المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

بسم الله الرحمن الرحيم يوم الخميس السادس عشر من شهر ربيع - البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج - جـ ٣٢

[محمد بن علي بن آدم الأثيوبي]

فهرس الكتاب

بسم الله الرحمن الرحيم

يوم الخميس السادس عشر من شهر ربيع الثاني 16/ 4/ 1431 هـ أول الجزء الثاني والثلاثين من شرح "صحيح الإمام مسلم" المسمّى "البَحْرُ المُحِيطُ الثَّجَّاجُ فِي شَرْح صَحِيح الإِمَامِ مُسْلِم بْنِ الحَجَّاج" رحمه الله تعالى.

(6) - (بَابُ غِلَظِ تَحْرِيمِ الْغُلُولِ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4725]

(1831) - (وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِي حَيَّانَ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَامَ فِينَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ، فَذَكَرَ الْغُلُولَ، فَعَظَّمَهُ، وَعَظَّمَ أَمْرَهُ، ثُمَّ قَالَ: "لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَة، عَلَى رَقَبَتِهِ بَعِيرٌ، لَهُ رُغَاءٌ، يَقُولُ: يَا رَسُولَ اللهِ أَغِثْنِي، فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا، قَدْ أَبْلَغْتُكَ، لَا أُلفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَة، عَلَى رَقَبَتِهِ فَرَسٌ، لَهُ حَمْحَمَةٌ، فَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللهِ أَغِثْنِي، فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا، قَذ أَبْلَغْتُكَ، لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَة، عَلَى رَقَبَتِهِ شَاةٌ، لَهَا ثُغَاءٌ، يَقُولُ: يَا رَسُولَ اللهِ أَغِثْنِي، فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا، قَدْ أَبْلَغْتُكَ، لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَة، عَلَى رَقَبَتِهِ نَفْسٌ، لَهَا صِيَاحٌ، فَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللهِ أَغِثْنِي، فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا، قَدْ أَبْلَغْتُكَ، لَا أُلفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَة، عَلَى رَقَبَتِهِ رِقَاعٌ تَخْفِقُ، فَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللهِ أَغِثْنِي، فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا، قَدْ أَبْلَغْتُكَ، لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَة، عَلَى رَقَبَتِهِ صَامِتٌ، فَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللهِ أَغِثْني، فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا، قَدْ أَبْلَغْتُك").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبِ) بن شَدّاد، أبو خيثمة النسائيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 234)(خ م د س ق) تقدّم في "المقدمة" 2/ 3.

ص: 5

2 -

(إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) بن مِقْسم الأسديّ مولاهم، المعروف بابن عليّة، ثقةٌ حافظ [8](ت 193) وهو ابن (83) سنةً (ع) تقدّم في "المقدمة" 2/ 3.

3 -

(أَبُو حَيَّانَ) يحيى بن سعيد بن حيّان التيميّ الكوفيّ، ثقةٌ عابدٌ [5](ت 145)(ع) تقدّم في "الإيمان" 1/ 106.

4 -

(أَبُو زُرْعَةَ) بن عمرو بن جرير بن عبد الله البجليّ الكوفيّ، قيل: اسمه هَرِم، وقيل: عبد الله، وقيل: عبد الرَّحمن، وقيل: جرير، ثقةٌ [3](ع) تقدّم في "الإيمان" 1/ 106.

5 -

(أَبُو هُرَيْرَةَ) عبد الله بن عمرو، أو عبد الرَّحمن بن صخر، وقيل غيره رضي الله عنه تقدّم في "المقدمة" 2/ 4.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وهما كوفيّان، وشيخه بغداديّ، وإسماعيل بصريّ، والصحابيّ مدنيّ، وفيه ثلاثة اشتهروا بالكنية، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه رأس المكثرين السبعة، روى (5374) حديثًا.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: قَامَ فِينَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ، فَذَكَرَ الْغُلُولَ) بضمّ الغين المعجمة، واللام: هو في الأصل: الخيانة مطلقًا، ثم صار بحكم العُرف عبارةً عن الخيانة في الغانم، قال نفطويه: سُمّي بذلك؛ لأنَّ الأيدي تُغَلّ فيه؛ أي: تُحبس، يقال: غَلَّ غُلُولًا، وأغلّ إغلالًا، قاله القرطبيّ رحمه الله

(1)

.

وقال ابن قتيبة: سُمّي بذلك؛ لأنَّ آخذه يغلّه في متاعه؛ أي: يُخفيه فيه، ونَقَل النوويّ الإجماع على أنَّه من الكبائر

(2)

.

وقال الفيّوميّ: غلّ غُلُولًا، من باب قعد، وأغلّ بالألف: خان في

(1)

"المفهم" 4/ 28.

(2)

"الفتح" 7/ 326، كتاب "الجهاد" رقم (3073).

ص: 6

المغنم، وقال ابن السّكّيت: لَمْ نسمع في المغنم إلَّا غلّ ثلاثيًّا، وهو متعدّ في الأصل، لكن أُمِيتَ مفعوله، فلم يُنطَق به. انتهى

(1)

.

(فَعَظَّمَهُ)؛ أي: عظّم شأنه، وجعله ذنبًا عظيمًا، (وَعَظَمَ أَمْرَهُ)؛ أي: عظّم الأمر المتعلّق به، وهو عقوبته، وقال الطيبيّ رحمه الله: قوله: "وعظّم أمره" عطفٌ على قوله: "فعظّمه" على طريقة: أعجبني زيد وكَرَمه؛ أي: كَرَم زيد، وقوله تعالى:{يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا} الآية [البقرة: 9]؛ كما أي: يخادعون الذين آمنوا بالله

(2)

. (ثُمَّ قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ) بضم أوله، وبالفاء؛ أي: لا أجدنّ، يقال: ألفيتُ الشيءَ أُلفيه إلفاءً: إذا وجدته، وصادفته، ولقيته

(3)

.

وقال في "الفتح": هكذا الرواية للأكثر بلفظ النفي المؤكَّد، والمراد به النهي، وبالفاء، وكذا عند الحمويّ، والمستملي، لكن رُوي بفتح الهمزة، وبالقاف، من اللقاء، وكذا لبعض رواة مسلم، والمعنى قريب، ومنهم من حَذَف الألف، على أنَّ اللام للقَسَم، وفي توجيهه تكلّف، والمعروف أنه بلفظ النفي المراد به النهي، وهو وإن كان من نهي المرء نفسه، فليس المراد ظاهره، وإنما المراد نهي من يخاطبه عن ذلك، وهو أبلغ. انتهى

(4)

.

وقال النوويّ رحمه الله: قوله: "لا ألفيّن" هكذا ضبطناه "أُلْفيَنّ" بضمّ الهمزة، وبالفاء المكسورة؛ أي: لا أجدّنّ أحدكم على هذه الصفة، ومعناه: لا تعملوا عملًا أجدكم بسببه على هذه الصفة، قال القاضي عياض: ووقع في رواية العذريّ: "لا أَلْقَيَنّ" بفتح الهمزة والقاف، وله وجه كنحو ما سبق، لكن المشهور الأول. انتهى

(5)

.

وقوله: (يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) جملة حاليّة من "أحدكم"، وقوله:(عَلَى رَقَبَتِهِ بَعِيرٌ) متعلّق بحال من الضمير في "يجيء"، وقوله:"بعيرٌ" مرفوع على الفاعليّة

(1)

"المصباح المنير" 2/ 452.

(2)

"الكاشف عن حقائق السنن" 9/ 2763.

(3)

"لسان العرب" 15/ 252.

(4)

"الفتح" 7/ 326 - 327، كتاب "الجهاد" رقم (3073).

(5)

"شرح النوويّ" 12/ 216 - 217.

ص: 7

للظرف؛ لاعتماده على صاحب الحال، وقوله:(لَهُ رُغَاءٌ) جملة في محلّ رفع صفة لـ"بعير"، والرُّغاء بضمّ الراء، وتخفيف الغين المعجمة، وبالمدّ: صوت البعير، وكذا المذكورات بعدُ، وَصَفَ كلّ شيء بصوته؛ يعني: أن هذه الحالة حالة شنيعة، ولا ينبغي لكم أن أراكم عليها يوم القيامة، وفي حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه في "السنن":"إياكم والغلول، فإنه عارٌ على أهله، يوم القيامة".

وقال القرطبيّ: الزغاء للإبل، والثغاء للغنم، والنهيق للحمير، والنعاق للغراب، واليَعَارُ للمعز خاصّةً، ومنه: شاةٌ تَيْعر، والْحَمْحمة للفرس، والصِّيَاح للإنسان، كلّ ذلك أصوات من أضيفت إليه. انتهى

(1)

.

(يَقُولُ: يَا رَسُولَ اللهِ أَغِثْنِي، فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا)؛ أي: من المغفرة؛ لأنَّ الشفاعة أمرها إلى الله، (قَدْ أبْلَغْتُكَ)؛ أي: فليس لك عُذر بعد الإبلاغ، وكأنه صلى الله عليه وسلم أبرزَ هذا الوعيد في مقام الزجر والتغليظ، وإلا فهو في القيامة صاحب الشفاعة في مذنبي الأمة.

وقال القرطبيّ رحمه الله قوله: "لا أملك لك شيئًا، قد أبلغتك"؛ أي: لا أملك لك مغفرةً، ولا شفاعةً، إلَّا إذا أَذِنَ الله له في الشفاعة، فكأنَّ هذا القول منه أبرزه غضب، وغيظ؛ ألا ترى قوله:"قد أبلغتك"؛ أي: ليس لك عذر بعد الإبلاغ، ثم إنه صلى الله عليه وسلم بما قد جبله الله تعالى عليه من الرأفة، والرَّحمة، والخُلُق الكريم لا يزال يدعو الله تعالى، ويرغب إليه في الشفاعة، حتى يأذن الله له فيها، فيشفع في جميع أهل الكبائر من أمته حتى تقول خزنة النار:"يا محمد! ما تركت لربك في أمتك من نقمة"، كما قد صحّ عنه. انتهى

(2)

.

(لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ) قال الطيبيّ: هو كقوله: لا أرينّك ههنا، نهى نفسه عن أن يجدهم على هذه الحالة، والمراد نهيهم عن ذلك، وهو أبلغ

(3)

. (يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَة، عَلَى رَقَبَتِهِ فَرَسٌ، لَهُ حَمْحَمَةٌ) بمهملتين مفتوحتين، بينهما ميم ساكنة، ثم ميم قبل الهاء، وهو صوت الفرس عند العلف، وهو دون الصهيل. (فَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللهِ أَغِثْنِي، فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا، قَدْ أَبْلَغْتُكَ، لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ

(1)

"المفهم" 4/ 29.

(2)

"المفهم" 4/ 30.

(3)

"الكاشف عن حقائق السنن" 9/ 2764.

ص: 8

يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَة، عَلَى رَقَبَتِهِ شَاةٌ، لَهَا ثُغَاءٌ) بضم المثلثة، وتخفيف المعجمة، وبالمدّ: صوت الشاة، يقال: ثَغَت الشاةُ تَثْغُو ثُغَاءً، مثلُ صُرَاخ وزنًا ومعنًى، فهي ثاغية

(1)

. (يَقُولُ: يَا رَسُولَ اللهِ أَغِثْنِي، فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا، قَدْ أَبْلَغْتُكَ، لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَة، عَلَى رَقَبَتِهِ نَفْسٌ، لَهَا صِيَاحٌ) أراد بالنفس: ما يَغُلّه من السبي، من رقيق، أو امرأة، أو صبيّ، و"الصياح" بكسر الصاد المهملة، وضمّها: الصوت بأقصى الطاقة، كالصَّيْحَة، والصَّيْح، والصّيَحَان محرّكةُ، قاله المجد

(2)

. (فَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللهِ أَغِثْنِي، فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا، قَدْ أَبْلَغْتُكَ، لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَة، عَلَى رَقَبَتِهِ رِقَاعٌ تَخْفِقُ)؛ أي: تتقعقع، وتضطرب، إذا حرّكتها الرياح، وقيل: معناه تَلْمَع، والمراد بها: الثياب، قاله ابن الجوزيّ، وقال الحميديّ: المراد بها: ما عليه من الحقوق المكتوبة في الرقاع، واستبعده ابن الجوزيّ؛ لأنَّ الحديث سيق لذكر الغلول الحسيّ، فحَمْله على الثياب أنسب

(3)

. (فَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللهِ أَغِثْنِي، فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا، قَدْ أَبْلَغْتُكَ، لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَة، عَلَى رَقَبَتِهِ صَامِتٌ)؛ أي: ذهب، وفضّة، وقيل: ما لا رُوح فيه من أصناف المال، (فَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللهِ أَغِثْنِي، فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا، قَدْ أَبْلَغْتُكَ").

قال القرطبيّ رحمه الله: وكأن هذا الحديث تفصيل ما أجمله قوله تعالى: {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} الآية [آل عمران: 161]؛ أي: يأت به معذَّبًا بحمله وثِقْله، ومرعوبًا بصوته، وموبَّخًا باظهار خيانته على رؤوس الأشهاد، وهذا يدلّ على أنَّ الغلول كبيرة من الكبار. انتهى

(4)

.

مسائل تتعلَّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

(1)

"المصباح المنير" 1/ 82.

(2)

"القاموس المحيط" ص 764.

(3)

"الفتح" 7/ 326 - 327، كتاب "الجهاد" رقم (3073).

(4)

"المفهم" 4/ 29.

ص: 9

أخرجه (المصنّف رحمه الله) هنا [6/ 4725 و 4726 و 4727 و 4728](1831)، و (البخاريّ) في "الجهاد"(3073)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(6/ 525)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 426)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4847 و 4848)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(10/ 469 و 486)، و (ابن راهويه) في "مسنده"(1/ 231، 232)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 396 و 397)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(9/ 101) و"شعب الإيمان"(4/ 61، 62)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان غلظ تحريم الغلول، وأنه من الكبائر، قال النوويّ رحمه الله: وأجمع المسلمون على تحريمه، وعلى أنَّ عليه ردَّ ما غَلّه، فإن تفرّق الجيش، وتعذّر إيصال حقّ كلّ واحد إليه، ففيه خلاف للعلماء، قال الشافعيّ، وطائفة: يجب تسليمه إلى الإمام، أو الحاكم، كسائر الأموال الضائعة، وقال ابن مسعود، وابن عباس، ومعاوية، والحسن، والزهريّ، والأوزاعيّ، ومالك، والثوريّ، والليث، وأحمد، والجمهور: يَدفع خُمسه إلى الإمام، ويَتصدق بالباقي، واختلفوا في صفة عقوبة الغالّ، فقال جمهور العلماء، وأئمة الأمصار: يُعَزَّر على حسب ما يراه الإمام، ولا يُحَرّق متاعه، وهذا قول مالك، والشافعيّ، وأبي حنيفة، ومن لا يُحْصَى من الصحابة والتابعين، ومن بعدهم، وقال مكحول، والحسن، والأوزاعيّ: يُحَرَّق رحله، ومتاعه كلُّه، قال الأوزاعيّ: إلَّا سلاحه، وثيابه التي عليه، وقال الحسن: إلَّا الحيوان، والمصحف، واحتجوا بحديث عبد الله بن عمر في تحريق رحله، قال الجمهور: وهذا حديث ضعيف؛ لأنه مما انفرد به صالح بن محمد، عن سالم، وهو ضعيف، قال الطحاويّ: ولو صحّ يُحْمَل على أنَّه كان إذ كانت العقوبة بالأموال، كأَخْذ شَطْر المال من مانع الزكاة، وضألّة الإبل، وسارق التمر، وكل ذلك منسوخ، والله أعلم. انتهى كلام النوويّ رحمه الله

(1)

.

وقال في "الفتح": قال ابن المنذر: أجمعوا على أنَّ على الغالّ أن يعيد

(1)

"شرح النوويّ" 12/ 217 - 218.

ص: 10

ما غَلّ قبل القسمة، وأما بعدها، فقال الثوريّ، والأوزاعيّ، والليث، ومالك: يدفع إلى الإمام خمسه، ويتصدق بالباقي، وكان الشافعي لا يرى بذلك، ويقول: إن كان مَلَكه فليس عليه أن يتصدق به، وإن كان لَمْ يملكه فليس له الصدقة بمال غيره، قال: والواجب أن يدفعه إلى الإمام كالأموال الضائعة. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: ما قاله الشافعيُّ رحمه الله هو الأقرب، فتأمله، والله تعالى أعلم.

2 -

(ومنها): ما قال المهلّب رحمه الله: هذا الحديث وعيد لمن أنفذه الله عليه من أهل المعاصي، ويَحْتَمِل أن يكون الحمل المذكور لا بدّ منه عقوبةً له بذلك؛ ليفتضح على رؤوس الأشهاد، وأما بعد ذلك، فإلى الله الأمر في تعذيبه، أو العفو عنه.

وقال غيره: هذا الحديث يُفَسِّر قوله عز وجل: {يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} ؛ أي: يأت به حاملًا له على رقبته، ولا يقال: إن بعض ما يُسْرَق من النقد أخفّ من البعير مثلًا، والبعير أرخص ثمنًا، فكيف يعاقَب الأخفّ جنايةً بالأثقل، وعكسه؛ لأنَّ الجواب: أن المراد بالعقوبة بذلك: فضيحة الحامل على رؤوس الأشهاد، في ذلك الموقف العظيم، لا بالثِّقَل والخفّة.

قال ابن الْمُنَيِّر أظنّ الأمراء فَهِموا تجريس السارق ونحوه من هذا الحديث.

3 -

(ومنها): ما قال القرطبيّ رحمه الله: في هذا الحديث ما يدلّ على أنَّ العقوبات في الآخرة تناسب الذنوب المكتسَبة في الدنيا، وقد تكون على المقابَلة، كما يُحشر المتكبِّرون أمثال الذَّر في صُوَر الرجال. انتهى

(1)

.

4 -

(ومنها): أن بعض العلماء استدل بهذا الحديث على وجوب زكاة العُروض، والخيل، قال النوويّ: ولا دلالة فيه لواحد منهما؛ لأنَّ هذا الحديث ورد في الغلول، وأخْذ الأموال غصبًا، فلا تعلّق له بالزكاة. انتهى

(2)

.

5 -

(ومنها): أن معنى الحديث أن كلّ شيء يغلّه الغالّ يجيء به حاملًا

(1)

"المفهم" 4/ 30.

(2)

"شرح النوويّ" 12/ 217.

ص: 11

له يوم القيامة؛ ليتضح به على رؤوس الأشهاد، سواء كان هذا المغلول حيوانًا، أو إنسانًا، أو ثيابًا، أو ذهبًا، أو فضّةً، وهذا تفسير قوله تعالى:{وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} ، قال بعضهم: إن ما يتضمّنه هذا الحديث من الوعيد كما يَلحق الغانمين من الغنيمة، فكذلك يَلحق الظَّلَمة، من الولاة، والأمراء بطريق أَولى؛ لأنه إذا لَحِق الغالّ من أنه له شِرْكة في الغنيمة، فالغاصب الذي لا شركة له أحرى أن يلحقه، ومن ثمّ ناسب إيراده في هذا الموضع من الكتاب. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أَوَّل الكتاب قال:

[4726]

(

) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحِيمِ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِي حَيَّانَ (ح) وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ أَبِي حَيَّانَ، وَعُمَارَةَ بْنِ الْقَعْقَاعِ، جَمِيعًا عَنْ أَبِي زُرْعَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، بِمِثْلِ حَدِيثِ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ أَبِي حَبَّانَ).

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) هو: عبد الله بن محمد بن أبي شيبة، واسمه إبراهيم بن عثمان الكوفيّ، واسطيّ الأصل، ثقةٌ حافظٌ، صاحب تصانيف [10](ت 235)(خ م د س ق) تقدّم في "المقدمة" 1/ 1.

2 -

(عَبْدُ الرَّحِيمِ بْنُ سُلَيْمَانَ) الكنانيّ، أو الطائيّ، أبو عليّ الأشلّ المروزيّ، نزيل الكوفة، ثقةٌ له تصانيف، من صغار [8](ت 187)(ع) تقدّم في "الحيض" 26/ 817.

3 -

(جَرِيرُ) بن عبد الحميد بن قُرْط الضبيّ، أبو عبد الله الكوفيّ، نزيل الريّ وقاضيها، ثقةٌ صحيح الكتاب [8](ت 188)(ع) تقدّم في "المقدمة" 6/ 50.

4 -

(عُمَارَةُ بْنُ الْقَعْقَاعِ) بن شُبْرُمة الضبيّ الكوفيّ، ثقةٌ [6](ع) تقدّم في "الإيمان" 1/ 108.

والباقون ذُكروا قبله.

[تنبيه]: رواية عبد الرحيم بن سليمان، عن أبي حبّان، ساقها ابن أبي شيبة رحمه الله في "مصنّفه"، فقال:

(1)

راجع: هامش النسخة التركية 6/ 10.

ص: 12

(33530)

- حدّثنا عبد الرحيم بن سليمان، عن أبي حيّان، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة، قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيبًا، فذكر الغلول، فعظّمه، وعظّم أمره، قال: "أيها الناس لا أُلْفِيَنّ أحدكم يجيء يوم القيامة، على رقبته بعير له رُغاء، يقول: يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئًا، قد بلّغتك، ولا أُلفينّ أحدكم يجيء يوم القيامة، على رقبته فرس له حَمْحَمة، يقول: يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئًا، قد بلّغتك، ولا أُلفينّ أحدكم يجيء يوم القيامة، وعلى رقبته صامتٌ، يقول: يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئًا، قد بلّغتك، ولا أُلفينّ أحدكم يجيء يوم القيامة، على رقبته نفسٌ لها صِيَاحٌ

(1)

، فيقول: يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئًا، قد بلّغتك". انتهى

(2)

.

وأما رواية جرير بن عبد الحميد، عن أبي حيّان التيميّ، فقد ساقها ابن حبّان رحمه الله في "صحيحه"، فقال:

(4848)

- أخبرنا أحمد بن عليّ بن المثنى، قال: حدّثنا أبو خيثمة، قال: حدّثنا جرير بن عبد الحميد، قال: حدّثنا يحيى بن سعيد التيميّ أبو حيان، عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير، عن أبي هريرة، قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، فذكر الغلول، فعَظَّم من أمره، ثم قال: "يا أيها الناس لا أُلفينّ أحدكم يجيء يوم القيامة، على رقبته بعير له رُغاءٌ، فيقول: يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئًا، قد أبلغتك، لا أُلفيَنّ أحدكم يجيء يوم القيامة، على رقبته شاة لها يُعار، فيقول: يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئًا، قد أبلغتك، لا أُلفينّ أحدكم يجيء يوم القيامة، على رقبته فرس لها حَمْحَمة، فيقول: يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئًا، قد أبلغتك، ولا أُلفينّ أحدكم يجيء يوم القيامة، على رقبته نفس لها صِياحٌ

(3)

، فيقول: يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئًا، قد أبلغتك، لا أُلفينّ أحدكم يجيء يوم القيامة، على رقبته رِقاع تَخْفِق، فيقول: يا

(1)

بكسر الصاد، وضمّها. اهـ. "ق".

(2)

"مصنف ابن أبي شيبة" 6/ 525.

(3)

بكسر الصاد، وضمّها. اهـ. "ق".

ص: 13

رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئًا، قد أبلغتك، لا أُلفينّ أحدكم يجيء يوم القيامة، على رقبته صامتٌ، يقول: يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئًا، قد أبلغتك"، الرقاع: أراد ثيابًا، قاله أبو حاتم. انتهى

(1)

.

وأما رواية عمارة بن القعقاع، عن أبي زُرعة، فقد ساقها ابن حبّان رحمه الله أيضًا في "صحيحه"، فقال:

(4847)

- أخبرنا أحمد بن علي بن المثنى، قال: حدَّثنا أبو خيثمة، قال: حدّثنا جرير، عن عُمارة بن القعقاع، عن أبي زُرعة، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا أُلْفِيَنَّ أحدكم يجيء يوم القيامة، على رقبته بعيرٌ له رُغاء، يقول: يا رسول الله، أقول: لا أملك لك من الله شيئًا، قد أبلغتك، لا أُلفيَنَّ أحدكم يجيء يوم القيامة، على رقبته شاة لها يُعار، يقول: يا رسول الله، أقول: لا أملك لك من الله شيئًا، قد أبلغتك، لا أُلفينّ أحدكم يجيء يوم القيامة، على رقبته فرس له حَمْحَمةٌ، فيقول: يا رسول الله، أقول: لا أملك لك من الله شيئًا، قد أبلغتك، لا أُلفينّ أحدكم يجيء يوم القيامة، على رقبته نفس لها صِياح

(2)

، يقول: يا رسول الله، أقول: لا أملك لك من الله شيئًا، قد أبلغتك". انتهى

(3)

، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4727]

(

) - (وَحَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ صَخْرٍ الدَّارِمِيُّ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ - يَعْنِي: ابْنَ زيدٍ - عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ جَرِيرٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: ذَكَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْغُلُولَ، فَعَظَّمَهُ، وَاقْتَصَّ الْحَدِيثَ. قَالَ حَمَادٌ: ثُمَّ سَمِعْتُ يَحْيَى بَعْدَ ذَلِكَ يُحَدِّثُهُ

(4)

، فَحَدَّثَنَا بِنَحْوِ مَا حَدَّثَنَا عَنْهُ أَيُّوبُ).

(1)

"صحيح ابن حبان" 11/ 184.

(2)

بكسر الصاد، وضمّها. اهـ. "ق".

(3)

"صحيح ابن حبان" 11/ 182.

(4)

وفي نسخة: "قال حمّاد: ثم سمعت يحيى يقول بعد ذلك يحدّثه".

ص: 14

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ صَخْرٍ الدَّارِمِيُّ) أبو جعفر السرخسيّ، ثقةٌ حافظٌ [11](ت 253)(خ م د ت ق) تقدّم في "المقدمة" 6/ 93.

2 -

(سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ) الأزديّ الواشحيّ البصريّ القاضي بمكة، ثقةٌ إمامٌ حافظٌ [9](ت 224) وله (80) سنة (ع) تقدّم في "المقدمة" 6/ 68.

3 -

(حَمَّادُ بْنُ زَيْدِ) بن درهم الأزديّ الجهضميّ، أبو إسماعيل البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ، من كبار [8](ت 179) وله (81) سنة (ع) تقدّم في "المقدمة" 5/ 26.

4 -

(أَيُّوبُ) بن أبي تميمة كيسان السَّخْتِيانيّ، أبو بكر البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ عابد [5](ت 131) وله (65) سنةً (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" ج 1 ص 305.

والباقون ذُكروا قبله، و"يحيى بن سعيد" هو: أبو حيّان التيميّ.

وقوله: (وَاقْتَصَّ الْحَدِيثَ) الفاعل ضمير أيوب السختيانيّ.

وقوله: (قَالَ حَمَّادٌ)؛ يعني: ابن زيد الراوي عن أيوب.

وقوله: (ثُمَّ سَمِعْتُ يَحْيَى) هو ابن سعيد أبو حيّان التيميّ، الذي روى عنه أيوب.

وقوله: (بَعْدَ ذَلِكَ)؛ أي: بعد أن حدّثنا بالحديث أيوب عنه.

وقوله: (يُحَدِّثُهُ)؛ أي: يُحدّث بهذا الحديث، ولفظ أبي عوانة:"قال حماد: ثم لقيتُ يحيى بن سعيد، فحدّثني به نحوًا مما حدّثني به أيوب". انتهى

(1)

.

ولفظ البيهقيّ: "قال حماد: وقد سمعته من يحيى بن سعيد، فجاء به نحوًا من هذا". انتهى

(2)

.

وحاصل معنى كلام حمّاد بن زيد هذا أنه بعدما سمع هذا الحديث عن أيوب السختيانيّ، لقي شيخه يحيى بن سعيد أبا حيّان التيميّ، فحدّثه بالحديث نحو ما حدّثه به أيوب عنه، فَعَلا سنده، حيث أخذه عن شيخ شيخه، والله تعالى أعلم.

[تنبيه]: رواية أيوب السختيانيّ، عن يحيى بن سعيد التيميّ هذه ساقها أبو عوانة رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(1)

"مسند أبي عوانة" 4/ 397.

(2)

"سنن البيهقي الكبرى" 9/ 101.

ص: 15

(7079)

- حدّثنا إسماعيل بن إسحاق بن إسماعيل بن حماد بن زيد، ويوسف بن يعقوب القاضيان، وأيوب بن سافريّ، وإبراهيم بن أبي داود الأسديّ، قالوا: ثنا سليمان بن حرب، قثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن أبي حيّان يحيى بن سعيد بن حيّان التيميّ، عن أبي زُرعة بن عمرو بن جرير، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذَكَر الغلول يومًا، فعظّمه، ثم قال:"لِيَحْذَر أحدكم أن يجيء يوم القيامة، وعلى عنقه بعيرٌ له رُغاء، فيقول: يا محمد أغثني، فأقول: إني لا أغني عنك شيئًا، إني قد بلّغت، ويأتي وعلى عنقه فرسٌ، له حَمْحَمةٌ، فيقول: يا محمد أغثني، فاقول: لا أغني عنك شيئًا، إني قد بلّغت، ويأتي على عنقه رقاع، فيقول: يا محمد أغثني، فاقول: لا أغني عنك شيئًا، إني قد بلّغت".

قال حماد: ثم لقيت يحيى بن سعيد، فحدَّثني به نحوًا مما حدّثني به أيوب، وهذا لفظ إسماعيل، وإبراهيم. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلِّف رحمه الله أَوَّل الكتاب قال:

[4728]

(

) - (وَحَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ خِرَاشٍ، حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِث، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدِ بْنِ حَيَّانَ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِنَحْوِ حَدِيثِهِمْ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ خِرَاشٍ) أبو جعفر البغداديّ، صدوقٌ [11](ت 242)(م ت) تقدّم في "الإيمان" 42/ 280.

2 -

(أَبُو مَعْمَرٍ) عبد الله بن عمرو بن أبي الحجّاج ميسرة التميميّ الْمُقعد الْمِنْقَريّ البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ، رُمي بالقدر [10](ت 224)(ع) تقدّم في "الجهاد والسير" 45/ 4675.

3 -

(عَبْدُ الْوَارِثِ) بن سعيد بن ذكوان الْعَنْبريّ مولاهم، أبو عبيدة التّنّوريّ البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ، رُمي بالقدر، ولم يثبت عنه [8](ت 180)(ع) تقدّم في "الإيمان" 18/ 176.

(1)

"مسند أبي عوانة" 4/ 397.

ص: 16

والباقون ذُكروا قبله.

وقوله: (بِنَحْوِ حَدِيثِهِمْ)؛ أي: روى أيوب هذا الحديث عن يحيى بن سعيد التيميّ بنحو رواية إسماعيل ابن عليّة، وعبد الرحيم بن سليمان، وجرير بن عبد الحميد ثلاثتهم عن يحيى بن سعيد المذكور، والله تعالى أعلم.

[تنبيه]: رواية أيوب هذه من طريق عبد الوارث، لَمْ أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(7) - (بَابُ تَحْرِيمِ هَدَايَا الْعُمَّالِ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4729]

(1832) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَمْرٌو النَّاقِدُ، وَابْنُ أَبِي عُمَرَ - وَاللَّفْظُ لأَبِي بَكْرٍ - قَالُوا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيّ، قَالَ: اسْتَعْمَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَجُلًا مِنَ الأَسْد، يُقَالُ لَهُ: ابْنُ اللُّتْبِيَّةِ - قَالَ عَمْرٌو، وَابْنُ أَبِي عُمَرَ: عَلَى الصَّدَقَةِ - فَلَمَّا قَدِمَ قَالَ: هَذَا لَكُمْ، وَهَذَا لِي أُهْدِيَ لِي، قَالَ: فَقَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْمِنْبَر، فَحَمِدَ اللهَ، وَأَثْنَى عَلَيْه، وَقَالَ: "مَا بَالُ عَامِلٍ أَبْعَثُهُ، فَيَقُولُ: هَذَا لَكُمْ، وَهَدَا أُهْدِيَ لِي؟ أَفَلَا قَعَدَ فِي بَيْتِ أَبِيه، أَو فِي بَيْتِ أمِّه، حَتَّى يَنْظُرَ أَيُهْدَى إِلَيْه، أَمْ لَا؟ وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِه، لَا يَنَالُ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْهَا شَيْئًا، إِلَّا جَاءَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَة، يَحْمِلُهُ عَلَى عُنُقِه، بَعِيرٌ لَهُ رُغَاءٌ، أَو بَقَرَةٌ لَهَا خُوَارٌ، أَو شَاةٌ تَيْعِرُ"، ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْه، حَتَّى رَأيْنَا عُفْرَتَيْ إِبْطَيْه، ثُمَّ قَالَ: "اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ؟ "، مَرَّتَيْنِ).

رجال هذا الإسناد: صبعة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم قبل حديثين.

2 -

(عَمْرٌو النَّاقِدُ) هو: عمرو بن محمد بن بُكير، أبو عثمان البغداديّ، نزيل الرقّة، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 232)(خ م د س) تقدّم في "المقدمة" 4/ 23.

ص: 17

3 -

(ابْنُ أَبِي عُمَرَ) هو: محمد بن يحيى بن أبي عمر الْعَدَني، نزيل مكة، ثقةٌ [10](ت 243)(م ت س ق) تقدّم في "المقدمة" 5/ 31.

4 -

(سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ) بن أبي عمران ميمون الهلاليّ مولاهم، أبو محمد الكوفيّ، نزيل مكة، ثقةٌ حافظٌ فقيهٌ حجة، من رؤوس الطبقة [8](ت 198)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" ج 1 ص 383.

5 -

(الزُّهْرِيُّ) محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب المدنيّ، أبو بكر، الفقيه الحافظ الحجة المتّفق على جلالته، وإتقانه، من رؤوس الطبقة [4](ت 125)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" ج 1 ص 348.

6 -

(عُرْوَةُ) بن الزبير بن العوّام الأسديّ، أبو عبد الله المدنيّ الفقيه الثقة المثبت المشهور [3](ت 94)(ع) تقدَّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 407.

7 -

(أَبُو حُمَيْدٍ السَّاعِدِيُّ) الصحابيّ المشهور، اسمه المنذر بن سعد بن المنذر، أو ابن مالك، وقيل: اسمه عبد الرَّحمن، وقيل: عمرو، شهِد أُحدًا وما بعدها، وعاش إلى خلافة يزيد سنة ستّين (ع) تقدّم في "الصلاة" 17/ 916.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيَّات المصنّف رحمه الله، وله فيه ثلاثة من الشيوخ قَرَن بينهم، وفيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ، وفيه عروة أحد الفقهاء السبعة.

شرح الحديث:

(عَنِ الزُّهْرِيِّ) ووقع في رواية الحميديّ في "مسنده": عن سفيان، حدّثنا الزهريّ، وأخرجه أبو نعيم من طريقه، وعند الإسماعيليّ من طريق محمد بن منصور، عن سفيان، قال: قَصَّه علينا الزهريّ، وحفظناه. (عَنْ عُرْوَةَ) وفي رواية للبخاريّ:"أنه سمع عروة، وفي رواية له: "أخبرني عروة". (عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ) رضي الله عنه، تقدّم آنفًا الخلاف في اسمه، أنه (قَالَ: اسْتَعْمَلَ) بالبناء للفاعل، (رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَجُلًا مِنَ الأَسْدِ) قال النوويّ رحمه الله: بإسكان السين، ويقال له: الأزديّ، من أزد شَنُوءة، ويقال لهم: الأَزْد، والأَسْد، وقد ذكره

ص: 18

مسلم في الرواية الثانية. انتهى

(1)

.

وقع في رواية للبخاريّ: "رجلًا من بني أَسْد" - بفتح الهمزة، وسكون السين المهملة - قال الحافظ رحمه الله: كذا وقع هنا، وهو يُوهِم أنه بفتح السين نسبة إلى بني أسد بن خُزيمة القبيلة المشهورة، أو إلى بني أسد بن عبد العزى بطنٍ من قريش، وليس كذلك، قال: وإنما قلت: إنه يوهِمه؛ لأنَّ الأزديّ تلازمه الألف واللام في الاستعمال، أسماءً، وأنسابًا، بخلاف بني أَسَدٍ، فبغير ألف ولام في الاسم، ووقع في رواية الأصيليّ هنا:"من بني الأسد" بزيادة الألف واللام ولا إشكال فيها مع سكون السين، وقد وقع في "الهبة" عن عبد الله بن محمد الجعفيّ، عن سفيان:"استَعْمَل رجلًا من الأزد"، وكذا قال أحمد، والحميديّ في "مسنديهما" عن سفيان، ومثله لمسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة، وغيره، عن سفيان، وفي نسخة بالسين المهملة بدل الزاي، قال: ثم وجدت ما يزيل الإشكال - إن ثبت - وذلك أن أصحاب الأنساب ذكروا أن في الأزد بطنًا يقال لهم: بنو أَسَد بالتحريك، يُنسبون إلى أسد بن شُرَيك - بالمعجمة مصغرًا - ابن مالك بن عمرو بن مالك بن فَهْم، وبنو فَهْم بطن شهير من الأزد، فَيَحْتَمِل أن ابن الأتبية كان منهم، فيَصِحّ أن يقال فيه: الأزدي - بسكون الزاي - والأسديّ - بسكون السين، وبفتحها - من بني أسد - بفتح السين - ومن بني الأزد، أو الأَسْد - بالسكون - فيهما لا غير، وذكروا ممن يُنْسَب كذلك: مُسَدّدًا شيخ البخاريّ. انتهى

(2)

.

(يُقَالُ لَهُ: ابْنُ اللُّتْبِيَّةِ) بضمّ اللام، وإسكان التاء، ومنهم من فتحها، قالوا: وهو خطأ، ومنهم من يقول: الأتبيّة، بضمّ الهمزة، وقيل: بفتحها، وكذا وقع في مسلم في رواية أبي كريب المذكورة بعد هذا، قالوا: وهو خطأ أيضًا، والصواب: اللُّتْبية بإسكانها، نسبة إلى بني لُتْب، قبيلة معروفة، واسم ابن اللتبية هذا: عبد الله. انتهى

(3)

.

(1)

"شرح النوويّ" 12/ 219.

(2)

"الفتح" 16/ 696 - 697، كتاب "الأحكام" رقم (7174).

(3)

"شرح النوويّ" 12/ 219.

ص: 19

وقال في "الفتح": قوله: يقال له: "ابن الأتبية" كذا في رواية أبي ذرّ بفتح الهمزة، والمثناة، وكسر الموحّدة، وفي الهامش: باللام بدل الهمزة كذلك، ووقع كالأول لسائرهم، وكذا تقدم في "الهبة"، وفي رواية مسلم باللام المضمومة

(1)

، ثم المثناة الساكنة، وبعضهم يفتحها، وقد اختُلِف على هشام بن عروة، عن أبيه أيضًا أنه باللام، أو بالهمزة، ووقع لمسلم باللام، وقال عياض: ضَبَطه الأصيليّ بخطه في هذا الباب بضم اللام، وسكون المثناة، وكذا قَيَّده ابن السكن، قال: وهو الصواب، وكذا قال ابن السمعانيّ: ابن اللتبية، بضم اللام، وفتح المثناة، ويقال: بالهمز بدل اللام، وقد تقدم أن اسمه عبد الله، واللتبية أمه، لَمْ نقف على تسميتها. انتهى

(2)

.

(قَالَ عَمْرٌو)؛ أي: الناقد، شيخه الثاني، (وَابْنُ أَبِي عُمَرَ) محمد بن يحيى شيخه الثالث، ومقول القول قوله:(عَلَى الصَّدَقَةِ) بالتعريف، والمعنى أن الشيخين قالا:"على الصدقة"، وأما أبو بكر شيخه الأول، فلم يذكره، وَيَحْتَمل أنه قال:"على صدقة" بالتنكير، أو قال:"على صدقات بني سُليم"، كما هو الموجود في "مصنّفه"

(3)

.

وسيأتي من رواية أبي كريب المرسَل إليهم، ولفظه:"استعمَل رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلًا من الأزد على صدقات بني سُليم"، وأفاد العسكريّ بأنه بُعِث على صدقات بني ذُبيان، فلعله كان على القبيلتين، قاله في "الفتح"

(4)

.

(فَلَمَّا قَدِمَ) بكسر الدال؛ أي: جاء إلى المدينة، ودخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، (قَالَ: هَذَا لَكُمْ، وَهَذَا لِي أُهْدِيَ لِي) وفي رواية معمر، عن الزهريّ الآتية:"فجاء بالمال، فدفعه إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: هذا مالكم، وهذه هديةٌ، أُهديت لي"، وفي رواية هشام الآتية أيضًا:"فلما جاء حاسَبَه النبيُّ صلى الله عليه وسلم، قال: هذا مالُكم، وهذه هديةٌ"، وفي رواية أبي الزناد الآتية أيضًا: "فجاء بسواد كثير - وهو بفتح المهملة،

(1)

وقع في نسخة "الفتح" بلفظ: (المفتوحة)، وهو غلط دون شك، فتنبّه.

(2)

"الفتح" 16/ 696 - 697، كتاب "الأحكام" رقم (7174).

(3)

راجع: "مصنّف ابن أبي شيبة" 4/ 444.

(4)

"الفتح" 4/ 365، كتاب "الزكاة" رقم (1500).

ص: 20

وتخفيف الواو - فجعل يقول: هذا لكم، وهذا أُهدي إليّ"، وأوله عند أبي عوانة: "بَعَثَ مُصَدِّقًا إلى اليمن

"، فذكره، والمراد بالسواد: الأشياء الكثيرة، والأشخاص البارزة، من حيوان، وغيره، ولفظُ السواد يُطلق على كلّ شخص، ولأبي نعيم في "المستخرج" من هذا الوجه: "فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم من يَتَوَفَّى منه"، وهذا يدلّ على أنَّ قوله في الرواية المذكورة: "فلما جاء حاسبه"؛ أي: أمَر من يحاسبه، ويقبض منه، وفي رواية أبي نعيم أيضًا: "فجعل يقول: هذا لكم، وهذا لي، حتى مَيَّزه، قال: يقولون: من أين هذا لك؛ قال: أُهدي لي، فجاؤوا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم بما أعطاهم".

(قَالَ) أبو حميد رضي الله عنه (فَقَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْمِنْبَرِ) زاد في رواية هشام الآتية قبل ذلك: "فقال: ألا جلست في بيت أبيك، وبيت أمك، حتى تأتيك هديتك، إن كنت صادقًا، ثم قام، فخطب"، ووقع في رواية شعيب:"ثم قام النبيُّ صلى الله عليه وسلم عشية بعد الصلاة"، وفي رواية معمر التالية:"ثم قام النبيّ صلى الله عليه وسلم خطيبًا"، وفي رواية أبي الزناد، عند أبي نعيم:"فصعِد المنبر، وهو مغضبٌ"(فَحَمِدَ اللهَ، وَأَثْنَى عَلَيْه، وَقَالَ: "مَا بَالُ عَامِل)؛ أي: أيُّ شيء حاله وشأنه؟، وهو استفهام إنكاريّ، (أَبْعَثُهُ)؛ أي: أرسله لأخذ الصدقات، (فَيَقُولُ) ووقع في رواية هشام الآتية:"أما بعد، فإني أستعمل الرجل منكم على العمل مما ولاني الله". (هَذَا لَكُمْ، وَهَذَا أُهْدِيَ لِي؟) وفي رواية هشام: "فيقول: هذا مالُكم، وهذا هديّة أُهديت لي"، (أفَلَا قَعَدَ فِي بَيتِ أَبِيه، أَو فِي بَيتِ أُمِّهِ) وفي رواية هشام: "أفلا جلس في بيت أبيه وأمه حتى تأتيه هديّته، إن كان صادقًا"، (حَتَّى يَنْظُرَ أَيُهْدَى إِلَيْه، أَمْ لَا؟ وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ) صلى الله عليه وسلم (بِيَدِه، لَا يَنَالُ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْهَا)؛ أي: من الصدقة (شَيْئًا)؛ أي: ظلمًا بغير حقّ، (إِلَّا جَاءَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) وفي رواية هشام:"والله لا يأخذ أحد منكم منها شيئًا بغير حقَّه إلَّا لقي الله تعالى، يحمله يوم القيامة"، وفي حديث عديّ بن عَمِيرة الكنديّ رضي الله عنه الآتي:"من استعملناه منكم على عمل، فكتَمَنا مِخْيطًا، فما فوقه كان غُلولًا يأتي به يوم القيامة". (يَحْمِلُهُ)؛ أي: يحمل ذلك الشيء الذي أخذه من الصدقة ظلمًا (عَلَى عُنُقِهِ)، وقوله:(بَعِيرٌ لَهُ رُغَاءٌ) بضمّ الراء، وتخفيف الغين المعجمة، والمدّ: صوت البعير، (أَو بَقَرَةٌ لَهَا خُوَارٌ) بضمّ الخاء المعجمة، وتخفيف

ص: 21

الواو، آخره راء: صوت البقر، ويقال: جُؤار بالجيم بدل الخاء، وبالهمزة بدل الواو، وهو صوت بمعناه، وقيل: بالخاء للبقر وغيرها من الحيوان، وبالجيم للبقر، والناس، قال تعالى:{فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53)} [النحل: 53]، وفي قصّة موسى عليه السلام:"له جُؤار إلى الله بالتلبية"، رواه مسلم؛ أي: صوتٌ عالٍ، وقيل: أصله في البقر، واستُعمل في الناس

(1)

. (أَو شَاةٌ تَيْعِرُ") بفتح المثناة الفوقانية، وسكون التحتانية، بعدها مهملة مفتوحة، ويجوز كسرها، ومعناه: تصيح، والْيعار: صوت الشاة، قاله النوويّ رحمه الله

(2)

، قال المجد رحمه الله: الْيُعَارُ، كغُرَابٍ: صوت الغنَم، أو الْمِعْزَى، أو الشديد من أصوات الشاء، يَعَرَتْ تَيْعِرُ، كيَضْرِبُ، وَيمْنَعُ يُعَارًا: إذا صاحت. انتهى

(3)

.

(ثُمَّ رَفَعَ) صلى الله عليه وسلم (يَدَيْه، حَتَّى رَأَيْنَا عُفْرَتَيْ إِبْطَيْهِ) قال النوويّ رحمه الله: هي بضم العين المهملة، وفتحها، والفاء ساكنة فيهما، وممن ذكر اللغتين في العين: القاضي هنا، وفي "المشارق"، وصاحب "المطالع"، والأشهر الضمّ، قال الأصمعيّ، وآخرون: عُفْرة الإبط: هي البياض، ليس بالناصع، بل فيه شيء كلون الأرض، قالوا: وهو مأخوذ مِن عَفَر الأرض، بفتح العين، والفاء، وهو وجهها. انتهى

(4)

.

وقال في "الفتح": وفي رواية عبد الله بن محمد: "عُفْرة إبطه" بالإفراد، ولأبي ذَرّ رحمه الله:"عَفْر" بفتح أوله، ولبعضهم بفتح الفاء أيضًا، بلا هاء، قال: والعفرة بضم المهملة، وسكون الفاء: هو البياض، ليس بالناصع. انتهى

(5)

.

(ثُمَّ قَالَ) صلى الله عليه وسلم (اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ؟ ") وللبخاريّ: "ألا هل بلّغت"، وقوله:(مَرَّتَيْنِ)؛ أي: قال هذا الكلام مرّتين، وللبخاريّ:"هل بلّغتُ ثلاثًا"؛ أي: أعادها ثلاث مرّات، وفي رواية له في "الهبة":"اللهم هل بلغتُ، اللهم هل بلغتُ ثلاثًا"، وصرّح في رواية الحميديّ بالثالثة:"اللهم بلغتُ"، والمراد: بَلّغت حكم الله إليكم؛ امتثالًا لقوله تعالى له: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ

(1)

"الفتح" 16/ 700 رقم (7174).

(2)

"شرح النوويّ" 12/ 219.

(3)

"القاموس المحيط" ص 1431 بزيادة يسيرة.

(4)

"شرح النوويّ" 12/ 219 - 220.

(5)

راجع: "الفتح" 16/ 700 رقم (7174).

ص: 22

مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} الآية [المائدة: 67]، وأشار به أيضًا إلى ما يقع في القيامة من سؤال الأمم، هل بلَّغهم أنبياؤهم ما أُرسلوا به إليهم؟.

وإنما كرّر "اللهم هل بلّغت"؛ تعظيمًا لشأن الخيانة، وتغليظًا له، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي حُميد الساعديّ رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [7/ 4729 و 4730 و 4731 و 4732 و 4733](1832)، و (البخاريّ) في "الجمعة"(925) و"الزكاة"(1500) و"الهبة"(2597) و"الأيمان والنذور"(6636) و"الحيل"(6979) و"الأحكام"(7174 و 7197)، و (أبو داود) في "الخراج "(2946)، و (الشافعيّ) في "مسنده"(1/ 246، 247)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(4/ 54)، و (الحميديّ) في "مسنده"(840)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(6/ 525)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 423)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(4/ 53، 54)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4515)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(9/ 55) و"الصغير"(2/ 90)، و (البزّار) في "مسنده"(9/ 159)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(7/ 16 و 10/ 138)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(1568)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان أن الإمام يخطب في الأمور المهمة.

2 -

(ومنها): بيان استحباب قول الخطيب في خطبته: "أما بعد"، وقد عَقَد الإمام البخاريّ رحمه الله في "كتاب الجمعة" من "صحيحه" بابًا في ذلك، وأورد أحاديث قال فيها النبيّ صلى الله عليه وسلم:"أما بعد".

3 -

(ومنها): بيان مشروعية محاسبة المؤتمَن، ومحاسبة العمّال؛ ليُعلم ما قبضوه، وما صرفوه

(1)

.

(1)

"شرح النوويّ" 12/ 220.

ص: 23

4 -

(ومنها): منعُ العمال من قبول الهدية، ممن له عليه حُكم، ومحلّ ذلك إذا لَمْ يأذن له الإمام في ذلك؛ لِمَا أخرجه الترمذيّ من رواية قيس بن أبي حازم، عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن، فقال:"لا تُصِيبَنّ شيئًا بغير إذني، فإنه غلول"، وقال المهلّب: فيه أنَّها إذا أُخذت تُجعل في بيت المال، ولا يختص العامل منها إلَّا بما أَذِن له فيه الإمام، وهو مبنيّ على أنَّ ابن اللتبية أخذ منه ما ذَكَر أنه أُهدي له، قال الحافظ رحمه الله: وهو ظاهر السياق، ولا سيما في رواية معمر قبلُ، ولكن لَمْ أر ذلك صريحًا، قال: ونحوه قول ابن قُدامة في "المغني" - لَمّا ذَكَر الرشوة -: وعليه رَدّها لصاحبها، ويَحْتَمِل أن تُجعل في بيت المال؛ لأنَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يأمر ابن اللتبية بردّ الهدية التي أُهديت له لمن أهداها.

وقال ابن بطال: يُلْحق بهدية العامل الهدية لمن له دَيْنٌ ممن عليه الدَّين، ولكن له أن يحاسب بذلك من دَينه. انتهى

(1)

.

وقال النوويّ رحمه الله: وفي هذا الحديث بيان أن هدايا العمال حرام، وغلول؛ لأنه خان في ولايته، وأمانته، ولهذا ذَكَر في الحديث في عقوبته وحَمْله ما أُهدي إليه يوم القيامة، كما ذَكَر مثله في الغالّ، وقد بَيَّن صلى الله عليه وسلم في نفس الحديث السبب في تحريم الهدية عليه، وأنها بسبب الولاية، بخلاف الهدية لغير العامل، فإنها مستحبة، وقد سبق بيان حُكم ما يقبضه العالم ونحوه باسْم الهدية، وأنه يردّه إلى مُهديه، فإن تعذّر فإلى بيت المال. انتهى

(2)

.

وقال البغويّ رحمه الله في "شرح السنّة": في الحديث دليلٌ على أنَّ هدايا العُمّال، والولاة، والقضاة سُحْتٌ؛ لأنه إنما يُهدِي إلى العامل؛ ليُغمض له في بعض ما يجب عليه أداؤه، ويبخس بحقّ المساكين، ويُهدِي إلى القاضي؛ ليميل إليه في الحكم، أو لا يؤمَن من أن تَحمله الهديّة عليه. انتهى

(3)

.

5 -

(ومنها): أن فيه إبطالَ كلّ طريق يَتوصّل بها من يأخذ المال إلى محاباة المأخوذ منه، والانفراد بالمأخوذ.

(1)

راجع: "الفتح" 16/ 700 - 701 رقم (7174).

(2)

"شرح النوويّ" 12/ 220.

(3)

"شرح السُّنَّة" 5/ 498.

ص: 24

6 -

(ومنها): ما قال ابن الْمُنَيِّر رحمه الله: يؤخذ من قوله: "هلّا جَلَس في بيت أبيه وأمه" جواز قبول الهديّة ممن كان يهاديه قبل ذلك، كذا قال، ولا يخفى أن محل ذلك إذا لَمْ يَزِد على العادة.

7 -

(ومنها): أن من رأى متأَوِّلًا أخطأ في تأويل يَضُرّ من أخذ به أن يُشْهِر القول للناس، ويبيِّن خطأه؛ لِيُحَذِّرهم من الاغترار به.

8 -

(ومنها): جواز توبيخ المخطئ.

9 -

(ومنها): جواز استعمال المفضول في الإمارة، والإمامة، والأمانة، مع وجود من هو أفضل منه.

10 -

(ومنها): أن في قول أبي حميد رضي الله عنه: "وسلوا زيد بن ثابت، فإنه كان حاضرًا معي" الآتي بعد حديثين: استشهادَ الراوي، والناقل بقول من يوافقه؛ ليكون أوقع في نفس السامع، وأبلغ في طمأنينته

(1)

.

11 -

(ومنها): ما قاله الخطّابيّ رحمه الله: وفي قوله صلى الله عليه وسلم: "هلّا جلس في بيت أبيه، أو أمه

إلخ " دليلٌ على أنَّ كلّ أمر يُتذرّع به إلى محظور فهو محظورٌ، ويدخل في ذلك: القرض يجرّ المنفعة، والدار المرهونة يسكنها المرتهن بلا كراء، والدابّة المرهونة يركبها المرتهن، ويرتفق بها من غير عِوَض، وكلّ دخيل في العقود يُنظر، هل يكون حكمه عند الانفراد كحكمه عند الاقتران؟ انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4730]

(

) - (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالَا: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرزَّاق، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيّ، قَالَ: اسْتَعْمَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ابْنَ اللُّتْبِيَّةِ - رَجُلًا مِنَ الأَزْدِ - عَلَى الصَّدَقَة، فَجَاءَ بِالْمَال، فَدَفَعَهُ

(2)

إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: هَذَا مَالُكُمْ، وَهَذِهِ هَدِيَّةٌ، أُهْدِيَتْ لِي، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "أَفَلَا قَعَدْتَ فِي بَيْتِ أَبِيكَ وَأُمِّكَ، فَتَنْظُرَ؛ أَيُهْدَى إِلَيْكَ

(3)

(1)

راجع: "الفتح" 16/ 700 - 701 رقم (7174).

(2)

وفي نسخة: "فدفع".

(3)

وفي نسخة: "أيُهدى لك".

ص: 25

أَمْ لَا؟ "، ثُمَّ قَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم خَطِيبًا، ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ سُفْيَانَ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه الحنظليّ المروزيّ، ثقةٌ حافظ، فقيهٌ إمام [10](ت 238) وله (72) سنةً (خ م د ت س) تقدّم في "المقدمة" 5/ 28.

2 -

(عَبْدُ بْنُ حُمَيْدِ) بن نصر الْكِسّيّ، أبو محمد، ثقةٌ حافظٌ [11](ت 249)(خت م ت) تقدّم في "الإيمان" 7/ 131.

3 -

(عَبْدُ الرَّزاقِ) بن همّام بن نافع الْحَميريّ مولاهم، أبو بكر الصنعانيّ، ثقةٌ حافظٌ مصنّف، شهيرٌ، عَمِي في آخره، فتغيّر، وكان يتشيّع [9](ت 211) وله (85) سنةً (ع) تقدَّم في "المقدمة" 4/ 18.

4 -

(مَعْمَرُ) بن راشد الأزديّ مولاهم، أبو عروة البصريّ، نزيل اليمن، ثقةٌ ثبتٌ فاضلٌ، من كبار [7](ت 154) وهو ابن (58) سنةً (ع) تقدَّم في "المقدمة" 4/ 18.

والباقون ذُكروا قبله.

وقوله: ("أَفَلَا قَعَدْتَ فِي بَيْتِ أَبِيكَ وَأُمِّكَ .... إلخ) هذا تحضيض على الجلوس، والمراد به توبيخه.

وقوله: (ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ سُفْيَانَ) فاعل "ذَكَرَ" ضمير معمر.

[تنبيه]: رواية معمر، عن الزهريّ هذه ساقها أبو عوانة رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(7063)

- حدّثنا محمد بن يحيى، قال: نا عبد الرزاق، قال: أنبا معمر (ح) وحدّثنا الدَّبَريّ، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهريّ، عن عروة، عن أبي حميد الساعديّ، قال: استَعْمَل النبيّ صلى الله عليه وسلم ابن اللُّتْبية، رجلًا من الأَزْد، على الصدقة، فجاء بمال، فدفعه إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: هذا ما لكم، وهذه هدية أُهديت لي، فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم:"أفلا قعدت في بيت أبيك، وأمك، فتنظر أيهدى لك أم لا؟ "، ثم قام النبيُّ صلى الله عليه وسلم خطيبًا، فقال: "ما بال أقوام، نستعملهم على الصدقة، فيقولون: هذا لكم، وهذه هدية لي؟ أفلا في بيت أبيه وأمه قعد، فينظر أيُهْدَى له أم لا؟ والذي نفس محمد بيده لا يَغُلّ أحد منكم شيئًا، إلَّا جاء به يوم القيامة، يَحمله على رقبته، إن كان بعيرًا، فإنه له رُغاءً، وإن كانت

ص: 26

بقرةً جاء بها لها خُوار، وإن كانت شاةً جاء بها تيعرُ - ثم قال -: اللهم بلغت"، ثم رفع يديه، حتى بدت عُفْرة إبطيه. انتهى.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4731]

(

) - (حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاء، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ أَبِيه، عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيّ، قَالَ: اسْتَعْمَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَجُلًا مِنَ الأَزْدِ

(1)

، عَلَى صَدَقَاتِ بَنِي سُلَيْم، يُدْعَى ابْنَ الأُتْبِيَّةِ

(2)

، فَلَمَّا جَاءَ حَاسَبَهُ، قَالَ: هَذَا مَالُكُمْ، وَهَذَا هَدِيَّةٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"فَهَلَّا جَلَسْتَ فِي بَيْتِ أَبِيكَ وَأُمِّكَ، حَتَّى تَأْتِيَكَ هَدِيَّتُكَ، إِنْ كُنْتَ صَادِقًا، ثُمَّ خَطَبَنَا، فَحَمِدَ اللهَ، وَأَثْنَى عَلَيْه، ثُمَّ قَالَ: "أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي أَسْتَعْمِلُ الرَّجُلَ مِنْكُمْ عَلَى الْعَمَل، مِمَّا وَلَّانِي اللهُ، فَيَأْتِي، فَيَقُولُ: هَذَا مَالُكُمْ، وَهَدَا هَدِيَّة، أُهْدِيَتْ لي، أفَلَا جَلَسَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ وَأُمِّه، حَتَّى تَأْتِيَهُ هَدِيَّتُهُ، إِنْ كَانَ صَادِقًا، وَاللهِ لَا يَأْخُذُ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْهَا شَيْئًا بِغَيْرِ حَقِّه، إِلَّا لَقِيَ اللهَ تَعَالَي، يَحْمِلُهُ يَوْمَ الْقِيَامَة، فَلأَعْرِفَنَّ

(3)

أَحَدًا مِنْكُمْ لَقِيَ اللهَ، يَحْمِلُ بَعِيرًا لَهُ رُغَاءٌ، أَو بَقَرَةً لَهَا خُوَارٌ، أَو شَاةً تَيْعِرُ"، ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْه، حَتَّى رُئِيَ بَيَاضُ إِبْطَيْه، ثُمَّ قَالَ: "اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ؟ "، بَصُرَ عَيْني، وَسَمِعَ أُذُنِي)

(4)

.

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أَبُو كُرَيْبٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ) الْهَمْدانيّ الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 247) وهو ابن (87) سنةً (ع) أحد مشايخ الجماعة بلا واسطة تقدّم في "الإيمان" 4/ 117.

2 -

(أَبُو أُسَامَةَ) حمّاد بن أُسامة بن زيد القرشيّ مولاهم الكوفيّ، ثقةٌ ثبت، من كبار [9](ت 201)(ع) تقدّم في "المقدمة" 6/ 51.

(1)

وفي نسخة: "من الأسد".

(2)

وفي نسخة: "ابن اللتبيّة"، وهو الصواب.

(3)

وفي نسخة: "فلا أعرفنّ" على النفي، وهو الأشهر، على ما نقله النوويّ عن القاضي عياض.

(4)

وفي نسخة: "سصُر عينيّ، وسمع أذنيّ".

ص: 27

3 -

(هِشَامُ) بن عروة بن الزبير الأسديّ، أبو المنذر المدنيّ، ثقةٌ فقيه، ربّما دلّس [5](ت 5 أو 146) وله (87) سنةً (ع) تقدّم في "شرح"المقدّمة" ج 1 ص 350.

والباقيان ذُكرا قبله.

وقوله: (رَجُلًا مِنَ الأَزْدِ) وفي بعض النسخ: "من الأَسْد" بالسين بدل الزاي، وهما لغتان فيه.

وقوله: (عَلَى صَدَقَاتِ بَنِي سُلَيْمٍ) بالتصغير، وتقدّم أن العسكريّ ذكر أنه بعثه على صدقات بني ذُبيان، فيحتَمِل أن يكون مبعوثًا على القبيلتين، والله تعالى أعلم.

وقوله: (يُدْعَى ابْنَ الأُتَبِيَّةِ) بضمّ الهمزة، وسكون التاء، وفي بعض النسخ:"ابن اللُّتبيّة" باللام، وصوَّبه عياض، وهو بضمّ اللام، وسكون التاء: نسبة إلى بني لُتْب حيّ من الأزد، قاله ابن دُريد، وقيل: إنها أمه، عُرف بها، وقيل: اللَّتَبيَّة بفتح اللام، والتاء

(1)

.

وقوله: (فَلَمَّا جَاءَ حَاسَبَهُ) فيه محاسبة العمّال؛ للتأكد من الوفاء بأمانتهم، وعدم الوفاء بها.

وقوله: (فَلأَعْرِفَنَّ) قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في بعض النسخ: "فلأعرفنّ"، وفي بعضها:"فلا أعرفنّ" بالألف، على النفي، قال القاضي عياض: هذا أشهر، قال: والأول هو رواية أكثر رواة "صحيح مسلم". انتهى

(2)

.

وقوله: (أَو شَاةً تَيْعِرُ) بمثناة فوقُ مفتوحةٍ، ثم مثناة تحتُ ساكنةٍ، ثم عين مهملة مكسورة، ومفتوحة، ومعناه: تصيح، واليُعَار: صوت الشاة.

وقوله: (بَصُرَ عَيْني، وَسَمِعَ أُذُنِي) هو من كلام أبي حميد رضي الله عنه، ومعناه: أَعْلَمُ هذا الكلام يقينًا، فقد أبصرت عيني النبيّ صلى الله عليه وسلم حين تكلم به، وسمعته أذني، فلا شك في علمي به.

وفي بعض النسخ: "بَصَرُ عينيّ، وسَمْعُ أُذُنيّ" على أنَّ البصر، والسمع

(1)

راجع: "الفتح" 4/ 365، كتاب "الزكاة" رقم (1500).

(2)

"شرح النوويّ" 12/ 220.

ص: 28

اسمان أضيفا إلى "أُذُنيّ" بالتثنية، قال ابن الأثير رحمه الله: البصر هنا بمعنى الإبصار، يقال: بَصُرَ ربه بَصَرًا، ومنه الحديث:"بصُر عيني، وسمع أذني"، وقد تكرّر هذا اللفظ في الحديث، واختُلف في ضبطه، فرُوي بَصُرَ، وسَمِعَ، وبصَّرَ، وسَمَّعَ، وبصرٌ، وسَمْعٌ، على أنَّهما اسمان. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: فعلى رواية: "بَصَرُ عينيّ" بلفظ المصدر يكون "بصرُ"، خبرًا لمحذوف؛ أي: هذا بَصَرُ عينيّ؛ أي: مُبْصَرُهما، وكذا قوله:"سَمْع أُذنيّ"، أي: مسموعهما، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلِّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4732]

(

) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا عَبْدَةُ، وَابْنُ نُمَيْرٍ، وَأَبُو مُعَاوِيةَ (ح) وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرحِيمِ بْنُ سُلَيْمَانَ (ح) وَحَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، كُلُّهُمْ عَنْ هِشَامٍ، بِهَذَا الإِسْنَاد، وَفِي حَدِيثِ عَبْدَةَ، وَابْنِ نُمَيْرٍ: فَلَمَّا جَاءَ حَاسَبَهُ، كَمَا قَالَ أَبُو أُسَامَةَ، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ نُمَيْرٍ:"تَعْلَمُنَّ وَالله، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِه، لَا يَأْخُذُ أَحَدُكُمْ مِنْهَا شَيْئًا"، وَزَادَ فِي حَدِيثِ سُفْيَانَ: قَالَ: بَصُرَ عَيْنِي، وَسَمِعَ أُذَنَايَ

(2)

، وَسَلُوا زيدَ بْنَ ثَابِتٍ، فَإِنَّهُ كَانَ حَاضِرًا مَعِي).

رجال هذا الإسناد: أحد عشر:

1 -

(عَبْدَةُ) بن سليمان الكلابيّ، أبو محمد الكوفيّ، يقال: اسمه عبد الرَّحمن، ثقةٌ ثبت، من صغار [8](ت 187) أو بعدها (ع) تقدّم في "الإيمان" 61/ 339.

2 -

(ابْنُ نُمَيْرٍ) هو: عبد الله بن نُمير الْهَمْدانيّ، أبو هشام الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ، سنّيّ، من كبار [9](ت 199)(ع) تقدّم في "المقدمة" 2/ 5.

3 -

(أَبُو مُعَاوِيةَ) محمد بن خازم الضرير الكوفيّ، ثقةٌ، أحفظ الناس لحديث الأعمش، وقد يَهِم في حديث غيره، وقد رُمي بالإرجاء، من كبار [9](ت 195) وله (82) سنةً (ع) تقدّم في "الإيمان" 4/ 117.

(1)

"النهاية في غريب الحديث والأثر" 1/ 131.

(2)

وفي نسخة: "بصُر عيني، وسمع أذني".

ص: 29

4 -

(عَبْدُ الرحِيمِ بْنُ سُلَيْمَانَ) الأشلّ، تقدّم في الباب الماضي.

والباقون كلّهم ذُكروا في الباب، و"سفيان" هو: ابن عُيينة، و"ابن أبي عمر" هو: محمد بن يحيى العدنيّ، ثمّ المكّيّ.

وقوله: (كلُّهُمْ عَنْ هِشَامٍ)؛ أي: كلّ هؤلاء الخمسة: عبدة بن سليمان، وعبد الله بن نُمير، وأبو معاوية، وعبد الرحيم بن سليمان، وسفيان بن عيينة رووا هذا الحديث عن هشام بن عروة بِهَذَا الإِسْنَادِ المتقدّم.

وقوله: (تَعْلَمُنَّ) بمعنى اعلموا.

وقوله: (وَالله، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ) فيه توكيد اليمين بذكر اسمين، أو أكثر من أسمائه تعالى

(1)

.

وقوله: (وَسَلُوا زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ .... الخ) فيه استشهاد الراوي، أو القائل بقول من يوافقه؛ ليكون أوقع في نفس السامع، وأبلغ في طمأنينته

(2)

.

[تنبيه]: رواية عبدة، وابن نُمير، وأبي معاوية ساقها ابن جرير الطبريّ رحمه الله في "تفسيره"، وإِن كان فيه اختلاف، فقال:

حدّثنا أبو كريب، قال: ثنا أبو معاوية، وابن نمير، وعبدة بن سليمان، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن أبي حُميد الساعديّ، قال: استَعْمَل رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلًا من الأزد، يقال له: ابن الأبِيّة، على صدقات بني سُلَيم، فلما جاء قال: هذا لكم، وهذا هدية أُهديت لي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أفلا يجلس أحدكم في بيته، فتأتيه هديته"، ثم حَمِد الله، وأثنى عليه، ثم قال:"أما بعدُ، فإني أستعمل رجالا منكم، على أمور، مما ولاني الله، فيقول أحدهم: هذا الذي لكم، وهذا هدية أُهديت إليَّ، أفلا يجلس في بيت أبيه، أو بيت أمه، فتأتيه هديته، والذي نفسي بيده، لا يأخذ أحدكم من ذلك شيئًا، إلَّا جاء به يوم القيامة يحمله". انتهى

(3)

.

وأما رواية عبد الرحيم بن سليمان، عن هشام، فقد ساقها ابن أبي شيبة رحمه الله في "مصنّفه"، فقال:

(1)

"شرح النوويّ" 12/ 221.

(2)

"شرح النوويّ" 12/ 221.

(3)

"تفسير الطبريّ" 4/ 159.

ص: 30

(33532)

- حدّثنا عبد الرحيم بن سليمان، عن هشام بن عروة، عن أبيه، أن أبا حُميد الساعديّ، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أخا بني ساعدة، حدّثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "استَعْمَل ابن اللُّتْبيّة، فقال: والذي نفسي بيده لا يأخذ أحدكم منها شيئًا، بغير حقه، إلَّا جاء اللهَ يَحمله يوم القيامة، فلا أعرفنّ أحدًا جاء اللهَ يحمل بعيرًا، له رُغاءٌ، أو بقرة لها خُوَارٌ، أو شاةً تَيْعَر، ثم رفع يديه، حتى إني أنظر إلى بياض إبطيه، ثم قال أبو حميد: بَصُرَ عيني، وسمع أذني. انتهى

(1)

.

وأما رواية سفيان بن عيينة، عن هشام، فقد ساقها الحميديّ رحمه الله في "مسنده"، مقرونةً بالزهريّ، فقال:

(840)

- حدّثنا الحميديّ، قال: ثنا سفيان، قال: ثنا الزهريّ، وهشام بن عروة، قالا: أخبرنا عروة، أنه سمع أبا حميد الساعديّ يقول: استَعْمَل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم رجلًا من الأزد، يقال له: ابن اللُّتبية، على الصدقة، فلما جاء، فقال: هذا مالكم، وهذا أُهدي لي، قال: فقام النبيّ صلى الله عليه وسلم على المنبر، فحَمِد الله، وأثنى عليه، ثم قال:"ما بال العامل، نبعثه على العمل، من أعمالنا، فيقول: هذا مالُكم، وهذا ما أُهدي لي، فهلا جلس في بيت أبيه، أو في بيت أمه، فنظر هل يأتيه هدية، أم لا؟ ثم قال: والذي نفسي بيده، لا يأخذ أحد منكم منها شيئًا، إلَّا جاء به يوم القيامة، يحمله على رقبته، إن كان بعيرًا له رُغاء، أو بقرةً لها خُوار، أو شاةً تَيْعَر، ثم رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه، حتى رأينا عُفْرة إبطيه، ثم قال: اللهم هل بلغت، اللهم هل بلغت، قال سفيان: وزاد فيه هشام: قال أبو حميد: فبَصُرت عيني، وسمعت أذني، من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسَلُوا زيد بن ثابت، فإنه كان حاضرًا معي". انتهى

(2)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أَوَّل الكتاب قال:

[4733]

(

) - (وَحَدَّثَنَاهُ إِسحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الشَّيْبَانِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ ذَكْوَانَ - وَهُوَ أَبُو الزِّنَادِ - عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْر، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم اسْتَعْمَلَ رَجُلًا عَلَى الصَّدَقَة، فَجَاءَ بِسَوَادٍ كَثِيرٍ، فَجَعَلَ يَقُولُ: هَذَا

(1)

"مصنف ابن أبي شيبة" 6/ 525.

(2)

"المسند" 2/ 370.

ص: 31

لَكُمْ، وَهَذَا أُهْدِيَ إِلَيَّ، فَذَكَرَ نَحْوَهُ. قَالَ عُرْوَةُ: فَقُلْتُ لأَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ: أَسَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: مِنْ فِيهِ إِلَى أُذُنِي).

رجال هذا الإسناد: ستّةٌ:

1 -

(جَرِيرُ) بن عبد الحميد، تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(الشَّيْبَانِيُّ) سليمان بن أبي سليمان فيروز، أبو إسحاق الكوفيّ، ثقةٌ [5] مات في حدود (140)(ع) تقدَّم في "الإيمان" 38/ 259.

3 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ ذَكْوَانَ أَبُو الزِّنَادِ) القرشيّ مولاهم، أبو عبد الرَّحمن المدنيّ، ثقةٌ فقيهٌ [5](ت 130) أو بعدها (ع) تقدَّم في "المقدمة" 5/ 30.

والباقون ذُكروا في الباب.

[تنبيه]: وقع في بعض النسخ ما نصّه: "وحدَّثناه إسحاق بن إبراهيم، حدّثنا جرير، عن الشيبانيّ، عن عبد الله بن ذكوان، عن عروة بن الزبير، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل رجلًا على الصدقة، إلى قوله: قال عروة: فقلت لأبي حميد: أسمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقال: من فيه إلى أذني".

قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في أكثر النسخ: "عن عروة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يذكر أبا حميد، وكذا نقله القاضي هنا عن رواية الجمهور، ووقع في جماعة من النسخ: "عن عروة بن الزبير، عن أبي حميد"، وهذا واضح، وأما الأول فهو متصلٌ أيضًا؛ لقوله: قال عروة: فقلت لأبي حميد: أسمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: من فيه إلى أذني، فهذا تصريح من عروة بأنه سمعه من أبي حميد، فاتصل الحديث، ومع هذا، فهو متصل بالطرق الكثيرة السابقة. انتهى كلام النوويّ رحمه الله

(1)

.

وعبارة عياض رحمه الله: وذكر مسلم في الباب: نا إسحاق بن إبراهيم، ورفع الحديث عن عروة بن الزبير أن النبيّ صلى الله عليه وسلم استَعْمل رجلًا، كذا لجميعهم، وعند الهوزنيّ، والسمرقنديّ: عن عروة بن الزبير، عن أبي حميد الساعديّ، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم، لكنّه متّصلٌ مسندٌ؛ لأنَّ في آخره: قال عروة: فقلت لأبي حميد

(1)

"شرح النوويّ" 12/ 221.

ص: 32

الساعديّ: أسمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟، فقال: من فيه إلى أذني، لكن سياق رواية الهوزنيّ، والسمرقنديّ أحسن، وأبين. انتهى

(1)

.

وقوله: (فَجَاءَ بِسَوَادٍ كَثِيرٍ)؛ أي: بأشياء كثيرة، وأشخاص ظاهرة، من حيوان، وغيره، والسواد يُعبّر به عن شَخْص كلّ شيء، وكأنه ضدّ الفراغ؛ لأنَّ الموضع الفارغ أبيض، والمعمور بشيء فيه سواد شخصه، ومنه سواد العراق، قاله القاضي عياض رحمه الله

(2)

.

ووقع عند ابن أبي عاصم - كما يأتي في التنبيه التالي - بلفظ: "بشَوَار كثير" بالشين المعجمة، وهو متاع البيت، كما في "النهاية".

وقوله: (مِنْ فِيهِ إِلَى أُذُنِي)؛ أي: صَدَر هذا الكلام من فيه صلى الله عليه وسلم متّجهًا إلى أذني، يريد به تأكيد سماعه من النبيِّ صلى الله عليه وسلم بلا واسطة.

[تنبيه]: رواية أبي الزناد، عن عروة ساقها ابن أبي عاصم رحمه الله في "الآحاد والمثاني"، فقال:

(2067)

- حدّثنا الحسن بن عليّ الواسطيّ، نا خالد بن عبد الله، عن الشيبانيّ، عن عبد الله بن ذكوان أبي الزناد، عن عروة بن الزبير، عن أبي حميد الساعديّ رضي الله عنه قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلًا إلى اليمين، فجاء بشوار كثير

(3)

، فلما أرسل إليه ليتوفى ما جاء به، جعل يقول: هذا لي، وهذا لكم، قالوا: من أين لك هذا؛ قال: أهدي إليّ، فأُخبر بذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقام على المنبر، فقال:"ما بال رجال، نبعثهم على أعمال، فيجيء أحدهم بشوار كثير، فإذا أرسلت إليه من يتوفاه، قال: هذا لي، وهذا لكم؟ فإن سئل من أين لك هذا؟ قال: أهدي إليّ، فهلّا إذا كان صادقًا أهدي له ذلك، وهو في بيت أبيه، أو في بيت أمه؟ - ثم قال -: لا أبعث رجلًا على عمل، فيَغُلّ منه شيئًا، إلَّا جاء به يوم القيامة على عنقه، فلينظر رجل يجيء يوم القيامة، على رقبته بعير يرغو، أو بقرة تخور، أو شاة تيعر، اللهم هل بلغت؟ "، فقال عروة بن الزبير

(1)

"إكمال المعلم" 6/ 238.

(2)

"إكمال المعلم" 6/ 238.

(3)

هكذا وقع في النسخة: "بشوار كثير" في "الموضعين"، قال ابن الأثير: رحمه الله في "النهاية" 2/ 508: الشَّوَارُ بالفتح: متاع البيت. انتهى.

ص: 33

لأبي حميد رضي الله عنه: أنت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم، من فيه إلى أذني. انتهى

(1)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4734]

(1833) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا وَكِيعُ بْنُ الْجَرَّاح، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ عَمِيرَةَ الْكِنْدِيّ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَنِ اسْتَعْمَلْنَاهُ مِنْكُمْ عَلَى عَمَلٍ، فَكَتَمَنَا مِخْيَطًا، فَمَا فَوْقَهُ، كَانَ غُلُولًا، يَأْتِي بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ"، قَالَ: فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ أَسْوَدُ مِنَ الأَنْصَار، كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْه، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ اقْبَلْ عَنِّي عَمَلَكَ، قَالَ: "وَمَا لَكَ؟ "، قَالَ: سَمِعْتُكَ تَقُولُ كَذَا وَكَذَا، قَالَ: "وَأَنَا أَقُولُهُ الآنَ، مَنِ اسْتَعْمَلْنَاهُ مِنْكُمْ عَلَى عَمَلٍ، فَلْيَجِئْ بِقَلِيلِهِ وَكَثِيرِه، فَمَا أُوتِيَ مِنْهُ أَخَذَ، وَمَا نُهِيَ عَنْهُ انْتَهَى").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) ذُكر قبل حديث.

2 -

(وَكِيعُ بْنُ الْجَرَّاحِ) بن مَلِيح الرؤاسيّ، أبو سفيان الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ، عابدٌ، من كبار [9](ت 6 أو 197) وله (70) سنة (ع) تقدّم في "المقدمة" 1/ 1.

3 -

(إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ) البجليّ الأحمسيّ مولاهم، أبو عبد الله الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ [4](ت 146)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" ج 1 ص 299.

4 -

(قيسُ بن أَبِي حَازِمٍ) البجليّ، أبو عبد الله الكوفيّ، ثقةٌ مخضرم [2] مات بعد التسعين، أو قبلها، وقد جاوز المائة، وتغيّر (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" ج 2 ص 475.

5 -

(عَدِيُّ بْنُ عَمِيرَةَ الْكِنْدِيُّ) هو: عديّ بن عَمِيرة بن فَرْوة بن زُرارة بن الأرقم بن نعمان بن عمرو بن وهب بن ربيعة، أبو زُرارة، أخو الْعُرْس بن عَمِيرة، صحابيّ، وفد على النبيّ صلى الله عليه وسلم"، ورَوَى عنه شيئًا يسيرًا، وعن أخيه الْعُرْس إن كان محفوظًا، وروى عنه أخوه العُرْس بن عَمِيرة، وابنه عديّ،

(1)

"الآحاد والمثاني" 4/ 96.

ص: 34

وقيل: لَمْ يسمع منه، وقيس بن أبي حازم، ورجاء بن حَيْوة، وقيل: إن الذي روى عنه قيس آخر، وقال ابن أبي خيثمة: بلغني أنه نزل الجزيرة، ومات بها، وقال غيره: وَفَد على معاوية، ومات بالرُّها، وقال الواقديّ: تُوُفّي بالكوفة سنة (40)، وقال أبو عروبة الحرانيّ: كان عديّ بن عَمِيرة قد نزل الكوفة، ثم خرج عنها بعد قتل عثمان، فصار إلى الجزيرة، فمات بها، وله عقب بحَرّان، وقال ابن سعد: لَمّا قَدِم عليّ الكوفة جعل بعض أصحابه يتناول عثمان، فقال بنو الأرقم: لا نُقيم ببلد يُشْتَم فيها عثمان، فتحولوا إلى الشام، فأنزلهم معاوية الجزيرة.

أخرج له المصنّف، وأبو داود حديث الباب فقط، وله عند النسائيّ في "الكبرى" حديث في "كتاب القضاء"، وعند ابن ماجة حديث في استئذان النساء في "كتاب النكاح".

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالكوفيين من أوله إلى آخره، وأن فيه قيس بن أبي حازم الذي اجتمع له الرواية عن العشرة المبشّرين بالجنة رضي الله عنهم بلا واسطة، ولا يوجد له في التابعين نظير، وأن صحابيّه من المقلّين من الرواية، فليس له في الكتب الستّة إلّا ثلاثة أحاديث

(1)

، كما أسلفته آنفًا، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ عَدِيِّ بْنِ عَمِيرَةَ) بفتح العين المهملة، وكسر الميم، قال القاضي عياض رحمه الله: ولا يُعرف من الرجال أحدٌ يقال له: عُمَيرة بضمّ الميم، بل كلّهم بالفتح، ووقع في النساء الأمران. انتهى

(2)

. (الْكِنْدِيِّ) زاد في رواية ابن حبّان: "ثم أحد بني أرقم".

و"الكِنْديّ" بكسر الكاف، وسكون النون: نسبة إلى كِنْدة، وهي قبيلة

(1)

راجع: "تحفة الأشراف" 7/ 285 - 286.

(2)

"إكمال المعلم" 6/ 239.

ص: 35

كبيرة مشهورة من اليمن، واسم كندة الذي تُنسب إليه القبيلة: ثور بن مرتع بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ، وقيل: هو ثور بن عُفير بن عديّ بن الحارث بن مرّة بن أُدد بن زيد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان بن سبأ، وقيل غير ذلك، قاله في "اللباب"

(1)

. (قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ) ولفظ ابن حبّان: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أيها الناس من عَمِل منكم لنا عملًا، فكتمنا منه مخيطًا

". ("مَنِ) شرطيّة، أو موصولة مبتدأ، (اسْتَعْمَلْنَاهُ)؛ أي: ولّيناه (مِنْكُمْ عَلَى عَمَلٍ، فَكَتَمَنَا مِخْيَطًا) بكسر الميم، وسكون الخاء المعجمة، وفتح المثنّاة التحتانيّة: هي الإبرة، وقال الفيّوميّ: الْمِخْيَطُ، والْخِيَاطُ: ما يُخاط به، وزانُ لِحَافٍ، ومِلْحَفٍ، وإِزَارٍ، ومِئْزَر. انتهى

(2)

. (فَمَا فَوْقَهُ، كَانَ غُلُولًا) بالضمّ؛ أي: خيانة في المغنم، (يَأْتِي بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ")؛ أي: حاملًا له على رأسه. (قَالَ) عديّ بن عَمِير رضي الله عنه (فَقَامَ إِلَيْهِ) صلى الله عليه وسلم " (رَجُلٌ أَسْوَدُ مِنَ الأَنْصَارِ) لا يعرف اسمه

(3)

، (كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْه، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ اقْبَلْ) بهمزة الوصل، وفتح الموحّدة، فعلُ أَمْر من قَبِل يَقْبَلُ، كعَلِمَ يَعْلَمُ؛ أي: خذ (عَنِّي عَمَلَكَ)؛ أي: الولاية التي ولّيتنيها (قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("وَمَا لَكَ؟ ")؛ أي: أَيُّ شيء دعاك إلى ردّ العمل إليّ؟ (قَالَ) الرجل (سَمِعْتُكَ تَقُولُ كَذَا وَكَذَا)؛ أي: لقوله صلى الله عليه وسلم: "من استعلمناه منكم على عمل

إلخ " (قَالَ) صلى الله عليه وسلم "وَأَنَا أَقُولُهُ الآنَ، مَنِ اسْتَعْمَلْنَاهُ مِنْكُمْ عَلَى عَمَلٍ، فَلْيَجِئْ بِقَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ) وفيه تعظيم شأن القليل من الغلول، قال القرطبيّ رحمه الله: هذا يدلّ على أنَّه لا يجوز له أن يقتطع منه شيئًا لنفسه، لا أجرةً، ولا غيرها، ولا لغيره إلَّا أن يأذن له الإمام الذي تلزمه طاعته. انتهى

(4)

.

(فَمَا أُوتِيَ) بالبناء للمفعول، بوزن أُعْطِيَ، ومعناه؛ أي: فالذي أعطاه الإمام من أجرة عمله، أو من الجوائز حسبما يراه (مِنْهُ)؛ أي: من المال الذي أتى به، (أَخَذَ) بالبناء للفاعل؛ أي: قَبِل ذلك، وانتفع به، (وَمَا نُهِيَ عَنْهُ انْتَهَى") الأول مبنيّ للمفعول، والثاني للفاعل؛ أي: ما مُنع من أخْذه تَرَكه،

(1)

"اللباب في تهذيب الأنساب" 3/ 115 - 116.

(2)

"المصباح المنير" 1/ 186.

(3)

راجع: "تنبيه المعلم" ص 322.

(4)

"المفهم" 4/ 33.

ص: 36

ولا يجترئ في أخذه؛ لأنه حرام، يعذَّب به صاحبه يوم القيامة، كما سيق بيان الوعيد فيه.

قال القاضي عياض رحمه الله: وفيه تعظيم القليل من الغلول بقوله: "فليجيئ بقليله وكثيره، فما أوتي منه أخذ"، وذلك على قَدْر ما يراه الإمام له، من استحقاقه في عمله، أو حاجته، أو سابقته، وقد جاء أنه صلى الله عليه وسلم أباح لمعاذ رضي الله عنه قبول الهديّة حين وجّهه إلى اليمن؛ ليَجبُر بها ما جرى عليه من التفليس، والظنّ بمعاذ أنه لا يَقبل منها إلَّا ما طابت به نفس مُهديه، وأنه ممن لا يصانع أحدًا في الحقّ من أجلها، فكانت خصوصًا لمعاذ؛ لِمَا عَلِم منه النبيّ صلى الله عليه وسلم من النزاهة، والورع، والديانة، ولم يُبح ذلك لغيره، ممن لَمْ يكن عنده بمنزلته. انتهى

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: وليس لأحدٍ أن يتمسك في استباحة هدايا الأمراء؛ بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقبل الهدية، ولا بما يُروى أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أباح لمعاذٍ الهدية حين وجَّههُ إلى اليمن.

وأما الجواب عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم فبوجهين:

أحدهما: أنه كان لا يقبل الهدية إلَّا ممن يَعْلَم أنه طيّب النفس بها، ومع ذلك فكان يكافئ عليها بأضعافها غالبًا.

والثَّاني: أنه صلى الله عليه وسلم معصوم عن الجَوْر والمَيْل الذي يُخاف منه على غيره بسبب الهدية.

وأما عن حديث معاذ رضي الله عنه فلأنه لَمْ يجئ في الصحيح

(2)

، ولو صحَّ لكان ذلك مخصوصًا بمعاذ رضي الله عنه؛ لِمَا عَلِمَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم من حاله، وتحقُّقه من فضله، ونزاهته، ما لا يشاركه فيه غيره، ولم يُبح ذلك لغيره؛ بدليل هذه الأحاديث الصّحاح، والله أعلم. انتهى

(3)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1)

"إكمال المعلم" 6/ 238 - 239.

(2)

قال ابن العربيّ المالكيّ في "عارضة الأحوذيّ "(6/ 82): قد روي أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لمّا قدّم معاذًا على اليمن قال له: "قد علمت الذي دار عليك في مالك، وقد طيّبت لك الهديّة"، ثم عقّب عليه بقوله: ولم يصحّ سندًا، ولا معنى. انتهى.

(3)

"المفهم" 4/ 32 - 33.

ص: 37

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عَديّ بن عَمِيرة الكِنْديّ رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [7/ 4734 و 4735 و 4736](1833)، و (أبو داود) في "الأقضية"(3581)، و (الحميديّ) في "مسنده"(894)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(4/ 444)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 192)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5078)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 388 و 389)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(17/ 256 و 257 و 258 و 259 و 260 و 261)، و (ابن أبي عاصم) في "الآحاد والمثاني"(4/ 384)، و (أبو نعيم) في "الحلية"(7/ 335)، و (ابن سعد) في "الطبقات"(7/ 476)، و (البيهقيُّ) في "الكبرى"(4/ 158 و 7/ 116 و 10/ 138)، وفوائد الحديث تقدَّمت، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلِّف رحمه الله أَوَّل الكتاب قال:

[4735]

(

) - (وَحَدَّثَنَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، وَمُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ (ح) وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، قَالُوا: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، بِهَذَا الْإِسْنَاد، بِمِثْلِهِ)

(1)

.

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ) الْهَمْدانيّ، أبو عبد الرَّحمن الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ، فاضلٌ [10](ت 234)(ع) تقدّم في "المقدمة" 2/ 5.

2 -

(مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ) الْعَبْديّ، أبو عبد الله الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ [9](ت 203)(ع) تقدّم في "الإيمان" 1/ 107.

3 -

(مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ) القشيريّ مولاهم، أبو عبد الله النيسابوريّ، ثقةٌ حافظٌ عابدٌ [11](ت 245)(خ م د ت س) تقدّم في "المقدمة" 4/ 18.

والباقون ذُكروا في الباب، و"أبو أُسامة" هو: حمّاد بن أُسامة.

(1)

وفي نسخة: "مثله".

ص: 38

وقوله: (قَالُوا .... الخ)؛ أي: قال هؤلاء الثلاثة: عبد الله بن نُمير، ومحمد بن بشر، وأبو أسامة: حدّثنا إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم، عن عديّ بن عَمِيرة رضي الله عنه.

[تنبيه]: روايات هؤلاء الثلاثة المذكورين عن إسماعيل بن أبي خالد لَمْ أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4746]

(

) - (وَحَدَّثَنَاهُ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَليُّ، أَخْبَرَنَا الْفَضْلُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ، أَخْبَرَنَا قَيْسُ بْنُ أَبِي حَازِمٍ، قَالَ: سَمِعْتُ عَدِيَّ بْنَ عَمِيرَةَ الْكِنْدِيَّ، يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ بِمِثْلِ حَدِيثِهِمْ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(الْفَضْلُ بْنُ مُوسَى) السِّينانيّ، أبو عبد الله المروزيّ، ثقةٌ ثبت، من كبار [9](ت 192)(ع) تقدّم في "الجنائز" 26/ 2236.

والباقون ذُكروا قبله، وإسحاق هو: ابن راهويه.

وقوله: (بِمِثْلِ حَدِيثِهِمْ)؛ أي: بمثل حديث الأربعة المذكورين في الإسنادين السابقين، وهم: وكيع، وعبد الله بن نُمير، ومحمد بن بشر، وأبو أسامة.

[تنبيه]: رواية الفضل بن موسى، عن إسماعيل بن أبي خالد، لَمْ أجد من ساقها أيضًا، فليُنظر، والله تعالى أعلم.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(8) - (بَابُ وُجُوبِ طَاعَةِ الأُمَرَاءِ فِي غَيْرِ مَعْصِيَةٍ، وَتَحْرِيمِهَا فِي الْمَعْصِيَةِ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4737]

(1834) - (حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَهَارُونُ بْنُ عَبْدِ الله، قَالَا: حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: نَزَلَ

(1)

{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا

(1)

وفي نسخة: "نزلت".

ص: 39

الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59] فِي عَبْدِ اللهِ بْنِ حُذَافَةَ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَدِيٍّ السَّهْمِيِّ، بَعَثَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي سَرِيَّةٍ. أَخْبَرَنِيهِ يَعْلَى بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) تقدّم قبل باب.

2 -

(هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) بن مروان الحمّال البزّاز، أبو موسى البغداديّ، ثقةٌ [10](ت 243) وقد ناهز الثمانين (م 4) تقدّم في "الإيمان" 64/ 361.

3 -

(حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ) الْمِصِّيصيِّ الأعور، أبو محمد الترمذيّ الأصل، نزيل بغداد، ثم الْمِصِّيصة، ثقةٌ ثبتٌ، لكنه اختلط في آخره [9](ت 206)(ع) تقدّم في "المقدمة" 6/ 94.

4 -

(ابْنُ جُرَيْجٍ) عبد الملك بن عبد العزيز بن جُريج الأمويّ مولاهم، أبو خالد، وأبو الوليد، ثقةٌ فقيهٌ فاضل، لكنه يدلس ويرسل [6](ت 150) أو بعدها (ع) تقدّم في "الإيمان" 6/ 129.

5 -

(يَعْلَى بْنُ مُسْلِمِ) بن هُرْمُز المكيّ، بصريّ الأصل، ثقةٌ [6](خ م د ت س) تقدَّم في "الإيمان" 57/ 329.

6 -

(سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرِ) بن هشام الأسديّ مولاهم، أبو محمد، أو أبو عبد الله الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ [3](ت 95)(ع) تقدّم في "المقدمة" 57/ 329.

7 -

(ابْنُ عَبَّاسٍ) عبد الله البحر الحبر رضي الله عنهما، مات سنة (68)(ع) تقدّم في "الإيمان" 6/ 124.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وأن فيه ابن عباس رضي الله عنهما أحد العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة.

شرح الحديث:

عن حَجَّاجِ بْنِ مُحَمَّدٍ الأعور، أنه (قَالَ: قَالَ ابْنُ جُرَيْج: نَزَلَ) وفي بعض النسخ: "نزلت"، وقوله: ({يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} فاعل "نَزَلَ"، مرفوع محكيّ، لِقَصْد لَفْظه، وحقيقة الطاعة: امتثال الأمر، كما أن المعصية ضدّها، وهي مخالفة الأمر، والطاعة مأخوذة من

ص: 40

أطاع: إذا انقاد، والمعصية مأخوذة من عَصَى: إذا اشتد، "وأولو" واحدهم "ذُو" على غير قياس، كالنساء، والإبل، والخيل، كلُّ واحد اسم جمع، ولا واحد له من لفظه، وقد قيل في واحد الخيل: خائل، قاله القرطبيّ المفسّر رحمه الله

(1)

.

[تنبيه]: قال في "الفتح": والنكتة في إعادة العامل في الرسول، دون أولي الأمر، مع أن المطاع في الحقيقة هو الله تعالى، كون الذي يُعرَف به ما يقع به التكليف هما القرآن والسُّنَّة، فكأن التقدير: أطيعوا الله فيما نَصَّ عليكم في القرآن، وأطيعوا الرسول فيما بَيَّن لكم من القرآن، وما ينصه عليكم من السُّنَّة، أو المعنى: أطيعوا الله فيما يأمركم به من الوحي المتعبَّد بتلاوته، وأطيعوا الرسول فيما يأمركم به من الوحي الذي ليس بقرآن، ومن بديع الجواب قول بعض التابعين لبعض الأمراء من بني أمية لَمّا قال له: أليس الله أمركم أن تطيعونا في قوله: {وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} فقال له: أليس قد نُزِعَت عنكم - يعني: الطاعة - إذا خالفتم الحقّ بقوله: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} الآية [النساء: 59].

وقال الطيبيّ رحمه الله: قوله: {وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} عطفٌ على {أَطِيعُوا اللَّهَ} ، وكرّر الفعل في قوله:{وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} إشارة إلى استقلال الرسول صلى الله عليه وسلم بالطاعة، ولم يُعِدْه في قوله:{وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} إشارةً إلى عدم استقلالهم بالطاعة، بل إنما يطاعون إذا أطاعوا الله تعالى، ورسوله صلى الله عليه وسلم، فطاعتهم تابعة لطاعتهما، كما أوضح ذلك بعده بقوله:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} كأنه قيل: إذا لَمْ يكن أولو الأمر مستقيمين، وشاهدتم منهم خلاف الحقّ، فردّوه إلى الحقّ، وهو الكتاب والسُّنّة، ولا يأخذكم في الله لومة لائم. انتهى بتصرّف

(2)

.

(فِي عَبْدِ اللهِ بْنِ حُذَافَةَ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَدِيٍّ السَّهْمِيِّ) هو: عبد الله بن حُذافة بن قيس بن عَدِيّ بن سُعيد بن سَعْد بن سَهْم بن عمرو بن هُصَيص

(1)

"الجامع لأحكام القرآن" 5/ 261.

(2)

راجع: "الكاشف عن حقائق السنن" 8/ 2576.

ص: 41

القرشيّ السهميّ، أبو حُذافة، أسلم قديمًا، وهاجر إلى الحبشة، مع أخيه قيس، وقيل: إنه شَهِد بدرًا، ونزلت فيه آية {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} الآية، وروى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعنه أبو وائل، ومسعود بن الحكم الزُّرَقيّ. قال أبو القاسم البغويّ: بلغني أنه مات في خلافة عثمان، وقال أبو نعيم الحافظ: تُوُفّي بمصر في خلافة عثمان، قيل: إن مسلمًا رَوَى له، وهو وَهَمٌ، وحُكِيَ في "كتاب الأطراف". وهو الذي أَسَرَته الروم في زمن عمر بن الخطاب، فأرادوه على الكفر فأبى، فقال له ملك الروم: قَبِّلْ رأسي، وأُطلقك، قال: لا، قال: قَبِّلْ رأسي، وأطلقك ومن معك من المسلمين، فقَبَّل رأسه، ففعل، وأَطْلَق معه ثمانين أسيرًا، فَقَدِم بهم على عمر، فقال: حَقٌّ على كلِّ مسلم أن يُقَبِّل رأس عبد الله، وأنا أبدأ، ففعلوا. له في "الصحيحين" قصة في سؤاله مَن أَبِي؟ وفيها: لو ألحقني بعبد أسود للحقت به، وفيهما قصته في السريَّة التي أمرهم أن يدخلوا في النار، وقال ابن الْبَرْقيّ: حُفِظ عنه ثلاثة أحاديث، ليست بصحيحة الاتصال

(1)

.

وقال في "الإصابة": ومن مناقب عبد الله بن حُذافة ما أخرجه البيهقيّ من طريق ضِرَار بن عمرو، عن أبي رافع، قال: وَجَّه عمر جيشًا إلى الروم، وفيهم عبد الله بن حُذافة، فأسروه، فقال له ملك الروم: تنصَّر أُشْرِكْكَ في مُلكي، فأبى، فأمَر به، فَصُلب، وأمَر برميه بالسهام، فلم يَجْزَع، فأُنزل، وأَمَر بقِدْرٍ، فصُبَّ فيها الماء، وأُغلي عليه، وأَمَر بإلقاء أسير فيها، فإذا عظامه تلوح، فأَمَر بإلقائه، إن لَمْ يتنصّر، فلما ذهبوا به بكي، قال: رُدُّوه، فقال: لِمَ بكيت؟ قال: تمنيت أن لي مائةَ نفس، تُلْقَى هكذا في الله، فعَجِب، فقال: قَبِّل رأسي، وأنا أُخْلِي عنك، فقال: وعن جميع أُسارى المسلمين؟، قال: نعم، فقَبَّل رأسه، فخَلَّى بينهم، فقَدِمَ بهم على عمر، فقام عمر، فقَبَّل رأسه. وأخرج ابن عساكر لهذه القصّة شاهدًا من حديث ابن عباس، موصولًا، وآخر من فوائد هشام بن عثمان، من مرسل الزهريّ. انتهى

(2)

.

(1)

"تهذيب التهذيب" 5/ 162.

(2)

"الإصابة في تمييز الصحابة" 4/ 58.

ص: 42

وقال ابن يونس: شَهِدَ فتح مصر، وقُبِر في مقبرتها، وحَكَى محمد بن الربيع الْجِيزيّ أنه وَهَمٌ

(1)

.

(بَعَثَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي سَرِيَّةٍ) قال في "الفتح": قوله: "نزلت في عبد الله بن حذافة" كذا ذكره مختصرًا، والمعنى: نزلت في قِصّة عبد الله بن حُذافة؛ أي: المقصود منها في قصته قوله: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ} الآية.

قال الحافظ: وقد غَفَل الداوديّ عن هذا المراد، فقال: هذا وَهَمٌ على ابن عباس، فإن عبد الله بن حُذافة خرج على جيش، فغَضِب، فأوقدوا نارًا، وقال: اقتحموها، فامتنع بعض، وهَمّ بعض أن يفعل، قال: فإن كانت الآية نزلت قبلُ، فكيف يَخصّ عبد الله بن حُذافة بالطاعة دون غيره؟ وإن كانت نزلت بعدُ، فإنما قيل لهم: إنما الطاعة في المعروف، وما قيل لهم: لِمَ لَمْ تطيعوه؟ انتهى.

قال الحافظ: وبالحَمْل الذي قدّمته يظهر المراد، وينتفي الإشكال الذي أبداه؛ لأنهم تنازعوا في امتثال ما أمرهم به، وسببه أن الذين هَمُّوا أن يطيعوه، وقفوا عند امتثال الأمر بالطاعة، والذين امتنعوا عارضه عندهم الفرار من النار، فناسب أن يَنْزل في ذلك ما يُرشدهم إلى ما يفعلونه عند التنازع، وهو الردّ إلى الله تعالى، وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم؛ أي: إن تنازعتم في جواز الشيء وعدم جوازه، فارجعوا إلى الكتاب والسُّنَّة، والله أعلم.

وقد رَوَى الطبريّ أن هذه الآية نزلت في قصةٍ جَرَتْ لعمار بن ياسر، مع خالد بن الوليد، وكان خالد أميرًا، فأجار عمار رجلًا بغير أَمْره، فتخاصما، فنزلت، فالله أعلم.

وقال القرطبيّ رحمه الله: وقول ابن عباس رضي الله عنهما: "بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية" كلام غير تامّ، وتتميمه: أن عبد الله بن حُذَافَةَ أمرهم بأمر، فخالف بعضهم، وأَنِفَ على عادة العرب، فإنهم كانوا يأنفون من الطّاعة، قال الشافعيّ: كانت العرب تأنف من الطّاعة للأمراء، فلمَّا أطاعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرهم بطاعة الأمراء، وقال أبو العالية: نزلت الآيةُ بسبب عمَّار بن ياسر،

(1)

"تهذيب التهذيب" 5/ 162.

ص: 43

خرج في سرية؛ أميرهم خالد بن الوليد، فأجاز عَمَّار رجلًا، فأبى خالد أن يُجِيزَ أمانَهُ، فأخبر بذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم فأجاز أمان عَمَّار، ونهى أن يُجار على الأمير.

قال القرطبيّ رحمه الله: وقول ابن عباس أشهر، وأصح، وأنسب، وعلى هذا: فأولو الأمرِ في الآية: هم الأمراء، وهو أظهر مِنْ قول من قال: هم العلماء؛ قاله الحسن، ومالك، وله وجه، وهو: أن الأمراء شَرْطهم أن يكونوا آمرين بما يقتضيه العلم، وكذلك كان أمراءُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحينئذٍ تجب طاعتهم، فلو أَمروا بما لا يقتضيه العلم حَرُمَتْ طاعتهم، فإذًا الحكم للعلماء، والأمرُ لهم بالأصالة، غير أنهم لهم الفتيا من غير جبر، وللأمير الفتيا والجبر، وهذان القولان أشبه ما قيل في هذه الآية.

وقوله: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} الآية: {تَنَزَعْتُمْ} : اختلفتم، وأصله: التجاذب، والتعاطي، ومنه سُمِّي المستقيان متنازعين؛ لأنهما يتجاذبان الدّلو بالحبل، ولا شك أن المواجَه بهذا الخطاب الصحابة.

وعلى هذا فالمراد بقوله: {فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} ؛ أي: انتظروا أن يُنزل الله فيه قرآنًا، أو يبيّن فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم سُنَّة، وقيل: المراد الصحابة وغيرهم، والمعنى: أنَّ المرجِع عند التنازع كتاب الله، وسُنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم، قاله قتادة.

وقوله: {ذَلِكَ خَيْرٌ} ؛ أي: الردُّ إلى كتاب الله تعالى وسُنّة رسوله صلى الله عليه وسلم خير من الردّ إلى التحاكم بالهوي، و {خَيْرٌ} للمفاضلة التي على منهاجِ قولهم: العسل أحلى من الخل، ومنه قوله تعالى:{أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا (24)} [الفرقان: 24]، و {خَيْرٌ} هنا بمعنى: الواجب؛ أي: ذلك الواجب عليكم، و {تَأْوِيلًا}؛ أي: مآلًا، ومرجعًا؛ قاله قتادة وغيره. انتهى

(1)

.

وقوله: (أَخْبَرَنِيهِ) هو من قول ابن جريجٍ، (يَعْلَى بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما، وفيه تقديم المتن على بعض السند، وهو جائز على الصحيح، وسيأتي بيانه في المسألة الثالثة - إن شاء الله تعالى -.

(1)

"المفهم" 4/ 34 - 35.

ص: 44

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [8/ 4737](1834)، و (البخاريّ) في "التفسير"(4584)، و (أبو داود) في "الجهاد"(2255)، و (الترمذيّ) في "الجهاد"(1672)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(5/ 222 و 6/ 324)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 337)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(1/ 260)، و (الدارميّ) في "سننه"(1/ 83)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 398)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(5/ 131)، و (الحاكم) في "المستدرك"(2/ 125)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(8/ 155) و"شعب الإيمان"(3/ 6)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): قوله في هذا السند: أخبرنيه يعلى

إلخ فيه تقديم المتن على بعض السند، وفيه خلاف، كما قال السيوطي في "ألفيّة الحديث":

وَسَابِقٌ بِالْمَتْنِ أَو بَعْضِ سَنَدْ

ثُمَّ يُتِمُّهُ أَجِزْ فَإِنْ يُرَدْ

حِينَئِذٍ تَقْدِيمُ كُلِّهِ رَجَحْ

جَوَازُهُ كَبَعْضِ مَتْنٍ فِي الأَصَحِّ

وَابْنُ خُزَيْمَةَ يُؤَخِّرُ السَّنَدْ

حَيْثُ مَقَالٌ فَاتَّبِعْ وَلَا تَعَدّ

وحاصل معنى الأبيات: أنه روى أحد حديثًا، وقَدَّم المتن أَوّلًا، ثمّ ذَكَر إسناده، كأن يقول:"قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا"، ثم يقول: حدّثنا به فلان، عن فلان

إلخ، أو أخّر بعض السند، كما وقع عند مسلم هنا، وكأن يروي عن نافع، عن ابن عمر حديثًا، ثم يقول: حدّثنا به فلان إلى أن يصل إلى نافع، فهذا كلّه جائز، وقد وقع كثيرًا عند الرواة، وإذا أراد مَن عنده الحديثُ بهذه الصفة أن يسوق الإسناد كلّه أَوّلًا قبل المتن، فهو جائز على القول الصحيح، كجواز تقديم بعض المتن على بعض، إذا لَمْ يكن ذلك مؤثّرًا على المعنى.

وهذا كلّه في غير "صحيح ابن خزيمة"، فإنه رحمه الله يقدّم الحديث على السند إذا كان في السند من فيه مقال، فيبتدئ به، ثم بعد الفراغ يذكر السند، وقد صرّح هو بأن مَن رواه على غير ذلك الوجه لا يكون في حِلّ منه، فحينئذ

ص: 45

ينبغي أن يُمنع هذا، ولو جوّزنا الرواية بالمعنى. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم.

(المسألة الرابعة): سبب سريّة عبد الله بن حُذافة رضي الله عنه هذه: هو ما أخرجه أحمد، وابن ماجة، وصححه ابن حبّان، والحاكم من طريق عمر بن الحكم بن ثوبان، أن أبا سعيد الخدريّ قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم علقمة بن مُجَزِّز الْمُدْلِجيّ على بَعْث أنا فيهم، فخرجنا، حتى إذا كنا على رأس غَزَاتنا، أو في بعض الطريق استأذنته طائفة، فأَذِن لهم، وأَمَّر عليهم عبد الله بن حُذافة السهميّ، وكان من أصحاب بدر، وكانت فيه دُعَابةٌ، فكنت فيمن رجع معه، فبينا نحن في الطريق، نزلنا منزلًا، وأوقد القوم نارًا، يصطلون بها، أو يصنعون عليها صنيعًا لهم، إذ قال لهم عبد الله بن حذافة: أليس لي عليكم السمع والطاعة؟ قالوا: بلي، قال: فأنا آمركم بشيء ألا فعلتموه؟ قالوا: بلي، قال: فإني أعزم عليكم بحقي، وطاعتي، إلَّا تواثبتم في هذه النار، قال: فقام ناس حتى إذا ظنّ أنهم واثبون فيها، قال: أمسكوا عليكم أنفسكم، إنما كنت أضحك معكم، فلمّا قَدِمُوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكروا ذلك له، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"مَن أمركم بمعصية فلا تطيعوه".

وذكر ابن سعد أن سريّة علقمة بن مُجَزِّز المدلجيّ إلى الحبشة في شهر ربيع الآخر، سنة تسع من مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم. قالوا: بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ناسًا من الحبشة، تراياهم أهل جُدّة، فبعث إليهم علقمةَ بن مُجَزِّز في ثلاثمائة، فانتهى إلى جزيرة في البحر، وقد خاض إليهم البحر، فهربوا منه، فلما رجع تعجّل بعض القوم إلى أهلهم، فأَذِن لهم، فتعجّل عبد الله بن حُذافة السهميّ فيهم، فأَمَّره على من تعجل، وكانت فيه دُعابة، فنزلوا ببعض الطريق، وأوقدوا نارًا يصطلون عليها، ويصطنعون، فقال: عزمت عليكم إلَّا تواثبتم في هذه النار، فقام بعض القوم، فاحتجزوا حتى ظنّ أنهم واثبون فيها، فقال: اجلسوا، إنما كنت أضحك معكم، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:"من أمركم بمعصية فلا تطيعوه". انتهى

(2)

، والله تعالى أعلم.

(1)

راجع: شرحي المسمّى "إسعاف ذوي الوطر بشرح ألفيَّة الأثر" 2/ 93 - 95.

(2)

"الطبقات الكبرى" لابن سعد رحمه الله 2/ 163.

ص: 46

(المسألة الخامسة): قال النوويّ رحمه الله: قال العلماء: المراد بأولي الأمر: مَنْ أوجب الله تعالى طاعته، من الولاة، والأمراء، هذا قول جماهير السلف والخلف، من المفسّرين، والفقهاء، وغيرهم، وقيل: هم العلماء، وقيل: الأمراء والعلماء، وأما من قال: هم الصحابة خاصّة فقط فقد أخطأ. انتهى

(1)

.

وقال في "الفتح": اختُلِف في المراد بأولي الأمر في الآية، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: هم الأمراء، أخرجه الطبريّ بإسناد صحيح، وأخرج عن ميمون بن مِهْران وغيره نحوه، وعن جابر بن عبد الله، قال: هم أهل العلم والخير، وعن مجاهد، وعطاء، والحسن، وأبي العالية: هم العلماء، ومن وجه آخر أصحّ منه عن مجاهد، قال: هم الصحابة رضي الله عنه، وهذا أخصّ، وعن عكرمة قال: أبو بكر، وعمر، وهذا أخصّ من الذي قبله، ورجّح الشافعيّ الأول، واحتَجّ له بأن قريشًا كانوا لا يَعرفون الإمارة، ولا ينقادون إلى أمير، فأُمروا بالطاعة لمن وَلي الأمر، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم:"من أطاع أميري فقد أطاعني"، متّفقٌ عليه، وقال ابن عيينة: سألت زيد بن أسلم عنها، ولم يكن بالمدينة أحد يفسّر القرآن بعد محمد بن كعب مثله، فقال: اقرأ ما قبلها تعرف، فقرأت:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} الآية [النساء: 58]، فقال: هذه في الولاة، واختار الطبريّ حملها على العموم، وإن نزلت في سبب خاصّ، والله أعلم

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: عندي أن ما رجّحه الطبريّ رحمه الله من حَمْل الآية على العموم هو الأرجح؛ لأنَّ العبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب، والله تعالى أعلم.

وقال أبو عبد الله القرطبيّ المفسّر رحمه الله في "تفسيره": لَمّا تقدّم إلى الولاة في الآية المتقدمة

(3)

وبدأ بهم، فأمَرهم بأداء الأمانات، وأن يحكموا بين الناس

ص: 47

بالعدل، تقدّم في هذه الآية إلى الرعية، فأمر بطاعته أَوّلًا، وهي امتثال أوامره، واجتناب نواهيه، ثم بطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم ثانيًا، فيما أَمَر به، ونَهَى عنه، ثم بطاعة الأمراء ثالثًا، على قول الجمهور، وأبي هريرة، وابن عباس، وغيرهم.

قال سهل بن عبد الله التستريّ: أطيعوا السلطان في سبعة: ضَرْب الدراهم والدنانير، والمكاييل والأوزان، والأحكام، والحجّ، والجمعة، والعيدين، والجهاد.

قال سهل: وإذا نَهَى السلطان العالم أن يفتي فليس له أن يفتي، فإن أفتى فهو عاص، وإن كان أميرًا جائرًا.

وقال ابن خويز منداد: وأما طاعة السلطان فتجب فيما كان لله فيه طاعة، ولا تجب فيما كان لله فيه معصية، ولذلك قلنا: إن وُلاة زماننا لا تجوز طاعتهم ولا معاونتهم، ولا تعظيمهم، ويجب الغزو معهم متى غزوا، والحكم من قبلهم، وتولية الإمامة والحسبة، وإقامة ذلك على وجه الشريعة.

وإن صلّوا بنا وكانوا فَسَقَةً من جهة المعاصي جازت الصلاة معهم، وإن كانوا مبتدِعة لَمْ تجز الصلاة معهم إلَّا أن يُخَافوا، فيصلي معهم تقيّةً، وتعاد الصلاة.

ورُوي عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: حقّ على الإمام أن يحكم بالعدل، ويؤدي الأمانة، فإذا فعل ذلك وجب على المسلمين أن يطيعوه؛ لأنَّ الله تعالى أمرنا بأداء الأمانة والعدل، ثم أمر بطاعته.

وقال جابر بن عبد الله، ومجاهد:"أولو الأمر" أهل القرآن والعلم، وهو اختيار مالك رحمه الله، ونحوه قول الضحاك، قال: يعني الفقهاء، والعلماء في الدِّين.

وحُكي عن مجاهد أنهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم خاصة.

وحُكي عن عكرمة أنَّها إشارة إلى أبي بكر وعمر رضي الله عنهما بخاصة.

وروى سفيان بن عيينة عن الحكم بن أبان أنه سأل عكرمة عن أمهات الأولاد، فقال: هنّ حرائر، فقلت: بأي شيء؟ قال: بالقرآن، قلت: بأيّ شيء في القرآن؟ قال: قال الله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ} ، وكان عُمَر من أولي الأمر، قال: عَتَقت ولو بِسَقْط.

ص: 48

وقال ابن كيسان: هم أولو العقل، والرأي الذين يدبِّرون أمر الناس. قال القرطبيّ: وأصح هذه الأقوال الأول والثاني، أما الأول فلأن أصل الأمر منهم، والحكم إليهم.

وفي "الصحيحين" عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: نزل {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ} في عبد الله بن حُذافة بن قيس بن عديّ السهميّ؛ إذ بَعَثه النبيّ صلى الله عليه وسلم في سريّة.

قال أبو عمر: وكان في عبد الله بن حذافة دُعابة معروفة، ومن دعابته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أَمَّره على سريّة فأمرهم أن يجمعوا حطبًا، ويوقدوا نارًا، فلما أوقدوها أمرهم بالتقحم فيها، فقال لهم: ألم يأمركم رسول الله صلى الله عليه وسلم بطاعتي؟! وقال: "من أطاع أميري فقد أطاعني؟ ".

فقالوا: ما آمنا بالله، واتبعنا رسوله إلَّا لننجو من النار! فصَوَّب رسول الله صلى الله عليه وسلم فِعْلهم، وقال:"لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق"، قال الله تعالى:{وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} ، وهو حديث صحيح الإسناد مشهور.

وروى محمد بن عمرو بن علقمة، عن عمر بن الحكم بن ثوبان أن أبا سعيد الخدريّ قال: كان عبد الله بن حذافة بن قيس السهميّ من أصحاب بدر، وكانت فيه دُعابة.

وذكر الزبير قال: حدثني عبد الجبار بن سعيد عن عبد الله بن وهب، عن الليث بن سعد قال: بلغني أنه حَلَّ حِزَام راحلة رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره، حتى كاد رسول الله صلى الله عليه وسلم يقع، قال ابن وهب: فقلت لليث: ليضحكه؟ قال: نعم كانت فيه دُعابة.

وقال ميمون بن مهران، ومقاتل، والكلبي:"أولو الأمر" أصحاب السرايا.

وأما القول الثاني: فيدل على صحته قوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} ، فأمَر تعالى بردّ المتنازَع فيه إلى كتاب الله وسُنَّة نبيّه صلى الله عليه وسلم، وليس لغير العلماء معرفة كيفية الردّ إلى الكتاب والسُّنَّة، ويدلّ هذا على صحة كون سؤال العلماء واجبًا، وامتثال فتواهم لازمًا، قال سهل بن عبد الله رحمه الله:

ص: 49

لا يزال الناس بخير ما عظَّموا السلطان والعلماء، فإذا عظَّموا هذين أصلح الله دنياهم وأُخراهم، وإذا استخفّوا بهذين أفسد دنياهم وأخراهم.

وأما القول الثالث فخاصّ، وأخصّ منه القول الرابع.

وأما الخامس فيأباه ظاهر اللفظ، وإن كان المعنى صحيحًا، فإن العقل لكل فضيلة أُسّ، ولكل أدب ينبوع، وهو الذي جعله الله للدين أصلًا وللدنيا عمادًا، فأوجب الله التكليف بكماله، وجعل الدنيا مدبَّرة بأحكامه، والعاقل أقرب إلى ربه تعالى من جميع المجتهدين بغير عقل، وروي هذا المعنى عن ابن عباس.

وزعم قوم

(1)

أن المراد بأولي الأمر عليٌّ والأئمة المعصومون، ولو كان كذلك ما كان لقوله:{فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ} معني، بل كان يقول: فردّوه إلى الإمام، وأولي الأمر، فإن قوله عند هؤلاء هو المحكَّم على الكتاب والسُّنَّة، وهذا قول مهجور مخالِف لِمَا عليه الجمهور. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا الله ضه: بل مذهب الفرقة الضالّة الرافضة المارقة، وهو مخالف لمذهب أهل السُّنّة والجماعة كافّة، ولمَا دلّت عليه النصوص الصحيحة الصريحة في معنى الآية، فتأملها بالإنصاف، ولا تكن أسير التقليد، فتهلك مع الهالكين، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل، {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8)} [آل عمران: 8]، اللهم أرنا الحقّ حقًّا، وارزقنا اتّباعه، وأرنا الباطل باطلًا، وارزقنا اجتنابه، آمين.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4738]

(1835) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا الْمُغِيرَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحِزَامِيُّ، عَنْ أَبِي الزِّنَاد، عَنِ الأَعْرَج، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ، وَمَنْ يَعْصِنِي فَقَدْ عَصَى اللهَ، وَمَنْ يُطِعِ الأَمِيرَ فَقَدْ أَطَاعَني، وَمَنْ يَعْصِ الأَمِيرَ فَقَدْ عَصَانِي").

(1)

هم الرافضة، وقولهم هذا باطل مرفوض، لمصادمته النصوص الشرعيّة، فتنبّه، ولا تكن من الغافلين.

(2)

"الجامع لأحكام القرآن" 5/ 259 - 261.

ص: 50

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) بن بكر بن عبد الرَّحمن التميميّ، أبو زكريّاء النيسابوريّ، ثقةٌ ثبتٌ إمامٌ [10](ت 226) على الصحيح (خ م ت س) تقدّم في "المقدمة" 3/ 9.

2 -

(الْمُغِيرَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحِزَامِيُّ) المدنيّ، نزيل عسقلان، لقبه قُصيّ، ثقةٌ له غرائب [7] تقدّم في "الطهارة" 26/ 653.

3 -

(أَبُو الزِّنَادِ) عبد الله بن ذكوان، تقدّم في الباب الماضي.

4 -

(الأَعْرَجُ) عبد الرَّحمن بن هُرْمُز القرشيّ مولاهم، أبو داود المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ [3](ت 117)(ع) تقدّم في "الإيمان" 23/ 192.

5 -

(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه تقدّم في "المقدمة" 2/ 4.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وهو مسلسلٌ بالمدنيين، غير شيخه، فنيسابوريّ، وقد دخل المدينة، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وأنه أصحّ أسانيد أبي هريرة رضي الله عنه عند بعضهم، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه أحفظ من روى الحديث في دهره، ورأس المكثرين السبعة، روى (5374) حديثًا.

شرح الحديث:

(عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) أنه (قَالَ: "مَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ) هذه الجملة منتزعة من قوله تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80]؛ أي: لأني لا آمر إلَّا بما أمَر الله به، فمن فعل ما آمره به فإنما أطاع من أمرني أن آمره، ويَحْتَمِل أن يكون المعنى: لأنَّ الله أمر بطاعتي، فمن أطاعني فقد أطاع أمْر الله له بطاعتي، وفي المعصية كذلك، والطاعة هي الإتيان بالمأمور به، والانتهاء عن المنهيّ عنه، والعصيان بخلافه

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: هذا منتزع من قوله تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} ، وذلك أنه صلى الله عليه وسلم لَمَّا كان مُبَلِّغًا أمْر الله، وحُكْمَهُ، وأمَر الله بطاعته؛ فمن أطاعه فقد أطاع الله، ونفّذ حكمه

(2)

.

(1)

"الفتح" 16/ 608، كتاب "الأحكام" رقم (7137).

(2)

"المفهم" 4/ 35.

ص: 51

(وَمَنْ يَعْصِنِي فَقَدْ عَصَى اللهَ، وَمَنْ يُطِعِ الأَمِيرَ) وفي الرواية التالية: "ومن أطاع أميري فقد أطاعني" بالإضافة، ويمكن - قال في "الفتح" - ردّ اللفظين لمعنى واحد، فإن كلّ من يأمر بحقّ، وكان عادلًا فهو أمير الشارع؛ لأنه تولى بأمره، وبشريعته، ويؤيِّده توحيد الجواب في الأمرين، وكأن الحكمة في تخصيص أميره بالذكر أنه المراد وقت الخطاب، ولأنه سبب ورود الحديث، وأما الحكم فالعبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب.

ووقوعه في هذه الرواية بلفظ المضارع، حيث قال:"ومن يطع الأمير فقد أطاعني، ومن يعص الأمير فقد عصاني" بصيغة المضارعة، أدْخَلُ في إرادة تعميم من خوطب، ومَن جاء مِن بعد ذلك.

(فَقَدْ أَطَاعَنِي)؛ أي: عَمِلَ بما شَرَعته، قال القرطبيّ رحمه الله: وَوَجْهُ ذلك أنَّ أمير رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما هو مُنَفِّذٌ أَمْرَهُ، ولا يتصرف إلَّا بأمره، فمن أطاعه فقد أطاع أمْر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا فكل من أطاع أمير رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أطاع الرسول؛ ومن أطاع الرسول فقد أطاع الله، فينتج: أنَّ مَنْ أطاع أمير رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أطاع الله، وهو حقّ، صحيح، وليس هذا الأمر خاصًّا بمن باشره رسول الله صلى الله عليه وسلم بتولية الإمارة، بل هو عام في كلّ أمير للمسلمين، عدلٍ، ويلزم منه نقيض ذلك في المخالفة والمعصية. انتهى

(1)

.

(وَمَنْ يَعْصِ الأَمِيرَ فَقَدْ عَصَانِي") قال الإمام الشافعيّ رحمه الله: كانت قريش ومن يليها من العرب لا يعرفون الإمارة، فكانوا يمتنعون على الأمراء، فقال هذا القول يحثّهم على طاعة من يُؤَمِّرهم عليهم، والانقياد لهم إذا بعثهم في السرايا، وإذا ولّاهم البلاد، فلا يخرجوا عليهم؛ لئلا تفترق الكلمة.

ووقع عند أحمد، وأبي يعلى، والطبرانيّ من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من أصحابه، فقال:"ألستم تعلمون أن من أطاعني فقد أطاع الله، وأن من طاعة الله طاعتي؟ " قالوا: بلى نشهد، قال:"فإن من طاعتي أن تطيعوا أمراءكم"، وفي لفظ:"أئمتكم".

(1)

"المفهم" 4/ 36.

ص: 52

وفي الحديث وجوب طاعة ولاة الأمور، وهي مقيّدة بغير الأمر بالمعصية، كما تقدم بيان ذلك.

والحكمة في الأمر بطاعتهم المحافظة على اتفاق الكلمة؛ لِمَا في الافتراق من الفساد

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [8/ 4738 و 4739 و 4740 و 4741 و 4742 و 4743 و 4744](1835)، و (البخاريّ) في "الجهاد"(2957) و"الأحكام"(7137)، و (النسائيّ) في "البيعة"(7/ 154) و"الكبرى"(4/ 431 و 462 و 5/ 222)، و (ابن ماجة) في "المقدّمة"(3) و"الجهاد"(2859)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(20679)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 244 و 270 و 342 و 511 و 4/ 171 و 6/ 416 و 417)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(12/ 212)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(3/ 46)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4556)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 109 و 4/ 399 و 400 و 401)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(11/ 154)، و (عبد بن حميد) في "مسنده"(1/ 426)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(2/ 39)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(8/ 155)، و (البغويّ) في "شرح السُّنّة"(2451 و 2477)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان وجوب طاعة الإمام، وأن طاعته طاعة لله سبحانه وتعالى، وطاعة لرسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم ينفّذون أحكام الله تعالى.

2 -

(ومنها): أن الحكمة في طاعة الأمراء هي المحافظة على اتّفاق الكلمة؛ لِمَا في الافتراق من الفساد، {لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة: 205].

3 -

(ومنها): أن وجوب طاعة الإمام مقيّد بما إذا أمر بغير المعصية، وإلا فلا طاعة له؛ لحديث عليّ رضي الله عنه مرفوعًا: "لا طاعة لمخلوق في

(1)

"الفتح" 16/ 608 - 609، كتاب "الأحكام" رقم (7137).

ص: 53

معصية الله عز وجل، رواه أحمد بإسناد صحيح، وأخرجه الشيخان بلفظ:"لا طاعة في معصية الله، إنما الطاعة في المعروف"، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلِّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4739]

(

) - (وَحَدَّثَنِيهِ زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ أَبِي الزِّنَاد، بِهَذَا الْإِسْنَاد، وَلَمْ يَذْكُرْ: "وَمَنْ يَعْصِ الأَمِيرَ فَقَدْ عَصَانِي").

رجال هذا الإسناد: ثلاثة:

وكلهم ذُكروا في الباب، وقبله.

وقوله: (وَلَمْ يَذْكُرْ .... إلخ) بالبناء للفاعل، وفاعله ضمير سفيان بن عيينة.

[تنبيه]: رواية ابن عيينة، عن أبي الزناد هذه ساقها أبو يعلى رحمه الله في "مسنده" بسند المصنّف، فقال:

(6272)

- حدَّثنا أبو خيثمة

(1)

، حدَّثنا سفيان، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أطاعني فقد أطاع الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني". انتهى

(2)

، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلف رحمه الله أَوَّل الكتاب قال:

[4740]

(

) - (وَحَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَخْبَرَهُ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَن، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "مَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ عَصَى اللهَ، وَمَنْ أَطَاعَ أَمِيرِي فَقَدْ أَطَاعَنِي، وَمَنْ عَصَى أَمِيرِي فَقَدْ عَصَانِي").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى) بن عبد الله بن حرملة بن عمران التُّجيبيّ، أبو حفص المصريّ، صاحب الشافعيّ، صدوقٌ [11](ت 3 أو 244)(م س ق) تقدّم في "المقدمة" 3/ 14.

2 -

(ابْنُ وَهْبٍ) عبد الله بن وهب بن مسلم القرشيّ مولاهم، أبو محمد المصريّ، ثقةٌ حافظٌ عابدٌ فقيهٌ [9](ت 197)(ع) تقدّم في "المقدمة" 3/ 10.

(1)

هو: زهير بن حرب شيخ مسلم هنا.

(2)

"مسند أبي يعلى" 11/ 154.

ص: 54

3 -

(يُونُسُ) بن يزيد بن أبي النجاد الأيليّ، أبو يزيد الأمويّ مولاهم، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار [7](ت 159)(ع) تقدّم في "المقدمة" 3/ 14.

4 -

(أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بن عوف الزهريّ المدنيّ، ثقةٌ مكثرٌ فقيهٌ [3](94)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" ص 2 ص 423.

والباقيان ذُكرا في الباب وقبله، والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه مستوفًى، وكذا بيان مسائله قبل حديث، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4741]

(

) - (وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِم، حَدَّثَنَا مَكَّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ زِيَادٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَنَّ أبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَخْبَرَهُ، أَنَّهُ سَمِعَ؛ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، بِمِثْلِهِ سَوَاءً).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمِ) بن ميمون المروزيّ، نزيل بغداد المعروف بالسمين، صدوقٌ فاضلٌ، ربّما وَهِمَ [10](ت 5 أو 236)(م د) تقدّم في "الإيمان" 1/ 104.

2 -

(مَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمّ) بن بشير التميمي، أبو السكن الْبَلْخيّ، ثقةٌ ثبتٌ [9](ت 215) وله (90) سنة (ع) تقدّم في "الصلاة" 51/ 1141.

3 -

(زِيَادُ) بن سعد بن عبد الرَّحمن الْخُرَاسانيّ، نزيل مكة، ثم اليمن، ثقةٌ ثبتٌ، من أثبت أصحاب الزهريّ [6](ع) تقدّم في "الطهارة" 26/ 653.

والباقون ذُكروا في الباب.

[تنبيه]: رواية زياد بن سعد، عن ابن شهاب هذه ساقها النسائيّ رحمه الله في "المجتبى"، فقال:

(4193)

- أخبرنا يوسف بن سعيد، قال: حدّثنا حجاج، عن ابن جريجٍ، أن زياد بن سعد، أخبره، أن ابن شهاب أخبره، أن أبا سلمة أخبره، أنه سمع أبا هريرة، يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصى أميري فقد عصاني". انتهى

(1)

.

(1)

"سنن النسائيّ""المجتبى" 7/ 154.

ص: 55

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4742]

(

) - (وَحَدَّثَنِي أَبُو كَامِلٍ الْجَحْدَرِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ يَعْلَى بْنِ عَطَاءٍ، عَنْ أَبِي عَلْقَمَةَ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو هُرَيْرَةَ، مِنْ فِيهِ إِلَى فِيَّ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم (ح) وَحَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ، حَدَّثَنَا أَبِي (ح) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ يَعْلَى بْنِ عَطَاءٍ، سَمِعَ أَبَا عَلْقَمَةَ، سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم نَحْوَ حَدِيثِهِمْ).

رجال هذا الإسناد: عشرة:

1 -

(أَبُو كَامِلٍ الْجَحْدَرِيُّ) فضيل بن حسين بن طلحة البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 237)(خت م د ت س) تقدّم في "المقدمة" 6/ 57.

2 -

(أَبُو عَوَانَةَ) وضّاح بن عبد الله اليشكريّ الواسطيّ البزّاز، ثقةٌ ثبتٌ [7](5 أو 176)(ع) تقدّم في "المقدمة" 2/ 4.

3 -

(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذِ) بن معاذ الْعَنْبريّ، أبو عمرو البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 237)(ع) تقدّم في "المقدمة" 3/ 7.

4 -

(أَبُوهُ) معاذ بن معاذ بن نصر بن حسّان الْعَنْبريّ، أبو المثنَّى البصريّ القاضي، ثقةٌ متقنٌ، من كبار [9](ت 196)(ع) تقدّم في "المقدمة" 3/ 7.

5 -

(مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ) بُندر، أبو بكر البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 252)(ع) تقدّم في "المقدمة" 2/ 2.

6 -

(مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ) غندر، أبو عبد الله البصريّ، ثقةٌ، صحيح الكتاب [9](ت 193)(ع) تقدّم في "المقدمة" 2/ 2.

7 -

(شُعْبَة) بن الحجّاج بن الورد العتكيّ مولاهم، أبو بسطام الواسطيّ، ثم البصريّ الإمام الحافظ الحجة الناقد [7](ت 160)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" ج 1 ص 381.

8 -

(يَعْلَى بْنُ عَطَاءٍ) العامريّ، أو الليثيّ الطائفيّ، ثقةٌ [4](ت 120) أو بعدها (ز م 4) تقدّم في "الصلاة" 21/ 939.

9 -

(أَبُو عَلْقَمَةَ) الفارسيّ، المصريّ، مولى بني هاشم، ويقال: حليف الأنصار، وكان قاضي إفريقية، ثقةٌ، من كبار [3](ز م 4) تقدّم في "الصلاة" 21/ 939.

ص: 56

و"أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه" ذُكر قبله.

وقوله: (مِنْ فِيهِ إِلَى فِيَّ)؛ أي: حدّثني مواجهةً، ومشافهةً، وتلقينًا، والمراد تأكيد سماعه من أبي هريرة رضي الله عنه بلا واسطة.

وقوله: (نَحْوَ حَدِيثِهِمْ)؛ يعني: أن حديث أبي علقمة نحو حديث الأعرج، وأبي سلمة بن عبد الرَّحمن، وإطلاق ضمير الجمع على الاثنين تقدّم أنه صحيح، فصيح؛ لأنَّ الأصحّ أن أقلّ الجمع اثنان، كما أوضحت ذلك في "التحفة المرضيّة"، و"شرحها"(3/ 229 - 233). وأما تغليط بعض الشراح

(1)

هذا، وأن الصواب "حديثهما" فليس مما يُلتفت؛ لأنَّ النسخ كلها متّفقة عليه، وتأويله بما ذكرنا صحيح، فلا داعي للتغليط، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

[تنبيه]: رواية أبي علقمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه هذه ساقها أبو عوانة رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(7087)

- حدّثنا يونس بن حبيب، وعمار بن رجاء، قالا: ثنا أبو داود، قال: ثنا شعبة، قال: حدّثني يعلى بن عطاء، قال: سمعت أبا علقمة يحدّث عن أبي هريرة، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن أطاع الأمير فقد أطاعني، ومن عصى الأمير فقد عصاني"

(2)

.

وقال أبو عوانة أيضًا:

(8088)

- حدّثنا أبو داود الحرّانيّ، قال: ثنا أبو الوليد، عن أبي عوانة، عن يعلى بن عطاء، عن أبي علقمة الأنصاريّ، قال: حدّثني أبو هريرة، من فيه إلى فيّ، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن أطاع الأمير أطاعني، إنما الأمير مِجَنّ، فإذا صلى جالسًا فصلوا جلوسًا". انتهى

(3)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أَوَّل الكتاب قال:

[4743]

(

) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاق، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنبِّهٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِ حَدِيثِهِمْ).

(1)

هو: الشيخ الهرري. انظر: شرحه 20/ 51.

(2)

"مسند أبي عوانة" 4/ 399.

(3)

"مسند أبي عوانة" 4/ 399.

ص: 57

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(هَمَّامُ بْنُ مُنَبِّهِ) بن كامل الأبناويّ، أبو عقبة الصنعانيّ، ثقةٌ [4](ت 132)(ع) تقدّم في "الإيمان" 26/ 213.

والباقون ذُكروا في الباب، وقبله.

[تنبيه]: رواية همّام بن منبّه، عن أبي هريرة رضي الله عنه هذه ساقها أبو عوانة رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(7093)

- حدّثنا حمدان السلميّ، قال: ثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن همام، قال: هذا ما ثنا أبو هريرة، عن محمد صلى الله عليه وسلم قال:"نحن الآخرون السابقون يوم القيامة"، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من أطاعني فقد أطاع الله، ومن يعصني فقد عصى الله، ومن يطع الأمير فقد أطاعني، ومن يعص الأمير فقد عصاني"، لَمْ يقل: أميري. انتهى

(1)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلِّف رحمه الله أَوَّل الكتاب قال:

[4744]

(

) - (وَحَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِر، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ حَيْوَةَ، أَنَّ أَبَا يُونُسَ مَوْلَى أَبِي هُرَيْرَةَ حَدَّثَهُ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ، وَقَالَ: "مَنْ أَطَاعَ الأَمِيرَ"، وَلَمْ يَقُلْ: أَمِيرِي، وَكَذَلِكَ فِي حَدِيثِ هَمَّامٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أَبُو الطَّاهِرِ) أحمد بن عمرو بن عبد الله بن السرح المصريّ، ثقةٌ [10](ت 250)(م د س ق) تقدَّم في "المقدمة" 3/ 10.

2 -

(حَيْوَةُ) بن شريح بن صفوان التُّجيبيّ، أبو زرعة المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ زاهدٌ [7](ت 8 أو 159)(ع) تقدّم في "الإيمان" 57/ 328.

3 -

(أَبُو يُونُسَ مَوْلَى أَبِي هُرَيْرَةَ) سُليم بن جُبير الدوسيّ المصريّ، ثقةٌ [3](123)(بخ م د ت) تقدّم في "الإيمان" 34/ 240.

والباقيان ذُكرا في الباب.

(1)

"مسند أبي عوانة" 4/ 400.

ص: 58

[تنبيه]: رواية أبي يونس عن أبي هريرة رضي الله عنه هذه ساقها أبو نعيم رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(7094)

- حدّثنا نصر بن مرزوق أبو الفتح المصريّ، قال: ثنا إدريس بن يحيى الخولانيّ، وحدّثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، قال: ثنا وهب الله بن راشد، قالا: ثنا حيوة بن شُريح، أن أبا يونس مولى أبي هريرة حدّثه، قال: سمعت أبا هريرة يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن أطاع الخليفة فقد أطاعني، ومن عصى الخليفة فقد عصاني". انتهى

(1)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4775]

(1836) - (وَحَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَقُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، كِلَاهُمَا عَنْ يَعْقُوبَ، قَالَ سَعِيدٌ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَن، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ السَّمَّان، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "عَلَيْكَ السَّمْعُ، وَالطَّاعَةُ، فِي عُسْرِكَ، وَيُسركَ، وَمَنْشَطِكَ، وَمَكْرَهِكَ، وَأَثَرَةٍ عَلَيْكَ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورِ) بن شعبة، أبو عثمان الْخُرَاسانيّ، نزيل مكة، ثقةٌ مصنّفٌ [10](ت (ت 227) أو بعدها (ع) تقدّم في "الإيمان" 61/ 338.

2 -

(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدِ) بن جميل بن طريف الثقفيّ، أبو رجاء الْبَغْلانيّ، قيل: اسمه يحيى، وقيل: عليّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 240) وله (90) سنةً (ع) تقدّم في "المقدمة" 6/ 50.

3 -

(يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بن محمد بن عبد الله بن عبدٍ القاريّ المدنيّ، نزيل الإسكندريّة، حليف بني زُهرة، ثقةٌ [8](ت 181)(خ م د ت س) تقدّم في "الإيمان" 35/ 245.

4 -

(أَبُو حَازِمٍ) سلمة بن دينار التمّار الأعرج القاصّ المدنيّ، ثقةٌ عابدٌ [5](ت 140) أو قبلها، أو بعدها (ع) تقدّم في "الإيمان" 50/ 313.

(1)

"مسند أبي عوانة" 4/ 401 - 402.

ص: 59

5 -

(أَبُو صَالِحٍ السَّمَّانُ) ذكوان المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ [3](ت 101)(ع) تقدّم في "المقدمة" 2/ 4.

و"أبو هريرة رضي الله عنه " ذُكر قبله.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسلٌ بالمدنيين غير شيخيه، فالأول خراسانيّ، ثم مكيّ، والثاني بغلانيّ، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه رأس المكثرين السبعة، روى (5374) حديثًا.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "عَلَيْكَ)"عليك" اسم فعل أَمْر بمعنى: الْزَمْ، وقوله:(السَّمْعُ، وَالطَّاعَةُ) منصوب بـ "عليك"؛ أي: ألزم طاعةَ أميرك في كلّ ما يأمر به، وإن شَقّ ما لَمْ يكن إثمًا، وجَمَع بينهما تأكيدًا؛ للاهتمام بالمقام، وقال أبو البقاء: بالرفع على أنَّه مبتدأ، وما قبله الخبر، وهذا اللفظ لفظُ خبرٍ، ومعناه الأمر؛ أي: اسمع، وأطع على كلّ حال

(1)

. (فِي عُسْرِكَ)؛ أي: ضيقك وشدتك، (وَيُسْرِكَ) بضم السين، وسكونها: نقيض العسر؛ يعني: في حال فقرك، وغناك

(2)

. (وَمَنْشَطِكَ، وَمَكْرَهِكَ) مصدران ميميّان، أو اسما زمان، أو مكان؛ أي: اسمع، وأطع فيما يوافق طبعك، وما لا يوافقه. (وَأَثَرَةٍ عَلَيْكَ) بفتحات، وبثاء مثلثة، وهو الإيثار؛ يعني: إذا فَضّل وليّ أمرك أحدًا عليك بلا استحقاق، ومنعك حقّك فاصبر، ولا تخالفه، وإنما قال:"وأثرة عليك"، وإن شَمِله "مكرهك" إشارة إلى شدة تلك الحالة

(3)

.

وقال النوويّ رحمه الله: الأَثَرَة بفتح الهمزة والثاء، ويقال: بضم الهمزة، وإسكان الثاء، وبكسر الهمزة، وإسكان الثاء، ثلاث لغات، حكاهنّ في "المشارق"، وغيره، وهي الاستئثار، والاختصاص بأمور الدنيا؛ أي: اسمعوا، وأطيعوا، وإن اختَصّ الأمراء بالدنيا عليكم، ولم يوصلوا إليكم حقَّكم مما عندهم.

(1)

"فيض القدير" 4/ 329.

(2)

"فيض القدير" 4/ 329.

(3)

"فيض القدير" 4/ 329.

ص: 60

ومعنى الحديث: تجب طاعة ولاة الأمور، فيما يشُقّ، وتكرهه النفوس وغيره، مما ليس بمعصية، فإن كانت لمعصية فلا سمع ولا طاعة، كما صُرِّح به في الأحاديث الباقية، فتُحمل هذه الأحاديث المطلقة لوجوب طاعة ولاة الأمور على موافقة تلك الأحاديث المصرِّحة بأنه لا سمعَ، ولا طاعةَ في المعصية.

والحديث فيه الحثّ على السمع والطاعة، في جميع الأحوال، وسببها اجتماع كلمة المسلمين، فإن الخلاف سبب لفساد أحوالهم في دينهم ودنياهم، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسألتان تتعلَّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [8/ 4746](1836)، و (النسائيّ) في "البيعة"(7/ 140) و"الكبرى"(7776)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 381)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 403)، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4746]

(1837) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ بَرَّادٍ الأَشْعَرِيُّ، وَأبُو كُرَيْبٍ، قَالُوا: حَدَّثَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ أَبِي عِمْرَانَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ الصَّامِت، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: إِنَّ خَلِيلِي أَوْصَانِي أَنْ أَسْمَعَ، وَأُطِيعَ، وإِنْ كَانَ عَبْدًا، مُجَدَّعَ الأَطْرَافِ).

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ بَرَّادٍ الأَشْعَرِيُّ) هو: عبد الله بن بَرّاد بن يوسف بن أبي بُرْدة بن أبي موسى، أبو عامر الكوفيّ، صدوقٌ [10](خت م) تقدّم في "المقدمة" 6/ 51.

2 -

(ابْنُ إِدْرِيسَ) هو: عبد الله بن إدريس بن يزيد بن عبد الرَّحمن الأوديّ، أبو محمد الكوفيّ، ثقةٌ فقيهٌ عابدٌ [8](ت 192) له بضع و (70) سنةً (ع) تقدّم في "المقدمة" 4/ 24.

3 -

(أَبُو عِمْرَانَ) عبد الملك بن حبيب الأزديّ، أو الْكِنْديّ الْجَوْنيّ

ص: 61

البصريّ، ثقةٌ، من كبار [4](ت 128) أو بعدها (ع) تقدَّم في "الإيمان" 86/ 455.

4 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ الصَّامِتِ) الْغِفَاريّ البصريّ، ابن أخي أبي ذرّ، ثقةٌ [3](خت م 4) تقدّم في "الصلاة" 52/ 1142.

5 -

(أَبُو ذَرٍّ) جُندب بن جُنادة على الأصحّ، وقيل غير ذلك في اسمه، واسم أبيه الصحابيّ الشهير، تقدّم إسلامه، وتأخّرت هجرته، فلم يشهد بدرًا، مات رضي الله عنه سنة رضي الله عنه (32)(ع) تقدَّم في "الإيمان" 29/ 224.

والباقون تقدّموا في الباب الماضي.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه ثلاثة من الشيوخ قرن بينهم؛ لاتّحاد كيفيّة التحمّل والأداء، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، بل هو من رواية الأقران.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي ذَرٍّ) الغفاريّ رضي الله عنه أنه (قَالَ: إِن خَلِيلِي)؛ يعني: النبيّ صلى الله عليه وسلم، والخليل: الصديق، والجمع أخلَّاء، (أَوْصَانِي)؛ أي: أمرني، قال الفيّومي رحمه الله: يقال: أَوْصَيْتُهُ بالصلاة: أمَرْتُه بها، وعليه قوله تعالى:{ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: 153]، وقوله:{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} [النساء: 11]؛ أي: يأمركم، وفي الحديث:"خَطَبَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَوْصَى بِتَقْوَى اللهِ": معناه أمَر، فيَعُمّ الأمر بأيّ لفظ كان، نحو: اتقوا الله، وأطيعوا الله، وكذلك الخبر إذا كان فيه معنى الطلب، نحو: لقد فاز من اتقي، وطُوبى لمن وَسِعَتْه السُّنَّة، ولم تستهوه البدعة، ورحم الله من شَغَله عيبه عن عيوب الناس، ولا يتعيّن في الخطبة: أوصيكم، كيف ولفظ الوصيّة مشترك بين التذكير، والاستعطاف، وبين الأمر، فيتعيّن حَمْله على الأمر، ويقوم مقامه كلّ لفظ فيه معنى الأمر. انتهى

(1)

.

(أَنْ أَسْمَعَ، وَأُطِيعَ)؛ أي: أسمع قول الأمير، وأطيع أمره، فـ "أن"

(1)

"المصباح المنير" 2/ 662.

ص: 62

مصدريّة، والمصدر المؤوّل مجرور بحرف جرّ مقدر؛ لأنَّ "أَمَر" يتعدى إلى المفعول الثاني به؛ أي: بالسمع، والطاعة. (وَإِنْ كَانَ عَبْدًا) اسم "كان" ضمير يعود إلى الأمير المفهوم من المقام؛ أي: وإن كان الأمير عبدًا (مُجَدَّعَ الأَطْرَافِ) اسم مفعول من التجديع، وهو التقطيع؛ أي: مقطّع الأطراف، وفي الرواية التالية:"عبدًا حبشيًّا، مجدّع الأطراف"، والمراد: أخسّ العبيد؛ أي: أسمع، وأطيع للأمير، وإن كان دنيء النسب، حتى لو كان عبدًا أسود، مقطوع الأطراف، فطاعته واجبة، وتُتصوّر إمارة العبد إذا ولّاه بعض الأئمة، أو إذا تغلّب على البلاد بشوكته وأتباعه، ولا يجوز ابتداء عَقْد الولاية له، مع الاختيار، بل شَرْطها الحريّة، قاله النوويّ

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "وإن كان عبدًا حبشيًّا مجدَّع الأطراف" الْجَدْعُ: القطْع، وأصله في الأنف، و"الأطراف": الأصابع، وهذا مبالغة في وَصْف هذا العبد بالضَّعَة والْخِسّة؛ وذلك أن العبد إنما تُقطع أطرافه من كثرة العمل والمشي حانيًا، وهذا منه صلى الله عليه وسلم على جهة الإغياء، على عادة العرب في تمكينهم المعاني وتأكيدها، كما قال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"من بنى مسجدًا لله، ولو كمِفْحَصِ قطاةٍ بنى الله له بيتًا في الجنَّة"

(2)

، ومفحص القطاة لا يصلح أن يكون مسجدًا، وإنما هو تمثيل للتصغير على جهة الإغياء، فكأنَّه قال: أصغر ما يكون من المساجد، وعلى هذا التأويل لا يكون فيه حجة لمن استدلّ به على جواز تأمير العبد فيما دون الإمامة الكبرى" وَهُمْ بعض أهل الظاهر فيما أحسب، فإنه قد اتُّفِقَ على أنَّ الإمام الأعظم، لا بُدَّ أن يكون حرًّا؛ على ما يأتي. ونصَّ أصحاب مالك على أنَّ القاضي لا بُدَّ أن يكون حرًّا.

قال القرطبيّ: وأمير الجيش والحرب في معناه، فإنها مناصب دينية يتعلّق بها تنفيذ أحكام شرعية، فلا يصلح لها العبد؛ لأنه ناقصٌ بالرِّقِّ مَحْجُورٌ عليه، لا يَستقلُّ بنفسه، ومسلوبُ أهليةِ الشهادة والتنفيذ، فلا يصلح للقضاء، ولا للإمارة، وأظنّ أنَّ جمهور علماء المسلمين على ذلك، وقد وَرَدَ ذِكْر العبد في

(1)

"شرح النوويّ" 12/ 223.

(2)

حديث صحيح، رواه ابن حبّان، والبيهقيّ.

ص: 63

هذا الحديث مطلقًا، وقد قيَّده بالحديث الآتي بعد هذا، الذي قال فيه:"ولو استعمل عليكم عبد يقودهم بكتاب الله". انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: تقدّم تحقيق مسألة تولية العبد، وأن الصواب جوازها؛ لحديث الباب، ولأدئة أخرى، سبق بيانها، في شرح حديث: "الناس تبَع لقريش

إلخ"، فراجعه تستفد، والله تعالى وفي التوفيق.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي ذرّ رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [8/ 4746 و 4747 و 4748](1837)، وتقدّم في "الصلاة" برقم [1468](648)، و (أبو داود) في "الصلاة"(431)، و (الترمذي) في "الصلاة"(136)، و (النسائي) في "الصلاة"(2/ 75)، و (ابن ماجة) في "الجهاد"(2862)، و (البخاريّ) في "الأدب المفرد"(113)، و (الطيالسي) في "مسنده"(452)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 161 و 171)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1718)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(2/ 242)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1/ 413 و 4/ 402 و 403)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 88 و 8/ 155) و"شعب الإيمان"(6/ 4)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(390 و 391)، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلِّف رحمه الله أَوَّل الكتاب قال:

[4747]

(

) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ (ح) وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، أَخْبَرَنَا النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ، جَمِيعًا عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ أَبِي عِمْرَانَ، بِهَذَا الْإِسْنَاد، وَقَالَا في الْحَدِيثِ: عَبْدًا، حَبَشِيًّا، مُجَدَّعَ الأَطْرَافِ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ) المازنيّ، أبو الحسن البصريّ، نزيل مرو، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار [9](ت 204) وله (82) سنةً (ع) تقدّم في "المقدمة" 6/ 39.

(1)

"المفهم" 4/ 37 - 38.

ص: 64

والباقون ذُكروا في الباب، والبابين الماضيين، و"إسحاق" هو: ابن راهويه.

وقوله: (وَقَالَا فِي الْحَدِيثِ) ضمير التثنية لمحمد بن جعفر، والنضر بن شُميل.

[تنبيه]: رواية محمد بن جعفر، عن شعبة ساقها ابن ماجة رحمه الله في "سننه"، فقال:

(2862)

- حدّثنا محمد بن بشّار، ثنا محمد بن جعفر، ثنا شعبة، عن أبي عمران الْجَوْنيّ، عن عبد الله بن الصامت، عن أبي ذَرّ، أنه انتهى إلى الرَّبَذَة، وقد أقيمت الصلاة، فإذا عبد يؤمّهم، فقيل: هذا أبو ذرّ، فذهب يتأخر، فقال أبو ذرّ: أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم أن أسمع، وأطيع، وإن كان عبدًا حبشيًّا، مُجَدَّعَ الأطراف. انتهى

(1)

.

وأما رواية النضر بن شُميل، عن شعبة فقد ساقها ابن حبّان رحمه الله في "صحيحه"، فقال:

(5964)

- أخبرنا عبد الله بن محمد الأزديّ، حدّثنا إسحاق بن إبراهيم، أخبرنا النضر بن شُميل، حدّثنا شعبة، حدّثنا أبو عمران الْجَوْنيّ، سمع عبد الله بن الصامت يقول: قَدِم أبو ذرّ على عثمان من الشام، فقال: يا أمير المؤمنين افتح الباب، حتى يدخل الناس، أتَحْسَبني من قوم يقرؤون القرآن، لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين مُروق السهم من الرَّمِيّة، ثم لا يعودون فيه حتى يعود السهم على فُوقه؟ هُمْ شرّ الخلق والخليقة، والذي نفسي بيده لو أمرتني أن أقعد لَمَا قمت، ولو أمرتني أن أكون قائمًا لَقُمْت ما أمكنتني رِجلاي، ولو ربَطْتَني على بعير لَمْ أُطلق نفسي حتى تكون أنت الذي تُطلقني، ثم استَأْذَنه أن يأتي الرَّبَذَة، فأَذِنَ له، فأتاها، فإذا عبد يؤمّهم، فقالوا: أبو ذرّ، فنَكَصَ العبد، فقيل له: تقدَّم، فقال: أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم بثلاث: أن أسمع، وأطيع، ولو لعبد حبشيّ مُجَدَّعَ الأطراف، وإذا صنعتَ مرقةً، فأكثر ماءها، ثم انظر جيرانك، فَأَنِلْهم منها بمعروف، وصَلِّ الصلاة لوقتها، فإن أتيت الإمام،

(1)

"سنن ابن ماجة" 2/ 955.

ص: 65

وقد صلى كنت قد أحرزت صلاتك، وإلا فهي لك نافلة. انتهى

(1)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4748]

(

) - (وَحَدَّثَنَاهُ عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي عِمْرَانَ، بِهَذَا الْإِسْنَاد، كَمَا قَالَ ابْنُ إِدْرِيسَ: عَبْدًا، مُجَدَّع الأَطْرَافِ).

رجال هذا الإسناد: أربعة:

وكلّهم ذُكروا في الباب، و"ابن إدريس" هو: عبد الله الأوديّ.

[تنبيه]: رواية معاذ بن معاذ، عن شعبة هذه لَمْ أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلِّف رحمه الله أَوَّل الكتاب قال:

[4749]

(1838) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ يَحْيَى بْنِ حُصَيْنٍ، قَالَ: سَمِعْتُ جَدَّتِي تُحَدِّثُ، أَنَّهَا سَمِعَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاع، وَهُوَ يَقُولُ: "وَلَوِ اسْتُعْمِلَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ، يَقُودُكُمْ بِكِتَابِ الله، فَاسْمَعُوا لَهُ

(2)

، وَأَطيعُوا").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) بن عُبيد الْعَنَزيّ المعروف بالزَّمِن، أبو موسى البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 252)(ع) تقدَّم في "المقدمة" 2/ 2.

2 -

(يَحْيَى بْنِ حُصَيْنٍ) الأسلميّ، ثقةٌ [4](م د س ق) تقدّم في "الحج" 48/ 3139.

3 -

(جَدَّتُهُ) أمّ الْحُصين بنت إسحاق الأحمسيّة صحابيّة، شَهِدَت حجة الوداع (م 4) تقدّمت في "الحج" 48/ 3139.

والباقيان ذُكرا في الباب.

قال الجامع عفا الله عنه: حديث أمّ الحصين رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله، وقد تقدّم في "كتاب الحجِّ" مطوَّلًا برقم [48/ 3139](1298) واستوفيت شرحه، وبيان مسائله هناك، فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق.

(1)

"صحيح ابن حبان" 13/ 301 - 302.

(2)

وفي نسخة: "فاستمعوا له".

ص: 66

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4750]

(

) - (وَحَدَّثَنَاهُ ابْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، وَعَبْدُ الرحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، عَنْ شُعْبَةَ، بِهَذَا الْإِسْنَاد، وَقَالَ: عَبْدًا حَبَشِيًّا).

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(عَبْدُ الرحْمَن بْنُ مَهْدِيِّ) بن حسّان الْعَنْبَريّ مولاهم، أبو سعيد البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ حافظ، عارفٌ بالرجال والحديث [9](ت 198) وهو ابن (73) سنةُ (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" ج 1 ص 388.

والباقون ذُكروا قبله.

[تنبيه]: رواية عبد الرَّحمن بن مهديّ، عن شعبة هذه ساقها اللالكائيّ: رحمه الله في "اعتقاد أهل السنّة"، فقال:

(2293)

- أخبرنا أحمد بن عبيد، أنا عليّ بن عبد الله بن مبشر، قال: نا أحمد بن سنان، قال: نا عبد الرَّحمن بن مهديّ، قال: نا شعبة، عن يحيى بن حُصَين، قال: سمعت جدتي تُحَدِّث أنَّها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا، وهو يقول:"إن استُعْمِل عليكم عبد حبشيّ، يقودكم بكتاب الله، فاسمعوا له، وأطيعوا". انتهى

(1)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4751]

(

) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا وَكِيعُ بْنُ الْجَرَّاح، عَنْ شُعْبَةَ، بِهَذَا الإِسْنَاد، وَقَالَ: "عَبْدًا حَبَشِيًّا، مُجَدَّعًا").

رجال هذا الإسناد: ثلاثة:

وكلّهم ذُكروا في الباب، والباب الماضي.

[تنبيه]: رواية وكيع بن الْجَرّاح، عن شعبة هذه ساقها الإمام أحمد: رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(27311)

- حدّثنا عبد الله، حدّثنا أبي، ثنا وكيع، قال: قال شعبة: أتيت يحيى بن الحصين، فسألته، فقال: حدّثتني جدّتي، قالت: سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول، وهو واقف بعرفة: "إن أُمِّر عليكم عبدٌ حبشيّ، فاسمعوا له،

(1)

"اعتقاد أهل السُّنَّة" 7/ 1224.

ص: 67

وأطيعوا، ما قادكم بكتاب الله تعالى". انتهى

(1)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4752]

(

) - (وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ بشْرٍ، حَدَّثَنَا بَهْزٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، بِهَذَا الْإِسْنَاد، وَلَمْ يَذْكُرْ:"حَبَشِيًّا، مُجَدَّعًا"، وَزَادَ: أَنَّهَا سَمِعَتْ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِمِنًى

(2)

، أَو بِعَرَفَاتٍ).

رجال هذا الإسناد: ثلاثة:

1 -

(عَبْدُ الرحْمَنِ بْنُ بِشرِ) بن الحكم الْعَبْديّ، أبو محمد النيسابوريّ، ثقةٌ، من صغار [10](ت 260) أو بعدها (خ م د ق) تقدّم في "المقدمة" 6/ 99.

2 -

(بَهْزُ) بن أسد الْعَميّ، أبو الأسود البصريّ، ثقةٌ ثبت [9] مات بعد المائتين، وقيل: قبلها (ع) تقدَّم في "الإيمان" 3/ 112.

و"شُعبة" ذُكر قبله.

[تنبيه]: رواية بهز بن أسد، عن شعبة هذه لَمْ أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أَوَّل الكتاب قال:

[4753]

(1298) - (وَحَدَّثَني سَلَمَةُ بْنُ شَبِيبٍ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَعْيَنَ، حَدَّثَنَا مَعْقِلٌ، عَنْ زيدِ بْنِ أَبِي أُنيْسَةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ حُصَيْنٍ، عَنْ جَدَّتِهِ أُمِّ الْحُصَيْن، قَالَ: سَمِعْتُهَا تَقُولُ: حَجَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَجَّةَ الْوَدَاع، قَالَتْ: فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَوْلًا كَثِيرًا، ثُمَّ سَمِعْتُهُ يَقُولُ: "إِنْ أُمِّرَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ مُجَدَّعٌ - حَسِبْتُهَا قَالَتْ - أَسْوَدُ، يَقُودُكُمْ بِكِتَابِ الله، فَاسْمَعُوا لَهُ، وَأَطيعُوا").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(سَلَمَةُ بْنُ شَبِيبٍ) الْمِسْمَعيّ النيسابوريّ، نزيل مكة، ثقةٌ، من كبار [11] مات سنة بضع و (240)(م 4) تقدَّم في "المقدمة" 6/ 60.

(1)

"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 6/ 403.

(2)

وفي نسخة: "يقول بمنًى".

ص: 68

2 -

(الْحَسَنُ بْنُ أَعْيَنَ) هو: الحسن بن محمد بن أعين، أبو عليّ الْحَرّانيّ، صدوق [9](ت 210)(خ م س) تقدّم في "الإيمان" 4/ 119.

3 -

(مَعْقِلُ) بن عبيد الله الْجَزَريّ، أبو عبد الله الْعَبْسيّ مولاهم، صدوقٌ يُخطئ [8](ت 166)(م د س) تقدّم في "الإيمان" 4/ 119.

4 -

(زيدُ بْنُ أَبِي أُنيْسَةَ) واسمه زيد أيضًا، أبو أُسامة الْجَزَريّ، كوفيّ الأصل، ثم سكن الرُّها، ثقةٌ [6](ت 119 أو 124) وله (36) سنةً (ع) تقدّم في "المقدّمة" 6/ 96.

والباقيان ذُكرا قبله، والحديث من أفراد المصنّف، وقد تقدّم في "كتاب الحجِّ" برقم [48/ 3139](1298) ومضى شرحه، وبيان ما يتعلّق به من المسائل هناك، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4754]

(1839) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ، عَنْ عُبَيْدِ الله، عَنْ نَافِعً، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "عَلَى الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ، فِيمَا أَحَبَّ وَكَرِهَ، إِلَّا أَنْ يُؤْمَرَ بِمَعْصِيَةٍ، فَإِنْ أُمِرَ بِمَعْصِيَةٍ فَلَا سَمْعَ وَلَا طَاعَةَ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(قتيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) ذُكر في الباب.

2 -

(لَيْثُ) بن سعد بن عبد الرَّحمن الْفَهْميّ، أبو الحارث المصريّ، الإمام الحجة الثبت الفقيه المشهور [7](ت 175)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" ج 2 ص 412.

3 -

(عُبَيْدُ اللهِ) بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطّاب الْعُمَريّ، أبو عثمان المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيه [5] مات سنة بضع و (140)(ع) تقدّم في "الإيمان" 28/ 222.

[تنبيه]: كون عبيد الله المذكور في هذا السند هو ابن عمر الْعُمريّ هو الذي نصّ عليه الحافظ أبو الحجّاج المزيّ رحمه الله في "تحفته"(6/ 164، 165)، والحافظ في "الفتح"(16/ 626)"كتاب الأحكام"، وقد أخرج الحديث النسائيّ في "سننه" رقم (4208) عن قتيبة، عن الليث، عن عبيد الله بن أبي جعفر، عن

ص: 69

نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما، وقد بيّنه الحافظ المزيّ في "تحفته" أيضًا (6/ 120) فكلا الطريقين ثابت صحيح، وإنما نبّهت عليه لئلا يقع في اللَّبس من رأى اختلاف الإسنادين عند الشيخين والنسائيّ، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

4 -

(نَافِعٌ) مولى ابن عمر، أبو عبد الله المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ مشهورٌ [3](ت 117) أو بعدها (ع) تقدَّم في "الإيمان" 28/ 222.

5 -

(ابْنُ عُمَرَ) عبد الله الْعدوفي، أبو عبد الرَّحمن رضي الله عنهما مات سنة (73) أو بعدها (ع) تقدّم في "الإيمان" 1/ 102.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيَّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالمدنيين غير شيخه، فبغلانيّ، وليث فمصريّ، وفيه ابن عمر رضي الله عنهما أحد العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة، وأشدَّ الناس اتباعًا للأثر.

شرح الحديث:

(عَنِ ابْنِ عُمَرَ) رضي الله عنهما (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: (عَلَى الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ) جارٌّ ومجرور خبر مقدَّم لقوله: (السَّمْعُ)؛ أي: سماع كلام الأمير، (وَالطَّاعَةُ) فيما أَمَره به، (فِيمَا أَحَبَّ وَكَرِهَ)؛ أي: في الشيء الذي أحبه المرء، أو كرهه، (إِلَّا أَنْ يُؤْمَرَ بِمَعْصِيَةٍ) ببناء الفعل للمفعول، وهذا يُقَيِّد ما أُطلق في الأحاديث الأخرى، من الأمر بالسمع والطاعة ولو لحبشيّ، ومن الصبر على ما يقع من الأمير مما يُكرَه، والوعيد على مفارقة الجماعة، فكلّ ذلك مقيّد بأن لَمْ يأمر الأمير بمعصية، وإلا فلا سمع، ولا طاعة، كما نصّ عليه بقوله:(فَإِنْ أُمِرَ بِمَعْصِيَةٍ فَلَا سَمْعَ وَلَا طَاعَةَ) بالبناء على الفتح فيهما؛ لأنَّ "لا" لنفي الجنس، والمراد: نفي الحقيقة الشرعية، لا الوجودية.

والمعنى: أن سماع كلام الحاكم، وطاعته واجب على كلّ مسلم، سواء أَمَره بما يوافق طَبْعه، أو لَمْ يوافقه، بشرط أن لا يأمره بمعصية، فإنْ أَمَره بها فلا تجوز طاعته، ومع ذلك لا تجوز له محاربته، ولا الخروج عليه. انتهى

(1)

.

(1)

راجع: "الكاشف عن حقائق السنن" 8/ 2559.

ص: 70

وقال في "الفتح": قوله: "فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة"؛ أي لا يجب ذلك، بل يحرم على من كان قادرًا على الامتناع، وفي حديث معاذ رضي الله عنه عند أحمد:"لا طاعة لمن لَمْ يُطِع اللهَ"، وعنده، وعند البزار، في حديث عمران بن حصين، والحكم بن عمرو الغِفَاريّ:"لا طاعة في معصية الله"، وسنده قويّ، وفي حديث عبادة بن الصامت، عند أحمد، والطبرانيّ:"لا طاعة لمن عصى الله تعالى"، وفي حديث عبادة رضي الله عنه الآتي في الباب:"وأن لا ننازع الأمر أهله"، قال:"إلَّا أن تَرَوا كفرًا بَوَاحًا عندكم من الله فيه برهان"، وفيه دليل على أنَّه ينعزل بالكفر، وهو إجماعٌ، فيجب على كلّ مسلم القيام في ذلك، فمن قَوِيَ على ذلك فله الثواب، ومن داهن فعليه الإثم، ومن عَجَز وَجَبَتْ عليه الهجرة من تلك الأرض

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [8/ 4754 و 4755](1839)، و (البخاريّ) في "الجهاد"(2955) و"الأحكام"(7144)، و (أبو داود) في "الجهاد"(2626)، و (الترمذيّ) في "الجهاد"(1707)، و (النسائيّ) في "البيعة"(7/ 160) و"الكبرى"(8720)، و (ابن ماجة) في "الجهاد"(2864)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 17 و 142)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(1/ 260)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 404)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(3/ 127 و 8/ 155)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان وجوب الطاعة على المسلم لأولياء الأمور، سواء أَمَره بما وافق هواه، أو بما يُخالف.

(1)

راجع: "الفتح" 16/ 627، كتاب "الأحكام" رقم (7144).

ص: 71

2 -

(ومنها): عدم جواز طاعة أحد فيما يُخالف شرع الله تعالى؛ إذ لا طاعة للمخلوق في معصية الخالق.

3 -

(ومنها): ما قاله القرطبيّ رحمه الله: قوله: "على المرء المسلم السَّمع والطاعة" ظاهرٌ في وجوب السمع والطّاعة للأئمة، والأمراء، والقضاة، ولا خلاف فيه إذا لَمْ يأمر بمعصية، فإن أَمَر بمعصية فلا تجوز طاعته في تلك المعصية قولًا واحدًا، ثم إن كانت تلك المعصية كفرًا وَجَبَ خَلْعُه على المسلمين كلهم، وكذلك لو ترك إقامة قاعدة من قواعد الدين؛ كإقام الصلاة، وصوم رمضان، وإقامة الحدود، ومَنَع من ذلك، وكذلك لو أباح شرب الخمر، والزنا، ولم يمنع منهما، لا يختلف في وجوب خَلْعِه، فأمَّا لو ابتدع بدعة، ودعا النَّاس إليها؛ فالجمهور على أنَّه يُخْلَع.

وذهب البصريون إلى أنه لا يُخْلَع، تمسُّكًا بظاهر قوله صلى الله عليه وسلم:"إلَّا أن تروا كفرًا بَوَاحًا عندكم من الله فيه برهان"، وهذا يدلُّ على استدامة ولاية المتأوّل، وإن كان مبتدعًا، فأمَّا لو أمر بمعصية مثل أخْذ مال بغير حقّ، أو قَتْل، أو ضَرْب بغير حقّ، فلا يطاع في ذلك، ولا ينقذ أمره، ولو أفضى ذلك إلى ضرب ظهر المأمور، وأخْذ ماله؛ إذ ليس دم أحدهما، ولا ماله بأَولى من دم الآخر، ولا ماله، وكلاهما يحرم شرعًا؛ إذ هما مسلمان، ولا يجوز الإقدام على واحد منهما، لا للآمر، ولا للمأمور؛ لقوله:"لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق"، كما ذكره الطبريّ، ولقوله هنا:"فإن أمر بمعصية فلا سمع، ولا طاعة"، فأمَّا قوله في حديث حذيفة:"سمع، وأطع، وإن ضرب ظهرك، وأخذ مالك"، فهذا أمْر للمفعول به ذلك للاستسلام، والانقياد، وترك الخروج عليه؛ مخافة أن يتفاقم الأمر إلى ما هو أعظم من ذلك.

ويَحْتَمِل أن يكون ذلك خطابًا لمن يُفعل به ذلك بتأويل، يسوّغ للأمير بوجهٍ يَظهر له، ولا يظهر ذلك للمفعول به، وعلى هذا يرتفع التعارض بين الأحاديث، ويصحّ الجمع. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(1)

، وهو بحث نفيسٌ، والله تعالى أعلم.

(1)

"المفهم" 4/ 38 - 39.

ص: 72

وقال في "العمدة": وذكر عياض أنه أجمع العلماء على وجوب طاعة الإمام في غير معصية، وتحريمها في المعصية.

وقال ابن بطال: احتَجّ بهذا الحديث الخوارج، فرأوا الخروج على أئمة الجَوْر، والقيام عليهم عند ظهور جورهم، والذي عليه الجمهور أنه لا يجب القيام عليهم عند ظهور جورهم، ولا خلعهم إلَّا بكفرهم بعد إيمانهم، أو تركهم إقامة الصلوات، وأما دون ذلك من الجور فلا يجوز الخروج عليهم، إذا استوطن أمْرهم، وأمْر الناس معهم؛ لأنَّ في ترك الخروج عليهم تحصين الفروج والأموال، وحقن الدماء، وفي القيام عليهم تفرّق الكلمة، ولذلك لا يجوز القتال معهم لمن خرج عليهم عن ظلم ظَهَر منهم.

وقال ابن التين: فأما ما يأمر به السلطان من العقوبات، فهل يسع المأمور به أن يفعل ذلك من غير ثَبَتٍ، أو عِلم يكون عنده بوجوبها؟ قال مالك: إذا كان الإمام عدلًا، كعمر بن الخطاب، أو عمر بن العزيز رضي الله عنهما لَمْ تَسَعْ مخالفته، وإن لَمْ يكن كذلك، وثبت عنده الفعل جاز، وقال أبو حنيفة وصاحباه: ما أمر به الوُلاة من ذلك غيرهم يسعهم أن يفعلوه، فيما كان ولايتهم إليه، وفي رواية عن محمد: لا يسع المأمور أن يفعله، حتى يكون الآمر عدلًا، وحتى يشهد بذلك عنده عدل سواه، إلَّا في الزنا فلا بدّ من ثلاثة سواه، وروي نحو الأول عن الشعبيِّ رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: عندي أن ما ذهب إليه الإمام مالك رحمه الله في تفصيله المتقدّم أرجح.

وحاصله أنه إن كان الإمام عدلًا لَمْ تَسَع مخالفته، وإلا فإن ثبت عند المأمور ذلك الأمر وَسِعه، وإلا فلا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلِّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4755]

(

) - (وَحَدَّثَنَاهُ زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَا: حَدَّثَنَا يَحْيَى، وَهُوَ الْقَطَّانُ (ح) وَحَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، كِلَاهُمَا عَنْ عُبَيْدِ الله، بِهَذَا الإِسْنَاد، مِثْلَهُ).

(1)

"عمدة القاري" 14/ 221.

ص: 73

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(يَحْيَىَ الْقطَّانُ) هو: يحيى بن سعيد بن فرّوخ التميميّ، أبو سعيد البصريّ، ثقةٌ متقنٌ حافظٌ إمام قدوةٌ، من كبار [9](ت 198)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" ج 1 ص 385.

والباقون ذُكروا في الباب، وقبله.

[تنبيه]: رواية يحيى القظان، عن عبيد الله ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:

(6725)

- حدّثنا مسدَّد، حدَّثنا يحيى بن سعيد، عن عبيد الله، حدّثني نافع، عن عبد الله رضي الله عنه، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"السمع والطاعة على المرء المسلم، فيما أحبّ، وكَرِه، ما لَمْ يؤمر بمعصية، فإذا أُمر بمعصية، فلا سمع، ولا طاعة". انتهى.

وأما رواية عبد الله بن نمير، عن عبيد الله، فساقها البيهقيّ رحمه الله في "الكبرى"، فقال:

(5117)

- أخبرنا محمد بن عبد الله الحافظ، ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، ثنا محمد بن إسحاق الصغانيّ، ثنا ابن نمير، ثنا أبي، ثنا عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"السمع والطاعة على المرء المسلم، فيما أحبّ، وكَرِه، إلَّا أن يؤمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية، فلا سمع ولا طاعة". انتهى

(1)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أَوَّل الكتاب قال:

[4756]

(1840) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ - وَاللَّفْظُ لِابْنِ الْمُثَنَّى - قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ زُبَيْدٍ، عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَن، عَنْ عَلِيٍّ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ جَيْشًا، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ رَجُلًا، فَأَوْقَدَ نَارًا، وَقَالَ: ادْخُلُوهَا، فَأَرَادَ نَاسٌ أَنْ يَدْخُلُوهَا، وَقَالَ

(1)

"سنن البيهقي الكبرى" 3/ 127.

ص: 74

الآخَرُونَ: إِنَّا

(1)

قَدْ فَرَرْنَا مِنْهَا، فَذكِرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ لِلَّذِينَ أَرَادُوا أَنْ يَدْخُلُوهَا:"لَوْ دَخَلْتُمُوهَا لَمْ تَزَالُوا فِيهَا، إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ"، وَقَالَ لِلآخَرِينَ قَوْلًا حَسَنًا، وَقَالَ:"لَا طَاعَةَ في مَعْصِيَةِ الله، إِنَّمَا الطَاعَةُ في الْمَعْرُوفِ").

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(زُبَيْدُ) بن الحارث بن عبد الكريم بن عمرو بن كعب الياميّ، أبو عبد الرَّحمن الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ عابدٌ [6](ت 122) أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 30/ 228.

2 -

(سَعْدُ بْنُ عُبَيْدَةَ) السَّلَميّ، أبو حمزة الكوفيّ، ثقةٌ [3] مات في ولاية عمر بن هُبيرة على العراق (ع) تقدم في "الإيمان" 5/ 120.

3 -

(أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ) عبد الله بن حبيب بن رُبيِّعة السُّلَميّ الكوفيّ المقريّ، ثقةٌ ثبتٌ [2] مات بعد السبعين (ع) تقدم في "الرضاع" 3/ 3581.

4 -

(عَلِيُّ) بن أبي طالب بن عبد المطّلب بن هاشم الهاشميّ الخليفة الرابع، استُشْهِد رضي الله عنه في رمضان سنة (40) وله (63) سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.

والباقون ذُكروا في الباب.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أن راويه صحابيّ رضي الله عنه، أحد الخلفاء الراشدين الأربعة، وأحد العشرة المبشرين بالجنّة، وصهر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وابن عمّه، وأول من آمن به من الصبيان، ومات شهيدًا في رمضان، وهو يومئذ أفضل أهل الأرض من بني آدم بالإجماع رضي الله عنه.

شرح الحديث:

(عَنْ عَلِيٍّ) رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ جَيْشًا، وَأَمَّرَ) بتشديد الميم، من التأمير، (عَلَيْهِمْ رَجُلًا) قال النوويّ رحمه الله: هذا الذي فعله هذا الأمير قيل: أراد امتحانهم، وقيل؛ كان مازحًا، قيل: إن هذا الرجل عبد الله بن حُذافة السهميّ، وهذا ضعيفٌ؛ لأنه قال في الرواية الأخرى:"إنه رجل من الأنصار"، فدلّ على أنَّه غيره. انتهى

(2)

.

(1)

وفي نسخة: "إنما".

(2)

"شرح النوويّ" 12/ 227.

ص: 75

وقال أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله: قوله: "رجلًا من الأنصار" ظاهرٌ في أنه ليس عبد الله بن حذافة، فإنه مهاجريّ، وذلك أنصاريّ، فافترقا، وقضيّة عبد الله بن حُذافة هي التي ذَكر منها ابن عبّاس رضي الله عنهما طرفًا، كما تقدَّم، فلا معنى لقول من قال: إن هذا الذي حكى عنه عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه هو عبد الله بن حُذافة، وكذلك لا معنى لقول من قال: إن ذلك الأمير إنما أمرهم بدخول النار ليختبر طاعتهم له، وقد قال في هذه الرواية: إنهم أغضبوه، وقال: وسكن غضبه عليهم، فأراد عقوبتهم بذلك، وهذه نصوصٌ أنه إنما حَمَله على ذلك غضبه عليهم. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(1)

.

واستظهر الحافظ رحمه الله في "الفتح" تعدَّد القصَّة، وقال ما حاصله: إن التعدّد هو الذي يظهر لي؛ لاختلاف سياقهما، واسم أميرهما، والسبب في أمره بدخولهم النار، قال: ويَحْتَمِل الجمع بينهما بضرب من التأويل، ويُبعده وصف عبد الله بن حُذافة السهميّ القرشيء المهاجريّ بكونه أنصاريًّا، قال: ويَحْتَمِل الحمل على المعنى الأعمّ، أي: أنه نصر رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجملة.

وإلى التعدّد جنح ابن القيِّم رحمه الله، وأما ابن الجوزيّ رحمه الله، فقال: قوله: "من الأنصار" وَهَمٌ من بعض الرواة، وإنما هو سهميّ.

قال الحافظ: ويؤيِّده حديث ابن عباس رضي الله عنهما عند أحمد في قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} الآية [النساء: 59] نزلت في عبد الله بن حُذافة بن قيس بن عديّ، بعثه رسول الله في سريّة. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد اتضح بما ذُكر كلّه أن الأرجح تعدد الواقعة، وأن الرجل المبهم في حديث عليّ رضي الله عنه المذكور في الباب ليس هو عبد الله بن حُذافة، وإنما هو رجلٌ آخر من الأنصار رضي الله عنهم لَمْ يُعرف اسمه، والله تعالى أعلم.

(فَأَوْقَدَ نَارًا، وَقَمالَ: ادْخُلُوهَا) وفي الرواية التالية: "بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم

(1)

"المفهم" 4/ 39 - 40.

(2)

"الفتح" 9/ 473 - 474، كتاب "المغازي" رقم (4340).

ص: 76

سَريّة، واستعمل عليهم رجلًا من الأنصار، وأمرهم أن يُطيعوه، فأغضبوه في شيء، فغضب عليهم، فقال: اجمعوا لي حطبًا، فجمعوا له، ثمّ قال: أوقدوا نارًا، فأوقدوا، ثمّ قال: ألم يأمركم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تسمعوا لي، وتُطيعوا؟ قالوا: بلي، قال: فادخلوها" الحديث، وفي رواية للبخاري: "فقال: عزمت عليكم لَمَا جمعتم حطبًا، وأوقدتم نارًا، ثم دخلتم".

وهذا يخالف حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه، فإن فيه:"فأوقد القوم نارًا؛ ليصنعوا عليها صنيعًا لهم، أو يصطلون، فقال لهم: أليس عليكم السمع والطاعة؟ قالوا: بلى، قال: أعزم عليكم بحقّي، وطاعتي لَمَا تواثبتم في هذه النار"، ويُجمع بتعدّد القصّة، كما سبق ترجيحه، فتنبّه.

(فَأَرَادَ نَاسٌ أَنْ يَدْخُلُوهَا) وفي رواية البخاريّ: "فهمّوا، وجعل بعضهم يُمسك بعضًا"، وفي رواية:"فلمّا همّوا بالدخول فيها، فقاموا ينظر بعضهم إلى بعض"، وفي رواية عند ابن جرير:"فقال لهم شابّ منهم: لا تعجلوا بدخولها"، (وَقَالَ الآخَرُونَ: إِنَّا قَدْ فَرَرْنَا مِنْهَا) وفي بعض النسخ": "إنما فررنا منها"؛ أي: من النار بالإيمان، فكيف ندخلها؟، وزاد في الرواية الآتية: "فكانوا كذلك، وسكن غضبه، وطُفئت النار"، وفي رواية البخاريّ: "فما زالوا حتى خَمَدت النار، فسكن غضبه"، وفي رواية: "فبينما هم كذلك إذ خمدت النار". و"خَمَد" بفتح الميم

(1)

، وحَكَى المطرّزيّ كسرها؛ أي: طَفِيء لهبها.

وقوله: "وسكن غضبه" هذا أيضًا يخالف حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه،

(2)

فإن فيه: "أنه كانت به دُعَابة، وفيه أنهم تحجّزوا حتى ظنّ

(1)

قال في "القاموس": خَمِدت النار، كنصَرَ، وسَمِعَ خَمْدًا، وخُمُودًا: سكَن لَهَبُها، ولم يُطفأ جَمرها. انتهى.

(2)

حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه: هو ما أخرجه الإمام أحمد في "مسنده" 3/ 67 وصححه ابن خزيمة، وابن حبّان، والحاكم من طريق عُمَر بن الحكم بن ثوبان، أن أبا سعيد الخدريّ قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم علقمة بن مُحَرِّز على بعث أنا فيهم، حتى انتهينا إلى رأس غزاتنا، أو كنا ببعض الطريق أَذِنَ لطائفة من الجيش، وأمَّر عليهم عبد الله بن حُذافة بن قيس السهميّ، وكان من أصحاب بدر، وكانت فيه دُعابة - يعني: مِزاحًا - وكنت ممن رجع معه، فنزلنا ببعض الطريق، قال: =

ص: 77

أنهم واثبون فيها، فقال: احبسوا أنفسكم، فإنما كنت أضحك معكم"، وهذا كلّه يؤيّد تعدد الواقعة، والله تعالى أعلم.

(فَذُكِرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) وفي الرواية التالية: "فلما رجعوا ذكروا ذلك للنبيّ صلى الله عليه وسلم (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم (لِلَّذِينَ أَرَادُوا أَنْ يَدْخُلُوهَا: "لَوْ دَخَلْتُمُوهَا لَمْ تَزَالُوا فِيهَا، إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ") قال النوويّ رحمه الله: هذا مما عَلِمه صلى الله عليه وسلم بالوحي، وهذا التقييد بيوم القيامة مبيّن للرواية المطلقة بأنهم لا يخرجون منها لو دخلوها.

وقال الحافظ رحمه الله: يَعْنِي أَنَّ الدُّخُول فِيهَا مَعْصِيَة، وَالْعَاصِي يَسْتَحِقّ النَّار، ويَحْتمِل أَنْ يَكُون الْمُرَاد: لَوْ دَخَلُوهَا مُسْتَحِلِّينَ، لَمَا خَرَجُوا مِنْهَا أَبَدًا، وَعَلَى هَذَا فَفِي الْعِبَارَة نَوْع مِنْ أَنْوَاع الْبَدِيع، وَهُوَ الاسْتِخْدَام؛ لِأَنَّ الضَّمِير فِي قَوْله:"لَوْ دَخَلُوهَا" لِلنَّارِ الَّتِي أَوْقَدُوهَا، وَالضَّمِير فِي قَوْله:"مَا خَرَجُوا مِنْهَا أَبَدًا" لِنَارِ الْآخِرَة؛ لِأَنَّهُمْ ارْتَكَبُوا مَا نُهُوا عَنْهُ مِنْ قَتْل أَنْفُسهمْ.

وَيَحْتَمِل - وَهُوَ الظَّاهِر - أَنَّ الضمِير لِلنَّارِ التِي أُوقِدَتْ لَهُمْ؛ أَيْ: ظَنُّوا أَنَّهُمْ إِذَا دَخَلُوا بِسَبَبِ طَاعَة أَمِيرهمْ، لَا تَضُرّهُمْ، فَأخْبَرَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، أَنَّهُمْ لَوْ دَخَلُوا فِيهَا لَاحْتَرَقُوا فَمَاتُوا، فَلَمْ يَخْرُجُوا. انتهى

(1)

.

وقال في "الفتح" أيضًا في "كتاب الأحكام": قوله: "لو دخلوها ما خرجوا منها" قَالَ الدَّاوُدِيُّ: يُرِيد تِلْكَ النَّار؛ لِأَنَّهُمْ يَمُوتُون بِتَحْرِيقِهَا، فَلَا يَخْرُجُونَ مِنْهَا أَحْيَاء، قَالَ: وَلَيْسَ الْمُرَاد بِالنَّارِ نَار جَهَنَّم، وَلَا أَنَّهُمْ مُخَلَّدُونَ فِيهَا؛ لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي حَدِيث الشَّفَاعَة:"يَخْرُج مِنْ النَّار مَنْ كَانَ فِي قَلْبه مِثْقَال حَبَّة مِنْ إِيمَان"، قَالَ: وَهَذَا مِنْ الْمَعَارِيض الَّتِي فِيهَا مَنْدُوحَة.

= وأوقد القوم نارًا ليصنعوا عليها صنيعًا لهم، أو يصطلون، قال: فقال لهم: أليس لي عليكم السمع والطاعة؟ قالوا: بلي، قال: فما أنا بآمركم بشيء إن صنعتموه؟ قالوا: بلي، قال: أعزم عليكم بحقي وطاعتي لَما تواثبتم في هذه النار، فقام ناس، فتحجّزوا حتى إذا ظن أنهم واثبون قال: احبسوا أنفسكم، فإنما كنت أضحك معكم، فذكروا ذلك للنبيّ صلى الله عليه وسلم بعد أن قَدِموا، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:"من أمركم منهم بمعصية فلا تطيعوه". انتهى.

(1)

"الفتح" 9/ 475، كتاب "المغازي" رقم (4340).

ص: 78

يُرِيد أَنَّهُ سِيقَ مَسَاق الزَّجْر وَالتَّخْويف، لِيَفْهَمَ السَّامِع أَنَّ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ خُلِّدَ فِي النَّار، وَلَيْسَ ذَلِكَ مُرَادًا، وَإِنَّمَا أرِيدَ بِهِ الزَّجْر وَالتَّخْوِيف.

وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ لَمْ يَقْصِد دُخُولهمْ النَّار حَقِيقَةً، وإِنَّمَا أَشَارَ لَهُمْ بِذَلِكَ إِلَى أَنَّ طَاعَة الْأَمِير وَاجِبَة، وَمَنْ تَرَكَ الْوَاجِب دَخَلَ النَّار، فَإِذَا شَقَّ عَلَيْكُمْ دُخُول هَذِهِ النَّار، فَكَيْف بِالنَّارِ الْكُبْرَى؛ وَكَأَنَّ قَصْده أَنَّهُ لَوْ رَأَى مِنْهُمْ الْجِدّ فِي وُلُوجهَا لَمَنَعَهُمْ. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: أحسن التأويلات عندي ما استظهره الحافظ فيما سبق، من أنه صلى الله عليه وسلم إنما أخبرهم بأنهم لو دخلوها ظانّين بأن طاعة أميرهم يُنجيهم منها، وأنها لا تضرّهم، لَمَا نفعهم ذلك، بل يحترقون، ويموتون، فلا يرجعون إلى الدنيا إلى يوم القيامة، فهذا الوجه أقرب الأوجه، فتأمّله بالإمعان، والله تعالى أعلم.

(وَقَالَ) صلى الله عليه وسلم (لِلآخَرِينَ قَوْلًا حَسَنًا)؛ أي: أثنى صلى الله عليه وسلم على الذين قالوا: إنما فررنا منها، حيث إنهم أصابوا الحقّ، (وَقَالَ) صلى الله عليه وسلم مبيّنًا للقاعدة العامّة التي يجب معرفتها، والسير على ضوئها ("لَا طَاعَةَ) لأيّ أحد (فِي مَعْصِيَةِ الله، إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ") وفي حديث أبي سعيد رضي الله عنه: "مَنْ أَمَركم منهم بمعصية، فلا تطيعوه".

قال أبو العباس القرطبيّ رحمه الله: "إنما" هذه للتحقيق والحصر، فكأنه قال: لا تكون الطاعة إلَّا في المعروف، ويعني بالمعروف هنا ما ليس بمنكر، ولا معصية، فيدخل فيها الطاعة الواجبة، والمندوب إليها، والأمور الجائزة شرعًا، فلو أمر بجائز لصارت طاعته واجبةً، ولَمَا حلّت مخالفته، فلو أَمَر بما زجر الشرع عنه زجر تنزيه، لا تحريم، فهذا مشكل، والأظهر جواز المخالفة؛ تمسّكًا بقوله:"إنما الطاعة في المعروف"، وهذا ليس بمعروف، إلَّا بأن يخاف على نفسه منه، فله أن يمتثل، والله تعالى أعلم. انتهى كلام القرطبيّ

(2)

.

قال الجامع عفا الة تعالى عنه: قوله: "فهذا مشكل" فيه نظرٌ لا يخفى؛ إذ

(1)

"الفتح" 16/ 627 - 628، كتاب "الأحكام" رقم (7145).

(2)

"المفهم" 4/ 41.

ص: 79

هو منكرٌ شرعًا؛ لأنَّ الشارع لا يزجر إلَّا عن منكر، فكيف يُشكل هذا؟، فتبصّر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عليّ رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [8/ 4756 و 4757 و 4758](1840)، و (البخاريّ) في "المغازي"(4340) و"الأحكام"(7145) و"أخبار الآحاد"(7257)، و (أبو داود) في "الجهاد"(2625)، و (النسائيّ) في "البيعة"(7/ 109) و"الكبرى"(434/ 4 و 5/ 221)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنفه"(6/ 543)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1/ 15 و 17)، و (ابن المبارك) في "مسنده"(1/ 163)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 82 و 124)، و (البزار) في "مسنده"(2/ 206)، و (ابن حبّان في "صحيحه" (4567)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 405 - 406)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(1/ 309 و 454)، و (ابن الجعد) في "مسنده"(1/ 140)، و (أبو نعيم) في "الحلية"(5/ 38)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(8/ 156)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان وجوب طاعة الأمراء في غير معصية الله تعالى.

2 -

(ومنها): بيان أَنَّ حُكْم الأمير فِي حَال الْغَضَب يَنْفُذ مِنْهُ مَا لَا يُخَالِف الشَّرْع.

3 -

(ومنها): أَن الْغَضَب يُغَطِّي عَلَى ذَوِي الْعُقُول عقولهم.

4 -

(ومنها): أنَّ الْإيمَان بِاللهِ يُنَجِّي مِنَ النَّار لِقَوْلِهِمْ: "إِنَّمَا فَرَرْنَا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنَ النَّارِ".

5 -

(ومنها): أن الْفِرَار إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فِرَار إلَى الله، وَالْفِرَار إِلَى الله، يُطْلَق عَلَى الْإيمَان، قَالَ الله تَعَالَى: " {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50)} [الذاريات: 50].

6 -

(ومنها): ما قال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "لَوْ دَخَلْتُمُوهَا لَمْ تَزَالُوا فِيهَا،

ص: 80

إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ" ظاهر في أنه تحرم الطاعة في المعصية المأمور بها، وأن المطيع فيها يستحقّ العقاب.

7 -

(ومنها): ما قاله أيضًا: قوله: "وقال للآخرين قولًا حسنًا" يدلّ على مدح المصيب في المجتهدات، كما أنّ القول الأول يدلّ على ذمِّ المقصّر المخطئ وتعصيته، مع أنه ما كان تقدّم لهم في مثل تلك النازلة نصٌّ، لكنهم قصّروا حيث لَمْ ينظروا في قواعد الشريعة الكلية، ومقاصدها المعلومة الجليّة. انتهى

(1)

.

8 -

(ومنها): أَنَّ الْأَمْر الْمُطْلَق لَا يَعُمّ الْأَحْوَال؛ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم، أَمَرَهُمْ أَنْ يُطِيعُوا الْأَمِير، فَحَمَلُوا ذَلِكَ عَلَى عُمُوم الْأَحْوَال، حَتَّى فِي حَال الْغَضَب، وَفِي حَال الْأَمْر بِالْمَعْصِيَة، فَبَيَّنَ لَهُمْ صلى الله عليه وسلم، أَنَّ الْأَمْر بِطَاعَتِه، مَقْصُور عَلَى مَا كَانَ مِنْهُ فِي غَيْر مَعْصِيَة

(2)

.

9 -

(ومنها): أنه اسْتَنْبَطَ مِنْ هذا الحديث الشَّيْخ أَبُو مُحَمَّد بْن أَبِي جَمْرَة، أَنَّ الْجَمْع مِنْ هَذِهِ الْأَمَة، لَا يَجْتَمِعُونَ عَلَى خَطَأ؛ لِانْقِسَامِ السَّرِيَّة قِسْمَيْنِ: مِنْهُمْ مَنْ هَانَ عَلَيْهِ دُخُول النَّار، فَظَنَّهُ طَاعَة، وَمِنْهُمْ مَنْ فَهِمَ حَقِيقَة الْأَمْر، وَأَنَّهُ مَقْصُور عَلَى مَا لَيْسَ بمَعْصِيَةٍ، فَكَانَ اخْتِلَافهمْ سَبَبًا لِرَحْمَةِ الْجَمِيع، قَالَ: وَفِيهِ أَنَّ مَنْ كَانَ صَادِق النِّيَّة، لَا يَقَع إِلَّا فِي خَيْر، وَلَوْ قَصَدَ الشَّرّ، فَإِنَّ الله يَصْرِفهُ عَنْهُ، وَلهَذَا قَالَ بَعْض أَهْل الْمَعْرِفَة: مَنْ صَدَقَ مَعَ الله، وَقَاهُ اللهُ، وَمَنْ تَوَكَّلَ عَلَى الله، كَفَاهُ اللهُ

(3)

، والله تعالى أعلم.

(المسألة الرابعة): قال أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله: هذا الحديث يرُدّ حكايةً، حُكيت عن بعض مشايخ الصوفيّة، وذلك أن مريدًا له قال له يومًا: قد حَمِي التنّور، فما أصنع؟ فتغافل عنه، فأعاد عليه القول، فقال له: ادخل فيه، فدخل المريد في التنّور، ثم إن الشيخ تذكّر، فقال: الحقوه، كان قد عَقَد على نفسه أن لا يُخالفني، فَلَحِقُوه، فوجدوه في التنّور لَمْ تضرّه النار. وهذه الحكاية

(1)

"المفهم" 4/ 40.

(2)

"الفتح" 9/ 476، كتاب "المغازي" رقم (4340).

(3)

راجع: "بهجة النفوس" 4/ 72 - 73.

ص: 81

أظنّها من الكذب الذي كُذب به على هذه الطائفة الفاضلة، فكم قد كَذَبَ عليها الزنادقة، وأعداء الدين

(1)

.

قال: وبيان ما يُحقّق ذلك أن هذا الشيخ إما أن يكون قاصدًا لأمر ذلك المريد بدخول التنّور، أو لا، فإن كان قاصدًا كان قصده ذلك معصيةً، ولا طاعة فيها بنصّ النبيّ صلى الله عليه وسلم، ويكون امتثال المريد لذلك معصيةً، وكيف تظهر الكرامات على العصاة في حال معصيتهم؟، فإن الكرامة تدلّ على حسن حال من ظهرت على يديه، وأنه مطيع لله تعالى في تلك الحالة مع جواز أمر آخر يكون في المستقبل.

وإن كان ذلك الشيخ غير قاصد لذلك، ولا شاعر بما صدر عنه، فكيف يحلّ للمريد أن يُلقي نفسه في النار بأمر غلَط، لا حقيقة له، ثم هذا المريد عاص بذلك الفعل، ولا يظهر على العاصي كرامة في حال ملابسته للمعصية، ولو جاز ذلك لجاز للزناة، وشَرَبَة الخمر، والفَسَقَة أن يدّعوا الكرامات، وهم ملابسون لفسقهم، هذا ما لا يجوز إجماعًا، وإنما تُنسب الكرامات لأولياء الله، وهم أهل طاعته، لا أولياء الشيطان، وهم أهل الفسق والعصيان.

والأَولى في هذه الحكاية، وأشباهها مما لا يليق بأحوال الفضلاء،

(1)

قال الجامع عفا الله عنه: في دعوى القرطبيّ الكذب عليهم نظر لا يخفي، فإن هذه القصّة وأشباهها موجود في كتب هذه الطائفة، ومسطّر عندهم، يتبجّحون به، ويجعلونه من جملة كرامات مشايخهم، فمن شكّ في هذا، فليُطالع "طبقات الشعرانيّ" الكبرى، و"رسالة القشيريّ"، و"جامع كرامات الأولياء" للنبهانيّ، وغير ذلك من الكتب المعتمدة عندهم التي يجعلونها أساسًا لطريقتهم، ويذكرون لمريديهم فضلها، ويحثّونهم على سلوك ما وجّهت إليه، ومن خالفها فقد هلك وعطب، ولا ينال مما عندهم من المدد شيئًا، بل يكون محرومًا مطرودًا، فكيف يقال: إن هذا مما كَذَب عليها الزنادقة؟ هيهات هيهات، فإن أردت أن تعلم أنّ ما قلته حقًّا، فراجع على سبيل المثال:"طبقات الشعرانيّ" 2/ 97 و 122 و 166 و 167 ترى العجب العجاب، {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8)} ، اللهم أرنا الحقّ حقًّا، وارزقنا اتّباعه، وأرنا الباطل باطلًا، وارزقنا اجتنابه، إنك وليّ ذلك، والقادر عليه، آمين.

ص: 82

والعلماء الطعن على الناقل، لا على المنقول عنه، والله تعالى أعلم.

[فإن قيل]: إن الشيخ لَمْ يكن قاصدًا لإدخال المريد نفسه النار، وإنما صدر ذلك منه على جهة التأديب والتغليظ؛ لكونه أكثر عليه من السؤال، فكأنه قطعه عما كان أَولى به في ذلك الحال، والمريد لصحّة اعتقاده في شيخه، وللوفاء بما جعل له عليه من الطاعة، وتَرْك المخالفة، ولاعتقاده أنه لا يأمره إلَّا بما فيه مصلحةٌ دينيّة، ثم إنه قد صحّ توكّل هذا المريد على الله تعالى، وصدقه في حاله، فحصل له من مجموع ذلك أن الله تعالى ينجّيه من النار، ويجعل له في ذلك مخرجًا.

[فالجواب]: أن يقول من يُجوّز الإقدام على تلك الحالة بتلك القيود المذكورة، يلزمه أن يُجوّز ما هو مُحرّم إجماعًا.

بيان ذلك: أنه لو قال له على تلك الحال بتلك القيود: اقتل فلانًا المسلم، أو ازْنِ بفلانة، أو اشرب الخمر، لَمْ يجُز الإقدام على شيء من ذلك بالإجماع، ولو كانت له تلك القيود كلّها، ولا فرق بين سورة الحكاية المذكورة، وبين هذه الصور التي ذكرناها، إذ الكلّ محرّمٌ قطعًا، وإن جُوّز انخراق العادة في أن النار لا تحرق، والسيف لا يحُزّ الرقبة، والْمُدْية لا تقطع الحلق، لكنّ هذه التجويزات لا يُلتفت إليها، ولا تُهَدّ القواعد الشرعيّة لأجلها، فلو أقدم على شيء من تلك الأمور لأجل أمر هذا الشيخ، لكان عاصيًا، فكذلك إذا ألقى نفسه في النار، ولا فرق.

ثم نقول: إن التوكّل على الله لا يصحّ مع المخالفة والمعصية، وذلك أن التوكّل على الله تعالى هو الاعتماد عليه، والتفويض إليه فيما يجوز الإقدام عليه، أو فيما يُخاف وقوعه، أو يُرتجى حصوله، وقد يُفضي التوكّل بصاحبه إلى أن لا يخاف شيئًا إلَّا الله، ولا يرجو سواه؛ إذ لا فاعل على الحقيقة إلَّا هو، وهذه الحالة إنما تثمرها المعرفة بالله تعالى، وبأحكامه، وملازمة الطاعة والتقوى، والتوفيق الخاصّ الإلهيّ، وعلى هذا فمن المحال حصول هذه الحالة مع المعصية والمخالفة، والصحيح ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لو دخلوها ما خرجوا منها"، وهذا هو الحقّ المُبين، ولو كَرِه أكثر الجاهلين.

ومن نوع هذه الحكاية: حكاية أبي حمزة الذي وقع في البئر، ثم جاء

ص: 83

قومٌ، وغطّوا البئر، وهو في قعره ساكت، لَمْ يتكلّم، متوكّلًا على الله تعالى إلى أن غطّوا البئر، وانصرفوا، وللكلام في هذا موضع آخر. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي ذكره القرطبيّ رحمه الله كلام نفيسٌ جدًّا، فإن مثل هذه الحكايات كثيرة في هذه الطائفة، ومن يُطالع "طبقات الأولياء" للشعرانيّ يرى العجب العجاب، فتنبّه أيها العاقلي، ولا تغترّ بمثل هذا، وهذا هو الحقّ الأبلج، {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ} [يونس: 32]، نسأل الله تعالى أن يهدينا الصراط المستقيم، {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8)} [آل عمران: 8]، اللهم أرنا الحقّ حقًّا، وارزقنا اتّباعه، وأرنا الباطل باطلًا، وارزقنا اجتنابه، آمين، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلِّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4757]

(

) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَأَبُو سَعِيدٍ الأَشَجُّ - وَتَقَارَبُوا فِي اللَّفْظِ - قَالُوا: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ، عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَن، عَنْ عَلِيٍّ، قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم سَريَّةً، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهِمْ رَجُلًا، مِنَ الأَنْصَار، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَسْمَعُوا لَهُ، وَيُطِيعُوا، فَأَغْضَبُوهُ فِي شَيْءٍ، فَقَالَ: اجْمَعُوا لِي حَطَبًا، فَجَمَعُوا لَهُ

(2)

، ثُمَّ قَالَ: أَوْقدُوا نَارًا، فَأَوْقَدُوا، ثُمَّ قَالَ: أَلَمْ يَأْمُرْكُمْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ تَسْمَعُوا لِي، وَتُطِيعُوا؛ قَالُوا: بَلَى، قَالَ: فَادْخُلُوهَا، قَالَ: فَنَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، فَقَالُوا: إِنَّمَا فَرَرْنَا إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ النَّار، فَكَانُوا كَذَلِكَ، وَسَكَنَ غَضَبُهُ، وَطُفِئَتِ النَّارُ، فَلَمَّا رَجَعُوا ذَكَرُوا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: "لَوْ دَخَلُوهَا

(3)

مَا خَرَجُوا مِنْهَا، إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ").

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(أَبُو سَعِيدٍ الأَشَجُّ) عبد الله بن سعيد بن حُصين الْكِنْديّ الكوفيّ،

(1)

"المفهم" 4/ 41 - 43.

(2)

وفي نسخة: "فجمعوا، ثم قال".

(3)

وفي نسخة: "لو دخلوا فيها".

ص: 84

ثقةٌ، من صغار [10](ت 257)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 17، وهو من مشايخ الجماعة بلا واسطة، وهم المذكورون في قولي:

اشْتَرَكَ الأَئِمَّةُ الْهُدَاةُ

ذَوُو الأُصُولِ السِّتَّةِ الْوُعَاةُ

فِي تِسْعَةٍ مِنَ الشُّيُوخِ الْمَهَرَهْ

الْحَافِظِينَ الْبَارِعِنَ الْبَرَرَهْ

أُولَئِكَ الأَشَجُّ وَابْنُ مَعْمَرِ

نَصْرٌ وَيَعْقُوبُ وَعَمْرٌو السَّرِي

وَابْنُ الْعَلَاءِ وَابْنُ بَشَّارٍ كَذَا

ابْنُ الْمُثَنَّى وَزِيَادٌ يُحْتَذَى

2 -

(الأَعْمَشُ) سليمان بن مِهْران الأسديّ الكاهليّ مولاهم، أبو محمد الكوفيّ، ثقةٌ حافظ عارف بالقراءة، ورعٌ، لكنّه يُدلّس [5](ت 147) أو بعدها (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" ج 1 ص 297.

والباقون ذُكروا في الباب.

وقوله: (رَجُلًا، مِنَ الأَنْصَارِ) هذا دليل واضح على أنَّ الرجل المذكور ليس عبد الله بن حذيفة؛ لأنه قرشيّ مهاجريّ، لا أنصاريّ، فالقصّة غير القصّة، وقد تقدّم تحقيق ذلك في الحديث الماضي.

وقوله: (إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ)؛ أي: فيما رضيه الشارع، واستحسنه، وهذا صريح في أنه لا طاعة في محرّم، فهو مقيّد للأخبار المطلقة

(1)

.

وقال في "العون": قوله: "في المعروف"؛ أي: لا في المنكر، والمراد بالمعروف: ما كان من الأمور المعروفة في الشرع، وهذا تقييد لِمَا أُطلق في الأحاديث المطلقة القاضية بطاعة أولي الأمر على العموم. انتهى

(2)

، وتمام شرح الحديث، وبيان مسائله تقدّمت في الحديث الماضي، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4758]

(

) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، وَأَبُو مُعَاوِيةَ، عَنِ الأَعْمَش، بِهَذَا الْإِسْنَاد، نَحْوَهُ).

(1)

"فيض القدير" 6/ 432.

(2)

"عون المعبود" 7/ 208.

ص: 85

رجال هذا الإسناد: أربعة:

وكلّهم ذُكروا في الباب، والباب الماضي.

[تنبيه]: رواية وكيع، عن الأعمش هذه، ساقها أبو بكر بن أبي شيبة رحمه الله في "مصنّفه"، فقال:

(33706)

- حدّثنا وكيع، قال: ثنا الأعمش، عن سعد بن عُبيدة، عن أبي عبد الرَّحمن السُّلَميّ، عن عليّ، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سَرِيّةً، واستَعْمَل عليهم رجلًا من الأنصار، فأمرهم أن يسمعوا له، ويطيعوا، قال: فأغضبوه في شيء، فقال: اجمعوا لي حطبًا، فجمعوا له حطبًا، قال: أوقدوا نارًا، فأوقدوا نارًا، قال: ألم يأمركم أن تسمعوا لي، وتطيعوا؟ قالوا: بلي، قال: فادخلوها، قال: فنظر بعضهم إلى بعض، وقالوا: إنما فررنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من النار، قال: فبينما هم كذلك إذ سكن غضبه، وطَفِئت النار، قال: فلما قَدِمُوا على النبيِّ صلى الله عليه وسلم ذكروا ذلك له، فقال:"لو دخلوها ما خرجوا منها، إنما الطاعة في المعروف". انتهى

(1)

.

وأما رواية أبي معاوية، عن الأعمش، فساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(622)

- حدّثنا عبد الله

(2)

، حدّثني أبي، ثنا أبو معاوية، ثنا الأعمش، عن سعد بن عُبيدة، عن أبي عبد الرَّحمن السُّلَميّ، عن عليّ رضي الله عنه قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سَرِيّةً، واستَعْمَل عليهم رجلًا من الأنصار، قال: فلما خرجوا قال: وَجَدَ عليهم في شيء، فقال: قال لهم: أليس قد أمركم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تطيعوني؟ قال: قالوا: بلى، قال: فقال: اجمعوا حطبًا، ثم دعا بنار، فأضرمها فيه، ثم قال: عَزَمت عليكم لتدخلنّها، قال: فَهَمَّ القوم أن يدخلوها، قال: فقال لهم شابّ منهم: إنما فررتم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من النار، فلا تعجلوا حتى تَلْقَوا النبيّ صلى الله عليه وسلم، فإن أَمَركم أن تدخلوها فادخلوا، قال: فرجعوا

(1)

"مصنف ابن أبي شيبة" 6/ 543.

(2)

هو: ولد الإمام أحمد، راوي "المسند" عنه، فتنبّه.

ص: 86

إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأخبروه، فقال لهم:"لو دخلتموها ما خرجتم منها أبدًا، إنما الطاعة في المعروف". انتهى

(1)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4759]

(1709)

(2)

- (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ إِدْرِيسَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، وَعُبَيْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الْوَلِيدِ بْنِ عُبَادَةَ، عَنْ أَبِيه، عَنْ جَدِّه، قَالَ: بَايَعْنَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى السَّمْع، وَالطَّاعَة، فِي الْعُسْرِ وَالْيُسْر، وَالْمَنْشَطِ وَالْمَكْرَه، وَعَلَى أَثَرَةٍ عَلَيْنَا، وَعَلَى أَنْ لَا نُنَازعَ الأَمْرَ أَهْلَهُ، وَعَلَى أَنْ نَقُولَ بِالْحَقِّ أَيْنَمَا كُنَّا، لَا نَخَافُ فِي اللهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ سَعِيدِ) بن قيس الأنصاريّ، أبو سعيد المدنيّ القاضي، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ [5](ت 244) أو بعدها (ع) تقدم في "الطهارة" 17/ 617.

2 -

(عُبَادَةُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ عُبَادَةَ) بن الصامت الأنصاريّ المدنيّ، أبو الصامت، ويقال له: عبد الله أيضًا، ثقةٌ [4].

رَوَى عنه أبيه، وجدّه، وأبي اليسر كعب، وابن عمر، وعائشة، وجابر بن عبد الله، وأبي سعيد الخدريّ، والرُّبَيِّع بنت مُعَوِّذ، وغيرهم.

وروى عنه عبيد الله بن عمر، وابن عجلان، وابن إسحاق، ويزيد بن الهاد، ويحيى بن سعيد الأنصاريّ، والوليد بن كثير، وعلي بن زيد بن جُدْعان، وغيرهم.

قال أبو زرعة، والنسائيّ: ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: كنيته أبو الوليد.

أخرج له البخاريّ، والمصنّف، وأبو داود، والنسائيّ، وابن ماجة، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا برقم (1709)، وحديث (3014): "من أنظر معسرًا، أو وضع عنه

" الحديث.

(1)

"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 1/ 82.

(2)

هذا مكرر، تقدّم.

ص: 87

3 -

(أَبُوهُ) الوليد بن عبادة بن الصامت الأنصاريّ، أبو عبادة المدنيّ، وُلد في حياة النبيّ صلى الله عليه وسلم، ثقةٌ، من كبار [2].

رَوَى عن أبيه، وعنه ابنه عبادة، وعطاء بن أبي رباح، ومحمد بن يحيى بن حَبَّان، وعطاء بن السائب، وسليمان بن حبيب المحاربيّ، وعُمارة بن عُمير، ويزيد بن أبي حبيب، وغيرهم.

قال العجليّ: شاميّ، تابعيٌّ، ثقةٌ، وقال ابن سعد: تُوُفّي في خلافة عبد الملك بن مروان، وكان ثقةً، قليل الحديث، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال هو وابن سعد: وُلِد في آخر عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم.

أخرج له البخاريّ، والمصنّف، والترمذيّ، والنسائيّ، وابن ماجة، وليس له في هذا الكتاب إلَّا هذا الحديث.

4 -

(جَدُّهُ) عبادة بن الصامت بن قيس الأنصاريّ الْخَزْرجيّ، أبو الوليد المدنيّ، أحد النقباء، بدريّ مشهور، مات بالرملة سنة (34)، وله (72) سنةً، وقيل: عاش إلى خلافة معاوية، قال سعيد بن عفير: كان طوله عشرة أشبار (ع) تقدم في "الإيمان" 10/ 148.

والباقون ذُكروا في الباب، و"عبيد الله بن عمر" هو الْعُمريّ.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وفيه تابعيّان رويا عن تابعيّ، عن تابعيّ، ورواية الابن عن أبيه، عن جدّه، وأن صحابيّه من مشاهير الصحابة رضي الله عنهم، شهد بدرًا، وما بعدها، وهو أحد النقباء ليلة العقبة رضي الله عنه.

شرح الحديث:

(عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الْوَلِيدِ بْنِ عُبَادَةَ، عَنْ أَبِيهِ) الوليد بن عبادة (عَنْ جَدِّهِ)؛ أي جدّ عبادة بن الوليد، وهو عبادة بن الصامت رضي الله عنه أنه (قَالَ: بَايَعْنَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم)؛ أي: عاهدناه، وعاقدناه، وأعطيناه خالصة أنفسنا.

[تنبيه]: "البيعة" - بفتح، فسكون -: في الأصلِ الصَّفقة على إيجاب البيع، وجمعها بَيْعَات - بالسكون - وتُحرّك في لغة هُذيل، وهو على خلاف القياس؛ لأنَّ القاعدة أن قياس فَعْلَة - بفتح الفاء، وسكون العين - على

ص: 88

فَعْلات، ساكن العين أيضًا، إن كان معتلّ العين، نحو:{تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (22)} [الشورى: 22]، {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58)} [النور: 58]، هذا لغة عامة العرب، وتفتحها هُذَيلٌ إتباعًا للفاء.

ثم تُطلق البيعة على المبايعة، والطاعة، وهو المراد هنا.

قال في "الفتح": المبايعة: عبارة عن المعاهدة، سُمّيت بذلك تشبيهًا لها بالمعاوضة الماليّة، كما في قوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} الآية [التوبة: 111]. انتهى.

وقال في "النهاية" ما معناه: المبايعة على الإسلام: عبارة عن المعاقدة عليه، والمعاهدة، كأن كلّ واحد منهما باع ما عنده من صاحبه، وأعطاه خالصة نفسه، وطاعته، ودَخِيلةَ أمره. انتهى.

وقال القاضي عياض رحمه الله ما حاصله: اختُلف في اشتقاق البيعة، فقيل: أصله من البيع؛ لأنَّ المتبايعين يمُدّ كلّ واحد منهما يده إلى صاحبه، ولمّا كان الأمراء عند التوثيق بمن يأخذون عليه العهد، يأخذون بيده، شُبّه بذلك، فسُمّيت مبايعةً، وقيل: بل كانوا يضربون بأيدي بعضهم على بعض عند التبايع، ولهذا سمّيت صفقةً؛ لِصَفْق الأيدي عندها، فسُمّيت بها، وقيل: بل سُمّيت مبايعة؛ لِمَا فيها من المعاوضة، تشبيهًا بالبيع أيضًا؛ لِمَا وعدهم الله من الجزاء، والثواب على الإسلام، وطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} الآية [التوبة: 111]. انتهى كلام القاضي عياض رحمه الله.

وقال أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله: البيعة مأخوذة من البيع، وذلك أن المبايع للإمام يلتزم أن يقيه بنفسه وماله، فكأنه قد بذل نفسه، وماله لله تعالى، وقد وعده الله تعالى على ذلك بالجنّة، فكأنه قد حصلت له المعاوضة، فصدق

ص: 89

على ذلك اسم البيع، والمبايعة، والشراء، كما قال تعالى {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} إلى أن قال:{فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ} الآية [التوبة: 111]، وعلى نحوٍ من هذا قال النبيّ صلى الله عليه وسلم لصهيب:"ربِحَ البيع أبا يحيى"

(1)

، وكانت قريش تبعته لتردّه عن هجرته، فبذل لهم ماله في تخليص نفسه ابتغاء ثواب الله تعالى، فسمّاه النبيّ صلى الله عليه وسلم بيعًا، وهذا أحسن ما قيل في المبايعة.

[تنبيه آخر]: كانت تلك المبايعة ليلة العقبة، كما قاله في "الفتح"، قال أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله: هذه البيعة تُسمَّى بيعة الأمراء، وسُمِّيت بذلك؛ لأنَّ المقصود بها تأكيد السمع والطاعة على الأمراء، وقد كان عبادة رضي الله عنه بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة النساء، وسمّيت بذلك؛ لأنه لَمْ يكن فيها ذِكْر حرب، ولا قتال، وقد بايع النبيّ صلى الله عليه وسلم أصحابه بيعة الرضوان، وسمّيت بذلك لقول الله تعالى:{لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} الآية [الفتح: 18]. انتهى

(2)

.

(عَلَى السَّمْع، وَالطَّاعَةِ) متعلّق بـ "بايعنا"، و"على" بمعنى اللام، أو بتضمين "بايعنا" معنى العهد؛ أي: عاهدناه على أنَّ نسمع كلامه، ونطيع أمره، وكذا من يقوم بعده مقامه من الخلفاء. (فِي الْيُسْرِ وَالْعُسْرِ) وفي رواية إسماعيل بن عُبيد عند أحمد:"وعلى النفقة في العسر واليسر"، (وَالْمَنْشَطِ) بفتح الميم، والمعجمة، وسكون النون بينهما؛ أي: في حالة نشاطنا. (وَالْمَكْرَهِ) بضبط ما قبله؛ أي: في الحالة التي نكون فيها عاجزين عن العمل بما نؤمر به، ونقل ابن التين عن الداوديّ أن المراد: الأشياء التي يكرهونها، قال ابن التين: والظاهر أنه أراد في وقت الكسل والمشقّة في الخروج؛ ليطابق قوله: "في المنشط"، ويؤيِّده ما وقع في رواية إسماعيل بن عُبيد بن رفاعة، عن عبادة، عند أحمد:"في النشاط والكسل"، قاله في "الفتح".

(1)

رواه الحاكم في "المستدرك"(3/ 398) وقال: صحيح على شرط مسلم، وأقرّه الذهبيّ.

(2)

"المفهم" 4/ 44 - 45.

ص: 90

وقال السنديّ: الْمَنشَطُ، والْمَكْره: مَفْعلٌ بفتح الميم والعين، من النشاط، والكراهة، وهما مصدران؛ أي: في حالة النشاط والكراهة؛ أي: حالة انشراح صدورنا، وطيب قلوبنا، وما يُضادّ ذلك، أو اسما زمان، والمعنى واضح، أو اسما مكان؛ أي: فيما فيه نشاطهم، وكراهتهم، كذا قيل، ولا يخفى أن ما ذكره من المعنى على تقدير كونهما اسمَي مكان مجازيّ، وكذا قال بعضهم: كونهما اسمَيْ مكان بعيد. انتهى

(1)

.

(وَعَلَى أَثَرَةٍ عَلَيْنَا) - بفتح الهمزة، والمثلّثة -؛ أي: تفضيل غيرنا علينا في الفيء، أو في غيره. والمراد: أن طواعيتهم لمن يتولّى عليهم لا تتوقّف على إيصالهم حقوقهم إليهم، بل عليهم الطاعة، ولو منعوهم حقّهم.

(وَعَلَى أنْ لَا نُنَازِعَ الْأَمْرَ)؛ أي: وبايعناه أيضًا على أنَّ لا ننازع الأمر؛ أي: الملك والإمارة، أو كلّ الأمور، (أَهْلَهُ) الضمير للأمر؛ أي: إذا وُكل الأمر إلى من هو أهلٌ له، فليس لنا أن نجرّه إلى غيره، سواء كان ذلك الغير أهلًا، أم غير أهل، زاد في رواية أحمد:"وإن رأيت أن لك"؛ أي: وإن اعتقدتَ أن لك في الأمر حقًّا، فلا تعمل بذلك الظنّ، بل اسمع، وأطع إلى أن يَصِل إليك بغير خروج عن الطاعة، وزاد في رواية عند ابن حبّان وأحمد:"وإن أكلوا مالك، وضربوا ظهرك".

(وَأَنْ نَقُولَ) باللام في رواية مسلم، وفي رواية للبخاريّ:"وأن نقوم" بالميم، (بِالْحَقِّ)؛ أي: بإظهاره، وتبليغه للناس (أَيْنَمَا كُنَّا)؛ أي: في موضع وُجدنا، (لا نَخَافُ لَوْمَةَ لَائِمٍ)؛ أي: لا نترك قول الحقّ لأجل خوف ملامة اللائمين علينا.

وقال النوويّ رحمه الله: معناه: نأمر بالمعروف، وننهى عن المنكر في كلّ زمان ومكان، الكبار والصغار، لا نُداهن فيه أحدًا، ولا نخافه، ولا نلتفت إلى اللائمين. انتهى

(2)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1)

"شرح السنديّ على النسائيّ" 7/ 138.

(2)

"شرح النوويّ" 12/ 230.

ص: 91

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [8/ 4759 و 4760 و 4761 و 4762](1709)

(1)

، و (البخاريّ) في "الفتن"(7056) و"الأحكام"(7199)، و (النسائيّ) في "البيعة"(7/ 139) و"الكبرى"(4/ 421 - 422 و 5/ 211 - 212)، و (ابن ماجة) في "الجهاد"(2866)، و (مالك) في "الموطّأ"(977)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 314 و 316 و 318 و 321)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4547)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 407 - 408)، و (ابن الجعد) في "مسنده"(1/ 261)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(8/ 145)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(2456)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): وجوب سمع كلام الأمراء، وطاعة أوامرهم.

2 -

(منها): بيان مشروعيَّة بيعة الإمام على السمع والطاعة.

3 -

(ومنها): أن وجوب الطاعة لا يختلف باختلاف الأحوال من العسر واليسر، والنشاط والكُره، فيجب على المسلم طاعتهم في كلّ أحواله، قَدْر استطاعته.

4 -

(ومنها): أنه لا يجوز منازعة وليّ الأمر في شأن الولاية، ولا في غيرها، إلَّا أن يكون معصية، إذ لا طاعة للمخلوق في معصية الخالق.

5 -

(ومنها): وجوب قول الحقّ، من الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وعدم المداهنة فيه للناس، ولا الالتفات إلى لوم لائمهم، بل يغيّر المنكر بكلّ ما يقدر عليه، من فعل، أو قول، ما لَمْ يخشَ إثارة فتنة، وتسبُّب منكر أشدّ منه.

(1)

هذا الرقم للأستاذ محمد فؤاد رحمه الله، وهو إشارة إلى أن حديث عبادة رضي الله عنه هذا تقدّم بالرقم المذكور، لكن سياق الذي تقدّم غير هذا السياق، وقد تقدّم في كتاب "الحدود" برقم [11/ 4453](1709) فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق.

ص: 92

قال النوويّ رحمه الله: وأجمع العلماء على أن الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر فرض كفاية، فإن خاف من ذلك على نفسه، أو ماله، أو على غيره، سقط الإنكار بيده، ولسانه، ووجبت كراهته بقلبه، هذا مذهبنا، ومذهب الجماهير، وحكى القاضي هنا عن بعضهم أنه ذهب إلى الإنكار مطلقًا في هذه الحالة، وغيرها. انتهى

(1)

.

وقال الطبريّ رحمه الله: اختَلَف السلف في الأمر بالمعروف، فقالت طائفة: يجب مطلقًا، واحتجوا بحديث طارق بن شهاب رفعه:"أفضل الجهاد كلمة حقّ عند سلطان جائر"، وبعموم قوله صلى الله عليه وسلم:"من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده. . ." الحديث، وقال بعضهم: يجب إنكار المنكر، لكن شرطه أن لا يلحق المنكر بلاءٌ، لا قِبَلَ له به من قَتْل، ونحوه، وقال آخرون: يُنكِر بقلبه؛ لحديث أم سلمة رضي الله عنها مرفوعًا: "يُسْتَعْمَل عليكم أمراء بعدي، فمن كَرِهَ فقد برئ، ومن أنكر فقد سَلِم، ولكن من رَضِيَ وتابع. . ."

(2)

الحديث.

قال: والصواب اعتبار الشرط المذكور، ويدلّ عليه حديث:"لا ينبغي لمؤمن أن يذلّ نفسه"، ثم فسّره بأن يتعرض من البلاء لِمَا لا يُطيق. انتهى ملخصًا.

وقال غيره: يجب الأمر بالمعروف لمن قَدَر عليه، ولم يَخَف على نفسه منه ضررًا، ولو كان الآمر متلبسًا بالمعصية؛ لأنه في الجملة يُؤْجَر على الأمر بالمعروف، ولا سيما إن كان مطاعًا، وأما إثمه الخاصّ به فقد يغفره الله له، وقد يؤاخذه به، وأما من قال: لا يأمر بالمعروف، إلا من ليست فيه وصمة، فإن أراد أنه الأَولى فجيّد، وإلا فيستلزم سدّ باب الأمر، إذا لم يكن هناك غيره. انتهى

(3)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تحصّل مما سبق أن الحقّ هو ما عليه جمهور أهل العلم من وجوب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر لمن قَدَر

(1)

"شرح النوويّ" 12/ 230.

