْ يَقُمْ لَيْلَتَيْن، أَوْ ثَلَاثًا، فَجَاءَتْهُ امْرَأةٌ، فَقَالَتْ: يَا مُحَمَّدُ، إِنِّي لأَرْجُو أَنْ يَكُونَ شَيْطَانُكَ قَدْ تَرَكَكَ، لَمْ أَرَهُ قَرِبَكَ مُنْذُ لَيْلَتَيْن، أَوْ ثَلَاثٍ، قَالَ: فَأنزَلَ اللهُ عز وجل: {وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3)}.

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ) النيسابوريّ، تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(يَحْيَى بْنُ آدَمَ) بن سليمان الأمويّ مولاهم، أبو زكرياء الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ، فاضلٌ، من كبار [9](ت 203)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 24.

والباقون ذُكروا في الباب، و"زُهير" هو: ابن معاوية بن حُديج.

شرح الحديث:

(عَنِ الأَسْوَدِ بْنِ قَيْسٍ) أنه (قَالَ: سَمِعْتُ جُنْدُبَ بْنَ سُفْيَانَ) هو جندب بن عبد الله بن سفيان، نُسب لجدّه، كما أسلفته في الحديث الماضي، وقبله.

(1)

"الفتح" 11/ 162، كتاب "فضائل القرآن" رقم (4983).

ص: 359

(يَقولُ: اشْتَكَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم)؛ أي: مَرِضَ، قال المجد رحمه الله: الشَّكْوُ، والشَّكْوَى، والشَّكْوَاءُ، والشَّكَاةُ، والشَّكَاءُ: الْمَرَضُ

(1)

.

ووقع في رواية قيس بن الربيع بلفظ: "مَرِضَ"، قال الحافظ رحمه الله: ولم أقف في شيء من طرق هذا الحديث على تفسير هذه الشكاية، لكن وقع في الترمذيّ من طريق ابن عيينة، عن الأسود، في أول هذا الحديث، عن جندب، قال: "كنت مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في غار، فَدَمِيَت إصبعه، فقال:

هَلْ أَنْتِ إِلَّا إِصْبَعٌ دَمِيتِ

وَفي سَبِيلِ اللهِ مَا لَقِيتِ

قال: وأبطأ عليه جبريل، فقال المشركون: قد وُدِّع محمد، فأنزل الله:{مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ} . انتهى، فظَنَّ بعض الشراح أن هذا بيان للشكاية المجملة في "الصحيح"، وليس كما ظَنّ، فإن في طريق عبد الله بن شداد أن نزول هذه السورة كان في أوائل البعثة، وجندب لم يصحب النبيّ صلى الله عليه وسلم إلا متأخرًا، كما حكاه البغويّ في "معجم الصحابة"، عن الإمام أحمد، فعلى هذا هما قضيتان، حكاهما جندب: إحداهما: مرسلة، والأخرى موصولة؛ لأن الأُولى لم يحضرها، فروايته لها مرسلة، من مراسيل الصحابة، والثانية: شهدها، كما ذكر أنه كان مع النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولا يلزم من عطف إحداهما على الأخرى في رواية سفيان اتحادهما، والله أعلم. انتهى

(2)

.

(فَلَمْ يَقُمْ)؛ أي: لصلاة التهجّد، فلم يقرأ القرآن في الليل، (لَيْلَتَيْن، أَوْ ثَلَاثًا، فَجَاءَتْهُ امْرَأةٌ) هي أم جميل بنت حرب العوراء امرأة أبي لهب، وأخت أبي سفيان، (فَقَالَتْ: يَا مُحَمَّدُ، إِنِّي لأَرْجُو أَنْ يَكُونَ شَيْطَانُكَ) تريد - قبّحها الله تعالى - بذلك جبريل عليه السلام. (قَدْ تَرَكَكَ)؛ أي: لا يأتيك بالوحي، وفي رواية للبخاريّ في "فضائل القرآن":"فأتته امرأة، فقالت: يا محمد، ما أرى شيطانك إلا قد تركك"، وله في "التفسير":"قال: قالت امرأة: يا رسول الله، ما أرى صاحبك إلا أبطأ عنك"، وزاد النسائيّ في أوله: "أبطأ جبريل على النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقالت امرأة

" الحديث.

(1)

"القاموس المحيط" ص 702.

(2)

"الفتح" 3/ 512 - 513، كتاب "التهجّد" رقم (1125).

ص: 360

قال الحافظ رحمه الله: وهذه المرأة فيما ظهر لي غير المرأة السابقة؛ لأن هذه المرأة عَبّرت بقولها: "صاحبك"، وتلك عبّرت بقولها:"شيطانك"، وهذه عبّرت بقولها:"يا رسول الله"، وتلك عبّرت بقولها:"يا محمد"، وسياق الأُولى يُشعر بأنها قالته تأسّفًا، وتوجُّعًا، وسياق الثانية يُشعر بأنها قالته تَهَكُّمًا، وشماتةً.

وقد حَكَى ابن بطال عن "تفسير بَقِيّ بن مَخْلَد"، قال: قالت خديجة للنبيّ صلى الله عليه وسلم حين أبطأ عنه الوحي: "إن ربك قد قلاك"، فنزلت:{وَالضُّحَى (1)} .

وقد تعقّبه ابن المنير، ومن تَبِعَه بالإنكار؛ لأن خديجة قوية الإيمان، لا يليق نسبة هذا القول إليها، لكن إسناد ذلك قويّ، أخرجه إسماعيل القاضي في "أحكامه"، والطبريّ في "تفسيره"، وأبو داود في "أعلام النبوة" له، كلهم من طريق عبد الله بن شداد بن الهاد، وهو من صغار الصحابة، والإسناد إليه صحيح، وأخرجه أبو داود أيضًا من طريق هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، لكن ليس عند أحد منهم أنها عبّرت بقولها:"شيطانك"، وهذه هي اللفظة المستنكَرة في الخبر.

وفي رواية إسماعيل وغيره: "ما أرى صاحبك " بدل "ربك"، والظاهر أنها عَنَت بذلك جبريل.

وأغرب سُنيد بن داود فيما حكاه ابن بشكوال، فرَوَى في تفسيره، عن وكيع، عن هشام بن عروة، عن أبيه، أن عائشة رضي الله عنها قالت للنبيّ صلى الله عليه وسلم ذلك، وغَلِطَ سُنيد في ذلك، فقد رواه الطبريّ، عن أبي كُريب، عن وكيع، فقال فيه: قالت خديجة، وكذلك أخرجه ابن أبي حاتم، من طريق أبي معاوية، عن هشام.

قال: وأما المرأة المذكورة في حديث سفيان التي عَبّرت بقولها: "شيطانك" فهي أم جميل العوراء بنت حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، وهي أخت أبي سفيان بن حرب، وامرأة أبي لهب، كما رَوَى الحاكم من طريق إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن زيد بن أرقم، قال: قالت امرأة أبي لهب - لَمّا مَكَثَ النبيّ صلى الله عليه وسلم أيامًا لم يَنزل عليه الوحي -: يا محمد ما أرى شيطانك إلا قد قلاك، فنزلت:{وَالضُّحَى (1)} ورجاله ثقات.

ص: 361

وفي "تفسير الطبريّ" من طريق المفضل بن صالح، عن الأسود، في حديث الباب:"فقالت امرأة من أهله، ومن قومه"، ولا شك أن أم جميل من قومه؛ لأنها من بني عبد مناف.

وعند ابن عساكر: أنها إحدى عماته، ومُستنده في ذلك هو ما أخرجه قيس بن الربيع، في "مسنده" عن الأسود بن قيس راويه، وأخرجه الفريابيّ شيخ البخاريّ في "تفسيره" عنه، ولفظه:"فأتته إحدى عماته، أو بنات عمه، فقالت: إني لأرجو أن يكون شيطانك قد وَدَّعَك". انتهى

(1)

.

(لَمْ أَرَهُ قَرِبَكَ) - بكسر الراء - يقال: قَرِبه يَقْرَبه - بفتح الراء - متعديًا، ومنه:{لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ} [النساء: 43]، وأما قَرُب - بالضم - فهو لازم، تقول: قَرُب الشيءُ؛ أي: دنا، قاله في "الفتح"

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قوله: "بكسر الراء" يوهم أنه لا يجوز غير الكسر، وفيه نظر، فقد نصّ الفيّومي رحمه الله على أن فتح الراء لغةٌ، وعبارته: قَرُبَ الشيءُ منّا قُربًا، وقَرَابةً، وقُربةً، وقُرْبَى، ويقال: الْقُرْب في المكان، والقربة في المنزلة، والْقُربى، والقَرَابة في الرحم، قال: وقَرِبتُ الأمرَ أَقْربه، من باب تَعِبَ، وفي لغة من باب قَتَلَ قِرْبانًا - بالكسر - فعلته، أو دانيته، ومن الأول قوله تعالى:{وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا} [الإسراء: 32]، ومن الثاني قولهم:"لا تَقْرَب الْحِمَى"؛ أي: لا تدنو منه. انتهى

(3)

.

وكذا نصّ على الفتح محمد مرتضى الزبيديّ رحمه الله في "تاج العروس"

(4)

عند قول المجد: "قَرِب؛ كسَمِع"، فزاد مرتضى:"وقرُبَ؛ كنصَرَ"، فنصّ على جواز الفتح أيضًا.

فقوله: "وفي لغة من باب قَتَلَ"، وكذا قول مرتضى:"كنصر" يدلان على أن قولها: "قَرِبك" يجوز فيه الوجهان: كسر الراء، وفتحها، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

(1)

"الفتح" 3/ 513 - 514، كتاب "التهجّد" رقم (1125).

(2)

"الفتح" 11/ 96، كتاب "التفسير" رقم (4950).

(3)

"المصباح المنير" 2/ 496.

(4)

راجع: "التاج" 1/ 422.

ص: 362

(مُنْدُ لَيْلتين، أَوْ ثَلَاثٍ، قَالَ: فَأَنزَلَ اللهُ عز وجل {وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3)}) تقدّم شرح الآيات قبله.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4649]

(

) - (وَحَدّثنَا أبو بَكْرِ بْنُ أَبي شَيْبَةَ، وَمُحَمّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ، قَالُوا: حَدَّثنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ (ح) وَحَدّثنَا إسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا الْمُلَائِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، كِلَاهُمَا عَنِ الأَسْوَدِ بْنِ قَيْسٍ، بِهَذَا الإِسْنَاد، نَحْوَ حَدِيثِهِمَا).

رجال هذا الإسناد: تسعة:

1 -

(الْمُلَائِيُّ) هو: الفضل بن دُكين، واسم دُكين عمرو بن حمّاد بن زُهير التيميّ مولاهم الأحول، أبو نُعيم الْمُلائيّ الكوفيّ، ثقةٌ ثبت [9](ت 18 أو 219)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 91.

[تنبيه]: قوله: "الملائيّ" بضمّ الميم، وبعد اللام ألف: نسبة إلى الْمُلاءة التي تستتر بها النساء، قال السمعانيّ: وظنّي أنها نسبة إلى بيعها، واشتهر بهذه النسبة أبو بكر عبد السلام بن حرب الملائيّ الكوفيّ، والفضل بن دُكين الأحول الملائيّ، كان شريك عبد السلام بن حرب الملائيّ في دُكّان يبيعان الملاءة. انتهى

(1)

.

[تنبيه آخر]: كون الملائيّ في هذا السند هو أبا نعيم الفضل بن دكين هو الصواب، كما نصّ عليه الحافظ المزّيّ رحمه الله في "تحفة الأشراف"(2/ 439)، وقد أخطأ بعض الشرّاح

(2)

، فترجم هنا لعبد السلام بن حرب، وهو غلط، فتنبّه، والله تعالى وليّ التوفيق.

(1)

راجع: "اللباب في تهذيب الأنساب" 3/ 277 - 278.

(2)

هو الشيخ محمد أمين الهرريّ في شرحه لهذا الكتاب، راجع: شرحه 19/ 332 - 333.

ص: 363

والباقون كلّهم ذُكروا في الباب، و"إسحاق بن إبراهيم، هو: ابن راهويه، و"سفيان" هو: الثوريّ.

وقوله: (كِلَاهُمَا عَنِ الأَسْوَدِ بْنِ قَيْسٍ) ضمير التثنية هنا يرجع إلى شعبة، وسفيان الثوريّ؛ يعني: أن كلًّا من شعبة، وسفيان روى هذا الحديث عن الأسود بن قيس بسنده الماضي.

وقوله: (نَحْوَ حَدِيثِهِمَا) ضمير التثنية هنا يرجع إلى سفيان بن عيينة، وزُهير بن معاوية في الإسنادين الماضيين.

[تنبيه]: أما رواية شعبة عن الأسود بن قيس، فقد ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:

(4668)

- حدّثنا محمد بن بشار، حدَّثنا محمد بن جعفر غندر، حدّثنا شعبة، عن الأسود بن قيس، قال: سمعت جُندبًا البجليّ، قال: قالت امرأة: يا رسول الله، ما أرى صاحبك إلا أبطأك، فنزلت:{مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3)} . انتهى

(1)

.

وأما رواية سفيان، عن الأسود بن قيس، فقد ساقها البخاريّ رحمه الله أيضًا، فقال:

(4982)

- حدّثنا أبو نعيم، حدّثنا سفيان، عن الأسود بن قيس، قال: سمعت جندبًا يقول: اشتكى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فلم يقم ليلة، أو ليلتين، فأتت امرأة، فقالت: يا محمد ما أرى شيطانك إلا قد تركك، فأنزل الله عز وجل:{وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3)} . انتهى

(2)

.

(38) - (بَاب: في دُعَاءِ النبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَى الله، وَصَبْرِهِ عَلَى أَذَى الْمُنَافِقِينَ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4650]

(1798) - (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ، وَمُحَمّدُ بْنُ رَافِعٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ - وَاللَّفْظُ لِابْنِ رَافِعٍ - قَالَ ابْنُ رَافِعٍ: حَدَّثَنَا، وَقَالَ الآخَرَانِ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاق، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، أَنَّ أُسَامَةَ بْنَ

(1)

"صحيح البخاريّ" 4/ 1892.

(2)

"صحيح البخاري" 4/ 1906.

ص: 364

زَيْدٍ أَخْبَرَهُ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَكبَ حِمَارًا، عَلَيْهِ إِكَافٌ، تَحْتَهُ قَطِيفَةٌ فَدَكيَّةٌ، وَأَرْدَفَ وَرَاءَهُ أُسَامَةَ، وَهُوَ يَعُودُ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ، فِي بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَج، وَذَاكَ قَبْلَ وَقْعَةِ بَدْرٍ، حَتَّى مَرَّ بِمَجْلِسٍ، فِيهِ أَخْلَاطٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ، عَبَدَةِ الأَوْثَان، وَالْيَهُود، فِيهِمْ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبيٍّ، وَفي الْمَجْلِسِ عَبْدُ اللهِ بْنُ رَوَاحَةَ، فَلَمَّا غَشِيَتِ الْمَجْلِسَ عَجَاجَةُ الدَّابَّة، خَمَّرَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أبي أَنْفَهُ بِرِدَائِه، ثُمَّ قَالَ: لَا تُغَبِّرُوا عَلَيْنَا، فَسَلَمَ عَلَيْهِمُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ وَقَفَ، فَنَزَلَ، فَدَعَاهُمْ إِلَى الله، وَقَرَأَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ، فَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبي: أيُّهَا الْمَرْءٌ، لَا أَحْسَنَ مِنْ هَذَا، إِنْ كَانَ مَا تَقُولُ حَقًّا، فَلَا تُؤْذِنَا فِي مَجَالِسِنَا، وَارْجِعْ

(1)

إِلَى رَحْلِكَ، فَمَنْ جَاءَكَ مِنَّا، فَاقْصُصْ عَلَيْه، فَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ رَوَاحَةَ: اغْشَنَا فِي مَجَالِسِنَا، فَإنَّا نُحِبُّ ذَلِكَ، قَالَ: فَاسْتَبَّ الْمُسْلِمُونَ، وَالْمُشْرِكُونَ، وَالْيَهُودُ، حَتَّى هَمُّوا أَنْ يَتَوَاثَبُوا، فَلَمْ يَزَلِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُخَفِّضُهُمْ، ثُمَّ رَكِبَ دَابَّتَهُ، حَتَّى دَخَلَ عَلَى سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، فَقَالَ:"أَيْ سَعْدُ، ألَمْ تَسْمَعْ إِلَى مَا قَالَ أبو حُبَابٍ؟ - يُرِيدُ عَبْدَ اللهِ بْنَ أبَيٍّ - قَالَ: كَذَا وَكَذَا"، قَالَ: اعْفُ عَنْهُ يَا رَسُولَ الله، وَاصْفَحْ، فَوَاللهِ لَقَدْ أَعْطَاكَ اللهُ الَّذِي أَعْطَاكَ، وَلَقَدِ اصْطَلَحَ أَهْلُ هَذِهِ الْبُحَيْرَةِ أَنْ يُتَوِّجُوهُ، فَيُعَصِّبُوهُ بِالْعِصَابَة، فَلَمَّا رَدَّ اللهُ ذَلِكَ بِالْحَقِّ الَّذِي أَعْطَاكَهُ، شَرِقَ بِذَلِكَ، فَذَلِكَ فَعَلَ بِهِ مَا رَأَيْتَ. فَعَفَا عَنْهُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم).

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ) الكِسّيّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(أُسَامَةُ بْنُ زيدِ) بن حارثة بن شَرَاحيل الكلبيّ الأمير، أبو محمد، أو أبو زيد، الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنه، مات سنة (54)، وهو ابن (75) سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 43/ 284.

والباقون تقدّموا في البابين الماضيين.

(1)

وفي نسخة: "فارجع".

ص: 365

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه ثلاثة من الشيوخ قرن بينهم، ثم فصل، وفيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ، وفيه عروة أحد الفقهاء السبعة، وأن صحابيّه حِبّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وابن حِبّه رضي الله عنهما.

شرح الحديث:

(عَنْ عُرْوَةَ) بن الزبير (أَن أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ) رضي الله عنه (أَخْبَرَهُ، أَن النبيَّ صلى الله عليه وسلم رَكِبَ حِمَارًا، عَلَيْهِ إكَافٌ) - بكسر الهمزة، ويقال: وِكاف أيضًا، قاله النوويّ

(1)

، وقال الفيّوميّ: الإِكاف للحمار معروف، والجمع أُكُفٌ بضمّتين، مثلُ حمار وحُمُر، وآكفته بالمدّ: جَعَلتُ عليه الإكاف، والْوِكَافُ على البدل لغةٌ جارية في جميع تصاريف الكلمة. انتهى

(2)

، وقال المجد: إِكاف الحمار، ككتاب، وغُراب، ووِكافه: بَرْذَعته، والأَكّاف: صانعه، واَكفَ الحمارَ إيكافًا، وأَكّفه تأكيفًا: شدّه عليه، وأَكّف الإكافَ تاكيفًا: اتّخذه. انتهى

(3)

، وجملة "عليه إكاف" في محل نصب نعت لـ"حمارًا"، وأما قوله:(تَحْتَهُ قَطِيفَةٌ) فيحتَمِل أن يكون نعتًا ثانيًا، وأن يكون حالًا، و"القَطِيفة" - بفتح القاف، وكسر الطاء المهملة -: دِثَارٌ له خَمْل، والجمعٌ: قَطائف، وقُطُفٌ بضمّتين

(4)

. (فَدَكِية)؛ أي: منسوبة إلى البلدة المسمّاة بفدك، وهو بفتح الفاء، والدال المهملة، آخره كاف، وهي على مرحلتين، أو ثلاث من المدينة، قاله النوويّ

(5)

، وقال الفيّوميّ: فَدَك بفتحتين: بلدة بينها وبين المدينة يومان، وبينها وبين خيبر دون مرحلة، وهي مما أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم، وتنازعها عليّ والعبّاس في خلافة عمر، فقال عليّ: جعلها النبيّ صلى الله عليه وسلم لفاطمة، وولدها، وأنكر العبّاس، فسلّمها عمر لهما رضي الله عنهم. انتهى

(6)

.

وقال في "الفتح": قوله: "على قطيفة فدكيّة"؛ أي: كساء غليظ، منسوب

(1)

شرح النوويّ" 12/ 157.

(2)

"المصباح المنير" 1/ 17.

(3)

"القاموس المحيط" ص 54.

(4)

"المصباح المنير" 2/ 509.

(5)

"شرح النوويّ" 12/ 157.

(6)

"المصباح المنير" 2/ 465.

ص: 366

إلى فدك - بفتح الفاء، والدال - وهي بلد مشهور على مرحلتين من المدينة. انتهى

(1)

.

(وَأَرْدَفَ)؛ أي: أركب، يقال: أردفته إردافًا: إذا أركبته، والرَّدِيف: هو الذي تَحْمله خلفك على ظهر الدابّة؛ أي: أركب النبيّ صلى الله عليه وسلم (وَرَاءَهُ)؛ أي: خلفه، (أُسَامَةَ) بن زيد رضي الله عنهما، وقوله:(وَهُوَ يَعُودُ) جملة في محلّ نصب على الحال من الفاعل؛ أي: والحال أنه صلى الله عليه وسلم يزور (سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ) - بضمّ العين المهملة، وتخفيف الموحّدة - ابن دُليم بن حارثة الأنصاريّ الْخَزرجيّ رضي الله عنه، سيّد الخزرج، تقدّمت ترجمته في "الصلاة" 17/ 912. وقوله:(فِي بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ) متعلّق بحال مقدّر؛ أي: حال كونه ساكنًا في منازلهم، وبنو الحارث بن الخزرج هم قوم سعد بن عبادة. (وَذَاكَ قَبْلَ وَقْعَةِ بَدْرٍ)؛ أي: قبل غزوتها، (حَتَّى مَرَّ) صلى الله عليه وسلم (بِمَجْلِسٍ، فِيهِ أَخْلَاطٌ) - بفتح الهمزة -، قال المجد رحمه الله: وأخلاطٌ من الناس، وخَلِيظ، وخُلَّيْطَى، كَسُمَّيْهَى، ويُخَفَّفُ: أوباشٌ مُختلطون، لا واحد لهنّ. انتهى

(2)

، وقوله:(مِنَ الْمُسْلِمِينَ) بيان لـ"أخلاط"، (وَالْمُشْرِكِينَ) عطف على "المسلمين"، وقوله:(عَبَدَةِ الأَوْثَانِ) بدل من "المشركين"، و"عَبَدَة" - بفتحات -: جمع عابد، ويُجمع أيضًا على عُبّاد، مثلُ كافر، وكفّار، وكَفَرَة، و"الأوثان" - بالفتح -: جمع وَثَن - بفتحتين - وهو: الصنم، سواء كان من خشب، أو حجر، أو غيره، ويُجمع أيضًا على وُثُنٍ، مثلُ أَسَدٍ وأُسُدٍ

(3)

، وقوله:(وَالْيَهُودِ) بالجرّ، عطفًا على "عَبَدَةِ"، أو على "المشركين"، وهو أظهر؛ لأن اليهود مُقِرّون بالتوحيد، نَعَم مِنْ لازم قول من قال منهم: عُزيزٌ ابن الله - تعالى الله عن قولهم - الإشراكُ، فالأَولى كونه معطوفًا على "المشركين"، فيكون قد فسّر "المشركين" بعَبَدَة الأوثان، وباليهود، وإنما عَطْفُهم ليكون تنويهًا بهم في الشر

(4)

.

(1)

"الفتح" 10/ 18، كتاب "التفسير" رقم (4566).

(2)

"القاموس المحيط" ص 387 - 388.

(3)

"المصباح المنير" 2/ 647.

(4)

راجع: "الفتح" 10/ 18، كتاب "التفسير" رقم (4566).

ص: 367

(فِيهِمْ)؛ أي: في أولئك الأخلاط، وهو خبر مقدّم لقوله:(عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيٍّ) - بضم الهمزة، وتخفيف الباء الموحّدة، وتشديد الياء - رأس المنافقين، وفي رواية للبخاريّ:"حتى مرّ بمجلس فيه عبد الله بن أُبيّ ابن سَلُول"، وسَلُول - بفتح السين المهملة، وضم اللام - اسم أمّ عبد الله، فلا بُدّ أن يُقرأ:"ابنُ سَلُول" بالرفع؛ لأنه صفة لـ "عبد الله"، لا صفة لـ"أُبَيّ"

(1)

.

(وَفي الْمَجْلِسِ عَبْدُ اللهِ بْنُ رَوَاحَةَ) بن ثَعْلبة بن امرئ القيس الخزرجيّ الأنصاريّ الشاعر، أحد السابقين، شَهِد بدرًا، واسْتُشْهِد بمؤتة، وكان ثالث الأمراء بها، في جمادى الأولى سنة ثمان من الهجرة، له ذِكرْ في هذا الكتاب، ولا رواية له، وتقدّمت ترجمته في "الجنائز" 10/ 2161. (فَلَمَا غَشِيَتِ) - بفتح أوله، وكسر ثانيه -، مبنيًّا للفاعل؛ أي: غطّى (الْمَجْلِسَ) بالنصب على المفعوليّة، (عَجَاجَةُ الدَّابَّةِ) بالرفع على الفاعليّة، وهو بفتح العين المهملة، وتخفيف الجيم الأولى: هي ما ارتفع من غبار حوافرها

(2)

. (خَمَّرَ) - بتشديد الميم -؛ أي: غطّى (عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبيٍّ أنْفَهُ) وفي رواية: "وجهه"، (بِرِدَائِه، ثُمَّ قَالَ: لَا تُغَبِّرُوا) - بضمّ أوله، وتشدّيد الموحّدة -، من التغبير، ويَحْتَمِل أن يكون بتخفيف الموحّدة، من الإغبار، يقال: غبّرت، تغبيرًا، وأغبرتُ إغبارًا؛ أي: أثرتُ الْغُبار، أفاده الجوهريّ

(3)

، والمعنى: لا تُثيروا الغبار (عَلَيْنَا، فَسَلَّمَ عَلَيْهِمُ)؛ أي: على الأخلاط من المشركين، واليهود، والمسلمين الجالسين في ذلك المجلس، (النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم) يؤخذ منه جواز السلام على المسلمين، إذا كان معهم كفار، وينوي حينئذ بالسلام المسلمين، ويَحْتَمِل أن يكون الذي سَلَّم به عليهم صيغة عموم، فيها تخصيص؛ كقوله:"والسلام على من اتبع الهدى"

(4)

.

(ثُمَّ وَقَفَ)؛ أي: توقّف النبيّ صلى الله عليه وسلم، وكفّ عن المسير إلى مكان حاجته التي خرج من أجلها، وهي عيادة سعد بن عبادة رضي الله عنه، (فَنَزَلَ) عن دابّته (فَدَعَاهُمْ)؛ أي: الأخلاط، (اِلَى اللهِ)؛ أي: إلى الدخول في دين الله،

(1)

"عمدة القاري" 21/ 221.

(2)

"إكمال المعلم" 6/ 172.

(3)

راجع: "الصحاح" ص 764.

(4)

"الفتح" 10/ 19، كتاب "التفسير" رقم (4566).

ص: 368

والاستجابة لطاعته، (وَقَرَأَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ، فَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبيٍّ: أيُّهَا الْمَرْء) يريد النبيّ صلى الله عليه وسلم، (لَا أَحْسَنَ مِنْ هَذَا) قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في جميع نسخ بلادنا، بألف في "أَحْسَنَ"؛ أي: ليس شيءٌ أحسن من هذا، وكذا حكاه القاضي عن جماهير رواة مسلم، قال: ووقع للقاضي أبي عليّ: "لأحسنُ من هذا" بالقصر، من غير ألف، قال القاضي: وهو عندي أشبه بِصِلة قوله: "إن كان ما تقول حقًّا"، وإلا فكيف يشكّ في قوله:"حقًّا"، ويصفه بأنه لا شيء أحسن منه؟ وإنما مراده - والله أعلم - لأَحْسَنُ مِنْ قصدك لنا، وتسوّرك علينا في مجالسنا، إن كان الذي تأتي به حقًّا لا تؤذنا، وتقعد في رحلك، فمن جاءك أسمعته ما عندك. وهو أليق بمقصود المنافق الشاكّ - والله أعلم - وقد قيل: إن ابن أُبيّ لم يكن حينئذ بعدُ إلا على شركه، لم يُظهر الإسلام بعدُ، وهو دليل لفظ الحديث ومساقه، ولقوله:"لا تؤذنا به"؛ يعني: القرآن، ولقوله:"في أخلاط من المشركين والمسلمين". انتهى

(1)

.

وفي رواية البخاريّ: "لا أحسن مما تقول"، قال في "الفتح": بنصب "أحسنَ"، وفتح أوله، على أنه أفعل تفضيل، ويجوز في "أَحسنُ" الرفع، على أنه خبر "لا"، والاسم محذوف؛ أي: لا شيءَ أحسنُ من هذا، قال: ووقع في رواية الكشميهنيّ بضم أوله، وكسر السين، وضم النون، ووقع في رواية أخرى:"لأَحسنُ"، بحذف الألف، لكن بفتح السين، وضم النون، على أنها لام القسم، كأنه قال: أحسن من هذا أن تقعُد في بيتك، حكاه القاضي عياض، عن أبي عليّ، واستحسنه، وحَكَى ابن الجوزيّ تشديد السين المهملة، بغير نون من الْحِسّ؛ أي: لا أعلم منه شيئًا. انتهى

(2)

.

وقال في "العمدة": قوله: "لا أحسن مما تقول": لفظ "أحسن" أفعل تفضيل، و"من" في "مما" زائدة، قال التيميّ؛ أي: ليس أحسنُ مما تقول؛ أي: إنما تقول حسن جدًّا، قال ذلك استهزاءً، ويرْوَى:"لا أُحْسِنُ" بلفظ فعل المتكلم من المضارع، و"ما تقول" مفعوله، وقوله:"إن كان حقًّا" يصحّ تعلقه

(1)

"إكمال المعلم" 6/ 172 - 173، و"شرح النوويّ" 12/ 158.

(2)

"الفتح" 10/ 19، كتاب "التفسير" رقم (4566).

ص: 369

بما قبله، وبما بعده. انتهى

(1)

.

وقال محمد تقيّ رحمه الله: قوله: "لا أحسن من هذا"؛ أي: ليس شيء أحسن من هذا إن كان حقًّا، ولكنه لم يقبل أنه حقّ، فكأنه أراد أن يردّ دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم بكلام ظاهره التحسين، وباطنه الردّ عليها، فعَلّق كونها حسنةً على كونها حقًّا، هذا على الرواية المشهورة، وقد رواه بعضهم "لأُحسِنُ" بغير ألف بين اللام والهمزة، واللامُ حينئذ للتأكيد، والمراد: أن الأحسن من هذا أن تقعد في بيتك

إلخ، واستَحسن القاضي عياض هذه الرواية؛ لكون معناها أظهر. انتهى

(2)

.

(إنْ كَانَ مَا تَقُولُ حَقًّا، فَلَا) ناهية، ولذا جُزم بها قوله:(تُؤْذِنَا فِي مَجَالِسِنَا، وَارْجِعْ) وفي بعض النسخ: "فارجع"(إِلَى رَحْلِكَ) - بفتح الراء، وسكون الحاء المهملة -؛ أي: إلى منزلك، ويقال: الرَّحْلُ: مسكن الرجل، وما يستصحبه من الأثاث

(3)

.

(فَمَنْ جَاءَكَ مِنَّا، فَاقْصُصْ عَلَيْهِ)؛ أي: حدّثه به، يقال: قَصَصْتُ الخبرَ قَصًّا، من باب نصر: حدّثتُ به على وجهه، والاسم: الْقَصَصُ بفتحتين

(4)

.

(فَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ رَوَاحَةَ) رضي الله عنه ردًّا على ابن أُبيّ خطابه البذيء، (اغْشَنَا) بوصل الهمزة، وفتح الشين المعجمة: أمْر مِن غَشِيَه يَغْشاه، من تَعِبَ: إذا أتاه، والاسم: الْغِشْيَانُ بالكسر

(5)

؛ أي: ائتنا (فِي مَجَالِسِنَا، فَإنَّا نُحِبُّ ذَلِكَ، قَالَ) أسامة بن زيد رضي الله عنهما (فَاسْتَبَّ الْمُسْلِمُونَ، وَالْمُشْرِكُونَ، وَالْيَهُودُ)؛ أي: شَتَم بعضهم بعضًا (حَتَّى هَمُّوا)؛ أي: قصدوا (أَنْ يَتَوَاثَبُوا)؛ أي: يَثِب بعضهم على بعض، والتواثُب: تَفَاعُلٌ، من الْوُثوب، يقال: وَثَبَ وَثْبًا، من باب وَعَدَ: قَفَزَ، ووُثُوبًا، ووَثيبًا، فهو وَثّابٌ، ويتعدّى بالهمزة، فيقال: أوثبتُهُ، وواثبته: بمعنى ساورته

(6)

،

(1)

"عمدة القاري" 21/ 221.

(2)

"تكملة فتح الملهم" 3/ 208.

(3)

"عمدة القاري" 21/ 221.

(4)

"المصباح المنير" 2/ 505.

(5)

"المصباح المنير" 2/ 448.

(6)

المساورة: المواثبة، وفي "التهذيب": والإنسان يُساور إنسانًا: إذا تناول رأسه، ومعناه: المغالبة. اهـ. "المصباح المنير" 1/ 294 - 295.

ص: 370

من الوثوب، والعامّة تستعمله بمعنى المبادرة، والمسارعة

(1)

.

وفي رواية البخاريّ: "يتثاورون"، قال في "الفتح": قوله: "يتثاورون " بمثلّثة؛ أي: يتواثبون؛ أي: قاربوا أن يَثِبَ بعضهم على بعض، فيقتتلوا، يقال: ثار: إذا قام بسرعة، وانزعاج. انتهى

(2)

.

(فَلَمْ يَزَلِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُخَفِّضُهُمْ) - بتشديد الفاء، من التخفيض؛ أي: يُسكّتهم، ويُسهّل الأمر بينهم، زاد في رواية البخاريّ:"حتّى سكنوا"، قال في "الفتح": قوله: "حتى سكنوا" بالنون، كذا للأكثر، وعند الكشميهنيّ بالمثناة، ووقع في حديث أنس: أنه نزل في ذلك: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} الآية [الحجرات: 9]. انتهى.

(ثُمَّ رَكِبَ) صلى الله عليه وسلم (دَابَّتَهُ، حَتى دَخَلَ عَلَى سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ) رضي الله عنه (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("أَيْ سَعْدُ)"أي" حرف نداء، كما في قول الشاعر:

أَلَمْ تَسْمَعِي أَيْ عَبْدَ فِي رَوْنَقِ الضُّحَى

بُكَاءَ حَمَامَاتِ لَهُنَّ هَدِيرُ

واختُلِف فيها، هل هي للقريب، أو للبعيد، أو للمتوسّط

(3)

؟ وفي رواية البخاريّ: "أيا سعدُ".

(ألَمْ تَسْمَعْ اِلَى مَا قَالَ أبو حُبَابٍ) - بضمّ الحاء المهملة، وبموحّدتين، الأولى خفيفةٌ، وهي كُنية عبد الله بن أُبيّ، كما بيّنه بقوله:(يُرِيدُ)؛ أي: يقصد النبيّ صلى الله عليه وسلم بقوله: "أبو حباب"(عَبْدَ اللهِ بْنَ أبَيٍّ)، وإنما كناه صلى الله عليه وسلم في تلك الحالة، وإن كان وضع الكنية للتشريف؛ لكونه مشهورًا بها، أو لمصلحة التألّف

(4)

.

(قَالَ)؛ أي: أبو حباب (كَذَا وَكَذَا") كناية عما سبق له من الكلام، حيث قال: "أيها المرء لا أحسن من هذا، إن كان ما تقول حقًّا، فلا تؤذنا في مجالسنا

إلخ".

(1)

"المصباح المنير" 2/ 647.

(2)

"الفتح" 10/ 19، كتاب "التفسير" رقم (4566).

(3)

راجع: "مغني اللبيب" 1/ 159 - 160.

(4)

"الفتح" 10/ 19 - 20، كتاب "التفسير" رقم (4566).

ص: 371

(قَالَ) سعد بن عبادة رضي الله عنه (اعْفُ عَنْهُ يَا رَسُولَ الله، وَاصْفَحْ)؛ أي: تجاوز عنه، وأصل الصفح: هو الإعراض بصفْحة الوجه، كأنه أعرض بوجهه عن ذنبه، قال ابن الأثير

(1)

.

(فَوَاللهِ لَقَدْ أَعْطَاكَ اللهُ الَّذِي أَعْطَاكَ) من النبوّة والرسالة، (وَلَقَدِ اصْطَلَحَ)؛ أي: اتّفَقَ (أَهْلُ هَذه الْبُحَيْرَةِ) بصيغة التصغير، قال القاضي عياض: ورويناه في غير مسلم: "الْبَحْرَة" غير مصغّر

(2)

.

وفي رواية للبخاريّ: "أهل هذه البحرة" بالتكبير، قال في "الفتح": هذا اللفظ يُطلق على القرية، وعلى البلد، والمراد به هنا: المدينة النبوية، ونقل ياقوت أن البحرة من أسماء المدينة النبوية. انتهى.

وقال في "العمدة": قوله: "البحرة" - بفتح الباء الموحّدة، وسكون الحاء المهملة -: البلدة، يقال: هذه بحرتنا؛ أي: بلدتنا. انتهى

(3)

.

(أَنْ يُتَوِّجُوهُ)؛ أي: يجعلوا التاج على رأسه، وهو كناية عن المُلك؛ أي: يجعلونه مَلِكًا، (فَيُعَصِّبُوهُ بِالْعِصَابَةِ)؛ أي: يَشُدّوا عِصَابة السيادة على رأسه، وقال النوويّ رحمه الله: معناه: اتّفقوا على أن يجعلوه مَلِكهم، وكان من عادتهم إذا ملّكوا إنسانًا أن يُتوّجوه، ويعصّبوه. انتهى

(4)

.

وقال القاضي عياض: "يُعصّبوه"؛ أي: يسوّدوه، وكانوا يُسمّون السيّد المطاع: مُعصّبًا؛ لأنه يُعَصّب بالتاج، أو يُعصّب به أمور الناس، وكان أيضًا يقال له: الْمُعَمَّم، والعمائم تيجان العرب، وهي العصائب، قال: قد يكون هنا: "يُعصّبوه" على وجهه، لا سيما مع قوله:"بالعصابة"، وهذا بيان أنه حقيقة لا مجازٌ؛ أي: يربطون له عصابة الرئاسة والملك، فقد ذكر ابن إسحاق، وأصحاب السير في هذا الخبر:"فوالله لقد جاء الله بك، وإنا لننظم له الْخَرَز؛ لنتوجه، فإنه ليرى أن قد سلبته ملكًا". انتهى

(5)

.

(1)

"النهاية" 3/ 34.

(2)

"إكمال المعلم" 6/ 173.

(3)

"عمدة القاري شرح صحيح البخاريّ" 31/ 268.

(4)

"شرح النوويّ" 12/ 158 - 159.

(5)

"إكمال المعلم" 6/ 174.

ص: 372

وقال في "الفتح": قوله: "على أن يتوِّجوه فيعصبوه بالعصابة": يعني: يُرَئِّسوه عليهم، ويسَوِّدوه، وسُمِّي الرئيس مُعَصَّبًا؛ لِمَا يُعَصَّب برأسه من الأمور، أو لأنهم يُعَصِّبون رؤوسهم بعِصابة، لا تنبغي لغيرهم، يمتازون بها، قال: ووقع في رواية بلفظ: "فيعصبونه" بنون الرفع، والتقدير: فهم يعصبونه، أو فإذا هم يعصبونه، وعند ابن إسحاق:"لقد جاءنا الله بك، وإنا لننظم له الْخَرَز لنتوجه"، فهذا تفسير المراد، وهو أَولى مما تقدم. انتهى

(1)

.

(فَلَمَّا رَدَّ اللهُ ذَلِكَ)؛ أي: التدبير الذي دبّره لابن أُبيّ، (بِالْحَقِّ الَّذِي أَعْطَاكَهُ، شَرِقَ بِذَلِكَ) - بفتح المعجمة، وكسر الراء -؛ أي: غُصّ به، وهو كناية عن الْحَسَد، يقال: غُصَّ بالطعام، وشُجِي بالعظم، وشَرِقَ بالماء: إذا اعتَرَض شيء من ذلك في الحلق، فمنعه الإساغة، قاله في "الفتح".

وقال في "اللسان": والشَّرَقُ بالماء والريق، ونحوهما؛ كالْغَصَص بالطعام، وشَرِقَ شَرَقًا، فهو شَرِق، قال عديّ بن زيد [من الرمل]:

لَوْ بِغَيْرِ الْمَاءِ حَلْقِي شَرِقُ

كُنْتُ كَالْغَصَّانِ بِالْمَاءِ اعْتِصَارِي

(2)

(فَذَلِكَ فَعَلَ بِهِ مَا رَأَيْتَ، فَعَفَا عَنْهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم) امتثالًا لأمر الله تعالى له بذلك، حيث قال الله تعالى:{وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [المائدة: 13].

[تنبيه]: زاد في رواية البخاريّ في آخر هذا الحديث ما نصّه: وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه يعفون عن المشركين، وأهل الكتاب، كما أمرهم الله، ويصبرون على الأذى، قال الله عز وجل:{وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا} الآية [آل عمران: 186]، وقال الله:{وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ} إلي آخر الآية [البقرة: 109]، وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم يتأول العفو ما أمره الله به، حتى أذن الله فيهم، فلما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم بدرًا، فقتل الله به صناديد كفار قريش، قال ابن أُبَيّ ابنُ سَلُول، ومن معه من المشركين، وعَبَدة

(1)

"الفتح" 10/ 20، كتاب "التفسير" رقم (4566).

(2)

"لسان العرب" 10/ 177.

ص: 373

الأوثان: هذا أمر قد تَوَجَّه، فبايِعُوا الرسول صلى الله عليه وسلم على الإسلام، فأسلموا. انتهى.

قال في "الفتح": قوله: "وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأصحابه يَعْفُون عن المشركين، وأهل الكتاب" هذا حديث آخر أفرده ابن أبي حاتم في "التفسير" عن الذي قبله، وإن كان الإسناد متّحدًا، وقد أخرج مسلم الحديث الذي قبله مقتصرًا عليه، ولم يُخرِج شيئًا من هذا الحديث الآخر.

قوله: "وقال الله: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ} إلى آخر الآية": ساق في رواية أبي نعيم في "المستخرج" من وجه آخر عن أبي اليمان بالإسناد المذكور الآية، وبما بعد ما ساقه البخاريّ منها تتبيّن المناسبة وهو قوله تعالى:{فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا} [البقرة: 109].

قوله: "حتى أذِن الله فيهم"؛ أي: في قتالهم؛ أي: فترك العفو عنهم، وليس المراد أنه تركه أصلًا، بل بالنسبة إلى ترك القتال أوّلًا، ووقوعه آخرًا، وإلا فعفوه صلى الله عليه وسلم عن كثير من المشركين واليهود بالمنّ والفداء، وصَفْحه عن المنافقين مشهور في الأحاديث والسير.

قوله: "صناديد" بالمهملة، ثم نون خفيفة: جمع صِنديد بكسر، ثم سكون، وهو الكبير في قومه.

قوله: هذا أَمْر قد توَجّه؛ أي: ظهر وجهه.

قوله: "فبايِعُوا" بلفظ الماضي، ويَحْتَمِل أن يكون بلفظ الأمر، والله أعلم. انتهى

(1)

.

مسائل تتعلّق بهدا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أسامة بن زيد رضي الله عنها هذا متّفق عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [38/ 4650 و 4651](1798)، و (البخاريّ) في

(1)

"الفتح" 10/ 20، كتاب "التفسير" رقم (4566).

ص: 374

"التفسير"(4566) و"المرضى"(5663) و"الأدب"(6207) و"الاستئذان"(6254)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(7502)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(9784)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 203)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6581)، و (البزّار) في "مسنده"(7/ 21)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 343 و 344)، و (الطبرانيّ) في "مسند الشاميين"(4/ 202)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(4/ 342)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 18 و 9/ 10) و"دلائل النبوّة"(2/ 576 - 578)، و (تمّام الرازيّ) في "فوائده"(1/ 186)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان ما كان عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم من التواضع، حيث كان يُردف خلفه.

2 -

(ومنها): بيان جواز الإرداف على الحمار وغيره من الدوابّ إذا كانت الدابّة تطيق ذلك.

3 -

(ومنها): بيان مشروعيّة عيادة المريض، وعيادة الكبير بعض أتباعه في داره.

4 -

(ومنها): جواز العيادة راكبًا.

5 -

(ومنها): أن ركوب الحمار ليس بنقص في حقّ العظماء.

6 -

(ومنها): جواز الابتداء بالسلام على قوم فيهم مسلمون وكفار، قال النوويّ: وهذا مجمع عليه، قال القرطبيّ رحمه الله: وينبغي أن ينوي المسلمين

(1)

.

7 -

(ومنها): أن فيه الاستراحةَ ببثّ الشكوى للصاحب، ولمن يُتَسَلَّى بحديثه، وينتفع برأيه.

8 -

(ومنها): جواز ذكر الكافر بكنيته إذا اشتهر بها، قال الإمام البخاريّ رحمه الله في "صحيحه":"باب كنية المشرك"، فقال الحافظ في "شرحه": قوله: "باب كنية المشرك"؛ أي: هل يجوز ابتداءً؟ وهل إذا كانت له كنية تجوز مخاطبته، أو ذكره بها؟ وأحاديث الباب مطابقة لهذا الأخير، ويلتحق به الثاني في الحكم.

(1)

"المفهم" 3/ 658.

ص: 375

وقال النوويّ في "الأذكار" بعد أن قَرّر أنه لا تجوز تكنية الكافر إلا بشرطين ذكرهما: وقد تكرر في الحديث ذكر أبي طالب، واسمه عبد مناف، وقال الله تعالى:{تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} ، ثم ذكر حديث الباب وقوله فيه:"أبو حباب"، قال: ومحلّ ذلك إذا وُجد فيه الشرط، وهو أن لا يُعْرَف إلا بكنيته، أو خيف من ذكر اسمه فتنة، ثم قال: وقد كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هرقل، فسمّاه باسمه، ولم يَكنه، ولا لَقَّبه بلقبه، وهو قيصر، وقد أُمرنا بالإغلاظ عليهم، فلا نَكنيهم، ولا نَلِين لهم قولًا، ولا نُظهر لهم وُدًّا.

قال الحافظ: وقد تُعُقِّب كلامه بأنه لا حصر فيما ذَكَر، بل قصّة عبد الله بن أُبَيّ في ذكره بكنيته دون اسمه، وهو باسمه أشهر، ليس لخوف الفتنة، فإن الذي ذُكِر بذلك عنده كان قويًّا في الإسلام، فلا يُخشى معه أن لو ذُكر عبد الله باسمه أن يَجُرّ بذلك فتنة، وإنما هو محمول على التألُف، كما جزم به ابن بطال، فقال: فيه جواز تكنية المشركين على وجه التألُّف، إما رجاءَ إسلامهم، أو لتحصيل منفعة منهم.

وأما تكنية أبي طالب فالظاهر أنه من القبيل الأول، وهو اشتهاره بكنيته، دون اسمه.

وأما تكنية أبي لهب، فقد أشار النوويّ في "شرحه" إلى احتمالٍ رابعٍ، وهو اجتناب نسبته إلى عبودية الصنم؛ لأنه كان اسمه عبد العزى، وهذا سَبَق إليه ثعلبٌ، ونقله عنه ابن بطال، وقال غيره: إنما ذُكر بكنيته دون اسمه؛ للإشارة إلى أنه سيصلى نارًا ذات لهب، قيل: وإن تكنيته بذلك من جهة التجنيس؛ لأن ذلك من جملة البلاغة، أو للمجازاة، أشير إلى أن الذي يفخر به في الدنيا من الجمال والولد، كان سببًا في خزيه وعقابه.

وحَكَى ابن بطال عن أبي عبد الله بن أبي زمنين، أنه قال: كان اسم أبي لهب: عبد العزى، وكنيته أبو عتبة، وأما أبو لهب، فلَقَبٌ لُقِّب به؛ لأن وجهه كان يتلألأ، ويلتهب جمالًا، قال: فهو لقبٌ، وليس بكنية، وتُعُقِّب بأن ذلك يقوّي الإشكال الأول؛ لأن اللقب إذا لم يكن على وجه الذم للكافر لم يصلح من المسلم.

وأما قول الزمخشريّ: هذه التكنية ليست للإكرام، بل للإهانة؛ إذ هي

ص: 376

كناية عن الجهنميّ؛ إذ معناه: تبت يدا الجهنميّ، فهو مُتَعقَّب؛ لأن الكنية لا نظر فيها إلى مدلول اللفظ، بل الاسم إذا صُدِّر بأمّ، أو أب، فهو كنية.

سلَّمنا لكن اللهب لا يختص بجهنم، وإنما المعتمد ما قاله غيره أن النكتة في ذكره بكنيته، أنه لمّا عَلِم الله تعالى أن مآله إلى النار ذات اللهب، ووافقت كنيته حاله حَسُن أن يُذكر بها.

وأما ما استشهد به النوويّ من الكتاب إلى هرقل، فقد وقع في نفس الكتاب ذِكْره بـ "عظيم الروم"، وهو مشعر بالتعظيم، واللقبُ لغير العرب؛ كالكنى للعرب، وقد قال النوويّ في موضع آخر:

[فرع]: إذا كَتَب إلى مشرك كتابًا، وكَتَب فيه سلامًا، أو نحوه، فينبغي أن يَكتب كما كَتب النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى هرقل، فذَكَر الكتاب، وفيه:"عظيم الروم"، وهذا ظاهره التناقض.

قال الحافظ: وقد جمع أَبِي رحمه الله في نُكَت له على "الأذكار" بأن قوله: "عظيم الروم" صفة لازمة لهرقل، فإنه عظيمهم، فاكتفى به صلى الله عليه وسلم عن قوله:"ملك الروم"، فإنه لو كتبها لأمكن هرقل أن يتمسك بها في أنه أقرّه على المملكة، قال: ولا يَرِدُ مثل ذلك في قوله تعالى حكاية عن صاحب مصر: {وَقَالَ الْمَلِكُ} [يوسف: 43]؛ لأنه حكاية عن أمر مضى، وانقضى، بخلاف هرقل. انتهى.

قال الحافظ: وينبغي أن يُضَمّ إليه أن ذِكْر عظيم الروم، والعدول عن ملك الروم، حيث كان لا بُدّ له من صفة تميزه عند الاقتصار على اسمه؛ لأن من يتسمى بهرقل كثير، فقيل:"عظيم الروم"؛ ليميّز عمن يتسمى بهرقل، فعلى هذا فلا يُحتجّ به على جواز الكتابة لكل ملك مشرك بلفظ:"عظيم قومه"، إلا إن احتيج إلى مثل ذلك للتمييز، وعلى عموم ما تقدم من التألّف، أو من خشية الفتنة يجوز ذلك بلا تقييد، والله أعلم.

وإذا ذَكَر قيصر، وأنه لقب لكل من ملك الروم، فقد شاركه في ذلك جماعة من الملوك، ككسرى لملك الفرس، وخاقان لملك الترك، والنجاشي لملك الحبشة، وتُبّع لملك اليمن، وبطليوس لملك اليونان، والقطنون لملك اليهود، وهذا في القديم، ثم صار يقال له: رأس الجالوت، ونمرود لملك الصابئة، ودهمي لملك الهند، وقور لملك السند، ويعبور لملك الصين، وذو

ص: 377

يَزَن، وغيره من الأذواء لملك حمير، وهياج لملك الزنج، وزنبيل لملك الخزر، وشاه أرمن لملك أخلاط، وكابل لملك النوبة، والأفشين لملك فرغانة، وأسروسنة، وفرعون لملك مصر، والعزيز لمن ضَمّ إليها الإسكندرية، وجالوت لملك العمالقة، ثم البربر، والنعمان لملك الغرب من قِبَل الفرس، نُقِل أكثر هذا الفصل من السيرة لمغلطاي، وفي بعضه نظر. انتهى كلام الحافظ رحمه الله

(1)

.

9 -

(ومنها): ما كان يلقاه النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأصحابه رضي الله عنهم من المنافقين من الأذى، ولكنهم يعفون عنهم، ويصفحون، عملًا بقول الله - عزو وجل -:{وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [آل عمران: 186]، وقوله:{وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [المائدة: 13]، وقوله:{فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} [البقرة: 109].

10 -

(ومنها): ما قال القرطبيّ رحمه الله: قول سعد بن عُبادة رضي الله عنه للنبيّ صلى الله عليه وسلم ما قال في عبد الله بن أُبيّ إنما كان على جهة الاستلطاف، والاستمالة؛ ليستخرج منه ما كان في خُلُقه الكريم، من العفو، والصفح عن الجهال، فلا جرم عفا، حتى تَمّ له ما أراد، وصفا، وصبر حتى ظَفِر صلى الله عليه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4651]

(

) - (حَدَّثنِي مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا حُجَيْنٌ - يَعْنِي: ابْنَ الْمُثَنَّى - حَدَّثنَا لَيْثٌ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، فِي هَذَا الإِسْنَاد، بِمِثْلِه، وَزَادَ: وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ عَبْدُ اللهِ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(حُجَيْنُ بْنُ الْمُثَنَّى) أبو عُمير اليماميّ، سكن بغداد، وولي قضاء

(1)

"الفتح" 14/ 95 - 96، كتاب "الأدب" رقم (6207).

ص: 378

خُراسان، ثقةٌ [9](ت 205)(ع م د ت س) تقدم في "الإيمان" 81/ 437.

2 -

(لَيْثُ) بن سعد بن عبد الرحمن الفهميّ، مولاهم، أبو الحارث المصريّ الإمام الحجة الفقيه الشهير [7](ت 175)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 412.

3 -

(عُقَيْلُ) بن خالد الأمويّ مولاهم، أبو خالد الأيليّ، سكن المدينة، ثم الشام، ثم مصر، ثقةٌ ثبتٌ [6](ت 144)(ع) تقدم في "الإيمان" 8/ 133.

والباقون ذُكروا قبله.

وقوله: (فِي هَذَا الإِسْنَادِ)"في" بمعنى الباء؛ أي: بإسناد الزهريّ المذكور قبله، وهو:"عن عروة، عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما".

وقوله: (بِمِثْلِهِ)؛ أي: بمثل حديث معمر، عن الزهريّ.

وقوله: (وَزَادَ) فاعل "زاد" ضمير عُقيل.

[تنبيه]: رواية عُقيل، عن الزهريّ، ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:

(5339)

- حدّثني يحيى بن بكير، حدّثنا الليث، عن عُقيل، عن ابن شهاب، عن عُروة، أن أسامة بن زيد أخبره، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم رَكِب على حمار، على إِكَاف، على قَطِيفة فَدَكِيَة، وأردف أسامة وراءه، يعود سعد بن عُبادة، قبل وقعة بدر، فسار حتى مَرّ بمجلس فيه عبد الله بن أُبَيّ ابن سَلُولَ، وذلك قبل أن يُسلم عبد الله، وفي المجلس أخلاط من المسلمين والمشركين، عَبَدة الأوثان، واليهود، وفي المجلس عبد الله بن رواحة، فلما غَشِيت المجلس عَجَاجة الدابة، خَمَّر عبد الله بن أُبَيّ أنفه بردائه، قال: لا تُغَبِّروا علينا، فسَلَّم النبيّ صلى الله عليه وسلم، ووقف، ونزل، فدعاهم إلى الله، فقرأ عليهم القرآن، فقال له عبد الله بن أُبَيّ: يا أيها المرء، إنه لا أحسن مما تقول، إن كان حقًّا فلا تؤذنا به في مجالسنا، وارجع إلى رَحْلك، فمن جاءك فاقصص عليه، قال ابن رواحة: بلى يا رسول الله، فاغْشَنَا به في مجالسنا، فإنا نحب ذلك، فاستبّ المسلمون، والمشركون، واليهود، حتى كادوا يتثاورون، فلم يزل النبيّ صلى الله عليه وسلم يُخَفِّضهم حتى سكتوا، فركب النبيّ صلى الله عليه وسلم دابته، حتى دخل على سعد بن عُبادة، فقال له:"أي سعدُ، ألم تسمع ما قال أبو حُبَاب؟ "، يريد عبد الله بن أُبَيّ،

ص: 379

قال سعد: يا رسول الله اعْفُ عنه، واصفح، فلقد أعطاك الله ما أعطاك، ولقد اجتَمَع أهل هذه الْبَحْرة أن يُتوِّجوه، فيعصبوه، فلما رُدّ ذلك بالحق الذي أعطاك، شَرِقَ بذلك، فذلك الذي فَعَل به ما رأيت. انتهى

(1)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4652]

(1799) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى الْقَيْسِي، حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ، عَنْ أَبِيه، عَنْ أنسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قِيلَ لِلنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: لَوْ أتيْتَ عَبْدَ اللهِ بْنَ أُبيٍّ، قَالَ: فَانْطَلَقَ إِلَيْه، وَرَكِبَ حِمَارًا، وَانْطَلَقَ الْمُسْلِمُونَ، وَهِيَ أَرْضٌ سَبِخَةٌ، فَلَمَّا أتاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِلَيْكَ عَنِّي، فَوَاللهِ لَقَدْ آذَانِي نَتْنُ حِمَارِكَ، قَالَ: فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الأنصَارِ: وَاللهِ لَحِمَارُ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم أَطْيَبُ رِيحًا مِنْكَ، قَالَ: فَغَضِبَ لِعَبْدِ اللهِ رَجُلٌ مِنْ قَوْمِه، قَالَ: فَغَضِبَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَصْحَابُهُ، قَالَ: فَكَانَ بَيْنَهُمْ ضَرْب بِالْجَرِيدِ، وَبِالأَيْدِي، وَبِالنعَالِ

(2)

، قَالَ: فَبَلَغَنَا أنهَا نَزَلَتْ فِيهِمْ: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات: 9]).

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى الْقَيْسِيُّ) الصنعانيّ، أبو عبد الله البصريّ، ثقةٌ [10](ت 245)(م قد ت س ق) تقدم في "الإيمان" 92/ 503.

2 -

(الْمُعْتَمِرُ) بن سليمان التيميّ البصريّ، تقدّم قريبًا.

3 -

(أَبُوهُ) سليمان بن طَرْخان التيميّ البصريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

4 -

(أنَسُ بْنُ مَالِكٍ) رضي الله عنه، تقدّم قبل بابين.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله؛ كالأسانيد الأربعة الآتية بعده، وهو أعلى ما وقع له من الأسانيد، وهو (318) من رباعيّات الكتاب، وأنه مسلسل بالبصريين من أوله إلى آخره، وفيه أنس بن مالك رضي الله عنه أحد المكثرين السبعة، روى (2286) حديثًا، وهو آخر من مات من الصحابة بالبصرة، مات (2 أو 93)، وقد جاوز مائة سنة.

(1)

"صحيح البخاريّ" 5/ 2143.

(2)

وفي نسخة: "والنعال".

ص: 380

شرح الحديث:

(عَنْ أنَسِ بْنِ مَالِكٍ) أنه (قَالَ) ولفظ البخاريّ: "أن أنسًا قال"، فقال في "الفتح": كذا في جميع الروايات، ليس فيه تصريح بتحديث أنس لسليمان التيميّ، وأعلّه الإسماعيليّ بأن سليمان لم يسمعه من أنس، واعتمد على رواية المقدَّميّ، عن معتمر، عن أبيه، أنه بلغه عن أنس بن مالك. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: كذا ذكر الحافظ تعقّب الإسماعيليّ، ولم يتعرّض للجواب عنه، والذي نقوله: إن الشيخين لا يُخرجان في "صحيحيهما" حديثًا، إلا وقد ثبت لديهما اتصاله، وخلوّه من أيّ علّة، ولا سيّما إذا اتّفقا على إخراجه، كهذا الحديث، فليُتنبّه، والله تعالى أعلم.

(قِيلَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) قال الحافظ رحمه الله: لم أقف على اسم القائل. (لَوْ أتيْتَ عَبْدَ اللهِ بْنَ أُبَيٍّ)؛ أي: ابن سَلُولَ الْخَزرجيّ المشهور بالنفاق. (قَالَ) أنس رضي الله عنه (فَانْطَلَقَ)؛ أي: ذهب النبيّ صلى الله عليه وسلم (إِلَيْهِ)؛ أي: إلى ابن أُبيّ، وقوله:(وَرَكِبَ حِمَارًا) جملة حاليّة بتقدير "قد" عند البصريين، ودون تقدير عند الكوفيين. (وَانْطَلَقَ الْمُسْلِمُونَ)؛ أي: ذهبوا معه صلى الله عليه وسلم، (وَهِيَ)؛ أي: الأرض التي انطلق صلى الله عليه وسلم فيها، وإن لم يَجْر لها ذِكرٌ، إلا أن السياق يدلّ عليها. (أَرْضٌ سَبِخَة)؛ أي: لا تُنبت شيئًا؛ لِمُلوحتها، يقال: سَبِخَتِ الأرضُ سَبَخًا، من باب تَعِبَ، فهي سَبِخَةٌ بكسر الباء، ويجوز إسكانها تخفيفًا، وأسبخت بالألف لغةٌ، ويُجمع المكسور على لفظه، سَبِخَاتٍ، مثلُ كَلِمَةٍ وكَلِماتٍ، ويُجمع الساكن على سِبَاخٍ، مثلُ كَلْبةٍ وكِلاب، وموضع سَبَخٌ، وأرضٌ سَبَخَةٌ بفتح الباء أيضًا؛ أي: مَلِحَةٌ، قاله الفيّوميّ رحمه الله

(2)

وقال في "الفتح": قوله: "سَبِخَةٌ": - بفتح السين المهملة، وكسر الموحّدة، بعدها خاء معجمة -؛ أي: ذات سِبَاخ، وهي الأرض التي لا تُنبت، وكانت تلك صفة الأرض التي مَرّ بها النبيّ صلى الله عليه وسلم إذ ذاك، وذَكَر ذلك؛ للتوطئة

(1)

"الفتح" 6/ 572 - 573، كتاب "الصلح" رقم (2691).

(2)

"المصباح المنير" 1/ 263.

ص: 381

لقول عبد الله بن أُبَيّ إذ تأذى بالغبار. (فَلَمَّا أَتَاهُ)؛ أي: عبد الله بن أُبيّ، (النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِلَيْكَ عَنِّي)؛ أي: تنحّ، وابعُدْ عن مجلسي، و"اليك" اسم فعل أمر، منقول من الجارّ والمجرور، (فَوَاللهِ لَقَدْ آذَاني نَتْنُ حِمَارِكَ)"النَّتْنُ" - بفتح النون، وسكون التاء، وفتحها -: ضدّ الْفَوحِ، قال المجدّ رحمه الله: النَّتْنُ: ضدُّ الْفَوحِ، نَتُنَ؛ كَكَرُم، وضَرَبَ نَتَانةً، وأنتنَ، فهو مُنْتِنٌ، ومِنْتِنُ، بكسرهما، وبضمّتين، وكَقِنْدِيلٍ. انتهى

(1)

.

وقال الفيّوميّ رحمه الله: نَتُنَ الشيءُ بالضمّ نُتُونَةً، ونَتَانَةً، فهو نَتِينٌ، مثلُ قَرِيبٍ، ونتَنَ نَتْنًا، من باب ضَرَبَ، ونَتِنَ يَنْتَنُ، فهو نَتِنٌ، من باب تَعِبَ، وأنْتَن إنتانًا، فهو مُنْتِن، وقد تُكسر الميم للإتباع، فيقال: مِنْتِنٌ، وضمّ التاء إتباعًا للميم قليلٌ. انتهى

(2)

.

(قَالَ) أنس رضي الله عنه (فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الأَنصَارِ) قال الحافظ رحمه الله: لم أقف على اسمه أيضًا، وزعم بعض الشراح أنه عبد الله بن رواحة، ورأيت بخط القطب أن السابق إلى ذلك الدمياطيّ، ولم يذكر مُستنده في ذلك، فتتبعت ذلك، فوجدت حديث أسامة بن زيد - يعني: الحديث الذي قبل هذا - بنحو قصة أنس، وفيه أنه وقعت بين عبد الله بن رواحة، وبين عبد الله بن أُبَيّ مراجعة، لكنها في غير ما يتعلق بالذي ذُكِر هنا، فإن كانت القصة مُتَّحِدةً احتَمَلَ ذلك، لكن سياقها ظاهر في المغايرة؛ لأن في حديث أسامة أنه صلى الله عليه وسلم أراد عيادة سعد بن عبادة، فمَرَّ بعبد الله بن أُبَيٍّ، وفي حديث أنس هذا أنه صلى الله عليه وسلم دُعِي إلى إتيان عبد الله بن أُبيّ، ويَحْتَمِل اتّحادهما بأن الباعث على توجهه العيادةُ، فاتَّفَق مروره بعبد الله بن أُبيّ، فقيل له حينئذ: لو أتيته، فأتاه، ويدلّ على اتحادهما أن في حديث أسامة:"فلما غَشِيت المجلسَ عَجَاجةُ الدابة خَمَّر عبد الله بن أُبَيّ أنفه بردائه". انتهى

(3)

.

(وَاللهِ لَحِمَارُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَطْيَبُ رِيحًا مِنْكَ، قَالَ) أنس (فَغَضِبَ لِعَبْدِ اللهِ)؛ أي: ابن أُبيّ، (رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ) قال الحافظ: لم أقف على اسمه،

(1)

"القاموس المحيط" ص 1260.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 592.

(3)

"الفتح" 6/ 572 - 573، كتاب "الصلح" رقم (2691).

ص: 382

زاد في رواية البخاريّ: "فشتمه". (قَالَ: فَغَضِبَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَصْحَابُهُ) قال القرطبيّ رحمه الله: والطائفة التي غَضِبت لعبد الله بن أبيّ كان منها منافقون على رأي عبد الله، ومنها مؤمنون، حَمَلهم على ذلك بقية حميّة الجاهلية، ونزغة الشيطان، لكن لَطَفَ الله تعالى بهم، حيث أبقى عليهم اسم المؤمنين بقوله:{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} [الحجرات: 9]؛ ليراجعوا بصائرهم، ويطهروا ضمائرهم. انتهى

(1)

.

(قَالَ: فَكَانَ بَيْنَهُمْ ضَرْبٌ بِالْجَرِيدِ) قال في "الفتح": كذا للأكثر بالجيم والراء، وفي رواية الكشميهنيّ:"بالحديد" بالمهملة والدال، والأول أصوب، ووقع في حديث أسامة:"فلم يَزَل النبيّ صلى الله عليه وسلم يُخَفِّضهم، حتى سكتوا"

(2)

. (وَبِالأَيْدِي، وَبِالنِّعَالِ)، وفي بعض النسخ:"والنعال" بحذف الجارّ. (قَالَ: فَبَلَغَنَا) قال في "الفتح": قائل ذلك هو أنس بن مالك رضي الله عنه، بَيّنه الإسماعيليّ في روايته المذكورة، من طريق المقدَّميّ، فقال في آخره:"قال أنس: فأُنبئت أنها نَزَلت فيهم"، قال الحافظ: ولم أقف على اسم الذي أنبأ أنسًا بذلك، ولم يقع ذلك في حديث أسامة، بل في آخره: وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه يَعْفُون عن المشركين، وأهل الكتاب، كما أمرهم الله، وَيصبرون على الأذى

إلى آخر الحديث. انتهى

(3)

.

(أنَّهَا) الضمير للقصّة، وهو الضمير الذي يُسمّى بضمير الشأن إذا كان للمذكّر، وهو الضمير الذي تفسّره جملة بعده، كما قال ابن مالك رحمه الله في "الكافية":

وَمُضْمَرُ الشَّأنِ ضَمِيرٌ فُسِّرَا

بجُمْلَةٍ كَـ"إنَّهُ زيدٌ سَرَى"

(نَزَلَتْ فِيهِمْ)؛ أي: في الطائفتين المتغاضبتين المتضاربتين بالجريد والنعال، وقوله {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات: 9] فاعل "نَزَلت" محكيّ؛ لقصد لفظه.

(1)

"المفهم" 3/ 658.

(2)

"الفتح" 6/ 572 - 573، كتاب "الصلح" رقم (2691).

(3)

"الفتح" 6/ 572 - 573، كتاب "الصلح" رقم (2691).

ص: 383

[تنبيه]: استَشْكَلَ ابن بطال رحمه الله نزول الآية المذكورة، وهي قوله تعالى:{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} الآية في هذه القصّة؛ لأن المخاصمة وقعت بين من كان مع النبيّ صلى الله عليه وسلم من أصحابه، وبين أصحاب عبد الله بن أُبيّ، وكانوا إذ ذاك كُفّارًا، فكيف يَنزل فيهم {طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} ، ولا سيما إن كانت قصّة أنس وأسامة مُتَّحِدةً، فإن في رواية أسامة: فاستَبَّ المسلمون والمشركون؟.

أجاب الحافظ رحمه الله بأنه يُمكِن أن يُحْمَل على التغليب، مع أن فيها إشكالًا من جهة أخرى، وهي أن حديث أسامة صريحٌ في أن ذلك كان قبل وقعة بدر، وقبل أن يُسْلِم عبد الله بن أُبيّ وأصحابه، والآية المذكورة في "الحجرات"، ونزولها متأخر جدًّا، وقتَ مجيء الوفود، لكنه يَحْتَمِل أن تكون آية الإصلاح نزلت قديمًا، فيندفع الإشكال. انتهى كلام الحافظ رحمه الله، وهو بحث نفيسٌ جدًّا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أنس بن مالك رضي الله عنه هذا متّفق عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [38/ 4652](1799)، و (البخاريّ) في "الصلح"(2691)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 157 و 219)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(7/ 125)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 345)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(8/ 172)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان ما كان عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم من الصفح، والحلم، والصبر على الأذى في الله، والدعاء إلى الله، وتأليف القلوب على ذلك.

2 -

(ومنها): أن ركوب الحمار لا نقص فيه على الكبار، وكان ركوبه صلى الله عليه وسلم على سبيل التشريع، فقد رَكِبَ مرّةً فرسًا لأبي طلحة في فزع كان بالمدينة، ورَكِب يوم حنين بغلته؛ ليثبت المسلمون إذا رأوه عليها، ووقف بعرفة على

ص: 384

راحلته، وسار منها إلى مزدلفة، وهو عليها، ومن مزدلفة إلى منى، وإلى مكة

(1)

.

3 -

(ومنها): بيان ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم من تعظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأدب معه، والمحبة الشديدة له.

4 -

(ومنها): أنه ينبغي لمن يشير على الكبير بشيء، أن يورده بصورة العَرْض عليه، لا الجزم، فقد قال الصحابة للنبيّ صلى الله عليه وسلم:"لو أتيت عبد الله بن أُبيّ".

5 -

(ومنها): جواز المبالغة في المدح؛ لأن الصحابيّ أطلق أن ريح الحمار أطيب من ريح عبد الله بن أُبيّ، فلم يُنكره النبيّ صلى الله عليه وسلم، بل أقرّه عليه.

6 -

(ومنها): إباحة مشي التلامذة، والشيخ راكب، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(39) - (بَابُ قَتْلِ أَبِي جَهْلٍ)

تقدّم أن اسمه عمرو بن هشام بن المغيرة المخزوميّ، كانت قريش تكنيه أبا الحكم، وكناه النبيّ صلى الله عليه وسلم أبا جهل، ولذا قال الشاعر:

النَّاسُ كَنَّوْهُ أَبَا حَكَمٍ

وَاللهُ كَنَّاهُ أَبَا جَهْلِ

وهو فرعون هذه الأمة

(2)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4653]

(1800) - (حَدَّثَنَا عَلِي بْنُ حُجْرٍ السَّعْدِيُّ، أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ - يَعْنِي: ابْنَ عُلَيَّةَ - حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ، حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ يَنْظُرُ لَنَا مَا صَنَعَ أبو جَهْلٍ؟ "، فَانْطَلَقَ ابْنُ مَسْعُودٍ، فَوَجَدَهُ قَدْ ضَرَبَهُ ابْنَا عَفْرَاءَ، حَتَّى بَرَكَ، قَالَ: فَأَخَذَ بِلِحْيَتِه، فَقَالَ: آنتَ أبو جَهْلٍ؟ فَقَالَ: وَهَلْ فَوْقَ رَجُلٍ قَتَلْتُمُوهُ؟ - أَوْ قَالَ: قَتَلَهُ قَوْمُهُ؟ - قَالَ: وَقَالَ أبو مِجْلَزٍ: قَالَ أبو جَهْلٍ: فَلَوْ غَيْرُ أكَّارٍ قَتَلَنِي؟).

(1)

"عمدة القاري" 20/ 394.

(2)

راجع: "عمدة القاري" 3/ 258.

ص: 385

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ السَّعْدِيُّ) المروزيّ، ثقة حافظٌ، من صغار [9](ت 244)(خ م ت س) تقدم في "المقدمة" 2/ 6.

2 -

(إِسْمَاعِيلُ ابْنُ عُلَيَّةَ) هو: ابن إبراهيم بن مقسم الأسديّ مولاهم، أبو بشر البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [8](ت 193)، وهو ابن (83) سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.

والباقيان تقدّما في السند الماضي.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من رباعيّات المصنّف؛ كسابقه، وكالأسانيد الثلاثة الآتية بعده، وهو (319) من رباعيّات الكتاب، وأنه مسلسل بالبصريين، سوى شيخه، فمروزيّ، وأنه مسلسلٌ بالتحديث.

شرح الحديث:

عَنْ سُلَيْمَانَ بن طرخان التَّيْمِيِّ، نزل في بني تيم، فنُسب إليهم، وليس منهم، فهو من المنسوب إلى خلاف الظاهر، كما قال السيوطيّ رحمه الله في "ألفيَّة الحديث":

وَنسَبُوا الْبَدْرِيَّ وَالْخُوزِيّا

لِكَوْنِهِ جَاوَرَ وَالتَّيْمِيَا

(حَدَّثَنَا أنَسُ بْنُ مَالِكٍ) رضي الله عنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ) استفهاميّة مبتدأ، خبره قوله:(يَنْظُرُ لَنَا مَا صَنَعَ أبو جَهْلٍ؟ ") وقع في رواية الإسماعيليّ، من طريق يحيى القطان، عن سليمان التيميّ، أن أنسًا سمعه من ابن مسعود ولفظه: "عن أنس، قال النبيّ صلى الله عليه وسلم يوم بدر: من يأتينا بخبر أبي جهل؟ قال - يعني: ابن مسعود -: فانطلقت، فإذا ابنا عفراء قد اكتنفاه، فضرباه، فأخذت بلحيته

" الحديث.

قال النوويّ رحمه الله: سبب سؤال النبيّ صلى الله عليه وسلم عنه أن يعرف أنه مات؛ ليستبشر المسلمون بذلك، وينكفّ شرّه عنهم. انتهى

(1)

.

(فَانْطَلَقَ ابْنُ مَسْعُودٍ) وفي رواية ابن خُزيمة، ومن طريقه أخرجه أبو نعيم

(1)

"شرح النوويّ" 12/ 160.

ص: 386

في "المستخرج": "فقال ابن مسعود: أنا، فانطلق"، (فَوَجَدَهُ قَدْ ضَرَبَهُ ابْنَا عَفْرَاءَ) هما معاذ، ومعوّذ، وقيل: هما معاذ بن عمرو بن الجموح، ومعاذ ابن عفراء، وعفراء والدة معاذ، واسم أبيه الحارث، وأما معاذ بن عمرو بن الجموح فليس اسم أمه عفراء، وإنما أُطلق عليه تغليبًا، ويَحْتَمِل أن تكون أم معوذ أيضًا تُسَمَّى عفراء، أو أنه لمّا كان لمعوّذ أخ يسمى معاذًا باِسْم الذي شَرِكه في قتل أبي جهل ظنه الراوي أخاه.

وقد أخرج الحاكم من طريق ابن إسحاق، حدّثني ثور بن يزيد، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال ابن إسحاق: وحدّثني عبد الله بن أبي بكر بن حزم، قال: قال معاذ بن عمرو بن الجموح: سمعتهم يقولون: وأبو جهل في مثل الحرجة

(1)

، أبو الحكم لا يُخْلَص إليه، فجعلته من شأني، فعَمَدت نحوه، فلما أمكنني حملت عليه، فضربته ضربةً أطنت قدمه، وضربني ابنه عكرمةُ على عاتقي، فطرح يدي، قال: ثم عاش معاذ إلى زمن عثمان، قال: ومرّ بأبي جهل معوّذ ابن عفراء، فضربه، حتى أثبته، وبه رَمَقٌ، ثم قاتل معوّذ حتى قُتِل،

فمَرّ عبد الله بن مسعود بأبي جهل، فوجده بآخر رَمَتي، فذكر ما تقدم.

فهذا الذي رواه ابن إسحاق يَجمع بين الأحاديث، لكنه يخالف ما في "الصحيح" من حديث عبد الرحمن بن عوف أنه رأى مُعاذًا، ومعوّذًا شدّا عليه جميعًا حتى طرحاه، وابن إسحاق يقول: إن ابن عفراء هو معوّذ، وهو بتشديد الواو، والذي في "الصحيح" معاذ، وهما أخوان، فَيَحْتَمِل أن يكون معاذ ابن عفراء شدّ عليه مع معاذ بن عمرو، كما في "الصحيح"، وضربه بعد ذلك معوّذ حتى أثبته، ثم حَزَّ رأسه ابن مسعود، فتُجمع الأقوال كلها، وإطلاق كونهما قتلاه يخالف في الظاهر حديث ابن مسعود أنه وجده، وبه رَمَقٌ، وهو محمول على أنهما بلغا به بضربهما إياه بسيفيهما منزلة المقتول، حتى لم يبق به إلا مثل حركة المذبوح، وفي تلك الحالة لقيه ابن مسعود، فضرب عنقه، والله أعلم.

وأما ما وقع عند موسى بن عقبة، وكذا عند أبي الأسود، عن عروة، أن ابن مسعود وجد أبا جهل مصروعًا، بينه وبين المعركة غيرُ كثير، متقنعًا في

(1)

"الحرجة": الشجر الْمُلْتَفّ.

ص: 387

الحديد، واضعًا سيفه على فخذه، لا يتحرك منه عضو، وظنّ عبد الله أنه ثبت جراحًا، فأتاه من ورائه، فتناول قائم سيف أبي جهل، فاستله، ورفع بيضة أبي جهل عن قفاه، فضربه، فوقع رأسه بين يديه، فيُحْمَل على أن ذلك وقع له معه بعدَ أن خاطبه بما تقدم، والله أعلم. انتهى

(1)

.

وقوله: (حَتَّى بَرَكَ) بالكاف، من البُرُوك، قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في بعض النسخ: "بَرَكَ" بالكاف، وفي بعضها:"بَرَدَ" بالدال، فمعناه بالكاف: سَقَط إلى الأرض، وبالدال: مات، يقال: بَرَدَ: إذا مات، قال القاضي عياض: رواية الجمهور: "بَرَدَ"، ورواه بعضهم بالكاف، قال: والأول هو المعروف، قال النوويّ: واختار جماعة محققون الكاف، وأن ابني عفراء تركاه عَقِيرًا، ولهذا كَلَّم ابن مسعود رضي الله عنه، كما ذكره مسلم، وله معه كلام آخر كثيرٌ مذكور في غير مسلم، وابن مسعود رضي الله عنه هو الذي أجهز عليه، واحتَزَّ رأسه. انتهى

(2)

.

وقال في "الفتح": قوله: "حتى بَرَدَ" - بفتح الموحّدة، والراء -؛ أي: مات، هكذا فسروه، ووقع في رواية السمرقنديّ في مسلم:"حتى بَرَكَ" - بكاف، بدل الدال -؛ أي: سَقَطَ، وكذا هو عند أحمد، عن الأنصاريّ، عن التيميّ، قال عياض: وهذه الرواية أولى؛ لأنه قد كَلَّم ابن مسعود رضي الله عنه، فلو كان مات كيف كان يكلمه؟ انتهى.

ويَحْتَمِل أن يكون المراد بقوله: "حتى بَرَدَ"؛ أي: صار في حالة من مات، ولم يبق فيه سوى حركة المذبوح، فأُطلق عليه باعتبار ما سيؤول إليه، ومنه قولهم للسيوف: بَوَاردُ؛ أي: قواتل، وقيل لمن قُتِل بالسيف: بَرَدَ؛ أي: أصابه متن الحديد؛ لأن طبع الحديد البرودة، وقيل: معنى قوله: "بَرَدَ"؛ أي: فَتَرَ، وسَكَنَ، يقال: جَدَّ في الأمر حتى بَرَدَ؛ أي: فتر، وبَرَدَ النبيذُ؛ أي: سَكَن غَلَيانُهُ. انتهى

(3)

.

(1)

"الفتح" 9/ 31 - 32، كتاب "المغازي" رقم (3962).

(2)

"شرح النوويّ" 12/ 160.

(3)

"الفتح" 9/ 29، كتاب "المغازي" رقم (3962).

ص: 388

(قَالَ) أنس (فَأَخَذَ) ابن مسعود (بِلِحْيَتِهِ)؛ أي: بلحية أبي جهل، (فَقَالَ) ابن مسعود:(آنتَ) بمدّ الهمزة، أصله أأنت، وهو مبتدأ، خبره قوله:(أَبُو جَهْلٍ؟)، وإنما خاطبه ابن مسعود رضي الله عنه بذلك مُقرّعًا له، ومتشفّيًا منه؛ لأنه كان يؤذيه بمكة أشدّ الأذى.

وفي رواية للبخاريّ: "فقال: أنت أبا جهل"، قال في "الفتح": قوله: "أنت أبا جهل" كذا للأكثر، وللمستملي وحده:"أنت أبو جهل"، والأول هو المعتمَد في حديث أنس هذا، فقد صَرَّح إسماعيل ابن عُلية، عن سليمان التيميّ بأنه هكذا نَطَق بها أنس، وقد أخرجه ابن خزيمة، ومن طريقه أبو نعيم، عن محمد بن المثنى، شيخ البخاري فيه، فقال فيه:"أنت أبو جهل"، وكأنه من إصلاح بعض الرواة، وكذلك نَطَق بها يحيى القطان، أخرجه الإسماعيليّ، من طريق المقدّميّ، عن يحيى القطان، عن التيميّ، فذكر الحديث، وفيه:"قال: أنت أبا جهل"، قال المقدّميّ: هكذا قالها يحيى القطان، وقد وُجِّهت الرواية المذكورة بالحمل على لغة من يُثبت الألف في الأسماء الستة في كل حالة؛ كقوله:

إِنَّ أَبَاهَا وَأَبَا أَبَاهَا

قَدْ بَلَغَا فِي الْمَجْدِ غَايَتَاهَا

قال الجامع عفا الله عنه: اللغة المشهورة في الأسماء الستّة أن تُعرب بالواو رفعًا، نحو "هذا أبوك"، وبالألف نصبًا، نحو "رأيت أباك"، وبالياء جرًّا، نحو "مررت بأبيك"، ويجوز إعرابها بالنقص، نحو: هذا أبٌ، ورأيت أبًا، ومررتُ بأبٍ، ويجوز أيضًا إعرابها إعراب المقصور بالألف مطلقًا، نحو: هذا أبا محمد، ورأيت أبا محمد، ومررتُ بأبا محمد، ومنه البيت، فقوله:"وأبا أباها"، فـ"أبا" مضاف، "أباها" مضاف إليه مجرور بالإضافة بكسرة مقدّرة على الألف، منع من ظهورها التعذّر، وإلى هذا كلّه أشار ابن مالك رحمه الله في "الخلاصة" بقوله:

وَارْفَعْ بِوَاوٍ وَانْصِبَنَّ بِالأَلِفْ

وَاجْرُرْ بِيَاءٍ مَا مِنَ الأَسْمَا أَصِفْ

مِنْ ذَاكَ "ذُو" إِنْ صحْبَة أَبَانَا

و"الفَمُ" حَيْثُ الْمِيمُ مِنْهُ بَانَا

"أبٌ""أخ""حَمٌ" كَذَاكَ و"هَنُ"

وَالنَّقْصُ فِي هَذَا الأَخِيرِ أَحْسَنُ

وَفي "أَبٍ" وَتَالِيَيْهِ يَنْدُرُ

وَقَصْرُهَا مِنْ نَقْصِهِنَّ أَظْهَرُ

ص: 389

قال: وقيل: هو منصوب بإضمار "أعني"، وتَعَقَّبه ابن التين بأن شرط هذا الإضمار أن تكثر النعوت.

وقال الداوديّ: كأن ابن مسعود تعمَّد اللحن؛ لِيُغيظ أبا جهل؛ كالمصغِّر له، وما أبعد ما قال.

وقيل: إن قوله: "أنت" مبتدأ محذوف الخبر، وقوله:"أبا جهل" مُنَادى محذوف الأداة، والتقدير: أنت المقتول يا أبا جهل، وخاطبه بذلك مُقَرِّعًا له، ومتشفِّيًا منه؛ لأنه كان يؤذيه بمكة أشدّ الأذى.

وفي حديث ابن عباس، عند ابن إسحاق، والحاكم:"قال ابن مسعود: فوجدته بآخر رَمَقٍ، فوضعت رجلي على عنقه، فقلت: أخزاك الله يا عدوّ الله، قال: وبما أخزاني؟ هل أعمد رجل قتلتموه؟ "، قال: وزعم رجال من بني مخزوم أنه قال له: لقد ارتقيت يا رُويعَ الغنم، مُرْتَفى صَعْبًا، قال: ثم احتززت رأسه، فجئت به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: هذا رأس عدوّ الله أبي جهل، فقال: والله الذي لا إله إلا هو؟ فحلف له".

وفي زيادة المغازي، روايةِ يونس بن بكير، من طريق الشعبيّ، عن عبد الرحمن بن عوف، نحو الحديث الذي بعده، وفيه:"فحَلَف له، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، ثم انطَلَق حتى أتاه، فقام عنده، فقال: الحمد لله الذي أعزّ الإسلام وأهله"، ثلاث مرات

(1)

.

(فَقَالَ) أبو جهل (وَهَلْ فَوْقَ رَجُلٍ قَتَلْتُمُوهُ؟) اختُلف في معنى كلام أبي جهل هذا على قولين:

[أحدهما]: أنه أراد لا عارَ عليّ في قتلكم إياي، كأنه قال: هل هناك عارٌ على رجل قتله مثلكم؟، فالاستفهام للإنكار؛ يعني: أنه ليس عليه عارٌ، بل شرف له؛ لأن قومه قتلوه، ويريد بقومه قريشًا، وذلك أن النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه المهاجرين من قريش، وابنا عفراء اللذان قتلاه، وإن كانا من الأنصار، إلا أنهما جاءا معه صلى الله عليه وسلم، فكانا تابعين له، فكأن الذين قتلوه هم قومه.

(1)

"الفتح" 9/ 30، كتاب "المغازي" رقم (3961).

ص: 390

فغرض أبي جهل التبجّح، والافتخار بقتله، وأنه لا يراه عارًا عليه؛ لأن قومه قتلوه.

[والثاني]: أنه يريد بهذا الكلام التأسّف، والتحزّن حيث قتله غير كفئه، وهو الأنصار، وهذا هو ظاهر ما فسّر به القاضي عياض رحمه الله، وعبارته:"أي: هل عليّ عارٌ، غير قتلكم إياي"، ومعناه: أنه يرى أن لا عار عليه إلا قتلهم له؛ أي: فقَتْلهم له عار عليه، لا شرف له، وهو عكس المعنى السابق، ويؤيّد هذا التفسير ما يأتي في رواية أبي مِجْلَز، حيث قال:"فلو غيرُ أكّار قتلني"، والمعنى الأول أنسب للفظ:"فوق"، فتأمله، والله تعالى أعلم.

وقوله: (أَوْ قَالَ: قَتَلَهُ قَوْمُهُ؟)"أو" هنا للشكّ من الراوي، وهو سليمان التيميّ، فقد أخرج الحديث البخاريّ في "المغازي" من طريق ابن عُليّة، حدّثنا سليمان التيميّ، حدّثنا أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر: "من يَنظُر ما صنع أبو جهل؟ فانطلق ابن مسعود، فوجده قد ضربه ابنا عفراء حتى برد، فقال: آنت أبا جهل؟ قال ابن علية: قال سليمان: هكذا قالها أنس، قال: أنت أبا جهل، قال: وهل فوق رجل قتلتموه؟، قال سليمان: أو قال: قتله قومه"، الحديث.

(قَالَ) وفي رواية البخاريّ: "قال سليمان - أي: التيميّ -"، (وَقَالَ أبو مِجْلَزٍ) بكسر الميم، وإسكان الجيم، وفتح اللام، آخره زاي، هو لاحق بن حُميد بن سعيد السّدُوسيّ البصريّ، مشهور بكنيته، من كبار [3] (ت 6 أو 109) (ع) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 56/ 1547. (قَالَ أبو جَهْلٍ: فَلَوْ غَيْرُ أَكَّارٍ قَتَلَنِي؟) قال في "الفتح": هذا - يعني: قول أبي مِجْلَز - مرسل، و"الأَكَّار" - بتشديد الكاف -: الزّرّاع

(1)

، وعَنَى بذلك أن الأنصار أصحاب زرع، فأشار إلى تنقيص من قَتَله منهم بذلك.

وحاصل ما أشار إليه أبو جهل أن الأنصار أهل فِلاحة، وكان معوّذ

(1)

وقال في "هدي الساري" 1/ 80: "الأَكّار: هو الزرّاع، مأخوذ من الأُكْرة - بضم، فسكون، وهي الحفرة بجانب النهر؛ ليصفو ماؤها، وأَكَرْتُ الأرض: إذا شققتها للحرث، وأشار بذلك إلى الأنصار؛ لأنهم أصحاب زرع. انتهى.

ص: 391

ومعاذ ابنا عفراء اللذان تولّيا قتله من الأنصار، فلو كان قَتَله أحد من القرشيين لكان أحبّ إليه، وأعظم لشأنه.

[تنبيه]: ذكر القاضي عياض رحمه الله أنه وقع في بعض نسخ مسلم بلفظ: "لو غيرُك كان قتلني"، وهو تصحيف من الأول، والمعروف الأول. انتهى

(1)

.

[فائدة]: "لو" في قوله: "فلو غير أكّار قتلني" شرطيّة، وهي تختصّ بالفعل، كـ "إن" الشرطيّة، فلا تدخل على الاسم وقد أسلفنا الآن تقدير جوابها، إلا إذا كان معمولًا لمحذوف يُفسّره ما بعده؛ كقول الشاعر [من الطويل]:

أَخِلَّايَ لَوْ غَيْرُ الْحِمَامِ أَصَابَكُمْ

عَتَبْتُ وَلَكِنْ مَا عَلَى الدَّهْرِ مَعْتَبُ

أي: لو أصابكم غير الحمام

(2)

، والتقدير في هذا الحديث: "فلو قتلني غير أكّار

إلخ"، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أنس رضي الله عنه هذا متفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [39/ 4653 و 4654](1800)، و (البخاريّ) في "المغازي"(3962 و 3963 و 4120)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(7/ 360)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 129)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(7/ 115 و 120)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 288)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(9/ 92)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان ما كان عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم من التطلّع، والانتظار إلى هلاك فرعون هذه الأمة أبي جهل، وذلك لثقته بوعد الله عز وجل له بهلاكه، وهلاك أمثاله، حيث قال الله تعالى:{قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ} الآية [آل عمران: 12].

(1)

"إكمال المعلم" 6/ 175.

(2)

راجع: "حاشية الخضريّ على شرح ابن عَقِيل على الخلاصة" 2/ 197.

ص: 392

2 -

(ومنها): مشروعيّة إظهار الاستبشار بهلاك عدوّ الإسلام والمسلمين، ويكون من باب الشكر لله عز وجل.

3 -

(ومنها): بيان ما كان عليه أبو جهل أخزاه الله من شدّة عداوته للمسلمين.

4 -

(ومنها): مسابقة عبد الله بن مسعود إلى البحث عن أبي جهل، لَمّا قال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"من ينظر لنا ما صنع أبو جهل؟ "، وذلك لأنه كان يؤذيه حين كان بمكة أشدّ الأذيّة، فقد ذكر ابن هشام في "سيرته"، ما حاصله: "فمرّ عبد الله بن مسعود بأبي جهل حين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُلْتَمَس في القتلى، وقد قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغني -: انظروا، إن خَفِي عليكم في القتلى إلى أثر جُرح في ركبته، فماني ازدحمت يومًا أنا وهو على مَأدُبة لعبد الله بن جُدْعان، ونحن غلامان، وكنت أشفّ منه بيسير، فدفعته، فوقع على ركبتيه، فجُحِش في إحداهما جَحْشًا لم يزل أثره به، قال عبد الله بن مسعود: فوجدته بآخر رَمَق، فعرفته، فوضعت رجلي على عنقه. قال: وقد كان ضَبَثَ بي

(1)

مَرَّةً بمكة، فآذاني ولَكَزَني، ثم قلت له: هل أخزاك الله يا عدو الله؟ قال: وبماذا أخزاني؟، أَعْمَد من رجل قتلتموه؟ أخبرني لمن الدائرة اليوم؟ قال: قلت: لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، قال ابن إسحاق: وزعم رجال من بني مخزوم أن ابن مسعود كان يقول: قال لي: لقد ارتقيت مُرْتَقًى صَعْبًا يا رويع الغنم، قال: ثم احتَززتُ رأسه، ثم جئت به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله هذا رأس عدوّ الله أبي جهل، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "آلله الذي لا إله غيره؟ " - قال: وكانت يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قلت: نعم، والله الذي لا إله غيره، ثم ألقيت رأسه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحَمِد الله". انتهى

(2)

، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4654]

(

) - (حَدَّثَنَا حَامِدُ بْنُ عُمَرَ الْبَكْرَاوِيُّ، حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: حَدَّثَنَا أَنَسٌ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ يَعْلَمُ لِي مَا فَعَلَ أبو جَهْلٍ؟ "، بِمِثْلِ حَدِيثِ ابْنِ عُلَيَّةَ، وَقَوْلِ أَبِي مِجْلَزٍ، كَمَا ذَكَرَهُ إِسْمَاعِيلُ).

(1)

أي: قبض عليّ، ولزمني.

(2)

"سيرة ابن هشام" 1/ 635.

ص: 393

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(حَامِدُ بْنُ عُمَرَ الْبَكْرَاوِيُّ) هو: حامد بن عمر بن حفص بن عُمر بن عُبيد الله بن أبي بكرة الثقفيّ، أبو عبد الرحمن البصريّ، قاضي كِرْمان، وقيل: إن حفصًا جدّه هو ابن عبد الرحمن بن أبي بكرة، ثقةٌ [10](ت 233)(خ م) تقدم في "الطهارة" 26/ 649.

والباقون ذُكروا في الباب وقبله، والسند من رباعيّات المصنّف رحمه الله؛ كسابقيه، ولاحقيه.

[تنبيه]: رواية معتمر بن سليمان، عن أبيه هذه لم أجد من ساقها بتمامها، فليُنظر، والله تعالى أعلم.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(40) - (بَابُ قَتْلِ كَعْبِ بْنِ الأَشْرَف، طَاغُوتِ الْيَهُودِ)

قال ابن إسحاق وغيره: كان عربيًّا، من بني نَبْهان، وهم بطن من طيّء، وكأن أبوه أصاب دمًا في الجاهلية، فأتى المدينة، فحالف بني النضير، فشَرُف فيهم، وتزوج عقيلة بنت أبي الْحُقَيق، فولدت له كعبًا، وكان طويلًا، جسيمًا، ذا بطن، وهامة، وهجا المسلمين بعد وقعة بدر، وخَرَج إلى مكة، فنزل على ابن وَدَاعَة السهميّ، والد المطلب، فهجاه حَسّان، وهجا امرأته عاتكة بنت أسيد بن أبي العيص بن أمية، فطردته، فرجع كعب إلى المدينة، وتشبّب بنساء المسلمين، حتى آذاهم.

ورَوَى أبو داود، والترمذيّ، من طريق الزهريّ، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك، عن أبيه، أن كعب بن الأشرف كان شاعرًا، وكان يهجو رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويُحَرِّض عليه كفار قريش، وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم قَدِم المدينة، وأهلها أخلاط، فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم استصلاحهم، وكان اليهود والمشركون يؤذون المسلمين أشدّ الأذى، فأمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم والمسلمين بالصبر، فلما أَبَى كعب أن يَنْزِع عن أذاه، أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم سعد بن معاذ أن يبعث رهطًا؛ ليقتلوه.

ص: 394

وذكر ابن سعد أن قَتْله كان في ربيع الأول، من السنة الثالثة. انتهى

(1)

.

وقال ابن إسحاق: وكان من حديث كعب بن الأشرف: أنه لما أُصيب أصحاب بدر، وقَدِمَ زيد بن حارثة إلى أهل السافلة، وعبد الله بن رواحة إلى أهل العالية، بِشَيرَيْن، بعثهما رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى من بالمدينة من المسلمين، بفتح الله عز وجل عليه، وقَتْل مَن قُتِل من المشركين، كما حدّثني عبد الله بن المغيث بن أبي بردة الظَّفَريّ، وعبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، وعاصم بن عُمر بن قتادة، وصالح بن أبي أمامة بن سهل، كلٌّ قد حدّثني بعض حديثه، قالوا: قال كعب بن الأشرف - وكان رجلًا من طَيِّئ، ثم أحد بني نَبْهان، وكانت أمه من بني النضير - حين بلغه الخبر: أحَقٌّ هذا؟ أترون محمدًا قتل هؤلاء الذين يُسَمِّي هذان الرجلان؟ - يعني: زيدًا وعبد الله بن رواحة - فهؤلاء أشراف العرب، وملوك الناس، والله لئن كان محمد أصاب هؤلاء القوم لَبَطْنُ الأرض خير من ظهرها.

فلما تيقن عدوّ الله الخبر، خرج حتى قدم مكة، فنزل على المطلب بن أبي وداعة بن ضبيرة السهميّ، وعنده عاتكة بنت أبي العيص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، فأنزلته، وأكرمته، وجعل يُحَرِّض على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويُنشد الأشعار، ويبكي أصحاب القليب من قريش، الذين أصيبوا ببدر فقال [من الكامل]:

طَحَنَتْ رَحَى بَدْرٍ لِمَهْلِك أَهْلِهِ

وَلمِثْلِ بَدْرٍ تَسْتَهِلّ وَتَدْمَعُ

قُتِلَتْ سَرَاةُ النّاسِ حَوْلَ حِيَاضِهِمْ

لَا تَبْعَدُوا إن الْمُلُوكَ تُصَرّعُ

إلى آخر الأبيات.

فَأَجَابَهُ حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيّ رضي الله عنه، فَقَالَ:

أَبَكَى لِكَعْبٍ ثُمّ عُلّ بِعَبْرَةٍ

مِنْهُ وَعَاشَ مُجَدّعًا لَا يَسْمَعُ

وَلَقَدْ رَأَيْتُ بِبَطْنِ بَدْرٍ مِنْهُمْ

قَتْلَى تَسُحّ لَهَا الْعُيُونُ وَتَدْمَعُ

فَابْكِي فَقَدْ أَبَكَيْتَ عَبْدًا رَاضِعًا

شِبْهَ الْكُلَيْبِ إلَى الْكُلَيْبَةِ يَتْبَعُ

وَلَقَدْ شفَى الرّحْمَنُ مِنّا سَيّدًا

وَأَهَانَ قَوْمًا قَاتَلُوهُ وَصُرّعُوا

(1)

"الفتح" 9/ 96، كتاب "المغازي" رقم (4037).

ص: 395

وَنَجَا وَأُفْلِتَ مِنْهُمْ مَنْ قَلْبُهُ

شَغَفٌ يَظَلّ لِخَوْفِهِ يَتَصَدّعُ

ثم رجع كعب بن الأشرف إلى المدينة، فشَبَّب بنساء المسلمين حتى آذاهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كما حدّثني عبد الله بن المغيث بن أبي بردة:"مَن لي بابن الأشرف؟ "، فقال له محمد بن مسلمة، أخو بني عبد الأشهل: أنا لك به يا رسول الله، أنا أقتله، قال: فافعل إن قدرت على ذلك"، فرجع محمد بن مسلمة، فمكث ثلاثًا لا يأكل، ولا يشرب، إلا ما يُعَلِّق به نفسه، فذُكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعاه، فقال له: لم تركت الطعام والشراب؟ فقال: يا رسول الله قلت لك قولًا، لا أدري، هل أَفِيَنَّ لك به أم لا؟ فقال: "إنما عليك الجهد"، فقال: يا رسول الله إنه لا بُدّ لنا من أن نقول، قال: "قولوا ما بدا لكم، فأنتم في حِل من ذلك"، فاجتمع في قتله محمد بن مسلمة، وسِلْكان بن سلامة بن وَقْش، وهو أبو نائلة، أحد بني عبد الأشهل، وكان أخَا كعب بن الأشرف من الرضاعة، وعَبّاد بن بشر بن وَقْش، أحد بني عبد الأشهل، والحارث بن أوس بن معاذ، أحد بني عبد الأشهل، وأبو عَبْس بن جَبْر، أحد بني حارثة، ثم قَدَّمُوا إلى عدوّ الله كعبِ بن الأشرف، قبل أن يأتوه سِلْكانَ بنَ سلامة أبا نائلة، فجاءه فتحدث معه ساعة، وتناشدوا شعرًا، وكان أبو نائلة يقول الشعر، ثم قال: ويحك يا ابن الأشرف إني قد جئتك لحاجة، أريد ذِكرها لك، فاكتم عني؛ قال: أَفْعَلُ، قال: كان قدوم هذا الرجل علينا بلاءً من البلاء، عادَتْنا به العرب، ورَمَتْنا عن قوس واحدة، وقَطَعت عنا السبل، حتى ضاع العيال، وجُهِدت الأنفس، وأصبحنا قد جُهِدنا وجُهِد عيالنا، فقال كعب: أنا ابن الأشرف، أما والله لقد كنت أُخبرك يا ابن سلامة، أن الأمر سيصير إلى ما أقول، فقال له سِلْكان: إني قد أردت أن تبيعنا طعامًا، ونَرْهنك، ونُوَثِّق لك، ونحسن في ذلك، فقال: أترهنونني أبناءكم؟ قال: لقد أردت أن تفضحنا، إن معي أصحابًا لي على مثل رأيي، وقد أردت أن آتيك بهم، فتبيعهم، وتحسن في ذلك، ونرهنك من الحلقة ما فيه وفاءٌ، وأراد سِلْكان أن لا يُنكر السلاح إذا جاءوا بها؛ قال: إن في الحلقة لوفاءً، قال: فرجع سلكان إلى أصحابه، فأخبرهم خبره، وأمرهم أن يأخذوا السلاح، ثم ينطلقوا، فيجتمعوا إليه، فاجتمعوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ص: 396

قال ابن هشام: ويقال: "أترهنونني نساءكم؟ "، قال: كيف نرهنك نساءنا، وأنت أشبّ أهل يثرب، وأعطرهم، قال: أترهنونني أبناءكم؟ قال ابن إسحاق: فحدّثني ثور بن زيد، عن عكرمة، عن ابن عباس:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم مشى معهم إلى بقيع الغرقد، ثم وجّههم، فقال: انطلقوا على اسم الله؛ اللهم أعِنْهم"، ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيته، وهو في ليلة مُقْمِرة، وأقبلوا حتى انتهوا إلى حِصنه، فهَتَف به أبو نائلة، وكان حديث عهد بعُرس، فوَثَب في مِلْحفته، فأخذت امرأته بناحيتها، وقالت: إنك امرؤ محارب، وإن أصحاب الحرب لا ينزلون في هذه الساعة، قال: إنه أبو نائلة، لو وجدني نائمًا لَمَا أيقظني؛ فقالت: والله إني لأعرف في صوته الشرّ، قال: يقول لها كعب: لو يُدعى الفتى لِطَعْنة لأجاب، فنزل، فتحدّث معهم ساعة، وتحدثوا معه، ثم قال: هل لك يا ابن الأشرف أن تتماشى إلى شِعب العجوز، فنتحدث به بقية ليلتنا هذه؟ قال: إن شئتم، فخرجوا يتماشون، فمشوا ساعة، ثم إن أبا نائلة شَامَ يده فيٍ فَوْد رأسه، ثم شمّ يده، فقال: ما رأيت كالليلة طيبًا أعطر قط، ثم مشى ساعة، ثم عاد لمثلها، حتى اطمأنّ، ثم مشى ساعةً، ثم عاد لمثلها، فأخذ بفَوْد رأسه، ثم قال: اضربوا عدوَّ الله، فضربوه، فاختلفت عليه أسيافهم، فلم تُغْن شيئًا، قال محمد بن مسلمة: فذَكَرت مِغْولًا في سيفي، حين رأيت أسيافنا لا تغني شيئًا، فأخذته، وقد صاح عدوّ الله صيحةً لم يبق حولنا حصنٌ إلا وقد أُوقدت عليه نار، قال: فوضعته في ثُنَّته، ثم تحاملت عليه، حتى بلغت عانته، فوقع عدوّ الله، وقد أصيب الحارث بن أوس بن معاذ، فجُرح في رأسه، أو في رجله، أصابه بعض أسيافنا، قال: فخرجنا حتى سلكنا علي بني أمية بن زيد بني قريظة، ثم على بُعاث، حتى أسندنا في حَرّة العريض، وقد أبطأ علينا صاحبنا الحارث بن أوس، ونزفه الدم، فوقفنا له ساعة، ثم أتانا يتبع آثارنا، قال: فاحتملناه، فجئنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم آخر الليل، وهو قائم يصلي، فسلّمنا عليه، فخرج إلينا، فأخبرناه بقتل عدوّ الله، وتَفَل على جُرح صاحبنا، فرجع، ورجعنا إلى أهلنا، فأصبحنا، وقد خافت يهود لوقعتنا بعدوّ الله، فليس بها يهودي، إلا وهو يخاف على نفسه. انتهى

(1)

.

(1)

"سيرة ابن هشام" 2/ 54.

ص: 397

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4655]

(1801) - (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْمِسْوَرِ الزُّهْرِيُّ، كِلَاهُمَا عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ - وَاللَّفْظُ لِلزُّهْرِيِّ - حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرٍو، سَمِعْتُ جَابِرًا يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ لِكَعْبِ بْنِ الأَشْرَفِ؟ فَإِنَّهُ قَدْ آذَى اللهَ وَرَسُولَهُ"، فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ: يَا رَسُولَ الله، أَتُحِبُّ أَنْ أقتُلَهُ؟ قَالَ:"نَعَمْ"، قَالَ: ائْذَنْ لِي، فَلأَقُلْ، قَالَ:"قُلْ"، فَأَتَاهُ، فَقَالَ لَهُ، وَذَكَرَ مَا بَيْنَهُمَا، وَقَالَ: إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ قَدْ أَرَادَ صَدَقَةً، وَقَدْ عَنَّانَا، فَلَمَّا سَمِعَهُ قَالَ: وَأَيْضًا وَاللهِ لَتَمَلُّنَّهُ، قَالَ: إِنَّا قَدِ اتَّبَعْنَاهُ الآنَ، وَنَكْرَهُ أَنْ نَدَعَهُ، حَتَّى نَنْظُرَ إِلَى أَيِّ شَيْءٍ يَصِيرُ أَمْرُهُ، قَالَ: وَقَدْ أَرَدْتُ أَنْ تُسْلِفَني سَلَفًا، قَالَ: فَمَا تَرْهَننِي؟ قَالَ: مَا تُرِيدُ، قَالَ: تَرْهَنُنِي نِسَاءَكُمْ؟، قَالَ: أَنْتَ أَجْمَلُ الْعَرَب، أَنَرْهَنُكَ نِسَاءَنَا؟ قَالَ لَهُ: تَرْهَنُونِي

(1)

أَوْلَادَكُمْ؟ قَالَ: يُسَبُّ ابْنُ أَحَدِنَا، فَيُقَالُ: رُهِنَ فِي وَسْقَيْنِ مِنْ تَمْرٍ، وَلَكِنْ نَرْهَنُكَ اللْأمَةَ - يَعْنِي: السِّلَاحَ

(2)

- قَالَ: فَنَعَمْ، وَوَاعَدَهُ أَنْ يَأْتِيَهُ بِالْحَارِث، وَأَبِي عَبْسِ بْنِ جَبْرٍ، وَعَبَّادِ بْنِ بِشْرٍ، قَالَ: فَجَاءُوا، فَدَعَوْهُ لَيْلًا، فَنَزَلَ إِلَيْهِمْ، قَالَ سُفْيَانُ: قَالَ غَيْرُ عَمْرٍو: قَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ

(3)

: إِني لأَسْمَعُ صَوْتًا كَأَنَّهُ صَوْتُ دَمٍ، قَالَ: إِنَّمَا هَذَا مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ، وَرَضِيعُهُ أبو نَائِلَةَ، إِنَّ الْكَرِيمَ لَوْ دُعِيَ إِلَى طَعْنَةٍ لَيْلًا لأَجَابَ، قَالَ مُحَمَّدٌ: إِنِّي إِذَا جَاءَ فَسَوْفَ أَمُدُّ يَدِي إِلَى رَأْسِه، فَإِذَا اسْتَمْكَنْتُ مِنْهُ، فَدُونَكُمْ، قَالَ: فَلَمَّا نَزَلَ، نَزَلَ وَهُوَ مُتَوَشِّحٌ، فَقَالُوا: نَجِدُ مِنْكَ رِيحَ الطِّيب، قَالَ: نَعَمْ، تَحْتِي فُلَانَةُ، هِيَ أَعْطَرُ نِسَاءِ الْعَرَب، قَالَ: فَتَأْذَنُ لِي أَنْ أَشُمَّ مِنْهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَشُمَّ، فَتَنَاوَلَ، فَشَمَّ، ثُمَّ قَالَ: أَتَأْذَنُ لِي أَنْ أَعُودَ؟ قَالَ: فَاسْتَمْكَنَ مِنْ رَأسِه، ثُمَّ قَالَ: دُونَكُمْ، قَالَ: فَقَتَلُوهُ).

(1)

وفي نسخة: "أترهنوني".

(2)

هو قول سفيان الراوي، كما عند البخاريّ في "الرهن".

(3)

وفي نسخة: "قالت امرأته".

ص: 398

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ) ابن راهويه، تقدّم قبل باب.

2 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْمِسْوَرِ - بن مَخْرَمَة - الزُّهْرِيُّ) البصريّ، صدوقٌ، من صغار [10](ت 256)(م 4) تقدم في "الحيض" 26/ 815.

3 -

(سُفْيَانُ) بن عُيينة، تقدّم قبل بابين.

4 -

(عَمْرُو) بن دينار الأثرم، تقدّم قريبًا.

5 -

(جَابِرُ) بن عبد الله بن عمرو بن حرام الأنصاريّ السَّلَميّ الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، مات بعد السبعين، وهو ابن (94) سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 117.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله؛ كالأسانيد الثلاثة الماضية، وكالسند اللاحق، وفيه جابر بن عبد الله رضي الله عنهما الصحابيّ ابن الصحابيّ، وأحد المكثرين السبعة، روى (1540) حديثًا.

شرح الحديث:

(عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ - وَاللَّفْظُ لِلزُّهْرِيِّ)؛ يعني: متن الحديث لعبد الله بن محمد الزهريّ، شيخه الثاني، قال:(حَدَّثَنَا سُفْيَانُ) بن عيينة (عَنْ عَمْرِو) بن دينار، وعند أبي نعيم، من طريق الحميديّ، عن سفيان:"حدّثنا عمرٌو"، قال:(سَمِعْتُ جَابِرًا)؛ أي: ابن عبد الله رضي الله عنهما، (يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ لِكَعْبِ بْنِ الأَشْرَفِ؟)؛ أي: من الذي ينتدب إلى قتله؟ (فَإِنَّهُ) الفاء للتعليل؛ أي: لأنه (قَدْ آذَى اللهَ) سبحانه وتعالى (وَرَسُولَهُ") صلى الله عليه وسلم بشِعْره الوَقِحِ البذيّ، وفي رواية محمد بن محمود بن محمد بن مسلمة، عن جابر، عند الحاكم، في "الإكليل":"فقد آذانا بشِعْره، وقَوَّى المشركين"، وأخرج ابن عائذ، من طريق الكلبيّ:"أن كعب بن الأشرف قَدِمَ على مشركي قريش، فحالفهم عند أستار الكعبة على قتال المسلمين"، ومن طريق أبي الأسود، عن عروة:"أنه كان يهجو النبيّ صلى الله عليه وسلم والمسلمين، ويُحَرِّض قريشًا عليهم، وأنه لَمّا قَدِم على قريش، قالوا له: أديننا أهدى، أم دين محمد؟ قال: دينكم، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: من لنا بابن الأشرف؟، فإنه قد استعلن بعداوتنا".

ص: 399

وذَكَر في "فوائد عبد الله بن إسحاق الخرسانيّ"، من مرسل عكرمة، بسند ضعيف إليه لقتل كعب سببًا آخر، وهو أنه صنع طعامًا، وواطأ جماعة من اليهود أنه يدعو النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى الوليمة، فإذا حَضَر فَتَكُوا به، ثم دعاه، فجاء ومعه بعض أصحابه، فأعلمه جبريل بما أضمروه، بعد أن جالسه، فقام، فستره جبريل بجناحه، فخرج، فلمّا فَقَدوه تفرقوا، فقال حينئذ: من ينتدب لقتل كعب؟ ويمكن الجمع بتعدد الأسباب، قاله في "الفتح"

(1)

.

(فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ) - بفتح الميم، واللام - ابن سلمة بن خالد بن عديّ بن مجدعة بن حارثة بن الحارث بن الخزرج بن عمرو بن مالك بن أوس، حليف لبني عبد الأشهل، شَهِد بدرًا، والمشاهد كلَّها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومات بالمدينة في صفر سنة ثلاث وأربعين، وقيل: ستّ وأربعين، وقيل: سنة سبع وأربعين، وهو ابن سبع وسبعين سنةً، وصَلَّى عليه مروان بن الحكم، وهو يومئذ أمير المدينة، وكان من فضلاء الصحابة، واستخلفه النبيّ صلى الله عليه وسلم على المدينة في بعض غزواته، وقيل: إنه استخلفه في غزوة قرقرة الكدر، وقيل: إنه استخلفه عام تبوك، واعتَزَلَ الفتنة، واتّخذ سيفًا من خشب، وجعله في جَفْن، وذَكَرَ أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أمره بذلك، ولم يشهد الْجَمَلَ، ولا صفّين، وأقام بالرَّبَذَة

(2)

، وهو أكبر مَنْ اسمه محمد من الصحابة رضي الله عنهم، تقدّمت ترجمته في "القسامة" 11/ 4389.

(يَا رَسُولَ الله، أَتُحِبُّ) الهمزة فيه للاستفهام على سبيل الاستخبار، (أَنْ أَقْتُلَهُ؟)، وفي مرسل عكرمة:"فقال محمد بن مسلمة: هو خالي". (قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("نَعَمْ")؛ أي: أحبّ أن تقتله، وفي رواية محمد بن محمود:"فقال: أنت له"، وفي رواية ابن إسحاق:"قال: فافعل إن قدرت على ذلك"، وفي رواية عروة:"فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال محمد بن مسلمة: أقرّ صامت"، ومثله عند سَمُّوْيَه في "فوائده"، فإن ثبت احْتَمَل أن يكون سكت أوّلًا، ثم أَذِنَ له، فإن في رواية عروة أيضًا أنه قال له: "إن كنت فاعلًا، فلا تَعْجَلْ حتى تُشاور سعد بن

(1)

"الفتح" 9/ 96 - 97، كتاب "المغازي" رقم (4037).

(2)

"عمدة القاري" 17/ 177، كتاب "المغازي" رقم (4037).

ص: 400

معاذ"، قال: "فشاوره، فقال له: تَوَجَّهْ إليه، واشْكُ إليه الحاجة، وسله أن يُسلفكم طعامًا". (قَالَ) ابن مسلمة (ائْذَنْ لِي، فَلأَقُلْ) اللام فيه لام الأمر، ولذا جُزم بها الفعل؛ أي: أتكلّم بشيء مما يسُرّ كعبًا، ولفظ البخاريّ: "فأْذَنْ لي أن أقول شيئًا".

وقال النوويّ رحمه الله: قوله: "ائذن لي، فلأقل": معناه: ائذن لي أن أقول عني وعنك ما رأيته مصلحةً، من التعريض وغيره، ففيه دليل على جواز التعريض، وهو أن يأتي بكلام باطنه صحيح، ويَفْهَم منه المخاطَب غير ذلك، فهذا جائز في الحرب وغيرها، ما لم يَمنع به حقًّا شرعيًّا. انتهى

(1)

.

(قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("قُلْ")؛ أي: تكلّم بما تراه مصلحة مؤدّية إلى قتله، قال في "الفتح": كأنه استأذنه أن يفتعل شيئًا يحتال به، ومن ثَمَّ بوَّب عليه البخاريّ في "الصحيح"، فقال:"باب الكذب في الحرب"، وقد ظهر من سياق ابن سعد للقصّة أنهم استأذنوا أن يَشْكُوا منه، ويعيبوا رأيه، ولفظه:"فقال له: كان قدوم هذا الرجل علينا من البلاء، حاربتنا العرب، وَرَمَتْنا عن قوس واحدة"، وعند ابن إسحاق بإسناد حسن، عن ابن عباس رضي الله عنهما:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم مَشَى معهم إلى بقيع الغرقد، ثم وَجَّههم، فقال: انطلقوا على اسم الله، اللهم أعنهم". (فَأَتَاهُ)؛ أي: أتى محمد بن مسلمة كعب بن الأشرف (فَقَالَ لَهُ)؛ أي: كلّم ابن مسلمة كعبًا بكلام يستحسنه، وقوله:(وَذَكَرَ مَا بَيْنَهُمَا) جملة حاليّة؛ أي: والحال أن ابن مسلمة ذكر الذي بينه وبين كعب من المودّة، والصداقة القديمة حتى يطمئنّ إليه، ولا يرتاب في كونه يريد قتله، (وَقَالَ: إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ)؛ يعني: النبيّ صلى الله عليه وسلم (قَدْ أَرَادَ صَدَقَةً)، ولفظ البخاريّ:"قد سألنا صدقةً"، وفي رواية الواقديّ:"سألنا الصدقة، ونحن لا نَجِد ما نأكل"، وفي مرسل عكرمة:"فقالوا: يا أبا سعيد إن نبيّنا أراد منا الصدقة، وليس لنا مالٌ نصدقه"، (وَقَدْ عَنَّانَا) - بالعين المهملة، وتشديد النون الأولى -، من العَناء، وهو التعب.

وقال في "العمدة": قوله: "وقد عَنّانا" - بفتح النون المشدّدة -؛ أي: أتعبنا، وهذا من التعريض الجائز، بل من المستحبّ؛ لأن معناه في الباطن:

(1)

"شرح النوويّ" 12/ 161.

ص: 401

أَدَّبنا بآداب الشريعة التي فيها تَعَبٌ، لكنه تَعَبٌ في مرضاة الله تعالى، فهو محبوب لنا، والذي فَهِم المخاطَب منه هو العناء الذي ليس بمحبوب. انتهى

(1)

.

(فَلَمَّا سَمِعَهُ)؛ أي: سمع كعب هذا الكلام من ابن مسلمة (قَالَ: وَأَيْضًا)؛ أي: وزيادةً على ذلك، وقد فَسَّره بعد ذلك قوله:(وَاللهِ لَتَمَلُّنَّهُ) - بفتح المثناة، والميم، وتشديد اللام، والنون - من الْمَلال؛ أي: تتضجّرون منه أكثر من هذا الضجر

(2)

.

وقال في "العمدة": قوله: "وأيضًا والله لتملّنه"؛ أي: والله بعد ذلك تزيد ملالتكم عنه، وتتضجّرون عنه أكثر، وأزيد من ذلك.

[فإن قلت]: هذا غَدْرٌ، فكيف جاز؟.

[قلت]: حاشا؛ لأنه نَقَضَ العهد بإيذائه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال المازريّ: نَقَض عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهجاه، وأعان المشركين على حربه.

[فإن قلت]: آمنه محمد بن مسلمة؟.

[قلت]: لم يصرح له بأمان في كلامه، وإنما كلّمه في أمر البيع والشراء، والشكاية إليه، والاستيناس به، حتى تمكّن من قتله.

وقيل: في قتل محمد بن مسلمة كعب بن الأشرف دلالةٌ أن الدعوة ساقطة ممن قَرُب من دار الإسلام.

وكانت قضية محمد بن مسلمة في رمضان، وقيل: في ربيع الأول، والأول أشهر، في السنة الثالثة من الهجرة. انتهى

(3)

.

وعند الواقديّ: "أن كعبًا قال لأبي نائلة: أخبرني ما في نفسك، ما الذي تريدون في أمره؟ قال: خِذلانه، والتخلِّي عنه، قال: سَرَرْتني". (قَالَ) ابن مسلمة (إِنَّا) معشر الأنصار (قَدِ اتَّبَعْنَاهُ)؛ أي: النبيّ صلى الله عليه وسلم، (الآنَ)؛ أي: في الوقت الحاضر، والمراد أن اتّباعهم له ما طال عهده، (وَنَكْرَهُ) بفتح الراء، من باب تَعِبَ، (أَنْ نَدَعَهُ) - بفتح النون والدال -؛ أي: نتركه، (حَتَّى نَنْظُرَ إِلَى أَيِّ

(1)

"عمدة القاري" 22/ 95، و"شرح النوويّ" 12/ 161.

(2)

"شرح النوويّ" 12/ 161 - 162.

(3)

"عمدة القاري" 22/ 95.

ص: 402

شَيْءٍ يَصِيرُ أَمْرُهُ)؛ أي: هل يتمّ أم لا؟، وقد أتمّ الله دينه، وأعلى كلمته، وكَبَت أعداءه، ولله الحمد والمنّة. (قَالَ) ابن مسلمة (وَقَدْ أَرَدْتُ أَنْ تُسْلِفَنِي سَلَفًا) زاد في رواية البخاريّ:"وحدّثنا عمرو غير مرّة، فلم يذكر: وَسْقًا، أو وسقين"، قال الكرماني: قائل ذلك سفيان، ووقع في رواية عُروة:"وأُحِبّ أن تسلفنا طعامًا، قال: أين طعامكم؟ قالوا: أنفقناه على هذا الرجل، وعلى أصحابه، قال: ألم يَأْنِ لكم أن تعرفوا ما أنتم عليه من الباطل؟ ".

[تنبيه]: وقع في هذه الرواية الصحيحة أن الذي خاطب كعبًا بذلك هو محمد بن مسلمة، والذي عند ابن إسحاق وغيره من أهل المغازي أنه أبو نائلة، وأومأ الدمياطيّ إلى ترجيحه، ويَحْتَمِل أن يكون كلٌّ منهما كَلّمه في ذلك؛ لأن أبا نائلة أخوه من الرضاعة، ومحمد بن مسلمة ابن أخته، وفي مرسل عكرمة في الكل بصيغة الجمع:"قالوا"، وفي مرسل عكرمة:"وائذن لنا أن نُصيب منك، فيطمئنّ إلينا، قال: قولوا ما شئتم"، وعنده:"أَمّا مالي فليس عندي اليوم، ولكن عندي التمر"، وذكر ابن عائذ:"أن سعد بن معاذ بعث محمدًا ابن أخيه الحارث بن أوس بن معاذ". انتهى

(1)

.

(قَالَ: فَمَا تَرْهَنُنِي؟)؛ أي: فأيَّ شيء تُعطوني رَهْنًا على التمر الذي تريدونه؟ والرهن لغةً: الثبوت والاستقرار، وشرعًا: جَعْلُ عينٍ ماليّةٍ وثيقةً بِدَيْن لازم، أو آيل إلى اللزوم

(2)

. (قَالَ) ابن مسلمة (مَا تُريدُ)"ما" موصولة مفعول لفعل مقدّر، دلّ عليه السابق؛ أي: نرهنك الشيءَ الذي تريده، ويُحْتَمِل أن تكون استفهاميّةً؛ أي: أي شيء تريد أن نرهنك إياه؟. (قَالَ) كعب (تَرْهَنُنِي نِسَاءَكُمْ؟) بتقدير همزة الاستفهام؛ أي: أترهنوني نساءكم؟ ويَحْتَمِل أن يكون خبرًا بمعنى الأمر؛ أي: ارهنوني نساءكم. (قَالَ) ابن مسلمة (أَنْتَ أَجْمَلُ الْعَرَبِ)؛ أي: صورةً، والنساء يَمِلْن إلى الصُّوَر الحِسَان.

وقال في "الفتح": لعلهم قالوا له ذلك تَهَكُّمًا، وإن كان هو في نفسه كان جميلًا. انتهى.

(1)

"الفتح" 9/ 97 - 98.

(2)

"التوقيف على مهمّات التعريف" للمناويّ (ص 376).

ص: 403

قال الجامع عفا الله عنه: لا حاجة لحمله على التهكّم، كما يظهر من مجموع الروايات، فليُتنبّه.

(أنَرْهَنُكَ نِسَاءَنَا؟) استفهام إنكاريّ، وفي رواية ابن سعد من مرسل عكرمة:"ولا نأمَنُك، وأيُّ امرأة تمتنع منك لجمالك؟ "، وفي مرسل آخر:"وأنت رجل حُسَّان، تُعْجِب النساء"، و"حُسّان" بضم الحاء، وتشديد السين.

(قَالَ) كعب (لَهُ)؛ أي: لمحمد بن مسلمة، (تَرْهَنُونِي

(1)

أَوْلَادَكُمْ؟ قَالَ) ابن مسلمة (يُسَبُّ ابْنُ أَحَدِنَا) ببناء الفعل للمفعول؛ أي: يُشتم.

وقال النوويّ رحمه الله: قوله: "يُسَبّ ابن أحدنا

إلخ": هكذا هو في الروايات المعروفة في مسلم وغيره: "يُسَبّ " - بضم الياء، وفتح السين المهملة - من السّبّ، وحَكَى القاضي عياض عن رواية بعض رواة كتاب مسلم

(2)

: "يَشِبّ" - بفتح الياء، وكسر الشين المعجمة - من الشباب، والصواب الأول. انتهى

(3)

.

(فَيُقَالُ: رُهِنَ) بالبناء للمفعول أيضًا؛ أي: جُعل رهنًا، (فِي وَسْقَيْنِ) - بفتح الواو، وكسرها: ستون صاعًا، أو حِمْلُ بعير، قال الفيّوميّ رحمه الله: الْوَسْقُ: حِمْلُ بعير، يقال: عنده وَسْقٌ من تمرٍ، والجمع: وُسُوقٌ، مثلُ فَلْسٍ وفُلُوسٍ، وأوسقتُ البعير بالألف، ووَسَقته أَسِقُهُ، من باب وَعَدَ لغة أيضًا: إذا حَمَّلته الوَسْقَ، قال الأزهريّ: الوَسْقُ ستّون صاعًا بصاع النبيّ صلى الله عليه وسلم، والصاع خمسة أرطال وثُلُثٌ، والوَسْقُ على هذا الحساب مائة وستّون مَنًا، والْوَسْقُ ثلاثة أقفِزةٍ، وحَكَى بعضهم الكسر لغةً، وجمعه أوساقٌ، مثلُ حِمْلٍ وأَحْمال. انتهى

(4)

.

(1)

وفي نسخة: "أترهنوني".

(2)

وعبارة "إكمال المعلم" 6/ 177): وقوله: "يُسَبّ

إلخ" كذا لكافّتهم بالسين المهملة، من السبّ، وعند الطبريّ: "يَشِبُّ" بالشين المعجمة، من الشباب، والوجه الأول. انتهى.

(3)

"إكمال المعلم" 6/ 177، و"شرح النووي" 12/ 162.

(4)

"المصباح المنير" 2/ 660.

ص: 404

وقوله: (مِنْ تَمْرٍ) بيان لـ "وسق"، (وَلَكِنْ نَرْهَنُكَ اللْأمَةَ) - بتشديد اللام، وسكون الهمزة - وقوله:(وَيعْنِي: السِّلَاحَ) بيّن في رواية البخاريّ أن العناية من ابن عيينة، ولفظه:"قال سفيان: يعني: السلاح"، قال في "الفتح": كذا قال، وقال غيره، من أهل اللغة: اللأمة: الدِّرْعُ، فعلى هذا إطلاق السلاح عليها من إطلاق اسم الكلّ على البعض. انتهى

(1)

.

وقال الفيّوميّ: اللأمة: بهمزة ساكنة، ويجوز تخفيفها: الدِّرْعُ، والجمع: لَأمٌ، مثلُ تَمْرة وتَمْر، ولُؤَمٌ، مثلُ غُرَفٍ، لكنّه غير قياسٍ، واستألم: لَبِس لَأمته. انتهى

(2)

.

وفي مرسل عكرمة: "ولكنا نَرْهَنُك سلاحنا، مع علمك بحاجتنا إليه، قال: نعم"، وفي رواية الواقديّ:"وإنما قالوا ذلك؛ لئلا يُنكر مجيئهم إليه بالسلاح".

(قَالَ) كعبٌ (فَنَعَمْ) ارهنوني لَأمتكم، (وَوَاعَدَهُ)؛ أي: واعد ابن مسلمة كعبًا (أَنْ يَأْتِيَهُ بِالْحَارِثِ) بن أوس بن معاذ (وَأَبِي عَبْسِ) - بفتح العين المهملة، وسكون الموحّدة - (ابْنِ جَبْرٍ) - بفتح الجيم، وسكون الموحّدة - (وَعَبَّادِ بْنِ بِشْرٍ) - بكسر الموحّدة، وسكون السين المعجمة -.

وقال النوويّ رحمه الله: أما الحارث: فهو الحارث بن أوس ابن أخي سعد بن عُبادة، وأما أبو عَبْس: فاسمه عبد الرحمن، وقيل: عبد الله، والصحيح الأول، وهو ابن جَبْر - بفتح الجيم، وإسكان الباء - كما ذكره في الكتاب، ويقال: ابن جابر، وهو أنصاريٌّ، من كبار الصحابة رضي الله عنهم، شَهِد بدرًا، وسائر المشاهد، وكان اسمه في الجاهلية عبد العزى، وهو وقع في معظم النسخ:"وأبو عَبْس" بالواو، وفي بعضها:"وأبي عَيْس" بالياء، وهذا ظاهر، والأول صحيح أيضًا، ويكون معطوفًا على الضمير في:"يأتيه". انتهى

(3)

.

وفي رواية البخاريّ: "فجاء ليلًا، ومعه أبو نائلة" - بنون، وبعد الألف تحتانية، وقيل: بالهمزة بعد الألف، واسمه: سلكان بن سلامة - "وكان أخاه

(1)

"الفتح" 9/ 97 - 98.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 560.

(3)

"شرح النوويّ" 12/ 162.

ص: 405

من الرضاعة"؛ يعني: كان أبو نائلة أخَا كعب، وذكروا أنه كان نديمه في الجاهلية، فكان يركن إليه، وقد ذكر الواقديّ أن محمد بن مسلمة أيضًا كان أخاه، زاد الحميدي في روايته: "وكانوا أربعةً سَمَّى عمرو منهم اثنين".

ووقع في رواية الحميديّ: "قال: فأتاه، ومعه أبو نائلة، وعباد بن بشر، وأبو عَبْس بن جَبْر، والحارث بن معاذ إن شاء الله"، قال الحافظ: كذا أدرجه، ورواية عليّ بن المدينيّ مفصّلة، ونسب الحارث بن معاذ إلى جدّه، ووقعت تسميتهم كذلك في رواية ابن سعد، فعلى هذا فكانوا خمسة، ويؤيده قول عباد بن بشر، من قصيدة في هذه القصّة [من الوافر]:

فَشَدَّ بِسَيْفِهِ صَلْتًا عَلَيْهِ

فَقَطَّعَهُ أبو عَبْسِ بْنُ جَبْرِ

وَكَانَ اللهُ سَادِسَنَا فَأُبْنَا

بِأَنْعَمِ نِعْمَةٍ وَأَعَزِّ نَصْرِ

وهو أَولى مما وقع في رواية محمد بن محمود: "كان مع محمد بن مسلمة أبو عَبْس بن جَبْر، وأبو عَتِيك"، ولم يذكر غيرهما، وكذا في مرسل عكرمة:"ومعه رجلان، من الأنصار".

ويمكن الجمع بأنهم كانوا مرّةً ثلاثةً، وفي الأخرى خمسةً. انتهى

(1)

.

(قَالَ: فَجَاءُوا، فَدَعَوْهُ لَيْلًا)، ووقع عند الخراساني في مرسل عكرمة:"فلما كان في القائلة أتوه، ومعهم السلاح، فقالوا: يا أبا سعيد، فقال: سامعًا دعوتَ"، قاله في "الفتح".

قال الجامع عفا الله عنه: قوله في "القائلة" مخالف لِمَا في "الصحيح" من أنهم أتوه ليلًا، وما في "الصحيح" أصحّ، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

(فَنَزَلَ) كعب (إِلَيْهِمْ) إلى هؤلاء النفر الذي دعوه ليلًا، (قَالَ سُفْيَانُ) بن عيينة:(قَالَ غَيْرُ عَمْرِو) بن دينار: (قَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ)، وفي بعض النسخ:"قالت امرأته"، قال الحافظ رحمه الله: لم أقف على اسمها. (إِنِّي لأَسْمَعُ صَوْتًا كَأَنَّهُ صَوْتُ دَمٍ)؛ أي: صوت طالب دم، أو صوت سافك دم، هكذا فسّروه، قاله النوويّ

(2)

.

(1)

"الفتح" 9/ 99، كتاب "المغازي" رقم (4037).

(2)

"شرح النوويّ" 12/ 162.

ص: 406

وفي رواية البخاريّ: "قالت: أسمع صوتًا يقطر منه الدم"، وفي رواية الكلبيّ:"فتعلَّقت به امرأته، وقالت: مكانك، فوالله إني لأرى حُمرة الدم مع الصوت"، وبيّن الحميديّ في روايته، عن سفيان أن الغير الذي أبهمه سفيان في هذه القصّة هو العبسيّ، وأنه حدّثه بذلك عن عكرمة مرسلًا، وعند ابن إسحاق:"فَهَتَفَ به أبو نائلة، وكان حديث عهد بعُرْس، فوثب في مِلْحفته، فأخذت امرأته بناحيتها، وقالت له: أنت امرؤ مُحَارَبٌ، لا تنزل في هذه الساعة، فقال: إنه أبو نائلة، لو وجدني نائمًا ما أيقظني، فقالت: والله إني لأعرف من صوته الشرّ"، وفي مرسل عكرمة:"أخذت بثوبه، فقالت: أُذَكِّرك اللهَ أن لا تنزل إليهم، فوالله إني لأسمع صوتًا يقطر منه الدم".

