المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

بسم الله الرحمن الرحيم يوم الجمعة الثالث عشر من شهر رجب - البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج - جـ ٣٣

[محمد بن علي بن آدم الأثيوبي]

فهرس الكتاب

بسم الله الرحمن الرحيم

يوم الجمعة الثالث عشر من شهر رجب 13/ 7/ 1431 هـ ابتدأت بكتابة أول الجزء الثالث والثلاثين من شرح "صحيح الإمام مسلم" المسمّى "البحر المحيمط الثجّاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجّاج" رحمه الله تعالى.

(52) - (بَابُ فَضْلِ الرَّمْيِ، وَالْحَثِّ عَلَيْهِ، وَذَمِّ مَنْ عَلِمَهُ، ثُمَّ نَسِيَهُ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4938]

(1917) - (حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ مَعْرُوفٍ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ أَبِي عَلِيٍّ ثُمَامَةَ بْنِ شُفَيٍّ، أَنَّهُ سَمِعَ عُقْبَةَ بْنَ عَامِرٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ يَقُولُ: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال: 60] أَلَا إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ، ألَا إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ، ألَا إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(هَارُونُ بْنُ مَعْرُوفٍ) المروزيّ، أبو عليّ الْخَزّاز الضرير، نزيل بغداد، ثقةٌ [10](ت 231) وله (74) سنة (خ م د) تقدم في "الإيمان" 63/ 350.

2 -

(ابْنُ وَهْبٍ) هو: عبد الله المصريّ الحافظ، تقدّم قبل باب.

3 -

(عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ) بن يعقوب الأنصاريّ مولاهم، أبو أيوب المصريّ، ثقةٌ حافظٌ فقيهٌ [7] مات قبل (150)(ع) تقدم في "الإيمان" 16/ 169.

4 -

(أَبُو عَلِيٍّ ثُمَامَةُ بْنُ شُفَيٍّ) - بمعجمة، وفاء، مصغّرًا - الْهَمْدانيّ الأصبحيّ المصريّ، نزيل الإسكندريّة، ثقةٌ [3] مات في خلافة هشام بن عبد الملك قبل (120)(م د س ق) تقدم في "الجنائز" 29/ 2242.

5 -

(عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ) الْجُهنيّ الصحابيّ الشهير، أبو حمّاد، ولي إمرة مصر لمعاوية ثلاث سنين، وكان فقيهًا فاضلًا، مات في قرب الستّين (ع) تقدم في "الطهارة" 6/ 559.

ص: 5

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف، وأنه مسلسل بالمصريين، سوى شيخه، فمروزيّ، ثم بغداديّ.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي عَلِيٍّ ثُمَامَةَ بْنِ شُفَيٍّ) بصيغة التصغير (أَنَّهُ سَمِعَ عُقْبَةَ بْنَ عَامِرٍ) رضي الله عنه (يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ) جملة حاليّة من المفعول، وكذا قوله:(يَقُولُ) إما مترادفان، أو متداخلان؛ أي: قائلًا في تفسير قوله تعالى: (" {وَأَعِدُّوا لَهُمْ}) أمر الله تعالى المؤمنين بإعداد آلات الحرب لمقاتلة أعدائهم حسب الطاقة والإمكان والاستطاعة، فقال:({مَا اسْتَطَعْتُمْ})؛ أي: مهما أمكنكم، وقوله:({مِنْ قُوَّةٍ}) بيان لـ "ما استطعتم"، ثم فسّر النبيّ صلى الله عليه وسلم المراد بالقوّة هنا، فقال:(أَلَا) أداة استفتاح وتنبيه، (إِنَّ الْقُوَّةَ) بكسر همزة "إنّ" لوقوعها في استفتاح الكلام، (الرَّمْيُ، أَلَا إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ، أَلَا إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ") قال الطيبيّ رحمه الله: "ما" موصولة، والعائد محذوف، و"من قُوّة" بيان له، فالمراد هنا: نفس القوّة، وفي هذا البيان والمبيَّن إشارة إلى أن هذه العُدّة لا تستتبّ بدون المعالجة، والإدمان الطويل، وليس شيء من عُدّة الحرب وأداتها أحوج إلى المعالجة والإدمان عليها مثل القوس والرمي بها، ولذلك كرَّر صلى الله عليه وسلم تفسير القوّة بالرمي بقوله:"ألا إن القوّة الرمي" ثلاثًا. انتهى

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: القُوَّة: التقوِّي بإعداد ما يُحتاج إليه من الدروع، والْمِجَانّ، والسيوف، والرِّماح، وسائر آلات الحرب، والرَّمي، إلا أنه لمّا كان الرَّمي أنكاها في العدوّ، وأنفعها فسَّرها، وخصَّصها بالذِّكر، وأكدها بتكرارها ثلاثًا، ولم يُرِد أنها كلُّ العدّة، بل هي أنفعها، ووجه أنفعيّتها أن النِّكاية بالسِّهام تبلغ العدوّ من الشجاع وغيره، بخلاف السيف والرمح، فإنه لا تحصل النكاية بهما إلا من الشجعان الممارسين للكرِّ والفرِّ، وليس كل أحد كذلك، ثم إنها أقرب مؤنة، وأيسر محاولة وإنكاءً، ألا ترى أنه قد يُرْمَى رأس الكتيبة

(1)

"الكاشف عن حقائق السنن" 8/ 2665.

ص: 6

فينهزم أصحابه؛ إلى غير ذلك مما يحصل منه من الفوائد، والله تعالى أعلم. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي قاله القرطبيّ رحمه الله تحقيق نفيسٌ، وخلاصته أن تخصيص الرمي بالذِّكر لا يدلّ على قَصْر معنى القوّة عليه، وإنما المراد: أن الرمي من أعلى أنواع القوّة في عهده صلى الله عليه وسلم، ولا يعني ذلك أن إعداد جميع لوازم الجهاد مأمور به في كلّ عصر ومصر، والله تعالى أعلم.

وقال النوويّ رحمه الله: هذا تصريح بتفسيرها، ورَدّ لِمَا يحكيه المفسرون من الأقوال، سوى هذا، وفيه، وفي الأحاديث بعده فضيلة الرمي، والمناضلة، والاعتناء بذلك بنيّة الجهاد في سبيل الله تعالى، وكذلك المشاجعة، وسائر أنواع استعمال السلاح، وكذا المسابقة بالخيل وغيرها، كما سبق في بابه، والمراد بهذا كله التمرُّن على القتال، والتدرّب، والتحذُّق فيه، ورياضة الأعضاء بذلك. انتهى

(2)

.

وقال أبو عبد الله القرطبيّ رحمه الله في "تفسيره": قوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} الآية: أمَر الله سبحانه المؤمنين بإعداد القوّة للأعداء، بعد أن أكد تقدمةَ التقوى، فإن الله سبحانه لو شاء لهزمهم بالكلام، والتَّفْل في وجوههم، وبحَفْنة من تراب، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنه أراد أن يبتلي بعض الناس ببعض بعلمه السابق وقضائه النافذ، وكُلُّما تُعِدّه لصديقك من خير، أو لعدوّك من شرّ فهو داخل في عُدَّتك، قال ابن عباس: القوة ها هنا السلاح والقِسِيّ، وفي "صحيح مسلم" عن عقبة بن عامر مرفوعًا:"ألا إن القوّة الرمي، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي"، وهذا نصّ؛ أي: في معنى الآية.

وقال صلى الله عليه وسلم: "كل شيء يلهو به الرجل باطل، إلا رميه بقوسه، وتأديبه فرسه، وملاعبته أهله، فإنه من الحق"

(3)

.

(1)

"المفهم" 3/ 759.

(2)

"شرح النوويّ" 13/ 64.

(3)

رواه البيهقيّ في "الكبرى" 10/ 15 بإسناده عن عطاء بن أبي رباح قال: رأيت جابر بن عبد الله، وجابر بن عمير الأنصاريين رضي الله عنهما يرتميان، فملَّ أحدهما فجلس، فقال له صاحبه: أجلست؟ أما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "كل شيء ليس من =

ص: 7

قال: ومعنى هذا - والله أعلم - أن كل ما يتلهى به الرجل مما لا يفيده في العاجل، ولا في الآجل فائدةً فهو باطل، والإعراض عنه أولى.

وهذه الأمور الثلاثة، فإنه وإن كان يفعلها على أنه يتلهى بها، وينشط، فإنها حقّ؛ لاتصالها بما قد يفيد، فإن الرمي بالقوس، وتأديب الفرس جميعًا من مَعاون القتال.

وملاعبة الأهل قد تؤدي إلى ما يكون عنه وَلَد يوحّد الله ويعبده، فلهذا كانت هذه الثلاثة من الحق.

وفي سنن أبي داود، والترمذيّ، والنسائيّ، عن عقبة بن عامر رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم:"إن الله يُدخل ثلاثة نفر الجنة بسهم واحد: صانعه يَحتسب في صَنْعَته الخير، والرامي، ومُنَبِّله".

وفضلُ الرمي عظيم ومنفعته عظيمة للمسلمين، ونكايته شديدة على الكافرين، قال صلى الله عليه وسلم:"يا بني إسماعيل ارموا، فإن أباكم كان راميًا"، وتعلُّم الفروسية، واستعمال الأسلحة فرض كفاية، وقد يتعيَّن. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(1)

، وهو بحث نفيسٌ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [52/ 4938](1917)، و (أبو داود) في "الجهاد"(2514)، و (الترمذيّ) في "التفسير"(3083)، و (ابن ماجه) في "الجهاد"(2813)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 156 - 157)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 204)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4709)، و (الطبريّ) في "التفسير"

= ذِكر الله فهو سهو ولهو، إلا أربع: مشي الرجل بين الغرضين، وتأديبه فرسه، وتعلّمه السباحة، وملاعبته أهله". انتهى.

(1)

"تفسير القرطبي" 8/ 35 - 36.

ص: 8

(16225 و 16226 و 16227 و 16228 و 16229)، و (سعيد بن منصور) في "سننه"(5/ 223)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(3/ 283)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 502 - 503)، و (الحاكم) في "المستدرك"(2/ 328)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(10/ 13)، و (البغويّ) في "التفسير"(2/ 158)، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4939]

(1918) - (وَحَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ مَعْرُوفٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ أَبِي عَلِيٍّ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "سَتُفْتَحُ عَلَيْكُمْ أَرَضُونَ، وَيَكْفِيكُمُ اللهُ، فَلَا يَعْجِزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَلْهُوَ بِأَسْهُمِهِ").

هذا الإسناد هو الإسناد الماضي، والحديث قطعة من الحديث الماضي، ولذا ساقه الترمذيّ رحمه الله في "كتابه" مساقًا واحدًا، فتنبّه.

شرح الحديث:

(عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "سَتُفْتَحُ عَلَيْكُمْ أَرَضُونَ) بفتح الراء على المشهور، وحكى الجوهريّ لغةً شاذّةً بإسكانها: جَمْع أرض، بفتح، فسكون، قال المجد رحمه الله: الأرض: مؤنّثةٌ، اسم جنس، أو جَمْع بلا واحد، ولم يُسمَع أرضةٌ، وجمعه أَرَضاتٌ، وأُرُوضٌ، وأَرَضُون، وآراضٌ، والأراضي غيرُ قياسيّ. انتهى

(1)

.

وقال الفيّوميّ رحمه الله: الأرض مؤنّثةٌ، والجمع: أَرَضُون بفتح الراء، قال أبو زيد: وسمِعتُ العرب تقول في جَمْع الأرض: الأراضي، والأُرُوض، مثلُ فلوس، وجمعُ فَعْل على فَعَالِي في أرض وأراضي، وأهل وأهالي، وليل وليالي بزيادة الياء على غير قياس، وربّما ذُكّرت الأرض في الشِّعر على معنى البساط. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: جَمْع الأرض على الأرضين مخالف لطريقة

(1)

"القاموس المحيط" ص 42.

(2)

"المصباح المنير" 1/ 12.

ص: 9

جَمْع المذكّر السالم من أربعة أوجه، كونه اسم جنس، مؤنّثًا، غير عاقل، جمع تكسير؛ إذ شروط ما يُجمع هذا الجمع أن يكون عَلَمًا، أو صفة لمذكّر عاقل، خالٍ من تاء التأنيث، ومن التركيب، ويزيد في الصفة أن لا يكون من باب أفعل فعلاء، ولا من باب فعلان فعلى، ولا مما يستوي فيه المذكّر والمؤنّث، كما هو مقرّر في محلّه من كتب النحو

(1)

، والله تعالى أعلم.

(وَيَكْفِيكُمُ اللهُ)؛ أي: يكفيكم أعداءكم بإلقاء الرعب في قلوبهم، ثم يولّوا مدبرين، وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "ويكفيكم الله"؛ أي: أمْرَ العدوّ بالظهور عليه، أو التمكين منه، وقد كان كل ذلك، وهذا من دلائل صحّة نبوّته. انتهى

(2)

.

وقال القاضي عياض رحمه الله في "المشارق": أي: يكفيكم القتالَ بما فتح عليكم، وظهور دينكم؛ أي: لا يوجب ذلك من حُكم الرمي والتدرّب في أمور الحرب؛ للحاجة إليها يومًا ما. انتهى

(3)

.

(فَلَا يَعْجِزُ) يَحْتَمل أن تكون "لا" ناهيةً، والفعل مجزوم بها، ويَحْتَمل أن تكون نافيةً، والفعل مرفوع، وفي رواية الترمذيّ:"فلا يعجزنّ".

وقوله: "يعجز" بكسر الجيم على المشهور، وبفتحها في لغة، قاله النوويّ رحمه الله

(4)

، وقال المجد رحمه الله: الْعَجْز، والْمَعْجِز، والْمَعْجِزة، وتُفتح جميعها، والْعَجَزَان، محرَّكةً، والْعُجُوز بالضمّ: الضَّعف، والفعل كضَرَبَ، وسَمِعَ. انتهى

(5)

.

قال الفيّوميّ رحمه الله: عَجَزَ عن الشيء عَجْزًا، من باب ضَرَب، ومَعْجِزة بالهاء، وحذفها، ومع كلّ وجه فتح الجيم، وكَسْرها: ضَعُفَ عنه، وعَجِزَ عَجَزًا، من باب تَعِبَ لغة لبعض قيس عَيْلان، ذكرها أبو زيد، وهذه اللغة غير معروفة عندهم، وقد روى ابن فارس بسنده إلى ابن الأعرابيّ أنه لا يقال: عَجِز

(1)

راجع: "الخلاصة"، و"شروحها" عند قوله:

وَارْفَعْ بِوَاوٍ وَبِيَا اجْرُرْ وَانْصِبِ

سَالِمَ جَمْعِ عَامِرٍ وَمُذْنِبِ

(2)

"المفهم" 3/ 760.

(3)

"مشارق الأنوار" 1/ 346.

(4)

"شرح النوويّ" 13/ 65.

(5)

"القاموس المحيط" ص 842.

ص: 10

الإنسانُ بالكسر إلا إذا عَظُمت عَجِيزته. انتهى

(1)

.

(أَحَدُكُمْ أَنْ يَلْهُوَ)؛ أي: يشتغل، قال ابن الأثير رحمه الله: اللَّهْوُ: اللَّعِبُ، يقال: لَهَوتُ بالشيء أَلْهُو لَهْوًا، وتلهّيتُ به: إذا لَعِبتَ به، وتشاغلتَ، وغَفَلْتَ به عن غيره، وألهاه عن كذا؛ أي: شَغَله، ولَهِيتُ عن الشيء بالكسر أَلْهَى بالفتح لِهِيًّا: إذا سَلَوتَ عنه، وتركتَ ذِكره، وإذا غفلت عنه، واشتَغَلتَ. انتهى

(2)

.

وقال الفيّوميّ: اللهو معروفٌ، يقول أهل نجد: لَهَوتُ عنه أَلْهُو لُهِيًّا، والأصل على فُعُول، من باب قعد، وأهل العالية يقولون: لَهِيتُ عنه أَلْهَى، من باب تَعِبَ، ومعناه: السُّلْوانُ، والترك، ولَهْوتُ به لَهْوًا، من باب قَتَل: أُولِعْتُ به، وتلهّيت به أيضًا، قال الطَّرْطُوشيّ: وأصل اللهو: الترويح عن النفس بما لا تقتضيه الحكمة. انتهى

(3)

.

وقوله: (بِأَسْهُمِهِ") بفتح الهمزة، وضمّ الهاء: جمع سَهم، بفتح، فسكون، وهو واحد النَّبل، وقيل: هو نفس النَّصْلِ

(4)

.

قال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "فلا يعجز أن يلهو. . . إلخ"؛ أي: يجعل الرَّمي بدلًا من اللهو، فيدوم عليه، ويشتغل به حتى لا ينساه، ولا يغفل عنه فيأثم، على ما جاء في حديث عقبة بن عامر، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله يدخل بالسَّهم الواحد ثلاثة نفر الجنَّة: صانعه يحتسبه في صنعه الخير، ومُنَبِّله، والرامي به، وأن ترموا أحبّ إليّ من أن تركبوا، ليس من اللهو إلا ثلاث: تأديب الرجل فرسه، وملاعبته أهله، ورميه بقوسه ونبله، ومن ترك الرمي بعدما تعلمه رغبةً عنه فإنها نعمة تركها - أو قال: كَفَرها -"، أخرجه أبو داود

(5)

، ويدلّ عليه حديث فُقَيم المذكور بعد هذا. انتهى

(6)

.

وقال الأبيّ رحمه الله: قوله: "فلا يعجز. . . إلخ" الفاء للسبب، وكأنه قيل: إن الله تعالى سيفتح عليكم الروم قريبًا، وهم رُماة، وسيكفيكم الله شرّهم

(1)

"المصباح المنير" 2/ 393.

(2)

"النهاية" ص 848.

(3)

"المصباح المنير" 2/ 559.

(4)

"المصباح المنير" 1/ 293.

(5)

حديث ضعيف، في إسناده مجهول.

(6)

"المفهم" 3/ 760.

ص: 11

بواسطة الرمي، فلا يعجز أحدكم أن يلهو بأسهمه، ولا عليكم أن تهتموا بالرمي، حتى إذا حاربتم الروم تكونون متمكّنين منه، وإنما أُخْرِج مخرج اللهو إمالة للنفوس على تعلّمه، فإن النفوس مجبولة على ميلها إلى اللهو. انتهى

(1)

.

وقال الطيبيّ رحمه الله: الفاء في قوله: "فلا يعجز" سببيّة، كأنه قيل: إن الله تعالى سيفتح لكم عن قريب الروم، وهم رُماة، ويكفيكم الله تعالى بواسطة الرمي شرّهم، فإذن لا يعجز أحدكم أن يلهو بأسهمه؛ أي: عليكم أن تهتمّوا بشأن النضال، وتمرّنوا فيه، وعَضّوا عليه بالنواجذ حتى إذا زاولتم محاربة الروم تكونوا متمكّنين منه، وإنما أخرجه مخرج اللهو إمالة للرغبات إلى تعلّم الرمي، وإلى الترامي، والمسابقة، فإن النفوس مجبولة على ميلها إلى اللهو. انتهى

(2)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [52/ 4939 و 4940](1918)، و (الترمذيّ) في "التفسير"(3083)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 157)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4697)، و (سعيد بن منصور) في "سننه"(2/ 206)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 503)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(3/ 282)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(17/ 912)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(10/ 13)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائد أحاديث عقبة بن عامر رضي الله عنه المذكورة في الباب:

1 -

(منها): بيان المعنى المراد بالآية الكريمة: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} الآية، قال القاضي عياض رحمه الله: هذا التفسير يقضي على سائر

(1)

"شرح الأبّيّ" 5/ 264.

(2)

"الكاشف عن حقائق السنن" 8/ 2666.

ص: 12

التفاسير فيه أنه العدّة والسلاح، وقد يَحْتَمل أن مراده صلى الله عليه وسلم: أن الرمي أنكأ للقذف، ورأس أنواع القوّة، فسمّاه قوّةً لهذا؛ لَمّا كان معظمها، وأنفعها، وأنكاها للعدوّ. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: معنى هذا الاحتمال الأخير من قول القاضي رحمه الله أنه كقوله صلى الله عليه وسلم: "الحجّ عرفة"، والله تعالى أعلم.

2 -

(ومنها): الحثّ على تعلّم الرمي، والتمهّر فيه.

3 -

(ومنها): جواز المناضلة، والمسابقة بالسهام، والحضّ على ذلك، وأن لا يُترك، وإن استُغني عنه بما كفى الله من الفتح على الأعداء، وظهور الدِّين.

4 -

(ومنها): جواز اللعب بالسلاح، والمثاقفة، وإجراء الخيل، وأشباه ذلك؛ إذ في كلّ ذلك التمرّن، والاستعداد، ومعاهدة الجسم، ورياضة الأعضاء بها، قاله القاضي عياض رحمه الله

(2)

.

5 -

(ومنها): أن فيه الوعيدَ الشديدَ لمن تعلّم الرمي، ثم تَرَكه، لا لعذر شرعيّ، فقد قال صلى الله عليه وسلم فيه:"فليس منّا"، وعيد شديد، فلا ينبغي للمسلم أن يتساهل في هذا الأمر، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4940]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَاهُ دَاوُدُ بْنُ رُشَيْدٍ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ، عَنْ بَكْرِ بْنِ مُضَرَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ أَبِي عَلِيٍّ الْهَمْدَانِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ عُقْبَةَ بْنَ عَامِرٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِهِ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(دَاوُدُ بْنُ رُشَيْدٍ) الهاشميّ مولاهم الْخُوَارزْميّ، نزيل بغداد، ثقةٌ [10](ت 239)(خ م د س ق) تقدم في "الإيمان" 10/ 148.

2 -

(الْوَلِيدُ) بن مسلم القرشيّ مولاهم، أبو العبّاس الدمشقيّ، ثقةٌ كثير التدليس والتسوية [8](ت 4 أو 195)(ع) تقدم في "الإيمان" 10/ 148.

(1)

"إكمال المعلم" 6/ 346.

(2)

"إكمال المعلم" 6/ 346 - 347.

ص: 13

3 -

(بَكْرُ بْنُ مُضَرَ) بن محمد بن حكيم، أبو محمد، أو أبو عبد الله المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 3 أو 170)(خ م د ت س) تقدم في "الإيمان" 36/ 249.

والباقون ذُكروا قبله، و"أبو عليّ الْهَمْدانيّ" هو:"ثمامة بن شُفيّ" المذكور قبله.

[تنبيه]: رواية بكر بن مضر، عن عمرو الحارث هذه لم أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4941]

(1919) - (حَدَّثَنَا مُحَمَدُ بْنُ رُمْحِ بْنِ الْمُهَاجِرِ، أخْبَرَنَا اللَّيْثُ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ يَعْقُوبَ، عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ شَمَاسَةَ، أَنَّ فُقَيْمًا اللَّخْمِيَّ قَالَ لِعُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ: تَخْتَلِفُ بَيْنَ هَذَيْنِ الْغَرَضَيْنِ، وَأنتَ كَبِيرٌ يَشُقُّ عَلَيْكَ؟، قَالَ عُقْبَةُ: لَوْلَا كلَامٌ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ أُعَانِهِ، قَالَ الْحَارِثُ: فَقُلْتُ لِابْنِ شُمَاسَةَ: وَمَا ذَاكَ؟ قَالَ: إِنَّهُ قَالَ: "مَنْ عَلِمَ الرَّمْيَ، ثم تَرَكَهُ فَلَيْسَ مِنَّا، أَوْ قَدْ عَصَى").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحِ بْنِ الْمُهَاجِرِ) التُّجيبيّ المصريّ، تقدّم قبل باب.

2 -

(اللَّيْثُ) بن سعد الإمام المصريّ الشهير، تقدّم أيضًا قبل باب.

3 -

(الْحَارِثُ بْنُ يَعْقُوبَ) بن ثعلبة، ويقال: ابن عبد الله الأنصاريّ مولاهم المصريّ، والد عمرو، ثقةٌ عابد [5].

رَوَى عن سهل بن سعد، وأبي الْحُبَاب سعيد بن يسار، ويعقوب بن عبد الله بن الأشج، وعبد الرحمن بن شماسة، وغيرهم.

وروى عنه ابنه عمرو، ويزيد بن أبي حبيب، والليث، وبكر بن مضر، وغيرهم.

قال ابن معين: ثقةٌ، وقال النسائيّ: ليس به بأس، وقال الليث: كان يعقوب أفضل من ابنه الحارث، وكان الحارث أفضل من ابنه عمرو، وقال موسى بن ربيعة: كان الحارث من العبّاد، وذَكَره ابن حبان في "الثقات".

قال ابن يونس: تُوُفّي سنة (130).

ص: 14

أخرج له البخاريّ في "خلق أفعال العباد"، والمصنّف، والترمذيّ، والنسائيّ، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث، هذا برقم (1919)، وحديث (2708):"من نزل منزلًا، ثمّ قال. . ." الحديث، وأعاده بعده، وحديث (2709):"لو قلت حين أمسيت. . ." الحديث.

4 -

(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ شَمَاسَةَ) بتثليث الشين المعجمة

(1)

، وتخفيف الميم، بعدها مهملة - الْمَهْريّ - بفتح الميم، وسكون الهاء - المصريّ، ثقةٌ [3](ت 101) أو بعدها (م 4) تقدم في "الإيمان" 57/ 328.

و"عقبة بن عامر" رضي الله عنه ذُكر قبله.

شرح الحديث:

(عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ شَمَاسَةَ) تقدّم أنه بتثليث الشين، (أَنَّ فُقَيْمًا) بضمّ الفاء، مصغّرًا، لم أجد من ترجمه، وقوله:(اللَّخْمِيَّ) بفتح اللام، وسكون الخاء المعجمة: نسبة إلى أبي قبيلة، واسمه مالك بن عديّ بن الحارث بن مُرّة بن أُدد بن زيد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان، قاله في "اللباب"

(2)

. (قَالَ لِعُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ) رضي الله عنه (تَخْتَلِفُ) بتقدير همزة الاستفهام؛ أي: أتتردّد؛ أي: تذهب، وتجيء مرّة بعد أخرى (بَيْنَ هَذَيْنِ الْغَرَضَيْنِ) بفتحتين: الهَدَف الذي يُرمَى إليه، والجمع: أغراضٌ، مثلُ سبب وأسباب، وتقول: غرضه كذا على التشبيه بذلك؛ أي: مَرْماه الذي يقصده، وفُعِل لغرض صحيح؛ أي: لِمَقْصِد، قاله الفيّوميّ

(3)

.

وقوله: (وَأنْتَ كَبِيرٌ) جملة في محلّ نصب على الحال من الفاعل؛ أي: والحال أنك كبير السنّ، وقوله:(يَشُقُّ عَلَيْكَ؟) جملة في محل رفع صفة لـ "كبيرُ"، و"يشُقّ" بضمّ الشين، وزانُ ينصُرُ، وكان عقبة رضي الله عنه يمارس الرمي ليتحفّظ على تمرّنه به مع كونه شيخًا كبيرًا، فسأله فُقيم لمّا رأى من شدّة اهتمامه به.

(1)

ذكر الكسر في "التقريب"، و"الخلاصة"، وذكر الضمّ والفتح النوويّ، وصاحب "القاموس"، حيث قال:"شُماسة" كقُمامة، ويُفتح: اسمٌ. انتهى.

(2)

"اللباب في تهذيب الأنساب" 3/ 130.

(3)

"المصباح المنير" 2/ 445.

ص: 15

(قَالَ عُقْبَةُ) رضي الله عنه (لَوْلَا كَلَامٌ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ أُعَانِهِ) بضم الهمزة مضارع عانى، يقال: عاناه يعانيه معاناةً: إذا قاساه، كتعنّاه

(1)

؛ أي: لم أقاسه، ولم أتحمّل المشقّة فيه.

ووقع في معظم النسخ بلفظ: "لم أعانيه" بإثبات الياء مع الجازم، وهو لغة، ومنه قول الشاعر [من الوافر]:

أَلَمْ يَأْتِيكَ وَالأَنْبَاءُ تَنْمِي

بِمَا لَاقَتْ لَبُونُ بَنِي زِيَادَ

والأول أفصح، وقد سبق نظيره غير مرّة، والله تعالى أعلم.

(قَالَ الْحَارِثُ) بن يعقوب (فَقُلْتُ لـ) عبد الرحمن (ابْنِ شُمَاسَةَ: وَمَا ذَاكَ؟)؛ أي: الكلام الذي سمعه عقبة منه صلى الله عليه وسلم، (قَالَ) ابن شماسة (إِنَّهُ)؛ أي: النبيّ صلى الله عليه وسلم (قَالَ: "مَنْ عَلِمَ) بفتح أوله، وكسر ثانيه، (الرَّمْيَ، ثُمَّ تَرَكَهُ فَلَيْسَ مِنَّا)؛ أي: بمتّصل بنا، معدود في زمرتنا، وهو أشدّ ممّن لم يتعلّم؛ لأنه لم يدخل في زمرتهم، وهذا دخل، ثم خرج، كأنه رأى النقص فيه، أو استهزأ به، وكلّ ذلك كفران لتلك النعمة الخطيرة، قاله الطيبيّ

(2)

.

وقال النوويّ: هذا فيه تشديد عظيم لمن نسي الرمي بعد تعلّمه، وهو مكروه كراهة شديدةً لمن تَرَكه بلا عذر. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: ظاهر الوعيد يدلّ على تحريمه، فليُتأمّل، والله تعالى أعلم.

وقوله: (أَوْ) للشكّ من الراوي، هل قال صلى الله عليه وسلم:"فليس منّا"، أو قال:(قَدْ عَصَى")، وهو أيضًا وعيد شديد؛ لأن عصيان الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، خطر عظيم، كما قال الله تعالى:{وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} [الأحزاب: 36]، وقال:{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63]، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1)

راجع: "القاموس" ص 922.

(2)

"الكاشف عن حقائق السنن" 8/ 2666.

ص: 16

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [52/ 4941](1919)، و (ابن ماجه) في "الجهاد"(2814)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 148)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 503 و 504)، و (الطبراني) في "الكبير"(17/ 318)، و (الرويانيّ) في "مسنده"(1/ 196)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(10/ 13)، والله تعالى أعلم.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(53) - (بَابُ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي، ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ، لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ")

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4942]

(1920) - (حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَأَبُو الرَّبِيعِ الْعَتَكِيُّ، وَقُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالُوا: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ - وَهُوَ ابْنُ زَيْدٍ - عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَبِي أَسْمَاءَ، عَنْ ثَوْبَانَ، قَالَ: فَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أمَّتِي، ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ، لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ، حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ، وَهُمْ كَذَلِكَ"، وَلَيْسَ: فِي حَدِيثِ قُتَيْبَةَ: "وَهُمْ كَذَلِكَ").

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ) الْخُرَاسانيّ، نزيل مكة، تقدّم قريبًا.

2 -

(أَبُو الرَّبِيعِ الْعَتَكِيُّ) سليمان بن داود، تقدّم أيضًا قريبًا.

3 -

(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) تقدّم قبل بابين.

4 -

(حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ) تقدّم أيضًا قبل بابين.

5 -

(أَيُّوبُ) بن أبي تميمة كيسان السَّخْتيانيّ، أبو بكر البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ حجةٌ فقيهٌ عابد [5](ت 131)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 305.

ص: 17

6 -

(أَبُو قِلَابَةَ) عبد الله بن زيد بن عمرو، أو عامر الْجَرْميّ البصريّ، ثقةٌ فاضلٌ كثير الإرسال، قيل: فيه نَصْبٌ يسير [3](104) أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 17/ 173.

7 -

(أَبُو أَسْمَاءَ) الرَّحَبيّ، عمرو بن مَرْثد الدمشقيّ، ويقال: اسمه عبد الله، ثقةٌ [3] مات في خلافة عبد الملك (بخ م 4) تقدم في "الحيض" 7/ 722.

8 -

(ثَوْبَانُ) بن بُجدُد الهاشميّ، مولى النبيّ صلى الله عليه وسلم، صَحِبه، ولازمه، ونزل بعده الشام، ومات بحمص سنة (54)(بخ م 4) تقدم في "الحيض" 7/ 722.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من سُداسيّات المصنّف، وأن نصفه الأول مسلسل بالبصريين، سوى سعيد، فخراسانيّ، ثم مكيّ، وقتيبة، فبغلانيّ، ونصفه الثاني مسلسل بالشاميين، وفيه ثلاثة من التابعين روى بعضهم عن بعض: أيوب، عن أبي قلابة، وهو عمّه، عن أبي أسماء، وفيه ثوبان رضي الله عنه، لا يوجد أحد شاركه في الكتب الستّة.

شرح الحديث:

(عَنْ ثَوْبَانَ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا تَزَالُ)"لا" نافية، ولذا رُفع الفعل بعدها، و"تزال" مضارع زِيلَ، كعَلِمَ، قال الفيّوميّ رحمه الله: وما زال يفعل كذا، ولا أزال أفعله، لا يُتكلّم به إلا بحرف النفي، والمراد به: ملازمة الشيء، والحالُ الدائمة، مثلُ ما بَرِحَ وزنًا ومعنًى، وقد تكلّم بعض العرب على أصله، فقال: ما زَيلَ زيد يفعل كذا. انتهى.

وهي من الأفعال التي ترفع الاسم، وتنصب الخبر واسمها، قوله:(طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي)؛ أي: جماعة منهم، وَهُم الذين قال الله تعالى في حقّهم:{وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (181)} [الأعراف: 181]، والطائفة: الفِرْقة من الناس، والقطعة من الشيء، وأقلها ثلاثة، وربما أُطلقت على الواحد والاثنين، وقوله:(ظَاهِرِينَ)؛ أي: غالبين أعداءهم، أو مَن خالفهم، أو المراد بالظهور: أنهم غير مستترين، بل مشهورون، والأول أَولى؛ لحديث عقبة الآتي:"قاهرين لعدوّهم"، وقوله:(عَلَى الْحَقِّ) متعلّق بحال مقدّر؛ أي: حال

ص: 18

كونهم كائنين على الحقّ؛ أي: الثابت من الله عز وجل على لسان نبيّه صلى الله عليه وسلم. (لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ)؛ أي: تَرَك نُصرتهم وإعانتهم، يقال: خذله، من باب قَتَلَ: إذا ترك نصرته وإعانته، وتأخّر عنه، (حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ)؛ أي: إلى أن تأتي العلامة التي يؤذن بقيام الساعة، وهي الريح التي تقبض روح كلّ مؤمن ومؤمنة، كما سيأتي في حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه في الباب، وقوله:(وَهُمْ كَذَلِكَ") جملة في محلّ نَصب على الحال؛ أي: والحال أنهم ظاهرون عن أعدائهم.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الحديث سَبَق شرحه مع ما يُشبهه في أواخر "كتاب الإيمان"، وذَكَرْنا هناك الجمع بين الأحاديث الواردة في هذا المعنى، وأن المراد بقوله صلى الله عليه وسلم:"حتى يأتي أمر الله" هي الريح التي تأتي، فتأخذ روح كل مؤمن ومؤمنة، وأن المراد برواية من روى:"حتى تقوم الساعة"؛ أي: تَقْرُب الساعة، وهو خروج الريح المذكورة.

وأما هذه الطائفة فقال البخاريّ: هم أهل العلم، وقال أحمد بن حنبل: إن لم يكونوا أهل الحديث فلا أدري من هم؟ قال القاضي عياض: إنما أراد أحمد أهلَ السُّنَّة والجماعة، ومن يعتقد مذهب أهل الحديث.

قال النوويّ: ويَحْتَمِل أن هذه الطائفة مفرّقة بين أنواع المؤمنين، منهم شجعان مقاتلون، ومنهم فقهاء، ومنهم محدِّثون، ومنهم زهاد، وآمرون بالمعروف، وناهون عن المنكر، ومنهم أهل أنواع أخرى من الخير، ولا يلزم أن يكونوا مجتمعين، بل قد يكونون متفرقين في أقطار الأرض.

وفي هذا الحديث معجزة ظاهرة للنبيّ صلى الله عليه وسلم، فإن هذا الوصف ما زال - بحمد الله تعالى - من زمن النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى الآن، ولا يزال حتى يأتي أمر الله المذكور في الحديث.

وفيه دليل لكون الإجماع حجةً، وهو أصحّ ما استُدلّ به له من الحديث، وأما حديث:"لا تجتمع أمتي على ضلالة" فضعيف، والله أعلم. انتهى

(1)

.

وقوله: (وَلَيْسَ فِي حَدِيثِ قُتَيْبَةَ: "وَهُمْ كذَلِكَ") بيّن به اختلاف شيوخه

(1)

"شرح النوويّ" 13/ 66 - 67.

ص: 19

في ذِكر جملة: "وهم كذلك"، فذَكَره سعيد، وأبو الربيع، وأسقطه قتيبة، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث ثوبان رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [53/ 4942](1920)، و (أبو داود) في "الفتن"(4252)، و (الترمذيّ) في "الفتن"(2330)، و (ابن ماجه) في "المقدّمة"(10) و"الفتن"(3952)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 279)، و (سعيد بن منصور) في "سننه"(2/ 177)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 508)، و (ابن أبي عاصم) في "الآحاد والمثاني"(1/ 332)، و (الحاكم) في "المستدرك"(4/ 496)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(9/ 226)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): حديث ثوبان رضي الله عنه هذا أخرجه المصنّف مختصرًا، وسيأتي له في "كتاب الفتن" بأطول مما هنا، ونصّه:

(2889)

- حدّثنا أبو الربيع العتكيّ، وقتيبة بن سعيد، كلاهما عن حماد بن زيد، واللفظ لقتيبة، حدّثنا حماد، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أبي أسماء، عن ثوبان، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله زوى لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ مُلكها ما زوى لي منها، وأُعطيت الكنزين: الأحمر والأبيض، وإني سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها بسُنَّة عامّة، وأن لا يسلط عليهم عدوًّا من سوى أنفسهم، فيستبيح بيضتهم، وإن ربي قال: يا محمد إني إذا قضيت قضاءً، فإنه لا يُردُّ، وإني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم بسُنَّة عامة، وأن لا أسلّط عليهم عدوًّا من سوى أنفسهم، يستبيح بيضتهم، ولو اجتمع عليهم مَنْ بأقطارها - أو قال: من بين أقطارها - حتى يكون بعضهم يُهلك بعضًا، ويَسبي بعضهم بعضًا". انتهى

(1)

.

وقد ساقه أبو داود في "سننه" بأتمّ من هذا، فقال:

(1)

"صحيح مسلم" 4/ 2215.

ص: 20

(4252)

- حدّثنا سليمان بن حرب، ومحمد بن عيسى، قالا: ثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أبي أسماء، عن ثوبان، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله زَوَى لي الأرض، أو قال: إن ربي زوى لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن مُلك أمتي سيبلغ ما زُوي لي منها، وأُعطيت الكنزين: الأحمر والأبيض، وإني سألت ربي لأمتي أن لا يُهلكها بسُنَّة بعامّة، ولا يسلّط عليهم عدوًّا من سوى أنفسهم، فيستبيح بيضتهم، وإن ربي قال لي: يا محمد إني إذا قضيت قضاء، فإنه لا يُرَدّ، ولا أهلكهم بسُنَّة بعامة، ولا أسلّط عليهم عدوًّا من سوى أنفسهم، فيستبيح بيضتهم، لو اجتمع عليهم مَن بين أقطارها، أو قال: بأقطارها، حتى يكون بعضهم يُهلك بعضًا، وحتى يكون بعضهم يَسبي بعضًا، وإنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين، وإذا وُضع السيف في أمتي لم يُرفع عنها إلى يوم القيامة، ولا تقوم الساعة حتى تلحق قبائل من أمتي بالمشركين، وحتى تَعبُد قبائل من أمتي الأوثان، وإنه سيكون في أمتي كذابون ثلاثون، كلهم يزعم أنه نبيّ، وأنا خاتم النبيين، لا نبي بعدي، ولا تزال طائفة من أمتي على الحقّ - قال ابن عيسى: ظاهرين، ثم اتفقا - لا يضرهم من خالفهم، حتى يأتي أمر الله". انتهى

(1)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4943]

(1921) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ (ح) وَحَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، وَعَبْدَةُ، كِلَاهُمَا عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ (ح) وَحَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ - وَاللَّفْظُ لَهُ - حَدَّثَنَا مَرْوَانُ - يَعْنِي: الْفَزَارِيَّ - عَنْ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ قَيْسٍ، عَنِ الْمُغِيرَةِ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لَنْ يَزَالَ قَوْمٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى النَّاسِ، حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللهِ، وَهُمْ ظَاهِرُونَ").

رجال هذا الإسناد: تسعة:

1 -

(عَبْدَةُ) بن سليمان الكلابيّ، أبو محمد الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ، من صغار [8](ت 187) أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 61/ 339.

(1)

"سنن أبي داود" 4/ 97.

ص: 21

2 -

(إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ) البجليّ الأحمسيّ مولاهم، أبو عبد الله الكوفيّ، ثقةٌ [4](ت 146)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 299.

3 -

(مَرْوَانُ الْفَزَارِيُّ) ابن معاوية بن الحارث بن أسماء، أبو عبد الله الكوفيّ، نزيل مكة، ثقةٌ حافظ، يدلّس أسماء الشيوخ [8](ت 193)(ع) تقدم في "الإيمان" 8/ 138.

4 -

(قَيْسُ) بن أبي حازم البجليّ، أبو عبد الله الكوفيّ، مخضرمٌ ثقةٌ [2] مات قبل بعد التسعين، أو قبلها، وقد جاوز المائة، وتغيّر (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 475.

5 -

(الْمُغِيرَةْ) بن شعبة بن مسعود بن معتّب الثقفيّ الصحابيّ الشهير، أسلم قبل الحديبية، وولي إمرة البصرة، ثمّ الكوفة، ومات سنة خمسين على الصحيح (ع) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.

والباقون تقدّموا قريبًا، و"ابن نُمير" هو: محمد بن عبد الله بن نُمير، و"ابن أبي عمر" هو: محمد بن يحيى بن أبي عمر العدنيّ، ثم المكيّ.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنف، وأنه مسلسلٌ بالكوفيين، غير ابن أبي عمر، كما أسلفته آنفًا، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ مخضرم، وفيه قيس بن أبي حازم التابعيّ الوحيد الذي اجتمع له الرواية عن العشرة المبشّرين بالجنّة.

شرح الحديث:

(عَنْ قَيْس) بن أبي حازم، قال في "الفتح": وقد اتفق الرواة عن إسماعيل على أنه عن قيس، عن المغيرة، وخالفهم أبو معاوبة، فقال: عن سعيد بدل المغيرة، فأورده أبو إسماعيل الهرويّ في "ذمّ الكلام"، وقال: الصواب قول الجماعة: عن المغيرة، وحديث سعد عند مسلم، لكن من طريق أبي عثمان، عن سعد. انتهى

(1)

.

(عَنِ الْمُغِيرَةِ) بن شعبة رضي الله عنه، أنه (قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:

(1)

هو الحديث الآتي آخر الباب.

ص: 22

(لَنْ يَزَالَ قَوْمٌ) قيل: أتى بكلمة "لن" لتوكيد الحكم؛ لتطمئنّ قلوبهم، وللترغيب لإعداد أسباب الظَّفر والغلبة، وهذه الغلبة والظَّفر لا يختصّ بقوم دون قوم، أو زمان دون زمان، أو مكان دون مكان، والله تعالى أعلم.

وفي رواية البخاريّ من طريق عبيد الله بن موسى، عن إسماعيل:"لا تزال طائفة"(مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى النَّاسِ) المراد بالناس: أعداؤهم، كما في حديث معاوية رضي الله عنه الآتي بلفظ:"ظاهرين على من ناوأهم"؛ أي: خالفهم.

(حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللهِ) قال ابن بطّال رحمه الله

(1)

: المراد بأمر الله في هذا الحديث: الساعة، وتعقّبه في "الفتح"، فقال: والصواب: أمر الله بقيام الساعة، فيرجع إلى حكمه وقضائه. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: لا وجه للتعقّب المذكور، فإن المعنَيَيْن مآلهما واحد؛ لأن المراد بالساعة في قول ابن بطّال: هي العلامة التي تقدّم بيانها، وتلك العلامة تجيء إذا أمر الله عز وجل بقيام الساعة، فلا تخالُفَ بينهما، فتأمّل، والله تعالى أعلم.

(وَهُمْ ظَاهِرُونَ")؛ أي: غالبون على من خالفهم، أو المراد بالظهور: أنهم غير مستترين، بل مشهورون، والأول أَولى، وفي حديث جابر بن سمرة رضي الله عنه التالي:"لن يبرح هذا الدين قائمًا تقاتِل عليه عصابة من المسلمين، حتى تقوم الساعة"، وفي حديث عقبة بن عامر الآتي أيضًا:"لا تزال عصابة من أمتي يقاتلون على أمر الله، قاهرين لعدوّهم لا يضرّهم من خالفهم، حتى تأتيهم الساعة".

وقد تقدّم الجمع بينه وبين حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: "لا تقوم الساعة إلا على شرار الخَلْق، هم شرٌّ من أهل الجاهلية، لا يدعون الله بشيء إلا ردّه عليهم"، كما سيأتي لمسلم في "كتاب الفتن"، وفيه معارضة عقبة بن عامر رضي الله عنه بهذا الحديث، فقال عبد الله بن عمرو: أجل، ثم يبعث الله ريحًا كريح المسك، فلا تترك نَفْسًا في قلبه مثقال حبة من إيمان إلا قبضته، ثم يبقى

(1)

"شرح البخاريّ" لابن بطّال 10/ 477.

(2)

"الفتح" 17/ 466، كتاب "التوحيد"(7459).

ص: 23

شرار الناس عليهم تقوم الساعة. وهذا أَولى ما يُتَمَسَّك به في الجمع بين الحديثين المذكورين، كما قاله الحافظ رحمه الله

(1)

.

ونقل ابن بطال عن الطبريّ في الجمع بينهما: أن شرار الناس الذين تقوم عليهم الساعة يكونون بموضع مخصوص، وأن موضعًا آخر يكون به طائفة، يقاتلون على الحقّ لا يضرهم من خالفهم، والجمع الأول أَولى وأوضح، كما أسلفناه آنفًا، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنف) هنا [53/ 4943 و 4944](1921)، و (البخاريّ) في "المناقب"(3640) و "الاعتصام"(7311) و"التوحيد"(7459)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 244 و 248)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 507 - 508)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(20/ 402)، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4944]

(. . . .) - (وَحَدَّثَنِيهِ مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، حَدَّثَنِي إِسْمَاعِيلُ، عَنْ قَيْسٍ، قَالَ: سَمِعْتُ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ، بِمِثْلِ حَدِيثِ مَرْوَانَ سَوَاءً).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ) النيسابوريّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(أَبُو أُسَامَةَ) حمّاد بن أسامة، تقدّم أيضًا قريبًا.

والباقون ذُكروا قبله.

وقوله: (بِمِثْلِ حَدِيثِ مَرْوَانَ سَوَاءً) قيل: المماثلة في قوله: "لن يزال"، وقوله:"على الناس"، وقوله:(وهم ظاهرون)،

(2)

والله تعالى أعلم.

(1)

راجع: "الفتح" 17/ 201 رقم (7311).

(2)

منقول من هامش النسخة التركيّة 6/ 53.