(2)

حديث صحيح أخرجه أحمد، وأبو داود، والترمذيّ.

(3)

"الفتح" 16/ 513، كتاب "الفتن" رقم (7098).

ص: 93

عليه، وإلا فلا؛ لحديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من رأى منكم منكرًا، فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان"، رواه مسلم.

فقد رخّص الشارع في هذا النصّ في ترك الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر فعلًا، أو قولًا عند عدم الاستطاعة، فالقول بالوجوب مطلقًا مخالف لهذا النصّ.

لكن لو أخذ أحد بالعزيمة، فواجه من يخافه بذلك، لكان أفضل؛ لِمَا أخرجه النسائيّ (4211) بإسناد صحيح، عن طارق بن شهاب، أن رجلًا سأل النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقد وضع رجله في الْغَرْز: أيُّ الجهاد أفضل؟ قال: "كلمة حقّ، عند سلطان جائر"، والله تعالى أعلم.

(المسألة الرابعة): في حكم البيعة:

قال القرطبيّ رحمه الله: البيعة واجبة على كلّ مسلم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "من مات وليس في عنقه بيعة، مات ميتةً جاهليّة"، رواه مسلم، غير أنه من كان من أهل الحلّ والعقد، والشهرة، فبيعته بالقول، والمباشرة باليد، إن كان حاضرًا، أو بالقول والإشهاد عليه، إن كان غائبًا، ويكفي من لا يؤبه له، ولا يُعرف أن يعتقد دخوله تحت طاعة الإمام، ويَسمع، ويُطيع له في السرّ والجهر، ولا يعتقد خلاف ذلك، فإن أضمره، فمات مات مِيتَةً جاهليّة؛ لأنه لم يجعل في عنقه بيعة. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قوله: "واجبة على كلّ مسلم. . . إلخ" هذا إذا كان للمسلمين إمام، أما إذا لم يكن لهم إمام، وكانوا فوضَى، فلا وجوب؛ لحديث حذيفة المتّفق عليه، واللفظ للبخاريّ، قال: كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر، مخافة أن يُدركني، فقلت: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟، قال:"نعم"، قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: "نعم، وفيه دَخَنٌ"، قلت: وما دخنه؟ قال: "قوم يَهدُون بغير هديي، تَعرف

(1)

"المفهم" 4/ 4/ 44.

ص: 94

منهم وتُنكر" قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: "نعم دُعاة إلى أبواب جهنم، من أجابهم إليها، قذفوه فيها"، قلت: يا رسول الله، صِفْهم لنا، فقال: "هم من جِلْدَتنا، ويتكلمون بألسنتنا"، قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: "تلزم جماعة المسلمين، وإمامهم" قلت: فإن لم يكن لهم جماعة، ولا إمام؟ قال:"فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تَعَضّ بأصل شجرة، حتى يُدركك الموت، وأنت على ذلك".

فهذا الحديث صريح في أن وجوب لزوم الجماعة إنما يكون إذا وُجدت الجماعة، وكان لها إمام، وأما إذا لم يكن كذلك، فالواجب اعتزال الفِرَق كلها، فرارًا بدينه، كما أمره به النبيّ صلى الله عليه وسلم، والله تعالى أعلم بالصواب.

(المسألة الخامسة): في حكم الخروج على الأئمة لِظُلْمهم:

قال النوويّ رحمه الله ما حاصله: أجمع المسلمون على أن الخروج على الأئمّة وقتالهم حرام، وإن كانوا فَسَقةً ظالمين، وقد تظاهرت الأحاديث بمعنى ما ذكرته، وأجمع أهل السُّنَّة أنه لا ينعزل السلطان بالفسق، وأما الوجه المذكور في كتب الفقه لبعض أصحابنا أنه ينعزل، وحُكِي عن المعتزلة أيضًا فَغَلَطٌ من قائله، مخالف للإجماع.

قال العلماء: وسبب عدم انعزاله، وتحريم الخروج عليه ما يترتب على ذلك من الفتن، وإراقة الدماء، وفساد ذات البين، فتكون المفسدة في عزله أكثر منها في بقائه.

قال القاضي عياض: أجمع العلماء على أن الإمامة لا تنعقد لكافر، وعلى أنه لو طرأ عليه الكفر انعزل، قال: وكذا لو ترك إقامة الصلوات، والدعاء إليها، قال: وكذلك عند جمهورهم البدعة، قال: وقال بعض البصريين: تنعقد له، وتستدام له؛ لأنه متأوِّلٌ، قال القاضي: فلو طرأ عليه كفر، وتغيير للشرع، أو بدعة خرج عن حكم الولاية، وسقطت طاعته، ووجب على المسلمين القيام عليه، وخلعه، ونَصْب إمام عادل إن أمكنهم ذلك، فإن لم يقع ذلك إلا لطائفة وجب عليهم القيام بخلع الكافر، ولا يجب في المبتدع، إلا إذا ظَنُّوا القدرة عليه، فإن تحققوا العجز لم يجب القيام، ولْيُهاجِر المسلم عن أرضه إلى غيرها، ويفِرّ بدينه، قال: ولا تنعقد لفاسق ابتداءً، فلو طرأ على

ص: 95

الخليفة فسق، قال بعضهم: يجب خلعه إلا إن تترتب عليه فتنة وحرب، وقال جماهير أهل السُّنَّة، من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين: لا ينعزل بالفسق، والظلم، وتعطيل الحقوق، ولا يُخلع، ولا يجوز الخروج عليه بذلك، بل يجب وعظه، وتخويفه؛ للأحاديث الواردة في ذلك.

قال القاضي: وقد ادَّعَى أبو بكر بن مجاهد في هذا الإجماع، وقد رَدَّ عليه بعضهم هذا بقيام الحسن، وابن الزبير، وأهل المدينة على بني أمية، وبقيام جماعة عظيمة من التابعين، والصدر الأول على الحَجَّاج مع ابن الأشعث، وتأول هذا القائل قوله:"أن لا ننازع الأمر أهله" في أئمة العدل.

وحجة الجمهور أن قيامهم على الحَجّاج ليس بمجرد الفسق، بل لِمَا غيّر من الشرع، وظاهَرَ من الكفر، كبيعه الأحرار، وتفضيله الخليفة على النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقوله المشهور المنكَر في ذلك، قال القاضي: وقيل: إن هذا الخلاف كان أوّلًا، ثم حصل الإجماع على منع الخروج عليهم، والله أعلم. انتهى

(1)

.

وقال في "الفتح": ونقل ابن التين عن الداوديّ قال: الذي عليه العلماء في أمراء الْجَوْر أنه إن قُدِر على خلعه بغير فتنة ولا ظلم وَجَب، وإلا فالواجب الصبر، وعن بعضهم: لا يجوز عقد الولاية لفاسق ابتداءً، فإن أَحدث جورًا بعد أن كان عدلًا، فاختلفوا في جواز الخروج عليه، والصحيح: المنع، إلا أن يكفر، فيجب الخروج عليه. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا القول الأخير المصحَّح عندي هو الحقّ، وحاصله أنه لا يجوز الخروج على الأئمة بأيّ نوع من أنواع الفسق، والظلم، إلا بصريح الكفر، وأما ما عداه، فإن أمكن إزالته بغير خروج عليه، فذاك، وإلا فلا يجوز الخروج عليه، وهذا هو الذي أوضحه النبيّ صلى الله عليه وسلم بقوله:"إلا أن تروا كفرًا بواحًا، عندكم من الله فيه برهان"، والله تعالى أعلم بالصواب.

(المسألة السادسة): في حكم نصب الإمام:

(1)

"شرح النوويّ" 12/ 229 بزيادة من "إكمال المعلم" 6/ 247.

(2)

"فتح الباري" 13/ 8.

ص: 96

قال الإمام ابن كثير رحمه الله في "تفسيره": وقد استدلّ القرطبي وغيره بهذه الآية

(1)

على وجوب نصب الخليفة؛ لِيَفْصِل بين الناس فيما اختلفوا فيه، ويقطع تنازعهم، وينتصر لمظلومهم من ظالمهم، ويقيم الحدود، ويزجر عن تعاطي الفواحش إلى غير ذلك، من الأمور المهمة التي لا تمكن إقامتها إلا بالإمام، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، والإمامة تُنال بالنصّ كما يقوله طائفة من أهل السُّنَّة في أبي بكر، أو بالإيماء إليه، كما يقول آخرون منهم، أو باستخلاف الخليفة آخر بعده، كما فعل الصدِّيق بعمر بن الخطاب، أو بتركه شورى في جماعة صالحين كذلك، كما فعله عمر، أو باجتماع أهل الحلّ والعقد على مبايعته، أو بمبايعة واحد منهم له، فيجب التزامها عند الجمهور، وحَكَى على ذلك إمام الحرمين الإجماع، والله أعلم.

أو بقهر واحد الناس على طاعته فتجب؛ لئلا يؤدي ذلك إلى الشقاق والاختلاف، وقد نصّ عليه الشافعيّ، وهل يجب الإشهاد على عقد الإمامة؟ فيه خلاف، فمنهم من قال: لا يُشترط، وقيل: بلى، ويكفي شاهدان، وقال الجبائيّ: يجب أربعة، وعاقد ومعقود له، كما ترك عمر رضي الله عنه الأمر شورى بين ستة، فوقع الأمر على عاقد، وهو عبد الرحمن بن عوف، ومعقود له، وهو عثمان، واستنبط وجوب الأربعة الشهود من الأربعة الباقين، وفي هذا نظر، والله أعلم.

وبجب أن يكون ذَكرًا حرًّا بالغًا عاقلًا مسلمًا عدلًا مجتهدًا بصيرًا سليم الأعضاء، خبيرًا بالحروب، والآراء، قرشيًّا على الصحيح، ولا يشترط الهاشميّ، ولا المعصوم من الخطأ؛ خلافًا للغلاة الروافض، ولو فَسَق الإمام هل ينعزل أم لا؟ فيه خلاف، والصحيح أنه لا ينعزل؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"إلا أن تروا كُفرًا بَوَاحًا، عندكم من الله فيه برهان"، وهل له أن يعزل نفسه؟ فيه خلاف، وقد عَزَل الحسن بن عليّ رضي الله عنهما، وسلَّم الأمر إلى معاوية، لكن هذا لعذر، وقد مُدِح على ذلك.

فأما نَصْبُ إمامين في الأرض، أو أكثر، فلا يجوز؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "من

ص: 97

جاءكم، وأمْرُكم جميع، يريد أن يفرِّق بينكم، فاقتلوه، كائنًا من كان"، وهذا قول الجمهور، وقد حَكَى الإجماع على ذلك غير واحد، منهم إمام الحرمين، وقالت الكرامية: يجوز اثنان فأكثر، كما كان عليّ ومعاوية إمامين واجبي الطاعة، قالوا: وإذا جاز بعث نبيين في وقت واحد وأكثر، جاز ذلك في الإمامة؛ لأن النبوة أعلى رتبة بلا خلاف، وحَكَى إمام الحرمين عن الأستاذ أبي إسحاق أنه جوَّز نَصْب إمامين فأكثر، إذا تباعدت الأقطار، واتسعت الأقاليم بينهما، وتردَّد إمام الحرمين في ذلك.

قال ابن كثير: وهذا يُشبه حال الخلفاء بني العباس بالعراق، والفاطميين بمصر، والأمويين بالمغرب. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: عندي أن ما قاله الجمهور من عدم جواز تعدّد الأئمة هو الأرجح؛ للحديث المتقدّم، إلا للضرورة، بأن تغلّب أحدٌ، ولا يستطيعون دفعه؛ لقوّته فلا بأس، كما وقع ذلك في دولة بني العبّاس، حيث خرج عليهم الأمويّون بالمغرب، فتنبّه، والله تعالى أعلم بالصواب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4760]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَاهُ ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثنَا عَبْدُ اللهِ - يَعْنِي: ابْنَ إِدْرِيسَ- حَدَّثَنَا ابْنُ عَجْلَانَ، وَعُبَيْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ، وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الْوَلِيدِ، فِي هَذَا الْإِسْنَادِ، مِثْلَهُ)

(2)

.

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(ابْنُ عَجْلَانَ) هو: محمد بن عجلان القرشيّ مولاهم، أبو عبد الله المدنيّ، صدوقٌ اختلطت عليه أحاديث أبي هريرة رضي الله عنه[5](ت 148)(خت م 4) تقدم في "الإيمان" 10/ 150.

والباقون ذُكروا في الباب.

وقوله: (مِثْلَهُ) سقط من بعض النسخ.

[تنبيه]: رواية ابن عجلان، وعبيد الله، ويحيى بن سعيد ثلاثتهم عن

(1)

"تفسير ابن كثير" 1/ 73.

(2)

سقط لفظ "مثله" من بعض النسخ.

ص: 98

عبادة بن الوليد ساقها ابن ماجه رحمه الله في "سننه"، وضمّ إليهم ابن إسحاق، فقال:

(2866)

- حدّثنا عليّ بن محمد، ثنا عبد الله بن إدريس، عن محمد بن إسحاق، ويحيى بن سعيد، وعبيد الله بن عمر، وابن عجلان، عن عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت، عن أبيه، عن عبادة بن الصامت، قال: بايعْنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة، في العسر واليسر، والمنشط والمكره، والأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله، وأن نقول الحقّ حيثما كنا، لا نخاف في الله لومة لائم. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4761]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ - يَعْنِي: الدَّرَاوَرْدِيَّ - عَنْ يَزِيدَ - وَهُوَ ابْنُ الْهَادِ - عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الْوَلِيدِ بْنِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، عَنْ أَبِيهِ، حَدَّثَنِي أَبِي

(2)

، قَالَ: بَايَعْنَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، بِمِثْلِ حَدِيثِ ابْنِ إِدْرِيسَ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(ابْنُ أَبِي عُمَرَ) هو: محمد بن يحيى بن أبي عمر الْعَدَنيّ، ثم المكيّ، تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(عَبْدُ الْعَزِيزِ الدَّرَاوَرْدِيُّ) ابن محمد بن عُبيد الْجُهَنيّ مولاهم، أبو محمد المدنيّ، صدوقٌ كان يُحدّث من كتب غيره، فيُخطئ [8](ت 6 أو 187)(ع) تقدم في "الإيمان" 8/ 135.

3 -

(يَزِيدُ بْنُ الْهَادِ) هو: يزيد بن عبد الله بن أُسامة بن الهاد الليثيّ، أبو عبد الله المدنيّ، ثقةٌ مكثرٌ [5](ت 139)(ع) تقدم في "الإيمان" 13/ 159.

والباقون ذُكروا قبله.

(1)

"سنن ابن ماجه" 2/ 957.

(2)

وفي نسخة: "عن أبيه، قال: حدّثني".

ص: 99

[تنبيه]: رواية يزيد بن الهاد، عن عبادة بن الوليد ساقها البيهقيّ رحمه الله في "الكبرى"، فقال:

(20379)

- أخبرنا عليّ بن أحمد بن عبدان، أنبأ أحمد بن عبيد، ثنا العباس بن الفضل الأسفاطيّ، ثنا إبراهيم بن حمزة، ثنا عبد العزيز بن محمد، عن يزيد بن عبد الله - يعني: ابن الهاد - عن عبادة - يعني: ابن الوليد بن عبادة بن الصامت - عن أبيه، قال: حدّثني أبي، قال: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة، في العسر واليسر، والمنشط والمكره، وأَثَرَة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله، ونقول الحقّ حيث ما كنا، لا نخاف في الله لومة لائم. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4762]

(. . .) - (حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ وَهْبِ بْنِ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا عَمِّي عَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْبٍ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، حَدَّثَنِي بُكَيْرٌ، عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ جُنَادَةَ بْنِ أَبِي أُمَيَّةَ، قَالَ: دَخَلْنَا عَلَى عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، وَهُوَ مَرِيضٌ، فَقُلْنَا: حَدَّثْنَا - أَصْلَحَكَ اللهُ - بِحَدِيثٍ، يَنْفَعُ اللهُ بِهِ، سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: دَعَانَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَبَايَعْنَاهُ، فَكَانَ

(2)

فِيمَا أَخَذَ عَلَيْنَا أَنْ بَايَعَنَا عَلَى السَّمْعِ، وَالطَّاعَةِ، فِي مَنْشَطِنَا وَمَكْرَهِنَا، وَعُسْرِنَا وَيُسْرِنَا، وَأَثَرَةٍ عَلَيْنَا، وَأَنْ لَا نُنَازِعَ

(3)

الأَمْرَ أَهْلَهُ، قَالَ:"إِلَّا أَنْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا، عِنْدَكُمْ مِنَ اللهِ فِيهِ بُرْهَانٌ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ وَهْبِ بْنِ مُسْلِمٍ) أبو عبيد الله المصريّ، لقبه بَحْشَل، صدوقٌ تغيّر بآخره [11](ت 264)(م) من أفراد المصنّف تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 19/ 1277.

2 -

(عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ) بن يعقوب الأنصاريّ مولاهم، أبو أيوب

(1)

"سنن البيهقي الكبرى" 10/ 158.

(2)

وفي نسخة: "فبايعنا، فكان".

(3)

وفي نسخة: "ولا ننازع".

ص: 100

المصريّ، ثقةٌ حافظٌ فقيهٌ [7] مات قبل (150)(ع) تقدم في "الإيمان" 16/ 169.

3 -

(بُكَيْرُ) بن عبد الله بن الأشجّ المخزوميّ مولاهم، أبو عبد الله، أو أبو يوسف المدنيّ، نزيل مصر، ثقةٌ [5](ت 120)(ع) تقدم في "الطهارة" 4/ 554.

4 -

(بُسْرُ بْنُ سَعِيدٍ) مولى ابن الحضرميّ المدنيّ، ثقةٌ عابدٌ جليلٌ [2](ت 100)(ع) تقدم في "الصلاة" 31/ 1001.

5 -

(جُنَادَةُ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ) الأزديّ، أبو عبد الله الشاميّ، ويقال: اسم أبيه: كبير، مختلف في صحبته، ثقةٌ [2](ع) تقدم في "الإيمان" 10/ 148.

والباقيان ذُكرا في الباب.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من سُباعيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسلٌ بالمصريين غير بُسر، فمدنيّ، وجُنادة، فشاميّ، والصحابيّ، فمدنيّ، ثم شاميّ، وفيه ثلاثة من التابعين روى بعضهم عن بعض: بكير، عن بسر، عن جنادة، ورواية الأخيرين من رواية الأقران.

شرح الحديث:

(عَنْ بُسْرِ) بضمّ الموحّدة، وسكون المهملة، (ابْنِ سَعِيدٍ، عَنْ جُنَادَةَ) بضمّ الجيم، وتخفيف النون، (ابْنِ أَبِي أُمَيَّةَ) ووقع عند الإسماعيليّ، من طريق عثمان بن صالح: حدّثنا ابن وهب، أخبرني عمرو، أن بكيرًا حدّثه، أن بسر بن سعيد حدّثه، أن جُنادة حدّثه. (قَالَ) جُنادة (دَخَلْنَا عَلَى عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ) رضي الله عنه (وَهُوَ مَرِيضٌ) جملة حاليّة، (فَقُلْنَا: حَدِّثْنَا - أَصْلَحَكَ اللهُ - بِحَدِيثٍ) وفي رواية البخاريّ: "فقلنا: أصلحك الله، حدّث بحديث"، قال في "الفتح": وقولهم: "أصلحك الله" يَحْتَمِل أنه أراد الدعاء له بالصلاح في جسمه؛ ليُعافَى من مرضه، أو أعمّ من ذلك، وهي كلمة اعتادوها عند افتتاح الطلب

(1)

، وقوله:(يَنْفَعُ اللهُ بِهِ) جملة في محلّ جرّ صفة لـ "حديثٍ"، وفي رواية البخاريّ:"ينفعك الله به"؛ أي: ينفعك الله بأجر تحديثك به. (سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم،

(1)

"الفتح" 16/ 439، كتاب "الفتن" رقم (7055).

ص: 101

فَقَالَ) عبادة رضي الله عنه (دَعَانَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم)؛ أي: ليلة العقبة، وهي عقبة منى، (فَبَايَعْنَاهُ) وفي بعض النسخ:"فبايعنا"، وتقدّم معنى المبايعة قريبًا. (فَكَانَ فِيمَا أَخَذَ عَلَيْنَا)؛ أي: فيما اشترطه علينا من الشروط، (أَنْ بَايَعَنَا) بفتح العين، والفاعل ضمير النبيّ صلى الله عليه وسلم، و"نا" مفعول به، (عَلَى السَّمْعِ، وَالطَّاعَةِ)؛ أي: على أن نسمع قوله، ونطيع أمره.

وقال الطيبيّ رحمه الله: قوله: "بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع. . . إلخ" عدّاه بـ "على" لتضمّنه معنى عاهد، و"على" في قوله:"على أثرة" ليست بصلة المبايعة، بل هي متعلّقة بمقدّر؛ أي: بايعناه على أن نصبر على أثرة علينا، قال: وقال البيضاويّ: "بايعنا"؛ أي: عاهدنا بالتزام السمع والطاعة في حالَتَي الشدّة والرخاء، وتارَتَي الضرّاء والسرّاء، وإنما عبّر عنه بصيغة المفاعلة؛ للمبالغة، أو للإيذان بأنه التزم لهم أيضًا بالأجر والثواب، والشفاعة يوم الحساب على القيام بما التزموا. انتهى

(1)

.

(فِي مَنْشَطِنَا) بفتح الميم، والشين المعجمة، وسكون النون بينهما، (وَمَكْرَهِنَا) بوزن ما قبله؛ أي: في حالة نشاطنا، وفي الحالة التي نكون فيها عاجزين عن العمل بما نؤمر به.

وقال الطيبيّ رحمه الله: "المنشط"، و"المكره" مَفْعَلان من النشاط، والكراهة للمحلّ؛ أي: فيما فيه نشاطهم، وكراهتهم، أو الزمان؛ أي: في زماني انشراح صدورهم، وطيب قلوبهم، وما يُضادّ ذلك. انتهى

(2)

.

ونقل ابن التين عن الداوديّ أن المراد: الأشياء التي يكرهونها، قال ابن التين: والظاهر أنه أراد في وقت الكسل والمشقة في الخروج؛ ليطابق قوله: منشطنا، قال الحافظ: ويؤيده ما وقع في رواية إسماعيل بن عبيد بن رفاعة، عن عبادة عند أحمد:"في النشاط، والكسل"

(3)

. (وَعُسْرِنَا وَيُسْرِنَا) وفي رواية إسماعيل بن عبيد: "وعلى النفقة في العسر واليسر"، وزاد: "وعلى الأمر

(1)

"الكاشف عن حقائق السنن" 8/ 2559.

(2)

"الكاشف عن حقائق السنن" 8/ 2559 - 2560.

(3)

"الفتح" 16/ 439، كتاب "الفتن" رقم (7055).

ص: 102

بالمعروف، والنهي عن المنكر". (وَأَثَرَةٍ عَلَيْنَا) بفتح الهمزة، والمثلّثة، أو بضمّ، فسكون، أو بكسر، فسكون، والمراد: أن طواعيتهم لمن يتولى عليهم لا تتوقف على إيصالهم حقوقهم، بل عليهم الطاعة، ولو مَنَعهم حقهم.

وقال القرطبيّ رحمه الله: وكأنَّ هذا القول خاصٌّ بالأنصار، وقد ظهر أثر ذلك يوم حنين، حيث آثر النبيّ صلى الله عليه وسلم قريشًا بالفيء، ولم يُعْط الأنصار شيئًا، فجرى من الحديث ما تقدّم في "كتاب الزكاة"، وهناك قال لهم صلى الله عليه وسلم:"اصبروا حتى تلقوني على الحوض"، فقالوا: سنصبر إن شاء الله، وفيه أيضًا تنبيه لهم على أن الخلافة في غيرهم، وقد صرّح بذلك في قوله:"وعلى ألا ننازع الأمر أهله"، وكذلك فعلوا لَمّا عَلِموا أهلية أبي بكر رضي الله عنه للخلافة، أذعنوا، وسلّموا، وسمعوا، وأطاعوا. انتهى

(1)

.

(وَأَنْ لَا نُنَازِعَ) وفي بعض النسخ: "ولا ننازع" بحذف "أن". (الأَمْرَ)؛ أي: الملك والإمارة، (أَهْلَهُ) زاد في رواية أحمد:"وإن رأيت أن لك"؛ أي: وإن اعتقدت أن لك في الأمر حقًّا فلا تعمل بذلك الظن، بل اسمع، وأطع إلى أن يصل إليك بغير خروج عن الطاعة، وزاد عند ابن حبان وأحمد أيضًا:"وإن أكلوا مالك، وضربوا ظهرك".

(قَالَ) صلى الله عليه وسلم مستثنيًا الحالة التي تبيح الخروج على الأئمّة ("إِلَّا أَنْ تَرَوْا)؛ أي: تعلموا منهم (كُفْرًا بَوَاحًا) بموحّدة، ومهملة، قال الخطابيّ رحمه الله: يريد: كفرًا ظاهرًا باديًا، من قولهم: باح بالشيء يبوح به بَوْحًا، وبَوَاحًا: إذا أذاعه، وأظهره، وأنكر ثابت في "الدلائل": بَوَاحًا، وقال: إنما يجوز بَوْحًا بسكون الواو، وبُؤاحًا بضم أوله، ثم همزة ممدودة، وقال الخطابيّ رحمه الله: من رواه بالراء فهو قريب من هذا المعنى، وأصل البراح: الأرض القفراء التي لا أنيس فيها، ولا بناء، وقيل: البراح: البيان، يقال: بَرَح الخفاءُ: إذا ظهر، وقال النوويّ: هو في معظم النسخ من مسلم بالواو، وفي بعضها بالراء.

قال في "الفتح": ووقع عند الطبرانيّ من رواية أحمد بن صالح، عن ابن وهب في هذا الحديث:"كفرًا صُرَاحًا" بصاد مهملة مضمومة، ثم راء، ووقع

(1)

"المفهم" 4/ 45.

ص: 103

في رواية حبان أبي النضر: "إلا أن يكون معصية لله بَوَاحًا"، وعند أحمد من طريق عُمير بن هانئ، عن جُنادة:"ما لم يأمروك بإثم بواحًا"، وفي رواية إسماعيل بن عُبيد، عند أحمد، والطبرانيّ، والحاكم، من روايته عن أبيه، عن عبادة:"سَيَلي أموركم من بعدي رجال، يُعَرِّفونكم ما تنكرون، وينكرون عليكم ما تَعرفون، فلا طاعة لمن عصى الله"، وعند أبي بكر بن أبي شيبة، من طريق أزهر بن عبد الله، عن عبادة، رفعه:"سيكون عليكم أمراء، يأمرونكم بما لا تعرفون، ويفعلون ما تنكرون، فليس لأولئك عليكم طاعة". انتهى

(1)

.

(عِنْدَكُمْ مِنَ اللهِ فِيهِ بُرْهَانٌ")؛ أي: حجة بيّنة، وأَمْر لا شكّ فيه يحصل به اليقين أنه كفرٌ، فحينئذٍ يجب أن يُخلَع مَن عُقدت له البيعة.

وقال الطيبيّ رحمه الله: قوله: "برهان" مبتدأ، و"عندكم" خبره، و"من الله" متعلّق بالظرف، أو حال من المستتر في الظرف؛ أي: بُرهان حاصلٌ عندكم، كائنًا من الله؛ أي: من دين الله. انتهى

(2)

.

وقال في "الفتح": قوله: "عِنْدَكُمْ مِنَ اللهِ فِيهِ بُرْهَانٌ"؛ أي: نصُّ آية، أو خبر صحيح، لا يَحتَمِل التأويل، ومقتضاه أنه لا يجوز الخروج عليهم ما دام فعلهم يَحتمل التأويل، قال النوويّ: المراد بالكفر هنا: المعصية، ومعنى الحديث: لا تنازعوا ولاة الأمور في ولايتهم، ولا تعترضوا عليهم، إلا أن تروا منهم منكرًا محقّقًا، تعلمونه من قواعد الإسلام، فإذا رأيتم ذلك فأنكروا عليهم، وقولوا بالحقّ حيثما كنتم. انتهى.

وقال غيره: المراد بالإثم هنا: المعصية والكفر، فلا يُعترض على السلطان إلا إذا وقع في الكفر الظاهر.

قال الحافظ: والذي يظهر حَمْل رواية الكفر على ما إذا كانت المنازعة في الولاية، فلا ينازعه بما يقدَح في الولاية إلا إذا ارتكب الكفر، وحمل رواية المعصية على ما إذا كانت المنازعة فيما عدا الولاية، فإذا لم يقدَح في الولاية

(1)

"الفتح" 16/ 439، كتاب "الفتن" رقم (7055).

(2)

"الكاشف عن حقائق السنن" 8/ 2560.

ص: 104

نازعه في المعصية، بأن يُنكر عليه برفق، ويتوصل إلى تثبيت الحقّ له بغير عُنف، ومحل ذلك إذا كان قادرًا، والله أعلم.

ونقل ابن التين عن الداوديّ قال: الذي عليه العلماء في أمراء الجور أنه إن قُدر على خلعه بغير فتنة، ولا ظلم وَجَب، وإلا فالواجب الصبر، وعن بعضهم: لا يجوز عقد الولاية لفاسق ابتداء، فإن أحدث جورًا بعد أن كان عدلًا، فاختلفوا في جواز الخروج عليه، والصحيح المنع، إلا أن يَكْفُر، فيجب الخروج عليه. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه، وقد مضى بيان مسائله قبل حديثين، ولله الحمد والمنّة.

[خاتمة] نختم بها هذا الباب: قد كتب صاحب "تكملة فتح الملهم" هنا فائدة مهمّة، أحببت إيرادها هنا؛ لأهمّيتها، قال: قوله: "إنما الطاعة في المعروف" قد ثبت بأحاديث الباب مبدءان عظيمان من مبادئ السياسة الإسلاميّة، استعملها الفقهاء في كثير من المسائل:

الأول: مبدأ طاعة الأمير، وأن المسلم يجب عليه أن يطيع أميره في الأمور المباحة، فإن أَمَر بفعل مباح، وجبت مباشرته، وإن نهى عن أمر مباح حرُم ارتكابه؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال:{أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59]، فلو كان المراد من طاعة أولي الأمر طاعتهم في الواجبات الشرعيّة فحسب، لَمَا كان هناك داع لاستقلالهم بالذِّكر في هذه الآية؛ لأن طاعتهم في الواجبات الشرعيّة ليست طاعة لأولي الأمر، وإنما هي طاعة لله تعالى، ورسوله صلى الله عليه وسلم، فلمّا أفردهم الله تعالى بالذِّكر ظَهَر أن المراد طاعتهم في الأمور المباحة.

ومن هنا صرّح الفقهاء بأن طاعة الإمام فيما ليس بمعصية واجبة، قال ابن عابدين في "باب الاستسقاء" من "ردّ المحتار" (1/ 792): إذا أمر الإمام بالصيام في غير الأيام المنهية وَجَب؛ لأن طاعة الإمام فيما ليس بمعصية واجبة، وحكى ابنه علاء الدين عن البيريّ أن الحاكم لو أمر أهل بلدة بصيام أيام بسبب الغلاء، أو الوباء وجب امتثال أمره، راجع:"قرّة عيون الأخيار"(2/ 54).

ولكن هذه الطاعة كما أنها مشروطة بكون أَمْر الحاكم غير معصية، فإنها

ص: 105

مشروطة أيضًا بكون الأمر صادرًا عن مصلحة، لا عن هوى، أو ظلم؛ لأن الحاكم لا يطاع لذاته، وإنما يطاع من حيث إنه مُتَوَلٍّ لمصالح العامّة، فإن أمر بشيء اتباعًا لهوى نفسه دون نَظَرٍ إلى مصالح المسلمين، فإنه أمْر صَدَر من ذاته وشخصه، لا من حيث كونه حاكمًا، فلا يقع بمثابة أوامره من حيث كونه حاكمًا، ولذلك قال الفقهاء: تصرّف الإمام على الرعيّة منوط بالمصلحة.

فال الجامع عفا الله عنه: قوله: "ولكن هذه الطاعة. . . إلخ" لا يخفى ما فيه لمن تأمله، فإن قوله في الحديث:"في منشطنا، ومكرهنا، وفي أثرة علينا"، يخالفه تمامًا، فتأمله بالإنصاف، ولا تكن أسير التقليد، والله تعالى أعلم.

قال: وتفريعًا على هذا المبدأ قرّر الفقهاء أن حكم الحاكم رافع للخلاف في الأمور المجتهَد فيها، فمتى صادف أمره فصلًا مجتهَدًا فيه نفذ، ووجب اتّباعه، ولو كان الرجل لا يرى رأيه في تلك المسألة، ولذا لمّا أَمَر هارون الرشيد أبا يوسف ومحمدًا أن يكبّرا في العيدين بتكبيرة جدّه امتثلا أمره، مع أنهما لا يريان التكبيرات الزوائد على الستّ

(1)

.

وأما المبدأ الثاني: فهو لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، فلا يُطاع أمير، ولا إمام إن أمر بما هو معصيةٌ، وإن هذا المبدأ لو عُمِل به في بلاد المسلمين اليوم لأغنى عن كثير من الإضرابات، والاضطرابات الجارية في كثير من البلدان، ولاضطرّت به الحكومات إلى تطبيق الشريعة الإسلاميّة في جميع نواحي الحياة، فلو امتنع القضاة عن إصدار حكم لا يوافق شرع الله، وامتنع الموظّفون من امتثال الأوامر المصادمة لأوامر الله، وامتنع أصحاب البنوك من التمويل على أساس الربا المحرّم شرعًا، وامتنع العامّة من إيداع أموالهم في البنوك الربويّة، وامتنع كل مسلم من الخضوع للأحكام المصادمة للشريعة الغراء، لاضطرّت الحكومات إلى إلغاء القوانين الوضعيّة التي لا توافق الشريعة الإسلاميّة.

وهذا هو الطريق المشروع للضغط على الحكومات في سبيل إقامة

(1)

راجع: "ردّ المحتار" 1/ 78.

ص: 106

شرع الله، وتطبيق أحكامه، وأما ما تعلّمه الناس من الغرب من وسائل الضغط على الحكومات، كالإضرابات، والمظاهرات، وسدّ الشوارع، وسفك الدماء، وتخريب العمران، فليس من الإسلام بشيء. انتهى كلامه بنوع اختصار

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: لقد أجاد صاحب "التكملة" في هذا البحث، وأفاد، لو وجد أُذنًا صاغية، وقلوبًا واعية، ولكن هيهات هيهات.

لَقَدْ أَسْمَعْتَ لَوْ نَادَيتَ

حَيًّا وَلَكِنْ لَا حَيَاةَ لِمَنْ تُنَادِي

وَلَوْ نَارًا نَفَخْتَ بِهَا أَضَاءَتْ

وَلَكِنْ أَنْتَ تَنْفُخُ فِي الرَّمَادِ

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(9) - (بَابٌ الإِمَامُ جُنَّةٌ، يُقَاتَلُ مِنْ وَرَائِهِ، وَيُتَّقَى بِهِ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4763]

(1841) - (حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ، عَنْ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا شَبَابَةُ، حَدَّثَنِي وَرْقَاءُ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّمَا الإِمَامُ جُنَّةٌ يُقَاتَلُ مِنْ وَرَائِهِ، وَيُتَّقَى بِهِ، فَإِنْ أَمَرَ بِتَقْوَى اللهِ، وَعَدَلَ كانَ لَهُ بِذَلِكَ أَجْرٌ، وَإِنْ يَأْمُرْ بِغَيْرِهِ كانَ عَلَيْهِ مِنْهُ").

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الحديث هو أول الفوات الثالث الذي لم يسمعه أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن سفيان، تلميذ مسلم عنه، بل رواه عنه بالإجازة، أو نحو ذلك، ولهذا قال:"عن مسلم"، ولم يقل:"حدّثنا"، ولا "أخبرنا"، أو نحو ذلك، وقد سبق بيان هذا مفصّلًا في مقدّمة "شرح المقدّمة"، فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق.

وقوله: (حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ. . . إلخ) قائل "حدّثنا" هو تلميذ أبي إسحاق، والظاهر أنه أبو أحمد محمد بن عيسى الجلوديّ، والله تعالى أعلم.

ورجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(شَبَابَةُ) بن سَوَّار الْمَدائيّ، خراسانيّ الأصل، يقال: اسمه مروان،

(1)

راجع: "تكملة فتح الملهم" 3/ 323 - 325.

ص: 107

الفزاريّ مولاهم، ثقةٌ رُمي بالإرجاء [9](ت 4 أو 5 أو 206)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 40.

2 -

(وَرْقَاءُ) بن عُمر اليشكريّ، أبو بشر الكوفيّ، نزيل المدائن، ثقة في غير منصور بن المعتمر، ففيه لينٌ [7](ع) تقدم في "الصلاة" 31/ 999.

والباقون ذُكروا في الباب الماضي.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه قيل فيه: إن أصحّ أسانيد أبي هريرة رضي الله عنه: أبو الزناد، عن الأعرج، عنه، وفيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه رأس المكثرين السبعة، روى (5374) حديثًا.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) أنه (قَالَ: "إِنَّمَا الإِمَامُ جُنَّةٌ) بضم الجيم، وتشديد النون، قال النوويّ رحمه الله: أي: كالترس؛ لأنه يَمنع العدوّ من أذى المسلمين، ويمنع الناس بعضهم من بعض، ويَحمي بيضة الإسلام، ويتّقيه الناس، ويخافون سطوته. انتهى

(1)

.

وقال الخطابيّ رحمه الله: معناه أن الإمام هو الذي يَعْقِد العهد والهدنة بين المسلمين، وبين أهل الشرك، فإذا رأى ذلك صلاحًا لهم، وهادنهم فقد وجب على المسلمين أن يُجيزوا أمانه لهم، ومعنى الْجُنّة: العصمة، والوقاية، وليس لغير الإمام أن يَجعل لأمّة بأسرها من الكفار أمانًا. انتهى

(2)

.

وقال السيوطيّ في "الديباج": قوله: "جُنّةٌ"؛ أي: ساتر لمن خلفه، ومانع لخلل يَعْرِض لصلاتهم بسهو، أو مرور مارّ، كالْجُنّة، وهي التُّرْس الذي يَستُر مَن وراءه، ويمنع من وصول المكروه إليه. انتهى

(3)

.

وقال في "الفتح": قوله: "إنما الإمام جُنّة" بضم الجيم؛ أي: سترة؛ لأنه يمنع العدوّ من أذى المسلمين، ويكُفّ أذى بعضهم عن بعض، والمراد بالإمام: كلّ قائم بأمور الناس، والله أعلم. انتهى

(4)

.

(1)

"شرح النوويّ" 12/ 230.

(2)

"عون المعبود" 7/ 310.

(3)

"الديباج على مسلم" 2/ 142.

(4)

"الفتح" 7/ 215 - 216، كتاب "الجهاد" رقم (2958).

ص: 108

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "إنما الإمام جُنَّة": الْمِجَنُّ، والْجُنَّةُ، والْجَانُّ، والْجَنَّةُ، والْجِنَّةُ: كله راجع إلى معنى السِّتر، والتَّوَقِّي؛ يعني: أنه يُتَّقى بنظره، ورأيه في الأمور العظام، والوقائع الخطيرة، ولا يُتَقدّم على رأيه، ولا يُنفرد دونه بأمر مهمّ حتى يكون هو الذي يَشْرَع في ذلك. انتهى

(1)

.

(يُقَاتَلُ مِنْ وَرَائِهِ) ببناء الفعل للمفعول؛ أي: يقاتَل معه الكفّار، والبُغاة، والخوارج، وسائر أهل الفساد والظلم مطلقًا.

وقال في "الفتح": قوله: "يُقاتل من ورائه" بفتح المثناة، والمراد به: المقاتلة للدفع عن الإمام، سواء كان ذلك من خلفه حقيقةً، أو قُدّامه، ووراء يُطلق على المعنيين. انتهى

(2)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "يُقاتَل من ورائه"؛ أي: أمامه، ووراء من الأضداد، يقال: بمعنى: خلف، وبمعنى: أمام، وعلى هذا حَمَل أكثر المفسرين قوله تعالى:{وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ} [الكهف: 79]؛ أي: أمامهم، وأنشدوا قول الشاعر [من الطويل]:

أَتَرْجُو بَنُو مَرْوَانَ سَمْعِي وَطَاعَتِي

وَقَوْمِي تَمِيمٌ وَالْفَلَاةُ وَرَائِيَا؟!

وأصله: أن كل ما توارى عنك؛ أي: غاب، فهو وراء، وهذا خبرٌ منه صلى الله عليه وسلم عن المشروعية، فكأنه قال: الذي يجب، أو يتعيَّن أن يقاتل أمام الإمام، ولا يترك يباشر القتال بنفسه؛ لِمَا فيه من تعرّضه للهلاك؛ فيهلك كل من معه، ويكفي دليلًا في هذا المعنى تغبية

(3)

رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أصحابُهُ يوم بدر وغيره، فإنه صلى الله عليه وسلم كان في العريش، في القلب، والمقاتِلة أمامه.

وقد تضمَّن هذا اللفظ - على إيجازه - أمرين:

أحدهما: أن الإمام يُقتدى برأيه، ويُقاتَل بين يديه، فهما خبران عن أمرين متغايرين، وهذا أحسن ما قيل في هذا الحديث، على أن ظاهره أنه يكون أمامَ

(1)

"المفهم" 4/ 25.

(2)

"الفتح" 7/ 215 - 216، كتاب "الجهاد" رقم (2957).

(3)

هكذا النسخة بالغين المعجمة، والظاهر أنه مِنْ غبَّى بمعنى أخفى، فيكون من إضافة المصدر إلى مفعوله، ورفع الفاعل، وهو "أصحابُهُ"، والله تعالى أعلم.

ص: 109

الناس في القتال وغيره، وليس الأمر كذلك، بل كما بينَّاه، والله أعلم. انتهى

(1)

.

وقال السنديّ رحمه الله: قيل: المراد أنه يقاتَل قُدّامه، فـ "وراءه" ههنا بمعنى:"أمام"، ولا يُترك يباشر القتال بنفسه؛ لِمَا فيه من تعرّضه للهلاك، وفيه هلاك الكلّ، قال: وهذا لا يناسب التشبيه بالْجُنّة، مع كونه خلاف ظاهر اللفظ في نفسه، فالوجه أن المراد: أنه يُقاتَل على وِفْق رأيه، وأَمْره، ولا يُختلَف عليه في القتال، والله تعالى أعلم.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي قاله السنديّ رحمه الله في معنى "من ورائه" حسنٌ جدًّا، والله تعالى أعلم.

وقوله: (وَيُتَّقَى بِهِ)؛ أي: يُعتصم برأيه، أو يَلتجئ إليه من يَحتاج إلى ذلك، وقال ابن الأثير رحمه الله: أي: يُدفَع به العدوّ، ويُتَّقَى بقوّته، والتاء فيها مبدلة من الواو؛ لأن أصلها من الوقاية، وتقديرها اوْتَقَى، فقُلبت، وأدغمت، فلمَّا كَثُر استعماله توهّموا أن التاء من نفس الحرف، فقالوا: اتَقَى يَتَقِي بفتح التاء فيهما، وربما قالوا: تَقَى يَتْقِي، مثلُ رَمَى يَرْمِي. انتهى

(2)

.

وقال الطيبيّ رحمه الله: قوله: "ويُتّقَى به" بيان لقوله: "يُقاتَلُ من ورائه"، والبيان مع المبيّن تفسير لقوله:"إنما الإمام جنّةٌ". انتهى

(3)

.

(فَإِنْ أَمَرَ) الإمام (بِتَقْوَى اللهِ عز وجل، وَعَدَلَ)؛ أي: في حكمه، (كَانَ لَهُ بِذَلِكَ أَجْرٌ) التنوين للتعظيم؛ أي: أجر عظيم، وقال القرطبيّ

(4)

: أي: أجر عظيم، فَسَكَتَ عن الصفة؛ للعلم بها، وقد دلّ على ذلك ما تقدَّم من قوله صلى الله عليه وسلم:"إن المقسطين على منابر من نور"، وقوله في السبعة الذين يظلهم الله في ظله:"وإمام عادلٌ"، متّفقٌ عليه.

(وَإِنْ يَأْمُرْ بِغَيْرِهِ كَانَ عَلَيْهِ مِنْهُ") قال القرطبيّ رحمه الله: أي: إنْ يأمر بِجَور كان عليه الحظّ الأكبر من إثم الجور، و"من" هنا للتبعيض؛ أي: لا يختص هو بالإثم، بل الْمُنَفِّذ لذلك الْجَوْر يكون عليه أيضًا حظه من الإثم، والراضي به،

(1)

"المفهم" 4/ 26.

(2)

"النهاية في غريب الأثر" 1/ 192.

(3)

"الكاشف عن حقائق السنن" 8/ 2557.

(4)

"المفهم" 4/ 26.

ص: 110

فالكل يشتركون في إثم الْجَوْر، غير أن الإمام أعظمهم حظًّا منه؛ لأنه مُمْضِيه، وَحَامِلٌ عليه. انتهى

(1)

.

ولفظ البخاريّ: "وإن قال بغيره، فإن عليه منه"، قال في "الفتح": قيل: استَعْمَل القول بمعنى الفعل، حيث قال: فإن قال بغيره، كذا قال بعض الشرّاح، وليس بظاهر، فإنه قسيم قوله:"فإن أَمَر" فيُحْمَل على أن المراد: "وإن أَمَر"، والتعبير عن الأمر بالقول لا إشكال فيه، وقيل: معنى قال هنا: حَكَمَ، ثم قيل: إنه مشتقّ من القَيْل، بفتح القاف، وسكون التحتانية، وهو الْمَلِك الذي يُنَفَّذ حكمه، بلغة حِمْيَر.

وقوله: "فإن عليه منه"؛ أي: وزرًا، وحُذِف في هذه الرواية على طريق الاكتفاء؛ لدلالة مقابله عليه، وقد ثبت في غير هذه الرواية، ويَحْتَمِل أن يكون "من" في قوله:"فإن عليه منه" تبعيضية؛ أي فإن عليه بعض ما يقول، وفي رواية أبي زيد المروزيّ:"مُنّة" بضم الميم، وتشديد النون، بعدها هاء تأنيث، وهو تصحيف بلا ريب، وبالأول جزم أبو ذَرّ. انتهى

(2)

.

وقال الطيبيّ رحمه الله: قوله: "وإن قال بغيره": قال في "شرح السنّة": أي: حَكَم، يقال: قال الرجل: إذا حكم، ومنه الْقَيْلُ، وهو المَلِك الذي يُنفّذ قوله وحُكمه.

وقال التوربشتيّ: "قال بغيره"؛ أي: أحبّه، وأخذ به إيثارًا له، وميلًا إليه، وذلك مثل قولك: فلان يقول بالقَدَر، ونحو ذلك، فالمعنى: أنه يحبّه، ويؤثره.

وقال البيضاويّ: "قال بغيره"؛ أي: أمر بما ليس فيه تقوى، ولا عدلٌ، بدليل أنه جُعِل قسيم:"فإن أَمَر بتقوى الله، وعَدَل"، ويَحْتَمِل أن يكون المراد به: القول المطلق، أو أعمّ منه، وهو ما يراه، ويؤثره، من قولهم: فلان يقول بالقدر؛ أي: إن رأى غير ذلك، وآثر قولًا كان، أو فعلًا؛ ليكون مقابلًا لقسيمه، وسدّ الطرق المخالفة المؤدّية إلى هَيْج الفتن.

(1)

"المفهم" 4/ 27.

(2)

"الفتح" 7/ 215 - 216، كتاب "الجهاد" رقم (2957).

ص: 111

قال: قوله: "فإن عليه منه" كذا وجدنا "منه" بحرف الجرّ في "الصحيحين"، و"كتاب الحميديّ"، و"جامع الأصول"، قال التوربشتيّ:"منه"؛ أي: عليه وزرٌ من صنيعه ذلك، وقد وجدناه في أكثر نسخ "المصابيح":"فإن عليه مُنّةً" بتشديد النون، مع ضمّ الميم، وبتاء التأنيث آخره، على أنها كلمة واحدةٌ، وهو تصحيفٌ، غير مُحْتَمِلٍ لوجه ها هنا، وإنما هو حرف الجرّ مع الضمير المتّصل به.

وقال البيضاويّ: "فإن عليه منه"؛ أي: وزرًا وثِقَلًا، وهو في الأصل مشترك بين القوّة والضعف. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [9/ 4763](1841)، و (البخاريّ) في "الجهاد"(2957) و"الأحكام"(7137)، و (أبو داود) في "الجهاد"(2757)، و (النسائيّ) في "البيعة"(4199) و"الكبرى"(7819)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 523)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 408)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(11/ 212 و 228)، و (الطبرانيّ) في "مسند الشاميين"(4/ 272)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(9/ 223)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان ما يجب للإمام، على الرعيّة، فقد بيّن صلى الله عليه وسلم أنه يجب أن يُجْعل جُنّةً يُستتر به من الشرّ والفساد، وتنظيم أمور العباد، وأنه يجب أن يقاتَل دونه، فلا يُترك عُرضة للهلاك.

2 -

(ومنها): بيان ما له من الأجر العظيم، إن عَدَل في حكمه، وسياسته لرعيّته، وقد تقدّم عند مسلم حديث:"إن المقسطين على منابر من نور"،

(1)

"الكاشف عن حقائق السنن" 8/ 2558.

ص: 112

وأخرج الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: الإمام العادل. . ." الحديث.

3 -

(ومنها): أنه إن جار، وعدل عن الحقّ فعليه الوزر العظيم، فإنه يتحمّل أوزاره، وأوزار من تبعه في ذلك من وزرائه، وأهل مملكته، كما قال النبيّ صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه الشيخان، من حديث أبي سفيان في قصّة هرقل:"فإن تولّيت فإن عليك إثم الأريسيّين"؛ أي: إثم أتباعك الفلّاحين.

وأخرج مسلم في حديثه الطويل أنه صلى الله عليه وسلم قال: "ومن سنّ في الإسلام سُنَّةً سيئةً فعليه وِزرها، ووِزر من عَمِل بها مِنْ بعده، من غير أن ينقص من أوزارهم شيءٌ"، والله تعالى أعلم.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(10) - (بَابُ الْوَفَاءِ بِبَيْعَةِ الْخُلَفَاءِ الأَوَّلِ، فَالأَوَّلِ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4764]

(1842) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَارٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ فُرَاتٍ الْقَزَّازِ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، قَالَ: قَاعَدْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ خَمْسَ سِنِينَ، فَسَمِعْتُهُ يُحَدِّثُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ تَسُوسُهُمُ الأَنْبِيَاءُ، كُلَّمَا هَلَكَ نَبِيٌّ خَلَفَهُ نَبِيٌّ، وَإِنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي، وَسَتَكُونُ خُلَفَاءُ، فَتَكْثُرُ"، قَالُوا: فَمَا تَأْمُرُنَا؟

(1)

قَالَ: "فُوا بِبَيْعَةِ الأَوَّلِ، فَالأَوَّلِ، وَأَعْطُوهُمْ حَقَّهُمْ، فَإِنَّ اللهَ سَائِلُهُمْ عَمَّا اسْتَرْعَاهُمْ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(فُرَاتٌ الْقَزَّازُ)

(2)

هو: فُرات بن أبي عبد الرحمن الكوفيّ، ثقةٌ [5](ع) تقدم في "الصلاة" 28/ 976.

(1)

وفي نسخة: "فماذا تأمرنا؟ ".

(2)

"فرات" بضمّ الفاء، وتخفيف الراء، آخره مثنّاة، و"القزّاز" بقاف، وزايين معجمتين.

ص: 113

2 -

(أَبُو حَازِمٍ) سلمان الأشجعيّ الكوفيّ، ثقةٌ [3] مات على رأس المائة (ع) تقدم في "الإيمان" 9/ 142.

والباقون تقدّموا قبل باب.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وأن نصفه الأول مسلسل بالبصريين، والثاني بالكوفيين، سوى الصحابيّ، فمدنيّ، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه، كما تقدّم قبله.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي حَازِمٍ) سلمان الأشجعيّ أنه (قَالَ: قَاعَدْتُ)؛ أي: جالست (أَبَا هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (خَمْسَ سِنِينَ، فَسَمِعْتُهُ يُحَدِّثُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ)؛ أي: ذُرّيّة يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام، وإسرائيل لقب يعقوب عليه السلام.

وقال القرطبيّ رحمه الله: "إسرائيل" هو: يعقوب عليه السلام، وبنوه: أولاده، وهم الأسباط، وهم كالقبائل في أولاد إسماعيل، قال ابن عباس رضي الله عنهما:"إسرا" هو عبد، و"إيل" هو الله تعالى، فمعناه: عبد الله، وفيه لغات، وقيل: هو عِبْرِيٌّ، اسم واحد بمعنى يعقوب.

(تَسُوسُهُمُ الأَنْبِيَاءُ)؛ أي: تدبّر أمورهم، يقال: ساس فلان الأمرَ يسوسه، من باب قال، سِيَاسَةً: إذا دبّره، وقام بأمره

(1)

.

والمعنى: أنهم كانوا إذا ظهر فيهم فسادٌ بَعَث الله لهم نبيًّا يقيم لهم أمرهم، ويزيل ما غَيَّروا من أحكام التوراة، وفيه إشارة إلى أنه لا بُدّ للرعيّة من قائم بأمورها، يحملها على الطريق الحسنة، ويُنصف المظلوم من الظالم

(2)

.

وقال النوويّ رحمه الله: "تسوسهم"؛ أي: يتولون أمورهم، كما تفعل الأمراء، والولاة بالرعيّة، والسياسةُ القيام على الشيء بما يُصلحه، وفي هذا الحديث جواز قول: هلك فلان، إذا مات، وقد كَثُرت الأحاديث به، وجاء في

(1)

راجع: "المصباح المنير" 1/ 295.

(2)

"الفتح" 8/ 97، كتاب "أحاديث الأنبياء" رقم (3455).

ص: 114

القرآن العزيز قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا} الآية [غافر: 34]. انتهى

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: معنى هذا الكلام أنّ بني إسرائيل كانوا إذا ظهر فيهم فساد، أو تحريفٌ في أحكام التوراة بعد موسى عليه السلام بعث الله تعالى لهم نبيًّا يُقيم لهم أمرهم، ويصلح لهم حالهم، ويزيل ما غُبّرَ، وبُدِّلَ من التوراة، وأحكامها، فلم يزل أمرهم كذلك، إلى أن قَتَلوا يحيى بن زكريا عليهما السلام فقطع الله تعالى مُلكهم، وَبَدَّدَ شملهم ببختنصَّر وغيره، ثم جاءهم عيسى عليه السلام، ثم محمد صلى الله عليه وسلم، فكذّبوهما {فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (90)} [البقرة: 90]، وهو في الدنيا ضَرْبُ الجزية، ولزوم الصَّغار والذلة، {وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ} [الرعد: 34]، ولمّا كان نبيُّنا صلى الله عليه وسلم آخر الأنبياء بعثًا، وكتابه لا يقبل التغيير أسلوبًا ونظمًا، وقد تَوَلَّى الله تعالى كلامه صيانةً وحفظًا، وجعل علماء أمته قائمين ببيان مشكله، وحفظ حروفه، وإقامة أحكامه، وحدوده، كما قال صلى الله عليه وسلم:"يَحْمِل هذا العلم من كل خَلَفٍ عُدُوله، يَنفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين"

(2)

، ويروى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:"علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل"

(3)

، ولَمّا كان أمر هذه الأمّة كذلك؛ اكتُفِي بعلمائها عمَّا كان من توالي الأنبياء هنالك. انتهى

(4)

.

وقال الطيبيّ: قوله: "تسوسهم" خبر "كان"، وقوله:(كُلَّمَا هَلَكَ نَبِيٌّ خَلَفَهُ نَبِيٌّ) حال من فاعل "تسوسهم؛ أي: كلما مات نبيّ أتى بعده نبيّ آخر، يقال: خلفت فلانًا على أهله، وماله، من باب نصر خِلافة: صرتُ خليفته،

(1)

"شرح النوويّ" 12/ 231.

(2)

قال الجامع: هذا الحديث ضعيف، ويُغني عنه ما في "الصحيحين" من حديث معاوية رضي الله عنه مرفوعًا:"لا يزال من أمتي أمةٌ قائمةٌ بأمر الله، لا يضرّهم من خَذَلهم، ولا من خالفهم، حتى يأتيهم أمر الله، وَهُم على ذلك"، فتنبّه.

(3)

قال الجامع: وهذا حديث لا أصل له، انظر:"السلسلة الضعيفة" للشيخ الألبانيّ رحمه الله 1/ 679.

(4)

"المفهم" 4/ 47 - 48.

ص: 115

وخَلَفته: جئتُ بعده

(1)

.

(وَإِنَّهُ) الضمير للشأن، وهو الذي تفسّره الجملة بعده، كما قال ابن مالك في "الكافية الشافية"

(2)

:

وَمُضْمَرُ الشَّأْنِ ضَمِيرٌ فُسِّرَا

بِجُمْلَةٍ كَـ "إِنَّهُ زَيْدٌ سَرَى"

للابْتِدَا أَوْ نَاسِخَاتِهِ انْتَسَبْ

إِذَا أَتَى مُرْتَفِعًا أَوِ انْتَصَبْ

وَإِنْ يَكُنْ مَرْفُوعَ فِعْلٍ اسْتَتَرْ

حَتْمًا وَإِلا فَتَرَاهُ قَدْ ظَهَرْ

فِي بَابِ "إِنَّ" اسْمًا كَثِيرًا يُحْذَفُ. . . كَـ "إِنَّ مَنْ يَجْهَلْ يَسَلْ مَنْ يَعْرِفُ"

وَجَائِزٌ تَأْنِيثُهُ مَتْلُوَّ مَا

أُنِّثَ أَوْ شَبِيهَ أُنْثَى أَفْهَمَا

وَقَبْلَ مَا أُنِّثَ عُمْدَةً فَشَا

تَأْنِيثُهُ كَـ "إِنَّهَا هِنْدٌ رَشَا"

(لَا نَبِيَّ بَعْدِي)؛ أي: فيفعلَ ما كان أولئك يفعلون، وقال الطيبيّ رحمه الله: قوله: "وإنه لا نبيّ بعدي" معطوف على "كانت بنو إسرائيل"، واسم "إنّ" ضمير الشأن، وإنما خولف بين المعطوف والمعطوف عليه؛ لإرادة الثبات والتوكيد في الثاني؛ يعني: أن قصّة بني إسرائيل كيت وكيت، وقصّتنا كيت وكيت. انتهى

(3)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "وإنه لا نبيّ بعدي": هذا النفي عامٌ في الأنبياء والرُّسل؛ لأن الرَّسول نبيٌّ وزيادة، وقد جاء نصًّا في كتاب الترمذيّ

(4)

قوله: "لا نبي بعدى ولا رسول"، وقد قال الله تعالى:{وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} الآية [الأحزاب: 40]، ومن أسمائه صلى الله عليه وسلم في الكتب المتقدمة، وفيما أطلقته هذه الأمَّة: خاتم الأنبياء، ومن أسمائه: العاقب، والمقفِّي، فالعاقب: الذي يَعْقُبُ الأنبياءَ، والْمُقَفِّي: الذي يقفوهم؛ أي: يكون بعدهم.

وعلى الجملة: فهو أمرٌ مُجْمَع عليه، معلوم من دِين هذه الأمَّة، فمن ادَّعى أنَّه بَعْدَهُ نبيّ، أو رسولٌ؛ فإن كان مُسِرًّا لذلك، واطُّلِع عليه بالشهادة المعتبرة قُتِل قِتْلة زنديق، فإن صرَّح بذلك فهو مرتد، يُستتاب، فإن تاب، وإلا

(1)

راجع: "المصباح المنير" 1/ 178.

(2)

"الكافية الشافية" 1/ 233 - 234.

(3)

"الكاشف عن حقائق السنن" 8/ 2564.

(4)

ليس عند الترمذيّ، بل هو عند الحاكم في "المستدرك" 2/ 631.

ص: 116

قُتِل قِتْلة مُرتدٍّ. انتهى

(1)

.

(وَسَتَكُونُ خُلَفَاءُ)؛ أي: بعدي، (فَتَكْثُرُ") بالثاء المثلّثة، وحَكَى عياض أن منهم مَن ضبطه بالموحّدة، وهو تصحيف، ووَجَّه بأن المراد: إكبار قبيح فِعْلهم، وفي رواية البخاريّ:"فيكثرون".

وقال النوويّ رحمه الله: قوله: "فتكثر" بالثاء المثلثة من الكثرة، هذا هو الصواب المعروف، قال القاضي: وضَبَطه بعضهم: "فتكبر" بالباء الموحّدة، كأنه من إكبار قبيح أفعالهم، وهذا تصحيف. انتهى

(2)

.

(قَالُوا)؛ أي: الصحابة الحاضرون لديه صلى الله عليه وسلم حين أخبر بهذا، (فَمَا تَأْمُرُنَا؟) وفي بعض النسخ:"فماذا تأمرنا؟ "؛ أي: أيُّ شيء تأمرنا به إذا أدركنا أولئك الخلفاء؟.

والفاء في قوله: "فما تأمرنا" جواب شرط محذوف؛ أي: إذا كثر بعدك الخلفاء، فوقع التشاجر، والتنازع بينهم، فما تأمرنا نفعل؟

(3)

.

(قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("فُوا بِبَيْعَةِ الأَوَّلِ، فَالأَوَّلِ)"فُوْا" بضمّ الفاء، وسكون الواو: فعلُ أَمْر من الوفاء، والمعنى: أنه إذا بويع الخليفة بعد خليفة، فبيعة الأول صحيحةٌ، يجب الوفاء بها، وبيعة الثاني باطلة.

وقال الطيبيّ رحمه الله: الفاء في قوله: "فالأول" للتعقيب، والتكرار للاستمرار، ولم يُرد به في زمان واحد، بل الحكم هذا مستمرّ عند تجدّد كل زمان، وتجدّد كلّ بيعة

(4)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: هذا الحديث دليل على وجوب الوفاء ببيعة الأول، وسكت في هذا الحديث عمَّا يحكم به على الآخر، وقد نصَّ عليه في الحديث الآتي عند مسلم حيث قال:"فإن جاء آخر ينازعه، فاضربوا عنق الآخر"، وفي رواية:"فاضربوه بالسيف كائنًا من كان"، وهذا الحكم مجمَعٌ عليه عند تقارب الأقطار، وإمكان استقلال واحد بأمور المسلمين وضَبْطها، فأمَّا لو تباعدت

(1)

"المفهم" 4/ 48.

(2)

"شرح النوويّ" 12/ 231.

(3)

"الكاشف عن حقائق السنن" 8/ 2564.

(4)

"الكاشف عن حقائق السنن" 8/ 2564.

ص: 117

الأقطار، وخِيْفَ ضَيْعَةُ البعيد من المسلمين، ولم يتمكن الواحد من ضبط أمور من بَعُدَ عنه؛ فقد ذكر بعضُ الأصوليين أنهم يُقيمون لأنفسهم واليًا يدبّرهم، ويستقلُّ بأمورهم، وقد ذكر أنَّ ذلك مذهب الشافعي في "الأم".

قال القرطبيّ: ويمكن أن يقال: إنهم يقيمون من يدبّر أمورهم على جهة النيابة عن الإمام الأعظم، لا أنّهم يخلعون الإمام المتقدم حُكمًا، ويُوَلُّونَ هذا بنفسه مستقلًا، هذا ما لا يوجد نصًّا عن أحدٍ ممن يُعتبر قوله، والذي يمكن أن يُفعل في مثل هذا؛ إذا تعذر الوصول إلى الإمام الأعظم أن يُقيموا لأنفسهم من يدبّرهم ممن يعترفُ للإمام بالسَّمع والطَّاعة، فمتى أمكنهم الوصول إلى الإمام، فالأمر له في إبقاء ذلك أو عَزْلِه.

ثم للإمام أن يفوِّض لأهل الأقاليم البعيدة التفويض العام، ويجعل للوالي عليهم الاستقلال بالأُمور كلِّها؛ لتعذّر المراجعة عليهم، كما قد اتَّفَق لأهل الأندلس، وأقصى بلاد العجم، فأمَّا لو عُقِدتْ البيعةُ لإمامين معًا في وقتٍ واحدٍ في بلدين متقاربين، فالإمامة لأرجحهما، وهل قرابة أحدهما من الإمام المتوفى موجبة للرجحان أم لا؟ اختلفوا فيه؛ فمنهم من قال: يُقَدّم الأقعد، فالأقعد به؛ كولاية النكاح، ومنهم من لم يعتبر ذلك، وفرَّق بين الولايتين، والفرق واضحٌ، فأمَّا لو تساويا من كل وجه فَيُقْرعُ بينهما، والفرض في اثنين كل واحد منهما كامل أهلية الإمامة، باجتماع الشروط المعتبَرة المنصوص عليها في كتب أئمتنا المتكلمين. انتهى

(1)

.

(وَأَعْطُوهُمْ حَقَّهُمْ) قال الطيبيّ رحمه الله: هذا كالبدل من قوله: "فُوا ببيعة الأول"؛ أي: أطيعوهم، وعاشروهم بالسمع والطاعة، فان الله يحاسبهم على ما يفعلونه بكم.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "أعطوهم حقهم"؛ يعني به: السَّمع، والطاعة، والذَّبَّ عنهم عِرضًا، ونفسًا، والاحترام، والنُّصرة لهم على مَنْ بَغَى عليهم

(2)

.

(فَإِنَّ اللهَ سَائِلُهُمْ) قال الطيبيّ رحمه الله: هذا تعليل للأمر بإعطائهم حقّهم،

(1)

"المفهم" 4/ 49 - 50.

(2)

"المفهم" 4/ 50.

ص: 118

وفيه اختصار؛ أي: فأعطوهم حقّهم، وإن لم يُعطوكم حقّكم؛ لأن الله سائلهم عما استرعاهم، ويُثيبكم بما لكم عليهم من الحقّ؛ لقوله في الحديث الآخر:"أدُّوا إليهم حقّهم، واسألوا الله حقّكم".

وقوله: (عَمَّا اسْتَرْعَاهُمْ")؛ أي: استحفظهم، وجعلهم راعين لكم، ومحافظين على حقوقكم، فهو كحديث ابن عمر رضي الله عنهما المتقدم:"كُلُّكُم راعٍ، وكلُّكم مسؤول عن رعيته"، وتقدّم شرحه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [10/ 4764 و 4765](1842)، و (البخاريّ) في "أحاديث الأنبياء"(3455)، و (ابن ماجه) في "الجهاد"(2871)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 297)، و (ابن راهويه) في "مسنده"(1/ 256)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4555 و 6249)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 409 و 410)، و (ابن أبي عاصم) في "السُّنّة"(2/ 512)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(8/ 144)، و (البغويّ) في "شرح السُّنّة"(2464)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان وجوب الوفاء ببيعة الخليفة الأول، فالأول.

2 -

(ومنها): أن في قوله صلى الله عليه وسلم: "وستكون خلفاء فتكثر" معجزة ظاهرة له صلى الله عليه وسلم حيث أخبر بما سيقع بعده، فوقع على نحو ما أخبر عنه، ووُجد كذلك في غير ما وقت؛ فمن ذلك: مبايعة الناس لابن الزبير بمكة، ولمروان بالشام، ولبني العباس بالعراق، ولبني مروان بالأندلس، ولبني عُبيد بمصر، ثم لبني عبد المؤمن بالمغرب، قاله القرطبيّ رحمه الله

(1)

.

3 -

(ومنها): أن فيه تقديمَ أمر الدين على أمر الدنيا؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أمر بتوفية

(1)

"المفهم" 4/ 48 - 49.

ص: 119

حقّ السلطان؛ لِمَا فيه من إعلاء كلمة الدين، وكفّ الفتنة، والشر، وتأخيرُ أمر المطالبة بحقّه لا يسقطه، وقد وعده الله أنه يُخَلِّصه، ويوفّيه إياه، ولو في الدار الآخرة

(1)

.

4 -

(ومنها): ما قاله النوويّ رحمه الله: معنى هذا الحديث أنه إذا بويع لخليفة بعد خليفة فبيعة الأول صحيحة يجب الوفاء بها، وبيعة الثاني باطلة يحرم الوفاء بها، ويحرم عليه طلبها، وسواء عقدوا للثاني عالِمين بعقد الأول أو جاهلين، وسواء كانا في بلدين، أو بلد، أو أحدهما في بلد الإمام المنفصل، والآخر في غيره، هذا هو الصواب الذي عليه أصحابنا، وجماهير العلماء، وقيل: تكون لمن عُقدت له في بلد الإمام، وقيل: يُقرع بينهم، وهذان فاسدان، واتَّفَق العلماء على أنه لا يجوز أن يُعقد لخليفتين في عصر واحد، سواء اتسعت دار الإسلام أم لا، وقال إمام الحرمين في كتابه "الإرشاد": قال أصحابنا: لا يجوز عَقْدُها لشخصين، قال: وعندي أنه لا يجوز عَقْدها لاثنين في صُقْع واحد، وهذا مُجْمَع عليه، قال: فإن بَعُد ما بين الإمامين، وتخللت بينهما شُسوع، فللاحتمال فيه مجال، قال: وهو خارج من القواطع، وحَكَى المازريّ هذا القول عن بعض المتأخرين من أهل الأصل، وأراد به إمام الحرمين، وهو قول فاسد مخالفٌ لِمَا عليه السلف والخلف، ولظواهر إطلاق الأحاديث، والله أعلم.

قال الجامع عفا الله عنه: عندي في قوله: قول فاسد. . . إلخ نظرٌ فيما إذا اختلفت الأقاليم، كما صوّره إمام الحرمين، وظواهر النصوص إنما تدلّ على المنع فيما إذا وقع التنازع في إقليم واحد، فما مال إليه إمام الحرمين هو الظاهر، فتأمله بالإنصاف، ولا تكن أسير التقليد، والله تعالى أعلم بالصواب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4765]

(. . .) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ بَرَّادٍ الأَشْعَرِيُّ، قَالَا: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ إِدْرِيسَ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ فُرَاتٍ، عَنْ أَبِيهِ، بِهَذَا الإِسْنَادِ، مِثْلَهُ).

(1)

"الفتح" 8/ 97، كتاب "أحاديث الأنبياء" رقم (3455).

ص: 120

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(الْحَسَنُ بْنُ فُرَاتِ) بن أبي عبد الرحمن التميميّ القزّاز الكوفيّ، صدوقٌ يَهِم [7].

رَوَى عن أبي مَعْشر زياد بن كليب، وابن أبي مليكة، وغيلان بن جرير، وأبيه فُرات.

وروى عنه ابنه زياد، وابن إدريس، ووكيع، وأبو نعيم، وأبو عاصم، وغيرهم.

قال ابن معين: ثقةٌ، وقال أبو حاتم: منكر الحديث، نقله عنه ابنه في "مقدمة الجرح والتعديل"، وذكره ابن حبان في "الثقات".

أخرج له المصنّف، والترمذيّ، وابن ماجه، وليس له عند المصنّف، وابن ماجه إلا هذا الحديث، وعند الترمذيّ له حديث واحد فقط.

والباقون تقدّموا في الباب، وقبل باب.

[تنبيه]: رواية الحسن بن الفرات، عن أبيه هذه ساقها ابن ماجه رحمه الله في "سننه"، فقال:

(2871)

- حدّثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا عبد الله بن إدريس، عن حسن بن فُرات، عن أبيه، عن أبي حازم، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن بني إسرائيل كانت تسوسهم أنبياؤهم، كلما ذَهَب نبيّ خَلَفه نبيّ، وأنه ليس كائن بعدي نبيّ فيكم"، قالوا: فما يكون يا رسول الله؟ قال: "تكون خلفاء، فتكثر"، قالوا: فكيف نصنع؟ قال: "أوفوا ببيعة الأولِ، فالأولِ، أدُّوا الذي عليكم، فسيسألهم الله عز وجل عن الذي عليهم". انتهى

(1)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4766]

(1843) - (حَدَّثَنَا أبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو الأَحْوَصِ، وَوَكِيعٌ (ح) وَحَدَّثَنِي أَبُو سَعِيدٍ الأَشَجُّ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ (ح) وَحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، وَابْنُ نُمَيْرٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ (ح) وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَعَلِيُّ بْنُ خَشْرَمٍ،

(1)

"سنن ابن ماجه" 2/ 958.

ص: 121

قَالَا: أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، كُلُّهُمْ عَنِ الأَعْمَشِ (ح) وَحَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ - وَاللَّفْظُ لَهُ - حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّهَا سَتَكُونُ بَعْدِي أثَرَةٌ، وَأُمُورٌ تُنْكِرُونَهَا"، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ كَيْفَ تَأْمُرُ مَنْ أَدْرَكَ مِنَّا ذَلِكَ؟ قَالَ: "تُؤَدُّونَ الْحَقَّ الَّذِي عَلَيْكُمْ، وَتَسْأَلُونَ اللهَ الَّذِي لَكُمْ").

رجال هذا الإسناد: خمسة عشر:

1 -

(أَبُو الأَحْوَصِ) سلّام بن سُليم الحنفيّ مولاهم، الكوفيّ، ثقةٌ متقنٌ صاحب حديث [7](ت 179)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 115.

2 -

(عَلِيُّ بْنُ خَشْرَمٍ) المروزيّ، ثقةٌ، من صغار [10](ت 257) أو بعدها، وقد قارب المائة (م ت س) تقدم في "المقدمة" 4/ 25.

3 -

(عِيسَى بْنُ يُونُسَ) بن أبي إسحاق السَّبيعيّ، الكوفيّ، نزل الشام مرابطًا، ثقةٌ مأمونٌ [8](ت 187 أو 191)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 28.

4 -

(عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) هو: عثمان بن محمد بن أبي شيبة إبراهيم بن عثمان العبسيّ، أبو الحسن الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 239)(خ م د س ق) تقدم في "الإيمان" 35/ 246.

5 -

(زَيْدُ بْنُ وَهْبٍ) الْجُهنيّ، أبو سليمان الكوفيّ، ثقةٌ مخضرمٌ جليلٌ [2] مات بعد الثمانين، وقيل:(96)(ع) تقدم في "الإيمان" 67/ 374.

6 -

(عَبْدُ اللهِ) بن مسعود بن غافل بن حبيب الْهُذليّ، أبو عبد الرحمن الصحابيّ الشهير، مات رضي الله عنه سنة (32) أو بعدها (ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 11.

والباقون تقدّموا في الأبواب الثلاثة الماضية، و"أبو سعيد الأشجّ" هو: عبد الله بن سعيد، و"ابن نُمير" هو: محمد بن عبد الله بن نُمير، و"أبو معاوية" هو: محمد بن خازم الضرير، و"إسحاق بن إبراهيم" هو: ابن راهويه، و"جرير" هو ابن عبد الحميد.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وهو مسلسل بالكوفيين، فكلهم كوفيّون إلا إسحاق، وابن خشرم فمروزيّان، و"أبو سعيد الأشجّ" أحد التسعة الذين

ص: 122

روى عنهم الجماعة بلا واسطة، وقد تقدّموا غير مرّة، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وأن صحابيّه من مشاهير الصحابة رضي الله عنهم، أحد السابقين إلى الإسلام، ومن كبار علماء الصحابة، له مناقب جمّة، وأمّره عمر على الكوفة رضي الله عنهم.

شرح الحديث:

(عَنْ زيدِ بْنِ وَهْبٍ) قال في "الفتح": للأعمش فيه شيخ آخر، أخرجه الطبرانيّ في "الأوسط" من رواية يحيى بن عيسى الرمليّ، عن الأعمش، عن أبي حازم، عن أبي هريرة رضي الله عنه، مثل رواية زيد بن وهب

(1)

. (عَنْ عَبْدِ اللهِ) بن مسعود رضي الله عنه، صرّح به البخاريّ في "علامات النبوّة" من رواية الثوريّ، عن الأعمش

(2)

. (قَالَ) ابن مسعود (قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّهَا) هي ضمير القصّة، وهي كضمير الشأن، إلا أن الفرق بينهما أنه إذا كان بلفظ المذكر يسمّى ضمير الشأن، وإذا كان بلفظ المؤنّث يسمّى ضمير القصّة. (سَتَكُونُ بَعْدِي)؛ أي: بعد موتي، (أَثَرَةٌ) تقدّم ضَبْطها؛ أي: الاستئثار في الحظوظ الدنيوية، والاختيار لنفسه، والاختصاص بها، وقال النوويّ: المراد بها هنا: استئثار الأمراء بأموال بيت المال. (وَأُمُورٌ تُنْكِرُونَهَا")؛ يعني: من أمور الدين، (قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ كَيْفَ تَأْمُرُ مَنْ أَدْرَكَ مِنَّا ذَلِكَ؟)؛ أي: بماذا تأمر من أدرك ذلك منّا؟ (قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("تُؤَدُّونَ الْحَقَّ الَّذِي عَلَيْكُمْ"؛ أي: تؤدّون إلى الأمراء الحق الذي عليكم من بذل المال الواجب في الزكاة، والنفس في الخروج إلى الجهاد، عند التعيين، ونحو ذلك، ووقع في رواية البخاريّ بلفظ: "أدّوا إليهم حقّهم"؛ أي: حقّهم الذي وجب لهم المطالبة به، وقبضه، سواء كان يختص بهم، أو يعمّ. (وَتَسْأَلُونَ اللهَ الَّذِي لَكُمْ")؛ أي: بأن يلهمهم إنصافكم، أو يُبدلكم خيرًا منهم، وفي رواية البخاريّ:"وسلوا الله حقّكم"، قال الطيبيّ رحمه الله: أي: لا تكافئوا استئثارهم باستئثاركم، ولا تقاتلوهم لاستيفاء حقّكم، بل وفّوا لهم حقّهم من السمع والطاعة، وحقوق الدِّين، واسألوا الله تعالى أن يوصل إليكم حقّكم من

(1)

"الفتح" 16/ 436، كتاب "الفتن" رقم (7052).

(2)

"الفتح" 16/ 436، كتاب "الفتن" رقم (7052).

ص: 123

الغنيمة، والفيء، ونحوهما، وكِلُوا إليه أمركم. انتهى

(1)

.

وقال في "الفتح": الحديث ظاهره العموم في المخاطبين، ونقل ابن التين عن الداوديّ أنه خاصّ بالأنصار، ولكن لا يلزم من مخاطبة الأنصار بذلك أن يختص بهم، فإنه يختص بهم بالنسبة إلى المهاجرين، ويختص ببعض المهاجرين دون بعض، فالمستأثر من يلي الأمر، ومن عداه هو الذي يستأثر عليه، ولمّا كان الأمر يختص بقريش، ولا حظ للأنصار فيه خوطب الأنصار بأنكم ستلقون أثرة، وخوطب الجميع بالنسبة لمن يلي الأمر، فقد ورد ما يدل على التعميم، ففي حديث يزيد بن سلمة الجعفيّ، عند الطبرانيّ أنه قال: يا رسول الله إن كان علينا أمراء يأخذون بالحق الذي علينا، ويمنعونا الحق الذي لنا أنقاتلهم؟ قال:"لا، عليهم ما حُمِّلوا، وعليكم ما حُمِّلتم".

وأخرج مسلم، من حديث أم سلمة، مرفوعًا:"سيكون أمراء، فيعرفون، وينكرون، فمن كره برئ، ومن أنكر سَلِم، ولكن مَن رَضِي وتابع"، قالوا: أفلا نقاتلهم؟ قال: "لا، ما صَلَّوا".

ومن حديث عوف بن مالك، رفعه في حديث في هذا المعنى:"قلنا: يا رسول الله أفلا ننابذهم عند ذلك؟ قال: لا، ما أقاموا الصلاة"، وفي رواية له:"بالسيف"، وزاد:"وإذا رأيتم من ولاتكم شيئًا تكرهونه، فاكرهوا عمله، ولا تنزعوا يدًا من طاعة".

وفي حديث عمر في مسنده للإسماعيليّ، من طريق أبي مسلم الْخَوْلانيّ، عن أبي عُبيدة بن الجرّاح، عن عمر، رفعه:"قال: أتاني جبريل، فقال: إن أمتك مُفْتَتَنة من بعدك، فقلت: من أين؟ قال: من قِبَل أمرائهم، وقرّائهم، يَمنع الأمراء الناس الحقوق، فيطلبون حقوقهم، فيُفتنون، ويتّبع القراء هؤلاء الأمراء، فيُفتنون، قلت: فكيف يَسلَم من سَلِم منهم؟ قال: بالكف، والصبر، إن أُعطوا الذي لهم أخذوه، وإن منعوه تركوه"

(2)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1)

"الكاشف عن حقائق السنن" 8/ 2563.

(2)

"الفتح" 16/ 437، كتاب "الفتن" رقم (7052).

ص: 124

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [10/ 4766](1843)، و (البخاريّ) في "المناقب"(3603) و"الفتن"(7052)، و (الترمذيّ) في "الفتن"(2285)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1/ 38)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 384 و 386 و 428 و 433)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(10/ 96) و"الصغير"(2/ 178)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 410)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(9/ 88)، و (البزّار) في "مسنده"(5/ 172)، و (الشاشيّ) في "مسنده"(2/ 146)، و (البيهقيّ) في "شعب الإيمان"(6/ 69)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان وجوب الوفاء ببيعة الأمراء.

2 -

(ومنها): أن هذا من معجزات النبيّ صلى الله عليه وسلم الباهرة، حيث وقع هذا الإخبار متكررًّا.

3 -

(ومنها): الحثّ على السمع والطاعة، وإن كان المتولِّي ظالِمًا عَسُوفًا، فيُعْطَى حقّه من الطاعة، ولا يُخْرَج عليه، ولا يُخلَع.

4 -

(ومنها): أن حلّ مشكلة الأمراء لا تكون إلا بالتضرّع إلى الله تعالى في كشفها، ودَفْع شرّه، وإصلاحه، فإن الله عز وجل كافي من توكّل عليه، ومجيب من اضطّر، والتجأ إليه، {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} الآية [النمل: 62]، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4767]

(1844) - (حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ إِسْحَاقُ: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ زُهَيْرٌ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ رَبِّ الْكَعْبَةِ، قَالَ: دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ، فَإِذَا عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ جَالِسٌ

(1)

فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ، وَالنَّاسُ مُجْتَمِعُونَ عَلَيْهِ، فَأَتَيْتُهُمْ،

(1)

وفي نسخة: "جالسًا".

ص: 125

فَجَلَسْتُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ، فَنَزَلْنَا مَنْزِلًا، فَمِنَّا مَنْ يُصْلِحُ خِبَاءَهُ، وَمِنَّا مَنْ يَنْتَضِلُ، وَمِنَّا مَنْ هُوَ فِي جَشَرِهِ، إِذْ نَادَى مُنَادِي رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: الصَّلَاةَ جَامِعَةً، فَاجْتَمَعْنَا إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: "إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَبِيٌّ قَبْلِي، إِلَّا كَانَ حَقًّا عَلَيْهِ أَنْ يَدُلَّ أُمَّتَهُ عَلَى خَيْرِ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ، وَيُنْذِرَهُمْ شَرَّ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ، وَإِنَّ أُمَّتَكُمْ هَذِهِ جُعِلَ عَافِيَتُهَا فِي أَوَّلِهَا، وَسَيُصِيبُ آخِرَهَا بَلَاءٌ، وَأُمُورٌ تُنْكِرُونَهَا، وَتَجِيءُ فِتْنَةٌ، فَيُرَقِّقُ

(1)

بَعْضُهَا بَعْضًا، وَتَجِيءُ الْفِتْنَةُ، فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ: هَذِهِ مُهْلِكَتِي، ثُمَّ تَنْكَشِفُ، وَتَجِيءُ الْفِتْنَةُ، فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ: هَذِهِ، هَذِهِ، فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُزَحْزَحَ عَنِ النَّارِ، وَيَدْخُلَ الْجَنَّةَ، فَلْتَأْتِهِ مَنِيَّتُهُ، وَهُوَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ، وَلْيَأْتِ إِلَى النَّاسِ الَّذِي يُحِبُّ أَنْ يُؤْتَى إِلَيْهِ، وَمَنْ بَايَعَ إِمَامًا، فَأَعْطَاهُ صَفْقَةَ يَدِهِ، وَثَمَرَةَ قَلْبِهِ، فَلْيُطِعْهُ إِنِ اسْتَطَاعَ، فَإِنْ جَاءَ آخَرُ يُنَازِعُهُ، فَاضْرِبُوا عُنُقَ الآخَرِ"، فَدَنَوْتُ مِنْهُ، فَقُلْتُ لَهُ: أَنْشُدُكَ اللهَ

(2)

آنْتَ سَمِعْتَ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟، فَأَهْوَى إِلَى أُذُنَيْهِ، وَقَلْبِهِ بِيَدَيْهِ، وَقَالَ: سَمِعَتْهُ أُذُنَايَ، وَوَعَاهُ قَلْبِي، فَقُلْتُ لَهُ: هَذَا ابْنُ عَمِّكَ مُعَاوِيَةُ يَأْمُرُنَا أَنْ نَأْكُلَ أَمْوَالنَا بَيْنَنَا بِالْبَاطِلِ، وَنَقْتُلَ أَنْفُسَنَا، وَاللهُ يَقُولُ:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29)} [النساء]، قَالَ: فَسَكَتَ سَاعَةً، ثُمَّ قَالَ: أَطِعْهُ فِي طَاعَةِ اللهِ، وَاعْصِهِ فِي مَعْصِيَةِ اللهِ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(عَبْدُ الرحْمَنِ بْنُ عَبْدِ رَبِّ الْكَعْبَةِ) العائذيّ - بعين مهملة، وتحتانيّة، وقيل: بالصاد المهملة - الكوفيّ، حديثه في أهل الكوفة، ثقةٌ [3].

رَوَى عن ابن مسعود، وعبد الله بن عمرو.

وروى عنه زيد بن وهب، والشعبيّ، وعون بن أبي شداد العقيليّ. قال العجليّ: تابعيّ ثقة، وذكره ابن حبان في "الثقات".

(1)

وفي نسخة: "فيرفُق"، وفي أخرى:"فيدفق"، وفي أخرى:"فيدقّق".

(2)

وفي نسخة: "فقلت: أنشدك الله".

ص: 126

أخرج له المصنّف، وأبو داود، والنسائيّ، وابن ماجه، وليس له عندهم إلا هذا الحديث.

2 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ) بن وائل بن هاشم بن سُعيد بن سَعْد بن سَهْم السَّهْميّ، أبو محمد، أو أبو عبد الرحمن الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، مات بالطائف سنة (63) على الراجح (ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.

والباقون تقدّموا في الباب وقبله.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالكوفيين، غير شيخيه، فالأول نسائيّ، ثم بغداديّ، والثاني مروزيّ، والصحابيّ مدنيّ، ومصريّ، وفلسطينيّ، وطائفيّ، وفيه ثلاثة من التابعين روى بعضهم عن بعض: الأعمش، عن زيد، عن ابن عبد ربّ الكعبة، وأن صحابيّه من مشاهير الصحابة رضي الله عنهم، من السابقين إلى الإسلام، ومن العبادلة الأربعة.

شرح الحديث:

(عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ رَبِّ الْكَعْبَةِ) العائذيّ، أو الصائديّ أنه (قَالَ: دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ)؛ أي: المسجد الحرام، وقوله:(فَإِذَا) هي الفجائيّة؛ أي: ففاجأني (عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ) رضي الله عنهما، وقوله:(جَالِسٌ) مرفوع على أنه خبر "عبد الله"، وفي بعض النسخ:"جالسًا" بالنصب، وعليه فيكون الخبر "إذا" الفجائيّة؛ لأنها ظرف عند بعضهم، و"جالسًا" منصوب على الحال. (فِي ظِلَّ الْكَعْبَةِ، وَالنَّاسُ مُجْتَمِعُونَ عَلَيْهِ) جملة في محلّ نصب على الحال، (فَأَتَيْتُهُمْ)؛ أي: القوم المجتمعين، (فَجَلَسْتُ إِلَيْهِ)؛ أي: إلى عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، (فَقَالَ) عبد الله رضي الله عنه (كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ) لا يُعرف ذلك السفر

(1)

. (فَنَزَلْنَا مَنْزِلًا، فَمِنَّا مَنْ يُصْلِحُ) بضمّ أوله، من الإصلاح، (خِبَاءَهُ) بكسر الخاء المعجمة: ما يُعمَل من وَبَرٍ، أو صوفٍ، وقد يكون من شَعْرٍ، والجمع: أخبيةٌ، بغير همز، مثلُ كساء وأكسيةٍ، ويكون على عَمُودين، أو ثلاثةٍ، وما فوق ذلك، فهو بيتٌ

(2)

.

(1)

راجع: "تنبيه المعلم" ص 324.

(2)

"المصباح المنير" 1/ 163.

ص: 127

(وَمِنَّا مَنْ يَنْتَضِلُ)؛ أي: يرمي بالسهام تدرّبًا، ومداومةً، والمناضلة: المراماة بالسهام، قاله القرطبيّ. (وَمِنَّا مَنْ هُوَ فِي جَشَرِهِ) هكذا هو عند مسلم بإضافة "جشر" إلى ضمير الغائب، ووقع عند النسائيّ:"فِي جَشْرَتِهِ" بإضافة "جشرة" إلى ضمير الغائب، وقال السنديّ في "شرحه": أي: في إخراج الدوابّ إلى المرعى

(1)

.

قال النوويّ: هو بفتح الجيم والشين: وهي الدّوابّ التي تَرْعَى، وتبيت مكانها. انتهى

(2)

.

وقال في "اللسان": وجَشَرُوا الخيلَ، وجَشَّرُوها: أرسلوها في الْجَشْر، والْجَشْرُ: أن يخرجوا بخيلهم، فيَرْعَوها أمام بيوتهم، وأصبحوا جَشْرًا - أي: بالسكون - وجَشَرًا - أي: بفتحتين -: إذا كانوا يبيتون مكانهم، لا يرجعون إلى أهليهم، وقال أيضًا: وجَشَرنا دوابّنا: أخرجناها إلى المرعى نَجشُرُها جَشْرًا - بالإسكان، قال: وفي حديث عثمان رضي الله عنه، أنه قال: لا يغُرّنّكم جَشَرُكم من صلاتكم، فإنما يقصُر الصلاة من كان شاخصًا، أو يحضره عدوّ، قال أبو عبيد: الجَشَر: القوم يخرجون بدوابّهم إلى المرعى، ويبيتون مكانهم، ولا يأوون إلى البيوت، وربّما رأوه سفرًا، فقصروا الصلاة، فنهاهم عن ذلك؛ لأن المقام في المرعَى، وإن طال فليس بسفر. انتهى المقصود من "اللسان" باختصار، وتصرّف

(3)

.

وقال في "القاموس": "الْجَشْرُ"؛ أي: بالسكون: إخراج الدوابّ للرَّعْي، كالتجشير. قال: وبالتحريك: المال الذي يَرعى في مكانه، لا يرجع إلى أهله بالليل، والقوم يبيتون مع الإبل. انتهى باختصار

(4)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: أفاد ما ذُكر أن الجشر إذا كان مصدرًا بمعنى إخراج الدوابّ للرعي يُضبط بسكون الشين، وأما الجشَر بالتحريك، فهي الإبل التي ترعى في مكانها، والمعنيان مناسبان هنا، والله تعالى أعلم.

(1)

"شرح السنديّ على النسائيّ" 7/ 152.

(2)

"شرح النوويّ" 12/ 233.

(3)

"لسان العرب" 4/ 137.

(4)

"القاموس المحيط" ص 217.

ص: 128

(إِذْ نَادَى مُنَادِي رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) لا يعرف اسمه

(1)

. (الصَّلَاةَ جَامِعَةً) قال النوويّ رحمه الله: هو بنصب "الصلاة" على الإغراء، و"جامعةً" على الحال.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذه الجملة تَحْتَمِل أربعة أوجه: رفع الجزءين على الابتداء والخبر، ونَصْبهما على ما قاله النوويّ، ورَفْعُ الأول، ونَصْبُ الثاني، على أن الأول مبتدأ، حُذِف خبره؛ أي: الصلاة محضورةٌ، والثاني منصوب على الحال، ونَصْبُ الأول على الإغراء، ورَفْع الثاني على تقدير مبتدإ؛ أي: هي جامعةٌ، والله تعالى أعلم.

وقال القرطبيّ رحمه الله: "الصلاة جامعة" خبر بمعنى الأمر، كأنه قال: اجتمعوا للصلاة، وكأنه كان وقت صلاة، فلما جاؤوا صلَّوا معه، وسكت الراوي عن ذلك، وإلا فمن المحال أن ينادي منادي الصادق بالصلاة، ولا صلاة. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: كلام القرطبيّ هذا فيه نظر لا يخفى، بل الذي يظهر أن ذلك الوقت غير وقت صلاة، وإلا فالصلوات الخمس لا يُنادى لها بـ "الصلاةُ جامعة"، وإنما يؤذّن لها الأذان المعروف، بل هذه الصلاة عارضة أراد النبيّ صلى الله عليه وسلم جَمْعهم بسببها، ثم خُطبتهم بعدها، وهذا واضح، والله تعالى أعلم.

(فَاجْتَمَعْنَا إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: "إِنَّهُ) الضمير للشأن، كما سبق قريبًا، وهو الضمير الذي تفسّره الجملة بعده، وهي هنا قوله:(لَمْ يَكُنْ نَبِيٌّ قَبْلِي، إِلَّا كَانَ حَقًّا عَلَيْهِ)؛ أي: واجبًا عليه؛ لأن ذلك من طريق النصيحة، والاجتهاد في التبليغ، والبيان. (أَنْ يَدُلَّ أُمَّتَهُ عَلَى خَيْرِ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ) ولفظ النسائيّ:"على ما يعلمه خيرًا لهم"، قال السنديّ: أي: على شيء يعلم النبيّ صلى الله عليه وسلم ذلك الشيء خيرًا لهم، (وَيُنْذِرَهُمْ شَرَّ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ، وَإِنَّ أُمَّتَكُمْ هَذِهِ جُعِلَ عَافِيَتُهَا)؛ أي: سلامتها، واستقامتها، واجتماع كلمتها (فِي أَوَّلِهَا، وَسَيُصِيبُ آخِرَهَا بَلَاءٌ، وَأُمُورٌ تُنْكِرُونَهَا) قال القرطبيّ رحمه الله: يعني بأول الأمة: زمانه، وزمان الخلفاء الثلاثة إلى قَتْل عثمان، فهذه الأزمنة كانت أزمنة اتّفاق هذه

(1)

راجع: "تنبيه المعلم" ص 324.

(2)

"المفهم" 4/ 50 - 51.

ص: 129

الأمّة، واستقامة أمرها، وعافية دينها، فلمّا قُتل عثمان رضي الله عنه ماجت الفتن، كموج البحر، وتتابعت كقِطَع الليل المظلم، ثم لم تزل، ولا تزال متواليةً إلى يوم القيامة، وعلى هذا فأول آخر هذه الأمة المعنيّ في هذا الحديث مقتل عثمان رضي الله عنه، وهو آخرٌ بالنسبة إلى ما قبله، من زمان الاستقامة والعافية، وقد دلّ على هذا قوله:"وأمورٌ تنكرونها"، والخطاب لأصحابه، فدلّ على أن منهم من يُدرك أوّل ما سمّاه آخرًا، وكذلك كان. انتهى كلام القرطبيّ

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: كان الأَولى للقرطبيّ أن يجعل مقتل عمر رضي الله عنه مبدأ الفتن، كما هو منصوص عليه في حديث حذيفة الذي ذكره حين سأل عمر عن الفتنة، قال حذيفة رضي الله عنه: كنا جلوسًا عند عمر رضي الله عنه، فقال: أيكم يحفظ قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الفتنة؟ قلت: أنا، كما قاله، قال: إنك عليه أو عليها لجريء، قلت: فتنة الرجل في أهله، وماله، وولده، وجاره، تكفّرها الصلاة، والصوم، والصدقة، والأمر، والنهي، قال: ليس هذا أريد، ولكن الفتنة التي تموج كما يموج البحر، قال: ليس عليك منها بأس يا أمير المؤمنين، إن بينك وبينها بابًا مغلقًا، قال: أيُكسَر أم يُفْتَح؟ قال: يكسر، قال: إذًا لا يُغْلَق أبدًا،. . . الحديث.

وقد فسّر البابَ حذيفةُ بأنه عمر رضي الله عنه، فأفاد أن ابتداء الفتن هو موت عمر رضي الله عنه، لا موت عثمان رضي الله عنه، فتبصّر، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

(وَتَجِيءُ فِتْنَةٌ، فَيُرَقِّقُ

(2)

بَعْضُهَا بَعْضًا) قال النوويّ رحمه الله: هذه اللفظة رُويت على أوجه:

[أحدها]: وهو الذي نقله القاضي عن جمهور الرواة: يُرقّق بضمّ الياء، وفتح الراء، وبقافين: أن يَصِير بعضها رقيقًا؛ أي: خفيفًا؛ لِعِظَم ما بعده، فالثاني يَجعل الأول رقيقًا. وقيل: معناه: يُشبه بعضها بعضًا، وقيل: يدور بعضها في بعض، ويذهب، ويجيء، وقيل: معناه: يسوق بعضها إلى بعض بتحسينها، وتسويلها.

(1)

"المفهم" 4/ 51.

(2)

وفي نسخة: "فيرفُق"، وفي أخرى:"فيدفق"، وفي أخرى:"فيدقّق".

ص: 130

[والوجه الثاني]: فيَرْفُقُ بفتح الياء، وإسكان الراء، وبعدها فاء مضمومة.

[والثالث]: فيَدْفِقُ بالدال المهملة الساكنة، وبالفاء المكسورة؛ أي: يدفع، ويصبّ، والدفق: الصبّ. انتهى

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "فَيَدْفِقُ بعضها بعضًا": الرواية: "يَدْفِق" بالتخفيف، وفتح الياء، هذه رواية الطبريّ، عن الفارسيّ، ومعنى: فيدفق: يدفع، والدَّفْقُ: الدَّفْعُ، ومنه: الماء الدَّافِق، ويعني: أنها كموج البحر الذي يَدْفِق بعضه بعضًا، وشُبِّه المؤمنُ في هذه الفتن بالعائِم الغريق بين الأمواج، فإذا أقبلت عليه موجة قال: هذه مهلكتي، ثم تروح عنه تلك، فتأتيه أخرى، فيقول: هذه، هذه إلى أن يَغْرَق بالكلّية، وهذا تشبيه واقع، ورواه أكثر الرُّواة:"يُرَقِّقُ" بالراء المفتوحة، والقاف الأولى المكسورة؛ أي: يُسَبِّبُ بعضها بعضًا، ويشيرُ إليه. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: حاصل المعنى: أن المتأخّرة من تلك الفتن أعظم من المتقدّمة، فتصير المتقدّمة بالنسبة للمتأخّرة هيّنةً خفيفة، أعاذنا الله تعالى من جميع الفتن، ما ظهر منها وما بطن، إنه رؤوف رحيم.

(وَتَجِيءُ الْفِتْنَةُ، فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ: هَذِهِ مُهْلِكَتِي) يَحْتَمِل أن يكون بضم الميم، وكسر اللام، بصيغة اسم الفاعل، وأن يكون بفتح الميم، واللام، ظرفًا؛ أي: هذه الفتنة محل هلاكي، أو زمانه. (ثُمَّ تَنْكَشِفُ)؛ أي: تزول تلك الفتنة، (وَتَجِيءُ الْفِتْنَةُ) غير هذه، (فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ: هَذِهِ، هَذِهِ)؛ أي: هذه مهلكتي، وهذه مهلكتي، وفي رواية النسائيّ:"ثُمَّ تَجِيءُ، فَيَقُولُ: هَذِهِ مُهْلِكَتِي، ثُمَّ تَنْكَشِفُ"، (فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُزَحْزَحَ عَنِ النَّارِ) ببناء الفعل للمفعول؛ أي: يُنحّى عنها، ويُباعَد منها (وَيَدْخُلَ الْجَنَّةَ) ببناء الفعل للمفعول أيضًا، ويَحْتَمِل هنا بناءه للفاعل، (فَلْتَأْتِهِ مَنِيَّتُهُ)؛ أي: موته، قال المجد رحمه الله: الْمَنَى - أي: بوزن الفَتَى -: الموت، كالْمَنِيّة. انتهى

(3)

، وقوله:(وَهُوَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ) جملة في محلّ نصب على الحال، ولفظ النسائيّ: "فلتُدركه منيّته، وهو مؤمن بالله واليوم

(1)

"شرح النوويّ" 12/ 233.

(2)

"المفهم" 4/ 51.

(3)

"القاموس المحيط" ص 1245.

ص: 131

الآخر"، قال الأبيّ رحمه الله: هو إرشاد لعدم التلبّس بالفتنة؛ لأن الإيمان إنما يحصل بتحصيب خصاله، والتلبّسُ بخصاله مناف للفتنة. انتهى

(1)

. (وَلْيَأْتِ إِلَى النَّاسِ الَّذِي يُحِبُّ أَنْ يُؤْتَى إِلَيْهِ)؛ أي: ليؤدّ إليهم، ويفعل بهم الشيء الذي يُحِبّ أن يَفعَلوه به، وقال القرطبيّ رحمه الله: أي: يجيء إلى الناس بحقوقهم من النصح، والنيّة الحسنة بمثل الذي يُحب أن يُجاء إليه به، وهذا مثلُ قوله صلى الله عليه وسلم:"لا يؤمن أحدكم حتى يُحبّ لأخيه ما يُحبّ لنفسه"، متّفقٌ عليه، والناس هنا: الأئمة، والأمراء، فيَجب عليه لهم من السمع، والطاعة، والنصرة، والنصيحة، مثل ما لو كان هو الأمير لكان يُحبّ أن يُجاء له به. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قوله: "والناس هنا الأئمة إلخ" فيه نظرٌ لا يخفى، بل الأَولى كونه على عمومه، فالمراد بالناس جميع المسلمين، ومما يردّ عليه دعوى الخصوص هذا الحديث الذي مثّل هو به، فإنه صريح في العموم، فتبصّر، والله تعالى أعلم.

(وَمَنْ بَايَعَ إِمَامًا) قال الأبيّ رحمه الله أي: من بايع إمامًا مباشرةً، أو باندراجه تحت من عَقَدها له من أهل الحلّ والعقد لزمت الجميع، كتب عليٌّ إلى معاوية رضي الله عنهما: أما بعد فإن بيعتي بالمدينة لزمتك، وأنت بالشام؛ لأنه بايعني الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان، فلم يكن للشاهد أن يختار، ولا للغائب أن يردّ. انتهى

(3)

.

(فَأَعْطَاهُ صَفْقَةَ يَدِهِ)؛ أي: ضرب يده على يده عند المبايعة، وأصل الصفقة: الضرب بالكفّ على الكفّ، أو بأصبعين على الكفّ، وهو التصفيق، وقال ابن الأثير رحمه الله: الصفقة: المرّة من التصفيق باليد؛ لأن المتعاهدين يضع أحدهما يده في يد الآخر، كما يفعل المتبايعان. (وَثَمَرَةَ قَلْبِهِ)؛ أي: خالص عهده، أو محبّته بقلبه، قال القرطبيّ رحمه الله: هذا يدلّ على أن البيعة لا يُكتَفَى فيها بمجرّد عقد اللسان فقط، بل لا بدّ من الضرب باليد، كما قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح: 10]،

(1)

"شرح الأبّيّ" 5/ 189.

(2)

"المفهم" 4/ 52.

(3)

"شرح الأبّيّ" 5/ 189.

ص: 132

ولكن ذلك للرجال فقط، على ما يأتي، ولا بُدّ من التزام البيعة بالقلب، وترك الغشّ والخديعة، فإنها من أعظم العبادات، فلا بدّ فيها من النيّة والنصيحة. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قوله: "بل لا بدّ من الضرب باليد"، فيه نظرٌ، لا يخفى، فإن الحديث لا يدلّ على هذا، بل غاية ما فيه إيجاب الطاعة لمن بايع على هذه الصفة، وهذا لا ينفي جواز البيعة باللسان فقط، دون الضرب باليد، فتبصّر. والله تعالى أعلم.

(فَلْيُطِعْهُ مَا اسْتَطَاعَ، فَإِنْ جَاءَ أَحَدٌ يُنَازِعُهُ، فَاضْرِبُوا رَقَبَةَ الْآخَرِ") قال النوويّ رحمه الله: معناه: ادفعوا الثاني، فإنه خارجٌ على الإمام، فإن لم يندفع إلا بحرب، وقتال، فقاتِلُوه، فإن دعت المقاتَلة إلى قَتْله جاز قَتْله، ولا ضمان فيه؛ لأنه ظالم مُعتدٍ في قتاله.

وقال الطيبيّ رحمه الله: الفاء في قوله: "فأعطاه صفقة يده" كما هي في قوله تعالى: {فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} الآية [البقرة: 54] إذا كانت التوبة عين القتل؛ إذ الصفقة الحاصلة بين المتبايعين، وكذلك إعطاء ثمرة القلب التي هي خلاصة الإنسان ليست إلا عين المبايعة، فإذا اجتمع الظاهر والباطن مع صاحبه، فوجب أن يقاتل مع من ينازعه، وجَمَع الضمير في "فاضربوا" بعدما أفرد في "فليُطعه" نظرًا إلى لَفْظِه "مَنْ" تارةً، ومعناها أخرى، وقوله:"عنق الآخر" وُضع موضع عنقه؛ إيذانًا بأن كونه آخرًا يستحقّ ضرب العنق تقريرًا للمراد، وتحقيقًا له. انتهى

(2)

.

قال عبد الرحمن بن عبد ربّ الكعبة: (فَدَنَوْتُ مِنْهُ)؛ أي: قرُبتُ من عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما (فَقُلْتُ لَهُ) هذا الجارّ والمجرور سقط من بعض النسخ، (أَنْشُدُكَ اللهَ)؛ أي: سألتك بالله، قال ابن الأثير رحمه الله: يقال: نشدتك الله، وأنشدك الله، وبالله، وناشدتك الله، وبالله؛ أي: سألتك، وأقسمت عليك.

(1)

"المفهم" 4/ 52 - 53.

(2)

"الكاشف عن حقائق السنن" 8/ 2566.

ص: 133

انتهى

(1)

. (آنْتَ) بمدّ الهمزة، أصله: أأنت بهمزتين الأُولى همزة الاستفهام، فقُلبت الثانية مَدّة، (سَمِعْتَ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟) قال القرطبيّ رحمه الله: واستحلاف عبد الرحمن زيادةٌ في الاستيثاق، لا أنه كذّبه، ولا اتّهمه، (فَأَهْوَى إِلَى أُذُنَيْهِ، وَقَلْبِهِ بِيَدَيْهِ)؛ أي: مدّ يديه مشيرًا بهما إلى أذنيه وقلبه ليؤكّد قوله: "سمعته أذناي، ووعاه قلبي"، قال ابن الأثير رحمه الله:"فأهوى بيده إليه"؛ أي: مدّها نحوه، وأمالها إليه، يقال: أهوى يده، وبيده إلى الشيء ليأخذه. انتهى

(2)

.

وقال الفيّوميّ رحمه الله: أهوى إلى سيفه بالألف: تناوله بيده، وأهوى إلى الشيء بيده: مدّها ليأخذه إذا كان عن قُرب، فإن كان عن بُعْد قيل: هَوَى إليه بغير ألف، وأهويتُ بالشيء بالألف: أومأت به. انتهى

(3)

.

(وَقَالَ) عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: (سَمِعَتْهُ)؛ أي: هذا الكلام من النبيّ صلى الله عليه وسلم (أُذُنَايَ) مرفوع على الفاعليّة بالألف؛ لأنه مثنّى مضاف إلى ياء المتكلّم، وهي مبنيّة على الفتح، كما قال في "الخلاصة":

آخِرَ مَا أُضِيفَ لِلْيَا اكْسِرْ إِذَا

لَمْ يَكُ مُعْتَلًّا كَـ "رَامٍ" و"قَذَا"

أَوْ يَكُ كَـ "ابْنَيْنِ" و"زَيْدِينَ" فَذِي

جَمِيعُهَا الْيَا بَعْدُ فَتْحُهَا احْتُذِي

وَتُدْغَمُ الْيَا فِيهِ وَالْوَاوُ وَإِنْ

مَا قَبْلَ وَاوٍ ضُمَّ فَاكْسِرْهُ يَهُنْ

وَأَلِفًا سَلِّمْ وَفِي الْقُصُورِ عَنْ

هُذَيْلٍ انْقِلَابُهَا يَاءً حَسَنْ

(وَوَعَاهُ)؛ أي: حفظه (قَلْبِي، فَقُلْتُ لَهُ: هَذَا ابْنُ عَمِّكَ مُعَاوِيَةُ) بن أبي سفيان رضي الله عنهما، (يَأْمُرُنَا أَنْ نَأْكُلَ أَمْوَالَنَا بَيْنَنَا بِالْبَاطِلِ)؛ أي: بإنفاقها في مقاتلة بعض المسلمين بعضهم، (وَنَقْتُلَ أَنْفُسَنَا)؛ أي: يقتل بعضنا بعضًا.

وقال القاضي عياض رحمه الله: إنما قال ذلك حين رآه ذَكَر الحديث في حرمة منازعة الخليفة، وقَتْل منازعه، واعتقد أن ذلك في معاوية؛ لِتَقَدُّم بيعة عليّ،

(1)

"النهاية في غريب الحديث والأثر" 5/ 53.

(2)

"النهاية في غريب الحديث والأثر" 5/ 285.

(3)

"المصباح المنير" 2/ 643 - 644.

ص: 134

ورأى أن ما ينفق معاوية على الجند في منازعة عليّ من أكل المال بالباطل، وقتل النفس. انتهى

(1)

.

(وَاللهُ يَقُولُ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ})؛ أي: بما لم تُبحه الشريعة، من نحو السرقة، والخيانة، والقمار، وعقود الربا، ({إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً}) قُرئ برفع {تِجَارَةً}؛ أي: إلا أن تقع تجارةٌ، وبنصبها؛ أي: إلا أن تكون الأموال أموالَ تجارة.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله تعالى: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} هذا استثناء منقطع؛ أي: ولكن تجارة عن تراض.

والتجارة هي البيع والشراء، وهذا مثل قوله تعالى:{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275].

وقرئ {تِجَارَةً} ، بالرفع؛ أي: إلا أن تقع تجارةٌ، وعليه أنشد سيبويه [من الطويل]:

فِدًى لِبَنِي ذُهْلِ بْنِ شَيْبَانَ نَاقَتِي

إِذَا كَانَ يَوْمٌ ذُو كَوَاكِبَ أَشْهَبُ

وتسمى هذه "كان" التامة؛ لأنها تمّت بفاعلها، ولم تحتج إلى مفعول.

وقُرئ {تِجَارَةً} بالنصب، فتكون "كان" ناقصة؛ لأنها لا تتم بالاسم دون الخبر، فاسمها مُضْمَر فيها، وإن شئت قدّرته؛ أي: إلا أن تكون الأموالُ أموالَ تجارة، فحُذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، ومنه قوله تعالى:{وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ} [البقرة: 280].

قال: والتجارة في اللغة عبارة عن المعاوضة، ومنه الأجر الذي يعطيه البارئ سبحانه وتعالى العبد عوضًا عن الأعمال الصالحة التي هي بعضٌ من فعله، قال الله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10)} [الصف: 10]، وقال تعالى:{يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ} [فاطر: 29].

وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ} الآية [التوبة: 111]

فسمى ذلك كله بيعًا وشراءً على وجه المجاز، تشبيهًا بعقود الأشرية

(1)

"شرح الأبيّ" 5/ 190.

ص: 135

والبِياعات التي تحصل بها الأغراض، وهي نوعان: تقلُّب في الحضر من غير نُقْلة ولا سفر، وهذا تربصٌ واحتكارٌ قد رَغِب عنه أولو الأقدار، وزَهِد فيه ذوو الأخطار.

والثاني: تقلّب المال بالأسفار ونقله إلى الأمصار، فهذا أليق بأهل المروءة، وأعم جدوى ومنفعة، غير أنه أكثر خطرًا وأعظم غَرَرًا.

قال: واعلم أن كل معاوضة تجارةٌ على أيّ وجه كان العوض، إلا أن قوله:{بِالْبَاطِلِ} أخرج منها كل عِوَض لا يجوز شرعًا من ربًا، أو جهالة، أو تقدير عوض فاسد، كالخمر، والخنزير، وغير ذلك.

وخرج منها أيضًا كل عقد جائز لا عوض فيه، كالقرض، والصدقة، والهبة، لا للثواب.

وجازت عقود التبرعات بأدلة أخرى مذكورة في مواضعها، فهذان طرفان متفق عليهما. انتهى

(1)

.

وقوله: {عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} صفة لـ "تجارة"؛ أي: تجارة صادرةً عن تراض، أو: ولكن كونُ تجارة عن تراض غيرُ منهيّ عنه، قال القرطبيّ رحمه الله: قوله تعالى: {عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} ؛ أي: عن رِضًى، إلا أنها جاءت من المفاعلة؛ إذ التجارة من اثنين.

واختلف العلماء في التراضي، فقالت طائفة: تمامه وجزمه بافتراق الأبدان بعد عقدة البيع، أو بأن يقول أحدهما لصاحبه: اختر، فيقول: قد اخترت، وذلك بعد العقدة أيضًا فينجزم أيضًا وإن لم يتفرقا، قاله جماعة من الصحابة والتابعين، وبه قال الشافعيّ، والثوريّ، والأوزاعيّ، والليث، وابن عيينة، وإسحاق، وغيرهم

(2)

. وقد تقدّم تمام البحث في هذا في "كتاب البيوع"، فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق.

وقال النسفيّ رحمه الله: وخصّ التجارة بالذكر؛ لأن أسباب الرزق أكثرها متعلّق بها.

(1)

"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبيّ رحمه الله 5/ 150 - 152.

(2)

"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبيّ رحمه الله 5/ 152.

ص: 136

({وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ})؛ أي: مَن كان من جنسكم من المؤمنين؛ لأن المؤمنين كنفس واحدة، أو: ولا يقتل الشخص نفسه، كما يفعله بعض الجهلة، أو معنى القتل: أكلُ الأموال بالباطل، فظالم غيره كمهلك نفسه، أو: لا تتبعوا أهواءها، فتقتلوها، أو ترتكبوا ما يوجب قتلها، ثم لَفْظُها يتناول أن يقتل الرجل نفسه بقصد منه للقتل في الحرص على الدنيا، وطلب المال

(1)

.

وقال أبو عبد الله القرطبيّ المفسّر رحمه الله: قوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} : قرأ الحسن: (تُقَتِّلوا) على التكثير.

وأجمع أهل التأويل على أن المراد بهذه الآية: النهي أن يقتل بعضُ الناس بعضًا، بأن يَحْمِل نفسه على الغرر المؤدِّي إلى التلف، ويَحْتَمل أن يقال:{وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} في حال ضجر، أو غضب، فهذا كله يتناول النهي، وقد احتَجَّ عمرو بن العاص بهذه الآية حين امتنع من الاغتسال بالماء البارد حين أجنب في غزوة ذات السلاسل؛ خوفًا على نفسه منه، فقرّر النبيّ صلى الله عليه وسلم احتجاجه، وضحك عنده، ولم يقل شيئًا. حديث صحيحٌ، أخرجه أبو داود

(2)

.

({إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا})؛ أي: ولرحمته بكم نبّهكم على ما فيه صيانة أموالكم، وبقاء أبدانكم، وقيل: معناه أنه أمر بني إسرائيل بقتلهم أنفسهم؛ ليكون توبةً لهم، وتمحيصًا لخطاياهم، وكان بكم يا أمّة محمد صلى الله عليه وسلم رحيمًا، حيث لم يكلّفكم تلك التكاليف الصعبة

(3)

.

وقال أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله: ما ذكره عبد الرحمن عن معاوية رضي الله عنه إغياء في الكلام على حسب ظنّه، وتأويله، وإلا فمعاوية رضي الله عنه لم يُعرف من حاله، ولا من سيرته شيء مما قال له، وإنما هذا كما قالت طائفة من الأعراب: إن ناسًا من المصدّقين يظلموننا، فسَمَّوا أخذ الصدقة ظلمًا؛ حسب ما وقع لهم. انتهى

(4)

.

وقال النوويّ رحمه الله: المقصود بهذا الكلام: أن هذا القائل لَمّا سمع كلام

(1)

"تفسير النسفيّ" 1/ 221.

(2)

"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبيّ رحمه الله 5/ 152 - 153.

(3)

"تفسير النسفيّ" 1/ 221.

(4)

"المفهم" 4/ 54.

ص: 137

عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، وذكر الحديث في تحريم منازعة الخليفة الأول، وأن الثاني يُقتل، فاعتقد هذا القائل هذا الوصف في معاوية؛ لمنازعته عليًّا رضي الله عنهما، وكانت قد سبقت بيعة عليّ رضي الله عنه، فرأى هذا أن نفقة معاوية على أجناده، وأتباعه في حرب عليّ، ومنازعته، ومقاتلته إياه، من أَكْل المال بالباطل، ومن قَتْل النفس؛ لأنه قتال بغير حقّ، فلا يستحقّ أحد مالًا في مقاتلته. انتهى

(1)

.

(قَالَ) ابن عبد ربّ الكعبة (فَسَكَتَ) عبد الله بن عمرو (سَاعَةً، ثُمَّ قَالَ: أَطِعْهُ)؛ أي: معاوية رضي الله عنه، (في طَاعَةِ اللهِ)؛ أي: فيما إذا أمرك بطاعة الله، (وَاعْصِهِ)؛ أي: خالف أمره (فِي مَعْصِيَةِ اللهِ)؛ أي: فيما إذا أمرك بمعصية الله، قول عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما هذا هو معنى ما سبق من قوله صلى الله عليه وسلم:"على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحبّ وكَرِهَ، إلا أن يؤمر بمعصية، فإن أُمر بمعصية، فلا سمع، ولا طاعة"، متّفقٌ عليه.

وقال النوويّ رحمه الله: هذا فيه دليل على وجوب طاعة المتولّين للإمامة بالقهر

(2)

، من غير إجماع، ولا عهد. انتهى

(3)

.

وقال الأبّيّ رحمه الله: يريد: لزوم طاعتهم بعد استقلالهم، وذهاب الأول؛ لحرمة المخالفة عليهم حينئذٍ؛ لانعقادها في حقّهم على ما تقدّم، وأما في حال قيامهم فلا طاعة لهم؛ لأنهم يقاتلون، فكيف تكون لهم طاعة؟ وعلى هذا فيُشكل قول عبد الله:"أطعه في طاعة الله"؛ لأنه لا طاعة له مع وجود عليّ رضي الله عنه، وانعقاد الخلافة له بأهل الحلّ والعقد من المهاجرين والأنصار.

قال الجامع عفا الله عنه: الجواب السديد عن معاوية ومن معه رضي الله عنهم في هذا أن يقال: إنهم متأوّلون، مجتهدون، والمجتهد المخطئ يُعذر باجتهاده، ونسأل الله تعالى أن يطهّر قلوبنا وألسنتنا عن الخوض فيما لا يعنينا، {رَبَّنَا لَا

(1)

"شرح النوويّ" 12/ 234.

(2)

قال الجامع: استدلال النوويّ على ما ذكره بالحديث المذكور محلّ بحث، فليُتأمّل، والله تعالى أعلم.

(3)

"شرح النوويّ" 12/ 234.

ص: 138

تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8)}، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [10/ 4767 و 4768 و 4769](1844)، و (أبو داود) في "الفتن"(4248)، و (النسائيّ) في "البيعة"(7/ 152) و"الكبرى"(4/ 431)، و (ابن ماجه) في "الفتن"(3956)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(7/ 446)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 161 و 191 و 192 و 193)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 414)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5961)، و (الطبرانيّ) في "مسند الشاميين"(1/ 353)، و (الطبريّ) في "تهذيب الآثار"(2/ 921)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(8/ 169)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): أن فيه معجزةً للنبيّ صلى الله عليه وسلم حيث أخبر بما سيكون في أمته بعده، فوقع طبق ما قال.

2 -

(ومنها): أن الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - ناصحون لأممهم، يعلّمونهم خير ما يعلمون، ويُحذّرونهم من شرّ ما يعلمون، وهذا فضل من الله عظيم على خلقه حيث لم يتركهم سُدًى، بل بعث إليهم رسلًا مبشّرين ومنذرين، فله الحمد في الأولى والآخرة وهو الحكيم الخبير.

3 -

(ومنها): ما كان عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم من الأسوة بمن قبله من الأنبياء، - عليهم الصلاة والسلام - في بيان الخير والشر لأمته، فلم يبق شيء منهما إلا بيّنه لها، ومن ذلك ما ذكره في هذا الحديث، مما سيحدث بعده من الفتن المتتابعة، والبلايا المتناسقة، بحيث تدع الحليم حيران، والعاقل سكران.

4 -

(ومنها): بيان أن أول هذه الأمة قد فضّلها الله تعالى بما أمدّها من

ص: 139

اجتماع الكلمة، وعدم التفرّق، وإنما أتى البلاء في آخرها، فقد اقتتلوا، وتفرّقوا، واختلفوا، فإنا لله، وإنا إليه راجعون.

5 -

(ومنها): بيان توالي الفتن على المؤمن بحيث يُنسيه آخرها أولها، وكلما جاءت فتنة يرى أنها ستهلكه، ثم يرحمه الله تعالى، فيكشفها عنه {فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8)} [الحجرات].

6 -

(ومنها): بيان أن من مات يؤمن بالله واليوم الآخر، ويعامل الناس بما يحب أن يعاملوه به، دخل الجنّة.

7 -

(ومنها): أن قوله صلى الله عليه وسلم: "وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه" من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم، وبديع حِكَمه، وهذه قاعدة مهمّة ينبغي الاعتناء بها، وأنه يلزم الإنسان أن لا يفعل مع الناس إلا ما يُحبّ أن يفعلوه معه.

8 -

(ومنها): أنّ الآية الكريمة تدلّ على تحريم أكل الأموال بالباطل، كالربا، والرشوة، والسرقة، والغصب، ونحو ذلك، وعلى تحريم قتل النفس بغير حقّ، وكلّ هذا من تمام رحمة الله بعباده، ورأفته بهم، {إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 143]، والله تعالى أعلم.

9 -

(ومنها): أن الآية الكريمة أيضًا تردّ قول من يُنكر طلب الأقوات بالتجارات، والصناعات، من المتصوفة الجهلة؛ لأن الله تعالى حرّم أكلها بالباطل، وأحلّها بالتجارة، وهذا بَيِّنٌ، قاله القرطبيّ

(1)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4768]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ نُمَيْرٍ، وَأَبُو سَعِيدٍ الأَشَجُّ، قَالُوا: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ (ح) وَحَدَّثَنَا

(2)

أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، كِلَاهُمَا عَنِ الأَعْمَشِ، بِهَذَا الإِسْنَادِ نَحْوَهُ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

وكلّهم ذُكروا في الباب.

(1)

"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبيّ رحمه الله 5/ 156.

(2)

وفي نسخة: "وحدّثناه".

ص: 140

[تنبيه]: رواية وكيع، عن الأعمش هذه ساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(6793)

- حدّثنا عبد الله

(1)

، حدّثني أبي، ثنا وكيعٌ، ثنا الأعمش، عن زيد بن وهب، عن عبد الرحمن بن عبد رب الكعبة، عن عبد الله بن عمرو، قال: كنت جالسًا معه في ظل الكعبة، وهو يحدّث الناس، قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فنزلنا منزلًا، فمنا من يضرب خباءه، ومنّا من هو في جَشَرَةٍ، ومنا من يَنتضل، إذ نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم:"الصلاة جامعة"، قال: فانتهيت إليه، وهو يخطب الناس، ويقول:"أيها الناس إنه لم يكن نبيّ قبلي، إلا كان حقًّا عليه أن يدُلّ أمته على ما يعلمه خيرًا لهم، ويُنذرهم ما يعلمه شرًّا لهم، ألا وإن عافية هذه الأمة في أولها، وسيصيب آخرها بلاء، وفِتَنٌ يُرَقِّق بعضها بعضًا، تجيء الفتنة، فيقول المؤمن: هذه مهلكتي، ثم تنكشف، ثم تجيء، فيقول: هذه، هذه، ثم تجيء، فيقول: هذه، هذه، ثم تنكشف، فمن أحبّ أن يُزَحْزَح عن النار، ويُدْخَل الجنةَ، فلتدركه منيّته، وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وياتي إلى الناس ما يُحِبّ أن يؤتى إليه، ومن بايع إمامًا فأعطاه صفقة يده، وثمرة قلبه، فليطعه إن استطاع - وقال مرّةً -: ما استطاع"، فلمّا سمعتها أدخلت رأسي بين رَجُلين، وقلت: فإن ابن عمك معاوية يأمرنا، فوضع جُمْعَه على جبهته، ثم نكس، ثم رفع رأسه، فقال: أطعه في طاعة الله، واعصه في معصية الله، قلت له: أنت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم، سمعته أذناي، ووعاه قلبي. انتهى

(2)

.

وأما رواية أبي معاوية، عن الأعمش، فساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده" أيضًا، فقال:

(6503)

- حدّثنا عبد الله، حدّثني أبي، ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن زيد بن وهب، عن عبد الرحمن بن عبد رب الكعبة، قال: انتهيت إلى عبد الله بن عمرو بن العاص، وهو جالس في ظل الكعبة، فسمعته يقول: بينا

(1)

هو: ولد الإمام أحمد، راوي "المسند" عنه.

(2)

"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 2/ 191.

ص: 141

نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، إذ نزل منزلًا، فمنا من يضرب خباءه، ومنا من هو في جَشَرَةٍ، ومنا من ينتضل، إذ نادى مناديه:"الصلاة جامعة"، قال: فاجتمعنا، قال: فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخطبنا، فقال:"إنه لم يكن نبيّ قبلي، إلا دلّ أمته على ما يعلمه خيرًا لهم، ويحذّرهم ما يعلمه شرًّا لهم، وإن أمتكم هذه جُعلت عافيتها في أولها، وإن آخرها سيصيبهم بلاء شديد، وأمور تنكرونها، تجيء فتن يُرَقِّق بعضها لبعض، تجيء الفتنة فيقول المؤمن: هذه مهلكتي، ثم تنكشف، ثم تجيء الفتنة، فيقول المؤمن: هذه، ثم تنكشف، فمن سرّه منكم أن يُزَحْزَحَ عن النار، وأن يُدْخَل الجنةَ، فلتدركه موتته، وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه، ومن بايع إمامًا، فأعطاه صفقة يده، وثمرة قلبه، فليطعه ما استطاع، فإن جاء آخر ينازعه، فاضربوا عنق الآخر"، قال: فأدخلت رأسي من بين الناس، فقلت: أنشدك بالله آنت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: فأشار بيده إلى أذنيه، فقال: سمعته أذناي، ووعاه قلبي، قال: فقلت: هذا ابن عمك معاوية - يعني: يأمرنا بأكل أموالنا بيننا بالباطل، وأن نقتل أنفسنا، وقد قال الله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} . قال: فجمع يديه، فوضعهما على جبهته، ثم نكس هُنَيَّةً، ثم رفع رأسه، فقال: أطعه في طاعة الله، واعصه في معصية الله عز وجل. انتهى

(1)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4769]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا أَبُو الْمُنْذِرِ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ، حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ الْهَمْدَانِيُّ، حَدَّثَنَا

(2)

عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي السَّفَرِ، عَنْ عَامِرٍ، عَنْ عَبْدِ الرحمن بْنِ عَبْدِ رَبِّ الْكَعْبَةِ الصَّائِدِيِّ

(3)

، قَالَ: رَأَيْتُ جَمَاعَةً عِنْدَ الْكَعْبَةِ، فَذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ الأَعْمَشِ).

(1)

"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 2/ 161.

(2)

وفي نسخة: "حدّثني".

(3)

وفي نسخة: "العائذيّ".

ص: 142

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ) النيسابوريّ، تقدّم قبل باب.

2 -

(أَبُو الْمُنْذِرِ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ) الواسطيّ، نزيل بغداد، ثقة [9].

رَوَى عن مالك بن أنس، ومالك بن مِغْوَل، والمسعوديّ، وعيسى بن طَهْمان، والثوريّ، وورقاء، ويونس بن أبي إسحاق، وداود بن قيس الفرّاء، وغيرهم.

ورَوَى عنه محمد بن سعد، ويحيى بن معين، وأحمد بن حنبل، ومحمد بن رافع، وأبو خيثمة، والحسن بن الصباح، وأحمد بن الوليد الفَحّام، وغيرهم.

قال أحمد بن منصور: قلت لأحمد: عمن أكتُبُ من المشيخة؟ قال: أبو المنذر إسماعيل بن عمر، قال: وكان عابدًا، ووثّقه ابن المدينيّ، وقال ابن معين: من تُجّار أهل واسط، ليس به بأس، وقال أبو حاتم: صدوقٌ، وقال أبو بكر الخطيب: كان ثقةً، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: مات بعد المائتين.

أخرج له البخاريّ في "خلق أفعال العباد"، والمصنّف، وأبو داود، والنسائيّ، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا برقم (1844)، وحديث (1935):"بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سريّة ثلاثمائة، وأمّر عليهم أبا عبيدة بن الجرّاح. . ." الحديث.

3 -

(يُونُسُ بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ عمرو بن عبد الله الْهَمْدَانِيُّ) السَّبِيعيّ، أبو إسرائيل الكوفيّ، صدوقٌ يَهِم قليلًا [5].

رَوَى عن أبيه، وأنس، وأبي بردة، وأبي بكر ابني أبي موسى الأشعريّ، وأبي السفر سعيد بن يُحْمِد، ويزيد بن أبي مريم، وإبراهيم بن محمد بن سعد، وغيرهم.

وروى عنه ابنه عيسى، والثوريّ، وابن المبارك، وابن مهديّ، والقطان، ووكيع، وأبو إسحاق الفزاريّ، والفضل بن موسى، وأبو المنذر إسماعيل بن عمر، وغيرهم.

قال عمرو بن عليّ، عن ابن مهديّ: لم يكن به بأس، قال: وحدّث عنه

ص: 143

يحيى، وعبد الرحمن، وقال صالح بن أحمد، عن عليّ ابن المدينيّ: سمعت يحيى، وذكر يونس بن أبي إسحاق، فقال: كانت فيه غفلة شديدة، وقال الأثر: سمعت أحمد يضعّف حديث يونس، عن أبيه، وقال: حديث إسرائيل أحب إليّ منه، وقال أبو طالب عن أحمد: في حديثه زيادة على حديث الناس، وقال عبد الله بن أحمد عن أبيه: حديثه مضطربٌ، وقال عثمان الدارميّ، عن ابن معين: ثقةٌ، قلت: فيونس، أو إسرائيل من أحب إليك؟ قال: كلٌّ ثقة، وقال إسحاق بن منصور وغيره، عن ابن معين: ثقةٌ، وقال أبو حاتم: كان صدوقًا، إلا أنه لا يُحتجّ بحديثه، وقال النسائيّ: ليس به بأسٌ، وقال ابن عديّ: له أحاديث حسان، وروى عنه الناس، وحديث أهل الكوفة عامته تدور على ذلك البيت، وقال ابن سعد: كانت له سُنَنٌ عاليةٌ، ورَوَى عن عامة رجال أبيه، وكان ثقةً إن شاء الله تعالى، وقال الساجيّ: صدوقٌ، كان يُقَدِّم عثمان على عليّ، وضعّفه بعضهم، وقال أبو أحمد الحاكم: ربما وَهِم في روايته، وقال العجليّ: جائز الحديث، وقال ابن شاهين في "الثقات": قال ابن معين: ليس به بأس، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: مات سنة تسع وخمسين ومائة، وكذا قال ابن سعد، وغيره في تاريخ وفاته، وقال ابن المدينيّ: مات سنة اثنتين، ويقال: سنة تسع، وقال ابن أبي عاصم: مات سنة ثمان وخمسين ومائة.

أخرج له البخاريّ في "جزء القراءة"، والمصنّف، والأربعة، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.

4 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي السَّفَرِ) - بفتح الفاء - واسمه سعيد بن يُحْمِد، ويقال: أحمد الْهَمْدانيّ الثوريّ الكوفيّ، ثقةٌ [6].

رَوَى عن أبيه، وأبي بردة بن أبي موسى، وعامر الشعبيّ، ومصعب بن شيبة، وأرقم بن شُرَحْبيل.

وروى عنه شعبة، وعُمر بن أبي زائدة، ويونس بن أبي إسحاق، وعيسى بن يونس، والثوريّ، وشريك، وغيرهم.

قال أحمد، وابن معين، والنسائيّ: ثقةٌ، وقال ابن سعد: مات في خلافة مروان بن محمد، قال: وكان ثقةً، وليس بكثير الحديث، وقال العجليّ: كوفيّ ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات".

ص: 144

أخرج له البخاريّ، والمصنّف، وأبو داود، والنسائيّ، وابن ماجه، وله في هذا الكتاب أربعة أحاديث فقط، هذا برقم (1844) وحديث (1929) و (2693) و (2711).

5 -

(عَامِرُ) بن شَرَاحيل الشَّعْبيّ، أبو عمرو الكوفيّ، ثقةٌ فقيهٌ مشهورٌ، فاضلٌ [3] مات بعد المائة، وله نحوٌ من ثمانين سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.

و"عبد الرحمن بن عبد ربّ الكعبة" ذُكر قبله.

وقوله: (الصَّائِدِيِّ) قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في جميع النسخ بالصاد، والدال المهملة، وكذا نقله القاضي عياض عن جميع النسخ، قال: وهو غلطٌ، وصوابه "العائذي" بالعين، والذال المعجمة، قاله ابن الحباب، والنسابة، هذا كلام القاضي، وقد ذكره البخاريّ في "تاريخه"، والسمعانيّ في "الأنساب"، فقالا: هو الصائديّ، ولم يذكرا غير ذلك، فقد اجتمع مسلم، والبخاريّ، والسمعانيّ على "الصائدي"، قال السمعانيّ: هو منسوب إلى صائدٍ بطنٍ من هَمْدان، قال: وصائد اسم كعب بن شُرَحْبيل بن شراحيل بن عَمْرو بن جُشَم بن حاشد بن جُشَم بن خيوان بن نوف بن همدان بن مالك بن زيد بن كهلان بن سلمة بن ربيعة بن الخيار بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ. انتهى

(1)

.

وقوله: (فَذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ الأَعْمَشِ) فاعل "ذَكَرَ" الظاهر أنه ضمير عبد الله بن أبي السفر.

[تنبيه]: رواية عامر الشعبيّ، عن عبد الرحمن بن عبد ربّ الكعبة هذه ساقها أبو عوانة رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(7149)

- حدّثنا أبو فروة الرهاويّ، قال: ثنا أبو الجوّاب، قال: ثنا يونس بن أبي إسحاق الهمدانيّ، قال: حدّثني عبد الله بن أبي السَّفَر، عن عامر الشعبيّ، عن عبد الرحمن بن عبد رب الكعبة، قال: رأيت جماعةً عند الكعبة، فأقبلت، فإذا شيخ يحدِّثهم، وإذا هو عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فنزل الناس، فنزلنا، فمنا من يبني خباءه، ومنا من ينتضل، ومنا من هو في جَشَرةٍ، إذ نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم:

(1)

"شرح النوويّ" 12/ 235، و "الأنساب" للسمعانيّ 3/ 525.

ص: 145

"الصلاة جامعة"، فانتهيت إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو يقول: "إنه لم يكن نبيّ قبلي، إلا حقّ على الله أن ينصر

(1)

أمته ما يعلم أنه خير لهم، ويحذِّرهم، أو ينذرهم ما يرى أنه شرّ لهم، ألا وإن أمتكم جُعلت عافيتها في أولها، ألا وتكون فتن، وأمور يرمق بعضها بعضًا، فتجيء الفتنة فيقول المؤمن: هذه مهلكتي، ثم تنكشف، وتجيء الأخرى، فيقول المؤمن: هذه مهلكتي، فمن سرّه أن يُزَحْزَح من النار، ويُدْخَل الجنةَ، فلتدركه منيّته، وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأت إلى الناس ما يحب أن يؤتى إليه، ومن أعطى إمامًا صفقة يمينه، وثمرة قلبه، فليطعه ما استطاع، فإن خالف عليه رجل، فاجلدوا رأسه"، قال: ففرجت بين رجلين، فقلت: أنت سمعت هذا من رسول الله- صلى الله عليه وسلم؟، قال: نعم، سمعته أذناي، ووعاه قلبي، قال: فقلت: كيف يأمرنا هذا ابن عمك معاوية؟ فذكر مثله، فوضع يده على جبهته، ثم قال: اذهبوا، فأطيعوه ما أطاع الله، واعصوه إذا عصى الله. انتهى

(2)

، والله تعالى أعلم.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}

(11) - (بَابُ الأَمْرِ بِالصَّبْرِ عِنْدَ ظُلْمِ الْوُلَاةِ، وَاسْتِئْثَارِهِمْ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4770]

(1845) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَمُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: سَمِعْتُ قَتَادَةَ يُحَدِّثُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ، أَن رَجُلًا مِنَ الأَنْصَارِ خَلَا بِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: أَلَا تَسْتَعْمِلُنِي، كَمَا اسْتَعْمَلْتَ فُلَانًا؟ فَقَالَ: "إِنَّكُمْ سَتَلْقَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً، فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي عَلَى الْحَوْضِ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(قَتَادَةُ) بن دعامة السَّدُوسيّ، أبو الخطّاب البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ،

(1)

هكذا النسخة، والظاهر أنه مصحّف من "أن يُخْبِر. . . إلخ"، فليُحرّر، والله تعالى أعلم.

(2)

"مسند أبي عوانة" 4/ 414.

ص: 146

يُدلّس، من رؤوس الطبقة [4](ت 7 أو 118)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 70.

2 -

(أنَسُ بْنُ مَالِكِ) بن النضر الأنصاريّ الخزرجيّ الخادم الشهير، مات رضي الله عنه سنة (2 أو 93) وقد جاوز المائة (ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.

3 -

(أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرِ) بن سِماك بن عَتيك الأنصاريّ الأشهليّ، أبو يحيى الصحابيّ الجليل، مات رضي الله عنه سنة (20 أو 21)(ع) تقدم في "الحيض" 3/ 700.

والباقون تقدّموا في الباب الماضي.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسلٌ بالبصريين، وبالتحديث والسماع من أوله إلى آخره، فقد صرّح قتادة بالسمع في السند التالي، وله فيه شيخان قَرَنَ بينهما؛ لاتّحاد كفيّة التحمّل والأداء، وهما من التسعة الذين اتّفق الجماعة على الرواية عنهم بلا واسطة، وقد تقدّموا غير مرّة، وفيه رواية صحابيّ عن صحابيّ، وفيه أنس رضي الله عنه الخادم الشهير خَدَمَ رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين، فنال بركة دعوته، فطال عمره، وكثر أولاده، وأمواله، وهو من المكثرين السبعة، روى (2286) حديثًا، وهو آخر من مات من الصحابة رضي الله عنهم بالبصرة، وأن أُسيد بن حضير رضي الله عنه من أفاضل الصحابة، وممن شهد العقبة الثانية، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ) رضي الله عنه، صرّح قتادة بالسماع عنه في الرواية التالية، (عَنْ أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ) بتصغير الاسمين، قال في "الفتح": هو من رواية صحابيّ عن صحابيّ، وقد رواه يحيى بن سعيد، وهشام بن زيد، عن أنس بدون ذكر أُسيد بن حُضير، لكن باختصار القصة التي هنا، وذكر كل منهما قصةً أخرى غير هذه، قال: ووقع لهذا الحديث قصة أخرى من وجه آخر فأخرج الشافعي من رواية محمد بن إبراهيم التيميّ إلى أُسيد بن حُضير: "طَلَب من النبيّ صلى الله عليه وسلم لأهل بيتين من الأنصار، فأَمَر لكل بيت بوسق من تمر، وشطر من شعير، فقال أسيد: يا رسول الله جزاك الله عنا خيرًا، فقال: وأنتم فجزاكم الله خيرًا يا معشر الأنصار، وإنكم لأَعِفّة صُبْرٌ، وإنكم ستلقون بعدي أثرةً. . ." الحديث،

ص: 147

وقوله: "إنكم لأَعِفّة صُبْرٌ"، أخرجه الترمذيّ، والحاكم، من وجه آخر، عن أنس، عن أبي طلحة، وسنده ضعيف

(1)

.

(أَنَّ رَجُلًا) لم يُعرف اسمه

(2)

. (مِنَ الأَنْصَارِ خَلَا بِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: أَلَا تَسْتَعْمِلُنِي)؛ أي: تجعلني عاملًا على الصدقة، أو على بلد، قال الأبّيّ رحمه الله: لعله قبل النهي عن سؤال الإمارة، أو بعده، ولم يبلغه، والظاهر أنه لم يُسعفه، وقد قال:"إنا لا نولّي عملنا من سأله"، ولم ينكر عليه سؤاله الإمارة كما أنكر على غيره، كما تقدّم، فلعله رأى أن الحامل له على السؤال إنما هو عدم الصبر على الأثرة. انتهى

(3)

.

(كَمَا اسْتَعْمَلْتَ فُلَانًا؟) لم يُعرف اسمه أيضًا، (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("إِنَّكُمْ سَتَلْقَوْنَ بَعْدِي أثَرَةً) - بفتح الهمزة، والمثلثة، أو بضم الهمزة، وسكون المثلثة - وأشار بذلك إلى أن الأمر يصير في غيرهم، فيختصون دونهم بالأموال، وكان الأمر كما وصف- صلى الله عليه وسلم، وهو معدود فيما أخبر به صلى الله عليه وسلم من الأمور الآتية، فوقع كما قال

(4)

.

والسر في جوابه صلى الله عليه وسلم عن طلب الولاية بقوله: "سترون بعدي أثرة" إرادة نفي ظنِّه أنه آثر الذي ولَّاه عليه، فَبَيَّن له أن ذلك لا يقع في زمانه صلى الله عليه وسلم، وإنه لم يخصه بذلك لذاته، بل لعموم مصلحة المسلمين، وأن الاستئثار للحظ الدنيويّ إنما يقع بعده، وأَمَرهم عند وقوع ذلك بالصبر

(5)

، فقال:(فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي عَلَى الْحَوْضِ) فيه بشارة للأنصار أنهم سَيَرِدُون حوضه صلى الله عليه وسلم

(6)

.

وقال السنديّ رحمه الله قوله: "إنكم ستلقون بعدي أثرة": اسم من الإيثار؛ أي: إن الأمراء بعدي يُفَضِّلون عليكم غيركم، يريد: أنك ظننت هذا القدر أثرة،

(1)

"الفتح" 8/ 493 - 494، كتاب "مناقب الأنصار" رقم (3792).

(2)

ذكر الحافظ في "الفتح"(8/ 494): أنه ذَكَر في "المقدمة" أن السائل أسيد بن حضير، والمستعمَل عمرو بن العاص، قال: ولا أدري الآن من أين نقلته؟ انتهى.

(3)

"شرح الأبّيّ" 5/ 191.

(4)

"الفتح" 8/ 493 - 494، كتاب "مناقب الأنصار" رقم (3792).

(5)

"الفتح" 16/ 441، كتاب "الفتن" رقم (7057).

(6)

"المفهم" 4/ 54.

ص: 148

وليس كذلك، ولكن الأثرة ما يكون بعدي، والمطلوب فيه منكم الصبر، فكيف تصبر إذا لم تقدر أن تصبر على هذا القدر؟ فعليك بالصبر به، حتى تقدر على الصبر فيما بعدُ، والحاصل: رآه مستعجلًا، فأرشده إلى الصبر على الإطلاق بألطف وجه. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أُسيد بن حضير رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [11/ 4770 و 4771 و 4772](1845)، و (البخاريّ) في "مناقب الأنصار"(3793) و"الفتن"(7057)، و (النسائيّ) في "آداب القضاء"(5385) و"الكبرى"(3/ 464 و 5/ 91)، و (الترمذيّ) في "الفتن"(2284)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1/ 265)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(6/ 306 و 7/ 476)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 351 و 352)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 415)، و (ابن أبي عاصم) في "السُّنّة"(2/ 350)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(8/ 159)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان الأمر بالصبر عند ظلم الولاة، واستئثارهم.

2 -

(ومنها): بيان معجزة النبيّ صلى الله عليه وسلم حيث أخبر بما سيكون بعده، فوقع طِبْق ما أخبر به.

3 -

(ومنها): بيان منقبة الأنصار، حيث مَدَحهم النبيّ صلى الله عليه وسلم كما سبق في رواية الشافعيّ:"يا معشر الأنصار إنكم لَأَعِفّةٌ صُبْرٌ"، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4771]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ حَبِيبٍ الْحَارِثِيُّ، حَدَّثَنَا خَالِدٌ - يَعْنِي: ابْنَ الْحَارِثِ - حَدَّثَنَا شُعْبَةُ بْنُ الْحَجَّاجِ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسًا يُحَدِّثُ عَنْ أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ، أَنَّ رَجُلًا مِنَ الأَنْصَارِ خَلَا بِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، بِمِثْلِهِ).

(1)

"حاشية السنديّ على النسائيّ" 8/ 225.

ص: 149

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ حَبِيبٍ الْحَارِثِيُّ) البصريّ، ثقةُ [10](ت 248) أو بعدها (م 4) تقدم في "الإيمان" 14/ 165.

2 -

(خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ) بن عُبيد بن سُليم الْهُجيميّ، أبو عثمان البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 186)(ع) تقدم في "الإيمان" 35/ 243.

والباقون ذُكروا قبله.

[تنبيه]: رواية خالد بن الحارث، عن شعبة، ساقها النسائيّ رحمه الله في "المجتبى"، فقال:

(5385)

- أخبرنا محمد بن عبد الأعلى، قال: حدّثنا خالد، قال: حدّثنا شعبة، عن قتادة، قال: سمعت أنسًا يُحَدِّث عن أُسيد بن حُضير، أن رجلًا من الأنصار جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ألا تستعملني، كما استعملت فلانًا؟ قال:"إنكم ستلقون بعدي أثرةً، فاصبروا، حتى تلقوني على الحوض". انتهى

(1)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4772]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِيهِ عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، بِهَذَا الإِسْنَادِ، وَلَمْ يَقُلْ: خَلَا بِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم).

رجال هذا الإسناد: ثلاثة:

1 -

(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذِ) بن نصر بن حسّان الْعَنْبريّ، أبو عمرو البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 237)(خ م د س) تقدم في "المقدمة" 3/ 7.

2 -

(أَبُوهُ) معاذ بن معاذ بن نصر بن حسّان الْعَنْبريّ، أبو المثنَّى البصريّ القاضي، ثقةٌ متقنٌ، من كبار [9](ت 196)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 7.

و"شعبة" ذُكر قبله.

[تنبيه]: رواية معاذ بن معاذ، عن شعبة هذه لم أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}

(1)

"سنن النسائيّ""المجتبى" 8/ 224.

ص: 150

(12) - (بابٌ فِي طَاعَةِ الأُمَرَاءِ، وَإِنْ مَنَعُوا الْحُقُوقَ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4773]

(1846) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَمُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ وَائِلٍ الْحَضْرَمِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: سَأَلَ سَلَمَةُ بْنُ يَزِيدَ الْجُعْفِيُّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا نَبِيَّ الله أَرَأَيْتَ إِنْ قَامَتْ عَلَيْنَا أُمَرَاءُ، يَسْأَلُونَا حَقَّهُمْ، وَيَمْنَعُونَا حَقَّنَا، فَمَا تَأْمُرُنَا؟ فَأَعْرَضَ عَنْهُ، ثُمَّ سَأَلَهُ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ، ثُمَّ سَأَلَهُ فِي الثَّانِيَةِ، أَوْ فِي الثَّالِثَةِ، فَجَذَبَهُ الأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ، وَقَالَ: "اسْمَعُوا، وَأَطِيعُوا، فَإِنَّمَا عَلَيْهِمْ مَا حُمِّلُوا، وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(سِمَاكُ بْنُ حَرْبِ) بن أوس بن خالد الذُّهْليّ، أبو المغيرة الكوفيّ، صدوقٌ، وروايته عن عكرمة خاصّةً مضطربةٌ، وقد تغيّر بآخره، فكان ربّما تلقّن [4](ت 123)(خت م 4) تقدم في "الإيمان" 64/ 365.

2 -

(عَلْقَمَةُ بْنُ وَائِلٍ الْحَضْرَمِيُ) الكوفيّ، صدوقٌ [3](ي م 4) تقدم في "الإيمان" 64/ 365.

3 -

(أَبُوهُ) وائل بن حُجْر بن سعد بن مرزوق الحضرميّ الصحابيّ الجليل، كان من ملوك اليمن، ثم سكن الكوفة، ومات في خلافة معاوية رضي الله عنهما (ر م 4) تقدم في "الإيمان" 64/ 365.

والباقون ذُكروا في الباب الماضي.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وأن نصفه الأول مسلسل بالبصريين، والثاني بالكوفيين، وأن شيخيه من التسعة الذين روى عنهم الجماعة بلا واسطة، كما سبق قبل حديثين، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، والابن عن أبيه.

ص: 151

شرح الحديث:

(عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ وَائِلٍ الْحَضْرَمِيِّ عَنْ أَبِيهِ) والصحيح أن علقمة سمع من أبيه، (قَالَ: سَأَلَ سَلَمَةُ بْنُ يَزِيدَ الْجُعْفِيُّ) قال في "تهذيب التهذيب": سلمة بن يزيد بن مشجعة بن المجمع بن مالك بن كعب بن سعد بن عوف بن خريم بن جُعْفيّ الجعفيّ، ويقال: يزيد بن سلمة، والأول أصحّ، صحابيّ نزل الكوفة، وكان وفد على النبيّ صلى الله عليه وسلم وحدّث عنه، وروى عنه علقمة بن قيس، وعلقمة بن وائل بن حُجْر، ويزيد بن مُرّة الجهنيّ، له ذكر في "صحيح مسلم" في هذا الحديث فقط، وروى له أبو داود في "القدر"، والنسائيّ حديثًا واحدًا:"قلنا: يا رسول الله إن أمنا مُليكة كانت تصل الرحم. . ." الحديث، وهو مما ألزم الدارقطنيّ الشيخين إخراجه؛ لصحّة الطريق إليه، صحّحه جماعة، وقال المرزبانيّ: وفد هو وأخوه لأمه قيس بن سلمة بن شَراحيل، فأسلما، واستَعْمل النبيّ صلى الله عليه وسلم قيسًا على بني مروان، وكتب له كتابًا. انتهى بزيادة من "الإصابة"

(1)

.

(رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم) بالنصب على المفعوليّة لـ "سأل"، (فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللهِ أَرَأَيْتَ إِنْ قَامَتْ عَلَيْنَا أُمَرَاءُ، يَسْأَلُونَا حَقَّهُمْ، وَيَمْنَعُونَا حَقَّنَا) هكذا في أكثر النسخ:"يسألونا"، و"يمنعونا" بنون واحدة، على حذف نون الوقاية، وهو جائز في مثل هذا الفعل، وبعضهم يرى أن المحذوف نون الرفع، والأرجح أنها نون الوقاية؛ لأنها منشأ الثقل، ووقع في بعض النسخ بنونين، وهو ظاهر، ومعنى:"يسألونا حقّهم"؛ أي: يطلبون منا أن نوفّيهم الحقّ الذي وجب لهم، من السمع والطاعة، ونحو ذلك، و"يمنعونا حقّنا"؛ أي: من العدل، وإعطاء الغنيمة، ونحو ذلك. (فَمَا تَأْمُرُنَا؟)؛ أي: أيّ شيء تأمرنا به أن نفعله تجاههم؟ (فَأَعْرَضَ عَنْهُ)؛ أي: ترك النبيّ صلى الله عليه وسلم إجابة سؤاله، قيل: يَحْتمل أن يكون هذا الإعراض انتظارًا للوحي، ويَحْتَمِل أن يكون النبيّ صلى الله عليه وسلم تلمّس من لهجة السائل، وكيفيّة سؤاله أنه يريد الاستئذان في الخروج على مثل هؤلاء الأئمة، فكان الإعراض إنكارًا على ذلك، ولا يقال: إن فيه تأخيرَ البيان عن وقت الحاجة؛

(1)

راجع: "تهذيب التهذيب" 2/ 80، و"الإصابة" 3/ 131 - 132.

ص: 152

لأنه صلى الله عليه وسلم أجاب عنه في نفس المجلس

(1)

، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

وقال القرطبيّ رحمه الله: سكوتُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم عن السائل حتى كرّر السؤال ثلاثًا، يَحْتَمِل أن يكون لأنه كان ينتظر الوحي، أو لأنه كان يستخرج من السائل حرصه على مسألته، واحتياجه إليها، أو لأنه كَرِه تلك المسألة؛ لأنها لا تصدر في الغالب إلا من قلب فيه تشوّف لمخالفة الأمراء، والخروج عليهم. انتهى

(2)

.

(ثُمَّ سَأَلَهُ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ، ثُمَّ سَأَلَهُ فِي الثَّانِيَةِ، أَوْ فِي الثَّالِثَةِ، فَجَذَبَهُ الأَشْعَثُ بْنُ قَيْسِ) بن معدي كرب الْكِنديّ، أبو محمد الصحابيّ، نزل الكوفة، ومات سنة (40 أو 41 أو 46) تقدّم في "الإيمان" 64/ 362.

والمعنى: أنه لَمّا رأى الأشعث رضي الله عنه إعراض النبيّ صلى الله عليه وسلم عن الجواب عن سؤاله جذبه إلى نفسه؛ ليمنعه عن الاستمرار على السؤال؛ مخافة أن يسخط النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولكنه صلى الله عليه وسلم أجاب عن سؤاله (وَقَالَ: "اسْمَعُوا) قولهم، (وَأَطِيعُوا) أمْرهم، أو اسمعوا ظاهرًا، وأطيعوا باطنًا، (فَإِنَّمَا عَلَيْهِمْ مَا حُمِّلُوا) - بتشديد الميم مبنيًّا للمفعول -؛ أي: ما كُلِّفُوا به من العدل، وإعطاء الرعية حقّهم، (وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ) بضبط ما قبله؛ أي: كُلّفتم به، قال الطيبيّ: قدَّم الجارّ والمجرور على عامله؛ للاختصاص؛ أي ليس على الأمراء إلا ما حمّلهم الله، وكَلَّفهم به من العدل والتسوية، فإذا لم يقوموا بذلك فعليهم الوزر والوبال، وأما أنتم فعليكم ما كُلِّفتم به من السمع والطاعة، وأداء الحقوق، فإذا قمتم بما عليكم فالله تعالى يتفضل عليكم، ويثيبكم به.

وقال القرطبيّ رحمه الله: يعني: أن الله تعالى كلَّف الولاة العدل، وحسن الرعاية، وكلّف المُوَلَّى عليهم الطاعة، وحسن النصيحة، فأراد أنه إن عصى الأمراءُ اللهَ فيكم، ولم يقوموا بحقوقكم، فلا تعصوا الله أنتم فيهم، وقوموا بحقوقهم، فإن الله مُجازٍ كل واحدٍ من الفريقين بما عَمِلَ. انتهى

(3)

.

وقال المباركفويّ رحمه الله في "شرح الترمذيّ": "وإنما عليكم ما حُمِّلتم"؛

(1)

راجع: "تكملة فتح الملهم" 3/ 341.

(2)

"المفهم" 4/ 55.

(3)

"المفهم" 4/ 55.

ص: 153

أي: من الطاعة، والصبر على البلية، وكأن الحديث مقتبس من قوله تعالى:{قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (54)} [النور: 54] انتهى

(1)

.

وحاصله أنه يجب على كلّ أحد أداء ما كُلِّف به، ولا يجوز أن يتعدّ حدوده، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث وائل بن حُجْر الحضرميّ رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [12/ 4773 و 4774](1846)، و (الترمذيّ) في "الفتن"(2295)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1/ 137)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(7/ 467)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(7/ 40 و 12/ 16 و 242)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 415)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(8/ 158) و"شعب الإيمان"(6/ 61)، وفوائده تقدّمت، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4774]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا شَبَابَةُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سِمَاكٍ، بِهَذَا الإِسْنَادِ، مِثْلَهُ، وَقَالَ: فَجَذَبَهُ الأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "اسْمَعُوا، وَأَطِيعُوا، فَإِنَّمَا عَلَيْهِمْ مَا حُمِّلُوا، وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ").

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم قبل باب.

2 -

(شَبَابَةُ) بن سَوَّار المدائنيّ، تقدّم قبل بابين.

والباقيان ذُكرا قبله.

[تنبيه]: رواية شبابة بن سَوّار، عن شعبة هذه ساقها أبو عوانة رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(1)

"تحفة الأحوذيّ" 6/ 368.

ص: 154

(7152)

- حدّثنا عباس الدُّوريّ، قثنا شبابة بن سوّار، قال: ثنا شعبة، عن سماك، عن علقمة بن وائل، عن أبيه رضي الله عنه، قال: سأل يزيد بن سلمة الأشجعيّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أرأيت إن قامت علينا أمراء، يسألونا حقّهم، ويمنعونا حقّنا، فأعرض عنه النبيّ صلى الله عليه وسلم، ثم سأله، فأعرض عنه، ثم سأل، فجذبه الأشعث بن قيس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"اسمعوا، فإنما عليهم ما حُمِّلوا، وعليكم ما حُمِّلتم". انتهى

(1)

.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}

(13) - (بَابُ وُجُوب مُلَازَمَةِ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ عِنْدَ ظُهُورِ الْفِتَنِ، وَفِي كُلِّ حَالٍ، وَتَحْرِيمِ الْخُرُوجِ مِنَ الطَّاعَةِ، وَمُفَارَقَةِ الْجَمَاعَةِ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4775]

(1847) - (حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرحْمَنِ بْنُ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ، حَدَّثَنِي بُسْرُ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ الْحَضْرَمِيُّ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيَّ يَقُولُ: سَمِعْتُ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ يَقُولُ: كَانَ النَّاسُ يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْخَيْرِ، وَكُنْتُ أَسْأَلُهُ عَنِ الشَّرِّ؛ مَخَافَةَ أَنْ يُدْرِكَنِي، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله، إِنَّا كُنَّا فِي جَاهِلِيَّةٍ وَشَرٍّ، فَجَاءَنَا اللهُ بِهَذَا الْخَيْرِ، فَهَلْ بَعْدَ هَذَا الْخَيْرِ شَرٌّ؟، قَالَ:"نَعَمْ"، فَقُلْتُ: هَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الشَّرِّ مِنْ خَيْرٍ؟ قَالَ: "نَعَمْ، وَفِيهِ دَخَنٌ"، قُلْتُ: وَمَا دَخَنُهُ؟ قَالَ: "قَوْمٌ يَسْتَنُّونَ بِغَيْرِ سُنَّتِي، وَيَهْدُونَ بِغَيْرِ هَدْيِي، تَعْرِفُ مِنْهُمْ وَتُنْكِرُ"، فَقُلْتُ: هَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الْخَيْرِ مِنْ شَرٍّ؟ قَالَ: "نَعَمْ، دُعَاةٌ عَلَى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ، مَنْ أَجَابَهُمْ إِلَيْهَا قَذَفُوهُ فِيهَا"، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ صِفْهُمْ لَنَا، قَالَ:"نَعَمْ، قَوْمٌ مِنْ جِلْدَتِنَا، وَيَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَتِنَا"، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، فَمَا تَرَى

(2)

إِنْ أَدْرَكَنِي ذَلِكَ؟ قَالَ: "تَلْزَمُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ، وَإِمَامَهُمْ"، فَقُلْتُ: فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ جَمَاعَةٌ، وَلَا إِمَامٌ؟ قَالَ: "فَاعْتَزِلْ تِلْكَ الْفِرَقَ كُلَّهَا، وَلَوْ أَنْ

(1)

"مسند أبي عوانة" 4/ 415.

(2)

وفي نسخة: "فما تأمرني".

ص: 155

تَعَضَّ عَلَى أَصْلِ شَجَرَةٍ، حَتَّى يُدْرِكَكَ الْمَوْتُ، وَأَنْتَ عَلَى ذَلِكَ").

رجال هذا الإسناد: ستّةٌ:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ) القرشيّ مولاهم، أبو العبّاس الدمشقيّ، ثقةٌ، لكنه كثير التدليس والتسوية [8](ت 4 أو 195)(ع) تقدم في "الإيمان" 10/ 144.

3 -

(عَبْدُ الرحْمَنِ بْنُ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ) الأزديّ، أبو عُتبة الشاميّ الدارانيّ، ثقة [7] مات سنة بضع و (150)(ع) تقدم في "الإيمان" 10/ 148.

4 -

(بُسْرُ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ الْحَضْرَمِيُّ) الشاميّ، ثقةٌ حافظٌ [4](ع) تقدم في "الصلاة" 31/ 1001.

5 -

(أَبُو إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيُّ) عائذ الله بن عبد الله، ثقةٌ [2](ت 80)(ع) تقدم في "الطهارة" 6/ 559.

6 -

(حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ) اسم أبيه حُسيل - مصغرًا - أو حِسْل الْعَبْسيّ، حليف الأنصار الصحابيّ الجليل، وأبوه أيضًا صحابيّ رضي الله عنهما، مات سنة (36)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 457.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وهو سند البخاريّ في "صحيحه"، فقد أخرجه عن شيخه، وهو مسلسلٌ بالشاميين، غير شيخه، فبصريّ، والصحابي مدائنيّ، ومسلسلٌ أيضًا بالتحديث والسماع، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ مخضرم، وفيه حذيفة رضي الله عنه ابن صحابيّ، ومن أكابر الصحابة رضي الله عنهم، ومن السابقين إلى الإسلام، وصحّ في "صحيح مسلم" أنه صلى الله عليه وسلم أعلمه بما كان وما يكون إلى أن تقوم الساعة، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

عن بُسْرِ بْنِ عُبَيْدِ اللهِ الْحَضْرَمِيِّ (أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيَّ) عائذ الله بن عبد الله، وُلد في حياة النبيّ صلى الله عليه وسلم يوم حنين، وسمع من كبار الصحابة، قال سعيد بن عبد العزيز: كان عالم الشام بعد أبي الدرداء رضي الله عنه. (يَقُولُ: سَمِعْتُ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ) رضي الله عنهما (يَقُولُ: كَانَ النَّاسُ يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم. عَنِ الْخَيْرِ، وَكُنْتُ أَسْأَلُهُ عَنِ الشَّرِّ) قال القرطبيّ رحمه الله: يعني: أنه كان أكثر مسائل الناس

ص: 156

عن الخير، وكانت أكثر مسائله عن الشر، وإلَّا فقد سأل غيره رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كثير من الشر، وقد كان حذيفة أيضًا يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كثير من الخير، والخير والشر المعْنِيّان في هذا الحديث إنما هما استقامة أمر دِين هذه الأمة، والفتن الطارئة عليها؛ بدليل باقي الحديث، وجواب النبيّ صلى الله عليه وسلم له بذلك. انتهى

(1)

.

(مَخَافَةَ أَنْ يُدْرِكَنِي) وفي رواية نصر بن عاصم، عن حذيفة، عند ابن أبي شيبة:"وعَرَفت أن الخير لن يسبقني".

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "مخافة أن يدركني" يدلّ على حزم حذيفة رضي الله عنه، وأخْذه بالحذر، وذلك: أنه كان يتوقع موت النبيّ صلى الله عليه وسلم، فيتغير الحال، وتظهر الفتن، كما اتفق، وفيه دليل: على فرض المسائل، والكلام عليها قبل وقوعها، إذا خيف مَوْتُ العالم. انتهى

(2)

.

(فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّا كُنَّا فِي جَاهِلِيَّةٍ وَشَرٍّ) يشير إلى ما كان قبل الإسلام، من الكفر، وقَتْل بعضهم بعضًا، ونَهْب بعضهم بعضًا، وإتيان الفواحش، (فَجَاءَنَا اللهُ بِهَذَا الْخَيْرِ)؛ يعني: الإيمان، والأمن، وصلاح الحال، واجتناب الفواحش، وفي رواية أبي سلّام، عن حذيفة التالية:"فجاء الله بخير، فنحن فيه"، (فَهَلْ بَعْدَ هَذَا الْخَيْرِ شَرٌّ؟، قَالَ: "نَعَمْ") في رواية نصر بن عاصم: "فتنة"، وفي رواية سبيع بن خالد، عن حذيفة، عند ابن أبي شيبة:"فما العصمة منه؟ قال: السيف، قال: فهل بعد السيف من تَقِيَّة؟ قال: نعم، هُدْنة"، والمراد بالشرّ: ما يقع من الفتن من بعد قتل عثمان، وهَلُمّ جَرّا، أو ما يترتب على ذلك من عقوبات الآخرة

(3)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: يعني به: الطارئة بعد انقراض زمان الخليفتين، والصدر من زمان عثمان رضي الله عنهم، كما تقدّم

(4)

.

(فَقُلْتُ: هَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الشَّرِّ مِنْ خَيْرٍ؟ قَالَ:، نَعَمْ، وَفِيهِ دَخَنٌ") - بفتح

(1)

"المفهم" 4/ 55.

(2)

"المفهم" 4/ 55.

(3)

"الفتح" 16/ 485، كتاب "الفتن" رقم (7084).

(4)

"المفهم" 4/ 55.

ص: 157

الدال المهملة، ثم الخاء المعجمة، بعدها نون - وهو الحقد، وقيل: الدَّغَلُ، وقيل: فساد في القلب، ومعنى الثلاثة متقارب، يشير إلى أن الخير الذي يجيء بعد الشرّ لا يكون خيرًا خالصًا، بل فيه كَدَرٌ، وقيل: المراد بالدَّخَن: الدُّخان، ويشير بذلك إلى كدر الحال، وقيل: الدخن كل أمر مكروه، وقال أبو عبيد: يفسر المراد بهذا الحديث الحديثُ الآخر: "لا ترجع قلوب قوم على ما كانت عليه"، وأصله أن يكون في لون الدابة كُدُورةٌ، فكأن المعنى: أن قلوبهم لا يصفو بعضها لبعض، ولا يزول خبثها، ولا ترجع إلى ما كانت عليه من الصفا

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "فهل بعد ذلك الشرّ من خير؟ قال: نعم، وفيه دخن" بفتح الدال، والخاء لا غير، وهو عبارةٌ عن الكدر، ومنه قولهم: هُدْنَةٌ على دخنٍ، حَكَى معناه أبو عبيد، وقيل: هي لغة في الدُّخان، ومنه الحديث، وذكر فتنة فقال:"دَخَنُهَا من تحت قدمِي، رجلٌ من أهل بيتي. . ."

(2)

.

وقيل: إنَّ خبر حذيفة هذا إشارةٌ إلى مُدَّة عمر بن عبد العزيز، قال القرطبيّ: وفيه بُعْدٌ، بل الأَولى أن الإشارة بذلك إلى مُدّة خلافة معاوية، فإنها كانت تسع عشرة سنة وثلاثة أشهر، وهي مدّة الهدنة التي كان فيها الدَّخن؛ لأنه لمّا بايع الحسنُ معاويةَ، واجتمع الناس عليه كره ذلك كثير من الناس بقلوبهم، وبقيت الكراهة فيهم، ولم تُمكِنُهم المخالفة في مدة معاوية، ولا إظهارها إلى زمن يزيد بن معاوية، فأظهرها كثير من الناس، ومدة خلافة معاوية كان الشرّ فيها قليلًا، والخير غالبًا، فعليهم يصدق قوله صلى الله عليه وسلم:"تَعْرِف منهم، وتُنْكِر"، وأمَّا خلافة ابنه فهي أول الشرِّ الثالث، ويزيد، وأكثر ولاته، ومَن بعده من خلفاء بني أميةَ هم الذين يَصْدُق عليهم أنّهم:"دُعَاةٌ على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها"، فإنهم لم يسيروا بالسَّواء، ولا عدلوا في القضاء؛ يدلّ على ذلك تَصَفُّحُ أخبارهم، ومطالعة سِيَرهم، ولا يُعْتَرضُ على هذا بمدة خلافة

(1)

"الفتح" 16/ 485، كتاب "الفتن" رقم (7084).

(2)

رواه أحمد 2/ 133، و"أبو داود"(4242).

ص: 158

عمر بن عبد العزيز، بأنها كانت خلافةَ عدلٍ؛ لِقِصَرها، ونُدُورها في بني أمية، فقد كانت سنتين وخمسة أشهر، فكأنَّ هذا الحديث لم يتعرض لها، والله أعلم. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: عندي أن مدة خلافة معاوية رضي الله عنه محلّ نظر، بل الأَولى حمله على مدّة خلافة عمر بن العزيز رحمه الله، كما لا يخفى على من تتبّع سِيَرهم، وسِيَر أهل زمانهم، والله تعالى أعلم.

(قُلْتُ: وَمَا دَخَنُهُ؟ قَالَ: "قَوْمٌ يَسْتَنُّونَ بِغَيْرِ سُنَّتِي، وَيَهْدُونَ) بفتح أوله (بِغَيْرِ هَدْيِي) بياء الإضافة بعد الياء للأكثر، وبياء واحدة مع التنوين للكشميهنيّ، والهدي: الهيئة، والسيرة، والطريقة، وفي رواية أبي سلّام التالية:"يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهداي، ولا يستنون بسنتي"، (تَعْرِفُ) بفتح أوله، وكسر ثالثه، من المعرفة. (مِنْهُمْ وَتُنْكِرُ) بضمّ أوله، وكسر ثالثه، من الإنكار؛ يعني: تعرف بعض أعمالهم، وتُنكر بعضها، وفي حديث أم سلمة رضي الله عنها الآتي:"ستكون أمراء، فتَعرفون، وتُنكرون، فمن كره برئ، ومن أنكَر سَلِم، لكن من رضي، وتابع". (فَقُلْتُ: هَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الْخَيْرِ مِنْ شَرٍّ؟ قَالَ: "نَعَمْ، دُعَاةٌ) بضمّ الدال المهملة: جمع داع، كقاضٍ وقُضاة؛ أي: يدعون الناس إلى غير الحقّ، (عَلَى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ) أَطْلَق عليهم ذلك باعتبار ما يؤول إليه حالهم، كما يقال لمن أمر بفعل مُحَرَّم: وَقَفَ على شفير جهنم، وحاصل المعنى: أنهم دعاة إلى الشرّ والفساد المؤدّي بصاحبه إلى دخول جهنّم، فالكلام تمثيل لتسويلهم، وتزيينهم للناس الأعمال التي تستوجب العذاب، فكأنهم إذ يدعون إلى تلك الأعمال وقوفٌ على أبواب جهنّم يدعون الناس إلى الدخول فيها، والله تعالى أعلم.

(مَنْ أَجَابَهُمْ إِلَيْهَا قَذَفُوهُ فِيهَا")؛ أي: رَمَوه في نار جهنّم، يعني بذلك مَن وافقهم على آرائهم، واتّبعهم على أهوائهم كانوا قائديه إلى النار. (فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ صِفْهُمْ لَنَا، قَالَ: "نَعَمْ، قَوْمٌ مِنْ جِلْدَتِنَا)؛ أي: من أنفسنا، وعشيرتنا، وقيل: معناه: من أهل ملّتنا، وقيل: من أبناء جنسنا، وفيه إشارة إلى أنهم من

(1)

"المفهم" 4/ 56.

ص: 159

العرب، وقال الداوديّ: أي: من بني آدم، وقال القابسيّ: معناه أنهم في الظاهر على ملتنا، وفي الباطن مخالفون، وجِلْدَة الشيء ظاهره، وهي في الأصل غشاء البدن، قيل: ويؤيد إرادة العرب أن السُّمْرة غالبة عليهم، واللون إنما يظهر في الجلد، ووقع في رواية أبي سلّام التالية:"فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين، في جثمان إنس"، وقوله:"جُثمان" بضم الجيم، وسكون المثلثة: هو الجسد، ويُطلق على الشخص.

قال القاضي عياض رحمه الله: المراد بالشر الأول: الفتن التي وقعت بعد عثمان، والمراد بالخير الذي بعده: ما وقع في خلافة عمر بن عبد العزيز، والمراد بالذين تَعْرِف منهم وتُنكِر: الأمراء بعده، فكان فيهم من يتمسك بالسُّنَّة والعدل، وفيهم من يدعو إلى البدعة، ويعمل بالْجَوْر.

قال الحافظ رحمه الله: والذي يظهر أن المراد بالشر الأول: ما أشار إليه من الفتن الأولى، وبالخير: ما وقع من الاجتماع مع عليّ ومعاوية، وبالدَّخَن: ما كان في زمنهما من بعض الأمراء، كزياد بالعراق، وخلاف من خالف عليه من الخوارج، وبالدعاة على أبواب جهنم: من قام في طلب الملك، من الخوارج وغيرهم، وإلى ذلك الإشارة بقوله:"الزَمْ جماعة المسلمين، وإمامهم"؛ يعني: ولو جار، ويوضح ذلك رواية أبي سلّام:"ولو ضَرَب ظهرك، وأخذ مالك"، وكان مثل ذلك كثيرًا في إمارة الحجاج ونحوه

(1)

. (وَيَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَتِنَا")؛ أي: بالعربيّة، وفيه إشارة إلى أنهم من العرب، وقيل: معناه: يتكلّمون بلسان الشريعة، مما قال الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، وليس في قلوبهم شيء من الخير.

وقال القرطبيّ: يعني أنهم ينتمون إلى نَسَبِهِ، فإنهم من قريشٍ، ويتكلمون بكلام العرب، وكذلك كانت أحوال بني أُميَّة

(2)

.

(قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، فَمَا تَرَى) وفي بعض النسخ: "فما تأمرني"(إِنْ أَدْرَكَنِي ذَلِكَ؟ قَالَ: "تَلْزَمُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ، وَإِمَامَهُمْ") بكسر الهمزة؛ أي: أميرهم، زاد في رواية أبي سلّام: "تسمع، وتطيع وإن ضَرَب ظهرك، وأخذ

(1)

"الفتح" 16/ 485، كتاب "الفتن" رقم (7084).

(2)

"المفهم" 4/ 57.

ص: 160

مالك"، وكذا في رواية خالد بن سبيع، عند الطبرانيّ: "فإن رأيت خليفة فالزمه، وإن ضرب ظهرك، فإن لم يكن خليفة فالهرب".

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "تلزم جماعة المسلمين وإمامهم"؛ يعني: أنه متى اجتمع المسلمون على إمام، فلا يُخرَج عليه، وإنْ جَارَ؛ كما تقدّم، وكما قال في الرواية الأخرى:"فاسمع، وأطع"، وعلى هذا فتُشْهَد مع أئمة الْجَوْر الصلوات، والجمعات، والجهاد، والحج، وتُجْتَنَبُ معاصيهم، ولا يطاعون فيها

(1)

.

(فَقُلْتُ: فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ جَمَاعَةٌ، وَلَا إِمَامٌ؟) قال القرطبيّ رحمه الله: هذا إشارة إلى مثل الحالة التي اتفقت للناس عند موت معاوية بن يزيد بن معاوية، فإنه توفي لخمسٍ بقين من ربيع الأول سنة أربع وستين، ولم يَعْهَدْ لأحدٍ، وبَقِي الناس بعده بقية ربيع الأول، والجمادين، وأيامًا من رجب من السَّنة المذكورة، ولا إمام لهم، حتى بايع الناس بمكة لابن الزبير، وفي الشام لمروان بن الحكم

(2)

.

(قَالَ: "فَاعْتَزِلْ تِلْكَ الْفِرَقَ) بكسر الفاء، وفتح الراء: جمع فِرْقة، بكسر، فسكون؛ أي: الجماعة.

قال القرطبيّ رحمه الله: هذا أمرٌ بالاعتزال عند الفتن، وهو على جهة الوجوب؛ لأنه لا يَسْلَمُ الدِّينُ إلَّا بذلك، وهذا الاعتزال عبارة عن ترك الانتماء إلى من لم تتم إمامته من الفِرَق المختلفة، فلو بايع أهل الحلّ والعقد لواحدٍ موصوف بشروط الإمامة لانعقدت له الخلافة، وحَرُمت على كل أحدٍ المخالفة، فلو اختلف أهل الحلّ والعقد، فعقدوا لإمامين، كما اتَّفَق لابن الزبير ومروان؛ لكان الأول هو الأرجح، كما تقدَّم

(3)

.

(كُلَّهَا، وَلَوْ أَنْ تَعَضَّ عَلَى أَصْلِ شَجَرَةٍ) بفتح العين المهملة، وتشديد الضاد المعجمة؛ أي: ولو كان الاعتزال بالعضّ فلا تعدل عنه، و"تَعَضَّ" بالنصب للجميع، وضَبَطه بعضهم بالرفع، وتُعُقّب بأن جوازه متوقف على أن

(1)

"المفهم" 4/ 57.

(2)

"المفهم" 4/ 57.

(3)

"المفهم" 4/ 57 - 58.

ص: 161

يكون "أن" التي تقدمته مخففة من الثقيلة، وهنا لا يجوز ذلك؛ لأنها لا تلي "لَوْ"، نَبَّه عليه صاحب "المغني"، وفي رواية عبد الرحمن بن قُرط، عن حذيفة، عند ابن ماجه:"فلأن تموت، وأنت عاضّ على جِذْلٍ خير لك من أن تتّبع أحدًا منهم"، والْجِذل بكسر الجيم، وسكون المعجمة، بعدها لام: عود يُنصب لتحتكّ به الإبل

(1)

. (حَتَّى يُدْرِكَكَ الْمَوْتُ، وَأَنْتَ عَلَى ذَلِكَ")؛ أي: العضّ، وهو كناية عن لزوم جماعة المسلمين، وطاعة سلاطينهم، ولو عَصَوا، قال البيضاويّ: المعنى: إذا لم يكن في الأرض خليفة، فعليك بالعزلة، والصبر على تحمّل شدة الزمان، وعَضّ أصل الشجرة كناية عن مُكابدة المشقة، كقولهم: فلان يَعَضّ الحجارة من شدة الألم، أو المراد: اللزوم، كقوله في الحديث الآخر:"عَضُّوا عليها بالنواجذ"، ويؤيد الأول قوله في الحديث الآخر:"فلأن تموت وأنت عاضّ على جِذْل خير لك من أن تتّبع أحدًا منهم".

قال الجامع عفا الله عنه: حَمْل الحديث على ظاهره - كما قال بعضهم - هو الأَولى، فالمعنى: أن المعتزل إذا لم يجد شيئًا يأكله بسبب عزلته، حتى اضطرّ إلى أكل أصول الأشجار، فليفعل، ولا يمنعه ذلك من الاعتزال، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث حذيفة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [13/ 4775 و 4776](1847)، (والبخاريّ) في "المناقب"(3606 و 3607) و"الفتن"(7084)، و (ابن ماجه) في "الفتن"(4027)، و (الحاكم) في "المستدرك"(1/ 197)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 419)، و (البزّار) في "مسنده"(7/ 364)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(8/ 156 و 190)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(1)

"الفتح" 16/ 485، كتاب "الفتن" رقم (7084).

ص: 162

1 -

(منها): بيان وجوب ملازمة الجماعة عند ظهور الفتن، وتحريم الخروج على الأمراء، ولو ظلموا، قال النوويّ: وفي حديث حذيفة رضي الله عنه هذا لزوم جماعة المسلمين، وإمامهم، ووجوب طاعته، وإن فسق، وعَمِل المعاصي، من أخذ الأموال، وغير ذلك، فتجب طاعته في غير معصية.

2 -

(ومنها): أن فيه عَلَمًا من أعلام النبوّة، إذ أخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم حذيفة بأمور مختلفة من الغيب لا يعلمها إلا من أوحي إليه بذلك، من أنبيائه الذين هم صفوة خلقه، وهذه الأمور التي أخبر بها، قد وقعت كلها، كما أخبر

(1)

.

3 -

(ومنها): ما قاله ابن بطال رحمه الله: فيه حجة لجماعة الفقهاء في وجوب لزوم جماعة المسلمين، وتَرْك الخروج على أئمة الجور؛ لأنه وصف الطائفة الأخيرة بأنهم دعاة على أبواب جهنم، ولم يقل فيهم: تَعْرِف وتُنْكِر، كما قال في الأولين، وهم لا يكونون كذلك إلا وهم على غير حقّ، وأَمَر مع ذلك بلزوم الجماعة.

4 -

(ومنها): ما قال الطبريّ رحمه الله: اختُلِف في هذا الأمر، وفي الجماعة، فقال قوم: هو للوجوب، والجماعة: السواد الأعظم، ثم ساق عن محمد بن سيرين، عن أبي مسعود رضي الله عنه أنه وصى من سأله لَمّا قُتِل عثمان رضي الله عنه: عليك بالجماعة، فإن الله لم يكن. ليجمع أمة محمد صلى الله عليه وسلم على ضلالة، وقال قوم: المراد بالجماعة: الصحابة، دون مَن بعدهم، وقال قوم: المراد بهم: أهل العلم؛ لأن الله جعلهم حجةً على الخلق، والناس تَبَع لهم في أمر الدِّين، قال الطبريّ: والصواب أن المراد من الخبر: لزوم الجماعة الذين في طاعة من اجتَمَعوا على تأميره، فمن نكث بيعته خرج عن الجماعة، قال: وفي الحديث أنه متى لم يكن للناس إمام، فافترق الناس أحزابًا، فلا يتبع أحدًا في الفرقة، ويعتزل الجميع إن استطاع ذلك؛ خشيةً من الوقوع في الشرّ، وعلى ذلك يتنزل ما جاء في سائر الأحاديث، وبه يُجْمَع بين ما ظاهره الاختلاف منها، ويؤيده رواية عبد الرحمن بن قُرْط:"فلأن تموت وأنت عاضّ على جذل خير لك من أن تتّبع أحدًا منهم".

(1)

"التوضيح شرح الجامع الصحيح" لابن الملقّن رحمه الله 32/ 334.

ص: 163

5 -

(ومنها): فيه بيان حكمة الله في عباده، كيف أقام كلًّا منهم فيما شاء، فحبّب إلى أكثر الصحابة السؤال عن وجوه الخير؛ ليعملوا بها، ويبلّغوها غيرهم، وحبّب لحذيفة السؤال عن الشر؛ ليجتنبه، ويكون سببًا في دفعه عمن أراد الله له النجاة.

6 -

(ومنها): أن فيه سعةَ صدر النبيّ صلى الله عليه وسلم، ومعرفته بوجوه الْحِكَم كلها، حتى كان يجيب كل من سأله بما يناسبه.

7 -

(ومنها): أنه يؤخذ منه أن كل من حُبِّب إليه شيء، فإنه يفوق فيه غيره، ومن ثَمّ كان حذيفة رضي الله عنه صاحب السرّ الذي لا يعلمه غيره، حتى خُصّ بمعرفة أسماء المنافقين، وبكثير من الأمور الآتية.

8 -

(ومنها): أنه يؤخذ منه أيضًا أن من أدب التعليم أن يعلَّم التلميذ من أنواع العلوم ما يراه مائلًا إليه، من العلوم المباحة، فإنه أجدر أن يُسرع إلى تفهمه، والقيام به.

9 -

(ومنها): أن كل شيء يَهْدي إلى طريق الخير يسمى خيرًا، وكذا بالعكس.

10 -

(ومنها): أنه يؤخذ منه أيضًا ذمّ مَن جعل للدِّين أصلًا خلاف الكتاب والسُّنَّة، وجَعَلَهما فرعًا لذلك الأصل الذي ابتدعوه.

11 -

(ومنها): وجوب ردّ الباطل، وكل ما خالف الهدي النبويّ، ولو قاله من قاله من رفيع، أو وضيع، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4776]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَهْلِ بْنِ عَسْكَرٍ التَّمِيمِيُّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حَسَّانَ (ح) وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّارِمِيُّ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى - وَهُوَ ابْنُ حَسَّانَ - حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ - يَعْنِي ابْنَ سَلَّامٍ - حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ سَلَّامٍ، عَنْ أَبِي سَلَّامٍ، قَالَ: قَالَ حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّا كُنَّا بِشَرٍّ، فَجَاءَ اللهُ بِخَيْرٍ، فَنَحْنُ فِيهِ، فَهَلْ مِنْ وَرَاءِ هَذَا الْخَيْرِ شَرٌّ؟ قَالَ:"نَعَمْ"، قُلْتُ: هَلْ وَرَاءَ ذَلِكَ الشَّرِّ خَيْرٌ؟ قَالَ: "نَعَمْ"، قُلْتُ: فَهَلْ وَرَاءَ ذَلِكَ الْخَيْرِ شَرٌّ؟ قَالَ:

ص: 164

"نَعَمْ"، قُلْتُ: كَيْفَ؟ قَالَ: "يَكُونُ بَعْدِي أَئِمَّةٌ لَا يَهْتَدُونَ بِهُدَايَ، وَلَا يَسْتَنُّونَ بِسُنَّتِي، وَسَيَقُومُ فِيهِمْ رِجَالٌ قُلُوبُهُمْ قُلُوبُ الشَّيَاطِينِ، في جُثْمَانِ إِنْسٍ"، قَالَ: قُلْتُ: كَيْفَ أَصْنَعُ يَا رَسُولَ اللهِ، إِنْ أَدْرَكْتُ ذَلِكَ؟ قَالَ: "تَسْمَعُ، وَتُطِيعُ لِلأَمِيرِ

(1)

، وَإِنْ ضُرِبَ ظَهْرُكَ، وَأُخِذَ مَالُكَ، فَاسْمَعْ، وَأَطِعْ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ سَهْلِ بْنِ عَسْكَرٍ التَّمِيمِيُّ) مولاهم، أبو بكر البخاريّ، نزيل بغداد، ثقةٌ [11](ت 251)(م ت س) تقدم في "الصيام" 8/ 2535.

2 -

(يَحْيَى بْنُ حَسَّانَ) البصريّ، نزيل تِنِّيس، ثقةٌ [9](ت 208)(خ م د ت س) تقدم في "الحيض" 7/ 723.

3 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّارِمِيُّ) أبو محمد السمرقنديّ، ثقةٌ حافظ متقنٌ فاضلٌ [11](ت 255)(م د ت) تقدم في "المقدمة" 5/ 29.

4 -

(مُعَاوِيَةُ بْنُ سَلَّامٍ) - بتشديد اللام - ابن أبي سلّام، أبو سلّام الدمشقيّ، وكان يسكن حِمْصَ، ثقةٌ [7] مات في حدود (170)(ع) تقدم في "الإيمان" 49/ 309.

5 -

(زَيْدُ بْنُ سَلَّامِ) بن أبي سلّام الحبشيّ الدمشقيّ، ثقةٌ [6](بخ م 4) تقدم في "الطهارة" 1/ 540.

6 -

(أَبُو سَلَّامٍ) ممطورٌ الأسود الحبشيّ الدمشقيّ، ثقةٌ يُرسل [3](بخ م 4) تقدم في "الطهارة" 1/ 540.

و"حُذيفة" رضي الله عنه ذُكر قبله.

[تنبيه]: تكلّم الدارقطنيّ رحمه الله على هذا السند بأن أبا سلّام لم يسمع من حذيفة رضي الله عنه، فهو منقطع، قال رحمه الله في "التتبّع": وهذا عندي مرسلٌ - أي: منقطع - أبو سلّام لم يسمع من حذيفة، ولا من نظرائه الذين نزلوا العراق؛ لأن حذيفة تُوُفّي بعد قتل عثمان رضي الله عنه بليال، وقد قال فيه: قال حذيفة، فهذا يدلّ على إرساله.

قال الرشيد العطّار رحمه الله في "غرر الفوائد" بعد نقل كلام الدارقطنيّ

(1)

سقط من بعض النسخ قوله: "للأمير".

ص: 165

المذكور: وهذا الحديث قد أخرجه مسلم في "صحيحه" متّصلًا من وجه آخر، من حديث بُسْر بن عبد الله الحضرميّ الشاميّ، عن أبي إدريس الخولانيّ، عن حذيفة رضي الله عنه، وهو أتمّ من حديث أبي سلّام، وكذلك أخرجه البخاريّ في "صحيحه" أيضًا، فإن ثبت أن أبا سلّام لم يسمع من حذيفة، فقد بيّنّا أن هذا الحديث متّصلٌ في "الصحيحين" من حديث أبي إدريس، عن حذيفة رضي الله عنه، وبالله التوفيق. انتهى

(1)

.

وقال النوويّ بعد نقل كلام الدارقطنيّ أيضًا: وهو كما قال الدارقطنيّ، لكن المتن صحيح، متصل بالطريق الأول، وإنما أتى مسلم بهذا متابعةً كما ترى، وقد قدمنا في الفصول وغيرها أن الحديث المرسل إذا رُوي من طريق آخر متصلًا تبينّا به صحة المرسل، وجاز الاحتجاج به، ويصير في المسألة حديثان صحيحان. انتهى

(2)

.

وقوله: (فِي جُثْمَانِ إِنْسٍ) الْجُثمان بضمّ الجيم، وسكون الثاء المثلّثة: الجُثّة؛ يعني: في جسم الإنسان.

وقوله: (وَإِنْ ضُرِبَ ظَهْرُكَ، وَأُخِذَ مَالُكَ، فَاسْمَعْ، وَأَطِعْ)؛ يعني: أن ظُلمهم لنفسك، وأخْذهم لمالك لا يصلح مبرّرًا لخروجك عن طاعتهم، وبغيك عليهم.

[فإن قلت]: صحّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من قُتل دون ماله فهو شهيد"، متّفقٌ عليه، فكيف يوفّق بينه وبين هذا الحديث؟.

[أجيب]: بأن ذلك محمول على غير الأمراء، فيجوز أن يقاتِل الإنسان دون ماله، أو دون دمه، أو دون حريمه، فإن قُتل كان شهيدًا، وأما الأمراء فلا يقاتَلون، بل يجب دفع المال إليهم؛ دفعًا للفتنة؛ وبهذا يُجمع بين الحديثين، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد تقدّم تمام البحث فيه في الذي قبله، ولله الحمد والمنّة.

(1)

"غرر الفوائد" ص 53.

(2)

"شرح النوويّ" 12/ 235 - 236.

ص: 166

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4777]

(1848) - (حَدَّثَنَا شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ - يَعْنِي: ابْنَ حَازِمٍ - حَدَّثَنَا غَيْلَانُ بْنُ جَرِيرٍ، عَنْ أَبِي قَيْسِ بْنِ رِيَاحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "مَنْ خَرَجَ مِنَ الطَّاعَةِ، وَفَارَقَ الْجَمَاعَةَ، فَمَاتَ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً، وَمَنْ قَاتَلَ تَحْتَ رَايَةٍ عُمِّيَّةٍ، يَغْضَبُ لِعَصَبَةٍ، أَوْ يَدْعُو إِلَى عَصَبَةٍ، أَوْ يَنْصُرُ عَصَبَةً، فَقُتِلَ فَقِتْلَةٌ

(1)

جَاهِلِيَّةٌ، وَمَنْ خَرَجَ عَلَى أُمَّتِي يَضْرِبُ بَرَّهَا وَفَاجِرَهَا، وَلَا يَتَحَاشَ

(2)

مِنْ مُؤْمِنِهَا، وَلَا يَفِي لِذِي عَهْدٍ عَهْدَهُ، فَلَيْسَ مِنِّي، وَلَسْتُ مِنْهُ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ) الْحَبَطيّ، أبو محمد الأُبُلّيّ، صدوقٌ يَهِم، ورُمي بالقدر، قال أبو حاتم: اضطرّ الناس إليه أخيرًا، من صغار [9](ت 5 أو 236)، وله بضع و (90) سنةً (م د س) تقدم في "الإيمان" 12/ 157.

2 -

(جَرِيرُ بْنُ حَازِمِ) بن زيد الأزديّ، أبو النضر البصريّ، ثقةٌ إلا في قتادة [6](ت 170)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 81.

3 -

(غَيْلَانُ بْنُ جَرِيرٍ) الْمِعْوليّ الأزديّ البصريّ، ثقةٌ [5](ت 129)(ع) تقدم في "الطهارة" 15/ 598.

4 -

(أَبُو قَيْسِ

(3)

بْنُ رِيَاحٍ) - بكسر أوله، ثم تحتانيّة - زياد بن رِيَاح ويقال: ابن رَبَاح - بالموحّدة -، البصريّ، ويقال: المدني، ثقةٌ [3].

رَوَى عن أبي هريرة، وعنه الحسن البصريّ، وغيلان بن جرير.

(1)

وفي نسخة: "فقِتْلته".

(2)

وفي نسخة: "ولا يتحاشى".

(3)

ذكر بعضهم أنه يكنى أبا رياح، فتعقّبه الحافظ، فقال: لم يذكر أحد ممن ألّف في الكنى أنه يكنى أبا رباح، وإنما قالوا: كنيته أبو قيس، وقد وقع مَكْنيًّا بها في "صحيح مسلم" - يعني: في هذا الحديث - وبذلك كناه البخاريّ، ومسلم، وابن أبي حاتم، والنسائيّ، وأبو أحمد، والدارقطنيّ، وابن حبان، والخطيب، وابن ماكولا، وغيرهم، وكل من سمّينا من الأئمة حاشا مسلمًا إنما كنى بأبي رياح زياد بن رياح المذكور بعد هذه الترجمة، وكان هذا سبب وقوع الوهم من "صاحب الكمال"، والله أعلم. انتهى.

ص: 167

قال العجليّ: تابعيّ ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات".

أخرجوا له حديث: "من قاتل تحت راية عمية"، وأخرج له مسلم أيضًا:"بادروا بالأعمال ستًا. . ." الحديث.

قلت: أخرج له مسلم والنسائي وابن ماجه، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا برقم (1848) وأعاده بعده، وحديث (2947):"بادروا بالأعمال ستًّا. . ." الحديث.

(5)

- (أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه تقدم في "المقدمة" 2/ 4.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالبصريين، غير الصحابيّ، فمدنيّ، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه رأس المكثرين السبعة، روى (5374) حديثًا.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي قَيْسِ بْنِ رِيَاحٍ) قال النوويّ رحمه الله: هو بكسر الراء، وبالمثنّاة، وهو زياد بن رِيَاح القيسيّ المذكور في الإسناد بعده، وقاله البخاريّ بالمثناة، وبالموحدة، وقاله الجماهير بالمثنّاة، لا غير. انتهى

(1)

. (عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (عَنِ النَّبِيِّ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: "مَنْ) شرطيّة مبتدأ، خبره قوله:"مات ميتةً جاهليّة"، (خَرَجَ مِنَ الطَّاعَةِ)؛ أي: من طاعة ولاة الأمور، (وَفَارَقَ الْجَمَاعَةَ)؛ أي: جماعة المسلمين المجتمعين على إمام واحد، أو إجماع المسلمين على أمر واحد، ففيه تحريم مخالفة الإجماع. (فَمَاتَ مَاتَ مِيتَةً) بكسر الميم: فِعْلة لبيان الهيئة، وهي حالة الموت، كما قال في "الخلاصة":

وَفَعْلَةٌ لِمَرَّةٍ كَـ "جَلْسَهْ"

وَفِعْلَةٌ لِهَيْئَةٍ كَـ "جِلْسَهْ"

(جَاهِلِيَّةً) بالنصب صفة لـ "ميتةً"؛ أي: كميتة أهل الجاهليّة، من الضلال والْفُرْقة، قاله القرطبيّ، وقال النوويّ: أي: على صفة موتهم، من حيث هم فَوْضَى، لا إمام لهم

(2)

.

ويَحْتَمل أن يكون مجرورًا بإضافة "ميتة" إليه.

(1)

"شرح النوويّ" 12/ 238.

(2)

"شرح النوويّ" 12/ 237.

ص: 168

والمعنى: أنه مات على هيئة موت الجاهليّة، فإنهم كانوا لا يطيعون أميرًا، ولا ينضمّون إلى جماعة واحدة، بل كانوا فِرَقًا، وعصائب، يقاتِل بعضهم بعضًا.

وقال الطيبيّ رحمه الله: "قوله: "ميتةً جاهليّةً": الْمِيتة، والْقِتلةُ بالكسر: الحالة التي يكون عليها الإنسان عند الموت، أو القتل، والمعنى: أن من خرج عن طاعة الإمام، وفارق جماعة المسلمين، وشذّ عنهم، وخالف إجماعهم، ومات على ذلك، مات على هيئةٍ كان يموت عليها أهل الجاهليّة؛ لأنهم كانوا لا يرجعون إلى طاعة أمير، ولا يتّبعون هُدى إمام، بل كانوا مستنكفين عنها مستبدّين في الأمور، لا يجتمعون في شيء، ولا يتّفقون على رأي. انتهى

(1)

.

(وَمَنْ قَاتَلَ)"من" شرطيّة أيضًا، كسابقها، (تَحْتَ رَايَةٍ عُمِّيَّةٍ) - بضم العين، وكسرها، لغتان مشهورتان، والميم مكسورة مشدّدة، والياء مشدّدة أيضًا -، قالوا: هي الأمر الأعمى، لا يستبين وجهه، كذا قاله أحمد بن حنبل، والجمهور، وقال إسحاق بن راهويه: هذا كتقاتُل القوم للعصبية، قاله النوويّ

(2)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قال بعضهم: العمّيّة: الضلالة، وقال أحمد بن حنبل: هو الأمر الأعمى، كالعصبيّة، لا يستبين ما وجهه؟، وقال إسحاق: هذا في تهارُج القوم، وقَتْل بعضهم بعضًا، كأنه من التعمية، وهو التلبيس. انتهى

(3)

.

وقال ابن الأثير رحمه الله: العِمِّيّةٌ فِعّيلة، من العَمَاء: الضلالة، كالقتال في العَصَبيّة والأهواء، وحكَى بعضهم فيها ضمّ العين. انتهى

(4)

.

وقال المجد رحمه الله: الْعَمَاءةُ، والْعَمَايةُ، والْعَمِيّة، كغَنِيّةٍ، ويُضمّ: الْغَوَايةُ، واللَّجَاج، والْعُمّيّةُ بالكسر، والضمّ، مشدّدتي الميم والياء: الكِبْر، أو الضلال، وقُتِلَ عِمِّيًّا، كَرِمِّيًّا: لم يُدرَ من قتله. انتهى

(5)

.

(1)

"الكاشف عن حقائق السنن" 8/ 2561.

(2)

"شرح النوويّ" 12/ 237.

(3)

"المفهم" 4/ 59.

(4)

"النهاية" 3/ 306.

(5)

"القاموس المحيط" ص 914.

ص: 169

وقد وصف في الحديث الراية بالْعمّيّة، والمراد وصفُ من اجتمع تحتها من الناس، والمعنى: من قاتل تحت راية اجتَمَعَ أهلها على أمر مجهول، لا يُعرف أهو حقّ، أو باطلٌ، يَدعون إليه، من غير بصيرة فيه، ولا حجة عليه.

وقال الطيبيّ رحمه الله: "تحت راية عمّيّة" كناية عن جماعة مجتمعين على أمر مجهول، لا يُعرف أنه حق، أو باطلٌ، فيَدعون الناس إليه، ويقاتِلون له، وأصله من التعمية، وهو التلبيس، ومعناه: يقاتل بغير بصيرة وعلم؛ تعصّبًا، كقتال الجاهلية، ولا يُعرف المحقّ من المبطل، وإنما يغضب لعصبيّة، لا لنصرة الدين، والعصبيّة إعانة قومه على الظلم. انتهى

(1)

.

(يَغْضَبُ لِعَصَبَةٍ، أَوْ يَدْعُو إِلَى عَصَبَةٍ) الظاهر أن "أو" في الموضعين، للتنويع، أو هي بمعنى الواو، كما هو في رواية أخرى عند أبي عوانة، وعصبة الرجل أقاربه من جهة الأب، سُمُّوا بذلك لأنهم يَعصبونه، ويعتصب بهم؛ أي: يحيطون به، ويشتدّ بهم، والمعنى: يغضب، ويقاتِل، ويدعو غيره، لا لنصر الدين والحقّ، بل لمحض التعصّب لقومه، ولِهواه، كما يقاتِل أهل الجاهليّة، فإنهم إنما كانوا يقاتِلون لمحض العصبيّة.

وقال الطيبيّ رحمه الله: قوله: "بغضب لعصبيّة" حال، إما مؤكّدة إذا ذُهب إلى أن هذا الأمر في نفسه باطلٌ، أو منتقلةٌ إذا فُرض أنهم على الحقّ، وفيه أن من قاتل تعصّبًا، لا لإظهار دين الله، ولا لإعلاء كلمته، وإن كان المغضوب له محقًّا كان على الباطل. انتهى

(2)

.

(أَوْ يَنْصُرُ عَصَبَةً) قال النوويّ رحمه الله: هذه الألفاظ الثلاثة بالعين، والصاد المهملتين، هذا هو الصواب المعروف في نسخ بلادنا، وغيرها، وحَكَى القاضي عن رواية العذريّ بِالْغَين، والضاد المعجمتين في الألفاظ الثلاثة، ومعناها: أنه يقاتِل لشهوة نفسه، وغَضَبه لها، ويؤيد الرواية الأولى الحديث

(1)

"الكاشف عن حقائق السنن" 8/ 2561.

(2)

"الكاشف عن حقائق السنن" 8/ 2561.

ص: 170

المذكور بعدها: "يَغْضَب للعصبة، ويقاتل للعصبة"، ومعناه: إنما يقاتل عصبيةً لقومه، وهواه. انتهى

(1)

.

وقال في "النهاية": العصبيّة، والتعصّبُ: المحاماة، والمدافعة. والعَصَبيّ: من يُعين قومه على الظلم، وقال أيضًا: هو الذي يغضب لعَصَبته، ويُحامي عنهم. انتهى بتصرّف

(2)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "يغضب لعصبته، أو ينصر عصبته" هكذا رواية الجمهور بالعين، والصاد المهملتين، من التعصّب، وقد رواه العذريّ بِالْغَين، والضاد المعجمتين، من الغضب، والأول أصحّ، وأبْيَن، ويَعضِده تأويل أحمد بن حنبل المتقدّم، ولرواية العذريّ وجهٌ، وهو أن يريد به الغضب الذي يَحْمِل عليه التعصّب. انتهى

(3)

.

(فَقُتِلَ) بالبناء للمفعول، (فَقِتْلَةٌ جَاهِلِيَّةٌ) وفى بعض النسخ:"فقِتْلته جاهليّة"، و"القِتلة" بكسر القاف، هو مثل قوله:"فمِيتةٌ جاهليّة"، فقوله:"فقتلة" خبر مبتدأ محذوف؛ أي: فقِتلته قتلةٌ جاهليّة، والجملة مع الفاء الرابط جواب الشرط.

(وَمَنْ خَرَجَ عَلَى أُمَّتِي يَضْرِبُ بَرَّهَا) بفتح الباء، وتشديد الراء: وهو التقيّ المجتنب للمناهي، (وَفَاجِرَهَا) بالجيم: وهو المسيء المنبعث في المعاصي، قال الطيبيّ: قوله: "برّها وفاجرها" يشمل المؤمن، والمعاهد، والذميّ. (وَلَا يَتَحَاشَ مِنْ مُؤْمِنِهَا) وفي بعض النسخ:"ولا يتحاشى" بالألف المنقلبة عن الياء، ومعناه: لا يكترث بما يفعله فيها، ولا يَخاف وباله، وعُقوبته، ووقع في النسخة التي شرحها القرطبيّ من مختصر مسلم بلفظ:"ولا ينحاش" بالنون: قال القرطبيّ: أي: لا يجانب، يقال: انحاش إلى كذا؛ أي: انضمّ إليه، ومَالَ، والمعنى أنه لا يترك أحدًا من المؤمنين إلا قتله. انتهى

(4)

.

وقال في "المشارق": قوله: "ولا ينحاش من مؤمنها": بالنون، ويروى "يتحاشى" بالتاء، وآخره ياء؛ أي: لا يتنحَّى، ويتورّع، ولا يبالي، يقال:

(1)

"شرح النوويّ" 12/ 237.

(2)

"النهاية" 3/ 246.

(3)

"المفهم" 4/ 59.

(4)

"المفهم" 4/ 60.

ص: 171

حَشَى لله، وحاشى لله، ومعناه: معاذ الله، وأصله من حاشيت فلانًا، وحشيته؛ أي: نحّيته، قال ابن الأنباريّ: معنى حاش في كلام العرب: أعزل، وأنحى، قال: ويقال: حاش لفلان، وحاشى فلانًا، وحشى فلانٌ. انتهى

(1)

.

(وَلَا يَفِي لِذِي عَهْدٍ عَهْدَهُ)؛ أي: لا يوفّي بعهد الذّمّيّين الذين لهم عهد وأمان من المسلمين، بل ينقضه، ويقتلهم، كما يقتل المسلمين، أو المعنى أنه لا يوفي بعهد البيعة، والولاية. (فَلَيْسَ مِنِّي، وَلَسْتُ مِنْهُ") قال القرطبيّ رحمه الله: هذا التبرّي ظاهر في أنه ليس بمُسْلِم، وهذا صحيح إن كان معتقدًا لحلّيّة ذلك، وإن كان معتقدًا لتحريمه، فهو عاصٍ من العصاة، مرتكب كبيرةً، فأمْره إلى الله تعالى، ويكون معنى التبرّي على هذا: أي ليست له ذمّة، ولا حرمة، بل إن ظُفِر به قُتل، أو عُوقب بحسب حاله، وجريمته، ويَحْتَمِل أن يكون معناه: ليس على طريقتي، ولستُ أرضى طريقته، كما تقدّم أمثالُ هذا.

وهذا الذي ذكره في هذا الحديث هي أحوال المقاتلين على المُلك، والأغراض الفاسدة، والأهواء الركيكة، وحميّة الجاهليّة، وقد أبعد من قال: إنهم الخوارج، فإنهم إنما حَمَلهم على الخروج الْغَيْرة للدين، لا شيء من العصبيّة، والمُلك؛ لكنّهم أخطؤوا التأويل، وحرّفوا التنزيل. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(2)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي ذكره القرطبيّ رحمه الله تحقيقٌ نفيسٌ جدًّا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [13/ 4777 و 4778 و 4779 و 4780](1848)، و (النسائيّ) في "تحريم الدم"(4116) وفي "الكبرى"(3579)، (وابن ماجه)

(1)

"مشارق الأنوار على صحاح الآثار" 1/ 419.

(2)

"المفهم" 4/ 60.

ص: 172

في "الفتن"(3948)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(11/ 339)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(7/ 462)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 296 و 306 و 488)، و (ابن راهويه) في "مسنده"(1/ 192 و 193)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4580)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 421 و 422 و 424)، و (اللالكائيّ) في "اعتقاد أهل السُّنّة"(1/ 89)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(8/ 156)، و"شعب الإيمان"(6/ 60) والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان وجوب طاعة الإمام، ولزوم جماعة المسلمين.

2 -

(ومنها): بيان التغليظ فيمن قاتل تحت راية عِمّيّة.

3 -

(ومنها): وجوب نصب الإمام.

4 -

(ومنها): تحريم مخالفة إجماع المسلمين، وأنه واجب الاتّباع.

5 -

(ومنها): ما قاله القرطبيّ رحمه الله: ويَستَدِلّ بظاهره من كفّر بخرق الإجماع مطلقًا، والحقّ التفصيل، فإن كان الإجماع مقطوعًا به، فمخالفته، وإنكاره كفرٌ، وإن كان الإجماع مظنونًا، فإنكاره، ومخالفته معصيةٌ، وفُسوقٌ. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا التفصيل الذي ذكره القرطبيّ رحمه الله حسنٌ جدًّا، وإلى الاختلاف في تكفير منكر الإجماع أشار السيوطيّ رحمه الله في "الكوكب الساطع"، حيث قال:

جَاحِدُ مُجْمَعٍ عَلَيْهِ عُلِمَا

ضَرُورَةً فِي الدِّينِ لَيْسَ مُسْلِمَا

قَطْعًا وَفِي الأَظْهَرِ مَنْصُوصٌ شُهِرْ

وَالْخَلْفُ فِمَا لَمْ يُنَصَّ الْمُشْتَهِرْ

أَصَحُّهُ تَكْفِيرُهُ خُصُوصَا

لَا جَاحِدُ الْخَفِي وَلَوْ مَنْصُوصَا

6 -

(ومنها): أن من لم يدخل تحت طاعة إمام، فقد شابَه أهل الجاهليّة في ذلك، فإن مات على تلك الحالة مات على مثل حالتهم، مرتكبًا كبيرةً من الكبائر، ويُخاف عليه بسببها أن لا يموت على الإسلام.

وهذا فيما إذا كانت للمسلمين جماعة، وإمامٌ، وأمكنه الدخول معهم،

(1)

"المفهم" 4/ 59.

ص: 173

فتركه، فإن لم يكن أمرهم منتظمًا، بل كانوا فوضى، فلا شيء عليه، بل يلزم بيته، ويشتغل بأمر نفسه، ويدع أمر العامّة، فقد فصّل النبيّ صلى الله عليه وسلم هذا الأمر تفصيلًا، لم يبق معه التباس، وذلك في سؤالات حذيفة رضي الله عنه في هذا الأمر، كما تقدّم في الحديث الماضي، فقد أوضح رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه كيف يعيش المسلم في أيّ زمان، وفي أيّ مكان، ومع أيّ أناس، فما أشمل هذا النصّ، وأكمله، وأنبله، {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)} [النجم: 3، 4].

7 -

(ومنها): أن فيه أن ارتكاب المعاصي والفجور، لا يُخرج عن الملّة، أيًّا كان نوعه، إلا بالارتداد عن الإسلام صريحًا، أعاذنا الله تعالى من ذلك، ومن كلّ سوء، بمنّه، وكرمه، إنه جواد كريم، رؤوفٌ رحيم، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4778]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ الْقَوَارِيرِيُّ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ غَيْلَانَ بْنِ جَرِيرٍ، عَنْ زِيَادِ بْنِ رِيَاحٍ الْقَيْسِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِنَحْوِ حَدِيثِ جَرِيرٍ، وَقَالَ: "لَا يَتَحَاشَى مِنْ مُؤْمِنِهَا").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ الْقَوَارِيرِيُّ) أبو سعيد البصريّ، نزيل بغداد، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 235) وله (85) سنةً (خ م د س) تقدم في "المقدمة" 6/ 75.

2 -

(حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ) تقدّم قريبًا.

3 -

(أَيُّوبُ) السختيانيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

والباقون ذُكروا قبله.

[تنبيه]: رواية أيوب السختيانيّ، عن غيلان بن جرير هذه ساقها أبو عوانة رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(7170)

- حدّثنا أبو داود الحرّانيّ، وإسماعيل بن إسحاق، والحارث بن أبي أسامة، قالوا: ثنا سليمان بن حرب، قال: ثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن غيلان بن جرير، عن زياد بن رباح، عن أبي هريرة، قال: قال

ص: 174

رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من خرج من الطاعة، وفارق الجماعة، فمات فميتة جاهلية، ومن قُتل تحت راية عْمّيّة، يغضب للعصبة، وينصر لعصبة، ويدعو إلى عصبة، فقُتل، فقتلة جاهلية، ومن خرج على أمتي، يضرب برّها، وفاجرها، لا يتحاش من مؤمنها، ولا يفي لذي عهدها، فليس من أمتي". انتهى

(1)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4779]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، حَدَّثَنَا مَهْدِيُّ بْنُ مَيْمُونٍ، عَنْ غَيْلَانَ بْنِ جَرِيرٍ، عَنْ زِيَادِ بْنِ رِيَاحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ خَرَجَ مِنَ الطَّاعَةِ، وَفَارَقَ الْجَمَاعَةَ، ثُمَّ مَاتَ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً، وَمَنْ قُتِلَ تَحْتَ رَايَةٍ عُمِّيَّةٍ، يَغْضَبُ لِلْعَصَبَةِ، وَيُقَاتِلُ لِلْعَصَبَةِ، فَلَيْسَ مِنْ أُمَّتِي، وَمَنْ خَرَجَ مِنْ أُمَّتِي عَلَى أُمَّتِي، يَضرِبُ بَرَّهَا وَفاجِرَهَا، لا يَتَحَاشَ

(2)

مِنْ مُؤْمِنِهَا، وَلَا يَفِي بِذِي

(3)

عَهْدِهَا، فَلَيْسَ مِنِّي").

رجال هذا الإسناد: ستّة:

1 -

(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) تقدّم قبل باب.

2 -

(عَبْدُ الرحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ) تقدّم قبل أربعة أبواب.

3 -

(مَهْدِيُّ بْنُ مَيْمُونٍ) الأزديّ الْمِعْوليّ، أبو يحيى البصريّ، ثقةٌ، من صغار [6](ت 172)(ع) تقدم في "الإيمان" 47/ 297.

والباقون ذُكروا قبله.

وقوله: (لَا يَتَحَاشَ) وفي بعض النسخ: "ولا يتحاشى".

وقوله: (بِذِي عَهْدِهَا) وفي بعض النسخ: "ولا لذي عهدها" باللام.

والحديث من أفراد المصنّف رحمه الله، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله في الذي قبله، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4780]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا

(1)

"مسند أبي عوانة" 4/ 421.

(2)

وفي نسخة: "ولا يتحاشى".

(3)

وفي نسخة: "لذي".

ص: 175

مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ غَيْلَانَ بْنِ جَرِيرٍ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ، أَمَّا ابْنُ الْمُثَنَّى فَلَمْ يَذْكُرِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي الْحَدِيثِ، وَأَمَّا ابْنُ بَشَّارٍ فَقَالَ فِي رِوَايَتِهِ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، بِنَحْوِ حَدِيثِهِمْ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

وكلّهم ذُكروا في الباب، وقبله.

[تنبيه]: رواية محمد بن جعفر، عن شعبة هذه لم أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4781]

(1849) - (حَدَّثَنَا حَسَنُ بْنُ الرَّبِيعِ، حَدَّثَنَا حَمَادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنِ الْجَعْدِ أَبِي عُثْمَانَ، عَنْ أَبِي رَجَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، يَرْوِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ رَأَى مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئًا يَكْرَهُهُ فَلْيَصْبِرْ، فَإِنَّهُ مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ شِبْرًا، فَمَاتَ، فَمِيتَةٌ

(1)

جَاهِلِيَّةٌ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(حَسَنُ بْنُ الرَّبِيعِ) البَجَليّ، أبو عليّ الْبُورانيّ الكوفيّ، ثقةٌ [10](ت 20 أو 221)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 26.

2 -

(الْجَعْدُ أَبو عُثْمَانَ) هو: الجعد بن دينار اليشكريّ الصيرفيّ البصريّ، ثقةٌ [4](خ م د ت س) تقدم في "الإيمان" 62/ 345.

3 -

(أَبُو رَجَاءٍ) عمران بن مِلْحان، أو ابن تيم، أو ابن عبد الله الْعُطارديّ البصريّ، مخضرم ثقةٌ معمّرٌ [2](ت 105) وله (120) سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 62/ 345.

4 -

(ابْنُ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما تقدّم قبل أربعة أبواب.

و"حماد بن زيد" ذُكر قبل حديثين.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالبصريين، غير شيخه،

(1)

وفي نسخة: "فميتته".

ص: 176

فكوفيّ، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ مخضرم، وفيه ابن عبّاس رضي الله عنهما حبر الأمة، وبحرها، وأحد العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة، روى (1696) حديثًا، وهو آخر من مات من الصحابة رضي الله عنهم بالطائف سنة (68).

شرح الحديث:

(عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما، وقوله:(يَرْوِيهِ) جملة حاليّة؛ أي: حال كون ابن عبّاس رضي الله عنهما ينقل هذا الحديث عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال في "الفتح": هو في معنى قوله: "عن النبيّ صلى الله عليه وسلم"

(1)

، ثم أوضح معنى "يرويه"، بقوله:(قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ) شرطيّة مبتدأ، خبره "فليصبر"، (رَأَى مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئًا يَكْرَهُهُ) لمخالفته الشرع، أو لمخالفته ما تحبّه نفسه، (فَلْيَصْبِرْ) على ذلك المكروه، (فَإِنَّهُ) الفاء للتعليل؛ والهاء ضمير الشأن؛ أي: لأن الأمر والشأن (مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ شِبْرًا)؛ أي: مقدار شبر، وَكَنَى به عن الخروج على السلطان، ولو بأدنى نوع من أنواع الخروج، أو بأقلّ سبب من أسباب الفرقة.

وقال في "الفتح": وقوله: "شبرًا" - بكسر المعجمة، وسكون الموحدة - وهي كناية عن معصية السلطان ومحاربته، قال ابن أبي جمرة: المراد بالمفارقة: السعي في حَلّ عقد البيعة التي حصلت لذلك الأمير، ولو بأدنى شيء، فكنى عنها بمقدار الشبر؛ لأن الأخذ في ذلك يؤول إلى سفك الدماء بغير حقّ

(2)

.

(فَمَاتَ، فَمِيتَةٌ جَاهِلِيَّةٌ) وفي بعض النسخ: "فميتته جاهليّة"؛ أي: كموتة أهل الجاهليّة من الضلالة، والفرقة، وفي الرواية التالية:"فإنه ليس أحدٌ من الناس يخرج من السلطان شبرًا فمات عليه إلا مات ميتةً جاهليّةً"، وفي رواية للبخاريّ:"مات ميتةً جاهليّةً"، وفي حديث ابن عمر الآتي عند مسلم، رفعه:"مَن خَلَع يدًا من طاعةٍ، لقي الله ولا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعةٌ، مات ميتةً جاهليةً".

وقال الكرمانيّ رحمه الله عند قوله: "فإنه من فارق الجماعة شبرًا، فمات إلا

(1)

"الفتح" 16/ 626 رقم (7143).

(2)

"الفتح" 16/ 438 رقم (7053).

ص: 177

مات ميتةً جاهليّةً" قال: "من" للاستفهام الإنكاريّ؛ أي: ما فارق الجماعة أحدٌ إلا جرى له كذا، أو "ما" مُقَدَّرة، قال ابن مالك: جاز ذلك كقوله [من الطويل]:

فَوَاللهِ مَا نِلْتُمْ وَلَا نِيلَ مِنْكُمُ

بِمُعْتَدِلٍ وَفْقٍ وَلَا مُتَقَارِبِ

أو "إلا" زائدة، قال الأصمعيّ: تقع "إلا" زائدةً، كقوله [من الطويل]:

حَرَاجِيجُ مَا تَنْفَكُّ إِلَّا مُنَاخَةً

عَلَى الْخَسْفِ أَوْ يَرْمِي بِهَا بَلَدًا قَفْرَا

(1)

أو عاطفة على رأي الكوفيين.

والمراد بالميتة الجاهلية - وهي بكسر الميم: حالة الموت؛ أي: كموت أهل الجاهلية على ضلال وليس له إمام مطاع؛ لأنهم كانوا لا يعرفون ذلك، وليس المراد أنه يموت كافرًا، بل يموت عاصيًا.

ويَحْتَمِل أن يكون التشبيه على ظاهره، ومعناه: أنه يموت مثل موت الجاهليّ، وإن لم يكن هو جاهليًّا، أو أن ذلك ورد مورد الزجر والتنفير، وظاهره غير مراد، ويؤيد أن المراد بالجاهلية التشبيه قوله في الحديث الآخر:"من فارق الجماعة شبرًا، فكأنما خَلَع رِبْقة الإسلام من عنقه"، أخرجه الترمذيّ، وصححه ابن خزيمة، وابن حبان من حديث الحارث بن الحارث الأشعريّ في أثناء حديث طويل، وأخرجه البزار، والطبرانيّ في "الأوسط"، من حديث ابن عباس، وفي سنده خُلَيد بن دعلج، وفيه مقال

(2)

، وقال:"من رأسه" بدل "عنقه".

قال ابن بطال رحمه الله: في الحديث حجة في ترك الخروج على السلطان ولو جار، وقد أجمع الفقهاء على وجوب طاعة السلطان المتغلِّب، والجهاد معه، وأن طاعته خير من الخروج عليه؛ لِمَا في ذلك من حَقْن الدماء، وتسكين الدَّهْماء، وحجتهم هذا الخبر، وغيره، مما يساعده، ولم يستثنوا من ذلك إلا إذا وقع من السلطان الكفر الصريح، فلا تجوز طاعته في ذلك، بل تجب مجاهدته لمن قَدَر عليها، أفاده في "الفتح"

(3)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1)

"شرح الكرمانيّ على صحيح البخاريّ" 24/ 147.

(2)

قال عنه في "التقريب": ضعيف من السابعة.

(3)

"الفتح" 16/ 438، كتاب "الفتن" رقم (7053).

ص: 178

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [13/ 4781 و 4782](1849)، و (البخاريّ) في "الفتن"(7053 و 7054) و"الأحكام"(7143)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 275 و 310)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 314)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 423)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(12/ 160)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(4/ 234)، و (ابن أبي عاصم) في "السُّنّة"(2/ 524)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(8/ 157) و"شعب الإيمان"(6/ 60)، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4782]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ، حَدَّثَنَا الْجَعْدُ، حَدَّثَنَا أَبُو رَجَاءٍ الْعُطَارِدِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ كَرِهَ مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئًا، فَلْيَصْبِرْ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ خَرَجَ

(1)

مِنَ السُّلْطَانِ شِبْرًا، فَمَاتَ عَلَيْهِ إِلَّا مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(عَبْدُ الْوَارِثِ) بن سعيد بن ذكوان العنبريّ البصريّ، تقدّم قريبًا.

والباقون ذُكروا في الباب.

وقوله: (فَلْيَصْبِرْ عَلَيْهِ)؛ أي: ذلك الشيء الذي كرهه.

وقوله: (فَإِنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ. . . إلخ) الضمير للشأن، كما سبق قريبًا.

وقوله: (خَرَجَ مِنَ السُّلْطَانِ)؛ أي: من طاعة السلطان، وفي بعض النسخ:"يخرج".

وقوله: (فَمَاتَ عَلَيْهِ)؛ أي: على ذلك الخروج؛ يعني: أنه لم يتب منه.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام شرحه، في الحديث الماضي، ولله الحمد والمنّة.

(1)

وفي نسخة: "يخرج".

ص: 179

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4783]

(1850) - (حَدَّثَنَا هُرَيْمُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ، عَنْ جُنْدَبِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الْبَجَلِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ قُتِلَ تَحْتَ رَايَةٍ عُمِّيَّةٍ، يَدْعُو عَصَبِيَّةً، أَوْ يَنْصُرُ عَصَبِيَّةً، فَقِتْلَةٌ جَاهِلِيَّةٌ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(هُرَيْمُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى) بن الفُرات الأسديّ، أبو حمزة البصريّ، ثقةٌ [10](ت 235) على الصحيح (م) تقدم في "الإيمان" 55/ 324، من أفراد المصنّف.

2 -

(الْمُعْتَمِرُ) بن سليمان التيميّ، أبو محمد البصريّ، يلقّب بالطُّفَيل، ثقةٌ، من كبار [9](ت 187) وقد جاوز الثمانين (ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 105.

3 -

(أَبُوهُ) سليمان بن طَرْخان التيميّ، نزل في بني تيم، فنُسب إليهم، أبو المعتمر البصريّ، ثقةٌ عابدٌ [4](ت 143) وهو ابن (97) سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 9.

4 -

(أَبُو مِجْلَزٍ) لاحق بن حُميد بن سعيد السَّدُوسيّ البصريّ، ثقةٌ، من كبار [3](6 أو 109)(ع) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 56/ 1547.

5 -

(جُنْدَبُ بْنُ عَبْدِ اللهِ الْبَجَلِيُّ) ثمّ الْعَلَقيّ، أبو عبد الله الصحابيّ الشهير، مات رضي الله عنه بعد الستين (ع) تقدم في "الإيمان" 43/ 286.

قال الجامع عفا الله عنه: حديث جندب بن عبد الله البجليّ رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله، أخرجه هنا [13/ 4783](1850)، وأخرجه (النسائيّ) في "البيعة"(7/ 123) وفي "الكبرى"(3580)، وشرحه يُعلم من شرح حديث أبي هريرة رضي الله عنه الماضي، وبالله تعالى التوفيق.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4784]

(1851) - (حَدَّثَنَا عُبَيْدُ الله بْنُ مُعَاذٍ الْعَنْبَرِيُّ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عَاصِمٌ - وَهُوَ ابْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدٍ - عَنْ زَيْدِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ نَافِعٍ، قَالَ: جَاءَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ إِلَى عَبْدِ اللهِ بْنِ مُطِيعٍ، حِينَ كَانَ مِنْ أَمْرِ الْحَرَّةِ مَا كَانَ، زَمَنَ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، فَقَالَ: اطْرَحُوا لأَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ وِسَادَةً، فَقَالَ: إِنِّي لَمْ آتِكَ لأَجْلِسَ، أَتَيْتُكَ لأُحَدِّثَكَ حَدِيثًا سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُهُ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم -

ص: 180

يَقُولُ: "مَنْ خَلَعَ يَدًا مِنْ طَاعَةٍ، لَقِيَ اللهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا حُجَّةَ لَهُ، وَمَنْ مَاتَ وَلَيْسَ فِي عُنُقِهِ بَيْعَةٌ، مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ الْعَنْبَرِيُّ) البصريّ، تقدّم قبل باب.

2 -

(أَبُوهُ) معاذ بن معاذ بن نصر بن حسّان، تقدّم أيضًا قبل باب.

3 -

(عَاصِمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدِ) بن عبد الله بن عمر بن الخطاب العمريّ المدنيّ، ثقةٌ [7](ع) تقدم في "الإيمان" 5/ 122.