(قَالَ) كعب (إِنَّمَا هَذَا) الذي دعاني، (مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ)؛ أي: وهو ابن أخته، وصديقه لا يخاف منه شيئًا، (وَرَضِيعُهُ)؛ أي: رضيع محمد بن مسلمة، وقوله:(أَبُو نَائِلَةَ) بدل من "رضِيعُهُ"، واسمه سِلْكان - بكسر السين المهملة، وسكون اللام - ابن سلامة بن وقش الأنصاريّ الأشهليّ، ويقال: سِلْكان لقبٌ، واسمه سَعْد، شَهِد أُحُدًا، وكان من الرُّماة المذكورين من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم، وكان شاعرًا

(1)

.

[تنبيه]: قوله: "أبو نائلة" بلا واو، هكذا وقع في النسخة الهنديّة، وكذا في النسخة التي عليها شرح الأبيّ، وهو الصواب، وهو بدل من "رضيعه"، كما أسلفته آنفًا، فهو رضيع محمد بن مسلمة، ووقع في معظم النسخ:"وأبو نائلة" بالواو، قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في جميع النسخ، قال القاضي عياض رحمه الله: قال لنا شيخنا القاضي الشهيد: صوابه أن يقال: "إنما هو محمد، ورضيعه أبو نائلة"، وكذا ذكر أهلُ السِّيَر، أن أبا نائلة كان رضيعًا لمحمد بن مسلمة، ووقع في "صحيح البخاريّ":"ورَضِيعي أبو نائلة"، قال: وهذا عندي له وجه إن صَحّ أنه كان رضيعًا لكعب، فله وجهٌ، والمعروف ما ذكرنا. انتهى

(2)

.

(1)

راجع: "عمدة القاري" 25/ 329.

(2)

"إكمال المعلم" 6/ 177 - 178، و"شرح النوويّ" 12/ 162.

ص: 407

قال الجامع عفا الله عنه: قول عياض رحمه الله: "إن صحّ" فيه نظر لا يخفى، فإن صحّته مما لا ارتياب فيه، فقد ذكره البخاريّ في "صحيحه" به مرّتين، فقال:"فجاءه ليلًا، ومعه أبو نائلة، وهو أخو كعب من الرضاعة"، وقال أيضًا:"إنما هو محمد بن مسلمة، وأخي أبو نائلة"، وفي لفظ:"ورضيعي أبو نائلة".

والحاصل أن أبا نائلة كان أخًا من الرضاعة لكلّ من كعب، ومحمد بن مسلمة، والله تعالى أعلم.

(أنَّ الْكَرِيمَ لَوْ دُعِيَ) بالبناء للمفعول، (إِلَى طَعْنَةٍ لَيْلًا لأَجَابَ، قَالَ مُحَمَّدٌ)؛ أي: ابن مسلمة لأصحابه، (إِنِّي إِذَا جَاءَ) كعب (فَسَوْفَ أَمُدُّ يَدِي إِلَى رَأْسِهِ)؛ أي: لأِشمّ منه ريح الطيب، (فَإِذَا اسْتَمْكَنْتُ مِنْهُ)؛ أي: تمكّنت من إمساك رأسه بعد شمّ الريح، (فَدُونَكُمْ) اسم فعل، بمعنى خذوه، وأراد به: أن يقتلوه. (قَالَ: فَلَمَّا نَزَلَ، نزَلَ وَهُوَ مُتَوَشِّحٌ)؛ أي: والحال انه متوشّح، يقال: توشّح بثوبه، وهو أن يُدخله تحت إبطه الأيمن، ويُلقيَه على منكبه الأيسر، كما يفعله المُحْرِم، قاله الأزهريّ، واتَّشَحَ كذلك، قاله الفيّوميّ

(1)

.

(فَقَالُوا)؛ أي: محمد بن مسلمة، وأصحابه، (نَجِدُ مِنْكَ رِيحَ الطِّيبِ) في رواية ابن سعد:"وكان حديثَ عهد بعُرس"، وفي مرسل عكرمة:"فقال: يا أبا سعيد أَدْنِ مني رأسك أشمّه، وأمسح به عيني، ووجهي". (قَالَ) كعب (نَعَمْ) تجدون مني ريح الطيب؛ لأنه (تَحْتِي فُلَانَةُ) لا يُعرف اسمها، (هِيَ أَعْطَرُ نِسَاءِ الْعَرَبِ)، وفي رواية البخاريّ:"عندي أعطر نساء العرب، وأكمل العرب"، وعند الأصيليّ:"وأجمل" - بالجيم، بدل الكاف - وهي أشبه، وفي مرسل عكرمة:"فقال: هذا عِطْرُ أمّ فلان"؛ يعني: امرأته، وفي رواية الواقديّ:"وكان كعب يَدَّهِنُ بالمسك الْمُفَتَّت، والعنبر، حتى يتلبّد في صُدْغيه"، وفي رواية أخرى:"وعندي أعطر سيّد العرب"، وكان سيد تصحيف من نساء، فإن كانت محفوظةً، فالمعنى: أعطر نساء سيّد العرب، على الحذف

(2)

.

(1)

"المصباح المنير" 2/ 661.

(2)

"الفتح" 9/ 99، كتاب "المغازي" رقم (4037).

ص: 408

(قَالَ) ابن مسلمة: (فَتَأْذَنُ لِي) بتقدير الاستفهام؛ أي: أفتأذن لي؟، (أَنْ أَشُمَّ مِنْهُ؟) وفي رواية البخاريّ:"أتأذن لي أن أشُمّ رأسك؟ ". (قَالَ) كعب (نَعَمْ، فَشُمَّ) بضمّ أوله، أمْرٌ من الشمّ، (فَتَنَاوَلَ)؛ أي: أخذه رأسه (فَشَمَّ) بالبناء للفاعل؛ أي: شمّ رأسه، زاد في رواية البخاريّ:"ثم أشمَّ أصحابه"، (ثُمَّ قَالَ ابن مسلمة: أتَأْذَنُ لِي أَنْ أَعُودَ؟)؛ أي: أرجع إلى شمّه مرّة أخرى، زاد في رواية البخاريّ:"قال: نعم"؛ أي: قال كعب: نعم عُدْ إليه مرّةً أخرى. (قَالَ) الراوي (فَاسْتَمْكَنَ)؛ أي: تمكّن ابنُ مسلمة (مِنْ رَأْسِهِ)؛ أي: من إمساك رأس كعب حتى يمكّن أصحابه من قتله، (ثُمَّ قَالَ) ابن مسلمة:(دُونَكُمْ)؛ أي: خذوه، وبادروا إلى قتله، و"دونكم" اسم فعل، بمعنى: خُذوا، كما ذكره ابن مالك رحمه الله في "الخلاصة":

وَالْفِعْلُ مِنْ أَسْمَائِهِ "عَلَيْكَا"

وَهَكَذَا "دُونَكَ" مَعْ "إلَيْكَا"

(قَالَ) الراوي: (فَقَتَلُوهُ) زاد في رواية البخاريّ: "ثم أتوا النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأخبروه".

وفي رواية عروة: "وضربه محمد بن مسلمة، فقتله، وأصاب ذُباب السيف الحارثَ بن أوس، وأقبلوا حتى إذا كانوا بِجُرُف بُعَاث تخلّف الحارث، ونَزَف، فلما افتقده أصحابه رجعوا، فاحتملوه، ثم أقبلوا سِرَاعًا، حتى دخلوا المدينة".

وفي رواية الواقديّ: "أن النبيّ صلى الله عليه وسلم تَفَلَ على جرح الحارث بن أوس، فلم يؤذه"، وفي مرسل عكرمة:"فبَزَق فيها، ثم ألصقها، فالتحمت"، وفي رواية ابن الكلبيّ:"فضربوه حتى بَرَد، وصاح عند أول ضربة، واجتمعت اليهود، فأخذوا على غير طريق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففاتوهم".

وفي رواية ابن سعد: "أن محمد بن مسلمة لمّا أخذ بقرون شَعْره، قال لأصحابه: اقتلوا عدوّ الله، فضربوه بأسيافهم، فاختَلَفت عليه، فلم تُغن شيئًا، قال محمد: فذكرت مِعْولًا كان في سيفي، فوضعته في سُرّته، ثم تحاملت عليه، فغططته حتى انتهى إلى عانته، فصاح، وصاحت امرأته: يا آل قريظة والنضير، مرتين".

وقوله: "فأخبروه"؛ أي: أخبروا النبيّ صلى الله عليه وسلم بخبر قتله، وفي رواية عروة:

ص: 409

"فأخبروا النبيّ صلى الله عليه وسلم، فَحَمِد الله تعالى"، وفي رواية ابن سعد:"فلما بَلَغُوا بقيع الغرقد كَبَّروا، وقد قام رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الليلة يصلي، فلما سَمِع تكبيرهم كَبَّر، وعَرَف أن قد قتلوه، ثم انتهوا إليه، فقال: أفلحت الوجوه، فقالوا: ووجهك يا رسول الله، ورَمَوا رأسه بين يديه، فحَمِد الله على قتله"، وفي مرسل عكرمة:"فأصبحت يهود مذعورين، فأتوا النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقالوا: قُتِل سيدنا غِيلةً، فذَكَّرهم النبيّ صلى الله عليه وسلم صنيعه، وما كان يُحَرِّض عليه، ويؤذي المسلمين"، زاد ابن سعد:"فخافوا، فلم ينطقوا"

(1)

.

وفي كتاب "شرف المصطفى" أن الذين قتلوا كعبًا حملوا رأسه في الْمِخْلاة، فقيل: إنه أول رأس حُمل في الإسلام، وقيل: بل رأس أبي عزّة الْجُمَحيّ الذي قال له النبيّ صلى الله عليه وسلم: "لا يُلدغ المؤمن من جحر مرتين"، فقتله، واحتمل رأسه إلى المدينة في رُمْح، وأما أول مسلم حُمل رأسه في الإسلام، فعمرو بن الْحَمِق، وله صحبة. انتهى

(2)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [40/ 4655](1801)، و (البخاريّ) في "الرهن"(2510) و"الجهاد"(3031 و 3032) و"المغازي"(4037)، و (أبو داود) في "الجهاد"(3/ 78)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(5/ 192)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 346)، و (الحاكم) في "المستدرك"(3/ 492)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(7/ 40 و 9/ 81)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): ما قال السهيليّ رحمه الله: في قصة كعب بن الأشرف جواز قتل المعاهَد، إذا سبّ النبيّ صلى الله عليه وسلم، خلافًا لأبي حنيفة.

(1)

"الفتح" 9/ 99 - 100، كتاب "المغازي" رقم (4037).

(2)

"عمدة القاري" 22/ 95.

ص: 410

وتعقّبه الحافظ، فقال: وفيه نظرٌ، وصنيع البخاريّ في "الجهاد" يُعطي أن كعبًا كان محارِبًا، حيث ترجم لهذا الحديث:"الفتك بأهل الحرب"، وترجم له أيضًا:"الكذب في الحرب". انتهى

(1)

.

وقال النوويّ رحمه الله: اختَلَف العلماء في سبب مخادعة محمد بن مسلمة كعب بن الأشرف بالحيلة التي ذكرها، وجوابه، فقال الإمام المازريّ: إنما قتله كذلك؛ لأنه نقض عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهجاه، وسَبَّه، وكان عاهده أن لا يُعِين عليه أحدًا، ثم جاء مع أهل الحرب مُعِينًا عليه، قال: وقد أَشْكَل قَتْلُه على هذا الوجه على بعضهم، ولم يَعرف الجواب الذي ذكرناه.

وقال القاضي عياض: قيل هذا الجواب، وقيل: لأن محمد بن مسلمة لم يُصَرِّح له بأمان في شيء من كلامه، وإنما كلَّمه في أمر البيع والشراء، واشتكى إليه، وليس في كلامه عهد، ولا أمان، قال: ولا يحل لأحد أن يقول: إن قَتْله كان غدرًا، وقد قال ذلك إنسان في مجلس عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، فأَمَرَ به عليّ، فضرب عنقه

(2)

، وإنما يكون الغدر بعد أمان موجود، وكان كعب قد نقض عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولم يُؤَمِّنه محمد بن مسلمة، ورُفقته، ولكنه استأنس بهم، فتمكنوا منه من غير عهد، ولا أمان، وأما ترجمة البخاريّ على هذا الحديث بـ "بابُ الفتك في الحرب"، فليس معناه الغدر، بل الفتك: هو القتل على غِرّة، وغَفْلة، والْغِيلة نحوه. انتهى

(3)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "مَنْ لكعب بن الأشرف" كعب هذا: رجل من بني نبهان من طيّء، وأمه من بني النضير، وكان شاعرًا، وكان قد عاهد النبيّ صلى الله عليه وسلم أن لا يُعِين عليه، ولا يتعرض لأذاه، ولا لأذى المسلمين، فنقض العهد، وانطلق إلى مكة إثر وقعة بدر، فجعل يبكِّي من قُتل من الكفار، ويحرِّض على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الذي أغرى قريشًا وغيرهم حتى اجتمعوا

(1)

"الفتح" 9/ 100، كتاب "المغازي" رقم (4037).

(2)

هذا يحتاج إلى صحّة ثبوته، ولم يذكر عياض سنده، حتى ننظر فيه، والله تعالى أعلم بصحّته.

(3)

راجع: "إكمال المعلم" 6/ 176 - 177، و"شرح النوويّ" 12/ 160 - 161.

ص: 411

لغزوة أُحد، ثم إنه رجع إلى بلده، فجعل يهجو رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويؤذيه، والمسلمين، فحينئذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من لكعب بن الأشرف؟ فإنه قد آذى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم"، فأغرى بقتله، ونبّه على علة ذلك، وأنه مستحق للقتل، ولا يَظُنّ أحد أنه قُتِل غدرًا، فمن قال ذلك قُتِل، كما فعله عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، وذلك أن رجلًا قال ذلك في مجلسه، فأمر علي بضرب عنقه، وقال آخر: في مجلس معاوية، فأنكر ذلك محمد بن مسلمة، وأنكر على معاوية سكوته، وحلف أن لا يُظله وإيَّاه سَقْف أبدًا، ولا يخلو بقائلها إلا قَتَله

(1)

.

قال القرطبيّ: ويظهر لي: أنه يُقتل، ولا يستتاب؛ لأن ذلك زندقة إن نَسَب الغدر للنبيّ صلى الله عليه وسلم، فأما لو نسبه للمباشرين لقتله بحيث يقول: إنهم أَمَّنوه، ثم غدروه، لكانت هذه النسبة كذبًا محضًا؛ لأنه ليس في كلامهم معه ما يدلّ على أنهم أَمّنوه، ولا صرحوا له بذلك، ولو فعلوا ذلك لَمَا كان أمانًا؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم إنما وجّههم لقتله، لا لتأمينه، ولا يُجار على الله تعالى، ولا على رسوله صلى الله عليه وسلم، ولو كان ذلك لأدى إلى إسقاط الحدود، وذلك لا يجوز بالإجماع، وعلى هذا فيكون في قتل من نَسَب ذلك لهم نَظَر، وتردد، وسببه: هل يلزم من نسبة الغدر لهم نسبته للنبيّ صلى الله عليه وسلم؛ لأنه قد صوَّب فعلهم، ورَضِيَ به، فيلزم منه أنه قد رضي بالغدر، ومَن صَرَّح بذلك قُتل، أو لا يلزم ذلك؟؛ لأنه لم يصرح به؛ وإنما هو لازم على قوله، ولعله لو تنبه لذلك الإلزام لم يصرح بنسبة الغدر إليهم، ويكون هذا من باب التكفير بالمآل، وقد اختُلِف فيه، والصحيح: أنه لا يُكَفَّر بالمآل، ولا بما يلزم على المذاهب، إلا إذا صرح بالقول اللازم، وإذا قلنا: إنه لا يُقتل، فإنه لا بد من تنكيل ذلك القائل، وعقوبته بالسجن، والضرب الشديد، والإهانة العظيمة. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(2)

، وهو بحث مفيدٌ، والله تعالى أعلم.

2 -

(ومنها): جواز اغتيال من بلغته الدعوة من الكفّار، وتبييته من غير دعاء إلى الإسلام.

(1)

يُحتاج إلى ثبوت سند القصّتين، فليُتنبّه.

(2)

"المفهم" 3/ 659 - 660.

ص: 412

3 -

(ومنها): أن فيه جواز الكلام الذي يُحتاج إليه في الحرب، ولو لم يقصد قائله إلى حقيقته.

قال القرطبيّ رحمه الله: قول محمد بن مسلمة رضي الله عنه: "إن هذا الرجل قد أراد صدقة، وقد عَنّانا": ليس فيه تصريح بأمان، بل هو كلام ظَهَر لكعب منه أن محمد بن مسلمة ليس مُحَقّقًا، ولا مخلصًا في اتباع النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولا في الكون معه، ولذلك أجابه بقوله: وأيضًا والله لتمَلُّنَّه، وكلام محمد من باب المعاريض، وليس فيه من الكذب، ولا من باب الباطل شيء، بل هو كلام حقّ، فإن محمدًا صلى الله عليه وسلم مرجل، لكن أيُّ رجل؟ وقد أراد صدقةً من أمته، وأوجبها عليهم، وقد عنَّاهم بالتكاليف؛ أي: أتعبهم، لكن تعبًا حصل لهم به خير الدنيا والآخرة، وإذا تأملت كلام محمد هذا؛ علمت أن محمد بن مسلمة من أقدر الناس على البلاغة، واستعمال المعاريض، وعلى إعمال الحيلة، وأنه من أكمل الناس عقلًا ورأيًا. انتهى

(1)

.

4 -

(ومنها): أن فيه دلالةً على قوّة فطنة امرأة كعب بن الأشرف، وصحة حديثها وبلاغتها في إطلاقها أن الصوت يقطر منه الدم، قاله في "الفتح"

(2)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قول امرأة كعب: "إني لأسمع صوتًا كأنه صوت دم"؛ أي: صوت طالب دم، كانت هذه المرأة من شياطين الإنس، أو تكلم على لسانها شيطان، كما قال تعالى:{وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ} الآية [الأنعام: 121]، وإلا فمن أين أدركت هذا؟ بل هذا من نوع ما وقع للزَّباء في قصتها مع قَصِير حين جاءها بالصَّناديق فيها الرِّجال، فأوهمها أن فيها تجارةً، فلما رأتها أنشدت [من الرجز]:

مَا لِلجِمالِ مَشيُهَا وَئيدا؟

أجَنْدَلًا

(3)

يَحْمِلنَ أم حَدِيدَا؟

أم صَرَفَانًا

(4)

بَارِدًا شَدِيدا؟

أمِ الرِّجَالَ جُثَّمًا قُعُودا؟

(1)

"المفهم" 3/ 661.

(2)

"الفتح" 9/ 100، كتاب "المغازي" رقم (4037).

(3)

"الجندل": الحجارة والصخر.

(4)

"الصرَفان": ضرب من أجود أنواع التمر، وهو أيضًا الرصاص، والموت.

ص: 413

وكذلك كان. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(41) - (بَابُ غَزْوَةِ خَيْبَرَ)

قال السيّد محمد مرتضى الزبيديّ رحمه الله: "خَيْبَرُ": كصَيْقَلٍ حِصْنٌ معروفٍ، قُرب المدينة المشرّفة، على ثمانية بُرُد منها إلى الشام، سُمّي باسم رجل من العماليق، نزل بها، وهو: خيبر بن قانية بن عَبِيل بن مهلان بن إِرَم بن عَبيل، وهو أخو عاد، وقال قوم: الخيبر بلسان اليهود: الْحِصْن، ولذا سُمِّيت خبائر أيضًا، وخيبر: اسمٌ للولاية، وكانت به سبعة حصون، حولها مَزارع، ونخل، وهذه الحصون السبعة أسماؤها: شِقٌّ، ووَطِيحٌ، ونَطَاةُ، وقُوصٌ، وسُلالِمُ، وكَتِيبةُ، وناعِمٌ. انتهى

(2)

.

وقال في "الفتح": "خَيْبَرُ" - بمعجمة، وتحتانية، وموحّدة - بوزن جَعْفَر، وهي مدينة كبيرة، ذات حُصون ومزارع، على ثمانية بُرُد من المدينة إلى جهة الشام، وذكر أبو عبيد البكريّ أنها سُمِّيت باسم رجل من العماليق، نزلها. قال ابن إسحاق: خرج النبيّ صلى الله عليه وسلم في بقية المحرم سنة سبع، فأقام يحاصرها بضع عشرة ليلة، إلى أن فتحها في صفر.

ورَوَى يونس بن بُكير في "المغازي" عن ابن إسحاق في حديث الْمِسْوَر ومروان قالا: انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية، فنزلت عليه "سورة الفتح" فيما بين مكة والمدينة، فأعطاه الله فيها خيبر بقوله:{وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ} [الفتح: 20]- يعني: خيبر -، فقَدِم المدينة في ذي الحجة، فأقام بها حتى سار إلى خيبر في المحرّم.

وذكر موسى بن عقبة في "المغازي" عن ابن شهاب: أنه صلى الله عليه وسلم أقام بالمدينة عشرين ليلةً، أو نحوها، ثم خرج إلى خيبر.

(1)

"المفهم" 3/ 661 - 662.

(2)

"تاج العروس من جواهر القاموس" 3/ 168.

ص: 414

وعند ابن عائذ من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: "أقام بعد الرجوع من الحديبية عشر ليال"، وفي مغازي سليمان التيميّ:"أقام خمسة عشر يومًا"، وحَكَى ابن التين عن ابن الحصار: أنها كانت في آخر سنة ستّ، وهذا منقول عن مالك، وبه جزم ابن حزم.

قال الحافظ رحمه الله: وهذه الأقوال متقاربة، والراجح منها ما ذكره ابن إسحاق، ويمكن الجمع بأن مَن أَطلق سنة ستّ بناه على أن ابتداء السنة من شهر الهجرة الحقيقيّ، وهو ربيع الأول.

وأما ما ذكره الحاكم عن الواقديّ، وكذا ذكره ابن سعد: أنها كانت في جمادى الأولى، فالذي رأيته في "مغازي الواقدي": أنها كانت في صفر، وقيل: في ربيع الأول، وأغرَبُ من ذلك ما أخرجه ابن سعد، وابن أبي شيبة، من حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه قال: "خرجنا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى خيبر لثمان عشرة من رمضان

" الحديث، وإسناده حسنٌ، إلا أنه خطأ، ولعلها كانت إلى حُنَين، فتصحَّفت، وتوجيهه بأن غزوة حُنين كانت ناشئة عن غزوة الفتح، وغزوة الفتح خرج النبيّ صلى الله عليه وسلم فيها في رمضان جزمًا، والله أعلم.

وذكر الشيخ أبو حامد في "التعليقة": أنها كانت سنة خمس، وهو وَهَمٌ، ولعله انتقال من الخندق إلى خيبر.

وذكر ابن هشام أنه صلى الله عليه وسلم استَعْمَل على المدينة نُميلة - بنون، مصغّرًا - ابن عبد الله الليثيّ، وعند أحمد، والحاكم، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه سِبَاع بن عُرْفُطة، وهو أصح. انتهى

(1)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4656]

(1365) - (وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْن حَرْبٍ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ - يَعْنِي: ابْنَ عُلَيَّة - عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ، عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم غَزَا خَيْبَرَ، قَالَ: فَصَلَّيْنَا عِنْدَهَا صَلَاةَ الْغَدَاةِ بِغَلَسٍ، فَرَكِبَ نَبِيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَرَكِبَ أبو طَلْحَةَ، وَأَنَا رَدِيفُ أَبِي طَلْحَةَ، فَأَجْرَى نَبِيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي زُقَاقِ خَيْبَرَ، وَإِنَّ رُكْبَتِي لَتَمَسُّ

(1)

"الفتح" 9/ 295، كتاب "المغازي" رقم (4195).

ص: 415

فَخِذَ نَبِيِّ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَانْحَسَرَ الإِزَارُ عَنْ فَخِذِ نَبِيِّ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَإِنِّي لأَرَى بَيَاضَ فَخِذِ نَبِيِّ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا دَخَلَ الْقَرْيَةَ قَالَ:"اللهُ أَكْبَرُ، خَرِبَتْ خَيْبَرُ، إِنَّا إِذَا نَزَلْنَا بِسَاحَةِ قَوْمٍ، فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ"، قَالَهَا ثَلَاثَ مِرَارٍ، قَالَ: وَقَدْ خَرَجَ الْقَوْمُ إِلَى أَعْمَالِهِمْ، فَقَالُوا: مُحَمَّدُ - قَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ: وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: وَالْخَمِيسَ -. قَالَ: وَأَصَبْنَاهَا عَنْوَةً).

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) أبو خيثمة، تقدّم قريبًا.

2 -

(إِسْمَاعِيلُ ابْنُ عُلَيَّةَ) تقدّم قبل باب.

3 -

(عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ صُهَيْبِ) البُنانيّ البصريّ، ثقةٌ [4](ت 130)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.

4 -

(أَنَسُ) بن مالك رضي الله عنه، تقدّم قبل باب.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله؛ كالأسانيد الأربعة الماضية، وهو (322)، وهو مسلسلٌ بالبصريين، سوى شيخه، فنسائيّ، ثمّ بغداديّ، وفيه أنس رضي الله عنه أحد المكثرين السبعة، وآخر من مات من الصحابة بالبصرة، وقد تقدّم قريبًا.

شرح الحديث:

(عَنْ أنَسٍ) رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم غَزَا خَيْبَرَ) تقدّم الخلاف في تاريخ غزوها قريبًا. (قَالَ: فَصَلَّيْنَا عِنْدَهَا)؛ أي: خارجًا منها (صَلَاةَ الْغَدَاةِ) فيه جواز إطلاق ذلك على صلاة الصبح، خلافًا لمن كرهه. (بِغَلَسٍ) - بفتحتين -: ظلام آخر الليل، (فَرَكِبَ) - بكسر الكاف -، من باب تَعِبَ، (نَبِيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم)؛ أي: ركب مركوبه، وعن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم قريظة والنضير على حُمُر، ويوم خيبر على حمار مخطوم بَرَسَن لِيفٍ، وتحته إَكَاف من ليف، رواه البيهقيّ، والترمذيّ، وقال: وهو ضعيف، وقال ابن كثير: والذي ثبت في "صحيح البخاريّ"، عن أنس:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أجري في زُقاق خيبر، حتى انحسر الإزار عن فخذه"، فالظاهر أنه كان يومئذ على فرس، لا على حمار، ولعل هذا الحديث إن كان صحيحًا، فهو محمول على أنه ركبه في بعض

ص: 416

الأيام، وهو محاصِرها. انتهى

(1)

.

(وَرَكِبَ أبو طَلْحَةَ) زيد بن سهل بن الأسود بن حَرَام الأنصاريّ النّجّار، مشهور بكنيته، من كبار الصحابة، شَهِدَ بدرًا وما بعدها، مات رضي الله عنه سنة (34)، تقدّمت ترجمته في "الحيض" 7/ 720. وقوله:(وَأَنَا رَدِيفُ أَبِي طَلْحَةَ) جملة في محلّ نصب على الحال، و"الرديف": هو الذي تحمله خلفك على ظهر دابّتك. (فَأَجْرَى نَبِيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم)؛ أي: مركوبه، فمفعول "أجرى" محذوف، (فِي زُقَاقِ خَيْبَرَ) - بضمّ الزاي، وتخفيف القاف؛ كغُراب -: السّكّةُ، ويؤنّث، جمعه زُقّانٌ، وأزِقّةٌ، قاله المجد

(2)

، وقال الفيّوميّ: الزُّقَاقُ: دون السِّكّة، نافذةً كانت، أو غير نافذة، قال الأخفش: أهل الحجاز يؤنّثون الزُّقاق، والطريق، والسبيل، والسوق، والصراط، وتميم تُذكّر، والجمع: أَزِقَةٌ، مثلُ غُراب وأغرِبَةٍ. انتهى

(3)

.

(وَإِنَّ رُكْبَتِي لَتَمَسُّ فَخِذَ نَبِيِّ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَانْحَسَرَ)؛ أي: انكشف (الإِزَارُ)؛ أي: إزاره صلى الله عليه وسلم، وهو - بكسر الهمزة -: ما يَستُر أسافل البدن

(4)

، وقال الفيّوميّ: الإزار معروف، والجمع في القلّة: آزرةٌ، وفي الكثرة: أُزُرٌ، بضمّتين، مثلُ حمار وأحمرة، وحُمُرٍ، ويذكّر، ويؤنّث

(5)

. (عَنْ فَخِذِ نَبِيِّ الله صلى الله عليه وسلم) فيه حجة لمن يقول: إن الفخذ ليست بعورة، وسيأتي تمام البحث قريبًا. (وَإِنِّي لأَرَى بَيَاضَ فَخِذِ نَبِيِّ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا دَخَلَ) النبيّ صلى الله عليه وسلم (الْقَرْيَةَ)؛ أي: خيبر، وهذا مُشعر بأن ذلك الزقاق كان خراج القرية، (قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("اللهُ أَكْبَرُ، خَرِبَتْ) من باب تَعِبَ، يقال: خَرِبَ المنزلُ، فهو خَرَاب، ويتعدى بالهمزة، والتضعيف، فيقال: أخْرَبْتُهُ، وخَرَّبته، وهو ضد العُمْرَان، وأما خَرَبَ، يَخْرُبُ، كقَتَلَ، يَقْتُل، خِرَابَةً، بالكسر، إذا سَرَق، كما في "المصباح"، فلا يناسب هنا. (خَيْبَرُ)؛ أي: صارت خرابًا، وهل ذلك على سبيل الخبرية، فيكون ذلك من

(1)

راجع: "عمدة القاري" 4/ 84.

(2)

"القاموس المحيط" ص 565.

(3)

"المصباح المنير" 1/ 254.

(4)

"التوقيف على مهمّات التعريف" ص 52.

(5)

"المصباح المنير" 1/ 13.

ص: 417

باب الإخبار بالغيب، أو يكون ذلك على جهة الدعاء عليهم، أو على جهة التفاؤل لَمّا رآهم خرجوا بمساحيهم، ومَكاتِلهم؟ وذلك من آلات الهدم، ويجوز أن يكون أَخذه من اسمها، وقيل: إن الله تعالى أعلمه بذلك

(1)

. (إِنَّا إِذَا نَزَلْنَا بِسَاحَةِ قَوْم) قال الجوهريّ: ساحة الدار: ناحيتها، والجمع: ساحاتٌ، وسُوحٌ، وسًاحٌ أيضًا، مثلُ بَدَنة وبُدْن، وخَشَبة وخَشَب، فأصل ساحة: سَوَحَةٌ، قُلبت الواو ألفًا؛ لتحرّكها، وانفتاح ما قبلها، وأصل الساحة: الفضاء بين المنازل، ويُطْلَق على الناحية، والجهة والبناء

(2)

.

(فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ")؛ أي: بئس وقت القوم المنذَرين، و"صباحُ" فاعل "ساء"، والمخصوص بالذم محذوف؛ أي: صباحهم، ويَحْتَمِل أن يكون "صباحُ" مخصوصًا بالذّمّ، والفاعل ضمير يعود إليه، والتمييز مقدرٌ؛ أي: ساء هو؛ أي: صباحُهُم صباحًا، وقال البيضاوي في "تفسيره"؛ أي: فبئس صباحُ المنذرين صباحهم، واللام للجنس، والصباح مستعار من صباح الجيش المُبَيّتِ لوقت نزول العذاب، ولمّا كثر الهجوم، والغارة في الصباح سَمّوا الغارة: صباحًا، وإن كان في وقت آخر. انتهى.

وإنما قال: اللام للجنس؛ لأن ما بعد "بئس"، و"نعم" يُشترط أن يكون شائعًا، ليكون فيه التفسير بعد الإبهام، والتفصيل بعد الإجمال، فلو كان "ساء"، بمعنى: قَبُحَ جاز كونها للعهد، أفاده الشهاب الخفاجيّ في "حاشيته"

(3)

.

وفيه إقامة الظاهر مقام المُضْمَر؛ إذ الظاهر أن يقول: صباحهم؛ إيذانًا بكونهم مُنذَرِين، من قبلُ؛ أي: بَلَغَتْهم دعوته، فعاندوا، فاستحقوا الإغارة عليهم، أفاده سليمان الجمل في "حاشيته على الجلالين"

(4)

.

(قَالَهَا)؛ أي: قال هذه الْجُمَل (ثَلَاثَ مِرَارٍ، قَالَ: وَقَدْ خَرَجَ الْقَوْمُ)؛ أي: اليهود (إِلَى أَعْمَالِهِمْ)؛ أي: مواضع أعمالهم، أو خرجوا لأعمالهم التي كانوا

(1)

راجع: "عمدة القاري" 4/ 85.

(2)

راجع: "عمدة القاري" 4/ 85.

(3)

راجع: "حاشية الشهاب الخفاجيّ على البيضاويّ" 7/ 292.

(4)

راجع: "حاشية الجمل على الجلالين" 3/ 559.

ص: 418

يعملونها، فـ "إلى" بمعنى: اللام. (فَقَالُوا: مُحَمَّد) مرفوعٌ على أنه فاعل لفعل محذوف؛ أي: جاء محمد، ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف؛ أي: هذا محمد (قَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ) بن صُهيب الراوي عن أنس رضي الله عنه: (وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا) أشار به إلى أنه لم يسمع هذه اللفظة؛ يعني قوله: (وَالْخَمِيسَ) من أنس، وإنما سمعه من بعض أصحابه عنه، وهذه رواية عن مجهول؛ إذ لم يُعَيَّن هذا البعض من هو؟ قاله العينيّ.

وقال الحافظ: يَحْتَمِل أن يكون بعض أصحاب عبد العزيز محمدَ بنَ سيرين؛ لأن البخاريّ أخرج من طريقه أيضًا، أو يكون ثابتًا البنانيّ؛ لأن مسلمًا أخرجه من طريقه أيضًا.

وتعقّبه العينيّ بأنه يَحْتَمِل أن يكون غيرهما، فعلى كل حال لا يخرج عن الجهالة.

والحاصل أن عبد العزيز قال: سمعت من أنس قالوا: جاء محمد فقط، وقال بعض أصحابه: قالوا: محمدٌ، والخميس.

وارتفاع "الخميس" لكونه معطوفًا على "محمدٌ"، ويجوز أن تكون الواو فيه بمعنى"مع"، على معنى: جاء محمدٌ مع الْخَمِيس؛ أي: الجيش.

وزاد في رواية البخاريّ تفسير الخميسِ بقوله: "يَعْنِي: الْجَيْشَ"، وهو مُدْرَجٌ من تفسير عبد العزيز، أو ممن دونه.

وسُمِّي الجيش خميسًا؛ لأنه خمسة أقسام: مقدّمة، وساقة، وقَلْب، وجناحان، ويقال: ميمنةٌ، ومَيسرةٌ، وقَلْبٌ، وجناحان، وقال ابن سِيدَه: لأنه يُخَمِّس ما وَجَده، وقال الأزهريّ: الْخُمُس إنما ثبت بالشرع، وكانت الجاهلية يسمّونه بذلك، ولم يكونوا يعرفون الْخُمُس، فبان أن القول الأول هو الأَولى

(1)

.

(قَالَ: وَأَصَبْنَاهَا عَنْوَةً) - بفتح العين المهملة، وإسكان النون -: هو القهر، يقال: أخذته عَنْوَةً؛ أي: قهرًا، وقيل: أخذته عنوة؛ أي: عن غير طاعة، وقال ثعلب: أخذت الشيء عنوةً؛ أي: قهرًا في عُنْفٍ، وأخذته عنوة؛ أي: صُلْحًا في رِفْقٍ.

(1)

راجع: "الفتح" 2/ 87، كتاب "الصلاة" رقم (371).

ص: 419

وقال ابن التين: ويجوز أن يكون عن تسليم من أهلها، وطاعة، بلا قتال، ونقله عن القَزّاز في "جامعه"، فيكون هذا اللفظ من الأضداد.

وقال أبو عُمر: الصحيح أن أرض خيبر كلها أُخذت عَنوةً، وقال المنذريّ: اختلفوا في فتح خيبر، هل كانت عنوةً، أو صلحًا، أو جَلا أهلها عنها بغير قتال، أو بعضها أُخذت صلحًا، وبعضها عنوةً، وبعضها جلا أهلُها عنها؟ قال: وهذا هو الصحيح، وبهذا أيضًا يندفع التضادّ بين الآثار. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أنس رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [41/ 4656 و 4657 و 4658](1365)، و (البخاريّ) في "الصلاة"(371) و"الأذان"(610) و"صلاة الخوف"(947) و"الجهاد"(2943 - 2944) و"المغازي"(4200)، و (الترمذيّ) في "السير"(4/ 121)، و (النسائيّ) في "الصلاة"(1/ 271 - 272) و"النكاح"(6/ 131) و"الكبرى"(1/ 498 و 3/ 161 و 335 و 5/ 177 - 178 و 200)، و (مالك) في "الموطّأ"(2/ 468)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1/ 283)، و (ابن أبي شيبة) في "مسنده"(12/ 367 - 368 و 14/ 461)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 101 - 102 و 164 و 186 و 206 و 263)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4745 و 4746)، و (ابن سعد) في "الطبقات"(2/ 108 - 109)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(2908)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 56 و 4/ 352 - 354)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(4/ 93 - 94)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(5/ 97) و"الأوسط"(3/ 98 و 8/ 352) و"الصغير"(1/ 325)، و (الطحاويّ) في شرح معاني الآثار" (3/ 208)، و (البيهقيّ) في "الكبرى" (9/ 80 و 108)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة" (2702)، والله تعالى أعلم.

(1)

راجع: "عمدة القاري" 4/ 85.

ص: 420

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): استحباب التغليس بصلاة الصبح في السفر.

2 -

(ومنها): استحباب التبكير بالصلاة أوّل الوقت.

3 -

(ومنها): أنه لا يُكره تسمية صلاة الصبح غداةً، فيكون ردًّا على من قال: إنه مكروه.

4 -

(ومنها): جواز الإرداف على الدابة إذا كانت مطيقة.

5 -

(ومنها): أن إجراء الفرس، والإغارة، ليس بنقص، ولا هادمٍ للمروءة، بل هو سُنَّةٌ، وفضيلة؛ إذ هو من مقاصد القتال.

6 -

(ومنها): جواز الإغارة على العدوّ، ولكن هذا فيمن بلغتهم الدعوة، وأما قبلها فلا يجوز.

7 -

(ومنها): استحباب التكبير عند ملاقاة العدوّ؛ امتثالًا لقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45)} [الأنفال: 45].

وقال النوويّ رحمه الله: فيه استحباب التكبير عند اللقاء، قال القاضي عياضٌ: قيل: تفاءل بخرابها بما رآه في أيديهم من آلات الخراب، من الفؤوس، والمساحي، وغيرها، وقيل: أخذه من اسمها، والأصح أنه أعلمه الله تعالى بذلك. انتهى

(1)

.

8 -

(ومنها): أنه استدلّ بهذا الحديث أصحاب مالك، ومن وافقهم على أن الفخذ ليست بعورة من الرجل، قال النوويّ رحمه الله: ومذهبنا، ومذهب آخرين: أنها عورةٌ، وقد جاءت بكونها عورة أحاديث كثيرةٌ، مشهورةٌ، وتأوّل أصحابنا حديث أنس رضي الله عنه هذا على أنه انحسر بغير اختياره؛ لضرورة الإغارة، والإجراء، وليس فيه أنه استدام كشف الفخذ مع إمكان الستر، وأما قول أنس: فإني لأرى بياض فخذه صلى الله عليه وسلم، فمحمول على أنه وقع بصره عليه فَجْأةً، لا أنه تعمّده، وأما رواية البخاريّ عن أنس رضي الله عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم حَسَر الإزار، فمحمولة على أنه انحسر، كما في رواية مسلم.

(1)

"شرح النوويّ" 12/ 164.

ص: 421

وأجاب بعض أصحاب مالك عن هذا، فقال: هو صلى الله عليه وسلم أكرم على الله تعالى من أن يبتليه بانكشاف عورته، وأصحابنا يجيبون عن هذا بأنه إذا كان بغير اختيار الإنسان فلا نقص عليه فيه، ولا يمتنع مثله. انتهى كلام النوويّ

(1)

.

وقال في "الفتح": قال النوويّ: ذهب أكثر العلماء إلى أن الفخذ عورة، وعن أحمد، ومالك في رواية: العورة: القُبُل والدُّبُر فقط، وبه قال أهل الظاهر، وابن جرير، والإصطخريّ.

قال الحافظ: في ثبوت ذلك عن ابن جرير نظرٌ؛ فقد ذكر المسألة في "تهذيبه"، ورَدّ على من زعم أن الفخذ ليست بعورة.

ومما احتجوا به قولُ أنس رضي الله عنه في هذا الحديث: "وإن ركبتي لَتَمَسّ فخذ نبيّ الله صلى الله عليه وسلم "؛ إذ ظاهره أن المس كان بدون الحائل، ومس العورة بدون حائل لا يجوز، وعلى رواية مسلم، ومن تابعه في أن الإزار لم ينكشف بقصد منه صلى الله عليه وسلم يمكن الاستدلال على أن الفخذ ليست بعورة من جهة استمراره على ذلك؛ لأنه وإن جاز وقوعه من غير قصد، لكن لو كانت عورة لم يُقَرّ على ذلك؛ لمكان عصمته صلى الله عليه وسلم، ولو فُرِض أن ذلك وقع لبيان التشريع لغير المختار، لكان ممكنًا.

لكن فيه نظر من جهة أنه كان يتعين حينئذ البيان عقبه، كما في قضية السهو في الصلاة، وسياقه عند أبي عوانة، والجوزقيّ، من طريق عبد الوارث، عن عبد العزيز ظاهر في استمرار ذلك، ولفظه:"فأجرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في زقاق خيبر، وإن ركبتي لتمس فخذ نبيّ الله صلى الله عليه وسلم، وإني لأرى بياض فخذيه". انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: الذي يظهر لي أن استدلال القائلين بعدم كون الفخذ عورةً بحديث أنس رضي الله عنه المذكور في الباب قويّ، إلا أن القول بأنها عورةٌ أحوط، كما قال البخاريّ رحمه الله في "صحيحه":"وحديث أنس أسند، وحديث جرهد أحوط، حتى يُخرج من اختلافهم". انتهى.

وحديث جرهد هو ما أخرجه مالك في "الموطّأ"، وأبو داود، والترمذيّ، وحسّنه، وابن حبّان، وصححه، وضعّفه البخاريّ في "التاريخ"؛ للاضطراب في

(1)

"شرح النوويّ" 12/ 163 - 164.

ص: 422

إسناده، عن زُرْعة بن عبد الرحمن بن جَرْهد، عن أبيه، قال: كان جرهد هذا من أصحاب الصفة، قال: جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم عندنا، وفخذي منكشفة، فقال:"أما علمت أن الفخذ عورة؟ ".

والحاصل أن كون الفخذ من العورة هو الأحوط؛ فتنبّه، والله تعالى أعلم.

9 -

(ومنها): جواز الاستشهاد في مثل هذا السياق بالقرآن في الأمور المحققة، فقد قال صلى الله عليه وسلم:"إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين"، وقد جاء لهذا نظائر كثيرة كما سبق قريبًا في فتح مكة أنه صلى الله عليه وسلم جَعَل يطعن في الأصنام، ويقول:{جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ} ، {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ} ، قال العلماء: يُكره من ذلك ما كان على ضرب الأمثال في المحاورات، والمزاح، ولغو الحديث، فيُكره في كل ذلك؛ تعظيمًا لكتاب الله تعالى، قاله النوويّ

(1)

.

10 -

(ومنها): (أن قوله: "وأصبناها عَنْوة") ظاهره أنها كلَّها فُتحت عنوة، وقد رَوى مالك، عن ابن شهاب: أن بعضها فتح عَنوةً، وبعضها صلحًا، قال المازريّ: وقد يُشكل ما رُوي في "سنن أبي داود": أنه صلى الله عليه وسلم قسمها نصفين: نصفًا لنوائبه، وحاجته، ونصفًا للمسلمين.

قال: وجوابه ما قال بعضهم: إنه كان حولها ضَيَاع، وقُرًى أُجلي عنها أهلها، فكانت خالصةً للنبيّ صلى الله عليه وسلم، وما سواها للغانمين، فكان قَدْر الذي أُجلي عنه أهله النصف، فلهذا قُسم فصفين. انتهى

(2)

.

11 -

(ومنها): ما قال القاضي عياض رحمه الله: في هذا الحديث أن الإغارة على العدوّ يُستحب كونها أول النهار عند الصبح؛ لأنه وقت غِرّتهم، وغفلة أكثرهم، ثم يضيء لهم النهار لما يحتاج إليه، بخلاف مُلاقاة الجيوش، ومصاففتهم، ومناصبة الحصون، فإن هذا يُستحب كونه بعد الزوال؛ ليدوم النشاط ببرد الوقت، بخلاف ضده. انتهى

(3)

، والله تعالى أعلم.

(1)

"شرح النوويّ" 12/ 164.

(2)

"إكمال المعلم" 6/ 180.

(3)

"إكمال المعلم" 6/ 179.

ص: 423

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4657]

(

) - (حَدَّثَنَا أبو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، حَدَّثَنَا ثَابِتٌ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: كُنْتُ رِدْفَ أَبِي طَلْحَةَ يَوْمَ خَيْبَرَ، وَقَدَمِي تَمَسُّ قَدَمَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: فَأَتَيْنَاهُمْ حِينَ بَزَغَتِ الشَّمسُ، وَقَدْ أَخْرَجُوا مَوَاشِيَهُمْ، وَخَرَجُوا بِفُئُوسِهِمْ، وَمَكَاتِلِهِمْ، وَمُرُورِهِمْ، فَقَالُوا: مُحَمَّدٌ وَالْخَمِيسَ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"خَرِبَتْ خَيْبَرُ، إِنَّا إِذَا نَزَلْنَا بِسَاحَةِ قَوْمٍ، فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ"، قَالَ: فَهَزَمَهُمُ اللهُ عز وجل.

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم قريبًا.

2 -

(عَفَّانُ) بن مسلم الصفّار، تقدّم قريبًا.

3 -

(حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ) تقدّم أيضًا قريبًا.

4 -

(ثَابِتُ) بن أسلم الْبُنانيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

و"أَنَسٌ" رضي الله عنه ذُكر قبله.

وقوله: (حِينَ بَزَغَتِ الشَّمْسُ)؛ أي: طلعت، يقال: بزغت الشمس بَزْغًا، وبُزوغًا، كنصر، وقعد: طلعت، أو البزوغ ابتداء الطلوع.

وقوله: (مَوَاشِيَهُمْ) جمع ماشية: المال، من الإبل، والغنم، قاله ابن السِّكِّيت، وجماعة، وبعضهم يَجعل البقر من الماشية، قاله الفيّوميّ

(1)

.

وقوله: (بِفُئُوسِهِمْ) بالهمزة جمع: فأس بالهمزة، كرأس ورؤوس، وهي آلة يُشقّ بها الحطبُ، ونحوه، وللبخاريّ:"بمساحيهم" - بمهملتين: جمع مِسْحاة، وهي من آلات الحرث.

وقوله: (وَمَكَاتِلِهِمْ) جمع: مِكْتَلٍ - بكسر الميم - وهو الْقُفّة، يقال له: مِكْتَل، وقُفّة، وزَبِيلٌ، وزِنْبِلٌ، وزِنْبيل، وعَرَقٌ، وسَفِيفة - بالسين المهملة، وبفاءين

(2)

.

وقال في "الفتح": الْمَكاتل: جمع مِكْتَل، وهو القُفّة الكبيرة التي يُحَوَّل

(1)

"المصباح المنير" 2/ 574.

(2)

"شرح النوويّ" 12/ 165.

ص: 424

فيها التراب وغيره، وعند أحمد، من حديث أبي طلحة في نحو هذه القصّة:"حتى إذا كان عند السحر، وذهب ذو الزرع إلى زرعه، وذو الضرع إلى ضرعه، أغار عليهم"

(1)

.

وقوله: (وَمُرُورِهِمْ) جمعُ: مَرّ - بفتح الميم - وهي المساحي؛ أي: المجارف من الحديد، قال القاضي عياض: قيل: هي حِبَالهم التي يَصعدون بها إلى النخل. انتهى

(2)

.

وقوله: (خَرِبَتْ خَيْبَرُ)، وفي رواية للبخاريّ في "الجهاد":"فرفع يديه، وقال: الله أكبر، خربت خيبر"، وزيادة التكبير في معظم الطرق عن أنس، وعن حميد. قال السهيليّ: يؤخذ من هذا الحديث التفاؤل؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لَمّا رأى آلات الهدم - مع أن لفظ المسحاة من سَحَوْت: إذا قَشَرت - أخذ منه أن مدينتهم ستخرب. انتهى.

ويَحْتَمِل أن يكون قال: "خربت خيبر" بطريق الوحي، ويؤيده قوله بعد ذلك:"إنا إذا نزلنا بساحة قوم، فساء صباح المنذَرين". انتهى

(3)

.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى ما يتعلّق به من المسائل في الحديث الماضي، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4658]

(

) - (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَإِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَا: أَخْبَرَنَا النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ، أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: لَمَّا أَتَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَيْبَرَ، قَالَ: "إنَّا إِذَا نَزَلْنَا بِسَاحَةِ قَوْمٍ، فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ").

رجال هذا الإسناد: ستّة:

1 -

(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه، تقدّم في الباب الماضي.

(1)

"الفتح" 9/ 301، كتاب "المغازي" رقم (4197).

(2)

"إكمال العلم" 6/ 179.

(3)

"الفتح" 9/ 302، كتاب "المغازي" رقم (4197).

ص: 425

2 -

(إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورِ) بن بَهْرام الْكَوْسج، أبو يعقوب التميميّ المروزيّ، ثقةٌ ثبتٌ [11](ت 251)(خ م ت س ق) تقدم في "الإيمان" 12/ 156.

3 -

(النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ) المازنيّ، أبو الحسن النحويّ البصريّ، نزيل مرو، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار [9](ت 204)، وله (82) سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 39.

4 -

(شُعْبَةُ) بن الحجّاج الإمام المشهور، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

5 -

(قَتَادَةُ) بن دِعامة السدوسيّ، تقدّم قريبًا.

و"أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ" رضي الله عنه ذُكر قبله.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله قبل حديث، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4659]

(1802) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادٍ - وَاللَّفْظُ لِابْنِ عَبَّادٍ - قَالَا: حَدَّثَنَا حَاتِمٌ - وَهُوَ ابْنُ إِسْمَاعِيلَ - عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ مَوْلَى سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَع، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَع، قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى خَيْبَرَ، فَتَسَيَّرْنَا لَيْلًا، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ لِعَامِرِ بْنِ الأَكْوَعِ: أَلَا تُسْمِعُنَا مِنْ هُنَيْهَاتِكَ، وَكَانَ عَامِرٌ رَجُلًا شَاعِرًا، فَنَزَلَ يَحْدُو بِالْقَوْم، يَقُولُ [من الرجز]:

اللَّهُمَّ لَوْلَا أَنْتَ مَا اهْتَدَيْنَا

وَلَا تَصَدَّقْنَا، وَلَا صَلَّيْنَا

فَاغْفِرْ فِدَاءً لَكَ مَا اقْتَفَيْنَا

وَثَبِّتِ الأَقْدَامَ إِنْ لَاقَيْنَا

وَألقِيَنْ سَكِينَةً عَلَيْنَا

إِنَّا إِذَا صِيحَ بِنَا أَتَيْنَا

وَبِالصِّيَاحِ عَوَّلُوا عَلَيْنَا

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ هَذَا السَّائِقُ؟ "، قَالُوا: عَامِرٌ، قَالَ:"يَرْحَمُهُ الله"، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: وَجَبَتْ يَا رَسُولَ الله، لَوْلَا أَمْتَعْتَنَا بِه، قَالَ: فَأَتَيْنَا خَيْبَرَ، فَحَصَرْنَاهُمْ، حَتَّى أَصَابَتْنَا مَخْمَصَةٌ شَدِيدَةٌ، ثُمَّ قَالَ: "إِنَّ اللهَ فَتَحَهَا عَلَيْكُمْ

(1)

"، قَالَ: فَلَمَّا أَمْسَى النَّاسُ مَسَاءَ الْيَوْمِ الَّذِي فُتِحَتْ عَلَيْهِمْ، أَوْقَدُوا نِيرَانًا كَثِيرَةً، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا هَذِهِ النِّيرَانُ؟ عَلَى أَيِّ شَيْءٍ تُوقِدُونَ؟ "، فَقَالُوا: عَلَى

(1)

وفي نسخة: "فتحها عليهم".

ص: 426

لَحْمٍ، قَالَ:"أيُّ لَحْمٍ؟ "، قَالُوا: لَحْمُ حُمُرِ الإِنْسِيَّةِ

(1)

، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"أَهْرِيقُوهَا، وَاكسِرُوهَا"، فَقَالَ رَجُلٌ: أَوْ يُهْرِيقُوهَا، وَيَغْسِلُوهَا؟ فَقَالَ:"أَوْ ذَاكَ". قَالَ: فَلَمَّا تَصَافَّ الْقَوْمُ، كَانَ سَيْفُ عَامِرٍ فِيهِ قِصَرٌ، فَتَنَاوَلَ بِهِ سَاقَ يَهُودِيٍّ لِيَضْرِبَهُ، وَيَرْجِعُ ذُبَابُ سَيْفِه، فَأَصَابَ رُكْبَةَ عَامِرٍ، فَمَاتَ مِنْهُ، قَالَ: فَلَمَّا قَفَلُوا، قَالَ سَلَمَةُ، وَهُوَ آخِذٌ بِيَدِي، قَالَ: فَلَمَّا رَآنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم سَاكِتًا، قَالَ:"مَا لَكَ؟ "، قُلْتُ لَهُ: فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي، زَعَمُوا أَنَّ عَامِرًا حَبِطَ عَمَلُهُ، قَالَ:"مَنْ قَالَهُ؟ "، قُلْتُ: فُلَانٌ، وَفُلَانٌ، وَأُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ الأَنْصَارِيُّ، فَقَالَ:"كَذَبَ مَنْ قَالَهُ، إِنَّ لَهُ لأَجْرَيْنِ"، وَجَمَعَ بَيْنَ إِصْبَعَيْه، "إِنَّهُ لَجَاهِدٌ، مُجَاهِدٌ، قَلَّ عَرَبِيٌّ مَشَى بِهَا مِثْلَهُ". وَخَالَفَ قُتَيْبَةُ مُحَمَّدًا فِي الْحَدِيثِ

(2)

فِي حَرْفَيْن، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّادٍ: وَأَلْقِ سَكِينَةً عَلَيْنَا).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) تقدّم قريبًا.

2 -

(مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادِ) بن الزِّبْرِقان المكّيّ، نزيل بغداد، صدوقٌ يَهِمُ [10](ت 234)(خ م ت س ق) تقدم في "المقدمة" 4/ 19.

3 -

(حَاتِمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ) الحارثيّ مولاهم، المدنيّ، كوفيّ الأصل، صدوقٌ يَهِمُ، صحيح الكتاب [8](ت 6 أو 187)(ع) تقدم في "الصلاة" 42/ 1086.

4 -

(يَزِيدُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ مَوْلَى سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ) الأسلميّ المدنيّ، ثقةٌ [4] مات سنة بضع و (140)(ع) تقدم في "الصلاة" 51/ 1140.

5 -

(سَلَمَةُ بْنُ الأَكْوَعِ) هو: سلمة بن عمرو بن الأكوع، نُسب لجدّه الأسلميّ، أبو مسلم، أو أبو إياس الصحابيّ الشهير، شَهِد بيعة الرضوان، ومات بالمدينة سنة (64)(ع) تقدم في "الإيمان" 44/ 288.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (323) من رباعيّات الكتاب، وأنه

(1)

وفي نسخة: "حمرٍ إنسيّة".

(2)

وفي نسخة: "من الحديث".

ص: 427

مسلسل بالمدنيين، سوى شيخيه، فالأول بَغْلانيّ، نسبة لقرية من قُرى بَلْخَ، والثاني مكيّ، ثمّ بغداديّ.

شرح الحديث:

(عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعٍ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى خَيْبَرَ)؛ أي: إلى غزوتها، (فَتَسَيَّرْنَا لَيْلًا)؛ أي: ذهبنا، وهو مبالغة في "سار"، ولفظ البخاريّ:"فسِرْنا ليلًا"، أو معنى "تسيّرنا": سِرْنا سَيْرًا بعد سَيْر، أو جماعةً بعد جماعة، (فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ) قال الحافظ رحمه الله: لم أقف على اسمه صريحًا، وعند ابن إسحاق من حديث نصر بن دهر الأسلميّ، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في مسيره إلى خيبر لعامر بن الأكوع، وهو عَمّ سلمة بن الأكوع، واسم الأكوع: سنان -: "انزِلْ يا ابن الأكوع، فاحْدُ لنا من هُنياتك"، ففي هذا أن النبيّ صلى الله عليه وسلم هو الذي أمره بذلك. انتهى

(1)

. (لِعَامِرِ بْنِ الأَكْوَعِ) هو: عامر بن سنان بن عبد الله بن قُشير الأسلميّ المعروف بابن الأكوع، عمّ سلمة بن عمرو بن الأكوع، واسم الأكوع: سنان، ويقال: أخوه، ففي بعض الروايات يقول سلمة:"فقاتل أخي عامر قتالًا شديدًا"، وفي بعضها يقول:"وخرج عمي عامر إلى خيبر"، ويمكن التوفيق بينهما بأن يكون أخاه من أمّه، على ما كانت الجاهليّة تفعله، أو من الرضاعة، أفاده في "الإصابة"

(2)

.

(ألَا) أداة تحضيض، (تُسْمِعُنَا مِنْ هُنَيْهَاتِكَ) جمع هُنَيهة؛ أي: أراجيزك، وفي بعض النسخ:"من هُنَيّاتك" - بتشديد الياء، آخر الحروف، بعد النون - قال الكرمانيّ:"الْهُنَيّاتُ": جمع الْهُنيَّة مُصَغَّر الهَنَة، إذْ أصلها هَنَوٌ، وهي الشيء الصغير، والمراد بها هنا: الأراجيز.

وقال الجوهريّ: هَنٌ على وزن أَخ: كلمةُ كناية، ومعناها: شيءٌ، وأصله هَنَوٌ، وتقول للمرأة: هَنَةٌ، وتصغيرها هُنَيّة، تَرُدُّها إلى الأصل، وتأتي بالهاء، وقد تُبدل من الياء الثانية هاء، فنقول: هُنَيهة.

(1)

"الفتح" 9/ 296، كتاب "المغازي" رقم (4196).

(2)

راجع: "الإصابة في تمييز الصحابة" 3/ 471 - 472.

ص: 428

وقال ابن الأثير: "من هناتك"؛ أي: من كلماتك، أو من أراجيزك، وفي رواية:"من هُنَيّاتك" على التصغير، وفي أخرى:"من هُنيهاتك" على قلب الياء هاء. انتهى

(1)

.

وقال الفيّوميّ رحمه الله: "الهَنُ" خَفِيفُ النون: كناية عن كلّ اسم جنس، والأنثى: هَنَةٌ، ولامها محذوفة، ففي لغة هي هاء، فيُصَغَّر على هُنَيْهَةٍ، ومنه يقال: مَكَثَ هُنَيْهَةً؛ أي: ساعةً لطيفةً، وفي لغة هي واو، فَيُصَغَّر في المؤنث على هُنَيَّةٍ، والهمز خطأٌ؛ إذ لا وجه له، وجمعها: هَنَوَاتٌ، وربما جُمِعت: هَنَاتٍ، على لفظها، مثل عِدَاتٍ، وفي المذكَّر: هُنَيٌّ، وبه سُمِّي، ومنه هُنَيٌّ مولى عمر رضي الله عنه، وكُنِي بهذا الاسم عن الفَرْج، ويُعْرَب بالحروف، فيقال: هَنُوهَا، وهَنَاهَا، وهَنِيهَا، مثلُ أخوها، وأخاها، وأخيها، وقيل: المحذوف نون، والأصل: هَن، بالتّثقيل، فَيُصَغَّرُ على هُنَيْنٍ. انتهى

(2)

.

ووقع عند البخاريّ في "الدعوات" من وجه آخر، عن يزيد بن أبي عبيد:"لو أسمعتنا من هَنَاتك" بغير تصغير.

(وَكَانَ عَامِرٌ)؛ أي: ابن الأكوع، (رَجُلًا شَاعِرًا) قيل: هذا يدلّ على أن الرجز من أقسام الشعر؛ لأن الذي قاله عامر حينئذ من الرجز. (فَنَزَلَ يَحْدُو بِالْقَوْمِ)؛ أي: يحثّ رواحلهم على السير، يقال: حَدَوتُ بالإبل أَحْدُو حَدْوًا: حَثَثْتُها على السير بِالْحُداء، مثلُ غُرابٍ، وهو الْغِنَاءُ لها، وحَدَوتُهُ على كذا: بَعَثتُهُ عليه

(3)

، وقوله:(يَقُولُ) بيان لمعنى "يحدو"، (اللَّهُمَّ) قال النوويّ رحمه الله: كذا الرواية، قالوا: وصوابه في الوزن: "لاهمّ"، أو "تا الله"، أو "والله لولا أنت"، كما في الحديث الآخر:"والله لولا الله". انتهى

(4)

.

وقال في "الفتح": في هذا القسم زِحَافُ الخزم - بمعجمتين - وهو زيادة سَبَبٍ خَفِيف في أوله، وأكثرها أربعة أحرف، وقد تقدّم في الجهاد من حديث البراء بن عازب رضي الله عنهما، وأنه من شِعْر عبد الله بن رواحة، فيَحْتَمِلُ أن يكون هو وعامر تواردا على ما تواردا منه، بدليل ما وقع لكل منهما، مما ليس عند

(1)

"عمدة القاري" 22/ 184.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 641 - 642.

(3)

"المصباح المنير" 1/ 125.

(4)

"شرح النوويّ" 12/ 166.

ص: 429

الآخر، أو استعان عامر ببعض ما سبقه إليه ابن رواحة. انتهى

(1)

.

(لَوْلَا أَنْتَ مَا اهْتَدَيْنَا)؛ أي: لولا نعمتك علينا بالهداية لَمَا حصل لنا الاهتداء، (وَلَا تَصَدَّقْنَا، وَلَا صَلَّيْنَا، فَاغْفِرْ فِدَاءً لَكَ) قال القاضي رحمه الله: "فداء" بالمدّ، والقصر، والفاء مكسورة، حكاه الأصمعيّ وغيره، فأما في المصدر فالمدّ لا غير، قال: وحَكَى الفراء: "فَدًى لك" مفتوحًا، مقصورًا، قال: ورَوَيناه هنا: "فِداءٌ لك" بالرفع، على أنه مبتدأ وخبره؛ أي: لك نفسي فداءٌ، أو نفسي فداءٌ لك، وبالنصب على المصدر. انتهى

(2)

.

وقال في "الفتح": قوله: "فِداء" - بكسر الفاء، وبالمدّ - وحَكَى ابن التين فتح أوله، مع القصر، وزعم أنه هنا بالكسر، مع القصر؛ لضرورة الوزن، ولم يُصِبْ في ذلك، فإنه لا يَتَّزِن إلا بالمدّ.

[تنبيه]: قد استُشكِل هذا الكلام؛ لأنه لا يقال في حق الله تعالى؛ إذ معنى فداء لك: نَفْدِيك بأنفسنا، وحُذِف متعلق الفداء؛ للشهرة، وإنما يُتَصَوَّر الفداء لمن يجوز عليه الفناء.

وأجيب عن ذلك بأنها كلمة لا يراد بها ظاهرها، بل المراد بها المحبة، والتعظيم، مع قطع النظر عن ظاهر اللفظ.

وقيل: المخاطب بهذا الشِّعر النبيّ صلى الله عليه وسلم، والمعنى: لا تؤاخذنا بتقصيرنا في حقّك، ونصرك، وعلى هذا، فقوله:"اللهم" لم يقصد بها الدعاء، وإنما افتَتَحَ بها الكلام، والمخاطب بقول الشاعر: لولا أنت .... إلخ النبيّ صلى الله عليه وسلم.

وَيعْكُر عليه قوله بعد ذلك:

فَأَنْزِلَنْ سَكِينَةً عَلَيْنَا

وَثَبِّتِ الأَقْدَامَ إِنْ لَاقَيْنَا

فإنه دعا الله تعالى، ويَحْتَمِلُ أن يكون المعنى: فَاسْأل ربك أن يُنزل، ويُثَبِّت، والله أعلم. انتهى.

وقال النوويّ: قال المازريّ: هذه اللفظة مشكلة، فإنه لا يقال: فِدى الباري سبحانه وتعالى، ولا يقال له سبحانه وتعالى: فديتك؛ لأن ذلك إنما يُستعمل في مكروه،

(1)

"الفتح" 9/ 296، كتاب "المغازي" رقم (4196).

(2)

"إكمال المعلم" 6/ 182.

ص: 430

يتوقع حلوله بالشخص، فيَختار شخص آخر أن يَحْلّ ذلك به، ويفديه منه، قال: ولعل هذا وقع من غير قصد إلى حقيقة معناه، كما يقال: قاتله الله، ولا يراد بذلك حقيقة الدعاء عليه، وكقوله صلى الله عليه وسلم:"تَرِبَت يداكِ"، و"تَرِبت يمينك"، و"ويلُ أمه"، وفيه كله ضَرْب من الاستعارة؛ لأن الفادي مبالِغ في طلب رضى المفديّ حين بذل نفسه عن نفسه للمكروه، فكأن مراد الشاعر أني أبذل نفسي في رضاك، وعلى كل حال فإن المعنى، وإن أمكن صرفه إلى جهة صحيحة، فإطلاق اللفظ، واستعارته، والتجوّز به يفتقر إلى ورود الشرع بالإذن فيه، قال: وقد يكون المراد بقوله: "فِداءً لك" رجلًا يخاطبه، وفَصَل بين الكلام، فكأنه قال: فاغفر، ثم دعا إلى رجل ينبّهه، فقال: فداءً لك، ثم عاد إلى تمام الكلام الأول، فقال: ما اقتفينا، قال: وهذا تأويل يصح معه اللفظ والمعنى، لولا أن فيه تعسفًا اضطَرَّنا إليه تصحيح الكلام، وقد يقع في كلام العرب من الفصل بين الْجُمَل المعلق بعضها ببعض ما يُسَهِّل هذا التأويل. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: لا يخفى ما في هذه التأويلات كلّها من التكلّف والتعسّف، والصواب عندي أن قوله:"فِداءً لك" هنا مما أُريدَ به تعظيم شأن المولى سبحانه وتعالى، وإظهار محبّته، فكما أن الإنسان إذا رفع شأن إنسان، وأراد إظهار محبّته له فداه بنفسه، وأبيه، وأمه، فكذلك قول العبد: فداء لك رب اغفر لي، وارحمني لا يريد به إلا ذلك، ولا يستلزم ذلك أن يلحق بالله سبحانه وتعالى مكروه، أو مَخُوف، وإنما هو مجرّد تعظيم، وإظهار محبّة، فتأمله بالإمعان، والإنصاف، والله تعالى وليّ التوفيق.

(مَا اقْتَفَيْنَا) - بقاف ساكنة، ومثنّاة مفتوحة تحتانيّة ساكنة؛ أي: اتَّبَعْنا واكتسبنا من الخطايا، من قَفَوْتُ الأثرَ: إذا اتَّبَعته، وهي - كما قال الحافظ - أشهر الروايات في هذا الرجز، وقع في بعض النسخ:"ما أبقينا"؛ أي: ما خلّفنا وراءنا من الآثام.

ووقع في بعض روايات البخاريّ بلفظ: "ما اتَّقَينا" فقال في "الفتح": هو: بتشديد المثناة، بعدها قاف، كذا للأكثر، ومعناه: ما تركنا من الأوامر،

(1)

"شرح النوويّ" 12/ 166.

ص: 431

و"ما" ظرفيّة، وللأصيليّ، والنسفيّ بهمزة قطع، ثم موحّدة ساكنة؛ أي: ما خَلَّفنا وراءنا، مما اكتسبنا من الآثام، أو ما أبقيناه وراءنا من الذنوب، فلم نتب منه، وللقابسيّ:"ما لَقِينا" - باللام، وكسر القاف - والمعنى: ما وجدنا من المناهي. انتهى

(1)

.

وقال في "العمدة": قوله: "ما اقتفينا"؛ أي: اتّبعنا أمره، ومادته قاف، وفاء، وفي "المغازي":"ما أبقينا"، من الإبقاء، ومادته باء وقاف؛ أي: افْدِنا من عقابك فِداء ما أبقينا من الذنوب؛ أي: ما تركناه مكتوبًا علينا، ورُوي:"ما اتَّقَينا" من الاتقاء، و"ما اقتنينا"، من الاقتناء، ويُروَى "ما أتينا" من الإتيان. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قوله: "افدِنا من عقابك

إلخ" هذا بناء على التأول المتقدّم لقوله: "فداءً لك"، وقد عرفت ما فيه آنفًا، فتنبّه.

(وَثَبِّتِ الأَقْدَامَ إِنْ لَاقَيْنَا) بفتح القاف؛ أي: واجَهْنا العدوّ، (وَأَلْقِيَنْ سَكِينَةً عَلَيْنَا إِنَّا إِذَا صِيحَ بِنَا أَتَيْنَا) بمثناة؛ أي: جئنا إذا دُعينا إلى القتال، أو إلى الحقّ، قال الحافظ: ورُوي بالموحّدة، كذا رأيت في رواية النسفيّ، فان كانت ثابتة، فالمعنى: إذا دُعينا إلى غير الحقّ امتنعنا.

وقال النوويّ رحمه الله: قوله: "إذا صيح بنا أتينا": هكذا هو في نسخ بلادنا: "أتينا" بالمثناة في أوله، وذكر القاضي عياض أنه رُوي بالمثناة، وبالموحّدة، فمعنى المثناة: إذا صيح بنا للقتال ونحوه من المكارم أتينا، ومعنى الموحّدة: أَبَيْنا الفرار والامتناع. انتهى.

(وَبِالصِّيَاح) بكسر الصاد المهملة: مصدر صاح بالشيء يَصِيحُ به صيحَةً: إذا صَرَخ. (عَوَّلوا عَلَيْنَا)؛ أي: حَمَلوا علينا بالصِّيَاح، لا بالشجاعة، قاله في "العمدة"

(3)

.

وقال النوويّ رحمه الله: قوله: "عَوّلوا علينا": استغاثوا بنا، واستفزعونا للقتال، قيل: هي من التعويل على الشيء، وهو الاعتماد عليه، وقيل: من

(1)

"الفتح" 9/ 296، كتاب "المغازي" رقم (4196).

(2)

"عمدة القاري" 22/ 184.

(3)

"عمدة القاري" 22/ 184.

ص: 432

العويل، وهو الصوت. انتهى

(1)

.

وقال في "الفتح": قوله: "وبالصِّياح عَوَّلوا علينا"؛ أي: قصدونا بالدعاء بالصوت العالي، واستغاثوا علينا، تقول: عَوَّلتُ على فلان، وعَوَّلتُ بفلان: بمعنى استغثت به.

وقال الخطابيّ: المعنى: أجْلَبوا علينا بالصوت، وهو من العويل.

وتعقبه ابن التين بأنّ عَوَّلوا بالتثقيل، من التعويل، ولو كان من العويل لكان: أعولوا.

ووقع في رواية إياس بن سلمة، عن أبيه، عند أحمد في هذا الرجز من الزيادة:

إِنَّ الَّذِينَ قَدْ بَغَوْا عَلَيْنَا

إِذَا أَرَادُوا فِتْنَةً أَبَيْنَا

وَنَحْنُ عَنْ فَضْلِكَ مَا اسْتَغْنَيْنَا

(2)

وقال الكرمانيّ: قد تقدّم أنه صلى الله عليه وسلم كان يقولها في حفر الخندق، وأنها من أراجيز ابن رواحة، ثم أجاب بأنه لا منافاة في وقوع الأمرين، ولا محذور أن يَحْدُوَ الشخص بشِعر غيره

(3)

.

(فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ هَذَا السَّائِقُ؟ ")، وفي رواية أحمد:"فجَعَل عامر يرتجز، ويسوق الركاب"، وهذه كانت عادتهم، إذا أرادوا تنشيط الإبل في السَّير، ينزل بعضهم، فيسوقها، ويَحْدُو في تلك الحال.

(قَالُوا)؛ أي: الصحابة الحاضرون للسؤال، (عَامِرٌ)؛ أي: هو عامرُ بن الأكوع. (قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("يَرْحَمُهُ الله") وفي رواية إياس بن سلمة: "قال: غفر لك ربُّك، قال: وما استغفر رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنسان يخصه إلا استُشْهِد"، وبهذه الزيادة يظهر السرّ في قول الرجل:"لولا أمتعتنا به".

(فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ) هو عمر بن الخطّاب رضي الله عنه، كما سيأتي في رواية إياس بن سلمة، عن أبيه، ولفظه: "فنادى عمر بن الخطاب، وهو على جمل

(1)

"شرح النوويّ" 12/ 167.

(2)

راجع: "الفتح" 9/ 297، كتاب "المغازي" رقم (4196).

(3)

"عمدة القاري" 22/ 184.

ص: 433

له، يا نبي الله، لولا ما متعتنا بعامر"، وفي حديث نصر بن دهر، عند ابن إسحاق: "فقال عمر: وجبت يا رسول الله".

(وَجَبَتْ)؛ أي: الشهادة (يَا رَسُولَ الله، لَوْلَا)؛ أي: هلّا (أَمْتَعْتَنَا بِهِ)؛ أي: أمتعتنا ببقائه؛ أي: أبقيته لنا لنتمتع به؛ أي: بشجاعته، والتمتع: الترفُّه إلى مدّة، ومنه: أمتعني الله ببقائك

(1)

.

وقال النوويّ رحمه الله: معنى "وجبت"؛ أي: ثبتت له الشهادة، وسيقع قريبًا، وكان هذا معلومًا عندهم أن من دعا له النبيّ صلى الله عليه وسلم هذا الدعاء في هذا الموطن استُشْهِد، فقالوا: هلّا أمتعتنا به؛ أي: وَدِدْنا أنك لو أخرت الدعاء له بهذا إلى وقت آخر؛ لنتمتع بمصاحبته، ورؤيته مدةً. انتهى

(2)

.

(قَالَ) سلمة رضي الله عنه (فَأَتَيْنَا خَيْبَرَ، فَحَصَرْنَاهُمْ) من باب نصر؛ أي: أحطنا بهم، ومنعناهم من المضيّ لحوائجهم، يقال: حصره العدوّ في منزله: إذا حبسه، وأحصره المرض بالألف: إذا منعه من السفر، قال الفرّاء: هذا هو كلام العرب، وعليه أهل اللغة، وقال ابن القُوطيّة، وأبو عمرو الشيبانيّ: حَصَره العدوّ والمرض، وأحصره كلاهما بمعنى حبسه، ذكره الفيّومي

(3)

، وقوله:(حَتَّى أَصَابَتْنَا) غاية لمقدّر؛ أي: وطال الحصار حتى أصابتنا (مَخْمَصَةٌ شَدِيدَةٌ) - بفتح الميمين، بينهما خاء معجمة ساكنة -؛ أي: مجاعة، يقال: خَمُصَ الشخص خُمْصًا، فهو خَمِيصٌ: مثلُ قَرُبَ قرْبًا، فهو قَرِيبٌ: إذا جاع

(4)

. (ثُمَّ قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("إِنَّ اللهَ فَتَحَهَا)؛ أي: خيبر (عَلَيْكُمْ") أيها المحاصرون لها، والمنتظرون لفتحها، والظاهر أن هذا منه صلى الله عليه وسلم بالوحي، ووقع في بعض النسخ:"إن الله فتحها عليهم" بضمير الغيبة. (قَالَ) سلمة رضي الله عنه (فَلَمَّا أَمْسَى النَّاسُ)؛ أي: دخلوا في المساء، (مَسَاءَ الْيَوْم الَّذِي فُتِحَتْ عَلَيْهِمْ) ببناء الفعل للمفعول، (أَوْقَدُوا نِيرَانًا كَثِيرَةً، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا هَذِهِ النِّيرَانُ؟ عَلَى أَيِّ شَيْءٍ تُوقِدُونَ؟ "، فَقَالُوا: عَلَى لَحْمٍ، قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("أَيُّ لَحْمٍ؟ "، قَالُوا: لَحْمُ حُمُرِ

(1)

"الفتح" 9/ 297 - 298.

(2)

شرح النوويّ" 12/ 167.

(3)

"المصباح المنير" 1/ 138.

(4)

"المصباح المنير" 1/ 182.

ص: 434

الإِنْسِيَّةِ)

(1)

، وفي بعض النسخ:"حُمُر إنسيّةٍ" بالتنكير، و"الحُمُرُ" بضمّتين: جمع حِمَار، و"الإنسيّة" - بكسر الهمزة، وسكون النون، وبفتحهما - وهو من باب إضافة الموصوف إلى صفته

(2)

.

وقال النوويّ رحمه الله: قوله "لحم حُمُر الإنسية": هكذا هو "حُمُر الإنسية" بإضافة "حُمُر"، وهو من إضافة الموصوف إلى صفته، وسبق بيانه مرّات، فعلى قول الكوفيين هو على ظاهره، وعند البصريين تقديره: حُمُر الحيوانات الإنسية، وأما "الأنسية": ففيها لغتان، وروايتان، حكاهما القاضي عياض، وآخرون، أشهرهما كسر الهمزة، وإسكان النون، قال القاضي: هذه رواية أكثر الشيوخ، والثانية: فتحهما جميعًا، وهما جميعًا نسبة إلى الإنس، وهم الناس؛ لاختلاطها بالناس، بخلاف حُمُر الوحش. انتهى

(3)

.

(فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَهْرِيقُوهَا) فعل من أهرق، وأصله: أراق، قال الفيّوميّ رحمه الله: رَاقَ الماءُ، والدمُ وغيره، رَيْقًا، من باب باع: انصَبّ، ويتعدى بالهمزة، فيقال: أَرَاقَهُ صاحبه، والفاعل مُرِيقٌ، والمفعول مُرَاقٌ، وتُبدل الهمزة هاءً، فيقال: هَرَاقَهُ، والأصل هَرْيَقَهُ، وزانُ دَحْرَجَهُ، ولهذا تُفْتَحُ الهاءُ من المضارع، فيقال: يُهَرِيقُهُ، كما تُفْتَح الدال من يُدَحْرِجُهُ، وتُفتح من الفاعل، والمفعول أيضًا، فيقال: مُهَرِيقٌ، ومُهَرَاقٌ، قال امرؤ القيس [من الطويل]:

وَإِنَّ شِفَائِي عَبْرَةٌ مُهَرَاقَةٌ

فَهَلْ عِنْدَ رَسْمٍ دَارِسٍ مِنْ مُعَوَّلِ

والأمر: هَرِقْ ماءَكَ، والأصل: هَرْيِقْ، وزانُ دَحْرِجْ، وقد يُجْمَعُ بين الهاء والهمزة، فيقال: أَهْرَاقَهُ يُهْرِيقُهُ، ساكنُ الهاء؛ تشبيهًا له بأَسْطاع يُسْطِيع؛ كأن الهمزة زِيدت عوضًا عن حركة الياء في الأصل، ولهذا لا يصير الفعل بهذه الزيادة خماسيًّا، و"دَعَا بِذَنُوبٍ، فَأُهْرِقَ"، ساكنُ الهاء، وفي "التهذيب": مَن قال: أَهْرَقْتُ، فهو خَطَأٌ في القياس، ومنهم من يَجعل الهاء كأنها أصلٌ، ويقول: هَرَقْتُهُ هَرْقًا، من باب نَفَعَ، وفي الحديث:"أَنَّ امْرَأَةً كَانَتْ تُهْرَاقُ الدِّمَاءَ"، بالبناء للمفعول، و"الدماءَ" نصب على التمييز، ويجوز الرفع على

(1)

وفي نسخة: "حمرٍ إنسيّة".

(2)

"عمدة القاري" 22/ 184.

(3)

"شرح النوويّ" 12/ 167 - 168.

ص: 435

إسناد الفعل إليها، والأصلُ: تُهْرَاقُ دماؤها، لكن جُعِلت الألفُ واللامُ بدلًا عن الإضافة؛ كقوله تعالى:{عُقْدَةَ النِّكَاحِ} [البقرة: 235]؛ أي: نكاحها. انتهى

(1)

.

(وَاكْسِرُوهَا")؛ أي: اكسروا القُدُور التي تُطبخ بها، قال النوويّ رحمه الله: هذا يدلّ على نجاسة لحوم الحمر الأهلية، وهو مذهبنا، ومذهب الجمهور، وقد سبق بيان هذا الحديث وشرحه مع بيان هذه المسألة في "كتاب النكاح"، ومختصر الأمر بإراقته أن السبب الصحيح فيه أنه أمر بإراقتها؛ لأنها نجسة محرّمة، والثاني: أنه نَهَى للحاجة إليها، والثالث: لأنها أخذوها قبل القسمة، وهذان التأويلان هما لأصحاب مالك القائلين بإباحة لحومها، والصواب ما قدمنا. انتهى

(2)

.

(فَقَالَ رَجُلٌ) لم يُعرف اسمه، وأما قول صاحب "التنبيه"

(3)

نقلًا عن شيخه: يَحْتَمِل أن يكون عُمَر، فلم يذكر له مستنَدًا، والله تعالى أعلم.

(أوْ يُهْرِيقُوهَا، وَيَغْسِلُوهَا؟)؛ يعني: أنهم يكتفون بالإهراق، والغسل؛ أي: بدلًا من الكسر.

[تنبيه]: قوله: "أو يهريقوها

إلخ" هكذا رواية المصنّف بالجزم؛ أي: أو ليُهريقوها، ويغسلوها، فالفعل مجزوم بلام الأمر المحذوفة عند القائلين بجواز حذفها مطّردًا في نحو قوله: قل له يفعل؛ أي: ليفعل، وقولِ الشاعر [من الوافر]:

مُحَمَّدُ تَفْدِ نَفْسَكَ كُلُّ نَفْسٍ

إِذَا مَا خِفْتَ مِنْ أَمْرٍ تَبَالَا

أي: لِتَفْد، وجعلوا منه قوله تعالى:{قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُنْفِقُوا} [إبراهيم: 31]، وجعل ابن هشام حذف لام الأمر مختصًّا بالشعر؛ كالبيت المذكور.

ويَحْتَمل أن يكون مجزومًا؛ لوقوعه في جواب أمر محذوف، تقديره: أو قل لهم: أهريقوها، واغسلوها يهريقوها، ويغسلوها، ويَحْتَمِل أن يكون جواب شرط محذوف؛ أي: إن تقل لهم: أهريقوها يهريقوها

إلخ

(4)

، والله تعالى أعلم.

(1)

"المصباح المنير" 1/ 248.

(2)

"شرح النوويّ" 12/ 168.

(3)

راجع: "تنبيه المعلم" ص 315.

(4)

راجع: "مغني اللبيب" 2/ 422.

ص: 436

(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("أَوْ ذَاكَ")؛ أي: أوْ تفعلون ذاك؛ أي: الإهراق، والغسل، قال النوويّ رحمه الله: هذا محمول على أنه صلى الله عليه وسلم اجتَهَد في ذلك، فرأى كسرها، ثم تغيّر اجتهاده، أو أُوحي إليه بغسلها. انتهى

(1)

.

(قَالَ) سلمة: (فَلَمَّا تَصَافَّ الْقَوْمُ)؛ أي: المسلمون والكفّار؛ يعني: أنهم وقفوا مصطفّين للقتال، (كَانَ سَيْفُ عَامِرٍ)؛ أي: ابن الأكوع، (فِيهِ قِصَرٌ) - بكسر القاف، وفتح الصاد المهملة، آخره راء -؛ أي: ليس طويلًا، يقال: قَصُرَ الشيءُ بالضمّ قِصَرًا وِزانُ عِنَبٍ: خلاف طال، فهو قَصِيرٌ، والجمعُ قِصَارٌ، ويتعدّى بالتضعيف، فيقال: قَصَّرتُهُ، وعليه قوله تعالى:{مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} [الفتح: 27]، وفي لغة: قَصَرْتُهُ، من باب قَتَلَ

(2)

. (فَتَنَاوَلَ)؛ أي: أراد أن يُصيب (بِهِ)؛ أي: بذلك السيف القصير، (سَاقَ يَهُودِيٍّ) هو مَرْحِب رئيس أهل خيبر، (لِيَضْرِبَهُ)، وفي رواية البخاريّ:"وكان سيف عامر قصيرًا، فتناول به ساق يهوديّ ليضربه"، وفي رواية إياس بن سلمة الآتية: "فلما قَدِمنا خيبر خرج ملكهم مَرْحِب يَخْطِر بسيفه

(3)

، يقول [من الرجز]:

قَدْ عَلِمَتْ خَيْبَرُ أَنِّي مَرْحَبُ

شَاكِي السِّلَاحِ بَطَلٌ مُجَرَّبُ

إَذَا الْحُرُوبُ أَقْبَلَتْ تَلَهَّبُ

قال: فبرز إليه عامرٌ، فقال:

قَدْ عَلِمَتْ خَيْبَرُ أَنِّي عَامِرُ

شَاكِي السِّلَاحِ بَطَل مُغَامِرُ

فاختلفا ضربتين، فوقع سيف مرحب في تُرْس عامر، فصار عامر يَسْفُل له؛ أي: يضربه من أسفلُ، فرجع سيفه - أي: سيف عامر - على نفسه".

(وَيَرْجِعُ) الواو عاطفة، و"يرجع" بمعنى "رجَعَ"، كما وقع في بعض النسخ، وكما هو لفظ رواية البخاريّ، وإنما عَدَل هنا إلى صيغة المضارع؛ قصدًا إلى حكاية الحال؛ كأنه تخيّل ما وقع في الزمن الماضي من رجوع ذُباب السيف يقع في الحال، فعبّر عنه بلفظ المضارع، ويصحّ أن تكون الواو حاليّةً، وحينئذ تكون داخلةً على محذوف، تقديره: وذباب سيفه يرجع؛ لأنه يمتنع

(1)

"شرح النوويّ" 12/ 168.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 505.

(3)

أي: يرفعه مرّةً، ويضعه أخرى.

ص: 437

دخول الواو الحاليّة على المضارع المثبَت، كما قال في "الخلاصة":

وَذَاتُ بَدْءٍ بِمُضَارعٍ ثَبَتْ

حَوَتْ ضَمِيرًا وَمِنَ الْوَاوِ خَلَتْ

وَذَاتُ وَاوٍ بَعْدَهَا انْوِ مُبْتَدَا

لَهُ الْمُضَارعَ اجْعَلَنَّ مُسْنَدَا

فتكون الجملة اسميّةً حالًا من ضمير "فتناول"، ويكون من الأحوال المقدّرة، نظير قول الله تعالى:{فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا} [النحل: 29]؛ أي: فتناول ساق يهوديّ؛ ليضربه حال رجوع ذباب سيفه، وإصابته ركبته، والله تعالى أعلم.

(ذُبَابُ سَيْفِهِ) - بضمّ الذال المعجمة، وتخفيف الموحّدتين، بينهما ألف -؛ أي: طَرَفه الأعلى، وقيل: حدّه. (فَأَصَابَ رُكْبَةَ عَامِرٍ)، ولفظ البخاريّ:"فأصاب عينَ ركبة عامر"؛ أي: طرف ركبته الأعلى، (فَمَاتَ مِنْهُ)؛ أي: من ذلك الضرب، وفي رواية يحيى القطان:"فأصيب عامر بسيف نفسه، فمات"، وفي رواية إياس بن سلمة الآتية عند مسلم:"فقَطَعَ أَكْحَلَه، فكانت فيها نفسه"، وفي رواية ابن إسحاق:"فَكَلَمَهُ كَلْمًا شديدًا، فمات منه". (قَالَ: فَلَمَّا قَفَلُوا)؛ أي: رجع المسلمون من خيبر.

قال الجامع عفا الله عنه: رواية مسلم في هذا المحلّ فيها غموضٌ، وأوضح منها رواية البخاريّ، ولفظه:"قال: فلما قفلوا، قال سلمة: رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو آخذ بيدي، قال: ما لك؟ .... إلخ"، فجواب "لَمّا" قوله: "قال سلمة: رآني

إلخ"، وقوله: "وهو آخذ بيدي" جملة حالية من "رسول الله صلى الله عليه وسلم".

ولعلّ المعنى على رواية المصنّف أن "قال سلمة" مؤكّد لـ "قال" في قوله: "قال: فلما قفلوا"، وجواب "لَمّا" محذوف؛ أي: تكلّم الناس في شأن عامر، فقال بعضهم: حَبِطَ عمله، فحَزِنت لذلك.

وقوله: "وَهُوَ آخِذٌ بِيَدِي" من كلام يزيد بن أبي عبيد الراوي عن سلمة؛ أي: قال سلمة لي، والحال أنه آخذ بيدي، والله تعالى أعلم.

وقوله: (قَالَ)؛ أي: سلمة، (فَلَمَّا رَآنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم سَاكِتًا)؛ أي: لا أتكلّم من شدّة حزني.

وفي رواية قُتيبة عند البخاريّ: رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم شَاحِبًا، بمعجمة، ثم

ص: 438

مهملة، وموحّدة؛ أي: متغيّر اللون، وفي رواية إياس عنده:"فأتيت النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأنا أبكي".

(قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("مَا لَكَ؟ ")؛ أي: أي شيء أسكتك؟ (قُلْتُ لَهُ) صلى الله عليه وسلم (فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي) مبتدأ وخبره، (زَعَمُوا)؛ أي: قالوا قولًا لا برهان له، (أَنَّ عَامِرًا حَبِطَ عَمَلُهُ) - بكسر الموحّدة، وتُفْتَح، مبنيًّا للفاعل -، يقال: حَبِطَ العملُ حَبَطًا، من باب تَعِبَ، وحُبُوطًا: فَسَدَ، وَهَدَرَ، وحَبَطَ يَحْبِطُ، من باب ضَرَبَ لغةٌ، وقُرئ بهما في الشواذّ.

وفي رواية إياس: "بطل عمل عامر، قَتَل نفسه"، وعند ابن إسحاق:"فكان المسلمون شَكُّوا فيه، وقالوا: إنما قتله سلاحه".

(قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("مَنْ قَالَهُ؟ "، قُلْتُ: فُلَانٌ، وَفُلَانٌ) قال صاحب "التنبيه": لا أعرفهما، (وَأُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ الأَنْصَارِيُّ) - بتصغير الاسمين - الأشهليّ، أبو يحيى الصحابيّ الشهير، مات رضي الله عنه سنة عشرين، أو بعدها (ع) تقدّمت ترجمته في "الحيض" 3/ 700. (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("كَذَبَ)؛ أي: أخطأ (مَنْ قَالَهُ)؛ أي: قال هذا الكلام، وهو أن عامرًا حَبِط عمله، (إِنَّ) بكسر الهمزة، (لَهُ)؛ أي: لعامر رضي الله عنه (لأَجْرَيْنِ")، ووقع في بعض النسخ:"إن له لأجران"، قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في معظم النسخ: "لأجران" بالألف، وفي بعضها "لأجرين" بالياء، وهما صحيحان، لكن الثاني هو الأشهر الأفصح، والأول لغة أربع قبائل من العرب، ومنه قوله تعالى:{إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ} [طه: 63]، وقد سبق بيانها مرات.

ويَحْتَمِل أن الأجرين ثبتا له؛ لأنه جاهدٌ مجاهدٌ، كما سنوضحه في شرحه، فله أجر بكونه جاهدًا؛ أي: مُجتهدًا في طاعة الله تعالى، شديد الاعتناء بها، وله أجر آخر بكونه مجاهدًا في سبيل الله، فلمّا قام بوصفين، كان له أجران. انتهى.

وفي رواية ابن إسحاق: "إنه لشهيد، وصلّى عليه".

(وَجَمَعَ) صلى الله عليه وسلم (بَيْنَ إِصْبَعَيْهِ) إشارة إلى تأكيد الأجرين، ("إِنَّهُ لَجَاهِدٌ، مُجَاهِدٌ) قال النوويّ رحمه الله: هكذا رواه الجمهور من المتقدمين والمتأخرين: "لَجَاهِدٌ" بكسر الهاء، وتنوين الدال، "مجاهد" بضم الميم، وتنوين الدال

ص: 439

أيضًا، وفسَّروا الجاهد بالجادّ في علمه وعمله؛ أي: إنه لجادّ في طاعة الله، والمجاهد في سبيل الله، وهو الغازي.

وقال القاضي عياض: فيه وجه آخر، وهو أنه جمع اللفظين توكيدًا، قال ابن الأنباريّ: العرب إذا بالغت في تعظيم شيء اشتَقَّت له من لفظه لفظًا آخر على غير بنائه، زيادةً في التوكيد، وأعربوه بإعرابه، فيقولون: جادٌّ مُجِدّ، وليلٌ لائلٌ، وشِعْرٌ شاعرٌ، ونحو ذلك، قال القاضي: ورواه بعض رواة البخاريّ، وبعض رواة مسلم:"لَجَاهَدَ" بفتح الهاء، والدال، على أنه فعل ماض، مَجَاهِدَ بفتح الميم، ونصب الدال، بلا تنوين، قال: والأول هو الصواب، والله أعلم. انتهى.

وقال في "العمدة": قوله: "إن له لأجرين"، وهما أجر الجهد في الطاعة، وأجر المجاهدة في سبيل الله، وقيل: أحدُ الأجرين موته في سبيل الله، والآخر لِمَا كان يحدو به القومَ من شعره، ويدعو الله في ثباتهم عند لقاء عدوهم.

وقوله: "لجاهِدٌ، مُجَاهِدٌ" كلاهما بلفظ اسم الفاعل، الأول من الثلاثيّ، والثاني من المزيد فيه، والمعنى: لَجاهدٌ في الأجر، ومجاهد للمبالغة فيه؛ يعني: مبالغ في سبيل الله، ويروى بلفظ الماضي في الأول، وبلفظ جمع الْمَجْهَدة في الثاني. انتهى

(1)

.

وقال في "الفتح": قوله: "إنه لجاهد مجاهد" كذا للأكثر باسم الفاعل فيهما، وكسر الهاء، والتنوين، والأول مرفوع على الخبر، والثاني تابعٌ للتأكيد، كما قالوا: جَادٌّ مُجِدٌّ، ووقع لأبي ذَر عن الحمويّ، والمستملي: بفتح الهاء، والدال، وكذا ضبطه الباجيّ، قال عياض: والأول هو الوجه، قال الحافظ: يؤيده رواية أبي داود من وجه آخر، عن سلمة:"مات جاهِدًا مُجاهدًا"، قال ابن دريد: رجلٌ جاهِدٌ؛ أي: جادٌّ في أموره، وقال ابن التين: الجاهد مَن يرتكب المشقّة، ومجاهدٌ؛ أي: لأعداء الله تعالى. انتهى

(2)

.

(1)

"عمدة القاري" 22/ 184.

(2)

"الفتح" 9/ 299، كتاب "المغازي" رقم (4196).

ص: 440

(قَلَّ عَرَبِيٌّ مَشَى بِهَا مِثْلَهُ") قال النوويّ رحمه الله: ضبطنا هذه اللفظة هنا في مسلم بوجهين، وذكرهما القاضي أيضًا.

الصحيح المشهور الذي عليه جماهير رواة البخاريّ ومسلم: "مَشَى بها" بفتح الميم، وبعد الشين ياء، وهو فعل ماض من المشي، وبها جار ومجرور، ومعناه: مشى بالأرض، أو في الحرب.

والثاني: مُشابهًا بضم الميم، وتنوين الهاء، من المشابهة؛ أي: مُشابهًا لصفات الكمال في القتال، أو غيره مثلَه، ويكون مشابهًا منصوبًا بفعل محذوف؛ أي: رأيته مشابهًا، ومعناه: قَلَّ عربيّ يشبهه في جميع صفات الكمال.

وضبطه بعض رواة البخاريّ: "نشأ بها" بالنون والهمز؛ أي: شَبَّ، وكَبِرَ، وهاء عائدة إلى الحرب، أو الأرض، أو بلاد العرب، قال القاضي: هذه أوجه الروايات. انتهى

(1)

.

وقال في "الفتح": قوله: "قَلَّ عربيٌّ مَشَى بها مثلُهُ" كذا في هذه الرواية بالميم، والقصر، من المشي، والضمير للأرض، أو المدينة، أو الحرب، أو الخصلة.

قال: ورواه قتيبة بلفظ: "نشأ" بنون، وهمزة، وحَكَى السهيليّ أنه وقع في رواية:"مُشابِهًا" بضم الميم اسم فاعل من الشبه؛ أي: ليس له مشابهٌ في صفات الكمال في القتال، وهو منصوب بفعل محذوف، تقديره: رأيته مشابِهًا، أو على الحال من قوله:"عربيّ"، قال السهيليّ: والحال من النكرة يجوز إذا كان في تصحيح معنى، وقال السهيليّ أيضًا: ورُوِيَ: "قَلَ عربيًّا نشأ بها مثلُهُ" والفاعل "مثلُهُ"، وعربيًّا منصوب على التمييز؛ لأن في الكلام معنى المدح، على حَدِّ قولهم:"عَظُم زيدٌ رجلًا، وقَلَّ زيدٌ أدبًا". انتهى

(2)

.

وقوله: (وَخَالَفَ قُتَيْبَةُ) بن سعيد شيخه الأول (مُحَمَّدًا)؛ أي: ابن عبّاد شيخه الثاني الذي ساق متن الحديث بلفظه كما صرّح به في أول الإسناد، (فِي

(1)

"شرح النوويّ" 12/ 169.

(2)

"الفتح" 9/ 299، كتاب "المغازي" رقم (4196).

ص: 441

الْحَدِيثِ)، وفي بعض النسخ:"من الحديث"، والأولى أوضح. (فِي حَرْفَيْنِ) أحدهما قوله:"شَاحِبًا"، بدل "ساكتًا" في قوله:"رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم ساكتًا"، والثاني قوله:"نشأ بها" بدل قوله: "مشى بها"، وإلى الثاني أشار البخاريّ بعد أن أخرجه عن عبد الله بن مسلمة، عن حاتم بن إسماعيل: بقوله: "حدّثنا قُتيبة، حدّثنا حاتم، قال: نشأ بها". انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي ذكرته من أن المراد بالحرفين اللذين خالف فيهما قتيبةُ محمدَ بن عبّاد الكلمتان المذكورتان هو الأَولى من حمل بعضهم الحرفين على زيادة الياء والنون في قوله: "وألْقِيَن" الآتي بعده، وإطلاق الحرف على مطلق الكلمة سائغ في الاستعمال، فتنبّه.

[تنبيه]: رواية قتيبة التي أشار إليها المصنف أخرجها البخاريّ في "الأدب" من "صحيحه"، فقال:

(6148)

- حدّثنا قتيبة بن سعيد، حدَّثنا حاتم بن إسماعيل، عن يزيد بن أبي عبيد، عن سلمة بن الأكوع، قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خيبر، فَسِرْنا ليلًا، فقال رجل من القوم لعامر بن الأكوع: ألا تُسمِعنا من هُنيهاتك؟ قال: وكان عامر رجلًا شاعرًا، فنزل يحدو بالقوم، يقول:

اللَّهُمَّ لَوْلَا أَنْتَ مَا اهْتَدَيْنَا

وَلَا تَصَدَّقْنَا وَلَا صَلَّيْنَا

فَاغْفِرْ فِدَاءً لَكَ مَا اقْتَفَيْنَا

وَثَبِّتِ الأَقْدَامَ إِنْ لَاقَيْنَا

وَأَلْقِيَنْ سَكِينَةً عَلَيْنَا

إِنَّا إِذَا صِيحَ بِنَا أَتَيْنَا

وَبِالصِّيَاحِ عَوَّلُوا عَلَيْنَا

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من هذا السائق؟ " قالوا: عامر بن الأكوع، فقال:"يرحمه الله"، فقال رجل من القوم: وجبت يا نبي الله، لو أمتعتنا به، قال: فأتينا خيبر، فحاصرناهم، حتى أصابتنا مَخْمَصةٌ شديدةٌ، ثم إن الله فتحها عليهم، فلما أمسى الناس اليوم الذي فتِحت عليهم، أوقدوا نيرانًا كثيرةً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ما هذه النيران؟ على أيّ شيء توقدون؟ " قالوا: على لحم، قال:"على أيّ لحم؟ " قالواة على لحم حُمُرِ إنسيّة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أهرقوها، واكسروها"، فقال رجل: يا رسول الله، أو نهريقها، ونغسلها؟ قال:"أو ذاك"، فلما تصافّ القوم، كان سيف عامر فيه قِصَرٌ، فتناول به يهوديًّا

ص: 442

ليضربه، ويرجعُ ذُباب سيفه، فأصاب ركبة عامر، فمات منه، فلما قفلوا، قال سلمة: رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم شَاحِبًا، فقال لي:"ما لك؟ " فقلت: فِدًى لك أبي وأمي، زعموا أن عامرًا حَبِطَ عمله، قال:"من قاله؟ " قلت: قاله فلان، وفلان، وفلان، وأُسيد بن الْحُضير الأنصاريّ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"كَذَب من قاله، إن له لأجرين" - وجَمَع بين إصبعيه - "إنه لجاهدٌ، مجاهدٌ، قَلَّ عربيّ نشأ بها مثلُهُ". انتهى

(1)

.

وقوله: (وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّادٍ)؛ أي: محمد بن عبّاد شيخه الثاني، (وَأَلْقِ سَكِينَةً عَلَيْنَا) لكنه غير موافق للوزن، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه هذا مُتّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [41/ 4659 و 4660](1802)، وسيأتي في "كتاب الصيد والذبائح" بعد الحديث رقم (1939)، و (البخاريّ) في "المظالم"(2477) و"المغازي"(4196) و"الذبائح والصيد"(5497) و"الأدب"(6148) و"الدعوات"(6331) و"الديات"(6891)، و (أبو داود) في "الجهاد"(2176)، و (النسائيّ) في "الجهاد"(3151)، و (ابن ماجه) في "الجهاد"(3195)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 47 و 48 و 50)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 314 و 355)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(7/ 32) و"الأوسط"(1/ 78)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(4/ 206)، و (ابن حزم) في "المحلّى"(1/ 108)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان جواز إنشاء الأراجيز وغيرها من الشِّعر، وسماعها، ما لم يكن فيه كلام مذموم، ففي حديث عائشة رضي الله عنها قالت: "سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم

(1)

"صحيح البخاريّ" 5/ 2277.

ص: 443

عن الشعر، فقال:"هو كلامٌ، فحسنه حسنٌ، وقبيحه قبيح"

(1)

.

2 -

(ومنها): استحباب الْحُداء في الأسفار؛ لتنشيط النفوس، والدوابّ على قطع الطريق، وإشغالها بسماعه عن الإحساس بألم السير.

3 -

(ومنها): بيان حكم من قاتل في سبيل الله، ثم ارتدّ عليه سيفه، فقتله، وهو أنه لا ينقص ذلك من أجره شيئًا، بل له أجره كاملًا.

4 -

(ومنها): بيان فضل عامر بن الأكوع رضي الله عنه، حيث شَهِد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه مات جاهدًا مُجاهدًا رضي الله عنه.

5 -

(ومنها): الإنكار على من أخطأ رأيه الصواب، والردّ عليه بالتكذيب، بمعنى التخطئة.

6 -

(ومنها): جواز استعمال الإشارة توضيحًا للمقصود، فقد أشار صلى الله عليه وسلم بإصبعيه إلى مضاعفة أجر عامر رضي الله عنه.

7 -

(ومنها): ما قاله النوويّ رحمه الله: هذا الحديث يدلّ على نجاسة لحوم الحمر الأهلية، وهو مذهبنا، ومذهب الجمهور، وقد سبق بيان هذا الحديث، وشرحه مع بيان هذه المسألة في "كتاب النكاح"، ومختصرُ الأمر بإراقته أن السبب الصحيح فيه أنه أمر بإراقتها؛ لأنها نجسة محرّمة، والثاني: أنه نهى للحاجة إليها، والثالث: لأنهم أخذوها قبل القسمة، وهذان التأويلان هما لأصحاب مالك، القائلين بإباحة لحومها، والصواب ما قدمناه. انتهى

(2)

.

8 -

(ومنها): وجوب غسل الإناء الذي طُبخت به النجاسة، قال ابن الجوزيّ رحمه الله: أراد النبيّ صلى الله عليه وسلم التغليظَ عليهم في طبخهم ما نُهِي عن أكله، فلما رأى إذعانهم اقتَصَر على غسل الأواني، وفيه ردٌّ على من زَعَم أن دِنَان الخمر لا سبيل إلى تطهيرها؛ لِمَا يداخلها من الخمر، فإن الذي داخل القدور من

(1)

رواه أبو يعلى في "مسنده" 8/ 200، والدارقطنيّ في "سننه" 4/ 155 - 156، والبيهقيّ في "الكبرى" 10/ 239، وذكره الهيثميّ في "مجمع الزوائد"، وعزاه لأبي يعلى، وقال: فيه عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان، وثقه جماعة، وضعّفه ابن معين، وغيره، وبقيّة رجاله رجال الصحيح، وحسّنه الشيخ الألبانيّ.

(2)

"شرح النوويّ" 12/ 168.

ص: 444

الماء الذي طُبخت به الخمر يُطَهِّره، وقد أَذِنَ صلى الله عليه وسلم في غسلها، فدَلّ على إمكان تطهيرها. انتهى

(1)

.

9 -

(ومنها): بركة دعاء النبيّ صلى الله عليه وسلم حيث قال لعامر بن الأكوع رضي الله عنه: "يرحمه الله"، فاستُشهد بذلك.

10 -

(ومنها): ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم من اعتقادهم في النبيّ صلى الله عليه وسلم، واستيقانهم أن الله عز وجل يستجيب دعاءه، فإنهم لَمّا سمعوا منه قوله:"يرحمه الله" قالوا: لولا أمتعتنا به؛ لِعِلْمهم أن دعاءه مستجاب، وأنه سيُستشهد في تلك الغزوة، فتمنّوا عدم دعائه له بذلك حتى يعيش معهم، ويقاتل الأعداء في المعارك القادمة، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4660]

(. . .) - (وَحَدَّثَني أبو الطَّاهِر، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ - وَنَسَبَهُ غَيْرُ ابْنِ وَهْبٍ، فَقَالَ: ابْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ - أَنَّ سَلَمَةَ بْنَ الأَكْوَعِ قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ خَيْبَرَ قَاتَلَ أخِي قِتَالًا شَدِيدًا، مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَارْتَدَّ عَلَيْهِ سَيْفُهُ، فَقَتَلَهُ، فَقَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي ذَلِكَ، وَشَكُوا فِيهِ: رَجُلٌ مَاتَ فِي سِلَاحِه، وَشَكُّوا فِي بَعْضِ أَمْرِه، قَالَ سَلَمَةُ: فَقَفَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ خَيْبَرَ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله، ائْذَنْ لِي أَنْ أَرْجُزَ لَكَ

(2)

، فَأَذِنَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: اِعْلَمْ مَا تَقُولُ، قَالَ: فَقُلْتُ:

وَاللهِ لَوْلَا اللهُ مَا اهْتَدَيْنَا

وَلَا تَصَدَّقْنَا وَلَا صَلَّيْنَا

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "صَدَقْتَ".

وَأَنْزِلَنَّ سَكِينَةً عَلَيْنَا

وَثَبِّتِ الأقدَامَ إِنْ لَاقَيْنَا

وَالْمُشْرِكُونَ قَدْ بَغَوْا عَلَيْنَا

قَالَ: فَلَمَّا قَضَيْتُ رَجَزِي، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"مَنْ قَالَ هَذَا؟ "، قُلْتُ: قَالَهُ

(1)

راجع: "الفتح" 6/ 299 - 300، كتاب "المظالم" رقم (2477).

(2)

وفي نسخة: "ائذن لي أرجُز لك".

ص: 445

أَخِي، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"يَرْحَمُهُ اللهُ"، قَالَ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله، إِن نَاسًا

(1)

لَيَهَابُونَ الصَّلَاةَ عَلَيْه، يَقُولُونَ: رَجُلٌ مَاتَ بِسِلَاحِه، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"مَاتَ جَاهِدًا، مُجَاهِدًا"، قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: ثُمَّ سَأَلْتُ ابْنًا لِسَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَع، فَحَدَّثَنِي عَنْ أَبِيه، مِثْلَ ذَلِكَ، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ - حِينَ قُلْتُ: إِنَّ نَاسًا يَهَابُونَ الصَّلَاةَ عَلَيْهِ -: فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "كَذَبُوا، مَاتَ جَاهِدًا، مُجَاهِدًا، فَلَهُ أَجْرُهُ مَرَّتَيْنِ"، وَأَشَارَ بإِصبَعَيْهِ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(أَبُو الطَّاهِرِ) أحمد بن عمرو بن السرح المصريّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(ابْنُ وَهْبٍ) هو: عبد الله، تقدّم أيضًا قريبًا.

3 -

(يُونُسُ) بن يزيد الأيليّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

4 -

(ابْنُ شِهَابٍ) محمد بن مسلم، تقدّم أيضًا قريبًا.

5 -

(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ) الأنصاريّ، أبو الخطّاب المدنيّ، ثقةٌ فقيهٌ [3] مات في خلافة هشام بن عبد الملك (خ م دس) تقدم في "صلاة المسافرين وقصرها" 13/ 1659.

و"سَلَمَةَ بْنَ الأَكْوَعِ" رضي الله عنه ذُكر قبله.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من سُداسيّات المصنّف، وأن نصفه الأول مسلسلٌ بالمصريين، والثاني بالمدنيين، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ.

وقوله: (وَنَسَبَهُ غَيْرُ ابْنِ وَهْبٍ. . . إلخ) قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في جميع نسخ "صحيح مسلم"، وهو صحيحٌ، وهذا من فضائل مسلم، ودقيق نظره، وحسن خِبْرته، وعظيم إتقانه، وسببُ هذا أن أبا داود، والنسائيّ، وغيرهما من الأئمة، رووا هذا الحديث بهذا الإسناد، عن ابن شهاب، قال: أخبرني عبد الرحمن، وعبد الله بن كعب بن مالك، عن سلمة، قال أبو داود: قال أحمد بن صالح: الصواب: عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب،

(1)

وفي نسخة: "والله إن ناسًا".

ص: 446

وأحمد بن صالح هذا هو شيخ أبي داود في هذا الحديث، وغيره، وهو راويه عن ابن وهب، قال الحفاظ: والوَهْم في هذا من ابن وهب، فجَعَل عبد الله بن كعب راويًا عن سلمة، وليس هو كذلك، بل عبد الرحمن يرويه عن سلمة، وإنما عبد الله والده، فذكر في نسبه؛ لأن له روايةً في هذا الحديث، فاحتاط مسلم رحمه الله، فلم يذكر في روايته عبد الرحمن، وعبد الله، كما رواه ابن وهب، بل اقتصر على عبد الرحمن، ولم ينسبه؛ لأن ابن وهب لم ينسبه، وأراد مسلم تعريفه، فقال: قال غير ابن وهب: هو عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب، فحَصَل تعريفه من غير إضافة للتعريف إلى ابن وهب، وحَذَف مسلم ذِكْر عبد الله من رواية ابن وهب، وهذا جائز، فقد اتَّفَقَ العلماء على أنه إذا كان الحديث عن رجلين، كان له حَذْف أحدهما، والاقتصار على الآخر، فأجازوا هذا الكلام، إذا لم يكن عُذْر، فإذا كان عُذْر بأن كان ذُكِر ذلك المحذوف غَلَطًا، كما في هذه الصورة، كان الجواز أَولى. انتهى كلام النوويّ

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: وقد نبّه النسائيّ أيضًا على هذا الغلط، فقال في "الكبرى": قال أبو عبد الرحمن: وهذا عندنا خطأٌ، والصواب: عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب، عن سلمة بن الأكوع، والله أعلم. انتهى

(2)

.

وقال الحافظ أبو عليّ الجيّانيّ في "التقييد" بعد أن ذكر كلام مسلم المذكور هنا ما نصّه: قال أبو عليّ: كان ابن وهب يَهِمُ في إسناد هذا الحديث، فيقول: عن الزهريّ، عن عبد الرحمن، وعبد الله ابنَي كعب، فغيّره مسلم، وأصلحه، ولذلك قال: نسبه غير ابن وهب، هكذا قال أحمد بن صالح وغيره عن ابن وهب.

حدّثناه حَكَم بن محمد، قال: نا أبو بكر بن إسماعيل، قال: نا محمد بن زبان، قال: نا أبو الطاهر، قال أبو بكر: وحدّثنا عليّ بن أحمد علان، نا عَمْرو بن سَوَّاد، قالا: أنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، قال: أخبرني عبد الرحمن وعبد الله ابنا كعب، أن سلمة بن الأكوع قال: لَمّا كان يوم خيبر، وذكر تمام الخبر.

(1)

"شرح النوويّ" 12/ 169 - 170.

(2)

"السنن الكبرى" 6/ 136.

ص: 447

قال أبو الحسن الدارقطنيّ: خالف ابن وهب في هذا القاسم بن مبرور، رواه عن يونس بن يزيد، عن الزهريّ، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك، عن سلمة بن الأكوع، قال: وهذا هو الصواب.

قال أبو علي: وقد نبّه أبو داود في "كتاب السنن" على وَهْم ابن وهب في هذا الإسناد، وكذلك فعَلَ أبو عبد الرحمن النسائيّ، وذكر الصواب في ذلك. انتهى كلام الجيّانيّ رحمه الله

(1)

، وهو تحقيق نفيسٌ، والله تعالى أعلم.

قوله: (لَمَّا كَانَ يَوْمُ خَيْبَرَ)"كان" هنا تامّة، و"يوم" مرفوع على الفاعليّة؛ أي: جاء يومُ خيبر.

وقوله: (قَاتَلَ أَخِي. . . إلخ) تقدّم أنه عمه، قال الحافظ في "الإصابة": يمكن التوفيق بأن يكون أخاه من أمّه على ما كانت الجاهلية تفعله، أو من الرضاعة. انتهى

(2)

.

وقوله: (فَقَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي ذَلِكَ)؛ أي: في شأن قتل عامر نفسه بنفسه.

وقوله: (وَشَكُّوا فِيهِ) بتشديد الكاف، والجملة معترضة بين القول ومقوله، ويَحْتَمِل أن تكون حاليّةً؛ أي: والحال أنهم شكّوا في صحّة شهادته.

وقوله: (رَجُلٌ مَاتَ فِي سِلَاحِهِ) خبر لمحذوف؛ أي: هو رجل. . . إلخ، و"في" بمعنى الباء، ولفظ النسائيّ:"مات بسلاحه"، والجملة في محلّ نصب مقول القول؛ أي: قالوا: هو رجلٌ مات بسبب ضربه نفسَهُ بسلاحه.

وقوله: (وَشَكُّوا في بَعْضِ أَمْرِهِ) تأكيد لِمَا قبله.

وقوله: (أَنْ أَرْجُزَ لَكَ) وفي بعض النسخ: "ائذن لي أَرْجُزْ لك"، وللنسائيّ:"أن أرتجز بك"، والمعنى: أُنشِد عندك شِعرًا من بحر الرَّجَز؛ لتنشيط الجمال ونحوه، والرجز: نوع من البحور الشعريّة الستّة عشر بحرًا المعروفة في "فنّ العَروض والقافية"، وأجزاؤه "مستفعلن" ستّ مرّات.

(1)

"تقييد المهمل" 3/ 880 - 882.

(2)

"الإصابة في تمييز الصحابة" 5/ 280 - 281.

ص: 448

وقوله: (فَأَذِنَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) فيه التفات؛ إذ الظاهر أن يقول: فَأذن لي رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقوله: (فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: اعْلَمْ مَا تَقُولُ) أمرٌ من علِم يَعْلَم، فهمْزتُه وصل، والمعنى: تثبّت فيما تقوله عنه صلى الله عليه وسلم، فإنّه مما ينبغي التثبّت له، فإن قول الشعر أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس أمرًا هيّنًا، هذا هو الذي يظهر لي من معنى هذه العبارة.

ونظير هذا ما تقدّم في "كتاب الصلاة" من قول عمر بن عبد العزيز لعروة بن الزبير لَمّا قال له عروة: أمَا إن جبريل قد نزل، فصَلّى إمام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له عمر:"اعْلَمْ ما تقول يا عروة. . . إلخ"، فمعناه: تأكّد وتثبّت مما تُحدّث به، فإن هذا الأمر مهمّ.

وذكر بعض الشرّاح

(1)

أن قوله: "أَعْلَمُ" بصيغة المضارع للمتكلّم، ومعناه: أعلم أنا ما تقول، وتُنشد يا سلمة إلى آخر ما قاله، وهذا عندي بعيد مما عُرف من سيرة عمر رضي الله عنه أنه كان كثيرًا ما يُنكر إنشاد الشعر أمامه صلى الله عليه وسلم، وكذا في المساجد، فالصواب هنا حَمْله على الإنكار، لا على الإقرار.

وقد ثبت إنكاره؛ لإنشاد الشعر في مواطن أخرى، فقد أخرج الشيخان عن أبي هريرة: أن عمر مَرّ بحسّان، وهو يُنشد الشعر في المسجد، فَلَحَظ إليه، فقال: قد كنت أُنشد، وفيه من هو خير منك، ثم التفت إلى أبي هريرة، فقال: أنشدك الله، أسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"أَجِبْ عني، اللهم أيّده بروح القدس"، قال: اللهمّ نعم.

وأخرج النسائيّ وغيره، وصحّحه ابن خزيمة، عن أنس رضي الله عنه قال: دخل النبيّ صلى الله عليه وسلم مكة في عمرة القضاء، وابنُ رواحة بين يديه يقول:

خَلُّوا بَنِي الْكُفَّارِ عَنْ سَبِيلِهِ

الَيَوْمَ نَضْرِبْكُمْ عَلَى تَنْزِيلِهِ

ضَرْبًا يُزِيلُ الْهَامَ عَنْ مَقِيْلِهِ

وَيُذْهِلُ الْخَلِيلَ عَنْ خَلِيلِهِ

فقال عمر: يا ابن رواحة، أفي حرم الله، وبين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم تقول هذا الشعر؟ فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "خَلِّ عنه يا عمر، فوالذي نفسي بيده، لكلامه

(1)

هو صاحب "تكملة فتح الملهم"، وتبعه الشيخ الهرري.

ص: 449

أشدّ عليهم من وقع النَّبْل". انتهى

(1)

.

فبهذا يتبيّن أن الصواب في قول عمر هنا "اعلم" أنه بصيغة الأمر، وأن مراده الإنكار؛ لإنشاده الشعر أمامه صلى الله عليه وسلم، وأنه لا ينبغي أن يقوله؛ لأنه في نَظَره ليس من الأمور المستحسَنة التي تقال عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتأمله بالإمعان، والله تعالى وليّ التوفيق.

وقوله: ("يَرْحَمُهُ اللهُ") دعاء من النبيّ صلى الله عليه وسلم لعامر بأن يرحمه الله تعالى؛ مكافأةً على إحسانه بهذا الرجز المتضمّن للمعاني السامية.

وقوله: (فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله، إِنَّ نَاسًا) وفي نسخة: "والله إن ناسًا".

وقوله: (لَيَهَابُونَ الصَّلَاةَ عَلَيْهِ)؛ أي: ليخافون أن يترحّموا عليه، وَيدْعُوا له بالرحمة والمغفرة، أو هابوا أن يصلّوا عليه صلاة الجنازة يوم مات، فالمضارع بمعنى الماضي، وعلى الثاني ففيه دليل لمن يقول: يُصلَّى على الشهيد، وقد تقدّم تحقيق الخلاف في ذلك في موضعه من "كتاب الجنائز"، ولله الحمد والمنّة.

وقوله: (يَقُولُونَ)؛ أي: في بيان سبب هيبتهم من الصلاة عليه.

وقوله: (رَجُلٌ مَاتَ بِسِلَاحِهِ)؛ أي: فلا يستحقّ الصلاة عليه؛ لكونه قَتَل نَفْسَه بزعمهم.

وقوله: (قَالَ ابْنُ شِهَابٍ) محمد بن مسلم الزهريّ الراوي عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك في هذا السند.

وقوله: (ثُمَّ سَأَلْتُ ابْنًا لِسَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ) قال صاحب "التنبيه": لا أعرفه. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: ويَحْتَمِل أن يكون إياس بن سلمة، والله تعالى أعلم.

وقوله: (حَدَّثَني عَنْ أَبِيه، مِثْلَ ذَلِكَ)؛ أي: مثل ما حدّثني عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب.

(1)

"السنن الكبرى" للنسائيّ 2/ 388.

(2)

"تنبيه المعلم" ص 316.

ص: 450

وقوله: (وَأَشَارَ بِإِصْبَعَيْهِ)؛ أي: تأكيدًا لثبوت الأجر مرّتين، بموته جاهدًا في طاعة الله تعالى، ومجاهدًا أعداء الله في سبيل الله تعالى.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، ولله الحمد والمنّة.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(42) - (بَابُ غَزْوَةِ الأَحْزَاب، وَهِيَ الْخَنْدَقُ)

" الأحزاب": جمع حزب، وهو الجماعة من الناس، والجملة من الشيء. وتحزب الناس: اجتمعوا، والحزب من القرآن: جملة مجتمعة منه، ويوم الأحزاب عبارة عن غزوة الأحزاب، وهي غزوة الخندق

(1)

.

قال العلّامة ابن القيّم رحمه الله: وكانت غزوة الأحزاب في سنة خمس من الهجرة في شوال، على أصح القولين؛ إذ لا خلاف أن أُحُدًا كانت في شوال سنة ثلاث، وواعد المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم في العام المقبل، وهو سنة أربع، ثم أخلفوه لأجل جَدْب تلك السنة، فرجعوا، فلما كانت سنة خمس جاءوا لحربه، هذا قول أهل السير والمغازي.

وخالفهم موسى بن عقبة، وقال: بل كانت سنة أربع، قال أبو محمد بن حزم: وهذا هو الصحيح الذي لا شكّ فيه، واحتَجَّ عليه بحديث ابن عمر رضي الله عنهما في "الصحيحين" أنه عُرِض على النبيّ صلى الله عليه وسلم يوم أُحد، وهو ابن أربع عشرة سنة، فلم يُجزه، ثم عُرِض عليه يوم الخندق، وهو ابن خمس عشرة سنة، فأجازه، قال: فصَحَّ أنه لم يكن بينهما إلا سنة واحدة.

قال ابن القيّم: وأجيب عن هذا بجوابين:

[أحدهما]: أن ابن عمر رضي الله عنهما أخبر أن النبيّ صلى الله عليه وسلم رَدّه لَمّا استصغره عن القتال، وأجازه لمّا وصل إلى السنّ التي رآه فيها مطيقًا، وليمس في هذا ما ينفي تجاوزها بسنة أو نحوها.

(1)

"المفهم" 3/ 643.

ص: 451

[الثاني]: أنه لعله كان يوم أُحد في أول الرابعة عشرة، ويوم الخندق في آخر الخامسة عشرة.

وكان سبب غزوة الخندق أن اليهود لمّا رأوا انتصار المشركين على المسلمين يوم أُحُد، وعلموا بميعاد أبي سفيان لغزو المسلمين، فخرج لذلك، ثم رجع للعام المقبل، خرج أشرافهم، كسَلّام بن أبي الْحُقَيق، وسَلَّام بن مِشْكَم، وكِنانة بن الربيع، وغيرهم إلى قريش بمكة، يُحَرِّضونهم على غزو رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويؤلّبونهم عليه، ووعدوهم من أنفسهم بالنصر لهم، فأجابتهم قريش، ثم خرجوا إلى غَطَفان، فدعوهم، فاستجابوا لهم، ثم طافوا في قبائل العرب يدعونهم إلى ذلك، فاستجاب لهم من استجاب، فخرجت قريش، وقائدهم أبو سفيان في أربعة آلاف، ووافتهم بنو سُلَيم بِمَرّ الظَّهْران، وخرجت بنو أسد، وفزارة، وأشجع، وبنو مُرّة، وجاءت غطفان، وقائدهم عُيينة بن حِصْن، وكان مَن وافى الخندق من الكفار عشرة آلاف.

فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمسيرهم إليه استشار الصحابة رضي الله عنهم، فأشار عليه سلمان الفارسيّ رضي الله عنه بحفر خندق يحول بين العدوّ وبين المدينة، فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبادر إليه المسلمون، وعَمِل بنفسه فيه، وبادروا هجومَ الكفار عليهم، وكان في حفره من آيات نبوّته صلى الله عليه وسلم، وأعلام رسالته ما قد تواتر الخبر به، وكان حَفْر الخندق أمام سَلْع، وسَلْعٌ: جبل خلف ظهور المسلمين، والخندق بينهم وبين الكفار، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثة آلاف من المسلمين، فتحصن بالجبل من خلفه، وبالخندق أمامهم.

وقال ابن إسحاق: خرج في سبعمائة، قال ابن القيّم: وهذا غَلَطٌ من خروجه يوم أُحد. وأمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بالنساء، والذراريّ، فجُعلوا في آطام المدينة، واستَخْلَف عليها ابن أم مكتوم.

وانطلق حُيَيّ بن أخطب إلى بني قريظة، فدنا من حصنهم، فأبى كعب بن أسد أن يفتح له، فلم يزل يكلمه حتى فتح له، فلما دخل عليه، قال: لقد جئتك بعزّ الدهر، جئتك بقريش، وغطفان، وأسد، على قادتها لحرب محمد، قال كعب: جئتني والله بذُلّ الدهر، وبِجَهَامٍ

(1)

قد هراق ماؤه، فهو يرعد،

(1)

هو السحاب الرقيق الذي لا ماء فيه.

ص: 452

ويبرق، ليس فيه شيء، فلم يزل به حتى نقض العهد الذي بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودخل مع المشركين في محاربته، فَسُرّ بذلك المشركون، وشَرَط كعب على حُيَيّ أنه إن لم يظفروا بمحمد أن يجيء حتى يدخل معه في حصنه، فيصيبه ما أصابه، فأجابه إلى ذلك، ووفّى له به، وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر بني قريظة، ونَقْضهم للعهد، فبَعَث إليهم السعدين، وخَوَّات بن جُبير، وعبد الله بن رواحة؛ ليعرفوا هل هم على عهدهم، أو قد نقضوه؟ فلما دَنَوْا منهم، فوجدوهم على أخبث ما يكون، وجاهروهم بالسبّ، والعداوة، ونالوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانصرفوا عنهم، ولَحَنُوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لَحْنًا يخبرونه أنهم قد نقضوا العهد، وغَدَروا، فعَظُم ذلك على المسلمين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك:"الله أكبر، أبشروا يا معشر المسلمين"، واشتدّ البلاء، ونجم النفاق، واستأذن بعض بني حارثة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الذهاب إلى المدينة، وقالوا:{إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا} [الأحزاب: 13]، وَهَمَّ بنو سَلِمَة بالفَشَل، ثم ثَبَّت الله الطائفتين، وأقام المشركون محاصرين رسول الله صلى الله عليه وسلم شهرًا، ولم يكن بينهم قتال؛ لأجل ما حال الله به من الخندق بينهم وبين المسلمين، إلا أن فوارس من قريش، منهم عمرو بن عبد وَدّ، وجماعة معه أقبلوا نحو الخندق، فلمّا وقفوا عليه قالوا: إن هذه مكيدة ما كانت العرب تعرفها، ثم تيمَّموا مكانا ضَيِّقًا من الخندق، فاقتحموه، وجالت بهم خيلهم في السبخة بين الخندق وسلع، وَدَعَوْا إلى الْبِرَاز، فانتدب لعمرو عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، فبارزه، فقتله الله على يديه، وكان من شجعان المشركين، وأبطالهم، وانهزم الباقون إلى أصحابهم، وكان شعار المسلمين يومئذ:"حم لا ينصرون".

ولما طالت هذه الحال على المسلمين أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصالح عُيينة بن حِصْن، والحارث بن عوف رئيسي غطفان على ثلث ثمار المدينة، وينصرفا بقومهما، وَجَرَت المراوضة على ذلك، فاستشار السَّعْدَين في ذلك، فقالا: يا رسول الله إن كان الله أمَرك بهذا فسمعًا وطاعةً، وإن كان شيئًا تصنعه لنا، فلا حاجة لنا فيه، لقد كنا نحن، وهؤلاء القوم على الشرك بالله، وعبادة الأوثان، وهم لا يَطمعون أن يأكلوا منها ثمرة، إلا قِرَى، أو بَيْعًا، فحين

ص: 453

أكرمنا الله بالإسلام، وهدانا له، وأعزّنا بك، نعطيهم أموالنا؟ والله لا نعطيهم إلا السيف، فَصَوَّب رأيهما، وقال:"إنما هو شيء أصنعه لكم؛ لمّا رأيت العرب قد رَمَتكم عن قَوْسٍ واحدة".

ثم إن الله عز وجل وله الحمد - صنع أمرًا من عنده خَذَل به العدوّ، وهَزَم جموعهم، وفَلّ حَدَّهم، فكان مما هيأ من ذلك أن رجلًا من غطفان، يقال له نعيم بن مسعود بن عامر رضي الله عنه جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إني قد أسلمت، فَمُرْني بما شئت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إنما أنت رجل واحد، فَخَذِّل عنّا ما استطعت، فإن الحرب خُدْعة"، فذهب من فوره ذلك إلى بني قريظة، وكان عَشِيرًا لهم في الجاهلية، فدخل عليهم، وهم لا يعلمون بإسلامه، فقال: يا بني قريظة إنكم قد حاربتم محمدًا، وإن قريشًا إن أصابوا فُرْصةً انتهزوها، وإلا انشمروا إلى بلادهم راجعين، وتركوكم ومحمدًا، فانتقم منكم، قالوا: فما العمل يا نعيم؟ قال: لا تقاتلوا معهم حتى يعطوكم رهائن، قالوا: لقد أشرت بالرأي، ثم مضى على وجهه إلى قريش، فقال لهم: تعلمون وُدِّي لكم، ونُصحي لكم، قالوا: نعم، قال: إن يهود قد نَدِمُوا على ما كان منهم، من نقض عهد محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وإنهم قد راسلوه أنهم يأخذون منكم رهائن، يدفعونها إليه، ثم يمالئونه عليكم، فإن سألوكم رهائن، فلا تعطوهم، ثم ذهب إلى غطفان، فقال لهم مثل ذلك، فلما كان ليلة السبت من شوال، بعثوا إلى اليهود: إنا لسنا بأرض مُقام، وقد هلك الكُراع، والْخُفّ، فانهضوا بنا حتى نناجز محمدًا، فأرسل إليهم اليهود: إن اليوم يوم السبت، وقد علمتم ما أصاب مَن قبلنا حين أحدثوا فيه، ومع هذا، فإنا لا نقاتل معكم، حتى تبعثوا إلينا رهائن، فلما جاءتهم رسلهم بذلك، قالت قريش: صدقكم والله نعيم، فبعثوا إلى يهود: إنا والله لا نرسل إليكم أحدًا، فاخرجوا معنا حتى نناجز محمدًا، فقالت قريظة: صدقكم والله نعيم، فتخاذل الفريقان، وأرسل الله على المشركين جندًا من الريح، فجعلت تُقَوِّض خيامهم، ولا تَدَع لهم قِدْرًا إلا كفأتها، ولا طُنُبًا إلا قلعته، ولا يَقِرّ لهم قرار، وجُنْد الله من الملائكة يزلزلونهم، ويُلقون في قلوبهم الرعب والخوف، وأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم حذيفة بن اليمان يأتيه بخبرهم، فوجدهم على هذه الحال، وقد تهيئوا للرحيل،

ص: 454

فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره برحيل القوم، فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد رَدّ الله عدوّه بغيظهم لم ينالوا خيرًا، وكفاه الله قتالهم، فصدق وعدَه، وأعزّ جنده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، فدخل المدينة، ووضع السلاح، فجاءه جبريل عليه السلام، وهو يغتسل في بيت أمّ سلمة، فقال: أوضعتم السلاح؟ إن الملائكة لم تضع بعدُ أسلحتها، انهض إلى غزوة هؤلاء - يعني: بني قريظة - فنادى رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَن كان سامعًا مطيعًا، فلا يصلينّ العصر إلا في بني قريظة"، فخرج المسلمون سراعًا، وكان من أمْره وأمْر بني قريظة ما قدَّمناه، واستُشهد يوم الخندق، ويوم قريظة، نحو عشرة من المسلمين، والله تعالى أعلم

(1)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4661]

(1803) - (حَدَّثنا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ - وَاللَّفْظُ لِابْنِ الْمُثَنَّى - قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، قَالَ: سَمِعْتُ الْبَرَاءَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الأَحْزَابِ يَنْقُلُ مَعَنَا التُّرَابَ، وَلَقَدْ وَارَى التُّرَابُ

(2)

بَيَاضَ بَطْنِه، وَهُوَ يَقُولُ:

"وَاللهِ لَوْلَا أَنْتَ مَا اهْتَدَيْنَا

وَلَا تَصَدَّقْنَا وَلَا صَلَّيْنَا

فأَنْزِلَنْ سَكِينَةً عَلَيْنَا

إِنَّ الأُلَى قَدْ أَبَوْا عَلَيْنَا

قَالَ: وَرُبَّمَا قَالَ:

إِنَّ الْمَلَا قَدْ أَبَوْا عَلَيْنَا

إِذَا أَرَادُوا فِتْنَةً أَبَيْنَا"

وَيَرْفَعُ بِهَا صَوْتَهُ).

رجال هذا الإسناد: ستّةٌ:

1 -

(الْبَرَاءُ) بن عازب بن الحارث بن عديّ الأنصاريّ الأوسيّ الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، مات سنة (72)(ع) تقدم في "الإيمان" 35/ 244.

والباقون تقدّموا قبل ثلاثة أبواب، و"أبو إسحاق" هو: عمرو بن عبد الله السَّبِيعيّ الكوفيّ.

(1)

"زاد المعاد في هدي خير العباد" 3/ 269 - 275.

(2)

وفي نسخة: "وقد وارى التراب".