ص: 24

[تنبيه]: رواية أبي أسامة، عن إسماعيل بن أبي خالد هذه ساقها الطبرانيّ في "المعجم الكبير"، مقرونة برواية وكيع، وعليّ بن مسهر، ويعلى بن عُبيد، فقال:

(960)

- حدّثنا عبيد بن غنّام، ثنا أبو بكر بن أبي شيبة (ح) وحدّثنا الحسين بن إسحاق التستريّ، ثنا عثمان بن أبي شيبة، قالا: ثنا وكيع، وأبو أسامة، وعليّ بن مسهر (ح) وحدّثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، حدّثني أبي، ثنا يعلى بن عبيد، كلهم عن إسماعيل، عن قيس، عن المغيرة بن شعبة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تزال من أمتي قوم، ظاهرين، حتى يأتيهم أمر الله، وهم ظاهرون". انتهى

(1)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4945]

(1922) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَمُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "لَنْ يَبْرَحَ هَذَا الدِّينُ قَائِمًا، يُقَاتِلُ عَلَيْهِ عِصَابَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(سِمَاكُ بْنُ حَرْبِ) بن أوس بن خالد الذُّهْليّ البكري، أبو المغيرة الكوفيّ، صدوق، مضطرب في عكرمة خاصّة، وتغيّر بآخره، فربّما تلقّن [4](ت 123)(خت م 4) تقدم في "الإيمان" 64/ 365.

2 -

(جَابِرُ بْنُ سَمُرَةَ) بن جُنادة السُّوائيّ الصحابيّ ابن الصحابيّ، نزل الكوفة، ومات بها بعد سنة (70)(ع) تقدم في "الحيض" 24/ 808.

والباقون تقدّموا قريبًا.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف، وأن شيخيه من التسعة الذين روى عنهم الجماعة بلا واسطة، وقد تقدّموا غير مرّة، وأنه مسلسل بالبصريين إلى سماك، وهو والصحابيّ كوفيّان، وأن صحابيّه ابن صحابيّ رضي الله عنهما.

(1)

"المعجم الكبير" للطبرانيّ 20/ 402.

ص: 25

شرح الحديث:

(عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ) رضي الله عنهما (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "لَنْ يَبْرَحَ) - بفتح أوله، وثالثه - يقال: بَرِحَ الشيءُ يَبْرَحُ، من باب تَعِب بَرَاحًا: زال من مكانه، ومنه قيل لليلة الماضية: البارحة، والعرب تقول قبل الزوال: فعلنا الليلة كذا؛ لقربها من وقت الكلام، وتقول بعد الزوال: فعلنا البارحة، قاله الفيّوميّ

(1)

. (هَذَا الدِّينُ) الإسلاميّ (قَائِمًا)؛ أي: ثابتًا غير متزحزح، ولا متأثّر بعواصف هوى أعدائه، وما يُبيّتونه من حقد وبغض ومكر وخديعة، وقوله:(يُقَاتِلُ عَلَيْهِ) هذه الجملة مستأنَفة بيانًا للجملة الأولى، وعدّاه بـ "على"؛ لتضمينه معنى يظاهر، والله تعالى أعلم. (عِصَابَةٌ) بالكسر؛ أي: جماعة (مِنَ الْمُسْلِمِينَ، حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ") تقدّم أن المراد به مجيء علامته، وهي الريح الليّنة التي تقبض روح كلّ مؤمن ومؤمنة، وقال المناويّ رحمه الله: يعني أن هذا الدين لم يزل قائمًا بسبب مقاتلة هذه الطائفة، وفيه بشارة بظهور أمر هذه الأمة على سائر الأمم إلى قيام الساعة، قال ابن جماعة: ولعله بدعوة النبيّ صلى الله عليه وسلم التي دعاها لأمته أن لا يسلط عليهم عدوًّا من غيرهم. انتهى

(2)

، والله تعالى أعلم.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث جابر بن سَمُرة رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله، ولم يُخرجه أحد من أصحاب الأصول الستّة.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [53/ 4945](1922)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 92 و 94 و 103 و 105 و 106 و 108) و (ابنه عبد الله) في "زوائده"(5/ 98)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 505)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(2/ 225)، والله تعالى أعلم.

(1)

"المصباح المنير" 1/ 42.

(2)

"فيض القدير شرح الجامع الصغير" للمناويّ 5/ 301.

ص: 26

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4946]

(1923) - (حَدَّثَنِي هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، وَحَجَّاجُ بْنُ الشَّاعِرِ، قَالَا: حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ، أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي، يُقَاتِلُونَ عَلَى الْحَقِّ، ظَاهِرِينَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) بن مروان الحمّال الْبَزّاز، أبو موسى البغداديّ، ثقةٌ [10](ت 243)(م 4) تقدم في "الإيمان" 64/ 361.

2 -

(حَجَّاجُ بْنُ الشَّاعِرِ) هو: حجاج بن أبي يعقوب يوسف بن حجاج الثقفيّ البغداديّ، ثقةٌ حافظٌ [11](ت 259)(م د) تقدم في "المقدمة" 6/ 40.

3 -

(حَجَّاجٌ بْنُ مُحَمَّدٍ) المصّيصيّ الأعور، أبو محمد الترمذيّ الأصل، نزيل بغداد، ثم المِصِّيصة، ثقةٌ ثبتٌ، اختلط في آخره، لَمّا قَدِمَ بغداد [9](ت 206)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 94.

4 -

(ابْنُ جُرَيْجٍ) هو: عبد الملك بن عبد العزيز بن جُريج الأمويّ مولاهم، المكيّ، ثقةٌ فاضلٌ، يدلّس ويُرسل [6](ت 150)(ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 129.

5 -

(أَبُو الزُّبَيْرِ) هو: محمد بن مسلم بن تَدْرُس الأسديّ مولاهم المكيّ، صدوقٌ يدلّس [4](ت 126)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 119.

6 -

(جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) بن عمرو بن حَرَام الأنصاريّ السَّلَميّ الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما مات بعد السبعين، وهو (94) سنة (ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 117، والله تعالى أعلم.

قال الجامع عفا الله عنه: حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله، وقد تقدّم في "كتاب الإيمان" بأتمّ مما هنا، واستوفيت شرحه، وبيان مسائله هنالك، فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4947]

(1037)

(1)

- (حَدَّثَنَا مَنْصُورُ بْنُ أَبِي مُزَاحِمٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ

(1)

هذا الرقم مكرّر.

ص: 27

حَمْزَةَ، عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ، أَنَّ عُمَيْرَ بْنَ هَانِئٍ حَدَّثَهُ، قَالَ: سَمِعْتُ مُعَاوِيَةَ عَلَى الْمِنْبَرِ، يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي قَائِمَةً بِأَمْرِ اللهِ، لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ، أَوْ خَالَفَهُمْ، حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ، وَهُمْ ظَاهِرُونَ عَلَى النَّاسِ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(مَنْصُورُ بْنُ أَبِي مُزَاحِمٍ) بشير التُّركيّ، أبو نصر البغداديّ الكاتب، ثقةٌ [10](235) تقدم في "الإيمان" 38/ 255.

2 -

(يَحْيَى بْنُ حَمْزَةَ) بن واقد الحضرميّ، أبو عبد الرحمن الدمشقيّ القاضي، ثقةٌ رُمي بالقدر [8](ت 183) على الصحيح، وله (80) سنة (ع) تقدم في "الإيمان" 46/ 294.

3 -

(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ) الأزديّ، أبو عُتبة الشاميّ الدارانيّ، ثقةٌ [7] مات سنة بضع و (150)(ع) تقدم في "الإيمان" 10/ 148.

4 -

(عُمَيْرُ بْنُ هَانِئٍ) الْعَنْسيّ، أبو الوليد الدمشقيّ الدارانيّ، ثقةٌ، من كبار [4] قُتل سنة (127) أو قبل ذلك (ع) تقدم في "الإيمان" 10/ 148.

5 -

(مُعَاوِيَةُ) بن أبي سفيان صخر بن حرب بن أُميّة الأمويّ، أبو عبد الرحمن الصحابيّ ابن الصحابيّ الخليفة، أسلم قبل الفتح، وكَتَب الوحي، ومات في رجب سنة ستّين، وقد قارب الثمانين (ع) تقدم في "الصلاة" 8/ 858.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالشاميين، إلا شيخه، فبغداديّ، وصحابيّه هو الصحابيّ الخليفة المشهور رضي الله عنه.

شرح الحديث:

(عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ) الأزديّ الدارانيّ (أَنَّ عُمَيْرَ بْنَ هَانِئٍ) الْعَنْسيّ الدارانيّ (حَدَّثَهُ، قَالَ: سَمِعْتُ مُعَاوِيَةَ) بن أبي سفيان رضي الله عنه، وقوله:(عَلَى الْمِنْبَرِ) متعلّق بحال مقدّر؛ أي: حال كونه كائنًا على المنبر، (يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي قَائِمَةً بِأَمْرِ اللهِ)؛ أي: ثابتةً عليه، يقال: قام بالأمر يقوم قيامًا: إذا ثبت عليه، ولزمه، (لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ

ص: 28

خَذَلَهُمْ) تقدّم أنه من باب قتل؛ أي: أذلّهم، وتَرَك نُصرتهم وإعانتهم، وهم المعنيّون بقوله تعالى:{وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (181)} [الأعراف: 181]. (أَوْ) للشكّ من الراوي، هل قال:"خذلهم"، أو قال (خَالَفَهُمْ، حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ) المراد به الساعة؛ أي: علامتها، كما سبق قريبًا. (وَهُمْ ظَاهِرُونَ) جملة في محلّ نصب على الحال؛ أي: والحال أن هؤلاء الطائفة غالبون (عَلَى النَّاسِ") متعالُون عليهم، والله تعالى أعلم.

قال الجامع عفا الله عنه: حديث معاوية رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه، وقد تقدّم تخريجه، وبيان بقيّة مسائله في "كتاب الزكاة"[34/ 2389 و 2392](1037)، فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق.

والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4948]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، أَخْبَرَنَا كَثِيرُ بْنُ هِشَامٍ، حَدَّثَنَا جَعْفَرٌ - وَهُوَ ابْنُ بُرْقَانَ - حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ الأَصَمِّ، قَالَ: سَمِعْتُ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ، ذَكَرَ حَدِيثًا، رَوَاهُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَمْ أَسْمَعْهُ رَوَى عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى مِنْبَرِهِ حَدِيثًا غَيْرَهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ، وَلَا تَزَالُ عِصَابَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، يُقَاتِلُونَ عَلَى الْحَقِّ، ظَاهِرِينَ عَلَى مَنْ نَاوَأَهُمْ، إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ) الكوسج، تقدّم قريبًا.

2 -

(كَثِيرُ بْنُ هِشَامٍ) الْكِلابيّ، أبو سهل الرَّقّيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ [9](ت 7 أو 208)(بخِ م 4) تقدم في "الإيمان" 63/ 357.

3 -

(جَعْفَرُ بْنُ بُرْقَانَ) الْكِلابيّ، أبو عبد الله الرّقّيّ، ثقةٌ يَهِم في حديث الزهريّ [7](ت 150) أو بعدها (بخ م 4) تقدم في "الإيمان" 63/ 357.

4 -

(يَزِيدُ بْنُ الأَصَمِّ) واسمه عمرو بن عُبيد بن معاوية البكّائيّ، أبو عوف الكوفيّ، نزيل الرّقّة، وهو ابن أخت ميمونة أم المؤمنين رضي الله عنها، يقال: له رؤية، ولا يثبتُ، ثقةٌ [3](ت 103)(بخ م 4) تقدم في "الإيمان" 63/ 357.

ص: 29

و"معاوية رضي الله عنه" ذُكر قبله.

وقوله: (مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ)"مَن" موصولة تضمّنت معنى الشرط، فلذلك جُزم بها "يُرِدْ"، و"يُفَقِّهْهُ"؛ لأنهما فعل الشرط والجزاء.

وقوله: (خَيْرًا)؛ أي: منفعةً، وهو ضدُّ الشرّ، وهو هنا اسم، وليس بأفعل تفضيل، وإنما نكّره لإفادة التعميم؛ لأن النكرة في سياق الشرط كالنكرة في سياق النفي، فالمعنى: مَن يُرِد الله به جميع الخيرات، ويجوز أن يكون التنوين للتعظيم، والمقام يقتضي ذلك، كما في قول الشاعر:

لَهُ حَاجِبٌ عَنْ كُلِّ أَمْرٍ يَشِينُهُ

أي: حاجبٌ عظيم، ومانعٌ قويّ.

وقوله: (يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ) بجزم "يُفقّهه" على أنه جواب الشرط؛ أي: يجعله فقيهًا في الدين، والفقه لغةً: الفهم، وعُرفًا: العلم بالأحكام الشرعية الفرعية عن أدلتها التفصيلية بالاستدلال، ولا يناسب هنا إلَّا المعنى اللغويّ؛ ليتناول فَهْم كلِّ عِلم من علوم الدين.

وقال في "الفتح": قوله: "يُفَقِّهْهُ"؛ أي: يُفَهِّمه، وهي ساكنة الهاء؛ لأنها جواب الشرط، يقال: فَقُه بالضم: إذا صار الفقه له سجيةً، وفَقَهَ بالفتح: إذا سبق غيرَهُ إلى الفهم، وفَقِهَ بالكسر: إذا فَهِمَ، ونَكَّر "خيرًا"؛ ليشمل القليل والكثير، أو التنكير للتعظيم؛ لأن المقام يقتضيه، ومفهوم الحديث أن من لم يتفقه في الدين؛ أي: يتعلم قواعد الإسلام، وما يتصل بها من الفروع، فقد حُرِمَ الخير، وقد أخرج أبو يعلى حديثَ معاوية رضي الله عنه من وجه آخر ضعيف، وزاد في آخره:"ومن لم يتفقه في الدين لم يبال الله به"، والمعنى صحيحٌ؛ لأن من لم يَعرف أمور دِينه لا يكون فقيهًا، ولا طالب فقه، فيصحُّ أن يوصف بأنه ما أريد به الخير، وفي ذلك بيان ظاهر لفضل العلماء على سائر الناس، ولفضل التفقه في الدين على سائر العلوم. انتهى

(1)

.

وقال صاحب "التكملة": وفي الحديث فضيلة ظاهرة للتفقّه في الدين، وليس ذلك علمًا بالألفاظ والنقوش، ولا حفظًا للروايات والجزئيّات، ولكنه

(1)

"الفتح" 1/ 290، كتاب "العلم" رقم (71).

ص: 30

مَلَكة راسخة، ومذاق سليم يُدرك الشخص بهما لبّ الشريعة الإسلاميّة، ومغزاها، ولا يكاد يحصل ذلك إلا بصحبة أهل هذه الملكة، ولا يكفي في ذلك قراءة الكتب، ودراستها. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي قاله صاحب "التكملة" من أنه لا يحصل ذلك إلا بصحبة أهل هذه الملكة، هذا هو الأفضل والأَوْلى لمن تيسّر له ذلك، وهو الطريق السليم الذي درج عليه السالف الصالح، ومَنْ خَلَفهم بالإحسان، ولكن إذا لم يتيسّر ذلك فطريق الوصول إليه قراءة كتبهم، وحِفظها، وفَهْمها، والإدمان لذلك، والمثابرة عليه، فمن ثابر على ذلك، ومرّن نفسه عليه، حتى يصير كالملكة له، فإنه يحظى بالفتح المبين، وإلى ذلك أشرت بقولي مرشدًا طالب علم الحديث:

يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ فَاعْلَمْ أَنَّهُ

لَا بُدَّ فِي ذَا الْعِلْمِ أنْ تُتْقِنَهُ

مُلَازِمًا مَجَالِسَ الْحَفَظَةِ

مُحْتَرِمًا لَهُمْ بِلَا أَنَفَةِ

بِالْحِفْظِ وَالْفَهْمِ وَلِلتَّقْوَى الْزَمِ

مَعَ التَّوَاضُعِ لِكُلِّ مُسْلِمِ

مُذَاكِرًا بِالْفَهْمِ مَعْ أُولِي الْهُدَى

مُجَانِبًا ذَوِي الْخَبَالِ وَالرَّدَى

إِنْ لَمْ تَجِدْ مُذَاكِرًا فَلْتَلْزَمِ

مُطَالِعًا كَلَامَ أَهْلِ الْقَدَمِ

فَإِنَّ مَنْ رُزِقَ أَنْ يُطَالِعَا

كَلَامَهُمْ بِالْحِفْظِ وَالْفَهْمِ مَعَا

فَإِنَّهُ يَنَالُ فَتْحَ الْبَابِ

مِنْ رَبِّهِ الْكَاشِفِ لِلْحِجَابِ

نَسْأَلُكَ اللَّهُمَّ أَنْ تَجْعَلَنَا

مِنْ فَيْضِ هَذَا الْفَنِّ قَدْ نِلْنَا الْمُنَى

وَقوله: (عَلَى مَنْ نَاوَأَهُمْ) بهمزة بعد الواو؛ أي: عاداهم، وهو مأخوذ مِن نأى إليهم، ونأوا إليه؛ أي: نهضوا للقتال، قاله النوويّ

(2)

، وتمام البحث فيه تقدّم في الحديث الماضي، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4949]

(1924) - (حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ وَهْبٍ، حَدَّثَنَا عَمِّي عَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْبٍ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ،

(1)

"تكملة فتح الملهم" 3/ 471.

(2)

"شرح النوويّ" 13/ 67.

ص: 31

حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ شُمَاسَةَ الْمَهْرِيُّ، قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ مَسْلَمَةَ بْنِ مُخَلَّدٍ، وَعِنْدَهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، فَقَالَ عَبْدُ اللهِ: لَا تَقُومُ السَّاعَةُ إِلا عَلَى شِرَارِ الْخَلْقِ، هُمْ شَرٌّ مِنْ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ، لَا يَدْعُونَ اللهَ بِشَيْءٍ إِلَّا رَدَّهُ عَلَيْهِمْ، فَبَيْنَمَا هُمْ عَلَى ذَلِكَ أَقْبَلَ عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ، فَقَالَ لَهُ مَسْلَمَةُ: يَا عُقْبَةُ اسْمَعْ مَا يَقُولُ عَبْدُ اللهِ، فَقَالَ عُقْبَةُ: هُوَ أَعْلَمُ، وَأَمَّا أَنَا فَسَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:"لَا تَزَالُ عِصَابَةٌ مِنْ أُمَّتِي يُقَاتِلُونَ عَلَى أَمْرِ اللهِ، قَاهِرِينَ لِعَدُوِّهِمْ، لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ، حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ، وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ"، فَقَالَ عَبْدُ اللهِ: أَجَل، ثُمَّ يَبْعَثُ اللهُ رِيحًا كَرِيحِ الْمِسْكِ، مَسُّهَا مَسُّ الْحَرِيرِ، فَلَا تَتْرُكُ نَفْسًا فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنَ الإِيمَانِ إِلَّا قَبَضَتْهُ، ثُمَّ يَبْقَى شِرَارُ النَّاسِ، عَلَيْهِمْ تَقُومُ السَّاعَةُ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ وَهْبٍ) المصريّ، لقبه بَحْشَل، أبو عبيد الله، صدوقٌ تغيّر بآخره [11](ت 264)(م) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 19/ 1277.

2 -

(يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ) يسار المصريّ، تقدّم قريبًا.

3 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ) رضي الله عنهما، تقدّم أيضًا قريبًا.

والباقون تقدّموا في الباب الماضي.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالمصريين، من أوله إلى آخره، ومسلسل بالتحديث كذلك، وفيه رواية الراوي عن عمّه، وتابعيّ عن تابعيّ.

شرح الحديث:

عن عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ شُمَاسَةَ الْمَهْرِيِّ، أنه (قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ مَسْلَمَةَ) - بفتح الميم، واللام - (ابْنِ مُخَلَّدٍ) - بضمّ الميم، وفتح الخاء المعجمة، وتشديد اللام المفتوحة، بوزن محمد - الأنصاريّ الزُّرَقيّ، سكن مصر، وكان واليًا عليها أيام معاوية.

رَوَى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وروى عنه أسلم أبو عمران، وشيبان بن أمية،

ص: 32

وعبد الرحمن بن شماسة، وعليّ بن رَبَاح، ومجاهد بن جبر، وغيرهم.

قال عليّ بن رَبَاح عن مسلمة: وُلدت حين قدم النبيّ صلى الله عليه وسلم المدينة، ومات وأنا ابن عشر سنين، وقال ابن يونس: تُوُفّي في ذي القعدة سنة اثنتين وستين، وله ستون سنةً، قال هذا ابن يونس، وتعقّبه الحافظ، فقال: بل وله اثنتان وستون؛ لأنه أَخبر أن مولده في السنة الأولى، كما ترى، ولكن ذكر محمد بن الربيع الْجِيزيّ عنه أنه قال: مات النبيّ صلى الله عليه وسلم ولي أربع عشرة سنةً، وكذا ذكر ابن سعد، فعلى هذا يكون ابن أربع وستين.

وحكى ابن أبي حاتم في "المراسيل" عن أحمد أنه قال: ليست له صحبة، وكذا قال أبو حاتم، وقال البخاريّ: له صحبة، وقال العسكريّ: له رؤية، وليست له صحبة، وقال الواقديّ: رجع إلى المدينة أيام معاوية، فمات بها، وقال ابن حبان: مات بمصر، وقال ابن عبد البرّ: كانت مدة ولايته على مصر وإفريقية ست عشرة سنةً. أخرج له أبو داود فقط

(1)

.

(وَعِنْدَهُ)؛ أي: عند مسلمة (عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ) رضي الله عنهما (فَقَالَ عَبْدُ اللهِ) رضي الله عنه، ظاهر هذا أنه من كلام عبد الله موقوفًا، ولكن مثل هذا لا يقال بالرأي، وسيأتي في "كتاب الفتن" من حديث النوّاس بن سَمْعان رضي الله عنه مرفوعًا. (لَا) نافية، ولذا رُفع الفعل بعدها، (تَقُومُ السَّاعَةُ إِلَّا عَلَى شِرَارِ الْخَلْقِ، هُمْ)؛ أي: هؤلاء الذين تقوم عليهم الساعة، (شَرٌّ) بفتح الشين، وتشديد الراء مخفّف أشرّ، كخير مخفّف أخير، قال ابن مالك في "الكافية":

وَغَالِبًا أَغْنَاهُمُ خَيْرٌ وَشَرّْ

عَنْ قَوْلِهِمْ أَخْيَرُ مِنْهُ وَأَشَرّْ

(مِنْ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ) قال ابن الأثير رحمه الله: الجاهليّة تكرّر ذِكرها في الحديث، وهي الحالة التي كانت عليها العرب قبل الإسلام، من الجهل بالله تعالى، ورسوله صلى الله عليه وسلم، وشرائع الدين، والمفاخرة بالأنساب، والكِبْر، والتجبّر، وغير ذلك. انتهى

(2)

. (لَا يَدْعُونَ اللهَ بِشَيْءٍ) من حوائجهم الدنيويّة والأخرويّة (إِلَّا رَدَّهُ عَلَيْهِمْ) يعني: لا يستجيب لهم بنيل من طلبوا؛ لسوء حالهم. (فَبَيْنَمَا

(1)

"تهذيب التهذيب" 4/ 78.

(2)

"النهاية في غريب الحديث والأثر" ص 176.

ص: 33

هُمْ)؛ أي: مسلمة، وعبد الله بن عمر، ومن معهم (عَلَى ذَلِكَ) الحديث الذي حدّثهم به عبد الله بن عمرو، (أَقْبَلَ عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ) الْجُهنيّ رضي الله عنه (فَقَالَ لَهُ مَسْلَمَةُ) بن مُخَلَّد (يَا عُقْبَةُ اسْمَعْ مَا يَقُولُ عَبْدُ اللهِ) بن عمرو؛ يعني: الحديث المذكور، (فَقَالَ عُقْبَةُ) رضي الله عنه (هُوَ أَعْلَمُ)؛ أي: عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أعلم منّي؛ لأنه من السابقين إلى الإسلام، وممن أكثر مجالسته صلى الله عليه وسلم، (وَأَمَّا أَنَا فَسَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:"لَا تَزَالُ عِصَابَةٌ) بالكسر؛ أي: جماعة (مِنْ أُمَّتِي يُقَاتِلُونَ عَلَى أَمْرِ اللهِ)؛ أي: لأجل ما أمر الله تعالى بمقاتلته، حال كونهم (قَاهِرِينَ)؛ أي: غالبين (لِعَدُوِّهِمْ) بالحجة والسِّنان، (لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ، حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ)؛ أي: القيامة، (وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ")؛ أي: والحال أنهم مقاتلون، قاهرون لعدوّهم. (فَقَالَ عَبْدُ اللهِ) بن عمرو (أَجَلْ) كنَعَمْ وزنًا ومعنَى؛ يعني: أن الذي قلته حقّ وصدقٌ، قاله النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولكن له تَتِمّة، لم تذكره، وهو قوله:(ثُمَّ يَبْعَثُ اللهُ رِيحًا كَرِيحِ الْمِسْكِ)؛ أي: كطيب ريح المسك، (مَسُّهَا مَسُّ الْحَرِيرِ)؛ أي: في اللِّين، (فَلَا تَتْرُكُ نَفْسًا فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنَ الإِيمَانِ إِلَّا قَبَضَتْهُ)؛ يعني: يموت بسببها، (ثُمَّ يَبْقَى شِرَارُ النَّاسِ، عَلَيْهِمْ تَقُومُ السَّاعَةُ)، فهذا الكلام أراد به عبد الله رضي الله عنه التوفيق بين الحديثين، وَوَجْهُهُ أن قوله صلى الله عليه وسلم:"حتى تأتيهم الساعة" أراد به إتيان العلامة، وهي الريح المذكورة، فلا تعارض، ولا تنافي بين الحديثين، والله تعالى أعلم.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عبد الله بن عمرو، وعقبة بن عامر رضي الله عنهم هذا من أفراد المصنّف رحمه الله، لم يُخرجه أحد من أصحاب الكتب الستّة غيره.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [53/ 4949](1924)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6836)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(17/ 869 و 870)، و (الحاكم) في "المستدرك"(4/ 503)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 507)، و (الرويانيّ) في "مسنده"(1/ 162)، والله تعالى أعلم.

ص: 34

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4950]

(1925) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ، عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا يَزَالُ أَهْلُ الْغَرْبِ ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ، حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ النيسابوريّ، تقدّم قبل باب.

2 -

(هُشَيْمُ) بن بَشِير بن القاسم بن دينار السلميّ، أبو معاوية بن أبي خازم الواسطيّ، ثقةٌ ثبتٌ، كثير التدليس والإرسال الخفيّ [7](ت 183)، وقد قارب الثمانين (ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 9.

3 -

(دَاوُدُ بْنُ أَبِي هِنْدٍ) القُشيريّ مولاهم، أبو بكر، أو أبو محمد البصريّ، ثقةٌ متقنٌ [5](ت 140) أو قبلها (خت م 4) تقدم في "الإيمان" 27/ 221.

4 -

(أَبُو عُثْمَانَ) عبد الرحمن بن ملّ

(1)

بن عمرو النهديّ الكوفيّ، ثمّ البصريّ، مخضرم ثقة ثبتٌ عابدٌ، من كبار [2] (ت 95) وقيل: بعدها، عاش (130) وقيل: أكثر (ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 9.

5 -

(سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ) مالك بن وُهيب بن عبد مناف بن زُهرة بن كلاب الزهريّ، أبو إسحاق الصحابيّ الشهير، مات بالعقيق سنة (55) على المشهور، ثم نقل إلى المدينة، ودُفن بالبقيع (ع) 6/ 71.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف، وأن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ مخضرم، وأن صحابيّه من مشاهير الصحابة رضي الله عنهم، ذو مناقب جمّة، فهو من السابقين إلى الإسلام، وأول من رمى بسهم في سبيل الله، وأحد العشرة المبشّرين بالجنّة، وهو آخرهم موتًا.

شرح الحديث:

(عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا يَزَالُ

(1)

مثلّث الميم، واللام مشدّدة.

ص: 35

أَهْلُ الْغَرْبِ) قال ابن الأثير رحمه الله: قيل: أراد بهم أهل الشام؛ لأنهم غرب الحجاز، وقيل: أراد بالغرب: الحدّة والشوكة، يريد: أهل الجهاد، وقال ابن المدينيّ: الغرب ها هنا الدلو، وأراد بهم العرب؛ لأنهم أصحابها، وهم يستقون بها. انتهى

(1)

.

وقال السيوطيّ رحمه الله في "الديباج": قيل: المراد بهم العرب، والغرب الدلو الكبيرة؛ لاختصاصهم بها غالبًا، وقيل: المراد: القوّة والشدّة والْجِدّ، وغَرْب كلِّ شيء حَدُّه، وقيل: المراد: الغرب من الأرض الذي هو ضدّ الشرق، فقيل: المراد أهل الشام، وقيل: الشام وما وراء ذلك، وقيل: أهل بيت المقدس.

قال القرطبيّ: أول الغرب بالنسبة إلى المدينة النبوية هو الشام، وآخره حيث تنقطع الأرض من الغرب الأقصى، وما بينهما، كلُّ ذلك يقال عليه: مغربٌ، فهل المراد المغرب كله، أو أوله؟ كلُّ ذلك مُحْتَمِلٌ.

وقال أبو بكر الطرطوشيّ في رسالة بعث بها إلى أقصى المغرب: الله أعلم هل أرادكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث، أو أراد بذلك جملة أهل المغرب؛ لِمَا هم عليه من التمسك بالسُّنَّة، والجماعة، وطهارتهم من البِدَع والإحداث في الدِّين، والاقتفاء لآثار من مضى من السلف الصالح؟ انتهى.

ومما يؤيد أن المراد بالغرب من الأرض رواية عبد بن حميد، وبَقِيّ بن مَخْلَد:"ولا يزال أهل المغرب"، ورواية الدارقطني:"لا تزال طائفة من أمتي، ظاهرين على الحق، في المغرب، حتى تقوم الساعة".

قال السيوطيّ: لا يَبعد أن يراد بالمغرب مصر، فإنها معدودة في الخط الغربي بالاتفاق، وقد روى الطبرانيّ، والحاكم، وصححه، عن عمرو بن الحمق قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تكون فتنة أسلمُ الناس فيها الجند الغربي"، قال ابن الحمق: فلذلك قَدِمت عليكم مصر.

وأخرجه محمد بن الربيع الْجِيزيّ في مسند الصحابة الذين دخلوا مصر، وزاد فيه:"وأنتم الجند الغربي".

(1)

"النهاية في غريب الأثر" 3/ 351.

ص: 36

فهذه منقبة لمصر في صدر الملة، واستمرت قليلة الفتن معافاة طول الملة، لم يعترها ما اعترى غيرها من الأقطار، وما زالت معدن العلم والدين، ثم صارت في آخر الأمر دار الخلافة، ومحط الرحال، ولا بلد الآن في سائر الأقطار بعد مكة والمدينة يظهر فيها من شعائر الدين ما هو ظاهر في مصر. انتهى كلام السيوطيّ رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: عندي كون المراد هم أهل الشام أقرب؛ لكثرة ما يُصرَّح بذلك، ففي حديث أبي أمامة عند أحمد: أنهم ببيت المقدس، وللطبرانيّ من حديث النهديّ نحوه، وفي حديث أبي هريرة في "الأوسط" للطبرانيّ:"يقاتلون على أبواب دمشق، وما حولها، وعلى أبواب بيت المقدس، وما حوله، لا يضرّهم من خذلهم، ظاهرين إلى يوم القيامة".

فهذه النصوص كلها تؤيّد كون المراد بالغرب هو الشام، والله تعالى أعلم.

وقال الحافظ رحمه الله بعد ما تقدّم: ويُمكن الجمع بين الأخبار بأن المراد: قوم يكونون ببيت المقدس، وهي شاميّة، ويسقون بالدلو، وتكونوا لهم قوّة في جهاد العدوّ، وحِدّة، وجِدّ. انتهى

(2)

.

[تنبيه]: قال في "الفتح": اتّفق الشرّاح على أن معنى قوله: "على من خالفهم" أن المراد علوّهم عليهم بالغلبة، وأبعدَ من أبدع، فردّ ذلك على من جعل ذلك منقبةً لأهل الغرب أنه مذمّة؛ لأن المراد بقوله:"ظاهرين على الحقّ" أنهم غالبون له، وأن الحق بين أيديهم كالميت، وأن المراد بالحديث ذمّ الغرب وأهله، لا مَدْحهم. انتهى

(3)

.

قال الجامع عفا الله عنه: ما أبعدَ هذا التأويل عن سياقات أحاديث الباب كلها، فالحقّ أن أحاديث الباب كلّها إنما سيقت للمدح، لا للذمّ، سواء حديث سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه هذا في أهل الغرب، أو الأحاديث التي قبله، فكلها مدح، لا ذمّ، فتأملها بالإنصاف، والله تعالى أعلم.

(1)

"الديباج على صحيح مسلم بن الحجاج" 4/ 514.

(2)

"الفتح" 17/ 203، كتاب "الاعتصام بالكتاب والسُّنَّة" رقم (7312).

(3)

"الفتح" 17/ 203، كتاب "الاعتصام بالكتاب والسُّنَّة" رقم (7312).

ص: 37

(ظَاهِرِينَ)؛ أي: غالبين، وقوله:(عَلَى الْحَقِّ) تقدّم أنه متعلِّق بحال مقدّر؛ أي: كائنين على الحقّ (حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ")؛ أي: تأتي علامتها، كما تقدّم تحقيقه، والله تعالى أعلم.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله، لم يُخرجه أحد من أصحاب الكتب الستّة غيره.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [53/ 4950](1925)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(2/ 118)، و (البزّار) في "مسنده"(4/ 57)، و (الشاشيّ) في "مسنده"(1/ 204)، و (نعيم بن حمّاد) في "الفتن"(2/ 601)، و (أبو نعيم) في "الحلية"(3/ 95 - 96)، والله تعالى أعلم.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}

(54) - (بَابُ مُرَاعَاةِ مَصْلَحَةِ الدَّوَابِّ فِي السَّيْرِ، وَالنَّهْيِ عَنِ التَّعْرِيسِ فِي الطَّرِيقِ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4951]

(1926) - (حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ سُهَيْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا سَافَرْتُمْ فِي الْخِصْبِ فَأَعْطُوا الإِبِلَ حَظَّهَا مِنَ الأَرْضِ، وَإِذَا سَافَرْتُمْ فِي السَّنَةِ فَأَسْرِعُوا عَلَيْهَا السَّيْرَ، وَإِذَا عَرَّسْتُمْ بِاللَّيْلِ فَاجْتَنِبُوا الطَّرِيقَ

(1)

، فَإِنَّهَا مَأْوَى الْهَوَامِّ بِاللَّيْلِ").

‌هذا الإسناد رجاله: خمسة:

وقد تقدّم بعينه قبل بابين، و"جرير" هو ابن عبد الحميد.

(1)

وفي نسخة: "فاجتنبوا الطرُق".

ص: 38

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا سَافَرْتُمْ فِي الْخِصْبِ) - بكسر الخاء المعجمة، وسكون الصاد المهملة - وزانُ حِمْل: النماء، والبركة، وهو خلاف الْجَدْب، وهو اسمٌ مِنْ أخصبَ المكان بالألف، فهو مُخْصِبٌ، وفي لغة: خَصِبَ يَخْصَبُ، من باب تَعِبَ، فهو خَصِيبٌ، وأخصب الله الموضع: إذا أنبت فيه الْعُشْب والكلأ، قاله الفيّوميّ

(1)

.

والمراد هنا: زمان كثرة العَلَف، والنبات، (فَأَعْطُو الإِبِلَ)؛ أي: ونحوها من الخيل، والبغال، والحمير، وخَصّ الإبل؛ لأنها غالب مراكب العرب، (حَظَّهَا)؛ أي: نصيبها (مِنَ الأَرْضِ)؛ أي: من نباتها، بأن تمكّنوها من الرَّعْي في بعض النهار، وفي أثناء السير، جعله حظًّا؛ لأن صاحبها إذا أحسن رعيها سَمِنَت وحَسُنت في عينه، فيَنْفَس بها، ولم ينحرها، ذكره الزمخشريّ، وفي رواية بدل "حظها":"حقّها"، قال القاضي: حظُّها من الأرض: رعيُها فيها ساعةً فساعةً. انتهى

(2)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "فأعطوا الإبل حقها"؛ أي: ارفُقُوا بها في الرَّعي، حتى تأخذ منه ما يُمسك قواها، ويردّ شهوتها، ولا تعجّلوها، فتمنعوها المرعى مع وجوده، فيجتمع عليها ضعف القوى، مع ألم كسر شهوتها. انتهى

(3)

.

(وَإِذَا سَافَرْتُمْ فِي السَّنَةِ) بفتحتين: الجدب، والقحط، وانعدام النبت، أو قلّته، (فَأَسْرِعُوا عَلَيْهَا السَّيْرَ) لتصل المقصد، وبها بقية من قوّتها؛ لِفَقْد ما يقوّيها على السير، قال القاضي: معناه: إذأ كان الزمان زمان قحط فأسرعوا السير عليها، ولا تتعوّقوا في الطريق؛ لِتُبلغكم المنزلَ قبل أن تَضْعُف، وقد صَرّح بهذا في الرواية التالية حيث قال:"وإذا سافرتم في السَّنَة فبادروا بها نِقْيها"؛

(1)

"المصباح المنير" 1/ 170.

(2)

"فيض القدير على الجامع الصغير" للمناويّ 1/ 370.

(3)

"المفهم" 3/ 765.

ص: 39

أي: أسرعوا عليها السير، ما دامت قويّة باقية النقي، وهو الْمُخّ. انتهى

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "في السنة": السَّنة: الجدب، ضد الخصب، وإنما أمر بالإسراع بها في الجدب؛ لِتَقْرُب مدة سفرها، فتبقى قوّتها الأُولى، فإنها إن رفق بها طال سفرها، فهُزِلت، وضَعُفت؛ إذ لا تجد مَرْعًى تتقوَّى به، وإلى هذا أشار صلى الله عليه وسلم بقوله:"بادروا بها نِقْيها"؛ والنقي: مخ العظام، وهو بكسر النون.

قال: وهذه الأوامر من باب الإرشاد إلى المصالح والندب إليها. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قوله: "من باب الإرشاد" أشار به إلى أن الأمر للاستحباب، لكن الظاهر أنه للوجوب؛ إذ الأمر للوجوب عند الجمهور إلا إذا وُجد صارف، فإن وُجد هنا فذاك، وإلا فالأصل الوجوب، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

(وَإِذَا عَرَّسْتُمْ) بتشديد الراء؛ أي: نزلتم (بِاللَّيْلِ)؛ أي: آخره لنحو نوم، واستراحة، قال أهل اللغة: التعريس: النزول في أواخر الليل؛ للنوم، والراحة، هذا قول الخليل، والأكثرين، وقال أبو زيد: هو النزول أيّ وقت كان، من ليل، أو نهار، والمراد بهذا الحديث هو الأول

(3)

.

(فَاجْتَنِبُوا الطَّرِيقَ) وفي بعض النسخ: "الطُّرُق"؛ أي: اعْدِلوا، وأعرضوا عنها، وانزلوا يَمْنةً، أو يَسْرةً، ثم ذكر علة النهي، فقال:(فَإنَّهَا) الفاء للتعليل؛ أي: لأن الطريق (مَأْوَى الْهَوَامِّ) قال الفيّوميّ: المأوى بفتح الواو لكلّ حيوان: مسكنه، وسُمع: مَأوي الإبل بكسر الواو شاذًّا، ولا نظير له في المعتلّ، وبالفتح على القياس، ومأوى الغنم: مُرَاحها الذي تأوي إليه ليلًا. انتهى

(4)

.

و"الهوامّ": جمع هامّة - بتشديد الميم - مثل دابّة ودوابّ، وهو ما له سُمّ يَقْتُل، كالحية، قاله الأزهريّ، وقد تُطلق الهوامّ على ما لا يقتل، كالحشرات،

(1)

"فيض القدير على الجامع الصغير" للمناويّ 1/ 370.

(2)

"المفهم" 3/ 765.

(3)

"شرح النووي" 13/ 69.

(4)

"المصباح المنير" 1/ 32.

ص: 40

ومنه حديث كعب بن عُجرة رضي الله عنه حيث قال له النبيّ صلى الله عليه وسلم: "أيؤذيك هوامّ رأسك؟ "، والمراد: القمل، على الاستعارة، بجامع الأذى

(1)

.

وقوله: (بِاللَّيْلِ") متعلّق بـ "مأوى"، والباء بمعنى "في"؛ أي: في الليل، والمعنى: أنها محل تَردّدها بالليل لتأكل ما فيه من الرّمّة، وتلتقط ما سقط من المارّة، من نحو مأكول، فينبغي التعريج عنها حَذَرًا من أذاها، والله تعالى أعلم.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [54/ 4951 و 4952](1926)، و (أبو داود) في "الجهاد"(2569)، و (الترمذيّ) في "الأدب"(2858)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(5/ 252)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 337 و 338)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(2550 و 2556)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(2703 و 2705)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 509 و 510)، و (الطحاويّ) في "مشكل الآثار"(115 و 116)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 256)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان الحثّ على الرفق بالدوابّ، ومراعاة مصلحتها، فإن سافروا في الخصب قللوا السير، وتركوها ترعى في بعض النهار، وفي أثناء السير، فتأخذ حظّها من الأرض، بما ترعاه منها، وإن سافروا في القحط عَجّلوا السير؛ ليصلوا المقصد، وفيها بقية من قوّتها، ولا يقللوا السير فيلحقها الضرر؛ لأنها لا تجد ما ترعى، فتضعف، ويذهب نِقْيُها، وربما كلّت، ووقفت.

وفي رواية مالك في "الموطأ": "إن الله تبارك وتعالى رفيق يحب الرفق،

(1)

"المصباح المنير" 2/ 641.

ص: 41

ويرضى به، ويُعِين عليه، ما لا يُعِين على العُنْف، فإذا ركبتم هذه الدواب الْعُجْم فأنزلوها منازلها، فإن كانت الأرض جدبة فانجوا عليها بنِقْيها، وعليكم بِسَيْر الليل، فإن الأرض تُطوى بالليل، ما لا تطوى بالنهار، وإياكم والتعريس على الطريق، فإنها طرق الدواب، ومأوى الحيات". انتهى.

قال أبو عمر بن عبد البرّ رحمه الله: وهذا عموم يدخل فيه الرفق بالدواب في الأسفار وغيرها.

وخص المسافر في هذا الحديث بالذِّكر، فأمر أن يمشي مهلًا رويدًا ويكثر النزول إذا كانت الأرض مخصبة؛ لترعى دابته الكلأ، وتنال من الحشيش والماء، وهذا إنما هو في الأسفار البعيدة، ما لم تضم الضرورة إلا أن يجدّ في السفر، فإذا كانت جِدّبّة، وكان عام السَّنَة، فالسُّنّة للمسافر أن يُسرع في السفر، ويسعى في الخروج عن بلاد الجدب، وبدابته رَمَقٌ يقيه من النقي، والنقي: الشحم، والقوّة حتى يحصل في بلد الخصب. انتهى

(1)

.

وقال صاحب "التكملة": إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بُعث رحمة للعالمين، فعلّمنا آداب ركوب الدوابّ، ومراعاة مصالحها، وأن لا تُحمَّل من العَناء فوق طاقتها، ولمّا كان هذا من تعليم النبيّ صلى الله عليه وسلم في الدوابّ والحيوانات، فما بالك بالسُّوّاق الذين يسوقون السيّارات لمن استأجرهم على ذلك، فمراعاة مصالحهم في الطعام والشراب والراحة أولى بالاعتناء، وقلّ من الناس، ولا سيّما أصحاب الثروة من يعتني بها. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي قاله بالنسبة لسوّاق السيّارات محل نظر، ولعله شاهد ذلك في بعض البلدان، وإلا فالذي نشاهده هنا في المملكة العربيّة السعوديّة عكس هذا، بل الشركات تتنافس في ترفيه الركّاب، والعناية براحتهم، حتى تجلب الناس إليها، ولذا يجد الركاب من الراحة والترفّه ما لا يجدونه في مقرّ إقامتهم، والله تعالى أعلم.

2 -

(ومنها): أن من آداب السير والنزول اجتنابَ الطريق، كما أرشد النبيّ صلى الله عليه وسلم إليه هنا؛ لأن الحشرات، ودواب الأرض من ذوات السموم، والسباع

(1)

"الاستذكار" 8/ 534 - 535.

(2)

"تكملة فتح الملهم" 3/ 473.

ص: 42

تمشي في الليل على الطرق؛ لسهولتها؛ ولأنها تلتقط منها ما يسقط من مأكول ونحوه، وما تجد فيها من رِمَّة ونحوها، فإذا عَرَّس الإنسان في الطريق ربما مَرّ به منها ما يؤذيه، فينبغي أن يتباعد عن الطريق.

3 -

(ومنها): شدّة عناية النبيّ صلى الله عليه وسلم في إرشاد أمته إلى ما يُصلحها، وإبعادها عما يضرّها، ويؤذيها، فهو صلى الله عليه وسلم في أعلى القمّة من الشفقة والرأفة، كما قال الله تعالى في حقّه:{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَاعَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)} [التوبة: 128]، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4952]

(. . .) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ - يَعْنِي: ابْنَ مُحَمَّدٍ - عَنْ سُهَيْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِذَا سَافَرْتُمْ فِي الْخِصْبِ فَأَعْطُوا الإِبِلَ حَظَّهَا مِنَ الأَرْضِ، وَإِذَا سَافَرْتُمْ فِي السَّنَةِ فَبَادِرُوا بِهَا نِقْيَهَا، وَإِذَا عَرَّسْتُمْ فَاجْتَنِبُوا الطَّرِيقَ، فَإِنَّهَا طُرُقُ الدَّوَابِّ، وَمَأَوَى الْهَوَامِّ بِاللَّيْلِ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدِ) بن عُبيد الدراورديّ الجهنيّ مولاهم، أبو محمد المدنيّ، صدوقٌ كان يحدّث من كتب غيره، فيُخطئ [8](ت 6 أو 187)(ع) تقدم في "الإيمان" 8/ 135.

والباقون ذُكروا قبله.

وقوله: (فَبَادِرُوا بِهَا نِقْيَهَا) بكسر النون، وإسكان القاف، آخره ياء، ويقال: النقو بالواو أيضًا، وهو الْمُخّ، قال الفيّوميّ: النِّقْوُ وزانُ حِمْلٍ: كلُّ عظم ذي مُخٍّ، والجمع أنقاء، مثلُ أحمال، وهي الْقَصَبُ، والنِّقْيُ بالياء لغةٌ، والنِّقْيُ أيضًا: شحم العين من السِّمَن، والجمع أنقاء، ونَقَوتُ العظم نَقْوًا، ونقَيته نَقْيًا: استخرجتُ نِقْوه. انتهى

(1)

.

[تنبيه]: قال التوربشتيّ رحمه الله: ومن الناس من يرويها "نقبها" بالباء الموحّدة

(1)

"المصباح المنير" 2/ 624.

ص: 43

بعد القاف، ويرى الضمير فيه راجعًا إلى الأرض، ويفسّر النقب بالطريق، وليس ذلك بشيء، ومن التصحيفات التي زَلَّ فيه العالِم فضلًا عن الجاهل. انتهى.

وقال الطيبيّ رحمه الله: قوله: "نقيها" يَحْتَمل الحركات الثلاث، أن يكون منصوبًا مفعولًا به؛ لأن "بادر" يتعدّى إلى المفعول الأول بالواسطة وبغيرها، وكذا إلى المفعول الثاني، وهذا من هذا القِسْم، وجعل ذهاب النقي بمنزلة المبادرة إلى الغاية، وجاء بالمفاعلة، و"بها" حال منه؛ أي: بادروا نقيها إلى المقصد ملتبسًا بها، أو من الفاعل؛ أي: ملتبسين بها، ويجوز أن تكون الباء سببيّةً؛ أي: بادروا بسبب سَيْرها نقيها، وأن تكون للاستعانة؛ أي: بادروا نقيها مستعينين بِسَيْرها، ومنه الحديث:"بادروا بالأعمال ستًّا،. . . الدخان، والدجّال. . ." الحديث، رواه مسلم.