4 -

(زَيْدُ بْنُ مُحَمَّدِ) بن زيد بن عبد الله بن عمر بن الخطّاب، أخو عاصم

(1)

الراوي عنه، ثقةٌ [7](م س) تقدم في "صلاة المسافرين وقصرها" 15/ 1678.

5 -

(نَافِعٌ) مولى ابن عمر المدنيّ، تقدّم قريبًا.

6 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ) بن الخطّاب رضي الله عنهما، تقدّم أيضًا قريبًا.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالمدنيين من عاصم، وفيه رواية الأخ عن أخيه: عاصم، عن زيد، وفيه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أحد العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة، روى (2630) حديثًا.

شرح الحديث:

(عَنْ نَافِعٍ) مولى ابن عمر أنه (قَالَ: جَاءَ عَبْدُ اللْهِ بْنُ عُمَرَ) بن الخطّاب رضي الله عنهما (إِلى عَبْدِ الله بْنِ مُطِيعِ)

(2)

بن الأسود العدويّ المدنيّ، له رؤية،

(1)

فقول الشيخ الهرريّ: عن جدّه زيد بن محمد غلط، فإنه أخوه، وأما جدّه فهو زيد بن عبد الله بن عمر، لا زيد بن محمد، فليُتنبّه.

(2)

عبد الله بن مطيع هذا كان ممن خلع يزيد بن معاوية، وخرج عليه، وكان يوم الحرّة قائد قريش، كما كان عبد الله بن حنظلة قائد الأنصار، إذ خرج أهل المدينة لقتال مسلم بن عقبة الْمُرّيّ الذي بعثه يزيد لقتال أهل المدينة، وأخذهم بالبيعة له، فلما ظفر أهل الشام بأهل المدينة انهزم عبد الله بن مطيع، ولحق بابن الزبير بمكة، وشهد معه الحصر الأول، وبقي معه إلى أن حَصَر الحجاجُ ابنَ الزبير، فقاتل ابن مطيع معه يومئذ، وهو يقول: =

ص: 181

وكان رأس قريش يوم الحرّة، وأمّره ابن الزبير على الكوفة، ثم قُتل معه سنة (73)، وتقدّمت ترجمته في "الجهاد والسِّيَر" 31/ 4618.

(حِينَ كَانَ مِنْ أَمْرِ الْحَرَّةِ مَا كَانَ)؛ أي: حين وقع من قصّة وقعة الحرّة الذي وقع، فـ "ما" موصولة، و"كان" تامّة، بمعنى وقع، و"الْحَرّة" بفتح الحاء المهملة، وتشديد الراء: أرض ذات حجارة سُود، والجمع حِرَارٌ، مثلُ كَلْبة وكلابٍ، وقال في "القاموس" ما حاصله: والحرّة: موضع بظاهر المدينة، تحت واقم، وبها كانت وقعة الحرّة أيام يزيد بن معاوية. انتهى

(1)

.

وحاصل ملخّص قصّة وقعة الحرة: هو ما ذكره الحافظ ابن كثير في "تاريخه": قال: وكان سببها أن أهل المدينة لَمّا خلعوا يزيد بن معاوية، وولّوا على قريش عبد الله بن مطيع، وعلى الأنصار عبد الله بن حنظلة بن أبي عامر، فلما كان في أول هذه السنة أظهروا ذلك، واجتمعوا عند المنبر، فجعل الرجل منهم يقول: قد خلعت يزيد كما خلعت عمامتي هذه، ويلقيها عن رأسه، ويقول الآخر: قد خلعته كما خلعت نعلي هذه، حتى اجتمع شيء كثير من العمائم، والنعال هناك، ثم اجتمعوا على إخراج عامل يزيد من بين أظهرهم، وهو عثمان بن محمد بن أبي سفيان ابن عمّ يزيد، وعلى إجلاء بني أمية من المدينة، فاجتمعت بنو أمية في دار مروان بن الحكم، وأحاط بهم أهل المدينة يحاصرونهم، واعتزل الناسَ عليُّ بنُ الحسين زين العابدين، وكذلك عبد الله بن عمر بن الخطاب، لم يخلعا يزيد، ولا أحدٌ من بيت ابن عمر، وقد قال ابن عمر لأهله: لا يخلعنّ أحد منكم يزيد، فتكون الفيصل بيني وبينه، وأنكر على أهل المدينة في مبايعتهم لابن مطيع، وابن حنظلة على الموت، وقال: إنما كنا نبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن لا نَفِرّ، وكذلك لم يخلع يزيد أحدٌ من بني عبد المطلب، وقد سئل محمد ابن الحنفية في ذلك، فامتنع من ذلك أشدّ الامتناع، وناظَرَهم، وجادَلهم في يزيد، وردّ عليهم ما اتهموا يزيد به من شرب

= أَنَا الَّذِي فَرَرْتُ يَوْمَ الْحَرذَهْ

وَالْحُرُّ لَا يَفِرُّ إِلَّا مَرَّهْ

يَا حَبَّذَا الْكَرَّةُ بَعْدَ الْفَرَّهْ

لأَجْزِيَنَّ فَرَّةً بِكَرَّهْ

(1)

راجع: "القاموس المحيط" ص 277.

ص: 182

الخمر، وتَرْكه بعض الصلوات، وكتب بنو أمية إلى يزيد بما هم فيه من الحصر، والإهانة، والجوع، والعطش، وإنه إن لم يبعث إليهم مَن ينقذهم مما هم فيه، وإلا استُؤصلوا عن آخرهم، وبعثوا ذلك مع البريد، فلما قَدِم بذلك على يزيد وجده جالسًا على سريره، ورجلاه في ماء، يتبرّد به مما به من النِّقْرِس

(1)

في رجليه، فلما قرأ الكتاب انزعج لذلك، وقال: ويلك ما فيهم ألف رجل؟ قال: بلى، قال: فهل لا قاتلوا ساعةً من نهار، ثم بعث إلى عمرو بن سعيد بن العاص، فقرأ عليه الكتاب، واستشاره فيمن يبعثه إليهم، وعَرَض عليه أن يبعثه إليهم، فأبى عليه ذلك، وقال: إن أمير المؤمنين عزلني عنها، وهي مضبوطة، وأمورها مُحْكَمة، فأما الآن فإنما دماء قريش تراق بالصعيد، فلا أحب أن أتولى ذلك منهم، ليتولَّ ذلك من هو أبعد منهم مني، قال: فبعث البريدَ إلى مسلم بن عقبة المزنيّ، وهو شيخ كبير، ضعيف، فانتَدَب لذلك، وأرسل معه يزيد عشرة آلاف فارس، وقيل: اثنا عشر ألفًا، وخمسة عشر ألف راجل، وأعطى كل واحد منهم مائة دينار، وقيل: أربعة دنانير، ثم استعرضهم، وهو على فرس له، قال المدائنيّ: وجعل على أهل دمشق عبد الله بن مسعدة الفزاريّ، وعلى أهل حمص حُصين بن نُمير السَّكُونيّ، وعلى أهل الأردنّ حُبيش بن دُلْجة القينيّ، وعلى أهل فلسطين رَوْح بن زِنْباع الْجُذاميّ، وشَريك الكنانيّ، وعلى أهل قنسرين طريف بن الحسحاس الهلاليّ، وعليهم جميعًا مسلم بن عقبة المزنيّ، من غَطَفان، وإنما يسميه السلف مسرف بن عقبة، فقال النعمان بن بشير: يا أمير المؤمنين ولّني عليهم، أَكْفِك، وكان النعمان أخا عبد الله بن حنظلة لأمه عمرة بنت رواحة، فقال يزيد: لا، ليس لهم إلا هذا الغشمة

(2)

، والله لأقتلنهم بعد إحساني إليهم، وعفوي عنهم مرّةً بعد مرّة، فقال النعمان: يا أمير المؤمنين أنشدك الله في عشيرتك، وأنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال عبد الله بن جعفر: أرأيت إن رجعوا إلى طاعتك أتقبل

(1)

"النِّقْرِس" بكسر النون والراء: ورَمٌ، ووجعٌ في مفاصل الكعبين، وأصابع الرجلين. انتهى. "القاموس"، بزيادة يسيرة من "المصباح".

(2)

"الغَشَمَة": الظالم.

ص: 183

منهم؟ قال: إن فعلوا فلا سبيل عليهم، وقال يزيد لمسلم بن عقبة: ادع القوم ثلاثًا، فإن رجعوا إلى الطاعة فاقبل منهم، وكُفَّ عنهم، وإلا فاستعن بالله، وقاتِلهم، وإذا ظهرت عليهم، فأبِحِ المدينة ثلاثًا، ثم اكفُفْ عن الناس، وانظر إلى عليّ بن الحسين، فاكفُف عنه، واستوص به خيرًا، وأَدْنِ مجلسه، فإنه لم يدخل في شيء مما دخلوا فيه، وأمَره إذا فرغ من المدينة أن يذهب إلى مكة لحصار ابن الزبير، وقال له: إن حَدَث بك أمر، فعلى الناس حُصين بن نُمير السَّكُونيّ، وقد كان يزيد كتب إلى عبد الله بن زياد أن يسير إلى ابن الزبير، فيحاصره بمكة، فأبى عليه، وقال: والله لا أجمعهما للفاسق أبدًا، أقتل ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأغزو البيت الحرام؟ وقد كانت أمه مُرْجانة قالت له حين قَتَل الحسين: ويحك ماذا صنعتَ؟ وماذا رَكِبت؟ وعنّفته تعنيفًا شديدًا.

قالوا: وسار مسلم بمن معه من الجيوش إلى المدينة، فلما اقترب منها اجتهد أهل المدينة في حِصار بني أمية، وقالوا لهم: والله لنقتلنكم عن آخركم، أو تعطونا موثقًا أن لا تدلُّوا علينا أحدًا من هؤلاء الشاميين، ولا تمالئوهم علينا، فأعطوهم العهود بذلك، فلما وصل الجيش تلقاهم بنو أمية، فجعل مسلم يسألهم عن الأخبار فلا يخبره أحد، فانحصر لذلك، وجاءه عبد الملك بن مروان، فقال له: إن كنت تريد النصر فأنزل شرقيّ المدينة في الحرّة، فإذا خرجوا إليك كانت الشمس في أقفيتكم، وفي وجوههم، فادعهم إلى الطاعة، فإن أجابوك، وإلا فاستعن بالله وقاتِلهم، فإن الله ناصرك عليهم؛ إذ خالفوا الإمام، وخرجوا عن الطاعة، فشكره مسلم بن عقبة على ذلك، وامتثل ما أشار به، فنزل شرقيّ المدينة في الحرّة، ودعا أهلها ثلاثة أيام كلّ ذلك يأبون، إلا المحارَبة والمقاتَلة، فلما مضت الثلاثة قال لهم في اليوم الرابع، وهو يوم الأربعاء لليلتين بقيتا من ذي الحجة سنة ثلاث وستين، قال لهم: يا أهل المدينة مضت الثلاث، وإن أمير المؤمنين قال لي: إنكم أصله وعشيرته، وإنه يَكره إراقة دمائكم، وإنه أمرني أن أؤجلكم ثلاثًا، فقد مضت، فماذا أنتم صانعون؟، أتسالمون أم تحاربون؟ فقالوا: بل نحارب، فقال: لا تفعلوا، بل سالِموا، ونجعل جِدَّنا وقوّتنا على هذا الملحد، يعني: ابن الزبير، فقالوا: يا عدو الله لو أردت ذلك لَمَا مكّناك منه، أنحن نذركم تذهبون، فتلحدون في

ص: 184

بيت الله الحرام؟ ثم تهيأوا للقتال، وقد كانوا اتخذوا خندقًا بينهم وبين ابن عقبة، وجعلوا جيشهم أربعة أرباع، على كل رُبْع أمير، وجعلوا أجمل الأرباع الربع الذي فيه عبد الله بن حنظلة الغسيل، ثم اقتتلوا قتالًا شديدًا، ثم انهزم أهل المدينة إليها، وقد قُتل من الفريقين خلق من السادات، والأعيان، منهم عبد الله بن مطيع

(1)

، وبنون له سبعة بين يديه، وعبد الله بن حنظلة الغسيل، وأخوه لأمه محمد بن ثابت بن شَمّاس، ومحمد بن عمرو بن حزم، وقد مَرَّ به مروان، وهو مُجندل

(2)

، فقال: رحمك الله، فكم من سارية قد رأيتك تطيل عندها القيام والسجود.

ثم أباح مسلم بن عقبة الذي يقول فيه السلف: مسرف بن عقبة - قبّحه الله من شيخ سَوْء، ما أجهله - المدينةَ ثلاثة أيام، كما أمَره يزيد، لا جزاه الله خيرًا، وقَتَل خَلْقًا من أشرافها، وقرائها، وانتَهَب أموالًا كثيرة منها، ووقع شرُّ وفسادٌ عريض على ما ذكره غير واحد، فكان ممن قُتل بين يديه صبرًا مَعْقِل بن سِنَان، وقد كان صديقه قبل ذلك، ولكن أسمعه في يزيد كلامًا غليظًا، فَنَقِم عليه بسببه، واستَدْعَى بعليّ بن الحسين، فجاء يمشي بين مروان بن الحكم، وابنه عبد الملك ليأخذ له بهما عنده أمانًا، ولم يَشْعُر أن يزيد أوصاه به، فلما جلس بين يديه استدعى مروان بشراب، وقد كان مسلم بن عقبة حَمَل معه من الشام ثَلْجًا إلى المدينة، فكان يشاب له بشرابه، فلما جيء بالشراب شَرِب مروان قليلًا، ثم أعطى الباقي لعليّ بن الحسين ليأخذ له بذلك أمانًا، وكان مروان مُوَادًّا لعليّ بن الحسين، فلما نظر إليه مسلم بن عقبة قد أخذ الإناء في يده، قال له: لا تشرب من شرابنا؟ ثم قال له: إنما جئتَ مع هذين لتأمن بهما، فارتعدت يد عليّ بن الحسين، وجعل لا يضع الإناء من يده، ولا يشربه، ثم قال له: لولا أن أمير المؤمنين أوصاني بك لضربت عنقك، ثم قال له: إن شئت أن تشرب فاشرب، وإن شئت دعونا لك بغيرها، فقال: هذا الذي

(1)

وقيل: إنه لم يُقتل، بل هرب إلى ابن الزبير بمكة، حتى قُتل معه، كما أسلفنا قصّته.

(2)

أي: صريع.

ص: 185

في كفي أريد، فشرب، ثم قال له مسلم بن عقبة: قم إلى ههنا، فاجلس، فأجلسه معه على السرير، وقال له: إن أمير المؤمنين أوصاني بك، وإن هؤلاء شغلوني عنك، ثم قال لعليّ بن الحسين: لعل أهلك فَزِعُوا؟ فقال: إي والله، فأمر بدابته، فأُسرجت، ثم حمله عليها، حتى ردّه إلى منزله مكرمًا، ثم استدعى بعمرو بن عثمان بن عفان، ولم يكن خرج مع بني أمية، فقال له: إنك إن ظهر أهل المدينة قلت: أنا معكم، وإن ظهر أهل الشام قلت أنا ابن أمير المؤمنين، ثم أَمر به، فنُتفت لحيته بين يديه، وكان ذا لحية كبيرة.

قال المدائنيّ: وأباح مسلم بن عقبة المدينة ثلاثة أيام، يقتلون من وجدوا من الناس، ويأخذون الأموال، ووقعوا على النساء، حتى قيل: إنه حبلت ألف امرأة في تلك الأيام من غير زوج، والله أعلم.

قال المدائنيّ عن أبي قُرّة قال: قال هشام بن حسان: وَلَدت ألف امرأة من أهل المدينة بعد وقعة الحرّة من غير زوج.

وقد اختفى جماعة من سادات الصحابة، منهم جابر بن عبد الله، وخرج أبو سعيد الخدريّ، فلجأ إلى غار في جبل، فلحقه رجل من أهل الشام، قال: فلما رأيته انتضيت سيفي، فقصدني، فلما رآني صَمَّم على قتلي، فَشِمْتُ سيفي، ثم قلت:{إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29)} [المائدة: 29]، فلما رأى ذلك قال: من أنت؟ قلت: أنا أبو سعيد الخدريّ، قال صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قلت: نعم، فمضى وتركني.

قال المدائنيّ: وجيء إلى مسلم بسعيد بن المسيِّب، فقال له: بايع، فقال: أبايع على سيرة أبي بكر وعمر، فأمر بضرب عنقه، فشهد رجل أنه مجنون، فخلى سبيله.

قال المدائنيّ عن شيخ من أهل المدينة قال: سألت الزهريّ: كم كان القتلى يوم الحرّة؟ قال: سبعمائة من وجوه الناس، من المهاجرين والأنصار، ووجوه الموالي، وممن لا أعرف من حُرّ وعبد وغيرهم عشرة آلاف، قال: وكانت الوقعة لثلاث بقين من ذي الحجة سنة ثلاث وستين، وانتهبوا المدينة ثلاثة أيام، قال الواقديّ وأبو معشر: كانت وقعة الحرّة يوم الأربعاء، لليلتين

ص: 186

بقيتا من ذي الحجة سنة ثلاث وستين

(1)

.

(زَمَنَ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ)؛ أي: وقت خلافته، وذلك سنة ثلاث وستين من الهجرة.

قال في "تهذيب التهذيب": يزيد بن معاوية بن أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس، أبو خالد، وُلد في خلافة عثمان، وعَهِد إليه أبوه بالخلافة، فبويع سنة ستين، وأبى البيعة عبد الله بن الزبير، ولاذ بمكة، والحسين بن عليّ، ونَهَض إلى الكوفة، وأرسل ابن عمه مسلم بن عَقِيل بن أبي طالب ليبايع له بها، فقتله عبيد الله بن زياد، وأرسل الجيوش إلى الحسين، فقُتل سنة إحدى وستين، ثم خرج أهل المدينة على يزيد، وخلعوه في سنة ثلاث وستين، فأرسل إليهم مسلم بن عقبة الْمُرّيّ، وأمره أن يستبيح المدينة ثلاثة أيام، وأن يبايعهم على أنهم خَوَل وعَبيد ليزيد، فإذا فرغ منها نَهَض إلى مكة لحرب ابن الزبير، ففعل بها مسلم الأفاعيل القبيحة، وقَتَل بها خَلقًا من الصحابة، وأبنائهم، وخيار التابعين، وأفحش القضية إلى الغاية، ثم توجه إلى مكة، فأخذه الله تعالى قبل وصوله، واستَخْلَف على الجيش حُصَين بن نُمير السَّكُوني فحاصروا ابن الزبير، ونصبوا على الكعبة المنجنيق، فأدَّى ذلك إلى وَهْي أركانها، وَوَهْي بنائها، ثم أُحرقت، وفي أثناء أفعالهم القبيحة، فجأهم الخبر بهلاك يزيد بن معاوية، فرجعوا، وكفى الله المؤمنين القتال، وكان هلاكه في نصف ربيع الأول سنة أربع وستين، ولم يكمل الأربعين، وأخباره مستوفاة في "تاريخ دمشق" لابن عساكر، وليس له رواية تُعتمد.

وقال يحيى بن عبد الملك بن أبي غَنِيّة أحد الثقات: ثنا نوفل بن أبي عَقْرب ثقةٌ، قال: كنت عند عمر بن عبد العزيز، فذكر رجل يزيد بن معاوية، فقال: أمير المؤمنين يزيد، فقال عمر: تقول: أمير المؤمنين يزيد؟! وأَمَر به، فضُرِب عشرين سوطًا.

وليست له رواية في الكتب، إلا في "مراسيل أبي داود"، كما نبّه عليه الحافظ رحمه الله

(2)

.

(1)

راجع: "البداية والنهاية" لابن كثير 8/ 307 - 313.

(2)

راجع: "تهذيب التهذيب" 11/ 316.

ص: 187

(فَقَالَ) عبد الله بن مطيع (اطْرَحُوا لأَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ) كنية عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، (وِسَادَةً) بالكسر؛ أي: مِخَدّة، (فَقَالَ) عبد الله بن عمر (إِنِّي لَمْ آتِكَ لأَجْلِسَ، أَتَيْتُكَ لأُحَدِّثَكَ حَدِيثًا سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُهُ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَنْ) شرطيّة، أو موصولة مبتدأ، (خَلَعَ)؛ أي: نزع (يَدًا مِنْ طَاعَةٍ)؛ أي: من طاعة ولِيّ الأمر الذي بايعه، قال الطيبيّ رحمه الله: قوله: "من طاعة"؛ أي: أيّ طاعة كانت، قليلةً، أو كثيرةً، ولَمّا كان وضع اليد كنايةً عن العهد، وإنشاء البيعة لجري العادة على وضع اليد على اليد حالَ المعاهدة، كَنَى عن النقض بخلع اليد ونَزْعها، يريد: مَن نَقَضَ العهد، وخلع نفسه عن بيعة الإمام، لقي الله تعالى آثمًا، لا عذر له. انتهى

(1)

. (لَقِيَ) بكسر القاف، (اللهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا حُجَّةَ لَهُ)؛ أي: لا حجة له في فعله، ولا عُذر له ينفعه. (وَمَنْ مَاتَ وَلَيْسَ فِي عُنُقِهِ بَيْعَةٌ، مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً") قال القرطبيّ رحمه الله: تحديث ابن عمر رضي الله عنهما عبدَ الله بنَ مطيع بهذا الحديث الذي سمعه من النبيّ صلى الله عليه وسلم إنما كان ليبيّن له أنه لم ينكُث بيعة يزيد، ولم يخلعها من عنقه مخافة هذا الوعيد الذي تضمّنه هذا الحديث. انتهى

(2)

.

وقال الأبيّ رحمه الله في "شرحه": كان مذهب ابن عمر مَنْع القيام على الإمام وخَلْعه إذا حَدَث فسقه بعد عقد البيعة له، فلذلك ذَكَر له الحديث، والمنع من القيام هو مذهب الأكثرين، أو هو مذهب الجميع، كما ذكر ابن مجاهد، واحتَجَّ من أجاز القيام والخروج بقيام الحسين، وابن الزبير بمكة، وأهل المدينة على بني أميّة، واحتَجّ الأكثر للمنع بأنه ظاهر الأحاديث كما ترى، وبأن القيام ربّما أثار فتنةً وقتلًا وانتهاك حرمة كما اتّفق ذلك في قضيّة الحَرّة وغيرها.

وقيل: إن الخلاف كان في الصدر الأول، ثم انعقد الاتفاق على المنع.

[فإن قلت]: الخلاف إنما هو في الإمام العدل إذا حدث فسقه بعد انعقاد الخلافة له، وأما الفاسق قبل عقدها فاتّفقوا على أنها لا تنعقد له، ويزيد كان كذلك قبل انعقادها له.

(1)

"الكاشف عن حقائق السنن" 8/ 2564.

(2)

"الكاشف عن حقائق السنن" 8/ 2564.

ص: 188

[قلت]: نعم لا يجوز عَقْدها ابتداءً للفاسق، فإن انعقدت، ووقعت صارت بمنزلة من حَدَث فسقه بعد انعقادها له، فيُمنع القيام عليه، ويدلّ على ذلك ذِكر ابن عمر الحديث في سياق التغيير والإنكار على عبد الله بن مطيع في قيامه على يزيد، ويزيد كان معلومًا بذلك قبل عقدها له، كما عُلم من حاله عند ابن عمر وغيره. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [13/ 4784 و 4785 و 4786](1851)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 83 و 111 و 154)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 416)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(8/ 156)، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4785]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ بُكَيْرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ الأَشَجِّ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ أَتَى ابْنَ مُطِيعٍ، فَذَكَرَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم نَحْوَهُ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(ابْنُ نُمَيْرٍ) محمد بن عبد الله بن نُمير، تقدّم قبل بابين.

2 -

(يَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ بُكَيْرٍ) القرشيّ المخزوميّ مولاهم، أبو زكريّا المصريّ الحافظ، وقد يُنسب إلى جدّه، ثقةٌ في الليث، وتكلّموا في سماعه من مالك، من كبار [10].

رَوَى عن مالك، والليث، وبكر بن مضر، وحماد بن زيد، وعبد الله بن سويد المصريّ، وعبد الله بن لَهِيعة، ومغيرة بن عبد الرحمن الحزاميّ، وغيرهم.

(1)

"شرح الأبيّ" 5/ 202.

ص: 189

وروى عنه البخاريّ، وروى مسلم، وابن ماجه له بواسطة محمد بن عبد الله، هو الذهليّ، ومحمد بن عبد الله بن نُمير، ومحمد بن إسحاق الصغانيّ، وغيرهم.

قال أبو حاتم: يُكتب حديثه، ولا يُحتجّ به، وكان يفهم هذا الشأن، وقال النسائيّ: ضعيف، وقال في موضع آخر: ليس بثقة، وقال أبو داود: سمعت يحيى بن معين يقول: أبو صالح أكثر كُتُبًا، ويحيى بن بكير أحفظ منه، وقال الساجيّ: قال ابن معين: سمع يحيى بن بكير "الموطأ" بعرض حَبِيب كاتب الليث، وكان شَرَّ عَرْض، كان يقرأ على مالك خطوط الناس، ويصفح ورقتين ثلاثةً، وقال يحيى: سالني عنه أهل مصر، فقلت: ليس بشيء، وقال الساجيّ: هو صدوق، رَوَى عن الليث، فأكثر، وقال ابن عديّ: كان جار الليث بن سعد، وهو أثبت الناس فيه، وعنده عن الليث ما ليس عند أحد، وقال مسلمة بن قاسم: تُكُلِّم فيه؛ لأن سماعه من مالك إنما كان بعرض حَبِيب، وقال الخليليّ: كان ثقةً، وتفرّد عن مالك بأحاديث، وقال البخاريّ في "تاريخه الصغير": ما روى ابن بكير عن أهل الحجاز في التاريخ، فإني أنفيه

(1)

، وقال ابن قانع: مصريّ ثقة، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: مات في النصف من صفر سنة إحدى وثلاثين ومائتين، وقال ابن يونس: كان مولده سنة أربع وخمسين ومائة.

روى عنه البخاريّ، والمصنّف، وابن ماجه، وله في هذا الكتاب أربعة أحاديث، برقم (1851) و (2739) و (2785) و (2942).

3 -

(لَيْثُ) بن سعد الإمام المصريّ الشهير، تقدّم قريبًا.

4 -

(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ) المصريّ، أبو بكر الفقيه الكنانيّ، أو الأمويّ مولاهم، قيل: اسم أبيه يسار، ثقةٌ فقيه عابدٌ [5](2 أو 4 أو 5 أو 136)(ع) تقدّم في "المساجد ومواضع الصلاة" 20/ 1306.

5 -

(بُكَيْرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ الأَشَجِّ) المدنيّ، ثم المصريّ، تقدّم قريبًا أيضًا. والباقيان ذُكرا قبله.

(1)

هكذا نسخة "التهذيب": "أنفيه"، من النفي، ولعله:"أتّقيه"، من الاتّقاء، فليُحرّر.

ص: 190

[تنبيه]: رواية بكير عن نافع هذه لم أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4786]

(. . .) - (حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا ابْنُ مَهْدِيٍّ (ح) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ جَبَلَةَ، حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ عُمَرَ، قَالَا جَمِيعًا: حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمَعْنَى حَدِيثِ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ).

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(عَمْرُو بْنُ عَلِيِّ) بن بحر بن كَنِيز - بنون، وزاي - مكبّرًا، أبو حفص الفَلّاس الصيرفيّ الباهليّ البصريّ، ثقةٌ حافظ [10](ت 249) تقدم في "المقدمة" 6/ 38.

2 -

(مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ جَبَلَةَ) هو: محمد بن عمرو بن عَبّاد بن جَبَلَة بن أبي رَوّاد الْعَتَكيّ، أبو جعفر البصريّ، صدوقٌ [11](ت 234)(م د) تقدم في "الإيمان" 63/ 348.

3 -

(بِشْرُ بْنُ عُمَرَ) بن الحكم الزهرانيّ الأزديّ، أبو محمد البصريّ، ثقةٌ [9](ت 7 أو 209)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 93.

4 -

(هِشَامُ بْنُ سَعْدٍ) أبو عبّاد، أو أبو سعد المدنيّ، صدوقٌ له أوهامٌ، ورُمي بالتشيّع، من كبار [7](ت 160) أو قبلها (خت م 4) تقدم في "الإيمان" 87/ 463.

5 -

(زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ) الْعَدويّ، مولى عمر، أبو عبد الله، أو أبو أُسامة المدنيّ، ثقةٌ فقيهٌ، يرسل [3](ت 136)(ع) تقدم في "الإيمان" 36/ 250.

6 -

(أَبُوهُ) أسلم العدويّ، مولى عمر بن الخطاب المدنيّ، ثقةٌ مخضرمٌ [2] (ت 80) وقيل: بعد سنة ستين، وهو ابن (114)(ع) تقدم في "الهبات" 1/ 4156.

والباقيان ذُكرا في الباب، و"ابن مهديّ" هو: عبد الرحمن.

وقوله: (قَالَا جَمِيعًا) ضمير التثنية راجع لابن مهديّ، وبشر بن عمر.

[تنبيه]: رواية زيد بن أسلم، عن أبيه، عن ابن عمر رضي الله عنهما هذه ساقها أبو عوانة رحمه الله في "مسنده"، فقال:

ص: 191

(7155)

- حدّثنا عمار بن رجاء، قال: ثنا أبو عامر الْعَقَديّ، قال: ثنا هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، قال: دخلت مع ابن عمر على ابن مطيع، قال: مرحبًا بأبي عبد الرحمن، ضَعُوا له وسادةً، فقال ابن عمر: إنما جئتك لأحدّثك حديثًا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"مَن نَزَع يدًا من طاعة، فإنه يأتي يوم القيامة، ولا حجة له، ومن مات، وهو مفارق للجماعة، فإنه يموت مِيتةً جاهليّةً". انتهى

(1)

.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}

(14) - (بَابُ حُكْمِ مَنْ فَرَّقَ أَمْرَ الْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ مُجْتَمِعٌ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4787]

(1852) - (حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ نَافِعٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ ابْنُ نَافِعٍ: حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، وَقَالَ ابْنُ بَشَّارٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ زِيَادِ بْنِ عِلَاقَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ عَرْفجَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِنَّهُ سَتَكُونُ هَنَاتٌ وَهَنَاتٌ، فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُفَرِّقَ أَمْرَ هَذِهِ الأُمَّةِ، وَهِيَ

(2)

جَمِيعٌ، فَاضْرِبُوهُ بِالسَّيْفِ كَائِنًا مَنْ كَانَ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ نَافِعٍ) هو: محمد بن أحمد بن نافع العبديّ البصريّ، صدوقٌ، من صغار [10] مات بعد (240)(م ت س) تقدم في "الإيمان" 12/ 158.

2 -

(زِيَادُ بْنُ عِلَاقَةَ) - بكسر العين المهملة، وبالقاف - الثعلبيّ، أبو مالك الكوفيّ، ثقةٌ رُمي بالنصب [3](ت 135) وقد جاوز المائة (ع) تقدم في "الإيمان" 25/ 208.

3 -

(عَرْفَجَةُ) بن شُرَيح، ويقال: ضُريح، ويقال: ابن شَرِيك، ويقال: ابن شَراحيل الأشجعيّ، صحابيّ، اختُلف في اسم أبيه، روى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم حديث الباب، وعن أبي بكر إن كان محفوظًا، وعنه زياد بن عِلاقة،

(1)

"مسند أبي عوانة" 4/ 416.

(2)

وفي نسخة: "وهم".

ص: 192

وسليمان بن حازم الأشجعيّ، ووَقْدان أبو يعقوب العبديّ، وقيل: عن أبي عون الثقفيّ، عن عَرْفجة السلميّ، عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه.

قال الحافظ: صحح ابن حبان أنه ابن شُريح، وفرّق ابن أبي خيثمة بين عرفجة الأشجعيّ، راوي الحديث المذكور، وبين عرفجة الكنديّ، وأما البخاريّ فجعلهما واحدًا، وهو الصواب، وحكى ابن عبد البرّ في اسم أبيه أيضًا: دُرَيْح، وقال: لا أعلم له غير هذين الحديثين. انتهى، وقد أورد له العسكريّ في "الصحابة" حديثين غيرهما، والله أعلم. انتهى

(1)

.

أخرج له المصنّف، وأبو داود، والنسائيّ، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث، وأعاده بعده.

والباقون تقدّموا في الباب الماضي.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالبصريين إلى شعبة، وأن صحابيّه من المقلّين من الرواية، فليس له إلا نحو حديثين، أو أربعة، كما تقدّم آنفًا.

شرح الحديث:

(عَنْ زِيَادِ بْنِ عِلَاقَةَ) بكسر العين المهملة، وتخفيف اللام، وبقاف، أنه (قَالَ: سَمِعْتُ عَرْفَجَةَ) بفتح العين المهملة، وسكون الراء، بعدها فاء، ابن شُريح، وقيل غيره، كما أسلفته آنفًا. (قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِنَّهُ)؛ أي: إن الأمر والشأن، فالضمير للشأن، وقد سبق قريبًا، (سَتَكُونُ هَنَاتٌ وَهَنَاتٌ) وفي رواية النسائيّ: "إنه سيكون بعدي هنات وهناتٌ".

و"الهنات": جمع هَنَة، وتُطلق على كل شيء، والمراد بها هنا الْفِتَن، والشرور، والأمور الحادثة، والمعنى: أنه سيظهر في الأرض أنواع الفساد والفتن لطلب الإمارة من كلّ جهة، وإنما الإمام من انعقدت له البيعة أوّلًا

(2)

.

وقال ابن الأثير رحمه الله: "هنات"؛ أي: شرور، وفساد، يقال: في فلان

(1)

"تهذيب التهذيب" 3/ 90 - 91.

(2)

راجع: "المرقاة" 7/ 258 - 259.

ص: 193

هَنَاتٌ؛ أي: خصال شرّ، ولا يقال في الخير، وواحدها هَنَتٌ، وقد تُجمع على هَنَوَات، وقيل: واحدها هَنَةٌ تأنيث هَنٍ، وهو كناية عن كل اسم جنس لا تريد أن تصرّح به؛ لشناعته. انتهى

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: "الهنات": جمع هنة، وهي كناية عن نكرة؛ أيَّ شيء كان كما تقدَّم، ويعني به: أنَّه سيكون أمور منكرة، وفتن عظيمة، كما قد ظهر، ووُجد. انتهى

(2)

.

(فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُفَرِّقَ أَمْرَ هَذِهِ الأُمَّةِ، وَهِيَ) وفي بعض النسخ: "وهم"، (جَمِيعٌ)؛ أي: مجتمعون على إمام واحد، (فَاضْرِبُوهُ بِالسَّيْفِ)؛ أي: اقتلوه (كَائِنًا مَنْ كَانَ")؛ أي: أيّ شخص كان، سواء كان ممن يستحقّ الخلافة، أو ممن لا يستحقّها، شريفًا كان، أو وضيعًا، عالمًا كان أو جاهلًا.

وقال القرطبيّ رحمه الله: يعني أنه لا يُحترم لشرفه ونسبه، ولا يهاب لعشيرته ونَشَبه

(3)

، بل يبادَر بقتله قبل شِرَارة شَرِّه، واستحكام فساده، وعَدْوَى عُرِّه

(4)

. انتهى

(5)

.

وقال الطيبيّ رحمه الله: قوله: "كائنًا من كان" حال فيه معنى الشرط؛ أي: ادفعوا من خرج على الإمام بالسيف، وإن كان أشرف، وأعلم، وترون أنه أحقّ وأَولى، قال: هذا المعنى أظهر في لفظة "ما" لأنه يجري حينئذ على صفة ذوي العلم، كما في قوله تعالى:{وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7)} [الشمس: 7]؛ أي: عظيم القدرة على الشأن. انتهى

(6)

.

زاد في رواية النسائيّ بعد قوله: "فاقتلوه" ما لفظه: "فإن يد الله على الجماعة، وإن الشيطان مع من فارق الجماعة يركُض".

ومعنى "يركض": أنه يعدو، ويُسرع، وأصل الركض: تحريك الرِّجْل، والدفع، واستحثاث الفرس للعدو، والمراد هنا: أنه يتغلغل بينهم، ويحثّهم بأن يعادي بعضهم بعضًا، ويُسرع في الإفساد بينهم.

(1)

"النهاية في غريب الأثر" 5/ 278.

(2)

"المفهم" 4/ 62.

(3)

أي: ماله.

(4)

" الْعُرّ": الْجَرَب.

(5)

"المفهم" 4/ 63.

(6)

"الكاشف عن حقائق السنن" 8/ 2566.

ص: 194

وقال النوويّ رحمه الله: فيه الأمر بقتال مَن خرج على الإمام، أو أراد تفريق كلمة المسلمين، ونحو ذلك، ويُنْهَى عن ذلك، فإن لم ينته قوتل، وإن لم يندفع شرّه إلا بقتله، فقُتل كان هدرًا، فقوله صلى الله عليه وسلم:"فاضربوه بالسيف"، وفي الرواية الأخرى:"فاقتلوه"؛ معناه: إذا لم يندفع إلا بذلك. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عرفجة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [14/ 4787 و 4788 و 4789](1852)، و (أبو داود) في "السُّنّة"(4762)، و (النسائيّ) في "تحريم الدم"(7/ 92 - 93) و"الكبرى"(2/ 292)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1224)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(20714)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(7/ 504)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 261 و 341 و 5/ 23 - 24)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 411 و 412 و 413)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4406)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(17/ 353 و 355 و 356 و 357 و 358 و 359 و 360 و 362 و 363 و 364) و"الأوسط"(4/ 114 و 6/ 142)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(8/ 168)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده

(2)

:

1 -

(منها): بيان حكم من فرّق أمر المسلمين، وهم مجتمعون، وهو وجوب قتله.

2 -

(ومنها): أن فيه عَلَمًا من أعلام النبوّة، حيث أخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم بما سيقع بعده، فوقع كما أخبر به.

3 -

(ومنها): إثبات اليد لله سبحانه وتعالى، على ما يليق بجلاله.

(1)

"شرح النوويّ" 12/ 241 - 242.

(2)

المراد الفوائد التي اشتمل عليها الحديث برواياته المختلفة التي أشرت إليها في الشرح، لا خصوص سياق المصنّف، فتنبّه.

ص: 195

4 -

(ومنها): أن فيه فضل الجماعة، وبركتهم، وأن عون الله تعالى، ونصره لا يفارقهم.

5 -

(ومنها): بيان مضرّة التفرّق، واختلاف الكلمة، وأنه سبب لاستيلاء الشيطان على المسلمين، فإنه يحبّ ذلك، حيث إن الجماعة، واتفاق الكلمة يصحبها عون الله تعالى، ونَصْره، فهو يحبّ ضدّ ذلك، فيركُض مع من فارق جماعة المسلمين، ويكون وليّهم، {وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا} [النساء: 38]، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4788]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ خِرَاشٍ، حَدَّثَنَا حَبَّانُ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ (ح) وَحَدَّثَنِي الْقَاسِمُ بْنُ زَكَرِيَّاءَ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُوسَى، عَنْ شَيْبَانَ (ح) وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا الْمُصْعَبُ بْنُ الْمِقْدَامِ الْخَثْعَمِيُّ، حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ (ح) وَحَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، حَدَّثَنَا عَارِمُ بْنُ الْفَضْلِ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بنُ الْمُخْتَارِ، وَرَجُلٌ سَمَّاهُ، كُلُّهُمْ عَنْ زِيَادِ بْنِ عِلَاقَةَ، عَنْ عَرْفَجَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِهِ، غَيْرَ أَنَّ فِي حَدِيثِهِمْ جَمِيعًا:"فَاقْتُلُوهُ").

رجال هذا الإسناد: خمسة عشر:

1 -

(أَحْمَدُ بْنُ خِرَاشٍ) هو: أحمد بن الحسن بن خِرَاش البغداديّ، أبو جعفر، صدوقٌ [11](ت 242)(م ت) تقدّم في "الإيمان" 42/ 280.

2 -

(حَبَّانُ) بن هلال، أبو حبيب البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [9](ت 216)(ع) تقدّم في "الإيمان" 55/ 322.

3 -

(أَبُو عَوَانَةَ) وضاح بن عبد الله اليشكريّ، تقدّم قريبًا.

4 -

(الْقَاسِمُ بْنُ زَكَرِيَّاءَ) بن دينار القرشيّ، أبو محمد الكوفيّ الطحّان، وربما نُسب لجدّه، ثقةٌ [11] مات في حدود (250)(م ت س ق) تقدّم في "الإيمان" 4/ 118.

5 -

(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُوسَى) بن أبي المختار باذام الْعَبْسيّ، أبو محمد الكوفيّ، ثقةٌ، كان يتشيّع [9](ت 213) على الصحيح (ع) تقدّم في "الإيمان" 4/ 118.

6 -

(شَيْبَانُ) بن عبد الرحمن التميميّ مولاهم النحويّ، أبو معاوية البصريّ، ثم الكوفيّ، ثقةٌ، صاحب كتاب [7](ت 164)(ع) تقدّم في "الإيمان" 4/ 118.

ص: 196

7 -

(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

8 -

(الْمُصْعَبُ بْنُ الْمِقْدَامِ الْخَثْعَمِيُّ) مولاهم، أبو عبد الله الكوفيّ، صدوقٌ له أوهامٌ [9](ت 203)(م ت س ق) تقدم في "الإيمان" 44/ 288.

9 -

(إِسْرَائِيلُ) بن يونس بن أبي إسحاق السَّبِيعيّ الْهَمْدانيّ، أبو يوسف الكوفيّ، ثقةٌ، تُكُلّم فيه بلا حجة [7](ت 160) أو بعدها (ع) تقدم في "الطهارة" 2/ 542.

10 -

(حَجَّاجُ) بن أبي يعقوب يوسف بن حجّاج الثقفيّ البغداديّ المعروف بابن الشاعر، ثقةٌ حافظٌ [11](ت 259)(م د) تقدم في "المقدمة" 6/ 40.

11 -

(عَارِمُ بْنُ الْفَضْلِ) هو: محمد بن الفضل السَّدُوسيّ، أبو النعمان البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ تغيّر بآخره، وعارم لقبه، من صغار [9](ت 3 أو 224)(ع) تقدم في "الحج" 28/ 3013.

12 -

(حَمَّادُ بْنُ زَيْدِ) بن درهم، تقدّم في الباب الماضي.

13 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ الْمُخْتَارِ) البصريّ، ثقةٌ [7](م د تم س ق) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 49/ 1503.

والباقيان ذُكرا قبله.

وقوله: (وَرَجُلٌ سَمَّاهُ)؛ أي: وحدّثنا رجلٌ سمّاه حماد بن زيد، ففاعل سمّى ضمير حمّاد بن زيد؛ أي: قال حماد: حدّثنا عبد الله بن المختار، وحدثنا رجل آخر، سمّاه حمّاد باسمه، قال صاحب "التنبيه": قوله: "ورجل سمّاه" رواه عبد الحميد بن أبي طالب، عن ليث، عن زياد، عن عرفجة، فلعلّ الرجل ليثٌ، وكذا رأيته بخطّ والدي. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: كون المبهم هنا هو ليث بن أبي سُليم هو الظاهر، فقد أخرج الحديث الطبرانيّ رحمه الله في "المعجم الأوسط"(4/ 114) رقم (3749) من طريق حمّاد بن زيد، عن عبد الله بن المختار، وليث بن أبي سُليم، عن زياد بن علاقة به.

وإنما أبهمه المصنّف؛ لضعفه، كما سبق بيان ترجمته في "شرح المقدّمة"، عند قول مسلم" - عند الكلام على الطبقة الثانية -: "كعطاء بن

(1)

"تنبيه المعلم" ص 324.

ص: 197

السائب، ويزيد بن أبي زياد، وليث بن أبي سليم وأضرابهم. . . إلخ"، وهذه عادته في عبد الله بن لَهِيعة، كما هو صنيع البخاريّ، والنسائيّ فيه، فكثيرًا ما كانوا يبهمونه؛ إشارة إلى ضعفه.

ويَحْتَمل أن يكون المبهم هنا هو المفضل بن فَضَالة، فقد أخرجه أيضًا الطبرانيّ في "المعجم الكبير"(17/ 143) برقم (359) من طريق حماد بن زيد، عن عبد الله بن المختار، وليث بن أبي سُليم، والمفضل بن فَضَالة

(1)

، عن زياد بن عِلاقة به، والأقرب أنه ليث المذكور؛ لأن المصنّف ذكره في "المقدّمة"، والله تعالى أعلم.

وقوله: (كُلُّهُمْ عَنْ زِيَادِ بْنِ عِلَاقَةَ)؛ أي: كل من أبي عوانة، وشيبان النحويّ، وإسرائيل بن يونس، وعبد الله بن المختار، والرجل المبهم خمستهم رووه عن زياد بن عِلاقة، عَنْ عَرْفَجَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

وقوله: (بِمِثْلِهِ)؛ أي: لفظ حديثهم مثل لفظ حديث شعبة، عن زياد بن علاقة، إلا أن في حديثهم وقع لفظ:"فَاقْتُلُوهُ" بدل "فاضربوه بالسيف".

[تنبيه]: رواية أبي عوانة، عن زياد بن عِلاقة ساقها البيهقيّ في "الكبرى" مقرونًا بشعبة، فقال:

(16466)

- أخبرنا أبو بكر محمد بن الحسن بن فُورك رحمه الله، أنبأ عبد الله بن جعفر الأصبهانيّ، ثنا يونس بن حبيب، ثنا أبو داود، ثنا شعبة، وأبو عوانة، عن زياد بن عِلاقة، سمع عَرْفجة، سمع النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول:"إنها ستكون هَنَاتٌ، وهَنَاتٌ، فمن أراد أن يُفَرِّق أمر هذه الأمة، وهم جميع، فاضربوا رأسه بالسيف، كائنًا من كان".

قال: أخرجه مسلم في "الصحيح" من حديث شعبة، وأبي عوانة. انتهى

(2)

.

(1)

الظاهر أن المفضّل بن فضالة بن أبي أميّة أبو مالك البصريّ، أخو مبارك ضعيف من الطبقة السابعة؛ لأنه الذي يروي عنه حماد بن زيد، وأما المفضل بن فَضالة بن عبيد القتبانيّ المصريّ الثقة، فإنه متأخّر عن هذا، من الطبقة الثامنة، ولم يُذكر حماد بن زيد ممن روى عنه، فليُتنبّه.

(2)

"سنن البيهقي الكبرى" 8/ 168.

ص: 198

وأما رواية شيبان، عن زياد بن عِلاقة، فقد ساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(19021)

- حدّثنا عبد الله، حدّثني أبي، ثنا أبو النضر، ثنا شيبان، عن زياد بن عِلاقة، عن عرفجة بن شريح الأسلميّ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنها ستكون بعدي هَنَات وهَنات، - ورفع يديه - فمن رأيتموه يُفَرِّق بين أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وهم جميع، فاقتلوه، كائنًا من كان من الناس". انتهى

(1)

.

وأما رواية إسرائيل بن يونس، عن زياد بن عِلاقة، فقد ساقها الطبرانيّ رحمه الله في "الكبير"، فقال:

(355)

- حدّثنا عثمان بن عمر الضبيّ، ثنا عبد الله بن رجاء، ثنا إسرائيل، عن زِياد بن عِلاقة، عن عَرْفجة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنه سيكون بعدي هَنات وهَناتٌ، فمن رأيتموه يريد أن يُفَرِّق أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وهم جميع، فاقتلوه، كائنًا من كان". انتهى

(2)

.

وأما رواية عبد الله بن المختار، والرجل الذي سمّاه، عن زياد بن عِلاقة، فقد ساقها الطبرانيّ رحمه الله في "الأوسط"، فقال:

(3749)

- حدّثنا عليّ بن عبد العزيز، قال: نا عارم أبو النعمان، قال: نا حمّاد بن زيد، عن عبد الله بن المختار، وليث بن أبي سُليم، عن زياد بن عِلاقة، عن عَرْفجة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ستكون هَنَات وهنات، فمن رأيتموه يمشي إلى أمة محمد صلى الله عليه وسلم؛ ليفرِّق جماعتهم، فاقتلوه".

قال: لم يرو هذا الحديث عن عبد الله بن المختار إلا حماد بن زيد، تفرّد به عارم. انتهى

(3)

.

وقد ساقها أيضًا في "الكبير"، وقرن معهما المفضّل بن فَضَالة، فقال:

(359)

- حدّثنا عبد الله بن الصباح الأصبهانيّ، ومحمد بن يزداد التوَّزيّ، قالا: ثنا محمد بن سليمان لُوَين، عن حمّاد بن زيد، عن عبد الله بن المختار، وليث بن أبي سُلَيم، والْمُفَضَّل بن فَضَالة، عن زياد بن عِلاقة، عن

(1)

"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 4/ 341.

(2)

"المعجم الكبير" 17/ 142.

(3)

"المعجم الأوسط" 4/ 114.

ص: 199

عَرْفجة - ورَفَع الحديثَ إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم: "إنها ستكون هَنَاتٌ وهَنَاتٌ، فمن رأيتموه يمشي إلى أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وهم جميع؛ ليفرّق بينهم فاقتلوه، كائنًا من كان". انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4789]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِي عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ أَبِي يَعْفُورٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَرْفَجَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَنْ أَتَاكُمْ، وَأَمْرُكُمْ جَمِيعٌ عَلَى رَجُلٍ وَاحِدٍ، يُرِيدُ أَنْ يَشُقَّ عَصَاكُمْ، أَوْ يُفَرِّقَ جَمَاعَتَكُمْ، فَاقْتُلُوهُ").

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

2 -

(يُونُسُ بْنُ أَبِي يَعْفُورٍ) - بفتح التحتانيّة، وسكون العين المهملة، وضمّ الفاء -، واسمه وَقْدان، وقيل: واقد العبديّ الكوفيّ، صدوقٌ يُخطئ كثيرًا [8].

رَوَى عن أبيه، وأخيه عبد الله، والأسود بن قيس، والزهريّ، وعون بن أبي جُحيفة.

وروى عنه محمد بن سعيد بن الأصبهانيّ، وعثمان بن أبي شيبة، وسعيد بن منصور، وجعفر بن حميد، ويحيى بن بكير الأرحبيّ، وعباد بن يعقوب الرَّوَاجِنيّ، وآخرون.

قال الدُّوريّ عن ابن معين: ضعيفٌ، وقال الآجريّ عن أبي داود: ليس لي به علمٌ، بلغني عن ابن معين أنه قال: ضعيفٌ، وقال أبو حاتم: صدوقٌ، وقال ابن عديّ: هو عندي ممن يُكتب حديثه، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وأعاده في "الضعفاء"، فقال: يروي عن الثقات ما لا يشبه حديث الأثبات، وقال النسائيّ: ضعيفٌ، وقال الساجيّ: فيه ضعفٌ، وكان ممن يُفْرِط في التشيُّع، وضعّفه أحمد بن حنبل، وقال الدارقطنيّ: ثقة، وقال العجليّ: لا بأس به.

(1)

"المعجم الكبير" 17/ 143.

ص: 200

انفرد به المصنّف، وابن ماجه، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.

3 -

(أَبُوهُ) وَقْدان - بسكون القاف - ويقال: واقد العبديّ الكوفيّ، وهو الأكبر

(1)

، ثقةٌ [4] مات بعد (120)(ع) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 5/ 1199.

و"عَرْفَجة رضي الله عنه" ذُكر قبله.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو أعلى ما وقع له من الأسانيد، وهو (338) من رباعيّات الكتاب.

وقوله: ("مَنْ أَتَاكُمْ، وَأَمْرُكُمْ جَمِيعٌ عَلَى رَجُلٍ وَاحِدٍ)؛ أي: مجتمع على مبايعة رجل للخلافة.

وقوله: (يُرِيدُ أَنْ يَشُقَّ عَصَاكُمْ) معناه: يفرّق جماعتكم، كما تفرّق العصا المشقوقة، وهو عبارة عن اختلاف الكلمة، وتنافر النفوس، قاله النوويّ رحمه الله

(2)

.

وقال في "النهاية": يقال: شقّ العصا؛ أي: فارق الجماعة، قال الطيبيّ رحمه الله: هذا تمثيل، شَبّه اجتماعَ الناس، واتّفاقهم على أمر واحد بالعصا إذا لم تُشقّ، وافتراقهم من ذلك الأمر بشقّ العصا، ثم كَنَى به عنه، فضُرب مثلًا للتفريق. يدلّ على هذا التأويل: قوله: "وأمركم جميع على رجل"، حيث أسند الجميع إلى الأمر إسناد مجازيًّا؛ لأنه سبب اجتماع الناس. انتهى

(3)

.

وقوله: (أَوْ يُفَرِّقَ جَمَاعَتَكُمْ)"أو" هنا للشكّ من الراوي.

وقوله: (فَاقْتُلُوهُ")؛ أي: إن لم يندفع إلا بالقتل، وإلا فيُدفع بالأسهل فالأسهل، والله تعالى أعلم.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(1)

ولهم أبو يعفور الأصغر، واسمه عبد الرحمن بن عُبيد بن نِسْطاس من الطبقة الخامسة، تقدّم في "الإيمان" 38/ 260.

(2)

"شرح النوويّ" 12/ 242.

(3)

"الكاشف عن حقائق السنن" 8/ 2566.

ص: 201

(15) - (بَابٌ إِذَا بُويعَ لِخَلِيفَتَيْنِ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4790]

(1853) - (وَحَدَّثَنِي وَهْبُ بْنُ بَقِيَّةَ الْوَاسِطِيُّ، حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، عَنِ الْجُرَيْرِيِّ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا بُويعَ لِخَلِيفَتَيْنِ، فَاقْتُلُوا الآخَرَ مِنْهُمَا").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(وَهْبُ بْنُ بَقِيَّةَ الْوَاسِطِيُّ) هو: وهب بن بقيّة بن عثمان بن شابور بن عُبيد بن آدم بن زياد، أبو محمد المعروف بوَهْبان، ثقةٌ [10].

رَوَى عن حماد بن زيد، وجعفر بن سليمان الضُّبَعيّ، وهُشيم، وسليم بن أخضر، وعبد الأعلى بن عبد الأعلى، وخالد بن عبد الله، وغيرهم.

وروى عنه مسلم، وأبو داود، وروى النسائيّ عن زكريا السجزيّ، عنه، وأبو زرعة الرازيّ، وابن أبي عاصم، وبَقَيّ بن مَخْلَد، وحنبل بن إسحاق، وغيرهم.

قال هاشم بن مَرْثد عن ابن معين: وَهْبان ثقةٌ، إلا أنه سمع وهو صغير، وقال الخطيب: كان ثقةً، وقال مسلمة: واسطيّ ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، مات سنة تسع وثلاثين ومائتين، وفيها أرّخه غير واحد، زاد بَحْشَل: وُلد سنة خمس وخمسين ومائة.

روى عنه المصنّف، وأبو داود، وروى النسائي عنه بواسطة، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط، هذا برقم (1853)، وحديث (1990) و (2218).

2 -

(خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) بن عبد الرحمن بن يزيد الطحّان، أبو الْهَيثم الواسطيّ المزنيّ مولاهم، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 182)(ع) تقدم في "الإيمان" 78/ 407.

3 -

(الْجُرَيْرِيُّ) سعيد بن إياس، أبو مسعود البصريّ، ثقةٌ اختلط قبل موته بثلاث سنين [5](ت 144)(ع) تقدم في "الإيمان" 40/ 266.

ص: 202

4 -

(أَبُو نَضْرَةَ) المنذر بن مالك بن قُطَعَة الْعَبْديّ البصريّ، ثقةٌ [3](ت 8 أو 109)(خت م 4) تقدم في "الإيمان" 6/ 127.

5 -

(أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ) سعد بن مالك بن سِنَان الأنصاريّ الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، مات سنة (3 أو 4 أو 65) وقيل:(74)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 485.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأن فيه واسطيَّيْن، وبصريَّيْن، ومدنيّ، وفيه أبو سعيد رضي الله عنه من المكثرين السبعة، روى (1170) حديثًا.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: إِذَا بُويِعَ لِخَلِيفَتَيْنِ، فَاقْتُلُوا الآخَرَ مِنْهُمَا) قال النوويّ رحمه الله: هذا محمول على إذا لم يندفع إلا بقتله، وقد سبق إيضاح هذا في الأبواب السابقة، وفيه أنه لا يجوز عَقْدها لخليفتين، وقد سبق قريبًا نَقْل الإجماع فيه، واحتمال إمام الحرمين. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: نَقْل الإجماع المذكور فيه نَظَر لا يخفى، فإن الواقع في الأمة خلافه، فقد حصلت البيعة لابن الزبير، وعبد الملك بن مروان في واحد، وكذلك لغيرهما، مع وجود كثير من الصحابة وأكابر التابعين، فتأمله بالإمعان، والله تعالى أعلم.

وقال القرطبيّ رحمه الله: هذا فيه من الفقه تسمية الملوك بالخلفاء، وإن كانت الخلافة الحقيقيّة إنما صحّت للخلفاء الأربعة رضي الله عنهم، وفيه أنه لا يجوز نصب خليفتين، كما تقدّم. انتهى

(2)

.

وقال البيضاويّ رحمه الله: قوله: "فاقتلوا الآخر" قيل: أراد بالقتل: المقاتَلة؛ لأنها تؤدّي إليه من حيث إنه غايتها، وقيل: أراد: إبطال بيعته، وتوهين أمره،

(1)

"شرح النوويّ" 12/ 242.

(2)

"المفهم" 4/ 63.

ص: 203

من قولهم: قتلت الشراب: إذا مزجته، وكسرت سَوْرته بالماء، ومنه قول حسّان رضي الله عنه[من الكامل]:

إِنَّ الَّتِي نَاوَلْتَنِي فَرَدَدْتُهَا

قُتِلَتْ قُتِلْتَ فَهَاتِهَا لَمْ تُقَتَّلِ

قال الطيبيّ رحمه الله: أقول: الأول من الوجهين يستدعي الثاني؛ لأن الآخَر منهما خارج على الأول، باغٍ عليه، فتجب المقاتلة معه حتى يفيء إلى أمر الله، وإلا قُتِل، فهو مجاز باعتبار ما يَؤُول؛ للحثّ على دفعه، وإبطال بيعته، وتوهين أمره، وقال النوويّ: قاتِل أهل البغي غير ناقض عَهْده لهم إن عَهِدَ؛ لأنهم حاربوا من يلزم الإمامَ محاربته.

واتّفقوا على أنه لا يجوز أن تُعقد الإمامة لخليفتين في عصر واحد، سواء اتّسعت دار الإسلام أو لا، قال إمام الحرمين في "كتاب الإرشاد": قال أصحابنا: لا يجوز عقدها لشخصين، قال: وعندي أنه لا يجوز عقدها للاثنين في صقع

(1)

واحد، وإن بَعُدَ ما بينهما، وتخلّلت بينهما شسوعٌ، فللاحتمال فيه مجال، وهو خارج من القواطع. انتهى

(2)

، والله تعالى أعلم بالصواب.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [15/ 4790](1853)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 411)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(8/ 144) و"شُعَب الإيمان"(6/ 10)، والله تعالى أعلم.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(1)

"الصقع" بضمّ الصاد، وسكون القاف: الناحية من البلاد، والجهة أيضًا، والمحلّة. اهـ. "المصباح" 1/ 345.

(2)

"الكاشف عن حقائق السنن" 8/ 2565.

ص: 204

(16) - (بَابُ وُجُوبِ الإِنْكَارِ عَلَى الأُمَرَاءِ فِيمَا يُخَالِفُ الشَّرْعَ، وَتَرْكِ قِتَالِهِمْ مَا صَلَّوْا)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4791]

(1854) - (حَدَّثَنَا هَدَّابُ بْنُ خَالِدٍ الأَزْدِيُّ، حَدَّثَنَا هَمَّامُ بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ ضَبَّةَ بْنِ مِحْصَنٍ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "سَتَكُونُ أُمَرَاءُ، فَتَعْرِفُونَ، وَتُنْكِرُونَ، فَمَنْ عَرَفَ بَرِئَ، وَمَنْ أَنْكَرَ سَلِمَ، وَلَكِنْ مَنْ رَضِيَ، وَتَابَعَ"، قَالُوا: أفَلَا نُقَاتِلُهُمْ؟ قَالَ: "لَا، مَا صَلَّوْا").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(هَدَّابُ بْنُ خَالِدٍ الأَزْدِيُّ) البصريّ، ويقال له: هُدْبَةُ، ثقةٌ عابدٌ، تفرّد النسائيّ بتليينه، من صغار [9] مات سنة بضع و (230)(خ م د) تقدم في "الإيمان" 11/ 151.

2 -

(هَمَّامُ بْنُ يَحْيَى) بن ديار الْعَوْذيّ، أبو عبد الله، أو أبو بكر البصريّ، ثقةٌ [7](ت 4 أو 165)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 70.

3 -

(قَتَادَةُ) بن دِعامة السَّدُوسيّ، تقدّم قريبًا.

4 -

(الْحَسَنُ) بن أبي الحسن يسار الأنصاريّ مولاهم، أبو سعيد البصريّ، ثقةٌ فقيهٌ فاضلٌ، يُرسل كثيرًا، ويدلّس، رأس الطبقة [4](ت 110) وقد قارب التسعين (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 306.

5 -

(ضَبَّةُ بْنُ مِحْصَنٍ) الْعَنَزيّ البصريّ، صدوقٌ [3].

رَوَى عن عمر، وأبي موسى، وأبي هريرة، وأم سلمة رضي الله عنهم.

وروى عنه عبد الرحمن بن أبي ليلى، والحسن، وقتادة، وميمون بن مِهْران، وغيرهم.

قال ابن سعد: كان قليل الحديث، وقال محمد بن عبد الله الأزديّ الأندلسيّ: هو ثقةٌ، مشهورٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات". له في الكتب حديث واحد في الإسراء

أخرج له المصنّف، وأبو داود، والترمذيّ، وليس له عندهم إلا هذا الحديث، وأعاده المصنّف بعده.

ص: 205

6 -

(أُمُّ سَلَمَةَ) هند بنت أبي أميّة حذيفة، أو سهيل بن عبد الله بن عُمر بن المغيرة بن مخزوم المخزوميّة، أم المؤمنين، تزوّجها النبيّ صلى الله عليه وسلم بعد أبي سلمة سنة أربع، وقيل: ثلاث، وعاشت بعد ذلك ستّين سنةً، وماتت سنة (62) على الأصحّ (ع) تقدمت في "شرح المقدمة" جـ 2 ص 473.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسلٌ بالبصريين، سوى الصحابيّة، فمدنيّة، وفيه ثلاثة من التابعين روى بعضهم عن بعض: قتادة، عن الحسن، عن ضبّة، وضبّة لا يوجد في الكتب الستّة من يتسمّى باسمه غيره.

شرح الحديث:

(عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ) رضي الله عنها (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "سَتَكُونُ أُمَرَاءُ) وفي الرواية التالية: "إِنَّهُ يُسْتَعْمَلُ عَلَيْكُمْ أُمَرَاءُ"، (فَتَعْرِفُونَ، وَتُنْكِرُونَ)؛ أي: يعمل أولئك الأمراء أعمالًا منها ما تعرفون كونه معروفًا، ومنها ما تعرفون كونه منكرًا، فتنكرونه

(1)

. (فَمَنْ عَرَفَ بَرِئَ) وفي الرواية التالية: "فمن كَرِهَ فقد برئ"، قال القرطبيّ رحمه الله: أي: من عرف المنكر، وكرِهه بقلبه، بدليل الرواية الأخرى، فتُقيّد إحداهما بالأخرى؛ يعني: أن من كان كذلك، فقد برئ؛ أي: تبرّأ من فعل المنكر، ومن فاعله. انتهى

(2)

.

وقال النوويّ رحمه الله: فأما رواية مَن رَوَى: "فمن كَرِه فقد برئ"، فظاهرةٌ، ومعناه: مَن كَرِه ذلك المنكر، فقد برئ من إثمه، وعقوبته، وهذا في حقّ من لا يستطيع إنكاره بيده، ولا لسانه، فليكرهه بقلبه، وليبرأ، وأما من روى:"فمن عَرَف، فقد برئ"؛ فمعناه - والله أعلم -: فمن عَرَفَ المنكر، ولم يشتبه عليه، فقد صارت له طريق إلى البراءة من إثمه، وعقوبته، بأن يغيّره بيديه، أو بلسانه، فإن عَجَز، فليكرهه بقلبه. انتهى

(3)

.

وقال الطيبيّ نقلًا عن البيضاويّ: قوله: "تعرفون، وتنكرون" صفتان

(1)

"المفهم" 4/ 64.

(2)

"المفهم" 4/ 64.

(3)

"شرح النوويّ" 12/ 243.

ص: 206

لـ "أمراء"، والراجع فيهما محذوفٌ؛ أي: تعرفون بعض أفعالهم، وتنكرون بعضها، يريد: أن أفعالهم يكون بعضها حسنًا، وبعضها قبيحًا، فمن قَدَر أن يُنكر عليهم قبائح أفعالهم، وسماجة أحوالهم، وأنكر، فقد برئ من المداهنة والنفاق، ومن لم يقدر على ذلك، ولكن أنكر بقلبه، وكرِهَ ذلك، فقد سَلِم من مشاركتهم في الوزر والوبال، ولكن من رضي بفعلهم بالقلب، وتابعهم في العمل، فهو الذي شاركهم في العصيان، واندرج معهم تحت اسم الطغيان. انتهى

(1)

.

(وَمَنْ أَنْكَرَ سَلِمَ)؛ أي: من أنكر ذلك المنكر بقلبه، بدليل تقييده بذلك في الرواية الأخرى؛ أي: اعتقد الإنكار بقلبه، وجزم عليه، بحيث لو تمكّن من إظهار الإنكار لأنكره، ومن كان كذلك فقد سلِم من مؤاخذة الله تعالى على الإقرار على المنكر، وهذه المرتبة هي رتبة من لم يقدر على تغيير المنكر، لا باللسان، ولا باليد، وهي التي قال فيها النبيّ صلى الله عليه وسلم:"وذلك أضعف الإيمان، وليس وراء ذلك حبّة خردل من إيمان"

(2)

، رواه مسلم.

(وَلَكِنْ مَنْ رَضِيَ، وَتَابَعَ")؛ أي: ولكن الإثم والعقوبة على من رَضِيَ المنكر، وتابع على فعله، وإنما حذف الخبر؛ لدلالة الحال، وسياق الكلام على أن حكم هذا القسم ضدّ ما أثبته لقسيميه

(3)

.

(قَالُوا) زاد في الرواية التالية: "يا رسول الله"، (أفَلَا نُقَاتِلُهُمْ؟)؛ أي: الأمراء الذين يفعلون ذلك المنكر، (قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("لَا)؛ أي: لا تقاتلوهم (مَا صَلَّوْا")"ما" مصدريّة ظرفيّة؛ أي: مدّة صلاتهم، والظاهر أن المراد: إقامة الصلاة، ومنهم من تأوّله بأن المراد: ما داموا على الإسلام، فالصلاة إشارة إلى ذلك، لكن الأول هو الأظهر، فإذا تركوا الصلاة جاز الخروج عليهم، فتأمّل، والله تعالى أعلم.

وقال الطيبيّ رحمه الله: وإنما منع عن قتالهم ما داموا يقيمون الصلاة التي هي

(1)

"الكاشف عن حقائق السنن" 8/ 2562.

(2)

"المفهم" 4/ 64.

(3)

"الكاشف عن حقائق السنن" 8/ 2562.

ص: 207

عماد الدين، وعُنوان الإسلام، والفارق بين الكفر والإيمان؛ حذرًا من تهييج الفتن، واختلاف الكلمة، وغير ذلك مما يكون أشدّ نكايةً من احتمال مُنكَرهم، والمصابرة على ما يُنكر منهم. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أم سلمة رضي الله عنها هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [16/ 4791 و 4792 و 4793 و 4794](1854)، و (أبو داود) في "السُّنّة"(4760 و 4761)، و (الترمذيّ) في "الفتن"(2265)، و (ابن المبارك) في "مسنده"(1/ 148)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(7/ 469)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 295 و 302 و 305 و 321)، و (ابن راهويه) في "مسنده"(4/ 128 و 147)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 417 و 418)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(12/ 414)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(23/ 330)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(8/ 158)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان وجوب الإنكار على الأمراء فيما يخالف الشرع.

2 -

(ومنها): أن فيه معجزةً ظاهرةً للنبيّ صلى الله عليه وسلم حيث أخبر بما يقع بعده، فوقع ذلك كما أخبر صلى الله عليه وسلم.

3 -

(ومنها): أن فيه دليلًا على أن مَن عجز عن إزالة المنكر، لا يأثم بمجرد السكوت، بل إنما يأثم بالرضى به، أو بأن لا يكرهه بقلبه، أو بالمتابعة عليه.

4 -

(ومنها): أنه لا يجوز الخروج على الخلفاء بمجرد الظلم، أو الفسق، ما لم يغيروا شيئًا من قواعد الإسلام.

(1)

"الكاشف عن حقائق السنن" 8/ 2562.

ص: 208

5 -

(ومنها): أن الأمراء لا يقاتَلون، ولا يُقتلون إذا صلوا الصلوات الخمس، وأن من لم يصلّها قوتِل، وقُتِل، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4792]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِي أَبُو غَسَّانَ الْمِسْمَعِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، جَمِيعًا عَنْ مُعَاذٍ - وَاللَّفْظُ لأَبِي غَسَّانَ - حَدَّثَنَا مُعَاذٌ - وَهُوَ ابْنُ هِشَامٍ الدَّسْتَوَائِيُّ - حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ قَتَادَةَ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ، عَنْ ضَبَّةَ بْنِ مِحْصَنٍ الْعَنَزِيِّ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "إِنَّهُ يُسْتَعْمَلُ عَلَيْكُمْ أُمَرَاءُ، فَتَعْرِفُونَ، وَتُنْكِرُونَ، فَمَنْ كَرِهَ فَقَدْ بَرِئَ، وَمَنْ أَنْكَرَ، فَقَدْ سَلِمَ، وَلَكِنْ مَنْ رَضِيَ وَتَابَعَ"، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، أَلَا نُقَاتِلُهُمْ؟ قَالَ: "لَا، مَا صَلَّوْا"؛ أَيْ: مَنْ كَرِهَ بِقَلْبِهِ، وَأَنْكَرَ بِقَلْبِهِ).

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(أَبُو غَسَّانَ الْمِسْمَعِيُّ) مالك بن عبد الواحد البصريّ، ثقةٌ [10](ت 230)(م د) تقدم في "الإيمان" 8/ 137.

2 -

(مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ) بُندار، تقدّم قبل باب.

3 -

(مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ الدَّسْتَوَائِيُّ) البصريّ، وقد سكن اليمن، صدوقٌ ربّما وَهِمَ [9](ت 200)(ع) تقدم في "الإيمان" 12/ 156.

4 -

(أَبُوهُ) هشام بن أبي عبد الله سَنْبَر الدستوائيّ، أبو بكر البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ، وقد رُمي بالقدر، من كبار [7](ت 154)(ع) تقدم في "الإيمان" 12/ 156.

والباقون ذُكروا قبله.

وقوله: (أَيْ: مَنْ كَرِهَ بِقَلْبِهِ، وَأَنْكَرَ بِقَلْبِهِ) هذا التفسير إما من قتادة، كما ذكره البيهقيّ في "الكبرى"، ولفظه:"قال قتادة: يعني من أنكر بقلبه، ومن كره بقلبه". انتهى.

وإما من الحسن، فقد ذكره البيهقيّ أيضًا، فقال: قال الحسن: فمن أنكر بلسانه فقد برئ، وقد ذهب زمان هذه، ومن كره بقلبه، فقد جاء زمان هذه. انتهى

(1)

.

(1)

"سنن البيهقيّ الكبرى" 8/ 158.

ص: 209

وقال محمد بن نصر المروزيّ في "تعظيم قدر الصلاة": وقال الحسن وفسّره: فمن أنكر بلسانه، فقد برئ، فقد ذهب زمان هذا، ومن كره بقلبه، فقد سَلِم، وقد جاء زمان هذا، قال: ولكن مَن رَضِيَ وتابع، قال الحسن: فأبعده الله. انتهى

(1)

.

ونقل الطيبيّ عن المظهر أنه قال: هذا التفسير غير مستقيم؛ لأن الإنكار يكون باللسان، والكراهة بالقلب، ولو كان كلاهما بالقلب لكانا مُنْكَرين؛ لأنه لا فرق بينهما بالنسبة إلى القلب، وقد جاء هذا الحديث في رواية أخرى، وفي تلك الرواية:"من أنكر بلسانه برئ، ومن أنكر بقلبه، فقد سَلِم".

وتعقّبه الطيبيّ، فقال: أقول: هذا التعليل غير مستقيم، وأول شيء يدفعه ما في الحديث من قوله:"تُنكرون"؛ لأن هذا الإنكار ليس إلا بالقلب؛ لوقوعه قسيمًا لـ "تعرفون"، ومعناه على ما قال الشيخ التوربشتيّ، والقاضي: أي: تَرَوْن منهم من حسن السيرة ما تعرفون، وترون من سوء السيرة ما تنكرون؛ أي: تجهلونه، فإن المعروف ما يُعرف بالشرع حُسنه، والمنكر عكسه، ولأن قوله:"فمن أنكر فقد برئ، ومن كره فقد سَلِم" تفصيل لـ "تنكرون" بشهادة الفاء في "فمن أنكر"، ولن يكون المفصّل مخالفًا للمجمَل؛ ومعناه: فمن أنكر ما لا يُعرف حُسنه في الشرع، فقد برئ من النفاق، ومن لم يُنكره حقّ الإنكار، بل كرهه بقلبه، فقد سَلِم، ولا بدّ لمن أنكره بقلبه حقّ الإنكار أن يُظهره بالمكافحة بلسانه، بل يجاهد بيده، وجميع جوارحه، وإذا قيّد الإنكار بقلبه أفاد هذا المعنى، وإذا خصّ بلسانه لم يُفده، ويدلّ على أن الإنكار إذا لم يكن كما ينبغي سُمّي بالكراهة.

قال: وحاشا لمكانة إمام أئمة الدنيا - أعني: مسلمًا - أن يَخرج مِن فيه كلام غير مستقيم، لا سيّما في تفسير الكلام النبويّ. انتهى

(2)

.

(1)

"تعظيم قدر الصلاة" 2/ 908.

(2)

"الكاشف عن حقائق السنن" 8/ 2562.

ص: 210

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4793]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِي أَبُو الرَّبِيعِ الْعَتَكِيُّ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ - يَعْنِي: ابْنَ زَيْدٍ - حَدَّثَنَا الْمُعَلَّى بْنُ زِيادٍ، وَهِشَامٌ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ ضَبَّةَ بْنِ مِحْصَنٍ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِنَحْوِ ذَلِكَ، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: "فَمَنْ أَنْكَرَ فَقَدْ بَرِئَ، وَمَنْ كَرِهَ فَقَدْ سَلِمَ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(أَبُو الرَّبِيعِ الْعَتَكِيُّ) سليمان بن داود الزهرانيّ البصريّ، نزيل بغداد، ثقةٌ [10](ت 234)(خ م د س) تقدّم في "الإيمان" 23/ 190.

2 -

(حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ) تقدّم قبل باب.

3 -

(الْمُعَلَّى بْنُ زِيَادٍ) الْقُرْدوسيّ، أبو الحسن البصريّ، صدوقٌ قليل الحديث، زاهدٌ [7].

رَوَى عن الحسن، وحنظلة السَّدُوسيّ، ومعاوية بن قُرّة، والعلاء بن بشر، وغيرهم.

ورَوَى عنه هشام بن حسان، وهو من أقرانه، وحماد بن زيد، وجعفر بن سليمان، وغيرهم.

قال إسحاق بن منصور، عن ابن معين، وأبو حاتم: ثقةٌ، وقال أبو بكر البزاز: ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات".

وقال ابن عديّ: حدّثنا عليّ بن أحمد - يعني: علّان - حدّثنا أحمد بن سعيد بن أبي مريم، قال: سألت ابن معين عن معلى بن زياد، فقال: ليس بشيء، ولا يُكتب حديثه، وقال ابن عديّ: هو معدود من زُهّاد أهل البصرة، ولا أرى برواياته بأسًا، ولا أدري من أين قال ابن معين: لا يُكتب حديثه؟. انتهى.

أخرج له البخاريّ في التعاليق، والمصنّف، والأربعة، وليس له في هذا الكتاب إلا ثلاثة أحاديث فقط، هذا برقم (1854)، وحديث (2888)، وحديث (2948)

4 -

(هِشَامُ) بن حسّان الأزديّ الْقُرْدوسيّ، أبو عبد الله البصريّ، ثقةٌ، من أثبت الناس في ابن سيرين، وفي روايته عن الحسن وعطاء مقال؛ لأنه قيل: كان يرسل عنهما [6](ت 7 أو 148)(ع) تقدّم في "المقدمة" 5/ 26.

ص: 211

والباقون ذُكروا قبله.

وقوله: (غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: "فَمَنْ أَنْكَرَ. . . إلخ) كان الظاهر أن يقول: "قالا"، فيكون ضمير التثنية عائدًا على المعلى، وهشام، ويمكن أن يُجعل الضمير راجعًا إلى شيخه أبي الربيع، والله تعالى أعلم.

[تنبيه]: رواية المعلى بن زياد، وهشام بن حسّان، كلاهما عن الحسن البصريّ، ساقها أبو داود في "سننه"، فقال:

(4760)

- حدّثنا مسدد، وسليمان بن داود المعنى، قالا: ثنا حماد بن زيد، عن المعلَّى بن زياد، وهشام بن حسّان، عن الحسن، عن ضَبّة بن مِحْصَن، عن أم سلمة زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ستكون عليكم أئمة، تعرفون منهم، وتنكرون، فمن أنكر - قال أبو داود: قال هشام: - بلسانه فقد برئ، ومن كَرِهَ بقلبه، فقد سلم، ولكن مَن رَضِيَ وتابع"، فقيل: يا رسول الله، أفلا نقتلهم؟ - قال ابن داود: أفلا نقاتلهم؟ -، قال:"لا، ما صَلَّوْا". انتهى

(1)

.

وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4794]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَاهُ حَسَنُ بْنُ الرَّبِيعِ الْبَجَلِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ هِشَامٍ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ ضَبَّةَ بْنِ مِحْصَنٍ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَ مِثْلَهُ، إِلَّا قَوْلَهُ: "وَلَكِنْ مَنْ رَضِيَ وَتَابَعَ"، لَمْ يَذْكُرْهُ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(حَسَنُ بْنُ الرَّبيعِ) البجلي الكوفي، ثقة [10] تقدم في "المقدمة" 5/ 26.

2 -

(ابْنُ المُبارَكِ) هو عبد الله، الإمام الحُجّة المشهور، [8] تقدم في "المقدمة" 5/ 32.

3 -

(هشامٌ) ابن حسان القردوسي البصري، ثقة [6] تقدم في "المقدمة" 5/ 26. والباقون ذُكروا قبله.

[تنبيه]: رواية هشام بن حسّان، عن الحسن هذه ساقها الطبرانيّ رحمه الله في "الكبير"، فقال:

(4761)

- حدّثنا عليّ بن عبد العزيز، ثنا الحسن بن الربيع، ثنا

(1)

"سنن أبي داود" 4/ 242.

ص: 212

ابن المبارك، عن هشام بن حسّان، عن الحسن، عن ضَبّة بن مِحْصَن، عن أم سلمة، قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنها سيكون أمراء، يُعْرَفون، ويُنْكَرون، فمن أنكر فقد برئ، ومن كَرِه فقد سَلِمَ"، قيل: يا رسول الله، فيقاتَلُون؟ قال:"لا، ما صَلَّوْا". انتهى

(1)

.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(17) - (بَابُ خِيَارِ الأَئِمَّةِ، وَشِرَارِهِمْ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4795]

(1855) - (حَدَّثَنَا إِسْحَاق بْن إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ، أَخْبَرَنَا عِيسَى بْن يُونُسَ، حَدَّثَنَا الأَوْزَاعِيُّ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ، عَنْ رُزَيْقِ بْنِ حَيَّانَ، عَنْ مُسْلِمِ بْنِ قَرَظَةَ، عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"خِيَارُ أَئِمَّتِكُمُ الَّذِينَ تُحِبُّونَهُمْ، وَيُحِبُّونَكُمْ، وَيُصَلُّونَ عَلَيْكُمْ، وَتُصَلُّونَ عَلَيْهِمْ، وَشِرَارُ أَئِمَّتِكُمُ الَّذِينَ تُبْغِضُونَهُمْ، وَيُبْغِضُونَكُمْ، وَتَلْعَنُونَهُمْ، وَيَلْعَنُونَكُمْ"، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَفَلَا نُنَابِذُهُمْ بِالسَّيْفِ؟، فَقَالَ

(2)

: "لَا، مَا أَقَامُوا فِيكُمُ الصَّلَاةَ، وَإِذَا رَأَيْتُمْ مِنْ وُلَاتِكُمْ شَيْئًا تَكْرَهُونَهُ، فَاكْرَهُوا عَمَلَهُ، وَلَا تَنْزِعُوا يَدًا مِنْ طَاعَةٍ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(إِسْحَاقُ بْن إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ) ابن راهويه، تقدّم قبل بابين.

2 -

(عِيسَى بْنُ يُونُسَ) بن أبي إسحاق السَّبِيعيّ، تقدّم قريبًا.

3 -

(الأَوْزَاعِيُّ) عبد الرحمن بن عمرو بن أبي عمرو، أبو عمرو الدمشقيّ، ثقةٌ فقيهٌ إمام مشهور [7](157)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 28.

4 -

(يَزِيدُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ) الأزديّ الدمشقيّ، ثقةٌ فقيهٌ [6].

رَوَى عن عبد الرحمن بن أبي عمرة، وبُسر بن عبيد الله الحضرميّ، ورُزيق بن حيّان، ومكحول، ووهب بن مُنَبِّه، وغيرهم.

(1)

"المعجم الكبير" 23/ 331.

(2)

وفي نسخة: "قال".

ص: 213

وروى عنه أخوه عبد الرحمن بن يزيد، وابن أخيه عبد الرحمن، والأوزاعيّ، وثور بن يزيد، ويزيد بن يوسف الصنعانيّ، والسفيانان، وحسين بن عليّ الجعفيّ، وآخرون.

قال ابن سعد: كان ثقةً - إن شاء الله تعالى - وكان أصغر من أخيه، ولكنه تقَدّم موته، وقال البخاريّ: قال عليّ: سمعت حُسينًا الجعفيّ يقول: قَدِمَ علينا يزيد بن يزيد، فذكر من بكائه، وقال أبو مسهر، عن سعيد بن عبد العزيز: رأيت يزيد بن يزيد بن جابر يَعْرِض على الزهريّ، وقال له مكحول في قصة جَرَت: إنك رجل يؤخذ عنك، قال أبو مسهر: أعْلى أصحاب مكحول: سليمان بن موسى، ويزيد بن يزيد، وكذا قال الهيثم بن خارجة، ودُحَيم، وقال ابن أبي حاتم، عن أبيه: أثبتهم سليمان، ثم يزيد، وقال أيضًا: سمعت أبي يقول: أختار من أهل الشام بعد الزهريّ ومكحول: سليمان ويزيد، وقال صالح بن أحمد، عن ابن المدينيّ: سمعت سفيان يقول: قَدِم علينا يزيد بن يزيد، وكان حسن الهيئة، حسن النحو، كانوا يقولون: لم يكن في أصحاب مكحول مثله، وعن ابن عيينة قال: كان يزيد ثقةً عالِمًا حافظًا، لا أعلم مكحولًا خَلّف مثله، إلا ما ذكره ابن جريج عن سليمان بن موسى، وقال أبو مسهر: لما مات مكحول، جالسوا يزيد بن يزيد، فكان يَزِنُ الكلام، فجالسوا سليمان بن موسى، فأوسعهم، وقال أبو قزعة: قلت لدُحيم: فيزيد بن يزيد بن جابر فوق العلاء بن الحارث؟ قال: نعم، وقال أبو طالب عن أحمد: لا بأس به، من صالحيهم، وقال ابن معين، والنسائيّ: ثقةٌ، وقال الآجريّ عن أبي داود: يزيد وأخوه عبد الرحمن من ثقات الثقات، ذُكر يزيد للقضاء، فإذا هو أكبر من القضاء، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: كان من خيار عباد الله تعالى، وقال ابن أبي حاتم: عَرَض عليه شعيبُ بنُ حمزة اختلاف الزهريّ ومكحول، فخَطّأ الزهريّ أحيانًا، وخَطّأ مكحولًا أحيانًا، وقال أبو زرعة الدمشقيّ: رأيت في بعض الكتب: مات يزيد بن يزيد بن جابر سنة ثلاث وثلاثين، - أي: ومائة - وفيها أرّخه خليفة، وعمرو بن دُحيم، وقال الواقديّ، وجماعة: مات سنة أربع وثلاثين ومائة، ولم يبلغ ستين سنة.

أخرج له المصنّف، وأبو داود، والترمذيّ، وابن ماجه، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.

ص: 214

5 -

(رُزَيْقُ بْنُ حَيَّانَ) ويقال: زُريق بتقديم الزاي، أبو المقدام الدمشقيّ، مولى بني فزارة، ذكره البخاريّ وغير واحد في الراء، وذكره أبو زرعة الدمشقيّ في الزاي، قال: وزُريقٌ لقبٌ لقّبه إياه عبد الملك بن مروان، واسمه سعيد بن حَيّان، صدوق [6].

رَوَى عن مسلم بن قَرَظَة الأشجعيّ، وعمر بن عبد العزيز.

وروى عنه عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، وأخوه يزيد بن يزيد، ويحيى بن سعيد الأنصاريّ، ويحيى بن حمزة، قال ابن سُميع: ولاه الوليد، وسليمان، وعُمر عشور أموال التجارة، ووثّقه النسائيّ، وقال أبو زرعة الرازيّ: إنه بتقديم الزاي أصحّ، وذكره ابن حبان في "الثقات" في الزاي فقط.

قال أبو زرعة الدمشقيّ: حدّثني مُحرز بن عبد الله بن مُحرز، عن أبيه، قال: تُوُفِّي زُرَيق بأرض الروم، في إمارة يزيد بن عبد الملك، وهو ابن ثمانين سنةً، وأرّخه ابن يونس سنة (105).

قال الحافظ: قرأت بخط الذهبيّ: إن كانت وفاته محفوظةً، فرواية يحيى بن حمزة عنه مستحيل.

تفرّد به المصنّف، وليس له عنده في هذا الكتاب إلا هذا الحديث، وأعاده بعده.

6 -

(مُسْلِمُ بْنُ قَرَظَةَ) - بفتحات، والظاء المعجمة - الأشجعيّ، ابن أخي عوف بن مالك، ثقة

(1)

[3].

(1)

فقوله في "التقريب": مقبول، غير مقبول؛ لأنه روى عنه جماعة، وأخرج له مسلم هنا في الأصول، وقال عنه البزّار: مشهور، ووثقه ابن حبّان، ولم يشر إلى تضعيفه أحد، فلا شكّ في توثيق مثل هذا، فتأمله بالإمعان، وقد ذكرت في "الفوائد" قاعدة ذكرها الذهبيّ رحمه الله في كتابه "ميزان الاعتدال"، فقلت:

قَاعِدَةٌ حَقَّقَهَا الإِمَامُ

الذَّهَبِيُّ النَّاقِدُ الْهُمَامُ

إِذَا رَوَى جَمَاعَةٌ عَنْ أَحَدِ

مِنَ الْمَشَايِخِ وَلَمْ يُنْتَقَدِ

بِنَقْلِهِ الْمُنْكَرَ قُلْ صَحِيحُ

حَدِيثُهُ وَإِنْ خَلَا التَّصْرِيحُ

مِنَ الأَئِمَّةِ بِكَوْنِهِ ثِقَهْ

بِذَا يَقُولُ جُلُّ مَنْ قَدْ حَقَّقَهْ

قَالَ بِذَا الشَّيْخَانِ إِذْ قَدْ أَوْرَدَا

لَدَى "الصَّحِيحَيْنِ" رِجَالًا مَا بَدَا =

ص: 215

رَوَى عن عوف بن مالك، وهو ابن عمه، ويقال: ابن أخيه، وروى عنه ربيعة بن يزيد، وزريق بن حيّان مولى بني فزارة.

قال أبو بكر البزار: مسلم هذا مشهور، وذكره يعقوب بن سفيان في الطبقة العليا من أهل الشام، وذكره ابن حبان في "الثقات".

[تنبيه]: قال الحافظ المزيّ: ذكر صاحب "الكمال" أن يزيد بن يزيد بن جابر رَوَى عن مسلم هذا، ووهم في ذلك، وانما يروي يزيد عن زُريق عنه.

وتعقّبه الحافظ بأن البخاريّ، ويعقوب بن سفيان، وابن حبان، وغيرهم ذكروا أن يزيد بن يزيد بن جابر يروي عنه.

تفرّد به المصنف بهذا الحديث فقط.

7 -

(عَوْفُ بْنُ مَالِكٍ) الأشجعيّ، أبو عبد الرحمن، أو أبو حمّاد، وقيل غير ذلك، الصحابيّ المشهور، من مسلمة الفتح، وسكن دمشق، ومات سنة (73)(ع) تقدم في "الجنائز" 25/ 2232.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من سُباعيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسلٌ بالشاميين، سوى شيخه، فمروزيّ، وعيسى، وإن كان كوفيًّا، إلا أنه نزل الشام مُرابطًا، وفيه رواية الراوي عن قريبه، مسلم، عن عوف رضي الله عنه.

قال الجامع عفا الله عنه: شرح هذا الحديث يأتي في الحديث التالي، وإنما أخّرته إليه؛ لكونه أتمّ من هذا، فتنبّه.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4796]

(. . .) - (حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ رُشَيْدٍ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ - يَعْنِي: ابْنَ مُسْلِمٍ - حَدَّثَنَا عَبْدُ الرحمن بْنُ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ، أَخْبَرَنِي مَوْلَى بَنِي فَزَارَةَ - وَهُوَ رُزَيْقُ بْنُ حَيَّانَ - أَنَّهُ سَمِعَ مُسْلِمَ بْنَ قَرَظَةَ، ابْنَ عَمِّ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الأَشْجَعِيِّ، يَقُولُ: سَمِعْتُ عَوْفَ بْنَ مَالِكٍ الأَشْجَعِيَّ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "خِيَارُ أَئِمَّتِكُمُ الَّذِينَ تُحِبُّونَهُمْ، وَيُحِبُّونَكُمْ، وَتُصَلُّونَ عَلَيْهِمْ، وَيُصَلُّونَ عَلَيْكُمْ، وَشِرَارُ

= عَنْ أَحَدٍ تَوْثِيقُهُمْ وَهَكَذَا

ذَكَرَ في "الْمِيزَانِ" نِعْمَ مَأْخَذَا

ص: 216

أَئِمَّتِكُمُ الَّذِينَ تُبْغِضُونَهُمْ، وَيُبْغِضُونَكُمْ، وَتَلْعَنُونَهُمْ، وَيَلْعَنُونَكُمْ"، قَالَ: قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ

(1)

، أَفَلَا نُنَابِذُهُمْ عِنْدَ ذَلِكَ؟ قَالَ:"لَا، مَا أَقَامُوا فِيكُمُ الصَّلَاةَ، لَا، مَا أَقَامُوا فِيكُمُ الصَّلَاةَ، أَلَا مَنْ وَلِيَ عَلَيْهِ وَالٍ، فَرَآهُ يَأْتِي شَيْئًا مِنْ مَعْصِيَةِ اللهِ، فَلْيَكْرَهْ مَا يَأْتِي مِنْ مَعْصِيَةِ اللهِ، وَلَا يَنْزِعَنَّ يَدًا مِنْ طَاعَةٍ"، قَالَ ابْنُ جَابِرٍ: فَقُلْتُ - يَعْنِي: لِرُزَيْقٍ - حِينَ حَدَّثَنِي بِهَذَا الْحَدِيثِ: آللهِ يَا أَبَا الْمِقْدَامِ لَحَدَّثَكَ بِهَذَا؟ - أَوْ: سَمِعْتَ هَذَا مِنْ مُسْلِمِ بْنِ قَرَظَةَ يَقُولُ: سَمِعْتُ عَوْفًا، يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: فَجَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ، وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، فَقَالَ: إِي وَاللهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلا هُوَ لَسَمِعْتُهُ مِنْ مُسْلِمِ بْنِ قَرَظَةَ، يَقُولُ: سَمِعْتُ عَوْفَ بْنَ مَالِكٍ، يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم).

رجال هذا الإسناد: ستّة:

1 -

(دَاوُدُ بْنُ رُشَيْدٍ) الهاشميّ مولاهم الْخُوَارَزْميّ، نزيل بغداد، ثقةٌ [10](ت 239)(خ م د س ق) تقدم في "الإيمان" 10/ 148.

2 -

(الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ) أبو العبّاس الدمشقيّ، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

3 -

(عَبْدُ الرحْمَنِ بْنُ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ) أخو يزيد بن يزيد المذكور في السند الماضي، تقدّم أيضًا قبل ثلاثة أبواب.

والباقون ذُكروا قبله.

[تنبيه]: هذا الإسناد أعلى من الأول بدرجة، فإنه سداسيّ، وذاك سباعيّ، وأنه مسلسل بالتحديث، والسماع من أوله إلى آخره.

شرح الحديث:

عن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ الشاميّ الدارانيّ، قال:(أَخْبَرَنِي مَوْلَى بَنِي فَزَارَةَ - وَهُوَ رُزَيْقُ بْنُ حَيَّانَ) قال النوويّ رحمه الله: ذكره البخاريّ، وابن أبي حاتم، والدارقطنيّ، وعبد الغنيّ بن سعيد المصريّ، وابن ماكولا، وغيرهم، من أصحاب "المؤتَلِف" بتقديم الراء المهملة، وهو الموجود في معظم نسخ

(1)

وفي نسخة: "قالوا: قلنا: يا رسول الله".

ص: 217

"صحيح مسلم"، وقال أبو زرعة الرازيّ، والدمشقيّ: بتقديم الزاي المعجمة، والله أعلم. انتهى

(1)

.

(أَنَّهُ سَمِعَ مُسْلِمَ بْنَ قَرَظَةَ) بفتح القاف، والراء، وبالظاء المعجمة، (ابْنَ عَمِّ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الأَشْجَعِيِّ) رضي الله عنه (يَقُولُ: سَمِعْتُ عَوْفَ بْنَ مَالِكٍ الأَشْجَعِيَّ) رضي الله عنه (يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "خِيَارُ أَئِمَّتِكُمُ) مبتدأ، خبره قوله:(الَّذِينَ تُحِبُّونَهُمْ، وَيُحِبُّونَكُمْ)؛ أي: الذين يرفقون بكم، ويعدلون بينكم، فتودّونهم، وتطيعونهم لأجل ذلك، وهم كذلك يودّونكم؛ لأنهم يرون آثار عدلهم باديةً عليكم، ونتائج أعمالهم الصالحة ظاهرةً فيكم، ومن شأن الإنسان أن يُحبّ مشاهدة آثار نفسه، فيحبّ من تتجلّى فيه تلك الآثار؛ لأن ظهورها وبقاءها به، وببقائه. (وَتُصَلُّونَ عَلَيْهِمْ، وَيُصَلُّونَ عَلَيْكُمْ) قال الأشرف: الصلاة هنا بمعنى الدعاء؛ أي: تَدْعون لهم، ويدعون لكم، يدلّ عليه قوله:"تلعنونهم، ويلعنونكم"، وقال المظهر: أي: يصلّون عليكم إذا مِتّم، وتصلّون عليهم إذا ماتوا عن الطوع والرغبة.

قال الطيبيّ رحمه الله بعد ذكر القولين: أقول: لعلّ هذا الوجه أَولى، أي: تُحبّونهم، ويُحبّونكم ما دُمتم في قيد الحياة، فإذا جاء الموت يترحّم بعضكم على بعض، وبذكر صاحبه بالخير. انتهى

(2)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "وتصلُّون عليهم ويصلُّون عليكم"؛ أي: تدعون لهم بالمعونة على القيام بالحقّ والعدل، ويدعون لكم بالهداية والإرشاد، وإعانتهم على الخير، وكل فريق يحب الآخر؛ لِمَا بينهم من المواصلة، والتراحم، والشفقة، والقيام بالحقوق، كما كان ذلك في زمن الخلفاء الأربعة رضي الله عنهم، وفي زمان عمر بن عبد العزيز رحمه الله، ونقيض ذلك في الشرار؛ لِتَرْك كل فريق منهما القيام بما يجب عليه من الحقوق للآخر، ولاتّباع الأهواء، والْجَوْرِ، والبُخل، والإساءة، فينشأ عن ذلك التباغض، والتَّلاعن، وسائر المفاسد. انتهى

(3)

.

(1)

"شرح النوويّ" 12/ 244.

(2)

"الكاشف عن حقائق السنن" 8/ 2561 - 2562.

(3)

"المفهم" 4/ 65.

ص: 218

(وَشِرَارُ أَئِمَّتِكُمُ الَّذِينَ تُبْغِضُونَهُمْ، وَيُبْغِضُونَكُمْ) بضمّ حرف المضارعة، (وَتَلْعَنُونَهُمْ، وَيَلْعَنُونَكُمْ")؛ أي: تدعون عليهم بالطرد من رحمة الله تعالى، ويدعون عليكم بذلك، وأصل اللعن من الله تعالى: هو الطرد والإبعاد من رحمته، ومن الخلق: السبّ والدعاء به. (قَالَ: قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ

(1)

، أَفَلَا نُنَابِذُهُمْ عِنْدَ ذَلِكَ؟) وفي الرواية السابقة:"أفلا ننابذهم بالسيف؟ "؛ أي: أفلا ننبذ إليهم عهدهم؛ اي: ننقضه، كما قال تعالى:{فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} [الأنفال: 58]، ونخرج عليهم بالسيف، فيكون المجرور متعلقًا بمحذوف دلّ عليه المعنى، وحُذف إيجازًا واختصارًا، قاله القرطبيّ

(2)

.

(قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("لَا)؛ أي: لا تنابذوهم (مَا أَقَامُوا فِيكُمُ الصَّلَاةَ)"ما" مصدريّة ظرفيّة؛ أي: مدّة إقامتهم معكم الصلاة؛ لأنها علة اجتماع الكلمة، ووحدة الصفوف.

وفيه إشعار بتعظيم أمر الصلاة، وأن تَرْكها موجب لنزع اليد من الطاعة، كالكفر على ما سبق في حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه في قوله:"إلا أن تروا كفرًا بَوَاحًا" الحديث

(3)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "لا، ما أقاموا فيكم الصلاة": ظاهره: ما حافظوا على الصلوات المعهودة بحدودها، وأحكامها، وداموا على ذلك، وأظهروه، وقيل: معناه: ما داموا على كلمة الإسلام؛ كما قد عبَّر بالمصلين عن المسلمين؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: "نُهيتُ عن قتل المصلين"؛ أي: المسلمين، والأوَّل أظهر، وقد تقدَّم التنبيه على ما في هذا الحديث من الأحكام والخلاف

(4)

.

وقوله: (لَا، مَا أَقَامُوا فِيكُمُ الصَّلَاةَ) كرّره لتأكيد أهميّتها، (أَلَا) أداة استفتاح وتنبيه، (مَنْ وَلِيَ) بكسر اللام، (عَلَيْهِ وَالٍ، فَرَآهُ يَأْتِي)؛ أي: يفعل

(1)

وفي نسخة: "قالوا: قلنا: يا رسول الله".

(2)

"المفهم" 4/ 65.

(3)

"الكاشف عن حقائق السنن" 8/ 2562.

(4)

"المفهم" 4/ 65.

ص: 219

(شَيْئًا مِنْ مَعْصِيَةِ اللهِ فَلْيَكْرَهْ مَا يَأْتِي) أي فليكره الفعل الذي يفعله، وقوله:(مِنْ مَعْصِيَةِ اللهِ) بيان لـ "ما يأتي"، (وَلَا يَنْزِعَنَّ) بكسر الزاي، (يَدًا مِنْ طَاعَةٍ"، قَالَ ابْنُ جَابِرٍ) هو: عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، (فَقُلْتُ - يَعْنِي: لِرُزَيْقٍ - حِينَ حَدَّثَنِي بِهَذَا الْحَدِيثِ: آللهِ) بمدّ الهمزة، وأصله: أَوَالله، أبدلوا واو القسم همزةً، ثم أدخلت عليها همزة الاستفهام التقريريّ، فأُبدلت الثانية ألفًا، فصار: آلله

(1)

. (يَا أَبَا الْمِقْدَامِ) كنية رُزيق بن حيّان، (لَحَدَّثَكَ بِهَذَا - أَوْ) للشكّ من الراوي، (سَمِعْتَ هَذَا مِنْ مُسْلِمِ بْنِ قَرَظَةَ يَقُولُ: سَمِعْتُ عَوْفًا، يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟) إنما نَشَده بالله تعالى توثيقًا لِمَا رواه من الحديث. (قَالَ: فَجَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ) قال النوويّ: هكذا هو في أكثر النسخ: "فجثا" بالثاء المثلثة، وفي بعضها:"فجذا"، بالذال المعجمة، وكلاهما صحيح، فأما بالثاء، فيقال منه: جثا على ركبتيه يجثو، وجثا يجثي، من بابي دعا، ورَمَى جُثُوًّا، وجُثِيًّا بالضمّ فيهما: جلس على ركبتيه، أو قام على أطراف أصابعه، وأجثاه غيره، وتَجَاثَوْا على الرُّكَب، وهو جاثٍ، جَمْعه جُثِيٌّ، وجِثِيٌّ، بضم الجيم، وكسرها

(2)

.

وأما "جذا" فهو: الجلوس على أطراف أصابع الرجلين، ناصب القدمين، وهو الجاذي، والجمع جِذًا، مثلُ نائم ونِيَام، قال الجمهور: الجاذي أشدّ استيفازًا من الجاثي، وقال أبو عمرو: هما لغتان. انتهى

(3)

.

(وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ) إنما استقبل القبلة، وجثا على ركبتيه اهتمامًا برواية الحديث، وإظهارًا لِمَا في قلبه من خطورة رواية الحديث وعظمته. (فَقَالَ) رُزيق، (إِي) بكسر الهمزة، وسكون التحتانيّة: بمعنى: نعم، كقوله تعالى:{قُلْ إِي وَرَبِّي} الآية [يونس: 53]، (وَاللهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَسَمِعْتُهُ مِنْ مُسْلِمِ بْنِ قَرَظَةَ، يَقُولُ: سَمِعْتُ عَوْفَ بْنَ مَالِكٍ، يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم) زاد في الرواية الآتية في التنبيه: "وحلف على ما سألته أن يحلف عليه، قال ابن جابر: فلم أستحلفه اتّهامًا، ولكن استحلفته استثباتًا"، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1)

راجع: "شرح الشيخ الهرري" 20/ 115.

(2)

راجع: "القاموس المحيط" ص 193.

(3)

"شرح النوويّ" 12/ 245.

ص: 220

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عوف بن مالك رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله، لم يُخرجه من أصحاب الأصول غيره.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [17/ 4795 و 4796 و 4797 و 4798](1855)، و (ابن المبارك) في "مسنده"(1/ 149)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 24)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 324)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 425 - 426)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(18/ 63) و"مسند الشاميين"(1/ 333 و 368)، و (ابن راهويه) في "مسنده"(4/ 128)، و (البزّار) في "مسنده"(7/ 184)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4589)، و (محمد بن نصر) في "تعظيم قدر الصلاة"(2/ 909)، و (ابن أبي عاصم) في "السُّنّة"(2/ 509)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(8/ 158)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان خيار الأئمة، وهم الذين تحبهم رعيّتهم، ويحبّونهم، وشرارهم، وهم الذين يكونون بعكس ذلك.

2 -

(ومنها): بيان قَدْر عِظَم الصلاة، فإن الأئمة، وإن كانوا ضدّ رعيّتهم، إلا أنه لا يجوز لأحد أن يخرج عليهم ما داموا يقيمون الصلاة.

3 -

(ومنها): وجوب إنكار المنكر على ولاة الأمور، ولكن لا يُبيح ذلك نزع اليد من الطاعة، بل يجب الصبر عليهم.

4 -

(ومنها): التثبّت في سماع من يؤخذ عنه العلم، هل سمع ذلك من شيخه، وشافهه به، فإن ابن جابر ناشد رزيقًا بالله في سماعه لهذا الحديث من مسلم، وسماع مسلم، من عوف، وسماع عوف من النبيّ صلى الله عليه وسلم، كلّ ذلك استيثاقًا لاتصال السند، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4797]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مُوسَى الأَنْصَارِيُّ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ جَابِرٍ بِهَذَا الإِسْنَادِ، وَقَالَ: رُزَيْقٌ مَوْلَى بَنِي فَزَارَةَ).

ص: 221

رجال هذا الإسناد: ثلاثة:

1 -

(إِسْحَاقُ بْنُ مُوسَى الأَنْصَارِيُّ) الْخطميّ، أبو موسى المدنيّ، قاضي نيسابور، ثقةٌ متقنٌ [10](ت 244)(م ت س ق) تقدم في "الإيمان" 43/ 282.

والباقيان ذُكرا قبله.

وقوله: (وَقَالَ: رُزَيْقٌ مَوْلَى بَنِي فزَارَةَ) هذا هو الفرق بين روايتي الوليد هذه، والسابقة، فإنه قال في الأولى:"أخبرني مولى بني فزارة"، ولم يقل:"رزيق"، وأما ما تقدّم من قوله:"وهو رُزيق بن حيّان"، فملحق من أحد الرواة، ويَحتمل أن يكون من مسلم، وأما هنا فقال:"حدّثني رُزيق مولى بني فزارة"، والله تعالى أعلم.

[تنبيه]: رواية الوليد، عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر هذه ساقها أبو عوانة رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(7182)

- حدّثنا عليّ بن سهل الرمليّ، قال: ثنا الوليد بن مسلم، عن ابن جابر، قال: حدّثني رُزيق مولى بني فزارة، قال: سمعت مسلم بن قرظة الأشجعي يقول: سمعت عمي عوف بن مالك رضي الله عنه يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "خياركم أئمتكم الذين تحبونهم، ويحبونكم، وتصلّون عليهم، ويصلّون عليكم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم، ويبغضونكم، وتلعنونهم، ويلعنونكم"، قلنا: يا رسول الله أفلا ننابذهم عند ذلك؟ فقال: "لا، ما أقاموا فيكم الصلاة - مرّتين - ألا مَن وَلِيَ عليه والٍ، فرآه يأتي شيئًا من معصية الله عز وجل، فلينكر ما يأتي من معصية الله، ولا يَنْزِعَنّ يدًا من طاعة"، قال الوليد: قال ابن جابر: قلت لرزيق حين حدّثني بهذا الحديث: بالله يا أبا مقدام، سمعت مسلم بن قرظة يقول: سمعت عمي عوف بن مالك يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول؟، قال: فجثا رزيق على ركبته، واستقبل القبلة، وحلف على ما سألته أن يحلف عليه، قال ابن جابر: فلم أستحلفه اتّهامًا، ولكن استحلفته استثباتًا. انتهى

(1)

.

(1)

"مسند أبي عوانة" 4/ 424.

ص: 222

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4798]

(. . .) - (قَالَ مُسْلِمٌ: وَرَوَاهُ مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ مُسْلِمِ بْنِ قَرَظَةَ، عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِهِ).

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحِ) بن حُدَير الْحَضْرميّ، أبو عمرو، أو أبو عبد الرحمن الْحِمْصيّ، قاضي الأندلس، ثقة له أفرادٌ [5](ت) تقدم في "الطهارة" 6/ 559.

2 -

(رَبِيعَةُ بْنُ يَزِيدَ) الدمشقيّ، أبو شعيب الإياديّ القصير، ثقةٌ عابدٌ [4](ت 1 أو 123)(ع) تقدم في "الطهارة" 6/ 559.

والباقيان ذُكرا قبله.

[تنبيه]: هذا الحديث أحد الأحاديث التي وقعت في "صحيح مسلم" منقطعة، وهي بضعة عشر حديثًا

(1)

، كما أسلفناها في مقدّمة هذا الشرح، قال الحافظ أبو الحسين رشيد الدين العطّار رحمه الله في "فوائده": الحديث الثالث عشر، أخرج مسلم في "كتاب الإمارة" حديث مسلم بن قَرَظة، عن عوف بن مالك رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم. . ." الحديث، فأورده من طريقين متصلين، عن رُزيق بن حَيّان، عن مسلم بن قَرَظة بإسناده الذي ذكرناه، ثم قال عقبه: ورواه معاوية بن صالح، عن ربيعة بن يزيد، عن مسلم بن قَرَظة، عن عوف، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم.

وهذا الحديث متصل في كتاب مسلم كما بيَّناه، وذِكْرُ المتابعة بعد إيراده متصلًا يؤيده، ولا يوهنه، كما قدمناه، والله أعلم

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: حاصل ما أشار إليه الحافظ رشيد الدين رحمه الله في هذا الكلام أن هذا الحديث عند مسلم رحمه الله معلّق، حيث لم يذكر الواسطة بينه وبين معاوية بن صالح، وهذا مخالف لمنهج كتابه، حيث إنه التزم أن لا يورد فيه إلا ما كان صحيحًا متّصل الإسناد، خاليًا من العلل.

(1)

تقدّم هذا البحث مستوفًى في "قرّة عين المحتاج شرح مقدّمة صحيح الإمام مسلم بن الحجّاج" 1/ 87 - 141.

(2)

"غرر الفوائد" 1/ 176 - 178.

ص: 223

وحاصل الجواب أن هذا لا يُخالف منهجه؛ لأنه روى الحديث أوّلًا بإسنادين متّصلين صحيحين، ثم ذكر هذا متابعًا للإسنادين، والمتابعة يُغتفر فيها ما لا يُغتفر في الأصول، فالحديث صحيح متّصلٌ، ولله الحمد والمنّة.

[تنبيه آخر]: رواية معاوية بن صالح، عن مسلم بن قرظة هذه ساقها ابن حبّان رحمه الله في "صحيحه"، فقال:

(4589)

- أخبرنا محمد بن الحسن بن قتيبة، قال: حدّثنا حرملة بن يحيى، قال: حدّثنا ابن وهب، قال: حدّثني معاوية بن صالح، عن ربيعة بن يزيد، عن مسلم بن قَرَظة، عن عوف بن مالك الأشجعيّ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خياركم وخيار أئمتكم الذين تحبونهم، ويحبونكم، ويصلّون عليكم، وتصلّون عليهم، وشراركم وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم، ويبغضونكم، وتلعنونهم، ويلعنونكم"، قيل: أفلا ننابذهم يا رسول الله؟ قال: "لا، ما أقاموا الصلوات الخمس، ألا ومَن له والٍ، فيراه يأتي شيئًا من معصية الله، فليكره ما يأتي من معصية الله، ولا ينزع يدًا من طاعته". انتهى

(1)

.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(18) - (بابُ اسْتِحْبَابِ مُبَايَعَةِ الإِمَامِ الْجَيْشَ عِنْدَ إِرَادَةِ الْقِتَالِ، وَبَيَانِ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ تَحْتَ الشَّجَرَةِ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4799]

(1856) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا لَيْثُ بْنُ سَعْدٍ (ح) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحٍ، أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: كُنَّا يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ أَلْفًا وَأَرْبَعَمِائَةٍ، فَبَايَعْنَاهُ، وَعُمَرُ آخِذٌ بِيَدِهِ، تَحْتَ الشَّجَرَةِ، وَهِيَ سَمُرَةٌ، وَقَالَ: بَايَعْنَاهُ

(2)

عَلَى أَلَا نَفِرَّ، وَلَمْ نُبَايِعْهُ عَلَى الْمَوْتِ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) تقدّم قريبًا.

(1)

"صحيح ابن حبان" 10/ 449.

(2)

وفي نسخة: "فبايعناه".

ص: 224

2 -

(لَيْثُ بْنُ سَعْدٍ) تقدّم أيضًا قريبًا.

3 -

(مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحِ) بن مهاجر التَّجيبيّ مولاهم المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 242)(م ق) تقدم في "الإيمان" 16/ 168.

4 -

(أَبُو الزُّبَيْرِ) محمد بن مسلم بن تَدْرُس الأسديّ مولاهم، المكيّ، صدوق يدلّس [4](226)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 119.

5 -

(جَابِرُ) بن عبد الله بن عمرو بن حرام الأنصاريّ السَّلَميّ الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، مات بعد السبعين، وهو ابن (94) سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 117.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (339) من رباعيّات الكتاب، وأن الثلاثة الأولين مصريّون، والرابع مكيّ، والصحابيّ مدنيّ، وأن صحابيّه أحد المكثرين السبعة، روى (1540) حديثًا، وهو ابن صحابيّ، ومن المعمّرين، كما أسلفته آنفًا.

شرح الحديث:

(عَنْ جَابِرٍ) رضي الله عنه، وفي رواية النسائيّ:"عن أبي الزبير أنه سمع جابرًا"(قَالَ: كُنَّا يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ) بصيغة التصغير، وهي مخفّفة الياء على المشهور، وأجاز بعضهم تشديد الياء الأخيرة

(1)

، هي بئر بقرب مكة، نزله النبيّ صلى الله عليه وسلم حين أراد العمرة، فصدّته قريشٌ، فوجّه إليهم عثمان بن عفّان رضي الله عنه ليخبرهم بأنه جاء معتمرًا، ولم يجئ لقتال، فأبطأ عليه، فأُرجف بأنه قُتل، فبايع النبيّ صلى الله عليه وسلم أصحابه هذه البيعة المسمّاة ببيعة الرضوان، وقد تقدّم ذكرها

(2)

.

(أَلْفًا وَأَرْبَعَمِائَةٍ) قال النوويّ رحمه الله: وفي رواية: "ألفًا وخمسمائة"، وفي رواية:"ألفًا وثلاثمائة"، وقد ذَكَر البخاريّ ومسلم هذه الروايات الثلاث في "صحيحيهما"، وأكثر روايتهما:"ألفًا وأربعمائة"، وكذا ذكر البيهقيّ أن أكثر روايات هذا الحديث:"ألفًا وأربعمائة".

(1)

تقدّم البحث في هذا مستوفى في شرح الحديث برقمي [3034] وبرقم محمد فؤاد (1253).

(2)

"المفهم" 4/ 66.

ص: 225

ويمكن أن يُجمع بينهما بأنهم كانوا أربعمائة وكسرًا، فمن قال:"أربعمائة" لم يعتبر الكسر، ومن قال:"خمسمائة" اعتبره، ومن قال:"ألفًا وثلاثمائة" ترك بعضهم؛ لكونه لم يُتقن العدد، أو لغير ذلك. انتهى

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "ألفًا وأربعمائة" قد رُوي أنهم كانوا ألفًا وخمسمائة، وإنما اختلف قوله لأن ذلك العدد كان عنده تخمينًا، لا تحقيقًا، إن لم يكن غلطًا من بعض الرواة. انتهى

(2)

.

وقال في "الفتح": والجمع بين هذا الاختلاف أنهم كانوا أكثر من ألف وأربعمائة، فمن قال ألفًا وخمسمائة جبر الكسر، ومن قال ألفًا وأربعمائة ألغاه، ويؤيده قوله في حديث البراء:"ألفًا وأربعمائة، أو أكثر"، واعتمد على هذا الجمع النوويّ.

وأما البيهقيّ فمال إلى الترجيح، وقال: إن رواية من قال: "ألفًا وأربعمائة" أصحّ، ثم ساقه من طريق أبي الزبير، ومن طريق أبي سفيان، كلاهما عن جابر كذلك، ومن رواية مَعْقِل بن يسار، وسلمة بن الأكوع، والبراء بن عازب، ومن طريق قتادة، عن سعيد بن المسيِّب، عن أبيه.

ومعظم هذه الطرق عند مسلم، ووقع عند ابن سعد في حديث مَعْقِل بن يسار:"زُهَاء ألف وأربعمائة"، وهو ظاهر في عدم التحديد، وأما قول عبد الله بن أبي أوفى:"ألفًا وثلاثمائة"، فيمكن حمله على ما اطَّلَع هو عليه، واطَّلَع غيره على زيادة ناس، لم يطلع هو عليهم، والزيادة من الثقة مقبولة، أو العدد الذي ذكره جملةُ من ابتدأ الخروج من المدينة، والزائد تلاحقوا بهم بعد ذلك، أو العدد الذي ذكره هو عدد المقاتِلة، والزيادة عليها من الأتباع، من الْخَدَم، والنساء، والصبيان، الذين لم يبلغوا الحُلُم. انتهى

(3)

.

(فَبَايَعْنَاهُ)، وقوله:(وَعُمَرُ آخِذٌ بِيَدِهِ) جملة حالية؛ أي: والحال أن عمر بن الخطّاب رضي الله عنه آخذ بيد النبيّ صلى الله عليه وسلم حال البيعة، وقوله:(تَحْتَ الشَّجَرَةِ) متعلّق بحال مقدّر، فيكون من الأحوال المتداخلة، أو المترادفة، وقوله: (وَهِيَ

(1)

"شرح النوويّ" 13/ 2.

(2)

"المفهم" 4/ 66.

(3)

"الفتح" 9/ 256 - 257، كتاب "المغازي" رقم (4147).

ص: 226

سَمُرَةٌ) جملة مستأنفة، بيّن بها نوع الشجر، وهذا الاستئناف هو الذي يُسمّى استئنافًا بيانيًّا، وهو الذي وقع جوابًا عن سؤال مقدّر، فكأن سائلًا سأل، فقال: ما هي الشجرة؟ فأجابه بأنها سَمُرة، وهي بفتح السين المهملة، وضمّ الميم، بعدها راء جمعها سَمُر، وزان رَجُلٍ، وهي شجر الطَّلْحِ، وهو نوع الْعِضَاهِ، قاله الفيّوميّ

(1)

.

وقال المرتضى الزبيديّ في "التاج": السّمُرة بفتح السين، وضمّ الميم: شجرة معروفة، صغيرة الورق، قصيرة الشوك، وله بُرْمة صفراء، يأكل الناس فيها، وليس في العِضَاه شيء أجود خشبًا منها، يُنقل إلى القرى، فتغمى به البيوت. انتهى

(2)

.

(وَقَالَ) جابر رضي الله عنه (بَايَعْنَاهُ) وفي بعض النسخ: "فبايعناه"؛ أي: بايعنا النبيّ صلى الله عليه وسلم (عَلَى أَلَا نَفِرَّ)؛ أي: لا نفرّ عند ملاقاة العدوّ، وإن كان يؤدّي إلى الموت، وإنما بايعوه على هذا؛ لكونه في مقدور المكلّفين، يستطيعون الوفاء به.

[تنبيه]: سبب هذه البيعة أنه صلى الله عليه وسلم خرج من المدينة إلى مكة لأداء العمرة، فلما وصل الحديبية منعته قريش، وصدّته عن البيت، فدعا صلى الله عليه وسلم خِرَاش بن أمية الخزاعيّ، فبعثه إلى قريش بمكة، وحمله على بعير له، يقال له: الثعلب؛ ليبلّغ أشرافهم عنه ما جاء له، فعَقَروا به جمل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأرادوا قتله، فمنعته الأحابيش، فخلَّوا سبيله حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ثم دعا صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب رضي الله عنه ليبعثه إلى مكة، فيبلّغ عنه أشراف قريش ما جاء له، فقال: يا رسول الله إني أخاف قريشًا على نفسي، وليس بمكة من بني عديّ بن كعب أحد يمنعني، وقد عرفت قريش عداوتي إياها، وغلظتي عليها، ولكني أدلّك على رجل أعزّ عليها مني، عثمان بن عفان، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان بن عفان، فبعثه إلى أبي سفيان، وأشراف قريش، يخبرهم أنه لم يأت لحرب، وإنه إنما جاء زائرًا لهذا البيت، ومعظِّمًا لحرمته، فخرج

(1)

"المصباح المنير" 1/ 288.

(2)

"تاج العروس من جواهر القاموس" 3/ 278.

ص: 227

عثمان إلى مكة، فلقيه أبان بن سعيد بن العاص حين دخل مكة، أو قبل أن يدخلها، فحمله بين يديه، ثم أجاره حتى بلّغ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانطلق عثمان حتى أتى أبا سفيان، وعظماء قريش، فبلّغهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أرسله به، فقالوا لعثمان حين فرغ من رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم: إن شئت أن تطوف بالبيت فطف، فقال: ما كنت لأفعل حتى يطوف به رسول الله صلى الله عليه وسلم، واحتبسته قريش عندها، فَبَلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين أن عثمان بن عفان قد قُتِل.

ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال حين بَلَغه أن عثمان قد قتل: "لا نبرح حتى نناجز القوم"، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إلى البيعة، فكانت بيعة الرضوان تحت الشجرة، فكان الناس يقولون: بايعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الموت، وكان جابر بن عبد الله يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبايعنا على الموت ولكن بايعنا على أن لا نفرّ، ولم يتخلف عن البيعة أحد من المسلمين حضرها، إلا الْجَدّ بن قيس المنافق، أخو بني سَلِمة، فكان جابر بن عبد الله يقول: والله لكأني أنظر إليه لاصقًا بإبط ناقته، قد ضبأ إليها - أي: التجأ، وتحصّن بها - يستتر بها من الناس.

ثم ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على الأخرى، وقال:"هذه يد عثمان"، بل هي خير من يد عثمان، فبايَع له، ثم تبيّن بعد ذلك أن الذي ذُكِر من أمر عثمان باطل

(1)

.

(وَلَمْ نُبايِعْهُ عَلَى الْمَوْتِ) وفي رواية سلمة بن الأكوع رضي الله عنه: "أنهم بايعوه يومئذ على الموت" وهو معنى رواية عبد الله بن زيد بن عاصم، وفي رواية مجاشع بن مسعود رضي الله عنه:"البيعة على الهجرة، والبيعة على الإسلام، والجهاد"، وفي حديث ابن عمر، وعبادة رضي الله عنهم:"بايعنا على السمع والطاعة، وأن لا ننازع الأمر أهله"، وفي رواية عن ابن عمر في غير "صحيح مسلم":"البيعة على الصبر".

قال العلماء: هذه الرواية تجمع المعاني كلها، وتُبَيِّن مقصود كلّ

(1)

راجع: "سيرة ابن هشام" 2/ 314 - 315.

ص: 228

الروايات، فالبيعة على أن لا نَفِرّ معناه: الصبر حتى نظفر بعدوّنا، أو نُقْتَل، وهو معنى البيعة على الموت؛ أي: نصبر، وإن آل بنا ذلك إلى الموت، لا أن الموت مقصود في نفسه، وكذا البيعة على الجهاد؛ أي: والصبر فيه، والله أعلم.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن بما ذُكر أن قول جابر رضي الله عنه: "لم نبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم على الموت"، إنما هو حكاية للّفظ الذي صدر منه، حين المبايعة، فلا ينفي صدور لفظ الموت من غيره، كما في حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه الآتي - إن شاء الله تعالى - وأنه لا اختلاف في المعنى، إذ المقصود مصابرة العدوّ، ولو أدّى ذلك إلى الموت، والله تعالى أعلم بالصواب.

قال النوويّ: وكان في أول الإسلام يجب على العشرة من المسلمين أن يصبروا لمائة من الكفار، ولا يفرّوا منهم، وعلى المائة الصبر لألف كافر، ثم نُسِخ ذلك، وصار الواجب مصابرة المِثْلَين فقط، قال النوويّ رحمه الله: هذا مذهبنا، ومذهب ابن عباس، ومالك، والجمهور أن الآية منسوخة.

وقال أبو حنيفة، وطائفة: ليست بمنسوخة، واختلفوا في أن المعتبَر مجرد العدد من غير مراعاة القوّة والضعف، أم يُرَاعَى؟ والجمهور على أنه لا يراعى؛ لظاهر القرآن.

وأما حديث عبادة رضي الله عنه: "بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن لا تشركوا بالله شيئًا، ولا تَسرِقوا. . ." إلى آخره، فإنما كان ذلك في أول الأمر، في ليلة العقبة، قبل الهجرة من مكة، وقبل فرض الجهاد. انتهى

(1)

.

وقال أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله: قوله: "وَلَمْ نُبَايِعْهُ عَلَى الْمَوْتِ" مخالفٌ لِمَا قاله سلمة بن الأكوع أنهم بايعوه في ذلك اليوم على الموت، وكذلك قال عبد الله بن زيد، وهذا خلافٌ لفظيّ، وأما المعنى فمتّفقٌ عليه؛ لأن من بايع على أن لا يفرّ حتى يَفتح الله عليه، أو يُقتل، فقد بايع على الموت، فكأن جابرًا لم يسمع لفظ الموت، وأخذ غيره الموت من المعنى، فعبّر عنه، ويشهد

(1)

"شرح النوويّ" 13/ 3/ 4.

ص: 229

لِمَا ذكرته أنه قد رُوي عن ابن عمر في غير كتاب مسلم أن البيعة كانت على الصبر

(1)

، وكان هذا الحكم خاصًّا بأهل الحديبية، فإنه مخالفٌ لِمَا في كتاب الله تعالى، من إباحة الفرار عند مِثْلَي العدد، كما نصّ عليه في سورة الأنفال، وعلى مقتضى بيع الحديبية لا فرار أصلًا، فهذا حكم خاصّ بهم - والله تعالى أعلم - ولذلك قال عبد الله بن زيد: لا أبايع على هذا أحدًا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم

(2)

.

ثم إن الناس اختلفوا في العدد المذكور في آيتي الأنفال، فحَمَله جمهور العلماء على ظاهره من غير اعتبار للقوّة والضعف، والشجاعة والجبن، وحكى ابن حبيب، عن مالك، وعبد الملك: أن المراد بذلك القوّة، والتكافؤ، دون تعيين العدد، وقال ابن حبيب: والقول الأول أكثر، فلا تفرّ المائة من المائتين، وإن كانوا أشدّ جَلَدًا، وأكثر سلاحًا، قال القرطبيّ: وهو الظاهر من الآية، قال عياضٌ: ولم يُختلف أنه متى جُهل منزلة بعضهم على بعض في مراعاة العدد لم يجز الفرار. انتهى كلام القرطبيّ

(3)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث جابر رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

(1)

أخرجه البخاريّ رحمه الله في "صحيحه" 3/ 1080، فقال:

(2798)

- حدّثنا موسى بن إسماعيل، حدّثنا جُويرية، عن نافع، قال: قال ابن عمر رضي الله عنهما: رجعنا من العام المقبل، فما اجتمع منا اثنان على الشجرة التي بايعنا تحتها، كانت رحمة من الله، فسألت نافعًا على أيّ شيء بايعهم؟ على الموت؟ قال: لا، بل بايعهم على الصبر. انتهى.

(2)

هو ما أخرجه الشيخان من طريق عباد بن تميم، عن عبد الله بن زيد رضي الله عنه قال: لمّا كان زمن الحرّة أتاه آتٍ، فقال له: إن ابن حنظلة يبايع الناس على الموت، فقال: لا أبايع على هذا أحدًا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

(3)

"المفهم" 4/ 67 - 68.

ص: 230

أخرجه (المصنّف) هنا [18/ 4799 و 4800 و 4801 و 4802 و 4803 و 4804 و 4805 و 4806](1856)، و (البخاريّ) في "المغازي"(4153 و 4154)، و (الترمذيّ) في "السير"(1591 و 1594)، و (النسائيّ) في "البيعة"(4160) و"الكبرى"(2779)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 310 و 396)، و (الدارميّ) في "سننه"(2454)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4875)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 427)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(2/ 210 و 6/ 306)، و (ابن سعد) في "الطبقات"(2/ 100)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 235)، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4800]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ (ح) وَحَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: لَمْ نُبَايِعْ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْمَوْتِ، إِنَّمَا بَايَعْنَاهُ عَلَى أَنْ لَا نَفِرَّ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم قبل أربعة أبواب.

2 -

(ابْنُ نُمَيْرٍ) هو: محمد بن عبد الله بن نُمير، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

3 -

(سُفْيَانُ) بن عيينة، تقدّم قريبًا.

والباقون ذُكروا قبله.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد تقدّم شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4801]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ، سَمِعَ

(1)

جَابِرًا، يُسْأَلُ: كَمْ كَانُوا يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ؟ قَالَ: كُنَّا أَرْبَعَ عَشْرَةَ مِائَةً، فَبَايَعْنَاهُ، وَعُمَرُ آخِذٌ بِيَدِهِ تَحْتَ الشَجَرَةِ، وَهِيَ سَمُرَةٌ، فَبَايَعْنَاهُ، غَيْرَ جَدِّ بْنِ قَيْسٍ الأَنْصَارِيّ، اخْتَبَأَ تَحْتَ بَطْنِ بَعِيرِهِ).

(1)

وفي نسخة: "أنه سمع".

ص: 231

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمِ) بن ميمون البغداديّ المعروف بالسمين، تقدّم قريبًا.

2 -

(حَجَّاجُ) بن محمد الأعور، تقدّم أيضًا قريبًا.

3 -

(ابْنُ جُرَيْجٍ) هو: عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج المكيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

والباقيان ذُكرا قبله.

وقوله: (يُسْأَلُ: كَمْ كَانُوا يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ؟) السائل هو سالم بن أبي الجعد، كما سيأتي التصريح به بعد حديثين.

وقوله: (فَبَايَعْنَاهُ)؛ أي: بايعنا النبيّ صلى الله عليه وسلم، وكنى عنه بالضمير مبالغة في إجلاله وتعظيمه، وجاء في بعض النسخ:"فبايعنا" بحذف المفعول، وإنما حُذف للعلم به، فصار كالمذكور، ولذا صحّ إعادة الضمير عليه في قوله:"وعمر آخذ بيده".

وقوله: (غَيْرَ جَدِّ بْنِ قَيْسٍ الأَنْصَارِيّ) ذَكَر الأبّيّ أنه كان من المنافقين، وذَكر أصحاب السِّيَر أنه كان سيّد بني سَلِمَة، فطرح رسول الله صلى الله عليه وسلم سؤدده، وسوّد عليهم بشر بن البراء بن المعرور، ويمكن أن يكون ذلك هو السبب في حقده على رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وأخرج الواقديّ في "مغازيه" عن أبي قتادة، قال: لما نزلنا على الحديبية، والماء قليل، سمعت الجد بن قيس يقول: ما كان خروجنا إلى هؤلاء القوم بشيء، نموت من العطش عن آخرنا، فقلت: لا تقل هذا يا أبا عبد الله، فَلِمَ خرجت؟ قال: خرجت مع قومي، قلت: فَلِمَ تخرج معتمرًا؟ قال: لا والله ما أحرمت، قال أبو قتادة: ولا نويت العمرة؟ قال: لا، فلما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجل، فنزل بالسهم، وتوضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدلو ومَجّ فاه فيه، ثم ردّه في البئر، فجاشت البئر بالرواء، قال أبو قتادة: فرأيت الجد مادًّا رجليه على شفير البئر في الماء، فقلت: أبا عبد الله أين ما قلت؟ قال: إنما كنت أمزح معك، لا تذكر لمحمد مما قلت شيئًا، قال أبو قتادة: وقد كنت ذكرته قبل ذلك للنبيّ صلى الله عليه وسلم. قال: فغضب الجدّ، وقال: بقينا مع صبيان من

ص: 232

قومنا، لا يعرفون لنا شرفًا ولا سنًّا، لَبَطْنُ الأرض اليوم خير من ظهرها، قال أبو قتادة: وقد كنت ذكرت قوله للنبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ابنه خير منه"، قال أبو قتادة: فلقيني نفر من قومي، فجعلوا يؤنبونني، ويلومونني حين رفعت مقالته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت لهم: بئس القوم أنتم، وَيْحَكُم عن الجدّ بن قيس تذبّون؟ قالوا: نعم، كبيرنا، وسيدنا، فقلت: قد والله طرح رسول الله صلى الله عليه وسلم سؤدده عن

(1)

بني سلمة، وسَوّد علينا بشر بن البراء بن مَعرُور، وهدمنا المنامات التي كانت على باب الجدّ، وبنيناها على باب بشر بن البراء، فهو سيدنا إلى يوم القيامة.

قال أبو قتادة: فلما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى البيعة فَرّ الجدّ بن قيس، فدخل تحت بطن البعير، فخرجت أعدو، وأخذت بيد رجل كان يكلمني، فأخرجناه من تحت بطن البعير، فقلت: ويحك ما أدخلك ها هنا؟ أفرارًا مما نزل به روح القدس؟ قال: لا، ولكني رُعِبت، وسمعت الهيعة، قال الرجل: لا نَضَحْتُ عنك أبدًا، وما فيك خير، فلما مَرِض الجدّ بن قيس، ونزل به الموت لزم أبو قتادة بيته، فلم يخرج حتى مات، ودُفن، فقيل له في ذلك؟، فقال: والله ما كنت لأصلي عليه، وقد سمعته يقول يوم الحديبية: كذا وكذا، وقال في غزوة تبوك: كذا وكذا، واستحييت من قومي يرونني خارجًا ولا أشهده. ويقال: خرج أبو قتادة إلى ماله بالواديين، فكان فيه حتى دُفن، ومات الجدّ في خلافة عثمان. انتهى

(2)

.

وقوله: (اخْتَبَأَ تَحْتَ بَطْنِ بَعِيرِهِ)؛ يعني: أنه اختفى، وذكر ابن هشام في "سيرته" قال: فكان جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يقول: والله لكأني أنظر إليه لاصقًا بإبط ناقته، قد ضبأ

(3)

إليها يستتر بها من الناس. انتهى

(4)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4802]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ دِينَارٍ، حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ الأَعْوَرُ مَوْلَى سُلَيْمَانَ بْنِ مُجَالِدٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: وَأَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ، أَنَّهُ

(1)

هكذا النسخة، والظاهر أنها "على".

(2)

"مغازي الواقديّ" 1/ 591.

(3)

أي: التجأ إليها، واستتر بها.

(4)

"الروض الأُنُف" للسهيليّ 7/ 64.

ص: 233

سَمِعَ جَابِرًا، يُسْأَلُ: هَلْ بَايَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِذِي الْحُلَيْفَةِ؟ فَقَالَ: لَا، وَلَكِنْ صَلَّى بِهَا، وَلَمْ يُبَايعْ

(1)

عِنْدَ شَجَرَةٍ

(2)

، إِلا الشَّجَرَةَ الَّتِي بِالْحُدَيْبِيَةِ. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: وَأَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ، أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ يَقُولُ: دَعَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى بِئْرِ الْحُدَيْبِيَةِ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(إِبْرَاهِيمُ بْنُ دِينَارٍ) البغداديّ، أبو إسحاق التمّار، ثقةٌ [10](232) تقدم في "الإيمان" 41/ 272، من أفراد المصنّف.

والباقون ذُكروا قبله.

وقوله: (وَلَمْ يُبَايعْ) وفي بعض النسخ: "ولم نُبايع" بالنون.

وقوله: (عِنْدَ شَجَرَةٍ) وفي بعض النسخ: "عند الشجرة" بالتعريف.

وقوله: (دَعَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى بِئْرِ الْحُدَيْبِيَةِ) إشارة إلى ما ظهر على يد النبيّ صلى الله عليه وسلم من معجزة فَوَران الماء في بئر الحديبية بعدما أصبحت قليلة الماء، كما سيأتي تفصيل ذلك قريبًا - إن شاء الله تعالى -.

والحديث بهذا السياق من أفراد المصنّف، وقد تقدّم شرحه، وبيان مسائله، ولله الحمد والمنّة.

والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4803]

(. . .) - (حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عَمْرٍو الأَشْعَثِيُّ، وَسُوَيْدُ بْنُ سَعِيدٍ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَأَحْمَدُ بْنُ عَبْدَةَ - وَاللَّفْظُ لِسَعِيدٍ -، قَالَ سَعِيدٌ، وَإِسْحَاقُ: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ الآخَرَانِ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: كنَّا يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ أَلْفًا وَأَرْبَعَمِائَةٍ، فَقَالَ لَنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "أَنْتُمُ الْيَوْمَ خَيْرُ أَهْلِ الأَرْضِ"، وَقَالَ جَابِرٌ: لَوْ كُنْتُ أُبْصِرُ لأَرَيْتُكُمْ مَوْضِعَ الشَّجَرَةِ).

(1)

وفي نسخة: "ولم نبايع".

(2)

وفي نسخة: "تحت الشجرة".

ص: 234

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(سَعِيدُ بْنُ عَمْرٍو الأَشْعَثِيُّ) الكنديّ، أبو عثمان الكوفيّ، ثقةٌ [10](ت 230)(م س) تقدم في "المقدمة" 4/ 19.

2 -

(سُوَيْدُ بْنُ سَعِيدٍ) الهرويّ الأصل، ثم الْحَدَثانيّ، ويقال: الأنباريّ، صدوقٌ في نفسه، إلا أنه عَمِي فتغيّر، فصار يتلقّن، من قدماء [10](ت 240) وله مائة سنة (م ت) تقدم في "المقدمة" 6/ 87.

3 -

(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه، تقدّم في الباب الماضي.

4 -

(أَحْمَدُ بْنُ عَبْدَةَ) الضبّيّ، أبو عبد الله البصريّ، ثقةٌ [10](ت 245)(م 4) تقدم في "الإيمان" 1/ 103.

5 -

(عَمْرُو) بن دينار الأثرم الْجُمحيّ، أبو محمد المكيّ، ثقةٌ ثبتٌ [4](ت 126)(ع) تقدم في "الإيمان" 21/ 184.

والباقيان ذُكرا في الباب، و"سفيان" هو: ابن عيينة.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (341) من رباعيّات الكتاب.

شرح الحديث:

(عَنْ جَابِرِ) بن عبد الله رضي الله عنهما، أنه (قَالَ: كُنَّا) معاشر الصحابة (يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ أَلْفًا وَأَرْبَعَمِائَةٍ) تقدّم بيان اختلاف الروايات، ووجه الجمع بينها في حديث أول الباب.

(فَقَالَ لَنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "أَنْتُمُ الْيَوْمَ خَيْرُ أَهْلِ الأَرْضِ") هذا صريح في فضل أصحاب الشجرة، فقد كان من المسلمين إذ ذاك جماعة بمكة، وبالمدينة، وبغيرهما، وعند أحمد بإسناد حسن عن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه قال: لما كان بالحديبية، قال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"لا توقدوا نارًا بليل"، فلما كان بعد ذلك قال:"أوقدوا، واصطنعوا، فإنه لا يدرك قوم بعدكم صاعكم، ولا مُدّكم"، وعند مسلم من حديث جابر رضي الله عنه مرفوعًا:"لا يدخل النار من شهد بدرًا، والحديبية"، وروى مسلم أيضًا من حديث أم مبشر، أنها سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول:"لا يدخل النار أحد من أصحاب الشجرة".

ص: 235

وتمسك به بعض الشيعة في تفضيل عليّ على عثمان؛ لأن عليًّا كان من جملة من خوطب بذلك، وممن بايع تحت الشجرة، وكان عثمان حينئذ غائبًا.

ورُدّ عليهم بأن النبيّ صلى الله عليه وسلم بايع عنه، فاستوى معهم عثمان في الخيرية المذكورة، ولم يقصد في الحديث إلى تفضيل بعضهم على بعض.

واستُدِلّ به أيضًا على أن الخضر ليس بحيّ؛ لأنه لو كان حيًّا مع ثبوت كونه نبيًّا للزم تفضيل غير النبيّ على النبيّ، وهو باطل، فدلّ على أنه ليس بحيّ حينئذٍ.

وأجاب من زعم أنه حيّ باحتمال أن يكون حينئذٍ حاضرًا معهم، ولم يقصد إلى تفضيل بعضهم على بعض، أو لم يكن على وجه الأرض، بل كان في البحر، والثاني جواب ساقط.

وعَكَس ابن التين، فاستَدَلَّ به على أن الخضر ليس بنبيّ، فبنى الأمر على أنه حيّ، وأنه دخل في عموم مَن فَضَّل النبيّ صلى الله عليه وسلم أهل الشجرة عليهم، قال الحافظ: وقد قدمنا الأدلة الواضحة على ثبوت نبوة الخضر في أحاديث الأنبياء.

وأغرب ابن التين، فجزم أن إلياس ليس بنبيّ، وبناه على قول مَن زعم أنه أيضًا حيّ، وهو ضعيف، أعني كونه حيًّا، وأما كونه ليس بنبي فنفيٌ باطل، ففي القرآن العظيم:{وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (123)} [الصافات]، فكيف يكون أحد من بني آدم مرسَلًا، وليس بنبيّ؟ انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: كون الخضر نبيًّا هو الحقّ الذي دلّت عليه ظواهر النصوص، وكذلك موته هو الحقّ أيضًا، وسيأتي البحث في ذلك مستوفًى في "كتاب الفضائل" - إن شاء الله تعالى -.

(وَقَالَ جَابِرٌ) رضي الله عنه (لَوْ كُنْتُ أُبْصِرُ) إنما قال ذلك لأنه عَمِي في آخر عمره، (لأَرَيْتُكُمْ مَوْضِعَ الشَّجَرَةِ) هذا قاله جابر رضي الله عنه ظنًّا منه أنه لا يزال يعرفها، لكن سيأتي عن سعيد بن الْمُسيِّب عن أبيه أنه قال:"فانطلقنا حاجِّين، فخفي علينا مكانها"، وفي لفظ:"فَنَسُوْها من العام المقبل"، وفي لفظ: "ثم

(1)

"الفتح" 9/ 261 - 262، كتاب "المغازي" رقم (4153).

ص: 236

أتيتها بعدُ، فلم أعرفها، ويَحْتَمل أن يكون جابر اختصّ بمعرفتها دون غيره، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام شرحه، وبيان مسائله أوّل الباب، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4804]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ، قَالَ: سَأَلْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ، عَنْ أَصْحَابِ الشَّجَرَةِ، فَقَالَ: لَوْ كُنَّا مِائَةَ أَلْفٍ لَكَفَانَا، كُنَّا أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ) بن عبد الله بن طارق الْجَمَليّ المراديّ الأعمى، أبو عبد الله الكوفيّ، ثقةٌ عابدٌ، كان لا يدلّس، ورُمي بالإرجاء [5](ت 118) أو قبلها (ع) تقدم في "الإيمان" 85/ 452.

2 -

(سَالِمُ بْنُ أَبِي الْجَعْدِ) رافع الْغَطَفانيّ الأشجعيّ مولاهم الكوفيّ، ثقةٌ كان يرسل كثيرًا [3] (7 أو 98) وقيل: مائة، أو بعد ذلك (ع) تقدم في "الحيض" 8/ 728.

و"جابر رضي الله عنه" ذُكر قبله، والباقون تقدّموا قريبًا.

وقوله: (قَالَ: لَوْ كُنَّا مِائَةَ أَلْفٍ لَكَفَانَا، كُنَّا أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ) هذا مختصر من الحديث الصحيح في بئر الحديبية، ومعناه أن الصحابة رضي الله عنهم لَمّا وصلوا الحديبية وجدوا بئرها إنما تَنِزّ مثل الشِّراك، فبسق النبيّ صلى الله عليه وسلم فيها، ودعا فيها بالبركة، فجاشت، فهي إحدى المعجزات لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فكأن السائل في هذا الحديث عَلِمَ أصل الحديث، والمعجزة في تكثير الماء، وغير ذلك مما جرى فيها، ولم يَعْلَم عددهم، فقال جابر: كنا ألفًا وخمسمائة، ولو كنا مائة ألف أو أكثر لكفانا.

وقوله في الرواية التي قبل هذه: "دعا على بئر الحديبية"؛ أي: دعا فيها بالبركة. انتهى

(1)

.

(1)

"شرح النوويّ" 13/ 4 - 5.

ص: 237

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى البحث فيه، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4805]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ نُمَيْرٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ إِدْرِيسَ (ح) وَحَدَّثَنَا رِفَاعَةُ بْنُ الْهَيْثَمِ، حَدَّثَنَا خَالِدٌ - يَعْنِي: الطَّحَّانَ - كِلَاهُمَا يَقُولُ: عَنْ حُصَيْنٍ، عَنْ سَالِمٍ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: لَوْ كُنَّا مِائَةَ أَلْفٍ لَكَفَانَا، كُنَّا خَمْسَ عَشْرَةَ مِائَةً).

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ إِدْرِيسَ) الأوديّ الكوفيّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(رِفَاعَةُ بْنُ الْهَيْثَمِ) بن الحكم، أبو سعيد الواسطيّ، مقبول [10](م) تقدم في "الجمعة" 13/ 1999، من أفراد المصنّف.

3 -

(خَالِدٌ الطَّحَّانُ) هو: خالد بن عبد الله الطحّان الواسطيّ، تقدّم قبل بابين.

4 -

(حُصَيْنُ) بن عبد الرحمن السّلميّ، أبو الْهُذيل الكوفيّ، ثقةٌ تغيّر بآخره [5](ت 136) وله (93) سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 43/ 285.

والباقون ذُكروا في الباب.

[تنبيه]: هذه الرواية مختصرة من حديث جابر رضي الله عنه، وقد ساقها البخاريّ رحمه الله مطوّلةً، فقال:

(3576)

- حدّثنا موسى بن إسماعيل، حدّثنا عبد العزيز بن مسلم، حدّثنا حُصين، عن سالم بن أبي الجعد، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: عَطِشَ الناس يوم الحديبية، والنبيّ صلى الله عليه وسلم بين يديه رِكْوَةٌ، فتوضأ، فَجَهِشَ الناسُ نحوه، فقال:"ما لكم؟ " قالوا: ليس عندنا ماء نتوضأ، ولا نشرب، إلا ما بين يديك، فوضع يده في الرِّكْوة، فجعل الماء يثور بين أصابعه، كأمثال العيون، فشربنا، وتوضأنا، قلت: كم كنتم؟ قال: لو كنا مائة ألف لكفانا، كنا خمس عشرة مائة. انتهى

(1)

.

(1)

"صحيح البخاريّ" 3/ 1310.

ص: 238

ثم ظاهر هذا الحديث أن المعجزة وقعت بفوران الماء من بين أصابع النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولكن وقع في حديث البراء رضي الله عنه عند البخاريّ ما يدلّ على أن النبيّ صلى الله عليه وسلم صبّ ماء وضوئه في البئر، فكثُر الماء فيها.

وجَمَع ابن حبّان بينهما بأن ذلك وقع مرتين.

ويَحْتَمل أن يكون الماء لَمّا تفجّر من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم، ويده في الركوة، وتوضأوا كلّهم، وشرِبوا أَمَر حينئذ بصبّ الماء الذي بقي في الركوة في البئر، فتكاثر الماء فيها.

ووقع في رواية أبي الأسود، عن عروة، عند البيهقيّ في "دلائل النبوّة" أنه صلى الله عليه وسلم أمر بسهم، فوُضع في قعر البئر، فجاشت بالماء، قاله في "الفتح"

(1)

.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام البحث فيه، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4806]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ إِسْحَاقُ: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ عُثْمَانُ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الأَعْمَشِ، حَدَّثَنِي سَالِمُ بْنُ أَبِي الْجَعْدِ، قَالَ: قُلْتُ لِجَابِرٍ: كَمْ كُنْتُمْ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: أَلْفًا وَأَرْبَعَمِائَةٍ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم قبل بابين.

2 -

(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه، تقدّم في الباب الماضي.

3 -

(جَرِيرُ) بن عبد الحميد، تقدّم قريبًا.

4 -

(الأَعْمَشُ) سليمان بن مِهْران، تقدّم أيضًا قريبًا.

والباقيان ذُكرا قبله.

وقوله: (أَلْفًا وَأَرْبَعَمِائَةٍ) نَصب "ألفًا" خبرًا لـ "كان" المحذوفة؛ أي: كنّا ألفًا وأربعمائة، وهذا العدد يخالف العدد المذكور في الحديث الذي قبله، ويُجمع بأنهم كانوا ألفًا وأربعمائة، فمن اقتصر عليها ألغى الكسر، ومن قال:

(1)

"الفتح" 9/ 260.

ص: 239

ألفًا وخمسمائة جَبَره، ومن العلماء من سلك مسلك الترجيح، كالبيهقيّ، فرجّح رواية:"كنا ألفًا وخمسمائة"؛ لكثرة رواتها، والله تعالى أعلم.

[تنبيه]: هذه الرواية أيضًا مختصرة، ساقها البخاريّ رحمه الله في "الأشربة" من صحيحه" مطوّلةً، فقال:

(5639)

- حدّثنا قتيبة بن سعيد، حدّثنا جرير، عن الأعمش، قال: حدّثني سالم بن أبي الجعد، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما هذا الحديث قال: قد رأيتني مع النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقد حضرت العصر، وليس معنا ماء، غير فَضْلة، فَجُعِل في إناء، فأُتي النبيّ صلى الله عليه وسلم به، فأدخل يده فيه، وفَرَّج أصابعه، ثم قال:"حَيَّ على أهل الوضوء، البركة من الله"، فلقد رأيت الماء يتفجر من بين أصابعه، فتوضأ الناس، وشربوا، فجعلت لا آلو ما جعلت في بطني منه، فعلمت أنه بركة، قلت لجابر: كم كنتم يومئذٍ؟ قال: ألفًا وأربعمائة. انتهى

(1)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4807]

(1857) - (حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَمْرٍو - يَعْنِي: ابْنَ مُرَّةَ - حَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي أَوْفَى، قَالَ: كَانَ أَصْحَابُ الشَّجَرَةِ أَلْفًا وَثَلَاثَمِائَةٍ، وَكَانَتْ أَسْلَمُ ثُمُنَ الْمُهَاجِرِينَ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ) العنبريّ البصريّ، تقدّم قبل أربعة أبواب.

2 -

(أَبُوهُ) معاذ بن معاذ بن نصر العنبريّ البصريّ، تقدّم أيضًا قبل أربعة أبواب.

3 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي أَوْفَى) علقمة بن خالد بن الحارث الأسلميّ الصحابيّ ابن الصحابيّ

(2)

، وفي "الصحيح" أنه قال:"غزوت مع النبيّ صلى الله عليه وسلم ستّ غزوات، نأكل الجراد"، وشَهِد الحديبية، وعُمّر بعد النبيّ صلى الله عليه وسلم دهرًا، ومات رضي الله عنه سنة (87)، وهو آخر من مات بالكوفة من الصحابة رضي الله عنهم، تقدم في "الصلاة" 41/ 1072.

والباقيان ذُكرا قبل حديثين.

(1)

"صحيح البخاريّ" 5/ 2135.

(2)

راجع: "الإصابة" 4/ 16 و 453.

ص: 240

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالبصريين إلى شعبة، والباقيان كوفيان، وفيه رواية الابن عن أبيه، وأن صحابيّه ابن صحابيّ، وهو آخر من مات من الصحابة بالكوفة، وفيه قوله:"يعني: ابن مرّة"، والعناية هي من الراوي عن شعبة، أو ممن دونه، وإنما لم يقل: عن عمر بن مرّة؛ لأن شعبة لم ينسبه إلى أبيه، بل أهمله، فأراد أن يُبيّن نسبه، فزاد "يعني" تمييزًا بين ما نقله عن شيخه، وبين ما زاده هو، وإلى هذا أشار السيوطيّ رحمه الله في "ألفيّة الحديث" بقوله:

وَلَا تَزِدْ فِي نَسَبٍ أَوْ وَصْفِ مَنْ

فَوْقَ شُيُوخٍ عَنْهُمُ مَا لَمْ يُبَنْ

بِنَحْوِ "يَعْنِي" أَوْ بِـ "إِنَّ" أَوْ بِـ "هُوْ"

أَمَّا إِذَا أَتَمَّهُ أَوَّلَهُ

أَجِزْهُ فِي الْبَاقِي لَدَى الْجُمْهُورِ

وَالْفَصْلُ أَوْلَى قَاصِرَ الْمَذْكُورِ

وقد تقدّم هذا البحث غير مرّة.

شرح الحديث:

(عَنْ عَمْرٍو - يَعْنِي: ابْنَ مُرَّةَ - حَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي أَوْفَى) تقدّم أن اسم أبيه علقمة بن خالد بن الحارث، وهو صحابيّ أيضًا، وهو الذي قال صلى الله عليه وسلم لمّا أتى بصدقته:"اللهم صل على آل أبي أوفى"، متّفقٌ عليه. (قَالَ: كَانَ أَصْحَابُ الشَّجَرَةِ)؛ أي: الصحابة الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة، (أَلْفًا وَثَلَاثَمِائَةٍ) تقدّم في الرواية السابقة أنهم ألف وخمسمائة، وفي رواية: ألف وأربعمائة، ويمكن الجمع بأنهم كانوا ألفًا وأربعمائة، وكسرًا، فمن قال: أربعمائة لم يعتبر الكسر، ومن قال: خمسمائة اعتبره، ومن قال: ثلاثمائة ترك الزائد لعدم تيقّنه فيه. (وَكَانَتْ أَسْلَمُ)؛ أي: بنو أسلم، وإنما خصّهم بالذِّكر؛ لكونهم قبيلته، فكأنه يفتخر بأن قومه الذين شهدوا بيعة الرضوان كثيرون، (ثُمُنَ الْمُهَاجِرِينَ) بضمّ المثلّثة، والميم، ويجوز تسكينها، قال الحافظ: ولم أعرف عدد من كان بها من المهاجرين خاصّةً؛ ليُعرف عدد الأسلميين، إلا أن الواقديّ جزم أنه كان مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في غزوة الحديبية مِنْ أسلم مائة رجل،

ص: 241

فعلى هذا كان المهاجرون ثمانمائة. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [18/ 4807 و 4808](1857)، و (البخاريّ) في "المغازي" تعليقًا (4155)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(820)، و (أحمد) في "فضائل الصحابة"(2/ 886)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4803)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 429)، و (ابن أبي عاصم) في "الآحاد والمثاني"(4/ 331)، و (ابن سعد) في "الطبقات"(2/ 98)، و (الحاكم) في "المستدرك"(3/ 660)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 235)، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4808]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ (ح) وَحَدَّثَنَاهُ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ، جَمِيعًا عَنْ شُعْبَةَ، بِهَذَا الإِسْنَادِ، مِثْلَهُ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أَبُو دَاوُدَ) سليمان بن داود بن الجارود الطيالسيّ البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [9](ت 204)(خت م 4) تقدم في "المقدمة" 6/ 73.

2 -

(النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ) المازنيّ، أبو الحسن النحويّ البصريّ، نزيل مرو، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار [9](ت 204) وله (82) سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 39.

والباقون ذُكروا في الباب.

[تنبيه]: رواية أبي داود الطيالسيّ، عن شعبة هذه ساقها أبو داود نفسه في "مسنده"، فقال:

(820)

- حدّثنا أبو داود، قال: حدّثنا شعبة، قال: أخبرني عمرو بن مرّة، سمع ابن أبي أوفى، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان قد شَهِد بيعة الرضوان،

(1)

"الفتح" 9/ 263.

ص: 242

قال: كنا يومئذ ألفًا وثلاثمائة، وكانت أسلم يومئذٍ ثُمن المهاجرين. انتهى

(1)

.

وأما رواية النضر بن شُميل، عن شعبة، فلم أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4809]

(1858) - (وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، عَنْ خَالِدٍ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ الأَعْرَجِ، عَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ، قَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُنِي يَوْمَ الشَّجَرَةِ، وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُبَايعُ النَّاسَ، وَأَنَا رَافِعٌ غُصْنًا مِنْ أَغْصَانِهَا عَنْ رَأْسِهِ، وَنَحْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ مِائَةً، قَالَ: لَمْ نُبَايِعْهُ عَلَى الْمَوْتِ، وَلَكِنْ بَايَعْنَاهُ عَلَى أَنْ لَا نَفِرَّ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ النيسابوريّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ) الْعَيشيّ، أبو معاوية البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 182)(ع) تقدم في "الإيمان" 7/ 132.

3 -

(خَالِدُ) بن مِهْران الحذّاء، أبو الْمُنازل البصريّ، ثقةٌ حافظٌ يرسل [5](ت 1 أو 142)(ع) تقدم في "الإيمان" 10/ 144.

4 -

(الْحَكَمُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ الأَعْرَجِ) البصريّ، ثقةٌ ربّما وَهِمَ [3](م د ق) تقدم في "الإيمان" 100/ 531.

5 -

(مَعْقِلُ بْنُ يَسَارِ) المزنيّ، أبو عليّ الصحابيّ، مات رضي الله عنه بعد الستين (ع) تقدم في "الإيمان" 66/ 370.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسلٌ بالبصريين، غير شيخه، فنيسابوريّ، وقد دخل البصرة، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ.

شرح الحديث:

(عَنْ مَعْقِلِ) بفتح الميم، وكسر القاف، (ابْنِ يَسَارٍ) المزنيّ الصحابيّ

(1)

"مسند الطيالسيّ" 1/ 110.

ص: 243

الشهير، أسلم قبل الحديبية، وشهد بيعة الرضوان، وهو الذي حفر نهر معقل بالبصرة بأمر عمر رضي الله عنهما، فنُسب إليه، وهو ممن بايع تحت الشجرة، ثم نزل البصرة، وبنى بها دارًا، ومات بها في خلافة معاوية رضي الله عنهما، أنه (قَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُنِي)؛ أي: رأيت نفسي (يَوْمَ الشَّجَرَةِ)؛ أي: يوم مبايعة النبيّ صلى الله عليه وسلم لأصحابه تحت الشجرة، وقوله:(وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُبَايعُ النَّاسَ) جملة في محلّ نصب على الحال، وكذا قوله:(وَأَنَا رَافِعٌ غُصْنًا مِنْ أَغْصَانِهَا)"الْغُصْنُ" بضمّ الغين المعجمة، وسكون الصاد المهملة، آخره نون: ما تشعّب من ساق الشجرة، دِقاقُها، وغِلاظُها، والصغيرة بهاء، وجمعه غُصُونٌ، وغِصَنَة - كعِنَبَة - وأغصان، أفاده المجد رحمه الله

(1)

. (عَنْ رَأْسِهِ)؛ أي: رأس النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ لئلا يؤذيه، (وَنَحْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ مِائَةً)؛ أي: ألفًا وأربعمائة، والجملة حال أيضًا، فتكون من الأحوال المتداخلة، أو المترادفة. (قَالَ) معقل رضي الله عنه (لَمْ نُبَايِعْهُ) رضي الله عنه (عَلَى الْمَوْتِ، وَلَكِنْ بَايَعْنَاهُ عَلَى أَنْ لَا نَفِرَّ)؛ أي: لا نهرب من العدوّ، وقد تقدّم اختلاف الصحابة في المبايعة على الموت، وقدّمنا أن ذلك اختلاف في اللفظ فقط، فالذين قالوا: لم نبايع على الموت أرادوا هذا اللفظ، وإلا فمعنى أن لا نفرّ هو معنى المبايعة على الموت، فتأمّل، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث معقِل بن يسار رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [18/ 4809 و 4810](1858)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4551 و 4876)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(20/ 530 و 531 و 532)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 430)، و (الرويانيّ) في "مسنده"(2/ 323)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(8/ 146)، والله تعالى أعلم.

(1)

راجع: "القاموس المحيط" ص 650.

ص: 244

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4810]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَاهُ يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، عَنْ يُونُسَ، بِهَذَا الإِسْنَادِ).

رجال هذا الإسناد: ثلاثة:

1 -

(يُونُسُ) بن عبيد بن دينار العبديّ، أبو عبيد البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فاضلٌ ورعٌ [5](139)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 73.

والباقيان ذُكرا في الباب، وخَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ هو: الطحّان.

[تنبيه]: رواية خالد بن عبد الله الطحّان، عن يونس بن عبيد لم أجد من ساقها، إلا أن ابن حبّان أخرجه في "صحيحه"، من رواية خالد الطحّان، عن خالد الحذّاء، فقال:

(4551)

- أخبرنا أبو خليفة، قال: حدّثنا مسدّد، قال: حدّثنا خالد بن عبد الله الطحّان، عن خالد الحذّاء، عن الحكم بن الأعرج، عن مَعْقِل بن يسار، قال: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية، وأنا أرفع غصن الشجرة عن وجهه، فبايعناه على أن لا نَفِرّ، لم نبايعه على الموت، قلنا له: كم كنتم؟ قال: ألفٌ وأربع مائة. انتهى

(1)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4811]

(1859) - (وَحَدَّثَنَاهُ حَامِدُ بْنُ عُمَرَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ طَارِقٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، قَالَ: كَانَ أَبِي مِمَّنْ بَايَعَ رَسُولَ اللهِ

(2)

صلى الله عليه وسلم عِنْدَ الشَّجَرَةِ، قَالَ: فَانْطَلَقْنَا فِي قَابِلٍ حَاجِّينَ، فَخَفِيَ عَلَيْنَا مَكَانُهَا، فَإِنْ كَانَتْ تَبَيَّنَتْ لَكُمْ، فَأَنْتُمْ أَعْلَمُ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(حَامِدُ بْنُ عُمَرَ) بن حفص بن عمر بن عبيد الله بن أبي بكر الثقفيّ البكراويّ، أبو عبد الرحمن البصريّ، قاضي كِرْمان، ثقةٌ [10](ت 233)(خ م) تقدم في "الطهارة" 26/ 649.

(1)

"صحيح ابن حبان" 10/ 415.

(2)

وفي نسخة: "النبيّ صلى الله عليه وسلم".

ص: 245

2 -

(أَبُو عَوَانَةَ) وضّاح بن عبد الله اليشكريّ، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

3 -

(طَارِقُ) بن عبد الرحمن البجليّ الأحمسيّ الكوفيّ، صدوقٌ له أوهامٌ [5].

رَوَى عن عبد الله بن أبي أوفى، وسعيد بن المسيِّب، وزيد بن وهب، وسعيد بن جبير، وعاصم بن عمرو البجلي، وعامر الشعبيّ، وغيرهم.

وروى عنه إسماعيل بن أبي خالد، والأعمش، وهما من أقرانه، وإسرائيل، والثوريّ، وأبو الأحوص، وأبو عوانة، وابن المبارك، ووكيع، وغيرهم.

قال عبد الله بن أحمد عن أبيه: ليس بذلك، هو دون مخارق، وقال عليّ ابن المدينيّ عن يحيى بن سعيد: طارق بن عبد الرحمن ليس عندي بأقوى من أبي حرملة، وطارق، وإبراهيم بن مهاجر يجريان مجرى واحد، وقال ابن معين، والعجليّ: ثقةٌ، وقال أبو حاتم: لا بأس به، يُكتب حديثه، يُشبه حديثه حديث مخارق، وقال النسائيّ: ليس به بأس، وقال ابن عديّ: أرجو أنه لا بأس به، وذكره ابن حبان في "كتاب الثقات".

وقال النسائيّ في "الضعفاء": طارق بن عبد الرحمن ليس بالقويّ، قال الحافظ

(1)

: فلا أدري عَنَى هذا أو الذي قبله، وذكره ابن الْبَرْقيّ في "بابُ مَن احْتُمِل حديثه"، فقال فيه: وأهل الحديث يخالفون يحيى بن سعيد فيه، ويوثِّقونه، وحَكَى الساجيّ عن أحمد: في حديثه بعض الضعف، وقال الدارقطنيّ، ويعقوب بن سفيان: ثقةٌ، ونقل ابن خلفون توثيقه عن ابن نُمَير.

أخرج له الجماعة، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث، وأعاده بعده.

4 -

(سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ) بن حَزْن القرشيّ المخزوميّ، أبو محمد المدنيّ، أحد العلماء الأثبات الفقهاء الكبار، من كبار [3] مات بعد التسعين، وقد ناهز الثمانين (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 71.

5 -

(أَبُوهُ) المسيّب بن حَزْن بن أبي وهب المخزوميّ، أبو سعيد

(1)

راجع: "تهذيب التهذيب" 5/ 5.

ص: 246

الصحابيّ ابن الصحابيّ، عاش إلى خلافة عمر رضي الله عنهم (خ م د س) تقدم في "الإيمان" 9/ 140.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وفيه ابن المسيّب أحد الفقهاء السبعة، وفيه رواية الابن عن أبيه، وأن صحابيّه ليس له راو إلا ابنه، وأنه من المقلّين من الرواية، فليس له في الكتب إلا ثلاثة أحاديث فقط، حديث في وفاة أبي طالب عند الشيخين، والنسائيّ، وحديث الباب عند الشيخين فقط، وحديث عند البخاريّ فقط أن أباه جاء إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال له:"ما اسمك. . ." الحديث

(1)

.

شرح الحديث:

(عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ) تقدّم أن كسر الياء المشدّدة هو الأصحّ من فتحها، أنه (قَالَ: كَانَ أَبِي) المسيِّب بن حَزْنِ (مِمَّنْ بَايَعَ رَسُولَ اللهِ) وفي بعض النسخ: "النبيّ"(صلى الله عليه وسلم عِنْدَ الشَّجَرَةِ)"أل" فيه للعهد الذهنيّ؛ أي: الشجرة المعروفة التي بايع تحتها النبيّ صلى الله عليه وسلم أصحابه، كما قال عز وجل:{لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} الآية [الفتح: 18]. (قَالَ) المسيِّب (فَانْطَلَقْنَا)؛ أي: ذهبنا من المدينة إلى مكة (فِي قَابِلٍ)؛ أي: في السنة التي بعدها (حَاجِّينَ) بصيغة الجمع؛ أي: معتمرِين، أطلق على العمرة الحج؛ لأنه يجوز إطلاقه عليه، كما يقال: العمرة الحجّ الأصغر، (فَخَفِيَ عَلَيْنَا مَكَانُهَا) وفي رواية سفيان:"أَنَّهُمْ كَانُوا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَامَ الشَّجَرَةِ، قَالَ: فَنَسُوهَا مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ"، وفي رواية شعبة:"لقد رأيت الشجرة، ثم أتيتها بعدُ، فلم أعرفها"، وفي رواية للبخاريّ:"فرجعنا إليها العام المقبل فعَمِيت علينا"، وللبخاريّ من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال:"رجعنا من العام المقبل، فما اجتمع منا اثنان على الشجرة التي بايعنا تحتها، كانت رحمة من الله"، وذكر في "الفتح" أن الحكمة في ذلك هو أن لا يحصل بها افتتان لِمَا وقع تحتها من الخير، فلو بَقِيت لَمَا أُمِن تعظيم بعض الجهال لها، حتى ربما أفضى بهم إلى اعتقاد أن لها قوّةَ نفع أو ضرّ، كما

(1)

راجع: "تحفة الأشراف" 8/ 386 - 388.

ص: 247

نراه الآن مشاهدًا فيما هو دونها، وإلى ذلك أشار ابن عمر رضي الله عنهما بقوله:"كانت رحمةً من الله"؛ أي: كان خفاؤها عليهم بعد ذلك رحمةً من الله تعالى، ويَحْتَمِل أن يكون معنى قوله:"رحمةً من الله"؛ أي: كانت الشجرة موضع رحمة الله، ومحلّ رضوانه؛ لنزول الرضا عن المؤمنين عندها. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: لا يخفى بُعدُ هذا الاحتمال الثاني، فالأول هو الذي يقتضيه سياق الحديث، فتأمله بالإمعان.

وقد أجاد النوويّ رحمه الله حيث قال: سبب خفائها أن لا يفتتن الناس بها لِمَا جرى تحتها من الخير، ونزول الرضوان، والسكينة، وغير ذلك، فلو بقيت ظاهرةً معلومةً لخيف تعظيم الأعراب والجهال إياها، وعبادتهم إياها، وكان خفاؤها رحمةً من الله تعالى. انتهى

(2)

.

(فَإِنْ كَانَتْ تَبَيَّنَتْ لَكُمْ، فَأَنْتُمْ أَعْلَمُ) هذا الكلام من ابن الْمُسّيِّب إنكار على من يدّعي معرفتها من التابعين الذين لم يشاهدوا البيعة تحتها؛ لأنها خفيت على الصحابة الذين بايعوا تحتها، فكيف يعرفها من لم يشاهدها؟.

وفي رواية للبخاريّ: "ذُكرت عند سعيد بن المسيِّب الشجرةُ، فضَحِك، فقال: أخبرني أبي، وكان شهدها". قال في "الفتح" عند شرح هذا الموضع ما نصّه: لكن إنكار سعيد بن المسيِّب على مَن زعم أنه عرفها معتمدًا على قول أبيه: إنهم لم يعرفوها في العام المقبل، لا يدلّ على رفع معرفتها أصلًا، فقد ثبت قول جابر الذي سبق في الباب:"لو كنت أُبصر اليومَ لأريتكم مكان الشجرة"، فهذا يدلّ على أنه كان يضبط مكانها بعينه، وإذا كان في آخر عمره بعد الزمان الطويل يضبط موضعها، ففيه دلالة على أنه كان يعرفها بعينها؛ لأن الظاهر أنها حين مقالته تلك كانت هلكت، إما بجفاف، أو بغيره، واستمرّ هو يعرف موضعها بعينه، وعند ابن سعد بإسناد صحيح عن نافع، أن عمر رضي الله عنه بلغه أن قومًا يأتون الشجرة، فيصلّون عندها، فتوعّدهم، ثم أمر بقطعها، فقُطِعت. انتهى.

(1)

"الفتح" 7/ 218، كتاب "الجهاد" رقم (2958).

(2)

"شرح النوويّ" 13/ 5.

ص: 248

قال الجامع عفا الله عنه: تقدّم أن قول جابر رضي الله عنه هذا لا يدلّ إلا على أنه يظنّ معرفتها، لا أنه مستيقن لذلك، بدليل قول ابن عمر:"فما اجتمع منا اثنان على الشجرة"، وقول والد سعيد:"فَنَسُوها من العام المقبل"، وقول سعيد:"إن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لم يعلموها"، فتأمّل.

وأما أمْر عمر رضي الله عنه بقطعها، فلا يدلّ على معرفتهم لها، بل على ظنّهم، فإنه لَمّا رآهم يعظّمون الشجرة، خاف المفسدة في ذلك، فقطعها، سواء كانت هي، أو غيرها؛ لأن مبنى الافتتان يكفيه الظنّ، فتأمله.

والحاصل أن تلك الشجرة الأصليّة لم تُعرف، بل أخفاها الله تعالى رحمة بالأمة، كما قال ابن عمر رضي الله عنهما، وأما العبادة تحت الشجرة فلا يدلّ على معرفتها، بل على ظنهم لها، فتأمله بالإنصاف، والله تعالى وليّ التوفيق.

[تنبيه]: مما رأيت التنبيه عليه ما كتبه صاحب "تكملة فتح الملهم" فيه (3/ 363 - 367) حيث تكلّم عن مسألة التبرّك بآثار الأنبياء والصالحين، ثم تطرّق لزيارة هذه المشاهد التي امتلأت الدنيا بها، وافتتن بها العوامّ، بل وبعض من يزعم أنه من الخواصّ، وأورد أحاديث وآثارًا، وليس في شيء منها التبرّك بآثار الصالحين، بل كلّها آثار للنبيّ صلى الله عليه وسلم، ولا خلاف في التبرّك بآثاره صلى الله عليه وسلم، وإنما الكلام في غيره، ولا تراه أورد شيئًا من تبرّك الصحابة بالصدّيق، ولا بأحد من الخلفاء الراشدين، ولا تبرّك التابعين بآثار الصحابة رضي الله عنهم؛ لأنه لم يوجد ذلك في التاريخ، فهلّا يُثبت لنا شيئًا من ذلك، هيهات هيهات.

وبالجملة إن هذا الذي كتبه، وبحث فيه في كتابه المذكور فيه فتحٌ لباب الشرّ، ونشرٌ لوسائل الشرك، وحثٌّ على الانحراف عن الصراط المستقيم، فلا تغترّ به، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث سعيد بن الْمُسَيِّب، عن أبيه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [18/ 4811 و 4812 و 4813](1859)، و (البخاريّ) في "المغازي"(4162 و 4163 و 4164 و 4165)، و (أحمد) في

ص: 249

"مسنده"(5/ 433)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(20/ 348)، و (الطبريّ) في "تفسيره"(26/ 86)، و (ابن سعد) في "الطبقات"(2/ 99)، و (ابن عساكر) في "تاريخ دمشق"(58/ 188)، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4812]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِيهِ مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ، قَالَ: وَقَرَأْتُهُ عَلَى نَصْرِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ أَبِي أَحْمَدَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ طَارِقِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُمْ كَانُوا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَامَ الشَّجَرَةِ، قَالَ: فَنَسُوهَا مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ) النيسابوريّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(أَبُو أَحْمَدَ) محمد بن عبد الله بن الزبير بن عُمَر بن درهم الزبيريّ الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ [9](ت 203)(ع) تقدم في "الإيمان" 50/ 314.

3 -

(نَصْرُ بْنُ عَلِيِّ) بن نصر بن عليّ الْجَهْضميّ البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 250) أو بعدها (ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 30.

4 -

(سُفْيَانُ) بن سعيد بن مسروق الثوريّ، أبو عبد الله الكوفيّ الإمام الحافظ الحجة الفقيه، من رؤوس [7](ت 161)(ع) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.

والباقون ذُكروا قبله.

وقوله: (وَقَرَأْتُهُ عَلَى نَصْرِ بْنِ عَلِيٍّ) قائل "قرأته" هو المصنّف رحمه الله، ووقع في بعض النسخ:"قال مسلم: وقرأته على نصر بن عليّ"، وغالب عادته في مثل هذا أن يكتب (ح) إشارة إلى التحويل، فتنبّه.

وقوله: (فَنَسُوهَا) بفتح النون، وضمّ السين المهملة، أصله: نَسِيُوها، بفتح النون، وكسر السين، وضمّ الياء، بوزن عَلِمُوها، فنُقلت ضمّة الياء إلى السين بعد سَلْب حركتها، فصار نَسُوها، بضم السين، وإنما نبّهت عليه، وإن كان واضحًا لمن عنده معرفة بالقواعد الصرفيّة؛ لأني أسمع كثيرًا من الناس يغلطون فيه، فيقولون:"نَسَوْها" بفتح السين، وهو غلط، فتنبّه، وبالله تعالى التوفيق.

وقوله: (مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ)؛ أي: في السنة التالية، فـ "من" بمعنى "في".

ص: 250

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان تخريجه في الحديث الماضي، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4813]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِي حَجَّاجُ بْنُ الشَّاعِرِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا شَبَابَةُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُ الشَّجَرَةَ، ثُمَّ أَتَيْتُهَا بَعْدُ فَلَمْ أَعْرِفْهَا).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(حَجَّاجُ بْنُ الشَّاعِرِ) تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

2 -

(شَبَابَةُ) بن سوّار المدائنيّ، تقدّم قريبًا.

3 -

(قَتَادَةُ) بن دِعامة السَّدُوسيّ، تقدّم قبل باب.

والباقون ذكروا في الباب.

وقوله: (بَعْدُ) بالبناء على الضمِّ، من الظروف المبنيّة على الضمّ؛ لِقَطْعه عن الإضافة، ونيّة معناها؛ أي: بعد تلك السنة.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى البحث فيه مستوفًى قبل حديث.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4814]

(1860) - (وَحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا حَاتِمٌ - يَعْنِي: ابْنَ إِسْمَاعِيلَ - عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ مَوْلَى سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ، قَالَ: قُلْتُ لِسَلَمَةَ: عَلَى أي شَيْءٍ بَايَعْتُمْ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ؟ قَالَ: عَلَى الْمَوْتِ).

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) ذُكر أول الباب.

2 -

(حَاتِمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ) الحارثيّ مولاهم، أبو إسماعيل المدنيّ، كوفيّ الأصل، صدوقٌ يَهِمُ، صحيح الكتاب [8](ت 6 أو 187)(ع) تقدّم في "الصلاة" 42/ 1086.

3 -

(يَزِيدُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ مَوْلَى سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ) الأسلميّ المدنيّ، ثقةٌ [4] مات سنة بضع و (140)(ع) تقدّم في "الصلاة" 51/ 1140.

4 -

(سَلَمَةُ بْنُ الأَكْوَعِ) هو: سلمة بن عَمْرو بن الأكوع الأسلميّ، أبو

ص: 251

مسلم، أو أبو إياس الصحابيّ الشهير، شَهِد بيعة الرضوان، ومات بالمدينة سنة (64)(ع) تقدّم في "الإيمان" 44/ 288.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (342) من رباعيّات الكتاب.

شرح الحديث:

(عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ مَوْلَى سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ) أنه (قَالَ: قُلْتُ لِسَلَمَةَ) بن عمرو بن الأكوع، نُسب لجدّه، (عَلَى أي شَيْءٍ بَايَعْتُمْ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ؟ قَالَ) سلمة رضي الله عنه (عَلَى الْمَوْتِ)؛ أي: بايعناه على الموت، والمراد: أنهم بايعوه على الصبر، والثبات في ملاقاة العدوّ، وإن أدّى ذلك إلى الموت، وقد تقدّم الجمع بينه وبين قول جابر رضي الله عنه:"لم نبايع على الموت، وإنما بايعناه على أن لا نفرّ" أول الباب، وبالله تعالى التوفيق.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [18/ 4814 و 4815](1860)، و (البخاريّ) في "الجهاد"(2960) و"المغازي"(4169) و"الأحكام"(7207 و 7208)، و (الترمذيّ) في "السير"(1640)، و (النسائيّ) في "البيعة"(7/ 141) و"الكبرى"(4/ 423)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 47 و 51 و 54)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(8/ 146)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 311)، و (الرويانيّ) في "مسنده"(2/ 246)، و (الفاكهيّ) في "أخبار مكة"(5/ 74)، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4815]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَاهُ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ مَسْعَدَةَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ، عَنْ سَلَمَةَ، بِمِثْلِهِ).

رجال هذا الإسناد: ثلاثة:

1 -

(حَمَّادُ بْنُ مَسْعَدَةَ) التميميّ، أبو سعيد البصريّ، ثقةٌ [9](ت 202)(ع) تقدّم في "الصلاة" 51/ 1140.

ص: 252

والباقيان ذُكرا في الباب.

[تنبيه]: رواية حمّاد بن مسعدة، عن سلمة بن عُبيد هذه ساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(16556)

- حدّثنا عبد الله

(1)

، حدّثني أبي، ثنا حماد بن مَسعدة، عن يزيد بن أبي عبيد، عن سلمة بن الأكوع، قال: بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الناس في الحديبية، ثم قعدت مُتنحيًا، فلمّا تفرّق الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"يا ابن الأكوع، ألا تبايع؟ " قال: قلت: قد بايعت يا رسول الله، قال:"أيضًا"، قلت: علام بايعتم؟ قال: على الموت. انتهى

(2)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4816]

(1861) - (وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا الْمَخْزُومِيُّ، حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ يَحْيَى، عَنْ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ زَيْدٍ، قَالَ: أَتَاهُ آتٍ، فَقَالَ: هَذَاكَ ابْنُ حَنْظَلَةَ يُبَايِعُ النَّاسَ، فَقَالَ: عَلَى مَاذَا؟ قَالَ: عَلَى الْمَوْتِ، قَالَ: لَا أُبَايعُ عَلَى هَذَا أَحَدًا بَعْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم).

رجال هذا الإسناد: ستّةٌ:

1 -

(الْمَخْزُومِيُّ) المغيرة بن سَلَمَة، أبو هشام البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ، من صغار [9](ت 200)(خت م د س ق) تقدّم في "الطهارة" 11/ 584.

2 -

(وُهَيْبُ) بن خالد بن عجلان الباهليّ مولاهم، أبو بكر البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ، لكنّه تغيّر قليلًا بآخره [7](ت 165) أو بعدها (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 413.

3 -

(عَمْرُو بْنُ يَحْيَى) بن عُمارة بن أبي حسن المازنيّ المدنيّ، ثقةٌ [6] مات بعد (130)(ع) تقدّم في "الإيمان" 88/ 464.

4 -

(عَبَّادُ بْنُ تَمِيمِ) بن غَزِيّة الأنصاريّ المازنيّ المدنيّ، ثقةٌ [3]، وقد قيل: إن له رؤيةً (ع) تقدَّم في "الحيض" 25/ 810.

(1)

هو: ولد الإمام أحمد راوي "المسند" عنه.

(2)

"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 4/ 47.

ص: 253

5 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ زَيْدِ) بن عاصم بن كعب الأنصاريّ المازنيّ الصحابيّ الشهير، أبو محمد، يقال: إنه هو الذي قَتَل مسيلمة الكذّاب، استُشهد بالحرّة سنة (63)(ع) تقدّم في "الطهارة" 7/ 561.

و"إسحاق بن إبراهيم" هو ابن راهويه المذكور في السند الماضي.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وفيه رواية الراوي عن عمّه، فعبد الله بن زيد عم عبّاد بن تميم، وأنه مسلسلٌ بالمدنيين من عَمْرو، وشيخه مروزيّ، والباقيان بصريّان، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ زَيْدٍ) رضي الله عنه، وقوله:(قَالَ) فاعله ضمير عبّاد؛ أي: عبّاد، (أَتَاهُ)؛ أي: عبدَ الله بن زيد، (آتٍ) اسم فاعل من أَتَى؛ أي: شخص، (فَقَالَ) ذلك الآتي، ولا يُعرف اسم هذا الآتي، قاله صاحب "التنبيه"

(1)

.

وفي رواية البخاريّ: "عن عبد الله بن زيد رضي الله عنه قال: لَمّا كان زمن الْحَرّة أتاه آتٍ، فقال: إن ابن الحنظليّة يبايع الناس. . ." الحديث.

وقوله: "لمّا كان زمن الحرّة"؛ أي: الوقعة التي كانت بالمدينة في زمن يزيد بن معاوية سنة ثلاث وستين، لمّا خلع أهل المدينة بيعة يزيد بن معاوية، وبايعوا عبد الله بن حنظلة بن أبي عامر الأنصاريّ، كما سبق بيان ذلك مستوفًى في "باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن"[13/ 4784](1851).

(هَذَاكَ) مبتدأ خبره قوله: (ابْنُ حَنْظَلَةَ) ويَحْتَمل أن يكون "ابن حنظلة" بدلًا، أو عطف بيان لاسم الإشارة، والخبر قوله:(يُبَايعُ النَّاس)؛ أي: على الطاعة له، وخَلْع يزيد بن معاوية، وفي رواية البخاريّ:"إن ابن حنظلة يبايع الناس على الموت".

وابن حنظلة هذا هو: عبد الله بن حنظلة بن أبي عامر الذي يُعْرَف أبوه بغسيل الملائكة، والسبب في تلقيبه بذلك أنه قُتل بأحد، وهو جُنُب، فغسلته

(1)

راجع: "تنبيه المعلم" ص 325.

ص: 254

الملائكة، وعَلِقَت امرأته تلك الليلة بابنه عبد الله بن حنظلة، فمات النبيّ صلى الله عليه وسلم، وله سبع سنين، وقد حفظ عنه.

قال الحافظ: وأتى الكرمانيّ بأعجوبة، فقال: ابن حنظلة، هو الذي كان يأخذ البيعة ليزيد بن معاوية، والمراد به: نَفْس يزيد؛ لأن جدّه أبا سفيان كان يُكنى أيضًا أبا حنظلة، فيكون التقدير: إن ابن أبي حنظلة، ثم حذف لفظ "أَبِي" تخفيفًا، أو يكون نُسِب إلى عمه حنظلة بن أبي سفيان؛ استخفافًا، واستهجانًا، واستبشاعًا بهذه الكلمة الْمُرّة. انتهى.

قال: ولقد أطال رحمه الله في غير طائل، وأتى بغير الصواب، ولو راجع موضعًا آخر من البخاريّ لهذا الحديث بعينه، لرأى فيه ما نصّه:"لَمّا كان يوم الحرّة، والناس يبايعون لعبد الله بن حنظلة، فقال عبد الله بن زيد: علام يبايع ابن حنظلةُ الناس. . ." الحديث، وهذا الموضع في أثناء غزوة الحديبية من "كتاب المغازي"، فهذا يرُدّ احتماله الثاني، وأما احتماله الأول فيردّه اتفاق أهل النقل على أن الأمير الذي كان من قِبَل يزيد بن معاوية اسمه مسلم بن عقبة، لا عبد الله بن حنظلة، وأن ابن حنظلة كان الأمير على الأنصار، وأن عبد الله بن مطيع كان الأمير على من سواهم، وأنهما قُتِلا جميعًا في تلك الوقعة، والله المستعان.

(فَقَالَ) عبد الله بن زيد (عَلَى مَاذَا؟)؛ أي: على أي شيء يبايعهم؟ (قَالَ) الآتي (عَلَى الْمَوْتِ)؛ أي: يبايعهم على أن يموتوا مقاتلين العدوّ دون فرار. (قَالَ) عبد الله رضي الله عنه (لَا أُبَايِعُ عَلَى هَذَا)؛ أي: على الموت، (أَحَدًا بَعْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) وقع في رواية الإسماعيليّ من الزيادة قوله:"وقُتل عبد الله بن زيد يوم الحرّة".

قال في "الفتح": فيه إيماء إلى أنه بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك، وليس بصريح، ولذلك عقّبه البخاريّ بحديث سلمة بن الأكوع - يعني: الحديث الذي قبل هذا عند مسلم - لتصريحه فيه بذلك.

قال ابن المنير رحمه الله: والحكمة في قول الصحابيّ: إنه لا يفعل ذلك بعد النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه كان مستحَقًّا للنبيّ صلى الله عليه وسلم على كل مسلم أن يقيه بنفسه، وكان فرضًا

ص: 255

عليهم أن لا يَفِرُّوا عنه حتى يموتوا دونه، وذلك بخلاف غيره. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عبد الله بن زيد رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [18/ 4816](1861)، و (البخاريّ) في "الجهاد"(2959) و"المغازي"(4167)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 42)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 431)، و (الحاكم) في "المستدرك"(3/ 597)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(8/ 146)، و (ابن عساكر) في "تاريخ دمشق"(27/ 429)، والله تعالى أعلم.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(19) - (بَابُ تَحْرِيمِ رُجُوعِ الْمُهَاجِرِ إِلَى اسْتِيطَانِ وَطَنِهِ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4817]

(1862) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا حَاتِمٌ - يَعْنِي: ابْنَ إِسْمَاعِيلَ - عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ، أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى الْحَجَّاجِ، فَقَالَ: يَا ابْنَ الأَكْوَعِ ارْتَدَدْتَ عَلَى عَقِبَيْكَ؟، تَعَرَّبْتَ؟، قَالَ: لَا، وَلَكِنْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَذِنَ لِي في الْبَدْوِ).

رجال هذا الإسناد: أربعةٌ:

وهو السند المذكور قبل إسنادين.

شرح الحديث:

(عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ) رضي الله عنه، وفي رواية القعنبيّ:"عن حاتم: أنبأنا يزيد بن أبي عُبيد"، أخرجها أبو نعيم. (أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى الْحَجَّاجِ) هو ابن

(1)

"الفتح" 7/ 219 - 220، كتاب "الجهاد" رقم (2959).

ص: 256

يوسف بن أبي عقيل الثقفيّ الأمير المشهور، الظالم المبير، وقع ذكره وكلامه في "الصحيحين"، وغيرهما، وليس بأهل أن يُروى عنه، وَليَ إمرة العراق عشرين سنة، ومات سنة (95)، وكان كلامه هذا مع سلمة رضي الله عنه لمّا وَلِي الحَجّاج إمرة الحجاز بعد قتل ابن الزبير، فسار من مكة إلى المدينة، وذلك في سنة أربع وسبعين، وقيل: إن سلمة مات في آخر خلافة معاوية سنة ستين، ولم يدرك زمن إمارة الحجاج، والأول هو الصحيح

(1)

.

(فَقَالَ) الحجّاج (يَا ابْنَ الأَكْوَعِ ارْتَدَدْتَ عَلَى عَقِبَيْكَ) يَحتَمِل أن يكون استفهامًا على جهة الإنكار، وأن يكون إخبارًا، وكأنه أشار إلى ما جاء من الحديث في ذلك، فقد أخرج النسائيّ من حديث ابن مسعود رضي الله عنه رفعه:"لَعَن الله آكل الربا، وموكله - الحديث، وفيه -: والمرتدّ بعد هجرته أعرابيًّا".

قال ابن الأثير في "النهاية": كان مَن رجع بعد هجرته إلى موضعه من غير عذر، يعدّونه كالمرتدّ، وقال غيره: كان ذلك من جفاء الحَجّاج، حيث خاطب هذا الصحابيّ الجليل بهذا الخطاب القبيح، من قبل أن يستكشف عن عُذْره، ويقال: إنه أراد قتله، فبيّن الجهة التي يريد أن يجعله مستحقًّا للقتل بها.

وقد أخرج الطبرانيّ من حديث جابر بن سمرة رضي الله عنه رفعه: "لَعَن الله مَن بدا بعد هجرته، إلا في الفتنة، فإن البُدُوّ خير من المقام في الفتنة".

وقال القرطبيّ رحمه الله: وقول الْحَجَّاج لسلمة بن أكوع: "أرتددْتَ؟ تَعَرَّبت؟ " استفهامٌ على جهة الإنكار عليه أنه خرج من محل هجرته؛ التي هي المدينة إلى البادية؛ التي هي موطن الأعراب؛ لِمَا كان المعلوم من حال المهاجر أنه يحرّم عليه الانتقال منها إلى غيرها، لا سيما إنْ رجع إلى وطنه؛ فإنّ ذلك محرَّم بإجماع الأمَّة، على ما حكاه القاضي عياض، وربما أُطلق على ذلك رِدَّة، كما أطلقه الحجاج هنا، فأجابه سلمة بأن النبيّ صلى الله عليه وسلم أَذِنَ له في ذلك، فكان ذلك خصوصًا في حقّه. انتهى

(2)

.

(تَعَرَّبْتَ؟)؛ أي: صرت أعرابيًّا، تسكن البادية مع الأعراب، والتعرّب:

(1)

"عمدة القاري" 24/ 197.

(2)

"المفهم" 4/ 71.

ص: 257

بالعين المهملة، والراء الثقيلة؛ أي: السكنى مع الأعراب، بفتح الهمزة، وهو أن ينتقل المهاجر من البلد التي هاجر منها، فيسكن البدو، فيرجع بعد هجرته أعرابيًّا، وكان إذ ذاك محرَّمًا، إلا إن أذن له الشارع في ذلك؛ كسلمة هذا رضي الله عنه (قَالَ) سلمة رضي الله عنه (لَا)؛ أي: لم أتعرّب، ولم أسكن البادية رجوعًا عن هجرتي، ولا من تلقاء نفسي.

(وَلَكِنْ) بتشديد النون، وتخفيفها (رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَذِنَ لِي فِي الْبَدْوِ)؛ أي: في سكنى البادية، و"البدو" بفتح، فسكون: البادية، وسُمِّيت بذلك؛ لأنه يبدو ما فيها، ومن فيها؛ أي: يظهر، أو لأنّ من خرج إليها من الحاضرة بدا؛ أي: ظهر، والحاضر أصله: النازل على الماء، كما قال:

مِنْ سَبَأَ الحاضرين مَأْرِبَ إِذْ

يَبْنُونَ مِنْ دون سيْلِهِ العَرِمَا

وسُمِّي به أهل القرى والحصون؛ لأنهم لا يرحلون عن مياهٍ يجتمعون عليها، قاله القرطبيّ رحمه الله

(1)

.

وفي رواية حماد بن مَسْعَدة عن يزيد بن أبي عُبيد، عن سلمة:"أنه استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في البداوة، فَأَذِن له"، أخرجه الإسماعيليّ، وفي لفظ له:"استأذنتُ النبيّ صلى الله عليه وسلم".

وقد وقع لسلمة رضي الله عنه في ذلك قصة أخرى مع غير الحجاج، فأخرج أحمد من طريق سعيد بن إياس بن سلمة، أن أباه حدّثه، قال:"قَدِم سلمة المدينة، فلقيه بُريدة بن الْحُصيب، فقال: ارتددت عن هجرتك؟ فقال: معاذ الله، إني في إذن من رسول الله صلى الله عليه وسلم، سمعته يقول: ابْدُوا يا أسلم - أي: القبيلة المشهورة التي منها سلمة، وأبو بَرْزة، وبُريدة المذكور - قالوا: إنا نخاف أن يقدح ذلك في هجرتنا، قال: أنتم مهاجرون حيث كنتم"، وله شاهد من رواية عمرو بن عبد الرحمن بن جَرْهد، قال: "سمعت رجلًا يقول لجابر: مَن بَقِي من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: أنس بن مالك، وسلمة بن الأكوع، فقال رجل: أمّا سلمة فقد ارتدّ عن هجرته، فقال: لا تَقُل: ذلك، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأسلم: ابدوا، قالوا: إنا نخاف أن نرتدّ بعد هجرتنا،

(1)

"المفهم" 4/ 71.

ص: 258

قال: أنتم مهاجرون حيث كنتم"، وسند كل منهما حسنٌ، قاله في "الفتح"

(1)

.

[تنبيه]: زاد في رواية البخاريّ في آخر هذا الحديث قوله: "وعن يزيد بن أبي عبيد قال: لَمّا قُتل عثمان بن عفان، خرج سلمة بن الأكوع إلى الرَّبَذَة، وتزوج هناك امرأةً، ووَلَدت له أولادًا، فلم يَزَلْ بها حتى قبل أن يموت بليال، نزل المدينة". انتهى.

قال في "الفتح": قوله: "وعن يزيد بن أبي عبيد" هو موصول بالسند المذكور.

وقوله: "لمّا قُتل عثمان بن عفان خرج سلمة إلى الرَّبَذَة - بفتح الراء، والموحدة، بعدها معجمة - موضع بالبادية بين مكة والمدينة، ويستفاد من هذه الرواية مُدَّة سكنى سلمة البادية، وهي نحو الأربعين سنةً؛ لأن قَتْل عثمان كان في ذي الحجة سنة خمس وثلاثين، وموت سلمة سنة أربع وسبعين

(2)

، على الصحيح.

وقوله: "نزل المدينة" هذا يُشعر بأن سلمة لم يمت بالبادية، كما جزم به يحيى بن عبد الوهاب ابن منده في الجزء الذي جمعه في آخر من مات من الصحابة، بل مات بالمدينة، كما تقتضيه رواية يزيد بن أبي عبيد هذه، وبذلك جزم أبو عبد الله بن منده في "معرفة الصحابة"، وفي الحديث أيضًا ردٌّ على من أرّخ وفاة سلمة سنة أربع وستين، فإن ذلك كان في آخر خلافة يزيد بن معاوية، ولم يكن الحجاج يومئذ أميرًا، ولا ذا أمر، ولا نهي، وكذا فيه ردٌّ على الهيثم بن عديّ حيث زعم أنه مات في آخر خلافة معاوية، وهو أشدّ غلطًا من الأول، إن أراد معاوية بن أبي سفيان، وإن أراد معاوية بن يزيد بن معاوية، فهو عين القول الذي قبله، وقد مشى الكرمانيّ على ظاهره، فقال: مات سنة ستين، وهي السنة التي مات فيها معاوية بن أبي سفيان، كذا جزم به، والصواب خلافه.

(1)

"الفتح" 16/ 494، كتاب "الفتن" رقم (7087).

(2)

هكذا وقع في "الفتح": سبعين بتقديم السين، ثم الموحّدة، وهذا عندي محلّ نظر؛ لأنه ثبت أنه قتل سعيد بن جبير صبرًا سنة (95) ومات بعده بقليل، فالظاهر أن صوابه "تسعين"، لا سبعين، فليُتأمّل.

ص: 259

وقد اعتَرَضَ الذهبيّ على من زعم أن سلمة عاش ثمانين سنة، ومات سنة أربع وسبعين؛ لأنه يلزم منه أن يكون له في الحديبية اثنتا عشرة سنة، وهو باطلٌ؛ لأنه ثبت أنه قاتَل يومئذ، وبايع.

قال الحافظ: وهو اعتراض متّجه، لكن ينبغي أن ينصرف إلى سنة وفاته، لا إلى مبلغ عمره، فلا يلزم منه رجحان قول من قال: مات سنة أربع وستين، فإن حديث جابر يدلّ على أنه تأخر عنها؛ لقوله: لم يبق من الصحابة إلا أنس وسلمة، وذلك لائق بسنة أربع وسبعين، فقد عاش جابر بن عبد الله بعد ذلك إلى سنة سبع وسبعين على الصحيح، وقيل: مات في التي بعدها، وقيل: قبل ذلك. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [19/ 4817](1862)، و (البخاريّ) في "الفتن"(7087)، و (النسائيّ) في "البيعة"(7/ 151) و"الكبرى"(4/ 430)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 431)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(9/ 19)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان تحريم رجوع المهاجر إلى استيطان وطنه، ووجه ذلك أن الحجّاج لَمّا عنّف سلمة رضي الله عنه بتعرّبه لم يعارضه في ذلك، وإنما اعتذر بكون النبيّ صلى الله عليه وسلم أَذِنَ له، فلولا إنه أَذِنَ له لَمَا جاز له ذلك، ويؤيّد هذا ما تقدّم من حديث ابن مسعود رضي الله عنه:"لعن الله آكل الربا. . ." الحديث، وفيه:"والمرتدّ بعد هجرته أعرابيًّا"، والله تعالى أعلم.

2 -

(ومنها): بيان جرأة الحجّاج، وتطاوله على هذا الصحابيّ الجليل رضي الله عنه، وتعنيفه بهذا الخطاب القبيح.

(1)

"الفتح" 16/ 494، كتاب "الفتن" رقم (7087).

ص: 260

3 -

(ومنها): بيان صبر سلمة رضي الله عنه، وتحمّله ما لقيه من الحجّاج من الجرأة عليه، والازدراء به.

4 -

(ومنها): ما قاله القاضي عياض رحمه الله: أجمعت الأمة على تحريم ترك المهاجر هجرته، ورجوعه إلى وطنه، وعلى أن ارتداد المهاجر أعرابيًّا من الكبائر، قال: ولهذا أشار الحجاج إلى أن أَعْلَمَه سلمة أن خروجه إلى البادية إنما هو بإذن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال: ولعله رجع إلى غير وطنه، أو لأن الغرض في ملازمة المهاجر أرضه التي هاجر إليها، وفُرِض ذلك عليه إنما كان في زمن النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ لنصرته، أو ليكون معه، أو لأن ذلك إنما كان قبل فتح مكة، فلما كان الفتح، وأظهر الله الإسلام على الدين كله، وأَذَلّ الكفر، وأعز المسلمين سقط فرض الهجرة، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"لا هجرة بعد الفتح"، وقال أيضًا:"مَضَت الهجرة لأهلها"؛ أي: الذين هاجروا من ديارهم، وأموالهم قبل فتح مكة؛ لمواساة النبيّ صلى الله عليه وسلم، ومؤازرته، ونصرة دينه، وضبط شريعته.

قال القاضي عياض: ولم يَختلف العلماء في وجوب الهجرة على أهل مكة، قبل الفتح، واختُلف في غيرهم، فقيل: لم تكن واجبة على غيرهم، بل كانت ندبًا، ذكره أبو عبيد في كتاب الأموال؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يأمر الوفود عليه قبل الفتح بالهجرة، وقيل: إنما كانت واجبة على من لم يُسلم كل أهل بلده؛ لئلا يبقى في طلوع أحكام الكفار. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(20) - (بَابُ الْمُبَايَعَةِ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ عَلَى الإِسْلَامِ، وَالْجِهَادِ، وَالْخَيْرِ، وَبَيَانِ مَعْنَى: "لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ")

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4818]

(1863) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الصَّبَّاح أَبُو جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ زَكَرِيَّاءَ، عَنْ عَاصِمٍ الأَحْوَلِ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ، حَدَّثَنِي

(1)

"شرح النوويّ" 13/ 6 - 7.

ص: 261

مُجَاشِعُ بْنُ مَسْعُودٍ السُّلَمِيُّ، قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أُبَايِعُهُ عَلَى الْهِجْرَةِ، فَقَالَ:"إِنَّ الْهِجْرَةَ قَدْ مَضَتْ لأَهْلِهَا، وَلَكِنْ عَلَى الإِسْلَامِ، وَالْجِهَادِ، وَالْخَيْرِ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ الصَّبَّاحِ أَبُو جَعْفَرٍ) الدُّولابيّ البغداديّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 227)(ع) تقدّم في "المقدمة" 5/ 27.

2 -

(إِسْمَاعِيلُ بْنُ زَكَرِيَّاءَ) بن مُرّة الْخُلْقانيّ، أبو زكريّا الكوفيّ، لَقَبُه شَقُوصَا، صدوقٌ يُخطئ قليلًا [8](ت 194) أو قبلها (ع) تقدّم في "المقدّمة" 5/ 27.

3 -

(عَاصِمُ الأَحْوَلُ) ابن سليمان، أبو عبد الرحمن البصريّ، ثقةٌ [4] مات سعد سنة (140)(ع) تقدّم في "المقدمة" 5/ 27.

4 -

(أَبُو عُثْمَانَ النَّهْدِيُّ) - بفتح النون، وسكون الهاء - هو: عبد الرحمن بن ملّ - مثلّث الميم، واللام مشدّدة - ابن عمرو الكوفيّ، ثمّ البصريّ، مشهور بكنيته، مخضرم ثقةٌ ثبتٌ عابدٌ، من كبار [2](ت 95) أو بعدها، وعاش (130) سنةً، وقيل: أكثر (ع) تقدّم في "المقدمة" 3/ 9.

5 -

(مُجَاشِعُ) - بضمّ الميم، وتخفيف الجيم، وبشين معجمة مكسورة - هو: مُجاشع بن مسعود بن ثعلبة بن وهب بن عابد

(1)

بن ربيعة بن يَربوع بن سِمَاك

(2)

بن عوف بن امرئ القيس بن بُهْثة بن سُليم بن منصور السُّلَميّ.

رَوَى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعنه أبو عثمان النَّهْديّ، وعبد الملك بن عُمير، وكُليب بن شهاب، وأبو ساسان حُضين بن المنذر، ويحيى بن إسحاق ابن أخي رافع.

قال خليفة: قُتِل يوم الجمل قبل الوقعة، وقال غيره: قُتل يوم الجمل سنة ست وثلاثين.

وجزم ابن المدينيّ فيما ذكره عُمر بن شَبّة، عنه، عن مَسلمة، عن داود بن أبي هند، قال: رأيت مجاشع بن مسعود مع ابن الزبير، وقُتل في محاربة الزبير

(1)

وفي "الإصابة": "ابن عائذ".

(2)

وفي "الإصابة": "ابن سمال" باللام.

ص: 262

حكيمَ بن جبلة العبديّ بسبب عثمان بن حُنيف، فحُمل إلى داره، فدُفن بها، وذلك قبل أن يَقْدَم عليّ.

وقال العسكريّ: كان مع عائشة، وقال عُمر بن شَبّة: استخلفه المغيرة بن شعبة على البصرة في خلافة عمر.

وروى ابن أبي شيبة من طريق عاصم بن كليب، عن أبيه، قال: حاصرنا تَوَّجَ، وعلينا رجل من بني سُليم يقال له: مجاشع بن مسعود، فذكر قصّةً.

وقال في "الإصابة": قال ابن الكلبيّ: تزوج سُميلة بنت أبي حيوة بن أزيهر الدوسية، فقُتل عنها يوم الجمل، فخَلَف عليها عبد الله بن عباس رضي الله عنهما.

وقال الدُّولابيّ: إنه غزا كابُل من بلاد الهند، فصالحه الأصيهد، فدخل مجاشع بيت الأصنام، فأخذ جوهرة من عين الصنم، وقال: لم آخذها إلا لتعلموا أنه لا يضرّ ولا ينفع.

قال خليفة بن خياط: قُتِل يوم الجمل قبل الوقعة، وبَيَّن المدائنيّ وعُمر بن شَبّة أنه قُتل في محاربة الزبير مع حكيم بن جَبَلة بسبب عثمان بن حنيف؛ لأنه كان عاملًا على البصرة، فلما جاء الزبير ومن معه حاربه حكيم، فغلبوا على البصرة، وأخرجوا عثمان، وقُتل مجاشع وأخوه مجالد، وكل ذلك قبل أن يَقْدَم عليّ رضي الله عنه. انتهى

(1)

.

أخرج له البخاريّ، والمصنّف، وأبو داود، وابن ماجه، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه خماسيّات المصنّف رحمه الله، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ مخضرم، وفيه أن صحابيّه من المقلّين من الرواية، فليس له في الكتب إلا حديثان فقط

(2)

، حديث الباب عند الشيخين، وحديث:"إن الجذع يوفّي مما يوفي منه الثنيّ"، عند أبي داود، وابن ماجه.

(1)

"الإصابة في تمييز الصحابة" 5/ 767.

(2)

راجع: "تحفة الأشراف" 8/ 350 - 351.

ص: 263

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ) بفتح النون، وسكون الهاء، أنه قال:(حَدَّثَنِي مُجَاشِعُ) بضمّ الميم، وتخفيف الميم، (ابْنُ مَسْعُودٍ السُّلَمِيُّ) بضمّ السين المهملة، (قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم)، وقوله:(أُبَايِعُهُ عَلَى الْهِجْرَةِ) جملة في محلّ نصب على الحال من الفاعل، (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("إِنَّ الْهِجْرَةَ قَدْ مَضَتْ لأَهْلِهَا)؛ أي: ثبتت لمن هاجر قبل الفتح، وفازوا بها، وسقطت عن غيرهم؛ لِرَفْع وجوبها عنهم

(1)

. (وَلَكِنْ) بسكون النون، (عَلَى الإِسْلَامِ)؛ أي: ولكن بايع على ملازمة الإسلام، (وَالْجِهَادِ) في سبيل الله عز وجل، (وَالْخَيْرِ)؛ أي: وعلى فعل الخير أبدًا دائمًا.

وقال النوويّ رحمه الله: قوله: "قد مضت لأهلها. . . إلخ"؛ معناه: أن الهجرة الممدوحة الفاضلة التي لأصحابها المزيّةُ الظاهرةُ إنما كانت قبل الفتح، ولكن أبايعك على الإسلام، والجهاد، وسائر أفعال الخير، وهو من باب ذِكر العامّ بعد الخاصّ، فإن الخير أعم من الجهاد، ومعناه: أبايعك على أن تفعل هذه الأمور. انتهى

(2)

.

وقال القاضي عياض رحمه الله: قوله: "قد مضت لأهلها" أهلُها هم الذين هاجروا من ديارهم، وأموالهم قبل الفتح؛ لمؤازرته صلى الله عليه وسلم، ونُصرته، وضَبْط شريعته، ولم يُختَلَف في وجوب الهجرة قبل الفتح على أهل مكة، وأما غيرهم، فقيل: إنها واجبة، وحكى أبو عبيد في "كتاب الأموال" أنها مندوبةٌ، ليست بواجبة؛ لحديث:"لا هجرة بعد الفتح"، ولقوله صلى الله عليه وسلم للأعرابيّ الذي سأله عن شأن الهجرة:"إن شأن الهجرة لشديد"، وحضّه على أن يلزم إبله، وأيضًا فإنه صلى الله عليه وسلم لم يأمر الوافدين عليه قبل الفتح بأن يهاجروا، وقيل: إنها واجبة على من أسلم دون أهل بلده؛ لئلا يبقى في طوع أحكام الشرك، وخوف أن يُفتن في دينه. انتهى

(3)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1)

"المفهم" 4/ 70.

(2)

"شرح النوويّ" 13/ 7 - 8.

(3)

"إكمال المعلم" 6/ 274 بزيادة من "شرح الأبيّ" 5/ 211.

ص: 264

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث مجاشع بن مسعود السُّلَميّ رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [20/ 4818 و 4819 و 4820](1863)، و (البخاريّ) في "الجهاد"(2962 و 2963) و"الجزية"(3078 و 3079) و"المغازي"(4305 و 4306 و 4307 و 4308)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(7/ 408)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 468 و 469)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 434 - 435)، و (ابن أبي عاصم) في "الآحاد والمثاني"(3/ 87)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(9/ 16)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان مشروعيّة مبايعة الإمام الناس على الإسلام، والاستمرار فيه، وعلى الجهاد، والخير.

وقد استنبط بعضهم منه مشروعيّة بيعة الصوفيّة لمريديهم؛ لأنه صلى الله عليه وسلم ذكر البيعة على الخير مستقلّة عن البيعة على الإسلام والجهاد، وفيه نظر لا يخفى لمن تأمّل ما يجري لديهم من أنواع البدع التي ليست في كتاب الله تعالى، ولا في سُنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم، فتأمل كثيرًا من أحوالهم يظهر لك الأمر جليًّا، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

2 -

(ومنها): بيان ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم من المبادرة إلى الخير بأنفسهم، وبذويهم، حيث أتى مجاشع بأخيه؛ اغتنامًا لمبايعته صلى الله عليه وسلم، ومسّ يده الكريمة حتى ينال بركتها.

3 -

(ومنها): بيان فضل المهاجرين الأولين، حيث لم يلحقهم في فضلهم أحد من أتى بعد فتح مكة، كما بيّنه الله تعالى بقوله:{لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [الحديد: 10]، والله تعالى أعلم.

ص: 265

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4819]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِي سُوَيْدُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ، قَالَ: أَخْبَرَنِي مُجَاشِعُ بْنُ مَسْعُودٍ السُّلَمِيُّ، قَالَ: جِئْتُ بِأَخِي أَبِي مَعْبَدٍ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ الْفَتْحِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ بَايِعْهُ عَلَى الْهِجْرَةِ، قَالَ: "قَدْ مَضَتِ الْهِجْرَةُ بِأَهْلِهَا"، قُلْتُ: فَبِأَيِّ شَيْءٍ تُبَايِعُهُ؟ قَالَ: "عَلَى الإِسْلَامِ، وَالْجِهَادِ، وَالْخَيْرِ"، قَالَ أَبُو عُثْمَانَ: فَلَقِيتُ أَبَا مَعْبَدٍ، فَأَخْبَرْتُهُ بِقَوْلِ مُجَاشِعٍ، فَقَالَ: صَدَقَ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(سُوَيْدُ بْنُ سَعِيدٍ) الحَدَثَانيّ، تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ) القرشيّ الكوفيّ، قاضي الْمَوْصِل، ثقةٌ [8](ت 189)(ع) تقدّم في "المقدمة" 2/ 6.

والباقون ذُكروا قبله.

وقوله: (جِئْتُ بِأَخِي أَبِي مَعْبَدٍ) هو مُجالد بن مسعود السُّلَميّ، رَوَى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعنه أبو عثمان النَّهْديّ.

قال ابن حبان: قُتل يوم الجمل سنة ست وثلاثين.

وتعقّبه الحافظ بأن هذا أخوه مجاشع، وأما هو فذكر أبو القاسم البغويّ ما يدلّ على أنه بقي إلى حدود الأربعين.

وقال عمرو بن عليّ: لا أعلم له روايةً؛ يعني: لم ينفرد برواية حديث، إنما صدّق أخاه في روايته، وذكر أبو عثمان النَّهْديّ أنه كان أكبر من مجاشع.

له عند البخاريّ، والمصنّف هذا الموضع فقط، صدّق فيه ما حدّث به أخوه مجاشع.

وقوله: (بَعْدَ الْفَتْحِ)؛ أي: بعد فتح مكة.

وقوله: (قَالَ أَبُو عُثْمَانَ) هو النّهْديّ المذكور الراوي عن مجاشع.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام البحث فيه مستوفًى في الحديث الماضي، ولله الحمد والمنّة.

ص: 266

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4820]

(. . .) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ عَاصِمٍ، بِهَذَا الإِسْنَادِ، قَالَ: فَلَقِيتُ أَخَاهُ، فَقَالَ: صَدَقَ مُجَاشِعٌ، وَلَمْ يَذْكُرْ أَبَا مَعْبَدٍ).

رجال هذا الإسناد: ثلاثة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم قبل باب.

2 -

(مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلِ) بن غَزْوان الضبّيّ مولاهم، أبو عبد الرحمن الكوفيّ، ثقةٌ عارفٌ، رُمي بالتشيّع [9](ت 195)(ع) تقدّم في "الإيمان" 63/ 358.

و"عاصم الأحول" ذُكر قبله.

[تنبيه]: رواية محمد بن فُضيل، عن عاصم الأحول هذه ساقها ابن أبي شيبة رحمه الله في "مصنّفه"، فقال:

(36933)

- حدّثنا محمد بن فُضيل، عن عاصم، عن أبي عثمان، عن مُجاشع بن مسعود، قال: أتيت النبيّ صلى الله عليه وسلم أنا وأخي، قال: فقلت: يا رسول الله، بايعنا على الهجرة، فقال:"مَضَت الهجرة لأهلها"، فقلت: علام نبايعك يا رسول الله؟ قال: "على الإسلام، والجهاد"، قال: فلقيت أخاه، فسألته، فقال: صدق مجاشع. انتهى

(1)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4821]

(1353)

(2)

- (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَا: أَخْبَرَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْفَتْحِ فَتْحِ مَكَّةَ: "لَا هِجْرَةَ، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ، وَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ النيسابوريّ، تقدّم قبل باب.

(1)

"مصنف ابن أبي شيبة" 7/ 408.

(2)

هذا الرقم مكرّر.

ص: 267

2 -

(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه، تقدّم أيضًا قبل باب.

3 -

(جَرِيرُ) بن عبد الحميد الضبيّ الكوفيّ، تقدّم أيضًا قبل باب.

4 -

(مَنْصُورُ) بن المعتمر بن عبد الله السلميّ، أبو عتّاب الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ فاضلٌ [6](ت 132)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 296.

5 -

(مُجَاهِدُ) بن جَبْر المخزوميّ مولاهم، أبو الحجّاج المكيّ، ثقةٌ ثبت إمام حجة [3](ت 1 أو 2 أو 3 أو 104)(ع) تقدّم في "المقدمة" 4/ 21.

6 -

(طَاوُسُ) بن كيسان الْحِمْيريّ مولاهم الفارسيّ، أبو عبد الرحمن اليمانيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ فاضلٌ [3](ت 106) أو بعد ذلك (ع) تقدّم في "المقدمة" 4/ 18.

7 -

(ابْنُ عَبَّاسٍ) عبد الله البحر الحبر رضي الله عنهما، تقدّم قريبًا.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من سُداسيّات المصنف رحمه الله، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، بل هو من رواية الأقران، فيه ابن عبّاس من العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة روى (1696) حديثًا.

شرح الحديث:

(عَنْ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما، قال في "الفتح": كذا رواه منصور موصولًا، وخالفه الأعمش، فرواه عن مجاهد، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، مرسلًا، أخرجه سعيد بن منصور، عن أبي معاوية، عنه. وأخرجه أيضًا عن سفيان، عن داود بن شابور، عن مجاهد، مرسلًا، ومنصور ثقة حافظ، فالحكم لوصله. انتهى

(1)

.

(قَالَ) ابن عبّاس رضي الله عنهما (قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْفَتْحِ) ظرف متعلّق بـ "قال"، وقوله:(فَتْحِ مَكَّةَ) بالجرّ بدلٌ، أو عطف بيان لـ "الفتح" ("لَا هِجْرَةَ) زاد في حديث عائشة الآتي:"بعد الفتح"؛ أي: بعد فتح مكة، أو المراد ما هو أعمّ من ذلك؛ فيكون حكم غير مكة في ذلك كحكمها، فلا تجب الهجرة من بلد قد فتحه المسلمون، أما قبل فتح البلد فمَن به من المسلمين أحد ثلاثة:

(1)

"الفتح" 5/ 119.

ص: 268

الأول: قادر على الهجرة منها، لا يمكنه إظهار دينه بها، ولا أداء واجباته، فالهجرة منه واجبة.

الثاني: قادرٌ لكنه يمكنه إظهار دينه، وأداء واجباته، فمستحبة؛ لتكثير المسلمين، ومعونتهم، وجهاد الكفار، والأمن من غدرهم، والراحة من رؤية المنكر بينهم.

الثالث: عاجز بعذر من أَسْرٍ، أو مرض، أو غيره فتجوز له الإقامة، فإن حَمَل على نفسه، وتكلف الخروج منها أُجِر، قاله في "الفتح"

(1)

.

(وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ)؛ أي: لكن لكم طريقٌ إلى تحصيل الفضائل التي في معنى الهجرة، وذلك بالجهاد، ونية الخير في كل شيء، من لقاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحوه، وارتفاع "جهادٌ" على الابتداء، وخبره محذوف مقدّمًا، تقديره: لكم جهادٌ، قاله في "العمدة"

(2)

.

(وَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا") بصيغة المجهول؛ أي: إذا طُلبتم للنَّفْر، وهو الخروج إلى الجهاد (فَانْفِرُوا) بكسر الفاء؛ أي: اخرجوا، والمعنى: إذا دعاكم السلطان إلى غزو فاذهبوا.

وقال في "النهاية": الاستنفار: الاستنجاد، والاستنصار؛ أي: إذا طُلب منكم النُّصْرة، فأجيبوا، وانصروا، خارجين إلى الإعانة. انتهى

(3)

.

وقال النوويّ رحمه الله: يريد: أن الخير الذي انقطع بانقطاع الهجرة يمكن تحصيله بالجهاد، والنية الصالحة، وإذا أَمركم الإمام بالخروج إلى الجهاد ونحوه، من الأعمال الصالحة فاخرجوا إليه، والله تعالى أعلم.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الحديث متّفقٌ علية، وقد تقدّم في "كتاب الحجّ" برقم [79/ 3303](1353)"باب تحريم مكة، وتحريم صيدها" مطوّلًا، وقد استوفيت شرحه، وبيان مسائله هناك، فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4822]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا

(1)

"الفتح" 7/ 334، كتاب "الجهاد" رقم (3077).

(2)

"عمدة القاري" 10/ 191.

(3)

"النهاية" 5/ 92.

ص: 269

وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ (ح) وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ رَافِعٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ آدَمَ، حَدَّثَنَا مُفَضَّلٌ - يَعْنِي: ابْنَ مُهَلْهِلٍ - (ح) وَحَدَّثَنَا عَبْدُ بْنَ حُمَيْدٍ، أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُوسَى، عَنْ إِسْرَائِيلَ، كُلُّهُمْ عَنْ مَنْصُورٍ، بِهَذَا الإِسْنَادِ، مِثْلَهُ).

رجال هذا الإسناد: اثنا عشر:

1 -

(أَبُو كُرَيْبٍ) محمد بن العلاء، تقدّم قريبًا.

2 -

(وَكِيعُ) بن الجرّاح، تقدّم أيضًا.

3 -

(سُفْيَانُ) الثوريّ، تقدّم قبل باب.

4 -

(إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ) الكَوْسج، أبو يعقوب التميمي المروزيّ، ثقةٌ ثبتٌ [11](ت 251)(خ م ت س ق) تقدّم في "الإيمان" 12/ 156.

5 -

(ابْنُ رَافِعٍ) هو: محمد، تقدّم قبل باب.

6 -

(يَحْيَى بْنُ آدَمَ) بن سليمان الأمويّ مولاهم، أبو زكريّاء الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ فاضلٌ، من كبار [9](ت 203)(ع) تقدّم في "المقدمة" 4/ 24.

7 -

(مُفَضَّلُ بْنُ مُهَلْهِلٍ) السعديّ، أبو عبد الرحمن الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ نبيلٌ عابدٌ [7](ت 167)(م س ت) تقدّم في "المقدمة" 6/ 51.

8 -

(عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ) الكِسّيّ، أبو محمد، ثقةٌ حافظٌ [11](ت 249)(خت م ت) تقدّم في "الإيمان" 7/ 131.

9 -

(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُوسَى) العبسيّ الكوفيّ، تقدّم قريبًا.

10 -

(إِسْرَائِيلُ) بن يونس بن أبي إسحاق السبيعيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

والباقيان ذُكرا قبله.

[تنبيه]: رواية سفيان الثوريّ، عن منصور هذه ساقها ابن أبي شيبة رحمه الله في "مصنّفه"، فقال:

(36930)

- حدّثنا وكيع، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد، عن طاوس، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهادٌ، ونيةٌ، وإذا استُنْفِرتم فانفروا". انتهى

(1)

.

(1)

"مصنف ابن أبي شيبة" 7/ 407.

ص: 270

وأما رواية مفضّل بن مُهَلْهَل، عن منصور، فقد ساقها ابن حبّان رحمه الله في "صحيحه"، فقال:

(3720)

- أخبرنا المفضل بن محمد الجنديّ، قال: حدّثنا الحسن بن عليّ الْحَلْوَانيّ، قال: حدّثنا يحيى بن آدم، قال: حدّثنا مُفَضَّل بن مُهَلْهَل، عن منصور، عن مجاهد، عن طاوس، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة: "إن هذا البلد حرامٌ، حَرَّمه الله إلى يوم القيامة، لا يُنَفَّر صيده، ولا يُعضَد شوكة، ولا تُلتقط لقطته، إلا مَن عَرَّفها، ولا يختلى خلاؤه، فقال العباس: إلا الإذخر، فإنه لبيوتهم، فقال: إلا الإذخر، ولا هجرة، ولكن جهادٌ، ونيةٌ، وإذا استُنفِرتم فانفروا". انتهى

(1)

.

وأما رواية إسرائيل، عن منصور، فقد ساقها الدارميّ رحمه الله في "سننه"، فقال:

(2512)

- أخبرنا عبيد الله بن موسى، عن إسرائيل، عن منصور، عن مجاهد، عن طاوس، عن ابن عباس، قال: لَمّا كان يوم فتح مكة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهادٌ، ونيةٌ، وإذا استُنفِرتم فانفروا". انتهى

(2)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4823]

(1864) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي حُسَيْنٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: سُئِلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْهِجْرَةِ، فَقَالَ: "لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ، وَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا").

رجال هذا الإسناد: ستّةٌ:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ) الهَمْدانيّ، أبو هشام الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ، سنّيّ، من كبار [9](ت 199)(ع) تقدّم في "المقدمة" 2/ 5.

2 -

(أَبُوه) عبد الله بن نُمير الْهَمْدانيّ الكوفيّ، تقدّم قريبًا.

(1)

"صحيح ابن حبان" 9/ 35 - 36.

(2)

"سنن الدارميّ" 2/ 312.

ص: 271

3 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ) قيس بن دينار الأسديّ مولاهم الكوفيّ، ثقةٌ [6].

رَوَى عن أبيه، وعبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حُسين، وحمزة بن عبد الله، وطاووس، وإياس بن معاوية، وسعيد بن جبير، والشعبيّ، وعطاء بن أبي رَبَاح، وجماعة.

وروى عنه الثوريّ، ووكيعٌ، وأبو أحمد الزبيريّ، وعبد الله بن نُمير، وابن المبارك، وغيرهم.

قال ابن معين: ثقةٌ، وكذا قال أبو القاسم الطبرانيّ، وقال النسائيّ: ليس به بأسٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال الدارقطنيّ: عبد الله، وعبيد الله، وعبد السلام بنو حَبِيب بن أبي ثابت، وكلهم ثقات، وقال ابن خلفون: وَثَّقه ابن نُمَير.

انفرد به المصنّف، والنسائيّ في "خصائص عليّ"، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث، وعند النسائيّ في "الخصائص":"أنت مني بمنزلة هارون من موسى".

4 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي حُسَيْنٍ) بن الحارث النوفلي المكيّ، ثقةٌ عالمٌ بالمناسك [5](ع) تقدّم في "الحج" 36/ 3058.

5 -

(عَطَاءُ) بن أبي رباح أسلم القرشيّ مولاهم، أبو محمد المكيّ، ثقةٌ فقيهٌ فاضلٌ، لكنه كثير الإرسال [3](ت 114)(ع) تقدّم في "الإيمان" 83/ 442.

6 -

(عَائِشَةُ) أم المؤمنين رضي الله عنها ماتت سنة (57) على الصحيح (ع) تقدّمت في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 315.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسلٌ بالكوفيين إلى ابن أبي حسين، وهو وعطاء مكيّان، وعائشة رضي الله عنها مدنيّة، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه عائشة رضي الله عنها من المكثرين السبعة، روت (2210) أحاديث.

شرح الحديث:

(عَنْ عَائِشَةَ) أمّ المؤمنين رضي الله عنها أنها (قَالَتْ: سُئِلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ

ص: 272

الْهِجْرَةِ) هذا صريح في أن السؤال للنبيّ صلى الله عليه وسلم، فالحديث مرفوع، لكن في رواية البخاريّ أن السؤال لها، فقد أخرج الحديث من طريق الأوزاعيّ، عن عطاء بن أبي رباح، قال: زُرْتُ عائشة

(1)

مع عُبيد بن عُمير الليثيِّ، فسألناها عن الهجرة، فقالت: لا هجرة اليوم، كان المؤمنون يَفِرّ أحدهم بدينه إلى الله تعالى، وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم مخافةَ أن يُفْتَن عليه، فأما اليوم فقد أظهر الله الإسلام، والمؤمن يعبد ربه حيث شاء، ولكن جهادٌ، ونيّةٌ.

وأخرجه من طريق عمرو - بن دينار - وابن جريج، سمعت عطاء يقول: ذهبت مع عبيد بن عمير إلى عائشة رضي الله عنها، وهي مجاورة بثَبِير، فقالت لنا: انقطعت الهجرة منذ فتح الله على نبيه صلى الله عليه وسلم مكة.

وأصل الهجرة هجر الوطن، وأكثر ما يُطلق على مَن رَحَل من البادية إلى القرية، ووقع عند الأمويّ في "المغازي" من وجه آخر عن عطاء:"فقالت: إنما كانت الهجرة قبل فتح مكة، والنبيّ صلى الله عليه وسلم بالمدينة"

(2)

.

(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم جوابًا عن السؤال ("لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ)؛ أي: فتح مكة، قال النوويّ رحمه الله: قال أصحابنا وغيرهم، من العلماء: الهجرة من دار الحرب إلى دار الإسلام باقية إلى يوم القيامة، وتأولوا هذا الحديث تأويلين:

[أحدهما]: لا هجرة بعد الفتح من مكة؛ لأنها صارت دار إسلام، فلا تتصور منها الهجرة.