ص: 455

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسلٌ بالبصريين إلى شعبة، والباقيان كوفيّان، وأن شيخيه كلاهما من التسعة الذين اتفق أصحاب الكتب الستّة بالرواية عنهم بلا واسطة، وقد تقدّموا غير مرّة.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ) عمرو بن عبد الله السَّبِيعيّ، أنه (قَالَ: سَمِعْتُ الْبَرَاءَ) رضي الله عنه (قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الأَحْزَابِ)؛ أي: يوم تجمّع الأحزاب، كما أخبر الله عز وجل به بقوله:{إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ} الآية [الأحزاب: 10]، قالت عائشة رضي الله عنها: كان ذلك يوم الخندق.

وأخرج ابن مردويه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ} قال: عيينة بن حِصْن، {وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ} أبو سفيان بن حرب.

وبَيَّن ابن إسحاق في "المغازي" صفة نزولهم، قال: نزلت قريش بِمُجْتَمَع السيول في عشرة آلاف من أحابيشهم، ومن تبعهم من بني كنانة، وتهامة، ونزل عيينة في غَطَفان، ومن معهم من أهل نجد إلى جانب أُحُد، بباب نعمان، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمسلمون حتى جعلوا ظهورهم إلى سَلْع، في ثلاثة آلاف، والخندق بينه وبين القوم، وجعل النساء والذراريّ في الآطام، قال: وتوجه حُيَيّ بن أخطب إلى بني قُريظة، فلم يزل بهم، حتى غَدَروا، وبلغ المسلمين غَدْرُهم، فاشتد بهم البلاء، فأراد النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يعطي عيينة بن حِصْن، ومن معه ثلث ثمار المدينة، على أن يرجعوا، فمنعه من ذلك سعد بن معاذ، وسعد بن عُبادة، وقالا: كنا نحن وَهُمْ على الشرك لا يطمعون منا في شيء من ذلك، فكيف نفعله بعد أن أكرمنا الله عز وجل بالإسلام؟ وأعزَّنا بك، نعطيهم أموالنا؟، ما لنا بهذا من حاجة، ولا نعطيهم إلا السيف، فاشتد بالمسلمين الحصار، حتى تكلم مُعَتِّب بن قُشير، وأوس بن قَيْظِيّ، وغيرهما من المنافقين بالنفاق، وأنزل الله تعالى:{وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا (12)} الآيات [الأحزاب: 12]، قال: وكان الذين

ص: 456

جاءوهم من فوقهم: بنو قريظة، ومن أسفل منهم: قريش، وغطفان، قال ابن إسحاق في روايته: ولم يقع بينهم حرب، إلا مُراماة بالنبل، لكن كان عمرو بن عَبْد وَدّ العامريّ اقتحم هو ونَفَر معه خيولهم، من ناحية ضَيِّقة من الخندق، حتى صاروا بالسَّبَخَة، فبارزه عليّ، فقتله، وبرز نوفل بن عبد الله بن المغيرة المخزوميّ، فبارزه الزبير، فقتله، ويقال: قتله عليّ، ورجعت بقية الخيول منهزمةً.

ورَوَى البيهقيّ في "الدلائل" من طريق زيد بن أسلم، أن رجلًا قال لحذيفة: أدركتم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم ندركه، فقال: يا ابن أخي، والله لا تدري، لو أدركته، كيف تكون؟ لقد رأيتنا ليلة الخندق، في ليلة باردة مطيرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من يذهبُ، فيَعْلَم لنا علم القوم، جعله الله رفيق إبراهيم يوم القيامة؟ "، فوالله ما قام أحدٌ، فقال لنا الثانية:"جعله الله رفيقي"، فلم يَقُم أحد، فقال أبو بكر: ابعث حذيفة، فقال:"اذهب"، فقلت: أخشى أن أُؤسَرَ، قال:"إنك لن تؤسر"، فذكر أنه انطلق، وأنهم تجادلوا، "وبَعَث الله عليهم الريح، فما تَرَكَتْ لهم بناء إلا هدمته، ولا إناء إلا أكفأته"، وقد تقدّم حديث حذيفة رضي الله عنه هذا عند مسلم قبل سبعة أبواب برقم [34/ 4631](1788).

ومن طريق عمرو بن سَرِيع بن حذيفة نحوه، وفيه أن علقمة بن عُلاثة صار يقول: يا آل عامر إن الريح قاتلتي، وتحملت قريش، وإن الريح لَتَغْلبهم على بعض أمتعتهم.

وروى الحاكم من طريق عبد العزيز بن أخي حذيفة، عن أبي حذيفة، قال: لقد رأيتنا ليلة الأحزاب، وأبو سفيان، ومن معه من فوقنا، وقريظة أسفل منا، نخافهم على ذرارينا، وما أتت علينا ليلة أشدّ ظلمةً، ولا ريحًا منها، فجعل المنافقون يستأذنون، ويقولون:{إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ} ، فمرّ بني النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأنا جاثٍ على ركبتيّ، ولم يبق معه إلا ثلاثمائة، فقال:"اذهب، فأتني بخبر القوم"، قال: فدعا لي، فأذهب الله عني الْقُرّ، والفزع، فدخلت عسكرهم، فإذا الريح فيه لا تجاوزه شبرًا، فلما رجعت رأيت فوارس في طريقي، فقالوا: أخبر صاحبك أن الله عز وجل كفاه القوم

(1)

.

(1)

راجع: "الفتح" 9/ 194 - 195، كتاب "المغازي" رقم (4106).

ص: 457

(يَنْقُلُ) صلى الله عليه وسلم (مَعَنَا التُّرَابَ) وفي رواية البخاريّ: "ينقل من تراب الخندق"، (وَلَقَدْ وَارَى التُّرَابُ) وفي بعض النسخ:"وقد وارى التراب"؛ أي: غطّى التراب (بَيَاضَ بَطْنِهِ) وفي رواية البخاريّ: "حتى وارى عني الترابُ جِلْدة بطنه، وكان كثير الشعر"، وفي رواية شعبة، عن أبي إسحاق:"كان النبيّ صلى الله عليه وسلم ينقُل التراب يوم الخندق، حتى أغمر بطنه، أو اغبرّ بطنُهُ"، قال في "الفتح": كذا وقع بالشكّ بِالْغَين المعجمة فيهما، فأما التي بالموحّدة، فواضح من الغبار، وأما التي بالميم، فقال الخطابيّ: إن كانت محفوظة، فالمعنى: وارى التراب جلدة بطنه، ومنه غِمَار الناس، وهو جَمْعهم، إذا تكاثف، ودخل بعضهم في بعض، قال: ورُوِيَ: "اعْفَرَّ" بمهملة، وفاء، والْعَفَر بالتحريك: التراب.

وقال عياض: وقع للأكثر بمهملة، وفاء، ومعجمة، وموحّدة، فمنهم من ضبطه بنصب "بطنَهُ"، ومنهم من ضبطه برفعها، وعند النسفيّ:"حتى غَبَرَ بطنُهُ، أو اغْبَرَّ" بمعجمة فيهما، وموحّدة، ولأبي ذرّ، وأبي زيد:"حتى أغمر"، قال: ولا وجه لها، إلا أن يكون بمعنى سَتَرَ، كما في الرواية الأخرى:"حتى وارى عني الترابُ بطنَهُ"، قال: وأَوْجَهُ هذه الروايات: "اغْبَرَّ" بمعجمة، وموحّدة، وبرفع "بَطْنُهُ".

قال الحافظ: وفي حديث أم سلمة رضي الله عنها عند أحمد، بسند صحيح:"كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يعاطيهم اللَّبِنَ يوم الخندق، وقد اغْبَرَّ شعر صدره".

وفي رواية عند البخاري: "حتى وارى عني الغبارُ جِلدة بطنه، وكان كثير الشَّعر"، وظاهر هذا أنه كان كثير شَعْر الصدر، وليس كذلك، فإن في صفته صلى الله عليه وسلم أنه كان دقيق الْمَسْرُبة؛ أي: الشَّعر الذي في الصدر إلى البطن، فيمكن أن يُجمع بأنه كان مع دِقّته كثيرًا؛ أي: لم يكن منتشرًا، بل كان مستطيلًا، والله أعلم. انتهى

(1)

.

(وَهُوَ يَقُولُ) جملة في محل نصب على الحال، ("وَاللهِ لَوْلَا أَنْتَ مَا اهْتَدَيْنَا) هذه الأبيات من شِعر عبد الله بن رواحة رضي الله عنه، ففي رواية يوسف بن أبي إسحاق عن أبيه، عند البخاري:"فسمعته يرتجز بكلمات ابن رواحة".

(1)

"الفتح" 9/ 195 - 196، كتاب "المغازي" رقم (4106).

ص: 458

[تنبيه]: قال ابن بطال رحمه الله: "لولا" عند العرب يمتنع بها الشيء لوجود غيره، تقول: لولا زيد ما صِرْتُ إليك؛ أي: كان مصيري إليك من أجل زيد، وكذلك لولا الله ما اهتدينا؛ أي: كانت هدايتنا من قبل الله تعالى

(1)

.

وقال الراغب رحمه الله: لوقوع غيره، ويلزم خبره الحذف، ويُستغنى بجوابه عن الخبر، قال: وتجيء بمعنى "هَلَّا"، نحو:{لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا} [طه: 134]، ومثله:"لوما" بالميم بدل اللام.

وقال ابن هشام رحمه الله: "لولا" تجيء على ثلاثة أوجه:

[أحدهما]: أن تدخل على جملة؛ لتربط امتناع الثانية بوجود الأولى، نحو: لولا زيدٌ لأكرمتك؛ أي: لولا وجوده، وأما حديث:"لولا أن أشقّ"، فالتقدير: لولا مخافة أن أشقّ لأمرت أمْر إيجاب، وإلا لانعكس معناها؛ إذ الممتنع المشقّة، والموجود الأمر.

[والوجه الثاني]: أنها تجيء للحضّ، وهو طلب بحثّ، وإزعاج، وللعرض، وهو طلب بلِين، وأدب، فتختص بالمضارع، نحو:{لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ} [النمل: 46].

[والوجه الثالث]: أنها تجيء للتوبيخ، والتندّم، فتختص بالماضي، نحو:{لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: 13] أي: هلّا. انتهى.

وذكر أبو عبيد الهرويّ رحمه الله في "الغريبين" أنها تجيء بمعنى: "لِمَ لا"، وجعل منه قوله تعالى:{فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ} [يونس: 98]، والجمهور أنها من القسم الثالث

(2)

، والله تعالى أعلم.

(وَلَا تَصَدَّقْنَا، وَلَا صَلَّيْنَا، فَأَنْزِلَنْ سَكِينَةً عَلَيْنَا) السكينة السكون، والثبات، والطمأنينة.

وقوله: (إِنَّ الأُلَى قَدْ أَبَوْا عَلَيْنَا)، وفي رواية عبد الرحمن بن مهديّ التالية:"إن الأُلَى قد بَغَوْا علينا"، وعلى الروايتين، فليس بموزون، والموزون

(1)

"شرح البخاريّ" لابن بطال 10/ 291.

(2)

"الفتح" 17/ 85 - 86، كتاب "التمنّي" رقم (7236).

ص: 459

أن يقول: "إن الَّذِين قد أبوا علينا"، أو "بغوا علينا"، و"الألى" بضمّ الهمزة، بمعنى: الذين.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "إن الأولى قد بَغَوا علينا" كذا صحَّت الرواية "الأولى" بالقصر، فيَحْتَمِل أن يريد به مؤنث الأول، ويكون معناه: إن الجماعة السابقة بالشرّ بغوا علينا. ويَحْتَمِل أن تكون "الألى" هي الموصولة بمعنى: الذين، كما قال أبو ذؤيب [من الطويل]:

وَيَأْشِبُنِي

(1)

فِيهَا الأُلَى لَا يَلُونَهَا

وَلَوْ عَلِمُوا لَمْ يَأْشِبُونِي بِبَاطِلِ

وقال ابن دريد:

إَنَّ الأُلَى فَارَقْتُ عَنْ غَيْرِ قِلًى

مَا زَاغَ قَلْبِي عَنْهُمُ وَلَا هَفًا

(2)

ويكون خبر "إن" محذوفًا، تقديره: إن الذين بَغَوا علينا ظالمون، وقيل: إن هذا تصحيف من بعض الرواة، وإن صوابه:"أولاء" ممدود، التي لإشارة الجماعة، وهذا صحيح من جهة المعنى، والوزن، والله تعالى أعلم. انتهى

(3)

.

(قَالَ) الراوي، وَيحْتَمل أن يكون البراء، أو من دونه (وَرُبَّما قَالَ: إِنَّ الْمَلَا قَدْ أَبَوْا عَلَيْنَا) قال النوويّ رحمه الله: "الملأ": هم أشراف القوم، وقيل: هم الرجال، ليس فيهم نساء، وهو مهموز، مقصور، كما جاء به القرآن ومعنى:"أبوا علينا": امتنعوا من إجابتنا إلى الإسلام

(4)

. (إِذَا أَرَادُوا فِتْنَةً؛ ليْنَا، وَيَرْفَعُ بِهَا صَوْتَهُ) وفي رواية البخاريّ: "ويرفع بها صوته: أَبَيْنا، أبينا"، وفي هذا الحديث استحباب الرجز، ونحوه من الكلام، في حال البناء، ونحوه، وفيه عمل الفضلاء في بناء المساجد، ونحوها، ومساعدتهم في أعمال البرّ. انتهى

(5)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث البراء رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(1)

"يأشْبني" من بابي نصر، وضرب؛ أي: يلومونني، ويعيبونني.

(2)

يقال: هفا الفؤاد: إذا ذهب في أثر الشيء، وطَرِب.

(3)

"المفهم" 3/ 644 - 645.

(4)

"شرح النوويّ" 12/ 171 - 172.

(5)

"شرح النوويّ" 12/ 171 - 172.

ص: 460

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [42/ 4661 و 4662](1803)، و (البخاريّ) في "الجهاد"(2836 - 2837 و 3034) و"المغازي"(4104 و 4106) و"القدر"(6620) و"التمنّي"(7236)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(5/ 69)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(712)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 285)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 221)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(1716)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4535)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(7/ 43)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(3792)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان ما أصاب النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأصحابه في سبيل الدعوة إلى الله تعالى من الجهد، والتعب، ومكالبة الأعداء.

2 -

(ومنها): بيان ما منّ الله تعالى على المؤمنين في تلك الغزوة، فقد صرف الله تعالى شرّ أعدائهم مع كثرة عددهم، وعُدَدهم، إلا أنهم خُذِلوا بما بعث الله عليهم من جنوده، فانقلبوا خاسرين، وقد نبّه الله تعالى على ذلك في كتابه الكريم، فقال:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (9) إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10)} [الأحزاب: 9 - 10]، وقال أيضًا:{وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا (25) وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (27)} [الأحزاب: 25 - 27].

3 -

(ومنها): مشروعيّة التحصن، والاحتراز من المكروهات، والأخذ بالحزم، والعمل في العادات بمقتضاها، وأن ذلك كله غير قادح في التوكل، ولا ينقص منه، فقد كان النبيّ صلى الله عليه وسلم على كمال المعرفة بالله تعالى، والتوكل عليه، والتسليم لأمره، ومع ذلك فلم يَطْرح الأسباب، ولا مقتضى العادات

ص: 461

على ما يراه جُهّال المتزهدين أهل الدّعاوى الممخرقين

(1)

.

وقال في "العمدة": فيه من الفوائد أن للحفر في سبيل الله وتحصين الديار وسدّ الثغور منها أجرًا كأجر القتال، والنفقةُ فيه محسوبة في نفقات المجاهدين إلى سبعمائة ضعف، وفيه استعمال الرجز والشعر، إذا كانت فيه إقامة النفوس، وإثارة الأَنَفَة. انتهى

(2)

.

4 -

(ومنها): جواز إنشاد الشعر المباح، وجواز الاستماع إليه، قال القرطبيّ رحمه الله: وقد يَستدل بإنشاد النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه هذه الأسجاع وأشباهها أهلُ الْمُجُون والْبِدَع من المتصوّفة على إباحة ما أحدثوه من السَّماع المشتمل على مناكر لا يرضى بها أهل المروءات، فكيف بأهل الديانات؟! كالطارات، والشبابات، واجتماع المغاني وأهل الفساد والشبَّان، والغناء بالألحان، والرقص بالأكمام، وهزّ الأقدام، كما يفعله الفسقة الْمُجَّان، ومجموع ذلك يُعلم فساده وكونه معصية من ضرورة الأديان، فلا يحتاج في إبطاله إلى إقامة دليل ولا برهان، وقد كتبنا في ذلك جزءًا حسنًا سميناه:"كشف القناع عن حكم مسائل الوَجْد والسَّماع". انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(3)

، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4662]

(. . .) - (حَدَّثنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، حَدَّثنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، قَالَ: سَمِعْتُ الْبَرَاءَ، فَذَكَرَ مِثْلَهُ، إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: "إِنَّ الأُلَى قَدْ بَغَوْا عَلَيْنَا").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيّ) بن حسّان الْعَنْبَريّ مولاهم، أبو سعيد البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ حافظٌ عارف بالرجال والحديث [9](ت 198) وهو ابن (73) سنةً (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 388.

والباقون هم المذكورون في السند الماضي.

(1)

"المفهم" 3/ 645.

(2)

"عمدة القاري" 14/ 131.

(3)

"المفهم" 3/ 645.

ص: 462

[تنبيه]: رواية عبد الرحمن بن مهديّ، عن شعبة هذه لم أجد من ساقها بتمامها، فليُنظر، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4663]

(1804) - (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ الْقَعْنَبِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِيه، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ: جَاءَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَنَحْنُ نَحْفِرُ الْخَنْدَقَ، وَنَنْقُلُ التُّرَابَ عَلَى كتَافِنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "اللَّهُمَّ لَا عَيْشَ إِلَّا عَيْشُ الآخِرَة، فَاغْفِرْ لِلْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ").

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ الْقَعْنَبِيُّ) البصريّ، مدنيّ الأصل، تقدّم قريبًا.

2 -

(عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي حَازِمٍ) المدنيّ، ثقةٌ فقيةٌ [8](ت 184)(ع) تقدم في "الإيمان" 45/ 290.

3 -

(أَبُوهُ) سلمة بن دينار التمّار الأعرج المدنيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

4 -

(سَهْلُ بْنُ سَعْدِ) بن مالك الساعديّ الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، تقدّم أيضًا قريبًا.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (324) من رباعيّات الكتاب، وهو مسلسل بالمدنيين من أوله إلى آخره، وشيخه، وإن سكن البصرة، إلا أنه مدنيّ الأصل، وقد سكنها مدّةً، وصحابيّه ابن صحابيّ، وهو آخر من مات من الصحابة بالمدينة على بعض الأقوال.

شرح الحديث:

(عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ) الساعديّ رضي الله عنهما، أنه (قَالَ: جَاءَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَنَحْنُ نَحْفِرُ الْخَنْدَقَ)؛ كجَعْفَرٍ: حَفِيرٌ حولَ أسوار المدن، معرَّب كَنْدَه، قاله المجد

(1)

.

قد تقدَّم ذِكر السبب في حفر الخندق، وأنهم حفروه بإشارة سلمان الفارسيّ رضي الله عنه، ولمّا بلغ النبيَّ صلى الله عليه وسلم جَمْعُهم أخذ في حفر الخندق حول المدينة،

(1)

"القاموس المحيط" ص 398.

ص: 463

ووضع يده في العمل معهم، مستعجلين، يبادرون قدوم العدوّ، وعند موسى بن عقبة: أنهم أقاموا في عمله قريبًا من عشرين ليلة، وعند الواقديّ أربعًا وعشرين، وفي "الروضة" للنوويّ خمسة عشر يومًا، وفي "الهدي" لابن القيِّم: أقاموا شهرًا

(1)

.

(وَنَنْقُلُ التُّرَابَ عَلَى أَكْتَافِنَا) بفتح الهمزة: جمعُ كَتِفٍ، كفَرِحٍ، ويجوز تخفيفه، كمِثْلٍ، وَحَبْلٍ، وفي رواية البخاريّ:"على أكتادنا"، قال في "الفتح": بالمثناة: جمع كَتِدٍ، بفتح أوله، وكسر المثناة، وهو ما بين الكاهل إلى الظهر، وفي حديث أنس:"على متونهم"، والمتن مُكتنِف الصُّلب بين اللحم والعَصَب، وَوَهِم ابن التين، فعزا هذه اللفظة لحديث سهل بن سعد، ووقع في بعض النسخ:"على أكبادنا" بالموحّدة، وهو مُوَجَّه على أن يكون المراد به: ما يلي الْكَبِد من الجنب. انتهى

(2)

.

(فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "اللَّهُمَّ لَا عَيْشَ)؛ أي: لا عيش باقٍ، أو لا عيش مطلوب (إِلَّا عَيْشُ الآخِرَةِ)، قال ابن بطال: هو قول ابن رواحة؛ يعني: تمثَّل به النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولو لم يكن من لفظه لم يكن بذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم شاعرًا. قال: وإنما يسمى شاعرًا مَنْ قَصَده، وعَلِم السبب، والوتد، وجميع معانيه من الزحاف، ونحو ذلك، قال الحافظ: كذا قال، وعِلْمُ السبب، والوتدِ إلى آخره، إنما تلقَّوه من العَروض التي اختَرَع ترتيبها الخليل بن أحمد، وقد كان شِعر الجاهلية، والمخضرمين، والطبقة الأولى والثانية من شعراء الإسلام قبل أن يصنفه الخليل، كما قال أبو العتاهية: أنا أقْدَم من العروض؛ يعني: أنه نظم الشعر قبل وضعه، وقال أبو عبد الله بن الحجاج الكاتب:

قَدْ كَانَ شِعْرُ الْوَرَى قَدِيمًا

مِنْ قَبْلِ أَنْ يُخْلَقَ الْخَلِيلُ

وقال الداوديّ فيما نقله ابن التين: إنما قال ابن رواحة: "لَا هُمَّ إِنَّ الْعَيْشَ" بلا ألف ولام، فأورده بعض الرواة على المعنى، قال الحافظ: كذا قال، وحَمَله على ذلك ظنّه أنه يصير بالألف واللام غير موزون، وليس كذلك،

(1)

"الفتح" 9/ 185، كتاب "المغازي" رقم (4098).

(2)

"الفتح" 9/ 185، كتاب "المغازي" رقم (4098).

ص: 464

بل يكون دخله الْخَزْم، ومن صُوَره: زيادة شيء من حروف المعاني في أول الجزء. انتهى

(1)

.

(فَاغْفِرْ لِلْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ") هذا قاله النبيّ صلى الله عليه وسلم، مجيبًا لهم حين قالوا:

نَحْنُ الَّذِينَ بَايَعُوا مُحَمَّدًا

عَلَى الإِسْلَامِ مَا بَقِينَا أَبَدًا

وفي حديث أنس الآتي بعده: "فاغفر للأنصار والمهاجرة"، وكلاهما غير موزون، ولعله صلى الله عليه وسلم تعمّد ذلك، ولعل أصله:"فاغفر للأنصار والمهاجرة" بتسهيل لام "الأنصار"، وبالتاء المربوطة في "المهاجرة"، وفي الرواية الأخرى:"فبَارِكْ" بدل "فاغفر"، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث سهل بن سعد الساعديّ رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [42/ 4663](1804)، و (البخاريّ) في "فضائل الصحابة رضي الله عنهم "(3797) وفي "المغازي"(4098) و"الرقاق"(6414)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 350)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(6/ 166)، و (ابن سعد) في "الطبقات"(2/ 71)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(9/ 39)، وفوائده تُعلم مما سَبَق، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4664]

(1805) - (وَحَدَّثنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ - وَاللَّفْظُ لِابْنِ الْمُثَنَّى - حَدَّثنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثنا شُعْبَةُ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قرَّةَ، عَنْ أنسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّهُ قَالَ:

"اللَّهُمَّ لَا عَيْشَ إِلَّا عَيْشُ الآخِرَهْ

فَاغْفِرْ لِلأَنْصَارِ وَالْمُهَاجِرَهْ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ) بن إياس بن هلال المزنيّ، أبو إياس البصريّ، ثقة فقيهٌ [3](ت 113) وهو ابن (76) سنةً (ع) تقدم في "صلاة المسافرين وقصرها" 36/ 1853.

(1)

"الفتح" 9/ 185، كتاب "المغازي" رقم (4098).

ص: 465

2 -

(أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ) رضي الله عنه تقدّم في الباب الماضي.

والباقون ذُكروا قبل حديثين، وشرح الحديث واضحٌ يُعلم مما سبق.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أنس بن مالك رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [42/ 4664 و 4665 و 4666 و 4667](1805)، و (البخاريّ) في "الجهاد"(2834 و 2835 و 2961) و"مناقب الأنصار"(3795 و 3796) و"المغازي"(4099) و"الرقاق"(6413) و"الأحكام"(7021)، و (النسائيّ) في "فضائل الصحابة"(1/ 63 - 64)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(5/ 280 و 6/ 400 و 7/ 377)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 170 و 172 و 187 و 205 و 216 و 252 و 276 و 288)، و (ابن راهويه) في "مسنده"(4/ 146)، و (ابن الجعد) في "مسنده"(1/ 147)، و (عبد بن حُميد) في "مسنده"(1/ 392)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5789 و 7259)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(3324)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(2/ 128)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 349)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(9/ 39) و"شعب الإيمان"(7/ 325)، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4665]

(. . .) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ ابْنُ الْمُثَنَّى: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، حَدَّثَنَا أنسُ بْنُ مَالِكٍ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ: "اللَّهُمَّ إِنَ الْعَيْشَ عَيْشُ الآخِرَةِ"، قَالَ شُعْبَةُ: أَوْ قَالَ:

"اللَّهُمَّ لَا عَيْشَ إِلَّا عَيْشُ الآخِرَهْ

فأَكْرِمِ الأنْصَارَ وَالْمُهَاجِرَهْ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(قتادَةُ) بن دعامة السَّدُوسيّ، تقدّم في الباب الماضي.

والباقون ذُكروا قبله.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد تقدّم تخريجه قبله، ولله الحمد والمنّة.

ص: 466

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4666]

(. . .) - (وَحَدَّثنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَشَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ، قَالَ يَحْيَى: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ شَيْبَانُ: حَدَّثنَا عَبْدُ الْوَارِثِ، عَنْ أَبِي التَّيَّاح، حَدَّثنَا أنسُ بْنُ مَالِكٍ، قَالَ: كَانُوا يَرْتَجِزُونَ، وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَعَهُمْ، وَهُمْ يَقُولُونَ:

اللَّهُمَّ لَا خَيْرَ إِلَّا خَيْرُ الآخِرَهْ

فَانْصُرِ الأَنْصَارَ وَالْمُهَاجِرَهْ

وَفِي حَدِيثِ شَيْبَانَ بَدَلَ "فَانْصُرْ": فَاغْفِرْ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ النيسابوريّ، تقدّم قبل أربعة أبواب.

2 -

(شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ) الحَبَطيّ، أبو محمد الأُبُلّيّ، صدوقٌ يَهِمُ، ورُمي بالقدر، قال أبو حاتم: اضطرّ الناس إليه أخيرًا، من صغار [9](ت 5 أو 236) وله بضع و (90) سنة (م دس) تقدم في "الإيمان" 12/ 157.

3 -

(عَبْدُ الْوَارِثِ) بن سعيد بن ذكوان الْعَنْبَريّ مولاهم، أبو عبيدة التَّنُّوريّ البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ، رُمي بالقدر، ولم يثبُت عنه [8](ت 180)(ع) تقدم في "الإيمان" 18/ 176.

4 -

(أَبُو التَّيَّاحِ) يزيد بن حُميد الضُّبَعيّ البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [5](ت 128)(ع) تقدم في "الطهارة" 27/ 659.

و"أنس بن مالك رضي الله عنه" ذُكر قبله.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالبصريين، سوى يحيى، فنيسابوريّ.

وقوله: (كَانُوا يَرْتَجِزُونَ)؛ أي: يقولون شعرًا من بحر الرجز، وفيه أن في إنشاد الشعر تنشيطًا في العمل، وبذلك جرت عادتهم في الحرب، وأكثر ما يستعملون في ذلك الرجز.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد تقدّم البحث فيه، ولله الحمد والمنّة.

ص: 467

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4667]

(. . .) - (حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا بَهْزٌ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، حَدَّثَنَا ثَابِتٌ، عَنْ أنسٍ: أَنَّ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم كَانُوا يَقُولُونَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ:

نَحْنُ الَّذِبنَ بَايَعُوا مُحَمَّدًا

عَلَى الإِسْلَامِ مَا بَقِينَا أَبَدًا

أَوْ قَالَ: عَلَى الْجِهَاد، شَكَّ حَمَّادٌ، وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:

"اللَّهُمَّ إِنَّ الْخَيْرَ خَيْرُ الآخِرَهْ

فَاغْفِرْ لِلأَنْصَارِ وَالْمُهَاجِرَهْ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمِ) بن ميمون السمين البغداميّ، مروزيّ الأصل، صدوقٌ فاضلٌ، ربّما وَهِم [10](ت 5 أو 236)(م د) تقدم في "الإيمان" 1/ 104.

2 -

(بَهْزُ) بن أسد الْعَمّيّ، أبو الأسود البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [9] مات بعد المائتين، أو قبلها (ع) تقدم في "الإيمان" 3/ 112.

3 -

(حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ) البصريّ، تقدّم قريبًا.

4 -

(ثَابِتُ) بن أسلم البنانيّ، أبو محمد البصريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

و"أنسٌ رضي الله عنه" ذُكر قبله.

وقوله: (نَحْنُ الَّذِينَ بَايَعُوا مُحَمَّدًا) قوله: "بايعوا" صلة "الذين"، فباعتباره ذُكِر بصيغة الماضي للجمع الغائبين، ولو كان باعتبار لفظ "نحن" لقيل: بايعنا، قاله في "العمدة"

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قولهم: "نحن الذين بايعوا محمدًا على الجهاد ما بقينا أبدًا": تذكير منهم لأنفسهم بعهد البيعة، وتجديد منهم لها، وإخبار منهم له بالوفاء بمقتضاها، ولمّا سمع صلى الله عليه وسلم منهم ذلك أجابهم ببشارة:"لا عيش إلا عيش الآخرة"، وبدعاء:"فاغفر للأنصار والمهاجرة"، و"المهاجرة" أجراها صفة مؤنثة، على موصوف محذوف، فكأنه قال: للجماعة المهاجرة، الرواية:"والمهاجرة" بألف بعد الواو، وقبل اللام، وهو غير موزون؛ لأنه سجع، ولا

(1)

"عمدة القاري" 17/ 178.

ص: 468

يُشترط فيه الوزن، ولو اشتُرط فإن الله تعالى قال:{وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} [يس: 69]، ولو قال: وللمهاجرة - بلامين - لاتَّزن، إذا نقل حركة "الأنصار" إلى الساكن. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(1)

.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى البحث فيه مستوفًى، ولله الحمد والمنّة.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(43) - (بَابُ غَزْوَةِ ذِي قَرَدٍ وَغَيْرِهَا)

قوله: "ذِي قَرَد" - بفتح القاف والراء، وحُكِي الضمّ فيهما، وحُكِي ضم أوله، وفتح ثانيه -، قال الحازميّ: الأول ضَبْط أصحاب الحديث، والضم عن أهل اللغة، وقال البلاذريّ: الصواب الأول، وهو ماءٌ على نحو بَرِيد مما يلي بلاد غَطَفان، وقيل: على مسافة يوم

(2)

.

وقال البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"؛ "باب غزوة ذات القرد"، "وهي الغزوة التي أغاروا على لقاح النبيّ صلى الله عليه وسلم قبل خيبر بثلاث".

قال في "الفتح": قوله: وهي الغزوة التي أغاروا فيها على لقاح النبيّ صلى الله عليه وسلم قبل خيبر بثلاث: كذا جزم به، ومُستنده في ذلك حديث إياس بن سلمة بن الأكوع، عن أبيه، فإنه قال في آخر الحديث الطويل الذي أخرجه مسلم من طريقه:"قال: فرجعنا - أي: من الغزوة - إلى المدينة، فوالله ما لبثنا بالمدينة إلا ثلاث ليال، حتى خرجنا إلى خيبر"، وأما ابن سعد، فقال: كانت غزوة ذي قَرَد في ربيع الأول، سنة ستّ قبل الحديبية، وقيل: في جمادى الأولى، وعن ابن إسحاق: في شعبان منها، فإنه قال: كانت بنو لحيان في شعبان سنة ستّ، فلما رجع النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فلم يُقِم بها إلا ليالي، حتى أغار عيينة بن حصن على لقاحه.

قال القرطبيّ شارح مسلم في الكلام على حديث سلمة بن الأكوع: لا

(1)

"المفهم" 3/ 645 - 646.

(2)

"الفتح" 9/ 289، كتاب "المغازي" رقم (4194).

ص: 469

يَختلف أهل السِّيَر أن غزوة ذي قرد كانت قبل الحديبية، فيكون ما وقع في حديث سلمة من وَهَم بعض الرواة، قال: ويَحْتَمِل أن يُجمع بأن يقال: يَحْتَمِل أن يكون النبيّ صلى الله عليه وسلم كان أغزى سريّة، فيهم سلمة بن الأكوع إلى خيبر قبل فَتْحها، فأخبر سلمة عن نفسه، وعمن خرج معه؛ يعني: حيث قال: "خرجنا إلى خيبر"، قال: ويؤيده أن ابن إسحاق ذكر أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أغزى إليها عبد الله بن رواحة قبل فتحها مرتين. انتهى.

قال الحافظ: وسياق الحديث يأبى هذا الجمع، فإن فيه بعد قوله:"حين خرجنا إلى خيبر، مع رسول الله صلى الله عليه وسلم": فجعل عامر يرتجز بالقول، وفيه قول النبيّ صلى الله عليه وسلم:"مَن السائق؟ "، وفيه مبارزة عليّ لمرحب، وقَتْل عامر، وغير ذلك، مما وقع في غزوة خيبر، حين خرج إليها النبيّ صلى الله عليه وسلم، فعلى هذا ما في "الصحيح" من التاريخ لغزوة ذي قرد أصحّ مما ذكره أهل السِّير.

ويَحْتَمِل في طريق الجمع أن تكون إغارة عيينة بن حصن على اللقاح وقعت مرتين: الأولى: التي ذكرها ابن إسحاق، وهي قبل الحديبية، والثانية: بعد الحديبية قبل الخروج إلى خيبر، وكان رأس الذين أغاروا عبد الرحمن بن عيينة، كما في سياق سلمة عند مسلم، وبؤيّده أن الحاكم ذكر في "الإكليل" أن الخروج إلى ذي قرد تكرر، ففي الأُولى خرج إليها زيد بن حارثة قبل أُحد، وفي الثانية خرج إليها النبيّ صلى الله عليه وسلم في ربيع الآخر، سنة خمس، والثالثة هذه المختلَف فيها. انتهى، فإذا ثبت هذا قَوِي هذا الجمع الذي ذكرته. انتهى كلام الحافظ رحمه الله

(1)

، وهو بحث مفيدٌ، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4668]

(1806) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِبدٍ، حَدَّثَنَا حَاتِمٌ - يَعْنِي: ابْنَ إِسْمَاعِيلَ - عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ، قَالَ: سَمِعْتُ سَلَمَةَ بْنَ الأَكْوَعِ يَقُولُ: خَرَجْتُ قَبْلَ أَنْ يُؤَذَّنَ بِالأُولَى، وَكَانَتْ لِقَاحُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم تَرْعَى بِذِي قَرَدٍ، قَالَ: فَلَقِيَنِي غُلَامٌ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، فَقَالَ: أُخِذَتْ لِقَاحُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْتُ:

(1)

"الفتح" 9/ 289، كتاب "المغازي" رقم (4194).

ص: 470

مَنْ أَخَذَهَا؟ قَالَ: غَطَفَانُ، قَالَ: فَصَرَخْتُ ثَلَاثَ صَرَخَاتٍ: يَا صَبَاحَاهْ، قَالَ: فَأَسْمَعْتُ مَا بَيْنَ لَابَتَيِ الْمَدِينَة، ثُمَّ انْدَفَعْتُ عَلَى وَجْهِي، حَتَّى أَدْرَكْتُهُمْ بِذِي قَرَدٍ

(1)

، وَقَدْ أَخَذُوا يَسْقُونَ مِنَ الْمَاء، فَجَعَلْتُ أَرْمِيهِمْ بِنَبْلِي، وَكُنْتُ رَامِيًا، وَأقولُ: أنَا ابْنُ الأَكْوَع، وَالْيَوْمَ يَوْمُ الرُّضَّعِ، فَأَرْتَجِزُ، حَتَّى استَنْقَذْتُ اللِّقَاحَ مِنْهُمْ، وَاسْتَلَبْتُ مِنْهُمْ ثَلَاثِينَ بُرْدَةً، قَالَ: وَجَاءَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم؛ وَالنَّاسُ، فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ الله، إِنِّي قَدْ حَمَيْتُ الْقَوْمَ الْمَاءَ، وَهُمْ عِطَاشٌ، فَابْعَثْ إِلَيْهِمُ السَّاعَةَ، فَقَالَ:(يَا ابْنَ الأكْوَع مَلَكْتَ، فَأَسْجِحْ"، قَالَ: ثُمَّ رَجَعْنَا، وَيُرْدِفُنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى نَاقَتِه، حَتى دَخَلنَا الْمَدِينَةَ).

رجال هذا الإسناد: أربعة:

وقد تقدّم الإسناد نفسه في الباب الماضي، ومن لطائفه أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (323) من رباعيّات الكتاب.

شرح الحديث:

(عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ) مولى سلمة بن الأكوع، أنه (قَالَ: سَمِعْتُ سَلَمَةَ بْنَ الأَكْوَعِ) تقدّم أنه سلمة بن عمرو بن الأكوع، نُسب لجدّه، (يَقُولُ: خَرَجْتُ)، وفي رواية للبخاريّ:"خرجت من المدينة ذاهبًا نحو الغابة"، (قَبْلَ أَنْ يُؤَذَّنَ بِالأُولَى)؛ يعني: صلاة الصبح، (وَكَانَتْ لِقَاحُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم)"اللقاح" - بكسر اللام، وتخفيف القاف، ثم جاء مهملة -: ذوات الدَّرّ من الإبل، واحدها لِقْحَةٌ، بالكسر، وبالفتح أيضًا، واللَّقُوح الْحَلُوب

(2)

.

وقال الفيّوميّ رحمه الله: "اللقاح" بالكسر، والفتح: اسمٌ، واللِّقْحة بالكسر: الناقة ذات لبن، والفتح لغة، والجمع: لِقَحٌ، مثلُ سِدْرَة وسِدَرٍ، أو مثلُ قَصْعَةٍ وقِصَع، واللُّقُوح بفتح اللام، مثلُ اللِّقْحَة، والجمع لِقَاحٌ، مثلُ قَلُوصٍ وقِلَاصٍ، وقال ثعلبٌ: اللِّقَاح: جمع لِقْحة، وإن شئتَ لَقُوحٌ، وهي التي نُتِجَت، فهي

(1)

وفي بعض النسخ: "أدركتهم، وقد أخذوا".

(2)

"الفتح" 9/ 290، كتاب "المغازي" رقم (4194).

ص: 471

لَقُوحٌ شَهْرين، أو ثلاثة، ثم هي لَبُون بعد ذلك. انتهى

(1)

.

وذكر ابن سعد أنها كانت عشرين لِقحة، قال: وكان فيهم ابن أبي ذَرّ، وامرأته، فأغار المشركون عليهم، فقتلوا الرجل، وأسروا المرأة

(2)

.

(تَرْعَى) بفتح أوله، مبنيًّا للفاعل؛ مضارع رَعَت الماشيةُ رَعْيًا، فهي راعيةٌ: إذا سَرَحَتْ بنفسها، ورعيتُها أرعاها، يُستَعْمَل لازمًا ومتعدّيًا، والفاعل راعٍ، والجمع رُعاةٌ بالضمّ، مثلُ قاضٍ وقُضاةٍ، وقيل أيضًا: رِعَاءٌ بالكسر والمدّ، ورُعْيانٌ، مثلُ رُغْفانٍ، وقيل للحاكم، والأمير: راعٍ؛ لقيامه بتدبير الناس، وسياستهم، والناس رعيّةٌ، والرِّعْيُ وزانُ حِمْلٍ، والْمَرْعَى معنًى، وهو ما ترعاه الدوابّ، والجمع: المراعي

(3)

.

(بذِي قَرَدٍ) تقدّم أن الصواب في ضبطه فتح القاف والراء. (قَالَ) سلمة رضي الله عنه (فَلَقِيَني غُلَامٌ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ) رضي الله عنه، قال الحافظ: لم أقف على اسمه، ويَحْتَمِل أن يكون هو رَبَاحًا غلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما في رواية مسلم، وكأنه كان مُلك أحدهما، وكان يَخْدُم الآخر، فنُسِب تارة إلى هذا، وتارة إلى هذا. انتهى

(4)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قوله: "وَيحْتَمل أن يكون رباحًا. . . إلخ" فيه نظر؛ لأنه سيأتي أن عبد الرحمن بن عُيينة أغار على ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فاستاقه، وقتل راعيه، فقال سلمة: فقلت: يا رباح خذ هذا الفرس، وأبلغه طلحة. . . إلخ، فهذا نصّ بأن ذلك الغلام غير رباح، فتنبّه، والله تعالى وليّ التوفيق.

(فَقَالَ: أُخِذَتْ) بالبناء للمفعول، (لِقَاحُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْتُ: مَنْ أَخَذَهَا؟ قَالَ: غَطَفَانُ) - بفتح الغين المعجمة، والطاء المشالة المهملة، والفاء - وسيأتي بيان نَسَبهم في "غزوة ذات الرقاع" بعد أربعة أبواب - إن شاء الله

(1)

راجع: "المصباح المنير" 2/ 556.

(2)

"الفتح" 9/ 290، كتاب "المغازي" رقم (4194).

(3)

"المصباح المنير" 1/ 231.

(4)

"الفتح" 9/ 290، كتاب "المغازي" رقم (4194).

ص: 472

تعالى - وفي رواية للبخاريّ: "غَطَفَانُ، وفَزَارة"، وهو من الخاصّ بعد العامّ؛ لأن فزارة من غطفان.

ويأتي للمصنّف في الحديث التالي، من رواية إياس بن سلمة، عن أبيه:"قَدِمنا الحديبية، ثم قَدِمنا المدينة، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وبظهره، مع رَبَاح غلامه، وأنا معه، وخرجت بفرس لطلحة أُنَدِّيه، فلما أصبحنا إذا عبد الرحمن الْفَزَاريّ".

ولأحمد، وابن سعد من هذا الوجه:"عبد الرحمن بن عُيينة بن حِصْن الفزاريّ، وقد أغار على ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستاقه أجمع، وقَتَل راعيه، قال: فقلت: يا رَبَاح خذ هذا الفرس، وأبلغه طلحة، وأبلِغْ رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر".

وللطبرانيّ من وجه آخر، عن سلمة:"خرجت بقوسي، ونَبْلي، وكنت أرمي الصيد، فإذا عُيينة بن حِصن قد أغار على لقاح رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستاقها".

ولا منافاة، فإن كُلًّا من عيينة، وعبد الرحمن بن عيينة كان في القوم.

وذكر موسى بن عقبة، وابن إسحاق أن مَسعدة الفزاريّ كان أيضًا رئيسًا في فزارة في هذه الغزاة. انتهى

(1)

.

(قَالَ) سلمة رضي الله عنه: (فَصَرَخْتُ ثَلَاثَ صَرَخَاتٍ) وفي رواية المستملي: "بثلاث صرخات" بزيادة الموحّدة، وهي للاستغاثة. (يَا صَبَاحَاهْ) هي كلمة تقال عند استنفار من كان غافلًا عن عدوّه.

وقال في "الفتح": قوله: "يا صباحاه": هو منادى مستغاثٌ، والألف للاستغاثة، والهاء للسكت، وكأنه نادى الناس استغاثةً بهم في وقت الصباح، وقال ابن الْمُنَيِّر: الهاء للندبة، وربما سقطت في الوصل، وقد ثبتت في الرواية، فيوقف عليها بالسكون، وكانت عادتهم يُغيرون في وقت الصباح، فكأنه قال: تأهبوا لِمَا دَهَمَكُم صباحًا. انتهى

(2)

.

(1)

"الفتح" 9/ 290، كتاب "المغازي" رقم (4194).

(2)

"الفتح" 6/ 164.

ص: 473

وقال في "العمدة": قوله: "يا صباحاه"؛ يعني: أُغير عليكم في الصباح، أو: قد أصبحتم، فخذوا حِذْرَكم.

وقال القرطبيّ: معناه: الإعلام بهذا الأمر المهمّ الذي دَهَمَهم في الصباح، قيل: لأنهم كانوا يُغيرون وقت الصباح، وكأنه قيل: جاء وقت الصباح، فتأهبوا للقاء، فإن الأعداء يتراجعون عن القتال في الليل، فإذا جاء النهار عاودوه، والهاء فيه للندبة، تَسقُط في الوصل، والرواية إثباتها، فتقف على الهاء، وهو مُنَادًى مستغاثٌ، والألف فيه للاستغاثة، وقيل: الهاء فيه للسكت؛ كأنه نادى الناس استغاثةً بهم في وقت الصباح؛ أي: وقت الغارة، والحاصل أنها كلمة يقولها المستغيث. انتهى

(1)

.

(قَالَ: فَأَسْمَعْتُ مَا بَيْنَ لَابَتَيِ الْمَدِينَةِ) تثنية لابة، وهي الْحَرّة، وهي الأرض ذات الحجارة السُّود، والمدينة واقعة بين حرّتين عظيمتين، وأراد بذلك أنه أسمع بصرخاته جميع أهل المدينة، كما يريد جميعَ القرآن من يقول: حفظت ما بين دَفّتي المصحف.

وفيه إشعار بأنه كان واسع الصوت جدًّا، ويَحْتَمِل أن يكون ذلك من خوارق العادات، وسيأتي في رواية إياس بن سلمة التالية:"ثم قُمت على أَكَمَةً، فاستقبلت المدينة، فناديت ثلاثًا: يا صباحاه"، وللطبرانيّ:"فصَعِدت في سَلْع، ثم صحْتُ: يا صباحاه، فانتهى صياحي إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فنُودي في الناس: الفزعَ الفزعَ"، وهو عند ابن إسحاق بمعناه.

(ثُمَّ انْدَفَعْتُ عَلَى وَجْهِي)؛ أي: لم ألتفت يمينًا ولا شمالًا، بل أسرعت الجري، وكان شديد العَدْو كما سيأتي بيانه في الحديث التالي. (حَتِّي أَدْرَكْتُهُمْ) وفي رواية للبخاريّ:"حتى ألقاهم، وقد أخذوها"؛ يعني: اللقاح، وذَكَره بهذه الصيغة مبالغةً في استحضار الحال.

(بِذِي قَرَدٍ) تقدّم أنه اسم موضع قرب المدينة (وَقَدْ أَخَذُوا)، وفي بعض النسخ:"حتى أدركتهم، وقد أخذوا بذي قَرَد"، (يَسْقُونَ) بفتح أوله، وضمّه، يقال: سقاه، وأسقاه، ثلاثيًّا، ورُباعيًّا؛ أي: يسقون أنفسهم، ودوابّهم (مِنَ

(1)

"عمدة القاري" 14/ 285.

ص: 474

الْمَاء، فَجَعَلْتُ أَرْمِيهِمْ)، وللبخاريّ:"فأقبلت أرميهم"؛ أي: أقبلت عليهم، أرميهم، (بِنَبْلِي) بفتح، فسكون: هي السهام العربيّة، وهي مؤنّثةٌ، ولا واحد لها من لفظها، بل الواحد سهم، فهي مفردة اللفظ، مجموعة المعنى

(1)

. (وَكُنْتُ رَامِيًا)؛ أي: مُجيدًا للرمي، وحاذقًا فيه، (وَأقُولُ) جملة حاليّة من "أرميهم"، (أَنَا ابْنُ الأَكْوَع، وَالْيَوْمَ يَوْمُ الرُّضَّعِ) - بضم الراء، وتشديد الضاد المعجمة -: جمع راضع، وهو اللئيم، فمعناه: اليومُ يوم اللئام؛ أي: اليوم يوم هلاك اللئام، والأصل فيه أن شخصًا كان شديد البخل، فكان إذا أراد حلب ناقته، ارتضع من ثديها؛ لئلا يَحْلُبها، فيسمعَ جيرانه، أو مَن يَمُرّ به صوتَ الحلب، فيطلبون منه اللبن، وقيل: بل صنع ذلك؛ لئلا يتبدد من اللبن شيء، إذا حلب في الإناء، أو يبقى في الإناء شيء، إذا شربه منه، فقالوا في المثل:"ألأم من راضع"، وقيل: بل معنى المَثَل: ارتضع اللؤمَ من بطن أمه، وقيل: كلُّ من كان يوسف باللؤم يوسف بالمصّ، والرَّضاع، وقيل: المراد من يَمُصّ طرف الخلال، إذا خَلَّلَ أسنانه، وهو دال على شدّة الحرص، وقيل: هو الراعي الذي لا يَستصحب مِحْلَبًا، فإذا جاءه الضيف اعتذر بأن لا مِحْلَب معه، وإذا أراد أن يشرب ارتضع ثديها.

وقال أبو عمرو الشيبانيّ: هو الذي يرتضع الشاة، أو الناقة عند إرادة الحلب، من شدة الشرَه، وقيل: أصله الشاة تَرضع لبن شاتين من شدّة الجوع، وقيل: معناه: اليومُ يُعرَف من ارتضع كريمةً، فانجبته، ولئيمةً فَهَجَّنته، وقيل: معناه: اليوم يعرف من أرضعته الحرب من صغره، وتَدَرّب بها من غيره.

وقال الداوديّ: معناه: هذا يومٌ شديدٌ عليكم، تفارِق فيه المرضعة من أرضعته، فلا تجد من ترضعه.

وقال السهيليّ: قوله: "اليومُ يومُ الرُّضَّع" يجوز الرفع فيهما، ونَصْب الأول، ورَفْع الثاني على جعل الأول ظرفًا، قال: وهو جائز إذا كان الظرف واسعًا، ولا يضيق على الثاني، قال: وقال أهل اللغة: يقال في اللؤم: رَضَع - بالفتح - يرضُع - بالضم - رضاعةً، لا غير، ورَضِعَ الصبيّ - بالكسر - ثدي

(1)

"المصباح المنير" 2/ 591.

ص: 475

أمه، يَرْضَع - بالفتح - رَضَاعًا، مثلُ سَمِع يَسْمَع سماعًا. انتهى

(1)

.

وقال الفيّوميّ رحمه الله: رَضِعَ الصبيُّ رَضَعًا، من باب تَعِبَ في لغة نجد، ورَضَعَ رَضْعًا، من باب ضَرَبَ لغة لأهل تهامة، وأهلُ مكة يتكلّمون بها، وبعضهم يقول: أصل المصدر من هذه اللغة كسر الضاد، وإنما السكون تخفيفٌ، مثلُ الْحَلِف، والْحَلْف، ورَضَعَ يَرْضَعُ - بفتحتين - لغة ثالثةٌ. انتهى

(2)

.

وفي رواية إياس الآتية: "فأقبلت أرميهم بالنبل، وأرتجز"، وفيه:"فألحق رجلًا منهم، فأَصُكّه بسهم في رجله، فخَلَص السهم إلى كعبه، فما زلت أرميهم، وأعقرهم، فإذا رجع إليّ فارس منهم، أتيت شجرة، فجلست في أصلها، ثم رميته، فعقرت به، فإذا تضايق الجبل، فدخلوا في مضايقه، عَلَوت الجبل، فرميتهم بالحجارة".

وعند ابن إسحاق: "وكان سلمة مثل الأسد، فإذا حَمَلت عليه الخيل فَرَّ، ثم عارَضَهم، فنضحها عنه بالنَّبْل".

(فَأَرْتَجِزُ)؛ أي: أقول شعرًا من بحر الرجز، وتقدّم أنه مستفعلن ستّ مرّات. (حَتَّى اسْتَنْقَذْتُ)؛ أي: خَلَّصتُ، قال المجد رحمه الله: النَّقْذُ: التخليصُ، والتنحيةُ؛ كالإنقاذ، والتنقيذ، والاستنقاذ، والتنقّذ. انتهى

(3)

.

وقال الفيّوميّ: أنقذته من الشرّ: إذا خلّصته منه، فَنَقِذَ نَقَذًا، من باب تَعِبَ: تخلّص منه، والنَّقَذُ بفتحتين: ما أنقذته. انتهى

(4)

.

وكتب الطرابلسيّ في هامش النسخة التركيّة: أن استنقذ استفعل بمعنى المجرّد؛ أي: أنقذت، وكذا قوله:"استلبتُ". انتهى.

(اللِّقَاحَ) بالنصب على المفعوليّة، (مِنْهُمْ)؛ أي: من المشركين الذين استلبوها، (وَاسْتَلَبْتُ مِنْهُمْ)؛ أي: أَخَذَ من هؤلاء المشركين، يقال: سلبته، واستلبته: إذا أخذته. (ثَلاثِينَ بُرْدَةً) منصوب على التمييز، قال المجد رحمه الله: الْبُرْدُ بالضمّ: ثوبٌ مخطّطٌ، جمعه أبرادٌ، وأبرُدٌ، وبُرُودٌ، وأكسيةٌ يُلْتَحَفُ بها،

(1)

"الفتح" 9/ 291 - 292، كتاب "المغازي" رقم (4194).

(2)

"المصباح المنير" 1/ 229.

(3)

"القاموس المحيط" ص 1308.

(4)

"المصباح المنير" 2/ 620.

ص: 476

الواحدة بِهاء. انتهى

(1)

.

وقال الفيّوميّ رحمه الله: الْبُرْدُ: معروفٌ، وجمعه أبراد، وبُرُودٌ، ويضاف للتخصيص، فيقال: بُرْدُ عَصَبٍ، وبُرْدُ وَشْيٍ، والْبُرْدة: كساء صغيرٌ، مربّعٌ، ويقال: كساءٌ أسود صغير. انتهى

(2)

.

وفي رواية إياس الآتية: "فما زلت كذلك أتبعهم، حتى ما خلق الله من بعير، من ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا خلّفته وراء ظهري، وخلّوا بيني وبينه، ثم اتبعتهم أرميهم، حتى ألقوا أكثر من ثلاثين بردة، وثلاثين رمحًا، يستخفّون".

(قَالَ) سلمة رضي الله عنه: (وَجَاءَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَالنَّاسُ)؛ أي: الصحابة رضي الله عنهم، وفي رواية إياس التالية:"وأتاني عمّي عامر بن الأكوع بسطيحة، فيها ماء، وسطيحة فيها لبن، فتوضأت، وشربت، ثم أتيت النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو على الماء الذي أجليتهم عنه، فإذا هو قد أخذ كل شيء استنقذته منهم، ونَحَر له بلال ناقته".

(فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ الله، إِنِّي قَدْ حَمَيْتُ الْقَوْمَ الْمَاءَ)؛ أي: منعتهم من الشرب منه، يقال: حَمَيتُ المكانَ من الناس حَمْيًا، من باب رَمَى، وحِمْيَةً بالكسر: إذا منعته منهم، والْحِمَايَةُ اسم منه

(3)

.

(وَهُمْ عِطَاشٌ) بالكسر: جمع عَطْشَانَ، يقال: عَطِشَ عَطَشًا، من باب فَرِحَ، فهو عَطِشٌ، وعَطْشَانُ، وامرأةٌ عَطِشَةٌ، وعَطْشَى، ويُجمعان على عِطَاشٍ بالكسر، ومكانٌ عَطِشٌ ليس به ماء، وقيل: قليل الماء، قاله الفيّوميّ

(4)

.

(فَابْعَثْ إِلَيْهِمُ السَّاعَةَ)؛ أي: لاستئصالهم جميعًا، وفي رواية إياس:"فقلت: يا رسول الله، خَلِّني فأنتخب من القوم مائة رجل، فأتّبِعْهم، فلا يبقى منهم مُخْبِرٌ إلا قتلته، قال: فضَحِك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه في ضوء النار"، وعند ابن إسحاق:"فقلت: يا رسول الله لو سَرَّحتني في مائة رجل، لأخذت بأعناق القوم". (فَقَالَ: "يَا ابْنَ الأَكْوَعِ مَلَكْتَ، فَأَسْجِحْ") - بهمزة قطع، وسين مهملة ساكنة، وجيم مكسورة، بعدها مهملة -؛ أي: سَهِّل، والمعنى:

(1)

"القاموس المحيط" ص 92.

(2)

"المصباح المنير" 1/ 43.

(3)

"المصباح المنير" 1/ 153.

(4)

راجع: "المصباح المنير" 2/ 416.

ص: 477

قَدَرت فاعفُ، والسَّجَاحة: السهولة، والمعنى: قَدَرت على أعدائك، فاعف عنهم، وارفق بهم.

وهذه الكلمة صارت مثلًا للتحريض على العفو عند المقدرة، تمثّلت بها عائشة رضي الله عنها لعليّ بن أبي طالب رضي الله عنه يوم الجمل، حين ظهر على الناس، فدنا من هودجها، ثم كلّمها بكلامٍ فأجابته:"ملكتَ، فأسجِحْ"؛ أي: ظَفِرت، فأحسِنْ، فجهّزها عند ذلك بأحسن الجهاز، وبعث معها أربعين امرأةً وقيل: سبعين، حتى قَدِمت المدينة

(1)

.

زاد في رواية للبخاريّ: "إنَّ القوم لَيُقْرَوْنَ في قومهم"، وفي رواية:"من قومهم".

وفي رواية إياس التالية: "إنهم الآن لَيُقْرَون في أرض غَطَفان"، و"يُقْرَون" - بضم أوله، وسكون القاف، وفتح الراء، وسكون الواو - من الْقِرَى، وهي الضيافة.

ولابن إسحاق: فقال: "إنهم الآن لَيُغْبَقُون في غطفان"، وهو بِالغين المعجمة الساكنة، والموحدة المفتوحة، والقاف، من الْغَبُوق: وهو شُرْب أول الليل، والمراد: أنهم فأتوا، وأنهم وصلوا إلى بلاد قومهم، ونزلوا عليهم، فهم الآن يَذبحون لهم، ويُطعمونهم.

وفي رواية إياس: "قال: فجاء رجل من غطفان، فقال: نَحَر لهم فلان جَزورًا، فلمّا كَشفوا جِلْدها، رأوا غبارًا، فقالوا: أتاكم القوم، فخرجوا هاربين".

(قَالَ) سلمة رضي الله عنه: (ثُمَّ رَجَعْنَا)؛ أي: إلى المدينة، (ويُرْدِفُني رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى نَاقَتِهِ)، وفي رواية إياس:"ثم أردفني رسول الله صلى الله عليه وسلم وراءه على العضباء"، وفيه تشجيع لسلمة رضي الله عنه، ومكافأة لِمَا فعل في الأعداء رضي الله عنه. (حَتَّى دَخَلْنَا الْمَدِينَةَ)، وفي رواية إياس: "فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خير فرساننا اليوم أبو قتادة، وخير رَجّالتنا اليوم سلمة، قال سلمة: ثم أعطاني سهم الراجل والفارس

(1)

راجع: كتاب "الأمثال" لأبي عُبيدة ص 154 رقم (439)، و"المستقصى" للزمخشريّ 2/ 348، و"مجمع الأمثال" للميدانيّ 2/ 283.

ص: 478

جميعًا"، ورَوَى الحاكم في "الإكليل"، والبيهقيّ من طريق عكرمة بن قتادة بن عبد الله بن عكرمة بن عبد الله بن أبي قتادة، حدّثني أبي، عن أبيه، عن عبد الله بن أبي قتادة: أن أبا قتادة اشترى فرسه، فلقيه مَسعدة الفزاريّ، فتقاولا، فقال أبو قتادة: أسأل الله أن يُلْقِنيك وأنا عليها، قال: آمين، قال: فبينما هو يَعْلِفها؛ إذ قيل: أُخذت اللقاح، فركبها حتى هَجَم على العسكر، قال: فطلع على فارس، فقال: لقد ألقانيك الله يا أبا قتادة، فَذكر مصارعته له، وظَفَرَه به، وقَتْله، وهَزْمَ المشركين، ثم لم يَنْشَب المسلمون، أن طلع عليهم أبو قتادة يَحُوش اللقاح، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "أبو قتادة سيد الفرسان"، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [43/ 4668](1806)، و (البخاريّ) في "الجهاد"(3041) و"المغازي"(4194)، و (أبو داود) في "الجهاد"(3/ 81)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(7/ 420)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 48)، و (النسائيّ) في "عمل اليوم والليلة"(978)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(6284)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4529 و 7129)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 303)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(10/ 236) و"دلائل النبوّة"(4/ 180 - 182)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): جواز الصُّرَاخ بـ "يا صباحاه"؛ للإنذار بالعدوّ، ونحوه.

2 -

(ومنها): جواز الْعَدْو الشديد في الغزو، والإنذار بالصياح العالي.

3 -

(ومنها): جواز تعريف الإنسان نفسه، إذا كان شُجاعًا؛ لِيُرعِب خصمه.

4 -

(ومنها): جواز إنشاد الرجز، والْحُداء؛ للتنشيط، وإفزاع الأعداء، وإدخال الرعب في قلوبهم.

ص: 479

5 -

(ومنها): استحباب العفو عند المقدرة، فقد قال صلى الله عليه وسلم لمسلمة رضي الله عنه:"ملكت، فأسجح".

6 -

(ومنها): جواز الإرداف خلفه على الدابّة، إذا كانت تُطيق ذلك، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4669]

(1807) - (حَدَّثَنَا أبو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدثَنَا هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ (ح) وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا أبو عَامِرٍ الْعَقَدِيُّ، كِلَاهُمَا عَنْ عِكْرِمَةَ بْنِ عَمَّارٍ (ح) وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّارِمِيُّ - وَهَذَا حَدِيثُهُ - أَخْبَرَنَا أبو عَلِيٍّ الْحَنَفِيُّ عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ الْمَجِيد، حَدَّثَنَا عِكْرِمَةُ - وَهُوَ ابْنُ عَمَّارٍ - حَدَّثَنِي إِيَاسُ بْنُ سَلَمَةَ، حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: قَدِمْنَا الْحُدَيْبِيَةَ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَنَحْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ مِائَةً، وَعَلَيْهَا خَمْسُونَ شَاةً، لَا تُرْوِيهَا، قَالَ: فَقَعَدَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى جَبَا الرَّكِيَّة، فَإمَّا دَعَا، وَإِمَّا بَصَقَ

(1)

فِيهَا، قَالَ: فَجَاشَتْ، فَسَقَيْنَا، وَاسْتَقَيْنَا، قَالَ: ثُمَّ إِن رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم دَعَانَا لِلْبَيْعَة، فِي أَصْلِ الشَّجَرَة، قَالَ: فَبَايَعْتُهُ أَوَّلَ النَّاس، ثُمَّ بَايَعَ، وَبَايَعَ، حَتَّى إِذَا كَانَ فِي وَسَطٍ مِنَ النَّاس، قَالَ:"بَايعْ يَا سَلَمَةُ"، قَالَ: قُلْتُ: قَدْ بَايَعْتُكَ يَا رَسُولَ اللهِ فِي أَوَّلِ النَّاس، قَالَ:"وَأَيْضًا"، قَالَ: وَرَآنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَزِلًا - يَعْنِي: لَيْسَ مَعَهُ سِلَاحٌ - قَالَ: فَأَعْطَانِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَجَفَةً - أَوْ دَرَقَةً - ثُمَّ بَايَعَ، حَتَّى إِذَا كَانَ فِي آخِرِ النَّاسِ قَالَ:"ألَا تُبَايِعُني يَا سَلَمَةُ"، قَالَ: قُلْتُ: قَدْ بَايَعْتُكَ يَا رَسُولَ اللهِ فِي أَوَّلِ النَّاس، وَفِي أَوْسَطِ النَّاس، قَالَ:"وَأَيْضًا"، قَالَ: فَبَايَعْتُهُ الثَّالِثَةَ، ثُمَّ قَالَ لِي:"يَا سَلَمَةُ أَيْنَ حَجَفَتُكَ - أَوْ دَرَقَتُكَ - الَّتِي أَعْطَيْتُكَ؟ "، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ لَقِيَنِي عَمِّي عَامِز عَزِلًا، فَأَعْطَيْتُهُ إِيَّاهَا. قَالَ: فَضَحِكَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَقَالَ:"إِنَّكَ كَالَّذِي قَالَ الأوَّلُ: اللَّهُمَّ أَبْغِني حَبِيبًا، هُوَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي". ثُمَّ إِنَّ الْمُشْرِكِينَ رَاسَلُونَا الصُّلْحَ

(2)

، حَتَّى مَشَى بَعْضُنَا فِي بَعْضٍ، وَاصْطَلَحْنَا، قَالَ:

(1)

وفي نسخة: "وإما بسق".

(2)

وفي نسخة: "بالصلح".

ص: 480

وَكُنْتُ تَبِيعًا لِطَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ الله، أَسْقِي فَرَسَهُ، وَأَحُسُّهُ، وَأَخْدُمُهُ، وَآكُلُ مِنْ طَعَامِه، وَتَرَكْتُ أَهْلِي، وَمَالِي، مُهَاجِرًا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: فَلَمَّا اصْطَلَحْنَا نَحْنُ وَأَهْلُ مَكَّةَ، وَاخْتَلَطَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ، أتيْتُ شَجَرَةً، فَكَسَحْتُ شَوْكَهَا، فَاضْطَجَعْتُ فِي أَصْلِهَا، قَالَ: فَأَتَانِي أَرْبَعَة مِنَ الْمُشْرِكِينَ، مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، فَجَعَلُوا يَقَعُونَ فِي رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَبْغَضْتُهُمْ، فَتَحَوَّلْتُ إِلَى شَجَرةٍ أُخْرَى، وَعَلَّقُوا سِلَاحَهُمْ، وَاضْطَجَعُوا، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ، إِذْ نَادَى مُنَادٍ مِنْ أَسْفَلِ الْوَادِي: يَا لَلْمُهَاجِرِينَ قُتِلَ ابْنُ زُنَيْمٍ، قَالَ: فَاخْتَرَطْتُ سَيْفِي، ثُمَّ شَدَدْتُ عَلَى أُولَئِكَ الأَرْبَعَةِ، وَهُمْ رُقُودٌ، فَأَخَذْتُ

(1)

سِلَاحَهُمْ، فَجَعَلْتُهُ ضِغْثًا في يَدِي، قَالَ: ثُمَّ قُلْتُ: وَالَّذِي كَرَّمَ وَجْهَ مُحَمَّدٍ، لَا يَرْفَعُ أَحَدٌ مِنْكُمْ رَأْسَهُ، إِلَّا ضَرَبْتُ الَّذِي فِيهِ عَيْنَاهُ، قَالَ: ثُمَّ جِئْتُ بِهِمْ أَسُوقُهُمْ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: وَجَاءَ عَمِّي عَامِرٌ بِرَجُلٍ مِنَ الْعَبَلَات، يُقَالُ لَهُ مِكْرَزٌ، يَقُودُهُ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى فَرَسٍ، مُجَفَّفٍ فِي سَبْعِينَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَنَظَرَ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:"دَعُوهُمْ، يَكُنْ لَهُمْ بَدْءُ الْفُجُور، وَثنَاهُ"، فَعَفَا عَنْهُمْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَنْزَلَ اللهُ:{وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ} الآية كُلَّهَا [الفتح: 24]. قَالَ: ثُمَّ خَرَجْنَا رَاجِعِينَ إِلَى الْمَدِينَة، فَنَزَلْنَا مَنْزِلًا بَيْنَنَا وَبَيْنَ بَنِي لَحْيَانَ جَبَلٌ، وَهُمُ الْمُشْرِكُونَ، فَاسْتَغْفَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِمَنْ رَقِيَ هَذَا الْجَبَلَ اللَّيْلَةَ؛ كَأنَّهُ طَلِيعَةٌ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابِه، قَالَ سَلَمَةُ: فَرَقِيتُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ مَرَّتَيْن، أَوْ ثَلَاثًا، ثُمَّ قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ، فَبَعَثَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِظَهْرِهِ مَعَ رَبَاحِ غُلَامِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَأنَا مَعَهُ، وَخَرَجْتُ مَعَهُ بِفَرَسِ طَلْحَةَ أُنَدِّيهِ مَعَ الظَّهْر، فَلَمَّا أَصْبَحْنَا إِذَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْفَزَارِيُّ قَدْ أَغَارَ عَلَى ظَهْرِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَاسْتَاقَهُ أَجْمَعَ، وَقَتَلَ رَاعِيَهُ، قَالَ: فَقُلْتُ: يَا رَبَاحُ خُذْ هَذَا الْفَرَسَ، فَأَبْلِغْهُ طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ الله، وَأَخْبِرْ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّ الْمُشْرِكِينَ قَدْ أَغَارُوا عَلَى سَرْحِه، قَالَ: ثُمَّ قُمْتُ عَلَى أَكَمَةٍ، فَاسْتَقْبَلْتُ

(1)

وفي نسخة: "وأخذت".

ص: 481

الْمَدِينَةَ، فَنَادَيْتُ ثَلَاثًا: يَا صَبَاحَاهْ، ثُمَّ خَرَجْتُ فِي آثَارِ الْقَوْمِ أَرْمِيهِمْ بِالنَّبْل، وَأَرْتَجِزُ، أَقُولُ:

أنا ابْنُ الأَكْوَعِ

وَالْيَوْمَ يَوْمُ الرُّضَّعِ

فَأَلْحَقُ رَجُلًا مِنْهُمْ، فَأَصُكُّ سَهْمًا في رَحْلِه، حَتَّى خَلَصَ نَصْلُ السَّهْمِ إِلَى كَتِفِه، قَالَ: قُلْتُ: خُذْهَا:

وَأنا ابْنُ الأَكْوَعِ

وَالْيَوْمُ يَوْمُ الرُّضَّع

قَالَ: فَوَاللهِ مَا زِلْتُ أَرْمِيهِمْ، وَأَعْقِرُ بِهِمْ، فَإِذَا رَجَعَ إِلَيَّ فَارِسٌ

(1)

، أتَيْتُ شَجَرَةً، فَجَلَسْتُ فِي أَصْلِهَا، ثُمَّ رَمَيْتُهُ، فَعَقَرْتُ بِه، حَتى إِذَا تَضَايَقَ الْجَبَلُ، فَدَخَلُوا فِي تَضَايُقِه، عَلَوْتُ الْجَبَلَ، فَجَعَلْتُ أرَدِّيهِمْ بِالْحِجَارَة، قَالَ: فَمَا زِلْتُ كلذَلِكَ أَتْبَعُهُمْ، حَتَّى مَا خَلَقَ اللهُ مِنْ بَعِيرٍ، مِنْ ظَهْرِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلا خَلَّفْتُهُ وَرَاءَ ظَهْرِي، وَخَلَّوْا بَيْنِي وَبَيْنَهُ، ثُمَّ اتَّبَعْتُهُمْ أَرْمِيهِمْ، حَتَّى أَلْقَوْا أَكْثَرَ مِنْ ثَلاثينَ بُرْدَةً، وَثَلاثينَ رُمْحًا، يَسْتَخِفُّونَ، وَلَا يَطْرَحُونَ شَيْئًا، إِلا جَعَلْتُ عَلَيْهِ آرَامًا مِنَ الْحِجَارَة، يَعْرِفُهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ، حَتَّى أتوْا مُتَضَايِقًا مِنْ ثَنِيَّةٍ، فَإِذَا هُمْ قَدْ أتاهُمْ فُلَانُ بْنُ بَدْرٍ الْفَزَارِيُّ، فَجَلَسُوا يَتَضَحَّوْنَ - يَعْنى: يَتَغَدَّوْنَ - وَجَلَسْتُ عَلَى رَأْسِ قَرْنٍ، قَالَ الْفَزَارِيُّ: مَا هَذَا الَّذِي أَرَى؟ قَالُوا: لَقِينَا مِنْ هَذَا الْبَرْحَ، وَاللهِ مَا فَارَقَنَا مُنْذُ غَلَسٍ يَرْمِينَا، حَتَّى انْتَزَعَ كُلَّ شَيْءٍ فِي أَيْدِينَا، قَالَ: فَلْيَقُمْ إِلَيْهِ نَفَرٌ مِنْكُمْ أَرْبَعَةٌ، قَالَ فَصَعِدَ إلَيَّ مِنْهُمْ أَرْبَعَةٌ فِي الْجَبَل، قَالَ: فَلَمَّا أَمْكَنُونِي مِنَ الْكَلَام، قَالَ: قُلْتُ: هَلْ تَعْرِفُونِي؟

(2)

قَالُوا: لَا، وَمَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: قُلْتُ: أنا سَلَمَةُ بْنُ الأَكْوَع، وَالَّذِي كَرَّمَ وَجْهَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم لَا أَطْلُبُ رَجُلًا مِنْكُمْ إِلَّا أَدْرَكْتُهُ، وَلَا يَطْلُبُنِي رَجُلٌ مِنْكُمْ، فَيُدْرِكَنِي، قَالَ أَحَدُهُمْ: أنَا أَظُنُّ، قَالَ: فَرَجَعُوا، فَمَا بَرِحْتُ مَكَانِي حَتَّى رَأَيْتُ فَوَارِسَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَتَخَلَّلُونَ الشَّجَرَ، قَالَ: فَإِذَا أَوَّلُهُمُ الأَخْرَمُ الأَسَدِيُّ، عَلَى إِثْرِهِ أبو قَتَادَةَ الأنْصَارِيُّ، وَعَلَى إِثْرِهِ الْمِقْدَادُ بْنُ الأَسْوَدِ الْكِنْدِيُّ، قَالَ: فَأَخَذْتُ بِعِنَانِ الأَخْرَم، قَالَ: فَوَلَّوْا مُدْبِرِينَ، قُلْتُ: يَا أَخْرَمُ احْذَرْهُمْ، لَا

(1)

وفي نسخة: "فإذا أتى إليّ فارس".

(2)

وفي نسخة: "هل تعرفونني".

ص: 482

يَقْتَطِعُوكَ، حَتَّى يَلْحَقَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ، قَالَ: يَا سَلَمَةُ إِنْ كُنْتَ تُؤْمِن بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِر، وَتَعْلَمُ أَنَّ الْجَنَّةَ حَقٌّ، وَالنَّارَ حَقٌّ، فَلَا تَحُلْ بَيْنِي وَبَيْنَ الشَّهَادَة، قَالَ: فَخَلَّيْتُهُ، فَالْتَقَى هُوَ وَعَبْدُ الرَّحْمَن، قَالَ: فَعَقَرَ بِعَبْدِ الرَّحْمَنِ فَرَسَهُ، وَطَعَنَهُ عَبْدُ الرَّحْمَن، فَقَتَلَهُ، وَتَحَوَّلَ عَلَى فَرَسِه، وَلَحِقَ أبو قَتَادَةَ فَارِسُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِعَبْدِ الرَّحْمَن، فَطَعَنَهُ، فَقَتَلَهُ، فَوَالَّذِي كَرَّمَ وَجْهَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم لَتَبِعْتُهُمْ أَعْدُو عَلَى رِجْلَيَّ، حَتَّى مَا أَرَى وَرَائِي مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وَلَا غُبَارِهِمْ شَيْئًا، حَتَّى يَعْدِلُوا قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ إِلَى شِعْبٍ، فِيهِ مَاءٌ، يُقَالُ لَهُ ذُو قَرَدٍ؛ لِيَشْرَبُوا مِنْهُ، وَهُمْ عِطَاشٌ، قَالَ: فَنَظَرُوا

(1)

إلَيَّ أَعْدُو وَرَاءَهُمْ، فَحَلَّيْتُهُمْ عَنْهُ - يَعْنى: أَجْلَيْتُهُمْ عَنْهُ - فَمَا ذَاقُوا مِنْهُ قَطْرَةً، قَالَ: وَيَخْرُجُونَ، فَيَشْتَدُّونَ فِي ثَنِيَّةٍ، قَالَ: فَأَعْدُو، فَأَلْحَقُ رَجُلًا مِنْهُمْ، فَأَصُكُّهُ بسَهْمٍ في نُغْضِ كَتِفِه، قَالَ: قُلْتُ: خُذْهَا

(2)

:

وَأنَا ابْنُ الأَكْوَع

وَالْيَوْمَ يَوْمُ الرُّضَّع

قَالَ: يَا ثَكِلَتْهُ أمُّهُ أَكوَعُهُ بُكْرَةً؟ قَالَ: قُلْتُ: نَعَمْ يَا عَدُوَّ نَفْسِه، أَكْوَعكَ بُكْرَةَ، قَالَ: وَأَرْدَوْا فَرَسَيْنِ عَلَى ثَنِيَّةٍ، قَالَ: فَجِئْتُ بِهِمَا أَسُوقُهُمَا إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: وَلَحِقَنِي عَامِرٌ بِسَطِيحَةٍ فِيهَا مَذْقَةٌ مِنْ لَبَنٍ، وَسَطِيحَةٍ فِيهَا مَاءٌ؛ فَتَوَضَّأتُ، وَشَرِبْتُ، ثُمَّ أتيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ عَلَى الْمَاءِ الَّذِي حَلَّيْتُهُمْ عَنْهُ، فَإِذَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ أَخَذَ تِلْكَ الإبِلَ، وَكُلَّ شَيْءٍ اسْتَنْقَذْتُهُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَكُلَّ رُمْحٍ وَبُرْدَةٍ، وَإِذَا بِلَالٌ نَحَرَ نَاقَةً مِنَ الابِلِ الَّذِي اسْتَنْقَذْتُ مِنَ الْقَوْم، وَإِذَا هُوَ يَشْوِي لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ كَبدِهَا، وَسَنَامِهَا، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ خَلِّنِي، فَأَنْتَخِبُ مِنَ الْقَوْمِ مِائَةَ رَجُلٍ، فَأَتَّبعُ الْقَوْمَ، فَلَا يَبْقَى مِنْهُمْ مُخْبِرٌ، إِلَّا قَتَلْتُهُ، قَالَ: فَضَحِكَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ فِي ضَوْءِ النَّار، فَقَالَ:"يَا سَلَمَةُ، أَتُرَاكَ كُنْتَ فَاعِلًا؟ "، قُلْتُ: نَعَمْ، وَالَّذِي أَكْرَمَكَ، فَقَالَ:"إِنَّهُمُ الآنَ لَيُقْرَوْنَ فِي أَرْضِ غَطَفَانَ"، قَالَ: فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ غَطَفَانَ، فَقَالَ: نَحَرَ لَهُمْ فُلَانٌ جَزُورًا، فَلَمَّا كَشَفُوا جِلْدَهَا رَأَوْا غُبَارًا، فَقَالُوا: أتاكُمُ الْقَوْمُ، فَخَرَجُوا هَارِبِينَ، فَلَمَّا أَصْبَحْنَا

(1)

وفي نسخة: "نظروا".

(2)

وفي نسخة: "قلت: نعم خذها".

ص: 483

قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "كَانَ خَيْرَ فُرْسَانِنَا الْيَوْمَ أبو قَتَادَةَ، وَخَيْرَ رَجَّالَتِنَا سَلَمَةُ"، قَالَ: ثُمَّ أَعْطَانِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم سَهْمَيْنِ: سَهْمُ الْفَارِس، وَسَهْمُ الرَّاجِل، فَجَمَعَهُمَا لِي جَمِيعًا، ثُمَّ أَرْدَفَني رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَرَاءَهُ عَلَى الْعَضْبَاء، رَاجِعِينَ إِلَى الْمَدِينَةِ. قَالَ: فَبَيْنَمَا نَحْنُ نَسِيرُ، قَالَ: وَكَانَ رَجُلٌ مِنَ الأنصَارِ لَا يُسْبَقُ شَدًّا، قَالَ: فَجَعَلَ يَقُولُ: ألَا مُسَابِقٌ إِلَى الْمَدِينَةِ؟، هَلْ مِنْ مُسَابِقٍ؟ فَجَعَلَ يُعِيدُ ذَلِكَ، قَالَ: فَلَمَّا سَمِعْتُ كَلَامَهُ، قُلْتُ: أَمَا تُكْرِمُ كَرِيمًا؟، وَلَا تَهَابُ شَرِيفًا؟ قَالَ: لَا، إِلَّا أَنْ يَكُونَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ بِأَبِي وَأُمِّي ذَرْنِي، فَلأُسَابِقَ الرَّجُلَ

(1)

، قَالَ:"إِنْ شِئْتَ"، قَالَ: قُلْتُ: اذْهَبْ إِلَيْكَ، وَثَنَيْتُ رِجْلَي، فَطَفَرْتُ، فَعَدَوْتُ، قَالَ: فَرَبَطْتُ عَلَيْهِ شَرَفًا، أَوْ شَرَفَيْنِ، أَسْتَبْقِي نَفَسِي، ثُمَّ عَدَوْتُ فِي إِثْرِه، فَرَبَطْتُ عَلَيْهِ شَرَفًا، أَوْ شَرَفَيْنِ، ثُمَّ إِنِّي رَفَعْتُ، حَتَّى أَلْحَقَهُ، قَالَ: فَأَصُكُّهُ بَيْنَ كَتِفَيْه، قَالَ: قُلْتُ: قَدْ سُبِقْتَ وَالله، قَالَ: أَنَا أَظُنُّ، قَالَ: فَسَبَقْتُهُ إِلَى الْمَدِينَة، قَالَ: فَوَاللهِ مَا لَبِثْنَا إِلَّا ثَلَاثَ لَيَالٍ

(2)

، حَتَّى خَرَجْنَا إِلَى خَيْبَرَ، مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: فَجَعَلَ عَمِّي عَامِرٌ يَرْتَجِزُ بِالْقَوْمِ:

تَاللهِ لَوْلَا اللهُ مَا اهْتَدَيْنَا

وَلَا تَصَدَّقْنَا وَلَا صَلَّيْنَا

وَنَحْنُ عَنْ فَضْلِكَ مَا اسْتَغْنَيْنَا

فَثَبِّتِ الأَقْدَامَ إِنْ لَاقَيْنَا

وَأنزِلَنْ سَكِينَةً عَلَيْنَا

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ هَذَا؟ "، قَالَ: أنَا عَامِرٌ، قَالَ:"غَفَرَ لَكَ رَبُّكَ"، قَالَ: وَمَا اسْتَغْفَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لإِنسَانٍ يَخُصُّهُ إِلَّا اسْتُشْهِدَ، قَالَ: فَنَادَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّاب، وَهُوَ عَلَى جَمَلٍ لَهُ: يَا نَبِيَّ الله، لَوْلَا مَا مَتَّعْتَنَا

(3)

بِعَامِرٍ؟، قَالَ: فَلَمَّا قَدِمْنَا خَيْبَرَ قَالَ: خَرَجَ مَلِكهُمْ مَرْحَبٌ، يَخْطِرُ بِسَيْفِه، وَيَقُولُ:

قَدْ عَلِمَتْ خَيْبَرُ أَنِّي مَرْحَبُ

شَاكِي السِّلَاحِ بَطَلٌ مُجَرَّبُ

إِذَا الْحُرُوبُ أقبَلَتْ تَلَهَّبُ

(1)

وفي نسخة: "فلأسبق الرجل".

(2)

وفي نسخة: "ما لبثنا ثلاث ليال".

(3)

وفي نسخة: "لولا متعتنا".

ص: 484

قَالَ: وَبَرَزَ لَهُ عَمِّي عَامِرٌ، فَقَالَ:

قَدْ عَلِمَتْ خَيْبَرُ أنِّي عَامِرٌ

شَاكِي السِّلَاحِ بَطَلٌ مُغَامِرٌ

قَالَ: فَاخْتَلَفَا ضَرْبَتَيْن، فَوَقَعَ سَيْفُ مَرْحَبٍ فِي تُرْسِ عَامِرٍ، وَذَهَبَ عَامِرٌ يَسْفُلُ لَهُ، فَرَجَعَ سَيْفُهُ عَلَى نَفْسِه، فَقَطَعَ أَكْحَلَهُ، فَكَانَتْ فِيهَا نَفْسُهُ، قَالَ سَلَمَةُ: فَخَرَجْتُ، فَإِذَا نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُونَ: بَطَلَ عَمَلُ عَامِرٍ، قَتَلَ نَفْسَهُ، قَالَ: فَأَتيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، وَأنَا أَبْكِي، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ بَطَلَ عَمَلُ عَامِرٍ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"مَنْ قَالَ ذَلِكَ؟ "، قَالَ: قُلْتُ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِكَ، قَالَ:"كَذَبَ مَنْ قَالَ ذَلِكَ، بَلْ لَهُ أَجْرُهُ مَرَّتَيْنِ"، ثُمَّ أَرْسَلَنِي إِلَى عَلِيٍّ، وَهُوَ أَرْمَدُ، فَقَالَ: "لأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ رَجُلًا يحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ، أَوْ يُحِبُّهُ اللهُ وَرَسُولُهُ

(1)

"، قَالَ: فَأَتَيْتُ عَلِيًّا، فَجِئْتُ بِهِ أقودُهُ، وَهُوَ أَرْمَدُ، حَتَّى أَتَيْتُ بِهِ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَبَسَقَ فِي عَيْنَيْه، فَبَرَأَ، وَأَعْطَاهُ الرَّايَةَ، وَخَرَجَ مَرْحَبٌ، فَقَالَ:

قَدْ عَلِمَتْ خَيْبَرُ أَنِّي مَرْحَبُ

شَاكِي السِّلَاحِ بَطَلٌ مُجَرَّبُ

إِذَا الْحُرُوبُ أقبَلَتْ تَلَهَّبُ

فَقَالَ عَلِيٌّ:

أَنَا الَّذِي سَمَّتْنِي أُمِّي حَيْدَرَهْ

كَلَيْثِ غَابَاتٍ كَرِيهِ الْمَنْظَرَهْ

أُوفِيهِمُ بِالصَّاع كَيْلَ السَّنْدَرَهْ

قَالَ: فَضَرَبَ رَأْسَ مَرْحَبٍ، فَقَتَلَهُ، ثمَّ كَانَ الْفَتْحُ عَلَى يَدَيْه.

قَالَ إبراهيمُ: حدَّثَنا مُحمَدُ بن يحيى، حَدَّثَنا عبدُ الصَّمَدِ بن عَبْدِ الوارِثِ عنْ عِكْرِمَةَ بنِ عَمّارٍ، بهذا الحديثِ بطولهِ).

رجال هذا الإسناد: تسعة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ) بن مسلم الليثيّ مولاهم، أبو النضر البغداديّ، لقبه قيصر، ثقةٌ ثبتٌ [9](ت 207) وله (73) سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 36.

3 -

(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه، تقدّم في الباب الماضي.

(1)

وفي نسخة: "ويحبّه الله ورسوله".

ص: 485

4 -

(أَبُو عَامِرٍ الْعَقَدِيُّ) عبد الملك بن عمرو القيسيّ البصريّ، ثقةٌ [9](ت 4 أو 205)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 21.

5 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّارِمِيُّ) أبو محمد السّمّرْقنديّ الحافظ، صاحب "المسند"، ثقةٌ فاضلٌ، متقنٌ [11](ت 255) وله (74) سنةً (م د ت) تقدم في "المقدمة" 5/ 29.

6 -

(أَبُو عَلِيٍّ الْحَنَفِيُّ عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ الْمَجِيدِ) البصريّ، صدوقٌ [9](ت 209)(ع) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 40/ 1451.

7 -

(عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ) العِجْليّ، أبو عمّار اليماميّ، بصريّ الأصل، ثقةٌ إلا في يحيى بن أبي كثير، فضعيف؛ لاضطرابه [5] مات قبيل (160)(خت م س ق) تقدم في "الإيمان" 12/ 155.

8 -

(إِيَاسُ بْنُ سَلَمَةَ) بن الأكوع، الأسلميّ، أبو سلمة، أو أبو بكر المدنيّ، ثقةٌ [3](ت 119) وله (77) سنة (ع) تقدم في "الإيمان" 44/ 288.

9 -

(أَبُوهُ) سلمة بن عمرو بن الأكوع رضي الله عنه، ذُكر في السند الماضي.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنف رحمه الله، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، والابن عن أبيه.

شرح الحديث:

(عَنْ عِكْرِمَةَ بْنِ عَمَّارٍ) اليماميّ أنه قال: (حَدَّثَنِي إِيَاسُ بْنُ سَلَمَةَ) قال: (حَدَّثَني أَبِي) سلمة بن عمرو بن الأكوع رضي الله عنه، (قَالَ: قَدِمْنَا) بكسر الدال المهملة، (الْحُدَيْبِيَةَ) تقدّم أنها بتخفيف الياء، وتشديدها، لغتان، والتخفيف أشهر، وهو موضع فيه ماء على قرب من مكة. (مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَنَحْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ مِائَةً) جملة في محلّ نصب على الحال، قال النوويّ رحمه الله: هذا هو الأشهر، وفي رواية:"ثلاث عشرة مائة"، وفي رواية:"خمس عشرة مائة". انتهى

(1)

.

وقال ابن القيّم رحمه الله في "الهدي": وكان معه صلى الله عليه وسلم ألف وخمسمائة، هكذا في "الصحيحين" عن جابر، وعنه فيهما:"كانوا ألفًا وأربعمائة"، وفيهما عن

(1)

"شرح النوويّ" 12/ 174 - 175.

ص: 486

عبد الله بن أبي أوفى: "كنا ألفًا وثلاثمائة"، قال قتادة: قلت لسعيد بن المسيب: كم كان الذين شَهِدوا بيعة الرضوان؟ قال: خمس عشرة مائة، قال: قلت: فإن جابر بن عبد الله قال: كانوا أربع عشرة مائة، قال: يرحمه الله أَوْهَم، هو حدّثني أنهم كانوا خمس عشرة مائة.

قال ابن القيّم: وقد صحّ عن جابر القولان، وصح عنه أنهم نَحَروا عام الحديبية سبعين بدنة، البدنة عن سبعة، فقيل له: كم كنتم؟ قال: ألفًا وأربعمائة، بِخَيْلنا، ورَجِلنا؛ يعني: فارسهم، وراجلهم، والقلب إلى هذا أميل، وهو قول البراء بن عازب، ومعقل بن يسار، وسلمة بن الأكوع في أصح الروايتين، وقول المسيِّب بن حَزْن، قال شعبة عن قتادة، عن سعيد بن المسيِّب، عن أبيه: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة ألفًا وأربعمائة. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن مما سبق أن الأصحّ أنهم كانوا ألفًا وأربعمائة، كما هو رواية مسلم هنا، ورجّحه النوويّ، وابن القيّم - رحمهما الله تعالى - والله تعالى أعلم.

(وَعَلَيْهَا خَمْسُونَ شَاةً، لَا تُرْوِيهَا)؛ يعني: أن ماء الحديبية كان قليلًا، لا يكفي خمسين شاةً، (قَالَ: فَقَعَدَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى جَبَا الرَّكِيَّةِ) قال النوويّ رحمه الله: "الْجَبَا" - بفتح الجيم، وتخفيف الباء الموحّدة، مقصورًا - هي ما حول البئر، وأما "الرَّكِيّ" فهو البئر، والمشهور في اللغة: رَكِيّ بغير هاء، ووقع هنا:"الركيّة" بالهاء، وهي لغة حكاها الأصمعيّ، وغيره

(2)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: "جَبَا الرَّكيّة" - بالفتح في الجيم، والباء الموحّدة، مقصورًا -: هو جانب البئر، و"الركيَّة": البئر غير المطوية، فإذا طُوِيت فهي: الطَّوِيُّ، وللعذريّ:"جُبِّ رَكِيَّة" بضم الجيم، وكسر الباء، والْجُبّ: البئر ليست بعيدة القعر. انتهى

(3)

.

(فَإِمَّا دَعَا) صلى الله عليه وسلم لمائها حتى يُبارَك فيه، (وَإِمَّا بَصَقَ فِيهَا)، ووقع في بعض النسخ:"بَسَقَ" بالسين، قال النوويّ: هكذا هو في النسخ: "بَسَقَ" بالسين،

(1)

"زاد المعاد" 3/ 255.

(2)

"شرح النوويّ" 12/ 175.

(3)

"المفهم" 3/ 669.

ص: 487

وهي صحيحة، يقال: بَزَقَ، وبَصَقَ، وبَسَقَ ثلاث لغات، بمعنًى، والسين قليلة الاستعمال. انتهى

(1)

.

(قَالَ) سلمة: (فَجَاشَتْ)؛ أي: ارتفعت، يقال: جاش الشيء يجيش جَيْشًا: إذا ارتفع، وفي هذا معجزة ظاهرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد سبق مرارًا كثيرةً التنبيه على نظائرها. (فَسَقَيْنَا) أنفسنا، ودوابّنا من تلك البئر، (وَاسْتَقَيْنَا)؛ أي: أخذنا من مائها في أوعيتنا لنستعمله عند الحاجة. (قَالَ) سلمة: (ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم) بكسر همزة "إن"؛ لوقوعها في الابتداء، كما قال في "الخلاصة":

فَاكْسِرْ فِي الابْتِدَا وَفِي بَدْءِ صِلَهْ

وَحَيْثُ "إنَّ" الِيَمِينٍ مُكْمِلَهْ

(دَعَانَا لِلْبَيْعَةِ) - بفتح الموحّدة، وسكون التحتانتة -: أصلها: الصَّفْقة على إيجاب البيع، وجمعها: بَيْعَاتٌ بالسكون، ويُحرَّك في لغة هُذيل، وتُطْلق على المبايعة، والطاعة

(2)

، وهي المرادة هنا، وهي بيعة الرضوان. (فِي أَصْلِ الشَّجَرَةِ) هي الشجرة التي ذكرها الله تعالى في قوله:{لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (18)} [الفتح: 18]. (قَالَ) سلمة: (فَبَايَعْتُهُ أَوَّلَ النَّاسِ) بنصب "أوّل" على الظرفيّة لـ "بايعتُ"، (ثُمَّ) بعد مبايعتي (بَايَعَ) صلى الله عليه وسلم الناس (وَبَايَعَ) بعدهم آخرين، (حَتَّى إِذَا كَانَ) صلى الله عليه وسلم (فِي وَسَطٍ مِنَ النَّاسِ)؛ أي: في مبايعتهم (قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("بَايعْ يَا سَلَمَةُ"، قَالَ) سلمة (قُلْتُ: قَدْ بَايَعْتُكَ يَا رَسُولَ اللهِ فِي أَوَّلِ النَّاس، قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("وَأَيْضًا")؛ أي: وبايعْ كذلك مرّة ثانيةً.

[فائدة]: قوله: "أيضًا" منصوب على المصدريّة، يقال: آض يئيض أيْضًا؛ كباع يبيع بيعًا: إذا رجع، فقولهم: افعَلْ ذلك أيضًا، معناه: افعله عَوْدًا إلى تقدّم، قاله الفيّوميّ

(3)

.

وقال ابن عابدين رحمه الله: قولهم: "أيضًا" هو مصدر آض يَئِيض أَيْضًا، كباع، تحرّكت الياء، وانفتح ما قبلها، فقُلبت ألفًا، وأصل يئيض: يَيْئِضُ،

(1)

شرح النوويّ" 12/ 175.

(2)

راجع: "المصباح المنير" 1/ 69.

(3)

"المصباح المنير" 1/ 33.

ص: 488

بوزن يَفْعِلُ، نُقلت حركة الياء إلى الهمزة، وأما إعرابه، فذكر ابن هشام في رسالة تعرّض فيها للمسألة: إن جماعة توهّموا أنه منصوب على الحال من ضمير "قال"، وأن التقدير: وقال أيضًا؛ أي: راجعًا إلى القول، وهذا لا يحسن تقديره إلا إذا كان هذا القول صدر من القائل بعد صدور القول السابق له، وليس ذلك بشرط، بل تقول: قلت اليوم كذا، وقلته أمس أيضًا، وكتبت اليوم، وكتبت أمس أيضًا، قال: والذي يظهر لي أنه مفعول مطلقٌ حُذف عامله، أو حالٌ حُذف عاملها وصاحبها؛ أي: أَرْجِعُ إلى الإخبار رُجوعًا، ولا أقتصر على ما قدّمتُ، أو أُخبر راجعًا، فهذا هو الذي يستمرّ في جميع المواضع، ومما يؤنسك بأن العامل محذوفٌ أنك تقول: عنده مالٌ، وأيضًا علمٌ، فلا يكون فبلها ما يصلح للعمل فيها، فلا بدّ حينئذ من التقدير.

(واعلم): أنها إنما تُستعمل في شيئين، بينهما توافقٌ، ويغني كلّ منهما عن الآخر، فلا يجوز: جاء زيدٌ أيضًا، ولا جاء زيد، ومضى عمرو أيضًا، ولا اختصم زيد وعمرو أيضًا. انتهى ملخّصًا

(1)

.

(قَالَ) سلمة (وَرَآنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَزِلًا) قال النوويّ رحمه الله: ضبطوه بوجهين: أحدهما: فتح العين، مع كسر الزاي، والثاني: ضمّهما، وقد فسّره في الكتاب بالذي لا سلاح معه، ويقال له أيضًا: أعزل، وهو أشهر استعمالًا. انتهى

(2)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: "عزلًا": الرواية فيه هنا، وفي الحرف الآتي بعده: بفتح العين، وكسر الزاي، قال بعض اللغويين: الصواب: أعزل، ولا يقال: عَزِلٌ، وقيّده بعضهم: عُزُلًا - بضم العين والزاي - وكذا ذكره الهرويّ، كما يقال: ناقة عُلُط، وجمل فُنُق، والجمع: أَعزال، كما يقال: جُنُبٌ وأَجنابٌ، وماء سُدُمٌ، ومياه أَسدام، والأعزل: الذي لا سلاح معه. انتهى

(3)

.

وقوله: (يَعْنِي: لَيْسَ مَعَهُ سِلَاحٌ) تفسير من بعض الرواة لـ "عَزلٍ". (قَالَ) سلمة (فَأَعْطَانِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَجَفَةً، أَوْ دَرَقَةً) - بفتحتين فيهما - و"أو" للشك

(1)

"الفوائد العجيبة في إعراب الكلمات الغريبة" لابن عابدين رحمه الله 2/ 331 - 332.

(2)

"شرح النوويّ" 12/ 175.

(3)

"المفهم" 3/ 670.

ص: 489

من الراوي، والحجفة: الترس، وإنما يكون من عِيدان، والدّرق من الجلود، قاله القرطبيّ

(1)

.

وقال الفيّوميّ رحمه الله: الْحَجَفَةُ: التُّرْسُ الصغير، يُطارق بين جلدين، والجمع: حَجَفٌ، وحَجَفَاتٌ، مثلُ قَصَبَةٍ، وقَصَبٍ، وقَصَبَات. انتهى

(2)

.

وقال المجد رحمه الله: الْحَجَفُ: محرّكةً: التُّرْسُ، من جلود بلا خشب، ولا عَقَبٍ، قال: والدّرَقَةُ - محرّكة: الْحَجَفَةُ، جمعها: دَرَقٌ، وأَدراقٌ، ودِراقٌ. انتهى

(3)

.

(ثُمَّ بَايَعَ) صلى الله عليه وسلم بقيّة الناس، (حَتَّى إِذَا كَانَ فِي آخِرِ النَّاسِ قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("أَلَا تُبَايِعُنِي يَا سَلَمَةُ"، قَالَ) سلمة (قُلْتُ: قَدْ بَايَعْتُكَ يَا رَسُولَ اللهِ فِي أَوَّلِ النَّاس، وَفِي أَوْسَطِ النَّاس، قَالَ: "وَأَيْضًا")؛ أي: وبايعْ كذلك مرّةً ثالثةً. (قَالَ: فَبَايَعْتُهُ الثَّالِثَةَ) قال القرطبيّ رحمه الله: تخصيصه صلى الله عليه وسلم سلمة بتكرار البيعة ثلاثًا؛ تأكيد في حقّه، لِمَا عَلِم من خصاله، وكثرة غَنائه، كما قد ظهر منه على ما يأتي

(4)

.

وقال بعضهم

(5)

: فيه فضيلة ظاهرة لسلمة بن الأكوع رضي الله عنه، وفي مبايعته صلى الله عليه وسلم له ثلاث مرّات إشارة إلى أنه سيحضر ثلاثة مشاهد يكون له فيها بلاءٌ حسنٌ، وقد كان الأمر ذلك، فقد اتّصل بالحديبية غزوة ذي قَرَد، واتّصل بها فتح خيبر، وكان له في كلّ منها غَنَاءٌ عظيم، وبلاءٌ حسنٌ، والله تعالى أعلم.

(ثُمَّ قَالَ لِي: "يَا سَلَمَةُ أَيْنَ حَجَفَتُكَ؟ أَوْ دَرَقَتُكَ الَّتِي أَعْطَيْتُكَ؟ "، قَالَ) سلمة (قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ لَقِيَني عَمِّي عَامِرُ) بن الأكوع رضي الله عنه (عَزِلًا)؛ أي: بلا سلاح، (فَأَعْطَيْتُهُ إِيَّاهَا)؛ أي: آثرته بها على نفسي؛ عملًا بقوله {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9]. (قَالَ: فَضَحِكَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) تعجّبًا مما صنع، حيث آثر عمه على نفسه بما أعطاه النبيّ صلى الله عليه وسلم مع شدّة حرص الناس على مثل ذلك، (وَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("إِنَّكَ كَالَّذِي قَالَ الأوَّلُ)؛ أي: الرجل، المتقدّم زمانه، الظاهر أن هذا من المَثَل السائر، و"الأول" بالرفع على الفاعليّة، وأعربه

(1)

"المفهم" 3/ 670.

(2)

"المصباح المنير" 1/ 122.

(3)

"القاموس المحيط" ص 267 و 426.

(4)

"المفهم" 3/ 670.

(5)

راجع: "تكملة فتح الملهم" 3/ 232.

ص: 490

بعضهم بالنصب على الظرفيّة؛ أي: في الزمن الأول، والأول هو الظاهر، والمعنى أن شأنك هذا يُشبه معنى قول القائل في الزمان السابق: اللهم أبغني. . . إلخ، وفي رواية أحمد في "مسنده":"إنك كالذي قال"

(1)

، ولم يذكر لفظ الأول. (اللَّهُمَّ أَبْغِنِي) بقطع الهمزة، ووصلها، من أبغاه، وبغاه، رباعيًّا، وثلاثيًّا؛ أي: طلَب له؛ أي: اطلب لي، والمراد: ارزُقني، قال القرطبيّ: يقال: بَغَيتُ الشيءَ من فلان، فأبغانيه؛ أي: أعطاني ما طلبته. انتهى

(2)

.

وقال المجد رحمه الله: بَغَته أبغيه، بُغاءً، وبُغًى، وبُغيةً بضمّهنّ، وبِغْيةً بالكسر: طلبته، قال: وأبغاه الشيءَ: طلبه له؛ كبغَاهُ إيّاه، كرَمَاهُ، أو أعانه على طلبه. انتهى

(3)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن من عبارة المجد رحمه الله المذكورة - حيث قال: وأبغاه الشيءَ؛ كبغاه إياه - أن "أبغني" هنا يجوز بقطع الهمزة، ووَصْلها، فتأمله بالإمعان، والله تعالى أعلم.

(حَبِيبًا) منصوب على أنه مفعول ثانٍ لـ "أبغني"، (هُوَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي") هذا إشارة إلى أن سلمة آثر عمه على نفسه بما أعطاه النبيّ صلى الله عليه وسلم مع احتياجه إليه، فصار كمن يدعو الله تعالى أن ييسّر له رجلًا حبيبًا يكون أحبّ إليه من نفسه، ففيه من مدح سلمة بالإيثار ما لا يخفى، والله تعالى أعلم.

(ثُمَّ إِنَّ الْمُشْرِكِينَ رَاسَلُونَا) من المراسلة؛ أي: أرسلوا إلينا، وأرسلنا إليهم في شأن الصلح، قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في أكثر النسخ: "راسلونا" من المراسلة، وفي بعضها:"رَاسُّونا" بضم السين المهملة المشدّدة، وحَكَى القاضي عياض فَتْحها أيضًا، وهما بمعنى راسلونا، مأخوذ من قولهم: رَسَّ الحديث يَرُسُّهُ: إذا ابتدأه، وقيل: من رَسَّ بينهم؛ أي: أصلح، وقيل: معناه: فاتحونا، من قولهم: بلغني رَسٌّ من الخبر؛ أي: أوله، ووقع في بعض النسخ:"وَاسَوْنا" بالواو؛ أي: اتفقنا نحن وَهُم على الصلح، والواو فيه بدل من الهمزة، وهو من الأسوة. انتهى

(4)

.

(1)

"مسند الإمام أحمد" 4/ 49.

(2)

"المفهم" 3/ 670.

(3)

"القاموس المحيط" ص 120.

(4)

"شرح النوويّ" 12/ 176.

ص: 491

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "راسلونا الصلح" هذه رواية العذريّ، وهي من الرسالة، ورواه جماعة:"راسُّونا" بسين مهملة مشدّدة مضمومة، وهو من رَسَّ الحديث يَرُسّهُ: إذا ابتدأه، ورسستُ بين القوم: أصلحت بينهم، ورسا لك الحديثَ رَسْوًا: إذا ذَكَر لك منه طرفًا، ورُوي:"راسَونا" بفتح السين لابن ماهان، قال عياضٌ: ولا وجه لها. انتهى

(1)

.

(الصُّلْحَ)؛ أي: طلب الصلح، وفي بعض النسخ:"بالصلح"، (حَتَّى مَشَى بَعْضُنَا فِي بَعْضٍ) "في" هنا بمعنى "إلى"؛ أي: مشى بعضنا إلى بعض، ومنه قوله تعالى:{فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ} [إبراهيم: 9]؛ أي: إلى أفواههم، أو هي بمعنى "مع"، فيكون المعنى: مشى بعضنا مع بعض

(2)

. (وَاصْطَلَحْنَا)؛ أي: اتّفقنا على أن لا الحرب بيننا وبينهم عشر سنين. (قَالَ) سلمة (وَكُنْتُ تَبِيعًا)؛ أي: خادمًا (لِطَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللهِ) بن عثمان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم التيميّ المدنيّ، أحد العشرة المبشّرين بالجنة، استُشهد رضي الله عنه يوم الجمل سنة (36) تقدّمت ترجمته في "الإيمان" 2/ 109. (أَسْقِي فَرَسَهُ) بفتح الهمزة، وضمّها، من سقى ثلاثيًّا، وأسقى رباعيًّا، (وَأَحُسُّهُ)؛ أي: أحُكّ ظهره بالْمِحَسّة؛ لأزيل عنه الغبار ونحوه، قال الجوهريّ رَءإدنهُ: و"المِحَسّة" بكسر الميم: الْفِرْجَونُ

(3)

، وقال المجد رحمه الله في مادّة "فرْجَنَ": الْفِرْجَونُ، كبِرْذَوْنٍ: الْمِحَسَّةُ، وفَرْجَنَ الدابّة: حسّها به. انتهى

(4)

.

(وَأَخْدُمُهُ) بضمّ الدال، وكسرها، من بأبي نصر، وضرب. (وَآكُلُ مِنْ طَعَامِهِ) ثم بيّن سبب خدمته لطلحة، وأكله من طعامه بقوله:(وَتَرَكْتُ أَهْلِي، وَمَالِي، مُهَاجِرًا إِلَى اللهِ وَرَسُولهِ صلى الله عليه وسلم)؛ يعني: أن سبب عدم كفايته نفسه بماله أنه ترك ماله في بلده، وهاجر بلا مال، فاحتاح إلى أن يكون تابعًا لطلحة رضي الله عنهما. (قَالَ) سلمة (فَلَمَّا اصْطَلَحْنَا نَحْنُ وَأَهْلُ مَكَّةَ)؛ أي: على ترك الحرب مدّة الصلح، (وَاخْتَلَطَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ)؛ أي: اختلط المسلمون بالمشركين آمنين بسبب ما جرى من الصلح، (أَتَيْتُ شَجَرَةً، فَكَسَحْتُ شَوْكَهَا)؛ أي: كنسته،

(1)

"المفهم" 3/ 670 - 671.

(2)

راجع: هامش "التركيّة" 5/ 190.

(3)

"الصحاح" ص 233.

(4)

"القاموس المحيط" ص 982.

ص: 492

وأزلته (فَاضْطَجَعْتُ فِي أَصْلِهَا، قَالَ) سلمة (فَأَتَانِي أَرْبَعَةٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) قال صاحب "التنبيه": لا أعرفهم

(1)

. (مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، فَجَعَلُوا يَقَعُونَ فِي رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم)؛ أي: يغتابونه، ويعيبون دينه، (فَأَبْغَضْتُهُمْ) لِمَا هم فيه من الشرك، والوقيعة برسول الله صلى الله عليه وسلم، (فَتَحَوَّلْتُ إِلَى شَجَرَةٍ أُخْرَى)؛ أي: عملًا بقول الله {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا (140)} [النساء: 140]، وقوله تعالى:{وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68)} [الأنعام: 68].

(وَعَلَّقُوا سِلَاحَهُمْ)؛ أي: على الشجرة، و"السلاح" بالكسر: ما يُقاتَل به في الحرب، ويدافَع، والتذكير أغلب من التأنيث، فيُجمع على التذكير: أسلحة، وعلى التأنيث: سلاحات، والسِّلْحُ، وزانُ حِمْل: لغة في السلاح

(2)

. (وَاضْطَجَعُوا)؛ أي: ناموا تحت الشجر، (فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ)؛ أي: في حال نومهم، وقد علّقوا سلاحهم، (إِذْ نَادَى مُنَادٍ مِنْ أَسْفَلِ الْوَادِي: يَا لَلْمُهَاجِرِينَ قُتِلَ ابْنُ زُنَيْمٍ) - بزاي معجمة، ثم نون، وآخره ميم، مصغرًا - الليثيّ، أو الدِّيليّ، صحابيّ

(3)

.

أخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن قتادة قال: "ذُكر لنا أن رجلًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقال له: زُنيم اطَّلَع الثنية زمان الحديبية، فرماه المشركون، فقتلوه، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خيلًا، فأَتَوا باثني عشر فارسًا، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل لكم عهدٌ، أو ذمة؟ قالوا: لا، فأرسَلَهم، فأنزل الله في ذلك:{وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ} الآية [الفتح: 24]

(4)

.

قال الجامع عفا الله عنه: كذا ذكر بعض الشرّاح

(5)

هنا هذه القصّة، لكنها تخالف الذي في مسلم، فإنه ابن زنيم، والذي عند ابن حميد، وابن جرير أنه

(1)

"تنبيه المعلم" ص 318.

(2)

"المصباح المنير" 1/ 284.

(3)

"فتح المغيث" 3/ 223.

(4)

راجع: "الدر المنثور" 7/ 527.

(5)

هو صاحب "تكملة فتح الملهم"، وتبعه الهرريّ.

ص: 493

زُنيم، لا ابن زُنيم، ويَحْتَمِل أن يكون ممن اختُلف فيه، هل هو ابن زُنيم، أو زُنيم؟ ولكن الذي في "الصحيح" أصحّ، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

[تنبيه]: لم أجد ترجمة ابن زُنيم هذا، لا في "الإصابة"، ولا في غيرها، فليُنظر، والله تعالى أعلم.

(قَالَ: فَاخْتَرَطْتُ سَيْفِي) أي: سللته من غِمده ظنًّا بأن المشركين نقضوا الصلح، (ثُمَّ شَدَدْتُ)؛ أي: حَمَلتُ (عَلَى أُولَئِكَ الأَرْبَعَةِ) المضطجعين (وَهُمْ رُقُودٌ) بالضمّ: جمع راقد؛ أي: نائمون، قال الفيّوميّ رحمه الله: رَقَدَ رَقْدًا، ورُقُودًا، ورُقَادًا: نام ليلًا كان أو نهارًا، وبعضهم يخصّه بنوم الليل، والأول هو الحقّ، ويشهد له المطابقة في قوله تعالى:{وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ} [الكهف: 18]، قال المفسّرون: إذا رأيتهم حَسِبتهم أيقاظًا؛ لأن أعينهم مُفتّحةٌ، وهم نيامٌ، ورَقَدَ عن الأمر: قَعَدَ، وتأخّر. انتهى

(1)

.

(فَأَخَذْتُ) وفي نسخة: "وأخذت" بالواو، (سِلَاحَهُمْ) الذي علّقوه على الشجرة، (فَجَعَلْنُهُ ضِغْثًا فِي بَدِي) "الضِّغْثُ، - بكسر الضاد، وسكون الغين المعجمتين -: الْحُزْمة الْمُجتمعة من قُضبان، أو حشيش، ونحوه مما يُجمع في اليد، قاله ابن الأثير

(2)

.

وقال الفيّوميّ رحمه الله: ضَغَثْتُ الشيءَ ضَغْثًا، من باب نفع: جمعتُهُ، ومنه: الضِّغْثُ، وهو قَبْضَةُ حَشِيش، مختلطٍ رطبُها بيابسها، ويقال: مِلْءُ الكفّ من قضْبانٍ، أو حَشِيشٍ، أو شَمَاريخَ، وفي التنزيل:{وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ} [ص: 44] قيل: كان حُزْمَةً من أَسَلٍ، فيها مائة عُود، وهو قْضبانٌ، دِقَاقٌ، لا وَرَقَ لها، يُعْمَل منه الْحُصُرُ، يقال: إنه حَلَف إن عافاه الله لَيَجلدنّها مائة جلدةٍ، فرَخَّص الله له في ذلك تَحِلةً ليمينه، ورفقًا بها؛ لأنها لم تقصد معصيةً.

والأصل في "الضِّغْثِ" أن يكون له قُضبانٌ يَجمعها أصلٌ، ثم كَثُر حتى استُعْمِل فيما يُجْمَعُ. انتهى

(3)

.

(1)

"المصباح المنير" 1/ 234 - 235.

(2)

"جامع الأصول" 8/ 319.

(3)

"المصباح المنير" 2/ 362.

ص: 494

والمراد هنا: أنه أخذ سلاحهم بيده، وجمع بعضه إلى بعض حتى جعله كالْحُزمة.

(قَالَ) سلمة (ثُمَّ قُلْتُ: وَالَّذِي كَرَّمَ) بتشديد الراء، من التكريم، (وَجْهَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم) وهو الله سبحانه وتعالى، (لَا يَرْفَعُ أَحَدٌ مِنْكُمْ رَأْسَهُ)، وقوله:(إِلَّا ضَرَبْتُ الَّذِي فِيهِ عَيْنَاهُ) كناية عن ضرب رأسه؛ أي: إلا قطعت رأسه. (قَالَ: ثُمَّ جِئْتُ بِهِمْ أَسُوقُهُمْ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: وَجَاءَ عَمِّي عَامِرٌ)؛ أي: ابن الأكوع، (بِرَجُلٍ مِنَ الْعَبَلَاتِ) - بفتح العين المهملة، والباء الموحّدة - قال الجوهريّ في "الصحاح":"الْعَبَلات" - بفتح العين، والباء - من قريش، وهم أمية الصغرى، والنسبة إليهم عَبَليّ، تَرُدُّه إلى الواحد، قال: لأن اسم أمهم عَبَلةُ

(1)

.

وقال القاضي عياض: هم: أمية الأصغر، وأخواه: نوفل، وعبد الله بن عبد شمس بن عبد مناف، نُسِبوا إلى أم لهم من بني تميم، اسمها عَبَلَة بنت عبيد بن البراجم. انتهى

(2)

.

وقال ابن الأثير: وعَبَلَةُ بنت عُبيد بن نافل بن قيس بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم بن مُرّ، هي أم أُميّة الأصغر بن عبد شمس، إليها يُنسب ولدها، يقال لهم: الْعَبَلات. انتهى

(3)

.

(يُقَالُ لَهُ: مِكْرَزٌ) بميم مكسورة، ثم كافٍ، ثمّ راء مكسورة، ثمّ زاي

(4)

. (يَقُودُهُ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى فَرَسٍ، مُجَفَّفٍ) - بفتح الجيم، وفتح الفاء الأولى المشدّدة -؛ أي: عليه تِجْفَافٌ، بكسر التاء، وهو ثوب كالْجُلّ، يُلْبَسُهُ الفرسُ؛ لِيَقِيه من السلاح، وجمعه تجافيف

(5)

.

(فِي سَبْعِينَ)؛ أي: مع سبعين (مِنَ الْمُشْرِكِينَ) اختَلَفت الروايات في عدد هؤلاء الذين أُسروا، فوقع في بعضها أنهم كانوا سبعين، وفي بعضها ثمانين، وقيل غير ذلك، والذي في "الصحيح" هو الصحيح، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

(فَنَظَرَ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: "دَعُوهُمْ، يَكُنْ لَهُمْ بَدْءُ الْفُجُور،

(1)

"شرح النوويّ" 12/ 176 - 177.

(2)

"إكمال المعلم" 6/ 198.

(3)

"اللباب في تهذيب الأنساب" 2/ 317.

(4)

"شرح النوويّ" 12/ 176.

(5)

"شرح النوويّ" 12/ 177.

ص: 495

وَثِنَاهُ)؛ أي: أوله وآخره، قال القرطبيّ رحمه الله: الفجور هنا: نقض العهد، ورَوْمُ غِرّة المسلمين، وقال النوويّ رحمه الله: أما الْبَدْء - فبفتح الباء، وإسكان الدال، وبالهمز -؛ أي: ابتداؤه، وأما ثِنَاه، فوقع في أكثر النسخ:"ثناه" بثاء مثلَّثة مكسورة، وفي بعضها:"ثنياه" - بضم الثاء، وبياء مثناة تحتُ، بعد النون - ورواهما جميعًا القاضي عياض، وذكر الثاني عن رواية ابن ماهان، والأول عن غيره، قال: وهو الصواب؛ أي: عودةٌ ثانيةٌ. انتهى.

وقال الفيّوميّ: "الثِّنَى" بالكسر، والقصر: الأمر يُعاد مرّتين

(1)

، وقال المجد:"ولا ثِنَى في الصدقة": كـ"إلى"؛ أي: لا تؤخذ مرّتين في عام، أو لا تؤخذ ناقتان مكان واحدة، أو لا رجوع فيها. انتهى

(2)

.

(فَعَفَا عَنْهُمْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم)؛ أي: عن هؤلاء السبعين؛ ليتمّ أمر الصلح، قال القاضي عياض: إنما فعل سلمة، وعمّه لمّا ذُكر من قتل المسلم بأسفل الوادي، فرأوا أن الصلح قد انتقض، ولم يَنقضه صلى الله عليه وسلم: إما لأنه لم يتحقّق أن المشركين قتلوه بعد الصلح، أو لم ير نقض الصلح بذلك؛ لِجَهل قاتله، قاله الأبيّ

(3)

. (وَأَنْزَلَ اللهُ: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ} الآيَة كُلَّهَا [الفتح: 24])، قال الإمام ابن جرير رحمه الله في تفسير هذه الآية: يقول تعالى ذِكْر لرسوله صلى الله عليه وسلم، والذين بايعوا بيعة الرضوان:{وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ} ؛ يعني: أن الله كفّ أيدي المشركين الذين كانوا خرجوا على عسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية، يلتمسون غِرّتهم؛ ليصيبوا منهم، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأُتي بهم أسرى، فَخَلَّى عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومَنَّ عليهم، ولم يَقْتلهم، فقال الله للمؤمنين: وهو الذي كفّ أيدي هؤلاء المشركين عنكم، وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم. انتهى

(4)

.

وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله: قوله سبحانه وتعالى: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (24)} هذا امتنان من الله تعالى على عباده المؤمنين، حين كفّ أيدي المشركين عنهم، فلم

(1)

"المصباح المنير" 1/ 86.

(2)

"القاموس المحيط" ص 182.

(3)

"شرح الأبيّ" 5/ 148.

(4)

"تفسير الطبريّ" 26/ 93.

ص: 496

يَصِل إليهم منهم سُوءٌ، وكَفّ أيدي المؤمنين عن المشركين، فلم يقاتلوهم عند المسجد الحرام، بل صان كُلًّا من الفريقين، وأوجد بينهم صلحًا فيه خير للمؤمنين، وعاقبةٌ لهم في الدنيا والآخرة، وقد تقدم في حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه حين جاؤوا بأولئك السبعين الأسارى، فأوثقوهم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنظر إليهم، فقال:"أَرْسِلُوهم، يكن لهم بدء الفجور وثِناهُ"، قال: وفي ذلك أنزل الله عز وجل: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ} الآية.

وأخرج الإمام أحمد: عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: لمّا كان يومُ الحديبية هَبَط على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ثمانون رجلًا، من أهل مكة بالسلاح، من قِبَل جبل التنعيم، يريدون غِرّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعا عليهم، فأُخذوا، قال عفان: فعفا عنهم، ونزلت هذه الآية:{وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ} .

وأخرج أحمد أيضًا عن عبد الله بن مُغَفَّل المزني رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصل الشجرة التي قال الله تعالى في القرآن، وكان يقع من أغصان تلك الشجرة على ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، وسهيل بن عمرو بين يديه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعليّ رضي الله عنه:"اكتب بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ"، فأخذ سهيل بيده، وقال: ما نعرف الرحمن الرحيم، اكتب في قضيتنا ما نعرف، فقال: اكتب باسمك اللهم، وكتب:"هذا ما صالح عليه محمد رسول الله أهل مكة"، فأمسك سهيل بن عمرو بيده، وقال: لقد ظلمناك إن كنت رسوله، اكتب في قضيتنا ما نعرف، فقال: اكتب: "هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله"، فبينا نحن كذلك إذ خرج علينا ثلاثون شابًّا عليهم السلاح، فثاروا في وجوهنا، فدعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ الله تعالى بأسماعهم، فقمنا إليهم، فأخذناهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"هل جئتم في عهد أحد؟ أو هل جعل لكم أحد أمانًا؟ " فقالوا: لا، فخَلَّى سبيلهم، فأنزل الله تعالى:{وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ} الآية"

(1)

.

(1)

"تفسير ابن كثير" 4/ 193.

ص: 497

وقال القرطبيُّ رحمه الله: وقد اختُلف في سبب نزول قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ} الآية على أقوال، هذا - يعني: في مسلم - أحدها، وهو أصحّها. انتهى

(1)

.

(قَالَ: ثُمَّ خَرَجْنَا رَاجِعِينَ إِلَى الْمَدِينَة، فَنَزَلْنَا مَنْزِلًا بَيْنَنَا وَبَيْنَ بَنِي لَحْيَانَ) بكسر اللام، وفتحها لغتان: قبيلة يُنسبون إلى لحيان بن هُذيل بن مُدركة بن إلياس بن مضر

(2)

. (جَبَلٌ)؛ يعني: أنهم نزلوا منزلًا قريبًا من بني لحيان، بحيث لا يحول بينهم إلا جبل واحد، (وَهُمُ الْمُشْرِكُونَ) قال النوويّ رحمه الله: هذه اللفظة ضبطوها بوجهين، ذكرهما القاضي عياضٌ وغيره: أحدهما: "وهُمُ المشركون" بضم الهاء على الابتداء والخبر، والثاني: بفتح الهاء، وتشديد الميم؛ أي: هَمُّوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم، وأصحابَه، وخافوا غائلتهم؛ لِقُربهم منهم، يقال: هَمَّني الأمر، وأهمّني بمعنًى، وقيل: هَمَّني: أَذَابَنِي، وأهمّني: أَغَمّني. انتهى

(3)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "وَهُم المشركون" بضم الهاء، وتخفيف الميم، وهي ضمير الجمع، وقد ضبطه بعض الشيوخ:"وهَمَّ" - بفتح الهاء، وتشديد الميم؛ على أنه فعل ماض، و"المشركون" فاعل به، قال عياض: معناه: هَمَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم والمسلمين أمرُهُم؛ لئلا يَغْدِروا بهم، ويبَيِّتوهم؛ لقربهم منهم، يقال: هَمَّني الأمر، وأهمّني، ويقال: هفَني: أذابني، وأهمَّني: غَمَّني.

قال القرطبيّ: والأقرب أن يكون معناه: هَمَّ المشركون بالغدر، واستَشْعَر المسلمون منهم بذلك. انتهى

(4)

.

(فَاسْتَغْفَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِمَنْ رَقِيَ) بكسر القاف، من باب تَعِبَ، وقوله:(هَذَا الْجَبَلَ) منصوب على المفعوليّة؛ لأن "رقِيَ" يتعدّى بنفسه، يقال: راقيتُ السطح، والجبلْ إذا عَلَوْتُه، ويتعدّى أيضًا بـ "في"، فيقال: رَقِيتُ في السلّم

(5)

، وقوله:(اللَّيْلَةَ) منصوب على الظرفيّة، متعلّق بـ "رقِيَ". (كَأَنَّهُ طَلِيعَةٌ

(1)

"المفهم" 3/ 672.

(2)

راجع: "اللباب في تهذيب الأنساب" 3/ 129.

(3)

"شرح النوويّ" 12/ 177 - 178.

(4)

"المفهم" 3/ 672.

(5)

راجع: "المصباح المنير" 1/ 236.

ص: 498

لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابِهِ) "الطَّلِيعة" بفتح الطاء، وكسر اللام: القوم يُبعَثون أمام الجيش، يتعرّفون طِلْعَ الْعَدُوّ بالكسر؛ أي: خَبَره، والجمع: طلائع، قاله الفيّوميّ

(1)

. (قَالَ سَلَمَةُ) رضي الله عنه (فَرَقِيتُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ)؛ أي: للاطّلاع على خبر بني لحيان، (مَرَّتَيْن، أَوْ ثَلَاثًا، ثُمَّ قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ، فَبَعَثَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِظَهْرِهِ) بفتح الظاء، وسكون الهاء: هي الإبل تُعدّ للركوب، وحَمْل الأثقال، (مَعَ رَبَاحٍ) بفتح الراء، وتخفيف الموحّدة، وهو مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما أوْضَحه هنا، وله ذِكر في "الصحيحين"، في حديث عمر بن الخطّاب رضي الله عنه في قصّة اعتزاله صلى الله عليه وسلم نساءه، وحديث سلمة رضي الله عنه هذا عند مسلم، وقال البلاذريّ: كان أسود، وكان يستأذن عليه صلى الله عليه وسلم، ثم صيّره مكان يسار بعد قتله، فكان يقوم بلقاحه

(2)

، والله تعالى أعلم.

وقوله: (غُلَامِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) بالجرّ على البدليّة من "رباح"، أو عطف البيان منه. (وَأَنَا مَعَهُ) جملة حاليّة من "رباح"، (وَخَرَجْتُ مَعَهُ بِفَرَسِ طَلْحَةَ) بن عبيد الله الذي سبق ذِكره، (أُنَدِّيَهِ مَعَ الظَّهْرِ)؛ أي: أُورده الماءَ، فيشرب قليلًا، ثم أرعاه، وأُورده، وهي التَّنْدِيَة، وأصلها للإبل، وقد تكون التندية في الفرس بمعنى: التضمير، وهي: أن يَجري الفرس حتى يَعْرَق، ويقال لذلك العرق: النَّدَى، قاله الأصمعيّ

(3)

.

وقال النووي رحمه الله: قوله: (أُنَدِّيهِ) هكذا ضبطناه بهمزة مضمومة، ثم نون مفتوحة، ثم دال مكسورة مشدّدة، ولم يذكر القاضي في "الشرح" عن أحد من رواة مسلم غير هذا، ونقله في "المشارق" عن جماهير الرواة، قال: ورواه بعضهم، عن أبي الحذاء في مسلم:"أُبَدِّيهِ" بالباء الموحّدة بدل النون، وكذا قاله ابن قتيبة؛ أي: أُخرجه إلى البادية، وأُبرزه إلى موضع الكلأ، وكلُّ شيء أظهرته فقد أبديته، والصواب رواية الجمهور بالنون، وهي رواية جميع المحدِّثين، وقول الأصمعيّ، وأبي عبيد، في "غريبه"، والأزهريّ، وجماهير

(1)

"المصباح المنير" 2/ 375.

(2)

راجع: "الإصابة في تمييز الصحابة" 2/ 377.

(3)

"المفهم" 3/ 673.

ص: 499

أهل اللغة، والغريب، ومعناه: أن يورد الماشيةَ الماءَ، فتُسقَى قليلًا، ثم تُرسل في المرعى، ثم تَرِد الماء، فتَرِد قليلًا، ثم تَرِد إلى المرعى، قال الأزهريّ: أنكر ابن قتيبة على أبي عبيد، والأصمعيّ، كونهما جعلاه بالنون، وزعم أن الصواب بالباء، قال الأزهريّ: أخطأ ابن قتيبة، والصواب قول الأصمعيّ. انتهى

(1)

.

(فَلَمَّا أَصْبَحْنَا)؛ أي: دخلنا في الصباح، وقوله:(إِذَا) هي الفجائيّة؛ أي: فاجأنا (عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْفَزَارِيُّ) هو عبد الرحمن بن عيينة بن حصن الفزاريّ، وللطبرانيّ عن سلمة قال:"خرجت بقوسي ونبلي، وكنت أرمي الصيد، فإذا عيينة بن حِصْن قد أغار على لقاح رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستاقها"، ولا تنافي؛ فإن كلًّا من عيينة، وعبد الرحمن بن عيينة كان في القوم، والله تعالى أعلم.

(قَدْ أَغَارَ) قال المجد: أغار على القوم غارةً، وإغارةً: دَفَعَ عليهم الخيل؛ كاستغار. (عَلَى ظَهْرِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم)؛ أي: لقاحه التي كانت ترعى، (فَاسْتَاقَهُ)؛ أي: ساقه، فالسين والتاء زائدتان، وقوله:(أَجْمَعَ) من ألفاظ التوكيد المعنويّ، يأتي غالبًا بعد التوكيد بـ "كُلّه"، نحو: جاء الركبُ كلّه أجمع، وقد يأتي بلا "كُلّ"؛ كقوله: جاء الجيش أجمع، وكما في الحديث هنا، فإنه توكيد للمفعول في قوله:"فاستاقه"، وإلى هذا أشار في "الخلاصة" بقوله:

وَبَعْدَ "كُلٍّ" أَكَّدُوا بِـ "أجْمَعَا"

"جَمْعَاءَ""أجْمَعِينَ" ثُمَّ "جُمَعَا"

وَدُونَ "كُلٍّ" قَدْ يَجِيءُ "أجْمَعُ"

"جَمْعَاءُ""أجْمَعُونَ" ثُمَّ "جُمَعُ"

(وَقَتَلَ رَاعِيَهُ) لا يُعرف اسمه، وقول بعض الشرّاح: إنه يسار النوبيّ، فيه نظر، فإنه في قصّة العرنيين، لا في هذه الغزوة، فتنبّه.

وذكر ابن القيّم رحمه الله أن الراعي رجل من عُسفان، وأنهم احتملوا امرأته، قال: قال عبد المؤمن بن خلف: وهو ابن أبي ذرّ، قال ابن القيّم: وهو غريب جدًّا. انتهى

(2)

.

(قَالَ: فَقُلْتُ: يَا رَبَاحُ خُذْ هَذَا الْفَرَسَ، فَأَبْلِغْهُ طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ الله، وَأَخْبِرْ

(1)

"شرح النوويّ" 12/ 178.

(2)

"زاد المعاد" 3/ 248.

ص: 500

رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّ الْمُشْرِكِينَ قَدْ أَغَارُوا عَلَى سَرْحِهِ) - بفتح السين، وسكون الراء -: المال الراعي، تسميةً بالمصدر، يقال: سَرَحَت الإبل سَرْحًا، من باب نَفَعَ، وسُرُوحًا أيضًا: رَعَت بنفسها، وسَرَحتُها يتعدّى، ولا يتعدَّى، وسرّحتها بالتثقيل مبالغة وتكثيرٌ

(1)

.

وقال القرطبيّ: السَّرْحُ: الإبل التي تسرح في المرعى.

(قَالَ) سلمة (ثُمَّ قُمْتُ عَلَى أَكَمَةٍ) - بفتحات -: هي التّلّ، وقيل: شُرْفةٌ كالرابية، وهو ما اجتَمَعَ من الحجارة في مكان واحد، وربّما غَلُظَ، وربّما لم يَغْلُظ، والجمع أَكَمٌ، وأَكَمَاتٌ، مثلُ قَصَبةٍ وقَصَبٍ، وقَصَبَات، وجمع الأَكَمِ إِكَامٌ، مثلُ جَبَلٍ وجِبالٍ، وجمع الإِكَام أُكُمٌ بضمّتين، مثلُ كتاب وكُتُبٍ، وجمعُ الأُكُم آكامٌ، مثلُ عُنُقٍ وأَعْناق

(2)

. (فَاسْتَقْبَلْتُ الْمَدِينَةَ)؛ أي: واجَهْتُها، (فَنَادَيْتُ ثَلَاثًا: يَا صَبَاحَاهْ) قال القرطبيّ رحمه الله: هاؤها ساكنة، وهو يُشبه المنادى المندوب، وليس به، ومعناه هنا: الإعلام بهذا الأمر المهمّ الذي قد دَهَمَهُم في الصباح. انتهى

(3)

.

(ثُمَّ خَرَجْتُ فِي آثَارِ الْقَوْم) بالمدِّ جمع أَثَرٍ بفتحتين، أو بكسر، فسكون، يقال: جئتُ في أَثَرِه، وإِثْرِه؛ أيَ: تبِعته عن قُرْبٍ

(4)

، وقوله:(أَرْمِيهِمْ بِالنَّبْلِ) جملة حاليّة، وتقدّم معنى النبل قريبًا، وقوله:(وَأَرْتَجزُ) عطفٌ على الجملة الحاليّة، ثم بيّن معنى ارتجازه بقوله:(أَقُولُ: أَنَا ابْنُ الأَكْوَعِ) قال القرطبيّ رحمه الله: الْكَوَع: اعوجاج في اليدين، قيل: الكوع، والوكع في الرِّجْل أن تميل إبهامها على أصابعها، واسم الأكوع: سنان بن عبد الله بن بشير، وهو أبو سلمة، على ما ذَكره محمد بن سعد، وقيل: اسم أبي سلمة عمرو بن الأكوع، وهو جدّ سلمة، فنُسب إليه. انتهى

(5)

.

(وَالْيَوْمَ يَوْمُ الرُّضَّعِ) قال القرطبيّ رحمه الله: الرُّضع: جمع راضع، وهو اللئيم، وأصله: أن رجلًا كان يرضع الإبل، ولا يحلبها؛ لئلا يُسمَع صوت

(1)

"المصباح المنير" 1/ 273.

(2)

"المصباح المنير" 1/ 18.

(3)

"المفهم" 3/ 673.

(4)

"المصباح المنير" 1/ 4.

(5)

"المفهم" 3/ 673.