ويجوز أن يكون "نقيها" مرفوعًا فاعلًا بالظرف، وهو حال؛ أي: بادروا إلى المقصد ملتبسين بها نقيها، أو مبتدأ، والجارّ والمجرور خبره، والجملة حال، كقولهم: فوه إلى فيّ، وأن يكون مجرورًا بدلًا من الضمير المجرور، والمعنى: بادروا بنقيها إلى المقصد باقية النقي، فالجارّ والمجرور حال. انتهى كلام الطيبيّ رحمه الله ببعض تصرّف

(1)

.

وقوله: (فَإِنَّهَا طُرُقُ الدَّوَابِّ) هذه علّة ثانية للنهي عن التعريس في الطريق، وهي كونها طريقًا للدوابّ، فإذا نزل المسافر فيها ضيّق على المارّة، قال صاحب "التكملة": هذه علّة أخرى، وهو أن الطريق حقّ المارّة، فلو نزل أحد بالطريق ضيّق المرور على المارّة، وبهذا يؤخذ أن الاحتراز عن إيذاء المارّة واجبٌ على كلّ إنسان، فلا يجوز إيقاف السيّارات، والمراكب في أمكنة يضيق بها الطريق على الناس، وبهذا يؤخذ وجوب الالتزام بقواعد المرور، فإنها وُضعت لصيانة الطريق من التضييق، والتوسعة على المارّة. انتهى

(2)

، وهو بحث جيّد، والله تعالى أعلم.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(1)

"الكاشف عن حقائق السنن" 8/ 2680 - 2681.

(2)

"تكملة فتح الملهم" 3/ 474.

ص: 44

(55) - (بَابُ السَّفَرِ قِطْعَةٌ مِنَ الْعَذَابِ، وَاسْتِحْبَابِ تَعْجِيلِ الْمُسَافِرِ إِلَى أَهْلِهِ بَعْدَ قَضَاءِ شُغْلِهِ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4953]

(1927) - (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ بْنِ قَعْنَبٍ، وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ، وَأَبُو مُصْعَبٍ الزُّهْرِيُّ، وَمَنْصُورُ بْنُ أَبِي مُزَاحِمٍ، وَقُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالُوا: حَدَّثَنَا مَالِكٌ (ح) وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى التَّمِيمِيُّ - وَاللَّفْظُ لَهُ - قَالَ: قُلْتُ لِمَالِكٍ: حَدَّثَكَ سُمَيٌّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "السَّفَرُ قِطْعَةٌ مِنَ الْعَذَابِ، يَمْنَعُ أَحَدَكُمْ نَوْمَهُ، وَطَعَامَهُ، وَشَرَابَهُ، فَإذَا قَضَى أَحَدُكُمْ نَهْمَتَهُ مِنْ وَجْهِهِ، فَلْيُعَجِّلْ إِلَى أَهْلِهِ"؟ قَالَ: نَعَمْ).

رجال هذا الإسناد: عشرة:

1 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ بْنِ قَعْنَبٍ) تقدّم قريبًا.

2 -

(إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ) هو: إسماعيل بن عبد الله بن عبد الله بن أويس بن مالك بن أبي عامر الأصبحيّ، أبو عبد الله المدنيّ، صدوق، أخطأ في أحاديث مِن حِفْظه [10](ت 226)(خ م د ت ق) تقدم في "الحج" 17/ 2921.

[تنبيه]: قال الحافظ أبو عليّ الغسّانيّ الجيّانيّ رحمه الله بعد أن أورد إسناد المصنّف المذكور هنا ما نصّه: هكذا إسناد هذا الحديث عند أبي أحمد، وكذا عند الكسائيّ، وعند أبي العلاء بن ماهان: حدّثنا عبد الله بن مسلمة، وابن أبي الوزير، وأبو مصعب، ومنصور، وقتيبة، عن مالك بهذا.

هكذا عنده جَعَل ابن أبي الوزير بدل إسماعيل بن أبي أويس، وذكره أبو مسعود الدمشقيّ عن مسلم من حديث إسماعيل بن أبي أويس، وقتيبة، وأصحابهما، على ما في رواية أبي أحمد، والكسائيّ، وابن أبي الوزير هو: إبراهيم بن عمر بن أبي الوزير، ويُكنى أبا إسحاق، ممن روى عن مالك، ولا أعلم لمسلم عنه روايةً، ولا هو ممن أدركه، وقد خرّج البخاريّ في "كتابه" عن عبد الله بن محمد الجعفيّ، عن إبراهيم بن أبي الوزير مقرونًا بالحسين بن

ص: 45

الوليد النيسابوريّ، عن ابن الغسيل في الطلاق، حديث الْجَوْنيّة التي تزوّجها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستعاذت منه. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قد يُفهم مما سبق أن ما وقع عند ابن ماهان، من قوله:"وابن أبي الوزير" غلط، والصواب:"وإسماعيل بن أبي أويس"، فتنبّه.

3 -

(أَبُو مُصْعَبٍ الزُّهْرِيُّ) أحمد بن أبي بكر، واسمه القاسم بن الحارث بن زُرارة بن مصعب بن عبد الرحمن بن عوف المدنيّ الفقيه، صدوقٌ، عابه أبو خيثمة للفتوى بالرأي [10](ت 242) وله نيّف وتسعون سنة (ع).

رَوَى عن مالك "الموطأ"، والدّرَاوَرْديّ، وابن أبي حازم، والمغيرة بن عبد الرحمن، ومحمد بن إبراهيم بن دينار، وجماعة.

ورَوَى عنه الجماعة، لكن النسائي بواسطة خياط السُّنَّة، وأبو إسحاق الهاشميّ راوية "الموطأ" عنه، وبَقِيّ بن مَخْلَد، وأبو زرعة، وأبو حاتم، وقالا: صدوقٌ، والذُّهْليّ، وغيرهم.

قال الزبير بن بكّار: مات، وهو فقيه أهل المدينة، غير مدافع، قال السرّاج: مات في رمضان سنة (242) وله (92) سنةً، وكذا ذكر البخاريّ، وابن أبي عاصم وفاته، وقال صاحب "الميزان": ما أدري ما معنى قول أبي خيثمة لابنه: لا تكتب عن أبي مصعب، واكتب عمن شئت؟ انتهى.

قال الحافظ: ويَحْتَمِل أن يكون مراد أبي خيثمة: دخوله في القضاء، أو إكثاره من الفتوى بالرأي، وقال الحاكم: كان فقيهًا متقشفًا عالِمًا بمذاهب أهل المدينة، وكذا ذَكر ابن حبان في "الثقات"، وقال ابن حزم رحمه الله: في "موطئه" زيادةٌ على مائة حديث، وقدّمه الدارقطنيّ في "الموطأ" على يحيى بن بكير.

روى عنه الجماعة، وليس له عند المصنّف في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.

والباقون تقدّموا في الأبواب الأربعة الماضية.

(1)

"تقييد المهمل" 3/ 890.

ص: 46

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف، وله فيه ستة من الشيوخ قرن بين خمسة منهم؛ لاتّحاد كيفيّة التحمّل والأداء، وأفرد السادس؛ لمخالفته لهم في كيفيّة التحمّل، والأداء.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "السَّفَرُ قِطْعَةٌ مِنَ الْعَذَابِ)؛ أي: جزء منه؛ لِمَا فيه من التعب، ومعاناة الريح، والشمس، والبرد، والخوف، والخطر، وأكل الْخَشِن، وقلة الماء، والزاد، وفراق الأحبة، ولا يناقضه خبر:"سافروا تغنموا"؛ إذ لا يلزم من الغُنْم بالسفر أن لا يكون من العذاب؛ لِمَا فيه من المشقة، وقيل: السَّفَر سَقَر، وقيل فيه:

وَإِنَّ اغْتِرَابَ الْمَرْءِ مِنْ غَيْرِ خُلَّةٍ

وَلَا هِمَّةٍ يَسْمُو بِهَا لَعَجِيبُ

وَحَسْبُ الْفَتَى ذُلًّا وَإِنْ أَدْرَكَ الْعُلَا

وَنَالَ الثُّرَيَّا أَنْ يُقَالَ غَرِيبُ

وقوله: (يَمْنَعُ أَحَدَكُمْ) جملة مستأنفة استئنافًا بيانيًّا، وهو ما وقع جوابًا لسؤال مقدَّر، تقديره: لِمَ كان ذلك؟ فقال: يمنع أحدكم، وقال في "الفتح": قوله: "يمنع أحدكم" كأنه فَصَله عما قبله بيانًا لذلك بطريق الاستئناف، كالجواب لمن قال: لِمَ كان كذلك؟ فقال: يمنع أحدكم نومه إلخ؛ أي: وجْهُ التشبيه الاشتمال على المشقّة، وقد ورد التعليل في رواية سعيد المقبريّ، ولفظه:"السفر قطعة من العذاب؛ لأن الرجل يشتغل فيه عن صلاته، وصيامه"، فذكر الحديث، والمراد بالمنع في الأشياء المذكورة: منعُ كمالها، لا أصلها، وقد وقع عند الطبرانيّ بلفظ:"لا يهنأ أحدكم بنومه، ولا طعامه، ولا شرابه"، وفي حديث ابن عمر عند ابن عديّ:"وأنه ليس له دواء إلا سرعة السير". انتهى

(1)

.

(نَوْمَهُ، وَطَعَامَهُ، وَشَرَابَهُ) قال النوويّ رحمه الله: معناه: يمنعه كمالَها، ولذيذَها؛ لِمَا فيه من المشقّة، والتعَب، ومقاساة الحرّ والبرد، والسُّرَى،

(1)

"الفتح" 5/ 45 - 46، كتاب "العمرة" رقم (1804).

ص: 47

والخوف، ومفارقة الأهل والأصحاب، وخشونة العيش. انتهى

(1)

.

وقال المناويّ رحمه الله: قوله: "طعامَه. . . إلخ" منصوب بنزع الخافض على المفعولية؛ لأن "مَنَع" يتعدى لمفعولين: الأول "أحدكم"، والثاني:"طعامه"، و"شرابه" عطفٌ عليه، و"نومه" إما على الأول، أو الثاني، والمراد: منعُ كمالات المذكورات، لا أصلها، ومما تقرَّر عُلِم أن المراد: العذاب الدنيويّ، وأما ما قيل من أن المراد العذاب الأخرويّ بسبب الإثم الناشئ عن المشقّة فيه، فناشئ عن عدم تأمّل.

[فإن قلت]: لِمَ عَبّر بالعذاب دون العقاب؟.

[قلت]: لكون العذاب أعمّ؛ إذ العذاب: الألم كما تقرر، وليس كل مؤلم يكون عقابًا على ذنب، قاله المناويّ رحمه الله

(2)

.

(فَإِذَا قَضَى أَحَدُكُمْ نَهْمَتَهُ) - بفتح النون، وسكون الهاء -؛ أي: رغبته، أو مقصوده، أو حاجته، والمقصود منه: استحباب تعجيل الرجوع إلى الأهل بعد قضاء شغله، ولا يتأخر بما ليس له بمهم، قاله النوويّ رحمه الله

(3)

.

وقال في "العمدة": النهمة - بفتح النون، وضمها، وكسرها

(4)

-: بلوغ الهمة في الشيء. انتهى

(5)

.

(مِنْ وَجْهِهِ)؛ أي: مقصده، أو من جهة سفره، وبيانه في حديث ابن عديّ بلفظ:"إذا قضى أحدكم وَطَره من سفره"، وفي رواية روّاد بن الجرّاح:"فَرَغ أحدكم من حاجته". (فَلْيُعَجِّلْ) بضم حرف المضارعة، (إِلَى أَهْلِهِ") وفي رواية عتيق، وسعيد المقبريّ:"فليُعجّل الرجوع إلى أهله"، وفي رواية أبي

(1)

"شرح النوويّ" 13/ 70.

(2)

"فيض القدير على الجامع الصغير" للمناويّ 4/ 140 - 141.

(3)

"شرح النوويّ" 13/ 70.

(4)

كذا ضبطه في "عمدة القاري" مثلّث النون، ولم أجد في "الصحاح"، ولا في "القاموس"، ولا في "المصباح" إلا الضبط الأول؛ أي: بفتح، فسكون فقط، فليُنظر، والله تعالى أعلم.

(5)

"عمدة القاري" 21/ 60.

ص: 48

مصعب: "فليعجل الكَرذَة إلى أهله"، وفي حديث عائشة:"فليعجل الرِّحْلة إلى أهله، فإنه أعظم لأجره".

والمعنى: ليُسرع الرجوعَ إليهم؛ محافظةً على فضل الجمعة، والجماعة، وأداء للحقوق الواجبة لمن يَمُونه، وعَبَّر بالنهمة التي هي بلوغ الهمة؛ إشعارًا بأن الكلام في سفر لِأَرَب دنيويّ، كتجارة، دون الواجب، كحجّ، وغزو.

[تنبيه]: قال ابن عبد البرّ رحمه الله: زاد فيه بعض الضعفاء عن مالك: "وليتخذ لأهله هديّةً، وإن لم يجد إلا حجرًا - يعني: حجر الزناد -"، قال: وهي زيادة مُنكَرة.

[لطيفة]: لَمَّا جلس إمام الحرمين محلّ أبيه، سئل لِمَ كان السفر قطعةً من العذاب؟.

فأجاب فورًا: لأن فيه فراق الأحباب

(1)

.

وقوله: (قَالَ: نَعَمْ)؛ أي: قال مالك لَمّا سأله يحيى بن يحيى كما تقدّم أول الحديث بقوله: "حدّثك سُميّ عن أبي صالح إلخ؟ " أجابه بقوله: "نعم"؛ أي: حدَّثني بهذا الحديث، والله تعالى أعلم.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [55/ 4953](1927)، و (البخاريّ) في "العمرة"(1804) و"الجهاد"(301) و"الأطعمة"(5429)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(5/ 242)، و (ابن ماجه) في "المناسك"(2882)، و (مالك) في "الموطّأ"(2/ 980)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(5/ 164)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 236 و 445)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 284)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 510)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(2708)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(1/ 233) و"الصغير"(1/ 366)، و (أبو الشيخ) في "الأمثال"(205)، و (القضاعيّ)

(1)

"الفتح" 5/ 45 - 46، كتاب "العمرة" رقم (1804).

ص: 49

في "الشهاب"(225)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 259)، و (البغويّ) في "شرح السُّنّة"(2687)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في الكلام على هذا الحديث:

(اعلم): أن هذا الحديث رواه مالك عن سُميّ، وهذا هو المشهور عنه، قال في "الفتح": كذا لأكثر الرواة عن مالك، وكذا هو في "الموطأ"، وقد صَرّح يحيى بن يحيى النيسابوريّ عن مالك بتحديث سُمَيّ له به، وشذّ خالد بن مَخْلَد عن مالك، فقال:"عن سهيل" بدل "سُمَيّ" أخرجه ابن عديّ، وذكر الدارقطنيّ أن ابن الماجشون رواه عن مالك، عن سُهيل أيضًا، فتابع خالد بن مَخْلد، لكن قال الدارقطنيّ: إن أبا علقمة القروي تفرد به، عن ابن الماجشون، وإنه وَهِمَ فيه.

ورواه الطبرانيّ عن أحمد، عن بَشِير الطيالسيّ، عن محمد بن جعفر الوركانيّ، عن مالك، عن سهيل.

وخالفه موسى بن هارون، فرواه عن الوركانيّ، عن مالك، عن سُمَيّ، قال الدارقطنيّ: حدثنا به دُعْلج، عن موسى، قال: والوهم في هذا من الطبرانيّ، أو من شيخه، وسُمَيّ هو المحفوظ في رواية مالك، قاله ابن عديّ، وأخرجه الدارقطنيّ، وغيرهما، ولم يروه عن سُميّ غيرُ مالك، قاله ابن عبد البرّ، ثم أسند عن عبد الملك بن الماجشون، قال: قال مالك: ما لأهل العراق يسألونني عن حديث: "السفرُ قطعة من العذاب"؟ فقيل له: لَمْ يروه عن سُمَيّ أحد غيرك، فقال: لو عرفت ما حدّثت به، وكان مالك ربما أرسله لذلك.

ورواه عتيق بن يعقوب، عن مالك، عن أبي النضر، عن أبي صالح، ووَهِم فيه أيضًا على مالك، أخرجه الطبرانيّ، والدارقطنيّ.

ورواه رَوّاد بن الجراح عن مالك، فزاد فيه إسنادًا آخر، فقال: عن ربيعة، عن القاسم، عن عائشة، وعن سُمَيّ بإسناده، فذكره، قال الدارقطنيّ: أخطأ فيه رَوّاد بن الجراح. وأخرجه ابن عبد البرّ من طريق أبي مُصعب، عن عبد العزيز الدّراوَرْديّ، عن سُهيل، عن أبيه، وهذا يدلّ على أن له في حديث سهيل أصلًا، وأن سُمَيًّا لم ينفرد به. وقد أخرجه أحمد في "مسنده" من طريق

ص: 50

سعيد المقبريّ، عن أبي هريرة. وأخرجه ابن عديّ من طريق جُمهان، عن أبي هريرة أيضًا، فلم ينفرد به أبو صالح. وأخرجه الدارقطنيّ، والحاكم من طريق هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، بإسناد جيّد، فلم ينفرد به أبو هريرة.

بل في الباب عن ابن عباس، وابن عمر، وأبي سعيد، وجابر، عند ابن عديّ بأسانيد ضعيفة. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم.

(المسألة الرابعة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان أن السفر قطعة من العذاب، وقد تقدّم وجه التشبيه.

2 -

(ومنها): كراهة التغرّب عن الأهل لغير حاجة.

3 -

(ومنها): استحباب استعجال الرجوع من السفر إلى أهله، ولا سيما مَن يُخْشَى عليهم الضيعة بالغَيبة.

4 -

(ومنها): أن في الإقامة في الأهل راحةً مُعِينةً على صلاح الدين والدنيا.

5 -

(ومنها): أن في الإقامة أيضًا تحصيلَ الجماعات، والقوّة على العبادة.

6 -

(ومنها): ما قال ابن بطال: إنه لا تعارض بين هذا الحديث، وحديث ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعًا:"سافروا تَصِحُّوا"، فإنه لا يلزم من الصحة بالسفر؛ لِمَا فيه من الرياضة أن لا يكون قطعة من العذاب؛ لِمَا فيه من المشقة، فصار كالدواء المرّ المعقِّب للصحة، وإن كان في تناوله الكراهة.

7 -

(ومنها): أن الخطابيّ استنبط منه تغريبَ الزاني؛ لأنه قد أُمر بتعذيبه، والسفر من جملة العذاب، قال الحافظ: ولا يخفى ما فيه. انتهى

(2)

، والله تعالى أعلم.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(1)

"الفتح" 5/ 45 - 46، كتاب "العمرة" رقم (1804).

(2)

"الفتح" 5/ 45 - 46، كتاب "العمرة" رقم (1804).

ص: 51

(56) - (بَابُ كَرَاهَةِ الطُّرُوقِ، وَهُوَ الدُّخُولُ لَيْلًا لِمَنْ وَرَدَ مِنْ سَفَرٍ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4954]

(1928) - (حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا بَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، عَنْ هَمَّامٍ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: "أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ لَا يَطْرُقُ أَهْلَهُ لَيْلًا، وَكَانَ يَأْتِيهِمْ غُدْوَةً، أَوْ عَشِيَّةً").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم قبل بابين.

2 -

(يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ) تقدّم قريبًا.

3 -

(هَمَّامُ) بن يحيى بن دينار الْعَوْذيّ، أبو عبد الله، أو أبو بكر البصريّ، ثقةٌ [7](ت 4 أو 165)(ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 70.

4 -

(إِسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ) الأنصاريّ، تقدّم قريبًا.

5 -

(أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ) رضي الله عنه، تقدّم قبل أربعة أبواب.

شرح الحديث:

(عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ) رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ لَا يَطْرُقُ) بفتح أوله، وضمّ ثالثه، يقال: طَرَق النجم، يطرُقُ، من باب قعد: طَلَع، وكلّ ما أتى ليلًا، فقد طرق، وهو طارقٌ

(1)

. (أَهْلَهُ) منصوب على المفعوليّة، (لَيْلًا) منصوب على الظرفيّة.

والمعنى: أنه صلى الله عليه وسلم لا يَقْدَم على أهله من سفر، ولا غيره في الليل، على غفلة؛ لئلا يرى ما يكرهه؛ لأن القادم إما أن يجد أهله على غير أُهْبة، من نحو تَنَظُّف، أو يجدهم بحالة غير مرضية، فتحصل منه النفرة، والوحشة، فلا ينبغي أن يبغتهم في وقت غير مناسب، والله تعالى أعلم.

(وَكَانَ يَأْتِيهِمْ)؛ أي: أهله، (غُدْوَةً) بضمّ الغين المعجمة، وسكون الدال

(1)

"المصباح المنير" 1/ 372.

ص: 52

المهملة: ما بين طلوع الصبح وطلوع الشمس، وجمعها غُدًى، مثلُ مُدْية ومُدًى، هذا أصله، ثم كثُر حتى استُعمل في الذهاب والانطلاق أيَّ وقت كان، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم:"واغْدُ يا أنيس"

(1)

؛ أي: وانطلق

(2)

. (أَوْ عَشِيَّةً) قال ابن الأنباريّ: العشيّة مؤنّثةٌ، وربّما ذكّرتها العرب على معنى الْعَشيّ، وقال بعضهم: العشيّة واحدة، جَمْعها عشيّ، قيل: العشيّ ما بين الزوال إلى الغروب، ومنه يقال للظهر والعصر: صلاتا العشيّ، وقيل: هو آخر النهار، وقيل: العشيّ من الزوال إلى الصباح، وقيل: العشيّ، والعشاء من صلاة المغرب إلى العتمة، وعليه قول ابن فارس: العشاءان: المغرب والعتمة

(3)

.

وقال الطيبيّ رحمه الله: لم يُرد بالعشيّة الليل، كقوله:"لا يطرُق ليلًا"، وإنما المراد بعد العصر، كقوله تعالى:{وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ} [الروم: 18] قال في "الكشّاف": "عشيًّا": صلاة العصر، و"تظهرون": صلاة الظهر، وقال في "النهاية": الطُّرُوق من الطَّرْق، وهو الدقّ، وسُمّي الآتي بالليل طارقًا لحاجته إلى دقّ الباب. انتهى

(4)

، والله تعالى أعلم.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أنس بن مالك رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [56/ 4954 - 4955](1928)، و (البخاريّ) في "العمرة"(1800)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(6/ 537)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 125 و 204 و 240)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(5/ 362)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 511)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 259 و 260)، والله تعالى أعلم.

(1)

أشار به إلى ما أخرجه الشيخان في "صحيحيهما" من قوله صلى الله عليه وسلم: "واغدُ يا أُنيس إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها".

(2)

"المصباح المنير" 2/ 443.

(3)

"المصباح المنير" 2/ 412.

(4)

"الكاشف عن حقائق السنن" 8/ 2683.

ص: 53

وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4955]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِيهِ زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عبد الوَارِثِ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِهِ، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: "كَانَ لَا يَدْخُلُ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) تقدّم قبل باب.

2 -

(عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عبد الوَارِثِ) بن سعيد بن ذكوان العنبريّ مولاهم، أبو سهل التنّوريّ البصريّ، ثقة، ثبتٌ في شعبة [9](ت 207)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 82.

والباقون ذُكروا قبله.

وقوله: (غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: "كَانَ لَا يَدْخُلُ") الضمير لعبد الصمد؛ أي: قال عبد الصمد في روايته: "لا يدخل" بدل قول يزيد بن هارون: "لا يطرُق"، والمعنى متقارب، هكذا قال المصنّف: إن رواية عبد الصمد بلفظ: "لا يدخل"، ولكن الذي في رواية أحمد الآتية أنه بلفظ:"لا يطرُق"، كلفظ هارون، ولكن قال في آخره:"كان يدخل عليهم" بدل: "وكان يأتيهم"، ولعلّ المصنّف وقع في روايته هكذا، والله تعالى أعلم.

[تنبيه]: رواية عبد الصمد، عن همّام هذه ساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده" فقال:

(12285)

- حدّثنا عبد الله، حدّثني أبي، حدّثنا عبد الصمد، ثنا همام، ثنا إسحاق بن عبد الله، عن أنس بن مالك:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان لا يطرُق أهله ليلًا، كان يدخل عليهم غُدْوةً، أو عشيّةً". انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4956]

(715)

(2)

- (حَدَّثَنِي إِسْمَاعِيلُ بْنُ سَالِمٍ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، أَخْبَرَنَا سَيَّارٌ (ح) وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى - وَاللَّفْظُ لَهُ - حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ سَيارٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي غَزَاةٍ، فَلَمَّا قَدِمْنَا

(1)

"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 3/ 125.

(2)

هذا الرقم مكرّر، فقد تقدّم.

ص: 54

الْمَدِينَةَ ذَهَبْنَا لِنَدْخُلَ، فَقَالَ:"أَمْهِلُوا حَتَّى نَدْخُلَ لَيْلًا - أَيْ: عِشَاءً - كَيْ تَمْتَشِطَ الشَّعِثَةُ، وَتَسْتَحِدَّ الْمُغِيبَةُ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(إِسْمَاعِيلُ بْنُ سَالِمٍ) الصائغ البغداديّ، نزيل مكة، ثقةٌ [10](م) من أفراد المصنّف) تقدم في "الحيض" 10/ 748.

2 -

(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) المذكور قبل حديثين.

3 -

(هُشَيْمُ) بن بشير، تقدّم قبل بابين.

4 -

(سَيَّارُ) بن أبي سيّار، أبو الحكم الْعَنَزيّ، واسم أبيه: وَرْدان، وقيل: وَرْد، وقيل غيره، الواسطيّ، ويقال: البصريّ، ثقةٌ [6](120)(ع) تقدم في "الإيمان" 25/ 209.

5 -

(الشَّعْبِيُّ) عامر بن شَرَاحيل، أبو عمرو الكوفيّ، ثقةٌ فقيه فاضلٌ مشهور [3] مات بعد المائة، وله نحو ثمانين سنة (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.

6 -

(جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) بن عمرو بن حرام رضي الله عنهما، تقدّم قبل بابين.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف، وفيه جابر بن عبد الله رضي الله عنهما الصحابيّ ابن الصحابيّ، أحد المكثرين السبعة، روى (1540) حديثًا.

شرح الحديث:

(عَنِ الشَّعْبِيِّ) في رواية أبي عوانة من طريق شُرَيح بن النعمان، عن هشيم، حدّثنا سيّار، حدّثنا الشعبيّ، ولأحمد من وجه آخر: سمعت الشعبيّ (عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ) رضي الله عنهما، أنه (قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي غَزَاةٍ) بالفتح، بمعنى الغَزْو، (فَلَمَّا قَدِمْنَا) بكسر الدال، (الْمَدِينَةَ ذَهَبْنَا)؛ أي: مضينا (لِنَدْخُلَ) المدينة، (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("أَمْهِلُوا) بقطع الهمزة، أمْرٌ من الإهمال رباعيًّا؛ أي: اتّئدوا، ولا تَعْجلوا، قال الفيّوميّ: أَمْهَلْتُهُ إِمْهَالًا: أنظرته، وأخّرت طلبه، ومَهَّلْتُهُ تَمْهِيلًا مثله، وفي التنزيل:{فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا (17)} [الطارق: 17]، والاسم: المَهْلُ بالسكون، والفتحُ لغةٌ، وأَمْهِلْ إِمْهَالًا، وتَمَهَّلْ في أمرك تَمَهُّلًا؛ أي: اتَّئِد في أمرك، ولا تَعْجَل، والمُهْلَةُ مثلُ غُرْفة كذلك، وهي الرفق، وفي

ص: 55

الأمر مُهْلَةٌ؛ أي: تأخير، وتَمَهَّلَ في الأمر: تَمَكَّثَ، ولم يَعْجَلْ. انتهى

(1)

.

(حَتَّى نَدْخُلَ لَيْلًا - أَيْ: عِشَاءً -) قال في "الفتح": هذا التفسير في نفس الخبر، وفيه إشارة إلى الجمع بين هذا الأمر بالدخول ليلًا، والنهي عن الطُّرُوق ليلًا بأن المراد بالأمر الدخول في أوّلَ الليل، وبالنهي الدخول في أثنائه، ويَحْتَمِل أن يكون الأمر بالدخول ليلًا لمن أَعْلَم أهله بقدومه، فاستعدُّوا له، والنهي عمن لم يفعل ذلك

(2)

.

وفي الرواية التالية: "إذا قَدِم أحدكم ليلًا، فلا يأتينّ أهله طُرُوقًا"، وفي رواية البخاريّ:"كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يَكرَه أن يأتي الرجل أهله طُرُوقًا".

قال في "الفتح": قال أهل اللغة: الطُّروق بالضم: المجيء بالليل من سفر، أو من غيره، على غفلة، ويقال لكل آتٍ بالليل: طارقٌ، ولا يقال بالنهار إلا مجازًا.

وقال بعض أهل اللغة: أصل الطُّروق: الدفع، والضرب، وبذلك سُمِّيت الطريق؛ لأن المارّة تدقّها بأرجلها، وسُمَّي الآتي بالليل طارقًا؛ لأنه يحتاج غالبًا إلى دقّ الباب.

وقيل: أصل الطروق: السكون، ومنه: أطرق رأسه، فلما كان الليل يُسْكَن فيه سُمّي الآتي فيه طارقًا.

(كَيْ تَمْتَشِطَ)؛ أي: لتستعمل الْمُشط، وهو بضمّ الميم: الذي يُمْتشط به، وبنو تميم يكسرون الميم، وهو القياس؛ لأنه آلة، والجمع أَمْشاطٌ، يقال: مَشَطت الشعر مَشْطًا، من بابي قتل، وضرب: سرّحته، والتثقيل مبالغة، وامتشطَت المرأة: مشَطَت شعرها

(3)

. (الشَّعِثَةُ) بفتح الشين المعجمة، وكسر العين المهملة؛ أي: المرأة التي أصابها الشَّعَث، وهو الوسخ، يقال: شَعِثَ الشعرُ شَعْثًا، فهو شَعِثٌ، من باب تَعِبَ: تَغَيَّرَ، وتَلَبَّد لقلة تعَهُّده بالدهن، ورجلٌ أَشْعَثُ، وامرأة شَعْثَاءُ، مثلُ أحمر وحمراء، والشَّعَثُ أيضًا: الوسخُ،

(1)

"المصباح المنير" 2/ 583.

(2)

"الفتح" 9/ 241، كتاب "النكاح" رقم (5245).

(3)

راجع: "المصباح المنير" 2/ 574.

ص: 56

ورجلٌ شَعِثٌ: وَسِخُ الجسد، شَعِثُ الرأس أيضًا، وهو أَشْعَثُ أغبر؛ أي: من غير استحداد، ولا تنظّف، والشَّعَثُ أيضًا: الانتشار، والتفرق، قاله الفيّوميّ

(1)

.

(وَتَسْتَحِدَّ)؛ أي: تستعمل الحديدة في حلق الشعر، قال المجد: الاستحداد: الاحتلاق بالحديد

(2)

. (الْمُغِيبَةُ")؛ أي: المرأة التي غاب زوجها، يقال: أغابت المرأة بالألف: إذا غاب زوجها، فهي مُغِيبٌ، ومُغيبةٌ، قاله الفيّومي

(3)

، وقال المجد: وامرأةٌ مُغِيبٌ، ومُغِيبةٌ، ومُغْيِبٌ، كمُحْسِنٍ: غاب زوجها. انتهى

(4)

.

وقال القرطبيّ: قوله: "وتستحد": تفتعل؛ أي: تستعمل الحديدة في حلق الشعر.

و"المغيبة"؛ أي: التي غاب عنها زوجها، وهو مِن: أغابت، تُغِيب، فهي: مُغِيبة. و"الشعثة": التي علاها الشَّعَث، وهو: الغبار، والوسخ في الشعر؛ يعني بذلك: أن المرأة في حال غيبة زوجها متبذلة، لا تمتشط، ولا تدَّهن، ولا تتنظف، فلو بَغَتها زوجها من سفره، وهي على تلك الحال، استقذرها، ونفرت نفسه منها، وربما يكون ذلك سبب فراقها، فإذا قَدِم نهارًا سَمِعت بخبر قدومه، فأصلحت من شأنها، وتهيأت له، فحسنت الحال، وأُمِنت النفرة المذكورة.

وفيه من الفقه: أن المرأة ينبغي لها أن تتحسَّن، وتتزيَّن، وتتطيَّب وتتصنَّع للزوج بما أمكنها، وتجتهد في أن لا يرى منها زوجها ما تنفر نفسه منها بسببه؛ من الشَّعَث والوسخ، وغير ذلك.

قال: وأما نهيه صلى الله عليه وسلم في حديث جابر عن الطُّرُوق: فلمعنًى آخر، وهو: أن يظن بهنّ خبانةً في أنفسهن، أو فيما في أيديهن مما أمَّنهنّ عليه، وهو ظنّ لا يَحِلّ، وتخمين منهيّ عنه، فصار النهي عن طروق الرجل أهله معَلّلًا بعلّتين، بالأولى، وبالثانية، والله تعالى أعلم. انتهى

(5)

.

(1)

راجع: "المصباح المنير" 1/ 314.

(2)

"القاموس المحيط" ص 269.

(3)

راجع: "المصباح المنير" 2/ 458.

(4)

"القاموس المحيط" ص 967.

(5)

"المفهم" 3/ 767.

ص: 57

[تنبيه]: هذا الحديث اختصره المصنّف هنا، وقد ساقه في "كتاب الرضاع"[3640] مطوّلًا، بسند يحيى بن يحيى، ولفظه: عن جابر بن عبد الله، قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غَزَاة، فلما أقبلنا تعجَّلت على بعير لي قَطُوف، فلحقني راكب خلفي، فنخس بعيري بعنزة كانت معه، فانطلق بعيري كأجود ما أنت راء من الإبل، فالتفتّ، فإذا أنا برسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:"ما يُعجلك يا جابر؟ " قلت: يا رسول الله إني حديث عهد بعُرس، فقال:"أبكرًا تزوجتها أم ثيبًا؟ " قال: قلت: بل ثيبًا، قال:"هلّا جاريةً تلاعبها، وتلاعبك؟ " قال: فلما قَدِمنا المدينة ذهبنا لندخل، فقال:"أَمْهِلُوا حتى ندخل ليلًا - أي: عشاء - كي تمتشط الشَّعِثة، وتَستحدّ الْمُغِيبة". قال: وقال: "إذا قَدِمتَ، فالكيسَ، الكيسَ". انتهى، وقد مضى شرحه هناك، مستوفًى، فراجعه تستفد.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [56/ 4956 و 4957 و 4958 و 4959 و 4960 و 4961 و 4962 و 4963](715)، و (البخاريّ) في "النكاح"(5079 و 5247)، و (أبو داود) في "الجهاد"(2776 و 2778)، و (الترمذيّ) في "الاستئذان"(2712)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(5/ 362)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1724 و 1786)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(12/ 523)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 302 و 303 و 310 و 399)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 146)، و (سعيد بن منصور) في "سننه"(1/ 169)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 254 و 4/ 512)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(3/ 377)، و (ابن الجعد) في "مسنده"(1/ 260)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(2713 و 2714)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 260 و 7/ 254)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان النهي عن طُرُوق الأهل، وهو الدخول ليلًا لمن ورد من السفر.

ص: 58

2 -

(ومنها): الحثّ على التوادّ، والتحابّ خصوصًا بين الزوجين؛ لأن الشارع راعى ذلك بين الزوجين، مع اطّلاع كل منهما على ما جرت العادة بستره، حتى إن كل واحد منهما لا يخفى عنه من عيوب الآخر شيء في الغالب، ومع ذلك فنهى عن الطُّروق؛ لئلا يطّلع على ما تنفر نفسه عنه، فيكون مراعاة ذلك في غير الزوجين بطريق الأَولى.

3 -

(ومنها): أنه يؤخذ منه أن الاستحداد، ونحوه، مما تتزين به المرأة ليس داخلًا في النهي عن تغيير الخِلقة.

4 -

(ومنها): التحريض على ترك التعرّض لِمَا يوجب سوء الظنّ بالمسلم.

5 -

(ومنها): أن في تقييده بطول الغَيبة في رواية عاصم، الآتية، حيث قال:"إذا أطال أحدكم الغيبة، فلا يَطرُق أهله ليلًا" إشارةً إلى أن علة النهي إنما توجد حينئذ، فالحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا، فلما كان الذي يخرج لحاجته مثلًا نهارًا، ويرجع ليلًا لا يتأتى له ما يُحْذَر من الذي يطيل الغيبة، كان طول الغيبة مظنّة الأمن من الهجوم، فيقع للذي يَهْجُم بعد طول الغيبة غالبًا ما يَكْرَه:

إما بأن يجد أهله على غير أُهبة، من التنظّف، والتزين المطلوب من المرأة، فيكون ذلك سبب النَّفْرة بينهما، وقد أشار إلى ذلك بقوله في هذا الحديث:"كي تمتشط الشعثة، وتَستحِدّ المغيبة"، ويؤخذ منه كراهة مباشرة المرأة في الحالة التي تكون فيها غير متنظفة؛ لئلا يطّلع منها على ما يكون سببًا لنفرته منها.

وإما بأن يجدها على حالة غير مرضيّة، والشرع مُحَرِّضٌ على الستر، وقد أشار إلى ذلك بقوله:"أن يتخوَّنهم، ويتطلب عَثَراتهم"، فعلى هذا مَن أَعْلَم أهله بوصوله، وأنه يَقْدَم في وقت كذا مثلًا لا يتناوله هذا النهي، وقد صَرَّح بذلك ابن خزيمة في "صحيحه"، في حديث ابن عمر قال:"قَدِم النبيّ صلى الله عليه وسلم من غزوة، فقال: لا تطرقوا النساء، وأرسل من يُؤْذِن الناسَ أنهم قادمون".

قال ابن أبي جمرة رحمه الله: فيه النهي عن طروق المسافر أهله على غِرّة من غير تقدّم إعلام منه لهم بقدومه، والسبب في ذلك ما وقعت إليه الإشارة في

ص: 59

الحديث، قال: وقد خالف بعضهم، فرأى عند أهله رجلًا، فعوقب بذلك على مخالفته. انتهى.

وأشار بذلك إلى حديث أخرجه ابن خزيمة، عن ابن عمر قال:"نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تُطْرَق النساء ليلًا، فطَرَق رجلان، كلاهما وجد مع امرأته ما يكره"، وأخرجه من حديث ابن عباس نحوه، وقال فيه:"فكلاهما وجد مع امرأته رجلًا".

ووقع في حديث مُحارب، عن جابر، أن عبد الله بن رواحة أتى امرأته ليلًا، وعندها امرأة تَمْشُطها، فظنها رجلًا، فأشار إليها بالسيف، فلما ذَكَر للنبيّ صلى الله عليه وسلم نَهَى أن يَطْرُق الرجل أهله ليلًا. أخرجه أبو عوانة في "صحيحه"

(1)

، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4957]

(. . .) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنِي عَبْدُ الصَّمَدِ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سَيَّارٍ، عَنْ عَامِرٍ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذا قَدِمَ أَحَدُكُمْ لَيْلًا فَلَا يَأْتِيَنَّ أَهْلَهُ طُرُوقًا، حَتَّى تَسْتَحِدَّ الْمُغِيبَةُ، وَتَمْتَشِطَ الشَّعِثَةُ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

وكلّهم ذُكروا في الباب، وقبل بابين، و"عبد الصمد" هو: ابن عبد الوارث المذكور قبل حديث، و"عامر" هو الشعبيّ.

وقوله: (فَلَا يَأْتِيَنَّ أَهْلَهُ طُرُوقًا) بضمّ الطاء المهملة: هو الإتيان في الليل، وكلّ آتٍ في الليل فهو طارق

(2)

.

وقوله: (حَتَّى تَسْتَحِدَّ الْمُغِيبَةُ) قال النوويّ: معنى "تستحدّ المغيبة"؛ أي: تزيل شَعْر عانتها، والمغيبة التي غاب زوجها، والاستحداد: استفعال من استعمال الحديدة، وهي الْمُوسَى، والمراد: إزالته كيف كان. انتهى

(3)

.

(1)

راجع: "الفتح" 11/ 701، كتاب "النكاح"(5243).

(2)

"شرح النووي" 13/ 71.

(3)

"شرح النووي" 13/ 71.

ص: 60

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى البحث فيه مستوفًى في الحديث الماضي، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4958]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِيهِ يَحْيَى بْنُ حَبِيبٍ، حَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا سَيَّارٌ، بِهَذَا الإِسْنَادِ مِثْلَهُ).

رجال هذا الإسناد: ثلاثة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ حَبِيبِ) بن عربيّ البصريّ، ثقةٌ [10](ت 248) أو بعدها (م 4) تقدم في "الإيمان" 14/ 165.

2 -

(رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ) بن العلاء القيسيّ، أبو محمد البصريّ، ثقةٌ فاضلٌ، له تصانيف [9](ت 5 أو 207)(ع) تقدم في "الإيمان" 90/ 476.

و"شُعبة" ذُكر قبله.

[تنبيه]: رواية روح عن شعبة هذه ساقها أبو عوانة رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(7527)

- حدّثنا الصغانيّ، قال: ثنا رَوْح بن عُبادة، عن شعبة، عن عاصم الأحول، قال: سمعت الشعبيّ، عن جابر بن عبد الله، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم:"نَهَى إذا أطال الرجل الغيبة أن يطرق أهله ليلًا". انتهى

(1)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4959]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ - يَعْنِي: ابْنَ جَعْفَرٍ - حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ قَالَ: "نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَطَالَ الرَّجُلُ الْغَيْبَةَ أَنْ يَأْتِيَ أَهْلَهُ طُرُوقًا").

رجال هذا الإسناد: ستة:

وكلهم تقدّموا في الباب، وقبل بابين، والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى البحث فيه مستوفى قبل حديثين، ولله الحمد والمنّة.

(1)

"مسند أبي عوانة" 4/ 512.

ص: 61

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4960]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِيهِ يَحْيَى بْنُ حَبِيبٍ، حَدَّثَنَا رَوْحٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، بِهَذَا الإِسْنَادِ).

رجال هذا الإسناد: ثلاثة:

وهم المذكورون قبل حديث.

قال الحافظ أبو عوانة رحمه الله في "مسنده" بعد إخراج الحديث من رواية شعبة، عن عاصم ما نصّه: عند روح عن شعبة الحديثين جميعًا، عن سيّار، وعاصم. انتهى.

يعني: أن روح بن عبادة روى الحديث عن شعبة بالإسنادين: إسناده عن سيّار، عن الشعبيّ، عن جابر، وإسناده عن عاصم، عن الشعبيّ، عن جابر رضي الله عنه.

وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4961]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ مُحَارِبٍ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: "نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَطْرُقَ الرَّجُلُ أهْلَهُ لَيْلًا، يَتَخَوَّنُهُمْ، أَوْ يَلْتَمِسُ عَثَرَاتِهِمْ

(1)

").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(وَكِيعُ) بن الجرّاح، تقدّم قبل بابين.

2 -

(سُفْيَانُ) بن سعيد بن مسروق الثوريّ، أبو عبد الله الكوفيّ، ثقة حافظ فقيه عابد إمام حجة، وربما دلّس، من رؤوس [7](ت 161)(ع) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.

3 -

(مُحَارِبُ) بن دثار السَّدوسيّ الكوفيّ القاضي، ثقةٌ إمام زاهدٌ [4](116)(ع) تقدم في "الصلاة" 40/ 1069.

والباقيان ذُكرا في الباب.

قوله: (نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَطْرُقَ الرَّجُلُ أَهْلَهُ لَيْلًا) مؤكّد لمعنى "يطرُق" لأن الطروق يكون بالليل، فتنبّه.

(1)

وفي نسخة: "أو يطلب عثراتهم".

ص: 62

وقوله: (يَتَخَوَّنُهُمْ) قال النوويّ رحمه الله: معناه: يظنّ خيانتهم، ويكشف أستارهم، ويكشف هل خانوا أم لا؟.

قال: ومعنى هذه الروايات كلها أنه يُكره لمن طال سفره أن يُقدِم على امرأته ليلًا بغتةً، فأما من كان سفره قريبًا تتوقع امرأته إتيانه ليلًا فلا بأس، كما قال في إحدى هذه الروايات:"إذا أطال الرجل الغيبة"، وإذا كان في قَفْل عظيم، أو عَسْكَرٍ ونحوهم، واشتهر قدومهم ووصولهم، وعَلِمت امرأته وأهله أنه قادم معهم، وأنهم الآن داخلون فلا بأس بقدومه متى شاء؛ لزوال المعنى الذي نُهي بسببه، فإن المراد أن يتأهبوا، وقد حصل ذلك، ولم يَقدَم بغتة، ويؤيد ما ذكرناه ما جاء في الحديث الآخر:"أمهلوا حتى ندخل ليلًا - أي: عشاءً - كي تمتشط الشَّعِثَة، وتَسْتَحِدّ الْمُغِيبة"، فهذا صريح فيما قلناه، وهو مفروض في أنهم أرادوا الدخول في أوائل النهار بغتةً، فأمرهم بالصبر إلى آخر النهار؛ ليبلغ قدومهم إلى المدينة، وتتأهب النساء، وغيرهنّ، والله أعلم. انتهى

(1)

.

وقوله: (أَوْ يَلْتَمِسُ عَثَرَاتِهِمْ)"أو" للشكّ من الراوي، ووقع في بعض النسخ:"عَثْرتهم" بفتح، فسكون؛ أي: زلَّتهم، يقال: عَثَرَ الرجل في ثوبه يَعْثُرُ، والدابة أيضًا، من باب قتل، وفي لغة من باب ضرب عِثَارًا بالكسر، والعَثْرَةُ: المرة، ويقال للزلة: عَثْرَةٌ؛ لأنها سقوط في الإثم، وفرّق بينهما في "مختصر العين"، فقال: عَثَرَ الرجل عُثُورًا، وعَثَرَ الفرس عِثَارًا، وعَثَرَ عليه عَثْرًا، من باب قتل، وعُثُورًا: اطّلع عليه، وأَعْثَرَهُ غيره: أعلمه به. انتهى

(2)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4962]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِيهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، بِهَذَا الإِسْنَادِ، قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: قَالَ سُفْيَانُ: لَا أَدْرِي هَذَا فِي الْحَدِيثِ، أَمْ لَا؟، يَعْنِي: أَنْ يَتَخَوَّنَهُمْ، أَوْ يَلْتَمِسَ عَثَرَاتِهِمْ).

(1)

"شرح النوويّ" 13/ 71 - 72.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 393.

ص: 63

رجال هذا الإسناد: ثلاثة:

1 -

(عَبْدُ الرَّحْمَنِ) بن مهديّ بن حسّان العنبريّ مولاهم، أبو سعيد البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ حافظٌ عارف بالرجال والحديث [9](ت 198)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 388.

والباقيان ذُكرا في الباب.

وقوله: (قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ)؛ يعني: ابن مهديّ، (قَالَ سُفْيَانُ) الثوريّ (لَا أَدْرِي هَذَا فِي الْحَدِيثِ، أَمْ لَا؟، يَعْنِي: أَنْ يَتَخَوَّنَهُمْ، أَوْ يَلْتَمِسَ عَثَرَاتِهِمْ) أشار به إلى أن قوله: "يتخوّنهم. . . إلخ" مما شكّ فيه سفيان، هل هو من جملة الحديث المرفوع، أم لا؟، والظاهر أنه ليس من الحديث، وإلى هذا أشار المصنّف برواية شُعبة التالية، حيث روى الحديث عن محارب، كما روى سفيان، إلا أنه خالفه في الزيادة، فدلّ على أنها ليست منه، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4963]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ (ح) وَحَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، قَالَا جَمِيعًا: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مُحَارِبٍ، عَنْ جَابِرٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِكَرَاهَةِ

(1)

الطُّرُوقِ، وَلَمْ يَذْكُرْ: يَتَخَوَّنُهُمْ، أَوْ يَلْتَمِسُ عَثَرَاتِهِمْ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ) العنبريّ مولاهم، أبو عمرو البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 237)(خ م د س) تقدم في "المقدمة" 3/ 7.