[والثاني]: وهو الأصح: أن معناه أن الهجرة الفاضلة المهمّة المطلوبة التي يمتاز بها أهلها امتيازًا ظاهرًا، انقطعت بفتح مكة، ومضت لأهلها الذين هاجروا قبل فتح مكة؛ لأن الإسلام قَوِيَ وعَزَّ بعد فتح مكة عِزًّا ظاهرًا بخلاف ما قبله. انتهى

(3)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "لا هجرة"؛ أي: لا وجوب هجرة بعد فتح مكة، وإنما سقط فرضها إذ ذاك؛ لقوة المسلمين، وظهورهم على عدوّهم، ولعدم فتنة أهل مكة لمن كان بها من المسلمين، بخلاف ما كان قبل الفتح؛

(1)

وكانت مجاورة في جبل ثَبِير.

(2)

"الفتح" 8/ 269 رقم (3900).

(3)

"شرح النوويّ" 13/ 8.

ص: 273

فإنَّ الهجرة كانت واجبةً؛ لأمور: سلامة دين المهاجر من الفتنة، ونُصرة النبيّ صلى الله عليه وسلم، وتعلُّم الدين وإظهاره، وقد تقدّم: أنه لم يُخْتَلف في وجوب الهجرة على أهل مكة من المسلمين، واختُلِف في وجوبها على من كان بغيرها، فقيل: هي واجبة على كل من أسلم؛ تمسُّكًا بمطلق الأمر بالهجرة، وذمّ من لم يهاجر، وببيعة النبيّ صلى الله عليه وسلم على الهجرة، كما جاء في حديث مجاشع، وقيل: بل كانت مندوبًا إليها في حقّ غير أهل مكة، حكاه أبو عبيد، ويُستدَلُّ لهذا القول بقول النبيّ صلى الله عليه وسلم للأعرابيِّ الذي استشاره في الهجرة:"إن شأنها لشديد"، ولم يأمره بها، بل أَذِنَ له في ملازمة مكانه، كما يأتي، وبدليل أنَّه لم يأمر الوفود عليه قبل الفتح بالهجرة، وقيل: إنما كانت واجبة على من لم يُسلم جميعُ أهلِ بلده؛ لئلا يبقى تحت أحكام الشرك، ويخاف الفتنة على دينه.

قال القرطبيّ: ولا يُخْتَلف في أنه لا يحل لمسلم الْمُقام في بلاد الكفر مع التمكن من الخروج منها؛ لجريان أحكام الكفر عليه، ولخوف الفتنة على نفسه، وهذا حكم ثابت مؤبّد إلى يوم القيامة، وعلى هذا فلا يجوز لمسلم دخول بلاد الكفر لتجارة، أو غيرها مما لا يكون ضروريًّا في الدِّين؛ كالرُّسل، وكافتكاك المسلم، وقد أبطل مالك رحمه الله شهادة من دخل بلاد الهند للتجارة. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: في قوله: "فلا يجوز لمسلم. . . إلخ" نظر لا يخفى، فإنه لم يرد النهي عن الدخول للتجارة أو غيرها، وإنما ورد النهي عن الإقامة بين أظهرهم، وتكثير سوادهم، لا الدخول عليهم للحاجة، اللهم إذا خيف على دينه أن يُفْتَن، فيُمنع عن الدخول إلا للجهاد، أو نحوه، فتبصّر، والله تعالى أعلم.

وقال في "الفتح" عند شرح قول عائشة رضي الله عنها المتقدّم: "كان المؤمنون يَفِرّ أحدهم بدينه. . . إلخ" ما نصّه: أشارت عائشة رضي الله عنها إلى بيان مشروعية الهجرة، وأن سببها خوف الفتنة، والحكم يدور مع علته، فمقتضاه أن مَن قَدَر على عبادة الله في أي موضع اتَّفَقَ لم تجب عليه الهجرة منه، وإلا وجبت، ومن ثَمّ

(1)

"المفهم" 4/ 69 - 70.

ص: 274

قال الماورديّ: إذا قَدَر على إظهار الدين في بلد من بلاد الكفر، فقد صارت البلد به دار إسلام، فالإقامة فيها أفضل من الرحلة منها؛ لِمَا يترجى من دخول غيره في الإسلام.

وقال الخطابيّ: كانت الهجرة؛ أي: إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم في أول الإسلام مطلوبةً، ثم افتُرِضت لَمّا هاجر إلى المدينة إلى حضرته للقتال معه، وتعلُّم شرائع الدين، وقد أكّد الله ذلك في عدّة آيات، حتى قطع الموالاة بين من هاجر ومن لم يهاجر، فقال تعالى:{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} [الأنفال: 72]، فلما فُتحت مكة ودخل الناس في الإسلام من جميع القبائل، سَقَطت الهجرة الواجبة، وبقي الاستحباب.

وقال البغويّ في "شرح السُّنَّة": يَحْتَمِل الجمع بينهما - أي: بين حديث: "لا هجرة"، وحديث:"لا تنقطع الهجرة" - بطريق أخرى بقوله: لا هجرة بعد الفتح؛ أي: من مكة إلى المدينة، وقوله:"لا تنقطع"؛ أي: من دار الكفر في حقّ من أسلم إلى دار الإسلام.

قال: ويَحْتَمِل وجهًا آخر، وهو أن قوله:"لا هجرة"؛ أي: إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم حيث كان بنيّة عدم الرجوع إلى الوطن المهاجَرِ منه إلا بإذن، وقوله:"لا تنقطع"؛ أي: هجرة من هاجر على غير هذا الوصف، من الأعراب، ونحوهم.

قال الحافظ: الذي يظهر أن المراد بالشقّ الأول، وهو المنفيّ ما ذكره في الاحتمال الأخير، وبالشقّ الآخر المثبَت ما ذكره في الاحتمال الذي قبله، وقد أفصح ابن عمر بالمراد، فيما أخرجه الإسماعيليّ بلفظ:"انقَطَعت الهجرة بعد الفتح إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا تنقطع الهجرة ما قوتل الكفار"؛ أي: ما دام في الدنيا دار كفر، فالهجرة واجبة منها على من أسلم، وخَشِي أن يُفْتَن عن دينه، ومفهومه أنه لو قدر أن يبقى في الدنيا دار كفر، أن الهجرة تنقطع؛ لانقطاع موجبها، والله أعلم.

وأطلق ابن التين أن الهجرة من مكة إلى المدينة كانت واجبةً، وأن من أقام بمكة بعد هجرة النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى المدينة بغير عذر كان كافرًا، وهو إطلاق مردود، والله أعلم. انتهى

(1)

.

(1)

"الفتح" 8/ 670، كتاب "مناقب الأنصار" رقم (3900).

ص: 275

وقوله: (وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ) قال النوويّ: معناه أن تحصيل الخير بسبب الهجرة قد انقطع بفتح مكة، ولكن حَصِّلوه بالجهاد، والنية الصالحة، وقال القرطبيّ: أي ولكن يبقى جهاد ونية، أو جهاد ونية باقيان؛ أي: نية في الجهاد، أو في فعل الخيرات

(1)

.

وقال في "الفتح": المعنى أن وجوب الهجرة من مكة انقطع بفتحها؛ إذ صارت دار إسلام، ولكن بقي وجوب الجهاد على حاله عند الاحتياج إليه، وفسَّره بقوله:"فإذا استنفرتم فانفروا". انتهى.

وقال الطيبيّ: "لكن" تقتضي مخالفة ما بعدها لِمَا قبلها، فالمعنى أن مفارقة الأوطان لله تعالى، ورسوله صلى الله عليه وسلم التي هي الهجرة المعتبرة الفاضلة المميّزة لأهلها من سائر الناس امتيازًا ظاهرًا انقطعت، لكن المفارقة من الأوطان بسبب نيّة خالصة لله تعالى، كطلب العلم، والفرار بدينه من دار الكفر، أو مما لا يقام فيها الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وزيارة بيت الله الحرام، وحرم رسوله صلى الله عليه وسلم، والمسجد الأقصى، وغيرها

(2)

، أو بسبب الجهاد في سبيل الله باقية مدى الدهر. انتهى

(3)

.

وقوله: (وَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ) بالبناء للمفعول؛ أي: طُلِب منكم الخروج للجهاد، (فَانْفِرُوا")، وقال النوويّ: معناه: إذا طلبكم الإمام للخروج إلى الجهاد فاخرجوا، وقال في "الفتح": أي: إذا دُعيتم إلى الغزو، فأجيبوا.

وقال الطيبيّ: قوله: "ولكن جهادٌ" عطف على مدخول "لا"؛ أي: الهجرة إما فرارًا من الكفار، وإما إلى الجهاد، وإما إلى نحو طلب العلم، وقد انقطعت الأولى، فاغتنموا الأخيرتين. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا متّفقٌ عليه.

(1)

"المفهم" 4/ 70.

(2)

قوله: "وغيرها" شدّ الرحال لزيارة غير المساجد الثلاثة ممنوع، فليُتنبّه.

(3)

"الكاشف عن حقائق السنن" 8/ 2643.

ص: 276

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [20/ 4823](1864)، و (البخاريّ) في "الجهاد"(3080) و"مناقب الأنصار"(3900) و"المغازي"(4312)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(7/ 408)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(8/ 362)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 437)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(9/ 17)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان انقطاع الهجرة، وقد تقدّم الجمع بينه وبين حديث:"لا تنقطع الهجرة".

2 -

(ومنها): الحثّ على نية الخير مطلقًا، وأنه يثاب على النية.

3 -

(ومنها): بيان أن الجهاد ليس فرض عين، بل فرض كفاية، إذا فعله من تحصل بهم الكفاية سقط الحرج عن الباقين، وإن تركوه كلهم أثموا كلهم، قال النوويّ: قال أصحابنا: الجهاد اليوم فرض كفاية، إلا أن ينزل الكفار ببلد المسلمين، فيتعيّن عليهم الجهاد، فإن لم يكن في أهل ذلك البلد كفاية، وجب على من يليهم تتميم الكفاية، وأما في زمن النبيّ صلى الله عليه وسلم فالأصح عند أصحابنا: أنه كان أيضًا فرض كفاية، والثاني: أنه كان فرض عين، واحتج القائلون بأنه كان فرض كفاية بأنه كان تغزو السرايا، وفيها بعضهم دون بعض. انتهى

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: يدلّ الحديث على استمرار حكم الجهاد إلى يوم القيامة، وأنه لم ينسخ، لكنه يجب على الكفاية، وإنما يتعيّن إذا دَهَمَ العدوُّ بلدًا من بلاد المسلمين، فيتعيّن على كلِّ مَنْ تمكّن من نصرتهم، وإذا استنفرهم الإمام تعيّن على كل من استنفره؛ لنصِّ هذا الحديث على ذلك، وهو أمرٌ مُجْمَعٌ عليه.

4 -

(ومنها): أنه تضمّن بشارة من النبيّ صلى الله عليه وسلم بأن مكة تستمرّ دار إسلام.

5 -

(ومنها): أن الإمام إذا استنفر إلى الجهاد تعيّن على كلّ من استنفره، وهذا بالإجماع، والله تعالى أعلم.

(1)

"شرح النوويّ" 13/ 8 - 9.

ص: 277

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4824]

(1865) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ خَلَّادٍ الْبَاهِلِيُّ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَمْرٍو الأَوْزَاعِيُّ، حَدَّثَنِي ابْنُ شِهَابٍ الزُّهْرِيُّ، حَدَّثَنِي عَطَاءُ بْنُ يَزِيدَ اللَّيْثِيُّ أَنَّهُ حَدَّثَهُمْ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ، أَنَّ أَعْرَابِيًّا سَأَلَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْهِجْرَةِ، فَقَالَ:"وَيْحَكَ إِنَّ شَأْنَ الْهِجْرَةِ لَشَدِيدٌ، فَهَلْ لَكَ مِنْ إِبِلٍ؟ "، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: "فَهَلْ تُؤْتِي

(1)

صَدَقَتَهَا؟ "، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: "فَاعْمَلْ مِنْ وَرَاءِ الْبِحَارِ، فَإِنَّ اللهَ لَنْ يَتْرُكَ مِنْ عَمَلِكَ شَيْئًا").

رجال هذا الإسناد: ستّةٌ:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ خَلَّادٍ الْبَاهِلِيُّ) محمد بن خلّاد بن كثير، أبو بكر البصريّ، ثقةٌ [10](ت 240) على الصحيح (م د س ق) تقدّم في "المقدمة" 5/ 31.

2 -

(الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ) الدمشقيّ، تقدّم قبل بابين.

3 -

(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَمْرٍو الأَوْزَاعِيُّ) تقدّم أيضًا قبل بابين.

4 -

(ابْنُ شِهَابٍ الزُّهْرِيُّ) محمد بن مسلم الإمام الشهير، تقدّم قريبًا.

5 -

(عَطَاءُ بْنُ يزِيدَ اللَّيْثِيُّ) المدنيّ، نزيل الشام، ثقةٌ [3](ت 5 أو 107) وقد جاوز الثمانين (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 486.

6 -

(أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ) سعد بن مالك بن سِنَان رضي الله عنهما، تقدّم قبل أربعة أبواب.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من سداسيات المصنف رحمه الله، وأنه مسلسل بالمدنيين من الزهريّ، وفيه رواية تابعي عن تابعيّ، وفيه أبو سعيد الخدريّ رضي الله عنه من المكثرين السبعة، روى (1170) حديثًا. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

عَن عَطَاء بْنِ يَزِيدَ اللَّيْثِيّ (أَنَّهُ حَدَّثَهُمْ)؛ أي: حدّث ابن شهاب الزهريّ، ومن معه (قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ) سعد بن مالك الصحابيّ ابن

(1)

وفي نسخة: "تؤدّي صدقتها".

ص: 278

الصحابيّ رضي الله عنهما (أَنَّ أَعْرَابِيًّا) قال الحافظ: ما عرفت اسمه، (سَأَلَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْهِجْرَةِ)؛ أي: تَرْك الوطن، والانتقال من بلده إلى المدينة، تأييدًا، وتقويةً للنبيّ صلى الله عليه وسلم والمسلمين، وإعانةً لهم على قتال الكفرة، وكانت فرضًا في أول الأمر، ثم صارت مندوبة، فلعلّ السؤال كان في آخر الأمر، أو لعله صلى الله عليه وسلم خاف عليه؛ لِمَا كان عليه الأعراب من الضعف، حتى إن أحدهم ليقول إذا حصل له مرض في المدينة: أقلني بيعتك، ونحو ذلك، ولذلك قال:"إن شأن الهجرة لشديد".

وقال النوويّ رحمه الله: قال العلماء: والمراد بالهجرة التي سأل عنها هذا الأعرابيّ ملازمة المدينة، مع النبيّ صلى الله عليه وسلم، وتَرْك أهله ووطنه، فخاف عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم أن لا يَقْوَى لها، ولا يقوم بحقوقها، وأن يَنْكُص على عقبيه، فقال له: إن شأن الهجرة التي سألت عنها لشديد، ولكن اعمل بالخير في وطنك، وحيثما كنت، فهو ينفعك، ولا يُنقصك الله منه شيئًا، والله أعلم. انتهى

(1)

.

وقال في "الفتح": والهجرة المسئول عنها مفارقة دار الكفر إذ ذاك، والتزام أحكام المهاجرين مع النبيّ صلى الله عليه وسلم، وكأن ذلك وقع بعد فتح مكة؛ لأنها كانت إذ ذاك فرض عَيْن، ثم نُسخ ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم:"لا هجرة بعد الفتح". انتهى.

(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("وَيْحَكَ) قال في "النهاية": وَيْحَ كلمة ترحّم، وتوجّعٍ، تقال لمن وقع في هلكة، لا يستحقّها، وقد يقال بمعنى المدح والتعجّب، وهي منصوبة على المصدر، وقد تُرفع، وتضاف، ولا تُضاف، يقال: ويحَ زيد، وويحًا له، وويحٌ له. انتهى

(2)

.

(إِنَّ شَأْنَ الْهِجْرَةِ)"الشأن" بفتح الشين المعجمة، وسكون الهمزة: الخطب، والأمر (لَشَدِيدٌ) قال القرطبيّ رحمه الله: سؤال الأعرابيّ عن الهجرة إنما هو عن وجوبها عليه، فأجابه النبيّ صلى الله عليه وسلم بقوله:"إن شأنها لشديد"؛ أي: إن أمرها صعبٌ، وشروطها عظيمة، ثم أخبره بعد ذلك بما يدلّ على أنها ليست بواجبة عليه. ويَحْتَمِل أن يكون ذلك خاصًّا بذلك الأعرابيّ، لِمَا عَلِم من

(1)

"شرح النوويّ" 13/ 9.

(2)

"النهاية" 5/ 235.

ص: 279

حاله، وضعفه عن المقام بالمدينة، فأشفق عليه، ورَحِمَه:{وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب: 43]. انتهى

(1)

.

وقال النوويّ رحمه الله: قال العلماء: والمراد بالهجرة التي سأل عنها هذا الأعرابيّ: ملازمة المدينة مع النبيّ صلى الله عليه وسلم، وتَرْك أهله، ووطنه، فخاف عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم أن لا يقوى لها، ولا يقوم بحقوقها، وأن ينكُص على عقبيه، فقال له: إن شأن الهجرة التي سألت عنها لشديد، ولكن اعمل بالخير في وطنك، وحيث ما كنت، فهو ينفعك، ولا ينقصك الله منه شيئًا، والله أعلم. انتهى

(2)

.

(فَهَلْ لَكَ مِنْ إِبِلٍ؟ "، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: "فَهَلْ تُؤْتِي)، وفي بعض النسخ:"تؤدّي"(صَدَقَتَهَا؟)؛ أي: زكاتها، (قَالَ: نَعَمْ) زاد في رواية: "هل تحلُبها يوم وِرْدها؟ "؛ يعني: أنهم كانوا إذا اجتمعوا عند ورود المياه، حَلَبُوا مواشيهم، فسَقَوا المحتاجين، والفقراء المجتمعين على المياه.

(قَالَ: "فَاعْمَلْ مِنْ وَرَاءِ الْبحَارِ)؛ أي: فات بالخيرات كلّها، وإن كنت وراء القرى، وسكنت أقصى الأرض، فلا يضرّك بُعدك عن المسلمين. قال النوويّ: قال العلماء: والمراد بالبحار هنا: القرى، والعرب تسمّي القرى: البحار، والقريةُ: البحيرة. انتهى. وقال في "الفتح": هذا مبالغة في إعلامه بأن عمله لا يضيع في أي موضع كان.

(فَإِنَّ اللهَ لَنْ يَتِرَكَ) بفتح التحتانيّة، وكسر المثنّاة، ثم راء، وكاف؛ أي: لن ينقُصك، يقال: وتَره يتره، من باب وعد: إذا نقصه، فهو من التِّرَة؛ كالعِدَة، والكاف مفعول به. وقال السنديّ: ويحتمل أنه من الترك، فالكاف من الكلمة؛ أي: لا يترك شيئًا من عملك، مهمَلًا، بل يُجازيك على جميع أعمالك، في أي محلّ فعلت. والله تعالى أعلم. انتهى.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الاحتمال الذي ذكره السنديّ رحمه الله تعالى، إن صحّت الرواية به، فذاك، والا فالضبط الأول متعيّنٌ. والله تعالى أعلم.

(مِنْ عَمَلِكَ شَيْئًا")؛ أي: من ثواب عملك شيئًا، حيث كنت.

(1)

"المفهم" 4/ 71 - 72.

(2)

"شرح النوويّ" 13/ 9.

ص: 280

قال الأبيّ رحمه الله: [فإن قلت]: مفهومه أنه لو لم يؤدّ صدقتها لكان يَتِرَه من عمله، والسيّئات عندكم لا تُحبط الحسنات.

[قلت]: المفهوم حقّ، لكن النقص إنما هو أجر الصدقة، لا أنه ينقص من أجر غيرها. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي سعد الخدريّ رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [20/ 4824 و 4825](1865)، و (البخاريّ) في "الزكاة"(1452) و"الهبة"(2633 و 3923) و"المناقب"(3923) و"الأدب"(6165)، و (أبو داود) في "الجهاد"(2477)، و (النسائيّ) في "البيعة"(4166) و"الكبرى"(7787)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 14 و 64)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(1/ 257)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(3249)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(2/ 457)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 432)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(9/ 15)، و (ابن عساكر) في "تاريخ دمشق"(34/ 165)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان شدّة شأن الهجرة، وأنها لا تصلح لكلّ أحد، فربّما يقع الشخص في صعوبة أمر، فيندم على هجرته، كما وقع أن أعرابيًّا بايع النبيّ صلى الله عليه وسلم، ثم وُعِكَ - أي: حُمَّ - فقال: "يا رسول الله أقلني بيعتي" الحديث.

2 -

(ومنها): التنويه بشأن الهجرة، وأنها من أفضل الأعمال، ولذا كانت واجبة في أول الإسلام، وقد أخرج النسائيّ عن أبي فاطمة أنه قال: يا رسول الله حدّثني بعمل أستقيم عليه، وأعمله، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:"عليك بالهجرة، فإنه لا مِثْل لها".

3 -

(ومنها): فضل أداء زكاة الإبل، ومعادلة إخراج حقّ الله تعالى منها

(1)

"شرح الأبيّ" 5/ 212 - 213.

ص: 281

لفضل الهجرة، فإن في الحديث إشارةً إلى أن استقراره بوطنه، إذا أدّى زكاة إبله يقوم مقام ثواب هجرته، وإقامته بالمدينة. قاله في "الفتح"

(1)

.

4 -

(ومنها): أنه إذا قام الإنسان بما يتعيّن عليه من الحقوق، وبما يفعله من الخير، فإن الله تعالى يُثيبه على ذلك، ولا يضيّع شيئًا من عمله أينما كان من الأرض، ولا بُعد في أن يحصُل له ثواب من هاجر بحسن نيّته، وفعله الخير

(2)

، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4825]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَاهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّارِمِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، عَنِ الأَوْزَاعِيِّ، بِهَذَا الإِسْنَادِ مِثْلَهُ، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ:"إِنَّ اللهَ لَنْ يَتْرُكَ مِنْ عَمَلِكَ شَيْئًا"، وَزَادَ فِي الْحَدِيثِ: قَالَ: "فَهَلْ تَحْلُبُهَا

(3)

يَوْمَ وِرْدِهَا؟ "، قَالَ: نَعَمْ).

رجال هذا الإسناد: ثلاثة:

1 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّارِمِيُّ) الحافظ الشهير، تقدّم قريبًا.

2 -

(مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ) بن واقد بن عثمان الضبيّ مولاهم الْفِريابيّ، نزيل قيسارية، من ساحل الشام، ثقةٌ فاضلٌ [9](ت 212)(ع) تقدّم في "القسامة" 2/ 4349.

و"الأوزاعيّ" ذُكر قبله.

وقوله: (غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ) الضمير لمحمد بن يوسف، وكذا في قوله:"وزاد".

وقوله أيضًا: (غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ اللهَ لَنْ يَتْرُكَ مِنْ عَمَلِكَ شَيْئًا) فيه إشارة إلى اختلاف روايتي الوليد بن مسلم، ومحمد بن يوسف في لفظ:"لن يترك"، فأحدهما رواه بلفظ:"لن يَتِرَك" بفتح الياء، وكسر التاء، مِنْ وَتَر يَتِر وَتْرًا، كوَعَد يَعِد وَعْدًا: بمعنى نقصه، والآخر رواه بلفظ:"لن يَتْرُك" بفتح أوله، وسكون ثانيه، من الترك، لكن لم يتبيّن لي الجزم بتعيين أحد الضبطين لأحدهما، والآخر للآخر، والله تعالى أعلم.

(1)

"الفتح" 4/ 286، كتاب "الزكاة" رقم (1452).

(2)

"المفهم" 4/ 72.

(3)

وفي نسخة: "فهل تحتلبها".

ص: 282

وأما قول بعض الشرّاح: إنه ترك قوله: "فاعمل من وراء البحار"، ففيه نظر، ويردّه ما يأتي في التنبيه، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

وقوله: (فَهَلْ تَحْلُبُهَا) بضمّ اللام، من باب نصر، وفي بعض النسخ:"تحتلبها".

وقوله: (يَوْمَ وِرْدِهَا؟) بكسر الواو، وسكون الراء، قال القرطبيّ رحمه الله: يعني: أنهم كانوا إذا اجتمعوا عند وُرُود المياه حلبوا مواشيهم، فسَقَوا المحتاجين، والفقراء المجتمعين على المياه. انتهى

(1)

.

[تنبيه]: رواية محمد بن يوسف الفريابي عن الأوزاعيّ هذه ساقها ابن الجارود في "المنتقى"، فقال:

(1029)

- حدّثنا محمد بن يحيى، قال:"ثنا محمد بن يوسف، قال: ثنا الأوزاعيّ، قال: ثني الزهريّ، قال: ثنا عطاء بن يزيد الليثيّ، قال: ثني أبو سعيد الخدريّ رضي الله عنه، قال: جاء أعرابيّ إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فسأله عن الهجرة، فقال: "ويحك، إن الهجرة شأنها شديد، هل لك من إبل؟ " قال: نعم، قال:"فتعطي صدقتها؟ " قال: نعم، قال:"تمنح منها؟ " قال: نعم، قال:"فتحلبها يوم وردها؟ " قال: نعم، قال:"فاعْمَل من وراء البحار، فإن الله لن يَتِرَكَ من عملك شيئًا". انتهى

(2)

.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(21) - (بَابُ كَيْفِيَّةِ بَيْعَةِ النِّسَاءِ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4826]

(1866) - (حَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ سَرْحٍ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ، قَالَ: قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ: كَانَتِ الْمُؤْمِنَاتُ

(3)

، إِذَا هَاجَرْنَ

(1)

"المفهم" 4/ 72.

(2)

"المنتقى لابن الجارود" 1/ 257.

(3)

وفي نسخة: "كان المؤمنات".

ص: 283

إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُمْتَحَنَّ بِقَوْلِ اللهِ عز وجل: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ} إِلَى آخِرِ الآيَةِ [الممتحنة: 12] قَالَتْ عَائِشَةُ: فَمَنْ أَقَرَّ بِهَذَا مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ، فَقَدْ أَقَرَّ بِالْمِحْنَةِ، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَقْرَرْنَ بِذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِنَّ، قَالَ لَهُنَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"انْطَلِقْنَ، فَقَدْ بَايَعْتُكُنَّ"، وَلَا، وَاللهِ مَا مَسَّتْ يَدُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَدَ امْرَأَةٍ قَطُّ، غَيْرَ أَنَّهُ يُبَايِعُهُنَّ بِالْكَلَامِ - قَالَتْ عَائِشَةُ -: وَاللهِ مَا أَخَذَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى النِّسَاءِ قَطُّ إِلَّا بِمَا أَمَرَهُ اللهُ تَعَالَى، وَمَا مَسَّتْ كَفُّ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَفَّ امْرَأَةٍ قَطُّ، وَكَانَ يَقُولُ لَهُنَّ، إِذَا أَخَذَ عَلَيْهِنَّ:"قَدْ بَايَعْتُكُنَّ" كَلَامًا).

رجال هذا الإسناد: ستّةٌ:

1 -

(أَبُو الطَّاهِرِ أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ سَرْحٍ) تقدّم قريبًا.

2 -

(ابْنُ وَهْبٍ) عبد الله، تقدّم أيضًا قريبًا.

3 -

(يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ) الأيليّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

4 -

(عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ) تقدّم أيضًا قريبًا.

والباقيان تقدّما في الباب الماضي.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وأن نصفه الأول مسلسلٌ بالمصريين، والثاني بالمدنيين، ومسلسلٌ أيضًا بالإخبار والقول، وفيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ، وفيه عروة من الفقهاء السبعة، وعائشة رضي الله عنها من المكثرين السبعة.

شرح الحديث:

عن عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ (أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ: كَانَتِ الْمُؤْمِنَاتُ)، وفي بعض النسخ:"كان المؤمنات" بحذف تاء التأنيث، وهو جائز، وإن كان الأَولى ذِكْرها، قال في "الخلاصة":

وَالتَّاءُ مَعْ جَمْعٍ سِوَى السَّالِمِ مِنْ

مُذَكَّرٍ كَالتَّاءِ مَعْ إِحْدَى اللَّبِنْ

وفي التنزيل قال الله عز وجل: {إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ} ، وإن قيل: إن ذلك للفصل.

ص: 284

(إِذَا هَاجَرْنَ)؛ أي: من مكة إلى المدينة قبل عام الفتح (إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُمْتَحَنَّ) بالبناء للمجهول؛ أي: يُختبرن، والامتحان الاختبار، وفي رواية للبخاريّ:"يَمْتحنُهُنّ"، قال في "الفتح"، أي: يختبرهنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم فيما يتعلّق بالإيمان، فيما يرجع إلى ظاهر الحال دون الاطّلاع على ما في القلوب، وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى:{اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ} . (بِقَوْلِ اللهِ عز وجل: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ}) رواية مسلم هذه صريحة في أن هذه الآية وحدها هي التي نزلت في هذا، والذي في رواية البخاريّ أنها الآية قبلها، ولفظه:"كان المؤمنات إذا هاجرن إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم يمتحنهنّ بقول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ} إلى آخر الآية"، ويُمكن أن يُجمع بأنهما نزلتا معًا، وإليه مال في "الفتح"، حيث قال عند قوله:(إلى آخر الآية) ما نصّه: يَحْتَمِل الآية بعينها، وآخرها {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} ، ويَحْتَمِل أن يريد بالآية القصّة، وآخرها {غَفُورٌ رَحِيمٌ} ، وهذا هو المعتمَد، فقد تقدّم في أوائل "الشروط" من طريق عُقيل وحده، عن ابن شهاب، عَقِب حديثه عن عروة، عن المسور، ومروان:"قال عروة: فأخبرتني عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمتحنهن بهذه الآية: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ} إلى {غَفُورٌ رَحِيمٌ}، وكذا وقع في رواية ابن أخي الزهريّ، عن الزهريّ، في "تفسير الممتحنة". انتهى.

والحاصل أن الآيتين نزلتا معًا، والله تعالى أعلم.

({يُبَايِعْنَكَ})؛ أي: من جاءك منهنّ تبايع على هذا الشرط، فبايعها ({عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ})؛ أي: أموال الناس الأجانب، فأما إذا كان الزوج مقصِّرًا في نفقتها، فلها أن تأكل من ماله بالمعروف، ما جرت به عادة أمثالها، وإن كان بغير علمه، عملًا بحديث هند بنت عتبة أنها قالت: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل شَحِيح لا يعطيني من النفقة ما يكفيني ويكفي بَنِيَّ، فهل عليَّ جُناح إن أخذت من ماله بغير علمه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"خذي من ماله بالمعروف ما يكفيك ويكفي بَنِيك"، متّفقٌ عليه.

({وَلَا يَزْنِينَ} إِلَى آخِرِ الآيَة [الممتحنة: 12])؛ أي: إلى آخر القصّة، وهو

ص: 285

آخر الآية الثانية، وهو قوله:{إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} ؛ فالمراد الآيتان، كما أسلفت تحقيقه آنفًا، فتنبّه.

وقال القرطبيّ رحمه الله: وقوله: {وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ} قال بعض المفسرين: بالوأْد، والإزلاق.

قلت

(1)

: واللفط أعم مما ذكره؛ إذ يتناوله وغيره.

وقوله: {وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ} ؛ أي: يفترينه، قيل في البهتان هذا: إنه السِّحْرُ، وقيل: النميمة، وقيل: الولد من غير الزوج بالالتقاط، أو الزنى، فتنسبه إلى الزوج، وقيل: النياحة، وخَمْش الوجه، وشَقّ الجيب، والدعاء بالويل، قال الكلبي: هو عامّ في كل أمرٍ. قال القرطبيّ: وهو الصحيح؛ لعموم لفظ البهتان فإنَّه نكرة في سياق النهي، ونِسْبَته إلى ما بين الأيدي والأرجل كناية عما يُفْعَل بجميع الأعضاء والجوارح من البهتان بين الأيدي والأرجل؛ لأنهما الأصل في أعمال الجوارح.

وقوله: {بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ} ؛ أي: من قِبَل أنفسهنّ فكنى بالأيدي والأرجل عن الذات؛ لأن معظم الأفعال بهما، أو أن البهتان ناشئ عما يختلقه القلب الذي هو بين الأيدي والأرجل، ثم يُبرزه بلسانه، أو المعنى: لا تبهتن الناس بالمعايب كِفاحًا مواجهةً

(2)

.

وحَكَى أهل التفسير: أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم لمّا فتح مكة جلس على الصَّفا، وبايع النساء، فتلا عليهنَّ الآية، فجاءت هند - امرأة أبي سفيان - متنكرةً، فلمَّا سمعت:{وَلَا يَسْرِقْنَ} قالت: قد سرقت من مال هذا الشيخ، قال أبو سفيان: ما أصبتِ فهو لك، ولَمَّا سمعت:{وَلَا يَزْنِينَ} قالت: وهل تزني الحرَّة؟ فقال عمر: لو كانت قلوب نساء العرب على قلب هند ما زنت امرأة منهنَّ، ولَمَّا سمعت:{وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ} ، قالت: ربّيناهم صغارًا فقتلتموهم كبارًا، ولَمَّا سمعت:{وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ} ، قالت: والله إن البهتان لأمرٍ قبيح، ما تأمر إلا بالرشد، ومكارم الأخلاق، ولمّا سمعت:{وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} قالت: ما جلسنا هنا، وفي أنفسنا أن نعصيك في شيء.

(1)

القائل هو القرطبيّ.

(2)

"شرح الزرقانيّ" 4/ 512.

ص: 286

و"المعروف" هنا: الواجبات الشرعية التي يُعَصَّى من تركها، وقال الزرقانيّ:{وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} كما أمر الله به، والتقييد به تطييبًا لقلوبهنّ؛ إذ لا يأمر إلا به، أو تنبيهًا على أنه لا تجوز طاعة مخلوق في معصية الخالق، وقيل:"المعروف" هنا: أن لا يَنُحْنَ على موتاهنّ، ولا يخلُوْنَ بالرجال في البيوت، قاله ابن عباس، وقتادة، وغيرهما، أسنده أبو عمر. انتهى

(1)

.

وقوله تعالى: {فَبَايِعْهُنَّ} ؛ أي: بالكلام، كما فعل صلى الله عليه وسلم {وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ}؛ أي: سل الله لهنّ المغفرة، فإنه غفور بتمحيق ما سلف، رحيم بتوفيق ما ائتُنِفَ. انتهى

(2)

.

(قَالَتْ عَائِشَةُ) رضي الله عنها (فَمَنْ أَقَرَّ بِهَذَا)؛ أي: بالشرط الذي ذُكر في الآية، وقوله:(مِنَ الْمُؤْمِنَات) بيان لـ "منْ"، (فَقَدْ أَقَرَّ بِالْمِحْنَةِ) بكسر الميم، وسكون الحاء المهملة: اسم من الامتحان، قال الفيّوميّ رحمه الله: مَحَنْتُهُ مَحْنًا، من باب نَفَعَ: اختبرتُهُ، وامتحنته كذلك، والاسم: الْمِحْنةُ، والجمع: مِحَنٌ، مثلُ سِدْرَة وسِدَرِ. انتهى

(3)

.

وقال في "الفتح": قوله: "فمن أقرّ بهذا الشرط من المؤمنات فقد أقر بالمحنة" يشير إلى شرط الإيمان، وأوضحُ من هذا ما أخرجه الطبريّ من طريق العوفيّ، عن ابن عباس قال:"كان امتحانهنّ أن يشهدن أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله".

وأما ما أخرجه الطبريّ أيضًا، والبزار، من طريق أبي نصر، عن ابن عباس:"كان يمتحنهنّ: والله ما خرجتُ من بُغْض زوج، والله ما خرجت رغبةً عن أرض إلى أرض، والله ما خرجت التماس دنيا، والله ما خرجت إلا حبًّا لله ولرسوله".

ومن طريق ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد، نحو هذا، ولفظه:"فاسألوهنّ عما جاء بهنّ، فإن كان من غضب على أزواجهنّ، أو سُخْطه، أو غيره، ولم يؤمنّ، فأرجعوهنّ إلى أزواجهن".

(1)

"شرح الزرقانيّ" 4/ 512.

(2)

"المفهم" 4/ 73 - 74 بزيادة من غيره.

(3)

"المصباح المنير" 2/ 565.

ص: 287

ومن طريق قتادة: "كانت محنتهنّ أن يُستحلفنَ بالله: ما أخرجكنّ نُشوزٌ، وما أخرجكنّ إلا حبّ الإسلام، وأهله، فإذا قلن ذلك قُبِل منهنّ"، فكل ذلك لا ينافي رواية العوفيّ؛ لاشتمالها على زيادة لم يذكرها. انتهى ما في "الفتح"

(1)

.

وقال في موضع آخر: وفي هذا الحديث أن المحنة المذكورة في قوله: {فَامْتَحِنُوهُنَّ} هي أن يبايعهن بما تضمنته الآية المذكورة.

وأخرج عبد الرزاق عن معمر، عن قتادة: أنه صلى الله عليه وسلم: "كان يمتحنُ من هاجر من النساء: بالله ما خرجتُ إلا رغبةً في الإسلام، وحبًّا لله ورسوله"، وأخرج عبد بن حميد من طريق بن أبي نَجيح، عن مجاهد نحوه، وزاد:"ولا خرج بك عِشْق رجل منا، ولا فرار من زوجك"، وعند ابن مردويه، وابن أبي حاتم، والطبرانيّ، من حديث ابن عباس نحوه، وسنده ضعيف.

ويمكن الجمع بين التحليف والمبايعة، والله أعلم.

وذكر الطبريّ، وابن أبي حاتم، عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، أن المرأة من المشركين كانت إذا غَضِبت على زوجها، قالت: والله لأهاجرنّ إلى محمد، فنزلت:{فَامْتَحِنُوهُنَّ}

(2)

.

(وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أقرَرْنَ بِذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِنَّ)؛ أي: بقولهنّ لفظًا صريحًا، فـ "من" بمعنى الباء، كما في قوله تعالى:{يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ} [الشورى: 45]

(3)

. (قَالَ لَهُنَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "انْطَلِقْنَ)؛ أي: اذهبن إلى محلّكنّ (فَقَدْ بَايَعْتُكُنَّ")؛ أي: تمّ البيع بيني وبينكنّ.

وقال في "الفتح": قوله: "انطلقن فقد بايعتكنّ" بيّنته بعد ذلك بقولها في آخر الحديث: "فقد بايعتكنّ كلامًا"؛ أي: كلامًا يقوله، ووقع في رواية عُقيل:"كلامًا يكلّمها به، ولا يبايع بضرب اليد على اليد، كما كان يبايع الرجال"، وقد أَوْضَحَتْ ذلك بقولها:"ما مست يد رسول الله صلى الله عليه وسلم يد امرأة قطّ"، زاد في رواية عقيل في المبايعة:"غير أنه بايعهن بالكلام".

(1)

"الفتح" 12/ 132، كتاب "الطلاق" رقم (5288).

(2)

"الفتح" 10/ 688 - 689، كتاب "التفسير" رقم (4891).

(3)

راجع: "مغني اللبيب" 1/ 614.

ص: 288

ووقع في حديث ابن عباس: "حتى أتى النساء، فقال: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ} الآية كلها، ثم قال حين فرغ: أنتنّ على ذلكِ؟ فقالت امرأة منهنّ: نعم".

قال: واختُلِف في استمرار حكم امتحان من هاجر من المؤمنات، فقيل: منسوخ، بل ادَّعَى بعضهم الإجماع على نسخه، والله أعلم. انتهى

(1)

.

(وَلَا، وَاللهِ) فيه القسم لتأكيد الخبر، وكأن عائشة رضي الله عنها أشارت بذلك إلى الردّ على ما جاء عن أم عطيّة، فعند ابن خزيمة، وابن حبان، والبزار، والطبريّ، وابن مردويه، من طريق إسماعيل بن عبد الرحمن، عن جدّته أم عطيّة في قصة المبايعة، قالت:"فمدّ يده من خارج البيت، ومددنا أيدينا من داخل البيت، ثم قال: اللهم اشْهَد"، وكذا حديثها:"بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقرأ علينا: {أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا}، ونهانا عن النياحة، فقبضت امرأة يدها، فقالت: أسعدتني فلانة، أريد أن أجزيها، فما قال لها النبيّ صلى الله عليه وسلم شيئًا، فانطلقت، ورجعت فبايعها".

فقولها: "فقبضت منا امرأة يدها" فإنه يشعر بأنهنّ كنّ يبايعنه بأيديهنّ.

ويمكن الجواب عن الأول بأن مدّ الأيدي من وراء الحجاب إشارة إلى وقوع المبايعة، وإن لم تقع مصافحة، وعن الثاني بأن المراد بقبض اليد التأخر عن القبول، أو كانت المبايعة تقع بحائل، فقد روى أبو داود في "المراسيل" عن الشعبيّ:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم حين بايع النساء، أُتِي ببرد قِطْريّ، فوضعه على يده، وقال: لا أصافح النساء"، وعند عبد الرزاق، من طريق إبراهيم النخعيّ مرسلًا نحوه، وعند سعيد بن منصور من طريق قيس بن أبي حازم كذلك.

وأخرج ابن إسحاق في "المغازي" من رواية يونس بن بكير، عنه، عن أبان بن صالح:"أنه صلى الله عليه وسلم كان يغمس يده في إناء، وتغمس المرأة يدها فيه"، ويَحْتَمِل التعدد.

وقد أخرج الطبرانيّ أنه بايعهنّ بواسطة عمر، وروى النسائيّ، والطبريّ من طريق محمد بن المنكدر: "أن أُميمة بنت رُقيقة - بقافين مصغرًا - أخبرته

(1)

"الفتح" 12/ 132، كتاب "الطلاق" رقم (5288).

ص: 289

أنها دخلت في نسوة تبايع، فقلن: يا رسول الله ابسط يدك نصافحك، قال: إني لا أصافح النساء، ولكن سآخذ عليكنّ، فأخذ علينا، حتى بلغ {وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} ، فقال: فيما أطقتنّ، واستطعتنّ، فقلن: الله ورسوله أرحم بنا من أنفسنا".

وفي رواية الطبريّ: "ما قَوْلي لمائة امرأة، إلا كقولي لامرأة واحدة".

وقد جاء في أخبار أخرى أنهنّ كنّ يأخذن بيده عند المبايعة، من فوق ثوب، أخرجه يحيى بن سلام في "تفسيره"، عن الشعبيّ، وفي "المغازي" لابن إسحاق، عن أبان بن صالح:"أنه كان يغمس يده في إناء، فيغمسن أيديهنّ فيه". انتهى

(1)

.

(مَا مَسَّتْ يَدُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَدَ امْرَأَةٍ قَطُّ) قال النوويّ رحمه الله: وفي "قط" خمس لغات: فتح القاف، وتشديد الطاء، مضمومةً، ومكسورةً، وبضمّهما، والطاء مشدّدةُ، وفتح القاف، مع تخفيف الطاء، ساكنةً، ومكسورةً، وهي لنفي الماضي. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قد نظمت لغات "قط" المذكورة بقولي:

"قَطُّ" بِمَعْنَى الدَّهْرِ قُلْ قَدْ وَرَدَا

لَهَا مِنَ اللُّغَاتِ خَمْسٌ تُقْتَدَى

بِالْفَتْحِ فَالضَّمِ وَضَمَّتَيْنِ

خَفِّفْ وَشُدَّ الطَّاءَ دُومَيْنِ

خَامِسُهَا "قَطِّ" بِكَسْرٍ شُدِّدَا

أَمَّا بِمَعْنَى "حَسْبُ" سَاكِنَا بَدَا

فَقُلْ "فَقَطْ" فَإِنْ أَضَفْتَ "قَطْكَ" قُلْ

"قَطِي"، و"قَطْنِي" عَنْهُمُ أَيْضًا نَبُلْ

(غَيْرَ أَنَّهُ يُبَايِعُهُنَّ بِالْكَلَامِ - قَالَتْ عَائِشَةُ -: وَاللهِ مَا أَخَذَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى النِّسَاءِ قَطُّ إِلَّا بِمَا أَمَرَهُ اللهُ تَعَالَى)؛ تعني به: آية المبايعة المذكورة، يتلوها عليهنّ، ولا يزيد شيئًا آخر من قِبَله

(3)

.

(وَمَا مَسَّتْ كَفُّ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَفَّ امْرَأَةٍ قَطُّ، وَكَانَ يَقُولُ لَهُنَّ، إِذَا أَخَذَ عَلَيْهِنَّ: "قَدْ بَايَعْتُكُنَّ" كَلَامًا)؛ أي: يقول ذلك كلامًا فقط، لا مصافحة باليد، كما جرت العادة بمصافحة الرجال عند المبايعة.

(1)

"الفتح" 10/ 687 - 688، كتاب "التفسير" رقم (4891).

(2)

"شرح النوويّ" 13/ 10 - 11.

(3)

"المفهم" 4/ 75.

ص: 290

وقال النوويّ رحمه الله: هذا الاستثناء منقطع، وتقدير الكلام: ما مس امرأةً قط، لكن يأخذ عليها البيعة بالكلام، فإذا أخذها بالكلام، قال: اذهبي، فقد بايعتك، وهذا التقدير مُصَرَّحٌ به في الرواية الأولى، ولا بُدّ منه. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [21/ 4826 و 4827](1866)، و (البخاريّ) في "التفسير"(4180 و 4181 و 4891) و"الطلاق"(5288) و"الأحكام"(7214)، و (أبو داود) في "الخراج والإمارة"(2941)، و (الترمذيّ) في "التفسير"(3306)، و (ابن ماجه) في "الجهاد"(2905)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(5/ 218 و 6/ 487)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 114 و 153 و 163 و 270)، و (ابن جرير) في "تفسيره"(28/ 68 و 80)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(8/ 148)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان كيفيّة بيعة النساء، وهي أن تكون بالكلام من غير أخذ كفّ.

2 -

(ومنها): بيان أن بيعة الرجال تخالف بيعة النساء، وهي أن تكون بأخذ الكفّ مع الكلام.

3 -

(ومنها): أن كلام الأجنبية يباح سماعه عند الحاجة، وأن صوتها ليس بعورة.

4 -

(ومنها): أنه لا يلمس بشرة الأجنبية من غير ضرورة؛ كتطبب، وفصد، وحجامة، وقلع ضرس، وكحل عين، ونحوها، مما لا توجد امرأة تفعله جاز للرجل الأجنبيّ فعله؛ للضرورة

(2)

.

5 -

(ومنها): ما قاله القرطبيّ رحمه الله: ما قالته عائشة رضي الله عنها من أن النبيّ صلى الله عليه وسلم:

(1)

"شرح النوويّ" 13/ 11.

(2)

"شرح النوويّ" 13/ 10.

ص: 291

"ما مَسَّت يده يد امرأة إلَّا امرأة يملكها"، وإنّما يبايع النساء بالكلام، هو الحقّ، والصدق، وإذا كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يَمتنع من ذلك كان غيره أحرى، وأولى بالامتناع منه، فيبطل قول من قال: إن عمر رضي الله عنه كان يأخذ بأيدي النساء عند هذه المبايعة، وليس بصحيح، لا نقلًا، ولا عقلًا. انتهى

(1)

.

6 -

(ومنها): ما قاله أيضًا: إن فيه التباعدَ من النساء ما أمكن، وإن كلام المرأة فيما يُحتاج إليه من غير تزيُّن، ولا تصنُّع، ولا رفع صوت ليس بحرام، ولا مكروه. انتهى

(2)

، والله تعالى أعلم بالصواب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4827]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِي هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الأَيْلِيُّ، وَأَبُو الطَّاهِرِ، قَالَ أَبُو الطَّاهِرِ: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ هَارُونُ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ، أَنَّ عَائِشَةَ أَخْبَرَتْهُ، عَنْ بَيْعَةِ النِّسَاءِ، قَالَتْ: مَا مَسَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِيَدِهِ امْرَأَةً قَطُّ، إِلَّا أَنْ يَأْخُذَ عَلَيْهَا، فَإِذَا أَخَذَ عَلَيْهَا، فَأَعْطَتْهُ، قَالَ: "اذْهَبِي، فَقَدْ بَايَعْتُكِ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الأَيْلِيُّ) السعديّ مولاهم، أبو جعفر، نزيل مصر، ثقةٌ فاضلٌ [10](ت 253) وله (83) سنةً (م د س ق) تقدّم في "الإيمان" 29/ 225.

2 -

(مَالِكُ) بن أنس، إمام دار الهجرة، أبو عبد الله المدنيّ الثقة الثبت الحجة المجتهد، رأس المتقنين، وكبير المتثبّتين [7](ت 179)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 378.

والباقون ذُكروا قبله.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى البحث فيه مستوفًى في الحديث الماضي، ولله الحمد والمنّة.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(1)

"المفهم" 13/ 74 - 75.

(2)

"المفهم" 13/ 74 - 75.

ص: 292

(22) - (بَابُ الْبَيْعَةِ عَلَى السَّمْعِ، وَالطَّاعَةِ فِيمَا اسْتَطَاعَ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4828]

(1867) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، وَقُتَيْبَةُ، وَابْنُ حُجْرٍ - وَاللَّفْظُ لِابْنِ أَيُّوبَ - قَالُوا: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ - وَهُوَ ابْنُ جَعْفَرٍ - أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ دِينَارِ، أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ، يَقُولُ: كُنَّا نُبَايِعُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى السَّمْعِ، وَالطَّاعَةِ، يَقُولُ لَنَا: "فِيمَا اسْتَطَعْتَ").

رجال هذا الإسناد: ستّةٌ:

1 -

(يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ) المقابريّ، أبو زكريّاء البغداديّ، ثقةٌ عابدٌ [10](ت 234) وله (77) سنةً (عخ م د عس) تقدّم في "الإيمان" 2/ 110.

2 -

(قُتَيْبَةُ) بن سعيد، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

3 -

(ابْنُ حُجْرٍ) عليّ السعديّ المروزيّ، ثقةٌ حافظٌ، من صغار [9](244) وقد قارب المائة، أو جاوزها (خ م ت س) تقدّم في "المقدمة" 2/ 6.

4 -

(إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَر) بن أبي كثير الأنصاريّ الزُّرَقيّ، أبو إسحاق المدنيّ القارئ، ثقةٌ ثبتٌ [8](180)(ع) تقدّم في "الإيمان" 2/ 110.

5 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ دِينَارٍ) العَدَويّ مولاهم، أبو عبد الرحمن المدنيّ، مولى ابن عمر، ثقةٌ [4](ت 217)(ع) تقدّم في "الإيمان" 14/ 160.

6 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ) بن الخطّاب رضي الله عنهما، تقدّم قريبًا.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (344) من رباعيّات الكتاب، وأنه مسلسلٌ بالتحديث، والإخبار، والسماع، وفيه ابن عمر رضي الله عنهما أحد العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة، روى (2630) حديثًا.

شرح الحديث:

عن عَبْدِ اللهِ بْنِ دِينَارٍ (أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ) رضي الله عنهما (يَقُولُ: كُنَّا نُبَايِعُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى السَّمْعِ، وَالطَّاعَةِ) على أن نسمع، ونُطيع من ولّاه الله تعالى

ص: 293

علينا (يَقُولُ) صلى الله عليه وسلم (لَنَا) عند المبايعة ("فِيمَا اسْتَطَعْتَ") بضمّ التاء؛ أي: قل: أسمع، وأُطيع في الأمر الذي أستطيع أن أقوم به، وقيل: بفتح التاء للمخاطب، وقال النوويّ: قوله: "فيما استطعتُ" هكذا هو في جميع النسخ: "فيما استطعت"؛ أي: قل: فيما استطعتُ، وهذا من كمال شفقته صلى الله عليه وسلم؛ ورأفته بأمته، يلقّنهم أن يقول أحدهم: فيما استطعت؛ لئلا يدخل في عموم بيعته ما لا يطيقه، وفيه أنه إذا رأى الإنسانُ من يلتزم ما لا يطيقه ينبغي أن يقول له: لا تلتزم ما لا تطيق، فيترك بعضه، وهو من نحو قوله صلى الله عليه وسلم:"عليكم من الأعمال ما تطيقون". انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قوله: هكذا في جميع النسخ. . . إلخ، هذا فيما اطّلع عليه هو، وإلا فقد وقع في بعض نسخ مسلم بلفظ:"فيما استطعتم"، كما أشار إليه في هامش "الهنديّة"، ولفظ البخاريّ:"كنّا إذا بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة يقول لنا: فيما استطعتم".

قال القرطبيّ رحمه الله قوله: "فيما استطعتم" رفعٌ لِمَا يُخاف من التحرّج؛ بسبب مخالفة تقعُ غلطًا، أو سهوًا، أو غلبةً، فإنَّ ذلك غير مُؤاخذٍ به، ولا يُفهَم من هذا تسويغُ المخالفة فيما يشقّ ويثقل؛ مما يأمر به الإمام، فإنه قد نصّ في الأحاديث المتقدّمة على خلافه، حيث قال:"على المسلم السمع والطاعة، فيما أحبّ، وكَرِهَ، في المنشط والمكره، والعسر واليسر"، وقال:"فاسمع، وأطع، وإن ضُرب ظهرُك، وأُخِذ مالك"، ولا مشقة أكثر من هذه. انتهى

(2)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [22/ 4828](1867)، و (البخاريّ) في "الأحكام"(7202)، و (أبو داود) في "الخراج"(2940)، و (الترمذيّ) في

(1)

"شرح النوويّ" 13/ 11.

(2)

"المفهم" 4/ 46.

ص: 294

"السير"(1593)، و (النسائيّ) في "البيعة"(7/ 152) و"الكبرى"(4/ 430 و 5/ 221)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1880)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 9)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4548 و 4549)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 432 و 433)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(8/ 145)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(2454)، والله تعالى أعلم.

(23) - (بَابُ بَيَانِ سِنِّ الْبُلُوغِ)

هو السنّ الذي يَجعل صاحبه من المقاتلين، ويُجرى عليه حكم الرجال في أحكام القتال وغير ذلك.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4829]

(1868) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: عَرَضَنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ أُحُدٍ فِي الْقِتَالِ، وَأَنَا ابْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً، فَلَمْ يُجِزْنِي

(1)

، وَعَرَضَنِي يَوْمَ الْخَنْدَقِ، وَأَنَا ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، فَأَجَازَنِي، قَالَ نَافِعٌ: فَقَدِمْتُ عَلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ خَلِيفَةٌ، فَحَدَّثْتُهُ هَذَا الْحَدِيثَ، فَقَالَ: إِنَّ هَذَا لَحَدٌّ بَيْنَ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ، فَكَتَبَ إِلَى عُمَّالِهِ أَنْ يَفْرِضُوا لِمَنْ كَانَ ابْنَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَمَنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ فَاجْعَلُوهُ

(2)

في الْعِيَالِ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(عُبَيْدُ اللهِ) بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطّاب الْعُمَريّ، أبو عثمان المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ [5] مات سنة بضع و (140)(ع) تقدّم في "الإيمان" 28/ 222.

2 -

(نَافِعٌ) مولى ابن عمر، تقدّم قريبًا.

والباقون تقدّموا في الباب الماضي، وقبل بابين.

(1)

وفي نسخة: "فلم يجز لي".

(2)

وفي نسخة: "فاجعلوا".

ص: 295

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وهو مسلسلٌ بالمدنيين، سوى شيخه وأبيه، فكوفيّان، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وأن فيه عبيد الله بن عمر من أثبت الناس في نافع، والقاسمِ بن محمد، بل قدّمه أحمد بن صالح على مالك في نافع، وقدّمه ابن معين في القاسم عن عائشة رضي الله عنها على الزهريّ، عن عروة عنها، وأن نافعًا من أثبت الناس في ابن عمر رضي الله عنهما، بل قدّمه بعضهم على سالم فيه.

شرح الحديث:

(عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ) رضي الله عنهما أنه (قَالَ: عَرَضَنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) من باب ضرب: يقال: عَرَضتُ الجندَ: إذا أمرَرْتَهم، ونظرت إليهم؛ لتعرّفهم. قاله الفيّوميّ، وقال في "الفتح": وعرضُ الجيش: اختبارُ أحوالهم قبل مباشرة القتال للنظر في هيئتهم، وترتيب منازلهم، وغير ذلك. (يَوْمَ أُحُدٍ) بضمّ الهمزة، والحاء المهملة: الجبل المشهور بالمدينة، من جهة الشام، كانت به الوقعة، في أوائل شوّال سنة ثلاث من الهجرة، وهو مذكّر، فينصرف، وقيل: يجوز تأنيثه على توهّم البقعة، فيُمنع من الصرف، وليس بالقويّ، أفاده الفيّوميّ، والمراد به: الغزوة الواقعة فيه؛ أي: يوم غزوة أُحد. (فِي الْقِتَالِ، وَأَنَا ابْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً) جملة في محلّ نصب على الحال من المفعول، (فَلَمْ يُجِزْنِي) وفي بعض النسخ:"فلم يُجز لي"، بضمّ أوّله، من الإجازة، يقال: جاز العقدُ وغيره: نَفَذ، ومضى على الصحّة، وأجزتُ العقدَ: جعلته جائزًا نافذًا؛ يعني: أنه لم يجعله في ديوان المقاتلين.

وفي رواية: "فاستصغرني". وفي "صحيح ابن حبّان": "فلم يُجزني، ولم يَرَني بلغت".

(وَعَرَضَنِي يَوْمَ الْخَنْدَقِ) قال في "القاموس": الخندق كجَعْفَر: حَفِيرٌ حولَ أَسْوَار الْمُدُن، مُعرَّبُ كَنْدَه. انتهى؛ أي: يوم غزوة الخندق، وقد تقدّم بيان الاختلاف في وقتها في بابه. (وَأَنَا ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، فَأَجَازَنِي)؛ أي: أمضاني، وأَذِن لي في القتال، وقال النوويّ رحمه الله: المراد: جَعَلَه رجُلًا، له حُكم الرجال المقاتلين.

ص: 296

قال في "الفتح": ولم تختلف الرواة عن عبيد الله بن عمر في ذلك، وهو الاقتصار على ذكر أُحُدٍ والخندق. وكذا أخرجه ابن حبّان من طريق مالك، عن نافع، وأخرجه ابن سعد في "الطبقات" عن يزيد بن هارون، عن أبي معشر، عن نافع، عن ابن عمر، فزاد فيه ذِكر بدرٍ، ولفظه:"عُرِضت على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدرٍ، وأنا ابن ثلاث عشرة، فردّني، وعُرِضتُ عليه يوم أحد. . ." الحديث، قال ابن سعد: قال يزيد بن هارون: ينبغي أن يكون في الخندق ابن ستّ عشرة سنة. انتهى، وهو أقدم من نعرفه استشكل قول ابن عمر هذا، وإنما بناه على قول ابن إسحاق، وأكثر أهل السِّيَر أن الخندق كانت في سنة خمس من الهجرة، وإن اختلفوا في تعيين شهرها، واتّفقوا على أن أُحُدًا كانت في شوّال سنة ثلاث، وإذا كان كذلك جاء ما قال يزيد: إنه يكون حينئذ ابن ستّ عشرة سنة، لكن البخاريّ جنح إلى قول موسى بن عقبة في "المغازي": إن الخندقَ كانت في شوّال سنة أربع، وقد روى يعقوب بن سفيان في "تاريخه"، ومن طريقه البيهقيّ، عن عروة نحو قول موسى بن عقبة. وعن مالك الجزم بذلك، وعلى هذا لا إشكال، لكن اتّفق أهل المغازي على أن المشركين لَمّا توجّهوا في أُحُد نادَوُا المسلمين: موعدُكم العامَ المقبلَ بدرٌ، وأنه صلى الله عليه وسلم خرج إليها من السنة المقبلة في شوّال، فلم يَجِد بها أَحَدًا، وهذه هي التي تُسمّى "بدر الموعد"، ولم يقع بها قتالٌ، فتعيّن ما قال ابن إسحاق: إن الخندق كانت في سنة خمس، فيحتاج حينئذ إلى الجواب عن الإشكال، وقد أجاب عنه البيهقيّ وغيره بأن قول ابن عمر:"عُرضت يوم أُحد، وأنا ابن أربع عشرة"؛ أي: دخلت فيها، وأن قوله:"عُرضتُ يوم الخندق، وأنا ابن خمس عشرة سنة"؛ أي: تجاوزتها، فألغى الكسر في الأولى، وجَبَره في الثانية، وهو شائعٌ مسموعٌ في كلامهم، وبه يرتفع الإشكال المذكور، وهو أولى من الترجيح، والله أعلم.

[تنبيهان]:

(الأول): زعم ابن التين أنه ورد في بعض الروايات أن عَرْض ابن عمر كان ببدر، فلم يُجزه، ثم بأُحد، فأجازه، قال: وفي روايةٍ عُرض يوم أُحد، وهو ابن ثلاث عشرة، فلم يُجزه، وعُرض يوم الخندق، وهو ابن أربع عشرة

ص: 297

سنةً، فأجازه، قال الحافظ: ولا وجود لذلك، وإنما وُجد ما أشرت إليه عن ابن سعد، أخرجه البيهقيّ من وجه آخر، عن أبي معشر، وأبو معشر مع ضعفه لا يُخالف ما زاده من ذِكْر بدر ما رواه الثقات، بل يوافقهم.

(الثاني): زعم ابن ناصر أنه وقع في "الجمع" للحُميديّ هنا: "يوم الفتح" بدل يوم الخندق، قال ابن ناصر

(1)

: والسابق إلى ذلك أبو مسعود، أو خلف، فتبعه شيخنا

(2)

، ولم يتدبّره، والصواب:"يوم الخندق" في جميع الروايات، وتلقّى ذلك ابن الجوزيّ عن ابن ناصر، وبالغ في التشنيع على من وَهِم في ذلك، وكان الأَولى تَرْك ذلك، فإن الغلط لا يَسلَم منه كثيرًا أحدٌ. انتهى.

(قَالَ نَافِعٌ) مولى ابن عمر الراوي عنه هذا الحديث، (فَقَدِمْتُ) بكسر الدال (عَلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ) الخليفة الراشد المتوفي في رجب سنة (101 هـ) وعمره أربعون سنةً، ومدّة خلافته سنتان ونصف، تقدّمت ترجمته في "المقدّمة" 6/ 46. (وَهُوَ يَوْمَئِذٍ خَلِيفَةٌ) بعد سليمان بن عبد الملك، وكان قبله أميرًا على المدينة النبويّة للوليد، (فَحَدَّثْتُهُ هَذَا الْحَدِيثَ، فَقَالَ) عمر (إِنَّ هَذَا)؛ أي: ما دلّ عليه هذا الحديث من الفصل بين من كان ابن أربع عشرة ومن كان ابن خمس عشرة سنة، (لَحَدٌّ بَيْنَ الصَّغِيرِ)، وهو الأول فما دونه، (وَالْكَبِيرِ) وهو الثاني، فما فوقه. (فَكَتَبَ إِلَى عُمَّالِهِ أَنْ يَفْرِضُوا) بكسرٍ الراء؛ أي: يُقدّروا لهم رزقًا في ديوان الجند، (لِمَنْ كَانَ ابْنَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً) فكانوا يفرّقون بين المقاتِلة وغيرهم في العطاء، وهو الرزق الذي يُجمع في بيت المال، ويفرّق على مستحقّيه.

(وَمَنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ فَاجْعَلُوهُ فِي الْعِيَالِ) بالكسر، ككتاب: من يُتكفّل بهم، جَمْعه عالة، أفاده المجد

(3)

، وقال الفيّوميّ: العِيَال: أهل البيت، ومن يمونه الإنسان، الواحد: عَيِّلٌ، مثالُ جِيَاد وجَيِّدٍ. انتهى

(4)

.

(1)

هو: أبو الفضل ابن ناصر السلاميّ، قاله العينيّ. "عمدة القاري" 13/ 241.

(2)

هو: الحميديّ.

(3)

راجع: "القاموس المحيط" ص 928.

(4)

"المصباح المنير" 2/ 438.

ص: 298

والمعنى أن من كان عمره دون خمس عشرة سنةً لا يُفرض له في الديوان، فلا يُعطى شيئًا من بيت المال، وإنما يُجعل تبعًا لأهل بيته، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [23/ 4829 و 4830](1868)، و (البخاريّ) في "الشهادات"(2664) و"المغازي"(4097)، و (أبو داود) في "الخراج"(2957) و"الحدود"(4406)، و (الترمذيّ) في "الأحكام"(1361) و"الجهاد"(1711)، و (النسائيّ) في "الطلاق"(3458) و"الكبرى"(5624)، و (ابن ماجه) في "الحدود"(2543)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(6/ 542 و 7/ 378)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 17)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(1/ 205)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 195 و 437)، و (ابن سعد) في "الطبقات"(4/ 143)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(6/ 652)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان أن بلوغ الصبيّ يكون ببلوغ السنّ، وهو خمس عشرة سنة، وسيأتي بيان اختلاف العلماء فيه في المسألة التالية.

2 -

(ومنها): أن الإمام يستعرض من يخرج معه للقتال قبل أن تقع الحرب، فمن وجده أهلًا استصحبه، وإلا ردّه، وقد وقع ذلك للنبيّ صلى الله عليه وسلم في بدر، وأُحُد، وغيرهما، وعند المالكيّة والحنفيّة لا تتوقّف الإجازة للقتال على البلوغ، بل للإمام أن يُجيز من الصبيان من فيه قوّة ونَجْدَةٌ، فرُبّ مُراهقٍ أقوى من بالغ، وحديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا حجةٌ عليهما، ولا سيّما وقد ثبتت زيادة:"فلم يُجزني، ولم يرني بلغتُ"، وهي صحيحة.

3 -

(ومنها): أنه استُدِلّ بقصّة ابن عمر رضي الله عنهما هذه على أن من استكمل خمس عشرة سنة أُجريت عليه أحكام البالغين، وإن لم يحتلم، فيُكلَّف بالعبادات، وإقامة الحدود، ويَستحقّ سهم الغنيمة، ويُقتل إن كان حربيًّا، ويُفكّ

ص: 299

عنه الحَجر، إن أُونس رُشده، وغير ذلك من الأحكام، وقد عَمِل بذلك عمر بن عبد العزيز، وأقرّه عليه راويه نافعٌ.

وأجاب الطحاويّ، وابن القصّار، وغيرهما، ممن لم يأخذ به: بأن الإجازة المذكورة جاء التصريح بأنها كانت في القتال، وذلك يتعلّق بالقوّة والجلَد.

وأجاب بعض المالكيّة: بأنها واقعة عين، فلا عموم لها، ويَحْتَمِل أن يكون صادف أنه كان عند تلك السنّ قد احتلم، فلذلك أجازه.

وتجاسر بعضهم، فقال: إنما ردّه لِضَعْفه، لا لسنّه، وإنما أجازه لقوّته، لا لبلوغه.

ويَرُدّ على ذلك ما أخرجه عبد الرزّاق، عن ابن جريج، ورواه أبو عوانة، وابن حبّان في "صحيحيهما" من وجه آخر، عن ابن جريج، قال: أخبرني نافع، فذكر هذا الحديث بلفظ:"عُرضتُ على النبيّ صلى الله عليه وسلم يوم الخندق، فلم يُجزني، ولم يرني بلغتُ. . ." الحديث، وهي زيادة صحيحة، لا مَطعَنَ فيها؛ لجلالة ابن جريج، وتقدّمه على غيره في حديث نافع، وقد صرّح فيها بالتحديث، فانتفى ما يُخشى من تدليسه، وقد نصّ فيها لفظ ابن عمر بقوله:"ولم يرني بلغت"، وابن عمر أعلم بما روى من غيره، ولا سيّما في قصّة تتعلّق به، قاله في "الفتح"

(1)

.

وقد اختلف العلماء في سنّ البلوغ، فمنهم من استدلّ بحديث الباب على أنه خمس عشرة سنةً في الغلام والجارية، وهو قول الأوزاعيّ، والشافعيّ، وأحمد، وأبي يوسف، ومحمد، وبه قال ابن وهب، وأصبغ، وابن الماجشون، وعمر بن عبد العزيز، وجماعة من أهل المدينة، واختاره ابن العربيّ.

وقال داود الظاهريّ: لا حدّ للبلوغ من السنّ، وعليه فلا يُعتبر الرجل بالغًا عنده حتى يُنزل، أو يُحبِّل بالغًا ما بلغ من السنّ، وهو رواية عن مالك، وقال أصحابه: سبع عشرة، أو ثماني عشرة سنةً، وقال أبو حنيفة: هو في

(1)

"الفتح" 14/ 540 - 543، كتاب "الشهادات" رقم (2664).

ص: 300

الغلام ثماني عشرة، وقيل: تسع عشرة، وفي الجارية سبع عشرة.

وهذا كلّه إذا لم تظهر أمارات البلوغ، فإن ظهرت فلا عبرة بالسنّ بالإجماع، وأمارات البلوغ منها ما اتَّفَقَ عليه الفقهاءُ، وهو الإنزال، أو الإحبال في الغلام، والحيض في الجارية، قال ابن المنذر: وأجمعوا على أن الفرائض والأحكام تجب على المحتلم العاقل، وعلى المرأة بظهور الحيض منها - كما في "المغني"، ومأخذ ذلك قوله تعالى:{وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا} [النور: 59]، والحُلُم: الاحتلام، وهو لغة: ما يراه النائم، والمراد به هنا: خروج المنيّ في نوم، أو يقظة، بجماع أو غيره، وقوله تعالى:{حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ} [النساء: 6] فإن بلوغ النكاح كناية عن أهليّة الجماع، وهي بالإنزال، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا يُتْمَ بعد احتلام" رواه أبو داود

(1)

، وقال صلى الله عليه وسلم لمعاذ رضي الله عنه:"ومن كل حالم دينارًا"

(2)

، وقال:"رُفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبيّ حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يعقل"

(3)

، وقال صلى الله عليه وسلم:"لا يقبل الله صلاة امرأة قد حاضت إلا بخمار"، صححه ابن خزيمة.

وأما الأمارات المختلف فيها، فمنها إنبات العانة، فروى ابن القاسم، وسالم أنه يُستدلّ به على البلوغ، وقاله مالك مرّةً، والشافعيّ في أحد قولين، وبه قال أحمد، وإسحاق، وأبو ثور.

واستدلّ هؤلاء بما أخرجه أبو داود، وابن ماجه، وغيرهما بإسناد صحيح، عن عطية الْقُرَظيّ، قال:"كنت من سبي بني قريظة، فكانوا ينظرون فمن أنبت الشعر قُتِل، ومن لم يُنبت لم يُقتل، فكنت فيمن لم ينبت".

ولفظ ابن ماجه: "عُرضنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم قريظة، فكان من أنبت قُتل، ومن لم ينبت خُلِّي سبيله، فكنت فيمن لم ينبت، فخُلّي سبيلي".

(1)

حديث صحيح، وأورده الشيخ الألبانيّ رحمه الله في "السلسلة الصحيحة" ولفظه:"لا يُتم بعد احتلام، ولا يتم على جارية إذا هي حاضت".

(2)

حديث صحيح، أخرجه أصحاب "السنن".

(3)

حديث صحيح، أخرجه أبو داود.

ص: 301

قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن بما ذُكر من ذِكر الأقوال وأدلّتها أن أرجح الأقوال ما ذهب إليه القائلون: إنّ من بلغ خمس عشرة سنة جرت عليه أحكام البالغين، سواء كان رجلًا، أو امرأة، إلا أن يحتلم الرجل، أو يُحْبِل قبل ذلك فيكون ذلك بلوغًا في حقّه، وكذلك المرأة إذا حاضت، أو حَبِلت قبل ذلك، فيكون ذلك بلوغًا في حقّها، وحجة ذلك حديث ابن عمر رضي الله عنهما المذكور في الباب، وكذلك من نبت شعر عانته يُعتبر بالغًا؛ لحديث عطيّة القرظي المذكور، وكذلك الأحاديث الأخرى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4830]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَاهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ إِدْرِيسَ، وَعَبْدُ الرَّحِيمِ بْنُ سُلَيْمَانَ (ح) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ - يَعْنِي: الثَّقَفِيَّ- جَمِيعًا عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بِهَذَا الْإِسْنَادِ، غَيْرَ أَنَّ فِي حَدِيثِهِمْ، وَأَنَا ابْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً، فَاسْتَصْغَرَنِي).

رجال هذا الإسناد: ستةٌ:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم قبل بابين.

2 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ إِدْرِيسَ) الأوديّ، تقدّم قبل أربعة أبواب.

3 -

(عَبْدُ الرَّحِيمِ بْنُ سُلَيْمَانَ) الكنانيّ، أو الطائيّ، أبو عليّ الأشلّ المروزيّ، نزيل الكوفة، ثقةٌ له تصانيف، من صغار [8](ت 187)(ع) تقدّم في "الحيض" 26/ 817.

4 -

(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) تقدّم قبل أربعة أبواب.

5 -

(عَبْدُ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيُّ) ابن عبد المجيد بن الصَّلْت، أبو محمد البصريّ، ثقةٌ [8](ت 194) عن نحو (80) سنةً (ع) تقدّم في "الإيمان" 17/ 173.

و"عبيد الله" بن عمر العمريّ ذُكر قبله.

[تنبيه]: رواية عبد الله بن إدريس، وعبد الرحيم بن سليمان كلاهما عن عبيد الله العمريّ، ساقها ابن أبي شيبة رحمه الله في "مصنّفه"، فقال:

ص: 302

(36818)

- حدّثنا عبد الرحيم بن سليمان، وابن إدريس، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر قال: عَرَضني رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الخندق، وأنا ابن خمس عشرة، فأجازني، إلا أن ابن إدريس قال: عُرِضْتُ. انتهى

(1)

.

وأخرج رواية عبد الرحيم مفردةً، فقال:

(33698)

- حدّثنا عبد الرحيم بن سليمان، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، قال: عرضني رسول الله صلى الله عليه وسلم في القتال، وأنا ابن أربع عشر سنةً، فاستصغرني، فرَدَّني، ثم عرضني يوم الخندق، وأنا ابن خمس عشرة، فأجازني، قال نافع: حَدَّثت ذلك عمر بن عبد العزيز، وهو خليفة، فقال: إن هذا لَحَدٌّ بين الصغير والكبير، فكتب إلى عُمّاله أن من بلغ خمس عشرة، فافرضوا له في المقاتِلة، ومن كان دون ذلك، فافرضوا له في العيال. انتهى

(2)

.

وأما رواية عبد الوهّاب الثقفيّ، فقد ساقها البيهقيّ رحمه الله في "الكبرى"، فقال:

(11083)

- وأخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أنبأ أبو الفضل بن إبراهيم، ثنا أحمد بن سلمة، ثنا محمد بن المثنى، ومحمد بن بشار، قالا: ثنا عبد الوهاب الثقفيّ، ثنا عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، قال: عرضني رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أُحد، وأنا ابن أربع عشرة سنةً، فاستصغرني، وردّني مع الغلمان، فلما كان يوم الخندق عرضني، وأنا ابن خمس عشرة، قال: فأجازني، قال عبيد الله: وكتب عمر بن عبد العزيز: أن أجيزوا في الفرض ابن خمس عشرة، قال عبيد الله: لا أرى نافعًا إلا حدّثه بهذا. انتهى

(3)

.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(1)

"مصنف ابن أبي شيبة" 7/ 378.

(2)

"مصنف ابن أبي شيبة" 6/ 542.

(3)

"سنن البيهقي الكبرى" 6/ 55.

ص: 303

(24) - (بَابُ النَّهْيِ أَنْ يُسَافَرَ بِالْمُصْحَفِ إِلَى أَرْضِ الْكُفَّارِ، إِذَا خِيفَ وُقُوعُهُ بِأَيْدِيهِمْ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4831]

(1869) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُسَافَرَ بِالْقُرْآنِ إِلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ).

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ النيسابوريّ الإمام، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

2 -

(مَالِكُ) بن أنس إمام دار الهجرة، تقدم قبل بابين. والباقيان ذُكرا قبله.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله؛ كلاحقه، وهو (345) من رباعيّات الكتاب، وأنه أصحّ الأسانيد مطلقًا، نُقل عن البخاريّ رحمه الله أنه قال: أصحّ الأسانيد مالك، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما، وأخرج الخطيب أنه قال لأبي زرعة الرازيّ: يا أبا زرعة ليس ذا زعزعة عن زوبعة، إنما تَرفع السِّتر، فتنظر إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأصحابُهُ بين يديه:"حدّثنا مالك، عن نافع، عن ابن عمر"، ويُسمّى هذا السند بسلسلة الذهب

(1)

.

شرح الحديث:

(عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ) رضي الله عنهما أنه (قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُسَافَرَ) بالبناء للمفعول، (بِالْقُرْآنِ إِلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ)؛ أي: إلى دار الحرب، زاد في الرواية التالية:"مخافةَ أن يناله العدوّ"، وفي الرواية الثالثة:"فإني لا آمن أن يناله العدوّ".

قال في "الفتح" بعد أن أورد رواية البخاريّ بلفظ المصنّف ما نصّه:

(1)

راجع: "الكفاية في علم الرواية" للخطيب البغداديّ 1/ 399، و"إسعاف ذوي الوطر في شرح ألفيّة الأثر" 1/ 31.

ص: 304

وأورده ابن ماجه من طريق عبد الرحمن بن مهديّ، عن مالك، وزاد:"مخافة أن يناله العدوّ"، رواه ابن وهب، عن مالك، فقال:"خشيةَ أن يناله العدوّ"، وأخرجه أبو داود، عن القعنبيّ، عن مالك، فقال: قال مالك: أراه مخافة، فذكره، قال أبو عمر: كذا قال يحيى بن يحيى الأندلسيّ، ويحيى بن بُكير، وأكثر الرواة عن مالك جعلوا التعليل من كلامه، ولم يرفعوه، وأشار إلى أن ابن وهب تفرّد برفعها، قال الحافظ: وليس كذلك لِمَا قدّمته من رواية ابن ماجه، وهذه الزيادة رفعها ابن إسحاق أيضًا، كما تقدّم، وكذلك أخرجها مسلم، والنسائيّ، وابن ماجه، من طريق الليث، عن نافع، ومسلم من طريق أيوب، بلفظ:"فإني لا آمن أن يناله العدوّ"، فصحّ أنه مرفوع، وليس بمدرَج، ولعلّ مالكًا كان يجزم به، ثم صار يشكّ في رفعه، فجعله من تفسير نفسه. انتهى

(1)

.

وقال ابن حبّان رحمه الله في "صحيحه": في قوله: "مخافةَ أن يناله العدوّ" بيان واضح أن العدوّ إذا كان فيهم ضعف، وقلةٌ، والمسلمون فيهم قوّة، وكثرة، ثم سافر أحدهم بالقرآن، وهو في وسط الجيش، يأمن أن لا يقع ذلك في أيدي العدوّ، كان استعمال ذلك الفعل مباحًا له، ومتى أيس مما وَصفنا، لم يَجُز له السفر بالقرآن إلى دار الحرب. انتهى

(2)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [24/ 4831 و 4832 و 4833 و 4834](1869)، و (البخاريّ) في "الجهاد"(2990)، و (أبو داود) في "الجهاد"(2610)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(5/ 23 و 243)، و (ابن ماجه) في "الجهاد" (2909

(1)

"الفتح" 7/ 243 - 244، كتاب "الجهاد" رقم (2990).

(2)

"صحيح ابن حبان" 11/ 16.

ص: 305

و 2910)، و (مالك) في "الموطّأ"(2/ 446)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1855)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(9410)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(7/ 278)، و (الحميديّ) في "مسنده"(699)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 6 و 7 و 10 و 55 و 63 و 76)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(1064)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4715 و 4716)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 439 و 440)، و (ابن أبي داود) في "المصاحف"(ص 205 و 206 و 207 و 208 و 209)، و (أبو القاسم البغويّ) في "مسند عليّ بن الجعد"(1223 و 2682)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(9/ 108)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(1233 و 1234)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): أن فيه النهيَ عن المسافرة بالمصحف إلى أرض الكفار؛ للعلة المذكورة في الحديث، وهي خوف أن ينالوه، فينتهكوا حرمته، فإن أُمنت هذه العلة، بأن يدخل في جيش المسلمين الظاهرين عليهم، فلا كراهة، ولا مَنْع منه حينئذ؛ لعدم العلة، قال النوويّ رحمه الله: هذا هو الصحيح، وبه قال أبو حنيفة، والبخاريّ، وآخرون، وقال مالك، وجماعة من أصحابنا بالنهي مطلقًا، وحَكَى ابن المنذر عن أبي حنيفة الجواز مطلقًا، والصحيح عنه ما سبق، وهذه العلة المذكورة في الحديث هي من كلام النبيّ صلى الله عليه وسلم، وغَلِط بعض المالكية، فزعم أنها من كلام مالك، واتَّفَقَ العلماء على أنه يجوز أن يَكتب إليهم كتابٌ فيه آية، أو آيات، والحجة فيه كتاب النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى هرقل، قال القاضي عياض: وكَرِه مالك وغيره معاملة الكفار بالدراهم والدنانير التي فيها اسم الله تعالى، وذِكْره سبحانه وتعالى. انتهى كلام النوويّ رحمه الله

(1)

.

وقال في "الفتح": قال ابن عبد البرّ: أجمع الفقهاء أن لا يسافَر بالمصحف في السرايا والعسكر الصغير الْمَخُوف عليه، واختلفوا في الكبير المأمون عليه، فمنَعَ مالك أيضًا مطلقًا، وفصَّل أبو حنيفة، وأدار الشافعية الكراهة مع الخوف وجودًا وعدمًا، وقال بعضهم كالمالكية.

(1)

"شرح النوويّ" 13/ 13.

ص: 306

2 -

(ومنها): أنه استُدِلّ به على مَنْع بيع المصحف من الكافر؛ لوجود المعنى المذكور فيه، وهو التمكن من الاستهانة به، ولا خلاف في تحريم ذلك، وإنما وقع الاختلاف: هل يصحّ لو وقع، ويؤمر بإزالة مُلكه عنه، أم لا؟.

3 -

(ومنها): أنه استُدِلّ به أيضًا على منع تعلم الكافر القرآن، فمَنَع مالك مطلقًا، وأجاز الحنفية مطلقًا، وعن الشافعيّ قولان، وفَصّل بعض المالكية بين القليل؛ لأجل مصلحة قيام الحجة عليهم، فأجازه، وبين الكثير فمَنَعه، ويؤيده قصّة هرقل، حيث كتب إليه النبيّ صلى الله عليه وسلم بعض الآيات، وقد نقل النوويّ الاتفاق على جواز الكتابة إليهم بمثل ذلك. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4832]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ (ح) وَحَدَّثَنَا ابْنُ رُمْحٍ، أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَانَ يَنْهَى أَنْ يُسَافَرَ بِالْقُرْآنِ إِلَىَ أَرْضِ الْعَدُوِّ؛ مَخَافَةَ أَنْ يَنَالَهُ الْعَدُوُّ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(قُتَيْبَةُ) بن سعيد، تقدّم قبل باب.

2 -

(ابْنُ رُمْحٍ) هو: محمد بن رُمْح بن مهاجر التجيبيّ المصريّ، تقدّم قريبًا.

3 -

(اللَّيْثُ) بن سعد الإمام المصريّ، تقدّم أيضًا قريبًا. والباقيان ذُكرا قبله.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من رباعيّات الكتاب؛ كسابقه، وهو (346) من رباعيّات الكتاب.

وقوله: (يَنْهَى) بالبناء للفاعل.

وقوله: (أَنْ يُسَافَرَ بِالْقُرْآنِ) ببناء الفعل للمفعول.

وقوله: (مَخَافَةَ أَنْ يَنَالَهُ الْعَدُوُّ) بنصب "مخافةَ"، على أنه مفعول من أجله، كما قال في "الخلاصة":

(1)

"الفتح" 7/ 243 - 244، كتاب "الجهاد" رقم (29990).

ص: 307

يُنْصَبُ مَفْعُولًا لَهُ الْمَصْدَرُ إِنْ

أَبَانَ تَعْلِيلًا كَـ "جُدْ شُكْرًا وَدِنْ"

و"مخافةَ" مضاف، و"أن يناله" في تأويل المصدر مضاف إليه.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4833]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو الرَّبِيعِ الْعَتَكِيُّ، وَأَبُو كَامِلٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا تُسَافِرُوا بِالْقُرْآنِ، فَإِنِّي لَا آمَنُ أَنْ يَنَالَهُ الْعَدُوُّ"، قَالَ أَيُّوبُ: فَقَدْ نَالَهُ الْعَدُوُّ، وَخَاصَمُوكُمْ بِهِ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(أَبُو الرَّبِيعِ الْعَتَكِيُّ) سليمان بن داود الزهرانيّ البصريّ، نزيل بغداد، ثقةٌ [10](ت 234)(خ م د س) تقدم في "الإيمان" 23/ 190.

2 -

(أَبُو كَامِلٍ) فضيل بن حسين الْجَحْدريّ البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 237)، وله أكثر من ثمانين سنةً (خت م د ت س) تقدم في "المقدمة" 6/ 57.

3 -

(حَمَّادُ) بن زيد بن درهم الجهضميّ، أبو إسماعيل البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ، من كبار [8](ت 179)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 26.

4 -

(أَيُّوبُ) بن أبي تميمة كيسان السَّخْتيانيّ، أبو بكر البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ حجةٌ فقيهٌ عابدٌ [5](ت 131)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 305.

والباقيان ذُكرا قبله.

وقوله: (قَالَ أَيُّوبُ: فَقَدْ نَالَهُ الْعَدُوُّ، وَخَاصَمُوكُمْ بِهِ)"أيوب" هو السختيانيّ، ولعله وقع ذلك في عهده، فأشار إلى ذلك تنبيهًا على أن ما حذّر به النبيّ صلى الله عليه وسلم وقع فعلًا بترك امتثال أمره

(1)

، والله تعالى أعلم.

والحديث متّفقٌ عليه دون قول أيوب المذكور، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله، ولله الحمد والمنّة.

(1)

"تكملة فتح الملهم" 3/ 387.

ص: 308

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4834]

(. . .) - (حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ؛ يعني: ابْنَ عُلَيَّةَ (ح) وَحَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، وَالثَّقَفِيُّ، كُلُّهُمْ عَنْ أَيُّوبَ (ح) وَحَدَّثَنَا ابْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ، أَخْبَرَنَا الضَّحَّاكُ - يَعْنِي: ابْنَ عُثْمَانَ - جَمِيعًا عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. فِي حَدِيثِ ابْنِ عُلَيَّةَ، وَالثَّقَفِيِّ:"فَإِنِّي أَخَافُ"، وَفِي حَدِيثِ سُفْيَانَ، وَحَدِيثِ الضَّحَّاكِ بْنِ عُثْمَانَ:"مَخَافَةَ أَنْ يَنَالَهُ الْعَدُوُّ").

رجال هذا الإسناد: أحد عشر:

1 -

(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) أبو خيثمة النسائيّ، ثم البغداديّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 234)(خ م د س ق) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.

2 -

(إِسْمَاعِيلُ ابْنُ عُلَيَّةَ) هو: ابن إبراهيم بن مقسم الأسديّ مولاهم، أبو بشر البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ حافظٌ [8](ت 193)، وهو ابن (83) سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.

3 -

(ابْنُ أَبِي عُمَرَ) محمد بن يحيى الْعَدنيّ، نزيل مكة، ثقةٌ، صنّف "المسند"، ولازم ابن عيينة [10](ت 243)(م ت س ق) تقدم في "المقدمة" 5/ 31.

4 -

(سُفْيَانُ) بن عيينة، تقدّم قريبًا.

5 -

(الثَّقَفِيُّ) عبد الوهّاب بن عبد المجيد الثقفيّ، تقدّم في الباب الماضي.

6 -

(ابْنُ رَافِعٍ) هو: محمد النيسابوريّ، تقدّم قريبًا.

7 -

(ابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ) محمد بن إسماعيل بن مسلم بن أبي فُديك الدِّيليّ مولاهم، أبو إسماعيل المدنيّ، صدوقٌ، من صغار [8](ت 200) على الصحيح (ع) تقدم في "الحيض" 16/ 775.

8 -

(الضَّحَّاكُ بْنُ عُثْمَانَ) بن عبد الله بن خالد بن حِزَام الأسديّ الْحِزَاميّ، أبو عثمان المدنيّ، صدوقٌ يَهِم [7](م 4) تقدم في "الحيض" 16/ 774.

والباقون ذُكروا قبله.

[تنبيه]: رواية إسماعيل ابن عليّة، عن أيوب السختيانيّ، ساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:

ص: 309

(4507)

- حدّثنا عبد الله، حدّثني أبي، ثنا إسماعيل، ثنا أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تسافروا بالقرآن، فإني أخاف أن يناله العدو". انتهى

(1)

.

وأما رواية سفيان بن عيينة، عن أيوب فلم أجد من ساقها باللفظ الذي أشار إليه، مسلم، وإنما ساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده" بلفظ ابن عليّة المذكور، حيث قال:

(4576)

- حدّثنا عبد الله، حدّثني أبي، ثنا سفيان، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تسافروا بالقرآن، فإني أخاف أن يناله العدو". انتهى

(2)

.

وأما رواية الثقفيّ، والضحّاك بن عثمان، فلم أجد من ساقهما، فليُنظر، والله تعالى أعلم.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(25) - (بَابُ الْمُسَابَقَةِ بَيْنَ الْخَيْلِ، وَتَضْمِيرِهَا)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4835]

(1870) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى التَّمِيمِيُّ، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم سَابَقَ بِالْخَيْلِ

(3)

الَّتِي قَدْ أُضْمِرَتْ مِنَ الْحَفْيَاءِ، وَكَانَ أَمَدُهَا ثَنِيَّةَ الْوَدَاعِ، وَسَابَقَ بَيْنَ الْخَيْلِ الَّتِي لَمْ تُضْمَرْ

(4)

مِنَ الثَّنِيَّةِ إِلَى مَسْجِدِ بَنِي زُرَيْقٍ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ فِيمَنْ سَابَقَ بِهَا).

رجال هذا الإسناد: أربعة:

(1)

" مسند الإمام أحمد بن حنبل" 2/ 6.

(2)

"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 2/ 10.

(3)

وفي نسخة: "بين الخيل".

(4)

وفي نسخة: "لم تُضَمَّرْ" بتشديد الميم، من التضمير.

ص: 310

وقد تقدّموا في أول الباب الماضي، وهو من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (346) من رباعيّات الكتاب.

شرح الحديث:

(عَنِ ابْنِ عُمَرَ) رضي الله عنهما (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم سَابَقَ)؛ أي: أمر بالسباق، أو أباحه، قال القرطبيّ رحمه الله: المسابقة: مفاعلة، ولا تكون إلا من اثنين، وذلك أن المتسابقين إذا جَعَلا غاية، وقصدا نحوها، فإن خيل كل واحد منهما يسابق صاحبه إليها. انتهى

(1)

.

(بِالْخَيْلِ) وفي بعض النسخ: "بين الخيل"، (الَّتِي قَدْ أُضْمِرَتْ) بالبناء للمفعول، من الإضمار، ويجوز أيضًا أن يكون ضُمِّرت "من التضمير، يقال: ضَمَرَ الفرَسُ ضُمُورًا، من باب قَعَد، وضَمُر ضُمْرًا، مثلُ قَرُبَ قُرْبًا: دَقَّ، وقَلَّ لحمه، وضَمّرته، وأضمرته: أعددته للسِّبَاقِ، وهو أن تَعْلِفه قُوتًا بعد السِّمَنِ، فهو ضامرٌ، وخيلٌ ضامرةٌ، وضوامر، والْمِضمار: الموضع الذي تُضمر فيه الخيل، قاله الفيّوميّ

(2)

.

وقال القرطبيّ: إضمار الخيل هو أن تُسَمَّن، وتصان، ثم يُقَلّل عَلَفها، ثم يُجرى على التدريج، وتُجَلَّل؛ ليجفّ عرقها، فتتصلب بفعل ذلك بها، حتى يذهب لحمها، وتبقى فيها القوّة، والموضع الذي تضمّر فيه يسمى مضمارًا. انتهى

(3)

.

وقال في "الفتح": المراد بالإضمار: أن تُعْلَف الخيل حتى تَسْمَن، وتَقْوَى، ثم يُقَلَّل علفها بقدر القوت، وتُدخَل بيتًا، وتُغشَى بالجلال، حتى تَحْمَى، فتَعْرَق، فإذا جَفَّ عرقها خَفّ لحمها، وقَوِيَت على الْجَرْيِ. انتهى

(4)

.

(مِنَ الْحَفْيَاءِ) - بفتح الحاء المهملة، وسكون الفاء، ممدودًا، وزان حَمْراء، ويُقصَر -: موضع بظاهر المدينة، ويقال: بتقديم الياء على الفاء

(5)

.

(1)

"المفهم" 3/ 700.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 364.

(3)

"المفهم" 3/ 700.

(4)

"الفتح" 7/ 147، كتاب "الجهاد" رقم (2870).

(5)

راجع: "المصباح" 1/ 143، و"القاموس" ص 306.

ص: 311

وقال النوويّ رحمه الله: قوله: "من الحفياء إلى ثنية الوداع": هي بحاء مهملة، وفاء ساكنة، وبالمد والقصر، حكاهما القاضي، وآخرون، والقصر أشهر، والحاء مفتوحة بلا خلاف، وقال صاحب "المطالع": وضَبَطه بعضهم بضمها، قال: وهو خطأ، قال الحازميّ في "المؤتلف": ويقال فيها أيضًا: الحيفاء بتقديم الياء على الفاء، والمشهور المعروف في كتب الحديث وغيرها: الحفياء، قال سفيان بن عيينة: بين ثنية الوداع والحفياء خمسة أميال، أو ستة، وقال موسى بن عقبة: ستة، أو سبعة، وأما ثنية الوداع: فهي عند المدينة، سُمِّيت بذلك؛ لأن الخارج من المدينة يَمشي معه المودِّعون إليها. انتهى

(1)

.

(وَكَانَ أَمَدُهَا)؛ أي: غايتها (ثَنِيَّةَ الْوَدَاعِ)"الثنيّة" لغةً: الطريق إلى العقبة، قال القرطبيّ: وبين الحفياء وثنية الوداع خمسة أميال، أو ستة، على ما قاله سفيان، وقال ابن عقبة: ستة أميال، أو سبعة، وسمّيت ثنيةُ الوداع بذلك؛ لأن الخارج منها يُوَدِّعُ مُشَبِّعهُ عندها، وهي التي قالت فيها نساء الأنصار، فيما يُحْكَى:

طَلَعَ الْبَدْرُ عَلَيْنَا

مِنْ ثَنِيَّاتِ الْوَدَاعِ

يَعْنُون بذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم، وبين الثنية ومسجد بني زُرَيق ميل واحد. انتهى

(2)

.

(وَسَابَقَ بَيْنَ الْخَيْلِ الَّتِي لَمْ تُضْمَرْ) تقدّم أنه من الإضمار، أو التضمير، (مِنَ الثَّنِيَّة) "أل" فيه عهديّة؛ أي: ثنيّة الوداعِ المذكورة (إِلَى مَسْجِدِ بَنِي زُرَيْقٍ) - بضمّ الزاي، وفتح الراء آخره قاف - بصيغة التصغير، وبنو زُريق بطن من الأنصار، من الخزرج، وهو زُريق بن عامر بن زُريق بن عبد حارثة بن مالك بن غضب بن جُشَم بن الْخَزْرَج

(3)

.

(وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ) رضي الله عنهما (فِيمَنْ سَابَقَ بِهَا)؛ أي: بالخيل التي لم تُضمر، وفي رواية حمّاد، وابن عليّة التالية:"قال عبد الله: فجئت سابقًا، فطفّف بي الفرس المسجد"، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1)

"شرح النوويّ" 13/ 14.

(2)

"المفهم" 3/ 23.

(3)

"اللباب" 2/ 65، و"الأنساب" 3/ 146 - 147.

ص: 312

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [25/ 4835 و 4836](1870)، و (البخاريّ) في "الصلاة"(420) و"الجهاد"(2868 و 2869 و 2870)، و (أبو داود) في "الجهاد"(2577)، و (الترمذيّ) في "الجهاد"(1699)، و (النسائيّ) في "الخيل"(6/ 226) و"الكبرى"(3/ 41)، و (ابن ماجه) في "الجهاد"(2877)، و (مالك) في "الموطّأ"(2/ 467 - 468)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(9695)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 5 و 11 و 56)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 212)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4686 و 4687)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(13459)، و (سعيد بن منصور) في "سننه"(2/ 394)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 440 و 441 و 442)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(10/ 209)، و (الدارقطنيّ) في "سننه"(4/ 299 - 300)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(10/ 19)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(2650)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان جواز المسابقة بين الخيل، وهو مجمَع عليه، وذلك مما خُصّ، وخَرَج من باب القمار بالسُّنَّة الواردة فيه، وكذلك هو خارج من باب تعذيب البهائم؛ لأن الحاجة إليها تدعو إلى تأديبها، وتدريبها.

وقال في "الفتح": في الحديث مشروعية المسابقة، وأنه ليس من العبث، بل من الرياضة المحمودة الموصلة إلى تحصيل المقاصد في الغزو، والانتفاع بها عند الحاجة، وهي دائرة بين الاستحباب والإباحة، بحسب الباعث على ذلك.

قال القرطبيّ: لا خلاف في جواز المسابقة على الخيل وغيرها من الدواب، وعلى الأقدام، وكذا الترامي بالسهام، واستعمال الأسلحة؛ لِمَا في ذلك من التدريب على الحرب. انتهى

(1)

.

(1)

"الفتح" 7/ 147، كتاب "الجهاد" رقم (2870).

ص: 313

وقال النوويّ: اختَلف العلماء في أن المسابقة بينهما مباحة، أم مستحبة؟ ومذهب أصحابنا أنها مستحبة؛ لِمَا ذكرناه، وأجمع العلماء على جواز المسابقة بغير عوض، بين جميع أنواع الخيل: قويِّها مع ضعيفها، وسابِقها مع غيره، سواء كان معها ثالث أم لا، فأما المسابقة بعِوَض فجائزة بالإجماع، لكن يشترط أن يكون العوض من غير المتسابقين، أو يكون بينهما، ويكون معهما محلِّل، وهو ثالثٌ على فرس مكافئ لفرسيهما، ولا يُخرج المحلِّل من عنده شيئًا؛ لِيَخْرج هذا العقد عن صورة القمار، وليس في هذا الحديث ذِكر عِوَض في المسابقة. انتهى

(1)

.

وقال في "الفتح": وقد أجمع العلماء كما تقدّم على جواز المسابقة بغير عوض، لكن قَصَرها مالك، والشافعيّ على الخفّ، والحافر، والنصل، وخصّه بعض العلماء بالخيل، وأجازه عطاء في كل شيء، واتفقوا على جوازها بِعِوَض بشرط أن يكون من غير المتسابقين؛ كالإمام، حيث لا يكون له معهم فرس، وجوّز الجمهور أن يكون من أحد الجانبين من المتسابقين، وكذا إذا كان معهما ثالث محلل بشرط أن لا يُخرج من عنده شيئًا؛ ليخرج العقد عن صورة القمار، وهو أن يُخرج كل منهما سَبَقًا، فمن غلب أخذ السبقين، فاتفقوا على منعه، ومنهم من شرط في المحلِّل أن يكون لا يتحقق السبق في مجلس السبق. انتهى.

2 -

(ومنها): بيان أن المسابقة بين الخيل يجب أن يكون أمدها معلومًا، وأن تكون الخيل متساوية الأحوال، أو متقاربة، وأن لا يُسابَق بالمضمَّر مع غير المضمَّر.

3 -

(ومنها): جواز تضمير الخيل، وهو مجمَع عليه أيضًا؛ للمصلحة في ذلك، وتدريب الخيل، ورياضتها، وتمرّنها على الجري، وإعدادها لذلك؛ لينتفع بها عند الحاجة في القتال كرًّا وفَرًّا.

قال في "الفتح": ولا يخفى اختصاص استحبابه بالخيل المعدّة للغزو. انتهى.

(1)

"شرح النوويّ" 13/ 14.

ص: 314

4 -

(ومنها): بيان مشروعية الإعلام بالابتداء والانتهاء عند المسابقة.

5 -

(ومنها): أن فيه نسبةَ الفعل إلى الآمر به؛ لأن قوله: "سابق"؛ أي: أمر، أو أباح.

6 -

(ومنها): أن فيه أن المراد بالمسابقة بالخيل كونها مركوبةً، لا مجرد إرسال الفرسين بغير راكب؛ لقوله في الحديث:"وأن عبد الله بن عمر كان فيمن سابق بها"، قال الحافظ: كذا استدلّ به بعضهم، وفيه نظرٌ؛ لأن الذي لا يشترط الركوب لا يمنع صورة الركوب، وإنما احتجّ الجمهور بأن الخيل لا تهتدي بأنفسها لقصد الغاية بغير راكب، وربما نَفَرت، وفيه نظر؛ لأن الاهتداء لا يختص بالركوب، فلو أن السائس كان ماهرًا في الجري، بحيث لو كان مع كل فرس ساع يَهديها إلى الغاية لأمكن.

7 -

(ومنها): بيان جواز إضافة المسجد إلى قوم مخصوصين، وقد ترجم له البخاريّ بذلك في "كتاب الصلاة"، فقال:"باب هل يقال: مسجد بني فلان؟ "، ثم أورد حديث الباب، قال في "الفتح": ويلتحق به جواز إضافة أعمال البرّ على أربابها، قال: والجمهور على الجواز، والمخالف في ذلك إبراهيم النخعيّ، فيما رواه ابن أبي شيبة عنه أنه كان يكره أن يقول: مسجد بني فلان، ويقول: مصلَّى بني فلان؛ لقوله تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ} [الجن: 18]، وجوابه أن الإضافة في مثل هذا إضافة تمييز، لا إضافة ملك. انتهى

(1)

.

8 -

(ومنها): أن فيه جوازَ معاملة البهائم عند الحاجة بما يكون تعذيبًا لها في غير الحاجة؛ كالإجاعة، والإجراء.

9 -

(ومنها): أن فيه تنزيلَ الخَلق منازلهم؛ لأنه صلى الله عليه وسلم غاير بين منزلة المضمَّر وغير المضمَّر، ولو خَلَطَهما لأتعب غير المضمر

(2)

، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4836]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَمُحَمَّدُ بْنُ رُمْحٍ، وَقُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ (ح) وَحَدَّثَنَا خَلَفُ بْنُ هِشَامٍ، وَأَبُو الرَّبِيعِ، وَأَبُو كَامِلٍ،

(1)

"الفتح" 2/ 77، كتاب "الصلاة".

(2)

"الفتح" 7/ 147، كتاب "الجهاد" رقم (2870).

ص: 315

قَالُوا: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ - وَهُوَ ابْنُ زَيْدٍ - عَنْ أَيُّوبَ (ح) وَحَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، عَنْ أَيُّوبَ (ح) وَحَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي (ح) وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ (ح) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَعُبَيْدُ اللهِ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا يَحْيَى - وَهُوَ الْقَطَّانُ - جَمِيعًا عَنْ عُبَيْدِ الله (ح) وَحَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، وَأَحْمَدُ بْنُ عَبْدَةَ، وَابْنُ أَبِي عُمَرَ، قَالُوا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ (ح) وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ (ح) وَحَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الأَيْلِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي أُسَامَةُ - يَعْنِي: ابْنَ زَيْدٍ - كُلُّ هَؤُلَاءِ عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، بِمَعْنَى حَدِيثِ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، وَزَادَ فِي حَدِيثِ أَيُّوبَ، مِنْ رِوَايَةِ حَمَّادٍ، وَابْنِ عُلَيَّةَ: قَالَ عَبْدُ اللهِ: فَجِئْتُ سَابِقًا، فَطَفَّفَ بِي الْفَرَسُ الْمَسْجِدَ).

رجال هذا الإسناد: ثلاثة وثلاثون:

1 -

(خَلَفُ بْنُ هِشَامِ) بن ثعلب البزّار المقرئ البغداديّ، ثقةٌ، له اختيارات في القراءة [10](ت 229)(م د) تقدّم في "الإيمان" 6/ 124.

2 -

(أَبُو أُسَامَةَ) حمّاد بن أُسامة بن زيد القرشيّ مولاهم الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار [9](ت 201)(ع) تقدّم في "المقدمة" 6/ 51.

3 -

(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ سَعِيدِ) بن يحيى اليشكريّ، أبو قُدامة السّرخسيّ، نزيل نيسابور، ثقةٌ مأمون سنّيّ [10](ت 241)(خ م س) تقدّم في "المقدمة" 6/ 39.

4 -

(يَحْيَى الْقَطَّانُ) بن سعيد التميميّ، أبو سعيد البصريّ، ثقةٌ متقنٌ حافظٌ إمام قدوةٌ، من كبار [9](ت 198) وله (78) سنةً (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 385.

5 -

(أَحْمَدُ بْنُ عَبْدَةَ) الضبيّ، تقدّم قريبًا.

6 -

(إِسْمَاعِيلُ بْنُ أُمَيَّةَ) بن عمرو بن سعيد بن العاص الأمويّ المكيّ، ثقةٌ ثبتٌ [6](ت 144) أو قبلها (ع) تقدّم في "الإيمان" 7/ 132.

7 -

(عَبْدُ الرَّزَّاقِ) بن همّام بن نافع الْحِمْيريّ، أبو بكر الصنعانيّ، ثقةٌ

ص: 316

حافظٌ مصنّفٌ شهيرٌ، عَمِي في آخره، فتغيّر، وكان يتشيّع [9](ت 211) وله (85) سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.

8 -

(ابْنُ جُرَيْجٍ) عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج المكيّ، تقدّم قريبًا.

9 -

(مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ) بن أبي عيّاش الأسديّ مولاهم، المدنيّ، ثقةٌ فقيهٌ، إمام في المغازي [5](ت 141)، أو بعد ذلك (ع) تقدم في "الإيمان" 81/ 433.

10 -

(أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ) الليثيّ مولاهم، أبو زيد المدنيّ، صدوقٌ يَهِم [7](173)، وهو ابن بضع و (70)(خت م 4) تقدم في "الصلاة" 42/ 1085.

والباقون تقدّموا في الباب، والأبواب الأربعة الماضية.

[تنبيه]: قوله: (وَحَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، عَنْ أَيُّوبَ، عن نافع، عن ابن عمر) قال الحافظ أبو عليّ الغسّانيّ رحمه الله: هكذا هو في الكتاب من جميع الطرق التي رويناه بها، وذكره أبو مسعود الدمشقيّ عن مسلم، عن زُهير بن حرب، عن إسماعيل ابن عُليّة، عن أيوب، عن ابن نافع، عن نافع، عن ابن عمر، بمثل حديث مالك، فزاد في الإسناد:"ابن نافع"، قال: والذي قاله أبو مسعود محفوظ عن جماعة، من أصحاب ابن عليّة.

قال الدارقطنيّ في "كتاب العلل" - وذَكَر هذا الحديث -: يرويه أحمد بن حنبل، وعليّ ابن المدينيّ، وداود بن رُشيد، عن ابن عُليّة، عن أيوب، عن ابن نافع، عن نافع، عن ابن عمر.

وهذا شاهد لِمَا ذكره أبو مسعود عن مسلم، عن زُهير، عن ابن عُليّة.

قال الدارقطنيّ: وخالفهم مسدّد، وزياد بن أيوب، روياه عن ابن عُليّة، عن أيوب، عن نافع، لم يذكرا بينهما أحدًا، قال: وكذلك رواه حاتم بن وَرْدان، عن أيوب، عن نافع.

قال الجيّانيّ: حدّثنا أحمد بن عُمر الْعُذريّ، نا أبو ذرّ الْهَرَويّ، قال: نا أبو الحسن الدارقطنيّ، قال: نا عبد الله بن محمد الْبَغَويّ، قال: نا داود بن رُشيد، نا إسماعيل بن إبراهيم، قال: نا أيوب، عن ابن نافع، عن نافع، عن ابن عُمر، قال:"سَبّق رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الخيل. . ." الحديث. انتهى كلام

ص: 317

الجيّانيّ رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: الذي يظهر لي أن كلا الطريقين محفوظان، طريق ابن عليّة، عن أيوب، عن ابن نافع، عن نافع، وطريقه أيضًا عن أيوب، عن نافع، فيَحتمل أن يكون أيوب رواه عن ابن نافع، ثم سمعه عن نافع، أو سمعه عن نافع، فثبّته ابن نافع؛ وذلك لأن الذين أدخلوا ابن نافع، وإن كانوا أكثر؛ إلا أن الذين أسقطوه أيضًا جماعة، وهم: مسدّد، وزياد بن أيوب، وهما حافظان مشهوران، وتابع ابن علّية على ذلك حاتمُ بن وَرْدان.

وبالجملة فالحديث مشهور عن أيوب، عن نافع من رواية ابن عليّة هذه، ومن رواية حمّاد بن زيد، كما أخرجه مسلم قبلها، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

وقوله: (كُلُّ هَؤُلَاءِ عَنْ نَافِعٍ. . . إلخ) أشار به إلى الستة الذين هم: الليث بن سعد، وأيوب السختيانيّ، وعبيد الله العمريّ، وإسماعيل بن أُميّة، وموسى بن عقبة، وأسامة بن زيد الليثيّ، ستّتهم رووا هذا الحديث عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما بمعنى حديث مالك بن أنس المذكور قبله.

[تنبيه]: إسناد الليث بن سعد من رباعيّات المصنّف، وهو (347) من رباعيّات الكتاب، وباقي الأسانيد من خماسيّاته، إلا إسناد موسى بن عقبة، فمن سداسيّاته.

وقوله: (فَطَفَّفَ بِي الْفَرَسُ الْمَسْجدَ)؛ أي: جاوز بي المسجد الذي كان هو الغاية، وأصل التطفيف مجاوزة الحدَّ، قاله في "الفتح"

(2)

.

وقال النوويّ: قوله: "فطفّف بي الفرسُ المسجدَ"؛ أي: علا، ووثَبَ إلى المسجد، وكان جداره قصيرًا، وهذا بَعْد مجاوزته الغاية؛ لأن الغاية هي هذا المسجد، وهو مسجد بني زُريق، قاله النوويّ

(3)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "فطفّف بي الفرسُ"؛ أي: زاد على الغاية المفروضة، وأصل التطفيف: العلوّ، ومجاوزة الحدّ، ومنه قالوا: طفّف كذا؛

(1)

"تقييد المهمل" 3/ 886 - 887.

(2)

"الفتح" 7/ 147، كتاب "الجهاد" رقم (2870).

(3)

"شرح النوويّ" 13/ 16.

ص: 318

أي: علا، وإناءٌ طفّانٌ؛ أي: علا ما فيه، ومنه التطفيف في الكيل، فإنه إذا أخذ لنفسه، فقد علا على الحقّ، وإذا نقص غيره، فقد أعلى حقّه على حقّه. انتهى

(1)

.

[تنبيه]: رواية الليث بن سعد، عن نافع ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:

(2714)

- حدّثنا أحمد بن يونس، حدّثنا الليث، عن نافع، عن عبد الله رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سابق بين الخيل التي لم تضمر، وكان أمدها من الثنية إلى مسجد بني زُريق، وأن عبد الله بن عمر كان سابق بها. انتهى

(2)

.

ورواية حمّاد بن زيد، عن أيوب، عن نافع، ساقها البيهقيّ رحمه الله في "الكبرى"، فقال:

(19552)

- أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، ثنا أبو بكر بن إسحاق إملاءً، أنبأ أبو مسلم، ثنا سليمان بن حرب (ح) قال: وأنبأ محمد بن أيوب، أنبأ سليمان العتكيّ، قالا: ثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سَبَّق بين الخيل، فجعل غاية المضمرات من الحفيا إلى ثنية الوداع، وما لم يضمر من الثنية إلى مسجد بني زُريق، قال ابن عمر رضي الله عنهما: جئت سابقًا، فطَفَّف بي الفرسُ المسجدُ. لفظ حديث ابن حرب، رواه مسلم في "الصحيح" عن سليمان العتكيّ. انتهى

(3)

.

وأما رواية إسماعيل ابن عليّة، عن أيوب، عن نافع، فقد ساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(4487)

- حدّثنا عبد الله

(4)

، حدّثني أبي، ثنا إسماعيل، أنا أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، قال: سَبَّق رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الخيل، فأرسل ما ضُمِّر منها من الحفياء، أو الحيفاء إلى ثنية الوداع، وأرسل ما لم يُضَمَّر منها من ثنية الوداع إلى مسجد بني زريق، قال عبد الله: فكنت فارسًا يومئذ، فسَبَقت

(1)

"المفهم" 3/ 702 - 703.

(2)

"صحيح البخاريّ" 3/ 1053.

(3)

"سنن البيهقيّ الكبرى" 10/ 19.

(4)

هو: ولد الإمام أحمد، راوي "المسند" عنه.

ص: 319

الناس، طَفَّف بي الفرسُ مسجدَ بني زُريق. انتهى

(1)

.

وأما رواية عبد الله بن نُمير، عن عبيد الله العمريّ، عن نافع، فقد ساقها ابن ماجه رحمه الله في "سننه"، فقال:

(2877)

- حدّثنا عليّ بن محمد، ثنا عبد الله بن نمير، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، قال: ضَمَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم الخيل، فكان يرسل التي ضُمِّرت من الحفياء إلى ثنية الوداع، والتي لم تُضَمَّر من ثنية الوداع إلى مسجد بني زُريق. انتهى

(2)

.

وأما رواية أبي أسامة، عن عبيد الله العمريّ، عن نافع، فقد ساقها أبو عوانة رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(7247)

- حدّثنا الحسن بن عفّان، قال: ثنا أبو أسامة، قال: ثنا عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضَمَّر الخيلَ، فأرسلها من الحفياء، وما كان غير مُضَمَّر أرسله من الثنية إلى مسجد بني زُريق. انتهى

(3)

.

وأما رواية يحيى القطّان، عن عبيد الله العمريّ، عن نافع، فقد ساقها الدارقطنيّ رحمه الله في "سننه"، فقال:

(3)

- حدّثنا عليّ بن عبد الله بن مبشر، نا أحمد بن سنان القطان، حدّثني يحيى بن سعيد (ح) ونا عليّ بن عبد الله بن مبشر، ويعقوب بن محمد بن عبد الوهاب، قالا: نا حفص بن عمرو (ح) ونا أبو بكر يعقوب بن إبراهيم البزاز، نا عُمَر بن شَبَّة، قالا: نا يحيى بن سعيد، عن عبيد الله بن عمر، أخبرني نافع، عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سابق بين الخيل المضمّرة منها من الحفياء إلى ثنية الوداع، والتي لم تضمر من ثنية الوداع إلى مسجد بني زريق. انتهى

(4)

.

وأما رواية سفيان بن عيينة، عن إسماعيل بن أميّة، عن نافع، فقد ساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(1)

"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 2/ 5.

(2)

"سنن ابن ماجه" 2/ 960.

(3)

"مسند أبي عوانة" 4/ 441.

(4)

"سنن الدارقطنيّ" 4/ 299.

ص: 320

(4594)

- حدّثنا عبد الله، حدّثني أبي، ثنا سفيان، ثنا إسماعيل بن أمية، عن نافع، عن ابن عمر، قال: سَبَّق رسول الله صلى الله عليه وسلم الخيل، فأرسل ما ضُمِّر منها من الحفياء، وأرسل ما لم يُضَمّر منها من ثنية الوداع إلى مسجد بني زُريق. انتهى

(1)

.

وأما رواية ابن جُريج، عن موسى بن عُقبة، عن نافع، فقد ساقها أبو عوانة رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(7251)

- حدّثنا يوسف بن سعيد بن مسلم، قال: ثنا حجاج بن محمد، عن ابن جريج، قال: أخبرني موسى بن عقبة، عن نافع، قال: قال عبد الله بن عمر: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم سَبَّقَ بين الخيل، فيدفع ما ضُمِّر منها من الحفياء إلى الثنية، ويدفع ما لم يضمر منها إلى مسجد بني زُريق. انتهى

(2)

.

وأخرج البخاريّ رحمه الله أيضًا رواية موسى بن عقبة، عن نافع، فقال في "صحيحه":

(2715)

- حدّثنا عبد الله بن محمد، حدّثنا معاوية

(3)

، حدّثنا أبو إسحاق، عن موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سابق رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الخيل التي قد أضمرت، فأرسلها من الحفياء، وكان أمدُها ثنية الوداع، فقلت لموسى: فكم كان بين ذلك؟ قال: ستة أميال، أو سبعة، وسابق بين الخيل التي لم تضمر، فأرسلها من ثنية الوداع، وكان أمدها مسجد بني زريق، قلت: فكم بين ذلك؟ قال: ميل، أو نحوه، وكان ابن عمر ممن سابق فيها. انتهى

(4)

.

وأما رواية أسامة بن زيد، عن نافع، فقد ساقها أبو عوانة رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(7253)

- حدّثنا عيسى بن أحمد، قثنا

(5)

ابن وهب، عن أسامة بن زيد،

(1)

"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 2/ 11.

(2)

"مسند أبي عوانة" 4/ 441.

(3)

هو: معاوية بن عمرو بن المهلّب الْمَعْنيّ الأزديّ.

(4)

"صحيح البخاريّ" 3/ 1053.

(5)

مختصر من "قال: حدّثنا".

ص: 321

عن نافع، عن ابن عمر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يسابق بالخيل التي قد ضُمِّرت، فكان يرسلها من الحفياء إلى ثنية الوداع، وكان أمدَها، وكان يسابق بالخيل التي لم تضمر من ثنية الوداع إلى مسجد بني زُريق، وهو أمدُها. انتهى

(1)

.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(26) - (بَابٌ الْخَيْلُ فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4837]

(1871) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "الْخَيْلُ فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ").

رجال هذا الإسناد: أربعة:

وقد تقدّم السند نفسه أول الباب الماضي، وهو من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (347) من رباعيّات الكتاب.

شرح الحديث:

(عَنِ ابْنِ عُمَرَ) بن الخطّاب رضي الله عنهما (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "الْخَيْلُ) المراد بها: ما يُتَّخَذ للغزو، بأن يقاتَل عليه، أو يُرتَبَط لأجل ذلك؛ لقوله في الحديث الآخر:"الخيل ثلاثة. . . ." الحديث، وقد تقدّم في "كتاب الزكاة"، وقد روى أحمد من حديث أسماء بنت يزيد مرفوعًا:"الخيل في نواصيها الخير معقود إلى يوم القيامة، فمن ربطها عُدّةً في سبيل الله، وأنفق عليها احتسابًا، كان شِبَعها، وجوعها، ورِيِّها، وظِمْؤها، وأرواثها، وأبوالها فلاحًا في موازينه يوم القيامة. . . ." الحديث، ولقوله في الرواية الآتية:"الأجر، والمغنم"

(2)

.

(فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ) قال في "الفتح": كذا في "الموطأ" ليس فيه:

(1)

"مسند أبي عوانة" 4/ 442.

(2)

راجع: "الفتح" 7/ 119، كتاب "الجهاد" رقم (2849).

ص: 322

"معقود"، ووقع بإثباتها عند الإسماعيليّ، من رواية عبد الله بن نافع، عن مالك، قال: وسيأتي في "علامات النبوة" من طريق عبيد الله بن عمر، عن نافع بإثباتها، وذلك في رواية أبي ذرّ، عن الكشميهنيّ وحده. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: سيأتي لمسلم في هذا الباب من حديث جرير بن عبد الله رضي الله عنه بلفظ: "الخيل معقود بنواصيها الخير"، ومن حديث عروة البارقيّ رضي الله عنه بلفظ:"الخيل معقود في نواصيها الخير"، وفي لفظ:"الخير معقوص بنواصي الخيل"، ومن حديث أنس رضي الله عنه بلفظ:"البركة في نواصي الخيل".

وقد فسّر الخير في حديث جرير، وعروة بقوله:"الأجر، والغنيمة"، وفي لفظ:"الأجر، والمغنم"، وفي حديث عروة أيضًا:"الخير معقود بنواصي الخيل، قال: فقيل له: يا رسول الله بم ذاك؟ قال: الأجر والمغنم إلى يوم القيامة".

قال الطيبيّ رحمه الله: يَحْتَمِل أن يكون الخير الذي فُسِّر بالأجر والمغنم استعارةً لظهوره، وملازمته، وخص الناصية؛ لرفعة قَدْرها، وكأنه شبّهه لظهوره بشيء محسوس، معقود على مكان مرتفع، فنُسِب الخير إلى لازِم المشبَّه به، وذكرُ الناصية تجريدٌ للاستعارة، والمراد بالناصية هنا: الشعر المسترسِل على الجبهة، قاله الخطابيّ وغيره، قالوا: ويَحْتَمِل أن يكون كَنَى بالناصية عن جميع ذات الفرس، كما يقال: فلان مبارك الناصية، لكن يبعده لفظ حديث جرير رضي الله عنه الآتية، قال:"رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يَلْوِي ناصية فرس بإصبعه، وهو يقول: الخيل معقود بنواصيها الخير. . ." الحديث، فيَحْتَمِل أن تكون الناصية خُصّت بذلك؛ لكونها المقدَّم منها، إشارةً إلى أن الفضل في الإقدام بها على العدوّ دون المؤخَّر؛ لِمَا فيه من الإشارة إلى الإدبار.

وقوله: (إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ") فيه بشارة إلى أن الجهاد ماض، ومستمرّ إلى يوم القيامة، والمراد به قرب القيامة، وهو الوقت الذي تأتي فيه الريح الطيّبة، فتقبض روح كلّ مؤمن، كما يأتي ذلك في حديث النوّاس بن سَمْعان رضي الله عنه في "كتاب الفتن" - إن شاء الله تعالى - والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

ص: 323

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [26/ 4837 و 4838](1871)، و (البخاريّ) في "الجهاد"(2849) و"المناقب"(3624)، و (النسائيّ) في "الخيل"(6/ 221 - 222) و"الكبرى"(3/ 39)، و (ابن ماجه) في "الجهاد"(2787)، و (مالك) في "الموطّأ"(2/ 467)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1844)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 13 و 28 و 49 و 57 و 101 و 102 و 112)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(2642)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4668)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(3/ 273 - 274) و"مشكل الآثار"(219 و 220)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 441 و 445 و 446)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(6/ 329)، و (القضاعيّ) في "مسند الشهاب"(221)، و (البغويّ) في شرح السُّنَّة" (2644)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان استحباب رباط الخيل، واقتنائها للغزو، وقتال أعداء الله تعالى.

2 -

(ومنها): بيان أن فضلها، وخيرها، والجهاد عليها باق إلى يوم القيامة، قال ابن عبد البرّ رحمه الله: وقد استَدَلّ جماعة من العلماء بأن الجهاد ماض إلى يوم القيامة، تحت راية كل بَرّ وفاجر من الأئمة بهذا الحديث؛ لأنه قال فيه:"إلى يوم القيامة"، ولا وجه لذلك إلا الجهاد في سبيل الله تعالى. انتهى

(1)

.

وقال البخاريّ رحمه الله في "صحيحه": "باب الجهاد ماضٍ مع البرّ والفاجر"؛ لقول النبيّ صلى الله عليه وسلم: "الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة"، قال في "الفتح": سبقه إلى الاستدلال بهذا: الإمام أحمدُ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم ذَكر بقاء الخير في نواصي الخيل إلى يوم القيامة، وفسّره بالأجر والمغنم، والمغنم

(1)

"التمهيد" لابن عبد البرّ 14/ 97.

ص: 324

المقترن بالأجر إنما يكون من الخيل بالجهاد، ولم يقيّد ذلك بما إذا كان الإمام عادلًا، فدلّ على أن لا فرق في حصول هذا الفضل بين أن يكون الغزو مع الإمام العادل، أو الجائر.

قال: وفي الحديث: الترغيب في الغزو على الخيل، وفيه أيضًا: بشرى ببقاء الإسلام وأهله إلى يوم القيامة؛ لأن مِن لازِم بقاء الجهاد بقاء المجاهدين، وهم المسلمون، وهو مِثْل الحديث الآخر:"لا تزال طائفة من أمتي، يقاتلون على الحقّ. . ." الحديث.

قال: واستَنْبط منه الخطابيّ إثبات سهم للفرس، يستحقه الفارس من أجله، قال الحافظ: فإن أراد السهم الزائد للفارس على الراجل، فلا نزاع فيه، وإن أراد أن للفرس سهمين غير سهم راكبه، فهو محل النزاع، ولا دلالة من الحديث عليه. انتهى

(1)

.

3 -

(ومنها): ما قاله القاضي عياض رحمه الله: في هذا الحديث مع وجيز لفظه، من البلاغة، والعذوبة ما لا مزيد عليه في الحُسن، مع الجناس السهل الذي بين الخيل والخير

(2)

.

4 -

(ومنها): ما قاله الخطابيّ رحمه الله: وفيه إشارة إلى أن المال الذي يُكتسب باتخاذ الخيل من خير وجوه الأموال، وأطيبها، والعرب تُسَمِّي المال خيرًا.

5 -

(ومنها): أن فيه إشارة إلى تفضيل الخيل على غيرها من الدوابّ؛ لأنه لم يأت عنه صلى الله عليه وسلم في شيء غيرها مثل هذا القول، وقد أخرج النسائيّ عن أنس بن مالك رضي الله عنه:"لم يكن شيء أحبّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخيل"، قال ابن عبد البرّ رحمه الله: في هذا الحديث الحضّ على اكتساب الخيل، وتفضيلها على سائر الدوابّ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يأت عنه في غيرها مثل هذا القول، وبذلك تعظيم منه لشأنها، وحضّ على اكتسابها، ونَدْبٌ إلى ارتباطها في سبيل الله، عُدَّةً للقاء العدوّ، إذ هي أقوى الآلات في جهاده، فهذه الخيل المعدّة للجهاد

(1)

"الفتح" 7/ 122 - 123، كتاب "الجهاد" رقم (2852).

(2)

"إكمال المعلم" 6/ 288 - 289.

ص: 325

هي التي في نواصيها الخير، وأما إذا كانت معدّة لِلْفِتَن، وقتل المسلمين، وسلبهم، وتفريق جمعهم، وتشريدهم عن أوطانهم، فتلك خيل الشيطان، وأربابها حزبه، وفي مثلها - والله أعلم - ورد أن اكتسابها وزر على صاحبها؛ لأنه قد جاء عنه أنها قد تكون وِزْرًا لمن لم يرتبطها، ويجاهد عليها، وكان قد اتخذها فَخْرًا، ومناوأة للمسلمين، وأذى لهم، وعونًا عليهم، قال: وإذا كان ذلك كذلك، فمعلوم أن ندبه إلى اكتسابها من أجل جهاد العدوّ عليها، والله أعلم. انتهى

(1)

.

6 -

(ومنها): أنه استُدِلّ به على أن الذي ورد فيها من الشؤم

(2)

على غير ظاهره، لكن يَحْتَمِل أن يكون المراد هنا: جنس الخيل؛ أي: أنها بصدد أن يكون فيها الخير، فأما من ارتبطها لعمل غير صالح فحصول الوزر لطريان ذلك الأمر العارض، قاله في "الفتح"

(3)

.

وقال النوويّ رحمه الله: وأما الحديث الآخر: الشؤم قد يكون في الفرس فالمراد به: غير الخيل المعدّة للغزو ونحوه، أو أن الخير والشؤم يجتمعان فيها، فإنه فُسِّر الخير بالأجر والمغنم، ولا يمتنع مع هذا أن يكون الفرس مما يُتشاءم به. انتهى

(4)

، والله تعالى أعلم.

(المسألة الرابعة): قال في "الفتح": رَوَى حديث: "الخيل معقود في نواصيها الخير" جَمْعٌ من الصحابة رضي الله عنهم، وهم: ابن عمر، وعروة البارقيّ، وأنس بن مالك، وجرير بن عبد الله، وهؤلاء عند مسلم، وسلمة بن نُفَيل، وأبو هريرة، عند النسائي، وعتبة بن عبد، عند أبي داود، وجابر، وأسماء بنت يزيد، وأبو ذرّ، عند أحمد، والمغيرة، وابن مسعود، عند أبي يعلى، وأبو كبشة، عند أبي عوانة، وابن حبان في "صحيحيهما"، وحذيفة، عند البزار،

(1)

"التمهيد" لابن عبد البرّ 14/ 96 - 97.

(2)

حديث: "إنما الشؤم في ثلاثة" سيأتي البحث فيه مستوفًى في كتاب "السلام" - إن شاء الله تعالى -.

(3)

"الفتح" 7/ 119، كتاب "الجهاد" رقم (2849).

(4)

"شرح النوويّ" 13/ 16 - 17.

ص: 326

وسَوَادة بن الربيع، وأبو أمامة، وعَرِيب - وهو بفتح العين المهملة، وكسر الراء، بعدها تحتانية ساكنة، ثم موحدة - المليكيّ، والنعمان بن بشير، وسهل ابن الحنظلية، عند الطبرانيّ، وعن عليّ، عند ابن أبي عاصم في "الجهاد"، وفي حديث جابر من الزيادة:"في نواصيها الخير، والنَّيْل"، وهو بفتح النون، وسكون التحتانية، بعدها لام، وزاد أيضًا:"وأهلها مُعانون عليها، فخذوا بنواصيها، وادعوا بالبركة"، وقوله:"وأهلها معانون عليها" في رواية سلمة بن نُفيل أيضًا

(1)

. انتهى

(2)

، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4838]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، وَابْنُ رُمْحٍ، عَنِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ (ح) وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ نُمَيْرٍ (ح) وَحَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي (ح) وَحَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، كُلُّهُمْ عَنْ عُبَيْدِ الله (ح) وَحَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الأَيْلِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، حَدَّثَنِي أُسَامَةُ، كُلُّهُمْ عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِ حَدِيثِ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ).

رجال هذا الإسناد: خمسة عشر:

1 -

(عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ) الكوفي، قاضي الموصل، تقدّم قريبًا.

والباقون كلّهم تقدّموا في الباب الماضي، و"ابن رُمح" هو: محمد، و"ابن نُمير" هو: محمد بن عبد الله بن نُمير، و"أبوه" عبد الله بن نُمير، و"عبيد الله بن سعيد" هو: أبو قُدامة السرخسيّ، و"يحيى" هو: ابن سعيد القطّان، و"عبيد الله" هو ابن عُمر الْعُمَريّ، و"أسامة" هو: ابن زيد الليثيّ.

وقوله: (كُلُّهُمْ عَنْ عُبَيْدِ اللهِ)؛ أي: كلّ هؤلاء الثلاثة، وهم: عليّ بن مُسهر، وعبد الله بن نُمير، ويحيى القطّان رووه عن عبيد الله العمريّ.

(1)

قال الجامع عفا الله عنه: هكذا قال في "الفتح"، ولكن لم أر هذه الزيادة عند النسائيّ، كما أوضحته فيما كتبته عليه، فليُنظر، والله تعالى أعلم.

(2)

"الفتح" 7/ 119، كتاب "الجهاد" رقم (2849).

ص: 327

وقوله: (كُلُّهُمْ عَنْ نَافِعٍ)؛ أي: كل هؤلاء الثلاثة، وهم: الليث بن سعد، وعبيد الله العمريّ، وأسامة بن زيد الليثيّ رووه عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما، والله تعالى أعلم.

[تنبيه]: رواية الليث، عن نافع، ساقها النسائيّ رحمه الله في "المجتبى"، فقال:

(3573)

- أخبرنا قتيبة بن سعيد، قال: حدّثنا الليث، عن نافع، عن ابن عمر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"الخيل في نواصيها الخير إلى يوم القيامة". انتهى

(1)

.

وأما رواية عليّ بن مسهر، عن عبيد الله، عن نافع، فساقها ابن أبي شيبة رحمه الله في "مصنّفه"، فقال:

(33483)

- حدّثنا عليّ بن مُسهر، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة". انتهى

(2)

.

وأما رواية عبد الله بن نُمير، عن عبيد الله، عن نافع، فساقها الطحاويّ رحمه الله في "شرح معاني الآثار"، فقال:

حدّثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا عبد الله بن نمير، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة". انتهى

(3)

.

وأما رواية يحيى القطّان، عن عبيد الله، عن نافع، فساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:

(3444)

- حدّثنا مسدّد، حدّثنا يحيى، عن عبيد الله، قال: أخبرني نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الخيل في نواصيها الخير إلى يوم القيامة". انتهى

(4)

.

وأما رواية أُسامة بن زيد الليثيّ، عن نافع، فساقها أبو عوانة رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(1)

"سنن النسائيّ""المجتبى" 6/ 221.

(2)

"مصنف ابن أبي شيبة" 6/ 520.

(3)

"شرح معاني الآثار" 3/ 273.

(4)

"صحيح البخاريّ" 3/ 1332.

ص: 328

(7271)

- حدّثنا عيسى بن أحمد، قال: ثنا ابن وهب، عن أسامة بن زيد، عن نافع، عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الخيل في نواصيها الخير إلى يوم القيامة". انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4839]

(1872) - (وَحَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ الْجَهْضَمِيُّ، وَصَالِحُ بْنُ حَاتِمِ بْنِ وَرْدَانَ، جَمِيعًا عَنْ يَزِيدَ - قَالَ الْجَهْضَمِيُّ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ - حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ عُبَيْدٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ جَرِيرٍ، عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَلْوي نَاصِيَةَ فَرَسٍ بِإِصْبَعِهِ

(2)

، وَهُوَ يَقُولُ:"الْخَيْلُ مَعْقُودٌ بِنَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ: الأَجْرُ، وَالْغَنِيمَةُ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ الْجَهْضَمِيُّ) البصريّ، أحد التسعة الذين روى عنهم الجماعة بلا واسطة، تقدّم قريبًا.

2 -

(صَالِحُ بْنُ حَاتِمِ بْنِ وَرْدَانَ) أبو محمد البصريّ، صدوقٌ [10](ت 236)(م) من أفراد المصنّف، تقدّم في "الصلاة" 29/ 979.

3 -

(يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ) العيشيّ، أبو معاوية البصريّ، تقدّم قريبًا.

4 -

(يُونُسُ بْنُ عُبَيْدِ) بن دينار البصريّ العابد الورع، تقدّم أيضًا قريبًا.

5 -

(عَمْرُو بْنُ سَعِيدٍ) القرشيّ، أو الثقفيّ مولاهم، أبو سعيد البصريّ، ثقةٌ [5](بخ م 4) تقدم في "الجمعة" 15/ 2008.

6 -

(أَبُو زُرْعَةَ بْنُ عَمْرِو بْنِ جَرِيرٍ) البجليّ الكوفيّ، قيل: اسمه هَرِم، وقيل: عمرو، وقيل غير ذلك، ثقةٌ [3](ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 106.

7 -

(جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) بن جابر البجليّ الصحابيّ المشهور، مات رضي الله عنه سنة (51)، وقيل بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 25/ 207.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وهو مسلسلٌ بالبصريين، إلى أبي

(1)

"مسند أبي عوانة" 4/ 445.

(2)

وفي نسخة: "بإصبعيه".

ص: 329

زرعة، وهو والصحابي رضي الله عنه كوفيّان، وفيه ثلاثة من التابعين روى بعضهم عن بعض، ورواية الأولين من رواية الأقران؛ لأنهما من الطبقة الخامسة.

شرح الحديث:

(عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ) البجليّ رضي الله عنه أنه (قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَلْوي)؛ أي: يفتل، ويَعطف، ويميل من جانب إلى جانب، (نَاصِيَةَ فَرَسٍ) الناصية: هي الشعر المنسدل على الجبهة، وقوله:(بِإِصْبَعِهِ) وفي بعض النسخَ: "بإصبعيه"، وقد تقدّم أن في الإصبع عشر لغات، تثليث الهمزة، مع تثليث الباء، والعاشر، أُصبوع، بضمّ الهمزة، بوزن أُسبوع، وأفصحها كسر الهمزة، مع فتح الباء.

وفيه استحباب خدمة الرجل فرسه المعدّة للجهاد، قاله النوويّ

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: وَلَيُّ النبيّ صلى الله عليه وسلم ناصية فرسه بيده؛ ليحسّها، ويتعاهدها، ويُكرمها بذلك، كما قال:"ارتبطوا الخيل، وامسحوا نواصيها، وأكفالها، وجلودها"

(2)

. انتهى

(3)

.

وقوله: (وَهُوَ يَقُولُ) جملة في محلّ نصب على الحال، ("الْخَيْلُ مَعْقُودٌ بِنَوَاصِيهَا)؛ أي: ملازم لها أشدّ الملازمة حتى كأنه مربوط بها، وفي حديث عروة رضي الله عنه الآتي:"معقوص" بالصاد المهملة، وهما بمعنى واحد؛ أي: مَلْويّ، ومضفور فيها (الْخَيْرُ) وقوله:(إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) متعلّق بـ "معقود"، وهو كناية عن كون الخير لا ينفكّ عنها في زمن من الأزمان، ويُفهم منه دوام حكم الجهاد إلى يوم المعاد

(4)

.

وقوله: (الأَجْرُ، وَالْغَنِيمَةُ") تفسير للخير المذكور، وهو مرفوع على البدليّة، أو عطف البيان لـ "الخير"، أو على أنه خبر مبتدأ محذوف؛ أي: هو الأجر والغنيمة، قال القرطبيّ رحمه الله: وهذا المعنى هو الذي عُبّر عنه بالبركة في حديث أنس رضي الله عنه الآتي

(5)

.

(1)

"شرح النوويّ" 13/ 17.

(2)

حديث حسن، أخرجه أبو داود في "سننه"(3/ 24).

(3)

"المفهم" 3/ 703.

(4)

"المفهم" 3/ 703.

(5)

"المفهم" 3/ 703.

ص: 330

وقال بعضهم: الغنيمة، والمغنم في الرواية الآتية بمعنى واحد، وكذا الْغُنْم بالضمّ، مثلُ القُفْل، والأصل في هذه المادّة: إصابة الشيء بلا بدل، ولا مشقّة، وذكر في "النهاية" أن الغنيمة، والمغنم، والْغُنْم هو ما أصيب من أموال أهل الحرب، وأوجف عليه المسلمون بالخيل والركاب. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث جرير بن عبد الله رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [26/ 4839 و 4840](1872)، و (النسائيّ) في "الخيل"(6/ 221) و"الكبرى"(3/ 38)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 361)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4669)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(3/ 274) و"مشكل الآثار"(223 - 224)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(2409 و 2410 و 2411 و 2412 و 2413)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 444)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(6/ 329)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(2646)، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4840]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ (ح) وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ، كِلَاهُمَا عَنْ يُونُسَ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ مِثْلَهُ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) تقدّم قبل باب.

2 -

(إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) هو ابن عُليّة، تقدّم أيضًا قبل باب.

3 -

(وَكِيعُ) بن الْجَرّاح، تقدّم قريبًا.

4 -

(سُفْيَانُ) بن سعيد الثوريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

والباقيان ذُكرا قبله، و"يونس" هو: ابن عبيد.

ص: 331

[تنبيه]: رواية ابن عليّة عن يونس بن عبيد، ساقها ابن حبّان رحمه الله في "صحيحه"، فقال:

(4669)

- أخبرنا أحمد بن عليّ بن المثنى، حدّثنا أبو خيثمة، حدّثنا إسماعيل بن إبراهيم، عن يونس بن عبيد، عن عمرو بن سعيد، عن أبي زرعة بن عمرو، عن جرير، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة: الأجر، والغنيمة". انتهى

(1)

.

وأما رواية سفيان الثوريّ، عن يونس، فساقها الطحاويّ رحمه الله في "شرح معاني الآثار"، فقال:

حدّثنا أبو بشر الرَّقّيّ، قال: ثنا الفريابيّ، عن سفيان، عن يونس بن عبيد

(2)

، عن عَمْرو

(3)

بن سعيد، عن أبي زُرعة، عن جرير بن عبد الله، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة: الأجر، والغنيمة". انتهى

(4)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4841]

(1873) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ، عَنْ عَامِرٍ، عَنْ عُرْوَةَ الْبَارِقِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "الْخَيْلُ مَعْقُودٌ فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ

(5)

: الأَجْرُ، وَالْمَغْنَمُ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(زَكَرِيَّاءُ) بن أبي زائدة خالد، ويقال: هُبيرة بن ميمون بن فيروز الْهَمْدانيّ الوادعيّ، أبو يحيى الكوفيّ، ثقةٌ، يدلّس [6](ت 7 أو 8 أو 149)(ع) تقدم في "الإيمان" 83/ 449.

2 -

(عَامِرُ) بن شَرَاحيل الشعبيّ، أبو عمرو الْهَمْدانيّ الكوفيّ، ثقةٌ فقيهٌ مشهورٌ

(1)

"صحيح ابن حبان" 10/ 525.

(2)

كان وقع في النسخة: "يونس بن عبيد الله"، وهو غلط بلا شكّ، فتنبّه.

(3)

كان وقع في النسخة أيضًا: "عُمَر" بضمّ العين، وهو غلط بلا شكّ أيضًا.

(4)

"شرح معاني الآثار" 3/ 274.

(5)

وفي نسخة: "إلى يوم القيامة، وحدّثنا أبو بكر".

ص: 332

فاضلٌ [3] مات بعد المائة، وله نحو (80) سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.

3 -

(عُرْوَةً الْبَارِقِيُّ) هو: عروة بن الجعد، ويقال: ابن أبي الجعد، ويقال: عروة بن عياض بن أبي الجعد الأزديّ البارقيّ صحابيّ سكن الكوفة، وبارق - بالموحّدة، والقاف - جَبَل نزله سعد بن عديّ بن مازن.

رَوَى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعن عمر، وسعد بن أبي وقاص، وعنه شَبيب بن غَرْقدة، والشعبيّ، والعيزار بن حُريث، وأبو لَبِيد لِمَازة بن زبار الجهضميّ، وقيس بن أبي حازم، وأبو إسحاق السبيعيّ، وسماك بن حرب، ونعيم بن أبي هند، وآخرون.

قال ابن الْبَرْقيّ: جاء عنه ثلاثة أحاديث، وقال غيره: استعمله عمر رضي الله عنه على قضاء الكوفة

(1)

، وضم إليه سليمانَ بنَ ربيعة قبل شُرَيح، وقال الشعبيّ: أول من قضى على الكوفة عروة بن الجعد البارقيّ.

قال ابن المدينيّ: من قال فيه: عروة بن الجعد فقد أخطأ، وإنما هو ابن أبي الجعد، وأما ابن حبان، فقال: عروة بن الجعد بن أبي الجعد، وقال ابن قانع: اسم أبي الجعد سعد. انتهى.

وقال الرشاطيّ: هو عروة بن عياض بن أبي الجعد، نُسب في الرواية إلى جدّه، قال: وكان ممن شَهِد فتح الشام ونزلها، ثم نقله عثمان إلى الكوفة، وكان يرتبط الخيل الكثيرة، حتى قال الراوي: رأيت في داره سبعين فرسًا

(2)

.

وذكر في "الإصابة": "أن عروة هذا هو الذي أرسله النبيّ صلى الله عليه وسلم ليشتري الشاة بدينار، فاشترى شاتين. . ." والحديث مشهور في البخاريّ وغيره

(3)

.

أخرج له الجماعة، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث، وأعاده بعده.

(1)

قال الحافظ بعد نقل ما تقدّم ما نصّه: الذي قيل: إن عمر استعمل عروة بن عياض بن أبي الجعد، فلعله غير هذا. انتهى. "تهذيب التهذيب" 3/ 91.

(2)

هذا هو الذي في "صحيح البخاريّ"، والذي في "الإصابة" (6/ 414): عن شبيب بن غَرْقدة قال: رأيت في دار عروة بن الجعد ستين فرسًا. وما في "الصحيح" أصحّ.

(3)

راجع: "الإصابة" 6/ 414.

ص: 333

والباقيان ذُكرا في الباب.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من سُداسيّات المصنّف، وأنه مسلسل بالكوفيين من أوله إلى آخره، وأن صحابيّه من المقلّين من الرواية، فليس له في الكتب الستّة إلا حديثان: حديث الباب عندهم إلا أبا داود، وحديث:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أعطاه دينارًا يشتري به شاةً. . ." الحديث

(1)

عند البخاريّ، وأبي داود، والترمذي، وابن ماجه، هذا كلّ ما له عندهم، وقد تقدّم عن ابن الْبَرْقيّ أن له ثلاثة أحاديث، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ عَامِرٍ) الشعبيّ (عَنْ عُرْوَةَ) بن الجعد، أو ابن أبي الجعد رضي الله عنه (الْبَارِقِيِّ) - بالباء الموحَّدة، وكسر الراء، بعدها قاف - نسبة إلى بارق جبل باليمن، وقيل: ماء بالسَّراة، نزله بنو عديّ بن حارثة بن عَمْرو قبيلة من الأزد، ولُقِّب به منهم سعد بن عديّ، وكان يقال له: بارق، وزعم الرشاطيّ أنه منسوب إلى ذي بارق، قبيلة من ذي رُعَين، قاله في "الفتح"

(2)

.

(قَالَ) عروة رضي الله عنه (قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "الْخَيْلُ مَعْقُودٌ فِي نَوَاصِيهَا)؛ أي: ملازم لها، كأنه معقود فيها، والمراد أنها أسباب لحصول الخير لصاحبها، فاعتُبر ذاك كأنه عَقْدٌ للخير فيها، ثم لَمّا كان الوجه هو الأشرف، ولا يُتصوّر

(1)

قال الإمام البخاريّ رحمه الله في "صحيحه" 3/ 1332:

(3443)

- حدّثنا عليّ بن عبد الله، أخبرنا سفيان، حدثنا شبيب بن غَرْقدة، قال: سمعت الحيّ يحدّثون عن عروة، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أعطاه دينارًا يشتري له به شاةً، فاشترى له به شاتين، فباع إحداهما بدينار، وجاءه بدينار وشاة، فدعا له بالبركة في بيعه، وكان لو اشترى التراب لربح فيه، قال سفيان: كان الحسن بن عُمارة جاءنا بهذا الحديث عنه، قال: سمعه شبيب من عروة، فأتيته، فقال شبيب: إني لم أسمعه من عروة، قال: سمعت الحيّ يخبرونه عنه، ولكن سمعته يقول: سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: "الخير معقود بنواصي الخيل إلى يوم القيامة"، قال: وقد رأيت في داره سبعين فرسًا، قال سفيان: يشتري له شاةً كأنها أضحية. انتهى.

(2)

"الفتح" 7/ 120، كتاب "الجهاد" رقم (2850).

ص: 334

العقد في الوجه إلا في الناصية اعتَبَر ذلك عقدًا له في الناصية. (الْخَيْرُ) فسّره بعده بالأجر والغنيمة، وقوله:(إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) متعلّق بـ "معقود"، وقوله:(الأَجْرُ، وَالْمَغْنَمُ") سقط هذا من بعض النسخ، والصواب ذِكره، والله تعالى أعلم.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عروة البارقيّ رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [26/ 4841 و 4842 و 4843 و 4844 و 4845](1873)، و (البخاريّ) في "الجهاد"(3850 و 4852) و"فرض الخمس"(3119) و"المناقب"(3643)، و (الترمذيّ) في "الجهاد"(1694)، و (النسائيّ) في "الخيل"(3601 و 3602 و 3603 و 3604) و"الكبرى"(4416 و 4417 و 4418 و 4419)، و (ابن ماجه) في "التجارات"(2305) و"الجهاد"(2786)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1/ 142)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(6/ 520)، و (أحمد) في "مسنده"(18856 و 18869)، و (الدارميّ) في "سننه"(2426 و 2427)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 443)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(3/ 264)، و (ابن أبي عاصم) في "الآحاد والمثاني"(4/ 361)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(17/ 154) و"الأوسط"(2/ 259)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(9/ 156)، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4842]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ، وَابْنُ إِدْرِيسَ، عَنْ حُصَيْنٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ الْبَارِقِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "الْخَيْرُ مَعْقُوصٌ بِنَوَاصِي الْخَيْلِ"، قَالَ: فَقِيلَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللهِ، بِمَ ذَاكَ؟ قَالَ: "الأجْرُ، وَالْمَغْنَمُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(ابْنُ فُضَيْلٍ) هو: محمد بن فُضيل بن غزوان الضبيّ مولاهم، أبو عبد الرحمن الكوفيّ، ثقةٌ [9](ت 195)(ع) تقدم في "الإيمان" 63/ 358.

ص: 335

2 -

(ابْنُ إِدْرِيسَ) هو: عبد الله بن إدريس الأوديّ الكوفيّ، تقدّم قبل بابين.

3 -

(حُصَيْنُ) بن عبد الرحمن، أبو الْهُذيل الكوفيّ، تقدّم قريبًا.

والباقون ذُكروا في الإسنادين الماضيين.

وقوله: (الْخَيْرُ مَعْقُوصٌ بِنَوَاصِي الْخَيْلِ) قال ابن الأثير رحمه الله: الشعر المعقوص هو نحوٌ من المضفور، وأصل العَقْص: اللَّيُّ، وإدخال أطراف الشعر في أصوله. انتهى

(1)

.

وقال الفيّوميّ رحمه الله: العَقِيصَةُ للمرأة: الشَّعر الذي يُلْوَى، ويُدْخَل أطرافه في أصوله، والجمع عَقَائِصُ، وعِقَاصٌ، والعِقْصَةُ مثلها، والجمع عِقَصٌ، مثل سِدْرة وسِدَرٍ، وعَقَصَتِ المرأة شعرها عَقْصًا، من باب ضَرَبَ: فَعَلَتْ به ذلك، وعَقَصَتْهُ: ضَفَرْته، والعَقْصَاءُ، وزان الحمراء: الشاة يَلتوي قرناها، والذّكر أَعْقَصُ، والعِقَاصُ: خيطٌ يُجمَع به أطراف الذّوائب، والجمع عُقُصٌ، مثل كِتَاب وكُتُب. انتهى

(2)

.

وقوله: (بِمَ ذَاكَ؟) هي "ما" الاستفهاميّة لَمّا دخل عليها الجارّ سقطت أَلِفها، ولا يلزم ذلك إلا إذا جُرّت بالإضافة، كما قال في "الخلاصة":

وَ"ما" فِي الاسْتِفْهَامِ إِنْ جُرَّتْ حُذِفْ

أَلِفُهَا وَأَوْلِهَا الْهَا إِنْ تَقِفْ

وَلَيْسَ حَتْمًا فِي سِوَى مَا انْخَفَضَا

بِاسْمٍ كَقَوْلِكَ "اقْتِضَاءَ مَا اقْتَضَى؟ "

والحديث متّفق عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسألتيه في الحديث الماضي، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4843]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَاهُ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا جَرِيرٌ، عَنْ حُصَيْنٍ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: عُرْوَةُ بْنُ الْجَعْدِ).

رجال هذا الإسناد: ثلاثة:

1 -

(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه، تقدّم قريبًا.

(1)

"النهاية" 3/ 375.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 422.

ص: 336

2 -

(جَرِيرُ) بن عبد الحميد، تقدّم أيضًا قريبًا.

و"حُصين" بن عبد الرحمن ذُكر قبله.

وقوله: (غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ) الضمير لجرير.

[تنبيه]: رواية جرير، عن حصين بن عبد الرحمن لم أجد من ساقها بمفردها، وإنما ساقها البخاريّ في "صحيحه" من رواية شعبة عن حُصين، وابن أبي السفر، كلاهما عن الشعبيّ، فقال:

(2695)

- حدّثنا حفص بن عمر، حدّثنا شعبة، عن حُصين، وابنِ أبي السفر، عن الشعبيّ، عن عروة بن الجعد، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة". انتهى

(1)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4844]

(. . .) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَخَلَفُ بْنُ هِشَامٍ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، جَمِيعًا عَنْ أَبِي الأَحْوَصِ (ح) وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَابْنُ أَبِي عُمَرَ، كِلَاهُمَا عَنْ سُفْيَانَ، جَمِيعًا عَنْ شَبِيبِ بْنِ غَرْقَدَةَ، عَنْ عُرْوَةَ الْبَارِقِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَلَمْ يَذْكُرِ الأَجْرَ وَالْمَغْنَم. وَفِي حَدِيثِ سُفْيَانَ: سَمِعَ عُرْوَةَ الْبَارِقيَّ، سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم).

رجال هذا الإسناد: تسعة:

1 -

(أَبُو الأَحْوَصِ) سلّام بن سُليم الحنفيّ مولاهم الكوفيّ، ثقةٌ متقنٌ، صاحب حديث [7](ت 179)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 11.

2 -

(شَبِيبُ بْنُ غَرْقَدَةَ) - بغين معجمة، ثم راء، ثم قاف - الكوفيّ، ثقة [4](ع) تقدم في "الطهارة" 32/ 679، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، حديث الباب، وحديث تقدّم في "كتاب الطهارة" برقم (290) برقم محمد فؤاد رحمه الله.

والباقون ذُكروا في الباب، وفي الباب الماضي، و"خَلَفُ بْنُ هِشَامٍ" هو: المقرئ البغداديّ، و"إسحاق بن إبراهيم" هو: ابن راهويه، و"ابْنُ أَبِي عُمَرَ" هو: محمد بن يحيى بن أبي عمر العَدَنيّ المكيّ، و"سفيان" هو ابن عيينة.

(1)

"صحيح البخاريّ" 3/ 1047.

ص: 337

وقوله: (كِلَاهُمَا عَنْ سُفْيَانَ)؛ يعني: أن إسحاق، وابن أبي عمر روياه عن سفيان بن عيينة.

وقوله: (جَمِيعًا عَنْ شَبِيبِ بْنِ غَرْقَدَةَ)؛ يعني: أن أبا الأحوص، وسفيان بن عيينة رويا جميعًا هذا الحديث عن شبيب بن غرقدة. . . إلخ.

وقوله: (وَلَمْ يَذْكُرِ الأَجْرَ وَالْمَغْنَم) فاعل "يذكُر" ضمير شبيب.

[تنبيه]: رواية أبي الأحوص، عن شبيب بن غرقدة ساقها سعيد بن منصور في "سننه"، فقال:

(2426)

- حدّثنا سعيد، قال: نا أبو الأحوص، قال: نا شَبيب بن غَرْقدة، عن عروة البارقيّ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الخير معقوص في نواصي الخيل إلى يوم القيامة". انتهى

(1)

.

ورواية سفيان بن عُيينة، عن شَبيب ساقها الحميديّ رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(841)

- حدّثنا الحميديّ، قال: ثنا سفيان، قال: ثنا شبيب بن غرقدة، قال: سمعت عروة بن أبي الجعد البارقيّ، يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة". انتهى

(2)

.

وأخرجها أيضًا الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(19374)

- حدّثنا عبد الله، حدّثني أبي، ثنا سفيان، أخبرنا البارقيّ شبيب، أنه سمع عروة البارقيّ يقول: سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: "الخيل معقود في نواصيها الخير"، ورأيت في داره سبعين فرسًا. انتهى

(3)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4845]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ، حَدَّثَنَا أَبِي (ح) وَحَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، كِلَاهُمَا عَنْ شعْبَةَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْعَيْزَارِ بْنِ حُرَيْثٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الْجَعْدِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِهَذَا، وَلَمْ يَذْكُرِ:"الأجْرَ، وَالْمَغْنَمَ").

(1)

"سنن سعيد بن منصور" 2/ 198.

(2)

"مسند الحميديّ" 2/ 372.

(3)

"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 4/ 375.

ص: 338

رجال هذا الإسناد: تسعة:

1 -

(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ) العنبريّ البصريّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(أَبُوهُ) معاذ بن معاذ العنبريّ البصريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

3 -

(ابْنُ الْمُثَنَّى) هو: محمد، تقدّم في الباب الماضي.

4 -

(ابْنُ بَشَّارٍ) هو: محمد المعروف ببُندار، تقدّم قريبًا.

5 -

(مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ) المعروف بغُندر، تقدّم أيضًا قريبًا.

6 -

(شُعْبَةُ) بن الحجاج الإمام الشهير، تقدّم أيضًا قريبًا.

7 -

(أَبُو إِسْحَاقَ) عمرو بن عبد الله بن عُبيد السَّبِيعيّ الْهَمْدانيّ الكوفيّ، ثقةٌ مكثرٌ عابد يُدلّس، واختلط بآخره [3](ت 129)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 11.

8 -

(الْعَيْزَارُ

(1)

بْنُ حُرَيْثٍ) العبديّ الكوفيّ، ثقة [3].

رَوَى عن عروة بن الجعد البارقيّ، وابن عمر، والنعمان بن بشير، وابن عباس، وعمر بن سعد بن أبي وقاص، وأم الحصين الأحمسية.

ورَوَى عنه ابنه الوليد، وأبو إسحاق السَّبِيعيّ، ويونس بن أبي إسحاق، وجرير بن أيوب، وبدر بن عثمان، وغيرهم.

قال ابن معين، والنسائيّ: ثقةٌ، ووثقه العجليّ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: مات في ولاية خالد على العراق.

أخرج له المصنّف، وأبو داود، والترمذيّ، والنسائيّ، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.

و"عروة" ذكر قبله.

وقوله: (كِلَاهُمَا عَنْ شُعْبَةَ)؛ يعني: أن معاذ بن معاذ، ومحمد بن جعفر رويا هذا الحديث عن شعبة بسنده المذكور.

[تنبيه]: رواية شعبة عن أبي إسحاق، ساقها أبو عوانة رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(7258)

- حدّثنا يونس بن حبيب، قال: نا أبو داود، قال: ثنا شعبة،

(1)

بفتح العين المهملة، وسكون التحتانيّة، بعدها زاي، وآخره راء.

ص: 339

عن أبي إسحاق، قال: سمعت العيزار بن حريث، يحدّث عن عروة البارقيّ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"الخيل معقود في نواصيها الخيل". انتهى

(1)

.

وأخرجه الطيالسيّ في "مسنده" بذكر الأجر والمغنم، فقال:

(1057)

- حدّثنا أبو داود، قال: حدّثنا شعبة، عن أبي إسحاق، قال: سمعت العيزار بن حريث، يحدّث عن عروة بن الجعد البارقيّ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة"، قيل: يا رسول الله، ما الخير؟ قال:"الأجر، والمغنم". انتهى

(2)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4846]

(1874) - (وَحَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ، حَدَّثَنَا أَبِي (ح) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، كِلَاهُمَا عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ أَبِي التَّيَّاحِ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "الْبَرَكَةُ فِي نَوَاصِي الْخَيْلِ").

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ) القطّان، تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(أَبُو التَّيَّاحِ) يزيد بن حُميد الضُّبَعيّ البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [5](ت 128)(ع) تقدم في "الطهارة" 27/ 659.

3 -

(أَنَسُ بْنُ مَالِكِ) بن النضر بن ضَمْضَم الأنصاريّ الْخَزرجيّ الصحابيّ الخادم الشهير، مات رضي الله عنه سنة (2 أو 93) وقد جاوز المائة (ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.

والباقون ذُكروا قبله.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وهو مسلسلٌ بالبصريين من أوله إلى آخره، وفيه أنس رضي الله عنه من المكثرين السبعة، روى (2286) حديثًا، وهو آخر من مات من الصحابة رضي الله عنهم بالبصرة، وهو من المعمّرين أيضًا، جاوز المائة، كما مرّ آنفًا.

(1)

"مسند أبي عوانة" 4/ 443.

(2)

"مسند الطيالسيّ" 1/ 142.

ص: 340

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي التَّيَّاحِ) بمثنّاة تحتانيّة ثقيلة، وآخره حاء مهملة، (عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "الْبَرَكَةُ فِي نَوَاصِي الْخَيْلِ") قال في "الفتح": كذا وقع، ولا بدّ فيه من شيء محذوف، يتعلق به المجرور، وأَولى ما يُقَدَّر ما ثبت في رواية أخرى، فقد أخرجه الإسماعيليّ من طريق عاصم بن عليّ، عن شعبة، بلفظ:"البركة تَنزل في نواصي الخيل"، وأخرجه من طريق ابن مهديّ، عن شعبة، بلفظ:"الخير معقود في نواصي الخيل" ووقع عند البخاريّ في "علامات النبوة" من طريق خالد بن الحارث، عن شعبة، بلفظ حديث عروة البارقيّ، إلا أنه ليس فيه إلى يوم القيامة.

قال القاضي عياض

(1)

: إذا كان في نواصيها البركة، فيبعد أن يكون فيها شؤم، فيَحْتَمِل أن يكون الشؤم المذكور في الحديث الآخر في غير الخيل التي ارتُبِطت للجهاد، وأن الخيل التي أُعِدّت له هي المخصوصة بالخير والبركة، أو يقال: الخير والشرّ يمكن اجتماعهما في ذات واحدة، فإنه فُسِّر الخير بالأجر والمغنم، ولا يمنع ذلك أن يكون ذلك الفرس مما يتشاءم به. انتهى

(2)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أنس بن مالك رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [26/ 4846 و 4847](1874)، و (البخاري) في "الجهاد"(2696)، و (النسائيّ) في "الخيل"(6/ 221) و"الكبرى"(3/ 38)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(6/ 520)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 114 و 127 و 171)، و (سعيد بن منصور) في "سننه"(2427)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4670)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(7/ 188 و 192)،

(1)

"إكمال المعلم" 6/ 288 - 289.

(2)

راجع: "الفتح" 7/ 120 - 121، كتاب "الجهاد" رقم (2851).

ص: 341

و (ابن الجعد) في "مسنده"(1/ 212)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 444 - 445)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(6/ 329)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(2643)، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4847]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حَبِيبٍ، حَدَّثَنَا خَالِدٌ - يَعْنِي: ابْنَ الْحَارِثِ - (ح) وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْوَلِيدِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي التَّيَّاحِ، سَمِعَ أَنَسًا يُحَدِّثُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِهِ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ حَبِيبِ) بن عربي البصريّ، ثقةٌ [10](ت 248) أو بعدها (م 4) تقدّم في "الإيمان" 14/ 165.

2 -

(خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ) الهُجيميّ، أبو عثمان البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [8](186)(ع) تقدّم في "الإيمان" 35/ 243.

3 -

(مُحَمَّدُ بْنُ الْوَليدِ) بن عبد الحميد القرشيّ البصريّ الملقّب حمدان، ثقةٌ [10](ت 250) أو بعدها (خ م س ق) تقدّم في "الإيمان" 40/ 268.

والباقون ذُكروا في الباب، و"محمد بن جعفر" هو المعروف بغندر.

[تنبيه]: رواية محمد بن جعفر غُندر عن شعبة، ساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(12774)

- حدّثنا عبد الله، حدّثني أبى، ثنا محمد بن جعفر، حدّثنا شعبة، قال: سمعت أبا التيّاح يزيد بن حميد، يُحَدِّث أنه سمع أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "البركة في نواصي الخيل". انتهى

(1)

.

وأما رواية خالد بن الحارث الْهُجَيميّ، عن شعبة فلم أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(1)

"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 3/ 171.

ص: 342

(27) - (بَابُ مَا يُكْرَهُ مِنْ صِفَاتِ الْخَيْلِ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4848]

(1875) - (وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ يَحْيَى: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ الآخَرُونَ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ سَلْمِ بْنِ عَبْدَ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَكْرَهُ الشِّكَالَ مِنَ الْخَيْلِ).

رجال هذا الإسناد: تسعة:

1 -

(أَبُو كُرَيْبٍ) محمد بن العلاء أحد شيوخ الجماعة بلا واسطة، تقدّم قريبًا.

2 -

(سَلْمُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) النخعيّ الكوفيّ، أخو حُصين، قيل: يُكنى أبا عبد الرحيم، صدوق [5].

رَوَى عن إبراهيم النخعيّ، وزاذان أبي عُمر، وورّاد مولى المغيرة بن شعبة، وأبي زرعة بن عمرو بن جرير.

وروى عنه الثوريّ، وشريك، وعيسى بن المسيَّب البجليّ.

قال عبد الله بن أحمد، عن ابن معين: ثقةٌ، وقال أبو حاتم: صالحٌ، وقال النسائيّ: ليس به بأسٌ، وقال حماد بن زيد، عن ابن عون: قال لنا إبراهيم: إياكم وأبا عبد الرحيم، والمغيرة بن سعيد، فإنهما كذّابان، قال أبو حاتم: قال مسدّد: زعم عليّ أن أبا عبد الرحيم: سَلْم بن عبد الرحمن النخعيّ.

قال الحافظ: ما زِلْتُ أستبعد قول عليّ هذا؛ لأن سَلْمًا يصغر عن أن يقول فيه إبراهيم هذا القول، ويقرنه بالمغيرة بن سعيد إلى أن وجدت أبا بشر الدُّولابيّ جزم في "الكنى" بأن مراد إبراهيم النخعيّ بأبي عبد الرحيم: شقيقٌ الضبيّ، وهو من كبار الخوارج، وكان يقصّ على الناس، وقد ذمّه أيضًا أبو عبد الرحمن السُّلَميّ، وغيره من الكبار، ونقل ابن شاهين في "الثقات" عن أحمد بن حنبل أنه قال: سَلْم بن عبد الرحمن النخعيّ ثقةٌ، وقال العجليّ، والدارقطنيّ: ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات".

ص: 343

أخرج له المصنّف، والأربعة، وليس له عندهم إلا هذا الحديث.

3 -

(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه تقدم في "المقدمة" 2/ 4.

والباقون تقدّموا في البابين الماضيين، و"أبو زرعة" هو: ابن عمرو بن جرير البجليّ.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وهو مسلسل بالكوفيين، غير الصحابيّ، فمدنيّ، ويحيى بن يحيى، فنيسابوريّ، وزهير، فبغداديّ، وفيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه أحفظ من روى الحديث في دهره.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَكْرَهُ) بفتح أوله، وثالثه، يقال: كَرِهْتُ الأمرَ أكْرَهُه، من باب تَعِبَ كُرْهًا، بضمّ الكاف، وفتحها: ضِدُّ أحببته، فهو مكروه، وكَرُهَ الأمرُ والمنظر كَرَاهَةً، فهو كَرِيهٌ، مثلُ قَبُح قَبَاحةً، فهو قَبِيحٌ وزنًا ومعنًى، وكَرَاهِيَةً بالتخفيف أيضًا، والكَرْهُ بالفتح: المشقة، وبالضم: القهرُ، وقيل: بالفتح: الإكراه، وبالضم المشقة، وأَكْرَهْتُهُ على الأمر إكْرَاهًا: حملته عليه قهرًا، يقال: فعلته كَرْهًا، بالفتح؛ أي: إكْرَاهًا، وعليه قوله تعالى:{طَوْعًا أَوْ كَرْهًا} [التوبة: 53]، فقابَل بين الضدّين، قال الزجاج: كلّ ما في القرآن من الكُرْهِ بالضم، فالفتح فيه جائز، إلا قوله في سورة البقرة:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} [البقرة: 216]، والكَرِيهَةُ: الشدة في الحرب، أفاده الفيّوميّ

(1)

.

(الشِّكَالَ) منصوب على المفعوليّة لِمَا قبله، وقوله:(مِنَ الْخَيْلِ) بيان لـ "الشكال"، و"الشِّكال" بكسر الشين المعجمة فسّره في الرواية التالية بأن يكون في رجله اليمنى بياض، وفي يده اليسرى، أو يده اليمنى، ورجله اليسرى، قال النوويّ رحمه الله: وهذا التفسير أحد الأقوال في الشِّكال، وقال أبو عبيد، وجمهور أهل اللغة، والغريب: هو أن يكون منه ثلاث قوائم مُحَجَّلةً، وواحدة مطلَقَة؛

(1)

"المصباح المنير" 2/ 531 - 532.

ص: 344

تشبيهًا بالشِّكال الذي تُشْكَل به الخيل، فإنه يكون في ثلاث قوائم غالبًا، قال أبو عبيد: وقد يكون الشِّكال ثلاث قوائم مطلقةً، وواحدة مُحَجَّلة، قال: ولا تكون المطلقة من الأرجل، أو المحجلة إلا الرِّجل، وقال ابن دريد: الشِّكال أن يكون محجَّلًا من شقّ واحد في يده ورجله، فإن كان مخالفًا قيل: شِكالٌ مخالف.

وقال ابن الأثير رحمه الله: الشِّكال في الخَيل هو أن تكون ثلاث قَوَائم منه مُحجَّلةً، وواحدة مُطْلَقة؛ تشبيهًا بالشِّكال الذي تُشْكل به الخَيل؛ لأنه يكون في ثلاث قوائم غالبًا، وقيل: هو أن تكون الواحدة مُحجَّلة، والثلاث مُطْلقة، وقيل: هو أن تكون إِحْدَى يَدَيه، وإحْدَى رِجْليه من خلافٍ مُحجَّلَتين، وإنما كَرِهه؛ لأنه كالمشكول صُورة تَفاؤلًا، ويمكن أن يكون جَرَّب ذلك الجنْس، فلم يكن فيه نَجَابةٌ، وقيل: إذا كانَ مع ذلك أغَرَّ زالَت الكراهة؛ لِزَوال شِبْه الشِّكال، والله أعلم. انتهى

(1)

.

وقال الشيخ وليّ الدين العراقيّ رحمه الله: اختُلِف في تفسير الشكال المنهيّ عنه على عشرة أقوال، فذكر الثلاثة المتقدّمة.

[والرابع]: أن يكون التحجيل في يد ورجل من شقّ واحد، فإن كان مخالفًا قيل: شِكال مخالف.

[والخامس]: أن الشِّكال بياض الرجل اليمنى.

[والسادس]: أنه بياض اليسرى.

[والسابع]: أنه بياض الرجلين.

[والثامن]: أنه بياض اليدين.

[والتاسع]: بياض اليدين، ورجل واحدة.

[والعاشر]: بياض الرجلين، ويد واحدة، حَكَى هذه الأقوال السبعة المنذريّ في "حواشيه"، والثلاثة الأُوَل مشهورة، والثالث منها هو الذي فَسَّر به الشِّكال في حديث أبي داود، فالأخذ به أَولى؛ لأنه إما من كلام النبيّ صلى الله عليه وسلم، أو

(1)

"النهاية في غريب الأثر" 2/ 1204.

ص: 345

من كلام الراوي، وهو أعرف بتفسير الحديث. انتهى

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله بعد ذكر الأقوال ما نصّه: وليس فيها ما يوافق ذلك التفسير إلا ما حكاه ابن دُريد من الشِّكال المخالف، فإن صحّ أن ذلك من قول النبيّ صلى الله عليه وسلم فهو حقّ - والله تعالى أعلم - وإن كان ذلك من قول بعض الرواة، فالمعروف عند اللغويين ما قدّمته من قول أبي عُبيد.

قال الجامع عفا الله عنه: الذي قاله أبو عبيد هو الذي ذكره النسائيّ في كتابه، حيث قال: قال أبو عبد الرحمن: الشِّكال من الخيل: أن تكون ثلاث قوائم محجّلةً، وواحدةٌ مطلقةً، أو تكون الثلاث مطلقةً، ورِجْلٌ محجّلة، وليس يكون الشِّكال إلا في رجل، ولا يكون في يدٍ. انتهى.

قال القرطبيّ: ويَحْتَمل كَرِه اسم الشكال من جهة اللفظ؛ لأنه يُشعر بنقيض ما تراد به الخيل له، وهذا كما قال:"لا أُحبّ العقوق".

ويَحْتَمِل أن يكرهه لِمَا يقال: إن حوافر المشكل، وأعضاءه ليس فيها من القوّة ما فيما ليس كذلك. انتهى

(2)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [27/ 4848 و 4849 و 4850](1875)، و (أبو داود) في "الجهاد"(2547)، و (الترمذيّ) في "الجهاد"(1698)، و (النسائيّ) في "الخيل"(6/ 219) و"الكبرى"(3/ 37)، و (ابن ماجه) في "الجهاد"(2790)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1/ 328)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(6/ 422)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 250 و 436 و 461 و 476 و 457)، و (ابن راهويه) في "مسنده"(1/ 223)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4677)،

(1)

"شرح السيوطيّ لسنن النسائيّ" 6/ 220 - 221.

(2)

"المفهم" 3/ 704.

ص: 346

و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 449 و 450)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(6/ 330)، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4849]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي (ح) وَحَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ بِشْرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، جَمِيعًا عَنْ سُفْيَانَ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ مِثْلَهُ، وَزَادَ فِي حَدِيثِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ: وَالشِّكَالُ أَنْ يَكُونَ الْفَرَسُ فِي رِجْلِهِ الْيُمْنَى بَيَاضٌ، وَفِي يَدِهِ الْيُسْرَى، أَوْ فِي يَدِهِ الْيُمْنَى

(1)

، وَرِجْلِهِ الْيُسْرَى).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ بِشْرِ) بن الْحَكَم الْعَبديّ، أبو محمد النيسابوريّ، ثقةٌ، من صغار [10](ت 260) أو بعدها (خ م د ق) تقدم في "المقدمة" 6/ 99.

2 -

(عَبْدُ الرَّزَّاقِ) بن همّام الصنعانيّ، تقدّم قبل باب.

والباقون ذُكروا في الباب، والباب الماضي، و"سفيان" هو: الثوريّ.

وقوله: (جَمِيعًا عَنْ سُفْيَانَ) بيّن به أن كلًّا من عبد الله بن نُمير، وعبد الرزّاق رويا هذا الحديث عن سفيان الثوريّ بسنده الماضي.

[تنبيه]: رواية عبد الله بن نمير، وعبد الرزّاق كليهما عن سفيان الثوريّ لم أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4850]

(. . .) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ - يَعْنِي: ابْنَ جَعْفَرٍ - (ح) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنِي وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ، جَمِيعًا عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ يَزِيدَ النَّخَعِيِّ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِ حَدِيثِ وَكِيعٍ، وَفِي رِوَايَةِ وَهْبٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ يَزِيدَ، وَلَمْ يَذْكُرِ النَّخَعِيَّ).

(1)

وفي نسخة: "أو يده اليمنى".

ص: 347

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(وَهْبُ بْنُ جَرِيرِ) بن حازم بن زيد بن عبد الله الأزديّ البصريّ، ثقةٌ [9](ت 206)(ع) تقدم في "الإيمان" 50/ 315.

والباقون ذُكروا في الباب، وقبله، و"عبد الله بن يزيد النخعيّ" هو سلم بن عبد الرحمن، أخطأ فيه شعبة، كما يأتي تحقيقه في التنبيه الثاني - إن شاء الله تعالى -.

[تنبيه]: رواية محمد بن جعفر، عن شعبة ساقها النسائيّ رحمه الله في "سننه"

(1)

، فقال:

(3566)

- أخبرنا إسحاق بن إبراهيم، قال: حدّثنا محمد بن جعفر، قال: حدّثنا شعبة (ح) وأنبأنا إسماعيل بن مسعود، قال: حدّثنا بشر، قال: حدّثنا شعبة، عن عبد الله بن يزيد، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة، قال:"كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يَكْرَه الشِّكال من الخيل". انتهى.

ورواية وهب بن جرير، عن شعبة ساقها أبو عوانة رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(7297)

- وحدّثنا أبو أمية، قال: ثنا وهب بن جرير، قال: ثنا شعبة، عن عبد الله بن يزيد، عن أبي زُرعة، عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يَكره الشِّكال من الخيل. انتهى

(2)

.

[تنبيه آخر]: قوله في رواية شعبة هذه: "عبد الله بن يزيد" خطأ من شعبة، والصواب كما في رواية الثوريّ: سلم بن عبد الرحمن، قال الحافظ المزيّ في "تهذيب الكمال": وقال عبد الله بن أحمد، عن أبيه: في حديث شعبة، عن عبد الله بن يزيد، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة، شعبة يُخطئ في هذا، يقول: عبد الله بن يزيد، وإنما هو سَلْم بن عبد الرحمن النخعيّ. انتهى

(3)

.

وقال في "تهذيب التهذيب": فممن زعم أن مسلمًا أخرج للصهبانيّ

(1)

"المجتبى" 6/ 219، و"الكبرى" 3/ 37.

(2)

"مسند أبي عوانة" 4/ 450.

(3)

"تهذيب الكمال" 16/ 313.

ص: 348

- يعني: عبد الله بن يزيد النخعي الصهبانيّ - الحاكم، وأبو القاسم اللالكائيّ، ومحمد بن إسماعيل بن عبد الله بن يزيد الأزديّ، والصواب أنه لم يُخرج له، بل في حكاية عبد الله بن أحمد، عن أبيه ما يُصرّح بأن الحديث ليس هو عن عبد الله بن يزيد بحال، بل هو من حديث سَلْم بن عبد الرحمن، والله أعلم. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: يُستفاد من مجموع ما ذُكر أن شعبة أخطأ في اسم شيخه، فقال: عبد الله بن يزيد النخعيّ الصهبانيّ

(2)

، وإنما صوابه سَلْم بن عبد الرحمن كما قال الثوريّ، وهذا من أغرب ما يُسمع عن مثل شعبة، يُخطئ في اسم شيخه مثل هذا الخطأ البعيد، إن هذا لهو العجب الْعُجاب.

وبالجملة فالمحلّ عندي محلّ توقّف ونظر؛ لأن مسلمًا لم يُشر إلى هذا الغلط، ولا النسائيّ في "سننه"، مع أنهما كثيرًا ينبّهان على مثل هذا الخطأ، وأيضًا فقد ذكر الأئمة الذين ذكرهم في "تهذيب التهذيب" آنفًا أن مسلمًا أخرج لعبد الله بن يزيد النخعيّ المذكور، فدعوى الغلط لمجرّد ما حُكي عن أحمد في كلامه السابق، غير واضح؛ إذ لم يتبيّن لنا صحّة ما حُكي عنه حيث لم يُذكر سنده.

والحاصل أن تصويب الحافظ دعوى التغليط المذكور - كما مشى عليه، في "التقريب"، وأصله - دون حجة واضحة عجيب منه، فليُتنبّه، والله تعالى أعلم بالصواب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}

(28) - (بَابُ فَضْلِ الْجِهَادِ، وَالْخُرُوجِ فِي سَبِيلِ اللهِ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4851]

(1876) - (وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ عُمَارَةَ - وَهُوَ ابْنُ الْقَعْقَاعِ - عَنْ أَبِي زُرْعَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:

(1)

"تهذيب التهذيب" 2/ 458.

(2)

قال في "التقريب": "عبد الله بن يزيد النخعيّ الكوفيّ الصُّهبانيّ - بضمّ المهملة - ثقةٌ من السادسة". انتهى.

ص: 349

"تَضَمَّنَ اللهُ لِمَنْ خَرَجَ فِي سَبِيلِهِ، لَا يُخْرِجُهُ إِلَّا جِهَادًا فِي سَبِيلِي، وَإِيمَانًا بِي، وَتَصْدِيقًا بِرُسُلِي، فَهُوَ عَلَيَّ ضَامِنٌ، أَنْ أُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، أَوْ أَرْجِعَهُ إِلَى مَسْكَنِهِ الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ، نَائِلًا مَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ، أَوْ غَنِيمَةٍ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، مَا مِنْ كَلْمٍ يُكْلَمُ فِي سَبِيلِ اللهِ، إِلَّا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؛ كهَيْئَتِهِ حِينَ كُلِمَ، لَوْنُهُ لَوْنُ دَمٍ

(1)

، وَرِيحُهُ مِسْكٌ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَوْلَا أَنْ يَشُقَّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، مَا قَعَدْتُ خِلَافَ سَرِيَّةٍ، تَغْزُو فِي سَبِيلِ اللهِ أَبَدًا، وَلَكِنْ لَا أَجِدُ سَعَةً، فَاَحْمِلَهُمْ، وَلَا يَجِدُونَ سَعَةً، وَيَشُقُّ عَلَيْهِمْ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنِّي، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَوَدِدْتُ أَنِّي أَغْزُو فِي سَبِيلِ اللهِ، فَأُقْتَلُ، ثُمَّ أَغْزُو، فَأُقْتَلُ، ثُمَّ أَغْزُو، فَأُقْتَلُ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(جَرِيرُ) بن عبد الحميد بن قُرْط الضبيّ، أبو عبد الله الكوفيّ، تقدّم قبل باب.

2 -

(عُمَارَةُ بْنُ الْقَعْقَاعِ) بن شُبْرُمة الضبيّ الكوفيّ، ثقةٌ [6](ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 108.

والباقون تقدّموا في الباب الماضي.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وهو مسلسلٌ بالكوفيين، غير الصحابيّ، فمدنيّ، وشيخه، فنسائيّ، ثم بغداديّ، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه رأس المكثرين السبعة، روى (5374) حديثًا.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه روى هذا الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه جماعة من التابعين: منهم: أبو زرعة البجليّ، والأعرج، وأبو صالح السمّان، كلهم عند الشيخين، وهمّام بن منبّه عند مسلم، وسعيد المسيّب عند البخاريّ. (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "تَضَمَّنَ اللهُ لِمَنْ خَرَجَ فِي سَبِيلِهِ)؛ أي: لأجل إعلاء كلمة الله تعالى، وفي الرواية التالية: "تكفّل الله"، وفي رواية عند البخاريّ: "انتدب الله"،

(1)

وفي نسخة: "لونه دمٌ".

ص: 350

وكلها متقاربة المعنى، ومحصّله تحقيق الوعد المذكور في قوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} الآية [التوبة: 111]، وذلك التحقيق على وجه الفضل منه سبحانه وتعالى، وقد عبّر الله عز وجل بتفضّله بالثواب بلفظ الضمان، ونحوه مما جرت به عادة المتخاطبين فيما تطمئنّ به نفوسهم.

وقال القاضي عياض: قوله: "تضمّن الله"، معناه: أوجب له بفضله، قيل: وهذا الضمان والكفالة بما سبق في أول علمه، وما صرّح به في كتابه بقوله:{إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [التوبة: 111]، قال بعض العلماء: وليس في الآية شرط أنهم يُقتلون بكلّ حال، بل ذَكر الحالين، فقال:{فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ} ، ولهذا قال بعض الصحابة: ما أبالي قُتلت في سبيل الله، أو قَتَلت، ثم تلا الآية. انتهى

(1)

.

وقوله: (لَا يُخْرِجُهُ) بضمّ أوله، من الإخراج رباعيًّا، (إِلَّا جِهَادًا فِي سَبِيلِي) قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في جميع النسخ: "جهادًا" بالنصب، وكذا قال بعده:"وإيمانًا بي، وتصديقًا"، وهو منصوب على أنه مفعول له، وتقديره: لا يخرجه المخرجُ، ويحرِّكه المحرِّك إلا للجهاد، والإيمان، والتصديق. انتهى

(2)

.

وقوله: (وَإِيمَانًا بِي، وَتَصْدِيقًا بِرُسُلِي) معناه: إلا محض الإيمان والإخلاص، وهو نصّ على اشتراط خلوص النيّة في الجهاد، وقوله في الرواية التالية:"وتصديق كلمته"؛ أي: كلمة الشهادتين، وقيل: تصديق كلام الله تعالى في الإخبار بما للمجاهدين من عظيم ثوابه.

وقوله: "لا يخرجه إلا جهادًا في سبيلي، وإيمانًا بي. . . إلخ" فيه التفات؛ لأن فيه انتقالًا من ضمير الغيبة إلى ضمير المتكلّم، وقال ابن مالك: فيه حَذْف القول، والاكتفاء بالمقول، وهو سائغ، شائع، سواء كان حالًا، أو غير حال، فمن الحال: قوله تعالى: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ} الآية [غافر: 7]؛ أي: قائلين: ربنا، وهذا مثله؛ أي: قائلًا: لا يخرجه. . . إلخ.

قال في "الفتح": وقد اختَلَفت الطرُق عن أبي هريرة رضي الله عنه في سياقه،

(1)

"إكمال المعلم" 6/ 294.

(2)

"شرح النوويّ" 13/ 20.

ص: 351

فرواه مسلم من طريق الأعرج عنه بلفظ: "تكفّل الله لمن جاهد في سبيله، لا يخرجه من بيته إلا جهاد في سبيله، وتصديق كلمته"، وكذا هو عند البخاريّ من طريق أبي الزناد في "كتاب الخمس"، وكذلك أخرجه مالك في "الموطأ" عن أبي الزناد في "كتاب الخمس"، وأخرجه الدارميّ من وجه آخر، عن أبي الزناد، بلفظ:"لا يخرجه إلا الجهاد في سبيل الله، وتصديق كلماته"، نعم أخرجه أحمد، والنسائيّ من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، فوقع في روايته التصريح بأنه من الأحاديث الإلهية، ولفظه:"عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يَحْكِي عن ربه، قال: أيُّما عبد من عبادي، خرج مجاهدًا في سبيل ابتغاء مرضاتي، ضَمِنت له إن رجعته أن أرجعه بما أصاب من أجر، أو غنيمة. . ." الحديث، ورجاله ثقات، وأخرجه الترمذيّ من حديث عبادة رضي الله عنه بلفظ:"يقول الله عز وجل: المجاهد في سبيلي هو عليّ ضامنٌ، إن رجعته رجعته بأجر، أو غنيمة. . ." الحديث، وصححه الترمذيّ

(1)

.

(فَهُوَ عَلَيَّ ضَامِنٌ) قال النوويّ رحمه الله: ذكروا في "ضامن" هنا وجهين: أحدهما أنه بمعنى مضمون، كماء دافقٍ؛ أي: مدفوق، والثاني: أنه بمعنى ذو ضمان. انتهى.

قال المازريّ: يجيء فاعل بمعنى مفعول، كقوله تعالى:{مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ} [الطارق: 6]، بمعنى مدفوق، {عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} [القارعة: 7]: بمعنى مرضيّة، فعلى هذا يكون "ضامن" بمعنى مضمون، وقيل: معناه: ذو ضمان على الله تعالى؛ لقوله تعالى: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ} الآية [النساء: 100]، ذكره القاضي عياض

(2)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "فهو عليّ ضامنٌ" قيل فيه: هو بمعنى مضمون، كما قالوا: ماء دافق؛ أي: مدفوق، و: لا عاصم اليوم؛ أي: معصوم، وقيل: معناه ذو ضمان، كما قال في الحديث الآخر:"تكفل الله"؛ أي: ضَمِنَ، وهذا كله عبارة عن أن هذا الجزاء لا بدّ منه؛ إذ قد سبق هذا في

(1)

"الفتح" 7/ 45، كتاب "الجهاد" رقم (2787).

(2)

"إكمال المعلم" 6/ 294.

ص: 352

علمه، ونافذ حكمه، وعن هذا المعنى عبَّر بقوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ} الآية [التوبة: 111]؛ لأن من اشترى شيئًا تعيّن عليه ثَمَنه، وكذلك مَنْ ضَمِنه. انتهى

(1)

.

(أَنْ أُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ)؛ أي: بغير حساب، ولا عذاب، أو المراد: أن يدخله الجنة ساعةَ موته، كما ورد:"أن أرواح الشهداء تَسْرَح في الجنة"، وبهذا التقرير يندفع إيراد من قال: ظاهر الحديث التسوية بين الشهيد والراجع سالِمًا؛ لأن حصول الأجر يستلزم دخول الجنة، ومحصّل الجواب: أن المراد بدخول الجنة دخول خاصّ، قاله في "الفتح"

(2)

.

وقال القاضي عياض رحمه الله: يَحْتَمِل أن يَدخُل الجنة عند موته، كما قال تعالى في الشهداء:{أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169]، وفي الحديث:"أرواح الشهداء في الجنة"، قال: ويَحْتَمِل أن يكون المراد: دخوله الجنة عند دخول السابقين والمقربين، بلا حساب، ولا عذاب، ولا مؤاخذة بذنب، وتكون الشهادة مكفِّرةً لذنوبه، كما صُرِّح به في الحديث الصحيح. انتهى

(3)

.

(أَوْ أَرْجِعَهُ) بفتح حرف المضارعة؛ أي: أرُدّه، يقال: رَجَعَ من سفره، وعن الأمر يَرْجِعُ رَجْعًا، ورُجُوعًا، ورُجْعَى، ومَرْجِعًا، قال ابن السِّكِّيت: هو نقيض الذَّهَاب، ويتعدّى بنفسه، في اللغة الفصحى، فيقال: رَجَعْتُهُ عن الشيء، وإليه، ورَجَعْتُ الكلامَ وغيرَه؛ أي: رددته، وبها جاء القرآن، قال تعالى:{فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ} الآية [التوبة: 83]، وهذيل تُعدِّيه بالألف، قاله الفيّوميّ

(4)

.

قال الجامع عفا الله عنه: المناسب هنا هو المتعدّي؛ لِعَمَله في ضمير من خرج، وهو منصوب على "أُدخله"، والله تعالى أعلم.

(إِلَى مَسْكَنِهِ) بفتح الكاف، وكسرها لغتان، حكاهما الجوهريّ وغيره، معناه: البيت، وجمعه مساكن، وقوله:(الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ) تأكيد؛ لِمَا جُبل عليه الإنسان من محبّة الوطن. (نَائِلًا) منصوب على الحال، وقوله:(مَا نَالَ)"ما"

(1)

"المفهم" 3/ 705.

(2)

"الفتح" 7/ 45، كتاب "الجهاد" رقم (2787).

(3)

"إكمال المعلم" 6/ 294.

(4)

"المصباح المنير" 1/ 220.

ص: 353

موصولة مفعول "نائلًا"، وقوله:(مِنْ أَجْرٍ) بيان لـ "ما"، (أَوْ غَنِيمَةٍ) قالوا: معناه: ما حصل له من الأجر بلا غنيمة، إن لم يَغْنَم، أو من الأجر والغنيمة معًا، إن غَنِموا، وقيل: إن "أو" هنا بمعنى الواو؛ أي: من أجر وغنيمة، وكذا وقع بالواو في رواية أبي داود، وكذا وقع في مسلم في رواية يحيى بن يحيى التي بعد هذه بالواو.

ومعنى الحديث: أن الله تعالى ضَمِن أن الخارج للجهاد ينال خيرًا بكل حال، فإما أن يُسْتَشْهَد، فيدخلَ الجنة، وإما أن يرجع بأجر، وإما أن يرجع بأجر وغنيمة، والله تعالى أعلم.

وقال عياض رحمه الله: قوله: "أو يرجعه إلى مسكنه مع ما نال من أجر أو غنيمة" فيه وجهان، أحدهما: مع ما نال من أجر مجرّد إن لم تكن غنيمة، أو أجر وغنيمة إن كانت، فاكتفى بذكر الأجر أوّلًا عن تكراره، وقيل:"أو" هنا بمعنى الواو، وقد روى أبو داود:"من أجر وغنيمة"، وكذا وقع عند مسلم في رواية يحيى بن يحيى، وقيل: فيه أن الغنيمة لا تُنقص من الأجر؛ خلافًا لمن ذهب إلى ذلك؛ للأثر الذي ذكره بعد هذا، وقال أبو عبد الله بن أبي صفرة: فيه أن المجاهدين لَمّا وجدناهم غير متساوين في الأجر، متساوين في القسمة في الغنيمة دلّ أن أجورهم استحقّوها بالقتال، والغنيمة بفضل الله تعالى عليهم. انتهى

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "أن أدخله الجنة، أو أرجعه إلى مسكنه"؛ يعني: أن الله تعالى ضَمِن له إحدى الحسنيين: إما الشهادة، فيصير إلى الجنة حيًّا يُرزق فيها، وإما الرجوع إلى وطنه بالأجر والغنيمة.

وقوله: "نائلًا ما نال من أجر أو غنيمة" كذا لأكثر الرواة: "أو"، وهي هنا بمعنى الواو الجامعة على مذهب الكوفيين، وأنشدوا [من البسيط]:

نَالَ الْخِلَافَةَ أَوْ كَانَتْ لَهُ قَدَرًا

كَمَا أَتَى رَبَّهُ مُوسَى عَلَى قَدَرِ

وقد دلَّ على هذا المعنى رواية أبي داود لهذه اللفظة، فإنه قال فيها:"من أجر وغنيمة" بالواو الجامعة، وقد رواه بعض رواة كتاب مسلم بالواو، وذهب

(1)

"إكمال المعلم" 6/ 294.

ص: 354

بعض العلماء إلى أنها "أو" على بابها لأحد الشيئين، وليست بمعنى الواو، وقال: إن الحاصل لمن لم يُسْتَشْهَد من الجهاد أحد الأمرين: إما الأجر إن لم يغنم، وإما الغنيمة ولا أجر، وهذا ليس بصحيح؛ لِمَا يأتي من حديث عبد الله بن عمرو أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من غازية تغزو، فيصيبوا، ويَغْنَموا، إلا تعجّلوا ثلثي أجورهم من الآخرة، ويبقى لهم الثلث"، وهذا نصّ في أنَّه يحصل له مجموع الأجر والغنيمة، فالوجة التأويل الأول، والله تعالى أعلم. انتهى

(1)

.

(وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، مَا مِنْ كَلْمٍ) - بفتح الكاف، وسكون اللام -؛ أي: ما من جَرْح (يُكْلَمُ) بالبناء للمجهول؛ أي: يُجرح (فِي سَبِيلِ اللهِ)؛ أي: لإعلاء كلمة الله، وهو الجهاد الذي يُبْتَغَى به وجه الله تعالى، (إِلَّا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، كهَيْئَتِهِ)؛ أي: مثل صفته (حِينَ كُلِمَ) بالبناء للمجهول؛ أي: وقت جرحه؛ يعني: أن صفة دم الشهيد يوم القيامة؛ كصفته وقت جرحه، إلا أن هذا التشبيه ليس من جميع الوجوه، فإنه يوم جُرح كان دمًا لونًا وريحًا، وأما في القيامة فإن لونه لونُ دم، وأما ريحه فريحُ مسك، كما بيّن ذلك بقوله:(لَوْنُهُ لَوْنُ دَمٍ) وفي بعض النسخ: "لونُهُ دمٌ"، (وَرِيحُهُ مِسْكٌ) بكسر الميم، وسكون السين المهملة: طِيْب معروف، قال الفيّوميّ رحمه الله: وهو مُعَرَّب، والعرب تسمّيه: المشموم، وهو عندهم أفضل الطيب، ولهذا ورد:"لَخَلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ عِنْدَ اللهِ أَطْيَبُ مِنْ رِيحِ المِسْكِ"؛ ترغيبًا في إبقاء أثر الصوم، قال الفراء: المِسْكُ مُذَكَّرٌ، وقال غيره: يُذَكَّر، ويُؤَنَّث، فيقال: هو المِسْكُ، وهي المِسْكُ، وأنشد أبو عبيدة على التأنيث قول الشاعر [من الرجز]:

وَالمِسْكُ وَالعَنْبَرُ خَيْرُ طِيبٍ

أُخِذَتَا بِالثَّمَنِ الرَّغِيبِ

وقال السجستانيّ: من أنّث المِسْكَ جعله جمعًا، فيكون تأنيثه بمنزلة تأنيث الذهب، والعسل، قال: وواحدته مِسْكَةٌ مِثْلُ ذهب، وذهبة، قال ابن السكيت: وأصله: مِسِكٌ بكسرتين، قال رؤبة [من الرجز]:

إِنْ تُشْفَ نَفْسِي مِنْ ذُبَابَاتِ الحَسَكِ

أَحْرِ بِهَا أَطْيَبَ مِنْ رِيحِ المِسِكِ

(1)

"المفهم" 3/ 705 - 706.

ص: 355

وهكذا رواه ثعلب عن ابن الأعرابيّ، وقال ابن الأنبارىّ: قال السجستانيّ: أصله السكون، والكسر في البيت اضطرار؛ لإقامة الوزن، وكان الأصمعيّ يُنشد البيت بفتح السين، ويقول: هو جمع مِسْكَةٍ، مثل خِرْقَة وخِرَقٍ، وقِرْبَة وقِرَب، ويؤيد قول السجستانيّ أنه لا يوجد فِعِلٌ بكسرتين إلا إِبِلٌ، وما ذُكِر معه، فتكون الكسرة لإقامة الوزن، كما قال:

عَلَّمَنَا إِخْوَانُنَا بَنُو عِجِلْ

شُرْبَ النَّبِيذِ وَاعْتِقَالًا بِالرِّجِلْ

والأصل هنا السكون باتفاق، أو تكون الكسرة حركةَ الكاف نُقِلت إلى السين؛ لأجل الوقف، وذلك سائغ. انتهى

(1)

.

وقال في "الفتح": قال الجاحظ: المسك من دويبة تكون في الصين، تصاد لنوافجها، وسُرُرها، فإذا صيدت شُدّت بعصائب، وهي مدلية يجتمع فيها دمها، فإذا ذُبحت قُوِّرت السرّة التي عُصبت، ودُفنت في الشعر حتى يستحيل ذلك الدم المختنق الجامد مسكًا ذكيًّا، بعد أن كان لا يرام من النتن.

ومن ثَمّ قال القفال: إنها تندبغ بما فيها من المسك، فتطهر كما يطهر غيرها من المدبوغات. والمشهور أن غزال المسك كالظبي، لكن لونه أسود، وله نابان لطيفان أبيضان في فكّه الأسفل، وأن المسك دم يجتمع في سُرّته في وقت معلوم من السَّنة، فإذا اجتمع وَرِمَ الموضع، فمَرِض الغزال إلى أن يسقط منه، ويقال: إن أهل تلك البلاد يجعلون لها أوتادًا في البرية تحتك بها ليسقط.

ونَقَل ابن الصلاح في "مشكل الوسيط" أن النافجة في جوف الظبية؛ كالإنفحة في جوف الجدي، وعن عليّ بن مهديّ الطبريّ الشافعيّ أنها تُلقيها من جوفها، كما تلقي الدجاجة البيضة.

ويمكن الجمع بأنها تُلقيها من سُرّتها، فتتعلق بها إلى أن تحتكّ. انتهى

(2)

.

(وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَوْلَا أَنْ يَشُقَّ) من باب نصر، (عَلَى الْمُسْلِمِينَ)؛

(1)

"المصباح" 2/ 573.

(2)

"الفتح" 12/ 518، كتاب "الذبائح" رقم (5533).

ص: 356

أي: بسبب تكلّفهم الخروج إذا خرج النبيّ صلى الله عليه وسلم، وإن كان لهم عذر، (مَا) نافية (قَعَدْتُ خِلَافَ سَرِيَّةٍ)؛ يعني: بعد خروج سريّة إلى الغزو، و"الخلاف" بالكسر مصدر خالف؛ كالمخالفة، كما قال في "الخلاصة":

لِفَاعَلَ الْفِعَالُ وَالْمُفَاعَلَهْ

وَغَيْرُ مَا مَرَّ السَّمَاعُ عَادَلَهْ

و"السّريّة": قِطعة من الجيش، فَعِيلة بمعنى فاعلة، سُمّيت بذلك؛ لأنها تَسْري في خفية، والجمع سَرَايَا، وسَرِيّات، مثلُ عطيّة وعطيّات

(1)

.

وقال في "العمدة": قوله: "عن سريّة"؛ أي: قطعة من الجيش، يبلغ أقصاها أربعمائة، تُبْعث إلى العدوّ، وجَمْعه السرايا، سُمُّوا بذلك؛ لأنهم يكونون خلاصة العسكر، وخيارهم، من الشيء السَّريّ؛ أي: النفيس. انتهى

(2)

.

ونصب "خلاف" على الحال؛ أي: حال كوني مخالفًا للسريّة.

وقوله: (تَغْزُو) صفة لـ "سريّة"، (فِي سَبِيلِ اللهِ)؛ أي: لأجل إعلاء كلمة الله عز وجل، (أَبَدًا) ظرف مستغرقٌ ما يُستقبل من الزمان، متعلّق بـ "قَعَدتُ"، (وَلَكِنْ لَا أَجِدُ سَعَةً) بفتح السين، وكسرها، والهاء عوض عن الواو، كعِدة، إذ أصله: وسع، مثلّث الواو؛ أي: غِنًى، وطاقةً، (فَأَحْمِلَهُمْ) من باب ضرب؛ يعني: أنه يشتري للفقراء ما يركبوه، حتى يغزوا معه، (وَلَا يَجِدُونَ سَعَةً)؛ يعني: أنهم لا يجدون مالًا يشترون به ما يركبونه، (وَيَشُقُّ عَلَيْهِمْ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنِّي)؛ أي: يتأخّروا عن الغزو معه صلى الله عليه وسلم.

(وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَوَدِدْتُ) بفتح الواو، وكسر الدال، يقال: وددت لو كان كذا أوَدّ وُدًّا، ووَدَادةً بالفتح: تمنّيتُه، وحَكَى الكسائيّ: وَدَدَت أَوَدّ بالفتح فيهما، وغلّطه البصريون، وقال الزجّاج: لم يقل الكسائيّ: إلا ما سمع، ولكن سمعه ممن لا يوثق بفصاحته

(3)

. (أَنِّي أَغْزُو) بفتح همزة "أَنّ"؛ لأنها في تأويل المصدر مفعول "ودِدتُ"؛ أي: ودِدتُ غزوي (فِي سَبِيلِ اللهِ)؛ أي: لإعلاء كلمته عز وجل، (فَأُقْتَلُ، ثُمَّ أَغْزُو) معطوف على مقدّر؛ أي: ثم أُحيا

(1)

"المصباح المنير" 1/ 275.

(2)

"عمدة القاري" 14/ 95.

(3)

راجع: "المصباح المنير" 2/ 653.

ص: 357

بعد قتلي، فأغزو (فَأُقْتَلُ) مرّةً ثانيةً (ثُمَّ) أحيا، (أَغْزُو) مرّة أخرى (فَأُقْتَلُ) وفي رواية للبخاريّ من طريق سعيد بن المسيِّب، أن أبا هريرة رضي الله عنه قال: سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: "والذي نفسي بيده، لولا أن رجالًا من المؤمنين، لا تطيب أنفسهم، أن يتخلفوا عني، ولا أجد ما أحملهم عليه، ما تخلفت عن سرية تغزو في سبيل الله، والذي نفسي بيده، لوددت أني أُقتل في سبيل الله، ثم أحيا، ثم أُقتل، ثم أحيا، ثم أُقتل، ثم أحيا، ثم أُقتل".

قال الطيبيّ رحمه الله: "ثُمّ" وإن دلّ على التراخي في الزمان هنا، لكن الحمل على التراخي في الرتبة هو الوجه؛ لأن المتمنَّى حصول درجات بعد القتل، والإحياء لم يحصل قبلُ، ومن ثمّة كرّرها لنيل مرتبة بعد مرتبة إلى أن ينتهي إلى الفردوس الأعلى.

[تنبيه]: قوله صلى الله عليه وسلم: "أُقتل في سبيل الله. . . إلخ" استَشْكَل بعض الشراح صدور هذا التمني من النبيّ صلى الله عليه وسلم مع علمه بأنه لا يُقْتَل.

وأجاب ابن التين بأن ذلك لعله كان قبل نزول قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67]، وهو متعقَّب، فإن نزولها كان في أوائل ما قَدِم المدينة، وهذا الحديث صَرَّح أبو هريرة بأنه سمعه من النبيّ صلى الله عليه وسلم، وإنما قَدِم أبو هريرة في أوائل سنة سبع من الهجرة.

قال الحافظ: والذي يظهر في الجواب أن تمني الفضل والخير لا يستلزم الوقوع، فقد قال صلى الله عليه وسلم:"لودَدِنا لو صَبَر موسى حتى يقصّ علينا من أمرهما"، وكأنه صلى الله عليه وسلم أراد المبالغة في بيان فضل الجهاد، وتحريض المسلمين عليه، قال ابن التين: وهذا أشبه.

قال: وحَكَى شيخنا ابن الملقِّن أن بعض الناس زعم أن قوله: "ولوددت" مُدْرَج من كلام أبي هريرة، قال: وهو بعيد. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(1)

"الفتح" 7/ 59 - 60.

ص: 358

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [28/ 4851 و 4852 و 4853 و 4854 و 4855 و 4856 و 4857 و 4858](1876)، و (البخاريّ) في "الإيمان"(36) و"الوضوء"(237) و"الجهاد"(2787) و"فرض الخمس"(3123) و"التوحيد"(7457 و 7463)، و (النسائيّ) في "الجهاد"(6/ 16) و"الأيمان"(8/ 119) و"الكبرى"(3/ 12)، و (ابن ماجه) في "الجهاد"(2753)، و (مالك) في "الموطّأ"(2/ 443 - 444)، و (ابن المبارك) في "الجهاد"(1/ 48)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 399 و 424)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 263)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 453 و 454)، و (سعيد بن منصور) في "سننه"(2311 و 2312)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4610)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(9/ 157)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان فضل الجهاد، والخروج في سبيل الله عز وجل.

2 -

(ومنها): أنه استُدلّ به على أن الشهيد لا يُزال عنه الدم بغسل، ولا غيره، والحكمة في مجيئه يوم القيامة على هيئته، أن يكون معه شاهدُ فضيلته، وبَذْله نفسه في طاعة الله تعالى.

3 -

(ومنها): جواز اليمين، وانعقادها بقوله:"والذي نفسي بيده"، ونحو هذه الصيغة، من الحَلِف بما يدلّ على الذات، قال النوويّ: ولا خلاف في هذا، قال أصحابنا: اليمين تكون بأسماء الله تعالى، وصفاته، أو ما دلّ على ذاته.

[تنبيه]: قال القاضي عياض: واليد هنا بمعنى القدرة، والملك. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: قد تقدّم غير مرّة أن هذا التأويل غير صحيح، وأن الحقّ، هو ما كان عليه السلف أن اليد صفة من صفات الله سبحانه وتعالى، أثبتها النصّ، فنحن نُثبتها على مراد الله تعالى، وننزّهه تعالى عن مشابهة خلقه، إثباتًا بلا تمثيل، وتنزيهًا بلا تعطيل، فتنبّه، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

4 -

(ومنها): بيان ما كان عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم من الشفقة على المسلمين، والرأفة بهم، وأنه كان يترك بعض ما يختاره للرفق بالمسلمين، وأنه إذا تعارضت المصالح بدأ بأهمها.

ص: 359

5 -

(ومنها): مراعاة الرفق بالمسلمين، والسعي في زوال المكروه والمشقة عنهم.

6 -

(ومنها): بيان فضيلة الغزو والشهادة.

7 -

(ومنها): مشروعيّة تمني الشهادة، والخير، وتمني ما لا يمكن في العادة من الخيرات، قال في "الفتح" ما حاصله: تمنّي الشهادة، والقصد لها مُرَغَّب فيه، مطلوب، وقد وردت أحاديث صريحة في ذلك، منها عن أنس رضي الله عنه مرفوعًا:"من طلب الشهادة صادقًا أعطيها، ولو لم يصبها"؛ أي: أعطي ثوابها، ولو لم يُقتل، أخرجه مسلم، وأصرح منه في المراد: ما أخرجه الحاكم بلفظ: "من سأل القتل في سبيل الله صادقًا، ثم مات، أعطاه الله أجر شهيد"، وللنسائي من حديث معاذ رضي الله عنه مثله، وللحاكم من حديث سهل بن حنيف رضي الله عنه، مرفوعًا:"من سأل الله الشهادة بصدق، بلّغه الله منازل الشهداء، وإن مات على فراشه". انتهى

(1)

.

8 -

(ومنها): بيان أن الجهاد فرض كفاية، لا فرض عين.

9 -

(ومنها): أن في قوله صلى الله عليه وسلم: "والله أعلم بمن يُكْلَم في سبيله"، في الحديث الآتي تنبيه على الإخلاص في الغزو، وأن الثواب المذكور فيه إنما هو لمن أخلص فيه، وقاتَل لتكون كلمة الله هي العليا.

قال النوويّ رحمه الله: ظاهر قوله: "في سبيل الله" اختصاصه بمن وقع له ذلك في قتال الكفار، لكن يَلتحق به من قُتل في حرب البغاة، وقطاع الطريق، وإقامة المعروف؛ لاشتراك الجميع في كونهم شهداء.

وقال ابن عبد البرّ رحمه الله: أصل الحديث في الكفار، ويُلْحَق هؤلاء بهم بالمعنى؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"من قُتل دون ماله، فهو شهيد"، وتوقّف بعض المتأخرين في دخول من قاتَل دون ماله؛ لأنه يقصد صون ماله بداعية الطبع، وقد أشار في الحديث إلى اختصاص ذلك بالمخلص، حيث قال:"والله أعلم بمن يُكْلَم في سبيله".

والجواب أنه يمكن فيه الإخلاص مع إرادة صون المال؛ كأن يقصد بقتال

(1)

"الفتح" 7/ 58، كتاب "الجهاد" رقم (2798).

ص: 360

من أراد أَخْذه منه صون الذي يقاتله عن ارتكاب المعصية، وامتثال أمر الشارع بالدفع، ولا يُمحض القصد لصون المال، فهو كمن قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، مع تشوّقه إلى الغنيمة. انتهى

(1)

.

10 -

(ومنها): بيان أن الأعمال الصالحة لا تستلزم الثواب لأعيانها، وإنما يحصل بالنيّة الخالصة لله عز وجل.

11 -

(ومنها): أنه استُدلّ به على طهارة المسك، وقد استدلّ به البخاريّ في "صحيحه"، قال ابن المنيّر: وجه استدلال البخاريّ بهذا الحديث على طهارة المسك، وكذا بالذي بعده، وقوع تشبيه دم الشهيد به؛ لأنه في سياق التكريم والتعظيم، فلو كان نجسًا لكان من الخبائث، ولم يَحسُن التمثيل به في هذا المقام. انتهى

(2)

.

قال النوويّ رحمه الله: أجمعوا على أن المسك طاهر، يجوز استعماله في البدن والثوب، ويجوز بيعه، ونَقَل أصحابنا عن الشيعة فيه مذهبًا باطلًا، وهو مستثنى من القاعدة: ما أُبِين من حيّ فهو ميت. انتهى.

وحَكَى ابن التين عن ابن شعبان من المالكية، أن فأرة المسك إنما تؤخذ في حال الحياة، أو بذكاة من لا تصح ذكاته من الكفرة، وهي مع ذلك محكوم بطهارتها؛ لأنها تستحيل عن كونها دمًا حتى تصير مسكًا، كما يستحيل الدم إلى اللحم، فيطهر، ويحل أكله، وليست بحيوان، حتى يقال: نجست بالموت، وإنما هي شيء يحدُث بالحيوان؛ كالبيض، وقد أجمع المسلمون على طهارة المسك، إلا ما حُكي عن عُمَر من كراهته، وكذا حَكَى ابن المنذر عن جماعة، ثم قال: ولا يصح المنع فيه إلا عن عطاء؛ بناءً على أنه جزء منفصل.

وقد أخرج مسلم في أثناء حديث، عن أبي سعيد رضي الله عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"المسك أطيب الطيب"، وأخرجه أبو داود مقتصرًا منه على هذا القدر. انتهى

(3)

.

(1)

"الفتح" 12/ 518 - 519، كتاب "الذبائح" رقم (5533).

(2)

"المتواري" ص 208.

(3)

"الفتح" 12/ 518، كتاب "الذبائح" رقم (5533).

ص: 361

12 -

(ومنها): ما قاله القرطبيّ رحمه الله: وقد يُسْتَدلّ بهذا الحديث على أن تغير ريح الماء بالمخالط النجس لا يخرجه عن أصله، كما لم يُخرج الدم عن كونه دمًا استحالةُ رائحته إلى رائحة المسك، وهو قول عبد الملك في رائحة الماء أنها لا تفسده، ولا تخرجه عن أصله، وقد استُدِلّ به أيضًا على نقيض ذلك، وهو أن تغيّر الرائحة يخرجه عن أصله، كما هو مذهب الجمهور، ووجه هذا الاستدلال أن الدم لمّا استحالت رائحته إلى رائحة المسك خرج عن كونه مستخبثًا نجسًا، وأنه صار مسكًا، وأن المسك بعض دم الغزال، فكذلك الماء إذا تغيرت رائحته، وأخرج البخاريّ هذا الحديث في المياه، وتُؤُوِّل له كلا التأويلين. انتهى

(1)

.

وقال الحافظ ابن عبد البرّ رحمه الله: وزعمت طائفة بأن في هذا الحديث دليلًا على أن الماء إذا تغيرت رائحته بشيء من النجاسات، ولونه لم يتغير أن الحكم للرائحة دون اللون، فزعموا أن الاعتبار باللون في ذلك لا معنى له؛ لأن دم الشهيد يوم القيامة يجيء، ولونه كلون الدماء، ولكن رائحته فَصَلَت بينه وبين سائر الدماء، وكان الحكم لها، فاستدلوا في زعمهم بهذا الحديث على أن الماء إذا تغير لونه لم يضرّه، وهذا لا يُفْهَم منه معنى تسكن النفس إليه، ولا في الدم معنى الماء، فيقاس عليه، ولا يَشتغل بمثل هذا من له فَهْم، وإنما اغتَرَّت هذه الطائفة بأن البخاريّ ذَكَر هذا الحديث في باب الماء، والذي ذكره البخاري لا وجه له يُعْرَف، وليس من شأن أهل العلم اللغو به، وإشكالُه، وإنما شأنهم إيضاحه وبيانه، وبذلك أخذ الميثاق عليهم في قوله:{لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران: 187]، وفي كتاب البخاريّ أبواب لو لم تكن فيه كان أصح لمعانيه، والله الموفق للصواب.

والماءُ لا يخلو تغيّره من أن يكون بنجاسة، أو بغير نجاسة، فإن كان بنجاسة، فقد أجمع العلماء على أنه غير طاهر، ولا مطهر، وكذلك أجمعوا أنه إذا تغيّر بغير نجاسة أنه طاهر على أصله، وقال الجمهور: إنه غير مطهر، إلا أن يكون تغيّره من تربته وحمأته، وما أجمعوا عليه فهو الحقّ الذي لا إشكال

(1)

"المفهم" 3/ 707.

ص: 362

فيه، ولا التباس معه. انتهى كلام ابن عبد البرّ رحمه الله،

(1)

وهو تحقيقٌ نفيسٌ، والله تعالى أعلم.

(المسألة الرابعة): ذكر في "الفتح" بحثًا مطوّلًا عند شرح حديث أبي هريرة رضي الله عنه الذي أخرجه البخاريّ رحمه الله في "الجهاد" من "صحيحه" من طريق سعيد بن المسيّب، عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "مَثَلُ المجاهد في سبيل الله - والله أعلم بمن يجاهد في سبيله - كمثل الصائم القائم، وتوكّل الله للمجاهد في سبيله بأن يتوفاه أن يدخله الجنة، أو يرجعه سالِمًا مع أجر، أو غنيمة".

فقال: قوله: "مع أجر أو غنيمة؛ أي: مع أجر خالص، إن لم يَغْنَم شيئًا، أو مع غنيمة خالصة معها أجر، وكأنه سكت عن الأجر الثاني الذي مع الغنيمة؛ لنقصه بالنسبة إلى الأجر الذي بلا غنيمة، والحامل على هذا التأويل أن ظاهر الحديث أنه إذا غَنِم لا يحصل له أجر، وليس ذلك مرادًا بل المراد: أو غنيمة معها أجر أنقص من أجر من لم يغنم؛ لأن القواعد تقتضي أنه عند عدم الغنيمة أفضل منه، وأتمّ أجرًا عند وجودها، فالحديث صريح في نفي الحرمان، وليس صريحًا في نفي الجمع.

وقال الكرمانيّ رحمه الله: معنى الحديث: أن المجاهد إما يُسْتَشهَد، أو لا، والثاني لا ينفكّ من أجر، أو غنيمة، مع إمكان اجتماعهما، فهي قضيةٌ مانعة الخلوّ، لا الجمع.

وقد قيل في الجواب عن هذا الإشكال: إن "أو" بمعنى الواو، وبه جزم ابن عبد البرّ، والقرطبيّ، ورجّحها التوربشتيّ، والتقدير: بأجر وغنيمة، وقد وقع كذلك في رواية لمسلم من طريق الأعرج، عن أبي هريرة، رواه كذلك عن يحيى بن يحيى، عن مغيرة بن عبد الرحمن، عن أبي الزناد، وقد رواه جعفر الفريابيّ، وجماعة، عن يحيى بن يحيى، فقالوا:"أجر، أو غنيمة" بصيغة "أو"، وقد رواه مالك في "الموطأ" بلفظ:"أو غنيمة"، ولم يُختلَف عليه، إلا في رواية يحيى بن بكير عنه، فوقع فيه بلفظ:"وغنيمة"، ورواية يحيى بن بكير عن مالك فيها مقال.

(1)

"التمهيد" لابن عبد البرّ 19/ 16.

ص: 363

ووقع عند النسائيّ من طريق الزهريّ، عن سعيد بن المسيِّب، عن أبي هريرة رضي الله عنه بالواو أيضًا، وكذا من طريق عطاء بن ميناء، عن أبي هريرة رضي الله عنه، وكذلك أخرجه أبو داود بإسناد صحيح، عن أبي أمامة، بلفظ:"بما نال من أجر، وغنيمة"، فإن كانت هذه الروايات محفوظة تعيّن القول بأن "أو" في هذا الحديث بمعنى الواو، كما هو مذهب النحاة الكوفيين، لكن فيه إشكال صعب؛ لأنه يقتضي من حيث المعنى أن يكون الضمان وقع بمجموع الأمرين لكل من رجع، وقد لا يتّفق ذلك، فإن كثيرًا من الغزاة يرجع بغير غنيمة، فما فَرّ منه الذي ادَّعَى أن "أو" بمعنى الواو وقع في نظيره؛ لأنه يلزم على ظاهرها أن من رجع بغنيمة رجع بغير أجر، كما يلزم على أنها بمعنى الواو أن كل غازٍ يُجمَع له بين الأجر والغنيمة معًا.

وقد رَوَى مسلم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما مرفوعًا: "ما من غازية تغزو في سبيل الله، فيصيبون الغنيمة إلا تعجّلوا ثلثي أجرهم من الآخرة، ويبقى لهم الثلث، فإن لم يصيبوا غنيمة تَمّ لهم أجرهم"، وهذا يؤيد التأويل الأول، وأن الذي يغنم يرجع بأجر، لكنه أنقص من أجر من لم يغنم، فتكون الغنيمة في مقابلة جزء من أجر الغزو، فإذا قوبل أجر الغانم بما حصل له من الدنيا، وتمتعه بأجر من لم يغنم، مع اشتراكهما في التعب والمشقة، كان أجر من غَنِم دون أجر من لم يغنم، وهذا موافق لقول خبّاب رضي الله عنه في الحديث الصحيح الآتي:"فمنا من مات، ولم يأكل من أجره شيئًا. . ." الحديث.

واستَشْكَل بعضهم نقص ثواب المجاهد بأخذه الغنيمة، وهو مخالف لِمَا يدلّ عليه أكثر الأحاديث، وقد اشتَهَر تمدّح النبيّ صلى الله عليه وسلم بحِل الغنيمة، وجَعْلها من فضائل أمته، فلو كانت تُنقص الأجرَ ما وقع التمدّح بها.

وأيضًا فإن ذلك يستلزم أن يكون أجر أهل بدر أنقص من أجر أهل أُحد مثلًا، مع أن أهل بدر أفضل بالاتفاق، وسَبَقَ إلى هذا الإشكال ابنُ عبد البرّ، وحكاه عياض، وذكر أن بعضهم أجاب عنه بأنه ضعَّف حديث عبد الله بن عمرو؛ لأنه من رواية حميد بن هانئ وليس بمشهور، وهذا مردود؛ لأنه ثقة يُحتجّ به عند مسلم، وقد وثقه النسائيّ، وابن يونس، وغيرهما، ولا يُعرف فيه تجريح لأحد.

ص: 364

ومنهم من حَمَل نقص الأجر على غنيمة أُخذت على غير وجهها، وظهورُ فساد هذا الوجه يغني عن الإطناب في ردّه؛ إذ لو كان الأمر كذلك لم يبق لهم ثلث الأجر، ولا أقلّ منه.

ومنهم من حَمَل نقص الأجر على من قَصَد الغنيمة في ابتداء جهاده، وحمل تمامه على من قصد الجهاد محضًا، وفيه نظر؛ لأن صدر الحديث مصرِّح بأن المقسَّم راجع إلى من أخلص؛ لقوله في أوله:"لا يُخرجه إلا إيمان بي، وتصديق برسلي".

وقال عياض: الوجه عندي إجراء الحديثين على ظاهرهما، واستعمالهما على وجههما، ولم يُجب عن الإشكال المتعلِّق بأهل بدر.

وقال ابن دقيق العيد: لا تعارض بين الحديثين، بل الحكم فيهما جارٍ على القياس؛ لأن الأجور تتفاوت بحسب زيادة المشقّة فيما كان أجره بحسب مشقته؛ إذ للمشقة دخول في الأجر، وإنما المشكل العمل المتصل بأخذ الغنائم؛ يعني: فلو كانت تنقص الأجر لَمَا كان السلف الصالح يثابرون عليها، فيمكن أن يجاب بأن أخْذها من جهة تقديم بعض المصالح الجزئية على بعض؛ لأن أخْذ الغنائم أوّل ما شُرع كان عونًا على الدين، وقوّة لضعفاء المسلمين، وهي مصلحة عظمى، يُغْتَفَر لها بعض النقص في الأجر من حيث هو.

وأما الجواب عما استُشْكِل ذلك بحال أهل بدر، فالذي ينبغي أن يكون التقابل بين كمال الأجر ونقصانه لمن يغزو بنفسه إذا لم يغنم، أو يغزو فيغنم، فغايته أن حال أهل بدر مثلًا عند عدم الغنيمة أفضل منه عند وجودها، ولا ينفي ذلك أن يكون حالهم أفضل من حال غيرهم من جهة أخرى، ولم يَرِد فيهم نصّ أنهم لو لم يغنموا كان أجرهم بحاله من غير زيادة، ولا يلزم من كونه مغفورًا لهم، وأنهم أفضل المجاهدين أن لا يكون وراءهم مرتبة أخرى.

وأما الاعتراض بِحِلّ الغنائم فغير وارد؛ إذ لا يلزم من الحل ثبوت وفاء الأجر لكل غاز، والمباح في الأصل لا يستلزم الثواب بنفسه، لكن ثبت أن أخذ الغنيمة، واستيلاءها من الكفار يحصل الثواب، ومع ذلك فمع صحة ثبوت الفضل في أخذ الغنيمة، وصحة التمدّح بأخذها، لا يلزم من ذلك أن كل غاز يحصل له من أجر غَزاته نظير من لم يغنم شيئًا البتة.

ص: 365

قال الحافظ رحمه الله: والذي مَثَّل بأهل بدر أراد التهويل، وإلا فالأمر على ما تقرّر آخرًا: بأنه لا يلزم من كونهم مع أخذ الغنيمة أنقص أجرًا مما لو لم يحصل لهم أجر الغنيمة، أن يكونوا في حال أخذهم الغنيمة مفضولين بالنسبة إلى من بعدهم؛ كمن شهد أُحُدًا لكونهم لم يغنموا شيئًا، بل أجر البدريّ في الأصل أضعاف أجر من بعده، مثال ذلك أن يكون لو فُرض أن أجر البدريّ بغير غنيمة ستمائة، وأجر الأُحُدي مثلًا بغير غنيمة مائة، فإذا نَسَبنا ذلك باعتبار حديث عبد الله بن عمرو كان للبدريّ لكونه أخذ الغنيمة مائتان وهي ثلث الستمائة، فيكون أكثر أجرًا من الأُحديّ، وإنما امتاز أهل بدر بذلك لكونها أول غزوة شهدها النبيّ صلى الله عليه وسلم في قتال الكفار، وكان مبدأ اشتهار الإسلام، وقوة أهله، فكان لمن شهدها مِثْل أجر من شهد المغازي التي بعدها جميعًا، فصارت لا يوازيها شيء في الفضل، والله أعلم.

واختار ابن عبد البرّ أن المراد بنقص أجر من غَنِم أن الذي لا يغنم يزداد أجره لحزنه على ما فاته من الغنيمة، كما يؤجر من أصيب بماله، فكان الأجر لمّا نقص عن المضاعفة بسبب الغنيمة عند ذلك كالنقص من أصل الأجر، ولا يخفى مباينة هذا التأويل لسياق حديث عبد الله بن عمرو الذي تقدّم ذكره.

وذَكَر بعض المتأخرين للتعبير بثلثي الأجر في حديث عبد الله بن عمرو حكمةً لطيفةً بالغةً، وذلك أن الله أعدّ للمجاهدين ثلاث كرامات: دنيويتان، وأخروية، فالدنيويتان السلامة والغنيمة، والأخروية دخول الجنة، فإذا رجع سالِمًا غانِمًا فقد حصل له ثلثًا ما أعد الله له، وبقي له عند الله الثلث، وإن رجع بغير غنيمة عوّضه الله عن ذلك ثوابًا في مقابلة ما فاته، وكأن معنى الحديث أنه يقال للمجاهد: إذا فات عليك شيء من أمر الدنيا عوّضتك عنه ثوابًا، وأما الثواب المختص بالجهاد فهو حاصل للفريقين معًا، قال: وغاية ما فيه عَدُّ ما يتعلق بالنعمتين الدنيويتين أجرًا بطريق المجاز. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1)

"الفتح" 7/ 46 - 48، كتاب "الجهاد" رقم (2787).

ص: 366

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4852]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَاهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ عُمَارَةَ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ).

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(ابْنُ فُضَيْلٍ) هو: محمد تقدّم قبل باب.

والباقون ذُكروا في السند الماضي، والباب الماضي.