ص: 501

الحلب فيُقصَدَ، فعبَّروا عن كل لئيم بذلك، وعليه قالوا في المَثَل: لئيم راضع، وقيل: لأنه يرضع اللؤم من أمه، وهو مطبوع عليه، وقيل: معناه: اليومُ يُظْهِر من أرضعته كريمة أو لئيمة، وقيل: اليوم يُعْرَف من أرضعته الحربُ من صغره. انتهى

(1)

، وقد تقدّم بأطول من هذا في الحديث الماضي.

وقوله: (فَأَلْحَقُ) معطوف على "خرجت"، وإنما اختار صيغة المضارع؛ لأجل حكاية الحال الواقعة إذ ذاك، ومثله قوله:"فأصكّ". (رَجُلًا مِنْهُمْ)؛ أي: من المشركين الذين أغاروا على السرح، "فَأَصُكّ". أي: أضرب (سَهْمًا فِي رَحْلِهِ) الرحل: مَرْكَبُ الإبل، (حَتَّى خَلَصَ)؛ أي: بلغ، ووصل (نَصْلُ السَّهْمِ)؛ أي: حديدته، (إِلَى كَتِفِهِ) قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في معظم الأصول المعتمدة: "رَحْله" بالحاء، و"كتفه" بالتاء، بعدها فاء، وكذا نقله صاحب "المشارق"، و"المطالع"، وكذا هو في أكثر الروايات، والأول هو الأظهر، وفي بعضها:"رجله" بالجيم، و"كعبه" بالعين، ثم الباء الموحَّدة، قالوا: والصحيح الأول؛ لقوله في الرواية الأخرى: "فأصكه بسهم في نُغْضِ كتفه"، قال القاضي عياض في "الشرح": هذه رواية شيوخنا، وهو أشبه بالمعنى؛ لأنه يمكن أن يُصيب أعلى مؤخرة الرحل، فيصيب حينئذ إذا أنفذ كتفه، ومعنى "أصُكّ": أَضْرِبُ. انتهى

(2)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "في رحله" كذا روايتنا فيه بالحاء المهملة، ويعني به: أن سهمه أصاب آخرة رحله، فنفذها، ووصل إلى كتفه، وفي بعض النسخ:"فأصكّه سهمًا في رجله حتى خلص إلى كعبه"، والأول أشبه. انتهى

(3)

.

(قَالَ) سلمة (قُلْتُ: خُذْهَا: وَأَنَا ابْنُ الأَكْوَع، وَالْيَوْمُ يَوْمُ الرُّضَّعِ. قَالَ) سلمة (فَوَاللهِ مَا زِلْتُ أَرْمِيهِمْ)؛ أي: بالنبل، (وَأَعْقِرُ بِهِمْ) خيلهم، ومنه:"فعقر بعبد الرحمن فرسه"، ويَحْتَمِل أن يكون معناه: أَصِيح بهم، من قولهم: رَفَعَ عَقِيرته؛ أي: صوته، قاله القرطبيّ

(4)

، وقال النوويّ؛ أي: أعقر خيلهم،

(1)

"المفهم" 3/ 673 - 674.

(2)

"شرح النوويّ" 12/ 178 - 179.

(3)

"المفهم" 3/ 674.

(4)

"المفهم" 3/ 674 - 675.

ص: 502

ومعنى "أرميهم"؛ أي: بالنبل، قال القاضي: ورواه بعضهم هنا: "أُرديهم" بالدال. انتهى

(1)

.

وكتب في هامش "التركيّة" ما نصّه: قوله: "وأَعْقِر بهم" مفعول "أعقر" محذوف، والتقدير: وأعقر بهم أفراسهم، قال في "النهاية": يقال: عَقَرتُ به: إذا قتلت مركوبه، وجعلته راجلًا. انتهى، وأصل العقر: ضرب قوائم البعير، أو الشاة، ثم اتُّسِع حتى استُعمل في القتل، كما وقع هنا، وحتى صار يقال: عقرت البعير؛ أي: نحرته. انتهى

(2)

.

(فَإِذَا رَجَعَ إِلَيَّ فَارِسٌ) وفي بعض النسخ: "فإذا أتى إليّ فارس"؛ أي: راكب فرس، قال الفيّوميّ رحمه الله:"الفارس": الراكب على الحافر، فَرَسًا كان، أو بَغْلًا، أو حمارًا، قاله ابن السِّكِّيت، يقال: مَرَّ بنا فارس على بغل، وفارس على حمار، وفي "التهذيب": فارس على الدابة بَيِّنُ الْفُرُوسيّة، قال الشاعر [من الطويل]:

وَإِنِّي امْرُؤٌ لَلْخَيْلِ عِندِي مَزِيَّةٌ

عَلَى فَارِسِ الْبِرْذَونِ أَوْ فَارِسِ الْبَغْلِ

وقال أبو زيد: لا أقول لصاحب البغل، والحمار: فارس، ولكن أقول: بَغَّالٌ، وحَمَّارٌ، وجَمْع الفارس: فُرْسانٌ، وفَوَارِسُ، وهو شاذٌّ؛ لأن فَوَاعِلَ إنما هو جمع فاعلة، مثل ضاربة، وضوارب، وصاحبة وصواحب، أو جمع فاعلٍ، صفةً لمؤنث، مثلُ حائض وحوائض، أو كان جَمْع ما لا يَعْقِل، نحو: جَمَلِ بازِلٍ وبَوَازلَ، وحائط وحوائطَ، وأما مذكرُ مَن يَعْقل، فقالوا: لم يأت فيه فواعلُ إلا فوارس، ونواكسُ، جَمْعُ ناكس الرأس، وهوالك، ونواكص، وسوابق، وخوالف، جمع خالف، وخالفة، وهو القاعد المتخلِّف، وقوم ناجعة، ونَواجِعُ، وعن ابن القطان: ويُجمع الصاحب على صواحب. انتهى

(3)

.

وإلى قاعدة الجمع بفواعل أشار ابن مالك رحمه الله في "الخلاصة" بقوله:

فَوَاعِلٌ لِفَوْعَلٍ وَفَاعَلِ

وَفَاعِلَاءَ مَعَ نَحْوِ كَاهِلِ

وَحَائِضٍ وَصَاهِلٍ وَفَاعِلَهْ

وَشَذَّ فِي الْفَارِسِ مَعْ مَا مَاثَلَهْ

(1)

"شرح النوويّ" 12/ 179.

(2)

هامش "النسخة التركيّة" 5/ 192.

(3)

"المصباح المنير" 2/ 469.

ص: 503

(أَتَيْتُ شَجَرَةً، فَجَلَسْتُ فِي أَصْلِهَا، ثُمَّ رَمَيْتُهُ)؛ أي: الفارس، (فَعَقَرْتُ بِهِ)؛ أي: قتلت فرسه، (حَتَّى إِذَا تَضَايَقَ الْجَبَلُ) التضايق: ضدّ الاتّساع؛ أي: تدانى، وقرُب. (فَدَخَلُوا فِي تَضَايُقِهِ)؛ أي: في المحلّ المتضايق منه بحيث يَستترون به عنه، فصار لا يبلغهم ما يرميهم به من السهام. (عَلَوْتُ الْجَبَلَ)؛ أي: صعدت فيه، (فَجَعَلْتُ أُرَدِّيهِمْ بِالْحِجَارَةِ)؛ أي: أرميهم بالحجارة التي تُسقطهم، وتُنزلهم؛ يعني: أنه لمّا امتنع عليه رميهم بالسهام عدل عنه إلى رميهم من أعلى الجبل بالحجارة التي تُسقطهم، وتهوّرهم، يقال: رَدّى الفرس راكبه: إذا أسقطه، وهَوَّره. (قَالَ) سلمة (فَمَا زِلْتُ كَذَلِكَ تبَعُهُمْ، حَتَّى مَا خَلَقَ اللهُ مِنْ بَعِيرٍ)"من" هنا زائدة أُتي بها لتأكيد العموم، وقد يؤتى بها للتنصيص على العَموم في نحو: ما رأيتُ من رجل، فإنه قَبْل دخولها يَحْتَمِلُ نفي الجنس، ونفي الوحدة، ولهذا يصحّ أن يقال: بل رجلين، وبعد دخولها تعيّن لنفي عموم الرجال، وإنما سُمّيت زائدةً؛ لأن الكلام يستقيم بدونها، فيصحّ أن يقال: حتى ما خلق الله بعيرًا

(1)

، وأما "من" في قوله:(مِنْ ظَهْرِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) فهي بيانيّة، والمعنى: أنه ما زال بهم إلى أن استخلص منهم كلّ بعير أخذوه، من إبل رسول الله صلى الله عليه وسلم. (إِلَّا خَلَّفْتُهُ وَرَاءَ ظَهْرِي)؛ أي: تركته ورائي، يريد: أنه جعله في حَوْزته، وحَالَ بينهم وبينه، كما قال:(وَخَلَّوْا بَيْنِي وَبَيْنَهُ)؛ أي: كان له خالصًا لا ينازعه منهم أحد. (ثُمَّ اتَّبَعْتُهُمْ أَرْمِيهِمْ) هكذا هو في أكثر النسخ: "اتّبعتهم" بهمزة الوصل، وتشديد التاء، وفي نسخة:"ثمّ أَتْبَعتهم" بهمزة القطع، وهي أشبه بالكلام، وأجْوَد موقعًا فيه، وذلك أن "تَبعَ" المجرّد، و"اتّبعه" المشدّد التاء بمعنى: مشى خلفه على الإطلاق، وأما "أتبع" الرباعيّ، فمعناه: لَحِقَ به بعد أن سبقه، قيل: ومنه قوله تعالى: {فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ} [طه: 78]؛ أي: لَحِقهم مع جنوده بعد أن سبقوه، وتعبيره هنا بـ "ثُمّ" المفيدة للتراخي يُشعر أنه بعد أن استخلص منهم جميع الإبل، توقّف عن اتّباعهم، ولعلّ ذلك ريثما جَمَعَ الإبل، وأقامها على طريقٍ يَأْمَن عليها فيه، والمعنى على هذا الوجه: وبعد أن توقّفتُ عن اتّباعهم حتى سبقوني تَبِعْتُهم،

(1)

راجع: هامش "النسخة التركيّة" 5/ 192.

ص: 504

فلحقت بهم، قاله بعض المحقّقين

(1)

.

(حَتَّى أَلْقَوْا)؛ أي: طرحوا، ورموا (أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاِثينَ بُرْدَةً، وَثَلَاِثينَ رُمْحًا، يَسْتَخِفُّونَ)؛ أي: يطلبون بإلقائها الخفّة حتى يتمكّنوا من الفرار، (وَلَا يَطْرَحُونَ)؛ أي: يُلقون، ويرمون (شَيْئًا، إِلَّا جَعَلْتُ عَلَيْهِ آرامًا مِنَ الْحِجَارَةِ) بهمزة ممدودة، ثمّ راء مفتوحة: هي الأعلام، وهي حجارة تُجمع، وتُنصبُ في المفازة، يُهتدى بها، واحدها: إِرَمٌ، كعِنَبٍ وأعناب

(2)

.

وقال ابن منظور رحمه الله: الإِرَمُ، كعِنَبٍ: حجارة تُنصبُ عَلَمًا في المفازة، والجمع آرامٌ، وأُرُومٌ، مثلُ ضِلَعٍ، وأضلاعٍ، وضُلُوع، قال: وكان من عادة الجاهليّة أنهم إذا وجدوا شيئًا في طريقهم، ولا يُمكنهم استصحابه تركوا عليه حجارة يعرفونه بها، حتى إذا عادوا أخذوه. انتهى باختصار

(3)

.

(يَعْرِفُهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ)؛ أي: يعرف تلك العلامات التي وضعها على تلك الأشياء التي طرحوها استخفافًا، (حَتَّى أَتَوْا مُتَضَايِقًا) يَحْتَمِل أن يكون بضمّ أوله، وكسر ثالثه، بصيغة اسم الفاعل، مِنْ يتضايق؛ كتَضَارَب، ويَحْتَمِل أن يكون بفتح ثالثه، بصيغة اسم المفعول على أنه مصدر ميميّ من تضايق أيضًا؛ أي: أتوا مكانًا ضيّقًا، أو ذا تضايقٍ، وقوله:(مِنْ ثَنِيَّةٍ) بيان لـ"متضايقًا"، وهو - بفتح الثاء المثلّثة، وكسر النون، وتشديد التحتانيّة -: الطريق في الجبل؛ أي: حتى أتوا طريقًا في الجبل متضايقًا، (فَإِذَا هُمْ قَدْ أَتَاهُمْ فُلَانُ بْنُ بَدْرٍ الْفَزَارِيُّ) "إذا" هنا للمفاجأة؛ أي: ففاجأهم إتيان فلان بن بدر من قبيلة فزارة، وفلان هذا قيل: هو حبيب بن عُيينة بن بدر الفزاريّ، قاله صاحب "التنبيه"

(4)

. (فَجَلَسُوا يَتَضَحَّوْنَ) قال المجد رحمه الله: وتضحَّى: أكل في الضحى، وضَحَّيته أنا تضحيةً: أطعمته فيها

(5)

، وهذا المعنى موافق لِمَا فسّر به بعض الرواة هنا بقوله:(يَعْني: يَتَغَدَّوْنَ)؛ أي: يأكلون غداءهم، وهو بالفتح، والمدّ: الطعام الذي يؤكل في الغداة؛ أي: وقت الضحوة. (قال) سلمة (وَجَلَسْتُ عَلَى

(1)

من هامش "النسخة التركيّة" 5/ 192.

(2)

"شرح النوويّ" 12/ 179.

(3)

"لسان العرب" 12/ 14.

(4)

"تنبيه المعلم" ص 318.

(5)

راجع: "القاموس المحيط" ص 771.

ص: 505

رَأْسِ قَرْنٍ) - بفتح القاف، وإسكان الراء -: هو كلّ جبل صغير، منقطع عن الجبل الكبير، قاله النوويّ

(1)

، وفي "اللسان": الْقَرْنُ: الْجُبيلُ المنفردُ، وقيل: هو قطعة تنفرد من الجبل، وقيل: هو الجبل الصغير، وقيل: الجبيل الصغير المنفرد، والجمع: قُرُون، وقِرانٌ، قال أبو ذُيب:

تَوَفَّى بِأَطْرَافِ الْقِرَانِ وَطَرْفِهَا

كَطَرْفِ الْحُبَارَى أَخْطَأَتْهَا الأَجَادِلُ

(2)

قال الجامع عفا الله عنه: ضَبْط القَرْن - بفتح، فسكون - هو الصواب الذي يقتضيه نصّ "اللسان"، و"القاموس"، و"شرحه"، وأما ما ذكره بعض الشرّاح

(3)

من ضَبْطه بفتحتين، فليس بصواب، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

(قَالَ الْفَزَارِيُّ)؛ أي: الرجل الذي أتاهم، (مَا هَذَا الَّذِي أَرَى؟)؛ أي: أيُّ شيء هذا الذي أراه جالسًا، فـ "ما" استفهاميّة، قيل: عبّر بهذا دون "مَنْ" تحقيرًا له. (قَالُوا: لَقِينَا مِنْ هَذَا الْبَرْحَ) - بفتح الموحّدة، وإسكان الراء -؛ أي: الشدّة، (وَاللهِ مَا فَارَقَنَا مُنْذُ غَلَسٍ) - بفتحتين -: ظلام آخر الليل؛ أي: ما فارقنا من الليل، (يَرْمِينَا، حَتَّى انْتَزَعَ)؛ أي: حتى أخرج (كُلَّ شَيْءٍ فِيِ أَيْدِينَا، قَالَ) ذلك الفزاريّ (فَلْيَقُمْ إِلَيْهِ نَفَرٌ مِنْكُمْ أَرْبَعَةٌ) بدل من "نفرٌ". (قَالَ: فصَعِدَ) - بكسر العين المهملة - يقال: صَعِدَ في السُّلَّم، كسَمِعَ صُعُودًا، وصَعَّد بالتشديد في الجبل، وعليه تصعيدًا: رَقِيَ، ولم يُسمَع صَعِدَ فيه، قاله المجد

(4)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قوله: "ولم يُسمع صَعِدَ فيه" فيه نظر، فقد أثبته الفيّوميّ بقلّة، ودونك عبارته: وصَعِدَ في السلّم، والدرجة يَصْعَدُ، من باب تَعِبَ صُعُودًا، وصَعِدتُ السطحَ، وإليه، وصَعَّدت في الجبل بالتثقيل: إذا عَلَوته، وصَعِدتُ في الجبل، من باب تَعِبَ لغةٌ قليلةٌ. انتهى

(5)

.

(إِلَيَّ مِنْهُمْ أَرْبَعَةٌ فِي الْجَبَل، قَالَ) سلمة (فَلَمَّا أَمْكَنُونِي مِنَ الْكَلَامِ)؛ أي: جعلوني قادرًا على إبلاغهم كلامي، وإسماعهم إياه، يقال: أمكنه من الشيء، ومكَنه: إذا جعله له عليه قدرة، ومعناه: فلما قربوا منّي بحيث صاروا يسمعون

(1)

"شرح النوويّ" 12/ 179.

(2)

"لسان العرب" 13/ 334.

(3)

هو صاحب "تكملة فتح الملهم"، وتبعه الشيخ الهرريّ.

(4)

"القاموس" ص 739.

(5)

"المصباح المنير" 1/ 340.

ص: 506

كلامي، (قَالَ) سلمة (قُلْتُ: هَلْ تَعْرِفُونِي؟) هكذا في بعض النسخ: "تعرفوني" بنون واحدة على حذف نون الوقاية، أو نون الرفع، وحَذْف إحداهما في مثل هذا الفعل جائز، ويَحْتَمِل أن يكون بتشديد النون، بإدغام نون الرفع في نون الوقاية، وهو أيضًا جائز، كما في قوله تعالى:{قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ} الآية [الزمر: 64] في قراءة من شدّد، ووقع في النسخ:"تعرفونني" بنونين على الأصل، وهو ظاهر، وإلى قاعدة نون الوقاية أشار ابن مالك رحمه الله في "الخلاصة" بقوله:

وَقَبْلَ يَا النَّفْسِ مَعَ الْفِعْلِ الْتُزِمْ

نُونُ وِقَايَةٍ وَ"لَيْسِي" قَدْ نُظِمْ

وَ"لَيْتَنِي" فَشَا وَ"لَيْتِي" نَدَرَا

وَمَعْ "لَعَلَّ" اعْكِسْ وَكُنْ مُخَيَّرَا

فِي الْبَاقِيَاتِ وَاضْطِرَارًا خَفَّفَا

"مِنِّي" وَ"عَنِّي" بَعْضُ مَنْ قَدْ سَلَفَا

وَفِي "لَدُنِّي""لَدُنِي" قَلَّ وَفِي

"قَدْنِي" وَ"قَطْنِي" الْحَذْفُ أَيْضًا قَدْ يَفِي

(قالوا: لَا) نعرفك (وَمَنْ أَنْتَ؟ قُلْتُ: أَنَا سَلَمَةُ بْنُ الأَكْوَعِ) فيه جواز تعريف الإنسان بنفسه إذا كان معروفًا بالشجاعة؛ ليُدخل الرعب في قلب خصمه. (وَالَّذِي كَرَّمَ وَجْهَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم لَا أَطْلُبُ رَجُلًا مِنْكُمْ إِلَّا أَدْرَكْتُهُ، وَلَا يَطْلُبُنِي رَجُلٌ مِنْكُمْ، فَيُدْرِكَنِي) بالنصب بـ "أن" مضمرةً وجوبًا بعد الفاء السببيّة في جواب النفي، كما قال في "الخلاصة":

وَبَعْدَ فَا جَوَاب نَفْيٍ أَوْ طَلَبْ

مَحْضَيْنِ "أَنْ" وَسَتْرُهُ حَتْمٌ نَصَبْ

(قَالَ أَحَدُهُمْ. أنَا أَظُنُّ) بحذف مفعوليه؛ لدلالة القرينة عليهما؛ أي: أظنّ ذلك واقعًا، وإلى جواز هذا الحذف أشار في "الخلاصة" بقوله:

وَلَا تُجِزْ هُنَا بَلَا دَلِيلِ

سُقُوطَ مَفْعُولَيْنِ أَوْ مَفْعُولِ

إذ مفهومه أنه إن دلّ الدليل على المحذوف جاز حَذْفهما معًا، أو حَذْف أحدهما، ومِن حَذْفهما معًا لدلالة ما قبلهما عليهما قول الشاعر [من الطويل]:

بِأَيِّ كِتَابٍ أَمْ بِأَيَّةِ سُنَّةٍ

تَرَى حُبَّهُمْ عَارًا عَلَيَّ وَتَحْسَبُ

أي وتحسَب حبَّهم عارًا عليّ، ومِنْ حَذْف أحدهما للدلالة قوله [من الكامل]:

وَلَقَدْ نَزَلْتِ فَلَا تَظُنِّي غَيْرَهُ

مِنِّي بِمَنْزِلَةِ الْمُحَبِّ الْمُكْرَمِ

ص: 507

أي: فلا تظنّي غيره واقعًا.

وقال القرطبيّ رحمه الله: وقوله: "أنا أظنُّ"؛ أي: أتيقَّن، كما قال تعالى:{إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20)} [الحاقة: 20]؛ أي: تحققت، وأيقنت، ويَحْتَمِل البقاء على أصل الظنّ الذي هو تغليب لأحد المحتملين، وقد اقتُصِر عليها، ولم يُذكر لها هنا مفعول، ويَحْتَمِل أن يكون حَذَف مفعولها؛ للعِلم به، وهو:"ذاك" الذي هو إشارة إلى المصدر الذي يُكْتَفى به عن المفعولين، كما تقول: ظننت ذاك، والله أعلم. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: الأقرب ما قدّمته من تقدير المفعولين بقولي؛ أي: أظنّ ذاك واقعًا، والله تعالى أعلم.

(قَالَ) سلمة (فَرَجَعُوا)؛ أي: رجع الأربعة الذين صَعِدوا إليه خوفًا منه لمّا علموا شجاعته، (فَمَا بَرِحْتُ مَكَانِي) بكسر الراء، من تَعِبَ؛ أي: لم أزل، ولم أنتقل من مكاني الذي كنت فيه إلى مكان آخر، (حَتَّى رَأَيْتُ فَوَارِسَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) تقدّم أنه جمع فارس، وهو من شواذ الجمع. (يَتَخَلَّلُونَ الشَّجَرَ)؛ أي: يمرّون من خلالها، والخلال: جمع خَلَل بفتحتين، وهو الفرجة بين الشيئين. (قَالَ) سلمة (فَإِذَا أَوَّلُهُمُ الأَخْرَمُ الأَسَدِيُّ)"إذا" تقدّم قريبًا أنها للمفاجأة.

و"الأخرم الأسديّ" هذا هو: مُحرز بن نَضْلَة بن عبد الله بن مُرَّة بن كثير بن غَنْم بن دودان بن أسد بن خزيمة الأسديّ، أبو نضلة، ويُعرف بالأخرم، ذَكَره موسى بن عقبة، وابن إسحاق، وغيرهما فيمن شَهِدَ بدرًا، قال في "الإصابة": وثَبَت ذِكْره في حديث سلمة بن الأكوع الطويل عند مسلم، وفيه:"فما بَرِحت مكاني، حتى رأيت فوارس رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخللون الشجر، فإذا أولهم الأخرم الأسديّ، وعلى أثره أبو قتادة"، فساق القصّة، كما هنا

(2)

.

(عَلَى إِثْرِهِ) بفتحتين، أو بكسر، فسكون، والجاز والمجرور خبر مقدّم لقوله:(أَبُو قَتَادَةَ الأَنْصَارِيُّ) هو الحارث بن رِبْعيّ بن بُلْدُمة، وقيل في اسمه

(1)

"المفهم" 3/ 675.

(2)

"الإصابة في تمييز الصحابة" 5/ 783.

ص: 508

غيره، شَهِدَ أُحُدًا وما بعده، ولم يصحّ شُهُوده بدرًا، ومات في السنة (48) تقدّمت ترجمته في "الطهارة" 18/ 619.

(وَعَلَى إِثْرِهِ)؛ أي: بعد أبي قتادة (الْمِقْدَادُ بْنُ الأَسْوَدِ الْكِنْدِيُّ) هو: المقداد بن عمرو بن ثعلبة بن مالك بن ربيعة الْبَهرانيّ، ثم الكنديّ، ثم الزهرانيّ، حالف أبوه كِنْدة، وتبنّاه الأسود بن عبد يغوث الزهري، فنُسب إليه، صحابيّ مشهور، من السابقين إلى الإسلام، لم يثبُت أنه كان ببدر فارس غيره، مات رضي الله عنه سنة (33) وهو ابن (70) سنةً، تقدّمت ترجمته في "الإيمان" 43/ 281.

(قَالَ) سلمة (فَأَخَذْتُ بِعِنَانِ الأَخْرَم)؛ أي: بعنان فرسه، وهو - بكسر العين المهملة، وتخفيف النون -: سَيْرُ اللِّجَام الّذي تُمْسك به الدابّةُ، جَمْعه: أَعِنَّةٌ، وعُنُنٌ

(1)

.

وأما الْعَنَان بفتح العين، فهو السحاب وزنًا ومعنًى، ولا يُناسب هنا.

وإنما أخذ سلمة بعنان فرس الأخرم، ليحبسه عن اتّباع المشركين وحده إلى أن يلحق به النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم.

(قَالَ) سلمة (فَوَلَّوْا مُدْبرِينَ) حال مؤكّد لعامله، كما في قوله تعالى:{وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60)} [البقرة: 60]. قال في "الخلاصة":

وَعَامِلُ الْحَالِ بِهَا قَدْ أُكِّدَا

فِي نَحْوِ "لَا تَعْثُ فِي الأَرْضِ مُفْسِدَا"

(قُلْتُ: يَا أَخْرَمُ احْذَرْهُمْ)، وقوله:(لَا يَقْتَطِعُوكَ)؛ أي: لا يأخذوك، وينفردوا بك، فيفصلوك عن أصحابك، وَيحُولوا بينك وبينهم، فقوله:"لا يقتطعوك" مجزوم بالطلب قبله، واختُلف في جازمه، والأصحّ أنه بشرط مقدّر؛ أي: إن تحذرهم لا يقتطعوك. (حَتَّى يَلْحَقَ) من باب تَعِب، (رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ، قَالَ) الأخرم (يَا سَلَمَةُ إِنْ كُنْتَ تُؤْمِنُ باللهِ وَالْيَوْمِ الآخِر، وَتَعْلَمُ أَنَّ الْجَنَّةَ حَقٌّ، وَالنَّارَ حَقٌّ، فَلَا تَحُلْ بَيْنِي وَبَيْنَ الشَّهَادَةِ)؛ أي: اتركني وحدي أقاتلهم حتى يقتلوني، وأُستشهد على أيديهم، وفيه ما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من إيثارهم الآخرة على الدنيا، وتَبادُرهم إلى الشهادة في سبيل الله عز وجل، واستهانتهم بالحياة الدنيا، وكأن الجنّة ونعيمها بمرأى من

(1)

"القاموس المحيط" ص 921.

ص: 509

أعينهم، وكأن هذه الدنيا سجنٌ، يُحبّون الفرار منه رضي الله عنهم أجمعين. (قَالَ) سلمة (فَخَلَّيْتُهُ)؟ أي: خليت سبيله حتى ينال ما أراده، (فَالْتَقَى هُوَ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ) الفزاريّ. (قَالَ) سلمة (فَعَقَرَ بِعَبْدِ الرَّحْمَنِ فَرَسَهُ)؛ أي: جرح الأخرمُ الأسديّ فرسَ عبد الرحمن الفزاريّ، وضرب قوائمه، يقال: عَقَرَه عقْرًا، من باب ضرب: جرحه، وعَقَرَ البعيرَ بالسيف عَقْرًا: ضَرَب قوائمه به، لا يُطلق الْعَقْرُ في غير القوائم، قاله الفيّوميّ

(1)

. (وَطَعَنَهُ)؛ أي: الأخرمَ الأسديَّ (عَبْدُ الرَّحْمَنِ) الفزاريّ، فـ "عبد الرحمن" مرفوع على الفاعليّة لـ"طَعَنَ"، (فَقَتَلَهُ)؛ يعني أن عبد الرحمن الفزاريّ قتل الأخرم الأسديّ بعدما عقَر الأسديُّ فرسه، (وَتَحَوَّلَ) عبدُ الرحمن (عَلَى فَرَسِهِ)؛ أي: فرس الأخرم، (وَلَحِقَ) بكسر الحاء المهملة، (أَبُو قَتَادَةَ) مرفوع على الفاعليّة، وقوله:(فَارِسُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) نعت لـ (أَبُو قَتَادَةَ)، (بِعَبْدِ الرَّحْمَنِ) الفزاريّ (فَطَعَنَهُ)؛ أي: طعن أبو قتادة الفزاريَّ (فَقَتَلَهُ، فَوَالَّذِي كَرَّمَ وَجْهَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم لَتَبِعْتُهُمْ) بفتح اللام، وهي الداخلة على جواب القسم، كقوله تعالى:{وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ} [الأنبياء: 57]، وقوله:(أَعْدُو عَلَى رِجْلَيَّ) جملة في محلّ نصب على الحال؛ أي: حال كوني مسرعًا في المشي، قال الفيّوميّ رحمه الله: عدا في مشيه يَعْدو عَدْوًا، من باب قال: قارب الْهَرْوَلةَ، وهو دون الْجَرْيِ. انتهى

(2)

. (حَتَّى مَا) نافيةٌ، (أَرَى وَرَائِي مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وَلَا غُبَارِهِمْ)؛ أي: وما أرى من الغبار الذي تثيره دوابّهم (شَيْئًا) أراد بذلك أنه أمعن في شدّة عَدْوه، وملاحقته المشركين، والجري خلفهم إلى أن بعُد عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بُعْدًا شاسعًا بحيث إنه لا يرى منهم أحدًا، ولا من غبارهم شيئًا، وقوله:(حَتَّى يَعْدِلُوا) غاية لمتابعته لهم، (قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ إِلَى شِعْبٍ) - بكسر الشين المعجمة، وسكون العين المهملة -: الطريق، وقيل: الطريق في الجبل، والجمع: شِعابٌ

(3)

. (فِيهِ)؛ أي: في ذلك الشِّعْب (مَاءٌ، يُقَالُ لَهُ ذُو قَرَدٍ) - بفتحتين - تقدّم أنه موضع قرب المدينة النبويّة - على ساكنها أفضل الصلاة، وأزكى التحيّة - (لِيَشْرَبُوا) متعلّق

(1)

"المصباح المنير" 2/ 421.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 397.

(3)

"المصباح المنير" 1/ 313.

ص: 510

"بيَعْدِلوا"، (مِنْهُ)؛ أي: من ذلك الماء، وقوله:(وَهُمْ عِطَاشٌ) جملة حاليّة، وهو - بكسر العين -: جمع عَطِشٍ، أو عطشان، يقال: عَطِشَ عَطَشًا، فهو عَطِشٌ، وعَطْشَان، وامرأةٌ عَطِشَةٌ وعَطْشَى، ويُجمعان على عِطاشٍ بالكسر

(1)

.

(قَالَ) سلمة (فَنَظَرُوا) وفي نسخة: "نَظَروا"، (إِلَيَّ أَعْدُو وَرَاءَهُمْ) جملة حاليّة؛ أي: حال كوني مسرعًا خلفهم، (فَحَلَّيْتُهُمْ عَنْهُ) - بحاء مهملة، ولام مشدّدة، غير مهموز -؛ أي: طردتهم عن ذلك الماء

(2)

، يقال: حلأت الرجل من الماء: إذا منعته من شُربه، وجلٌ مُحَلّأٌ؛ أي: مَذُود عن الماء مصدود، فقُلبت الهمزة ياء على غير قياس، كما سيأتي، وفسّره بعض الرواة بقوله:(يَعْني: أَجْلَيْتُهُمْ عَنْهُ) بالجيم من الإجلاء، وهو الإخراج، قال القاضي عياض: كذا روايتنا فيه هنا: "فحلّيتهم" غير مهموز، قال: وأصله الهمز، فسهّله، وقد جاء مهموزًا بعد هذا في هذا الحديث

(3)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "وحلّيتهم" كذا وقع في رواية القاضي بالياء، وقال: أصله الهمز، قال القرطبيّ: وصوابه الهمز، وهو أصله، وهذا تسهيل لا يقتضيه القياس، وروايتي فيه بالهمز على الأصل، ومعناه: طردتهم عن الماء. انتهى

(4)

.

وقال ابن الأثير رحمه الله: هكذا جاء "حلّيتهم" في الرواية غير مهموز، فَقَلَب الهمزة ياءً، وليس بالقياس؛ لأن الياء لا تُبدل من الهمزة إلا أن يكون ما قبلها مكسورًا، نحو بِيرٍ، وإِيلاف، وقد شذّ: قَرَيتُ في قرأت، وليس بالكثير، والأصل الهمز. انتهى

(5)

.

(فَمَا) نافية، (ذَاقُوا مِنْهُ قَطْرَةً، قَالَ) سلمة (وَيَخْرُجُونَ) المضارع هنا وفيما بعده بمعنى الماضي؛ أي: وخرجوا، فاشتدّوا، وإنما عبّر بالمضارع؛ لاستحضار الحال الواقعة إذ ذاك، وتمثيلها للسامع، وكذلك قوله:"فأعدو، فألحق"، وقوله:"فأصكّه" كلّه بمعنى الماضي، وإنما اختار صيغة المضارع

(1)

"المصباح المنير" 2/ 416.

(2)

"شرح النوويّ" 12/ 180.

(3)

"شرح النوويّ" 12/ 180.

(4)

"المفهم" 3/ 675 - 676.

(5)

"النهاية في غريب الحديث والأثر" 1/ 421.

ص: 511

للغرض المذكور. (فَيَشْتَدُّونَ)؛ أي: يَجْرُون (فِي ثَنِيَّةٍ) تقدّم أنها الطريق، أو الطريق في الجبل. (قَالَ) سلمة (فَأَعْدُو)؛ أي: جريت في المشي، (فَأَلْحَقُ)؛ أي: لحقت (رَجُلًا مِنْهُمْ)؛ أي: المشركين، (فَأَصُكُّهُ)؛ أي: ضربته، وأصل الصكّ هو: الضرب باليد مبسوطةً، يقال: صَكّه صَكًّا: إذا ضرب قفاه، ووجهه بيده مبسوطةً، قاله الفيّوميّ

(1)

. وقال المجد رحمه الله: صَكّه: ضربه شديدًا بعريض، أو عامٌّ. انتهى

(2)

. (بِسَهْمٍ فِي نُغْضِ كَتِفِهِ) - بنون مضمومة، ثمّ غين معجمة ساكنة، ثمّ ضاد معجمة - هو العظم الرقيق على طرف الكتف، وأصله من التحرّك، يقال: نغَضَ الشيءُ، كنصر، وضرب نَغْضًا، ونُغُوضًا ونَغَضَانًا، ونَغَضًا بالتحريك: إذا تحرّك، واضطرب، كأنغض، وتنغّضى، ويتعدّى بنفسه، يقال: نغضه: إذا حرّكه، كأنغضه

(3)

، وسُمّي بذلك العظم المذكور؛ لكثرة تحرّكه، وهو الناغض أيضًا

(4)

. (قَالَ) سلمة (قُلْتُ: خُذْهَا) وفي نسخة: "قلت: نعم خذها"؛ أي: الضربة، (وَأَنَا ابْنُ الأَكْوَعِ)؛ أي: المشهور بالشجاعة، (وَالْيَوْمَ يَوْمُ الرُّضَّعِ)؛ أي: يوم هلاك اللئيم، وتقدّم الخلاف في معناه، فلا تغفل. (قَالَ) ذلك الرجل المصكوك:(يَا ثَكِلَتْهُ أُمُّهُ) الثُّكْلُ: فَقْدُ الولد، ومراده: الدعاء عليه بالموت، و"يا" للنداء، والمنادى بها محذوفٌ، تقديره: يا قوم، أو يا هؤلاء، أو هي لمجرّد التنبيه. (أَكْوَعُهُ بُكْرَةَ؟) وفي بعض النسخ:"أأكوعه؟ " بهمزتين؛ أي: أنت ابن الأكوع الذي كان معنا أول النهار؟.

قال النوويّ رحمه الله: معنى "ثكلته أمه": فَقَدَتْه، وقوله:"أَكْوَعُهُ" هو برفع العين؛ أي: أنت الأكوع الذي كنت بكرةَ هذا النهار، ولهذا قال: نعم، و"بُكْرَةَ" منصوب غير منوَّن، قال أهل العربية: يقال: أتيته بُكْرَةً بالتنوين: إذا أردت أنك لقيته باكرًا في يوم غير معيَّن، قالوا: وإن أردت بُكرةَ يوم بعينه، قلت:"أتيتُه بُكْرَةَ" غير مصروف؛ لأنها من الظروف غير المتمكنة. انتهى

(5)

.

وقال بعض المحقّقين فيما كتبه على هامش النسخة التركيّة ما نصّه:

(1)

"المصباح المنير" 1/ 345.

(2)

"القاموس المحيط" ص 747.

(3)

راجع: "القاموس المحيط"(1300)، و"المصباح المنير" 2/ 615.

(4)

"شرح النوويّ" 12/ 181.

(5)

"شرح النوويّ" 12/ 181.

ص: 512

قوله: "أكْوَعه بُكرةَ" هكذا في عامّة النسخ التي بأيدينا "أَكْوَعُهُ" بالإضافة إلى ضمير الغَيْبة، ومعناه: هذا الأكوع الذي كان يرتجز لنا به صباح هذا النهار قد عاد يرتجز لنا به آخره، وقد علمتَ أنه كان أول ما لحقهم صاح بهم بهذا الرجز، ووقع في رواية "البهجة":"أَكْوَعُنَا بكرةَ" بالإضافة إلى ضمير المتكلّمين؛ أي: أنت الأَكْوَعُ الذي كنت تتبعنا بكرةَ اليوم؟ قال: نعم أنا أَكْوَعك بكرة، ولعلّ هذه الرواية أقرب إلى الصواب؛ لاتّصال آخر الكلام فيها بأوله، وموافقة صَدْره لِعَجُزه. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قوله: "ولعلّ هذه الرواية أقرب إلى الصواب" لا داعي إلى هذا الكلام، فإن رواية مسلم صواب، لا ركاكة فيها، فمعناها: أأنت أكوع هذا اليوم، أو هذا الأمر الذي كنت معنا بهذا الرجز أول اليوم؟، فتأمله بالإمعان، والله تعالى وليّ التوفيق.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "أكوعه بكرة" الضمير في "أكوعه" يعود على المتكلم، على تقدير الغَيبة، كأنه قال: أكوع الرجل المتكلم، وقد فَهِمَ منه هذا سلمة، حيث أجابه بقوله:"أكوعك بكرةَ"، فخاطبه بذلك، و"بكرةَ" منصوب، غير منوَّن على الظرف؛ لأنه لا ينصرف؛ للتعريف والتأنيث؛ لأنه أُريدَ بها بُكرة معيَّنة، وكذلك: غُدْوَةُ، وليس ذلك لشيء من ظروف الأزمنة سواهما فيما علمتُ. انتهى

(2)

.

(قَالَ) سلمة (قُلْتُ: نَعَمْ يَا عَدُوَّ نَفْسِهِ)؛ أي: متخذ نفسه عدوًّا حيث يريد أن يدخلها في نار جهنّم بِشِرْكه، (أَكْوَعُكَ بُكْرَةَ)؛ أي: أنا الأكوع الذي كنت معك منذ أول النهار. (قَالَ) سلمة (وَأَرْدَوْا فَرَسَيْنِ عَلَى ثَنِيَّةٍ) قال ابن الأثير رحمه الله: أرديته: رميته، وتركته، والمراد: أنهم من خوفهم تركوا من خيلهم فرسين، ولم يقفوا عليهما هربًا، وخوفًا أن يلحقهم. انتهى.

وقال القاضي عياض رحمه الله: كذا رواية الكافّة بالدال المهملة، ورواه بعضهم بالمعجمة، قال: وكلاهما متقارب المعنى، فبالمعجمة معناه: خَلَّفُوهما، والرَّذِيّ: الضعيف من كل شيء، وبالمهملة معناه: أهلكوهما،

(1)

من هامش النسخة التركيّة 5/ 193.

(2)

"المفهم" 3/ 677.

ص: 513

وأتعبوهما، حتى أسقطوهما، وتركوهما، ومنه الْمُتَرَدِّيةُ، وأَرْدَتِ الخيلُ الفارسَ: أسقطته. انتهى

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "وأرذوا فرسين"، روايتي فيه بالذال المعجمة، ومعناه: تركوا فرسين مَعِيبين لم يقدرا على النهوض، من الضعف والْكَلال، والرَّذِيّة: المعيبة، وجَمْعها: رَذَايا، ومنه قول الشاعر [من الطويل]:

..........................

فَهُنَّ رَذَايَا فِي الطَّرِيقِ وَدَائِعُ

وقد رُوي بالدال المهملة: "أردوا"؛ أي: تركوهما هلكى، من الرَّدَى، وهو الهلاك، والأول أوجه؛ لأنه قال:"فأقبلت بهما أسوقهما"، فدل على أنهما لم يهلكا، وإنما ثَقُلا كَلالًا، وإعياءً. انتهى

(2)

.

(قَالَ) سلمة (فَجِئْتُ بِهِمَا)؛ أي: بالفرسين، (أَسُوقُهُمَا اِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ) سلمة (وَلَحِقَنِي) بكسر الحاء، (عَامِرٌ) ابن الأكوع، وهو عمّه، (بِسَطِيحَةٍ) - بفتح السين، وكسر الطاء المهملتين -: إناء من جلود سُطح بعضها على بعض، (فِيهَا)؛ أي: في تلك السطيحة، (مَذْقَةٌ مِنْ لَبَنٍ)"الْمَذْقَة" - بفتح الميم، وإسكان الذال المعجمة: القليل من اللبن الممزوج بماء، (وَسَطِيحَةٍ فِيهَا مَاءٌ، فَتَوَضَّأْتُ)؛ أي: بالماء (وَشَرِبْتُ)؛ أي: من اللبن الممزوج بالماء. (ثُمَّ أَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم) وقوله: (وَهُوَ عَلَى الْمَاءِ) جملة حاليّة من رسول الله؛ أي: والحال أنه صلى الله عليه وسلم جالس على الماء (الَّذِي حَلْالهُمْ عَنْهُ)، أي: أجليتهم، وطردتهم عن ذلك الماء، قال النوويّ رحمه الله: كذا هو في أكثر النسخ: "حَلأتهم" بالحاء المهملة، والهمز، وفي بعضها:"حلّيتهم عنه" بلام مشدّدة، غير مهموز، وقد سبق بيانه قريبًا. (فَإِذَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) تقدّم أن "إذا" هي الفجائيّة، (قَدْ أَخَذَ تِلْكَ الإِبِلَ)؛ أي: التي استنقذها سلمة من أيدي المشركين الذين أغاروا عليها، (وَكُلَّ شَيْءٍ) بالنصب عطفًا على "تلك"، (اسْتَنْقَذْتُهُ)؛ أي: خلّصته (مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَكُلَّ رُمْحٍ وَبُرْدَةٍ) بنصب "كلَّ" أيضًا كسابقه، (وَإِذَا بِلَالٌ نَحَرَ نَاقَةً مِنَ الإِبِلِ الَّتِي اسْتَنْقَذْتُ مِنَ الْقَوْمِ) كذا في النسخة الهنديّة بلفظ "التي"، وهو الصواب، ووقع في أكثر النسخ: بلفظ: "الذي" بدل "التي"، قال

(1)

"إكمال المعلم" 6/ 199.

(2)

"المفهم" 3/ 677.

ص: 514

النوويّ رحمه الله: كذا في أكثر النسخ: "الذي"، وفي بعضها:"التي"، وهو أوجَهُ؛ لأن الإبل مؤنّثةٌ، وكذا أسماء الجموع من غير الآدميين، والأول صحيح أيضًا، وأعاد الضمير إلى الغنيمة، لا إلى لفظ الإبل. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قوله: "والأول صحيح أيضًا

إلخ" لا يخفى ما فيه من التعسّف، فالصواب أن لفظ "التي" هو الصواب، كما قال صاحب "البهجة"

(2)

، فتأمل، والله تعالى أعلم.

(وَإِذَا هُوَ يَشْوِي) بفتح أوله، يقال: شويتُ اللحم أَشْويه شَيًّا، فانشوى، مثلُ كسرته، فانكسر، وهو مَشْويّ، وأصله مَفْعُولٌ، وأشويته بالألف لغةٌ، واشتويتُ على افتعلتُ، مثلُ شَوَيته، قالوا: ولا يقال في المطاوع: فاشتوى، على افتَعَلَ، فإن الافتعال فِعْلُ الفاعل، والشِّوَا فِعَالٌ، بمعنى مفعول، مثلُ كتاب، وبساطٍ، بمعنى مكتوب، ومبسوط، وله نظائر كثيرة، وأشويتُ القومَ بالألف: أَطعمتهم الشِّوَاء، قاله الفيّوميّ

(3)

. (لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ كَبِدِهَا)"من" تبعيضيّة، أو بعض كبد تلك الناقة، و"الكبد" من الأمعاء معروف، وهي أنثى، وقال الفرّاء: تُذكَّرُ، وتؤنّثُ، ويجوز التخفيف بكسر الكاف، وسكون الباء، والجمع أكباد، وكُبُود قليلًا

(4)

. (وَسَنَامِهَا)؛ أي: بعض سنامها، والسّنام للبعير كالأَلْيَة للغنم، والجمع أسنِمَةٌ، وسُنِمَ البعير، وأُسْنِمَ بالبناء للمفعول: عَظُمَ سَنامه، ومنهم من يقول: أَسْنَمَ بالبناء للفاعل

(5)

. (قَالَ) سلمة (قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ خَلِّنِي)؟ أي: اترُكني (فَأَنْتَخِبُ) يُروى بالنصب بـ "أن" مضمرة وجوبًا؛ لوقوعه بعد الفاء السببيّة، كما في "الخلاصة":

وَبَعْدَ جَوَابِ نَفْيٍ أَوْ طَلَبْ

مَحْضيْنِ "أَنْ" وَسَتْرُهُ حَتْمٌ نَصبْ

ويُروى بالرفع، على أن الفاء لمجرّد العطف

(6)

. (مِنَ الْقَوْمِ)؛ أي: من الصحابة رضي الله عنهم، (مِائَةَ رَجُلٍ، فَأَتَّبعُ الْقَوْمَ)؛ أي: المشركين (فَلَا يَبْقَى مِنْهُمْ

(1)

"شرح النوويّ" 12/ 182.

(2)

راجع: ما كُتب في هامش النسخة التركية 5/ 193.

(3)

"المصباح المنير" 1/ 328.

(4)

"المصباح المنير" 2/ 523.

(5)

"المصباح المنير" 1/ 291.

(6)

راجع: هامش التركيّة 5/ 193.

ص: 515

مُخْبِرٌ)؛ أي: أحد ممن يُخبر قومه في بلده بما جرى لهم من هلاك هؤلاء (إِلَّا قَتَلْتُهُ، قَالَ) سلمة (فَضَحِكَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) تعجّبًا من شدّة بغضه للمشركين، ومحبته لظهور الإسلام في بقاع الأرض، (حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ) جمع ناجذ، وهو السنّ بين الضِّرْس والناب، قال ثعلبٌ: المراد: الأنياب، وقيل: الناجذ: آخر الأضراس، وهو ضِرْسُ الْحُلُم؛ لأنه يَنبُتُ بعد البلوغ، وكمالِ العقل، وقيل: الأضراس كلُّها نواجذ، قال في البارع: وتكون النواجذ للإنسان، والحافر، وهي من ذوات الْخُفّ: الأنياب

(1)

.

ثم إن ظاهر السياق إرادة الزيادة على التبسم، ويُحْمَل ما ورد في صفته صلى الله عليه وسلم أن ضحكه كان تبسمًا على غالب أحواله، وقيل: كان لا يضحك إلا في أمر يتعلق بالآخرة، فإن كان في أمر الدنيا لم يَزِد على التبسم

(2)

، والأول أظهر، والله تعالى أعلم.

وقوله: (فِي ضَوْءِ النَّارِ) متعلّق بـ "بَدَتْ"، (فَقَالَ:"يا سَلَمَةُ، أَتُرَاكَ)؛ أي: أتظُنّك (كُنْتَ فَاعِلًا؟)؟ أي: ما ذكرته لو أذِنت لك بذلك؟ (قُلْتُ: فَعَمْ، وَالَّذِي أَكْرَمَكَ، فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("إِنَّهُمُ الآنَ لَيُقْرَوْنَ) بالبناء للمفعول؛ أي: ليُضافون، يقال: قَرَيتُ الضيف أَقريه، مِن رَمَى قِرًى بالكسر، والقصر: أضفته، والاسم: الْقَرَاءُ بالفتح، والمدّ

(3)

. (فِي أَرْضِ غَطَفَانَ)؛ أي: عند قومهم؛ يعني: أنهم قد بلغوا بني غطفان، وهم يُقرونهم بتقديم طعام وغيره، وهذا من معجزات النبيّ صلى الله عليه وسلم، حيث أخبر بما وقع لهم بعد غيابهم عنه صلى الله عليه وسلم، ووُجد واقعًا كما أخبر به صلى الله عليه وسلم. (قَالَ) سلمة (فَجَاءَ رَجُلٌ) لم يعرف اسمه، (مِنْ غَطَفَانَ، فَقَالَ: نَحَرَ لَهُمْ فُلَانٌ) قال صاحب "التنبيه": قيل: هو حبيب بن عيينة بن بدر الفزاريّ، كما وُجد بخط بعض الفضلاء. انتهى

(4)

.

(1)

"المصباح المنير" 2/ 593.

(2)

راجع: "الفتح" 4/ 171، كتاب "الصوم" رقم (1936).

(3)

"المصباح المنير" 2/ 501، و"القاموس" ص 1053.

(4)

"تنبيه المعلم" ص 318.

ص: 516

قال الجامع عفا الله عنه: لم يذكر بعض الفضلاء مستنده، فهو محلّ نظر، والله تعالى أعلم.

(جَزُورًا) - بفتح الجيم -: هو البعير، أو خاصّ بالناقة المجزورة، كما تقدّم بيانه. (فَلَمَّا كشَفُوا)؛ أي: سلخوا (جِلْدَهَا)؛ أي: جلد تلك الجزور، (رَأَوْا غُبَارًا، فَقَالُوا: أَتَاكُمُ الْقَوْمُ) يعنون المسلمين، النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأصحابه رضي الله عنهم، (فَخَرَجُوا هَارِبِينَ، فَلَمَّا أَصْبَحْنَا قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "كَانَ خَيْرَ فُرْسَانِنَا) بالضمّ: جمع فارس، (الْيَوْمَ أَبُو قَتَادَةَ) الحارث بن رِبْعيّ رضي الله عنه، (وَخَيْرَ رَجَّالَتِنَا) بفتح الراء، وتشديد الجيم: جمع راجل، وهو خلاف الفارس، (سَلَمَةُ) بن الأكوع رضي الله عنه، قال النوويّ رحمه الله: وفيه استحباب الثناء على الشجعان، وسائر أهل الفضائل؛ لِمَا فيه من الترغيب لهم، ولغيرهم في الإكثار من ذلك الجميل، وهذا كلّه في حقّ من تُؤْمَن الفتنة عليه بإعجاب ونحوه. انتهى

(1)

.

(قَالَ) سلمة (ثُمَّ أَعْطَانِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم سَهْمَيْنِ: سَهْمُ الْفَارِس، وَسَهْمُ الرَّاجِل، فَجَمَعَهُمَا لِي جَمِيعًا) قال النوويّ رحمه الله: هذا محمول على أن الزائد على سهم الراجل كان نَفَلًا، وهو رضي الله عنه حقيقٌ باستحقاق النّفَل؛ لبديع ما صنعه في هذه الغزوة

(2)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: أما سهم الرَّاجل فهو حقُّه، وأما سهم الفارس فإنما أعطاه النبيّ صلى الله عليه وسلم إيَّاه؛ لشدَّة غَنَائه، ولأنه هو الذي استنقذ تلك الغنائم، وهو الذي تَنَزَّل منزلة الجيش فيما فَعَل، ولم يُسمع بمن فَعَل مثل فِعله في تلك الغزاة، ثم لعل النبيّ صلى الله عليه وسلم إنما أعطاه سهم الفارس من الخمس، فإن كان أعطاه من الغنيمة، فذلك خصوص به؛ لخصوص فِعله. انتهى

(3)

.

وقال بعض المحقّقين: أما سهم الراجل، فهو حقّه، وأما سهم الفارس، فهو شيء نفّله النبيّ صلى الله عليه وسلم إياه؛ لحسن بلائه، والتنفيل: تخصيص الإمام من له أثرٌ في الحرب بشيء من المال زيادةً على سهمه، وقد اختَلَفَ العلماء فيه، فقال بعضهم: يُعطى النفل من أصل الغنيمة، وقال آخرون: بل من الخُمس،

(1)

"شرح النوويّ" 12/ 182.

(2)

"شرح النوويّ" 12/ 182.

(3)

"المفهم" 3/ 678.

ص: 517

وقيل: من خمس الخمس، وقيل: مما عدا الخمس، ونَقَل الزقانيّ! عن الشافعيّ أنه قال بتفويضه لرأي الإمام، يَعمَل بما يرى فيه المصلحة؛ لإطلاق قوله تعالى:{قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} الآية [الأنفال: 1]. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: لا يخفى أن ما قاله الإمام الشافعي رحمه الله هو الأقرب؛ لظهور حجته، فتبصّر، والله تعالى أعلم.

(ثُمَّ أَرْدَفَنِي)؛ أي: أركبني (رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَرَاءَهُ عَلَى الْعَضْبَاءِ) اسم ناقة النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأصل العضباء: هي الناقة المشقوقة الأذن، وليست ناقته صلى الله عليه وسلم كذلك، وإنما هذا لَقَبُها؛ لنجابتها، لا لشفها، فتنبّه. (رَاجِعِينَ)؛ أي: حال كوننا راجعين (إِلَى الْمَدِينَةِ) النبويّة. (قَالَ) سلمة رضي الله عنه (فَبَيْنَمَا نَحْنُ نَسِيرُ، قَالَ) سلمة (وَكَانَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ) لا يُعرف اسمه

(2)

، (لَا يُسْبَقُ) بالبناء للمفعول؛ أي: لا يسبقه أحد من الناس (شَدًّا)؛ أي: عَدْوًا على الرجلين؛ يعني: أنه كان شديد الجري بحيث لا يسبقه أحدٌ في العدو. (قَالَ) سلمة (فَجَعَلَ)؛ أي: شَرَع، وأخذ ذلك الرجل (يَقُولُ: أَلَا مُسَابِقٌ إِلَى الْمَدِينَةِ؟) قال القرطبيّ رحمه الله: قيّدنا "ألا" مفتوحًا بغير تنوين؛ لأنها "لا" التي للنفي، والتبرئة، زيدت عليها همزة الاستفهام، وأُشربت معنى التمني؛ كما قالوا: ألا سيفَ صارمٌ، ألا ماءَ باردٌ؛ بغير تنوين على ما حكاه سيبويه، وأنشد [من الطويل]:

ألا طِعَانَ، ألا فُرْسانَ عادِيَةً

إِلَّا تجشُّؤُكُمْ حَوْلَ التَّنانِيرِ

(3)

ويجوز الرفعُ على أن تكون "ألا" استفتاحًا، ويكون "مسابقٌ" مبتدأ خبره محذوف، تقديره: ألَا هنا مسابق، أو نحوه. انتهى

(4)

.

قال الجامع عفا الله عنه: "ألا" في البيت المذكور للتوبيخ والإنكار، وَيحْتَمِلُ أن تكون "ألا" هنا للتمنّي، على حدّ قول الشاعر [من الطويل]:

(1)

من هامش التركيّة 5/ 194.

(2)

"تنبيه المعلم" ص 318.

(3)

"الطعان": الضرب بالرمح، و"الفرسان العادية": كثيرو العدو، سريعوه، والتجشؤ: صوت يصدر عن امتلاء المعدة، والتنانير: جمع تنوّر، وهو الموقد الذي يُخبز فيه.

(4)

"المفهم" 3/ 678 - 679.

ص: 518

أَلَا عُمْرَ وَلَّى مُسْتَطَاعٌ رُجُوعُهُ

فَيَرْأَبَ مَا أَثْأَتْ يَدُ الْغَفَلَاتِ

(1)

يدلّ على ذلك قوله: "هل من مسابق؟ "

(2)

، والله تعالى أعلم.

(هَلْ مِنْ مُسَابِقٍ؟ فَجَعَلَ يُعِيدُ ذَلِكَ) من الإعادة، وهو التكرار؛ أي: يردّده مرّةً بعد أخرى. (قَالَ) سلمة (فَلَمَّا سَمِعْتُ كَلَامَهُ، قُلْتُ: أَمَا تُكْرِمُ كرِيمًا؟، وَلَا تَهَابُ شَرِيفًا؟) قال القرطبيّ: قول سلمة هذا يدلّ على أنه فَهِمَ من قول الرجل: "ألا مسابقٌ؟ " النفي، فكأنه قال: لا أحدَ يسبقني، فلذلك أنكر عليه سلمة، ولو كان عرضًا فقط لم يكن فيه ما يُنكره. انتهى

(3)

.

(قَالَ) الرجل (لَا)؛ أي: لا أُكرم كريمًا، ولا أهاب شريفًا، (إِلَّا أَنْ يَكُونَ) الكريم المهاب (رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم) فـ "رسولَ" منصوب على أنه خبر "يكون"، ووقع في بعض النسخ مضبوطًا بالرفع أيضًا، وعليه فهو اسم "يكون"، وخبرها محذوف؛ أي: مسابقًا لي، فأهابه. (قَالَ) سلمة (قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ بِأَبِيِ وَأُمِّي) متعلّق بمحذوف؛ أي: أَفديك بأبي وأُمي، أو أنت مفديّ بأبي وأمي، (ذرْنِي)؛ أي:(اتركني فَلأُسَابِقَ الرَّجُلَ) وفي بعض النسخ: "فلأَسْبِقَ الرجل"، وهو منصوب بلام "كي"، على زيادة الفاء، أو اللام زائدة، والفاء سببيّة، والفعل منصوب بعد الفاء السببيّة بـ "إن" مضمرة وجوبًا، كما مرّ قريبًا. (قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("إِنْ شِئْتَ")؛ أي: إن شئت أن تسابقه، فافعل، قال النوويّ رحمه الله: وفي هذا دليلٌ لجواز المسابقة على الأقدام، وهو جائز بلا خلاف، إذا تسابقا بلا عِوَضٍ، فإن تسابقا على عوض، ففي صحّتها خلافٌ، والأصحّ عند الشافعيّة لا تصحّ. انتهى

(4)

.

(قَالَ) سلمة (قُلْتُ: اذْهَبْ) هذا خطاب للرجل الطالب للمسابقة؛ أي: اشرع في العدو، وقوله:(إِلَيْكَ) متعلّق بـ "اذهب"؛ أي: اذهب إلى الجهة التي تريد المسابقة فيها، ويَحْتَمِل أن يكون "إِليك" اسم فعل، بمعنى: تنحّ، وأبعُد عني، حتى ينفصل جريك عن جرصي، وهذا من شدّة وثوق سلمة رضي الله عنه بأن هذا المتسابق لا يغلبه، وقد وقع كذلك.

(1)

قوله: "يرأب"؛ أي: يصلح، وقوله:"ما أثأت"؛ أي: ما أفسدت.

(2)

راجع: "مغني اللبيب" 1/ 144 - 146.

(3)

"المفهم" 3/ 679.

(4)

"شرح النوويّ" 12/ 183.

ص: 519

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "اذهب إليك": قيّدناه على من يوثق بعلمه على الأمر؛ أي: انفُذ لوجهك، وخذ في الجري، يقوله سلمة، وهو راكب خلف النبيّ صلى الله عليه وسلم للرَّجل الذي قال: ألا مسابق، ولذلك قال: وثنيت رجليّ؛ أي: نزلت عن ظهر العضباء، و"إليك" على هذا معمول لـ "اذهب"؛ أي: انفذ لوجهك. انتهى

(1)

.

(وَثَنَيْتُ رِجْلَيَّ)؛ أي: عطَفتهما؛ لأتمكّن من الجري، (فَطَفَرْتُ)؛ أي: وثبت، وقفزت، قال الفيّوميّ رحمه الله: طَفَرَ طَفْرًا، من باب ضرب، وطُفُورًا أيضًا، والطَّفْرة أخصّ من الطَّفْر، وهو الوثوب في ارتفاع، كما يَطْفِرُ الإنسان الحائطَ إلى ما وراءه، قاله الأزهريّ وغيره، وزاد الْمُطَرّزيّ على ذلك، فقال: ويدلّ على أنه وَثْبٌ خاصّ قول الفقهاء: زالت بَكَارتها بوثْبَةٍ، أو طَفْرة، وقيل: الوَثْبةُ من فوقُ، والطَّفْرة إلى فوقُ. انتهى

(2)

.

(فَعَدَوْتُ)؛ أي: أسرعتُ. (قَالَ) سلمة (فَرَبَطْتُ عَلَيْهِ)؛ أي: حَبَستُ نفسي عن الجري الشديد، (شَرَفًا، أَوْ شَرَفَيْنِ) الشرَفُ بفتحتين: ما ارتفع من الأرض، قاله النوويّ، وقال القرطبيّ: أي: طَلَقًا، أو طَلَقَين، والطّلَق بفتحتين: الشوط الواحد من سباق الخيل، وقال الفيّوميّ: الطلق بفتحتين: جَرْيُ الفرس، لا تحتبس إلى الغاية، فيقال: عَدَا الفرسُ طَلَقًا، أو طَلَقين، كما يقال: شَوْطًا، أو شَوْطين. انتهى

(3)

.

والمراد أنه حبس نفسه مقدار شَرَف، أو شرفين، ثم جرى بعده، وفسّر القرطبيّ:"ربطت" بشددت عليه، والظاهر أنه غير مناسب، بل ظاهر السياق يؤيّد تفسيره بحبستُ، فتأمل بالإمعان.

(أَسْتَبْقِي نَفَسِي) بفتح الفاء؛ يعني: أنه حبس نَفَسه؛ إبقاء له، لئلا ينقطع من شدّة الجري، والمراد أنه لم يبذل في بداية الأمر قصارى قوّته في الجري؛ لئلا ينقطع نفسه، بل استبقاه؛ ليتمكّن من الإسراع عندما يقترب من الرجل.

وقال القرطبيّ: قوله: "أستبقي نفسي" رويناه بفتح الفاء، وسكونها، ففي

(1)

"المفهم" 3/ 680.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 374.

(3)

"المصباح المنير" 2/ 376 - 377.

ص: 520

الفتح يعني به التنفّس، يريد أنه رَفَقَ في جريه؛ مخافة ضيق النفس، وبالسكون يعني به: أُرَوِّح نفسي، وأُجمّها لجري آخر. انتهى

(1)

.

(ثُمَّ عَدَوْتُ)؛ أي: أسرعت (فِي إِثْرِهِ) بكسر، فسكون، أو بفتحتين؛ أي: بعده (فَرَبَطْتُ عَلَيْهِ شَرَفًا، أَوْ شَرَفَيْن، ثُمَّ إِنِّي رَفَعْتُ)؛ أي: أسرعتُ، وقال القرطبيّ: رفعتُ؛ أي: زِدْت في السير، ويُروى "دَفَعْتُ" بالدال؛ أي: دفعت دفعةً شديدةً من الجري، وكلاهما قريبٌ في المعنى

(2)

. (حَتَّى أَلْحَقَهُ)"حتى" هنا للتعليل، بمعنى "كي"، و"ألْحَقَ" منصوب بـ "أنْ" مضمرة وجوبًا بعدها، كما قال في "الخلاصة":

وَبَعْدَ "حَتَّى" هَكَذَا إِضْمَارُ "أَنْ"

حَتْمٌ كـ "جُدْ حَتَّى تَسُرَّ ذَا حَزَنْ"

(قَالَ) سلمة (فَأَصُكُّهُ)؛ أي: أضربه، وتقدّم أن المضارع هنا بمعنى الماضي، وإنما عبّر به؛ لحكاية الحال الماضي، واستحضارها كأنها تشاهَدُ الآن. (بَيْنَ كتِفَيْه، قَالَ) سلمة (قُلْتُ: قَدْ سُبِقْتَ وَاللهِ) ببناء الفعل للمفعول، والخطاب للرجل المتسابق؛ أي: قد سبقتك. (قَالَ) الرجل (أَنَا أَظُنُّ) بحذف المفعولين اختصارًا؛ لدلالة ما قبله عليه؛ أي: أظنّ ذلك واقعًا. (قَالَ) سلمة (فَسَبَقْتُهُ)؛ أي: الرجلَ (إِلَى الْمَدِينَةِ) النبويّة - على ساكنها أفضل الصلاة، وأزكى التحيّة - (قَالَ) سلمة (فَوَاللهِ مَا لَبِثْنَا) بكسر الباء، يقال: لَبِثَ بالمكان لَبَثًا، من باب تَعِب: إذا مكث فيه، وجاء في المصدر السكون؛ للتخفيف

(3)

. (إِلَّا ثَلَاثَ لَيَالٍ) وفي بعض النسخ: "ما لبثنا ثلاث ليالٍ"، (حَتَّى خَرَجْنَا إِلَى خَيْبَرَ، مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) قال القرطبيّ رحمه الله: ظاهر هذا الكلام أن غزوة خيبر كانت على إثر غزوة ذي قَرَد؛ إذ لم يكن بينهما إلا هذا الزمان اليسير الذي هو ثلاث ليال، وليس كذلك عند أحد من أصحاب السِّير والتواريخ؛ فإن غزوة ذي قَرَد كانت في جمادى الأولى من السَّنة السادسة من الهجرة، ثم غزا بعدها بني المصطلِق في شعبان من تلك السنة، ثم اعتَمَر عمرة الحديبية في ذي القعدة من تلك السنة، ثم رجع إلى المدينة، وأقام بها ذا الحجَّة،

(1)

"المفهم" 3/ 679.

(2)

"المفهم" 3/ 679.

(3)

"المصباح" 2/ 547 بزيادة التفسير من "القاموس".

ص: 521

وبعض المحرَّم، وخرج في بقيةٍ منه إلى خيبر، هكذا ذكره أبو عمر بن عبد البرّ وغيره، ولا يكادون يختلفون في ذلك، وهذا الذي وقع في هذا الحديث وَهَمٌ من بعض الرُّواة.

ويَحْتَمِل أن يكون النبيّ صلى الله عليه وسلم أغزى سَرِيّة فيهم سلمة إلى خيبر قبل فتحها، فأخبر سلمة عن نفسه، وعمن خرج معه، وقد ذكر ابن إسحاق في كتاب "المغازي" له: أنه صلى الله عليه وسلم أغزى إليها عبد الله بن رواحة قبل فتحها مرتين، والله أعلم. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الاحتمال الأخير يُبعده قول سلمة رضي الله عنه: "حتى خرجنا إلى خيبر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم"، فقد نصّ على أنه صلى الله عليه وسلم خرج إليها، فلا يناسب حمله على أنه أغزى إليها سريّة، فتأمله بالإمعان، والله تعالى أعلم.

ثم رأيت الحافظ قد بحث في المسألة، فقال - عند البخاريّ رحمه الله:"باب غزوة ذات الْقَرَد، وهي الغزوة التي أغاروا على لقاح النبيّ صلى الله عليه وسلم قبل خيبر بثلاث" - ما نصّه: قوله: "وهي الغزوة التي أغاروا فيها على لقاح النبيّ صلى الله عليه وسلم قبل خيبر بثلاث" - كذا جزم به، ومُستنَده في ذلك حديث إياس بن سلمة بن الأكوع، عن أبيه، فإنه قال في آخر الحديث الطويل الذي أخرجه مسلم من طريقه:"قال: فرجعنا - أي: من الغزوة - إلى المدينة، فوالله ما لَبِثنا بالمدينة إلا ثلاث ليال، حتى خرجنا إلى خيبر"، وأما ابن سعد فقال: كانت غزوة ذي قرد في ربيع الأول سنة ست، قبل الحديبية، وقيل: في جمادى الأولى، وعن ابن إسحاق: في شعبان منها، فإنه قال: كانت بنو لحيان في شعبان سنة ستّ، فلما رجع النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فلم يُقِم بها إلا ليالي، حتى أغار عُيينة بن حِصْن على لقاحه، قال القرطبيّ شارح مسلم في الكلام على حديث سلمة بن الأكوع: لا يَختلف أهل السير أن غزوة ذي قرد كانت قبل الحديبية، فيكون ما وقع في حديث سلمة من وَهَمِ بعض الرواة، قال: ويَحْتمل أن يُجْمَع بأن يقال: يَحْتَمِل أن يكون النبيّ صلى الله عليه وسلم كان أغزى سريّةً، فيهم سلمة بن الأكوع إلى خيبر قبل فتحها، فأخبر سلمة عن نفسه، وعمن خرج معه؛ يعني: حيث قال:

(1)

"المفهم" 3/ 680.

ص: 522

خرجنا إلى خيبر، قال: ويؤيده أن ابن إسحاق ذكر أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أغزى إليها عبد الله بن رواحة قبل فتحها مرتين. انتهى.

قال الحافظ: وسياق الحديث يأبى هذا الجمع، فإن فيه بعد قوله:"حين خرجنا إلى خيبر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم": "فجعل عامر يرتجز بالقول"، وفيه قول النبيّ صلى الله عليه وسلم:"من السائق؟ "، وفيه مبارزة عليّ لمرحب، وقَتْل عامر، وغير ذلك، مما وقع في غزوة خيبر حين خرج إليها النبيّ صلى الله عليه وسلم، فعلى هذا ما في "الصحيح" من التاريخ لغزوة ذي قرد أصح مما ذكره أهل السِّير.

ويَحْتَمِل في طريق الجمع أن تكون إغارة عيينة بن حصن على اللقاح، وقعت مرتين: الأولى التي ذكرها ابن إسحاق، وهي قبل الحديبية، والثانية بعد الحديبية، قبل الخروج إلى خيبر، وكان رأس الذين أغاروا عبد الرحمن بن عيينة، كما في سياق سلمة عند مسلم، ويؤيده أن الحاكم ذكر في "الإكليل" أن الخروج إلى ذي قرد تكرر، ففي الأُولى خرج إليها زيد بن حارثة قبل أُحد، وفي الثانية خرج إليها النبيّ صلى الله عليه وسلم في ربيع الآخر، سنة خمس، والثالثة هذه المختلف فيها. انتهى. قال الحافظ رحمه الله: فإذا ثبت هذا قَوِي هذا الجمع الذي ذكرته، والله أعلم. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن بما حققه الحافظ رحمه الله أنه لا وَهَمَ فيما وقع في "صحيح مسلم"، من قوله:"ما لبثنا إلا ثلاث ليال"، وكذا فيما ذكره البخاريّ في كلامه السابق:"قبل خيبر بثلاث"، ولا اعتراض على ذلك بما ذكره أهل السِّيَر؛ لأن ما في "الصحيح" أصحّ، وأثبت مما ذكروه؛ لأنهم لا يتحاشون عن ذكر الضعيف، بل المنكَر؛ لأن قَصْدَهم ذِكْر كلّ ما قيل، وإن لم يصحّ، كما نبّه عليه الحافظ العراقيّ رحمه الله في "ألفيّة السِّيَر" حيث قال:

وَلْيَعْلَمِ الطَّالِبُ أَنَّ السِّيَرَا

تَجْمَعُ مَا صَحَّ وَمَا قَدْ أُنْكِرَا

وَالْقَصْدُ ذِكْرُ مَا أَتَى أَهْلُ السِّيَرْ

بِهِ وَإِنْ إِسْنَادُهُ لَمْ يُعْتَبَرْ

(قَالَ) سلمة (فَجَعَلَ عَمِّي عَامِرٌ)؛ أي: ابن الأكوع، وتقدّمت في رواية أبي الطاهر، عن ابن وهب أنه قال:"أخي"، وقلنا: يُجمع بأنه عمه حقيقةً،

(1)

"الفتح" 9/ 289 - 290، كتاب "المغازي" رقم (4194).

ص: 523

وأنه أخوه من الرضاعة، أو نحو ذلك، فتنبّه. (يَرْتَجِزُ بِالْقَوْمِ)؛ أي: يُنشد شعرًا من بحر الرجز، وتقدّم أن أوزانه "مستفعلن" ستّ مرّات. (تَاللهِ لَوْلَا اللهُ مَا اهْتَدَيْنَا وَلَا تَصَدَّقْنَا وَلَا صَلَّيْنَا وَنَحْنُ عَنْ فَضْلِكَ مَا اسْتَغْنَيْنَا فَثَبِّتِ الأَقْدَامَ إِنْ لَاقَيْنَا وَأَنْزِلَنْ سَكِينَةً عَلَيْنَا) قد تقدّم شرح هذه الأبيات، فلا تغفل. (فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"مَنْ هَذَا؟ ") وفي رواية: "من هذا السائق؟ "(قَالَ: أَنَا عَامِرٌ، قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("غَفَرَ لَكَ رَبُّكَ"، قَالَ) سلمة: (وَمَا) نافية، (اسْتَغْفَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لإِنْسَانٍ يَخُصُّهُ)؛ أي: استغفارًا خاصًّا بذلك الإنسان، (إِلَّا اسْتُشْهِدَ) بالبناء للمفعول؛ أي: نال الشهادة في سبيل الله. (قَالَ) سلمة (فَنَادَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ) رضي الله عنه، وقوله:(وَهُوَ عَلَى جَمَلٍ لَهُ) جملة في محلّ نصب على الحال من "عمر"، (يَا نَبِيَّ الله، لَوْلَا مَتَّعْتَنَا)؛ أي: هلّا دعوت الله تعالى أن يمتّعنا بحياته، فـ "لولا" هنا للعرض، وهو الطلب بِلِيْن وتأدّب، كما قوله تعالى:{لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ} الآية [المنافقون: 10]، ووقع في بعض النسخ:"لو ما متّعتنا"، وفي بعضها:"لولا ما متّعتنا"، (بِعَامِرٍ؟)؛ أي: بحياته، وبقائه فينا. (قَالَ) سلمة (فَلَمَّا قَدِمْنَا) بكسر الدال، (خَيْبَرَ قَالَ) مؤكّد لـ"قال" قبله، (خَرَجَ) مبارزًا (مَلِكُهُمْ)؛ أي: رئيس يهود خيبر، وقوله:(مَرْحَبٌ) مرفوع على البدليّة، وهو - بفتح الميم، وإسكان الراء، وفتح الحاء، آخره موحّدة - وضبطه في "تاج العروس" كمِنْبَر

(1)

. (يَخْطِرُ بِسَيْفِهِ) بكسر الطاء المهملة؛ أي: يرفعه مرّةً، ويضعه أخرى، ومنه: خَطَر البعير بذنبه يَخْطِر بالكسر، من باب ضرب خَطَرًا بفتحتين: إذا رفعه مرّةً، ووضعه مرّةً أخرى

(2)

، والمعنى: أنه يهزّ سيفه متكبّرًا ومُحادّة لله سبحانه وتعالى، ورسوله صلى الله عليه وسلم. (وَ) الحال أن عامرًا (يَقُولُ: قَدْ عَلِمَتْ خَيْبَرُ أَنِّي مَرْحَبُ شَاكِي السِّلَاحِ)؛ أي: تامّ السلاح، يقال: رجل شاير السلاح، وشاكُ السلاحِ - بالرفع - وشاكِ السلاح - بالكسر - من الشوكة، وهي القوّة، والشوكة أيضًا: السلاح، ومنه قوله تعالى:{وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ} [الأنفال: 7].

وقال الفيّوميّ رحمه الله: الشوكة: شدّة البأس والقوّة في السلاح، وَشَاكَ

(1)

راجع: "تاج العروس من جواهر القاموس" 1/ 269.

(2)

شرح النوويّ" 12/ 184، و"المصباح" 1/ 173.

ص: 524

الرجلُ يَشَاكُ شَوْكًا، من باب خافَ: ظهرت شوكته، وحِدّته، وهو شائك السلاح، وشاكي السلاح على القلب، وشوكة المقاتل: شدّة بأسه. انتهى

(1)

.

وقال المجد رحمه الله: الشوكة: السلاح، أو حِدّته، ومن الققال: شدّة بأسه، والنكاية في العدوّ، قال: ورجلٌ شاكُ السِّلاح، وشَائِكُهُ، وشَوِكُهُ، وشَاكِيهِ: حديده. انتهى

(2)

.

(بَطَلٌ) بفتحتين؛ أي: شُجاعٌ، يقال: بَطُل الرجلُ بضم الطاء، يَبْطُل بَطَالةً، وبُطُولةً؛ أي: صار شُجاعًا، قاله النوويّ، وقال الفيّوميّ: رجل بَطَلٌ؛ أي: شُجاع، والجمع أَبْطَالٌ، مثلُ سبب وأسباب، والفعل منه: بَطُلَ بالضم، وزانُ حسُن، فهو حَسَنٌ، وفي لغة: بَطَلَ يَبْطُلُ، من باب قتل، فهو بَطَلٌ: بَيِّنُ البِطَالَة، بالفتح، والكسر، سُمِّي بذلك؛ لبطلان الحياة عند ملاقاته، أو لبطلان العظائم به، قال بعض شارحي الْحَمَاسة: يقال: رجل بَطَلٌ، وأمرأة بَطَلَةُ، كما يقال: شُجَاعَةٌ. انتهى

(3)

.

(مُجَرَّبُ) بفتح الراء المشدّدة؛ أي: مجرّب بالشجاعة، وقهر الْفُرسان.

وقال القرطبيّ رحمه الله: "مجرّبٌ" روايتنا فيه بفتح الراء، على أنه اسم مفعول؛ يعني: أنه جُرّبت حروبه، وعُلمت، ويصحّ أن يقال بالكسر، على أنه اسم فاعل؛ يعني: أنه جرّب الحروب بنفسه، فخَبَرَها. انتهى

(4)

.

(إِذَا الْحُرُوبُ أَقْبَلَتْ تَلَهَّبُ) أصله: تتلهّب، بتاءين، إلا أنه خُفّف بحذف إحداهما، كنظائره، نحو قوله تعالى:{نَارًا تَلَظَّى} [الليل: 14]، {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ} [القدر: 4]، قال في "الخلاصة":

وَمَا بِتَاءَيْنِ ابْتُدِي قَدْ يُقْتَصَرْ

فِيهِ عَلَى تَا كَـ "تَبَيَّنُ الْعِبَرْ"

قال المجد رحمه الله: اللَّهْبُ، واللَّهَبُ، واللهِيبُ، واللُّهَابُ بالضمّ، واللَّهَبَانُ محرَّكةً: اشتعال النار إذا خَلَصَ من الدخان، أو لَهَبُهَا: لسانها، ولَهِيبها: حَرُّها، وألهبها، فالتهَبَت، ولَهّبها، فتلهّبت، واللَّهَبَانُ: شِدّةُ الحرّ. انتهى

(5)

.

(1)

"المصباح المنير" 1/ 327.

(2)

"القاموس المحيط" ص 718.

(3)

"المصباح المنير" 1/ 52.

(4)

"المفهم" 3/ 681.

(5)

"القاموس المحيط" ص 1190.

ص: 525

والمعنى هنا: تشتعل نارها، وهو كثاية عن شدّة الحرب.

(قَالَ) سلمة (وَبَرَزَ)؛ أي: ظهر، مبارزًا (لَهُ)؛ أي: لمرحب، (عَمِّي عَامِرٌ) رضي الله عنه (فَقَالَ: قَدْ عَلِمَتْ خَيْبَرُ أَنِّي عَامِرٌ شَاكِي السِّلَاحِ بَطَل مُغَامِرٌ) اسمُ فاعل من غامر؛ يعني: أنه يأتي غَمَرَات الحروب، ويقتحمها، وأصله من الْغَمْر، وهو الماء الكثير، قاله القرطبيّ

(1)

، وقال النوويّ:"مغامر" بِالغين المعجمة؛ أي: يركب غَمَرَات الحرب، وشدائدها، ويُلقي نفسه فيها

(2)

. (قَالَ) سلمة (فَاخْتَلَفَا)؛ أي: اختلف عامرٌ، ومرحب، فتضاربا (ضَرْبَتَيْنِ) متعاقبتين، (فَوَقَعَ سَيْفُ مَرْحَبٍ فِي تُرسِ عَامِرٍ) بضمّ التاء، وإسكان الراء: هو ما يُتوقّى به في الحرب، جَمْعه تَرِسَةٌ، كعِنَبَةٍ، وتُرُوسٌ، وتِرَاسٌ، مثل فُلُوسٍ، وسِهَام، وربّما قيل: أتراسٌ، قال ابن السّكّيت: ولا تقل: أَتْرِسَةٌ، وزانُ أَرْغِفةٍ

(3)

. (وَذَهَبَ)؛ أي: شرع، وأخذ (عَامِرٌ يَسْفُلُ لَهُ) - بفتح الياء، وإسكان السين، وضمّ الفاء؛ أي: يضربه من أسفله

(4)

. (فَرَجَعَ سَيْفُهُ عَلَى نَفْسِه، فَقَطَعَ أَكْحَلَهُ) بفتح الهمزة، وسكون الكاف، وفتح الحاء، آخره لام: عِرْقٌ في اليد، أو هو عِرْق الحياة، ولا يقال: عِرْق الأكحل، قاله المجد

(5)

. (فَكَانَتْ فِيهَا)؛ أي: في تلك الضربة، (نَفْسُهُ)؛ أي: هلاك نفسه. (قَالَ سَلَمَةُ) رضي الله عنه (فَخَرَجْتُ)؛ أي: من المحل الذي كنت فيه، (فَإِذَا نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُونَ: بَطَلَ عَمَلُ عَامِرٍ)؛ أي: جهاده، ثم علّلوا حكمهم ببطلانه، فقالوا:(قَتَلَ نَفْسَهُ) ببناء الفعل للفاعل؛ أي: لأنه قتل نفسه، وقَتْل النفس من الموبقات. (قَالَ) سلمة (فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم)، وَالحال (وأَنَا أَبْكِي) لِمَا سمعته من قولهم: بَطَل عمل عامر، (فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ بَطَلَ عَمَلُ عَامِرٍ) هكذا في هذه الرواية، وتقدّم أنه قال قلت له:"فداك أبي وأمي زعموا أن عامرًا حَبِطَ عمله"، (قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"مَنْ قَالَ ذَلِكَ؟ ")؛ أي: من الذي قال: بطل عمل عامر؟ (قَالَ: قُلْتُ: نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِكَ) وتقدّم أنه قال: قلت: فلان وفلان، وأُسيد بن حُضير الأنصاريّ.

(1)

"المفهم" 3/ 681.

(2)

"شرح النوويّ" 12/ 184.

(3)

"المصباح المنير" 1/ 74.

(4)

"شرح النوويّ" 12/ 184.

(5)

"القاموس المحيط" ص 1117.

ص: 526

(قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("كَذَبَ)؛ أي: أخطأ (مَنْ قَالَ ذَلِكَ، بَلْ لَهُ أَجْرُهُ مَرَّتَيْنِ") وقال فيما سبق: "إن له لأجرين، وجمع بين إصبعيه، إنه لجاهد مجاهدٌ، قلّ عربيّ مشى بها مثله". (ثُمَّ أَرْسَلَنِي إِلَى عَلِيٍّ)؛ أي: ابن أبي طالب رضي الله عنه، (وَهُوَ أَرْمَدُ)؛ أي: والحال أن عليًّا رضي الله عنه به رَمَدٌ، وهو داء التهابيّ، يصيب العين

(1)

، قال النوويّ رحمه الله: قال أهل اللغة: يقال: رَمِد الإنسان بكسر الميم يَرْمَدُ بفتحها رَمَد، فهو رَمِدٌ، وأرمدُ: إذا هاجت عينه. انتهى

(2)

، وقال الفيّوميّ رحمه الله: رَمِدت العين رَمَدًا، من باب تَعِبَ، فالرجل: أَرْمَدُ، والمرأة رَمْداء، مثلُ أحمر، وحمراء، ويقال أيضًا: رَمِدٌ، ورَمِدَةٌ، وأرمدت العين بالألف لغة

(3)

. (قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("لأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ) هي عَلَم الجيش، يقال: أصلها الهمز، لكن العرب آثرت تركه؛ تخفيفًا، ومنهم من يُنكر هذا القول، ويقول: لم يُسمع الهمز، والجمع: رايات، قاله الفيّوميّ رحمه الله

(4)

.

وقال في "الفتح" عند قول البخاريّ رحمه الله: "باب ما قيل في لواء النبيّ صلى الله عليه وسلم" ما نصّه: "اللواء" بكسر اللام والمد: هي الراية، ويُسمى أيضًا لعَلَمَ، وكان الأصل أن يُمسكها رئيس الجيش، ثم صارت تُحمل على رأسه، وقال أبو بكر بن العربيّ: اللواء غير الراية، فاللواء ما يُعْقَد في طَرَف الرمح، ويُلْوَى عليه، والراية ما يُعقَد فيه، ويُترك حتى تُصَفِّقه الرياح، وقيل: اللواء دون الراية، وقيل: اللواء: العَلَم الضخم، والعَلَم علامة لمحل الأمير، يدور معه حيث دار، والراية يتولاها صاحب الحرب. انتهى

(5)

.

(رَجُلًا يُحِبُّ اللهَ) تعالى (وَرَسُولَهُ) صلى الله عليه وسلم (أَوْ) للشكّ من الراوي، هل قال هذا، أو قال:(يُحِبُّهُ اللهُ) تعالى (وَرَسُولُهُ") صلى الله عليه وسلم، ووقع في بعض النسخ:"ويُحبّه الله ورسوله" بالواو بدل "أو"، وهكذا وقع في بعض روايات البخاريّ بالواو، وفي بعضها بـ "أو". (قَالَ) سلمة (فَأَتيْتُ عَلِيًا) رضي الله عنه (فَجِئْتُ بِهِ أَقُودُهُ، وَهُوَ أَرْمَدُ، حَتَّى أَتَيْتُ بِهِ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَبَسَقَ) بالسين المهملة، وفي بعض النسح:

(1)

"المعجم الوسيط" 1/ 372.

(2)

"شرح النوويّ" 12/ 185.

(3)

"المصباح المنير" 1/ 238.

(4)

"المصباح المنير" 1/ 246.

(5)

"الفتح" 7/ 232، كتاب "الجهاد" رقم (2975).

ص: 527

"فبصق" بالصاد المهملة، وهما بمعنى واحد، قال الفيّوميّ رحمه الله: بَسَقَ بُساقًا بمعنى بَصَقَ، وهو إبدال منه، ومنعه بعضهم، وقال: لا يقال: بسَقَ بالسين إلا في زيادة الطول، كالنخلة وغيرها، وعزاه إلى الخليل. انتهى

(1)

. (فِي عَيْنَيْهِ)؛ أي: عيني عليّ رضي الله عنه، (فَبَرَأَ) بتثليث الراء، قال الفيّوميّ رحمه الله: بَرَأَ من المرض يَبْرَأُ، من بابي نَفَعَ، وَتَعِبَ، وبَرُؤَ بُرْءًا، من باب قَرُب لغةٌ: شُفِي، وتخلّص مما فيه

(2)

. (وَأَعْطَاهُ)؛ أي: أعطى النبيّ صلى الله عليه وسلم عليًّا (الرَّايَةَ، وَخَرَجَ مَرْحَبٌ)؛ أي: إلى المعركة طالبًا من يبارزه، (فَقَالَ: قَدْ عَلِمَتْ خَيْبَرُ أَنِّي مَرْحَبُ شَاكِي السِّلَاحِ بَطَلٌ مُجَرَّبُ إِذَا الْحُرُوبُ أَقْبَلَتْ تَلَهَّبُ) تقدّم شرح الرجز. (فَقَالَ عَلِيٌّ) رضي الله عنه (أَنَا الَّذِي سَمَّتْنِي أُمِّي) هي فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف الهاشميَّة، والدة عليّ، وإخوته، قيل: إنها تُوُفّيت قبل الهجرة، والصحيح أنها هاجرت، وماتت بالمدينة، وبه جزم الشعبيّ، قال: أسلمت، وهاجرت، وتوفيت بالمدينة

(3)

، ليس لها رواية، ولكن لها ذكرٌ فقط. (حَيْدَرَهْ)؛ أي: أسدًا، و"الحيدر، والحيدرة، والحادر من أسماء الأسد، سُمّي بذلك؛ لغِلَظه، وقوّته"، وقال النوويّ رحمه الله: حَيْدَرَةُ: اسم للأسد، وكان عليّ رضي الله عنه قد سُمِّي أسدًا في أول ولادته، وكان مرحب قد رأى في المنام أن أسدًا يقتله، فذكّره عليّ رضي الله عنه ذلك؛ لِيُخِيفه، ويُضْعِف نفسه، قالوا: وكانت أم عليّ سمّته أوّلَ ولادته أسدًا باسم جدّه لأمه أسد بن هاشم بن عبد مناف، وكان أبو طالب غائبًا، فلما قَدِمَ سماه عليًّا، وسُمِّي الأسدُ حَيْدَرة؛ لِغِلَظه، والحادر: الغليظ القويّ، ومراده: أنا الأسد على جُرْأته، وإقدامه، وقوّته. انتهى

(4)

. (كَلَيْثِ غَابَاتٍ)؛ أي: أنا مثلُ الأسد الذي يعيش في الغابات، و"الليث" اسم للأسد، وجمعه لُيُوثٌ، والأنثى ليثة، وجمعها لَيْثَات، و"الغابات": جمع غابة، وهي الشجر الْمُلْتَفّ، سُمّيت بذلك؛ لأنها تغيّب فيها من دخلها، وتُطلق أيضًا على عَرِين الأسد؛ أي: مأواه،

(1)

"المصباح المنير" 1/ 49.

(2)

"المصباح المنير" 1/ 47، و "المعجم الوسيط" 1/ 46.

(3)

راجع: "الإصابة في تمييز الصحابة" 8/ 60.

(4)

"شرح النوويّ" 12/ 185.

ص: 528

كما يُطلق الْعَرِينُ على الغابة أيضًا، ولعلّ ذلك لاتّخاذه إياه في داخل الغابة غالبًا. (كَرِيهِ الْمَنْظَرَهْ)؛ يعني: أنه كريه المنظر في عين عدوّه؛ لأن موت عدوّه مقرون بنظره إليه، قال القرطبيّ: الهاء فيه، وفي حيدرة للاستراحة. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: يعني: أنها هاء السكت، وفيه نظر؛ لأن المنظرة مثل المنظر، وقد عدّهما في "القاموس" من مصادر نظر، و"الحيدرة" لغة في "الحيدر" أيضًا، كما أسلفته قريبًا، فليست الهاء فيهما للسكت، فتبصّر، والله تعالى أعلم.

(أُوفِيهِمُ بِالصَّاعِ)؛ أي: أقتُل الأعداء قتلًا ذريعًا واسعًا، (كَيْلَ السَّنْدَرَهْ) - بفتح السين المهملة، وإسكان النون، وفتح الدال المهملة -: مكيالٌ واسعٌ، وقيل: هي العَجَلة؛ أي: أقتلهم عاجلًا، وقيل: مأخوذ من السندرة، وهي شجرة الصَّنَوْبِر، يُعْمَلُ منها النَّبْلُ، والْقَسِيّ، قاله النوويّ

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: "السندرة": مكيال واسع، قال القتبيّ: ويَحْتَمِل أن يكون أُخذ من السَّنْدرة، وهي شجرة يُعْمَل منها النبل والقسيّ، قال صاحب العين: كيل السندرة: ضرب من الكيل، ومعناه: أقتلهم قتلًا واسعًا، وقيل: السندرة: العجلة؛ أي: أقتلهم قتلًا عَجِلًا عاجلًا. انتهى

(2)

.

(قَالَ) سلمة: (فَضَرَبَ) عليّ رضي الله عنه (رَأْسَ مَرْحَبٍ، فَقَتَلَهُ)؛ أي: قتل عليّ رضي الله عنه مرحبًا، وهذا هو الأصح، وقيل: أن قاتلً مرحب هو محمد بن مسلمة، قال ابن عبد البرّ رحمه الله في كتابه "الدرر في مختصر السير": قال محمد بن إسحاق: إن محمد بن مسلمة هو قاتله، قال: وقال غيره: إنما قتله عليّ رحمه الله، قال ابن عبد البر: هذا هو الصحيح عندنا، ثم رَوَى ذلك بإسناده عن سلمة، وبُريدة، قال ابن الأثير: الصحيح الذي عليه أكثر أهل الحديث، وأهل السير أن عليًّا رضي الله عنه هو قاتله، وحكى محمد بن سعد أن الذي قتله محمد بن مسلمة، وذَفَّفَ عليه عليّ

(3)

، والله تعالى أعلم.

قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن بما ذُكر أن قاتل مرحب هو عليّ رضي الله عنه،

(1)

"شرح النوويّ" 12/ 185.

(2)

"المفهم" 3/ 683.

(3)

"شرح النوويّ" 12/ 186، و"المفهم" 3/ 683.

ص: 529

وذكر بعضهم ما يَجمع بين اختلاف الروايتين، وهو ما ساقه الواقديّ في "مغازيه"، فقال: ويقال: إن مرحب برز، وهو كالفحل الصئول، يرتجز، وهو يقول:

قَدْ عَلِمَتْ خَيْبَرُ أَنِّي مَرْحَبُ

شَاكِي السِّلَاحِ بَطَلٌ مُجَرَّبُ

أَضْرِبُ أَحْيَانًا وَحِينًا أُضْرَبُ

يدعو للبراز، فقال محمد بن مسلمة: يا رسول الله، أنا والله الموتور الثائر، قُتِل أخي بالأمس، فائذن لي في قتال مرحب، وهو قاتل أخي، فَأَذِن له رسول الله صلى الله عليه وسلم في مبارزته، ودعا له بدعوات، وأعطاه سيفه، فخرج محمد، فصاح يا مرحب، هل لك في البراز؟ فقال: نعم، فبرز إليه مرحب، وهو يرتجز: قَدْ عَلِمَتْ خَيْبَرُ أَنِّي مَرْحَبُ.

وخرج محمد بن مسلمة، وهو يقول:

قَدْ عَلِمَتْ خَيْبَرُ أَنِّي مَاضِ

حُلْوٌ إِذَا شِئْتُ وَسُمٌّ قَاضِ

ويقال: إنه جعل يومئذٍ يرتجز ويقول:

يَا نَفْسُ إَنْ لَا تُقْتَلِي تَمُوتِي

لَا صَبْرَ لِي بَعْدَ أَبِي النُّبَيتِ

وكان أخوه محمود يكنى بأبي النُّبَيت.

قال: وبرز كل واحد منهما إلى صاحبه، قال: فحال بينهما عُشَرات، أصلها كمثل أصل الْفَحْل من النخل، وأفنان مُنْكَرة، فكلما ضرب أحدهما صاحبه استتر بالعُشَر، حتى قطعا كل ساق لها، وبقي أصلها قائمًا، كأنه الرجل القائم، وأفضى كل واحد منهما إلى صاحبه، وبَدَر مَرْحَبٌ محمدًا، فيرفع السيف ليضربه، فاتقاه محمد بالدَّرَقَة، فلَحَجَ سيفه، وعلى مرحب دِرْع مشمرة، فيضرب محمد ساقي مرحب، فقطعهما.

ويقال: لما اتقى محمد بالدرقة، وشمرت الدرع عن ساقي مرحب، حين رفع يديه بالسيف، فطأطأ محمد بالسيف، فقطع رجليه، ووقع مرحب، فقال مرحب: أَجْهِز يا محمد، قال محمد: ذُقْ الموت كما ذاقه أخي محمود، وجاوزه، ومَرَّ به عليّ، فضرب عنقه، وأخذ سلبه، فاختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في سلبه، فقال محمد بن مسلمة: يا رسول الله، والله ما قطعت رجليه، ثم تركته إلا ليذوق مُرّ السلاح، وشدّة الموت، كما ذاق أخي، مكث ثلاثًا

ص: 530

يموت، وما منعني من الإجهاز عليه شيء، قد كنت قادرًا بعد أن قطعت رجليه، أن أجهز عليه، فقال عليّ رضي الله عنه: صدق، ضربت عنقه بعد أن قَطَع رجليه، فأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم محمد بن مسلمة سيفه، ودرعه، ومِغْفره، وبيضته، فكان عند آل محمد بن مسلمة سيفه فيه كتاب لا يُدْرَى ما هو؟ حتى قرأه يهوديّ من يهود تيماء، فإذا فيه: هذا سيفُ مَرْحب مَن يَذُقه يَعْطَبْ. انتهى

(1)

قال الجامع عفا الله عنه: لكن الواقديّ ضعيف، لا تُعارض روايته ما في "الصحيح"، فما في "الصحيح" من أن قاتل مرحب هو عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه هو الصحيح، ولا حاجة إلى الجمع بين الروايتين، إذ لا تعارض بين الصحيح والضعيف، فتبصّر، والله تعالى أعلم.

(ثُمَّ كَانَ الْفَتْحُ)؛ أي: فَتْح خيبر (عَلَى يَدَيْه)؛ أي: على يدي عليّ رضي الله عنه، كما قال صلى الله عليه وسلم:"يفتح الله على يديه".

وقوله: (قَالَ إِبْرَاهِيمُ) هو إبراهيم بن محمد بن سفيان، أبو إسحاق النيسابوريّ المتوفّى سنة (308 هـ) تلميذ الإمام مسلم، راوي هذا الكتاب عنه، تقدّمت ترجمته في "المقدّمة" 6/ 73.

وغرضه بهذا بيان علوّ إسناده الذي ذكره على إسناده من طريق مسلم، فإنه وصل إلى عكرمة بواسطتين: محمد بن يحيى، وعبد الصمد بن عبد الوارث، بينما وصل إليه من طريق مسلم بثلاث وسائط: مسلم، وأبو بكر بن أبي شيبة، وهاشم بن القاسم في السند الأول، ومسلم، وإسحاق بن إبراهيم، وأبو عامر العقديّ في السند الثاني.

والحاصل أن فائدة ذكر إبراهيم بن محمد هذا الإسناد بيان العلوّ له فيه، بخلاف ما في إسناد مسلم، والله تعالى أعلم.

(حَدَّثنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى) بن عبد الله بن خالد بن فارس بن ذؤيب الذّهْليّ النيسابوريّ، ثقةٌ [حافظ جليلٌ 11](ت 258) وله (86) سنةً (خ 4) تقدّمت ترجمته في "المقدّمة" 6/ 73.

[تنبيه]: كون محمد بن يحيى هنا هو الذهليّ هو الظاهر، فما ذكره بعض

(1)

"مغازي الواقديّ" 1/ 656.

ص: 531

الشرّاح

(1)

من أنه محمد بن يحيى بن سعيد القطّان، ففيه نظر؛ لأن الأول هو الذي نصّ المزيّ في "التهذيب" أنه يروي عنه إبراهيم بن محمد بن سفيان، راجع:"تهذيب الكمال"(26/ 621). وأما الثاني، فلم يُذكر إيراهيم المذكور ممن روى عنه، والظاهر أنه لم يلقه؛ لأنه متقدّم الوفاة، فإن مسلمًا لا يروي عنه إلا بواسطة، وأحيانًا بواسطتين، كما تقدّم في "مقدّمة صحيحه" برقم (44)، ومات سنة (223)، وقيل:(226)، وقيل:(233).

والحاصل أن كون محمد بن يحيى هنا هو الذهليّ، لا القطّان هو الظاهر، فتأمّله بالإمعان، والله تعالى أعلم.

(حَدَّثنا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَبْدِ الْوَارثِ) بن سعيد بن ذكوان العنبريّ مولاهم التّنّوريّ، أبو سهل البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ في شعبة [9](ت 207)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 82.

(عَنْ عِكْرِمَةَ بْنِ عَمَّارٍ، بِهَذَا الْحَدِيثِ بِطُولِهِ) وفي بعض النسخ: "بهذا، (ح) وحدّثنا أحمد"؛ أي: حدّثنا بهذا الحديث، ثم قال:(ح) إشارة إلى تحويل السند، فهو من تَتِمّة أسانيد مسلم، فتنبّه.

والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [43/ 4669 و 4670](1807)، و (أبو داود) في "الجهاد"(2752)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(14/ 533 - 538)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 52 - 54)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(7173)، و (الطبريّ) في "تاريخه"(2/ 596، 600)، و (ابن سعد) في "الطبقات"(2/ 81 - 84)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 303)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(9/ 88) و"دلائل النبوّة"(4/ 182 - 186)، والله تعالى أعلم.

(1)

هو الشيخ الهرريّ، راجع: شرحه لهذا الكتاب 19/ 400.

ص: 532

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): جواز استقتال المرء نفسه في سبيل الله عز وجل؛ إرادةً للشهادة.

2 -

(ومنها): جواز اقتحام الواحد على الجمع؛ إذا كان من أهل النجدة.

3 -

(ومنها): جواز المبارزة بغير إذن الإمام، كما بارز عامر بن الأكوع رضي الله عنه، وهو حجَّة على من كرهها مطلقًا، وهو الحسن، وعلى من اشترط في جوازها إذن الإمام، وهو إسحاق، وأحمد، والثوري، ثم هل يُعان المبارِزُ أم لا؟ أجازها أحمد، وإسحاق، ومنعها الأوزاعيّ، وفصّل الشافعيّ، فقال: إن شَرَطَ المبارَزُ عدمها لم يَجُز، وإن لم يشترط جاز

(1)

.

4 -

(ومنها): استحباب الثناء على الشجاع، ومن فيه فضيلة، لا سيما عند الصنع الجميل؛ ليستزيد من ذلك، ومحلّه حيث يؤمَن الافتتان.

5 -

(ومنها): جواز المسابقة على الأقدام، ولا خلاف في جوازه بغير عِوَض، وأما بالعوض فالصحيح لا يصحّ، والله أعلم.

6 -

(ومنها): أن فيه أربعَ معجزات لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إحداها: تكثير ماء

الحديبية، والثانية: إبراء عين عليّ رضي الله عنه، والثالثة: الإخبار بأنه يَفتَحُ الله على يديه، وقد جاء التصريح به في رواية غير مسلم هذه، والرابعة: إخباره صلى الله عليه وسلم بأنهم يُقْرَون في غَطَفان، وكان كذلك، قاله النوويّ

(2)

.

7 -

(ومنها): جواز الصلح مع العدوّ.

8 -

(ومنها): بعث الطلائع.

9 -

(ومنها): بيان فضيلة الشجاعة، والقوة.

10 -

(ومنها): بيان مناقب سلمة بن الأكوع، وأبي قتادة، والأحزم الأسديّ رضي الله عنهم.

11 -

(ومنها): جواز عَقْر خيل العدوّ في القتال.

12 -

(ومنها): استحباب الرجز في الحرب.

13 -

(ومنها): جواز قول الرامي، والطاعن، والضارب: خُذْها وأنا فلان، أو ابن فلان.

(1)

"المفهم" 3/ 683.

(2)

"شرح النوويّ" 12/ 186.

ص: 533

14 -

(ومنها): جواز الأكل من الغنيمة.

15 -

(ومنها): استحباب التنفيل منها لمن صنع صَنِيعًا جميلًا في الحرب.

16 -

(ومنها): جواز الإرداف على الدابة المطيقة.

17 -

(ومنها): ما كانت عليه الصحابة رضي الله عنهم من حبّ الشهادة، والحرص عليها، كما فعل الأخرم الأسديّ، وعامر بن الأكوع رضي الله عنهما.

18 -

(ومنها): جواز إلقاء النفس في غَمَرات القتال، وقد اتفقوا على جواز التغرير بالنفس في الجهاد، في المبارزة، ونحوها.

19 -

(ومنها): أن من مات في حرب الكفار بسبب القتال، يكون شهيدًا، سواء مات بسلاحهم، أو رَمَته دابة، أو غيرها، أو عاد عليه سلاحه، كما جرى لعامر رضي الله عنه.

20 -

(ومنها): تفقّد الإمام الجيش، ومن رآه بلا سلاح أعطاه سلاحًا، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4670]

(

) - (وَحَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُوسُفَ الأَزدِيُّ السُّلَمِيُّ، حَدَّثَنَا النَّضْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ بْنِ عَمَّارٍ بِهَذَا).

رجال هذا الإسناد: ثلاثة:

1 -

(أَحْمَدُ بْنُ يُوسُفَ الأَزدِيُّ السُّلَمِيُّ) أبو الحسن النيسابوريّ المعروف بحمدان، ثقةُ حافظٌ [11](ت 264) وله (80) سنةً (م د ت ق) تقدم في "المقدمة" 6/ 90.

2 -

(النَّضْرُ بْنُ مُحَمَّدِ) بن موسى الْجُرَشيّ الأمويّ مولاهم، أبو محمد اليماميّ، ثقةٌ له أفراد [9](خ م د ت ق) تقدم في "الإيمان" 34/ 241.

و"عكرمة بن عمّار" ذُكر في السند الماضي.

[تنبيه]: رواية النضر بن محمد، عن عكرمة بن عمّار هذه ساقها أبو عوانة رحمه الله في "مسنده" بسند المصنّف، فقال:

ص: 534

(6820)

- حدّثنا أحمد بن يوسف السُّلَمِيّ، قثنا

(1)

النضر بن محمد، قثنا عكرمة بن عمار، قثنا إياس بن سلمة بن الأكوع، عن أبيه رضي الله عنه، قال: خرجت إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأنا غلام حَدَثٌ، وتركت أهلي ومالي إلى الله عز وجل، ورسوله صلى الله عليه وسلم، فكنت تَبِيعًا لطلحة بن عبيد الله رضي الله عنه أَخدُمُه، وآكل معه من طعامه، فقدِمنا الحديبية، ونحن أربع عشرة مائة، مع النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعليها يومئذٍ خمسون شاةً، ما ترويها، فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قعد على جِبَاها

(2)

، قال: فإما بَسَقَ فيها، وإما دعا، فما نُزحت بعدُ، ثم إن نبي الله صلى الله عليه وسلم بايعنا تحت الشجرة، فبايعته في أول الناس، ثم بايع، حتى كان في وسط من الناس، ثم قال:"يا سلمة ألا تبايعني؟ " قلت: يا رسول الله بايعتك في أول الناس، قال:"وأيضًا"، ثم قال:"يا سلمة، أما لك جُنّة؟ "، فأعطاني جَحَفَةً، أو قال: دَرَقَةً، ثم بايع، حتى إذا كان في آخر الناس، قال:"يا سلمة، ألا تبايعني؟ " قال: قلت: يا رسول الله قد والله بايعتك أول الناس، وفي أوسطهم، قال:"وأيضًا"، ثم قال:"يا سلمة، أين جحفتك؟ - أو قال: دَرَقتك التي أعطيتك؟ " قال: قلت: يا رسول الله أعطيتها عَمِّي عامرًا، وكان أعزل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وضحك -:"إنك كالذي قال الأَوّل: اللهم أبغني حبيبًا أحبّ إليّ من نفسي"، ثم إن قومًا من المشركين من أهل مكة، كان بيننا وبينهم صلح، حتى تمشت بعضنا في بعض، واختلطنا، فأتيت الشجرة، فكَسَحت شوكها، ثم نزلت في ظلها، ثم اضطجعت، ووضعت سلاحي، فأتاني أربعة من المشركين، يتماشون، فجلسوا إليّ، فجعلوا يقعون في النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأبغضتهم، فتحوّلت إلى شجرة أخرى، فما عدا أن وضعوا ثيابهم، وعَلَّقوا سلاحهم، إذ نادى منادٍ من أسفل الوادي: يا للمهاجرين قُتِل ابن زُنيم، قال: فأشُدّ عليهم، حتى أَقِفَ على رؤوسهم بالسيف، ثم قال: والذي كَرَّم وجه محمد صلى الله عليه وسلم لا يمدّ واحد منكم يده إلى سلاحه، إلا ضربت الذي فيه عيناه، ثم ضممت سلاحهم، وسُقتهم

(1)

"قثنا" في المواضع الثلاثة مختصر من "قال: حدّثنا"، فتنبّه.

(2)

هو ما حول البئر.

ص: 535

بسيفي، حتى آتي بهم النبيّ صلى الله عليه وسلم، وجاء عمي عامر بِمِكْرَز، أو ابن مكرز رجلٍ من الْعَبَلات، يقود به فرسه، مُتسلِّحًا في سبعين رجلًا، فلما نظر إليهم نبيّ الله صلى الله عليه وسلم قال:"ذَرُوهم، يكن لهم بَدْء الفجور وثِنَاهُ"، ثم رجعنا إلى المدينة، فمررنا على جبل بيننا وبين العدوّ، فاستغفر رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن طلعه تلك الليلة، فأطلعته ثلاث مرّات، أو مرتين، ثم قَدِمنا المدينة، فخرجت بفرس طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه مع رَبَاح رضي الله عنه غلام رسول الله صلى الله عليه وسلم في ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما كان بِغَلَس، إذا نحن بعبد الرحمن بن عيينة بن بدر الْفَزَاريّ، قد أغار على سرح رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستاق هو وأصحابه، وقَتَلوا راعيها، فقلت: يا رَبَاح، اركب هذا الفرس، فأبلغه طلحة، وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن المشركين قد أغاروا على سرحه، وقَتَلوا راعيه، قال: وأشرقت شَرْقًا

(1)

من الأرض، ثم ناديت بأعلى صوتي: يا صباحاه، ثم اتَّبعت القوم، أرميهم بالنبل، وأقول:

أَنَا ابْنُ الأَكْوَعِ

الْيَوْمُ يَوْمُ الرُّضَّعِ

وأهوي لرجل منهم بسهم، فأضعه في بعض

(2)

الكتف، ثم قلت: خُذْهَا:

وَأَنَا ابْنُ الأَكْوَعِ

وَالْيَوْمُ يَوْمُ الرُّضَّعِ

فلم أزل أرميهم بالنبل، فإذا حملوا عليّ لجأت إلى شجرة، ثم نثرت نبلي، فعقرت بهم، وإذا تضايق الوادي، عَلَوت عليهم الجبل، فرميتهم بالحجارة، حتى أحرزت الظهر الذي أخذوا كلَّه، وأخذت من مُشاتهم سوى ذلك أكثر من ثلاثين رُمْحًا، وثلاثين بُرْدةً، يطرحونها، لا أضم منها شيئًا ثمة إلا جعلته طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وجعلت عليه حجارةً علامةً؛ ليعرفوا، فلما امتدّ الضحى إذا عُيينة بن بدر أبو عبد الرحمن قد أتاهم مددًا،

(1)

هكذا النسخة "شرقًا" بالقاف، ولعله مصحّف من "شَرَفًا"، وقد تقدّم من رواية مسلم بلفظ:"ثم قمت على أَكَمة"، فليُحرّر، والله تعالى أعلم.

(2)

هكذا النسخة "بعض"، والظاهر أنه مصحّفٌ من "نُغْض"، كما سبق في رواية مسلم، فليُحرّر.

ص: 536

فنزلوا يتضحون، وعلوت عليهم الجبل، فقعدت، فنظر إليّ عيينة، فقال: ما هذا الذي أرى؟ قالوا: لقينا من هذا الْبَرْحاء، ما فارقنا بغَلَس حتى هذا مكانه، قال: أفلا يقوم إليه نفر منكم، فقام إليّ أربعة منهم، فسندوا إلى الجبل، فلما دَنَوا مني، قلت: أتعرفوني؟ أنا ابن الأكوع، والذي نفسي بيده، لا يطلبني رجل منكم، فيلحَقَني، ولا أطلبه، فيفوتَني، قالوا: إنا نظنّ، فرجعوا، ثم إذا أنا بفوارس رسول الله صلى الله عليه وسلم أولهم الأخرم الأسديّ، وأبو قتادة، والمقداد بن الأسود، فانحدرت من الجبل، فأعرض الأخرم، وهو أول القوم، فآخذ بعِنَان فرسه، فقلت: يا أخرم أتذر

(1)

القوم أن يقتطعوك، حتى يلحق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه؟ فقال: يا سلمة إن كنت تؤمن بالله واليوم الآخر، وتعلم أن الجنة حقّ، والنار حقّ، فلا تَحُل بيني وبين الشهادة، فتركته، فتقدّم، فالتقى هو وعبد الرحمن بن عيينة، فاختلفا طعنتين، فعَقَر بعبد الرحمن فرسه، وطعنه عبد الرحمن فقتله، ثم تحول على فرسه، فالتقى عبد الرحمن وأبو قتادة، فاختلفا طعنتين، فعقر عبد الرحمن بأبي قتادة، وطعنه أبو قتادة فقتله، وتحول على فرسه، ثم وَلَّى القوم، لا يَلْوُون على شيء، فاتبعتهم على رجليّ، حتى ما أرى من فرسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا من رَجّالتهم أحدًا، ثم مالوا إلى ماء، يقال له ذو قَرَد، فأبصروني وراءهم، فحَلّيتهم عنه، وهم عِطاشٌ، حتى ألحق في ثنية ذي الدثير، فألحقُ رجلًا على راحلته في مؤخر القوم، فأرميه بسهم، فقلت: خذها:

وَأَنَا ابْنُ الأَكْوَعِ

وَالْيَوْمُ يَوْمُ الرُّضَّعِ

قال: واثكل أمي، أَكْوَعِيا

(2)

بكرةَ؟ قلت: نعم؛ أي عدوّ نفسه، وأخذت بفرسين أرديهما

(3)

في الثنية، فسُقْتهما معي حتى ألقى عمي عامرًا في الظلام، على بعير، معه سطيحتان، إحداهما مَذْقة - أي: بقية من لبن -

(1)

كذا النسخة، والظاهر أنه مصحّف من "احذر"، كما سبق في مسلم، فليُحرّر.

(2)

كذا النسخة، وتقدّم في مسلم بلفظ: أَكْوَعه"، وفي لفظ: "أَكْوَعنا".

(3)

كذا النسخة، وتقدّم في مسلم:"وأردوا فرسين"، وفي رواية:"وأرذوا فرسين" بالذال المعجمة.

ص: 537

والأخرى ماء، فتوضأت، وصليت، حتى آتي نبيّ الله صلى الله عليه وسلم نازلًا على الماء الذي حَلّيتهم عنه، ذو قَرَد، ووجدت بلالًا رضي الله عنه يشوي كبدًا وسنامًا من جزور نُحِر من الإبل التي حَوَيت من المشركين، فقلت: يا نبيّ الله بأبي أنت وأمي ذَرْني، فأنتخبَ من القوم مائة، فآخذ عليهم بالعشوة، فأصبح، ولم يبق مُخبِرٌ، فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحك حتى بدت نواجذه في عشوة النار، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"يا سلمة أكنت فاعلًا؟ " قلت: نعم والذي بعثك بالحقّ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إنهم الآن لَيُقْرَون في غطفان"، فما بَرِحت حتى جاء رجل، فقال: يا رسول الله نزلوا بفلان الغطفانيّ، فنحر لهم جَزورًا، ثم أبصروا الغَبَرة، فقذف الله في قلوبهم الرعب، فخرجوا، وتركوا قراهم، قال: وأعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم سهم الفارس، وسهم الراجل جميعًا، وأردفني خلفه على العضباء، فلما كان بيننا وبين المدينة كالروحة، أو الغدوة، أتانا رجل من الأنصار، كان لا يُسبَق، فقال: هل من مسابق؟ ألا هل من مسابق؟ مرتين، أو ثلاثًا، فأقبلت عليه، فقلت: أما تكرم عليه كريمًا؟ ولا تهاب شريفًا؟ قال: لا، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلت: يا رسول الله بأبي أنت وأمي، أفلا أسابق الرجل؟ قال: إن شئت، فثنيت رجلي، فطَفَرت عن ظهر الناقة، ثم قلت: اذهب إليك، ورَبَطت عليه شرفًا أو شرفين، ثم ترفعت حتى ألحقه، فصككت بين كتفيه، ثم قلت: سبقتك والله، قال: إني أظنّ، ثم قدمنا المدينة، فما لبثنا بها إلا ثلاثًا، حتى خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خيبر، فخرجت، وعمي عامر بن الأكوع، فجعل يرتجز القوم، ويقول:

تَاللهِ لَوْلَا اللهُ مَا اهْتَدَيْنَا

وَلَا تَصَدَّقْنَا وَلَا صَلَّيْنَا

إِنَّ الَّذِينَ هُمْ بَغَوْا عَلَيْنَا

إِذَا أَرَادُوا فِتْنَةً أَبَيْنَا

وَنَحْنُ عَنْ فَضْلِكَ مَا اسْتَغْنَيْنَا

فَثَبِّتِ الأَقْدَامَ إِنْ لَاقَيْنَا

وَأَنْزِلَنْ سَكِينَةً عَلَيْنَا

فنادى رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَن هذا؟ " قالوا: يا رسول الله هذا عامر، فقال:"غفر لك ربك"، قال: فوالله ما استغفر رسول الله صلى الله عليه وسلم قط يخصه لرجل، إلا استُشْهِد، قال: فناداه عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهو على راحلته في ناحية القوم: يا رسول الله، لو متّعتنا بعامر؟ قال: فلما قَدِمنا خيبر، أقبل مَرْحَب، فقال:

ص: 538

قَدْ عَلِمَتْ خَيْبَرُ أَنِّي مَرْحَبُ

شَاكِ السِّلَاحِ بَطَلٌ مُجَرِّبُ

إِذَا الْحُرُوبُ أَقْبَلَتْ تَلَهَّبُ

فقال عامر:

قَدْ عَلِمَتْ خَيْبَرُ أَنِّي عَامِرُ

شَاكِ السِّلَاحِ بَطَلٌ مُغَامِرَ

فاختلفا ضربتين، فوقع سيف مرحب في تُرْس عامر، ورجع سيف عامر عليه، فأصاب ساق نفسه، فأتى له فيها، قال: فمررت على نفر من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو يقولون: بَطَل عمل عامر، فأتيت النبيّ صلى الله عليه وسلم أبكي، فقلت: يا رسول الله أبَطَل عمل عامر؟ قال: "ومَن قال ذاك؟ " قال: قلت: بعض أصحابك، قال:"كَذَب ذاك، بل له أجره مرتين"، قال: ثم أرسل نبيّ الله صلى الله عليه وسلم إلى عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، فقيل: يا نبيّ الله إنه أرمد، فجئت به أقوده إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ذلك:"لأعطينّ الراية رجلًا يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله"، فبسق رسول الله صلى الله عليه وسلم في عينيه، ثم أعطاه الراية، فكان الفتح على يديه، ولمّا برز عليّ، فارتجز مرحب، فقال:

قَدْ عَلِمَتْ خَيْبَرُ أَنِّي مَرْحَبَ

شَاكِ السِّلَاحِ بَطَلٌ مُجَرِّبُ

إِذَا الْحُرُوبُ أَقْبَلَتْ تَلَهَّبُ

قال: فقال عليّ رضي الله عنه:

أَنَا الَّذِي سَمَّتْنِي أُمِّي حَيْدَرَهْ

كَلَيْثِ غَابَاتٍ كَرِيهِ الْمَنْظَرَهْ

أُوفِيهِمُ بِالصَّاعِ كَيْلَ السَّنْدَرَهْ

قال: ففَلَق عليّ رأسه، وكان الفتح على يديه. انتهى

(1)

.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(1)

"مسند أبي عوانة" 4/ 301 - 310.

ص: 539

(44) - (بَابُ قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ} الآيَةَ [الفتح: 24]).

وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4671]

(1808) - (حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدٍ النَّاقِدُ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، أَخْبَرَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ ثَمَانِينَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، هَبَطُوا عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ جَبَلِ التَّنْعِيم، مُتَسَلِّحِينَ، يُرِيدُونَ غِرَّةَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابِه، فَأَخَذَهُمْ سَلَمًا، فَاسْتَحْيَاهُمْ، فَأَنْزَلَ اللهُ: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ} الآية [الفتح: 24]).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدٍ النَّاقِدُ) أبو عثمان البغداديّ، نزيل الرّقّة، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 232)(خ م د س) تقدم في "المقدمة" 4/ 23.

2 -

(يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ) السلميّ مولاهم، أبو خالد الواسطيّ، ثقةٌ متقنٌ عابدٌ [9](ت 206) وقارب التسعين (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 45.

والباقون تقدّموا قبل باب، وكذا الكلام في لطائف الإسناد.

شرح الحديث:

(عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ) رضي الله عنه (أَنَّ ثَمَانِينَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، هَبَطُوا) - بفتحتين -؛ أي: نزلوا، يقال: هبط الماء وغيره هَبْطًا، من باب ضرب: نزل، وفي لغة قليلة: يَهْبُطُ هُبُوطًا، من باب قَعَدَ، وهَبَطتُهُ: أنزلته، يتعدّى، ولا يتعدّى، وهبطتُ من موضع إلى موضع آخر: انتقلت

(1)

. (عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) وكان ذلك عام الحديبية، (مِنْ جَبَلِ التَّنْعِيمِ) بصيغة مصدر نَعَّمَ، يقال: نعّم الله تنعيمًا: جعله ذا رفاهية، والمراد هنا: الموضع المعروف، وهو أقرب الحِلّ إلى مكة، ويقال: بينه وبين مكة أربعة أميال، ويعرف بمسجد عائشة رضي الله عنها

(2)

، وهو

(1)

راجع: "المصباح المنير" 2/ 633.

(2)

راجع: "المصباح المنير" 2/ 614.

ص: 540

بالتقدير الحديث سبعة كيلو مترات تفريبًا، حال كونهم (مُتَسَلِّحِينَ)؛ أي: لابسين السلاح، وهو آلة الحرب. (يُرِيدُونَ غِرَّةَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) - بكسر الغين المعجمة -؛ أي: خِدْعته في حال غفلته، يقال: غَرّه غَرًّا، وغُرُورًا، وغِرّةً، بالكسر: إذا خدعه، فهو مغرور، وغَرِير، كأمير

(1)

. (وَ) غِرّة (أَصْحَابِهِ) رضي الله عنهم، والمعنى: أنهم أرادوا أن يصادفوا النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأصحابه في غفلة من التأهّب لهم؛ ليتمكّنوا من الغدر والفتك بهم.

(فَأَخَذَهُمْ) النبيُّ صلى الله عليه وسلم حيث أرسل إليهم من يأسرهم، فأُخذوا دون أن يقاتلوا، وفي رواية عبد بن حميد:"أن ثمانين رجلًا هبطوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من جبل التنعيم، عند صلاة الصبح، وهم يريدون أن يقتلوه، فأُخذوا أَخْذًا، فأعتقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم".

وقوله: (سَلَمًا) قال النوويّ رحمه الله: ضبطوه بوجهين: أحدهما: بفتح السين، واللام، والثاني: بإسكان اللام، مع كسر السين، وفتحها، قال الحميديّ: ومعناه الصلح، قال القاضي عياض في "المشارق": هكذا ضبطه الأكثرون، قال فيه، وفي "الشرح": الرواية الأُولى أظهر؛ ومعناها: أسرهم، والسَّلَمُ: الأَسْرُ، وجزم الخطابيّ بفتح اللام، والسين، قال: والمراد به الاستسلام، والإذعان، كقوله تعالى:{وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ} [النساء: 90]؛ أي: الانقياد، وهو مصدرٌ يَقَعُ على الواحد، والاثنين، والجمع، قال ابن الأثير: هذا هو الأشبه بالقصّة، فإنهم لم يُؤخذوا صُلْحًا، وإنما أُخذوا قَهْرًا، وأسلموا أنفسهم عَجْزًا، قال: وللقول الآخر وجه، وهو أنه لَمّا لم يَجر معهم قتال، بل عَجَزوا عن دفعهم، والنجاة منهم، فَرَضُوا بالأسر، فكأنهم قد صُولحوا على ذلك. انتهى

(2)

.

(فَاسْتَحْيَاهُمْ)؛ أي: أبقاهم النبيّ صلى الله عليه وسلم أحياءً، وتركهم، ولم يُعاقبهم بالقتل، ولا بغيره، يقال: استحييته بياءين: إذا تركته حيًّا، فلم تقتله، ليس فيه إلا هذه اللغة، وحَيِيَ منه حَيَاءً بالفتح والمدّ، فهو حَيِيّ، على فَعِيل، واستحيا منه، وهو الانقباض، والانزواء، قال الأخفش: يتعدّى بنفسه، وبالحرف،

(1)

راجع: "القاموس المحيط" ص 942.

(2)

"شرح النوويّ" 12/ 187.

ص: 541

فيقال: استحييتُ منه، واستحييته، وفيه لغتان، إحداهما لغة الحجاز، وبها جاء القرآن بياءين، والثانية لتميم، بياء واحدة، قاله الفيّوميّ

(1)

. (فَأنْزَلَ اللهُ عز وجل: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ (24)} الآية [الفتح: 24].

قال الإمام ابن جرير الطبريّ رحمه الله في "تفسيره": يقول تعالى ذِكْرُهُ لرسوله صلى الله عليه وسلم، والذين بايعوا بيعة الرضوان:{وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ} ، يعني: أن الله كَفّ أيدي المشركين الذين كانوا خَرَجوا على عسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية، يلتمسون غِرَّتهم؛ ليصيبوا منهم، فبَعَث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأُتِي بهم أَسْرى، فَخَلَّى عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومَنَّ عليهم، ولم يقتلهم، فقال الله تعالى للمؤمنين: وهو الذي كفّ أيدي هؤلاء المشركين عنكم، وأيديكم عنهم ببطن مكة، من بعد أن أظفركم عليهم. انتهى

(2)

.

وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله: قوله - سبحانه الله وتعالى - {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ} الآية امتنان من الله تعالى على عباده المؤمنين، حين كَفّ أيدي المشركين عنهم، فلم يَصِل إليهم منهم سوء، وكَفّ أيدي المؤمنين عن المشركين، فلم يقاتلوهم عند المسجد الحرام، بل صان كلًّا من الفريقين، وأوجد بينهم صلحًا، فيه خير للمؤمنين، وعاقبةٌ لهم في الدنيا والآخرة، وقد تقدم في حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه حين جاؤوا بأولئك السبعين الأُسارى، فأوثقوهم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنظر إليهم، فقال:"أرسلوهم، يكن لهم بَدْءُ الفجور، وثنَاؤه"، قال: وفي ذلك أنزل الله عز وجل: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ} الآية

(3)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أنس بن مالك رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(1)

"المصباح المنير" 1/ 160.

(2)

"تفسير الطبريّ" 26/ 93.

(3)

"تفسير ابن كثير" 4/ 193.

ص: 542

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [44/ 4671](1808)، و (أبو داود) في "الجهاد"(1808)، و (الترمذي) في "التفسير"(3264)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(5/ 202 و 6/ 464)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(7/ 405)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 122 و 290) و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 291)، و (الرويانيّ) في "مسنده"(2/ 390)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(6/ 318)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في اختلاف الأخبار في سبب نزول الآية الكريمة: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ} الآية:

حديث أنس رضي الله عنه هذا صريح في أن الآية نزلت في قصّة هبوط هؤلاء الثمانين من جبل التنعيم، وقد تقدّم من حديث سلمة بن الأكوع في الباب الماضي أنها نزلت لَمّا قُتل ابن زُنيم، فجاء سلمة بأربعة من المشركين، يسوقهم، وجاء عمه عامر رضي الله عنه برجل من العَبَلات، يقال له: مِكرز، في سبعين من المشركين، فنظر إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:"دعوهم يكن لهم بَدْء الفجور وثناه"، فعفا عنهم، فنزلت الآية.

وذكر في "صحيح البخاريّ" أنها نزلت في قصّة أبي بصير رضي الله عنه، قال في "الفتح" عند قوله: "فأنزل الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ} ما نصّه: كذا هنا، وظاهره أنها نزلت في شأن أبي بصير، وفيه نظر، والمشهور في سبب نزولها ما أخرجه مسلم، من حديث سلمة بن الأكوع، ومن حديث أنس بن مالك أيضًا - يعني: حديث الباب، والباب الماضي - وأخرجه أحمد، والنسائيّ، من حديث عبد الله بن مغفل، بإسناد صحيح، أنها نزلت بسبب القوم الذين أرادوا من قريش أن يأخذوا من المسلمين غِرَّةً، فظَفِروا بهم، فعفا عنهم النبيّ صلى الله عليه وسلم، فنزلت الآية، وقيل في نزولها غير ذلك. انتهى

(1)

.

وأخرج أحمد بسند صحيح، عن عبد الله بن مُغَفَّل المزنيّ رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصل الشجرة التي قال الله تعالى في القرآن، وكان يقع من أغصان تلك الشجرة على ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم، الحديث، وفيه: فبينا نحن

(1)

"الفتح" 6/ 655، كتاب "الشروط" رقم (2731).

ص: 543

كذلك، إذ خرج علينا ثلاثون شابًّا عليهم السلاح، فثاروا في وجوهنا، فدعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ الله تعالى بأسماعهم، فقمنا إليهم، فأخذناهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"هل جئتم في عهد أحد، أو هل جعل لكم أحد أمانًا؟ " فقالوا: لا، فخلّى سبيلهم، فأنزل الله تعالى:{وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ} "الآية

(1)

.

وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن قتادة قال: ذُكِر لنا أن رجلًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقال له: زُنَيم

(2)

اطّلع الثنية زمان الحديبية، فرماه المشركون، فقتلوه، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خيلًا، فأتوا باثني عشر فارسًا، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:"هل لكم عهد، أو ذمّة؟ "، قالوا: لا، فأرسلهم، فأنزل الله في ذلك:{وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ} الآية.

قال الجامع عفا الله عنه: عندي أن هذه الأخبار لا تتعارض؛ لإمكان الجمع بكون الآية نزلت فيها كلّها؛ لأنها وقائع متقاربة، فلا يُستبعد نزولها شاملةً لها كلّها، فتاملها بالإمعان، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88)} .

(45) - (بَابُ غَزْوَةِ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ)

وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4672]

، (1809) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدثنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، أَخْبَرَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ، أَن أمَّ سُلَيْمٍ اتَّخَذَتْ يَوْمَ حُنَيْنٍ خِنْجَرًا، فَكَانَ مَعَهَا، فَرَآهَا أَبُو طَلْحَةَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ هذِهِ أمُّ سُلَيْم، مَعَهَا خَنْجَرٌ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا هَذَا الْخَنْجَرُ؟ "، قَالَت: اتَّخَذْتُهُ إِنْ دَنَا مِنِّي أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، بَقَرْتُ بِهِ بَطْنَهُ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَضْحَكُ، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ اقْتُلْ مَنْ بَعْدَنَا مِنَ الطُّلَقَاء، انْهَزَمُوا بِكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "يا أُمَّ سُلَيْمٍ، إِنَّ اللهَ قَدْ كفَى، وَأَحْسَنَ").

(1)

"تفسير ابن كثير" 4/ 192 - 193.

(2)

تقدّم أنه ابن زُنيم، ولعله ممن اختُلف في اسمه، والله تعالى أعلم.

ص: 544

رجال هذا الإسناد: خمسة:

وكلّهم تقدّموا في السند الماضي، سوى شيخه، فتقدّم قبل ثلاثة أبواب.

شرح الحديث:

(عَنْ أَنَسِ) بن مالك رضي الله عنه (أَنَّ أمَّ سُلَيْمٍ) بنت مِلْحَان بن خالد الأنصاريّة، والدة أنس المذكور، اشتهرت بكنيتها، واختُلف في اسمها، فقيل: سهلة، أو رُميلةُ، أو رُميثة، أو مُليكة، وقيل غير ذلك، تزوّجت مالك بن النضر في الجاهليّة، فولدت له أنسًا، وأسلمت هي مع السابقين من الأنصار، فغضب زوجها مالك، وخرج إلى الشام، ومات بها مشركًا، فخطبها أبو طلحة، وهو مشرك، فأبت عليه، إلا أن يُسلم، فأسلم، فتزوّجها، ولم تطلب منه صداقًا، سوى الإسلام، وقصّتها في ذلك مشهورةٌ، وكانت من الصحابيّات الفاضلات، وهي التي قدّمت أنسًا رضي الله عنه لخدمة النبيّ صلى الله عليه وسلم، ماتت رضي الله عنهما في خلافة عثمان رضي الله عنه

(1)

تقدّمت ترجمتها في "الحيض" 7/ 716. (اتَّخَذَتْ) بالبناء للفاعل، (يَوْمَ حُنَيْنٍ) ظرفٌ لِمَا قبله؛ أي: يوم غزوة حُنين، وقال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في النسخ المعتمدة: "يومَ حُنَين" بضم الحاء المهملة، وبالنونين، وفي بعضها: "يوم خيبر" بفتح الخاء المعجمة، والأول هو الصواب. انتهى

(2)

.

ومما يردّ النسخة الثانية سياق القصّة، مِنْ ذِكْر الطلقاء، فإن غزوة خيبر وقعت قبل فتح مكة، وما ورد من ذكِر انهزامهم، إنما وقع في غزوة حنين، لا في خيبر، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

(خِنْجَرًا) بكسر الخاء، وفتحها، ولم يذكر القاضي عياض في "الشرح" إلا الفتح، وذكرهما معًا في "المشارق"، ورَجَّح الفتح، ولم يذكر الجوهريّ غير الكسر، فهما لغتان، وهي سِكِّين كبيرة، ذات حَدَّين

(3)

.

(فَكَانَ) ذلك الخنجر (مَعَهَا، فَرَآهَا أَبُو طَلْحَةَ) زيد بن سهل بن الأسود بن

(1)

راجع: "الإصابة في تمييز الصحابة" 4/ 441 - 442.

(2)

"شرح النوويّ" 12/ 187 - 188.

(3)

"شرح النووي" 12/ 188.

ص: 545

حرام الأنصاريّ الخزرجيّ، مشهور بكنيته، من كبار الصحابة، شَهِدَ بدرًا، وما بعدها، مات سنة (34 هـ) تقدّم في "الحيض" 7/ 720. (فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ هَذِهِ أُمُّ سُلَيْم، مَعَهَا خَنْجَرٌ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"مَا هَذَا الْخَنْجَرُ؟ "، قَالَت) أم سليم (اتَّخَذْتُهُ إِنْ دَنَا مِنِّي أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، بَقَرْتُ)؛ أي: شققت (بِهِ بَطْنَهُ، فَجَعَلَ)؛ أي: شَرَع، وأخذ (رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَضْحَكُ، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ اقْتُلْ مَنْ بَعْدَنَا)؛ أي: الذين أسلموا بعد إسلامنا بمدّة طويلة، وهو يوم الفتح، (مِنَ الطُّلَقَاءِ) - بضم الطاء، وفتح اللام - وهم الذين أسلموا من أهل مكة يوم الفتح، سُمُّوا بذلك؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم مَنَّ عليهم، وأطلقهم، وقال لهم:"اذهبوا، فأنتم الطلقاء"، وكان في إسلامهم ضَعف، فاعتقدت أم سليم أنهم منافقون، وأنهم استحقّوا القتل بانهزامهم، وغيره. (انْهَزَمُوا بِكَ) الباء بمعنى "عن"؛ أي: انهزموا عنك على حدّ قوله تعالى: {فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا (59)} [الفرقان]؛ أي: عنه، وقوله تعالى:{يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} [الحديد: 12]؛ أي: عن أيمانهم، ومنه قول ابن دُريد:

وَسَائِلِي بِمُزْعِجِي عَنْ وَطَنِي

مَا ضَاقَ بِي جَنَابُهُ وَلَا نَبَا

ويَحْتَمِل أن تكون للسببيّة؛ أي: انهزموا بسببك؛ لنفاقهم، والله تعالى أعلم.