2 -

(أَبُوهُ) معاذ بن معاذ بن نصر بن حسّان العنبريّ مولاهم، أبو المثنّى البصريّ القاضي، ثقةٌ متقنٌ، من كبار [9](ت 196)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 7.

والباقون ذُكروا في الباب، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(1)

وفي نسخة: "بكراهية".

ص: 64

‌33 - (كِتَابُ الصَّيْدِ وَالذَّبَائِحِ، وَمَا يُؤْكَلُ مِنَ الْحَيَوَانِ)

مسائل تتعلّق بهذه الترجمة:

(المسألة الأولى): في الكلام على الصيد:

قال الفيّوميّ رحمه الله: صاد الرجلُ الطيرَ يَصِيده صَيْدًا، فالطير مَصِيدٌ، والرجل صائدٌ، وصَيّادٌ. قال ابن الأعرابيّ: يقال: صَاد يَصَادُ، وباتَ يَبَاتُ، وعافَ يَعَافُ، وخالَ الغيثَ يَخَالُهُ، لغةٌ في يَفْعِلُ بالكسر في الكلّ، وسُمّي ما يُصاد: صَيْدًا، إمّا فَعْلٌ بمعنى مفعول، وإما تسميةٌ بالمصدر، والجمع: صُيُود، واصطاده مثلُ صاده، والمَصِيدة وزانُ كَرِيمة، والْمِصْيَدَة بكسر الميم، وسكون الصاد، والْمِصْيَدُ بحذف الهاء أيضًا: آلة الصيد، والجمع: مصايد بغير همز. انتهى.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: ومن إطلاق الصيد على الْمَصِيد قول الشاعر [من بحر الكامل]:

صَيْدُ الْمُلُوكِ أَرَانِبٌ وَثَعَالِبُ

وَإِذَا رَكِبْتُ فَصَيْدِيَ الأَبْطَالُ

وفي "حاشية" ابن عابدين على "الدرّ المختار": الصيد مصدر صاده: إذا أخذه، فهو صائد، وذاك مَصِيدٌ، ويُسمّى المصِيد صيدًا، فيُجمع على صُيُود، وهو كلّ ممتنع، متوحّشٍ طبعًا، لا يُمكن أخذه إلا بحيلة. انتهى. "مُغرب".

فخرج بـ "الممتنع" مثل الدجاج والبَطّ؛ إذ المراد منه أن يكون له قوائم، أو جناحان، يملك عليهما، ويقدر على الفرار من جهتهما.

وبـ "المتوحّش" مثل الْحَمَام؛ إذ معناه أن لا يألف الناس ليلًا، ونهارًا.

وبـ "طبعًا" ما يتوحّش من الأهليّات، فإنها لا تحل بالاصطياد، وتحِلّ بذكاة الضرورة، ودخل متوحّشٌ يألف، كالظبي، لا يمكن أخذه إلا بحيلة؛ أي: فإنه وإن كان مما يألف بعد الأخذ، إلا أنه صيد قبله، يحلّ بالاصطياد،

ص: 65

ودخل فيه ما لا يُؤكل لحمه. انتهى كلام ابن عابدين رحمه الله ببعض اختصار.

وقال أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله: الأصل في جواز الصيد على الجملة الكتاب، والسنّة، وإجماع الأمّة، فأما الكتاب فقوله تعالى:{يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} الآية [المائدة: 4]؛ أي: وصيد ما علّمتم، وقوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ} الآية [المائدة: 94]، وقوله تعالى:{أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ} [المائدة: 96].

وأما السنّة فالأحاديث الآتية الصحيحة، وأما الإجماع فإنه قد أجمع أهل العلم على إباحة الاصطياد، والأكل من الصيد.

والصيد ذكاة في المتوحّش طبعًا، غير المقدور عليه، المأكول نوعه، والنظر فيه في الصائد، والْمَصِيد، والآلة التي يُصاد بها، ولكلّ منها شروطٌ يأتي بيانها أثناء النظر في الأحاديث الآتية، إن شاء الله تعالى. انتهى كلام القرطبيّ ببعض تصرّف

(1)

.

وقال النوويّ رحمه الله: الأحاديث المذكورة في هذا الكتاب في الاصطياد كلّها فيها إباحة الاصطياد، وقد أجمع المسلمون عليه، وتظاهرت عليه دلائل الكتاب، والسنّة، والإجماع. قال القاضي عياض: هو مباح لمن اصطاد للاكتساب، والحاجة، والانتفاع به بالأكل، وثمنه. قال: واختلفوا فيمن اصطاد للهو، ولكن قَصَد تذكيته، والانتفاع به، فكرهه مالكٌ، وأجازه الليث، وابن عبد الحكم، قال: فإنْ فَعَله بغير نيّة التذكية، فهو حرام؛ لأنه فساد في الأرض، وإتلاف نفس عَبَثًا. انتهى

(2)

، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثانية): في الكلام على الذبائح:

"الذبائح": جمع ذبيحة، من "الذبح" - بفتح، فسكون - وهو قطع الحلقوم من باطنٍ عند النَّصِيل، وهو موضع الذبح من الحلق، قال الفيّوميّ رحمه الله: ذبحت الحيوان ذَبْحًا، فهو ذبيحٌ، ومذبوحٌ، والذبيحة: ما يُذبح، وجَمْعها ذبائح، مثلُ كريمة وكرائم، وأصل الذبح: الشَّقُّ، والذِّبْحُ وزانُ حِمْل: ما يُهيّأ

(1)

"المفهم" 5/ 204.

(2)

"شرح النوويّ" 13/ 75.

ص: 66

للذَّبْح، والْمِذْبَحُ بالكسر: السكّين الذي يُذبح به، والْمَذْبَحُ بالفتح: الْحُلْقُوم. انتهى

(1)

.

وقال ابن منظور رحمه الله: الذّبْحُ مصدر ذبحتُ الشاةَ، يقال: ذَبَحَه يَذْبَحُهُ ذَبْحًا، فهو مذبوحٌ، وذَبِيحٌ، من قوم ذَبْحَى، وذَبَاحَى، وكذلك التيس، والكبش من كِبَاش ذَبْحَى، وذَبَحَى. والذّبِيحَةُ: الشاة المذبوحة، وشاةٌ ذَبِيحة، وذَبيحٌ، من نِعَاج ذَبْحَى، وذَبَاحَى، وذَبَائح، وكذلك الناقة، قال الأزهريّ: الذَّبِيحة: اسم لِمَا يُذبَح من الحيوان، وأُنّث لأنه ذُهب به مذهب الأسماء، لا مذهب النعت، فإن قلت: شاة ذبيح، أو كبش ذبيح، أو نعجة ذبيحٌ لم تدخل فيه الهاء؛ لأن فعيلًا إذا كان نعتًا في معنى مفعول يُذكّر، يقال: امرأةٌ قتيلٌ، وكَفٌّ خَضِيبٌ. وقال أيضًا: الذبيح: المذبوح، والأنثى ذبيحة، وإنَّمّا جاءت بالهاء لغلبة الاسم عليها. والذِّبح - بكسر، فسكون -: اسم ما أُعدّ للذبح، وهو بمنزلة الذبيح، والمذبوح، كالطِّحْن بمعنى المطحون، والْقِطْف بمعنى المقطوف، قال الله تعالى:{وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107)} [الصافات: 107]؛ أي: بكبش يُذبح، وهو الكبش الذي فُدي به إسماعيل بن إبراهيم - صلى الله عليهما، وعلى نبيّنا وسلّم -.

والذَّبْحُ أيضًا الشّقّ، وكلُّ ما شُقّ، فقد ذُبح، قال منظور بن مرثد الأسديّ [من مشطور الرجز]:

يَا حَبَّذَا جَارِيَةٌ مِنْ عَكِّ

تُعَقِّدُ الْمِرْطَ عَلَى مِدَكِّ

شِبْهِ كَثِيبِ الرَّمْلِ غِيْرِ رَكِّ

كَأَنَّ بَيْنَ فَكِّهَا وَالْفَكِّ

فَأْرَةُ مِسْكٍ ذُبِحَتْ فِي سُكِّ

أي: فُتقت. ذكر هذا كلّه في "لسان العرب"

(2)

.

[تنبيه]: إنما جمع الذبائح؛ لاختلاف أنواعها، من الإبل، والبقر، والغنم، وغيرها، وإنما أفرد الصيد؛ لأنه في الأصل مصدر، كما سبق، والمصدر يصدق بلفظه على القليل والكثير، والصيد بمعنى المصدر ذكاة في الحيون المتوحّش، طبعًا، غير المقدور عليه المأكول نوعه، وأما الصيد بمعنى

(1)

"المصباح المنير" 1/ 206.

(2)

"لسان العرب" 2/ 438.

ص: 67

المصيد، فهو الحيوان الذي يُقدر على ذكاته تارةً، ولا يُقدر عليها أخرى

(1)

، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في بيان بعض حكمة مشروعيّة الصيد والذبائح:

(اعلم): أن الله سبحانه وتعالى أكرم الإنسان، وفضّله على كثير ممن خلق تفضيلًا، وسخّر له الكون، فكله قائم بخدمته، وإنجاز ما يهواه، ويُعينه على أداء ما تُحمّله الأمانة، كما قال عز وجل:{هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} الآية [البقرة: 29]، وهذا النصّ ظاهر في أن ما على الأرض جميعًا مخلوق؛ لينتفع به الإنسان بصورة من صور الانتفاع، غير أن الانتفاع ينبغي أن يكون على وجه جلب المنافع، وإقامة المصالح، لا على وجه يؤدّي إلى المفاسد فرديّة كانت أو اجتماعيّة، خُلُقيّة كانت أو نفسيّة، دينيّة كانت أو دنيويّة، ومن أجل ذلك شرع الله سبحانه وتعالى الحلال والحرام، فأباح للإنسان ما ينفعه، وحرّم عليه ما يضرّه، على وجه اقتضته حكمته البالغة التي ربما لا تصل إليها هذه العقول القاصرة، فليس للإنسان إلا أن يستسلم لأوامر ربه عز وجل، وينتهي عن نواهيه، سواء أدرك حكمتها أم لم يدركها؛ لأنه سبحانه وتعالى أعلم بمصالح عباده، وهم لا يعلمون، كما قال تعالى:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216)} [البقرة: 216].

وإن الأكل والشرب من أعظم حاجات الإنسان التي لا يمكن أن يعيش بدونها، وإن لحم الحيوان الطيّبة من أعظم المآكل التي عرفها الإنسان، فإنها من ألذّ المأكولات طعمًا، وأنفعها للصحة البشريّة، وأكثرها تقويةً للجسم، وأوفرها وجودًا طبيعيًّا، لا يحتاج إلى غرس، أو زرع، وقد جُبل الإنسان على استحسان طعمه، والانتفاع بملاذّه.

وقد ذكر صاحب "التكملة" عن الشيخ محمد قاسم النانوتويّ رحمه الله في رسالة له أثناء ردّه على بعض الهنود الذين يُشَنِّعون على أكل اللحم، فقال: إن الله سبحانه وتعالى خلق أعضاء كلّ حيوان وصوّرها بما يلائم فطرته في معيشته،

(1)

راجع: شرح الشيخ الهرريّ 20/ 302.

ص: 68

وأكله، وشربه، فالطيور التي لها مناقير معوجّة تأكل اللحم، والتي لها مناقير مستقيمة ترعى الحشيش ونحوه، وكذلك الحيوانات التي ترعى العشب، ولا تأكل اللحم لها أضراس مدوّرة، وليس لها أنياب إلا نادرًا، كالبقر، والغنم، والإبل، والفرس، وأما الحيوانات التي تأكل اللحم فإن أضراسها عريضة، وليست مدوّرة، ولها أنياب حادّة، مثل جميع السباع.

وإذا رأينا الإنسان على هذا العيار فإن له أضراسًا عريضةً، وأنيابًا حادّة، وهذا يدلّ على أن فطرته تقتضي أكل اللحم، دون الاقتصار على الخضروات والمزروعات.

ونظرًا إلى هذه الأمور الفطريّة للإنسان أباح الله سبحانه وتعالى لحم الحيوانات الطيّبة، وحرّم عليه منها ما يضرّ الصحّة الجسميّة، أو الروحيّة، أو النفسيّة، أو الخُلقيّة.

ثم الحيوانات الطيّبة إنما أبيح لحومها إذا وقعت تذكيتها بطريق مشروعٍ، فإن الحيوانات التي تموت طبعًا، أو التي تموت بالخنق، أو الوقذ تحتبس دماؤها في أعضائها، فتتنجّس أعضاؤها، فإن أكل لحمها أورث أمراضًا جسميّةً، أو نفسيّةً، أو خلقيّة.

فهذا هو السرّ في مشروعيّة الذبح والنحر، وطُرُق الذكاة الأخرى، فإنها تُنهر الدم من جسم الحيوان، وتفيضها إلى الخارج بما يجعل لحمها طاهرًا من أوساخها، فيطيب اللحم للآكل.

وإن أفضل هذه الطرق هو الذبح والنحر، فإن إنهار الدم فيهما أكمل، وإزهاق الروح بهما أسهل، فأوجبت الشريعة في الأحوال الاختياريّة أن يكون قتل الحيوان بهذا الطريق المشروع فقط، فاشتُرِط في الحيوانات الأليفة أن تُذبح، أو تُنحر لقطع عروقها، وأما في الحيوانات الشاردة التي لا تقع تحت اختيار الإنسان، فاكتَفَى الشرع بمجرّد إنهار الدم بآلة محدودة، سواء كان هذا الإنهار عن طريق حلقومها، أو عن طريق غيرها من الأعضاء.

ثم إن إنهار الدم طريق لتطهير ظاهر الحيوان، وشَرَع الله تعالى مع ذلك ما يُطهّر باطنه، وذلك ذِكْر اسم الله تعالى عليه من قبل الذابح، أو الصائد، واشترط أن يكون مسلمًا، أو كتابيًّا؛ لأنّ ذِكر غيرهما غير معتبَر شرعًا، فلا

ص: 69

يفيد طهارة الحيوان في الباطن. انتهى ما ذكره صاحب "التكملة"

(1)

، وهو بحث نفيسٌ جدًّا، والله تعالى أعلم بالصواب.

(1) - (بَابُ الصَّيْدِ بِالْكِلَابِ الْمُعَلَّمَةِ، وَالرَّمْيِ)

[4964]

(1929) - (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ، أَخْبَرَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي أُرْسِلُ الْكِلَابَ الْمُعَلَّمَةَ، فَيُمْسِكْنَ عَلَيَّ، وَأَذْكُرُ اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ، فَقَالَ:"إِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ الْمُعَلَّمَ، وَذَكَرْتَ اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ فَكُلْ"، قُلْتُ: وَإِنْ قَتَلْنَ؟ قَالَ: "وَإِنْ قَتَلْنَ، مَا لَمْ يَشْرَكْهَا كَلْبٌ لَيْسَ مَعَهَا"، قُلْتُ لَهُ: فَإِنِّي أَرْمِي بِالْمِعْرَاضِ الصَّيْدَ، فَأُصِيبُ؟ فَقَالَ: "إِذَا رَمَيْتَ بالْمِعْرَاضِ، فَخَزَقَ فَكُلْهُ، وَإِنْ أَصَابَهُ بِعَرْضِهِ

(2)

فَلَا تَأْكُلْهُ").

رجال هذا الإسناد: ستةٌ:

1 -

(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ) ابن راهويه، تقدّم قريبًا.

2 -

(جَرِيرُ) بن عبد الحميد، تقدّم قبل باب.

3 -

(مَنْصُورُ) بن المعتمر، تقدّم قريبًا.

4 -

(إِبْرَاهِيمُ) بن يزيد بن قيس بن الأسود النخعيّ، أبو عمران الكوفيّ، ثقةٌ فقيه، يرسل كثيرًا [5](ت 96) وهو (50) أو نحوها (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 52.

5 -

(هَمَّامُ بْنُ الْحَارِثِ) بن قيس بن عمرو النخعيّ الكوفيّ، ثقةٌ عابدٌ [2](ت 65)(ع) تقدم في "الإيمان" 47/ 298.

6 -

(عَدِيُّ بْنُ حَاتِمِ) بن عبد الله بن سعد بن الْحَشْرج الطائيّ، أبو طَرِيف الصحابيّ الشهير، كان ممن ثبت على الإسلام في الرِّدّة، وحضر فتوح العراق، وحروب عليّ رضي الله عنه، ومات رضي الله عنه سنة (68) وهو ابن (120) سنةً، وقيل:(80)(ع) تقدم في "الجمعة" 15/ 2010.

(1)

راجع: "تكملة فتح الملهم" 3/ 479 - 480.

(2)

وفي نسخة: "بعرض".

ص: 70

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من سُداسيّات المصنّف، وأنه مسلسل بالكوفيين، غير شيخه، فمروزيّ، ثم نيسابوريّ، وفيه ثلاثة من التابعين روى بعضهم عن بعض، على قول من يجعل منصورًا من صغار التابعين، وقد مرّ تحقيقه، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ) قال في "الفتح": هو الطائيّ، وأبوه حاتم هو المشهور بالجود، وكان هو أيضًا جوادًا، وكان إسلامه سنة الفتح، وثبت هو وقومه على الإسلام، وشَهِد الفتوح بالعراق، ثم كان مع عليّ رضي الله عنهما، وعاش إلى سنة ثمان وستين. انتهى

(1)

. (قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي أُرْسِلُ الْكِلَابَ الْمُعَلَّمَةَ) اسم مفعول من التعليم، والمراد بالمعلَّمة: التي إذا أغراها صاحبها على الصيد طلبته، وإذا زجرها انزجرت، وإذا أخذت الصيد حبسته على صاحبها، وهذا الثالث مختلف في اشتراطه، واختُلِف متى يُعْلَم ذلك منها؟ فقال البغويّ في "التهذيب": أقله ثلاث مرات، وعن أبي حنيفة، وأحمد: يكفي مرتين، وقال الرافعيّ: لم يقدّره المُعْظَم؛ لاضطراب العُرف، واختلاف طباع الجوارح، فصار المرجع إلى العُرف.

ووقع في رواية مُجالد، عن الشعبيّ، عن عديّ في هذا الحديث عند أبي داود، والترمذيّ، أما الترمذيّ فلفظه:"سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيد البازي، فقال: ما أمسك عليك فَكُل"، وأما أبو داود فلفظه:"ما عَلَّمت من كلب، أو باز، ثم أرسلته، وذكرت اسم الله فَكُل، ما أمسك عليك، قلت: وإن قَتَل؟ قال: إذا قتل، ولم يأكل منه".

قال الترمذيّ: والعمل على هذا عند أهل العلم، لا يرون بصيد الباز، والصقور بأسًا. انتهى.

وفي معنى الباز: الصقر، والعُقاب، والباشق، والشاهين، وقد فَسَّر مجاهد {الْجَوَارِحِ} في الآية بالكلاب، والطيور، وهو قول الجمهور، إلا ما

(1)

"الفتح" 12/ 419، كتاب "الذبائح والصيد" رقم (5475).

ص: 71

رُوي عن ابن عمر، وابن عباس رضي الله عنهم من التفرقة بين صيد الكلب، والطير

(1)

، والله تعالى أعلم.

(فَيُمْسِكْنَ عَلَيَّ)؛ أي: يأخذن الصيد لأجلي، (وَأَذْكُرُ اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ، فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("إِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ الْمُعَلَّمَ، وَذَكَرْتَ اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ فَكُلْ") قال عديّ (قُلْتُ: وَإِنْ قَتَلْنَ؟)؛ أي: أآكله، وإن لم أُدرك حياته، فأذكّيَه؟ (قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("وَإِنْ قَتَلْنَ)؛ أي: يحلّ لك أكله، وإن قتلته الكلاب قبل أن تُدركه، (مَا) مصدريّة ظرفيّة؛ أي: مدّة ما (لَمْ يَشْرَكْهَا) بفتح أوله، وثالثه، يقال: شَرِكته في الأمر أشرَكه، من باب تَعِبَ شَرِكًا أو شَرِكةً، وزان كَلِمٍ، وكَلِمَة، بفتح الأول، وكسر الثاني: إذا صرتَ له شَرِيكًا

(2)

. (كَلْبٌ لَيْسَ مَعَهَا") وفي رواية: "إذا أرسلت كلابك المعلمة، وإن وجدت مع كلبك كلبًا غيره، فخشيت أن يكون أخَذَه معه، وقد قتله فلا تأكل"، في رواية:"وإن خالطها كلاب مِن غيرها فلا تأكل"، وزاد في رواية بعد قوله:"مما أمسكن عليك، وإن قَتلن، إلا أن يأكل الكلب، فإني أخاف أن يكون إنما أمسك على نفسه"، وفي رواية:"قلت: فإن أكل؟ قال: فلا تأكل، فإنه لم يمسك عليك، إنما أمسك على نفسه".

قال عديّ رضي الله عنه: (قُلْتُ لَهُ)؛ أي: للنبيّ صلى الله عليه وسلم (فَإِنِّي أَرْمِي بِالْمِعْرَاضِ) - بكسر الميم، وسكون المهملة، وآخره معجمة - قال الخليل، وتبعه جماعة: سهم لا رِيش له، ولا نَصْل، وقال ابن دريد، وتبعه ابن سِيدَهْ: سهم طويل له أربع قُذَذ رِقَاق، فإذا رُمي به اعتَرَض، وقال الخطابيّ: المعراض نَصْل عريض، له ثِقَل ورَزَانة، وقيل: عُود رقيق الطرفين، غليظ الوسط، وهو المسمى بالحذّافة، وقيل: خشبة ثقيلة، آخرها عصًا محدّد رأسها، وقد لا يُحَدَّد، وقَوَّى هذا الأخير النوويّ تبعًا لعياض عياض، وقال القرطبيّ: إنه المشهور، وقال ابن التين: المعراض: عصًا في طرفها حديدةٌ، يَرمي الصائد بها الصيد، فما أصاب بحدّه فهو ذكيّ، فيؤكل، وما أصاب بغير حدّه فهو وَقِيذ

(3)

.

(1)

"الفتح" 12/ 420، كتاب "الذبائح والصيد" رقم (5475).

(2)

"المصباح المنير" 1/ 311.

(3)

"الفتح" 12/ 419، كتاب "الذبائح والصيد" رقم (5475).

ص: 72

وقال ابن قُدامة رحمه الله في "المغني": المعراض عُود محدّد، وربما جُعل في رأسه حديدة، قال أحمد: المعراض يشبه السهم، يُحذف به الصيد، فربما أصاب الصيد بحدّه، فخرق، وقتل، فيباح، وربما أصاب بعَرْضه، فقتل بثقله، فيكون موقوذًا، فلا يباح، وهذا قول عليّ، وعثمان، وعمّار، وابن عباس، وبه قال النخعيّ، والحكم، ومالك، والثوريّ، والشافعيّ، وأبو حنيفة، وإسحاق، وأبو ثور.

وقال الأوزاعيّ، وأهل الشام: يباح ما قتله بحدّه وعَرْضه، وقال ابن عمر: ما رُمي من الصيد بجلاهق، أو مِعراض، فهو من الموقوذة، وبه قال الحسن.

واحتجّ ابن قُدامة للجمهور بحديث عديّ بن حاتم رضي الله عنه المذكور هنا، فإنه صلى الله عليه وسلم قال:"ما خَزَق فكل، وما قتل بعرضه فهو وقيذ فلا تأكل"، متفق عليه، وهذا نصّ

(1)

يردّ على أهل الشام، والله تعالى أعلم.

[تنبيه]: قال الشوكانيّ رحمه الله في "تفسيره": وأما البنادق المعروفة الآن، وهي بنادق الحديد التي تجعل فيها البارود والرصاص، ويُرمى بها، فلم يتكلم عليها أهل العلم؛ لتأخّر حدوثها، فإنها لم تصل إلى الديار اليمنية إلا في المائة العاشرة من الهجرة، وقد سألني جماعة من أهل العلم عن الصيد بها إذا مات، ولم يتمكن الصائد من تذكيته حيًا؟ والذي يظهر لي أنه حلال؛ لأنها تخرق وتدخل في الغالب من جانب منه وتخرج من الجانب الآخر، وقد قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح السابق:"إذا رميت بالمعراض فخزَق فكله"، فاعتبر الخزق في تحليل الصيد. انتهى كلام الشوكانيّ رحمه الله

(2)

.

وقال العلامة الصنعانيّ رحمه الله: وأما البنادق المعروفة الآن فإنها ترمي بالرصاص، فيخرج، وقد صيرته نار البارود كالميل فيقتل بحدّه، لا بصدمه فالظاهر حِلّ ما قتلته. انتهى

(3)

.

قال الجامع عفا الله عنه: ما قاله الشوكانيّ والصنعانيّ - رحمهما الله تعالى -

(1)

"المغني" لابن قُدامة رحمه الله -11/ 26.

(2)

"فتح القدير" للشوكانيّ 2/ 265.

(3)

"سبل السلام" 4/ 85.

ص: 73

من حلّ أكل ما قُتل بالبنادق المعروفة الآن، تحقيقٌ حسنٌ جدًّا لا يظهر لي غيره، والله تعالى أعلم.

(الصَّيْدَ) منصوب على المفعوليّة، (فَأُصِيبُ؟) عطف على "أرمي"، فهو مرفوع (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("إِذَا رَمَيْتَ بِالْمِعْرَاضِ، فَخَزَقَ) - بفتح الخاء المعجمة، والزاي، آخره قاف - أي: نَفَذَ، يقال: خَزَقه خَزْقًا، من باب ضرب: طعنه، وخَزَق السهم القرطاس: نفذ منه، فهو خازقٌ، وجمعه خوازق

(1)

. (فَكُلْهُ، وَإِنْ أَصَابَهُ بِعَرْضِهِ) وفي بعض النسخ: "بعرض" بحذف الضمير، وهو بفتح، فسكون: خلاف الطول، (فَلَا تَأْكُلْهُ") وفي الرواية الثالثة:"وَإِذَا أَصَابَ بِعَرْضِهِ فَقَتَلَ، فَإِنَّهُ وَقِيذٌ، فَلَا تَأْكُلْ"، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عديّ بن حاتم رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [1/ 4964 و 4965 و 4966 و 4967 و 4968 و 4969 و 4970 و 4971 و 4972 و 4973](1929)، و (البخاريّ) في "الوضوء"(175) و"البيوع"(2054) و"الذبائح والصيد"(5475 و 5476 و 5477 و 5483 و 5485 و 5486 و 5487) و"التوحيد"(7397)، و (أبو داود) في "الضحايا"(2824 و 2847 و 2848 و 2849 و 2850 و 2851 و 2852 و 2853 و 2854)، و (الترمذيّ) في "الصيد"(1465 و 1469 و 1470 و 1471)، و (النسائيّ) في "الصيد والذبائح"(7/ 180 و 181 و 182 و 183) و"الكبرى"(3/ 143 و 145 و 146 و 147)، و (ابن ماجه) في "الذبائح"(3177) و"الصيد"(3208 و 3212 و 3213 و 3214 و 3215)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(8502 و 8531)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1030)، و (الحميديّ) في "مسنده"(914 و 915 و 917)، و (أحمد) في "مسنده" (4/

(1)

"المصباح المنير" 1/ 168.

ص: 74

256 -

257 و 258 و 377 و 379 و 380)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 89)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5880)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(17/ 154 و 155 و 156 و 157 و 166)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(919 و 920 و 921)، و (أبو عوانة) في "مسنده" 5/ 7 و 8 و 9 و 11 و 12)، و (الدارقطنيّ) في "سننه"(4/ 294)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(9/ 236 و 238 و 239 و 242 و 243 و 244 و 248)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(2768)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): جواز الاصطياد، وأنه من الأمور المباحة، وليس من اللَّهو واللعب.

2 -

(ومنها): جواز اقتناء الكلب للصيد.

3 -

(ومنها): جواز ما قتله الكلب من الصيد، إن لم يُدرَك حيًّا.

4 -

(ومنها): بيان وجوب التسمية عند إرسال الكلب إلى الصيد؛ لأمْره صلى الله عليه وسلم بذلك.

5 -

(ومنها): وجوب ذبح الصيد الذي أمسكه الكلب، إذا وُجد حيًّا، فلو مات بعد أن تمكّن صاحبه من ذبحه، وتَرَكه لم يحلّ.

6 -

(ومنها): وجوب التسمية عند ذبحه، فلا تجزئ التسمية السابقة عند الإرسال، وسيأتي مزيد بسط لذلك في المسألة السابعة - إن شاء الله تعالى -.

7 -

(ومنها): اشتراط كون الكلب معلَّمًا، فلو سمّى على كلب غير معلّم، فَقَتَل الصيد لم يحلّ.

8 -

(ومنها): إباحة الاصطياد بالكلاب المعلَّمة، واستثنى أحمد، وإسحاق الكلب الأسود، وقالا: لا يحل الصيد به؛ لأنه شيطان، ونُقل عن الحسن، وإبراهيم، وقتادة نحو ذلك.

9 -

(ومنها): أن فيه فضلَ العلم، وأن للعالم من الفضيلة ما ليس للجاهل؛ لأن الكلب إذا عُلّم يكون له فضيلة، على سائر الكلاب، فالإنسان إذا كان له عِلم أَولى أن يكون له فضل على سائر الناس، لا سيّما إذا عَمِل بما علِمَ، وهذا كما رُوي عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: لكلّ شيء قيمةٌ،

ص: 75

وقيمة المرء ما يُحسنه، ذكره أبو عبد الله القرطبيّ في "تفسيره"

(1)

.

10 -

(ومنها): جواز أكل ما أمسكه الكلب بالشروط المتقدمة، ولو لم يُذبح؛ لقوله:"إنّ أخذ الكلب ذكاة"، فلو قَتل الصيد بظفره، أو نابه حَلّ، وكذا بثقله على أحد القولين للشافعيّ، وهو الراجح عندهم، وكذا لو لم يقتله الكلب، لكن تركه، وبه رَمَقٌ، ولم يبق زمنٌ يُمْكِن صاحبه فيه لحاقُه وذبحه فمات حَلّ؛ لعموم قوله:"فإن أخذ الكلب ذكاةٌ"، وهذا في المعلَّم. فلو وجده حيًّا حياةً مستقرّةً، وأدرك ذكاته لم يحلّ إلا بالتذكية، فلو لم يذبحه مع الإمكان حَرُم، سواءٌ كان عدم الذبح اختيارًا، أو اضطرارًا، كعدم حضور آلة الذبح، فإن كان الكلب غير مُعَلَّم اشتُرِط إدراك تذكيته، فلو أدركه ميتًا لم يحلّ.

11 -

(ومنها): أن شَرْط حلّ ما قتله الكلب المعلّم أن لا يشاركه فيه كلب آخر في اصطياده، ومحلُّه ما إذا استرسل بنفسه، أو أرسله من ليس من أهل الذكاة، فإن تحقق أنه أرسله من هو من أهل الذكاة حَلّ، ثم يُنظر فإن أرسلاهما معًا فهو لهما، وإلا فللأول، ويؤخذ ذلك من التعليل في قوله:"فإنما سَمَّيت على كلبك، ولم تُسَمِّ على غيره"، فإنه يُفهم منه أن المرسِل لو سمّى على الكلب لحلّ.

ووقع في رواية بيان عن الشعبيّ الآتية: "وإن خالطها كلاب من غيرها فلا تأكل"، فيؤخذ منه أنه لو وَجده حيًّا، وفيه حياة مستقرّة فذكّاه حلّ؛ لأن الاعتماد في الإباحة على التذكية، لا على إمساك الكلب.

12 -

(ومنها): أن من شَرْط الحلّ أيضًا أن لا يأكل الكلب من الصيد الذي قتله، وإلا فلا يحلّ، ولو كان الكلب معلَّمًا، وسيأتي تمام البحث في ذلك في المسألة الثامنة - إن شاء الله تعالى -.

13 -

(ومنها): إباحة الاصطياد للانتفاع بالصيد للأكل، والبيع، وكذا اللهو، بشرط قَصْد التذكية والانتفاع، وكرهه مالك، وخالفه الجمهور، قال الليث: لا أعلم حقًّا أشبه بباطل منه، فلو لم يقصد الانتفاع به حَرُم؛ لأنه من الفساد في الأرض بإتلاف نفس عَبَثًا، وينقدح أن يقال: يباح، فإن لازَمَه وأكثر

(1)

"الجامع لأحكام القرآن" 6/ 74 "تفسير سورة المائدة".

ص: 76

منه كُرِه؛ لأنه قد يَشغله عن بعض الواجبات، وكثير من المندوبات.

وأخرج الترمذيّ من حديث ابن عباس رضي الله عنهما رفعه: "مَن سَكَن البادية جفا، ومن اتبع الصيد غَفَل"، وله شاهد عن أبي هريرة عند الترمذيّ أيضًا، وآخر عند الدارقطنيّ في "الأفراد"، من حديث البراء بن عازب رضي الله عنهما، وقال: تفرّد به شريك.

14 -

(ومنها): جواز اقتناء الكلب المعلَّم للصيد، وقد تقدّم البحث فيه مستوفًى في شرح حديث:"من اقتنى كلبًا إلا كلب ماشية. . ." الحديث.

15 -

(ومنها): أنه استُدِلّ به على جواز بيع كلب الصيد؛ للإضافة في قوله: "كلبك".

وأجاب من منع بأنها إضافة اختصاص، وقد تقدّم البحث في هذا مستوفًى في شرح حديث:"شرّ الكسب مهر البغيّ، وثمن الكلب. . ." الحديث.

16 -

(ومنها): أنه استُدِلّ به على طهارة سؤر كلب الصيد دون غيره من الكلاب؛ للإذن في الأكل من الموضع الذي أكل منه، ولم يذكر الغسل، ولو كان واجبًا لبيّنه؛ لأنه وقت الحاجة إلى البيان.

وقال بعض العلماء: يُعْفَى عن مَعَضّ الكلب، ولو كان نَجِسًا؛ لهذا الحديث.

وأجاب من قال بنجاسته: بأن وجوب الغسل كان قد اشتَهَرَ عندهم، وعُلِم، فاستَغْنَى عن ذكره.

قال الحافظ: وفيه نظرٌ، وقد يتقوى القول بالعفو؛ لأنه بشدة الجري يَجِفّ ريقه، فيؤمَن معه ما يخشى من إصابة لعابه موضع العضّ.

17 -

(ومنها): أنه استُدِلّ بقوله: "كُلْ ما أمسك عليك" بأنه لو أرسل كلبه على صيد، فاصطاد غيره حلّ؛ للعموم الذي في قوله:"ما أمسك"، وهذا قول الجمهور، وقال مالك: لا يحلّ، وهو رواية البويطيّ عن الشافعيّ.

قال الجامع عفا الله عنه: القول الأول أرجح؛ لظهور حجته، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في اشتراط إرسال الكلب:

ص: 77

قال العلامة ابن قُدامة رحمه الله ما حاصله: يُشتَرط أن يُرسل الجارحةَ على الصيد، فإن استرسَلَت بنفسها، فقتلت لم يُبَح، وبهذا قال ربيعة، ومالكٌ، والشافعيّ، وأحمد، وأبو ثور، وأصحاب الرأي. وقال عطاءٌ، والأوزاعيّ: يؤكل صيده إذا أخرجه للصيد. وقال إسحاق: إذا سمّى عند انفلاته أُبيح صيده. وروَى بإسناده عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه سُئل عن الكلاب، تَنفَلِتُ من مَرَابضها، فتصيد الصيد؟ قال: اذكر اسم الله، وكلْ. قال إسحاق: فهذا الذي أختار إن لم يتعمّد هو إرساله من غير ذِكر اسم الله عليه. قال الخلّال: هذا على معنى قول أبي عبد الله.

واحتجّ الأولون بقول النبيّ صلى الله عليه وسلم: "إذا أرسلت كلبك، وسمّيتَ، فكل"، ولأن إرسال الجارحة جُعل بمنزلة الذبح، ولهذا اعتُبرت التسمية معه. وإن استرسل بنفسه، فسمّى صاحبه، وزجره، فزاد في عَدْوه أُبيح صيده؛ وهذا قول أحمد، وأبي حنيفة؛ لأن زَجْره أثّر في عَدْوه، فصار كما لو أرسله، وذلك لأن فِعل الإنسان متى انضاف إلى فعل غيره، فالاعتبار بفعل الإنسان، بدليل ما لو صال الكلب على إنسان، فأغراه إنسان، فالضمان على من أغراه. وقال الشافعيّ: لا يُباح، وعن مالك كالمذهبين. وإن أرسله بغير تسمية، ثم سمّى وزجره، فزاد عَدْوه، فظاهر كلام أحمد أنه يُباح؛ لأنه انزجر بتسميته وزَجْره، فأشبه التي قبلها. وقال القاضي: لا يُباح صيده؛ لأن الحكم يُعلّق بالإرسال الأول، بخلاف ما إذا استرسل بنفسه، فإنه لا يتعلّق به حظر، ولا إباحة. انتهى كلام ابن قُدامة بتصرّف، وهو بحث مفيدٌ، والله تعالى أعلم بالصواب.

(المسألة الخامسة): في أقوال أهل العلم في اشتراط كون الكلب وغيره مُعَلَّمًا:

قال أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله: تعليم الكلب وغيره مما يُصاد به هو تأديبه على الصيد، بحيث يأتمر إذا أُمر، وينزجر إذا زُجر، ولا يُختلف في هذين الشرطين في الكلاب، وما في معناها من سباع الوحوش، واختُلف فيما يُصاد به من الطير، فالمشهور أن ذلك مشترَط فيها. وذكر ابن حبيب أنه لا يُشترط أن تنزجر إذا زُجرت، فإنه لا يتأتّى ذلك فيها غالبًا، فيكفي أنه إذا أُمرت أطاعت. قال: والوجود يشهد للجمهور، بل الذي لا ينزجر نادرٌ فيها، وقد شرَط

ص: 78

الشافعيّ، وجمهور من العلماء في التعليم أن يُمسك على صاحبه، ولا يأكل منه شيئًا، ولم يشترطه مالكٌ في المشهور عنه. انتهى

(1)

.

وقال في "الفتح" ما حاصله: اخْتُلِفَ مَتَى يُعْلَمُ تَعَلُّم الكلاب، فَقَالَ الْبَغَوِيُّ فِي "التَّهْذِيب": أَقَلّه ثَلَاث مَرَّات، وَعَن أَبِي حَنِيفَة، وَأَحْمَدْ: يَكْفِي مَرَّتَيْنِ، وَقَالَ الرَّافِعِيّ: لَمْ يُقَدِّرهُ الْمُعْظَم لاضْطِرَابِ الْعُرْف، وَاخْتِلَاف طِبَاع الْجَوَارِح، فَصَارَ الْمَرْجِع إِلَى الْعُرْف. وَوَقَعَ فِي رِوَايَة مُجَالِد عَن الشَّعْبِيّ، عَن عَدِيّ فِي هَذَا الْحَدِيث، عِنْد أَبِي دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيّ، أَمَّا التِّرْمِذِيّ، فَلَفْظه:"سَأَلْت رَسُول الله صلى الله عليه وسلم عَن صَيْد الْبَازِي، فَقَالَ: مَا أَمْسَكَ عَلَيْك فَكُلْ"، وَأَمَّا أَبُو دَاوُدَ، فَلَفْظه:"مَا عَلَّمْتَ مِنْ كَلْب، أَوْ بَازٍ، ثُمَّ أَرْسَلْته، وَذَكَرْت اسْم الله، فَكُلْ مَا أَمْسَكَ عَلَيْك"، قُلْت: وَإِنْ قَتَلَ؟، قَالَ:"إِذَا قَتَلَ، وَلَمْ يَأْكُل مِنْهُ"، قَالَ التِّرْمِذِيّ: وَالْعَمَل عَلَى هَذَا عِنْد أَهْل الْعِلْم، لا يَرَوْنَ بِصَيْدِ الْبَاز، وَالصُّقُور بَأْسًا. انتهى.

وقال ابن قُدامة رحمه الله ما حاصله: لا خلاف في اعتبار كون الجارح معلّمًا؛ لأن الله تعالى يقول: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} الآية [المائدة: 4]، ولحديث عديّ بن حاتم، وأبي ثعلبة الخشنيّ رضي الله عنهما:"إذا أرسلت كلبك المعلّم. . ." الحديث. قال: ويُعتبر في تعليمه ثلاثة شروط: إذا أرسله استَرْسَل، وإذا زجره انزجر، وإذا أمسك لم يأكل، ويتكرّر هذا منه مرّةً أخرى، حتى يصير معلّمًا في حُكم العرف، وأقلّ ذلك ثلاث. قاله القاضي. وهو قول أبي يوسف، ومحمد، ولم يُقدّر أصحاب الشافعيّ عدد المرّات؛ لأن التقدير بالتوقيف، ولا توقيف في هذا، بل قدّره بما يصير به في العرف معلّمًا. وحُكي عن أبي حنيفة أنه إذا تكرّر مرّتين، صار معلّمًا؛ لأن التكرار يحصل بمرّتين. وقال الشريف أبو جعفر، وأبو الخطّاب: يحصل ذلك بمرّة، ولا يُعتبر التكرار؛ لأنه تعلّم صنعة، فلا يُعتبر فيه التكرار، كسائر الصنائع.

وحجة القول الأول أن تَرْكه للأكل يَحْتَمِل أن يكون لشِبَع، ويَحْتَمِل أنه

(1)

"المفهم" 5/ 205.

ص: 79

تعلّم، فلا يتميّز ذلك إلا بالتكرار، وما اعتُبر فيه التكرار اعتُبر ثلاثًا، كالمسح في الاستجمار، وعدد الأقراء، والغسلات في الوضوء، ونحوها، ويفارق الصنائع، فإنها لا يتمكّن من فعلها إلا من تعلّمها، فإذا فعلها عُلم أنه قد تعلّمها، وعرفها، وتركُ الأكلِ ممكن الوجود من المتعلّم وغيره، ويوجد من الصنفين جميعًا، فلا يتميّز به أحدهما من الآخر حتى يتكرّر. انتهى كلام ابن قُدامة رحمه الله بتصرّف

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: القول الأول عندي أقرب؛ لوضوح حجته، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة السادسة): في اختلاف أهل العلم في إلحاق غير الكلب به في جواز الصيد به:

قال ابن قُدامة رحمه الله أيضًا: وكلّ ما يقبل التعليم، ويُمكن الاصطياد به من سباع البهائم، كالفهد، أو جوارح الطير، فحُكمه حكم الكلب في إباحة صيده. قال ابن عبّاس رضي الله عنهما في قوله تعالى:{وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ} الآية: هي الكلاب المعلّمة، وكلّ طير تعلّم الصيد، والفُهود، والصقور، وأشباهها. وبمعنى هذا قال طاوس، ويحيى بن أبي كثير، والحسن، ومالكٌ، والثوريّ، وأبو حنيفة، ومحمد بن الحسن، والشافعيّ، وأبو ثور. وحُكِي عن ابن عُمر، ومجاهد أنه لا يجوز الصيد إلا بالكلب؛ لقول الله تعالى:{وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} [المائدة: 4]؛ يعني: كَلَّبتم من الكلاب.

واحتجّ الأولون بما رُوي عن عديّ بن حاتم رضي الله عنه، قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيد البازي؟ فقال: "إذا أمسك عليك، فكل"

(2)

، ولأنه جارحٌ يُصاد به عادةً، ويَقبل التعليمَ، فأشبه الكلب، فأما الآية فإن الجوارح الكواسب، {وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ} [الأنعام: 60]؛ أي: كسبتم، وفلان جارحة أهله؛ أي: كاسبهم، {مُكَلِّبِينَ} من التكليب، وهو الإغراء. انتهى كلام ابن قدامة رحمه الله.

(1)

"المغني" لابن قُدامة رحمه الله 13/ 262.

(2)

سيأتي قريبًا أنه ضعيف؛ لتفرّد مجالد بن سعيد به، وهو ضعيف.

ص: 80

وقال أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله: ألحق الجمهور بالكلب كلّ حيوان معلّم، يتأتّى به الاصطياد، تمسّكًا بالمعنى، وبما رواه الترمذيّ عن عديّ بن حاتم رضي الله عنه أنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيد البازي؟ فقال: "إذا أمسك عليك، فكل"، على أن في إسناده مجالدًا، ولا يُعرف إلا من حديثه، وهو ضعيف، والمعتمد النظر إلى المعنى، وذلك أن كلّ ما يتأتّى من الكلب يتأتّى من الفهد مثلًا، فلا فارق إلا فيما لا مدخل له في التأثير، وهذا هو القياس في معنى الأصل، كقياس السيف على المِدية التي ذبح النبيّ صلى الله عليه وسلم بها، وقياس الأَمَة على العبد في سراية العتق.

وقد خالف في ذلك قومٌ، وقصروا الإباحة على الكلاب خاصّةً، ومنهم من يستثني الكلب الأسود، وهو الحسن، والنخعيّ، وقتادة؛ لأنه شيطانٌ، كما قال النبيّ صلى الله عليه وسلم، متمسّكين بقوله تعالى:{مُكَلِّبِينَ} ، وبأنه ما وقع في "الصحيحين" إلا ذِكر الكلاب، وهذا لا حجّة لهم فيه؛ لأن ذكر الكلاب في هذه المواضع إنما كان لأنها الأغلب والأكثر، وأيضًا فإن ذِكْرها خصوصًا لا يدلّ على أن غيرها لا يُصاد بها؛ لأن الكلب لقبٌ، ولا مفهوم للّقب عند جماهير المحقّقين من الأصوليين، ولم يصر إليه إلا الدّقّاق، وليس هو فيه على توفيق، ولا وفاق، ولو صحّ زعمه ذلك لكَفَر من قال: عيسى رسول الله، فإنه كان يلزم منه بحسب زعمه، أن محمدًا وغيره من الأنبياء - صلوات الله وسلامه عليهم - ليس رسولًا. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي ما ذهب إليه الجمهور من جواز الاصطياد بكل حيوان يقبل التعليم هو الأرجح؛ لظهور مُدْركه، والله تعالى أعلم بالصواب.

(المسألة السابعة): في اختلاف أهل العلم في اشتراط التسمية على الكلاب، والذبيحة:

قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في "تفسيره" - (2/ 170) عند تفسير قوله: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} الآية [الأنعام: 121]- ما حاصله:

قد اختلف الأئمة رحمهم الله في هذه المسألة على ثلاثة أقوال: فمنهم من قال: لا تحل هذه الذبيحة بهذه الصفة، وسواء متروك التسمية عمدًا، أو

ص: 81

سهوًا، وهو مروي عن ابن عمر، ونافع مولاه، وعامر الشعبيّ، ومحمد بن سيرين، وهو رواية عن الإمام مالك، ورواية عن أحمد بن حنبل، نصرها طائفة من أصحابه المتقدمين والمتأخرين، وهو اختيار أبي ثور، وداود الظاهري، واختار ذلك أبو الفتوح، محمد بن محمد بن علي الطائي، من متأخري الشافعية، في كتابه "الأربعين"، واحتجوا لمذهبهم هذا بهذه الآية، وبقوله في آية الصيد:{فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ} الآية [المائدة: 4]، ثم قد أكد في هذه الآية بقوله:{وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} ، والضمير قيل: عائد على الأكل، وقيل: عائد على الذبح لغير الله، وبالأحاديث الواردة في الأمر بالتسمية عند الذبيحة والصيد، كحديثي عدي بن حاتم، وأبي ثعلبة رضي الله عنهما:"إذا أرسلت كلبك المعلَّم، وذكرت اسم الله عليه، فَكُلْ ما أمسك عليك"، وهما في "الصحيحين"، وحديث رافع بن خديج رضي الله عنه:"ما أنهر الدم، وذُكر اسم الله عليه فكلوه"، وهو في "الصحيحين" أيضًا، وحديث ابن مسعود رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال للجن:"لكم كل عظم ذُكر اسم الله عليه"، رواه مسلم، وحديث جندب بن سفيان البجلي رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من ذبح قبل أن يصلي، فليذبح مكانها أخرى، ومن لم يكن ذبح حتى صلينا، فليذبح باسم الله"، أخرجاه، وعن عائشة رضي الله عنها: أن ناسًا قالوا: يا رسول الله، إن قومًا يأتوننا باللحم، لا ندري أذُكر اسم الله عليه أم لا؟، قال:"سمُّوا عليه أنتم، وكلوا"، قالت: وكانوا حديثي عهد بالكفر، رواه البخاري. ووجه الدلالة أنهم فَهِموا أن التسمية لا بد منها، وخَشُوا أن لا تكون وُجدت من أولئك؛ لحداثة إسلامهم، فأمَرَهم بالاحتياط بالتسمية عند الأكل؛ لتكون كالعوض عن المتروكة عند الذبح، إن لم تكن وُجدت، وأمَرَهم باجراء أحكام المسلمين على السداد، والله أعلم.