[تنبيه]: رواية محمد بن فُضيل، عن عمارة بن القعقاع هذه ساقها ابن أبي شيبة رحمه الله في "مصنّفه"، فقال:

(19316)

- حدّثنا محمد بن فُضيل، عن عُمارة، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أعدّ الله لمن خرج في سبيله، لا يَخرُج إلا لجهاد في سبيلي، وإيمان بي، وتصديق برسلي، فهو عليّ ضامن، أن أُدخله الجنة، وأن أُرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه، نائلًا ما نال من أجر، أو غنيمة. ثم قال: والذي نفس محمد بيده، لولا أن أشُقّ على المسلمين، ما قعدت خلاف سريّة تغزو في سبيل الله أبدًا، ولكن لا أجد سعة فأحملهم، ولا يجدون سعة فيتبعوني، ولا تطيب أنفسهم، فيتخلفون بعدي، والذي نفس محمد بيده، لوددت أن أغزو في سبيل الله، فأُقتل، ثم أغزو، فأقتل، ثم أغزو، فأقتل، ثم أغزو، فأقتل". انتهى

(1)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4853]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا الْمُغِيرَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحِزَامِيُّ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "تَكَفَّلَ اللهُ لِمَنْ جَاهَدَ فِي سَبِيلِهِ، لَا يُخْرِجُهُ مِنْ بَيْتِهِ إِلَّا جِهَادٌ فِي سَبِيلِهِ، وَتَصْدِيقُ كَلِمَتِهِ بِأَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، أَوْ يَرْجِعَهُ إِلَى مَسْكَنِهِ الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ، مَعَ مَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ، أَوْ غَنِيمَةٍ

(2)

").

(1)

"مصنف ابن أبي شيبة" 4/ 202.

(2)

وفي نسخة: "من أجر وغنيمة".

ص: 367

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ النيسابوريّ الإمام، تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(الْمُغِيرَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحِزَامِيُّ) المدنيّ، نزل عسقلان، لقبه قُصيّ، ثقةٌ له غرائب [7](ع) تقدّم في "الطهارة" 26/ 653.

3 -

(أَبُو الزِّنَادِ) عبد الله بن ذكوان القرشيّ مولاهم، أبو عبد الرحمن المدنيّ، ثقةٌ فقيهٌ [5](ت 130) أو بعدها (ع) تقدّم في "المقدمة" 5/ 30.

4 -

(الأَعْرَجُ) عبد الرحمن بن هُرْمُز القرشيّ مولاهم، أبو داود المدنيّ، ثقةٌ فقيهٌ [3](ت 117)(ع) تقدّم في "الإيمان" 23/ 192.

و"أبو هريرة رضي الله عنه" ذُكر قبله.

وقوله: (تَكَفَّلَ اللهُ)؛ أي: ضَمِن الله تعالى، وفي رواية للبخاريّ:"انتدب الله"، قال في "النهاية": أي: أجابه إلى غفرانه، يقال: ندبته فانتدب؛ أي: بَغَيْتُه، ودَعَوْته، فأجاب، وقال التوربشتيّ: وفي بعض طرقه: "تضمّن الله"، وفي بعضها:"تكفّل الله"، وكلاهما أشبه بنسق الكلام من قوله:"انتدب الله"، وكلّ ذلك صحيح

(1)

.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام البحث فيه في الحديث الماضي، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4854]

(. . .) - (حَدَّثَنَا عَمْرٌو النَّاقِدُ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا يُكْلَمُ أَحَدٌ فِي سَبِيلِ اللهِ - وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَنْ يُكْلَمُ فِي سَبِيلِهِ - إِلَّا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَجُرْحُهُ يَثْعَبُ

(2)

اللَّوْنُ لَوْنُ دَمٍ، وَالرِّيحُ رِيحُ مِسْكٍ").

(1)

"الكاشف عن حقائق السنن" 8/ 2624.

(2)

وفي نسخة: "يثعب دمًا، اللون لون دم".

ص: 368

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عَمْرٌو النَّاقِدُ) هو: عمرو بن محمد بن بُكير، أبو عثمان البغداديّ، نزيل الرَّقّة، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 232)(خ م د س) تقدّم في "المقدمة" 4/ 23.

2 -

(سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ) تقدّم قبل باب.

والباقون ذُكروا في الباب.

وقوله: (لَا يُكْلَمُ أَحَدٌ) ببناء الفعل للمفعول؛ أي: يُجرح، والكُلُوم: الجراح، معروف ذلك في لسان العرب معرفةً يُستغنى بها عن الاستشهاد عليها بشيء، ومن أملح ما جاء في ذلك قول حسان بن ثابت رضي الله عنه يصف امرأة ناعمةً، طريةً، زَعَم أن الذرّ لو مشى عليها لجرحها جراحًا تصيح منها، وتَندُب نفسها، فقال [من الخفيف]:

لَوْ يَدِبُّ الْحَوْلِيّ مِنْ وَلَدِ الذَّرْ

رِ عَلَيْهَا لأَنْدَبَتْهَا الْكُلُومُ

وقوله: (فِي سَبِيلِ اللهِ) معناه: الجهاد، وملاقاة أهل الحرب من الكفار، قال ابن عبد البرّ رحمه الله: على هذا خرج الحديث، ويدخل فيه بالمعنى كلُّ من جُرح في سبيل بِرٍّ وحَقٍّ، مما أباحه الله؛ كقتال أهل البغي، والخوارج، وغيرهم، واللصوص، والمحاربين، أو آمر بمعروف، أو ناهٍ عن منكر، ألا ترى قوله صلى الله عليه وسلم:"مَن قُتِل دون ماله فهو شهيدٌ". انتهى

(1)

.

وقوله: (وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَنْ يُكْلَمُ فِي سَبِيلِهِ) قال الزرقانيّ رحمه الله: هذه الجملة معترضة بين المستثنى منه والمستثنى، مؤكِّدة، مقرِّرة لمعنى المعترَض فيه، وتفخيم شأن من يُكْلَم في سبيل الله، ونظيره قوله تعالى:{قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ} الآية [آل عمران: 36]؛ أي: بالشيء الذي وضعت، وما عُلِّق به من عظائم الأمور، ويجوز أن يكون تتميمًا للصيانة عن الرياء، والسمعة، وتنبيهًا على الإخلاص في الغزو، وأن الثواب المذكور إنما هو لمن أخلص لتكون كلمة الله هي العليا. انتهى

(2)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "والله أعلم. . . إلخ" فيه تنبيه على وجوب

(1)

"الاستذكار" 5/ 97.

(2)

"شرح الزرقانيّ على الموطّأ" 3/ 46.

ص: 369

الإخلاص في الجهاد، وتنويهٌ بالمخلَص فيه، واستبعاد للإخلاص، وإشعار بقلّته

(1)

.

وقال ابن عبد البرّ رحمه الله: في قوله صلى الله عليه وسلم: "والله أعلم بمن يُكْلَم في سبيله" دليلٌ على أنه ليس كل من خرج في الغزو تكون هذه حاله حتى تصح نيّته، ويعلم الله من قلبه أنه خرج يريد وجهه، ومرضاته، لا رياء، ولا سمعة، ولا مباهاة، ولا فخرًا، وفي هذا الحديث أيضًا دليل على أن الشهيد يُبعث على حاله التي قُبض عليها، ويَحْتَمِل أن يكون ذلك في كل ميت - والله أعلم - يبعث على حاله التي مات فيها، إلا أن فضل الشهيد المقتول في سبيل الله بين الصفين أن يكون ريح دمه كريح المسك، وليس كذلك دم غيره، ومن قال: إن الموتى جملةً يبعثون على هيئاتهم، احتَجَّ بحديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه أنه لمّا حضرته الوفاة دعا بثياب جدد، فلبسها، ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الميت يبعث في ثيابه التي يموت فيها"، وهذا قد يَحْتَمِل أن يكون أبو سعيد سمع الحديث في الشهيد، فتأوّله على العموم، ويكون الميت المذكور في حديثه هو الشهيد الذي أُمر أن يزَمَّل بثيابه، ويُدفن فيها، ولا يغسل عنه دمه، ولا يغيّر شيء من حاله، بدليل حديث ابن عباس وغيره، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال:"إنكم محشورون يوم القيامة حُفاةً، عُراةً، غُرْلًا، ثم قرأ: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء: 104]، وأول من يكسى يوم القيامة إبراهيم"، فلهذا الحديث وشِبهه تأوّلنا في حديث أبي سعيد ما ذَكَرنا، والله أعلم.

قال: وقد كان بعضهم يتأول في حديث أبي سعيد أنه يُبعث على العمل الذي يُختم له به، وظاهره على غير ذلك، والله أعلم.

وقد استَدَلّ جماعة من أهل العلم بهذا الحديث، وما كان مثله في سقوط غسل الشهيد المقتول في دار الحرب بين الصفين، ولا حاجة بنا إلى الاستدلال في ترك غسل الشهداء الموصوفين بذلك مع وجود النصّ، فقد أخرج أبو داود، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال في قتلى أُحد: "لا تغسلوهم،

(1)

"المفهم" 3/ 707.

ص: 370

فإن كل جرح، أو دم يفوح مسكًا يوم القيامة"، ولم يصلِّ عليهم. انتهى.

وقال في "الاستذكار": وفي هذا الحديث دليل على أن الشهيد يبعث على حاله التي قُبض عليها وهيئته، بدليل هذا الحديث، ومثله حديث ابن عباس في المُحْرِم الذي وَقَصَتْه ناقته، فقال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا تخمّروا وجهه، ولا رأسه، ولا تقرّبوه طِيبًا، فإنه يُبعث يوم القيامة يلبي"، وقد زعم بعض أهل العلم أن قوله صلى الله عليه وسلم:"يبعث الميت في ثيابه التي قُبض فيها"؛ أي: يعاد خَلَق ثيابه له كما يعاد خَلْقُه، وقال غيره: إنما ذلك قول خرج على المجاز، فكنى بالثياب عن الأعمال، كما يقال: طاهر الثوب، ونَقِيّ الجيب.

قال أبو عمر: وحَمْلُ هذا الحديث على المجاز مرويّ من حديث ابن عباس، وغيره، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال:"يُحشر الناس عُراةً، غُرْلًا، وأول من يكسى إبراهيم"، فعلى هذا يَحْتَمِل أن يُبعث على ما مات عليه من كفر، وإيمان، وشكّ، وإخلاص، ونحو ذلك.

والحقيقة في كلّ ما يَحتملها اللفظ من الكتاب والسُّنَّة أَوْلى من المجاز؛ لأن الذي يُعيده خَلْقًا سَوِيًّا يعيد ثيابه - إن شاء.

وإن كان قد رُوي بالوجه الآخر خبر، ذكره أبو داود في "باب من يغزو ويلتمس الدنيا" بإسناده عن عبد الله بن عمرو، أنه قال: يا رسول الله أخبرني عن الجهاد، والغزو، فقال:"يا عبد الله بن عمرو، إن قاتلت صابرًا محتسبًا، بعثك الله صابرًا محتسبًا، وإن قاتلت مرائيًا مكاثرًا بعثك الله مرائيًا مكاثرًا، يا عبد الله بن عمرو على أي حال قاتلت، أو قُتلت بعثك الله على تلك الحال". انتهى

(1)

.

وقوله: (وَجُرْحُهُ يَثْعَبُ) زاد في بعض: النسخ: "دمًا"، و"الجُرح" بضمّ الجيم: اسم كالجراحة بكسرها، والمصدر: الْجَرْح بالفتح، و"يَثْعُبُ" - بفتح الياء، والعين، وإسكان المثلثة بينهما - ومعناه: يجري متفجّرًا؛ أي: كثيرًا، وهو بمعنى الرواية الأخرى:"يتفجر دمًا"

(2)

.

وإسناد الثعب إلى الجرح مع أن الذي يثعُب على الحقيقة إنما هو دمه؛

(1)

"الاستذكار" 5/ 99.

(2)

"شرح النوويّ" 13/ 22.

ص: 371

لإفادة المبالغة على حدّ قوله تعالى: {وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ} [التوبة: 92]، فإن الذي يفيض هو الدمع، لا العين، لكن جُعلت العين تَفِيض مبالغةً.

وقال التوربشتيّ: قوله: "يثعُب دمًا"، يقال: ثعبت الماءَ: فجّرته، فانثعب، وإضافة الفعل إلى الجرح؛ لأنه السبب في فجر الدم، و"دمًا" يكون مفعولًا، ولو أراد به التمييز لكان من حقّه أن يقول: ينثعب دمًا، أو يُثعَب، على بناء المجهول، قال: ولم أجده روايةً.

قال الطيبيّ: مجيؤه متعدّيًا نُقل عن الجوهريّ، وظاهر كلام صاحب "النهاية" أنه لازم، حيث فسّره بقوله:"يجري"، ولأنه جاء في حديث آخر:"وجرحه يشخب دمًا"، والشخب: السيلان، فحينئذ يكون من قوله تعالى:{وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ} [التوبة: 92]، فإن الظاهر أن يقال: إن الدمع تفيض من العين، فجعل العين فائضةً مبالغةً، كذلك الدم هو السائل من الجرح لا الجرح. انتهى

(1)

.

وقوله: (اللَّوْنُ لَوْنُ دَمٍ، وَالرِّيحُ رِيحُ مِسْكٍ) قال ابن عبد البرّ رحمه الله: هذا من أحسن حديث في فضل الغزو في سبيل الله، والحضّ على الثبوت عند لقاء العدوّ. انتهى

(2)

.

وقال الزرقانيّ رحمه الله: قوله: "اللون لون الدم، والريح ريح المسك"؛ أي: كريحه؛ إذ ليس هو مسكًا حقيقةً، بخلاف لون الدم، فلا تقدير فيه؛ لأنه دم حقيقةً، فليس له من أحكام الدماء وصفاتها إلا اللون فقط.

قال العلماء: الحكمة في بعثه كذلك؛ ليكون معه شاهد فضيلته ببذله نفسه في طاعة الله تعالى، وعلى من ظَلَمه، وظاهر الحديث أنه لا فرق بين أن يُستشهَد، أو تبرأ جراحته.

قال الحافظ: ويَحْتَمِل أن المراد: ما مات صاحبه به قبل اندماله، لا ما اندمل في الدنيا، فإن أثر الجراحة وسيلان الدم يزول، ولا ينفي ذلك أن له فضلًا في الجملة، لكن الظاهر أن الذي يجيء يوم القيامة وجرحه يثعب دمًا من

(1)

"الكاشف عن حقائق السنن" 8/ 2633.

(2)

"التمهيد" لابن عبد البرّ 19/ 13.

ص: 372

فارق الدنيا كذلك، ويؤيده ما لابن حبان عن معاذ:"عليه طابع الشهداء"، ولأصحاب "السنن"، وصححه الترمذيّ، وابن حبان، والحاكم، عن معاذ مرفوعًا:"من جُرح في سبيل الله، أو نُكِب نكبةً، فإنها تجيء يوم القيامة كأغزر ما كانت، لونها الزعفران، وريحها المسك"، قال: وعُرِف بهذه الزيادة أن الصفة المذكورة لا تختص بالشهيد، بل تحصل لكل من جُرح. انتهى

(1)

.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام البحث فيه قبل حديث، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4855]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن رَافِعٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ، قَالَ: هَذَا مَا حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَ أَحَادِيثَ، مِنْهَا: وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "كُلُّ كَلْمٍ يُكْلَمُهُ الْمُسْلِمُ فِي سَبِيلِ اللهِ، ثُمَّ تَكُونُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، كَهَيْئَتِهَا إِذَا طُعِنَتْ، تَفَجَّرُ دَمًا، اللَّوْنُ لَوْنُ دَمٍ، وَالْعَرْفُ عَرْفُ الْمِسْكِ"، وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ فِي يَدِهِ، لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، مَا قَعَدْتُ خَلْفَ سَرِيَّةٍ، تَغْزُو فِي سَبِيلِ اللهِ، وَلَكِنْ لَا أَجِدُ سَعَةً، فَأَحْمِلَهُمْ، وَلَا يَجِدُونَ سَعَةً، فَيَتَّبِعُونِي، وَلَا تَطِيبُ أَنْفُسُهُمْ أَنْ يَقْعُدُوا بَعْدِي").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ) النيسابوريّ، تقدّم قبل بابين.

2 -

(عَبْدُ الرَّزَّاقِ) بن همّام الصنعانيّ، تقدّم أيضًا قبل بابين.

3 -

(مَعْمَرُ) بن راشد الأزديّ مولاهم، أبو عروة البصريّ، نزيل اليمن، ثقةٌ ثبتٌ فاضلٌ، من كبار [8](ت 158)(ع) تقدّم في "المقدمة" 4/ 18.

4 -

(هَمَّامُ بْنُ مُنَبِّهِ) بن كامل، أبو عقبة الصنعانيّ، ثقةٌ [4](ت 132)(ع) تقدّم في "الإيمان" 26/ 213.

و"أبو هريرة رضي الله عنه" ذُكر قبله.

(1)

"شرح الزرقانيّ على الموطّأ" 3/ 47.

ص: 373

شرح الحديث:

(عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ) أنه (قَالَ: هَذَا مَا حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَ أَحَادِيثَ، مِنْهَا: وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (كُلُّ كَلْمٍ) بفتح الكاف، وإسكان اللام، (يُكْلَمُهُ الْمُسْلِمُ) بضمّ حرف المضارعة، وإسكان الكاف، وفتح اللام، مبنيًّا للمفعول؛ أي: يُجرحه، وقوله:(فِي سَبِيلِ اللهِ) قيْدٌ يُخرج ما يصيب المسلم من الجراحات في غير سبيل الله، وزاد في "الجهاد" من طريق الأعرج، عن أبي هريرة:"والله أعلم بمن يُكْلَم في سبيله"، وفيه إشارة إلى أن ذلك إنما يحصل لمن خلصت نيته

(1)

.

(ثُمَّ تَكُونُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) هكذا في عامّة النسخ، بـ "ثُمّ"، وفي رواية البخاريّ:"تكون" بدونها، ولا يظهر لها معنى هنا، ولعلّها جاءت زائدة، فقد جوّز الأخفش، والكوفيّون تجرّدها عن معنى العطف، ومجيئها زائدةً، وحَمَلوا على ذلك قوله تعالى:{حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ} الآية [التوبة: 118]؛ أي: حتى إذا ضاقت الأرض. . . إلخ، تاب عليهم، والله تعالى أعلم.

(كَهَيْئَتِهَا) الضمير يعود على الكَلْم باعتبار أنه بمعنى الْكَلْمة، أو الجراحة، ويوضّحه رواية القابسيّ، عن أبي زيد المروزيّ، عن الفربريّ:"كلُّ كلمة يُكلمها"، وكذا هو في رواية ابن عساكر، قاله في "الفتح"

(2)

.

(إِذَا طُعِنَتْ) بالبناء للمفعول، وهكذا في عامّة النسخ:"إذا" بالألف بعد الذال، قال القسطلّانيّ: وهي هنا لمجرّد الظرفيّة، أو هي بمعنى "إذ"، وقد يتقارضان، أو عبَّر بـ "إذا" لاستحضار صورة الطعن؛ لأن الاستحضار كما يكون بصريح لفظ المضارع، نحو:{وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا} الآية [الروم: 48] يكون بما في معنى المضارع، كما فيما نحن فيه.

وقوله: (تَفَجَّرُ) بفتح الجيم المشدّدة، وحَذْف إحدى التاءين؛ إذ أصله تتفجّر، كما في قوله تعالى:{نَارًا تَلَظَّى} [الليل: 14]، {فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6)}

(1)

"الفتح" 1/ 587، كتاب "الوضوء" رقم (237).

(2)

"الفتح" 1/ 587، كتاب "الوضوء" رقم (237).

ص: 374

[عبس: 6]، و {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ} [القدر: 4]، قال في "الخلاصة":

وَمَا بِتَاءَيْنِ ابْتُدِي قَدْ يُقْتَصَرْ

فِيهِ عَلَى تَا كَـ "تَبَيَّنُ الْعِبَرْ"

وقوله: (دَمًا) منصوب على التمييز المحوّل من الفاعل، إذ أصله يتفجّر دمه.

(اللَّوْنُ لَوْنُ دَمٍ، وَالْعَرْفُ عَرْفُ الْمِسْكِ")؛ أي: رائحته رائحة المسك، و"العرف" بفتح العين المهملة، وسكون الراء، في الأصل: الرائحة مطلقًا، ثم كَثُر استعماله في الرائحة الطيّبة.

والحكمة في كون الدم يأتي يوم القيامة على هيئته أنه يَشْهَد لصاحبه بفضله، وعلى ظالمه بفعله، وفائدة رائحته الطيبة أن تنتشر في أهل الموقف؛ إظهارًا لفضيلته أيضًا، ومن ثَمّ لم يُشرع غسل الشهيد في المعركة

(1)

.

(وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ فِي يَدِهِ، لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) تقدّم بلفظ "المسلمين"؛ إذ هو بمعناه، فهما كالفقير والمسكين إذا افترقا اجتمعا، وإذا اجتمعا افترقا، ففي حديث سؤال جبريل النبيّ صلى الله عليه وسلم عن الإيمان، والإسلام، افترقا، فقد فسّر له كلًّا منهما بغير ما فسّر به الآخر.

وفي رواية البخاريّ: "والذي نفسي بيده لولا أن رجالًا من المؤمنين لا تطيب أنفسهم"، في رواية:"لولا أن أشق على أمتي".

وفي هذه الرواية تفسير للمراد بالمشقة المذكورة، وهي أن نفوسهم لا تطيب بالتخلّف، ولا يقدرون على التأهب؛ لعجزهم عن آلة السفر، من مركوب وغيره، وتعذّر وجوده عند النبيّ صلى الله عليه وسلم، وصرّح بذلك في قوله:"ولكن لا أجد سعةً، فأحملهم، ولا يجدون سعةً، فيتبعوني. . ."، وعند الطبرانيّ من حديث أبي مالك الأشعريّ:"ولو خرجت ما بقي أحد فيه خير إلا انطلق معي، وذلك يشقّ عليّ، وعليهم".

ثم إن إيراد هذه الجملة - أعني قوله: "والذي نفسي بيده. . . إلخ" - عَقِب ما تقدّم إرادة تسلية الخارجين في الجهاد عن مرافقته لهم، وكأنه قال:

(1)

"الفتح" 1/ 587، كتاب "الوضوء" رقم (237).

ص: 375

الوجه الذي يسيرون له فيه من الفضل ما أتمنى لأجله أني أُقتل مرات، فمهما فاتكم من مرافقتي، والقعود معي من الفضل، يحصل لكم مثله، أو فوقه، من فضل الجهاد، فراعى خواطر الجميع، وقد خرج النبيّ صلى الله عليه وسلم في بعض المغازي، وتخلّف عنه المشار إليهم، وكان ذلك حيث رَجَحَت مصلحة خروجه على مراعاة حالهم، قاله في "الفتح"

(1)

.

(مَا) نافية، (قَعَدْتُ خَلْفَ سَرِيَّةٍ)؛ أي: بعد خروجها للجهاد، (تَغْزُو فِي سَبِيلِ اللهِ، وَلَكِنْ لَا أَجِدُ سَعَةً)؛ أي: مالًا أشتري به رواحل يركبونها (فَأَحْمِلَهُمْ) عليها، (وَلَا يَجِدُونَ سَعَةً)؛ أي: مالًا يشترون به رواحل، فيركبونها (فَيَتَّبِعُونِي، وَلَا تَطِيبُ أَنْفُسُهُمْ أَنْ يَقْعُدُوا بَعْدِي")، أي: بعد خروجي للغزو.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى البحث فيه مستوفًى، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4856]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، ما قَعَدْتُ خِلَافَ سَرِيَّةٍ"، بِمِثْلِ حَدِيثِهِمْ، وَبِهَذَا الْإِسْنَادِ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوَدِدْتُ أَنِّي أُقْتَلُ

(2)

فِي سَبِيلِ اللهِ، ثُمَّ أُحْيَى"، بِمِثْلِ حَدِيثِ أَبِي زُرْعَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(ابْنُ أَبِي عُمَرَ) هو: محمد بن يحيى بن أبي عمر الْعَدنيّ، ثم المكيّ، تقدّم قبل باب.

والباقون ذُكروا قبل حديث، و"سفيان" هو: ابن عيينة.

وقوله: (بِمِثْلِ حَدِيثِهِمْ) هكذا النسخ الموجودة عندنا، بضمير الجماعة، مع أن مرجعه اثنان، وهما أبو زرعة، وهمّام بن منبّه، وله وجه، وهو أنه أعاده

(1)

"الفتح" 7/ 59، كتاب "الجهاد" رقم (2798).

(2)

وفي نسخة: "لوددت أن أقتل".

ص: 376

على القول بأن أقلّ الجمع اثنان، وهو القول الراجح، كما حققته في "التحفة المَرْضيّة"، و"شرحها" في الأصول.

وأما ما وقع عند بعض الشرّاح

(1)

من تغليط ما وقع في النسخ، وإصلاحه بقوله:"بمثل حديثهما"، مع أنه لا يوجد على هذا الإصلاح نسخة من نُسخ الكتاب، فمما لا ينبغي، وهو تصرّف غير مقبول، فتنبّه، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

وقوله: (لَوَدِدْتُ أَنِّي أُقْتَلُ) قال في "العمدة": في الحديث أنه صلى الله عليه وسلم كان يتمنى من أفعال الخير ما يعلم أنه لا يعطاه؛ حرصًا منه على الوصول إلى أعلى درجات الشاكرين، وبذلًا لنفسه في مرضاة ربه، وإعلاء كلمة دينه، ورغبته في الازدياد من ثواب ربه، ولتتأسى به أمته في ذلك، وقد يثاب المرء على نيته.

وفيه إباحة القَسَم بالله على كلّ ما يعتقده المرء بما يحتاج فيه إلى يمين، وما لا يحتاج، وكذا ما كان يقول في كلامه:"لا، ومقلِّب القلوب"؛ لأن في اليمين بالله توحيدًا وتعظيمًا له تعالى، وإنما يُكره تعمّد الحنْث.

وفيه أن الجهاد ليس بفرض عين على كل أحد، ولو كان عينًا ما تخلف النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولا أباح لغيره التخلف عنه، ولو شقّ على أمته إذا كانوا يطيقونه، هذا إذا كان العدوّ لم يفجأ المسلمين في دارهم، ولا ظهر عليهم، وإلا فهو فرض عَيْن على كل من له قوّة.

وفيه أن الإمام والعالم يجوز لهما ترك فعل الطاعة، إذا لم يُطق أصحابه، ونصحاؤه على الإتيان بمثل ما يقدر عليه هو منها، إلى وقت قدرة الجميع عليها، وذلك من كرم الصحبة، وآداب الأخلاق.

وفيه عِظَم فضل الشهادة. انتهى

(2)

.

[تنبيه]: رواية سفيان بن عيينة، عن أبي الزناد هذه ساقها أبو عوانة رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(7309)

- حدّثنا الترمذيّ، قال: ثنا الحميديّ، قال: ثنا سفيان، قال:

(1)

هو: الشيخ الهرريّ، راجع: شرحه 20/ 175.

(2)

"عمدة القاري" 14/ 96.

ص: 377

ثنا أبو الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لولا أن أشقّ على المؤمنين ما قعدت خلاف سرية، أتخلّف عنها، ليس عندي ما أحملهم عليه، ويشقّ عليهم أن يتخلفوا بعدي". انتهى

(1)

.

وأما رواية سفيان التي أشار إليها مسلم بقوله: "وبهذا الإسناد. . . إلخ"، فقد ساقها الحميديّ رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(1040)

- حدّثنا الحميديّ، قال: ثنا سفيان، قال: ثنا أبو الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده، لوددت أني أقتل في سبيل الله، ثم أحيا، ثم أُقتل، ثم أحيا، ثم أقتل"، قال أبو هريرة: ثلاثًا أشهد لله. انتهى.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4857]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ - يَعْنِي: الثَّقَفِيَّ - (ح) وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ (ح) وَحَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، كُلُّهُمْ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي، لأَحْبَبْتُ أَنْ لَا أَتَخَلَّفَ خَلْفَ سَرِيَّةٍ"، نَحْوَ حَدِيثِهِمْ).

رجال هذا الإسناد: تسعة:

1 -

(عَبْدُ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيُّ) ابن عبد المجيد، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

2 -

(أَبُو مُعَاوِيَةَ) محمد بن خازم الضرير الكوفيّ، ثقةٌ، أحفظ الناس لحديث الأعمش، وقد يَهِم في حديث غيره، ورُمي بالإرجاء، من كبار [9](ت 195) وله (82) سنةً (ع) تقدّم في "الإيمان" 4/ 117.

3 -

(مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ) بن الحارث بن أسماء الفزاريّ، أبو عبد الله الكوفيّ، نزيل مكة، ثم دمشق، ثقةٌ حافظ، وكان يدلّس أسماء الشيوخ [8](ت 193)(ع) تقدّم في "الإيمان" 8/ 138.

(1)

"مسند أبي عوانة" 4/ 453.

ص: 378

4 -

(يَحْيَى بْنُ سَعِيدِ) بن قيس الأنصاريّ، أبو سعيد المدنيّ القاضي، ثقةٌ ثبتٌ [5](ت 144) أو بعدها (ع) تقدّم في "المقدمة" 6/ 36.

5 -

(أَبُو صَالِحٍ) ذكوان السّمّان الزيّات المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ [3](101)(ع) تقدّم في "المقدمة" 2/ 4.

والباقون ذُكروا في الباب وقبله.

وقوله: (كُلُّهُمْ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ)؛ يعني: أن الثلاثة، وهم: عبد الوهّاب الثقفيّ، وأبو معاوية، ومروان بن معاوية رووا هذا الحديث عن يحيى بن سعيد الأنصاريّ بسنده المذكور.

وقوله: (نَحْوَ حَدِيثِهِمْ) يعني: أن حديث أبي صالح هنا نحو حديث الثلاثة المتقدّمين، وهم: أبو زرعة، والأعرج، وهمّام بن منبّه، والله تعالى أعلم.

[تنبيه]: رواية يحيى بن سعيد، عن أبي صالح، عن أبي هريرة رضي الله عنه ساقها أبو عوانة رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(7316)

- حدّثنا يونس بن عبد الأعلى، قال: أنبأ ابن وهب، قال: أخبرني مالك بن أنس، وحدّثنا أبو أمية، قال: ثنا أحمد بن يونس، قثنا زهير، كلاهما عن يحيى بن سعيد، عن أبي صالح السمان، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لولا أن أشقّ على أمتي لأحببت أن لا أتخلف خلف سرية، تخرج في سبيل الله، ولكن لا أجد ما أحملهم عليه، ولا يجدون ما يتحملون عليه، فيخرجوا، ويشقّ عليهم أن يتخلفوا بعدي، فلوددت أني أقاتل في سبيل الله، فأقتل، ثم أحيى، ثم أقتل، ثم أحيى، ثم أقتل"، ثلاثًا. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4858]

(. . .) - (حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ سُهَيْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "تَضَمَّنَ اللهُ لِمَنْ خَرَجَ فِي سَبِيلِهِ - إِلَى قَوْلِهِ - مَا تَخَلَّفْتُ خِلَافَ سَرِيَّةٍ، تَغْزُو في سَبِيلِ اللهِ تَعَالَى

(2)

").

(1)

"مسند أبي عوانة" 4/ 455.

(2)

سقط من بعض النسخ لفظة: "تعالى".

ص: 379

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(سُهَيْلُ) بن أبي صالح السمّان، أبو يزيد المدنيّ، صدوقٌ تغيّر بآخره [6](ت 138)(ع) تقدّم في "الإيمان" 14/ 161.

والباقون ذُكروا في الباب، و"جَرِيرٌ" هو: ابن عبد الحميد.

وقوله: (تَضَمَّنَ اللهُ) معناه: أوجب له ذلك وقضاه

(1)

، وقال في "العمدة": لفظ الضمان، والتكفل، والتوكل، والانتداب الذي وقع في الأحاديث كلّها بمعنى تحقيق الوعد على وجه الفضل منه، وعبَّر صلى الله عليه وسلم عن الله سبحانه وتعالى بتفضيله بالثواب بلفظ الضمان، ونحوه بما جرت به العادة بين الناس بما تطمئنّ به النفوس، وتركن إليه القلوب. انتهى

(2)

.

[تنبيه]: رواية سهيل بن أبي صالح، عن أبيه هذه ساقها البيهقيّ رحمه الله في "الكبرى"، فقال:

(17669)

- أخبرنا أبو طاهر الفقيه، أنبأ حاجب بن أحمد الطوسيّ، ثنا عبد الرحيم بن منيب، ثنا جرير بن عبد الحميد (ح) وأخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أنبأ أبو الفضل بن إبراهيم، ثنا أحمد بن سلمة، ثنا إسحاق بن إبراهيم، أنبأ جرير، عن سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"تضمَّن الله لمن خرج في سبيله، لا يخرجه إلا إيمانًا به، وتصديقًا برسوله، أن يدخله الجنة، أو يرجعه إذا رجع إلى منزله نائلًا ما نال، من أجر، أو غنيمة، والذي نفسي بيده، لولا أن أشقّ على أمتي، ما تخلّفت خلاف سرية، تغزو في سبيل الله". انتهى

(3)

، والله تعالى أعلم.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(1)

"مشارق الأنوار" 2/ 60.

(2)

"عمدة القاري" 14/ 84.

(3)

"سنن البيهقيّ الكبرى" 9/ 39.

ص: 380

(29) - (بَابُ فَضْلِ الشَّهَادَةِ فِي سَبِيلِ اللهِ تَعَالَى)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4859]

(1877) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو خَالِدٍ الأَحْمَرُ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، وَحُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَا مِنْ نَفْسٍ تَمُوتُ لَهَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ، يَسُرُّهَا أَنَّهَا تَرْجِعُ إِلَى الدُّنْيَا، وَلَا أَنَّ لَهَا الدُّنْيَا

(1)

وَمَا فِيهَا، إِلَّا الشَّهِيدُ، فَإِنَّهُ يَتَمَنَّى

(2)

أَنْ يَرْجِعَ، فَيُقْتَلَ فِي الدُّنْيَا؛ لِمَا يَرَى مِنْ فَضْلِ الشَّهَادَةِ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(أَبُو خَالِدٍ الأَحْمَرُ) سليمان بن حيّان الأزدي الكوفي، صدوق يخطئ [8](ت 190) أو قبلها، وله بضع وسبعون سنة (ع) تقدم في "الإيمان" 5/ 120.

3 -

(شُعْبَةُ) بن الحجّاج الإمام الشهير، تقدّم قبل باب.

4 -

(قَتَادَةُ) بن دِعامة السَّدُوسيّ، تقدّم قريبًا.

5 -

(حُمَيْدُ) بن أبي حُميد الطويل، أبو عبيدة البصريّ، ثقةٌ عابدٌ [5](ت 2 أو 143)(ع) تقدّم في "الطهارة" 23/ 639.

6 -

(أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ) رضي الله عنه، تقدّم قبل بابين.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خُماسيّات المصنّف رحمه الله، وهو مسلسل بالبصريين، غير شيخه، وأبي خالد، فكوفيّان، وفيه أنس بن مالك رضي الله عنه أحد المكثرين السبعة، روى (2286) حديثًا، وهو آخر من مات من الصحابة رضي الله عنهم بالبصرة.

[تنبيه آخر]: قال الحافظ أبو عليّ الغسانيّ: ظاهر هذا الإسناد أن شعبة يرويه عن قتادة، وحُميد جميعًا عن أنس، قال: وصوابه أن أبا خالد يرويه عن

(1)

وفي بعض النسخ: "وأن لها الدنيا".

(2)

وفي نسخة: "إلا الشهيد، يتمنّى".

ص: 381

حميد، عن أنس، ويرويه أبو خالد أيضًا عن شعبة، عن قتادة، عن أنس، قال: وهكذا قاله عبد الغنىّ بن سعيد

(1)

.

قال القاضي عياض: فيكون حميد معطوفًا على شعبة، لا على قتادة، قال: وقد ذكره ابن أبي شيبة في كتابه، عن أبي خالد، عن حميد، وشعبة، عن قتادة، عن أنس، فبيّنه، وإن كان فيه أيضًا إيهامٌ، فإن ظاهره أن حميدًا يرويه عن قتادة، وليس المراد كذلك، بل المراد أن حميدًا يرويه عن أنس، كما سبق. انتهى

(2)

.

شرح الحديث:

(عَنْ شُعْبَةَ) بن الحجّاج (عَنْ قَتَادَةَ) بن دِعامة (وَحُمَيْدٍ) تقدّم أنه معطوف على شعبة، لا على قتادة، فإن أبا خالد يرويه عن شعبة، عن قتادة، عن أنس، ويرويه أيضًا عن حُميد، عن أنس، فتنبّه.

[تنبيه]: كتب بعض من علّق

(3)

على "صحيح مسلم" هنا كلامًا غريبًا، حيث قال: وزيادة "حميد" في الإسناد غلطٌ من أبي خالد الأحمر، وهو معروف بالأوهام، ثم قال: نعم يُروى من طريق حميد وحده عند البخاريّ (2795)، والترمذيّ (1643) ولكن لا يرويه عنه شعبة، أو لا يُعرف من طريق شعبة، ولو كان لاشتهر عنه. انتهى كلامه الغريب.

وهذا القول من هذا الكاتب لا سلف له فيما أعلم، وهل بعد ثبوت رواية حميد عند البخاريّ وغيره يقال: زيادته عند مسلم غلط؟، فهل كان الكاتب أعلم من مسلم، ومن الحفّاظ الذين تكلّموا على هذا الإسناد؛ كالحافظ عبد الغنيّ بن سعيد، والحافظ الجيّانيّ، والحافظ ابن حجر، فإنه ذكره في "الفتح"، وأقرّه؟، وغيرهم، فَلِمَ لم يُشر واحد منهم إلى ما قاله، بل وافقوا مسلمًا عليه، وثبّتوه، ولكن بيّنوا ما وقع فيه من الإيهام فقط.

ولا يُستغرب من هذا القائل هذا، فإنه قد مضى له مثل هذه الجرأة بتغليط

(1)

"تقييد المهمل" 3/ 885.

(2)

"إكمال المعلم" 6/ 297، و"شرح النوويّ" 13/ 23 - 24.

(3)

هو: الشيخ مسلم بن محمود عثمان، كما هو موجود في غلاف النسخة، راجع كلامه هذا في: 3/ 422.

ص: 382

ما صححه مسلم غير مرّة، وقد نبّهت على ذلك في بعض المواضع، وإياك أن تغترّ بمثله، والله يتولّى هداي وهداك، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

(عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ) رضي الله عنه، وفي الرواية التالية: عن قتادة قال: "سمعت أنس بن مالك"، فصرّح قتادة بالسماع. (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) أنه (قَالَ:"مَا)، نافية (مِنْ) زائدة، كما قال في "الخلاصة":

وَزِيدَ فِي نَفْيٍ وَشِبْهِهِ فَجَرّْ

نَكِرَةً كَـ "ما لِبَاغٍ مِنْ مَفَرّْ"

(نَفْسٍ) وفي الرواية التالية: "ما من أحد"، (تَمُوتُ لَهَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ، يَسُرُّهَا أَنَّهَا تَرْجِعُ إِلَى الدُّنْيَا)، وقوله:(وَلَا أَنَّ لَهَا الدُّنْيَا)، جملة معطوفة على جملة "أنها ترجع"؛ أي: لا يسرّها رجوعها، ولا يسرّها أنها تملك الدنيا وما فيها، ووقع في بعض النسخ:"وأن لها الدنيا" بحذف "لا"، فالواو على هذا الوجه حاليّة، والمعنى: لا يسرّها رجوعها إلى الدنيا، حال كونها مالكةً للدنيا وما فيها، والظاهر أن ما في هذه النسخة ألْيق بالمقام، وأوضح في المعنى، والله تعالى أعلم.

والأقرب أن المراد بالدنيا: هي الأرض، يوضّح ذلك ما في الرواية التالية بلفظ:"ما مِنْ أَحَدٍ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ يُحِبُّ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا، وَأَنَّ لَهُ مَا عَلَى الأَرْضِ مِنْ شَيْءٍ"، ولذا عَطَف عليها قوله:(وَمَا فِيهَا)؛ أي: من المنافع والملاذّ، والزخارف. (إِلَّا الشَّهِيدُ) رُوي بالرفع على أنه بدلٌ من "نفس" باعتبار محلّها؛ لأنها في محلّ رفع بالابتداء، ورُوي بالنصب على الاستثناء.

و"الشهيد": من قتله الكفّار في المعركة، فَعِيلٌ بمعنى مفعول؛ لأن ملائكة الرحمة شهِدت غسله، أو شهدت نقل روحه إلى الجنّة، أو لأن الله تعالى شَهِد له بالجنّة، قاله الفيّوميّ رحمه الله

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: سُمي الشهيد شهيدًا؛ لأنه يُرزق، ويُشاهِد الجنة، وما أكرمه الله تعالى به، وقيل: لأنه ممن يَشهَد على الأمم يوم القيامة، وقيل: لأن الله تعالى وملائكته شهدوا له بالرضا والرضوان، فعلى هذا يكون فعيل

(1)

"المصباح المنير" 1/ 324.

ص: 383

بمعنى: مفعول؛ أي: مشهود له، وعلى التأويلين الأوَّلين بمعنى: فاعل. انتهى

(1)

.

وقال النوويّ رحمه الله: وأما سبب تسميته شهيدًا، فقال النضر بن شُميل: لأنه حيٌّ، فإن أرواحهم شَهِدت، وحضرت دار السّلام، وأرواح غيرهم إنما تشهدها يوم القيامة.

وقال ابن الأنباريّ: لأن الله تعالى، وملائكته - عليهم الصلاة والسلام - يشهدون له بالجنة، وقيل: لأنه شَهِد عند خروج روحه ما أعدّه الله تعالى له من الثواب والكرامة، وقيل: لأن ملائكة الرحمة يشهدونه، فيأخذون روحه، وقيل: لأنه شُهِد له بالإيمان، وخاتمة الخير بظاهر حاله، وقيل: لأن عليه شاهدًا بكونه شهيدًا، وهو الدم، وقيل: لأنه ممن يشهد على الأمم يوم القيامة بإبلاغ الرسل الرسالةَ إليهم، وعلى هذا القول يشاركهم غيرهم في هذا الوصف. انتهى

(2)

.

(فَإِنَّهُ)؛ أي: الشهيد (يَتَمَنَّى) ووقع في بعض النسخ: "إلا الشهيد يتمنّى"، فسقطت لفظة "فإنه"، قال في "الفتح" عند شرح قول البخاريّ:"كتاب التمنّي" ما نصّه: والتمني: تفعّلٌ من الأمنية، والجمع أمانيّ، والتمني: إرادةٌ تتعلق بالمستقبل، فإن كانت في خيرٍ من غير أن تتعلق بحسد، فهي مطلوبة، وإلا فهي مذمومة، وقد قيل: إن بين التمني والترجي عمومًا وخصوصًا، فالترجي في الممكن، والتمني في أعم من ذلك، وقيل: التمني يتعلق بما فات، وعَبَّر عنه بعضهم بطلب ما لا يمكن حصوله، وقال الراغب: قد يتضمن التمني معنى الوُدّ؛ لأنه يتمنى حصول ما يَوَدّ. انتهى

(3)

.

(أَنْ يَرْجِعَ) إلى الدنيا، (فَيُقْتَلَ فِي الدُّنْيَا)؛ أي: في سبيل الله عز وجل، ثم علّل هذا التمنّي المستحيل المنال، بقوله:(لِمَا يَرَى مِنْ فَضْلِ الشَّهَادَةِ") وفي الرواية التالية: "فَإِنَّهُ يَتَمَنَّى أَنْ يَرْجِعَ، فَيُقْتَلَ عَشْرَ مَرَّاتٍ؛ لِمَا يَرَى مِنَ الْكَرَامَةِ".

وحاصل المعنى: أن هذا التمنّي، وإن كان محالًا في نفسه لكنّ الشهيد

(1)

"المفهم" 3/ 708.

(2)

"شرح النووي" 13/ 24.

(3)

"الفتح" 17/ 75، كتاب "التمني" رقم (7226).

ص: 384

يتمنّاه حيث يرى فضل الله سبحانه وتعالى العظيم الذي يعطيه للشهداء، فيظنّ أنه مما يُنال بالتمنّي، ولكنه لا يُنال، ففي حديث جابر عند الترمذيّ وصححه الحاكم قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا أخبرك ما قال الله لأبيك؟ قال: يا عبد الله تَمَنَّ عليّ أُعطك، قال: يا ربّ تُحييني، فأُقتل فيك ثانيةً، قال: إنه سبق منّي أنهم إليها لا يرجعون"، فقد بيّن أن الشهيد لا ينال ما يتمنّاه من الرجوع إلى الدنيا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أنس بن مالك رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [29/ 4859 و 4860](1877)، و (البخاريّ) في "الجهاد"(2795 و 2817)، و (الترمذيّ) في "فضل الجهاد"(1643)، و (النسائيّ) في "الجهاد"(6/ 36) و"الكبرى"(4368)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 207 و 208)، و (ابن المبارك) في "الجهاد"(1/ 42)، و (الدارميّ) في "سننه"(2409)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4661 و 4662)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 457)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(5/ 392 و 6/ 8)، و (عبد بن حُميد) في "مسنده"(1/ 353)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(9/ 163)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(2628)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان فضل الشهادة في سبيل الله عز وجل.

2 -

(ومنها): بيان ما يتمنّاه الشهيد من الرجوع إلى الدنيا، حتى يُستشهد في سبيل الله مرّة أخرى.

3 -

(ومنها): بيان أن من كان من أهل الخير لا يتمنّى الرجوع إلى الدنيا؛ لحقارتها، وعِظَم ما ناله من نعيم الجنة التي موضع سوط منها خير من الدنيا وما فيها، فعن سهل بن سعد الساعديّ رضي الله عنه، مرفوعًا:"موضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها"، متّفقٌ عليه.

4 -

(ومنها): ما قاله النوويّ رحمه الله: هذا من صرائح الأدلة في عظيم فضل

ص: 385

الشهادة، والله المحمود المشكور

(1)

.

وقال ابن بطّال رحمه الله: هذا الحديث أجلّ ما جاء في فضل الشهادة، قال: وليس في أعمال البرّ ما تُبْذل فيه النفس غير الجهاد، فلذلك عظُم فيه الثواب. انتهى

(2)

، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4860]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ، يُحَدِّثُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "ما مِنْ أَحَدٍ

(3)

يَدْخُلُ الْجَنَّةَ يُحِبُّ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا، وَأَنَّ لَهُ مَا عَلَى الأَرْضِ مِنْ شَيْءٍ، غَيْرُ الشَّهِيدِ، فَإِنَّهُ يَتَمَنَّى أَنْ يَرْجِعَ، فَيُقْتَلَ عَشْرَ مَرَّاتٍ؛ لِمَا يَرَى مِنَ الْكَرَامَةِ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

وقد مضى، فالثلاثة الأولون تقدّموا قبل بابين، والباقون ذُكروا في السند الماضي.

وقوله: (مَا مِنْ أَحَدٍ) وفي بعض النسخ: "ما أحد"، وهو مبتدأ خبره جملة:"يحبّ. . . إلخ".

وقوله: (يَدْخُلُ الْجَنَّةَ) جملة في محلّ رفع صفة "أحد"؛ لأنه في موضع رفع بالابتداء.

وقوله: (يُحِبُّ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا) جملة في محلّ رفع خبر المبتدأ.

وقوله: (وَأَنَّ لَهُ مَا عَلَى الأَرْضِ مِنْ شَيْءٍ)"ما" موصولة اسم "أنّ" مؤخّرًا، وخبرها الجار والمجرور قبله، و"من شيء" بيان لـ "ما"، وجملة "وأن له. . . إلخ" حالٌ من فاعل "يُحبّ"، والواو فيه حاليّة.

وقوله: (غَيْرُ الشَّهِيدِ) بالرفع على البدليّة من فاعل "يُحبّ"، أو بالنصب على الاستثناء.

(1)

"شرح النوويّ" 13/ 24.

(2)

راجع: "الفتح" 6/ 115.

(3)

وفي نسخة: "ما أحدٌ".

ص: 386

وقوله: (فَإِنَّهُ يَتَمَنَّى) الفاء فيه للتعليل؛ لأنه يتمنّى أَنْ يَرْجِعَ إلى الدنيا.

وقوله: (لِمَا يَرَى مِنَ الْكَرَامَةِ)؛ أي: لِمَا يُشاهد من إكرام الله سبحانه وتعالى الشهداء.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام البحث فيه فيما قبله، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4861]

(1878) - (حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ الْوَاسِطِيُّ، عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قِيلَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: مَا يَعْدِلُ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللهِ عز وجل؟ قَالَ: "لَا تَسْتَطِيعُونَهُ"، قَالَ: فَأَعَادُوا عَلَيْهِ مَرَّتَيْنِ، أَوْ ثَلَاثًا، كُلُّ ذَلِكَ يَقُولُ:"لَا تَسْتَطِيعُونَهُ"، وَقَالَ

(1)

فِي الثَّالِثَةِ: "مَثَلُ الْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللهِ؛ كَمَثَلِ الصَّائِمِ الْقَائِمِ الْقَانِتِ بِآيَاتِ اللهِ، لَا يَفْتُرُ مِنْ صِيَامٍ، وَلَا صَلَاةٍ، حَتَّى يَرْجِعَ الْمُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللهِ تَعَالَى").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورِ) بن شعبة، أبو عثمان الخراسانيّ، نزيل مكة، ثقةٌ مصنّفٌ، وكان لا يرجع عما في كتابه؛ لشدّة وثوقه به [10](ت 227) أو بعدها (ع) تقدّم في "الإيمان" 61/ 338.

2 -

(خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ الْوَاسِطِيُّ) أبو الهيثم المزنيّ مولاهم، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 182)(ع) تقدّم في "الإيمان" 78/ 407.

والباقون ذُكروا قبل حديثين.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: قِيلَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم)، وفي رواية البخاريّ:"قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: دُلّني على عمل يَعْدل الجهاد"، قال الحافظ: لم أقف على الرجل. (مَا) استفهاميّة، (يَعْدِلُ) بكسر الدال المهملة؛ أي: يماثله، يقال: عَدَلتُ هذا بهذا عَدْلًا، من باب ضرب: إذا

(1)

وفي نسخة: "قال".

ص: 387

جعلته مِثله، قائمًا مقامه، قال الله تعالى:{ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام: 1]، وعِدل الشيء بالكسر: مِثْله من جنسه، أو مقدارِهِ، قال ابن فارس: الْعِدل: الذي يعادل في الوزن والقدر، وعَدْله بالفتح: ما يقوم مقامه من غير جنسه، ومنه قوله تعالى:{أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا} [المائدة: 95]، وهو في الأصل مصدر، أفاده الفيّوميّ

(1)

. (الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللهِ عز وجل؟ قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("لَا تَسْتَطِيعُونَهُ")؛ أي: لا تستطيعون القيام بما يعادل الجهاد؛ لأنه أشقّ، ووقع في بعض النسخ:"لا تستطيعوه" بحذف النون، قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في معظم النسخ: "لا تستطيعوه"، وفي بعضها:"لا تستطيعونه" بالنون، وهذا جارٍ على اللغة المشهورة، والأول صحيح أيضًا، وهي لغة فصيحة حَذْف النون من غير ناصب، ولا جازم، وقد سبق بيانها، ونظائرها مرات. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: حَذْف نون الرفع بلا ناصب، وجازم لغة، ذكرها ابن مالك رحمه الله في "الكافية الشافية"، فقال:

وَدُونَ "نِي" فِي الرَّفْعِ حَذْفَهَا حَكَوْا

فِي النَّثْرِ وَالنَّظْمِ وَمِمَّا قَدْ رَوَوْا

"أَبِيتُ أَسْرِي وَتَبِيتِي تَدْلُكِي

وَجْهَكِ بِالْعَنْبَرِ وَالْمِسْكِ الذَّكِي"

(قَالَ) الراوي، وهو أنس رضي الله عنه، (فَأَعَادُوا) السؤال (عَلَيْهِ) صلى الله عليه وسلم (مَرَّتَيْنِ، أَوْ ثَلَاثًا، كُلُّ ذَلِكَ)؛ أي: كلّ السؤال المعاد (يَقُولُ) فيه النبيّ صلى الله عليه وسلم ("لَا تَسْتَطِيعُونَهُ") وفي رواية البخاريّ قال صلى الله عليه وسلم في الجواب: "لا أجده"، قال:"هل تستطيع إذا خرج المجاهد أن تدخل مسجدك، فتقوم، ولا تفتُر، وتصوم، ولا تُفطر؟ "، قال: ومن يستطيع ذلك؟ قال أبو هريرة: إن فرس المجاهد ليستنّ في طِوَله، فيُكتب له حسنات.

وأخرج الطبرانيّ نحو هذا الحديث من حديث سهل بن معاذ بن أنس، عن أبيه، وقال في آخره:"لم يبلغ العُشر من عمله".

(وَقَالَ) وفي بعض النسخ: "قال" بحذف الواو، (فِي الثَّالِثَةِ)؛ أي: في المرّة الثالثة من مرّات السؤال ("مَثَلُ الْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللهِ، كَمَثَلِ الصَّائِمِ الْقَائِمِ الْقَانِتِ)؛ أي: المطيع، (بِآيَاتِ اللهِ)؛ أي: بتلاوة القرآن الكريم.

(1)

"المصباح المنير" 2/ 396.

(2)

"شرح النوويّ" 13/ 24.

ص: 388

وقال ابن الأثير رحمه الله في "النهاية": القنوت في الحديث يَرِدُ بمعانٍ متعدّدة؛ كالطاعة، والخشوع، والصلاة، والصوم، والدعاء، والعبادة، والقيام، وطول القيام، والسكوت.

قال الطيبيّ رحمه الله: يَحْتَمِل أن يراد بالقانت هنا القائم، فيكون تعلّق الباء به كتعلّقه في قولك: قام بالأمر: إذا جدّ فيه، وتجلّد له، فالمعنى: القائم بما يجب عليه من استفراغ الجهد في معرفة كتاب الله، والامتثال بما أمر الله، والانتهاء عما نهى الله، وأن يُراد بطول القيام، فيكون تابعًا للقائم؛ أي: المصلّي الذي يطوّل قيامه في الصلاة، وتكثُر قراءته فيها، ويؤيّد الوجه الثاني قوله:"لا يفتر من صيام، ولا صلاة". انتهى

(1)

.

(لَا يَفْتُرُ) بضمّ التاء، يقال: فَتَرَ عن العمل فُتُورًا، من قَعَدَ: انكسرت حِدّته، وَلَانَ بعد شِدّته

(2)

. (مِنْ صِيَامٍ) متعلّق بـ "يفتُر"، (وَلَا صَلَاةٍ، حَتَّى يَرْجِعَ الْمُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللهِ تَعَالَى")؛ أي: سَلِم من القتل، أو يُستشهد.

وفي رواية البخاريّ: "مَثَل المجاهد في سبيل الله - والله أعلم بمن يجاهد في سبيله - كمَثَل الصائم، القائم، وتوكل الله للمجاهد في سبيله بأن يتوفاه أن يدخله الجنة، أو يرجعه سالِمًا مع أجر، أو غنيمة".

وفي رواية النسائي: "مَثَل المجاهد في سبيل الله - والله أعلم بمن يجاهد في سبيله - كمثل الصائم القائم الخاشع الراكع الساجد"، وفي "الموطأ"، وابن حبان:"كمثل الصائم القائم الدائم الذي لا يفتر من صيام ولا صلاة، حتى يرجع"، ولأحمد، والبزار، من حديث النعمان بن بشير، مرفوعًا:"مثل المجاهد في سبيل الله، كمثل الصائم نهاره، القائم ليله".

[فإن قلت]: فبم شُبّه حال المجاهد في سبيل الله بحال الصائم؟.

[أجيب]: بأن ذلك في نيل الثواب في كل حركة وسكون، في كلّ حين وأوان؛ لأن المراد من الصائم القائم: من لا يفتر ساعةً من ساعاته آناء الليل وأطراف النهار من صومه وصلاته، شُبّه حال المجاهد الذي لا تخلو ساعةٌ من

(1)

"الكاشف عن حقائق السنن" 8/ 2623 - 2624.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 461.

ص: 389

ساعاته من أجر وثواب، سواء كان قائمًا، أو نائمًا، يقاتل العدوّ، أم لا، كما قال في الحديث:"إن المجاهد لتستنّ فرسه، فيكتب له حسنات"، بالصائم القائم الذي لا يفتر عما هو فيه، فهو من التشبيه الذي المشبّه به مفروض، غير محقّق؛ وهذا ما يؤخذ من قوله تعالى:{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120) وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [التوبة: 120، 121]. انتهى كلام الطيبيّ رحمه الله بتصرّف

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [29/ 4861 و 4862](1878)، و (البخاريّ) في "الجهاد"(2787)، و (الترمذيّ) في "الجهاد"(4/ 164)، و (النسائيّ) في "الجهاد"(6/ 18) و"الكبرى"(3/ 12 - 13)، و (مالك) في "الموطّأ"(2/ 443)، و (ابن المبارك) في "الجهاد"(1/ 33 و 34 و 42 و 47)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(5/ 254)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(4/ 202)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 459)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(8/ 333)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(10/ 222)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4621 و 4622 و 4626)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 456 و 457 و 464 و 456)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(9/ 158) و"شعب الإيمان"(4/ 6 و 10)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(2613)، و (ابن أبي عاصم) في "الجهاد"(1/ 182 و 183 و 184)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(1)

راجع: "الكاشف عن حقائق السنن" 8/ 2623 - 2624.

ص: 390

1 -

(منها): بيان فضل الجهاد في سبيل الله سبحانه وتعالى، قال النوويّ رحمه الله: في هذا الحديث عظيم فضل الجهاد؛ لأن الصلاة، والصيام، والقيام بآيات الله أفضل الأعمال، وقد جُعل المجاهد مثل من لا يفتر عن ذلك في لحظة من اللحظات، ومعلوم أن هذا لا يتأتى لأحد، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم:"لا تستطيعونه".

وقال القاضي عياض رحمه الله: اشتَمَل حديث الباب على تعظيم أمر الجهاد؛ لأن الصيام وغيره مما ذُكر من أفاضل الأعمال قد عدلها كلّها الجهادُ حتى صارت جميع حالات المجاهد، وتصرفاته المباحة معادلة لأجر المواظب على الصلاة وغيرها، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم:"لا تستطيعون ذلك". انتهى

(1)

.

وقال أبو عمر بن عبد البرّ رحمه الله: هذا الحديث من أجلّ حديثٍ رُوي في فضل الجهاد؛ لأنه مثَّله بالصلاة، والصيام، وهما أفضل الأعمال، وجَعَل المجاهد بمنزلة من لا يفتر عن ذلك ساعةً، فأيّ شيء أفضل من شيء، يكون صاحبه راكبًا، وماشيًا، وراقدًا، ومتلذّذًا بكثير ما أبيح له، من حديث رفيقه، وأكله، وشربه، وهو في ذلك كله كالمصلي التالي للقرآن في صلاته الصائم المجتهد؟ ولذلك قلنا إن الفضائل لا تُدرك بقياس، وإنما هو تفضّل من الله عز وجل، قال الله عز وجل:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11)} إلى قوله تعالى: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [الصف: 10 - 13]. انتهى

(2)

.

2 -

(ومنها): أن فيه استعمالَ القياس، والتشبيه، والتمثيل في الأحكام؛ لأنه شَبَّه المجاهد بالصائم القائم.

3 -

(ومنها): أن الفضائل لا تُدرك بالقياس، وإنما هي إحسان من الله تعالى لمن شاء.

4 -

(ومنها): أنه استُدِلّ به على أن الجهاد أفضل الأعمال مطلقًا؛ لِمَا تقدم تقريره، وقال ابن دقيق العيد رحمه الله: القياس يقتضي أن يكون الجهاد أفضل الأعمال التي هي وسائل؛ لأن الجهاد وسيلة إلى إعلان الدين، ونشره، وإخماد الكفر، ودَحْضه، ففضيلته بحسب فضيلة ذلك، والله أعلم.

(1)

"إكمال المعلم" 6/ 297.

(2)

"الاستذكار" 5/ 4.

ص: 391

5 -

(ومنها): ما قاله في "الفتح": وهذه فضيلة ظاهرة للمجاهد في سبيل الله تقتضي أن لا يعدل الجهادَ شيء من الأعمال، وأما ما جاء في حديث ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعًا:"ما العمل في أيام أفضل منه في هذه" - يعني: أيام العشر - قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: "ولا الجهاد"، فَيَحْتَمِل أن يكون عموم حديث الباب خُصّ بما دلّ عليه حديث ابن عباس، ويَحْتَمِل أن يكون الفضل الذي في حديث الباب مخصوصًا بمن خرج قاصدًا المخاطرة بنفسه وماله، فأصيب، كما في بقية حديث ابن عباس رضي الله عنهما:"خَرَج يخاطر بنفسه، وماله، فلم يرجع بشيء"، فمفهومه أن من رجع بذلك لا ينال الفضيلة المذكورة.

قال: وأشدّ مما تقدم في الإشكال ما أخرجه الترمذيّ وابن ماجه وأحمد، وصححه الحاكم من حديث أبي الدرداء، مرفوعًا:"ألا أنبئكم بخير أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إنفاق الذهب والورق، وخير لكم من أن تلقوا عدوّكم فتضربوا أعناقهم، ويضربوا أعناقكم؟ " قالوا: بلى، قال:"ذِكْر الله"، فإنه ظاهر في أن الذِّكر بمجرّده أفضل من أبلغِ ما يقع للمجاهد، وأفضل من الإنفاق مع ما في الجهاد، والنفقة من النفع المتعدي. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: هكذا استشكل في "الفتح"، ولم يذكر جوابه، ويجاب بأن هذا أيضًا مخصوص من عموم حديث الباب، فيكون الذكر أفضل، وذلك فضل من الله عز وجل، {وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [البقرة: 105]، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4862]

(. . .) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ (ح) وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ (ح) وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، كُلُّهُمْ عَنْ سُهَيْلٍ، بِهَذَا الإِسْنَادِ، نَحْوَهُ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

وكلّهم ذُكروا في الباب وقبله.

ص: 392

وقوله: (كُلُّهُمْ عَنْ سُهَيْلٍ)؛ يعني: أن الثلاثة، وهم: أبو عوانة، وجرير بن عبد الحميد، وأبو معاوية رووا هذا الحديث عن سُهيل بن أبي صالح بسنده الماضي.

[تنبيه]: رواية أبي عوانة، عن سهيل، ساقها الترمذيّ رحمه الله في "جامعه"، فقال:

(1619)

- حدّثنا قُتيبة بن سعيد، حدّثنا أبو عوانة، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: قيل: يا رسول الله ما يَعْدِل الجهاد؟ قال: "إنكم لا تستطيعونه"، فردّوا عليه مرّتين، أو ثلاثًا، كل ذلك يقول:"لا تستطيعونه"، فقال في الثالثة:"مثلُ المجاهد في سبيل الله مثل القائم الصائم الذي لا يفتر من صلاة، ولا صيام، حتى يرجع المجاهد في سبيل الله". انتهى

(1)

.

ورواية جرير بن عبد الحميد، عن سُهيل، ساقها البيهقيّ رحمه الله في "الكبرى"، فقال:

(18270)

- أخبرنا أبو طاهر الفقيه، أنبأ حاجب بن أحمد بن سفيان الطوسيّ، ثنا عبد الرحيم بن منيب، ثنا جرير بن عبد الحميد (ح) وأخبرنا أبو عبد الله الحافظ، ثنا أبو بكر أحمد بن إسحاق إملاءً، ثنا أحمد بن سلمة، ثنا إسحاق بن إبراهيم، أنبأ جرير، عن سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قالوا: يا رسول الله أخبرنا ما يَعْدِل الجهادَ في سبيل الله؟ قال: "إنكم لا تستطيعون"، قلنا: بلى، قال:"إنكم لا تستطيعونه"، قال: فلا أدري في الثالثة، أم في الرابعة:"مَثَل المجاهد في سبيل الله، كمثل الصائم القائم القانت بآيات الله، لا يفتر من صلاة، ولا صيام، حتى يرجع المجاهد إلى أهله". انتهى

(2)

.

ورواية أبي معاوية، عن سُهيل، ساقها أبو بكر بن أبي شيبة رحمه الله في "مصنّفه"، فقال:

(19314)

- حدّثنا أبو معاوية، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن

(1)

"جامع الترمذيّ" 4/ 164.

(2)

"سنن البيهقي الكبرى" 9/ 158.

ص: 393

أبي هريرة، قال: قالوا: يا رسول الله أخبرنا بعمل يعدل الجهاد في سبيل الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا تطيقونه"، قالوا: يا رسول الله أخبرنا، فلعلنا أن نطيقه، قال: "مثل المجاهد في سبيل الله؛ كمثل الصائم القائم القانت بآيات الله، لا يفتر من صيام، ولا صدقة

(1)

، حتى يرجع المجاهد إلى أهله". انتهى

(2)

، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4863]

(1879) - (حَدَّثَنِي حَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْحُلْوَانِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو تَوْبَةَ، حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ سَلَّامٍ، عَنْ زيدِ بْنِ سَلَّامٍ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَلَّامٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ، قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ مِنْبَرِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ رَجُلٌ: مَا أُبالِي أَنْ لَا أَعْمَلَ عَمَلًا بَعْدَ الإِسْلَامِ، إِلَّا أَنْ أُسْقِيَ الْحَاجَّ، وَقَالَ آخَرُ: مَا أُبالِي أَنْ لَا أَعْمَلَ عَمَلًا بَعْدَ الإِسْلَامِ، إِلا أَنْ أَعْمُرَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، وَقَالَ آخَرُ

(3)

: الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَفْضَلُ مِمَّا قُلْتُمْ، فَزَجَرَهُمْ عُمَرُ، وَقَالَ: لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ عِنْدَ مِنْبَرِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، وَلَكِنْ اِذَا صَلَّيْتُ الْجُمُعَةَ

(4)

دَخَلْتُ، فَاسْتَفْتَيْتُهُ فِيمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ، فَأَنْزَلَ اللهُ عز وجل:{أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} الآيَةَ إلَى آخِرِهَا [التوبة: 19]).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(حَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْحُلْوَانِيُّ) الهُذليّ، أبو عليّ الخلّال، نزيل مكة، ثقةٌ حافظٌ، له تصانيف [11](ت 242)(خ م د ت ق) تقدّم في "المقدمة" 4/ 24.

2 -

(أَبُو تَوْبَةَ) الربيع بن نافع الْحَلبيّ، نزيل طَرَسوس، ثقةٌ حجةٌ عابدٌ [10](ت 241)(خ م د س ق) تقدّم في "الحيض" 7/ 722.

3 -

(مُعَاوِيَة بْنُ سَلَّام) بن أبي سلّام - بتشديد اللام - الدمشقيّ، وكان

(1)

هكذا النسخة: "ولا صدقة"، ولعله:"ولا صلاة"، كسائر الروايات، فليُحرّر، والله تعالى أعلم.

(2)

"مصنف ابن أبي شيبة" 4/ 202.

(3)

وفي نسخة: "وقال الآخر".

(4)

وفي نسخة: "إذا صُلِّيَتِ الجمعة" ببناء الفعل للمفعول.

ص: 394

يسكن حَمْصَ، ثقةٌ [7] مات في حدود (170)(ع) تقدّم في "الإيمان" 49/ 309.

4 -

(زَيْدُ بْنُ سَلَّامِ) بن أبي سلّام الدمشقيّ، ثقةٌ [6](بخ م 4) تقدّم في "الطهارة" 1/ 540.

5 -

(أَبُو سَلَّامٍ) ممطور الأسود الْحَبَشيّ الدمشقيّ، ثقةٌ يُرسل [3](بخ م 4) تقدّم في "الطهارة" 1/ 540.

6 -

(النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرِ) بن سعد بن ثعلبة الأنصاريّ الْخَزرجيّ الصحابيّ ابن الصحابيّ المدنيّ، ثم الشاميّ، ثم الكوفيّ، وَلي إمرة الكوفة، ثم قُتل بحمص سنة (65) وله (64) سنةً (ع) تقدّم في "الإيمان" 97/ 522.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وهو مسلسل بالشاميين، غير شيخه، فمكيّ، وأبي توبة، فحلبيّ، وهو مسلسل بالتحديث، والسماع، غير محل واحد، والإسناد التالي كلّه مسلسل بالتحديث، والإخبار، والسماع، وفيه رواية الراوي، عن أخيه، عن أبيهما، فإن زيدًا أخو معاوية، وكلاهما ولدا أبي سلّام، والصحابيّ ابن صحابيّ، من مشاهير الصحابة رضي الله عنهم.

شرح الحديث:

(عَنْ زَيْدِ بْنِ سَلَّامٍ) بتشديد اللام، (أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَلَّامٍ) ممطورًا الحبشيّ (قَالَ: حَدَّثَنِي النُّعْمَانُ بْن بَشِيرٍ) رضي الله عنهما (قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ مِنْبَرِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ رَجُلٌ) هو العبّاس بن عبد المطّلب

(1)

، كما قاله الخطيب

(2)

. (مَا أُبَالِي)؛ أي: لا أهتمّ، ولا أكترث (أَنْ لَا أَعْمَلَ عَمَلًا بَعْدَ الإِسْلَامِ)؛ أي: بعد إسلامي، وإيماني بالله تعالى (إِلَّا أَنْ أُسْقِيَ الْحَاجَّ) بضمّ حرف المضارعة، وفَتْحها، يقال: سقاه، وأسقاه، ثلاثيًّا، ورباعيًّا، فمن الأول قوله تعالى:{وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا} [الإنسان: 21]، ومن الثاني قوله:{لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا} [الجن: 16]؛ أي: إلا عمل سقاية الحاجّ، فإني أهتمّ إن لم أعمله. (وَقَالَ آخَرُ) هو عثمان بن طلحة، أو شيبة بن عثمان، وهما صحابيّان، من بني عبد الدار،

(1)

راجع: "تنبيه المعلم بمبهمات صحيح مسلم" لسبط ابن العجميّ ص 327.

(2)

"الأسماء المبهمة" رقم (219).

ص: 395

وكانا يليان حجابة البيت، وقد ذُكر أنهما تكلّما جميعًا في ذلك، قاله الخطيب أيضًا

(1)

. (مَا أُبَالِي أَنْ لَا أَعْمَلَ عَمَلًا بَعْدَ الإِسْلَامِ، إِلَّا أَنْ أَعْمُرَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، وَقَالَ آخَرُ) وفي بعض النسخ: "وقال الآخر"، وهو عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، قاله الخطيب أيضًا

(2)

. (الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَفْضَلُ مِمَّا قُلْتُمْ، فَزَجَرَهُمْ عُمَرُ) بن الخطّاب رضي الله عنه؛ أي: نهاهم، وزجرهم (وَقَالَ: لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ عِنْدَ مِنْبَرِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) قال الأبيّ: رفعُ الصوت هو ما زاد على قدر إسماع المخاطب

(3)

، وقوله:(وَهُوَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ) يَحْتمل أن يكون من كلام عمر رضي الله عنه قاله تأكيدًا لنهيهم عن رفع أصواتهم، وفيه كراهة رفع الصوت في المسجد، ولا سيّما في المسجد النبويّ، وعند منبره، وفي يوم الجمعة، ويَحْتَمل أن يكون من كلام الراوي، أراد به تعيين اليوم الذي حصل فيه هذا الاختلاف.

ورجّح الأبيّ رحمه الله الاحتمال الثاني، فقال: الأظهر أنه من كلام الراوي، ليس علة مستنبطة من عمر رضي الله عنه؛ لإنكاره، ولا فرق بين الجمعة وغيرها في ذلك. انتهى

(4)

.

(وَلَكِنْ إِذَا صَلَّيْتُ الْجُمُعَةَ) ببناء الفعل للفاعل، وبتاء المتكلّم، ونصب "الجمعة" على المفعوليّة، وفي بعض النسخ:"إذا صُلّيت الجمعة" ببناء الفعل للمفعول، ورفع "الجمعة" على أنه نائب الفاعل، وفي رواية ابن جرير في "تفسيره":"ولكن إذا صلّى الجمعة، دخلنا عليه". (دَخَلْتُ) على النبيّ صلى الله عليه وسلم (فَاسْتَفْتَيْتُهُ)؛ أي: سألته (فِيمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ) قال الأبيّ رحمه الله: إنما قال ذلك عمر رضي الله عنه ليتبيّن الراجح من الأقوال، وإنما الذي يُضعّف أن يكون اختلافهم اختلاف علماء مجتهدين ما يأتي أن الآية نزلت قبل اختلافهم، لا في اختلافهم؛ إذ لا يجوز الاجتهاد مع وجود النصّ. انتهى

(5)

.

(فَأَنْزَلَ اللهُ عز وجل) قال الأبيّ رحمه الله: ما يقتضيه قول النعمان رضي الله عنه من أن

(1)

"الأسماء المبهمة" رقم (219).

(2)

"الأسماء المبهمة" رقم (219).

(3)

"شرح الأبيّ" 5/ 274.

(4)

"شرح الأبيّ" 5/ 274.

(5)

"شرح الأبيّ" 5/ 274.

ص: 396

الآية نزلت عند اختلافهم مشكل؛ لأنها إنما نزلت قبل ذلك مبطلةً لمن افتخر من المشركين بسقاية الحاجّ، وعمارة المسجد الحرام، قال السدّيّ: افتخر العبّاس بسقاية الحاجّ، وافتخر شيبة بعمارة المسجد الحرام، وافتخر عليّ بالإيمان والجهاد، فنزلت الآية مصدّقةً لعليّ، ومكذّبةً لهما، ويدلّ على أنها إنما نزلت في المشركين خَتْمها بقوله سبحانه وتعالى:{وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [البقرة: 258]؛ إذ لا يليق أن يقال للثلاثة الذين في الحديث في الذي اختلفوا فيه: {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [آل عمران: 86]، وأيضًا فإن الثلاثة المذكورين في الحديث لم يختلفوا في أن السقاية، والعمارة أفضل من الإيمان، والجهاد، وإنما اختلفوا في أي الأعمال أفضل بعد الإيمان؟، وإذا أشكل أن الآية نزلت عند اختلافهم، فيُحلّ الإشكال بأن يكون بعض الرواة تسامح في قوله: فأنزل الله الآية، وإنما الواقع أنه صلى الله عليه وسلم قرأها على عمر رضي الله عنه حين سأله مستدلًّا بها على أن الجهاد أفضل مما قال أولئك، فظنّ الراوي أنها نزلت حينئذ.

[فإن قيل]: ما وجه تفضيل الجهاد من الآية، والردّ بها على الرجلين، فإنها إنما نزلت على نفي المساواة، ونفي المساواة بين أمرين لا يدلّ على تعيين الأرجح منهما، ولذا نجده ينصّ على تعيين الأرجح من الأمرين بعد نفي المساواة بينهما، كما في قوله تعالى:{لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ (20)} [الحشر: 20]، وهنا لم ينصّ؟

[قلت]: قد نصّ هنا على تعيينه بقوله بعده: {الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (20)} [التوبة: 20]؛ لأنه من تمام ما نزل، أو يقال: إن الآية وحدها كافية في بيان أن الجهاد أفضل دون نظر إلى ما بعدها؛ لأنها خرجت مخرج إنكار أن يكون كلّ واحد من الأمرين أفضل من الجهاد، وقد نُفيت المساواة بين أحدهما والجهاد، فيتعيّن أن يكون الجهاد أفضل، ولا يمكن أن يُدّعى أن السقاية، أو العمارة أفضل؛ لأنه المنكر

(1)

.

(1)

"شرح الأبيّ" 5/ 224 - 225.

ص: 397

({أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ})، قال النسفيّ رحمه الله في "تفسيره": السقاية والعمارة مصدران، مِنْ سَقَى، وعَمَر؛ كالصيانة والوقاية، ولا بد من مضاف محذوف تقديره: أجعلتم أهل سقاية الحاج، وعمارة المسجد الحرام، كمن آمن بالله؟ وقيل: المصدر بمعنى الفاعل، يصدّقه قراءة ابن الزبير:(سُقاة الحاج وعَمَرة المسجد الحرام)، والمعنى: إنكار أن يُشَبّه المشركون بالمؤمنين، وأعمالهم المحبطة بأعمالهم المثبتة، وأن يُسَوَّى بينهم، وجعل تسويتهم ظلمًا بعد ظلمهم بالكفر؛ لأنهم وضعوا المدح والفخر في غير موضعهما

(1)

.

وقوله: (الآيَةَ إِلَى آخِرِهَا) بنصب "الآية" بفعل مقدّر؛ أي: اقرأ الآية إلى آخرها.

وقال أبو عبد الله القرطبيّ رحمه الله في "تفسيره": قوله تعالى: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ} التقدير في العربية: أجعلتم أصحاب سقاية الحاج، أو أهل سقاية الحاج مثلَ من آمن بالله، وجاهد في سبيله؟ ويصح أن يقدّر الحذف في {مَنْ آمَن}؛ أي: أجعلتم عَمَلَ سقي الحاجّ كعمل من آمن؟ وقيل: التقدير: كإيمان من آمن.

والسقاية مصدر كالسعاية، والحماية، فجُعل الاسم بموضع المصدر؛ إذ عُلِم معناه، مثل: إنما السخاء حاتم، وإنما الشعر زهير.

وعمارة المسجد الحرام مثل {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82].

وقرأ أبو وجزة: "أجعلتم سُقاة الحاج وعَمَرة المسجد الحرام" سُقاة جمع ساق، والأصل: سُقَيَةٌ على فُعَلة، كذا يُجمع المعتل من هذا، نحو قاض وقُضاة وناس ونُساة، فإن لم يكن معتلًّا جُمع على فَعَلة نحو ناسئ ونَسَأة، للذين كانوا يَنسئون الشهور، وكذا قرأ ابن الزبير، وسعيد بن جبير:"سُقاة وعَمَرة"، إلا أن ابن جبير نصب "المسجدَ" على إرادة التنوين في "عَمَرة"، وقال الضحاك: سُقاية بضم السين، وهي لغة، والحاج اسم جنس الحجاج، وعمارة المسجد الحرام: معاهدته، والقيام بمصالحه.

(1)

"تفسير النسفيّ" 1/ 438.

ص: 398

وظاهر هذه الآية أنها مُبطلة قول من افتخر من المشركين بسقاية الحاجّ، وعمارة المسجد الحرام، كما ذكره السديّ، قال: افتخر عباس بالسقاية، وشيبة بالعمارة، وعليّ بالإسلام والجهاد، فصدّق الله عليًّا، وكذّبهما، وأخبر أن العمارة لا تكون بالكفر، وإنما تكون بالإيمان، والعبادة، وأداء الطاعة، وهذا بَيِّن لا غبار عليه.

ويقال: إن المشركين سألوا اليهود وقالوا: نحن سُقاة الحاج وعُمّار المسجد الحرام، أفنحن أفضل أَمْ محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم؟ فقالت لهم اليهود عنادًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أنتم أفضل.

وقد اعتُرِض هنا إشكال، وهو ما جاء في "صحيح مسلم" عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: كنت عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وساق حديث الباب، ثم قال: وهذا المساق يقتضي أنها إنما نزلت عند اختلاف المسلمين في الأفضل من هذه الأعمال، وحينئذ لا يليق أن يقال لهم في آخر الآية:{وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} ، فتعيّن الإشكال.

وإزالته بأن يقال: إن بعض الرواة تسامَحَ في قوله، فأنزل الله الآية.

وإنما قرأ النبيّ صلى الله عليه وسلم الآية على عمر حين سألة، فظنّ الراوي أنها نزلت حينئذ.

واستدَلّ بها النبيّ صلى الله عليه وسلم على أن الجهاد أفضل مما قال أولئك الذين سمعهم عمر، فاستفتى لهم، فتلا عليه ما قد كان أنزل عليه، لا أنها نزلت في هؤلاء، والله أعلم.

فإن قيل: فعلى هذا يجوز الاستدلال على المسلمين بما أنزل في الكافرين، ومعلوم أن أحكامهم مختلفة.

قيل له: لا يُستبعد أن يُنتزَع مما أنزل الله في المشركين أحكام تليق بالمسلمين.

وقد قال عمر رضي الله عنه: إنا لو شئنا لاتخذنا سلائق

(1)

وشواء، وتوضع صحفة، وترفع أخرى، ولكنا سمعنا قول الله تعالى: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ

(1)

هي الحملان المشويّة، ويروى بالصاد.

ص: 399

الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا} الآية [الأحقاف: 20]، وهذه الآية نصّ في الكفار، ومع ذلك فَهِم منها عمر الزجرَ عما يناسب أحوالهم بعض المناسبة، ولم يُنكر عليه أحد من الصحابة، فيمكن أن تكون هذه الآية من هذا النوع، وهذا نفيس، وبه يزول الإشكال، ويرتفع الإبهام، والله أعلم. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(1)

، وهو بحث نفيسٌ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله، لم يُخرجه من أصحاب الكتب الستّة غيره.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [29/ 4863 و 4864](1879)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 269)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4591)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 465)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(1/ 134) و"مسند الشاميين"(4/ 108)، و (البزّار) في "مسنده"(8/ 200)، و (ابن منده) في "الإيمان"(1/ 400)، و (الطبريّ) في "تفسيره"(16557)، و (البغويّ) في "تفسيره"(2/ 275)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(9/ 158)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان فضل الشهادة في سبيل الله عز وجل.

2 -

(ومنها): بيان سبب نزول الآية الكريمة، وفيه ما سبق.

3 -

(ومنها): بيان أن الجهاد في سبيل الله تعالى أجلّ الأعمال.

4 -

(ومنها): كراهة رفع الصوت في المساجد، لا سيّما المسجد النبويّ، وخصوصًا عند منبره، ويوم الجمعة.

5 -

(ومنها): أنه لا ينبغي رفع الصوت بعلم، أو بغيره عند اجتماع الناس للصلاة؛ لِمَا فيه من التشويش عليهم، وعلى المصلّين، والذاكرين، والله تعالى أعلم.

(1)

"تفسير القرطبيّ" 8/ 91 - 92.

ص: 400

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4864]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِيهِ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّارِمِيُّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حَسَّانَ، حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ، أَخْبَرَنِي زَيْدٌ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَلَّامٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ، قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ مِنْبَرِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم. بِمِثْلِ حَدِيثِ أَبِي تَوْبَةَ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّارِمِيُّ) الحافظ الشهير، تقدّم قريبًا.

2 -

(يَحْيَى بْنُ حَسَّانَ) البصريّ، نزيل تِنِّيس، ثقةٌ [9](ت 208)(خ م د ت س) تقدّم في "الحيض" 7/ 723.

والباقون ذُكروا قبله، و"معاوية" هو: ابن سلّام.

[تنبيه]: رواية يحيى بن حسّان، عن معاوية بن سلّام هذه ساقها البزّار رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(3238)

- وأخبرنا محمد بن مسكين، قال: أخبرنا يحيى بن حسّان، قال: أخبرنا معاوية بن سلّام، عن زيد بن سلّام، قال: حدّثني أبو سلّام، قال: حدّثني النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: كنت عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم جمعة، فقال رجل: ما أبالي ألّا أعمل عملًا بعد الإسلام إلا أن أسقي الحاجّ، فقال الآخر: ما أبالي ألّا أعمل عملًا بعد الإسلام ألا أن أَعْمُر المسجد الحرام، وقال الآخر: الجهاد في سبيل الله أفضل مما قلتم، فزجرهم عمر، وقال: لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله- صلى الله عليه وسلم، وهو يوم جمعة، ولكني إذا صليتُ الجمعة دخلت عليه، فاستفتيته فيما اختلفتم، فدخل عليه، فسأله، فأنزل الله تبارك وتعالى:{أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19)} [التوبة: 19]. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(1)

"مسند البزار" 8/ 200.

ص: 401

(30) - (بَابُ فَضْلِ الْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ فِي سَبِيلِ اللهِ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4865]

(1880) - (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ بْنِ قَعْنَبٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَغَدْوَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ، أَوْ رَوْحَةٌ، خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا").

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ بْنِ قَعْنَبٍ) الحارثيّ، أبو عبد الرحمن البصريّ، مدنيّ الأصل، ثقةٌ عابدٌ، من صغار [9](ت 221) بمكة (خ م د ت س) تقدّم في "الطهارة" 17/ 617.

2 -

(حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ) بن دينار، أبو سلمة البصريّ، ثقةٌ عابدٌ، أثبت الناس في ثابت، وتغيّر حفظه بآخره، من كبار [8](ت 167)(خت م 4) تقدّم في "المقدمة" 6/ 80.

3 -

(ثَابِتُ) بن أسلم الْبُنَانيّ، أبو محمد البصريّ، ثقةٌ عابدٌ [4] مات سنة بضع و (120) وله (86) سنةً (ع) تقدّم في "المقدمة" 6/ 80.

4 -

(أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ) رضي الله عنه، تقدّم في الباب الماضي.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله؛ كلاحقه، وهو (348) من رباعيّات الكتاب، وهو مسلسل بالبصرين، وفيه أثبت الناس في شيخ وهو حماد في ثابت، وألزم الناس لشيخه، وهو ثابت، فقد لزم أنسًا رضي الله عنه أربعين سنة، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَغَدْوَةٌ) اللام للابتداء، و"غَدوة" مبتدأ خبره قوله:"خيرٌ. . . إلخ"، وقال في "العمدة": قوله: "لغدوة" مبتدأ تخصّص بالصفة، وهو قوله:"في سبيل الله"، والتقدير: لغدوة كائنة في سبيل الله، وقوله:"أو روحة" عَطْف عليه، وكلمة "أو" للتقسيم، لا للشكّ، وقوله:"خير" خبر المبتدأ، واللام في "لغدوة" لام التأكيد، وقال

ص: 402

بعضهم: للقَسَم، وفيه نظر. انتهى

(1)

.

و"الغَدْوة" بفتح الغين المعجمة، وسكون الدال المهملة: المرّة الواحدة من الْغُدُوّ، وهو الخروج في أي وقت كان من أول النهار إلى انتصافه. (فِي سَبِيلِ اللهِ)؛ أي: في الجهاد لإعلاء كلمة الله عز وجل، (أَوْ رَوْحَةٌ) بفتح الراء، وسكون الواو: المرّة الواحدة من الرّواح، وهو الخروج في أي وقت كان من زوال الشمس إلى غروبها، قاله في "الفتح"

(2)

.

وقال النوويّ رحمه الله: "الْغَدَوة" - بفتح الغين -: السير أولَ النهار إلى الزوال، والرَّوْحة: السير من الزوال إلى آخر النهار، و"أو" هنا للتقسيم، لا للشكّ، ومعناه: أن الروحة يحصل بها هذا الثواب، وكذا الغدوة، والظاهر أنه لا يختص ذلك بالغدوّ والرواح من بلدته، بل يحصل هذا الثواب بكل غَدْوة أو رَوْحة في طريقه إلى الغزو، وكذا غَدوةٌ وروحة في موضع القتال؛ لأن الجميع يُسَمّى غَدْوة وروحة في سبيل الله. انتهى

(3)

.

(خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا") قال النوويّ رحمه الله: معنى هذا الحديث أن فضل الغدوة والروحة في سبيل الله، وثوابهما خير من نعيم الدنيا كلها، لو مَلَكها إنسان، وتصوّر تنعّمه بها كلها؛ لأنه زائل، ونعيم الآخرة بأن، قال القاضي عياض: وقيل في معناه، ومعنى نظائره، من تمثيل أمور الآخرة، وثوابها بأمور الدنيا: إنها خير من الدنيا وما فيها، لو مَلَكها إنسان، ومَلَك جميع ما فيها، وأنفقه في أمور الآخرة، قال هذا القائل: وليس تمثيل الباقي بالفاني على ظاهر إطلاقه، والله أعلم. انتهى

(4)

.

وقال في "العمدة": قال المهلّب: معنى قوله: "خير من الدنيا" أن ثواب هذا الزمن القليل في الجنة خير من الدنيا كلها، وكذا قوله:"لَقَابُ قوس أحدكم"؛ أي: موضع سوط في الجنة، يريد ما صَغُر في الجنة من المواضع كلها من بساتينها وأرضها، فأخبر أن قصير الزمان، وصغير المكان في الآخرة،

(1)

"عمدة القاري" 14/ 92.

(2)

"الفتح" 7/ 54، كتاب "الجهاد" رقم (2792).

(3)

"شرح النوويّ" 13/ 26.

(4)

"شرح النوويّ" 13/ 26 - 27.

ص: 403

خير من طويل الزمان، وكبير المكان في الدنيا؛ تزهيدًا وتصغيرًا لها وترغيبًا في الجهاد؛ إذ بهذا القليل يعطيه الله في الآخرة أفضل من الدنيا وما فيها، فما ظنك بمن أتعب فيه نفسه، وأنفق ماله.

وقال غيره: معنى خير من الدنيا: ثواب ذلك في الجنة خير من الدنيا، وقيل: خير من أن يتصدق بما في الدنيا إذا مَلَكها، وقيل: إذا مَلَك ما في الدنيا، وأنفقها في وجوه البرّ والطاعة غير الجهاد.

وقال القرطبيّ: أي: الثواب الحاصل على مَشية واحدة في الجهاد خير لصاحبه من الدنيا، وما فيها لو جُمعت له بحذافيرها، وهذا كما قال في الحديث الآخر:"وموضع قوس أحدكم، أو سوطه في الجنّة خير من الدنيا، وما فيها"، وهذا منه صلى الله عليه وسلم إنما هو على ما استقرّ في النفوس من تعظيم مُلْك الدنيا، وأما على التحقيق فلا تدخل الجنّة تحت أفعل، إلا كما يقال: العسل أحلى من الخلّ، وقد قيل: إن معنى ذلك - والله أعلم - أن ثواب الغَدوة والروحة أفضل من الدنيا وما فيها لو ملكها مالكٌ، فأنفقها في وجوه البرّ والطاعة غير الجهاد، وهذا أليق، والأول أسبق. انتهى كلام القرطبيّ

(1)

.

وقال العينيّ: والظاهر أنه لا يَختصّ ذلك بالغدوّ والرواح من بلدته، بل يحصل هذا حتى بكل غدوة، أو روحة في طريقه إلى الغزو، وقال النوويّ: وكذا غدوة وروحة في موضع القتال؛ لأن الجميع يسمى غدوة، وروحة في سبيل الله. انتهى

(2)

.

وقال في "الفتح": قال ابن دقيق العيد: قوله: "خير من الدنيا وما فيها" يَحْتَمِل وجهين:

أحدهما: أن يكون من باب تنزيل المغيَّب منزلة المحسوس؛ تحقيقًا له في النفس؛ لكون الدنيا محسوسةً في النفس، مستعظمةً في الطباع، فلذلك وقعت المفاضلة بها، وإلا فمن المعلوم أن جميع ما في الدنيا لا يساوي ذَرّةً مما في الجنة.

والثاني: أن المراد: أن هذا القدر من الثواب خير من الثواب الذي

(1)

"المفهم" 3/ 709 - 710.

(2)

"عمدة القاري" 14/ 92.

ص: 404

يَحصُل لمن لو حصلت له الدنيا كلها وأنفقها في طاعة الله تعالى.

قال الحافظ: ويؤيد هذا الثاني ما رواه ابن المبارك في "كتاب الجهاد" من مرسل الحسن قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم جيشًا، فيهم عبد الله بن رواحة، فتأخّر ليشهد الصلاة مع النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم:"والذي نفسي بيده لو أنفقت ما في الأرض، ما أدركت فضل غَدْوَتهم".

والحاصل أن المراد: تهوين أمر الدنيا، وتعظيم أمر الجهاد، وأن من حصل له من الجنة قَدْر سوط يصير كأنه حصل له أمر أعظم من جميع ما في الدنيا، فكيف بمن حصل منها أعلى الدرجات.

والنكتة في ذلك أن سبب التأخّر عن الجهاد الميل إلى سبب من أسباب الدنيا، فنبّه هذا المتأخر أن هذا القدر اليسير من الجنة، أفضل من جميع ما في الدنيا. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أنس بن مالك رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [30/ 4865](1880)، و (البخاريّ) في "الجهاد"(2792 و 2796) و"الرقاق"(6568)، و (الترمذيّ) في "فضل الجهاد"(1651)، و (ابن ماجه) في "الجهاد"(2757)، و (ابن المبارك) في "الجهاد"(1/ 39)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(4/ 202)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 132 و 153 و 207)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4602)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 466)، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4866]

(1881) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "وَالْغَدْوَةَ يَغْدُوهَا الْعَبْدُ في سَبِيلِ اللهِ، خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا").

(1)

"الفتح" 7/ 54 - 56، كتاب "الجهاد" رقم (2792).

ص: 405

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ النيسابوريّ الإمام، تقدّم قبل باب.

2 -

(عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي حَازِمٍ) المدنيّ، ثقةٌ فقيهٌ [8](ت 184) أو قبل ذلك (ع) تقدّم في "الإيمان" 45/ 209.

3 -

(أَبُوهُ) أبو حازم سلمة بن دينار الأعرج التمّار القاصّ المدنيّ، مولى الأسود بن سفيان، ثقةٌ عابدٌ [5](ت 140) أو قبلها، أو بعدها (ع) تقدّم في "الإيمان" 50/ 313.

4 -

(سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ السَّاعِدِيُّ) هو: سهل بن سعد بن مالك بن خالد الأنصاريّ الخزرجيّ، أبو العباس الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، مات سنة (88) وقيل: بعدها، وقد جاوز المائة (ع) تقدّم في "الإيمان" 50/ 313.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه كان رباعيّات المصنّف رحمه الله؛ كسابقه، وهو (349) من رباعيّات الكتاب، وأن صحابيّه ابن صحابيّ، وهو آخر من مات بالمدينة على بعض الأقوال، وهو من المعمّرين، كما أسلفته آنفًا، وشرح الحديث واضح، يُعلم من شرح ما قبله، وفيه مسألتان:

(المسألة الأولى): حديث سهل بن سعد الساعديّ رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [30/ 4866 و 4867](1881)، و (البخاريّ) في "الجهاد"(2794 و 2892) وفي "بدء الخلق"(3250) و"الرقاق"(6415)، و (الترمذيّ) في "فضل الجهاد"(1648)، و (النسائيّ) في "الجهاد"(6/ 15)، و (ابن ماجه) في "الجهاد"(2/ 921)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 433 و 5/ 337 و 338 و 339)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 466)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(6/ 192)، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4867]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "غَدْوَةٌ، أَوْ رَوْحَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ، خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا").

ص: 406

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(وَكِيعُ) بن الجرّاح، تقدّم قبل بابين.

2 -

(سُفْيَانُ) بن سعيد الثوريّ، تقدّم أيضًا قبل بابين.

والباقون ذُكروا في الباب وقبله، والحديث تقدّم البحث فيه مستوفًى فيما قبله، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4868]

(1882) - (حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ ذَكْوَانَ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِيِ هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَوْلَا أَنَّ رِجَالًا مِنْ أُمَّتِي" وسَاقَ الْحَدِيثَ، وَقَالَ فِيهِ: "وَلَرَوْحَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ، أَوْ غَدْوَةٌ، خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(ابْنُ أَبِي عُمَرَ) محمد بن يحيى بن أبي عمر الْعَدنيّ، ثم المكيّ، تقدّم قبل باب.

[تنبيه]: قوله: "ابن أبي عمر" قال النوويّ: هكذا هو في جميع نسخ بلادنا، وكذا نقله أبو عليّ الغسّانيّ عن رواية الجلوديّ، قال: ووقع في نسخة أبي العلاء بن ماهان: "حدّثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدّثنا مروان. . ." فذَكَر ابن أبي شيبة بدل ابن أبي عمر، قال: والصواب الأول. انتهى

(1)

.

2 -

(مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ) الفزاريّ، تقدّم أيضًا قبل باب.

3 -

(يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ) الأنصاريّ المدنيّ القاضي، تقدّم أيضًا قبل باب.

4 -

(ذَكْوَانُ أَبُو صَالِحٍ) السمّان الزيّات المدنيّ، تقدّم في الباب الماضي.

[تنبيه]: وقع في معظم نسخ الكتاب ما نصّه: "عن ذكوان بن أبي صالح"، بزيادة لفظة "ابن"، وهو غلط صريح، والصواب، كما في النسخة الهنديّة:"عن ذكوان أبي صالح" بإسقاط لفظة "ابن"، فإن أبا صالح كنية ذكوان، فيُعرب بدلًا منه، أو عَطْف بيان، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

(1)

"تقييد المهمل" 3/ 887 - 888، و"شرح النوويّ" 13/ 17.

ص: 407

5 -

(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه، تقدّم أيضًا في الباب الماضي.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وهو مسلسلٌ بالمدنيين، من يحيى، والأولان مكيّان، فمروان كوفيّ، ثم مكيّ، ثم دمشقيّ، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه رأس المكثرين السبعة، روى (5374) حديثًا.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَوْلَا أَن رِجَالًا مِنْ أُمَّتي" وسَاقَ الْحَدِيثَ) فاعل "ساق" ضمير النبيّ صلى الله عليه وسلم، ويَحتَمِل أن يكون ضمير أبي هريرة رضي الله عنه، والأول أظهر.

[تنبيه]: لم أجد نصّ الحديث بتمامه، ويَحْتَمل أنه أراد حديث أبي هريرة رضي الله عنه الماضي قبل باب بنفس السند المذكور هنا، ولفظه:"قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لولا أن أشق على أمتي لأحببت أن لا أتخلّف خلف سريّة. . ." الحديث، والله تعالى أعلم.

(وَقَالَ فِيهِ)؛ أي: في جملة ذلك الحديث الذي ساقه: ("وَلَرَوْحَةٌ) تقدّم أن اللام لام الابتداء، وقيل: هي لام القَسَم، و"الروحة" بالفتح: المرّة من الرواح، وهو السير بعد الزوال إلى آخر النهار، وقوله:(فِي سَبِيلِ اللهِ) متعلّق بصفة لـ "روحة"، وهو الذي سوّغ الابتداء بالنكرة، (أَوْ) هما للتقسيم، لا للشكّ، (غَدْوَةٌ) بوزن رَوْحة، هو السير أول النهار إلى الزوال، وقوله:(خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا) خبر المبتدأ، وهو "روحة"، والمعنى: أن ثواب الروحة، والغدوة في سبيل الله خير من نعيم الدنيا كلّها لو ملكها الإنسان، وتصوّر تنعّمه بها كلّها؛ لأنها زائلة فانية، ونعيم الجنّة باقية، والله تعالى أعلم.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفق عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [30/ 4868](1882)، و (البخاريّ) في "الجهاد"(2793)، و (الترمذيّ) في "فضل الجهاد"(1649)، و (ابن ماجه) في "الجهاد"(2755)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 532 و 533)، والله تعالى أعلم.

ص: 408

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4869]

(1883) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ - وَاللَّفْظُ لأَبِي بَكْرٍ، وَإِسْحَاقَ - قَالَ إِسْحَاقُ: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ الآخَرَانِ: حَدَّثَنَا الْمُقْرِئُ عَبْدُ اللهِ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي أَيُّوبَ، حَدَّثَنِي شُرَحْبِيلُ بْنُ شَرِيكٍ الْمَعَافِرِيُّ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحُبُلِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا أَيُّوبَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "غَدْوَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ، أَوْ رَوْحَةٌ، خَيْرٌ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ، وَغَرَبَتْ").

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

2 -

(الْمُقْرِئُ عَبْدُ اللهِ بْنُ يَزِيدَ) أبو عبد الرحمن المكّيّ، بصريّ الأصل، أو من الأهواز، ثقة فاضلٌ، أقرأ القرآن نيِّفًا وسبعين سنةً [9](ت 213)، وقد قارب المائة (ع) من كبار شيوخ البخاريّ، تقدّم في "المقدمة" 4/ 15.

3 -

(سَعِيدُ بْنُ أَبِي أَيُّوبَ) اسم أبيه مِقْلاص الْخُزاعيّ مولاهم، أبو يحيى المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [7](ت 161)(ع) تقدّم في "المقدمة" 4/ 15.

4 -

(شُرَحْبِيلُ بْنُ شَرِيكٍ الْمَعَافِرِيُّ) أبو محمد المصريّ، ويقال: شُرحبيل بن عمرو بن شَرِيك، صدوقٌ [6](بخ م د ت س) تقدّم في "الزكاة" 42/ 2426.

5 -

(أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحُبُلِيِّ) - بضمّ الحاء المهملة، والموحّدة - عبد الله بن يزيد المعافريّ المصريّ، ثقةٌ [3](ت 100) بإفريقية (بخ م 4) تقدّم في "الزكاة" 42/ 2426.

6 -

(أَبُو أَيُّوبَ) خالد بن زيد بن كُليب الأنصاريّ النجّاريّ (ت 50) أو بعدها (ع) تقدّم في "الإيمان" 4/ 113.

والباقيان ذُكرا في الباب.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، ولأنه مسلسل بالمصريين من سعيد بن أبي أيوب، سوى الصحابيّ، وأن صحابيه من كبار الصحابة رضي الله عنهم، شَهِد بدرًا، ونزل النبيّ صلى الله عليه وسلم عليه حين قَدِم المدينة، مات غازيًا بالروم.

ص: 409

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحُبُلِيِّ) - بضمّ الحاء المهملة، والباء الموحّدة -: نسبة إلى بطن من المعافر، وهم من اليمن، قاله في "اللباب"

(1)

. (قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا أَيُّوبَ) خالد بن زيد الأنصاريّ رضي الله عنه (يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "غَدْوَةٌ) بالفتح؛ أي: سَيْر قبل الزوال، (فِي سَبِيلِ اللهِ)؛ أي: لأجل إعلاء كلمة الله، (أَوْ رَوْحَةٌ) بالفتح أيضًا؛ أي: سَيْر بعد الزوال، (خَيْرٌ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ، وَغَرَبَتْ") هذا هو المراد بقوله فيما سبق: "خير من الدنيا وما فيها"، والله تعالى أعلم.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي أيوب الأنصاريّ رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [30/ 4869 و 4870](1883)، و (النسائيّ) في "الجهاد"(6/ 15) و"الكبرى"(3/ 11)، و (ابن المبارك) في "الجهاد"(1/ 168)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(4/ 201)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 422)، و (عبد بن حُميد) في "مسنده"(1/ 104)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 466)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(8/ 291) و"الكبير"(4/ 181 و 18)، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4870]

(. . .) - (حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ قُهْزَاذَ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ الْمُبَارَكِ، أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي أَيُّوبَ، وَحَيْوَةُ بْنُ شُرَيْحٍ، قَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا: حَدَّثَنِي شُرَحْبِيلُ بْنُ شَرِيكٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحُبُلِيِّ، أَنَّهُ سَمِعَ أبَا أَيُّوبَ الأَنْصَارِيَّ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم. بِمِثْلِهِ سَوَاءً).

(1)

"اللباب في تهذيب الأنساب" 1/ 337 - 338.

ص: 410

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ قُهْزَاذَ) - بضمّ القاف، وسكون الهاء، ثمّ زاي - المروزيّ، ثقةٌ [11](ت 262)(م) تقدّم في "المقدمة" 5/ 32، من أفراد المصنّف.

2 -

(عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ) بن شقيق، أبو عبد الرحمن المروزيّ، ثقةٌ حافظٌ، من كبار [10](ت 215) أو قبل ذلك تقدّم في "المقدمة" 6/ 35.

3 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ الْمُبَارَكِ) ابن واضح الحنظليّ مولاهم، أبو عبد الرحمن المروزيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيه، جواد، مجاهد، جُمعت فيه خصال الخير [8](ت 181)(ع) تقدّم في "المقدمة" 5/ 32.

4 -

(حَيْوَةُ بْنُ شُرَيْحِ) بن صفوان التجيبيّ، أبو زرعة المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ، فقيهٌ زاهد [7](ت 8 أو 159)(ع) تقدّم في "الإيمان" 57/ 328.

والباقون ذُكروا قبله.

وقوله: (قَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا)؛ أي: من سعيد بن أبي أيوب، وحيوة بن شُريح.

وقوله: (بِمِثْلِهِ سَوَاءً)؛ أي: بمثل حديث عبد الله بن يزيد المقرئ.

[تنبيه]: رواية ابن المبارك هذه أخرجها هو في "مسنده"، فقال:

(224)

- أخبرنا إبراهيم، حدّثنا محمد، حدّثنا سعيد، قال: سمعت ابن المبارك، عن حَيْوة بن شُرَيح، وسعيد بن أبي أيوب

(1)

. . . الأنصاريّ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "غدوة في سبيل الله عز وجل، أو روحة خيرٌ مما طَلَعت عليه الشمس، وغربت". انتهى

(2)

، والله تعالى أعلم.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(1)

هكذا النسخة، وقد سقط منها كما بَيَّنَتْهُ رواية مسلم قوله:"قَالَ كُلُّ وَاحِدٍ منهما: حَدَّثَنِي شُرَحْبِيلُ بْنُ شَرِيكٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحُبُلِيِّ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا أَيُّوبَ الأَنْصَارِيَّ. . ."، وهذا خطأ فاحش، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

(2)

"الجهاد لابن المبارك" 1/ 168.

ص: 411

(31) - (بَابُ بَيَانِ مَا أَعَدَّهُ اللهُ تَعَالَى لِلْمُجَاهِدِ فِي الْجَنَّةِ مِنَ الدَّرَجَاتِ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4871]

(1884) - (حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْبٍ، حَدَّثَنِي أَبُو هَانِئٍ الْخَوْلَانِيُّ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحُبُلِيِّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "يَا أَبَا سَعِيدٍ مَنْ رَضِيَ بِاللهِ رَبًا، وَبِالإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا، وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ"، فَعَجِبَ لَهَا أَبُو سَعِيدٍ، فَقَالَ: أَعِدْهَا عَلَيَّ يَا رَسُولَ اللهِ، فَفَعَلَ، ثُمَّ قَالَ: "وَأُخْرَى يُرْفَعُ بِهَا الْعَبْدُ مِائَةَ دَرَجَةٍ فِي الْجَنَّةِ، مَا بَيْنَ كُلِّ دَرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ"، قَالَ: وَمَا هِيَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: "الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ، الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ) تقدّم قبل باب.

2 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْبٍ) تقدّم قريبًا.

3 -

(أَبُو هَانِئٍ الْخَوْلَانِيُّ) حُميد بن هانئ المصريّ، لا بأس به [5](بخ م 4) أكبر شيخ لابن وهب، تقدّم في "المقدمة" 4/ 15.

4 -

(أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحُبُلِيُّ) عبد الله بن يزيد المعافريّ المذكور في السند الماضي.

5 -

(أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ) سعد بن مالك بن سِنَان رضي الله عنهما، تقدّم أيضًا قريبًا.

من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وهو مسلسل بالمصريين غير شيخه، فخراسانيّ، ثم مكيّ، والصحابيّ، فإنه مدنيّ، وأن صحابيّه ابن صحابيّ رضي الله عنهما، وهو أحد المكثرين السبعة، روى (1170) حديثًا.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ) سعد بن مالك رضي الله عنهما (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:

ص: 412

"يَا أَبَا سَعِيدٍ مَنْ رَضِيّ بِاللهِ رَبًّا) منصوب على التمييز؛ أي: من حيث كونُهُ ربًّا؛ أي: من رضي بربوبيته على وفق قضائه وقدره، من خيره وشرّه، وحُلْوه، ومرّه، (وَبِالإِسْلَامِ دِينًا)؛ أي: من حيث الدينُ؛ أي: رضي بشرائعه، وأحكامه، من المأمورات والمنهيّات، (وَبِمُحَمَّدٍ) صلى الله عليه وسلم (نَبِيًّا)؛ أي: من حيث كونُه رسولًا؛ أي: رضي برسالته الموجبة لمتابعته في أقواله، وأفعاله، وأحواله.

قال صاحب "التحرير": معنى رضيتُ بالشيء: قنِعتُ به، واكتفيت به، ولم أطلب معه غيره، فمعنى الحديث: لم يطلب غير الله تعالى، ولم يَسْعَ في غير طريق الإسلام، ولم يسلك إلا ما يوافق شريعة محمد صلى الله عليه وسلم. (وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ")؛ أي: ثبتت، وتحقّقت، وعبّر بالماضي مبالغةً في تحقّق وقوعها.

وفيه فضل عظيم لمن اتّصف بالرضى المذكور، حيث وجبت له الجنّة، وذلك لأن رضا العبد بهذه المذكورات دليل على ثبوت معرفته، ونفاذ بصيرته، ومخالطة الإيمان قلبه، فتسهل عليه الطاعات، وتلذّ له، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم، كما في حديث العبّاس بن عبد المطّلب رضي الله عنه:"ذاق طَعْم الإيمان من رضي بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولًا"، رواه مسلم.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "من رضي بالله ربًّا. . . إلخ"؛ أي: من مات على ذلك فلا بدَّ له من دخول الجنَّة قطعًا، ولو أُدخل النار في كبائر عليه فمآله إلى الجنة على كل حال. انتهى

(1)

.

(فَعَجِبَ لَهَا أَبُو سَعِيدٍ) فيه التفات، إذ الظاهر أن يقول: فعجبت لها؛ أي: عجب أبو سعيد الخدريّ رضي الله عنه لأجل هذه الكلمات، أو لهذه القضيّة. (فَقَالَ) أبو سعيد (أَعِدْهَا عَلَيَّ يَا رَسُولَ اللهِ) إنما استعاده؛ ليحفظه، ويستبشر به، (فَفَعَلَ)؛ أي: فأعاده صلى الله عليه وسلم مرّة ثانيةً (ثُمَّ قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("وَأُخْرَى) يَحْتَمِل أن يكون مرفوعًا، مبتدءًا خبره محذوف؛ أي: عندي خصلة أخرى، وأن يكون مفعولًا لفعل محذوف؛ أي: أعلّمك خصلة أخرى، وقال الطيبيّ:"أخرى" صفة موصوف محذوف، وهو مبتدأ، وقوله:"يُرفع" خبره، أو منصوب على إضمار

(1)

"المفهم" 3/ 710.

ص: 413

فعل؛ أي: ألا أبشّرك بشارةً أخرى، وقوله:"يُرفع" صفة، أو حال. وقيل: هناك خصلة أخرى. انتهى.

وقال القرطبيّ رحمه الله: وقوله صلى الله عليه وسلم: "وأخرى يُرفع بها العبد مائة درجة"؛ أي: خصلة أخرى، والدرجة: المنزلة الرفيعة، ويراد بها غرف الجنة ومراتبها التي أعلاها الفردوس، كما جاء في الحديث، ولا يُظَنّ من هذا أن درجات الجنة محصورة بهذا العدد، بل هي أكثر من ذلك، ولا يَعْلَم حصرها ولا عددها إلا الله تعالى، ألا تراه قد قال في الحديث الآخر:"يقال لصاحب القرآن: اقرأ وارْقَ، فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها"

(1)

، فهذا يدلّ على أن في الجنة درجات على عدد آي القرآن، وهي نيّف على ستة آلاف آية، فإذا اجتمعت للإنسان فضيلة الجهاد مع فضيلة القرآن، جُمعت له تلك الدرجات كلها، وهكذا كما زادت أعماله زادت درجاته، والله تعالى أعلم. انتهى

(2)

.

(يُرْفَعُ) بالبناء للمفعول، (بِهَا الْعَبْدُ مِائَةَ دَرَجَةٍ فِي الْجَنَّةِ، مَا بَيْنَ كُلِّ دَرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ") قال القاضي عياض رحمه الله: يَحْتَمِل أن هذا على ظاهره، وأن الدرجات هنا المنازل التي بعضها أرفع من بعض في الظاهر، وهذه صفة منازل الجنة، كما جاء في أهل الغرف أنهم يتراءون كالكوكب الدّريّ، قال: ويَحْتَمِل أن المراد: الرفعة بالمعنى، من كثرة النعيم، وعظيم الإحسان مما لم يخطر على قلب بشر، ولا بصفة مخلوق، وأن أنواع ما أنعم الله به عليه من البرّ والكرامة يتفاضل تفاضلًا كثيرًا، ويكون تباعده في الفضل كما بين السماء والأرض في البعد. قال القاضي: والاحتمال الأول أظهر، قال النوويّ: وهو كما قال. والله تعالى أعلم.

(قَالَ) أبو سعيد (وَمَا هِيَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("الْجِهَادُ) خبر لمحذوف؛ أي: هي الجهاد (فِي سَبِيلِ اللهِ، الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ") هكذا مكررًا مرّتين، وهو كذلك عند النسائيّ في "المجتبى"، ولكن في "الكبرى" مكرّرٌ ثلاث مرّات.

(1)

حديث صحيح، أخرجه أحمد في "مسنده" 2/ 192، وأبو داود (1464)، والترمذيّ (2914).

(2)

"المفهم" 3/ 710 - 711.

ص: 414

وفي هذا الأسلوب تفخيم أمر الجهاد، وتعظيم شأنه، فإن قوله:"من رضي بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا" مشتملٌ على جميع ما أمر الله به، ونهى عنه، ومنه الجهاد، وكذا إبهامه بقوله:"وأخرى"، وإبرازه في صورة البشارة؛ ليسأل عنها، فيجاب بما يجاب؛ لأن التبيين بعد الإبهام أوقع في النفس، وكذا تكراره بقوله:"الجهاد في سبيل الله، الجهاد في سبيل الله". ونظير هذا الحديث قوله تعالى: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ} إلى قوله: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [الصف: 10 - 13]. أفاده الطيبيّ

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [31/ 4871](1884)، و (النسائيّ) في "الجهاد"(6/ 19) و"الكبرى"(3/ 14) و"عمل اليوم والليلة"(6)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 14)، و (سعيد بن منصور) في "سننه"(2301)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4612)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 467)، و (ابن منده) في "الإيمان"(1/ 403)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(8/ 317)، و (عبد بن حميد) في "مسنده"(1/ 288)، و (الحاكم) في "المستدرك"(2/ 93)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(9/ 158) و"شعب الإيمان"(4/ 27)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(2611)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان درجة المجاهد في سبيل الله عز وجل، وأنه يُرفع مائة درجة، بُعد ما بين الدرجتين، كما بين السماء والأرض.

2 -

(ومنها): بيان فضل الرضا بالله تعالى ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيًّا، حيث إن من اتّصف به وجبت له الجنّة.

(1)

راجع: "الكاشف عن حقائق السنن" 8/ 2660، و"مرقاة المفاتيح" 7/ 412 - 413.

ص: 415

3 -

(ومنها): فضل الجهاد في سبيل الله تعالى، حيث يرفع المجاهد هذه الدرجات العالية بسببه، والله تعالى أعلم.

(32) - (بَابٌ مَنْ قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ كُفِّرَتْ خَطَايَاهُ إِلَّا الدَّيْنَ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4872]

(1885) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي قَتَادَةَ، أَنَّهُ سَمِعَهُ يُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّه قامَ فِيهِمْ، فَذَكَرَ لَهُمْ: "أَنَّ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَالإِيمَانَ بِاللهِ أَفْضَلُ الأَعْمَالِ"، فَقَامَ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَرَأَيْتَ إِنْ قُتِلْتُ فِي سَبِيلِ اللهِ، تُكَفَّرُ عَنِّي خَطَايَايَ؟ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "نَعَمْ، إِنْ قُتِلْتَ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَأَنْتَ صَابِرٌ، مُحْتَسِبٌ؛ مُقْبِلٌ، غَيْرُ مُدْبِرٍ"، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "كَيْفَ قُلْتَ؟ "، قَالَ: أَرَأَيْتَ، إِنْ قُتِلْتُ فِي سَبِيلِ اللهِ، أَتُكَفَّرُ عَنِّي خَطَايَايَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "نَعَمْ، وَأَنْتَ صَابِرٌ، مُحْتَسِبٌ، مُقْبِلٌ، غَيْرُ مُدْبِرٍ، إِلَّا الدَّيْنَ، فَإِنَّ جِبْرِيلَ عليه السلام قَالَ لِي ذَلِكَ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) الثقفيّ البغلانيّ، تقدّم قبل باب.

2 -

(لَيْثُ) بن سعد الإمام الشهير المصريّ، تقدّم قريبًا.

3 -

(سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ) كيسان المقبريّ، أبو سَعْد المدنيّ، ثقةٌ فقيه [3] مات في حدود (120) أو قبلها، أو بعدها (ع) تقدّم في "الإيمان" 36/ 250.

4 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي قَتَادَةَ) الأنصاريّ المدنيّ، ثقة [3](95)(ع) تقدّم في "الطهارة" 18/ 619.

5 -

(أَبُو قَتَادَةَ) الأنصاريّ الحارث بن رِبْعيّ بن بُلْدمة، وقيل: غيره، السَّلَميّ المدنيّ الصحابيّ الشهير، شَهِد أُحدًا وما بعدها، مات سنة (54) على الأصحّ (ع) تقدّم في "الطهارة" 18/ 619.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالمدنيين، إلا شيخه،

ص: 416

فبغلانيّ، وليثًا، فمصريّ، وفيه تابعيّ عن تابعيّ، والابن عن أبيه، وأن صحابيّه رضي الله عنه من مشاهير الصحابة رضي الله عنهم، فارس رسول الله صلى الله عليه وسلم.

شرح الحديث:

(عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ) الأنصاريّ المدنيّ (عَنْ) أبيه (أَبِي قَتَادَةَ) الحارث، أو عمرو، أو النعمان بن رِبْعيّ بن بُلْدُدة الأنصاريّ رضي الله عنه (أَنَّهُ) الضمير لعبد الله بن أبي قتادة، (سَمِعَهُ)؛ أي: سمع أبا قتادة رضي الله عنه (يُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ) صلى الله عليه وسلم (قَامَ فِيهِمْ)؛ أي: الصحابة الحاضرين لديه، (فَذَكَرَ لَهُمْ: "أَنَّ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَالإِيمَانَ بِاللهِ أَفْضَلُ الأَعْمَالِ)؛ أي: على الإطلاق، فلا عمل أفضل منهما.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "إن الإيمان، والجهاد أفضل الأعمال": الإيمان هنا هو المذكور في حديث جبريل عليه السلام، ولا شك في أنه أفضل الأعمال؛ فإنه راجع إلى معرفة الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، وما جاء به، وهو المصحِّح لأعمال الطاعات كلها، المتقدم عليها في الرتبة والمرتبة، وإنما قَرَن به الجهاد هنا في الأفضلية، وإن لم يجعله من جملة مباني الإسلام التي ذكرها في حديث ابن عمر رضي الله عنهما؛ لأنه لم يتمكن من إقامة تلك المباني على تمامها، وكمالها، ولم يَظْهَر دينُ الإسلام على الأديان كلها إلا بالجهاد، فكأنه أصل في إقامة الدِّين والإيمانُ، أصلٌ في تصحيح الدِّين، فجَمع بين الأصلين في الأفضلية، والله تعالى أعلم.

قال: وقد حصل من مجموع هذه الأحاديث أن الجهاد أفضل من جميع العبادات العملية، ولا شكّ في هذا عند تعييّنه على كل مكلف يقدر عليه، كما كان في أوّل الإسلام، وكما قد تعيَّن في هذه الأزمان؛ إذ قد استولى على المسلمين أهل الكفر والطغيان، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وأمَّا إذا لم يتعيّن فحينئذ تكون الصلاة أفضل منه، على ما جاء في حديث أبي ذرّ رضي الله عنه؛ إذ سُئل عن أفضل الأعمال فقال:"الصلاة على مواقيتها". انتهى

(1)

.

(1)

"المفهم" 3/ 712 - 713.

ص: 417

(فَقَامَ رَجُلٌ) قال صاحب "التنبيه": لا أعرفه

(1)

. (فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَرَأَيْتَ إِنْ قُتِلْتُ فِي سَبِيلِ اللهِ)؛ أي: لإعلاء كلمة الله سبحانه وتعالى، (تُكَفَّرُ عَنِّي خَطَايَايَ؟) وفي رواية النسائيّ من طريق يحيى بن سعيد الأنصاريّ، عن سعيد المقبريّ:"جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، أرأيتَ إن قُتلتُ في سبيل الله صابرًا محتسبًا مقبلًا غير مُدْبِر، أيكفّر الله عنّي خطاياي؟ "، (فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"نَعَمْ) يكفّرها عنك، (إِنْ قُتِلْتَ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَأَنْتَ صَابِرٌ مُحْتَسِبٌ)؛ أي: مخلص نيّتك، ومدّخر ثوابه عند ربّك، فلا تريد به غير وجه الله سبحانه وتعالى، (مُقْبِلٌ) على العدوّ، وقوله: (غَيْرُ مُدْبِرٍ")؛ أي: عن العدوّ، زاده لبيان كون الإقبال في جميع الأحوال؛ إذ قد يُقبل مرّة، ويُدبر مرّةً أخرى، فيصدق عليه أنه مقبلٌ. (ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"كَيْفَ قُلْتَ؟ ")، وفي رواية النسائيّ المذكورة:"فلما ولّى الرجل ناداه رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو أَمَر ربه فنودي له، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف قُلت؟، فأعاد عليه قوله. (قَالَ) الرجل (أَرَأَيْتَ، إِنْ قُتِلْتُ فِي سَبِيلِ اللهِ، أَتُكَفَّرُ عَنِّي خَطَايَايَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "نَعَمْ) يكفّر عنك الخطايا كلّها، (وَأَنْتَ صَابِرٌ، مُحْتَسِبٌ، مُقْبِلٌ، غَيْرُ مُدْبِرٍ، إِلَّا الدَّيْنَ) بفتح الدال المهملة، والنصب على الاستثناء؛ يعني: أن القتل في سبيل الله على الصفة المذكورة لا يُكفر عنك ديون الخلق، فإن ديونهم لا يكفّرها إلا عفو صاحبه، أو استيفاؤه. (فَإِنَّ جِبْرِيلَ عليه السلام قَالَ لِي ذَلِكَ")؛ أي: أخبرني بأن الدَّين لا يُكفَّر بالشهادة، وفي رواية عند أبي عمر:"إلا الدَّين، فإنه مأخوذٌ، كما زعم جبريل"؛ أي: قال، من إطلاق الزعم على القول الحقّ.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "أرأيت إن قتلت في سبيل؛ أيكفر عني خطاياي. . . إلخ": هذا بحكم عمومه يشمل جميع الخطايا، ما كان من حقوق الله تعالى، وما كان من حقوق الآدميين، فجوابه صلى الله عليه وسلم بـ "نعم" مطلقًا يقتضي تكفير جميع ذلك، لكن الاستثناء الوارد بعد هذا يبيّن أن هذا الخبر ليس على عمومه؛ وإنما يتناول حقوق الله تعالى خاصَّة لقوله صلى الله عليه وسلم:"إلا الدَّين"،

(1)

"تنبيه المعلم" ص 328.

ص: 418

وذِكره الدَّين تنبيهٌ على ما في معناه من تعلّق حقوق الغير بالذمم؛ كالغصب، وأَخْذ المال بالباطل، وقَتْل العمد، وجراحه، وغير ذلك من التبعات، فإن كل هذا أَولى بأن لا يُغفر بالجهاد من الدَّين، لكن هذا كله إذا امتنع من أداء الحقوق مع تمكّنه منه، وأما إذا لم يجد للخروج من ذلك سبيلًا؛ فالمرجوّ من كَرَم الله تعالى إذا صَدَق في قَصْده، وصحت توبته أن يُرضيَ اللهُ تعالى خصومه عنه، كما قد جاء نصًّا في حديث أبي سعيد الخدريّ المشهور في هذا، وقد دلَّ على صحة ما ذكرناه قوله صلى الله عليه وسلم:"لَتُؤَدَّن الحقوقُ إلى أهلها يوم القيامة. . ."، الحديث، وسيأتي إن شاء الله تعالى، ولا يُلتفت إلى قول من قال: إن هذا الذي ذكره من الدَّين إنما كان قبل قوله صلى الله عليه وسلم: "من ترك دَينًا أو ضَياعًا فعليَّ. . ."، الحديث؛ يشير بذلك إلى أن ذلك المعنى منسوخ، فإنه قول باطل مفسوخ؛ فإن المقصود من هذا الحديث بيان أحكام الديون في الدنيا، وذلك أنه كان من أحكامها دوام المطالبة، وإن كان الإعسار، وقال بعض الرواة: إن الحر كان يُباع في الدَّين، وامتنع النبيّ صلى الله عليه وسلم من الصلاة على من مات، وعليه دينار، ولم يجد وفاءً له، فهذه الأحكام وأشباهها هي التي يمكن أن تُنسخ، والحديث الأول لم يتعرّض لهذه الأحكام؛ وإنما تعرّض لمغفرة الذنوب فقط، هذا إذا قلنا: إن هذا ناسخ، فأما إذا حقّقنا النظر فيه فلا يكون ناسخًا، وإنما غايته أنْ تَحَمَّل النبيّ صلى الله عليه وسلم على مقتضى كَرَم خُلُقه عن المعسر دَيْنه، وسدّ ضيعة الضائع، وقد دل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث بعينه:"أنا أَوْلى بكل مؤمن من نفسه، وأنا أَولى بالمؤمنين من أنفسهم"، فعلى هذا يكون هذا التحمل خصوصًا به، أو من جملة تبرعاته لمّا وسّع الله عليه، وعلى المسلمين، وقد قيل في معنى هذا الحديث: إن معنى ذلك: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قام بذلك من مال الخُمس والفيء ليبيّن أن للغارمين، ولأهل الحاجة حقًّا في بيت مال المسلمين، وإن الناظر لهم يجب عليه القيام بذلك لهم. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله، وهو بحث نفيسٌ، وسيأتي زيادة التحقيق في المسألة الثالثة - إن شاء الله تعالى -

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1)

"المفهم" 3/ 713 - 714.

ص: 419

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي قتادة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [32/ 4872 و 4873 و 4874](1885)، و (الترمذيّ) في "فضل الجهاد"(1712)، و (النسائيّ) في "الجهاد"(6/ 34 - 35) و"الكبرى"(3/ 22 و 23)، و (مالك) في "الموطأ"(2/ 461)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(5/ 310)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 303 - 304)، و (سعيد بن منصور) في "سننه"(2553)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 207)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4654)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 467 و 469)، و (عبد بن حميد) في "مسنده"(1/ 96)، و (ابن منده) في "الإيمان"(1/ 401)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(9/ 43)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان أن من قُتل في سبيل الله عز وجل، وعليه دَين، لا تُكفّر شهادته عنه دَينه، وقد تقدّم تفصيل ذلك مستوفًى قريبًا.

2 -

(ومنها): أن الأجر في ذلك لمن صدقت نيّته، واحتسب أجره، ولم يُقاتل حميّة، ولا لطلب دنيا، ولِطَلَب ذِكر وثناء.

3 -

(ومنها): أن من قُتل مدبرًا، فإنه ليس له من هذا الأجر شيء.

4 -

(ومنها): أن حقوق الآدميين، والتبعات التي للعباد لا تكفّرها الأعمال الصالحة، وإنما تكفِّر ما بين العبد وربّه.

5 -

(ومنها): أن فيه أن جبريل عليه السلام كان ينزل على النبيّ صلى الله عليه وسلم من الوحي بما يُتلى من القرآن، وبما لا يُتلى من السُّنَّة، وقد قيل في قوله تعالى:{وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} الآية [الأحزاب: 34]: إن الآيات القرآنُ، والحكمة السُّنَّة، وكلٌّ من الله، فإنه صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى، والله تعالى أعلم بالصواب.

6 -

(ومنها): ما قاله القرطبيّ رحمه الله: وفيه من الفقه جواز تأخير الاستثناء قَدْرًا قليلًا؛ لأنه أَطلق أولًا، فلمّا ولّى دعاه، فذَكر له الاستثناء، وقد يجاب عنه بأنه لمّا أراد أن يستثني أعاد اللفظ الأوّل، ووصلَ الاستثناء به في الحال،

ص: 420

فلا يجوز التأخير، ويدل على ذلك أن الاستثناء، والتخصيص، وغيرهما الصادرة عنه صلى الله عليه وسلم كلٌّ من عند الله، لا من عند النبيّ صلى الله عليه وسلم بالاجتهاد، وقد تقدَّم الاختلاف في هذا الأصل. انتهى

(1)

.

7 -

(ومنها): ما قاله الحافظ أبو عمر بن عبد البرّ رحمه الله: فيه أن الخطايا تكفَّر بالأعمال الصالحة مع الاحتساب، والنيّة في العمل، وأن أعمال البرّ المقبولة لا تُكفِّرُ من الذنوب إلا ما بين العبد، وبين ربّه، فأما التبعات فلا بدّ فيها من القصاص. قال: وهذا في دَين تَرك له وفاءً، ولم يوصِ به، أو قَدَر على الأداء، فلم يؤدّ، أو أدّاه في غير حقّ، أو أسرف، ومات، ولم يوفّه، أما من ادّانَ في حقّ واجب؛ لِفَاقة، وعُسر، ومات، ولم يترك وفاءً، فلا يُحبس عن الجنّة؛ لأن على السلطان فرضًا أن يؤدّي عنه دَينه من الصدقات، أو سهم الغارمين، أو الفيء. وقد قيل: إن تشديده صلى الله عليه وسلم في الدَّين كان قبل الفتوح. انتهى.

وقال الحافظ رحمه الله: يستفاد منه أن الشهادة لا تكفّر التبعات، وهي لا تمنع درجة الشهادة، وليس للشهادة معنى إلا أن تُثبت لمن حصلت له ثوابًا مخصوصًا، وتُكرِمه كرامة زائدةً، وقد بيّن في الحديث أنه يكفّر عنه ما عدا التبعات، فإن كان له عملٌ صالحٌ كفّرت الشهادة سيّئاته، غير التبعات، ونَفَعه عمله الصالح في مُوازنة ما عليه من التبعات، وتبقى له درجة الشهادة خالصةً، فإن لم يكن له عملٌ صالحٌ فهو تحت المشيئة. انتهى.

وقال ابن الزملكانيّ رحمه الله: فيه تنبيهٌ على أن حقوق الآدميين لا تكفَّر؛ لكونها مبنيّة على المشاحّة والتضييق، ويمكن أن يقال: هذا محمول على الدَّين الذي هو خطيئة، وهو ما استدانه صاحبه على وجه لا يجوز له فِعله، بأن أخَذَه بحيلة، أو غَصَبَه، فثبت في ذمّته البدلُ، أو ادّان غير عازم على الوفاء؛ لأنه استثنى ذلك من الخطايا، والأصل في الاستثناء أن يكون من الجنس، ويكون الدَّين المأذون فيه مسكوتًا عنه في هذا الاستثناء، فلا يلزم المؤاخذة به؛ لِمَا يلطف الله بعبده من استيهابه له، وتعويض صاحبه من فضل الله.

(1)

"المفهم" 3/ 715.

ص: 421

[فإن قيل]: ما تقول فيمن مات، وهو عاجز عن الوفاء، ولو وجد وفاءً وفَّى؟.

[قلت]: إن كان المال الذي لَزِم ذمّته إنما لَزِمها بطريق لا يجوز تعاطي مثله، كغصب، وإتلافٍ مقصودٍ، فلا تبرأ الذّمّة من ذلك إلا بوصوله إلى من وجب له، أو بإبرائه منه، ولا تُسقِطه التوبةُ، وإنما تنفع التوبة في إسقاط العقوبة الأخرويّة فيما يختصّ بحقّ الله تعالى؛ لمخالفته لِمَا نهى الله عنه، وإن كان المال لَزِمه بطريق سائغ، وهو عازم على الوفاء، ولم يَقْدِر، فهذا ليس بصاحب ذنب، حتى يتوب عنه، ويُرجى له الخير في العقبى، ما دام على هذا الحال. انتهى.

قال الزرقانيّ رحمه الله: وهو نفيس، وقد سبقه إلى معناه أبو عمر، كما رأيته. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا التقرير حسنٌ جدًا، فقد أخرج البخاريّ في "صحيحه" من طريق أبي الغيث، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال:"من أخذ أموال الناس، يريد أداءها، أَدَّى الله عنه، ومن أخذ يريد إتلافها، أتلفه الله". فقد بيّن صلى الله عليه وسلم أن من أخذ أموال الناس، سواء كان بالاستدانة، أو غيره من الأوجه المشروعة، وفي نيّته أن يؤدّيها إليهم، أدّى الله تعالى عنه، وإن لم يتمكّن هو من أدائها، وأما من أخذها، ومن نيّته أن لا يؤدّيها إليهم، فإنه آثم، يؤاخَذ بجريمته، ومثله من كان أخَذَه على وجه غير مشروع؛ كالغصب، والسرقة، ونحوهما.

فيستفاد منه أن الشهيد الذي يُمنع من تكفير الشهادة الدَّين عنه هو القسم الثاني، والله تعالى أعلم بالصواب.

[تنبيه] إن قلت: يعارض حديث الباب ما أخرجه الطبرانيّ برجالٍ ثقات، عن ابن مسعود رضي الله عنه، رفعه:"القتل في سبيل الله، يكفّر الذنوب كلّها، إلا الأمانة، والأمانة في الصلاة، والأمانة في الصوم، والأمانة في الحديث، وأشدّ من ذلك الودائع".

(1)

"شرح الزرقانيّ على الموطأ" 3/ 36 - 37.

ص: 422

فإنه يدلّ على أن الشهادة لا تُكَفِّرُ الأمانة بمعناها المذكور، وحديث الباب ظاهرٌ في أنه يكفّر جميع حقوق الله، ومنها الصلاة، والصوم، فكيف يُجمع بينهما؟.

[قلت]: حديث الطبرانيّ ضعيف

(1)

، فلا يُعارض ما في "الصحيح"، وعلى تقدير صحّته يُحمَل على مطلق القتل، وحديث الباب مقيّدٌ بأنه صابرٌ، محتسبٌ، مقبلٌ غيرُ مُدْبِر، والله تعالى أعلم بالصواب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4873]

(. . .) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَا: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى - يَعْنِي: ابْنَ سَعِيدٍ - عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ قُتِلْتُ فِي سَبِيلِ اللهِ. بِمَعْنَى حَدِيثِ اللَّيْثِ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم قبل باب.

2 -

(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) تقدّم قبل بابين.

3 -

(يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ) السلميّ مولاهم، أبو خالد الواسطيّ، ثقةٌ متقنٌ عابدٌ [9](ت 206) وقد قارب التسعين (ع) تقدّم في "المقدمة" 6/ 45.

4 -

(يَحْيَى بْنُ سَعِيد) بن قيس الأنصاريّ المدنيّ القاضي، تقدّم قبل باب.

والباقون ذُكروا قبله.

[تنبيه]: رواية يزيد بن هارون، عن يحيى بن سعيد هذه ساقها أبو عوانة رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(7364)

- حدّثنا محمد بن يحيى، وعمار بن رجاء، والصغانيّ، قالوا: ثنا يزيد بن هارون، قال: أنبأ يحيى بن سعيد، عن سعيد بن أبي سعيد المقبريّ، عن عبد الله بن أبي قتادة، أن أباه كان يحدّث أن رجلًا أتى

(1)

راجع: "ضعيف الجامع" للشيخ الألبانيّ رحمه الله ص 602 رقم (4130).

ص: 423

النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إن قُتلتُ في سبيل الله كَفَّر الله به خطاياي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن قُتلتَ في سبيل الله، صابرًا، محتسبًا، مقبلًا، غير مُدْبِر، كفَّر الله به خطاياك"، ثم مَكَث ساعةً، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن قُتلت في سبيل الله صابرًا، محتسبًا، مقبلًا، غيرَ مدبر كَفَّر الله به خطاياك، إلا الدَّين، قال لي جبريل عليه السلام"، هذا لفظ الصغانيّ، وعمار. انتهى

(1)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4874]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ قَيْسٍ (ح) قَالَ: وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَجْلَانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَزِيدُ أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ - أَن رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ

(2)

، فَقَالَ: أَرَأَيْتَ، إِنْ ضَرَبْتُ بِسَيْفِي

(3)

. بِمَعْنَى حَدِيثِ الْمَقْبُرِيِّ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ) تقدّم قبل بابين.

2 -

(سُفْيَانُ) بن عيينة، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

3 -

(عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ) الأثرم الْجُمحيّ مولاهم، أبو محمد المكيّ، ثقةٌ ثبتٌ [4](ت 126)(ع) تقدّم في "الإيمان" 21/ 184.

4 -

(مُحَمَّدُ بْنُ قَيْسٍ) المدنيّ، قاصّ عمر بن عبد العزيز، أبو إبراهيم، ويقال: أبو أيوب، ويقال: أبو عثمان، مولى يعقوب القبطيّ، ويقال: مولى آل أبي سفيان، ثقةٌ [6].

رَوَى عن أبي هريرة، وجابر، يقال: مرسلٌ، وأبي صرمة الأنصاريّ، وعن أبيه، وأمه، وعبد الله بن أبي قتادة، وعمر بن عبد العزيز، وأبي بردة بن أبي موسى، وغيرهم.

ورَوَى عنه إسماعيل بن أمية، وابن إسحاق، وابن أبي ذئب، وأسامة بن

(1)

"مسند أبي عوانة" 4/ 468.

(2)

وفي نسخة: "على المنبر يخطب".

(3)

وفي نسخة: "بسيفي هذا".

ص: 424

زيد الليثيّ، وعمرو بن دينار، وسليمان بن طرخان، وأبو معشر، وعبد العزيز بن عياض، وغيرهم.

قال ابن سعد: كان كثير الحديث، عالِمًا، وقال يعقوب بن سفيان، وأبو داود: ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال خليفة: تُوُفّي أيام الوليد بن يزيد.

أخرج له المصنّف، والترمذيّ، والنسائيّ، وابن ماجه، وليس له في هذا الكتاب إلا حديثان فقط، هذا برقم (1885)، وحديث (2748):"لولا أنكم تُذنبون لَخَلَق الله خلقًا يُذنبون. . ." الحديث.

5 -

(مُحَمَّدُ بْنُ عَجْلَانَ) المدنيّ، مولى فاطمة بنت الوليد، أبو عبد الله، صدوقٌ [5](ت 148)(خت م 4) تقدّم في "الإيمان" 10/ 150.

والباقيان ذُكرا قبله.

وقوله: (قَالَ: وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَجْلَانَ) فاعل "قال" ضمير سفيان بن عيينة، فلسفيان في هذا الحديث طريقان: طريق عمرو بن دينار، عن محمد بن قيس. . . إلخ، وطريق محمد بن عجلان، عن محمد بن قيس. . . إلخ.

وقوله: (يَزِيدُ أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ) جملة في محلّ نصب على الحال؛ أي: كون كلّ واحد من عمرو بن دينار، ومحمد بن عجلان يزيد في لفظ الحديث على صاحبه، وزيادة أحدهما على الآخر تتبيّن في التنبيه الثاني.

وقوله: (وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ) زاد في نسخة: "يخطب"، والجملة في محلّ نصب على الحال.

[تنبيه]: تقدّم في مقدّمة "شرح المقدّمة" أن أبا الفضل بن عمار الحافظ انتقد هذا الحديث، ودونك نصّه: وهذا حديث رواه بكير بن عبد الله بن الأشجّ، عن عبد الله بن أبي قتادة، عن رجل من أهل نجران، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، ورواه عمرو بن الحارث، فأفسده بكير بن عبد الله بن الأشجّ، وهو أحد علماء مصر، ورواه عمرو بن دينار، عن محمد بن قيس مرسلًا، وقال محمد بن عجلان، عن محمد بن قيس، عن ابن أبي قتادة، عن أبيه، وعمرو بن دينار أثبت من ابن عجلان، وقد أرسله. انتهى كلامه.

قال الجامع عفا الله عنه: حاصل ما أشار إليه أبو الفضل الطعن في رواية

ص: 425

عمرو بن دينار، عن محمد بن قيس بأنها مرسلة، وذلك فيما رواه سعيد بن منصور في "سننه"(2553)، فقال: حدّثنا سفيان، عن عمرو بن دينار، عن محمد بن قيس، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وابن عجلان عن محمد بن قيس، عن عبد الله بن أبي قتادة، عن أبيه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، يزيد أحدهما على صاحبه. . . الحديث.

والجواب عن مسلم أنه لم ير إرسال عمرو بن دينار علّةً؛ لأن ابن عجلان وَصَله، ولا يقال: إن عمرًا أحفظ منه؛ لأن عمرًا رواه أيضًا متّصلًا، فقد أخرجه النسائيّ من طريقه متّصلًا، كما سيأتي في التنبيه التالي، فلعل عمرًا كان يرويه تارةً متّصلًا، وتارةً مرسلًا، فرجّح مسلم وَصْله؛ لمتابعة ابن عجلان له فيه.

وعلى تقدير تأثير العلّة المذكورة، فالحديث صحيح متّصل من رواية سعيد المقبريّ، كما أخرجه مسلم قبل هذا، فرواية محمد بن قيس من باب المتابعة، والمتابعة يُغتفر فيها ما لا يُغتفر في الأصول، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

[تنبيه آخر]: رواية عمرو بن دينار، عن محمد بن قيس ساقها النسائيّ رحمه الله في "المجتبى"، فقال:

(3158)

- أخبرنا عبد الجبار بن العلاء، قال: حدَّثنا سفيان، عن عمرو، سمع محمد بن قيس، عن عبد الله بن أبي قتادة، عن أبيه، قال: جاء رجل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو على المنبر، فقال: يا رسول الله، أرأيت إن ضربت بسيفي في سبيل الله، صابرًا، محتسبًا، مقبلًا، غيرَ مدبر، حتى أُقتل، أيكفِّر الله عني خطاياي؟ قال:"نعم"، فلما أدبر دعاه، فقال:"هذا جبريل يقول: إلا أن يكون عليك دَيْن". انتهى

(1)

.

ورواية سفيان عن محمد بن عجلان، عن محمد بن قيس، ساقها الشافعيّ رحمه الله في "سننه"، فقال:

(681)

- حدّثنا المزنيّ

(2)

، قال: حدّثنا الشافعيّ رحمه الله، قال: حدّثنا

(1)

"سنن النسائيّ""المجتبى" 6/ 35.

(2)

قائل: "حدّثني المزنيّ" هو الراوي عن المزنيّ، وهو أبو جعفر الطحاويّ، والمزنيّ تلميذ الشافعيّ، وهو خال الطحاويّ، فتنبّه.

ص: 426

سفيان بن عيينة، عن ابن عجلان، عن محمد بن قيس، عن عبد الله بن أبي قتادة، عن أبيه، أن رجلًا أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، أرأيتَ إن ضَربت بسيفي هذا في سبيل الله، صابرًا، محتسبًا، مقبلًا، غير مُدبِر، أيكفِّر عني خطاياي؟ فقال:"نعم"، فلمّا أدبر، قال:"هذا جبريل عليه السلام يقول: إلا أن يكون عليك دَيْن". انتهى

(1)

.

وقد ساق أبو عوانة الروايتين مساقًا واحدًا في "مسنده"، فقال:

(7363)

- حدّثنا شعيب بن عمرو الدمشقيّ، قال: ثنا سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن محمد بن قيس، وابنِ عجلان، عن محمد بن قيس، عن عبد الله بن أبي قتادة، عن أبيه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال: جاء رجل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: أرأيت إن ضَربت بسيفي في سبيل الله، صابرًا، محتسبًا، مقبلًا، غير مُدْبر، يكفّر عني خطاياي؟ قال:"نعم"، فلمّا أدبر قال:"تعالَ، هذا جبريلُ يقول: إلا أن يكون عليك دَيْن". انتهى

(2)

، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4875]

(1886) - (حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ بْنُ يَحْيَى بْنِ صَالِحٍ الْمِصْرِيُّ، حَدَّثَنَا الْمُفَضَّلُ - يَعْنِي: ابْنَ فَضَالَةَ - عَنْ عَيَّاشٍ - وَهُوَ ابْنُ عَبَّاسٍ الْقِتْبَانِيُّ - عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ يَزِيدَ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحُبُلِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "يُغْفَرُ لِلشَّهِيدِ كُلُّ ذَنْبٍ إِلَّا الدَّيْنَ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(زَكَرِيَّاءُ بْنُ يَحْيَى بْنِ صَالِحٍ الْمِصْرِيُّ) الحَرَسيّ، كاتب العمريّ، ثقةٌ [10](ت 242)(م) من أفراد المصنّف تقدّم في "النذر" 4/ 4242.

2 -

(الْمُفَضَّلُ بْنُ فَضَالَةَ) بن عُبيد الْقِتْبانيّ، أبو معاوية القاضي، ثقةٌ فاضلٌ عابدٌ، أخطأ ابن سعد في تضعيفه [8](ت 181) تقدّم في "صلاة المسافرين وقصرها" 6/ 1625.

(1)

"السنن المأثورة" 1/ 444.

(2)

"مسند أبي عوانة" 4/ 468.

ص: 427

3 -

(عَيَّاشُ بْنُ عَبَّاسٍ الْقِتْبَانِيُّ)

(1)

المصريّ، ثقةٌ

(2)

[5](132)(ز م 4) تقدّم في "النكاح" 25/ 3567.

4 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ يَزِيدَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحُبُلِيُّ) تقدّم في الباب الماضي.

5 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ) بن وائل بن هاشم بن سُعيد السَّهْميّ، أبو محمد، أو أبو عبد الرحمن، مات في ذي الحجة ليالي الحرّة سنة (63) على الأصحّ بالطائف (ع) تقدّم في "المقدمة" 4/ 18.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وهو مسلسل بالمصريين من أوله إلى آخره، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وأن صحابيّه ابن صحابيّ رضي الله عنهما، وهو أحد السابقين إلى الإسلام، وأحد العبادلة الأربعة، ومن فقهاء الصحابة رضي الله عنهم، وشرح الحديث واضح، يُعلم مما قبله، وفيه مسألتان:

(المسألة الأولى): حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [32/ 4875 و 4876](1886)، و (الحاكم) في "المستدرك"(2/ 129)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 220)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 4/ 469)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(9/ 25)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(9/ 136)، و (البزّار) في "مسنده"(6/ 425)، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4876]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يَزِيدَ الْمُقْرِئُ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي أَيُّوبَ، حَدَّثَنِي عَيَّاشُ بْنُ عَبَّاسٍ الْقِتْبَانِيُّ، عَنْ

(1)

قوله: "عيّاش بن عبّاس" الأول بالشين المعجمة، والثاني بالسين المهملة، و"القتبانيّ": بقاف مكسورة، ثم مثناة فوقيّة ساكنة، ثم موحّدة: منسوب إلى قِتبان بطن من رعين، قاله النوويّ.

(2)

قال في "التقريب": من السادسة، وما هنا أولى؛ لأنه رأى عبد الله بن الحارث بن جزء الصحابيّ، فيكون مثل الأعمش رأى أنسًا، فكان من الخامسة، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

ص: 428

أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحُبُلِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"الْقَتْلُ فِي سَبِيلِ اللهِ يُكَفِّرُ كُلَّ شَيْءٍ إِلَّا الدَّيْنَ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

وكلّهم ذُكروا في هذا الباب، وقبل باب، وقد تقدّم تمام البحث في الحديث الماضي، ولله الحمد والمنّة.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(33) - (بَابٌ فِي بَيَانِ أَنَّ أَرْوَاحَ الشُّهَدَاءِ فِي الْجَنَّةِ، وَأَنَّهُمْ أَحْيَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4877]

(1887) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ (ح) وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا جَرِيرٌ، وَعِيسَى بْنُ يُونُسَ، جَمِيعًا عَنِ الأَعْمَشِ (ح) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ - وَاللَّفْظُ لَهُ - حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، وَأَبُو مُعَاوِيَةَ، قَالَا: حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُرَّةَ، عَنْ مَسْرُوقٍ، قَالَ: سَأَلْنَا عَبْدَ اللهِ

(1)

، عَنْ هَذِهِ الآيَةِ:{وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169)} [آل عمران: 169]، قَالَ: أَمَا إِنَّا قَدْ سَأَلْنَا عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ:"أَرْوَاحُهُمْ فِي جَوْفِ طَيْرٍ خُضْرٍ، لَهَا قَنَادِيلُ مُعَلَّقَةٌ بِالْعَرْشِ، تَسْرَحُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ شَاءَتْ، ثُمَّ تَأْوِي إِلَى تِلْكَ الْقَنَادِيلِ، فَاطَّلَعَ إِلَيْهِمْ رَبُّهُمُ اطِّلَاعَةً، فَقَالَ: هَلْ تَشْتَهُونَ شَيْئًا؟ قَالُوا أي شَيْءٍ نَشْتَهِي؟ وَنَحْنُ نَسْرَحُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ شِئْنَا، فَفَعَلَ ذَلِكَ بِهِمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَلَمَّا رَأَوْا أَنَّهُمْ لَنْ يُتْرَكُوا مِنْ أَنْ يُسْأَلْوا، قَالُوا: يَا رَبِّ نُرِيدُ أَنْ تَرُدَّ أَرْوَاحَنَا فِي أَجْسَادِنَا، حَتَّى نُقْتَلَ فِي سَبِيلِكَ مَرَّةً أُخْرَى، فَلَمَّا رَأَى أَنْ لَيْسَ لَهُمْ حَاجَةٌ تُرِكُوا").

(1)

وفي نسخة: "سألت عبد الله".

ص: 429

رجال هذا الإسناد: اثنا عشر:

1 -

(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ، تقدّم قبل بابين.

2 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم في الباب الماضي.

3 -

(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه، تقدّم قبل بابين.

4 -

(جَرِيرُ) بن عبد الحميد، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

5 -

(عِيسَى بْنُ يُونُسَ) بن أبي إسحاق السَّبيعيّ الكوفيّ، نزل الشام مرابطًا، ثقةٌ مأمون [8](ت 187)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 28.

6 -

(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ) الهَمْدانيّ، أبو عبد الرحمن الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ فاضلٌ [10](ت 234)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 5.

7 -

(أَسْبَاطُ) بن محمد بن عبد الرحمن بن خالد القرشيّ مولاهم، أبو محمد الكوفيّ، ثقةٌ ضُعّف في الثوريّ [9](ت 200)(ع) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 26/ 1354.

8 -

(أَبُو مُعَاوِيَةَ) محمد بن خازم الضرير، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

9 -

(الأَعْمَشُ) سليمان بن مِهْران الأسديّ الكاهليّ مولاهم، أبو محمد الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ عارف بالقراءة، ورعٌ، لكنه يُدلس [5](ت 7 أو 148)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 297.

10 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ مُرَّةَ) الْهَمْدانيّ الخارفيّ الكوفيّ، ثقةٌ [3](ت 100) أو قبلها (ع) تقدّم في "الإيمان" 27/ 217.

11 -

(مَسْرُوقُ) بن الأجدع بن مالك الْهَمْدانيّ الوادعيّ، أبو عائشة الكوفيّ، ثقةٌ فقيهٌ عابدٌ مخضرمٌ [2](ت 2 أو 63)(ع) تقدم في "الإيمان" 27/ 217.

12 -

(عَبْدُ اللهِ) بن مسعود بن غافل بن حبيب الْهُذليّ، أبو عبد الرحمن الصحابيّ الشهير، مات رضي الله عنه سنة (32) أو بعدها (ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 11.

[تنبيه]: عبد الله هنا هو ابن مسعود رضي الله عنه، وذكر بعضهم أنه ابن عمرو بن العاص، والصواب الأول، قال المازريّ: كذا جاء عبد الله غير منسوب، قال أبو عليّ الجيّانيّ في "التقييد": قال أبو مسعود الدمشقيّ: ومن الناس من ينسبه، فيقول: عن عبد الله بن عمرو، والله أعلم، وذكره أبو مسعود الدمشقي في مسند ابن مسعود

(1)

.

(1)

"تقييد المهمل" 3/ 888.

ص: 430

وقال القاضي عياض في "الإكمال": كذا هو ابن مسعود عندنا في الأصل من رواية أبي بحر، وسَقَط لغيره من شيوخنا، وأُراه من إلحاق شيخه الكنانيّ

(1)

.

وقال النوويّ: وكذا وقع في بعض نسخ بلادنا المعتمدة، ولكن لم يقع منسوبًا في معظمها، وذَكَره خَلَف الواسطيّ، والحميديّ، وغيرهما في مسند ابن مسعود، وهو الصواب. انتهى

(2)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: عبد الله هو ابن مسعود، وهكذا في رواية أبي بحر:"سألنا عبد الله بن مسعود"، ومن قال فيه: عبد الله بن عمرو، فقد أخطأ. انتهى

(3)

.

[تنبيه آخر]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالكوفيين، سوى شيخه يحيى، فنيسابوريّ، وإسحاق فمروزيّ، وأن فيه ثلاثة من التابعين روى بعضهم عن بعض، وأن صحابيّه من كبار فقهاء الصحابة رضي الله عنهم جمّ المناقب.

شرح الحديث:

(عَنْ مَسْرُوقٍ) أنه (قَالَ: سَأَلْنَا عَبْدَ اللهِ) وفي بعض النسخ: "سألت عبد الله"، (عَنْ هَذِهِ الآيَةِ:{وَلَا تَحْسَبَنَّ} ) قال أبو السعود المفسّر رحمه الله: هذا كلام مستأنَف، مسوقٌ لبيان أن القتل الذي يَحْذَرونه، ويُحَذِّرون الناس منه، ليس مما يُحذر، بل هو من أجلّ المطالب التي يتنافس فيها المتنافسون، إثر بيان أن الحذر لا يُجدي، ولا يغني، وقُرئ:"ولا تحسِبَنَّ" بكسر السين، والمراد بهم: شهداء أُحد، وكانوا سبعين رجلًا، أربعة من المهاجرين: حمزة بن عبد المطلب، ومصعب بن عمير، وعثمان بن شهاب، وعبد الله بن جحش، وباقيهم من الأنصار رضوان الله تعالى عليهم أجمعين.

قال: والخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم، أو لكلّ من له حظّ من الخطاب، وقرئ

(1)

"إكمال المعلم" 6/ 306.

(2)

"شرح النوويّ" 13/ 31.

(3)

"المفهم" 3/ 715.

ص: 431

بالياء على الإسناد إلى ضميره صلى الله عليه وسلم، أو ضمير من يحسَب، وقيل: إلى الذين قُتلوا، والمفعول الأول محذوف؛ لأنه في الأصل مبتدأ جائز الحذف عند القرينة، والتقدير: ولا يحسبنهم الذين قُتلوا أمواتًا؛ أي: لا يحسبن الذين قُتلوا أنفسَهم أمواتًا، على أن المراد من توجيه النهي إليهم: تنبيه السامعين على أنهم أحقّاء بأن يُسَلَّوا بذلك، ويَبْشُروا بالحياة الأبدية، والكرامة السنية، والنعيم المقيم، لكن لا في جميع أوقاتهم، بل عند ابتداء القتل؛ إذ بعد تبيّن حالهم لهم لا يبقى لاعتبار تسليتهم، وتبشيرهم فائدة، ولا لتنبيه السامعين، وتذكيرهم وجه.

(1)

({الَّذِينَ قُتِلُوا}) بالتخفيف، وقرئ بالتشديد؛ لكثرة المقتولين، ({فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ}) بالرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف؛ أي: بل هم أحياء، وقرئ بالنصب؛ أي: بل أحسبهم أحياءً، على أن الحسبان بمعنى اليقين، كما في قوله [من الطويل]:

حَسِبْتُ التُّقَى وَالْمَجْدَ خَيْرَ تِجَارَةٍ

رَبَاحًا إِذَا مَا الْمَرْءُ أَصْبَحَ ثَاقِلَا

أو على أنه وارد على طريق المشاكلة

(2)

.

وقوله: ({عِنْدَ رَبِّهِمْ}) في محل رفع على أنه خبر ثان للمبتدأ المقدَّر، أو صفة لـ "أحياءٌ"، أو في محل نصب على أنه حال من الضمير في "أحياء"، وقيل: هو ظرف لـ "أحياء"، أو للفعل بعده، والمراد بالعندية: التقرب، والزلفى، وفي التعرض لعنوان الربوبية المنبئة عن التربية، والتبليغ إلى الكمال، مع الإضافة إلى ضميرهم مزيد تكرمة لهم

(3)

.

وقوله: ({يُرْزَقُونَ})؛ أي: من الجنة، وفيه تأكيد لكونهم أحياءً، وتحقيق لمعنى حياتهم، قال الإمام الواحديّ: الأصحّ في حياة الشهداء ما رُوي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم من أن أرواحهم في أجواف طيور خضر، وأنهم يُرزقون، ويأكلون، ويتنعمون، وفيه دلالة على أن روح الإنسان جسم لطيف، لا يفنى بخراب البَدَن، ولا يتوقف عليه إدراكه، وتألمه، والتذاذه

(4)

.

(1)

"تفسير أبي السعود" 2/ 111 - 112.

(2)

"تفسير أبي السعود" 2/ 112.

(3)

"تفسير أبي السعود" 2/ 112.

(4)

"تفسير أبي السعود" 2/ 112.

ص: 432

(قَالَ) عبد الله (أَمَا) بالتخفيف: أداة استفتاح، وتنبيه، كـ "ألا"، (إِنَّا قَدْ سَأَلْنَا)؛ أي: سألنا النبيّ صلى الله عليه وسلم، فالمفعول محذوف، قال النوويّ رحمه الله: وهذا الحديث مرفوع؛ لقوله: "إنا قد سألنا عن ذلك، فقال؛ يعني: النبيّ صلى الله عليه وسلم". انتهى

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قول عبد الله: "أما إنا سألنا عن ذلك فقال": كذا صحَّت الرواية، ولم يُذكر فيها "رسول الله صلى الله عليه وسلم"، وهو المراد منها قطعًا، ألا ترى قوله:"فقال"، وأسند الفعل إلى ضميره، وإنما سكت عنه للعلم به، فهو مرفوع، وليس هذا المعنى الذي في هذا الحديث مما يُتَوَصّل إليه بعقل، ولا قياس، وإنما يُتوصل إليه بالوحي، فلا يُقال: هو موقوف على عبد الله بن مسعود. انتهى

(2)

.

وقال ابن القيّم رحمه الله: والظاهر - والله أعلم - أن المسؤول عن هذه الآية الذي أشار إليه ابن مسعود هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحَذَفه لظهور العلم به، وأن الوَهْم لا يذهب إلى سواه، وقد كان ابن مسعود يشتدّ عليه أن يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان إذا سمّاه أرعد، وتغيّر لونه، وكان كثيرًا ما يقول ألفاظَ الحديث موقوفةً، وإذا رَفَع منها شيئًا تحرَّى فيه، وقال: أو شبه هذا، أو قريبًا من هذا، فكأنه - والله أعلم - جرى على عادته في هذا الحديث، وخاف أن لا يؤديه بلفظه، فلم يَذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم، والصحابة رضي الله عنهم إنما كانوا يسألون عن معاني القرآن رسول الله صلى الله عليه وسلم. انتهى

(3)

.

وقوله: (عَنْ ذَلِكَ)؛ أي: عن معنى هذه الآية، وتأويلها.

(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("أَرْوَاحُهُمْ فِي جَوْفِ طَيْرٍ) بفتح، فسكون: جمع طائر، مثلُ صاحب وصَحْبٍ، وراكبٍ ورَكْب، وجَمْع الطير طُيُورٌ، وأطيار، وقال أبو عبيدة، وقُطْرُبٌ: يقع الطير على الواحد والجمع، وقال ابن الأنباريّ: الطيرُ جماعة، وتأنيثها أكثر من التذكير، ولا يقال للواحد: طيرٌ، بل طائرٌ، وقلّما يقال للأنثى: طائرة، قاله الفيّوميّ

(4)

.

(1)

"شرح النوويّ" 13/ 31.

(2)

"المفهم" 3/ 715.

(3)

"حاشية ابن القيم على سنن أبي داود" 7/ 141.

(4)

"المصباح المنير" 2/ 382.

ص: 433

وقوله في هذا الحديث: "في جوف طير خُضْر"، وفي غير مسلم:"كطير خُضر"، وفي حديث آخر:"بحواصل طير"، وفي "الموطأ":"إنما نَسَمة المؤمن طير"، وفي حديث آخر عن قتادة:"في صورة طير أبيض"، قال القاضي عياض: قال بعض المتكلمين على هذا: الأشبه صحّة قول من قال: "طير، أو صورة طير"، وهو أكثر ما جاءت به الرواية، لا سيما مع قوله:"تأوي إلى قناديل تحت العرش"، قال القاضي: واستَبْعَد بعضهم هذا، ولم ينكره آخرون، وليس فيه ما يُنكَر، ولا فرق بين الأمرين، بل رواية "طير"، أو "أجواف طير" أصحّ معنًى، وأبْيَن وجهًا، وليس بالأقيسة والعقول في هذا حكم، فكلٌّ من المجوَّزات، فإذا أراد الله أن يجعل هذه الروح إذا خرجت من المؤمن، أو الشهيد في قناديل، أو أجواف طير، أو حيث يشاء كان ذلك ووقع، ولم يَبْعُد، لا سيما مع القول بأن الأرواح أجسام، كما سنذكره، ونذكر الخلاف في ذلك، ولَمَا أَبْعَدْنا أن تكون رواية أنها طير على ظاهره؛ إذ لو غُيّرت الأرواح عن حالها وصفاتها إلى صفات طير خُضر لم تكن حينئذ أرواحًا، وأمّا على القول: إن الروح معنى، وهي الحياة، فبعيد أيضًا أن ترجع صورة طير؛ لأن المعاني لا تتجسّم، ولا تقوم بنفسها، وإنما تقوم بغيرها من أجسام يخلقها الله تعالى لذلك.

قال الجامع عفا الله عنه: كان على القاضي عياض أن لا يورد هذه الاستبعادات؛ لأنها من الظنون والخيالات الفاسدة التي يتبنّاها الفلاسفة وأذنابهم من المتكلّمين الذين لا يرون للنصوص قيمة، ولا يعتمدون إلا عقولهم، فإذا أخبر الله تعالى بأنه يجعل روح الشهيد طيرًا، أو كالطير، أو في أجواف طير، فما المانع من ذلك، وما الذي يمنع الله تعالى أن يجعل المعاني أجسامًا، وبالعكس؟ والله المستعان.

قال: وقيل: إن هذا المنعَّم، أو المعذَّب من الأرواح جزء من الجسد، تبقى فيه الروح، وهو الذي يتألم، ويعذَّب، ويلتذّ، وينعّم، وهو الذي يقول:{رَبِّ ارْجِعُونِ} [المؤمنون: 99]، وهو الذي يَسْرَح في شجر الجنة، فغير مستحيل أن يُصَوَّر هذا الجزء طائرًا، أو يُجعل في جوف طائر، وفي قناديل تحت العرش، وغير ذلك مما يريد الله عز وجل على المعاني التي تقدّمت،

ص: 434

والله تعالى أعلم بمراد نبيّه صلى الله عليه وسلم. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قوله: "جزء من الجسد" هذا مما لا يخفى بطلانه، فأين النصّ الذي يدلّ على أن الجسد أو جزءًا منه يبقى مع روح الشهيد، فيُجعل في جوف طير؟.

وبالجملة فآخر كلام القاضي هو مناط البحث، وهو قوله:"والله تعالى أعلم بمراد نبيّه صلى الله عليه وسلم"، فالواجب على العاقل أن يسلّم ما صحّ عنه صلى الله عليه وسلم، ولا يحرّف، ولا يخوض في تأويله بلا دليل، فإنه من القول بلا علم، وقد قال الله عز وجل:{وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36]، وقال:{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأعراف: 33]، إلى أن قال:{وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 169]، فتبصّر، ولا تكن أسير التقليد، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

وقوله: (خُضْرٍ) صفة لـ "طيرٍ"، وهو بضم الخاء، وسكون الضاد المعجمتين: جمع أخضر؛ كأحمر، وحُمْر، كما قال في "الخلاصة":

"فُعْلٌ" لِـ "نَحْوِ أَحْمَرٍ وَحَمْرَا"

و"فِعْلَةٌ" جَمْعًا بِنَقْلٍ يُدْرَى

أي: جعل الله تعالى أرواحهم في أجواف طيور خُضْر خالية من الأرواح، على أشباح مصوّرة بصور الطيور، حتى تتلذذ الأرواح بنسب الأشباح، وفيه ردّ على من يقول: إن عذاب البرزخ ونعيمه إنما هو روحاني فقط

(2)

.

(لَهَا قَنَادِيلُ) بالفتح: جمع قِنديل بكسرها، (مُعَلَّقَةٌ بِالْعَرْشِ، تَسْرَحُ مِنَ الْجَنَّةِ) بفتح حرف المضارعة، والراء؛ أي: تأكل، وتشرب، وتتمتّع، وتتنعّم بأنواع نعيم الجنّة، يقال: سَرَحتِ الإبلُ سَرْحًا، من باب نَفَعَ، وسُرُوحًا أيضًا: رَعَتْ بنفسها، وسَرَحتها، يتعدَّى، ولا يتعدّى، وسرّحتها بالتثقيل مبالغة، وتكثير

(3)

. (حَيْثُ شَاءَتْ)؛ أي: في أي مكان شاءت، (ثُمَّ تَأْوِي إِلَى تِلْكَ

(1)

"إكمال المعلم" 6/ 306 - 307.

(2)

"مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" 12/ 1.

(3)

"المصباح المنير" 1/ 273.

ص: 435

الْقَنَادِيلِ)؛ أي: ترجع إليها، تنزل فيها، ومأوى كلّ حيّ مسكنه الذي يقيم فيه؛ أي: تكون تلك القناديل بمنزلة الأوكار لها، وقوله:(فَاطَّلَعَ إِلَيْهِمْ) عدّاه بـ "إلى" لتضمّنه معنى: فظهر. (رَبُّهُمُ اطِّلَاعَةً) منصوب على أنه مفعول مطلق لـ "اطّلع"؛ أي: تجلى لهم برفع الحُجُب عنهم، وكلّمهم مشافهة بغير واسطة، مبالغةً في الإكرام، وتتميمًا للإنعام، (فَقَالَ) ربهم عز وجل (هَلْ تَشْتَهُونَ شَيْئًا؟) وهذا السؤال مبالغة في إكرامهم، وتنعيمهم؛ إذ قد أعطاهم الله ما لا يخطر على قلب بشر، ثم رغّبهم في سؤال الزيادة، فلم يجدوا وراء ما أعطاهم من مزيد، لكن تلقّوا ذلك بالشكر بأن سألوه، يردّ أرواحَهم إلى أجسادهم؛ ليجاهدوا في سبيله، ويبذلوا أنفسهم في مرضاته، ويُقتلوا في شكر إحسانه، ويستلذّوا ألم القتل والموت لمكافأة بِرّه، ويجودوا بذواتهم له؛ إذ لم يقدروا على غاية فوق ذلك، والجُود بالنفس أقصى غاية الجود

(1)

، والله تعالى أعلم.

(قَالُوا: أي شَيْءٍ نَشْتَهِي؟ وَنَحْنُ نَسْرَحُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ شِئْنَا، فَفَعَلَ ذَلِكَ بِهِمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَلَمَّا رَأَوْا أَنَّهُمْ لَنْ يُتْرَكُوا) بالبناء للمفعول، وكذا في قوله:(مِنْ أَنْ يُسْأَلُوا، قَالُوا: يَا رَبِّ) تقدّم أنه يجوز فيه ستّ لغات، وهي التي في قول ابن مالك رحمه الله في "الخلاصة":

وَاجْعَلْ مُضَافًا صَحَّ إِنْ يُضَفْ لِيَا

كَعَبْدِ عَبْدِي عَبْدَ عَبْدَا عَبْدِيَا

والسادس "يا ربُّ" بالبناء على الضمّ تشبيهًا له بالمفرد.

(نُرِيدُ أَنْ تَرُدَّ) بالبناء للفاعل، (أَرْوَاحَنَا فِي أَجْسَادِنَا، حَتَّى نُقْتَلَ) بالبناء للمفعول، (فِي سَبِيلِكَ مَرَّةً أُخْرَى، فَلَمَّا رَأَى أَنْ لَيْسَ لَهُمْ حَاجَةٌ)؛ أي: مما في دار الجزاء، وأما ما ذكروه من الرجوع إلى الدنيا، والقتل مرّةً أخرى، فليس مما سُئلوا عنه؛ لأنه لا يتعلَّق بدار العمل التي انقضى أجلها. (تُرِكُوا") بالبناء للمفعول، وهذا السؤال إكرام من الله سبحانه وتعالى لهم، وزيادة في الإنعام عليهم حتى يُعطَوا ما يشتهونه في هذا العالم، لا في العالم الماضي، وجوابهم بقولهم: أي شيء نشتهي؟ اعتراف منهم بنهاية الإكرام، وشُكْر عليه، وأنهم ليست لهم حاجة ممكنة إلا وقد قضاها الله تعالى لهم، فأدركوها، فلم يَبق لهم شيء يحتاجون

(1)

"إكمال المعلم" 6/ 309.

ص: 436

إليه في تلك الدار، {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة: 54]، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [33/ 4877](1887)، و (الترمذيّ) في "التفسير"(3011)، و (ابن ماجه) في "الجهاد"(2801)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(5/ 263)، و (سعيد بن منصور) في "سننه"(2/ 256)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 470)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(9/ 209 - 210)، و (ابن منده) في "الإيمان"(1/ 400)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(9/ 163)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان أن أرواح الشهداء في الجنّة قبل يوم القيامة، وأنهم أحياء عند ربهم يُرزقون.

2 -

(ومنها): بيان أن الجنة مخلوقة موجودة، وهو مذهب أهل السُّنَّة، وهي التي أُهبط منها آدم عليه السلام، وهي التي يُنَعَّم فيها المؤمنون في الآخرة، وهذا إجماع أهل السُّنَّة، وقالت المعتزلة، وطائفة من المبتدعة أيضًا، وغيرهم: إنها ليست موجودةً، وإنما توجد بعد البعث في القيامة، قالوا: والجنة التي أُخرج منها آدم عليه السلام غيرها، وظواهر القرآن والسُّنَّة تدلّ لمذهب أهل الحقّ، قاله النوويّ رحمه الله

(1)

.

3 -

(ومنها): بيان إثبات مجازاة الأموات بالثواب والعقاب قبل القيامة.

4 -

(ومنها): بيان أن الأرواح باقية، لا تفنى، فينعَّم المحسن، ويعذّب المسيء، وقد جاء به القرآن، والآثار الصحيحة، وهو مذهب أهل السُّنَّة خلافًا لطائفة من المبتدعة، قالت: تفنى، وهو قول باطلٌ، قال النوويّ.

(1)

"شرح النوويّ" 13/ 31.

ص: 437

وقال القرطبيّ رحمه الله: وقد حصل من مجموع الكتاب والسُّنَّة، أن الأرواح باقية بعد الموت، وأنها منعَّمة، أو معذَّبة إلى يوم القيامة بعد الموت. انتهى

(1)

.

5 -

(ومنها): ما قاله القرطبيّ رحمه الله: قد تضمَّن هذا الحديث تفسير قوله تعالى: {بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} ، وأن معنى حياة الشهداء أن لأرواحهم من خصوص الكرامة ما ليس لغيرهم، بأن جُعلت في أجواف طير، كما في هذا الحديث، أو في حواصل طير خُضْر، كما في الحديث الآخر؛ صيانةً لتلك الأرواح، ومبالغة في إكرامها؛ لاطّلاعها على ما في الجنة من المحاسن والنِّعم، كما يطّلع الراكب المظَلَّل عليه بالهودج الشفّاف الذي لا يَحجب عما وراءه، ثم يُدْرِكون في تلك الحال التي يَسرحون فيها من روائح الجنة، وطِيبها، ونعيمها، وسرورها ما يليق بالأرواح مما ترتزق وتنتعش به، وأما اللذات الجسمانية فإذا أعيدت تلك الأرواح إلى أجسادها استوفت من النعيم جميع ما أعدَّ الله تعالى لها، ثم إن أرواحهم بعد سَرْحها في الجنة ترجع تلك الطير بهم إلى مواضعَ مكرَّمة مشرَّفة منوَّرة عبّر عنها بالقناديل؛ لكثرة أنوارها، وشدّتها، والله تعالى أعلم.

هذه الكرامات كلها مخصوصة بالشهداء كما دلت عليه الآية، وهذا الحديث، وأما حديث مالك الذي قال فيه:"إنما نسمة المؤمن طائر تَعلق في ثمر الجنة"، فالمراد بالمؤمن هنا: الشهيد، والحديثان واحد في المعنى، وهو من باب حَمْل المطلَق على المقيَّد، وقد دلّ على صحة هذا قوله في الحديث الآخر:"إذا مات الإنسان عُرِض عليه مقعده بالغداة والعشيّ من الجنة والنار، فيقال: هذا مقعدك حتى يبعثك الله إليه يوم القيامة"، فالمؤمن غير الشهيد هو الذي يُعرض عليه مقعده بالغداة والعشيّ من الجنة، وهو في موضعه من القبر، أو الصور، أو حيث شاء الله تعالى غير سارح في الجنة، ولا داخل فيها؛ وإنما يدرك منزلته فيها بخلاف الشهيد؛ فإنه يباشر ذلك، ويشاهده وهو فيها، على ما تقدَّم، وكذلك أرواح الكفار تشاهد ما أعد الله لها من العذاب عند

(1)

"المفهم" 3/ 717.

ص: 438

عَرْض ذلك عليها، كما قال تعالى في آل فرعون:{النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46)} [غافر: 46]، وعند هذا العرض تُدرك روح الكافر من الألم، والتخويف، والحزن، والعذاب بالانتظار ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، نسأل الله العافية، كما أنه يحصل للمؤمن عند عَرْض عليه الجنة من الفرح، والسرور، والتنعم بانتظار المحبوب ما لا عين رأت، ولا أُذُن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فإذا أعيدت الأرواح إلى الأجساد استكمل كل فريق منهم ما أعد الله له، وبهذا الذي ذكرناه تلتئم الأحاديث، وتتفق، والله تعالى وليّ التوفيق

(1)

.

6 -

(ومنها): ما قال القاضي عياض رحمه الله: قال هنا: "أرواح الشهداء"، وقال في حديث مالك:"إنما نسمة المؤمن"، والنسمة تُطلق على ذات الإنسان جسمًا وروحًا، وتُطلق على الروح مفردةً، وهو المراد بها؛ لتفسيرها في هذا الحديث بالروح، ولِعِلْمنا بأن الجسم يفنى، ويأكله التراب، ولقوله في الحديث:"حتى يرجعه الله تعالى إلى جسده يوم يبعثه"، قال القاضي: وذكر في حديث مالك: نسمة المؤمن، وقال هنا: الشهداء، فقيل: المراد هناك الشهداء؛ لأن هذه صفتهم؛ لقوله تعالى: {أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} الآية [آل عمران: 169]، حسبما فسّره في الحديث، وخصّه بهم، وأما غيرهم فإنما يُعرَض عليه مقعده بالغداة والعشيّ، كما جاء في حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وكما قال تعالى في آل فرعون:{النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا} الآية [غافر: 46]، وقيل: بل المراد جميع المؤمنين الذين يدخلون الجنة بغير عذاب، فيدخلونها الآن؛ بدليل عموم الحديث، وقيل: بل أرواح المؤمنين على أفنية قبورهم، والله أعلم. انتهى

(2)

، والله تعالى أعلم.

7 -

(ومنها): أن في قولهم: "نريدُ أن تَرُدَّ أرواحَنا في أجسادنا" دليلًا على أن مُجرَّد الأرواح هي المتكلِّمة، ويدلُ على أن الروحَ ليس بِعَرَض، خلافًا لمن ذهب إلى ذلك، وفيه ردٌّ أيضًا على التناسخية، وأن أجوافَ الطير ليس أجسادًا لها، وإنما هي مُودعة فيها على سبيل الحفظ والصيانة والإكرام، وهذا

(1)

"المفهم" 3/ 715 - 716.

(2)

"إكمال المعلم" 6/ 306 - 307.

ص: 439

كلُه يدلُّ على أن لمنزلة الشهادة من خصوص الإكرام ما ليس لغيرها من أعمال البِرّ، كما قال في الحديث الآخر:"ليس أحد له عند الله خير يتمنى أن يرجعَ إلى الدنيا إلا الشهيد؛ لِمَا يرى من فضل الشهادة"

(1)

، والله تعالى أعلم.

(المسألة الرابعة): في اختلاف الناس في حقيقة الروح:

قال القاضي عياض رحمه الله: قد اختلف الناس في الروح، ما هي؟ اختلافًا لا يكاد ينحصر، فقال كثير من أرباب المعاني، وعلم الباطن المتكلمين: لا تُعرف حقيقتها، ولا يصحّ وصفها، وهو مما جَهِل العباد عِلْمه، واستدلّوا بقوله تعالى:{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85)} [الإسراء: 85]، قالوا: وهو أمر ربّانيّ إلهيّ.

وغَلَت الفلاسفة، فقالت بقِدم الروح، وقال جمهور الأطباء: هو البُخَار اللطيف الساري في البدن، وقال كثيرون من شيوخنا: هو الحياة، وقال آخرون: هي أجسام لطيفة مشابكة للجسم يحيى لحياته، أجرى الله تعالى العادة بموت الجسم عند فراقه، وقيل: هو بعض الجسم، ولهذا وُصف بالخروج، والقبض، وبلوغ الحلقوم، وهذه صفة الأجسام، لا المعاني، وقال بعض مقدَّمي أئمتنا: هو جسم لطيف متصوَّر على صورة الإنسان، داخل الجسم، وقال بعض مشايخنا وغيرهم: إنه النَّفَس الداخل والخارج، وقال آخرون: هو الدم.

وقال النوويّ رحمه الله بعد نقل كلام عياض هذا: والأصح عند أصحابنا أن الروح أجسام لطيفة متخلّلة في البَدَن، فإذا فارقته مات.

وقال القاضي: واختلفوا في النفس والروح، فقيل: هما بمعنى، وهما لفظان لمسمى واحد، وقيل: إن النَّفْس هي النَّفَس الداخل والخارج، وقيل: هي الدم، وقيل: هي الحياة، والله أعلم.

قال القاضي: وقد تعلّق بحديثنا هذا، وشِبْهه بعض الملاحدة القائلين بالتناسخ، وانتقال الأرواح، وتنعيمها في الصور الحسان المرفّهة، وتعذيبها في الصور القبيحة المسخرة، وزعموا أن هذا هو الثواب والعقاب، وهذا ضلال

(1)

"المفهم" 3/ 719.

ص: 440

بيِّن، وإبطال لِمَا جاءت به الشرائع من الحشر والنشر والجنة والنار، ولهذا قال في الحديث:"حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه"؛ يعني: يوم يجيء بجميع الخلق، والله أعلم. انتهى كلام القاضي رحمه الله

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: وقد اختلف الناس قديمًا وحديثًا في الأرواح ما هي؟ وعلى أي حال هي؟ اختلافًا كثيرًا، واضطربوا فيها اضطرابًا شديدًا؛ الواقف عليه يتحقق أن الكل منهم على غير بصيرة منها؛ وإنما هي أقوال صادرة عن ظنون متقاربة، ولا يَشُكّ في أنه مما انفرد الله تعالى بعلم حقيقته، وعلى هذا المعنى حَمَل أكثر المفسرين قوله تعالى:{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85)} [الإسراء: 85]، فليقطع العاقل طمعه من عِلم حقيقته، ولينظر هل ورد في الأقوال الصادقة ما يدلّ على شيء من صفته؟ وعند تصفّح ذلك، واستقراء ما هنالك يحصل للباحث أن الروح أمر يُنفخ في الجسد، ويُقبض منه، ويُتوفى بالنوم وبالموت، ويؤمن، ويكفر، ويعلم، ويجهل، ويفرح، ويحزن، ويتنعم، ويتألم، ويخرج، ويدخل، والإنسان يجد من ذاته بضرورته قابلًا للعلوم وأضدادها، وللفكر وأضدادها، ولغير ذلك من المعاني، فيحصل من مجموع تلك الأمور على القطع أن الروح ليس من قبيل الأعراض؛ لاستحالة كل ما ذُكر عليها، فيلزم أن يكون الروح من قبيل ما يقوم بنفسه، وأنه قابل للأعراض.

وهل هو متحيز أو ليس بمتحيز؟ ذهبت طوائف من الأوائل، ومن نحا نحوهم من الإسلاميين، إلى أنه قائم بنفسه غير متحيز، وذهب أكثر أهل الإسلام إلى أن ذلك من أوصاف الحق سبحانه وتعالى الخاصة به، وأنه لا تصح مشاركته في ذلك؛ لأدلة تُذكر في علم الكلام، وأن الروح قائم بنفسه متحيز، فهو من قبيل الجواهر، ثم اختُلِف، هل هو يقبل الانقسام فيكون جسمًا، أو لا يقبله فيكون جوهرًا فردًا؟

فذهبت طائفة من جلّة علماء أهل السُنَّة إلى أنه جسم لطيف مشابك جميع أجزاء البدن، أجرى الله العادة ببقائه في الجسم ما دام حيًّا، فإذا أراد الله

(1)

"إكمال المعلم" 6/ 308 - 309، و"شرح النوويّ" 13/ 31 - 32.

ص: 441

تعالى إماتة الحيوان نزعه منه، وأزال اتصافه بالحياة، وأعقبها بالموت، وأطبق معظم المتكلمين من أهل السُّنَّة على أنه جزء فرد من أجزاء القلب، أو غيره مما يكون في الإنسان، أجرى الله العادة بحياة ذلك الجسم ما دام ذلك الجزء متصلًا به، والله تعالى أعلم، وأحكم، والتسليم أولى وأسلم.

والذي اتَّفَقَ أهل التحقيق عليه أنه متغيّر مخترَع؛ لأنه متغير، وكل متغير محدَث على ما يُعرف في موضعه، ولا يُلتفت لقول من قال: إن الروح قديم؛ إذ لا قديم إلا الله تعالى، على ما يُعرف في موضعه، ولا يُلتفت أيضًا لقول التناسخية القائلين أن الأرواح تنتقل إلى أجساد أخر، فأهل السعادة يُنقلون إلى أجساد حسنة مشرفة مرفّهة، فتتنعم بها، كما جاء في هذه الأحاديث، وأهل الشقاء تُنقل أرواحهم إلى أجسام خسيسة قبيحة، فتعذّب فيها، حتى إذا استوفت بذلك عقابها رجعت إلى أحسن بُنية، وهكذا أبدًا، وهذا معنى الإعادة والثواب والعقاب عندهم، وهو قول مناقض لِمَا جاءت به الشريعة، ولِمَا أجمعت الأمة عليه، ومعتقِده يَكْفُر قطعًا، فإنه أنكر ما عُلِم قطعًا من إخبار الله تعالى، وإخبار نبيّه صلى الله عليه وسلم عن أمور الآخرة، وعن تفاصيل أحوالها، وأن الأمر ليس على شيء مما قالوه، وأيضًا فالتناسخ والقول به باطل، محال عقلًا، على ما يُعرف في علم الكلام. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: هكذا ذكروا الاختلاف في معرفة حقيقة الروح، وصفاتها، وهو مما لا ينبغي الخوض فيه؛ لأنه مما استأثر الله عز وجل به، وسدّ طريق الوصول إليه بقوله تعالى:{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85)} [الإسراء: 85]، فمن حاول أن يحيط بشيء منها فقد حاول المحال، وإنما ذكرته مع كراهتي للخوض فيه؛ ليُعلم ما قالوا، ويفكّر العاقل بقراءة ما كتبوا حتى يتبيّن له أنهم ليسوا على شيء، وأن الحقّ هو الذي أرشد إليه الله عز وجل في الآية المذكورة، {وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر: 14]، وليس وراء ذلك مطمح للأنظار، ولا مجال للاعتبار، اللهم أرنا الحقّ حقًّا، وارزقنا اتّباعه، وأرنا الباطل باطلًا، وارزقنا اجتنابه، إنك سميع مجيب الدعوات.

(1)

"المفهم" 3/ 717 - 718.

ص: 442

(المسألة الخامسة): في اختلاف الناس في مستقرّ الأرواح بعد الموت:

(اعلم): أنهم اختلفوا في ذلك على أقوال، وقد ذكر ابن القيّم رحمه الله في ذلك نحو سبعة عشر قولًا:

منها: أن أرواح المؤمنين عند الله تعالى في الجنّة، شُهداء كانوا، أم غير شهداء، إذا لم يحبسهم عن الجنّة كبيرة، ولا دَين، أو تلقّاهم ربهم بالعفو عنهم، والرحمة لهم، وهذا مذهب أبي هريرة، وعبد الله بن عمر رضي الله عنهم.

ومنها: أنهم بفناء الجنّة على بابها، يأتيهم من رَوحها، ونعيمها، ورزقها.

ومنها: أن الأرواح مستقرّها أفنية قبورها، ومنها أنها مرسلة، تذهب حيث شاءت، ومنها: أن أرواح الشهداء في الجنّة، وأرواح عامّة المؤمنين على أفنية قبرهم، وقيل غير ذلك.

وقد بسط ابن القيّم رحمه الله في هذه المسألة، وتكلّم على كلّ قول بما له، وما عليه، من الأحاديث، والآثار.

والأصحّ أن الأرواح متفاوتةٌ في مستقرّها في البرزخ أعظم تفاوت، فمنها أرواح في أعلى علّيين، في الملأ الأعلى، وهي أرواح الأنبياء - صلوات الله وسلامه عليهم - وهم متفاوتون في منازلهم، كما رآهم النبيّ صلى الله عليه وسلم في ليلة الإِسراء.

ومنها: أرواح في حواصل طير خُضْر تسرح في الجنة حيث شاءت وهي أرواحُ بعض الشهداء لا جميعهم، بل من الشهداء من تُحبَسُ روحُه عن دخول الجنة لدَيْن عليه، أو على غيره، كما تقدّم في حديث أبي قتادة رضي الله عنه عند مسلم.

ومنهم: من يكون محبوسًا على باب الجنة كما في الحديث الآخر: "رأيتُ صاحِبكم محبوسًا على باب الجنة".

ومنهم: من يكون محبوسًا في قبره، كحديث صاحب الشَّمْلة التي غلّها ثم استُشهد، فقال الناس: هنيئًا له الجنة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"والذي نفسي بيده إن الشَّملة التي غلَّها لَتَشْتَعل عليه نارًا في قبره".

ومنهم: من يكون مَقَرّه باب الجنة، كما في حديث ابن عباس رضي الله عنهما:

ص: 443

"الشهداءُ على بارق - نهر بباب الجنة - في قبة خضراء، يخرج عليهم رزقُهم من الجنة بكرةً وعشية"، رواه أحمد.

ومنهم: من يكون محبوسًا في الأرض، لم تَعْلُ روحُه إلى الملأ الأعلى، فإنها كانت رُوحًا سفلية أرضية، فإنَّ الأنفسَ الأرضيَّةَ لا تجامعُ الأنفس السماوية، كما لا تجامعها في الدنيا، والنفس التي لم تكتسبْ في الدنيا معرفةَ ربِّها، ومحبته وذِكْره والأنس به، والتقرُّب إليه، بل هي أرضية سفلية، لا تكون بعد المفارقة لبدنها إلا هناك، كما أنَّ النفسَ العلويَّة التي كانت في الدنيا عاكفةً على محبة الله عز وجل وذكْره، والتقرُب إليه والأنس به تكون بعد المفارقة مع الأرواح العلوية المناسبة لها، فالمرءُ مع مَن أحبَّ في البرزخ، ويوم القيامة، والله تعالى يُزوِّجُ النفوس بعضها ببعض في البرزخ ويوم المعاد كما تقدَّم في الحديث، ويجعل روحه - يعني: المؤمن - مع النسيم الطيب؛ أي: الأرواح الطَّيبة المشاكلة، فالروحُ بعد المفارقة تلحق بأشكالها وأخواتها وأصحاب عملها فتكون معهم هناك.

ومنها: أرواح تكونُ في تنّور الزُّناة والزواني، وأرواح في نهر الدم تسبح فيه وتلقم الحجارة، فليس للأرواح سعيدها وشقيّها مستقر واحد، بل روح في أعلى عليين، وروح أرضية سفلية لا تصعد عن الأرض.

وأنت إذا تأملت السنن والآثار في هذا الباب، وكان لك فضل اعتناء، عرفت حُجة ذلك، ولا تظنّ أن بين الآثار الصحيحة في هذا الباب تعارضًا، فإنها كلّها حقّ يصدّق بعضها بعضًا، لكن الشأن في فهمها، ومعرفة النفس وأحكامها، وأن لها شأنًا غير شأن البدن، وأنها مع كونها في الجنّة فهي في السماء، وتتّصل بفناء القبر، وبالبدن فيه، وهي أسرع شيء حركةً وانتقالًا، وصعودًا وهبوطًا، وأنها تنقسم إلى مرسلة، ومحبوسة، وعلويّة، وسفليّة، ولها بعد المفارقة صحّة ومرضٌ، ولذّة ونعيم، وألم أعظم مما كان لها حال اتّصالها بالبدن بكثير، فهنالك الحبس والألم، والعذاب والمرض والحسرة، وهنالك اللذّة والراحة والنعيم والإطلاق، وما أشبه حالها في هذا البدن بحال البدن في بطن أمه، وحالها بعد المفارقة بحاله بعد خروجه من البطن إلى هذه الدار.

فلهذه الأنفسِ أربع دُور، كل دار أعظم من التي قبلها:

ص: 444

الدار الأولى: في بطن الأم، وذلك الحصر، والضِّيق، والغمّ، والظلمات الثلاث.

والدار الثانية: هي الدار التي نَشَأَتْ فيها، وأَلِفَتْها واكتسبت فيها الخير والشر، وأسباب السعادة، والشقاوة.

والدار الثالثة: دار البرزخ، وهي أوسع من هذه الدار، وأعظم، بل نِسْبتها إليه، كنسبة هذه الدار إلى الأُولى.

والدار الرابعة: دار القرار، وهي الجنة، أو النار فلا دار بعدها، والله ينقلها في هذه الدور طبقًا بعد طبق، حتى يبلّغها الدار التي لا يصلح لها غيرها، ولا يليق بها سواها، وهي التي خُلقت لها، وهُيّئت للعمل الموصل إليها، ولها في كلّ دار حكم وشأن غير شأن الدار الأخرى، فتبارك الله فاطرها، ومنشؤها، ومميتها، ومحييها، ومُسعِدها، ومُشْقيها. انتهى كلام ابن القيّم رحمه الله مختصرًا

(1)

، وهو بحث مفيدٌ جدًّا، والله تعالى أعلم.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(34) - (بَابُ فَضْلِ الْجِهَادِ وَالرِّبَاطِ)

" الرِّباط" - بالكسر -: قال الفيّوميّ رحمه الله: رَبَطْتُهُ رَبْطًا، من باب ضرب، ومن باب قَتَل لغة: شددته، وَالرِّبَاطُ: ما يُربط به القربة، وغيرها، والجمع: رُبُطٌ، مثل كتاب وكُتُب، ويقال للمصاب: رَبَطَ الله على قلبه بالصبر، كما يقال: أفرغ الله عليه الصبر؛ أي: ألهمه، والرِّبَاطُ اسمٌ من رَابَطَ مُرَابَطَةً، من باب قاتل: إذا لازم ثَغْر العدوّ، والرِّبَاطُ: الذي يُبنى للفقراء، مولَّدٌ، ويُجمع في القياس على رُبُطٌ بضمتين، ورِبَاطَاتٌ. انتهى

(2)

.

وقال ابن الأثير رحمه الله في تفسير حديث: "إسْباغُ الوضُوء على المَكاره، وكَثْرةُ الخُطَا إلى المساجد، وانْتِظَار الصلاة بعْد الصلاة، فذَلِكم الرِّبَاط": الرّباط

(1)

راجع: "الروح" لابن القيّم ص 143 - 145.

(2)

"المصباح المنير" 1/ 215 - 216.

ص: 445

في الأصل: الإقامة على جِهَاد العَدوّ بالحرب، وارْتباط الخيل، وإعْدَادها، فَشَبَّه به ما ذُكِر من الأفعال الصَّالحة والعِبادة، قال القُتَيبِيّ: أصْل المُرابطَة أن يَرْبِطَ الفَرِيقان خيولَهم في ثَغْر، كُلٌّ منْهُما مُعدٌّ لصاحبه، فسُمِّي المُقام في الثُّغور رِبَاطًا، ومنه قوله:"فذَلِكم الرِّبَاط"؛ أي: أنّ الموَاظَبة على الطَّهارة، والصلاة، والعبادة؛ كالجهاد في سبيل الله، فيكون الرِّبَاط مَصْدرَ رَابَطت؛ أي: لازَمْت، وقيل: الرِّباط ها هنا اسْم لِمَا يُرْبَطُ به الشيءُ؛ أي: يُشَدُّ؛ يعني: أن هذه الخِلال تَرْبُط صاحبها عن المعَاصي، وتكُفُّه عن المَحَارم. انتهى

(1)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوَّل الكتاب قال:

[4878]

(1888) - (حَدَّثَنَا مَنْصُورُ بْنُ أَبِي مُزَاحِمٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حَمْزَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْوَلِيدِ الزُّبَيْدِيِّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ اللَّيْثِيِّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: أي النَّاسِ أَفْضَلُ؟ فَقَالَ: "رَجُلٌ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللهِ بِمَالِهِ وَنَفْسِهِ"، قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: "مُؤْمِنٌ فِي شِعْبٍ مِنَ الشِّعَابِ يَعْبُدُ اللهَ رَبَّهُ، وَيَدَعُ النَّاسَ مِنْ شَرِّهِ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(مَنْصُورُ بْنُ أَبِي مُزَاحِمٍ) بشير التركيّ، أبو نصر البغداديّ الكاتب، ثقةٌ [10](ت 235) وهو ابن (80) سنةً (م د س) تقدم في "الإيمان" 38/ 255.

2 -

(يَحْيَى بْنُ حَمْزَةَ) بن واقد الْحَضْرميّ، أبو عبد الرحمن الدمشقيّ القاضي، ثقةٌ رُمي بالقدر [8](ت 183) على الصحيح، وله (80) سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 46/ 294.

3 -

(مُحَمَّدُ بْنُ الْوَليدِ الزُّبَيْدِيُّ) أبو الْهُذيل الحمصيّ القاضي، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار أصحاب الزهريّ [7](ت 6 أو 7 أو 149)(خ م د س ق) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 5/ 1174.

4 -

(الزُّهْرِيُّ) محمد بن مسلم الإمام الشهير، تقدّم قريبًا.

5 -

(عَطَاءُ بْنُ يَزِيدَ اللَّيْثِيُّ) الجنديّ المدنيّ، ثم الشاميّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

(1)

"النهاية في غريب الأثر" 2/ 461.

ص: 446

6 -

(أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ) سعد بن مالك رضي الله عنهما، تقدّم قبل باب.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسلٌ بالشاميين غير شيخه، فبغداديّ، والصحابيّ، فمدنيّ، وأما الزهريّ، فقد دخل الشام، وسَكَنها، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه أبو سعيد رضي الله عنه من المكثرين السبعة، روى (1170) حديثًا.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ) سعد بن مالك بن سنان رضي الله عنهما، وفي رواية البخاريّ:"عن الزهريّ، قال: حدّثني عطاء بن يزيد الليثيّ، أن أبا سعيد الخدريّ رضي الله عنه حدّثه"(أَنَّ رَجُلًا) لم يُعرف اسمه

(1)

، وفي رواية البخاريّ:"قيل: يا رسول الله. . . إلخ"، قال الحافظ: لم أقف على اسمه، وقد تقدّم أن أبا ذرّ سأله عن نحوه. انتهى

(2)

. (أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: أي النَّاسِ أَفْضَلُ؟) وفي رواية النسائيّ: "أن رجلًا أَتَى رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ أي النَّاسِ أَفْضَلُ؟ "، وفي رواية مالك، من طريق عطاء بن يسار، مرسلًا، ووصله الترمذيّ، والنسائيّ، وابن حبّان، من طريق إسماعيل بن عبد الرحمن، عن عطاء بن يسار، عن ابن عبّاس:"خير الناس منزلًا". وفي رواية للحاكم: "أيّ الناس أكمل إيمانًا"

(3)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "أيّ الناس أفضل؟ "؛ أي: أي الناس المجاهدين؟؛ بدليل أنه أجابه بقوله: "رجل مجاهِد بنفسه وماله"، ثم ذكر بعده مَن جاهد نفسه بالعُزْلة عن الناس؛ إذ كل واحد من الرَّجُلَين مجاهد، فالأول للعدوِّ الخارجيِّ، والآخر للداخليِّ؛ الذي هو: النفس والشيطان، فجاهَدَهما بقطع المألوفات، والمستحسَنات من الأهل، والقرابات، والأصدقاء، والأوطان، والشهوات المعتادات، وكلّ ذلك فرارًا بدينه، وخوفًا عليه، وهذا

(1)

راجع: "تنبيه المعلم" ص 328.

(2)

"الفتح" 7/ 43، كتاب "الجهاد" رقم (2786).

(3)

"الفتح" 7/ 43، كتاب "الجهاد" رقم (2786).

ص: 447

هو الجهادُ الأكبر؛ الذي من وصل إليه فقد ظَفِر بالكبريت الأحمر، غير أن العزلةَ إنما تكونُ مطلوبة إذا كَفَى المسلمون عدوَّهم، وقام بالجهاد بعضهم، فأما مع تعيّن الجهاد؛ فليس غيرُه بمراد، ولذلك بدأ النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث ببيان أفضلية الجهاد على العزلة؛ لِمَا قدَّمناه في الباب الذي قبل هذا. انتهى

(1)

.

(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم جوابًا عن سؤاله ("رَجُلٌ)، وفي رواية معمر التالية:"مؤمن"، وهو خبر لمبتدإ محذوف دلّ عليه السؤال؛ أي: أفضل الناس رجلٌ. . . إلخ، والمراد بالمؤمن: من قام بما تعيّن عليه القيام به، ثم حَصّل هذه الفضيلة، وليس المراد: من اقتصر على الجهاد، وأهمل الواجبات العينيّة، وحينئذ فيظهر فضل المجاهد؛ لِمَا فيه مِنْ بَذْل نفسه، وماله لله تعالى، ولِمَا فيه من النفع المتعدّي، وإنما كان المؤمن المعتزل يتلوه في الفضيلة؛ لأن من يخالط الناس لا يَسلَم من ارتكاب الآثام، فقد لا يفي هذا بهذا، وهو مقيّدٌ بوقوع الفتن

(2)

.

وقال القاضي عياض رحمه الله: هذا عامّ مخصوص، وتقديره: هذا من أفضل الناس، وإلا فالعلماء أفضل، وكذا الصدّيقون، كما جاءت به الأحاديث. انتهى.

(يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللهِ بِمَالِهِ وَنَفْسِهِ")؛ أي: يبذل ماله ونفسه لإعلاء كلمة الله تعالى. (قَالَ) الرجل السائل (ثُمَّ مَنْ؟)؛ أي: ثم من هو أفضل الناس بعد هذا؟ (قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("مُؤْمِنٌ) وفي رواية معمر الآتية: "ثم رجلٌ معتزلٌ"، (فِي شِعْبٍ مِنَ الشِّعَابِ) - "الشِّعْبُ" - بكسر الشين المعجمة، وسكون العين المهملة -: هو ما انفرج بين جبلين، وليس المراد نفس الشِّعب خصوصًا، بل المراد الانفراد والاعتزال، وذَكَر الشِّعب مثالًا؛ لأنه خالٍ عن الناس غالبًا، وهذا الحديث نحو الحديث الآخر حين سئل صلى الله عليه وسلم عن النجاة، فقال:"امْلِك عليك لسانك، وَلْيَسَعُك بيتك، وابْكِ على خطيئتك"

(3)

، قاله النوويّ

(4)

.

(1)

"المفهم" 3/ 723 - 724.

(2)

"الفتح" 7/ 43، كتاب "الجهاد" رقم (2786).

(3)

حديث صحيح أخرجه الترمذيّ، من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه.

(4)

"شرح النوويّ" 13/ 34.

ص: 448

(يَعْبُدُ اللهَ رَبَّهُ) وفي رواية البخاريّ: "يَتَّقِي اللهَ"، وفي حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما:"معتزل في شِعب، يقيم الصلاة، ويؤتي الزكاة، ويعتزل شرور الناس"، وللترمذيّ، وحسّنه، والحاكم، وصحّحه من طريق ابن أبي ذئب، عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رجلًا مرّ بشِعْب فيه عينٌ عَذْبة، فأعجبه، فقال: لو اعتزلتُ، ثم استأذن النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال:"لا تفعل، فإن مُقام أحدهم في سبيل الله أفضل من صلاته في بيته سبعين عامًا".

(وَيَدَعُ) - بفتح الياء، والدال -؛ أي: يترك (النَّاسَ مِنْ شَرِّهِ")؛ يعني: أنه يُبعد عنهم شرّه، وفيه إشارة إلى أن صاحب العزلة ينبغي له أن ينظر في العزلة إلى ترك الناس عن شرّه، لا إلى خلاصه عن شرّهم، ففي الأول تحقير النفس، وفي الثاني تحقيرهم، قاله السنديّ

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [34/ 4878 و 4879 و 4880](1888)، و (البخاريّ) في "الجهاد"(2786) و"الرقاق"(6494)، و (أبو داود) في "الجهاد"(2485)، و (الترمذيّ) في "فضل الجهاد"(1660)، و (النسائيّ) في "الجهاد"(6/ 111) و"الكبرى"(3/ 8)، و (ابن ماجه) في "الفتن"(3978)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(11/ 368)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 16 و 37 و 56 و 88)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(606 و 4599)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 471)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(2/ 425)، و (عبد بن حميد) في "مسنده"(1/ 301)، و (ابن منده) في "الإيمان"(1/ 403 و 537 و 538)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(9/ 159) و"شعب الإيمان"(4/ 8)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(2622)، والله تعالى أعلم.

(1)

"شرح السنديّ على النسائيّ" 6/ 11 - 12.

ص: 449

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان فضل من يُجاهد في سبيل الله بنفسه وماله.

2 -

(ومنها): بيان تفضيل العزلة على الاجتماع؛ لِمَا فيه من السلامة من الغيبة، واللغو، ونحو ذلك، وأما اعتزال الناس أصلًا، فقال الجمهور: محل ذلك عند وقوع الفتن، كما سيأتي في المسألة التالية - إن شاء الله تعالى -.

3 -

(ومنها): بيان فائدة العزلة، وهو السلامة من الشرور التي تشمل الدينية، والدنيويّة.

4 -

(ومنها): بيان أن مِن أَدَب من يريد العزلة أن يقصد إبعاد شره عن المسلمين، لا إبعاد شرورهم عنه، وإن كان حاصلًا ضمنًا، وذلك هضمًا لنفسه؛ كيلا يرى الفضل له عليهم، وامتثالًا للأمر بالتواضع الذي أمر الله تعالى به، كما قال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"أوحى الله إليّ أن تواضعوا، حتى لا يفخر أحد على أحد، ولا يبغي أحدٌ على أحد"، أخرجه مسلم، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في العزلة، والْخُلْطة

(1)

أيهما أفضل؟

(اعلم): أنه اختَلَف السلف في أصل العزلة، فقال الجمهور: الاختلاط أَولى؛ لِمَا فيه من اكتساب الفوائد الدينيّة للقيام بشعائر الإسلام، وتكثير سواد المسلمين، وإيصال أنواع الخير إليهم، من إعانة، وإغاثة، وعيادة، وغير ذلك.

وقال قوم: العزلة أَولى؛ لتحقّق السلامة، بشرط معرفة ما يتعيّن.

وقال الخطّابيّ في "كتاب العزلة": إن العزلة والاختلاط يختلفان باختلاف متعلّقهما، فتُحمل الأدلّة الواردة في الحضّ على الاجتماع على ما يتعلّق بطاعة الأئمة، وأمور الدِّين، وعكسها في عكسه، وأما الاجتماع والافتراق بالأبدان، فمن عَرَف الاكتفاء بنفسه في حقّ معاشه، ومحافظة دِينه، فالأَولى له الانكفاف عن مخالطة الناس، بشرط أن يحافظ على الجماعة، والسلام، والردّ، وحقوق

(1)

"الْخُلْطة" بالضمّ: اسم من الاختلاط، مثلُ الفُرقة من الافتراق، وهو المناسب هنا، وأما الْخِلطة بالكسر، فهو مثل الْعِشرة وزنًا ومعنًى.

ص: 450

المسلمين، من العيادة، وشهود الجنازة، ونحو ذلك، والمطلوب إنما هو ترك فضول الصحبة؛ لِمَا في ذلك من شغل البال، وتضييع الوقت عن المهمّات، ويُجعل بمنزلة الاحتياج إلى الغداء والعشاء، فيُقتصر منه على ما لا بدّ له منه، فهو أروح للبدن والقلب، والله أعلم. انتهى.

وقال النوويّ: المختار تفضيل المخالطة لمن لا يغلب على ظنّه أنه يقع في معصية، فإن أَشْكَل الأمر فالعزلة أَولى.

وقال غيره: يختلف باختلاف الأشخاص، فمنهم: من يتحتّم عليه أحد الأمرين، ومنهم: من يترجّح، وليس الكلام فيه، بل إذا تساويا، فيختلف باختلاف الأحوال، فإن تعارضا اختلف باختلاف الأوقات، فمن يتحتّم عليه المخالطة: من كانت له قدرة على إزالة المنكر، فيجب عليه، إما عينًا، وإما كفايةً، بحسب الحال والإمكان، وممن يترجّح عليه: من يغلب على ظنّه أنه يَسْلم في نفسه إذا قام في الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وممن يستوي: من يأمن على نفسه، ولكن لا يتحقّق أنه لا يطاع، وهذا حيث لا يكون هناك فتنة عامّة، فإن وقعت الفتنة ترجّحت العزلة؛ لِمَا ينشأ فيها غالبًا من الوقوع في المحذور، وقد تقع العقوبة بأصحاب الفتنة، فتعمّ من ليس من أهلها، كما قال الله تعالى:{وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال: 25]

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن التفصيل المذكور هو الأرجح؛ لأنه يؤيّده حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه المذكور في الباب، وحديث أبي هريرة رضي الله عنه، وفيه:"أو رجل في غنيمة، في رأس شَعَفَة، من هذه الشَّعَفِ، أو بطن وادِ، من هذه الأودية، يقيم الصلاة، ويؤتي الزكاة، ويعبد ربه، حتى يأتيه اليقين، ليس من الناس إلا في خير".

والحاصل أن العزلة، والْخُلْطة من الأمور النسبيّة التي تختلف خيريتها باختلاف الأشخاص، والأزمان، والأمكنة، كما بُيِّن في التفصيل المذكور، فتأمله، وبالله تعالى التوفيق.

(1)

راجع: "الفتح" 16/ 496 - 497، كتاب "الفتن" رقم (7088).

ص: 451

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4879]

(. . .) - (حَدَّثَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ اللَّيْثِيِّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: أي النَّاسِ أَفْضَلُ، يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: "مُؤْمِنٌ يُجَاهِدُ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فِي سَبِيلِ اللهِ"، قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: "ثُمَّ رَجُلٌ مُعْتَزِلٌ فِي شِعْبٍ مِنَ الشِّعَابِ، يَعْبُدُ رَبَّهُ، وَيَدَعُ النَّاسَ مِنْ شَرِّهِ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عَبْدُ بْنُ حُمَيْدِ) بن نصر، أبو محمد الكسّيّ، ثقةٌ حافظٌ [11](ت 249)(خت م ت) تقدم في "الإيمان" 7/ 131.

2 -

(عَبْدُ الرَّزَّاقِ) بن همّام الصنعانيّ، تقدّم قريبًا.

3 -

(مَعْمَرُ) بن راشد، تقدّم أيضًا قريبًا.

والباقون ذُكروا قبله.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوَّل الكتاب قال:

[4880]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّارِمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، عَنِ الأَوْزَاعِيِّ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، بِهَذَا الإِسْنَادِ، فَقَالَ

(1)

: "وَرَجُلٌ فِي شِعْبٍ"، وَلَمْ يَقُلْ:"ثُمَّ رَجُلٌ").

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّارِمِيُّ) الحافظ، صاحب "المسند"، تقدّم قبل أربعة أبواب.

2 -

(مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ) بن واقد بن عثمان الضبيّ مولاهم، الفريابيّ، نزيل قيسارية من ساحل الشام، ثقةٌ فاضلٌ [9](ت 212)(ع) تقدم في "القسامة" 2/ 4349.

(1)

وفي نسخة: "قال".

ص: 452

3 -

(الأَوْزَاعِيُّ) عبد الرحمن بن عمرو بن أبي عمرو، أبو عمرو الفقيه، ثقةٌ فاضلٌ [7](ت 157)(ع) تقدّم في "المقدمة" 5/ 28.

و"ابن شهاب" ذُكر قبله.

[تنبيه]: رواية الأوزاعيّ، عن ابن شهاب هذه ساقها أبو يعلى رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(1225)

- حدّثنا زهيرٌ، حدّثنا محمد بن يوسف، عن الأوزاعيّ، عن الزهريّ، عن عطاء بن يزيد الليثيّ، عن أبي سعيد الخدريّ، قال: جاء رجل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: أي الناس خير؟ قال: "رجل جاهد بنفسه وماله في سبيل الله، ورجل - يعني - في شعب من الشعاب، يعبد ربه، ويَدَعُ الناسَ من شرّه". انتهى

(1)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4881]

(1889) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى التَّمِيمِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ بَعْجَةَ

(2)

، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:"مِنْ خَيْرِ مَعَاشِ النَّاسِ لَهُمْ رَجُلٌ مُمْسِكٌ عِنَانَ فَرَسِهِ، فِي سَبِيلِ اللهِ، يَطِيرُ عَلَى مَتْنِهِ، كُلَّمَا سَمِعَ هَيْعَةً، أَوْ فَزْعَةً طَارَ عَلَيْهِ، يَبْتَغِي الْقَتْلَ وَالْمَوْتَ مَظَانَّهُ، أَوْ رَجُلٌ فِي غُنَيْمَةٍ، فِي رَأْسِ شَعَفَةٍ مِنْ هَذِهِ الشَّعَفِ، أَوْ بَطْنِ وَادٍ مِنْ هَذِهِ الأَوْدِيَةِ، يُقِيمُ الصَّلَاةَ، وَيُؤْتِي الزَّكَاةَ، وَيَعْبُدُ رَبَّهُ حَتَّى يَأْتِيَهُ الْيَقِينُ، لَيْسَ مِنَ النَّاسِ إِلَّا فِي خَيْرٍ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى التَّمِيمِيُّ) النيسابوريّ، تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي حَازِمٍ) المدنيّ، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

3 -

(أَبُوهُ) سلمة بن دينار، تقدّم أيضًا قبل ثلاثة أبواب.

4 -

(بَعْجَةُ) بن عبد الله بن بدر الْجُهنيّ المدنيّ، ثقةٌ [3].

(1)

"مسند أبي يعلى" 2/ 425.

(2)

وفي نسخة: "عن بعجة بن عبد الله بن بدر".

ص: 453

رَوَى عن أبيه، وله صحبة، وعقبة بن عامر، وأبي هريرة.

ورَوى عنه أسامة بن زيد الليثيّ، وأبو حازم المدنيّ، وعبد الله، ومعاوية ابنا بعجة، ويحيى بن أبي كثير، ويزيد بن أبي حبيب.

قال النسائيّ: ثقةٌ، وقال البخاريّ: مات قبل القاسم بن محمد، ومات القاسم سنة (101)، وأَرَّخ ابن حبان في "الثقات" وفاته سنة (100)، وذكره مسلم في الطبقة الأولى من أهل المدينة، ونقل أبو موسى المدينيّ عن عبدان أن بعجة رَوَى أيضًا عن عليّ، وعثمان رضي الله عنهما.

أخرج له البخاريّ، والمصنّف، وأبو داود في "القدر"، والترمذيّ، والنسائيّ، وابن ماجه، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا برقم (1889)، وحديث (1965):"ضَحِّ به".

5 -

(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه، تقدّم قريبًا.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسلٌ بالمدنيين، سوى شيخه، فنيسابوريّ، وقد دخل المدينة، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه أحفظ من روى الحديث في دهره.

شرح الحديث:

(عَنْ بَعْجَةَ) - بفتح الموحّدة، وسكون العين المهملة - وفي الرواية التالية:"عن بَعْجة بن عبد الله بن بدر"، وفي الثالثة:"عن بعجة بن عبد الله الْجُهنيّ"، (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "مِنْ خَيْرِ مَعَاشِ النَّاسِ لَهُمْ) قال النوويّ رحمه الله: المعاش: هو العيش، وهو الحياة، وتقديره - والله أعلم -: مِنْ خير أحوال عيشهم رجلٌ ممسكٌ. انتهى

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: المعاشُ: مصدر بمعنى المعيشة، أو العيش؛ أي: مِن أشرفِ طُرُق المعاش الجهادُ، ففيه دليلٌ على جواز نية أخذ المغانم، والاكتساب بالجهاد، لكن إذا كان أصلُ النية في الجهاد أن يجاهدَ؛ لتكون

(1)

"شرح النوويّ" 13/ 35.

ص: 454

كلمةُ الله هي العليا، ولهذا أشار في هذا الحديث بقوله:"رجل مُمسِك بعِنان فرسه في سبيل الله"، وبقوله:"يبتغي القتلَ مظانَّه".

فقوله: "من خير معاش الناس" جارّ ومجرور خبر مقدّم، على المبتدإ، وهو "رجل. . . إلخ"، وقوله:"لهم" متعلّق بـ "خير".

وقال الطيبيّ رحمه الله: قوله: "من خير معاش الناس": المعاش: التعيّش، يقال: عاش الرجل معاشًا، ومعيشًا، وما يُعاش به، فيقال له: معاشٌ، ومعيشٌ؛ كمَعَابٍ، ومَعِيبٍ، ومَحَالٍ، ومَحِيل، وفي الحديث يصحّ تفسيره بهما.

(رَجُلٌ مُمْسِكٌ) بكسر السين، اسم فاعل من الإمساك؛ أي: آخذ (عِنَانَ فَرَسِهِ) - بكسر العين المهملة، وتخفيف النون -؛ أي: بلجامه، قال المجد رحمه الله:"العِنَانُ ككِتاب: سَيْرُ اللجام الذي تُمسك به الدابّة، جمعه أَعِنّةٌ، وعُنُنٌ"

(1)

. (فِي سَبِيلِ اللهِ)؛ أي: لأجل إعلاء كلمة الله سبحانه وتعالى.

وقال الطيبيّ: قوله: "رجلٌ" رُفع بالابتداء على حذف المضاف، وإقامة المضاف إليه مقامه؛ أي: معاشُ رجلٍ هذا شأنه: من خير معاش الناس لهم.

(يَطِيرُ عَلَى مَتْنِهِ)؛ أي: ظهره؛ أي: يسارع حال كونه راكبًا على ظهر فرسه، وهو مستعارٌ من طيران الطائر.

وقال الطيبيّ رحمه الله: قوله: "يطير" إما صفة بعد صفة، أو حال من الضمير في "ممسِكٌ"، وقوله:"طار" جواب "كلّما"، وهو مع جوابه حال من ضمير "يطير"، وفيه تصوير حالة هذا الرجل، وشدّة اهتمامه بما هو فيه من المجاهدة في سبيل الله تعالى، وهو أنه عادتُه، ودأبُهُ، ولا يهتمّ، ولا يلتفت إلى غير ذلك. انتهى

(2)

.

(كُلَّمَا سَمِعَ هَيْعَةً) - بفتح الهاء، وإسكان الياء -: الصيحة التي يُفزَع منها، ويُجْبَنُ، يقال: هاع، يهيع، هُيُوعًا وهَيَعانًا: إذا جَبُن، وهاع، يهاع: إذا جاع، وأكثر ما تُستعمل الهيعة في الصوت عند حضور العدوّ. (أَوْ) للتقسيم،

(1)

"القاموس المحيط" ص 921.

(2)

"الكاشف عن حقائق السنن" 8/ 2628.

ص: 455

لا للشكّ؛ أي: أوْ كلما سمِع (فَزْعَةً) - بإسكان الزاي -، وهي المرّة من فَزِعَ: إذا خاف، أو نَهَضَ للإغاثة، وملاقاة العدوّ.

وقال الطيبيّ: "الفَزْعة" هنا فُسّرت بإغاثةِ مَن فَزِعَ، إذا استغاث، وأصل الْفَزَعِ: شدّة الخوف

(1)

.

(طَارَ عَلَيْهِ)؛ أي: على متن فرسه، والطيران هنا، وفيما قبله كناية عن المسارعة إلى العدوّ، والمعنى: أنه يبادر فرسَه بسرعة، كلما سمِعَ صوت العدوّ، أو رأى النهضة إلى لقاء العدوّ (يَبْتَغِي الْقَتْلَ وَالْمَوْتَ) قال الطيبيّ: عَطَف الموت على القتل؛ لِمَا أريدَ به الأهوال والأفزاع في مواطن الحرب، كقول الحماسيّ [من الطويل]:

وَلَا يَكْشِفُ الْغَمَّاءَ إِلَّا ابْنُ حُرَّةٍ

يَرَى غَمَرَاتِ الْمَوْتِ ثُمَّ يَزُوْرُهَا

فيكون "مظانّه" بدل اشتمال من "الموت"؛ كقوله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ} الآية [مريم: 16]؛ أي: اذكر وقت انتباذها، فيكون مفعولًا به على الاتّساع، ومظانّ الموت في الحديث بمنزلة "غمرات الموت" في البيت، وذهب الشارحون إلى أنه منصوب على الظرفيّة لقوله:"يبتغي". انتهى.

وقوله: (مَظَانَّهُ) جمع مَظِنّة، بكسر الظاء؛ أي: في الأوقات التي يُظَنّ القتل فيها، وهو منصوب هنا على الظرف، قاله القرطبيّ، أو هو منصوب بنزع الخافض؛ أي: في مظانّه، ويَحتمل أن يكون منصوبًا بدلًا من "القتلَ"، والمعنى: أنه يطلب الشهادة في المواضع التي يُرجى فيها الموت؛ رغبة في أن يجود بنفسه لله سبحانه وتعالى.

وقال النوويّ: معنى "يبتغي القتل مظانّه": يطلبه في مواطنه التي يرجى فيها؛ لشدة رغبته في الشهادة، وفي هذا الحديث فضيلة الجهاد، والرباط، والحرص على الشهادة. انتهى

(2)

.

وقال الطيبيّ رحمه الله: قوله: "يبتغي القتل والموت مظانّه"؛ أي: لا يبالي،

(1)

"الكاشف عن حقائق السنن" 8/ 2629.

(2)

"شرح النوويّ" 13/ 35.

ص: 456

ولا يحترز منه، بل يطلبه حيث يظنّ أنه يكون، و"مظانّه": جمع مظِنّة، وهي الموضع الذي يُعهَد فيه الشيء، ويُظَنّ أنه فيه، ووحّد الضمير في "مظانّه" إما لأن الحاصل، والمقصود منهما واحد، أو لأنه اكتفى بإعادة الضمير إلى الأقرب، كما اكتَفى بها في قوله تعالى:{وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} الآية [التوبة: 34]

(1)

.

(أَوْ) للتقسيم أيضًا، لا للشكّ، (رَجُلٌ فِي غُنَيْمَةٍ) تصغير غنم؛ أي: قطعة من الغنم؛ يعني: أنه قد أقنع نفسه بعدد يسير من الغنم، يعيش بها.

وقال الطيبيّ: قوله: "أو رجلٌ في غُنيمة"؛ أي: معاشُ رجلٍ، والظرف متعلّق به إن جُعل مصدرًا، أو بمحذوف هو صفة لـ "رجل"، و"غُنيمة" تصغير غنم، وهو مؤنّث سماعيّ، ولذلك صُغّر بالتاء

(2)

.

(فِي رَأْسِ شَعَفَةٍ) - بفتح الشين المعجمة، والعين المهملة - واحد الشَّعَف، وهي رؤوس الجبال. (مِنْ هَذِهِ الشَّعَفِ) يريد به الجنس لا العهد، قاله الطيبيّ

(3)

. (أوْ) للتقسيم أيضًا، (بَطْنِ وَادٍ) بجرّ "بطن" عطفًا على قوله:"رأس شعفة"، (مِنْ هَذِهِ الأَوْدِيَةِ) جمع وادٍ، قال الطيبيّ: قوله: "من هذه الشعَف"، و"هذه الأودية" للتحقير، كما في قوله تعالى:{وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} [العنكبوت: 64]، و {مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا} [المدثر: 31]، ومن ثمّ صغّر "غُنيمة" وصفًا لقناعة هذا الرجل بأنه سكن في أحقر مكان، ويجتزئ بأدنى قُوت، واعتزل الناس يكفّ شرّه عنهم، ويستكفي شرّهم عنه، ويشتغل بعبادة ربّه حتى يجيئه الموت، وعبّر عن الموت باليقين؛ ليكون نُصب عينيه مزيدًا للتسلّي، فإن في ذِكْر هاذم اللذّات ما يصرفه عن أعراض الدنيا، ويشغله عن ملاذّها بعبادة ربّه، ألا ترى كيف سَلّى حبيبه صلى الله عليه وسلم حين لقي ما لقي من أذى الكفّار بقوله تعالى:{وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97)} ، إلى أن قال:{وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)} [الحجر: 99]؟

(1)

"الكاشف عن حقائق السنن" 8/ 2628.

(2)

"الكاشف عن حقائق السنن" 8/ 2628.

(3)

"الكاشف عن حقائق السنن" 8/ 2628.

ص: 457

وقوله: (يُقِيمُ الصَّلَاةَ) جملة في محلّ نصب على الحال، وكذا المعطوفات، (وَيُؤْتِي الزَّكَاةَ)؛ أي: يعطيها مستحقّها، (وَيَعْبُدُ رَبَّهُ حَتَّى يَأْتِيَهُ الْيَقِينُ) المتيقّن، وهو الموت، سُمّي به؛ لتحقّق وقوعه.

(لَيْسَ مِنَ النَّاسِ إِلَّا فِي خَيْرٍ")؛ أي: ليس له اجتماع مع الناس، ولا اختلاط بهم إلا فيما كان خيرًا؛ كالجماعة، والجمعة، والعيدين، وصلاة الجنازة، وعيادة المريض، وتشييع الجنازة، ونحو ذلك من أنواع الخيرات.

والحاصل أنه معتزل عن الناس إلا فيما هو خير محض؛ كالأشياء المذكورة، ونحوها.

ثم إن هذه العزلة المحمودة في هذا الحديث ليست الرهبانية المذمومة في القرآن؛ لأن الرهبانية تتضمّن إهمال الحقوق الواجبة للنفس، والأهل، والعباد، بخلاف هذه العزلة، فإن المقصود منها ترك الاختلاط مع الناس، مع أداء حقوق النفس، والأهل في العزلة، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [34/ 4881 و 4882 و 4883](1889)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(6/ 375)، و (ابن ماجه) في "الفتن"(3977)، و (ابن المبارك) في "الزهد"(1/ 146)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(4/ 203)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 396 و 443 و 524)، و (سعيد بن منصور) في "سننه"(2/ 202)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 472 و 474)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(9/ 159) و"شُعَب الإيمان"(4/ 41)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان فضل الجهاد في سبيل الله، وفضل الرباط، والحرص على الشهادة.

2 -

(ومنها): بيان فضل العزلة عن الناس؛ فرارًا بدينه، وهذا محمول

ص: 458

على زمان الفتنة، كما تقدّم تفصيله في المسألة الرابعة من الحديث الماضي.

3 -

(ومنها): ما قاله الطيبيّ رحمه الله: وفي تخصيص ذكر المعاش في الحديث تلميح، فإن العيش المتعارف بين أبناء الدهر هو استيفاء اللذّات، والانهماك في الشهوات، كما سُمّيت البيداء المهلكة بالمفازة والمنجاة، واللديغ بالسليم، وتلميح إلى قوله صلى الله عليه وسلم:"اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة"، متّفقٌ عليه، وفيه أن لا عيش ألذّ، وأمرأ، وأشهى، وأهنأ مما يجد العبد من طاعة ربّه، ويستروح إليها حتى يرفع تكاليفها، ومشاقّها عنه، بل إذا فقدها كان أصعب عليه مما إذا وُتر أهله وماله، وإليه ينظر قوله صلى الله عليه وسلم:"أرحنا بالصلاة يا بلال"

(1)

، وقوله:"وجُعلت قرّة عيني في الصلاة"

(2)

، وتعريضٌ بذمّ عيش الدنيا؛ لِمَا ورد:"تَعِس عبد الدينار، وعبد الدرهم، وعبد الخميصة" إلى قوله: "طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله. . ."

(3)

.

وجِمَاعُ معنى الحديث: الحثّ على مجاهدة أعداء الدين، وعلى مجاهدة النفس، والشيطان، والإعراض عن استيفاء اللذّات العاجلة. انتهى كلام الطيبيّ رحمه الله

(4)

، وهو تحقيق مفيدٌ جدًّا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4882]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَاهُ قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ، وَيَعْقُوبُ - يَعْنِي: ابْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْقَارِيَّ - كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي حَازِمٍ، بِهَذَا الإِسْنَادِ،

(1)

حديث صحيح، أخرجه أحمد، وأبو داود.

(2)

حديث صحيح، أخرجه النسائيّ.

(3)

أخرجه البخاريّ في "صحيحه": عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "تَعِس عبد الدينار، وعبد الدرهم، وعبد الخميصة، إن أُعطي رضي وإن لم يُعط سَخِط، تَعِسَ، وانتُكِس، وإذا شِيك فلا انتُقِش، طوبى لعبد آخذ بعِنان فرسه في سبيل الله، أشعث رأسه، مغبرّة قدماه إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة، إن استأذن لم يؤذَن له، وإن شفع لم يشفَّع". انتهى.

(4)

"الكاشف عن حقائق السنن" 8/ 2630.

ص: 459

مِثْلَهُ، وَقَالَ: عَنْ بَعْجَةَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ بَدْرٍ، وَقَالَ:"فِي شِعْبَةٍ مِنْ هَذِهِ الشِّعَابِ"، خِلَافَ رِوَايَةِ يَحْيَى).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) تقدّم قبل باب.

2 -

(يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْقَارِيُّ) - بتشديد التحتانيّة - المدنيّ، نزيل الإسكندريّة، ثقةٌ [8](ت 181)(خ م د ت س) تقدّم في "الإيمان" 35/ 245.