وقال القرطبيّ صلى الله عليه وسلم: قولها: "انهزموا بك"؛ أي: انهزموا حتى اتَّصَلت هزيمتُهم بك، أو انهزموا عنك، بمعنى فرُّوا، مُنْكِرة ذلك عليهم، ومُقَبِّحةً لما فعلوا، ظانَّةً أنهم يستحقون القتل على ذلك، وبأنهم لم يتحققوا في الإسلام. انتهى

(1)

.

(فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "يا أُمَّ سُلَيْم، إِنَّ اللهَ قَدْ كفَى)؛ أي: كفانا الله عز وجل شرّ المشركين، والمنافقين، وشرّ كلّ من يكيد للإسلام، والمسلمين، (وَأَحْسَنَ") إلينا حيث فتح الله علينا فتحًا مبينًا، ونصرنا على أعدائنا نصرًا عزيزًا، وأراد صلى الله عليه وسلم بذلك أنه لم يُصب المسلمين بانهزامهم ضرر، بل كانت العاقبة لنا، كما وعد الله عز وجل بذلك، فقال:{إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51)} [غافر: 51]، وقال: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا

(1)

"المفهم" 3/ 684.

ص: 546

الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (173)} [الصافات: 171 - 173]، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أنس صلى الله عليه وسلم هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [45/ 4672 و 4673](1809)، و (أبو داود) في "الجهاد"(2718)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(2079)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(14/ 524 و 530)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 112 و 114 و 190 و 198 و 279 و 286)، و (عبد بن حميد) في "مسنده"(1/ 361)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4838)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 331)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(6/ 136 و 226)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(3/ 227)، و (الحاكم) في "مستدركه"(3/ 353)، و (ابن سعد) في "الطبقات"(8/ 425)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(6/ 306)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان مشروعيّة غزو النساء مع الرجال، قال النوويّ رحمه الله: وهو مُجْمَعٌ عليه

(1)

.

2 -

(ومنها): بيان فضل أم سُليم، وشجاعتها، وأنها أخذت آلة الحرب؛ لتشارك الرجال في قتل المشركين، ففرح بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وضحك تعجّبًا من شجاعتها رضي الله عنهما.

3 -

(ومنها): بيان أن الله - سبحانه الله وتعالى - أنجز ما وعده رسوله صلى الله عليه وسلم من النصر، والإعزاز، وقَهْر العدوّ، وجَعْل ذريتهم، وأموالهم غنيمة للمسلمين، ولذا قال صلى الله عليه وسلم:"إن الله قد كفى، وأحسن".

4 -

(ومنها): بيان ما كان عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم من الحلم والصبر، امتثالًا لأمر الله تعالى له بذلك، حيث قال: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ

(1)

"شرح النوويّ" 12/ 188.

ص: 547

الْجَاهِلِينَ (199)} [الأعراف: 199]، فإن معظم الذين انهزموا يوم حنين هم الطلقاء؛ لعدم رسوخ إيمانهم، ومع ذلك، فقد عفا عنهم، مع استحقاقهم المعاقبة، كما قالت أم سُليم رضي الله عنهما، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4673]

(

) - (وَحَدَّثَنِيهِ مُحمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا بَهْزٌ، حَدثنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ أنسِ بْنِ مَالِكٍ فِي قِصَّةِ أُمِّ سُلَيْمٍ، عَنِ النَّبِي صلى الله عليه وسلم مِثْلَ حَدِيثِ ثَابِتٍ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(إِسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ) الأنصاريّ، أبو يحيى المدنيّ، ثقةٌ حجةٌ [4](ت 132) أو بعدها (ع) تقدم في "الطهارة" 30/ 667.

والباقون تقدّموا قبل بابين، و"محمد بن حاتم" هو: ابن ميمون البغداديّ المعروف بالسمين، و "بهز" هو ابن أسد الْعَمّيّ البصريّ.

وقوله: (وَحَدَّثَنِيهِ)؛ أي: حديث أنس الماضي.

[تنبيه]: رواية إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن أنس بن مالك رضي الله عنه هذه ساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(14007)

- حدّثنا عبد الله

(1)

، حدّثني أبي، ثنا عفان، ثنا حماد بن سلمة، قال: أنا إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن أنس بن مالك: أن هوازن جاءت يوم حنين بالنساء، والصبيان، والإبل، والغنم، فجعلوها صفوفًا، يُكْثِرُون على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما التقوا وَلَّى المسلمون مدبرين، كما قال الله عز وجل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"يا عباد الله، أنا عبد الله، ورسوله"، ثم قال:"يا معشر الأنصار، أنا عبد الله ورسوله"، قال: فهَزَم الله المشركين، ولم يُضرَبوا بسيف، ولم يُطعَنوا برمح، قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذٍ: "من قتل كافرًا، فله سلبه"، قال: فقتل أبو طلحة يومئذ عشرين رجلًا، وأخذ أسلابهم، وقال أبو قتادة: يا رسول الله، إني ضربت رجلًا على حبل

(1)

هو ولد الإمام أحمد، راوي "المسند" عنه.

ص: 548

العاتق

(1)

وعليه دِرْع له، وأُجْهِضْتُ عنه

(2)

وقد قال حماد أيضًا: فأُعجلت عنه، فانظر من أخذها، قال: فقام رجل، فقال: أنا أخذتها، فأرْضِه منها، وأعطِنيها، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يُسأل شيئأ إلا أعطاه، أو سكت، قال: فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فقال عمر: والله لا يُفيئها الله على أَسَد من أُسْد، ويعطيكها، قال: فضَحِك النبيّ صلى الله عليه وسلم وقال: "صدق عمر"، ولقي أبو طلحة أم سُليم، ومعها خِنجر، فقال أبو طلحة: ما هذا معك؟ قالت: أردت إن دنا مني بعض المشركين أن أَبْعَجَ به بطنه، فقال أبو طلحة: ألا تسمع ما تقول أم سليم؟ قالت: يا رسول اقتُل من بَعدنا من الطلقاء، انهزموا بك، فقال:"ان الله قد كَفَى، وأحسن، يا أم سليم". انتهى

(3)

، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4674]

(1810) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ ثَابتٍ، عَنْ أنسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَغْزُو بِأمِّ سُلَيْمٍ، وَنسْوةٍ مِنَ الأَنصَارِ مَعَهُ، إِذَا عَزَا، فَيَسْقِينَ الْمَاءَ، وَيُدَاوِينَ الْجَرْحَى).

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(يَحْيىَ بْنُ يَحْيَى) التميميّ النيسابوريّ، تقدّم قبل بابين.

2 -

(جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ) الضّبعيّ، أبو سليمان البصريّ، صدوقٌ زاهدٌ، لكنّه يتشيّع [8]، (ت 178)(بخ م 4) تقدم في "الإيمان" 55/ 322.

والباقيان ذُكرا في الحديث الماضي.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (327)، وأنه مسلسل بالبصريين، غير شيخه، فنيسابوريّ، وقد دخل البصرة، وفيه أنس رضي الله عنه من المكثرين

(1)

هو موضع الرداء من العنق.

(2)

بالبناء للمفعول، من الإجهاض، بمعنى الإزالة؛ أي: بُعِّدتُ عنه.

(3)

"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 3/ 279.

ص: 549

السبعة، روى (2286) حديثًا، وهو آخر من مات من الصحابة بالبصرة، مات سنة (2 أو 93) وقد جاوز المائة.

شرح الحديث:

(عَنْ أنسِ بْنِ مَالِكٍ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يَغْزُو بِأُمِّ سُلَيْم) والدة أنس المذكورة في الحديث الماضي، (وَنِسْوَةٌ) بالجرّ عطفًا على "أمّ سُليم"، أو بالرفع والواو حاليّة، فقوله:"معه" على هذا لتأكيد المصاحبة. (مِنَ الأنصَارِ مَعَهُ)؛ أي: ويغزو بجماعة من نساء الأنصار غير أمّ سُليم، وقد أخرج البخاري في "صحيحه" عن الرُّبَيع بنت مُعَوِّذ الأنصاريّة رضي الله عنهما قالت: كنا نغزو مع النبيّ صلى الله عليه وسلم، فنسقي القوم، ونخدُمهم، ونَرُدُّ الجرحى، والقتلى إلى المدينة

(1)

.

وأخرج أيضًا عن أم عطية الأنصاريّة رضي الله عنهما أنها غزت مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في ست غزوات، قالت: "كنا نُداوي الْكَلْمَى، ونقوم على المرضى

" الحديث.

ويأتي لمسلم عن أم عطية الأنصارية رضي الله عنهما قالت: غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات، أَخْلُفهم في رحالهم، فصنع لهم الطعام، وأداوي الجرحى، وأقوم على المرضى.

وأخرج البخاريّ عن ثعلبة بن أبي مالك: إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قسم مُرُوطًا بين نساء من نساء المدينة، فبقي مِرْط جَيِّد، فقال له بعض من عنده: يا أمير المؤمنين أَعْطِ هذا ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي عندك، يريدون أم كلثوم بنت عليّ، فقال عمر: أم سليط أحقّ، وأم سليط من نساء الأنصار، ممن بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال عمر: فإنها كانت تَزْفِر لنا القِرَب يوم أُحد، قال أبو عبد الله: تزفر: تَخِيط.

وأخرج الشيخان عن أنس رضي الله عنه قال: لَمّا كان يوم أُحد انهزم الناس عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "ولقد رأيت عائشة بنت أبي بكر، وأم سليم، وإنهما لَمُشَمِّرتان، أرى خَدَم سُوقهما، تَنْقُزان الْقِرَب" - وقال غيره

(2)

-: "تنقلان القِرَب

(1)

"صحيح البخاريّ" 3/ 1056.

(2)

المراد غير أبي معمر الواقع في السند.

ص: 550

على متونهما، ثم تُفرغانه في أفواه القوم، ثم ترجعان، فتملآنها، ثم تجيئان، فتفرغانها في أفواه القوم

" الحديث، ويأتي لمسلم في الباب التالي.

ويأتي أيضًا له في الباب التاليِ حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزو بهنّ، فيداوين الجرحى، ويُحْذين من الغنيمة

" الحديث.

ووقع في حديث آخر مرسل، أخرجه عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهريّ قال:"كان النساء يَشْهَدن مع النبيّ صلى الله عليه وسلم المشاهد، وَيَسقين المقاتلة، ويُداوين الجرحى"، ولأبي داود، من طريق حَشْرج بن زياد، عن جدّته:"أنهن خرجن مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في خيبر، وفيه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم سألهنّ عن ذلك، فقلن: خرجنا نغزل الشعر، ونُعين في سبيل الله، ونُداوي الجرحى، ونُناول السهام، ونَسقي السويق".

(إِذَا عَزَا، فَيَسْقِينَ الْمَاءَ) بفتح حرف المضارعة، وضمّها، مضارع سَقَين، وأسقين، ثلاثيًّا، ورُباعيًّا، قال الله تعالى:{وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا (21)} [الإنسان: 21]، وقال:{لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا} [الجن: 16]، والمفعول الأول محذوف؛ أي: يسقين العِطاشَ الماءَ، (وَيُدَاوِينَ الْجَرْحَى) جمع جريح، كقتيل وقتلى، كما قال في "الخلاصة":

فَعْلَى لِوَصْفٍ كـ"قَتِيلٍ" وَ"زَمِنْ"

وَ"هَالِك" و"مَيِّتٌ" بِهِ قَمِنْ

والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

حديث أنس بن مالك رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [45/ 4674](1810)، و (أبو داود) في "الجهاد"(2531)، و (الترمذي) في "السير"(1575)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(4/ 369 و 5/ 278)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 331)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(6/ 50)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(9/ 30)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان جواز خروج النساء مع الرجال في الأسفار، قال ابن

ص: 551

عبد البرّ رحمه الله: وخروجهنّ مع الرجال في الغزوات، وغير الغزوات مباح، إذا كان العسكر كبيرًا يُؤْمَن عليه الغلبة. انتهى

(1)

.

وقال في "تحفة الأحوذيّ": في الحديث دليل على أنه يجوز خروج النساء في الحرب؛ لهذه المصالح. والجهاد ليس بواجب على النساء، يدلّ على ذلك حديث عائشة رضي الله عنهما، عند أحمد، والبخاريّ قالت: يا رسول الله، نرى الجهاد أفضل العمل، أفلا نجاهد؟ قال:"لكُنّ أفضل الجهاد: حجٌّ مبرور"، قال ابن بطال رحمه الله: دلّ حديث عائشة رضي الله عنهما على أن الجهاد غير واجب على النساء، ولكن ليس في قوله:"أفضل الجهاد حج مبرور"، وفي رواية البخاريّ:"جهادكنّ الحج" ما يدلّ على أنه ليس لهنّ أن يتطوعن بالجهاد، وإنما لم يكن واجبًا؛ لِمَا فيه من مغايرة المطلوب منهنّ من الستر، ومجانبة الرجال، فلذلك كان الحجّ أفضل لهن من الجهاد. انتهى

(2)

.

2 -

(ومنها): جواز خروجهنّ في الغزو، والانتفاع بهنّ في السقي، والمداواة، ونحوهما، قال النوويّ رحمه الله: وهذه المداواة لمحارمهنّ، وأزواجهنّ، وما كان منها لغيرهم لا يكون فيه مَسّ بشرة، إلا في موضع الحاجة. انتهى

(3)

.

وقال في "الفتح" عند شرح حديث الربيّع بنت معوّذ رضي الله عنهما المتقدّم: وفيه جواز معالجة المرأة الأجنبية الرجل الأجنبي؛ للضرورة، قال ابن بطال: ويَختصّ ذلك بذوات المحارم، ثم بالمتجالّات منهنّ؛ لأن موضع الجرح لا يُلتذّ بلمسه، بل يقشعر منه الجلد، فإن دَعَت الضرورة لغير المتجالّات، فليكن بغير مباشرة، ولا مسّ، ويدلّ على ذلك اتفاقهم على أن المرأة إذا ماتت، ولم توجد امرأة تغسلها أن الرجل لا يباشر غسلها بالصمق، بل يغسلها من وراء حائل، في قول بعضهم، كالزهريّ، وفي قول الأكثر تُيَمَّمُ، وقال الأوزاعيّ: تُدْفَنُ كما هي، قال ابن الْمُنَيِّر: الفرق بين حال المداواة، وتغسيل الميت، أن الغسل عبادةٌ، والمداواة ضرورة، والضرورات تبيح المحظورات. انتهى

(4)

.

(1)

"التمهيد لابن عبد البرّ" 19/ 266.

(2)

"تحفة الأحوذيّ" 5/ 164.

(3)

"شرح النوويّ" 12/ 188.

(4)

"الفتح" 7/ 160 - 161، كتاب "الجهاد" رقم (2883).

ص: 552

قال الجامع عفا الله عنه: عندي أن مداواة النساء الأجنبيّات للجرحى عند فَقْد من يقوم بذلك من ذوات المحرم، أو الرجال جائز؛ لأن هذا من الضرورات، أباحها الشرع، كما قال الله تعالى:{وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} الآية [الأنعام: 119]، فليُتأمّل، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4675]

(1811) - (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّارِمِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرٍو - وَهُوَ أَبُو مَعْمَرٍ الْمِنْقَرِيُّ - حَدَّثَنَا عَبْدُ الوَارِث، حَدَّثَنَا عَبْدُ العَزِيزِ - وَهُوَ ابْنُ صُهَيْبٍ - عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ انْهَزَمَ نَاسٌ مِنَ النَّاس، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَأَبُو طَلْحَةَ بَيْنَ يَدَيِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مُجَوِّبٌ

(1)

عَلَيْهِ بِحَجَفَةٍ، قَالَ: وَكَانَ أَبُو طَلْحَةَ رَجُلًا رَامِيًا، شَدِيدَ النَّزْع، وَكَسَرَ يَوْمَئِذٍ قَوْسَيْن، أَوْ ثَلَاثًا، قَالَ: فَكَانَ الرَّجُلُ يَمُرُّ مَعَهُ الْجُعْبَةُ مِنَ النَّبْل، فَيَقُولُ: انْثُرْهَا لأَبِي طَلْحَةَ، قَالَ: ويُشْرِفُ نَبِيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَنْظُرُ إِلَى الْقَوْم، فَيَقُولُ أَبُو طَلْحَةَ: يَا نَبِيَّ الله، بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، لَا تُشْرِفْ، لَا يُصِبْكَ سَهْمٌ مِنْ سِهَامِ الْقَوْم، نَحْرِي دُونَ نَحْرِكَ، قَالَ: وَلَقَدْ رَأَيْتُ عَائِشَةَ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ، وَأُمَّ سُلَيْم، وَإِنَّهُمَا لَمُشَمِّرَتَان، أَرَى خَدَمَ سُوقِهِمَا، تَنْقُلَانِ الْقِرَبَ عَلَى مُتُونِهِمَا، ثُمَّ تُفْرِغَانِهِ فِي أَفْوَاهِهِمْ، ثُمَّ تَرْجِعَان، فَتَمْلآنِهَا، ثُمَّ تَجِيئَانِ تُفْرِفَانِهِ فِي أَفْوَاهِ الْقَوْم، وَلَقَدْ وَقَعَ السَّيْفُ مِنْ يَدَيْ أَبِي طَلْحَةَ

(2)

، إِمَّا مَرَّتَيْن، وَإِمَّا ثَلَاثًا، مِنَ النُّعَاسِ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّارِمِيُّ) صاحب "المسند"، تقدّم قبل باب.

2 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرٍو أَبُو مَعْمَرٍ الْمِنْقَرِيُّ) هو: عبد الله بن عمرو بن أبي الحجّاج التميميّ، أبو معمر الْعَقَديّ الْمِنْقَريّ مولاهم، واسم أبي الحجاج: ميسرة، ثقة ثبتٌ، رُمي بالقدر [10].

(1)

وفي نسخة: "مجوّبًا".

(2)

وفي نسخة: "بين يدي أبي طلحة".

ص: 553

رَوَى عن عبد الوارث بن سعيد، وهو راويته، وعبد الوهاب الثقفيّ، وأبي زبيد عبثر بن القاسم، وعبد العزيز الدراورديّ، وأبي الأشهب جعفر بن حيان العطارديّ، وغيرهم.

ورَوَى عنه البخاريّ، وأبو داود، وروى له الباقون بواسطة أحمد بن الحسن بن خِرَاش، وحجاج بن الشاعر، وعبد الله بن عبد الرحمن الدارميّ، وعبد الوارث بن عبد الصمد بن عبد الوارث، والفضل بن سهل الأعرج، وغيرهم.

قال ابن أبي خيثمة، عن ابن معين: ثقةٌ ثبتٌ، وقال ابن الجنيد عن يحيى: ثقةٌ نبيلٌ عاقلٌ، وقال يعقوب بن شيبة: كان ثقةً ثبتًا صحيح الكتاب، وكان يقول بالقدر، وكان غاليًا على عبد الوارث، قال عليّ بن المدينيّ: قد كتبت كُتُبَ عبد الوارث، عن عبد الصمد، يعني: ابنه، وأنا أشتهي أن أكتبها عن أبي معمر، وقال الآجريّ، عن أبي داود: بلغني عن عليّ أنه قال: أبو معمر في عبد الوارث أحبّ إليّ من عبد الوارث في رجاله، قال أبو داود: سمعت أبا معمر يقول ليحيى بن معين: شيخٌ كَتَب عني كتابَ الحروف، قال أبو داود: وكان الأزديّ لا يحدّث عن أبي معمر لأجل القَدَر، وكان لا يتكلم فيه، قال أبو داود: وأبو معمر أثبت من عبد الصمد مرارًا، وقال العجليّ: ثقةٌ، وكان يرى القدر، وقال أبو حاتم: صدوقٌ متقنٌ، قويّ الحديث، غير أنه لم يكن يحفظ، وكان له قَدْرٌ عند أهل العلم، وقال ابن أبي حاتم، عن أبي ذرّ: كان ثقةً حافظًا، قال عبد الغنيّ: يعني أنه كان متقنًا، وقال ابن خِرَاش: كان صدوقًا، وكان قَدَريًّا، وذكره ابن حبان في الثقات.

قال أبو حسان الزياديّ، والبخاريّ: مات سنة أربع وعشرين ومائتين.

أخرج له الجماعة، وليس له في هذا الكتاب إلا ثلاثة أحاديث، هذا برقم (1811)، وحديث (1813): "لا أُلفيَنّ أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير

" الحديث، وحديث (2717): "اللهمّ لك أسلمت، وبك آمنت

" الحديث.

[فائدة]: الْمِنْقَريّ - بكسر الميم، وسكون النون، وفتح القاف -: نسبة إلى مِنْقَر بن عبيد بن مقاعس - واسمه الحارث - ابن عمرو بن كعب بن سعد بن

ص: 554

زيد مناة بن تميم بن مرّة بن أُدّ بن طابخة بن إلياس بن مضَرَ بن نزار بن عدنان

(1)

.

3 -

(عَبْدُ الوَارِثِ) بن سعيد بن ذكوان، تقدّم قبل بابين.

4 -

(عَبْدُ العَزِيزِ بْنُ صُهَيْبٍ) الْبُنانيّ البصريّ، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

5 -

(أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ) رضي الله عنه ذُكر في السند الماضي.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وهو مسلسلٌ بالبصريين، غير شيخه، فسمرقنديّ، وقد دخل البصرة، وأنه مسلسلٌ بالتحديث، وفيه أنس رضي الله عنه تقدّم القول فيه.

شرح الحديث:

(عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ أحُدٍ)"كان" هنا تامّة، لا تحتاج إلى خبر؛ أي: لَمّا وقَعَ، أو جاء يوم أُحُد، قال الحريريّ في "ملحته":

وإِنْ تَقُلْ "يا قَوْمِ قَدْ كَانَ الْمَطَر"

فَلَسْتَ تَحْتَاجُ لَهَا إِلَى خَبَرْ

وقال ابن مالك رحمه الله في "الخلاصة":

........................

وَذُو تَمَامٍ مَا بِرَفْعٍ يَكْتَفِي

ويَحْتَمِل أن تكون تامّة، وخبرها محذوف؛ أي: لَمّا كان يومُ أُحد واقعًا، وقوله:(انْهَزَمَ نَاسٌ) جواب "لمّا"، ونكّر "ناس" إشارة إلى تقليلهم؛ أي: إنما انهزم بعض المسلمين، لا كلّهم، وقوله:(مِنَ النَّاسِ)؛ أي: من المسلمين، وفي رواية البخاريّ:"انهزم الناس"، قال في "الفتح"؛ أي: بعضهم، أو أطلق ذلك باعتبار تفرّقهم، كما تقدَّم بيانه، والواقع أنهم صاروا ثلاث فِرَق: فرقة استمروا في الهزيمة إلى قرب المدينة، فما رجعوا حتى انفضّ القتال، وهم قليل، وهم الذين نزل فيهم:{إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} الآية [آل عمران: 155]، وفرقة صاروا حَيَارَى لَمَّا سَمِعوا أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قُتِل، فصار غاية

(1)

"اللباب في تهذيب الأنساب" 3/ 264، و"شرح النوويّ" 12/ 189.

ص: 555

الواحد منهم أن يَذُبّ عن نفسه، أو يستمرّ على بصيرته في القتال إلى أن يُقْتَلَ، وهم أكثر الصحابة، وفرقة ثبتت مع النبيّ صلى الله عليه وسلم، ثم تراجع إليه القسم الثاني شيئًا فشيئًا لَمّا عَرَفُوا أنه حَيّ، قال: وبهذا يُجمَع بين مختلف الأخبار في عِدّة من بقي مع النبيّ صلى الله عليه وسلم، فعند محمد بن عائذ من مرسل المطلب بن حنطب:"لم يبق معه سوى اثني عشر رجلًا"، وعند ابن سعد:"ثبت معه سبعةٌ من الأنصار، وسبعة من قريش".

وفي مسلم من حديث أنس رضي الله عنه: "أُفْرِد في سبعة من الأنصار، ورجلين من قريش: طلحة، وسعد"، وقد سرد أسماءهم الواقديّ، واقتصر أبو عثمان النَّهْديّ على ذكر طلحة، وسعد، وهو في الصحيح.

وأخرج الطبريّ من طريق السُّدّيّ أن ابن قَمِئة لَمّا رَمَى النبيّ صلى الله عليه وسلم، وكَسَر رَبَاعيته، وشَجّه في وجهه، وتفرّق الصحابة منهزمين، وجَعَل يدعوهم، فاجتمع إليه منهم ثلاثون رجلًا، فذكر بقية القصة. انتهى

(1)

.

وقوله: (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) متعلّق بـ "انهزَمُوا"، (وَأَبُو طَلْحَةَ) زيد بن سهل الأنصاريّ، زوج أمّ سُليم والدة أنس، تقدّم قريبًا، وكان أنس رضي الله عنه حمل هذا الحديث عنه، فـ "أبو طلحة" مبتدأ خبره قوله:(بَيْنَ يَدَيِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) وقوله: (مُجَوِّبٌ عَلَيْهِ) خبر بعد الخبر، وفي بعض النسخ:"مُجَوِّبًا"، وهو منصوب على الحال، وهو بضمّ أوله، وفتح الجيم، وتشديد الواو المكسورة، بعدها موحّدة؛ أي: مترَّسٌ عنه؛ ليقيه سلاحَ الكفّار، ويقال للتُّرْس: جَوْبَة، قاله في "الفتح"

(2)

، وقيل: أصل التجويب: الاتقاء بالجَوْب، بوزن الثوب، وهو الترس.

(بِحَجَفَةٍ) بفتحات؛ أي: بتُرس. (قَالَ) أنس (وَكَانَ أَبُو طَلْحَةَ رَجُلًا رَامِيًا)؛ أي: عالمًا بالرمي، (شَدِيدَ النَّزْعِ) - بفتح النون، والزاي الساكنة، ثم المهملة -؛ أي: شديد الرَّمْي بالسهام، وفي رواية عند البخاريّ في "الجهاد" من وجه آخر بلفظ: "كان أبَو طلحة حَسَنَ الرمي، وكان يتترّس مع النبيّ صلى الله عليه وسلم

(1)

"الفتح" 9/ 134 - 135، كتاب "المغازي" رقم (4064).

(2)

"الفتح" 9/ 134 - 135، كتاب "المغازي" رقم (4064)، وشرح النوويّ" 12/ 189.

ص: 556

بِتُرْس واحد"، (وَكَسَرَ) أبو طلحة رضي الله عنه (يَوْمَئِذٍ قَوْسَيْن، أَوْ ثَلَاثًا)؛ أي: من شدّة الرمي. (قَالَ: فَكَانَ الرَّجُلُ) من الصحابة رضي الله عنهم (يَمُرُّ مَعَهُ الْجُعْبَةُ) - بضم الجيم، وسكون العين المهملة، بعدها موحّدة -: هي الآلة التي يُوضع فيها السهام، وقوله: (مِنَ النَّبْلِ) بيان للمراد بالجُعبة، و"النَّبْلُ" - بفتح النون، وسكون الموحّدة -: السهام العربيّة، وهي مؤنّثةٌ، ولا واحد لها من لفظها، بل الواحد سَهْمٌ، فهي مفردة اللفظ، مجموعة المعنى

(1)

.

(فَيَقُولُ) النبيّ صلى الله عليه وسلم لذلك الرجل ("انْثُرْهَا) - بضمّ الثاء المثلّثة، وكسرها: يقال: نثرته نَثْرًا، من باب قَتَلَ، وضَرَبَ: رَمَيتُ به متفرِّقًا، فانتثر

(2)

. (لأَبِي طَلْحَةَ"، قَالَ: وَيُشْرِفُ نَبِيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم) بضمّ حرف المضارعة، من الإشراف: يقال: أشرفتُ عليه؛ أي: اطّلعتُ، وقوله:(يَنْظُرُ إِلَى الْقَوْمِ) جملة في محلّ نصب على الحال من الفاعل، (فَيَقُولُ أَبُو طَلْحَةَ) رضي الله عنه (يَا نَبِيَّ الله، بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي) قال ابن منظور رحمه الله: الباء متعلقة بمحذوف، قيل: هو اسمٌ، فيكون ما بعده مرفوعًا تقديره: أنت مَفْدِيٌّ بأبي وأمي، وقيل: هو فعلٌ، وما بعده منصوب؛ أي: فَدَيتك بأبي وأمي، وحُذف هذا المقدَّر تخفيفًا؛ لكثرة الاستعمال، وعِلْمِ المخاطب به. انتهى

(3)

.

(لَا تُشْرِفْ) بالجزم؛ لأن "لا" ناهية، وهو بضم أوله، وسكون المعجمة، من الإشراف، ولأبي الوقت: بفتح أوله، وثانيه، وتشديد الراء، وأصله تَتَشَرّف؛ أي: لا تطلب الإشراف عليهم.

(لَا يُصِبْكَ سَهْمٌ) بجزم "يُصِبْ" على أنه جواب النهي، والتقدير: إن لا تُشرِفْ، لا يُصِبْكَ

إلخ، قال في "الخلاصة":

وَبَعْدَ غَيْرِ النَّهيِ جَزْمًا اعْتَمِدْ

إِنْ تَسْقُطِ الْفَا وَالْجَزَاءُ قَدْ قُصِدْ

وَشَرْطُ جَزْمٍ بَعْدَ نَهْيٍ أَنْ تَضَعْ

"أنْ" قَبْلَ "لَا" دُونَ تَخَالُفٍ يَقَعْ

ولغير أبي ذر في رواية البخاريّ: "يصيبك" بالرفع، وهو جائز على تقدير: كأنه قال مثلًا: لا تُشْرِف، فإنه يصيبك، أفاده في "الفتح"

(4)

.

(1)

"المصباح المنير" 2/ 591.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 592.

(3)

"لسان العرب" 14/ 9.

(4)

"الفتح" 9/ 135.

ص: 557

وقال في "العمدة": قوله: "يصبك" مجزوم؛ لأنه جواب النهي، نحو: لا تَدْنُ من الأسد يأكلك، ويُرْوَى:"يصيبك" على تقدير: السهم يصيبك. انتهى

(1)

.

وقوله: (مِنْ سِهَامِ الْقَوْمِ) بيان أن ذلك السهم من سهام العدوّ.

(نَحْرِي دُونَ نَحْرِكَ)؛ أي: أَفْديك بنفسي، قاله في "الفتح"، وقال في "العمدة": قوله: "نحري دون نحرك"؛ أي: صدري عند صدرك؛ أي: أَقِفُ أنا بحيث يكون صدري كالترس لصدرك، هكذا فسّره الكرمانيّ. قال العينيّ: الأوجه أن يقال: هذا نحري قُدّام نحرك، يعني: أقف بين يديك، بحيث إن السهم إذا جاء يصيب نحري، ولا يصيب نحرك. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: اعتراض العينيّ على الكرمانيّ مما لا وجه له، فإن مؤدَّى عبارتيهما واحد، فتأمله بالإنصاف، والله تعالى وفي التوفيق.

قال النوويّ رحمه الله: هذا من مناقب أبي طلحة رضي الله عنه الفاخرة.

(قَالَ) أنس رضي الله عنه (وَلَقَدْ رَأَيْتُ عَائِشَةَ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ) رضي الله عنهما (وَأُمَّ سُلَيْمٍ) رضي الله عنهما، وهي والدته، وقوله:(وَإِنَّهُمَا لَمُشَمِّرَتَانِ) جملة في محلّ نصب على الحال؛ أي: والحال أن عائشة، وأم سُليم رضي الله عنهما مشمّرتان، تثنية على صيغة اسم الفاعل من شَمَّرت ثيابي: إذا رفعتها، واللام فيه للتأكيد

(3)

. (أَرَى خَدَمَ سُوقِهِمَا) - بفتح الخاء المعجمة، والدال المهملة -: جمع خَدَمَةٍ، وهي الخلاخيل، وقيل: الخدمة أصل الساق، والسُّوق بالضمّ: جمع ساق، وهي مؤنّثةٌ، وهي: ما بين الركبة، والقَدَم، وتصغيرها سُويقةٌ

(4)

.

ثم إن رؤية سوقهما محمول على أنه كان قبل الحجاب، وقال النوويّ رحمه الله: وهذه الرؤية للخدم لم يكن فيها نهيٌ؛ لأن هذا كان يوم أُحد قبل أمر النساء بالحجاب، وتحريم النظر إليهنّ، ولأنه لم يَذكر هنا أنه تعمَّد النظر إلى نفس الساق، فهو محمول على أنه حصلت تلك النظرة فَجْأَةً بغير قصد، ولم يَسْتَدمها. انتهى

(5)

.

(1)

"عمدة القاري" 16/ 274.

(2)

"عمدة القاري" 16/ 274.

(3)

"عمدة القاري" 16/ 274.

(4)

"المصباح المنير" 1/ 296.

(5)

"شرح النوويّ" 12/ 189.

ص: 558

وقال القرطبيّ رحمه الله: و"الْخَدَم" هنا: جمع خَدَمة، وهي الخلخال، و"سوقهما": جمع ساق، وقيل في الخدم: هي سُيور من جُلود تُجعل في الرِّجل، وقيل: أريد به ها هنا: مخرج الرّجل من السراويل، ومنه: فَرَسٌ مُخَدَّم: إذا كان أبيض الرُّسغين، وكان هذا منهن لضرورة ذلك العمل في ذلك الوقت، ويَحْتَمِل أن يكون ذلك قبل نزول الحجاب، وقد يتمسك بظاهره مَن يرى أن تلك المواضع ليست بعورة من المرأة، وليس بصحيح؛ فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم في حديث أم سلمة، الذي رفعه أبو داود حين سئل: ما تصلي فيه المرأة؟ فقال: "تصلي في الدِّرْع السابغ الذي يغطي ظهور قدميها"

(1)

، وقد أُمرت المرأة أن ترخي ثوبها شبرًا، فإن خافت أن تنكشف أَرْخته ذراعًا. انتهى

(2)

.

(تَنْقُلَانِ الْقِرَبَ) - بكسر القاف، وفتح الراء -: جمع قِرْبة، مثلُ سِدْرَةٍ، وسِدَرٍ، وهي ظرف من جِلْدٍ يُخْرَزُ من جانب واحد، وتُستعمل لحفظ الماء، أو اللبن، أو نحوهما

(3)

.

ثم إن رواية المصنّف بلفظ "تنقلان" من النقل، ورواية البخاريّ بلفظ "تنقزان"، قال في "العمدة": قوله: "تنقُزان" بالنون الساكنة، والقاف المضمومة، وبالزاي، من النَّقْز، وهو النقل، وقال الداوديّ؛ أي: تنقلان، وقال الخطابيّ: إنما هو "تزفران"؛ أي: تَحْمِلان، قال: وأما النقز: فهو الْوَثْب البعيد، وقال ابن قرقول:"تزفران" بالزاي، والفاء، والراء، يقال: ازْفِرْ

(4)

لنا القِرَبَ؛ أي: احملها مَلْأَى على ظهرك، وفي "المطالع":"تنقزان القِرَب على ظهورهما" هكذا جاء في حديث أبي مَعْمَر، قال البخاريّ: وقال غيره: "تنقلان"، وكذا رواه مسلم، قيل: معنى "تنقزان" على الرواية الأولى: تَثِبان، والنَّقْزُ: الْوَثْبُ، والْقَفْزُ، كأنه من سرعة السير، وضَبَط الشيوخ "الْقِرَبَ" بنصب الباء، ووَجْهُه بعيد على الضبط المتقدّم، وأما مع "تنقلان" فصحيح، وكان

(1)

حديث ضعيف، أخرجه أبو داود في "سننه" برقم (639).

(2)

"المفهم" 3/ 686.

(3)

راجع: "المصباح المنير" 2/ 496، و"المعجم الوسيط" 2/ 723.

(4)

بكسر الفاء: أمرٌ من زَفِر الشيءَ يَزْفِره، من باب ضرب: إذا حمله.

ص: 559

بعض شيوخنا يقرأ هذا الحرف بضم باء "القربُ"، ويجعله مبتدأً، كأنه قال: والقِرَبُ: على متونهما، والذي عندي في الرواية اختلال، ولهذا جاء البخاريّ بعدها بالرواية البيّنة الصحيحة، وقد تُخَرَّج رواية الشيوخ بالنصب على عدم الخافض، كأنه قال: تَنْقُزان القربَ؛ أي: تحرّكان القِرَب بشدة عَدْوهما بها، فكانت القِرَب ترتفع، وتنخفض، مثل الوثب على ظهورهما. انتهى

(1)

.

(عَلَى مُتُونِهِمَا) بضم الميم، وهو الظَّهر؛ أي: على ظهورهما، (ثُمَّ تُفْرِغَانِهِ) بضمّ أوله، من الإفراغ، أو التفريغ، يقال: أفرغت الإناء إفراغًا، وفَرّغته، بالتشديد تفريغًا: إذا قَلَبت ما فيه، والمعنى: أنهما يصبّان الماء الذي في القِرَب (فِي أَفْوَاهِهِمْ)؛ أي: أفواه الْجَرْحَى من المسلمين، (ثُمَّ تَرْجِعَانِ) إلى محلّ الماء (فَتَمْلآنِهَا)؛ أي: القِرَب، (ثُمَّ تَجِيئَانِ تُفْرِغَانِهِ فِي أَفْوَاهِ الْقَوْمِ)؛ يعني: الجرحى. (وَلَقَدْ وَقَعَ السَّيْفُ مِنْ يَدَيْ أَبِي طَلْحَةَ) بتثنية "يدي"، وفي رواية البخاريّ:"من يد أبي طلحة" بالإفراد، وفي بعض النسخ هنا:"بين يدي أبي طلحة"، (إِمَّا مَرَّتَيْن، وَإِمَّا ثَلَاثًا). وقوله: (مِنَ النُّعَاسِ) هو ما يكون في الرأس، والسِّنَةُ: ما يكون في العين، قاله القرطبيّ

(2)

، وهذا بيان لسبب وقوع السيف من يد أبي طلحة رضي الله عنه؛ يعني: أن سبب وقوعه هو النعاس الذي غشيه في تلك الحالة، وفي رواية للبخاريّ من وجه آخر، عن أنس، عن أبي طلحة:"كنت فيمن يغشاه النعاس يوم أُحد، حتى سقط سيفي من يدي مرارًا"، ولأحمد، والحاكم، من طريق ثابت، عن أنس:"رَفَعْتُ رأسي يوم أُحد، فجعلت أنظر، وما منهم من أحد إلا وهو يميل تحت حَجَفته، من النعاس"، وهو قوله تعالى:{إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ} الآية [الأنفال: 11]، قال ابن إسحاق: أنزل الله تعالى النعاس أَمَنَةً لأهل اليقين، فهم نيامٌ، لا يخافون، والذين أهمّتهم أنفسهم أهل النفاق، في غاية الخوف، والذعر. انتهى

(3)

.

والحاصل أن هذا النعاس هو الذي منّ الله تعالى به يوم أُحد على أهل الصدق واليقين من المؤمنين، فإنه تعالى لَمّا عَلِم ما في قلوبهم من الغمّ،

(1)

"عمدة القاري" 16/ 274.

(2)

"المفهم" 3/ 686.

(3)

"الفتح" 9/ 136 و 139، كتاب "المغازي" رقم (4064 و 4068).

ص: 560

وخوف كَرّة الأعداء، صرفهم عن ذلك بإنزال النعاس عليهم؛ لئلا يوهنهم الغمّ والخوف، ويُضعف عزائمهم، وأما المنافقون والذين في قلوبهم مرض، فلم يُنزل عليهم النعاس، بل شغلتهم أنفسهم، وأوحى إليهم الشيطان ظنّ السوء بالله تعالى، كما بيّن الله ذلك في كتابه، فقال:{ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (154)} [آل عمران: 154]، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مشائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أنس بن مالك رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [45/ 4675](1811)، و (البخاريّ) في "الجهاد"(2880) و"مناقب الأنصار"(3811) و"المغازي"(4064)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 332)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(7/ 24)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان جواز غزو النساء مع الرجال؛ لمساعدتهم فيما ينوبهم من آثار الحرب، كمداواة الجرحى، وسقيهم الماء، ونقلهم إلى مكان الأمن.

قال النوويّ رحمه الله: وفي هذا الحديث اختلاط النساء في الغزو برجالهنّ في حال القتال؛ لسقي الماء ونحوه. انتهى

(1)

.

2 -

(ومنها): بيان ما نزل بالمسلمين يوم أُحد من الهزيمة، وتَرْكهم النبيّ صلى الله عليه وسلم، وذلك بسبب تركهم أمره صلى الله عليه وسلم بحفظ الرماة مكانهم، كما بيّنه الله

(1)

"شرح النوويّ" 12/ 190.

ص: 561

تعالى بقوله: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165)} [آل عمران: 165]، وقال أيضًا:{وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152)} [آل عمران: 152].

3 -

(ومنها): بيان صبر الرسول صلى الله عليه وسلم على الأذى الذي يُصيبه في سبيل الله تعالى، وعدم قلقه بما أصابه من كسر رباعيته، وشجّ وجهه الكريم، وتولّي الناس عنه، فكل ذلك يدلّ على كمال شجاعته، وقوّته على الجهاد في سبيل الله عز وجل

4 -

(ومنها): بيان منقبة الصحابيّ أبي طلحة الأنصاريّ، وشدّة شجاعته، وعِلمه بطريق حرب الأعداء، وشدّة دفاعه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وكمال محبّته له، حيث كان يَفديه بأبيه، وأمه، ونفسه، فيقول: بأبي أنت وأمي، ويقول: نحري دون نحرك.

5 -

(ومنها): بيان فضيلة الصحابيّتين عائشة أم المؤمنين، وأم سُليم والدة أنس رضي الله عنهما، حيث قاما بخدمة المرضى، والجرحى، ونقل القِرَب على ظهورهما.

6 -

(ومنها): بيان ما أنعم الله على المسلمين في ذلك الشديد البلاء "والامتحان، حيث أنزل عليهم نعاسًا أَمَنَةً منه، وأنزل عليهم المطر، لتطهيرهم، وإذهاب رجز الشيطان، وتثبيت أقدامهم على الأرض، كما فصّل الله تعالى كلّ ذلك، وبيّنه بقوله:{إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ (11)} [الأنفال: 11].

وقال القرطبيّ رحمه الله: وكان طنين هذا النعاس الذي أُلقي عليهم في يوم أُحد لطفًا بهم من الله تعالى، أزال به خوفهم، واستراحوا به من شدَّة التعب، وقَوِيت به نفوسهم، وهكذا فعل الله بهم يوم بدر، وهو الذي دلّ عليه قوله تعالى:{إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ} الآية [الأنفال: 11]، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

ص: 562

(46) - (بَابُ النِّسَاءِ الْغَازِياتِ يُرْضَخُ لَهُنَّ، وَلَا يُسْهَمُ، وَالنَّهْيِ عَنْ قَتْلِ صِبْيَانِ أَهْلِ الْحَرْبِ)

وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4676]

(1812) - (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ بْنِ قَعْنَبٍ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ - يَعْنِي: ابْنَ بِلَالٍ - عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيه، عَنْ يَزِيدَ بْنِ هُرْمُزَ: أَنَّ نَجْدَةَ كَتَبَ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، يَسْأَلُهُ عَنْ خَمْسِ خِلَالٍ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَوْلَا أَنْ أَكْتُمَ عِلْمًا، مَا كَتَبْتُ إِلَيْه، كَتَبَ إِلَيْهِ نَجْدَةُ: أَمَّا بَعْدُ فَأَخْبِرْنِي هَلْ كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَغْزُو بِالنِّسَاءِ؟ وَهَلْ كَانَ يَضْرِبُ لَهُنَّ بِسَهْمٍ؟ وَهَلْ كَانَ يَقْتُلُ الصِّبْيَانَ؟ وَمَتَى يَنْقَضِي يُتْمُ الْيَتِيم؟، وَعَنِ الْخُمْسِ لِمَنْ هُوَ؟ فَكَتَبَ إِلَيْهِ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَتَبْتَ تَسْأَلُنِي هَلْ كَانَ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم يَغْزُو بِالنِّسَاءِ؟ وَقَدْ كَانَ يَغْزُو بِهِنَّ، فَيُدَاوِينَ الْجَرْحَى، وَيُحْذَيْنَ مِنَ الْغَنِيمَة، وَأَمَّا بِسَهْمٍ فَلَمْ يَضْرِبْ لَهُنَّ، وَإِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَكُنْ يَقْتُلُ الصِّبْيَانَ، فَلَا تَقْتُلِ الصِّبْيَانَ، وَكَتَبْتَ تَسْأَلُنِي مَتَى يَنْقَضِي يُتْمُ الْيَتِيمِ؟ فَلَعَمْرِي إِنَّ الرَّجُلَ لَتَنْبُتُ لِحْيَتُهُ، وَإِنَّهُ لَضَعِيفُ الأَخْذِ لِنَفْسِه، ضَعِيفُ الْعَطَاءِ مِنْهَا، فَإِذَا أَخَذَ لِنَفْسِهِ مِنْ صَالِحِ

(1)

مَا يَأْخُذُ النَّاسُ، فَقَدْ ذَهَبَ عَنْهُ الْيُتْمُ، وَكَتَبْتَ تَسْأَلُنِي عَنِ الْخُمْسِ لِمَنْ هُوَ؟ وَإِنَّا كُنَّا نَقُولُ

(2)

هُوَ لَنَا، فَأَبَى عَلَيْنَا قَوْمُنَا ذَاكَ)

(3)

.

رجال هذا الإسناد: ستّةٌ:

1 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ بْنِ قَعْنَبٍ) الحارثيّ البصريّ، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

2 -

(سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ) التيميّ مولاهم، أبو محمد، أو أبو أيوب المدنيّ، ثقةٌ [8](ت 177)(ع) تقدم في "الإيمان" 14/ 160.

(1)

وفي نسخة: "من مصالح".

(2)

وفي نسخة: "وإنا نقول".

(3)

وفي نسخة: "ذلك".

ص: 563

3 -

(جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ) الهاشميّ، أبو عبد الله المدنيّ المعروف بالصادق، صدوقٌ فقيهٌ إمام [6](ت 148)(بخ م 4) تقدم في "الحيض" 10/ 749.

4 -

(أَبُوهُ) محمد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب، أبو جعفر الهاشميّ المدنيّ المعروف بالباقر، ثقةٌ فاضلٌ [4] مات سنة بضع و (110)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 61.

5 -

(يَزِيدُ بْنُ هُرْمُزَ) أبو عبد الله المدنيّ، مولى بني ليث، وقيل: عفّان، وقيل: آل أبي ذُباب، وقيل: إنه يزيد الفارسيّ، والصحيح أنه غيره، ثقةٌ [3].

رَوَى عن أبي هريرة، وابن عباس، وأبان بن عثمان.

ورَوَى عنه الزهريّ، وسعيد المقبريّ، وأبو جعفر محمد بن عليّ، وقيس بن سعد، والحارث بن أبي ذُباب، والمختار بن صيفيّ، وغيرهم.

قال ابن سعد: كان على المولى يوم الحرّة، ومات بعد ذلك، وكان ثقة إن شاء الله تعالى، وقال ابن معين، وأبو زرعة: ثقةٌ، وقال محمد بن إسحاق، عن الزهريّ: حدّثني يزيد بن هُرمز، وكان من الثقات، وقال ابن أبي حاتم: اختلفوا هل هو يزيد الفارسيّ، أو غيره؟ فقال ابن مهديّ، وأحمد: هو ابن هرمز، وأنكر يحيى بن سعيد القطان أن يكونا واحدًا، وسمعت أبي يقول: يزيد بن هرمز هذا ليس بيزيد الفارسيّ، هو سواه، فأما ابن هرمز فهو والد عبد الله بن يزيد بن هرمز، وكان من أبناء الفرس الذين جالسوا أبا هريرة، وليس بحديثه بأس، وقال العجليّ: مدنيّ، تابعيّ ثقة، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: مات في خلافة عمر بن عبد العزيز.

أخرج له المصنّف، وأبو داود، والترمذيّ، والنسائيّ، وابن ماجه، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا برقم (1812) وكرّره ثلاث مرّات، وحديث (2652): "احتجّ آدم وموسى عند ربّهما

" الحديث.

6 -

(ابْنُ عَبَّاسٍ) هو: عبد الله الحبر البحر، مات رضي الله عنه سنة (68)(ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 124.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وهو مسلسل بالمدنيين، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، والابن عن أبيه، وفيه ابن عبّاس رضي الله عنهما حبر الأمة، وبحرها،

ص: 564

وأحد العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة، روى (1696) حديثًا.

شرح الحديث:

(عَنْ يَزِيدَ بْنِ هُرْمُزَ) المدنيّ (أَنَّ نَجْدَةَ) - بفتح النون، وسكون الجيم، بعدها دالٌ مهملة، ثم هاء - ابن عامر الحنفيّ، من بني حنيفة، خارجيّ من اليمامة، وأصحابه النجَدَات - محرّكةً - وهم قومٌ من الحروريّة، ويقال لهم أيضًا: النَّجْديّة، قاله في "القاموس"، و"شرحه"

(1)

.

ونجدة هذا هو الْحَرُوريّ، رئيس طائفة من الخوارج، له مقالات معروفةٌ، وأتباعٌ انقرضوا، وكان مع نافع بن الأزرق، ففارقه لإحداثه في مذهبه، ثم خرج مستقلًّا باليمامة سنة (66 هـ) أيّام عبد الله بن الزبير في جماعة كثيرة، فأتى البحرين، واستقرّ بها، وتَسَمّى بأمير المؤمنين، ووجَّهَ إليه مصعب بن الزبير خيلًا بعد خيل، وجيشًا بعد جيش، فهزمهم، ونَقِمَ عليه أصحابه أمورًا، فخلعوه، وقتلوه، وقيل: قتله أصحاب ابن الزبير، قُتل سنة (72 هـ)

(2)

، والله تعالى أعلم.

(كَتَبَ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما، وفي رواية النسائيّ: أن نجدة الْحَروريّ حين حجّ في فتنة ابن الزبير أرسل إلى ابن عبّاس رضي الله عنهما إلخ.

وقال النوويّ رحمه الله: وقد صرَّح في "سنن أبي داود" في رواية له بأن سؤال نَجْدة لابن عباس رضي الله عنهما عن هذه المسائل كان في فتنة ابن الزبير، وكانت فتنة ابن الزبير بعد بضع وستين سنة من الهجرة. انتهى

(3)

.

[تنبيه]: سبب فتنته رضي الله عنه أنه لمّا أراد أن يبايع معاوية رضي الله عنه عنه لولده يزيد بن معاوية امتنع ابن الزبير، وتحوّل إلى مكة، وعاذ بالحرم، فأرسل إليه يزيدُ سليمانَ أن يُبايع له، فأبى، ولقّب نفسه عائذَ الله، فلما كانت وقعة الحرّة، وفَتَك أهلُ الشام بأهل المدينة، ثم تحوّلوا إلى مكة، فقاتلوا ابن الزبير، واحترقت الكعبة أيام ذلك الحصار، ففجعهم الخبر بموت يزيد بن معاوية،

(1)

"القاموس" وشرحه "تاج العروس" 2/ 511.

(2)

راجع: ترجمته في "الكامل" للمبرّد 2/ 186، وابن الأثير 4/ 88.

(3)

"شرح النوويّ" 12/ 192.

ص: 565

فتوادعوا، ورجع أهل الشام، وبايع الناس عبد الله بن الزبير بالخلافة، وأرسل إلى أهل الأمصار يُبايعهم إلا بعض أهل الشام، فسار مروان، فغلب على بقيّة الشام، ثم على مصر، ثم مات، فقام عبد الملك بن مروان، فغلب على العراق، وقَتل مصعب بن الزبير، ثم جهّز الْحَجّاجَ بن يوسف إلى ابن الزبير، فقاتله إلى أن قُتِلَ ابنُ الزبير في جمادى الأولى، سنة (73) من الهجرة، وهذا هو المحفوظ، وهو قول الجمهور، وقيل غير ذلك في سنة قتله. ذكره في "الإصابة"

(1)

.

(يَسْأَلُهُ عَنْ خَمْسِ خِلَالٍ) - بكسر الخاء المعجمة -: جمع خَلّة بالفتح، كخَصْلة وزنًا ومعنًى، (فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما (لَوْلَا أَنْ أَكْتُمَ عِلْمًا، مَا كَتَبْتُ إِلَيْهِ)؛ أي: إلى نجدة الحروريّ، من الخوارج، قال النوويّ رحمه الله: معناه: أن ابن عباس يَكره نجدة؛ لبدعته، وهي كونه من الخوارج الذين يَمْرُقون من الدين مُرُوق السهم من الرَّمِتة، ولكنْ لمّا سأله عن العلم لم يمكنه كَتْمه، فاضطر إلى جوابه، وقال: لولا أن أكتم علمًا ما كتبت إليه؛ أي: لولا أني إذا تركت الكتابة، أصير كاتمًا للعلم، مستحفًا لوعيد كاتمه، لَمَا كتبت إليه. انتهى

(2)

.

(كَتَبَ إِلَيْهِ)؛ أي: إلى ابن عبّاس رضي الله عنهما، (نَجْدَةُ) الْحَروريّ، وقوله:(أَمَّا بَعْدُ .... لخ) مفعول "كتَبَ" محكيّ؛ لقصد لفظه، و"أمّا" تقدّم أنها بفتح الهمزة، وتشديد الميم، وقد تُبدل الميم الأولى ياء، كقوله [من الطويل]:

رَأَتْ رَجُلًا أَيْمَا إِذَا الشَّمْسُ عَرَضَتْ

فَيَضْحَى وَأَيْمَا بِالْعَشِيِّ فَيَخْصرُ

وهي حرف توكيد، وشرط، وتفصيل، وهي نائبة عن "مهما يكن من شيء"، و"بعد" من الظروف المبنيّة على الضمّ؛ لِقَطعه عن الإضافة لفظًا، ونيّة معناها، والفاء في قوله:(فَأَخْبِرْنِي) هي الداخلة في جوابها، وإلى هذا كلّه أشار ابن مالك رحمه الله في "خلاصته"، حيث قال:

"أمَّا" كَـ"مَهْمَا يَكُ مِنْ شَيْءٍ" وَفَا

لِتِلْوِ تِلِوِهَا وُجُوبًا أُلِفَا

(1)

راجع: "الإصابة في تمييز الصحابة" 6/ 88.

(2)

"شرح النوويّ" 12/ 190.

ص: 566

وَحَذْفُ ذِي الْفَا قَلَّ فِي نَثْرٍ إِذَا

لَمْ يَكُ قَوْلٌ مَعَهَا قَدْ نُبِذَا

وقال شيخنا المناسيّ رحمه الله في "نظم المغني":

"أمَّا" بِشَدِّ الْمِيمِ وَالْهَمْزُ فُتِحْ

وَقَلْبُ مِيمٍ سِابِقٍ يَاءً يَصِحّ

وَالْفَا لِتَالِي التَّالِي حَتْمًا تَلْزَمُ

وَوَضْعُهَا لِلشَّرْطِ مِنْ ذَا يُعْلَمُ

وَحَذْفُ ذِي الْفَا مَعَ قَوْلٍ يَكْثُرُ

وَهْوَ اضْطِرَارٌ دُونَهُ أَوْ نَادِرُ

وَفُصِلَتْ عَنْ فَائِهَا بَأَحَدِ

مِنْ سِتَّةٍ مُبْتَدَإٍ أَوْ مُسْنَدِ

وَجُمْلَةِ الشَّرْطِ وَمَا فِيهِ عَمِلْ

جَوَابُهَا وَمَا بِمَحْذُوفٍ عُمِلْ

وَالظَّرْفُ وَالْمَجْرُورُ قَدْ تَعَلَّقَا

بِلَفْظِ "أمَّا" مِثْلَ فِعْلٍ حُقِّقَا

(هَلْ كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَغْزُو بِالنِّسَاءِ؟)؛ أي: يستصحبهنّ، ويخرجن معه لقتال الأعداء، (وَهَلْ كَانَ يَضْرِبُ لَهُنَّ بِسَهْمٍ؟)؛ أي: وإذا قُلتَ: يغزو بهنّ، فهل كان يجعل لهنّ سهمًا، كالرجال؟، (وَهَلْ كَانَ يَقْتُلُ الصِّبْيَانَ؟)؛ أي: أولاد المشركين إذا غزاهم، (وَمَتَى يَنْقَضِي)؛ أي: ينتهي (يُتْمُ الْيَتِيمِ؟)؛ أي: ينتهي حُكم يُتمه بحيث يجب على وليّه دفع ماله إليه، ويستقلّ هو بالتصرّف فيه، وأما نَفْسُ اليُتم، فإنه ينتهي بالبلوغ.

و"الْيُتْمُ": بضمّ أوله، أو فتحها، وإسكان ثانيه، مصدر يَتُمَ، يقال: يَتُمَ يَيْتُمُ، من بابيّ تَعِبَ، وقَرُبَ يَتْمًا، بضمَ الياء، وفتحها.

و"الْيَتِيمُ" بفتح الياء، وكسر التاء: هو في الناس من قِبَل الأب؛ أي: من مات أبوه، فيقال: صغير يتيمٌ، والجمع أَيتامٌ، ويتامَى، وصغيرة يتيمةٌ، وجَمْعها يَتَامَى، وأما في غير الناس فهو من قبل الأمّ، وأيتمت المرأة إيتامًا، فهي مؤتِمٌ: صار أولادها يتامَى، فإن مات الأبوان، فالصغير لَطِيمٌ، وإن ماتت أمه فقط، فهو عَجِيّ، قاله الفيّومي رحمه الله

(1)

.

وقال النوويّ رحمه الله: قوله: "متى ينقضي يُتم اليتيم": معناه: متى ينقضي حكم اليتم، ويستقلّ بالتصرف في ماله؟ وأما نفس اليتم فينقضي بالبلوغ، وقد ثبت أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"لا يُتْمَ بعد الحُلُم"

(2)

.

(1)

"المصباح المنير" 2/ 679.

(2)

حديث صحيح، أخرجه أبو داود في "سننه" عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه =

ص: 567

قال: وفي هذا دليل للشافعيّ، ومالك، وجماهير العلماء، أن حكم اليتم لا ينقطع بمجرد البلوغ، ولا بعلوّ السنّ، بل لا بدّ أن يظهر منه الرُّشد في دينه، وماله، وقال أبو حنيفة: إذا بلغ خمسًا وعشرين سنةً زال عنه حُكم الصبيان، وصار رشيدًا يتصرف في ماله، ويجب تسليمه إليه، وإن كان غير ضابط له، وأما الكبير إذا طرأ تبذيره، فمذهب مالك، وجماهير العلماء، وجوب الحَجْر عليه، وقال أبو حنيفة: لا يُحجر، قال ابن القصار وغيره: الصحيح الأول، وكأنه إجماع. انتهى

(1)

.

(وَعَنِ الْخُمْسِ)؛ أي: وسأله أيضًا عن خمس الغنيمة (لِمَنْ هُوَ؟)؛ أي: من الذي يستحقّه من الناس؟ (فَكَتَبَ إِلَيْهِ ابْنُ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما، قائلًا:(كَتَبْتَ تَسْأَلْنِي هَلْ كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَغْزُو بِالنِّسَاءِ؟) وجوابه قوله: (وَقَدْ كَانَ يَغْزُو بِهِنَّ، فَيُدَاوِينَ الْجَرْحَى)؛ يعني: أن مهمتهنّ بحضور الغزو هو مداواتهنّ الجرحى، لا مقاتلتهنّ العدوّ، (وَيُحْذَيْنَ) بضمّ الياء، وإسكان الحاء المهملة، وفتح الذال العجمة؛ أي: يُعطين، و"الْحذْوة" بكسر الحاء، وضمّها: هي العطيّة (مِنَ الْغَنِيمَةِ) ما يراه الإمام دون تحديد مقدار العطيّة، وتُسمّى الرضخ. (وَأَمَّا بِسَهْمٍ)؛ أي: وأما الضرب لهن بسهم من سهام الغنيمة (فَلَمْ يَضْرِبْ) بالبناء للمفعول، (لَهُنَّ)؛ يعني: أنه صلى الله عليه وسلم كان يعطيهنّ ما يراه، ولا يجعل لهنّ مثل سهام المقاتلين، قال النوويّ رحمه الله: وفي هذا أن المرأة تستحقّ الرَّضْخ، ولا تستحقّ السهم، وبهذا قال أبو حنيفة، والثوريّ، والليث، والشافعيّ، وجماهير العلماء، وقال الأوزاعيّ: تستحقّ السهم، إن كانت تقاتِلُ، أو تداوي الجرحى، وقال مالك: لا رَضْخَ لها، وهذان المذهبان مردودان بهذا الحديث الصحيح الصريح. انتهى

(2)

.

(وَإِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَكُنْ يَقْتُلُ الصِّبْيَانَ) بل كان ينهى عن ذلك، وهذا إذا لم يقاتلوا، وكذا النساء، فأما إذا قاتلوا، فيجوز قتلهم. (فَلَا تَقْتُل) أنت

= قال: حَفِظتُ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يُتْمَ بعد احتلام، ولا صُمات يوم إلى الليل". انتهى.

(1)

"شرح النوويّ" 12/ 191.

(2)

"شرح النوويّ" 12/ 190.

ص: 568

(الصِّبْيَانَ) للنهي عنه، قال القرطبيّ رحمه الله: هذا مذهب كافة العلماء أن الصبيان لا يُقتلون، إلا أن يُبَيَّت العدوّ، فيصاب صبيانهم معهم، وقد تقدَّم أن الصبيان لا يُقتلون؛ لأنه لا يكون منهم قتال غالبًا، ولأنهم مال. انتهى

(1)

.

وقال ابن عبّاس رضي الله عنهما: (وَكَتَبْتَ تَسْأَلُنِي مَتَى يَنْقَضِي يُتْمُ الْيَتِيمِ؟) المراد: حُكم يُتْمه؛ لأن يُتمه ينقضي ببلوغه، كما مرّ آنفًا. (فَلَعَمْرِي) اللام هي لام القَسَم، و"عَمري" بفتح العين لا غيرُ هنا، قال الفيّوميّ رحمه الله: عَمِرَ يَعْمَرُ، من باب تَعِبَ عُمْرًا، بفتح العين، وضمّها: إذا طال عُمره، فهو عامرٌ، ويتعدّى بالحركة، والتضعيف، فيقال: عَمَرَهُ الله يَعْمُرُهُ، من باب قَتَلَ، وعَمَّرَهُ تَعْمِيرًا؛ أي: أطال عُمْرَهُ، وتدخل لام القَسَم على المصدر المفتوح، فتقول: لَعَمْرُك لأفعلَنَّ، والمعنى: وحياتِكَ، وبقائك. انتهى

(2)

.

[فإن قلت]: كيف قال ابن عبّاس رضي الله عنهما: "فلعَمْري" مع أنه ورد النهي عن الحَلِف بغير الله تعالى؟.

[الجواب]: أن هذا ليس مما يراد به اليمين، وإنما هو مجرّد تأكيد الكلام، كقوله صلى الله عليه وسلم:"أفلح وأبيه"، و:"تربت يداك"، و"عَقْرَى"، و"حَلْقَى"، مما يجري على الألسنة، ولا يُراد حقيقته، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

(إِنَّ الرَّجُلَ لَتَنْبُتُ لِحْيَتُهُ) بكسر اللام: الشعر النازل على الذقن، والجمع: لِحًى، مثلُ سِدْرةٍ وسِدَرٍ، وتُضمّ اللام أيضًا، مثلُ حِلْيَةٍ وحُلًى

(3)

. (وَإِنَّهُ لَضَعِيفُ الأَخْذِ لِنَفْسِهِ)؛ أي: لا يقدر أن يتقاضى حقّه من الناس؛ لعدم رُشده، (ضَعِيفُ الْعَطَاءِ مِنْهَا)؛ أي: من نفسه، يعني: أنه لا يؤدّي من نفسه إلى الناس ما يستحقّون عليه؛ لِمَا ذُكر. (فَإِذَا أَخَذَ لِنَفْسِهِ مِنْ صَالِحٍ) وفي بعض النسخ: "من مصالح"(مَا يَأْخُذُ النَّاسُ)؛ يعني: أنه إذا كان حافظًا لماله، عارفًا بوجوه التصرّف في الأخذ من الناس لنفسه، وإعطائه لهم حقّهم، (فَقَدْ ذَهَبَ عَنْهُ الْيُتْمُ)؛ أي: زال عنه حكم الْيُتْم، وهو الحَجْر في ماله، فيكون من أهل التصرّف التامّ فيه، والله تعالى أعلم.

(1)

"المفهم" 3/ 689.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 429.

(3)

"المصباح المنير" 2/ 551.

ص: 569

وقال ابن عبّاس رضي الله عنهما: (وَكَتَبْتَ تَسْأَلُنِي عَنِ الْخُمْسِ لِمَنْ هُوَ؟) قال النوويّ رحمه الله: معناه خُمس خُمس الغنيمة الذي جعله الله لذوي القربى، وقد اختَلَف العلماء فيه، فقال الشافعيّ مثل قول ابن عباس رضي الله عنهما، وهو أن خمس الخمس من الفيء والغنيمة يكون لذوي القربى، وَهُم عند الشافعيّ، والأكثرين: بنو هاشم، وبنو المطلب. انتهى

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: هذا الخُمس المسؤول عنه، هو خمس الخمس، لا خمس الغنيمة، ولا يقول ابن عباس، ولا غيره: إن خمس الغنيمة يُصرف في القرابة، وإنما يُصرف إليهم خمس الخمس على قول من يَقسم خمس الغنيمة على خمسة أخماس؛ على ما تقدَّم من مذهب الشافعيّ، وهو الذي أشار إليه ابن عباس، وهو مذهب أحمد بن حنبل. انتهى

(2)

.

(وَإِنَّا كُنَّا نَقُولُ) وفي نسخة: "وإنا نقول"(هُوَ لَنَا، فَأَبَى عَلَيْنَا قَوْمُنَا ذَاكَ) وفي بعض النسخ: "ذلك"؛ أي: رأوا أنه لا يتعيّن صرفه إلينا، بل يصرفونه في المصالح، قال النوويّ: وأراد بقومه: وُلاة الأمر من بني أمية، وقد قال الشافعيّ رحمه الله: يجوز أن ابن عباس أراد بقوله: "أبى ذاك علينا قومنا" مَن بعد الصحابة رضي الله عنهم، وهم يزيد بن معاوية، وأهله. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: الذي يظهر لي أن ابن عبّاس رضي الله عنهما أراد بقومه عمر بن الخطّاب، ومن كان معه، فقد صرّح بذلك في "سنن النسائيّ"، ولفظه: عن يزيد بن هُرمز: أن نجدة الحروريّ حين خرج في فتنة ابن الزبير، أرسل إلى ابن عباس يسأله عن سهم ذوي القربى لمن تراه؟ قال: هو لنا لقربى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قَسَمه رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم، وقد كان عُمر عَرَض علينا شيئًا، رأيناه دون حقّنا، فأبينا أن نَقْبله، وكان الذي عَرَض عليهم أن يُعين ناكحهم، وَيَقضي عن غارمهم، ويُعطي فقيرهم، وأبى أن يزيدهم على ذلك. انتهى

(3)

.

والحاصل أن ابن عبّاس رضي الله عنهما الذي أبي عليه، لكن هذا اجتهاد اختلف فيه ابن عبّاس وذووه مع الخليفة عمر رضي الله عنه، فرأى هو أنهم يستحقّونه بالحاجة

(1)

"شرح النوويّ" 12/ 191 - 192.

(2)

"المفهم" 3/ 688 - 689.

(3)

"سنن النسائيّ - المجتبى -" 7/ 128.

ص: 570

فقط، وهم يقولون: هو حقّنا، ولو كنّا غير محتاجين؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قَسَمه بيننا، على ظاهر الآية:{وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى} [الأنفال: 41] الآية، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [46/ 4676 و 4677 و 4678 و 4679 و 4680 و 4681](1812)، و (أبو داود) في "الخراج"(2982)، و (الترمذي) في "السير"(4/ 125)، و (النسائيّ) في "قَسْم الفيء"(7/ 128 - 129) و"الكبرى"(3/ 44)، و (الشافعيّ) في "مسنده"(2/ 122 - 123)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 224 و 308 و 320)، و (الدارميّ) في "سننه"(2471)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4824)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(2550 و 2630 و 2739)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(10/ 334)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 336)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(3/ 235)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(1/ 173)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(6/ 332 و 344)، و (البغويّ) في "شرح السُّنّة"(2723)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): جواز أخذ العلم بالمكاتبة، والمراسلة.

2 -

(منها): إفتاء العالم لأهل البدع، إذا كان فيه مصلحة، أو خاف مفسدة، لو لم يُفتِهِم، فإن ابن عبّاس رضي الله عنهما قال:"فلولا أن يقع في أُحموقة ما كتبت إليه".

3 -

(ومنها): بيان قسم الفيء.

4 -

(ومنها): حِلّ الغنائم.

5 -

(ومنها): ما قال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "ولا يُسهم لهنّ

إلخ" هذا مذهب جمهور العلماء، أن المرأة لا يُضرَب لها بسهم، وإن قاتلت، ما خلا الأوزاعيّ؛ فإنه قال: إن قاتلت أُسْهِم لها، وقد مال إليه ابن حبيب من

ص: 571

المالكيّة، وهل يُحْذَين؛ أي: يُعْطَين من الغنيمة بغير تقدير؟ فالجمهور على أنهن يُرْضَخ لهنّ، وقال مالك: لا يُرضخ لهنّ، ولم يبلغني ذلك، وكذلك الخلاف في العبد سواء؛ غير أن القائل بأنه يُسهَم له إن قاتَل؛ هو الْحَكَم، وابن سيرين، والحسن، وإبراهيم، وقد تقدَّم أن اليتيم في بني آدم من قِبَل فَقْد الأب، وفي البهائم من قِبَل فَقْد الأم. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قد علمت من حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما المذكور في الباب أن المرأة يُرضخ لها، وأما نفي مالك له فلأنه لم يبلغه الخبر، كما صرّح هو به، فمن حَفِظ حجةٌ على من لم يحفظ، والله تعالى أعلم.

6 -

(ومنها): أن لقربى رسول الله صلى الله عليه وسلم سهمًا خاصًّا بهم، يستحقّونه، وهو خمس الخمس، كما قال ابن عبّاس رضي الله عنهما هنا، وبهذا قال الشافعيّ، وذوو القربى هُمْ عند الشافعيّ رضي الله عنه، والأكثرين: بنو هاشم، وبنو المطّلب.

7 -

(ومنها): أنه اختُلف في زوال يُتْم اليتيم، قال القرطبيّ رحمه الله: مقتضى كلام ابن عباس رضي الله عنهما هذا، ومذهب مالك، وأصحابه، وكافة العلماء أن مجرد البلوغ لا يخرجه عن اليتم، بل حتى يؤنَس رُشده، وسَداد تصرّفه، وقال أبو حنيفة: إذا بلغ خمسًا وعشرين سنة، دَفع إليه ماله وإن كان غير ضابط له.

قال: وهل من شرط رفع الحجر عنه العدالة، أو يكفي ذلك حسن الحال، وضبط المال؟ الأول: للشافعيّ، والثاني: للجمهور، وهو مشهور مذهب مالك، ثم إذا كان عليه مقدَّم، فهل بنفس صلاح حاله يخرج من الولاية، أو لا يخرج منها إلا بإطلاق حاكم أو وصيّ؟ في كل واحد منهما قولان عن مالك والشافعيّ، غير أن المشهور من مذهب مالك أنه لا يَخرج منها إلا بإطلاق من حاكم أو وصيّ، وكافةُ السَّلف، وأهل المدينة، وأئمة الفتوى على أن الكبير السفيه يَحْجُر عليه الحاكم، وشذ أبو حنيفة فقال: لا يحجر عليه، وقد حَكَى ابن القصَّار في المسألة الإجماع، ويعني به إجماع أهل المدينة. انتهى

(2)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1)

"المفهم" 3/ 687.

(2)

"المفهم" 3/ 687 - 688.

ص: 572

وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4677]

(

) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، كِلَاهُمَا عَنْ حَاتِمِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيه، عَنْ يَزِيدَ بْنِ هُرْمُزَ: أَنَّ نَجْدَةَ كَتَبَ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، يَسْأَلُهُ عَنْ خِلَالٍ، بِمِثْلِ حَدِيثِ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ، غَيْرَ أَنَّ فِي حَدِيثِ حَاتِمٍ: وَإِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَكُنْ يَقْتُلُ الصِّبْيَانَ

(1)

، فَلَا تَقْتُلِ الصِّبْيَانَ، إِلَّا أَنْ تَكُونَ تَعْلَمُ مَا عَلِمَ الْخَضِرُ مِنَ الصَّبِيِّ الَّذِي قَتَلَ، وَزَادَ إِسْحَاقُ فِي حَدِيثِه، عَنْ حَاتِمٍ: وَتُمَيِّزَ الْمُؤْمِنَ، فَتَقْتُلَ الْكَافِرَ، وَتَدَعَ الْمُؤْمِنَ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه، تقدّم قبل بابين.

3 -

(حَاتِمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ) تقدّم أيضًا قبل بابين.

والباقون ذُكروا قبله.

وقوله: (لَمْ يَكُنْ يَقْتُلُ الصِّبْيَانَ) وفي بعض النسخ: "ليَقْتُلَ الصبيان".

وقوله: (إِلَّا أَنْ تَكُونَ تَعْلَمُ مَا عَلِمَ الْخَضِرُ مِنَ الصَّبِيِّ الَّذِي قَتَلَ) اسمه حيسور

(2)

، ويقال: جيسور، وقيل غير ذلك.

قال النوويّ رحمه الله: معناه: أن الصبيان لا يحلّ قتلهم، ولا يحلّ لك أن تتعلق بقصة الخضر، وقَتْله صبيًّا، فإن الخضر ما قَتَله إلا بأمر الله تعالى له على التعيين، كما قال في آخر القصة:{وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} [الكهف: 82]، فإن كنت أنت تعلم من صبي ذلك فاقتله، ومعلوم أنه لا عِلم له بذلك، فلا يجوز له القتل. انتهى

(3)

.

وقوله: (وَتُمَيِّزَ الْمُؤْمِنَ، فَتَقْتُلَ الْكَافِرَ، وَتَدَعَ الْمُؤْمِنَ) قال النوويّ رحمه الله: معناه: من يكون إذا عاش إلى البلوغ مؤمنًا، ومن يكون إذا عاش كافرًا، فمن

(1)

وفي نسخة: "ليقتل الصبيان".

(2)

كذا صرّح به ابن جريج في "صحيح البخاريّ".

(3)

"شرح النوويّ" 12/ 192.

ص: 573

عَلِمتَ أنه يبلغ كافرًا فاقتله، كما عَلِم الخضر أن ذلك الصبيّ لو بلغ لكان كافرًا، وأعْلَمَه الله تعالى ذلك، ومعلوم أنك أنت لا تعلم ذلك، فلا تقتل صبيًّا. انتهى

(1)

.

[تنبيه]: رواية حاتم بن إسماعيل، عن جعفر بن محمد هذه ساقها البيهقيّ رحمه الله في "الكبرى"، فقال:

(17589)

- أخبرنا أبو زكريا بن أبي إسحاق، وأبو بكر أحمد بن الحسن، قالا: ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، أنبأ الربيع بن سليمان، أنبأ الشافعيّ، أنبأ حاتم - يعني: ابن إسماعيل - عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن يزيد بن هرمز: أن نجدة كتب إلى ابن عباس يسأله عن خلال، فقال ابن عباس رضي الله عنهما: إن ناسًا يقولون: إن ابن عباس يكاتب الحرورية، ولولا أني أخاف أن أكتم علمًا لم أكتب إليه، فكتب نجدة إليه: أما بعدُ فأخبرني هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزو بالنساء؟ وهل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يَضْرب لهنّ بسهم؟ وهل كان يَقتل الصبيان؟ ومتى ينقضي يُتم اليتيم؟ وعن الخمس لمن هو؟ فكتب إليه ابن عباس: إنك كتبت تسألني هلِ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزو بالنساء؟ وقد كان يغزو بهنّ، يداوين المرضى، ويُحْذين من الغنيمة، وأما السهم فلم يُضْرَب لهنّ بسهم، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقتل الولدان، فلا تقتلهم إلا أن تكون تعلم منهم ما عَلِم الخضر من الصبي الذي قَتَل، فتميّز بين المؤمن والكافر، فتقتل الكافر، وتَدَع المؤمن، وكتبت: متى ينقضي يُتْم اليتيم؟ ولَعَمري إن الرجل لتنبت لحيته، وإنه لضعيف الأخذ، ضعيف الإعطاء، فإذا أخذ لنفسه من صالح ما يأخذ الناس، فقد ذهب عنه الْيُتْم، وكتبت تسألني عن الخمس، وإنا كنا نقول: هو لنا، فأبى ذلك علينا قومنا، فصبرنا عليه. انتهى

(2)

.

وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4678]

(

) - (وَحَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ، عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ هُرْمُزَ: قَالَ: كَتَبَ نَجْدَةُ بْنُ عَامِرٍ

(1)

"شرح النوويّ" 12/ 192.

(2)

"سنن البيهقيّ الكبرى" 9/ 22.

ص: 574

الْحَرُورِيُّ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، يَسْأَلُهُ عَنِ الْعَبْد، وَالْمَرْأَة، يَحْضُرَانِ الْمَغْنَمَ، هَلْ يُقْسَمُ لَهُمَا؟ وَعَنْ قَتْلِ الْوِلْدَان، وَعَنِ الْيَتِيمِ مَتَى يَنْقَطِعُ عَنْهُ الْيُتْمُ؟ وَعَنْ ذَوِي الْقُرْبَى، مَنْ هُمْ؟ فَقَالَ لِيَزِيدَ: اكْتُبْ إِلَيْه، فَلَوْلَا أَنْ يَقَعَ فِي أُحْمُوقَةٍ مَا كَتَبْتُ إِلَيْه، اكْتُبْ: إِنَّكَ كَتَبْتَ تَسْأَلُنِي عَنِ الْمَرْأَة، وَالْعَبْد، يَحْضُرَانِ الْمَغْنَمَ، هَلْ يُقْسَمُ لَهُمَا شَيْءٌ؟ وَإِنَّهُ لَيْسَ لَهُمَا شَيْءٌ، إِلَّا أَنْ يُحْذَيَا، وَكَتَبْتَ تَسْأَلُنِي عَنْ قَتْلِ الْوِلْدَان، وَإِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَقْتُلْهُمْ، وَأَنْتَ فَلَا تَقْتُلْهُمْ، إِلَّا أَنْ تَعْلَمَ مِنْهُمْ مَا عَلِمَ صَاحِبُ مُوسَى مِنَ الْغُلَامِ الَّذِي قَتَلَهُ، وَكَتَبْتَ تَسْأَلُنِي عَنِ الْيَتِيمِ مَتَى يَنْقَطِعُ عَنْهُ اسْمُ الْيُتْمِ؟ وَإِنَّهُ لَا يَنْقَطِعُ عَنْهُ اسْمُ الْيُتْمِ حَتَّى يَبْلُغَ، ويؤْنَسَ مِنْهُ رُشْدٌ، وَكَتَبْتَ تَسْأَلُنِي عَنْ ذَوِي الْقُرْبَى، مَنْ هُمْ؟ وَإِنَّا زَعَمْنَا أَنَّا هُمْ، فَأَبَى ذَلِكَ عَلَيْنَا قَوْمُنَا).

رجال هذا الإسناد: ستةٌ:

1 -

(ابْنُ أَبِي عُمَرَ) هو: محمد بن يحيى بن أبي عمر الْعَدَنيّ، ثم المكيّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(سُفْيَانُ) بن عُيينة، تقدّم أيضًا قبل خمسة أبواب.

3 -

(إِسْمَاعِيلُ بْنُ أُمَيَّةَ) بن عمرو بن سعيد بن العاص بن أُميّة الأمويّ المكيّ، ثقةٌ ثبتٌ [6](ت 144) أو قبلها (ع) تقدم في "الإيمان" 7/ 132.

4 -

(سَعِيدٌ الْمَقْبُرِيُّ) هو: سعيد بن أبي سعيد كيسان المقبريّ، أبو سَعْد المدنيّ، ثقةٌ [3] مات في حدود (120) أو قبلها، أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 36/ 250.

والباقيان ذُكرا قبله.

وقوله: (الْحَرُورِيُّ) - بفتح الحاء - نسبة إلى حَرُوراء، وهي موضع بقرب الكوفة، خرج منه الخوارج على عليّ رضي الله عنه، وفيها قُتلوا، وكان نجدة هذا منهم، وعلى رأسهم؛ لذلك استَثْقَل ابن عبّاس رضي الله عنهما مجاوبته، وكَرِهها، لكن أجابه مخافة جَهْل يقع له، فيُفتي، وَيعمل به

(1)

.

(1)

"المفهم" 3/ 687.

ص: 575

وقوله: (يَحْضُرَانِ الْمَغْنَمَ)؛ أي: الغنيمة، كناية عن حضورهما المعركة، التي تحصل بها الغنيمة.

وقوله: (فِي أُحْمُوقَةٍ) - بضم الهمزة والميم - أُفعولة من الْحُمْق؛ أي: خصلة ذات حُمْق، وحقيقة الحمق: وضع الشيء في غير موضعه، مع العلم بقبحه

(1)

، ويُطلق اسم الأحموقة أيضًا على الرجل البالغ في الْحُمْق، والمراد: أنه يَفعل فِعْلًا من أفعال الحمقى، وَيرَى رأيًا كرأيهم، كأن يقتل الصبيان، ونحوهم.

وقوله: (إِلَّا أَنْ يُحْذَيَا) بالبناء للمفعول؛ أي: يُعطيا، يقال: أحذيته أُحْذيه إحذاءً: إذا أعطيته، وهي الْحُذْيا، والْحَذِيّةُ، أفاده ابن الأثير

(2)

.

وقوله: (اسْمُ الْيُتْمِ) المراد حكمه؛ أي: لا ينقطع عنه حكم اليتم حتى يُعلم منه كونه رشيدًا، مصلحًا لماله.

وقوله: (حَتَّى يَبْلُغَ)؛ أي: يبلغ مبلغ الرجال، وذلك بالاحتلام، ونحوه.

وقوله: (وَيُؤْنَسَ مِنْهُ رُشْدٌ) ببناء الفعل للمفعول، يقال: آنستُ الشيءَ بالمدّ: إذا عَلِمته، وآنسته: إذا أبصرته؛ أي: حتى يُعلم، ويُبصر من ذلك الصبيّ كونه رشيدًا، و"الرُّشْدُ" بضمّ، فسكون، أو بفتحتين: هو الصلاح، وهو خلاف الغيّ والضلال، وهو إصابة الصواب، ويقال: رَشِدَ يَرْشَدُ رَشَدًا، من باب تَعِبَ، ورَشَدَ يَرْشُدُ، من باب قتل، فهو راشد، والاسم: الرَّشَاد

(3)

.

والمعنى: حتى يُعلم منه كمال العقل، وسَداد الفعل، وحسن التصرّف، والله تعالى أعلم.

وقوله: (وَإِنَّا زَعَمْنَا)؛ أي: قلنا، أو اعتقدنا، فإن الزعم يُطلق على القول، ومنه قول سيبويه في "كتابه": زعم الخليل كذا؛ أي: قال، وعليه قوله تعالى:{أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ} [الإسراء: 92] أي: كما أخبرت بذلك، ويُطلق الزعم أيضًا على الاعتقاد، ومنه قوله عز وجل:{زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا} [التغابن: 7].

وقوله: (أَنَّا هُمْ)؛ أي: أنا نحن ذوو القربى الذين جعل الله تعالى لهم

(1)

راجع: "لسان العرب"10/ 68.

(2)

راجع: "النهاية" 1/ 358.

(3)

راجع: "المصباح المنير" 1/ 227.

ص: 576

خمس الخمس من الغنيمة في قوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الأنفال: 41]، والمراد: ذوو قرباه صلى الله عليه وسلم.

وقوله: (فَأَبَى ذَلِكَ عَلَيْنَا قَوْمُنَا)؛ أي: امتنعوا، ورأوا أنه لا يتعيّن صرفه إلينا، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4679]

(

) - (وَحَدَّثَنَاهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ بِشْرٍ الْعَبْدِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أُمَيَّةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ هُرْمُزَ: قَالَ: كَتَبَ نَجْدَةُ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِمِثْلِهِ.

قال أبو إسحاقَ: حدَّثَني عَبْدُ الرَّحْمنِ بْنُ بِشْرٍ، حدَّثَنا سُفْيَانُ، بهذا الحَديث، بطولِهِ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ بِشْرٍ الْعَبْدِيُّ) أبو محمد النيسابوري، وثقة من صغار [10]، تقدم في "المقدمة" 6/ 99.

والباقون ذُكروا قبله، و"سفيان" هو: ابن عُيينة.

[تنبيه]: رواية عبد الرحمن بن بشر، عن سفيان بن عيينة هذه لم أجد من ساقها بتمامها، فليُنظر، والله تعالى أعلم.

وقوله: (قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ) هو إبراهيم محمد بن سفيان تلميذ المصنّف راوي "صحيحه" عنه، وقد تقدّم قبل بابين، وغرض أبي إسحاق بهذا بيان العلوّ، فإنه وصل إلى ابن عيينة من طريق مسلم بواسطتين، مسلم، وشيخه، وهنا وصل إليه بواسطة، وهو عبد الرحمن بن بشر، شيخ مسلم، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4680]

(

) - (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ، حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: سَمِعْتُ قَيْسًا، يُحَدِّثُ عَنْ يَزِيدَ بْنِ هُرْمُزَ (ح) وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ - وَاللَّفْظُ لَهُ - قَالَ: حَدَّثَنَا بَهْزٌ، حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ، حَدَّثَنِي قَيْسُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ هُرْمُزَ، قَالَ: كَتَبَ نَجْدَةُ بْنُ عَامِرٍ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: فَشَهِدْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ حِينَ قَرَأَ كِتَابَهُ، وَحِينَ كَتَبَ جَوَابَهُ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:

ص: 577

وَاللهِ لَوْلَا أَنْ أَرُدَّهُ عَنْ نَتْنٍ يَقَعُ فِيه، مَا كَتَبْتُ إِلَيْه، وَلَا نُعْمَةَ عَيْنٍ، قَالَ: فَكَتَبَ إِلَيْهِ: إِنَّكَ سَأَلْتَ عَنْ سَهْمِ ذِي الْقُرْبَى الَّذِي ذَكَرَ اللهُ، مَنْ هُمْ؟ وَإِنَّا كُنَّا نَرَى أَنَّ قَرَابَةَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم هُمْ نَحْنُ، فَأَبَى ذَلِكَ عَلَيْنَا قَوْمُنَا، وَسَأَلْتَ عَنِ الْيَتِيم مَتَى يَنْقَضِي يُتْمُهُ؟ وَإِنَّهُ إِذَا بَلَغَ النِّكَاحَ، وَأُونِسَ مِنْهُ رُشْدٌ، وَدُفِعَ إِلَيْهِ مَالُهُ، فَقَدِ انْقَضَى يُتْمُهُ، وَسَأَلْتَ هَلْ كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقْتُلُ مِنْ صِبْيَانِ الْمُشْرِكِينَ

(1)

أَحَدًا؟ فَإنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَكُنْ يَقْتُلُ مِنْهُمْ أَحَدًا، وَأَنْتَ فَلَا تَقْتُلْ مِنْهُمْ أَحَدًا، إِلَّا أَنْ تَكُوَنَ تَعْلَمُ مِنْهُمْ مَا عَلِمَ الْخَضِرُ مِنَ الْغُلَام حِينَ قَتَلَهُ، وَسَأَلْتَ عَنِ الْمَرْأَة، وَالْعَبْد، هَلْ كَانَ لَهُمَا سَهْمٌ مَعْلُومٌ، إِذَا حَضَرُوا الْبَأْسَ؟ فَإِنَّهُمْ

(2)

لَمْ يَكُنْ لَهُمْ سَهْمٌ مَعْلُومٌ، إِلَّا أَنْ يُحْذَيَا مِنْ غَنَائِمِ الْقَوْمِ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(وَهْبُ بْنُ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ) الأزديّ، أبو عبد الله البصريّ، ثقةٌ [9](ت 206)(ع) تقدم في "الإيمان" 50/ 315.

2 -

(أَبُوهُ) جرير بن حازم بن زيد بن عبد الله الأزديّ، أبو النضر البصريّ، ثقةٌ، لكن في حديثه عن قتادة ضعف [6](170)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 81.

3 -

(قَيْسُ بْنُ سَعْدٍ) أبو عبد الملك، أو أبو عبد الله المكيّ، ثقةٌ [6] مات سنة بضع (110)(خت م دس ق) تقدم في "المقدمة" 4/ 21.

والباقون ذكروا في الباب وقبله، وإسحاق بن إبراهيم هو: ابن راهويه، و"بهز" هو: ابن أسد العمّيّ.

وقوله: (وَاللهِ لَوْلَا أَنْ أَرُدَّهُ عَنْ نَتْنٍ يَقَعُ فِيهِ) - بفتح النون، وسكون التاء -؛ يعني بالنتن الفعل القبيح، وكلُّ مستقبح يقال له: النتن، والخبيث، والرِّجْس، والقَذَر، والقاذورة، قاله النوويّ، وقال القرطبيّ: قوله: "عَنْ نَتْنٍ"؛ أي: عن فعل فاحش يستقبحه من سَمِعه من العلماء، ويستخبثه، كما يستخبث الشيء النتن. انتهى

(3)

.

(1)

وفي نسخة: "من أولاد المشركين".

(2)

وفي نسخة: "وإنهم".

(3)

"المفهم" 3/ 690.

ص: 578

وقال في "المشارق": "عن نتن يقع فيه"؛ أي: عن رأي سَوْءٍ، ومذهب سَوْءٍ منكر، والنتن يقع على كلّ مُستقبح، ومستنكَر، من القول، والعمل. انتهى

(1)

.

وقال المجد رحمه الله: "النَّتْنُ": ضِدُّ الفَوْح، نَتُنَ: ككَرُمَ، وضَرَبَ، نَتانَةً، وأنْتَنَ، فهو مُنْتِنٌ، ومِنْتِنٌ، بكسْرَتَين، وبضَمَّتَيْن، وكقِنْدِيلٍ. انتهى

(2)

.

وقال الفيّوميّ رحمه الله: نَتُنَ الشّيءُ - بالضّم - نُتُونَةً، ونَتَانَةً، فهو نَتِينٌ، مثل قريب، ونَتَنَ نَتْنًا، من باب ضرب، ونَتِنَ يَنْتَنُ، فهو نَتِنٌ، من باب تَعِبَ، وأَنْتَنَ إِنْتَانًا، فهو مُنْتِنٌ، وقد تُكسر الميم للإتباع، فيقال: مِنْتِنٌ، وضَمُّ التاء إتباعًا للميم قليلٌ. انتهى

(3)

.

وقوله: (وَلَا نُعْمَةَ عَيْنٍ)؛ أي: لم أجاوبه إرادةَ مسرّة عينه، أو إرادة تنعّمها، وتمتّعها، و"النُّعْمة" - بضم النون، وفتحها -: مَسَرّة العين

(4)

، ومعناه: لا تُسَرّ عينه، يقال: أنعم الله عينك؛ أي: أقرّها، فلا يَعْرِض لك مَكَدٌ في شيء من الأمور

(5)

.

وقال المجد رحمه الله: ونَعِمَ اللهُ تعالى بِكَ، كَسَمِعَ، ونَعِمَكَ، وأنْعَمَ بِكَ عَيْنًا: أقَرَّ بِكَ عَيْنَ من تُحِبُّهُ، أو أقَرَّ عَيْنَكَ بمَنْ تُحِبُّهُ، ونَعْمُ عَيْنٍ، ونَعْمَةُ، ونَعامُ، ونَعيمُ، بفَتْحِهِنَّ، ونُعْمَى، ونُعَامَى، ونُعامُ، ونُعْمُ، ونُعْمَةُ، بضمَّهِنَّ، ونِعْمَةُ، ونِعَامُ، بكسرهما، ويُنْصَبُ الكُلُّ بإضمار الفِعْلِ؛ أي: أفْعَلُ ذلك إنْعَامًا لعَيْنِكَ، وإكْرامًا. انتهى

(6)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: الرواية بضم النون، وفيها لغات: نَعمة - بفتح النون -، ونَعْمُ عينٍ، ونُعمُ، ونُعْمَى عين، ونُعامى عين، ونَعِيم عين، ونِعَامُ،

(1)

"مشارق الأنوار" 2/ 3.

(2)

"القاموس المحيط" 1/ 1596.

(3)

"المصباح المنير" 2/ 592.

(4)

تعقّب بعضهم هذا التفسير، فقال: فسّر النوويّ النعمة مفتوحة النون، ومضمومتها بالمسّرة، وهو لا يستقيم إلا باعتبار أن التنعّم والمسرّة متلازمان، وإلا فإن النَّعْمة بالفتح التنعّم، وبالضمّ المسرّة، وبالكسر الإنعام، نصّ على ذلك الزمخشريّ في "الكشّاف". انتهى.

(5)

راجع: "شرح النوويّ" 12/ 193 - 194.

(6)

"القاموس المحيط" - (ص 1298).

ص: 579

وكل ذلك بمعنى واحد؛ أي: فلا أُنْعِم عينه، ولا أُريها ما يَسُرّها، وهي منصوبة على المصدر. انتهى

(1)

.

وقوله: (الَّذِي ذَكَرَ اللهُ)؛ أي: في قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (41)} [الأنفال: 41].

وقوله: (إِذَا حَضَرُوا الْبَأْسَ) عبّر عنهما بضمير الجمع؛ اعتبارًا بالمعنى؛ لأن المراد جنسهما، وعبّر عنهما بضمير التثنية في قوله:"هل كان لهما؟ "، وقوله:"الَّا أَنْ يُحْذَيَا" باعتبار أنهما صنفان.

وقوله: (وَإِنَّا كُنَّا نَرَى أَنَّ قَرَابَةَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم هُمْ نَحْنُ)؛ يعني: أننا كنّا نرى أن خُمس الخمس من الغنيمة يستحقّه ذوو القرابة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، سواء كانوا أغنياء، أو فقراء، وهذا مذهب ابن عبّاس رضي الله عنهما، وبه أخذ الشافعيّ، فقال: إن خمس الغنيمة يُقسم على خمسة سهام، السهم الواحد منها حقّ لذوي القرابة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، يستوي فيه غنيهم، وفقيرهم، ويُقسم بينهم للذكر مثل حظّ الأنثيين، ويكون لبني هاشم، وبني المطّلب، دون غيرهم، وهو مذهب الإمام أحمد، وحكاه صاحب "المغني" عن عطاء، ومجاهد، والشعبيّ، والنخعيّ، وقتادة، وابن جريج

(2)

.

وقال أبو عبد الله القرطبيّ رحمه الله في "تفسيره": اختَلَف العلماء في كيفية قَسْم الخُمس على أقوال ستة:

[الأول]: قالت طائفة: يُقسم الخُمس على ستة، فيُجعل السدس للكعبة، وهو الذي لله.

والثاني لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والثالث لذوي القربى، والرابع لليتامى، والخامس للمساكين، والسادس لابن السبيل.

وقال بعض أصحاب هذا القول: يُردّ السهم الذي لله على ذوي الحاجة.

[الثاني]: قال أبو العالية، والربيع: تُقسم الغنيمة على خمسة، فيُعزل منها

(1)

"المفهم" 3/ 690.

(2)

راجع: "المغني" 7/ 300.

ص: 580

سهم واحد، وتقسم الأربعة على الناس، ثم يضرب بيده على السهم الذي عزله فما قبض عليه من شيء جعله للكعبة، ثم يقسم بقية السهم الذي عزله على خمسة، سهم للنبيّ صلى الله عليه وسلم، وسهم لذوي القربى، وسهم لليتامى، وسهم للمساكين، وسهم لابن السبيل.

[الثالث]: قال المنهال بن عمرو: سألت عبد الله بن محمد بن علي وعلي بن الحسين عن الخمس فقال: هو لنا، قلت لعلي: إن الله تعالى يقول: {وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} فقال: أيتامنا ومساكيننا.

[الرابع]: قال الشافعيّ: يقسم على خمسة، ورأى أن سهم الله ورسوله واحد، وأنه يُصرف في مصالح المؤمنين، والأربعة الأخماس على الأربعة الأصناف المذكورين في الآية.

[الخامس]: قال أبو حنيفة: يقسم على ثلاثة: اليتامى والمساكين وابن السبيل.

وارتفع عنده حُكم قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم بموته، كما ارتفع حُكم سهمه.

قالوا: ويُبدأ من الخمس بإصلاح القناطر، وبناء المساجد، وأرزاق القضاة والجند، وروي نحو هذا عن الشافعي أيضًا.

[السادس]: قال مالك: هو موكول إلى نظر الإمام واجتهاده، فيأخذ منه من غير تقدير، ويعطي منه القرابة باجتهاد، ويصرف الباقي في مصالح المسلمين، وبه قال الخلفاء الأربعة، وبه عملوا، وعليه يدل قوله صلى الله عليه وسلم:"ما لي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس، والخمس مردود عليكم"، فإنه لم يقسمه أخماسًا ولا أثلاثًا، وإنما ذُكر في الآية من ذُكر على وجه التنبيه عليهم؛ لأنهم من أهم من يُدفع إليه، قال الزّجاج محتجًا لمالك: قال الله: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [البقرة: 215]، وللرجل جائز بإجماع أن ينفق في غير هذه الأصناف إذا رأى ذلك.

وذكر النسائيّ عن عطاء قال: خُمس الله، وخُمس رسوله واحد، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يَحمل منه، ويعطي منه، ويضعه حيث شاء، ويصنع به

ص: 581

ما شاء. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: عندي أن ما ذهب إليه الإمام مالك رحمه الله من أن مرجع الخمس إلى رأي الإمام هو الأرجح؛ لأنه عمل النبيّ صلى الله عليه وسلم، والخلفاء بعده، كما دلّ عليه حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما المذكور في الباب، حيث قال:"إنا كنّا نقول: هو لنا، فأبى علينا قومنا ذلك"، والمراد من "قومنا" هم الخلفاء الراشدون رضي الله عنهم.

وقد أخرج النسائي بإسناد صحيح، عن قيس بن مسلم، قال: سألت الحسن بن محمد عن قوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} قال: هذا مَفَاتح كلام الله، الدنيا والآخرة لله، قال: اختلفوا في هذين السهمين بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم: سهم الرسول، وسهم ذي القربى، فقال قائل: سهم الرسول صلى الله عليه وسلم للخليفة من بعده، وقال قائل: سهم ذي القربى لقرابة الرسول صلى الله عليه وسلم، وقال قائل: سهم ذي القربى لقرابة الخليفة، فاجتمع رأيهم على أن جعلوا هذين السهمين في الخيل والعُدّة في سبيل الله، فكانا في ذلك خلافة أبي بكر، وعمر. انتهى

(2)

، والله تعالى أعلم.

وقوله: (إِذَا حَضَرُوا الْبَأْسَ) - بالباء الموحدة - وهو الشدة، والمراد هنا: الحرب، ومنه قوله تعالى:{سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ} [النحل: 81]، وأصل البأس: الشدّة، والمشقّة، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4681]

(

) - (وَحَدَّثَنِي أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، حَدَّثَنَا زَائِدَةُ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ الأَعْمَشُ، عَنِ الْمُخْتَارِ بْنِ صَيْفِيٍّ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ هُرْمُزَ، قَالَ: كَتَبَ نَجْدَةُ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، فَذَكَرَ بَعْضَ الْحَدِيث، وَلَمْ يُتِمَّ الْقِصَّةَ، كَإِتْمَامِ مَنْ ذَكَرْنَا حَدِيثَهُمْ).

(1)

"تفسير القرطبيّ" 8/ 10 - 11.

(2)

"سنن النسائي - المجتبى -" 7/ 133.

ص: 582

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(أَبُو كُرَيْبٍ) محمد بن العلاء الْهَمْدانيّ الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 247)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 117.

2 -

(أَبُو أُسَامَةَ) حمّاد بن أُسامة القرشيّ مولاهم، الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار [9](201)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 51.

3 -

(زَائِدَةُ) بن قُدامة الثقفيّ، أبو الصلت الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ سنّيّ [7](ت 160) أو بعدها (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 53.

4 -

(سُلَيْمَانُ الأَعْمَشُ) تقدّم قريبًا.

5 -

(الْمُخْتَارُ بْنُ صَيْفِيٍّ) - بفتح الصاد المهملة، وسكون التحتانيّة، بعدها فاء - الكوفيّ، مقبول [6].

رَوَى عن يزيد بن هرمز، عن ابن عباس رضي الله عنهما، وروى عنه الأعمش فقط، ذكره ابن حبان في "الثقات".

انفرد به المصنّف، وأبو داود، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط، وهو متابعة.

[فإن قلت]: كيف أخرج له مسلم، مع أنه لم يرو عنه إلا الأعمش، ولم يوثّقه إلا ابن حبّان، وقال عنه في "التقريب": مقبول؟.

[قلت]: إنما أخرج له متابعة لرواية محمد بن عليّ، وسعيد المقبريّ، وقيس بن سعد، عن يزيد بن هرمز، الماضية، فتنبّه.

والباقيان تقدّما قريبًا.

وقوله: (فَذَكَرَ بَعْضَ الْحَدِيثِ

إلخ) فاعل "ذَكَرَ" ضمير المختار بن صيفيّ.

وقوله: (كَإِتْمَامِ مَنْ ذَكَرْنَا حَدِيثَهُمْ)؛ يعني: محمد بن عليّ، وسعيدًا المقبريّ، وقيس بن سعد، والله تعالى أعلم.

[تنبيه]: رواية المختار بن صيفيّ، عن يزيد بن هرمز هذه ساقها أبو داود في "سننه"، فقال:

(2727)

- حدّثنا محبوب بن موسى أبو صالح، ثنا أبو إسحاق الفزاريّ، عن زائدة، عن الأعمش، عن المختار بن صيفيّ، عن يزيد بن هرمز، قال: كتب نَجدة إلى ابن عباس يسأله عن كذا وكذا، وذكر أشياء، وعن المملوك،

ص: 583

أله في الفيء شيء؟ وعن النساء، هل كُنّ يخرجن مع النبيّ صلى الله عليه وسلم؟ وهل لهنّ نصيب؟ فقال ابن عباس: لولا أن يأتي أُحموقة ما كتبت إليه، أمّا المملوك، فكان يُحْذَى، وأمّا النساء فقد كنّ يداوين الجرحى، ويسقين الماء. انتهى

(1)

.

[تنبيه آخر]: رواية المختار بن صيفيّ هذه التي ذكر مسلم أنها مختصرة، قد ساقها أبو عوانة في "مسنده" مطوّلةً مثل روايات الآخرين، فقال:

(6887)

- حدّثنا أبو أمية، قثنا معاوية بن عمرو، قثنا أبو إسحاق الفزاريّ، عن زائدة، قال معاوية: وقد سمعته من زائدة، عن الأعمش، عن المختار بن صيفيّ، عن يزيد بن هرمز، قال: كَتَب نجدة إلى ابن عباس يسأله عن اليتيم، متى ينقطع عنه اسم الْيُتْم؟ وعن قتل الولدان، وعن المملوك أله من الفيء شيء؟ وعن النساء، هل كن يخرجن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهل لهنّ نصيب من الفيء؟ وعن الخمس لمن هو؟ قال ابن عباس: لولا أن يأتي حُمُوقةً ما كتبت إليه، ثم كتب إليه: أما اليتيم فإذا احتَلَم، وأُونس منه رُشْدُه، فقد انقطع عنه اليتم، وأما الولدان، فإن كنت تعلم ما عَلِم الخضر، وإلا فلا تقتلهم، وأما المملوك، فقد كان يُحْذَى، وأما النساء فقد كُنّ يداوين الجرحى، ويسقين الماء، وأما الخُمس فنزعم أنه لنا، ويزعم قومنا أنه ليس لنا. انتهى

(2)

، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4682]

(1812 م) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثنَا عَبْدُ الرَّحِيمِ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ حَفْصَةَ بِنْتِ سِيرِينَ، عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ الأَنْصَارِيَّة، قَالَتْ: غَزَوْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم سَبْعَ غَزَوَاتٍ، أَخْلُفُهُمْ، فَأَصْنَعُ لَهُمُ الطَّعَامَ، وَأُدَاوِي الْجَرْحَى، وَأَقُومُ عَلَى الْمَرْضَى).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(عَبْدُ الرَّحِيمِ بْنُ سُلَيْمَانَ) الأشلّ الْكِنانيّ، أو الطائيّ، أبو عليّ المروزيّ، نزيل الكوفة، ثقةٌ، له تصانيف، من صغار [9](ت 187)(ع) تقدم في "الحيض" 26/ 817.

(1)

"سنن أبي داود" 3/ 74.

(2)

"مسند أبي عوانة" 4/ 335 - 336.

ص: 584

3 -

(هِشَامُ) بن حسّان الأزديّ الْقُرْدُوسيّ، أبو عبد الله البصريّ، ثقةٌ، من أثبت الناس في ابن سيرين [6](ت 7 أو 148)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 26.

4 -

(حَفْصَةُ بِنْتُ سِيرِينَ) الأنصاريّة أم الْهُذيل البصريّة، ثقةٌ [3] ماتت بعد المائة (ع) تقدمت في "العيدين" 2/ 2055.

5 -

(أُمُّ عَطِيَّةَ الأَنْصَارِيَّةُ) نُسيبة - بالتصغير، ويقال: بفتح أولها - بنت الحارث، أو بنت كعب صحابيّة مشهورة، سكنت البصرة رضي الله عنهما (ع) تقدمت في "العيدين" 2/ 2054.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسلٌ بالبصريين من هشام، والباقيان كوفيان.

شرح الحديث:

(عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ الأَنْصَارِيَّةِ) نسيبة بنت كعب، أو بنت الحارث رضي الله عنهما، أنها (قَالَتْ: غَزَوْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم سَبْعَ غَزَوَاتٍ) سيأتي في الباب التالي عدد غزوات النبيّ صلى الله عليه وسلم إن شاء الله تعالى - (أَخْلُفُهُمْ) بضمّ اللام، يقال: خَلَفت فلانًا على أهله وماله خِلافةً: إذا صرت خليفته. (فِي رِحَالِهِمْ) بكسر الراء: جمع رَحْل بفتح، فسكون، قال الفيّوميّ: رحلُ الشخص: مأواه في الحضر، ثمّ اُطلق على أمتعة المسافر؛ لأنها هناك مأواه. انتهى

(1)

.

والمعنى: أنها تقوم مقام الغزاة في منازلهم، وأمتعتهم.

(فَأَصْنَعُ لَهُمُ الطَّعَامَ، وَأُدَاوِي الْجَرْحَى، وَأَقُومُ عَلَى الْمَرْضَى)؛ أي: أقوم على خدمتهم، وأتولّى تمريضهم.

تعني بذلك المهمة التي تقوم بها النساء اللاتي يغزون مع الرجال، فهي هذه الأشياء، من صنع الطعام، ومداواة الجرحى، والقيام على المرضى، فإنهنّ يكفين الرجال الذين يباشرون القتال، ويُشغلون به من القيام بهذه الأشياء، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1)

"المصباح المنير" 1/ 222.

ص: 585

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أم عطيّة الأنصاريّة رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [46/ 4682 و 4683](1812 م)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(5/ 278)، و (ابن ماجه) في "الجهاد"(2/ 952)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(6/ 537)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 84)، و (ابن راهويه) في "مسنده"(5/ 211)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 333)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(25/ 55)، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4683]

(

) - (وَحَدَّثَنَا عَمْرٌو النَّاقِدُ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ حَسَّانَ، بِهَذَا الإِسْنَادِ نَحْوَهُ)

(1)

.

رجال هذا الإسناد: ثلاثة:

1 -

(عَمْرٌو النَّاقِدُ) هو: عمرو بن محمد بن بُكير البغداديّ، تقدّم قبل باب.

2 -

(يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ) الواسطيّ، تقدّم أيضًا قبل باب.

و"هشام بن حسّان" ذُكر قبله.

[تنبيه]: رواية يزيد بن هارون، عن هشام بن حسّان هذه لم أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(47) - (بَابُ عَدَدِ غَزَوَاتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

-)

قال الجامع عفا الله عنه: "الغَزَوَات" بالفتحات: جمع غَزوة - بفتح، فسكون - قال الفيّوميّ رحمه الله: غَزَوْتُ العدوَّ غَزْوًا، فالفاعل غَازٍ، والجمع: غُزَاةٌ، وغُزًّى، مثل قُضَاة، ورُكّع، وجمع الغُزَاةِ: غَزِيٌّ، على فَعِيل، مثلُ الْحَجِيج، والغَزْوَةُ: الْمَرَّة، والجمع: غَزَوَاتٌ، مثل شَهْوةٍ وشَهَوات، والمَغْزَاةُ

(1)

وفي نسخة: "بنحوه".

ص: 586

كذلك، والجمع: المَغَازِي، ويتعدى بالهمزة، فيقال: أَغْزَيْتُهُ: إذا بعثته يَغْزُو، وإنما يكون غَزْوُ العدوّ في بلاده. انتهى

(1)

.

وقال المجد رحمه الله: غزاه غَزْوًا بالفتح، وغَزَوانًا بالتحريك، وغَزَاوَةً، كشَقَاوة: أراده، وطلبه، وغزاه غَزْوًا: قصده، كاغتزاه، وغَزَا العدوّ يغزوهم: سار إلى قتالهم، وانتهابهم، وقال الراغب: خرج إلى محاربتهم، وهو غازٍ، جمعه: غُزًّى، كسابق وسُبَّقٍ، ومنه قوله تعالى:{أَوْ كَانُوا غُزًّى} ، وغُزِيٌّ، كَدُلِيٍّ، على فُعُولٍ، والْغَزِيّ، كغَنِيٍّ اسم جمع، وجعله الجوهري جمعًا، كقاطن وقَطِين، وحاجّ وحَجِيج، وأغزاه: حَمَله على الغزو، وفي "الصحاح": جَهّزه للغزو، كغَزّاه، بالتشديد. انتهى

(2)

.

وقال في "الفتح": والمغازي: جمع مَغْزًى، يقال: غزا يغزو غَزْوًا، ومَغْزًى، والأصل غَزْوٌ، والواحدة غَزْوةٌ، وغَزَاةٌ والميم زائدة، وعن ثعلب: الْغَزْوَة: المرة، والْغَزَاةُ عَمَلُ سنة كاملة، وأصل الغزو: القصد، ومَغْزَى الكلام: مَقْصَده، والمراد بالمغازي هنا ما وقع من قصد النبيّ صلى الله عليه وسلم الكفار بنفسه، أو بجيش مِن قِبَله، وقَصْدهم أعمّ من أن يكون إلى بلادهم، أو إلى الأماكن التي حَلُّوها، حتى دخل مثل أُحُد، والخندق. انتهى

(3)

.

وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4684]

(1254) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ - وَاللَّفْظُ لِابْنِ الْمُثَنَّى - قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ يَزِيدَ، خَرَجَ يَسْتَسْقِي بِالنَّاس، فَصَلَّى رَكْعَتَيْن، ثُمَّ اسْتَسْقَى، قَالَ: فَلَقِيتُ يَوْمَئِذٍ زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ، وَقَالَ: لَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ غَيْرُ رَجُلٍ، أَوْ بَيْنِي وَبَيْنَهُ رَجُلٌ، قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ: كَمْ غَزَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: تِسْعَ عَشْرَةَ، فَقُلْتُ: كَمْ غَزَوْتَ أَنْتَ مَعَهُ؟ قَالَ: سَبْعَ عَشْرَةَ غَزْوَةً، قَالَ: فَقُلْتُ: فَمَا أَوَّلُ غَزْةٍ غَزَاهَا؟ قَالَ: ذَاتُ الْعُسَيْر، أَوِ الْعُشَيْرِ).

(1)

"المصباح المنير" 2/ 447.

(2)

"تاج العروس" 1/ 8521.

(3)

"الفتح" 9/ 5، كتاب "المغازي" رقم (3949).

ص: 587

رجال هذا الإسناد: ستة:

وكلّهم تقدّموا قبل ثلاثة أبواب.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ) عمرو بن عبد الله السَّبِيعيّ (أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ يَزِيدَ) قال صاحب "التكملة"

(1)

: الظاهر أن المراد به: عبد الله بن يزيد بن زيد بن حُصين، كان أميرًا على الكوفة أيام ابن الزبير رضي الله عنه، وقد اختَلف العلماء في "صحبته، شَهِد الْجَمَل، وصِفّين على عليّ رضي الله عنه، وكان الشعبيّ كاتِبَه أيام إمرته على الكوفة، راجع "تهذيب التهذيب" (6/ 78). (خَرَجَ يَسْتَسْقِي)؛ أي: يطلب من الله تعالى السُّقيا، وقوله: (بِالنَّاسِ) تنازعه الفعلان قبله، (فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ) هما ركعتا الاستسقاء، وهما سنّتان على مذهب الجمهور، وخالف في ذلك أبو حنيفة، فقال: لا يُشرع للاستسقاء صلاة، وإنما هو دعاء، واستغفار، والصحيح مذهب الجمهور؛ لثبوته عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، في "الصحيحين"، وفي غيرهما، وقد تقدّم البحث في ذلك مستوفًى في محلّه، فراجعه تستفد، والله تعالى وليّ التوفيق.

(ثُمَّ اسْتَسْقَى)؛ أي: ثم دعا الله تعالى أن يسقيهم المطر. (قَالَ) أبو إسحاق (فَلَقِيتُ يَوْمَئِذٍ زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ) الصحابيّ الشهير رضي الله عنه، المتوفّى سنة (6 أو 68 هـ) تقدّم قريبًا. (وَقَالَ) أبو إسحاق:(لَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ)؛ أي: بين زيد رضي الله عنه (غَيْرُ رَجُلٍ، أَوْ) للشكّ من الراوي؛ أي: أو قال: (بَيْنِي وَبَيْنَهُ رَجُلٌ، قَالَ) أبو إسحاق (فَقُلْتُ لَهُ)؛ أي: لزيد رضي الله عنه، (كَمْ غَزَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: تِسْعَ عَشْرَةَ) كذا قال، ومراده الغزوات التي خرج النبيّ صلى الله عليه وسلم فيها بنفسه، سواء قاتل، أو لم يقاتل، لكن رَوَى أبو يعلى، من طريق أبي الزبير، عن جابر: أن عدد الغزوات إحدى وعشرون، وإسناده صحيح، وأصله عند مسلم في حديث جابر الآتي بعدُ، فعلى هذا، ففات زيد بن أرقم ذِكْر ثنتين منها، وهما غزوتا الأَبْواء وبُوَاط؛ لأنه جعل العُشيرة أول الغزوات، مع أنها ثالثها، وكأن الغزوتين

(1)

"تكملة فتح الملهم" 3/ 261 - 262.

ص: 588

الأوليين خَفِيتا عليه؛ لصغره، ويؤيد ذلك ما يأتي هنا بلفظ:"قلت: ما أول غزوة غزاها؟ قال: ذات العشير، أو العشيرة"، والعشيرة هي الثالثة، وقد تقدّم تمام البحث في هذا في "كتاب الحجّ" برقم [32/ 3036](1254).

قال أبو إسحاق: (فَقُلْتُ: كَمْ غَزَوْتَ أَنْتَ مَعَهُ؟ قَالَ) زيد رضي الله عنه (سَبْعَ عَشْرَةَ غَزْوَةً، قَالَ) أبو إسحاق (فَقُلْتُ: فَمَا أَوَّلُ غَزْوَةٍ غَزَاهَا؟ قَالَ: ذَاتُ الْعُسَيْر، أَوِ الْعُشَيْرِ) قال النوويّ رحمه الله: هكذا في جميع نسخ "صحيح مسلم": "العُسير، أو العشير" بالعين المضمومة، والأول بالسين المهملة، والثاني بالمعجمة، وقال القاضي عياض في "المشارق": هي ذات العشيرة، بضم العين، وفتح الشين المعجمة، قال: وجاء في "كتاب المغازي" - يعني من "صحيح البخاريّ": "عَسِير" بفتح العين، وكسر السين المهملة، بحذف الهاء، قال: والمعروف فيها: "العُشيرة" مصغرةً، بالشين المعجمة، والهاء، قال: وكذا ذكرها أبو إسحاق، وهي من أرض مَذْحِج. انتهى

(1)

.

وقال ابن هشام رحمه الله في "السيرة": ثم غزا قريشًا، فاستعمل على المدينة أبا سلمة بن عبد الأسد، قال ابن إسحاق: فسلك على نَقَب بني دينار، ثم على فَيْفَاء الْخَبَار، فنزل تحت شجرة ببطحاء ابن أزهر، يقال لها: ذات الساق فصلى عندها، وصُنع له عندها طعام، فأكل منه، وأكل الناس معه، فموضع أثافي الْبُرْمة معلوم هنالك، واستُقي له من ماء به، يقال له: الْمُشْتَرِب، ثم ارتحل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فترك الخلائق بيسار، وسلك شُعْبةً يقال لها: شعبة عبد الله، وذلك اسمها اليومَ، ثم صَبّ لليسار، حتى هَبَط يَلِيل، فنزل بمُجْتَمَعِه، ومُجْتَمَع الضبُوعة، واستقى من بئرٍ بالضبوعة، ثم سلك الْفَرْشَ فَرْشَ مَلَل، حتى لقي الطريق بصُحَيرات اليمام، ثم اعتَدَل به الطريق حتى نزل الْعُشيرة من بطن ينبع، فأقام بها جمادى الأولى، وليالي من جمادى الآخرة، ودعا فيها بني مُدْلِج، وحلفاءهم من بني ضَمْرة، ثم رجع إلى المدينة، ولم يلق كَيْدًا. انتهى

(2)

.

وفي رواية البخاريّ: "قال: الْعُشَير، أو الْعُسَيْرة"، وزاد:"فذكرت لقتادة، فقال: الْعُشَيرة" انتهى.

(1)

"شرح النوويّ" 12/ 195.

(2)

"سيرة ابن هشام" 1/ 598.

ص: 589

قال في "الفتح": قوله: "العُشير، أو العُسيرة" كذا بالتصغير، والأول بالمعجمة بلا هاء، والثانية بالمهملة، وبالهاء، ووقع في الترمذيّ:"العُشير، أو العُسير" بلا هاء فيهما. انتهى.

وقوله: "فذكرت لقتادة" القائل هو شعبة، وقول قتادة:"العشيرة" هو بالمعجمة، وبإثبات الهاء، ومنهم من حذفها، وقول قتادة هو الذي اتَّفَقَ عليه أهل السير، وهو الصواب، وأما غزوة الْعُسيرة بالمهملة، فهي غزوة تبوك، قال الله تعالى:{الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ} [التوبة: 117]، وسُمّيت بذلك؛ لما كان فيها من المشقّة، وهي بغير تصغير، وأما هذه فنُسبت إلى المكان الذي وصلوا إليه، واسمه العشير، أو العشيرة، يذكّر، ويؤنّث، وهو موضع.

وذكر ابن سعد أن المطلوب في هذه الغزاة هي عِير قريش التي صَدَرت من مكة إلى الشام بالتجارة، ففاتهم، وكانوا يترقبون رجوعها، فخرج النبيّ صلى الله عليه وسلم يتلقاها؛ ليغنمها، فبسبب ذلك كانت وقعة بدر.

قال ابن إسحاق: فإن السبب في غزوة بدر ما حدّثني يزيد بن رُومان، عن عروة، أن أبا سفيان كان بالشام في ثلاثين راكبًا، منهم مَخرمة بن نَوفل، وعمرو بن العاص، فأقبلوا في قافلة عظيمة، فيها أموال قريش، فنَدَب النبيّ صلى الله عليه وسلم إليهم، وكان أبو سفيان يتجسس الأخبار، فبلغه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم استنفر أصحابه بقصدهم، فأرسل ضمضم بن عمرو الغِفَاريّ إلى قريش بمكة، يُحرِّضهم على المجيء؛ لحفظ أموالهم، ويُحَذِّرهم المسلمين، فاستنفرهم ضمضم، فخرجوا في ألف راكب، ومعهم مائة فرس، واشتدّ حذر أبي سفيان، فأُخذ طريق الساحل، وجدّ في السير، حتى فات المسلمين، فلما أَمِنَ أرسل إلى من يلقى قريشًا يأمرهم بالرجوع، فامتنع أبو جهل من ذلك، فكان ما كان من وقعة بدر. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1)

"الفتح" 9/ 8 - 9، كتاب "المغازي" رقم (3949).

ص: 590

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث زيد بن أرقم رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه

(1)

:

أخرجه (المصنّف) هنا [47/ 4684 و 4685]، (1254)، وتقدّم في "كتاب الحجّ" برقم [32/ 3036](1254)، و (البخاريّ) في "المغازي"(3949 و 4404 و 4471)، و (الترمذي) في "فضائل الجهاد"(1676)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(682)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(1/ 350 - 351)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 368 و 370 و 371، 372 و 374)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(5042 و 5043 و 5044 و 5045 و 5046 و 5047 و 5048)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6283)، و (الفسويّ) في "المعرفة والتاريخ"(2/ 629)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 356)، و (أبو نعيم) في "الحلية"(4/ 343)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(3/ 347) و"دلائل النبوّة"(5/ 453 و 460)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في اختلاف أهل السِّيَر في أول غزواته صلى الله عليه وسلم:

قال البخاريّ رحمه الله في "صحيحه": "قال ابن إسحاق: أولُ ما غزا النبيّ صلى الله عليه وسلم الأبواء، ثمّ بواطٌ، ثم الْعُشيرة".

قال في "الفتح": قوله: "قال ابن إسحاق: أول ما غزا النبيّ صلى الله عليه وسلم الأبواء، ثم بُواط، ثم العشيرة" قال: "الأبواء" بفتح الهمزة، وسكون الموحّدة، وبالمدّ: قرية من عَمَل الْفُرْع، بينها وبين الْجُحْفة من جهة المدينة ثلاثة وعشرون ميلًا، قيل: سُمّيت بذلك؛ لِمَا كان فيها من الوباء، وهي على القلب، وإلا لقيل: الأوباء.

والذي وقع في مغازي ابن إسحاق ما صورته: غزوة وَدّان - بتشديد المهملة - قال: وهي أول غزوات النبيّ صلى الله عليه وسلم خرج من المدينة في صفر، على رأس اثني عشر شهرًا، من مَقْدَمه المدينة، يريد قُريشًا، فوادع بني ضَمْرة بن بكر بن عبد مناة، من كنانة، وادعه رئيسهم مَجْديّ بن عمرو الضمريّ، ورجع

(1)

قد تقدّم تخريجه في كتاب "الحجّ"، وإنما أعدته لأن فيه زيادات في التخريج، فتنبّه.

ص: 591

بغير قتال، قال ابن هشام: وكان قد استعمل على المدينة سعد بن عبادة. انتهى.

وليس بين ما وقع في "السيرة" وبين ما نقله البخاريّ عن ابن إسحاق اختلاف؛ لأن الأبواء ووَدّان مكانان متقاربان، بينهما ستة أميال، أو ثمانية، ولهذا وقع في حديث الصعب بن جَثّامة، وهو بالأبواء، أو بوَدّان، كما تقدم في "كتاب الحج".

ووقع في مغازي الأمويّ: حدّثني أبي، عن ابن إسحاق، قال: خرج النبيّ صلى الله عليه وسلم غازيًا بنفسه، حتى انتهى إلى وَدّان، وهي الأبواء.

وقال موسى بن عقبة: أول غزوة غزاها النبيّ صلى الله عليه وسلم يعني: بنفسه - الأبواء.

وفي الطبراني من طريق كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف، عن أبيه، عن جدّه، قال: أول غزاة غزوناها مع النبيّ صلى الله عليه وسلم الأبواء، وأخرجه البخاريّ في "التاريخ الصغير" عن إسماعيل، وهو ابن أبي أويس، عن كثير بن عبد الله مقتصرًا عليه، وكثير ضعيف عند الأكثر، لكن البخاريّ مَشّاه، وتبعه الترمذيّ.

وذكر أبو الأسود في "مغازيه" عن عروة، ووصله ابن عائذ، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لمّا وصل إلى الأبواء بَعَث عبيدة بن الحارث في ستين رجلًا، فلقوا جمعًا من قريش، فتراموا بالنبل، فرمى سعد بن أبي وقاص بسهم، وكان أول مَن رَمَى بسهم في سبيل الله.

وعند الأمويّ يقال: إن حمزة بن عبد المطلب أول من عَقَد له رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإسلام رايةً، وكذا جزم به موسى بن عقبة، وأبو معشر، والواقديّ، في آخرين، قالوا: وكان حامل رايته أبو مَرْثد، حليف حمزة، وذلك في شهر رمضان من السنة الأولى، وكانوا ثلاثين رجلًا؛ ليعترضوا عير قريش، فلقوا أبا جهل في جَمْع كثير، فحجز بينهم مَجْديّ.

وأما "بواط" - فبفتح الموحّدة، وقد تُضمّ، وتخفيف الواو، وآخره مهملة -: جبل من جبال جهينة، بقرب ينبع، قال ابن إسحاق: ثم غزا في شهر ربيع الأول، يريد قريشًا أيضًا حتى بلغ بُواط، من ناحية رَضْوَى، ورجع، ولم يلق أحدًا، ورَضْوَى - بفتح الراء، وسكون المعجمة، مقصورًا -: جبلٌ مشهورٌ

ص: 592

عظيمٌ بينبع، قال ابن هشام: وكان استَعْمَل على المدينة السائب بن عثمان بن مظعون، وفي نسخة: السائب بن مظعون، وعليه جرى السُّهيليّ، وقال الواقديّ: سعد بن معاذ.

وأما "العشيرة" فلم يُخْتَلف على أهل المغازي أنها بالمعجمة، والتصغير، وآخرها هاء، قال ابن إسحاق: هي ببطن ينبع، وخرج إليها في جمادى الأولى، يريد قريشًا أيضًا، فوادع فيها بني مُدلِج، من كنانة، قال ابن هشام: استَعْمل فيها على المدينة أبا سلمة بن عبد الأسد، وذكر الواقديّ أن هذه السّفَرات الثلاث، كان يخرج فيها ليلتقي تجار قريش، حين يمرون إلى الشام ذهابًا وإيابًا، وبسبب ذلك أيضًا كانت وقعة بدر، وكذلك السرايا التي بعثها قبل بدر.

قال ابن إسحاق: ولمّا رجع إلى المدينة، لم يُقِم إلا ليالي، حتى أغار كُرْز بن جابر الفِهْريّ على سَرْح المدينة، فخرج النبيّ صلى الله عليه وسلم في طلبه حتى بلغ سَفَران - بفتح المهملة، والفاء - من ناحية بدر، ففاته كُرز بن جابر، وهذه هي بدر الأولى.

وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضًا سرية عبد الله بن جحش أخي زينب أم المؤمنين، في السنة الثانية قبل وقعة بدر، فلقوا عمرو بن الحضرميّ، ومعه عِير - أي: تجارة - لقريش، فقتلوه، فكان أول مقتول من الكفار في الإسلام، وذلك في أول يوم من رجب، وغَنِموا ما كان معهم، فكانت أول غنيمة في الإسلام، فعاب عليهم المشركون ذلك، فأنزل الله تعالى:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ} الآية [البقرة: 217].

[فائدة]: قال الزهري: أول آية نزلت في القتال - كما أخبرني عروة، عن عائشة -:{أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} الآية [الحج: 39]، أخرجه النسائيّ، وإسناده صحيح، وأخرج هو، والترمذيّ، وصححه الحاكم، من طريق سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما: قال: لما خرج النبيّ صلى الله عليه وسلم من مكة، قال أبو بكر: أخرجوا نبيّهم، لَيَهْلِكُنّ، فنزلت:{أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ} الآية، قال ابن عباس: فهي أول آية أُنزلت في القتال، وذكر غيره أنهم أُذن لهم في قتال من قاتَلهم بقوله تعالى:{وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} [البقرة: 190]،

ص: 593

ثم أُمروا بالقتال مطلقًا بقوله تعالى: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا} الآية [التوبة: 41]، والله تعالى أعلم.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل السِّيَر في عدد غزوات النبيّ صلى الله عليه وسلم: قال النوويّ رحمه الله: قد اختَلَف أهل المغازي في عدد غزواته صلى الله عليه وسلم، وسراياه، فذكر ابن سعد وغيره عددهنّ مفصّلات على ترتيبهنّ، فبلغت سبعًا وعشرين غَزاةً، وستًّا وخمسين سريةً، قالوا: قاتَل في تسع من غزواته، وهي: بدرٌ، وأُحُدٌ، والْمُرَيسِيع، والخندق، وقريظة، وخيبر، والفتح، وحنين، والطائف، هكذا عدّوا الفتح فيها، وهذا على قول من يقول: فُتِحَت مكة عَنْوَةً، وقد قدَّمنا بيان الخلاف فيها، ولعل بُريدة رضي الله عنه أراد بقوله:"قاتَل في ثمان" إسقاط غَزَاة الفتح، ويكون مذهبه أنها فُتحت صلحًا، كما قاله الشافعيّ، وموافقوه. انتهى

(1)

.

وقال في "الفتح" عند قول البراء رضي الله عنه: "تسع عشرة": كذا قال، ومراده الغزوات التي خرج النبيّ صلى الله عليه وسلم فيها بنفسه، سواء قاتَل، أو لم يقاتِل، لكن رَوَى أبو يعلى من طريق أبي الزبير، عن جابر رضي الله عنه أن عدد الغزوات إحدى وعشرون، وإسناده صحيح، وأصله في مسلم، فعلى هذا، ففات زيد بن أرقم ذكر ثنتين منها، ولعلّهما الأبواء، وبواط، وكأن ذلك خَفِي عليه لِصِغَره، ويؤيد ذلك ما وقع عند مسلم بلفظ:"قلت: ما أول غزوة غزاها؟ قال: ذات العشير، أو العشيرة". انتهى، والعشيرة كما تقدم هي الثالثة.

وأما قول ابن التين: يُحْمَل قول زيد بن أرقم على أن العشيرة أول ما غزا هو؛ أي: زيد بن أرقم، والتقدير: فقلت: ما أول غزوة غزاها؛ أي: وأنت معه، قال:"العشير"، فهو مُحْتَمِلٌ أيضًا، ويكون قد خَفِي عليه اثنتان مما بعد ذلك، أو عَدّ الغزوتين واحدةً، فقد قال موسى بن عقبة: قاتَل رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه في ثمان: بدر، ثم أُحُد، ثم الأحزاب، ثم المصطلِق، ثم خيبر، ثم مكة، ثم حُنين، ثم الطائف. انتهى، وأهمل غزوة قُريظة؛ لأنه ضَمّها إلى الأحزاب؛ لكونها كانت في إثرها، وأفردها غيره؛ لوقوعها منفردة بعد هزيمة

(1)

"شرح النوويّ 12/ 195.

ص: 594

الأحزاب، وكذا وقع لغيره عَدّ الطائف، وحُنين واحدةً؛ لتقاربهما، فيجتمع على هذا قول زيد بن أرقم، وقول جابر.

وقد توسَّع ابن سعد، فبَلَّغَ عِدّة المغازي التي خرج فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه سبعًا وعشرين، وتَبِعَ في ذلك الواقديّ، وهو مطابق لِمَا عدّه ابن إسحاق، إلا أنه لم يُفرد وادي القرى من خيبر، أشار إلى ذلك السُّهيليّ، وكأن الستة الزائدة من هذا القبيل، وعلى هذا يُحْمَل ما أخرجه عبد الرزاق بإسناد صحيح، عن سعيد بن المسيِّب، قال: غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعًا وعشرين، وأخرجه يعقوب بن سفيان، عن سلمة بن شَبيب، عن عبد الرزاق، فزاد فيه أن سعيدًا قال أوّلًا: ثماني عشرة، ثم قال: أربعًا وعشرين، قال الزهريّ: فلا أدري أَوْهَم، أو كان شيئًا سمعه بعدُ.

قال الحافظ: وحَمْله على ما ذكرته يدفع الوهم، وَيجمع الأقوال، والله أعلم.

وأما البعوث والسرايا: فَعَدّ ابن إسحاق ستًّا وثلاثين، وعَدّ الواقديّ ثمانيًا وأربعين، وحَكَى ابن الجوزيّ في "التلقيح" ستًّا وخمسين، وعَدّ المسعوديّ ستين، وبلّغها العراقيّ في "نظم السيرة" زيادة على السبعين، ووقع عند الحاكم في "الإكليل" أنها تزيد على مائة، فلعله أراد ضمّ المغازي إليها. انتهى

(1)

.

وقد عقد الحافظ العراقيّ رحمه الله في عدد غزواته صلى الله عليه وسلم فصلًا، فقال:

ذكرُ عدد مغازيه صلى الله عليه وسلم:

سَبْعًا وَعِشْرِينَ اعْدُدَنَّ الْغَزْوَا

أَوَّلُهَا وَدَّانُ وَهْيَ الأَبْوَا

ثُمَّ بُواطُ بَعْدَها العُشَيْرا

فبدرٌ الأُولى فبدرُ الكبرى

فَقَيْنُقَاعُ فَالسَّوِيقُ غَطَفَانْ

وَهْيَ فَذُو أَمَرّ فَغَزْوُ بُحْرَانْ

فَأحُدٌ بَعْدُ فَحمْرَاءُ الأَسَدّْ

ثُمَّ بَنُو النَّضِيرِ ثُمَّ فِي الْعَدَدْ

ذَاتُ الرِّقَاعِ ثُمَّ بَدْرُ الْمَوْعِدِ

فَدُومَةٌ فَالْخَنْدَقَ اذْكُرْ وَاعْدُدِ

قُرَيظَةٌ لِحْيَانُ ثُمَّ ذُو قَرَدَ

ثُمَّ الْمُرَيْسِيعُ عَلَى الْقَوْلِ الأَسَدّْ

ثُمَّ تَلِيهَا عُمْرَةُ الْحُدَيْبِيَهْ

فَخَيْبَرٌ فَعُمْرَةُ الْقَضِيَّهْ

فَفتْحُ مَكَّةَ حُنَيْن وَتَلَا

غَزَاةُ طَائِفٍ تَبُوكَ قَاتَلَا

(1)

"الفتح" 9/ 7 - 8، كتاب "المغازي" رقم (3949).