(المذهب الثاني في المسألة): أنه لا يشترط التسمية، بل هي مستحبة، فإن تركها عمدًا أو نسيانًا لا يضر، وهذا مذهب الإمام الشافعيّ رحمه الله، وجميع أصحابه، ورواية عن الإمام أحمد، نقلها عنه حنبل، وهو رواية عن الإمام مالك، ونصّ على ذلك أشهب بن عبد العزيز، من أصحابه، وحُكي عن ابن عباس، وأبي هريرة، وعطاء بن أبي رباح، والله أعلم. وحَمَل الشافعي الآية

ص: 82

الكريمة: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} الآية، [الأنعام: 121] على ما ذُبح لغير الله، كقوله تعالى:{أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [الأنعام: 145]، وقال ابن جريج، عن عطاء:{وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} الآية [الأنعام: 121] قال: ينهى عن ذبائحَ، كانت تذبحها قريش للأوثان، وينهى عن ذبائح المجوس، وهذا المسلك الذي طرقه الإمام الشافعيّ قويّ، وقد حاول بعض المتأخرين أن يقويه، بأن جعل الواو في قوله:{وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} حالية؛ أي: لا تأكلوا ما لم يذكر اسم الله عليه، في حال كونه فسقًا، ولا يكون فسقًا، حتى يكون قد أُهِلّ به لغير الله، ثم ادّعى أن هذا متعيِّن، ولا يجوز أن تكون الواو عاطفة؛ لأنه يلزم منه عطف جملة اسمية خبرية، على جملة فعلية طلبية، وهذا ينتقض عليه بقوله:{وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ} [الأنعام: 121]، فإنها عاطفة، لا مَحَالة، فإن كانت الواو التي ادّعى أنها حالية صحيحة، على ما قال، امتنع عَطْف هذه عليها، فإن عُطفت على الطلبية، ورَدَ عليه ما أورد على غيره، وإن لم تكن الواو حالية، بَطَل ما قال من أصله، والله أعلم.

وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا يحيى بن المغيرة، أنبأنا جرير، عن عطاء، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في الآية:{وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} قال: هي الميتة. ثم رواه عن أبي زرعة، عن يحيى بن أبي كثير، عن ابن لَهِيَعة، عن عطاء - وهو ابن السائب - به.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: في الأول: عطاء بن السائب، وهو مختلط، وجرير ممن روى عنه بعد اختلاطه، وفي الثاني: ابن لَهيعة، وهو ضعيف للاختلاط، لكن الأثر سيأتي بإسناد صحيح، والله تعالى أعلم.

قال: وقد استُدل لهذا المذهب بما رواه أبو داود في "المراسيل" من حديث ثور بن زيد، عن الصلت السَّدُوسيّ، مولى سُويد بن منجوف، أحد التابعين، الذين ذكرهم أبو حاتم بن حبان، في كتاب "الثقات"، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ذبيحة المسلم حلال، ذَكَر اسم الله، أو لم يَذكُر، إنه إنْ ذَكَر لم يَذْكُر إلا اسم الله"، وهذا مرسل، يُعضَد بما رواه الدارقطنيّ، عن ابن عباس، أنه قال:"إذا ذبح المسلم، ولم يذكر اسم الله فليأكل، فإنّ المسلم فيه اسم من أسماء الله".

ص: 83

واحتج البيهقيّ أيضًا بحديث عائشة، رضي الله عنها المتقدم: أن ناسًا قالوا: يا رسول الله، إن قومًا حديثي عهد بجاهلية، يأتوننا بلحم، لا ندري أذُكر اسم الله عليه، أم لا؟ فقال:"سمُّوا أنتم، وَكُلوا"، رواه البخاريّ، قالوا: فلو كان وجود التسمية شرطًا، لم يُرَخِّص لهم إلا مع تحققها، والله أعلم.

(المذهب الثالث في المسألة): إن تَرَكَ البسملةَ، على الذبيحة نسيانًا لم يضر، وإن تركها عمدًا لم تحل، هذا هو المشهور من مذهب الإمام مالك، وأحمد بن حنبل، وبه يقول أبو حنيفة، وأصحابه، وإسحاق بن راهويه، وهو محكيّ عن عليّ، وابن عباس، وسعيد بن المسيب، وعطاء، وطاوس، والحسن البصريّ، وأبي مالك، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وجعفر بن محمد، وربيعة بن أبي عبد الرحمن، ونقل الإمام أبو الحسن المرغياني، في كتابه "الهداية" الإجماع قبل الشافعيّ، على تحريم متروك التسمية عمدًا، فلهذا قال أبو يوسف، والمشايخ: لو حكم حاكم بجواز بيعه، لم ينفذ؛ لمخالفة الإجماع، وهذا الذي قاله غريب جدًّا، وقد تقدم نقل الخلاف، عمن قبل الشافعيّ، والله أعلم.

وقال الإمام أبو جعفر بن جرير رحمه الله: مَن حَرّم ذبيحة الناسي، فقد خرج من قول جميع الحجة، وخالف الخبر الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك؛ يعني: ما رواه الحافظ أبو بكر البيهقيّ، أنبأنا أبو عبد الله الحافظ، حدثنا أبو عباس الأصم، حدثنا أبو أمية الطرسوسي، حدثنا محمد بن يزيد، حدثنا مَعقِل بن عبيد الله، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال:"المسلم يكفيه اسمه، إن نسي أن يسمي حين يذبح، فليذكر اسم الله، وليأكله"، وهذا الحديث رَفْعه خطا، أخطأ فيه مَعْقِل بن عبيد الله الجزري، فإنه وإن كان من رجال مسلم، إلا أن سعيد بن منصور، وعبد الله بن الزبير الحميديّ، روياه عن سفيان بن عيينة، عن عمرو، عن أبي الشعثاء، عن عكرمة، عن ابن عباس، من قوله، فزادا في إسناده أبا الشعثاء، ووقفاه، وهذا أصح، نَصّ عليه البيهقيّ، وغيره من الحفاظ.

ثم نقل ابن جرير، وغيره، عن الشعبي، ومحمد بن سيرين، أنهما كرها متروك التسمية نسيانًا، والسلف يُطلقون الكراهة على التحريم كثيرًا، والله

ص: 84

أعلم، إلا أن من قاعدة ابن جرير، أنه لا يُعتبر قول الواحد، ولا الاثنين مخالفًا لقول الجمهور، فيَعُدّه إجماعًا، فليُعلَم هذا. والله الموفق.

قال ابن جرير: حدثنا ابن وكيع، حدثنا أبو أسامة، عن جَهِير

(1)

بن يزيد، قال: سئل الحسن، سأله رجل أُتيت بطير كَرًى

(2)

، فمنه ما قد ذُبح، فذُكر اسم الله عليه، ومنه ما نُسي أن يُذكر اسم الله عليه، واختلط الطير؟ فقال الحسن: كُلْه كُلَّه، قال: وسألت محمد بن سيرين، فقال: قال الله: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} .

واحتُجّ لهذا المذهب، بالحديث المرويّ من طرُق، عند ابن ماجه، عن ابن عباس، وأبي هريرة، وأبي ذَرّ، وعقبة بن عامر، وعبد الله بن عمرو، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم:"إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان، وما استُكرهوا عليه"، وفيه نَظَر، والله أعلم.

وقد روى الحافظ أبو أحمد بن عديّ، من حديث مروان بن سالم القَرْقَسانيّ - بفتح القافين - عن الأوزاعيّ، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، قال: جاء رجل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، أرأيت الرجل منا يذبح، وينسى أن يسمي؟ فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"اسم الله على كل مسلم"، ولكن هذا إسناده ضعيف، فإن مروان بن سالم القَرْقَسانيّ، أبا عبد الله الشاميّ ضعيف، تكلم فيه غير واحد من الأئمة، والله أعلم.

قال ابن كثير: وقد أفردت هذه المسألة على حِدَةٍ، وذكرت مذهب الأئمة، ومآخذهم وأدلتهم، ووجه الدلالات، والمناقضات، والله أعلم. انتهى كلام الحافظ ابن كثير رحمه الله

(3)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن ما ذهب إليه القائلون باشتراط

(1)

مصغّرًا، وقيل: بوزن عَظِيم مكبّرًا، وثّقه ابن معين، وابن حبّان، وغيرهما. انتهى من تعليق الشيخ أحمد شاكر رضي الله عنه على "تفسير ابن جرير" 12/ 84.

(2)

بفتحتين جمع كَرَوان، طائر بين الدجاجة والحمامة، حسن الصوت، يؤكل لحمه. انتهى. من هامش "تفسير ابن جرير" 12/ 84.

(3)

"تفسير ابن كثير" 2/ 174 - 176.

ص: 85

التسمية مطلقًا، عمدًا، أو سهوًا هو الأرجح؛ لظاهر الآية:{وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} الآية، ولصّحة الأمر بذلك في حديث عديّ رضي الله عنه، المذكور في الباب، حيث قال النبيّ صلى الله عليه وسلم له:"إذا أرسلت كلبك، فاذكر اسم الله عليه"، ومثله في حديث أبي ثعلبة الخشنيّ رضي الله عنه الآتي، فقد جَعَلَهَا الشارع شَرْطًا فِي حَدِيث عَدِيٍّ، وأوقف الْإذْن فِي الْأَكْل عَلَيْهَا، فِي حَدِيث أَبِي ثَعْلَبَة، وَالْمُعَلَّق بِالْوَصْفِ يَنْتَفِي عِنْد انْتِفَائِهِ، عِنْد مَنْ يَقُول بِالْمَفْهُومِ، وَالشَّرْط أَقْوَى مِنْ الْوَصْف، وَيَتَأَكَّد الْقَوْل بِالْوُجُوب أيضًا بِأَنَّ الْأَصْل تَحْرِيم الْمَيْتَة، وَمَا أُذِنَ فِيهِ مِنْهَا تُرَاعَى صِفَته، فَالْمُسَمَّى عَلَيْهَا وَافَقَ الْوَصْف، وَغَيْر الْمُسَمَّى بَاقٍ عَلَى أَصْل التَّحْرِيم. أفاده في "الفتح"

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب.

(المسألة الثامنة): في اختلاف أهل العلم في حكم أكل الصيد الذي أَكَلَ منه الكلب:

ذهب الجمهور إلى تَحْرِيم أَكْلِ الصَّيْد الَّذِي أَكَلَ الْكَلْب مِنْهُ، وَلَوْ كَانَ الْكَلْب مُعَلَّمًا؛ لقوله في هذا الحديث:"فإن وجدته قد أكل منه، فلا تطعَم منه شيئًا"، وَقَدْ عَلَّلَ بِالْخَوْفِ مِنْ أَنَّهُ:"إِنَّمَا أَمْسَكَ عَلَى نَفْسه"، قال في "الفتح": وَهُوَ الرَّاجِح مِنْ قَوْلَي الشَّافِعِيّ، وَقَالَ فِي الْقَدِيم - وَهُوَ قَوْل مَالِك، وَنُقِلَ عَن بَعْض الصَّحَابَة -: يَحِلّ، وَاحْتَجُّوا بِمَا وَرَدَ فِي حَدِيث عَمْرو بْن شُعَيْب، عَن أَبِيهِ، عَن جَدِّهِ:"أَنَّ أَعْرَابِيًّا، يُقَال لَهُ: أَبُو ثَعْلَبَة، قَالَ: يَا رَسُول الله، إِنَّ لِي كِلَابًا مُكَلَّبَة، فَأَفْتِنِي فِي صَيْدهَا، قَالَ: كُلْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْك، قَالَ: وَإِنْ أَكَلَ مِنْهُ؟ قَالَ: وَإِنْ أَكَلَ مِنْهُ". أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ. قال الحافظ: وَلا بَأْس بِسَنَدِهِ. وَسَلَكَ النَّاس فِي الْجَمْع بَيْن الْحَدِيثَيْنِ طُرُقًا:

[مِنْهَا]: - لِلْقَائِلِينَ بِالتَّحْرِيمِ - حَمْلُ حَدِيث أَبِي ثَعْلَبَة، عَلَى مَا إِذَا قَتَلَهُ، وَخَلَّاهُ، ثُمَّ عَادَ، فَأَكَلَ مِنْهُ.

[وَمِنْهَا]: التَّرْجِيح، فَرِوَايَة عَدِيٍّ فِي "الصَّحِيحَيْنِ"، مُتَّفَق عَلَى صِحَّتهَا، وَرِوَايَة أَبِي ثَعْلَبَة الْمَذْكُورَة فِي غَيْر "الصَّحِيحَيْنِ"، مُخْتَلَف فِي تَضْعِيفهَا، وَأَيْضًا فَرِوَايَة عَدِيٍّ صَرِيحَة، مَقْرُونَة بِالتَّعْلِيلِ الْمُنَاسِب لِلتَّحْرِيمِ، وَهُوَ خَوْف الْإمْسَاك

(1)

"الفتح" 12/ 421، كتاب "الذبائح"(5475).

ص: 86

عَلَى نَفْسه، مُتَأَيِّدَة بِأَنَّ الْأَصْل فِي الْمَيْتَة التَّحْرِيم، فَإِذَا شَكَكْنَا فِي السَّبَب الْمُبِيح، رَجَعْنَا إِلَى الْأَصْل، وَظَاهِرِ الْقُرْآن أَيْضًا، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى:{فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} ، فَإِنَّ مُقْتَضَاهَا، أَنَّ الَّذِي يُمْسِكهُ مِنْ غَيْر إِرْسَال لَا يُبَاح، وَيَتَقَوَّى أَيْضًا بِالشَّاهِدِ مِنْ حَدِيث ابْنِ عَبَّاس رضي الله عنهما، عِنْد أَحْمَد:"إِذَا أَرْسَلْت الْكَلْب، فَأَكَلَ الصَّيْد، فَلَا تَأْكُل، فَإِنَّمَا أَمْسَكَ عَلَى نَفْسه، وَإِذَا أَرْسَلْته فَقَتَلَ، وَلَمْ يَأْكُل فَكُلْ، فَإِنَّمَا أَمْسَكَ عَلَى صَاحِبِهِ". وَأَخْرَجَهُ الْبَزَّار مِنْ وَجْه آخَر، عَن ابْنِ عَبَّاس، وَابْنُ أَبِي شَيْبَة، مِنْ حَدِيث أَبِي رَافِعٍ بِمَعْنَاهُ، وَلَوْ كَانَ مُجَرَّد الْإمْسَاك كَافِيًا، لَمَا احْتِيجَ إِلَى زِيَادَة:{عَلَيْكُمْ} .

[وَمِنْهَا]: - لِلْقَائِلِينَ بِالْإبَاحَةِ - حَمْلُ حَدِيث عَدِيٍّ عَلَى كَرَاهَة التَّنْزِيه، وَحَدِيث أَبِي ثَعْلَبَة عَلَى بَيَان الْجَوَاز. قَالَ بَعْضهمْ: وَمُنَاسَبَة ذَلِكَ أَنَّ عَدِيًّا، كَانَ مُوسِرًا، فَاخْتِيرَ لَهُ الْحَمْل عَلَى الْأَوْلَى، بِخِلَافِ أَبِي ثَعْلَبَة، فَإِنَّهُ كَانَ بِعَكْسِهِ. قال الحافظ: وَلا يَخْفَى ضَعْف هَذَا التَّمَسُّك، مَعَ التَّصْرِيح بِالتَّعْلِيلِ فِي الْحَدِيث، بِخَوْفِ الإِمْسَاك عَلَى نَفْسه.

وَقَالَ ابْنِ التِّين: قَالَ بَعْض أَصْحَابنَا: هُوَ عَامّ، فَيُحْمَل عَلَى الَّذِي أَدْرَكَهُ مَيِّتًا، مِنْ شِدَّة الْعَدْو، أَوْ مِنْ الصَّدْمَة، فَأَكَلَ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ صَارَ عَلَى صِفَة، لَا يَتَعَلَّق بِهَا الإِرْسَال، وَلا الإِمْسَاك عَلَى صَاحِبِهِ، قَالَ: وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْله: "فَإِنْ أَكَلَ فَلَا تَأْكُل"؛ أي: لا يُوجَد مِنْهُ غَيْر مُجَرَّد الْأَكْل، دُون إِرْسَال الصَّائِد لَهُ، وَتَكُون هَذِهِ الْجُمْلَة مَقْطُوعَة عَمَّا قَبْلهَا. قال الحافظ: وَلا يَخْفَى تَعَسُّف هَذَا، وَبُعْده.

وَقَالَ ابْن الْقَصَّار: مُجَرَّد إِرْسَالنَا الْكَلْب إِمْسَاكٌ عَلَيْنَا؛ لأَنَّ الْكَلْب لَا نِيَّة لَهُ، وَلَا يَصِحّ مِنْهُ مَيْزهَا

(1)

، وَإِنَّمَا يَتَصَيَّد بِالتَّعْلِيمِ، فَإِذَا كَانَ الاعْتِبَار بِأَنْ يُمْسِك عَلَيْنَا، أَوْ عَلَى نَفْسه، وَاخْتَلَفَ الْحُكْم فِي ذَلِكَ، وَجَبَ أَنْ يَتَمَيَّز ذَلِكَ بِنِيَّةِ مَنْ لَهُ نِيَّة، وَهُوَ مُرْسِله، فَإِذَا أَرْسَلَهُ فَقَدْ أَمْسَكَ عَلَيْهِ، وَإِذَا لَمْ يُرْسِلهُ لَمْ يُمْسِك عَلَيْهِ. كَذَا قَالَ، وَلَا يَخْفَى بُعْده أَيْضًا، وَمُصَادَمَته لِسِيَاقِ الْحَدِيث.

وَقَدْ قَالَ الْجُمْهُور: إِنَّ مَعْنَى قَوْله: {أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} : صِدْنَ لَكُمْ، وَقَدْ

(1)

هكذا نسخة "الفتح" ولعل الصواب: "تمييزها"، فليُحرّر، والله تعالى أعلم.

ص: 87

جَعَلَ الشَّارع أَكْله مِنْهُ عَلَامَة عَلَى أَنَّهُ أَمْسَكَ لِنَفْسِهِ، لَا لِصَاحِبِهِ، فَلَا يُعْدَل عَن ذَلِكَ، وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَة لابْنِ أَبِي شَيْبَة:"إِنْ شَرِبَ مِنْ دَمِهِ، فَلَا تَأْكُل، فَإِنَّهُ لَمْ يُعَلَّمْ مَا عَلَّمَتْهُ"، وَفِي هَذَا إِشَارَة إِلَى أَنَّهُ إِذَا شَرَعَ فِي أَكْله، دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِمُعَلَّمٍ التَّعْلِيمَ الْمُشْتَرَطَ.

وَسَلَكَ بَعْض الْمَالِكِيَّة التَّرْجِيح، فَقَالَ: هَذِهِ اللَّفْظَة ذَكَرَهَا الشَّعْبِيّ، وَلَمْ يَذْكُرهَا هَمَّام، وَعَارَضَهَا حَدِيث أَبِي ثَعْلَبَة. وَهَذَا - قال الحافظ - تَرْجِيح مَرْدُود، لِمَا تَقَدَّمَ.

وَتَمَسَّك بَعْضهمْ بِالإِجْمَاعِ عَلَى جَوَاز أَكْله، إِذَا أَخَذَهُ الْكَلْب بِفِيهِ، وَهَمَّ بِأَكْلِهِ، فَأُدْرِك قَبْل أَنْ يَأْكُل، قَالَ: فَلَوْ كَانَ أَكْله مِنْهُ دَالًا عَلَى أَنَّهُ أَمْسَكَ عَلَى نَفْسه، لَكَانَ تَنَاوُله بِفِيهِ، وَشُرُوعه فِي أَكْله كَذَلِكَ، وَلَكِنْ يُشْتَرَط أَنْ يَقِف الصَّائِد، حَتَّى يَنْظُر هَلْ يَأْكُل، أَوْ لا؟ انتهى.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن بما ذُكر أن ما ذهب إليه الجمهور، من عدم جواز أكل ما أكل منه الكلب هو الأرجح؛ ترجيحًا لحديث عديّ رضي الله عنه المتّفق عليه، الموافق لظاهر قوله تعالى:{فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} ، وأما حديث أبي ثعلبة رضي الله عنه، وإن قلنا بأنه صالح للاحتجاج، فإنه دون حديث عديّ المتّفق عليه، فلا يقوى لمعارضته، فتأملّ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4965]

(. . .) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ بَيَانٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قُلْتُ: إِنَّا قَوْمٌ نَصِيدُ بِهَذِهِ الْكِلَابِ، فَقَالَ: "إِذَا أَرْسَلْتَ كِلَابَكَ الْمُعَلَّمَةَ، وَذَكَرْتَ اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا فَكُلْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكَ، وَإِنْ قَتَلْنَ، إِلَّا أَنْ يَأْكُلَ الْكَلْبُ، فَإِنْ أَكَلَ فَلَا تَأْكُلْ، فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يَكُونَ إِنَّمَا أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ، وَإِنْ خَالَطَهَا كِلَابٌ مِنْ غَيْرِهَا فَلَا تَأْكُلْ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(ابْنُ فُضَيْلٍ) هو: محمد بن فُضيل بن غَزوان الضبيّ مولاهم، أبو عبد الرحمن الكوفيّ، ثقةٌ رُمي بالتشيّع [9](ت 195)(ع) تقدم في "الإيمان" 63/ 358.

ص: 88

2 -

(بَيَانُ) بن بشر الأحمسيّ، أبو بشر الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ [5](ع) تقدم في "صلاة المسافرين وقصرها" 47/ 1891.

3 -

(الشَّعْبِيُّ) عامر بن شَرَاحيل، تقدّم في الباب الماضي.

والباقيان ذُكرا في الباب، والباب الماضي.

وقوله: (وَإِنْ خَالَطَهَا كِلَابٌ مِنْ غَيْرِهَا فَلَا تَأْكُلْ) بيّن سبب المنع في الرواية التالية بقوله: "فإنما سمّيت على كلبك، ولم تُسمّ على غيره"، والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي - بحمد الله تعالى وعونه -.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4966]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ الْعَنْبَرِيُّ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي السَّفَرِ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْمِعْرَاضِ، فَقَالَ: "إِذَا أَصَابَ بِحَدِّهِ فَكُلْ، وَإِذَا أَصَابَ بِعَرْضِهِ فَقَتَلَ، فَإِنَّهُ وَقِيذٌ، فَلَا تَأْكُلْ"، وَسَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْكَلْبِ، فَقَالَ: "إِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ، وَذَكَرْتَ اسْمَ اللهِ فَكُلْ، فَإِنْ أَكَلَ مِنْهُ فَلَا تَأْكُلْ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ"، قُلْتُ: فَإِنْ وَجَدْتُ مَعَ كَلْبِي كَلْبًا آخَرَ، فَلَا أَدْرِي أَيُّهُمَا أَخَذَهُ؟ قَالَ: "فَلَا تَأْكُلْ، فَإِنَّمَا سَمَّيْتَ عَلَى كَلْبِكَ، وَلَمْ تُسَمِّ عَلَى غَيْرِهِ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي السَّفَرِ) - بفتح الفاء - الثوريّ الكوفيّ، ثقةٌ [6] مات في خلافة مروان بن محمد (خ م د س ق) تقدم في "الإمارة" 10/ 4769.

والباقون ذُكروا في الباب، وفي الباب الماضي.

وقوله: (فَإِنَّهُ وَقِيذٌ) فعيل بمعنى مفعول؛ أي: موقوذ؛ أي: مقتول بغير محدّد، والموقوذة: هي المقتولة بالعصا، أو الحجر، أو غيرهما، وأصله من الكسر، والرَّضّ.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى البحث فيه مستوفًى قبل حديث، ولله الحمد والمنّة.

ص: 89

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4967]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، قَالَ: وَأَخْبَرَنِي شُعْبَةُ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي السَّفَرِ، قَالَ: سَمِعْتُ الشَّعْبِيَّ يَقُولُ: سَمِعْتُ عَدِيَّ بْنَ حَاتِمٍ يَقُولُ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْمِعْرَاضِ

(1)

، فَذَكَرَ مِثْلَهُ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ) المقابريّ البغداديّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(ابْنُ عُلَيَّةَ) إسماعيل بن إبراهيم بن مِقسم الأسديّ مولاهم، أبو بشر البصريّ، ثقةٌ حافظ [8](193)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.

والباقون ذُكروا قبله.

وقوله: (عَنِ الْمِعْرَاضِ) وفي بعض النسخ: "عن صيد المعراض".

[تنبيه]: رواية ابن عليّة، عن شعبة هذه لم أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4968]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ نَافِعٍ الْعَبْدِيُّ، حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي السَّفَرِ، وَعَنْ نَاسٍ ذَكَرَ شُعْبَةُ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ عَدِيَّ بْنَ حَاتِمٍ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْمِعْرَاضِ، بِمِثْلِ ذَلِكَ).

رجال هذا الإسناد: ستّة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ نَافِعٍ الْعَبْدِيُّ) هو: محمد بن أحمد بن نافع العبديّ البصريّ، صدوقٌ، من صغار [10] مات بعد (240)(م ت س) تقدم في "الإيمان" 12/ 158.

2 -

(غُنْدَرٌ) محمد بن جعفر، تقدّم في الباب الماضي.

والباقون ذُكروا قبله.

وقوله: (وَعَنْ نَاسٍ ذَكَرَ شُعْبَةُ)؛ أي: أسماءهم، فالمفعول محذوف، كما يظهر من رواية أحمد الآتية، وهذا من كلام غندر، والمراد أن شعبة حدّثه بهذا الحديث عن عبد الله بن أبي السفر، وعن ناس آخرين ذكر شعبة أسماءهم، ولا

(1)

وفي نسخة: "عن صيد المعراض".

ص: 90

أذكرهم الآن، إما نسيانًا، أو اختصارًا، كلّهم رووه عن الشعبيّ، عن عديّ بن حاتم رضي الله عنه.

وممن روى عنه شعبة غير عبد الله بن أبي السفر: سعيدُ بن مسروق، والحكمُ بن عتيبة، كما في الروايتين الآتيتين هنا، وهما من رواية غندر عن شعبة، فتنبّه.

وقوله أيضًا: (وَعَنْ نَاسٍ ذَكَرَ شُعْبَةُ) و"عن ناس" معطوف على مقدّر، كأنه قال: حدّثنا شعبة.

[تنبيه]: وقع في بعض النسخ بلفظ: "وعن ناس، وذكر شعبة"، وهو غلطٌ، فتنبّه.

[تنبيه آخر]: رواية محمد غُندر، عن شعبة هذه ساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(19410)

- حدّثنا عبد الله

(1)

، حدّثني أبي، ثنا محمد بن جعفر، ثنا شعبة، ثنا عبد الله بن أبي السفَر، وعن ناس ذكرهم شعبة، عن الشعبيّ، قال: سمعت عديّ بن حاتم قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المعراض، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إذا أصاب بحدّه فكل، وإذا أصاب بعَرْضه فقتل، فإنه وَقِيذٌ، فلا تأكل"، قال: قلت: يا رسول الله أُرسل كلبي؟ قال: "إذا أرسلت كلبك، وسَمَّيت، فأخذ فَكُل، فإذا أكل منه فلا تأكل، فإنما أمسك على نفسه"، قال: قلت: يا رسول الله أُرسل كلبي، فأجد معه كلبًا آخر، لا أدري أيهما أخذ؟ قال:"لا تأكل، فإنما سمّيت على كلبك، ولم تسمِّ على غيره". انتهى

(2)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4969]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ، عَنْ عَامِرٍ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ صَيْدِ الْمِعْرَاضِ، فَقَالَ: "مَا أَصَابَ بِحَدِّهِ فَكُلْهُ، وَمَا أَصَابَ بِعَرْضِهِ فَهُوَ وَقِيذٌ

(3)

(1)

هو ولد الإمام أحمد، راوي "المسند" عنه.

(2)

"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 4/ 380.

(3)

وفي نسخة: "فإنه وقيذ".

ص: 91

وَسَأَلْتُهُ عَنْ صَيْدِ الْكَلْبِ، فَقَالَ: "مَا أَمْسَكَ عَلَيْكَ، وَلَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ فَكُلْهُ، فَإِنَّ ذَكَاتَهُ أَخْذُهُ، فَإِنْ وَجَدْتَ عِنْدَهُ كَلْبًا آخَرَ، فَخَشِيتَ أَنْ يَكُونَ أَخَذَهُ مَعَهُ

(1)

، وَقَدْ قَتَلَهُ فَلَا تَأْكُلْ، إِنَّمَا ذَكَرْتَ اسْمَ اللهِ عَلَى كَلْبِكَ، وَلَمْ تَذْكُرْهُ عَلَى غَيْرِهِ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ) الْهَمْدانيّ، أبو عبد الرحمن الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ فاضل [10](ت 234)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 5.

2 -

(أَبُوهُ) عبد الله بن نُمير الْهَمدانيّ، أبو هشام الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ سنّيّ، من كبار [9](ت 199)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 5.

3 -

(زَكَرِيَّاءُ) بن أبي زائدة، خالد، أو هُبيرة بن ميمون بن فيروز الْهَمْدانيّ الوادعيّ، أبو يحيى الكوفيّ، ثقةٌ يدلّس [6](ت 7 أو 8 أو 149)(ع) تقدم في "الإيمان" 83/ 449.

والباقيان ذُكرا قبله.

وقوله: (وَمَا أَصَابَ بِعَرْضِهِ) بفتح العين، وإسكان الراء؛ أي: غير المحدّد منه

(2)

.

وقوله: (فَهُوَ وَقِيذٌ) وفي بعض النسخ: "فإنه وَقِيذٌ".

وقوله: (فَإِنَّ ذَكَاتَهُ أَخْذُهُ) قال النوويّ رحمه الله: معناه: إنّ أخذَ الكلبِ الصيدَ وقَتْله إياه ذكاة شرعية، بمنزلة ذبح الحيوان الإنسيّ، وهذا مُجْمَع عليه، ولو لم يقتله الكلب، لكن تَرَكَه، ولم تَبْقَ فيه حياة مستقِرّةٌ، أو بقيت، ولم يبق زمان يمكن صاحبه لحاقه وذَبْحه، فمات حلّ؛ لهذا الحديث:"فإن ذكاته أخذه". انتهى

(3)

.

وقوله: (أَخَذَهُ مَعَهُ) وفي نسخة: "أخذ معه" بحذف الضمير.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد تقدّم البحث فيه مستوفًى قريبًا، ولله الحمد والمنّة.

(1)

وفي نسخة: "أخذ معه".

(2)

"شرح النوويّ" 13/ 77.

(3)

"شرح النوويّ" 13/ 77.

ص: 92

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4970]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ بْنُ أَبِي زَائِدَةَ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ).

رجال هذا الإسناد: ثلاثة:

1 -

(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه، ذُكر أول الباب.

2 -

(عِيسَى بْنُ يُونُسَ) ابن أبي إسحاق السَّبِيعيّ، تقدّم قريبًا.

و"زكريّا" ذُكر قبله.

[تنبيه]: رواية عيسى بن يونس، عن زكريّا بن أبي زائدة هذه ساقها النسائيّ رحمه الله في "سننه"، فقال:

(4820)

- أخبرنا عليّ بن حُجْر، قال: أنبأنا عيسى بن يونس وغيره، عن زكريّا، عن الشعبيّ، عن عديّ بن حاتم قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيد المعراض، فقال:"ما أصبت بحدّه فكُلْ، وما أصاب بعَرْضه فهو وَقِيذ". انتهى

(1)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4971]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْحَمِيدِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ مَسْرُوقٍ، حَدَّثَنَا الشَّعْبِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ عَدِيَّ بْنَ حَاتِمٍ - وَكَانَ لَنَا جَارًا، وَدَخِيلًا، وَرَبِيطًا بِالنَّهْرَيْنِ - أَنَّهُ سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: أُرْسِلُ كَلْبِي، فَأَجِدُ مَعَ كَلْبِي كَلْبًا قَدْ أَخَذَ، لَا أَدْرِي أَيُّهُمَا أَخَذَ، قَالَ: "فَلَا تَأْكُلْ، فَإِنَّمَا سَمَّيْتَ عَلَى كَلْبِكَ، وَلَمْ تُسَمِّ عَلَى غَيْرِهِ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْحَمِيدِ) الْقُرشيّ الْبُسْريّ البصريّ، يُلقّب حَمْدان، ثقةٌ [10](ت 250) أو بعدها (خ م س ق) تقدم في "الإيمان" 40/ 268.

2 -

(سَعِيدُ بْنُ مَسْرُوقٍ) الثوريّ، والد سفيان الكوفيّ، ثقةٌ [6](ت 126) أو بعدها (ع) تقدم في "صلاة المسافرين وقصرها" 19/ 1738.

(1)

"السنن الكبرى" للنسائي 3/ 154، و"المجتبى" 7/ 195.

ص: 93

والباقون ذُكروا قبله.

وقوله: (وَكَانَ لَنَا جَارًا، وَدَخِيلًا، وَرَبِيطًا) هذا الكلام للشعبيّ رحمه الله؛ أي: أن عديّ بن حاتم رضي الله عنه كان جارًا لنا، ودخيلًا؛ أي: مداخلًا، ومخالطًا، ومرابطًا ملازمًا لثغر من ثغور العدوّ، أو ملازمًا للعبادة، رَبَط نفسه عليها.

وقال النوويّ رحمه الله: قال أهل اللغة: "الدَّخيل" - بفتح الدال المهملة، وكسر الخاء المعجمة - والدّخّال: الذي يداخل الإنسان، ويخالطه في أموره، و"الرَّبِيط" هنا بمعنى المرابط، وهو الملازم، والرباط: الملازمة، قالوا: والمراد هنا: رَبَط نفسه على العبادة، وعن الدنيا

(1)

.

وقال الفيّومي: فلان دخيل بين القوم؛ أي: ليس من نَسَبِهم، بل هو نَزِيل بينهم، ومنه قيل: هذا الفرع دَخيل في الباب، ومعناه أنه ذُكر استطرادًا، ومناسبةً، ولا يشتمل عليه عَقْد الباب. انتهى

(2)

.

وقوله: (بِالنَّهْرَيْنِ) بيان للموضع، ولم أجد من بيّن المراد به، والذي يظهر أنه أراد نهر الفرات ودِجْلة، إلا أن محمد المرتضى ذكر في "تاج العروس" ما نصّه: ونَهْرانُ: من قُرى اليمن، من أَعمال ذِمار. انتهى

(3)

، والظاهر أن هذا ليس المراد هنا، والله تعالى أعلم.

ومما يؤيّد الأول أن الفيّوميّ رحمه الله قال: الفُرات نهر عظيم، مشهور، يخرج من حدود الروم، ثم يمرّ بأطراف الشام، ثم بالكوفة، ثم بالْحِلّة، ثم يلتقي مع دِجْلة في البطائح، ويصيران نهرًا واحدًا، ثم يصبّ عند عبّادان في بحر فارس. انتهى

(4)

، والله تعالى أعلم.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله قريبًا، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4972]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْوَلِيدِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِثْلَ ذَلِكَ).

(1)

"شرح النوويّ" 13/ 77.

(2)

"المصباح المنير" 1/ 190.

(3)

"تاج العروس" 1/ 3587.

(4)

"المصباح المنير" 2/ 465.

ص: 94

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(الْحَكَمُ) بن عُتيبة الْكِنْديّ، أبو محمد الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ، ربما دلّس [5](ت 113) أو بعدها (ع) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.

والباقون ذُكروا قبله.

[تنبيه]: رواية شعبة، عن الحكم هذه ساقها أبو نعيم رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(7573)

- حدّثنا يونس بن حبيب، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا شعبة، عن الحكم، قال: سمعت الشعبيّ، عن عديّ بن حاتم قال: قلت: يا رسول الله أُرسل كلبي علي الصيد، فأجد كلبًا مع كلبي، لا أدري أيهما أخذ؟ قال:"فلا تأكل، إنما سمّيت على كلبك، ولم تسمِّ على غيره". انتهى

(1)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4973]

(. . .) - (حَدَّثَني الْوَلِيدُ بْنُ شُجَاعٍ السَّكُونِيُّ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا أَرْسَلْتَ كلْبَكَ، فَاذْكُرِ اسْمَ اللهِ، فَإِنْ أَمْسَكَ عَلَيْكَ، فَأَدْرَكْتَهُ حَيًّا فَاذْبَحْهُ، وَإِنْ أَدْرَكْتَهُ قَدْ قَتَلَ، وَلَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ فَكُلْهُ، وَإِنْ وَجَدْتَ مَعَ كَلْبِكَ كَلْبًا غَيْرَهُ، وَقَدْ قَتَلَ فَلَا تَأْكُلْ، فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي أَيُّهُمَا قَتَلَهُ، وَإِنْ رَمَيْتَ سَهْمَكَ

(2)

، فَاذْكُرِ اسْمَ اللهِ، فَإِنْ غَابَ عَنْكَ يَوْمًا، فَلَمْ تَجِدْ فِيهِ إِلَّا أَثَرَ سَهْمِكَ فَكُلْ إِنْ شِئْتَ، وَإِنْ وَجَدْتَهُ غَرِيقًا فِي الْمَاءِ فَلَا تَأْكُلْ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(الْوَلِيدُ بْنُ شُجَاعٍ السَّكُونِيُّ) تقدّم قريبًا.

2 -

(عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ) تقدّم أيضًا قريبًا.

3 -

(عَاصِمُ) بن سليمان الأحول، تقدّم أيضًا قريبًا.

والباقيان ذُكرا قبله.

وقوله: (إِذَا أَرْسَلْتَ كلْبَكَ) فيه ما يدلّ على أن الإرسال لا بدّ أن يكون

(1)

"مسند أبي عوانة" 5/ 10.

(2)

وفي نسخة: "فإن رميت بسهمك".

ص: 95

من جهة الصائد، ومقصودًا له؛ لأن أَفْعَلَ فِعْلُ الفاعل، كأخرج، وأكرم، ثم هو فِعْلُ عاقل، فلا بدّ أن يكون مفعولًا لغرض صحيح، قاله القرطبيّ

(1)

.

وقول: (فَاذْكُرِ اسْمَ اللهِ) فيه إيجاب التسمية عند الإرسال، كما يجب عند الذبح.

وقوله: (فَأَدْرَكْتَهُ حَيًّا فَاذْبَحْهُ) قال النوويّ رحمه الله: هذا تصريح بأنه إذا أدرك ذكاته وجب ذبحه، ولم يحلّ إلا بالذكاة، وهو مُجْمَع عليه، وما نُقِل عن الحسن، والنخعيّ خلافه فباطل، لا أظنه يصح عنهما، وأما إذا أدركه، ولم تبق فيه حياة مستقرّة، بأن كان قد قطع حلقومه، ومَريّه، أو أجافه، أو خرق أمعاءه، أو أخرج حِشْوته، فيحلّ من غير ذكاة بالإجماع، قال أصحابنا وغيرهم: ويستحب إمرار السكين على حلقه؛ ليريحه. انتهى

(2)

.

وقال القرطبيّ: قوله: "فإن أدركته حيًّا فاذبحه": هذا يدلُّ على أن المقدور عليه لا تكون ذكاته العقر، بل الذبح، أو النحر، وعلى هذا فيجب على الصائد إذا أرسل الجوارح أن يجتهد في الجري مُهيِّئًا لآلة الذبح؛ فإنَّه إن فرَّط في شيء من ذلك حتى هلك الصيد بين يدي الجوارح لم يَجُز أكله؛ لأنَّه لمّا أمسكته الجوارح صار مقدورًا عليه، والصائد لو لم يُفرِّط كان متمكنًا من ذبحه، فإن أدركه الصائد منفوذ المَقاتِل فحُكمه حُكْم المقتول؛ لأنَّه ميؤوس من بقائه، إلا أن مالكًا استحب ذكاته مراعاة للخلاف، هذا هو مشهور قوله. انتهى

(3)

.

وقوله: (فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي أَيُّهُمَا قَتَلَهُ) قال النوويّ رحمه الله: فيه بيان قاعدة مهمّة، وهي إنه إذا حصل الشك في الذكاة المبيحة للحيوان لم يحلّ؛ لأن الأصل تحريمه، وهذا لا خلاف فيه، وفيه تنبيه على أنه لو وجده حيًّا، وفيه حياة مستقرّة، فذكّاه حَلّ، ولا يضر كونه اشترك في إمساكه كلبه وكلب غيره؛ لأن الاعتماد حينئذ في الإباحة على تذكية الآدميّ، لا على إمساك الكلب، وإنما تقع الإباحة بإمساك الكلب إذا قَتَله، وحينئذ إذا كان معه كلب آخر لم

(1)

"المفهم" 5/ 206.

(2)

"شرح النوويّ" 13/ 78.

(3)

"المفهم" 5/ 208.

ص: 96

يحلّ، إلا إن يكون أرسله مَن هو مِن أهل الذكاة، كما أوضحناه قريبًا. انتهى

(1)

.

وقال القرطبيّ بعد ذكر الروايات ما نصّه: هذه الروايات وإن اختلفت ألفاظها، فمعناها واحد، وهذا الاختلاف يدلّ على أنهم كانوا ينقلون بالمعنى، وتفيد هذه الروايات أن سبب إباحة الصيد الذي هو عَقْرُ الجارح له لا بدَّ أن يكون متحققًا غير مشكوك فيه، ومع الشكِّ لا يجوز الأكل، وهذا الكلب المخالط محمول على أنه غير مرسَل من صائد آخر، وأنه إنما انبعث في طلب الصيد بطبعه ونَفْسه، ولا يختلف في هذا، فأما لو أرسله صائدٌ آخر على ذلك الصيد فاشترك الكلبان فيه فإنَّه للصائِدَيْن؛ يكونان شريكين، فلو أنفذ أحد الكلبين مَقاتله، ثم جاء الآخر، فهو للذي أنفذ مَقاتله. انتهى

(2)

.

وقوله: (فَإِنْ غَابَ عَنْكَ يَوْمًا. . . إلخ) هذا دليل لمن يقول: إذا أثّر جرحه، فغاب عنه، فوجده ميتًا، وليس فيه أثَر غير سهمه حلّ، وهو أحد قولي الشافعيّ، ومالك، في الصيد والسهم، والثاني: يحرم، قال النوويّ: وهو الأصح عند أصحابنا، والثالث: يحرم في الكلب دون السهم، والأول أقوى، وأقرب إلى الأحاديث الصحيحة، وأما الأحاديث المخالفة له فضعيفة، ومحمولة على كراهة التنزيه، وكذا الأثر عن ابن عباس رضي الله عنهما:"كُلْ ما أصميت، وَدَعْ ما أنميت"؛ أي: كُلْ ما لم يغب عنك، دون ما غاب. انتهى

(3)

.

وقوله: (وَإِنْ وَجَدْتَهُ غَرِيقًا فِي الْمَاءِ فَلَا تَأْكُلْ)؛ أي: لأن موته بالماء، لا بالجَرح، وهذا متّفقٌ عليه، قاله النوويّ.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام شرحه، وبيان مسائله قريبًا، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4974]

(. . .) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، أَخْبَرَنَا عَاصِمٌ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ

(1)

"شرح مسلم" 13/ 77.

(2)

"المفهم" 5/ 209.

(3)

"شرح مسلم" 13/ 79.

ص: 97

الصَّيْدِ، قَالَ:"إِذَا رَمَيْتَ سَهْمَكَ، فَاذْكُرِ اسْمَ اللهِ، فَإِنْ وَجَدْتَهُ قَدْ قَتَلَ فَكُلْ، إِلَّا أَنْ تَجِدَهُ قَدْ وَقَعَ فِي مَاءٍ، فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي، الْمَاءُ قَتَلَهُ، أَوْ سَهْمُكَ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ الْمُبَارَكِ) تقدّم قريبًا.

والباقون ذُكروا قبله.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى البحث فيه مستوفًى، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4975]

(1930) - (حَدَّثَنَا هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ، حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ حَيْوَةَ بْنِ شُرَيْحٍ، قَالَ: سَمِعْتُ رَبِيعَةَ بْنَ يَزِيدَ الدِّمَشْقِيَّ يَقُولُ: أَخْبَرَنِي أَبُو إِدْرِيسَ عَائِذُ اللهِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيَّ يَقُولُ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّا بِأَرْضِ قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، نَأْكُلُ فِي آنِيَتِهِمْ، وَأَرْضِ صَيْدٍ أَصِيدُ بِقَوْسِي، وَأَصِيدُ بِكَلْبِي المُعَلَّمِ، أَوْ بِكَلْبِي الَّذِي لَيْسَ بِمُعَلَّمٍ، فَأَخْبِرْنِي مَا الَّذِي يَحِلُّ لَنَا مِنْ ذَلِكَ؟ قَالَ: "أَمَّا مَا ذَكَرْتَ أَنَّكُمْ بأَرْضِ قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، تَأْكُلُونَ فِي آنِيَتِهِمْ، فَإِنْ وَجَدْتُمْ غَيْرَ آنِيَتِهِمْ فَلَا تَأْكُلُوا فِيهَا، وَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَاغْسِلُوهَا، ثُمَّ كُلُوا فِيهَا، وَأَمَّا مَا ذَكَرْتَ أَنَّكَ بِأَرْضِ صَيْدٍ، فَمَا أَصَبْتَ بِقَوْسِكَ، فَاذْكُرِ اسْمَ اللهِ، ثُمَّ كُلْ، وَمَا أَصَبْتَ بِكَلْبِكَ الْمُعَلَّمِ، فَاذْكُرِ اسْمَ اللهِ، ثُمَّ كُلْ، وَمَا أَصَبْتَ بِكَلْبِكَ الَّذِي لَيْسَ بِمُعَلَّمٍ، فَأَدْرَكْتَ ذَكَاتَهُ فَكُلْ").

رجال هذا الإسناد: ستّة:

1 -

(هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ) بن مُصعب التميميّ، أبو السّريّ الكوفيّ، ثقةٌ [10](ت 243) وله (91) سنة (عخ م 4) تقدم في "الإيمان" 64/ 365.

2 -

(حَيْوَةُ بْنُ شُرَيْحٍ) بن صفوان التجيبيّ، أبو زرعة المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيه زاهد [7](ت 8 أو 915)(ع) تقدم في "الإيمان" 57/ 328.

3 -

(رَبِيعَةُ بْنُ يَزِيدَ الدِّمَشْقِيُّ) أبو شُعيب الإياديّ القصير، ثقةٌ عابدٌ [4](ت 1 و 123)(ع) تقدم في "الطهارة" 6/ 559.