والباقون ذُكروا قبله.

وقوله: (الْقَارِيَّ) بتشديد الياء التحتانيّة: نسبة إلى قارة قبيلة مشهورة بجودة الرمي، وليس نسبة إلى القارئ، من القراءة، كما يوجد في بعض النسخ غلطًا.

وقوله: (كِلَاهُمَا) الضمير لعبد العزيز بن أبي حازم، ويعقوب بن عبد الرحمن.

وقوله: (وَقَالَ: عَنْ بَعْجَةَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ بَدْرٍ) فاعل "قال" في الموضعين ضمير قُتيبة.

وقوله: (خِلَافَ رِوَايَةِ يَحْيَى) بنصب خلاف على الحال؛ أي: حال كون قتيبة مخالفًا في روايته لرواية يحيى بن يحيى التميميّ، حيث قال قتيبة:"في شِعْبة من هذه الشعاب"، بدل قول يحيى:"في رأس شَعَفَة من هذه الشِّعاف"، و"يحيى" هو التميميّ، شيخ المصنّف في السند السابق.

[تنبيه]: رواية قتيبة بن سعيد عن عبد العزيز، ويعقوب بن عبد الرحمن كلاهما عن أبي حازم، أخرجها الحافظ أبو طاهر الذهليّ، في "جزئه"، فقال:

(145)

- حدّثنا جعفر بن محمد بن الحسن، قال: حدثنا قتيبة بن سعيد، قال: حدّثنا يعقوب بن عبد الرحمن، وعبد العزيز بن أبي حازم، عن أبي حازم، عن بعجة بن عبد الله بن بدر الجهنيّ، عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "خير ما عاش الناس له رجل ممسك بعِنان فرسه، في سبيل الله عز وجل، كلما سَمِع هَيْعةً، أو فَزْعة طار عن متن فرسه، فالتمس القتل، أو الموت في مظانّه، أو رجل في شِعْبة من هذه الشِّعاب، أو في بطن وادٍ من هذه الأودية،

ص: 460

أو غنيمة له، يقيم الصلاة، ويؤتي الزكاة، ويعبد الله عز وجل حتى يأتيه اليقين، ليس من الناس إلا في خير". انتهى

(1)

.

وساق النسائيّ في "الكبرى" رواية قتيبة، عن يعقوب فقط، فقال:

(11277)

- أنا قتيبة بن سعيد، نا يعقوب، عن أبي حازم، عن بعجة بن بدر الجهنيّ، عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "خير ما عاش الناس له رحل يمسك بعنان فرسه، في سبيل الله، كلما سَمِع هَيْعةً، أو فَزْعةً طار على متن فرسه، فالتمس الموت في مظانّه، أو رجل في شِعبة من هذه الشعاب، أو في بطن واد من هذه الأودية، في غنيمة له، يقيم الصلاة، ويؤتي الزكاة، ويعبد الله حتى يأتيه اليقين، ليس من الناس إلا في خير". انتهى

(2)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4883]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَاهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، قَالُوا: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ بَعْجَةَ بْنِ عَبْدِ اللهِ الْجُهَنِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمَعْنَى حَدِيثِ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ بَعْجَةَ، وَقَالَ: "فِي شِعْبٍ مِنَ الشِّعَابِ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) تقدّم قبل باب.

3 -

(أَبُو كُرَيْبٍ) محمد بن العلاء، تقدّم قريبًا.

4 -

(وَكِيعُ) بنَ الجرّاح، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

5 -

(أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ) الليثيّ المدنيّ، تقدّم قريبًا.

والباقيان ذُكرا قبله.

[تنبيه]: رواية أسامة بن زيد عن بعجة بن عبد الله بن بدر هذه ساقها ابن حبّان في "صحيحه"، فقال:

(1)

"جزء أبي الطاهر محمد بن أحمد بن عبد الله بن نصر الذهليّ" 1/ 48 - 49.

(2)

"السنن الكبرى" 6/ 375.

ص: 461

(4600)

- أخبرنا الحسن بن سفيان، حدّثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا وكيع، عن أسامة بن زيد، عن بعجة بن عبد الله الجهنيّ، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يأتي على الناس زمان يكون خير الناس فيه منزلةً رجل آخذ بعنان فرسه، في سبيل الله، كلما سمع بِهَيعة استوى على متنه، ثم طلب الموت مظانّه، ورجل في شِعب من هذه الشعاب، يقيم الصلاة، ويؤتي الزكاة، ويَدَعُ الناس إلا من خيره". انتهى

(1)

.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(35) - (بَابُ بَيَانِ الرَّجُلَيْنِ، يَقْتُلُ أَحَدُهُمَا الآخَرَ، يَدْخُلَانِ الْجَنَّةَ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4884]

(1890) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عُمَرَ الْمَكِّيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "يَضْحَكُ اللهُ إِلَى رَجُلَيْنِ، يَقْتُلُ أَحَدُهُمَا الآخَرَ، كِلَاهُمَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ"، فَقَالُوا: كَيْفَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: "يُقَاتِلُ هَذَا فِي سَبِيلِ اللهِ عز وجل، فَيُسْتَشْهَدُ، ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ عَلَى الْقَاتِلِ، فَيُسْلِمُ، فَيُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ عز وجل، فَيُسْتَشْهَدُ").

قال الجامع عفا الله عنه: قد تقدّم هذا الإسناد قريبًا، و"ابن أبي عمر" هو: محمد بن يحيى العدنيّ، ثم المكيّ، و"أبو الزناد" هو: عبد الله بن ذكوان، و"الأعرج" هو: عبد الرحمن بن هُرْمُز.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "يَضْحَكُ اللهُ إِلَى رَجُلَيْنِ)، وفي رواية النسائيّ، من طريق ابن عيينة، عن أبي الزناد:"إنّ الله يَعْجَب من رجلين".

قال الخطابيّ

(2)

: الضحك الذي يعتري البشر عندما يستخفهم الفرح، أو الطرب غير جائز على الله تعالى، وإنما هذا مَثَلٌ ضُرب لهذا الصنيع الذي يَحُلّ

(1)

"صحيح ابن حبان" 10/ 460.

(2)

راجع: "الأعلام" 2/ 1367.

ص: 462

محل الإعجاب عند البشر، فإذا رأوه أضحكهم، ومعناه: الإخبار عن رضا الله بفعل أحدهما، وقبوله للآخر، ومجازاتهما على صنيعهما بالجنة، مع اختلاف حاليهما، قال: وقد تأول البخاريّ الضحك في موضع آخر على معنى الرحمة، وهو قريب، وتأويله على معنى الرضا أقرب، فإن الضحك يدلّ على الرضا والقبول، قال: والكرام يوصفون عندما يسألهم السائل بالبِشْر، وحسن اللقاء، فيكون المعنى في قوله:"يضحك الله"؛ أي: يُجْزِل العطاء، قال: وقد يكون معنى ذلك أن يُعْجِب الله ملائكته، ويُضحكهم من صنيعهما، وهذا يتخرج على المجاز، ومثله في الكلام يكثر.

وقال ابن الجوزيّ

(1)

: أكثر السلف يمتنعون من تأويل مثل هذا، ويُمِرّونه كما جاء، وينبغي أن يراعى في مثل هذا الإمرار اعتقاد أنه لا تشبه صفات الله صفات الخلق، ومعنى الإمرار: عدم العلم بالمراد منه، مع اعتقاد التنزيه

(2)

.

(1)

راجع: "كشف المشكل" لابن الجوزيّ 3/ 506 رقم 1997/ 2460.

(2)

قول ابن الجوزيّ: "أكثر السلف يمتنعون من تأويل مثل هذا. . . إلخ" المعروف عن ابن الجوزيّ نفي حقائق الصفات الخبريّة، مثل الضحك، والفرح، كما هو مذهب جمهور الأشاعرة، ثم إن كثيرًا منهم يفسّر النصوص الواردة في تلك الصفات بما يخالف ظاهرها، كما فسّروا المحبّة والرضا بإرادة الإنعام، وقد يفسّرون الفرح والضحك بمثل ذلك، أو يفسّرونهم بالرحمة والرضا، وهذه طريقة أهل التأويل منهم، فيجمعون بين التعطيل والتحريف.

ومنهم من يذهب في نصوص الضحك، والفرح، ونحو ذلك مذهب التفويض، وهو إمرار ألفاظ النصوص من غير فهم لمعناها، فعندهم أنها لا تدلّ على شيء من المعاني، وهذا يقتضي أنه لا يجوز تدبّرها؛ لأن المتدبّر يطلب فهم المعنى المراد، ولا سبيل إليه عندهم.

وقد زعم ابن الجوزيّ فيما نقله عنه الحافظ هنا أن هذا - أي: التفويض - هو مذهب أكثر السلف، وهو باطلٌ، وغلطٌ عليهم، بل السلف يُثبتون ما أثبته الله عز وجل لنفسه، أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم من الصفات.

ومن قال من السلف في نصوص الصفات: أمرّوها كما جاءت، أو أمرّها بلا كيف، لا يريدون أنه لا معنى لها، كما يدّعي المفوّضة من النُّفاة، بل يريدون إثبات ما يدلّ عليه ظاهرها، وعدم العدول بها عن ظاهرها، فلا يجوز حَمْل =

ص: 463

قال الحافظ: ويدل على أن المراد بالضحك الإقبال بالرضا: تعديته بـ "إلى"، تقول: ضَحِك فلان إلى فلان: إذا توجه إليه طَلْقَ الوجه مظهرًا للرضا عنه. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي قاله الخطابيّ، وأقرّ الحافظ من تأويل صفة الضحك بالرضا ونحوه، غير صحيح، مخالف لِمَا عليه السلف، فإن مذهبهم في الضحك المضاف إلى الله سبحانه وتعالى في هذا الحديث وغيره إثباته لله عز وجل على ما يليق بجلاله، ويختصّ به، وأنه ضَحِكٌ لا كضحك المخلوقين كما يقولون مثل ذلك في سائر ما وَصَفَ به نفسه، أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، فعندهم أنه تعالى يضحك حقيقةً، والضحك منه تعالى غير العَجَب، وغير الرحمة، والرضا، لكنه يتضمّن هذه المعاني، ويستلزمها.

وأما نفي حقيقة الضحك عن الله تعالى، فإنه مذهب الجهميّة، والمعتزلة، ومن تبعهم من الأشاعرة، وليس لهذا النفي من شبهة إلا من جنس ما تنفى به سائر الصفات.

ثم إن الذين نفوا الضحك عن الله عز وجل من الأشاعرة، أو من وافقهم، منهم من يسلك في النصوص مسلك التفويض، فلا يفسّرها، ولا يُثبت ظاهرها إلا لفظًا دون المعنى، ومنهم من يسلك فيها طريقة التأويل، فيُفسّرها بما يُخالف ظاهرها، وهذا هو الذي سلكه الخطّابيّ فيما نقله عنه الحافظ - رحمهما الله تعالى، وعفا عنهما -.

ونحن نقول: نَعَم الضحك الذي يعتري البَشَر عندما يستخفّهم الفرح، أو الطرب: غير جائز على الله تعالى، فإن ذلك ضحك البشر، وهو مختصّ بهم، وضحك الربّ سبحانه وتعالى مختصّ به، فليس الضحك كالضحك، كما يقال مثلُ ذلك في قدرته، وإرادته، وغير ذلك من صفاته سبحانه وتعالى.

= كلامهم ذلك على ما يُخالف المعروف من مذهبهم في صفاته سبحانه وتعالى. انتهى ما كتبه الشيخ البراك على هامش "الفتح" 7/ 96، كتاب "الجهاد" رقم (2826)، وهو تحقيق نفيسٌ جدًّا، والله تعالى أعلم.

(1)

"الفتح" 7/ 95 - 96، كتاب "الجهاد" رقم (2826).

ص: 464

وأما قول الخطّابيّ: وقد تأوّل البخاريّ الضحك في موضع آخر على معنى الرحمة، ففيه نظر، والأشبه أن هذا لا يصحّ عن البخاريّ، ويؤيّد ذلك قول الحافظ رحمه الله عندما نقل قول الخطّابيّ عن البخاريّ! في "كتاب التفسير"

(1)

حيث قال: قال الخطّابيّ: وقال أبو عبد الله: معنى الضحك هنا الرحمة، قال الحافظ: ولم أر ذلك في النسخ التي وقعت لنا من البخاريّ. أفاده بعض المحقّقين

(2)

، وهو تحقيق حسنٌ جدًّا، يجب التمسّك به، والعضّ عليه بالنواجذ، ونَبْذ ما عداه، وإن كان من قال به من المتأخّرين فيهم كثرة، فإن الحقّ يُعرف بالأدلّة، لا بالكثرة والقلّة، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

وقوله: (يَقْتُلُ أَحَدُهُمَا الآخَرَ) جملة في محلّ جرّ صفة لـ "رجلين" وقوله: (كِلَاهُمَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ") جملة في محلّ نصب على الحال، (فَقَالُوا)؛ أي: الصحابة الحاضرون عند النبيّ صلى الله عليه وسلم (كَيْفَ يَا رَسُولَ اللهِ؟)؛ أي: كيف يدخلان الجنّة، وقد قتل أحدهما الآخر؟ (قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("يُقَاتِلُ هَذَا) ببناء الفعل للفاعل، (فِي سَبِيلِ اللهِ عز وجل)؛ أي: لأجل إعلاء كلمته (فَيُسْتَشْهَدُ) بالبناء للمفعول؛ أي: يموت شهيدًا، وفي رواية همّام التالية:"يُقتل هذا فيلج الجنّة"، قال ابن عبد البرّ: معنى هذا الحديث عند أهل العلم: أن القاتل الأول كان كافرًا، وتوبته المذكورة في هذا الحديث إسلامه، قال الله عز وجل:{قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} الآية [الأنفال: 38]، قال: وفيه دليل على أن كل من قُتل في سبيل الله فهو في الجنة - إن شاء الله - وكلّ من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، وكلمة الذين كفروا السفلى، فهو في الجنة. انتهى

(3)

.

قال الحافظ: وهو الذي استنبطه البخاريّ في ترجمته، ولكن لا مانع أن يكون مسلمًا؛ لعموم قوله:"ثم يتوب الله على القاتل"، كما لو قَتَل مسلمٌ مسلمًا عمدًا بلا شبهة، ثم تاب القاتل، واستُشهِد في سبيل الله، وإنما يَمْنَع دخول مثل هذا من يذهب إلى أن قاتل المسلم عمدًا لا تُقبل له توبة، قال:

(1)

راجع: كتاب "التفسير" من "الفتح" 10/ 682 حديث (4889) نسخة البراك.

(2)

هو: الشيخ عبد الرحمن بن ناصر البراك.

(3)

"الاستذكار" 5/ 96 - 97.

ص: 465

ويؤيد الأول أنه وقع في رواية همام التالية - عند مسلم -: "ثم يتوب الله على الآخر، فَيَهديه إلى الإسلام"، وأصرح من ذلك ما أخرجه أحمد، من طريق الزهريّ، عن سعيد بن المسيِّب، عن أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ:"قيل: كيف يا رسول الله؟ قال: يكون أحدهما كافرًا، فيَقتل الآخر، ثم يُسْلِم، فيغزو، فيُقْتَل".

(ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ عَلَى الْقَاتِلِ، فَيُسْلِمُ) بالبناء للفاعل، من الإسلام؛ أي: يدخل في الإسلام، (فَيُقَاتِلُ) بالبناء للفاعل أيضًا، (فِي سَبِيلِ اللهِ عز وجل، فَيُسْتَشْهَدُ") بالبناء للمفعول، وفي رواية همام التالية:"ثم يتوب الله على الآخر، فيهديه إلى الإسلام، ثم يجاهد في سبيل الله، فيُستَشْهَد"، قال ابن عبد البرّ: يُستفاد من هذا الحديث أن كل من قُتل في سبيل الله، فهو في الجنة، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [35/ 4884 و 4885 و 4886](1890)، و (البخاريّ) في "المقدّمة"(2826)، و (النسائيّ) في "الجهاد"(6/ 38) و"الكبرى" في "النعوت"(4373 و 4374)، و (ابن ماجه) في "الجهاد"(191)، و (مالك) في "الموطّأ"(2/ 460)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(20280)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 244 و 464)، و (سعيد بن منصور) في "سننه"(2/ 253)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 474)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(215)، و (ابن خزيمة) في "التوحيد"(ص 234)، و (الآجريّ) في "الشريعة"(ص 277)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(9/ 165) و"الأسماء والصفات"(ص 467 - 468)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(2633)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان اجتماع القاتل والمقتول في سبيل الله تعالى في الجنّة.

2 -

(ومنها): بيان فضل الله تعالى، وسعة رحمته، حيث يجعل كلًّا من

ص: 466

المتقاتلين من أهل الجنّة، مع أن الكافر قتل المسلم ظلمًا وعدوانًا، وجحدًا لنعمه تعالى، لكنه بواسع فضله، وسعة رحمته تفضّل عليه بالتوبة، والقتال في سبيله، حتى قُتل، فدخل الجنّة {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد: 21]، {وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [البقرة: 105].

3 -

(ومنها): أن فيه إثبات صفة الضحك لله سبحانه وتعالى، على ما يليق بجلاله، مع تنزيهه تعالى، إثباتًا بلا تمثيل، وتنزيهًا بلا تعطيل، وفيه أيضًا إثبات صفة العَجَب له سبحانه وتعالى كما هو في رواية النسائيّ، على ما يليق بجلاله تعالى.

4 -

(ومنها): أن كلّ من قُتل في سبيل الله تعالى، فهو في الجنّة. قاله ابن عبد البرّ.

5 -

(ومنها): أن العبرة بالخواتيم، فلو عمل العبد دهرًا من عمره أنواع الكبائر كلها، ثم وفّقه الله تعالى في آخر حياته للتوبة، والعمل الصالح، مُحيت عنه خطاياه كلها، وصار من أهل الجنّة، {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} الآية [الأنفال: 38]، {لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} الآية [الروم: 4]، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4885]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، قَالُوا: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، بِهَذَا الإِسْنَادِ، مِثْلَهُ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

وكلهم ذُكروا في الإسنادين الماضيين، سوى سفيان، وهو الثوريّ، فتقدّم قريبًا.

[تنبيه]: رواية سفيان الثوريّ، عن أبي الزناد هذه، ساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(9977)

- حدّثنا عبد الله

(1)

، حدّثني أبي، ثنا وكيع، قال: ثنا سفيان،

(1)

هو: عبد الله ابن الإمام أحمد، راوي "المسند" عنه.

ص: 467

عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"يضحك الله إلى رجلين، يَقْتُل أحدهما الآخر، كلاهما يدخل الجنة، يقاتل هذا في سبيل الله، فيُسْتَشْهَدُ، قال: ثم يتوب الله على قاتله، فيُسْلِم، فيقاتل في سبيل الله، حتى يُستشهَد". انتهى

(1)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوَّل الكتاب قال:

[4886]

(. . .) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ، قَالَ: هَذَا مَا حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَ أَحَادِيثَ، مِنْهَا: وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "يَضْحَكُ اللهُ لِرَجُلَيْنِ، يَقْتُلُ أَحَدُهُمَا الآخَرَ، كِلَاهُمَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ"، قَالُوا: كَيْفَ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: "يُقْتَلُ هَذَا، فَيَلِجُ الْجَنَّةَ، ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ عَلَى الآخَرِ، فَيَهْدِيهِ إِلَى الإِسْلَامِ، ثُمَّ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللهِ، فَيُسْتَشْهَدُ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

وقد تقدّم الإسناد نفسه قبل ستة أبواب.

وقوله: (هَذَا مَا حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ) الإشارة إلى مجموع الأحاديث التي ذُكرت في صحيفة همام بن منبّه.

وقوله: (فَذَكَرَ أَحَادِيثَ) الفاعل ضمير همّام.

وقوله: (مِنْهَا: وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) الجارّ والمجرور خبر مقدّم، وقوله:"قال رسول الله صلى الله عليه وسلم" مبتدأ مؤخّر محكيّ؛ لِقَصْد لَفْظِه، وقد تقدّم بيان هذا غير مرّة.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله، قبل حديث، ولله الحمد والمنّة.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(1)

"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 2/ 464.

ص: 468

(36) - (بَابُ مَنْ قَتَلَ كَافِرًا ثُمَّ سَدَّدَ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4887]

(1891) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، وَقُتَيْبَةُ، وَعَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، قَالُوا: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ - يَعْنُونَ: ابْنَ جَعْفَرٍ - عَنِ الْعَلَاءِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا يَجْتَمِعُ كَافِرٌ وَقَاتِلُهُ فِي النَّارِ أَبَدًا").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ) المقابريّ، أبو زكريّا البغداديّ، ثقةٌ [10](ت 234)(عخ م د عس) تقدّم في "الإيمان" 2/ 110.

2 -

(قُتَيْبَةُ) بن سعيد بن جَمِيل بن طَرِيف الثقفيّ، أبو رجاء البغلانيّ، يقال: اسمه يحيى، وقيل: عليّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 240) وله (90) سنةً (ع) تقدّم في "المقدمة" 6/ 50.

3 -

(عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ) السعديّ المروزيّ، ثقةٌ حافظٌ، من صغار [9](ت 244) وقد قارب المائة، أو جاوزها (خ م ت س) تقدّم في "المقدمة" 2/ 6.

4 -

(إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرِ) بن أبي كثير الأنصاريّ الزرقيّ، أبو إسحاق المدنيّ القارئ، ثقةٌ ثبتٌ [8](180)(ع) تقدّم في "الإيمان" 2/ 110.

5 -

(الْعَلَاءُ) بن عبد الرحمن بن يعقوب الْحُرَقيّ، أبو شِبْل المدنيّ، صدوقٌ، ربّما وَهِمَ [5] مات سنة بضع و (130)(ز م 4) تقدّم في "الإيمان" 8/ 135.

6 -

(أَبُوهُ) عبد الرحمن بن يعقوب الْجُهَنيّ الْحُرَقيّ مولاهم المدنيّ، ثقةٌ [3](ز م 4) تقدّم في "الإيمان" 8/ 135.

و"أبو هريرة رضي الله عنه" ذُكر في السند الماضي.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه ثلاثة من الشيوخ قرن بينهم؛ لاتّحاد كيفيّة التحمّل والأداء، وهو مسلسل بالمدنيين غير شيوخه الثلاثة: فالأول بغداديّ، والثاني بغلانيّ، والثالث مروزيّ، وفيه رواية الابن عن أبيه، وتابعيّ عن تابعيّ، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه، تقدّم الكلام فيه قريبًا.

ص: 469

شرح الحديث:

(عَنِ الْعَلَاءِ، عَنْ أَبِيهِ) عبد الرحمن بن يعقوب (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا يَجْتَمِعُ كَافِرٌ وَقَاتِلُهُ فِي النَّارِ أَبَدًا") وفي الرواية التالية: "لا يجتمعان في النار اجتماعًا يضرّ أحدهما الآخر، قيل: من هم يا رسول الله، قال: مؤمن قتل كافرًا، ثم سدّد"، قال القاضي عياض رحمه الله: في الرواية الأولى يَحْتَمِل أن هذا مختصّ بمن قتل كافرًا في الجهاد، فيكون ذلك مكفِّرًا لذنوبه، حتى لا يعاقَب عليها، أو يكون بنيّة مخصوصة، أو حالة مخصوصة، ويَحْتَمِل أن يكون عقابه إن عوقب بغير النار؛ كالحبس في الأعراف عن دخول الجنة أوّلًا، ولا يدخل النار، أو يكون إن عوقب بها في غير موضع عقاب الكفار، ولا يجتمعان في أدراكها. انتهى

(1)

.

وقال الطيبيّ رحمه الله بعد كلام عياض المذكور ما نصّه: أقول: والوجه هو الأول - يعني: الاحتمال الأول - وهو من الكناية التلويحيّة، نفي الاجتماع، فيلزم منه نفي المساواة بينهما، فيلزم أن لا يدخل المجاهد النار أبدًا، فإنه لو دخلها لساواه، ويؤيّده قوله صلى الله عليه وسلم:"ولا يجتمع على عبد غبار في سبيل الله ودخان جهنّم"

(2)

، وفي رواية:"في منخري مسلم".

قال: وقوله: "أبدًا" بمعنى "قط" في الماضي، و"عَوْضُ" في المستقبل، تنزيلًا للمستقبل منزلة الماضي، قال الجوهريّ: يقال: لا أفعله أبد الآباد، وأبد الآبدين، كما يقال: دهر الداهرين، وعَوْضَ العائضين، والمقام يقتضيه؛ لأنه ترغيب في الجهاد، وحثّ عليه، ونحوه قوله صلى الله عليه وسلم:"ما اغبرّت قدما عبد في سبيل الله، فتمسّه النار"، رواه البخاريّ. انتهى

(3)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "لا يجتمع كافر وقاتلُه في النار أبدًا" ظاهِرُ هذا أنَ المسلِمَ إذا قَتَل كافرًا لم يدخل النَّارَ بوجهٍ من الوجوه، ولم يقيّده في هذا الطريق بقيدٍ؛ لكن قال في الرِّواية الأخرى:"ثم سَدد"، وقد استشكل بعضُ الأئمة هذا اللفظ، وجهةُ الإشكال أن مآلَ السَّداد هو الاستقامة على

(1)

"إكمال المعلم" 6/ 313.

(2)

حديث صحيحٌ، رواه النسائيّ.

(3)

"الكاشف عن حقائق السنن" 8/ 2628.

ص: 470

الطريقة من غير زيغ، ومَن كان هذا حالُه فإنه لا يدخل النار؛ قتل كافرًا أو لم يقتله، وسلك في الانفصال عن هذا الإشكال أنْ حَمَلَ "سَدَّد" على "أسلم"، بمعنى: أن القاتلَ كان كافرًا، ثم أسلم، وصَرَفه للحديث الآخر؛ الذي قال فيه:"يضحك الله لرجلين".

قال القرطبيّ: وهذا الإشكالُ إنما وقع لهذا القائل من حيث فسَّر السَّداد بما ذُكر، والذي يظهرُ لي أنه ليس المراد بالسَّداد هنا ما ذُكِر؛ بل بعض ما ذُكِر، وهو أن يسدّد حالَه في التخلص من حقوق الآدميين؛ التي تقدَّم الكلامُ عليها في قوله صلى الله عليه وسلم:"القتل في سبيل الله يكفِّر كل شيءٍ إلا الدَّين"، فإذا لم تكفِّر الشهادةُ الدينَ كان أبعد أن يكفره قتل الكافر.

ويحتملُ أن يقالَ: سدَّد بدوام الإسلام حتى الموت، أو باجتناب الموبقات التي لا تُغفَر إلا بالتوبة، كما تقدَّم في الطهارة. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [36/ 4887 و 4888](1891)، و (أبو داود) في "الجهاد"(2495)، و (النسائيّ) في "الجهاد"(3109)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 368 و 378 و 397 و 412)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 476)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(11/ 390)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(9/ 165)، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4888]

(. . .) - (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ عَوْنٍ الْهِلَالِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الْفَزَارِيُّ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا يَجْتَمِعَانِ فِي النَّارِ اجْتِمَاعًا، يَضُرُّ أَحَدُهُمَا الآخَرَ"، قِيلَ: مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: "مُؤْمِنٌ قَتَلَ كَافِرًا، ثُمَّ سَدَّدَ").

(1)

"المفهم" 3/ 725.

ص: 471

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ عَوْنٍ الْهِلَالِيُّ) الخَرّاز - بخاء معجمة، فراء مهملة، آخره زاي - أبو محمد البغداديّ، ثقةٌ عابدٌ [10](ت 232) على الصحيح (م س) تقدّم في "شرح المقدمة" جـ 1 ص 303.

2 -

(أَبُو إِسْحَاقَ الْفَزَارِيُّ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ) بن الحارث بن أسماء بن خارجة الكوفيّ، ثم المصّيصيّ، ثقةٌ حافظٌ له تصانيف [8](ت 185) أو بعدها (ع) تقدّم في "المقدمة" 6/ 88.

3 -

(سُهَيْلُ بْنُ أَبِي صَالِحٍ) المدنيّ، تقدّم قريبًا.

4 -

(أَبُوه) أبو صالح ذكوان السمّان، تقدّم أيضًا قريبًا.

و"أبو هريرة رضي الله عنه" ذُكر قبله.

وقوله: (اجْتِمَاعًا، يَضُرُّ أَحَدُهُمَا الآخَرَ) هذا يدلّ على أنه اجتماع مخصوص، قال القاضي عياض: وهو مشكل المعنى، وأوجه ما فيه أن يكون معناه ما أشرنا إليه أنهما لا يجتمعان في وقت إن استحق العقاب، فيُعَيِّره بدخوله معه، وأنه لم ينفعه إيمانه، وقَتْله إياه، وقد جاء مثل هذا في بعض الآثار، لكن قوله في هذا الحديث:"مؤمن قتل كافرًا، ثم سَدَّد"، مشكل؛ لأن المؤمن إذا سدّد، ومعناه استقام على الطريقة الْمُثْلَى، ولم يَخلط، لم يدخل النار أصلًا، سواء قَتَل كافرًا، أو لم يقتله، قال: ووجهه عندي أن يكون قوله: "ثم سَدَّد" عائدًا على الكافر القاتل، ويكون بمعنى الحديث السابق:"يضحك الله إلى رجلين، يقتل أحدهما الآخر، يدخلان الجنة"، ورأى بعضهم أن هذا اللفظ تغيّر من بعض الرواة، وأن صوابه: مؤمن قتله كافر، ثم سدّد، ويكون معنى قوله:"لا يجتمعان في النار، اجتماعًا يضر أحدهما الآخر"؛ أي: لا يدخلانها للعقاب، ويكون هذا استثناء من اجتماع الورود، وتخاصمهم على جسر جهنم. انتهى كلام القاضي عياض رحمه الله

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "لا يجتمعان في النار اجتماعًا يضرُّ أحدُهما الآخر" مخالف للرواية الأولى الأخرى، فإن ظاهرَ تلك الرواية نفي الاجتماع

(1)

"إكمال المعلم" 6/ 313 - 314.

ص: 472

مطلقًا، وظاهرُ هذه نفي اجتماع مخصوص، فتعارض الظاهران، ووجهُ الجمع حملُ المطلق على المقيَّد، بمعنى: أنَّ من قتَل كافرًا ثمَّ مات مرتكبَ كبيرةِ، غير تائبٍ منها، فامرُه إلى الله تعالى؛ إن شاء عفا عنه، وإن شاء عاقبه بها، وأُدخل النار، ثم إن أُدخل النار فإنما يدخل حيث يدخلُ المؤمنون المذنبون، لا حيث يدخل الكافرون، فلا يجتمعُ ذلك المؤمنُ مع مقتوله الكافر أبدًا، ولا يلقاه حتى يخاصمه، كما قد جاء: أن بعضَ الكفار يجتمعُ ببعض المؤمنين في النار، فيقولون لهم: ما أغنى عنكم إيمانكم ولا عبادتكم؛ إذ أنتم معنا، فيضجُّ المؤمنون إلى الله تعالى حتى يخرجوا، فإذا خرجوا، وتفقّدهم الكافرون، فلم يروهم، قال بعضُهم لبعضِ:{مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ (62) أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ} [ص: 62، 63]. وقيل في الآية غير هذا، والله تعالى أعلم.

(قِيلَ) قال صاحب "التنبيه": لا أعرف القائل

(1)

. (مَنْ هُمْ) هكذا بضمير الجمع، مع مرجعه مثنّى، وقد سبق أن إطلاق ضمير الجمع على الاثنين جائز لغةً، وهو القول الراجح، كما حقّقته في "التحفة المرضيّة"، و"شرحها" في الأصول، قال الله تعالى:{وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} [الأنبياء: 78] بعد قوله: {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ} الآية [الأنبياء: 78]. (يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("مُؤْمِنٌ قَتَلَ كَافرًا، ثُمَّ سَدَّدَ")؛ أي: استقام على طريق الهدى.

والحديث من أفراد المصنّف، وقد مضى تمام البحث فيه في الحديث الماضي، ولله الحمد والمنّة.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(37) - (بَابُ فَضْلِ الصَّدَقَةِ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَتَضْعِيفِهَا)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4889]

(1892) - (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ، أَخْبَرَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي عَمْرٍو الشَّيْبَانِيِّ، عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الأَنْصَارِيِّ، قَالَ: جَاءَ

(1)

"تنبيه المعلم" ص 327.

ص: 473

رَجُلٌ بِنَاقَةٍ مَخْطُومَةٍ، فَقَالَ: هَذِهِ فِي سَبِيلِ اللهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم

(1)

: "لَكَ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ سَبْعُمِائَةِ نَاقَةٍ كُلُّهَا مَخْطُومَةٌ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ) ابن راهويه، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

2 -

(جَرِيرُ) بن عبد الحميد، تقدّم أيضًا قبل ثلاثة أبواب.

3 -

(الأَعْمَشُ) سليمان بن مِهْران، تقدّم أيضًا قبل ثلاثة أبواب.

4 -

(أَبُو عَمْرٍو الشَّيْبَانِيُّ) سعد بن إياس الكوفيّ، مخضرمٌ ثقةٌ [2](ت 5 أو 96)، وهو ابن (120)(ع) تقدّم في "شرح المقدمة" جـ 2 ص 469.

5 -

(أَبُو مَسْعُودٍ الأَنْصَارِيُّ) عقبة بن عمرو بن ثعلبة البدريّ الصحابيّ الجليل، مات قبل الأربعين، وقيل بعدها (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 458.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وهو مسلسل بالكوفيين، غير شيخه، فمروزيّ، وقد دخل الكوفة للأخذ عن أهلها، وفيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ مخضرم، وفيه أن صحابيّه يقال له: البدريّ؛ لشهوده غزوة بدر الكبرى، على ما قاله البخاريّ، وهو الأصحّ، أو لسكناه بدرًا، لا لشهود الغزوة، كما هو المشهور عند الأكثرين، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الأَنْصَارِيِّ) عقبة بن عمرو رضي الله عنه أنه (قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ) لا يُعرف اسمه

(2)

. (بِنَاقَةٍ) هي الأنثى من الإبل، قال أبو عبيدة: ولا تُسمّى ناقةً حتّى تُجْذِعَ، والجمع: أينُقٌ

(3)

، ونُوقٌ، ونِيَاقٌ، واستنوق الْجَمَلُ: تشبّه بالناقة،

(1)

وفي نسخة: "فقال له رسول الله".

(2)

راجع: "تنبيه المعلم" ص 328.

(3)

دخله القَلْب المكانيّ بتقديم عين الكلمة على فائها، وقال في "النهاية" ص 947: الأينُق جمع قلّة لناقة، وأصله أنوُقٌ، فقُلب، وأبدل واوه ياءً، وقيل: هو على حذف العين، وزيادة الياء عِوضًا عنها، فوزنه على الأول: أعفُلٌ؛ لأنه قدّم العين، وعلى الثاني: أيفُلٌ؛ لأنه حَذَف العين. انتهى.

ص: 474

قاله الفيّوميّ

(1)

.

(مَخْطُومَةٍ)؛ أي: فيها خِطام، يقال: خطمه بالخطام: جعله على أنفه، والْخِطام ككتاب: كل ما وُضِع في أنف البعير ليُقتاد به، جمعه كَكُتُب، قاله المجد

(2)

، وقال ابن الأثير رحمه الله: خِطام البعير أن يؤخذ حبْلٌ من لِيفٍ، أو شعر، أو كتّان، فيُجعل في أحد طرفه، حَلْقةٌ، ثم يُشدّ فيه الطرَفُ الآخر حتى يصير كالْحَلْقة، ثم يقاد البعير، ثم يُثَنَّى على مِخْطَمه، وأما الذي يُجعل في الأنف دقيقًا، فهو الزمام. انتهى

(3)

.

(فَقَالَ) الرجل (هَذِهِ) الناقة المخطومة (فِي سَبِيلِ اللهِ)؛ أي: صدقة للجهاد في إعلاء كلمة الله عز وجل، (فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) وفي بعض النسخ:"فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم"("لَكَ) خبر مقدّم لقوله: "سبعُمائة"، (بِهَا)؛ أي: بسبب حبسها، (يَوْمَ الْقِيَامَةِ سَبْعُمِائَةِ نَاقِةٍ كُلُّهَا مَخْطُومَةٌ") قال النوويّ رحمه الله: قيل: يَحْتَمِل أن المراد: له أجر سبعمائة ناقة، ويَحْتَمِل أن يكون على ظاهره، ويكون له في الجنّة بها سبعمائة، كل واحدة منهنّ مخطومة، يَرْكبهنّ حيث شاء للتنزه، كما جاء في خيل الجنّة، ونُجُبها

(4)

، وهذا الاحتمال أظهر

(5)

، والله تعالى أعلم.

(1)

"المصباح المنير" 2/ 631.

(2)

"القاموس المحيط" ص 381.

(3)

"النهاية في غريب الأثر" ص 272.

(4)

أشار به إلى ما أخرجه الترمذيّ في "جامعه" 4/ 682 فقال:

(2544)

- حدّثنا محمد بن إسماعيل بن سَمُرة الأحمسيُّ، حدّثنا أبو معاوية، عن واصل هو ابن السائب، عن أبي سورة، عن أبي أيوب، قال: أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم أعرابي، فقال: يا رسول الله، إني أحب الخيل، أفي الجنة خيل؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن أُدخلت الجنة أُتيت بفرس، من ياقوتة، له جناحان، فحُملت عليه، ثم طار بك حيث شئت".

قال أبو عيسى: هذا حديث ليس إسناده بالقويّ، ولا نعرفه من حديث أبي أيوب إلا من هذا الوجه، وأبو سورة هو ابن أخي أبي أيوب، يُضَعَّف في الحديث، ضعّفه يحيى بن معين جدًّا، قال: وسمعت محمد بن إسماعيل يقول: أبو سورة هذا منكَر الحديث، يروي مناكير، عن أبي أيوب، لا يتابَع عليها. انتهى.

(5)

"شرح النوويّ" 13/ 38.

ص: 475

قال الجامع عفا الله عنه: الاحتمال الأخير هو الحقّ، كما استظهره النوويّ؛ لأن نصوص الشارع إذا أمكن حَمْلها على ظاهرها تعيّن ذلك، ولا يُصار إلى التأويل إلا عند وجود دليل عليه، ومما يؤيّد هذا الاحتمال الظاهر - كما قال القاضي عياض رحمه الله قوله:"مخطومة"، فإنه ظاهر في كونها ناقةً عليها خطامها، والله تعالى أعلم.

وقال القرطبيّ رحمه الله: هذه الحسنةُ مما ضوعفت إلى سبعمائة ضِعف، وهو أقصى الأعداد المحصورة التي تضاعَف الحسنات إليها، وهذا كما قال تعالى:{كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ} الآية [البقرة: 261]، وبقي بعد هذا المضاعفةُ من غير حصر، ولا حدّ، وهي مفهومة من قوله تعالى:{وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ} الآية [البقرة: 261]. انتهى

(1)

، والله تعالى اعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي مسعود الأنصاريّ رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [37/ 4889 و 4890](1892)، و (النسائيّ) في "الجهاد"(6/ 49) و"الكبرى"(3/ 33)، و (ابن المبارك) في "الزهد"(1/ 208)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(11/ 311)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(4/ 228)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 121 و 5/ 274)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4649 و 6450)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 477)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 268)، و (الحاكم) في "المستدرك"(2/ 95)، و (ابن أبي عاصم) في "الجهاد"(1/ 270 - 271)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(9/ 172)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(2625)، والله تعالى أعلم.

(1)

"المفهم" 3/ 726 - 727.

ص: 476

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4890]

(. . .) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ زَائِدَةَ (ح) وَحَدَّثَنِي بِشْرُ بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ - يَعْنِي: ابْنَ جَعْفَرٍ - حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، كِلَاهُمَا عَنِ الأَعْمَشِ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم قبل باب.

2 -

(أَبُو أُسَامَةَ) حمّاد بن أسامة بن زيد القرشيّ مولاهم الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار [9](201)، وهو ابن (80) سنةً (ع) تقدّم في "المقدمة" 6/ 51.

3 -

(زَائِدَةُ) بن قُدامة الثقفيّ، أبو الصَّلْت الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ، سنّيّ [7](160) أو بعدها (ع) تقدّم في "المقدمة" 6/ 53.

4 -

(بِشْرُ بْنُ خَالِدٍ) العسكريّ، أبو محمد الفرائضيّ، نزيل البصرة، ثقةٌ يُغْرب [10](ت 3 أو 255)(خ م د س) تقدّم في "الإيمان" 23/ 200.

5 -

(مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ) غندر، تقدّم قريبًا.

6 -

(شُعْبَةُ) بن الحجَّاج، تقدّم أيضًا قريبًا.

و"الأعمش" ذُكر قبله.

وقوله: (كِلَاهُمَا عَنِ الأَعْمَشِ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ)؛ يعني: أن كلًّا من زائدة، وشعبة رويا عن الأعمش بالإسناد السابق.

[تنبيه]: رواية زائدة عن الأعمش ساقها البيهقيّ رحمه الله في "الكبرى"، فقال:

(18350)

- أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، ثنا الحسن بن عليّ بن عفان العامريّ، ثنا أبو أسامة، عن زائدة، عن الأعمش، عن أبي عمرو الشيبانيّ، عن أبي مسعود عقبة بن عمرو رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم بناقة مخطومة، فقال: هي لي يا رسول الله، هذه في سبيل الله، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لك بها يوم القيامة سبعمائة، كلها مخطومة". انتهى

(1)

.

(1)

"سنن البيهقيّ الكبرى" 9/ 172.

ص: 477

وأما رواية شعبة، عن الأعمش، فقد ساقها النسائيّ في "سننه"، فقال:

(3187)

- أخبرنا بشر بن خالد، قال: حدّثنا محمد بن جعفر، قال: حدّثنا شعبة، عن سليمان، قال: سمعت أبا عمرو الشيبانيّ، عن أبي مسعود، أن رجلًا تصدّق بناقة مخطومة، في سبيل الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ليأتينّ يوم القيامة بسبعمائة ناقة، مخطومة". انتهى

(1)

.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(38) - (بَابُ فَضْلِ إِعَانَةِ الْغَازِي فِي سَبِيلِ اللهِ بِمَرْكُوبٍ وَغَيْرِهِ، وَخِلَافَتِهِ فِي أَهْلِهِ بِخَيْرٍ)

وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوَّل الكتاب قال:

[4891]

(1893) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، وَابْنُ أَبِي عُمَرَ - وَاللَّفْظُ لأَبِي كُرَيْبٍ - قَالُوا: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي عَمْرٍو الشَّيْبَانِيِّ، عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الأَنْصَارِيِّ، قَالَ: جَاءَ رَجُل إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: إِنِّي أُبْدِعَ بِي فَاحْمِلْنِي، فَقَالَ: "مَا عِنْدِي"، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ أَنَا أَدُلُّهُ عَلَى مَنْ يَحْمِلُهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ دَلَّ عَلَى خَيْرٍ، فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِ فَاعِلِهِ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(أَبُو كُرَيْبٍ) محمد بن العلاء، تقدّم قبل باب.

2 -

(ابْنُ أَبِي عُمَرَ) محمد بن يحيى بن أبي عمر، تقدّم أيضًا قبل باب.

3 -

(أَبُو مُعَاوِيَةَ) محمد بن خازم الضرير، تقدّم قبل أربعة أبواب.

والباقون ذكروا في الإسنادين الماضيين.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد أنه من خماسيّات المصنّف، وأنه مسلسل بالكوفيين، غير ابن أبي عمر، فعدنيّ، ثم مكيّ.

(1)

"سنن النسائيّ""المجتبى" 6/ 49، و"الكبرى"(4396).

ص: 478

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الأَنْصَارِيِّ) عقبة بن عمرو البدريّ رضي الله عنه أنه (قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ) لا يُعرف اسمه

(1)

. (إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: إِنِّي أُبْدِعَ بِي) قال النوويّ رحمه الله: هو بضم الهمزة، وفي بعض النسخ:"بُدِعَ بي" بحذف الهمزة، وبتشديد الدال، ونقله القاضي عن جمهور رواة مسلم، قال: والأول هو الصواب، والمعروف في اللغة، وكذا رواه أبو داود، وآخرون، بالألف، ومعناه: هَلَكَت دابتي، وهي مركوبي. انتهى

(2)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "إني أُبدع بي"؛ أي: هلكت راحلتي، وانقُطِع بي، وهو رباعيّ، مبنيّ لِمَا لم يُسَمّ فاعله، وقد وقع لبعض الرواة:"بُدِّعَ بي" على وزن فُعِّل مشدد العين، وليس بمعروف في اللغة. انتهى

(3)

.

وقال ابن الأثير رحمه الله: يقال: أُبدعت الناقة: إذا انقطعت عن السير بكَلال، أو ظَلْع، كأنه جعل انقطاعها عما كانت مستمرّة عليه من عادة السير إبداعًا؛ أي: إنشاء أمر خارج عما اعتيد منها. انتهى

(4)

.

(فَاحْمِلْنِي)؛ أي: أعطني ناقة أركبها، وتحملني إلى الجهاد في سبيل الله، (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("مَا عِنْدِي")؛ أي: لا أجد في الوقت الحاضر ما أحملك عليه، (فَقَالَ رَجُلٌ) لا يُعرف اسمه أيضًا، (يَا رَسُولَ اللهِ أَنَا أَدُلُّهُ عَلَى مَنْ يَحْمِلُهُ)؛ أي: يُعطيه ما يركبه (فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ) شرطيّة، ولذا دخلت الفاء في جوابها، (دَلَّ عَلَى خَيْرٍ، فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِ فَاعِلِهِ") قال النوويّ رحمه الله: المراد بمثل أجر فاعله: أن له ثوابًا بذلك الفعل، كما أن لفاعله ثوابًا، ولا يلزم أن يكون قَدْر ثوابهما سواء. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: ما قاله النوويّ من عدم تساوي ثوابهما فيه نظر لا يخفى؛ إذ لا دليل على ذلك، بل ظواهر النصوص تدلّ على التساوي، وقد أجاد القرطبيّ رحمه الله في هذا البحث، ودونك ما قاله:

(1)

راجع: "تنبيه المعلم" ص 239.

(2)

"شرح النوويّ" 13/ 38 - 39.

(3)

"المفهم" 3/ 727.

(4)

"النهاية في غريب الحديث والأثر" ص 67.

ص: 479

قال رحمه الله: ظاهر هذا اللفظ: أن للدَّال من الأجر ما يساوي أجر الفاعل المنفِق، وقد ورد مثل هذا في الشرع كثيرًا، كقوله:"من قال مثل ما يقول المؤذن، كان له مثلُ أجره"، وكقوله فيمن توضأ، وخرجَ إلى الصلاة، فوجد الناس قد صلَّوا:"أعطاه الله من الأجرِ مثل أجر من حضرها، وصلَّاها"، وهو ظاهرُ قوله تعالى:{وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [النساء: 100]، وهذا المعنى يمكنُ أن يقال به، ويصار إليه بدليل أن الثوابَ على الأعمال إنما هو تفضّل من الله تعالى، فيهبه لمن يشاء على أيّ شيءٍ صدر عنه، وبدليل أنَّ النيّة هي أصلُ الأعمال، فإذا صحَّتْ في فعل طاعةٍ، فعجز عنها لمانعٍ مَنَع منها فلا بُعدَ في مساواة أجر ذلك العاجز لأجر القادر الفاعل، أو يزيد عليه، وقد دل على هذا: قوله صلى الله عليه وسلم: "نية المؤمن خير من عمله"

(1)

، ولقوله:"إن بالمدينة أقوامًا، ما سرتم مسيرًا، ولا قطعتم واديًّا إلا كانوا معكم، حَبَسَهُم العذر"، رواه البخاريّ.

وأنَصُّ ما في هذا الباب حديث أبي كبشة الأنماريّ رضي الله عنه الذي قال فيه النبيّ صلى الله عليه وسلم: "إنَّما الدنيا لأربعة نَفَر: رجل آتاه الله تعالى مالًا وعلمًا، فهو يتقي فيه ربَّه، ويَصِل به رَحِمه، ويعلم لله فيه حقًّا، فهذا بأفضل المنازل، ورجل آتاه الله علمًا، ولم يؤته مالًا؛ فهو يقولُ: لو أن لي مالًا لعملت فيه بعَمَلِ فلانٍ، فهو بنيّته، فأجرهما سواء، ورجل آتاه الله مالًا، ولم يؤته علمًا؛ فهو لا يتقي فيه ربَّه، ولا يَصِلُ فيه رَحِمَه، ولا يعلم لله فيه حقًّا، فهذا بأخبث المنازل، ورجل لم يؤته الله مالًا، ولا علمًا؛ فهو يقول: لو أن لي مالًا لعملت فيه بعمل فلان، فهو بنيّته، ووزرهما سواء"

(2)

.

وقد ذهب بعض الأئمة إلى أن المِثْل المذكور في هذه الأحاديث إنما هو بغير تضعيف، قال: لأنه يجتمع في تلك الأشياء أفعال أخر، وأعمال من البر كثيرة، لا يفعلها الدَّال الذي ليس عنده إلا مجرّد النية الحسنة، وقد قال صلى الله عليه وسلم

(1)

حديث ضعيف، راجع:"السلسلة الضعيفة" للشيخ الألبانيّ 5/ 244.

(2)

حديث صحيح، أخرجه الترمذيّ في "جامعه" 4/ 562.

ص: 480

للقاعد: "أيُّكم خَلَف الخارج في أهله وماله بخير فله مِثْل نصف أجر الخارج"، وقال:"لينبعث من كل رجلين أحدهما والأجر بينهما".

قال القرطبيّ: ولا حجة في هذا الحديث لوجهين:

أحدهما: إنا نقول بموجبه، وذلك أنه لم يتناول محل النزاع، فإن المطلوب إنما هو أن الناوي للخير المعَوَّق عنه، هل له مثل أجر الفاعل من غير تضعيف؟ وهذا الحديث إنما اقتضى مشاركةً ومشاطرةً في المضاعَف، فانفصلا.

وثانيهما: أن القائم على مال الغازي، وعلى أهله نائبٌ عن الغازي في عمل لا يتأتى للغازي غزوه إلا بأن يُكْفَى ذلك العمل، فصار كأنه يُباشر معه الغزو، فليس مُقتصرًا على النية فقط، بل هو عامل في الغزو، ولمّا كان كذلك كان له مِثل أجر الغازي كاملًا، وافرًا، مضاعَفًا، بحيث إذا أضيف، ونُسب إلى أجر الغازي كان نصفًا له، وبهذا يجتمعُ معنى قوله صلى الله عليه وسلم:"من خلف غازيًا في أهله بخيرٍ فقد غزا"، وبين معنى قوله في اللفظ الأول:"فله مِثْل نصف أجره"، والله تعالى أعلم.

وعلى هذا يُحْمَل قوله: "والأجر بينهما"، لا أن النائبَ يأخذ نصف أجر الغازي، ويبقى للغازي النصف، فإن الغازيَ لم يطرأ عليه ما يوجبُ تنقيصًا لثوابه، وإنَّما هذا كما قال:"من فطَّر صائمًا كان له مثلُ أجر الصائم، لا ينقصه من أجره شيء"، والله تعالى أعلم.

وعلى هذا فقد صارت كلمةُ "نصف" مقحمةً هنا بين "مثل" و"أجر"، وكأنها زيادةٌ مِمَّن تسامَحَ في إيراد اللفظ، بدليل قوله:"والأجر بينهما"، ويشهد له ما ذكرناه، فَليُتنبَّه له، فإنه حَسَن.

وأمَّا من تحقق عَجْزه، وصدقت نيتُه، فلا ينبغي أن يختَلَف في أن أجره مضاعَف كأجر العامل المباشر؛ لِمَا تقدَّم، ولِمَا خرَّجه النسائيُّ من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أتى فراشه، وهو ينوي أن يقومَ، يصلي من الليل، فغلبته عيناه حتى يصبح، كان له ما نوى، وكان نومُه صدقة عليه". انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(1)

، وسيأتي في شرح حديث زيد بن خالد

(1)

"المفهم" 3/ 727 - 730.

ص: 481

الجهنيّ قريبًا تعقّب الحافظ رحمه الله على كلام القرطبيّ هذا - إن شاء الله تعالى -.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي مسعود الأنصاريّ رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [38/ 4891 و 4892](1893)، و (أبو داود) في "الأدب"(5129)، و (الترمذيّ) في "العلم"(2671)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(20054)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(611)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 120 و 5/ 272 و 273)، و (البخاريّ) في "الأدب المفرد"(242)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(289 و 1668)، و (الطحاويّ) في "مشكل الآثار"(1/ 484)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(17/ 622 و 623 و 624 و 625 و 627 و 628 و 629 و 630 و 631 و 632)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 478)، و (ابن أبي عاصم) في "الجهاد"(1/ 269)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(9/ 28) و"الأدب"(217) و"شعب الإيمان"(6/ 116)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(2625)، و (ابن عبد البرّ) في "جامع بيان العلم وفضله"(1/ 16)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان حرص الصحابة رضي الله عنهم على الخروج في الجهاد في سبيل الله تعالى، ولو بسؤال الناس ما يتجهّزون به.

2 -

(ومنها): ما كان عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم من قلّة العيش، مع أن الله تعالى جعل مفاتيح الخزائن بيده، فقد أخرج الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "بُعثت بجوامع الكلم، ونُصِرت بالرعب، فبينا أنا نائم أُتيت بمفاتيح خزائن الأرض، فوُضعت في يدي"، قال أبو هريرة: وقد ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنتم تنتثلونها.

3 -

(ومنها): فيه فضيلة الدلالة على الخير، والتنبيه عليه، والمساعدة لفاعله.

ص: 482

4 -

(ومنها): أن فيه فضيلةَ تعليم العلم، ووظائف العبادات، لا سيما لمن يَعمل بها من المتعبدين، وغيرهم.

5 -

(ومنها): أن ابن حبّان ترجم في "صحيحه" بقوله: "ذِكْر الخبر الدالّ على أن المؤذّن يكون كأجر من صلى بأذانه"، ثم أورد الحديث محتجًّا به، وهو استنباط حسنٌ، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4892]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ (ح) وَحَدَّثَنِي بِشْرُ بْنُ خَالِدٍ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ (ح) وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، كُلُّهُمْ عَنِ الأَعْمَشِ، بِهَذَا الإِسْنَادِ).

رجال هذا الإسناد: تسعة:

1 -

(عِيسَى بْنُ يُونُسَ) بن أبي إسحاق السبيعيّ، تقدّم قبل أربعة أبواب.

والباقون ذُكروا في الباب، والذي قبله، وقبل بابين.

وقوله: (كُلُّهُمْ عَنِ الأَعْمَشِ)؛ يعني: أن عيسى بن يونس، وشعبة، وسفيان الثوريّ ثلاثتهم رووا هذا الحديث عن الأعمش بإسناده السابق.

[تنبيه]: رواية عيسى بن يونس عن الأعمش، ساقها الطبرانيّ في "المعجم الكبير"، فقال:

(625)

- حدّثنا معاذ بن المثنى، ثنا مسدّد، ثنا عيسى بن يونس، ثنا الأعمش، عن أبي عمرو الشيبانيّ، عن عقبة بن عمرو أبي مسعود، أن رجلًا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: احملني، فقال:"ما أجد ما أحملك، ولكن ائت فلانًا، فلعله أن يحملك"، فأتاه فحمله، فذكر ذلك له، فقال:"من دلّ على خير، فله مثل أجر فاعله". انتهى

(1)

.

وأما رواية شعبة، عن الأعمش، فقد ساقها الترمذيّ في "جامعه"، فقال:

(1)

"المعجم الكبير" 17/ 226.

ص: 483

(2671)

- حدّثنا محمود بن غيلان، حدّثنا أبو داود، أنبأنا شعبة، عن الأعمش، قال: سمعت أبا عمرو الشيبانيّ، يُحَدِّث عن أبي مسعود البدريّ، أن رجلًا أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم يستحمله، فقال: إنه قد أُبْدِع بي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ائت فلانًا"، فأتاه، فحَمَله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من دلّ على خير، فله مِثل أجر فاعله - أو قال -: عامله"، قال أبو عيسى: هذا حديث حسنٌ صحيحٌ. انتهى

(1)

.

وقد ساقها ابن حبّان في "صحيحه" بسند المصنّف، فقال:

(289)

- أخبرنا محمد بن عمر بن يوسف، قال: حدّثنا بشر بن خالد العسكريّ، قال: حدّثنا محمد بن جعفر، قال: حدّثنا شعبة، عن سليمان، قال: سمعت أبا عمرو الشيبانيّ، عن أبي مسعود، قال: أتى رجل النبيّ صلى الله عليه وسلم، فسأله، فقال:"ما عندي ما أعطيك، لكن ائت فلانًا"، قال: فأتى الرجلَ، فأعطاه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من دلّ على خير فله مثل أجر فاعله، أو عامله". انتهى

(2)

.

وأما رواية سفيان الثوريّ، عن الأعمش، فقد ساقها أبو داود رحمه الله في "سننه"، فقال:

(5129)

- حدّثنا محمد بن كثير، أخبرنا سفيان، عن الأعمش، عن أبي عمرو الشيبانيّ، عن أبي مسعود الأنصاريّ، قال: جاء رجل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إني أُبدع بي، فاحملني، قال:"لا أجد ما أحملك عليه، ولكن ائت فلانًا، فلعله أن يَحمِلك"، فأتاه، فحمله، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من دل على خير، فله مثل أجر فاعله". انتهى

(3)

، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4893]

(1894) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، حَدَّثَنَا ثَابِتٌ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ (ح) وَحَدَّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ نَافِعٍ

(1)

"جامع الترمذيّ" 5/ 41.

(2)

"صحيح ابن حبان" 1/ 525.

(3)

"سنن أبي داود" 4/ 333.

ص: 484

- وَاللَّفْظُ لَهُ - حَدَّثَنَا بَهْزٌ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، حَدَّثَنَا

(1)

ثَابِتٌ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ فَتًى مِنْ أَسْلَمَ قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي أُرِيدُ الْغَزْوَ، وَلَيْسَ مَعِي مَا أَتَجَهَّزُ، قَالَ:"ائْتِ فُلَانًا، فَإِنَّهُ قَدْ كَانَ تَجَهَّزَ، فَمَرِضَ"، فَأَتَاهُ، فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُقْرِئُكَ السَّلَامَ، وَيَقُولُ: أَعْطِنِي الَّذِي تَجَهَّزْتَ بِهِ، قَالَ: يَا فُلَانَةُ أَعْطِيهِ الَّذِي تَجَهَّزْتُ بِهِ، وَلَا تَحْبِسِي

(2)

عَنْهُ شَيْئًا، فَوَاللهِ لَا تَحْبِسِي مِنْهُ شَيْئًا، فَيُبَارَكَ لَكِ فِيهِ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) المذكور قبل حديث.

2 -

(عَفَّانُ) بن مسلم بن عبد الله الباهليّ، أبو عثمان الصفّار البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ، إذا شكّ في حرف من الحديث تركه، وربما وَهِمَ، من كبار [10](ت 220)(ع) تقدّم في "المقدمة" 6/ 44.

3 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ نَافِعٍ) محمد بن أحمد بن نافع الْعَبْديّ البصريّ، صدوقٌ، من صغار [10] مات بعد (240)(م ت س) تقدّم في "الإيمان" 12/ 158.

4 -

(بَهْزُ) بن أسد الْعَمّيّ، أبو الأسود البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [9] مات بعد المائتين، وقيل: قبلها (ع) تقدّم في "الإيمان" 3/ 112.

5 -

(حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ) تقدّم قريبًا.

6 -

(ثَابِتُ) بن أسلم البُنانيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

7 -

(أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ) الصحابيّ الشهير رضي الله عنه، تقدّم أيضًا قريبًا.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه طريقان، فرّق بينهما بالتحويل، وكلاهما مسلسل بالبصريين، وفيه أنس رضي الله عنه المشهور بخدمة النبيّ صلى الله عليه وسلم، ومن المكثرين السبعة، ومن المعمّرين، وآخر من مات من الصحابة بالبصرة.

(1)

وفي نسخة: "أخبرنا".

(2)

وفي نسخة: "ولا تحبسين".

ص: 485

شرح الحديث:

(عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ) رضي الله عنه (أَنَّ فَتًى) قال صاحب "التنبيه": لا أعرفه، ولا الذي أتاه، ولا فلانة. انتهى

(1)

. (مِنْ أَسْلَمَ) أبو قبيلة، وهو أسلم بن أفصى بن حارثة بن عمرو بن عامر بن حارثة بن امرئ القيس بن ثعلبة بن مازن بن الأزد، قاله في "اللباب"

(2)

.

ووقع في رواية أحمد بلفظ: "أن فتًى من الأنصار"، فأفاد أن المراد بـ "أسلم" هنا قبيلة من الأنصار، والله تعالى أعلم.

(قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي أُرِيدُ الْغَزْوَ) بفتح الغين المعجمة، وسكون الزاي: مصدر غزا، يقال: غزا غَزْوًا: أراده، وطلبه، وقصده، كاغتزاه، وغزا العدوّ: سار إلى قتالهم، وانتهابهم غَزْوًا، وغَزَوَانًا، وغزاوَةً، قاله المجد رحمه الله

(3)

. (وَلَيْسَ مَعِي مَا أَتَجَهَّزُ)"ما" موصولة، اسم "ليس" مؤخّرًا، وخبرها الظرف قبله، والعائد محذوف؛ أي: به، وفي بعض النسخ:"ما أتجهّز به"، فَذَكر العائد؛ أي: ليس لي شيء أتهيّأ به للسفر للجهاد، قال الفيّوميّ رحمه الله: جَهَازُ السفرِ: أُهْبته، وما يُحتاج إليه في قطع المسافة، بالفتح، وبه قرأ السبعة في قوله تعالى:{فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ} [يوسف: 70]، والكسر لغة قليلة، وجَهَازُ الْعَرُوس، والميت باللغتين أيضًا، يقال: جَهَّزَهُمَا أهلهما بالتثقيل، وجَهَّزْتُ المسافرَ بالتثقيل أيضًا: هَيَّأتُ له جِهازه. انتهى

(4)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: جهاز الغازي: ما يَحتاج إليه في غزوه، من الْعُدّة، والسلاح، والنفقة، وغير ذلك. انتهى

(5)

.

(قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("ائْتِ فُلَانًا) تقدّم أنه لا يُعرف، (فَإِنَّهُ قَدْ كَانَ تَجَهَّزَ)؛ أي: تأهّب للخروج للجهاد (فَمَرِضَ") بكسر الراء، من باب تَعِبَ، قال المجد رحمه الله: الْمَرَضُ: إظلام الطبيعة، واضطرابها بعد صفائها، واعتدالها، يقال: مَرِضَ، كفَرِحَ مَرَضًا - بفتحتين - ومَرْضًا - بفتح، فسكون -، فهو مَرِضٌ ومَرِيضٌ،

(1)

"تنبيه المعلم" ص 329.

(2)

"اللباب في تهذيب الأنساب" 1/ 58.

(3)

"القاموس المحيط" ص 947.

(4)

"المصباح المنير" 1/ 113.

(5)

"المفهم" 3/ 730.

ص: 486

ومارضٌ، جَمْعه مِرَاضٌ، ومَرْضَى، ومَرَاضَى، أو الْمَرْضُ - بفتح، فسكون - للقلب خاصّةً، وبالتحريك، أو كلاهما: الشكُّ، والنفاقُ، والفُتُور، والظُّلْمة، والنقصانُ. انتهى

(1)

.

والمعنى: أن ذلك الرجل مرض بعد أن تجهّز للخروج للجهاد في سبيل الله، مرضًا منعه من الخروج، فأمره صلى الله عليه وسلم أن يدفع جهازه لهذا الرجل؛ لينال أجر من غزا، كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث التالي:"من جهّز غازيًا في سبيل الله، فقد غزا"، ولذا أوصى الرجل امرأته أن لا تحبس من جهازه شيئًا، والله تعالى أعلم.

(فَأَتَاهُ)؛ أي: أتى الرجل الطالب للجهاز الرجلَ الذي تجهّز، فمرض (فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُقْرِئُكَ السَّلَامَ) بضمّ حرف المضارع، من الإقراء، ولا يجوز فتح الياء؛ لأنه لا يتعدّى بنفسه، قال الفيّوميّ رحمه الله: يقال: قرأت على زيد السلامَ أَقْرَؤه عليه قراءةً، وإذا أمرتَ منه قلتَ: اقرَأْ عليه السلام، قال الأصمعيّ، وتَعْدِيَته بنفسه خطأٌ، فلا يقال: اقرَأْهُ السلامَ؛ لأنه بمعنى اتلُ عليه، وحَكَى ابن القطّاع أنه يتعدّى بنفسه رُباعيًّا، فيقال: فلانٌ يُقرئك السلامَ. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن بما ذُكر أن الصواب أن ثلاثيّه يتعدّى بـ "على"، فيقال: فلانٌ يَقْرَأُ عليك السلام بفتح الياء، وأن رباعيّه يتعدّى بنفسه، فيقال: فلان يُقْرئك السلام بضمّ الياء، ولا يجوز العكس، فتنبّه، فكثيرًا ما نسمع الغلط فيه من عوامّ الطلبة، وبالله تعالى التوفيق.

وقد أشرت إلى ما ذكرت بقولي:

وَلَا تَقُلْ يَقْرَؤُكَ السَّلَامَا

بِفَتْحِ يَائِهِ إِذًا تُلَامَا

بَلْ عَدِّهِ بِحَرْفِ جَرٍّ فَقُلِ

عَلَيْكَ يَقْرَأُ السَّلَامَ الْمُعْتَلِي

وَإِنْ تَقُلْ يُقْرِئُكَ السَّلَامَا

بَضَمِّ يَائِهِ فَلَا مَلَامَا

لأَنَّهُ بِنَفْسِهِ مُعَدّى

وَمَنْ يُخَالِفْ مَا مَضَى تَعَدَّى

(وَيَقُولُ: أَعْطِنِي الَّذِي تَجَهَّزْتَ بِهِ) قال النوويّ رحمه الله: فيه فضيلة الدلالة

(1)

"القاموس المحيط" ص 1217 - 1218 بزيادة بعض الإيضاح.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 502.

ص: 487

على الخير، وفيه أن ما نوى الإنسان صرفه في جهة بِرّ، فتعذرت عليه تلك الجهة، يُستحب له بَذْله في جهة أخرى من البرّ، ولا يلزمه ذلك ما لم يلتزمه بالنذر. انتهى

(1)

.

(قَالَ) الرجل لامرأته ممتثلًا أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم له، (يَا فُلَانَةُ) تقدّم أنها لا تُعرف، (أَعْطِيهِ الَّذِي تَجَهَّزْتُ بِهِ) وفي رواية أحمد:"ادفعي إليه ما جهّزتني به"، (وَلَا تَحْبِسِي عَنْهُ شَيْئًا)؛ أي: لا تنقصي من ذلك الجَهاز شيئًا لا كثيرًا، ولا قليلًا، بل أعطيه كلّه، و"لا" ناهيّة، ولذا جُزم الفعل بعدها بها فحُذِفت نونه، ووقع في بعض النسخ:"ولا تحبسين منه شيئًا" بإثبات نون الرفع، وعليها فـ "لا" نافية، والجملة في محلّ نصب حال من الفاعل. (فَوَاللهِ لَا تَحْبِسِي مِنْهُ شَيْئًا، فَيُبَارَكَ لَكِ فِيهِ) بنصب "يبارك" بـ "أن" مضمرة بعد الفاء السببيّة الواقعة في جواب النهي، كما قال في "الخلاصة":

وَبَعْدَ فَا جَوَابِ نَفْيٍ أَوْ طَلَبْ

مَحْضَيْنِ "أَنْ" وَسَتْرُهُ حَتْمٌ نَصَبْ

والفعل مبنيّ للمفعول، ووقع عند أبي داود بلفظ:"فيبارك الله لك فيه"، فالفعل فيه مبنيّ للفاعل، فتنبّه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أنس بن مالك رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [38/ 4893](1894)، و (أبو داود) في "الجهاد"(2780)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 207)، و (ابن أبي عاصم) في "الجهاد"(1/ 324)، و (عبد بن حميد) في "مسنده"(1/ 395)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4730)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(9/ 28)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(3309)، والله تعالى أعلم.

(1)

"شرح النوويّ" 13/ 39.

ص: 488

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4894]

(1895) - (وَحَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَأَبُو الطَّاهِرِ، قَالَ أَبُو الطَّاهِرِ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، وَقَالَ سَعِيدٌ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ بُكَيْرِ بْنِ الأَشَجِّ، عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، أَنَّهُ قَالَ: "مَنْ جَهَّزَ غَازِيًا فِي سَبِيلِ اللهِ، فَقَدْ غَزَا، وَمَنْ خَلَفَهُ فِي أَهْلِهِ بِخَيْرٍ، فَقَدْ غَزَا").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ) الْخُراسانيّ، ثم المكيّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(أَبُو الطَّاهِرِ) أحمد بن عمرو بن عبد الله بن عمرو بن السرح المصريّ، ثقةٌ [10](ت 250)(م د س ق ق) تقدّم في "المقدمة" 3/ 10.

3 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْبٍ) المصريّ الحافظ، تقدّم قريبًا.

4 -

(عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ) بن يعقوب الأنصاريّ مولاهم، أبو أيوب المصريّ، ثقةٌ فقيهٌ حافظٌ [7] مات قبل (150)(ع) تقدّم في "الإيمان" 16/ 169.

5 -

(بُكَيْرُ بْنُ الأَشَجِّ) هو: بُكير بن عبد الله بن الأشجّ المخزوميّ مولاهم، أبو عبد الله، أو أبو يوسف المدنيّ، نزيل مصر، ثقةٌ [5](ت 120) أو بعدها (ع) تقدّم في "الطهارة" 4/ 554.

6 -

(بُسْرُ بْنُ سَعِيدٍ) المدنيّ العابد مولى ابن الحضرميّ، ثقةٌ جليلٌ [2](ت 100)(ع) تقدّم في "الصلاة" 31/ 1001.

7 -

(زَيْدُ بْنُ خَالِدٍ الْجُهَنِيُّ) المدنيّ الصحابيّ المشهور، مات بالكوفة سنة ثمان وستّين، أو سبعين، وله خمس وثمانون سنةً (ع) تقدّم في "الإيمان" 34/ 238.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وأن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ مخضرم.

شرح الحديث:

(عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ) رضي الله عنه (عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، أَنَّهُ قَالَ: "مَنْ جَهَّزَ غَازِيًا)؛ أي: هيّأ له أسباب سفره، أو أعطاه عُدّة الغزو، ومنه تجهيز العروس،

ص: 489

وتجهيز الميت، (فِي سَبِيلِ اللهِ)؛ أي: لأجل إعلاء كلمة الله عز وجل، (فَقَدْ غَزَا) قال ابن حبان رحمه الله معناه: أنه مِثله في الأجر، وإن لم يَغْزُ حقيقةً، ثم أخرجه بلفظ:"كُتِب له مثلُ أجره، غير أنه لا ينقص من أجره شيء"، ولابن ماجه، وابن حبان من حديث عُمر رضي الله عنه نحوه، بلفظ:"من جهّز غازيًا حتى يستقلّ، كان له مِثل أجره حتى يموت، أو يرجع"؛ أي: يستوي معه في الأجر إلى انقضاء غزوه بموته، أو فراغ الوَقْعة، فالوعد مرتَّب على تمام التجهيز المشار إليه بقوله:"حتى يستقلّ"، وعلى انقضاء الغزو، وذهب بعضهم إلى أن المراد بالأخبار الواردة بمثل ثواب الفعل حصول الأجر بغير تضعيف، وأن التضعيف يختص بالمباشرة، والأول هو الصحيح، وهل هذا الثواب مقصور على من جَهَّز من لا يستطيع الجهاد، أو عامّ؟ احتمالان: أرجحهما الثاني، ومِثْل المجهِّز: المُعِين، وأفاد قوله:"يستقلّ" أنه لو جهز بعضًا وترك بعضًا لا يحصل له الثواب الموعود، بل له بقَدْر ما جَهَّز، وكذا جميع الطاعات من أعان عليها، كان له مِثلها، كما ذكره بعضهم، أفاد المناويّ

(1)

.

وقال في "الفتح": وأفادت هذه الرواية - يعني: رواية حتى يستقلّ. . . إلخ" - فائدتين:

إحداهما: أن الوعد المذكور مُرَتَّبٌ على تمام التجهيز، وهو المراد بقوله: "حتى يستقلّ.

ثانيهما: أنه يستوي معه في الأجر إلى أن تنقضي تلك الغزوة، وأما ما يأتي من حديث أبي سعيد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بَعَث بعثًا، وقال:"ليخرج من كل رجلين رجل، والأجر بينهما"، وفي رواية له:"ثم قال للقاعد: وأيكم خَلَف الخارج في أهله وماله بخير كان له مِثل نصف أجر الخارج"، ففيه إشارة إلى أن الغازي إذا جَهَّز نفسه، أو قام بكفاية من يخلفه بعده كان له الأجر مرتين.

وقال القرطبيّ: لفظة "نصف" يُشبه أن تكون مقحمةً؛ أي: مَزيدة من بعض الرواة، وقد احتَجّ بها من ذهب إلى أن المراد بالأحاديث التي وردت

(1)

"فيض القدير" 6/ 114.

ص: 490

بمثل ثواب الفعل: حصول أصل الأجر له بغير تضعيف، وأن التضعيف يَختصّ بمن باشر العمل، قال القرطبيّ: ولا حجة له في هذا الحديث؛ لوجهين:

أحدهما: أنه لا يتناول محل النزاع؛ لأن المطلوب إنما هو أن الدالّ على الخير مثلًا هل له مثل أجر فاعله مع التضعيف، أو بغير تضعيف؟ وحديث الباب إنما يقتضي المشاركة، والمشاطرة، فافترقا.

ثانيهما: ما تقدم من احتمال كون لفظة "نصف" زائدة.

وتعقّبه الحافظ رحمه الله، فقال: ولا حاجة لدعوى زيادتها بعد ثبوتها في "الصحيح"، والذي يظهر في توجيهها أنها أُطلقت بالنسبة إلى مجموع الثواب الحاصل للغازي والخالف له بخير، فإن الثواب إذا انقسم بينهما نصفين كان لكل منهما مِثل ما للآخر، فلا تعارض بين الحديثين، وأما من وُعد بمثل ثواب العمل، وإن لم يعمله، إذا كانت له فيه دلالةٌ، أو مشاركةٌ، أو نية صالحةٌ، فليس على إطلاقه في عدم التضعيف لكل أحد، وصَرْفُ الخبر عن ظاهره يَحتاج إلى مستند، وكأن مستند القائل أن العامل يباشر المشقّة بنفسه، بخلاف الدالّ ونحوه، لكن من يجهّز الغازي بماله مثلًا، وكذا من يخلُفه فيمن يترك بعده يباشر شيئًا من المشقّة أيضًا، فإن الغازي لا يتأتى منه الغزو إلا بعد أن يُكْفَى ذلك العمل، فصار كأنه يباشر معه الغزو، بخلاف من اقتصر على النية مثلًا. انتهى كلام الحافظ

(1)

، وهو بحث حسنٌ، والله تعالى أعلم.

(وَمَنْ خَلَفَهُ فِي أَهْلِهِ) بتخفيف اللام، يقال: خلفتُ الرجلَ في أهله، من باب نصر: إذا قُمت بعده فيهم، وقُمت عنه بما كان يفعله، أفاده ابن الأثير

(2)

.

وقال البيضاويّ: يقال: خَلَفه في أهله: إذا قام مقامه في إصلاح حالهم، ومحافظة أمرهم؛ أي: من تولّى أمر الغازي، وناب منابه في مراعاة أهله زمان غيبته، شاركه في الثواب؛ لأن تفرّغ الغازي لغزوه، واشتغاله به بسبب قيامه بأمر عياله، فكأنه مسبّب من فعله. انتهى

(3)

.

(1)

"الفتح" 7/ 111 - 112، كتاب "الجهاد" رقم (2843).

(2)

"النهاية في غريب الحديث والأثر" ص 280.

(3)

"الكاشف عن حقائق السنن" 8/ 2630.

ص: 491

(بِخَيْرٍ)؛ أي: بالإحسان إليهم بما كان يُحسنه هو حين كان معهم، (فَقَدْ غَزَا")؛ أي: فقد نال أجر الغزو، قال النوويّ رحمه الله: قوله: "فقد غزا"؛ أي: حصل له أجر بسبب الغزو، وهذا الأجر يحصل بكل جهاد، وسواء قليله وكثيره، ولكلِّ خالِف له في أهله بخير، من قضاء حاجة لهم، وإنفاق عليهم، أو مساعدتهم في أمرهم، ويَختلف قدر الثواب بقلّة ذلك وكثرته، وفي هذا الحديث الحثّ على الإحسان إلى من فَعَل مصلحة للمسلمين، أو قام بأمر من مهماتهم. انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث زيد بن خالد الْجُهَنيّ رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [38/ 4894 و 4895](1895)، و (البخاريّ) في "الجهاد"(2483)، و (أبو داود) في "الجهاد"(2509 و 2510)، و (الترمذيّ) في "فضائل الجهاد"(1628)، و (النسائيّ) في "الجهاد"(6/ 46) و"الكبرى"(2/ 256)، و (ابن ماجه) في "الجهاد"(2759)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(956)، و (الحميديّ) في "مسنده"(818)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 15 و 4/ 114 و 115 و 116 و 117 و 5/ 193)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 209)، و (سعيد بن منصور) في "سننه"(2326 و 2328)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(3/ 277)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4630 و 4631 و 4632 و 4633)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(1037 و 1038)، و (عبد بن حُميد) في "مسنده"(1/ 117)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(1/ 253)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 479)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(5225 و 5226 و 5227 و 5228 و 5229 و 5230 و 5231 و 5232 و 5233 و 5234) و"الأوسط"(7/ 351) و"الصغير"(836)، و (ابن أبي عاصم) في "الجهاد"(1/ 284 و 285 و 286)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 240 و 9/ 28 و 47 و 172)، والله تعالى أعلم.

ص: 492

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4895]

(. . .) - (حَدَّثَنَا أَبُو الرَّبِيعِ الزَّهْرَانِيُّ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ - يَعْنِي: ابْنَ زُرَيْعٍ - حَدَّثَنَا حُسَيْنٌ الْمُعَلِّمُ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ، قَالَ: قَالَ نَبِيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَن جَهَّزَ غَازِيًا فَقَدْ غَزَا، وَمَنْ خَلَفَ غَازِيًا فِي أَهْلِهِ فَقَدْ غَزَا").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(أَبُو الرَّبِيعِ الزَّهْرَانِيُّ) سليمان بن داود الْعَتَكيّ البصريّ، نزيل بغداد، ثقةٌ [10](ت 234)(خ م د س) تقدّم في "الإيمان" 23/ 190.

2 -

(يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ) الْعَيْشيّ، أبو معاوية البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 182)(ع) تقدّم في "الإيمان" 7/ 132.

3 -

(حُسَيْنٌ الْمُعَلِّمُ) ابن ذكوان الْعَوْذيّ البصريّ، ثقةٌ، ربّما وَهِمَ [6](ت 145)(ع) تقدّم في "الإيمان" 19/ 179.

4 -

(يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ) صالح بن المتوكّل البصريّ، ثمّ اليماميّ، ثقةٌ ثبتٌ، يُدلّس، ويرسل [5](ت 132) أو قبل ذلك (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 424.

5 -

(أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بن عوف الزهريّ المدنيّ، قيل: اسمه عبد الله، وقيل: إسماعيل، ثقةٌ فقيهٌ مكثرٌ [3](ت 94)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 423.

والباقيان ذُكرا قبله.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد تقدّم شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، ولله الحمد والمنّة.

والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4896]

(1896) - (وَحَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْمُبَارَكِ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ، حَدَّثَنِي أَبُو سَعِيدٍ مَوْلَى الْمَهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ بَعْثًا إِلَى بَنِي لِحْيَانَ - مِنْ هُذَيْلٍ - فَقَالَ: "لِيَنْبَعِثْ مِنْ كُلِّ رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا، وَالأَجْرُ بَيْنَهُمَا").

ص: 493

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) تقدّم قبل بابين.

2 -

(إِسْمَاعِيلُ ابْنُ عُلَيَّةَ) هو ابن إبراهيم بن مِقْسم الأسديّ مولاهم، أبو بِشْر البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [8](ت 193) تقدّم في "المقدمة" 2/ 3.

3 -

(عَلِيُّ بْنُ الْمُبَارَكِ) الْهُنَائيّ البصريّ، ثقةٌ كان له عن يحيى بن أبي كثير كتابان، أحدهما سماع، والآخر إرسال، فحديث الكوفيين عنه فيه شيء، من كبار [7](ع) تقدّم في "الإيمان" 79/ 417.

4 -

(يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ) المذكور في السند الماضي.

5 -

(أَبُو سَعِيدٍ مَوْلَى الْمَهْرِيِّ) ثقةٌ

(1)

[3](م د ت س) تقدّم في "الحج" 83/ 3337.

6 -

(أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ) سعد بن مالك رضي الله عنهما، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه أبو سعيد رضي الله عنه الصحابيّ ابن الصحابيّ، من المكثرين السبعة، روى (1170) حديثًا.

شرح الحديث:

(عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْمُبَارَكِ) الْهُنائيّ (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ) اسم أبيه صالح بن المتوكّل، (حَدَّثَنِي أَبُو سَعِيدٍ) مشهور بكنيته، لا يُعرف له اسم، (مَوْلَى الْمَهْرِيِّ)

(2)

- بفتح الميم، وإسكان الهاء -: نسبة إلى مَهْرَة بن حيدان بن

(1)

فقوله في "التقريب" مقبول غير مقبول، فقد روى عنه جماعة، ووثقه العجليّ، وابن حبّان، وأخرج له مسلم، ولم يجرحه أحد، راجع ترجمته في:"تهذيب التهذيب"، وغيره، والله تعالى أعلم.

(2)

من غريب ما رأيته ما وقع في شرح الشيخ الهرريّ أنه ذكر ما ذكره النوويّ من كون اسم أبي سعيد سالم بن عبد الله تبعًا للنووي، وأغرب منه أنه قال بعده: وأما المهريّ فاسمه رشدين بن سعد، ثم أورد ترجمة رشدين بن سعد، ولا وجود لرشدين بن سعد في هذا الحديث، فهذا غلط بلا شكّ، فتنبّه، وبالله تعالى التوفيق.

ص: 494

عمرو بن إلحاف بن قُضاعة، قبيلة كبيرة، قاله في "اللباب"

(1)

.

[تنبيه]: قال النوويّ رحمه الله: أبو سعيد مولى المهريّ، هو بالراء، واسمه سالم بن عبد الله، أبو عبد الله النَّصْريُّ، بالنون المدنيّ، مولى شداد بن الهادي، ويقال: مولى مالك بن أوس بن الْحَدَثان، ويقال: مولى دَوْس، ويقال له: سالم سَبَلان - بالسين المهملة، والباء الموحدة المفتوحتين - وهو سالمٌ الْبَرّد - بالراء، وآخره دال - وهو سالم مولى النصريين - بالنون - وهو أبو عبد الله، مولى شداد، وهو سالمٌ، أبو عبد الله المدينيّ، وهو سالمٌ، مولى مالك بن أوس، وهو سالم مولى المهريين، وهو سالم مولى دَوْس، وهو سالمٌ، أبو عبد الله الدَّوْسيّ، ولسالم هذا نظائر في هذا، وهو أن يكون للإنسان أسماء، أو صفات، وتعريفات، يعرفه كل إنسان بواحد منها، وصنّف الحافظ عبد الغنيّ بن سعيد المصريّ في هذا كتابًا حسنًا، وصنّف فيه غيره. انتهى كلام النوويّ رحمه الله

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: هكذا صرّح النوويّ بأن أبا سعيد مولى الْمَهْريّ هذا هو سالم بن عبد الله النصريّ، وهذا غريبٌ، بل الصواب أنه غيره، كما هو في كتب الرجال، والأطراف، فإن الحافظ المزيّ رحمه الله ترجم لأبي سعيد مولى المهريّ هذا في "تهذيب الكمال"(33/ 359) وبيّن أن مسلمًا روى له حديثين، ورمز له (م د ت س)، وقد ترجم قبل ذلك لسالم مولى النصريين في (10/ 154 - 155) ورمز له (م د س ق) وكذا فعل الحافظ في "تهذيب التهذيب" ترجم لكل منهما ترجمة مستقلّة

(3)

، ولم يذكر الحافظان قولًا باتّحادهما.

وكذا فعل المزيّ رحمه الله في "تحفة الأشراف" فإنه أورد ترجمة أبي سعيد مولى المهريّ، عن أبي سعيد الخدريّ في (3/ 488 - 490) وأورد له روايته عنه عند مسلم حديثين فقط، حديث الباب، وحديث تقدّم في "فضائل المدينة"،

(1)

"اللباب في تهذيب الأنساب" 3/ 275.

(2)

"شرح النوويّ" 13/ 41.

(3)

راجع: "تهذيب التهذيب" 1/ 677 و 4/ 529، و"التقريب" ص 115 و 408.

ص: 495

ولم يورد ترجمة لسالم مولى النصريّ عن أبي سعيد الخدريّ؛ لأنه لا رواية عنه عند مسلم، وإنما روى عنده عن أبي هريرة

(1)

، وعائشة

(2)

فقط.

والحاصل أن أبا سعيد مولى المهريّ هذا غير سالم مولى النصري، فتفطّن، والله تعالى وليّ التوفيق.

(عَنْ أَبِي سَعِيدٍ) سعد بن مالك بن سِنان رضي الله عنهما (الْخُدْرِيِّ) بضمّ الخاء المعجمة، وإسكان الدال المهملة: نسبة إلى خُدْرة، واسمه الأبجر بن عوف بن الحارث بن الخزرج بن حارثة، قبيلة من الأنصار، قاله في "اللباب"

(3)

. (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ)؛ أي: أرسل، يقال: بَعَثه، كمنعه: أرسله، كابتعثه، فانبعث، وبعثَ الناقة: أثارها، وبعث فلانًا من منامه: أَهَبّه، قاله المجد رحمه الله

(4)

.

وقال الفيّوميّ رحمه الله: بَعَثْتُ رسولًا بَعْثًا: أرسلته، وابْتَعَثْتُهُ كذلك، وفي المطاوعِ فَانْبَعَثَ، مثل كَسَرته فانكسر، وكلّ شيء يَنْبَعِثُ بنفسه، فإن الفعل يتعدى إليه بنفسه، فيقال: بَعَثْتُهُ، وكلّ شيء لا ينبعث بنفسه، كالكتاب، والهدية، فإن الفعل يتعدى إليه بالباء، فيقال: بَعَثْتُ بِهِ، وأوجز الفارابيّ، فقال: بَعَثَهُ؛ أي: أَهَبّه، وبَعَثَ بِهِ: وجّهه. انتهى

(5)

. (بَعْثًا) - بفتح الموحّدة، وسكون العين المهملة، وبفتحتين أيضًا - الجيش، جمع بُعُوثٌ، أفاده المجد

(6)

، وقال الفيّومي رحمه الله: البَعْثُ: الجيش تسميةً بالمصدر، والجمع: البُعُوثُ. انتهى

(7)

. (إِلَى بَنِي لِحْيَانَ) قال النوويّ رحمه الله: - بكسر اللام،

(1)

له عن أبي هريرة عند مسلم حديثان فقط: حديث: "من سمع رجلًا، يُنشد ضالًا. . ." تقدّم برقم (568)، وحديث:"اللهم إنما محمد بشر يغضب كما يغضب البشر. . ." سيأتي برقم (2601) رقم الأستاذ محمد محمد فؤاد رحمه الله.

(2)

له عنها عند مسلم حديث واحد "ويلٌ للأعقاب من النار" تقدّم برقم (240) رقم الأستاذ محمد فؤاد رحمه الله.

(3)

"اللباب في تهذيب الأنساب" 1/ 426.

(4)

"القاموس المحيط" ص 116.

(5)

"المصباح المنير" 1/ 52.

(6)

"القاموس المحيط" ص 116.

(7)

"المصباح المنير" 1/ 52.

ص: 496

وفتحها، والكسر أشهر -، وقد اتَّفق العلماء على أن بني لحيان كانوا في ذلك الوقت كفّارًا، فبعث إليهم بَعْثًا يغزونهم، وقال لذلك البعث:"ليخرج من كل قبيلة نصف عددها"، وهو المراد بقوله:"من كل رجلين أحدهما"، وأما كون الأجر بينهما فهو محمول على ما إذا خلف المقيم الغازي في أهله بخير، كما شرحناه قريبًا، وكما صُرِّح به في باقي الأحاديث. انتهى

(1)

.

(مِنْ هُذَيْلٍ)؛ يعني: أن بني لحيان قبيلة من شعبة من هُذيل بصيغة التصغير، وهو هُذيب بن مُدركة بن إلياس بن مضر بن نِزَار بن معدّ بن عدنان، قاله في "اللباب"

(2)

، وقال أيضًا: لحيان بن هُذيل بن مُدركة بن إلياس بن مضر. انتهى

(3)

. (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("لِيَنْبَعِثْ)؛ أي: ليَنْهَض، وليخرج، ويذهب إلى الغزو.

فقوله: "فقال: لينبعث" معطوف على محذوف؛ أي: أراد أن يبعث بعثًا، فقال: لينبعث. . . إلخ

(4)

.

(مِنْ كُلِّ رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا)؛ أي: ويخلفه الآخر في أهله بخير، كما قال في الرواية الآتية:"ثُمَّ قَالَ لِلْقَاعِدِ: أَيُّكُمْ خَلَفَ الْخَارِجَ فِي أَهْلِهِ، وَمَالِهِ بِخَيْرٍ، كَانَ لَهُ مِثْلُ نِصْفِ أَجْرِ الْخَارِجِ"، وتقدّم أن المعنى: ليخرج من كلّ قبيلة نصفها، (وَالأَجْرُ بَيْنَهُمَا")؛ أي: يكون الأجر بين الغازي، والباقي إذا قام على أهله بخير، وهذا فيه أن أجرهما سواء، وقوله في الرواية الأخرى:"مِثل أجر الخارج" يقتضي أن للقاعد نصف أجر الخارج، لا مِثله، وتقدّم أن المراد بالنصف: نصف مجموع الأجرين؛ لأنه إذا جُمع أجراهما، ثم قُسم بينهما كان نصيب أحدهما نصفًا للمجموع، وهو في ذاته كامل، ويَحْتَمل أن يكون النصف للقاعد حقيقةً، فلا يساوي الخارج؛ لأنه يتحمّل المشقة أكثر منه، والتوجيه الأول أولى، وأقرب؛ لأن القاعد يتحمّل أيضًا المشقّة بقيامه على أهل الخارج

(1)

"شرح النوويّ" 13/ 40.

(2)

"اللباب في تهذيب الأنساب" 3/ 383.

(3)

"اللباب في تهذيب الأنساب" 3/ 129.

(4)

راجع: "الكاشف عن حقائق السنن" 8/ 2632.

ص: 497

وخدمتهم، فتفطّن، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [38/ 4896 و 4897 و 4898 و 4899](1896)، و (أبو داود) في "الجهاد"(2510)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(2204)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(7/ 391)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 34 - 35 و 55)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4729)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(4/ 44)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 480)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(2/ 464)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(1/ 259)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(9/ 40 و 48)، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4897]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِيهِ إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ - يَعْنِي: ابْنَ عَبْدِ الْوَارِثِ - قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي يُحَدِّثُ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، عَنْ يَحْيَى، حَدَّثَنِي أَبُو سَعِيدٍ مَوْلَى الْمَهْرِيِّ، حَدَّثَنِي أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ بَعْثًا، بِمَعْنَاهُ)

(1)

.

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ) الْكَوْسَج التميميّ، أبو يعقوب المروزيّ، ثقةٌ ثبتٌ [11](ت 251)(خ م ت س ق) تقدّم في "الإيمان" 12/ 156.

2 -

(عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَبْدِ الْوَارِثِ) الْعَنْبريّ مولاهم، أبو سهل التَّنُّوريّ البصريّ، ثقةٌ ثَبْتُ في شُعبة [9](ت 207)(ع) تقدّم في "المقدمة" 6/ 82.

3 -

(أَبُوهُ) عبد الوارث بن سعيد بن ذكوان الْعَنْبريّ مولاهم، أبو عُبيدة التَّنُّوريّ البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ، رُمي بالقدر، ولم يثبُت عنه [8](ت 180)(ع) تقدّم في "الإيمان" 18/ 176.

(1)

وفي نسخة: "بعث بعثًا، فذكر بمثله".

ص: 498

والباقون ذُكروا في الإسنادين الماضيين، و"الحسين" هو: ابن ذكوان المعلّم المذكور قبل حديث.

وقوله: (بَعَثَ بَعْثًا) قال الطيبيّ رحمه الله: الْبَعْث: إثارة الشيء، وتوجيهه، يقال: بعثه، فانبعث، وقد يُسمّى الجيش بعثًا؛ لأنه ينبعث، ثم يجتمع. انتهى

(1)

.

[تنبيه]: رواية عبد الحسين المعلّم، عن يحيى بن أبي كثير هذه ساقها أبو عوانة رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(7409)

- حدّثنا الصغانيّ، قال: ثنا رَوْح بن عُبادة، قثنا حسين المعلِّم، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سعيد مولى الْمَهْريّ، عن أبي سعيد الخدريّ، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثًا إلى بني لحيان، وقال:"لينبعث من كل رجلين واحد، والأجر بينهما". انتهى

(2)

.

والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4898]

(. . .) - وَحَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللهِ - يَعْنِي: ابْنَ مُوسَى - عَنْ شَيْبَانَ، عَنْ يَحْيَى، بِهَذَا الإِسْنَادِ مِثْلَهُ).

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُوسَى) بن أبي المختار باذام الْعَبْسيّ، أبو محمد الكوفيّ، ثقةٌ يتشيّع [9](ت 213) على الصحيح (خ م د س ق) تقدّم في "الإيمان" 4/ 118.

2 -

(شَيْبَانُ) بن عبد الرحمن التميميّ مولاهم النحويّ، أبو معاوية البصريّ، ثم الكوفيّ، ثقةٌ صاحب كتاب [7](ت 164)(ع) تقدّم في "الإيمان" 4/ 118.

والباقيان ذُكرا قبله، و"يحيى" هو: ابن أبي كثير.

[تنبيه]: رواية شيبان بن عبد الرحمن، عن يحيى بن أبي كثير هذه ساقها ابن الجارود في "المنتقى"، فقال:

(1)

"الكاشف عن حقائق السنن" 8/ 2632.

(2)

"مسند أبي عوانة" 4/ 480.

ص: 499

(1038)

- حدّثنا محمد بن يحيى، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا شيبان، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سعيد مولى المهريّ، عن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بَعَث جُندًا إلى بني لحيان، قال:"لينبعث من كل رجلين أحدهما، والأجر بينهما". انتهى

(1)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4899]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ مَوْلَى الْمَهْرِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ إِلَى بَنِي لَحْيَانَ: "لِيَخْرُجْ مِنْ كُلِّ رَجُلَيْنِ رَجُلٌ"، ثُمَّ قَالَ لِلْقَاعِدِ: "أَيُّكُمْ خَلَفَ الْخَارِجَ في أَهْلِهِ، وَمَالِهِ بِخَيْرٍ، كَانَ لَهُ مِثْلُ نِصْفِ أَجْرِ الْخَارِجِ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ) واسمه سُويد، أبو رجاء المصريّ، ثقةٌ فقيهٌ يُرسل [5](ت 128) وقد قارب الثمانين (ع) تقدّم في "الإيمان" 16/ 168.

2 -

(يَزِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ مَوْلَى الْمَهْرِيِّ) المدنيّ، صدوقٌ

(2)

[6].

رَوَى عن أبيه، وعمر بن عبد العزيز، وعنه يزيد بن أبي حبيب، ورَباح بن بشير بن مُحْرِز، وذكره ابن حبان في "الثقات".

تفرّد به المصنّف، وأبو داود، وليس له في هذا الكتاب غير هذا الحديث.

والباقون ذُكروا في الباب.

وقوله: (كَانَ لَهُ مِثْلُ نِصْفِ أَجْرِ الْخَارِجِ) أن الأَولى في الجمع بينه وبين قوله السابق: "والأجر بينهما" أن المراد: نصف مجموع الأجرين، لا أن الأجر الواحد ينصّف، فتنبّه.

والحديث تقدّم تمام شرحه، وبيان مسائله قبله، ولله الحمد والمنّة.

(1)

"المنتقى لابن الجارود" 1/ 259.

(2)

هذا أَولى من قول "التقريب": مقبول؛ لأنه روى عنه اثنان، ووثّقه ابن حبّان، وأخرج له مسلم هنا، فأقل أحواله أن يكون صدوقًا، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

ص: 500

(39) - (بَابُ حُرْمَةِ نِسَاءِ الْمُجَاهِدِينَ، وَإِثْمِ مَنْ خَانَهُمْ فِيهِنَّ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4900]

(1897) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ مَرْثَدٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبيهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "حُرْمَةُ نِسَاءِ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ، كَحُرْمَةِ أُمَّهَاتِهِمْ، وَمَا مِنْ رَجُلٍ مِنَ الْقَاعِدِينَ يَخْلُفُ رَجُلًا مِنَ الْمُجَاهِدِينَ في أَهْلِهِ، فَيَخُونُهُ فِيهِمْ، إِلَّا وُقِفَ

(1)

لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيَأْخُذُ مِنْ عَمَلِهِ مَا شَاءَ، فَمَا ظَنُّكُمْ؟ ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عَلْقَمَةُ بْنُ مَرْثَدٍ) الْحَضْرميّ، أبو الحارث الكوفيّ، ثقةٌ [6](ع) تقدم في "الطهارة" 25/ 648.

2 -

(سُلَيْمَانُ بْنُ بُرَيْدَةَ) الأسلميّ المروزيّ قاضيها، ثقةٌ [3](105) وله تسعون سنةً (م 4) تقدم في "الطهارة" 25/ 648.

3 -

(أَبُوهُ) بُريدة بن الْحُصيب الأسلميّ، أبو عبد الله، وقيل غيره، الصحابيّ الشهير، أسلم قبل بدر، ومات رضي الله عنه سنة (63)(ع) تقدم في "الإيمان" 100/ 533.

والباقون تقدّموا قبل ثلاثة أبواب.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من سُداسيّات المصنّف، وأنه مسلسل بالكوفيين إلى علقمة، والباقيان مروزيّان، وفيه رواية الراوي عن أبيه.

شرح الحديث:

(عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ) الأسلميّ (عَنْ أَبِيهِ) بُريدة رضي الله عنه، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "حُرْمَةُ) - بضم الحاء المهملة، وسكون الراء - مبتدأ، خبره "كتحريم أمهاتهم"؛ أي: تحريم (نِسَاءِ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ)؛ أي: الذين

(1)

وفي نسخة: "وُقِّف" بتشديد القاف.

ص: 501

تخلّفوا عن الجهاد لعذر، أو غيره، (كَحُرْمَةِ أُمَّهَاتِهِمْ)؛ أي: مثل تحريم أمهاتهم عليهم، وهذا من باب التشديد، وإلا فحرمة الأمهات مؤبّدة، دون حرمة نساء المجاهدين.

قال القرطبيّ رحمه الله: يعني أنه يجب على القاعدين من احترامهنّ، والكفّ عن أذاهنّ، والتعرّض لهنّ ما يجب عليهم في أمهاتهم. انتهى

(1)

.

وقال النوويّ رحمه الله: هذا في شيئين: أحدهما: تحريم التعرّض لهنّ بريبة، من نَظَر محرّم، وخلوة، وحديث محرّم، وغير ذلك، والثاني: في برّهنّ، والإحسان إليهنّ، وقضاء حوائجهنّ التي لا يترتّب عليها مفسدة، ولا يُتوصّل بها إلى ريبة، ونحوها. انتهى

(2)

.

(وَمَا مِنْ رَجُلٍ يَخْلُفُ) - بضمّ اللام - من باب قعد: أي يصير يعقبه، وقال السنديّ: يَحْتَمِل أنه مِن خَلَفه: إذا نابه، أو مِن خَلَفَه: إذا جاء بعده، وهما من حدّ نصر، وذلك لأن الخائن في الأهل كالنائب للأصل، وقد جاء بعده في الأهل. انتهى

(3)

. (رَجُلًا مِنَ الْمُجَاهِدِينَ في أَهْلِهِ)؛ أي: في امرأته، (فَيَخُونُهُ فِيهِمْ) قال الطيبيّ رحمه الله: الضمير المفعول عائد إلى "رجلًا"، وفي "فيهم" إلى الأهل؛ تعظيمًا، وتفخيمًا لشأنهنّ، كقول الشاعر:

وَإِنْ شِئْتُ حَرَّمْتُ النِّسَاءَ سِوَاكُمُ

فإنهنّ ممن تجب مراعاتهنّ، وتوقيرهنّ، وإلى هذا المعنى أشار صلى الله عليه وسلم بقوله:"كحرمة أمهاتهم". انتهى

(4)

.

وقال بعضهم: الخيانة تكون بوجهين: إما بالتعرّض بنظر محرّم، وأمثاله، وإما بعدم دفع احتياجاتهم، والتساهل في تدبير مصالحهم، وهما حرام عليه. انتهى.

(إِلَّا وُقِفَ) بالبناء للمفعول، من الوقوف؛ أي: جُعل الخائن واقفًا، ووقع في بعض النسخ:"وُقّف" بتشديد القاف، من التوقيف. (لَهُ)؛ أي: للرجل، أو

(1)

"المفهم" 3/ 732.

(2)

"شرح النوويّ" 13/ 44.

(3)

"حاشية السنديّ على النسائيّ" 6/ 50 - 51.

(4)

"الكاشف عن حقائق السنن" 8/ 2630 - 2631.

ص: 502

لأجل ما فعل من سوء الخلافة للغازي، وقال الطيبيّ رحمه الله: الضمير في "له" يعود إلى "رجلًا"، والأظهر أن يكون بمنزلة اسم الإشارة، كما في قول رؤبة:

فِيهَا خُطُوطٌ مِنْ سَوَادٍ وَبَلَقْ

كَأَنَّهُ فِي الْجِلْدِ تَوْلِيعُ الْبَهَقْ

يعني: يوقَف الخائن لأجل ما فَعَل من سوء الخلافة للغازي في أهله. انتهى

(1)

.

(يَوْمَ الْقِيَامَةِ) وفي رواية للنسائيّ: "قيل له يوم القيامة: هذا خانك في أهلك، فخذ من حسناته ما شئت". (فَيَأْخُذُ) ذلك الرجل (مِنْ عَمَلِهِ)؛ أي: من عمل الخائن (مَا شَاءَ)؛ أي: في مقابلة ما شاء من عمله بالنسبة إلى أهل الغازي، وقوله:(فَمَا ظَنُّكُمْ؟ ") فيه تهديد عظيم، وقال القرطبيّ رحمه الله: يعني أن المخُون في أهله إذا مُكّن من أخذ حسنات الخائن، لم يُبق منها شيئًا، ويكون مصيره إلى النار، وقد اقْتُصِرَ على مفعولي الظنّ. انتهى

(2)

.

وقال النوويّ رحمه الله: معناه: فما تظنّون في رغبة المجاهد في أخذ حسناته، والاستكثار منها في ذلك المقام؟؛ أي: لا يُبقِي منها شيئًا إن أمكنه. انتهى

(3)

.

وقال المظهر: أي ما ظنّكم بالله مع هذه الخيانة؟، هل تشكّون في هذه المجازاة، أم لا؟ يعني: فإذا علمتم صدق ما أقول، فاحذروا من الخيانة في نساء المجاهدين.

وقال التوربشتيّ: أي فما ظنّكم بمن أحلّه الله بهذه المنزلة، وخصّه بهذه الفضيلة، فربّما يكون وراء ذلك من الكرامة.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: ما قاله التوربشتيّ بعيد عن معنى الحديث، يردّه ما جاء في الرواية الأخرى من قوله صلى الله عليه وسلم:"تُرَون يَدَعُ له من حسناته شيئًا؟ "، ولذا قال الطيبيّ رضي الله عنه بعد ذِكر قول المظهر، والتوربشتيّ ما نصّه: الأقرب قول المظهر، فإن سياق الكلام جاء في حرمة نساء المجاهدين، وتوقير شأنهنّ، وتنزيلهنّ منزلة الأمّهات، وأن الخيانة معهنّ منافية للدِّين

(1)

"الكاشف عن حقائق السنن" 8/ 2631.

(2)

"المفهم" 3/ 732.

(3)

"شرح النوويّ" 13/ 44.

ص: 503

والمروءة؛ يعني: ما تظنّون في ارتكابكم هذه الجريمة العظيمة، هل تُتْرَكون مع تلك الخيانة، أم ينتقم الله تعالى منكم؟ ويلزم من هذا تعظيم شأن المجاهدين. انتهى

(1)

، وهو تحقيق حسنٌ، والله تعالى أعلم.

وقال السنديّ رحمه الله: أي إذا كان حالُ من خانه خيانةً واحدةً، فما حال من زاد على ذلك، وما ظنّكم به؟. أو إذا خُيّر الغازي فما ظنّكم بحسابه؟ هل يأخذ الكلّ، أو يترك شيئًا؟ وهو الموافق؛ لما سيجيء. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الاحتمال الأول مما ذكره السنديّ بعيد من معنى الحديث أيضًا، يردّه ما تقدّم. فالصواب في معنى الحديث ما تقدّم آنفًا في تحقيق الطيبيّ رحمه الله، فتبصّر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث بُريدة بن الْحُصيب رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [39/ 4900 و 4901 و 4902](1897)، و (أبو داود) في "الجهاد"(2496)، و (النسائيّ) في "الجهاد"(6/ 51) و"الكبرى"(3/ 33 - 34)، و (الحميديّ) في "مسنده"(907)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 352)، و (سعيد بن منصور) في "سننه"(2331)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4634)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 481 - 482)، و (ابن أبي عاصم) في "الجهاد"(1/ 314)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(9/ 173) و"شعب الإيمان"(4/ 36)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان حرمة نساء المجاهدين على القاعدين تحريمًا مغلّظًا، حيث شُبّه بتحريم الأمهات.

(1)

"الكاشف عن حقائق السنن" 8/ 2631.

(2)

"حاشية السنديّ على النسائيّ" 6/ 50 - 51.

ص: 504

2 -

(ومنها): ما قاله القرطبيّ رحمه الله: وظهر من هذا الحديث أن خيانة الغازي في أهله أعظم من كلّ خيانة؛ لأن ما عداها لا يُخيّر في أخذ كلّ الحسنات، وإنما يأخذ بكلّ خيانة قَدْرًا معلومًا من حسنات الخائن.

3 -

(ومنها): إثبات المجازاة بين العباد في المظالم يوم القيامة، فيأخذ المظلوم من حسنات ظالمه بدل حقّه، وقد أخرج مسلم رحمه الله من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:"أتدرون ما المفلس؟ "، قالوا: المفلس فينا، من لا درهم له، ولا متاع، فقال:"إن المفلس من أمتي، يأتي يوم القيامة بصلاة، وصيام، وزكاة، ويأتي قد شَتَم هذا، وقَذَف هذا، وأكل مال هذا، وسَفَكَ دم هذا، وضرب هذا، فيُعطَى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فَنِيَت حسناتُهُ، قبل أن يُقضَى ما عليه، أُخِذ من خطاياهم، فطُرِحَت عليه، ثم طُرِحَ في النار"، والله تعالى أعلم بالصواب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4901]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ، حَدَّثَنَا مِسْعَرٌ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ مَرْثَدٍ، عَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ - يَعْنِي: النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم. بِمَعْنَى حَدِيثِ الثَّوْرِيِّ).

رجال هذا الإسناد: ستّةٌ:

1 -

(يَحْيَى بْنُ آدَمَ) بن سليمان الأمويّ مولاهم، أبو زكريّاء الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ فاضلٌ، من كبار [9](ت 203)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 24.

2 -

(مِسْعَرُ) بن كِدَام بن ظُهير الهلاليّ، أبو سلمة الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ فاضلٌ [7](ت 3 أو 155)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 31.

والباقون ذُكروا في الباب، وقبله.

[تنبيه]: رواية مِسْعر، عن علقمة بن مرثد هذه ساقها أبو عوانة رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(7419)

- حدّثني عمار بن رجاء من كتابي

(1)

، قال: ثنا يحيى بن آدم،

(1)

هكذا النسخة، والظاهر أن صوابه "من كتابه"، فليُحرّر، والله تعالى أعلم.

ص: 505

قال: ثنا مِسْعَر، عن علقمة بن مَرْثد، عن ابن بريدة، عن أبيه، قال: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "نساء المجاهدين على القاعدين في الحرمة كأمهاتهم، ما أحدٌ من القاعدين يخالف إلى امرأة رجل منهم، فيخونه في أهله، إلا وُقف له يوم القيامة، فقيل له: إن هذا خانك في أهلك، فخذ من عمله ما شئت، قال: فما ظنكم؟ ". انتهى

(1)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4902]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ قَعْنَبٍ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ مَرْثَدٍ، بِهَذَا الإِسْنَادِ، "فَقَالَ

(2)

: فَخُذْ مِنْ حَسَنَاتِهِ مَا شِئْتَ"، فَالْتَفَتَ إِلَيْنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: "فَمَا ظَنُّكُمْ؟ ").

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(سُفْيَانُ) بن عيينة، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

2 -

(قَعْنَبٌ) التميميّ الكوفيّ، ثقةٌ [6].

رَوَى عن علقمة بن مرثد، وأبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود.

وروى عنه يزيد بن عبد العزيز بن سِيَاه، وسفيان بن عيينة.

قال الحميديّ عن سفيان: ثنا قعنبٌ التميميّ، وكان ثقةً خيارًا، وقال أبو داود: كان رجلًا صالِحًا، كان ابن أبي ليلى أراده على القضاء، فامتنع، وقال: أَخِّرني حتى أنظر، فتوارى، فوقع عليه البيت، فقتله، وذكره ابن حبان في "الثقات".

أخرج له المصنّف، وأبو داود، والنسائيّ، وليس له عندهم إلا هذا الحديث.

[تنبيه]: الْقَعْنب كجَعْفر في الأصل هو الشديد الصلب من كل شيء، ومنه القعنب للأسد، والقعنب للثعلب الذَّكر.

[تنبيه] آخر]: وقع لبعض الشرّاح

(3)

هنا غلط، وهو أنه ذكر أن قعنبًا هذا

(1)

"مسند أبي عوانة" 4/ 482.

(2)

وفي نسخة: "وقال".

(3)

هو: الشيخ الهرريّ، راجع: شرحه لـ "صحيح مسلم" 20/ 221.

ص: 506

هو قعنب بن عتّاب بن الحارث، وهو الذي عناه جرير الشاعر حيث يقول يفخر على الفرزدق:

قُلْ لِحَفِيفِ الْقَصَبَاتِ الْجَوْفَانِ

جِيئُوا بِمِثْلِ قَعْنَبٍ وَالْعلهانِ

وهذا غلطٌ، فإن المترجَم هنا لم ينسبه أحد من أصحاب الرجال، والأطراف إلى أبيه، فلا يُعرف أبوه، وأما قعنب بن عتاب المذكور، فإنه رجل آخر، وهو قعنب بن عتّاب بن الحارث الملقّب بالمبير، هكذا بيّنه محمد مرتضى في "شرح القاموس"

(1)

، وليس من رواة الحديث، ولذا لم يُذكره أحد من أصحاب الرجال فيهم، والظاهر أنه من الشجعان المشهورين، كما يدلّ عليه وصفه بالمبير، وافتخار جرير على الفرزدق به، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

والباقيان ذُكرا في الباب، وقبله.

[تنبيه]: رواية قَعْنب عن علقمة هذه ساقها أبو داود في "سننه"، فقال:

(2496)

- حدّثنا سعيد بن منصور، ثنا سفيان، عن قعنب، عن علقمة بن مرثد، عن ابن بريدة، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "حرمة نساء المجاهدين على القاعدين، كحرمة أمهاتهم، وما من رجل من القاعدين يَخْلُف رجلًا من المجاهدين في أهله، إلا نُصِب له يوم القيامة، فقيل له: هذا قد خلفك في أهلك، فخذ من حسناته ما شئت"، فالتفت إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:"ما ظنّكم؟ ".

قال أبو داود: كان قعنب رجلًا صالِحًا، وكان ابن أبي ليلى أراد قعنبًا على القضاء، فأبى عليه، وقال: أنا أريد الحاجة بدرهم، فأستعين عليها برجل، قال: وأيّنا لا يستعين في حاجته، قال: أخرجوني حتى أنظر، فأُخرج، فتوارى، قال سفيان: بينما هو مُتَوَارٍ إذ وقع عليه البيت، فمات. انتهى

(2)

.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(1)

"تاج العروس من جواهر القاموس" 1/ 436.

(2)

سنن أبي داود 3/ 8.

ص: 507

(40) - (بَابُ سُقُوطِ فَرْضِ الْجِهَادِ عَنِ الْمَعْذُورِينَ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4903]

(1898) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَمُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ - وَاللَّفْظُ لِابْنِ الْمُثَنَّى - قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، أَنَّهُ سَمِعَ الْبَرَاءَ يَقُولُ فِي هَذِهِ الآيَةِ:{لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم زَيْدًا، فَجَاءَ بِكَتِفٍ يَكْتُبُهَا

(1)

، فَشَكَا إِلَيْهِ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ ضَرَارَتَهُ، فَنَزَلَتْ:{لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} [النساء: 95]، قَالَ شُعْبَةُ: وَأَخْبَرَنِي سَعْدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ رَجُلٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ فِي هَذِهِ الآيَةِ:{لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} بِمِثْلِ حَدِيثِ الْبَرَاءِ، وَقَالَ ابْنُ بَشَّارٍ فِي رِوَايَتِهِ

(2)

: سَعْدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ رَجُلٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) أبو موسى الْعَنَزيّ المعروف بالزَّمِنِ البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 252)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.

2 -

(مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ) بُندار الْعَبْديّ، أبو بكر البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 252)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.

3 -

(مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ) الْهُذليّ، أبو عبد الله المعروف بغُنْدر البصريّ، ثقةٌ صحيح الكتاب [9](3 أو 194)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.

4 -

(شُعْبَةُ) بن الحجّاج بن الْوَرْد الْعَتَكيّ مولاهم، أبو بسطام الواسطيّ، ثم البصريّ، ثقة ثبت حجة قدوة إمام عابد، أمير المؤمنين في الحديث [7](160)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 381.

(1)

وفي نسخة: "بكتف، فكتبها".

(2)

وفي نسخة: "وقال شعبة في روايته، عن سعد بن إبراهيم".

ص: 508

5 -

(أَبُو إِسْحَاقَ) عمرو بن عبد الله بن عُبيد الْهَمْدانيّ السبيعيّ الكوفيّ، ثقةٌ مكثرٌ عابد اختلط بآخره، وكان يدلّس [3](ت 129)(ع) تقدّم في "المقدّمة" 3/ 11.

6 -

(الْبَرَاءُ) بن عازب بن الحارث بن عديّ الأنصاريّ الأوسيّ الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، مات سنة (72)(ع) تقدّم في "الإيمان" 35/ 244.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خُماسيّات المصنّف، وله فيه شيخان قرن بينهما، وهما من مشايخ الأئمة الستّة بلا واسطة، كما سبق غير مرّة، وأنه مسلسلٌ بالبصريين، غير أبي إسحاق، والبراء، فكوفيّان.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ) عمرو بن عبد الله السَّبِيعيّ (أَنَّهُ سَمِعَ الْبَرَاءَ) بن عازب رضي الله عنهما، قال في "الفتح": ووقع في رواية الطبرانيّ من طريق أبي سنان الشيباني، عن أبي إسحاق، عن زيد بن أرقم، وأبو سنان اسمه ضِرَار بن مُرّة، وهو ثقة، إلا أن المحفوظ عن أبي إسحاق، عن البراء، كذا اتَّفَقَ الشيخان عليه من طريق شعبة، ومن طريق إسرائيل، وأخرجه الترمذيّ، وأحمد من رواية سفيان الثوريّ، والترمذيّ أيضًا، والنسائيّ، وابن حبان من رواية سليمان التيميّ، وأحمد أيضًا من رواية زهير، والنسائيّ أيضًا من رواية أبي بكر بن عياش، وأبو عوانة من طريق زكريا بن أبي زائدة، ومسعر، ثمانيتهم عن أبي إسحاق. انتهى

(1)

.

(يَقُولُ فِي هَذِهِ الآيَةِ) الإشارة إلى المتلوّ بعده، وهو:({لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}، فَأَمَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم زَيْدًا)؛ أي: ابن ثابت الأنصاريّ كاتب الوحي للنبيّ صلى الله عليه وسلم المتوفّى سنة (5 أو 48) تقدّمت ترجمته في "الحيض" 22/ 793. (فَجَاءَ) زيد رضي الله عنه (بِكَتِفٍ) بفتح الكاف، وكسر التاء، ويجوز إسكان التاء مع فتح الكاف، أو كسرها، ففيه وفي نظائره ثلاث لغات،

(1)

"الفتح" 10/ 66، كتاب "التفسير" رقم (4593).

ص: 509

قال المجد: الْكَتِفُ، كفَرِحٍ، ومِثْلٍ، وحَبْلٍ، جمعه كقِرَدَة، وأصحاب. انتهى

(1)

.

[فائدة]: كلّ ما جاء على فَعِلٍ، وكان وسطه غير حرف حلق، ككَتِفٍ، يجوز فيه ثلاث لغات، أن يكون كالفَرِح بفتح، فكسر، وكالحَمْلِ، بفتح، فسكون، وكالْحِمْل، بكسر، فسكون، وأما إذا كان وسطه حرف حلق، فيجوز فيه أربع لغات، الثلاثة المذكورة، والرابعة كونه بكسرتين؛ إتباعًا لقوّة حرف الحلق، سواء كان اسمًا، كفَخِذٍ، أم فعلًا، كشَهِدَ، وقد نظمت ذلك بقولي:

إِذَا ثُلَاثِيٌّ أَتَى عَلَى فَعِلْ

بِفَتْحَةٍ فَكَسْرَةٍ فِيهِ نُقِلْ

فِي ضَبْطِهِ ثَلَاثَة كَالْكَتِفِ

بِفَتْحَةٍ فَكَسْرَةٍ فَلْتَقْتَفِ

ثُمَّ بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ وَرَدَا

كَالْحَمْلِ وَالثَّالِثُ كَالرِّجْلِ بَدَا

بِكَسْرَةٍ ثُمَّ سُكُونٍ كُلُّ ذَا

إِنْ لَمْ يَكُنْ وَسَطُهُ حَلْقًا خُذَا

فَإِنْ يَكُنْ كَفَخِذٍ فَإِنَّهُ

يَزِيدُ رَابِعًا فَخُذْ بَيَانَهُ

بِكَسْرَتِيْنِ ثُمَّ ذَا الْحُكْمُ يَعُمّْ

سْمًا وَفِعْلًا مِثْلُ شِهْدَ فَلْتُؤُمّْ

و"الْكَتِفِ": عَظْم عَرِيضٌ، خلف المنكب، وهي مؤنّثةٌ، وتكون للناس، وغيرهم، كانوا يكتبون فيها لقلّة القراطيس عندهم، أفاده في "اللسان"

(2)

.

وقوله: (يَكْتُبُهَا) جملة في محل جرّ صفة لـ "كتف"، وفي بعض النسخ:"فكتبها"، ومعلّقه محذوف، تقديره "فيه"؛ أي: في ذلك الكتف. (فَشَكَا إِلَيْهِ) صلى الله عليه وسلم (ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ) وفي رواية للبخاريّ: "فجاء ابن أم مكتوم"، وفي رواية له:"وخلْفَ النبيّ صلى الله عليه وسلم ابنُ أمّ مكتوم"، ويُجمع بأن معنى "جاء" أنه قام من مقامه خلف النبيّ صلى الله عليه وسلم حتى جاء مواجهه، فخاطبه.

وفي رواية للبخاريّ: "فجاء عبد الله ابن أم مكتوم"، وعند الترمذيّ من طريق الثوريّ، وسليمان التيميّ كلاهما عن أبي إسحاق، عن البراء:"جاء عمرو ابن أم مكتوم"، وقد نَبّه الترمذيّ على أنه يقال له: عبد الله، وعمرو، وأن اسم أبيه زائدة، وأن أم مكتوم أمه، قال الحافظ: واسمها عاتكة. انتهى،

(1)

"القاموس المحيط" ص 1113.

(2)

"لسان العرب" 9/ 294.

ص: 510

قاله في "الفتح"

(1)

.

(ضَرَارَتَهُ)؛ أي: عماه، قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في جميع نسخ بلادنا: "ضرارته" بفتح الضاد، وحَكَى صاحب "المشارق"، و"المطالع" عن بعض الرواة أنه ضبطه:"ضَرَرًا به"، والصواب الأول. انتهى

(2)

.

وفي رواية للبخاريّ: "قال: والله لو أستطيع الجهاد معك لجاهدت" - أي: لو استطعت، وعَبّر بالمضارع إشارةً إلى الاستمرار، واستحضارًا لصورة الحال - "قال: وكان أعمى"، هذا يفسِّر ما في حديث البراء: فشكا ضرارته، وفي الرواية الأخرى عنه: "فقال: أنا ضرير"، وفي رواية خارجة: "فقام حين سمعها ابن أم مكتوم، وكان أعمى، فقال: يا رسول الله، فكيف بمن لا يستطيع الجهاد، ممن هو أعمى، وأشباه ذلك؟ "، وفي رواية: "فقال: إني أُحبّ الجهاد في سبيل الله، ولكن بي من الزمانة ما ترى، ذهب بصري"

(3)

.

(فَنَزَلَتْ) وفي رواية للبخاريّ: "فنزلت مكانها"، قال ابن التين: يقال: إن جبريل هبط، ورجع قبل أن يجفّ القلم.

وقوله: ({لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ}) فاعل "نزلت"، فهو محكيّ؛ لِقَصْد لفظه.

قال ابن الْمُنَيِّر: لم يقتصر الراوي في الحال الثاني على ذِكر الكلمة الزائدة، وهي {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} ، فإن كان الوحي نزل بزيادة قوله:{غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} فقط، فكأنه رأى إعادة الآية من أولها حتى يتصل الاستثناء بالمستثنى منه، وإن كان الوحي نزل بإعادة الآية بالزيادة بعد أن نزل بدونها، فقد حَكَى الراوي صورة الحال.

قال الحافظ: الأول أظهر؛ فإن في رواية سهل بن سعد: "فأنزل الله: {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ}، وأوضحُ من ذلك رواية خارجة بن زيد، عن أبيه، ففيها: "ثُمّ سُرِي عنه، فقال: اقرأ، فقرأت عليه:{لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} ،

(1)

"الفتح" 10/ 66 - 67، كتاب "التفسير" رقم (4593).

(2)

"شرح النوويّ" 13/ 43.

(3)

"الفتح" 10/ 66، كتاب "التفسير" رقم (4593).

ص: 511

فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} ، وفي حديث الْفَلَتان - بفتح الفاء، واللام، وبمثناة فوقانية - ابن عاصم في هذه القصّة:"قال: فقال الأعمى: ما ذنبنا؟ فأنزل الله، فقلنا له: إنه يوحى إليه، فخاف أن ينزل في أمره شيء، فجعل يقول: أتوب إلى الله، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم للكاتب: اكتُب {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} "، أخرجه البزار، والطبرانيّ، وصححه ابن حبان.

ووقع في غير هذا الحديث ما يؤيد الثاني، وهو في حديث البراء بن عازب: "فأُنزلت هذه الآية: (حافظوا على الصلوات وصلاة العصر)، فقرأناها ما شاء الله، ثم نزلت:{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} . انتهى

(1)

.

وقوله: {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} قُرئ بالنصب، والرفع قراءتان مشهورتان في السبع، قرأ نافع، وابن عامر، والكسائيّ بالنصب، والباقون بالرفع، وقرئ في الشاذّ بالجرّ، فمن نَصَب فعلى الاستثناء، ومن رَفَع، فوصفٌ للقاعدين، أو بدلٌ منهم، ومن جرّ فوصف للمؤمنين، أو بدل منهم، قاله النوويّ رحمه الله

(2)

.

(قَالَ شُعْبَةُ) بن الحجّاج، وهو موصول بالإسناد السابق، وليس معلّقًا، فتنبّه. (وَأَخْبَرَنِي سَعْدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) بن عبد الرحمن بن عوف الزهريّ المدنيّ المتوفّى سنة (125) وقيل: بعدها، تقدّمت ترجمته في "المقدمة" 5/ 31. (عَنْ رَجُلٍ) لا يُعرف، (عَنْ زيدِ بْنِ ثَابِتٍ فِي هَذِهِ الآيَةِ) وقوله: ({لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}) بدل من "هذه الآية"، (بِمِثْلِ حَدِيثِ الْبَرَاءِ) رضي الله عنه.

وقوله: (وَقَالَ ابْنُ بَشَّارٍ) أشار به إلى اختلاف شيخيه: محمد بن المثنّى، ومحمد بن بشار، فقال الأول:"قال شعبة: أخبرني سعد بن إبراهيم، عن رجل، عن زيد بن ثابت"، وقال الثاني:"قال شعبة: أخبرني سعد بن إبراهيم، عن أبيه، عن رجل، عن زيد بن ثابت"، فأدخل أبا سعد، بينه وبين الرجل المبهم.

وقوله: (سَعْدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) برفع "سعد" على أنه فاعل لمقدّر دلّ عليه ما مضى؛ أي: أخبرني سعد بن إبراهيم (عَنْ أَبِيهِ) إبراهيم بن عبد الرحمن بن

(1)

"الفتح" 10/ 67، كتاب "التفسير" رقم (4593).

(2)

"شرح النوويّ" 13/ 43.

ص: 512

عوف الزهريّ المدنيّ المتوفّى سنة (5 أو 96) تقدّمت ترجمته في "الجهاد والسِّيَر" 13/ 4559. (عَنْ رَجُلٍ) تقدّم أنه لا يُعرف.

[تنبيه]: كتب بعض الشرّاح

(1)

ما نصّه: وقوله: "عن رجل" لعله بدل غلط عما قبله، أو تحريف من النساخ. انتهى.

وهذا الكلام غلط بلا شكّ؛ لأنه يدلّ على أن الرجل هو نفس إبراهيم والد سعد، وليس كذلك، بل هو شيخ له مجهول، ولهذا تكلّم الحافظ رشيد الدين ابن العطّار رحمه الله على رواية مسلم هذه في بحثه الآتي، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

(عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ) رضي الله عنه.

[تنبيه]: قد تكلّم الحافظ رشيد الدين ابن العطّار رحمه الله في كتابه "غرر الفوائد المجموعة"، وقد أسلفت نصّ الرسالة في مقدّمة "شرح المقدّمة"، ودونك خلاصة ما قاله:

قال رحمه الله بعد أن ساق نصّ مسلم بتمامه -: هكذا أورده مسلم في "صحيحه"، وقد اشتمل هذا الحديث على طريقين عن صحابيين رضي الله عنهما، فالأول منهما: حديث البراء بن عازب رضي الله عنهما، وهو صحيح متصل، ثابت متفق عليه، والثاني: حديث زيد بن ثابت، وفي إسناده اختلاف، ورجل غير مسمى، فهو داخل في باب المقطوع على مذهب الحاكم وغيره، إذا لم يُعرف ذلك الرجل.

والجواب عن ذلك: أن مسلمًا رحمه الله، إنما احتج بحديث البراء وحده، وإنما أورد الإسناد الثاني؛ لأن شعبة حَدّث به غندرًا هكذا، فأورده مسلم كما سمعه من أصحاب غندر، والظاهر من مذهبه أنه لا يختصر من الحديث شيئًا، وإن اختصر منه شيئًا لضرورة نَبَّه عليه.

وقد أخرج البخاريّ حديث البراء هذا في "صحيحه" في غير موضع من رواية شعبة، عن أبي إسحاق عنه، ولم يذكر فيه حديث زيد بن ثابت، فيَحْتَمِل

(2)

أن يكون تَرَكه عمدًا؛ لِمَا فيه من الاعتلال، ويَحْتَمِل أن يكون إنما سمعه كذلك من غير زيادة، على ما أورده، لكنه أخرج حديث زيد بن ثابت

(1)

هو: الشيخ الهرري، راجع: شرحه لهذا الكتاب 20/ 223.

(2)

النسخة: "محتمل"، والظاهر أنه تصحيف. والله تعالى أعلم.

ص: 513

المذكور من طريق آخر، من حديث الزهريّ، عن سهل بن سعد، عن مروان بن الحكم عنه، وهو إسناد اجتمع فيه ثلاثة من الصحابة رضي الله عنهم، يروي بعضهم عن بعض، ويدخل أيضًا في رواية الأكابر عن الأصاغر؛ لأن سهلا أكبر من مروان، ومروان وإن لم يثبت سماعه من النبيّ صلى الله عليه وسلم، فهو معدود في الصحابة رضي الله عنهم، وقد أخرج له البخاريّ في "صحيحه" حديثًا عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مقرونًا بالمسور بن مخرمة، والله أعلم. انتهى كلام الحافظ رشيد الدين ابن العطّار رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: ما يُجاب به عن مسلم رحمه الله: أنه لا اعتراض عليه في هذا الحديث؛ لأنه أخرجه من حديث البراء رضي الله عنه متّصلًا، ثم أورده من حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه، وفيه مجهول متابعةً، والمتابعة يُغتفر فيها ما لا يُغتفر في الأصول، على أن حديث زيد هذا ثابت صحيح، فقد أخرجه البخاريّ في "صحيحه"، فتنبّه.

ويَحْتَمِل أن يكون مسلم لم يُرد به الاحتجاج لا أصالةً، ولا متابعةً، وإنما أورده؛ لأنه سمعه كذلك من أصحاب غندر، وغندر سمعه من شعبة هكذا، فأورده كما سمعه؛ لكونه لا يرى الاختصار، وهذا هو الذي مشى عليه الحافظ العطّار في تحقيقه المذكور آنفًا، والله تعالى أعلم.

[تنبيه آخر]: أخرج البخاريّ في "صحيحه" من طريق ابن جريج، عن عبد الكريم الجزريّ، أن مِقسمًا مولى عبد الله بن الحارث أخبره أن ابن عباس رضي الله عنهما أخبره:{لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} عن بدر، والخارجون إلى بدر. انتهى.

قال في "الفتح": قوله: " {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} عن بدر، والخارجون إلى بدر" كذا أورده مختصرًا، وظن ابن التين أنه مغاير لحديثي سهل والبراء، فقال: القرآن ينزل في الشيء، ويشتمل على ما في معناه، وقد أخرجه الترمذيّ من طريق حجاج بن محمد، عن ابن جريج بهذا مثله، وزاد: "لمّا نزلت غزوة بدر، قال عبد الله بن جحش، وابن أم مكتوم الأعميان: يا رسول الله هل لنا رخصة، فنزلت: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ

(1)

راجع: "قرّة عين المحتاج" 1/ 113 - 114.

ص: 514

وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً} " - فهؤلاء القاعدون غير أولي الضرر - {وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95) دَرَجَاتٍ مِنْهُ} [النساء: 95، 96] على القاعدين من المؤمنين غير أولي الضرر، هكذا أورده سياقًا واحدًا، ومن قوله:{دَرَجَةً} . . . إلخ مدرج في الخبر من كلام ابن جريج، بيَّنه الطبريّ، فأخرج من طريق حجاج نحو ما أخرجه الترمذيّ إلى قوله:{دَرَجَةً} ، ووقع عنده: فقال عبد الله ابن أم مكتوم، وأبو أحمد بن جحش، وهو الصواب في ابن جحش، فإن عبد الله أخوه، وأما هو فاسمه: عبد، بغير إضافة، وهو مشهور بكنيته، ثم أخرجه بالسند المذكور عن ابن جريج، قال:{وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95) دَرَجَاتٍ مِنْهُ} ، قال: على القاعدين من المؤمنين غير أولي الضرر.

وحاصل تفسير ابن جريج: أن المفضل عليه غير أولي الضرر، وأما أولو الضرر فمُلحقون في الفضل بأهل الجهاد، إذا صدقت نياتهم، كما تقدم في "المغازي" من حديث أنس:"إن بالمدينة لأقوامًا، ما سرتم من مسير، ولا قطعتم من واد إلا وهم معكم، حبسهم العذر".

ويَحْتَمِل أن يكون المراد بقوله: {فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً} ؛ أي: من أولي الضرر وغيرهم، وقوله:{وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95) دَرَجَاتٍ مِنْهُ} ؛ أي: على القاعدين من غير أولي الضرر، ولا ينافي ذلك الحديث المذكور عن أنس، ولا ما دلت عليه الآية من استواء أولي الضرر مع المجاهدين؛ لأنها استثنت أولي الضرر من عدم الاستواء، فأفهمت إدخالهم في الاستواء؛ إذ لا واسطة بين الاستواء وعدمه؛ لأن المراد منه: استواؤهم في أصل الثواب، لا في المضاعفة؛ لأنها تتعلق بالفعل.

ويَحْتَمِل أن يلتحق بالجهاد في ذلك سائر الأعمال الصالحة. انتهى

(1)

.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث البراء رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(1)

"الفتح" 10/ 68 - 69، كتاب "التفسير" رقم (4595).

ص: 515

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [40/ 4903 و 4904](1898)، و (البخاريّ) في "الجهاد"(2832) و"التفسير"(4594) و"فضائل القرآن"(4990)، و (الترمذيّ) في "فضل الجهاد"(1670)، و (النسائيّ) في "الجهاد"(6/ 10) و"الكبرى"(3/ 8 و 6/ 327)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(704)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(4/ 226)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 284 و 290 و 299 و 300 و 301)، و (الطبريّ) في "التفسير"(5/ 228)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(40 و 41 و 42)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 209)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(3/ 269)، و (ابن الجعد) في "مسنده"(1/ 365)، و (ابن منده) في "الإيمان"(1/ 404)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 485)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(9/ 23)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان سقوط فرض الجهاد عن المعذورين، ولكن لا يكون ثوابهم ثواب المجاهدين، بل لهم ثواب نيّاتهم، إن كانت لهم نيّة صالحة، كما قال صلى الله عليه وسلم:"ولكن جهاد ونيّة"

2 -

(ومنها): بيان فضل المجاهدين في سبيل الله تعالى على القاعدين منه.

3 -

(ومنها): بيان أن الجهاد فرض كفاية، وليس فرض عين.

قال النوويّ رحمه الله: وفيه ردّ على من يقول: إنه كان في زمن النبيّ صلى الله عليه وسلم فرض عين، وبعده فرض كفاية، والصحيح أنه لم يزل فرض كفاية من حين شُرع، وهذه الآية ظاهرة في ذلك؛ لقوله تعالى:{وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 95]. انتهى

(1)

.

4 -

(ومنها): بيان سبب نزول الآية الكريمة، وهو شكوى ابن أمّ مكتوم ضرارته إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم.

5 -

(ومنها): جواز تأخير التخصيص بغير المستقلّ لمصلحة، ولازِمُه جواز الاستثناء المتأخّر، والجمهور على خلافه.

(1)

"شرح النوويّ" 13/ 45.

ص: 516

6 -

(ومنها): مشروعية اتخاذ الكاتب، وتقريبه.

7 -

(ومنها): جواز تقييد العلم بالكتابة.

8 -

(ومنها): جواز كتابة القرآن في الألواح، والأكتاف.

9 -

(ومنها): طهارة عَظْم المذكّى، وجواز الانتفاع به، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4904]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ بِشْرٍ، عَنْ مِسْعَرٍ، حَدَّثَنِي أَبُو إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ، قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}، كَلَّمَهُ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ، فَنَزَلَتْ: {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ}).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أَبُو كُرَيْبٍ) محمد بن العلاء، تقدّم قبل باب.

2 -

(ابْنُ بِشْرٍ) هو: محمد بن بشر العبديّ، أبو عبد الله الكوفيّ، ثقةٌ حافظ [9](ت 203)(ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 107.

3 -

(مِسْعَرُ) بن كِدام، تقدّم قبل حديثين.

والباقيان ذُكرا قبله.

وقوله: (كَلَّمَهُ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ)؛ أي: كلّم النبيّ صلى الله عليه وسلم عبد الله، أو عمرو ابن أم مكتوم رضي الله عنه.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، ولله الحمد والمنّة.

(41) - (بَابُ ثُبُوتِ الْجَنَّةِ لِلشَّهِيدِ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4905]

(1899) - (حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عَمْرٍو الأَشْعَثِيُّ، وَسُوَيْدُ بْنُ سَعِيدٍ - وَاللَّفْظُ لِسَعِيدٍ - أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرٍو، سَمِعَ جَابِرًا يَقُولُ: قَالَ رَجُلٌ: أَيْنَ أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ، إِنْ قُتِلْتُ؟، قَالَ: "فِي الْجَنَّةِ"، فَأَلْقَى تَمَرَاتٍ كُنَّ فِي يَدِهِ، ثُمَّ قَاتَلَ، حَتَّى قُتِلَ. وَفِي حَدِيثِ سُوَيْدٍ: قَالَ رَجُلٌ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ أُحُدٍ).

ص: 517

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(سَعِيدُ بْنُ عَمْرٍو الأَشْعَثِيُّ) الكِنْديّ، أبو عثمان الكوفيّ، ثقةٌ [10](ت 230)(م س) تقدم في "المقدمة" 4/ 19.

2 -

(سُوَيْدُ بْنُ سَعِيدٍ) الْحَدَثانيّ، الهرويّ الأصل، أبو محمد، صدوقٌ، عَمِي، فصار يتلقّن، من قدماء [10](ت 240) وله مائة سنة (م ت) تقدم في "المقدمة" 6/ 87.

3 -

(سُفْيَانُ) بن عيينة، تقدّم قبل باب.

4 -

(عَمْرُو) بن دينار الأثرم الْجُمَحيّ مولاهم المكيّ، تقدّم قريبًا.

5 -

(جَابِرُ) بن عبد الله بن عمرو بن حَرَام الأنصاريّ السَّلَميّ الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، مات بعد السبعين، وهو ابن (94) سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 117.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (350) من رباعيّات الكتاب، وهو مسلسل بالمكيين، غير شيخيه، فالأول كوفيّ، والثاني حَدَثانيّ، وجابر رضي الله عنه سكن مكة، وفيه جابر صحابيّ ابن صحابيّ، غزا تسع عشرة غزوة، وهو معمّر، ومن المكثرين السبعة، روى (1540) حديثًا.

شرح الحديث:

(عَنْ عَمْرِو) بن دينار، أنه (سَمِعَ جَابِرًا) رضي الله عنه (يَقُولُ: قَالَ رَجُلٌ) وفي رواية سُويد بن سعيد: "قال رجلٌ للنبيّ صلى الله عليه وسلم يوم أُحد"، قال الحافظ رحمه الله: لم أقف على اسمه، وزعم ابن بشكوال أنه عُمير بن الْحُمَام - وهو بضمّ المهملة، وتخفيف الميم - وسبقه إلى ذلك الخطيب، واحتجّ بما أخرجه مسلم من حديث أنس رضي الله عنه:"أن عُمير بن الْحُمَام أخرج تمراتٍ، فجعل يأكل منهنّ، ثم قال: لئن حيِيتُ حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة، ثم قاتل حتى قُتِل".

قال الحافظ: لكن وقع التصريح في حديث أنس رضي الله عنه أن ذلك كان يوم بدر، والقصّة التي في الباب وقع التصريح في حديث جابر أنها كانت يوم أُحد، فالذي يظهر أنهما قصّتان وقعتا لرجلين، والله أعلم. انتهى

(1)

.

(1)

"الفتح" 9/ 123، كتاب "المغازي" رقم (4046).

ص: 518

(أَيْنَ أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ، إِنْ قُتِلْتُ؟) بالبناء للمفعول؛ أي: إن قتلني العدوّ، وفي رواية النسائيّ:"إن قُتلت في سبيل الله"، (قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("فِي الْجَنَّةِ")؛ أي: أنت في الجنّة حالًا، كما قال تعالى:{وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169)} [آل عمران: 169].

وقد تقدّم عند مسلم حديث عبد الله بن مرة، عن مسروق، قال: سألنا عبد الله، عن هذه الآية:{وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169)} [آل عمران: 169]، قال: أمَا إنّا قد سألنا عن ذلك، فقال:"أرواحهم في جوف طير خُضْر، لها قناديل معلقة بالعرش، تَسْرَح من الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل. . ." الحديث، ففيه أن الشهيد إذا مات تُجعل روحه حال موته في جوف طير تسرح في الجنّة، وهذا هو دخول الجنّة حالًا، قبل يوم القيامة، والله تعالى أعلم.

(فَأَلْقَى تَمَرَاتٍ كُنَّ فِي يَدِهِ) إنما ألقاها؛ استبطاءً للموت (ثُمَّ قَاتَلَ، حَتَّى قُتِلَ) بالبناء للمفعول.

وقوله: (وَفِي حَدِيثِ سُوَيْدٍ) أشار به إلى اختلاف وقع بين شيخيه، فسعيد بن عمرو قال:"قال رجل: أين أنا يا رسول الله؟ إن قُتلتُ"، وقال سُويد بن سعيد:(قَالَ رَجُلٌ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ أُحُدٍ) فبيّن مكان السؤال، وعبّر أيضًا بلفظ النبيّ.

وإنما سأل الرجل هذا السؤال، وإن كان معلومًا عندهم أن مآل من قاتَل في سبيل الله تعالى في الجنّة؛ لأنه لا يَضْمَن الإنسان من نفسه ذلك؛ إذ ربما يكون عنده ما يمنعه من ذلك، فأراد أن يتثبّت لنفسه، فأخبره صلى الله عليه وسلم بأنه من أهل الجنّة، فلذا ألقى ما في يده من التمرات؛ شوقًا إلى الجنّة، فقاتل حتى استُشهد، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث جابر رضي الله عنه هذا متّفق عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [41/ 4905](1899)، و (البخاريّ) في

ص: 519

"المغازي"(4046)، و (النسائيّ) في "الجهاد"(6/ 33) و"الكبرى"(4362)، و (ابن المبارك) في "الجهاد"(1/ 68)، و (الحميديّ) في "مسنده"(2/ 526)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 308)، و (سعيد بن منصور) في "سننه"(2/ 254)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(3/ 4/ 65)، و (أبو نعيم) في "الحلية"(7/ 309)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(9/ 99)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان ثبوت الجنّة للشهيد.

2 -

(ومنها): بيان عِظَم شأن الجهاد في سبيل الله تعالى، حيث إن جزاءه الجنة.

3 -

(ومنها): بيان ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم من حبّ نصر الإسلام، والرغبة في الشهادة.

4 -

(ومنها): الحثّ على المبادرة بالخير، وأنه لا ينبغي الاشتغال عنه بحظوظ النفس.

5 -

(ومنها): الانغماس في صفوف الكفّار، والتعرّض للشهادة، وهو جائزٌ، لا كراهة فيه عند جمهور العلماء، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4906]

(1900) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ زَكَرِيَّاءَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي النَّبِيتِ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (ح) وَحَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ جَنَابٍ الْمِصِّيصِيُّ، حَدَّثَنَا عِيسَى - يَعْنِي: ابْنَ يُونُسَ - عَنْ زَكَرِيَّاءَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي النَّبِيتِ - قَبِيلٍ مِنَ الأَنْصَارِ - فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّكَ عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، ثُمَّ تَقَدَّمَ، فَقَاتَلَ، حَتَّى قُتِلَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"عَمِلَ هَذَا يَسِيرًا، وَأُجِرَ كَثِيرًا").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(أَبُو أُسَامَةَ) حمّاد بن أسامة، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

2 -

(زَكَرِيَّاءُ) بن أبي زائدة خالد، أو هُبيرة بن ميمون بن فيروز الْهَمْدانيّ

ص: 520

الْوَادعيّ، أبو يحيى الكوفيّ، ثقةٌ يُدلّس، وسماعه من أبي إسحاق بآخره [6](ت 7 أو 8 أو 149)(ع) تقدم في "الإيمان" 83/ 449.

[تنبيه]: إن قلت: كيف أخرج مسلم لزكريّا بن أبي زائدة عن أبي إسحاق، وسماعه منه بعد اختلاطه؟.

[قلت]: لم ينفرد به زكريّا، بل تابعه إسرائيل عن أبي إسحاق، عند البخاريّ في "صحيحه" في "كتاب الجهاد" رقم (2808)، والله تعالى أعلم.

3 -

(أَحْمَدُ بْنُ جَنَابٍ الْمِصِّيصِيُّ) أبو الوليد، صدوقٌ [10](ت 230)(م د س) تقدم في "الجهاد والسير" 28/ 4607.

[تنبيه]: قوله: "ابن جَنَاب" بفتح الجيم، وتخفيف النون، وقوله:"الْمِصِّيصِيُّ" بكسر الميم، والصاد المشدّدة، ويقال: بفتح الميم، وتخفيف الصاد وجهان معروفان، الأول أشهر: منسوب إلى المصّيصة المدينة المعروفة، قاله النوويّ

(1)

.

وقال ابن الأثير: "الْمِصّيصيّ" - بكسر الميم، والصاد المشدّدة، ثم ياء، آخره صاد مهملة -: نسبة إلى المصّيصة مدينة على ساحل البحر. انتهى

(2)

.

وقال المجد رحمه الله: "الْمَصِيصَة" كسفينة: بلد بالشام، ولا تشدّد. انتهى

(3)

.

قال الجامع عفا الله عنه: الظاهر أن ما ذكره المجد غير ما ذكره النوويّ، وابن الأثير، ولهذا اختلف ضَبْطاهما، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

4 -

(عِيسَى بْنُ يُونُسَ) بن أبي إسحاق السَّبِيعيّ، تقدّم قبل بابين.

والباقون ذُكروا في الباب وقبل باب.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف، وأنه مسلسلٌ بالكوفيين.

(1)

"شرح النوويّ" 13/ 44.

(2)

"اللباب في تهذيب الأنساب" 3/ 221.

(3)

"القاموس المحيط" ص 1227.

ص: 521

شرح الحديث:

(عَنِ الْبَرَاءِ) بن عازب رضي الله عنهما أنه (قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ) لا يُعرف اسمه، (مِنْ بَنِي النَّبِيتِ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) وفي رواية عِيسَى بن يونس:"جَاءَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي النَّبِيتِ - قَبِيلٍ مِنَ الأَنْصَارِ"، و"النبيت" - بفتح النون، ثم باء موحّدة مكسورة، ثم مثنّاة تحتانيّة ساكنة، ثم مثنّاة فوقيّة، وهم قبيلة من الأنصار، كما ذُكر في الكتاب، قاله النوويّ رحمه الله

(1)

.

و"القَبِيل" - بفتح القاف، وكسر الموحّدة - واحده قبيلة، وهم بنو أب واحد، قال الفيّوميّ رحمه الله: والقبيل: الجماعة، ثلاثةٌ فصاعدًا، من قوم شتّى، والجمع قُبُلٌ بضمّتين، والْقَبِيلة لغة فيها، وقبائل الرأس: الْقِطَعُ المتّصل بعضها ببعض، وبها سُمّيت قبائل العرب، الواحدة قبيلة، وهم: بنو أب واحد. انتهى

(2)

.

وفي رواية البخاريّ من طريق إسرائيل، عن أبي إسحاق:"أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم رجلٌ"، قال في "الفتح": قوله: "أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم رجل": لم أَقِف على اسمه، ووقع عند مسلم من طريق زكريا بن أبي زائدة، عن أبي إسحاق أنه من الأنصار، ثم من بني النَّبِيت - بفتح النون، وكسر الموحّدة، بعدها تحتانية ساكنة، ثم مثناه فوقُ - ولولا ذلك لأمكن تفسيره بعمرو بن ثابت بن وقش - بفتح الواو، والقاف، بعدها معجمة - وهو المعروف بأصرم بن عبد الأشهل، فإن بني عبد الأشهل بطن من الأنصار من الأوس، وهم غير بني النَّبِيت.

وقد أخرج ابن إسحاق في "المغازي" قصّة عمرو بن ثابت بإسناد صحيح، عن أبي هريرة، أنه كان يقول: أخبروني عن رجل دخل الجنة، لم يصلّ صلاةً، ثم يقول: هو عمرو بن ثابت، قال ابن إسحاق: قال الحصين بن محمد: قلت لمحمود بن لبيد: كيف كانت قصّته؟ قال: كان يأبى الإسلام، فلما كان يوم أُحد بدا له، فأخذ سيفه، حتى أتى القوم، فدخل في عُرض الناس، فقاتل، حتى وقع جريحًا، فوجده قومه في المعركة، فقالوا: ما جاء بك؟ أشفقة على قومك، أم رغبة في الإسلام؟ قال: بل رغبةً في الإسلام،

(1)

"شرح النوويّ" 13/ 44.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 489.

ص: 522

قاتلتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أصابني ما أصابني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إنه من أهل الجنة".

وروى أبو داود

(1)

، والحاكم، من طريق محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة: كان عمرو يأبى الإسلام لأجل رِبًا كان له في الجاهلية، فلما كان يوم أُحُد، قال: أين قومي؟ قالوا: بأُحُد فأخذ سيفه، ولحقهم، فلما رأوه، قالوا: إليك عنّا، قال: إني قد أسلمت، فقاتل حتى جُرح، فجاءه سعد بن معاذ، فقال لأخته: سليه: حميةً لقومك، أو غضبًا لهم، أم غضبًا لله؟ فقال: بل غضبًا لله، ولرسوله صلى الله عليه وسلم، ثم مات، فدخل الجنة، وما صلى صلاةً.

فيُجمع بين الروايتين بأن الذين رأوه، وقالوا له: إليك عنا ناس غير قومه، وأما قومه، فما شعروا بمجيئه، حتى وجدوه في المعركة.

ويُجمع بينهما، وبين حديث الباب بأنه جاء أوّلًا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فاستشاره، ثم أسلم، ثم قاتل، فرآه أولئك الذين قالوا له: إليك عنا.

ويؤيد هذا الجمع قوله لهم: قاتلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكأن قومه وجدوه بعد ذلك، فقالوا له ما قالوا.

ويؤيد الجمع أيضًا ما وقع في سياق حديث البراء عند النسائيّ، فإنه أخرجه من رواية زهير بن معاوية، عن أبي إسحاق، نحو رواية إسرائيل، وفيه: أنه "قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لو أني حَمَلت على القوم، فقاتلت حتى أُقتل أكان خيرًا لي، ولم أصلّ صلاةً؟ قال: نعم".

(1)

قال أبو داود رحمه الله في "سننه""أبي داود" 3/ 20:

(2537)

- حدّثنا موسى بن إسماعيل، ثنا حماد، أخبرنا محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، أن عمرو بن أُقيش، كان له رِبًا في الجاهلية، فكَرِه أن يُسلم حتى يأخذه، فجاء يوم أُحُد، فقال: أين بنو عمي؟ قالوا: بأُحُد، قال: أين فلان؟، قالوا: بأُحد، قال: فأين فلان؟ قالوا: بأُحد، فلبس لأمته، وركب فرسه، ثم توجه قِبَلهم، فلما رآه المسلمون قالوا: إليك عنّا يا عمرو، قال: إني قد آمنت، فقاتل حتى جُرِح، فحُمِل إلى أهله جريحًا، فجاءه سعد بن معاذ، فقال لأخته: سليه: حميّةً لقومك، أو غضبًا لهم، أم غضبًا لله؟ فقال: بل غضبًا لله، ولرسوله، فمات، فدخل الجنة، وما صلى لله صلاةً. انتهى.

ص: 523

ونحوه لسعيد بن منصور من وجه آخر، عن أبي إسحاق، وزاد في أوله: أنه قال: "أخيرٌ لي أن أُسلم؟ قال: نعم، فأسلم"، فإنه موافق لقول أبي هريرة:"إنه دخل الجنّة، وما صلى لله صلاةً".

وأما كونه من بني عبد الأشهل، ونُسب في رواية مسلم إلى بني النبيت، فيمكن أن يُحمل على أن له في بني النبيت نسبةً ما، فإنهم إخوة بني عبد الأشهل، يجمعهم الانتساب إلى الأوس. انتهى

(1)

.

(فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلا اللهُ، وَأَنَّكَ عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ) وفي رواية إسرائيل: "أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم رجلٌ مُقَنَّعٌ بالحديد، فقال: يا رسول الله، أقاتل، أو أسلم؟، قال: "أسلم، ثم قاتل"، فأَسْلَم، ثم قاتل، فقُتل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عَمِل قليلًا، وأُجر كثيرًا".

(ثُمَّ تَقَدَّمَ)؛ أي: إلى صفّ العدوّ (فَقَاتَلَ، حَتَّى قُتِلَ) بالبناء للمفعول، (فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"عَمِلَ) بفتح، فكسر، من باب فَرِحَ، (هَذَا) الرجل (يَسِيرًا) صفة لمصدر محذوف؛ أي: عَمَلًا قليلًا، (وَأُجِرَ) بالبناء للمفعول، (كَثِيرًا")؛ أي: أعطي أجرًا كثيرًا، وفيه أن الأجر الكثير قد يَحصل بالعمل اليسير؛ فضلًا من الله سبحانه وتعالى، وإحسانًا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث البراء رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [41/ 4906](1900)، و (البخاريّ) في "الجهاد"(2808)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1/ 98)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(4/ 203)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 290 و 293)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4601)، و (سعيد بن منصور) في "سننه"(2/ 255)، و (ابن منده) في "الإيمان"(1/ 405)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 459)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(9/ 167)، والله تعالى أعلم.

(1)

"الفتح" 7/ 72 - 73، كتاب "الجهاد" رقم (2808).

ص: 524

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4907]

(1901) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ النَّضْرِ بْنِ أَبِي النَّضْرِ، وَهَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ - وَأَلْفَاظُهُمْ مُتَقَارِبَةٌ - قَالُوا: حَدَّثَنَا هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ - وَهُوَ ابْنُ الْمُغِيرَةِ - عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بُسَيْسَةَ عَيْنًا، يَنْظُرُ مَا صَنَعَتْ عِيرُ أَبِي سُفْيَانَ، فَجَاءَ، وَمَا فِي الْبَيْتِ أَحَدٌ غَيْرِي، وَغَيْرُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: لَا أَدْرِي مَا اسْتَثْنَى بَعْضَ نِسَائِهِ، قَالَ: فَحَدَّثَهُ الْحَدِيثَ، قَالَ: فَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَتَكَلَّمَ، فَقَالَ:"إِنَّ لَنَا طَلِبَةً، فَمَنْ كَانَ ظَهْرُهُ حَاضِرًا، فَلْيَرْكَبْ مَعَنَا"، فَجَعَلَ رِجَالٌ يَسْتَأْذِنُونَهُ

(1)

فِي ظُهْرَانِهِمْ فِي عُلْوِ الْمَدِينَةِ، فَقَالَ:"لَا، إِلَّا مَنْ كَانَ ظَهْرُهُ حَاضِرًا"، فَانْطَلَقَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وأَصْحَابُهُ، حَتَّى سَبَقُوا الْمُشْرِكِينَ إِلَى بَدْرٍ، وَجَاءَ الْمُشْرِكُونَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا يُقَدِّمَنَّ

(2)

أَحَدٌ مِنْكُمْ إِلَى شَيْءٍ حَتَّى أَكُونَ أَنَا دُونَهُ"، فَدَنَا الْمُشْرِكُونَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "قُومُوا إِلَى جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ"، قَالَ: يَقُولُ عُمَيْرُ بْنُ الْحُمَامِ الأَنْصَارِيُّ: يَا رَسُولَ اللهِ جَنَّةٌ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ؟ قَالَ: "نَعَمْ"، قَالَ: بَخٍ بَخٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا يَحْمِلُكَ عَلَى قَوْلِكَ: بَخٍ بَخٍ؟ "، قَالَ

(3)

: لَا وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ إِلَّا رَجَاءَةَ

(4)

أَنْ أَكُونَ مِنْ أَهْلِهَا، قَالَ:"فَإِنَّكَ مِنْ أَهْلِهَا"، فَأَخْرَجَ تَمَرَاتٍ

(5)

مِنْ قَرَنِهِ، فَجَعَلَ يَأْكُلُ مِنْهُنَّ، ثُمَّ قَالَ: لَئِنْ أَنَا حَيِيتُ حَتَّى آكُلَ تَمَرَاتِي هَذِهِ، إِنَّهَا لَحَيَاةٌ طَوِيلَةٌ، قَالَ: فَرَمَى بِمَا كَانَ مَعَهُ مِنَ التَّمْرِ، ثُمَّ قَاتَلَهُمْ، حَتَّى قُتِلَ).

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ النَّضْرِ بْنِ أَبِي النَّضْرِ) اسمه وكنيته واحد، وقيل: اسمه محمد، وقيل: أحمد، ثقةٌ [11](ت 245)(م ت س) تقدم في "المقدمة" 6/ 36.

(1)

وفي نسخة: "يستأذنوه".

(2)

وفي نسخة: "لا يتقدّمنّ".

(3)

وفي نسخة: "فقال".

(4)

وفي نسخة: "إلا رجاء".

(5)

وفي نسخة: "قال: فأخرج".

ص: 525

2 -

(هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) بن مروان الْحَمّال البزّاز، أبو موسى البغداديّ، ثقةٌ [10](ت 243) وقد ناهز الثمانين (م 4) تقدم في "الإيمان" 64/ 361.

3 -

(مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ) النيسابوريّ، تقدّم قبل باب.

4 -

(عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ) الكِسّيّ، تقدّم قريبًا.

5 -

(هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ) بن مسلم الليثيّ، أبو النضر مولاهم البغداديّ، مشهور بكنيته، ولقبه قيصر، ثقةٌ ثبتٌ [9](ت 207)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 36.

6 -

(سُلَيْمَانُ بْنُ الْمُغِيرَةِ) القيسيّ مولاهم، أبو سعيد البصريّ، ثقةٌ [7](ت 165)(ع) تقدم في "الإيمان" 3/ 111.

7 -

(ثَابِتُ) بن أسلم الْبُنانيّ، تقدّم قبل بابين.

8 -

(أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ) رضي الله عنه، تقدّم أيضًا قبل بابين.

[تنبيه]: من لطائف هدا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف، وله فيه أربعة من الشيوخ قرن بينهم؛ لاتّحادهم في كيفيّة التحمّل والأداء، وفيه أنس بن مالك رضي الله عنه تقدّم الكلام عليه قريبًا.

شرح الحديث:

(عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: بَعَثَ)؛ أي: أرسل (رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بُسَيْسَةَ) قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في جميع النسخ: "بُسيسة" - بباء موحّدة مضمومة، وبسينين مهملتين، مفتوحتين، بينهما ياء مثناة تحت ساكنة - قال القاضي عياض: هكذا هو في جميع النسخ، قال: وكذا رواه أبو داود، وأصحاب الحديث، قال: والمعروف في كتب السيرة: بَسْبَس - بباءين موحّدتين مفتوحتين، بينهما سين ساكنة -، وهو بسبس بن عمرو، ويقال: ابن بِشْر، من الأنصار، من الخزرج، ويقال: حليف لهم، قال النوويّ: يجوز أن يكون أحد اللفظين اسمًا له، والآخر لقبًا. انتهى

(1)

.

وقال في "الإصابة": بسبسة بن عمرو بن ثعلبة بن خَرَشة بن زيد بن

(1)

"شرح النوويّ" 13/ 44.

ص: 526

عمرو بن سعد بن ذُبيان بن رشدان بن غَطَفان بن قيس بن جُهينة الْجُهَنيّ، حليف بني طريف بن الخزرج بن ساعدة بن كعب بن الخزرج، وهو بموحدتين مفتوحتين، بينهما مهملة ساكنة، ثم مهملة مفتوحة، ويقال له: بسبس بغير هاء، وهو قول ابن إسحاق وغيره، شَهِد بدرًا باتفاق، ووقع ذِكره في "صحيح مسلم" من حديث أنس قال:"بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبسة عينًا، ينظر ما صنعت عِير أبي سفيان. . ." فذكر الحديث في وقعة بدر، وهو بموحدتين، وزانُ فَعْلَلَة، وحَكَى عياض أنه في مسلم بموحدة مصغّر، ورواه أبو داود، ووقع عنده: بُسَيسة بصيغة التصغير، وكذا قال ابن الأثير إنه رآه في أصل ابن منده، لكن بغير هاء، والصواب الأول، فقد ذكر ابن الكلبيّ أنه الذي أراد الشاعر بقوله:

أَقِمْ لَهَا صُدُورَهَا يَا بَسْبَسُ

إِنَّ مَطَايَا الْقَوْمِ لَا تُحَبَّسُ

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "بُسَيسَة" - بضم الباء بواحدةٍ، وفتح السين، وياء التصغير - هكذا رواه جميعُ رواة الحديث، وكذا وقع في كتاب مسلم، وأبي داود، والمعلومُ في كتاب السِّير:"بَسْبَس" بفتح الباء غير مصغّرٍ، وهو: بَسْبَسُ بن عمرو، ويقال: ابن بِشْرٍ، من الأنصار، وقيل: حليفهم، وأنشد ابنُ إسحاق في خبره:

أَقِمْ لَهَا صُدُورَهَا يَا بَسبَسُ

أَنْ تَرِدَ الماءَ بِمَاءِ أكيَسُ

(2)

وقوله: (عَيْنًا) منصوب على الحال، و"العين": الجاسوس؛ أي: حال كونه عينًا؛ أي: متجسّسًا، ورَقِيبًا، وقال القرطبيّ:"العين": الجاسوس، سُمّي به لأنه يُعاين، فيُخبِر مُرسله بما يراه، فكأنه عينه. انتهى

(3)

.

(يَنْظُرُ مَا صَنَعَتْ عِيرُ أَبِي سُفْيَانَ) يَحْتمل أن تكون "ما" موصولًا حرفيًّا، والمصدر المؤوّل مفعول "صنع"؛ أي: ينظر صنعَ عِيْره، ويَحْتَمِل أن تكون اسميًّا مفعول "صنعت"، والعائد محذوف؛ أي: صنعته عيره.

و"العير" - بكسر العين -: الإبل تَحْمِل الْمِيرة، ثمّ غَلَبَ على كلّ قافلة، قاله الفيّوميّ

(4)

.

(1)

"الإصابة في تمييز الصحابة" 1/ 288.

(2)

"المفهم" 3/ 734.

(3)

"المفهم" 3/ 735.

(4)

"المصباح المنير" 2/ 440.

ص: 527

وقال ابن الأثير رحمه الله: الْعِير: الإبل بأحمالها، فِعْلٌ، من عار يَعِير: إذا سار، وقيل: هي قافلة الحمير، فكثُرت حتى سُمّيت بها كلُّ قافلة، كأنها جمع عَيْرٍ، وكان قياسها أن تكون فُعْلًا بالضمّ، كسُقْفٍ في سَقْفٍ، إلا أنه حوفظ على الياء بالكسرة، نحو عِيْنٍ. انتهى

(1)

.

وقال النوويّ رحمه الله: "الْعِير": هي الدواب التي تَحْمِل الطعام وغيره، من الأمتعة، قال في "المشارق": الْعِير: هي الإبل والدواب تَحْمِل الطعام وغيره، من التجارات، قال: ولا تُسَمَّى عِيرًا إلا إذا كانت كذلك، وقال الجوهريُّ رحمه الله في "الصحاح": العير الإبل تَحْمِل الْمِيرة، وجمعها عِيَرَات، بكسر العين، وفتح الياء. انتهى

(2)

.

والمراد بعير أبي سفيان: هي العير التي أقبل بها أبو سفيان من الشام.

قال ابن هشام في "سيرته": قال ابن إسحاق: ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع بأبي سفيان بن حرب مقبلًا من الشأم، في عِير لقريش عظيمة، فيها أموال لقريش، وتجارة من تجاراتهم، وفيها ثلاثون رجلًا من قريش، أو أربعون، منهم مخرمة بن نوفل بن أهيب بن عبد مناف بن زُهرة، وعمرو بن العاص بن وائل بن هاشم.

قال ابن إسحاق: لمّا سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي سفيان نَدَب المسلمين إليهم، وقال: هذه عِير قريش، فيها أموالهم، فاخرُجوا إليها، لعل الله يُنفلكموها، فانتدب الناس، فخفّ بعضهم، وثَقُل بعضهم، وذلك أنهم لم يظنوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يلقى حربًا. وكان أبو سفيان حين دنا من الحجاز، يتحسس الأخبار، ويسأل مَن لَقِي من الركبان؛ تخوفًا على أمر الناس، حتى أصاب خبرًا من بعض الركبان أن محمدًا قد استنفر أصحابه لك، ولعيرك، فحَذِر عند ذلك، فاستأجر ضمضم بن عمرو الغفاريّ، فبعثه إلى مكة، وأمر أن يأتي قريشًا، فيستنفرهم إلى أموالهم، ويخبرهم أن محمدًا قد عرض لها في أصحابه، فخرج ضمضم بن عمرو سريعًا إلى مكة، فلما وصل مكة صرخ ببطن

(1)

"النهاية في غريب الحديث والأثر" ص 653.

(2)

"شرح النوويّ" 13/ 44 - 45.

ص: 528

الوادي واقفًا على بعيره، قد جَدَع بعيره، وحَوّل رحله، وشَقَّ قميصه، وهو يقول: يا معشر قريش، اللطيمةَ اللطيمةَ، أموالكم مع أبي سفيان قد عرض لها محمد في أصحابه، لا أرى أن تدركوها، الغوث الغوث

(1)

، فخرجت قريش حتى جمع الله تعالى بينها وبين المسلمين، فكانت النتيجة أن انتصر الحقّ، {وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء: 81].

(فَجَاءَ) بسيسة رضي الله عنه إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم (وَمَا فِي الْبَيْتِ أَحَدٌ غَيْرِي) هذا قول أنس رضي الله عنه، (وَغَيْرُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ) الراوي، والظاهر أنه ثابت:(لَا أَدْرِي مَا اسْتَثْنَى بَعْضَ نِسَائِهِ)"ما" هنا مصدريّة؛ أي: لا أعرف هل استثنى وجود بعض نساء النبيّ صلى الله عليه وسلم في البيت أم لا؟ (قَالَ) ثابت (فَحَدَّثَهُ الْحَدِيثَ)؛ أي: حدّث بُسيسة النبيّ صلى الله عليه وسلم بما رأى من أحوال عِيْر أبي سفيان، وأنّه مقبلٌ من الشام.

وفي "سيرة ابن هشام": وكان بسبس بن عمرو، وعديّ بن أبي الزغباء قد مضيا حتى نزلا بدرًا، فأناخا إلى تَلّ قريب من الماء، ثم أخذا شنًّا لهما يستقيان فيه، ومجديّ بن عمرو الجهنيّ على الماء، فسمع عديّ وبسبس جاريتين من جواري الحاضر، وهما يتلازمان على الماء، والملزومة تقول لصاحبتها: إنما تأتي العير غدًا أو بعد غد، فأعمل لهم، ثم أقضيك الذي لك، قال مجدي: صدقت، ثم خلص بينهما، وسمع ذلك عديّ وبسبس، فجلسا على بعيريهما، ثم انطلقا حتى أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبراه بما سمعا. انتهى

(2)

.

(قَالَ) أنس رضي الله عنه (فَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَتَكَلَّمَ)؛ أي: كلّم الناس، وبيّن لهم سبب خروجه، (فَقَالَ: "إِنَّ لَنَا طَلِبَةً) - بفتح الطاء المهملة، وكسر اللام -: هو ما يُطلب؛ يعني: حاجةً مطلوبةً، والمراد: الإغارة على عير أبي سفيان، (فَمَنْ كَانَ ظَهْرُهُ) - بفتح الظاء المعجمة، وسكون الهاء -: هي الإبل التي يُحمل عليها، وتُركب، يقال: عند فلان ظَهْر؛ أي: إبل، وتُجمع على ظُهْران بضمّ،

(1)

راجع: "سيرة ابن هشام" 1/ 606 - 609.

(2)

"سيرة ابن هشام" 1/ 617.

ص: 529

فسكون

(1)

. (حَاضِرًا)؛ أي: موجودًا في المدينة، (فَلْيَرْكَبْ مَعَنَا"، فَجَعَلَ)؛ أي: شَرَع (رِجَالٌ يَسْتَأْذِنُونَهُ)؛ أي: يطلبون منه صلى الله عليه وسلم أن يأذن لهم (فِي ظُهْرَانِهِمْ) بضمّ الظاء، وسكون الهاء؛ أي: مركوباتهم، وهو: جمع ظَهْر - بفتح، فسكون - وقيل: جمع ظَهِير، كقَضِيب وقُضْبان

(2)

. (فِي عُلْوِ الْمَدِينَةِ) بضمّ العين، وكسرها؛ يعني: أنهم استأذنوه صلى الله عليه وسلم للإتيان بمراكبهم من عوالي المدينة حتى يخرجوا معه، (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("لَا)؛ أي: لا آذن لكم (إِلَّا مَنْ كَانَ ظَهْرُهُ حَاضِرًا") الظاهر أن الاستثناء منقطع؛ أي: لكن من كان مركوبه حاضرًا بالمدينة، فليخرج معنا، ويَحْتَمل أن يكون متّصلًا؛ أي: لا آذن للناس إلا لمن كان ظهره حاضرًا بالمدينة. (فَانْطَلَقَ)؛ أي: ذهب (رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ، حَتَّى سَبَقُوا الْمُشْرِكِينَ إِلَى بَدْرٍ) - بفتح الموحّدة، وسكون الدال المهملة -: اسم موضع بين مكة والمدينة، وهو إلى المدينة أقرب، ويقال: هو منها على ثمانية وعشرين فرسخًا.

وقال الطيبيّ رحمه الله: بدر موضع يُذكّر، ويؤنّث، وهو اسم ماء، وقال الشعبيّ: بئر كانت لرجل يُدعى بدرًا، ومنه يوم بدر، قُتل فيه عُمير هذا أول قتيل من الأنصار في الإسلام

(3)

.

(وَجَاءَ الْمُشْرِكُونَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا يُقَدِّمَنَّ) مضارع قَدَّم اللام، بمعنى تقدّم، كما في قوله تعالى:{لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} الآية [الحجرات: 1]، ووقع في بعض النسخ:"لا يتقدّمَنَّ"، وهو واضح. (أَحَدٌ مِنْكُمْ إِلَى شَيْءٍ حَتَّى أَكُونَ أَنَا دُونَهُ")؛ أي: قدّامه متقدّمًا في ذلك الشيء، والمراد: نهي الصحابة رضي الله عنهم من أن يتقدّموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لئلا يفوتهم شيء من المصالح التي لا يعلمونها، أفاده النوويّ

(4)

، وقال الأبيّ: المراد أن لا يتقدّمه في الرأي، ولا يريد: حتى أكون أمامه في القتال؛ لأنه لم يقاتل يوم بدر،

(1)

"النهاية في غريب الحديث والأثر" ص 584.

(2)

شرح الأبيّ" 5/ 241.

(3)

"الكاشف عن حقائق السنن" 8/ 2636 - 2637.

(4)

"شرح النوويّ" 13/ 45.

ص: 530

وإنما كان في العريش، ولا ينبغي للإمام أن يقاتل خوف أن يصاب، فيهلك من معه، وقد عِيب على عمرو بن العاص دخوله الإسكندريّة مختفيًا. انتهى

(1)

. (فَدَنَا الْمُشْرِكُونَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) للصحابة رضي الله عنهم؛ تشجعًا لهم، وحثًّا على الجهاد:("قُومُوا إِلَى جَنَّةٍ) قال الطيبيّ رحمه الله: عدّاه بإلى لإرادة معنى المسارعة، كما في قوله تعالى:{وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} الآية [آل عمران: 133]، (عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ")؛ أي: مثلُ عرض السموات والأرض، قال القرطبيّ رحمه الله: شبّه الجنّة بسعة السموات والأرض، وإن كانت الجنّة أوسع منهما بكثير؛ مخاطبةً لنا بما شاهدنا؛ إذ لم نُشاهد أوسع من السموات والأرض، وهذا أشبه ما قيل في هذا المعنى. انتهى

(2)

.

وقال الطيبيّ رحمه الله: وصف الجنّة بالعرض مبالغة عرفًا، وتخصيص العرض بها دون الطول دلالة على أن العرض إذا كان كذلك، فمال الطول؟

(3)

.

(قَالَ) الراوي (يَقُولُ) بصيغة المضارع؛ استحضارًا لصورة الحال، (عُمَيْرُ) - بضمّ العين المهملة، مصغّرًا، (ابْنُ الْحُمَامِ) - بضمّ الحاء المهملة، وتخفيف الميم - هو: عُمير بن الحمام بن الْجَمُوح بن زيد بن حرام بن كعب بن سلمة (الأَنْصَارِيُّ) السَّلَميّ، ذكره موسى بن عقبة، وغيره فيمن شَهِد بدرًا، وقال ابن إسحاق: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده لا يقاتلهم اليوم رجلٌ، فيقتلَ صابرًا، محتسبًا، مقبلًا، غير مُدْبِر، إلا أدخله الله الجنة"، فقال عُمير بن الحمام أحد بني سَلِمة، وفي يده تمرات يأكلهنّ: بخ بخ، فما بيني وبين أن أدخل الجنة إلا أن يقتلني هؤلاء، فقذف التمر من يده، وأخذ سيفه، فقاتل حتى قُتِل، وهو يقول:

رَكْضًا

(4)

إِلَى اللهِ بِغَيْرِ زَادِ

إِلَّا التُّقَى وَعَمَلُ الْمَعَادِ

وَالصَّبْرُ فِي اللهِ عَلَى الْجِهَادِ

وَكُلُّ زَادٍ عُرْضَةُ النَّفَادِ

(1)

"شرح الأبيّ" 5/ 241.

(2)

"المفهم" 3/ 735.

(3)

"الكاشف عن حقائق السنن" 8/ 2637.

(4)

أي: أركض ركضًا، وأُسرع إسراعًا مثل: ركض الخيل وإسراعه.

ص: 531

غَيْرَ التُّقَى وَالْبِرِّ وَالرَّشَادِ

فكان أولَ قتيل قُتل في سبيل الله في الحرب، قاله في "الإصابة"

(1)

.

(يَا رَسُولَ اللهِ جَنَّةٌ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ؟) هذا السؤال من عُمير سؤال استعظام، وتعجّب من سعة ثواب الله تعالى للمجاهد. (قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("نَعَمْ")؛ أي: هي كعرضهما سعةً، (قَالَ) عُمير رضي الله عنه (بَخٍ بَخٍ) كلمة تقال لتفخيم الأمر وتعظيمه، والتعجّب منه، يقال: بسكون الخاء، وكسرها، منوّنة، قاله القرطبيّ

(2)

.

وقال المجد رحمه الله: "بَخْ"، كَقَدْ؛ أي: عَظُم الأمرُ، وفَخُم، تقال وحدها، وتُكَرَّر: بَخٍ بَخْ، الأول منون، والثاني مسكنٌ، وقُلْ في الإفراد: بَخْ ساكنةً، وبَخِ مكسورة، وبَخٍ منونةً، وبَخٌ منونةً مضمومةً، ويقال: بَخْ بَخْ مسكّنين، وبَخٍ بَخٍ، منونين، وبَخٍّ بَخٍّ مشددين: كلمة تقال عند الرضى، والإعجاب بالشيء، أو الفخر والمدح. انتهى

(3)

.

وقال التوربشتيّ رحمه الله: قوله: "بخ" كلمة تقال عند المدح والرضى بالشيء، وكُرّرت للمبالغة، وسبق إلى فهم الرجل من قوله صلى الله عليه وسلم:"ما يَحملك على قولك: بخ بخ؟ " أنه يوهم أن قوله ذلك صدر عنه من غير رويّة، ونيّة، شبيهًا بقول من سلك مسلك المزاح، فنفى ذلك بقوله:"لا والله"؛ أي: ليس الأمر على ما توهّمت، وقوله:"إلا رجاء"؛ أي: ما قلت ذلك إلا رجاء.

وتعقّبه الطيبيّ، فقال: أقول: قوله: "شبيهًا بقول من سلك مسلك المزاح"، وقوله:"ليس الأمر على ما توهّمت" ليسا بمرضيين، بل يُحمل قوله:"بخ بخ" على ما فسّر في الغريبين من قوله: قال أبو بكر: معناه تعظيم الأمر، وتفخيمه، كذا في "شرح مسلم"، وذلك أنه صلى الله عليه وسلم لمّا قال:"قوموا إلى جنّة"؛ أي: سارِعوا إليها، وابذُلوا مُهَجكم، وأرواحكم في سبيل الله، ولا تَقاعسوا عنها، عَظَّم عُمير ذلك، وفخّمه بقوله:"بخ بخ"، فقال صلى الله عليه وسلم: ما حملك على التعظيم؟ أخوفًا قلت هذا؟ فقال: لا، بل رجاء، والفاء في قوله:"فإنك" جزاء

(1)

"الإصابة في تمييز الصحابة" 4/ 715 - 716.

(2)

"المفهم" 3/ 735.

(3)

"القاموس المحيط" 1/ 317.

ص: 532

شرط؛ أي: إذا كان الأمر على ما قلت، فإن الله تعالى يُجيبك إلى ما ترومه، وترجوه. انتهى

(1)

.

(فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا) استفهاميّة؛ أي: أيُّ شيء (يَحْمِلُكَ) بفتح أوله، وكسر ثالثه، من باب ضرب، يقال: حَمَلَه على الأمر يَحْمله، فانحَمَل: أغراه به، أفاده المجد

(2)

. (عَلَى قَوْلِكَ: بَخٍ بَخٍ؟ "، قَالَ) عُمير: (لَا)؛ أي: لم يحملني على ذلك شيءٌ (وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ إِلَّا رَجَاءَةَ) قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في أكثر النسخ المعتمدة: "رجاءةَ" بالمد، ونصب التاء، وفي بعضها:"رجاءَ" بلا تنوين، وفي بعضها بالتنوين، ممدودًا، بحذف التاء، وكله صحيحٌ، معروف في اللغة، ومعناه: والله ما فعلته لشيء إلا لرجاء أن أكون من أهلها. انتهى

(3)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "لا والله! إلا رجاءَ"، رَوَيته بنصب الهمزة، من غير تاء تأنيثٍ، على أن يكونَ مفعولًا من أجله، والأَولى فيه الرفع، على أن يكونَ فاعلًا بفعل مضمَر، يدلُّ عليه قولُه:"ما يحملُك على قولك: بخ بخ؟ "؛ لأنَه جوابُه؛ أي: لا يحملُني على قولي: بخٍ بخٍ إلا رجاءُ أن أكون من أهل الجنة، وقد رواه كثير من المشايخ:"إلَّا رجاءة" بتاء التأنيث، وهو مصدرُ الرَّجاء، لكنه محدود، قال المبرّدُ: تقولُ العربُ: فعلته رَجْأتك؛ أي: رجاك؛ من الرَّجاء، وهو الطمَعُ في تحصيل ما فيه عَرَضٌ ونَفعٌ. انتهى

(4)

.

(أَنْ أَكُونَ مِنْ أَهْلِهَا)؛ أي: من أهل الجنّة الموصوفة بما ذُكر. (قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("فَإِنَّكَ مِنْ أَهْلِهَا") هذه بشرى من النبيّ صلى الله عليه وسلم لعُمير بن الحمام رضي الله عنه بأنه من أهل الجنّة، وذلك بوحي من الله، {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)} [النجم]. (فَأَخْرَجَ تَمَرَاتٍ مِنْ قَرَنِهِ) بفتح القاف والراء، وهي جَعْبَةُ السهام، قال القرطبيّ رحمه الله: وهكذا روايتنا فيه، وأما من رواه بضمّ القاف، وسكون الراء، وكسر الباء، وقَرْقَره، فتغيير، وإن كانت لهما أوجهٌ بعيدة. انتهى

(5)

.

(1)

"الكاشف عن حقائق السنن" 8/ 2637.

(2)

"القاموس المحيط" ص 322.

(3)

"شرح النوويّ" 13/ 45 - 46.

(4)

"المفهم" 3/ 735.

(5)

"المفهم" 3/ 736.

ص: 533

(فَجَعَلَ يَأْكُلُ مِنْهُنَّ)؛ أي: من تلك التمرات، (ثُمَّ قَالَ) عُمير (لَئِنْ أَنَا حَيِيتُ) بفتح أوله، وكسر ثانيه، من باب تَعِبَ.

قال الطيبيّ رحمه الله: قوله: "لئن أنا حييت" اللام موطّئة للقسم، و"إن" شرطيّة، و"أنا" فاعل فعل مضمَر يفسّره ما بعده. (حَتَّى آكُلَ تَمَرَاتِي هَذِهِ)، وقوله:(إِنَّهَا لَحَيَاةٌ طَوِيلَةٌ) جواب القسم، واكتُفي به عن جواب الشرط، ويُمكن أن يُذهب به مذهب أصحاب المعاني، فيقال: إن الضمير المنفصل قُدِّم للاختصاص، وهو على منوال قوله تعالى:{قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي} الآية [الإسراء: 100] فكأنه وَجَد نفسه مختارةً للحياة على الشهادة، فأنكر عليها ذلك الإنكار، وإنما قال ذلك استبطاءً للانتداب بما نُدِب به من قوله صلى الله عليه وسلم:"قوموا إلى جنّة"؛ أي: سارعوا إليها. انتهى

(1)

.

(قَالَ) أنس رضي الله عنه (فَرَمَى بِمَا كَانَ مَعَهُ مِنَ التَّمْرِ، ثُمَّ قَاتَلَهُمْ)؛ أي: المشركين، (حَتَّى قُتِلَ) بالبناء للمفعول؛ أي: استُشهد في تلك المعركة رضي الله عنه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أنس بن مالك رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [41/ 4907](1901)، و (أبو داود) في "الجهاد"(2618)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 136)، و (أبو عوانة) في "مسنده" 4/ 459)، و (الحاكم) في "المستدرك"(3/ 481)، و (ابن أبي عاصم) في "الجهاد"(1/ 226)، و (عبد بن حميد) في "مسنده"(1/ 379)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(9/ 43 و 99)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان جواز بعث العيون والجواسيس؛ لاستطلاع خبر العدوّ، وأخْذ الحذر منهم.

(1)

"الكاشف عن حقائق السنن" 8/ 2637.

ص: 534

2 -

(ومنها): بيان استحباب التورية في الحرب، وأن لا يبيّن الإمام جهة إغارته، وإغارة سراياه؛ لئلا يشيع ذلك، فيأخذ العدوّ بالحذر والتأهّب.

3 -

(ومنها): بيان فضل هذا الصحابيّ الجليل، عُمير بن الْحُمام رضي الله عنه.

4 -

(ومنها): بيان استحباب حثّ الإمام الجيش على الإقدام على العدو من غير جُبن، وترغيبهم في الجنّة، وقد دعا الله سبحانه وتعالى إلى ذلك في قوله تعالى:{وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (25)} [يونس: 25]، وقوله:{وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133)} [آل عمران: 133]، وقوله:{سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21)} ) [الحديد: 21].

5 -

(ومنها): بيان سعة الجنّة، وأنها كَعَرض السموات والأرض.

6 -

(ومنها): ما قاله القرطبيّ رحمه الله: وفي هذين الحديثين - يعني: هذا الحديث، والحديث التالي - دليل على جواز استقتال الرجل نفسه في طلب الشَهادة، وإن علم أنه يُقتَل، وقد فعله كثير من الصحابة والسَّلف وغيرهم، وروي عن عمر، وأبي هريرة رضي الله عنهما، وهو قولُ مالك، ومحمد بن الحسن، غير أنَّ العلماءَ كرهوا فِعلَ ذلك لرأس الكتيبة؛ لأنه إن هلك هلك جيشُه، وقد روي عن عمر أيضًا كراهية الاستقتال، وقال:"لأن أموتَ على فراشي أحبُّ إليَّ من أن أُقتل بين يدي صفٍ"؛ يعني: يُستقتل، ورأى بعضُ العلماء هذا الفعلَ مِن إلقاءه اليد للتهلكة المنهي عنه.

قال القرطبيّ: وفي هذا بُعْدٌ من وجهين:

أحدهما: أن أحسنَ ما قيل في الآية: أنها فيمن ترك الإنفاق في الجهاد.

وثانيها: أن عملًا يُفضي بصاحبه إلى نيل الشَّهادة ليس بتهلكة، بل التهلكةُ: الإعراضُ عنه، وتركُ الرَّغبة فيها، ودلَّ على ذلك الأحاديث المتقدِّمة كلها، فلا يُعدل عنها. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم.

(1)

"المفهم" 3/ 736 - 737.

ص: 535

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4908]

(1902) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى التَّمِيمِيُّ، وَقُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ - وَاللَّفْظُ لِيَحْيَى - قَالَ قُتَيْبَةُ: حَدَّثَنَا، وَقَالَ يَحْيَى: أَخْبَرَنَا جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِي عِمْرَانَ الْجَوْنِيِّ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي، وَهُوَ بِحَضْرَةِ الْعَدُوِّ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ أَبْوَابَ الْجَنَّةِ تَحْتَ ظِلَالِ السُّيُوفِ"، فَقَامَ رَجُلٌ رَثُّ الْهَيْئَةِ، فَقَالَ: يَا أَبَا مُوسَى آنْتَ سَمِعْتَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ هَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَرَجَعَ إِلَى أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: أَقْرَأُ عَلَيْكُمُ السَّلَامَ، ثُمَّ كَسَرَ جَفْنَ سَيْفِهِ، فَأَلْقَاهُ، ثُمَّ مَشَى بِسَيْفِهِ إِلَى الْعَدُوِّ، فَضَرَبَ بِهِ، حَتَّى قُتِلَ).

رجال هذا الإسناد: ستّةٌ:

1 -

(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى التَّمِيمِيُّ) تقدّم قريبًا.

2 -

(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) الثقفيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

3 -

(جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ) الضُّبَعيّ، أبو سليمان البصريّ، صدوقٌ زاهدٌ، لكنّه يتشيّع [8](ت 178)(بخ م 4) تقدم في "الإيمان" 55/ 322.

4 -

(أَبُو عِمْرَانَ الْجَوْنِيُّ) عبد الملك بن حبيب الأزديّ، أو الكِنديّ، ثقةٌ، من كبار [4](ت 128) أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 86/ 455.

[تنبيه]: قوله: "الْجَوْنيّ": - بفتح الجيم، وسكون الواو، آخره نون -: نسبة إلى جَوْن، وهو بطن من الأزد، وهو الجَوْن بن عوف بن خزيمة بن مالك بن الأزد، قاله في "اللباب"

(1)

.

5 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ قَيْسٍ) الأشعريّ الكوفيّ، اسمه عمرو، أو عامر، ثقةٌ [3](ت 106) وكان أسنّ من أخيه أبي بُرْدة (ع) تقدم في "الإيمان" 86/ 455.

6 -

(أَبُوهُ) عبد الله بن قيس بن سُليم بن حضّار، أبو موسى الأشعريّ الصحابيّ الشهير، مات سنة خمسين، أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 16/ 171.

(1)

"اللباب في تهذيب الأنساب" 1/ 312.

ص: 536

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان قرن بينهما؛ لاتحاد كيفيّة أخذه وأدائه منهما، حيث سمع من كلّ منهما مع غيره، ثم فصّل؛ لاختلافهما في كيفيّة الأخذ والأداء، حيث سمع الأول من لفظ جعفر مع غيره، ولذا قال:"حدّثنا"، والثاني سمع قراءة قارئ على جعفر، ولذا قال:"أخبرنا"، وقد سبق بيان هذا غير مرّة.

وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، والابن عن أبيه، وأن صحابيّه من فضلاء الصحابة رضي الله عنهم، وقد أمّره عمر بن الخطاب، ثم عثمان رضي الله عنهم، وهو أحد الْحَكَمين بصفّين، ومدحه النبيّ صلى الله عليه وسلم بحسن الصوت في القرآن، فقال له:"لقد أوتيت من مزامير آل داود عليه السلام"، متّفقٌ عليه.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ قَيْسٍ) تقدّم الخلاف في اسمه، (عَنْ أَبِيهِ) عبد الله بن قيس الأشعريّ رضي الله عنه، وقوله:(قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي) بيان وتوضيح لقوله: "عن أبيه"؛ أي: قال أبو بكر: سمعت أبي عبدَ الله بن قيس، وقوله:(وَهُوَ بِحَضْرَةِ الْعَدُوِّ) جملة حاليّة من "أبي"، و"الْحَضْرة" بفتح الحاء، وضمّها، وكسرها، ثلاث لغات، ويقال أيضًا: بحضر - بفتح الحاء والضاد، بحذف الهاء، قاله النوويّ

(1)

.

وقال المجد رحمه الله: وكان بحضرته، مثلّثةً، وحضَره، وحَضَرَته محرّكتين، ومَحْضَره بمعنًى. انتهى

(2)

.

وقال الفيّوميّ رحمه الله: وكلّمته بحضرة فلان؛ أي: بحضوره، وحَضْرةُ الشيء: فِناؤه وقُرْبه، وكلّمته بحضرة فلان، وزانُ سَبَب لغةٌ، وبمحضره؛ أي: بمشهده. انتهى

(3)

.

(يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ أَبْوَابَ الْجَنَّةِ تَحْتَ ظِلَالِ السُّيُوفِ") قال

(1)

"شرح النوويّ" 13/ 46.

(2)

"القاموس المحيط" ص 297.

(3)

"المصباح المنير" 1/ 140.

ص: 537

العلماء: معناه: أن الجهاد، وحضور معركة القتال طريق إلى الجنّة، وسبب لدخولها

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "الجنَّةُ تحت ظلالِ السُّيوف": من الاستعارة البديعة، والألفاظ السَّهلة البليغة التي لا يُنسَجُ على منوالها، ولا يقدِرُ بليغ أن يأتيَ بمثالها؛ يعني بذلك: أن من خاض غَمَراتِ الحروب، وباشرَ حالَ المسايفة كان له جزاء الجنة، وهذا من باب قوله صلى الله عليه وسلم:"الجنَّة تحت أقدام الأمَّهات"

(2)

؛ أي: مَن تذلَّل لهنَّ، وأطاعهنَّ وَصَل إلى الجنة، ودخلها. انتهى

(3)

.

وقال الطيبيّ رحمه الله: قوله: "تحت ظلال السيوف" هو كناية تلويحيّة عن إعلاء كلمة الله عز وجل، ونَصْر دينه، فإن "تحت ظلال السيوف" مُشعِر بكونها مُشْهَرة، غير مُغْمَدة، ثم هو مُشْعِر بكونها مرفوعة فوق رؤوس المجاهدين، كالمظلّات، ثم هو على التسايف، والتضارب في المعارك، ثم هو على إعلاء كلمة الله العليا، ونُصرة دينه القويم الموجبة لأن يُفتح لصاحبها أبواب الجنّة كلّها، ويُدعى أن يَدخُل من أيّ باب شاء، وهو أبلغ في الكرامة من أن يقال: الجنّة تحت ظلال السيوف، ومن ثمّ سلّم الرجل على أصحابه تسليم توديع، وكسر جَفْن سيفه، ومضى. انتهى

(4)

.

(فَقَامَ رَجُلٌ) قال صاحب "التنبيه": لا أعرفه. انتهى

(5)

. (رَثُّ الْهَيْئَةِ)"الرّثّ" - بفتح الراء، وتشديد الثاء المثلّثة، يقال: رَثّ الشيءُ يَرُثّ، من باب

(1)

"شرح النوويّ" 13/ 46.

(2)

الحديث بهذا اللفظ ضعيف، وقد أخرجه النسائيّ في "المجتبى" 6/ 11 بسنده عن معاوية بن جاهمة السلميّ، أن جاهمة جاء إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، أردت أن أغزو، وقد جئت أستشيرك، فقال:"هل لك من أم؟ " قال: نعم، قال:"فالزمها، فإن الجنة تحت رجليها". انتهى، وهو حديث حسن.

(3)

"المفهم" 3/ 736.

(4)

"الكاشف عن حقائق السنن" 8/ 2660 - 267.

(5)

"تنبيه المعلم" ص 330.

ص: 538

قَرُب

(1)

رُثُوثةً، ورَثَاثةً: خَلُقَ، فهو رَثٌّ، وأرثّ بالألف مثله، ورَثَّتْ هيئة الشخص، وأرثّت: ضَعُفَت، وهانت، وجمع الرّثّ: رِثَاثٌ، مثل سَهْمٍ وسِهَام، قاله الفيّوميّ

(2)

.

والْهَيئة: الحالة الظاهرة.

وزاد في "الجهاد" لابن المبارك: "أنه شابّ، وفيه أن ذلك كان عند مصافّ العدوّ بأصبهان".

(فَقَالَ) الرجل (يَا أَبَا مُوسَى آنْتَ) بمدّ الهمزة، وأصله أأنت بهمزتين، أُولاهما همزة الاستفهام، فقُلبت الثانية مَدّة، (سَمِعْتَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ هَذَا؟ قَالَ) أبو موسى رضي الله عنه (نَعَمْ) سمعته منه صلى الله عليه وسلم (قَالَ) الراوي (فَرَجَعَ) ذلك الرجل الرثّ الهيئة (إِلَى أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: أَقْرَأُ عَلَيْكُمُ السَّلَامَ، ثم كَسَرَ جَفْنَ سَيْفِهِ) - بفتح الجيم، وإسكان الفاء وبالنون -، وهو غِمْده، (فَأَلْقَاهُ)؛ أي: ألقى الجفن المكسور إلى الأرض، (ثُمَّ مَشَى بِسَيْفِهِ إِلَى الْعَدُوِّ، فَضَرَبَ بِهِ، حَتَّى قُتِلَ) بالبناء للمفعول؛ أي: حتى استُشهد في تلك المعركة، وفيه جواز الانغمار في الكفّار، والتعرّض للشهادة، وهو جائز بلا كراهة عند جماهير العلماء، قاله النوويّ رحمه الله

(3)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [41/ 4908](1902)، و (الترمذيّ) في "فضائل الجهاد"(1659)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1/ 72)، و (ابن المبارك) في "الجهاد"(1/ 170 - 171)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 396 و 411)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4617)، و (ابن أبي عاصم) في "الجهاد"(1/ 75)،

(1)

هكذا جعله في "المصباح" كقَرُب، وجعله غيره من باب ضرب، فليُنظر.

(2)

"المصباح المنير" 1/ 218.

(3)

"شرح النوويّ" 13/ 46.

ص: 539

و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 461)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(13/ 308 و 314)، و (البزّار) في "مسنده"(8/ 86)، و (الحاكم) في "المستدرك"(2/ 70)، و (أبو نعيم) في "الحلية"(2/ 317)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(9/ 44)، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4909]

(677)

(1)

- (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، أَخْبَرَنَا ثَابِتٌ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: جَاءَ نَاسٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالُوا

(2)

: أَنِ ابْعَثْ مَعَنَا رِجَالًا، يُعَلِّمُونَا

(3)

الْقُرْآنَ وَالسُّنَّةَ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ سَبْعِينَ رَجُلًا مِنَ الأَنْصَارِ، يُقَالُ لَهُمُ الْقُرَّاءُ، فِيهِمْ خَالِي حَرَامٌ، يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ، وَيَتَدَارَسُونَ بِاللَّيْلِ، يَتَعَلَّمُونَ، وَكَانُوا

(4)

بِالنَّهَارِ يَجِيئُونَ بِالْمَاءِ، فَيَضَعُونَهُ فِي الْمَسْجِدِ، وَيَحْتَطِبُونَ، فَيَبِيعُونَهُ، وَيَشْتَرُونَ بِهِ الطَّعَامَ لأَهْلِ الصُّفَّةِ، وَلِلْفُقَرَاءِ

(5)

، فَبَعَثَهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَيْهِمْ، فَعَرَضُوا لَهُمْ، فَقَتَلُوهُمْ، قَبْلَ أَنْ يَبْلُغُوا الْمَكَانَ، فَقَالُوا: اللَّهُمَّ بَلِّغْ عَنَّا نَبِيَّنَا، أَنَّا قَدْ لَقِينَاكَ، فَرَضِينَا عَنْكَ، وَرَضِيتَ عَنَّا، قَالَ: وَأَتَى رَجُلٌ حَرَامًا خَالَ أَنَسٍ مِنْ خَلْفِهِ، فَطَعَنَهُ بِرُمْحٍ، حَتَّى أَنْفَذَهُ، فَقَالَ حَرَامٌ: فُزْتُ، وَرَبِّ الْكَعْبَةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لأَصْحَابِهِ:"إِنَّ إِخْوَانَكُمْ قَدْ قُتِلُوا، وَإِنَّهُمْ قَالُوا: اللَّهُمَّ بَلِّغْ عَنَّا نَبِيَّنَا، أَنَّا قَدْ لَقِينَاكَ، فَرَضِينَا عَنْكَ، وَرَضِيتَ عَنَّا").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمِ) بن ميمون السمين البغداديّ، مروزي الأصل، صدوقٌ فاضلٌ ربما وَهِمَ [10](ت 246)(م د) تقدم في "الإيمان" 1/ 104.

2 -

(عَفَّانُ) بن مسلم بن عبد الله الباهليّ، أبو عثمان الصفّار البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار [10](ت 220)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 44.

3 -

(حَمَّادُ) بن سلمة بن دينار، أبو سلمة البصريّ، ثقةٌ عابد أثبت الناس في

(1)

هذا مكرّر تقدّم.

(2)

وفي نسخة بإسقاط لفظة: "فقالوا".

(3)

وفي بعض النسخ: "يعلّمون" بنون لا ألف معها.

(4)

وفي نسخة: "فكانوا".

(5)

وفي نسخة: "والفقراء".

ص: 540

ثابت، وتغيّر بآخره، من كبار [8](ت 167)(خت م 4) تقدم في "المقدمة" 6/ 80.

والباقيان ذُكرا قبل حديث.

من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف، وأنه مسلسل بالبصريين، غير شيخه، فبغداديّ، وفيه أنس رضي الله عنه تقدّم الكلام عنه قريبًا.

شرح الحديث:

(عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: جَاءَ نَاسٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) بيّن الأناس في رواية قتادة، عن أنس عند البخاريّ فقال:"إن رِعْلًا، وغيرهم استمدُّوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على عدوّ، فأمدّهم بسبعين من الأنصار"، وفي رواية للبخاريّ في "الجهاد" من وجه آخر، عن سعيد، عن قتادة:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أتاه رِعْل، وذَكْوان، وعُصَيّة، وبنو لِحيان، فزعموا أنهم أسلموا، واستمدّوا على قومهم".

قال الحافظ: وفي هذا ردّ على من قال: رواية قتادة وَهْم، وأنهم لم يستمدُّوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما الذي استمدّهم عامر بن الطُّفيل على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. انتهى.

قال: ولا مانع أن يستمدّوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الظاهر، ويكون قَصْدهم الغدر بهم.

ويَحْتَمِل أن يكون الذين استمدّوا غير الذين استمدّهم عامر بن الطفيل، وإن كان الكل من بني سُليم.

وفي رواية للبخاريّ عن عاصم، عن أنس:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ أقوامًا إلى ناس من المشركين، بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهدٌ".

ويَحْتَمِل أنه لم يكن استمدادهم لهم لقتال عدوّ، وإنما هو للدعاء إلى الإسلام، وقد أوضح ذلك ابن إسحاق، قال: حدّثني أبي، عن المغيرة بن عبد الرحمن وغيره، قال: قدم أبو براء عامر بن مالك المعروف بِمُلاعِبِ الأسنّة على رسول صلى الله عليه وسلم، فعَرَض عليه الإسلام، فلم يُسلم، ولم يَبْعُد، وقال: يَا محمد لو بعثت رجالًا من أصحابك إلى أهل نَجْد، رجوت أن يستجيبوا لك، وأنا جارٌ لهم، فبَعَثَ المنذرَ بنَ عمرو في أربعين رجلًا منهم الحارث بن

ص: 541

الصِّمّة، وحرام بن مِلْحان، ورافع بن بُديل بن ورقاء، وعروة بن أسماء، وعامر بن فُهيرة، وغيرهم، من خيار المسلمين.

وكذلك أخرج هذه القصة موسى بن عقبة، عن ابن شهاب، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك، ورجال من أهل العلم نحوه، لكن لم يسمّ المذكورين، ووصله الطبريّ من وجه آخر عن ابن شهاب، عن ابن كعب بن مالك، عن كعب، ووصلها أيضًا ابن عائذ من حديث ابن عباس، لكن بسند ضعيف، وهي عند مسلم من طريق حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس مختصرًا - يعني: هذا الحديث - ولم يسمّ أبا براء، بل قال: إن ناسًا.

ويمكن الجمع بينه وبين الذي في "الصحيح" بأن الأربعين كانوا رؤساء، وبقية العِدّة أتباعًا، ووَهِمَ من قال: كانوا ثلاثين فقط، وذكر البخاريّ في مرسل عروة أن عامر بن الطُّفيل أَسَرَ عمرو بن أمية يوم بئر معونة، وهو شاهد لمرسل ابن إسحاق. انتهى

(1)

.

(فَقَالُوا)؛ أي: قال الأناس الذين جاءوا النبيّ صلى الله عليه وسلم (أَنِ ابْعَثْ) الظاهر أنّ "أن" زائدة للتوكيد؛ لأنها لا تكون مفسّرة إذا كان قبلها لفظ القول، كما هو مقرّر في موضعه من كتب النحو

(2)

؛ أي: أرسل (مَعَنَا رِجَالًا) من المسلمين (يُعَلِّمُونَا) بحذف نون الرفع؛ لكونه مجزومًا جوابًا للأمر، و"نا" هو المفعول الأول، و"القرآن. . . إلخ" هو المفعول الثاني، وفي بعض النسخ:"يعلّمون" بنون الرفع، وعليها فالجملة صفة لـ "رجالًا"، والمفعول الأول محذوف، فتنبّه. (الْقُرْآنَ وَالسُّنَّةَ، فَبَعَثَ) صلى الله عليه وسلم (إِلَيْهِمْ سَبْعِينَ رَجُلًا مِنَ الأَنْصَارِ) قال القرطبيّ رحمه الله: هؤلاء السبعون هم الذين استُشْهِدوا ببئر مَعُونة، غَدَرَ بهم قبائلُ من سُليم مع عدوِّ الله عامر بن الطُّفيل، فاستصرخوا عليهم، فقتلوهم عن آخرهم غير رجلين، ولم يُصَب النبيُّ صلى الله عليه وسلم، ولا المسلمون بمثلهم رضي الله عنهم

(3)

.

(يُقَالُ لَهُمُ الْقُرَّاءُ) سمّموا بذلك؛ للزومهم القراءة في آناء الليل، وأطراف

(1)

"الفتح" 9/ 173، كتاب "المغازي" رقم (4088).

(2)

راجع: "مغني اللبيب عن كتب الأعاريب" لابن هشام الأنصاريّ رحمه الله 1/ 74 - 75.

(3)

"المفهم" 3/ 740.

ص: 542

النهار، قال أنس رضي الله عنه (فِيهِمْ)؛ أي: جملة السبعين (خَالِي حَرَامٌ) ابن مِلْحان أخو أم سُليم بن مِلْحان رضي الله عنهما، ثم بيّن سبب تسميتهم بالقرّاء، فقال:(يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ، وَيَتَدَارَسُونَ)؛ أي: يقرءونه، ويتعهّدوه؛ لئلا ينسَوه، يقال: دَرَس يَدْرُسُ دَرَسًا - من بابي نصر، وضرب - ودِراسةً: قرأه، كأدرسه، ودرّسه، أفاده المجد

(1)

، وقال ابن الأثير:"أصل الدراسة: الرياضة، والتعهّد للشيء". انتهى

(2)

. (بِاللَّيْلِ) متعلّق بما قبله على سبيل التنازع، وقوله:(يَتَعَلَّمُونَ) جملة في محلّ نصب على الحال من الفاعل، (وَكَانُوا بِالنَّهَارِ يَجيئُونَ بِالْمَاءِ، فَيَضَعُونَهُ فِي الْمَسْجِدِ) لينتفع به من يجلس فيه، كأهل الصفَّة، ونحوهم، وقال النوويّ رحمه الله: معناه: يضعونه في المسجد مُسَبَّلًا لمن أراد استعماله لطهارة، أو شرب، أو غيرهما، (وَيَحْتَطِبُونَ)؛ أي: يجمعون الحطب (فَيَبِيعُونَهُ، وَيَشْتَرُونَ بِهِ)؛ أي: بثمنه (الطَّعَامَ لأَهْلِ الصُّفَّةِ) - بضمّ الصاد المهملة، وتشديد الفاء -: هم فقراء المهاجرين، ومن لم يكن له منهم منزل يسكنه، فكانوا يأوون إلى موضع مظلّل في المسجد النبويّ، يسكنونه

(3)

.

وقال النوويّ رحمه الله: أصحاب الصفة هم الفقراء الغرباء الذين كانوا يأوون إلى مسجد النبيّ صلى الله عليه وسلم، وكانت لهم في آخره صُفّة، وهو مكان منقطع من المسجد مُظَلَّل عليه، يبيتون فيه، قاله إبراهيم الحربيّ، والقاضي عياض، وأصله من صُفّة البيت، وهي شيء، كالظُّلّة قُدّامه. انتهى

(4)

.

وقوله: (وَلِلْفُقَرَاءِ) وفي بعض النسخ: "والفقراء" بدون لام الجرّ، وهو من عَطْف العامّ على الخاصّ، (فَبَعَثَهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم)؛ أي: أرسل صلى الله عليه وسلم الرجالَ الذين طلبوهم (إِلَيْهِمْ)؛ أي: إلى أولئك الذين جاءوا النبيّ صلى الله عليه وسلم يطلبون منه بعث الرجال، (فَعَرَضُوا لَهُمْ) وفي رواية للبخاريّ: "بعث النبيّ صلى الله عليه وسلم سبعين رجلًا لحاجة، يقال لهم: القرّاء، فعرَضَ لهم حيّان من بني سُليم: رِعْلٌ، وذكوان،

(1)

"القاموس المحيط" ص 424.

(2)

"النهاية في غريب الحديث والأثر" ص 303.

(3)

"النهاية في غريب الحديث والأثر" ص 520.

(4)

"شرح النوويّ" 13/ 47.

ص: 543

عند بئر يقال لها: بئر مَعُونة، فقال القوم: والله ما إياكم أردنا، إنما نحن مجتازون في حاجة للنبيّ صلى الله عليه وسلم، فقتلوهم. . ." الحديث، وفي رواية: "أن رِعْلًا، وذكوان، وعُصيّة، وبني لحيان استمدّوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على عدوّ، فأمدّهم بسبعين من الأنصار، نسمّيهم القرّاء في زمانهم، كانوا يحتطبون بالنهار، ويُصلّون بالليل، حتى كانوا ببئر معونة، قتلوهم، وغدروا بهم. . . ." الحديث.

(فَقَتَلُوهُمْ، قَبْلَ أَنْ يَبْلُغُوا الْمَكَانَ) الذي بُعِثوا إليه (فَقَالُوا)؛ أي: القرّاء المقتولون لَمّا قتلوهم: (اللَّهُمَّ بَلِّغْ عَنَّا نَبِيَّنَا) صلى الله عليه وسلم (أَنَّا قَدْ لَقِينَاكَ،) بفتح همزة "أَنَّا"؛ لوقوعها موقع المصدر، كما قال في "الخلاصة":

وَهَمْزَ "إِنَّ" افْتَحْ لِسَدِّ مَصْدَرِ

مَسَدَّهَا وَفِي سِوَى ذَاكَ اكْسِرِ

والمصدر المؤوّل مفعول ثان لـ "بَلّغ"؛ أي: بلّغه لقاءنا إياك.

(فَرَضِينَا عَنْكَ) بما أعطيتنا ما لا عين رأت، ولا أُذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، (وَرَضِيتَ عَنَّا) بما فعلنا من الجهاد في سبيلك، وطاعة رسولك صلى الله عليه وسلم، حيث بَعَثنا لتعليم القرآن، ونشر السُّنَّة، فقُتلنا في سبيل ذلك.

(قَالَ) أنس (وَأَتَى رَجُلٌ حَرَامًا)؛ أي: ابن ملحان، خال أنس رضي الله عنهما، قال الحافظ: لم أعرف اسم الرجل الذي طعنه، ووقع في السيرة لابن إسحاق ما ظاهره أنه عامر بن الطفيل؛ لأنه قال:"فلما نزلوا - أي: الصحابة - بئر معونة بعثوا حرام بن ملحان بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عامر بن الطفيل، فلما أتاه لم ينظر في كتابه حتى عدا عليه، فقتله"، لكن وقع في الطبرانيّ من طريق ثابت، عن أنس أن قاتل حرام بن ملحان أَسْلَمَ، وعامر بن الطفيل مات كافرًا.

قال: وأما ما أخرجه المستغفريّ في "الصحابة" من طريق القاسم، عن أبي أمامة، عن عامر بن الطفيل أنه قال: يا رسول الله زَوِّدني بكلمات، قال:"يا عامر أفش السلام، وأطعم الطعام، واستحي من الله، وإذا أسأت فأحسن"، الحديث، فهو أسلميّ، ووَهِم المستغفريّ في كونه ساق في ترجمته نَسَب عامر بن الطفيل العامريّ، وقد روى البغويّ في ترجمة أبي براء عامر بن مالك العامريّ من طريق عبد الله بن بُريدة الأسلميّ، قال: حدّثني عمي عامر بن الطفيل، فذكر حديثًا، فعُرِف أن الصحابيّ أسلميّ، ووافق اسمه واسم أبيه

ص: 544

العامريَّ، فكان ذلك سبب الوهم. انتهى

(1)

.

وقوله: (خَالَ أَنَسٍ) بالنصب على أنه بدلٌ، أو عَطْف بيان لـ "حَرَامًا"، (مِنْ خَلْفِهِ، فَطَعَنَهُ بِرُمْحٍ) - بضمّ الراء، وسكون الميم: جمعه رِماحٌ، وأَرْماح، (حَتَّى أَنْفَدَهُ)؛ أي: أخرجه من جانبه الآخر، يقال: نَفَذَ السهمُ نُفُوذًا، من باب قَعَدَ، ونَفَاذًا: خرق الرَّمِيّةَ، وخرج منها، ويتعدّى بالهمزة، والتضعيف

(2)

. (فَقَالَ حَرَامٌ: فُزْتُ) بضمّ الفاء، من الفوز؛ أي: ظَفِرت بمقصودي، يقال: فاز فَوْزًا، من باب قول؛ أي: ظَفِرَ، ونَجَا، وقوله:(وَرَبِّ الْكَعْبَةِ) قَسَمٌ أَقسم به تأكيدًا لكونه فاز، وإنما أقسم رضي الله عنه لأن فوزه وعدٌ من الله عز وجل وَعَده به، وهو لا يُخلف الميعاد، وذلك حين قال سبحانه وتعالى:{إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111)} [التوبة: 111].

وقال القرطبيّ رحمه الله: وقول حرام عندما طُعن: "فُزتُ ورب الكعبة"؛ أي: بما أعدَّ الله للشُهداء، وظاهره أنه عاين منزلته في الجنة في تلك الحالة، ويَحْتَمِلُ أن يقول ذلك محقِّقًا لوعد الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم الحقّ الصدق، فصار كأنه عاين، والله تعالى أعلم

(3)

.

(فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لأَصْحَابِهِ) الذين معه في المدينة، ولم يعلموا بخبر إخوانهم، وما أصيبوا به:("إِنَّ إِخْوَانَكُمْ قَدْ قُتِلُوا، وَإِنَّهُمْ قَالُوا: اللَّهُمَّ بَلِّغْ عَنَّا نَبِيَّنَا، أَنَّا قَدْ لَقِينَاكَ، فَرَضِينَا عَنْكَ، وَرَضِيتَ عَنَّا") تقدّم في "أبواب الوتر" برقم [1545] أن هذا نزل قرآنًا، ثم نُسخ، ولفظه:"قال أنس: أنزل الله عز وجل في الذين قُتلوا ببئر معونة قرآنًا قرأناه حتى نُسخ بعدُ: أن بلّغوا قومنا أن قد لقينا ربّنا، فرضي عنّا، ورضينا عنه"، وتقدّم البحث فيه مستوفًى هناك، فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق.

[تنبيه]: قصّة قتل حرام خال أنس رضي الله عنهما ساقها البخاريّ من طريق

(1)

"الفتح" 9/ 175 - 176، كتاب "المغازي" رقم (4091).

(2)

"المصباح المنير" 2/ 616.

(3)

"المفهم" 3/ 741.

ص: 545

إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، قال: حدّثني أنس، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ خاله أخًا لأم سليم في سبعين راكبًا، وكان رئيس المشركين عامر بن الطفيل خَيَّر بين ثلاث خصال، فقال: يكون لك أهل السهل، ولي أهل المدر، أو أكون خليفتك، أو أغزوك بأهل غطفان، بألف، وألف، فطُعِن عامر في بيت أم فلان، فقال: غُدّة كغدة البَكْر، في بيت امرأة من آل فلان، ائتوني بفرسي، فمات على ظهر فرسه، فانطلق حرام أخو أم سليم، هو ورجل أعرج، ورجل من بني فلان، قال: كونا قريبًا حتى آتيهم، فإن آمنوني كنتم، وإن قتلوني أتيتم أصحابكم، فقال: أَتُؤمِّنوني أبلغ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فجعل يحدّثهم، وأومؤوا إلى رجل، فأتاه من خلفه، فطعنه، قال همام: أحسبه حتى أنفذه بالرمح، قال: الله أكبر، فُزْت ورب الكعبة، فلُحِق الرجل، فقُتلوا كلهم، غير الأعرج كان في رأس جبل، فأنزل الله علينا، ثم كان من المنسوخ:"إنا قد لقينا ربنا، فرضي عنّا، وأرضانا"، فدعا النبيّ صلى الله عليه وسلم عليهم ثلاثين صباحًا، على رِعْل، وذكوان، وبني لِحيان، وعصية الذين عصوا الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أنس بن مالك رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [41/ 4909] وتقدّم مختصرًا في "أبواب القنوت"[1545](677)، و (البخاريّ) في "الوتر"(1002) و"الجهاد"(2801) و (3064 و 3170) و"المغازي" 4088 و 4089 و 4092)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(5/ 80)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(5/ 267 و 383)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 210 و 288)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 462 - 463)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(4/ 131) و"الصغير"(1/ 324) و"الكبير"(4/ 51 - 52)، و (عبد بن حُميد) في "مسنده"(1/ 380)، و (ابن سعد) في "الطبقات"(3/ 515)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(9/ 225) و"شعب الإيمان"(7/ 221)، والله تعالى أعلم.

ص: 546

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان ثبوت الجنّة للشهيد، وذلك واضح من قصّة هؤلاء الصحابة رضي الله عنهم، حيث إنهم لَمّا قُتلوا في سبيل الله لقوا ربّهم، فرضي عنهم، ورضوا عنه حيث أدخلهم الجنّة، ثم قالوا: اللهم بلّغ عنا نبيّك. . . إلخ.

2 -

(ومنها): بيان ما كان عليه فقراء المهاجرين من إعراضهم عن الدنيا، وتفرّغهم لقراءة القرآن، وعبادة الله تعالى، وخدمة إخوانهم، فبهذا نالوا الدرجة العليا.

3 -

(ومنها): بيان فضل الصحابيّ الجليل حرام بن مِلحان رضي الله عنه حيث إنه ذاق طعم الجهاد، ولذّة القتل في سبيل الله عز وجل، ولم يتأثّر بالرمح، بل قال مشتاقًا للقاء ربه: فُزت وربّ الكعبة، فرضي الله تعالى عنه، وأرضاه.

4 -

(ومنها): بيان معجزة ظاهرة للنبيّ صلى الله عليه وسلم، حيث بلّغه الله سبحانه وتعالى خَبَرهم مِنْ قَتْلهم، وما تكلّموا به حين لقاء ربهم.

5 -

(ومنها): فيه فضيلة ظاهرة للشهداء، وثبوت الرضا منهم، ولهم، وهو موافق لقوله تعالى:{رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} الآية [التوبة: 100]؛ أي: رضي الله عنهم بطاعتهم، ورضوا عنه بما أكرمهم به، وأعطاهم إياه من الخيرات.

6 -

(ومنها): بيان فضيلة الصدقة، وفضيلة الاكتساب من الحلال لها.

7 -

(ومنها): جواز اتّخاذ الصُّفّة في المسجد، وجواز المبيت فيه بلا كراهة، قال النوويّ: وهو مذهبنا، ومذهب الجمهور. انتهى

(1)

.

8 -

(ومنها): استحباب الاجتماع على قراءة القرآن، ومدارسة العِلم.

9 -

(ومنها): أنَّ المتفرِّغ للعبادة، ولطَلَب العلم لا يُخِلّ بحاله، ولا ينقص توكلَه اشتغالُه بالنظر في مطعمه، ومشربه، وحاجته؛ كما يذهب إليه بعضُ جُهَّال المتزهدة

(2)

.

10 -

(ومنها) ما قاله القرطبيّ رحمه الله: فيه دليلٌ على أن أيدي الفقراء غير المتفرّغين للعبادة فيما يكسبه بعضهم ينبغي أن تكون واحدة، ولا يستأثر بعضهم

(1)

"شرح النوويّ" 13/ 47.

(2)

"المفهم" 3/ 741.

ص: 547

على الآخر بشيءٍ

(1)

.

11 -

(ومنها): إثبات صفة الرضا لله سبحانه وتعالى، وهو على ظاهره، من غير تأويل، ولا تحريف، ولا تمثيل، بل على ما يليق بجلاه سبحانه وتعالى، وأما قول النوويّ، وقال معناه القرطبيّ، من أن الرضا من الله تعالى إفاضة الخير، والإحسان، والرحمة، فيكون من صفات الأفعال، وهو أيضًا بمعنى إرادته، فيكون من صفات الذات. انتهى، فمن قبيل التأويل المذموم؛ إذ فيه صَرْف صفة الرضا عن معناها الحقيقيّ إلى المعنى المجازيّ، وهو المذهب الذي سلكه النوويّ وغيره من المتأخّرين تبعًا للأشاعرة المتكلّمين، وأهل التأويل، وقد سبق لنا غير مرّة الردّ عليه، والتحذير منه؛ لأنه مذهب مخالف لظواهر الكتاب والسُّنَّة، ولِمَا كان عليه السلف الصالح، فعليك أيها العاقل اللبيب أن تتجنّبه، وأن تتّبع مذهب السلف، فإنه الحقّ الواضح، والصراط المستقيم، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

12 -

(ومنها): جواز وضع الماء المسبّل، ونحوه في المسجد لمن يريد الانتفاع به، ولا ينافي ذلك حرمة المسجد، قال النوويّ رحمه الله ما حاصله: كانوا يضعون الماء في المسجد مُسَبَّلًا لمن أراد استعماله لطهارة، أو شرب، أو غيرهما، وقد كانوا يضعون أيضًا أعذاق التمر لمن أرادها في المسجد، في زمن النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولا خلاف في جواز هذا، وفضله. انتهى

(2)

، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4910]

(1903) - (وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا بَهْزٌ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، عَنْ ثَابِتٍ، قَالَ: قَالَ أنَسٌ عَمِّي الَّذِي

(3)

سُمِّيتُ بِهِ، لَمْ يَشْهَدْ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَدْرًا، قَالَ: فَشَقَّ عَلَيْهِ، قَالَ: أَوَّلُ مَشْهَدٍ شَهِدَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم غُيِّبْتُ عَنْهُ، وَإِنْ أَرَانِي اللهُ مَشْهَدًا فِيمَا بَعْدُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم

(1)

"المفهم" 3/ 741.

(2)

"شرح النوويّ" 13/ 47.

(3)

وفي نسخة بإسقاط لفظة: "الذي".

ص: 548

لَيَرَانِيَ اللهُ

(1)

مَا أَصْنَعُ، قَالَ: فَهَابَ أَنْ يَقُولَ غَيْرَهَا، قَالَ: فَشَهِدَ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ أُحُدٍ، قَالَ: فَاسْتَقْبَلَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ، فَقَالَ لَهُ أَنَسٌ: يَا أَبا عَمْرٍو أَيْنَ؟ فَقَالَ: وَاهًا لِرِيحِ الْجَنَّةِ، أَجِدُهُ دُونَ أُحُدٍ، قَالَ: فَقَاتَلَهُمْ حَتَّى قُتِلَ، قَالَ: فَوُجِدَ فِي جَسَدِهِ بِضْعٌ وَثَمَانُونَ، مِنْ بَيْنِ ضَرْبَةٍ، وَطَعْنَةٍ، وَرَمْيَةٍ، قَالَ: فَقَالَتْ أُخْتُهُ عَمَّتِي الرُّبَيِّعُ بِنْتُ النَّضْرِ: فَمَا عَرَفْتُ أَخِي إِلَّا بِبَنَانِهِ. ونَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23)} [الأحزاب]، قال: فَكَانوا يُرَوْنَ أنَّها نَزَلَتْ فِيهِ وفِي أَصْحَابِهِ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(بَهْزُ) بن أسد، تقدّم قبل بابين.

والباقون ذُكروا في الباب.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف، وأنه مسلسل بالبصريين، غير شيخه، فبغداديّ، وفيه ثابت ألزم الناس لأنس رضي الله عنه لَزِمه أربعين سنة، وفيه أنس رضي الله عنه من المكثرين السبعة.

شرح الحديث:

(عَنْ ثَابِت) بن أسلم البنانيّ أنه (قَالَ: قَالَ أنَسٌ)؛ أي: ابن مالك رضي الله عنه (عَمِّي الَّذِي سُمِّيتُ بِهِ) بتشديد الميم، مبنيًّا للمفعول، يقال: سمّاه فلانًا، وبفلان، وأسماه إياه، وأسماه به، وسمّاه إياه، وبه؛ أي: جعله له اسمًا، وعَلَمًا عليه

(2)

.

والمعنى هنا: أن أنسًا سُمّي باسم عمّه أنس بن النضر رضي الله عنه، استُشهد بأُحُد، وكان من فضلاء الصحابة رضي الله عنهم، وقد أخرج البخاريّ في "صحيحه" عن أنس، أن الرُّبَيِّع بنت النضر عمته لطمت إنسانًا، فطلبوا العفو، فأبوا، فطلبوا الأرش، فأبوا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"كتابُ الله القصاصُ"، فقال أنس بن النضر: أيكسَر سنّ الربيّع؟ لا، والذي بعثك بالحقّ لا يُكسر سنها، فَرَضُوا بالأرش، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبرّه، منهم أنس بن النضر".

(1)

وفي نسخة: "ليرينّ الله".

(2)

راجع: "القاموس المحيط" ص 643، و"المصباح المنير" 1/ 291.

ص: 549

(لَمْ يَشْهَدْ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَدْرًا)؛ أي: غزوة بدر الكبرى. (قَالَ) أنس بن مالك (فَشَقَّ عَلَيْهِ)؛ أي: شقّ على عمّه أنس رضي الله عنه غَيْبته عن بدر، وفي رواية:"فكبُر عليه ذلك". (قَالَ) أنس بن النضر (أَوَّلُ مَشْهَدٍ)؛ أي: معركة لقتال المشركين، (شَهِدَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم)؛ أي: لأن بدرًا أول غزوة خرج فيها النبيّ صلى الله عليه وسلم بنفسه مقاتلًا، وقد تقدّمها غيرها، لكن ما خرج فيه صلى الله عليه وسلم بنفسه مقاتلًا. (غِبْتُ عَنْهُ) - بكسر الغين المعجمة، وسكون الموحّدة -، كذا في النسخة الهنديّة، ووقع في غيرها بلفظ:"غُيِّبْتُ عَنْهُ" بضمّ أوله، وتشديد التحتانيّة، مبنيًّا للمفعول، والأول أوضح. (وَإِنْ أرَانِي اللهُ مَشْهَدًا)؛ أي: محلّ شهود لقتال العدوّ؛ أي: معركة من المعارك، (فِيمَا بَعْدُ)؛ أي: في الزمن الذي بعد بدر، (مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَيَرَانِيَ اللهُ مَا أَصْنَعُ) - بفتح ياء المتكلّم، وسكونها - قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في أكثر النسخ: "لَيَراني" بالألف، وهو صحيح، ويكون "ما أصنع" بدلًا من الضمير في "لَيَراني"؛ أي: لَيَرى الله ما أصنع، ووقع في بعض النسخ:"لَيَرَيَنَّ الله" بياء، بعد الراء، ثم نون مشدّدة، وهكذا وقع في "صحيح البخاريّ"، وعلى هذا ضبطوه بوجهين:

أحدهما: "لَيَرَيَنَّ" بفتح الياء، والراء؛ أي: يراه الله واقعًا، بارزًا.

والثاني: "لَيُرِيَنَّ" بضم الياء، وكسر الراء، ومعناه: ليرينّ اللهُ الناسَ ما أصنعه، ويُبْرِزه الله تعالى لهم. انتهى

(1)

.

وقال في "الفتح": قوله: "لَيَرَيَنَّ اللهُ ما أصنع" - بتشديد النون -؛ للتأكيد، واللام جواب القَسَم المقدّر، قال: وفي رواية للبخاريّ في "المغازي": "لَيَرينّ الله ما أُجِدّ"، وهو بضم الهمزة، وكسر الجيم، وتشديد الدال، أو بفتح الهمزة، وضم الجيم، مأخوذ من الْجِدّ ضد الهزل. انتهى

(2)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: كلام أنس بن النضر رضي الله عنه هذا تضمَّنَ أنه ألزمَ نفسه إلزامًا مؤكدًا، وهو الإبلاءُ في الجهاد، والانتهاض فيه، والإبلاغُ في بذل ما يقدر عليه منه، ولم يصرِّح بذلك مخافةَ ما يتوقَّع من التقصير في ذلك، وتبرُئًا

(1)

"شرح النوويّ" 13/ 48.