ص: 595

مِنْهَا بِتِسْعٍ أُحُدٍ وَالْخَنْدَقِ

بَدْرٍ بَنِي قُرَيْظَةَ الْمُصْطَلِقِ

خَيْبَرَ وَالْفَتْحِ حُنَيْنٍ طَائِفِ

وَقَدْ حَكَوْا عَنْ قَوْلِ بَعْضِ السَّلَفِ

بِأَنَّهُ قَاتَلَ فِي النَّضِيرِ

وَغَابَةِ وَادِي الْقُرَى الْمَشْهُورِ

ثم ذكرُ بعوثه، وسراياه صلى الله عليه وسلم، فقال:

عِدَّتَهَا مِنْ بَعْثٍ أوْ سَرِيِّةِ

سِتُّونَ فَالأَوَّلُ بَعْثُ حَمْزَةِ

إلى أن قال في آخر الباب:

وَاخْتَلَفُوا فِي عَدِّهَا فَالأَكْثَرُ

عَنْ قَدْرِ مَا عَدَدْتُ مِنْهَا قَصَّرُوا

وَلابْنِ نَصْرٍ عَالِمٍ جَلِيلِ

بَلْ فَوْقَ سَبْعِينَ وَفِي الإِكْلِيلِ

أَنَّ الْبُعُوثَ عَدُّهَا فَوْقَ الْمِائَهْ

وَلَمْ أَجِدْ ذَا لِسِوَاهُ ابْتَدَأَهْ

والله تعالى أعلم.

وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4685]

(

) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ، حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، عَنْ أَبِي إسْحَاقَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ، سَمِعَهُ مِنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم غَزَا تِسْعَ عَشْرَةَ غَزْوَةً، وَحَجَّ بَعْدَمَا هَاجَرَ حَجَّةً، لَمْ يَحُجَّ غَيْرَهَا، حَجَّةَ الْوَدَاعِ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ آدَمَ) بن سليمان الأمويّ مولاهم، أبو زكريّاء الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ فاضلٌ، من كبار [9](ت 203)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 24.

2 -

(زُهَيْرُ) بن معاوية بن حُديج الجعفي، أبو خيثمة الكوفيّ، نزيل الجزيرة، ثقة ثبتٌ إلا أن سماعه من أبي إسحاق بآخره [7](ت 2 أو 3 أو 174)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 62.

والباقون ذُكروا في السند الماضي، وقبله بإسناد.

[تنبيه]: وقع اختلاف في هذا السند، فوقع في نسخة شرح النوويّ ما نصّه:"وحدّثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدّثنا يحيى بن آدم، حدّثنا وهيب، عن أبي إسحاق، عن زيد بن أرقم"، فقال النووي: هكذا هو في أكثر نسخ بلادنا: "وهيب، عن أبي إسحاق"، وفي بعضها:"زهير، عن أبي إسحاق"، ونقل القاضي عياض أيضًا الاختلاف فيه، قال: وقال عبد الغنيّ: الصواب: زهير،

ص: 596

وأما وُهيب فخطأ، قال: لأنّ وُهيبًا لم يَلْقَ أبا إسحاق، وذكر خلف في "الأطراف"، فقال:"زهير"، ولم يذكر وهيبًا. انتهى

(1)

.

وقال الحافظ الجيّانيّ رحمه الله في "التقييد" بعد أن ساق سند مسلم المذكور آنفًا ما نصّه: هكذا رُوي في هذا الإسناد عن الكساليّ على الصواب، وفي نسخة السجزيّ، والرازيّ، عن أبي أحمد: حدّثنا يحيى بن آدم، قال: نا وُهيب، وكذلك كان في نسخة أبي العلاء بن ماهان، فغيّره، وأُخبرتُ عن أحمد بن عبد الله بن عليّ الباجيّ قال: كان عند أبي العلاء بن ماهان: وُهيب، فأصلحه زُهير، وكذلك كان في نسخة ابن الحذّاء: زُهير، على ما كان أصلحه أبو العلاء، وقال أبو محمد عبد الغنيّ بق سعيد: الصواب: زُهير، ووُهيب خطأ؛ لأن وُهيبًا لم يلق أبا إسحاق. انتهى

(2)

، وهو تحقيقٌ نفيس، والله تعالى أعلم.

وقوله: (وَحَجَّ بَعْدَمَا هَاجَرَ)؛ أي: من مكة إلى المدينة.

وقوله: (حَجَّةً، لَمْ يَحُجَّ غَيْرَهَا)؛ أي: حجة واحدة، قال في "الفتح"؛ يعني: ولا حج قبلها، إلا أن يريد نفي الحج الأصغر، وهو العمرة فلا، فإنه اعتمر قبلها قطعًا. انتهى

(3)

.

وقوله: (حَجَّةَ الْوَدَاعِ) بالنصب على البدليّة من "حجّةً"، وسُمّيت بهذا الاسم؛ لتوديع النبيّ صلى الله عليه وسلم الناس فيها.

[تنبيه]: زاد في رواية البخاريّ في آخر الحديث ما نصّه: "قال أبو إسحاق: وبمكة أخرى"، قال في "الفتح": هو موصول بالإسناد المذكور، وغَرَض أبي إسحاق أن لقوله:"بعدما هاجر" مفهومًا، وأنه قبل أن يهاجر كان قد حجّ، لكن اقتصاره على قوله:"أخرى" قد يوهم أنه لم يحجّ قبل الهجرة إلا واحدة، وليس كذلك، بل حجّ قبل أن يهاجر مرارًا، بل الذي لا أرتاب فيه أنه لم يترك الحجّ، وهو بمكة قطّ؛ لأن قريشًا في الجاهلية لم يكونوا يتركون الحجّ، وإنما يتأخر منهم عنه من لم يكن بمكة، أو عاقه ضَعف، وإذا كانوا

(1)

"شرح النوويّ" 12/ 195 - 196.

(2)

"تقييد المهمل" 3/ 882.

(3)

"الفتح" 9/ 550 رقم (4404).

ص: 597

وَهُمْ على غير دين يحرصون على إقامة الحجّ، ويرونه من مفاخرهم التي امتازوا بها على غيرهم من العرب، فكيف يُظَنّ بالنبيّ صلى الله عليه وسلم أنه يتركه؟ وقد ثبت من حديث جُبير بن مُطْعِم أنه رآه في الجاهلية واقفًا بعرفة، وأن ذلك من توفيق الله له، وثبت دعاؤه قبائل العرب إلى الإسلام بمنى ثلاث سنين متوالية. انتهى، وهو تحقيقٌ نفيسٌ جدًّا، والحديث متّفقٌ عليه، وقد مرّ شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، ولله الحمد والمنّة.

[تنبيه آخر]: عَقَد الحافظ العراقيّ: رحمه الله فصلًا لبيان عدد حَجِّه صلى الله عليه وسلم، وعُمَره، فقال:

قَدْ حَجَّ بَعدَ هِجرَةٍ لِطَيبَةِ

سَنَةَ عَشْر قَطْ بِغيرِ مِرَيةِ

واعتَمَرَ النبيُّ بَعدَ الهجرَةِ

أربعَةً والكُلُّ في ذي القَعْدَةِ

إلا التي في حَجَّةِ الوَدَاعِ

قَرَنَهَا لَمْ يَخْلُ مِنْ نِزَاعِ

أوَّلُهَا سَنَةَ يسِتّ صُدَا

فيهَا عن البَيتِ فَحَلَّ قَصْدَا

كَانَتْ بِهَا بَيْعَتُهُ المَرضِيَّهْ

ثم تَليهَا عُمرَةُ القَضِيَّهْ

سَنةَ سَبع بَعدَهَا الجِعْرانَهْ

عَامَ ثمانٍ واعدُدَنْ قرَانَهْ

ولم يَعُدَّ مَالِكٌ ذي الرَّابِعَهْ

وقالَ حَجَّ مُفرَدًا وتابَعَهْ

بَعضُهُمُ وَحَجَّ قَبلَ الهجرَهْ

ثِنتَينِ أو أكثرَ أو فَمَرَّهْ

ولمْ يَصِحَّ عَدَدُ الحَجَّاتِ

مِن قَبلِ هِجرَةٍ ولا العُمْرَاتِ

والله تعالى أعلم.

وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4686]

(1813) - (حَدَّثنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ، حَدَّثنَا زَكَرِيَّاءُ، أَخْبَرَنَا أَبُو الزُّبَيْر، أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ الله، يَقُولُ: غَزَوْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم تِسْعَ عَشْرَةَ غَزْوَةً، قَالَ جَابِرٌ: لَمْ أَشْهَدْ بَدْرًا، وَلَا أُحُدًا، مَنَعَنِي أَبِي، فَلَمَّا قُتِلَ عَبْدُ اللهِ يَوْمَ أُحُدٍ، لَمْ أتخَلَّفْ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي غَزْوَةٍ قَطُّ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) أبو خيثمة، تقدّم قريبًا.

ص: 598

2 -

(رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ) بن العلاء بن حسّان القيسيّ، أبو محمد البصريّ، ثقةٌ فاضلٌ، له تصانيف [9](ت 5 أو 207)(ع) تقدم في "الإيمان" 90/ 476.

3 -

(زَكَرِيَّاءُ) بن إسحاق المكيّ، ثقة رُمي بالقدر [6](ع) تقدم في "الإيمان" 7/ 130.

4 -

(أَبُو الزُّبَيْرِ) محمد بن مسلم بن تَدْرُس المكيّ، صدوقٌ يُدلّس [4](ت 126)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 119.

5 -

(جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) بن عمرو بن حرام رضي الله عنهما، تقدّم قريبًا.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد.

أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسلٌ بالتحديث، والإخبار، والسماع.

شرح الحديث:

عن أبي الزُّبَيْرِ محمد بن مسلم (أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ) رضي الله عنهما (يَقُولُ: غَزَوْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم تِسْعَ عَشْرَةَ غَزْوَةً، قَالَ جَابِرٌ) رضي الله عنه (لَمْ أَشْهَدْ بَدْرًا، وَلَا أُحُدًا) قال القاضي عياض رحمه الله: كذا في رواية مسلم أن جابرًا لم يشهدهما، وقد ذكر أبو عبيد أنه شهد بدرًا، قال ابن عبد البرّ: الصحيح أنه لم يشهدهما، وقد ذكر ابن الكلبيّ أنه شهد أُحُدًا. انتهى.

وأخرج الحاكم في "المستدرك" عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر رضي الله عنه قال: كنت أمْتَحُ لأصحابي يوم بدر من القَليب.

ثم أخرج بسنده عن الواقديّ أنه قال: هذا غلط من رواية أهل العراق

(1)

؛ يعني: أن جابرًا رضي الله عنه لم يشهد بدرًا، وعلّق الذهبي على كلام الواقدّي هذا في "تاريخه"، فقال: صدق، فإن زكريّا بن إسحاق روى عن أبي الزبير، عن جابر قال: لم أشهد بدرًا، ولا أُحُدًا

الحديث المذكور عند مسلم هنا.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قول جابر رضي الله عنه: "لم أشهد بدرًا، ولا أُحُدًا" هذا هو الصحيح، وقد ذكر ابن الكلبيّ أنه شهد أُحُدًا، وليس بشيء. انتهى

(2)

.

(1)

"المستدرك على الصحيحين" 5/ 321.

(2)

"المفهم" 3/ 692.

ص: 599

وقوله أيضًا: (تِسْعَ عَشْرَةَ غَزْوَةً، قَالَ جَابِرٌ: لَمْ أَشْهَدْ بَدْرًا، وَلَا أُحُدًا) قال النوويّ رحمه الله: هذا صريح منه بأن غزوات رسول الله صلى الله عليه وسلم لم تكن منحصرة في تسع عشرة، بل زائدة، وإنما مراد زيد بن أرقم، وبُريدة رضي الله عنهما بقولهما:"تسع عشرة" أن منها تسع عشرة، كما صَرَّح به جابر رضي الله عنه، فقد أخبر جابر أنها إحدى وعشرون، كما ترى، وقد قدمنا أنها سبع وعشرون، وأما قوله في الرواية الأخرى، عن بريدة:"ست عشرة غزوةً"، فليس فيه نفي الزيادة. انتهى

(1)

.

(مَنَعَنِي أَبِي)؛ أي: لأجل أن يقوم على أخواته، ففي رواية قال:"كان يُخلّفني على أخواتي، وكنّ تسعًا"، وقال القرطبيّ رحمه الله: سبب منع أبيه له أنه كان لجابر أخوات، ولم يكن لأبيه من يقوم عليهنّ غيره، فحبسه عن الغزو لذلك، كما جاء في الرواية الأخرى

(2)

.

وأبو جابر هو: عبد الله بن حرام بن ثعلبة بن حرام الأنصاريّ الخزرجيّ السَّلَميّ الصحابيّ المشهور، معدود في أهل العقَبَة وبدر، وكان من النقباء، واستُشهد بأُحُد، ثبت ذِكْره في "الصحيحين" من حديث وَلَدِه، قال: لمّا قُتل أبي يوم أُحد، جعلت أكشف الثوب عن وجهه

الحديث، وفيه:"ما زالت الملائكة تُظله بأجنحتها"، ورَوَى الترمذيّ من حديث جابر: لقيني النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال:"يا جابر ما لي أراك منكسرًا؟ " فقلت: يا رسول الله قُتل أبي، وترك دَينًا، وعيالًا، فقال: "ألا أُخبرك؟ ما كلم الله أحدًا قط إلا من وراء حجاب، وكلم أباك كَفَاحًا، قال: يا عبدي سلني أعطك

" الحديث.

وقال جابر: حَوَّلت أبي بعد ستة أشهر، فما أنكرت منه شيئًا إلا شَعَرات من لحيته، كانت مستها الأرض.

ورَوَى مالك في "الموطأ" عن عبد الرحمن بن أبي صَعْصعة، أنه بلغه أن عمرو بن الْجَمُوح، وعبد الله بن عمرو بن حرام كانا قد حَفَر السَّيل عن قبرهما، وكانا في قبر واحد، مما يلي السيل، فحَفَر عنهما، فوُجدا لم يتغيرا، كأنهما ماتا بالأمس، وكان أحدهما وَضَع يده على جرحه، فدُفن، وهو كذلك،

(1)

"شرح النوويّ" 12/ 196.

(2)

"المفهم" 3/ 693.

ص: 600

فأُمطيت يده عن جرحه، ثم أُرسلت، فرجعت كما كانت، وكان بين الوقتين ست وأربعون سنة

(1)

.

(فَلَمَّا قُتِلَ عَبْدُ اللهِ يَوْمَ أُحُدٍ، لَمْ أتخَلَّفْ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي غَزْوةٍ قَطُّ)؛ يعني: أنه لَمّا مات أبوه تمكّن من الخروج في الغزو مع النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ لعدم من يمنعه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [47/ 4687](1813)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 329)، و (عبد بن حميد) في "مسنده"(1065)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 357)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(4/ 168)، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4687]

(1814) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ (ح) وَحَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْجَرْمِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو تُمَيْلَةَ، قَالَا جَمِيعًا: حَدَّثنَا حُسَيْنُ بْنُ وَاقِدٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيه، قَالَ: غَزَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم تِسْعَ عَشْرَةَ غَزْوَةً، قَاتَلَ فِي ثَمَانٍ مِنْهُن. وَلَمْ يَقُلْ أَبُو بَكْرٍ: مِنْهُنَّ، وَقَالَ فِي حَدِيثِهِ: حَدَّثَني عَبْدُ اللهِ بْنُ بُرَيْدَةَ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) ذُكر قبل حديث.

2 -

(زيدُ بْنُ الْحُبَابِ) الْعُكليّ، أبو الحسين الكوفيّ، خراسانيّ الأصل، صدوق يُخطئ في حديث الثوريّ [9](ت 203)(م 4) تقدم في "الطهارة" 6/ 560.

3 -

(سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْجَرْمِيُّ) الكوفيّ، صدوقٌ رُمي بالتشيّع، من كبار [11](خ م د ق) تقدم في "الصلاة" 34/ 1016.

(1)

"الإصابة في تمييز الصحابة"4/ 162 - 163.

ص: 601

[تنبيه]: قوله: "الْجَرْميّ" - بفتح الجيم، وسكون الراء -: نسبة إلى قبيلة، وهو: جَرْم بن ربّان بن عمران بن الحاف بن قُضاعة، وفي بَجِيلة: جرم بن علقة بن أنمار، وفي عاملة: جرم بن شعل بن معاوية بن عاملة، وفي طيّئ: جرم، وهو ثعلبة بن عمرو بن الغوث، قاله في "الأنساب"، و"اللباب"

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: هكذا ذكر في "الأنساب"، و"اللباب"، ولكن لم يتبيّن لي إلى أيّها يُنسب سعيد بن محمد هذا، والله تعالى أعلم.

4 -

(أَبُو تُمَيْلَةَ) - بمثنّاة، مصغّرًا - يحيى بن واضح الأنصاريّ مولاهم المروزيّ الحافظ، ثقةٌ، من كبار [9].

رَوَى عن حسين بن واقد، ومحمد بن إسحاق، وفليح بن سليمان، والأوزاعيّ، وأبي حمزة السُّكّريّ، وحسين بن واقد، وغيرهم.

وروى عنه أحمد، وإسحاق، وسعيد بن محمد الجرميّ، وأبو بكر بن أبي شيبة، ومحمد بن عبد الله بن نمير، ويعقوب بن إبراهيم الدورقيّ، وغيرهم.

قال الأثرم، عن أحمد: ليس به بأس، ثم قال: أرجو إن شاء الله تعالى أن لا يكون به بأس، كتبنا عنه على باب هُشيم، وقال عثمان الدارميّ، عن ابن معين: ليس به بأس، وكذا قال النسائيّ، وقال ابن أبي خيثمة وغيره عن ابن معين: ثقةٌ، وكذا قال ابن سعد، والنسائيّ أيضًا، وقال أبو داود عن ابن معين: قد رأيته ما كان يحسن شيئًا، وقال عبد الله بن علي بن المدينيّ: سئل أبي عن أبي تُميلة، والسينانيّ، فقدَّم يحيى بن واضح، وقال: روى الفضل بن موسى أحاديث مناكير، وقال ابن خِراش: صدوقٌ، وقال ابن أبي حاتم، عن أبيه: ثقةٌ في الحديث، أدخله البخاريّ في "الضعفاء"، فسمعت أبي يقول: يُحَوَّل من هنا، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال العباس بن مصعب المروزيّ: كان أبو تُميلة عالِمًا بأيام الناس، وقال زُنيج، عن أبي تميلة: كان أبي والمبارك والد عبد الله تاجرين، وكانا قد جعلا لنا مَن حَفِظ منا قصيدة فله درهم، قال أبو غسان: فخرجا شاعرين، وقال صالح بن محمد جَزَرَةُ: ثقة في الحديث،

(1)

"الأنساب" للسمعانيّ 2/ 71، و"اللباب في تهذيب الأنساب" لابن الأثير 1/ 273.

ص: 602

وكان محمود الرواية، قال عبد الله بن أحمد، عن أبيه: ثقةٌ، وقال صاحب "الميزان": لم أر له في الضعفاء للبخاريّ ذكرًا.

أخرج له الجماعة، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.

5 -

(حُسَيْنُ بْنُ وَاقِدٍ) الْمَرْوزيّ، أبو عبد الله قاضي مَرْوَ، مولى عبد الله بن عامر بن كريز، ثقةٌ، له أوهامٌ [7].

رَوَى عن عبد الله بن بريدة، وثابت البنانيّ، وثمامة بن عبد الله بن أنس، وأبي إسحاق السبيعيّ، وأبي الزبير، وعمرو بن دينار، وغيرهم.

وروى عنه الأعمش، وهو أكبر منه، والفضل بن موسى السِّينانيّ، وعليّ بن الحسن بن شقيق، وأبو تُميلة، وزيد بن الحباب، وعبد الله بن المبارك، وغيرهم.

قال أحمد بن شبويه، عن عليّ بن الحسن بن شقيق: قيل لابن المبارك: من الجماعة؛ قال: محمد بن ثابت، والحسين بن واقد، وأبو حمزة السُّكَّريّ، قال أحمد بن شبويه: ليس فيهم شيء من الإرجاء، وقال عن عليّ أيضًا: قلت لابن المبارك: كان الحسين إذا قام من مجلس القضاء اشترى لحمًا، فينطلق إلى أهله، فقال ابن المبارك: ومن لنا مثل الحسين؟ وقال الأثرم، عن أحمد: ليس به بأس، وأثنى عليه، وقال ابن أبي خيثمة، عن ابن معين: ثقةٌ، وقال أبو زرعة، والنسائيّ: ليس به بأسٌ، وقال ابن حبان: كان على قضاء مرو، وكان من خيار الناس، وربما أخطأ في الروايات، وقال عبد الله بن أحمد، عن أبيه: ما أُنكر حديث حسين بن واقد، عن أبي الْمُنيب، وقال العُقيليّ: أنكر أحمد بن حنبل حديثه، وقال الأثرم: قال أحمد: في أحاديثه زيادةٌ، ما أدري أي شيء هي؟ ونفض يده، وقال ابن سعد: كان حسن الحديث، وقال الآجريّ، عن أبي داود: ليس به بأسٌ، وقال الساجيّ: فيه نظرٌ، وهو صدوق، يَهِمُ، قال أحمد: أحاديثه ما أدري أيشٍ هي؟.

قال عليّ بن الحسين بن واقد: مات أبي سنة (159)، وقال: ويقال: (157)، وجزم ابن حبان في "الثقات" بالأول، وكَنَاه أبا عليّ، وكذا كناه البخاريّ، وأبو حاتم، والدارقطنيّ، وكذا ذكره مسلم، والنسائيّ، والدولابيّ، والحاكم أبو أحمد، وغيرهم، والله أعلم.

ص: 603

أخرج له البخاريّ في التعاليق، والمصنّف، والأربعة، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط، هذا برقم (1814)، وحديث (2717): "اللهم لك أسلمت، وبك آمنت

" الحديث، وحديث (2865): "ألا إن ربي أمرني أن أعلّمكم

" الحديث.

[تنبيه]: قال الدارقطنيّ رحمه الله في "التتبّع": وأخرج مسلم حديثًا واحدًا عن الحسين بن واقد، عن ابن بُريدة، عن أبيه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم تسع عشرة غزوةً وحده، وعنده نسخة يلزمه إخراجها. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: غرضُ الدارقطنيّ رحمه الله بهذا الكلام إلزام مسلم بأن يُخرج أحاديث نسخة فيها رواية حسين بن واقد، عن ابن بريدة، عن أبيه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ لأنه أخرج هذا الحديث الواحد في هذا الباب، ولكن هذا الإلزام غير صحيح؛ لأن مسلمًا رحمه الله لم يلتزم بأن يُخرج كلّ الأحاديث الصحيحة، بل صرّح بخلافه، فقال في "صحيحه":"ليس كل حديث صحيح وضعته ها هنا، وإنما وضعت ما أجمعوا عليه". انتهى، وقد تقدّم هذا في "كتاب الصلاة"، وقد صرّح بذلك أيضًا البخاريّ رحمه الله، وتقدّم البحث في ذلك مستوفًى في "شرح المقدّمة"، فراجعه

(1)

تستفد علْمًا جمًّا، والله تعالى وليّ التوفيق.

6 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ بُرَيْدَةَ) بن الْحُصيب الأسلميّ، أبو سهل المروزيّ، قاضيها، ثقةٌ [3] (ت 105) وقيل:(115) وله مائة سنة (ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 102.

7 -

(أَبُوهُ) بُريدة بن الْحُصيب الأسلميّ، أبو عبد الله الصحابيّ الشهير، مات رضي الله عنه (63)(ع) تقدم في "الإيمان" 100/ 533.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خُماسيّات المصنّف رحمه الله، وهو مسلسل بالمراوزة من أبي تُميلة، والباقون كوفيّون، وفيه رواية الابن عن أبيه.

شرح الحديث:

(1)

راجع: "قرّة عين المحتاج" 1/ 56 - 57.

ص: 604

(عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ) بُريدة بن الحصيب رضي الله عنه أنه (قَالَ: غَزَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم تِسْعَ عَشْرَةَ غَزْوَةً، قَاتَلَ فِي ثَمَانٍ مِنْهُنَّ) تقدّم أنه قاتل في تسع، قال الأُبيّ رحمه الله: لعلّ بُريدة رضي الله عنه أسقط غزوة الفتح؛ لاعتقاده أنها فُتحت صلحًا، وتقدّم ما في ذلك من الخلاف. انتهى

(1)

، وقوله:(وَلَمْ يَقُلْ أَبُو بَكْرٍ)؛ يعني: ابن أبي شيبة، شيخه الأول:(مِنْهُنَّ)؛ أي: أسقط لفظة "منهنّ"، (وَقَالَ) أبو بكر (فِي حَدِيثِهِ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ بُرَيْدَةَ)؛ يعني: أنه صرّح بالتحديث مخالفًا لسعيد بن محمد الجرميّ، فإنه ذكره بالعنعنة، فقال:"عن عبد الله بن بريدة".

[تنبيه]: رواية أبي بكر بن أبي شيبة هذه التي أشار إليها مسلم ساقها في "مصنّفه"، فقال:

(36646)

- حدّثنا أبو بكر، قال: حدّثنا زيد بن الْحُبَاب، قال: حدّثنا حسين بن واقد، قال: حدّثنا عبد الله بن بُريدة، عن أبيه:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غزا تسع عشرة غزوةً، قاتل في ثمان". انتهى

(2)

، والله تعالى أعلم بالصواب،

وإليه المرجع والمآب.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث بُريدة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [47/ 4687 و 4688](1814)، و (البخاريّ) في "المغازي"(4473)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(7/ 351)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 349)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 357)، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4688]

(

) - (وَحَدَّثَني أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، حَدَّثنَا مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ كَهْمَسٍ، عَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيه، أنَّهُ قَالَ: غَزَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم سِتَّ عَشْرَةَ غَزْوَةً).

(1)

"شرح الأبّيّ" 5/ 158.

(2)

"مصنف ابن أبي شيبة" 7/ 351.

ص: 605

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ) هو: أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد الشيباني، أبو عبد الله المروزيّ، نزيل بغداد، أحد الأئمة، ثقةٌ حافظٌ فقيهٌ حجةٌ مجتهد، رأس الطبقة [10](ت 241) وله (77) تقدم في "الإيمان" سنةً 80/ 427.

2 -

(مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ) التيميّ البصريّ، تقدّم قريبًا.

3 -

(كهْمَسُ) بن الحسن التميميّ، أبو الحسن البصريّ، ثقةٌ [5](ت 149)(ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 102.

والباقيان ذُكرا قبله.

[تنبيه]: هذا الحديث أحد الأحاديث الأربعة التي أخرجها مسلم عن شيوخٍ، أخرج البخاريّ تلك الأحاديث بعينها عن أولئك الشيوخ بواسطة، فقد أخرج البخاريّ هذا الحديث عن أحمد بن حنبل بواسطة أحمد بن الحسن الترمذيّ، قال الحافظ: ووقع من هذا النمط للبخاريّ أكثر من مائتي حديث، وقد جرّدتها في جزء مفرد. انتهى

(1)

.

وقوله: (غَزَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم سِتَّ عَشْرَةَ غَزْوَةً) هذا لا يعارض ما قبله أنه صلى الله عليه وسلم غزا تسع عشرة غزوة؛ لأن المراد هنا أنها الغزوات التي شهدها بنفسه معه صلى الله عليه وسلم، والحديث متّفقٌ عليه، وقد مرّ تخريجه في الحديث الماضي، ولله الحمد والمنّة.

وبالستد المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4689]

(1815) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادٍ، حَدَّثَنَا حَاتِمٌ - يَعْنِي: ابْنَ إِسْمَاعِيلَ - عَنْ يَزِيدَ - وَهُوَ ابْنُ أَبِي عُبَيْدٍ - قَالَ: سَمِعْتُ سَلَمَةَ يَقُولُ: غَزَوْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم سَبْعَ غَزَوَاتٍ، وَخَرَجْتُ فِيمَا يَبْعَثُ مِنَ الْبُعُوثِ تِسْعَ غَزَوَاتٍ، مَرَّةً عَلَيْنَا أَبُو بَكْرٍ، وَمَرَّةً عَلَيْنَا أُسَامَةُ بْنُ زيدٍ).

رجال هذا الإسناد: أربعة:

وكلّهم تقدّموا قريبًا، فمُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادِ بن الزِّبْرقان، تقدّم قبل خمسة أبواب، والباقون تقدّموا قبل ثلاثة أبواب.

(1)

"الفتح" 9/ 624، كتاب "المغازي" رقم (4473).

ص: 606

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو أعلى الأسانيد له، وهو (328) من رباعيّات الكتاب.

شرح الحديث:

(عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبيِ عُبَيْدٍ) مولى سلمة أنه (قَالَ: سَمِعْتُ سَلَمَةَ) بن عمرو بن الأكوع رضي الله عنه (يَقُولُ: غَزَوْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم غَزَوَاتٍ) أخرج البخاريّ هذا الحديث من طريق حمّاد بن مسعدة، عن يزيد بن أبي عبيد، فذكر من تلك الغزوات: خيبر، والحديبية، ويوم حنين، ويوم القَرَد، وقال في آخره:"قال يزيد: ونسيت بقيتهم"

(1)

.

قال في "الفتح": وأما بقية الغزوات التي نَسِيهنّ يزيد، فهنّ: غزوة الفتح، وغزوة الطائف، فإنهما وإن كانا في سنة غزوة حنين، فهما غيرها، وغزوة تبوك، وهي آخر الغزوات النبوية، فهذه سبع غزوات، كما ثبت في أكثر الروايات.

قال: وإن كانت الرواية الأولى، وهي رواية حاتم بن إسماعيل، بلفظ التسع محفوظة، فلعله عَدّ غزوة وادي القرى التي وقعت عَقِب خيبر، وعَدّ أيضًا عمرة القضاء غزوة، كما تقدم من صنيع البخاريّ، فكمل بها التسعة.

قال الجامع عفا الله عنه: هكذا في "الفتح" جعل رواية حاتم بن إسماعيل بلفظ التسع، والموجود في نسخ البخاريّ التي بين يديّ بلفظ:"سبع"، كما هو عند مسلم، لا بلفظ:"تسع"، ولعلّ الحافظ وقعت له نسخة هكذا، فليُحرّر، والله تعالى أعلم.

قال: وأما ما وقع عند أبي نعيم في "المستخرج" من طريق نصر بن عليّ، عن حماد بن مَسْعدة، فذكر هذا الحديث، فقال في أوله: "أُحُدٌ،

(1)

قال في "الفتح": كذا فيه بالميم في ضمير جمع الغزوات، والمعروف فيه التأنيث، وكذا وقع في رواية النسفيّ بالميم، وضَبّب عليه، ووقع في روايةٍ حكاها الكرمانيّ - قال الحافظ: ولم أقف عليها -: "بقيّتها"، وهي أَوْجَه. انتهى.

قال الجامع: وقع في رواية أحمد بلفظ: "بقيّتهنّ".

ص: 607

وخيبر"، ففيه نظرٌ؛ لأنهم لم يذكروا سلمة فيمن شَهِد أُحُدًا، وقد أخرجه الإسماعيليّ من وجه آخر، عن حماد بن مَسعدة، ولم يذكر فيه أُحُدًا، والله أعلم. انتهى

(1)

.

(وَخَرَجْتُ فِيمَا يَبْعَثُ مِنَ الْبُعُوثِ تِسْعَ غَزَوَاتٍ، مَرَّةً عَلَيْنَا أَبُو بَكْرٍ)؛ أي: في مرّة منِ المرّات التسع قد أُمِّر علينا أبو بكر الصدّيق رضي الله عنه، (وَمَرَّةً عَلَيْنَا أُسَامَةُ بْنُ زيْدٍ) ابن حارثة رضي الله عنهما، قال الحافظ أبو عوانة رحمه الله في "مسنده" بعد إخراجه الحديث ما نصّه: كذا قال حاتم: أسامة بن زيد رضي الله عنهما، وأبو عاصم قال: زيد بن حارثة، وكذا رواه عمر بن حفص، عن أبيه، عن يزيد مثل رواية حاتم. انتهى

(2)

.

قال في "الفتح": أما سرية أبي بكر الصديق رضي الله عنه فهي إلى بني فَزَارة، كما ثبت من حديثه عند مسلم، وسريته إلى بني كلاب، ذكرها ابن سعد، وبعثه إلى الحجّ سنة تسع.

وأما أسامة رضي الله عنه فأول ما أُرسل في سريّة إلى الْحُرَقة، ثم في سرية إلى أُبْنَى - بضم الهمزة، وسكون الموحّدة، ثم نون، مقصورًا - وهي من نواحي البلقاء، وذلك في صفر.

قال الحافظ رحمه الله: فوقفنا مما ذكره على خمس سرايا، وبقيت أربع، فليستدركها على أهل المغازي، فإنهم لم يذكروا غير الذي ذكرته بعد التتبع البالغ، ويَحْتَمِل أن يكون فيه حَذْف، تقديره: ومرة علينا غيرهما، وأيضًا فإنه لم يذكر في بعض الروايات للبعوث عددًا. انتهى

(3)

.

[تنبيه]: أخرج ابن حبّان، والحاكم، والبيهقيّ من طريق أبي عاصم، عن يزيد بن أبي عبيد، عن سلمة بن الأكوع، أنه قال: غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات، ومع زيد بن حارثة تسع غزوات، أَمّره رسول الله صلى الله عليه وسلم علينا.

وأخرجه البخاريّ عن أبي عاصم، ولفظه: عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه

(1)

"الفتح" 9/ 379 - 380، كتاب "المغازي" رقم (4270).

(2)

"مسند أبي عوانة" 4/ 356.

(3)

"الفتح" 9/ 379 - 380، كتاب "المغازي" رقم (4270).

ص: 608

قال: غزوت مع النبيّ صلى الله عليه وسلم سبع غزوات، وغزوت مع ابن حارثة استعمله علينا. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: هكذا لفظ ابن حبّان، والحاكم، والبيهقيّ:"ومع زيد بن حارثة تسع غزوات"، ووقع عند الطبرانيّ في الموضعين بلفظ:"سبع"، وكذا عند الكجيّ، وأبي نعيم، كما يأتي عن الحافظ، وقد أبهمه البخاريّ في روايته المذكورة، ولعلّه للاختلاف المذكور، والله تعالى أعلم.

قال في "الفتح" عند قوله: "وغزوت مع ابن حارثة استعمله علينا": هكذا ذَكره مبهمًا، ورواه أبو مسلم الكجيّ، عن أبي عاصم بلفظ:"وغزوت مع زيد بن حارثة سبع غزوات، يؤمِّره علينا"، وكذلك أخرجه الطبرانيّ عن أبي مسلم بهذا اللفظ، وأخرجه أبو نعيم في "المستخرج" عن أبي شعيب الحرانيّ، عن أبي عاصم كذلك، وكذا أخرجه الإسماعيليّ من طرُق، عن أبي عاصم.

قال: وقد تتبعت ما ذكره أهل المغازي من سرايا زيد بن حارثة، فبلَغَتْ سبعًا، كما قاله سلمة، وإن كان بعضهم ذَكر ما لم يذكره بعض.

فأولها: في جمادى الأخيرة سنة خمس قِبَل نَجْد في مائة راكب، والثانية: في ربيع الآخر سنة ستّ إلى بني سُليم، والثالثة: في جمادى الأولى منها في مائة وسبعين، فتلقى عِيرًا لقريش، وأسروا أبا العاص بن الربيع، والرابعة: في جمادى الآخرة منها إلى بني ثعلبة، والخامسة إلى حُسْمَى - بضم المهملة، وسكون المهملة مقصورًا - في خمسمائة إلى أناس من بني جُذام، بطريق الشام، كانوا قطعوا الطريق على دِحية، وهو راجع من عند هرقل، والسادسة: إلى وادي القرى، والسابعة: إلى ناس من بني فَزارة، وكان خرج قبلها في تجارة، فخرج عليه ناس من بني فزارة، فأخذوا ما معه، وضربوه، فجهزّه النبيّ صلى الله عليه وسلم إليهم، فأوقع بهم، وقتل أم قِرْفة - بكسر القاف، وسكون الراء، بعدها فاء - وهي فاطمة بنت ربيعة بن بدر، زوج مالك بن حذيفة بن بدر، عمّ عيينة بن حِصن بن حذيفة، وكانت مُعَظَّمة فيهم، فيقال: ربطها في ذنب فرسين، وأجراهما، فتقطعت، وأَسَر بنتها، وكانت جميلةً. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1)

"الفتح" 9/ 379 - 380، كتاب "المغازي" رقم (4270).

ص: 609

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [47/ 4689 و 4690](1815)، و (البخاريّ) في "المغازي"(4270 و 4271 و 4272 و 4273)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 54)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 356)، و (ابن سعد) في "الطبقات"(4/ 305 و (الطبرانيّ) في "الكبير"(6282 و 6283)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(7174)، و (الحاكم) في "المستدرك"(3/ 218)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(9/ 40 - 41)، و (البغويّ) في "شرح السُّنّة"(3941)، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4690]

(

) - (وَحَدَّثنا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثنَا حَاتِمٌ بِهَذَا الإِسْنَاد، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ فِي كِلْتَيْهِمَا: سَبْعَ غَزَوَاتٍ).

رجال هذا الإسناد: اثنان:

1 -

(قتيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) تقدّم قريبًا.

و"حاتم" ذُكر قبله، والإسناد من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (329) من رباعيّات الكتاب.

[تنبيه]: رواية قُتيبة، عن حاتم بن إسماعيل هذه ساقها البيهقيّ رحمه الله في "الكبرى"، فقال:

(17676)

- أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرني أبو الوليد الفقيه، ثنا أحمد بن الحسن بن عبد الجبار، ثنا محمد بن عباد المكيّ (ح) وأخبرنا أبو عبد الله الحافظ، ثنا أبو عبد الله محمد بن يعقوب، ثنا أحمد بن سلمة، ثنا قتيبة بن سعيد، قالا: ثنا حاتم، عن يزيد بن أبي عبيد، قال: سمعت سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: "غزوت مع النبيّ صلى الله عليه وسلم سبع غزوات، وخرجت فيما يبعث من البعوث سبع مرّات، علينا مرّةً أبو بكر، ومرّةً علينا أسامة بن زيد". لفظ حديث قتيبة.

وقال محمد في الثانية: تسع غزوات، رواه البخاريّ، ومسلم في

ص: 610

"الصحيح" عن قتيبة بن سعيد، ورواه مسلم عن محمد بن عباد المكيّ. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: رواية قتيبة هذه أخرجها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، بلفظ "تسع" في الثانية"، فقال:

(4270)

- حدّثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا حاتم، عن يزيد بن أبي عبيد، قال: سمعت سلمة بن الأكوع يقول: غزوت مع النبيّ صلى الله عليه وسلم سبع غزوات، وخرجت فيما يبعث من البعوث تسع غزوات، مرّةً علينا أبو بكر، ومرّةً علينا أسامة.

ولعلّ قتيبة كان عنده بالوجهين، فحدّث البخاريّ بلفظ:"تسع"، وحدّث مسلمًا بلفظ:"سبع"، والله تعالى أعلم.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(48) - (بَابُ غَزْوةِ ذَاتِ الرِّقَاعِ)

قال الجامع عفا الله عنه: قد اختُلف في وقت هذه الغزوة، وفي سبب تسميتها على أقوال، والراجح أنها كانت بعد خيبر، وأن سبب تسميتها كون الصحابة رضي الله عنهم لَفّوا الْخِرَق على أقدامهم لَمَّا نَقِبت، كما سيأتي في حديث الباب.

قال الإمام البخاريّ رحمه الله في "صحيحه": "باب غزوة ذات الرقاع، وهي غزوة مُحاربِ خَصَفَة من بني ثعلبة، من غطفان، فنزل نخلًا، وهي بعد خيبر؛ لأن أبا موسى جاء بعد خيبر". انتهى

(2)

.

قال في "الفتح": هذه الغزوة اختُلِف فيها، متى كانت؟ واختُلف في سبب تسميتها بذلك، وقد جَنَح البخاري إلى أنها كانت بعد خيبر، واستَدَلّ لذلك في هذا الباب بأمور، ومع ذلك فذكرها قبل خيبر، فلا أدري هل تعمّد ذلك؛ تسليمًا لأصحاب المغازي أنها كانت قبلها، كما سيأتي، أو أن ذلك من الرُّواة

(1)

"سنن البيهقيّ الكبرى" 9/ 40.

(2)

"صحيح البخاريّ" 10/ 179.

ص: 611

عنه؟ أو إشارة إلى احتمال أن تكون ذات الرقاع اسمًا لغزوتين مختلفتين؟ كما أشار إليه البيهقيّ على أن أصحاب المغازي مع جزمهم بأنها كانت قبل خيبر، مختلفون في زمانها، فعند ابن إسحاق أنها بعد بني النضير وقبل الخندق سنة أربع، قال ابن إسحاق: أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد غزوة بني النضير شهر ربع، وبعض جمادى - يعني: من سنته - وغزا نجدًا يريد بني محارب، وبني ثعلبة من غطفان، حتى نزل نخلًا، وهي غزوة ذات الرقاع.

وعند ابن سعد، وابن حبان أنها كانت في المحرّم سنة خمس.

وأما أبو معشر فجزم بأنها كانت بعد بني قريظة والخندق، وهو موافق لصنيع البخاريّ، وقد تقدم أن غزوة قريظة كانت في ذي القعدة سنة خمس، فتكون ذات الرقاع في آخر السنة، وأول التي تليها.

وأما موسى بن عقبة فجزم بتقديم وقوع غزوة ذات الرقاع، لكن تردّد في وقتها، فقال: لا ندري كانت قبل بدر، أو بعدها، أو قبل أُحُد، أو بعدها؟ وهذا التردد لا حاصل له، بل الذي ينبغي الجزم به أنها بعد غزوة بني قريظة؛ لأنه تقدّم أن صلاة الخوف في غزوة الخندق لم تكن شُرِعت، وقد ثبت وقوع صلاة الخوف في غزوة ذات الرقاع، فدلّ على تأخرها بعد الخندق.

وقول البخاريّ رحمه الله: "وهي بعد خيبر؛ لأن أبا موسى جاء بعد خيبر" هكذا استدلّ به، وقد ساق حديث أبي موسى بعدُ، وهو استدلال صحيح، وذلك أن أبا موسى إنما قَدِم من الحبشة بعد فتح خيبر، فقد قال: فوافقنا النبيّ صلى الله عليه وسلم حين افتتح خيبر، وإذا كان كذلك ثبت أن أبا موسى شَهِد غزوة ذات الرقاع، ولزم أنها كانت بعد خيبر.

قال الحافظ رحمه الله: وعَجِبْت من ابن سيد الناس، كيف قال: جَعَل البخاري حديث أبي موسى هذا حجة في أن غزوة ذات الرقاع متأخرة عن خيبر؟ قال: وليس في خبر أبي موسى ما يدلّ على شيء من ذلك. انتهى، وهذا النفي مردود، والدلالة من ذلك واضحة، كما مرّ، وأما شيخه الدمياطي فادَّعَى غلط الحديث الصحيح، وأن جميع أهل السير على خلافه، وقد قدّمت أنهم مختلفون في زمانها، فالأَولى الاعتماد على ما ثبت في الحديث الصحيح، وقد ازداد قوّة بحديث أبي هريرة، وبحديث ابن عمر، كما سيأتي.

ص: 612

وقد قيل: إن الغزوة التي شهدها أبو موسى، وسُمّيت ذات الرقاع، غير غزوة ذات الرقاع التي وقعت فيها صلاة الخوف؛ لأن أبا موسى قال في روايته: إنهم كانوا ستة أنفس، والغزوة التي وقعت فيها صلاة الخوف كان المسلمون فيها أضعاف ذلك.

والجواب عن ذلك: أن العدد الذي ذكره أبو موسى محمول على من كان موافقًا له من الرامة

(1)

، لا أنه أراد جميع من كان مع النبيّ صلى الله عليه وسلم.

واستُدلّ على التعدد أيضًا بقول أبي موسى: إنها سميت ذات الرقاع لِمَا لَفُّوا في أرجلهم من الخِرَق، وأهل المغازي ذكروا في تسميتها بذلك أمورًا غير هذا، قال ابن هشام وغيره: سمّيت بذلك لأنهم رقعوا فيها راياتهم، وقيل: بشجر بذلك الموضع، يقال له: ذات الرقاع، وقيل: بل الأرض التي كانوا نزلوا بها كانت ذات ألوان، تشبه الرقاع، وقيل: لأن خيلهم كان بها سواد وبياض، قاله ابن حبان، وقال الواقديّ: سمّيت بجبل هناك فيه بُقَعٌ، وهذا لعله مستَند ابن حبان، ويكون قد تصحّف "جبل" بـ "خيل".

وبالجملة فقد اتفقوا على غير السبب الذي ذكره أبو موسى، لكن ليس ذلك مانعًا من اتحاد الواقعة، ولازمًا للتعدد.

وقد رَجَّح السهيليّ السبب الذي ذكره أبو موسى، وكذلك النوويّ، ثم قال: ويَحْتَمِل أن تكون سُمّيت بالمجموع.

وأغرب الداوديّ، فقال: سميت ذات الرقاع؛ لوقوع صلاة الخوف فيها، فسمِّيت بذلك؛ لترقيع الصلاة فيها.

ومما يدلّ على التعدد: أنه لم يتعرض أبو موسى في حديثه إلى أنهم صَلَّوا صلاة الخوف، ولا أنهم لَقُوا عدوًّا، ولكن عدم الذِّكر لا يدل على عدم الوقوع، فإن أبا هريرة في ذلك نظير أبي موسى؛ لأنه إنما جاء إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأسلم والنبيّ صلى الله عليه وسلم بخيبر، ومع ذلك فقد ذكر في حديثه أنه صلى مع النبيّ صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف في غزوة نجد، وكذلك عبد الله بن عمر ذكر أنه صلى مع النبيّ صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف بِنَجْد، وقد تقدّم أن أول مَشاهده الخندق، فتكون ذات

(1)

هكذا نسخة "الفتح"، ولعله مصحّف من "الرُّماة"، فليُحرّر.

ص: 613

الرقاع بعد الخندق. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن بما ذُكر أن الأرجح أن غزوة ذات الرقاع كانت بعد خيبر؛ لِمَا استدلّ به البخاريّ من شهود أبي موسى رضي الله عنه إياها، وأن الأصحّ في سبب تسميتها ما ذكره أبو موسى الأشعريّ رضي الله عنه في حديث الباب، من كونهم لفّوا على أقدامهم الخِرَق؛ لكونها نقِبت؛ لأنه في "الصحيحين"، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4691]

(1816) - (حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ عَبْدُ اللهِ بْنُ بَرَّادٍ الأَشْعَرِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ الْهَمْدَانِيُّ - وَاللَّفْظُ لأَبِي عَامِرٍ - قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ بُرَيْدِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى، قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي غَزَاةٍ، وَنَحْنُ سِتَّةُ نَفَرٍ، بَيْنَنَا بَعِيرٌ نَعْتَقِبُهُ، قَالَ: فَنَقِبَتْ أقدَامُنَا، فَنَقِبَتْ قَدَمَايَ، وَسَقَطَتْ أَظْفَارِي، فَكُنَّا نَلُفُّ عَلَى أَرْجُلِنَا الْخِرَقَ، فَسُمِّيَتْ غَزْوَةَ ذَاتِ الرِّقَاعِ؛ لِمَا كُنَّا نُعَصِّبُ

(2)

عَلَى أَرْجُلِنَا مِنَ الْخِرَقِ. قَالَ أبُو بُرْدَةَ: فَحَدَّثَ أَبُو مُوسَى بِهَذَا الْحَدِيث، ثُمَّ كَرِهَ ذَلِكَ، قَالَ: كَأنَّهُ كَرِهَ أَنْ يَكُونَ شَيْئًا مِنْ عَمَلِهِ أَفْشَاهُ. قَالَ أَبُو أُسَامَةَ: وَزَادَنِي غَيْرُ بُرَيْدٍ: وَاللهُ يَجْزِي بِهِ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(أَبُو عَامِرٍ عَبْدُ اللهِ بْنُ بَرَّادٍ الأَشْعَرِيُّ) هو: عبد الله بن بَرّاد بن يوسف بن أبي بُردة بن أبي موسى الأشعريّ الكوفيّ، صدوقٌ [10](خت م) تقدم في "المقدمة" 6/ 51.

2 -

(مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ الْهَمْدَانِيُّ) أبو كريب، أحد مشايخ الجماعة بلا واسطة، تقدّم قبل بابين.

3 -

(أَبُو أسَامَةَ) حمّاد بن أُسامة، تقدّم أيضًا قبل بابين.

4 -

(بُرَيْدُ بْنُ أَبِي بُرْدَةَ) هو: بُريد بن عبد الله بن أبي بُردة بن أبي موسى الأشعريّ الكوفيّ، ثقة [6](ع) تقدم في "الإيمان" 16/ 171.

(1)

"الفتح" 9/ 223 - 224، كتاب "المغازي" رقم (4128).

(2)

وفي نسخة: "نَعْصِبُ".

ص: 614

5 -

(أَبُو بُرْدَةَ) بن أبي موسى الأشعريّ الكوفيّ، قيل: اسمه عامر، وقيل: الحارث، ثقةٌ [3](ت 104) وقيل غير ذلك، وقد جاوز الثمانين (ع) تقدم في "الإيمان" 16/ 171.

6 -

(أَبُو مُوسَى) الأشعريّ، عبد الله بن قيس بن سُليم بن حضّار الصحابيّ الشهير، مات رضي الله عنه سنة (50) أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 16/ 171.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسلٌ بالكوفيين من أوله إلى آخره، وفيه رواية الراوي عن جدّه، عن أبيه، فأبو بردة جدّه لبريد، لا أبوه، وصحابيّه هو المشهور من أكابر الصحابة رضي الله عنهم، وكان حسن الصوت قال له النبيّ صلى الله عليه وسلم: "لقد أوتيت مزمارًا من مزامير آل داود عليه السلام، متّفقٌ عليه، وأمّره عمر، ثم عثمان، وكان أحد الْحَكَمين في صفّين رضي الله عنهم أجمعين.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي مُوسَى) الأشعريّ عبد الله بن قيس رضي الله عنه أنه (قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي غَزَاةٍ) - بفتح الغين المعجمة - بمعنى الغزو، وقوله:(وَنَحْنُ سِتَّةُ نَفَرٍ) جملة في محلّ نصب على الحال، قال الحافظ رحمه الله: لم أقف على أسمائهم، وأظنّهم من الأشعريين. انتهى

(1)

. (بَيْنَنَا بَعِيرٌ نَعْتَقِبُهُ)؛ أي: نركبه عُقْبَةً عُقْبةً، وهو أن يركب هذا قليلًا، ثم ينزل، فيركب الآخر بالنوبة، حتى يأتي على سائرهم. (قَالَ) أبو موسى رضي الله عنه (فَنَقِبَتْ أَقْدَامُنَا) - بفتح النون، وكسر القاف، بعدها موحّدة -؛ أي: قَرِحَت من الْحَفَاء، ورَقّت جلودها، وتخرّقت من شدّة المشي، يقال: نَقِب الخفّ يَنْقَبُ، من باب تَعِبَ: إذا رَقّ، ونَقِبَ أيضًا: إذا تخرّق، فهو ناقبٌ، ويتعدّى بالحركة، فيقال: نَقَبْتُهُ نَقْبًا، من باب قَتَل: إذا خَرَقته

(2)

. (فنقِبَتْ قَدَمَايَ، وَسَقَطَتْ أَظفارِي، كنَّا نَلُفُّ) - بضمّ اللام -، يقال: لَفّ الشيءَ بالشيء، من باب نصر: إذا ضمّه إليه، ووصله به

(3)

. (عَلَى

(1)

"الفتح" 9/ 228، كتاب "المغازي" رقم (4128).

(2)

"المصباح المنير" 2/ 620.

(3)

"القاموس المحيط" ص 1182.

ص: 615

أَرْجُلِنَا الْخِرَقَ) - بكسر، ففتح -: جمع خِرْقة - بكسر، فسكون - وهي القطعة من الثوب، ونحوه. (فَسُمِّيَتْ) تلك الغزوة (غَزْوَةَ ذَاتِ الرِّقَاعِ؛ لِمَا كُنَّا نُعَصِّبُ) يَحْتَمِل أن يكون من التعصيب، أو من العصب، من باب ضرب؛ أي: نشُدّ (عَلَى أَرْجُلِنَا مِنَ الْخِرَقِ) هذا صريح في أن سبب تسمية هذه الغزوة بهذا الاسم ما وقع لهم من لفّ الخِرَق على أقدامهم، وهو أصحّ ما قيل في ذلك، كما أسلفته أول الباب، وقال النوويّ رحمه الله: هذا هو الصحيح في سبب تسميتها، وقيل: سُمّيت بذلك بجبل هناك، فيه بياض، وسواد، وحمرة، وقيل: سُمّيت باسم شجرة هناك، وقيل: لأنه كان في ألويتهم رِقاع، ويَحْتَمِل أنها سمّيت بالمجموع. انتهى

(1)

.

(قَالَ أَبُو بُرْدَةَ) موصول بالسند المذكور، كما قال في "الفتح". (فَحَدَّثَ أَبُو مُوسَى) الأشعريّ رضي الله عنه (بِهَذَا الْحَدِيث، ثُمَّ كَرِهَ ذَلِكَ) بكسر الراء، من باب فَهِمَ؛ أي: كرِه أبو موسى رضي الله عنه التحديث بهذا؛ لِمَا يتضمّنه من تزكية النفس، وقد قال الله تعالى:{فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم: 32]. (قَالَ) أبو بردة (كَأَنَّهُ كَرِهَ أَنْ يَكُونَ شَيْئًا) هكذا في جميع النسخ التي بين أيدينا "شيئًا" بالنصب، فيكون منصوبًا على أنه خبر "يكون"، واسمها محذوف، تقديره: وكره أن يكون ما دل عليه هذا الحديث شيئًا أفشاه، وقد جاء بالرفع في كلّ ما وقفنا عليه من نُسخ "صحيح البخاريّ"، ووجهه ظاهر.

(مِنْ عَمَلِهِ أَفْشَاهُ) وإنما كره أبو موسى رضي الله عنه الإفشاء؛ لأن كَتْم عمل البرّ، وما أُصيبَ به الإنسان في ذات الله أفضل من إظهاره، وأدنى أن لا يداخله العُجب الذي يُحبط العمل، إلا أن توجد هناك مصلحة راجحة، كمن يكون ممن يُقْتَدَى به، فلو أظهره لاقتدى به غيره، فعند ذلك ينبغي أن يُظهره بهذا القصد، والله سبحانه وتعالى من وراء القصد، {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [آل عمران: 119]، {وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق: 12].

(قَالَ أَبُو أُسَامَةَ) حماد بن أسامة (وَزَادَنِي غَيْرُ بُرَيْدٍ) الذي في هذا السند، ولم يتبيّن لي من هو غير بُريد، فليُنظر، والله تعالى أعلم.

(1)

"شرح النوويّ" 12/ 197.

ص: 616

وقوله: (وَاللهُ يَجْزِي بِهِ) مفعول "زادني" محكيّ؛ لِقَصْد لفظه، يعني أن غير بريد بن عبد الله ممن روى له هذا الحديث زاده في آخره قوله:"والله يجزي به"، يثيب بهذا العمل، ولا نطلب به أجرًا من غيره سبحانه وتعالى.

وقوله: "يجزي" بفتح الياء، من الجزاء، ثلاثيًّا؛ أي: يكافئه على عمله، قال المجد رحمه الله: الجزاء: المكافأة على الشيء، وقال الراغب: هو ما فيه الكفاية، إن خيرًا فخيرٌ، وإن شرًّا فشرّ، كالجازية، بوزن العافية، يقال: جزاه كذا، وبه، وعليه جزاءً، ومنه قوله تعالى:{وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى} [طه: 76]، وقوله:{فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى} [الكهف: 88]، وقوله:{وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40]، وقوله:{وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا (12)} [الإنسان: 12]، وقوله:{أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا} [الفرقان: 75]، وقوله:{وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [يس: 54] انتهى. بزيادة من الشرح

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [48/ 4691](1816)، و (البخاريّ) في "المغازي"(4128)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 322)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(13/ 290) و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4734)، و (أبو نعيم) في "الحلية"(1/ 260)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 258)، و (ابن عساكر) في "تاريخه"(32/ 35، 36)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): فيه جواز ركوب المركوب بالتناوب إذا لم يُضرّ به.

2 -

(ومنها): جواز إخبار المرء بما كابده من المشاقّ في سبيل الله عز وجل، إذا ترتّبت عليه مصلحة، مثل بيان حكم ذلك الشيء، والتنبيه على الاقتداء به

(1)

"القاموس المحيط"(215)، و"تاج العروس" 10/ 73.

ص: 617

فيه، ونحو ذلك، وعلى هذا يُحْمَل ما وُجد للسلف من الأخبار بذلك.

3 -

(ومنها): استحباب إخفاء الأعمال الصالحة، وما يكابده العبد من المشاقّ في طاعة الله تعالى ولا يُظهر شيئًا من ذلك إلا لمصلحة راجحة، كما أشرنا إليه آنفًا.

4 -

(ومنها): أنه يدل على ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم، من شدّة الصبر، والْجَلَد، وتَحَمُّل تلك الشدائد العظيمة، وإخلاصهم في أعمالهم، وكراهية إظهار أعمال البرّ، والتحدث بها إذا لم تَدْع إلى ذلك حاجة، والله أعلم.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(49) - (بَابُ كَرَاهَةِ الاسْتِعَانَةِ فِي الْغَزْوِ بِكَافِرٍ)

[4692]

(1817) - (حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، عَنْ مَالِكٍ (ح) وَحَدَّثَنِيهِ أَبُو الطَّاهِرِ - وَاللَّفظُ لَهُ - حَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْب، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، عَنِ الْفُضَيْلِ بْنِ أَبِي عَبْدِ الله، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ نِيَارٍ الأَسلَمِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْر، عَنْ عَائِشَةَ زَوْج النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهَا قَالَتْ: خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قِبَلَ بَدْرٍ، فَلَمَّا كَانَ بِحَرَّةِ الْوَبَرَة، أدْرَكَهُ رَجُلٌ، قَدْ كَانَ يُذْكَرُ مِنْهُ جُرْأةٌ، وَنَجْدَةٌ، فَفَرِحَ أَصْحَابُ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ رَأَوْهُ، فَلَمَّا أَدْرَكَهُ، قَالَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: جِئْتُ لأَتَّبِعَكَ، وَأُصِيبَ مَعَكَ، قَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"تُؤْمِنُ بِاللهِ وَرَسُولهِ؟ "، قَالَ: لَا، قَالَ:"فَارْجِعْ، فَلَنْ أَسْتَعِينَ بِمُشْرِكٍ"، قَالَتْ: ثُمَّ مَضَى حَتَّى إِذَا كُنَّا بِالشَّجَرَة، أَدْرَكَهُ الرَّجُلُ، فَقَالَ لَهُ كَمَا قَالَ أَوَّلَ مَرَّةٍ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم كَمَا قَالَ أَوَّلَ مَرَّةٍ، قَالَ:"فَارْجِعْ، فَلَنْ أَسْتَعِينَ بِمُشْرِكٍ"، قَالَ: ثُمَّ رَجَعَ، فَأَدْرَكَهُ بِالْبَيْدَاء، فَقَالَ لَهُ كَمَا قَالَ أَوَّلَ مَرَّةٍ:"تُؤْمِنُ بِاللهِ وَرَسُولهِ؟ "، قَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"فانْطَلِقْ").

رجال هذا الإسناد: تسعة:

1 -

(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) تقدّم قبل باب.

2 -

(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ) تقدّم قريبًا.

ص: 618

3 -

(أَبُو الطَّاهِرِ) أحمد بن عمرو بن عبد الله بن السرح المصريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

4 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْب) القرشيّ مولاهم المصريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

5 -

(مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ) إمام دار الهجرة، أبو عبد الله المدنيّ الحجة رأس المتقنين، وكبير المتثبّتين الإمام المجتهد، رأس [7](ت 179)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 378.

6 -

(الْفُضَيْلُ بْنُ أَبِي عَبْدِ اللهِ) المدنيّ، مولى الْمَهْريّ - بفتح الميم، وسكون الهاء - ثقةٌ [6].

رَوَى عن عبد الله بن نِيَار الأسلميّ، والقاسم بن محمد بن أبي بكر.

وروى عنه مالك، وبُكير بن الأشجّ، وأبو بكر بن أبي سَبْرة.

قال أبو حاتم: لا بأس به، وذكره ابن حبان في "الثقات".

أخرج له المصنّف، والترمذيّ، وأبو داود، والنسائيّ، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.

7 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ نِيَارٍ) - بكسر النون، بعدها تحتانيّة خفيفة - ابن مكرم - بضمّ، فسكون - الأسْلَمِيُّ، ثقةٌ [3].

روى عن أبيه، وخاله عمرو بن شاس، وله صحبة، وعن أبي هريرة، وسليمان بن ربيعة، وعروة بن الزبير، وأبان بن عثمان بن عفان، وغيرهم.

وروى عنه عبد الرحمن بن حرملة، والفضيل بن أبي عبد الله، والقاسم بن عباس، ومحمد بن إبراهيم بن الحارث، وأبو بكر بن أبي الجهم، وعدّة.

قال النسائيّ: ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: مدنيّ رَوَى عنه مالك، كذا قال، وقال ابن معين: عبد الله بن نيار، عن عمرو بن شاس ليس هو بمتصل.

أخرج له المصنّف، وأبو داود، والترمذيّ، والنسائيّ، وابن ماجه، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.

8 -

(عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ) تقدّم قريبًا.

9 -

(عَائِشَةُ) أم المؤمنين رضي الله عنهما، تقدّمت أيضًا قريبًا.

ص: 619

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من تساعيّات المصنّف، وهو من أَنْزل الأسانيد له؛ إذ أَنْزَلُها على الإطلاق العُشاريات، وفيه عائشة رضي الله عنها من المكثرين السبعة، روت (2210) أحاديث.

شرح الحديث:

(عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) رضي الله عنهما (أنَّهَا قَالَتْ: خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قِبَلَ بَدْرٍ) - بكسر القاف، وفتح الموحّدة -؛ أي: جِهَته، وفي رواية ابن الجارود في "المنتقى":"أن رجلًا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يريد بدرًا: أَخْرُج معك؟ "

(1)

. (فَلَمَّا كَانَ بِحَرَّةِ الْوَبَرَةِ)"الْحَرّة" - بفتح الحاء المهملة، وتشديد الراء، و"الْوَبَرة" بفتح الواو، والباء الموحّدة بعدها راء، وبسكون الموحّدة أيضًا -: موضع على أربعة أميال من المدينة

(2)

.

وقال النوويّ رحمه الله: هكذا ضبطناه بفتح الباء، وكذا نقله القاضي عن جميع رواة مسلم، قال: وضَبَطه بعضهم بإسكانها، وهو موضع على نحو من أربعة أميال من المدينة

(3)

.

وقال ابن الأثير رحمه الله: "حَرّة الْوَبرة" هي بفتح الواو، وسكون الباء: ناحية من أعراض المدينة، وقيل: هي قرية ذات نخيل. انتهى

(4)

.

(أَدْرَكَهُ رَجُلٌ) هو خبيب بن يَسَاف، قاله الواقديّ في "مغنيه" عن أشياخه، وذكره ابن بشكوال، وقد أسلم هذا الرجل

(5)

، كما صرّح في رواية مسلم هنا. (قَدْ كَانَ يُذْكَرُ) بالبناء للمفعول، (مِنْهُ)؛ أي: من الرجل (جُرْأَةٌ) - بضمّ الجيم -؛ أي: شجاعة، قال المجد رحمه الله: الْجُرْأةُ، كالْجُرْعَة، والثُّبَة، والْكَرَاهَة، والْكَرَاهِيَة، والْجَرَايَةُ بالياء نادرٌ: الشجاعة، جرُؤَ، كَكَرُمَ، فهو جريء، جَمْعه أَجْراءٌ. انتهى

(6)

، وقد نظمت ما ذُكر بقولي:

وَجُرْأَةٌ كَجُرْعَةٍ وَثُبَةِ

وَكَالْكَرَاهِيَةِ وَالْكَرَاهَةِ

هِيَ الشَّجَاعَةُ وَنَادِرِيٌ بِيَا

جَرَايَةٌ فَكُنْ بِذَا مُعْتَنِيَا

(1)

"المنتقى لابن الجارود" 1/ 262.

(2)

"نيل الأوطار" 8/ 45.

(3)

شرح النوويّ" 12/ 198.

(4)

"النهاية في غريب الأثر" 5/ 144.

(5)

"تنبيه المعلم" ص 320.

(6)

"القاموس المحيط" ص 203.

ص: 620

(وَنَجْدَةٌ) - بفتح النون، وسكون الجيم -: القتال، والشجاعة، والشدّة. (فَفَرِحَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ رَأَوْهُ)؛ أي: لظنّهم أنه صلى الله عليه وسلم يستعين بهم في قتال العدوّ، (فَلَمَّا أَدْرَكَهُ)؛ أي: النبيّ صلى الله عليه وسلم (قَالَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: جِئْتُ لأَتَّبِعَكَ)؛ أي: أصير تابعًا لك، ومؤتمرًا بأمرك، لا أنه يريد اتّباعه في الدِّين بدليل قوله: لا. (وَأُصِيبَ) الغنيمة (مَعَكَ، قَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "تُؤْمِنُ بِاللهِ)(وَرَسُولهِ؟ ") صلى الله عليه وسلم بتقدير الاستفهام؛ أي: أتؤمن بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم؟ (قَالَ) الرجل (لَا)؛ أي: لا أومن بهما، وإنما أتبعك لأجل تحصيل المال فقط. (قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("فَارْجِعْ")؛ أي: إلى مكانك، (فَلَنْ أَستَعِينَ بِمُشْرِكٍ) هذا صريح في عدم مشروعيّة الاستعانة بالكافر، قال المهلب وغيره عند شرح قوله صلى الله عليه وسلم:"إن الله ليؤيّد الدِّين بالرجل الفاجر": لا يعارض هذا قوله صلى الله عليه وسلم: "لا نستعين بمشرك"، لأنه إما خاصّ بذلك الوقت، وإما أن يكون المراد به: الفاجر غير المشرك.

وأجاب عنه الشافعيّ بالأول، وحجة النَّسخ شهود صفوان بن أمية حُنينًا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو مشرك، وقصته مشهورة في المغازي، وأجاب غيره في الجمع بينهما بأوجه غير هذه:

منها: أنه صلى الله عليه وسلم تفرَّس في الذي قال له: "لا أستعين بمشرك" الرغبة في الإسلام، فردّه رجاء أن يُسلم، فصدق ظنه.

ومنها: أن الأمر فيه إلى رأي الإمام، وفي كل منهما نَظَر من جهة أنها نكرة في سياق النفي، فيحتاج مدّعي التخصيص إلى دليل.

وقال الطحاويّ: قصة صفوان لا تعارِض قوله: "لا أستعين بمشرك"؛ لأن صفوان خرج مع النبيّ صلى الله عليه وسلم باختياره، لا بأمر النبيّ صلى الله عليه وسلم له بذلك.

قال الحافظ: وهي تفرقة لا دليل عليها، ولا أثر لها، وبيان ذلك أن المخالف لا يقول به مع الإكراه، وأما الأمر فالتقرير يقوم مقامه. انتهى

(1)

.

(قَالَتْ) رضي الله عنه (ثُمَّ مَضَى)؛ أي: ذهب الرجل إلى حاجته، (حَتَّى إِذَا كُنَّا) قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في النُّسخ: "حتى إذا كنّا"، فيَحْتَمِلُ أن عائشة رضي الله عنهما

(1)

"الفتح" 6/ 179.

ص: 621

كانت مع المودّعين، فرأت ذلك، ويَحْتَمِل أنها أرادت بقولها:"كنّا" كان المسلمون. انتهى

(1)

.

وقوله: (بِالشَّجَرَةِ) يَحْتَمل أن تكون الشجرة التي بذي الحليفة، المذكورة في حجة النبيّ صلى الله عليه وسلم. (أَدْرَكَهُ) صلى الله عليه وسلم (الرَّجُلُ، فَقَالَ لَهُ) صلى الله عليه وسلم (كَمَا قَالَ أَوَّلَ مَرَّةٍ)؛ أي: طلبه اتّباعه؛ ليصيب المال. (فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم كمَا قَالَ أَوَّلَ مَرَّةٍ)؛ أي: "تؤمن بالله، ورسوله؟ "، فأجابه بـ "لا". (قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("فَارْجِعْ، فَلَنْ أَسْتَعِينَ بِمُشْرِكٍ"، قَالَ (الراوي (ثُمَّ رَجَعَ) الرجل (فَأَدْرَكَهُ)؛ أي: النبيَّ صلى الله عليه وسلم، (بِالْبَيْدَاءِ) - بفتح الموحّدة، والمدّ -: هي المفازة، وجَمْعها: بِيدُ - بالكسر - ويَحْتَمِل أن تكون البيداء بعد ذي الحليفة المذكورة في حجة النبيّ صلى الله عليه وسلم أيضًا.

(فَقَالَ لَهُ كمَا قَالَ أَوَّلَ مَرَّةٍ) الظاهر أن هذا معطوف على محذوف؛ أي: قال الرجل له صلى الله عليه وسلم كما قال أول مرّة: جئتك لأتبعك، وأصيب. فقال له صلى الله عليه وسلم كما قال أوّل مرّة:("تُؤْمِنُ بِاللهِ) عز وجل (وَرَسُولِهِ؟ ") صلى الله عليه وسلم (قَالَ) الرجل: (نَعَمْ)؛ أي: أومن بالله، ورسوله، (فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"فَانْطَلِقْ")؛ أي: اذهب إلى محل القتال، فإنا نستعين بك الآن، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنف) هنا [49/ 4692](1817)، و (أبو داود) في "الجهاد"(2732)، و (الترمذي) في "السير"(1558)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(6/ 493)، و (ابن ماجه) في "الجهاد"(2832)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(12/ 395)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 67 - 68 و 148 - 149)، و (ابن راهويه) في "مسنده"(2/ 256)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 305)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4726)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(1/ 262)، و (أبو

(1)

"شرح النوويّ" 12/ 199.

ص: 622

عوانة) في "مسنده"(4/ 339)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(9/ 36، 37)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في اختلاف أهل العلم في جواز الاستعانة بالمشركين: وقال القرطبيّ رحمه الله: بظاهر هذا الحديث قال كافة العلماء؛ مالك وغيره، فكرهوا الاستعانة بالمشركين في الحرب، وقال مالك، وأصحابه: لا بأس أن يكونوا نواتيةً

(1)

، وخُدَّامًا.

واختُلِف في استعمالهم بِرَمْيهم بالمجانيق، فأُجيز وكُرِه، وأجاز ابن حبيب: أن يُستعمَل من سَالَمَ منهمٍ في قتال من حارب منهم، وقال بعض علمائنا بجواز ذلك، ويكونون ناحية مِنْ عَسْكَر المسلمين، وقالوا: إنما قال النبيّ صلى الله عليه وسلم ذلك في وقت مخصوص، لرجل مخصوص، لا على العموم، وظاهر الحديث حجَّة عليهم، ثم إذا قلنا: يُستعان بهم، فهل يُسهم لهم أو لا؟ قولان، وإلى الأول ذهب الزهريّ، والأوزاعيّ، وإلى الثاني ذهب مالك، والشافعيّ، وأبو حنيفة، وأبو ثور، وقال الشافعيّ مرة: لا يُعطَون من الفيء شيئًا، ويعطون من سهم النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقال قتادة: لهم ما صالحوا عليه. انتهى

(2)

.

وقال ابن عبد البرّ رحمه الله: قال مالك رحمه الله: لا أرى أن يستعان بالمشركين على قتال المشركين، إلا أن يكونوا خَدَمًا، أو نواتية، وقال الشافعيّ، والثوريّ، والأوزاعيّ، وأبو حنيفة، وأصحابهم: لا بأس بالاستعانة بأهل الشرك على قتال المشركين، إذا كان حُكم الإسلام هو الغالب عليهم، وإنما تُكره الاستعانة بهم إذا كان حُكم الشرك هو الظاهر، وقد رُوي أنه لمّا بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم جَمْع أبي سفيان للخروج إليه يوم أُحد، انطلق، وبعث إلى بني النضير، وهم يهود، فقال لهم: إما قاتلتم معنا، وإما أعرتمونا سلاحًا.

قال ابن عبد البرّ: هذا قول يَحْتَمِل أن يكون لضرورة دعته إلى ذلك.

وقال الثوريّ، والأوزاعيّ: إذا استُعين بأهل الذمة أُسهم لهم، وقال أبو حنيفة، وأصحابه: لا يُسهَم لهم، ولكن يُرْضَخ، وقال الشافعيّ: يستأجرهم

(1)

"النواتي": جمع نوتيّ، وهو الملّاح الذي يدير السفينة في البحر.

(2)

"المفهم" 3/ 695 - 696.

ص: 623

الإمام من مال لا مالكَ له بعينه، فإن لم يفعل أعطاهم من سهم النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقال في موضع آخر: يُرضخ للمشركين، إذا قاتلوا مع المسلمين. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: عندي أن الأرجح في هذه المسألة التفصيل، وهو أن الأمر يرجع إلى رأي الإمام، فإن رأى المصلحة في الاستعانة بغير المسلمين بأن اضطرّ المسلمون إلى ذلك، ولا يترتّب على ذلك ضرر يلحق المسلمين، فلا بأس، وإلا فلا.

ودليل ذلك ما تقدّم أنه صلى الله عليه وسلم استعان بيهود خيبر، وكذلك قصّة صفوان بن أمية، فإنه شَهِد حُنينًا، والطائف، وهو مشرك، وحديث:"إن الله ليؤيّد هذا الدِّين بالرجل الفاجر"، متّفقٌ عليه، قاله صلى الله عليه وسلم في ذلك المنافق الذي نحر نفسه لمّا اشتدّت به الجراحة، والقصّة مشهورة.

وما أخرجه أبو داود وغيره، وصححه ابن حبّان عن ذي مخبر ابن أخي النجاشيّ، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ستصالحون الروم صلحًا آمنًا، حتى تغزوا أنتم وهم عدوًّا من ورائهم، فتُنصرون، وتَسلَمون، وتَغنَمون

" الحديث.

والحاصل أن حكم الاستعانة بغير المسلمين موكول إلى رأي الإمام والمسلمين، فإن رأوا مصلحة جاز، وإلا فلا؛ لهذه الأدلّة المذكورة.

وأما حديث الباب، فإنه متقدّم على هذه الأحاديث كلها، فيَحْتَمِل النَّسخ، أو يكون خاصًّا بتلك الواقعة؛ لِمَا رجا النبيّ صلى الله عليه وسلم من إسلام ذلك المشرك، وقد وقع كذلك، فلا يكون معارضًا لهذه الأحاديث المبيحة، فتأمله بالإنصاف، والله تعالى أعلم بالصواب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

* * *

(1)

"التمهيد" لابن عبد البرّ 12/ 36.

ص: 624

‌32 - (كتَابُ الإِمَارَةِ)

وقع في النسخة التي شرحها الأُبّيّ، والسَّنُوسيّ بلفظ:"كِتَابُ الإِمَامَةِ".

(اعلم): أن الإمارة، والإمامة بكسر الهمزة فيهما؛ لأن ما دلّ على ولاية، أو حرفة يكون مصدر على فِعَالَة بالكسر، كالإمارة، والإمامة، والولاية، وكالتجارة، والعطارة، والنجارة، كما أن ما دلّ على الخصال يأتي على فَعَالة بالفتح، كالنَّظافة، والظَّرافة، والغَبَاوة، والفَطَانة، كما قال ابن مالك في "لاميّة الأفعال":

فَعَالَةٌ لِخِصَالٍ وَالْفِعَالَةَ دَعْ

لِحِرْفَةٍ أَوْ وِلَايَةٍ فَلَا تَهِلَا

فـ "الإِمارة" - بكسر الهمزة -: الوِلاية، يقال: أمر على القوم يَأُمُر، من باب نصر، فهو أميرٌ، والجمع: الأمراء، ويُعدّى بالتضعيف، فيقال: أَمَّرته تأميرًا: جعلته أميرًا

(1)

.

و"الإمامة" - بالكسر أيضًا -: المراد بها هنا الخلافة، فهي كالإمارة، وقال الأُبيّ رحمه الله: الإمامة ولايةٌ عامّة في الدين والدنيا، توجب طاعة موصوفها في غير نهي، لا بمعجزة، فـ "عامّة" يُخرج القضاء ونحوه، و"لا معجزة" يُخرج النبوّة، واختُلف في حكمها، وفيه ما يأتي بعدُ. انتهى

(2)

، والله تعالى أعلم.

(1) - (بَابٌ: "النَّاسُ تبَعٌ لِقُرَيْشٍ"، وَالْخِلَافَةُ فِي قُرَيْشٍ)

قال الجامع عفا الله عنه: "قُرَيشٌ": تصغير قَرْش، وهو اسم للقبيلة المشهورة، قال في "الفتح": هم وَلَدُ النضر بن كنانة، وبذلك جزم أبو عبيدة، أخرجه ابن سعد، عن أبي بكر بن الجهم، ورَوَى عن هشام بن الكلبيّ، عن

(1)

راجع: "المصباح المنير" 1/ 22.

(2)

"شرح الأبيّ" 5/ 159.

ص: 625

أبيه، كان سكان مكة يزعمون أنهم قريش، دون سائر بني النضر حتى رحلوا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فسألوه مَن قريش؟ قال: مَن وَلَدَ النضر بن كنانة.

وقيل: إن قريشًا هم ولد فهر بن مالك بن النضر، وهذا قول الأكثر، وبه جزم مصعب، قال: ومن لم يلده فهر فليس قرشيًّا.

وقيل: أول من نُسب إلى قريش قُصيّ بن كلاب، فروى ابن سعد أن عبد الملك بن مروان، سأل محمد بن جبير: متى سُمّيت قريش قريشًا؟ قال: حين اجتمعت إلى الحرم بعد تفرّقها، فقال: ما سمعت بهذا، ولكن سمعت أن قُصيًّا كان يقال له: القرشيّ، ولم يسمَّ أحد قريشًا قبله.

وروى ابن سعد من طريق المقداد: لمّا فرغ قصي من نفي خزاعة من الحرم تجمّعت إليه قريش، فسُميت يومئذ قريشًا؛ لحالِ تجمّعها، والتقرّش: التجمّع، وقيل: لتلبّسهم بالتجارة، وقيل: لأن الجد الأعلى جاء في ثوب واحد متجمِّعًا فيه، فسُمّي قريشًا، وقيل: من التقرش، وهو أخذُ الشيء أوّلًا فأولًا.

وقد أكثر ابن دحية من نقل الخلاف في سبب تسمية قريش قريشًا، ومَن أول من تسمى به؟ وحكى الزبير بن بكار عن عمه مصعب أن أول من تسمى قريشًا قريش بن بدر بن مخلد بن النضر بن كنانة، وكان دليل بني كنانة في حروبهم، فكان يقال: قَدِمت عير قريش، فسمّيت قريش به قريشًا، وأبوه صاحب بدر الموضع المعروف.

وقال المطرزيّ: سمّيت قريش بدابة في البحر، هي سيدة الدواب البحرية، وكذلك قريش سادة الناس، قال الشاعر [من الخفيف]:

وَقُرَيْشٌ هِيَ الَّتِي تَسْكُنُ الْبَحـ

ـرَ بِهَا سُمِّيَتْ قُرَيْشٌ قُرَيْشَا

تَأكُلُ الْغَثَّ وَالسَّمِينَ وَلَا تَتْـ

رُكُ فِيهِ لِذِي جَنَاحَيْنِ رِيشَا

هَكَذَا فِي الْبِلَادِ حَيُّ قُرَيْشٍ

يَأْكُلُونَ الْبِلَادَ أَكْلًا كَمِيشَا

وَلَهُمْ آخِرَ الزَّمَانِ نَبِيٌّ

يُكْثِرُ الْقَتْلَ فِيهِمْ وَالْخُمُوشَا

وقال صاحب "المحكم": قُريش دابة في البحر، لا تَدَع دابة في البحر إلا أكلَتْها، فجميع الدواب تخافها، وأنشد البيت الأول.

قال الحافظ: والذي سمعته من أفواه أهل البحر: القِرْش - بكسر القاف، وسكون الراء - لكن البيت المذكور شاهد صحيح، فلعله من تغيير العامة، فإن

ص: 626

البيت الأخير من الأبيات المذكورة يدلّ على أنه من شِعر الجاهلية، ثم ظهر لي أنه مصغَّر القِرْش الذي - بكسر القاف -.

وقد أخرج البيهقيّ عن ابن عباس، قال: قريش تصغير قرش، وهي دابة في البحر، لا تمرّ بشيء من غَثّ، ولا سمين إلا أكلته، وقيل: سمي قريشًا؛ لأنه كان يقرش عن خلة الناس، وحاجتهم، ويسدّها، والتقريش هو التفتيش، وقيل: سمّوا بذلك لمعرفتهم بالطِّعان، والتقريش: وقع الأسنة، وقيل: التقرش: التنزه عن رذائل الأمور، وقيل: هو مِن أقرشت الشجة: إذا صَدَعَت العَظْم، ولم تَهْشمه، وقيل: أقرش بكذا إذا سعى فيه، فوقع له، وقيل غير ذلك. انتهى

(1)

.

وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4693]

(1818) - (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ بْنِ قَعْنَبٍ، وَقُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا الْمُغِيرَةُ - يَعْنِيَانِ الْحِزَامِي - (ح) وَحَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَعَمْرٌو النَّاقِدُ، قَالَا: حَدَّثنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي الزِّنَاد، عَنِ الأَعْرَج، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَفِي حَدِيثِ زُهَيْرٍ: يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، وَقَالَ عَمْرٌو: رِوَايَةً: "النَّاسُ تَبَعٌ لِقُرَيْشٍ فِي هَذَا الشَّأْن، مُسْلِمُهُمْ لِمُسْلِمِهِمْ، وَكافِرُهُمْ لِكَافِرِهِمْ").

رجال هذا الإسناد: تسعة:

1 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ بْنِ قَعْنَبٍ) القعنبيّ، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

2 -

(قتيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) تقدّم قبل حديثين.

3 -

(الْمُغِيرَةُ) بن عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد بن حِزَام الحِزامي المدنيّ، نزل عسقلان، لقبه قُصيّ، ثقةٌ له غرائب [7](ع) تقدم في "الطهارة" 26/ 653.

4 -

(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) تقدّم في الحديث الماضي.

5 -

(عَمْرٌو النَّاقِدُ) هو: عمرو بن محمد بن بُكير البغداديّ، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

6 -

(سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ) تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

(1)

"الفتح" 8/ 155، كتاب "المناقب" رقم (3500).

ص: 627

7 -

(أَبُو الزِّنَادِ) عبد الله بن ذكوان القرشيّ مولاهم، أبو عبد الرحمن المدنيّ، ثقةٌ فقيه [5](ت 130) أو بعدها (ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 30.

8 -

(الأَعْرَجُ) عبد الرحمن بن هُرْمُز الأمويّ مولاهم، أبو داود المدنيّ، ثقةُ ثبتٌ فقيه [3](117)(ع) تقدم في "الإيمان" 23/ 192.

9 -

(أَبُو هُرَيْرَةَ) الصحابيّ الشهير رضي الله عنه المتوفّى سنة (59) وقيل غير ذلك (ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 4.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالمدنيين بالنسبة للسند الأول، سوى قتيبة، وأن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وأن أصحّ أسانيد أبي هريرة رحمه الله أبو الزناد، عن الأعرج عنه، على ما نُقل عن بعضهم، وفيه أبو هريرة رأس المكثرين السبعة، روى (5374) حديثًا.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) صلى الله عليه وسلم أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَفِي حَدِيثِ زُهَيْرٍ)؛ يعني: ابن حرب، شيخه الثالث، (يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم)؟ أي: يَصِلُ أبو هُريرة رضي الله عنه بهذا الحديث إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، يعني أن زهيرًا رواه بلفظ:"يبلغ به النبيّ صلى الله عليه وسلم" بدل قول عبد الله بن مسلمة، وقتيبة:"قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم". (وَقَالَ عَمْرو) الناقد شيخه الرابع: (رِوَايَةً) منصوب بفعل مقدّر؛ أي: رواه روايةً؛ يعني: أن عمرًا الناقد رواه بلفظ: "رواية" بدل اللفظين السابقين.

والحاصل أن شيوخ المصنّف اختلفوا في صِيَغ الرفع، فرواه ابن مسلمة، وقتيبة، فقالا:"قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "، ورواه زهير بن حرب بلفظ:"يبلغ به النبيّ صلى الله عليه وسلم "، ورواه عمرو الناقد بلفظ:"روايةً"، والفرق بين هذه الصيغ الثلاثة، أنّ "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم" صريح في الرفع، وأمّا "يبلغ به النبيّ صلى الله عليه وسلم"، وكذا:"روايةً"، فمِن الصيغ التي تُعْطَى حكم الرفع، وليست صريحةً فيه، وقد أشار إليها السيوطيّ رحمه الله في "ألفيّة الحديث"، حيث قال عند تعداد الصيغ التي تُعْطَى حكم الرفع:

وَهَكَذَا "يرْفَعُهُ""ينْمِيهِ"

"رِوَايَةً""يبْلُغُ بِهِ""يرْوِيهِ"

ص: 628

[تنبيه]: سبب قول التابعيّ عند ذكر الصحابيّ: "يبلغ به"، أو "يرويه"، أو "روايةً"، أو نحو ذلك أن يكون نسي الصيغة التي عبّر بها ذلك الصحابيّ، هل هي "قال"، أو "سمعتُ"، أو "حدّثني"، أو نحو ذلك؟ مع تيقّنه من إضافته إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأتى بصيغة تَحْتَمِل ذلك، والله تعالى أعلم.

("النَّاسُ تَبَعٌ لِقُرَيْشٍ) مبتدأ وخبره، و"التبَعُ" بفتحتين: في الأصل مصدر تَبع، يقال: تبعَ زيدٌ عمرًا تَبَعًا، من باب تَعِبَ: إذا مَشَى خلفه، أو مَرّ به، فمضى معه، ويقال: المصلِّي تَبَعٌ لإمام والناس تَبَعٌ بفلان، فيكون واحدًا، وجَمْعًا، ويجوز جَمْعه على أَتْبَاعٍ، مثلُ سبب وأسباب، أفاده الفيّوميّ

(1)

.

قال في "الفتح": قوله: "الناس تَبَعٌ لقريش" قيل: هو خبر بمعنى الأمر، ويدلّ عليه قوله في رواية أخرى:"قَدِّمُوا قُريشًا، ولا تَقَدَّموها"، أخرجه عبد الرزاق، بإسناد صحيح، لكنه مرسل، وله شواهد، وقيل: هو خبر على ظاهره، والمراد بالناس: بعض الناس، وهم سائر العرب، من غير قريش.

قال القاضي عياض: استَدَلّ الشافعية بهذا الحديث على إمامة الشافعيّ، وتقديمه على غيره، ولا حجة فيه؛ لأن المراد به: هنا الخلفاء.

وقال القرطبيّ: صَحِبَت المستدلَّ بهذا غفلةٌ مقارنة لصميم التقليد.

وتُعُقّب بأن مراد المستدلّ: أن القرشية من أسباب الفضل والتقدم، كما أن من أسباب التقدم الوَرَع مثلًا، فالمستويان في خصال الفضل إذا تميّز أحدهما بالورع مثلًا كان مقدَّمًا على رفيقه، فكذلك القرشية، فثبت الاستدلال بها على تقدّم الشافعيّ، ومزيّته على من ساواه في العلم والدِّين؛ لمشاركته له في الصفتين، وتميّزه عليه بالقرشية، وهذا واضح، ولعلّ الغفلة والعصبية صَحِبت القرطبيّ، فلله الأمر. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: لا يخفى أن تعقّب الحافظ على القرطبيّ بقوله: "ولعلّ الغفلة

إلخ" مما لا يُلتفت إليه، بل ما قاله هو الحقّ، فالاستدلال بحديث الباب على تقديم الشافعيّ على غيره من الأئمة غير صحيح؛ لأن

(1)

"المصباح المنير" 1/ 72.

(2)

"الفتح" 8/ 149، كتاب "المناقب" رقم (3495).

ص: 629

المراد بتقديم قريش على غيرها إنما هو في الخلافة، بدليل أنه صلى الله عليه وسلم قدّم عليها غيرها ممن ليس منها، بل من الموالي، فقد قدّم زيد بن حارثة، وابنه أسامة، فأمّرهما على جيش فيه أكابر قريش، كأبي بكر، وعمر رضي الله عنهما، وقدّم سالِمًا مولى أبي حذيفة صلى الله عليه وسلم في الصلاة على سائر المهاجرين والأنصار، وغير ذلك، فعُلم من هذا أن قوله صلى الله عليه وسلم:"قدّموا قريشًا، ولا تَقَدّموها" محمول على الخلافة فقط، وسيأتي تمام البحث في المسألة الثالثة - إن شاء الله تعالى -.

وقوله: (فِي هَذَا الشَّأْنِ)؛ أي: في شأن الخلافة، وقوله:(مُسْلِمُهُمْ لِمُسْلِمِهِمْ) مبتدأ وخبره، وكذا قوله:(وَكَافِرُهُمْ لِكَافِرِهمْ")؛ يعني: أن مُسْلِمَ الناس تَبَعٌ لمسلم قريش، وكافرهم تَبَع لكافرهم، فهم الرؤساء جاهليّةً وإسلامًا، قال في "الفتح": وقع مِصداق ذلك؛ لأن العرب كانت تُعَظِّم قريشًا في الجاهلية بسكناها الحرم، فلقا بُعِث النبيّ صلى الله عليه وسلم، ودعا إلى الله توقّف غالب العرب عن اتّباعه، وقالوا: ننظر ما يصنع قومه، فلما فَتَحَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم مكة، وأسلمت قريش تبعتهم العرب، ودخلوا في دين الله أفواجًا، واستمرّت خلافة النبوة في قريش، فصَدَق أن كافرهم كان تبعًا لكافرهم، وصار مسلمهم تبعًا لمسلمهم. انتهى

(1)

.

وقال في "العمدة": قال الخطابيّ: يريد بقوله: "تبع لقريش" تفضيلَهم على سائر العرب، وتقديمهم في الإمارة، وبقوله:"مسلمهم تبع لمسلمهم" الأمرَ بطاعتهم؛ أي: من كان مسلمًا فليَتْبَعهم، ولا يَخْرُج عليهم، وأما معنى:"كافرهم تبع لكافرهم" فهو إخبار عن حالهم في متقدِّم الزمان؛ يعني: أنهم لم يزالوا متبوعين في زمان الكفر، وكانت العرب تُقدِّم قريشًا، وتعظّمهم، وكانت دارهم مَوسمًا، ولهم السِّدَانة، والسِّقاية، والرِّفادة، يسقون الحجيج، ويُطعمونهم، فحازوا به الشرف، والرياسة عليهم، ويريد بقوله:"خيارهم إذا فَقِهوا" أن من كانت له مَأثرةٌ، وشَرَف في الجاهلية، وأسلم، وفَقِه في الدِّين، فقد أحرز مأثرته القديمة، وشَرَفه الثابت إلى ما استفاده من المزية بحقّ الدين، ومن لم يُسلم فقد هَدَم شرفه، وضَيَّع قديمه، ثم أَخبر أن خِيار الناس هم الذين

(1)

"الفتح" 8/ 149، كتاب "المناقب" رقم (3495).

ص: 630

يجدون الإمارة، ويكرهون الولاية حتى يقعوا فيها، وهذا يَحْتَمِل وجهين:

أحدهما: أنهم إذا وقعوا فيها عن رَغْبة وحرص زالت عنهم محاسن الأخيار؛ أي: صفة الخيرية، كقوله:"مَن وُلِّي القضاء، فقد ذبح بغير سكين".

والآخر: أن خيار الناس هم الذين يكرهون الإمارة، حتى يقعوا فيها، فإذا وقعوا فيها، وتقلدوها زال معنى الكراهة، فلم يَجُز لهم أن يكرهوها، ولم يقوموا بالواجب من أمورها؛ أي: إذا وقعوا فيها فعليهم أن يجتهدوا في القيام بحقها، فِعْلَ الراغب فيها، غير كارهٍ لها. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [1/ 4693 و 4694](1818)، و (البخاريّ) في "المناقب"(3495)، و (الترمذي) في "المناقب"(3903)، و (همّام بن منبّه) في "صحيفته"(129)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(19895)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(2380)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(12/ 160 و 168)، و (الحميديّ) في "مسنده"(1044)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 161 و 242 - 243 و 319 و 395)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6264)، و (ابن أبي عاصم) في "السنّة"(1511)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 367 - 368)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(11/ 140) و (البيهقيّ) في "الكبرى"(8/ 141)، و (البغويّ) في "شرح السُّنّة"، (3844 و 3845 و 3846)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): أن فيه بيان فضل قريش على سائر الناس، حيث إنهم صاروا تبعًا لهم جاهليّة، وإسلامًا.

2 -

(ومنها): ما قال النوويّ رحمه الله: هذه الأحاديث، وأشباهها دليل ظاهر

(1)

"عمدة القاري" 16/ 70.

ص: 631

أن الخلافة مختصة بقريش، لا يجوز عَقْدها لأحد من غيرهم، وعلى هذا انعقد الإجماع في زمن الصحابة رضي الله عنهم، فكذلك بعدَهم، ومن خالف فيه من أهل الْبِدَع، أو عَرَّض بخلافٍ من غيرهم، فهو محجوج بإجماع الصحابة والتابعين، فمن بعدَهم بالأحاديث الصحيحة، قال القاضي عياض رحمه الله: اشتراط كونه قرشيًّا هو مذهب العلماء كافّة العلماء، قال: وقد احتَجّ به أبو بكر وعمر رضي الله عنهما على الأنصار يوم السقيفة، فلم يُنكره أحد، قال القاضي: وقد عَدّها العلماء في مسائل الإجماع، ولم يُنقَل عن أحد من السلف فيها قول، ولا فِعل يخالف ما ذكرنا، وكذلك مَن بعدهم في جميع الأعصار، قال: ولا اعتداد بقول النظّام، ومن وافقه من الخوارج، وأهل البِدَع أنه يجوز كونه من غير قريش، ولا بسخافة ضِرَار بن عمرو في قوله: إن غير القرشيّ من النَّبَط وغيرهم يُقَدَّم على القرشيّ؛ لِهَوانِ خَلْعه إن عَرَض منه أمر، وهذا الذي قاله من باطل القول، وزُخْرفه، مع ما هو عليه من مخالفة إجماع المسلمين، والله أعلم. انتهى

(1)

.

3 -

(ومنها): أنه استَدَلّ أصحاب الشافعيّ بهذا الحديث على فضيلة الشافعيّ، وتعقّبه القاضي عياض، فقال: ولا دلالة فيه لهم؛ لأن المراد: تقديم قريش في الخلافة فقط، فتعقّبه النوويّ، فقال: هو حجة في مزيّة قريش على غيرهم، والشافعيّ قرشيّ. انتهى

(2)

.

وقال في "الفتح": واستَدَلّ بقوله صلى الله عليه وسلم: "قَدِّموا قريشًا، ولا تَقَدَّموها"، وبغيره من أحاديث الباب على رُجحان مذهب الشافعيّ؛ لورود الأمر بتقديم القرشيّ على من ليس قرشيًّا، قال عياض: ولا حجة فيها؛ لأن المراد بالأئمة في قوله صلى الله عليه وسلم: "الأئمة من قريش"

(3)

: الخلفاء، وكذلك أمْرُه بالتقديم في قوله صلى الله عليه وسلم:"قدّموا قريشًا، ولا تقدّموها"

(4)

في الخلافة أيضًا، وإلا فقد قَدَّم

(1)

"شرح النوويّ" 12/ 200.

(2)

"شرح النوويّ" 12/ 201.

(3)

حديث صحيح، قال الحافظ رحمه الله في "الفتح" 7/ 32: حديث: "الأئمة من قريش" قد جَمَعْت طرقه عن نحو أربعين صحابيًّا، لَمّا بلغني أن بعض فضلاء العصر ذكر أنه لم يُرْوَ إلا عن أبي بكر الصديق رحمه الله. انتهى.

(4)

حديث صحيح، وأما زيادة:"وتعلّموا من قريش، ولا تُعلّموها" فغير ثابت، =

ص: 632

النبيّ صلى الله عليه وسلم سالِمًا مولى أبي حذيفة، يؤمّ في مسجد قباء، وفيهم أبو بكر، وعمر رضي الله عنهم، وقَدَّم زيد بن حارثة، وابنه أسامة بن زيد، ومعاذ بن جبل، وعمرو بن العاص في التأمير، في كثير من البعوث والسرايا، ومعهم جماعة من قريش.

وتعقبه النوويّ وغيره بأن في الأحاديث ما يدلّ على أن للقرشيّ مزيةً على غيره، فيصحّ الاستدلال به لترجيح الشافعيّ على غيره، وليس مراد المستدلّ به أن الفضل لا يكون إلا للقرشيّ، بل المراد أن كونه قرشيًّا من أسباب الفضل والتقدم، كما أن من أسباب الفضل والتقدم: الورعَ، والفقهَ، والقراءةَ، والسنّ، وغيرها، فالمستوِيان في جميع الخصال إذا اختصّ أحدهما بخصلة منها دون صاحبه ترجّح عليه، فيصحّ الاستدلال على تقديم الشافعيّ على من ساواه في العلم والدِّين من غير قريش؛ لأن الشافعي قرشيّ.

قال الحافظ: وعَجَبٌ قول القرطبيّ في "المفهم" بعد أن ذَكر ما ذَكره عياض أن المستدلّ بهذه الأحاديث على ترجيح الشافعيّ صَحِبَته غَفْلةٌ قارنها من صميم التقليد طيشه، كذا قال، ولعل الذي أصابته الغفلة مَن لم يفهم مراد المستدِلّ، والعلم عند الله تعالى. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: لا يخفى أن ما قاله القاضي عياض، وتبعه القرطبيّ هو الحقّ؛ للأدلّة التي أوردها، فإن قوله صلى الله عليه وسلم:"قَدِّموا قريشًا، ولا تَقَدّموها" لو كان على عمومه لَمَا قدّم صلى الله عليه وسلم سالِمَا مولى أبي حُذيفة في الصلاة على غيره من الصحابة القرشيين، وكذا تأميره زيد بن حارثة، وابنه أسامة،

= فإنه من بلاغات الزهري، ومرسلاته، ومرسلاته من أضعف المراسيل، قال القاضي عياض رحمه الله: وأما الحديث الآخر في التعليم، فليس بصحيح لفظًا، ولا معنًى؛ لإجماع العلماء على التعلّم من غير قريش، ومن الموالي، وتعليم قريش منهم، وتعلّم الشافعيّ من مالك، وابن عيينة، ومحمد بن الحسن، وابن أبي يحيى، ومسلم بن خالد الزنجيّ، وغيرهم، ممن ليس بقرشيّ. انتهى. "إكمال المعلم" 6/ 215.

وأما تصحيح الشيخ الألبانيّ رحمه الله للحديث مع هذه الزيادة، ففيه نظر لا يخفى؛ لِمَا عرفت من العلّة، فتبصّر، والله تعالى أعلم.

ص: 633

وغير ذلك مما قدّم فيه النبيّ صلى الله عليه وسلم غير قريش، مع وجود أفاضل قريش، فتخصيص أحاديث الباب بالخلافة واضح وضوح الشمس في رابعة النهار، فتأمل بالإنصاف، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4694]

(

) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاق، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ، قَالَ: هَذَا مَا حَدَّثنَا أبُو هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَ أَحَادِيثَ، مِنْهَا: وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "النَّاسُ تَبَعٌ لِقُرَيْشٍ فِي هَذَا الشَّأْن، مُسْلِمُهُمْ تبَعٌ لِمُسْلِمِهِمْ، وَكَافِرُهُمْ تَبَعٌ لِكَافِرِهِمْ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ) القشيريّ مولاهم، أبو عبد الله النيسابوريّ، ثقةٌ حافظٌ عابدٌ [11](ت 245)(خ م د ت س) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.

2 -

(عَبْدُ الرَّزَّاقِ) بن همّام بن نافع الْحِمْيريّ، أبو بكر الصنعانيّ، ثقةٌ حافظ، مصنّف شهير، عَمِي في آخره، فتغيّر، وكان يتشيّع [9](ت 211) وله (82) سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.

3 -

(مَعْمَرُ) بن راشد الأزديّ مولاهم، أبو عروة البصريّ، نزيل اليمن، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار [7](ت 154)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.

4 -

(هَمَّامُ بْنُ مُنَبِّهِ) بن كامل الأبناويّ، أبو عقبة الصنعانيّ، ثقةٌ [4](ت 132) على الصحيح (ع) تقدم في "الإيمان" 26/ 213.

و"أبو هريرة رضي الله عنه" ذُكر قبله.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، وكذا تقدّم شرح قوله: "هذا ما حدّثنا أبو هريرة

إلخ " غير مرّة، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4695]

(1819) - (وَحَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ حَبِيبٍ الْحَارِثيُّ، حَدَّثَنَا رَوْحٌ، حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، حَدَّثَنِي أَبُو الزُّبَيْر، أنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ يَقُولُ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "النَّاسُ تبَعٌ لِقُرَيْشٍ فِي الْخَيْر، وَالشَّرِّ").

ص: 634

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ حَبِيب الْحَارِثيُّ) البصريّ، ثقةٌ [10](ت 248) أو بعدها (م 4) تقدم في "الإيمان" 14/ 165.

2 -

(رَوْحُ) بن عُبادة القيسيّ البصريّ، تقدّم قبل بابين.

3 -

(ابْنُ جُرَيْجٍ) عبد الملك بن عبد العزيز بن جُريج الأمويّ مولاهم، أبو الوليد، وأبو خالد المكيّ، ثقة فقيه فاضل، لكنه يُدلّس، ويرسل [6](ت 150) أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 129.

4 -

(أَبُو الزّبَيْرِ) محمد بن مسلم بن تَدْرُس المكيّ، تقدّم قبل بابين.

5 -

(جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) بن عمرو بن حرام رضي الله عنهما، تقدّم أيضًا قبل بابين.

وقوله: (فِي الْخَيْر، وَالشَّرِّ") قال النوويّ رحمه الله: معناه: في الإسلام والجاهلية، كما هو مصرَّح به في الرواية الأولى؛ لأنهم كانوا في الجاهلية رؤساء العرب، وأصحاب حَرَم الله، وأهل حجّ بيت الله، وكانت العرب تنتظر إسلامهم، فلما أسلموا، وفُتحت مكة تَبِعهم الناس، وجاءت وفود العرب من كل جهة، ودخل الناس في دين الله أفواجًا، وكذلك في الإسلام هم أصحاب الخلافة، والناس تَبَع لهم، وبَيَّن أن هذا الحكم مستمر إلى آخر الدنيا ما بقي من الناس اثنان. انتهى

(1)

.

وقال المناويّ رحمه الله: هذا خبر بمعنى الأمر، كما يدلّ عليه خبر:"قَدِّموا قريشًا"، وقيل: خبر على ظاهره، والمراد بالناس: بعضهم، وهم سائر العرب من غير قريش.

وقوله: "في الخير والشر"؛ أي: في الإسلام والجاهلية، كما في الرواية الأخرى؛ لأنهم كانوا في الجاهلية متبوعين في كفرهم؛ لكون أمر الكعبة في يدهم، فكذا هم متبوعون في الإسلام، أو أن السابق بالإسلام كان من قريش، فكذا في الكفر؛ لأنهم أول من ردّ دعوته صلى الله عليه وسلم، وكفر به، وأعرض عن الآيات والنُّذُر، فكانوا قدوة في الحالين.

وقال القاضي: معناه أن مسلمي قريش قدوة غيرهم من المسلمين؛ لأنهم

(1)

"شرح النوويّ" 12/ 200.

ص: 635

المتقدِّمون في التصديق، والسابقون في الإيمان، وكافرهم قدوة غيرهم من الكفار، فإنهم أول من ردّ الدعوة، وكَفَر بالرسول صلى الله عليه وسلم. انتهى

(1)

.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [1/ 4695](1819)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(12/ 167)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 331 و 379 و 383)، (وابن أبي عاصم) في "السُّنّة"(1510)، و (ابن حبان) في "صحيحه"(6263)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 368)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(3/ 410 و 4/ 185 و 11/ 140)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(8/ 141)، و (البغويّ) في "شرح السُّنّة"(3847).

والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4696]

(1820) - (وَحَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ يُونُسَ، حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زيدٍ، عَنْ أَبِيه، قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللهِ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا يَزَالُ هَذَا الأَمْرُ فِي قُرَيْشٍ مَا بَقِيَ مِنَ النَّاسِ اثنانِ").

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ يُونُسَ) التميميّ الْيَربوعيّ، أبو عبد الله الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ، من كبار [10](ت 227) وهو ابن (94) سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 53.

2 -

(عَاصِمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدٍ) العُمريّ المدنيّ، ثقةٌ [7](ع) تقدم في "الإيمان" 5/ 122.

3 -

(أَبُوهُ) محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر بن الخطّاب المدنيّ، ثقةٌ [3](ع) تقدم في "الإيمان" 5/ 122.

(1)

"فيض القدير" 6/ 294.

ص: 636

4 -

(عَبْدُ اللهِ) بن عمر بن الخطّاب العَدَويّ، أبو عبد الرحمن رضي الله عنهما، مات سنة (73)(ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 102.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (328) من رباعيّات الكتاب، وفيه رواية الراوي عن أبيه، عن جدّه، وفيه ابن عمر رضي الله عنه أحد العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة، وهو المشهور بشدّة اتّباعه للأثر رضي الله عنه.

شرح الحديث:

(عَن مُحَمَّدِ بْنِ زيدٍ) أنه (قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللهِ) بن عمر رضي الله عنهما (قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا يَزَالُ هَذَا الأَمْرُ)؛ أي: أمر الخلافة، (فِي قُرَيْشٍ)؛ يعني: أنه لا يزال الذي يليها قرشيًّا، (مَا بَقِيَ مِنَ النَّاسِ اثْنَانِ") "ما" مصدريّة ظرفيّة؛ أي: مدّة بقاء اثنين من الناس، وفي رواية البخاريّ:"ما بقي منهم اثنان".

قال أبو محمد بن حزم رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يزال هذا الأمر

إلخ": هذه اللفظة لفظة الخبر، فإن كان معناه الأمر، فحرام أن يكون الأمر في غيرهم أبدًا، وإن كان معناه معنى الخبر كلفظه، فلا شكّ في أن من لم يكن من قريش فلا أمر له، وإن ادّعاه، فعلى كل حال فهذا خبر يوجب منع الأمر عمن سواهم. انتهى

(1)

.

وقال الكرمانيّ رحمه الله: ليست الحكومة في زمننا لقريش، فكيف يطابق الحديث؟.

وأجاب عن ذلك بأن في بلاد الغرب خليفةً من قريش، وكذا في مصر، وتُعُقّب بأن الذي في الغرب هو الحفصيّ صاحب تونس وغيرها، وهو منسوب إلى أبي حفص رقيق عبد المؤمن صاحب ابن تومرت الذي كان على رأس المائة السادسة، ادَّعَى أنه المهديّ، ثم غلب أتباعه على معظم الغرب، وسُمُّوا بالخلافة، وَهُمْ عبد المؤمن وذريته، ثم انتقل ذلك إلى ذرية أبي حفص، ولم يكن عبد المؤمن من قريش، وقد تسمّى بالخلافة هو وأهل بيته، وأما أبو

(1)

"المحلَّى" 1/ 45.

ص: 637

حفص فلم يكن يَدَّعِي أنه من قريش في زمانه، وإنما ادّعاه بعض ولده لمّا غَلَبوا على الأمر، فزعموا أنهم من ذرية أبي حفص عمر بن الخطاب، وليس بيدهم الآن إلا المغرب الأدنى، وأما الأقصى فمع بني الأحمر، وهم منسوبون إلى الأنصار، وأما الأوسط فمع بني مَرِين، وَهُم من البربر.

وأما قوله: فخليفة من مصر، فصحيحٌ، ولكنه لا حَلَّ بيده ولا رَبْط، وإنما له من الخلافة الاسم فقط، وحينئذٍ هو خبر بمعنى الأمر، وإلا فقد خرج هذا الأمر عن قريش في أكثر البلاد.

ويَحْتَمِل حمله على ظاهره، وإن المتغلبين على النظر في أمر الرعية في معظم الأقطار، وإن كانوا من غير قريش، لكنهم معترفون أن الخلافة في قريش، ويكون المراد بالأمر: مجرد التسمية بالخلافة، لا الاستقلال بالحكم، والأول أظهر، والله أعلم. انتهى

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "لا يزال هذا الأمر

إلخ" هذا خبرٌ عن المشروعية؛ أي: لا تنعقدُ الولايةُ الكبرى إلَّا لهم مهما وُجد منهم أحدٌ، وفي حديث آخر: "الأَئِمَّةُ مِنْ قُرَيْشٍ"

(2)

، وقد استدَلَّ بهذا اللَّفظ، وما في معناه من قوله صلى الله عليه وسلم:"قَدِّمُوا قُرَيْشًا، وَلا تَتَقَدَّمُوها" كُبراء أصحاب الشافعيّ رحمه الله على ترجيح مذهب الشافعيّ على غيره؛ من حيث إنه قرشيٌّ، ولا حُجَّة فيه؛ لأنَّه لا يصحُّ الاحتجاج به إلَّا حتى تُحْمَل الإمامةُ فيه على العموم في كل شيء يُحتاج إلى الاقتداء فيه، من الإِماَمةِ الكُبْرى، وإمامة الفَتْوى، والقضاء، والصَّلاة، وغير ذلك من الولايات، ولا يصح ذلك؛ للإجماع على خِلافِه؛ إذ قد أجمعت الأمة على أن جميع الولايات تصحُّ لغير قريش، ما خلا الإمامة الكبرى، فهي المقصودة بالحديث قَطْعًا، وقد قدَّم النبيّ صلى الله عليه وسلم غير قريش على قريش، فإنه قدَّم زيد بن حارثة، وولده أسامة، ومعاذ بن جبل، وقدَّم سالِمًا مولى أبي حُذيفة على الصلاة بقُباء، فكان يَؤُمُّهُم وفيهم أبو بكر، وعمر، وغيرهم، من كبراء قريش، ثم إن الشافعيّ رحمه الله أول من ترك عموم تلك الأخبار، فإنَّه قد اقتدى

(1)

"الفتح" 8/ 157 - 158.

(2)

حديث صحيح، رواه أحمد في "مسنده" 3/ 183 و 421.

ص: 638

بمالك، واسْتَفْتَاهُ، ومالك ليس بقرشيٍّ، وإنما هو أَصْبَحيٌّ صَرِيْحًا، وأيضًا: فإنَّه لم يُرْوَ عنه أنه مَنَع من تقليد مَنْ ليس بقرشي، فدلَّ هذا كُلُّه على أن الْمُسْتَدلَّ بذلك الحديث على تقديم مذهب الشافعيّ صَحِبَتْهُ غَفْلَةٌ، قارَنَها من تَصْمِيم التَّقْليد طَيْشَةٌ، وربما رووا ألفاظًا رفعوها؛ كقوله:"تَعَلَّمُوا من قريش، ولا تُعَلِّمُوها"، وذلك لا يصحُّ نَقْلًا، ولا معنىً؛ بما تقدَّم، والله أعلم. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله، وهو بحث حسن، وقد تقدّم البحث فيه قريبًا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عبد الله بن عمر صلى الله عليه وسلم هذا متّفق عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [1/ 4696](1820)، و (البخاريّ) في "المناقب"(2195) و"الأحكام"(7140)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(12/ 171)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1956)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 29 و 93 و 128)، و (أبو القاسم البغويّ) في "الجعديّات"(2195)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(5589)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6266 و 6655)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 355 و 368 و 369)، و (ابن الجعد) في "مسنده"(1/ 311)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(8/ 141) و"شعب الإيمان"(6/ 7)، و (أبو محمد البغويّ) في "شرح السُّنّة"(3848)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): قال في "الفتح": قوله: "ما بَقِيَ منهم اثنان": قال ابن هُبيرة: يَحْتَمِل أن يكون على ظاهره، وأنهم لا يبقى منهم في آخر الزمان إلا اثنان: أمير، ومؤمَّر عليه، والناس لهم تبَعٌ.

قال الحافظ: في رواية مسلم عن شيخ البخاريّ في هذا الحديث: "ما بقي من الناس اثنان"، وفي رواية الإسماعيليّ:"ما بقي في الناس اثنان، وأشار بإصبعيه: السبابة، والوسطى"، وليس المراد حقيقةَ العدد، وإنما المراد به: انتفاء أن يكون الأمر في غير قريش.

ويَحْتَمِل أن يُحمل المطلَق على المقيَّد في الحديث الأول، ويكون

ص: 639

التقدير: لا يزال هذا الأمر؛ أي: لا يُسَمَّى بالخليفة إلا من يكون من قريش، إلا أن يسمى به أحد من غيرهم غلبةً وقهرًا، وإما أن يكون المراد بلفظه: الأمرَ، وإن كان لفظه لفظَ الخبر.

ويَحْتَمِل أن يكون بقاء الأمر في قريش في بعض الأقطار دون بعض، فإن بالبلاد اليمنية، وهي النجود منها طائفة من ذرية الحسن بن عليّ لم تزل مَمْلَكة تلك البلاد معهم من أواخر المائة الثالثة، وأما مَن بالحجاز مِن ذرية الحسن بن عليّ، وهم أمراء مكة، وأمراء ينبع، ومن ذرية الحسين بن عليّ، وهم أمراء المدينة، فإنهم وإن كانوا من صميم قريش، لكنهم تحت حكم غيرهم من ملوك الديار المصرية، فبقي الأمر في قريش بقُطر من الأقطار في الجملة، وكبير أولئك؛ أي: أهل اليمن يقال له: الإمام، ولا يتولى الإمامة فيهم إلا من يكون عالِمًا متحريًا للعدل.

وقال الكرمانيّ: لم يخلُ الزمان عن وجود خليفة من قريش؛ إذ في المغرب خليفة منهم على ما قيل، وكذا في مصر.

قال الحافظ: الذي في مصر لا شكّ في كونه قرشيًّا؛ لأنه من ذرية العباس، والذي في صَعدة وغيرها من اليمن لا شكّ في كونه قرشيًّا؛ لأنه من ذرية الحسين بن عليّ، وأما الذي في المغرب فهو حفصيّ، من ذرية أبي حفص صاحب بن تومرت، وقد انتسبوا إلى عمر بن الخطاب، وهو قرشيّ.

قال: ولحديث ابن عمر شاهد من حديث ابن عباس، أخرجه البزار، بلفظ:"لا يزال هذا الدين واصبًا، ما بقي من قريش عشرون رجلًا".

وقال النوويّ: حُكم حديث ابن عمر مستمرّ إلى يوم القيامة، ما بقي من الناس اثنان، وقد ظهر ما قاله صلى الله عليه وسلم، فمن زمنه إلى الآن لم تزل الخلافة في قريش، من غير مزاحمة لهم على ذلك، ومن تغلب على المُلك بطريق الشركة لا يُنكر أن الخلافة في قريش، وإنما يدّعي أن ذلك بطريق النيابة عنهم. انتهى.

وقد أُورد عليه أن الخوارج في زمن بني أمية تسمَّوا بالخلافة واحدًا بعد واحد، ولم يكونوا من قريش، وكذلك ادَّعَى الخلافة بنو عبيد، وخُطب لهم بمصر، والشام، والحجاز، ولبعضهم بالعراق أيضًا، وأزيل الخلافة ببغداد قَدْر

ص: 640

سنة، وكانت مدة بني عبيد بمصر سوى ما تقدم لهم بالمغرب تزيد على مائتي سنة، وادَّعَى الخلافة عبد المؤمن صاحب ابن تومرت، وليس بقرشيّ، وكذلك كل من جاء بعده بالمغرب إلى اليوم.

والجواب عنه: أما عن بني عبيد، فإنهم كانوا يقولون: إنهم من ذرية الحسين بن عليّ، ولم يبايعوه إلا على هذا الوصف، والذين أثبتوا نسبتهم ليسوا بدون من نفاه، وأما سائر من ذُكِر، ومن لم يُذكَر فهم من المتغلِّبين، وحكمهم حكم البغاة، فلا عبرة بهم.

وقال القرطبيّ: هذا الحديث خبر عن المشروعية؛ أي: لا تنعقد الإمامة الكبرى إلا لقرشيّ مهما وُجد منهم أحد، وكانه جنح إلى أنه خبر بمعنى الأمر.

وقد ورد الأمر بذلك في حديث جبير بن مطعم، رفعه:"قَدِّموا قريشًا، ولا تَقَدّموها"، أخرجه البيهقيّ، وعند الطبرانيّ من حديث عبد الله بن حنطب، ومن حديث عبد الله بن السائب مثله، وفي نسخة أبي اليمان، عن شعيب، عن أبي هريرة، وعن أبي بكر بن سليمان بن أبي حَثْمة مرسلًا أنه بلغه مثله، وأخرجه الشافعيّ من وجه آخر، عن ابن شهاب، أنه بلغه مثله.

وفي الباب حديث أبي هريرة رضي الله عنه رفعه: "الناس تَبَعٌ لقريش في هذا الشأن"، أخرجاه في "الصحيحين"، من رواية المغيرة بن عبد الرحمن، ومسلم أيضًا من رواية سفيان بن عيينة، كلاهما عن الأعرج، عن أبي هريرة، وأخرجه مسلم أيضًا من رواية همام، عن أبي هريرة، ولأحمد من رواية أبي سلمة، عن أبي هريرة مثله، لكن قال:"في هذا الأمر"، وشاهده عند مسلم، عن جابر، كالأول، وعند الطبراني من حديث سهل بن سعد، وعند أحمد، وابن أبي شيبة من حديث معاوية، وعند البزار من حديث عليّ، وأخرج أحمد من طريق عبد الله بن أبي الْهُزيل، قال: لَمّا قَدِم معاوية الكوفة قال رجل من بكر بن وائل: لئن لم تنته قريش لنجعلنّ هذا الأمر في جمهور من جماهير العرب غيرهم، فقال عمرو بن العاص: كذبت، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"قريش قادة الناس".

قال ابن المنير: وجه الدلالة من الحديث ليس من جهة تخصيص قريش بالذِّكر، فإنه يكون مفهوم لَقَب، ولا حجة فيه عند المحققين، وإنما الحجة

ص: 641

وقوع المبتدأ مُعَرَّفًا باللام الجنسية؛ لأنَّ المبتدأ بالحقيقة ها هنا هو الأمر الواقع صفة لِـ "هذا"، وهذا لا يوصف إلَّا بالجنس، فمقتضاه حصر جنس الأمر في قريش، فيصير كأنه قال: لا أمْر إلَّا في قريش، وهو كقوله:"الشفعة فيما لَمْ يُقْسَم"، والحديث وإن كان بلفظ الخبر، فهو بمعنى الأمر، كأنه قال: ائتموا بقريش خاصّة وبقية طرق الحديث تؤيد ذلك، ويؤخذ منه أن الصحابة رضي الله عنهم اتفقوا على إفادة المفهوم للحصر، خلافًا لمن أنكر ذلك، وإلى هذا ذهب جمهور أهل العلم، أن شرط الإمام أن يكون قرشيًّا، وقيّد ذلك طوائف ببعض قريش، فقالت طائفة: لا يجوز إلَّا من وَلَد عليّ، وهذا قول الشيعة، ثم اختلفوا اختلافًا شديدًا في تعيين بعض ذرية عليّ، وقالت طائفة: يختص بولد العباس، وهو قول أبي مسلم الخرسانيّ، وأتباعه، ونقل ابن حزم أن طائفة قالت: لا يجوز إلَّا في وَلَد جعفر بن أبي طالب، وقالت أخرى: في ولد عبد المطلب، وعن بعضهم: لا يجوز إلَّا في بني أمية، وعن بعضهم: لا يجوز إلَّا في ولد عمر، قال ابن حزم: ولا حجة لأحد من هؤلاء الْفِرَق، وقالت الخوارج، وطائفة من المعتزلة رحمه الله: يجوز أن يكون الإمام غير قرشيّ، وإنما يستحق الإمامة من قام بالكتاب والسُّنَّة، سواء كان عربيًّا أم عجميًّا، وبالغ ضرار بن عمرو، فقال: تولية غير القرشيّ أَوْلى؛ لأنه يكون أقلّ عشيرةً، فإذا عَصَى كان أمكن لخلعه، وقال أبو بكر بن الطيب: لَمْ يعرِّج المسلمون على هذا القول بعد ثبوت حديث: "الأئمة من قريش"، وعمل المسلمون به قرنًا بعد قرن، وانعقد الإجماع على اعتبار ذلك قبل أن يقع الاختلاف.

قال الحافظ: قد عَمِل بقول ضرار من قَبْل أن يوجد من قام بالخلافة من الخوارج علي بني أمية، كقَطَريّ - بفتح القاف، والطاء المهملة - ودامت فتنتهم حتى أبادهم المهلَّب بن أبي صُفْرة أكثر من عشرين سنة، وكذا تسمى بأمير المؤمنين من غير الخوارج ممن قام على الحجاج، كابن الأشعث، ثم تسمى بالخلافة من قام في قُطْر من الأقطار في وقتٍ مَا، فتسمى بالخلافة، وليس من قريش، كبني عباد، وغيرهم بالأندلس، كعبد المؤمن، وذريته ببلاد المغرب كلها، وهؤلاء ضاهوا الخوارج في هذا، ولم يقولوا بأقوالهم، ولا تمذهبوا بآرائهم، بل كانوا من أهل السُّنَّة، داعين إليها.

ص: 642

وقال عياض: اشتراط كون الإمام قرشيًّا مذهب العلماء كافّة، وقد عدّوها في مسائل الإجماع، ولم يْنقل عن أحد من السلف فيها خلاف، وكذلك مَنْ بعدهم في جميع الأمصار، قال: ولا اعتداد بقول الخوارج، ومَن وافقهم مِن المعتزلة؛ لِمَا فيه من مخالفة المسلمين.

قال الحافظ: وَيحتاج من نقل الإجماع إلى تأويل ما جاء عن عمر رضي الله عنه من ذلك، فقد أخرج أحمد عن عمر بسند رجاله ثقات، أنه قال: إن أدركني أجلي، وأبو عبيدة حيّ استخلفته، فذكر الحديث، وفيه:"فإن أدركني أجلي، وقد مات أبو عبيدة، استخلفت معاذ بن جبل"، الحديث، ومعاذ بن جبل أنصاريّ، لا نَسَب له في قريش، فَيَحْتَمِل أن يقال: لعل الإجماع انعقد بعد عمر على اشتراط أن يكون الخليفة قرشيًّا، أو تغير اجتهاد عمر في ذلك، والله أعلم.

وأما ما احتج به من لَمْ يعيِّن الخلافة في قريش، من تأمير عبد الله بن رواحة، وزيد بن حارثة، وأسامة، وغيرهم في الحروب، فليس من الإمامة العظمى في شيء، بل فيه أنه يجوز للخليفة استنابة غير القرشيّ في حياته، والله أعلم.

واستُدِلَّ بحديث ابن عمر رضي الله عنهما على عدم وقوع ما فرضه الفقهاء من الشافعية وغيرهم، أنه إذا لَمْ يوجد قرشيّ يُستخلف كنانيّ، فإن لَمْ يوجد، فمِن بني إسماعيل، فإن لَمْ يوجد منهم أحد مستجمِع الشرائط، فعجميّ، وفي وجه: جُرْهُمي وإلا فمِن ولد إسحاق، قالوا: وإنما فرض الفقهاء ذلك على عادتهم في ذِكر ما يُمكن أن يقع عقلًا، وإن كان لا يقع عادة، أو شرعًا.

قال الحافظ: والذي حَمَل قائلُ هذا القول عليه أنه فَهِمَ منه الخبر المحض، وخبر الصادق لا يتخلف، وأما مَن حمَله على الأمر، فلا يحتاج إلى هذا التأويل. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: تقدّم أن الأرجح حَمْله على الأمر؛ لوضوح أدلّته، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

(1)

"الفتح" 16/ 617 - 621، كتاب "الأحكام" رقم (7140).

ص: 643

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4697]

(1821) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ حُصَيْنٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ (ح) وَحَدَّثَنَا رِفَاعَةُ بْنُ الْهَيْثَمِ الْوَاسِطِيُّ - وَاللَّفْظُ لَهُ - حَدَّثَنَا خَالِدٌ - يَعْني: ابْنَ عَبْدِ اللهِ الطَّحَّانَ - عَنْ حُصَيْنٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ، قَالَ: دَخَلْتُ مَعَ أَبِي عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ:"إنَّ هَذَا الأَمْرَ لَا يَنْقَضِي حَتَّى يَمْضِيَ فِيهِمُ أئنَا عَشَرَ خَلِيفَةً"، قَالَ: ثُمَّ تَكَلَّمَ بِكَلَامٍ خَفِيَ عَلَيَّ، قَالَ: فَقُلْتُ لأَبِي: مَا قَالَ؟ قَالَ: "كُلُّهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(قتيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) تقدّم قبل بابين.

2 -

(جَرِيرُ) بن عبد الحميد بن قُرط الضبّيّ، أبو عبد الله الكوفيّ، نزيل الريّ وقاضيها، ثقةٌ، صحيح الكتاب [8](188)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.

3 -

(حُصَيْنُ) بن عبد الرَّحمن السلميّ، أبو الْهُذيل الكوفيّ، ثقةٌ تغيّر حفظه في الآخر [5](ت 136) وله (93) سنة (ع) تقدم في "الإيمان" 43/ 285.

4 -

(رِفَاعَةُ بْنُ الْهَيْثَمِ الْوَاسِطِيُّ) أبو سعيد، مقبول [10] من أفراد المصنّف تقدم في "الجمعة" 13/ 1999.

5 -

(خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ الطَّحَّانُ) الْمُزنيّ مولاهم، أبو الْهَيثم الواسطيّ، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 182)(ع) تقدم في "الإيمان" 7/ 4078.

6 -

(جَابِرُ بْنُ سَمُرَةَ) بن جُنَادة السُّوَائيّ الصحابيّ ابن الحصابيّ رضي الله عنهما، نزل الكوفة، ومات بها بعد سنة (70)(ع) تقدم في "الحيض" 24/ 808.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد.

أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (329) من رباعيّات الكتاب.

شرح الحديث:

(عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ) رضي الله عنهما أنه (قَالَ: دَخَلْتُ مَعَ أَبِي) سمرة بن جندب رضي الله عنه (عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: (إنَّ هَذَا الأَمْرَ)؛ أي: إن عزّة الإسلام، والدِّين، وصلاح حال المسلمين، كما تدلّ عليه الروايات التالية، من قوله صلى الله عليه وسلم:"لا يزال أمر الناس ماضيًا"، وقوله:"لا يزال الإسلام عزيزًا"، وقوله: "لا

ص: 644

يزال هذا الدين عزيزًا منيعًا". (لَا يَنْقَضِي)؛ أي: لا ينقطع، ويزول (حَتَّى يَمْضِيَ فِيهِمُ)؛ أي: في الناس، (اثْنَا عَشَرَ خَلِيفَةً) وفي رواية البخاريّ: "يكون اثنا عشر أميرًا". (قَالَ) جابر رضي الله عنه (ثُمَّ تَكَلَّمَ)؛ أي: النبيّ صلى الله عليه وسلم (بِكَلَامٍ خَفِيَ عَلَيَّ) وفي رواية سفيان التالية: "ثم تكلم النبيّ صلى الله عليه وسلم بكلمة خَفِيَت عليّ"، ووقع عند أبي داود من طريق الشعبيّ، عن جابر بن سمرة رضي الله عنهما سبب خفاء الكلمة المذكورة على جابر، ولفظه: "لا يزال هذا الدين عزيزًا إلى اثني عشر خليفة، قال: فَكَبَّر الناس، وضَجُّوا، فقال كلمة خفيّةً، فقلت لأبي: يا أبت ما قال؟ " فذكره، وفي الرواية الآتية عند مسلم: "صَمَّنيها الناس"؛ أي: أصمّوني منها، فلم أسمعها لكثرة كلامهم، ولَغَطَهم. (قَالَ: فَقُلْتُ لأَبِي) سمرة، وفي الرواية الآتية: "فسألت أبي"، (مَا قَالَ؟) "ما" استفهاميّة؛ أي: أي شيء قَالَ؟، وفي رواية البخاريّ: "فقال أبي"، (قَالَ) صلى الله عليه وسلم: ("كلُّهُمْ)؛ أي: كلّ الخليفة الاثني عشر (مِنْ قُرَيْشٍ") ووقع عند الطبرانيّ في آخر الحديث: "فالتفتّ، فإذا أنا بعمر بن الخطاب، وأبي، في أناس، فأثبتوا إليّ الحديث"، ووقع في حديث أبي جُحيفة عند البزار، والطبرانيّ نحو حديث جابر بن سمرة، بلفظ:"لا يزال أمر أمتي صالحًا"، وأخرجه أبو داود، من طريق الأسود بن سعيد، عن جابر بن سمرة نحوه، وزاد:"فلمّا رجع إلى منزله أتته قريش، فقالوا: ثم يكون ماذا؟ قال: الهرج"، وأخرج البزار هذه الزيادة من وجه آخَر، فقال فيها:"ثم رجع إلى منزله، فأتيته، فقلت: ثم يكون ماذا؛ قال: الهرج".

قال القرطبيّ رحمه الله عند شرح قولِهِ: "لا يزال هذا الأمر عزيزًا إلى اثني عشر خليفة كلهم من قريش": يعني به: أنه لا تزال عزَّةُ دين الإسلام قائمةً إلى اثني عشر خليفة من قريش، وقد اختُلف فيهم على ثلاثة أقوال:

أحدها: أنهم خلفاء العَدْلِ؛ كالخلفاء الأربعة، وعمر بن عبد العزيز، ولا بُدَّ من ظهور من يَتَنَزَّلُ مَنْزِلَتُهم في إظهار الحق والعدل، حتى يَكْمُل ذلك العدد، وهو أولى الأقوال عندي.

وثانيها: أنَّ هذا إخبارٌ عن الولايات الواقعة بَعْدَهُ وبَعْدَ أصحابه، وكأنه أشار بذلك إلى مدة ولاية بني أُمَيَّة، ويعني بالدِّين: المُلك والولاية، وهو شرح

ص: 645

الحال في استقامة السَّلْطَنَةِ لهم، لا على طريق المدح، وقد يقال: الدِّينُ على الْمُلْكِ؛ كما قال [من البسيط]:

لَئِنْ حَلَلْتَ بِجوٍّ في بني أسدٍ

فِي دينِ عمرٍو وحَالتْ بيننا فَدَكُ

وقيل ذلك في قوله تعالى: {مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ} الآية [يوسف: 76]، ثم عدّد هذا القائل ملوكهم، فقال: أَوَّلُهم يزيدُ بن معاوية، ثم ابنه معاويةُ بن يزيد - وقال: ولم يذكر ابن الزبير لأنه صحابيّ، ولا مروان لأنه غاصب لابن الزبير -، ثم عبد الملك، ثم الوليد، ثم سليمان، ثم عمر بن عبد العزيز، ثم يزيد بن عبد الملك، ثم هشام بن عبد الملك، ثم الوليد بن يزيد، ثم يزيد بن الوليد، ثم إبراهيم بن الوليد، ثم مروان بن محمد، فهؤلاء اثنا عشر، ثم خرجت الخلافة منهم إلى بني العباس.

وثالثها: أن هذا خبر عن اثني عشر خليفة من قريش، مجتمعين في زمان واحد في آفاق مختلفة؛ كما قد وقع، فقد كان بالأندلس منهم في عصر واحد بعد أربعمائة وثلاثين سنة ثلاثة كلهم يَدَّعيها، وتَلَقَّب بها، ومعهم صاحبُ مصر، وخليفة بغداد، فكذلك يجوز أن يجتمع الاثنا عشر خليفة في العصر الواحد، وقد دلّ على هذا قوله:"سيكون خلفاء فتَكْثُر"، متّفقٌ عليه، قال القرطبيّ رحمه الله: وكلٌّ محتمَل، والأول أَولاها؛ لبُعْده عن الاعتراض. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(1)

.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث جابر بن سَمُرة رضي الله عنهما هذا متَّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [1/ 4697 و 4698 و 4699 و 4700 و 4701 و 4702](1821)، و (البخاريّ) في "الإحكام"(7222 و 7223)، و (أبو داود) في "كتاب المهديّ"(4281)، و (الترمذي) في "الفِتَن"(2223)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1278)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 90 و 100 و 106)، و (ابن

(1)

"المفهم" 4/ 8 - 9.

ص: 646

حبّان) في "صحيحه"(6661 و 6662 و 6663)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(2059)، و (أبو القاسم البغويّ) في "الجعديّات"(2754)، و (الحاكم) في "المستدرك"(3/ 715 - 716)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 369 و 370 و 371 و 372 و 373)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(13/ 456)، و (ابن الجعد) في "مسنده"(1/ 390) و (البيهقيّ) في "دلائل النبوّة"(6/ 520)، و (البغويّ) في "شرح السُّنّة"(4237)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): قال في "الفتح" عند شرح قوله صلى الله عليه وسلم: "يكون اثنا عشر أميرًا، كلّهم من قريش " ما نصّه: قال ابن بطال

(1)

عن المهلَّب: لَمْ ألق أحدًا يقطع في هذا الحديث؛ يعني: بشيء معيَّن، فقوم قالوا: يكونون بتوالي إمارتهم، وقوم قالوا: يكونون في زمن واحد، كلهم يدَّعي الإمارة، قال: والذي يغلب على الظنّ أنه صلى الله عليه وسلم أخبر بأعاجيبَ تكون بعده من الفتن، حتى يفترق الناس في وقت واحد على اثني عشر أميرًا، قال: ولو أراد غير هذا لقال: يكون اثنا عشر أميرًا، يفعلون كذا، فلما أعراهم من الخبر، عرفنا أنه أراد أنهم يكونون في زمن واحد. انتهى.