4 -

(أَبُو إِدْرِيسَ عَائِذُ اللهِ) بن عبد الله الْخَولانيّ الْحِمْصيّ، وُلد في حياة

ص: 98

النبيّ صلى الله عليه وسلم يوم حنين، وسَمِع من كبار الصحابة رضي الله عنهم[2](ت 80)(ع) تقدم في "الطهارة" 6/ 559.

5 -

(أَبُو ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيُّ) - بضمّ الخاء، وفتح الشين المعجمتين - الصحابيّ المشهور رضي الله عنه، اختُلِف في اسمه واسم أبيه اختلافًا كثيرًا، روى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعن معاذ بن جبل، وأبي عبيدة بن الجراح، وروى عنه أبو إدريس الخولانيّ، وأبو أمية الشَّعْبانيّ، وسعيد بن المسيّب، وعطاء بن يزيد الليثيّ، وأبو أسماء الرَّحَبيّ، وجُبير بن نُفير، وغيرهم.

قال عبيد الله بن سعد الزهريّ: قال أحمد: بلغني عن أبي مُسهر قال: سمعت سعيد بن عبد العزيز يقول: أبو ثعلبة اسمه جُرْثومة، وقال النسائيّ: ثنا عمرو بن منصور، أنا أبو مسهر، قال: سمعت سعيد بن عبد العزيز قال: اسم أبي ثعلبة جُرثومة، وقيل: جُرهم، وقال حنبل عن أحمد: بلغني عن سعيد بن عبد العزيز قال: اسمه جرثوم، وكذا قال صالح بن أحمد، عن أبيه، وقال أبو زرعة الدمشقيّ، عن أبي مسهر: اسمه جرثوم، وعن سليمان بن عبد الرحمن قال: سألت بعض ولد أبي ثعلبة عن اسمه، فقال: لاشر بن جرثوم، وقال يعقوب بن سفيان: قلت لهشام بن عمار: ما اسم أبي ثعلبة؟ قال: يقولون: جرثوم بن عمرو، وكذا قال نوح بن حبيب، عن هشام، وقال الأثرم عن أحمد: اختلفوا فيه، فقيل: جرثوم بن عمرو، وقيل: جرهم بن ناشم، وفي رواية: لاشم، وقال عبد الله بن أحمد، عن أبيه، وصالح بن أحمد عن أبيه، وحنبل بن أحمد: اسمه جرهم بن ناشم، وكذا قال مسلم، وكذا قال البغويّ عن ابن زنجويه، وهارون بن عبد الله، وكذا قال ابن سعد عن أصحابه، وقال دُحيم: اسمه جرثوم، وقال خليفة بن خياط: اسمه الأشقّ بن جرهم، ويقال: جرثومة بن ناشج، ويقال: جرهم، وقال ابن الْبَرْقيّ: اسمه جرثومة بن الأشتر بن جرثوم، ممن بايع تحت الشجرة، قال: وقال بعضهم: اسمه الأشقّ بن جرهم، وقيل غير ذلك.

وقال ابن عيسى: بلغني أنه كان أقدم إسلامًا من أبي هريرة، ولم يقاتل مع عليّ، ولا مع معاوية، ومات في أول إمرة معاوية.

وقال القاضي أبو عليّ الخولاني: نزل دَاريا.

وقال خالد بن محمد الكنديّ: رُوي عن أبي الزاهرية: سمعت أبا ثعلبة

ص: 99

يقول: إني لأرجو أن لا يخنُقني الله تعالى كما أراكم تُخنقون عند الموت، قال: فبينما هو يصلي في جوف الليل قُبِض، وهو ساجدٌ، فرأت ابنته في النوم أن أباها قد مات، فاستيقظت فَزِعَةً، فنادت أين أبي؟ قالوا: في مصلاه، فنادته، فلم يجبها، فأتته، فوجدته ساجدًا، فحرّكته فسقط ميتًا.

وقال أبو عبيد، وابن سعد، وخليفة، وهارون الحمال: قال أبو حسان الزياديّ: مات سنة خمس وسبعين.

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط، هذا الحديث، وكرّره ثلاث مرّات، وحديث (1932) وكرّره ثلاث مرّات أيضًا، وحديث (1936).

و"ابن الْمبارك" ذُكر قبله.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من سُداسيّات المصنّف، وأنه مسلسل بالدمشقيين، غير شيخه فكوفي، وابن المبارك فمروزي، وحيوة فمصري، وأن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

عن أبي إدريس الْخَوْلانيّ: أنه (قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا ثَعْلَبَةَ) الصحابيّ المشهور بكنيته، واختُلف في اسمه واسم أبيه اختلافًا كثيرًا، كما مرّ آنفًا، وكان إسلامه قبل خيبر، وشَهِد بيعة الرضوان، وتوجّه إلى قومه، فأسلموا، وله أخ يقال له: عمرو، أسلم أيضًا

(1)

. (الْخُشَنِيَّ) - بضمّ الخاء، وفتح الشين المعجمتين، ثم نون -: نسبة إلى بني خُشين، بطن من النمر بن وبرة بن تغلب - بفتح المثنّاة، وسكون المعجمة، وكسر اللام، بعدها موحّدة - ابن حلوان بن عمران بن الحاف بن قُضاعة

(2)

. (يَقُولُ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ) وفي رواية البخاريّ: "قلت: يا نبيّ الله"، (إِنَّا) بكسر الهمزة، هي "إنّ" واسمها،

(1)

"الفتح" 12/ 428، كتاب "الذبائح" رقم (4578).

(2)

"الفتح" 12/ 428، و"اللباب في تهذيب الأنساب" 1/ 446 - 447.

ص: 100

وخبرها قوله: (بِأَرْضِ قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ)؛ يعني: بالشام، وكان جماعة من قبائل العرب قد سكنوا الشام، وتنصّروا، منهم آل غَسّان، وتنوخ، وبَهْز، وبطون من قُضاعة، منهم بنو خُشَين آل أبي ثعلبة. (نَأْكُلُ فِي آنِيَتِهِمْ) جَمْع إناء، والأواني جَمْع آنية، وفي رواية البخاريّ رحمه الله:"أفنأكل في آنيتهم؟ ".

(وَأَرْضِ صَيْدٍ أَصِيدُ بِقَوْسِي) قال المجد: "القوس" معروفة، وقد تذكّر، وتصغيرها قويسة، وقُويسٌ، والجمع قِسِيّ، وقُسيّ، وأقواسٌ، وقِيَاسٌ. انتهى.

وقال في "الفتح": وهي مركّبة، وغير مركّبة، ويُطلق لفظ القوس أيضًا على الثمر الذي يبقى في أسفل النخلة، وليس مرادًا هنا. انتهى.

(وَأَصِيدُ بِكَلْبِي الْمُعَلَّمِ، أَوْ بِكَلْبِي الَّذِي لَيْسَ بِمُعَلَّمٍ، فَأَخْبِرْنِي مَا الَّذِي يَحِلُّ لَنَا مِنْ ذَلِكَ؟ قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("أَمَّا مَا ذَكَرْتَ أَنَّكُمْ بِأَرْضِ قَوْمٍ مِن أَهْلِ الْكِتَابِ، تَأْكُلُونَ فِي آنِيَتِهِمْ، فَإِنْ وَجَدْتُمْ غَيْرَ آنِيَتِهِمْ فَلَا تَأْكُلُوا فِيهَا، وَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَاغْسِلُوهَا، ثُمَّ كُلُوا فِيهَا) قال في "الفتح": تمسَّكَ بهذا الأمر من رأى أن استعمال آنية أهل الكتاب تتوقف على الغسل؛ لكثرة استعمالهم النجاسة، ومنهم من يتديّن بملابستها.

قال ابن دقيق العيد: وقد اختَلَف الفقهاء في ذلك؛ بناء على تعارض الأصل والغالب، واحتَجَّ من قال بما دل عليه هذا الحديث بأن الظنّ المستفاد من الغالب راجح على الظن المستفاد من الأصل، وأجاب من قال بأن الحكم للأصل حتى تتحقق النجاسة بجوابين:

أحدهما: أن الأمر بالغسل محمول على الاستحباب احتياطًا؛ جمعًا بينه وبين ما دل على التمسك بالأصل.

والثاني: أن المراد بحديث أبي ثعلبة حالُ من يتحقق النجاسة فيه، ويؤيده ذِكر المجوس؛ لأن أوانيهم نجسة؛ لكونهم لا تحل ذبائحهم.

وقال النوويّ: المراد بالآنية في حديث أبي ثعلبة آنية مَن يَطْبُخ فيها لحم الخنزير، ويشرب فيها الخمر، كما وقع التصريح به في رواية أبي داود:"إنا نجاور أهل الكتاب، وهم يطبخون في قدورهم الخنزير، ويشربون في آنيتهم الخمر"، فقال، فذكر الجواب.

وأما الفقهاء فمرادهم مُطلق آنية الكفار التي ليست مستعمَلة في النجاسة،

ص: 101

فإنه يجوز استعمالها، ولو لم تُغسل عندهم، وإن كان الأَولى الغسل للخروج من الخلاف، لا لثبوت الكراهة في ذلك.

ويَحْتَمِل أن يكون استعمالها بلا غسل مكروهًا؛ بناءً على الجواب الأول، وهو الظاهر من الحديث، وأن استعمالها مع الغسل رخصة، إذا وجد غيرها، فإن لم يجد جاز بلا كراهة؛ للنهي عن الأكل فيها مطلقًا، وتعليق الإذن على عدم غيرها مع غسلها.

وتمسَّك بهذا بعض المالكية لقولهم: إنه يتعيَّن كسر آنية الخمر على كل حال؛ بناءً على أنها لا تطهر بالغسل، واستدلّ بالتفصيل المذكور؛ لأن الغسل لو كان مطهِّرًا لها لَمَا كان للتفصيل معنى.

وتُعُقِّب بأنه لم ينحصر في كون العين تصير نجسة بحيث لا تطهر أصلًا، بل يَحتَمِل أن يكون التفصيل للأخذ بالأَولى، فإن الإناء الذي يُطبخ فيه الخنزير يُستقذر، ولو غُسل كما يُكره الشرب في المحجمة، ولو غُسلت استقذارًا.

ومشى ابن حزم على ظاهريته، فقال: لا يجوز استعمال آنية أهل الكتاب إلا بشرطين: أحدهما: أن لا يجد غيرها، والثاني: غسلها.

وأجيب بما تقدم من أن أَمْره بالغسل عند فَقْد غيرها دالّ على طهارتها بالغسل، والأمر باجتنابها عند وجود غيرها للمبالغة في التنفير عنها، كما في حديث سلمة رضي الله عنه في الأمر بكسر القدور التي طُبخت فيها الميتة، فقال رجل:"أَوْ نغسلها؟ " فقال: "أوْ ذاك"، فأمَرَ بالكسر للمبالغة في التنفير عنها، ثم أذِن في الغسل ترخيصًا، فكذلك يتجه هذا هنا، والله أعلم

(1)

.

(وَأَمَّا مَا ذَكَرْتَ أَنَّكَ بأَرْضِ صَيْدٍ، فَمَا أَصَبْتَ بِقَوْسِكَ، فَاذْكُرِ اسْمَ اللهِ)؛ أي: عند الرمي، لا عند الأكل، كما هو المتبادَر، وقد تمسك بهذا من أوجب التسمية على الصيد وعلى الذبيحة، وقد تقدَّمت مباحثه في المسألة السابعة من مسائل حديث عديّ بن حاتم رضي الله عنه، فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق.

(ثُمَّ كُلْ) وقع هذا الحديث مفسَّرًا في رواية أبي داود من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدّه، أن أعرابيًا، يقال له: أبو ثعلبة، قال: يا

(1)

"الفتح" 12/ 429 - 430، كتاب "الذبائح" رقم (5478).

ص: 102

رسول الله، إن لي كلابًا مكلَّبة، فأفْتِني في صيدها؟، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"إن كان لك كلاب مكلَّبة، فَكُلْ مما أمسكن عليك"، قال: ذَكِيًّا أو غير ذكي؟، قال:"نعم"، قال: فإن أكل منه؟ قال: "وإن أكل منه"، فقال: يا رسول الله، أفتني في قوسي، قال:"كُلْ ما ردّت عليك قوسك"، قال:"ذَكيًّا أو غير ذكي"، قال: وإنْ تغيَّب عني، قال:"وإن تغيَّب عنك، ما لم يَصِلَّ، أو تجد فيه أثرًا غير سهمك"، قال: أفْتِني في آنية المجوس، إن اضْطُررنا إليها، قال:"اغسلها، وَكُلْ فيها".

وقوله: ما لم يَصِلّ" بصاد مهملة، مكسورة، ولام ثقيلة؛ أي: يُنتِنَ.

(وَمَا أَصَبْتَ بكَلْبِكَ الْمُعَلَّمِ، فَاذْكُرِ اسْمَ اللهِ، ثُمَّ كُلْ، وَمَا أَصَبْتَ بِكَلْبِكَ الَّذِي لَيْسَ بِمُعَلَّمٍ، فَأَدْرَكْتَ ذَكَاتَهُ)؛ أي: أدركته حيًّا، فذكّيته (فَكُلْ") فيه أنه لا يحلّ ما أُدرك من الصيد حيًّا، إلا بذَبْحه، قال النوويّ رحمه الله: هذا مُجْمَع عليه أنه لا يحلّ إلا بذكاته. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي ثعلبة الْخُشَنيّ رضي الله عنه هذا متّفق عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [1/ 4975 و 4976](1930)، و (البخاريّ) في "الذبائح والصيد"(5478 و 5496)، و (أبو داود) في "الصيد"(2852 و 2855 و 2856)، و (الترمذيّ) في "الصيد"(1464) و"الأطعمة"(1797)، و (النسائيّ) في المجتبى (7/ 181) و"الكبرى"(3/ 144)، و (ابن ماجه) في "الصيد"(3207)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(8503)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1014 و 1015)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 193 و 195)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5879)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(5/ 13)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(9/ 247 - 248 و 10/ 10)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(2771)، والله تعالى أعلم.

ص: 103

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): جواز جمع المسائل، وإيرادها دفعة واحدةً، وتفصيل الجواب عنها، واحدةً واحدةً بلفظ "أمّا، وأمّا".

2 -

(ومنها): بيان حكم الأكل في آنية أهل الكتاب، وهو أن يؤكل فيها إذا وُجد غيرها، وإلا جاز بعد غسلها.

3 -

(ومنها): جواز الصيد بالقوس.

4 -

(ومنها): بيان حكم صيد الكلب الذي ليس بمعلّم، وهو التحريم، إلا إذا وُجد حيًّا، فذُكّي، فيجوز.

5 -

(ومنها): وجوب التسمية على الكلب، والقوس عند الإرسال والرمي.

6 -

(ومنها): أن ما أُدرك من الصيد حيًّا وجبت ذكاته، سواء كان بالكلب، أم بالقوس، وإلا كان ميتةً، والله تعالى أعلم بالصواب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4976]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ (ح) وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا الْمُقْرِئُ

(1)

، كِلَاهُمَا عَنْ حَيْوَةَ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ، نَحْوَ حَدِيثِ ابْنِ الْمُبَارَكِ، غَيْرَ أَنَّ حَدِيثَ ابْنِ وَهْبٍ لَمْ يَذْكُرْ فِيهِ صَيْدَ الْقَوْسِ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أَبُو الطَّاهِرِ) أحمد بن عمرو بن السرح المصريّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(ابْنُ وَهْبٍ) عبد الله المصريّ الحافظ، تقدّم أيضًا قريبًا.

3 -

(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) تقدّم في الباب الماضي.

4 -

(الْمُقْرِئُ)

(2)

عبد الله بن يزيد المكيّ، أبو عبد الرحمن المقرئ، أصله من البصرة، أو الأهواز، ثقةٌ فاضلٌ، أقرأ القرآن نيّفًا وسبعين سنةً [9]

(1)

وقع في بعض النسخ بدله: "المقبريّ"، وهو غلط، فتنبّه.

(2)

وقع في برنامج الحديث للكتب التسعة غلط في هذه الترجمة، فقد ترجموا عبد الله بن يزيد المخزومي الأعور مولى الأسود بن سفيان المدنيّ، من الطبقة السادسة، وهو غلط بلا شك؛ لأن زهير بن حرب لم يره، وإنما وُلد بعد موته، كما قدمت بيانه في موضع آخر، فليُتنبّه، والله تعالى وليّ التوفيق.

ص: 104

(ت 213) وقد قارب المائة، وهو من كبار شيوخ البخاريّ، ولا يروي عنه المصنّف، وأصحاب السنن إلا بواسطة (ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 15.

و"حيوة" ذُكر قبله.

[تنبيه]: رواية عبد الله بن وهب، عن حيوة ساقها ابن حبّان رحمه الله في "صحيحه"، فقال:

(5879)

- أخبرنا محمد بن الحسن بن قتيبة، قال: حدثنا حرملة بن يحيى، قال: حدثنا ابن وهب، قال: أخبرني حَيْوة بن شُريح قال: سمعت ربيعة بن يزيد الدمشقيّ يقول: سمعت أبا إدريس الخولانيّ، أنه سمع أبا ثعلبة الخشنيّ، يقول: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله إنا بأرض من أهل كتاب، نأكل في آنيتهم، وإن أرضنا أرض صيد، أصيد بقوسي، وبالكلب المكلَّب، وبالكلب الذي ليس بمكلَّب، فأخبرني ماذا يحلّ لنا مما يحرُم عليّ من ذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أما ما ذكرتَ أنكم بأرض أهل كتاب تأكلون في آنيتهم، فإن وجدتم غير آنيتهم فلا تأكلوا فيها، وإن لم تجدوا غير آنيتهم، فاغسلوها، وكُلوا فيها، وأما ما ذكرت من الصيد، فما صدت بقوسك، فكل منه، واذكر اسم الله عليه، وأما ما أصاب كلبك المكلَّب، فكل مما أمسك عليك، واذكر اسم الله عليه، وأما ما أصاب كلبك الذي ليس بمكلَّب، فإن أدركت ذكاته فَكُل، وما لم تدرك ذكاته فلا تأكل". انتهى

(1)

.

وأما رواية عبد الله يزيد، عن حيوة فساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:

(5161)

- حدّثنا عبد الله بن يزيد، حدّثنا حَيْوة، قال: أخبرني ربيعة بن يزيد الدمشقيّ، عن أبي إدريس، عن أبي ثعلبة الخشنيّ، قال: قلت: يا نبيّ الله إنّا بأرض قوم أهل الكتاب، أفنأكل في آنيتهم؟ وبأرض صيد، أصيد بقوسي، وبكلبي الذي ليس بمعلَّم، وبكلبي المعلَّم، فما يصلح لي؟ قال: "أما ما ذكرت من أهل الكتاب، فإن وجدتم غيرها فلا تأكلوا فيها، وإن لم تجدوا فاغسلوها، وكُلُوا فيها، وما صدت بقوسك، فذكرت اسم الله فَكُل، وما صدت بكلبك

(1)

"صحيح ابن حبان" 13/ 190 - 191.

ص: 105

المعلَّم، فذكرت اسم الله فَكُل، وما صدت بكلبك غير معلَّم، فأدركت ذكاته فَكُل". انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(2) - (بَابٌ إِذَا غَابَ عَنْهُ الصَّيْدُ، ثُمَّ وَجَدَهُ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4977]

(1931) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مِهْرَانَ الرَّازِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللهِ حَمَّادُ بْنُ خَالِدٍ الْخَيَّاطُ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: قَالَ: "إِذَا رَمَيْتَ بِسَهْمِكَ، فَغَابَ عَنْكَ، فَأَدْرَكْتَهُ فَكُلْهُ، مَا لَمْ يُنْتِنْ").

[تنبيه]: هذا الحديث أول عَوْد سماع أبي إسحاق إبراهيم بن محمد بن سفيان من مسلم، والحديث الذي قبله هو آخر فواته الثالث، ولم يبق له في الكتاب فوات بعد هذا، والله تعالى أعلم، قاله النوويّ رحمه الله

(2)

.

رجال هذا الإسناد: ستّة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ مِهْرَانَ الرَّازِيُّ) أبو جعفر الْجَمّال، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 239) أو قبلها (خ م د) 25/ 209.

2 -

(أَبُو عَبْدِ اللهِ حَمَّادُ بْنُ خَالِدٍ الْخَيَّاطُ) القرشيّ، أبو عبد الله البصريّ، نزيل بغداد، أصله مدنيّ، ثقةٌ أُمّي [9].

رَوَى عن أفلح بن حميد، وأفلح بن سعيد، وابن أبي ذئب، وهشام بن سعد، وعبد الله وعاصم ابني عمر العمريين، وأبي عاتكة البصريّ صاحب أنس، وغيرهم.

وروى عنه أحمد بن حنبل، وابن معين، وأحمد بن منيع، وأبو سعيد الأشجّ، وقتيبة، ومحمد بن مهران الرازيّ، وابن نمير، وأبو بكر بن أبي شيبة، والزعفرانيّ، وجماعة.

(1)

"صحيح البخاريّ" 5/ 2087.

(2)

"شرح النوويّ" 13/ 81.

ص: 106

قال أحمد: كان حافظًا، كتبت عنه أنا ويحيى بن معين، وكان يحدثنا، وهو يحفظ، وقال الدُّوريّ عن ابن معين: ثقةٌ، كان أُمّيًّا لا يكتب، كان يقرأ الحديث، وقال ابن عمار، والنسائيّ: ثقة، وقال ابن المدينيّ: كان من أهل المدينة، وكان ثقةً عندنا، وقال مجاهد بن موسى: كتبنا عنه، وهشيم حيّ، ومدحه يحيى بن معين، ووثّقه، وقال أبو حاتم: صالح الحديث، ثقةٌ، وأنكر أن يكون أميًّا، وقال أبو زرعة: شيخٌ متقنٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال عليّ بن إبراهيم بن الهيثم البلديّ: حدّثنا الحسن بن عرفة، حدّثنا حماد بن خالد، وكان من خير من أدركناه.

أخرج له المصنّف، والأربعة، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.

3 -

(مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحِ) بن حُدير الحضرميّ أبو عمرو، أو أبو عبد الرحمن الحمصيّ، قاضي الأندلس، ثقةٌ له أوهامٌ [7](ت 158)(ز م 4) تقدم في "الطهارة" 6/ 559.

4 -

(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ جُبَيْرٍ) بن نُفير الحضرميّ الحمصيّ، ثقةٌ [4](ت 118)(بخ م 4) تقدم في "الجنائز" 25/ 2232.

5 -

(أَبُوهُ) جُبير بن نُفير بن مالك بن عامر الحضرميّ الحمصيّ، مخضرمٌ ثقةٌ جليلٌ [2](ت 80) أو بعدها (بخ م 4) تقدم في "الطهارة" 6/ 559.

والصحابيّ ذُكر قبله.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ) الْخُشنيّ رضي الله عنه (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) أنه (قَالَ: إِذَا رَمَيْتَ)؛ أي: الصيد، فحُذف المفعول، (بِسَهْمِكَ، فَغَابَ) ذلك الصيد (عَنْكَ، فَأَدْرَكْتَهُ فَكُلْهُ) سواء طالت المدّة، أم قصُرت، (مَا لَمْ يُنْتِنْ") بضمّ أوله، وكَسْر ثالثه، مِنْ أنْتَنَ رباعيًّا، ويجوز أن يكون بفتح أوله، وتثليث ثالثه، مِنْ نَتن، يقال: نَتُن الشيءُ بالضمّ نُتُونَةً، ونَتَانَةً، فهو نَتِينٌ، مثلُ قَرُب، ونَتَنَ نَتْنًا، من باب ضَرَبَ، ونَتِنَ يَنْتَنُ، فهو نَتِنٌ، من باب تَعِبَ، وأنتن إنتانًا، فهو مُنْتِنٌ، وقد تُكسر الميم

ص: 107

للإتباع، فيقال: مِنْتِنٌ، وضمُّ التاء إتباعًا للميم قليلٌ، قاله الفيّوميّ

(1)

.

وقال المجد: النَّتْنُ: ضِدُّ الْفَوْحِ، نَتُنَ، ككَرُمَ، وضَرَبَ نَتَانَةً، وأنْتَنَ فهو مُنْتنٌ، ومِنْتِنٌ بكسرتين، وبضمّتين، وكِقِنْديل. انتهى

(2)

.

وهذا الحديث صريح في كون الصيد حلالًا، وإن غاب أكثر من ثلاثة أيّام، إذا لم يُنتن، حيث جَعَلَ الْغَايَة أَنْ يُنْتِن الصَّيْد، فَلَوْ وَجَدَهُ مَثَلًا بَعْد ثَلاث، وَلَمْ يُنْتِن حَلَّ، وَإِنْ وَجَدَهُ بِدوْنِهَا وَقَدْ أَنْتَنَ فَلا، هَذَا ظَاهِر الْحَدِيث. وَأَجَابَ النَّوَوِيّ بِأَنَّ النَّهْي عَن أَكْله إِذَا أَنْتَنَ لِلتَّنْزِيهِ، إلا إن خيف منه الضرر، فَيَحْرُم، وهذا مذهب الشافعيّة، وأما المالكيّة، فحملوا النهي على التحريم مطلقًا، قال في "الفتح": وهو الظاهر.

واستدلّ من حمل النهي على التنزيه بقصّة الحوت الذي أكل منه الجيش مع أبي عبيدة رضي الله عنه نصف شهر، كما سيأتي الحديث في ذلك بعد بابين - إن شاء الله تعالى -.

ووجْهه أنهم أكلوا من لحم الحوت نصف شهر، وأكل منه النبيّ صلى الله عليه وسلم بعد ذلك، واللحم لا يبقى غالبًا بلا نتن في تلك المدة، لا سيما في الحجاز، مع شدّة الحرّ.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: لكن يَحْتَمِل - كما قال في "الفتح" - أن يكونوا ملّحوه، وقدّدوه، فلم يدخله نتن، وبهذا لا يتمّ الاستدلال به على صَرْف النهي عن التحريم إلى التنزيه.

والحاصل أن حَمْل النهي مِنْ أَكْل الصيد، إذا أنتن على التحريم، هو الظاهر؛ لظاهر النصّ، وأما حَمْله على التنزيه، فيحتاج إلى دليل صريح، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي ثعلبة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

(1)

"المصباح المنير" 2/ 592.

(2)

"القاموس المحيط" ص 1260.

ص: 108

أخرجه (المصنّف) هنا [2/ 4977 و 4978 و 4979](1931)، و (أبو داود) في "الصيد"(2861)، و (النسائيّ) في "الصيد"(7/ 193) و"الكبرى"(4815)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 194)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(5/ 14)، و (الدارقطنيّ) في "سننه"(4/ 295)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(9/ 242 و 243)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في اختلاف أهل العلم في مدّة غَيبة الصيد عن الصائد:

قال في "الفتح": استُدلّ بهذا الحديث على أن الرامي لو أخّر الصيد عقب الرمي إلى أن يجده أنه يحلّ بالشروط المتقدمة، ولا يحتاج إلى استفصال عن سبب غَيْبته عنه، أكان مع الطلب أو عدمه، لكن يُسْتَدَلّ للطلب بما وقع في الرواية التي علّقها البخاريّ آخر الباب، حيث قال:"فيقتفي أثره" فدلّ على أن الجواب خرج على حسب السؤال، فاختصر بعض الرواة السؤال، فلا يُتمسَّك فيه بترك الاستفصال.

قال: واختُلِف في صفة الطلب، فعن أبي حنيفة: إن أَخَّر ساعةً، فلم يطلب لم يحلّ، وإن اتّبعه عقب الرمي فوجده ميتًا حلّ، وعن الشافعية: لا بدّ أن يتبعه، وفي اشتراط العَدْو وجهان، أظهرهما: يكفي المشي على عادته، حتى لو أسرع

(1)

وجده حيًّا حلّ، وقال إمام الحرمين: لا بدّ من الإسراع قليلًا؛ ليتحقق صورة الطلب، وعند الحنفية نحو هذا الاختلاف. انتهى

(2)

.

وقال ابن عبد البرّ رحمه الله: وقد اختلف الفقهاء في هذا المعنى، فقال مالك: إذا أدركه الصائد من يومه أَكَله، في الكلب والسهم جميعًا، وإن كان ميتًا إذا كان فيه أثر جرحه، وإن كان قد بات عنه لم يأكله، وقال الثوريّ: إذا غاب عنه يومًا وليلةً كرهت أكله، وقال أبو حنيفة وأصحابه: إذا توارى عنه الصيد، وهو في طلبه فوجده، وقد قتله جاز أكْله، فإن ترك الطلب، واشتغل بعمل غيره، ثم ذهب في طلبه، فوجده مقتولًا، والكلب عنده كرهنا أكْله،

(1)

هكذا نسخة "الفتح"، ولعله "حتى لو لم يُسرع. . . إلخ".

(2)

"الفتح" 9/ 611.

ص: 109

وقال الأوزاعيّ: إذا وجده من الغد ميتًا، ووجد فيه سهمًا أو أثرًا فليأكله، وقال الشافعيّ: القياس ألا يأكله إذا غاب عنه، ورُوي عن ابن عباس:"كُلْ ما أصميت، ودَعْ ما أنميت"، يريد: كُلْ ما عاينت صيده وموته، من سلاحك، أو كلبك، وَدَعْ ما غاب عنك.

وفي حديث أبي رزين، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه كره أكل ما غاب عنك مصرعه من الصيد، وهو حديث مرسلٌ؛ لأنه ليس بأبي رزين العُقَيليّ، وإنما هو أبو رزين مولى أبي وائل، رواه عنه موسى بن أبي عائشة، من حديث الثوريّ وغيره.

ورَوَى أبو ثعلبة الخشنيّ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في الذي يُدرك صيده بعد ثلاث:"يأكله ما لم ينتن" - يعني: حديث الباب -.

وفي حديث عديّ بن حاتم، أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصيد يغيب عن صاحبه الليلة والليلتين، فقال:"إذا وجدت فيه سهمك، ولم تجد أثر سبع، وعلمت أن سهمك قتله فكُلْه".

قال: وفي حديث هذا الباب ردّ لقول أبي حنيفة وأصحابه في اشتراطهم التراخي في الطلب؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقل للبهزيّ

(1)

هل تراخيت في طلبه؟، وأباح لأصحابه المُحْرِمين، ولم يسأله عن ذلك، وبالله التوفيق. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن القول بعدم اشتراط الطلب هو الأرجح؛ لظاهر الحديث.

وأما جوابه صلى الله عليه وسلم بقوله: "يأكل" حينما سأله عديّ بن حاتم رضي الله عنه بقوله:

(1)

أشار به إلى ما أخرجه مالك في "الموطأ" بسنده، عن البهزي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج يريد مكة، وهو مُحْرم، حتى إذا كان بالروحاء إذا حمار وحشي عَقِير، فذُكِر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:"دعوه، فإنه يوشك أن يأتي صاحبه"، فجاء الْبَهْزيّ، وهو صاحبه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله شأنكم بهذا الحمار، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر فقَسَمه بين الرفاق. . . الحديث.

(2)

"التمهيد" لابن عبد البر 23/ 346 - 347.

ص: 110

"يرمي الصيد، فيقتفي أثره. . . إلخ"، فإنه خرج على حسب السؤال؛ لأنه سأله سؤالًا مقيّدًا بالاقتفاء، فأجابه النبيّ صلى الله عليه وسلم بحلّ الأكل، فلا مفهوم له؛ لأنَّ شَرْط العمل بمفهوم المخالفة أن لا يخرج الجواب مخرج السؤال؛ كما هنا، فلا يُقيّد به الإطلاق الواقع في حديث أبي ثعلبة رضي الله عنه الذي سأل سؤالًا مطلقًا، فأجابه جوابًا مطلقًا، بلا استفصال، فلو كان الطلب شرطًا في حلّه، لبيّن له، ومما يدلّ عليه حديث البهزيّ المذكور.

والحاصل أن عدم اشتراط الطلب للحِلّ هو الظاهر، فتأمّل، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4978]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي خَلَفٍ، حَدَّثَنَا مَعْنُ بْنُ عِيسَى، حَدَّثَنِي مُعَاوِيةُ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الَّذِي يُدْرِكُ صَيْدَهُ بَعْدَ ثَلَاثٍ: "فَكُلْهُ مَا لَمْ يُنْتِنْ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي خَلَفٍ) السلميّ، أبو عبد الله البغداديّ القَطِيعيّ، ثقةٌ [10](237)(م د) تقدم في "الإيمان" 92/ 502.

2 -

(مَعْنُ بْنُ عِيسَى) بن يحيى الأشجعيّ مولاهم، أبو يحيى المدنيّ القزّاز، ثقةٌ ثبتٌ، قال أبو حاتم: هو أثبت أصحاب مالك، من كبار [10](ت 198)(ع) تقدم في "الطهارة" 7/ 563.

والباقون ذُكروا قبله.

وقوله: ("فَكُلْهُ مَما لَمْ يُنْتِنْ") قال القرطبيّ رحمه الله: اختلف العلماء في تعليل هذا المنع، فمنهم من قال: إذا أنتن لَحِق بالمستقذرات التي تمجُّها الطِّباع، فيُكره أكلها تنزيهًا، فلو أكلها لجاز، كما قد أكل النبيّ صلى الله عليه وسلم الإهالة السَّنِخة، وهي المُنتنة، ومنهم من قال: بل هو مُعلَّلٌ بما يُخاف منه الضرر على آكله، وعلى هذا التعليل يكون أصله محرَّمًا؛ إن كان الخوف محققًا، وقيل: إن ذلك النتن يمكن أن يكون مِنْ نَهْش ذوات السُّموم، قال ابن شهاب: كُلْ مما قُتل إلا أن يَنْعَطِن، فإذا انعَطَن فإنَّه نهشٌ، وفسَّروا "ينعطن" بأنَّه إذا مُدَّ تَمَرَّط، قال

ص: 111

ابن الأعرابي: إهاب معطون، وهو الذي تَمَرَّط شعره. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: تقدّم في الحديث الماضي أن القول بالتحريم هو الأقرب والأظهر الموافق لظاهر النصّ، فتنبّه، وقد تقدّم تمام البحث في ذلك هناك، والله تعالى وليّ التوفيق.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4979]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ، عَنِ الْعَلَاءِ، عَنْ مَكْحُولٍ، عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَدِيثَهُ فِي الصَّيْدِ، ثُمَّ قَالَ ابْنُ حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا ابْنُ مَهْدِيٍّ، عَنْ مُعَاوِيَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَأَبِي الزَّاهِرِيَّةِ، عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ، عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ، بِمِثْلِ حَدِيثِ الْعَلَاءِ، غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ نُتُونَتَهُ، وَقَالَ فِي الْكَلْبِ: "كُلْهُ بَعْدَ ثَلَاثٍ، إِلَّا أَنْ يُنْتِنَ، فَدَعْهُ").

رجال هذا الإسناد: تسعة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمِ) بن ميمون، تقدّم قريبًا.

2 -

(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ) تقدّم قبل باب.

3 -

(الْعَلَاءُ) بن الحارث بن عبد الوارث الْحَضْرميّ، أبو وهب، ويقال: أبو محمد الدمشقيّ، ثقةٌ

(2)

فقيهٌ، رُمي بالقدر، وقد اختلط [5].

رَوَى عن عبد الله بن بُسر، ومكحول، وأبي الأشعث، والزهريّ، وعمرو بن شعيب، وعليّ بن أبي طلحة، وغيرهم.

وروى عنه الأوزاعيّ، ويحيى بن حمزة، وعبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان، ومعاوية بن صالح الحضرميّ، وعيسى بن موسى القرشيّ، وجماعة.

قال معاوية بن صالح عن أحمد: صحيح الحديث، وكذا قال المفضل الغَلَّابيّ، وقال الدُّوريّ عن ابن معين: ثقةٌ، قيل له: في حديثه شيء؟ قال: لا، ولكن كان يرى القدر، وقال ابن المدينيّ: ثقةٌ، وقال يعقوب بن سفيان:

(1)

"المفهم" 5/ 210 - 211.

(2)

هذا أَولى من قول "التقريب": صدوقٌ، كما يَظهر من ترجمته بعدُ، فتنبّه.

ص: 112

ثنا أبو صالح، عن معاوية بن صالح، عن العلاء بن الحارث، وهو ثقةٌ، وقال الآجريّ عن أبي داود: ثقةٌ، كان يرى القَدَر، تغيَّر عقله، وقال عثمان الدارميّ عن دُحيم: كان مقدَّمًا على أصحاب مكحول، ثقةً، وقال أبو حاتم: لا أعلم أحدًا من أصحاب مكحول أوثق منه، وقال الكنانيّ: قلت لأبي حاتم عنه، فقال: كان يرى القدر، كان دمشقيًّا من خيار أصحاب مكحول، صدوق في الحديث، ثقةٌ، وقال ابن سعد: كان قليل الحديث، ولكنه أعلمُ أصحاب مكحول، وأقْدَمُهم، كان يفتي حتى خولط، وقال أبو زرعة: قلت لدُحيم: العلاء بن الحارث، وثابت بن ثوبان، أيهما أثبت؟ قال: العلاء أفقه حديثًا، وثابت بن ثوبان قليل الحديث، قلت له: إن أبا مسهر قال: أنبل أصحاب مكحول ثابت بن ثوبان، والعلاء بن الحارث، وأعَدْتُ عليه تقدُّم سنّ ثابت، ولُقِيّه سعيدَ بن المسيِّب، فلم يدفعه عن ثقة، وتقدُّم، وقدَّم العلاء بن الحارث لِفقهه، وقال أبو مسهر عن سعيد بن عبد العزيز: إن كتاب مكحول في الحج أخذه من العلاء بن الحارث، وقال أبو مسهر: إليه أوصى مكحول، وقال يعقوب بن سفيان: سألت هشام بن عمار: أي أصحاب مكحول أرفع؟ قال: سليمان بن موسى، قلت: فمن يليه؟ قال: العلاء بن الحارث، قال أبو مسهر: مات يوم مات، وهو فقيه الجند، وفي رواية: وهو أفقه الجند، وقال ابن سعد وغير واحد: مات سنة ست وثلاثين ومائة، زاد بعضهم: وهو ابن سبعين سنةً.

أخرج له المصنّف، والأربعة، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث فقط متابعةً.

4 -

(مَكْحُولٌ) الشاميّ، أبو عبد الله، ثقةٌ فقيهٌ، مشهورٌ، كثير الإرسال [5] مات سنة بضع عشرة ومائة (م 4) تقدم في "المقدمة" 6/ 45.

[تنبيه آخر]: قال الحافظ الرشيد العطّار رحمه الله في "غرره": وقد أخرج مسلم رحمه الله لمكحول هذا حديثًا، عن أبي ثعلبة الْخُشنيّ، لم يورد له متنًا، بل قال: حديثه في الصيد فقط، وفي سماعه منه أيضًا نظر، إلا أن مسلمًا رحمه الله أورد حديث أبي ثعلبة هذا من طُرُق ثابتةٍ الاتّصال، وهو قوله صلى الله عليه وسلم:"إذا رميت بسهمك، فغاب عنك، فأدركته، فكُلْ ما لم يُنتن"، انفرد به مسلم دون البخاريّ.

ص: 113

انتهى كلام الرشيد العطّار رحمه الله، وقد تقدّم في "مقدّمة شرح المقدّمة"

(1)

.

5 -

(أبُو الزَّاهِرِيَّةِ) حُدَير بن كُريب الحضرميّ، ويقال: الْحِمْيريّ الحمصيّ، صدوقٌ [3].

رَوَى عن حذيفة، وأبي الدرداء، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وأبي أمامة، وعتبة بن عبد، وأبي ثعلبة، وأبي عِنبة الخولاني، وغيرهم.

وروى عنه ابنه حميد، وأبو مهديّ سعيد بن سنان، ومعاوية بن صالح، وإبراهيم بن أبي عَبْلة، وغيرهم.

قال ابن معين، والعجليّ، ويعقوب بن سفيان، والنسائيّ: ثقةٌ، وقال أبو حاتم: لا بأس به، وقال الدارقطنيّ: لا بأس به، إذا روى عنه ثقةٌ، وقال ابن سعد: تُوُفِّي سنة (129)، وقال: أخشى أن لا يكون محفوظًا، وكذا قال أبو عبيد، وقال ابن أبي خيثمة، عن ابن معين: إنه تُوُفّي في خلافة عمر بن عبد العزيز، وهو نحو قول عمرو بن عليّ، وذكره ابن حبان في "الثقات".

أخرج له البخاري في "جزء القراءة"، والمصنّف، وأبو داود، والنسائيّ، وابن ماجه، وليس له في هذا الكتاب إلا حديثان فقط، هذا (1931)، وحديث (1975):"أَصلِحْ لحمَ هذه، فلم أزل أطعمه. . ." الحديث.

والباقون ذُكروا قبله.

وقوله: (غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ نُتُونَتَهُ) الضمير لمعاوية بن صالح

(2)

.

[تنبيه]: لم يسق المصنّف رحمه الله حديث العلاء، وإنما قال:"حديثه في الصيد"، ثم أحال عليه حديث معاوية عن عبد الرحمن بن جبير، وأبي الزاهريّة، وهذا من غريب ما اتَّفَقَ له، ولعله إنما لم يَسُقه لِمَا سبق من أن مكحولًا لم يسمع من أبي ثعلبة رضي الله عنه، لكن الغريب الإحالة المذكورة.

ثم إني لم أجد من ساق رواية العلاء، ولا رواية عبد الرحمن، وأبي الزاهريّة، فليُنظر، والله تعالى أعلم.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(1)

"مقدّمة شرح المقدّمة" 1/ 117.

(2)

وأما وقع في شرح الشيخ الهرري مما يدلّ على أنه أبو الزاهريّة، ففيه نظر، فتأمله.

ص: 114

(3) - (بَابُ تَحْرِيمِ أَكْلِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ، وَكُلِّ ذِي مِخْلَبٍ مِنَ الطَّيْرِ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوَّل الكتاب قال:

[4980]

(1932) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهيمَ، وَابْنُ أَبِي عُمَرَ، قَالَ إِسْحَاقُ: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ الآخَرَانِ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ، عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ، قَالَ: نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَكْلِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السَّبُعِ. زَادَ إِسْحَاقُ، وَابْنُ أَبِي عُمَرَ فِي حَدِيثِهِمَا: قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَلَمْ نَسْمَعْ بِهَذَا حَتَّى قَدِمْنَا الشَّامَ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(ابْنُ أَبِي عُمَرَ) هو: محمد بن يحيى بن أبي عمر الْعَدَنيّ، ثم المكيّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ) بن أبي عمران الْهلاليّ مولاهم، أبو محمد الكوفيّ، ثم المكيّ الإمام الحافظ الفقيه الحجة، من كبار [8](ت 198) عن (91) سنةً (ع) تقدّم في "شرح المقدمة" جـ 1 ص 383.

3 -

(الزُّهْرِيُّ) محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب بن عبد الله بن الحارث بن زُهرة القرشيّ، أبو بكر المدنيّ الحافظ الفقيه الحجة الإمام، رأس [4](125)(ع) تقدّم أيضًا في "شرح المقدمة" جـ 1 ص 348.

والباقون ذُكروا في البابين الماضيين.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف، وله فيه ثلاثة من الشيوخ قَرَن بينهم، ثمّ فصّل؛ لاختلافهم في الأداء، كما تقدّم غير مرّة، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ) الْخُشَنيّ رضي الله عنه أنه (قَالَ: نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَكْلِ كُلِّ ذِي نَابٍ) الناب واحد الأنياب، وهي مما يلي الرَّبَاعيات من الإنسان، وقال

ص: 115

الفيّوميّ: الناب من الأسنان مذكّرٌ، ما دام له هذا الاسم، والجمع أنياب، وهو الذي يلي الرَّبَاعِيَات، قال ابن سينا: ولا يجتمع في حيَوَان نابٌ، وقرْنٌ معًا. انتهى

(1)

.

وفِي "شَرْحِ السُّنَّةِ": أَرَادَ بِكُلِّ ذِي نَابٍ: مَا يَعْدُو بِنَابِهِ، عَلَى النَّاسِ وَأَمْوَالِهِمْ، كَالذِّئْب، وَالْأَسَدِ، وَالْكَلْبِ، وَنَحْوِهَا.

(مِنَ السَّبُعِ) بضمّ الموحّدة، قال الفيّوميّ رحمه الله: السبُع بضمّ الباء معروفٌ، وإسكان الباء لغة، حكاها الأخفش، وغيره، وهي الفاشية عند العامّة، ولهذا قال الصغانيّ: السبع، والسبع لغتان، وقُرئ بالإسكان في قوله تعالى:{وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ} [المائدة: 3]، وهو مرويّ عن الحسن البصريّ، وطلحة بن سليمان، وأبي حيوة، ورواه بعضهم عن عبد الله بن كثير أحدِ السبعة، ويُجمع في لغة الضمّ على سِبَاع، مثلُ رَجُل ورِجَال، لا جَمْع له غير ذلك على هذه اللغة، قال الصغانيّ: وجمعُهُ على لغة السكون في أدنى العدد أَسْبُعٌ، مثلُ فَلْس وأفلُسٍ، وهذا كما خُفّف ضَبُعٌ، وجُمع على أضبُعٍ، قال: ويقع السبع على كلّ ما له نابٌ، يَعدُو به، ويَفترِس، كالذئب، والفهد، والنمر، وأما الثعلب، فليس بسبع، وإن كان له نابٌ؛ لأنه لا يعدُو به، ولا يفترس، وكذلك الضبع، قاله الأزهريّ. انتهى

(2)

.

وقوله: (زَادَ إِسْحَاقُ)؛ أي: ابن إبراهيم، وهو ابن راهويه، (وَابْنُ أَبِي عُمَرَ فِي حَدِيثِهِمَا: قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَلَمْ نَسْمَعْ بِهَذَا حَتَّى قَدِمْنَا الشَّامَ) وفي الرواية التالية: "ولم أسمع ذلك من علمائنا بالحجاز، حتى حدّثني أبو إدريس، وكان من فقهاء أهل الشام"، وكأن الزهريّ لم يبلغه حديث عَبِيدة بن سفيان، وهو مدنيّ، عن أبي هريرة رضي الله عنه يعني: الآتي هنا بعد حديث - ولفظه: "كلُّ ذي ناب من السباع، فأَكْله حرام"، وكذا حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما الآتي بعده:"نَهَى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مِخْلب من الطير".

وأخرج الترمذيّ من حديث جابر رضي الله عنه بسند لا بأس به، قال: "حَرَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم الحمر الإنسية، ولحوم البغال، وكل ذي ناب من السباع، وكل

(1)

"المصباح المنير" 2/ 632.

(2)

"المصباح المنير" 1/ 264.

ص: 116

ذي مِخْلب من الطير"، ومن حديث العرباض بن سارية مثله، وزاد: "يوم خيبر"، أفاده في "الفتح"

(1)

.

وهذه الأحاديث نصوص صريحة في تحريم أكل كلّ ذي ناب، وإلى هذا ذهب الجمهور من السلف، وغيرهم، وسيأتي تحقيق الخلاف في ذلك في المسألة الثالثة - إن شاء الله تعالى -.

والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي ثعلبة الْخُشنيّ رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [3/ 4980 و 4981 و 4982 و 4983](1932)، و (البخاريّ) في "الذبائح"(5527) و"الطبّ"(5781)، و (أبو داود) في "الأطعمة"(3802)، و (الترمذيّ) في "الأطعمة"(1477) و"السير"(1560)، و (النسائيّ) في "الصيد"(7/ 200 و 204) و"الكبرى"(3/ 158 و 161)، و (ابن ماجه) في "الصيد"(3232)، و (مالك) في "الموطّأ"(2/ 496)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1016)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(4/ 519)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(4/ 258)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 193 و 194 و 195)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 84 - 85)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5279)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(1/ 224)، و (ابن الجعد) في "مسنده"(1/ 422)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(22/ 548 و 549 و 550 و 551 و 552 و 553 و 554 و 555)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(5/ 15 و 16 و 17 و 18)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(9/ 315 و 316)، و (البغويّ) في "شرح السُّنّة"(2793)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في اختلاف أهل العلم في حكم أكل كلّ ذي ناب من السباع، وذي مِخْلب من الطيور:

(1)

"الفتح" 12/ 512 - 513، كتاب "الذبائح والصيد" رقم (5530).