(2)

"الفتح" 7/ 68، كتاب "الجهاد" رقم (2805).

ص: 550

مِن حوله وقوته؛ ولذلك قال: "فهاب أن يقول غيرها"، ومع ذلك فنَوَى بقلبه، وصمّم على ذلك، بصحيح قصده، ولذلك سمَّاه الله تعالى عهدًا في الآية، حيث قال:{مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} الآية [الأحزاب: 23]، فسمَّاه عهدًا. انتهى

(1)

.

(قَالَ: فَهَابَ أَنْ يَقُولَ غَيْرَهَا) قال النوويّ: معناه: أنه اقتَصَر على هذه اللفظة المبهمة؛ أي: قوله: "لَيَرَيَنَّ اللهُ ما أصنع"؛ مخافةَ أن يُعاهد الله على غيرها، فيَعْجز عنه، أو تضعُف بُنْيَته عنه، أو نحو ذلك، وليكون إبراءً له من الحول والقوة. انتهى

(2)

.

وقال في "الفتح": أي خَشِي أن يلتزم شيئًا، فَيَعْجِزَ عنه، فأَبْهم، وعُرِف من السياق أن مراده أنه يبالغ في القتال، وعدم الفرار. (قَالَ) أنس بن مالك (فَشَهِدَ)؛ أي: عمّه (مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ أُحُدٍ) بضمّتين: اسم جبل بقرب مدينة النبيّ صلى الله عليه وسلم، من جهة الشام، وكانت به الوقعة المشهورة في أوائل شوّال سنة ثلاث من الهجرة، وهو مذكّر، فينصرف، وقيل: يجوز تأنيثه على توهّم البُقعة، والأول هو الصحيح

(3)

. (قَالَ: فَاسْتَقْبَلَ) أنس بن النضر (سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ) بالنصب على المفعوليّة، ويَحْتَمِل أن يكون سعد مرفوعًا على الفاعليّة، والمفعول محذوف؛ أي: فاستقبله؛ أي: أنسًا سعدُ بنُ معاذ، وهو الذي في رواية البخاريّ، ولفظه:"فاستقبله سعدُ بنُ معاذ".

وفي "مسند الطيالسيّ": "فاستقبله سعدُ بنُ معاذ، منهزِمًا"، ولفظ البخاريّ:"فلمّا كان يوم أُحُد، وانكشف المسلمون قال: اللهمّ إني أعتذر إليك مما صَنَع هؤلاء؛ يعني: أصحابه، وأبرأ إليك مما صَنَع هؤلاء؛ يعني: المشركين، ثم تقدّم، فاستقبله سعد بن معاذ. . .". (فَقَالَ لَهُ أَنَسٌ)؛ أي: قال أنس بن النضر لسعد بن معاذ (يَا أَبَا عَمْرٍو) كنية سعد، (أَيْنَ؟)؛ أي: إلى أي موضع تفرّ، وذلك لأنه استقبله منهزمًا، حينما انهزم الناس، (فَقَالَ) أنس لسعد حين استقبله متقدّمًا إلى المشركين، ففي رواية البخاريّ: "ثمّ تقدّم، فاستقبله

(1)

"المفهم" 3/ 738.

(2)

"شرح النوويّ" 13/ 48.

(3)

راجع: "المصباح المنير" 1/ 6.

ص: 551

سعد بن معاذ، فقال: يا سعد بن معاذ الجنّة، وربّ النضر، إني أجد ريحها من دون أُحد". (وَاهًا لِرِيحِ الْجَنَّةِ) "واهًا" كلمة تحنّن، وتلهّف، قاله النوويّ

(1)

، وقال القرطبيّ: أي عَجَبًا منه، فهي هنا كلمة تعجّب، وقد تأتي للترحّم، والتلهّف، والاستهانة

(2)

.

وقال في "اللسان": واه تلهّفٌ، وتلوّذٌ، وقيل: استطابة، ويُنَوَّنُ، فيقال: واهًا لفلانٍ، قال أَبو النجم [من الرجز]:

وَاهًا لِرَيَّا ثُمَّ وَاهًا وَاهَا

يَا لَيْتَ عَيْناهَا

(3)

لَنَا وَفَاهَا

بِثَمَنٍ نُرْضِي بِهِ أَبَاهَا

فَاضَتْ دُمُوعُ الْعَيْنِ مِنْ جَرَّاها

هِيَ الْمُنَى لَوْ أنَّنَا نِلْناها

(4)

(أَجِدُهُ دُونَ أُحُدٍ) قال النوويّ رحمه الله: محمول على ظاهره، وأن الله تعالى أوجد له ريحها من موضع المعركة، وقد ثبتت الأحاديث أن ريحها توجد من مسيرة خمسمائة عام. انتهى

(5)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: ظاهره الحملُ على أنه وجده حقيقةً، كما جاء في الحديث الآخر:"إن ريح الجنّة يوجد على مسيرة خمسمائة عام".

ويَحْتَمِل أن يكون قاله على معنى التمثيل؛ أي: إن القتل دون أُحد موجب لدخول الجنة، ولإدراك ريحها ونعيمها. انتهى

(6)

.

قال الجامع عفا الله عنه: لا يخفى أن الاحتمال الأول هو الحقّ، كما اقتصر عليه النوويّ؛ لأن نصوص الشرع إذا أمكن حَمْلها على ظاهرها لا يُعدل إلى غيره إلا لمانع، ولا مانع من ذلك هنا، فتبصّر، والله تعالى أعلم.

وقال في "الفتح": قوله: "إني أجد ريحها"؛ أي: ريح الجنة، "من دون أُحُد"، وفي رواية ثابت:"واهًا لريح الجنة، أجدها دون أُحد".

قال ابن بطال، وغيره: يَحْتَمِل أن يكون على الحقيقة، وأنه وجد ريح

(1)

شرح النوويّ" 13/ 48.

(2)

"المفهم" 3/ 739.

(3)

قوله: "عيناها" هو على لغة من يُلزم المثنى الألف في الأحوال كلّها.

(4)

"لسان العرب" 13/ 562.

(5)

"شرح النوويّ" 13/ 48.

(6)

"المفهم" 3/ 739.

ص: 552

الجنة حقيقةً، أو وَجَد ريحًا طيبةً، ذَكَّره طيبُها بطِيب ريح الجنة، ويجوز أن يكون أراد أنه استحضر الجنة التي أُعدّت للشهيد، فتصوّر أنها في ذلك الموضع الذي يقاتِل فيه، فيكون المعنى: إني لأعلم أن الجنة تُكتَسب في هذا الموضع، فأشتاق لها، وقوله:"واهًا" قاله إما تعجبًا، وإما تشوّقًا إليها، فكأنه لمّا ارتاح لها، واشتاق إليها، صارت له قُوّةُ من استنشقها حقيقةً. انتهى

(1)

.

قال الجامع: قد عرفت أن الحقّ حمل الحديث على ظاهره، فهو وَجَد ريح الجنّة حقيقةً، فتنبّه.

[تنبيه]: زاد في رواية البخاريّ: "قال سعد: فما استطعتُ يا رسول الله ما صنع أنس"، وسعد هو ابن معاذ الذي استقبله.

قال ابن بطال: يريد: ما استطعتُ أن أصف ما صنع أنس، من كثرة ما أغنى، وأبلى في المشركين.

قال الحافظ: وقع عند يزيد بن هارون عن حُميد: "فقلت: أنا معك، فلم أستطع أن أصنع ما صنع"، وظاهره أنه نفى استطاعة إقدامه الذي صَدَر منه، حتى وقع له ما وقع، من الصبر على تلك الأهوال، بحيث وُجِد في جسده ما يزيد على الثمانين، من طعنة، وضربة، ورَمية، فاعترَفَ سعد بأنه لم يستطع أن يُقدم إقدامه، ولا يصنع صنيعه، وهذا أَولى مما تأوله ابن بطال. انتهى

(2)

.

(قَالَ) الراوي، وهو أنس بن مالك رضي الله عنه، (فَقَاتَلَهُمْ)؛ أي: قاتل المشركين أنس بن النضر رضي الله عنه (حَتَّى قُتِلَ) بالبناء للمفعول؛ أي: استُشهِد في تلك المعركة.

قال القرطبيّ رحمه الله: ظاهره أنه قاتَلهم وحده، فيكون فيه دليلٌ على جواز الاستقتال، بل على ندبيّته، كما تقدّم

(3)

.

(قَالَ) أنس بن مالك (فَوُجِدَ فِي جَسَدِهِ) ببناء الفعل للمفعول؛ أي: وُجد

(1)

"الفتح" 7/ 68، كتاب "الجهاد" رقم (2805).

(2)

"الفتح" 7/ 68، كتاب "الجهاد" رقم (2805).

(3)

"المفهم" 3/ 739.

ص: 553

في جسد أنس بن النضر رضي الله عنه، وللبخاريّ:"فوجدنا به"، وفي رواية:"قال أنس: فوجدناه بين القتلى، وبه. . .". (بِضْعٌ وَثَمَانُونَ) قال الفيّوميّ رحمه الله: "البِضْعُ" في العدد بكسر الموحّدة، وبعضُ العرب يفتحها، واستعماله من الثلاثة إلى التسعة، وعن ثعلب من الأربعة إلى التسعة، يستوي فيه المذكر والمؤنث، فيقال: بِضْعُ رجال، وبِضْعُ نسوة، ويُستعمل أيضًا من ثلاثة عشر إلى تسعة عشر، لكن تثبت الهاء في بِضْعٍ مع المذكر، وتحذف مع المؤنث، كالنّيِّفِ، ولا يُستعمل فيما زاد على العشرين، وأجازه بعض المشايخ، فيقول: بِضْعَةٌ وعشرون رجلًا، وبِضْعٌ وعشرون امرأةً، وهكذا قاله أبو زيد، وقالوا على هذا: معنى البِضْعِ، والبِضْعَةِ في العدد قطعةٌ مُبْهَمَةٌ، غير محدودة. انتهى

(1)

.

قال الحافظ رحمه الله: لم أر في شيء من الروايات بيان هذا الْبِضع، وقد تقدّم أنه ما بين الثلاث والتسع. انتهى

(2)

.

وقوله: (مِنْ بَيْنِ ضَرْبَةٍ) بالفتح المرّة من الضرب، (وَطَعْنَةٍ) بالفتح أيضًا: المرّة من الطعن، (وَرَمْيَةٍ) بالفتح أيضًا: المرّة من الرمي، وفي رواية البخاريّ:"قال أنس: فوجدنا به بضعًا وثمانين ضربةً بالسيف، أو طعنةً برمح، أو رَميةً بسهم"، قال في "الفتح":"أو" هنا للتقسيم، ويَحْتَمِل أن تكون بمعنى الواو، وتفصيل مقدار كلّ واحدة من المذكورات غير معيّن. انتهى

(3)

.

زاد في رواية البخاريّ: "ووجدناه، قد قُتل، وقد مَثَلَ به المشركون": قوله: وقد مَثل به بفتح الميم، والمثلثة، وتخفيفها، وقد تُشَدّد، وهو من المُثلة بضم الميم، وسكون المثلثة، وهو قطع الأعضاء، من أنف، وأذن، ونحوها

(4)

.

(قَالَ) أنس بن مالك (فَقَالَتْ أُخْتُهُ)؛ أي: أخت أنس بن النضر، وقوله:"فقالت. . . إلخ" هذا صريح في رواية أنس عن عمته الربَيِّع، قال الحافظ رحمه الله:

(1)

"المصباح المنير" 1/ 50 - 51.

(2)

"الفتح" 7/ 68، كتاب "الجهاد" رقم (2805).

(3)

"الفتح" 7/ 68، كتاب "الجهاد" رقم (2805).

(4)

"الفتح" 7/ 68، كتاب "الجهاد" رقم (2805).

ص: 554

وقد أخَلّ صاحب "الأطراف"، فلم يترجم للربَيِّع بنت النضر. انتهى

(1)

.

وقوله: (عَمَّتِي) بدل من "أُخته"، وقوله:(الرُّبَيِّعُ) بضمّ الراء، وفتح الموحّدة، وتشديد التحتانيّة، مصغّرًا، (بِنْتُ النَّضْرِ) بن ضَمْضَم بن زيد بن حرام الأنصاريّة، أخت أنس بن النضر، وعمة أنس بن مالك، وهي من بني عديّ بن النجار، وهي والدة حارثة بن سُراقة الذي استُشهد في بدر، فقالت للنبيّ صلى الله عليه وسلم: أخبرني عن حارثة، فإن يكن في الجنة صبرت، واحتسبت، وإن كان غير ذلك اجتهدت في البكاء، فقال لها النبيّ صلى الله عليه وسلم:"إنه أصاب الفردوس. . ." الحديث.

(فَمَا عَرَفْتُ أَخِي) أنسًا رضي الله عنه (إِلَّا بِبَنَانِهِ) زاد في رواية النسائيّ: "وكان حسَنَ البنان"، والبنان: الأصابع، وقيل: طرف الأصابع، قال القرطبيّ: ومنه قوله تعالى: {عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ} [القيامة: 4]. انتهى

(2)

.

وقال الفيّوميّ رحمه الله: البَنَانُ: الأصابع، وقيل: أطرافها، الواحدة بنانة، قيل: سُمّيت بنَانًا؛ لأن بها صلاح الأحوال التي يستقرّ بها الإنسان؛ لأنه يقال: أَبَنَّ بالمكان: إذا استقرّ به. انتهى

(3)

.

(وَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ) وقوله: ({رِجَالٌ صَدَقُوا}) بدل من اسم الإشارة، و {رِجَالٌ} مبتدأ مؤخّر، خبره قوله:{مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} قبله. ({مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ})"من" في موضع رفع بالابتداء، وكذا قوله:{وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ} والخبر الجارّ والمجرور قبله، و"النحب": النذر والعهد، يقال: نحب ينحُب، من باب نصر: إذا نذر، ومنه قول الشاعر [من الطويل]:

إِذَا نَحَبَتْ كَلْبٌ عَلَى النَّاسِ إِنَّهُمْ

أَحَقُّ بِتَاجِ الْمَاجِدِ الْمُتَكَرِّمِ

وقال آخر [من الطويل]:

أَلَا تَسْأَلانِ المرءَ ماذا يُحاولُ

أنحبٌ فيُقضَى أم ضلالٌ وباطلُ

وقال آخر:

قَدْ نَحَبَ الْمَجْدُ عَلَيْنَا نَحْبَا

وقيل: قضى أجله على ما عاهد عليه، قال ذُو الرمّة [من الطويل]:

(1)

"الإصابة في تمييز الصحابة" 7/ 642.

(2)

"المفهم" 3/ 739.

(3)

"المصباح المنير" 1/ 62.

ص: 555

عَشِيَّةَ فَرَّ الْحَارِثيُّونَ بَعْدَمَا

قَضَى نَحْبَهُ فِي مُلْتَقَى الْجَيْشِ هَوْبَرُ

(1)

والمعنى هنا: أي منهم من بذل جهده على الوفاء بعهده حتى قُتل، كأنس بن النضر، وحمزة بن عبد المطّلب، ومصعب بن عُمير، وغيرهم.

({وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ})؛ أي: الوفاء بما نذر من الموت على ما عاهد عليه، فهو منتظر للشهادة في سبيل الله تعالى. ({وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا})؛ أي: استمرّوا على ما التزموا، ولم يقع منهم نقضٌ لِمَا أبرموا

(2)

.

وقوله: (قَالَ) قال القرطبيّ رحمه الله: هذا القائل هو ثابتٌ، والله تعالى أعلم.

قال الجامع عفا الله عنه: بل الظاهر أن القائل هو أنس رضي الله عنه، فتأمله والله تعالى أعلم.

(فَكَانُوا يُرَوْنَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِيهِ وَفِي أَصْحَابِهِ) وفي رواية البخاريّ: "قال أنسٌ: كنا نرى أو نظنّ أن هذه الآية نزلت فيه، وفي أشباهه".

قال في "الفتح": قوله: "قال أنس: كنا نُرَى، أو نَظُنّ" شك من الراوي، وهما بمعنى واحد، وفي رواية أحمد، عن يزيد بن هارون، عن حميد:"فكنا نقول"، وكذا لعبد الله بن بكر، وفي رواية أحمد بن سنان، عن يزيد:"وكانوا يقولون"، أخرجه ابن أبي حاتم عنه، وكأن التردد فيه من حميد، ووقع في رواية ثابت:"وأُنزلت هذه الآية" بالجزم. انتهى

(3)

.

والمعنى: أن الصَّحابةَ رضي الله عنهم كانوا يظنّون أنَّ هذه الآية الكريمة نزلتْ في أنس بن النضر، وأصحابِهِ الذين استُشهدوا معه، قال القرطبيّ: وقد قيل: نزلت في السَّبعين الذين بايعوا النبيّ صلى الله عليه وسلم على أن يمنعوه مما يمنعون منه نساءهم، وأبناءهم، فوفَّوا بذلك؛ قاله الكلبيُّ، وقد قيل غير هذا

(4)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1)

هو: هوبر بن يزيد الحارثيّ.

(2)

"المفهم" 3/ 740.

(3)

"الفتح" 7/ 68، كتاب "الجهاد" رقم (2805).

(4)

"المفهم" 3/ 740.

ص: 556

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أنس بن مالك رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [41/ 4910](1903)، و (البخاريّ) في "الجهاد"(2805) و"المغازي"(4048) و"التفسير"(4783)، و (الترمذيّ) في "التفسير"(3200)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(5/ 79 و 6/ 431)، و (ابن المبارك) في "الجهاد"(1/ 67)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(2044)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(14/ 395)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 194 و 201 و 253)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4772 و 7023)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 325)، و (الطبريّ) في "التفسير"(21/ 146 - 147)، و (ابن أبي عاصم) في "الجهاد"(2/ 564)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(9/ 43 - 44) و"دلائل النبوّة"(3/ 244 - 245)، و (البغويّ) في "التفسير"(3/ 520)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان جواز بذل النفس في الجهاد.

2 -

(ومنها): بيان فضل الوفاء بالعهد، ولو شقّ على النفس حتى يَصِل إلى إهلاكها.

3 -

(ومنها): أن طلب الشهادة في الجهاد لا يتناوله النهي عن إلقاء النفس إلى التهلكة.

4 -

(ومنها): بيان فضيلةٍ ظاهرةٍ لأنس بن النضر رضي الله عنه، وبيان ما كان عليه من صحة الإيمان، وكثرة التوقي، والتورّع، وقوّة اليقين.

5 -

(ومنها): ما قاله الزين ابن الْمُنَيِّر رحمه الله: من أبلغ الكلام، وأفصحه قول أنس بن النضر رضي الله عنه في حقّ المسلمين:"أعتذر إليك"، وفي حقّ المشركين:"أبرأ إليك"، فأشار إلى أنه لم يرض الأمرين جميعًا مع تغايرهما في المعنى. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(1)

"الفتح" 7/ 68، كتاب "الجهاد" رقم (2805).

ص: 557

(42) - (بَابُ مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللهِ عز وجل

-)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4911]

(1904) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ - وَاللَّفْظُ لِابْنِ الْمُثَنَّى - قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا وَائِلٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُوسَى الأَشْعَرِيُّ، أَنَّ رَجُلًا أَعْرَابِيًّا أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، الرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِلْمَغْنَمِ، وَالرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِيُذْكَرَ

(1)

، وَالرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِيُرَى مَكَانُهُ، فَمَنْ فِي سَبِيلِ اللهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللهِ أَعْلَى، فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللهِ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ) بن عبد الله بن طارق الْجَمَليّ، أبو عبد الله الأعمى الكوفيّ، ثقةٌ عابدٌ، رُمي بالإرجاء [5](ت 118) أو قبلها (ع) تقدّم في "الإيمان" 85/ 452.

2 -

(أَبُو وَائِلٍ) شقيق بن سلمة الأسديّ الكوفيّ، مخضرمٌ ثقةٌ [2](ت 82)(ع) تقدّم في "المقدمة" 6/ 57.

والباقون ذُكروا في البابين الماضيين.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وأن نصفه الأول مسلسلٌ بالبصريين، والثاني بالكوفيين، وأن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ مخضرم، وأن صحابيّه رضي الله عنه من مشاهير الصحابة رضي الله عنهم، كان حسن الصوت بالقراءة، وأثنى عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال له:"لقد أوتيت مزمارًا من مزامير آل داود عليه السلام"، متّفقٌ عليه.

شرح الحديث:

(عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ) الْجَمَليّ أنه (قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا وَائِلٍ) شقيق بن سلمة

(1)

وفي نسخة: "للذكر".

ص: 558

(قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُوسَى) عبد الله بن قيس بن سُليم بن حَضّار رضي الله عنه (الأَشْعَرِيُّ) - بفتح الهمزة -: نسبة إلى أشعر، وهي قبيلة مشهورة من اليمن، والأشعر هو نبت بن أدد بن زيد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان بن سبأ، وإنما قيل له: الأشعر؛ لأن أمه ولدته والشعر على بدنه، قاله في "اللباب"

(1)

. (أَنَّ رَجُلًا أَعْرَابِيًّا) وفي رواية منصور الآتية: "أن رجلًا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم"، قال في "الفتح": قوله: "أعرابيًّا" يدلّ على وَهَم ما وقع عند الطبرانيّ من وجه آخر عن أبي موسى، أنه قال: يا رسول الله، فذكره، فإن أبا موسى وإن جاز أن يُبهم نفسه، لكن لا يصفها بكونه أعرابيًّا، وهذا الأعرابي يصلح أن يُفَسَّر بلاحق بن ضُميرة، وحديثه عند أبي موسى المديني في "الصحابة" من طريق عُفير بن مَعْدان، سمعت لاحق بن ضميرة الباهليّ قال: وفدت على النبيّ صلى الله عليه وسلم، فسألته عن الرجل يلتمس الأجر والذكر، فقال:"لا شيء له. . ." الحديث، وفي إسناده ضعف.

قال: وروينا في "فوائد أبي بكر بن أبي الحديد" بإسناد ضعيف، عن معاذ بن جبل، أنه قال: يا رسول الله، كلُّ بني سَلِمة يقاتل، فمنهم من يقاتل رياء. . ."، الحديث فلو صحّ لاحتمل أن يكون معاذ أيضًا سأل عما سأل عنه الأعرابيّ؛ لأن سؤال معاذ خاصّ، وسؤال الأعرابيّ عامّ، ومعاذ أيضًا لا يقال له: أعرابيّ، فيُحْمَل على التعدد. انتهى

(2)

.

(أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، الرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِلْمَغْنَمِ) - بفتح الميم -: الغنيمة، يقال: غَنِمْتُ الشيءَ، أَغْنَمُهُ، من باب تَعِبَ غُنْمًا: أصبته غَنِيمَةً، ومَغْنَمًا، والجمع: الغَنَائِمُ، والمغَانِمُ، وقولهم: الغُنْمُ بِالغُرْمِ: أي مقابَلٌ به، فكما أن المالك يختصّ بِالغُنْمِ، ولا يشاركه فيه أحد، فكذلك يتحَمّل الغُرْم، ولا يتحمل معه أحد، وهذا معنى قولهم: الغُرْمُ مَجْبُورٌ بِالغُنْمِ، قال أبو عبيد: الغَنِيمَةُ: ما نِيْلَ من أهل الشرك عَنْوَةً، والحرب قائمة، والفيء: ما نِيْلَ منهم بعد أن تضع الحرب أوزارها، أفاده الفيّوميّ رحمه الله

(3)

.

(1)

"اللباب في تهذيب الأنساب" 1/ 64.

(2)

"الفتح" 7/ 76 - 77، كتاب "الجهاد" رقم (2810).

(3)

راجع: "المصباح المنير" 2/ 454 - 455.

ص: 559

وفي رواية منصور عند البخاريّ: "أتى رجل النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: ما القتال في سبيل الله؟، فإن أحدنا يقاتل. . ." الحديث.

(وَالرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِيُذْكَرَ) وفي بعض النسخ: "للذكر"، بكسر الذال؛ أي: ليَذكُره الناس بالشجاعة، ويشتهر بينهم بها، والذِّكر: الشرف، والفخر، والصيت، قاله الطيبيّ

(1)

.

وفي رواية الأعمش التالية: "سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل شجاعةً"، (وَالرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِيُرَى) بالبناء للمفعول، (مَكَانُهُ)؛ أي: مرتبته في الشجاعة، وفي رواية الأعمش:"ويقاتل رياء"، فمرجع الذي قبله إلى السمعة، ومرجع هذا إلى الرياء، وكلاهما مذموم، وزاد في رواية منصور والأعمش:"ويُقاتل حَمِيّةً": أي لمن يقاتِل لأجله من أهل، أو عشيرة، أو صاحب، وزاد في رواية منصور:"ويقاتل غَضَبًا"؛ أي: لأجل حظ نفسه، ويَحْتَمِل أن يفسّر القتال للحميّة بدفع المضرّة، والقتال غضبًا بجلب المنفعة، فالحاصل من رواياتهم أن القتال يقع بسبب خمسة أشياء: طلب المغنم، وإظهار الشجاعة، والرياء، والْحَمِيّة، والغضب، وكل منها يتناوله المدح والذم، فلهذا لم يحصل الجواب بالإثبات، ولا بالنفي، قاله في "الفتح"

(2)

.

(فَمَنْ في سَبِيلِ اللهِ؟)"من" استفهاميّة؛ أي: فمن هو المقاتل في سبيل الله تعالى الذي جاءت النصوص الكثيرة بمدحه، والثناء عليه؟ (فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللهِ) قال الطيبيّ رحمه الله: "كلمة الله عبارة عن دين الحقّ؛ لأن الله تعالى دعا إليه، وأمر الناس بالاعتصام به، كما قيل لعيسى عليه السلام: كلمة الله، وقوله:(أَعْلَى) خبر "تكون"، وإنما ذكّره، وإن كانت الكلمة مؤنّثةً؛ لأن حقّ أفعل التفضيل إذا تجرّد من "أل" والإضافة أن يلزم الإفراد والتذكير، كهندٌ أفضل من عمر، وكذلك إذا أضيف إلى نكرة، كهندٌ أفضل امرأة، وإن كان مقارنًا لـ "أل" فيلزم مطابقته، فيقال: هند الْفُضْلى، وكما في الرواية التالية":"هي العلياء"، وإذا أضيف إلى معرفة جاز الوجهان، كهند أفضل النساء،

(1)

"الكاشف عن حقائق السنن" 8/ 2640.

(2)

"الفتح" 7/ 76 - 77، كتاب "الجهاد" رقم (2810).

ص: 560

وفُضلى النساء، وإلى هذا أشار ابن مالك رحمه الله في "الخلاصة" حيث قال:

وَإِنْ لِمَنْكُورٍ يُضَفْ أَوْ جُرِّدَا

أُلْزِمَ تَذْكِيرًا وَأَنْ يُوَحَّدَا

وَتِلْوَ "أَلْ" طِبْقٌ وَمَا لِمَعْرِفَهْ

أُضِيفَ ذُو وَجْهَيْنِ عَنْ ذِي مَعْرِفَهْ

وفي رواية الأعمش، ومنصور:"لتكون كلمة الله هي العليا"، و"هي" ضمير فصل، و"العليا" خبر "تكون"، وفيه إفادة الاختصاص؛ أي: لم يقاتل لغرض من الأغراض إلا لإظهار الدين

(1)

، وقوله:(فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللهِ") جواب "من".

وقال القرطبيّ رحمه الله: يعني بكلمة الله: دين الإسلام، وأصله: أن الإسلام ظهر بكلام الله تعالى الذي أظهره على لسان نبيّه صلى الله عليه وسلم. انتهى

(2)

.

وقال في "العمدة": كلمة الله: دَعْوَتُه إلى الإسلام، وقيل: هي قول: "لا إله إلا الله". انتهى

(3)

.

وقال في "الفتح": المراد بكلمة الله: دعوة الله إلى الإسلام، ويَحْتَمِل أن يكون المراد: أنه لا يكون في سبيل الله إلا من كان سبب قتاله طلب إعلاء كلمة الله فقط، بمعنى أنه لو أضاف إلى ذلك سببًا من الأسباب المذكورة أخلّ بذلك. ويَحْتَمِل أن لا يُخِلّ إذا حصل ضمنًا لا أصلًا ومقصودًا، وبذلك صَرَّح الطبريّ، فقال: إذا كان أصل الباعث هو الأولَ، لا يضرّه ما عَرَض له بعد ذلك، وبذلك قال الجمهور، لكن رَوَى أبو داود، والنسائيّ من حديث أبي أمامة رضي الله عنه، بإسناد جيّد، قال: جاء رجل، فقال: يا رسول الله، أرأيت رجلًا غزا يلتمس الأجر والذكر ما له؟ قال:"لا شيء له"، فأعادها ثلاثًا كلّ ذلك يقول:"لا شيء له"، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان له خالصًا، وابتُغِيَ به وجهه".

ويمكن أن يُحْمَل هذا على من قَصَد الأمرين معًا على حدّ واحد، فلا يخالف المرجَّح أوّلًا، فتصير المراتب خمسًا: أن يقصد الشيئين معًا، أو يقصد أحدهما صِرْفًا، أو يقصد أحدهما، ويحصل الآخر ضمنًا، فالمحذور أن يقصد

(1)

"الكاشف عن حقائق السنن" 8/ 2640.

(2)

"المفهم" 3/ 742.

(3)

"عمدة القاري" 2/ 297.

ص: 561

غير الإعلاء، فقد يحصل الإعلاء ضمنًا، وقد لا يحصل، ويدخل تحته مرتبتان، وهذا ما دلّ عليه حديث أبي موسى رضي الله عنه، ودونه أن يقصدهما معًا، فهو محذور أيضًا، على ما دلّ عليه حديث أبي أُمامة رضي الله عنه، والمطلوب أن يقصد الإعلاء صرفًا، وقد يحصل غير الإعلاء، وقد لا يحصل، ففيه مرتبتان أيضًا.

قال ابن أبي جمرة رحمه الله: ذهب المحققون إلى أنه إذا كان الباعث الأول قَصْد إعلاء كلمة الله لم يضرّه ما انضاف إليه. انتهى

(1)

.

ويدل على أن دخول غير الإعلاء ضمنًا لا يقدح في الإعلاء إذا كان الإعلاء هو الباعث الأصليّ ما رواه أبو داود، بإسناد حسن، عن عبد الله بن حَوَالة رضي الله عنه، قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أقدامنا لِنَغْنَمَ، فرجعنا، ولم نَغْنَم شيئًا، فقال:"اللهم لا تكلهم إليّ. . ." الحديث.

وفي إجابة النبيّ صلى الله عليه وسلم بما ذُكِر غاية البلاغة والإيجاز، وهو من جوامع كَلِمه صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لو أجابه بأن جميع ما ذَكَره ليس في سبيل الله احْتَمَل أن يكون ما عدا ذلك كله في سبيل الله، وليس كذلك، فعَدَل إلى لفظ جامع عَدَل به عن الجواب عن ماهية القتال إلى حال المقاتل، فتضمّن الجواب وزيادة.

ويَحْتَمِل أن يكون الضمير في قوله: "فهو" راجعًا إلى القتال الذي في ضمن "قاتل"؛ أي: فقتاله قتال في سبيل الله، واشْتَمَل طلب إعلاء كلمة الله على طلب رضاه، وطلب ثوابه، وطلب دحض أعدائه، وكلها متلازمة.

والحاصل مما ذُكِر: أن القتال منشؤه القوّة العقلية، والقوّة الغضبية، والقوّة الشهوانية، ولا يكون في سبيل الله إلا الأول.

وقال ابن بطال رحمه الله

(2)

: إنما عَدَل النبيّ صلى الله عليه وسلم عن لفظ جواب السائل؛ لأن الغضب، والحميّة قد يكونان لله، فعَدَل النبيّ صلى الله عليه وسلم عن ذلك إلى لفظ جامع، فأفاد دفع الإلباس وزيادة الإفهام. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1)

راجع: "بهجة النفوس" 1/ 149.

(2)

"شرح ابن بطّال على البخاريّ" 1/ 203.

ص: 562

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [42/ 4911 و 4912 و 4913 و 4914](1904)، و (البخاريّ) في "العلم"(123) و"الجهاد"(2810) و"فرض الخمس"(3136) و"التوحيد"(7458)، و (أبو داود) في "الجهاد"(2517)، و (الترمذيّ) في "فضائل الجهاد"(1646)، و (النسائيّ) في "الجهاد"(6/ 23) و"الكبرى"(3/ 16)، و (ابن ماجه) في "الجهاد"(2783)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(487 - 488)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(5/ 268)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 392 و 397 و 402 و 405 و 417)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4636)، و (سعيد بن منصور) في "سننه"(2، 250)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 486)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(13/ 234)، و (البزّار) في "مسنده"(8/ 31 - 32)، و (عبد بن حميد) في "مسنده"(1/ 195)، و (ابن أبي عاصم) في "الجهاد"(2/ 588 و 589 و 590)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(9/ 167 - 168) و"شعب الإيمان"(4/ 30)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(2626)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان فضل من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، وكلمة الذين كفروا هي السفلى.

2 -

(ومنها): أن فيه بيان أن الأعمال إنما تُحسب بالنيّة الصالحة، فهو شاهد لحديث:"إنما الأعمال بالنيات. . ." الحديث.

3 -

(ومنها): أن الإخلاص شرط في العبادة، فمن كان له الباعث على العمل هو الأمر الدنيويّ، فلا شكّ في بطلان عمله، ومن كان الباعث الدينيّ أقوى، فقد حكم الحارث المحاسبيّ بإبطال العمل؛ تمسّكًا بهذا الحديث، وخالفه الجمهور، فقالوا: العمل صحيح.

وقال القرطبيّ رحمه الله: ويُفْهَمُ من هذا الحديث: اشتراط الإخلاص في الجهاد، وكذلك هو شرطٌ في جميع العبادات؛ لقوله تعالى:{وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} الآية [البينة: 5]، والإخلاص: مصدرٌ، من أخلصت

ص: 563

العسل وغيره: إذا صفّيته، وأفردتُه من شوائب كدره؛ أي: خلّصته منها، فالمخلِصُ في عباداته هو الذي يُخلصها من شوائب الشركِ والرياء، وذلك لا يتأتَّى له إلا بأن يكون الباعثُ له على عملها قصدَ التقرب إلى الله تعالى، وابتغاء ما عنده، فأما إذا كان الباعثُ عليها غير ذلك من أعراض الدُّنيا؛ فلا يكونُ عبادة، بل يكون معصيةً

(1)

موبقةً لصاحبها، فإما كفرٌ، وهو الشرك الأكبر، وإما رياء، وهو الشركُ الأصغر، ومصيرُ صاحبه إلى النار، كما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه في الثلاثة المذكورين فيه، كما يأتي في الباب التالي.

هذا إذا كان الباعثُ على تلك العبادة الغرضَ الدنيويَّ وحده، بحيث لو فُقِد ذلك الغرضُ لتُرِك العمل، فأما لو انبعث لتلك العبادةِ بمجموع الباعثَينِ: باعث الدنيا وباعث الدين، فإن كان باعثُ الدنيا أقوى، أو مساويًا أُلْحِق بالقسم الأول في الحكم بإبطال ذلك العمل عند أئمة هذا الشأن، وعليه يدلّ قولُه صلى الله عليه وسلم حكاية عن الله تبارك وتعالى:"مَن عَمِل عملًا أشركَ معي فيه غيري تركتُه وشريكه"، رواه مسلم، فأما لو كان باعثُ الدِّين أقوى، فقد حكم المحاسبيّ رحمه الله بإبطال ذلك العمل؛ متمسكًا بالحديث المتقدِّم، وبما في معناه، وخالفه في ذلك الجمهور، وقالوا بصحة ذلك العمل، وهو المفهومُ في فروع مالك.

ويُستدلُ على هذا بقوله صلى الله عليه وسلم: "إن من خير معاش الناس لهم رجل ممسك بعِنَان فرسه في سبيل الله"، فجعل الجهاد مما يصحّ أن يُتخّذ للمعاش، ومن ضرورة ذلك أن يكونَ مقصودًا، لكن لمّا كان باعثُ الدِّين على الجهاد هو الأقوى والأغلب، كان ذلك الغرض مُلْغًى، فيكون مَعْفوًّا عنه؛ كما إذا توضأ قاصِدًا رَفع الحدث والتبرُّد، فأما لو تفرَّد باعثُ الدِّين بالعمل، ثم عَرَض باعث الدنيا في أثناء ذلك العمل فأَولى بالصحة

(2)

، وللكلام في هذا موضع آخر، وما

(1)

وقع في النسخة: "مصيبة"، والظاهر أنه تصحيف، فتأمل، والله تعالى أعلم.

(2)

وقال محمد بن جرير الطبريّ رحمه الله: إذا ابتدأ العمل بالإخلاص لا يضرّه ما عَرَضَ بعده، من عُجب، يطرأ عليه. انتهى، ذكره في "عمدة القاري" 2/ 297 - 298.

ص: 564

ذكرناه كافٍ هنا. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(1)

، وهو بحث نفيسٌ جدًّا، والله تعالى أعلم.

4 -

(ومنها): أن الفضل الذي ورد في المجاهدين في سبيل الله عز وجل يختصّ بمن قاتل لإعلاء كلمة الله تعالى.

5 -

(ومنها): أن هذا من جوامع كَلِمِه صلى الله عليه وسلم؛ لأنه أجاب بلفظ جامع لمعنى السؤال مع الزيادة عليه.

6 -

(ومنها): بيان ما أُعطي النبيّ صلى الله عليه وسلم من الفصاحة، وجوامع الكلم؛ لأنه أجاب السائل بجواب جامع لمعنى سؤاله، لا بلفظه، من أجل أن الغضب والحميّة قد يكون لله عز وجل، وقد يكون لغرض دنيويّ، فأجابه صلى الله عليه وسلم بالمعنى مختصرًا، إذ لو ذهب يَقْسم وجوه الغضب لطال ذلك، ولخشي أن يَلْبِس عليه.

7 -

(ومنها): جواز السؤال عن العلّة.

8 -

(ومنها): أن العلم يتقدّم العمل.

9 -

(ومنها): ذمّ الحرص على الدنيا.

10 -

(ومنها): ذمّ القتال لحظّ النفس في غير طاعة الله تعالى.

11 -

(ومنها): أن قوله في الرواية الآتية: "فرفع رأسه إليه، وما رفع رأسه إليه إلا أنه كان قائمًا" يدلّ على أنه لا بأس أن يكون المستفتي واقفًا إذا كان هناك عذر، من ضيق مكان، أو غيره، وكذلك طالب الحاجة، وفيه إقبال المتكلم على من يخاطبه، قاله النوويّ رحمه الله

(2)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: فيه دليل على جواز سؤال السائل القائم للعالم، وهو قاعد، إذا دعتْ إلى ذلك حاجة، أو عذر، وإلا فالأَولى بالسَّائل الجلوسُ، والتثبُّت؛ كما فعل ذلك جبريل عليه السلام، حيث سأل النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو جالس بين يديه

(3)

.

قال الجامع عفا الله عنه: ترجم الإمام البخاريّ رحمه الله في "كتاب العلم" من

(1)

"المفهم" 3/ 742 - 743.

(2)

"شرح النوويّ" 13/ 50.

(3)

"المفهم" 3/ 744.

ص: 565

"صحيحه"، بقوله:"باب من سأل وهو قائم، عالِمًا جالسًا"، ثم أورد حديث أبي موسى رضي الله عنه هذا محتجًّا به، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4912]

(. . .) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ نُمَيْرٍ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ، قَالَ إِسْحَاقُ: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ الآخَرُونَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ شَقِيقٍ، عَنْ أَبِي مُوسَى، قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الرَّجُلِ يُقَاتِلُ شَجَاعَةً، وَيُقَاتِلُ حَمِيَّةً، وَيُقَاتِلُ رِيَاءً، أَيُّ ذَلِكَ فِي سَبِيلِ اللهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ قَاتَلَ لِتكُونَ كَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا، فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللهِ").

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(ابْنُ نُمَيْرٍ) هو: محمد بن عبد الله بن نُمير، تقدّم قريبًا.

2 -

(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

3 -

(أَبُو مُعَاوِيَةَ) محمد بن خازم الضرير، تقدّم أيضًا قبل ثلاثة أبواب.

4 -

(الأَعْمَشُ) سليمان بن مِهران، تقدّم أيضًا قبل ثلاثة أبواب.

والباقون ذُكروا في الباب والبابين الماضيين.

وقوله: (سُئِلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الرَّجُلِ. . . إلخ) تقدّم في الحديث السابق أن السائل رجلٌ أعرابيّ.

وقوله: (يُقَاتِلُ شَجَاعَةً) - بفتح الشين المعجمة، وتخفيف الجيم: هي الإقدام، والجراءة، وشدّة القلب، قال المجد رحمه الله: الشَّجاعُ كسَحَابٍ، وكِتابٍ، وغُرابٍ، وأميرٍ، وكَتِفٍ، وعِنَبَةٍ، وأحمدَ: الشديدُ القَلْبِ عندَ البأسِ، جمعه: شَجْعَةٌ مثلثةً، وشَجَعَةٌ محركةً، وشِجاعٌ كرِجالٍ، وشُجْعانٌ، بالضمّ، والكسر، وشُجَعاءُ، وهي شُجاعةٌ مثلثةً، وشَجِعَةٌ، كفرحةٍ، وشَريفةٍ، وشَجْعاءُ، جمعها: شَجائِعُ، وشِجاعٌ، وشُجُعٌ، بضمتين، أو خاصٌّ بالرِّجال، وقد شَجُعَ ككَرُمَ. انتهى

(1)

.

وقال الفيّوميّ رحمه الله: شَجُعَ بالضمّ شَجَاعَةً: قَوِيَ قلبه، واستهان

(1)

"القاموس المحيط" 1/ 945.

ص: 566

بالحروب؛ جراءةً، وإقدامًا، فهو: شَجِيعٌ، وشُجَاعٌ، وبنو عُقَيل تفتح الشين؛ حملًا على نقيضه، وهو: جَبَانٌ، وبعضهم يكسر للتخفيف، وامرأة شَجِيعَةٌ، بالهاء، وقيل فيها أيضًا: شُجَاعٌ، وشُجَاعَةٌ، ورجالٌ شُجْعَانُ، بالكسر، والضمّ، وقال ابن دُريد: الضم خطأ، وشِجْعَةٌ، بالكسر، مثل غُلامٍ وغِلْمةٍ، وشُجَعَاءُ، مثل شَرِيف وشُرَفاء، قال أبو زيدٍ: وقد تكون الشَّجَاعَةُ في الضعيف، بالنسبة إلى من هو أضعف منه. انتهى

(1)

.

وقوله: (وَيُقَاتِلُ حَمِيَّةً) - بفتح الحاء المهملة، وكسر الميم، وتشديد الياء آخر الحروف -، نُصِب على أنه مفعول لأجله، قال الجوهريّ: حَمَيتُ عن كذا حَمِيّةً بالتشديد، ومَحْمِيَةً: إذا أَنَفت منه، وداخلك عارٌ، وأَنَفَة أن تفعله

(2)

، وقال غيره: الحميّة: هي المحافظة على الْحُرَم، وقيل: هي الأَنَفَة، والْغَيْرة، والمحاماة عن العشيرة. انتهى

(3)

.

وقوله: (مَنْ قَاتَلَ. . . إلخ)"من" شرطيّة، أو موصولة مبتدأ، خبرها "فهو. . . إلخ"، ودخلت الفاء على الثاني؛ لتضمّنه معنى الشرط.

وقوله: (هِيَ الْعُلْيَا)"هي" فصلٌ، أو مبتدأ، وفيها تأكيد فضل كلمة الله تعالى في العلوّ، وأنها المختصّة به دون سائر الكلام.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد تقدّم البحث فيه مستوفًى في الحديث الماضي، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4913]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَاهُ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ، عَنْ شَقِيقٍ، عَنْ أَبِي مُوسَى، قَالَ: أَتَيْنَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، الرَّجُلُ يُقَاتِلُ مِنَّا شَجَاعَةً. فَذَكَرَ مِثْلَهُ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

وكلّهم ذُكروا في الباب، والباب الماضي.

(1)

"المصباح المنير" 1/ 305.

(2)

"الصحاح" ص 267

(3)

"عمدة القاري" 2/ 197.

ص: 567

وقوله: (فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ) تقدّم أن القائل له أعرابيّ، والظاهر أنهم لمّا حضروا سؤاله، ورضوا به، واستفادوا منه جاز نسبته إليهم، والله تعالى أعلم.

[تنبيه]: رواية عيسى بن يونس، عن الأعمش هذه لم أجد من ساقها بتمامها، فليُنظر، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4914]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أخْبَرَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ، أَن رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْقِتَالِ فِي سَبِيلِ اللهِ عز وجل، فَقَالَ: الرَّجُلُ يُقَاتِلُ غَضَبًا، وَيُقَاتِلُ حَمِيَّةً، قَالَ: فَرَفَعَ رَأْسَهُ إِلَيْهِ، وَمَا رَفَعَ رَأسَهُ إِلَيْهِ إِلَّا أَنَّهُ كَانَ قَائِمًا، فَقَالَ: "مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا، فَهُوَ في سَبِيلِ اللهِ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(جَرِيرُ) بن عبد الحميد، تقدّم قريبًا.

2 -

(مَنْصُورُ) بن المعتمر بن عبد الله السلميّ، أبو عتّاب الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ لا يُدلّس [6](ت 132)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 296.

والباقون ذُكروا قبله.

وقوله: (أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم) تقدّم أنه أعرابيّ، ولا يُعرف اسمه.

وقوله: (قَالَ: فَرَفَعَ رَأْسَهُ إِلَيْهِ) الظاهر أن فاعل "قال" ضمير أبي موسى رضي الله عنه.

وقوله: (إِلَّا أَنَّهُ كَانَ قَائِمًا) الاستثناء مفرّغ، وأن واسمها وخبرها في تقدير المصدر؛ أي: ما رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه إلى السائل لأمر من الأمور إلا لقيام الرجل.

وقوله: (فَقَالَ: "مَنْ قَاتَلَ. . . إلخ) قال في "العمدة": قوله: "فقال": أي النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو الجواب عن سؤال السائل المذكور.

ص: 568

[فإن قلت]: السؤال عن ماهية القتال، والجواب ليس عنها، بل عن المقاتل.

[أجيب]: بأن فيه الجوابَ وزيادةً، أو أن القتال بمعنى اسم الفاعل؛ أي: المقاتل بقرينة لفظ: "فإن أحدنا"، ولفظة "ما" إن قلنا: إنه عامّ للعالم ولغيره، فظاهر، وإن قلنا إنه لغيره فكذلك، إذا لم يعتبر معنى الوصفية فيه؛ إذ صرحوا بنفي الفرق بين العالم وغيره عند اعتبارها، وقال الزمخشريّ في قوله تعالى:{بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} [البقرة: 116]، فإن قلت: كيف جاء بـ "ما" الذي لغير أولي العلم، مع قوله:{قَانِتُونَ} ؟.

قلت: هو كقوله: "سبحان ما سخركنّ لنا"، أو نقول: ضمير "فهو" راجع إلى القتال الذي في ضمن "قاتل": أي فقتاله قتال في سبيل الله.

[فإن قلت]: فمن قاتل لطلب ثواب الآخرة، أو لطلب رضا الله تعالى عنه، فهل هو في سبيل الله؟

[قلت]: نعم؛ لأن طلب إعلاء الكلمة، وطلب الثواب والرضا كلها متلازمة.

وحاصل الجواب: أن القتال في سبيل الله قتال منشؤه القوّة العقلية، لا القوّة الغضبية، أو الشهوانية، وانحصار القوى الإنسانية في هذه الثلاث مذكور في موضعه. انتهى

(1)

.

وقوله: (لِتَكُونَ)؛ أي: لأن تكون، واللام لام "كي".

وقوله: (كَلِمَةُ اللهِ)؛ أي: دَعْوَته إلى الإسلام، وقيل: هي قوله: لا إله إلا الله.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام البحث فيه، ولله الحمد والمنّة.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(1)

"عمدة القاري" 2/ 197.

ص: 569

(43) - (بَابٌ مَنْ قَاتَلَ لِلرِّيَاءِ، وَالسُّمْعَةِ، اسْتَحَقَّ النَّارَ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4915]

(1905) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حَبِيبٍ الْحَارِثيُّ، حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ، حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ يُوسُفَ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، قَالَ: تَفَرَّقَ النَّاسُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَقَالَ لَهُ نَاتِلُ أَهْلِ الشَّامِ: أَيُّهَا الشَّيْخُ حَدِّثْنَا

(1)

حَدِيثًا سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: نَعَمْ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إنَّ أَوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَيْهِ، رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ، فَأُتِيَ بِهِ، فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ

(2)

، فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: قَاتَلْتُ فِيكَ حَتَّى اسْتُشْهِدْتُ، قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ قَاتَلْتَ؛ لأَنْ يُقَالَ: جَرِيءٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ، فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ، حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ، وَعَلَّمَهُ، وَقَرَأَ الْقُرْآنَ، فَأُتِيَ بِهِ، فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ، فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ، وَعَلَّمْتُهُ، وَقَرَأْتُ فِيكَ الْقُرْآنَ، قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ الْعِلْمَ؛ لِيُقَالَ: عَالِمٌ، وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ؛ لِيُقَالَ: هُوَ قَارِئٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ، فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ، حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ وَسَّعَ اللهُ عَلَيْهِ، وَأَعْطَاهُ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ كُلِّهِ، فَأُتِيَ بِهِ، فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ، فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: مَا تَرَكْتُ مِنْ سَبِيلٍ تُحِبُّ أَنْ يُنْفَقَ فِيهَا، إِلَّا أَنْفَقْتُ فِيهَا لَكَ، قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ فَعَلْتَ؛ لِيُقَالَ: هُوَ جَوَادٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ، فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ، ثُمَّ أُلْقِيَ

(3)

فِي النَّارِ").

رجال هذا الإسناد: ستّةٌ:

1 -

(يَحْيَى بْنُ حَبِيبٍ الْحَارِثِيُّ) البصريّ، ثقةٌ [10](ت 248) أو بعدها (م 4) تقدّم في "الإيمان" 14/ 165.

(1)

وفي نسخة: "حدّثني".

(2)

وفي نسخة: "نعمته" في الموضعين.

(3)

وفي نسخة: "فأُلقيَ".

ص: 570

2 -

(خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ) بن عُبيد بن سُليم الْهُجيميّ، أبو عثمان البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 186)(ع) تقدّم في "الإيمان" 35/ 243.

3 -

(ابْنُ جُرَيْجٍ) عبد الملك بن عبد العزيز بن جُريج الأمويّ مولاهم، أبو خالد، وأبو الوليد المكيّ، ثقةٌ فقيهٌ فاضلٌ، لكنه يُدلّس [6](ت 150) أو بعدها (ع) تقدّم في "الإيمان" 6/ 129.

4 -

(يُونُسُ بْنُ يُوسُفَ) بن حِمَاس

(1)

بن عَمرو الليثيّ المدنيّ، ثقةٌ عابدٌ [6] وقال ابن حبّان: هو يوسف بن يونس، ووهِمَ من قَلَبه (م س ق) تقدّم في "الحج" 76/ 3289.

5 -

(سُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ) الهلاليّ المدنيّ، مولى ميمونة، وقيل: أم سلمة، ثقةٌ فقيهٌ فاضل، من كبار [3] مات بعد المائة، وقيل: قبلها (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 489.

6 -

(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه تقدّم في "المقدمة" 2/ 4.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وأن فيه أبا هريرة رضي الله عنه رأس المكثرين السبعة، وفيه سليمان بن يسار أحد الفقهاء السبعة المشهورين بالمدينة، وقد جمعهم الحافظ العراقيّ في "ألفيّته" بقوله:

وَفِي الْكِبَارِ الْفُقَهَاءُ السَّبْعَةُ

خَارِجَةُ الْقَاسِمُ ثُمَّ عُرْوَةُ

ثُمَّ سُلَيْمَانُ عُبَيْدُ اللهِ

سَعِيدُ وَالسَّابِعُ ذُو اشْتِبَاهِ

إِمَّا أَبُو سَلَمَةٍ أَوْ سَالِمُ

أَوْ فَأَبُو بَكْرٍ خِلَافٌ قَائِمُ

شرح الحديث:

(عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ) أبي أيوب المدنيّ، أخي عطاء بن يسار، أنه (قَالَ: تَفَرَّقَ النَّاسُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه؛ أي: تفرّقوا بعد اجتماعهم عنده ليسمعوا أحاديثه، (فَقَالَ لَهُ نَاتِلُ أَهْلِ الشَّامِ) هو ناتل - بالنون في أوّله، وبعد الألف تاء مثنّاة فوق - ابن قيس الْجُذَاميّ الشاميّ، من أهل فلسطين، وهو

(1)

بكسر الحاء المهملة، وتخفيف الميم، آخره سين مهملة.

ص: 571

تابعيّ، وكان أبوه صحابيًّا، وكان ناتل كبير قومه، قاله النوويّ

(1)

.

وقال في "التقريب": ناتل - بمثنّاة - ابن قيس الشاميّ الْفِلَسطينيّ، أحد الأمراء لمعاوية، وولده، من الثالثة، قُتل سنة (66 هـ).

وقال في "تهذيب التهذيب": ناتل بن قيس بن زيد بن حياء بن امرئ القيس الْجُذاميّ، من أهل فِلسطين، يقال له: ناتلٌ أخو أهل الشام، وكان أبوه قيس ممن وَفَد على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان ناتلٌ مع معاوية في صِفِّين، وكان من سادات أهل الشام، قاله ابن سعد، وقال ابن معين: ما أعلمه رُويَ عنه شيءٌ، وقال خليفة بن خيّاط: مات يزيد بن معاوية، وعلى الأردنّ حسان بن مالك، وعلى فِلسطين رَوْح بن زِنباع، فأخرج ناتل بن قيس روح بن زنباع، ودعا إلى ابن الزبير، وقال أبو أحمد العسكريّ: وأما ناتل، فهو من سادات جُذام بالشام، خرج على عبد الملك بن مروان، فبعث إليه عبد الملك عمرو بن سعيد، فقتله، وحُكي عن الليث أنه قُتل سنة ست وستين

(2)

.

قال الجامع: قد تبيّن بما ذُكر أن ناتلًا عَلَم، فتكون إضافته إلى الشام على مذهب من يُجيز إضافة الأعلام للتخصيص، كما في قوله:

عَلَا زَيْدُنَا يَوْمَ النَّقَا رَأْسَ زَيْدِكُمْ

بِأَبْيَضَ مِنْ مَاءِ الْحَدِيدِ يَمَانِي

(3)

وأشار في هامش النسخة الهنديّة بأنه يوجد في بعض النسخ: "ناتلٌ أحدُ أهل الشام"، وعلى هذا فلا إضافة، و"أحدُ" صفة لـ "ناتلٌ"، فلا إشكال فيه.

وأما ما ذكره في "التهذيبين" بأنه وقع عند النسائيّ "ناتلٌ أخو أهل الشام"، فلم أره عند النسائيّ، وإنما هو في "المستدرك" للحاكم، و"تهذيب الآثار" للطبريّ، و"التاريخ الكبير" للبخاريّ، و"الحلية" لأبي نعيم، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

(أَيُّهَا الشَّيْخُ حَدِّثْنَا

(4)

حَدِيثًا سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ) أبو هريرة رضي الله عنه (نَعَمْ) أحدّثك به، (سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِنَّ أَوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى) بالبناء

(1)

"شرح النوويّ 13/ 50.

(2)

"تهذيب التهذيب" 4/ 203، و"تهذيب الكمال" 29/ 252.

(3)

راجع: "لسان العرب" 3/ 300.

(4)

وفي نسخة: "حدّثني".

ص: 572

للمفعول (يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَيْهِ، رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ) بالبناء للمفعول أيضًا؛ أي: قُتل في مواجهة العدوّ، وفي رواية النسائيّ:"أَوَّلُ النَّاس يُقْضَى لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ثَلَاثَةٌ"، والمراد: ثلاثة أصناف، لا ثلاثة أشخاص.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "إن أول الناس يُقضى عليه. . . إلخ" هذا يخالفُه قوله: "أول ما يحاسب به العبد المسلم من عمله صلاته. . ." الحديث، وقوله:"أول ما يُقْضَى فيه بين الناس في الدِّماء" قد يسبق إلى الوَهَم أن هذه الأحاديثَ متعارضة من حيث الأولية المذكورة في كل حديث منها؛ وليس كذلك؛ فإنه إنَّما كان يلزم ذلك لو أريد بكل أوّلٍ منها أنه أوَّلٌ بالنسبة إلى كل ما يُسأل عنه، ويقضى فيه، وليس في شيءٍ من تلك الأحاديث ما ينصُّ على ذلك، وإنما أراد - والله أعلم - أن كل واحد من تلك الأوليات أوَّلٌ بالنسبة إلى ما في بابه، فأول ما يحاسبُ به من أركان الإسلام الصلاة، وأول ما يحاسب به من المظالم الدِّماء، وأول ما يحاسب به مما ينتشر فيه صِيتُ فاعله تلك الأمور، وهذا أوَّلُ ما يقاربه ويناسبه، وهكذا تَعْتَبِر كل ما يَرِدُ عليك من هذا الباب، والله تعالى أعلم. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(1)

، وهو بحث نفيسٌ، والله تعالى أعلم.

(فَأُتِيَ بِهِ) بالبناء للمفعول أيضًا، (فَعَرَّفَهُ) بتشديد الراء، من التعريف، (نِعَمَهُ) وفي بعض النسخ:"نعمته" بالإفراد؛ أي: عرّفه الله عز وجل النعم التي أنعم بها عليه، والظاهر أن المراد: النعم التي تتعلّق بالجهاد، من تيسير أسبابه، وصحّة جسده، ونحو ذلك، يدلّ على ذلك جوابه لَمّا سأله ما عملت فيها؟ قال:"قاتلت فيك. . . إلخ". (فَعَرَفَهَا) بتخفيف الراء: أي عرف ذلك الرجل تلك النعم، (قَالَ) الله تعالى (فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟) "ما" استفهاميّة؛ أي: أيَّ شيء عَمِلت بتلك النعم؟ (قَالَ) الرجل (قَاتَلْتُ فِيكَ)؛ أي: في طلب مرضاتك، ورجاء مثوبتك (حَتَّى اسْتُشْهِدْتُ) بالبناء للمفعول؛ أي: حتى قُتلتُ شهيدًا صورةً في اعتقاد الناس، وإلا فليس شهيدًا حقيقةً. (قَالَ) الله تعالى الذي يعلم السرّ وأخفى لَمّا علم سوء نيته، وخُبث طويّته؛ ردًّا عليه دعواه الاستشهاد في

(1)

"المفهم" 3/ 746 - 747.

ص: 573

مرضاته، (كَذَبْتَ) بتخفيف الذال المعجمة؛ أي: كَذَبت في دعواك أنك استُشهدت فيّ، وزاد في رواية الترمذيّ الآتية في المواضع الثلاثة:"وتقول له الملائكة: كذبتَ". (وَلَكِنَّكَ قَاتَلْتَ؛ لأَنْ يُقَالَ)؛ أي: ليتحدّث الناس، ويقولوا فلانٌ (جَرِيءٌ) بالهمز، فعيلٌ بمعنى فاعل، من جرُؤَ جَرَاءة، كشَجُعَ شَجَاعَةً وزنًا ومعنًى، وقال القرطبيّ: الجريء بالهمز: هو الْمِقدام على الشيء، لا ينثني عنه، وإن كان هائلًا، مأخوذ من الجرأة. انتهى

(1)

؛ أي: قاتلت ليقول الناس: إنك شُجاع، (فَقَدْ قِيلَ)؛ أي: قال الناس ذلك، واستوفيتَ ما طلبتَ، فلا أجر لك عندي، وهذا مبنيّ على أن العادة حصول هذا القول، وإلا فحَبَطُ العمل لا يتوقّف على هذا القول، بل يكفي فيه أن ينوي الرياء، والله تعالى أعلم.

(ثُمَّ أُمِرَ بِهِ، فَسُحِبَ)؛ أي: جُرّ (عَلَى وَجْهِهِ، حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ) ببناء الأفعال الثلاثة للمفعول؛ أي: ثم بعد أن قال الله تعالى له: إن ما كنت تطلبه من الناس قد حصل لك، أمر ملائكته أن يدخلوه النار، جزاءَ سوء فعله، فسحبوه؛ أي: جرّوه إلى أن قذفوه في النار.

ثم ذكر الرجل الثاني من الثلاثة الذين هم أول من يُقضى عليه، بقوله:

(وَرَجُلٌ)؛ أي: الثاني رجلٌ (تَعَلَّمَ الْعِلْمَ) لنفسه (وَعَلَّمَهُ) الناسَ (وَقَرَأَ الْقُرْآنَ، فَأُتِيَ بِهِ) بالبناء للمفعول، (فَعَرَّفَهُ) بتشديد الراء، (نِعَمَهُ، فَعَرَفَهَا) بتخفيف الراء. (قَالَ) الله تعالى (فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ، وَعَلَّمْتُهُ) ابتغاء وجهك (وَقَرَأْتُ فِيكَ الْقُرْآنَ، قَالَ) الله تعالى (كَذَبْتَ) بتخفيف الذال، وفي رواية الترمذيّ:"وتقول الملائكة: كذبتَ"، (وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ الْعِلْمَ؛ لِيُقَالَ: عَالِمٌ) خبر لمحذوف؛ أي: هو، أو أنت، (وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ؛ لِيُقَالَ: هُوَ قَارِئٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ، فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ، حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ) ببناء الأفعال الثلاثة للمفعول، كما تقدّم.

ثم ذكر الثالث ممن يُقضى عليه أول الناس، بقوله:

(وَرَجُلٌ)؛ أي: والثالث رجلٌ (وَسَّعَ اللهُ عَلَيْهِ) بتشديد السين المهملة، من التوسيع، (وَأَعْطَاهُ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ كُلِّهِ) بيان وتوضيح لمعنى التوسيع، (فَأُتِيَ

(1)

"المفهم" 3/ 747.

ص: 574

بِهِ) بالبناء للمفعول، (فَعَرَّفَهُ) من التعريف، (نِعَمَهُ، فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: مَا تَرَكْتُ مِنْ سَبِيلٍ تُحِبُّ أَنْ يُنْفَقَ فِيهَا) بالبناء للمفعول، (إِلَّا أَنْفَقْتُ فِيهَا لَكَ)؛ أي: في تلك السبيل؛ لابتغاء مرضاتك، وطلب مثوبتك، و"السبيل": الطريق، يُذكّر، ويؤنّث، قال ابن السّكّيت: والجمع على التأنيث: سُبُولٌ، كما قالوا: عُنُوق، وعلى التذكير: سُبُلٌ، وسُبْلٌ

(1)

.

(قَالَ) الله تعالى (كَذَبْتَ) بالتخفيف، وفي رواية الترمذيّ:"وقالت الملائكة: كَذَبْتَ"، (وَلَكِنَّكَ فَعَلْتَ)؛ أي: لكن أنفقت (لِيُقَالَ)؛ أي: ليقول الناس (هُوَ جَوَادٌ) بفتح الجيم، وتخفيف الواو: هو الكثير العطاء، والجُود: الكرم

(2)

. (فَقَدْ قِيلَ)؛ أي: تحدّث الناس بذلك، كما أردت (ثُمَّ أُمِرَ بِهِ، فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ، ثُمَّ أُلْقِيَ) ببناء الأفعال الثلاثة للمفعول، كما تقدّم، وفي بعض النسخ:"فألقي"(فِي النَّارِ") زاد في رواية الترمذيّ: "ثم ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم على ركبتي، فقال: يا أبا هريرة أولئك الثلاثة أول خلق الله تُسْعَر بهم النار يوم القيامة".

[تنبيه]: حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا ساقه الترمذيّ رحمه الله في "جامعه" مطوّلًا، فقال:

(2382)

- حدثنا سويد بن نصر، أخبرنا عبد الله بن المبارك، أخبرنا حَيْوَة بن شُرَيح، أخبرني الوليد بن أبي الوليد، أبو عثمان المدائنيّ، أن عقبة بن مسلم حدّثه، أن شُفَيًّا الأَصْبَحِيَّ، حدّثه، أنه دخل المدينة، فإذا هو برجل، قد اجتمع عليه الناس، فقال: من هذا؟ فقالوا: أبو هريرة، فدنوت منه، حتى قعدت بين يديه، وهو يحدّث الناس، فلما سكت، وخلا، قلت له: أنشدك بِحَقِّ وبِحَقِّ لَمَا حدّثتني حديثًا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، عَقَلْتَهَ وعَلِمته، فقال أبو هريرة: أَفْعَلُ، لأُحدّثَنَّك حديثًا، حدّثنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، عَقَلته وعَلِمته، ثم نَشَغَ أبو هريرة، نَشْغَةً، فمكث قليلا، ثم أفاق، فقال: لأحدّثنك حديثًا، حدثنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، في هذا البيت، ما معنا أحد غيري وغيره، ثم نَشَغَ أبو هريرة، نَشْغَةً أخرى، ثم أفاق، فمسح وجهه، فقال: لأحدثّنك حديثًا، حدثنيه

(1)

"المصباح المنير" 1/ 265.

(2)

"المفهم" 3/ 747.

ص: 575

رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا وهو في هذا البيت، ما معنا أحد غيري وغيره، ثم نَشَغ أبو هريرة نَشْغة أخرى، ثم أفاق، ومسح وجهه، فقال: أفعل، لأحدثّنك حديثًا، حدثنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا معه في هذا البيت، ما معه أحد غيري وغيره، ثم نشغ أبو هريرة نشغة شديدة، ثم مال خَارًّا على وجهه، فأسندته عليّ طويلًا، ثم أفاق، فقال: حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم:

"أن الله تبارك وتعالى، إذا كان يومُ القيامة، ينزل إلى العباد، ليقضي بينهم، وكلُّ أمة جاثية، فأول من يدعو به، رجل جمع القرآن، ورجل يَقتَتِل في سبيل الله، ورجل كثير المال، فيقول الله للقارئ: ألم أعلمك ما أنزلت على رسولي، قال: بلى يا رب، قال: فماذا عملت فيما علمت؟، قال: كنت أقوم به آناء الليل، وآناء النهار، فيقول الله عز وجل له: كَذَبْتَ، وتقول له الملائكة: كذبت، ويقول الله: بل أردت أن يقال: إن فلانًا قارئ، فقد قيل ذاك، ويُؤْتَى بصاحب المال، فيقول الله له: ألم أُوَسِّعْ عليك، حتى لم أَدَعْكَ تحتاج إلى أحد؟، قال: بلى يا رب، قال: فماذا عملت فيما آتيتك؟ قال: كنت أَصِلُ الرحم، وأتصدق، فيقول الله له: كذبتَ، وتقول له الملائكة: كذبتَ، ويقول الله تعالى: بل أردت أن يقال: فلان جواد، فقد قيل ذاك، ويُؤتَى بالذي قُتِلَ في سبيل الله، فيقول الله له: فيماذا قُتلتَ؟ فيقول: أَمَرْتَ بالجهاد في سبيلك، فقاتلت، حتى قُتلتُ، فيقول الله تعالى له: كذبت، وتقول له الملائكة: كذبتَ ويقول الله: بل أردت أن يقال: فلان جَرِيءٌ، فقد قيل ذاك، ثم ضَرَبَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على ركبتي، فقال: يا أبا هريرة، أولئك الثلاثة، أول خلق الله، تُسْعَرُ بهم النارُ يوم القيامة".

وقال الوليد، أبو عثمان: فأخبرني عقبة بن مسلم، أن شُفَيًّا، هو الذي دَخَل على معاوية، فأخبره بهذا، قال أبو عثمان: وحدّثني العلاء بن أبي حكيم، أنه كان سَيّافًا لمعاوية، فدخل عليه رجل، فأخبره بهذا، عن أبي هريرة، فقال معاوية: قد فُعِلَ بهؤلاء هذا، فكيف بمن بقي من الناس؟ ثم بَكَى معاوية بكاء شديدًا، حتى ظننا أنه هالك، وقلنا: قد جاءنا هذا الرجل بشرّ، ثم أفاق معاوية، ومسح عن وجهه، وقال: صدق الله ورسوله: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ

ص: 576

لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (16)} [هود: 15، 16].

قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب. انتهى. وصححه ابن خُزيمة، وابن حبّان.

قال الجامع عفا الله عنه: الظاهر أن رواية الترمذيّ غير رواية مسلم، فالواقعتان مختلفتان؛ إذ السائل في رواية مسلم هو ناتل الشاميّ، وأما في رواية الترمذي، فهو شُفيّ الأصبحيّ، ويَحتَمِل أن تكونا متّحدتين، لكن الأول هو الظاهر، فتأمل، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [43/ 4915 و 4916](1905)، و (الترمذيّ) في "الزهد"(2382)، و (النسائيّ) في "الجهاد"(6/ 23) و"الكبرى"(5/ 30 و 6/ 477)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 321)، و (الحاكم) في "المستدرك"(2/ 120)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 489)، و (الطبريّ) في "تهذيب الآثار"(2/ 792)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان وعيد من قاتل ليُقال: فلان جريء.

2 -

(ومنها): أن فيه دليلًا على تغليظ تحريم الرياء، وشدّة عقوبته.

3 -

(ومنها): الحثّ على لزوم الإخلاص في الأعمال، كما قال الله تعالى:{وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5)} [البينة: 5].

4 -

(ومنها): بيان أن العمومات الواردة في فضل الجهاد في سبيل الله تعالى، إنما هي لمن أراد به وجه الله تعالى.

5 -

(ومنها): أن الثناء الوارد على العلماء والمنفقين في وجوه الخيرات

ص: 577

كله محمول على من فعل ذلك كله ابتغاء وجه الله تعالى، مخلصًا، لا يشوبه شيء من الرياء والسمعة، ونحو ذلك، والله تعالى أعلم.

[تنبيه]: إنما كان هؤلاء الثلاثة أول خلق الله تعالى تُسعر بهم النار - والله تعالى أعلم - لكون هذه العبادات رفيعةَ القدر عند الله تعالى، فإنه لا يخفى تنويه الله تعالى في محكم كتابه، بفضل الجهاد، ورفع منزلة العلماء، على سائر الناس، وتخصيص المنفقين في سبيله بالدرجات العلى، فلمّا لم يَبتغ أصحابها بها وجه الله تعالى الذي عظّم شأنها، ورَفَع قدْرها، والذي يُجازي عليها بما لا عين رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر، بل طلبوا بها العاجل، وآثروا الفاني على الباقي، جازاهم الله تعالى بأن جعلهم أول من تُسعر بهم النار؛ إذ العقاب على قَدْر عِظَمِ الْجُرْم، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4916]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَاهُ عَلِيُّ بْنُ خَشْرَمٍ، أَخْبَرَنَا الْحَجَّاجُ - يَعْنِي: ابْنَ مُحَمَّدٍ - عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ يُوسُفَ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، قَالَ: تَفَرَّجَ النَّاسُ عَنْ أَبِي هرَيْرَةَ، فَقَالَ لَهُ نَاتِلٌ الشَّامِيُّ

(1)

، وَاقْتَصَّ الْحَدِيثَ، بِمِثْلِ حَدِيثِ خَالِدِ بْنِ الْحَارِثِ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عَلِيُّ بْنُ خَشْرَمٍ) المروزيّ، ثقةٌ، من صغار [10](ت 257) أو بعدها، وقد قارب المائة (م ت س) تقدّم في "المقدمة" 4/ 25.

2 -

(الْحَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ) الْمِصِّيصيّ الأعور، أبو محمد الترمذيّ الأصل، نزيل بغداد، ثمّ المصّيصة، ثقةٌ ثبتٌ، اختلط بآخره [9](ت 206)(ع) تقدّم في "المقدمة" 6/ 94.

والباقون ذُكروا قبله.

وقوله: (نَاتِلٌ الشَّامِيُّ) وفي بعض النسخ: "ناتلُ الشام" بالإضافة، وقد تقدّم توجيهه.

(1)

وفي نسخة: "ناتل الشام".

ص: 578

وقوله: (وَاقْتَصَّ الْحَدِيثَ) فاعل "اقْتَصَّ" ضمير الحجّاج بن محمد.

[تنبيه]: رواية حجاج الأعور، عن ابن جريج هذه ساقها أبو عوانة في "مسنده"، فقال:

(7441)

- حدّثنا يوسف بن سعيد بن مسلم، قال: ثنا حجّاج، عن ابن جريج، قال: أخبرني يونس بن يوسف، عن سليمان بن يسار، قال: تفرَّج الناس عن أبي هريرة رضي الله عنه، فقال له ناتلٌ الشاميّ: أيها الشيخ حدِّثنا حديثًا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أوّلُ الناس يُقْضَى فيه يوم القيامة ثلاثة: رجلٌ استُشْهِد في سبيل الله، فأُتي به، فعرَّفه نعمه، فعَرَفها، فقال: ما عملتَ فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى قُتلت - وقال غيره: حتى استُشْهِدتُ - فقال: كذبت، ولكنك قاتلت ليقال: هو جريء، وقد قيل، ثم أُمر به، فسُحِب على وجهه، حتى ألقي في النار، ورجلٌ تعلم العلم، وعلّمه، وقرأ القرآن، فأُتي به، فعرّفه نعمه، فعَرَفها، فقال: فما عملتَ فيها؟ قال: تعلمت فيك العلم، وعلّمته، وقرأتُ القرآن فيك، قال: كذبتَ، ولكنك تعلمت ليقال: هو عالم، وقد قيل، وقرأت القرآن ليقال: هو قارئ، فقد قيل، ثم أُمر به، فسُحب على وجهه حتى أُلقي في النار، ورجلٌ أوسع الله عليه، وأعطاه من أصناف المال كلِّه، فأُتي به، فعرّفه نعمه، فعَرَفها، قال: فما عملت فيه؟ قال: ما تركت من سبيل تُحِبّ أن يُنفَق فيها إلا أنفقت فيها، قال: كذبتَ، ولكنك فعلت ليقال: هو جواد، فقد قيل، ثم أُمر به، فسُحِب على وجهه، حتى أُلقي في النار". انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(44) - (بَابُ بَيَانِ قَدْرِ ثَوَابِ مَنْ غَزَا فَغَنِمَ، وَمَنْ لَمْ يَغْنَمْ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4917]

(1906) - (حَدَّثَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يَزِيدَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَنَا حَيْوَةُ بْن شُرَيْحٍ، عَنْ أَبِي هَانِئٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ

(1)

"مسند أبي عوانة" 4/ 488 - 489.

ص: 579

الْحُبُلِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"مَا مِنْ غَازِيَةٍ تَغْزُو فِي سَبِيلِ اللهِ، فَيُصِيبُونَ الْغَنِيمَةَ، إِلَّا تَعَجَّلُوا ثُلُثَيْ أَجْرِهِمْ مِنَ الآخِرَةِ، وَيَبْقَى لَهُمُ الثُّلُثُ، وَإِنْ لَمْ يُصِيبُوا غَنِيمَةً، تَمَّ لَهُمْ أَجْرُهُمْ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ) الْكِسّيّ، تقدّم قبل بابين.

2 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ يَزِيدَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ) المقرئ المكيّ، تقدّم قريبًا.

3 -

(حَيْوَةُ بْنُ شُرَيْحٍ) التُّجيبيّ المصريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

4 -

(أَبُو هَانِئٍ) حُميد بن هانئ المصريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

5 -

(أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحُبُلِيُّ) عبد الله بن يزيد المقرئ المصريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

6 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو) بن العاص رضي الله عنهما، تقدّم أيضًا قريبًا.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من سداسيات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالمصريين غير شيخه، فكسّيّ، وشيخ شيخه، فمكيّ، وأن فيه روايةَ تابعي، عن تابعي، أبو هانئ، عن أبي عبد الرحمن الْحُبُليّ، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي هَانِئٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ) وفي رواية النسائيّ مسلسل بالسماع، ونصّه:"أخبرنا محمد بن عبد الله بن يزيد، قال: حدّثنا أبي، قال: حدّثنا حيوة، وذكر آخر قالا: حدّثنا أبو هانئ الخولانيّ، أنه سمع أبا عبد الرحمن الْحُبُليّ، يقول: سمعت عبد الله بن عمرو يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم. . . " الحديث.

وقوله: (الْحُبُلِيِّ) - بضمّ الحاء المهملة، والموحّدة -: نسبة إلى حيّ باليمن من الأنصار

(1)

. (عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو) رضي الله عنهما (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَا مِنْ غَازِيَةٍ)"من" زائدة، و"غازية" صفة لموصوف محذوف، تقديره: ما من

(1)

راجع: "اللباب في تهذيب الأنساب" 1/ 337.

ص: 580

جماعة، أو سريّة، أو طائفة غازية (تَغْزُو) أعاد الضمير هنا مؤنثًا، مفردًا نظرًا للفظ "غازية". (فِي سَبِيلِ اللهِ)؛ أي: لأجل إعلاء كلمة الله تعالى، (فَيُصِيبُونَ الْغَنِيمَةَ) أعاد الضمير هنا مذكّرًا جمعًا؛ نظرًا لمعنى "غازية"؛ لأنها بمعنى "جماعة"، أو طائفة، أو سريّة، كما سبق آنفًا. (إِلَّا تَعَجَّلُوا ثُلُثَيْ أَجْرِهِمْ مِنَ الآخِرَةِ) بكسر الخاء المعجمة، (وَيَبْقَى لَهُمُ الثُّلُثُ، وَإِنْ لَمْ يُصِيبُوا غَنِيمَةً، تَمَّ لَهُمْ أَجْرُهُمْ") قال النوويّ رحمه الله ما حاصله: إِنَّ الصواب في معنى الحديث أن الغُزاةَ إذا سَلِموا، أو غَنِموا يكون أجرهم أقلّ من أجر من لم يَسلَم، أو سَلِمَ، ولم يَغنَم، وأن الغنيمة في مقابلة جزء من أجر غزوهم، فإذا حصلت لهم، فقد تعجّلوا ثلُثي أجرهم المترتّب على الغزو، وتكون هذه الغنيمة من جملة الأجر، وهذا موافق للأحاديث الصحيحة المشهورة عن الصحابة، كقوله:"منا من مات، ولم يأكل من أجره شيئًا، ومنا من أينعت له ثمرته، فهو يَهدبها"؛ أي: يجتنيها، فهذا الذي ذكرناه هو الصواب، وهو ظاهر الحديث، ولم يأت حديث صريحٌ صحيحٌ يُخالف هذا، فتعيّن حَمْله على ما ذَكَرنا.

وقد اختار القاضي عياض معنى هذا الذي ذكرناه بعد حكايته في تفسيره أقوالًا فاسدةً، منها قول من زعم أن هذا الحديث ليس بصحيح، ولا يجوز أن ينقص ثوابهم بالغنيمة، كما لم ينقص ثواب أهل بدر، وهم أفضل المجاهدين، وهي أفضل غنيمة، قال: وزعم بعض هؤلاء أن أبا هانئ حُميد بن هانئ راويه مجهول، ورجحوا الحديث السابق في أن المجاهد يرجع بما نال من أجر وغنيمة، فرجحوه على هذا الحديث؛ لشهرته، وشهرة رجاله، ولأنه في "الصحيحين"، وهذا في مسلم خاصّةً، وهذا القول باطل من أوجه، فإنه لا تعارُض بينه وبين هذا الحديث المذكور، فإن الذي في الحديث السابق رجوعه بما نال من أجر وغنيمة، ولم يقل: إن الغنيمة تنقص الأجر أم لا، ولا قال: أجره كأجر من لم يغنم، فهو مطلق، وهذا مقيَّد، فوجب حَمْله عليه.

وأما قولهم: أبو هانئ مجهول، فغلطٌ فاحشٌ، بل هو ثقة مشهورٌ، رَوَى عنه الليث بن سعد، وحيوة، وابن وهب، وخلائق من الأئمة، ويكفي في توثيقه احتجاج مسلم به في "صحيحه".

ص: 581

وأما قولهم: إنه ليس في "الصحيحين"، فليس لازمًا في صحة الحديث كونه في "الصحيحين"، ولا في أحدهما.

وأما قولهم في غنيمة بدر، فليس في غنيمة بدر نصّ أنهم لو لم يغنموا لكان أجرهم على قَدْر أجرهم، وقد غَنِموا فقط، وكونهم مغفورًا لهم، مرضيًّا عنهم، ومن أهل الجنة، لا يلزم ألا تكون وراء هذا مرتبة أخرى، هي أفضل منه، مع أنه شديد الفضل، عظيم القدر.

ومن الأقوال الباطلة ما حكاه القاضي عن بعضهم أنه قال: لعل الذي تعجل ثلثي أجره إنما هو في غنيمة أُخذت على غير وجهها، وهذا غلطٌ فاحشٌ؛ إذ لو كانت على خلاف وجهها لم يكن ثلث الأجر.

وزعم بعضهم أن المراد: أن التي أخفقت يكون لها أجر بالأسف على ما فاتها من الغنيمة، فيضاعف ثوابها، كما يضاعف لمن أصيب في ماله وأهله، وهذا القول فاسدٌ مباينٌ لصريح الحديث.

وزعم بعضهم أن الحديث محمول على من خرج بنيّة الغزو والغنيمة معًا، فنَقَص ثوابه، وهذا أيضًا ضعيف، والصواب ما قدمناه. انتهى كلام النوويّ رحمه الله

(1)

.

وقال بعضهم ما حاصله: استشكله بعض العلماء بأن الغنيمة نعمة من الله تعالى أُحلّت لهذه الأمة، فكيف ينتقص بها أجر الجهاد؟ ولو كانت منقصة للأجر لَمَا تناولها الصحابة والتابعون الذين كانوا يطمعون في زيادة الأجر أكثر مما يطمعون في التمتّع بالغنائم، ولو كانت الغنيمة ينقص بها الأجر لَمَا فَضَل أصحاب بدر على أصحاب أُحُد.

ثم قال: والحقّ أنه لا إشكال في حديث الباب؛ لأن الأجر على قدر المشقّة والمصيبة، ولا شكّ أن من لم يَسلم، أو لم يغنم مصيبته أكثر ممن سَلِم، وغنم، فكان ثوابه أعظم، وقد ذكر الحافظ في "الفتح" عن بعض المتأخّرين حكمةً لطيفةً بالغةً، وذلك أن الله أعدّ للمجاهدين ثلاث كرامات: دنيويتان، وأخروية، فالدنيويتان: السلامة، والغنيمة، والأخروية: دخول الجنة،

(1)

"شرح النوويّ" 13/ 52 - 53.

ص: 582

فإذا رجع سالِمًا غانِمًا، فقد حصل له ثلثا ما أعدّ الله له، وبقي له عند الله الثلث، وإن رجع بغير غنيمة عوّضه الله عن ذلك ثوابًا في مقابلة ما فاته، وكأن معنى الحديث أنه يقال للمجاهد: إذا فات عليك شيء من أمر الدنيا عوّضتك عنه ثوابًا، وأما الثواب المختصّ بالجهاد فهو حاصل للفريقين معًا، قال: وغاية ما فيه عَدّ ما يتعلق بالنعمتين الدنيويتين أجرًا بطريق المجاز، والله أعلم. انتهى

(1)

.

وهذا توجيه وجيهٌ، لا يَدَع مجالًا للإشكال، وأما ما ذكروا من حلّ الغنيمة لهذه الأمة، والتمدّح بها، وتناول السلف لها برغبة، فإن ذلك لا إشكال فيه؛ لأن الحرمان من الغنيمة مصيبة يؤجر عليها الغازي، وكذلك حال كلّ مصيبة، ولكن لا يجوز أن يتمنّى الرجل مصيبةً لزيادة الأجر، وإنما أُمر بأن يسأل الله تعالى العافية، ثم إن الغنيمة مصالح عظيمة، من كونها قوّة للمسلمين، فلا مانع من أن يفتقر لها بعض النقص في الأجر.

وكذلك الاستدلال بفضيلة أهل بدر على أهل أُحُد استدلال في محلّه؛ إذ مفاد حديث الباب أن أهل بدر لو لم يغنموا شيئًا كان أجرهم أكثر مما حصل لهم بعد الغنيمة، فالتقابل بين كمال الأجر ونقصانه لمن يغزو بنفسه إذا لم يغنم، أو يغزو فيغنم، ولا ينفي ذلك أن يكون حالهم أفضل من حال غيرهم من جهة أخرى، فأفضلَ اللهُ سبحانه وتعالى أهل بدر على مَنْ بعدهم بحيث يفضل الغانم منهم على غير الغانم بعدهم، فإن ذلك فضله يؤتيه من يشاء والله تعالى أعلم. انتهى

(2)

.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

(1)

"الفتح" 6/ 10.

(2)

راجع: "تكملة فتح الملهم" 3/ 443 - 444.

ص: 583

أخرجه (المصنّف) هنا [44/ 4917 و 4918](1906)، و (أبو داود) في "الجهاد"(2497)، و (النسائيّ) في "الجهاد"(6/ 17) و"الكبرى"(3/ 13)، و (ابن ماجه) في "الجهاد"(2785)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 169)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 490)، و (الحاكم) في "المستدرك"(2/ 87)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(9/ 169) و"شُعَب الإيمان"(4/ 21)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان ثواب السريّة التي تغزو، ولا تغنَم، وذلك أنه يعطى لها أجرها كاملًا، من غير أن يَنقص شيئًا.

2 -

(ومنها): من غزا، وغنم له ثلث الأجر، وتكون الغنيمة مقابلة بثلثي الأجر.

3 -

(ومنها): أن فيه رفعًا لهمة المجاهد عن أن يَخْطُر في باله حصول شيء من الغنيمة، حيث إنه ينقص به أجره الأخرويّ، وأهمّ ما عند العاقل آخرته، كما قال تعالى:{بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (17)} [الأعلى: 16، 17]، وقال عز وجل:{مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} الآية [النحل: 96]، وقال سبحانه وتعالى:{قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا} [النساء: 77]، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4918]

(. . .) - حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَهْلٍ التَّمِيمِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ، أَخْبَرَنَا نَافِعُ بْنُ يَزِيدَ، حَدَّثَنِي أَبُو هَانِئٍ، حَدَّثَنِي أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحُبُلِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا مِنْ غَازِيَةٍ، أَوْ سَرِيَّةٍ تَغْزُو، فَتَغْنَمُ، وَتَسْلَمُ، إِلَّا كَانُوا قَدْ تَعَجَّلُوا ثُلُثَيْ أُجُورِهِمْ، وَمَا مِنْ غَازِيَةٍ، أَوْ سَرِيَّةٍ تُخْفِقُ، وَتُصَابُ، إِلَّا تَمَّ أُجُورُهُمْ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ سَهْلٍ التَّمِيمِيُّ) مولاهم، أبو بكر البخاريّ، نزيل بغداد، ثقةٌ [11](ت 251)(م ت س) تقدّم في "الصيام" 8/ 2535.

ص: 584

2 -

(ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ) هو سعيد بن الحكم بن محمد بن سالم الْجُمَحيّ مولاهم، أبو محمد المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ، من كبار [10](ت 224) وله (80) سنةً (ع) تقدّم في "الإيمان" 22/ 188.

3 -

(نَافِعُ بْنُ يَزِيدَ) الْكَلاعيّ - بفتح الكاف واللام الخفيفة - أبو يزيد المصريّ، يقال: إنه مولى شُرَحْبيل بن حَسَنَةَ، ثقةٌ عابدٌ [7].

رَوَى عن يزيد بن عبد الله بن الهاد، وهشام بن عروة، وعُقيل، ويونس بن يزيد، وجعفر بن ربيعة، وحَيْوة بن شُريح، وأبي هانئ، والحارث بن سعيد، وخالد بن يزيد، وغيرهم.

ورَوَى عنه ابن وهب، وبقية، وسعيد بن كثير بن عُفير، وسعيد بن أبي مريم، وأبو صالح كاتب الليث، ومحمد بن عبد الأعلى القراطيسيّ، وغيرهم.

قال أحمد بن صالح المصريّ: كان من ثقات الناس، وقال أبو حاتم: لا بأس به، وقال النسائيّ: ليس به بأس، وقال ابن يونس: كان ثبتًا في الحديث، لا يُختلف فيه، وقال العجليّ: مصريّ ثقة، وقال الحاكم: ثقة مأمون، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال الصغانيّ: ثنا ابن أبي مريم، ثنا نافع بن يزيد، وكان من خيار أمة محمد صلى الله عليه وسلم.

وقال ابن يونس، وابن حبان: تُوُفّي سنة ثمان وستين ومائة.

أخرج له البخاري في التعاليق ومسلم وأبي داود والنسائي وابن ماجه، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا برقم (1906)، وحديث (2653):"كتب الله مقادير الخلائق. . ." الحديث.

والباقون ذُكروا قبله.

وقوله: (تُخْفِقُ) بضمّ حرف المضارعة، من الإخفاق: أي تَخِيب، يقال: أخفق الصائد: إذا خاب، وكذلك كل طالب حاجة إذا لم تحصُل له

(1)

.

وقوله: (وَتُصَابُ)؛ أي: بالقتل، أو إصابة الجرح؛ أي: فلم ترجع بالسلامة، وتمام شرح الحديث سبق في الحديث الماضي، ولله الحمد والمنّة.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(1)

"المفهم" 3/ 749 - 750.

ص: 585

(45) - (بَابُ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ"، وَأَنَّهُ يَدْخُلُ فِيهِ الْغَزْوُ، وَغَيْرُهُ مِنَ الأَعْمَالِ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4919]

(1907) - (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ بْنِ قَعْنَبٍ، حَدَّثَنَا مَالِكٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ وَقَّاصٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ، وَإِنَّمَا لِامْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ، فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا، أَوِ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ بْنِ قَعْنَبٍ) الحارثيّ، أبو عبد الرحمن البصريّ، مدنيّ الأصل، وقد سكنها مدّةً، ثقةٌ عابدٌ، كان ابن معين، وابن المدينيّ لا يُقدّمان عليه في "الموطّأ" أحدًا، من صغار [9](ت 221) بمكة (خ م د ت س) تقدّم في "الطهارة" 17/ 617.

2 -

(مَالِكُ) بن أنس بن مالك بن أبي عامر الأصبحيّ، أبو عبد الله المدنيّ الفقيه، إمام دار الهجرة، رأس المتقنين، وكبير المتثبّتين [7](ت 179) وله (90) سنةً (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 378.

3 -

(يَحْيَى بْنُ سَعِيدِ) بن قيس الأنصاريّ، أبو سعيد المدنيّ القاضي، ثقةٌ ثبتٌ [5](ت 144) أو بعدها (ع) تقدّم في "المقدمة" 6/ 36.

4 -

(مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) بن الحارث بن خالد التيميّ، أبو عبد الله المدنيّ، ثقةٌ [4](ت 120) على الصحيح (ع) تقدّم في "الإيمان" 13/ 159.

5 -

(عَلْقَمَةُ بْنُ وَقَّاصٍ) الليثيّ المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ [2] مات في خلافة عبد الملك (ع) تقدّم في "صلاة المسافرين وقصرها" 17/ 1707.

6 -

(عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ) بن نُفَيل بن عبد العُزَّى العدويّ، أبو حفص المدنيّ، ثاني الخلفاء الراشدين، اسُتشهد في آخر سنة (23) ودفن في أول سنة

ص: 586

(24)

وهو ابن (63) سنة، وصَلَّى عليه صهيب رضي الله عنهما، ودُفِن في الحجرة النبوية (ع) تقدّم في "المقدمة" 3/ 9.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسلٌ بالمدنيين، وفيه ثلاثة من التابعين المدنيين روى بعضهم عن بعض: يحيى بن سعيد، عن محمد بن إبراهيم، عن علقمة بن وقّاص، ورواية الأولين من رواية الأقران؛ لأنهما من الطبقة الخامسة، وفيه أن صحابيّه أحد فقهاء الصحابة رضي الله عنهم، وثاني الخلفاء الراشدين، وأحد العشرة المشهود لهم بالجنة وأول من سُمِّيَ بأمير المؤمنين، ذو مناقب جمّة، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ وَقَّاصٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ) رضي الله عنه، وفي رواية البخاريّ السّند كلّه متّصل بالتحديث، والإخبار، والسماع، ونصّه:"حدّثنا الحميديّ عبد الله بن الزبير، قال: حدّثنا سفيان، قال: حدّثنا يحيى بن سعيد الأنصاريّ، قال: أخبرني محمد بن إبراهيم التيميّ، أنه سمع علقمة بن وقّاص الليثيّ، يقول: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه على المنبر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم. . ." الحديث. (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّمَا الأَعْمَالُ) جمع عَمَل، مصدر قولك: عَمِلَ يَعْمَلُ عَمَلًا، والتركيب يدلّ على فَعَل يَفْعل، والفرق بينه وبين الفعل كما قال الصغاني: أن الفعل أعمّ من العمل؛ لأنَّ الفعل إحداث شيء من العمل وغيره، والفعل بالكسر: الاسم، وجمعه فِعال، وأفعالٌ، وبالفتح: مصدر قولك: فعلت الشيءَ أفعله فَعْلًا وفَعالًا، أفاده في "العمدة"

(1)

.

وفي "القاموس" و"شرحه": العمل محرَّكة: الْمِهْنة، والفعل، جَمْعه أعمال، وزعم بعض أئمة اللغة والأصول: أن العمل أخصّ من الفعل؛ لأنه الفعل بنوع مشقة، قالوا: ولذا لا يُنسب إلى الله تعالى، وقال الراغب: العمل

(1)

"عمدة القاري" 1/ 53.

ص: 587

كل فعل يصدر من الحيوان بقصده، فهو أخصّ من الفعل؛ لأن الفعل قد يُنسب إلى الحيوانات التي يقع منها فِعل بقصد، وقد يُنسب إلى الجمادات، والعمل قلّما ينسب إلى ذلك، ولم يُستعمل في الحيوانات إلا في قولهم: الإبل والبقر العوامل، وقيل: العمل حركة البدن بكلّه أو بعضه، وربما أطلق على حركة النفس، فهو إحداث أمر، قولًا كان أو فعلًا بالجارحة، أو القلب، لكن الأسبق للفهم اختصاصه بالجارحة، وخضه البعض بما لا يكون قولًا، ونوقش بأن تخصيص الفعل به أَولى من حيث استعمالهما متقابلين، فيقال: الأقوال، والأفعال، وقيل: القول لا يسمى عملًا عُرْفًا، ولذا يُعطف عليه، فمن حلف لا يعمل، فقال، لم يحنث، وقيل: التحقيق: إنه لا يدخل في العمل، والفعل إلا مجازًا. انتهى

(1)

.

(بِالنِّيَّةِ) بالإفراد، وسنبيّن اختلاف ألفاظه في المسائل إن شاء الله تعالى، و"النية": مصدر نَوَى ينوي، قال الجوهري: نويت نيَّة ونَوَاةً؛ أي: عَزَمت، وانتويت مثله، وهي بالتشديد على المشهور، وحُكِي تخفيفها.

وقال الفيّومّي رحمه الله: نَوَيتُهُ أنويه: قصدته، والاسم: النيّة، والتخفيف لغة حكاها الأزهريّ، وكأنه حُذِفت اللام، وعُوِّض عنها الهاء على اللغة، كما قيل في ثُبَةٍ، وظُبَةٍ.

وفي "المُحْكَم": النيّة مثقّلةً، والتخفيف عن اللِّحيانيّ وحده، وهو على الحذف، ثم خُصِّصت النية في غالب الاستعمال بعزم القلب على أمر من الأمور، والنية: الأمر، والوجه الذي تنويه. انتهى

(2)

.

واختلفوا في تفسيرها: فقيل: هو القصد إلى الفعل، وقال الخطابيّ: هو قصدك الشيء بقلبك، وتحري الطلب منك له، وقال التيميّ: هنا وِجْهة القلب، وقال البيضاويّ: النية عبارة عن انبعاث القلب نحو ما يراه موافقًا لغرض، من جلب نفع، أو دفع ضر، حالًا أو مآلًا، وقال النوويّ: النية: القصد، وهي عزيمة القلب، وقال الكرمانيّ: ليس هو عزيمة القلب، لِمَا قال المتكلمون:

(1)

"تاج العروس من جواهر القاموس" 8/ 34.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 631 - 632.

ص: 588

القصد إلى الفعل، هو ما نجده من أنفسنا حال الإيجاد، والعزم قد يتقدم عليه، ويقبل الشدّة والضعف بخلاف القصد، ففرّقوا بينهما من جهتين، فلا يصح تفسيره به.

قال صاحب "العمدة": قلت: العزم هو إرادة الفعل، والقطع عليه، والمراد من النية هنا هو هذا المعنى، فلذلك فسّر النوويّ القصد الذي هو النية بالعزم، فافهم.

على أن الحافظ أبا الحسن علي بن المفضل المقدسيّ قد جعل في "أربعينه" النية، والإرادة، والقصد، والعزم بمعنًى، ثم قال: وكذا أزمعت على الشيء، وعمدت إليه، وتُطلق الإرادة على الله تعالى، ولا يُطلق عليه غيرها. انتهى

(1)

.

قال في "الفتح": قال الكرمانيّ: هذا التركيب يفيد الحصر عند المحققين، واختُلِف في وجه إفادته، فقيل: لأن "الأعمال" جمعٌ مُحَلًّى بالألف واللام، مفيدٌ للاستغراق، وهو مستلزم للقصر؛ لأن معناه كلّ عمل بنيّة، فلا عمل إلا بنيّة، وقيل: لأن "إنما" للحصر، وهل إفادتها له بالمنطوق، أو بالمفهوم، أو تفيد الحصر بالوضع، أو العرف، أو تفيده بالحقيقة، أو المجاز؟ ومقتضى كلام الإمام وأتباعه أنها تفيده بالمنطوق وضعًا حقيقيًّا، بل نقله البلقينيّ عن جميع أهل الأصول من المذاهب الأربعة، إلا اليسير، كالآمديّ، وعلى العكس من ذلك أهل العربية.

واحتج بعضهم بأنها لو كانت للحصر لَمَا حَسُن: إنما قام زيد، في جواب هل قام عمرو؟.

وأجيب بأنه يصح أن يقع في مثل هذا الجواب: ما قام إلا زيد، وهي للحصر اتفاقًا.

وقيل: لو كانت للحصر لاستوى: إنما قام زيد، مع: ما قام إلا زيد، ولا تردّد في أن الثاني أقوى من الأول.

وأجيب بأنه لا يلزم من هذه القوّة نفي الحصر، فقد يكون أحد اللفظين

(1)

"عمدة القاري" 1/ 26.

ص: 589

أقوى من الآخر مع اشتراكهما في أصل الوضع، كَسَوْف والسين، وقد وقع استعمال "إنما" موضع استعمال النفي والاستثناء كقوله تعالى:{إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الطور: 16]، وكقوله:{وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (39)} [الصافات: 39]، وقوله:{أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [المائدة: 92]، وقوله:{مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ} [المائدة: 99] ومن شواهده قول الأعشى:

ولسْتَ بالأكْثَرِ منْهُمْ حَصًى

وَإنَّمَا الْعِزَّةُ لِلكَاثِرِ

يعني: ما ثبتت العزة إلا لمن كان أكثر حصى. انتهى

(1)

.

وسيأتي هذا البحث مستوفًى في المسائل الآتية - إن شاء الله تعالى -.

والمراد بالأعمال: الأعمال الصادرة عن المكلفين، وهل تخرج أعمال الكفار؟ الظاهر الإخراج؛ لأن المراد أعمال العبادة، وهي لا تصح من الكافر، وإن كان مخاطَبًا بها معاقبًا على تركها، ولا يَرِد العتق، والصدقة؛ لأنهما بدليل آخر.

وقوله أيضًا: (بِالنِّيَّةِ) الباء للمصاحبة، ويَحْتَمِل أن تكون للسببية، بمعنى أنها مقوِّمة للعمل، فكأنها سبب في إيجاده، وعلى الأول فهي من نفس العمل، فيُشترط أن لا تتخلف عن أوله، قاله في "الفتح"، وسيأتي تمام البحث فيه في المسائل الآتية - إن شاء الله تعالى -.

(وَإِنَّمَا لِامْرِئٍ) قال السنديّ رحمه الله: قوله: "لامرئ" بمعنى لكلّ امرئ، كما جاء في الروايات الأخرى، وذلك لأن "إنما" يتضمن الإثبات في أول الكلام والنفي في آخر جزء منه، فالنكرة صارت في حَيِّز النفي، فتفيد العموم، على أن النكرة في الإثبات قد يُقْصَد بها العموم، كما في قوله تعالى:{عَلِمَتْ نَفْسٌ} [التكوير: 14] ولا يخفى أنه يظهر على هذا المعنى تفريع "فمن كانت هجرته" على ما قبله أشدَّ ظهور. انتهى

(2)

.

وفيه لغتان: "امرء"، كزبْرج، و"مَرْء" كفَلْس، ولا جَمْع له من لفظه، وهو من الغرائب؛ لأن عَيْن فِعله تابع لِلَامِه في الحركات الثلاث دائمًا، وكذا في

(1)

"الفتح" 1/ 18 - 19.

(2)

"حاشية السنديّ على النسائيّ" 1/ 59 - 60.

ص: 590

مؤنثه أيضًا لغتان: "امرأة"، و"مرأة"، وفي هذا الحديث استعمل اللغة الأولى منهما من كلا النوعين؛ إذْ قال:"لكل امرئ"، "وإلى امرأة". قاله في "العمدة"

(1)

.

وقال العراقي: المعروف في الرواية كسر الراء من قوله: "لكل امرئ"، وعلى هذا فإعرابه بحرفين من آخره الراء والهمزة، تقول: امرؤ جيد برفع الراء، ورأيت امرءًا بنصبها، وهذه هي اللغة الفصحى، وفيه لغتان أخريان: فتح الراء مطلقًا، حكاها الفراء، وضمّها مطلقًا، وتكون حركات الإعراب في الهمزة فقط. انتهى

(2)

.

(وَإِنَّمَا لِامْرِئٍ مَا نَوَى)؛ أي: لكل رجل: الذي قَصَده، وكذا لكل امرأة لأن النساء شقائق الرجال، وفي "القاموس": المرأ مثلث الميم: الإنسان، أو الرجل.

وعلى القول بأن "إنما" للحصر، فهو هنا من حصر الخبر في المبتدإ، أو يقال: من قصر الصفة على الموصوف؛ لأن المقصور عليه في "إنما" دائمًا المؤخَّر، قاله القسطلانيّ، وفي هذه الجملة تحقيق لاشتراط النية، والإخلاص في الأعمال، قاله القرطبيّ.

فتكون على هذا جملةً مؤكدةً لِمَا قبلها، وقال غيره: بل تفيد غير ما أفادته الأُولى؛ لأن الأُولى نَبَّهَت على أن العمل تابع للنية، ويصاحبها، فيترتب الحكم على ذلك، والثانية أفادت أن العامل لا يحصل له إلا ما نواه.

ثم فَصَّل ما أجمله فيما تقدم بقوله: (فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ) - بكسر الهاء - فِعْلَةٌ من الهَجْر، وهو ضدُّ الوصل، ثم غلب على الخروج من أرض إلى أرض، وترك الأُولى للثانية، قاله في "النهاية، لابن الأثير"، وفي "العباب": الْهَجْرُ: ضدّ الوصل، وقد هَجَره يهجُرُه، بالضمّ هَجْرًا، وهِجْرَانًا، والاسم الْهِجْرة، ويقال: الهِجْرة: التركُ، والمراد بها هنا ترك الوطن، والانتقال إلى غيره، وهي في الشرع: مُفارقةُ دار الكفر إلى دار الإسلام خوفَ الفتنة، وطلبَ

(1)

"عمدة القاري" 1/ 53.

(2)

"طرح التثريب في شرح التقريب" 2/ 11.

ص: 591

إقامة الدِّين، وفي الحقيقة مفارقة ما يكرهه الله تعالى إلى ما يحبه، ومن ذلك سُمِّيَ الذين تركوا مكة، وتحوَّلوا إلى المدينة من الصحابة رضي الله عنهم بالمهاجرين؛ لذلك، قاله في "العمدة"

(1)

.

أي: من كانت رحلته من بلد إلى بلد آخر، (إِلَى اللهِ) تعالى (وَرَسُولِهِ) صلى الله عليه وسلم نيّةً وقصدًا، (فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ) تعالى (وَرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم) حُكمًا وشرعًا، أو ثوابًا وجزاءً، وإنما قدّرنا ذلك؛ ليتغاير الشرط، والجزاء؛ لأنه لا بُدّ من ذلك، وإلا لم يكن مفيدًا، وقيل: يجوز الاتحاد في الشرط والجزاء، والمبتدإ والخبر، إذا قصد التعظيم، أو التحقير كأنت أنت؛ أي: العظيم، أو الحقير، ومنه قول أبي النجم: وشعري شعري؛ أي: العظيم، وقيل: الخبر محذوف في الجملة الأُولى منهما؛ أي: فهجرته إلى الله ورسوله محمودة أو مثاب عليها، وفهجرته إلى ما هاجر إليه مذمومة أو قبيحة، أو غير مقبولة

(2)

.

(وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا) - بضم الدال، وحَكَى ابن قتيبة كسرها، وهي فُعْلى، من الدُّنُوِّ؛ أي: القُرْب، سُمِّيت بذلك؛ لسبقها الأخرى، وقيل: لدنوّها إلى الزوال، وهي غير منوّنة على الأشهر، وحُكي تنوينها، وجَمْعها دُنَا، ككُبَر، جمع كُبْرَى، والنسبة إليها دنيويّ، ودنياويّ، ودنْييّ، بقلب الواو ياء، فتصير ثلاث ياءات، واختُلف في حقيقتها، فقيل: ما على الأرض، من الهواء والجوّ، وقيل: كلُّ المخلوقات من الجواهر، والأعراض، والأول أَولى، لكن يزاد فيه: مما قبل قيام الساعة، ويُطلق على كل جزء منها مجازًا

(3)

.

وقوله: (يُصِيبُهَا) جملة في موضع جرّ صفة لـ "دنيا"؛ أي: يُحَصِّلها؛ لأن تحصيلها كإصابة الغرض بالسهم، بجامع حصول المقصود

(4)

.

(أَوِ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا) وفي لفظ: "ينكحها"، وخَصّ المرأة بالذِّكر بعد ذِكر ما يَعُمّها وغيرها؛ للاهتمام بها، والتحذير عنها؛ لأن الافتتان بها أشدّ. (فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ") من الدنيا والمرأة، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1)

"عمدة القاري" 1/ 53 - 54.

(2)

راجع: "نيل الأوطار" 1/ 202.

(3)

"الفتح" 1/ 23 - 24.

(4)

"الفتح" 1/ 23 - 24.

ص: 592

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عمر بن الخطّاب رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [45/ 4919 و 4920](1907)، و (البخاريّ) في "بدء الوحي"(1) و"الإيمان"(54) و"النكاح"(5070) و"العتق"(2529) و"المناقب"(3898) و"الأيمان والنذور"(6689) و"الحيل"(6953)، و (أبو داود) في "الطلاق"(2201)، و (الترمذيّ) في "فضائل الجهاد"(1647)، و (النسائيّ) في "الطهارة"(1/ 58) و"الطلاق"(6/ 158) و"الأيمان والنذور"(7/ 13) و"الكبرى"(1/ 79 و 3/ 130 و 361)، و (ابن ماجه) في "الزهد"(4227)، و (مالك) في "الموطّأ" برواية محمد بن الحسن (983)، و (ابن المبارك) في "الزهد"(1/ 62)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(ص 9)، و (الحميديّ) في "مسنده"(28)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 25 و 43)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(1/ 73)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(388 و 389)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(64)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 488)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(1/ 369)، و (الطبريّ) في "تهذيب الآثار"(2/ 784 و 802)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(3/ 96)، و (البزّار) في "مسنده"(1/ 380)، و (الدارقطنيّ) في "سننه"(1/ 50)، و (أبو نعيم) في "الحلية"(8/ 42)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(1/ 41 و 298 و 2/ 14 و 4/ 112 و 5/ 39 و 6/ 331 و 7/ 341) و"المعرفة"(189) و"شُعَب الإيمان"(5/ 336)، و (ابن منده) في "الإيمان"(1/ 154 و 363)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(1)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): قال الحافظ العراقيّ رحمه الله: أخرج حديث عمر رضي الله عنه هذا الأئمة الستة، فأخرجه مسلم عن محمد بن عبد الله بن نمير، وابن ماجه عن أبي بكر بن أبي شيبة كلاهما عن يزيد بن هارون، فوقع بدلًا لهما عاليًا بدرجتين، واتَّفَق عليه الشيخان من رواية مالك، وحماد بن زيد، وابن عيينة، وعبد الوهاب الثقفيّ.

وأخرجه البخاريّ، وأبو داود، من رواية الثوريّ، ومسلم من طريق

ص: 593

الليث، وابن المبارك، وأبي خالد الأحمر، وحفص بن غياث، والترمذيّ من رواية عبد الوهاب الثقفيّ، والنسائيّ من طريق مالك، وحماد بن زيد، وابن المبارك، وأبي خالد الأحمر، وابن ماجه أيضًا من رواية الليث، عشرتهم عن يحيى بن سعيد الأنصاريّ، أورده البخاريّ في سبعة مواضع من "صحيحه" في "بدء الوحي"، و"الإيمان"، و"النكاح"، و"الهجرة"، و"ترك الحيل"، و"العتق"، و"النذور"، ومسلم في "الجهاد"

(1)

، وأبو داود في "الطلاق"، والترمذيّ في "الجهاد"، والنسائيّ في أربعة مواضع: في "الطهارة"، و"الإيمان"، و"العتاق"، و"الطلاق"، وابن ماجه في "الزهد". انتهى كلام العراقيّ رحمه الله ببعض زيادة

(2)

.

وقال في "العمدة": ورواه أحمد في "مسنده"، والدارقطنيّ، وابن حبان، والبيهقيّ، ولم يبق من أصحاب الكتب المعتمد عليها من لم يخرجه سوى مالك، فإنه لم يخرجه في "موطئه"، ووهم ابن دحية الحافظ، فقال في إملائه على هذا الحديث: أخرجه مالك في "الموطأ"، ورواه الشافعيّ عنه، وهذا عجيب منه. انتهى

(3)

.

قال الجامع عفا الله عنه: الظاهر أن ابن دحية: أراد رواية محمد بن الحسن الشيبانيّ، فإنه أخرجه فيه، كما أسلفناه، فلا عجب فيما قال، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

(المسألة الرابعة): في بيان اختلاف ألفاظه:

قال البدر العينيّ رحمه الله: قد حصل من الطرق المذكورة أربعة ألفاظ: "إنما الأعمال بالنيات"، و"الأعمال بالنية"، و"العمل بالنية"، وادَّعَى النووي في "تلخيصه" قلَّتَهَا، والرابع:"إنما الأعمال بالنية"، وأورده القضاعيّ في "الشهاب" بلفظ خامس:"الأعمال بالنيات"، بحذف "إنما"، وجَمْع "الأعمال"، و"النيات". قلت: هذا أيضًا موجود في بعض نُسخ البخاريّ.

وقال الحافظ أبو موسى الأصفهانيّ: لا يصح إسنادها، وأقرّه النوويّ

(1)

هو أورده خلال كتاب "الإمارات"، لا في كتاب "الجهاد"، فتنبّه.

(2)

"طرح التثريب في شرح التقريب" 1/ 3.

(3)

"عمدة القاري" 1/ 24.

ص: 594

على ذلك في "تلخيصه"، وغيره، وهو غريب منهما، وهي رواية صحيحة أخرجها ابن حبان في "صحيحه" عن عليّ بن محمد العتابيّ، ثنا عبد الله بن هاشم الطوسيّ، ثنا يحيى بن سعيد الأنصاريّ، عن محمد، عن علقمة، عن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الأعمالُ بالنيات. . ." الحديث، وأخرجه الحاكم أيضًا في كتابه "الأربعين في شعار أهل الحديث" عن أبي بكر بن خزيمة، ثنا القعنبيّ، ثنا مالك، عن يحيى بن سعيد، به سواءً، ثم حكم بصحته، وأورده ابن الجارود في "المنتقى"، بلفظ سادس عن ابن المقري: حدثنا سفيان، عن يحيى به:"إن الأعمال بالنية، وإن لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا. . ." الحديث، وأورده الرافعيّ في شرحه الكبير بلفظ آخر غريب، وهو:"ليس للمرء من عمله إلا ما نواه"، وفي البيهقي من حديث أنس مرفوعًا:"لا عمل لمن لا نية له"، وهو بمعناه، لكن في إسناده جهالة. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم.

(المسألة الخامسة): قال الحافظ العراقيّ رحمه الله: هذا الحديث من أفراد الصحيح لم يصحّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم إلا من حديث عمر، ولا عن عمر، إلا من رواية علقمة، ولا عن علقمة إلا من رواية محمد بن إبراهيم التيميّ، ولا عن التيميّ إلا من رواية يحيى بن سعيد الأنصاريّ، قال أبو بكر البزار: في "مسنده": لا نعلم يُروَى هذا الكلام إلا عن عمر بن الخطاب، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم بهذا الإسناد.

وقال الخطابيّ: لا أعلم خلافًا بين أهل الحديث في أنه لم يصحّ مسندًا عن النبيّ صلى الله عليه وسلم إلا من رواية عمر، وقال الترمذيّ بعد تخريجه: هذا حديث صحيح، لا نعرفه إلا من حديث يحيى بن سعيد، وقال حمزة بن محمد الكنانيّ: لا أعلم رواه غير عمر، ولا عن عمر غير علقمة، ولا عن علقمة غير محمد بن إبراهيم، ولا عن محمد بن إبراهيم غير يحيى بن سعيد، وقال

(1)

"عمدة القاري" 1/ 24.

ص: 595

محمد بن عتاب: لم يروه غير عمر، ولا عن عمر غير علقمة، إلى آخره. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم.

(المسألة السادسة): قال العراقيّ رحمه الله أيضًا: ما ذكره هؤلاء الأئمة من كون حديث عمر فردًا هو المشهور، وقد رُوي من طرق أخرى، رأيت ذِكرها للفائدة، فوقفت عليه مسندًا من غير طريق عمر من حديث أبي سعيد الخدريّ، وأبي هريرة، وأنس، وعليّ، فحديث أبي سعيد رواه الخطابيّ في "معالم السنن"، والدارقطنيّ في "غرائب مالك"، وابن عساكر في "غرائب مالك"، من رواية عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رَوَّاد، عن مالك، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد، وهو غلط من ابن أبي روّاد، وقول الخطابيّ: إنه يقال: إن الغلط إنما جاء من قِبَل نوح بن حبيب الذي رواه عن ابن أبي روّاد، فليس بجيد من قائله، فإنه لم ينفرد به نوح به عنه، بل رواه غيره عنه، وإنما الذي تفرد به ابن أبي روّاد كما قال الدارقطنيّ، وغيره.

وحديث أبي هريرة رواه الرشيد العطار في بعض تخاريجه، وهو وَهَمٌ أيضًا.

وحديث أنس: رواه ابن عساكر من رواية يحيى بن سعيد، عن محمد بن إبراهيم، عن أنس بن مالك، وقال: هذا حديث غريب جدًّا، والمحفوظ من حديث عمر. انتهى.

والمعروف من حديث أنس ما رواه البيهقيّ من رواية عبد الله بن المثنى الأنصاريّ، قال: حدثني بعض أهل بيتي، عن أنس فذكر حديثًا فيه:"أنه لا عمل لمن لا نية له. . ." الحديث.

وحديث عليّ رضي الله عنه رواه محمد بن ياسر الجياني في نسخة من طريق أهل البيت، وإسنادها ضعيف. انتهى

(2)

.

وقال في "العمدة": وقال ابن منده: رواه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم غير عمر: سعد بن أبي وقاص، وعليّ بن أبي طالب، وأبو سعيد الخدريّ، وعبد الله بن مسعود،

(1)

"طرح التثريب" 2/ 3.

(2)

"طرح التثريب في شرح التقريب" 2/ 4.

ص: 596

وعبد الله بن عمر، وأنس، وابن عباس، ومعاوية، وأبو هريرة، وعبادة بن الصامت، وعتبة بن عبد الأسلميّ، وهَزّال بن سُويد، وعتبة بن عامر، وجابر بن عبد الله، وأبو ذرّ، وعتبة بن المنذر، وعقبة بن مسلم رضي الله عنهم.

وأيضًا قد توبع علقمة، والتيميّ، ويحيى بن سعيد على رواياتهم، قال ابن منده: هذا الحديث رواه عن عمر غير علقمة: ابنه عبد الله، وجابر، وأبو جُحيفة، وعبد الله بن عامر بن ربيعة، وذو الكَلاع، وعطاء بن يسار، وواصل بن عمر، والجذاميّ، ومحمد بن المنكدر.

ورواه عن علقمة غير التيميّ: سعيد بن المسيِّب، ونافع مولى ابن عمر، وتابع يحيى بن سعيد على روايته عن التيميّ: محمد بن محمد بن علقمة أبو الحسن الليثيّ، وداود بن أبي الفُرَات، ومحمد بن إسحاق، وحجاج بن أرطاة، وعبد الله بن قيس. انتهى

(1)

.

وقال العراقيّ رحمه الله: وأما من تابع علقمة عليه، فذكر أبو أحمد أن موسى بن عقبة رواه عن نافع، وعلقمة، وأما من تابع يحيى بن سعيد عليه، فقد رواه الحاكم في "تاريخ نيسابور"، للحاكم، من رواية عبد ربه بن سعيد، عن محمد بن إبراهيم، وأورده في ترجمة أحمد بن نصر بن زياد، وقال: إنه غَلِط فيه، وقال: وإنما هو عن يحيى بن سعيد، لا عن عبد ربه بن سعيد، وذكر الدارقطنيّ أنه رواه حجاج بن أرطاة، عن محمد بن إبراهيم، وأنه رواه سهل بن صقير، عن الدَّرَاوَرْديّ، وابن عيينة، وأنس بن عياض، عن محمد بن عمرو بن علقمة، عن محمد بن إبراهيم، ووَهِمَ سهل على هؤلاء الثلاثة، وإنما رواه الثلاثة، وغيرهم عن يحيى بن سعيد.

قال: ورأيت في "كتاب المستخرج من أحاديث الناس للفائدة" لعبد الرحمن بن منده رحمه الله أنه رواه سبعة عشر من الصحابة غير عمر، وأنه رواه عن عمر غير علقمة، وعن علقمة غير التيميّ، وعن التيميّ غير يحيى بن سعيد، وبلغني أن الحافظ أبا الحجاج الْمِزّيّ سئل عن كلام ابن منده هذا، فاستبعده، وقد تتبعت كلام ابن منده فوجدت أكثر الصحابة الذين ذكر حديثهم في الباب

(1)

"عمدة القاري" 1/ 22.

ص: 597

إنما لهم أحاديث أخرى في مطلق النية، لا هذا الحديث بعينه، كحديث:"يُبعثون على نياتهم"، وحديث:"ليس له من غَزَاته إلا ما نوى"، ونحو ذلك، وهكذا يفعل الترمذيّ حيث يقول: وفي الباب عن فلان، وفلان، فكثيرًا ما يريد بذلك أحاديث غير الحديث الذي يُسنده في أول الباب، ولكن بشرط كونها تصلح أن تُورَد في ذلك الباب، وهو عمل صحيح، إلا أن أكثر الناس إنما يفهمون إرادة ذلك الحديث المعيَّن، والله أعلم. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم.

(المسألة السابعة): قال الحافظ العراقيّ رحمه الله: أطلق بعضهم على هذا الحديث اسم التواتر، وبعضهم اسم الشهرة، وليس كذلك، وإنما هو فرد، ومن أطلق ذلك فمحمول على أنه أراد الاشتهار، أو التواتر في آخر السند، من عند يحيى بن سعيد، قال النووي: هو حديث مشهور بالنسبة إلى آخره، غريب بالنسبة إلى أوله، قال: وليس متواترًا؛ لفقد شرط التواتر في أوله، رواه عن يحيى بن سعيد أكثر من مائتي إنسان أكثرهم أئمة، قال العراقيّ: روينا عن الحافظ أبي موسى محمد بن عمر المدينيّ: أنه رواه عن يحيى بن سعيد سبعمائة رجل. انتهى

(2)

.

وقال البدر العينيّ رحمه الله: قال أبو سعيد محمد بن عليّ الخشاب الحافظ: روى هذا الحديث عن يحيى بن سعيد نحو مائتين وخمسين رجلًا. وذكر ابن منده في "مستخرجه" فوق الثلاثمائة، وقال الحافظ أبو موسى الأصفهانيّ: سمعت الحافظ أبا مسعود عبد الجليل بن أحمد يقول في المذاكرة: قال الإمام عبد الله الأنصاريّ: كتبت هذا الحديث عن سبعمائة رجل من أصحاب يحيى بن سعيد، وقال الحافظ أبو موسى المدينيّ، وشيخ الإسلام أبو إسماعيل الهرويّ: أنه رواه عن يحيى سبعمائة رجل.

فإن قلت: قد ذكر في "تهذيب مستمر الأوهام" لابن ماكولا أن يحيى بن سعيد لم يسمعه من التيميّ، وذكر في موضع آخر أنه يقال: لم يسمعه التيميّ، عن علقمة.

(1)

"طرح التثريب" 2/ 5.

(2)

"طرح التثريب" 2/ 5.

ص: 598

قلت: رواية البخاريّ عن يحيى بن سعيد: أخبرني محمد بن إبراهيم التيميّ، أنه سمع علقمة، تردّ هذا. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثامنة): هذا الحديث قاعدةٌ من قواعد الإسلام حتى قيل فيه: إنه ثلث العلم، وقيل: ربعه، وقيل: خمسه، وقال الشافعيّ، وأحمد: إنه ثلث العلم، قال البيهقيّ: لأن كَسْب العبد بقلبه ولسانه، وجوارحه، فالنية أحد الأقسام، وهي أرجحها؛ لأنها تكون عبادة بانفرادها، ولذلك كانت نية المؤمن خيرًا من عمله، وهكذا أوّله البيهقيّ، وكلام الإمام أحمد يُشعر بأنه أراد بكونه ثلث العلم معنى آخر، فإنه قال: أصول الإسلام على ثلاثة أحاديث: حديث: "إنما الأعمال بالنية"، وحديث عائشة رضي الله عنها:"من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد"، وحديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما:"الحلال بَيِّن، والحرام بَيِّن".

وقال أبو داود: اجتهدت في المسنَد فإذا هو أربعة آلاف حديث، ثم نظرت فإذا مدارها على أربعة أحاديث:"الحلال بيّن"، "والأعمال بالنية"، وحديث أبي هريرة رضي الله عنه:"إن الله طيّب لا يقبل إلا طيبًا"، وحديث:"مِن حُسن إسلام المرء تَرْكه ما لا يعنيه"، هكذا روى ابن الأعرابي عنه، وروى ابن داسة عنه نحوه، إلا أنه أبدل حديث:"إن الله طيّب" بحديث: "لا يكون المرء مؤمنًا حتى لا يرضى لأخيه إلا ما يرضى لنفسه"، وجعل بعضهم مكان هذا الحديث الذي تردّد كلام أبي داود فيه حديث:"ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما في أيدي الناس يحبك الناس".

ورُوي عن أبي داود أيضًا: الفقه يدور على خمسة أحاديث: "الحلال بيّن"، و"الأعمال بالنيات"، "وما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم"، و"لا ضرر، ولا ضرار". انتهى

(2)

.

وقال في "العمدة": قال الشافعيّ، وغيره: يدخل فيه؛ أي: حديث الباب، سبعون بابًا من الفقه، وقال النوويّ: لم يُرِد الشافعيّ رحمه الله انحصار أبوابه في هذا العدد، فإنها أكثر من ذلك، وقد نظم طاهر بن مُفَوّز الأحاديث الأربعة:[من الخفيف]

(1)

"عمدة القاري" 1/ 23.

(2)

"طرح التثريب" 2/ 6.

ص: 599

عُمْدَةُ الدِّينِ عنْدَنَا كَلمَاتٌ

أربَعٌ من كَلامِ خَيْرِ البَرِيَّهْ

اتَّقِ الشُّبْهَاتِ وازْهَدْ

(1)

وَدَعْ

مَا لَيْسَ يَعْنِيكَ واعْمَلَنَّ بنيَّهْ

(2)

(المسألة التاسعة): قال الحافظ العراقيّ رحمه الله: كلمة "إنما" للحصر على ما تقرر في الأصول، ومعنى الحصر فيها إثبات الحكم في المذكور ونفيه عما عداه، كقوله تعالى:{إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ} [طه: 98]، ولكن دلالتها على النفي فيما عداه، هل هو بمقتضى موضوع اللفظ، أو بطريق المفهوم؟ فيه كلام لبعض المتأخرين، واستدلّ على وِفاقِهم أنها للحصر أن ابن عباس رضي الله عنهما فَهِمه من قوله صلى الله عليه وسلم:"إنما الربا في النسيئة"، فاعترضه المخالفون له بدليل آخر يقتضي تحريم ربا الفضل، ولم يعارضوه فيما فهمه من الحصر؛ لاتفاقهم عليه. انتهى

(3)

.

وقال الحافظ في "الفتح": واختلفوا هل هي بسيطة، أو مركبة؟ فرجحوا الأول، وقد يرجح الثاني، ويجاب عما أورد عليه من قولهم: إنّ "إنّ" للإثبات و"ما" للنفي، فيستلزم اجتماع المتضادين على صدد واحد بأن يقال مثلًا: أصلهما كان للإثبات والنفي، لكنهما بعد التركيب لم يبقيا على أصلهما، بل أفادا شيئًا آخر، أشار إلى ذلك الكرمانيّ، قال: وأما قول من قال: إفادة هذا السياق للحصر من جهة أن فيه تأكيدًا بعد تأكيد، وهو المستفاد من "إنما"، ومن الجمع، فمتعقَّب بأنه من باب إيهام العكس؛ لأن قائله لمّا رأى أن الحصر فيه تأكيد على تأكيد ظنّ أن كل ما وقع كذلك يفيد الحصر.

وقال ابن دقيق العيد: استُدِلّ على إفادة "إنما" للحصر بأن ابن عباس رضي الله عنهما استَدَلّ على أن الربا لا يكون إلا في النسيئة بحديث: "إنما الربا في النسيئة"، وعارضه جماعة من الصحابة في الحكم، ولم يخالفوه في فهمه، فكان كالاتفاق منهم على أنها تفيد الحصر. وتُعُقّب باحتمال أن يكونوا تركوا المعارضة بذلك تنزّلًا، وأما من قال: يَحْتَمِل أن يكون اعتمادهم على قوله: "لا ربا إلا في النسيئة"؛ لورود ذلك في بعض طُرق الحديث المذكور، فلا يفيد

(1)

كذا وقع في النسخة، وفيه انكسار، ولعله:"اتَّقِ الشُّبْهَاتِ ازْهَدَنَّ وَدَعْ مَا. . . . إلخ".

(2)

"عمدة القاري" 1/ 24.

(3)

"طرح التثريب" 2/ 6.

ص: 600

ذلك في ردّ إفادة الحصر، بل يقوّيه، ويُشعر بأن مُفاد الصيغتين عندهم واحد، وإلا لَمَا استعملوا هذه موضع هذه.

وأوضح من هذا حديث: "إنما الماء من الماء"، فإن الصحابة الذين ذهبوا إليه لم يعارضهم الجمهور في فهم الحصر منه، وإنما عارضوهم في الحكم من أدلة أخرى كحديث:"إذا التقى الختانان".

قال ابن عطية: "إنما" لفظ لا يفارقه المبالغة والتأكيد، حيث وقع، ويصلح مع ذلك للحصر إن دخل في قصة ساعدت عليه، فجعل وروده للحصر مجازًا يحتاج إلى قرينة، وكلام غيره على العكس من ذلك، وأن الأصل ورودها للحصر، لكن قد يكون في شيء مخصوص، كقوله تعالى:{إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [النساء: 171] فإنه سيق باعتبار منكري الوحدانية، وإلا فلله عز وجل صفات أخرى كالعلم والقدرة، وكقوله تعالى:{إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ} [الرعد: 7] فإنه سيق باعتبار منكري الرسالة، وإلا فله صلى الله عليه وسلم صفات أخرى كالبشارة إلى غير ذلك من الأمثلة، وهي فيما يقال: السبب في قول من منع إفادتها للحصر مطلقًا. انتهى

(1)

.

وقال العراقيّ: إذا تقرر أنها للحصر، فتارة تقتضي الحصر المطلق، وهو الأغلب الأكثر، وتارة تقتضي حصرًا مخصوصًا، كقوله تعالى:{إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ} ، وقوله:{إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} [محمد: 36] فالمراد حصره في النذارة لمن لا يؤمن، ونَفْي قدرته على ما طلبوا من الآيات، وأراد بالآية الثانية الحصر بالنسبة إلى من آثرها، أو هو من باب تغليب الغالب على النادر، وكذا قوله في الحديث:"إنما أنا بشر" أراد بالنسبة إلى الاطلاع على بواطن الخصوم، وبالنسبة إلى جواز النسيان عليه، قال ابن دقيق العيد: ويُفهم ذلك بالقرائن والسياق. انتهى

(2)

، والله تعالى أعلم.

(المسألة العاشرة): قال الحافظ العراقيّ رحمه الله: المراد بالأعمال هنا: أعمال الجوارح كلها حتى تدخل في ذلك الأقوال، فإنها من عمل اللسان، وهو من الجوارح، قال ابن دقيق العيد رحمه الله: ورأيت بعض المتأخرين من أهل

(1)

"الفتح" 1/ 19.

(2)

"طرح التثريب" 2/ 6.

ص: 601

الخلاف خَصَّصَ الأعمال بما لا يكون قولًا، وأخرجَ الأقوال من ذلك، قال: وفي هذا عندي بُعْد، ولا تردّد عندي في أن الحديث يتناول الأقوال أيضًا. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: ويتناول الحديث أيضًا التروك؛ لأنها أفعال، قال الشيخ إبراهيم الكرديّ: الترك إذا أريد به كفّ النفس، فهو فعل اختياريّ، وكل فعل اختياريّ يختلف باختلاف النيات، وقد صحّ:"إذا أراد عبدي أن يعمل سيئة" إلى قوله: "وإن تركها من أجلي، فاكتبوها له حسنةً"، ومفهومه أنه إذا لم يتركها من أجل الله لا تُكتب له حسنة، وهو كذلك كما قاله الغزالي وغيره، "إذا أراد عبدي أن يعمل سيئة. . .".

قال الصنعانيّ: بل قد نقل الشيخ نفسه أنه قد قيل: إذا تركها لخوف المسلمين كان آثمًا.

قال الشيخ: "ومن حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه"، فنقول: الكفّ إن كان تركًا للشر لله فهو خير، وإن كان تركًا للخير بلا عذر شرعيّ فهو شرّ، والعمل قد أُطلق على الخير والشر، قال الله تعالى:{فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)} [الزلزلة: 7، 8]، ويوضّحه أن الكف قد أُطلق عليه أنه صدقة، كما في حديث أبي ذرّ رضي الله عنه:"كُفّ شرّك عن الناس، فإنها صدقة منك على نفسك"، أخرجه ابن أبي الدنيا

(2)

.

وفي حديث معاذ عند الديلميّ: "أفضل الصدقة حفظ اللسان".

(1)

"طرح التثريب" 2/ 7.

(2)

بل هو في "الصحيحين" من حديث أبي موسى الأشعريّ قال: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "على كل مسلم صدقةٌ"، قالوا: فإن لم يجد؟ قال: "فيعمل بيديه، فينفع نفسه، ويتصدق"، قالوا: فإن لم يستطع، أو لم يفعل؟ قال:"فيُعِين ذا الحاجة الملهوفَ"، قالوا: فإن لم يفعل؟ قال: "فليأمر بالخير، أو قال بالمعروف"، قال: فإن لم يفعل؟ قال: "فليُمْسك عن الشرّ، فإنه له صدقة".

اللهمّ إلا أن يريد اللفظ الذي ذكره، فليُتأمّل.

ص: 602

والأصل الحقيقة، ولا صارف، ولا سيما وقد ورد:"كل معروف صدقة"، وتَرْك الأذى والشرّ من المعروف، ولا شبهة، والصدقة من أفضل الأعمال، فالكفّ عن الأذى والشر من أفضل الأعمال، فالتروك من الأعمال، وهو المطلوب. انتهى.

ونقله العلامة الصنعانيّ في "العدة حاشية العمدة"، وناقشه فيه بما تركته لعدم جدواه، والله تعالى أعلم.

(المسألة الحادية عشرة): "النية" - بتشديد الياء - على المشهور، وحُكي التخفيف أيضًا كما تقدّم، وقد ورد بلفظ الإفراد فيه، وفي العمل أيضًا، وقد ورد بلفظ الجمع أيضًا، وكلها صحاح.

واختُلِف في حقيقة النية: فقيل: هي الطلب، وقيل: الجِدُّ في الطلب، ومنه قول ابن مسعود: ومن ينو الدنيا تُعجزُه؛ أي: من يَجِدّ في طلبها، وقيل: القصد للشيء بالقلب، وقيل: عزيمة القلب، وقيل: هي من النَّوى، بمعنى البُعْد، فكأن الناوي للشيء يطلب بقصده وعزمه ما لم يصل إليه بجوارحه وحركاته الظاهرة لبعده عنه، فجُعلت النية وسيلة إلى بلوغه، قاله العراقيّ رحمه الله

(1)

، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثانية عشرة): قال الحافظ زين الدين ابن رجب رحمه الله في كتابه النافع "جامع العلوم والحكم" ما نصه:

‌فائدة مهمة:

(واعلم): أن النية في اللغة نوع من القصد والإرادة، وإن كان قد فُرِّقَ بين هذه الألفاظ بما ليس هذا موضع ذِكره، والنية في كلام العلماء تقع بمعنيين:

أحدهما: تمييز العبادات بعضها عن بعض كتمييز صلاة الظهر من صلاة العصر مثلًا، وتمييز رمضان من صيام غيره، أو تمييز العبادات من العادات، كتمييز الغسل من الجنابة من غسل التبرّد والتنظيف، ونحو ذلك، وهذه النية هي التي توجد كثيرًا في كلام الفقهاء في كتبهم.

(1)

"طرح التثريب" 2/ 7.

ص: 603

والمعنى الثاني: بمعنى تمييز المقصود بالعمل، وهل هو لله وحده لا شريك له أم لله وغيره؟.

وهذه هي النية التي يتكلم فيها العارفون في كتبهم في كلامهم على الإخلاص وتوابعه، وهذه هي التي توجد في كلام السلف المتقدمين، وقد صنّف أبو بكر بن أبي الدنيا مصنَّفًا سمّاه "كتاب الإخلاص والنية"، وإنما أراد هذه النية، وهي النية التي يتكرر ذِكرها في كلام النبيّ صلى الله عليه وسلم تارة بلفظ النية، وتارة بلفظ الإرادة، وتارة بلفظ مقارِب لذلك، وقد جاء ذِكرها كثيرًا في كتاب الله عز وجل بغير لفظ النية أيضًا من الألفاظ المقاربة لها، وإنما فرّق من فرّق بين النية، وبين الإرادة والقصد ونحوهما؛ لظنّهم اختصاص النية بالمعنى الأول الذي يذكره الفقهاء.

فمنهم من قال: النية تختص بفعل الناوي والإرادة لا تختص بذلك، كما يريد الإنسان من الله أن يغفر له، ولا ينوي ذلك، وقد ذكرنا أن النية في كلام النبيّ صلى الله عليه وسلم وسلف الأمة إنما يراد بها هذا المعنى الثاني غالبًا، فهي حينئذ بمعنى الإرادة، ولهذا يعبَّر عنها بلفظ الإرادة في القرآن كثيرًا كما في قوله تعالى:{مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} [آل عمران: 152]، وقوله:{تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} [الأنفال: 67]، وقوله تعالى:{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا} [هود: 15]، وقوله:{مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ} [الشورى: 20]، وقوله:{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ} [الإسراء: 18]، وقوله:{وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الأنعام: 52]، وقوله:{وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} الآية [الكهف: 28]، وقوله:{ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ} الآية [الروم: 38]، وقوله:{وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39)} [الروم: 39].

وقد يُعَبَّر عنها في القرآن بلفظ الابتغاء، كما في قوله تعالى:{إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى (20)} [الليل: 20]، وقوله:{وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ} الآية [البقرة: 265]، وقوله: {وَمَا تُنْفِقُونَ

ص: 604

إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ} الآية [البقرة: 272]، وقوله:{لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ} الآية [النساء: 114]، فنفى الخير عن كثير مما يتناجى الناس به، إلا في الأمر بالمعروف، وخصّ من أفراده الصدقة، والإصلاح بين الناس بعموم نفعهما، فدلّ ذلك على أن التناجي بذلك خير، وأما الثواب عليه من الله فخصّه بمن فَعَله ابتغاء مرضات الله، وإنما جعل الأمر بالمعروف من الصدقة، والإصلاح بين الناس وغيرهما خيرًا، وإن لم يبتغ به وجه الله لِمَا يترتب على ذلك من النفع المتعدّي، فيحصل به للناس إحسان وخير، وأما بالنسبة إلى الأمر فإنْ قَصَد به وجه الله، وابتغاء مرضاته كان خيرًا له، وأثيب عليه، وإن لم يقصد ذلك لم يكن خيرًا له، ولا ثواب له عليه، وهذا بخلاف من صلى، وصام، وذكر الله يقصد بذلك عَرَض الدنيا، فإنه لا خير له فيه بالكلية؛ لأنه لا يتعدى نفعه إلى أحد، اللهم إلا أن يحصل لأحد اقتداء به في ذلك.

وأما ما ورد في السنة وكلام السلف من تسمية هذا المعنى بالنية فكثير جدًّا، ونحن نذكر بعضه:

كما خَرَّج الإمامُ أحمد، والنسائيّ، من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال:"من غزا في سبيل الله، ولم ينو إلا عقالًا، فله ما نوى"، وأخرجه الإمام أحمد من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"إن أكثر شهداء أمتي أصحاب الْفُرُش، ورُبَّ قتيل بين الصفين الله أعلم بنيّته".

وأخرج ابن ماجه من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"يُحشر الناس على نياتهم"، ومن حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"إنما يُبعث الناس على نياتهم"، وأخرج ابن أبي الدنيا من حديث عمر رضي الله عنهما، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"إنما يُبعث المُقتَتِلون على نيّاتهم"، وفي "صحيح مسلم" عن أم سلمة رضي الله عنها، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"يعوذ عائذ بالبيت، فَيُبْعَث إليه بَعْثٌ، فإذا كانوا ببيداء من الأرض يُخسف بهم"، فقلت: يا رسول الله فكيف بمن كان كارهًا؟ قال: "يُخسف به معهم، ولكنه يُبعث يوم القيامة على نيّته".

وفيه أيضًا عن عائشة رضي الله عنها، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم معنى هذا الحديث، وقال فيه:"يهلكون مَهلكًا واحدًا، ويَصْدِرون مصادر شتى، ويَبعثهم الله على نيّاتهم".

ص: 605

وأخرج الإمام أحمد، وابن ماجه من حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"من كانت هَمّه الدنيا فرّق الله شمله - وفي لفظ: أمره - وجعل فَقْره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له، ومن كانت الآخرة نيته جمع الله له أمره، وجعل غِناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة". هذا لفظ ابن ماجه، ولفظ أحمد:"من كانت همّه الآخرة، ومن كانت نيّته الدنيا"، وخرَّجه ابن أبي الدنيا، وعنده:"من كانت نيته الآخرة، ومن كانت نيته الدنيا".

وفي "الصحيحين" عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"إنك لن تُنفق نفقة تبتغي بها وجه الله، إلا أُثِبْت عليها، حتى اللقمة تجعلها في فيِّ امرأتك"، وروى ابن أبي الدنيا بإسناد منقطع عن عمر قال:"لا عمل لمن لا نيّة له، ولا أجر لمن لا حِسبة له"؛ يعني: لا أجر لمن لم يحتسب ثواب عمله عند الله عز وجل، وبإسناد ضعيف عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: لا يَنفع قول إلا بعمل، ولا ينفع قول ولا عمل إلا بنيّة، ولا ينفع قول ولا عمل ولا نية إلا بما وافق السنة، وعن يحيى بن أبي كثير قال: تعلّموا النية، فإنها أبلغ من العمل، وعن زيد الشامي، قال: إني لأحب أن تكون لي نية في كل شيء حتى في الطعام والشراب.

وعنه أيضًا أنه قال: انْو في كل شيء تريد الخيرَ حتى خروجك إلى الكناسة، وعن داود الطائيّ قال: رأيت الخير كله إنما يجمعه حُسن النية، وكفاك بها خيرًا، وإن لم تَنْصَب، قال داود: والبِرُّ همَّةُ التقيّ، ولو تعلقت جميع جوارحه بحب الدنيا لردّته يومًا نيّته إلى أصله، وعن سفيان الثوريّ قال: ما عالجت شيئًا أشد عليّ من نيتي؛ لأنها تتقلب عليّ، وعن يوسف بن أسباط قال: تخليص النية من فسادها أشدّ على العاملين من طول الاجتهاد، وقيل لنافع بن حبيب: ألا تشهد الجنازة؟ قال: كما أنت حتى أنوي، قال: ففكر هنيهةً، ثم قال: امض، وعن مطرف بن عبد الله قال: صلاح القلب بصلاح العمل، وصلاح العمل بصلاح النية، وعن بعض السلف قال: من سَرّه أن يَكْمُل له عمله فليُحْسِن نيته، فإن الله عز وجل يأجر العبد إذا أحسن نيته حتى باللقمة، وعن ابن المبارك قال: رُبّ عمل صغير تُعظّمه النية، ورُبَّ عملٍ كبير تصغِّره النية، وقال ابن عجلان: لا يصلح العمل إلا بثلاث: التقوى لله، والنية الحسنة، والإصابة.

ص: 606

وقال الفضيل بن عياض: إنما يريد اللهُ عز وجل منك نيّتك وإرادتك، وعن يوسف بن أسباط قال: إيثار الله عز وجل أفضل من القتل في سبيل الله، خَرَّجَ ذلك كله ابنُ أبي الدنيا في "كتاب الإخلاص والنية"، وروى فيه بإسناد منقطع عن عمر قال: أفضل الأعمال أداء ما افترض الله عز وجل، والورع عما حرّم الله عز وجل، وصِدْق النية فيما عند الله.

وبهذا يُعلم ما رَوَى الإمام أحمد أن أصول الإسلام ثلاثة أحاديث:

حديث: "إنما الأعمال بالنيات"، وحديث:"من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردّ"، وحديث:"الحلال بيِّن والحرام بيِّن"، فإن الدِّين كله يرجع إلى فعل المأمورات، وترك المحظورات، والتوقّي عن الشبهات، وهذا كله تضمّنه حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما، وإنما يتمّ ذلك بأمرين:

أحدهما: أن يكون العمل في ظاهره على موافقة السُّنّة، وهذا هو الذي تضمّنه حديث عائشة رضي الله عنها:"من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد".

والثاني: أن يكون العمل في باطنه يُقصد به وجه الله عز وجل، كما تضمّنه حديث عمر رضي الله عنه:"الأعمال بالنيات"، وقال الفضيل بن عياض في قوله تعالى:{الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} الآية [الملك: 2] قال: أخلصه وأصوبه، وقال: إن العمل إذا كان خالصًا ولم يكن صوابًا لم يُقبل، وإذا كان صوابًا، ولم يكن خالصًا لم يُقبل، حتى يكون خالصًا وصوابًا، قال: والخالص إذا كان لله عز وجل، والصواب إذا كان على السنة.

وقد دل هذا الذي قال الفضيل على قوله عز وجل: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110]، وقال بعض العارفين: إنما تفاضلوا بالإرادات، ولم يتفاضلوا بالصوم والصلاة.

قال الحافظ ابن رجب رحمه الله:

"فصل":

وأما النية بالمعنى الذي ذكره الفقهاء، وهو تمييز العبادات عن العادات، وتمييز العبادات بعضها من بعض، فإن الإمساك عن الأكل والشرب يقع تارة حِمْيَةً، وتارة لعدم القدرة على الأكل، وتارة تركًا للشهوات لله عز وجل، فيحتاج في الصيام إلى نية، ليتميّز بذلك عن ترك الطعام على غير هذا الوجه، وكذلك

ص: 607

العبادات، كالصلاة، والصيام، منها فرض، ومنها نفل، والفرض يتنوع أنواعًا، فإن الصلوات المفروضات خمس صلوات في كل يوم وليلة، والصيام الواجب تارةً يكون صيام رمضان، وتارة يكون صيام كفارة، أو عن نذر، ولا يتميز هذا كله إلا بالنية، وكذلك الصدقة تكون نفلًا، وتكون فرضًا، والفرض منه زكاة، ومنه كفارة، ولا يتميز ذلك إلا بالنية، فيدخل ذلك في عموم قوله صلى الله عليه وسلم:"وإنما لكل امرئ ما نوى".

وفي بعض ذلك اختلاف مشهور بين العلماء، فإن منهم من لا يوجب تعيين النية للصلاة المفروضة، بل يكفي عنده أن ينوي فرض الوقت، وإن لم يستحضر تسميته في الحال، وهي رواية عن الإمام أحمد، ويُبنى على هذا القول أن من فاتته صلاة من يوم وليلة، ونسي عينها أن عليه أن يقضي ثلاث صلوات: الفجر والمغرب ورباعية واحدة.

وكذلك ذهب طائفة من العلماء إلى أن صيام رمضان لا يحتاج إلى نية معيّنة أيضًا، بل يجزئ نية الصيام مطلقًا؛ لأن وقته غير قابل لصيام آخر، وهو رواية عن الإمام أحمد، وربما حكي عن بعضهم أن صيام رمضان لا يحتاج إلى نية بالكلية لتعيّنه بنفسه، فهو كردّ الودائع، وحكي عن الأوزاعي أن الزكاة كذلك، وتأول بعضهم قوله على أنه أراد أنها تجزئ بنيّة الصدقة المُطْلَقة، كالحج، وكذلك قال أبو حنيفة: لو تصدّق بالنصاب كله من غير نية أجزأه عن زكاته، وقد رُوي أن النبيّ صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يلبّي بالحج عن رجل، فقال له:"أحَجَجْتَ عن نفسك؟ " قال: لا. قال: هذه عن نفسك، ثم حُجّ عن الرجل"، قال: وقد تُكُلِّم في صحة هذا الحديث، ولكنه صحيح عن ابن عباس وغيره، وأخذ بذلك الشافعيّ، وأحمد في المشهور عنه، وغيرهما في أن حَجة الإسلام تسقط بنية الحج مطلقًا، سواء نوى التطوع أو غيره، ولا يشترط للحج تعيين النية، فمن حج عن غيره، ولم يحجّ عن نفسه وقع عن نفسه، وكذلك لو حج عن نذر، أو نفلًا، ولم يكن حج حجة الإسلام، فإنها تنقلب عنها، وقد ثبت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه أمر الصحابة رضي الله عنهم في حجة الوداع بعدما دخلوا معه، وطافوا وسعوا، أن يفسخوا حجهم، ويجعلوه عمرة، وكان منهم القارن، والمفرد، وإنما كان طوافهم عند قدومهم طوافَ القدوم، وليس بفرض، وقد أمرهم أن

ص: 608

يجعلوه طواف عمرة، وهو فرض، وقد أخذ بذلك الإمام أحمد في فسخ الحجّ، وعَمِل به، وهو مُشكِل على أصله، فإنه يوجب تعيين الطواف الواجب للحج والعمرة بالنية، وخالفه في ذلك أكثر الفقهاء، كمالك، والشافعيّ، وأبي حنيفة، وقد يفرّق الإمام أحمد بين أن يكون طوافه في إحرام انقلب، كالإحرام الذي يفسخه ويجعله عمرة، فينقلب الطواف فيه تَبَعًا لانقلاب الإحرام، كما ينقلب الطواف في الإحرام الذي نوى به التطوع إذا كان عليه حجة الإسلام تبعًا لانقلاب الإحرام من أصله، ووقوعه عن فرضه، بخلاف ما إذا طاف للزيارة لنيّة الوداع، أو التطوع، فإن هذا لا يُجزيه إلا أن ينوي به الفرض، ولم ينقلب فرضًا تبعًا لانقلاب إحرامه، والله أعلم.

ومما يدخل في هذا الباب أن رجلًا في عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم كان قد وضع صدقته عند رجل فجاء ولد صاحب الصدقة فأخذها ممن هي عنده، فعَلِم بذلك أبوه، فخاصمه إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: ما إياك أردت، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم للمتصدق:"لك ما نويت"، وقال للآخذ:"لك ما أخذت". خرَّجه البخاريّ، وقد أخذ الإمام أحمد بهذا الحديث، وعمل به في المنصوص عنه، وإن كان أكثر أصحابه على خلافه، فإن الرجل إنما مُنع من دفع الصدقة إلى ولده خشية أن تكون محاباة، فإذا وصلت إلى ولده من حيث لا يشعر كانت المحاباة منتفية، وهو من أهل استحقاق الصدقة في نفس الأمر، ولهذا لو دفع صدقته إلى من يظنه فقيرًا، وكان غنيًا في نفس الأمر أجزأته على الصحيح؛ لأنه إنما دَفع إلى من يعتقد استحقاقه، والفقر أمر خفي لا يكاد يُطَّلعُ على حقيقته.

وأما الطهارة: فالخلاف في اشتراط النية لها مشهور، وهو يرجع إلى أن الطهارة للصلاة هل هي عبادة مستقلة، أم هي شرط من شروط الصلاة، كإزالة النجاسة وستر العورة؟ فمن لم يشترط لها النية جعلها كسائر الشروط، ومن اشترط لها النية جعلها عبادة مستقلة، فإذا كانت عبادة في نفسها لم تصح بدون النية، وهذا قول جمهور العلماء، ويدل على صحة ذلك تكاثر النصوص الصحيحة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: أن الوضوء يكفّر الذنوب والخطايا، وأن من توضأ كما أُمر كان كفارة لذنوبه، وهذا يدل على أن الوضوء المأمور به في القرآن عبادة مستقلة بنفسها، حيث رتّب عليه تكفير الذنوب، والوضوء الخالي من النية

ص: 609

لا يكفِّر شيئًا من الذنوب بالاتفاق، فلا يكون مأمورًا به، ولا تصح به الصلاة، ولهذا لم يَرِد في شيء من بقية شرائط الصلاة، كإزالة النجاسة، وستر العورة، ما وَرَدْ في الوضوء من الثواب، ولو شَرَك بين نية الوضوء، وبين قصد التبرّد، أو إزالة النجاسة، أو الوسخ، أجزأه في المنصوص عن الشافعيّ، وهذا قول أكثر أصحاب أحمد؛ لأن هذا القصد ليس بمحرم ولا مكروه، ولهذا لو قَصَد مع رَفْع الحدث تعليم الوضوء لم يضره ذلك، وقد كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يقصد أحيانًا بالصلاة تعليمها للناس، وكذلك الحجّ كما قال:"خذوا عني مناسككم".

قال ابن رجب: ومما تدخل فيه النية من أبواب العلم: مسائل الأيمان، فَلَغْو اليمين لا كفارة فيه، وهو ما جرى على اللسان من غير قصد بالقلب البتة، كقوله: لا والله، وبلى والله، في أثناء الكلام قال تعالى:{لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} الآية [المائدة: 89]، وكذلك يُرجَع في الأيمان إلى نية الحالف، وما قَصَد بيمينه، فإن حلف بطلاق، أو عَتَاق، ثم ادَّعَى أنه نوى ما يخالف ظاهر لفظه، فإنه يُدَيَّن فيما بينه وبين الله عز وجل، وهل يُقْبَل منه في ظاهر الحكم؟ فيه قولان للعلماء مشهوران، وهما روايتان عن أحمد، وقد رُوي عن عمر أنه رُفِع إليه رجل قالت له امرأته: شَبِّهْني، قال: كأنك ظَبْيَة، كأنك حَمَامة، فقالت: لا أرضى حتى تقول: أنت خَليَّة طالق، فقال ذلك، فقال عمر: خذ بيدها، فهي امرأتك، خَرَّجه أبو عبيد، وقال: أراد الناقة تكون معقولة، ثم تُطلق من عقالها، ويُحَلّ عنها، فهي خَليَّة من العِقال، وهي طالق لأنها قد انطلقت منه، فأراد الرجل ذلك، فأسقط عنه عمر الطلاق لنيّته، قال: وهذا أصل لكل من تكلم بشيء يُشبه لفظ الطلاق، والعَتَاق، وهو ينوي غيره، أن القول فيه قوله فيما بينه وبين الله عز وجل، وفي الحكم على تأويل عمر رضي الله عنه.

وبروى عن السُّمَيط السَّدُوسيّ، قال: خطبتُ امرأةً، فقالوا: لا نُزَوِّجك حتى تطلق امرأتك، فقلت: إني طلقتها ثلاثًا، فزوَّجوني، ثم نظروا فإذا امرأتي عندي، فقالوا: أليس قد طلقتها ثلاثًا؟ فقلت: كان عندي فلانة، فطلقتها، وفلانة فطلقتها، فأما هذه فلم أطلقها، فأتيت شقيق بن ثور، وهو يريد الخروج إلى عثمان وافدًا، فقلت له: سَلْ أمير المؤمنين عن هذه، فخرج فسأله، فذكر ذلك لعثمان، فجعلها له، فقال: بنيّته، خرَّجه أبو عبيد في كتاب الطلاق،

ص: 610

وحَكَى إجماع العلماء على مثل ذلك، وقال إسحاق بن منصور: قلت لأحمد: حديث السميط تعرفه؟ قال: نعم السدوسيّ، وإنما جعل نيته بذلك، وقال: فإن كان الحالف ظالِمًا ونوى خلاف ما حلَّفه عليه غريمه لم تنفعه نيته.

وفي "صحيح مسلم" عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"يمينك على ما يُصدِّقك عليه صاحبك"، وفي رواية له:"اليمين على نية المستحلِف"، وهو محمول على الظالم، فأما المظلوم فينفعه ذلك.

وقد خرّج الإمام أحمد، وابن ماجه من حديث سُوَيد بن حَنْظَلَة قال: خرجنا نريد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعنا وائل بن حُجْر، فأخذه عدوّ له، فتحرّج الناس أن يحلفوا، فحلفت أنا أنه أخي، فخَلّى سبيله، وأتينا النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأخبرته أن القوم تحرجوا أن يحلفوا، فحلفت أنا أنه أخي، فقال:"صدقت، المسلم أخو المسلم".

وكذلك قد تدخل النية في الطلاق والعتاق، فإذا أتى بلفظ من ألفاظ الكنايات المحتملة للطلاق، أو العتاق، فلا بد له من النية، وهل يقوم مقام النية دلالة الحال من غضب، أو سؤال الطلاق، ونحوه أم لا؟ فيه خلاف مشهور بين العلماء، وهل يقع بذلك الطلاق في الباطن، كما لو نواه، أم يلزم به في ظاهر الحكم فقط؟ فيه خلاف مشهور، ولو أوقع الطلاق بكناية ظاهرة، كالبتة، ونحوها، فهل يقع به الثلاثة، أو واحدة؟ فيه قولان مشهوران، فظاهر مذهب أحمد أنه يقع به الثلاث مع إطلاق النية، فان نوى به ما دون الثلاث وقع به ما نواه، وحكي عنه رواية أخرى: أنه يلزمه الثلاث أيضًا، ولو رأى امرأة يظنها امرأته، فطلقها، ثم بانت أجنبية طُلِّقت امرأته؛ لأنه إنما قصد طلاق امرأته، نَصَّ على ذلك أحمد، وحُكي عنه رواية أخرى: أنها لا تَطْلُق، وهو قول الشافعيّ، ولو كان بالعكس بأن رأى امرأة فظنها أجنبية، فطلقها فبانت امرأته، فهل تطلق؟ فيه قولان، وهما روايتان عن أحمد، والمشهور من مذهب الشافعيّ وغيره أنها لا تطلق، ولو كان له امرأتان، فنهى إحداهما عن الخروج، ثم رأى امرأة قد خرجتِ فظنّها المَنهية، فقال لها: فلانةُ خرجتِ أنت طالق، فقد اختلف العلماء فيها، فقال الحسن: تطلق المنهية؛ لأنها التي نواها، وقال إبراهيم: يطلقان، وقال عطاء: لا تطلق واحدة منهما،

ص: 611

وقال أحمد: إنها تطلق المنهية رواية واحدةً؛ لأنه نوى طلاقها، وهل تطلق المواجِهة؟ على روايتين عنه، فاختلف الأصحاب على القول بأنها تطلق، هل تطلق في الحكم فقط أم في الباطن أيضًا؟ على طريقتين لهم.

وقد استُدِلّ بقوله صلى الله عليه وسلم: "الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى"، على أن العقود التي يُقصد بها في الباطن التوصل إلى الحرام غير صحيحة، كعقود البيوع التي يُقصد بها معنى الربا ونحوها، كما هو مذهب مالك وأحمد، وغيرهما، فإن هذا العقد إنما نوى به الربا لا البيع، "وإنما لكل امرئ ما نوى".

ومسائل النية المتعلقة بالفقه كثيرة جدًّا، وفيما ذكرنا كفاية، وقد تقدم عن الشافعيّ أنه قال في هذا الحديث: إنه يدخل في سبعين بابًا من الفقه، والله أعلم. انتهى ما كتبه الحافظ ابن رجب رحمه الله في "جامع العلوم والحكم"

(1)

، وهو بحثٌ نفيس مفيدٌ جدًّا. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة عشرة): قال الإمام ابن دقيق العيد رحمه الله: قوله: "إنما الأعمال بالنيات": لا بُدّ فيه من حذف المضاف، واختلف الفقهاء في تقديره: فالذين اشترطوا النية قدّروه: صحة الأعمال بالنيات، أو ما يقاربه، والذين لم يشترطوها قدّروه كمال الأعمال بالنيات، أو ما يقاربها، وقد رُجِّحَ الأولُ بأن الصحة أكثر لزومًا للحقيقة من الكمال، فالحَمْل عليه أولى؛ لأن ما كان أَلزم للشيء كان أقرب إلى خطوره بالبال عند إطلاق اللفظ، فكان الحَمْل عليه أولى، وكذلك قد يقدّرونه: إنما اعتبار الأعمال بالنيات، وقد قرَّب ذلك بعضهم بنظائر من الْمُثُل، كقولهم: إنما المُلْكُ بالرجال؛ أي: قوامه ووجوده، وإنما الرجال بالمال، وإنما المال بالرعية، وإنما الرعية بالعدل، كل ذلك يراد به أن قوام هذه الأشياء بهذه الأمور. انتهى كلام ابن دقيق العيد رحمه الله

(2)

.

وكتب العلامة الصنعانيّ رحمه الله عند قوله: لا بُدّ من حذف مضاف، ما نصه: أقول: لِمَا أنه معلوم وجود صورة العمل من دون نية، فلا بد من التقدير؛ لِتوقّف الصدق على المقدَّر، ولذا قيل: إنه من المُجْمَل؛ لتردده بين

(1)

"جامع العلوم والحكم" 1/ 23.

(2)

"إحكام الأحكام" 1/ 72 - 75 بنسخة الحاشية.

ص: 612

المحتمِلات، والجمهور على خلافه؛ لِسَبْق المقصود إلى الفهم عُرفًا، فتقدَّر الصحة؛ أي: لا صحة للأعمال إلا بالنيات، ورُجِّح بأنه الأقرب إلى نفي الذات عن الأعمال؛ لأن ما لا يصح كالعدم.

قال الصنعاني: إنما لاحظوا الأقرب إلى نفي الذات؛ لأن الكلام ظاهر في نفيها، والحَرْف موضوع لذلك، إذ قولك: لا رجل في الدار يُراد به نفي الذات؛ أي: نفي صفة استقرار الذات في الدار، وكأنهم يتسامحون في العبارة، قال الحلبي: ولأن اللفظ دلّ على نفي الذات بالتصريح وعلى نفي الصفات بالتَّبَع، فلما مَنَعَ الدليل دلالته على نفي الذات ثبت أن دلالته على نفي الصفات مستمرة، فحيث ولا بدّ من مقدَّر يتوجه النفي إليه، فما هو في حكم العدم

(1)

، والشارح - يعني: ابن دقيق العيد - ذكر مرجِّحًا آخر وهو أن الصحة أكثر لزومًا للحقيقة من الكمال، يريد أن الأفعال الصحيحة أكثر وجودًا من الأفعال الكاملة، فيتوجه النفي إلى ملازم الحقيقة، فكان نفي الملازَم - بالفتح - وهو ملاقٍ للأول؛ إذ نفي الملازَم كنفي الملازِم.

وقوله: لأن ما كان ألزم للشيء كان أقرب إلى خطوره بالبال، وهو مُلَاقٍ لقول أهل الأصول؛ لِسَبْق المقصود إلى الفهم.

قال الصنعانيّ: وهنا مرجِّح أوضح، وهو أن خطابات الشارع محمولة على تعريفه، وتعليمه للمكلفين التكاليف الصحيحة؛ إذ هي المطلوبة منهم، ولذا حُملت الخطابات المطلقة في مثل {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] على النكاح الصحيح؛ لأنه مطلوب الشارع، لا الفساد فلا يكون محلِّلًا، فكذلك يكون مطلوب الشارع تعريف العباد صحيح التكاليف التي يسقط الطلب بها، وتستحق به الإثابة، وأما الكمال فهو مطلوب ندبًا، لا وجوبًا وإلا لزم أن لا يجزئ إلا الكامل من الأفعال، لا الصحيح، على أني أقول

(2)

: ههنا مانع من تقدير الكمال، وهو أنه سيق الحديث لبيان الأعمال التي يثاب عليها

(1)

هكذا النسخة، والظاهر أن فيه سقطًا، والأصل: فما هو في حكم العدم أَولى، والله تعالى أعلم.

(2)

القائل هو الصنعاني رحمه الله.

ص: 613

العباد، فلو قدّر الكمال لزم أن لا يثاب العباد، فلو قدّر الكمال على الأفعال الصحيحة حتى تتصف بالكمال وهو باطل

(1)

، ثم الكمال يتفاوت بتفاوت رُتَب العاملين، فصلاة نبيّنا صلى الله عليه وسلم أكمل الصلوات، ثم تختلف رتبته على اختلاف طبقات الأتقياء، فأيُّ كمالٍ المقدَّرُ؟ فالقول بتقديره كالإحالة على مجهول، مع أن الكمال ليس بملازم لجميع الأفعال، والحديث عام لجميعها، بخلاف الصحة، فهي شيء واحد ملازم لكل ما يُسقط التكليف، وهي ترتب الآثار، فعرفت أن تقدير الكمال غير صحيح هنا، ولا مُلجئ إليه، إلا الدليل الناهض

(2)

كما نهض على تقديره في حديث: "لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد"، إن ثبت، وذلك أنه ثبت:"صلاة الرجل في جماعة تزيد على صلاته في بيته، وصلاته في سوقه خمسًا وعشرين درجة" الحديث عند أحمد، والشيخين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

وقول الشارح المحقق - يعني: ابن دقيق العيد -: إن من لم يشترط النية يُقَدِّر الكمال، فيه بحث؛ لأنا لا نعلم قائلًا يقول: إنها لا تشترط النية في شيء من الأعمال حتى يقدّر في جميعها الكمال، إنما وقع الخلاف في مسائل، وفروع من العبادات، وإلا فالكل يتفقون على شرطيتها في مواضع من المسائل مع أن من لم يشترطها في بعض المواضع لا يقدّر الكمال فيها، وحينئذ لا يتم له تقدير الكمال هنا؛ لأن هذا الحديث عام لكل عمل كما عرفت، ومن الأعمال ما هي شرط في صحته عنده فلا يتم هذا الإطلاق، إلا أن يثبت أن قائلًا يقول: لا تشترط النية في عمل من الأعمال، ولا أظنه يوجد من يقول هذا، إلا أن يكون مراده: أن مِنْ لازِم كل عمل النية، وأن شرطيتها لغو؛ لأنها أمر لا بد منه، كما قال بعض المتأخرين: إنه لو كلِّف بعمل بلا نية لكان من تكليف ما لا يطاق، على أن هذا لا يتم به حَمْل الحديث على الكمال، بل

(1)

هكذا نسخة: "العدّة"، وفيها ركاكة، ولعل الصواب إسقاط "فلو قُدّر الكمال" الثاني، فيكون التركيب هكذا:"فلو قُدّر الكمال لزم أن لا يُثاب العباد على الأفعال الصحيحة. . . إلخ".

(2)

هكذا النسخة، ولعل الصواب:"ولا يوجد دليل ناهض. . . إلخ".

ص: 614

يقول: الحديث أتى لطلب أن يكون باعث النية ابتغاء رضا الله تعالى، ولا تقدّر صحة، ولا كمال، فالكلام صادق عنده؛ لأنه لا يوجد عمل إلا بنية. انتهى كلام الصنعانيّ رحمه الله

(1)

، وهو بحث مفيدٌ، والله تعالى أعلم بالصواب.

(المسألة الرابعة عشرة): قال الحافظ رحمه الله: الأعمال تقتضي عاملين، والتقدير: الأعمال الصادرة من المكلفين، وعلى هذا هل تَخْرُج أعمال الكفار؟ الظاهر: الإخراج؛ لأن المراد بالأعمال: أعمال العبادة، وهي لا تصح من الكافر، وإن كان مخاطَبًا معاقَبًا على تركها، ولا يَرِد العتق، والصدقة؛ لأنهما بدليل آخر. انتهى

(2)

، والله تعالى أعلم.

(المسألة الخامسة عشرة): قال الحافظ أيضًا: الظاهر أن الألف واللام في النيات معاقِبَة للضمير، والتقدير: الأعمال بنياتها، وعلى هذا فيدل على اعتبار نية العمل من كونه مثلًا صَلاةً، أو غيرها، ومن كونها فرضًا أو نفلًا، ظُهرًا مثلًا، أو عصرًا، مقصورةً، أو غير مقصورة، وهل يُحتاج في مثل هذا إلى تعيين العدد؟ فيه بحث، والراجح الاكتفاء بتعيين العبادة التي لا تنفك عن العدد المعيَّن، كالمسافر مثلًا ليس له أن يَقْصُر إلا بنيّة القصر، لكن لا يحتاج إلى نية ركعتين؛ لأن ذلك هو مقتضى القصر، والله أعلم. انتهى، والله تعالى أعلم.

(المسألة السادسة عشرة): قال العراقيّ رحمه الله: وذكر بعض المتأخرين من الحنفية، وهو قاضي القضاة شمس الدين السروجيّ أن التقدير - يعني: تقدير إنما الأعمال بالنيات - ثوابها، لا صحتها؛ لأنه الذي يَطّرِد، فإن كثيرًا من الأعمال يوجد، ويُعتبر شرعًا بدونها، ولأن إضمار الثواب متفق على إرادته، ولأنه يلزم من انتفاء الصحة انتفاء الثواب دون العكس، فكان ما ذهبنا إليه أقلّ إضمارًا، فهو أَولى، ولأن إضمار الجواز والصحة يؤدي إلى نسخ الكتاب بخبر الواحد، وهو ممتنِع، ولأن العامل في قوله:"بالنية" مقدَّر بإجماع النحاة، ولا يجوز أن يتعلق بالأعمال؛ لأنها رَفْعٌ بالابتداء، فيبقى بلا خبر فلا يجوز، فالمقدَّر إما مُجْزِئة أو صحيحة، أو مُثيبة، فمثيبة أَولى بالتقدير لوجهين:

(1)

"العدة حاشية العمدة" 1/ 72 - 74.

(2)

"الفتح" 1/ 19.

ص: 615

أحدهما: أن عدم النية لا يُبطل أصل العمل، وعلى إضمار الصحة، والإجزاء يُبطل، فلا يَبْطُل بالشك.

الثاني: أن قوله: "لكل امرئ ما نوى" يدل على الصواب والأجر؛ لأن الذي له إنما هو الثواب، وأما العمل فعليه. انتهى.

قال العراقيّ: وفيه نظر من وجوه:

أحدها: أنه لا حاجة إلى إضمار محذوف من الصحة، أو الكمال، أو الثواب؛ إذ الإضمار خلاف الأصل، وإنما المراد: حقيقة العمل الشرعيّ، فلا يحتاج حينئذ إلى إضمار، وأيضًا فلا بد من إضمار شيء يتعلق به الجارّ والمجرور، فلا حاجة لإضمار مضاف؛ لأن تقليل الإضمار أَولى، فيكون التقدير: إنما الأعمال، وجودها بالنية، ويكون المراد: الأعمال الشرعية.

والثاني: أن قوله: إن تقدير الثواب أقلّ إضمارًا؛ لكونه يلزم من انتفاء الصحة انتفاء الثواب دون العكس، فلا نسلّم أن فيه تقليل الإضمار؛ لأن المحذوف واحد، ولا يلزم من تقدير الصحة تقدير ما يترتب على نفيها من نفي الثواب، ووجوب الإعادة، وغير ذلك، فلا نحتاج إلى أن نقدّر إنما صحة الأعمال والثواب وسقوط القضاء مثلًا بالنية، بل المقدّر واحد، وإن ترتّب على ذلك الواحد شيء آخر، فلا يلزم تقديره.

والثالث: أن قوله: إن تقدير الصحة يؤدي إلى نَسْخ الكتاب بخبر الواحد، فإن أراد به أن الكتاب دال على صحة العمل بغير نية لكون النية لم تذكر في الكتاب، فهذا ليس بنسخ، وأيضًا فالثواب مذكور في قوله تعالى:{وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5]، فهذا هو القصد والنية، ولو سُلِّم أن فيه نسخَ الكتاب بخبر الواحد فلا مانع من ذلك عند أكثر أهل الأصول.

والرابع: أن قوله: إن تقدير الصحة يُبطل العمل، ولا يَبْطُل بالشك، ليس بجيد، بل إذا تيقّنا شغل الذمة بوجوب العمل لم نُسقطه بالشك، ولا تبرأ الذمة إلا بيقين، فحمْله على الصحة أَولى؛ لتيقّن البراءة به.

والخامس: أن قوله: إن الذي له إنما هو الثواب، وأما العمل فعليه، والأحسن في التقدير أن لا يقدّر حذف مضاف، فإنه لا حاجة إليه، ولكن يقدّر

ص: 616

شيء يتعلق به الجارّ والمجرور، فإنه لا بدّ من تقديره كما تقدم، إنما الأعمال وجودها بالنية، ونفي الحقيقة أَولى، والمراد نفي العمل الشرعي، وإن وُجد صورة الفعل في الظاهر فليس بشرعيّ عند عدم النية. انتهى

(1)

، وهو بحث مفيدٌ، والله تعالى أعلم.

(المسألة السابعة عشرة): قال العراقيّ رحمه الله: يَحْتَمِل أن يكون معنى: "إنما الأعمال بالنيات" من لم ينو الشيء لم يحصل له، ويَحْتَمِل أن يكون المراد: من نوى شيئًا لم يحصل له غيره.

قال ابن دقيق العيد رحمه الله: وبينهما فَرْق، وإلى هذا يشير قوله:"فمن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه". انتهى.

وهذا يؤدي إلى أن التشريك في النية مُفسد لها، وقد ورد لكل من الاحتمالين ما يؤكده، فمما يؤكد هذا الاحتمال: ما رواه النسائي من حديث أبي أمامة قال: جاء رجل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: أرأيت رجلًا غزا يلتمس الأجر والذكر ما له؟، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا شيء له. . ." الحديث، وفيه:"إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان له خالصًا، وابْتُغِي به وجهه".

ويدلّ للاحتمال الأول: ما رواه النسائيّ أيضًا من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من غزا في سبيل الله، ولم ينو إلا عِقالًا، فله ما نوى"، فإتيانه بصيغة الحصر يقتضي أنه إذا نوى مع العقال شيئًا آخر كان له ما نواه، والله أعلم. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: الاحتمال الثاني هو الأقرب عندي، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثامنة عشرة): قوله صلى الله عليه وسلم: "وإنما لكل امرئ ما نوى": قال العلامة الصنعانيّ رحمه الله: اختَلَف الناظرون، هل هذه الجملة مؤكدة لِمَا قبلها أم لا؟ والذي يظهر أنها مستأنَفة؛ لأنه بَيَّنَ في الأُولى أن صحة الأعمال بالنيات، وهو حكم للأعمال صريح، ثم بَيَّنَ في هذه الجملة ما يخص العاملين، وقول الشارح - يعني: ابن دقيق العيد - يقتضي أن من نوى شيئًا حَصَل له؛ أي:

(1)

"طرح التثريب" 2/ 8.

ص: 617

سواء عَمِلَه، أو مَنَعَه عنه مانع يُعذر شرعًا معه بعدم عمله، وهذا صحيح موافق للأحاديث الكثيرة الواردة بثبوت الأجر لمن نوى خيرًا ولم يعمله، كحديث:"رجل آتاه الله مالًا وعلمًا فهو يعمل بعلمه في ماله، وينفقه في حقه، ورجل آتاه الله علمًا ولم يؤته مالًا، فهو يقول: لو كان لي مثل مال هذا عملت فيه مثل العمل الذي يعمل، فهما في الأجر سواء"، إلا أنه قد خرج بدليل آخر من هذه القاعدة عدّة مسائل: فمنها: ذِكر الله كالتسبيح، فإنه لا يحتاج إلى نية؛ لأنه يتميّز بنفسه، وإنما يحتاج إلى القيد، ومنها: الألفاظ الصريحة من المعاملات في الطلاق، والنكاح، ونحوها، ومنها: إذا وقع في الماء الكثير ثوب متنجس، فإنه يَطْهُر، ومنها: من حج أو اعتمر عن غيره، ولم يكن قد أدَّى ذلك عن نفسه، فإنه ينقلب له مع أنه نواه عن غيره، ومنها: إذا أحرم بالحج في غير أشهره، فإنه ينقلب عمرة، وغير ذلك مما يعرفه من تتبّع فروع الكليات. انتهى

(1)

.

وقال في "الفتح": قال القرطبيّ: فيه - أي: في قوله: "إنما لكل امرئ. . ." إلخ -: تحقيق لاشتراط النية والإخلاص في الأعمال، فجنح إلى أنها مؤكدة، وقال غيره: بل تفيد غير ما أفادته الأُولى؛ لأن الأُولى نبّهت على أن العمل يتبع النية ويصاحبها، فيترتب الحكم على ذلك، والثانية أفادت أن العامل لا يحصل له إلا ما نواه.

وقال ابن دقيق العيد: الجملة الثانية تقتضي أن مَنْ نوى شيئًا يحصل له - يعني: إذا عمله بشرائطه، أو حال دون عمله له ما يُعذر به شرعًا بعدم عمله - وكل ما لم ينوه لم يحصل له، ومراده بقوله: لم ينوه؛ أي: لا خصوصًا ولا عمومًا، أما إذا لم ينو شيئًا مخصوصًا لكانت هناك نية عامة تشمله، فهذا مما اختلفت فيه أنظار العلماء، ويتخرج عليه من المسائل ما لا يُحصى، وقد يحصل غير المنويّ لِمُدْرَك آخر، كمن دخل المسجد، فصلى الفرض، أو الراتبة قبل أن يقعد، فإنه يحصل له تحية المسجد نواها أو لم ينوها؛ لأن القصد بالتحية شَغْل البُقْعة، وقد حصل، وهذا بخلاف من اغتسل يوم الجمعة عن الجنابة، فإنه لا يحصل له غُسل الجمعة على الراجح؛ لأن غُسل الجمعة يُنظر

(1)

"العدة حاشية العمدة" 1/ 76.

ص: 618

فيه إلى التعبد، لا إلى محض التنظيف، فلا بد فيه من القصد إليه، بخلاف تحية المسجد، والله تعالى أعلم.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: لا يظهر لي فرق بين هاتين المسألتين: تحية المسجد، وغسل الجمعة، حيث جعلوا الأُولى مما لا يُنظر فيه جهة التعبد، والثانية جعلوها مما يُنظر فيه جهة التعبد، وقد قال صلى الله عليه وسلم:"إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين"، كما قال:"إذا جاء أحدكم الجمعة فليغتسل"، وما ثَمَّ نص يُفَرِّق بينهما، فالظاهر أنهما عبادتان يُحتاج فيهما إلى النية، فلا يحصل كل منهما إلا إذا نواه، والله أعلم.

وقال النووي: أفادت الجملة الثانية اشتراط تعيين المنويّ، كمن عليه صلاة فائتة لا يكفيه أن ينوي الفائتة فقط، حتى يعيّنها ظهرًا مثلًا، أو عصرًا، ولا يخفى أن محله إذا لم تنحصر الفائتة.

وقال ابن السمعاني في "أماليه": أفادت أن الأعمال الخارجة عن العبادة لا تفيد الثواب إلا إذا نوى بها فاعلها القُربة، كالأكل إذا نوى به القوّة على الطاعة، وقال غيره: أفادت أن النيابة لا تدخل في النية، فإن ذلك هو الأصل فلا يَرِد مثل نية الولي عن الصبي ونظائره، فإنها على خلاف الأصل.

وقال ابن عبد السلام: الجملة الأُولى لبيان ما يُعتبر من الأعمال، والثانية لبيان ما يترتب عليها، وأفاد أن النية إنما تُشترط في العبادة التي لا تتميز بنفسها، وأما ما يتميز بنفسه فإنه ينصرف بصورته إلى ما وُضع له، كالأذكار، والأدعية، والتلاوة؛ لأنها لا تَترَدَّدُ بين العبادة والعادة، ولا يخفى أن ذلك إنما هو بالنظر إلى أصل الوضع، أما ما حدث فيه عُرف كالتسبيح للتعجب فلا، ومع ذلك فلو قصد بالذكر القربة إلى الله تعالى لكان أكثر ثوابًا، ومن ثم قال الغزالي: حركة اللسان بالذكر مع الغفلة عنه يُحَصِّل الثواب؛ لأنه خير من حركة اللسان بالغِيبة، بل هو خير من السكوت مطلقًا؛ أي: المجرد عن التفكر، قال: وإنما هو ناقص بالنسبة إلى عمل القلب. انتهى.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: لي وقفة هنا: وذلك أن ما ذَكَرَه، من الأذكار ونحوه، داخل في عموم الأعمال، فبأيّ دليل خرج عنها، حتى نقول: إنه لا يحتاج إلى النية؟ بل الظاهر أنه لا بد فيه من النية؛ ليثاب عليه، وأما

ص: 619

قول الغزالي حركة اللسان إلخ، فالظاهر أن المراد به الذِّكر مع عدم حضور القلب، لا مع عدم النية، فلا يلزم من عدم حضور القلب عدم النية فتأمل.

قال الحافظ: ويؤيده - أي: قول الغزاليّ - قوله صلى الله عليه وسلم: "في بُضع أحدكم صدقة. . ."، ثم قال في الجواب عن قولهم: أيأتي أحدنا شهوته، ويؤجر؟:"أرأيت لو وضعها في الحرام"؟.

وأورد على إطلاق الغزالي أنه يلزم منه أن المرء يثاب على فعل مباح؛ لأنه خير من فعل الحرام، وليس ذلك مراده.

وخُصَّ من عموم الحديث ما يُقصد حصوله في الجملة، فإنه لا يحتاج إلى نية تخصه، كتحية المسجد كما تقدم.

قال الجامع: قد علمتَ ما فيه فيما تقدم.

قال: وكمن مات زوجها فلم يبلغها الخبر إلا بعد مدة العدة، فإن عدتها تنقضي؛ لأن المقصود حصول براءة الرحم، وقد وُجد، ومن ثم لم يَحْتج المتروك إلى نية.

ونازع الكرمانيّ في إطلاق الشيخ محيي الدين، كون المتروك لا يحتاج إلى نية بأن الترك فعل، وهو كفّ النفس، وبأن التروك إذا أريدَ بها تحصيل الثواب بامتثال أمْر الشارع فلا بد فيها من قَصْد الترك.

وتُعقب بأن قوله: "الترك فعل" مختلَف فيه، ومن حقّ المستدلّ على المانع أن يأتي بأمر متفق عليه، وأما استدلاله الثاني فلا يطابق المَوْرد؛ لأن المبحوث فيه: هل تلزم النية في التروك بحيث يقع العقاب بتركها؟ والذي أورده: هل يحصل الثواب بدونها؟ والتفاوت بين المقامين ظاهر.

والتحقيق أن الترك المجرّد لا ثواب فيه، وإنما يحصل الثواب بالكف الذي هو فعل النفس، فمن لم تخطر المعصية بباله أصلًا ليس كمن خطرت، فكفّ نفسه عنها خوفًا من الله تعالى، فرجع الحال إلى أن الذي يحتاج إلى النية هو العمل بجميع وجوهه، لا الترك المجرد، والله تعالى أعلم.

[تنبيه]: قال الكرمانيّ: إذا قلنا: إن تقديم الخبر على المبتدإ يفيد القصر، ففي قوله:"وإنما لكل امرئ ما نوى" نوعان من الحصر: قصرُ المسنَد

ص: 620

على المسنَد إليه؛ إذ المراد: إنما لكل امرئ ما نواه، والتقديم المذكور

(1)

، والله تعالى أعلم.

(المسألة التاسعة عشرة): في مذاهب العلماء في اشتراط النية في العبادة:

دل هذا الحديث على اشتراط النية لصحة العبادة، وقد اتفق العلماء على ذلك في العبادة المقصودة لعينها التي ليست وسيلة إلى غيرها، وحَكَى أبو الوليد محمد بن أحمد بن رُشْد المالكيّ في كتابه "بداية المجتهد" اتفاق العلماء على اشتراط النية في العبادات، وحَكَى الاختلاف في الوضوء؛ لاختلافهم في أنه وسيلة، أو مقصود، وحَكَى ابن التين السفاقسيّ أنهم لا يختلفون في أن العبادة المحضة مفتقِرَة إلى النية، والعبادة المفهومة المعنى غير مفتقرة إلى النية.

وذكر النوويّ أن الأعمال ضربان: ضَرْب تُشترط النية لصحته، وحصول الثواب فيه، كالأركان الأربعة، وغير ذلك مما أجمع العلماء أنه لا يصح إلا بنيّة، وكالوضوء، والغسل، والتيمم، وطواف الحج والعمرة، والوقوف، مما اشترطَ النيةَ فيه بعضُ العلماء.

وضَرْب لا تُشترط النية لصحته، لكن تُشترط لحصول الثواب، كستر العورة، والأذان، والإقامة، وابتداء السلام، وردّه، وتشميت العاطس، وعيادة المريض، واتباع الجنائز، وإماطة الأذى، وبناء المدارس، والرُّبُط والأوقاف، والهبات، والوصايا، والصدقات، وردّ الأمانات، ونحوها. انتهى

(2)

، والله تعالى أعلم.

(المسألة العشرون): في اختلاف العلماء في اشتراط النية في الوضوء:

احتَجّ بالحديث مَنْ أَوْجَب النية في الوضوء والغسل، وهو قول الأئمة الثلاثة - مالك، والشافعي، وأحمد -، وإسحاق، وداود، وأبي ثور، وأبي عبيد، وبه يقول الزهريّ، وربيعة الرأي شيخ مالك، وهو قول جمهور أهل الحجاز، ويُروى عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه.

(1)

راجع: "الفتح" 1/ 20 - 21.

(2)

"طرح التثريب" 2/ 11.

ص: 621

وذهبت طائفة إلى أنه يصح الوضوء والغسل والتيمم بلا نية، حكاه ابن المنذر عن الأوزاعيّ، والحسن بن صالح، وزفر.

وقال أبو حنيفة، وسفيان الثوري: يصح الوضوء والغسل بلا نية، ولا يصح التيمم إلا بالنية، وهي رواية عن الأوزاعيّ، ورواية شاذة عن مالك.

واحتَجَّ هؤلاء بأن الوضوء ليس مقصودًا، وأن المقصود به النظافة، فأشبَهَ إزالة النجاسة، واعتُرض على الحنفية بأنهم أوجبوها في التيمم، وليس مقصودًا، وأجابوا بأنه طهارة ضعيفة فافتقر إلى النية تقوية له، وبأن الله ذَكَر النية في التيمم فتيمموا صعيدًا طيبًا؛ أي: اقصدوا، وهو النية، ولم يذكر ذلك في الوضوء والغسل، واحتَجّوا أيضًا بتعليم النبيّ صلى الله عليه وسلم الوضوء للأعرابي، ولم يَذْكُر له النية مع جهل الأعرابي بأحكام الوضوء، ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، ونُقضَ عليهم بتعليمه الصلاة للأعرابي المسيء صلاته ولم يذكر له النية، وقد قلتم بوجوبها في الصلاة، فما الفرق؟ وإنما بَيَّنَ النبيّ صلى الله عليه وسلم لمن علَّمه الأفعال الظاهرة التي يقف الناظر على تَرْكها لو تَرَكها، فأما القصد للعبادة فكان معلومًا عندهم. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن الحقّ هو الذي ذهب إليه الجمهور من اشتراط النية في الوضوء والغسل؛ لحديث الباب، والله تعالى أعلم.

(المسألة الحادية والعشرون): أنه احتُجَّ بهذا الحديث على أبي حنيفة في ذهابه إلى أن الكافر إذا أجنب أو أحدث، فاغتسل، أو توضأ، ثم أسلم أنه لا يجب عليه إعادة الغسل والوضوء، وهو وجه لبعض أصحاب الشافعي، وخالفهم الجمهور في ذلك، فقالوا: تجب عليه إعادة الغسل والوضوء؛ لأن الكافر ليس من أهل العبادة، وبعضهم يعلِّله بأنه ليس من أهل النية، قاله العراقيّ رحمه الله

(2)

.

(المسألة الثانية والعشرون): فيه حجة على أبي حنيفة أيضًا حيث ذهب

(1)

"طرح التثريب" 1/ 11 - 12 بزيادة من المجموع.

(2)

"طرح التثريب" 2/ 12.

ص: 622

إلى أن المقيم إذا نوى في رمضان صوم قضاء، أو كفارة، أو تطوع وقع عن رمضان، إذ ليس له إلا ما نواه، ولم ينو صوم رمضان، وتعيينه شرعًا لا يغني عن نية المكلف لأداء ما كُلِّف به، وذهب مالك، والشافعيّ، وأحمد إلى أنه لا بدّ من تعيين رمضان؛ لظاهر الحديث، بخلاف الحجّ، وذهب زفر إلى أن صيام رمضان لا تُشترط فيه النية للصحيح المقيم؛ لتعيّن الزمان له، قاله العراقيّ رحمه الله

(1)

.

(المسألة الثالثة والعشرون): فيه حجة على مالك في اكتفائه بنيّة واحدة في أول الشهر من رمضان لجميع الشهر، وهي رواية عن أحمد أيضًا؛ لأن كل يوم عملٌ بنفسه، وعبادة مستقلة بدليل ما يتخلل بين الأيام في لياليها مما ينافي الصوم من المفطرات.

وذهب أبو حنيفة، والشافعيّ، وأحمد في الرواية الأخرى إلى وجوب النية لكل يوم إذ هو عمل، ولا عمل إلا بنيّة

(2)

، والله تعالى أعلم.

(المسألة الرابعة والعشرون): فيه حجة لمن ذهب إلى أنه إذا أحرم بالحج في غير أشهره أنه لا ينعقد عمرة؛ لأنه لم ينو العمرة، وإنما له ما نواه، وهو قول أبي حنيفة، ومالك، وأحمد، وهو أحد قولي الشافعيّ إلا أن الأئمة الثلاثة - أبو حنيفة، مالك، أحمد - قالوا: ينعقد إحرامه بالحج، ولكن يُكره عندهم الإحرام به قبل أشهره، ولم يختلف قول الشافعي أنه لا ينعقد بالحج، وإنما اختلف قوله هل يتحلل بأفعال العمرة؟ وهو قوله المتقدِّم نَقْله عنه، أو ينعقد إحرامه عمرة؟ وهو نصه في "المختصر"، وهو الذي صححه الرافعيّ، والنوويّ، فعلى الأول لا تسقط عنه عمرة الإسلام، وعلى الثاني تسقط عنه، قاله العراقيّ.

(المسألة الخامسة والعشرون): أنه احتُجّ به لأبي حنيفة، والثوريّ، ومالك أن الصرورة

(3)

يصح حجه عن غيره، ولا يصح عن نفسه؛ لأنه لم ينوه عن نفسه، وإنما له ما نواه.

(1)

"طرح التثريب" 2/ 16.

(2)

"طرح التثريب" 1/ 16.

(3)

"الصرورة" هو الذي لم يحجّ.

ص: 623

وذهب الشافعيّ، وأحمد، وإسحاق، والأوزاعيّ إلى أنه ينعقد عن غيره، ويقع ذلك عن نفسه؛ لِمَا روى أبو داود، وابن ماجه، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع رجلًا يقول: لبيك عن شُبْرُمَة، فقال:"أحججت قط؟ " قال: لا، قال:"فاجعل هذه عن نفسك، ثم حُجّ عن شبرمة"، وهذه رواية ابن ماجه بإسناد صحيح، وفي رواية أبي داود:"حج عن نفسك، ثم حج عن شبرمة"، ولك أن تقول: ليس فيه تصحيح الإحرام عن نفسه، وإنما أَمَره أن ينشئ الإحرام عن نفسه، وقد يجاب بأن الظاهر أن هذا كان بعد مجاوزة الميقات، فلو لم يقع الإحرام المتقدم عن فرض نفسه لَأَمره بالرجوع إلى الميقات، أو بإخراج دم لمجاوزة الميقات بغير إحرام صحيح، ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، وهذا كله على تقدير مجاوزته للميقات، وأما الرواية التي ذكرها الرافعي وغيره:"هذه عن نفسك، ثم حج عن شبرمة"، فقد رواها البيهقيّ، ولكنها ضعيفة، فيها الحسن بن عُمارة، وهو ضعيف.

واستُدِلَ لأبي حنيفة ومن وافقه بما رواه الطبرانيّ، ثم البيهقيّ من طريقه من حديث ابن عباس أيضًا: سمع النبيّ صلى الله عليه وسلم رجلًا يلبي عن نُبَيْشَة فقال: "أيها الملبي عن نبيشة، احجج عن نفسك"، وهذا ضعيف، فيه الحسن بن عُمارة، وهو متروك، قال البيهقيّ: يقال: إن الحسن بن عمارة كان يرويه، ثم رجع عنه إلى الصواب، وقد ذهب محمد بن جرير الطبريّ إلى أن الصرورة إذا نوى الحج عن غيره لم يقع عن نفسه؛ لأنه لم ينوه عنه، وإنما له ما نواه، ويجب عليه أن ينوي ذلك عن نفسه. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي القول الأول هو الصحيح؛ لظاهر حديث الملبي عن شُبْرُمَةَ، وهو حديث صحيح، والله تعالى أعلم

(المسألة السادسة والعشرون): قال العراقيّ: إنهم كما اشترطوا النية في العبادة اشترطوا في تعاطي ما هو مباح في نفس الأمر أن لا يكون معه نية تقتضي تحريمه، كمن جامع امرأته، أو أمته ظانًّا أنها أجنبية، أو شرب شرابًا مباحًا ظانًّا أنه خمر، أو أقدم على استعمال مُلكه ظانًّا أنه لأجنبيّ، ونحو

(1)

"طرح التثريب" 1/ 386.

ص: 624

ذلك، فإنه يَحرم عليه تعاطي ذلك اعتبارًا بنيّته، وإن كان مباحًا له في نفس الأمر، غير أن ذلك لا يوجب حدًّا ولا ضمانًا؛ لعدم التعدي في نفس الأمر، بل زاد بعضهم على هذا بأنه لو تعاطى شرب الماء، وهو يعلم أنه ماء، ولكن على صورة استعمال الحرام، كشربه في آنية الخمر في صورة مجلس الشراب صار حرامًا؛ لتشبّهه بالشَّرَبَة، وإن كانت نيّته لا يُتصور وقوعها على الحرام مع العلم بحِلِّه، ونحوه، ولو جامع أهله وهو في ذهنه مجامعة مَن تَحْرُم عليه وصوَّر في ذهنه أنه يجامع تلك الصورة المحرمة فإنه يَحْرُم عليه ذلك، وكلّ ذلك لتشبّهه بصورة الحرام. انتهى

(1)

.

(المسألة السابعة والعشرون): قال الخطابيّ رحمه الله: فيه دليل على أن المُطَلِّقَ إذا طلَّق بصريح لفظ الطلاق ونوى عددًا من أعداد الطلاق، كمن قال لامرأته: أنت طالق، ونوى ثلاثًا، كان ما نواه من العدد واقعًا واحدة أو اثنتين، أو ثلاثًا، وإليه ذهب الشافعيّ، ومالك، وإسحاق، وأبو عبيد، وقال أصحاب الرأي: هي واحدة وهو أحق بها، وكذلك قال سفيان الثوريّ، والأوزاعيّ، وأحمد بن حنبل، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثامنة والعشرون): فيه حجة على أهل الرأي في قولهم في الكنايات في الطلاق، كقوله: أنت بائن، أنه إن نوى اثنتين فهي واحدة بائنة؛ لكونها كلمة واحدة، وإن نوى الطلاق ولم ينو عددًا فهي واحدة بائنة أيضًا، والحديث حجة عليهم.

وذهب الشافعي والجمهور إلى أنه إن نوى اثنتين فهو كذلك، وإن لم ينو عددًا فهي واحدة رجعية، قال الخطابيّ: وهذا أشبه بمعنى الحديث، وأَولى به، والله تعالى أعلم بالصواب.

(المسألة التاسعة والعشرون): فيه ردّ على المرجئة في قولهم: إن الإيمان إقرار باللسان، دون الاعتقاد بالقلب، وقد أورده البخاريّ في آخر "كتاب الإيمان" من "صحيحه" محتجًّا عليهم بذلك، وما ذهبوا إليه مردود بالنصوص القاطعة، والإجماع على أن المنافقين في الدرك الأسفل من النار، والله تعالى أعلم.

(1)

"طرح التثريب" 2/ 18.

ص: 625

(المسألة الثلاثون): فيه حجة على بعض المالكية من أنهم لا يُدَيِّنُون مَن سَبَق لسانه إلى كلمة الكفر إذا ادَّعَى ذلك، وخالفهم الجمهور، ويدل لذلك ما رواه مسلم في "صحيحه" من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه في قصة الرجل الذي ضلّت راحلته، ثم وجدها، فقال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، قال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"أخطأ من شدة الفرح"، والذي جرت به عادة الحكام الحُذَّاق منهم اعتبارُ حال الواقع منه ذلك، فإن تكرر منه ذلك، وعُرفَ منه وقوعه في المخالفات، وقلة المبالاة بأمر الدِّين لم يلتفتوا إلى دعواه، ومن وقع منه ذلك فَلْتَةً، وعُرف بالصيانة والتحفظ قبلوا قوله في ذلك، وهو توسط حسن. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب.

(المسألة الحادية والثلاثون): فيه حجة لمالك ومن وافقه في إسقاط الْحِيَلِ، كمن مَلَّكَ ولده أو غيره مالًا له قبل الحول، أو باعه، أو أتلفه، أو بادل به، فرارًا من الزكاة، أو باع بالعِينة المشهورة، أو تزوج المرأة ليحلها لزوجها، وإن لم يشترط ذلك في نفس العقد، أو مَلَّك الدارَ لغير الشريك لإسقاط الشفعة، أو أوقع عقد الدار التي فيها الشفعة بثَمنٍ فيه ما تجهل قيمته، كفَصٍّ ونحوه، أو زاد في ثمنها وعوَّضه عن عشرة آلاف دينار مثلًا، ونحو ذلك من الحيل المسقطة للحقوق، أو الموقعة في المناهي، وإنما يُخادِع بالنيات مَن لا يطّلع عليها، وفي الحديث الصحيح الذي أخرجه البخاريّ من حديث أنس أن أبا بكر كَتَبَ له فريضة الصدقة التي فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا يُجمع بين متفرق، ولا يفرّق بين مجتمِع خشيةَ الصدقة"، وقال في الحديث الصحيح:"يُبعثون على نيّاتهم"، والذي نَصّ عليه الشافعيّ، وقطع به جمهور أصحابه كراهة إزالة مُلكه للفرار من الزكاة كراهة تنزيه، وجعل بعض أصحاب الشافعيّ الكراهة للتحريم، كقول مالك، وعليه كلام الغزالي في قوله: أثم، وكذلك عندهم البيع بالعِينة والاستحلال إذا لم يشترط في العقد، والتحيّل لإسقاط الشفعة محمول على الكراهة لا على التحريم، والحديث حجة لمن قال بالتحريم، والله أعلم.

(1)

"طرح التثريب" 2/ 20.

ص: 626

قال العراقي: ورأيت في كلام بعض أصحاب الشافعي ممن صنَّف في الألغاز أن الحِيَل ليس فيها منافاة للشريعة، بل قد ورد الشرع بتعاطي الحيل، كقوله تعالى:{وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ} [ص: 44] فما كان من الحيل هكذا ليس فيه إسقاط حق لمستحق له، فهو حسن مشروع، وما أدى من الحيل إلى إسقاط حق الغير فهو مذموم منهي عنه. انتهى

(1)

، وهو تحقيق حسنٌ، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثانية والثلاثون): أنه استُدِلّ به على أنه لا يجب القَوَد في شِبْه العمد؛ لأنه لم ينو قتله، وهو قول الشافعيّ، وأبي حنيفة، وصاحبيه، وأحمد، وإسحاق، إلا أنهم اختلفوا في الدية فجعلها الشافعيّ، ومحمد بن الحسن أثلاثًا، وجعلها الباقون أرباعًا، وجعلها أبو ثور أخماسًا، وأنكر مالك شِبْه العمد، وقال: ليس في كتاب الله إلا الخطأ والعمد، وأما شبه العمد فلا نعرفه.

واستَدَلّ الشافعي والجمهور بما رواه أبو داود من حديث عبد الله بن عمرو مرفوعًا: "ألا إن دية الخطأ شِبْه العمد ما كان بالسوط والعصا مائة من الإبل. . ." الحديث.

قال الجامع: القول الأول أرجح؛ لهذا الحديث، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة والثلاثون): قوله صلى الله عليه وسلم: "فمن كانت هجرته. . ." إلخ، الهجرة بكسر الهاء فِعلة من الهَجْر، وهو ضد الوصل، ثم غلب ذلك على الخروج من أرض إلى أرض وترك الأُولى للثانية، قاله صاحب "النهاية".

وقال ابن دقيق العيد رحمه الله: الهجرة تقع على أمور:

الهجرة الأولى: إلى أرض الحبشة.

الثانية: من مكة إلى المدينة.

الثالثة: هجرة القبائل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

الرابعة: هجرة من أسلم من أهل مكة.

الخامسة: هجرة ما نهى الله عنه، قال: ومعنى الحديث، وحُكمه يتناول

(1)

"طرح التثريب" 2/ 21.

ص: 627

الجميع، غير أن السبب يقتضي أن المراد بالحديث: الهجرة من مكة إلى المدينة؛ لأنهم نقلوا أن رجلًا هاجر من مكة إلى المدينة؛ ليتزوج امرأة تسمى أم قيس، فسمي مهاجر أم قيس. انتهى

(1)

.

وقال العراقيّ رحمه الله: بقي عليه من أقسام الهجرة ثلاثة أقسام:

وهي الهجرة الثانية إلى الحبشة، فإنهم هاجروا إلى الحبشة مرتين، كما هو معروف في السِّيَر، ولا يقال: كلاهما هجرة إلى الحبشة، فاكتَفَى بذكر الهجرة إليها مرة، فإنه عَدَّد الهجرة إلى المدينة في الأقسام لِتعدّدها.

والثانية: هجرة من كان مقيمًا ببلاد الكفر، ولا يقدر على إظهار الدِّين، فإنه يجب عليه أن يهاجر إلى بلاد الإسلام.

والثالثة: الهجرة إلى الشام في آخر الزمان عند ظهور الفتن، كما رواه أبو داود من حديث عبد الله بن عمرو قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ستكون هجرة، فخيار أهل الأرض ألزمهم مُهاجَر إبراهيم، ويبقى في الأرض شرار أهلها" الحديث، ورواه أحمد في "مسنده"، فجعله من حديث عبد الله بن عمر، قال صاحب "النهاية": يريد به الشام؛ لأن إبراهيم لمّا خرج من العراق مضى إلى الشام وأقام به. انتهى.

وروى أبو داود أيضًا من حديث أبي الدرداء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن فسطاط المسلمين يوم الملحمة بالغُوطَة إلى جانب مدينة يقال لها: دمشق، من خير مدائن الشام"، فهذه ثمانية أقسام للهجرة. انتهى.

وقال الحافظ ابن رجب رحمه الله: وقوله صلى الله عليه وسلم: "فمن كان هجرته. . ." إلخ، لمّا ذكر النبيّ صلى الله عليه وسلم أن الأعمال بحسب النيات، وأن حظ العامل من عمله نيّته من خير أو شر، وهاتان الكلمتان جامعتان وقاعدتان كليتان لا يخرج عنهما شيء، ذَكَر بعد ذلك مَثَلًا من الأمثال والأعمال التي صُورَتُها واحدة ويختلف صلاحها وفسادها باختلاف النيات، وكأنه يقول: سائر الأعمال على حذو هذا المثال.

وأصل الهجرة: هجران بلد الشرك، والانتقال منه إلى دار الإسلام، كما

(1)

"إحكام الأحكام" 1/ 78.

ص: 628

كان المهاجرون قبل فتح مكة يهاجرون منها إلى مدينة النبيّ صلى الله عليه وسلم المدينة المنورة، وقد هاجر من هاجر منهم قبل ذلك إلى أرض الحبشة إلى النجاشيّ، فأخبر صلى الله عليه وسلم أن الهجرة تختلف باختلاف المقاصد والنيات بها.

فمن هاجر إلى دار الإسلام حبًّا لله ورسوله، ورغبة في تعلم دين الإسلام وإظهار دِينه حيث كان يعجز عنه في دار الشرك، فهذا هو المهاجر إلى الله ورسوله حقًّا، وكفاه شرفًا وفخرًا أنه حصل له ما نواه من هجرته إلى الله ورسوله، ولهذا المعنى اقتصر في جواب هذا الشرط على إعادته بلفظه؛ لأن حصول ما نواه بهجرته نهاية المطلوب في الدنيا والآخرة، ومن كانت هجرته من دار الشرك إلى دار الإسلام ليطلب دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها في دار الإسلام فهجرته إلى ما هاجر إليه من ذلك، فالأول تاجر والثاني خاطب، وليس بواحد منهما مهاجر، وفي قوله:"إلى ما هاجر إليه" تحقير لِمَا طلبه من أمر الدنيا، واستهانة به حيث لم يذكر بلفظه، وأيضًا أن الهجرة إلى الله ورسوله واحدة فلا تعدد فيها، فلذلك أعاد الجواب فيها بلفظ الشرط، والهجرة لأمور الدنيا لا تنحصر، فقد يهاجر الإنسان لطلب دنيا مباحةً تارة، ومحرمةً تارة، وإفراد ما يُقصد بالهجرة من أمور الدنيا لا تنحصر فلذلك قال:"فهجرته إلى ما هاجر إليه"؛ يعني: كائنًا ما كان.

وقد رُوي عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ} [الممتحنة: 10] قال: كانت المرأة إذا أتت النبيّ صلى الله عليه وسلم حلّفها بالله ما خرجت من بُغض زوج، وبالله ما خرجت رغبة بأرض عن أرض، وبالله ما خرجت التماس دنيا، وبالله ما خرجت إلا حبًا لله ورسوله، أخرجه ابن أبي حاتم، وابن جرير، والبزار في "مسنده".

وخرّجه الترمذيّ في بعض نُسخ كتابه مختصرًا.

وقد روى وكيع في كتابه عن الأعمش، عن شقيق - هو أبو وائل - قال: خطب أعرابي من الحيّ امرأة يقال لها: أم قيس، فأبت أن تتزوجه حتى يهاجر، فهاجر، فتزوجته، فكنا نسميه مهاجر أم قيس، قال: فقال عبد الله - يعني: ابن مسعود -: من هاجر يبتغي شيئًا فهو له، وهذا السياق يقتضي أن هذا لم يكن في عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم، إنما كان في عهد عبد الله بن مسعود، قال: كان

ص: 629

فينا رجل خطب امرأة يقال لها: أم قيس، فأبت أن تتزوجه حتى يهاجر، فهاجر وتزوجها، وكنا نسميه مهاجِر أم قيس، قال ابن مسعود: من هاجر لشيء فهو له.

وقد اشتَهَر أن قصة مهاجر أم قيس كانت هي سبب قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: "من كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها"، وذكر ذلك كثير من المتأخرين في كتبهم، ولم نر لذلك أصلًا يصح، والله أعلم.

وسائر الأعمال كالهجرة في هذا المعنى، فصلاحها وفسادها بحسب النية الباعثة عليها كالجهاد والحج وغيرهما.

وقد سئل النبيّ صلى الله عليه وسلم عن اختلاف الناس في الجهاد، وما يُقصد به من الرياء وإظهار الشجاعة والعصبية وغير ذلك: أيُّ ذلك في سبيل الله؟ فقال: "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله"، فخرج بهذا كل ما سألوه عنه من المقاصد الدنيوية، ففي "الصحيحين" عن أبي موسى الأشعري: أن أعرابيًّا أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، الرجل يقاتل للمغنم، والرجل يقاتل للذِّكر، والرجل يقاتل ليُرَى مكانه فمن قاتل في سبيل الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله"، وفي رواية لمسلم: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حَميَّة، ويقاتل رياء، فأيُّ ذلك في سبيل الله؟، فذكر الحديث، وفي رواية له أيضًا: الرجل يقاتل غضبًا، ويقاتل حمية. وخرّج النسائي من حديث أبي أمامة قال: جاء رجل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: أرأيت رجلًا غزا يلتمس الأجر والذكر ما له؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا شيء"، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان له خالصًا، وابتغي به وجهه".

وخرّج أبو داود من حديث أبي هريرة: أن رجلًا قال: يا رسول الله، رجل يريد الجهاد وهو يريد عَرَضًا من عَرَض الدنيا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا أجر له"، فأعاد عليه ثلاثًا، والنبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: لا أجر له". وأخرج الإمام أحمد، وأبو داود من حديث معاذ بن جبل عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "الغزو غزوان؛ فأما من ابتغَى وجه الله، وأطاع الإمام، وأنفق الكريمة، وياسَرَ الشريك،

ص: 630

واجتنب الفساد، فإن نومه ونَبْهَه أجرٌ كله، وأما من غزا فخرًا ورياءً وسمعة، وعصى الإمام، وأفسد في الأرض، فإنه لم يرجع بالكفاف".

وخرَّج أبو داود من حديث عبد الله بن عمرو قال: قلت: يا رسول الله، أخبرني عن الجهاد والغزو، فقال:"إن قاتلت صابرًا محتسبًا بعثك الله صابرًا محتسبًا، وإن قاتلت مرائيًا مكاثرًا بعثك الله مرائيًا مكاثرًا، على أيّ حال قاتلت أو قُتلْت بعثك الله بتلك الحال".

(المسألة الرابعة والثلاثون): في أقسام العمل لغير الله عز وجل.

قال الحافظ ابن رجب رحمه الله أيضًا: اعلم أن العمل لغير الله أقسام:

فتارة يكون رياء محضًا بحيث لا يراد به سوى مراءاة المخلوقين، لغرض دنيويّ، كحال المنافقين في صلاتهم، قال الله عز وجل:{وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى} [النساء: 142]، وقال تعالى:{فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4)} [الماعون: 4]، وكذلك وصف الله تعالى الكفار بالرياء المحض في قوله:{وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ} [الأنفال: 47]، وهذا الرياء المحض لا يكاد يصدر من مؤمن في فَرْض الصلاة والصيام، وقد يصدر في الصدقة الواجبة، والحج وغيرهما من الأعمال الظاهرة، والتي يتعدى نفعها، فإن الإخلاص فيها عزيز، وهذا العمل لا يشك مسلم أنه حابط، وأن صاحبه يستحق المقت من الله والعقوبة.

وتارةً يكون العمل لله، ويشاركه الرياء، فإن شاركه من أصله فالنصوص الصحيحة تدل على بطلانه أيضًا وحُبُوطه، وفي "صحيح مسلم" عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"يقول الله تبارك وتعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، مَن عَمِل عملًا أشرك معي فيه غيري تَرَكْته وشِرْكه"، وأخرجه ابن ماجه، ولفظه:"فأنا منه بريء، وهو للذي أشرك"، وأخرج الإمام أحمد، عن شداد بن أوس رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"من صلى يرائي فقد أشرك، ومن صام يرائي فقد أشرك، ومن تصدق يرائي فقد أشرك، فإن الله عز وجل يقول: أنا خير قسيم لمن أشرك بي شيئًا، فإن حَشْدَه عمله قليله وكثيره لشريكه الذي أشرك به، أنا عنه غني"، وخرّج الإمام أحمد، والترمذيّ، وابن ماجه من حديث أبي سعيد بن أبي فَضَالة، وكان من الصحابة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

ص: 631

"إذا جمع الله الأولين والآخرين ليوم لا ريب فيه نادى مناد: من كان أشرك في عمل عمله لله فليطلب ثوابه من عند غير الله عز وجل، فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك"، وأخرج البزار في "مسنده" من حديث الضحاك بن قيس، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"إن الله عز وجل يقول: أنا خير شريك، فمن أشرك معي شريكًا فهو لشريكه، يا أيها الناس أخلصوا أعمالكم لله عز وجل، فإن الله لا يقبل من الأعمال إلا ما خَلَص له، ولا تقولوا: هذا لله والرحم، فإنها للرحم، وليس لله منها شيء، ولا تقولوا: هذا لله ولوجوهكم، فإنها لوجوهكم، وليس لله منها شيء".

وخرّج النسائيّ بإسناد جيّد عن أبي أمامة الباهليّ رضي الله عنه: أن رجلًا أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، أرأيت رجلًا غزا يلتمس الأجر والذِّكر؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا شيء له، فأعاد عليه ثلاث مرات، يقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا شيء له" ثم قال: "إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان له خالصًا، وابتغي به وجه الله".

وخرَّج الحاكم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رجل: يا رسول الله، إني أقف الموقف أريد به وجه الله، وأريد أن يُرَى موطني، فلم يَرُدّ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا حتى نزلت:{فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ} [الكهف: 110].

وممن يُرْوَى عنه هذا المعنى - أن العمل إذا خالطه شيء من الرياء كان باطلًا - طائفة من السلف منهم: عبادة بن الصامت، وأبو الدرداء، والحسن، وسعيد بن المسيِّب، وغيرهم، وفي مراسيل القاسم بن مخيمرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"لا يقبل الله عملًا فيه مثقال حبة خردل من رياء"، ولا نعرف عن السلف في هذا خلافًا، وإن كان فيه خلاف عن بعض المتأخرين.

فإن خالط نيّةَ الجهاد نيةٌ غير الرياء، مِثْل أخْذه أجرة للخدمة، أو أخْذ شيء من الغنيمة، أو التجارة نَقَص بذلك جهاده، ولم يبطل بالكلية.

وفي "صحيح مسلم" عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "إن الغُزاة إذا غنموا غنيمة تعجّلوا ثلثي أجرهم، فان لم يغنموا شيئًا تمَّ لهم أجرهم"، وقد ذكرنا فيما مضى أحاديث تدل على أن من أراد بجهاده عَرَضًا من الدنيا أنه لا أجر له، وهي محمولة على أنه لم يكن له غرض في الجهاد إلا الدنيا.

ص: 632

وقال الإمام أحمد: التاجر والمستأجر والمكاري، أجرهم على قَدْر ما يخلص من نيّتهم في غزواتهم، ولا يكون مِثْل من جاهد بنفسه وماله لا يخلط به غيره، وقال أيضًا فيمن يأخذ جُعْلًا على الجهاد: إذا لم يخرج إلا لأجل الدراهم فلا بأس أن يأخذ كأنه خرج لدِينه، فإن أعطي شيئًا أَخذه، وكذا روي عن عبد الله بن عمرو قال: إذا أجمع أحدكم على الغزو فعوّضه الله رزقًا فلا بأس بذلك، وأما أن أحدكم إن أُعطي درهمًا غزا، وإن مُنع درهمًا مكث، فلا خير في ذلك، وكذا قال الأوزاعيّ رحمه الله: إذا كانت نية الغازي على الغزو، فلا أرى بأسًا، وهكذا يقال فيمن أخذ شيئًا في الحج ليحج به إما عن نفسه، أو عن غيره، وقد رُوي عن مجاهد أنه قال في حج الحمّال، وحج الأجير، وحج التاجر: هو تام لا يَنْقُص من أجورهم شيءٌ، وهذا محمول على أن قَصْدهم الأصليّ كان هو الحج دون التكسب.

وأما إن كان أصل العمل لله، ثم طرأت عليه نية الرياء فلا يضرّه، فإن كان خاطرًا ودفعه فلا يضره، بغير خلاف، فإن استرسل معه، فهل يحبط عمله أم لا يضره ذلك، ويجازَى على أصل نيته؟ في ذلك اختلاف بين العلماء من السلف، قد حكاه الإمام أحمد، وابن جرير الطبريّ، وأرجو أن عمله لا يبطل بذلك، وأنه يجازى بنيّته الأُولى، وهو مروي عن الحسن البصريّ، وغيره، ويُستدل لهذا القول بما أخرجه أبو داود في "مراسيله" عن عطاء الخراسانيّ: أن رجلًا قال: يا رسول الله، إن بني سَلِمة كلهم يقاتل، فمنهم من يقاتل للدنيا، ومنهم من يقاتل نَجْدة، ومنهم من يقاتل ابتغاء وجه الله، فأيهم الشهيد؟ قال:"كلهم إذا كان أصل أمره أن تكون كلمة الله هي العليا".

وذَكر ابن جرير أن هذا الاختلاف إنما هو في عمل يرتبط آخره بأوله كالصلاة، والصيام، والحج، فأما ما لا ارتباط فيه، كالقراءة، والذِّكر، وإنفاق المال، ونَشْر العلم، فإنه ينقطع بنيّة الرياء الطارئة عليه، ويحتاج إلى تجديد نية.

وكذلك روي عن سليمان بن داود الهاشميّ أنه قال: ربما أُحدِّث بحديث ولي فيه نيّة، فإذا أتيت على بعضه تغيّرت نيّتي، فإذا الحديث الواحد يحتاج إلى

ص: 633

نيّات، ولا يَرِد هذا على الجهاد كما في مرسل عطاء الخراسانيّ، فإن الجهاد يلزم بحضور الصفّ ولا يجوز تَرْكه حينئذ، فيصير كالحج.

فأما إذا عمل العمل لله خالصًا ثم ألقى الله له الثناء الحسن في قلوب المؤمنين بذلك بفضل الله ورحمته، واستبشر بذلك لم يضرّه ذلك.

وفي هذا المعنى جاء حديث أبي ذرّ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن الرجل يعمل العمل لله من الخير، يحمده الناس عليه، فقال:"تلك عاجل بشرى المؤمن"، أخرجه مسلم.

وأخرجه ابن ماجه وعنده: الرجل يعمل فيحبه الناس عليه، وبهذا المعنى فسّره الإمام أحمد، وإسحاق بن راهويه، وابن جرير الطبريّ، وغيرهم.

وكذلك الحديث الذي أخرجه الترمذيّ وابن ماجه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن رجلًا قال: يا رسول الله، الرجل يعمل العمل فيسرّه، فإذا اطُّلع عليه أعجبه، فقال:"له أجران أجر السرّ، وأجر العلانية".

ولنقتصر على هذا المقدار من الكلام على الإخلاص والرياء فإن فيه كفاية.

وبالجملة فما أحسن قول سهل بن عبد الله: ليس على النفس شيء أشقّ من الإخلاص؛ لأنه ليس لها فيه نصيب، وقال يوسف بن الحسين الرازيّ: أعز شيء في الدنيا الإخلاص، وكم أجتهد في إسقاط الرياء عن قلبي، وكأنه ينبت فيه على لون آخر، وقال ابن عيينة: كان من دعاء مطرِّف بن عبد الله: اللهم إني أستغفرك مما تبت إليك منه، ثم عدت فيه، وأستغفرك مما جعلتُهُ لك على نفسي، ثم لم أوف به لك، وأستغفرك مما زعمت أني أردت به وجهك، فخالط قلبي منه ما قد علمت. انتهى كلام الحافظ ابن رجب رحمه الله

(1)

، وهو كلام نفيس، وبحثٌ أنيس جدًّا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة والثلاثون): قال الحافظ العراقيّ رحمه الله: اختلفت الأحاديث الواردة في الهجرة هل انقطعت بفتح مكة، أم هي باقية؟.

(1)

"جامع العلوم والحكم" 1/ 11 - 16.

ص: 634

ففي "الصحيحين" من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية، وإذا استُنْفِرتم فانفروا".

وروى البخاريّ عن ابن عمر رضي الله عنهما قوله: "لا هجرة بعد الفتح"، وفي رواية له:"لا هجرة اليوم، أو بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم"، ورَوَى البخاريّ أيضًا عن عُبيد بن عُمير سأل عائشة رضي الله عنها عن الهجرة، فقالت: لا هجرة اليوم، كان المؤمنون يفرُّ أحدهم بدينه إلى الله وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم مخافة أن يُفتَن عليه، فأما اليوم فقد أظهر الله الإسلام، والمؤمن يعبد ربه حيث شاء، ولكن جهاد ونية.

وروى البخاريّ ومسلم أيضًا عن مجاشع بن مسعود قال: انطلقت بأبي معبد إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ليبايعه على الهجرة، قال:"مضت الهجرة لأهلها، أبايعه على الإسلام والجهاد"، وفي رواية أنه جاء بأخيه مُجالِد.

ورَوَى أحمد من حديث أبي سعيد الخدريّ، ورافع بن خَدِيج، وزيد بن ثابت أيضًا:"لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية".

فهذه الأحاديث دالة على انقطاع الهجرة.

وروى أبو داود، والنسائيّ من حديث معاوية قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها".

وروى أحمد من حديث ابن السعدي مرفوعًا: "لا تنقطع الهجرة ما دام العدو يقاتل".

ورَوَى أيضًا من حديث جنادة بن أبي أمية مرفوعًا: "إن الهجرة لا تنقطع ما كان الجهاد".

وجمع الخطابيّ في "المعالم" بين هذا الاختلاف بأن الهجرة كانت في أول الإسلام فرضًا، ثم صارت بعد فتح مكة مندوبًا إليها غير مفروضة، قال: فالمنقطعة منها هي الفرض، والباقية منها هي الندب، قال: فهذا وجه الجمع بين الحديثين على أن بين الإسنادين ما بينهما، حديث ابن عباس متصل صحيح، وحديث معاوية فيه مقال. انتهى.

وقال صاحب "النهاية": إن الجمع بينهما أن الهجرة هجرتان:

إحداهما: التي وعد الله عليه بالجنة كان الرجل يأتي النبيّ صلى الله عليه وسلم، ويَدَع

ص: 635

أهله وماله، ولا يرجع في شيء منه، فلما فُتحت مكة انقطعت هذه الهجرة.

والثانية: من هاجر من الأعراب، وغزا مع المسلمين، ولم يفعل كما فعل أصحاب الهجرة، وهو المراد بقوله:"لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة". انتهى.

وفي حديث آخر ما يدلّ على أن المراد بالباقية هجر السيئات، كما رواه أحمد في "مسنده" من حديث معاوية، وعبد الرحمن بن عوف، وعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهم، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"الهجرة هجرتان؛ إحداهما تهجر السيئات، والأخرى تهاجر إلى الله وإلى رسوله، ولا تنقطع الهجرة ما تُقبِّلت التوبة، ولا تزال التوبة مقبولة حتى تطلع الشمس من المغرب، فإذا طلعت طُبع على كل قلب بما فيه، وكُفيَ الناسُ العملَ".

ورَوَى أحمد من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص قال: "جاء رجل أعرابي جَاف جريء، فقال: يا رسول الله أين الهجرة إليك؟ حيث كنتَ، أم إلى أرض معلومة، أو لقوم خاصة، أم إذا متَّ انقطعت؟ قال: فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعة ثم قال: "أين السائل عن الهجرة؟ "، قال: ها أنا ذا يا رسول الله، قال: "إذا أقمت الصلاة، وآتيت الزكاة، فأنت مهاجر، وإن متَّ بالحضرمة"، قال: يعني أرضًا باليمامة، وفي رواية له: "الهجرة أن تهجر الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، ثم أنت مهاجر وإن مت بالحضر". انتهى كلام العراقيّ رحمه الله

(1)

، وهو بحث نفيسٌ جدًّا، والله تعالى أعلم.

(المسألة السادسة والثلاثون): قال ابن دقيق العيد رحمه الله: المتقرر عند أهل العربية أن الشرط والجزاء، والمبتدأ والخبر لا بدّ وأن يتغايرا، وههنا وقع الاتحاد في قوله:"فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله"، وجوابه أن التقدير: فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله نية وقصدًا، فهجرته إلى الله ورسوله حكمًا وشرعًا. انتهى

(2)

.

وقال في "الفتح" ما نصه: فإن قيل: الأصل تَغايُر الشرط والجزاء، فلا

(1)

"طرح التثريب" 2/ 24.

(2)

"إحكام الأحكام" 1/ 80.

ص: 636

يقال مثلًا: من أطاع أطاع، وإنما يقال مثلًا: من أطاع نجا، وقد وقعا في هذا الحديث متحدين.

فالجواب: أن التغاير يقع تارة باللفظ، وهو الأكثر، وتارة بالمعنى، ويُفهم ذلك من السياق، ومن أمثلته قوله تعالى:{وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا (71)} [الفرقان: 71] وهو مؤوَّل على إرادة المعهود المستقرّ في النفس، كقولهم: أنت أنت؛ أي: الصَّديق الخالص، وقولهم: هم هم؛ أي: الذين لا يُقَدَّرُ قَدْرُهم، وقول الشاعر:

أنَا أبُو النَّجْمِ وَشعْري شعْري

أو هو مؤوّل على إقامة السبب مقام المسبَّب؛ لاشتهار السبب، وقال ابن مالك: قد يُقْصَد بالخبر الفرد بيانُ الشهرة، وعدم التغير، فيتحد بالمبتدإ لفظًا، كقول الشاعر [من الطويل]:

خَليلي خَليلي دُونَ ريب وَرُبَّمَا

ألانَ امرُؤٌ قَوْلًا فَظُنَّ خَليلَا

وقد يُفْعَل مثل هذا بجواب الشرط، كقولك: من قصدني فقد قصدني؛ أي: فقد قصد مَن عُرف بإنجاح قاصده، وقال غيره: إذا اتحد لفظ المبتدإ والخبر، والشرط والجزاء عُلم منهما المبالغة، إما في التعظيم، وإما في التحقير. انتهى

(1)

.

(المسألة السابعة والثلاثون): قال الحافظ العراقيّ رحمه الله: لم يقل في الجزاء فهجرته إليهما، وإن كان أخصر، بل أتى بالظاهر، فقال:"فهجرته إلى الله ورسوله"، وذلك من آدابه صلى الله عليه وسلم في تعظيم اسم الله أن لا يُجْمَع مع ضمير غيره، كما قال للخطيب:"بئس الخطيب أنت" حين قال: من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فقد غوى، وبَيَّن له وجه الإنكار، فقال له:"قل ومن يعص الله ورسوله"، وهذا يَدْفَع قول مَن قال: إنما أنكر عليه وقوفه على قوله: ومن يعصهما، وقد جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم الضمير في موضع آخر، فقال فيما رواه أبو داود من حديث ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا تشهد. . الحديث، وفيه: "من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فإنه لا يضر إلا نفسه، ولا

(1)

"الفتح" 1/ 23.

ص: 637

يضر الله شيئًا"، وقد ظهر بهذا أن تَرْك جمعهما في ضمير واحد على وجه الأدب، وأنه إنما أنكر على الخطيب ذلك تنبيهًا على دقائق الكلام، ولأنه قد لا يكون عنده من المعرفة بتعظيم الله تعالى، ما يَعْلَمُه صلى الله عليه وسلم من عظمته وجلاله، والله أعلم، انتهى

(1)

.

(المسألة الثامنة والثلاثون): قال الحافظ العراقي رحمه الله أيضًا: الدنيا فُعْلى من الدنوّ، وهو القرب، سُمّيت بذلك؛ لِسَبْقها للآخرة، وفي الدال لغتان: الضم، وهو الأشهر، والكسر، حكاه ابن قتيبة وغيره، وهي مقصورة ليس فيها تنوين بلا خلاف نعلمه بين أهل اللغة، وأهل العربية، وحَكَى بعضُ المتأخرين من شُرّاح البخاريّ أن فيها لغة غَريبةً بالتنوين، وليس بجيّد، فإنه لا يُعْرَف في اللغة، وسبب الغلط أن بعض رواة البخاريّ رواه بالتنوين وهو أبو الهيثم الكشميهني، وأُنكر ذلك عليه، ولم يكن ممن يُرجع إليه في ذلك، فأخذ بعضهم يَحكي ذلك لغة، كما وقع لهم نحو ذلك في "خُلوف فم الصائم"، فحَكَوا فيه لغتين، وإنما يَعرف أهل اللغة الضم، وأما الفتح فرواية مردودة لا لغة. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي ادَّعَى فيه العراقيّ الغلط من تنوين دنيا ثابت لغة، فقد أثبته في "اللسان"، و"القاموس"، وعبارة "اللسان": والدنيا: نقيض الآخرة، انقلبت الواو فيها ياء؛ لأن فُعْلى إذا كانت اسمًا من ذوات الواو أُبدلت واوها ياء، كما أُبدلت الواو مكان الياء في فَعْلَى؛ يعني: بالفتح، فأدخلوها عليها في فُعْلى - يعني بالضم - ليتكافأ في التغيير، قال: وحَكَى ابن الأعرابي: ما له دنيًا ولا آخرة، فنوّن دنيًا تشبيهًا لها بفُعْلَل، قال: والأصل أن لا تُصْرَف؛ لأنها فُعْلى، والجمع دُنَا مثل الكُبرى والكُبَر، والصغرى والصُّغَر. اهـ. "لسان" باختصار

(3)

.