قال الحافظ: وهو كلامُ مَن لَمْ يقف على شيء من طُرُق الحديث غير الرواية التي وقعت في البخاريّ هكذا مختصرةً، وقد عرفت من الروايات التي ذكرتُها من عند مسلم وغيره، أنه ذَكر الصفة التي تختص بولايتهم، وهو كون الإسلام عزيزًا منيعًا، وفي الرواية الأخرى صفة أخرى، وهو أن كلهم يجتمع عليه الناس، كما وقع عند أبي داود، فإنه أخرج هذا الحديث من طريق إسماعيل بن أبي خالد، عن أبيه، عن جابر بن سمرة، بلفظ:"لا يزال هذا الدين قائمًا حتى يكون عليكم اثنا عشر خليفةً، كلهم تجتمع عليه الأمّة"، وأخرجه الطبرانيّ من وجه آخر، عن الأسود بن سعيد، عن جابر بن سمرة، بلفظ:"لا تضرّهم عداوة من عاداهم".

وقد لَخَّص القاضي عياض ذلك، فقال: توجه على هذا العدد سؤالان:

أحدهما: أنه يعارضه ظاهر قوله في حديث سَفينة - يعني: الذي أخرجه

(1)

"شرح البخاريّ" لابن بطّال 8/ 287.

ص: 647

أصحاب السنن، وصححه ابن حبان، وغيره -:"الخلافة بعدي ثلاثون سنةً، ثم تكون مُلكًا"؛ لأنَّ الثلاثين سنة لَمْ يكن فيها إلَّا الخلفاء الأربعة، وأيام الحسن بن عليّ.

والثاني: أنه وَليَ الخلافة أكثر من هذا العدد.

قال: والجواب عن الأول أنه أراد في حديث سفينة خلافة النبوة، ولم يقيّده في حديث جابر بن سمرة بذلك، وعن الثاني: أنه لَمْ يقل: لا يلي إلَّا اثنا عشر، وإنما قال:"يكون اثنا عشر"، وقد وَليَ هذا العدد، ولا يمنع ذلك الزيادة عليهم، قال: وهذا إن جُعل اللفظ واقعًا على كلّ من وَليَ، وإلا فيَحْتَمِل أن يكون المراد مَن يستحق الخلافة، من أئمة العدل، وقد مضى منهم الخلفاء الأربعة، ولا بُدّ من تمام العدة قبل قيام الساعة، وقد قيل: إنهم يكونون في زمن واحد، يفترق الناس عليهم، وقد وقع في المائة الخامسة في الأندلس وحدها ستة أنفس، كلهم يتسمى بالخلافة، ومعهم صاحب مصر، والعباسية ببغداد إلى من كان يَدَّعِي الخلافة في أقطار الأرض من بلاد البرابر، وخراسان، من العلوية، والخوارج، وغيرهم، قال: ويعضد هذا التأويل قوله في حديث آخر في مسلم: "ستكون خلفاء، فيَكْثُرون"، قال: ويَحْتَمِل أن يكون المراد: أن يكون الاثنا عشر في مدّة عزة الخلافة، وقوَّة الإسلام، واستقامة أموره، والاجتماع على من يقوم بالخلافة، ويؤيده قوله في بعض الطرق:"كلّهم تجتمع عليه الأمة"، وهذا قد وُجد فيمن اجتمع عليه الناس إلى أن اضطرب أمر بني أمية، ووقعت بينهم الفتنة زمن الوليد بن يزيد، فاتَّصَلت فُتُونهم إلى أن قامت الدولة العباسية، فاستأصلوا أمرهم، وهذا العدد موجود صحيح، إذا اعتُبِر.

قال: وقد يَحْتَمِل وجوهًا أُخَر، والله أعلم بمراد نبته صلى الله عليه وسلم فيها. انتهى

(1)

.

قال الحافظ: والاحتمال الذي قبل هذا، وهو اجتماع اثني عشر في عصر واحد كلهم يطلب الخلافة، هو الذي اختاره المهلّب، كما تقدم، وقد ذكرت وجه الردّ عليه، ولو لَمْ يَرِدْ إلَّا قوله "كلهم يجتمع عليه الناس"، فإن في

(1)

"إكمال المعلم" 6/ 217.

ص: 648

وجودهم في عصر واحد يوجِد عين الافتراق، فلا يصحّ أن يكون المرادَ، ويؤيد ما وقع عند أبي داود، ما أخرجه أحمد، والبزار، من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، بسند حسن:"أنه سئل: كم يملك هذه الأمة من خليفة؟ فقال: سألنا عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: اثنا عشر، كعِدّة نقباء بني إسرائيل".

وقال ابن الجوزيّ في "كشف المشكل"

(1)

: قد أطلت البحث عن معنى هذا الحديث، وتطلّبت مظانّه، وسالت عنه، فلم أقع على المقصود به؛ لأنَّ ألفاظه مختلفة، ولا أشك أن التخليط فيها من الرواة، ثم وقع لي فيه شيء وجدت الخطابيّ بعد ذلك قد أشار إليه، ثم وجدت كلامًا لأبي الحسين بن المنادي، وكلامًا لغيره.

فأما الوجه الأول، فإنه أشار إلى ما يكون بعده، وبعد أصحابه، وأن حُكم أصحابه مرتبط بحُكمه، فأخبر عن الولايات الواقعة بعدهم، فكأنه أشار بذلك إلى عدد الخلفاء من بني أمية، وكأن قوله:"لا يزال الدين -؛ أي: الولاية - إلى أن يلي اثنا عشر خليفة"، ثم ينتقل إلى صفة أخرى أشدّ من الأُولى، وأول بني أمية يزيد بن معاوية، وأَخرهم مروان الحمار، وعدّتهم ثلاثة عشر، ولا يُعَدّ عثمان، ومعاوية، ولا ابن الزبير؛ لكونهم صحابةً، فإذا أسقطنا منهم مروان بن الحكم؛ للاختلاف في ححبته، أو لأنه كان متغلِّبًا بعد أن اجتمع الناس على عبد الله بن الزبير، صحت العدّة، وعند خروج الخلافة من بني أمية، وقعت الفتن العظيمة، والملاحم الكثيرة، حتى استقرّت دولة بني العباس، فتغيرت الأحوال عمّا كانت عليه تغيّرًا بيّنًا، قال: ويؤيد هذا ما أخرجه أبو داود، من حديث ابن مسعود رضي الله عنه رفعه:"تدور رَحَى الإسلام لخمس وثلاثين، أو ست وثلاثين، أو سبع وثلاثين، فإن هلكوا فسبيل من هلك، وإن يَقُمْ لهم دِينهم يَقُمْ لهم سبعين عامًا"، زاد الطبرانيّ، والخطابيّ:"فقالوا: سوى ما مضى؟ قال: نعم"، قال الخطابيّ: رَحَى الإسلام كناية عن الحرب، شَبّهها بالرحى التي تَطحن الحبّ؛ لِمَا يكون فيها من تلف الأرواح، والمراد بالدِّين في قوله:"يقم لهم دينهم" المُلك، قال: فيُشبه أن يكون إشارةً

(1)

"كشف المشكل" 1/ 452.

ص: 649

إلى مدة بني أمية في الفلك، وانتقاله عنهم إلى بني العباس، فكان ما بين استقرار المُلك لبني أمية، وظهور الوَهْن فيه، نحو من سبعين سنة.

قال الحافظ: لكن يَعْكُر عليه أن من استقرار المُلك لبني أمية عند اجتماع الناس على معاوية سنة إحدى وأربعين إلى أن زالت دولة بني أمية، فقُتل مروان بن محمد في أوائل سنة اثنتين وثلاثين ومائة أزْيَد من تسعين سنة.

ثم نَقَل عن الخطيب أبي بكر البغدادقي قولَهُ: "تدور رَحَى الإسلام" مَثَل يريد أن هذه المدة إذا انتهت حدث في الإسلام أمر عظيم، يُخاف بسببه على أهله الهلاك، يقال للأمر إذا تغيّر، واستحال: دارت رحاه، قال: وفي هذا إشارة إلى انتقاض مدة الخلافة، وقوله:"يقُمْ لهم دينهم"؛ أي: مُلكهم، وكان من وقت اجتماع الناس على معاوية إلى انتقاض مُلك بني أمية نحوًا من سبعين.

قال ابن الجوزيّ: ويؤيد هذا التأويل ما أخرجه الطبرانيّ من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، رفعه:"إذا مَلَك اثنا عشر من بني كعب بن لؤي، كان النَّقْفُ، والنّقَافُ إلى يوم القيامة". انتهى.

قال الحافظ: والنقف ظَهَر لي أنه بفتح النون، وسكون القاف، وهو كسر الهامة عن الدماغ، والنَّقَاف بوزن فَعَال منه، وكَنَى بذلك عن القتل، والقتال، ويؤيده قوله في بعض طرق جابر بن سمرة:"ثم يكون الْهَرْجُ".

وأما صاحب "النهاية": فضَبَطه بالثاء المثلثة، بدل النون، وفسّره بالجِدّ الشديد في الخصام، ولم أر في اللغة تفسيره بذلك، بل معناه: الفطنة، والْحِذْق، ونحو ذلك.

وفي قوله: "من بني كعب بن لؤيّ " إشارة إلى كونهم من قريش؛ لأنَّ لؤيًا هو ابن غالب بن فِهْر، وفهر جَمّاع قريش.

وقد يؤخذ منه أن غيرهم يكون من غير قريش، فتكون فيه إشارة إلى القَحْطاني المقدَّم ذكره. قال: وأما الوجه الثاني، فقال أبو الحسين بن المنادي في الجزء الذي جَمَعَه في المهديّ: يَحْتَمِل في معنى حديث: "يكون اثنا عشر خليفةً" أن يكون هذا بعد المهديّ الذي يخرج في آخر الزمان، فقد وَجدت في "كتاب دانيال": إذا مات المهديّ مَلَك بعده خمسة رجال، من وَلَدِ السبط

ص: 650

الأكبر، ثم خمسة من ولد السبط الأصغر، ثم يوصي آخرهم بالخلافة لرجل من ولد السبط الأكبر، ثم يَملك بعده ولده، فيتم بذلك اثنا عشر مَلِكًا، كلّ واحد منهم إمام مهديّ.

قال ابن المنادى: وفي رواية أبي صالح، عن ابن عباس:"المهديّ اسمه محمد بن عبد الله، وهو رجل ربعةٌ مُشَرَّب بحمرة، يُفَرِّج الله به عن هذه الأمة كلّ كرب، ويصرف بعدله كلّ جَوْر، ثم يلي الأمر بعده اثنا عشر رجلًا، ستة مِن وَلَد الحسن، وخمسة من ولد الحسين، وآخر من غيرهم، ثم يموت، فيفسد الزمان".

وعن كعب الأحبار: يكون اثنا عشر مهديّا، ثم ينزل روح الله، فيقتل الدجال.

قال: والوجه الثالث أن المراد وجود اثني عشر خليفةً في جميع مدة الإسلام إلى يوم القيامة، يعملون بالحقّ، وإن لَمْ تتوالى أيامهم، ويؤيده ما أخرجه مسدّد في "مسنده الكبير"، من طريق أبي بحر، أن أبا الجلد حدّثه، أنه لا تهلك هذه الأمة حتى يكون منها اثنا عشر خليفةً، كلهم يعمل بالهدي، ودين الحقّ، منهم رجلان من أهل بيت محمد، يعيش أحدهما أربعين سنةً، والآخر ثلاثين سنة.

وعلى هذا فالمراد بقوله: "ثم يكون الهرج"؛ أي: الفتن المُؤْذِنة بقيام الساعة، من خروج الدجال، ثم يأجوج ومأجوج، إلى أن تنقضي الدنيا. انتهى كلام ابن الجوزيّ ملخّصًا بزيادات يسيرة، والوجهان: الأول، والآخر قد اشتمل عليهما كلام القاضي عياض، فكأنه ما وقف عليه، بدليل أن في كلامه زيادةً لَمْ يشتمل عليها كلامه.

قال الحافظ: وينتظم من مجموع ما ذكراه أوجه، أرجحها: الثالث من أوجه القاضي؛ لتأييده بقوله في بعض طرق الحديث الصحيحة: "كلهم يجتمع عليه الناس"، وإيضاح ذلك أن المراد بالاجتماع انقيادهم لبيعته، والذي وقع أن الناس اجتمعوا على أبي بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم عليّ، إلى أن وقع أمر الْحَكَمين في صِفِّين، فسُمِّي معاوية يومئذ بالخلافة، ثم اجتمع الناس على معاوية، عند صلح الحسن، ثم اجتمعوا على ولده يزيد، ولم ينتظم للحسين

ص: 651

أمرٌ، بل قُتل قبل ذلك، ثم لمّا مات يزيد وقع الاختلاف، إلى أن اجتمعوا على عبد الملك بن مروان، بعد قَتْل ابن الزبير، ثم اجتمعوا على أولاده الأربعة: الوليد، ثم سليمان، ثم يزيد، ثم هشام، وتخلل بين سليمان ويزيد عمر بن عبد العزيز، فهؤلاء سبعة بعد الخلفاء الراشدين، والثاني عشر هو الوليد بن يزيد بن عبد الملك، اجتمع الناس عليه لمّا مات عمه هشام، فَوَلِي نحو أربع سنين، ثم قاموا عليه، فقتلوه، وانتشرت الفتن، وتغيّرت الأحوال من يومئذٍ، ولم يتفق أن يجتمع الناس على خليفة بعد ذلك؛ لأنَّ يزيد بن الوليد الذي قام على ابن عمه الوليد بن يزيد لَمْ تَطُل مدته، بل ثار عليه قبل أن يموت ابن عم أبيه مروان بن محمد بن مروان، ولمّا مات يزيد وَلي أخوه إبراهيم، فغلبه مروان، ثم ثار على مروان بنو العباس، إلى أن قُتل، ثم كان أول خلفاء بني العباس أبو العباس السفاح، ولم تَطُل مدته، مع كثرة من ثأر عليه، ثم وَلي أخوه المنصور، فطالت مدّته، لكن خرج عنهم المغرب الأقصى باستيلاء المروانيين على الأندلس، واستمرّت في أيديهم متغلبين عليها، إلى أن تسمَّوا بالخلافة بعد ذلك، وانفرط الأمر في جميع أقطار الأرض، إلى أن لَمْ يبق من الخلافة إلَّا الاسم في بعض البلاد، بعد أن كانوا في أيام بني عبد الملك بن مروان يُخطب للخليفة في جميع أقطار الأرض شرقًا وغربًا وشمالًا ويمينًا، مما غلب عليه المسلمون، ولا يتولى أحد في بلد من البلاد كلها الإمارة على شيء منها إلَّا بأمر الخليفة، ومن نَظَر في أخبارهم عَرَف صحة ذلك.

فعلى هذا يكون المراد بقوله: "ثم يكون الهرج" يعني القتل الناشئ عن الفتن وقوعًا فاشيًا يفشو، ويستمرّ، ويزداد على مدى الأيام، وكذا كان، والله المستعان.

والوجه الذي ذكره ابن المنادى ليس بواضح، ويعكر عليه ما أخرجه الطبرانيّ، من طريق قيس بن جابر الصدفيّ، عن أبيه، عن جدّه، رفعه:"سيكون من بعدي خلفاء، ثم من بعد الخلفاء أمراء، ومن بعد الأمراء ملوك، ومن بعد الملوك جبابرة، ثم يخرج رجل من أهل بيتي، يملأ الأرض عدلًا، كما ملئت جورًا، ثم يؤمَّر القطحانيّ، فوالذي بعثني بالحقّ ما هو دونه"، فهذا

ص: 652

يردّ على ما نقله ابن المنادى من "كتاب دانيال"، وأما ما ذكره عن أبي صالح فَوَاهٍ جدًّا، وكذا عن كعب.

وأما محاولة ابن الجوزيّ الجمع بين حديث: "تدور رَحَى الإسلام"، وحديث الباب ظاهرُ التكلف، والتفسير الذي فسّره به الخطابيّ، ثم الخطيب بعيد، والذي يظهر أن المراد بقوله:"تدور رحى الإسلام" أنْ تدوم على الاستقامة، وأن ابتداء ذلك من أول البعثة النبوية، فيكون انتهاء المدة بقتل عمر في ذي الحجة سنة أربع وعشرين من الهجرة، فإذا انضم إلى ذلك اثنتا عشرة سنة وستة أشهر من المبحث في رمضان كانت المدة خمسًا وثلاثين سنةً وستة أشهر، فيكون ذلك جميع المدة النبوية، ومدة الخليفتين بعده خاصّة، ويؤيده حديث حذيفة الذي يشير إلى أن باب الأمن من الفتنة يُكسر بقتل عمر، فيُفتح باب الفتن، وكان الأمر على ما ذَكَرَ، وأما قوله في بقية الحديث:"فإن يهلكوا فسبيل من هلك، وإن يَقُم لهم دينهم يقم سبعين سنةً"، فيكون المراد بذلك: انقضاء أعمارهم، وتكون المدة سبعين سنةً إذا جُعل ابتداؤها من أول سنة ثلاثين عند انقضاء ست سنين من خلافة عثمان، فإنّ ابتداء الطعن فيه إلى أن آل الأمر إلى قَتْله كان بعد ستّ سنين مضت من خلافته، وعند انقضاء السبعين لَمْ يبق من الصحابة أحد، فهذا الذي يظهر لي في معنى هذا الحديث، ولا تَعَرُّض فيه لِمَا يتعلق باثني عشر خليفةً، وعلى تقدير ذلك، فالأَولى أن يُحْمَل قوله:"يكون بعدي اثنا عشر خليفةً" على حقيقة البَعدية، فإن جميع من ولي الخلافة من الصدّيق إلى عمر بن عبد العزيز أربعة عشر نفسًا، منهم اثنان لَمْ تصحّ ولايتهما، ولم تَطُل مدتهما، وهما معاوية بن يزيد، ومروان بن الحكم، والباقون اثنا عشر نفسًا على الولاء، كما أخبر صلى الله عليه وسلم، وكانت وفاة عمر بن عبد العزيز سنة إحدى ومائة، وتغيرت الأحوال بعده، وانقضى القرن الأول الذي هو خير القرون، ولا يقدح في ذلك قوله:"يجتمع عليهم الناس"؛ لأنه يُحْمَل على الأكثر الأغلب؛ لأنَّ هذه الصفة لَمْ تُفقد منهم إلَّا في الحسن بن عليّ، وعبد الله بن الزبير، مع صحة ولايتهما، والْحُكْمِ بأن من خالفهما لَمْ يثبت استحقاقه إلَّا بعد تسليم الحسن، وبعد قتل ابن الزبير، والله أعلم.

وكانت الأمور في غالب أزمنة هؤلاء الاثني عشر منتظمةً، وإن وُجد في

ص: 653

بعض مدّتهم خلاف ذلك، فهو بالنسبة إلى الاستقامة نادر، والله اعلم.

وقد تكلم ابن حبان على معنى حديث: "تدور رحى الإسلام"، فقال: المراد بقوله: "تدور رحى الإسلام لخمس وثلاثين، أو ست وثلاثين"، انتقال أمر الخلافة إلى بني أمية، وذلك أن قيام معاوية عن عليّ بصِفِّين حتى وقع التحكيم، هو مبدأ مشاركة بني أمية، ثم استمرّ الأمر في بني أمية من يومئذ سبعين سنة، فكان أول ما ظهرت دعاة بني العباس بخراسان سنة ست ومائة، وساق ذلك بعبارة طويلة، عليه فيها مؤاخذات كثيرة، أولها دعواه أن قصة الْحَكَمين كانت في أواخر سنة ست وثلاثين، وهو خلاف ما اتفق عليه أصحاب الأخبار، فإنها كانت بعد وقعة صفين بعد أشهر، وكانت سنة سبع وثلاثين، والذي قدمته أَولى بأن يُحْمَل الحديث عليه، والله أعلم. انتهى كلام الحافظ رحمه الله

(1)

وهو بحثٌ مفيدٌ جدًّا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلِّف رحمه الله أَوَّل الكتاب قال:

[4698]

(

) - (حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَقُولُ: "لَا يَزَالُ أَمْرُ النَّاسِ مَاضِيًا مَا وَلِيَهُمُ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا"، ثمَّ تَكَلَّمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِكَلِمَةٍ خَفِيَتْ عَلَيَّ، فَسَأَلْتُ أَبِي: مَاذَا قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ فَقَالَ: "كُلُّهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ").

رجال هذا الإسناد: أربعة أيضًا:

1 -

(ابْنُ أَبِي عُمَرَ) هو: محمد بن يحيى بن أبي عمر الْعَدنيّ، ثم المكيّ، صدوقٌ صنّف "المسند"، وكان لازم ابن عيينة، قال أبو حاتم: كانت فيه غفلة [10](ت 243)(م ت س ق) تقدم في "المقدمة" 5/ 31.

2 -

(عَبْدُ المَلِكِ بْنُ عُمَيْرِ) بن سُويد اللَّخْميّ الكوفيّ الْفَرَسيّ، ثقةٌ فقيةٌ تغيّر حفظه، وربّما دلّس [3](ت 136) وله (103) سنين (ع) تقدم في "الإيمان" 46/ 296.

و"جابر بن سَمُرة رضي الله عنهما" ذُكر قبله، وكذا "سفيان بن عيينة" ذُكر أول الباب،

(1)

"الفتح" 17/ 67 - 72، كتاب "الأحكام" رقم (7222).

ص: 654

والإسناد من رباعيّات المصنّف رحمه الله كالأسانيد الثلاثة السابقة، والإسنادين اللاحقَين، وهو (330) من رباعيّات الكتاب.

وقوله: (ثُمَّ تَكَلَّمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِكَلِمَةٍ خَفِيَتْ عَلَيَّ) وقد بيّن في رواية أبي داود من طريق الشعبيّ، عن جابر بن سَمُرة رضي الله عنهما سبب خفاء الكلمة المذكورة، ولفظه: "لا يزال هذا الدين عزيزًا إلى اثني عشر خليفةً، قال: فكبَّر الناسُ، وضَجُّوا، فقال كلمةً خفيّةً، فقلت لأبي: يا أبه ما قال

إلخ"، وفي رواية مجالد، عن الشعبيّ عند أحمد: "وكان أبي أقرب إلى راحلة رسول الله صلى الله عليه وسلم".

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4699]

(

) - (وَحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ سِمَاكٍ

(1)

، عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِهَذَا الْحَدِيث، وَلَمْ يَذْكُرْ:"لَا يَزَالُ أَمْرُ النَّاسِ مَاضِيًا").

رجال هذا الإسناد: أربعة أيضًا:

1 -

(أبو عوانة) وضّاح بن عبد الله اليشكريّ الواسطي، ثقةٌ ثبتٌ [7](ت 5 أو 176)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 4.

2 -

(سِمَاكُ) بن حرب بن أوس بن خالد الذّهليّ البكريّ، أبو المغيرة الكوفيّ، صدوق، وروايته عن عكرمة خاصّةُ مضطربةٌ، وقد تغيّر بآخره، فربما تلقّن [4](ت 123)(خت م 4) تقدم في "الإيمان" 64/ 365.

والباقيان ذُكرا في الباب، والإسناد من رباعيّات المصنّف رحمه الله، كالأسانيد الأربعة الماضية، والإسناد اللاحق، وهو (332) من رباعيّات الكتاب.

[تنبيه]: رواية سماك بن حرب، عن جابر بن سَمُرة رضي الله عنهما هذه ساقها الترمذيّ رحمه الله في "جامعه"، فقال:

(1)

وفي نسخة: "عن سماك بن حرب".

ص: 655

(2223)

- حدّثنا أبو كريب محمد بن العلاء، حدّثنا عمر بن عبيد الطنافسيّ، عن سماك بن حرب، عن جابر بن سمرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يكون من بعدي اثنا عشر أميرًا"، قال: ثم تكلم بشيء لَمْ أفهمه، فسألت الذي يليني، فقال: قال: "كلُّهم من قريش"، قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح

(1)

، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أَوَّل الكتاب قال:

[4700]

(

) - (حَدَّثَنَا هَدَّابُ بْنُ خَالِدٍ الأزدِيُّ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ، قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ سَمُرَةَ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لَا يَزَالُ الإِسْلَامُ عَزِيزًا إِلَى اثْنَى عَشَرَ خَلِيفَةً"، ثُمَّ قَالَ كَلِمَةً لَمْ أفهَمْهَا، فَقُلْتُ لأَبِيِ: مَا قَالَ؟

(2)

فَقَالَ: "كُلُّهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ").

رجال هذا الإسناد: أربعة أيضًا:

1 -

(هَدَّابُ بْنُ خَالِدٍ الأَزدِيُّ) القيسيّ، أبو خالد البصرفي، ويقال له: هُدْبة، ثقةٌ عابدٌ، تفرّد بتليينه النسائيّ، من صغار [9] مات سنة بضع و (230)(خ م د) تقدم في "الإيمان" 11/ 151.

2 -

(حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ) البصريّ، تقدَّم قريبًا.

والباقيان ذُكرا قبله.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلِّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4701]

(

) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنْ دَاوُدَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "لَا يَزَالُ هَذَا الأَمْرُ عَزِيزًا إِلَى اثْنَيْ عَشَرَ خَلِيفَةً"، قَالَ: ثُمَّ تَكَلَّمَ بِشَيْءٍ لَمْ أفهَمْهُ، فَقُلْتُ لأَبِي: مَا قَالَ؟

(3)

فَقَالَ: (كُلُّهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ").

(1)

"جامع الترمذيّ" 4/ 501.

(2)

وفي نسخة: "ماذا قال".

(3)

وفي نسخة: "فقلت لأبي، فقال".

ص: 656

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم قبل بابين.

2 -

(أَبُو مُعَاوِيَةَ) محمد بن خازم الضرير الكوفيّ، ثقةٌ أحفظ الناس لحديث الأعمش، وقد يَهِمُ في حديث غيره، وقد رُمي بالإرجاء، من كبار [9](ت 195) وله (82) سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 117.

3 -

(دَاوُدُ) بن أبي هند القُشيريّ مولاهم، أبو بكر، أو أبو محمد البصريّ، ثقةٌ متقنٌ [5](ت 140) أو قبلها (خت م 4) تقدم في "الإيمان" 27/ 221.

4 -

(الشَّعْبِيُّ) عامر بن شَرَاحيل الْهَمْدانيّ، أبو عمرو الكوفيّ، ثقةٌ فقيهٌ مشهور، فاضلٌ [3] مات بعد المائة، وله نحو (80) سنة (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.

و"جابر بن سمرة رضي الله عنهما" ذُكر قبله.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى البحث فيه مستوفًى، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أَوَّل الكتاب قال:

[4702]

(

) - (حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ الْجَهْضَمِيُّ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ عَوْنٍ (ح) وَحَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُثْمَانَ النَّوْفَلِيُّ - وَاللَّفْظُ لَهُ - حَدَّثَنَا أَزْهَرُ، حَدَّثَنَا ابْنُ عَوْنٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ، قَالَ: انْطَلَقْتُ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَمَعِي أَبِي، فَسَمِعْتُهُ

(1)

يَقُولُ: "لَا يَزَالُ هَذَا الدِّينُ عَزِيزًا مَنِيعًا إِلَى اثْنَيْ عَشَرَ خَلِيفَةً"، فَقَالَ كَلِمَةً صَمَّنِيهَا

(2)

النَّاسُ، فَقُلْتُ لأَبِي: مَا قَالَ؟ قَالَ: "كُلُّهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ الْجَهْضَمِيُّ) البصريّ، أحد مشايخ الستّة، تقدّم قريبًا.

2 -

(يَزِيدُ بْنُ زُريعٍ) العيشيّ، أبو معاوية البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 182)(ع) تقدم في "الإيمان" 7/ 132.

3 -

(ابْنُ عَوْنٍ) هو: عبد الله بن عون بن أرطبان، أبو عون البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيه عابد [5](ت 150) على الصحيح (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" ج 1 ص 303.

(1)

وفي نسخة: "وسمعته".

(2)

وفي نسخة: "صَمَّتَنِيهَا".

ص: 657

4 -

(أَحْمَدُ بْنُ عُثْمَانَ النَّوْفَلِيُّ) أبو عثمان البصريّ، الملقّب أبا الجوزاء، ثقةٌ [11](ت م ت س) تقدم في "الإيمان" 65/ 369.

5 -

(أَزْهَرُ) بن سعد السمّان، أبو بكر الباهليّ البصريّ، ثقةٌ [9](ت 203) وهو ابن (94) سنةً (خ م د ت س) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 26/ 1344.

والباقيان ذُكرا قبله.

وقوله: (صَمَّنِيهَا

(1)

النَّاسُ) بفتح الصاد المهملة، وتشديد الميم المفتوحة؛ أي: أصمّوني عنها، فلم أسمعها؛ لكثرة الكلام، ووقع في بعض النسخ:"صمّتنيها الناس"؛ أي: سكّتوني عن السؤال عنها، قاله النوويّ

(2)

.

وفي رواية عند أحمد في "مسنده" بلفظ: "أصَمّنيها الناس": قال ابن الأثير: أي: شَغَلُوني عن سماعها، فكأهم جعلوني أصمّ. انتهى

(3)

.

وقال القاضي عياض رحمه الله: قوله: "صَمّنيها الناسُ" كذا لكافة شُيُوخنا، وعند بعضهم:"أصمّنيها الناس"؛ أي: لَمْ أسمعها من لفظهم، وقيل: الوجه: "أصمّني عنها"، وأما الرواية الأولي، فمعناها: أي سكّتوني عن السؤال عنها، والنبيّ صلى الله عليه وسلم يخطُبُ، والصواب: المعنى الأول، وهو أشبه بمساق الحديث. انتهى

(4)

.

وقال المجد رحمه الله: "الصمَمُ: انسداد الأُذن، وثقَل السمع، صَمَّ يَصَمُّ، بفتحهما، وصَمِمَ، بالكسر، نادرٌ صَمًّا، وصَمَمًا، وأَصَمَّ، وأصمّه الله تعالى، فهو أصمّ، جَمْعه: صُمٌّ، وصُمَّانٌ. انتهى

(5)

.

وقال الفيّوميّ رحمه الله: صَمَّتِ الأُذُنُ صَمَمًا، من باب تَعِبَ: بَطَلَ سَمْعُها، هكذا فسَّره الأزهريّ وغيره، ويُسنَدُ الفعل إلى الشخص أيضًا، فيقال: صَمَّ يَصَمُّ صَمَمًا، فالذَّكر أصمُّ، والأنثى صَمَّاءُ، والجمع صُمٌّ، مثل أحمر، وحمراء، وحُمْرٍ، ويتعدّى بالهمزة، فيقال: أصمّه الله، وربّما استُعمل الرباعيّ لازمًا على قلّة، ولا يُستعمل الثلاثيّ متعدِّيًا، فلا يُقال: صَمّ الله الأذنَ، ولا

(1)

وفي نسخة: "صَمَّتَنِيهَا".

(2)

"شرح النوويّ" 12/ 203.

(3)

"النهاية في غريب الأثر" 3/ 54.

(4)

"إكمال المعلم" 6/ 218.

(5)

"القاموس المحيط" ص 755.

ص: 658

يُبنى للمفعول، فلا يقال: صُمَّتِ الأذُنُ. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي ذكره المجد، والفيّوميّ صريح في أن "صَمّني" في هذه الرواية غير صحيح، وإنما الصحيح أن يقال: أصمّني بالهمزة، وعلى هذا فما وقع في رواية أحمد المذكورة بلفظ:"فأصمّني" هو الصواب، فتأمل، والله تعالى أعلم.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى البحث فيه، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

(1822)

- (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ،

قَالَا: حَدَّثَنَا حَاتِمٌ - وَهُوَ ابْنُ إِسْمَاعِيلَ - عَنِ الْمُهَاجِرِ بْنِ مِسْمَارٍ، عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، قَالَ: كَتَبْتُ إِلَى جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ مَعَ غُلَامِي نَافِعٍ أَنْ أَخْبِرْنِي بِشَيْءٍ سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: فَكَتَبَ

(2)

إِلَيَّ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ جُمُعَةٍ عَشِيَّةَ رُجِمَ الأَسْلَمِيُّ

(3)

يَقُولُ: "لَا يَزَالُ الدِّينُ قَائِمًا حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ، أَو يَكُونَ عَلَيْكُمُ اثْنَا عَثسَرَ خَلِيفَةً، كُلُّهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ"، وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ:"عُصَيْبَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَفْتَتِحُونَ الْبَيْتَ الأَبْيَضَ، بَيْتَ كِسْرَى، أَو آلِ كِسْرَى"، وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ:"أنَّ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ كَذَّابِينَ، فَاحْذَرُوهُمْ"، وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ:"إذا أَعْطَى اللهُ أَحَدَكمْ خَيْرًا فَلْيَبْدَأ بِنَفْسِهِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ"، وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ:"أَنَا الْفَرَطُ عَلَى الْحَوْضِ").

رجال هذا الإسناد: ستّة:

1 -

(حَاتِمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ) الحارثيّ المدنيّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(الْمُهَاجِرُ بْنُ مِسْمَارٍ) الزهريّ، مولى سعد المدنيّ، ثقةٌ [7].

(1)

"المصباح المنير" 1/ 347.

(2)

وفي نسخة: "وكتب".

(3)

وفي نسخة: "رَجم الأسلميَّ" بالبناء للفاعل.

ص: 659

رَوَى عن عامر، وعائشة ابني سعد بن أبي وقاص، وروى عنه ابن أبي ذيب، وموسى بن يعقوب الزَّمَعيّ، ويعقوب بن جعفر بن أبي كثير، وخالد بن إلياس، وحاتم بن إسماعيل.

ذكره ابن حبّان في "الثقات"، وقال ابن سعد: مات بعد خروج محمد بن عبد الله بن حسن، وقيل: مات سنة خمس ومائة، وله أحاديث، وليس بذاك، وهو صالح الحديث، وقال أبو بكر البزار: مشهورٌ، صالح الحديث.

أخرج له المصنّف رحمه الله، والترمذيّ، وابن ماجة في "التفسير"، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا برقم (1822)، وحديث (2305):"أنا الفَرَط على الحوض"، وهو مختصر من حديث الباب.

[تنبيه]: قولي: "ثقةٌ" أَولى من قوله في "التقريب": مقبول؛ لأنه روى عنه جماعة، وقال البزّار: مشهور، صالح الحديث، وأخرج له مسلم في "صحيحه"، فمثله يكون ثقةً صحيح الحديث، وقد نظمت قاعدة ذكرها الحافظ الذهبيّ رحمه الله في كتابه "ميزان الاعتدال"، فقلت:

قَاعِدَةٌ حَقَّقَهَا الإِمَامُ

الذَّهَبِيُّ النَّاقِدُ الْهُمَامُ

إِذَا رَوَى جَمَاعَةٌ عَنْ أَحَدِ

مِنَ الْمَشَايِخِ وَلَمْ يُنْتَقَدِ

بِنَقْلِهِ الْمُنْكَرَ قُلْ صَحِيحُ

حَدِيثُهُ وَإِنْ خَلَا التَّصْرِيحُ

مِنَ الأَئِمَّةِ بِكَوْنِهِ ثِقَهْ

بِذَا يَقُولُ جُلُّ مَنْ قَدْ حَقَّقَهْ

قَالَ بِهِ الشَّيْخَانِ إِذْ قَدْ أَوْرَدَا

لَدَى "الصَّحِيحَيْنِ" رِجَالًا مَا بَدَا

عَنْ أَحَدٍ تَوْثِيقُهُمْ وَهَكَذَا

ذَكَرَ فِي "الْمِيزَانِ" نِعْمَ مَأْخَذَا

3 -

(عَامِرُ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ) الزهريّ المدنيّ، ثقةٌ [3](ت 104)(ع) تقدم في "الإيمان" 13/ 159.

والباقون ذُكروا في الإسنادين الماضيين.

ص: 660

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وهو مسلسلٌ بالمدنيين، غير شيخيه، فالأول بَغْلانيّ، والثاني كوفيّ، وجابر رضي الله عنه كان مدنيًّا، ثم نزل الكوفة، وفيه الرواية بالمكاتبة، وقد اختُلف فيها، والجمهور على جوازها، فقد كتب النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى الملوك، والقبائل، فلزمتهم الحجة بذلك، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ) الزهريّ المدنيّ، أنه (قَالَ: كَتَبْتُ إِلَى جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ) رضي الله عنهما، وجابر بن سَمُرة هذا هو ابن عمّة عامر بن سعد الراوي عنه؛ لأنَّ والدة جابر هي خالدة بنت أبي وقّاص، أخت سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنهم، قاله في "الإصابة"

(1)

. (مَعَ غُلَامِي نَافِعٍ) لَمْ أجد ترجمته، (أَنْ أَخْبِرْنِي) "أن" يَحْتَمِل أن تكون مفسّرةً؛ أي: كتبت إَليه هذا الكلام - يعني: أخبرني

إلخ " - ويَحْتَمِل أن تكون مصدريّةً، ويقدّر قبلها حرف الجرّ؛ أي: بأن أخبرني، وهذا الوجه هو ارتضاه ابن هشام في "المغني"

(2)

. (بِشَيْءٍ) متعلّق بـ "أخبرني"، (سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ) عامر (فَكَتَبَ) وفي نسخة: "وكَتَب"(إِلَيَّ)؛ يعني: أن جابر بن سمُرة يكتب إلى عامر قوله: (سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم) قال الأبيّ رحمه الله: كتبُ هذه المذكورات يَحْتَمِل لأنَّها التي حضرته، ويَحْتَمِل أنَّها التي حلّ الحال على الحاجة إليها. انتهى

(3)

.

(يَوْمَ جُمُعَةٍ) ظرف لـ "سمِعْتُ"، وكذا قوله:(عَشِيَّةَ رُجِمَ الأَسْلَمِيُّ) ببناء الفعل للمفعول، ويَحْتَمِل أن يكون بالبناء للفاعل؛ أي: رجم النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ أي: أمر برجمه، والمراد: ماعز بن مالك الأسلميّ رضي الله عنه، قيل: هذا معارِض لِمَا رواه أحمد في "مسنده" عن الشعبيّ من أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال هذا الكلام في حجة الوداع.

ويُجاب بأنه صلى الله عليه وسلم قاله مرّتين: مرّة في حجة الوداع، وأخرى يوم رُجم

(1)

"الإصابة في تمييز الصحابة" 1/ 542.

(2)

راجع: "مغني اللبيب" 1/ 74.

(3)

"شرح الأبيّ" 5/ 162 - 163.

ص: 661

ماعز رضي الله عنه؛ لأنَّ سياق الروايتين مختلفٌ، فحَمْلهما على تعدّد الواقعتين غير بعيد، وأفادت هذه الرواية أن رجْم ماعز وقع يوم الجمعة، والله تعالى أعلم

(1)

.

(يَقُولُ: "لَا يَزَالُ الدِّينُ قَائِمًا)؛ أي: ثابتًا، (حَتَّى نَقُومَ السَّاعَةُ، أَو يَكُونَ عَلَيْكُمُ اثْنَا عَشَرَ خَلِيفَةً، كُلُّهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ) قال القرطبيّ رحمه الله: قيّدناه - يعني: قوله: "يكونَ" - على من يوثق بتقييده بالنصب، وتكون "أو" بمعنى "إلى أن"، كقوله [من الطويل]:

فَقُلْتُ لَهُ لَا تَبْكِ عَيْنُكَ إِنَّمَا

نُحَاولُ مُلْكًا أَو نَمُوتَ فَنُعْذَرَا

وقد دلّ على هذا الرواية الأخرى، وهي قوله:"لا يزال هذا الأمر عزيزًا إلى اثني عشر خليفة، كلّهم من قُريش"؛ يعني به: أنه لا تزال عزّة دين الإسلام قائمة إلى اثني عشر خليفة من قُريش، وقد اختُلف فيهم على ثلاثة أقوال:

أحدها: أنهم خلفاء العَدْلِ؛ كالخلفاء الأربعة، وعمر بن عبد العزيز. ولا بُدَّ من ظهور من يَتَنَزَّلُ مَنْزِلَتَهم في إظهار الحقِّ والعدل، حتى يَكْمُل ذلك العدد، وهو أولى الأقوال عندي.

وثانيها: أنَّ هذا إخبارٌ عن الولايات الواقعة بَعْدَهُ وبَعْدَ أصحابه، وكأنه أشار بذلك إلى مدة ولاية بني أُمَيَّة، ويعني بالذين: المُلك والولاية، وهوشرح الحالِ في استقامة السَّلْطَنَةِ لهم، لا على طريق المدح.

وقد يقال: الدِّينُ على الْمُلْكِ؛ كما قال [من البسيط]:

لَئِنْ حَلَلْتَ بِجوٍّ في بني أسدٍ

فِي دِينِ عمرٍو وحَالتْ بيننا فَدَكُ

وقيل ذلك في قوله تعالى: {مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ} [يوسف: 76]. ثم عدّد هذا القائل ملوكهم فقال: أَوَّلُهم يزيدُ بن معاوية، ثم ابنه معاويةُ بن يزيد - وقال: ولم يذكر ابن الزبير لأنه صحابيّ، ولا مروان؛ لأنه غاصب لابن الزبير -، ثم عبد الملك، ثم الوليد، ثم سليمان، ثم عمر بن عبد العزيز، ثم يزيد بن عبد الملك، ثم هشام بن عبد الملك، ثم الوليد بن يزيد، ثم يزيد بن الوليد، ثم إبراهيم بن الوليد، ثم مروان بن محمد، فهؤلاء اثنا عشر. ثم خرجت الخلافة منهم إلى بني العباس.

(1)

"تكملة فتح الملهم" 3/ 287.

ص: 662

وثالثها: أن هذا خبر عن اثني عشر خليفة من قريش، مجتمعين في زمان واحد في آفاق مختلفة؛ كما قد وقع، فقد كان بالأندلس منهم في عصر واحد بعد أربعمائة وثلاثين سنة ثلاثة كلهم يَدَّعيها، وتَلَقَّب بها. ومعهم صاحبُ مصر، وخليفة بغداد، فكذلك يجوز أن يجتمع الاثنا عشر خليفة في العصر الواحد، وقد دلّ على هذا قوله:"سيكون خلفاء، فيكثرون .... "، متّفقٌ عليه، وكلٌّ مُحْتَمِل، والأول أَولاها؛ لبُعْده عن الاعتراض. انتهى كلام القرطبيّ

(1)

.

(وَسَمِعْتُهُ) صلى الله عليه وسلم " (يَقُولُ: "عُصَيْبَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) العُصَيْبَة: تصغير العِصابة، وهي: الجماعة من الناس، قيل: أقلّهم أربعون، ويَحْتَمِل أن يكون هذا التصغير للمفتتحِين؛ لقلة من باشر فتح بيتِ كسري، فإنه يُروَى أن سعد بن أبي وقّاص خاض دجلة، وهي مَطْلَعٌ إلى دار كسري، فما بلغ الماء إلى حِزام الفرس، وما ذهب للمسلمين شيء، ووجدوا قبابًا مملوءة سِلالًا فيها آنية الذهب والفضة، ووجدوا كافورًا كثيرًا، فظنّوه مِلْحًا، فعَجَنوا به، فوجدوا مرارته، وكان في بيوت أموال كسرى ثلاثة آلاف ألف ألف ألف دينار - ثلاث مرات -.

ويَحْتَمِل أن يكون تصغيرهم بالنسبة إلى عدوّهم، ويَحْتَمِل أن يكون تصغيرهم على جهة التعظيم، كما قالوا:

وَكُلُّ أُنَاسٍ سَوْفَ تَدْخُلُ بَيْنَهُمْ

دُويْهِيَّةٌ تَصْفَّرُّ مِنْهَا الأَنَامِلُ

(2)

(يَفْتَتِحُونَ الْبَيْتَ الأَبْيَضَ) وُصف بيت كسرى بالأبيض؛ لأنه كان مبنيًّا بالجصّ، ومُزخرفًا بالفضّة

(3)

، وقوله:(بَيْتَ كِسْرَى) بالنصب على البدليّة من "البيت"، وكسرى: ملك الْفُرس، قال أبو عمرو بن العلاء: بكسر الكاف لا غيرُ، وقال ابن السرّاج - كما رواه عنه الفارسيّ، واختاره ثعلب، وجماعة -: الكسر أفصح، والنسبة إلى المكسور: كِسْرِيٌّ، وكِسْرَويّ، بحذف الألف، وبقلبها واوًا، والنسبة إلى المفتوح بالقلب لا غيرُ، والجمع: أكاسرةٌ. انتهى

(4)

.

(1)

"المفهم" 4/ 8 - 10.

(2)

"المفهم" 4/ 10 - 11.

(3)

"المفهم" 4/ 10.

(4)

"المصباح المنير" 2/ 533.

ص: 663

وقوله: (أَو آلِ كِسْرَى")"أو" للشكّ من الراوي؛ أي: أو قال: "بيت آل كسرى" بدل "بيت كسرى".

(وَسَمِعْتُهُ) صلى الله عليه وسلم (يَقُولُ: "إِنَّ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ)؛ أي: قبل قيام الساعة، (كَذَّابِينَ) هذا يفسّره الحديث الآخر الذي قال صلى الله عليه وسلم فيه:"لا تقوم السَّاعة حتى يخرج ثلاثون كذّابون، كلهم يزعم أنه نبيّ، وأنا خاتم النبيين"

(1)

.

(فَاحْذَرُوهُمْ")؛ أي: احذروا خديعتهم، وتلبيسهم على الناس.

(وَسَمِعْتُهُ) صلى الله عليه وسلم (يَقُولُ: "إذا أَعْطَى اللهُ أَحَدَكُمْ خَيْرًا)؛ أي: مالًا، (فَلْيَبْدَأ بِنَفْسِهِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ") قال القرطبيّ رحمه الله: وهذا كما قال في الحديث الآخر: "خير الصدقة عن ظهر غني، وابدأ بمن تعول"، وكقوله في حديث آخر:"إذا أنعم الله على عبد نعمة أحبَّ أن يرى أثر نعمته عليه"

(2)

.

ومعنى هذا الأمر الابتداء بالأهم فالأهم، والأَولى فالأَولي، وقد بينّا هذا المعنى في "كتاب الزكاة". انتهى كلام القرطبيّ

(3)

.

(وَسَمِعْتُهُ) صلى الله عليه وسلم (يَقُولُ: (أنا الْفَرَطُ) - بفتح الراء -؛ أي: السابق إليه، والمنتظر لِسَقْيِكم منه، والْفَرَط: هو: الذي يتقدَّم القوم إلى الماء؛ ليهيّء لهم ما يحتاجون إليه، وهو الفارط أيضًا، والفَرْطُ - بسكون الراء -: السَّبْق والتقدّم

(4)

. (عَلَى الْحَوْضِ) - بفتح الحاء المهملة، وسكون الواو - جمعه أحواضٌ، وحِيَاض، وأصل حِيَاضٍ الواو، لكن قُلبت ياءً للكسرة قبلها، مثلُ ثوب وأثواب، وثيَابٍ

(5)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث جابر بن سَمُرة رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

(1)

حديث صحيح، أخرجه أبو داود، والترمذيّ، وابن ماجة.

(2)

"المعجم الكبير" 18/ 135.

(3)

"المفهم" 4/ 11.

(4)

"المفهم" 4/ 11، وشرح النوويّ" 12/ 204.

(5)

"المصباح المنير" 1/ 156.

ص: 664

أخرجه (المصنّف) هنا [1/ 4703 و 4704](1822)، وسيأتي أيضًا برقم (2305)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 86 و 87 و 89)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 373)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(13/ 456)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): جواز تحمّل الحديث بالمكاتبة.

2 -

(ومنها): أن هذا من المعجزات الظاهرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم حيث أخبر بما سيقع بعده من فتح كنوز كسري، ومدائنه، وقد فتحوها بحمد الله تعالى في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

3 -

(ومنها): تحذير النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أمته من الانخداع بالدجالين الكذّابين الذين يأتون بين يدي الساعة يدّعون الرسالة، ويلبّسون على الناس، وقد ختم الله سبحانه وتعالى النبيّين به صلى الله عليه وسلم، فلا نبيّ بعده.

4 -

(ومنها): أن الشخص إذا وجد مالًا ينبغي أن يبدأ بنفسه، فيسدّ خلّتها، ثم بأهل بيته، ومن تلزمه نفقته، ثم يتصدّق على الفقراء والمساكين بعد ذلك.

5 -

(ومنها): إثبات حوض النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأنه هو الفَرَط المتقدّم على أمته إليه؛ ليستقبلهم هناك، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف سبحانه وتعالى أوّل الكتاب قال:

[4704]

(

) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ مُهَاجِرِ بْنِ مِسْمَارٍ، عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ، أَنَّهُ أَرْسَلَ إِلَى ابْنِ سَمُرَةَ الْعَدَوِيّ: حَدِّثنا مَا سَمِعْتَ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ، فَذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ حَاتِمٍ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(ابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ) محمد بن إسماعيل بن مسلم بن أبي فُديك الدِّيليّ مولاهم، أبو إسماعيل المدنيّ، صدوقٌ، من صغار [8](ت 200)(ع) تقدم في "الحيض" 16/ 775.

2 -

(ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ) محمد بن عبد الرَّحمن بن المغيرة بن الحارث بن أبي ذئب القرشيّ العامريّ، أبو الحارث المدنيّ، ثقةٌ فقيهٌ فاضلٌ [7](ت 8 أو 159)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 93.

ص: 665

والباقون ذُكروا في الباب.

وقوله: (إِلَى ابْنِ سَمُرَةَ الْعَدَوِيّ) كذا هو في جميع النسخ: "الْعَدويّ"، قال القاضي عياض رحمه الله: كذا في الأصل، وليس هو بعدويّ، إنما هو عامريّ، سُوائيّ، فلعلّه تصحّف العامريّ بالعدويّ؛ لأنَّ سُواءة بن عامر بن صعصعة، وهو زهريّ الحلف، خاله سعد بن أبي وقّاص، وأمه خالدة بنت أبي وقّاص، واسم جابر. انتهى

(1)

.

وقوله: (فَذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ حَاتِمٍ) فاعل "ذَكَرَ" ضمير ابن أبي ذئب.

[تنبيه]: رواية ابن أبي ذئب عن مهاجر بن مسمار هذه ساقها أبو عوانة رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(6998)

- أخبرنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم المصريّ، قال: ثنا ابن أبي فُديك [حدّثنا ابن أبي ذئب]

(2)

عن مهاجر بن مسمار، عن عامر بن سعد، أنه أرسل إلى ابن سمرة العدويّ: حدِّثنا ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يزال الدين قائمًا، حتى يكون اثنا عشر خليفةً من قريش، ثم يخرج كذّابون بين يدي الساعة، ثم يخرج عصابة من المسلمين يستخرجون كنز القصر الأبيض، كنز كسري، أو آل كسري، وإذا أُعطي أحدكم خيرًا، فليبدأ بنفسه، وأهله، وماله

(3)

، وأنا فَرَطكم على الحوض". انتهى

(4)

، والله تعالى أعلم.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(1)

"إكمال المعلم" 6/ 219.

(2)

سقط من نسخة أبي عوانة قوله: "حدّثنا ابن أبي ذئب"، ولا بدّ منه، ولذا ألحقته بين قوسين، فتنبّه.

(3)

هكذا النسخة: "وأهله وماله"، والظاهر أنه مصحّف من:"وأهل بيته"، كما هو نصّ مسلم، فليُتنبّه.

(4)

"مسند أبي عوانة" 4/ 373 - 374.

ص: 666

(2) - (بَابُ الاسْتِخْلَاف، وَتَرْكِهِ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4705]

(1823) - (حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاء، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيه، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: حَضَرْتُ أَبِي حِينَ أُصِيبَ، فَأَثْنَوْا عَلَيْه، وَقَالُوا: جَزَاكَ اللهُ خَيْرًا، فَقَالَ: رَاغِبٌ، وَرَاهِبٌ، قَالُوا: اسْتَخْلِفْ، فَقَالَ: أتحَمَّلُ أَمْرَكُمْ حَيًّا وَمَيِّتًا؟، لَوَدِدْتُ أَن حَظِّي مِنْهَا الْكَفَافُ، لَا عَلَيَّ، وَلَا لِي، فَإِنْ أَسْتَخْلِفْ، فَقَدِ اسْتَخْلَفَ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي - يَعْنِي أَبَا بَكْرٍ - وَإِنْ أَتْرُكْكُمْ، فَقَدْ تَرَكَكُمْ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي، رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ عَبْدُ اللهِ: فَعَرَفْتُ أَنَّهُ حِينَ ذَكَرَ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم غَيْرُ مُسْتَخْلِفٍ).

رجال هذا الإسناد: ستّة:

1 -

(أَبُو كُرَيْبٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ) أحد مشايخ الجماعة بلا واسطة، تقدّم قبل أربعة أبواب.

2 -

(أَبُو أُسَامَةَ) حمّاد بن أسامة، تقدّم أيضًا قبل أربعة أبواب.

3 -

(هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ) بن الزبير، أبو المنذر، أو أبو عبد الله المدنيّ، ثقةٌ فقيه، ربّما دلّس [5](ت 5 أو 146) وله (87) سنة (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" ج 1 ص 350.

4 -

(أَبُوهُ) عروة بن الزبير بن العوّام، تقدّم قبل باب.

5 -

(ابْنُ عُمَرَ) عبد الله رضي الله عنهما، تقدّم في الباب الماضي.

6 -

(عُمَرُ) بن الخطّاب بن نُفيل بن عبد العزّى القرشيّ العدويّ، أمير المؤمنين، استُشهد رضي الله عنه في الحجة سنة (23)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 9.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالمدنيين من هشام، والباقيان كوفيّان، وأن شيخه أحد التسعة الذين روى عنهم الجماعة بلا واسطة، وقد جمعتهم بقولي:

ص: 667

اشْتَرَكَ الأَئِمَّةُ الْهُدَاةُ

ذَوُو الأصُولِ السِّتَّةِ الْوُعَاةُ

فِي تِسْعَةٍ مِنَ الشُّيُوخِ الْمَهَرَهْ

الْحَافِظِينَ النَّاقِدِينَ الْبَرَرَهْ

أُولَئِكَ الأَشَجُّ وَابْنُ مَعْمَرِ

نَصْرٌ وَيعْقُوبُ وَعَمْرٌو السَّرِي

وَابْنُ الْعَلَاءِ وَابْنُ بَشَّارٍ كَذَا .... ابْنُ الْمُثَنَّى وَزِيادٌ يُحْتَذَى

وأن عمر رضي الله عنه أحد الخلفاء الراشدين الأربعة، وأحد العشرة المبشّرين بالجنّة، وَليَ الخلافة عشر سنين ونصفًا، جمّ المناقب، ومات رضي الله عنه شهيدًا.

وأن فيه روايةَ الابن عن أبيه، وصحابيّ عن صحابيّ رضي الله عنهما.

وأن ابن عمر رضي الله عنهما أحد العبادلة الأربعة المجموعين في قولي:

وَإِنْ تُرِدْ مَعْرِفَةَ الْعَبَادِلَهْ

فَابْنُ الزُّبَيْرِ وَابْنُ عَمْرٍ عَادَلَهْ

مَعَ ابْنِ عَبَّاسٍ وَنَجْلِ عُمَرَا

وَغَلِّطَنْ مَنْ غَيْرَ هَذَا ذَكَرَا

إِذْ بَعْضُهُمْ نَجْلَ الزُّبَيْرِ تَرَكَا

وَنَجْلَ مَسْعُودٍ فَرِيقٌ أَشْرَكَا

وَكُلُّ ذَا غَيْرُ صَحِيحٍ فَاتَّبِعْ

سَبِيلَ مَنْ حَقَّقَ نَقْلًا تَنْتَفِعْ

وهو أحد المكثرين السبعة المجموعين أيضًا في قولي:

الْمُكْثِرُونَ فِي رِوَايَةِ الْخَبَرْ

مِنَ الصَّحَابَةِ الأَكَارِمِ الْغُرَرْ

أَبُو هُرَيْرَةَ يَلِيهِ ابْنُ عُمَرْ

فَأَنَسٌ فَزَوْجَةُ الْهَادِي الْبَشَرْ

ثُمَّ ابْنُ عَبّاسٍ يَلِيهِ جَابِرُ

وَبَعْدَهُ الْخُدْرِيُّ فَهْوَ آخِرُ

شرح الحديث:

(عَنِ ابْنِ عُمَرَ) رضي الله عنهما أنه (قَالَ: حَضَرْتُ أَبِي) عمر بن الخطّاب رضي الله عنه (حِينَ أُصِيبَ)؛ أي: حين طعنه المجوسيّ، أبو لؤلؤة غلام المغيرة بن شُعبة، (فَأَثْنَوْا عَلَيْهِ)؛ أي: وصفوه بأوصاف حسان، يقال: أثنى عليه خيرًا، وبخير، وأثنى عليه شرًّا، وبشرّ، بمعنى: وَصَفَه به، وقيل: لا يُستعمل إلَّا في الخير، والصواب الأول، وقد تقدّم البحث في هذا مستوفًى في "كتاب الصلاة" [41/ 1076] (477) عند شرح قوله:"أهلَ الثناء والمجد"، فراجعه تستفد، والله تعالى وليّ التوفيق.

(وَقَالُوا) بيّن في الرواية التالية أن القائل هو ابن عمر رضي الله عنهما نفسه حين قالت له حفصة رضي الله عنها: "أعلمتَ أن أباك غير مستخلف؛ قال: فحلفت أن أكلِّمه في ذلك، فذكر القصّة، وأنه قال له: لو كان لك راعي غنم، ثم جاءك

ص: 668

وتَرَكها، لرأيت أن قد ضَيَّعَ، فرعاية الناس أشدّ، وفيه قول عمر في جواب ذلك: إن الله يحفظ دينه". (جَزَاكَ اللهُ خَيْرًا)؛ أي: أثابك الله تعالى خيرًا على ما قمت به من أمر المسلمين حقَّ القيام، وأحسنت إليهم أتمّ إحسان. (فَقَالَ) عمر رضي الله عنه (رَاغِبٌ، وَرَاهِبٌ) خبر لمحذوف؛ أي: أنا راغب في رحمة الله تعالى، وراهب عن عقابه، وقال النوويّ رحمه الله: قوله: "راغبٌ، وراهب"؛ أي: راج، وخائف، ومعناه: الناس صنفان: أحدهما يرجو، والثاني يخاف؛ أي: راغب في حصول شيء مما عندي، أو راهب مني، وقيل: أراد: إني راغب فيما عند الله تعالى، وراهب من عذابه، فلا أُعَوِّل على ما أثنيتم به عليّ، وقيل: المراد: الخلافة؛ أي: الناس فيها ضربان: راغبٌ فيها، فلا أحبّ تقديمه؛ لرغبته، وكاره لها، فأخشى عجزه عنها. انتهى

(1)

.

وقال ابن بطال رحمه الله: يَحْتَمِل أمرين: أحدهما أن الذين أثنوا عليه إما راغب في حُسن رأيي فيه، وتقريبي له، وإما رأهب من إظهار ما يُضمِره من كراهته، أو المعنى: راغب فيما عندي، وراهب مني، أو المراد: الناس راغبٌ في الخلافة، وراهب منها، فإن وَلَّيت الراغب فيها خَشِيت أن لا يُعان عليها، وإن ولّيت الراهب منها، خَشِيت أن لا يقوم بها

(2)

.

وقال القاضي عياض توجيهًا آخر: أنهما وَصْفان لعمر؛ أي: راغبٌ فيما عند الله، راهب من عقابه، فلا أُعَوِّل على ثنائكم، وذلك يَشْغَلني عن العناية بالاستخلاف عليكم. انتهى

(3)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "راغب، وراهبٌ": هذا خبر مبتدأ محذوف؛ أي: أنتم على هذين الحالين، أو مبتدأ وخبره محذوف؛ أي: منكم راغبٌ، ومنكم راهبٌ، ثم ما الذي رَغِبُوا فيه، ورَهِبُوا منه؟ فظاهره أنه الثناء المتقدّم الذي أثنوا عليه؛ أي: منهم من رَغِب في الثناء؛ لغرض له، ومنهم من رَغِب عنه لِمَا يخاف منه، وقيل: راغب في الخلافة؛ لنيل منصبها، وراهب منها؛

(1)

"شرح النوويّ" 12/ 204 - 205.

(2)

"شرح البخاريّ" لابن بطّال 8/ 283.

(3)

"الفتح" 17/ 59.

ص: 669

لِعِظَم حقوقها، وشدّتها، وقيل: تقديره: أنا راغبٌ في الاستخلاف؛ لئلا يضيع المسلمون، وراهب منه؛ لئلا يُفَرّط المستخلَف، ويُقَصِّر فيما يجب عليه من الحقوق، وكلٌّ مُحْتَمِل، والله أعلم. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: عندي أن الأَولى ما تقدّم من أن عمر رضي الله عنه أراد أنه راغبٌ في رحمة الله تعالى، وراهب من عقابه، وسبب رَهَبه خوفه من أمر الخلافة؛ لإمكان التقصير فيها، وهذا منه رضي الله عنه دليلٌ على شدّة خوفه من الله تعالى؛ إذ المرء كلما ازدادت معرفته بالله ازداد خوفًا منه، كما قال صلى الله عليه وسلم:"إني لأخشاكم لله، وأتقاكم له"، متَّفقٌ عليه، والله تعالى أعلم.

(قَالُوا: اسْتَخْلِفْ) الاستخلاف هو تعيين الخليفة عند موته خليفةً بعده، أو يعيّن جماعةً؛ ليتخيّروا منهم واحدًا. (فَقَالَ) عمر رضي الله عنه، وقوله:(أتحَمَّلُ أَمْرَكُمْ حَيًّا وَمَيِّتًا؟) بتقدير همزة الاستفهام، وهو استفهام إنكاريّ، وفي رواية البخاريّ:"لا أتحمّلها حيًّا وميتًا"، (لَوَدِدْتُ)؛ أي: تمنيت، وهو بكسر الدال الأولي، وحُكي فتحها، قال الفيّوميّ رحمه الله: وَدِدته أَوَدّه، من باب تَعِبَ وَدًّا بفتح الواو، وضقها: أحببته، والاسم: الْمَوَدَّة، وَوَدِدتُ لو كان كذا أَوَدّ أيضًا وُدًّا، ووَدَادةً بالفتح: تمنيته، وفي لغة: وَدَدتُ أَوَدّ بفتحتين، حكاها الكسائيّ، وهو غلطٌ عند البصريين

(2)

، وقال الزجّاج: لَمْ يَقُل الكسائي إلَّا ما سَمِعَ، ولكنّه سمعه ممن لا يوثق بفصاحته. انتهى

(3)

. (أَنَّ حَظِّي مِنْهَا)؛ أي: الخلافة، (الْكَفَافُ) وفي رواية البخاريّ:"وَدِدت أني نجوت منها كفافًا" بفتح الكاف، وتخفيف الفاء؛ أي: مكفوفًا لا عنّي شرِّها وخيرها، وقوله:(لَا عَلَيَّ، وَلَا لِي) تفسير لمعنى "الكفاف"؛ أي: لا يكون عليّ شرّها، ولا يكون لي خيرها، بل أكون ناجيًا بنفسي، (فَإِنْ أَسْتَخْلِفْ)؛ أي: أعيّن خليفة، (فَقَدِ اسْتَخْلَفَ مَنْ هُوَ

(1)

"المفهم" 4/ 15.

(2)

وإنما كان غلطًا عندهم؛ لأنه لا يُفتح العين في الماضي والمضارع معًا إلَّا إذا كان عينه، أو لامه حرف حلق، وكلاهما منتفٍ هنا، فلا وجه للفتح، أفاده في "تاج العروس" 2/ 529.

(3)

"المصباح المنير" 2/ 653.

ص: 670

خَيْرٌ مِنِّي) وقوله: (يَعْنِي أَبَا بَكْرٍ)؛ أي: يقصد عمر رضي الله عنه بقوله: "من هو خير منّي": أبا بكر الصديق رضي الله عنه، والعناية من بعض الرواة، ولم يبيّن لي من هو؟.

قال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "فقد استخلف من هو خير مني"؛ يعني: أن أبا بكر رضي الله عنه استخلف عمر رضي الله عنه، ونصّ عليه، وعيَّنه، وهذا لا خلاف في أن الأمر كذلك وقع، ولا في أنَّ هذا طريق مشروع في الاستخلاف، ثم إن عمر رضي الله عنه سلك طريقةً بين طريقتين، جمعت له الاقتداء بهما، فاقتدى برسول الله صلى الله عليه وسلم في أنه لَمْ ينصّ على واحدٍ بعينه، فصَدَقَ عليه أنه غير مستخلِف، واقتدى بأبي بكر من حيث إنه لَمْ يترك أمر المسلمين مهملًا، فإنه جعل الأمر شُورى في ستة، ممن يصلح للخلافة، وفوّض التعيين لاختيارهم. انتهى

(1)

.

وقال في "الفتح" عند قوله: "لا أتحملها حيًّا وميتًا": وقد بَيّن عمر رضي الله عنه عُذره في ذلك، لكنه لمّا أَثَّر فيه قول عبد الله بن عمر، حيث مَثّل له أمر الناس بالغنم مع الراعي، خَصّ الأمر بالستة، وأمرهم أن يختاروا منهم واحدًا، وإنما خص الستة؛ لأنه اجتمع في كلّ واحد منهم أمران: كونه معدودًا في أهل بدر، ومات النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو عنه راضٍ، وقد صَرَّح بالثاني حيث قال: "ما أجد أحدًا أحقّ بهذا الأمر من هؤلاء النفر الذين تُوُفّي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو عنهم راض

"، فذكرهم، وأما الأول فأخرجه ابن سعد، من طريق عبد الرَّحمن بن أبزي، عن عمر رضي الله عنه قال: "هذا الأمر في أهل بدر، ما بقي منهم أحدٌ، ثم في أهل أُحُدٍ، ثم في كذا، وليس فيها لطَلِيق، ولا لِمُسْلِمة الفتح شيء"، وهذا مصير منه إلى اعتبار تقديم الأفضل في الخلافة.

قال ابن بطال رحمه الله ما حاصله: إن عمر رضي الله عنه سلك في هذا الأمر مسلكًا متوسطًا؛ خشية الفتنة، فرأى أن الاستخلاف أضبط لأمر المسلمين، فجعل الأمر معقودًا موقوفًا على الستة؛ لئلا يترك الاقتداء بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، فأخذ من فعل النبيِّ صلى الله عليه وسلم طَرَفًا، وهو ترك التعيين، ومِنْ فِعل أبي بكر رضي الله عنه

(1)

"المفهم" 4/ 14.

ص: 671

طرفًا، وهو العقد لأحد الستة، وإن لَمْ ينصّ عليه. انتهى ملخصًا

(1)

.

(وَإِنْ أَتْرُكْكُمْ)؛ أي: من غير استخلاف، (فَقَدْ تَرَكَكُمْ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي) وقوله:(رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) بالرفع على البدليّة من "مَنْ".

قال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لَمْ يستخلف"؛ أي: لَمْ يَنُصّ على خليفة، لا على أبي بكر، ولا على غيره، وهذا هو مذهب جماعة من أهل السُّنَّة، والصحابة، ومن بعدهم، وقد ذهب بكر بن أخت عبد الواحد إلى أن تقديم أبي بكر كان بالنصّ من النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وذهب ابن الراونديّ إلى أنه نصّ على العباس، وذهبت الشيعة، والرافضة إلى أنه نصَّ على عليّ، وكل ذلك أقوال باطلة قطعًا؛ إذ لو كان ذلك لكان المهاجرون والأنصار أعرف بذلك، فإنهم اختلفوا في ذلك يوم السَّقيفة، وقال كلّ واحد منهم ما عنده في ذلك من النظر، ولم ينقل منهم أحدٌ نصًّا على رجل بعينه، ولو كان عندهم نصُّ لاستحال السكوت عليه في مثل ذلك الوقت العظيم، والخَطْب المهمّ الجسيم، والحاجة الفادحة، مع عدم التقيّة والتواطُؤ من ذلك الجمع على الكتمان، ومُدَّعِي النصّ في ذلك كاذب قطعًا، فلا يُلْتَفَتُ إليه، وكل من ذُكِر له خلاف في هذه المسألة لا يُعْتَدُّ بخلافه، فإنه إما مُكَفِّر، وإما مُفَسِّق مُبَدَّع، ومن كان كذلك لا يُعتد بخلافه، والمسألة إجماعية قطعية، والله الموفّق. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(2)

.

(قَالَ عَبْدُ اللهِ) بن عمر رضي الله عنهما (فَعَرَفْتُ أَنَّهُ)؛ أي: عمر رضي الله عنه، (حِينَ ذَكَرَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم غَيْرُ مُسْتَخْلِفٍ) لأنه لا يقدَّم أحدًا عليه صلى الله عليه وسلم، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عمر

(3)

رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(1)

"شرح البخاريّ" لابن بطَّال 8/ 283، و"الفتح" 17/ 60، كتاب "الإحكام" رقم (7218).

(2)

"المفهم" 4/ 13 - 14.

(3)

الحديث من مسند عمر رضي الله عنه، لا من مسند ابن عمر، كما في "تحفة الأشراف" 8/ 64، =

ص: 672

(المسألة الثانيه): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [2/ 4705 و 4706](1823)، و (البخاريّ) في "الإحكام"(7218)، و (أبو داود) في "الخراج والإمارة"(2939)، و (الترمذي) في "الفتن"(2225)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(9763)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1/ 9)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 43 و 46 و 47)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 374 - 375)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(1/ 43)، و (البزّار) في "مسنده"(1/ 220 و 257)، و (عبد بن حميد) في "مسنده"(1/ 42)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4478)، و (ابن سعد) في "الطبقات"(343/ 3 و 353)، و (الحاكم) في "المستدرك"(3/ 101)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(8/ 148 - 149) و"شعب الإيمان"(6/ 6)، و (البغويّ) في "شرح السُّنّة"(2489)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان أن للإمام أن يفعل في الاستخلاف ما فيه المصلحة للمسلمين، فإن رأى أن لا يستخلف لا يستخلف، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن رأى أن يستخلف استَخلف، كما فعل أبو بكر رضي الله عنه.

قال النوويّ رحمه الله: أجمع المسلمون على أنَّ الخليفة إذا حضرته مقدمات الموت، وقبل ذلك يجوز له الاستخلاف، ويجوز له تركه، فإن تَرَكَه فقد اقتدى بالنبيّ صلى الله عليه وسلم في هذا، وإلا فقد اقتدى بأبي بكر.

2 -

(ومنها): أنهم أجمعوا على انعقاد الخلافة بالاستخلاف، وعلى انعقادها بعقد أهلّ الحلّ والعقد لإنسان إذا لَمْ يستخلف الخليفة.

قال القرطبيّ رحمه الله: قد حصل من هذا الحديث أنَّ نَصْبَ الإمام لا بدَّ منه، وأن لنصبه طريقين: أحدهما: اجتهاد أهل الحلّ والعقد، والآخر: النصُّ؛ إما على واحدٍ بعينه، وإما على جماعة بأعيانها، ويفوّض التخيير إليهم في تعيين واحدٍ منهم، وهذا مما أجمع عليه السَّلف المصالح، ولا مبالاة

= فقول الشيخ الهرريّ في "شرحه": من خماسيات المصنِّف، ظنًّا منه أنه من مسند ابن عمر رضي الله عنهما ما، فيه نظر لا يخفى؛ فتنبّه.

ص: 673

بخلاف أهل البدع في بعض هذه المسائل، فإنهم مسبوقون بإجماع السلف، وأيضًا: فإنهم لا يُعتدُّ بخلافهم على ما تقدَّم. انتهى.

3 -

(ومنها): أنهم أجمعوا أيضًا على جواز جعل الخليفة الأمر شُورى بين جماعة، كما فَعَل عمر رضي الله عنه بالستة.

4 -

(ومنها): ما قال ابن بطال رحمه الله: وفي هذه القصّة دليلٌ على جواز عقد الخلافة من الإمام المتولّي لغيره بعده، وأن أمْره في ذلك جائز على عامّة المسلمين؛ لإطباق الصحابة ومن معهم على العمل بما عَهِده أبو بكر لعمر رضي الله عنهما، وكذا لَمْ يختلفوا في قبول عهد عمر رضي الله عنه إلى الستة، قال: وهو شبيه بإيصاء الرجل على ولده؛ لكون نَظَره فيما يَصلح أتَمَّ من غيره، فكذلك الإمام. انتهى.

5 -

(ومنها): أن فيه ردًّا على من جزم؛ كالطبري وقبله بكر بن أخت عبد الواحد، وبعده ابن حزم بأن النبيّ صلى الله عليه وسلم استَخْلَف أبا بكر، قال ابن بطّال: وجْه ذلك جزمُ عمر رضي الله عنه بأنه لَمْ يستخلِف صلى الله عليه وسلم، لكن تمسَّك من خالفه بإطباق الناس على تسمية أبي بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، واحتَجّ الطبريّ أيضًا بما أخرجه بسند صحيح، من طريق إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم: رأيت عمر يُجَلِّس الناسَ، ويقول: اسمعوا لخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال الحافظ: ونظيره ما في البخاريّ من قول أبي بكر رضي الله عنه: "حتى يُرِيَ اللهُ خليفةَ نبيِّه صلى الله عليه وسلم"

(1)

.

ورُدّ بأن الصيغة يَحْتَمِل أن تكون من مفعول، ومن فاعل، فلا حجة فيها، ويترجح كونها من فاعل: جزم عمر رضي الله عنه بأنه لَمْ يستخلف، وموافقة ابن عمر له على ذلك، فعلى هذا فمعنى خليفة رسول الله: الذي خَلَفه، فقام بالأمر بعده، فسُمّي خليفة رسول الله لذلك، وأن عمر أطلق على أبي بكر خليفة رسول الله، بمعنى أنه أشار إلى ذلك بما تضمّنه حديث الباب وغيره، من الأدلة، وإن لَمْ

(1)

هو ما أخرجه البخاريّ في "صحيحه"(6/ 2639) عن طارق بن شهاب، عن أبي بكر رضي الله عنه قال لوفد بُزَاخة: تَتْبعون أذناب الإبل، حتى يُرِيَ الله خليفة نبيّه صلى الله عليه وسلم، والمهاجرين أمرًا يعذرونكم به".

راجع: تمام قصّتهم في "الفتح" 17/ 64 - 65 رقم (7221).

ص: 674

يكن في شيء منها تصريح، لكن مجموعها يؤخذ منه ذلك، فليس في ذلك خلاف لِمَا رَوَى ابن عمر عن عمر رضي الله عنهما.

6 -

(ومنها): أن فيه ردًّا على مَن زعم من الراوندية أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم نَصّ على العباس، وعلى قول الروافض كلها: إنه نصّ على عليّ، ووجه الردّ عليهم إطباق الصحابة على متابعة أبي بكر، ثم على طاعته في مبايعة عمر، ثم على العمل بعهد عمر في الشوري، ولم يَدَّع العباس، ولا عليّ أنه صلى الله عليه وسلم عَهِد له بالخلافة.

وقال النوويّ رحمه الله: وأجمعوا على أنَّه يجب على المسلمين نصب خليفة، ووجوبه بالشرع، لا بالعقل، وأما ما حُكِي عن الأصمّ أنه قال: لا يجب، وعن غيره: أنه يجب بالعقل، لا بالشرع فباطلان، أما الأصمّ فمحجوج باجماع من قبله، ولا حجة له في بقاء الصحابة بلا خليفة في مدّة التشاور يوم السقيفة، وأيام الشورى بعد وفاة عمر رضي الله عنه؛ لأنهم لَمْ يكونوا تاركين لنصب الخليفة، بل كانوا ساعين في النظر في أمر مَن يُعقد له، وأما القائل الآخر ففساد قوله ظاهر؛ لأنَّ العقل لا يوجب شيئًا، ولا يحسّنه، ولا يقبّحه، وإنما يقع ذلك بحسب العادة، لا بذاته.

7 -

(ومنها): ما قال النوويّ رحمه الله أيضًا: وفي هذا الحديث دليل أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ ينص على خليفة، وهو إجماع أهل السُّنَّة وغيرهم، قال القاضي عياض: وخالف في ذلك بكر بن أخت عبد الواحد، فزعم أنه نصّ على أبي بكر، وقال ابن راونديّ: نصّ على العباس، وقالت الشيعة والرافضة: على عليّ، وهذه دعاوى باطلة، وجسارة على الافتراء، ووقاحة في مكابرة الحسّ؛ وذلك لأنَّ الصحابة رضي الله عنهم أجمعوا على اختيار أبي بكر، وعلى تنفيذ عهده إلى عمر، وعلى تنفيذ عهد عمر بالشوري، ولم يخالف في شيء من هذا أحد، ولم يَدَّع عليّ، ولا العباس، ولا أبو بكر وصيّة في وقت من الأوقات، وقد اتفق عليّ والعباس على جميع هذا من غير ضرورة مانعة، مِنْ ذِكر وصيّة لو كانت، فمن زعم أنه كان لأحد منهم وصية، فقد نسب الأمة إلى اجتماعها على الخطأ، واستمرارها عليه، وكيف يَحِلّ لأحد من أهل القبلة أن ينسب الصحابة إلى المواطأة على الباطل في كلّ هذه الأحوال؟ ولو كان شيء لنُقِل، فإنه من

ص: 675

الأمور المهمة. انتهى كلام النوويّ

(1)

، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4706]

(

) - (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَابْنُ أَبِي عُمَرَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَأَلْفَاظُهُمْ مُتَقَارِبَةٌ، قَالَ إِسْحَاقُ، وَعَبْدٌ: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ الآخَرَانِ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاق، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَخْبَرَنِي سَالِمٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى حَفْصَةَ، فَقَالَتْ: أَعَلِمْتَ أَنَّ أَباكَ غَيْرُ مُسْتَخْلِفٍ؟ قَالَ: قُلْتُ: مَا كَانَ لِيَفْعَلَ، قَالَتْ: إِنَّهُ فَاعِلٌ، قَالَ: فَحَلَفْتُ أَنِّي أُكَلِّمُهُ فِي ذَلِكَ، فَسَكَتُّ حَتَّى غَدَوْتُ، وَلَمْ أُكَلِّمُهُ، قَالَ: فَكُنْتُ كَأَنَّمَا أَحْمِلُ بِيَمِينِي جَبَلًا، حَتَّى رَجَعْتُ، فَدَخَلْتُ عَلَيْه، فَسَأَلَنِي عَنْ حَالِ النَّاس، وَأَنَا أُخْبِرُهُ، قَالَ: ثُمَّ قُلْتُ لَهُ: إِنِّي سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ مَقَالَةً، فَآلَيْتُ أَنْ أَقُولَهَا لَكَ، زَعَمُوا أَنَّكَ غَيْرُ مُسْتَخْلِفٍ، وَإِنَّهُ لَوْ كَانَ لَكَ رَاعِي إِبِلٍ، أَو رَاعِي غَنَم، ثُمَّ جَاءَكَ، وَتَرَكَهَا، رَأَيْتَ أَنْ قَدْ ضَيَّعَ، فَرِعَايَةُ النَّاسِ أَشَدُّ، قَالَ: فَوَافَقَهُ قَوْلِي، فَوَضَعَ رَأْسَهُ سَاعَةً، ثُمَّ رَفَعَهُ إِلَيَّ، فَقَالَ: إِنَّ اللهَ يَحْفَظُ دِينَهُ، وَإِنِّي لَئِنْ لَا أَسْتَخْلِفْ

(2)

، فَإِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَسْتَخْلِفْ، وَإِنْ أَسْتَخْلِفْ، فَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ قَدِ اسْتَخْلَفَ، قَالَ: فَوَاللهِ مَا هُوَ إِلَّا أَنْ ذَكَرَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَأبا بَكْرٍ، فَعَلِمْتُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيَعْدِلَ بِرَسُولِ اللهِ كتَ أَحَدًا، وَأَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَخْلِفٍ).

رجال هذا الإسناد: تسعة:

1 -

(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه، تقدّم قبل أربعة أبواب.

2 -

(ابْنُ أَبِي عُمَرَ) هو: محمد بن يحيى بن أبي عمر، تقدّم في الباب الماضي.

3 -

(عَبْدُ بْنُ حُمَيْدِ) بن نصر، أبو محمد الكسيّ، ثقةٌ حافظٌ [11](ت 249)(خت م ت) تقدم في "الإيمان" 7/ 131.

(1)

"شرح النوويّ" 12/ 205 - 206.

(2)

وفي نسخة: "وإني إن لا أستخلف".

ص: 676

4 -

(الزُّهْرِيُّ) محمد بن مسلم، تقدّم قريبًا.

5 -

(سَالِمُ) بن عبد الله بن عمر بن الخطاب القرشيّ الْعَدويّ، أبو عمر، أو أبو عبد الله المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ، عابد، فاضلٌ، من كبار [3](ت 106) على الصحيح (ع) تقدم في "الإيمان" 14/ 162.

والباقون ذُكروا في الإسنادين الماضيين، وعبد الرزّاق هو: ابن همّام الصنعانيّ، ومعمر: هو ابن راشد اليمنيّ.

شرح الحديث:

(عَنِ ابْنِ عُمَرَ) رضي الله عنهما أنه (قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى حَفْصَةَ) بنت عمر، شقيقته رضي الله عنهم (فَقَالَتْ: أَعَلِمْتَ أَنَّ أَبَاكَ غَيْرُ مُسْتَخْلِفٍ؟) هذا يَحْتَمل أنَّها سألت عمر رضي الله عنه عن ذلك، فأخبرها به، أو سمعت جواب من سأله، والله تعالى أعلم.

(قَالَ) ابن عمر (قُلْتُ: مَا كَانَ لِيَفْعَلَ)؛ أي: تَرْك الاستخلاف؛ يعني: أن عمر رضي الله عنه لا يترك الاستخلاف؛ لأنه من مهمات الدِّين. (قَالَتْ) حفصة (إِنَّهُ فَاعِلٌ)؛ أي: فاعلٌ تَرْك الاستخلاف، (قَالَ) ابن عمر (فَحَلَفْتُ أَنِّي أُكَلِّمُهُ فِي ذَلِكَ)؛ أي: في شأن الاستخلاف. (فَسَكَتُّ حَتَّى غَدَوْتُ)؛ أي: ذهبت إليه وقت الصباح، يقال: غدوت غُدُوًّا، من باب قعد: ذهبتُ غُدْوةً، وهي ما بين صلاة الصبح، وطلوع الشمس، هذا أصله، ثم كثُر استعماله في الذهاب والانطلاق أي وقت كان، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: "واغْدُ يا أُنيس إلى امرأة هذا

" الحديث، متّفقٌ عليه؛ أي: اذهب، وانطلق

(1)

. (وَلَمْ أكُلِّمْهُ، قَالَ: فَكُنْتُ كَأَنَّمَا أَحْمِلُ بِيَمِينِي جَبَلًا) معناه: أنه يشقّ عليه أن يتكلّم عند عمر رضي الله عنه في هذا الأمر، إما لأنَّ الموضوع خطير، ومكالمة الفاروق رضي الله عنه في ذلك مَهيب، وإما لأنه كان في الحضّ على الاستخلاف في موضع تهمة، فربّما يُخيّل إلى بعض الناس أنه يطمع في استخلافه نفسه، والله تعالى أعلم

(2)

.

وقيل: معنى "كَأَنَّمَا أَحْمِلُ بِيَمِينِي جَبَلًا حَتَّى رَجَعْتُ"؛ أي: بسبب

(1)

راجع: "المصباح" 2/ 443.

(2)

"تكملة فتح الملهم" 3/ 292.

ص: 677

يميني، يريد أنه ثَقُل عليه أن لا يكلّمه فيما حلف أن يكلّمه فيه حتى كأنه يَحمل جبلًا، وأنه لَمْ يزل كذلك إلى أن عاد، فكلّمه.

وقال القرطبيُّ رحمه الله: قول ابن عمر: "كأنما أحمل بيميني جبلًا" يعني: أنه وجد ثقلًا بسبب خوفه من الحنث في يمينه؛ لأنَّها كانت على إثباتٍ، فهو في الحال على حِنْث؛ لأنه مخالف لِمَا حلف عليه، وأراد ابن عمر، أنه وجد من الثِّقَل بسبب اليمين التي حلفها كثقل مَنْ يحمل جبلًا، هو تشبية واستعارة. انتهى

(1)

.

(فَدَخَلْتُ عَلَيْه، فَسَأَلَنِي عَنْ حَالِ النَّاس، وَأَنَا أُخْبِرُهُ، قَالَ: ثُمَّ قُلْتُ لَهُ: إِنِّي سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ مَقَالَةً، فَآلَيْتُ)؛ أي: أقسمت (أَنْ أَقُولَهَا لَكَ، زَعَمُوا أَنَّكَ غَيْرُ مُسْتَخْلِفٍ) قال القرطبيّ رحمه الله: هذا إنما قاله الناس حين طُعِن عمر رضي الله عنه، وسَقَوه لبنًا، فخرج من طعنته، فيئسوا منه، وعلموا أنه هالك، فجرى ذلك. انتهى

(2)

.

(وَإِنَّهُ لَوْ كَانَ لَكَ رَاعِي إِبِلٍ، أَو رَاعِي غَنَمٍ، ثمَّ جَاءَكَ، وَتَرَكَهَا، رَأَيْتَ أَنْ قَدْ ضَيَّعَ)"أن" مخفّفة من الثقيلة، واسمها ضمير شأن مقدَّر؛ أي: أنه قد ضيّعها؛ أي: فرّط فيها، وأهملها، والمعنى أنك تؤاخذ الراعي بأنه ضيّع الغنم بتركها بلا راع، فإذا كان الراعي يعدّ مقصِّرًا بتركها دون أن يستخلف عليها من يقوم بحفظها، فالإمام الذي يترك الناس بلا استخلاف خليفة عليهم أجدر أن يكون مهملًا مقصّرًا؛ لأنَّ الأمر في حِفْظ الناس ورعايتهم أشدّ، وآكد من أمر رعاية الإبل والغنم.

وقال القرطبيّ رحمه الله: في كلام ابن عمر رضي الله عنهما هذا من الفقه استعمالُ القياس، فإنه قَرَّرَ على الأصل المعلوم، وهي رعاية الغنم والإبل، ثم حَمَل عليه رعاية الناس، ورأى أنَّها أَولى، فكأنَّ ذلك إلحاقُ مسكوتٍ عنه بمنطوقٍ به على طريق الأَوْلى، وهو نوع من أنواع الإلحاق، كما يُعرف في موضعه. انتهى

(3)

.

(1)

"المفهم" 4/ 12.

(2)

"المفهم" 4/ 12.

(3)

"المفهم" 4/ 12.

ص: 678

(فَرِعَايَةُ النَّاسِ)؛ أي: سياستهم، وتدبير شؤونهم (أَشَدُّ، قَالَ) ابن عمر (فَوَافَقَهُ قَوْلي)؛ أي: ناسَبَ عمر قولي هذا، وصوّبه.

وقال القرطبيّ رحمه الله: وقوله: "فوافقه قولي"؛ يعني: أنه مال إليه، ونظر فيه، ولذلك وضع عمر رضي الله عنه رأسه يفكر في المسألة، ثم لَمَّا لاح له نَظَرٌ آخر أخذ يُبْدِيه، فرفع رأسه، وقال:"إن الله يحفظ دينه"، وإنما قال ذلك للذي قد عَلِمه من قوله تعالى:{لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} الآية [التوبة: 33]، ومن قوله تعالى:{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ} الآية [النور: 55]، ولغير ذلك مما بَشَّر به النبيّ صلى الله عليه وسلم من استيلاء المسلمين، وما يفتح الله تعالى عليهم من المشارق والمغارب، ومن قوله صلى الله عليه وسلم:"إنَّ الله زَوَى لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن مُلك أُمَّتِي سيبلغ ما زَوَى لي منها"، وغير ذلك. انتهى

(1)

.

(فَوَضَعَ رَأْسَهُ سَاعَةً، ثُمَّ رَفَعَهُ إِلَيَّ، فَقَالَ: إِنَّ اللهَ يَحْفَظُ دِينَهُ)؛ يعني: أن هنا فرقًا بين ما ذكرت من قضيّة الراعي، وبين قضيّة رعاية الناس، ذلك أن ربّ الإبل، والغنم لا يقدر على حفظها إذا تركها، وغاب عنها، وأما رعاية الناس، فليست كذلك؛ لأنَّ الله سبحانه وتعالى يحفظ دينه، وإن تركت الاستخلاف؛ لِمَا وعد به من ذلك، حيث قال:{لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} الآية، وقوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54)} [المائدة: 54]. وإذا ظهر الفرق فلي في عدم الاستخلاف أكبر أسوة، وأعظم حجة، وهو عدم استخلافه صلى الله عليه وسلم؛ لِمَا يُعلم من أن الله تعالى يتولّى دينه، ويحفظه، فكان كذلك.

(وَإِنِّي لَئِنْ لَا أَسْتَخْلِفْ) وفي بعض النسخ: "فَإني إن لا أستخلف"، (فَإِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَسْتَخْلِفْ، وَإِنْ أَسْتَخْلِفْ، فَمنَّ أَبَا بَكْرٍ) رضي الله عنه (قَدِ اسْتَخْلَفَ، قَالَ) ابن عمر رضي الله عنهما (فَوَاللهِ مَا هُوَ)؛ أي: الأمر والشأن (إِلَّا أَنْ ذَكَرَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبَا بَكْرٍ، فَعَلِمْتُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيَعْدِلَ) يقال: عدلت هذا بهذا عَدْلًا، من باب

(1)

"المفهم" 4/ 12.

ص: 679

ضرب: إذا جعلته مِثله قائمًا مقامه، قال الله تعالى:{ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام: 1]؛ أي: لَمْ يكن عمر رضي الله عنه ليساوي (بِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَحَدًا) لأنه عنده أعظم من كلّ عظيم، (وَأَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَخْلِفٍ) اقتداء به صلى الله عليه وسلم، ثم إنه رضي الله عنه اختار أمرًا بين أمرين، فلم يستخلف أحدًا بعينه، ولا ترك الأمر دون إرشاد، وإنما فوّض تعيين الخليفة إلى ستّة من العشرة المبشّرين بالجنّة الذين تُوفّي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو عنهم راض، فاتّفقوا على عثمان رضي الله عنه، فاستقام الأمر، والحمد لله أولًا وآخرًا.

والحديث دون قصّة حفصة متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام البحث فيه في الحديث الماضي، ولله الحمد والمنّة.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(3) - (بَابُ النَّهْيِ عَنْ طلَبِ الإِمَارَة، وَالْحِرْصِ عَلَيْهَا)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4707]

(1652) - (حَدَّثَنَا شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ، حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَمُرَةَ، قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "يا عَبْدَ الرَّحْمَنِ لَا تَسْأَلِ الإِمَارَة، فَإِنَّكَ إِنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ مَسْأَلةٍ وُكِلْتَ

(1)

إِلَيْهَا، وَإِنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ أُعِنْتَ عَلَيْهَا").

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ) الأَبُلِّيّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(جَرِيرُ بْنُ حَازِمِ) أبو النضر البصريّ، ثقةٌ، تقدّم قريبًا.

3 -

(الْحَسَنُ) بن أَبي الحسن يسار، أبو سعيد البصريّ، ثقةٌ فقيهٌ، فاضلٌ، مشهور، إلَّا أنه يرسل كثيرًا، ويدلس، من كبار [3](110) وقد قارب التسعين (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" ج 1 ص 306.

4 -

(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَمُرَةَ) بن حبيب بن عبد شمس العبشميّ، أبو سعيد

(1)

وفي نسخة: "أُكلتَ" بالهمزة.

ص: 680

الصحابيّ، من مسلمة الفتح، يقال: كان اسمه عبد كلال، فسمّاه النبيّ صلى الله عليه وسلم عبد الرَّحمن، افتتح سجستان، ثم سكن البصرة، ومات بها سنة (50) أو بعدها (ع) تقدم في "الكسوف" 5/ 2118.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (333) من رباعيّات الكتاب، وأنه مسلسلٌ بالبصريين، وبالتحديث من أوله إلى آخره.

شرح الحديث:

عن الحسن البصريّ أنه قال: (حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَمُرَةَ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "يا عَبْدَ الرَّحْمَنِ لَا تَسْأَلِ)"لا" ناهية، ولذا جُزم الفعل بعدها، وكُسرت اللام؛ لالتقاء الساكِنَين. (الإِمَارَةَ) بكسر الهمزة؛ أي: الولاية عامّة كانت، أو خاصّة، ويدخل فيها القضاء، والْحِسْبةُ، وغيرها.

قال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "لا تسأل الإمارة" هو نهيٌ، وظاهره التحريم، وعلى هذا يدلّ قوله بعد هذا:"إنَّا والله لا نولّي على هذا العمل أحدًا سأله، أو حَرَص عليه" وسببه أن سؤالها والحرص عليها، مع العلم بكثرة آفاتها، وصعوبة التخلص منها؛ دليلٌ على أنَّه يطلبها لنفسه، ولأغراضه، ومَنْ كان هكذا أوشك أن تغلب عليه نفسه فيهلك، وهذا معنى قوله:"وُكلت إليها"، ومَن أباها لِعِلْمه بافاتها، ولخوفه من التقصير في حقوقها، وفرَّ منها، ثم إن ابتلي بها؛ فَيُرْجَى له ألا تغلب عليه نفسه؛ للخوف الغالب عليه، فيتخلّص من آفاتها، وهذا معنى قوله:"أعنتَ عليها".

وهذا كلّه محمول على ما إذا كان هنالك جماعة ممن يقوم بها، ويصلح لها، فأما لو لَمْ يكن هنالك ممن يصلح لها إلَّا واحد لتعيَّن ذلك عليه، ووجب أن يتولاها، ويسأل على ذلك، ويُخبر بصفاته التي يستحقها به من العلم، والكفاية، وغير ذلك؛ كما قال يوسف عليه السلام:{قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55)} [يوسف: 55]. . انتهى

(1)

.

(1)

"المفهم" 4/ 16.

ص: 681

(فَإِنَّكَ) الفاء للتعليل؛ أي: لأنك (إِنْ أُعْطِيتَهَا) بالبناء للمفعول، (عَنْ مَسْأَلَةٍ)؛ أي: بعد سؤالك إياها، فـ "عن" بمعنى "بعد"، أو المعنى: إعطاءً صادرًا عن مسألة، (وُكلْتَ إِلَيْهَا) بضمّ الواو، وكسر الكاف مخفّفةً، وفتح التاء للمخاطب؛ أي: خُلِّيتَ إليها، وتُركت معها من غير إعانة فيها.

قال النوويّ رحمه الله: قوله: "أُكلت إليها" هكذا هو في كثير من النسخ، أو أكثرها:"أكلت" بالهمز، وفي بعضها:"وُكلت"، قال القاضي عياض: هو في أكثرها بالهمز، قال: والصواب بالواو؛ أي: أُسلمت إليها، ولم يكن معك إعانة، بخلاف ما إذا حَصَلت بغير مسألة. انتهى

(1)

.

وقال في "الفتح": قوله: "وُكِلتَ إليها" بضم الواو، وكسر الكاف، مخفّفًا، ومُشدّدًا، وسكون اللام، ومعنى المخفَّف؛ أي: صُرفتَ إليها، ومن وُكل إلى نفسه هلك، ومنه في الدعاء:"ولا تكلني إلى نفسي"، ووَكَل أمره إلى فلان: صَرَفه إليه، ووَكّله بالتشديد: استحفظه، ومعنى الحديث: أن من طلب الإمارة، فأُعطيها تُركت إعانته عليها من أجل حرصه. انتهى.

(وَإِنْ أُعْطِيتَهَا) بالبناء للمفعول أيضًا، (عَنْ غَيْرِ مَسْأَلةٍ أُعِنْتَ) بالبناء للمفعول أيضًا؛ أي: أعانك الله تعالى (عَلَيْهَا")؛ أي: على تلك الإمارة، وسدّدك، وقد ورد تفسير الإعانة عليها في حديث بلال بن مِرداس، عن خيثمة، عن أنس رضي الله عنه، رفعه:"مَن طَلَب القضاء، واستعان عليه بالشفعاء، وُكِل إلى نفسه، ومن أُكره عليه، أنزل الله عليه مَلَكًا يُسَدِّده"، أخرجه ابن المنذر.

وكذا أخرجه الترمذيّ من طريق أبي عوانة، عن عبد الأعلى الثعلبيّ، وأخرجه هو وأبو داود، وابن ماجة، من طريق أبي عوانة، ومن طريق إسرائيل، عن عبد الأعلى، فأسقط خيثمة من السند، قال الترمذيّ: ورواية أبي عوانة أصحّ، وقال في رواية أبي عوانة: حديثٌ حسنٌ، غريبٌ.

وأخرجه الحاكم من طريق إسرائيل، وصحَّحه، وتُعُقّب بأن ابن معين لَيِّن خيثمة، وضعّف عبد الأعلى، وكذا قال الجمهور في عبد الأعلى: ليس بقويّ.

قال المهلّب: وفي معنى الإكراه عليه أن يُدْعَى إليه فلا يرى نفسه أهلًا

(1)

"شرح النوويّ" 12/ 207.

ص: 682

لذلك؛ هيبةً له، وخوفًا من الوقوع في المحذور، فإنه يُعان عليه، إذا دخل فيه، ويُسَدَّد، والأصل فيه: أن من تواضع لله رفعه الله.

وقال ابن التين: هو محمول على الغالب، وإلا فقد قال يوسف عليه السلام:{قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ} [يوسف: 55]، وقال سليمان:{وَهَبْ لِي مُلْكًا} [ص: 35]، قال: ويَحْتَمِل أن يكون في غير الأنبياء عليهم السلام.

ويستفاد من الحديث أن طلب ما يتعلق بالحكم مكروه، فيدخل في الإمارة: القضاء، والحسبة، ونحو ذلك، وأن من حَرَص على ذلك لا يعان.

ويعارضه في الظاهر ما أخرجه أبو داود، عن أبي هريرة رضي الله عنه، رفعه:"مَن طَلَب قضاء المسلمين حتى يناله، ثم غَلَب عَدْله جَوْره، فله الجَنَّة، ومن غلب جوره عَدْله، فله النار"، والجمع بينهما أنه لا يلزم من كونه لا يعان بسبب طلبه أن لا يحصل منه العدل إذا وُلّي، أو يُحْمَل الطلب هنا على القصد، وهناك على التولية، وفي حديث أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه مرفوعًا:"لا نستعمل على عملنا من أراده"، متّفقٌ عليه، وفي لفظ للبخاريّ:"إنّا لا نُوَلِّي هذا من سأله، ولا مَن حَرَص عليه"، ولذلك عَبَّر في مقابله بالإعانة، فإن من لَمْ يكن له من الله عون على عمله لا يكون فيه كفاية لذلك العمل، فلا ينبغي أن يجاب سؤاله، ومن المعلوم أن كلّ ولاية لا تخلو من المشقّة، فمن لَمْ يكن له من الله إعانة تورّط فيما دخل فيه، وخَسِر دنياه وعقباه، فمن كان ذا عقل لَمْ يتعرض للطلب أصلًا، بل إذا كان كافيًا، وأُعطيها من غير مسألة فقد وعده الصادق بالإعانة، ولا يخفى ما في ذلك من الفضل، قاله في "الفتح"

(1)

، وهو تحقيق حسنٌ.

وبعد كتابتي ما تقدّم رأيت صاحب "التكملة"

(2)

كتب هنا بحثًا مفيدًا أحببت إيراده باختصار؛ لنفاسته، وتكميلًا لِمَا سبق، قال: واستَدَلّ بهذا الحديث مَن مَنَعَ طلب الإمارة، والقضاء مطلقًا، ويدل على خلاف ذلك قول الله تعالى حكايةً عن يوسف عليه السلام: {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ

(1)

"الفتح" 16/ 629 - 630، كتاب "الأحكام" رقم (7147).

(2)

هو صاحب "تكملة فتح الملهم" الشيخ محمد تقيُّ الدين العثمانيّ رحمه الله.

ص: 683

- رحمه الله، وقوله صلى الله عليه وسلم:"من طَلَب قضاء المسلمين حتى يناله، ثمّ غلب عدله جوره، فله الجنّة، ومن غَلَب جوره عدله فله النار"، أخرجه أبو داود، عن أبي هريرة رضي الله عنه، وسكت عليه هو والمنذريّ، وسنده لا مطعن فيه، كما في "نيل الأوطار"(8/ 498).

قال الجامع عفا الله عنه: هكذا قال، وفيه نظر، فإن في سنده موسى بن نجدة مجهول، كما في "التقريب"، وغيره، فالحديث ضعيف

(1)

، فتنبّه.

قال: وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "لا حسد إلَّا في اثنتين: رجل آتاه الله مالًا، فسُلّط على هَلَكَته في الحقِّ، ورجل آتاه الحكمة، فهو يقضي بها، ويُعلّمها"، متّفقٌ عليه.

ومن أجْل هذه الدلائل اختار أكثر الفقهاء التفصيل، فإن كان الغالب غير أهْل لذلك المنصب من الإمامة، أو القضاء، فإن طَلَبه محظور مطلقًا، وكذلك إذا كان الطلب لحبِّ الرئاسة والشرف، فإنه منهيٌّ عنه مطلقًا، وأما إذا كان للإصلاح بين الناس، وإقامة العدل، فليس بمنهيّ عنه.

قال الجامع عفا الله عنه: عندي أن كون النهي على الاطلاق هو الظاهر إلَّا عند الضرورة؛ لأنَّ الأدلّة المذكورة للإباحة غير واضحة، فأما حديث: "من طلب قضاء المسملمين

" فقد عرفت أنه ضعيف، لا يصلح للاحتجاج به، وأما آية يوسف عليه السلام فمقام الأنبياء غير مقام سائر الناس؛ لِعِصْمتهم، وأيضًا فإنه في محلّ الضرورة، حيث رأى أن ذلك المنصب لا يصلح له إلَّا هو؛ إذ هو قيامٌ بتوزيع الأرزاق بين الناس في أيام المجاعة، فلو تولّى غيره لضاع حقوق الناس في ذلك، فهذا لو قدّرنا الآن أنه لو تولّى هذا المنصب من لا يراعي حقوق الناس، وخشي الإنسان ذلك، فله أن يطلب الإمارة؛ لضرورة الحفظ على حقوق الناس، والله تعالى أعلم.

وأما حديث: "لا حسد

إلخ" فإنه لا يدلّ على الطلب، وإنما يدلّ على القضاء العادل، وهذا يوجد فيمن وُلّي كارهًا، ولا يُفهم منه الطلب أصلًا.

(1)

وقد أصاب الشيخ الألبانيّ رحمه الله حيث ضعّفه فيما كتبه على "سنن أبي داود" 3/ 299.

ص: 684

وبالجملة فأدلّة المنع مطلقًا واضحة، بخلاف أدلّة الإباحة، فتأملها بالإنصاف، والله تعالى أعلم.

ثم قال صاحب "التكملة" بعد نقل أقوال من هذا القبيل ما نصّه: فتبيّن بهذا أن ما يفعله الناس اليوم في الانتخابات الديمقراطيّة، من ترشيح أنفسهم لشتّى المناصب، ودعوة الناس إلى التصويت لهم، فليس من الإسلام في شيء؛ لأنَّ المقصود بذلك في الغالب هو طلب المنصب والرئاسة والشرف، على ما يصحبه من مدح الشخص نفسه، والنيل من أعراض مخالفيه، واشتراء الأصوات بالرشوة، وغيرها من المفاسد الظاهرة.

فينبغي إن عُقدت الانتخابات بطريقة شرعيّة أن لا يكون الشخص مرشّحًا نفسه، ولا داعيًا إلى ترشيحه، أو التصويت له. انتهى ما كتبه باختصار

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا كلّه فيما إذا فرضنا أن تلك الحكومة تحكّم شرع الله تعالى، وتعمل بالكتاب والسنّة، وأين هذا من الديمقراطيّة؛ وأما إذا كانوا يحكّمون القوانين الوضعيّة، ويفضّلونها على الإحكام الشرعيّة - كما هو الواقع الآن في كثير من البلدان - فلا شكّ في تحريم الدخول في الانتخاب بأيّ وجه من الوجوه، سواء كان بطلب منه، أو بدونه، بل لو انتخبوه لوجب عليه الفرار خوفًا من جهنّم، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44]، أعاذنا الله من جهنّم بمنّه وكرمه آمين.

[تنبيه]: حديث عبد الرَّحمن بن سمُرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه، وقد مضى في "كتاب الإيمان" برقم [3/ 4273](1652) ومضى بيان مسائله هناك، فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق.

[تنبيه]: يوجد في هامش النسخة الهنديّة ما نصّه: قال الشيخ أبو أحمد: نا أبو العبّاس الماسرجسيّ، نا شيبان بن فَرّوخ بهذا الحديث. انتهى.

و"أبو أحمد" هو: محمد بن عيسى الْجُلُوديّ، المتوفّى سنة (368 هـ)، والماسرجسيّ هو: أحمد بن محمد بن عبد الله بن الحسن المتوفّى سنة ثمان وسبعين وثلاث مئة.

(1)

راجع: "تكملة فتح الملهم" 3/ 293 - 295.

ص: 685

وهذا الكلام قد تقدّم في "كتاب الأيمان" برقم [3/ 4273](1652)، وسبق شرحه هناك، فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4708]

(

) - (وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، حَدثَنَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ الله، عَنْ يُونُسَ (ح) وَحَدَّثَنِي عَلِي بْنُ حُجْرٍ السَّعْدِيُّ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ يُونُسَ، وَمَنْصُورٍ، وَحُمَيْدٍ (ح) وَحَدَّثَنَا أَبُو كَامِلٍ الْجَحْدَرِيُّ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زيدٍ، عَنْ سِمَاكِ بْنِ عَطِيَّةَ، وَيُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ، وَهِشَامِ بْنِ حَسَّانَ، كُلُّهُمْ عَنِ الْحَسَن، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِ حَدِيثِ جَرِيرٍ).

رجال هذا الإسناد: ثلاثة عشر:

1 -

(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ، تقدَّم قريبًا.

2 -

(خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) الطحَّان الواسطيّ، تقدّم في الباب الماضي.

3 -

(عَلِي بْنُ حُجْرٍ السَّعْدِيُّ) المروزيّ، ثقةٌ حافظٌ، من صغار [9](ت 244) وقد قارب المائة، أو جاوزها (خ م ت س) تقدم في "المقدمة" 2/ 6.

4 -

(هُشَيْمُ) بن بشير السلميّ، أبو معاوية ابن أبي خازم الواسطيّ، ثقةٌ ثبتٌ، كثير التدليس، والإرسال الخفيّ [7](ت 183) وقد قارب الثمانين (ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 9.

5 -

(يُونُسُ) بن عبيد بن دينار الْعَبْديّ، أبو عُبيد البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فاضلٌ ورعٌ [5](ت 139)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 73.

6 -

(مَنْصُورُ) بن زاذان الثقفيّ، أبو المغيرة الواسطيّ، ثقةٌ ثبت عابدٌ [6](ت 120) على الصحيح (ع) تقدم في "الصلاة" 35/ 1019.

7 -

(حُمَيْدُ) بن أبي حميد الطويل، أبو عُبيدة البصري، ثقةٌ [5](ت 2 أو 143) وهو قائم يصلي، وله (75) سنة (ع) تقدم في "الطهارة" 23/ 639.

8 -

(أَبُو كَامِلٍ الْجَحْدَرِيُّ) فُضيل بن حسين البصريّ، ثقةٌ حافظ [10](ت 237) وله أكثر من ثمانين سنة (خت م د ت س) تقدم في "المقدمة" 6/ 57.

9 -

(حَمَّادُ بْنُ زَيْدِ) بن درهم الجهضميّ، أبو إسماعيل البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ، من كبار [8](ت 179) وله (81) سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 26.

ص: 686

10 -

(سِمَاكُ بْنُ عَطِيَّةَ) البصريّ الْمِرْبديّ - بكسر الميم، وسكون الراء، بعدها موحّدة - ثقةٌ [6](خ م د) تقدم في "الإيمان" 3/ 4274.

11 -

(هِشَامُ بْنُ حَسَّانَ) القُرْدوسيّ، تقدّم قريبًا.

والباقيان ذُكرا قبله.

وقوله: (كُلُّهُمْ عَنِ الْحَسَنِ)؛ أي: كلّ هؤلاء الخمسة: يونس بن عُبيد، ومنصور بن زاذان، وحميد الطويل، وسماك بن عطيّة، وهشام بن حسّان رووا هذا الحديث عن الحسن البصريّ.

[تنبيه]: روايات هؤلاء الخمسة تقدّم بيانها في "كتاب الإيمان" رقم [3/ 4273](1652)، فراجعها تستفد، وبالله تعالى التوفيق.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أَوَّل الكتاب قال:

[4709]

(1824) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاء، قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ بُرَيْدِ بْنِ عَبْدِ الله، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَا وَرَجُلَانِ مِنْ بَنِي عَمِّي، فَقَالَ أَحَدُ الرَّجُلَيْنِ: يَا رَسُولَ اللهِ أَمِّرْنَا عَلَى بَعْضِ مَا وَلَّاكَ اللهُ، وَقَالَ الآخَرُ مِثْلَ ذَلِكَ، فَقَالَ: "إِنَّا وَاللهِ لَا نُوَلِّي عَلَى هَذَا الْعَمَلِ أَحَدًا سَأَلَهُ، وَلَا أَحَدًا حَرَصَ عَلَيْهِ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(بُرَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ) بن أبي بُردة، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

2 -

(أَبُو بُرْدَةَ) بن أبي موسى، تقدّم أيضًا قبل ثلاثة أبواب.

3 -

(أَبُو مُوسَى) الأشعريّ عبد الله بن قيس رضي الله عنه، تقدّم أيضًا قبل ثلاثة أبواب.

والباقون تقدّموا في البابين الماضيين.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسلٌ بالكوفيين من أوله إلى آخره، وأن محمد بن العلاء أحد مشايخ الجماعة بلا واسطة، كما تقدّم في الباب الماضي، وأن فيه رواية الراوي عن جدّه، عن أبيه، فأبو بردة جدّ لبريد بن عبد الله، وأن صحابيّه من أكابر الصحابة رضي الله عنهم، وكان أحسن الناس

ص: 687

صوتًا في القراءة، قال له النبيّ صلى الله عليه وسلم:"لقد أوتيت مزمارًا من مزامير آل داود عليه السلام"، متّفقٌ عليه.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي مُوسَى) عبد الله بن قيس بن سُليم الأشعريّ رضي الله عنه أنه (قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَا وَرَجُلَانِ مِنْ بَنِي عَمِّي) وفي الرواية التالية: "أقبلت إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، ومعي رجلان من الأشعريين"، وفي رواية للبخاريّ: دخلت على النبيّ صلى الله عليه وسلم أنا ورجلان من قومي"، قال في "الفتح": لَمْ أقف على اسم هذين الرجلين، قال: وقد وقع في "الأوسط" للطبرانيّ من طريق عبد الملك بن عُمير، عن أبي بريدة، في هذا الحديث: أن أحدهما ابن عمِّ أبي موسى. (فَقَالَ أَحَدُ الرَّجُلَيْنِ: يَا رَسُولَ اللهِ أَمِّرْنَا عَلَى بَعْضِ مَا وَلاكَ اللهُ، وَقَالَ الآخَرُ مِثْلَ ذَلِكَ) وللبخاريّ في "الأحكام": "فقال أحدهما: أَمِّرنا يا رسول الله، فقال الآخر مثله"، ولأحمد، والنسائيّ من وجه آخر، عن أبي بُردة: "فتشهّد أحدهما، فقال: جئناك لتستعين بنا على عملك، فقال الآخر مثله"، وعندهما من طريق سعيد بن أبي بردة، عن أبيه: "أتاني ناس من الأشعريين، فقالوا: انطلق معنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن لنا حاجةً، فقمت معهم، فقالوا: أتستعين بنا في عملك؟ ".

قال الحافظ رحمه الله: ويُجْمَع بأنه كان معهما من يَتْبَعْهما، أو أطلق صيغة الجمع على الاثنين. انتهى

(1)

.

(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم "إِنَّا وَاللهِ لَا نُوَلِّي عَلَى هَذَا الْعَمَلِ)؛ يعني: الولاية على أمور المسلمين، (أَحَدًا سَأَلَهُ، وَلَا أَحَدًا حَرَصَ عَلَيْهِ") بفتح الراء، يقال: حَرَصَ عليه حَرْصًا، من باب ضرب: إذا اجتهد، والاسم: الْحِرْص بالكسر، وحَرِصَ على الدنيا، من باب ضرب أيضًا، ومن باب تَعِبَ لغةٌ: إذا رَغِبَ رَغْبَةً مذمومةً، فهو حريصٌ، وجمْعه: أحراصٌ، مثلُ ظَرِيفٍ وظِرَافٍ، وغَلِيظ وغِلَاظٍ، وكَرِيمٍ وكِرَام، قاله الفيّوميّ

(2)

، وقال المجد: الْحِرْصُ: بالكسر: الْجَشَعُ، وقد

(1)

"الفتح" 16/ 148، كتاب "استتابة المرتدّين" رقم (6923).

(2)

"المصباح المنير" 1/ 130.

ص: 688

حَرَصَ، كضربَ، وسَمِعَ، فهو حَرِيصٌ. انتهى

(1)

.

وقال النوويّ رحمه الله: يقال: حَرِص، بفتح الراء، وكسرها، والفتح أفصح، وبه جاء القرآن، قال الله تعالى:{وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103)} [يوسف: 103]. انتهى

(2)

.

وفي رواية: "لا نستعمل على عملنا من أراده"، وفي رواية:"من سألنا"، بفتح اللام، وفي رواية:"فقال: إنّ أخْوَنَكم عندنا من يطلبه، فلم يستعن بهما في شيء حتى مات"، أخرجه أحمد، من رواية إسماعيل بن أبي خالد، عن أخيه، عن أبي بُردة، وأدخل أبو داود بينه وبين أبي بردة رجلًا، قاله في "الفتح"

(3)

.

قال العلماء: والحكمة في أنه لا يُوَلَّى مَن سأل الولاية أنه يُوكَل إليها، ولا تكون معه إعانة، كما صُرِّح به في حديث عبد الرَّحمن بن سمرة رضي الله عنه السابق، وإذا لَمْ تكن معه إعانة لَمْ يكن كُفؤًا، ولا يُوَلَّى غيرُ الكفء، ولأن فيه تُهْمة للطالب، والحريص، والله تعالى أعلم.

قال الجامع عفا الله عنه: حديث أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه، وستأتي بقية مسائله في الحديث التالي - إن شاء الله تعالى -.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4710]

(

) - (حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ سَعِيدٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ - وَاللَّفْظُ لِابْنِ حَاتِمٍ - قَالَا: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ، حَدَّثَنَا قُرَّةُ بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ هِلَالٍ، حَدَّثَنِي أَبُو بُرْدَةَ، قَالَ: قَالَ أَبُو مُوسَى: أَقْبَلْتُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَمَعِي رَجُلَانِ مِنَ الأَشْعَريِّينَ، أَحَدُهُمَا عَنْ يَمِينِي، وَالآخَرُ عَنْ يَسَارِي، فَكِلَاهُمَا سَأَل الْعَمَلَ، وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَسْتَاكُ، فَقَالَ:"مَا تَقُولُ يَا؟ " مُوسَى، أَو يَا عَبْدَ اللهِ بْنَ قَيْسٍ؟ "، قَالَ: فَقُلْتُ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقّ، مَا أَطْلَعَانِي عَلَى مَا فِي أنفُسِهِمَا، وَمَا شَعَرْتُ أَنَّهُمَا يَطْلُبَانِ الْعَمَلَ، قَالَ: وَكَأَنِّي أنظُرُ إِلَى سِوَاكِهِ

(1)

"القاموس المحيط" ص 279.

(2)

"شرح النوويّ" 12/ 207.

(3)

"الفتح" 16/ 149، كتاب "استتابة المرتدّين" رقم (6923).

ص: 689

تَحْتَ شَفَتِهِ

(1)

، وَقَدْ قَلَصَتْ، فَقَالَ:"لنْ، أَو لَا نَسْتَعْمِلُ عَلَى عَمَلِنَا مَنْ أَرَادَهُ، وَلَكِنِ اذْهَبْ أَنْتَ يَا أَيَا مُوسَى، أَو يَا عَبْدَ اللهِ بْنَ قَيْسِ"، فَبَعَثَهُ عَلَى الْيَمَن، ثُمَّ أَتْبَعَهُ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ، فَلَمَّا قَدِمَ عَلَيْه، قَالَ: انْزِلْ، وَأَلْقَى لَهُ وِسَادَةً، وَإِذَا رَجُلٌ عِنْدَهُ مُوثَقٌ، قَالَ: مَا هَذَا؟ قَالَ: هَذَا كَانَ يَهُودِيًّا، فَأَسْلَمَ، ثُمَّ رَاجَعَ دِينَهُ دِينَ السَّوْء، فَتَهَوَّدَ، قَالَ: لَا أَجْلِسُ حَتى يُقْتَلَ، قَضَاءُ اللهِ وَرَسُولِه، فَقَالَ: اجْلِسْ، نَعَمْ، قَالَ: لَا أَجْلِسُ حَتَّى يُقْتَلَ، قَضَاءُ اللهِ وَرَسُولِه، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَأَمَرَ بِه، فَقُتِلَ، ثُمَّ تَذَاكَرَا الْقِيَامَ مِنَ اللَّيْل، فَقَالَ أَحَدُهُمَا، مُعَاذ: أَمَّا أَنَا فَأَنَامُ، وَأَقُومُ، وَأرْجُو فِي نَوْمَتِي مَا أَرْجُو فِي قَوْمَتِي).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ سَعِيدٍ) اليشكرّي، أبو قُدامة السرخسيّ، نزيل نيسابور، ثقةٌ مأمون سنّيّ [10](ت 241)(خ م س) تقدم في "المقدمة" 6/ 39.

2 -

(مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمِ) بن ميمون البغداديّ، تقدّم قريبًا.

3 -

(يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ) أبو سعيد البصريّ، ثقةٌ متقنٌ حافظٌ إمامٌ قدوة، من كبار [9](ت 198) عن (78) سنةً (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" ج 1 ص 385.

4 -

(قُرَّةُ بْنُ خَالِدٍ) السَّدوسيّ البصريّ، ثقةٌ ضابطٌ [6](ت 155)(ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 126.

5 -

(حُمَيْدُ بْنُ هِلَالٍ) العدويّ، أبو نصر البصريّ، ثقةٌ فقية [3](ع) تقدم في "الحيض" 21/ 791.

والباقيان ذُكرا قبله.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالتحديث، وبالبصريين، غير شيخيه، فالأول نيسابوريّ، والثاني بغداديّ، وأما أبو موسى، وولده أبو بردة، فقد سكنا الكوفة، والبصرة، فقد كان أبو موسى رضي الله عنه أميرًا على البصرة، فوُلد له أبو بردة هناك، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، بل هو من رواية الأقران، ورواية الابن عن أبيه.

(1)

وفي نسخة: "شفتيه".

ص: 690

شرح الحديث:

عَنْ أَبِي بُرْدَةَ أنه (قَالَ: قَالَ أَبُو مُوسَى) الأشعريّ رضي الله عنه (أَقْبَلْتُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم)؛ أي: توجَّهت إليه من المحلّ الذي كنت فيه، وقد بيّن سبب إقباله فيما أخرجه النسائيّ من طريق سعيد بن أبي بردة، عن أبيه، عن أبي موسى، "قال: أتاني ناس من الأشعريين، فقالوا: اذهب معنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن لنا حاجةً، فذهبت معهم

" الحديث.

(وَمَعِي رَجُلَانِ) جملة حاليّة من فاعل "أقبلت"، وقد تقدّم أنه لا يُعرف اسمهما. (مِنَ الأَشْعَرِيِّينَ)؛ أي: من قبيلة أشعر، بفتح الهمزة، والعين: نسبة إلى الأشعر، أبو قبيلة باليمن، وهو نبت بن أُدَد بن زيد بن يشجب بن عريب، وإنما قيل له: الأشعر؛ لأنَّ أمه ولدته، والشعر على بدنه، قاله في "اللباب"

(1)

، وقوله:(أَحَدُهُمَا عَنْ يَمِينِي، وَالآخَرُ عَنْ يَسَارِي) جملة حاليّة من "رجلان"؛ لتخصّصه بالوصف بالجارّ والمجرور. (فَكِلَاهُمَا) مبتدأ مرفوع بالألف؛ لكونه ملحقًا بالمثنّى، كما قال في "الخلاصة":

بِالألفِ ارْفَع الْمُثَنَّى وَكِلَا

إِذَا بِمُضْمَرٍ مُضَافًا وُصِلَا

وقوله: (سَأَلَ الْعَمَلَ) خبر المبتدأ؛ يعني أن كلًّا من الرجلين الأشعريَّين طلب من النبيِّ صلى الله عليه وسلم أن يجعله واليًا على بعض الأعمال.

[تنبيه]: إنما أفرد الضمير في قوله: "سأل"؛ لأنَّ الأكثر في "كلا"، و"كلتا" إفراد الضمير؛ مراعاة للفظهما، قال الله تعالى:{كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا} الآية [الكهف: 33]، ويجوز أيضًا مراعاة المعنى بقلّة، فيقال: كلاهما قاما، وقوله:(وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَسْتَاكُ) جملة حاليّة من الفاعل. (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("مَا تَقُولُ يَا أَبا مُوسىَ)"ما" استفهاميّة: أَيْ: أيُّ شيء تقول فيما سأله هذا الرجلان؟.

قال القرطبيّ رحمه الله: هو استفهامُ استعلامٍ عمَّا عنده من إرادته العمل، أو من معونته لهما على استدعائهما العمل، فأجابه بما يقتضي أنه لَمْ يكن عنده إرادة ذلك، ولا خبرٌ من إرادة الرجلين، فلمَّا تحقق النبيّ صلى الله عليه وسلم ذلك ولَّاه العمل؛ إذ لَمْ يسأله، ولا حَرِص عليه، ومَنَعه الرَّجلين؛ لِحِرْصهما، وسؤالهما؛

(1)

"اللباب في تهذيب الأنساب" 1/ 64.

ص: 691

على ما تقرّر آنفًا من أن الحريص عليها مخذول، والكاره لها مُعان، ومما جرى من الكلام بهذا المعنى مجرى المثل قولهم: الحرص على الأمانة دليل الخيانة. انتهى

(1)

.

وقوله: (أَو يَا عَبْدَ اللهِ بْنَ قَيْسٍ؟ ")"أو" هنا للشكّ من الراوي، قال:"يا أبا موسى، أو قال: "يا عبد الله بن قيس"، وهو اسم أبي موسى رضي الله عنه. (قَالَ) أبو موسى (فَقُلْتُ) اعتذارًا عن دخوله معهما، وهما يطلبان العمل، (وَالَّذِي بَعَثَكَ)؛ أي: أرسلك، والواو فيه للقَسَم، وفِعْل القَسَم محذوفٌ؛ أي: أُقسم بالله الذي أرسلك إلى الناس (بِالْحَق)؛ أي: بالدِّين والشرع الثابت الذي لا يدخله نسخٌ، ولا تبديل، (مَا) نافية، (أَطْلَعَانِي) كأعلماني وزنًا ومعنًى، (عَلَى مَا فِي أَنْفُسِهِمَا)؛ أي: على الذي أضمراه في أنفسهما من طلب العمل، وفي رواية أبي العُميس: "فاعتذرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم"، وقلت: لَمْ أدر ما حاجتهم، فصدّقني، وعذَرَني"، وفي لفظ:"لم أعلم لماذا جاءا؟ ". (وَمَا) نافية أيضًا، (شَعَرْتُ)؛ أي: ما فَطِنتُ، يقال: شَعَرَ بالشيء - بالفتح - يشعُر - بالضمّ - شِعْرًا - بالكسر -: فَطِن له، قاله في "المختار"، وفي "المصباح": وشَعَرتُ بالشيء شُعورًا، من باب قَعَد، وشِعْرًا، وشِعْرةً - بكسرهما -: عَلِمت. انتهى. (أَنَّهُمَا يَطْلُبَانِ الْعَمَلَ)؛ أي: الولاية، فـ "أن" ومعمولاها مفعول "شعَرَ"، ففي الجملة الأُولى نفى كونهما أخبراه قَصْدَهما، وفي الثانية نفى علمه به، وأنه لَمْ يتوصّل إليه بأيّ وسيلة من القرائن، ومقصوده الاعتذار إليه صلى الله عليه وسلم حيث شاركهما في الدخول عليه مع كونهما يطلبان العمل الذي ساءه جمرو طَلَبهما له؛ لأنَّ طَلَبهما له يدلّ على حِرصهما له، فيحملهما الحرص على عدم القيام بواجبه؛ لأنَّ من سأل الإمارة، فأُعطيَها وُكل إليها، ومن وَلي من غير مسألة أُعينَ عليها، كما بيّنه حديث عبد الرَّحمن بن سمرة رضي الله عنه الماضي. (قَالَ) أبو موسى رضي الله عنه (وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى سِوَاكِهِ) صلى الله عليه وسلم (تَحْتَ شَفَتِهِ)؛ أي: حال كونه ثابتًا تحت شفته صلى الله عليه وسلم، و"شفته" بالإفراد، وفي بعض النسخ:"شفتيه" بالتثنية.

قال الفيّوميّ رحمه الله: الشَّفَةُ مُخَفَّفٌ، ولامها محذوفة، والهاء عوضٌ عنها،

(1)

"المفهم" 4/ 17.

ص: 692

وللعرب فيها لغتان، منهم من يجعلها هاء، ويبني عليها تصاريف الكلمة، ويقول: الأصل: شَفْهَةٌ، وتُجْمَع على شِفَاهٍ، مثلُ كَلْبةٍ، وكِلابٍ، وعلى شَفَهَاتٍ، مثلُ سَجْدةٍ وسَجَدات، وتُصَغّر على شُفَيْهَةٍ، وكلّمته مُشَافَهَةً، والحروف الشَّفَهِيَّةُ، ومنهم من يَجعلها واوًا، ويبني عليها تصاريف الكلمة، ويقول: الأصل شَفْوَةٌ، وتُجمع على شَفَوَاتٍ، مثل شَهْوَةٍ وشَهَوَاتٍ، وتصغّر على شُفَيَّةٍ، وكلّمته مُشَافَاةً، والحروف الشَّفَوِيَّةُ، ونقل ابن فارس القولين عن الخليل، وقال الأزهريّ أيضًا: قال الليث: تُجمع الشَّفَةُ على شَفَهَاتٍ، وشَفَوَاتٍ، والهاء أقيس، والواو أعمّ؛ لأنهم شبّهوها بسنوات، ونُقصانها حَذْف هائها، وناقض الجوهريّ، فأنكر أن يقال: أصلها الواو، وقال: تُجمَع على شَفَوَاتٍ، ويقال: ما سمعت منه بِنْتَ شَفَةٍ؛ أي: كلمة، ولا تكون الشَّفَةُ إلَّا من الإنسان.

ويقال في الْفَرْق: الشَّفَةُ من الإنسان، والْمِشْفَرُ من ذي الْخُفّ، والجَحْفَلَةُ من ذي الحافر، والمِقَمَّةُ من ذي الظِّلْف، والخَطْمُ، والخُرْطُومُ من السِّباع، والمِنْسَرُ بفتح الميم، وكسرها، والسين مفتوحة فيهما، من ذي الجناح الصائد، والمِنْقَارُ من غير الصائد، والْفِنْطِيسة من الخنزير. انتهى

(1)

.

وقد نظمت هذه الفروق، بقولي:

فَائِدَةٌ مُهِمَّةٌ أَنِيقَهْ

بِحِفْظِهَا وَفَهْمِهَا خَلِيقَهْ

لِنَّاسِ جَاءَ شَفَةٌ وَالْمِشْفَرُ

غَدَا لِذِي الْخُفِّ فَخُذْهُ تُشْكَرُ

وَقُلْ لِذِي الْحَافِرِ جَاءَ جَحْفَلَهْ

مِقَمَّةٌ ذَوَاتَ ظِلْفٍ شَمَلَهْ

وَالْخَطْمُ وَالْخُرْطُومُ لِسِّبَاعِ

وَمِنْسَرٌ لِذِي الْجَنَاحِ السَّاعِي

لِلاصْطِيَادِ وَالَّذِي لَا صَيْدَ لَهْ

أَتَى لَهُ الْمِنْقَارُ عِنْدَ النَّقَلَهْ

قَالُوا وَللْخِنْزِيرِ جَا فِنْطِيسَةُ

فَلْتَحْفَظَنْ فَإِنَّهَا نَفِيسَةُ

وَهَكَذَا ذَكَرَ فِي "الْمِصْبَاحِ"

عَلَّامَةُ الْفَيُّومِ كَالْمِصْبَاحِ

(وَقَدْ قَلَصَتْ)؛ أي: انزوت، أو ارتفعت، يقال: قَلَصت شفته، من باب ضَرَبَ: انزوت؛ أي: انجمعت، وتقلّصتْ مثله، وقَلَصَ الظلُّ: ارتفع، أفاده الفيّوميّ رحمه الله.

(1)

"المصباح المنير" 1/ 318.

ص: 693

والجملة حال من "شَفَته"؛ أي: حال كونها منزوية، أو مرتفعةً بسبب وضع السواك تحتها.

وقال القرطبيّ رحمه الله: "قَلَصَتْ"؛ أي: تقبَّضتْ، وقَصُرتْ، وكأنَّ السِّواك كان فيه قَبْضٌ، أو يكون النبيّ صلى الله عليه وسلم قبض شفته؛ ليتمَكَّن من تسويك أسنانه. انتهى

(1)

.

(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم لَمّا رأى حرصهما على العمل، وخشي عدم قيامهما بما يجب عليهما تجاهه ("لَنْ، أَو) قال (لَا) فـ "أو" للشكّ من الراوي، (نَسْتَعْمِلُ عَلَى عَمَلِنَا مَنْ أَرَادَهُ)؛ أي: طَلَبه، وفي رواية بُريد الماضية:"فقال: إنا والله لا نُوَلِّي على هذا العمل من سأله، ولا أحدًا حَرَصَ عليه".

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن بما ذُكر أن سبب منعه صلى الله عليه وسلم لهما من العمل خوف الخيانة منهما؛ لأنَّ الحرص عليه يحملهما على الجور والظلم، والله أعلم.

ثم بعد مَنْعهما لِمَا ذُكر قال صلى الله عليه وسلم للذي لَمْ يطلب العمل، وهو أبو موسى الأشعريّ رضي الله عنه:

(وَلَكِنِ اذْهَبْ أَنتَ يَا أَبا مُوسَى، أَو يَا عَبْدَ اللهِ بْنَ قَيْسِ")"أو" للشكّ من الراوي، كما سبق قريبًا. (فَبَعَثَهُ)؛ أي: أرسل صلى الله عليه وسلم أبا موسى رضي الله عنه واليًا (عَلَى الْيَمَنِ) - بفتحتين -: الإقليم المعروف، سُمّي به لأنه عن يمين الشمس عند طلوعها، وقيل: لأنه عن يمين الكعبة، والنسبة إليها: يمني على القياس، ويَمَانٍ، بالألف على غير قياس، وعلى هذا ففي الياء مذهبان: أحدهما: وهو الأشهر تخفيفها، واقتصر عليه كثيرون، وبعضهم يُنكر التثقيل، لأنَّ الألِف عِوَض عنه، فلا يُجمع بينهما، والثاني: التثقيل، أفاده في "المصباح".

(ثُمَّ أَتبَعَهُ) بهمزة القطع، من الإتباع؛ أي: أتبع النبيّ صلى الله عليه وسلم أبا موسى رضي الله عنه (مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ) ابن عمرو بن أوس بن عائذ بن عديّ بن كعب الأنصاريّ الخزرجيّ، أبو عبد الرَّحمن المدنيّ، أسلم وهو ابن ثمان عشرة سنة، وشهد بدرًا، والمشاهد، وقال ابن مسعود رضي الله عنه: كنا نشبّهه بإبراهيم عليه السلام، وكان أمة

(1)

"المفهم" 4/ 18.

ص: 694

قانتًا لله، حنيفًا، ولم يك من المشركين، تُوُفّي في طاعون عمواس سنة (18) تقدّمت ترجمته في "الإيمان" 7/ 130.

قال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "ثُمّ أتبعه معاذ بن جبل" ظاهر هذا: أنه وَلّى معاذًا على أبي موسى، ولم يعزل أبا موسى، وعلى هذا يدلّ تنفيذ معاذ الْحُكم بقتل المرتدّ، وإمضاؤه، ويَحْتَمِل أن يكون صلى الله عليه وسلم وَلَّى كلّ واحد منهما على عمل غير عمل الآخر، إما في الجهات، وإما في الأعمال، وهذا هو الصحيح؛ بدليل ما وقع في "الصحيحين": أن النبيّ صلى الله عليه وسلم ولَّى معاذًا على مِخْلاف من اليمن، وأبا موسى على مِخْلاف، والْمِخْلاف: واحد المخاليف، وهو: الكُوَرُ. انتهى

(1)

.

وقال في "الفتح": قوله: "ثم أتبعه" بهمزة، ثم مثناة ساكنة، قوله:"معاذ بن جبل" بالنصب؛ أي: بَعَثه بعده، وظاهره أنه ألحقه به بعد أن توجّه، ووقع في بعض النسخ:"واتّبعه" بهمزة وصل، وتشديد، و"معاذٌ" بالرفع، لكن تقدم في "المغازي" بلفظ: "بعَثَ النبيّ صلى الله عليه وسلم أبا موسى، ومعاذًا إلى اليمن، فقال: يَسِّرا، ولا تُعَسِّرا

" الحديث، وَيحْمَلِ على أنَّه أضاف معاذًا إلى أبي موسى بعد سَبْق ولايته، لكن قبل توجّهه، فوَصّاهما عند التوجه بذلك، ويمكن أن يكون المراد: أنه وَصَّى كلًّا منهما واحد بعد آخر. انتهى

(2)

.

(فَلَمَّا قَدِمَ) معاذ (عَلَيْهِ)؛ أي: على أبي موسى، وفي رواية للبخاريّ في "المغازي":"أن كلًّا منهما كان على عَمَل مستقلّ، وأن كلًّا منهما كان إذا سار في أرضه، فقرُب من صاحبه، أحدَثَ به عهدًا"، وفي أخرى هناك:"فجعلا يتزاوران، فزار معاذٌ أبا موسى، وفي أخرى: "فضَرَب فُسطاطًا".

(قَالَ) أبو موسى (انْزِلْ) عن دابّتك، فاجلس على الوسادة، (وَأَلْقَى لَهُ وِسَادَةً) - بكسر الواو -: الْمِخَدّة، جَمْعها: وِسادات، ووسائد، والوِساد - بغير هاء: كلُّ ما يُتوسّد به، من قُمَاشٍ، وتُراب، وغير ذلك، والجمع: وُسُدٌ، مثلُ

(1)

"المفهم" 4/ 17 - 18.

(2)

"الفتح" 16/ 149، كتاب "استتابة المرتدّين" رقم (6923).