ص: 117

فأما ذو الناب من السباع، فذهب أكثر أهل العلم إلى تحريم كلّ ذي ناب قويّ من السباع، يعْدُو، ويَكسِر، إلا الضبع، منهم: مالك، والشافعيّ، وأبو ثور، وأصحاب الحديث، وأبو حنيفة، وأصحابه. وقال الشعبيّ، وسعيد بن جُبير، وبعض أصحاب مالك: هو مباح؛ لعموم قوله تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} الآية [الأنعام: 145]، وقوله تعالى:{إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} الآية [البقرة: 173].

واحتجّ الأولون بأحاديث أبي ثعلبة، وأبي هريرة، وابن عبّاس رضي الله عنهم المذكورة في الباب. قال الحافظ ابن عبد البرّ رحمه الله: هذا حديث ثابتٌ، صحيح، مُجمع على صحّته، وهذا نصّ صريح يخُصّ عموم الآيات، فيدخل في هذا: الأسدُ، والنمرُ، والفهد، والذئب، والكلب، والخنزير، وقد رُوي عن الشعبيّ أنه سئل عن رجل يتداوى بلحم الكلب؟ فقال: لا شفاه الله. وهذا يدلّ على أنه رأى تحريمه. انتهى.

وأما ذو الْمِخْلب من الطيور، وهي التي تعلِّق بمخالبها الشيء، وتصيده بها، فذهب أكثر أهل العلم أيضًا إلى تحريمه، وبه قال الشافعيّ، وأبو ثور، وأصحاب الرأي.

وقال مالك، والليث، والأوزاعيّ، ويحيى بن سعيد: لا يحرم شيء من الطير، قال مالك: لم أر أحدًا من أهل العلم يَكره سباع الطير.

واحتجّوا بعموم الآيات المبيحة، وقول أبي الدرداء، وابن عبّاس رضي الله عنهم: ما سكت الله، فهو مما عفا عنه.

واحتجّ الأولون بحديث ابن عبّاس رضي الله عنهما المذكور: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كلّ ذي ناب من السباع، وكلّ ذي مِخلب من الطير، رواه مسلم. فهذا يخصّ عموم الآيات، ويُقدَّم على ما ذكروه، فيدخل في هذا كلّ ما له مِخلبٌ يعدو به، كالعُقاب، والبازي، والصقر، والشاهين، والباشق، والحدأة، والبومة، ونحوها

(1)

.

(1)

راجع: "المغني" لابن قُدامة رحمه الله 13/ 319 - 323.

ص: 118

وقال في "الفتح": قَالَ التِّرْمِذِيّ: الْعَمَل عَلَى هَذَا عِنْد أَكْثَر أَهْل الْعِلْم، وَعَن بَعْضهمْ: لا يَحْرُم، وَحَكَى ابْن وَهْب، وَابْن عبد الحَكَم، عَن مَالِك كَالْجُمْهُورِ، وَقَالَ ابْن الْعَرَبِيّ: الْمَشْهُور عَنهُ الْكَرَاهَة. وَقَالَ ابْن عبد البَرّ: اخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى ابْن عَبَّاس، وَعَائِشَة، وَجَابِر، وعَن ابْن عُمَر مِنْ وَجْه ضَعِيف، وَهُوَ قَوْل الشَّعْبِيّ، وَسَعِيد بْن جُبَيْر.

وَاحْتَجُّوا بِعُمُومِ: {قُلْ لَا أَجِدُ} الآية.

وَالْجَوَاب أَنَّهَا مَكِّيَّة، وَحَدِيث التَّحْرِيم بَعْد الْهِجْرَة.

ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوه مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ نَصَّ الْآيَة عَدَم تَحْرِيم غَيْر مَا ذُكِرَ إِذْ ذَاكَ، فَلَيْسَ فِيهَا نَفْي مَا سَيَأْتِي، وَعَن بَعْضهمْ: أَنَّ آيَة الْأَنْعَام خَاصَّة، بِبَهِيمَةِ الْأَنْعَام؛ لأَنَّهُ تَقَدَّمَ قَبْلهَا حِكَايَة عَن الْجَاهِلِيَّة، أَنَّهُمْ كَانُوا يُحَرِّمُونَ أَشْيَاء، مِنْ الأَزْوَاج الثَّمَانِيَة بِآرَائِهِمْ، فَنَزَلَتْ الْآيَة:{قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} الآية؛ أي: مِنَ الْمَذْكُورَات، إِلا الْمَيْتَة مِنْهَا، وَالدَّم الْمَسْفُوح، وَلا يَرِد كَوْن لَحْم الْخِنْزِير ذُكِرَ مَعَهَا؛ لأَنَّهَا قُرِنَتْ بِهِ عِلَّة تَحْرِيمه، وَهُوَ كَوْنه رِجْسًا.

وَنَقَلَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ عَن الشَّافِعِيّ، أَنَّهُ يَقُول بِخُصُوصِ السَّبَب، إِذَا وَرَدَ فِي مِثْل هَذِهِ الْقِصَّة؛ لأَنَّهُ لَمْ يَجْعَل الْآيَة حَاصِرَة لِمَا يَحْرُم مِنَ الْمَأْكُولَات، مَعَ وُرُود صِيغَة الْعُمُوم فِيهَا، وَذَلِكَ أَنَّهَا وَرَدَتْ فِي الْكُفَّار، الَّذِينَ يُحِلُّونَ الْمَيْتَة، وَالدَّم، وَلَحْم الْخِنْزِير، وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ، وَيُحَرِّمُونَ كَثِيرًا مِمَّا أَبَاحَهُ الشَّرْع، فَكَأَنَّ الْغَرَض مِنَ الْآيَة إِبَانَة حَالهمْ، وَأَنَّهُمْ يُضَادُّونَ الْحَقّ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: لا حَرَام إِلا مَا حَلَلْتُمُوهُ، مُبَالَغَة فِي الرَّدّ عَلَيْهِمْ.

وَحَكَى الْقُرْطُبِيّ عَن قَوْم: أَنَّ آيَة الْأَنْعَام الْمَذْكُورَة، نَزَلَتْ فِي حَجَّة الْوَدَاع، فَتَكُون نَاسِخَة، وَرُدَّ بِأَنَّهَا مَكِّيَّة، كَمَا صَرَّحَ بِهِ كَثِير مِنَ الْعُلَمَاء، وَيُؤَيِّدهُ مَا تَقَدَّمَ قَبْلهَا مِنَ الآيَات، مِنَ الرَّدّ عَلَى مُشْرِكِي الْعَرَب، فِي تَحْرِيمهمْ مَا حَرَّمُوهُ مِنَ الْأَنْعَام، وَتَخْصِيصهمْ بَعْض ذَلِكَ بِآلِهَتِهِمْ، إِلَى غَيْر ذَلِكَ، مِمَّا سَبَقَ للرَّدِّ عَلَيْهِمْ، وَذَلِكَ كُلّه قَبْل الْهِجْرَة إِلَى الْمَدِينَة.

وَاخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِالتَّحْرِيمِ، فِي الْمُرَاد بِمَا لَهُ نَاب: فَقِيلَ: إِنَّهُ مَا يَتَقَوَّى

ص: 119

بِهِ، وَيَصُول عَلَى غَيْره، وَيَصْطَاد، وَيَعْدُو بِطَبْعِهِ غَالِبًا، كَالْأَسَدِ، وَالْفَهْد، وَالصَّقْر، وَالْعُقَاب، وَأَمَّا مَا لا يَعْدُو، كَالضَّبْعِ، وَالثَّعْلَب، فَلا، وَإِلَى هَذَا ذَهَب الشَّافِعِيّ، وَاللَّيْث، وَمَنْ تَبِعَهُمَا، وَقَدْ وَرَدَ فِي حِلّ الضَّبْع أَحَادِيث، لا بَأْس بِهَا، وَأَمَّا الثَّعْلَب، فَوَرَدَ فِي تَحْرِيمه حَدِيث خُزَيْمَةَ بْن جَزْء، عِنْد التِّرْمِذِيّ، وَابْن مَاجَهْ، وَلَكِنْ سَنَده ضَعِيف. انتهى ما في "الفتح"

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن بما ذُكر أن الصواب هو ما ذهب إليه الجمهور، من تحريم كلّ ذي ناب، من السباع، وكلّ ذي مِخلب من الطيور؛ لصحة الأحاديث بذلك. والله تعالى أعلم بالصواب.

وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوَّل الكتاب قال:

[4981]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيِّ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيَّ يَقُولُ: نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَكْلِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ، قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: وَلَمْ أَسْمَعْ ذَلِكَ مِنْ عُلَمَائِنَا بِالْحِجَازِ، حَتَّى حَدَّثَنِي أَبُو إِدْرِيسَ، وَكَانَ مِنْ فُقَهَاءِ أَهْلِ الشَّامِ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى) التجيبيّ، أبو حفص المصريّ، صاحب الشافعيّ، صدوقٌ [11](ت 3 أو 244)(م س ق) تقدم في "المقدمة" 3/ 14.

2 -

(يُونُسُ) بن يزيد بن أبي النِّجَاد الأمويّ مولاهم، أبو يزيد الأيليّ، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار [7](159)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 14.

والباقون ذُكروا في الباب، وقبل باب.

والحديث من أفراد المصنّف رحمه الله، وقد تقدّم شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوَّل الكتاب قال:

[4982]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِي هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الأَيْلِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنَا عَمْرٌو - يَعْنِي: ابْنَ الْحَارِثِ - أَنَّ ابْنَ شِهَابٍ حَدَّثَهُ، عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ

(1)

"الفتح" 12/ 513 - 514، كتاب "الذبائح والصيد" رقم (5530).

ص: 120

الْخَوْلَانِيِّ، عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ أَكْلِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الأَيْلِيُّ) السعديّ مولاهم، أبو جعفر، نزيل مصر، ثقةٌ فاضلٌ [10](ت 253) وله (83) سنةً (م د س ق) تقدم في "الإيمان" 29/ 225.

2 -

(عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ) بن يعقوب المصريّ، تقدّم قريبًا.

والباقون ذُكروا قبله، والحديث سبق البحث فيه مستوفًى، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4983]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِيهِ أَبُو الطَّاهِرِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، وَابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، وَعَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، وَيُونُسُ بْنُ يَزِيدَ، وَغَيْرُهُمْ (ح) وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، عَنْ عَبْدِ الرّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ (ح) وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا يُوسُفُ ابْنُ الْمَاجِشُونِ (ح) وَحَدَّثَنَا الْحُلْوَانِيُّ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ صَالِحٍ، كُلُّهُمْ عَنِ الزُّهْرِيِّ بِهَذَا الإِسْنَادِ، مِثْلَ حَدِيثِ يُونُسَ، وَعَمْرٍو، كُلُّهُمْ ذَكَرَ الأَكْلَ، إِلَّا صَالِحًا، وَيُوسُفَ، فَإِنَّ حَدِيثَهُمَا:"نَهَى عَنْ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السَّبُعِ").

رجال هذا الإسناد: سبعة عشر:

1 -

(مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ) إمام دار الهجرة، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

2 -

(ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ) محمد بن عبد الرحمن بن المغيرة بن الحارث بن أبي ذئب القرشيّ العامريّ، أبو الحارث المدنيّ، ثقةٌ فقيهٌ فاضلٌ [7](ت 8 أو 159)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 93.

3 -

(مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ) النيسابوريّ، تقدّم قريبًا.

4 -

(عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ) بن نصر الْكسيّ، أبو محمد، قيل: اسمه عبد الحميد، ثقةٌ حافظٌ [11](ت 249)(خت م ت) تقدم في "الإيمان" 7/ 131.

5 -

(عَبْدُ الرَّزَّاقِ) بن همّام بن نافع الْحِمْيَريّ مولاهم، أبو بكر الصنعانيّ

ص: 121

ثقةٌ حافظٌ مصنّفٌ شهيرٌ، عَمِي في آخره، فتغيّر، وكان يتشيّع [9](ت 211) وله (85) سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.

6 -

(مَعْمَرُ) بن راشد الأزديّ مولاهم، أبو عروة البصريّ، نزيل اليمن، ثقةٌ ثبتٌ فاضلٌ، من كبار [7](ت 154)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.

7 -

(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ، تقدّم قبل بابين.

8 -

(يُوسُفُ ابْنُ الْمَاجِشُونِ) هو: يوسف بن يعقوب بن أبي سلمة الماجشون، أبو سلمة المدنيّ، ثقةٌ [8](ت 185) أو قبل ذلك (خ م ت س ق) تقدم في "صلاة المسافرين وقصرها" 28/ 1812.

9 -

(الْحُلْوَانِيُّ) الحسن بن عليّ بن محمد الْهُذليّ، أبو عليّ الخلّال، نزيل مكة، ثقةٌ حافظٌ، له تصانيف [11](ت 242)(خ م د ت ق) تقدم في "المقدمة" 4/ 24.

10 -

(يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدِ) بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهريّ، أبو يوسف المدنيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ فاضلٌ، من صغار [9](ت 208)(ع) تقدم في "الإيمان" 9/ 141.

11 -

(أَبُوهُ) سَعْدُ بنُ إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهريّ، المدنيّ قاضيها، ثقةٌ عابدٌ فاضلٌ [5](ت 125) أو بعدها (ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 31.

12 -

(صَالِحُ) بن كيسان الغِفاريّ مولاهم، أبو محمد، أو أبو الحارث المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ [4] مات بعد (130 أو 140)(ع) تقدم في "الإيمان" 9/ 141.

والباقون تقدموا قبله.

وقوله: (كُلُّهُمْ عَنِ الزُّهْرِيِّ بِهَذَا الإِسْنَادِ)؛ يعني: أن كلّ هؤلاء السبعة، وهم: مالك بن أنس، وابن أبي ذئب، وعمرو بن الحارث، ويونس بن يزيد، ومعمر، ويوسف بن الماجشون، وصالح بن كيسان رووا هذا الحديث عن الزهريّ، بسنده المذكور، وهو: عن أبي إدريس الخولانيّ، عن أبي ثعلبة الخشنيّ رضي الله عنه.

[تنبيه]: أما رواية مالك بن أنس، وابن أبي ذئب، وعمرو بن الحارث، ويونس بن يزيد، كلّهم عن الزهريّ، فساقها أبو عوانة رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(7597)

- حدّثنا يونس بن عبد الأعلى، قال: أنبأ ابن وهب، قال: أخبرني مالك بن أنس، وابن أبي ذئب، وعمرو بن الحارث، ويونس بن يزيد،

ص: 122

وغيرهم، أن ابن شهاب حدّثهم، عن أبي إدريس الْخَوْلانيّ، عن أبي ثعلبة الْخُشَنيّ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نَهَى عن أكل كل ذي ناب من السباع. انتهى

(1)

.

وأما رواية مالك وحده، عن الزهريّ، فقد ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:

(5210)

- حدّثنا عبد الله بن يوسف، أخبرنا مالك، عن ابن شهاب، عن أبي إدريس الخولانيّ، عن أبي ثعلبة رضي الله عنه:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نَهَى عن أكل كل ذي ناب من السباع". انتهى

(2)

.

وأما رواية معمر، عن الزهريّ، فساقها عبد الرزّاق في "مصنّفه"، فقال:

(8704)

- عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهريّ، عن أبي إدريس الخولانيّ، عن أبي ثعلبة الخشنيّ، قال:"نَهَى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل كل ذي ناب من السباع". انتهى

(3)

.

وأما رواية يوسف ابن الماجشون، عن الزهريّ، فساقها الطبرانيّ رحمه الله في "المعجم الكبير"، فقال:

(553)

- حدّثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، حدّثني عبيد الله بن عُمر القواريريّ، ثنا يوسف الماجشون، ثنا ابن شهاب، عن عائذ الله أبي إدريس، عن أبي ثعلبة:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نَهَى عن كل ذي ناب من السباع". انتهى

(4)

.

وأما رواية صالح بن كيسان، عن الزهريّ، فساقها أبو عوانة رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(7599)

- حدّثنا عباس الدُّوريّ، قال: ثنا يعقوب بن إبراهيم بن سعد، قال: ثنا أبي، عن صالح، عن ابن شهاب، أن أبا إدريس عائذ الله بن عبد الله الْخَوْلانيّ أخبره، أن أبا ثعلبة الْخُشَنيّ - وكان أبو ثعلبة زعموا أنه قد أدرك النبيّ صلى الله عليه وسلم، وسمع منه - قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن كل ذي ناب من السبع. انتهى

(5)

، والله تعالى أعلم.

(1)

"مسند أبي عوانة" 5/ 16.

(2)

"صحيح البخاريّ" 5/ 2103.

(3)

"مصنف عبد الرزاق" 4/ 519.

(4)

"المعجم الكبير" للطبرانيّ 22/ 209.

(5)

"مسند أبي عوانة" 5/ 16.

ص: 123

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوَّل الكتاب قال:

[4984]

(1933) - (وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ - يَعْنِي: ابْنَ مَهْدِيٍّ - عَنْ مَالِكٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي حَكِيمٍ، عَنْ عَبِيدَةَ بْنِ سُفْيَانَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "كُلُّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ، فَأَكْلُهُ حَرَامٌ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي حَكِيمٍ) القرشيّ مولاهم، المدنيّ، ثقةٌ [6](ت 130)(م د س ق) تقدم في "العتق" 6/ 3790.

2 -

(عَبِيدَةُ بْنُ سُفْيَانَ) - بفتح العين المهملة - ابن الحضرميّ، واسمه عبد الله بن عِمَاد بن أكبر الحضرميّ المدنيّ، ثقةٌ [3].

رَوَى عن أبي هريرة، وأبي الجعد الضَّمْريّ، وزيد بن خالد الْجُهَنيّ.

وروى عنه ابنه عمرو، وإسماعيل بن أبي حكيم، وبشر بن سعيد، ومحمد بن عمرو بن علقمة.

قال العجليّ: مدنيّ، تابعيّ، ثقةٌ، وقال ابن سعد: كان شيخًا قليل الحديث، وذكره ابن حبان في "الثقات".

أخرج له المصنّف، والأربعة، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.

3 -

(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه تقدم في "المقدمة" 2/ 4.

والباقون ذُكروا في الباب، والبابين السابقين.

[تنبيه]: هذا الإسناد نقل ابن شاهين في "الثقات" عن أحمد بن صالح، قال: إسماعيل بن أبي حكيم، عن عَبيدة بن سفيان، هذا من أثبت أسانيد أهل المدينة، وإلى هذا أشار السيوطيّ في "ألفيّة الحديث"، حيث قال:

لِمَكَّةٍ سُفْيَانُ عَنْ عَمْرٍو وَذَا

عَنْ جَابِرٍ وَلِلْمَدِينَةِ خُذَا

ابْنَ أَبِي حَكِيمِ عَنْ عَبِيدَةِ

الْحَضْرَمِيّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةِ

وشرح الحديث واضح، يُعلم مما سبق، وفيه:

ص: 124

مسألتان تتعلّقان به:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رضي الله عنه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [3/ 4984 و 4985](1933)، و (الترمذيّ) في "الصيد"(1479)، و (النسائيّ) في "الصيد"(4326) و"الكبرى"(4836)، و (ابن ماجه) في "الصيد"(3233)، و (مالك) في "الموطّأ"(2/ 496)، و (الشافعيّ) في "الرسالة" فقرة (562)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 236)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5278)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(5/ 17)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(9/ 315)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(2794)، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4985]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِيهِ أَبُو الطَّاهِرِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، بِهَذَا الإِسْنَادِ مِثْلَهُ).

رجال هذا الإسناد: ثلاثة، وكلّهم ذُكروا في الباب.

[تنبيه]: رواية ابن وهب، عن مالك بن أنس هذه ساقها أبو عوانة رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(7602)

- وحدّثنا يونس بن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن وهب، أخبرني مالك بن أنس، عن إسماعيل بن أبي حَكِيم، عن عَبِيدة بن سفيان، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"أكلُ كلِّ ذي ناب من السباع حرام". انتهى

(1)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوَّل الكتاب قال:

[4986]

(1934) - (وَحَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ الْعَنْبَرِيُّ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: "نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ، وَعَنْ كُلِّ ذِي مِخْلَبٍ مِنَ الطَّيْرِ").

(1)

"مسند أبي عوانة" 5/ 17.

ص: 125

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ) الْجَزَريّ، أبو أيوب الرّقّيّ الفقيه، نشأ بالكوفة، ثم نزل الرّقَّة، ثقةٌ فقيهٌ، يرسل [4].

روى عن أبي هريرة، وعائشة، وابن عباس، وابن عمر، وابن الزبير، وصفية بنت شيبة، وأم الدرداء، وسعيد بن جبير، وغيرهم.

وروى عنه ابنه عمرو، وحميد الطويل، وأيوب، وجعفر بن بُرقان، وجعفر بن أبي وحشية، وحبيب بن الشهيد، والحكم بن عتيبة، وغيرهم.

ذكره أبو عروبة في الطبقة الأولى من التابعين، قال عبد الله بن أحمد: سمعت أبي يقول: ميمون بن مهران ثقة، أوثق من عكرمة، وذكره بخير، وقال العجليّ: جزريّ تابعيّ ثقة، وكان يَحْمِل على عليّ، وقال أبو زرعة، والنسائيّ: ثقة، وقال ابن سعد: كان ثقة قليل الحديث، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال ابن خِرَاش: جليل.

قال خليفة: مات سنة ست عشرة ومائة بالجزيرة، وقال الميمونيّ عن أبيه، وغير واحد: مات سنة سبع عشرة، وقال عليّ بن معبد الرَّقّيّ عن عبيد الله بن عمرو: وُلد سنة سبع عشرة.

أخرج له البخاريّ في "الأدب المفرد"، والمصنّف، والأربعة، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث، وأعاده بعده.

2 -

(ابْنُ عَبَّاسٍ) عبد الله رضي الله عنهما، مات سنة (68) تقدم في "الإيمان" 6/ 124.

والباقون تقدّموا قبل باب، و"الحكم" هو: ابن عُتيبة الكنديّ الكوفيّ.

وقوله: (نَهَى عَنْ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ)؛ أي: عن أكله، قال النوويّ رحمه الله: في هذا الحديث دلالة لمذهب الشافعيّ، وأبي حنيفة، وأحمد، وداود، والجمهور، أنه يحرم أكلُ كلِّ ذي ناب من السباع، وكلّ ذي مِخْلَب من الطير، وقال مالك: يُكره، ولا يحرم، قال أصحابنا: المراد بذي الناب: ما يتقوى به، ويصطاد، واحتَجّ مالك بقوله تعالى:{قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} الآية، واحتَجّ أصحابنا بهذه الأحاديث، قالوا: والآية ليس فيها إلا الإخبار بأنه لم يجد في ذلك الوقت محرَّمًا إلا المذكورات في الآية، ثم أُوحي

ص: 126

إليه بتحريم كل ذي ناب من السباع، فوجب قبوله، والعمل به. انتهى

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: ظاهر هذا النص: التحريم، وقد جاء نصًّا في حديث أبي هريرة رضي الله عنه؛ إذ قال:"كلُّ ذي ناب من السباع فأكله حرام"، والناب: واحد الأنياب، وهي ما يلي الرَّبَاعِيَات من الأسنان، ذهب الجمهور من السَّلف وغيرهم إلى الأخذ بهذا الظاهر في تحريم السباع، وهو قول الشافعيّ، وأبي حنيفة، ومالك في أحد قوليه، وهو الذي صار إليه في "الموطأ"، وقال فيه: وهو الأمر عندنا، وروى عنه العراقيون الكراهة، وهو ظاهر "المدوَّنة"، وبه قال جمهور أصحابه.

[تنبيه]: هذا الخلاف إنما هو في السباع العادية المفترسة كالأسد، والنمر، والذئب، والكلب، وأما ما ليس كذلك فجُلُّ أقوال الناس فيه: الكراهة، وحيث صار أحدٌ من العلماء إلى تحريم شيء من هذا النوع، فإنما ذلك لأنه ظهر للقائل بالتحريم أنَّه عادٍ، وذلك كاختلافهم في الضَّبع، والثعلب، والهرِّ وشِبْهها، فرآها قوم من السباع فحكموا بتحريمها، وأجاز أكلها الشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وهو قول علي، وجماعة من الصحابة، وكرهها مالك، حكى ذلك القاضي عياض.

[تنبيه آخر]: إنما عدل القائلون بالكراهة عن ظاهر التحريم المتقدّم؛ لأنَّهم اعتقدوا معارضة بينه وبين قوله تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ} الآية [الأنعام: 145]، ووجه ذلك أنهم حملوا قوله:{فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ} ، على عموم وحي القرآن، والسُّنَّة، وقالوا: إن هذه الآية نزلت على النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو واقف بعرفة في حجة الوداع، فهي متأخرة عن تلك الأحاديث، والحصر فيها ظاهر، فالأخذ بها أَولى؛ لأنها: إما ناسخة لِمَا تقدَّمها، أو راجحة على تلك الأحاديث، أما القائلون بالتحريم، فظهر لهم، وثبت عندهم أن سورة الأنعام مكِّيَّة، نزلت قبل الهجرة، وأن هذه الآية قُصِد بها الرد على الجاهلية في تحريمهم البَحيرة، والسائبة، والوصيلة، والحامي، ولم يكن في ذلك الوقت

(1)

"شرح النوويّ" 13/ 82 - 83.

ص: 127

مُحرَّم في الشريعة إلا ما ذَكره في حرم الآية، ثم بعد ذلك حرَّم أمورًا كثيرة؛ كالحمر الإنسية، والبغال، وغيرها، كما رواه الترمذيّ عن جابر رضي الله عنه قال: حرَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم لحوم الحمر الأهلية، ولحوم البغال، وكلَّ ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطَّير، وذكر أبو داود عن جابر أيضًا قال: ذبحنا يوم خيبر الخيل، والبغال، والحمير، فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البغال، والحمير، ولم ينهنا عن الخيل.

قال القرطبيّ: والصحيح ما ذهب إليه الجمهور، والله أعلم بحقائق الأمور. انتهى

(1)

.

وقوله: (وَعَنْ كُلِّ ذِي مِخْلَبٍ مِنَ الطَّيْرِ)؛ أي: نهى عن أكله، و"الْمِخْلب" بكسر الميم، وسكون المعجمة، وفتح اللام، بعدها موحَّدة، قال أهل اللغة: المِخْلَب للطير، والسباع بمنزلة الظِّفر للإنسان، لكنه أشدّ منه، وأغلظ، وأَحَدّ، فهو له كالناب للسبع.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "وعن كل ذي مِخْلَب من الطير" هو معطوف على قوله: "عن كل ذي ناب من السِّباع"، وقد تقرَّر أن ذلك النهي محمولٌ على التحريم في السباع، فيلزم منه تحريم كل ذي مخلب من الطير؛ لأنَّ الواو تُشَرِّك بين المعطوف والمعطوف عليه في العامل ومعناه؛ لأنَّها جامعة، وقد صار إلى تحريم كل ذي مخلب من الطير طائفة؛ تمسُّكًا بهذا الظاهر، وممن قال بذلك: أبو حنيفة، والشافعيّ، وأمَّا مذهب مالك: فحَكَى عنه ابن أويس كراهة أكل كلِّ ذي مخلب من الطير، وجُلُّ أصحابه، ومشهور مذهبه: على إباحة ذلك؛ متمسكين بقوله تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ} الآية [الأنعام: 145] وقد تقدم الكلام عليها، والظاهر: التمسك بما قررناه من ذلك الحديث الظاهر؛ يعني: القول بتحريمها.

وتقييد الطير بـ "ذي المخلب" يقتضي: مَنْع أكل سباع الطير العادية،

(1)

"المفهم" 5/ 215 - 216.

ص: 128

كالعُقاب، والشاهين، والغراب، وما أشبهها، ولا يتناول: الْخَطَّاف ولا ما أشبهها. انتهى

(1)

.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [3/ 4986 و 4987 و 4988 و 4989](1934)، و (أبو داود) في "الصيد"(3805)، و (النسائيّ) في "الصيد"(7/ 206) و"الكبرى"(4861)، و (ابن ماجه) في "الصيد"(3234)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(2745)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 244 و 289 و 302 و 327 و 339)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 85)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5280)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(12994 و 12995)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(1/ 224)، و (الطحاويّ) في "شرح معانيّ الآثار"(4/ 190)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(9/ 315)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(2795)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): تكلّم الحفّاظ على هذا الحديث، قال في "التلخيص الحبير": قال ابن القطان: لم يسمعه ميمون من ابن عباس، بل بينهما فيه سعيد بن جبير، كذلك رواه أبو داود، والبزار، وقد خالف الخطيب هذا الكلام، فقال: الصحيح عن ميمون، ليس بينهما أحد. انتهى

(2)

.

وقال الخطيب البغداديّ فيما نقله عنه الحافظ المزّيّ في "التحفة": والصحيح في هذا الحديث: "عن ميمون، عن ابن عباس"، ليس بينهما:"سعيد بن جبير".

وذكره البخاريّ في "التاريخ الكبير" فقال: وروى إبراهيم عن سعيد - وهو ابن أبي عروبة - عن علي بن الأرقط، عن ميمون بن مِهران، عن ابن عبّاس رضي الله عنهما، قال سعيد: وأظن بين ميمون وابن عبّاس: سعيد بن جُبير. . . فذكر الحديث

(3)

.

(1)

"المفهم" 5/ 216.

(2)

"التلخيص الحبير" 4/ 151.

(3)

"التاريخ الكبير" 6/ 262.

ص: 129

وقال الحافظ في "النكت الظراف": وجزم ابن القطّان بأنه لم يسمعه من ابن عبّاس، وأن بينهما سعيد بن جبير، قال: وكذلك أخرجه أبو داود، والبزّار، لكن قال البزّار في "مسنده": تفرّد به علي بن الحكم بإدخال سعيد بين ميمون وابن عبّاس، وعليّ بن الحكم قال فيه أبو حاتم: صالح الحديث، ووثّقه جماعة، وضعّفه أبو الفتح الأزديّ، وخالفه الحكم بن عُتيبة، وأبو بشر جعفر بن أبي وحشيّة، فلم يذكرا سعيد بن جبير، وهما أحفظ من عليّ بن الحكم، فروايته شاذّة، وتابعهما جعفر بن بُرقان وغيره، فلهذا جزم الخطيب بأن رواية عليّ بن الحكم من المزيد في متّصل الأسانيد. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن بما سبق أن الحديث محفوظ برواية ميمون بن مهران، عن ابن عبّاس رضي الله عنهما؛ لاتفاق الحكم بن عتيبة، وأبي بشر، عليه، كما هو هنا عند مسلم، وتابعهما غيرهما، كما أشار إليه الحافظ في كلامه المذكور آنفًا، فلا اعتبار بمخالفة عليّ بن الحكم؛ لأنه دونهما في الحفظ، ولهذا أخرجه مسلم في "صحيحه" هنا من هذا الوجه؛ لكونه المحفوظ، دون ما خالفه، فتبصّر، والله تعالى أعلم بالصواب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4987]

(. . .) - وَحَدَّثَنِي حَجَّاجُ بْنُ الشَّاعِرِ، حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ حَمَّادٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، بِهَذَا الإِسْنَادِ مِثْلَهُ).

رجال هذا الإسناد: ثلاثة:

1 -

(حَجَّاجُ بْنُ الشَّاعِرِ) تقدّم قريبًا.

2 -

(سَهْلُ بْنُ حَمَّادٍ) الْعَنْقَزيّ، أبو عَتّاب - بعين مهملة، وتاء مثنّاة، ثمّ موحّدة - الدلال البصريّ، صدوق [9].

رَوَى عن إبراهيم بن عطاء بن ميمونة، وشعبة بن الحجاج، وعبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة، وعزرة بن ثابت، وقره بن خالد، وغيرهم.

(1)

"النكت الظراف" 5/ 252 - 253.

ص: 130

وروى عنه عليّ ابن المدينيّ، وحجاج بن الشاعر، والحسن بن عليّ الحلال، وزيد بن يحيى الحسانيّ، وأبو موسى الْعَنَزيّ، وعباس بن عبد العظيم، وغيرهم.

قال أبو بكر الأثرم عن أحمد بن حنبل: لا بأس به، وقال عثمان الدارميّ عن ابن معين: لا أعرفه، وقال أبو زرعة، وأبو حاتم: صالح الحديث، شيخ، وقال ابن قانع: مات سنة ثمان ومائتين، وقال: بصريّ صالح، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: تُوُفّي سنة (206)، وقال العجليّ، وأبو بكر البزار: ثقةٌ، وقال عثمان الدارميّ: ليس به بأس.

أخرج له المصنّف، والأربعة، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.

و"شعبة" ذُكر قبله.

[تنبيه]: رواية سهل بن حماد، عن شعبة هذه لم أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4988]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، حَدَّثَنَا الْحَكَمُ، وَأَبُو بِشْرٍ، عَنْ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: "أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ، وَعَنْ كُلِّ ذِي مِخْلَبٍ مِنَ الطَّيْرِ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ) الإمام الحجة المجتهد الفقيه، رأس [10](ت 241)(ع) تقدم في "الإيمان" 80/ 427.

2 -

(سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ) أبو داود الطيالسيّ البصريّ، ثقةٌ حافظ [9](ت 204)(خت م 4) تقدم في "المقدمة" 6/ 73.

3 -

(أَبُو عَوَانَةَ) الوضّاحُ بن عبد الله اليشكريّ الواسطيّ، ثقةٌ ثبتٌ [7](ت 5 أو 176)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 4.

4 -

(أَبُو بِشْرِ) بن أبي وحشيّة، جعفر بن إياس

(1)

الواسطيّ بصريّ الأصل [5](ت 5 أو 126)(ع) تقدم في "الطهارة" 9/ 587.

(1)

هذا هو الصواب، كما في "النكت الظراف"، وأما ما وقع في شرح الشيخ الهرريّ من ترجمته لبيان بن بشر، فغلط، فليُتنبّه، وبالله تعالى التوفيق.

ص: 131

والباقون ذُكروا قبله.

والحديث من أفراد المصنّف رحمه الله، وقد تقدّم شرحه، وبيان مسائله، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوَّل الكتاب قال:

[4989]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ (ح) وَحَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، قَالَ أَبُو بِشْرٍ: أَخْبَرَنَا عَنْ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: نَهَى

(1)

(ح) وَحَدَّثَنِي أَبُو كَامِلٍ الْجَحْدَرِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ، عَنِ ابْنِ عَبَاسٍ، قَالَ:"نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم" بِمِثْلِ حَدِيثِ شُعْبَةَ، عَنِ الْحَكَمِ).

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(هُشَيْمٌ) بن بشير، تقدّم قبل بابين.

2 -

(أَبُو كَامِلٍ الْجَحْدَرِيُّ) فضيل بن حسين البصريّ، ثقةٌ حافظ [10](ت 237)(خت م د ت س) تقدم في "المقدمة" 6/ 57.

والباقون ذُكروا في الباب.

[تنبيه]: رواية هشيم، عن أبي بشر، ساقها الطحاويّ رحمه الله في "شرح معاني الآثار"، فقال:

حدّثنا صالح بن عبد الرحمن، قال: ثنا سعيد بن منصور، قال: ثنا هُشيم، عن أبي بشر، عن ميمون بن مهران، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:"نَهَى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل ذي ناب من السباع، وعن كل ذي مخلب من الطير". انتهى

(2)

.

ورواية أبي عوانة، عن أبي بشر، ساقها أبو داود رحمه الله في "سننه"، فقال:

(3803)

- حدّثنا مسدَّد، ثنا أبو عوانة، عن أبي بشر، عن ميمون بن مِهْران، عن ابن عباس، قال:"نَهَى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل كل ذي ناب من السبع، وعن كل ذي مِخْلب من الطير". انتهى

(3)

.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(1)

وفي نسخة: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم".

(2)

"شرح معاني الآثار" 4/ 190.

(3)

"سنن أبي داود" 3/ 355.

ص: 132

(4) - (بَابُ إِبَاحَةِ مَيْتَاتِ الْبَحْرِ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4990]

(1935) - (حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، حَدَّثَنَا أَبُو الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ (ح) وَحَدَّثَنَاهُ يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا أَبُو خَيْثَمَةَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: بَعَثَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَمَّرَ عَلَيْنَا أَبَا عُبَيْدَةَ، نَتَلَقَّى عِيرًا لِقُرَيْشٍ، وَزَوَّدَنَا جِرَابًا مِنْ تَمْرٍ، لَمْ يَجِدْ لَنَا غَيْرَهُ، فَكَانَ أَبُو عُبَيْدَةَ يُعْطِينَا تَمْرَةً تَمْرَةً، قَالَ: فَقُلْتُ: كَيْفَ كُنْتُمْ تَصْنَعُونَ بِهَا؟ قَالَ: نَمَصُّهَا كَمَا يَمَصُّ الصَّبِيّ، ثُمَّ نَشْرَبُ عَلَيْهَا مِنَ الْمَاءِ، فَتَكْفِينَا يَوْمَنَا إِلَى اللَّيْلِ، وَكُنَّا نَضْرِبُ بِعِصِيِّنَا الْخَبَطَ، ثُمَّ نَبُلُّهُ بِالْمَاءِ، فَنَأْكُلُهُ، قَالَ: وَانْطَلَقْنَا عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ، فَرُفِعَ لَنَا عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ كَهَيْئَةِ الْكَثِيبِ الضَّخْمِ، فَأَتَيْنَاهُ، فَإِذَا هِيَ دَابَّةٌ تُدْعَى الْعَنْبَرَ، قَالَ: قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: مَيْتَةٌ، ثُمَّ قَالَ: لَا، بَلْ نَحْنُ رُسُلُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَفِي سَبِيلِ اللهِ، وَقَدِ اضْطُرِرْتُمْ، فَكُلُوا، قَالَ: فَأَقَمْنَا عَلَيْهِ شَهْرًا، وَنَحْنُ ثَلَاثُمِائَةٍ، حَتَّى سَمِنَّا، قَالَ: وَلَقَدْ رَأَيْتُنَا نَغْتَرِفُ مِنْ وَقْبِ عَيْنِهِ بِالْقِلَالِ الدُّهْنَ، وَنَقْتَطِعُ مِنْهُ الْفِدَرَ كَالثَّوْرِ - أَوْ كَقَدْرِ الثَّوْرِ - فَلَقَدْ أَخَذَ مِنَّا أَبُو عُبَيْدَةَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ رَجُلًا، فَأَقْعَدَهُمْ في وَقْبِ عَيْنِهِ، وَأَخَذَ ضِلَعًا مِنْ أَضْلَاعِهِ، فَأَقَامَهَا، ثُمَّ رَحَلَ أَعْظَمَ بَعِيرٍ مَعَنَا، فَمَرَّ مِنْ تَحْتِهَا، وَتَزَوَّدْنَا مِنْ لَحْمِهِ وَشَائِقَ، فَلَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ، أَتَيْنَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرْنَا ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ:"هُوَ رِزْقٌ أَخْرَجَهُ اللهُ لَكُمْ، فَهَلْ مَعَكُمْ مِنْ لَحْمِهِ شَيْءٌ فَتُطْعِمُونَا؟ "، قَالَ: فَأَرْسَلْنَا إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْهُ، فَأَكَلَهُ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ) هو: أحمد بن عبد الله بن يونس التميميّ، نُسب لجدّه، أبو عبد الله الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ، من كبار [10](ت 227) وهو ابن (94) سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 53.

2 -

(زُهَيْرُ) بن حرب، تقدّم في الباب الماضي.

3 -

(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ النيسابوريّ، تقدّم أيضًا في الباب الماضي.

ص: 133

4 -

(أَبُو خَيْثَمَةَ) زهير بن معاوية بن حُديج الْجُعفيّ الكوفيّ، نزيل الجزيرة، ثقةٌ ثبتٌ [7](ت 2 أو 3 أو 174)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 62.

5 -

(أَبُو الزُّبَيْرِ) محمد بن مسلم بن تَدْرُس الأسديّ مولاهم المكيّ، صدوق [4](ت 126)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 119.

6 -

(جَابِرُ) بن عبد الله رضي الله عنهما، تقدّم قبل بابين.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من رباعيّات المصنّف، وهو (353) من رباعيّات الكتاب، وفيه جابر رضي الله عنه أحد مشاهير الصحابة رضي الله عنهم، وأحد المكثرين السبعة، روى (1540) حديثًا.

شرح الحديث:

(عَنْ جَابِرٍ) رضي الله عنه، وقد صرّح أبو الزبير بالسماع في رواية عند الإمام أحمد

(1)

. (قَالَ: بَعَثَنَا)؛ أي: أرسلنا (رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم)، وقوله:(وَأَمَّرَ عَلَيْنَا) جملة حاليةٌ؛ أي: والحال أنه صلى الله عليه وسلم جعل الأمير في تلك السريّة (أَبَا عُبَيْدَةَ) بصيغة التصغير، هو عامر بن عبد الله بن الجرّاح بن هلال بن أُهيب بن ضَبّة بن الحارث بن فِهْر القرشيّ، أبو عبيدة ابن الجرّاح الفهريّ، أمين هذه الأمة، وأحد العشرة المبشّرين بالجنّة، أدركت أمُّه أمينة بنت غَنْم بن جابر الإسلامَ، وأسلمت، وأسلم هو قديمًا، وشَهِد بدرًا، والمشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقَتَل أباه يوم بدر كافرًا

(2)

، رَوَى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وروى عنه جابر بن عبد الله، وسَمُرة بن جندب، وأبو أمامة، وعبد الرحمن بن غَنْم الأشعريّ، وغيرهم.

قال ابن إسحاق: آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين سعد بن معاذ، ودعا أبو بكر يوم تُوُفِّي رسول الله صلى الله عليه وسلم في سَقِيفة بني ساعدة إلى البيعة لعمر، أو لأبي عُبيدة، وولّاه عمر الشام، وفتح الله عليه اليرموك، والجابية، وكان طويلًا، نحيفًا، وقال الْجُريريّ عن عبد الله بن شقيق: قلت لعائشة: أي أصحاب

(1)

راجع: "المسند" 3/ 311.

(2)

قال في "تهذيب التهذيب": أنكر الواقديّ أن يكون أبو عبيدة قتل أباه، وقال: مات أبوه قبل الإسلام. انتهى.

ص: 134

رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أحب إليه؟ قالت: أبو بكر، قلت: فمن بعده؟ قالت: عمر، قلت: فمن بعده؟ قالت: أبو عبيدة ابن الجراح، ومناقبه كثيرة، ذكر ابن سعد وغيره أنه مات في طاعون عَمَواس سنة ثماني عشرة، وهو ابن ثمان وخمسين سنةً، وأرّخ ابن منده، وإسحاق القَرّاب وفاته سنة (17).

وليس له عند الشيخين إلا ذِكر في هذا الحديث، وله عند أصحاب "السنن"، و"مسند أحمد" رواية، فتنبّه.

قال في "الفتح": وفي رواية أبي حمزة الْخَوْلاني، عن جابر، عند ابن أبي عاصم في "كتاب الأطعمة":"تأمّر علينا قيس بن سعد بن عبادة، على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم"، والمحفوظ ما اتفقت عليه روايات "الصحيحين" أنه أبو عبيدة، وكأنّ أحَدَ رواته ظَنَّ من صَنيع قيس بن سعد، في تلك الغزوة، ما صنع من نحر الإبل التي اشتراها، أنه كان أمير السرية، وليس كذلك. انتهى

(1)

.

(نَتَلَقَّى عِيرًا لِقُرَيْشٍ) قد سبق أن العير هي الإبل التي تَحْمِل الطعام وغيره، ولفظ البخاريّ:"وهم يتلقَّون عيرًا لقريش"، وهو صريح ما في الرواية الثانية في الباب حيث قال فيها:"نَرصُد عيرًا لقريش"، وقد ذكر ابن سعد وغيره أن النبيّ صلى الله عليه وسلم بعثهم إلى حيّ من جهينة بالقَبَليّة - بفتح القاف، والموحدة - مما يلي ساحل البحر، بينهم وبين المدينة خمس ليال، وأنهم انصرفوا ولم يلقوا كيدًا، وأن ذلك كان في رجب سنة ثمان.

قال الحافظ: وهذا لا يغاير ظاهره ما في "الصحيح"؛ لأنه يمكن الجمع بين كونهم يتلقون عيرًا لقريش، ويَقصدون حيًّا من جهينة.

قال: ويُقَوِّي هذا الجمع ما عند مسلم من طريق عبيد الله بن مِقْسَم عن جابر رضي الله عنه قال: "بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثًا إلى أرض جهينة. . ."، فذكر هذه القصة، لكن تلقّي عِير قريش ما يُتصوّر أن يكون في الوقت الذي ذكره ابن سعد في رجب سنة ثمان؛ لأنهم كانوا حينئذ في الْهُدْنة، بل مقتضى ما في "الصحيح" أن تكون هذه السَّرية في سنة ست، أو قبلها قبل هدنة الحديبية.

نَعْم يَحْتَمِل أن يكون تلقّيهم للعير ليس لمحاربتهم، بل لِحِفْظهم من

(1)

"الفتح" 9/ 505، كتاب "المغازي" رقم (4360).

ص: 135

جهينة، ولهذا لم يقع في شيء من طرق الخبر أنهم قاتلوا أحدًا، بل فيه أنهم أقاموا نصف شهر، أو أكثر في مكان واحد، فالله أعلم. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قوله: "بل لحفظهم من جهينة. . . إلخ" فيه نظر لا يخفى؛ لأن سياق القصّة إذا نظرت في رواياتها لا يتّفق مع هذا التأويل، بل الظاهر أن مهمة تلك السريّة مصادرة تجارة قريش، وأخْذُها منهم، لا أنهم خرجوا لِحفظهم، فتأمله بالإمعان، وبالله تعالى التوفيق.

(وَزَوَّدَنَا)؛ أي: أعطانا النبيّ صلى الله عليه وسلم زادًا (جِرَابًا مِنْ تَمْرٍ)"جراب" بكسر الجيم، وفتحها، والكسر أفصح، كذا قال النوويّ تبعًا لعياض، وقال الفيّوميّ:"الجراب": معروف، وجمعها جُرُبٌ، مثلُ كتاب وكُتُبٍ، وسُمع أَجْربةٌ أيضًا، ولا يقال: جَرَابٌ بالفتح، قاله ابن السّكّيت، وغيره. انتهى

(2)

.

وقال المجد رحمه الله: الْجِراب - يعني: بالكسر - ولا يُفتح، أو لغيّة، فيما حكاه عياض وغيره: الْمِزْوَد، أو الوعاء، جَمْعه: جُرُبٌ، وجُرْبٌ، وأجربةٌ. انتهى

(3)

.

وقوله: (لَمْ يَجِدْ لَنَا غَيْرَهُ) جملة مستأنفة استئنافًا بيانيًّا، فكأن سائلًا سأله، فقال: لماذا زوّدكم التمر؟ قال: لأنه لم يجد غيره.

وفي رواية من هذا الحديث: "ونحن نَحْمِل أزوادنا على رقابنا"، وفي رواية:"ففنِيَ زادهم، فجَمَع أبو عبيدة زادهم في مزود، فكان يقوتنا، حتى كان يصيبنا كلَّ يوم تمرة"، وفي "الموطأ":"ففني زادهم، وكان مزودي تمر، وكان يقوتنا، حتى كان يصيبنا كلَّ يوم تمرة"، وفي الرواية الأخرى لمسلم:"كان يعطينا قَبْضةً قبضةً، ثم أعطانا تمرةً تمرةً".