وعبارة "القاموس": والدنيا نقيض الآخرة: وقد تُنَوَّن، جمعه دُنا. انتهى

(4)

.

(1)

"طرح التثريب" 2/ 24.

(2)

"طرح التثريب" 2/ 25.

(3)

"لسان العرب" 14/ 273.

(4)

"القاموس المحيط" ص 451.

ص: 638

وقال البدر العينيّ في "العمدة" بعدما نقل مثل ما تقدّم عن العراقي ما نصه: جاء التنوين في دنيا في اللغة، قال العجاج [من الرجز]:

فِي جَمْعِ دُنْيًا طَالَ مَا قَدْ عَنَّتِ

وقال المثلم بن رباح بن ظالم المرّيّ [من الكامل]:

إنِّي مُقَسِّمُ مَا مَلَكْتُ فَجَاعِلٌ

أجرًا لآخرَةٍ ودُنْيًا تَنْفَعُ

فإن ابن الأعرابي أنشده بتنوين دُنْيًا، وليس ذلك بضرورة على ما لا يخفى. انتهى

(1)

.

والحاصل أن التنوين ثابت عند أهل اللغة، إلا أنه قليل، فلا ينبغي أن يُعَدّ غلطًا، فتبصّر، وقال ابن مالك: استعمال دنيا مُنكَرًا فيه إشكال؛ لأنها أفعل تفضيل، فكان حقها أن تُستعمل باللام نحو الكبرى والحسنى، إلا أنها خُلعت عنها الوصفية رأسًا، وأجري مُجرى ما لم يك وصفًا، ونحوه قول الشاعر [من البسيط]:

وإنْ دَعَوْتِ إِلَى جُلَّى ومَكْرُمَةٍ

يَوْمًا سَرَاةَ كِرَامِ النَّاس فَادْعِينَا

فإن الجُلَّى مؤنث الأجل، فخُلعت عنها الوصفية، وجُعلت اسمًا للحادثة العظيمة.

قال البدر العينيّ: قلت: من الدليل على جعلها بمنزلة الاسم الموضوع قلب الواو ياء؛ لأنه لا يجوز ذلك إلا في الفُعْلَى الاسم، وقال التميميّ: الدنيا تأنيث الأدنى لا ينصرف، مثل حبلى؛ لاجتماع أمرين فيها: أحدهما الوصفية، والثاني لزوم حرف التأنيث.

وقال الكرمانيّ: ليس ذلك لاجتماع أمرين فيها؛ إذ لا وصفية هنا؛ بل امتناع صَرْفه للزوم التأنيث للألف المقصورة، وهو قائم مقام العلتين، فهو سهو منه.

وتعقّبه العينيّ قائلًا: ليس بسهو منه؛ لأن الدنيا في الأصل صفة؛ لأن التقدير الحياة الدنيا كما في قوله تعالى: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ}

(1)

"عمدة القاري" 1/ 26.

ص: 639

[آل عمران: 185] وتَرْكُهم موصوفها واستعمالهم إياها نحو الاسم الموضوع لا ينافي الوصفية الأصلية. انتهى

(1)

.

(المسألة التاسعة والثلاثون): الجار والمجرور في قوله: "إلى الله ورسوله"، وفي قوله:"إلى دنيا" يتعلق بالهجرة إن كانت "كان" تامّة، أو خبر لكان إن كانت ناقصة، قال الكرمانيّ: فإن قلت: لفظ "كانت" إن كان باقيًا في المضيّ فلا يُعلم أن الحكم بعد صدور هذا الكلام من الرسول صلى الله عليه وسلم أيضًا كذلك أم لا؟ وإن نُقل بسبب تضمين "مَنْ الحرف الشرط إلى معنى الاستقبال فبالعكس، ففي الجملة الحكم إما للماضي أو للمستقبل.

قلت: جاز أن يُراد به أصل الكون؛ أي: الوجود مطلقًا من غير تقييد بزمان من الأزمنة الثلاثة، أو يقاس أحد الزمانين على الآخر، أو يُعلم من الإجماع على أن حُكم المكلَّفين على السواء أنه لا تعارُض. انتهى.

قال العيني: في الجواب الأول نَظَر لا يخفى؛ لأن الوجود من حيث هو لا يخلو عن زمن من الأزمنة الثلاثة. انتهى

(2)

.

(المسألة الأربعون): إن قيل: ما فائدة التنصيص على المرأة مع كونها داخلة في مسمى الدنيا؟.

أجيب من وجوه:

الأول: أنه لا يلزم دخولها في هذه الصيغة؛ لأن لفظة دنيا نكرة، وهي لا تعتم في الإثبات، فلا تقتضي دخول المرأة فيها.

وتُعقِّب بأنها في سياق الشرط، فتعمّ، قاله في "الفتح".

الثاني: أنه للتنبيه على زيادة التحذير، فيكون من باب ذِكر الخاص بعد العام، كما في قوله تعالى:{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} الآية [البقرة: 238].

الثالث: أنه إنما خَصّ المرأة بالذِّكر من بين سائر الأشياء في هذا الحديث؛ لأن العرب كانت في الجاهلية لا تزوِّج المولى العربية، ولا يزوِّجون بناتهم إلا من الأكفاء في النسب، فلما جاء الإسلام سَوَّى بين المسلمين في

(1)

"عمدة القاري" 1/ 27.

(2)

"عمدة القاري" 1/ 27.

ص: 640

مناكحهم، وصار كل واحد من المسلمين كفؤًا لصاحبه، فهاجر كثير من الناس إلى المدينة؛ ليتزوج بها حتى سُمّي بعضهم مهاجر أم قيس.

وتعقبه في "الفتح" بأنه يحتاج إلى نقل ثابت أن هذا المهاجِر كان من الموالي، وأن المرأة كانت عربية، وبأنه ليس ما نفاه عن العرب على إطلاقه، بل قد زوّج خَلْق كثير منهم جماعة من مواليهم وحلفائهم قبل الإسلام، وإطلاقه أن الإسلام أبطل الكفاءة في مقام المنع. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قوله: وإطلاق أن الإسلام أبطل الكفاءة إلخ فيه نَظَر لا يخفى، فإن إبطاله للكفاءة النسبيّة لا يخفى على من له إلمام بكتب السنّة، وقد عقد الإمام النسائيّ رحمه الله في "سننه":"باب تزوّج المولى العربيّة"، ثم أورد فيه قصّة زواج فاطمة بنت قيس رضي الله عنها لأسامة بن زيد رضي الله عنهما، وقد حقّقتُ المسألة في شرحي عليه، ورجّحت ما ذهب إليه مالك رحمه الله من أن الكفاءة في الدِّين لا في النسب، وقد تقدّم في هذا الشرح أيضًا في "كتاب النكاح"، فراجعه تستفد، والله تعالى وليّ التوفيق.

الرابع: أن هذا الحديث ورد على سبب، وهو أنه لمّا أمَر بالهجرة من مكة إلى المدينة تخلَّف جماعة عنها، فذمّهم الله بقوله:{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} [النساء: 97]، ولم يهاجر جماعة لِفَقْد استطاعتهم، فعَذَرهم واستثناهم بقوله:{إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ} الآية [النساء: 98]، وهاجر المخلصون إليه، فمدَحهم في غير ما موضع من كتابه، وكان في المهاجرون جماعة خالفت نيتهم نية المخلصين: منهم من كانت نيته تَزَوُّجَ امرأة بالمدينة من المهاجرات يقال لها: أم قيس، وادَّعَى ابن دحية أن اسمها: قيلة، فسمّي مهاجر أم قيس ولا يُعرف اسمه، فكان قَصْده بالهجرة نية التزوج لها، لا لفضيلة الهجرة، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم ذلك، وبيّن مراتب الأعمال بالنيات، فلهذا خصّ ذِكر المرأة دون سائر ما ينوي به الهجرة من أفراد الأغراض الدنيوية؛ لأجل تبيين السبب؛ لأنها كانت أعظم أسباب فتنة الدنيا، كما قال صلى الله عليه وسلم:"ما تركت بعدي فتنة أضرّ على الرجال من النساء"، وذِكر الدنيا معها من باب زيادة

(1)

"الفتح" 1/ 24.

ص: 641

النصّ على السبب، كما أنه صلى الله عليه وسلم لمّا سئل عن طهورية ماء البحر زاد حِلّ مَيْتته.

ويَحْتَمِل أن يكون هاجر لمالها مع نكاحها، ويَحْتَمِل أنه هاجر لنكاحها، وغيره لتحصيل دنيا من جهةٍ ما فعرَّض بها، أفاده في "العمدة"

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: يأتي الردّ على دعوى كون مهاجر أم قيس سببًا لحديث النية في المسألة التالية، إن شاء الله تعالى.

(المسألة الحادية والأربعون): قد اشتهر بين الشراح أن سبب هذا الحديث قصة مهاجر أم قيس، رواه الطبراني في "المعجم الكبير" بإسناد رجاله ثقات، من رواية الأعمش، عن أبي وائل، عن ابن مسعود، قال: كان فينا رجل خطب امرأة يقال لها: أم قيس، فأبت أن تتزوجه حتى يهاجر، فتزوجها فكنا نسمّيه مهاجر أم قيس، قاله العراقي.

قال الجامع عفا الله عنه: قد تقدّم عن الحافظ ابن رجب رحمه الله أن كونه سببًا لهذا الحديث لا يثبت.

ثم اعلم أنه لم يسمِّ أحد ممن صنّف في الصحابة هذا الرجل الذي يقال له: مهاجر أم قيس، وأما أم قيس، فقد ذكر أبو الخطاب بن دحية أن اسمها: قيلة، قاله العراقي، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثانية والأربعون): قال الحافظ العراقيّ رحمه الله: فإن قيل: ما وَجْه ما ذكره أبو عمر بن عبد البرّ في "الاستيعاب" في ترجمة أم سليم رضي الله عنها أن أبا طلحة الأنصاريّ رضي الله عنه خطبها مشركًا، فلمّا علم أنه لا سبيل له إلا بالإسلام أسلم، وتزوّجها، وحَسُن إسلامه، وهكذا روى النسائيّ من حديث أنس، قال: تزوج أبو طلحة أمَّ سليم، فكان صَداق ما بينهما الإسلام، أسلمت أم سليم قبل أبي طلحة فخطبها، فقالت: إني قد أسلمت، فإن أسلمت نكحتك، فأسلم، فكان صداق ما بينهما، بوَّب عليه النسائي:"التزوج على الإسلام"، وروى النسائي أيضًا من حديثه قال: خطب أبو طلحة أم سليم فقالت: والله ما مِثلك يا أبا طلحة يُردّ، ولكنك رجل كافر، وأنا امرأة مسلمة، ولا يحلّ لي أن أتزوجك، فإن أسلمتَ فذاك مهري، فلا أسألك غيره، فأسْلَمَ، فكان ذلك

(1)

"عمدة القاري" 1/ 31.

ص: 642

مهرها، قال ثابت: فما سمعت بامرأة قط كانت أكرم مهرًا من أم سليم، الإسلام" الحديث.

وأخرجه ابن حبان في "صحيحه"، من هذا الوجه، فظاهرُ هذا أن إسلامه كان ليتزوج بها، فكيف الجمع بينه وبين حديث الهجرة المذكورة مع كون الإسلام أشرف الأعمال؟

والجواب عنه من وجوه:

أحدها: أنه ليس في الحديث أنه أسلم ليتزوجها حتى يكون معارضًا لحديث الهجرة، وإنما امتنعت من تزوّجه حتى هداه الله للإسلام رغبة في الإسلام، لا ليتزوجها، ولا يُظنُّ ذلك بأبي طلحة أنه أسلم ليتزوج أم سليم، فقد كان من أجلّ الصحابة رضي الله عنهم.

قال الجامع عفا الله عنه: وهذا الجواب من أبعد الأجوبة، فإنه ينافيه سياق الحديث فتأمله بالإنصاف.

الوجه الثاني: أنه لا يلزم من الرغبة في نكاحها أنه لا يصح منه الإسلام رغبة فيه، فمتى كان الداعي إلى الإسلام الرغبة في الدِّين، لم يضرّ معه كونه يعلم أنه يَحل له بذلك نكاح المسلمات، ولا ميراث مورِّثه المسلم، ولا استحقاق الغنيمة، ونحو ذلك إذا كان الباعث على الإسلام الرغبة في الدِّين، وذكر ابن بطال عند حديث:"الرجلُ يقاتل للمغنم": من كان ابتداؤه نية الأعمال لله تعالى لم يضره بعد ذلك ما عَرَض في نفسه، وخطر بقلبه من حديث النفس، ووسواس الشيطان، ولا يزيله عن حُكمه إعجاب اطّلاع العباد عليه بعد مضيّه إلى ما ندبه الله إليه، ولا سروره بذلك، وإنما المكروه، أن يبدأ بنية غير مخلصة، وحكاه أيضًا في موضع آخر عن الطبريّ، وأنه حكاه عن قول عامة السلف رضي الله عنهم.

والحقّ في اجتماع الباعثين أو البواعث على الفعل الواحد: أنه لا يخلو إما أن يكون كل واحد منهما أو منها لو انفرد لكان كافيًا في الإتيان بالفعل، أو يكون الكافي لذلك أحدهما أو لعلة أحدهما، فإن كان كل واحد كافيًا بالإتيان به فهذا يضرّ فيه التشريك لقوة الداعي، وإن غلب أحدهما بأن يكون حصوله أسرع إلى وقوع المنويّ، وإن كان الباعث على الفعل أحدهما بحيث

ص: 643

لو عُدِم الآخَر لم يتخلّف عن المنويّ فالحكم للقويّ، كمن يقوم للعبادة، وهو يستحسن اطلاع الناس عليه، مع أنه لو علم أنه لو لم يطلع عليه أحد لَمَا صرفه ذلك عنها، ولا عن الرغبة فيها فهذا لا يؤثر في صحة عبادته، وإن كان الأكمل في حقه التسوية بين اطلاع الناس وعدم اطلاعهم، والأسلم له عدم محبة اطلاعهم.

والوجه الثالث: أنه لا يصح هذا عن أبي طلحة، والحديث وإن كان صحيح الإسناد، فإنه معلّ بكون المعروف أنه لم يكن حينئذ نزل تحريم المسلمات على الكفار، إنما نزل بين الحديبية وبين الفتح حين نزل قوله تعالى:{لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} الآية [الممتحنة: 10] كما ثبت في "صحيح البخاريّ"، فقول أم سليم في هذا الحديث: ولا يحل لي أن أتزوجك، شاذّ مخالف للحديث الصحيح، وما اجتمع عليه أهل السنن، والله أعلم. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد حققت الكلام في "شرح النسائيّ" عند شرح الحديث المذكور، وأن قولها:"ولا يحل لي أن أتزوّجك"، مُنكَر، وأن الحديث بدونه صحيح، وأنه لا استشكال أصلًا بين هذا الحديث وحديث النية، فلتراجع هناك

(2)

، تستفد، وبالله تعالى التوفيق.

(المسألة الثالثة والأربعون): في قول علقمة: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه على المنبر يقول. . . إلخ، ردّ على من يقول: إن الواحد إذا ادَّعَى شيئًا كان في مجلس جماعة لا يمكن أن ينفرد بعلمه دون أهل المجلس لم يُقبل حتى يتابعه غيره عليه، كما قاله بعض المالكية مستدلين بقصة ذي اليدين، وذلك لأنه لا يصح من رواية أحدٍ عن عمر إلا علقمة، مع كونه حدّث به على المنبر، كما ثبت في "الصحيح" بمحضر من الناس، وانفرد علقمة بنقله، مع كونه من قواعد الدّين، بل ذَكَر ابن بطال أن النبيّ صلى الله عليه وسلم خطب به حين وصل إلى دار الهجرة، وشَهَر الإسلام، فإن ثبت ذلك فقد سمعه جمعٌ من الصحابة، ولم يروه عنه غير عمر من وجه يصح، كما تقدم، وقد أجمع

(1)

"طرح التثريب" 2/ 27.

(2)

راجع: "ذخيرة العقبى في شرح المجتبى" 63/ 3341، 3342.

ص: 644

المسلمون على صحته، فلو اشتُرط شرطُ متابعة الراوي لِمَا حضره غيره، ولم يُقبل انفراده به لَمَا قبلوه، والله أعلم.

وإنما استفهم النبيّ صلى الله عليه وسلم في قصة ذي اليدين؛ لأنه أخبره بخلاف ما كان في ظنه، فاحتاج إلى أن يسأل عنه، وليس في حديث عمر هذا مخالفة لِمَا رواه غيره من الصحابة، فوجب المصير إليه، ذكره العراقيّ رحمه الله

(1)

.

(المسألة الرابعة والأربعون): قال ابن بطال رحمه الله: ومما يجري بغير النية ما قاله مالك: إن الخوارج إذا أخذوا الزكاة من الناس بالقهر والغلبة أجزأت عمن أخذت منه، ومنها أن أبا بكر الصديق، وجماعة من الصحابة أخذوا الزكاة من أهل الردة بالقهر والغلبة، ولو لم يجزئ عنهم ما أُخذت منهم، قال ابن بطال

(2)

: واحتَجّ مَنْ خالَفهم، وجعلَ حديث النية على العموم أن أخْذ الخوارج للزكاة غلبةً لا ينفك المأخوذ منه من النية؛ لأن معنى النية: ذِكرها وقت أخْذها منه أنه عن الزكاة أخَذَها المتغلِّب عليه، وقد أجمع العلماء أن أخْذ الإمام الظالم لها يُجزئه، فالخارجي في معنى الظالم؛ لأنهم من أهل القبلة، وشاهدة التوحيد.

وأما أبو بكر فلم يقتصر على أخذ الزكاة من أهل الردة، بل قَصَد حَرْبَهم وغنيمة أموالهم وسَبْيهم لكفرهم، ولو قَصَد أخْذَ الزكاة فقط لَرَدَّ عليهم ما فَضَل منها من أموالهم. . . إلى آخر كلامه، والله تعالى أعلم.

(المسألة الخامسة والأربعون): فيه حجة على ابن القاسم في قوله: إن الرجل إذا أعتق عبده عن غيره في كفارة الظهار بغير عِلْمه أنه يجزئه في كفارته، وإن كانت الكفارة فرضًا عليه، فأسقط كفارة الظهار بغير نيةِ مَنْ هي عليه، وذهب أبو حنيفة والشافعيّ وغيرهم إلى أنه لا يجزئه ذلك، وكذلك خالفه من المالكية أشهب وابن المواز والأبهريّ، وقال: القياس أنه لا يجزئ؛ لأن المعتَق عنه بغير أمره لم يَنْوِ عِتْقه، والمعتَق في الكفارات لا يجزئ بغير نية، وليس كالميت يُعتق عنه في الكفارة فإن نيّته معدومة. انتهى

(3)

.

(1)

"طرح التثريب" 2/ 27 - 28.

(2)

هو: عليّ بن خلف، أبو الحسن القرطبيّ المتوفّى سنة (449 هـ).

(3)

"طرح التثريب" 2/ 29.

ص: 645

(المسألة السادسة والأربعون): استثنى بعض العلماء من هذا الحديث مما لا تجب فيه النية من الواجبات: ما إذا غاب عن المرأة زوجها مدة طويلة ومات، ولم تَعلم بموته أن عدتها من يوم موته، لا من يومِ بَلَغَتْها وفاته، فالعدة واجبة عليها، وقد سقطت عنها بغير نية، كما اتفق عليه الحنفية، والمالكية، والشافعية، فيما حكاه ابن بطال، وأجابوا عن الحديث بأن العدّة جُعلت لبراءة الرحم، وقد حصلت، وإن لم تَعلم المرأة بذلك، وقد أجمعوا أن الحامل التي لم تَعلم بوفاة الزوج أو طلاقه تنقضي عدتها بالوضع لبراءة الرحم. انتهى

(1)

.

(المسألة السابعة والأربعون): مما يستفاد من هذا الحديث:

1 -

أنه لا يجوز الإقدام على العمل قبل معرفة الحكم؛ لأن العمل فيه يكون منتفيًا إذا خلا عن النية، ولا يصح نية فعل الشيء إلا بعد معرفة حُكمه.

2 -

ومنها: أن الغافل لا تكليف عليه؛ لأن القصد يستلزم العلم بالمقصود، والغافل غير قاصد.

3 -

ومنها: أن من صام تطوعًا بنيّةٍ قبل الزوال أنه لا يُحسب له إلا من وقت النية، وهو مقتضى الحديث، لكن تمسَّك مَن قال بانعطافها بدليل آخر، ونظيره حديث:"من أدرك من الصلاة ركعة فقد أدركها"؛ أي: أدرك فضيلة الجماعة، أو الوقت، وذلك بالانعطاف الذي اقتضاه فَضْل الله تعالى.

4 -

ومنها: أن ما ليس بعمل لا تُشترط فيه النية، ومن أمثلته: جَمْع التقديم، فإن الراجح من حيث النظر أنه لا تُشترط له نية، بخلاف ما رجّحه كثير من الشافعية، قال الحافظ: وخالفهم شيخنا شيخ الإسلام - يعني: البلقيني - وقال: الجمع ليس بعمل، وإنما العمل الصلاة، ويقوّي ذلك أنه صلى الله عليه وسلم جَمَع في غزوة تبوك، ولم يذكر ذلك للمأمومين الذين معه، ولو كان شرطًا لَأعْلَمَهم به.

5 -

ومنها: أنه يُستَدَلّ به على أن العمل إذا كان مضافًا إلى سبب، ويَجمعُ مُتَعَددَهُ جنسٌ أن نية الجنس تكفي، كمن أعتق عن كفارة، ولم يعيّن كونها عن ظهار أو غيره؛ لأن معنى الحديث أن الأعمال بنيّاتها، والعمل هنا: القيام بالذي يخرج عن الكفارة اللازمة، وهو غير مَحوج إلى تعيين سبب،

(1)

"طرح التثريب" 2/ 29.

ص: 646

وعلى هذا لو كانت عليه كفارة، وشك في سببها أجزأه إخراجها بغير تعيين.

6 -

ومنها: أن فيه زيادة النصّ على السبب؛ لأن الحديث سيق في قصة المهاجر لِتزوّج المرأة، فذِكر الدنيا مع القصة زيادة في التحذير والتنفير.

قال الحافظ: وقال شيخنا شيخ الإسلام - يعني: البلقينيّ -: فيه إطلاق العام وإن كان سببه خاصًّا، فيُستنبط منه الإشارة إلى أن العبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قد علمتَ أن السبب الذي ذكروه لم يَثْبُت بطريق صحيح، فتبصّر والله تعالى أعلم.

(المسألة الثامنة والأربعون): قد ذكر ابن المنيّر رحمه الله ضابطًا لِمَا تُشترط فيه النية مما لا تشترط فيه، فقال: كل عمل لا تظهر له فائدة عاجلة، بل المقصود به طلب الثواب، فالنية مشترَطة فيه، وكل عمل ظهرت فائدته ناجزة، وتعاطته الطبيعة قبل الشريعة؛ لملائمةٍ بينهما، فلا تُشترط النية فيه إلا لمن قَصَد بفعله معنى آخر يترتب عليه الثواب، قال: وإنما اختلف العلماء في بعض الصور من جهة تحقيق مناط التفرقة، قال: وأما ما كان من المعاني المحضة، كالخوف، والرجاء، فهذا لا يقال باشتراط النية فيه؛ لأنه لا يمكن أن يقع إلا منويًّا، ومتى فُرضت النية مفقودة فيه استحالت حقيقته، فالنية فيه شرط عقليّ، ولذلك لا تُشترط النية للنية فرارًا من التسلسل، وأما الأقوال: فتحتاج إلى النية في ثلاثة مواطن:

أحدها: التقرب إلى الله فرارًا من الرياء.

والثاني: التمييز بين الألفاظ المحتملة لغير المقصود.

والثالث: قصد الإنشاء ليخرج سَبْق اللسان. انتهى

(2)

.

(المسألة التاسعة والأربعون): استُنِبط من الحديث أنه لا بأس للخطيب أن يورد أحاديث في أثناء الخطبة، وهو كذلك، فقد فعله الخلفاء الراشدون، أبو بكر، وعثمان، وعلي أيضًا، وهو مشهور معروف. انتهى

(3)

.

(1)

"الفتح" 1/ 25.

(2)

"الفتح" 1/ 164 - 165.

(3)

"طرح التثريب" 2/ 28.

ص: 647

(المسألة الخمسون، وهي آخر المسائل): النية أبلغ من العمل، كما قال التيميّ، ولهذا تُقبل النية بغير العمل، فإذا نوى حسنة، فإنه يُجزَى عليها، ولو عمل حسنة بغير نية لم يُجزَ به.

قال البدر العينيّ: فإن قيل: فقد ورد عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "من همَّ بحسنة، ولم يعملها كُتبت له واحدة، ومن عمِلها كتبت له عشرًا"، وروي أيضًا أنه قال:"نية المؤمن خير من عمله"، فالنية في الحديث الأول دون العمل، وفي الثاني فوق العمل، وخير منه.

قلنا: أما الحديث الأول فلأن الهامَّ بالحسنة إذا لم يعملها خالف العامل؛ لأن الهامّ لم يعمل، والعامل لم يعمل حتى هَمَّ ثم عمل.

وأما الثاني: فلأن تخليد الله العبد في الجنة ليس لعمله، وإنما هو لنيّته؛ لأنه لو كان لعمله لكان خلوده فيها بقَدْر مدة عمله، أو أضعافه، إلا أنه جازاه بنيّته؛ لأنه كان ناويًا أن يطيع الله تعالى أبدًا لو بقي أبدًا، فلما اخترمته منيّته دون نيّته جزاه الله عليها وكذا الكافر؛ لأنه لو كان يجازى بعمله لم يستحق التخليد في النار إلا بقَدْر مدة كفره، غير أنه نوى أن يقيم على كفره أبدًا لو بقي فجزاه على نيّته.

وقال الكرماني: أقول: يحتمل أن المراد منه: أن النية خير من عمل بلا نية، إذ لو كان المراد: خير من عمل مع النية، يلزم أن يكون الشيء خيرًا من نفسه مع غيره. . . إلى آخر كلامه. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: حديث: "نية المؤمن خير من عمله" ضعيف كما بيّنه السخاويّ في "المقاصد الحسنة"، لكنه قال: وتعدُّد طُرُقه يقوّي بعضها بعضًا، والله أعلم.

ومباحث هذا الحديث كثيرة تحتاج إلى مؤلَّف مستقلّ، وهذه المسائل المذكورات هنا غَيْض من فَيْض

(2)

، كيف وقد قيل: إنه ثلث الإسلام؟ وقد أفرده بعضهم بتأليف مستقل، ولَنِعْم ما قيل [من الطويل]:

(1)

"عمدة القاري" 1/ 39.

(2)

يقال: أعطاه غيضًا من فيض؛ أي: قليلًا من كثير. قاله في "القاموس".

ص: 648

لَقَدْ أطَالَ ثَنَائي طُولُ لابسه

إنَّ الثَّنَاءَ عَلَى التِّنْبَال تنْبَالُ

(1)

والله الهادي إلى سواء الصراط، اللهم ارزقنا حسن النية فيما نعمل، ويسّر لنا الأعمال على وفق السنّة، آمين.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4920]

(. . .) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحِ بنِ الْمُهَاجِرِ، أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ (ح) وَحَدَّثَنَا أَبُو الرَّبِيعِ الْعَتَكِيُّ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زيْدٍ (ح) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ - يَعْنِي: الثَّقَفِيَّ - (ح) وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا أَبُو خَالِدٍ الأَحْمَرُ سُلَيْمَانُ بْنُ حَيَّانَ (ح) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا حَفْصٌ - يَعْنِي: ابْنَ غِيَاثٍ - وَيَزِيدُ بْنُ هَارُونَ (ح) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ الْهَمْدَانِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ (ح) وَحَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، كُلُّهُمْ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ بِإسْنَادِ مَالِكٍ، وَمَعْنَى حَدِيثِهِ، وفي حَدِيثِ سُفْيَانَ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ عَلَى الْمِنْبَرِ، يُخْبِرُ عَنِ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم).

رجال هذا الإسناد: ستّة عشر:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحِ بْنِ الْمُهَاجِرِ) التجيبيّ مولاهم المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 242)(م ق) تقدّم في "الإيمان" 16/ 168.

2 -

(اللَّيْثُ) بن سعد الفهميّ مولاهم، أبو الحارث المصريّ الإمام الحجة الشهير [7](ت 175) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 412.

3 -

(أَبُو الرَّبِيعِ الْعَتَكِيُّ) الزهرانيّ، تقدّم قريبًا.

4 -

(حَمَّادُ بْنُ زَيْدِ) بن درهم الجهضميّ، أبو إسماعيل البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ، من كبار [8](ت 179)(ع) تقدّم في "المقدمة" 5/ 26.

5 -

(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) تقدّم قبل باب.

6 -

(عَبْدُ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيُّ) ابن عبد المجيد بن الصلت البصريّ، ثقةٌ [8](ت 194)(ع) تقدّم في "الإيمان" 17/ 173.

7 -

(إِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ) ابن راهويه، تقدّم قبل باب.

(1)

"التنبال" بالكسر: القصير. قاله في: "القاموس"، يعني: الثناء على القصير قصير.

ص: 649

8 -

(أَبُو خَالِدٍ الأَحْمَرُ سُلَيْمَانُ بْنُ حَيَّانَ) الأزديّ الكوفيّ، صدوقٌ يُخطئ [8](ت 190)(ع) تقدّم في "الإيمان" 5/ 120.

9 -

(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ) تقدّم قبل باب.

10 -

(حَفْصُ بْنُ غِيَاثِ) بن طلق بن معاوية النخعيّ، أبو عمر الكوفيّ القاضي، ثقةٌ فقيهٌ، تغيّر قليلًا في الآخر [8](ت 4 أو 195)(ع) تقدّم في "الإيمان" 8/ 136.

11 -

(يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ) السلميّ مولاهم، أبو خالد الواسطيّ، ثقةٌ متقنٌ عابدٌ [9](ت 206)(ع) تقدّم في "المقدمة" 6/ 45.

12 -

(مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ الْهَمْدَانِيُّ) تقدّم قبل باب.

13 -

(ابْنُ الْمُبَارَكِ) عبد الله المروزيّ الإمام الحجة المشهور [8](ت 181)(ع) تقدّم في "المقدمة" 5/ 32.

14 -

(ابْنُ أَبِي عُمَرَ) محمد بن يحيى بن أبي عمر الْعَدنيّ، ثمّ المكيّ، ثقةٌ [10](ت 243)(م ت س ق) تقدّم في "المقدمة" 5/ 31.

15 -

(سُفْيَانُ) بن عيينة، تقدّم قبل بابين.

16 -

(يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ) الأنصاريّ المذكور في السند الماضي.

وقوله: (كُلُّهُمْ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ)؛ يعني: أن هؤلاء الثمانية الذين هم: الليث بن سعد، وحماد بن زيد، وعبد الوهّاب الثقفي، وأبو خالد الأحمر، وحفص بن غياث، ويزيد بن هارون، وابن المبارك، وسفيان بن عيينة رووا هذا الحديث عن يحيى بن سعيد الأنصاريّ بإسناده الماضي.

[تنبيه]: رواية الليث عن يحيى بن سعيد ساقها ابن ماجه رحمه الله في "سننه"، فقال:

(4227)

- حدّثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا يزيد بن هارون (ح) وحدّثنا محمد بن رُمح، أنبأنا الليث بن سعد، قالا: أنبأنا يحيى بن سعيد، أن محمد بن إبراهيم التيميّ أخبره، أنه سمع علقمة بن وقاص، أنه سمع عمر بن الخطاب، وهو يخطب الناس، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنما الأعمال بالنيات، ولكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله وإلى رسوله، فهجرته إلى الله وإلى رسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها، أو امرأة يتزوجها

ص: 650

فَهِجْرته إلى ما هاجر إليه". انتهى

(1)

.

وأما رواية حماد بن زيد، عن يحيى بن سعيد، فقد ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:

(3685)

- حدّثنا مسدّد، حدّثنا حماد هو ابن زيد، عن يحيى، عن محمد بن إبراهيم، عن علقمة بن وقّاص، قال: سمعت عمر رضي الله عنه قال: سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: "الأعمال بالنية، فمن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه، ومن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله". انتهى

(2)

.

وأما رواية عبد الوهّاب الثقفيّ، عن يحيى بن سعيد، فقد ساقها الترمذيّ رحمه الله في "جامعه" بسند المصنّف، فقال:

(1647)

- حدّثنا محمد بن المثنى، حدّثنا عبد الوهاب الثقفيّ، عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن إبراهيم، عن علقمة بن وقّاص الليثيّ، عن عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنية، وإنما لامرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله وإلى رسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، أو امرأة يتزوجها، فهجرته إلى ما هاجر إليه"، قال أبو عيسى: هذا حديث حسنٌ صحيحٌ. انتهى

(3)

.

وكذلك ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"

(4)

، فقال:

(6311)

- حدّثنا قتيبة بن سعيد، حدّثنا عبد الوهاب، قال: سمعت يحيى بن سعيد يقول: أخبرني محمد بن إبراهيم، أنه سمع علقمة بن وقاص الليثيّ يقول: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنما الأعمال بالنية، وإنما لامرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، أو امرأة

(1)

"سنن ابن ماجه" 2/ 1413.

(2)

"صحيح البخاريّ" 3/ 1416.

(3)

"جامع الترمذيّ" 4/ 179.

(4)

إنما قدّمت رواية الترمذيّ؛ لكونها بسند المصنّف، فتنبّه.

ص: 651

يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه". انتهى

(1)

.

وأما رواية أبي خالد الأحمر، عن يحيى بن سعيد، فقد ساقها النسائيّ رحمه الله في "الكبرى" بسند المصنّف، فقال:

(4736)

- أنبأ إسحاق بن إبراهيم، قال: أنبأ سليمان بن حيّان قال: حدّثنا يحيى بن سعيد، عن محمد بن إبراهيم، عن علقمة بن وقاص الليثيّ، عن عمر بن الخطاب، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"إنما الأعمال بالنية، وإنما لامرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله وإلى رسوله فهجرته إلى الله وإلى رسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها، أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه". انتهى

(2)

.

وأما رواية حفص بن غياث، عن يحيى بن سعيد، فلم أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم.

وأما رواية يزيد بن هارون، عن يحيى بن سعيد، فقد ساقها البيهقيّ رحمه الله في "الكبرى"، فقال:

(8774)

- أخبرنا أبو الحسن علي بن أحمد بن عبدان، أنبأ أحمد بن عبيد الصفّار، ثنا الحارث بن أبي أسامة التميميّ، ثنا يزيد بن هارون، أنبأ يحيى بن سعيد، عن محمد بن إبراهيم، أخبره أنه سمع علقمة بن وقّاص يقول: إنه سمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنما الأعمال بالنية، وإنما لامرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها، أو امرأة يتزوجها، فهجرته إلى ما هاجر إليه". انتهى

(3)

.

وأما رواية عبد الله بن المبارك، عن يحيى بن سعيد، فقد ساقها البيهقيّ رحمه الله في "الكبرى"، فقال:

(78)

- أخبرنا سليمان بن منصور البلخيّ، قال: حدّثنا عبد الله بن المبارك، وأنبأ يحيى بن حبيب بن عربيّ، قال: حدّثنا حماد بن زيد - واللفظ لابن المبارك - عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن إبراهيم، عن علقمة بن

(1)

"صحيح البخاريّ" 6/ 2461.

(2)

"السنن الكبرى" 3/ 130.

(3)

"سنن البيهقي الكبرى" 5/ 39.

ص: 652

وقّاص، عن عمر بن الخطاب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنية، وإنما لامرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله وإلى رسوله فهجرته إلى الله وإلى رسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه". انتهى

(1)

.

وأما رواية سفيان بن عيينة، عن يحيى بن سعيد، فساقها الحميديّ رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(28)

- حدّثنا الحميديّ

(2)

، ثنا سفيان، ثنا يحيى بن سعيد، أخبرني محمد بن إبراهيم التيميّ، أنه سمع علقمة بن وقاص الليثيّ يقول: سمعت عمر بن الخطاب على المنبر، يُخبر بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، أو إلى امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه". انتهى

(3)

.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(46) - (بَابُ اسْتِحْبَابِ طَلَبِ الشَّهَادَةِ فِي سَبِيلِ اللهِ تَعَالَى)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4921]

(1908) - (حَدَّثَنَا شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، حَدَّثَنَا ثَابِتٌ، عَنْ أنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ طَلَبَ الشَّهَادَةَ صَادِقًا أُعْطِيَهَا، وَلَوْ لَمْ تُصِبْهُ").

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ) بن أبي شيبة الْحَبَطيّ، أبو محمد الأُبُليّ، صدوقٌ يَهِم، ورُمي بالقدر، من صغار [9](ت 5 أو 236)(م د س) تقدّم في "الإيمان" 12/ 157، والباقون تقدّموا قبل أربعة أبواب.

(1)

"السنن الكبرى" 1/ 79.

(2)

هذا قول الراوي عن الحميديّ.

(3)

"مسند الحميديّ" 1/ 16.

ص: 653

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (351) من رباعيّات الكتاب، وأنه مسلسلٌ بالمدنيين من أوله إلى آخره، وأن فيه أنسًا رضي الله عنه من المكثرين السبعة، روى (2280) حديثًا.

شرح الحديث:

(عَنْ أنسِ بْنِ مَالِكٍ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ) شرطيّة مبتدأ، خبرها "أعطيها"، (طَلَبَ الشَّهَادَةَ)؛ أي: الموت شهيدًا، (صَادِقًا) قَيَّد به؛ لأن الصدق معيار الأعمال، ومفتاح بركاتها

(1)

. (أُعْطِيَهَا، وَلَوْ لَمْ تُصِبْهُ")؛ أي: لم تقدّر له، وفي الرواية التالية:"من سأل الله الشهادة بصدق بلّغه الله منازل الشهداء، وإن مات على فراشه"، قال النوويّ رحمه الله: معنى الرواية الأولى مُفَسَّر من الرواية الثانية، ومعناهما جميعًا أنه إذا سأل الشهادة بصدق أُعطي من ثواب الشهداء، وإن كان موته على فراشه، وفيه استحباب سؤال الشهادة، واستحباب نية الخير. انتهى

(2)

.

وقال في "الفتح" بعد ذكر هذا الحديث ما نصّه: وأصرح منه في المراد ما أخرجه الحاكم بلفظ: "من سأل القتل في سبيل الله صادقًا، ثم مات أعطاه الله أجر شهيد"، وللنسائيّ من حديث معاذ مثله، وللحاكم من حديث سهل بن حُنيف مرفوعًا:"من سأل الله الشهادة بصدق بلّغه الله منازل الشهداء، وإن مات على فراشه". انتهى

(3)

.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أنس بن مالك رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [46/ 4921](1908)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 491)، والله تعالى أعلم.

(1)

"عون المعبود" 4/ 268.

(2)

"شرح النوويّ" 13/ 55.

(3)

"الفتح" 7/ 58، كتاب "الجهاد" رقم (2797).

ص: 654

(المسألة الثالثة): تكلّم الحافظ أبو الفضل بن عمّار رحمه الله، فقال بعد سوقه رواية المصنّف عن شيبان ما نصّه: وافقه - أي: شيبان - على هذه الرواية المؤمَّل بن إسماعيل، وهذا حديث وَهِم فيه شيبان والمؤمل جميعًا، فأما المؤمل فكان قد دَفَن كتبه، وكان يُحَدِّث حفظًا، فيُخطئ الكثير، والصحيح ما رواه الحجاج بن المنهال، وموسى بن إسماعيل، والعبسيّ، عن حماد، عن أبان بن أبي عياش، عن أنس، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعن حماد، عن ثابت، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مرسلًا مثله، والصحيح من حديث ثابت مرسلٌ، وحديث أبان مسند. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: إعلال أبي الفضل رحمه الله لهذا الحديث قويّ، والجواب عن مسلم رحمه الله فيه صعوبة، والله تعالى أعلم بالصواب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4922]

(1909) - (حَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ، وَحَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى - وَاللَّفْظُ لِحَرْمَلَةَ - قَالَ أَبُو الطَّاهِرِ: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ حَرْمَلَةُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْبٍ، حَدَّثَنِي أَبُو شُرَيْحٍ، أَنَّ سَهْلَ بْنَ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ حَدَّثَهُ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ سَأَلَ اللهَ الشَّهَادَةَ بِصِدْقٍ بَلَّغَهُ اللهُ مَنَازِلَ الشُّهَدَاءِ، وَإِنْ مَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ"، وَلَمْ يَذْكُرْ أَبُو الطَّاهِرِ فِي حَدِيثِهِ: "بِصِدْقٍ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(أَبُو الطَّاهِرِ) أحمد بن عمرو بن عبد الله بن السرح، تقدّم قريبًا.

2 -

(حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى) التُّجيبيّ، أبو حفص المصريّ، صاحب الشافعيّ، صدوقٌ [11](ت 3 أو 244)(م س ق) تقدّم في "المقدّمة" 3/ 14.

3 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْبٍ) تقدّم قريبًا.

4 -

(أَبُو شُرَيْحٍ) عبد الرحمن بن شُريح بن عُبيد الله الْمَعَافريّ الإسكندرانيّ، ثقةٌ فاضلٌ، لم يُصب ابن سعد في تضعيفه [7](ت 167)(ع) تقدّم في "المقدّمة" 4/ 16.

(1)

"علل الحديث في كتاب الصحيح" 1/ 107 - 108.

ص: 655

5 -

(سَهْلُ بْنُ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ) الأنصاريّ المدنيّ، نزيل مصر، ثقةٌ [5].

رَوَى عن أبيه، وأنس، وعنه أبو شُريح عبد الرحمن بن شُريح الإسكندرانيّ، وسعيد بن عبد الرحمن بن أبي العمياء، ويزيد بن أبي حبيب، وعبد الرحمن بن سعد المازنيّ، وجعفر بن ربيعة، وخالد بن حميد المهريّ، وعيسى بن عُمر القارئ.

قال عثمان الدارميّ عن ابن معين: ثقةٌ، وكذا قال العجليّ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، قال ابن يونس: تُوُفّي بالإسكندرية.

أخرج له المصنّف، والأربعة، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.

6 -

(أَبُوهُ) أبو أمامة أسعد بن سهل بن حُنيف الأنصاريّ، له رؤية، ولم يسمع من النبيّ صلى الله عليه وسلم[2](ت 100) وله (92) سنةً (ع) تقدّم في "الحيض" 18/ 779.

7 -

(جَدُّهُ) سهل بن حُنيف بن واهب الأنصاريّ الأوسيّ، الصحابيّ، من أهل بدر، واستخلفه عليّ رضي الله عنهما على البصرة، ومات في خلافته (ع) تقدّم في "الجنائز" 23/ 2225.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من سداسيّات المصنّف، وأنه مسلسلٌ بالمصريين إلى سهل، وفيه رواية الراوي عن أبيه عن جدّه.

شرح الحديث:

(عَن سَهْلِ بْنِ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ حَدَّثَهُ، عَنْ أَبِيهِ) أبي أُمامة، مشهور بكنيته، وتقدّم أن اسمه أسعد، (عَنْ جَدِّهِ) سهل بن حُنيف رضي الله عنه (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ سَأَلَ اللهَ الشَّهَادَةَ)؛ أي: الموت شهيدًا (بِصِدْقٍ)؛ أي: لا لمجرّد الرغبة في فضل الشهداء من غير أن يرضى بحصولها إن حَصَلت، وسؤال الشهادة مرجعه سؤال الموت الذي لا محالة واقع على أحسن حال، وهو فناء النفس في سبيل الله عز وجل، وتحصيل رضاه، وهو محبوب من هذه الجهة، فيجوز أن يسألها، ولا يضرّ ما يلزمه من معصية الكافر، وفرحة

ص: 656

الأعداء، وحزن الأولياء. قاله السنديّ رحمه الله

(1)

.

وقال المناويّ رحمه الله: قيّد السؤال بالصدق؛ لأنه معيار الأعمال، ومفتاح بركاتها، وبه تُرجى ثمراتها. (بَلَّغَهُ) بتشديد اللام، (اللهُ مَنَازِلَ الشُّهَدَاءِ) مجازاةً له على صدق الطلب، وفي قوله:"منازل الشهداء" بصيغة الجمع مبالغةٌ ظاهرةٌ، (وَإِنْ مَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ")؛ أي: وإن لم يُقتل في سبيل الله عز وجل.

وقال المناويّ: قوله: "وإن مات على فراشه"؛ أي: لأن كلًّا منهما نوى خيرًا وفَعَل ما يقدر عليه، فاستويا في أصل الأجر، ولا يلزم من استوائهما فيه من هذه الجهة استواؤهما في كيفيته وتفاصيله؛ إذ الأجر على العمل ونيّته يزيد على مجرد النية، فمن نوى الحجّ، ولا مال له يحج به يثاب دون ثواب من باشر أعماله، ولا ريب أن الحاصل للمقتول من ثواب الشهادة تزيد كيفيته وصفاته على الحاصل للناوي الميت على فراشه، وإن بلغ منزلة الشهيد، فهما وإن استويا في الأجر، لكن الأعمال التي قام بها العامل تقتضي أثرًا زائدًا، وقربًا خاصًّا، وهو فضل الله يؤتيه من يشاء، فعُلِم من التقرير أنه لا حاجة لتأويل البعض، وتكلّفه بتقدير "مِن" بعد قوله:"بلغه الله"، فأَعْطِ ألفاظ الرسول حقّها، وأنزلها منازلها يتبيّن لك المراد. قاله المناويّ رحمه الله

(2)

.

وفيه الحثّ على سؤال الشهادة بنيّة صادقة، وبيان فضل الصدق.

وقوله: (وَلَمْ يَذْكُرْ أَبُو الطَّاهِرِ) أحمد بن عمرو بن السرح، شيخه الأول (فِي حَدِيثِهِ)؛ أي: في روايته لهذا الحديث، ("بصِدْقٍ") هذا بيان للاختلاف الواقع بين شيخيه في ألفاظ الحديث، والله تعالى أعلم.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث سهل بن حُنيف رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [46/ 4922](1909)، و (أبو داود) في "الصلاة"

(1)

"حاشية السنديّ على النسائيّ" 6/ 37.

(2)

"فيض القدير على الجامع الصغير" للمناويّ 6/ 144.

ص: 657

(1520)

، و (النسائيّ) في "الجهاد"(6/ 36 - 37) و"الكبرى"(3/ 25)، و (ابن ماجه) في "الجهاد"(2797)، و (الترمذيّ) في "فضائل الجهاد"(1653)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 205)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(6/ 5550) و"الأوسط"(3/ 258)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(6/ 106)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 491)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(3192)، و (ابن أبي عاصم) في "الجهاد"(2/ 489)، و (الحاكم) في "المستدرك"(2/ 87)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(9/ 169 - 170)، والله تعالى أعلم.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}

(47) - (بَابُ ذَمِّ مَنْ مَاتَ، وَلَمْ يَغْزُ، وَلَمْ يُحَدِّثْ نَفْسَهُ بِالْغَزْوِ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4923]

(1910) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَهْمٍ الأَنْطَاكِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ وُهَيْبٍ الْمَكِّيِّ، عَنْ عُمَرَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ سُمَيٍّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَغْزُ، وَلَمْ يُحَدِّثْ بِهِ نَفْسَهُ مَاتَ عَلَى شُعْبَةٍ مِنْ نِفَاقٍ"، قَالَ ابْنُ سَهْمٍ: قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ الْمُبَارَكِ: فَنُرَى أَنَّ ذَلِكَ كَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَهْمٍ الأَنْطَاكِيُّ) ثقةٌ [10](ت 243) من أفراد المصنّف، تقدّم في "الصلاة" 40/ 1069.

2 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ الْمُبَارَكِ) تقدّم قبل باب.

3 -

(وُهَيْبٌ الْمَكِّيُّ) ابن الورد - بفتح الواو، وسكون الراء - ابن أبي الورد القرشيّ مولاهم، أبو عثمان، ويقال: أبو أُميّة المكيّ، أخو عبد الجبّار بن الورد، مولى بني مخزوم، يقال: اسمه عبد الوهّاب، ووُهيب لقبٌ، ثقةٌ عابد، من كبار [7].

رَوَى عن عطاء بن أبي رباح، يقال: مرسلًا، وعُمر بن محمد بن المنكدر، وحميد بن قيس الأعرج، وداود بن شابور، والثوريّ، وجماعة.

ص: 658

وروى عنه ابن المبارك، وفضيل بن عياض، وعبد المجيد بن أبي روّاد، وعبد الرزاق، وآخرون.

قال ابن معين، والنسائيّ: ثقةٌ، وقال النسائيّ أيضًا: ليس به بأس، وقال أبو حاتم: كان من العبّاد، وله أحاديث، ومواعظ، وزُهد، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: كان من العبّاد المتجردين لِتَرْك الدنيا، مات سنة ثلاث وخمسين ومائة، وقال إدريس بن محمد الروذيّ: ما رأيت رجلًا أعبدَ منه، وقال قتيبة، عن محمد بن يزيد بن خُنيس: كان الثوريّ إذا فرغ من الحديث قال: قوموا إلى الطيّب؛ يعني: وهيب بن الورد، وقال ابن المبارك: كان وهيب يتكلم والدموع تقطر من عينيه، وقيل له: يجد طعم العبادة من يعص الله تعالى؟ قال: لا، ولا مَن هَمّ بمعصية، وقال عبد الله بن خُبيق، عن بشر بن الحارث: أربعة رفعهم الله بطِيب المطعم: وهيب بن الورد، وإبراهيم بن أدهم، ويوسف بن أسباط، وسلم الخوّاص، وقال العجليّ، ويعقوب بن سفيان: مكيّ ثقةٌ.

أخرج له المصنّف، وأبو داود، والترمذيّ، والنسائيّ، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.

4 -

(عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ) التيميّ المدنيّ، ثقةٌ [7].

رَوَى عن أبيه، وسُميّ مولى أبي بكر بن عبد الرحمن، وروى عنه هشام بن حسّان، ووهيب بن الورد، وعبد الله بن رجاء المكيّ، ويحيى بن سليم الطائفيّ، وغيرهم.

قال النسائيّ: ثقة

(1)

، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: كان من العبّاد، ومات من قرآن قرئ عليه، وقال الأزديّ: في القلب منه شيء.

أخرج له المصنّف، وأبو داود، والنسائيّ، وليس له عندهم إلا هذا الحديث.

5 -

(سُمَيٌّ) مولى أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المدنيّ، ثقةٌ [6](ت 130)(ع) تقدّم في "الصلاة" 18/ 918.

(1)

نقل هذا الكلام محقق "تهذيب الكمال"، وعزاه إلى النسائيّ في "الكبرى" برقم (337)، ولم أره فيه، والله تعالى أعلم.

ص: 659

6 -

(أَبُو صَالِحٍ) ذكوان السمّان الزيّات المدنيّ، ثقة ثبتٌ [3](101)(ع) تقدّم في "المقدمة" 2/ 4.

7 -

(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه تقدّم في "المقدمة" 2/ 4.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من سباعيّات المصنّف، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه أحفظ الناس في دهره، روى (5374) حديثًا.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ) شرطيّة، أو موصولة مبتدأ، خبره "مات. . . إلخ". (مَاتَ وَلَمْ يَغْزُ)؛ أي: لم يخرج للجهاد في سبيل الله، (وَلَمْ يُحَدِّثْ) بتشديد الدال، من التحديث، قيل: معناه: أن يقول: يا ليتني كنت غازيًا، أو المراد: ولم ينو الجهاد، وعلامته إعداد الآلات، كما قال الله عز وجل:{وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً} الآية [التوبة: 46]. (بِهِ)؛ أي: بالغزو، (نَفْسَهُ) بالنصب على أنه مفعول به، أو بنزع الخافض؛ أي: في نفسه، وبالرفع على أنه فاعل

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: هكذا أعربه بعضهم، وفيه نظر لا يخفى، فقوله: بنزع الخافض مما لا حاجة إليه؛ لأن الفعل متعدّ بنفسه، وأما الرفع على الفاعليّة، فبعيد جدًّا، فتأمله، والله تعالى أعلم.

(مَاتَ عَلَى شُعْبَةٍ مِنْ نِفَاقٍ") بضمّ الشين المعجمة، وسكون العين المهملة؛ أي: خُلُق من أخلاق المنافقين، أو على نوع من أنواعه.

(قَالَ ابْنُ سَهْم) هو: محمد بن عبد الرحمن بن سهم شيخ المصنّف، (قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ الْمُبَارَكِ: فَنُرَى) بضم النون؛ أي: نظن (أَنَّ ذَلِكَ كَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) قال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم"؛ يعني: حيث كان الجهاد واجبًا - يعني: واجبًا عينيًّا - وحَمَله على النفاق الحقيقيّ، ويَحْتَمِل أن يُحمل على جميع الأزمان، ويكون معناه: أن كلّ من

(1)

"عون المعبود" 7/ 130.

ص: 660

كان كذلك أشبه المنافقين، وإن لم يكن كافرًا، والله تعالى أعلم. انتهى

(1)

.

وقال النوويّ رضي الله عنه: هذا الذي قاله ابن المبارك مُحْتَمِل، وقد قال غيره: إنه عامّ، والمراد: أن من فعل هذا فقد أشبه المنافقين المتخلفين عن الجهاد في هذا الوصف، فإنّ ترك الجهاد أحدُ شُعب النفاق، وفي هذا الحديث أن من نوى فعل عبادة، فمات قبل فِعلها لا يتوجه عليه من الذمّ ما يتوجه على من مات، ولم ينوها، وقد اختَلَف أصحابنا فيمن تمكّن من الصلاة في أول وقتها، فأخّرها بنيّة أن يفعلها في أثنائه فمات قبل فعلها، أو أخّر الحج بعد التمكن إلى سنة أخرى، فمات قبل فعله، هل يأثم أم لا؟ والأصح عندهم أنه يأثم في الحج دون الصلاة؛ لأن مدة الصلاة قريبة فلا تُنسب إلى تفريط بالتأخير، بخلاف الحجّ، وقيل: يأثم فيهما، وقيل: لا يأثم فيهما، وقيل: يأثم في الحج الشيخ دون الشاب، والله أعلم. انتهى كلام النوويّ رحمه الله

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: عدم الإثم فيهما هو الظاهر؛ لأنه موسَّع عليه في ذلك شرعًا؛ إذ الراجح أن الحجّ على التراخي، وكذلك وقت الصلاة موسّع، والله تعالى أعلم.

وقال الصنعانيّ رحمه الله: فيه دليل على وجوب العزم على الجهاد، وألحقوا به فعلَ كلِّ واجب، قالوا: فإن كان من الواجبات المطلقة، كالجهاد وجب العزم على فعله عند إمكانه، وإن كان من الواجبات المؤقتة وجب العزم على فِعله عند دخول وقته، وإلى هذا ذهب جماعة من أئمة الأصول، وفي المسألة خلاف معروف.

قال: ولا يخفى أن المراد من الحديث هنا: أن من لم يغز بالفعل، ولم يحدّث نفسه بالغزو مات على خَصْلة من خصال النفاق، فقوله:"ولم يحدّث نفسه" لا يدل على العزم الذي معناه: عَقْد النية على الفعل، بل معناه هنا: لم يخطُر بباله أن يغزو، ولا حدّث به نفسه، ولو ساعة من عمره، ولو حدّثها به، أو خطر الخروج للغزو بباله حينًا من الأحيان خرج من الاتّصاف بخصلة من خصال النفاق، وهو نظير قوله صلى الله عليه وسلم:"ثم صلّى ركعتين لا يحدّث فيهما نفسه"؛

(1)

"المفهم" 3/ 750.

(2)

"شرح النوويّ" 13/ 56.

ص: 661

أي: لم يخطر بباله شيء من الأمور، وحديث النفس غير العزم وعقد النية.

ودلّ على أن من حدّث نفسه بفعل طاعة، ثم مات قبل فِعلها أنه لا يتوجه عليه عقوبةُ من لم يحدّث نفسه بها أصلًا. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [47/ 4923](1910)، و (أبو داود) في "الجهاد"(2502)، و (النسائيّ) في "الجهاد"(6/ 8) و"الكبرى"(4305)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 374)، و (الحاكم) في "المستدرك"(2/ 88 - 89)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 492)، والله تعالى أعلم.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(48) - (بَابُ ثَوَابِ مَنْ حَبَسَهُ عَنِ الْغَزْوِ مَرَضٌ، أَوْ عُذْرٌ آخَرُ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4924]

(1911) - (حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي غَزَاةٍ، فَقَالَ: "إِنَّ بِالْمَدِينَةِ لَرِجَالًا، مَا سِرْتُمْ مَسِيرًا، وَلَا قَطَعْتُمْ وَادِيًا، إِلَّا كَانُوا مَعَكُمْ، حَبَسَهُمُ الْمَرَضُ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) العبسيّ، أبو الحسن الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 239) وله (83) سنةً (خ م د س ق) تقدّم في "الإيمان" 35/ 246.

2 -

(جَرِيرُ) بن عبد الحميد، تقدّم قبل أربعة أبواب.

3 -

(الأَعْمَشُ) سليمان بن مِهْران، تقدّم قريبًا.

(1)

"سبل السلام" 4/ 41.

ص: 662

4 -

(أَبُو سُفْيَانَ) طلحة بن نافع الإسكاف الواسطيّ، نزيل مكة، صدوقٌ [4](ع) تقدّم في "الإيمان" 4/ 117.

5 -

(جَابِرُ) بن عبد الله بن عمرو بن حرام رضي الله عنهما، تقدّم قريبًا.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالكوفيين إلى الأعمش، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه جابر رضي الله عنه من المكثرين السبعة، روى (1540) حديثًا.

شرح الحديث:

(عَنْ جَابِرٍ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي غَزَاةٍ) - بفتح الغين المعجمة -: اسم من الْغَزو، يقال: غزاه غَزْوًا: أراده، وطلبه، وقصده، كاغتزاه، وغزا العدوَّ: سار إلى قتالهم، وانتهابهم، قاله المجد رحمه الله

(1)

. (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("إِنَّ بِالْمَدِينَةِ لَرِجَالًا) اسم "إنّ" مؤخرًا، ولذا دخلت عليه اللام، (مَا) نافية، (سِرْتُمْ) بكسر السين، من باب باع، (مَسِيرًا) بفتح، فكسر: مصدر ميميّ لسار؛ أي: سيرًا، (وَلَا قَطَعْتُمْ وَادِيًا) قال الفيّوميّ رحمه الله: وَدَى الشيءُ: إذا سال، ومنه اشتقاق الوادي: وهو كلُّ منفرِجٍ بين جبال، أو آكام يكون منفَذًا للسَّيل، والجمع أودية. انتهى

(2)

. (إِلَّا كَانُوا مَعَكُمْ)؛ أي: في الأجر والصواب، وقوله:(حَبَسَهُمُ الْمَرَضُ") جملة مستأنَفة استئنافًا بيانيًّا، وهو ما وقع جوابًا عن سؤال مقدّر، تقديره هنا: كيف يكونون معنا، ولم يشاركونا الغزو؟، فأجابهم بأن المرض مَنَعهم من مشاركتكم، فكان لهم الأجر مثلكم؛ لنيّتهم الصالحة.

وفي حديث أنس رضي الله عنه عند البخاريّ: "إلا وَهُمْ معنا فيه، حَبَسهم العذر"، قال في "الفتح": وفي رواية الإسماعيليّ: "إلا وهم معكم فيه بالنية"، ولابن حبان، وأبي عوانة، من حديث جابر:"إلا شَرِكوكم في الأجر" بدل قوله: "إلا كانوا معكم"، والمراد بالعذر: ما هو أعمّ من المرض، وعدم

(1)

"القاموس المحيط" ص 947.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 654.

ص: 663

القدرة على السفر، قال: وقد رواه مسلم من حديث جابر رضي الله عنه بلفظ: "حبسهم المرض"، وكأنه محمول على الأغلب.

وفي رواية أبي داود: "لقد تركتم بالمدينة أقوامًا، ما سرتم من مسير، ولا أنفقتم من نفقة، ولا قطعتم من واد، إلا وَهُمْ معكم فيه"، قالوا: يا رسول الله، وكيف يكونون معنا، وهم بالمدينة؟ قال:"حَبَسهم العُذر".

قال المهلَّب: يشهد لهذا الحديث قوله تعالى: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} الآية [النساء: 95]، فإنه فاضَل بين المجاهدين والقاعدين، ثم استثنى أولي الضرر من القاعدين، فكأنه ألحقهم بالفاضلين، وفيه: أن المرء يبلغ بنيّته أجر العامل إذا مَنَعه العذر عن العمل. انتهى

(1)

.

وقال النوويّ رحمه الله: في هذا الحديث فضيلة النية في الخير، وأن من نوى الغزو وغيره من الطاعات، فعَرَض له عذر مَنَعه حصل له ثواب نيته، وأنه كلما أكثر من التأسف على فوات ذلك، وتمنى كونه مع الغُزاة ونحوهم كَثُر ثوابه، والله أعلم. انتهى

(2)

.

وقال ابن الملقّن رحمه الله: هذا الحديث دالّ على أن من حبسه العذر من أعمال البرّ مع نيّته فيها: أنه يُكتب له أجر العامل بها، كما قال صلى الله عليه وسلم فيمن غلبه النوم عن صلاة الليل: إنه يكتب له أجر صلاته، وكان نومه صدقةً عليه. انتهى

(3)

، والله تعالى أعلم.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث جابر رضي الله عنه هذا من أفراد المصنف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [48/ 4924 و 4925](1911)، و (ابن ماجه) في "الجهاد"(2765)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 300 و 341)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4714)، و (سعيد بن منصور) في "سننه"(2/ 152)، و (عبد بن

(1)

"الفتح" 7/ 107، كتاب "الجهاد" رقم (2839).

(2)

"شرح النوويّ" 13/ 57.

(3)

"التوضيح شرح الجامع الصحيح" 17/ 472.

ص: 664

حُميد) في "مسنده"(1/ 322)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(9/ 24)، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4925]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ (ح) وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو سَعِيدٍ الأَشَجُّ، قَالَا: حَدَّثَنَا وَكيعٌ (ح) وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، كُلُّهُمْ عَنِ الأَعْمَشِ، بِهَذَا الإِسْنَادِ، غَيْرَ أَنَّ فِي حَدِيثِ وَكِيعٍ:"إِلَّا شَرِكُوكُمْ فِي الأَجْرِ").

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ النيسابوريّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(أَبُو مُعَاوِيَةَ) محمد بن خازم الضرير، تقدّم أيضًا قريبًا.

3 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم أيضًا قريبًا.

4 -

(أَبُو سَعِيدٍ الأَشَجُّ) عبد الله بن سعيد بن حصين الْكِنديّ الكوفيّ، ثقةٌ، من صغار [10](ت 257)(ع) تقدّم في "المقدمة" 4/ 17.

5 -

(وَكِيعُ) بن الجرّاح، تقدّم قريبًا.

6 -

(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه، تقدّم قبل بابين.

7 -

(عِيسَى بْنُ يُونُسَ) بن أبي إسحاق السبيعيّ، تقدّم قريبًا. و"الأعمش" ذُكر قبله.

وقوله: ("إِلَّا شَرِكُوكُمْ فِي الأَجْرِ") بكسر الراء، يقال: شَرِكته في الأمر أشرَكه، من باب تَعِبَ، شَرِكًا، وشَرِكَةً، وزانُ كَلِمٍ، وكَلِمة، بفتح الأول، وكسر الثاني: إذا صِرت له شريكًا

(1)

.

وقوله: (كُلُّهُمْ عَنِ الأَعْمَشِ)؛ أي: كلّ هؤلاء الثلاثة، وهم: أبو معاوية، ووكيعٌ، وعيسى بن يونس رووا هذا الحديث عن الأعمش بسنده الماضي.

[تنبيه]: رواية أبي معاوية، عن الأعمش ساقها سعيد بن منصور رحمه الله في "سننه"، فقال:

(1)

"المصباح المنير" 1/ 311.

ص: 665

(2310)

- حدّثنا سعيد، قال: نا أبو معاوية، قال: نا الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر، قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، قال:"إن بالمدينة لَرجالًا، ما سرنا مسيرًا، وقطعنا واديًا، إلا كانوا معنا فيه، حبسهم المرض". انتهى

(1)

.

وأما رواية وكيع، عن الأعمش، فقد ساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(14246)

- حدّثنا عبد الله، حدّثني أبي، ثنا وكيع، ثنا الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد خَلَّفتم بالمدينة رجالًا، ما قطعتم واديًا، ولا سلكتم طريقًا، إلا شَرِكوكم في الأجر، حبسهم المرض". انتهى

(2)

.

وأما رواية عيسى بن يونس، عن الأعمش، فلم أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(49) - (بَابُ فَضْلِ الْغَزْوِ فِي الْبَحْرِ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4926]

(1912) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَدْخُلُ عَلَى أُمِّ حَرَامٍ بِنْتِ مِلْحَانَ، فَتُطْعِمُهُ، وَكَانَتْ أُمُّ حَرَامٍ تَحْتَ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، فَدَخَلَ عَلَيْهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمًا، فَأَطْعَمَتْهُ، ثُمَّ جَلَسَتْ تَفْلِي رَأْسَهُ، فَنَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ اسْتَيْقَظَ، وَهُوَ يَضْحَكُ، قَالَتْ: فَقُلْتُ: مَا يُضْحِكُكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: "نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي، عُرِضُوا عَلَيَّ غُزَاةً فِي سَبِيلِ اللهِ، يَرْكَبُونَ ثَبَجَ هَذَا الْبَحْرِ مُلُوكًا عَلَى الأَسِرَّةِ، أَوْ مِثْلَ الْمُلُوكِ عَلَى الأَسِرَّةِ"، يَشُكُّ أَيَّهُمَا قَالَ،

(1)

"سنن سعيد بن منصور" 2/ 152.

(2)

"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 3/ 300.

ص: 666

قَالَتْ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ ادْعُ اللهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ، فَدَعَا لَهَا، ثُمَّ وَضَعَ رَأْسَهُ، فَنَامَ، ثُمَّ اسْتَيْقَظَ، وَهُوَ يَضْحَكُ، قَالَتْ: فَقُلْتُ: مَا يُضْحِكُكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: "نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي عُرِضُوا عَلَيَّ غُزَاةً فِي سَبِيلِ اللهِ"، كَمَا قَالَ فِي الأُولَى، قَالَتْ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهَ ادْعُ اللهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ، قَالَ:"أَنْتِ مِنَ الأَوَّلِينَ"، فَرَكِبَتْ أُمُّ حَرَامٍ بِنْتُ مِلْحَانَ الْبَحْرَ فِي زَمَنِ

(1)

مُعَاوِيَةَ، فَصُرِعَتْ عَنْ دَابَّتِهَا حِينَ خَرَجَتْ مِنَ الْبَحْرِ، فَهَلَكَتْ).

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(إِسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ) الأنصاريّ، أبو يحيى المدنيّ، ثقةٌ حجة [4](ت 232) أو بعدها (ع) تقدّم في "الطهارة" 30/ 667.

والباقون ذُكروا في الباب الماضي، وقبل بابين.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (352) من رباعيّات الكتاب، وفيه أنس رضي الله عنه، تقدّم الكلام فيه قبل بابين.

شرح الحديث:

(عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ) رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَدْخُلُ عَلَى أُمِّ حَرَامٍ) - بفتح الحاء المهملة، والراء - (بِنْتِ مِلْحَانَ) - بكسر الميم، وسكون اللام - بنَ خالد بن زيد بن حرام الأنصاريّة، خالة أنس، صحابيّة مشهورة، ماتت في خلافة عثمان رضي الله عنهما، وتقدّمت ترجمتها في "المساجد ومواضع الصلاة" 49/ 1502.

وفي رواية للبخاريّ: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذهب إلى قباء يدخل على أم حرام. . ."، قال في "الفتح": قوله: "إذا ذهب إلى قُباء" لم يذكر أحد من رواة "الموطأ" هذه الزيادة إلا ابن وهب، قال الدارقطنيّ: وتابع إسماعيلَ عليها عتيقُ بن يعقوب عن مالك. انتهى

(2)

.

قال: وقوله: "أم حرام" بفتح المهملتين، وهي خالة أنس، وكان يقال لها: الرُّمَيصاء، ولأم سُليم: الغُميصاء، بالغين المعجمة، والباقي مثله، قال

(1)

وفي نسخة: "زمان".

(2)

"الفتح" 14/ 239.

ص: 667

القاضي عياض: وقيل: بالعكس

(1)

، وقال ابن عبد البرّ: الغميصاء والرميصاء هي أم سُليم.

قال الحافظ: ويَرُدّه ما أخرجه أبو داود بسند صحيح، عن عطاء بن يسار، عن الرُّميصاء، أخت أم سليم، فذكر نحو حديث الباب.

ولأبي عوانة من طريق الدَّراورديّ عن أبي طُوالة، عن أنس: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم وضع رأسه في بيت بنت ملحان إحدى خالات أنس. ومعنى الرَّمَص، والْغَمَص متقارب، وهو اجتماع القذى في مؤخَّر العين، وفي هُدُبها، وقيل: استرخاؤها، وانكسار الجفن. انتهى.

[تنبيه]: اختُلِف في هذا الحديث، عن أنس، فمنهم من جعله من مسنده، ومنهم جعله من مسند أم حرام، والتحقيق أن أوّله من مسند أنس، وقصة المنام من مسند أم حرام، فإن أنسًا إنما حَمَل قصة المنام عنها، وقد وقع في أثناء هذه الرواية:"قالت: فقلت: يا رسول الله ما يضحكك؟ ".

(فَتُطْعِمُهُ) بضمّ أوله، من الإطعام، (وَكَانَتْ أُمُّ حَرَامٍ تَحْتَ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ) هذا ظاهره أنها كانت حينئذ زوج عبادة، وفي الرواية التالية:"فتزوّجها عُبادة بن الصامت بعدُ، فغزا في البحر"، ويُجمع بأن المراد بقوله هنا:"وكانت تحت عبادة. . . إلخ" الإخبار عما آل إليه الحالُ بعد ذلك، وهو الذي اعتمده النوويّ، وغيره، تبعًا للقاضي عياض.

قال الحافظ رحمه الله: لكن وقع في ترجمة أم حرام من "طبقات ابن سعد" أنها كانت تحت عبادة، فولدت له محمدًا، ثم خلف عليها عمرو بن قيس بن زيد الأنصاريّ النجاريّ، فولدت له قيسًا، وعبد الله، وعمرُو بن قيس هذا اتَّفَق أهل المغازي أنه استُشْهد بأُحد، وكذا ذكر ابن إسحاق أن ابنه قيس بن عمرو بن قيس استُشهد بأحد، فلو كان الأمر كما وقع عند ابن سعد لكان محمد صحابيًّا؛ لكونه وُلد لعبادة قبل أن يفارق أم حرام، ثم اتَّصَلت بمن وَلدت له قيسًا، فاستُشهد بأحد، فيكون محمد أكبر من قيس بن عمرو، إلا أن يقال: إن

(1)

"مشارق الأنوار" 1/ 277.

ص: 668

عبادة سَمَّى ابنه محمدًا في الجاهلية، كما سُمي بهذا الاسم غيرُ واحد، ومات محمد قبل إسلام الأنصار، فلهذا لم يذكروه في الصحابة.

قال: ويعكُر عليه أنهم لم يَعُدّوا محمد بن عبادة فيمن سُمّي بهذا الاسم قبل الإسلام.

ويمكن الجواب

(1)

، وعلى هذا فيكون عبادة تزوجها أوّلًا، ثم فارقها، فتزوجت عمرو بن قيس، ثم استُشهد، فرجعت إلى عبادة.

قال: والذي يظهر لي أن الأمر بعكس ما وقع في "الطبقات"، وأن عمرو بن قيس تزوجها أوَّلًا، فوَلَدت له، ثم استُشهد هو وولده قيس منها، وتزوجت بعده بعبادة. انتهى

(2)

.

(فَدَخَلَ عَلَيْهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمًا، فَأَطْعَمَتْهُ) قال الحافظ: لم أقف على تعيين ما أطعمته يومئذ. انتهى. (ثُمَّ جَلَسَتْ تَفْلِي رَأْسَهُ) - بفتح المثناة، وسكون الفاء، وكسر اللام - أي: تُفَتِّش ما فيه من القمل، فتُخرجه (فَنَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم)، وفي الرواية التالية:"أتانا النبيّ صلى الله عليه وسلم يومًا، فقال عندنا"، وفي رواية للبخاريّ:"فنام قريبًا مني"، وفي رواية له:"فاتكأ"، وفي له:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال يومًا في بيتها"، وفي رواية لأحمد، وابن سعد:"بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلًا في بيتي"، وفي رواية لأحمد:"فنام عندها، أو قال" بالشك.

(ثُمَّ اسْتَيْقَظَ) صلى الله عليه وسلم (وَهُوَ يَضْحَكُ) بفتح أوله، من باب تَعِبَ، جملة في محلّ نصب على الحال من الفاعل، (قَالَتْ) أم حرام (فَقُلْتُ: مَا يُضْحِكُكَ؟) بضمّ أوله، من الإضحاك؛ أي: أيُّ شيء يَحْملك على الضحك؟ (يَا رَسُولَ اللهِ)، وفي الرواية التالية:"فقلت: ما يُضحكك يا رسول الله بأبي أنت وأمي"، وفي رواية للبخاريّ:"لِمَ تضحك؟ "، ولأحمد:"مِمّ تضحك؟ "، وفي رواية عطاء بن يسار، عن الرُّميصاء:"ثم استيقظ، وهو يضحك، وكانت تغسل رأسها، فقالت: يا رسول الله أتضحك من رأسي؟ قال: لا"، أخرجه أبو داود،

(1)

هكذا لم يذكر الجواب في "الفتح"، والظاهر أن الجواب أن يقال: إن عدم ذكرهم له لا يستلزم عدم وجوده، والله تعالى أعلم.

(2)

"الفتح" 14/ 241.

ص: 669

ولم يَسُق المتن، بل أحال به على رواية حماد بن زيد، وقال: يزيد وينقص، وقد أخرجه عبد الرزاق من الوجه الذي أخرجه منه أبو داود، فقال: عن عطاء بن يسار، أن امرأةً حدثته، وساق المتن، ولفظه يدلّ على أنه في قصة أخرى غير قصة أم حرام، فالله أعلم، قاله في "الفتح"

(1)

.

(قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي، عُرِضُوا عَلَيَّ) ببناء الفعل للمفعول؛ أي: أظهر الله تعالى لي صُورهم، وأحوالهم حال كونهم راكبي البحر، {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [المائدة: 19]. (غُزَاةً) بضمّ الغين المعجمة: جَمْع غاز؛ أي: حال كونهم غازين (فِي سَبِيلِ اللهِ)؛ أي: لإعلاء كلمة الله سبحانه وتعالى، وفي الرواية الآتية:"أُرِيتُ قومًا من أمتي"، وفي رواية للبخاريّ:"فقال: عَجِبت من قوم من أمتي"، وهذا يُشعر بأن ضحكه صلى الله عليه وسلم كان إعجابًا بهم، وفرحًا لِمَا رأى لهم من المنزلة الرفيعة، (يَرْكَبُونَ ثَبَجَ هَذَا الْبَحْرِ)، وفي رواية الليث الآتية:"يركبون هذا البحر الأخضر"، وفي رواية:"يركبون ظهر البحر"، وفي رواية للبخاريّ:"يركبون البحر"، وفي رواية له:"يركبون البحر الأخضر في سبيل الله".

و"الثَّبَجُ": بفتح المثلثة، والموحدة، ثم جيم: ظَهْر الشيء، هكذا فسَّره جماعة، وقال الخطابيّ: متن البحر وظَهْره، وقال الأصمعيّ: ثبج كل شيء: وسطه، وقال أبو عليّ في "أماليه": قيل: ظَهْره، وقيل: مُعْظمه، وقيل: هَوْله، وقال أبو زيد في "نوادره": ضُرِب ثَبَجُ الرجلِ بالسيف؛ أي: وسطه، وقيل: ما بين كتفيه، والراجح أن المراد هنا: ظَهْره، كما وقع التصريح به في الطريق المشار إليها آنفًا، والمراد: أنهم يركبون السُّفُن التي تجري على ظهره، ولمّا كان جري السفن غالبًا إنما يكون في وسطه قيل: المراد وسطه، والا فلا اختصاص لوسطه بالركوب.

وأما قوله: "الأخضر"، فقال الكرمانيّ

(2)

: هي صفة لازمة للبحر، لا مُخَصِّصة. انتهى.

ويَحْتَمِل أن تكون مُخَصِّصةً؛ لأن البحر يُطلق على الملح والعذب، فجاء

(1)

"الفتح" 14/ 242، كتاب "الاستئذان" رقم (6282).

(2)

"شرح البخاريّ" للكرمانيّ 12/ 103.

ص: 670

لفظ الأخضر لتخصيص الملح بالمراد، قال: والماء في الأصل لا لون له، وإنما تنعكس الخضرة من انعكاس الهواء، وسائر مقابلاته إليه.

وقال غيره: إن الذي يقابله السماء، وقد أطلقوا عليها الخضراء؛ لحديث:"ما أَظَلَّت الخضراءُ، ولا أقلّت الغبراء"، والعرب تُطلق الأخضر على كل لون ليس بأبيض، ولا أحمر، قال الشاعر [من الرمل]:

وَأَنَا الأَخْضَرُ مَنْ يَعْرِفُنِي

أَخْضَرَ الْجِلْدَةِ مِنْ نَسْلِ الْعَرَبْ

يعني: أنه ليس بأحمر كالعجم، والأحمر يُطلقونه على كل من ليس بعربيّ، ومنه:"بُعِثت إلى الأسود والأحمر".

(مُلُوكًا) بالنصب على الحال، ووقع في رواية أبي ذرّ عند البخاريّ، وكذا عند النسائيّ:"ملوك" بالرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف؛ أي: هم ملوك، والجملة حال، وقوله:(عَلَى الأَسِرَّةِ) متعلّق بحال مقدّر؛ أي: حال كونهم قاعدين على الأسرّة، و"الأسرّةُ" بفتح، فكسر، فتشديد راء: جَمْع سرير؛ كالأَعِزّة: جمع عزيز، والأذلّة: جمع ذليل.

(أَوْ) قال (مِثْلَ الْمُلُوكِ عَلَى الأَسِرَّةِ"، يَشُكُّ أيَّهُمَا قَالَ) لم يذكر عند مسلم الشاكّ، وقد ذُكر عند البخاريّ أنه إسحاق بن عبد الله الراوي عن أنس رضي الله عنه؛ أي: شكّ في لفظ أنس، هل قال:"ملوكًا على الأسرّة"، أو قال:"مثل الملوك على الأسرّة".

قال في "الفتح": قوله: "أو قال: مثل الملوك على الأسرّة" يشكّ إسحاق؛ يعني: راويه عن أنس، ووقع في رواية الليث، وحماد قبلُ:"كالملوك على الأسرّة" من غير شكّ، وفي رواية أبي طُوالة:"مثل الملوك على الأسرّة" بغير شك أيضًا، ولأحمد من طريقه:"مَثَلُهم كَمَثَل الملوك على الأسرّة"، وهذا الشك من إسحاق، وهو ابن عبد الله بن أبي طلحة يُشعر بأنه كان يحافظ على تأدية الحديث بلفظه، ولا يتوسع في تأديته بالمعنى، كما توسّع غيره، كما وقع لهم في هذا الحديث في عِدَة مواضع تظهر مما رأيته، وتراه.

قال ابن عبد البرّ: أراد - والله أعلم - أنه رأى الغُزاة في البحر من أمته ملوكًا على الأسرّة في الجنة، ورؤياه وحي، وقد قال الله تعالى في صفة أهل

ص: 671

الجنة: {عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الحجر: 47]، وقال:{عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ} [يس: 56]، والأرائك: السُّرُرُ في الْحِجَال.

وقال القاضي عياض: هذا مُحْتَمِلٌ، ويَحْتَمِل أيضًا أن يكون خبرًا عن حالهم في الغزو من سعة أحوالهم، وقوام أمرهم، وكثرة عَدَدهم، وجودة عُدَدهم، فكأنهم الملوك على الأسرّة.

قال الحافظ: وفي هذا الاحتمال بُعْدٌ، والأول أظهر، لكن الإتيان بالتمثيل في معظم طرقه يدلّ على أنه رأى ما يَؤُول إليه أمرهم، لا أنهم نالوا ذلك في تلك الحالة، أو موقع التشبيه أنهم فيما هم من النعيم الذي أثيبوا به على جهادهم مِثْل ملوك الدنيا على أسرّتهم، والتشبيه بالمحسوسات أبلغ في نفس السامع. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: عندي أنه لا بُعْد فيما قاله عياض رحمه الله، وهو أن يكون إخبارًا عن حالهم في الغزو، فأيُّ بُعْد في هذا؟، فتأمله بالإنصاف، والله تعالى أعلم.

(قَالَتْ) أمّ حرام رضي الله عنها (فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ ادْعُ اللهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ)؛ أي: من هؤلاء الذين رأيتَهم غُزاة في البحر، ووصفتَ أحوالهم، (فدَعَا) صلى الله عليه وسلم (لَهَا)، وفي رواية أبي طُوالة عند البخاريّ:"فقال: اللهم اجعلها منهم"، ووقع في رواية حماد بن زيد:"فقال: أنتِ منهم"، وفي روايته عند مسلم التالية:"فإنك منهم"، وفي رواية عُمير بن الأسود:"فقلت: يا رسول الله أنا منهم؟ قال: أنت منهم".

والجمع بين هذه الروايات أنه صلى الله عليه وسلم دعا لها، فأجيب، فأخبرها جازمًا بذلك، والله تعالى أعلم.

(ثُمَّ وَضَعَ) صلى الله عليه وسلم (رَأْسَهُ، فَنَامَ) وفي رواية الليث عند البخاريّ: "ثم قام ثانية، ففعل مثلها، فقالت مثل قولها، فأجابها مثلها"، وفي رواية حماد بن زيد عنده:"فقال ذلك مرتين، أو ثلاثةً"، وكذا في رواية أبي طُوالة عند أبي عوانة، من طريق الدّرَاوَرْديّ عنه، وله من طريق إسماعيل بن جعفر عنه:"ففعل مثل ذلك مرتين أخريين"، قال الحافظ: وكل ذلك شاذ، والمحفوظ من طريق أنس ما اتفقت عليه روايات الجمهور أن ذلك كان مرتين، مرّةً بعد مرة، وأنه قال

ص: 672

لها في الأُولى: "أنت منهم"، وفي الثانية:"لست منهم"، ويؤيده ما في رواية عُمير بن الأسود، حيث قال في الأولى:"يغزون هذا البحر"، وفي الثانية:"يغزون مدينة قيصر". انتهى.

(ثُمَّ اسْتَيْقَظَ، وَهُوَ يَضْحَكُ) جملة حاليّة، كما تقدّم. (قَالَتْ: فَقُلْتُ: مَا يُضْحِكُكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: "نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي عُرِضُوا عَلَيَّ غُزَاةً فِي سَبِيلِ اللهِ"، كَمَا قَالَ فِي الأُولَى، قَالَتْ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهَ ادْعُ اللهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ، قَالَ:"أَنْتِ مِنَ الأوَّلِينَ") زاد في رواية الدّراوَرْديّ عن أبي طُوالة: "ولست من الآخِرين"، وفي رواية عُمير بن الأسود في الثانية:"فقلت: يا رسول الله أنا منهم؟ قال: لا".

قال الحافظ: وظاهر قوله: "فقال مثلها" أن الفرقة الثانية يركبون البحر أيضًا، ولكن رواية عُمير بن الأسود تدلّ على أن الثانية إنما غزت في البرّ؛ لقوله:"يغزون مدينة قيصر"، وقد حَكَى ابن التين أن الثانية وردت في غُزاة البرّ، وأقرّه، وعلى هذا يُحتاج إلى حَمْل المِثلية في الخبر على معظم ما اشتركت فيه الطائفتان، لا خصوص ركوب البحر.

ويَحْتَمِل أن يكون بعض العسكر الذين غزوا مدينة قيصر ركبوا البحر إليها، وعلى تقدير أن يكون المراد ما حَكَى ابن التين، فتكون الأُولية مع كونها في البرّ مقيَّدة بقصد مدينة قيصر، وإلا فقد غَزَوْا قبل ذلك في البرّ مرارًا.

وقال القرطبيّ: الأُولى: في أول من غزا البحر من الصحابة، والثانية: في أول من غزا البحر من التابعين.

قال الحافظ: بل كان في كل منهما من الفريقين، لكن معظم الأُولى من الصحابة، والثانية بالعكس.

وقال عياض، والقرطبيّ: في السياق دليل على أن رؤياه الثانية غير رؤياه الأُولى، وأن في كل نومة عُرضت طائفة من الغُزاة، وأما قول أمّ حرام:"ادع الله أن يجعلني منهم" في الثانية، فلظنها أن الثانية تساوي الأولى في المرتبة، فسألت ثانيًا؛ ليتضاعف لها الأجر، لا أنها شكّت في إجابة دعاء النبيّ صلى الله عليه وسلم لها في المرة الأولى، وفي جزمه بذلك.

ص: 673

قال الحافظ: لا تنافي بين إجابة دعائه صلى الله عليه وسلم وجَزْمه بأنها من الأولين، وبين سؤالها أن تكون من الآخِرين؛ لأنه لم يقع التصريح لها أنها تموت قبل زمان الغزوة الثانية، فجوّزت أنها تُدركها، فتغزو معهم، ويحصل لها أجر الفريقين، فأعلمَها صلى الله عليه وسلم أنها لا تُدرك زمان الغزوة الثانية، فكان كما قال صلى الله عليه وسلم. انتهى

(1)

.

(فَرَكِبَتْ أُمُّ حَرَامٍ بِنْتُ مِلْحَانَ الْبَحْرَ فِي زَمَنِ) وفي بعض النسخ: "في زمان"، وهما لغتان، الأول مقصور من الثاني، قال الفيّوميّ رحمه الله: الزمان: مُدّة قابلة للقسمة، ولهذا يُطلق على الوقت القليل والكثير، والجمع: أزمنةٌ، والزمن مقصور منه، والجمع: أزمانٌ، مثلُ سبب وأسباب، وقد يُجمع على أَزْمُنٍ. انتهى

(2)

. (مُعَاوِيَةَ) بن أبي سُفيان رضي الله عنهما، وفي رواية الليث عند البخاريّ:"فخرجت مع زوجها عبادة بن الصامت غازيًا أولَ ما ركب المسلمون البحر مع معاوية"، وفي رواية حماد:"فتزوج بها عبادة، فخرج بها إلى الغزو"، وفي رواية أبي طُوالة:"فتزوجت عبادة، فركبت البحر مع بنت قَرَظة"

(3)

، وكان ذلك في سنة ثمان وعشرين، وكان ذلك في خلافة عثمان ومعاويةُ يومئذ أمير الشام، وظاهر سياق الخبر يوهم أن ذلك كان في خلافته، وليس كذلك، وقد اغتَرّ بظاهره بعض الناس، فَوَهِم، فإن القصة إنما وردت في حقّ أول من يغزو في

(1)

"الفتح" 14/ 244 - 245، كتاب "الاستئذان" رقم (6282).

(2)

"المصباح المنير" 1/ 256.

(3)

قوله: "فركبت البحر مع بنت قرظة" بالقاف، والراء، والظاء المعجمة المفتوحات، واسمها فاختة - بالفاء وكسر الخاء المعجمة، وفتح التاء المثناة من فوق - وقيل: كنود امرأة معاوية بن أبي سفيان، كان معاوية أخذها معه لَمّا غزا قبرس في البحر سنة ثمان وعشرين، وكان معاوية أول من ركب البحر للغَزاة في خلافة عثمان رضي الله عنه، وقرظة بن عبد عمرو بن نوفل بن عبد مناف، صرّح بذلك خليفة بن خياط في "تاريخه" وغيره، وقد وَهِم من قال: إنها بنت قرظة بن كعب الأنصاريّ، وذكر البلاذري في "تاريخه" أن قرظة بن عبد عمرو مات كافرًا، ولِبِنْته رؤية، وكذا لأخيها مسلم بن قرظة الذي قُتل يوم الجمل مع عائشة رضي الله عنها، راجع:"عمدة القاري" 14/ 165.

ص: 674

البحر، وكان عمر رضي الله عنه ينهى عن ركوب البحر، فلما وُلّي عثمان استأذنه معاوية في الغزو في البحر، فَأَذِن له، ونقله أبو جعفر الطبريّ، عن عبد الرحمن بن يزيد بن أسلم، ويكفي في الردّ عليه التصريح في "الصحيح" بأن ذلك كان أوّل ما غزا المسلمون في البحر، ونَقَل أيضًا من طريق خالد بن معدان قال: أول من غزا البحر معاوية في زمن عثمان، وكان استأذن عمر فلم يأذن له، فلم يزل بعثمان حتى أَذِن له، وقال: لا تنتخب أحدًا، بل من اختار الغزو فيه طائعًا، فَأَعِنْه، ففعل، وقال خليفة بن خياط في "تاريخه" في حوادث سنة ثمان وعشرين: وفيها غزا معاوية البحر، ومعه امرأته فاختة بنت قَرَظة، ومع عبادة بن الصامت امرأته أم حرام، وأرّخها في سنة ثمان وعشرين غير واحد، وبه جزم ابن أبي حاتم، وأرّخها يعقوب بن سفيان في المحرَّم سنة سبع وعشرين، قال: كانت فيه غزاة قبرس

(1)

الأولى.

وأخرج الطبريّ من طريق الواقديّ أن معاوية غزا الروم في خلافة عثمان، فصالح أهل قبرس، وسَمَّى امرأته كَبْرة، بفتح الكاف، وسكون الموحدة، وقيل: فاختة بنت قرظة، وهما أختان، كان معاوية تزوجهما واحدةً بعد أخرى، ومن طريق ابن وهب، عن ابن لَهِيعة أن معاوية غزا بامرأته إلى قبرس، في خلافة عثمان، فصالَحَهم، ومن طريق أبي معشر المدنيّ أن ذلك كان في سنة ثلاث وثلاثين، فتحصّلنا على ثلاثة أقوال، والأول أصحّ، وكلها في خلافة عثمان أيضًا؛ لأنه قُتل في آخر سنة خمس وثلاثين. انتهى

(2)

.

(فَصُرِعَتْ) على بناء المبنيّ للمفعول؛ أي: أُسقطت حين خرجت إلى البرّ من البحر، وفي رواية الليث:"فلما انصرفوا من غزوهم قافلين إلى الشام قُرِّبت إليها دابة لتركبها، فصُرعت، فماتت"، وفي رواية حماد بن زيد عند أحمد:"فوقصتها بغلة لها شهباء، فوقعت، فماتت"، وفي رواية عند البخاريّ:"فوقعت، فاندقت عنقها". (عَنْ دَابَّتِهَا) ظاهره أنها سقطت عن ظهر الدابّة، ولا

(1)

بضمّ القاف، وسكون الموحّدة، وضمّ الراء، آخره سين مهملة: جزيرة عظيمة للروم، بها تُوفّيت أم حرام بنت مِلْحان رضي الله عنها، أفاده في "القاموس".

(2)

"الفتح" 14/ 245 - 246، كتاب "الاستئذان" رقم (6282).

ص: 675

يعارض هذا رواية: "فقُرّبت إليها دابّتها، فصرعتها، فماتت" الدالّة على أن صَرْعها قبل ركوبها؛ لأنه يُحمل على أن المعنى: فقُرّبت إليها دابّتها لتركبها، فركبت، فصُرعت، كما هو صريح الرواية التالية بلفظ:"فلما أن جاءت قُرّبت لها بغلةٌ، فركبتها، فصَرَعتها، فاندقّ عنقها".

ويَحْتَمِلُ أن يكون معنى فركبتها": فشرعت في ركوبها، فسقطت، فماتت.

والحاصل أن البغلة الشهباء قُرِّبت إليها لتركبها، فشَرَعت لتركب، فسقطت فاندقت عنقها، فماتت، والله تعالى أعلم.

(حِينَ خَرَجَتْ مِنَ الْبَحْرِ، فَهَلَكَتْ) قال في "الفتح": ظاهر رواية الليث أن وَقْعَتها كانت بساحل الشام لَمّا خَرجت من البحر بعد رجوعهم من غَزاة قُبرس.

لكن أخرج ابن أبي عاصم في "كتاب الجهاد" قصة أم حرام، وفيه:"وعبادة نازل بساحل حمص"، قال هشام بن عمار: رأيت قبرها بساحل حمص، وجَزَم جماعة بأن قبرها بجزيرة قُبرس، فقال ابن حبان بعد أن أخرج الحديث من طريق الليث بن سعد بسنده:"قبر أم حرام بجزيرة في بحر الروم، يقال لها: قُبرس، بين بلاد المسلمين وبينها ثلاثة أيام".

وجزم ابن عبد البرّ بأنها حين خرجت من البحر إلى جزيرة قُبرس قُرِّبت إليها دابّتها، فصَرعتها.

وأخرج الطبريّ من طريق الواقديّ أن معاوية صالَحهم بعد فَتْحها على سبعة آلاف دينار في كل سنة، فلما أرادوا الخروج منها قُرِّبت لأم حرام دابة لتركبها، فسقطت، فماتت، فقَبْرُها هناك، يستسقون به، ويقولون: قبر المرأة الصالحة.

قال الجامع عفا الله عنه: الاستسقاء عند القبر من البدع المحدثة، وليس لها أصل في الشرع، وهذا مما يُتأسّف له، حتى إن أهل العلم من الشرّاح - كالحافظ وغيره - لا يتعرّضون لإنكاره، فإنا لله، وإنا إليه راجعون، هكذا موت السنّة، وظهور البدعة حين يسكت أهل العلم، ولا يتكلّمون ببيانه للناس، فلا حول، ولا قوّة إلا بالله العليّ العظيم.

ص: 676

قال

(1)

: فعلى هذا فلعل مراد هشام بن عمار بقوله: "رأيت قبرها بالساحل"؛ أي: ساحل جزيرة قُبرس، فكأنه توجه إلى قُبرس لمّا غزاها الرشيد في خلافته.

ويُجمع بأنهم لمّا وصلوا إلى الجزيرة بادرت المقاتِلة، وتأخرت الضعفاء؛ كالنساء، فلما غلب المسلمون وصالَحوهم، طلعت أم حرام من السفينة، قاصدةً البلد؛ لتراها، وتعود راجعة للشام، فوقعت حينئذ، ويُحمل قول حماد بن زيد في روايته:"فلما رجعت"، وقول أبي طُوالة:"فلما قَفَلت"؛ أي: أرادت الرجوع، وكذا قول الليث في روايته:"فلما انصرفوا من غزوهم قافلين"؛ أي: أرادوا الانصراف.

قال الحافظ: ثم وقفت على شيء يزول به الإشكال من أصله

(2)

، وهو ما أخرجه عبد الرزاق، عن معمر، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، أن امرأة حدّثته: قالت: "نام رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم استيقظ، وهو يضحك، فقلت: تضحك مني يا رسول الله، قال: لا، ولكن من قوم من أمتي يخرجون غُزاة في البحر، مثلهم كمثل الملوك على الأسرة، ثم نام، ثم استيقظ، فقال مثل ذلك سواءً"، لكن قال:"فيرجعون قليلة غنائمهم، مغفورًا لهم، قالت: فادع الله أن يجعلني منهم، فدعا لها"، قال عطاء:"فرأيتها في غزاة غزاها المنذر بن الزبير إلى أرض الروم، فماتت بأرض الروم"، وهذا إسناد على شرط الصحيح.

وقد أخرج أبو داود من طريق هشام بن يوسف، عن معمر، فقال في روايته:"عن عطاء بن يسار، عن الرُّميصاء، أخت أم سليم"، وأخرجه ابن وهب، عن حفص بن ميسرة، عن زيد بن أسلم، فقال في روايته:"عن أم حرام"، وكذا قال زهير بن عباد، عن زيد بن أسلم.

(1)

الكلام موصول لصاحب "الفتح"، فتنبّه.

(2)

قال الجامع عفا الله عنه: لم يأت الحافظ فيما يأتي تحقيقه بما يزول به الإشكال، بل زاد الطين بلّة، فقد أتى آخر تحقيقه بأن القصة لامرأتين، لا لامرأة واحدة، فلم يَزُل الإشكال بهذا، فتأمله بالإنصاف، والذي يظهر أن الإشكال في قصّة أم حرام قد زال بما ذُكر من الجَمع، ولله الحمد والمنّة.

ص: 677

قال الحافظ: والذي يظهر لي أن قول من قال في حديث عطاء بن يسار هذا: "عن أم حرام" وَهَمٌ، وإنما هي الرُّميصاء، وليست أم سليم، وإن كانت يقال لها أيضًا: الرميصاء كما ثبت حديث جابر رضي الله عنه عند البخاريّ في "المناقب"؛ لأن أم سليم لم تَمُت بأرض الروم، ولعلها أختها أم عبد الله بن ملحان، فقد ذكرها ابن سعد في الصحابيات، وقال: إنها أسلمت، وبايعت، ولم أقف على شيء من خَبَرها إلا ما ذكر ابن سعد، فيَحْتَمِل أن تكون هي صاحبة القصة التي ذكرها عطاء بن يسار، وتكون تأخرت حتى أدركها عطاء، وقصتها مغايرة لقصة أم حرام من أوجه:

الأول: أن في حديث أم حرام أنه صلى الله عليه وسلم لمّا نام كانت تفلي رأسه، وفي حديث الأخرى: أنها كانت تغسل رأسها، كما تقدّم ذِكره من رواية أبي داود.

الثاني: ظاهر رواية أم حرام أن الفرقة الثانية تغزو في البرّ، وظاهر رواية الأخرى: أنها تغزو في البحر.

الثالث: أن في رواية أم حرام أنها من أهل الفرقة الأولى، وفي رواية الأخرى أنها من أهل الفرقة الثانية.

الرابع: أن في حديث أم حرام أن أمير الغزوة كان معاوية، وفي رواية الأخرى أن أميرها كان المنذر بن الزبير.

الخامس: أن عطاء بن يسار ذكر أنها حدثته، وهو يَصْغُر عن إدراك أم حرام، وعن أن يغزو في سنة ثمان وعشرين، بل وفي سنة ثلاث وثلاثين؛ لأن مولده على ما جَزم به عمرو بن عليّ وغيره كان في سنة تسع عشرة، وعلى هذا فقد تعددت القصة لأم حرام، ولأختها أم عبد الله، فلعل إحداهما دُفنت بساحل قُبرس، والأخرى بساحل حمص، ولم أر من حرّر ذلك - ولله الحمد على جزيل نعمه - انتهى.

[تنبيه]: قال صاحب "التكملة": الغزوة الثانية التي أخبر بها النبيّ صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث جمهورُ الشرّاح على أنها غزوة القسطنطينيّة الأولى، وذكر أكثر المؤرّخين أنها كانت في إمارة يزيد بن معاية، وشهدها جَمْع من الصحابة، منهم أبو أيوب الأنصاريّ، وابن عبّاس، وابن عمر، وابن الزبير رضي الله عنهم، بل ذكر

ص: 678

ابن كثير في "تاريخه"

(1)

أن الحسين بن عليّ رضي الله عنهما كان معه في تلك الغزوة، فاستَدَلّ به المهلّب على منقبة يزيد بن معاوية، لأنه كان أميرًا لأول جيش على مدينة قيصر، وقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم أنهم مغفور لهم، وردّه كثير من العلماء بوجوه:

الأول: أن الروايات مختلفة في تعيين أول جيش غزا القسطنطينيّة؛ لأن غزوها وقع في عهد معاوية رضي الله عنه عدّة مرّات، ولا شكّ أن يزيد بن معاوية كان أميرًا في بعضها، ولا يلزم منه أن يكون أميرًا لأول جيش، وقد ذكر العينيّ في "العمدة"

(2)

أن معاوية رضي الله عنه سيّر جيشًا مع سفيان بن عوف إلى القسطنطينيّة، فأوغلوا في بلاد الروم، وكان في ذلك الجيش ابن عبّاس، وابن عمر، وابن الزبير، وأبو أيوب الأنصاريّ.

والثاني: الذي يظهر من بعض الروايات أن معاوية أرسل سفيان بن عوف، ثم أتبعه بابنه يزيد، وذكره التغري بردي في "النجوم الزاهرة"

(3)

. قال: أما غزوة القسطنطينيّة. . . فأرسل إليها معاوية جيشًا كثيفًا، وأمّر عليهم سفيان بن عوف، وأمر ابنه يزيد بالغَزَاة معهم، فتثاقل يزيد، واعتذر، فأمسك عنه أبوه، فأصاب الناس في غزاتهم جوعٌ، ومرض شديد، فأنشد يزيد يقول:

مَا إِنْ أُبَالِي بِمَا لَاقَتْ جُمُوعُهُمُ

بِالْغَدْ قَذُونَةٍ مِنْ حُمَّى وَمِنْ مُومِ

إِذا اتَّكَأْتُ عَلَى الأَنْمَاطِ مُرْتَفِقًا

بِدَيْرِ مُزَّانَ عِنْدِي أُمُّ كُلْثُومِ

وأمّ كلثوم امرأته، فبلغ معاوية شِعْره، فأقسم عليه ليلحقنّ بسفيان بأرض الروم ليصيبه ما أصاب الناس، فسار، ومعه جمع كبير، وكان في هذا الجيش ابن عبّاس، وابن عمر، وابن عمرو، وابن الزبير، وأبو أيوب الأنصاريّ، وذكره ابن الأثير في "الكامل"

(4)

، وابن خلدون في "تاريخه"

(5)

.

وهذه الرواية إن صحّت تدلّ على أن أول من سار إلى القسطنطينيّة

(1)

راجع: "البداية والنهاية" 8/ 151.

(2)

راجع: "عمدة القاري" 6/ 649.

(3)

"النجوم الزاهرة" 1/ 134.

(4)

"الكامل" 3/ 181.

(5)

3/ 10.

ص: 679

سفيان بن عوف، ثم تبعه يزيد بن معاوية، فيقال: إن الأوليّة لم تثبت ليزيد، وإنما هي لسفيان بن عوف، ومن معه.

والثالث: ما ذكره الحافظ في "الفتح" عن ابن التين، وابن الْمُنَيِّر أنه لا يلزم من دخوله في ذلك العموم أن لا يخرج بدليل خاصّ؛ إذ لا يختلف أهل العلم أن قوله صلى الله عليه وسلم:"مغفور لهم" مشروط بأن يكونوا من أهل المغفرة، حتى لو ارتدّ واحد ممن غزاها بعد ذلك لم يدخل في ذلك العموم اتّفاقًا، فدلّ على أن المراد مغفور لمن وُجد شَرْط المغفرة فيه منهم.

قال صاحب "التكملة": إن الروايات، وإن اختلفت في تعيين أول جيش غزا القسطنطينيّة، وفيها مجال الاحتمالات، ولكن معظمها تدلّ على أن أول جيش غزاها كان تحت إمارة يزيد، وهو مؤيّد بروايات في "مسند أحمد"

(1)

، و"طبقات ابن سعد"

(2)

، و"البداية والنهاية"

(3)

، وكثير من التواريخ، ولكن أعدل الأقوال في دخول يزيد تحت هذه المغفرة ما ذكره الشيخ وليّ الله الدهلويّ رحمه الله في "شرح تراجم البخاريّ"

(4)

وإليك نصّه: قوله: "مغفور لهم" تمسّك بعض الناس بهذا الحديث في نجاة يزيد؛ لأنه كان من جملة هذا الجيش الثاني، بل كان رأسهم ورئيسهم على ما يشهد به التواريخ، والصحيح أنه لا يثبت بهذا الحديث إلا كونه مغفورًا له ما تقدّم من ذنبه على هذه الغزوة؛ لأن الجهاد من الكفّارات، وشأن الكفّارات إزالة آثار الذنوب السابقة عليها، لا الواقعة بعدها، نعم لو كان مع هذا الكلام أنه مغفور له إلى يوم القيامة يدلّ على نجاته، وإذ ليس فليس، بل أمره مفوّضٌ إلى الله تعالى فيما ارتكبه من القبائح بعد هذه الغزوة.

وأما مَنْ طَعَن في حديث عُمير بن الأسود بسبب جهالته، فإنه أبعد النُّجْعة، وتوغّل في الأمر، فإن الحديث في "صحيح البخاريّ"، وقد اتّفق على صحّته، لم يطعنه أحد من جهابذة المحدّثين، {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا} الآية [المائدة: 8]، ولقد صدق الله تعالى: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا

(1)

"المسند" 5/ 423.

(2)

"الطبقات" لابن سعد 3/ 485.

(3)

"البداية والنهاية" لابن كثير 8/ 59.

(4)

ص 31.

ص: 680

كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (134)} [البقرة: 134]. انتهى ما كتبه صاحب "التكملة" رحمه الله

(1)

، وهو بحث نفيسٌ، خلاصته أنه ينبغي لمن هو حريص على دينه أن يفوّض أمر يزيد بن معاوية إلى الله تعالى، ولا يجزم له بشيء من المغفرة، ولا من العذاب؛ والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أنس بن مالك رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [49/ 4926 و 4927 و 4928 و 4929](1912)، و (البخاريّ) في "الجهاد"(2788 و 2799 و 2877 و 2894) و"الاستئذان"(6282) و"التعبير"(7001)، و (أبو داود) في "الجهاد"(4490 و 2491)، و (النسائيّ) في "الجهاد"(6/ 40 - 41) و"الكبرى"(3/ 27)، و (الترمذيّ) في "فضائل الجهاد"(1645)، و (ابن ماجه) في "الجهاد"(2776)، و (مالك) في "الموطّأ"(2/ 464 - 465)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 361)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4608)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(25/ 321)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 494)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(6/ 350)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(9/ 165 - 166)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(3730)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): الترغيب في الجهاد، والحضّ عليه، وبيان فضيلة المجاهد.

2 -

(ومنها): جواز ركوب البحر المالح للغزو، وسيأتي بيان الاختلاف فيه في المسألة الخامسة - إن شاء الله تعالى -.

3 -

(ومنها): مشروعية القائلة؛ لِمَا فيها من الإعانة على قيام الليل.

4 -

(ومنها): جواز إخراج ما يؤذي البَدَن من قمل ونحوه عنه.

(1)

راجع: "تكملة فتح الملهم" 3/ 456 - 458.

ص: 681

5 -

(ومنها): مشروعية الجهاد مع كل إمام؛ لتضمّنه الثناء على من غزا مدينة قيصر، وكان أمير تلك الغزوة يزيد بن معاوية، ويزيدُ يزيدُ.

6 -

(ومنها): ثبوت فضل الغازي إذا صلحت نيته، وقال بعض الشراح: فيه فضل المجاهدين إلى يوم القيامة؛ لقوله فيه: "ولستِ من الآخِرين"، ولا نهاية للآخرين إلى يوم القيامة.

قال الحافظ: والذي يظهر أن المراد بالآخرين في الحديث: الفرقة الثانية، نعم يؤخذ منه فضل المجاهدين في الجملة، لا خصوص الفضل الوارد في حق المذكورين.

7 -

(ومنها): أن فيه ضُروبًا من إخبار النبيّ صلى الله عليه وسلم بما سيقع، فوقع كما قال، وذلك معدود من علامات نبوّته، منها: إعلامه ببقاء أمته بعده، وأن فيهم أصحاب قوّة وشوكة، ونكاية في العدوّ، وأنهم يتمكنون من البلاد حتى يغزوا البحر، وأن أمّ حرام تعيش إلى ذلك الزمان، وأنها تكون مع من يغزو البحر، وأنها لا تُدرك زمان الغزوة الثانية.

8 -

(ومنها): فيه جواز الفرح بما يَحدُث من النعم، والضحك عند حصول السرور؛ لضحكه صلى الله عليه وسلم إعجابًا بما رأى من امتثال أمته أمره لهم بجهاد العدوّ، وما أثابهم الله تعالى على ذلك، وما ورد في بعض طرقه بلفظ التعجب محمول على ذلك.

9 -

(ومنها): جواز قائلة الضيف في غير بيته بشرطه؛ كالإذن، وأَمْن الفتنة، وليس هناك أيّ ضرر.

10 -

(ومنها): جواز خدمة المرأة الأجنبية للضيف، بإطعامه، والتمهيد له، ونحو ذلك، إذا خلا من الموانع الشرعيّة؛ كالخلوة، ونحوها.

11 -

(ومنها): إباحة ما قدمته المرأة للضيف من مال زوجها؛ لأن الأغلب أن الذي في بيت المرأة هو من مال الرجل، كذا قال ابن بطال.

12 -

(ومنها): أن الوكيل، أو المؤتمَن إذا عَلِم أنه يَسُرّ صاحبه ما يفعله من ذلك جاز له فعله، ولا شك أن عبادة رضي الله عنه كان يسرّه أكل رسول الله صلى الله عليه وسلم مما قدمته له امرأته، ولو كان بغير إذن خاصّ منه، قال ابن بطّال أيضًا.

وتعقبه القرطبي بأن عبادة حينئذ لم يكن زوجها، كما تقدم.

ص: 682

قال الحافظ: لكن ليس في الحديث ما ينفي أنها كانت حينئذ ذات زوج، إلا أن في كلام ابن سعد ما يقتضي أنها كانت حينئذ عَزَبًا.

13 -

(ومنها): أن فيه خدمة المرأة الضيف بتفلية رأسه، إذا كان ممن يحلّ لها مسّه، وسيأتي استشكال العلماء دخوله صلى الله عليه وسلم على أم حرام رضي الله عنها في المسألة التالية - إن شاء الله تعالى -.

(المسألة الرابعة): استشكل جماعة من أهل العلم دخول النبيّ صلى الله عليه وسلم على أمّ حرام رضي الله عنها:

فقال الحافظ ابن عبد البرّ رحمه الله: أظن أن أم حرام أرضعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو أختها أم سُليم، فصارت كل منهما أمه، أو خالته من الرضاعة، فلذلك كان ينام عندها، وتنال منه ما يجوز للمَحْرم أن يناله من محارمه، ثم ساق بسنده إلى يحيى بن إبراهيم بن مزين قال: إنما استجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تفلي أم حرام رأسه؛ لأنها كانت منه ذات مَحْرَم من قِبَل خالاته؛ لأن أم عبد المطلب جدّه كانت من بني النجار.

ومن طريق يونس بن عبد الأعلى قال: قال لنا ابن وهب: أم حرام إحدى خالات النبيّ صلى الله عليه وسلم من الرضاعة، فلذلك كان يَقيل عندها، وينام في حجرها، وتَفلي رأسه، قال ابن عبد البرّ: وأيهما كان فهي مَحْرم له.

وجزم أبو القاسم ابن الجوهريّ، والداوديّ، والمهلّب فيما حكاه ابن بطال عنه بما قال ابن وهب، قال: وقال غيره: إنما كانت خالة لأبيه، أو جدّه عبد المطلب.

وقال ابن الجوزيّ: سمعت بعض الحفاظ يقول: كانت أم سليم أخت آمنة بنت وهب أم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرضاعة.

وحَكَى ابن العربيّ ما قال ابن وهب، ثم قال: وقال غيره: بل كان النبيّ صلى الله عليه وسلم معصومًا يملك إرْبه عن زوجته، فكيف عن غيرها مما هو المنزه عنه، وهو المبرأ عن كل فعل قبيح، وقول رفث، فيكون ذلك من خصائصه صلى الله عليه وسلم.

ثم قال: ويَحْتَمِل أن يكون ذلك قبل الحجاب.

ورُدّ بأن ذلك كان بعد الحجاب جزمًا.

ص: 683

قال الحافظ: وقد قدَّمت في أول الكلام على شرحه أن ذلك كان بعد حجة الوداع.

ورَدّ عياض الأولَ بأن الخصائص لا تثبت بالاحتمال، وثبوت العصمة مسلَّم، لكن الأصل عدم الخصوصية، وجواز الاقتداء به صلى الله عليه وسلم في أفعاله حتى يقوم على الخصوصية دليل.

وبالغ الدمياطيّ في الردّ على من ادَّعى المَحْرَمية، فقال: ذَهِلَ كلُّ من زعم أن أم حرام إحدى خالات النبيّ صلى الله عليه وسلم من الرضاعة، أو من النسب، وكل من أثبت لها خؤولةً تقتضي مَحْرَمية؛ لأن أمهاته صلى الله عليه وسلم من النسب، واللاتي أرضعنه معلومات، ليس فيهنّ أحد من الأنصار البتةَ، سوى أم عبد المطلب، وهي سَلْمَى بنت عمرو بن زيد بن لبيد بن خِرَاش بن عامر بن غَنْم بن عَديّ بن النجّار، وأم حرام هي بنت ملحان بن خالد بن زيد بن حرام بن جندب بن عامر المذكور، فلا تجتمع أم حرام وسلمى إلا في عامر بن غنم جدّهما الأعلى، وهذه خؤولة لا تثبت بها محرمية؛ لأنها خؤولة مجازية، وهي كقوله صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقّاص:"هذا خالي"؛ لكونه من بني زُهْرة، وهم أقارب أمه آمنة، وليس سعد أخًا لآمنة، لا من النسب، ولا من الرضاعة.

ثم قال: وإذا تقرر هذا فقد ثبت في "الصحيح" أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يدخل على أحد من النساء إلا على أزواجه، إلا على أم سليم، فقيل له؟، فقال:"أرحمها، قُتل أخوها معي"؛ يعني: حرام بن ملحان، وكان قد قُتل يوم بئر معونة.

وجمع الحافظ بين ما أفهمه هذا الحصر، وبين ما دلّ عليه حديث الباب في أم حرام بما حاصله أنهما أختان كانتا في دار واحدة، كلّ واحدة منهما في بيت من تلك الدار، وحرام بن ملحان أخوهما معًا، فالعلة مشتركة فيهما، وإن ثبت قصة أم عبد الله بنت ملحان التي تقدّمت قريبًا فالقول فيها كالقول في أم حرام، وقد انضاف إلى العلة المذكورة كون أنس خادم النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقد جرت العادة بمخالطة المخدوم خادمه، وأهل خادمه، ورفع الْحِشْمة

(1)

التي تقع بين

(1)

بكسر، فسكون: اسم من الاحتشام، وهو الاستحياء.

ص: 684

الأجانب عنهم، ثم قال الدمياطيّ: على أنه ليس في الحديث ما يدلّ على الخلوة بأم حرام، ولعل ذلك كان مع ولد، أو خادم، أو زوج، أو تابع.

قال الحافظ: وهو احتمال قويّ، لكنه لا يدفع الإشكال من أصله؛ لبقاء الملامسة في تفلية الرأس، وكذا النوم في الْحِجْر، وأحسن الأجوبة دعوى الخصوصية، ولا يردّها كونها لا تثبت إلا بدليل؛ لأن الدليل على ذلك واضح، والله أعلم. انتهى كلام الحافظ رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي قاله الحافظ رحمه الله حسنُ جدًّا.

وحاصله أنه لا مخرج من هذا الإشكال إلا بدعوى الخصوصيّة، ومما يُثبتها هنا الأدلّة الكثيرة في تحريم النظر إلى الأجنبيّة، وملامستها، والخلوة بها، فاتّضح بذلك أنه صلى الله عليه وسلم لِعِصْمَته جاز له أن تَفْلي أم حرام رأسه، وينام في حَجْرها، دون غيره من أمته، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): في اختلاف أهل العلم في جواز ركوب البحر:

(اعلم): أنه اختلف السلف في ذلك، فجوّزه الجمهور.

أخرج ابن أبي حاتم، من طريق عبد الله بن شَوْذَب، عن مطر الورّاق، أنه كان لا يرى بركوب البحر بأسًا، ويقول: ما ذكره الله تعالى في القرآن إلا بحقّ، ثم تلا:{وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} الآية [النحل: 14].

ومنعت منه طائفة، واحتجّوا بحديث زهير بن عبد الله يرفعه:"من ركب البحر إذا ارتجّ، فقد برئت منه الذّمّة"، وفي رواية:"فلا يلومنّ إلا نفسه"، أخرجه أبو عبيد في "غريب الحديث"، لكن زهير مختلف في صحبته، وقد أخرج البخاريّ حديثه في "تاريخه"، فقال: عن زهير، عن رجل من الصحابة. وإسناده حسن.

وفيه أيضًا تقييد المنع بالارتجاج، ومفهومه: الجواز عند عدمه، وهو المشهور من أقوال العلماء، فإذا غلبت السلامة فالبَرّ والبحر سواء.

(1)

"الفتح" 14/ 247 - 250، كتاب "الاستئذان" رقم (6284).

ص: 685

ومنهم من فرّق بين الرجل والمرأة، وهو عن مالك، فمَنَعه للمرأة مطلقًا، وحديث الباب حجة للجمهور، وقد تقدّم قريبًا أن أول من ركبه للغزو معاوية بن أبي سفيان في خلافة عثمان رضي الله عنهما، وذكر مالك أن عمر رضي الله عنه كان يمنع الناس من ركوب البحر، حتى كان عثمان، فما زال معاوية يستأذنه حتى أَذِن له، أفاده في "الفتح".

وذكر في موضع آخر بعد أن ذكر نحو هذا ما نصّه: قال أبو بكر ابن العربيّ: ثم مَنَع منه عمر بن عبد العزيز، ثم أَذِن فيه مَن بَعْدَه، واستقرّ الأمر عليه، ونُقل عن عمر أنه إنما منع من ركوبه لغير الحجّ والعمرة، ونحو ذلك، ونقل ابن عبد البرّ أنه يَحرم ركوبه عند ارتجاجه اتفاقًا، وكره مالك ركوب النساء مطلقًا البحر لِمَا يُخشى من اطلاعهنّ على عورات الرجال فيه، إذ يتعسّر الاحتراز من ذلك، وخصّ أصحابُهُ ذلك بالسفن الصغار، وأما الكبار التي يمكنهنّ فيهنّ الاستتار بأماكن تخصهّنّ، فلا حرج فيه. انتهى.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: تبيّن مما تقدّم أن الأرجح قول الجمهور، وهو جواز ركوب البحر للرجال والنساء، إذا غلب على الظنّ السلامة فيه؛ لظاهر حديث الباب، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4927]

(. . .) - (حَدَّثَنَا خَلَفُ بْنُ هِشَامٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حَبَّانَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أُمِّ حَرَامٍ، وَهْيَ خَالَةُ أَنَسٍ، قَالَتْ: أَتَانَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَوْمًا، فَقَالَ عِنْدَنَا

(1)

، فَاسْتَيْقَظَ، وَهُوَ يَضْحَكُ، فَقُلْتُ: مَا يُضْحِكُكَ يَا رَسُولَ اللهِ بأَبِي أنتَ وَأُمِّي؟ قَالَ: "أُرِيتُ قَوْمًا مِنْ أُمَّتِي يَرْكَبُونَ ظَهْرَ الْبَحْرِ؛ كالمُلُوكِ عَلَى الأَسِرَّةِ"، فَقُلْتُ: ادْعُ اللهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ، قَالَ:"فَإنَّكِ مِنْهُمْ"، قَالَتْ: ثُمَّ نَامَ، فَاسْتَيْقَظَ

(2)

أَيْضًا، وَهُوَ يَضْحَكُ، فَسَأَلْتُهُ، فَقَالَ مِثْلَ مَقَالَتِهِ، فَقُلْتُ: ادْعُ اللهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ، قَالَ:"أَنْتِ مِنَ الأَوَّلِينَ"، قَالَ: فَتَزَوَّجَهَا عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ بَعْدُ، فَغَزَا فِي الْبَحْرِ، فَحَمَلَهَا مَعَهُ، فَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ قُرِّبَتْ لَهَا بَغْلَةٌ، فَرَكِبَتْهَا، فَصَرَعَتْهَا، فَانْدَقَّتْ عُنُقُهَا).

(1)

وفي نسخة: "فنام عندنا".

(2)

وفي نسخة: "واستيقظ".

ص: 686

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(خَلَفُ بْنُ هِشَامِ) بن ثعلبة البزّار المقرئ البغداديّ، ثقةٌ، له اختيارات في القراءة [10](ت 229)(م د) تقدّم في "الإيمان" 6/ 124.

2 -

(حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ) تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

3 -

(يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ) الأنصاريّ، تقدّم أيضًا قبل ثلاثة أبواب.

4 -

(مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ حَبَّانَ) بن منقذ الأنصاريّ المدنيّ، ثقةٌ فقيهٌ [4](ت 121) وهو ابن (74) سنةً (ع) تقدّم في "الإيمان" 10/ 150.

و"أنس بن مالك رضي الله عنه" ذُكر قبله.

وقوله: (فَقَالَ عِنْدَنَا) وفي بعض النسخ: "فنام"، و"قال" من القيلولة، يقال: قال يقيل قَيْلًا، وقَيْلُولةً: نام نصف النهار، والقائلة: وقت القَيلولة، وقد تُطلق على القيلولة، قاله الفيّومي

(1)

.

وقوله: (فَاسْتَيْقَظَ، وَهُوَ يَضْحَكُ) قال النوويّ رحمه الله: هذا الضحك فرحًا وسرورًا بكون أمته تبقى بعده متظاهرةً بأمور الإسلام، قائمةً بالجهاد حتى في البحر. انتهى

(2)

.

وقولها: (بأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي)؛ أي: أفديك بهما، أو أنت مفديّ بهما.

وقوله: (يَرْكَبُونَ ظَهْرَ الْبَحْرِ) هو بمعنى ما سبق في الرواية الأولى بلفظ: "ثَبَج هذا البحر".

وقوله: (كَالْمُلُوكِ عَلَى الأَسِرَّةِ) قال النوويّ رحمه الله: قيل: هو صفة لهم في الآخرة إذا دخلوا الجنة، والأصح أنه صفة لهم في الدنيا؛ أي: يركبون مراكب الملوك؛ لِسَعة حالهم، واستقامة أمرهم، وكثرة عددهم. انتهى

(3)

.

قال الجامع عفا الله عنه: تقدّم أن الحافظ ردّ تصحيح النوويّ هذا، واستبعده، وقد رجّحت هناك تصحيح النوويّ رحمه الله، فلا تنس نصيبك منه، وبالله تعالى التوفيق.

وقوله: (أَنْتِ مِنَ الأَوَّلِينَ) قال النوويّ رحمه الله: هذا دليل على أن رؤياه

(1)

"المصباح المنير" 2/ 521.

(2)

"شرح النوويّ" 13/ 58.

(3)

"شرح النوويّ" 13/ 58.

ص: 687

الثانية غير الأولى، وأنه عُرض فيها غير الأوّلين، وفيه معجزات للنبيّ صلى الله عليه وسلم.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى البحث فيه مستوفًى في الحديث الماضي، ولله الحمد والمنّة، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4928]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحِ بْنِ الْمُهَاجِرِ، وَيَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَا: أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنِ ابْنِ حَبَّانَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ خَالَتِهِ أُمِّ حَرَامٍ بِنْتِ مِلْحَانَ، أَنَّهَا قَالَتْ: نَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمًا قَرِيبًا مِنِّي، ثُمَّ اسْتَيْقَظَ يَتَبَسَّمُ، قَالَتْ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ مَا أَضْحَكَكَ؟ قَالَ: "نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي عُرِضُوا عَلَيَّ يَرْكَبُونَ ظَهْرَ هَذَا الْبَحْرِ الأَخْضَرِ"، ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ).

رجال هذا الإسناد: ستّة:

وكلّهم تقدّموا في الباب، وقبل ثلاثة أبواب.

وقوله: (وَحَدَّثَنَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحِ بْنِ الْمُهَاجِرِ، وَيَحْيَى بْنُ يَحْيَى. . . إلخ) قال الحافظ الجيّانيّ رحمه الله بعد أن أورد رواية المصنّف هذه ما نصّه: هكذا روى مسلم هذا الحديث عن محمد بن رُمْح وحده، عن الليث، وفي نسخة أبي العبّاس الرازيّ: حدّثنا محمد بن رُمْح، ويحيى بن يحيى، قالا: حدّثنا الليث، وسقط ذِكر يحيى بن يحيى من الإسناد لابن ماهان، وللسجزيّ، عن أبي أحمد. انتهى

(1)

.

وقال القاضي عياض رحمه الله: ثبت عندنا من رواية السجزيّ والعُذريّ عن الرازيّ، وسقط من رواية السمرقنديّ وغيره. انتهى

(2)

.

وقال النوويّ رحمه الله: قوله: "وحدّثناه محمد بن رُمح بن المهاجر، أخبرنا الليث، عن يحيى بن سعيد" هكذا هو في نُسخ بلادنا، ونقل القاضي عن بعض

(1)

"تقييد المهمل" 3/ 889.

(2)

"إكمال المعلم" 6/ 341.

ص: 688

نُسخهم: حدّثنا محمد بن رُمح، ويحيى بن يحيى، أخبرنا الليث، فزاد يحيى بن يحيى مع محمد بن رُمْح. انتهى

(1)

.

والحاصل أنه اختلفت النُّسخ في هذا الحديث، هل هو مما رواه مسلم عن شيخه محمد بن رُمح، أو عنه وعن يحيى بن يحيى معًا؟ ولكن مثل هذا الاختلاف لا يضرّ، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

وقوله: (ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ حمّادِ بْنِ زَيْدٍ) فاعلُ ذَكَر ضميرُ الليث بن سعد.

[تنبيه]: رواية الليث بن سعد، عن يحيى بن سعيد الأنصاريّ هذه ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:

(2646)

- حدّثنا عبد الله بن يوسف، قال: حدّثني الليث، حدّثنا يحيى، عن محمد بن يحيى بن حبان، عن أنس بن مالك، عن خالته أم حرام بنت مِلْحان، قالت: نام النبيّ صلى الله عليه وسلم يومًا قريبًا مني، ثم استيقظ يتبسم، فقلت: ما أضحكك؟ قال: "أناس من أمتي عُرِضوا عليّ، يركبون هذا البحر الأخضر؛ كالملوك على الأسرّة، قالت: فادع الله أن يجعلني منهم، فدعا لها، ثم نام الثانية، ففعل مثلها، فقالت مثل قولها، فأجابها مثلها، فقالت: ادع الله أن يجعلني منهم، فقال: "أنت من الأوّلين"، فخرجت مع زوجها عبادة بن الصامت غازيًا أوّلَ ما ركب المسلمون البحر مع معاوية، فلما انصرفوا من غزوهم قافلين، فنزلوا الشام، فقُرِّبت إليها دابة لتركبها، فصرعتها، فماتت. انتهى

(2)

.

وساقها أيضًا ابن ماجه رحمه الله في "سننه" بسند المصنّف، فقال:

(2776)

- حدّثنا محمد بن رُمْح، أنبأنا الليث، عن يحيى بن سعيد، عن ابن حَبّان - هو: محمد بن يحيى بن حَبّان - عن أنس بن مالك، عن خالته أم حرام بنت مِلْحان، أنها قالت:"نام رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا قريبًا مني، ثم استيقظ يبتسم. . ." الحديث.

(1)

"شرح النوويّ" 13/ 60 - 61.

(2)

"صحيح البخاريّ" 3/ 1030.

ص: 689

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4929]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، وَقُتَيْبَةُ، وَابْنُ حُجْرٍ، قَالُوا: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ - وَهُوَ ابْنُ جَعْفَرٍ - عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: أَتَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ابْنَةَ مِلْحَانَ خَالَةَ أنسٍ، فَوَضَعَ رَأْسَهُ عِنْدَهَا. وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِمَعْنَى حَدِيثِ إِسْحَاقَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، وَمُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حَبَّانَ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ) المقابريّ البغداديّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(قُتَيْبَةُ) بن سعيد، تقدّم أيضًا.

3 -

(ابْنُ حُجْرٍ) هو: عليّ بن حُجر السعديّ المروزيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

4 -

(إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ) بن أبي كثير الأنصاريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

5 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بن معمر بن حزم الأنصاريّ، أبو طُوالة - بضمّ الطاء المهملة - المدنيّ قاضي المدينة لعمر بن عبد العزيز، ثقةٌ [5](134) أو بعد ذلك (ع) تقدّم في "الصيام" 13/ 2593.

و"أنس بن مالك" ذُكر قبله.

وقوله: (وَسَاقَ الْحَدِيثَ. . . إلخ) فاعل "ساق" ضمير عبد الله بن عبد الرحمن، أبي طوالة.

[تنبيه]: رواية عبد الله بن عبد الرحمن، عن أنس رضي الله عنه هذه ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:

(2722)

- حدّثنا عبد الله بن محمد، حدّثنا معاوية بن عمرو، حدّثنا أبو إسحاق

(1)

، عن عبد الله بن عبد الرحمن الأنصاريّ، قال: سمعت أنسًا رضي الله عنه يقول: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على ابنة مِلحان، فاتّكأ عندها، ثم ضحك، فقالت: لم تضحك يا رسول الله؟ فقال: "ناس من أمتي يركبون البحر الأخضر، في سبيل الله، مَثَلهم مَثَل الملوك على الأسرّة"، فقالت: يا رسول الله

(1)

هو: الفزاريّ، إبراهيم بن محمد بن الحارث بن أسماء بن خارجة.

ص: 690

ادع الله أن يجعلني منهم، قال:"اللهم اجعلها منهم"، ثم عاد، فضحك، فقالت له مِثْلَ - أو مِمَّ - ذلك؟ فقال لها مثل ذلك، فقالت: ادع الله أن يجعلني منهم، قال:"أنت من الأولين، ولست من الآخرين"، قال: قال أنس: فتزوجت عبادة بن الصامت، فركبت البحر مع بنت قَرَظَة، فلمّا قَفَلت ركبت دابتها، فوقصت بها، فسقطت عنها، فماتت. انتهى

(1)

.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}

(50) - (بَابُ فَضْلِ الرِّبَاطِ فِي سَبِيلِ اللهِ عز وجل

-)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4930]

(1913) - (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ بَهْرَامَ الدَّارِمِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ الطَّيَالِسِيُّ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ - يَعْنِي: ابْنَ سَعْدٍ - عَنْ أَيُّوبَ بْنِ مُوسَى، عَنْ مَكْحُولٍ، عَنْ شُرَحْبِيلَ بْنِ السَّمِطِ، عَنْ سَلْمَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "رِبَاطُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ خَيْرٌ مِنْ صِيَامِ شَهْرٍ، وَقِيَامِهِ، وَإِنْ مَاتَ جَرَى عَلَيْهِ عَمَلُهُ الَّذِي كَانَ يَعْمَلُهُ، وَأُجْرِيَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ، وَأَمِنَ الْفَتَّانَ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ بَهْرَامَ

(2)

الدَّارِمِيُّ) أبو محمد السَّمَرْقَنديّ الحافظ، صاحب "المسند"، ثقةٌ فاضلٌ متقنٌ [11](ت 255) وله (74) سنة (م د ت) تقدّم في "المقدمة" 5/ 29.

2 -

(أَبُو الْوَلِيدِ الطَّيَالِسِيُّ) هشام بن عبد الملك الباهليّ مولاهم البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [9](ت 227) وله (94) سنةً (ع) تقدّم في "المقدمة" 6/ 63.

3 -

(لَيْثُ بْنُ سَعْدِ) الإمام المصريّ، تقدّم قبل حديث.

4 -

(أَيُّوبُ بْنُ مُوسَى) بن عمرو بن سعيد بن العاص الأمويّ، أبو موسى المكيّ، ثقةٌ [6](ت 132)(ع) تقدّم في "الحيض" 11/ 750.

(1)

"صحيح البخاريّ" 3/ 1055.

(2)

بفتح الباء، وكسرها.

ص: 691

5 -

(مَكْحُولٌ) الشاميّ، أبو عبد الله، ثقةٌ فقيهٌ، كثير الإرسال، مشهورٌ [5] مات سنة بضع عشرة ومائة (م 4) تقدّم في "المقدمة" 6/ 45.

6 -

(شُرَحْبِيلُ بْنُ السَّمِطِ) الْكِنْديّ الشاميّ، جزم ابن سعد بأن له وفادةً، ثم شَهِد القادسيّة، وفتح حِمْصَ، وعَمِل عليها لمعاوية، ومات سنة (40) أو بعدها (م 4) تقدّم في "صلاة المسافرين وقصرها" 2/ 1584.

7 -

(سَلْمَانُ) الفارسيّ، أبو عبد الله، ويقال له: سلمان الخير، أصله من أصبهان، وقيل: من رامهُرْمُز، أول مشاهده الخندق، مات سنة (34)، يقال: بلغ ثلاثمائة سنة (ع) تقدّم في "الطهارة" 17/ 612.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من سُباعيّات المصنّف، وأن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ: مكحول عن شُرحبيل بن السّمط، وفيه سلمان رضي الله عنه من مشاهير الصحابة، ومن المعمّرين، يقال: بلغ ثلاثمائة سنة، كما أسلفته آنفًا رضي الله عنه.

[تنبيه آخر]: تقدّم في مقدّمة "شرح المقدّمة" أن هذا الإسناد مما أعلّه الحافظ رشيد الدين ابن العطّار رحمه الله، وقال: هو منقطع؛ لأن مكحولًا لم يُدرك شُرحبيل بن السمط، قال: إلا أن مسلمًا أخرجه عن أبي شُريح المعافريّ، عن عبد الكريم بن الحارث، عن أبي عبيدة بن عقبة بن نافع، عن شُرحبيل - يعني: الإسناد التالي -.

ثم قال: وظاهر هذا الإسناد الاتّصال، إلا أن عبد الله بن المبارك رواه عن أبي شُريح هذا، عن عبد الكريم بن الحارث، عن أبي عُبيدة، عن رجل من أهل الشام، أن شُرحبيل بن السِّمْط قال:"طال رباطنا، أو إقامتنا على حِصْنٍ، فمرّ بنا سلمان. . .". انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: حاصل ما أشار إليه الحافظ ابن العطّار رحمه الله أن إسنادَي هذا الحديث مُعلّان، فأما الأول، فبالانقطاع، وأما الثاني فبإبهام شيخ أبي عبيدة، والظاهر أن ما أعلّ به الحافظ رشيد الدين واضحٌ، والجواب عن مسلم فيه صعوبة، والله تعالى أعلم.

(1)

راجع تمام البحث في: "قرّة العين" 1/ 116 - 117.

ص: 692

شرح الحديث:

(عَنْ شُرَحْبِيلَ بْنِ السَّمِطِ) بفتح السين المهملة، وكسر الميم، ويقال: بفتح السين، وإسكان الميم

(1)

. (عَنْ سَلْمَانَ) وفي الرواية التالية: "عن سلمان الخير"، و"الخير" لقب، لُقّب به مبالغةً، أو هو على حذف مضاف؛ أي: ذي الخير.

وفي رواية الترمذيّ، من طريق محمد بن المنكدر، قال: مرّ سلمان الفارسيّ رضي الله عنه بشُرَحبيل بن السِّمْط، وهو في مُرَابَطٍ له، وقد شَقَّ عليه، وعلى أصحابه، فقال: ألا أُحدّثك يا ابن السِّمْط بحديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: بلى، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "رباط يوم في سبيل الله أفضل، وربّما قال: خيرٌ من صيام شهر. . .".

(قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "رِبَاطُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ)"الرِّباط" بكسر الراء: مصدر رابط؛ كالمرابطة، يقال: رابط يُرابط مُرابطةً، ورِبَاطًا، قال في "الخلاصة":

لِفَاعَلَ الْفِعَالُ وَالْمُفَاعَلَهْ

وَغَيْرُ مَا مَرَّ السَّمَاعُ عَادَلَهْ

وهو ملازمة ثَغْر العدوّ

(2)

، وأصله أن يربِط كلٌّ من الفريقين خيله، ثم صار لزوم الثَّغْر رِباطًا، وربّما سُميت الخيل أنفسها رِبَاطًا، والرباط: المواظبة على الأمر، أفاده في "اللسان"

(3)

.

قال الإمام البخاريّ رحمه الله في "صحيحه": "باب فضل رباط يوم في سبيل الله، وقول الله عز وجل: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)} [آل عمران: 200] ".

قال في "الفتح": الرباط - بكسر الراء، وبالموحّدة الخفيفة -: مُلازمة

(1)

"شرح النوويّ" 13/ 61.

(2)

"الثَّغْر" بفتح الثاء المثلّثة، وسكون الغين المعجمة: الموضع الذي يُخاف منه هُجوم العدوّ، فهو كالثُّلْمة في الحائط، يُخاف هُجوم السارق منها، والجمع: ثُغُور، مثلُ فَلْس وفُلُوس، قاله في "المصباح المنير" 1/ 81 - 82.

(3)

"لسان العرب" 7/ 302 - 303.

ص: 693

المكان الذي بين المسلمين، والكفّار؛ لحراسة المسلمين منهم، قال ابن التين: بشرط أن يكون غير الوطن، قاله ابن حبيب، عن مالك.

قال الحافظ: وفيه نظر، فقد يكون وطنه، وينوي بالإقامة فيه دفع العدوّ، ومن ثَمَّ اختار كثير من السلف سُكنى الثغور، فبين المرابطة والحراسة عموم وخصوص وجهيّ، واستدلال البخاريّ بالآية اختيارٌ لأشهر التفاسير، فعن الحسن البصريّ، وقتادة:{اصْبِرُوا} على طاعة الله، {وَصَابِرُوا} أعداء الله في الجهاد، {وَرَابِطُوا} في سبيل الله. وعن محمد بن كعب القرظبيّ:{اصْبِرُوا} على الطاعة، {وَصَابِرُوا} لانتظار الوعد، {وَرَابِطُوا} العدوّ، {وَاتَّقُوا اللَّهَ} فيما بينكم. وعن زيد بن أسلم:{اصْبِرُوا} على الجهاد، {وَصَابِرُوا} العدوَّ، {وَرَابِطُوا} الخيل.

قال ابن قتيبة: أصل الرباط: أن يَربِط هؤلاء خيلهم، وهؤلاء خيلهم؛ استعدادًا للقتال، قال الله تعالى:{وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} [الأنفال: 60]. أخرج ذلك ابن أبي حاتم، وابن جرير، وغيرهما. وتفسيره برباط الخيل يرجع إلى الأول. وفي "الموطّأ" عن أبي هريرة رضي الله عنه، مرفوعًا:"وانتظار الصلاة، فذلكم الرباط"، وهو في "السنن"

(1)

عن أبي سعيد.

وفي "المستدرك" عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف أن الآية نزلت في ذلك، واحتجّ بأنه لم يكن في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم غزو فيه رباط. انتهى.

قال الحافظ: وحَمْل الآية على الأول أظهر، وما احتجّ به أبو سلمة لا حجّة فيه، ولا سيّما مع ثبوت حديث الباب

(2)

، فعلى تقدير تسليم أنه لم يكن في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم رباط، فلا يمنع ذلك من الأمر به، والترغيب فيه.

(1)

بل أخرجه مسلم في "صحيحه" من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وتقدّم في كتاب "الطهارة" برقم [593](251).

(2)

يعني: الحديث الذي أخرجه البخاريّ في "صحيحه" من طريق أبي حازم، عن سهل بن سعد الساعديّ رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها، وموضع سوط أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما عليها، والروحة يروحها العبد في سبيل الله، أو الْغَدْوة خير من الدنيا وما عليها". انتهى.

ص: 694

ويَحْتَمِل أن يكون المراد كلًّا من الأمرين، أو ما هو أعمّ من ذلك، وأما التقييد باليوم في الترجمة، وإطلاقه في الآية، فكأنه أشار إلى أن مُطْلَقها يقيّد بالحديث، فإنه يُشعر بأن أقلّ الرباط يوم لسياقه في مقام المبالغة، وذِكْرُهُ مع موضع سَوْط يشير إلى ذلك أيضًا. انتهى

(1)

.

(خَيْرٌ مِنْ صِيَامِ شَهْرٍ، وَقِيَامِهِ) وفي حديث سهل بن سعد رضي الله عنه عند البخاريّ: "رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها"، وفي حديث عثمان رضي الله عنه عند أحمد، والترمذيّ، وابن ماجه:"رباط يوم في سبيل الله خير من ألف يوم فيما سواه من المنازل".

ولا تعارُض بينه وبين حديث الباب؛ لأنه يُحْمَل على الإعلام بالزيادة في الثواب، أو باختلاف العاملين، أو باختلاف العمل بالنسبة إلى الكثرة والقلة، وكذا لا معارضة بين حديث الباب، وبين حديث سهل رضي الله عنه؛ لأن صيام شهر وقيامه خير من الدنيا وما عليها

(2)

، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

(وَإِنْ مَاتَ) المرابط في حال مرابطته، (جَرَى عَلَيْهِ عَمَلُهُ)؛ أي: لم ينقطع بموته عمله (الَّذِي كَانَ يَعْمَلُهُ)؛ أي: في حال مرابطته، فيُكْتَب له في كتاب حسناته، مع أن الإنسان ينقطع عمله بموته، غير أن الله سبحانه وتعالى أجرى لهذا المرابط الأجر فضلًا منه، وكرمًا، والمراد: أنه يستمرّ له كلَّ يوم أجر صيام شهر وقيامه.

[فإن قلت]: هذا الحديث يعارض حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله، إلا من ثلاثة، إلا من صدقة جارية، أو علم يُنتفَع به، أو ولد صالح يدعو له"، رواه مسلم، فكيف يُجمع بينهما؟.

[قلت]: يُجمع بأن حديث الباب مخصوص من عموم حديث أبي هريرة رضي الله عنه المذكور، فهو عامّ مخصوص، بحديث الباب، فلا تعارُض بينهما، والله تعالى أعلم.

(1)

"الفتح" 7/ 168 - 169، كتاب "الجهاد" رقم (2892).

(2)

راجع: "الفتح" 7/ 169، كتاب "الجهاد" رقم (2892).

ص: 695

(وَأُجْرِيَ عَلَيْهِ) بالبناء للمفعول، (رِزْقُهُ)؛ أي: رِزقه الذي يأكله قبل يوم القيامة، فهو بمعنى قول الله عز وجل في الشهداء:{أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169]، وبمعنى حديث ابن مسعود رضي الله عنه الذي تقدّم من طريق عبد الله بن مُرَّة، عن مسروق، قال: سألنا عبد الله، عن هذه الآية:{وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169)} [آل عمران: 169] قال: أَمَا إنا قد سألنا عن ذلك، فقال:"أرواحهم في جوف طير خُضْرٍ، لها قناديل مُعَلَّقة بالعرش، تَسْرَح من الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل. . ." الحديث.

(وَأَمِنَ الْفَتَّانَ") قال النوويّ رحمه الله: ضبطوا "أَمِنَ" بوجهين: "أحدهما": أَمِنَ - بفتح الهمزة، وكسر الميم - من غير واو، "والثاني":"أُمِنَ" - بضمّ الهمزة، وبواو -. انتهى

(1)

.

وقوله: "الْفُتَّانَ" قال القاضي عياض رحمه الله: رويناه عن أكثرهم بالضمّ، جمع فاتن، ويكون للجنس، قال: وعن الطبريّ بالفتح، وذكره أبو داود مفسَّرًا:"وأُمِنَ من فَتَّاني القبر". انتهى

(2)

.

وقال السنديّ رحمه الله: "الفُتّانُ": - بضمّ الفاء، وتشديد المثناة الفوقيّة -: جمع فاتنٍ. وقيل: بفتح، فتشديد للمبالغة، وفُسّر على الأول: بالمنكر والنكير

(3)

، والمراد أنهما لا يجيئان إليه للسؤال، بل يكفي موته مرابطًا في

(1)

"شرح النوويّ" 13/ 63.

(2)

"إكمال المعلم" 6/ 342.

(3)

حديث المنكر والنكير، وسؤالهما في القبر أخرجه الترمذيّ في "جامعه"، فقال 3/ 383:

(1071)

- حدّثنا أبو سلمة يحيى بن خلف، حدّثنا بشر بن المفضَّل، عن عبد الرحمن بن إسحاق، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا قُبر الميت - أو قال - أحدكم أتاه ملكان، أسودان، أزرقان، يقال لأحدهما: المنكر، والآخر: النكير، فيقولان: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول ما كان يقول: هو عبد الله ورسوله، أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله، فيقولان: قد كنا نعلم أنك تقول هذا، ثم يُفسح له في قبره سبعون ذراعًا في سبعين، ثم يُنوَّر له فيه، ثم يقال له: نَمْ، فيقول: أرجع إلى أهلي، فأُخبرهم، فيقولان: نَمْ كنومة العروس الذي لا يوقظه إلا أحب أهله إليه، =

ص: 696

سبيل الله تعالى شاهدًا على صحّة إيمانه، أو أنهما لا يضُرّانه، ولا يُزعجانه، وعلى الثاني: بالشيطان، ونحوه، ممن يوقِع الإنسان في فتنة القبر؛ أي: عذابه، أو بِمَلَكِ العذاب. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث سلمان رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [50/ 4930 و 4931](1913)، و (الترمذيّ) في "فضائل الجهاد"(1665)، و (النسائيّ) في "الجهاد"(6/ 39) و"الكبرى"(3/ 26)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 440 - 441)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 496)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4623)، و (الطحاويّ) في "مشكل الآثار"(3/ 101 - 102)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(6077 و 6177 و 6178 و 6179 و 6180)، و (الحاكم) في "المستدرك"(2/ 80)، و (البزّار) في "مسنده"(6/ 483)، و (ابن أبي عاصم) في "الجهاد"(2/ 700 - 701)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان فضل الرباط في سبيل الله عز وجل.

2 -

(ومنها): أن من مات مرابطًا أُجري عليه عمله بعد موته، وهذا فضل من الله تعالى، حيث أكرم المرابط بعد موته بعدم انقطاع عمله، قال النوويّ رحمه الله: هذه فضيلة ظاهرة للمرابط، وجريان عمله عليه بعد موته فضيلة مختصّة به، لا يشاركه فيها أحدٌ، وقد جاء في غير مسلم: "كلُّ ميت يُختم عليه

= حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك. وإن كان منافقًا قال: سمعت الناس يقولون، فقلت مثله، لا أدري، فيقولان: قد كنا نعلم أنك تقول ذلك، فيقال للأرض: التئمي عليه، فتلتئم عليه، فتختلف فيها أضلاعه، فلا يزال فيها معذَّبًا حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك". انتهى.

وهذا الإسناد رجاله كلهم رجال الصحيح، ويحيى بن خلف روى عنه مسلم، ووثّقه ابن حبّان، والحديث صححه ابن حبّان.

ص: 697

عمله إلا المرابط، فإنه يُنمى له عمله إلى يوم القيامة". انتهى

(1)

.

3 -

(ومنها): أن من مات مرابطًا فإنه شهيد حيّ عند ربّه يُجرى عليه رزقه، كسائر الشهداء، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتصل إلى المؤلف رحمه الله أول الكتاب قال:

[4931]

(. . .) - (حَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ شُرَيْحٍ، عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ شُرَحْبِيلَ بْنِ السَّمِطِ، عَنْ سَلْمَانَ الْخَيْرِ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِمَعْنَى حَدِيثِ اللَّيْثِ، عَنْ أَيُّوبَ بْنِ مُوسَى).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(أَبُو الطَّاهِرِ) أحمد بن عمرو بن السرح المصريّ، تقدّم قبل بابين.

2 -

(ابْنُ وَهْبٍ) هو: عبد الله، تقدّم أيضًا قبل بابين.

3 -

(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ شُرَيْحٍ) المصريّ، تقدّم أيضًا قبل بابين.

4 -

(عَبْدُ الْكَرِيمِ بْنُ الْحَارِثِ) بن يزيد الْحَضْرميّ، أبو الحارث المصري، ثقةٌ عابدٌ [6].

رَوَى عن المستورد بن شداد، وعبد الله بن هبيرة، ومِشْرَح بن هاعان، وأبي عبيدة بن عقبة بن نافع، وحِمْير بن مالك، وغيرهم.

وروى عنه عمرو بن الحارث، وبكر بن مُضَر، والليث، وعياش بن عقبة، ويحيى بن أيوب، وحيوة بن شُريح، وعبد الله بن طَرِيف، وابن لَهِيعة، وغيرهم.

قال البخاريّ: أثنى عليه ابن كثير، وكان يميل إلى تقدمة عثمان، وقال يحيى بن بكير، عن بكر بن مضر: لو قيل لعبد الكريم بن الحارث: إن الساعة تقوم غدًا ما كان عنده فضل لمزيد، وقال النسائيّ، والعجليّ: ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال الدارقطنيّ: لم يُدرك المستورد بن شداد، وحديثه عنه منقطع. انتهى، وحديثه عن المستورد سيأتي عند مسلم

(2)

، وهو متابعة، وهو

(1)

"شرح النوويّ" 13/ 61.

(2)

سيأتي في كتاب "الفتن" برقم (2898).

ص: 698

منقطع، كما قال الدارقطنيّ.

وقال ابن يونس: تُوُفِّي بِبَرْقَةَ سنة ست وثلاثين ومائة، وكان من العبّاد المجتهدين.

انفرد به المصنّف، والنسائيّ، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا برقم (1913)، وحديث (2898):"تقوم الساعة، والروم أكثر الناس. . ." الحديث.

5 -

(أَبُو عُبَيْدَةَ بْنِ عُقْبَةَ) بن نافع الْفِهْريّ، يقال: اسمه مُرَّة، مقبول [3].

رَوَى عن أبيه، وأخيه عياض، وابن عمر، وغيرهم.

وروى عنه أبو عَقيل زُهْرة بن مَعْبد، وعبد الكريم بن الحارث، وصاعد بن محمد، وسليمان بن حميد، وغيرهم.

ذكره ابن حبّان في "الثقات"، قال أبو سعيد بن يونس في "تاريخ مصر": مُرّة بن عُقْبة الفِهْريّ، يُكنى أبا عبيدة أدرك معاوية، وتُوفّي سنة (107)، وهو يُريد الحجّ فيما يقال، وكان مع أبيه بالقيروان.

تفرّد به المصنّف، والنسائيّ، وله عندهما حديث الباب فقط.

والباقيان ذكرا في الحديث السابق.

[تنبيه]: رواية أبي عبيدة بن عقبة، عن شُرحبيل بن السِّمْط هذه ساقها النسائيّ في "المجتبى"، فقال:

(3167)

- قال الحارث بن مسكين قراءةً عليه، وأنا أسمع، عن ابن وهب، أخبرني عبد الرحمن بن شُريح، عن عبد الكريم بن الحارث، عن أبي عُبيدة بن عقبة، عن شُرحبيل بن السِّمْط، عن سلمان الخير، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"من رابط يومًا وليلةً في سبيل الله كان له كأجر صيام شهر وقيامه، ومن مات مرابطًا أُجري له مثلُ ذلك من الأجر، وأُجري عليه الرزق، وأَمِن من الْفُتّان". انتهى

(1)

.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(1)

"سنن النسائي""المجتبى" 6/ 39.

ص: 699

(51) - (بَابُ بَيَانِ الشُّهَدَاءِ)

" الشُّهَداء": جمع شهيد، قال الفيّوميّ رحمه الله: هو: من قَتَله الكفّار في المعركة، فَعِيلٌ بمعنى مفعول؛ لأن ملائكة الرحمة شَهِدت غَسله، أو شَهِدت نَقْل روحه إلى الجنّة، أو لأن الله شَهِد له بالجنّة. انتهى.

وقال في "الفتح": اختُلِف في سبب تسمية الشهيد شهيدًا، فقال النضر بن شُميل: لأنه حَيٌّ، فكأن أرواحهم شاهدةٌ؛ أي: حاضرة، وقال ابن الأنباريّ: لأن الله، وملائكته يشهدون له بالجنة، وقيل: لأنه يَشْهَد عند خروج روحه ما أُعِدّ له من الكرامة، وقيل: لأنه يُشهد له بالأمان من النار، وقيل: لأن عليه شاهدًا بكونه شهيدًا، وقيل: لأنه لا يشهده عند موته إلا ملائكة الرحمة، وقيل: لأنه الذي يَشهد يوم القيامة بإبلاع الرسل، وقيل: لأن الملائكة تشهد له بحسن الخاتمة، وقيل: لأن الأنبياء تشهد له بحسن الاتّباع، وقيل: لأن الله يشهد له بحسن نيّته، وإخلاصه، وقيل: لأنه يشاهد الملائكة عند احتضاره، وقيل: لأنه يشاهد الملكوت من دار الدنيا ودار الآخرة، وقيل: لأنه مشهود له بالأمان من النار، وقيل: لأن عليه علامةً شاهدةً بأنه قد نجا.

قال: وبعض هذه يَختص بمن قُتل في سبيل الله، وبعضها يعمّ غيره، وبعضها قد يُنازَع فيه. انتهى

(1)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4932]

(1914) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنْ سُمَيٍّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي بِطَرِيقٍ وَجَدَ غُصْنَ شَوْكٍ عَلَى الطَّرِيقِ، فَأَخَّرَهُ، فَشَكَرَ اللهُ لَهُ، فَغَفَرَ لَهُ"، وَقَالَ: "الشُهَدَاءُ خَمْسَةٌ: الْمَطْعُونُ، وَالْمَبْطُونُ، وَالْغَرِقُ، وَصَاحِبُ الْهَدْمِ، وَالشَّهِيدُ فِي سَبِيلِ اللهِ عز وجل").

(1)

"الفتح" 7/ 100، كتاب "الجهاد"(2829).

ص: 700

رجال هذا الإسناد: خمسة:

وكلّهم تقدّموا في الباب الماضي، وقبله بباب.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي صَالِحٍ) ذكوان السّمّان الزّيّات (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "بَيْنَمَا) تقدّم أن أصلها "بَيْنَ"، فأُشبعت الفتحة، فصارت ألفًا، وزيدت فيه الميم، فصارت "بينما"، ويقال أيضًا:"بينا" بدون الميم، وهما ظرفا زمان، بمعنى المفاجأة، ويضافان إلى جملة من فعل وفاعل، ومبتدأ وخبر - وهو قوله:"رجلٌ يمشي" - ويحتاجان إلى جواب يتم به المعنى، وهو قوله:"وَجَد. . . إلخ"

(1)

.

وقوله: (رَجُلٌ) مبتدأ سوّغه وَصْفه بقوله: (يَمْشِي بِطَرِيقٍ وَجَدَ غُصْنَ شَوْكٍ) - بضمّ الغين المعجمة، وسكون الصاد المهملة - هو: ما تشعّب من ساق الشجر، دِقاقها، وغِلاظها، والصغيرة: بِهاء، وجمعه غُصُونٌ، وَغِصَنة - بكسر، ففتح - وأغصان، قاله المجد رحمه الله

(2)

. (عَلَى الطَّرِيقِ، فَأَخَّرَهُ)؛ أي: أبعده عن الطريق؛ لئلا يؤذي مسلِمًا، (فَشَكَرَ اللهُ لَهُ)؛ أي: أثنى عليه، يقال: شكرته، وشكرت له بمعنى واحد

(3)

، وقال المجد رحمه الله:"الشُّكْرُ" بالضمّ: عِرْفان الإحسان، ونشرُهُ، أو لا يكون إلا عن يَدٍ، ومن الله تعالى الْمُجَازاة، والثناء الجميل، شَكَره، وله، شُكْرًا، وشُكُورًا، وشُكْرانًا، وشكر اللهَ، ولله، وبالله، ونِعمةَ الله، وبها. انتهى

(4)

.

وقال الفيّوميّ رحمه الله: شَكَرتُ للهِ: اعترفتُ بنِعَمه، وفعلتُ ما يجب من فِعل الطاعة، وتَرْك المعصية، ولهذا يكون الشكر بالقول والعمل، ويتعدّى في الأكثر باللام، فيقال: شكرت له شُكرًا، وشُكرانًا، وربّما تعدّى بنفسه، فيقال: شكرته، وأنكره الأصمعيّ، في السَّعَةِ، وقال: بابه الشِّعر، وقول الناس في القنوت:"نشكرك، ولا نكفرك" لم يثبُت في الرواية المنقولة عن عمر رضي الله عنه،

(1)

راجع: "عمدة القاري" 5/ 171.

(2)

"القاموس المحيط" ص 950.

(3)

"عمدة القاري" 5/ 171.

(4)

"القاموس المحيط"(700).

ص: 701

على أن له وجهًا، وهو الازدواج، وتشكّرت له مثلُ شكَرتُ له. انتهى

(1)

.

(فَغَفَرَ لَهُ") بالبناء للفاعل، وفي رواية لابن حبّان:"حُوسب رجل ممن كان قبلكم، فلم يوجد له من الخير إلا غُصن شوك كان على الطريق، كان يؤذي الناس، فعزله، فغُفر له"، وفي رواية له:"غُفر لرجل أخذ غُصن شوك عن طريق الناس ما تقدّم من ذنبه، وما تأخّر".

قال النوويّ رحمه الله: وفيه فضيلة إماطة الأذى عن الطريق، وهو كلُّ مُؤْذٍ، وهذه الإماطة أدنى شُعَب الإيمان، كما سبق الحديث في ذلك في "كتاب الإيمان".

وقوله: (وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: "الشُّهَدَاءُ خَمْسَةٌ) هكذا بالهاء، وهو الأصل، لكن هذا إذا كان المميَّز مذكورًا بعد العدد، وأما إذا لم يكن مذكورًا كما هنا جاز الأمران، ووقع في رواية أبي ذرّ، عن الحمويّ عند البخاريّ بلفظ:"خمس"، وفي رواية الباقين:"خمسة".

وقال الطيبيّ رحمه الله: فإن قلت: "خمسة" خبر المبتدأ، والمعدود هذا بيان له، فكيف يصحّ قوله في الخامس:"والشهيد في سبيل الله عز وجل"، فإن فيه حمل الشيء على نفسه، فكأنه قال: الشهيد هو الشهيد؟.

أجيب بأنه من باب:

أَنَا أَبُو النَّجْمِ وَشِعْرِي شِعْرِي

وقال الكرمانيّ: الأَولى أن يقال: المراد بالشهيد: القتيل، فكأنه قال: الشهداء كذا، وكذا، والقتيل في سبيل الله. انتهى

(2)

.

وقال في "الفتح" بعد ذكر نحو ما تقدّم: ويَحْتَمل أن يكون المراد بالشهيد في سبيل الله: المقتول، فكأنه قال: والمقتولُ، فعبَّر عنه بالشهيد، ويؤيده قوله في رواية جابر بن عَتِيك:"الشهداء سبعة، سوى القتيل في سبيل الله"، ويجوز أن يكون لفظ "الشهيد" مكرّرًا في كل واحد منها، فيكون من التفصيل بعد الإجمال، والتقدير: الشهداء خمسة: الشهيد كذا، والشهيد كذا إلى آخره. انتهى

(3)

.

(1)

"المصباح المنير" 1/ 320.

(2)

"عمدة القاري" 5/ 171.

(3)

"الفتح" 7/ 103، كتاب "الجهاد"(2829).

ص: 702

[تنبيه]: قوله: "الشهداء خمسة" هذا الجزء من الحديث لا مناسَبة له لِمَا قبله، وإنما ساقه المصنّف رحمه الله مساقًا واحدًا؛ لأنه سمعه من شيخه كذلك، فلم ير أن يتصرّف فيه، والله تعالى أعلم.

(الْمَطْعُونُ) هو الذي يموت في الطاعون، وهو الوباء، كما فُسّر في الرواية الآتية:"الطاعون شهادة لكلّ مسلم"، ولم يُرِد المطعون بالسِّنان؛ لأنه المقتول في سبيل الله المذكور من جملة الخمسة

(1)

، وسيأتي بيان اختلاف العلماء في معنى الطاعون في المسألة الرابعة - إن شاء الله تعالى -.

(وَالْمَبْطُونُ) هو صاحب داء البطن، وهو الإسهال، قال القاضي عياض: وقيل: هو الذي به الاستسقاء، وانتفاخ البطن، وقيل: هو الذي تشتكي بطنه، وقيل: هو الذي يموت بداء بطنه مطلقًا. (وَالْغَرِقُ) - بفتح الغين المعجمة، وكسر الراء بغير ياء -، كحَذِرٍ: هو الذي يموت غَرَقًا في الماء، قال القرطبيّ: ويُروَى غَرِيق بالياء، وهو للمبالغة، كعليم. (وَصَاحِبُ الْهَدْمِ) - بفتح، فسكون - أي: الذي ينهدم عليه البيت، أو نحوه، فيموت تحت الهدم. (وَالشَّهِيدُ فِي سَبِيلِ اللهِ عز وجل")؛ أي: الذي مات في الجهاد، وقتله الكفّار.

وقال النوويّ رحمه الله: وفي رواية مالك في "الموطأ" من حديث جابر بن عَتِيك: "الشهداء سبعة، سوى القتل في سبيل الله - فذكر - المطعون، والمبطون، والغَرِق، وصاحب الهدم، وصاحب ذات الجَنْب، والحَرِق، والمرأة تموت بجُمع"، وفي رواية لمسلم:"مَن قُتِل في سبيل الله فهو شهيد، ومن مات في سبيل الله فهو شهيد"، وهذا الحديث الذي رواه مالك صحيح بلا خلاف، وإن كان البخاريّ ومسلم لم يُخْرجاه.

ثم ذكر معاني الخمسة التي تقدّمت، ثم قال: وصاحب ذات الجنب معروف، وهي قُرْحة تكون في الجنب باطنًا، والحريق الذي يموت بحريق النار، وأما المرأة تموت بِجُمْع، فهو بضم الجيم، وفتحها، وكسرها، والضم أشهر، قيل: التي تموت حاملًا جامعةً ولدها في بطنها، وقيل: هي البكر، والصحيح الأول.

(1)

"المفهم" 3/ 757.

ص: 703

وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "ومن مات في سبيل الله فهو شهيد" فمعناه بأيّ صفة مات، وقد سبق بيانه، قال العلماء: وإنما كانت هذه الموتات شهادة بتفضّل الله تعالى بسبب شدتها، وكثرة ألمها.

وقد جاء في حديث آخر في "الصحيح": "مَن قُتل دون ماله فهو شهيد، ومن قُتل دون أهله فهو شهيد"، وسَبَق بيانه في "كتاب الإيمان".

وفي حديث آخر صحيح: "مَن قُتل دون سيفه فهو شهيد".

قال العلماء: المراد بشهادة هؤلاء كلِّهم غير المقتول في سبيل الله: أنهم يكون لهم في الآخرة ثواب الشهداء، وأما في الدنيا فيُغْسَلون، ويُصَلَّى عليهم، وقد سبق في "كتاب الإيمان" بيان هذا، وأن الشهداء ثلاثة أقسام: شهيد في الدنيا والآخرة، وهو المقتول في حرب الكفار، وشهيد في الآخرة دون أحكام الدنيا، وهم هؤلاء المذكورون هنا، وشهيد في الدنيا دون الآخرة، وهو مَن غَلَّ في الغنيمة، أو قُتل مُدْبِرًا. انتهى

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله بعد ذكر الغَرِق، وصاحب الهدم، والحريق ما نصّه: وهؤلاء الثلاثة إنما حَصَلت لهم مرتبة الشهادة لأجل تلك الأسباب؛ لأنهم لم يُغَرِّروا بنفوسهم، وفرَّطوا في التحرّز، ولكن أصابتهم تلك الأسباب بقضاء الله تعالى وقَدَره، فأما من غرّر، أو فَرّط في التحرّز حتى أصابه شيء من ذلك، فمات فهو عاصّ، وأمْره إلى الله تعالى، إن شاء عذّبه، وإن شاء عفا عنه. انتهى

(2)

، والله تعالى أعلم.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [51/ 4932](1914)، و (البخاريّ) في "الأذان"(653) و"الجهاد"(2829) و"الطبّ"(5733)، و (الترمذيّ) في "الجنائز"(1063)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(4/ 363)، و (مالك) في "الموطأ"(1/ 131)،

(1)

"شرح النوويّ" 13/ 62 - 63.

(2)

"المفهم" 3/ 757.

ص: 704

و (أحمد) في "مسنده"(2/ 324 و 325 و 533)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(3188)، و (البيهقيّ) في "شعب الإيمان"(7/ 169)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): قال الإمام البخاريّ رحمه الله: "بابٌ الشهادةُ سبعٌ سوى القتل"، فقال في "الفتح": وهذه الترجمة لفظ حديث أخرجه مالك من رواية جابر بن عَتِيك - بفتح المهملة، وكسر المثناة، بعدها تحتانية ساكنة، ثم كاف - "أن النبيّ صلى الله عليه وسلم جاء يعود عبد الله بن ثابت. . ."، فذكر الحديث، وفيه:"ما تَعُدُّون الشهيد فيكم؟ " قالوا: مَن يُقْتَل في سبيل الله، وفيه:"الشهداء سبعةٌ، سوى القتل في سبيل الله. . ."، فذكر زيادة على حديث أبي هريرة: الحريق، وصاحب ذات الجنب، والمرأة تموت بِجُمْع، وتوارد مع أبي هريرة في المبطون، والمطعون، والغريق، وصاحب الهدم.

فأما صاحب ذات الجنب: فهو مرض معروف، ويقال له الشوصة، وأما المرأة تموت بِجُمع، فهو بضم الجيم، وسكون الميم، وقد تُفتح الجيم، وتُكسر أيضًا، وهي النُّفَساء، وقيل: التي يموت ولدها في بطنها، ثم تموت بسبب ذلك، وقيل: التي تموت بمزدلفة، وهو خطأ ظاهر، وقيل: التي تموت عَذْراء، والأول أشهر.

قال: حديث جابر بن عَتِيك أخرجه أيضًا أبو داود، والنسائيّ، وابن حبان، وقد رَوَى مسلم من طريق أبي صالح، عن أبي هريرة - يعني: حديث الباب - شاهدًا لحديث جابر بن عَتيك، ولفظه:"ما تَعُدُّون الشهداء فيكم؟ "، وزاد فيه، ونقص، فمِن زيادته:"ومن مات في سبيل الله فهو شهيد"، ولأحمد من حديث عُبادة بن الصامت نحو حديث جابر بن عَتيك، ولفظه:"وفي النفساء يقتلها ولدها جمعًا شهادة"، وله من حديث راشد بن حبيش نحوه، وفيه:"والسِّلّ"، وهو بكسر المهملة، وتشديد اللام.

وللنسائيّ من حديث عقبة بن عامر: "خمس مَن قُبض فيهنّ فهو شهيد، فذَكر فيهم النفساء".

ورَوَى أصحاب "السنن"، وصححه الترمذيّ من حديث سعيد بن زيد، مرفوعًا:"من قُتل دون ماله فهو شهيد"، وقال في الدِّين، والدَّم، والأهل مثل ذلك.

ص: 705

وللنسائيّ من حديث سُويد بن مقرِّن مرفوعًا: "مَن قُتل دون مظلمته فهو شهيد".

وفي رواية لأحمد: "والمجنوب شهيد"؛ يعني: صاحب ذات الجنب.

قال الحافظ رحمه الله: والذي يظهر أنه صلى الله عليه وسلم أُعْلِم بالأقلّ، ثم أُعلم زيادة على ذلك، فذكرها في وقت آخر، ولم يقصد الحصر في شيء من ذلك.

قال: وقد اجتمع لنا من الطرق الجيِّدة أكثر من عشرين خصلة، فإن مجموع ما قدّمْتُه مما اشتملت عليه الأحاديث التي ذكرتُها أربع عشرة خصلة، وتقدم في "باب من يُنكب في سبيل الله" حديث أبي مالك الأشعريّ مرفوعًا:"من وَقَصه فرسه، أو بعيره، أو لدغته هامّة، أو مات على فراشه على أيّ حتف شاء الله تعالى فهو شهيد".

وصَحَّح الدارقطني من حديث ابن عمر: "موت الغريب شهادة"، ولابن حبان من حديث أبي هريرة:"من مات مرابطًا مات شهيدًا" الحديث، وللطبراني من حديث ابن عباس مرفوعًا:"المرء يموت على فراشه في سبيل الله شهيد"، وقال ذلك أيضًا في المبطون، واللَّدِيغ، والغريق، والشَّرِيق، والذي يفترسه السبع، والخارّ عن دابته، وصاحب الهدم، وذات الجنب.

ولأبي داود من حديث أم حرام: "المائد في البحر الذي يصيبه القيء له أجر شهيد"، وقد تقدمت أحاديث فيمن طلب الشهادة بنيّة صادقة أنه يُكتب شهيدًا، وصحّ حديث فيمن صبر في الطاعون أنه شهيدٌ، وفي حديث عقبة بن عامر فيمن صرعته دابته، وهو عند الطبرانيّ، وعنده من حديث ابن مسعود بإسناد صحيح:"أن من يتردَّى من رؤوس الجبال، وتأكله السباع، ويغرق في البحار لشهيد عند الله".

ووردت أحاديث أخرى في أمور أخرى لم أُعَرِّج عليها؛ لِضَعفها.

قال ابن التين رحمه الله: هذه كلها مِيتات فيها شدّة تفضّل الله على أمة محمد صلى الله عليه وسلم بأن جعلها تمحيصًا لذنوبهم، وزيادة في أجورهم، يبلّغهم بها مراتب الشهداء.

ص: 706

قال الحافظ: والذي يظهر أن المذكورين ليسوا في المرتبة سواءً، ويدلّ عليه ما روى أحمد، وابن حبان في "صحيحه" من حديث جابر، والدارميّ، وأحمد، والطحاويّ، من حديث عبد الله بن حُبْشيّ، وابن ماجه من حديث عمرو بن عَبسة: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم سئل أيُّ الجهاد أفضل؟ قال: "مَن عُقِر جواده، وأهريق دمه".

ورَوَى الحسن بن عليّ الحلوانيّ في "كتاب المعرفة" له بإسناد حسن من حديث ابن أبي طالب رضي الله عنه قال: "كل موتة يموت بها المسلم فهو شهيد، غير أن الشهادة تتفاضل".

قال: ويتحصّل مما ذُكر في هذه الأحاديث أن الشهداء قسمان: شهيد الدنيا، وشهيد الآخرة، وهو من يُقتَل في حرب الكفار، مُقْبِلًا غير مُدْبِر، مخلصًا، وشهيد الآخرة، وهو من ذُكر بمعنى أنهم يُعطون من جنس أجر الشهداء، ولا تجري عليهم أحكامهم في الدنيا.

وفي حديث العِرْباض بن سارية عند النسائيّ، وأحمد، ولأحمد من حديث عتبة بن عبد نحوه، مرفوعًا:"يختصم الشهداء، والمتوفون على الفُرش في الذين يتوفون من الطاعون، فيقول: انظروا إلى جراحهم، فإن أشبهت جراح المقتولين، فإنهم معهم، ومنهم، فإذا جراحهم قد أشبهت جراحهم".

وإذا تقرر ذلك فيكون إطلاق الشهداء على غير المقتول في سبيل الله مجازًا، فيَحتج به من يُجيز استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه، والمانع يجيب بأنه من عموم المجاز، فقد يُطلق الشهيد على من قُتل في حرب الكفار، لكن لا يكون له ذلك في حكم الآخرة لعارض يمنعه؛ كالانهزام، وفساد النية، والله أعلم. انتهى كلام الحافظ رحمه الله

(1)

، وهو بحث نفيسٌ جدًّا، وقد ألّف السيوطيّ رحمه الله رسالة جمع فيها ما ورد في أسباب الشهادة، من الأخبار، وقد نظمت تلك الرسالة، ودونك نظمي المذكور:

(1)

"الفتح" 7/ 100 - 103، كتاب "الجهاد" رقم (2829).

ص: 707

بسم الله الرحمن الرحيم

يَقُولُ رَاجِي رَبِّهِ سُبْحَانَهُ

مُحَمَّدٌ مُسْتَمْنِحًا غُفْرَانَهُ

حَمْدًا لِمَنْ قَدْ مَنَحَ الشَهَادَهْ

لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ ذَوِي السَّعَادَهْ

ثُمَّ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ سَرْمَدَا

عَلَى النَّبِيِّ الْمُصْطَفَى مُحَمَّدَا

وَآلِهِ وَصَحْبِهِ الْكِرَامِ

وَالتَّابِعِينَ سُبُلَ السَّلَامِ

وَبَعْدَهُ فَهَذِهِ إِفَادَهْ

لِمَنْ أَرَادَ طُرُقَ الشَّهَادَهْ

نَظَمْتُهَا مِمَّا السُّيُوطِي جَمَعَهْ

لِيَسْهُلَ الْحِفْظُ لِمَنْ لَهُ سَعَهْ

سَمَّيْتُهَا إِتْحَافَ ذِي السَّعَادَهْ

بِذِكْرِ مَا يُوصِلُ لِلشَّهَادَهْ

وَأَسْأَلُ اللهَ الْقَبُولَ وَالرِّضَا

وَالْخَتْمَ بِالْحُسْنَى إِذَا الْعُمْرُ انْقَضَى

(مِنْهَا) الشَّهَادَةُ لِمَبْطُونٍ تُرَى

وَالتَّاجِرِ الصَّدُوقِ نِعْمَ مَتْجَرَا

وَالْحَرْقُ وَالْحُمَّى وَذَا قَدْ ضُعِّفَا

وَمَنْ مِنَ الْمَرْكُوبِ صَرْعُهُ وَفَا

وَمَنْ دَعَا بِدَعْوَةٍ لِيُونِسِ

لَكِنَّهُ وَاهٍ فَلَا تَسْتَأْنِسِ

وَرَجُلٌ قَامَ إِلَى إِمَامِ

ذِي الْجَوْرِ آمِرًا بِأَمْرٍ سَامِي

وَالسِّلُّ وَالشَّرِيقُ وَالشَّهِيدُ

أَيْ فِي سَبِيلِ اللهِ نِعْمَ الْعِيدُ

صَاحِبُ ذَاتِ الْجَنْبِ أَوْ ذُو الْهَدْمِ

وَالطَّعْنُ وَالطَّاعُونُ خُذْ بِالْفَهْمِ

كَذَا الْغَرِيبُ وَالْحَدِيثُ ضُعِّفَا

وَلِلْغَرِيقِ ثَابِتٌ فَلْتَعْرِفَا

وَكُلُّ مُؤْمِنٍ يَمُوتُ ذَا لَهُ

إِنْ ثَبَتَ الْحَدِيثُ مَا أَجْمَلَهُ

وَمَنْ يُزَكِّي طَيِّبَ النَّفْسِ إِذَا

قُتِلَ مَظُلُومًا شَهِيدٌ حَبَّذَا

وَمَنْ تَرَدَّى مِنْ جِبَالٍ أَوْ عَدَا

عَلَيْهِ سَبْعٌ فَرَمَاهُ بِالرَّدَى

وَمَنْ إِلَى مِصْرٍ طَعَامًا جَلَبَا

لَكِنْ حَدِيثُهُ لِضُعْفٍ نُسِبَا

وَمَنْ لَهُ السُّلْطَانُ ظُلْمًا حَبَسَا

أَوْ مَاتَ بِالضَّرْبِ فَمَا بِهِ أَسَى

وَمَنْ بِصِدْقٍ طَلَبَ الشَّهَادَهْ

يُعْطَى وَإِنْ يَمُتْ عَلَى الْوِسَادَهْ

كَذَاكَ مَنْ سَعَى عَلَى الْعِيَالِ

بِسَنَدٍ وَاهٍ فَلَا تُبَالِي

وَامْرَأَةٌ غَيْرَى صَبُورٌ وَطَعَنْ

فِي صِحَّةِ الْحَدِيثِ بَعْضُ مَنْ فَطَنْ

ص: 708

وَامْرَأَةٌ مَاتَتْ بِجُمْعٍ أَيْ وَلَدْ

فِي بَطْنِهَا وَقِيلَ بِكْرٌ يَا سَنَدْ

كَذَاكَ مَنْ صَلَّى الضُّحَى وَصَامَا

ثَلَاثَةً وَالْوِتْرَ قَدْ أَدَامَا

لَكِنَّ فِي إِسْنَادِهِ أَيُّوبُ

اِبْنُ نَهِيكٍ عِنْدَهُمْ مَعْيُوبُ

كَذَاكَ مَنْ عَاشَ مُدَارِيًا فَلَمْ

أَعْرِفْ حَدِيثَهُ بِصِحَّةٍ تُؤَمّْ

وَمَنْ يَمُتْ بِعِشْقِهِ إِذَا كَتَمْ

وَعَفَّ وَالْحَدِيثُ بِالضَّعْفِ اتَّسَمْ

كَذَاكَ مَنْ يَقُلْ صَبَاحًا وَمَسَا

أَعُوذُ بِاللهِ السَّمِيعِ ذَا ائْتِسَا

مَعَ قِرَاءَةِ انْتِهَاءِ "الْحَشْرِ"

لَكِنْ حَدِيثُهُ ضَعِيفُ الْقَدْرِ

كَذَاكَ مَا أَخْرَجَ الاصْبَهَانِي

لَكِنَّهُ وَاهٍ فَلَا تُعَانِي

وَمَنْ يَقُلْ بَارِكْ لِيَ الْمَوْتَ وَمَا

مِنْ بَعْدِهِ خَمْسًا وَعِشْرِينَ نَمَا

فَمَاتَ فِي الْفِرَاشِ لَكِنِ الْخَبَرْ

مَا صَحَّ فِي هَذَا فَلَا تُلْقِ النَّظَرْ

كَذَاكَ مَنْ صَلَّى عَلَى النَّبِي مِائَهْ

وَفِيهِ مَجْهُولٌ فَكُنْ خَيْرَ فِئَهْ

كَذَاكَ مَنْ قُتِلَ دُونَ أَهْلِهِ

أَوْ دَمِهِ أَوْ دِينِهِ أَوْ مَالِهِ

أَوْ دُونَ مَظْلِمَتِهِ أَوْ لَدَغَتْ

أَفْعَى وَلَكِنِ الْحَدِيثُ مَا ثَبَتْ

وَمَنْ تَلَا الْحَشْرَ لَدَى الْمَنَامِ قَدْ

نَالَ وَمَا فِيهِ أَتَى لَا يُعْتَمَدْ

كَذَلِكَ الْمَلْدُوغُ فِيهِ وَرَدَا

مَا ضُعْفُهُ لَدَى الْوُعَاةِ قَدْ بَدَا

وَمَنْ عَلَى فِرَاشِهِ يَمُوتُ

فِي حَالَةِ الْغَزْوِ وَنِعْمَ الْمَوْتُ

وَمَنْ يَمُتْ بِمَرَضٍ وَعُلِّلَا

بِكَوْنِهِ مُصَحَّفًا قَدْ بُدِّلَا

مِنْ قَوْلِهِ "مُرَابِطًا" وَإِنْ يَمَتْ

فِي طَلَبِ الْعِلْمِ وَلَكِنْ مَا ثَبَتْ

وَمَوْتُ جُمْعَةٍ إِذَا صَحَّ كَذَا

مَوْقُوصُ مَرْكُوبٍ إِذَا مَاتَ بِذَا

مَوْتُ الْمُسَافِرِ إِذَا صَحَّ الْخَبَرْ

وَمَائِدُ الْبَحْرِ لَهُ جَاءَ الأَثَرْ

وَالْمُتَمَسِّكُ بِسُنَّةِ النَّبِي

عِنْدَ الْفَسَادِ وَالْحَدِيثُ مَا اجْتُبِي

وَحَامِلٌ لِلْوَضْعِ وَالْفِصَالِ

فَكَالْمُرَابِطِ لِحُسْنِ الْحَالِ

فَإِنْ تَمُتْ أَجْرُ الشَّهِيدِ نَالَهَا

إِنْ ثَبَتَ الْحَدِيثُ مَا أَجَلَّهَا

ص: 709

وَمَنْ يَمُتْ مُرَابِطًا وَالْخَبَرُ

بِذِكْرِهِ شَهَادَةً قُلْ مُنْكَرُ

مُؤَذِّنُ مُحْتَسِبٌ مِثْلُ الشَّهِيدْ

لَكِنَّ مَا أَتَى بِهِ غَيْرُ سَدِيدْ

وَالنُّفَسَاءُ ذَا لَهَا قَدْ وَرَدَا

وَنَسْأَلُ الإِلَهَ حَظَّ الشُّهَدَا

وَيَجْعَلَ الْفِرْدَوْسَ أَعْلَى الْجَنَّهْ

مَنْزِلَنَا فَضْلًا لَهُ وَمِنَّهْ

وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَعَالَى وَحْدَهُ

يُعْطِي الشَّهَادَةَ بِيُسْرٍ عَبْدَهُ

ثُمَّ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَبَدَا

عَلَى رَسُولِ اللهِ خَيْرِ مَنْ هَدَى

وَآلِهِ وَصَحْبِهِ الأَكَارِمِ

أَهْلِ التُّقَى وَالْفَضْلِ وَالْمَرَاحِمِ

مَا اشْتَاقَ مُؤْمِنٌ إِلَى الْجِهَادِ

وَفَازَ بِالْفِرْدَوْسِ بِاسْتِشْهَادِ

أَبْيَاتُهَا خَمْسُونَ مَعْ زِيَادَهْ

نَظَمْتُهَا أَرْجُو بِهَا الإِفَادَهْ

وَاخْتِمْ لَنَا بِالْخَيْرِ وَالْعِبَادَهْ

وَاكْتُبْ لَنَا الْحُسْنَى مَعَ الزِّيَادَهْ

انتهت المنظومة الميمونة بعد صلاة العشاء ليلة السبت المبارك 23/ 2/ 1426 هـ.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في معنى الطاعون:

قال في "الفتح": الطاعون بوزن فاعول، من الطعن، عَدَلوا به عن أصله، ووضعوه دالًّا على الموت العامّ؛ كالوباء، ويقال: طُعِن فهو مطعون، وطَعِين: إذا أصابه الطاعون، وإذا أصابه الطعن بالرمح فهو مطعون، هذا كلام الجوهريّ.

وقال الخليل: الطاعون الوباء.

وقال صاحب "النهاية": الطاعون: المرض العامّ الذي يفسد له الهواء، وتفسد به الأمزجة، والأبدان.

وقال أبو بكر ابن العربيّ: الطاعون: الوجع الغالب الذي يُطفئ الروح؛ كالذبحة، سُمِّي بذلك؛ لعموم مصابه، وسرعة قتله.

وقال أبو الوليد الباجيّ: هو مرض يعمّ الكثير من الناس، في جهة من

ص: 710

الجهات، بخلاف المعتاد من أمراض الناس، ويكون مرضهم واحدًا، بخلاف بقية الأوقات، فتكون الأمراض مختلفة.

وقال الداوديّ: الطاعون: حَبّة تخرج من الأرقاع، وفي كل طيّ من الجسد، والصحيح أنه الوباء.

وقال عياض: أصل الطاعون: القروح الخارجة في الجسد، والوباء عموم الأمراض، فسُمّيت طاعونًا؛ لِشَبَهِها بها في الهلاك، وإلا فكل طاعون وباء، وليس كل وباء طاعونًا، قال: ويدلّ على ذلك أن وباء الشام الذي وقع في عَمَوَاس إنما كان طاعونًا، وما ورد في الحديث أن الطاعون وَخْز الجنّ.

وقال ابن عبد البرّ: الطاعون: غُدَّة تخرج في الْمَرَاقّ، والآباط، وقد تخرج في الأيدي، والأصابع، وحيث شاء الله.

وقال النوويّ في "الروضة": قيل: الطاعون: انصباب الدم إلى عضو، وقال آخرون: هو هَيَجان الدم، وانتفاخه، قال المتولي: وهو قريب من الجذام، مَن أصابه تأكّلت أعضاؤه، وتساقط لحمه.

وقال الغزالي: هو انتفاخ جميع البدن من الدم، مع الحمى، أو انصباب الدم إلى بعض الأطراف، فينتفخ، ويحمرّ، وقد يذهب ذلك العضو.

وقال النووي أيضًا في "تهذيبه": هو بَئْرٌ، ووَرَمٌ مؤلم جدًّا يخرج مع لهب، ويسوَدّ ما حواليه، أو يخضرّ، أو يحمرّ حمرة شديدة بنفسجية، كَدِرةً، ويحصل معه خفقان، وقيء، ويخرج غالبًا في المراقّ والآباط، وقد يخرج في الأيدي، والأصابع، وسائر الجسد.

وقال جماعة من الأطباء، منهم أبو عليّ بن سينا: الطاعون مادّة سُمّيّة تُحْدِثُ وَرَمًا قتّالًا، يَحْدُث في المواضع الرِّخْوة، والمغابن من البدن، وأغلب ما تكون تحت الإبط، أو خلف الأذن، أو عند الأرنبة،

ص: 711

قال: وسببه دم رديءٌ مائل إلى العفونة والفساد، يستحيل إلى جوهر سُمّيٍّ يُفسد العضو، ويغيِّر ما يليه، ويؤدي إلى القلب كيفية رديئة، فيحدث القيء، والغثيان، والغشي، والخفقان، وهو لرداءته لا يقبل من الأعضاء إلا ما كان أضعف بالطبع، وأردؤه ما يقع في الأعضاء الرئيسية، والأسود منه قَلَّ من يسلم منه، وأسلمه الأحمر، ثم الأصفر، والطواعين تكثر عند الوباء في البلاد الوبئة، ومن ثَمّ أُطلق على الطاعون وباء، وبالعكس.

وأما الوباء فهو فساد جوهر الهواء الذي هو مادّة الروح، ومدده.

قال الحافظ: فهذا ما بلَغَنا من كلام أهل اللغة، وأهل الفقه، والأطباء في تعريفه.

والحاصل أن حقيقته: وَرَمٌ ينشأ عن هَيَجان الدم، أو انصباب الدم إلى عضو فيفسده، وأن غير ذلك من الأمراض العامّة الناشئة عن فساد الهواء يُسَمّى طاعونًا بطريق المجاز؛ لاشتراكهما في عموم المرض به، أو كثرة الموت.

والدليل على أن الطاعون يغاير الوباء ما جاء في "الصحيح": "أن الطاعون لا يدخل المدينة"، وما في حديث عائشة:"قَدِمنا المدينة، وهي أوبأ أرض الله"، وفيه قول بلال:"أخرجونا إلى أرض الوباء"، وما في حديث أبي الأسود:"قدِمت المدينة في خلافة عمر، وهم يموتون موتًا ذريعًا"، وما في حديث العرنيين:"أنهم استوخموا المدينة"، وفي لفظ:"أنهم قالوا: إنها أرض وبئة"، فكل ذلك يدلّ على أن الوباء كان موجودًا بالمدينة، وقد صرح الحديث الأول بأن الطاعون لا يدخلها، فدلّ على أن الوباء غير الطاعون، وأن من أطلق على كل وباء طاعونًا فبطريق المجاز.

قال أهل اللغة: الوباء هو المرض العامّ، يقال: أوبأت الأرض فهي موبئة، ووَبئت بالفتح فهي وبئة، وبالضم فهي موبوءة، والذي يفترق به

ص: 712

الطاعون من الوباء: أصل الطاعون الذي لم يتعرض له الأطباء، ولا أكثر من تكلم في تعريف الطاعون، وهو كونه من طَعْن الجنّ، ولا يخالف ذلك ما قال الأطباء من كون الطاعون ينشأ عن هَيَجان الدم، أو انصبابه؛ لأنه يجوز أن يكون ذلك يحدث عن الطعنة الباطنة، فتحدث منها المادّة السُّمّيّة، ويهيج الدم بسببها، أو ينصبّ، وإنما لم يتعرض الأطباء لكونه من طعن الجنّ؛ لأنه أمْر لا يُدرك بالعقل، وإنما يُعرف من الشارع، فتكلموا في ذلك على ما اقتضته قواعدهم.

وقال الكلاباذيّ في "معاني الأخبار": يَحْتَمِل أن يكون الطاعون على قسمين: قسم يحصل من غلبة بعض الأخلاط من دم، أو صفراء محترقة، أو غير ذلك من غير سبب يكون من الجنّ، وقسم يكون من وخز الجنّ كما تقع الجراحات من القروح التي تخرج في البدن من غلبة بعض الأخلاط، وإن لم يكن هناك طعن، وتقع الجراحات أيضًا من طعن الإنس. انتهى.

ومما يؤيد أن الطاعون إنما يكون من طعن الجنّ: وقوعه غالبًا في أعدل الفصول، وفي أصح البلاد هواءً، وأطيبها ماءً، ولأنه لو كان بسبب فساد الهواء لدام في الأرض؛ لأن الهواء يفسد تارةً، ويصح أخرى، وهذا يذهب أحيانًا، ويجيء أحيانًا على غير قياس، ولا تجربة، فربما جاء سَنة على سَنة، وربما أبطأ سنين، وبأنه لو كان كذلك لعمّ الناس، والحيوان، والموجود بالمشاهدة أنه يصيب الكثير، ولا يصيب من هم بجانبهم، مما هو في مثل مزاجهم، ولو كان كذلك لعمّ جميع البدن، وهذا يختص بموضع من الجسد، ولا يتجاوزه، ولأن فساد الهواء يقتضي تغيّر الأخلاط، وكثرة الأسقام، وهذا في الغالب يقتل بلا مرض، فدلّ على أنه مِن طَعْن الجنّ، كما ثبت في الأحاديث الواردة في ذلك.

منها: حديث أبي موسى رفعه: "فناء أمتي بالطعن والطاعون"، قيل:

ص: 713

يا رسول الله هذا الطعن قد عرفناه، فما الطاعون؟ قال:"وخز أعدائكم من الجنّ، وفي كلٍّ شهادة"، أخرجه أحمد من رواية زياد بن عِلاقة، عن رجل، عن أبي موسى، وفي رواية له عن زياد، حدّثني رجل من قومي، قال: كنا على باب عثمان ننتظر الإذن، فسمعت أبا موسى، قال زياد: فلم أرْضَ بقوله، فسألت سيد الحيّ، فقال: صدق، وأخرجه البزار، والطبرانيّ من وجهين آخرين، عن زياد، فسمّيا المبهَم يزيد بن الحارث، وسمّاه أحمد في رواية أخرى: أسامة بن شريك، فأخرجه من طريق أبي بكر النَّهْشليّ، عن زياد بن عِلاقة، عن أسامة بن شريك، قال: خرجنا في بضع عشرة نفسًا من بني ثعلبة، فإذا نحن بأبي موسى.

ولا معارضة بينه وبين من سمّاه: يزيد بن الحارث؛ لأنه يُحمل على أن أسامة هو سيد الحيّ الذي أشار إليه في الرواية الأخرى، واستثبته فيما حدّثه به الأول، وهو يزيد بن الحارث، ورجاله رجال "الصحيحين"، إلا المبهَم، وأسامة بن شريك صحابيّ مشهور، والذي سمّاه، وهو أبو بكر النهشليّ من رجال مسلم، فالحديث صحيح بهذا الاعتبار، وقد صححه ابن خزيمة، والحاكم، وأخرجاه، وأحمد، والطبرانيّ من وجه آخر، عن أبي بكر بن أبي موسى الأشعريّ، قال: سألت أبا موسى رضي الله عنه عن الطاعون، فقال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:"هو وخز أعدائكم من الجنّ، وهو لكم شهادة"، ورجاله رجال "الصحيح" إلا أبا بلج - بفتح الموحدة، وسكون اللام، بعدها جيم - واسمه يحيى، وثَّقه ابن معين، والنسائيّ، وجماعة، وضعّفه جماعة بسبب التشيّع، وذلك لا يقدح في قبول روايته عند الجمهور.

وللحديث طريق ثالثة: أخرجها الطبرانيّ من رواية عبد الله بن المختار، عن كريب بن الحارث بن أبي موسى، عن أبيه، عن جدّه، ورجاله رجال "الصحيح" إلا كريبًا، وأباه، وكريب وثّقه ابن حبان، وله حديث آخر في الطاعون، أخرجه أحمد، وصححه الحاكم، من رواية عاصم الأحول، عن كريب بن الحارث، عن أبي بردة بن قيس، أخي أبي موسى الأشعريّ، رفعه:"اللهم اجعل فناء أمتي قتلًا في سبيلك بالطعن، والطاعون".

ص: 714

قال العلماء: أراد صلى الله عليه وسلم أن يحصل لأمته أرفع أنواع الشهادة، وهو القتل في سبيل الله بأيدي أعدائهم، إما من الإنس، وإما من الجن.

ولحديث أبي موسى شاهد من حديث عائشة، أخرجه أبو يعلى، من رواية ليث بن أبي سُليم، عن رجل، عن عطاء، عنها، وهذا سند ضعيف، وآخر من حديث ابن عمر، سنده أضعف منه، والعمدة في هذا الباب على حديث أبي موسى رضي الله عنه، فإنه يُحكم له بالصحة؛ لتعدُّد طرقه إليه.

وقوله: "وخز" - بفتح أوله، وسكون المعجمة، بعدها زاي - قال أهل اللغة: هو الطعن، إذا كان غير نافذ، ووصَفَ طعن الجنّ بأنه وخز؛ لأنه يقع من الباطن إلى الظاهر، فيؤثّر بالباطن أوّلًا، ثم يؤثر في الظاهر، وقد لا ينفذ، وهذا بخلاف طعن الإنس، فإنه يقع من الظاهر إلى الباطن، فيؤثر في الظاهر أوّلًا، ثم يؤثر في الباطن، وقد لا ينفذ.

[تنبيه]: يقع في الألسنة، وهو في "النهاية" لابن الأثير تبعًا لغريبي الهرويّ بلفظ:"وخز إخوانكم"، قال الحافظ: ولم أره بلفظ "إخوانكم" بعد التتبع الطويل البالغ في شيء من طرق الحديث المسنَدة، لا في الكتب المشهورة، ولا الأجزاء المنثورة، وقد عزاه بعضهم لـ "مسند أحمد"، أو الطبرانيّ، أو "كتاب الطواعين" لابن أبي الدنيا، ولا وجود لذلك في واحد منها. انتهى كلام الحافظ رحمه الله

(1)

، وهو بحث نفيسٌ وتحقيقٌ أنيس، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4933]

(1915) - (وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ سُهَيْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ: رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا تَعُدُّونَ الشَّهِيدَ فِيكُمْ؟ "، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ مَنْ قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، قَالَ: "إِنَّ شُهَدَاءَ أُمَّتِي إِذًا

(1)

"الفتح" 13/ 130 - 134، كتاب "الطبّ" رقم (5728).

ص: 715

لَقَلِيلٌ"، قَالُوا: فَمَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: "مَنْ قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ مَاتَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ مَاتَ فِي الطَّاعُونِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ مَاتَ فِي الْبَطْنِ فَهُوَ شَهِيدٌ". قَالَ ابْنُ مِقْسَمٍ: أَشْهَدُ عَلَى أَبِيكَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ قَالَ: "وَالْغَرِيقُ شَهِيدٌ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) تقدّم قريبًا.

2 -

(جَرِيرُ) بن عبد الحميد، تقدّم قبل باب.

3 -

(سُهَيْلُ) بن أبي صالح ذكوان السّمّان، تقدّم قريبًا.

والباقيان ذُكرا قبله.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا) استفهاميّة؛ أي: أيَّ شيء (تَعُدُّونَ الشَّهِيدَ فِيكُمْ؟)؛ أي: تحسبونه، وتظنّونه، (قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ مَنْ) شرطيّة، وجوابها "فهو شهيد"، (قُتِلَ) بالبناء للمجهول، (فِي سَبِيلِ اللهِ)؛ أي: لأجل إعلاء كلمة الله سبحانه وتعالى، لا لغرض آخر دنيويّ، (فَهُوَ شَهِيدٌ، قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("إِنَّ شُهَدَاءَ أُمَّتِي إِذًا) بتنوين العوض؛ أي: إذا كان الشهيد هو من قُتل في سبيل الله فقط، فشهداء أمتي "لَقَلِيلٌ") أفرد الخبر؛ لأن قليلًا يُستعمل للواحد، وللجماعة، قال الجوهريّ رحمه الله: وقوم قليلون، وقليلٌ أيضًا، قال تعالى:{وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ} [الأعراف: 86]، ومثله "الكثير"، فقال الجوهريّ أيضًا: وقومٌ كثيرٌ، وهم كثيرون. انتهى

(1)

. وقال الفيّوميّ: قال يونس: ويقال: رجالٌ كثيرٌ، وكثيرةٌ، ونساء كثيرٌ، وكثيرة. انتهى

(2)

. (قَالُوا: فَمَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("مَنْ قُتِلَ)؛ أي: قتله الكفّار مقبلًا غير مدبر، وصابرًا محتسبًا، كما جاء في الحديث الآخر، فمن قُتل مدبرًا، فلا حظّ له من ذلك، وكذا من قُتل مرائيًا، لا حظّ له. (فِي سَبِيلِ اللهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ مَاتَ)؛

(1)

"الصحاح" للجوهريّ (882 و 902).

(2)

"المصباح المنير" 2/ 526.

ص: 716

أي: حتف أنفه، دون سبب (فِي سَبِيلِ اللهِ)؛ أي: في طريق الجهاد، أو في طريق أي خير؛ كالحجّ، أو طلب العلم، أو نحو ذلك، (فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ مَاتَ فِي الطَّاعُونِ) تقدّم أقوال العلماء في بيان معناه، في المسألة الرابعة من الحديث الماضي، (فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ مَاتَ فِي الْبَطْنِ)؛ أي: بسبب داء البطن؛ كالإسهال، أو نحوه، (فَهُوَ شَهِيدٌ"، قَالَ: ابْنُ مِقْسَمٍ) هو: عبيد الله بن مقسم المدنيّ، ثقة مشهور، من الطبقة الرابعة، تقدّمت ترجمته في "الجنائز" 23/ 2222. (أَشْهَدُ عَلَى أَبِيكَ) أبي صالح ذكوان السمّان، (فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ قَالَ) زيادة على ما سبق ("وَالْغَرِيقُ شَهِيدٌ")؛ أي: زاد هذا على الأربعة المذكورة، والله تعالى أعلم.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [51/ 4933 و 4934 و 4935](1915)، و (ابن ماجه) في "الجهاد"(2804)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(9574)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(5/ 332)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 441 و 522 و 5/ 315)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(3186 و 3187 و 3188)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 497)، و (البيهقيّ) في "شعب الإيمان"(7/ 170)، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4934]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِي عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ بَيَانٍ الْوَاسِطِيُّ، حَدَّثَنَا خَالِدٌ، عَنْ سُهَيْلِ، بِهَذَا الإِسْنَادِ مِثْلَهُ، غَيْرَ أَنَّ فِي حَدِيثِهِ: قَالَ سُهَيْلٌ: قَالَ عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مِقْسَمٍ: أَشهَدُ عَلَى أَبِيكَ أَنَّهُ زَادَ فِي هَدَا الْحَدِيثِ: "وَمَنْ غَرِقَ فَهُوَ شَهِيدٌ").

رجال هذا الإسناد: ثلاثة:

1 -

(عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ بَيَانٍ الْوَاسِطِيُّ) أبو الحسن السُّكّريّ، صدوقٌ [10](م د ق) تقدّم في "الإيمان" 78/ 407.

2 -

(خَالِدُ) بن عبد الله بن عبد الرحمن بن يزيد الطحّان، أبو الْهَيثم الواسطيّ المزنيّ مولاهم، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 182)(ع) تقدّم في "الإيمان" 78/ 407.

ص: 717

و"سهيلٌ" ذُكر قبله.

وقوله: (أَشْهَدُ عَلَى أَبِيكَ أَنَّهُ زَادَ. . . إلخ) هكذا وقع في بعض النُّسخ بلفظ: "أبيك"، وهو الصواب، ووقع في معظمها:"أشهد على أخيك. . . إلخ"، وهو غلط، قال النوويّ رحمه الله: هكذا وقع في أكثر نُسخ بلادنا: "على أخيك" بالخاء، وفي بعضها:"على أبيك" بالباء، وهذا هو الصواب، قال القاضي عياض: وقع في رواية ابن ماهان: "على أبيك"، وهو الصواب، وفي رواية الْجُلُوديّ:"على أخيك"، وهو خطأ، والصواب:"على أبيك" كما سبق في رواية زُهير، وكذا في الرواية التي بعد هذا. انتهى

(1)

.

[تنبيه]: رواية خالد الطحّان، عن سُهيل بن أبي صالح هذه ساقها ابن حبّان رحمه الله في "صحيحه"، فقال:

(3186)

- أخبرنا عمران بن موسى بن مجاشع، قال: حدّثنا وهب بن بقيّة، قال: أخبرنا خالد بن عبد الله، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من تَعُدّون الشهداء فيكم؟ "، قالوا: يا رسول الله مَن قُتل في سبيل الله فهو شهيد، قال:"إن شهداء أمتي إذًا لقليل"، قالوا: من يا رسول الله؟ قال: "مَن قُتل في سبيل الله فهو شهيد، ومن مات في سبيل الله فهو شهيد، ومن مات في الطاعون فهو شهيد، ومن مات في بطن فهو شهيد"، قال سهيل: وأخبرني عبيد الله بن مِقْسَمٍ قال: أشهد على أبيك أنه زاد في الحديث الخامس: "ومن غَرِقَ فهو شهيد". انتهى

(2)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4935]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا بَهْزٌ، حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، حَدَّثَنَا سُهَيْلٌ، بِهَذَا الإِسْنَادِ، وَفِي حَدِيثِهِ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مِقْسَمٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، وَزَادَ فِيهِ: "وَالْغَرِقُ شَهِيدٌ")

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمِ) بن ميمون، تقدّم قريبًا.

(1)

"شرح النوويّ" 13/ 63 - 64.

(2)

"صحيح ابن حبان" 7/ 458.

ص: 718

2 -

(بَهْزُ) بن أسد الْعَميّ البصريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

3 -

(وُهَيْبُ) بن خالد بن عجلان الباهليّ مولاهم، أبو بكر البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ لكنه تغيّر قليلًا في الآخر [7](ت 165)، أو بعدها (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 413.

و"سُهيل" ذُكر قبله.

[تنبيه]: رواية وُهيب، عن سُهيل هذه ساقها أبو عوانة رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(7472)

- حدّثنا يونس بن حبيب، قثنا

(1)

أبو داود، قثنا وهيب، قال: ثنا سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما تَعُدّون الشهيد فيكم؟ " قالوا: يا رسول الله مَن قُتل في سبيل الله فهو شهيد، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن شهداء أمتي إذًا لقليل"، قالوا: فمن هم يا رسول الله؟ قال: "مَن قُتل في سبيل الله فهو شهيد، ومن مات في سبيل الله فهو شهيد، والمطعون فهو شهيد، والمبطون فهو شهيد"، قال سهيل: وحدّثني عبيد الله بن مِقْسَم، عن أبي، ولم أسمعه منه، أنه زاد في هذا الحديث:"والغريق". انتهى

(2)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4936]

(1916) - (حَدَّثَنَا حَامِدُ بْنُ عُمَرَ الْبَكْرَاوِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ - يَعْنِي: ابْنَ زِيَادٍ - حَدَّثَنَا عَاصِمٌ، عَنْ حَفْصَةَ بِنْتِ سِيرِينَ، قَالَتْ: قَالَ لِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ: بِمَ مَاتَ يَحْيَى بْنُ أَبِي عَمْرَةَ؟ قَالَتْ: قُلْتُ: بِالطَّاعُونِ، قَالَتْ: فَقَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "الطَّاعُونُ شَهَادَةٌ لِكُلِّ مُسْلِمٍ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(حَامِدُ بْنُ عُمَرَ الْبَكْرَاوِيُّ) أبو عبد الرحمن البصريّ، قاضي كرمان، ثقةٌ [10](ت 233)(ح م) تقدّم في "الطهارة" 26/ 649.

(1)

قوله: "قثنا" في الموضعين مختصر من "قال: حدّثنا"، فتنبّه.

(2)

"مسند أبي عوانة" 4/ 498 - 499.

ص: 719

2 -

(عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زِيَادٍ) العبديّ مولاهم، البصريّ، ثقةٌ [8](ت 176)، أو بعدها (ع) تقدّم في "الطهارة" 11/ 584.

3 -

(عَاصِمُ) بن سليمان الأحول، أبو عبد الرحمن البصريّ، ثقةٌ [4] مات بعد سنة (140)(ع) تقدّم في "المقدمة" 5/ 27.

4 -

(حَفْصَةُ بِنْتُ سِيرِينَ) أم الهذيل الأنصاريّة البصرية ثقةٌ [3] ماتت بعد المائة (ع) تقدّمت في "العيدين" 2/ 2055.

5 -

(أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ) رضي الله عنه تقدّم قبل باب.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف، وأنه مسلسل بالبصريين من أوله إلى آخره، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّة، وفيه أنس رضي الله عنه تقدّم الكلام عليه قريبًا.

شرح الحديث:

(عَنْ حَفْصَةَ بِنْتِ سِيرِينَ) أنها (قَالَتْ: قَالَ لِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ) رضي الله عنه (بِمَ مَاتَ)"ما" استفهاميّة، ولذا حُذفت ألفها، كما هو الغالب فيها، كما قال في "الخلاصة":

وَ"مَا" فِي الاسْتِفْهَامِ إِنْ جُرَّتْ حُذِفْ

أَلِفُهَا وَأَوْلِهَا الْهَا إِنْ تَقِفْ

وَلَيْسَ حَتْمَا فِي سِوَى مَا انْخَفَضَا

بِاسْمٍ كَقَوْلِكَ اقْتِضَاءَ مَا اقْتَضَى

ووقع في رواية عند البخاريّ: "بما مات" بإثبات الألف، وهي رواية للأصيليّ، كما قال في "الفتح".

أي: بأيّ شيء مات (يَحْيَى بْنُ أَبِي عَمْرَةَ؟) هو ابن سيرين، أخو حفصة، وأبو عمرة: كنية سيرين، قال في "التقريب": يحيى بن سيرين الأنصاريّ مولاهم، أبو عمرو البصريّ، ثقةٌ من الثالثة، مات قبل أخيه محمد. انتهى

(1)

.

وقال في "التهذيب": النسائي في مسند علي: يحيى بن سيرين الأنصاريّ مولاهم، أبو عمرو البصريّ، رَوَى عن أنس بن مالك، وعَبيدة بن عمرو

(1)

"تقريب التهذيب" ص 376.

ص: 720

السَّلْمانيّ، وعنه أخوه محمد، ويحيى بن عَتيق، ذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: رُوي عن هشام بن حسان قال: يحيى يُفَضَّل على أخيه محمد، وعلى أخته حفصة، وقال العجليّ: تابعيّ ثقةٌ.

قال: وكانت وفاته بالطاعون الذي وقع بالبصرة بعد سُكنى الحَجَّاج بلدة واسط في حدود التسعين، وقال ابن سعد: أنا بكار بن محمد، قال: بلغني أن سيرين بعث بَنِيه إلى أبي هريرة، فلمّا قَدِموا كان يحيى أحفظهم، وكان ثقةً، قليل الحديث، مات قبل محمد، أخرج له النسائيّ في "مسند عليّ". انتهى

(1)

.

وقال ابن سعد في "الطبقات": يحيى بن سيرين أخو محمد بن سيرين لأمه، أمهما صفية، قال: أخبرنا بكار بن محمد، قال: بلغني أن سيرين بعث ببنيه إلى أبي هريرة، فلمّا قَدِموا كان يحيى ابنه أحفظهم، فكَنَاه أبو هريرة لِحفظه، وكان ثقةً قليلَ الحديث، ومات بجرجرايا، فقبره هناك، ومات قبل محمد بن سيرين. انتهى

(2)

.

وقال في "الفتح": وكانت وفاة يحيى في حدود التسعين من الهجرة على ما يورد من هذا الحديث، لكن أخرج البخاريّ في "التاريخ الأوسط" من طريق حماد، عن يحيى بن عَتيق، سمعت يحيى بن سيرين، ومحمد بن سيرين يتذاكران الساعة التي في الجمعة، نَقَله بعد موت أنس بن مالك، أراد أن يحيى بن سيرين مات بعد أنس بن مالك، فيكون حديث حفصة خطأ. انتهى.

وتخريجه لحديث حفصة في "الصحيح" يقتضي أنه ظهر له أن حديث يحيى بن عتيق خطأ، وقد قال في "التاريخ الصغير": حديث يحيى بن عتيق، عن حفصة خطأ، فإذا جُوِّز عليه الخطأ في حديثه عن حفصة، جاز تجويزه عليه في قوله: يحيى بن سيرين، فلعله كان أنس بن سيرين، والله أعلم. انتهى

(3)

.

(قَالَتْ) حفصة (قُلْتُ: بِالطَّاعُونِ)؛ أي: مات بسبب الطاعون، (قَالَتْ:

(1)

"تهذيب التهذيب" 11/ 200.

(2)

"الطبقات الكبرى" لابن سعد 7/ 206.

(3)

"الفتح" 13/ 149، كتاب "الطبّ" رقم (5732).

ص: 721

فَقَالَ) أنس رضي الله عنه (قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "الطَّاعُونُ شَهَادَةٌ لِكُلِّ مُسْلِمٍ")؛ أي: ولكلّ مسلمة؛ لأن النساء شقائق الرجال.

ثم إن ظاهر حديث أنس رضي الله عنه هذا يدلّ على أن الطاعون شهادة مطلقًا، لكن قال في "الفتح": هكذا جاء مطلقًا في حديث أنس رضي الله عنه، وسيأتي مقيّدًا بثلاثة قيود في حديث عائشة رضي الله عنها الآتي.

قال الجامع عفا الله عنه: الذي يظهر لي أن إطلاق حديث أنس رضي الله عنه لا يحتاج إلى التقييد بالقيود المذكورة في حديث عائشة رضي الله عنها؛ لأن حديثها بيّن حُكْم من صبر، محتسبًا إذا وقع الطاعون في بلده، سواء مات أو لم يمت، وحديث أنس رضي الله عنه بيّن حُكم من مات بالطاعون، كما هو ظاهر قصّة أنس في يحيى، وحديث عائشة رضي الله عنها سيأتي الكلام عليه في المسألة الثالثة - إن شاء الله تعالى -.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أنس بن مالك رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [51/ 4936 و 4937](1916)، و (البخاريّ) في "الجهاد"(2830) و"الطبّ"(5732)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 150 و 220 و 223 و 258 و 265)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 500)، و (ابن سعد) في "الطبقات"(7/ 206)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في إتمام البحث في حديث عائشة رضي الله عنها الموعود به آنفًا:

قال الإمام البخاريّ رحمه الله في "صحيحه":

(3287)

- حدّثنا موسى بن إسماعيل، حدّثنا داود بن أبي الفرات، حدّثنا عبد الله بن بُريدة، عن يحيى بن يعمر، عن عائشة رضي الله عنها زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الطاعون، فأخبرني:"أنه عذاب يبعثه الله على من يشاء، وأن الله جعله رحمة للمؤمنين، ليس من أحد يقع الطاعون، فيمكث في بلده، صابرًا، محتسبًا، يعلم أنه لا يصيبه إلا ما كتب الله له، إلا كان له مِثل أجر شهيد". انتهى، وهو من أفراد البخاريّ، ولم يُخرجه مسلم.

ص: 722

قوله: "فجعله الله رحمة للمؤمنين"؛ أي: من هذه الأمة، وفي حديث أبي عَسِيب عند أحمد:"فالطاعون شهادة للمؤمنين، ورحمةٌ لهم، ورجس على الكافر"، وهو صريح في أن كون الطاعون رحمة إنما هو خاصّ بالمسلمين، وإذا وقع بالكفار، فإنما هو عذاب عليهم، يُعَجَّل لهم في الدنيا قبل الآخرة، وأما العاصي من هذه الأمة، فهل يكون الطاعون له شهادة، أو يختص بالمؤمن الكامل؟ فيه نظر، والمراد بالعاصي: من يكون مرتكب الكبيرة، ويَهْجُم عليه ذلك، وهو مصرّ، فإنه يَحْتَمِل أن يقال: لا يُكْرَم بدرجة الشهادة؛ لشؤم ما كان متلبسًا به؛ لقوله تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} الآية [الجاثية: 21].

وأيضًا فقد وقع في حديث ابن عمر رضي الله عنهما ما يدلّ على أن الطاعون ينشأ عن ظهور الفاحشة، أخرجه ابن ماجه، والبيهقيّ، بلفظ:"لم تظهر الفاحشة في قوم قطّ حتى يُعلنوا بها، إلا فشا فيهم الطاعون، والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم" الحديث، وفي إسناده خالد بن يزيد بن أبي مالك، وكان من فقهاء الشام، لكنه ضعيف عند أحمد، وابن معين، وغيرهما، ووثقه أحمد بن صالح المصريّ، وأبو زرعة الدمشقيّ، وقال ابن حبان: كان يخطئ كثيرًا.

وله شاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما في "الموطأ" بلفظ: "ولا فشا الزنا في قوم قطّ إلا كَثُر فيهم الموت" الحديث، وفيه انقطاع، وأخرجه الحاكم من وجه آخر موصولًا بلفظ:"إذا ظهر الزنا، والربا في قرية، فقد أحلّوا بأنفسهم عذاب الله".

وللطبرانيّ موصولًا من وجه آخر، عن ابن عباس نحو سياق مالك، وفي سنده مقال.

وله من حديث عمرو بن العاص بلفظ: "ما من قوم يظهر فيهم الزنا، إلا أُخِذوا بالفناء" الحديث، وسنده ضعيف.

وفي حديث بُريدة عند الحاكم، بسند جيِّد بلفظ:"ولا ظهرت الفاحشة في قوم إلا سَلَّط الله عليهم الموت".

ولأحمد من حديث عائشة، مرفوعًا:"لا تزال أمتي بخير ما لم يَفْشُ فيهم وَلَدُ الزنا، فماذا فشا فيهم وَلَدُ الزنا أوشك أن يعمّهم الله بعقاب"، وسنده حسن.

ص: 723

ففي هذه الأحاديث أن الطاعون قد يقع عقوبة بسبب المعصية، فكيف يكون شهادة؟.

ويَحْتَمِل أن يقال: بل تحصل له درجة الشهادة؛ لعموم الأخبار الواردة، ولا سيما حديث أنس:"الطاعون شهادة لكل مسلم"، ولا يلزم من حصول درجة الشهادة لمن اجترح السيئات مساواة المؤمن الكامل في المنزلة؛ لأن درجات الشهداء متفاوتة؛ كنظيره من العصاة، إذا قُتل مجاهدًا في سبيل الله؛ لتكون كلمة الله هي العليا، مقبلًا غير مُدْبِر، ومن رحمة الله بهذه الأمة المحمدية أن يعجِّل لهم العقوبة في الدنيا.

ولا ينافي ذلك أن يحصل لمن وقع به الطاعون أجر الشهادة، ولا سيما وأكثرهم لم يباشر تلك الفاحشة، وإنما عمّهم - والله أعلم - لِتقاعدهم عن إنكار المنكر.

وقد أخرج أحمد، وصححه ابن حبان من حديث عتبة بن عبيد، رفعه:"القتل ثلاثة: رجل جاهد بنفسه وماله في سبيل الله، حتى إذا لَقِي العدوَّ قاتلهم حتى يُقْتَل فذاك الشهيد المفتخِر في خيمة الله تحت عرشه، لا يَفْضُله النبيّون إلا بدرجة النبوّة، ورجل مؤمن قَرَف على نفسه من الذنوب والخطايا، جاهد بنفسه وماله في سبيل الله، حتى إذا لقي العدوَّ قاتلهم، حتى يُقتل، فانمحت خطاياه، إن السيف مَحَّاء للخطايا، ورجل منافق جاهد بنفسه وماله، حتى يُقتل فهو في النار، إن السيف لا يمحو النفاق".

وأما الحديث الآخر الصحيح أن الشهيد يُغفر له كل شيء إلا الدَّين، فإنه يستفاد منه أن الشهادة لا تكفر التَّبِعات، وحصول التبعات لا يمنع حصول درجة الشهادة، وليس للشهادة معنى إلا أن الله يُثيب من حصلت له ثوابًا مخصوصًا، ويُكرمه كرامةً زائدةً، وقد بيّن الحديث أن الله يتجاوز عنه ما عدا التبعات، فلو فُرض أن للشهيد أعمالًا صالحةً، وقد كَفَّرت الشهادة أعماله السيئة غير التبعات، فإن أعماله الصالحة تنفعه في موازنة ما عليه من التبعات، وتبقى له درجة الشهادة خالصة، فإن لم يكن له أعمال صالحة، فهو في المشيئة، والله أعلم.

ص: 724

وقوله: "فليس من عبد"؛ أي: مسلم، "يقع الطاعون"؛ أي: في مكان هو فيه، "فيمكث في بلده" في رواية أحمد:"في بيته"، وللبخاريّ في "القدر" بلفظ:"يكون فيه، ويمكث فيه، ولا يخرج من البلد"؛ أي: التي وقع فيها الطاعون.

وقوله: "صابرًا"؛ أي: غير منزعج، ولا قَلِق، بل مُستسلمًا لأمر الله، راضيًا بقضائه، وهذا قَيْد في حصول أجر الشهادة لمن يموت بالطاعون، وهو أن يمكث بالمكان الذي يقع به، فلا يخرج فرارًا منه، كما ثبت النهي عنه صريحًا.

وقوله: "يعلم أنه لن يصيبه إلا ما كتب الله له" قَيْد آخر، وهي جملة حالية تتعلق بالإقامة، فلو مكث، وهو قَلِقٌ، أو متندِّم على عدم الخروج ظانًّا أنه لو خرج لَمَا وقع به أصلًا ورأسًا، وأنه بإقامته يقع به، فهذا لا يحصل له أجر الشهيد، ولو مات بالطاعون. هذا الذي يقتضيه مفهوم هذا الحديث، كما اقتضى منطوقه أن من اتُّصف بالصفات المذكورة يحصل له أجر الشهيد، وإن لم يمت بالطاعون.

قال الجامع عفا الله عنه: هكذا قرّر الحافظ رحمه الله، وفي قوله:"لا يحصل له أجر الشهيد، ولو مات. . . إلخ" نظر، قد قدّمت التنبيه عليه، فلا تنس، والله تعالى أعلم.

قال: ويدخل تحته ثلاث صور: من اتصف بذلك، فوقع به الطاعون، فمات به، أو وقع به، ولم يمت به، أو لم يقع به أصلًا، ومات بغيره عاجلًا أو آجلًا.

وقوله: "مثل أجر الشهيد" قال الحافظ: لعل السرّ في التعبير بالمِثلية مع ثبوت التصريح بأن من مات بالطاعون كان شهيدًا، أن من لم يمت من هؤلاء بالطاعون كان له مثل أجر الشهيد، وإن لم تحصل له درجة الشهادة بعينها، وذلك أن من اتصف بكونه شهيدًا أعلى درجة ممن وُعد بأنه يُعطَى مثل أجر الشهيد، ويكون كمن خرج على نية الجهاد في سبيل الله لتكون كلمة الله هي العليا، فمات بسبب غير القتل.

ص: 725

وأما ما اقتضاه مفهوم حديث الباب أن من اتصف بالصفات المذكورة، ووقع به الطاعون، ثم لم يمت منه أنه يحصل له ثواب الشهيد، فيشهد له حديث ابن مسعود رضي الله عنه الذي أخرجه أحمد، من طريق إبراهيم بن عُبيد بن رفاعة، أن أبا محمد أخبره، وكان من أصحاب ابن مسعود، أنه حدثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إن أكثر شهداء أمتي لأصحاب الفُرُش، ورُبَّ قتيل بين الصفَّين الله أعلم بنيّته"، والضمير في قوله:"أنه" لابن مسعود، فإن أحمد أخرجه في مسند ابن مسعود، ورجال سنده موثّقون.

واستُنْبِط من الحديث أن من اتّصف بالصفات المذكورة، ثم وقع به الطاعون، فمات به أن يكون له أجر شهيدين، ولا مانع من تعدد الثواب بتعدد الأسباب، كمن يموت غريبًا بالطاعون، أو نُفَساء مع الصبر والاحتساب.

والتحقيق فيما اقتضاه حديث الباب أنه يكون شهيدًا بوقوع الطاعون به، ويضاف له مثل أجر الشهيد لصبره وثباته، فإن درجة الشهادة شيء، وأجر الشهادة شيء.

وقد أشار إلى ذلك الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة، وقال: هذا هو السر في قوله: "والمطعون شهيد"، وفي قوله في هذا:"فله مثل أجر شهيد".

ويمكن أن يقال: بل درجات الشهداء متفاوتة، فأرفعها من اتصف بالصفات المذكورة، ومات بالطاعون، ودونه في المرتبة من اتصف بها، وطُعِن، ولم يمت به، ودونه من اتصف، ولم يُطْعَن، ولم يمت به.

ويستفاد من الحديث أيضًا أن من لم يتصف بالصفات المذكورة لا يكون شهيدًا، ولو وقع الطاعون، ومات به، فضلًا عن أن يموت بغيره، وذلك ينشأ عن شؤم الاعتراض الذي ينشأ عنه التضجر، والتسخط لقدر الله، وكراهة لقاء الله، وما أشبه ذلك من الأمور التي تفوت معها الخصال المشروطة، والله أعلم.

وقد جاء في بعض الأحاديث استواء شهيد الطاعون، وشهيد المعركة، فأخرج أحمد بسند حسن، عن عتبة بن عبد السّلَميّ، رفعه: "يأتي الشهداء، والمتوفون بالطاعون، فيقول أصحاب الطاعون: نحن شهداء، فيقال: انظروا،

ص: 726

فإن كان جراحهم كجراح الشهداء، تسيل دمًا، وريحها كريح المسك، فَهُم شهداء، فيجدونهم كذلك".

وله شاهد من حديث العِرْباض بن سارية، أخرجه أحمد أيضًا، والنسائيّ بسند حسن أيضًا، بلفظ:"يختصم الشهداء، والمتوفون على فُرُشهم إلى ربنا عز وجل في الذين ماتوا بالطاعون، فيقول الشهداء: إخواننا قُتلوا كما قُتلنا، ويقول الذين ماتوا على فرشهم: إخواننا ماتوا على فرشهم، كما متنا، فيقول الله عز وجل: انظروا إلى جراحهم، فإن أشبهت جراح المقتولين، فإنهم منهم، فإذا جراحهم أشبهت جراحهم".

زاد الكلاباذيّ في "معاني الأخبار" من هذا الوجه في آخره: "فيُلْحَقون بهم". انتهى ما في "الفتح"

(1)

، وهو تحقيق مفيد جدًّا، ولذا نقلته بطوله؛ تكميلًا للفائدة، وتتميمًا للعائدة؛ لأن كتابي بحر، ولا بدّ أن يحتوي على الفوائد الكثيرة؛ ليطابق اسمه مسمّاه، والله تعالى وليّ التوفيق، ومنه العون وله الحمد على ما أنعم، وألهم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4937]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَاهُ الْوَلِيدُ بْنُ شُجَاعٍ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، عَنْ عَاصِمٍ، فِي هَذَا الْإِسْنَادِ بِمِثْلِهِ).

رجال هذا الإسناد: ثلاثة:

1 -

(الْوَلِيدُ بْنُ شُجَاعِ) بن الوليد بن قيس السَّكونيّ، أبو همّام بن أبي بدر الكوفيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ [10](ت 243) على الصحيح (م د ت ق) تقدّم في "الإيمان" 77/ 402.

2 -

(عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ) القرشيّ الكوفيّ، قاضي الْمَوْصل، ثقةٌ [8](ت 189)(ع) تقدّم في "المقدمة" 2/ 6.

و"عاصم" ذُكر قبله.

(1)

"الفتح" 13/ 150 - 153، كتاب "الطبّ" رقم (5734).

ص: 727

[تنبيه]: رواية عليّ بن مسهر، عن عاصم الأحول هذه ساقها ابن حبّان رحمه الله في "الثقات"، فقال:

ثنا محمد بن إسحاق الثقفيّ، قال: ثنا أبو همام، قال: ثنا عليّ بن مُسهر، عن عاصم، عن حفصة، قالت: سألني أنس بن مالك عن يحيى بن أبي عمرة، قلت: تُوُفّي، قال: في أيّ شيء؟ قلت: في الطاعون، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: "الطاعون شهادة لكل مسلم". انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

قال الجامع الفقير إلى مولاه الغنيّ القدير محمد ابن الشيخ العلامة عليّ بن آدم بن موسى خُويدم العلم بمكة المكرّمة:

قد انتهيتُ من كتابة الجزء الثاني والثلاثين من "شرح صحيح الإمام مسلم" المسمَّى "البحرَ المحيطَ الثّجّاج شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجّاج" بعد صلاة العصر يوم الجمعة المبارك، وهو اليوم الثالث عشر من شهر رجب (13/ 7/ 1431 هـ) الموافق (25 يونيه 2010 م).

أسأل الله العليّ العظيم ربّ العرش العظيم أن يجعله خالصًا لوجهه الكريم، وسببًا للفوز بجنات النعيم لي ولكلّ من تلقّاه بقلب سليم، إنه بعباده رؤوف رحيم.

وآخر دعوانا: {أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس: 10].

{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} الآية [الأعراف: 43].

{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (182)} [الصافات: 180 - 182].

(1)

"الثقات" لابن حبّان رحمه الله 4/ 195.

ص: 728

"اللهم صلّ على محمد، وعلى آل محمد، كما صلّيت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد".

"السلام على النبيّ ورحمة الله وبركاته".

ويليه - إن شاء الله تعالى - الجزء الثالث والثلاثون مفتتحًا بـ (52) - (بَابُ فَضْلِ الرَّمْيِ، وَالْحَثِّ عَلَيْهِ، وَذَمِّ مَنْ عَلِمَهُ، ثُمَّ نَسِيَهُ) رقم [4938](1917).

"سبحانك اللهمّ وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك".

* * *

ص: 729