ص: 695

كتابٍ وكُتُب، ويقال: الوِساد لغة في الوسادة

(1)

.

وقال المجد رحمه الله: الوساد: الْمُتّكأُ، والْمِخَدّة، كالوسادة، وَيُثلَّث، جَمْعه: وُسُدٌ، ووسائدُ. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: أفادت عبارة المجد أن الوساد، والوسادة يجوز فيهما فتح الواو، وكسرها، وضمّها، فتنبّه.

وقال في "الفتح": معنى "ألقى له وِسادة": فَرَشها له؛ ليجلس عليها.

وقد ذكر الباجيّ، والأصيليّ فيما نقله عياض عنهما، أن المراد بقول ابن عباس:"فاضطجعتُ في عَرْض الوِسادة": الفِراش، وردّه النوويّ، فقال: هذا ضعيف، أو باطلٌ، وإنما المراد بالوسادة: ما يُجعل تحت رأس النائم، وهو كما قال، قال: وكانت عادتهم أن من أرادوا إكرامه وضعوا الوسادة تحته؛ مبالغةً في إكرامه.

وقد وقع في حديث عبد الله بن عمرو: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم دخل عليه، فألقى له وِسادةً، كما تقدم في "الصيام".

وفي حديث ابن عمر أنه دخل على عبد الله بن مُطيع، فطَرَح له وِسادةً، فقال له: ما جئتُ لأجلس، أخرجه مسلم، قال الحافظ: ولم أر في شيء من كتب اللغة أن الفراش يُسَمَّى وسادةً. انتهى

(3)

.

قال الجامع عفا الله عنه: عندي أن في تعقّب النوويّ لِمَا قاله الباجيّ والأصيليّ من أن المراد بقول ابن عبَّاس رضي الله عنهما: "فاضطجعت في عرض الوسادة" الفراش نظرٌ؛ لأنه لا يمكن أن يضطجع ابن عبّاس في عرض المخدّة، ثم يضطجع النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأهله في طولها، بل المراد به الفراش كما قالا؛ تجوّزًا، ولا يخفى أن باب المجاز واممع، فتأمله بالإمعان، والله تعالى أعلم.

(وَإِذَا) فجائيّة؛ أي: ففاجأني (رَجُلٌ) قال الحافظ: لَمْ أقف على اسم الرجل المذكور. (عِنْدَهُ)؛ أي: عند أبي موسى، (مُوثَقٌ) اسم مفعول، مِنْ أوثقه، إذا ربطه بالوِثَاق، بفتح الوا ووكسرها، وهو القَيدُ، والحبلُ، ونحوه، وهو صفة لـ "رجلٌ".

(1)

"المصباح المنير" 2/ 658.

(2)

"القاموس المحيط" ص 1397.

(3)

"الفتح" 16/ 149 - 150، كتاب "استتابة المرتدِّين" رقم (6923).

ص: 696

(قَالَ) معاذ (مَا هَذَا؟)؛ أي: ما شأن هذه الموثق؟ (قَالَ) أبو موسى (هَذَا كَانَ يَهُودِيًّا، فَأَسْلَمَ، ثُمَّ رَاجَعَ دِينَهُ دِينَ السَّوْءِ) بفتح، فسكون؛ أي: دين الشرّ، قال المجد: ولا خَيْرَ في قَوْلِ السَّوْء، بالفتح، والضم، إذا فَتَحْتَ فَمَعْنَاه: في قَوْلٍ قَبيح، وإذا ضَمَمْتَ فمعناه: في أَنْ تَقُولَ سُوءًا، وقُرِئ:{عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ} [التوبة: 98] بالوَجْهَيْن؛ أي: الهَزِيمة، والشَّر، والرَّدَي، والفَسَاد، وكذا {أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ} [الفرقان: 40]، أو المَضْمُومُ: الضَّرَرُ، والمَفْتُوحُ: الفَسَادُ، والنَّارُ، ومنه:{ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى} [الروم: 10] في قِرَاءَةٍ، ورَجُلُ سَوءٍ، ورَجُلُ السَّوْء، بالفتح، والإضافَةِ. انتهى

(1)

.

(فَتَهَوَّدَ)؛ أي: صار يهوديًّا، وفي رواية لأحمد من طريق أيوب، عن حميد بن هلال، عن أبي بردة، قال: "قَدِم معاذ بن جبل على أبي موسى، فإذا رجل عنده، فقال: ما هذا؟

"، فذكر مثله، وزاد: "ونحن نريده على الإسلام منذ أحسبه شهرين"، وأخرج الطبرانيّ من وجه آخر، عن معاذ، وأبي موسى: "أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أمَرَهما أن يعلّما الناس، فزار معاذ أبا موسى، فإذا عنده رجل مُوثَق بالحديد، فقال: يا أخي أَوَ بُعِثت تُعَذِّب الناس؟ إنما بُعثنا نعلّمهم دينهم، ونأمرهم بما ينفعهم، فقال: إنه أسلم، ثم كفر، فقال: والذي بعث محمدًا بالحقّ لا أبرح حتى أحرقه بالنار".

(قَالَ) معاذ (لَا أَجْلِسُ حَتَّى يُقْتَلَ) بالبناء للمفعول، (قَضَاءُ اللهِ) تعالى (وَرَسُول) صلى الله عليه وسلم، و"قضاء" مرفوع، على أنَّه خبر لمحذوف؛ أي: هذا قضاء الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ويجوز نَصْبه على الحال، أو على أنَّه مفعول مطلق لعامل محذوف؛ أي: اقضِ قضاء الله ورسوله، أو مفعول لفعل محذوف؛ أي: نفّذ قضاء الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.

قال القرطبيّ رحمه الله: هذا يدلّ بظاهره على أنَّ المرتدّ لا يستتاب، وأنه يُقتل من غير استتابة، وبه قال الحسن، وطاووس، وبعض السَّلف، وحُكي عن عبد العزيز بن أبي سلمة، وهو قول أهل الظاهر، وحكاه الطحاويّ عن أبي يوسف، قالوا: وتنفعه توبته عند الله تعالى، ولكن لا تَدْرأ عنه القتل.

(1)

"القاموس المحيط" ص 651.

ص: 697

وفرَّق عطاء بين من وُلد مسلمًا، فلم نستتبه، وبين من أسلم ثم ارتدّ، وجمهور الأئمة، والفقهاء على استتابته، وحَكَى ابن القَصَّار إجماع الصحابة على استتابته، ثم اختلف هؤلاء في مدّة الاستتابة، وهل يضرب لها أجل؛ فقال أحمد، وإسحاق: ثلاثةُ أيام، واستحسنه مالك، وأبو حنيفة، وقاله الشافعيّ مرةً، وحَكَى ابن القصَّار عن مالك فيه قولين: الوجوب، والاستحباب، وقال الزهريّ: يُدعى إلى الإسلام ثلاث مرات، فإن أبي قُتِلَ، وقاله الشافعيّ مرةً، وقال المزنيّ: يُقتل مكانه إن لَمْ يَتُب، وعن عليّ رضي الله عنه: أنه يستتاب شهرًا، وقال النَّخعيّ: يستتاب أبدًا، وقاله الثوريّ، وعن أبي حنيفة: يستتاب ثلاث مرات، أو ثلاث جُمع، أو ثلاثة أيام؛ مرّة في كلّ يوم، أو جمعة، والرَّجل والمرأة عند الجمهور سواء، وفرَّق أبو حنيفة، فقال: تُسجن المرأة، ولا تُقتل، وشذَّ قتادة، والحسن، فقالا: تُسْتَرَقُّ، ولا تُقتل.

ورُوي مثله عن عليّ، وخالف أصحاب الرأي في الأَمَة، فقالوا: تُدْفَعُ إلى سيدها، ويجبرها على الإسلام.

وَقَتْل المرتدّ بالسيف عند الجمهور، وذهب ابن سُريج من أصحاب الشافعيّ إلى أنه يُقتل بالخشب ضربًا؛ لأنه أبطأُ لقتله، لعله يُراجع التوبة أثناء ذلك.

وفيه حُجّة على أنَّ لولاة الأمصار إقامة الحدود في القتل، والزني، وغير ذلك، وهو مذهب كافة العلماء: مالك، والشافعيّ، وأبي حنيفة، وغيرهم.

واختُلِفَ في إقامة ولاة المياه، وأشباههم كذلك، فرأى أشهب ذلك لهم، إذا جعل ذلك لهم الإمام، وقال ابن القاسم نحوه، وقال الكوفيون: لا يقيمه إلَّا فقهاء الأمصار، ولا يقيمه عامل السَّواد.

واختُلِفَ في القضاة إذا كانت ولايتهم مطلقة غير مقيّدة بنوع من الإحكام، فالجمهور على أنَّ جميع ذلك لهم؛ من إقامة الحدود، وإثبات الحقوق، وتغيير المناكير، والنظر في المصالح، سواء أكان الحقّ لآدميّ، أو اختص بحق الله تعالى، وحكمُه عندهم حكم الوصيِّ المطلق اليد في كلّ شيء، إلَّا ما يختصّ بضبط بيضة الإسلام، من إعداد الجيوش، وجباية الخراج.

ص: 698

واختَلَف أصحاب الشافعيّ: هل له نَظَر في مال الصدقات، والتقدّم للجُمَع والأعياد، أم لا؟ على قولين، وذهب أبو حنيفة إلى أنه لا نظر له في إقامة حدٍّ، ولا في مصلحةٍ إلَّا لطالب مُخَاصِمٍ، وحُكمه عنده حُكم الوكيل. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: لا يخفى أن ما ذهب إليه كافّة العلماء من إقامة ولاة الأمصار للحدود، من القتل، والرجم، وغير ذلك هو الأرجح؛ لحديث الباب، وغيره، فتأمل بالإنصاف، والله تعالى أعلم.

(فَقَالَ) أبو موسى (اجْلِسْ، نَعَمْ)؛ أي: نقتله، (قَالَ) معاذ (لَا أَجْلِسُ حَتَّى يُقْتَلَ، قَضَاءُ اللهِ وَرَسُولِه، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ)؛ أي: كَرّر هذا الكلام ثلاث مرات، وبَيَّن أبو داود في روايته أنهما كرّرا القول، أبو موسى يقول:"اجلس"، ومعاذ يقول:"لا أجلس"، فعلى هذا فقوله:"ثلاث مرات" من كلام الراوي، لا تتمة كلام معاذ، ووقع في رواية أيوب بعد قوله:"قضاء الله ورسوله": "أن من رجع عن دِينه - أو قال: بدَّل دينه، فاقتلوه".

(فَأَمَرَ بِهِ)؛ أي: أمر أبو موسى بقتله، (فَقُتِلَ) بالبناء للمفعول، وفي رواية أيوب:"فقال: والله لا أقعد، حتى تضربوا عنقه، فضُرِب عنقه"، وفي رواية الطبرانيّ:"فأَتَى بحطب، فألْهَب فيه النار، فكَتَّفه، وطرحه فيها"، ويمكن الجمع بأنه ضَرَب عنقه، ثم ألقاه في النار، ويؤخذ منه أن معاذًا وأبا موسى كانا يريان جواز التعذيب بالنار، وإحراق الميت بالنار مبالغة في إهانته، وترهيبٌ عن الاقتداء به.

وأخرج أبو داود، من طريق طلحة بن يحيى، ويزيد بن عبد الله، كلاهما عن أبي بردة، عن أبي موسى، قال:"قَدِم عليّ معاذ، فذكر قصة اليهوديّ، وفيه: فقال: لا أنزل عن دابتي حتى يُقْتَل، فقُتل، قال أحدهما: وكان قد استتيب قبل ذلك"، وله من طريق أبي إسحاق الشيبانيّ، عن أبي بردة:"أتِي أبو موسى برجل قد ارتدّ عن الإسلام، فدعاه، فأبى عشرين ليلةً، أو قريبًا منها، وجاء معاذ، فدعاه، فأبى، فضَرَب عنقه"، قال أبو داود: رواه

(1)

"المفهم" 4/ 18 - 19.

ص: 699

عبد الملك بن عمير، عن أبي بردة، فلم يذكر الاستتابة، وكذا ابن فُضيل، عن الشيبانيّ، وقال المسعوديّ عن القاسم - يعني: ابن عبد الرَّحمن - في هذه القصة: "فلم ينزل، حتى ضُرِب عنقه، وما استتابه".

قال الحافظ: هذا تعارضه الرواية المثبتة؛ لأنَّ معاذًا استتابه، وهي أقوى من هذه والروايات الساكتة عنها، لا تعارِضها، وعلى تقدير ترجيح رواية المسعوديّ، فلا حجة فيه لمن قال: يُقتل المرتدّ بلا استتابة؛ لأنَّ معاذًا يكون اكتفى بما تقدّم من استتابة أبي موسى، وقد ذكرت قريبًا أن معاذًا رَوَى الأمر باستتابة المرتدّ، والمرتدّة. انتهى

(1)

.

(ثُمَّ تَذَاكَرَا)؛ أي: أبو موسى، ومعاذ رضي الله عنه، (الْقِيَامَ مِنَ اللَّيْلِ)"من" بمعنى "في"، أو هي للتبعيض، وفيه إشارة إلى أنه لا يُشرع قيام كلّ الليل، وفي رواية للبخاريّ:"ثم تذاكرا قيام الليل"، وفي رواية سعيد بن أبي بردة؛ "فقال: كيف تقرأ القرآن؟ "؛ أي: في صلاة الليل.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "ثم تذاكرا قيام الليل"؛ أي: فضل قيام الليل، هل الأفضل قيامُه كله، أو قيام بعضه؟ فكأن أبا موسى ذهب إلى أن قيامه كله لمن قَوِيَ عليه أفضل، وهذا كما وقع لعبد الله بن عمرو في حديثه المتقدّم، وكأنّ معاذًا رأى أن قيام بعضه، ونوم بعضه أفضل، وهذا كما أشار إليه النبيّ صلى الله عليه وسلم في حديث عبد الله بقوله:"إنك إذا فعلت ذلك هجمتْ عينُك، ونَفِهَت نفسك"، وكما قاله في حديث البخاريّ المتقدم:"أمَّا أنا فأقوم، وأنام"، وقال في آخره:"فمن رغب عن سُنَّتي فليس مني". انتهى

(2)

.

(فَقَالَ أَحَدُهُمَا) وقوله: (مُعَاذٌ) مرفوعٌ على البدليّة لـ "أحدُهما"، ووقع في رواية سعيد بن أبي بردة:"فقال أبو موسى: أقرؤه قائمًا، وقاعدًا، وعلى راحلتي، وأتفوّقه - بفاء، وقاف، بينهما واو ثقيلة؛ أي: ألازم قراءته - في جميع الأحوال"، وفي أخرى:"فقال أبو موسى: كيف تقرأ أنت يا معاذ؟ قال: أنام أول الليل، فأقوم، وقد قضيت حاجتي، فأقرأ ما كتب الله لي".

(أمّا أَنَا فَأَنَامُ) بعض الليل، (وَأَقُومُ) بعضه، (وَأَرْجُو فِي نَوْمَتِي مَا أَرْجُو

(1)

"الفتح" 16/ 150 - 151.

(2)

"المفهم" 4/ 19 - 20.

ص: 700

فِي قَوْمَتِي) وفي رواية سعيد: "وأحتسب" في الموضعين، وحاصله أنه يرجو الأجر في ترويح نفسه بالنوم؛ ليكون أنشط عند القيام.

قال النوويّ رحمه الله: معناه: أني أنام بنيّة القوّة، وإجماع النفس للعبادة، وتنشيطها للطاعة، فأرجو في ذلك الأجر، كما أرجو في قومتي؛ أي: صلواتي. انتهى.

وقال القرطبيّ رحمه الله: إنما كان ذلك؛ لأنه كان ينام ليقوم؛ أي: يقصد بنومه الاستعانة على قيامه، والتنشيط عليه، والتفرُّغ من شغل النوم عن فهم القرآن، فكان نومه عبادة يرجو فيها من الثواب ما يرجوه في القيام، ولا يَفْطُن لمثل هذا إلَّا مثل معاذ الذي يسبق العلماء يوم القيامة بِرَتْوَة

(1)

؛ أي: بِرَمْيَةِ قوس؛ كما قاله صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا فما من مُباحٍ إلَّا ويمكن أن يُقْصَد فيه وجهٌ من وجوه الخير، فيصير قُرْبَة بحسب القصد الصحيح، والله أعلم. انتهى

(2)

.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [3/ 4709 و 4710](1824)، و (البخاريّ) في "استتابة المرتدّين"(6923) و"الأحكام"(7149)، و (أبو داود) في "الحدود"(1354)، و (النسائيّ) في "الطهارة"(1/ 9 - 10) و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(6/ 419)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 459)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1071 و 4481)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(1/ 92)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(1/ 216)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(13/ 306)، و (البزّار) في "مسنده"(8/ 133)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 478)، و (الرويانيّ) في

(1)

أشار به إلى ما أخرجه الطبرانيّ مرسلًا عن محمد بن كعب القرظيّ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "معاذ بن جبل إمام العلماء برتوة"، قال الحافظ الهيثميّ: وفيه محمد بن عبد الله بن أزهر الأنصاريّ، ولم أعرفه، وبقية رجاله رجال الصحيح. انتهى. "مجمع الزوائد" 9/ 311.

(2)

"المفهم" 4/ 19 - 20.

ص: 701

"مسنده"(1/ 319)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(10/ 100)، و (البغويّ) في "شرح السُّنّة"(2466)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان ذمّ طلب الإمارة، والحرص عليها، وقد وردت أحاديث في ذلك:

ففي "الصحيحين" حديث عبد الرَّحمن بن سمرة رضي الله عنه المذكور في الباب، وفي "صحيح البخاريّ " أيضًا عن أبي هريرة عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"إنكم ستحرصون على الإمارة، وستكون ندامة يوم القيامة، فنِعْم المرضعة، وبئست الفاطمة".

وأخرج الطبرانيّ، والبزار بسند صحيح، عن عوف بن مالك بلفظ:"الإمارة أولها مَلامَة، وثانيها نَدَامة، وثالثها عذاب يوم القيامة، إلَّا مَنْ عَدَل".

وفي "المعجم الأوسط"، للطبراني من رواية شريك، عن عبد الله بن عيسى، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال شريك: لا أدري رفعه أم لا؟ قال: "الإمارة أولها ندامة، وأوسطها غرامة، وآخرها عذاب يوم القيامة"، وله شاهد من حديث شداد بن أوس رفعه بلفظ:"الإمارة أولها ملامة، وثانيها ندامة"، أخرجه الطبرانيّ.

وعند الطبرانيّ من حديث زيد بن ثابت رفعه: "نِعْم الشيء الإمارة لمن أخذها بحقها وحِلّها، وبئس الشيء الإمارة لمن أخذها بغير حقها، تكون عليه حَسْرَة يوم القيامة"، أفاده في "الفتح"

(1)

.

2 -

(ومنها): منعُ الحريص عليها مِنْ تولّيها؛ لأنَّ فيه تُهْمةً، ويوكل إليها، ولا يعان، فيؤدّي إلى تضييع الحقوق؛ لِعَجْزه.

3 -

(ومنها): استحباب السواك، وقد ورد فيه أحاديث كثيرة، وقد سبق بيانها في "كتاب الطهارة".

4 -

جواز استياك الإمام بحضرة الرعيّة، وقد ترجم النسائيّ رحمه الله عليه، فقال:"باب هل يستاك الإمام بحضرة رعيّته؟ ".

(1)

"الفتح" 16/ 631، كتاب "الإحكام" رقم (7148).

ص: 702

5 -

(ومنها): جواز الحلف من غير استحلاف، فقد قال أبو موسى رضي الله عنه:"والذي بعثك بالحقّ ما أطلعاني على ما في أنفسهما".

6 -

(ومنها): جواز تولية أميرين على البلد الواحد، وقسمة البلد بين أميرين.

7 -

(ومنها): استحباب تزاور الإخوان، والأمراء، والعلماء.

8 -

(ومنها): إكرام الضيف، والقيام بتهيئة الفراش، ونحوه له.

9 -

(ومنها): المبادرة إلى إنكار المنكر، وإن كان هناك من له السلطة والأمر.

10 -

(ومنها): إقامة الحدّ على من وجب عليه، وعدم التساهل، والتأخير فيه.

11 -

(ومنها): وجوب قتل المرتدّ، وقد أجمعوا على ذلك، ولكن اختلفوا في استتابته، هل هي واجبة، أم مستحبة؟ وفي قَدْرها، وفي قبول توبته، وفي أن المرأة كالرجل في ذلك، أم لا؟، وقد تقدّم بيان ذلك كلّه في قول القرطبيّ قريبًا.

12 -

(ومنها): أن المباحات يؤجر عليها الإنسان بالنية إذا صارت وسائل للمقاصد الواجبة، أو المندوبة، أو تكميلًا لشيء منهما، والله تعالى أعلم.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(4) - (بَابُ كَرَاهِيَةِ الإمَارَةِ بِغَيْرِ ضَرُورَةٍ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4711]

(1825) - (حَدَّثَنَا عَبْدُ المَلِكِ بْنُ شُعَيْبِ بْنِ اللَّيْث، حَدَّثَنِي أَبِي شُعَيْبُ بْنُ اللَّيْث، حَدَّثَنِي اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ بَكْرِ بْنِ عَمْرٍو، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ يَزِيدَ الْحَضْرَمِيّ، عَنِ ابْنِ حُجَيْرَةَ الأَكْبَر، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله، أَلَا تَسْتَعْمِلُنِي، قَالَ: فَضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى مَنْكِبِي، ثُمَّ قَالَ: "يا أَبَا ذَرٍّ، إِنَّكَ ضَعِيفٌ، وَإِنَّهَا أَمَانَةٌ، وَإِنَّهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ خِزْيٌ، وَنَدَامَةٌ، إِلَّا مَنْ أَخَذَهَا بِحَقِّهَا، وَأَدَّى الَّذِي عَلَيْهِ فِيهَا").

ص: 703

رجال هذا الإسنادة ثمانية:

1 -

(عَبْدُ المَلِكِ بْنُ شُعَيْبِ بْنِ اللَّيْثِ) الْفَهْميّ مولاهم، أبو عبد الله المصريّ، ثقةٌ [11](ت 248)(م د س) تقدم في "الإيمان" 26/ 211.

2 -

(أَبُوهُ شُعَيْبُ بْنُ اللَّيْثِ) بن سعد الْفَهْميّ مولاهم، أبو عبد الملك المصريّ، ثقةٌ نبيلٌ فقيه، من كبار [10](ت 199) وله (64) سنةً (م د س) تقدم في "الإيمان" 26/ 211.

3 -

(اللَّيْثُ بْنُ سَعْدِ) بن عبد الرَّحمن الْفَهْميّ مولاهم، أبو الحارث المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيةٌ إمامٌ حجة مشهورٌ [7](ت 175)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" ج 2 ص 412.

4 -

(يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ) اسم أبيه سُويد، أبو رجاء المصريّ، ثقةٌ فقيهٌ، وكان يُرسل [5](ت 128) وقد قارب الثمانين (ع) تقدم في "الإيمان" 16/ 168.

5 -

(بَكْرُ بْنُ عَمْرٍو) المعافريّ المصريّ، إمام جامعها، صدوقٌ عابدٌ [6].

رَوَى عن أبي عبد الرَّحمن الحبليّ، ومِشْرَح بن هاعان، وبكير بن عبد الله بن الأشجّ، وعبد الله بن هُبيرة، وغيرهم.

ورَوَى عنه يزيد بن أبي حبيب، ويحيى بن أيوب، وابن لَهِيعة، وحَيْوة بن شُرَيح، وسعيد بن أبي أيوب، وغيرهم.

قال حرب، عن أحمد: يُرْوَى له، وقال أبو حاتم: شيخٌ، وقال ابن يونس: تُوُفّي في خلافة أبي جعفر، وكانت له عبادة وفضل، وقال ابن القطان: لا نعلم عدالته، وذكره ابن حبّان في "الثقات"، وقال: تُوُفّي بعد الأربعين ومائة، وقال الحاكم: سألت الدارقُطنيّ عنه، فقال: يُنظَر في أمره، وقال السلميّ عنه: يُعْتَبَر به.

أخرج له البخاريّ، والمصنّف، وأبو داود، والترمذيّ، والنسائيّ، وابن ماجة في "التفسير"، وليس له في هذا الكتاب إلَّا هذا الحديث.

6 -

(الْحَارِثُ بْنُ يَزِيدَ الْحَضْرَمِيُّ) أبو عبد الكريم المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ، عابدٌ [4].

عَقَلَ مَقْتَل عثمان رضي الله عنه، ورَوَى عن جُنادة بن أمية، وجُبير بن نُفير، وعليّ بن رَبَاح، وعبد الرَّحمن بن حُجَيرة، وناعم مولى أم سلمة، وجماعة.

ص: 704

ورَوَى عنه بكر بن عمرو، وسعيد بن أبي أيوب، وسعيد بن يزيد الْقِبّانيّ، والليث، وابن لَهِيعة، والوليد بن المغيرة، ويحيى بن أيوب، والأوزاعيّ، وغيرهم.

قال أحمد: ثقةٌ من الثقات، وقال العجليّ، والنسائيّ: ثقةٌ، وقال الليث: كان يصلي كلّ يوم ستمائة ركعة، وقال عبد الله بن صالح العجليّ: ثنا زُهير، عن يحيى بن سعيد، عن شيخ من حضرموت، وأكثر عليه الثناء، اسمه الحارث بن يزيد، وذكره ابن حبان في "الثقات".

وقال ابن يونس: تُوُفّي بِبَرْقَةَ سنة (130).

أخرج له المصنّف، وأبو داود، والنسائيّ، وابن ماجة، وليس له في هذا الكتاب إلَّا هذا الحديث.

7 -

(ابْنُ حُجَيْرَةَ

(1)

الأَكْبَرُ) هو: عبد الرَّحمن بن حُجيرة - مصغّرًا - الْخَوْلانيّ، أبو عبد الله المصريّ القاضي، ثقةٌ [3].

رَوَى عن أبي ذرّ، وابن مسعود، والى هريرة، وعقبة بن عامر، وعبد الله بن عمرو بن العاص.

وروى عنه ابنه عبد الله، والحارث بن يزيد الحضرميّ، ودَرّاج أبو السَّمْح، وعبد الله بن ثعلبة الحضرميّ، وأبو عَقِيل زهرة بن معبد، وغيرهم.

قال النسائيّ: ثقةٌ، وقال العجليّ: مصريّ، تابعيّ، ثقةٌ، وقال الدارقطنيّ: مصريّ، ثقةٌ، معروفٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات".

قال ابن يونس: تُوُفِّي في المحرّم سنة ثلاث وثمانين، قال: وكان عبد العزيز بن مروان قد جَمَع له القضاء وبيت المال، فكان يأخذ رزق كلّ سنة ألف دينار، فلم يكن يَحُول عليه الحَوْل وعنده ما يجب فيه الزكاة، وحكى ابن عبد الحكم في فتوح مصر أنه مات سنة (80).

أخرج له مسلم والأربعة وليس له في هذا الكتاب إلَّا هذا الحديث

(2)

.

(1)

بضمّ الحاء المهملة، وفتح الجيم، بعدها ياء التصغير.

(2)

له عند ابن ماجة حديث واحد، وهو حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا:"إذا أدّيت زكاة مالك، فقد قضيت ما عليك".

ص: 705

[تنبيه]: إنما قيّده بالأكبر احترازًا من ابن حُجيرة الأصغر، وهو ولده عبد الله بن عبد الرَّحمن بن حُجيرة القاضي، أبو عبد الرَّحمن المصريّ، ثقةٌ، من الطبقة السادسة، مات بعد المائة، وهو من رجال النسائيّ فقط، أخرج له حديثًا واحدًا في "عمل اليوم والليلة"، ولم يُخرج له غيره، فتنبّه.

8 -

(أَبُو ذَرٍّ) جُندب بن جُنادة، وقيل غيره، الصحابيّ الشهير، تقدّم إسلامه، وتأخّرت هجرته، فلم يشهد بدرًا، مات رضي الله عنه سنة (32) في خلافة عثمان رضي الله عنهما (ع) تقدم في "الإيمان" 29/ 224.

[تنبيه]: وقع في هذا الإسناد اختلاف، قال النوويّ رحمه الله: هكذا وقع هذا الإسناد في جميع نسخ بلادنا: "يزيد بن أبي حبيب، عن بكر"، وكذا نقله القاضي عن نسخة الجلوديّ التي هي طريق بلادنا، قال: ووقع عند ابن ماهان: "حدّثني يزيد بن أبي حبيب، وبكر" بواو العطف، والأول هو الصواب، قاله عبد الغنيّ، قال النوويّ: ولم يذكر خلف الواسطيّ في الأطراف غيره. انتهى

(1)

.

وقال الحافظ أبو عليّ الجيّانيّ رحمه الله في "التقييد": هكذا روي إسناد هذا الحديث عن أبي أحمد، وعند أبي العلاء بن ماهان:"حدّثني يزيد بن أبي حبيب، وبكر بن عمرو" بواو العطف، وصوابه:"عن بكر بن عمرو" كما تقدّم، وكذا ذكره أبو عمر الباجيّ عن نسخة أبي العلاء:"حدّثنى يزيد، وبكر"، قال عبد الغنيّ: والصواب: "عن بكر". انتهى

(2)

.

[تنبيه آخر]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من ثمانيّات المصنّف رحمه الله، فيَقْرُب مِنْ أنزلِ الأسانيد له؛ لأنَّ أعلاها عنده عُشاريّها، وأنه مسلسلٌ بالمصريين، سوى الصحابيّ، فمدنيّ، ثم رَبَذيّ، وأن نصفه الأول مسلسلٌ بالتحديث، والثاني بالعنعنة، وأن فيه أربعةً من التابعين الثقات المصريين روى بعضهم عن بعض: يزيد بن أبي حبيب، والثلاثة بعده، وأن صحابيّه من مشاهير الصحابة رضي الله عنهم، ذو مناقب جمّة رضي الله عنه.

(1)

"شرح النوويّ" 12/ 209 - 210.

(2)

"تقييد المهمل" 3/ 883.

ص: 706

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي ذَرٍّ) جُندب بن جُنادة رضي الله عنه أنه (قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله، أَلَا تَسْتَعْمِلُنِي)"ألا" هنا أداة عَرْض؛ أي: أطلب منك أن تجعلني عاملًا في شيء من الولايات. (قَالَ) أبو ذرّ (فَضَرَبَ) صلى الله عليه وسلم (بِيَدِهِ عَلَى مَنْكِبِي) هذا الضرب لُطْف، وإيناس، وتحبُّب، (ثُمَّ قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("يَا أَبَا ذَرٍّ، إِنَّكَ ضَعِيفٌ) الظاهر أنه أراد ضعف الرأي والتدبير، لا ضعف الجسم؛ أي: إنك لا تستطيع أن تتحمّل أثقال الولاية، وتكاليفها، (وَإِنَّهَا)؛ أي: الولاية، (أَمَانَةٌ)؛ أي: مما ائتمن الله تعالى بها عباده، وأمرهم أن يؤدّوها إلى مستحقيها، كما قال:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58]، (وَإِنَّهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ خِزْي)؛ أي: ذلّ، وصغار حيث يكثر خصماؤه الذين لَمْ يؤدّ إليهم حقوقهم، وخانهم، وغدر بهم، ينادى على رؤوس الأشهاد {أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود: 18]. (وَنَدَامَةٌ)؛ أي: يندم بها، ويتمنّى أن لو لَمْ يتولّها، (إِلَّا مَنْ أَخَذَهَا بِحَقِّهَا)؛ أي: وهو كونه عالمًا ورعًا، يحتاج الناس إليه في القضاء بينهم؛ لِعَدْله ومعرفته، (وَأَدَّى) الواجب (الَّذِي عَلَيْهِ فِيهَا")؛ أي: في تلك الولاية، وهو القيام بها عن علم، وورع، وتقوى.

قال القرطبيّ رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم لأبي ذرّ رضي الله عنه: "إنك ضعيف"؛ أي: ضعيف عن القيام بما يتعيّن على الأمير؛ من مراعاة مصالح رعيّته الدنيوية والدينية، ووجْهُ ضعف أبي ذرّ عن ذلك أنّ الغالب عليه كان الزهد، واحتقار الدنيا، وتَرْك الاحتفال بها، ومَنْ كان هذا حاله لَمْ يعتنِ بمصالح الدنيا، ولا بأموالها اللذَيْن بمراعاتهما تنتظم مصالح الدِّين، ويتمّ أمره، وقد كان أبو ذرّ أفرط في الزهد في الدنيا، حتى انتهى به الحال إلى أن يُفْتِيَ بتحريم الجمع للمال، وإن أُخْرِجَتْ زكاته، وكان يرى: أنه الكنز الذي توَعَّد اللهُ عليه بِكَيِّ الوجوه والجُنوب والظُّهور، وقد قدّمنا ذلك في "كتاب الزكاة"، فلمّا عَلِمَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم منه هذه الحالة نَصَحَهُ، ونهاه عن الإمارة، وعن ولاية مال الأيتام، وأكَّد النصيحة بقوله:"وإنّي أحبُّ لك ما أحبُّ لنفسي"، وغلَّظَ الوعيد بقوله:"وإنّها - أي: الإمارة - خزيٌّ وندامة"؛ أي: فضيحة قبيحة على مَنْ لَمْ يؤدِّ في الأمانة حقّها، ولم يَقُم لرعيته برعايتها، وندامة على تقلّدها، وعلى تفريطه فيها، وأمّا من عدل

ص: 707

فيها، وقام بالواجب منها {فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69)} [النساء: 69]، وهو من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلَّا ظله، وقد شَهِد بصحة ما قلناه قوله في الحديث نفسه:"إلَّا من أخذها بحقها، وأدَّى الذي عليه فيها". انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي ذرّ رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [4/ 4711](1825)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(6/ 419)، و (الطيالسيّ) في "مسنده) (1/ 66)، و (أحمد) في "مسنده" (5/ 173)، و (ابن سعد) في "الطبقات" (4/ 231)، و (الحاكم) في "المستدرك" (4/ 103)، و (البيهقيّ) في "الكبرى" (10/ 95) و"شعب الإيمان" (6/ 45)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان كراهة طلب الإمارة.

2 -

(ومنها): ما قاله النوويّ رحمه الله: هذا الحديث أصل عظيم في اجتناب الولايات، لا سيما لمن كان فيه ضعف عن القيام بوظائف تلك الولاية، وأما الخزي، والندامة، فهو في حقّ من لَمْ يكن أهلًا لها، أو كان أهلًا، ولم يَعْدِل فيها، فيخزيه الله تعالى يوم القيامة، ويفضحه، ويندم على ما فَرّط، وأما من كان أهلًا للولاية، وعَدَل فيها فله فضل عظيم، تظاهرت به الأحاديث الصحيحة؛ كحديث: "سبعةٌ يُظِلّهم الله

"، والحديث المذكور هنا عقب هذا: "أن المقسطين على منابر من نور

"، وغير ذلك، وإجماعُ المسلمين منعقد عليه، ومع هذا فلكثرة الخطر فيها حذّره صلى الله عليه وسلم منها، وكذا حذّر العلماء، وامتنع منها خلائق من السلف، وصبروا على الأذى حين امتنعوا. انتهى

(2)

.

(1)

"المفهم" 4/ 21.

(2)

"شرح النوويّ" 12/ 210 - 211.

ص: 708

3 -

(ومنها): بيان ما أعطى الله نبيّه صلى الله عليه وسلم من المعجزة الباهرة، حيث عرّفه أحوال الناس، فكان يرى أن فلانًا يصلح لهذا، وفلانًا لا يصلح لهذا، فقد أعلمه الله أن أبا ذرّ رضي الله عنه لا يصلح للإمارة؛ وذلك لشدّة زهده، وابتعاده عن الدنيا، وأهلها، فلو تولّى أمور الناس لفسدت أحوالهم، واختلّ نظام حياتهم، وقد ظهر مصداق ذلك حيث اختلف مع معاوية رضي الله عنهما في آية الكنز، فقال معاوية: نزلت في أهل الكتاب، وقال أبو ذرّ: نزلت فيهم، وفينا، فكان لا يرى إمساك ما فَضَل عن الحاجة؛ لأنه كنز، يدخل صاحبه في الوعيد المذكور في الآية، ولذا شكاه معاوية إلى عثمان رضي الله عنه، فاستقدمه عثمان إلى المدينة، ثم أخذ أيضًا يختلف مِع أهل المدينة في ذلك، فرأى عثمان رضي الله عنه أن يعتزل عن الناس، ويسكن الرَّبَذة، فسَكَنها حتى مات رضي الله عنه.

قال الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده":

(27629)

- حدّثنا عبد الله، حدّثني أبي، ثنا هاشم، قال: ثنا عبد الحميد، قال: ثنا شهرٌ، قال: حدّثتني أسماء بنت يزيد: أن أبا ذرّ الغفاريّ كان يخدُم النبيّ صلى الله عليه وسلم، فإذا فرغ من خدمته آوى إلى المسجد، فكان هو بيته، يضطجع فيه، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد ليلة، فوجد أبا ذر نائمًا منجدلًا في المسجد، فنَكَته رسول الله صلى الله عليه وسلم برجله، حتى استوى جالسًا، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ألا أراك نائمًا؟ "، قال أبو ذرّ: يا رسول الله فأين أنام؟ هل لي من بيت غيره؟ فجلس إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له:"كيف أنت إذا أخرجوك منه؟ " قال: إذًا ألحق بالشام، فإن الشام أرض الهجرة، وأرض المحشر، وأرض الأنبياء، فأكون رجلًا من أهلها، قال له:"كيف أنت إذا أخرجوك من الشام؟ "، قال: إذًا أرجع إليه، فيكون هو بيتي ومنزلي، قال له:"كيف أنت إذا أخرجوك منه الثانية؟ " قال: إذًا آخذ سيفي، فأقاتل عني حتى أموت، قال: فكشَّر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأثبته بيده، قال:"أدلك على خير من ذلك؟ " قال: بلى بأبي أنت وأمي يا نبي الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"تنقاد لهم حيث قادوك، وتنساق لهم حيث ساقوك، حتى تلقاني وأنت على ذلك". انتهى

(1)

.

(1)

حديث حسن، أخرجه الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده" 6/ 457، وعبد الحميد بن =

ص: 709

وذكر الذهبيّ في "السِّيَر" عن هشام، عن ابن سيرين: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي ذرّ: "إذا بلغ البناء سَلْعًا، فاخرج منها"، ونحا بيده نحو الشام، ولا أرى أمراءك يَدَعُونك، قال: أَوَ لَا أقاتل من يحول بيني وبين أمرك؟ قال: "لا"، قال: فما تأمرني؟ قال: "سمع، وأطع، ولو لعبد حبشيّ".

فلما كان ذلك خرج إلى الشام، فكَتب معاوية: إنه قد أفسد الشام، فطلبه عثمان، ثم بعثوا أهله من بعده، فوجدوا عندهم كِيسًا، أو شيئًا، فظنّوه دراهم، فقالوا: ما شاء الله، فإذا هي فلوس.

فقال عثمان: كُنْ عندي، قال: لا حاجة لي في دنياكم، ائذن لي حتى أخرج إلى الرَّبَذَة، فأَذِن له، فخرج إليها، وعليها عبد حبشيّ لعثمان، فتأخر وقتَ الصلاة لَما رأى أبا ذرّ، فقال أبو ذرّ: تقدَّم، فَصَلّ. انتهى

(1)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلِّف رحمه الله أَوَّل الكتاب قال:

[4712]

(1826) - (حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، كِلَاهُمَا عَنِ الْمُقْرِيء، قَالَ زُهَيْرٌ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يَزِيدَ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي أَيُّوبَ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ الْقُرَشِيِّ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي سَالِمٍ الْجَيْشَانِيِّ، عَنْ أَبِيه، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "يا أَبَا ذَرٍّ إِنِّي أَرَاكَ ضَعِيفًا، وَإِنِّي أُحِبُّ لَكَ مَا أُحِبُّ لِنَفْسِي، لَا تَأَمَّرَن عَلَى اثْنَيْن، وَلَا تَوَلَّيَن مَالَ يَتِيمٍ

(2)

").

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) تقدَّم قبل ثلاثة أبواب.

2 -

(إِسْحَاقُ بْنُ إِبرَاهِيمَ) ابن راهويه، تقدّم قبل باب.

3 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ يَزِيدَ) المكيّ، أبو عبد الرَّحمن المقرئ، أصله من

= بهرام صدوق، وأحاديثه عن عن شهر صحاح، كما قال أبو حاتم الرازيّ، وشهر بن حوشب حسن الحديث، والباقون من رجال الصحيح، وهاشم هو ابن القاسم أبو النضر البغداديّ الحافظ.

(1)

"سير أعلام النبلاء" 2/ 63.

(2)

وفي نسخة: "ولا تولينّ على مال يتيم".

ص: 710

البصرة، أو الأهواز، ثقةٌ فاضلٌ، أقرأَ القرآن نيّفًا وسبعين سنةً [9](ت 213) وقد قارب المائة، من كبار شيوخ البخاريّ (ع) تقدم - في "المقدمة" 4/ 15.

4 -

(سَعِيدُ بْنُ أَبِي أَيُّوبَ) اسم أبيه مِقْلاص الخزاعيّ مولاهم، أبو يحيى المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [7](ت 161)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 15.

5 -

(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ أَبِي جَعْفَرِ الْقُرَشِيُّ) قيل: اسم أبيه يسار، أبو بكر الفقيه المصريّ، ثقةٌ فقيهٌ، عابدٌ [5](ت 2 أو 4 أو 5 أو 136)(ع) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 20/ 1306.

6 -

(سَالِمُ بْنُ أَبِي سَالِمٍ الْجَيْشَانِيُّ) - بفتح الجيم، ثم تحتانيّة ساكنة، ثمّ شين معجمة - واسم أبي سالم سفيان بن هانئ المصريّ، مقبول [4].

رَوَى عن أبيه، وعبد الله بن عمرو، ومعاوية بن مُعَتّب.

وروى عنه ابنه عبد الله، وعبد الله بن أبي جعفر، ويزيد بن أبي حبيب، والحارث بن يعقوب، ذكره ابن حبان في "الثقات".

تفرّد به المصنّف، وأبو داود، والنسائيّ، وليس له عندهم إلَّا هذا الحديث.

7 -

(أَبُوهُ) أبو سالم سُفيان بن هانئ الْجَيْشانيّ، تابعيّ مخضرمٌ، ثقةٌ، شَهِدَ فتح مصر [2] ويقال: له صحبة، مات بعد الثمانين (م د س) تقدم في "اللقطة" 2/ 4502.

و"أبو ذرّ رضي الله عنه" ذُكر قبله.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي ذَرٍّ) رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "يا أَبا ذَرٍّ إِنِّي أَرَاكَ ضَعِيفًا)؛ أي: غير قادر على تحصيل مصالح الإمارة، ودرء مفاسدها، (وَإِنِّي أُحِبُّ لَكَ مَا أُحِبُّ لِنَفْسِي)؛ أي: من السلامة عن الوقوع في المحذور، وقيل: تقديره: لو كان حالي كحالك في الضعف، وإلا فقد كان متولّيًا على أمور المسلمين، حاكمًا عليهم، فكيف يصحّ قوله:"أحبّ لك ما أحبّ لنفسي"، والتفسير الأول أقرب، والله تعالى أعلم. (لَا تَأَمَّرَنَّ) بتشديد الميم، ونون التوكيد الثقيلة، وأصله: لا تتأمّرنّ، بتاءين، فحُذفت إحداهما؛ تخفيفًا، وكذا قوله:"لا تولّيَنَّ"، قال في "الخلاصة":

وَمَا بِتَاءَيْنِ ابْتُدِي قَدْ يُقْتَصَرْ

فِيهِ عَلَى تَا كـ "تَبَيَّنُ الْعِبَرْ"

ص: 711

أي: لا تسلّطنّ، ولا تصيرنّ أميرًا (عَلَى اثْنَيْنِ) أراد به عدم التولّي مطلقًا، فعبّر بأقلّ ما يُمكن الحكم فيه بين الخصوم، (وَلَا تَوَلَّيَن مَالَ يَتِيمٍ")، وفي بعض النسخ:"ولا تولّينّ على مال يتيم"، وهو مِن الناس مَن مات أبوه، ومن البهائم ما ماتت أمه، وقد نظمت ذلك:

مَعْنَى الْيَتِيمِ فَاقِدُ الأَبِ إِذَا

كَانَ مِنَ النَّاسِ وَأُمٍّ غَيْرُ ذَا

وَسَمِّهِ اللَّطِيمَ إِنْ ذَيْنِ فَقَدْ

أَو أُمَّهُ الْعَجِيُّ فَاحْفَظْ مَا وَرَدْ

أي: لا تَصِرْ واليًا على يتيم؛ لشدّة الوعيد على من فرّط فيه، قال الله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا (10)} [النساء: 10]، وقد عدَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم أَكْلَ مال اليتيم من السبع الموبقات، فقد أخرج الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"اجتنبوا السبع الموبقات"، قالوا: يا رسول الله، وما هنّ؟ قال:"الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حَرَّم الله، إلَّا بالحقّ، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزَّحْف، وقَذف المحصنات المؤمنات الغافلات"، والله تعالى أعلم.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي ذرٍّ رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

[فإن قلت]: كيف أخرج مسلم هذا الحديث، وفي إسناده سالم الجيشانيّ، قال عنه في "التقريب": مقبول؛ أي: يحتاج إلى متابع؟.

[قلت]: سالم هذا روى عنه جماعة، ووثّقه ابن حبّان، وأخرج له مسلم، ولم يتكلّم فيه أحد، فأقلّ أحواله أن يكون حسن الحديث، ثم إن حديثه هذا يشهد له حديث أبي ذرّ رضي الله عنه المذكور قبله، وكذا حديث: السبع الموبقات المذكور آنفًا.

والحاصل أن الحديث صحيح دون تردّد، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [4/ 4712](1826)، و (أبو داود) في "سننه"(2868)، و (النسائيّ) في "الوصايا"(6/ 255) و"الكبرى"(4/ 112)، و (أحمد) في

ص: 712

"مسنده"(5/ 180)، و (الحاكم) في "المستدرك"(4/ 103)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(379)، و (البزّار) في "مسنده"(9/ 435)، و (ابن سعد) في "الطبقات"(4/ 231)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(6/ 283)، وفوائده تقدّمت في الحديث الماضي، ولله الحمد والمنّة.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(5) - (بَابُ فَضِيلَةِ الإِمَامِ الْعَادِل، وَعُقُوبَةِ الْجَائِر، وَالْحَثِّ عَلَى الرِّفْقِ بِالرَّعِيَّة، وَالنَّهْيِ عَنْ إِدْخَالِ الْمَشَقَّةِ عَلَيْهِمْ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4713]

(1827) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَابْنُ نُمَيْرٍ، قَالُوا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرٍو - يَعْنِي: ابْنَ دِينَارٍ - عَنْ عَمْرِو بْنِ أَوْسٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ ابْنُ نُمَيْرٍ، وَأَبُو بَكْرٍ: يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، وَفِي حَدِيثِ زُهَيْرٍ: قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ الْمُقْسِطِينَ عِنْدَ اللهِ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ، عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَن، وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ، الَّذِينَ يَعْدِلُونَ فِي حُكْمِهِمْ، وَأَهْلِيهِمْ، وَمَا وَلُوا").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم قبل باب.

2 -

(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) تقدّم في السند الماضي.

3 -

(ابْنُ نُمَيْرٍ) هو: محمد بن عبد الله بن نُمير الْهَمْدانيّ، أبو عبد الرَّحمن الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ فاضلٌ [10](ت 234)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 5.

4 -

(سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ) تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

5 -

(عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ) الأثرم الْجُمحيّ، أبو محمد المكيّ، ثقةٌ ثبتٌ [4](ت 226)(ع) تقدم في "الإيمان" 21/ 184.

6 -

(عَمْرُو بْنُ أَوْسِ) بن أبي أوس الثقفيّ الطائفيّ تابعيّ كبير، ثقةٌ [2]، ووهِمَ من ذكره في الصحابة، مات بعد التسعين (ع) تقدم في "صلاة المسافرين وقصرها" 16/ 1694.

ص: 713

7 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو) بن العاص بن وائل بن هاشم السهميّ، أبو محمد الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، مات في ذي الحجة ليالي الحرّة بالطائف على الأصحّ (ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه ثلاثة من الشيوخ قَرَن بينهم؛ لاتحاد كيفيّة تحمّلهم، وفيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ: عمرو عن عمرو، وهو من رواية الأقران؛ لأنَّ كليهما من الطبقة الرابعة، وصحابيّه أحد العبادلة الأربعة.

شرح الحديث:

(عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو) رضي الله عنهما (قَالَ) محمد (بْنُ نُمَيْرٍ) شيخه الثالث، (وَأَبُو بَكْرٍ) ابن أبي شيبة الأول، وقوله:(يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم) تقدّم قريبًا شرح هذا الكلام. (وَفي حَدِيثِ زُهَيْرِ) بن حرب شيخه الثاني (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) غرضُ المصنّف رحمه الله بهذا بيان اختلاف شيوخه في كيفيَّة رفع الحديث، فرواه محمد بن نُمير، وأبو بكر بن أبي شيبة بلفظ:"يبلغ به النبيّ صلى الله عليه وسلم"، وتقدّم أن هذه الصيغة من صيغ الرفع حكمًا، ورواه زهير بن حرب بلفظ:"قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم"، وهو صريح في الرفع. ("إِنَّ الْمُقْسِطِينَ) جمع مُقسط، اسم فاعل من أقسط رباعيًّا: إذا عَدَلَ، قال النوويّ رحمه الله: هم العادلون، وقد فسّره في آخر الحديث، بقوله:"الذين يَعدلون في حكمهم، وأهلهم، وما وَلُوا"، والإِقساط، والقِسط بكسر القاف: العدل، يقال: أقسط إقساطا، فهو مُقسط: إذا عَدَلَ، قال الله تعالى: " {وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات: 9]، ويقال: قَسَطَ يَقْسِط، بفتح الياء، وكسر السين، قُسُوطًا، وقَسْطًا، بفتح القاف، فهو قاسط، وهم قاسطون: إذا جاروا، قال الله تعالى:{وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا (15)} [الجن: 15]

(1)

.

وقال الفيّوميّ رحمه الله: قَسَطَ قَسْطًا، من باب ضَرَبَ، وقُسُوطًا: جار،

(1)

"شرح النوويّ" 12/ 211.

ص: 714

وعَدَلَ أيضًا، فهو من الأضداد، قاله ابن القطّاع، وأقسط بالألف: عَدَل، والاسم: القسط - بالكسر. انتهى

(1)

.

وقال المجد رحمه الله: القِسْط بالكسر: العدل، من المصادر الموصوف بها؛ كالْعَدْل، يستوي فيه الواحد والجمع، وفِعْله يَقْسِطُ، وَيقْسُطُ

(2)

؛ كالإقساط، قال: قسط يَقْسِط قَسْطًا بالفتح، وقُسُوطًا: جار، وعدَلَ عن الحقِّ. انتهى

(3)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن مما سبق أن أقسط رباعيًّا بمعنى عَدَلَ، وأما قسط ثلاثيًّا، من بابي ضرب، ونصر، فيُستَعمَل بمعنى عدل، وبمعنى جار، فهو من الأضداد، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

(عِنْدَ اللهِ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ)"المنابر": جمع مِنْبَر بكسر الميم، وإنما كُسِرت؛ تشبيهًا له بالآلة، وسُمّي بذلك لارتفاعه، يقال: نَبَر الجرح، وانتبر؛ أي: ارتفع، وانتفخ، والمعنى: أنهم مقرّبون إلى الله، ومُكَرَّمون لديه، ومرتفعون على منابر مخلوقة من نور.

وقال القرطبيّ: ويعني به مجلسًا رفيعًا، يتلالأ نورًا، ويَحْتَمِل أن يكون عبّر به عن المنزلة الرفيعة المحمودة، ولذلك قال:"عن يمين الرَّحمن". انتهى.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: لا داعي للاحتمال الذي ذكره، بل الظاهر من معنى الحديث معنى صحيح، لا يحتاج إلى العدول عنه، فإن الله سبحانه وتعالى يُكرمهم يوم القيامة بالجلوس على المنابر من نور؛ ليراهم الخلق، ويُعتَرَفَ بفضلهم، وعلوّ شأنهم عند ربّهم، {وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [البقرة: 105].

(عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ) قال القرطبيّ: قال ابن عرفة يقال: أتاه عن يمين: إذا أتاه من الجهة المحمودة، وقال المفسّرون في قوله تعالى:{وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ (27)} [الواقعة: 27]؛ أي: أصحاب المنزلة الرفيعة، وقيل غير هذا

(1)

"المصباح المنير" 2/ 503.

(2)

من بابي ضَرَبَ، ونَصَرَ، والأكثر كسر القاف في المضارع، وأما ضمها فلغة قليلة، كما تفيده عبارة "تاج العروس" 5/ 305.

(3)

"القاموس المحيط" ص 1057.

ص: 715

في الآية، وقد شَهِد العقل والنقل أن الله تعالى منزّه عن مماثلة الأجسام، وعن الجوارح المركّبة من الأعصاب والعظام، وما جاء في الشريعة مما يوهم شيئًا من ذلك، فهو توسّعٌ، واستعارة حسب عادات مخاطباتهم الجارية على ذلك، إلى آخر ما ذكره القرطبيّ في تأويل معنى اليمين.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي طَوَّل به القرطبيّ كلامه في تأويل معنى اليمين غير صحيح، فإن اليمين بمعنى الجارحة لا يتوهّم عاقل أنَّها المقصودة في إطلاق اليمين لله سبحانه وتعالى، فإن من اعتقد أن لله سبحانه وتعالى ذاتًا، لا تُشبه الذوات، فكذلك يعتقد أن له صفات لا تشبه الصفات، فكما لا يعتقد أن ذاته مركبة من لحم، وعظم، ونحو ذلك، كذلك لا يعتقد أن يمينه سبحانه وتعالى جارحة مركبة من لحم، وعظم، وعصب، ونحوه، بلا فرق، وقد تقدّم لنا غير مرّة أن مذهب سلف الأمة، من الصحابة، والتابعين لهم بإحسان، وأهل الحديث قاطبة إثبات جميع الصفات التي وردت في القرآن الكريم، والأحاديث الصحيحة، على ظاهرها، منزّهين الله تعالى عن مشابهة خلقه له، إثباتًا بلا تمثيل، وتنزيهًا بلا تعطيل، فاسلك سبيلهم، فإنه الصراط المستقيم، والله سبحانه وتعالى الهادي إلى سواء السبيل.

وقوله: (وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ) جملة من مبتدأ وخبر مستأنَفة، بيّن بها كون كلتا اليدين يمينًا، لئلا يُتوهّم نقص وضعفٍ فيما أضافه إلى الحقِّ سبحانه وتعالى، وذلك أنه لمّا كانت اليمين تقابلها الشمال، وهي في المتعارف أنقص رتبة، وأضعف حركة، وأثقل لفظًا، فأزال توهّم مثل هذا في حقّ الله تعالى، فقال:"وكلتا يديه يمين"؛ أي: كلّ ما نُسب إليه سبحانه وتعالى ميمون مبارك، لا يُتوهّم فيه نقص، ولا قصور، والله تعالى أعلم.

وقال الطيبيّ رحمه الله: قوله: "وكلتا يديه يمين" هي صفة جاء بها التوقيف، فنحن نُطلقها على ما جاءت، ولا نُكيّفها، وننتهي حيث انتهى بنا الكتاب، والأخبار الصحيحة، وهو مذهب أهل السُّنَّة، والجماعة.

قال: وقوله: "عند الله" خبر "إن"؛ أي: إن المقسطين مقرّبون عند الله تعالى، و"على منابر" يجوز أن يكون خبرًا بعد خبر، أو حالًا من الضمير المستقرّ في الظرف، و"من نور" صفة "منابر"، مخصّصة لبيان الحقيقة، و"عن

ص: 716

يمين الرَّحمن" صفة أخرى لـ "منابر" مبيّنة للرتبة والمنزلة، ويجوز أن يكون حالًا بعد حال على التداخل، وقوله: "يمين الرَّحمن" بعد قوله: "عند الله" تقييد بعد إطلاق، وتخصيص بعد تعميم؛ لوضع "الرَّحمن" موضع "الله"، وقد سبق أن اسم الله جامع لجميع صفات الجلال والإكرام، و"الرحمن" من صفة الإكرام، فدلّ اليمين على أنَّ الله تعالى يفيض عليهم حينئذ من جلائل نعمه، وفضائل إحسانه ما لا يُحصر، فيكون قوله: "وكلتا يديه يمين" تذييلًا للكلام السابق، فعلى هذا فاللام في "المقسطين" للتعريف، كما في الرجل، والفرس، ويجوز أن تكون موصولةً، وتكون الظروف كلّها متّصلات بالصلة، وخبرُ "إنّ" قوله: "الذين يعدلون"، وقوله: "وكلتا يديه يمين" معترضة بين اسم "إنّ"، وخبرها صيانةً لجلال الله وعظمته عما لا يليق به، قال أبو الطيّب [من الطويل]:

وَنَحْتَقِرُ الدُّنْيَا احْتِقَارَ مُجَرِّبٍ

نَرَى كُلَّ مَا فِيهَا وَحَشَاكَ فَانِيَا

(1)

وقوله: (الَّذِينَ) خبر لمحذوف؛ أي: هم الذين (يَعْدِلُونَ) بكسر الدال، من العدل: وهو القصد في الأمور، وهو خلاف الجور، يقال: عَدَلَ في أمره عَدْلًا، من باب ضرب، وعَدَل على القوم عَدْلًا أيضًا

(2)

. (فِي حُكْمِهِمْ)؛ أي: في الحكم الذي يحكمون به للناس، أو عليهم. (وَأَهْلِيهِمْ) بالجرّ عطفًا على ما قبله؛ أي: يعدِلون في أهليهم، بمعنى أنهم يقومون تجاههم بما أوجب الله تعالى عليهم فيهم، في قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} الآية [التحريم: 6]، فيعلّمونهم دينهم، ويقومون بالإنفاق عليهم، وقوله:(وَمَا وَلُوا") بفتح الواو، وضمّ اللام المخفّفة، أصله: وَليُوا بكسر اللام، وضمّ الياء، بوزن علِموا، فنُقلت ضمة الياء إلى اللام بعد سَلْب حركتها؛ للاستثقال، ثم حُذفت الياء لالتقاء الساكِنَين، فصار وَلُوا، ومعنى:"وَلُوا"؛ أي: كانت لهم عليه ولاية، وعطْفه على ما قبله مِن عَطْف العامّ على الخاصّ.

وقال النوويّ رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم: "الذين يَعْدِلون في حكمهم، وأهليهم، وما وَلُوا": معناه: أن هذا الفضل إنما هو لمن عَدَل فيما تقلّده من خلافة، أو

(1)

"الكاشف عن حقائق السنن" 8/ 2571.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 396.

ص: 717

إمارة، أو قضاء، أو حسبة، أو نَظَر على يتيم، أو صدقة، أو وقْف، وفيما يلزمه من حقوق أهله، وعياله، ونحو ذلك. انتهى.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "الذين يعدلون" يَحْتَمل وجوهًا من الإعراب: أن يكون خبرًا لـ "إن" كما سبق، وأن يكون صفة لـ "المقسطين" على تأويل: ذوات لها الإقساط، كما يقال: شجاع باسلٌ، وعليه ظاهر كلام الشيخ التوربشتيّ؛ إذ قال: وقد فَسَّر "المقسطين" في الحديث بما وصفهم به صلى الله عليه وسلم، من قوله:"الذين يعدلون" إلى آخر الحديث.

وأن يكون بدلًا، أو نصبًا على المدح، أو رفعًا عليه، وأن يكون استئنافًا؛ كأنه قيل: من هؤلاء السادة المقرّبون، وقد فازوا بالقدح المعلّي، والمنحة الكبرى؛ فقيل: هم الذين يعدلون

إلى آخره، فإذا جُعل صفةً، فالتعريف في "المقسطين" يَحْتَمل العهد المتعارف بين الناس من الحكام، وأن يكون للجنس، فبيّن بقوله:"الذين يعدلون" أن المراد به الثاني.

ولَمّا كان المراد به استغراق الجنس مشتملًا على التعدّد قال أَوّلًا: "في حكمهم"؛ ليدخل فيه من بيده أزمّة حكم الشرع، من الخلفاء، والأمراء، والقضاة، وغيرهم، وثانيًا:"وأهليهم"؛ ليدخل فيه كلّ من تحت يد أحد من أهله، وعياله، ونحو ذلك، وثالثًا:"وما وَلُوا"؛ ليستوعب جميع من يتولّى أمرًا من الأمور، فيدخل فيه نفسه أيضًا.

قال الأشرف: فالرجل يَعدل مع نفسه، بأن لا يضيّع وقته في غير ما أمر الله تعالى به، بل يمتثل أوامر الله تعالى، وينزجر عن نواهيه على الدوام، كما دَأْب الأولياء المقرّبين، أو غالبًا، كما هو دين المؤمنين الصالحين.

قال الطيبيّ: قَسَم الله تعالى عباده المصطفين من أمّة محمد صلى الله عليه وسلم ثلاثة أقسام: ظالم لنفسه، ومقتصد، وسابق، فالمقتصد من عَدَل، ولم يتجاوز إلى حدّ الظلم على نفسه، ولم يترقّ إلى مرتبة السابق الذي جمع بين العدل والإحسان.

قال: فإن قلت: إذا بيّن "المقسطين" بالذين جمعوا بين هذه الخصال، فكيف حال من انفرد بخصلة من هذه الخصال؟ هل يترتّب عليه تلك المراتب العليّة، والمنازل السنيّة؟.

ص: 718

قلت: إذا سُلِك بالتعريف في "الذين يعدلون" الجنس من حيث هي هي لا، وإذا سُلك به الاستغراق، كما ذهبنا إليه، نعم، ونحوه قوله: الرجل خير من المرأة، إذا أريد بالتعريف الحقيقة من حيث هي هي، فلا تدخل أفراد الجنس في هذا الحكم، وإن أريد به الاستغراق لزم أن يكون أدنى رجل خيرًا من أشرف النساء، والله أعلم. انتهى كلام الطيبيّ

(1)

.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [5/ 4713](1827)، و (النسائيّ) في "آداب القضاة"(8/ 221) و"الكبرى"(3/ 460)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(7/ 39 و 45)، و (الحميديّ) في "مسنده"(588)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 159 و 160 و 203)، و (الطبريّ) في "تفسيره"(9/ 114)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4484)، و (الحاكم) في "المستدرك"(4/ 88)، و (الآجريّ) في "الشريعة"(ص 322)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(10/ 87 - 88) و"الأسماء والصفات"(ص 324)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(2470)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان فضل الحاكم العادل في حكمه.

2 -

(ومنها): فضل العدل في الأهل والأولاد، وذلك بالقيام بما يحتاجون إليه من أمور دينهم ودنياهم، وتعليمهم ما ينفعهم، وزجرهم عما يضرّ بهم دينًا، ودنيا.

3 -

(ومنها): إثبات صفة اليمين لله رحمه الله على ما يليق بجلاله، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1)

"الكاشف عن حقائق السنن" 8/ 2572 - 2573.

ص: 719

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أَوَّل الكتاب قال:

[4714]

(1828) - (حَدَّثَنِي هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الأَيْلِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، حَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ شُمَاسَةَ، قَالَ: أَتيْتُ عَائِشَةَ، أَسْأَلُهَا عَنْ شَيْءٍ، فَقَالَتْ: مِمَّنْ أَنْتَ؟ فَقُلْتُ: رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ، فَقَالَتْ: كَيْفَ كَانَ صَاحِبُكُمْ لَكُمْ فِي غَزَاتِكُمْ هَذِهِ؟ فَقَالَ: مَا نَقِمْنَا مِنْهُ شَيْئًا، إِنْ كَانَ لَيَمُوتُ لِلرَّجُلِ مِنَّا الْبَعِيرُ، فَيُعْطِيهِ الْبَعِيرَ، وَالْعَبْدُ فَيُعْطِيهِ الْعَبْدَ، وَيَحْتَاجُ إِلَى النَّفَقَة، فَيُعْطِيهِ النَّفَقَةَ، فَقَالَتْ: أَمَا إِنَّهُ لَا يَمْنَعُنِي الَّذِي فَعَلَ فِي مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ أَخِي أَنْ أُخْبِرَكَ مَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ فِي بَيْتي هَذَا: "اللَّهُمَّ مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا، فَشَقَّ عَلَيْهِمْ، فَاشْقُقْ عَلَيْه، وَمَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا، فَرَفَقَ بِهِمْ، فَارْفُقْ بِهِ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الأَيْلِيُّ) السعديّ مولاهم، أبو جعفر، نزيل مصر، ثقةٌ فاضلٌ [10](ت 253) وله (83) سنةً (م د س ق) تقدم في "الإيمان" 29/ 225.

2 -

(ابْنُ وَهْبٍ) عبد الله المصريّ، تقدَّم قريبًا.

3 -

(حَرْمَلَةُ) بن عمران بن قُراد التجيبيّ - بضمّ المثناة، وكسر الجيم، بعدها ياء ساكنة، ثمّ موحّدة - أبو حفص المصريّ، يُعرف بالحاجب، ثقةٌ [7].

رَوَى عن عبد الرَّحمن بن شماسة، ويزيد بن أبي حبيب، وأبي عُشّانة، وأبي قَبِيل، وعبد الله بن الحارث الأزديّ، وسُليم بن جُبير مولى أبي هريرة، وكعب بن عَلْقمة التَّنُوخيّ، وغيرهم.

وروى عنه جرير بن حازم، وابن المبارك، وابن وهب، والليث، وابنه عبد الله بن حرملة، وأبو صالح كاتب الليث، وعبد الله بن يزيد المقرئُ، وجماعة.

قال أحمد، وابن معين: ثقةٌ، وقال الآجريّ عن أبي داود: ثقةٌ، وقال أبو عمر الْكِنديّ: كان يقال له: حرملة الحاجب، وقال ابن المبارك: حدّثني حرملة، وكان من أولي الألباب، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: مولده سنة (78)، كذا قال، وروى ابن يونس بسنده عن يحيى بن بكير: قال: ولد

ص: 720

سنة (80)، ومات في صفر سنة (160)، وكذا قال أبو عمر الكِنديّ في الموالي، وذكر أنه قرأه على لوح بقبره منقوشًا.

أخرج له البخاريّ في "الأدب المفرد"، والمصنّف، وأبو داود، والنسائيّ، وابن ماجة، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا برقم (1828)، وحديث (2543): "إنكم ستفتحون أرضًا يُذكر فيها القيراط

"، وأعاده بعده.

4 -

(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ شُمَاسَةَ) الْمَهْريّ المصريّ، ثقةٌ [3](ت 101) أو بعدها (م 4) تقدم في "الإيمان" 57/ 328.

5 -

(عَائِشَةُ) أم المؤمنين رضي الله عنها المتوفّاة سنة (57) تقدّمت في "شرح المقدّمة" ج 1 ص 315.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسلٌ بالمصريين، سوى عائشة رضي الله عنها، فمدنيّة، وفيه عائشة رضي الله عنها من المكثرين السبعة، روت (2210) أحاديث.

شرح الحديث:

(عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ شُمَاسَةَ) بضمّ الشين المعجمة؛ كثُمامة، وفتحها

(1)

، الْمَهْريّ، بفتح الميم، وسكون الهاء، أنه (قَالَ: أَتَيْتُ عَائِشَةَ) رضي الله عنها (أَسْأَلُهَا عَنْ شَيْءٍ) لَمْ يُذكر هذا الشيء، (فَقَالَتْ: مِمَّنْ أَنْتَ؟)؛ أي: من أيّ قبيلة، أو من أي أهل بلد؟ (فَقُلْتُ: رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ) - بكسر الميم -، والعامّة تفتحها: المدينة المعروفة، سُمّيت بذلك؛ لتمصّرها؛ أي: تمدّنها، أو لأنه بناها المصر بن نوح، ويجوز تذكيرها، فتُصرف، وتأنيثها، فتُمنع من الصرف

(2)

.

(فَقَالَتْ: كَيْفَ كَانَ صَاحِبُكُمْ لَكُمْ) هو معاوية بن حُديج التجيبيّ، كما سيأتي مصرَّحًا به في رواية أبي عوانة الآتية في التنبيه المذكور في الحديث التالي.

وقال القرطبيّ رحمه الله: اختُلف في اسم هذا الصاحب من هو؟ فقيل:

(1)

وهذا الضبط هو الذي ذكره في "القاموس"، وكذا ذكره القرطبيّ في "المفهم"، وضَبَطه في "التقريب" بكسر الشين فقط، فليُنظر.

(2)

راجع: "القاموس"، وشرحه "تاج العروس" 3/ 543، فقد أطال الكلام فيها.

ص: 721

عمرو بن العاص، قاله خليفة بن خيّاط، وقيل: معاوية بن حُدَيج التُّجيبيّ، قاله الهمدانيّ. انتهى

(1)

.

وقال صاحب "التنبيه": هو معاوية بن حُديج - بضمّ الحاء المهملة، وفتح الدال - وهو قاتل محمد بن أبي بكر، فيما يقولون، واختُلف في ححبته، والصحيح أنه صحابيّ، قال الذهبيّ

(2)

: معاوية بن حُديج السَّكونيّ - يعني: بفتح السين - وقيل: الْكِنديّ، وقيل: الْخَوْلانيّ، يُعَذ في المصريين، مشهور، وهو قاتل محمد بن أبي بكر. انتهى

(3)

.

وقال القاضي عياض رحمه الله: واختَلَف أهل التاريخ فيمن كان من الأمراء صاحب الجيش لحرب محمد بمصر، فقيل: عمرو بن العاص، فيما قاله خليفة بن خيّاط، وقيل: معاوية بن حُديج التجيبيّ، فيما قاله الهمذانيّ، قال: وكان سيّد تُجيب، ورأس اليمانية بمصر، وهو الذي عَنَت عائشة رضي الله عنها بقولها هذا فيه في هذا الحديث.

قال الجامع عفا الله عنه: قد عرفت أن الصواب أنه معاوية بن حُديج؛ لِمَا مرّ، فلا معنى للاختلاف فيه، فتفطّن.

قال: واختُلف في صفة قتل محمد بن أبي بكر، فقيل: قُتل في المعركة، وقيل: جيء به أسيرًا، فقُتل، وقيل: دخل بعد الهزيمة في خربة، فوَجَد حمارًا ميتًا، فدخل في جوفه، فأحرق فيه. انتهى

(4)

.

(فِي غَزَاتِكُمْ هَذِهِ) بفتح الغين المعجمة، اسم من الغَزْو، قال ابن الأثير رحمه الله: غزا يغزو غَزْوًا، فهو غازٍ، والْغَزْوة: المرّة من الغزو، والاسم: الْغَزَاةُ. انتهى

(5)

.

ثم إنه يَحْتَمل أن هذه الغزوة، هي غزوة مصر التي قُتل فيها محمد بن أبي بكر، ويَحْتَمل أن تكون هي غزوة المغرب، فقد قال الذهبيّ رحمه الله: ووَلي

(1)

"المفهم" 4/ 24.

(2)

راجع: "سير أعلام النبلاء" 3/ 37 - 38.

(3)

"تنبيه المعلم" ص 321 - 322.

(4)

"إكمال المعلم" 6/ 228 - 229.

(5)

"النهاية" 3/ 366.

ص: 722

إِمْرة مصر لمعاوية، وغزو المغرب، وشهد وقعة اليرموك. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم.

(فَقَالَ: مَا نَقَمْنَا مِنْهُ شَيْئًا) بفتح القاف، وكسرها، يقال: نَقَمتُ عليه أمره، ونَقَمتُ منه نَقْمًا، من باب ضَرَبَ، ونُقُومًا، ونَقِمْتُ أَنْقَمُ، من باب تَعِبَ لغةٌ: إذا عِبْتَهُ، وكَرِهته أشدّ الكراهة؛ لسُوء فعله، وفي التنزيل:{وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا} [الأعراف: 126] على اللغة الأُولى؛ أي: وما تطعن فينا، وتَقْدَح، وقيل: ليس لنا عندك ذنب، ولا رَكِبنا مكروهًا، قاله الفيّوميّ

(2)

.

(إِنْ) بكسر الهمزة، وسكون النون: مخفّفة من الثقيلة، ولذا جاءت بعدها اللام الفارقة بينها وبين "إن" النافية، كما قال في "الخلاصة":

وَخُفِّفَتْ "إنَّ" فَقَلَّ الْعَمَلُ

وَتَلْزَمُ اللَّامُ إِذَا مَا تُهْمَلُ

وَرُبَّمَا اسْتُغْنِيَ عَنْهَا إِنْ بَدَا

مَا نَاطِقٌ أَرَادَهُ مُعْتَمِدَا

وَالْفِعْلُ إِنْ لَمْ يَكُ نَاسِخًا فَلَا

تُلْفِهِ غَالِبًا "بِإِنْ" ذِي مُوصَلًا

(كَانَ لَيَمُوتُ لِلرَّجُلِ مِنَّا الْبَعِيرُ) بفتح الموحّدة، وقد تُكسَر: الْجَمَل البازل

(3)

، أو الجَذَعُ، وقد يكون للأنثى

(4)

. (فَيُعْطِيهِ الْبَعِيرَ، وَالْعَبْدُ) بالرفع عطفًا على "البعير"؛ أي: ويموت العبد (فَيُعْطِيهِ الْعَبْدَ، وَيَحْتَاجُ إِلَى النَّفَقَة، فَيُعْطِيهِ النَّفَقَةَ، فَقَالَتْ) عائشة رضي الله عنها (أَمَا) بفتح الهمزة، وتخفيف الميم" أداة استفتاح، كـ "إلا"، (إِنَّهُ) بكسر الهمزة؛ لوقوعها بعد أداة الاستفتاح، (لَا يَمْنَعُني الَّذِي فَعَلَ فِي مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ أَخِي)؛ أي: حيث أحرقه بالنار بعد قتله، وهو: أخوها محمد بن أبي بكر الصدّيق رضي الله عنهما، ولدته أسماء بنت عميس رضي الله عنها في حجة الوداع وقت الإحرام.

وكان قد ولّاه عثمان رضي الله عنه إِمْرة مصر، كما هو مبيَّن في سيرة عثمان رضي الله عنه، ثم سار لِحِصار عثمان، وفعل أمرًا كبيرًا، فكان أحد من توثّب على عثمان حتى

(1)

"سير أعلام النبلاء" 3/ 37.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 623.

(3)

يقال: بزل ناب البعير بُزُولًا: طلع، وذلك في تاسع سنيه، راجع:"القاموس" ص 104.

(4)

راجع: "القاموس المحيط" ص 116.

ص: 723

قُتِل، ثم انضمّ إلى عليّ رضي الله عنه، فكان من أمرائه، فسَيَّره على إمرة مصر سنة سبع وثلاثين في رمضانها، فالتقى هو وعسكر معاوية، فانهزم جمع محمد، واختفى هو في بيتِ مِصْريةٍ، فدلَّت عليه، فقال: احفظوني في أبي بكر، فقال معاوية بن حُديج: قتلتُ ثمانين من قومي في دم الشهيد عثمان، وأتركك، وأنت صاحبه! فقتله، ودسَّه في بطن حمار ميت، وأحرقه.

وقال عمرو بن دينار: أُتي بمحمد أسيرًا إلى عمرو بن العاص، فقتله؛ يعني: بعثمان رضي الله عنه

(1)

.

(أَنْ أُخْبِرَكَ) في تأويل المصدر مفعول ثان "يمنعني"، والأول ياء المتكلّم، والفاعل هو الموصول المتقدّم، يقال: منعته الأمر، ومنعته منه، يتعدّى إلى الثاني بنفسه، وبـ "مِنْ "

(2)

. (مَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم)"ما" موصولة مفعول ثان لـ "أُخبرك"، والأول الكاف، (يَقُولُ فِي بَيْتِي هَذَا:(اللَّهُمَّ مَنْ وَلِيَ) بفتح الواو، وكسر اللام، يقال: وَليتُ الأمرَ أَلِيهِ بكسرتين وِلاية بالكسر: تولّيتُهُ، ووليتُ البلدَ، وعليه، ووليتُ على الصبيَّ، والمرأة، فالفاعل والٍ، والجمع وُلاةٌ، والصبيّ والمرأة مَوْليٌّ عليه، والأصل على مفعول

(3)

. (مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي) قال المناويّ رحمه الله؛ أي: أمة الإجابة، ولا مانع من إرادة الأعم هنا. (شَيْئًا) من الولاية، كخلافة، وسلطنة، وقضاء، وإمارة، وبظَارة، ووصاية، وغير ذلك، نَكَّره مبالغةً في الشيوع، وإرادة للتعميم. انتهى

(4)

.

(فَشَقَّ عَلَيْهِمْ) من باب نصر، مبنيًّا للفاعل؛ أي: حَمَلهم على ما يَشُقّ عليهم، أو أوصل المشقة إليهم، بقول، أو فعل، فهو من المشقّة التي هي الإضرار، لا من الشقاق الذي هو الخلاف، قال في "العين": شَقّ الأمرُ عليه مشقّةً: أَضَرَّ به. انتهى

(5)

. (فَاشْقُقْ عَلَيْهِ)؛ أي: أوْقِعه في المشقّة جزاءً وفاقًا، (وَمَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا، فَرَفَقَ بِهِمْ) من باب نصر أيضًا رِفقًا بالكسر، وهو: خلاف الْعُنْف؛ أي: عامَلَهم باللين، والإحسان، والشفقة (فَارْفُقْ بِهِ")؛

(1)

"سير أعلام النبلاء" 3/ 482.

(2)

راجع: "المصباح " 2/ 580.

(3)

"المصباح المنير" 2/ 672.

(4)

"فيض القدير" 2/ 106.

(5)

"فيض القدير" 2/ 106.

ص: 724

أي: افعل به ما فيه الرفق له، مجازاةً له بمثل فعله، قال المناويّ رحمه الله: وهذا دعاء مجاب، وقضيته لا يَشك في حقيقتها عاقل، ولا يرتاب، فقلما ترى ذا ولاية عَسَفَ، وَجَارَ، وعامَلَ عيال الله بالعتوّ والاستكبار، إلَّا وكان آخر أمره الوبال، وانعكاس الأحوال، فإن لَمْ يعاقَب بذلك في الدنيا، قَصُرت مدّته، وعُجِّل بروحه إلى بئس المستقرّ سَقَر، ولهذا قالوا: الظلم لا يَدُوم، وإن دام دَمَّرَ، والعدل لا يدوم، وإن دام عمّرَ، وهذا كما ترى أبلغ زجر عن المشقّة على الناس، وأعظم حثّ على الرفق بهم، وقد تظاهرت على ذلك الآياتِ والأخبار. انتهى

(1)

.

وقال النوويّ رحمه الله: هذا من أبلغ الزواجر عن المشقّة على النَّاس، وأعظم الحثّ على الرفق بهم، وقد تظاهرت الأحاديث بهذا المعنى. انتهى

(2)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [5/ 4714 و 4715](1828)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 62 و 93 و 257 و 258 و 260)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(553)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 380)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(7/ 82 و 9/ 173)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(9/ 43 و 10/ 136)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(2471)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان الحثّ على الرفق بالرعيّة، والنهي عن إدخال المشقّة عليهم، وهو الذي أمر الله تعالى به نبيّه صلى الله عليه وسلم، حيث يقول:{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159)} [آل عمران: 159]، وحضّ

(1)

"فيض القدير" 2/ 107.

(2)

"شرح النوويّ" 12/ 213.

ص: 725

عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم في غير ما حديث، فقال لعائشة رضي الله عنها:"عليك بالرفق، وإياك والعنف"، متَّفقٌ عليه، وعن عائشة رضي الله عنها، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"إن الرفق لا يكون في شيء إلَّا زانه، ولا يُنزع من شيء إلَّا شانه"، رواه مسلم.

2 -

(ومنها): بيان أن قول الحقّ، وذِكْر فضل ذوي الفضل مرغّبٌ فيه مع العدوّ والصديق، فلا ينبغي للإنسان أن يَستر فضل أهل الفضل، ويمتنع منه لعداوة بينهما ونحوها.

3 -

(ومنها): أن فيه فضل عائشة رضي الله عنها، ومدى ورعها، ومحبّتها للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، حيث لَمْ تمتنع من نشر حديثه لإساءة ذلك الأمير تجاهها حيث قتل أخاها، وأحرقه بالنار، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلِّف رحمه الله أَوَّل الكتاب قال:

[4715]

(

) - (وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ مَهْدِيٍّ، حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ، عَنْ حَرْمَلَةَ الْمِصْرِيّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ شُمَاسَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِهِ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمِ) بن ميمون السمين، ذُكر قبل باب.

2 -

(ابْنُ مَهْدِيٍّ) هو: عبد الرَّحمن، تقدّم قريبًا.

3 -

(جَرِيرُ بْنُ حَازِمِ) بن زيد، تقدّم قبل باب.

والباقون ذُكروا قبله.

[تنبيه]: رواية جرير بن حازم عن حرملة هذه ساقها أبو عوانة رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(7025)

- حدّثنا حمدان بن عليّ الورّاق، ومحمد بن صالح كَيْلجة، وهلال بن العلاء، قالوا: ثنا أبو سلمة موسى بن إسماعيل، قال: ثنا جرير بن حازم، قال: حدّثني حرملة بن عمران المصريّ، عن عبد الرَّحمن بن شْماسة الْمَهْريّ، قال: دخلت على عائشة أم المؤمنين، فقالت لي: ممن أنت؟ قلت: من أهل مصر، قالت: كيف وجدتم ابن حُديج في غَزاتكم هذه؟ فقلت: وجدناه خير أمير، ما مات لرجل منا عبد إلَّا أعطاه عبدًا، ولا بعير إلَّا أعطاه

ص: 726

بعيرًا، ولا فرس إلَّا أعطاه فرسًا، فقالت: أمَا إنه لا يمنعني قَتْله أخي، أن أحدِّث ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأَخْبِره أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"مَن وَلي من أمر أمتي شيئًا، فرَفَق بهم، فارفق به، ومن شَقَّ عليهم، فشُقّ عليه". انتهى

(1)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4716]

(1829) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ (ح) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "أَلَا كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِه، فَالأَمِيرُ الَّذِي عَلَى النَّاسِ

(2)

رَاعٍ، وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِه، وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِه، وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُمْ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى بَيْتِ بَعْلِهَا، وَوَلَدِه، وَهِيَ مَسْئُولَةٌ عَنْهُمْ، وَالْعَبْدُ رَاعٍ عَلَى مَالِ سَيِّدِه، وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُ، أَلَا فَكُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(قتيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

2 -

(مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحٍ) بن مهاجر المجيبيّ مولاهم المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](242)(م ق) تقدم في "الإيمان" 16/ 168.

3 -

(اللَّيْثُ) بن سعد تقدّم في الباب الماضي.

4 -

(نَافِعٌ) مولى ابن عمر، أبو عبد الله المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ، فقيه، مشهورٌ [3](ت 117)، أو بعد ذلك (ع) تقدم في "الإيمان" 28/ 222.

5 -

(ابْنُ عُمَرَ) عبد الله رضي الله عنهما، تقدّم قبل بابين.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (334) من رباعيّات الكتاب، وأن ابن عمر، ونافعًا مدنيّان، وقتيبة بغلانيّ، والباقيان مصريّان.

شرح الحديث:

(عَنِ ابْنِ عُمَرَ) رضي الله عنهما (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) أَنَّهُ قَالَ: "أَلَا) بالتخفيف: أداة

(1)

"مسند أبي عوانة" 4/ 381.

(2)

وفي نسخة: "على ناس".

ص: 727

استفتاح، وتنبيه. (كُلُّكُمْ رَاعٍ) مبتدأ وخبرٌ، والراعي هو الحافظ المؤتَمَن الملتزِم صلاح ما اؤتُمِن علَى حفظه، فهو مطلوب بالعدل فيه، والقيام بمصالحه. (وَكلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ) قال في "العمدة": الرعيّة كلُّ من شَمِله حِفظ الراعي، ونَظَره، وأصل الرعاية: حِفظ الشيء، وحُسن التعهد فيه، لكن تختلف، فرعاية الإمام هي ولاية أمور الرعية، وإقامة حقوقهم، ورعاية المرأة حُسن التعهّد في أمر بيت زوجها، ورعاية الخادم هو حِفظ ما في يده، والقيام بالخدمة، ونحوها، ومن لَمْ يكن إمامًا، ولا له أهل، ولا سيد، ولا أبٌ، وأمثال ذلك فرعايته على أصدقائه، وأصحاب معاشرته. انتهى

(1)

.

(فَالأَمِيرُ) وفي رواية للبخاريّ: "فالإمام"؛ أي: الإمام الأعظم، (الَّذِي عَلَى النَّاسِ) وفي بعض النسخ:"على ناس" بالتنكير، (رَاعٍ، وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِه، وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ) وفي رواية: "في أهل بيته"، (وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُمْ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى بَيْتِ بَعْلِهَا)؛ أي: زوجها، (وَوَلَدِه، وَهِيَ مَسْئُولَةٌ عَنْهُمْ) قال الطيبيّ: الضمير في "عنهم" راجع إلى "بيت بعلها، وولده"، وغلّب العقلاء فيه على غيرهم. انتهى

(2)

. (وَالْعَبْدُ رَاعٍ عَلَى مَالِ سَيِّدِه، وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُ)، وفي رواية سالم:"قال: سمعت هؤلاء من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحسب النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: والرجل راع في مال أبيه، ومسئول عن رعيته".

قال الخطابيّ رحمه الله: اشتركوا؛ أي: الإمام، والرجل، ومن ذُكِر في التسمية؛ أي: في الوصف بالراعي، ومعانيهم مختلفة، فرعاية الإمام الأعظم: حياطة الشريعة، بإقامة الحدود، والعدل في الحكم، ورعاية الرجل أهله: سياسته لأمرهم، وإيصالهم حقوقهم، ورعاية المرأة: تدبير أمر البيت، والأولاد، والخدم، والنصيحة للزوج في كلّ ذلك، ورعاية الخادم: حِفْظ ما تحت يده، والقيام بما يجب عليه من خدمته. انتهى

(3)

.

وقال الطيبيّ رحمه الله: معنى الراعي هنا: الحافظ المؤتمَن على ما يليه،

(1)

"عمدة القاري" 24/ 221.

(2)

"الكاشف عن حقائق السنن" 8/ 2569.

(3)

الأعلام" 1/ 579.

ص: 728

أَمَرهم النبيّ صلى الله عليه وسلم بالنصيحة فيما يَلُونه، وحذّرهم الخيانة فيه بإخبارهم أنهم مسئولون عنه، فالرعاية حفظ الشيء، وحسن التعهّد، فقد استوى هؤلاء في الاسم، ولكن معانيهم مختلفةٌ، فأما رعاية الإمام، فهي ولاية أمور الرعيّة، بالحياطة من ورائهم، وإقامة الحدود، والأحكام فيهم، ورعاية الرجل في أهله، فهي القيام عليهم بالحقّ في النفقة، وحسن العشرة، ورعاية المرأة في بيت زوجها، فهي حسن التدبير في أمر بيته، والتعهّد بخدمته، وأضيافه، ورعاية العبد في مال سيّده، فهي حِفْظ ما في يده من مال سيّده، والقيام بشغله. انتهى

(1)

.

(أَلَا) بالتخفيف أيضًا، وكرّرها للتوكيد، (فَكُلُّكُمْ رَاعٍ) هو تشبيه أضمر فيه أداته؛ أي: مثلُ راعٍ، والفاء جواب شرط محذوف؛ أي: إذا كان الأمر هكذا، فكلّكم راع

إلخ، ووجه التشبيه: حفظ الشيء، وحسن التعهّد لِمَا استُحفظ، وهو القدر المشترك

(2)

. (وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ") قال النوويّ رحمه الله: قال العلماء: الراعي هو الحافظ المؤتمن الملتزم صلاح ما قام عليه، وما هو تحت نَظَره، ففيه أن كلّ من كان تحت نظره شيء، فهو مطالب بالعدل فيه، والقيام بمصالحه في دينهه، ودنياه، ومتعلّقاته. انتهى

(3)

.

وقال الطيبيّ رحمه الله: وهذا تمثيل لا يُرى في الباب ألطف، ولا أجمع، ولا أبلغ منه، فإنه أجْمَلَ أوَّلًا، ثم فَصّل، وأتى بحرف التنبيه مكرّرًا، وأتى بالْفَذْلكة كالخاتمة؛ إشارةً إلى استيفاء التفصيل، قال: والْفَذْلكة هي التي يأتي بها المحاسِب بعد التفصيل، ويقول: فذلك كذا وكذا؛ ضبطًا للحساب، وتوقّيًا من الزيادة والنقصان فيما فصّله. انتهى بزيادة يسيرة

(4)

.

وقال غيره: دخل في هذا العموم: المنفرد الذي لا زوج له، ولا خادم، ولا ولد، فإنه يَصْدُق عليه أنه راعٍ على جوارحه، حتى يَعْمَل المأمورات،

(1)

"الكاشف عن حقائق السنن" 8/ 2568.

(2)

"الكاشف عن حقائق السنن" 8/ 2569.

(3)

"شرح النوويّ" 12/ 213.

(4)

"الكاشف عن حقائق السنن" 8/ 2569.

ص: 729

ويجتنب المنهيات، فِعلًا، ونطقًا، واعتقادًا، فجوارحه، وقواه، وحواسّه رعيته، ولا يلزم من الاتصاف بكونه راعيًا أن لا يكون مرعيًّا باعتبار آخر.

وجاء في حديث أنس رضي الله عنه مثل حديث ابن عمر رضي الله عنهما، فزاد في آخره:"فأعدُّوا للمسألة جوابًا، قالوا: وما جوابها؟ قال: أعمال البرّ"، أخرجه ابن عديّ، والطبرانيّ في "الأوسط"، وسنده حسنٌ.

وله من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: "ما من راعٍ إلَّا يُسأل يوم القيامة: أقام أمر الله، أم أضاعه؟ ".

ولابن عديّ بسند صحيح، عن أنس رضي الله عنه:"إن الله سائل كلَّ راعٍ عما استرعاه، حَفِظَ ذلك، أو ضيَّعه"، قاله في "الفتح"

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا متَّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [5/ 4716 و 4717 و 4718 و 4719](1829)، و (البخاريّ) في "الجمعة"(893) و"الاستقراض"(2409) و"العتق"(2554 و 2558) و"الوصايا"(2751) و"النكاح"(5188 و 5200) و"الأحكام"(7138) و"الأدب المفرد"(1/ 83 - 84)، و (أبو داود) في "الخراج"(2928) و (الترمذي) في "الجهاد"(1705)، و (مالك) في "الموطّأ"(992)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(11/ 319)، و (أحمد) في "مسنده) (2/ 5 و 54 - 55 و 111)، و (أبو عوانة) في "مسنده" (4/ 382 و 383 و 384)، و (ابن حبّان) في "صحيحه" (4489 و 4490 و 4491)، و (البيهقيّ) في "الكبرى" (6/ 287 و 7/ 291) و"شعب الإيمان" (4/ 322 و 6/ 123)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة" (2469)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(1)

"الفتح" 16/ 611، كتاب "الأحكام" رقم (7138).

ص: 730

1 -

(منها): بيان وجوب حفظ الإمام حقوق الرعيّة، وعدم تساهله في ذلك؛ لأنه مسئول عنهم، وكذا الذين ذُكروا بعده يجب عليهم القيام بما استرعاهم الله تعالى، وجَعَله تحت تصرّفهم، فإنهم مسئولون عنهم أيضًا.

2 -

(ومنها): ما قال الطيبيّ رحمه الله: في هذا الحديث أن الراعي ليس مطلوبًا لذاته، وإنما أقيم لحفظ ما استرعاه المالك، فينبغي أن لا يتصرف إلَّا بما أَذِن الشارع فيه، وإنما أقيم لحفظ ما استرعاه الله تعالى، فعلى السلطان حِفظ الرعيّة فيما يتعيّن عليه، من حِفظ شريعتهم، والذبّ عنها لكل متصدّ لإدخال داخلة فيها، أو تحريف لمعانيها، أو إهمال حدودهم، أو تضييع حقوقهم، وتَرْك حماية من جار عليهم، ومجاهدة عدوّهم، أو تَرْك سيرة العدل فيهم، فينبغي أن لا يتصرف في الرعيّة إلَّا بما أَذِن الله تعالى، ورسوله صلى الله عليه وسلم به، ولا يطلب أجره إلَّا من الله؛ كالراعي. انتهى

(1)

.

3 -

(ومنها): أنه استُدِلّ به على أنَّ المكلَّف يؤاخذ بالتقصير في أمر مَن هو في حكمه.

4 -

(ومنها): بيان أن للعبد أن يتصرف في مال سيده بإذنه، وكذا المرأة، والولد.

5 -

(ومنها): ما قال القرطبيّ رحمه الله: كلُّ من ذُكِر في هذا الحديث قد كُلِّف ضبطَ ما أُسند إليه من رعيته، واؤتُمِنَ عليه، فيَجبُ عليه أن يجتهد في ذلك، وينصح، ولا يفرِّط في شيء من ذلك، فإن وفَّى ما عليه من الرعاية حصل له الحظ الأوفر، والأجر أكبر، وإن كان غير ذلك طالبه كلُّ واحدٍ من رعيّته بحقِّه، فكَثُر مُطالبوه، وناقشه محاسبوه؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم:"مَا مِنْ أميرِ عشرة، فما فوقهم، إلَّا ويُؤتى به يوم القيامة مغلولًا، فإما أن يفكّه العدلُ، أو يُوبقُه الجوْر"

(2)

، وعن معقل بن يسار رضي الله عنه قال: سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من عبد يسترعيه الله رعيةً، فلم يُحطها بنصحه، إلَّا لَمْ يجد رائحة الجَنَّة"، متَّفقٌ عليه، لفظ البخاريّ، ولفظ مسلم: "ما من عبد يسترعيه الله رعيةً، يموت يوم

(1)

"الكاشف عن حقائق السنن" 8/ 2569.

(2)

حديث صحيح، أخرجه أحمد 2/ 431.

ص: 731

يموت، وهو غاشّ لرعيته، إلَّا حرّم الله عليه الجَنَّة"، وفي رواية: "ما من أمير يلي أمر المسلمين، ثم لا يجهد لهم، وينصح، إلَّا لَمْ يدخل معهم الجَنَّة"، وكلها تأتي في الباب - إن شاء الله تعالى -.

6 -

(ومنها): ما قال القاضي عياض رحمه الله: فيه حجة أنه لا قَطْع على العبد في مال سيّده، ولا على المرأة في مال زوجها، إلَّا ما حجبه عنها، ولم يجعل لها فيه تصرّفًا، خلافًا لأبي حنيفة، وأحد قولي الشافعيّ أنه لا قطع على أحد الزوجين فيما سرق من مال الآخر كيف كان.

7 -

(ومنها): أن فيه بيانَ كذب الخبر الذي افتراه بعض المتعصبين لبني أمية، قال الحافظ: قرأت في "كتاب القضاء" لأبي عليّ الكرابيسيّ: أنبأنا الشافعيّ، عن عمه - هو محمد بن عليّ - قال: دخل ابن شهاب على الوليد بن عبد الملك، فسأله عن حديث:"إن الله إذا استرعى عبدًا الخلافة، كتب له الحسنات، ولم يكتب له السيئات"، فقال له: هذا كذبٌ، ثم تلا:{يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ} ، إلى قوله:{بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} [ص: 26]، فقال الوليد: إن الناس ليغرّوننا عن ديننا. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلِّف رحمه الله أَوَّل الكتاب قال:

[4717]

(

) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ (ح) وَحَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي (ح) وَحَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا خَالِدٌ - يَعْني: ابْنَ الْحَارِثِ - (ح) وَحَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى - يَعْنِي: الْقَطَّانَ - كُلُّهُمْ عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ (ح) وَحَدَّثَنَا أَبُو الرَّبِيع، وَأَبُو كَامِلٍ قَالَا: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زيدٍ (ح) وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلٌ جَمِيعًا عَنْ أَيُّوبِ (ح) وَحَدَّثَني مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ، أَخْبَرَنَا الضَّحَّاكُ - يَعْنِي: ابْنَ عُثْمَانَ - (ح) وَحَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الأَيْلِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، حَدَّثَنِي أُسَامَةُ، كَلُّ هَؤُلَاءِ عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، مِثْلَ حَدِيثِ اللَّيْث، عَنْ نَافِعٍ).

(1)

"الفتح" 16/ 611، كتاب "الأحكام" رقم (7138).

ص: 732

رجال هذا الإسناد: ثلاثة وعشرون:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ) العبديّ، أبو عبد الله الكوفيّ، ثقةٌ حافظ [9](ت 203)(ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 107.

2 -

(أبو ابن نُمير) هو: عبد الله بن نُمير الْهَمْدانيّ، أبو هشام الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ سنّيّ، من كبار [9](ت 199)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 5.

3 -

(ابْنُ الْمُثَنَّى) هو: محمد، أبو موسى العنزيّ البصريّ المعروف بالزمِن، ثقةٌ ثبتٌ [10](252)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.

4 -

(خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ) بن عبيد الْهُجيميّ، أبو عثمان البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 186)(ع) تقدم في "الإيمان" 35/ 243.

5 -

(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ) بن حفص بن عاصم الْعُمريّ، أبو عثمان المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ [51] مات سنة بضع و (140)(ع) تقدم في "الإيمان" 28/ 222.

6 -

(أَبُو الرَّبِيعِ) سليمان بن داود الزهرانيّ العَتَكيّ البصريّ، نزيل بغداد، ثقةٌ [10](ت 234)(خ م د س) تقدم في "الإيمان" 23/ 190.

7 -

(إِسْمَاعِيلُ) بن إبراهيم بن مِقسم المعروف بابن عليّة، أبو بشر البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [8](ت 193)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.

8 -

(أَيُّوبُ) بن أبي تميمة كيسان السختيانيّ، أبو بكر البصريّ، ثقةٌ ثبت حجة، من كبار الفقهاء العبّاد [5](ت 131)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" ج 1 ص 305.

9 -

(الضَّحَّاكُ بْنُ عُثْمَانَ) بن عبد الله بن خالد بن حِزَام الأسديّ الْحِزَاميّ، أبو عثمان المدنيّ، صدوقٌ يَهِمُ [7](م 4) تقدم في "الحيض" 16/ 774.

10 -

(أُسَامَةُ) بن زيد الليثيّ مولاهم، أبو زيد المدنيّ، صدوقٌ يَهِم [7](153)(خت م 4) تقدم في "الصلاة" 42/ 1085.

والباقون ذُكروا في الباب، وفي الأبواب الأربعة الماضية، و"ابن نُمير" هو: محمد بن عبد الله بن نُمير، و"عبيد الله بن سعيد" هو: أبو قُدامة السرخسيّ الحافظ، و"أبو كامل": هو فضيل بن حسين الجحدريّ، و"ابن أبي فُديك" هو: محمد بن إسماعيل بن مسلم المدنيّ.

وقوله: (كُلُّهُمْ عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ)؛ يعني: أن كلّ الأربعة، وَهُم:

ص: 733

محمد بن بشر، وعبد الله بن نُمير، وخالد بن الحارث، ويحيى القطّان رووا عن عبيد الله بن عمر العمريّ.

وقوله: (كَلُّ هَؤُلَاءِ عَنْ نَافِعٍ)؛ يعني: أن كلّ هؤلاء الأربعة، وهم: عبيد الله بن عمر، وأيوب السختيانِيّ، والضحّاك بن عثمان، وأسامة بن زيد الليثيّ رووا هذا الحديث عن نافع، مثل حديث الليث بن سعد المذكور قبله، عنه، عن ابن عمر رضي الله عنهما.

[تنبيه]: أما رواية عبيد الله بن عمر، عن نافع، فقد ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:

(2416)

- حدّثنا مسدّد، حدّثنا يحيى

(1)

، عن عبيد الله، قال: حدّثني نافع، عن عبد الله رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"كلكم راع، فمسؤول عن رعيته، فالأمير الذي على الناس راع، وهو مسؤول عنهم، والرجل راع على أهل بيته، وهو مسؤول عنهم، والمرأة راعية على بيت بعلها، وولده، وهي مسؤولة عنهم، والعبد راع على مال سيده، وهو مسؤول عنه، ألا فكلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته". انتهى

(2)

.

وأما رواية أيوب السختيانيّ، عن نافع، فقد ساقها أيضًا البخاريّ رحمه الله، فقال:

(4892)

- حدّثنا أبو النعمان، حدّثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن نافع، عن عبد الله، قال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"كلكم راع، وكلكم مسؤول، فالإمام راع، وهو مسؤول، والرجل راع على أهله، وهو مسؤول، والمرأة راعية على بيت زوجها، وهي مسئولة، والعبد راع على مال سيده، وهو مسؤول، ألا فكلكم راع، و"لكم مسؤول". انتهى

(3)

.

وأما رواية إسماعيل ابن عليّة، عن أيوب، عن نافع، فقد ساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(1)

هو القطّان.

(2)

"صحيح البخاريّ" 2/ 901.

(3)

"صحيح البخاريّ" 5/ 1988.

ص: 734

(4495)

- حدّثنا عبد الله

(1)

، حدّثني أبي، ثنا إسماعيل، أنا أيوب، عن نافع، عن ابن عمر: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "كلكم راع، وكلكم مسؤول، فالأمير الذي على الناس راع، وهو مسؤول عن رعيته، والرجل راع على أهل بيته، وهو مسؤول، والمرأة راعية على بيت زوجها، وهي مسؤولة، والعبد راع على مال سيده، وهو مسؤول، أَلا فكلكم راع، وكلكم مسؤول". انتهى

(2)

.

وأما رواية الضحّاك بن عثمان، عن نافع، فقد ساقها أبو عوانة رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(7032)

- حدّثنا أحمد بن الفرج الحمصيّ، قثنا ابن أبي فُديك، قال: حدّثني الضحاك بن عثمان، عن نافع، عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ألا كلكم راع، فالأمير راع على رعيته، والرجل راع على بيته، والمرأة راعية على بيت زوجها، والعبد راع على مال سيده، ألا كلكم راع، وكلكم مسؤول". انتهى

(3)

.

وأما رواية أسامة بن زيد الليثيّ، عن نافع، فقد ساقها أيضًا أبو عوانة رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(7033)

- حدّثنا الربيع بن سليمان، وعيسى بن أحمد، قالا: ثنا ابن وهب، قال: أنبأ أسامة بن زيد، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"كلكم راع، ومسؤول عن رعيته، فالأمير الذي على الناس راع، ومسؤول عن رعيته، والرجل راع على أهل بيته، ومسؤول عنهم، وامرأة الرجل راعية على بيت زوجها، وولده، ومسؤولة عنهم، وعبد الرجل راع على مال الرجل، ومسؤول عنه، ألا فكلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته". انتهى

(4)

.

(قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ بِشْرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ نُمَيْرٍ، عَنْ عُبَيْدِ الله، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، بِهَذَا، مِثْلَ حَدِيثِ اللَّيْث، عَنْ نَافِعٍ).

وقوله: (قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ) القائل هو تلميذه، والظاهر أنه أبو أحمد

(1)

هو ولد الإمام أحمد، راوي "المسند" عنه.

(2)

"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 2/ 5.

(3)

"مسند أبي عوانة" 4/ 383.

(4)

"مسند أبي عوانة" 4/ 383.

ص: 735

الْجُلُوديّ، وأبو إسحاق هو إبراهيم بن محمد بن سفيان النيسابوريّ، تلميذ المصنّف المتوفّى سنة (308 هـ) تقدّم قريبًا في "باب غزوة ذي قَرَد"[43/ 4669]، وإنما زاد هذا الإسناد؛ لعلوّه له على إسناد مسلم، فقد كان بينه وبين عبد الله بن نُمير فيه واسطتان: مسلم، وشيخه محمد بن عبد الله بن نُمير، وفي هذا الإسناد واسطة واحدة، شيخه الحسن بن بشر فقط، فقد علا برجل، فتنبّه.

و (الْحَسَنُ بْنُ بِشْرٍ) السلميّ القاضي المتوفّى سنة (244 هـ) من الطبقة الحادية عشرة، لَمْ يرو عنه مسلم، وإنما عنه تلميذه أبو إسحاق، في مواضع علا فيها على رواية عن مسلم كما هنا، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلِّف رحمه الله أَوَّل الكتاب قال:

[4718]

(

) - (وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَيَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، وَقُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَابْنُ حُجْرٍ، كُلُّهُمْ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم (ح) وَحَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ الله، عَنْ أَبِيه، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ بِمَعْنَى حَدِيثِ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَزَادَ فِي حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ: قَالَ: وَحَسِبْتُ أَنَّهُ قَدْ قَالَ: "الرَّجُلُ رَاعٍ فِي مَالِ أَبِيه، وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ").

رجال هذا الإسناد: ثلاثة عشر:

1 -

(يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ) المقابريّ، أبو زكريّاء البغداديّ، ثقةٌ عابدٌ [10](ت 234)(عخ م د عس) تقدم في "الإيمان" 2/ 110.

2 -

(إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرِ) بن أبي كثير الأنصاريّ الزرقيّ، أبو إسحاق المدنيّ القاريّ، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 180)(ع) تقدم في "الإيمان" 2/ 110.

3 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ دِينَارٍ) مولى ابن عمر، أبو عبد الرَّحمن المدنيّ، ثقةٌ [4](ت 127)(ع) تقدم في "الإيمان" 14/ 160.

4 -

(حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى) التجيبيّ، أبو حفص المصريّ، صاحب الشافعيّ، صدوقٌ [11](ت 3 أو 244)(م س ق) تقدم في "المقدمة" 3/ 14.

ص: 736

5 -

(يُونُسُ) بن يزيد الأيليّ، أبو يزيد بن أبي النجاد، ثقةٌ ثبت، من كبار [7](ت 159)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 14.

6 -

(ابْنُ شِهَابٍ) محمد بن مسلم الزهريّ، تقدّم قبل بابين.

7 -

(سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) بن عمر بن الخطّاب، تقدّم قبل بابين.

والباقون ذُكروا في الباب.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (335) من رباعيّات الكتاب.

[تنبيه آخر]: رواية عبد الله بن دينار، عن ابن عمر رضي الله عنهما ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:

(6719)

- حدّثنا إسماعيل، حدّثني مالك، عن عبد الله بن دينار، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ألا كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته، فالإمام الذي على الناس راع، وهو مسؤول عن رعيته، والرجل راع على أهل بيته، وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة راعية على أهل بيت زوجها، وولده، وهي مسؤولة عنهم، وعبد الرجل راع على مال سيده، وهو مسؤول عنه، ألا فكلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته". انتهى

(1)

.

ورواية سالم، عن ابن عمر رضي الله عنهما أيضًا ساقها البخاريّ، فقال:

(2278)

- حدّثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب، عن الزهريّ، قال: أخبرني سالم بن عبد الله، عن عبد الله بن عمر بأنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"كلكم راع، ومسؤول عن رعيته، فا لإمام راع، وهو مسؤول عن رعيته، والرجل في أهله راع، وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة في بيت زوجها راعية، وهي مسؤولة عن رعيتها، والخادم في مال سيده راع، وهو مسؤول عن رعيته - قال: فسمعت هؤلاء من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحسب النبيّ صلى الله عليه وسلم قال -: والرجل في مال أبيه راع، وهو مسؤول عن رعيته، فكلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته". انتهى

(2)

، والله تعالى أعلم.

(1)

"صحيح البخاريّ " 6/ 2611.

(2)

"صحيح البخاريّ" 2/ 848.

ص: 737

وبالسند المتّصل إلى المؤلِّف رحمه الله أَوَّل الكتاب قال:

[4719]

(

) - (وَحَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي عَمِّي عَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي رَجُلٌ سَمَّاهُ، وَعَمْرُو بْنُ الْحَارِث، عَنْ بُكَيْرٍ، عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ، حَدَّثَهُ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِهَذَا الْمَعْنَى).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ وَهْبِ) بن مسلم، أبو عبيد الله المصريّ، لقبه بَحْشَل - بفتح الموحّدة، وسكون المهملة، بعدها شين معجمة - صدوقٌ تغيّر بآخره [11](ت 264)(م) من أفراد المصنّف، تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 19/ 1277.

2 -

(عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ) بن يعقوب الأنصاريّ مولاهم، أبو أيوب المصريّ، ثقةٌ فقيهٌ حافظٌ [7] مات قبل (150)(ع) تقدم في "الإيمان" 16/ 169.

3 -

(بُكَيْرُ) بن عبد الله بن الأشجّ المخزوميّ مولاهم، أبو عبد الله، أو أبو يوسف المدنيّ، نزيل مصر، ثقةٌ [5](ت 120)(ع) تقدم في الطهارة 4/ 554.

4 -

(بُسْرُ بْنُ سَعِيدٍ) مولى ابن الحضرميّ، ثقةٌ عابدٌ جليلٌ [2](ت 100)(ع) تقدم في "الصلاة" 31/ 1001.

والباقيان تقدَّما قريبًا.

وقوله: (أَخْبَرَنِي رَجُلٌ سَمَّاهُ) هو عبد الله بن لَهِيعة، كما سيأتي بيانه في التنبيه التالي.

[تنبيه]: رواية بسر بن سعيد، عن ابن عمر رضي الله عنهما هذه ساقها أبو عوانة رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(7041)

- حدّثنا أحمد بن عبد الرَّحمن بن وهب، قثنا عمي (ح) وحدّثنا أبو زرعة الرازيّ، قال: ثنا عبد الجبار بن سعيد، قال: حدّثني ابن وهب (ح) وحدّثنا محمد بن إسماعيل الصائغ، قال: ثنا إبراهيم بن المنذر، قال: حدّثني ابن وهب، قال: حدَّثني عمرو بن الحارث، عن بكرٍ بن عبد الله، عن بسر بن سعيد، حدّثه عن عبد الله بن عمر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:"كلُّ مُستَرْعًى مسئول عما استُرْعِي، حتى إن الرجل يُسأل عن زوجته، وولده، وعبده". قال إبراهيم بن المنذر، وابن أخي ابن وهب قال: أنبأ عمرو بن الحارث، وابن لهيعة، رواه مسلم عن ابن أخي ابن وهب، فقال: عمرو، ورجل لَمْ يسمّه

ص: 738

مسلم في كتابه. انتهى

(1)

.

والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4720]

(142)

(2)

- (وَحَدَّثَنَا شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ، حَدَّثَنَا أَبُو الأَشْهَب، عَنِ الْحَسَن، قَالَ: عَادَ عُبَيْدُ اللهِ بْنُ زِيادٍ مَعْقِلَ بْنَ يَسَارٍ الْمُزَنِيَّ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيه، فَقَالَ مَعْقِلٌ: إِنِّي مُحَدِّثُكَ حَدِيثًا سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَوْ عَلِمْتُ أَنَّ لِي حَيَاةً

(3)

مَا حَدَّثْتُكَ

(4)

، إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:"مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْتَرْعِيهِ اللهُ رَعِيَّةً، يَمُوتُ يَوْمَ يَمُوتُ، وَهُوَ غَاشٌّ لِرَعِيَّتِه، إِلَّا حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ").

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ) الأبُليّ، تقدّم قبل باب.

2 -

(أَبُو الأَشْهَبِ) جعفر بن حيّان السَّعْديّ الْعُطارديّ البصريّ، مشهور بكنيته، ثقةٌ [6](165) وله (95) سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 66/ 370.

3 -

(الْحَسَنُ) بن أبي الحسن يسار البصريّ، تقدّم قبل باب.

4 -

(مَعْقِلُ بْنُ يَسَارٍ الْمُزَنِيُّ) الصحابيّ، ممن بايع تحت الشجرة، وكنيته أبو عليّ، مات بعد (60)(ع) تقدم في "الإيمان" 66/ 370.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من رباعيَّات المصنّف رحمه الله وهو (336) من رباعيّات الكتاب، وهو مكرّر، فقد تقدّم في "كتاب الإيمان" برقم [66/ 370](142).

قال الجامع عفا الله عنه: تقدّم أن هذا الحديث متّفقٌ عليه، وقد تقدّم شرحه مستوفًى في "كتاب الإيمان" برقم [66/ 370](142)، وإنما أشرح هنا بعض ما يُستشكل، فأقول:

قوله: (عَادَ)؛ أي: زار.

وقوله: (عُبَيْدُ اللهِ بْنُ زِيادٍ) بالرفع على الفاعليّة، وهو: عبيد الله بن

(1)

"مسند أبي عوانة" 4/ 385.

(2)

هذا الرقم تقدَّم، فهو مكرّر.

(3)

وفي نسخة: "أن بي حياةً".

(4)

وفي نسخة: "ما حدّثتك به".

ص: 739

زياد بن عبيد المعروف بابن زياد بن أبي سفيان، ويقال له: ابن زياد بن أبيه، وابن سُميّة، قتل سنة (66 هـ)، وقيل غير ذلك، وكانت فيه جُرأة، وإقدام على سفك الدماء، قَتَل خلقًا كثيرًا صَبْرًا.

وقوله: (مَعْقِلَ بْنَ يَسَارٍ الْمُزَنِيَّ) بالنصب على المفعوليّة.

وقوله: (فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ)، وكانت وفاة معقل رضي الله عنه بالبصرة في خلافة يزيد بن معاوية.

وقوله: (لَوْ عَلِمْتُ أَن لِي حَيَاةً

إلخ) قال القاضي عياضٌ رحمه الله: إنما قال له معقل رضي الله عنه هذا إما لأنه عَلِمَ قبل ذلك أنه ممن لا ينفعه الوعظ، كما ظهر منه مع غيره، ثم خرج أَخرًا مِنْ كَتْمه الحديث، ورأى تبليغه لأمر النبيّ صلى الله عليه وسلم أصحابه بالتبليغ، أو لأنه خافه من ذكره مدّة حياته؛ لِمَا يُهيج عليه ذكرُ هذا الحديث، ويُثبته في قلوب الناس من سوء حاله. انتهى

(1)

.

وقوله: (يَسْتَرْعِيهِ اللهُ رَعِيَّةً)؛ أي: يستحفظه، ويجعله راعيًا لهم.

وقوله: (يَمُوتُ يَوْمَ يَمُوتُ) جملة في محل رفع صفة ثانية لـ "عبد"، والأُولى:"يسترعيه".

وقوله: (وَهُوَ غَاشٌّ لِرَعيَّتِهِ)؛ أي: غير ناصح لهم.

وقوله: (إِلَّا حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ) تقدَّم أن هذا محمول على المُسْتَحِلّ، أو المعنى: حرّم عليه دخولها مع السابقين، وإن أردت تمام البحث فارجع إلى "كتاب الإيمان" بالرقم المذكور، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلِّف رحمه الله أَوَّل الكتاب قال:

[4721]

(

) - (وَحَدَّثَنَاهُ يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ الْحَسَن، قَالَ: دَخَلَ ابْنُ زِيَادٍ عَلَى مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ، وَهُوَ وَجِعٌ، بِمِثْلِ حَدِيثِ أَبِي الأَشْهَبِ، وَزَادَ: قَالَ: أَلَّا كُنْتَ حَدَّثْتَنِي هَذَا قَبْلَ الْيَوْمِ؟ قَالَ: مَا حَدَّثْتُكَ، أَو لَمْ أَكُنْ لأُحَدِّثَكَ).

(1)

"إكمال المعلم" 1/ 561 - 562.

ص: 740

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(يَزِيدُ بْنُ زُريعٍ) العيشيّ البصريّ، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

2 -

(يُونُس) بن عُبيد، تقدّم قبل باب.

والباقون ذُكروا قبله.

وقوله: (وَزَادَ) فاعله ضمير يونس بن عُبيد.

[تنبيه]: رواية يونس بن عبيد، عن الحسن هذه ساقها المصنّف رحمه الله في "كتاب الإيمان"، فقال:

[371]

(142) - حدّثنا يحيى بن يحيى، أخبرنا يزيد بن زريع، عن يونس، عن الحسن، قال: دخل عبيد الله بن زياد، على مَعْقِل بن يسار، وهو وَجِعٌ، فسأله، فقال: إني محدّثك حديثًا لَمْ أكن حدثتكه، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لا يسترعي الله عبدًا رعيّة، يموت حين يموت، وهو غاشّ لها، إلَّا حَرّم الله عليه الجَنَّة"، قال: أَلَّا كنت حدثتني هذا قبل اليوم؟ قال: ما حدثتك، أو لَمْ أكن لأحدثك. انتهى، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4722]

(

) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو غَسَّانَ الْمِسْمَعِيُّ، وَإِسحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ إِسْحَاقُ: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ الآخَرَانِ: حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي الْمَلِيحِ، أَن عُبَيْدَ اللهِ بْنَ زِيَادٍ دَخَلَ عَلَى مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ، فِي مَرَضِه، فَقَالَ لَهُ مَعْقِلٌ: إِنِّي مُحَدِّثُكَ بِحَدِيثٍ، لَوْلَا أَنِّي فِي الْمَوْت، لَمْ أُحَدِّثْكَ بِه، سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَا مِنْ أَمِيرٍ، يَلِي أَمْرَ الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ لَا يَجْهَدُ لَهُمْ، وَيَنْصَحُ، إِلَّا لَمْ يَدْخُلْ مَعَهُمُ الْجَنَّةَ").

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(أَبُو غَسَّانَ الْمِسْمَعِيُّ) مالك بن عبد الواحد البصريّ، ثقةٌ [10](ت 230)(م د) تقدم في "الإيمان" 8/ 137.

2 -

(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه، تقدّم في الباب الماضي.

3 -

(مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ) الدَّسْتُوَائِيّ البصريّ، وقد سكن اليمن، صدوقٌ ربّما وَهِمَ [9](ت 200)(ع) تقدم في "الإيمان" 12/ 156.

ص: 741

4 -

(أَبُوهُ) هشام بن أبي عبد الله سَنْبَر - بوزن جعفر - الدَّسْتَوَائيّ، أبو بكر البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ، رُمي بالقدر، من كبار [7](ت 154)(ع) تقدم في "الإيمان" 12/ 156.

5 -

(قَتَادَةُ) بن دِعَامة السَّدُوسيّ، أبو الخطّاب البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ، رأسُ الطبقة [4] مات سنة بضع عشرة ومائة (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 70.

6 -

(أَبُو الْمَلِيحِ) بْنُ أُسَامَةَ الْهُذَليّ، قيل: اسمه عامر، وقيل: زيد بن أسامة بن عُمير، وقيل: ابن عامر بن عُمَير بن حُنَيف بن ناجية بن عَمْرو بن الحارث بن كَثير بن هند بن طابِخَة بن لِحْيَان بن هُذيل، وقيل: ابن عُمير بن عامر بن أُقَيْش، اسمه عُمَير بن حُنَيف، ثقةٌ [3](ت 112)(ع) تقدم في "الإيمان" 66/ 373.

والباقيان ذُكرا في الباب، والحديث متَّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه مستوفًى في "كتاب الإيمان" برقم [66/ 373]، فراجعه تستفد، والله تعالى وليّ التوفيق.

وبالسند المتّصل إلى المؤلِّف رحمه الله أَوَّل الكتاب قال:

[4723]

(

) - (وَحَدَّثَنَا عُقْبَةُ بْنُ مُكْرَمٍ الْعَمِّيُّ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِسْحَاقَ، أَخْبَرَنِي سَوَادَةُ بْنُ أَبِي الأَسْوَد، حَدَّثَنِي أَبِي، أَنَّ مَعْقِلَ بْنَ يَسَارٍ مَرِضَ، فَأَتَاهُ عُبَيْدُ اللهِ بْنُ زِيادٍ يَعُودُهُ، نَحْوَ حَدِيثِ الْحَسَن، عَنْ مَعْقِلٍ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(عُقْبَةُ بْنُ مُكْرَمٍ الْعَمِّيُّ) أبو عبد الملك البصريّ، ثقةٌ [11] مات في حدود (250)(م د ت ق) تقدم في "الإيمان" 27/ 220.

2 -

(يَعْقُوبُ بْنُ إِسْحَاقَ) بن زيد الْحَضْرميّ مولاهم، أبو محمد المقرئ النحويّ، صدوق، من صغار [9](ت 205)(م د تم س ق) تقدم في "البيوع" 42/ 4097.

3 -

(سَوَادَةُ بْنُ أَبِي الأَسْوَدِ) واسمه: عبد الله، ويقال: مسلم بن مِخْراق القطّان البصريّ، ويقال: إنه مسلم الْقُرّيّ - بضمّ القاف، وتشديد الراء - مولى بني قُرّة، ثقةٌ [7].

رَوَى عن أبيه، والحسن البصريّ، وشهر بن حَوْشب، وصالح بن هلال.

ورَوَى عنه أبو داود الطيالسيّ، وأبو عامر العَقَديّ، ويعقوب بن إسحاق الحضرميّ، ووكيع، ومسلم بن إبراهيم، وأبو نعيم، وغيرهم.

ص: 742

قال ابن معين، وأبو حاتم: ثقةٌ، وقال العجليّ: ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات".

تفرّد به المصنّف، وليس له عنده في هذا الكتاب إلَّا هذا الحديث.

4 -

(أَبُوهُ) مسلم بن مِخْراق الْعَبْديّ الْقُرّيّ، أبو الأسود البصريّ، ويقال: أبو الأسود غيره، صدوقٌ [4](م د س) تقدم في "الحج" 27/ 3006.

و"معقل" تقدّم قريبًا.

[تنبيه]: رواية أبي الأسود، عن معقل بن يسار هذه ساقها أبو عوانة رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(7048)

- حدّثنا بحر بن نصر الخولانيّ، قال: ثنا أسد بن موسى، قال: ثنا سوادة بن أبي الأسود، قال: حدّثني أبي، عن مَعْقِل بن يسار، أن عبيد الله بن زياد عاد معقل بن يسار، في مرضه الذي مات فيه، فقال معقل لعبيد الله: إنك كنت لَتُكْرِمَني في الصحة، وتعودُني في المرض، ولولا ما أتى به - يعني: الموت - ما حدثتك به، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"ما من راعٍ، غَشّ رعيته، إلَّا وهو في النار". انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4724]

(1830) - (حَدَّثَنَا شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ، حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ، أَنَّ عَائِذَ بْنَ عَمْرٍو - وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ عَلَى عُبَيْدِ اللهِ بْنِ زِيَادٍ، فَقَالَ: أيْ بُنَيَّ إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إنَّ شَرَّ الرِّعَاءِ الْحُطَمَةُ، فَإِيَّاكَ أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ"، فَقَالَ لَهُ: اجْلِسْ، فَإِنَّمَا أَنْتَ مِنْ نُخَالَةِ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: وَهَلْ كَانَتْ لَهُمْ نُخَالَةٌ؟ إِنَّمَا كَانَتِ النُّخَالَةُ بَعْدَهُمْ، وَفِي غَيْرِهِمْ).

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(عَائِذُ بْنُ عَمْرٍو) بن هلال المزنيّ، أبو هُبيرة البصريّ صحابيّ، شَهِد بيعة الرضوان.

روى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعن أبي بكر، وروى عنه ابنه حَشْرج، وأبو جمرة

(1)

"مسند أبي عوانة" 4/ 387.

ص: 743

الضُّبَعيّ، والحسن، ومعاوية بن قُرّة، وعبد الله بن خليفة، وأبو عِمران الْجَوْنيّ، وغيرهم.

قال أبو الشيخ الأصبهانيّ: عائذ بن عمر، أخو رافع بن عمرو، وكانا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، مات عائذ في ولاية عبيد الله بن زياد، وأرّخه ابن قانع سنة إحدى وستين.

أخرج له البخاريّ، والمصنّف، والنسائيّ، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا برقم (1830)، وحديث (2504): "لعلك أغضبتهم

" الحديث.

والباقون ذُكروا في الباب.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (337) من رباعيّات الكتاب، وأنه مسلسلٌ بالبصريين من أوله إلى آخره، ومسلسلٌ أيضًا بالتحديث.

شرح الحديث:

عن الْحَسَنِ البصريّ رحمه الله (أَنَّ عَائِذَ بْنَ عَمْرٍو)، وقوله:(وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) جملة معترضة بين اسم "إنَّ" وخبرها، وهو قوله:(دَخَلَ عَلَى عُبَيْدِ اللهِ بْنِ زِيَادٍ) المذكور في الحديث الماضي، (فَقَالَ: أَيْ) - بفتح، فسكون - حرف لنداء القريب، أو البعيد، أو المتوسّط، على خلاف في ذلك

(1)

. (بُنَيَّ) بضمّ أوله، تصغير "ابن"، (إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إنَّ شَرَّ الرِّعَاءِ) بكسر الراء، والمدّ: جمع راعٍ؛ كقاض وقُضاة، ورامٍ ورُماة، وهو المُراعي للشيء، والقائم بحفظه. (الْحُطَمَةُ) - بضمّ الحاء، وفتح الطاء المهملتين - قالوا: هو الْعَنيف في رعيّته، لا يرفُق بها في سوقها، ومرعاها، بل يَحطمها في ذلك، وفي سُقيها، وغيره، ويزحم بعضها بعضًا، بحيث يؤذيها، ويَحطمها، قاله النوويّ

(2)

، وقال القرطبيّ:"الحُطمة" هنا هو الذي يشُقّ على رعيّته، ويُلقي بعضها على بعض، ومنه سُمّيت جهنّم الْحُطمة،

(1)

راجع: "مغني اللبيب" 1/ 159.

(2)

"شرح النوويّ" 12/ 216.

ص: 744

وأصلها من الْحَطم، وهو كسر الحُطام، وقيل: هو الأَكول، يقال: رجلٌ حُطَمةٌ: إذا كان كثير الأكل. انتهى

(1)

.

وقال في "الفائق": "الْحُطمة": هو الذي يُعنّف الإبل في السوق، والإيراد، والإصدار، فيحطمها، ضَرَبه مَثلًا لوالي السَّوء.

وقال الطيبيّ: لَمّا استعار للوالي والسلطان لفظ الراعي أتبعه بما يُلائم المستعار منه، من صفة الحطم، فالْحُطَمة ترشيحٌ لاستعارة الراعي لهم.

وقال البيضاويّ: المراد بالحطمة الفظّ القاسي الذي يظلم الرعيّة، ولا يرحمهم، من الحطم، وهو الكسر، وقيل: المأكول الحريص الذي يأكل ما يري، ويقضمه، فإنّ مَن هذا دأبه يكون دنيء النفس، ظالِمًا بالطبع، شديد الطمع فيما في أيدي الناس. انتهى

(2)

.

(فَإِيَّاكَ أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ")؛ أي: أُحذّرك من كونك من هؤلاء الحطمة، (فَقَالَ) عبيد الله (لَهُ)؛ أي: لعائذ بن عمرو رضي الله عنه، (اجْلِسْ) لعله كان قائمًا حينما وعظه، (فَإِنَّمَا أَنْتَ مِنْ نُخَالَةِ أَصحَابِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم)؛ أي: من سِفْلتهم، وهذا جراءة من هذا الأمير الجائر، واعتداء على الصحابيّ الجليل رضي الله عنه، بل على جملة من أصحابه صلى الله عليه وسلم، نعوذ بالله من الخذلان.

و"النخالة" - بضمّ الميم، وتخفيف الخاء المعجمة - هو قشر الحبّ الذي لا يأكله الآدميّ.

وقال القاضي عياض رحمه الله: قوله: "إنما أنت من نخالة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم": أراد تنقيصه، وذَمّه، وتصغيره، والنخالة: ما بَقِي من قشور الطعام بعد غَرْبلته. انتهى

(3)

.

وقال النوويّ رحمه الله: قوله: "إنما أنت من نخالتهم"؛ يعني: لست من فُضلائهم، وعلمائهم، وأهل المراتب منهم، بل من سَقَطهم، والنخالة هنا

(1)

"المفهم" 4/ 25.

(2)

"الكاشف عن حقائق السنن" 8/ 2570.

(3)

"مشارق الأنوار" 2/ 6.

ص: 745

استعارةٌ من نُخالة الدقيق، وهي قشوره، والنخالة، والحُفالة، والحُثالة بمعنى واحد. انتهى

(1)

.

ولقد أجاد هذا الصحابيّ رضي الله عنه حيث ردّ عليه تطاوله بقوله: (فَقَالَ) عائذ بن عمرو رضي الله عنه (وَهَلْ كَانَتْ لَهُمْ)؛ أي: لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، (نُخَالَةٌ؟) الاستفهام إنكاريّ؛ أي: ليست فيهم نخالة أصلًا، (إِنَّما كَانَتِ النُّخَالَةُ بَعْدَهُمْ)؛ أي: بعد موتهم، وانقطاع آثارهم، (ورس فَيْرِهِمْ) ممن لا صحبة له.

وقال النوويّ رحمه الله: قوله: "وهل كانت لهم نُخالة

إلخ": هذا من جَزْل الكلام، وفَصِيحه، وصدقه الذي ينقاد له كلّ مسلم، فإن الصحابة رضي الله عنهم كلَّهم هم صفوة الناس، وسادات الأمة، وأفضل ممن بعدَهم، وكلُّهم عُدول، قُدوةٌ، لا نُخالة فيهم، وإنما جاء التخليط ممن بعدهم، وفيمن بعدهم كانت النخالة. انتهى

(2)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: وهذا الكلام من عامر بن عمرو رضي الله عنه، وعظٌ، ونصيحةٌ، وذكري، لو صادفت مَنْ تنفعه الذكري، لكنها صادفت غليظ الطبع، والفهم، ومن إذا قيل له: اتَّقِ الله أخذته العزّة بالإثم، فلقد غلب عليه الجفاء، والجهالة حتى جعل فيمن اختاره الله لصحبة نبيّه صلى الله عليه وسلم الحثالة، ونسبهم إلى النُّخالة، والرُّذالة، فهو معهم على الكلمة التي طارت وحَلَّت: رَمَتني بدائها وانسلّتْ، ولقد أحسن عائِذُ في الردّ عليه، حيث أسمعه من الحقّ ما ملأ قلبه، وأصمَّ أُذنيه، فقال - ولم يبال بهجرهم -: وهل كانت النخالة إلَّا بعدهم، وفي غيرهم؟ وحُثالة الشيء ورُذَالتُهُ، وسَقَطُهُ: شِرارُهُ. انتهى

(3)

، والله تعالى أعلم

بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عائذ بن عمرو رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله

(4)

.

(1)

"شرح النوويّ" 12/ 216.

(2)

"شرح النوويّ" 12/ 216.

(3)

"المفهم" 4/ 25.

(4)

لَمْ يخرجه من أصحاب الكتب الستّة غيره، فتنبّه.

ص: 746

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [5/ 4724](1830)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 64)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4511)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(18/ 26)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 388)، و (ابن الجعد) في "مسنده"(1/ 205)، و (الرويانيّ) في "مسنده"(2/ 36)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(8/ 161)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان أنه ينبغي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإن كان المأمور رئيس القوم، وأميرهم، يُخاف بأسه؛ لأنَّ هذا من الجهاد في سبيل الله عز وجل، وهذه صفة المؤمنين المخلصين الذين لا يخافون في الله لومة لائم، كما وصفهم الله عز وجل في مُحكم كتابه، ومَدَحهم، وأثنى عليهم بها، حيث قال:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54)} [المائدة: 54].

2 -

(ومنها): بيان فضيلة هذا الصحابيّ رضي الله عنه، حيث واجه هذا الأمير بالوعظ والتذكير، مع أنه يعلم غِلظته وشدّته؛ عملًا بقوله صلى الله عليه وسلم:"أفضل الجهاد كلمة حقّ عند سلطان جائر"

(1)

.

3 -

(ومنها): أن الصحابة رضي الله عنهم كلّهم عدول، خِيار، فُضلاء، ليس فيهم أراذل، وإنما الأرذل من يتكلّم فيهم، ويطعن في عِرضهم، وقد أثنى الله تعالى عليهم في غير ما آية، كقوله تعالى:{مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (29)} [الفتح: 29].

(1)

حديث صحيح، أخرجه أحمد، وأصحاب السنن.

ص: 747

وقوله: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8)} [الحشر: 8].

وقوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74)} [الأنفال: 74].

وقوله: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (18)} [الفتح: 18].

وقوله؛ {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100)} [التوبة: 100]، وغير ذلك من الآياتِ التي نوّهت بذكرهم، ورفعت أقدارهم، ومنزلتهم عند الله تعالى، وليس بعد تزكية الله تعالى تزكية، {وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر: 14]، {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14)} [الملك: 14].

وكذلك نوّه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقَدْرهم، ورَفَع منزلتهم في غير ما حديث، فقد أخرج الشيخان في "صحيحيهما" عن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه قال: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "لا تسبّوا أصحابي، فلو أن أحدكم أنفق مثل أُحد ذهبًا ما بلغ مُدَّ أحدهم، ولا نصيفه"، وأخرج مسلم من حديث أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه مرفوعًا:"النجوم أمَنَة للسماء، فإذا ذهبت النجوم، أتى السماء ما توعَد، وأنا أمنة لأصحابي، فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمنة لأمتي، فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون".

وسيأتي تمام البحث في هذا في "كتاب فضائل الصحابة رضي الله عنهم" - إن شاء الله تعالى - والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

قال الجامع الفقير إلى مولاه الغني القدير محمد ابن الشيخ العلامة علي بن آدم بن موسى خُويدم العلم بمكة المكرّمة:

قد انتهيتُ من كتابة الجزء الواحد والثلاثين من "شرح صحيح الإمام مسلم" المسمَّى "البحرَ المحيطَ الثّجّاج شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجّاج"

ص: 748

وقت الضحى يوم الخميس المبارك، وهو اليوم السادس عشر من شهر ربيع الثاني (16/ 4/ 1431 هـ) الموافق (1 أبريل 2010 م).

أسأل الله العليّ العظيم ربّ العرش العظيم أن يجعله خالصًا لوجهه الكريم، وسببًا للفوز بجنات النعيم لي ولكلّ من تلقّاه بقلب سليم، إنه بعباده رؤوف رحيم.

وآخر دعوانا: {أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس: 10].

{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} الآية [الأعراف: 43].

{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (182)} [الصافات: 180 - 182].

"اللهم صلّ على محمد، وعلى آل محمد، كما صلّيت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد".

"السلام على النبيّ ورحمة الله وبركاته".

ويليه - إن شاء الله تعالى - الجزء الثاني والثلاثون مفتتحًا بـ (6) - (بَابُ غِلَظِ تَحْرِيمِ الْغُلُولِ) رقم [4725](1831).

"سبحانك اللهمّ وبحمدك، أشهد أن لا إله إلَّا أنت، أستغفرك وأتوب إليك".

* * *

ص: 749