قال القاضي عياض رحمه الله: الجمع بين هذه الروايات أن يكون النبيّ صلى الله عليه وسلم زَوَّدهم المْزِوْدَ زائدًا على ما كان معهم من الزاد، من أموالهم، وغيرها، مما واساهم به الصحابة رضي الله عنهم، ولهذا قال:"ونحن نَحْمِل أزوادنا"، قال: ويَحْتَمِل أنه لم يكن في زادهم تمر غير هذا الجراب، وكان معهم غيره من الزاد، وأما

(1)

"الفتح" 9/ 505، كتاب "المغازي" رقم (4360).

(2)

"المصباح المنير" 1/ 95.

(3)

"القاموس المحيط" ص 204.

ص: 136

إعطاء أبي عبيدة إياهم تمرة تمرة، فإنما كان في الحال الثاني بعد أن فني زادهم، وطال لبثهم، كما فسّره في الرواية الأخيرة، فالرواية الأولى معناها الإخبار عن آخر الأمر، لا عن أوله، والظاهر أن قوله:"تمرةً تمرةً" إنما كان بعد أن قسم عليهم قَبْضةً قبضةً، فلما قَلّ تمرهم قسمه عليهم تمرةً تمرةً، ثم فَرَغ، وفقدوا التمرة، ووجدوا أَلَمًا لفقدها، وأكلوا الخبط إلى أن فتح الله عليهم بالعنبر، ذكره النوويّ

(1)

.

وقال في "الفتح" عند قوله: "فلم يكن يصيبنا إلا تمرة تمرة" ما نصّه: ظاهر هذا السياق أنهم كان لهم زاد بطريق العموم، وأزواد بطريق الخصوص، فلما فني الذي بطريق العموم، اقتضى رأى أبي عبيدة أن يجمع الذي بطريق الخصوص؛ لِقَصْد المساواة بينهم في ذلك، ففعل، فكان جميعه مِزْودًا واحدًا.

قال: ووقع عند مسلم من حديث أبي الزبير عن جابر: "بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمّر علينا أبا عبيدة، نتلقى عيرًا لقريش، وزوَّدنا جرابًا من تمر، لم يجد لنا غيره وكان أبو عبيدة يعطينا تمرة تمرة"، وظاهره مخالف لرواية الباب، ويمكن الجمع بأن الزاد العامّ كان قدر جراب، فلما نفِد، وجمع أبو عبيدة الزاد الخاصّ اتَّفق أنه أيضًا كان قدر جراب، ويكون كل من الراويين ذَكَر ما لم يذكره الآخر، وأما تفرقة ذلك تمرةً تمرةً، فكان في ثاني الحال.

قال: وأما قول عياض: يَحْتَمِل أنه لم يكن في أزوادهم تمر غير الجراب المذكور، فمردود؛ لأن حديث الباب صريح في أن الذي اجتمع من أزوادهم كان مزود تمر، ورواية أبي الزبير صريحة في أن النبيّ صلى الله عليه وسلم زوَّدهم جرابًا من تمر، فصحَّ أن التمر كان معهم من غير الجراب.

وأما قول غيره: يَحْتَمِل أن يكون تفرقته عليهم تمرةً تمرةً كان من الجراب النبوي قَصدًا لبركته، وكان يفرّق عليهم من الأزواد التي جُمعت أكثر من ذلك، فبعيد من ظاهر السياق، بل في رواية هشام بن عروة، عند ابن عبد البرّ:"فقَلّت أزوادنا حتى ما كان يصيب الرجل منا إلا تمرةٌ". انتهى

(2)

.

(1)

"شرح النوويّ" 13/ 85.

(2)

"الفتح" 9/ 505 - 506، كتاب "الجهاد" رقم (4360).

ص: 137

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "وزَوَّدنا جرابًا من تمر لم يجد لنا غيره " اختلفت ألفاظ الرواة في هذا المعنى؛ فمنها: ما ذكرناه. وفي رواية: "فكنا نحمل أزوادنا على رقابنا"، وفي أخرى:"ففني زادهم"، وفي "الموطأ":"فكان مزودي تمر"، وفي أخرى:"فكان يعطينا قبضةً قبضةً، ثم أعطانا تمرة تمرة"، وتلتئم شتات هذه الروايات بأن يقال: إن النبيّ صلى الله عليه وسلم زادهم ذلك المزود، أو المِزْودين إلى ما كان عندهم من زادِ أنفسهم الذي كانوا يَحملونه على رقابهم، ثم إنهم لمّا اشتدّت بهم الحال جَمَع أبو عبيدة ما كان عندهم إلى المزود الذي زادهم النبيّ صلى الله عليه وسلم، فكان يُفرِّقُه عليهم قبضةً قبضةً، إلى أن أشرف على النَّفاد، فكان يعطيهم إيَّاه تمرة تمرة إلى أن فني ذلك.

قال: وَجَمْعُ أبي عبيدة الأزواد، وقِسمتها بالسَّويَّة، إما أن يكون حُكمًا حَكَم به لِمَا شاهد من ضرورة الحال، ولِمَا خاف مِن تَلَف مَن لم يكن معه زاد، فظهر له أنه قد وجب على من معه زادٌ أن يُحيي من ليس له شيء، أو يكون ذلك عن رضا من كان له زادٌ رغبةً في الثواب، وفيما قاله النبيّ صلى الله عليه وسلم في الأشعريين من أنهم إذا قَلّ زادُهم جمعوه، فاقتسموه بينهم بالسَّويَّة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"فَهُم مني، وأنا منهم"، وقد فعل ذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم غير مرَّة، ولذلك قال بعض العلماء: إنه سُنَّة. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(1)

، وهو بحثٌ نفيسٌ جدًّا، والله تعالى أعلم.

(فَكَانَ أَبُو عُبَيْدَةَ) رضي الله عنه (يُعْطِينَا) بضمّ حرف المضارعة، (تَمْرَةً تَمْرَةً)؛ أي: يُعطي كلّ واحد من الجيش تمرة واحدةً. (قَالَ) القائل هو أبو الزبير، وفي رواية البخاريّ من طريق وهب بن كيسان، عن جابر، قال:"فقلت: ما تغني عنكم تمرة؟ "، قال في "الفتح": هو صريح في أن السائل عن ذلك وهب بن كيسان، فيفسَّر به المبهم في رواية هشام بن عروة التي مَضَت في "الجهاد"، فإن فيها:"فقال رجل: يا أبا عبد الله - وهي كنية جابر - أين كانت تقع التمرة من الرجل؟ "، وعند مسلم من رواية أبي الزبير أنه أيضًا سئل عن ذلك، فقال:"لقد وجدنا فَقْدها حين فنيت"؛ أي: مؤثّرًا.

(1)

"المفهم" 5/ 218 - 219.

ص: 138

(فَقُلْتُ: كَيْفَ كُنْتُمْ تَصْنَعُونَ بِهَا؟)؛ أي: بتلك التمرة، (قَالَ) جابر رضي الله عنه (نَمَصُّهَا كَمَا يَمَصُّ الصَّبِيّ) قال النوويّ: بفتح الميم، وضمّها، والفتح أفصح، وأشهر

(1)

.

وقال الفيّوميّ: مَصّه مَصًّا، من باب قَتَلَ، ومن باب تَعِبَ لغةٌ، ومنهم من يقتصر عليها، وامتصّه بمعناه. انتهى

(2)

.

وقال المجد: مَصِصْته بالكسر أَمَصُّهُ، ومَصَصَته أَمُصُّهُ، كخَصَصته أَخُصّه: شَرِبْته شُرْبًا رفيقًا، كامتصصته. انتهى

(3)

.

(ثُمَّ نَشْرَبُ عَلَيْهَا مِنَ الْمَاءِ، فَتَكْفِينَا يَوْمَنَا إِلَى اللَّيْلِ) في هذا بيانُ ما كان الصحابة رضي الله عنهم عليه من الزهد في الدنيا، والتقلل منها، والصبر على الجوع، وخشونة العيش، وإقدامهم على الغزو مع هذا الحال

(4)

. (وَكُنَّا نَضْرِبُ بِعِصِيِّنَا) بكسر العين: جمع عصًا، وأصله فُعُولٌ، مثلُ أسد وأُسود، ويُجمع أيضًا على أَعْصٍ، والقياس أَعْصاءٌ، مثلُ سَبَب وأسباب، لكنه لم يُنقل، قاله ابن السّكِّيت، كذا قال الفيّوميّ

(5)

.

وقال المجد: الْعَصا: الْعُود، أُنثى، وجَمْعها: أَعْصٍ، مثلُ زَمَن وأَزْمُن، وأَعْصاءٌ، مثلُ سبَبٍ وأسباب، وعُصيّ - أي: بالضمّ كعُتيّ - وعِصِيّ - أي: بالكسر -. انتهى.

وقال الجوهريّ: عِصيّ فُعُول، وإنما كُسرت العين إتباعًا لِمَا بعدها من الكسرة، وقال سيبويه: جعلوا أَعْصِيًا بدل أعصاءٍ، وأنكر أَعصاء.

وقال المرتضى في "شرحه": والعَصَا: أصلها من الواو؛ لأن أصلها عَصَوٌ، وعلى هذا تثنيته: عَصَوان، قيل: سُمّيت بها؛ لأن الأصابع واليد تجتمع عليها، من قولهم: عَصَوت القومَ أعصوهم: إذا جمعتهم، رواه الأصمعيّ عن بعض البصريين، قال: ولا يجوز مدُّ العصا، ولا إدخال التاء معها، وقال الفراء: أول لحن سُمع بالعراق: هذه عصاتي

(6)

.

(1)

"شرح النوويّ" 13/ 84.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 574.

(3)

"القاموس المحيط" ص 1226.

(4)

"شرح النوويّ" 13/ 84.

(5)

"المصباح المنير" 2/ 414.

(6)

"تاج العروس" 1/ 8499.

ص: 139

قال الجامع عفا الله عنه: يستفاد من عبارة المجد أن عين عصيّ يُضمّ، ويُكسر، وأن جمعه على أعصاء ثابتٌ أيضًا، وإن أنكره سيبويه، فتنبّه.

وقوله: (الْخَبَطَ) منصوب على المفعوليّة لـ "نضرب"، وهو بفتح الخاء المعجمة، والموحّدة، آخره طاء مهملة، هو ورَقُ السَّلْم، وقال المجد رحمه الله: الْخَبَطُ محرَّكةً: ورَقٌ يُنفض بالمخابط، ويُجفّف، ويُطحن بدقيق، أو غيره، ويُخفف بالماء، فتوجره الإبل، وكلّ ورق مخبوطٍ. انتهى.

وقال القرطبيّ رحمه الله: و"الْخَبَط" بفتح الباء: اسم لِمَا يُخبط، فيتساقط من ورق الشجر، وبسكون الباء: المصدر، وتبليلهم الْخَبَط بالماء لِيَلِين للمضغ، وإنَّما صاروا لأكل الخبط عند فقد التمرة الموزّعة عليهم، وهذا كله يدلُّ على ما كانوا عليه من الجِدِّ، والاجتهاد، والصبر على الشدائد العظام، والمشقات الفادحة، إظهارًا للدِّين، واطفاءً لكلمة المبطلين رضي الله عنهم أجمعين

(1)

.

(ثُمَّ نَبُلُّهُ) - بفتح أوله، وتشديد اللام -؛ أي: نخلطه (بِالْمَاءِ، فَنَأْكُلُهُ) وفي رواية: "حتى إن كنّا نخبِط الْخَبَط بقِسِيّنا، ونَسُفّهُ، ثم نشرب عليه من الماء"، قال في "الفتح": وهذا يدلّ على أنه كان يابسًا، بخلاف ما جزم به الداوديّ أنه كان أخضر رَطْبًا. انتهى.

(قَالَ) جابر رضي الله عنه (وَانْطَلَقْنَا عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ)؛ أي: شاطئه، وجَمْعه سَواحل، وقال القرطبيّ: ساحل البحر، وسِيْفَه - بالكسر - وشطّه، كلُّ ذلك بمعنى واحد. انتهى. (فَرُفِعَ لَنَا) بالبناء للمفعول؛ أي: ظهر لنا، واطّلعنا عليه، (عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ كَهَيْئَةِ الْكَثِيبِ) الكاف اسم بمعنى "مثل"، ولذا وقع نائب فاعل لـ "رُفع"، و"الهيئة": الحالة الظاهرة، و"الكثيب" بفتح الكاف، وكسر الثاء المثلّثة: الرمل المستطيل الْمُحْدَوْدِبُ، وقال القرطبيّ: الكثيب، والضرب: الجبل الصغير، والكوم أصغر منه.

(الضَّخْمِ) بفتح الضاد، وسكون الخاء المعجمتين؛ أي: المرتفع الغليظ، قاله القرطبيّ، وهو صفة للكثيب، يقال: ضَخُم الشيء بالضمّ ضِخَمًا، وزانُ عِنَبٍ، وضَخَامةً: عَظُمَ، فهو ضَخْمٌ، والجمع ضِخَامٌ، مثلُ سَهْم وسِهَامٍ

(2)

.

(1)

"المفهم" 5/ 219.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 359.

ص: 140

(فَأَتَيْنَاهُ، فَإِذَا هِيَ دَابَّةٌ)"إذا" هي الْفُجائيّة؛ أي: ففاجأنا حضور دابّة (تُدْعَى) بالبناء للمفعول، والنائب ضمير الدابّة، وهو المفعول الأول، والثاني قوله:(الْعَنْبَرَ) وفي الرواية التالية: "فألقى لنا البحر دابّةً، يقال لها: العنبر"، وفي رواية البخاريّ:"فإذا حُوتٌ مثل الظَّرِب"، قال في "الفتح": أما الحوت فهو اسم جنس لجميع السمك، وقيل: هو مخصوص بما عَظُم منها، و"الظَّرِب" بفتح المعجمة المُشالة، ووقع في بعض النسخ بالمعجمة الساقطة، حكاها ابن التين، والأول أصوب، وبكسر الراء، بعدها مُوحّدة: الجبل الصغير، وقال القزاز: هو بسكون الراء، إذا كان منبسطًا ليس بالعالي.

وأما العنبر فقال أهل اللغة: هي سمكة بحرية كبيرة، يُتخذ من جلدها التُّرْسة، ويقال: إن العنبر المشموم جميع هذه الدابة.

وقال ابن سيناء: بل المشموم يخرج من البحر، وإنما يؤخذ من أجواف السمك الذي يبتلعه.

ونقل الماورديّ عن الشافعيّ، قال: سمعت من يقول: رأيت العنبر نابتًا في البحر، مُلتويًا مثل عُنُق الشاة، وفي البحر دابة تأكله، وهو سُمّ لها، فيقتلها، فيقذفها، فيخرج العنبر من بطنها.

وقال الأزهريّ: العنبر سمكة تكون بالبحر الأعظم، يبلغ طولها خمسين ذراعًا، يقال لها: بالة، وليست بعربية، قال الفرزدق:

فَبِتْنَا كَأَنَّ الْعَنْبَرَ الْوَرْدَ بَيْنَنَا

وَبَالَةُ بَحْرٍ فَاؤُهَا قَدْ تَخَرَّمَا

أي: قد تشقق

(1)

.

وقال القرطبيّ: قوله: "تُدْعى العَنْبَر"؛ أي: تُسَمَّى بالعنبر، ولعلها سمِّيت بذلك؛ لأنها الدابَّة التي تُلقي العنبر، وكثيرًا ما يوجد العنبر على سواحل البحر، وقد وُجد عندنا منه على ساحل البحر بقادس - موضع بالأندلس - قطعة كبيرة، كالكويم، حصل لواجديه منه أموال عظيمة. انتهى

(2)

.

ووقع عند البخاريّ من رواية ابن جريج، عن عمرو بن دينار بلفظ:

(1)

"الفتح" 9/ 507.

(2)

"المفهم" 5/ 220.

ص: 141

"فألقى لنا البحر حُوتًا مَيّتًا"، واستُدِلّ به على جواز أكل ميتة السمك

(1)

، وسيأتي البحث فيه مستوفًى في المسألة الرابعة - إن شاء الله تعالى -.

(قَالَ) جابر رضي الله عنه (قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ) رضي الله عنه (مَيْتَةٌ) خبر لمحذوف؛ أي: هذه الدابّة ميتة، والميتة يحرم أكلها بنصّ الكتاب العامّ، قال الله تعالى:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} الآية [المائدة: 3]، فلا تقربوها. (ثُمَّ) إنه أضرب عمّا وقع له من ذلك لَمّا تحقّق من الضرورة المبيحة له، ولذلك (قَالَ: لَا)؛ أي: لا يكون حرامًا علينا، (بَلْ نَحْنُ رُسُلُ) بضمّتين: جمع رسول، وهو مضاف إلى (رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَفِي سَبِيلِ اللهِ) وقد خرجنا لنجاهد لإعلاء كلمة الله، لا لغرض أنفسنا، من الحظوظ الدنيوية، (وَقَدِ اضْطُرِرْتُمْ)؛ أي: وقد وقعتم في الضرورة التي استثنى الله صاحبها من تحريم أكل الميتة، حيث قال في آخر الآية المذكورة:{فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} . (فَكُلُوا) قال القرطبيّ رحمه الله: وهذا يدلّ على جواز حمل العموم على ظاهره، والعمل به من غير بحث عن المخصِّصات، فإن أبا عبيدة رضي الله عنه حَكَم بتحريم ميتة البحر تمسُّكًا بعموم القرآن، ثم إنه استباحها بحكم الاضطرار، مع أن عموم القرآن في الميتة مخصَّصٌ بقوله صلى الله عليه وسلم:"هو الطهور ماؤه، الحل ميتته"

(2)

، ولم يكن عنده خبر من هذا المخصِّص، ولا عند أحد من أصحابه. انتهى

(3)

.

وقال النوويّ رحمه الله: قول أبي عبيدة: "ميتة. . . إلخ" وذكر في آخر الحديث أنهم تزودوا منه، وأن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال لهم حين رجعوا: "هل معكم من لحمه شيء، فتطعمونا؟ قال: فأرسلنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منه، فأكله.

معنى الحديث: أن أبا عبيدة رضي الله عنه قال أوّلًا باجتهاده: إن هذا ميتة، والميتة حرامٌ، فلا يحلّ لكم أكلها، ثم تغيَّر اجتهاده، فقال: بل هو حلال لكم، وإن كان ميتةً؛ لأنكم في سبيل الله، وقد اضطررتم، وقد أباح الله تعالى

(1)

"الفتح" 9/ 507.

(2)

حديث صحيح، أخرجه: أحمد 2/ 237، وأبو داود (81)، والترمذيّ (69)، والنسائيّ 1/ 176، وابن ماجه (386).

(3)

"المفهم" 5/ 220.

ص: 142

الميتة لمن كان مضطرًّا، غير باغ، ولا عادٍ، فكلوا، فأكلوا منه، وأما طلب النبيّ صلى الله عليه وسلم من لحمه وأكْله ذلك، فإنما أراد به المبالغة في تطييب نفوسهم في حِلّه، وأن لا شك في إباحته، وأنه يرتضيه لنفسه، أو أنه قَصَد التبرك به؛ لكونه طُعْمةً من الله تعالى خارقةً للعادة، أكرمهم الله بها. انتهى

(1)

.

(قَالَ: فَأَقَمْنَا عَلَيْهِ شَهْرًا) وفي الرواية التالية: "فأكلنا منها نصف شهر"، وفي رواية أخرى:"فأكل منها الجيش ثماني عشرة ليلة"، وكلّها في مسلم، قال الحافظ رحمه الله: ويُجْمَع بين هذا الاختلاف بأن الذي قال: "ثمان عشرة" ضبط ما لم يضبطه غيره، وأن من قال:"نصف شهر" ألغى الكسر الزائد، وهو ثلاثة أيام، ومن قال: شهرًا جَبَر الكسر، أو ضمَّ بقية المدّة التي كانت قبل وُجدانهم الحوت إليها، ورَجّح النوويّ رواية أبي الزبير لِمَا فيها من الزيادة، وقال ابن التين: إحدى الروايتين وَهَمٌ. انتهى.

ووقع في رواية الحاكم: "اثني عشر يومًا"، وهي شاذّة، وأشدّ منها شذوذًا رواية الخولانيّ:"فأقمنا قبلها ثلاثة"، ولعل الجمع الذي ذكرته أَولى. انتهى كلام الحافظ رحمه الله

(2)

، وهو جمع جيّد، والله تعالى أعلم.

وعبارة النوويّ رحمه الله: قوله في الرواية الأولى: "فأقمنا عليه شهرًا"، وفي الرواية الثانية:"فأكلنا منها نصف شهر"، وفي الثالثة:"فأكل منها الجيش ثماني عشرة ليلة" طريق الجمع بين الروايات أن مَن روى شهرًا هو الأصل، ومعه زيادة عِلم، ومن روى دونه لم ينف الزيادة، ولو نفاها قُدِّم المُثْبت، وقد قدّمنا مرات أن المشهور الصحيح عند الأصوليين أن مفهوم العدد لا حكم له، فلا يلزم منه نفي الزيادة، لو لم يعارضه إثبات الزيادة، كيف وقد عارضه؟ فوجب قبول الزيادة.

وجَمَع القاضي عياض بينهما بأن من قال: نصف شهر أراد: أكلوا منه تلك المدة طريًّا، ومن قال: شهرًا أراد: قدّدوه، فأكلوا منه بقية الشهر قديدًا، والله أعلم. انتهى

(3)

.

(1)

"شرح النوويّ" 13/ 86.

(2)

"الفتح" 9/ 507 - 508، كتاب "المغازي" رقم (360).

(3)

"شرح النوويّ" 13/ 88 - 89.

ص: 143

(وَنَحْنُ ثَلَاثُمِائَةٍ، حَتَّى سَمِنَّا) يفتح، فكسر، ثم نون، قال القرطبيّ: يعني تقوّينا، وزال ضَعفنا، كما قال في الرواية الأخرى:"حتى ثابت إلينا أجسامنا"؛ أي: رجعت إلينا قُوّتنا، وإلا فما كانوا سِمانًا قطّ. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: لا داعي لتأويل السِّمَن بما ذكره؛ لأن المراد بالسِّمن سِمَن نسبيّ بالنسبة لِمَا حصل لهم من الْهُزال بشدّة، لا السِّمن الذي يكون من كثرة الأكل، فإنه المذموم، فتبصّر، والله تعالى أعلم.

وقوله أيضًا: "حَتى سَمِنَّا" قال القرطبيّ رحمه الله: هذا دليل لمالك، ولمن يقول بقوله: على أن المضطرَّ يأكل من الميتة شِبَعه، ويتبسَّط في أكلها، فإنَّها قد أبيحت له، وارتفع تحريمها في تلك الحال، فاشبهت الذَّكيَّة، وخالفه في ذلك جماعة، منهم: الحسن، والنخعيّ، وقتادة، وابن حبيب، فقالوا: لا يأكل منها حتى يضطرَّ إليها ثانية، ولا يأكل منها إلا ما يُقيم رَمَقَه، وقال عبد الملك: إن تغدَّى حَرُمَت عليه يومه، وإن تعشى حرمت عليه ليلته، وهذا الذي قاله هؤلاء تعضده القاعدة المقرَّرة، وهي: أن كل ما أبيح لضرورة فيتقدَّر بقَدَرها، على أنَّه يمكن أن يقال في قضيَّة أبي عبيدة، وأكْلِهم من تلك الميتة شهرًا حتى سَمِنوا: إن ذلك القَدْر كان قَدْر ضرورتهم، وذلك أنهم كانوا قد أشرفوا على الهلاك من الجوع، والضعف، وسقطت قواهم، وهم مستقبلون سفرًا، وعَدُوًّا، فإن لم يفعلوا ذلك ضعفوا عن عدوّهم، وانقطعوا عن سفرهم، وهذا كما قال النبيّ صلى الله عليه وسلم لأصحابه عند الفتح:"تقوَّوا لعدوّكم، والفطر أقوى لكم"

(2)

. انتهى

(3)

.

قال الجامع عفا الله عنه: عندي أن ما قاله الإمام مالك من إطلاق الإباحة للمضطرّ حتى يجد المذكّى هو الأرجح؛ لظاهر هذه القصّة، والله تعالى أعلم.

(قَالَ) جابر رضي الله عنه (وَلَقَدْ رَأَيْتُنَا) جواب قَسَم مقدّر؛ أي: والله لقد رأيت

(1)

"المفهم" 5/ 221.

(2)

رواه مسلم بلفظ: "إنكم مصبحوا عدوّكم، والفطر أقوى لكم، فأفطِرُوا".

(3)

"المفهم" 5/ 220 - 221.

ص: 144

أنفسنا (نَغْتَرِفُ)؛ أي: نأخذ منه، يقال: غَرَف الماء، من بابي ضرب، ونصر: أخذه بيده، كاغترفه

(1)

. (مِنْ وَقْبِ عَيْنِهِ) الوقب - بفتح الواو، وسكون القاف، بعدها موحّدة -: هي النُّقرة التي تكون فيها الحَدَقة. (بِالْقِلَالِ) - بكسر القاف -: جمع قُلّة بضمّها، قال الفيّوميّ: هو إناء للعرب، كالجرّة الكبيرة، شِبْه الْحُبّ، والجمع قِلال، مثلُ بُرْمة وبِرَام، وربّما قيل: قُلَلٌ، مثلُ غُرفة وغُرَف. انتهى

(2)

.

وقال المجد: القُلّة: الْحُبّ العظيم، أو الْجَرّة العظيمة، أو عامّةً، أو من الفَخَار، والكُوز الصغير ضدٌّ، جَمْعه: كصُرَد، وجبال. انتهى

(3)

.

وقوله: (الدُّهْنَ) منصوب على المفعوليّة لـ "نغترف"؛ أي: السَّمْن، قال القرطبيّ رحمه الله: هذا فيه دليل على أنهم كانوا يُجيزون الانتفاع بشحوم الميتة، وبالزيت النجس، كما يقوله ابن القاسم، ويجنَّب المساجد، وخالفه عبد الملك وغيره، فقالوا: لا ينتفع بشيء من ذلك؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في سَمْن الفأرة: "إن كان مائعًا فلا تقربوه"

(4)

.

(وَنَقْتَطِعُ مِنْهُ الْفِدَرَ) بكسر الفاء، وفتح الدال: جمع فِدْرة، وهي القطعة من اللحم، والعجين، وشِبْههما. (كَالثَّوْرِ - أَوْ) للشكّ من الراوي (كَقَدْرِ الثَّوْرِ) قال النوويّ رحمه الله: أما الْوَقْب: فبفتح الواو، وإسكان القاف، والباء الموحّدة، وهو داخل عينه، ونُقْرتها، والقِلال بكسر القاف: جمع قُلّة بضمّها، وهي الْجَرّة الكبيرة التي يُقِلّها الرجل بين يديه؛ أي: يَحملها، والْفِدَر بكسر الفاء، وفتح الدال: هي الْقِطَع.

وقوله: "كقدر الثور" رويناه بوجهين مشهورين في نُسخ بلادنا، أحدهما:

(1)

"القاموس" ص 944.

(2)

"المصباح" 2/ 514.

(3)

"القاموس" ص 1086.

(4)

حديث صحيح، رواه أحمد 2/ 233 و 265، وأبو داود (3841)، وقد ضعَّفوا هذه الزيادة، وهي:"إن كان مائعًا فلا تقربوه"، قالوا: والصحيح عدم التفصيل بين الجامد والمائع، فقد رواه البخاريّ عن ميمونة رضي الله عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن فأرة سقطت في سَمْن، فقال:"ألقوها وما حولها، فاطرحوه، وكُلوا سَمْنكم"، والله تعالى أعلم.

ص: 145

بقاف مفتوحة، ثم دال ساكنة؛ أي: مثل الثور، والثاني: كفِدَر، بفاء مكسورة، ثم دال مفتوحة: جمع فِدْرة، والأول أصحّ، وادَّعَى القاضي أنه تصحيف، وأن الثاني هو الصواب، وليس كما قال. انتهى

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: و"حجاج العين"، يقال: بفتح الحاء وكسرها، وهو الوَقْب أيضًا، وهو غار العين الذي فيه حبَّتها، وأصل الوقب: الحفرة في الحجر.

و"الفِدَرُ": جمع فِدْرَة، وهي: القطعة من اللحم، والعجين، وشِبْههما، وهي: الثَّور" أيضًا، وجَمْعه: أثوار، والمراد بها هنا: قِطَع العجين، أو السويق، ولذلك شبَّه قِطَع اللحم بها؛ إذ قال: كفِدْر الثور.

قال الجامع عفا الله عنه: تفسير القرطبيّ للثور بالقطعة يخالف تفسير غيره بأنه الثور المعروف، وهذا هو الأقرب، والأشبه بمعنى الحديث، والمعنى أنهم يقطعون من تلك الدابّة قطعةً كبيرة، بقدر ما تكون مثل الثور، والله تعالى أعلم.

قال القرطبيّ: فإن قيل: كيف جاز لهم أن يأكلوا من هذه الميتة إلى شهر، ومعلوم أن اللحم إذا أقام هذه المدَّة، بل أقل منها، أنه يُنتِن، ويشتدُّ نَتَنُه، فلا يحل الإقدام عليه، كما تقدم في الصيد؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم:"كُلْه ما لم يُنْتِن"؟.

فالجواب: أن يقال: لعل ذلك لم يَنْتَهِ نَتَنُه إلى حال يخاف منه الضرر لبرودة الموضع، أو يقال: إنهم أكلوه طريًّا، ثم مَلَّحُوه، وجعلوه وشائِق؛ أي: قدَّدوه قدائد، كما يُفعل باللحم، ويقال فيه: وشقت اللحم، فاتَّشق، والوَشيقَة: القديدة، وعلى هذا يدلّ قوله:"ونقتطع منه الفِدَر"؛ أي: القِطع الكبار. انتهى

(2)

.

(فَلَقَدْ أَخَذَ مِنَّا أَبُو عُبَيْدَةَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ رَجُلًا، فَأَقْعَدَهُمْ فِي وَقْبِ عَيْنِهِ)؛ أي: في الحفرة التي فيها حبّة عينه، (وَأَخَذَ)؛ أي: أمر بالأخذ، ففي رواية البخاريّ:"ثم أمر أبو عبيدة"، (ضِلَعًا من أضلاعه)"الضّلع" - بكسر الضاد

(1)

"شرح النوويّ" 13/ 87.

(2)

"المفهم" 5/ 221 - 222.

ص: 146

المعجمة، وفتح اللام، وقد تسكّن، واحدة الأضلاع. وفي رواية البخاريّ:"ثم أمر أبو عبيدة بضِلَعين من أضلاعه، فنُصبا". قال في "الفتح": كذا فيه، واستُشكِل؛ لأن الضلع مؤنثة، ويجاب بأن تأنيثه غير حقيقي، فيجوز فيه التذكير. انتهى.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: أحسن منه تأويل النوويّ، حيث قال: ووجه التذكير أنه أراد به العضو. انتهى.

(فَأَقَامَهَا)؛ أي: الضلع، (ثُمَّ رَحَلَ)؛ أي: شَدّ عليه الرحل، يقال: رحلتُ البعير رَحْلًا، من باب نَفَعَ: شددتُ عليه رَحْله، كارتحله، و"الرَّحْل" بفتح، فسكون: مَرْكبٌ للبعير، كالراحُول، جمعه أَرْحُلٌ، ورِحالٌ، ومسكنك، وما تستصحبه من الأثاث، قاله المجد

(1)

، وقال الفيّوميّ: الرَّحْل كلّ شيء يُعدّ للرحيل، من وعاء للمتاع، ومركب للبعير، وحِلْسٍ، ورَسَنٍ، وجمعه أَرْحُلٌ، ورِحالٌ، مثلُ أسهُم وسِهام. انتهى

(2)

. (أَعْظَمَ بَعِيرٍ مَعَنَا)؛ أي: مع الجيش، (فَمَرَّ مِنْ تَحْتِهَا)؛ أي: تحت الضلع المنصوب، وفي رواية البخاريّ:"ثم أمر براحلة، فرُحلت، ثم مرّت تحتهما، فلم تصبهما"، وفي رواية النسائيّ:"فنظر إلى أطول جمل، وأطول رجل في الجيش فمرَّ تحته"، وفي حديث عبادة بن الصامت، عند ابن إسحاق:"ثم أمر بأجسم بعير معنا، فحُمل عليه أجسم رجل منا، فخرج من تحتهما، وما مسَّت رأسه".

قال الحافظ: وهذا الرجل، لم أقف على اسمه، وأظنه قيس بن سعد بن عبادة، فإن له ذِكرًا في هذه الغزوة، كما ستراه بعدُ، وكان مشهورًا بالطول، وقصته في ذلك مع معاوية، لَمّا أرسل إليه ملك الروم بالسراويل، معروفة، فذكرها المعافى الحريريّ في "الجليس"، وأبو الفرج الأصبهانيّ، وغيرهما، ومحصّلها: أن أطول رجل من الروم، نَزَع له قيس بن سعد سراويله، فكان طول قامة الرومي، بحيث كان طرفها على أنفه، وطرفها بالأرض، وعوتب قيس في نَزْع سراويله في المجلس، فأنشد [من الطويل]

أَرَدتُّ لِكَيْمَا يَعْلَمَ النَّاسُ أَنَّهَا

سَرَاوِيلُ قَيْسٍ وَالْوُفُودُ شُهُودُ

وَأَنْ لَا يَقُولُوا غَابَ قَيْسٌ وَهَذِهِ

سَرَاوِيلُ عَادِيٌّ نَمَتْهُ ثَمُودُ

(1)

"القاموس المحيط" ص 497.

(2)

"المصباح المنير" 1/ 222.

ص: 147

ووقع في آخر "صحيح مسلم"، من طريق عبادة بن الوليد، أن عبادة بن الصامت، قال: خرجت أنا وأبي، نطلب العلم، فذكر حديثًا طويلًا، وفي آخره:"وشكا الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجوع، فقال: "عسى الله أن يطعمكم"، فأتينا سِيف البحر، فزخر البحر زخرةً، فألقى دابة، فأورينا على شِقّها النار، فاطّبخنا، واشتوينا، وأكلنا، وشبعنا، قال جابر: فدخلت أنا وفلان وفلان، حتى عدّ خمسة في حجاج عَيْنها، وما يرانا أحد، حتى خرجنا، وأخذنا ضلعًا من أضلاعها، فقوّسناه، ثم دعونا بأعظم رجل في الركب، وأعظم جمل في الركب، وأعظم كَفَل في الركب، فدخل تحته، ما يطأطأ رأسه"، وظاهر سياقه أن ذلك وقع لهم في غزوة، مع النبيّ صلى الله عليه وسلم، لكن يمكن حمل قوله:"فأتينا سيف البحر" على أنه معطوف على شيء محذوف، تقديره: فبعثنا النبيّ صلى الله عليه وسلم في سفر، فأتينا. . . إلخ، فيتحد مع القصة التي في حديث الباب، قاله في "الفتح"

(1)

.

(وَتَزَوَّدْنَا مِنْ لَحْمِهِ)؛ أي: من لحم ذلك الحوت (وَشَائِقَ) جمع وَشِيق، أو وَشِيقة، بمعنى القديد، قال المجد رحمه الله: الْوَشِيقُ، والْوَشيقةُ: لحمٌ يُقدّد حتى يَيْبَسَ، أو يُغلى إغلاءةً، ثم يُقدّد، ويُحمل في الأسفار، وهو أبقى قديد، ووشقه يَشِقُه - أي: من باب وَعَدَ - قَدَّده. انتهى

(2)

.

وقال النوويّ رحمه الله: قوله: "وَشَائقَ" هو بالشين المعجمة والقاف، قال أبو عبيد: هو اللحم يؤخذ، فيُغلى إعلاءً، ولا يُنضَج، ويُحْمَل في الأسفار، يقال: وَشَقت اللحمَ، فاتَّشق، والوشيقة الواحدة منه، والجمع وشائق، ووُشُق، وقيل: الوَشِيق: القَدِيد. انتهى

(3)

.

قال القرطبيّ رحمه الله: وهذا اللفظ يدلّ أيضًا على أنه يَتزوَّد من الميتة إذا خاف ألا يجد غيرها، فإن وجد غيرها، أو ارتجى وجوده لم يستصحبها، وهو قول مالك، وغيره من العلماء. انتهى

(4)

.

(فَلَمَّا قَدِمْنَا) بكسر الدال، (الْمَدِينَةَ) النبويّة (أَتَيْنَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرْنَا

(1)

"الفتح" 9/ 508 - 509.

(2)

"القاموس المحيط" ص 1400.

(3)

"شرح النوويّ" 13/ 87 - 88.

(4)

"المفهم" 5/ 222.

ص: 148

ذَلِكَ لَهُ)؛ أي: ما وقع لهم من قصّة العنبر، وما قاله أبو عبيدة رضي الله عنه فيه، (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("هُوَ رِزْق أَخْرَجَهُ اللهُ) من البحر (لَكُمْ)؛ أي: فهو حلال أكله، وهذا تذكير لهم بنعمة الله تعالى؛ ليشكروه عليها، (فَهَلْ مَعَكُمْ مِنْ لَحْمِهِ شَيْءٌ، فَتُطْعِمُونَا؟ "، قَالَ) جابر (فَأَرْسَلْنَا إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْهُ)؛ أي: بعضه، فـ "من" بمعنى بعض، وفي رواية البخاريّ:"أطعِمونا إن كان معكم منه، فآتاه - بالمد أي: أعطاه - بعضهم، فأكله"، ووقع في رواية ابن السكن:"فأتاه بعضهم بعضو منه، فأكله"، قال عياض: وهو الوجه، وفي رواية أحمد من طريق ابن جريج التي أخرجها منه البخاريّ:"وكان معنا منه شيء، فأرسل به إليه بعض القوم، فأكل منه"، ووقع في رواية أبي حمزة، عن جابر، عند ابن أبي عاصم في "كتاب الأطعمة":"فلمّا قَدِموا ذَكَروا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "لو نعلم أنا نُدركه لم يُرْوِح لأحببنا، لو كان عندنا منه"، قال الحافظ: وهذا لا يخالف رواية أبي الزبير؛ لأنه يُحْمَل على أنه قال ذلك ازديادًا منه بعد أن أحضروا له منه ما ذُكر، أو قال ذلك قبل أن يُحضروا له منه، وكان الذي أحضروه معهم لم يُرْوِح، فأكل منه، والله أعلم. انتهى

(1)

.

(فَأَكَلَهُ) قال القرطبيّ رحمه الله: وأكْله صلى الله عليه وسلم منه ليبيِّن لهم بالفعل جواز أكل ميتة البحر في غير الضرورة، وأنها لم تدخل في عموم الميتة المحرَّمة في القرآن، كما قد بيَّن ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم:"هو الطهور ماؤه، الحل ميتته".

وفي هذا للجمهور ردٌّ على من قال بمنع ما طفا من ميتات الماء، وهو: طاوس، وابن سيرين، وحماد بن زيد، وأصحاب الرأي - أبو حنيفة وأصحابه -. وروي عن جابر بن عبد الله أنه قال: يُؤكل ما وُجد في حافتي البحر، وما جَزَرَ عنه، ولا يُؤكل ما طفا. ومثله رُوي عن ابن عباس، وكأنهما قصرا الإباحة على حديث أبي عبيدة المذكور. والصحيح: الإباحة في الجميع؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "هو الطهور ماؤه، الحل ميتته"

(2)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1)

"الفتح" 9/ 510.

(2)

"المفهم" 5/ 222 - 223.

ص: 149

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [4/ 4990 و 4991 و 4992 و 4993 و 4994 و 4995 و 4996](1935)، و (البخاريّ) في "الشركة"(2483) و"الجهاد"(2983) و"المغازي"(4360 و 4361) و"الذبائح"(5494)، و (أبو داود) في "الأطعمة"(3840)، و (الترمذيّ) في "صفة القيامة"(2475)، و (النسائيّ) في "الصيد"(7/ 208 - 209) و"الكبرى"(4864)، و (ابن ماجه) في "الزهد"(4159)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1744)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(8668)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 303 و 311 و 378)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(878)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5260)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(1920 و 1954)، و (ابن الجعد) في "مسنده"(1/ 387)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(5/ 21)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(9/ 251)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان حكم ميتة البحر، وهو الحلّ، وذلك لتصريحه في الحديث بكون البحر ألقى حوتًا ميتًا، فأكلوا منه، ثم أكَل النبيّ صلى الله عليه وسلم منه بعدهم، وبهذا تتم الدلالة، وإلا فمجرد أكْل الصحابة منه، وهم في حالة المجاعة، قد يقال إنه للاضطرار، ولا سيما وفيه قول أبي عبيدة:"ميتة"، ثم قال:"لا تأكلوه، ثم قال: جيش رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي سبيل الله عز وجل، ونحن مضطرّون، كلوا باسم الله"، وحاصل قول أبي عبيدة: أنه بناه أوّلًا على عموم تحريم الميتة، ثم تذكر تخصيص المضطر بإباحة أكْلها، إذا كان غير باغ ولا عادٍ، وَهُم بهذه الصفة؛ لأنهم في سبيل الله، وفي طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، وقد تبيَّن من آخر الحديث، أن جهة كونها حلالًا، ليست سبب الاضطرار، بل كونها من صيد البحر، ففي آخر الحديث أنهم لمّا قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ذكروا له ذلك، فقال:"ذلك رزقٌ رزقكموه الله عز وجل، أمعكم منه شيء؟، فأتاه بعضهم بعضو، فأكله"، فتبيّن لهم أنه حلال مطلقًا، وبالغ في البيان بأكله منها؛

ص: 150

لأنه لم يكن مضطرًا، قاله في "الفتح"

(1)

.

2 -

(ومنها): أن الجيوش لا بدّ لها من أمير، يضبطها، وينقادون لأمره ونهيه، وأنه ينبغي أن يكون الأمير أفضلهم، أو من أفضلهم، وأنه يستحبّ للرفقة من الناس، وإن قلّوا أن يؤمّروا أحدهم عليهم، ويُطيعوه، وينقادوا له، فقد أخرج البيهقيّ في "السنن الكبرى" من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، مرفوعًا:"إذا كان ثلاثةٌ في سفر، فليؤمّروا أحدهم"، وهو حديث صحيح.

3 -

(ومنها): ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم من الزهد في الدنيا، والتقلّل منها، والصبر على الجوع، وخشونة العيش، وإقدامهم على الغزو مع هذا الحال.

4 -

(ومنها): مشروعية المواساة بين الجيش، عند وقوع المجاعة.

5 -

(ومنها): أن الاجتماع على الطعام، يستدعي البركة فيه.

6 -

(ومنها): أنه يستحبّ للرفقة من المسافرين خلط أزوادهم؛ ليكون أبرك، وأحسن في العِشرة، وأن لا يختصّ بعضهم بأكل دون بعض، كما كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يفعله في مواطن، وكما كان الأشعريّون يفعلونه، وأثنى عليهم بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما ثبت ذلك في "الصحيح".

7 -

(ومنها): أنه لا بأس بسؤال الإنسان من مال صاحبه ومتاعه؛ إدلالًا عليه، وليس هو من السؤال المنهيّ عنه، إنما ذلك في حق الأجانب للتموّل، ونحوه، وأما هذه فللمؤانسة، والملاطفة، والإدلال.

8 -

(ومنها): أن فيه جوازَ الاجتهاد في الأحكام، في زمن النبيّ صلى الله عليه وسلم، كما يجوز بعده، وذلك لقول أبي عُبيدة رضي الله عنه بعد أَنْ نهاهم عن أكله، وقال:"ميتة، لا تأكلوه، قال: جيش رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي سبيل الله عز وجل، ونحن مضطرّون، كلُوا باسم الله".

9 -

(ومنها): أنه يستحب للمفتي أن يتعاطى بعض المباحات، التي يشك فيها المستفتي، إذا لم يكن فيه مشقة على المفتي، وكان فيه طُمأنينة للمستفتي.

10 -

(ومنها): أن فيه إباحةَ ميتات البحر كلها، سواء في ذلك، ما مات

(1)

"الفتح" 12/ 449 - 450، كتاب "الذبائح" رقم (5493).

ص: 151

بنفسه، أو باصطياد، وسيأتي تمام البحث فيه في المسألة التالية - إن شاء الله تعالى -.

11 -

(ومنها): أنه يستفاد من قوله: "أكلنا منه نصف شهر"، جواز أكل اللحم، ولو أنتن؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم قد أكل منه بعد ذلك، واللحم لا يبقى غالبًا، بلا نتن في هذه المدة، لا سيما في الحجاز، مع شدة الحرّ، لكن يَحْتَمِل أن يكونوا مَلَّحوه، وقَدَّدُوهُ، فلم يدخله نتن، وقد تقدم قريبًا قول النووي أن النهي عن أكل اللحم، إذا أنتن للتنزيه، إلا إن خيف منه الضرر فيحرم، وهذا الجواب على مذهبه، ولكن المالكية حملوه على التحريم مطلقًا، وهو الظاهر، ويأتي في الطافي نظير ما قاله في النتن، إذا خُشي منه الضرر، قاله في "الفتح"

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي استظهره في "الفتح" من حَمْل النهي على التحريم، كما قال المالكيّة، هو الحقّ عندي، كما تقدّم بيانه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في حكم صيد البحر:

قال النوويّ رحمه الله: قد أجمع المسلمون على إباحة السمك، قال بعض أصحابنا: يحرم الضفدع؛ للحديث في النهي عن قتلها، قالوا: وفيما سوى ذلك ثلاثة أوجه:

[أصحها]: يحلّ جميعه؛ لهذا الحديث.

[والثاني]: لا يحل.

[والثالث]: يحل ما له نظير مأكول في البر، دون ما لا يؤكل نظيره، فعلى هذا تؤكل خيل البحر، وغنمه، وظباؤه، دون كلبه، وخنزيره، وحماره، قال: قال أصحابنا: والحمار، وإن كان في البر مأكول وغيره، ولكن الغالب غير المأكول، هذا تفصيل مذهبنا.

وممن قال بإباحة جميع حيوانات البحر، إلا الضفدع: أبو بكر الصديق، وعمر، وعثمان، وابن عباس رضي الله عنهم، وأباح مالك الضفدع، والجميع، وقال أبو

(1)

"الفتح" 12/ 450.

ص: 152

حنيفة: لا يحل غير السمك، وأما السمك الطافئ، وهو الذي يموت في البحر، بلا سبب، فمذهبنا إباحته، وبه قال جماهير العلماء، من الصحابة، فمن بعدهم، منهم: أبو بكر الصديق، وأبو أيوب، وعطاء، ومكحول، والنخعيّ، ومالك، وأحمد، وأبو ثور، وداود، وغيرهم، وقال جابر بن عبد الله، وجابر بن زيد، وطاوس، وأبو حنيفة: لا يحل.

دليلنا قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ} الآية [المائدة: 96]، قال ابن عباس، والجمهور:"صيده ما صدتموه، وطعامه ما قذفه"، وبحديث جابر هذا، وبحديث:"هو الطهور ماؤه، الحل ميتته"، وهو حديث صحيح، وبأشياء مشهورة، غيرِ ما ذكرنا.

وأما الحديث المرويّ عن جابر، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم:"ما ألقاه البحر، وجَزَر عنه، فكلوه، وما مات فيه، فطفا فلا تأكلوه"، فحديث ضعيفٌ باتّفاق أئمة الحديث، لا يجوز الاحتجاج به، لو لم يعارضه شيء، كيف وهو معارَضٌ بما ذكرناه.

[فإن قيل]: لا حجة في حديث العنبر؛ لأنهم كانوا مضطرّين.

[قلنا]: الاحتجاج بأكل النبيّ صلى الله عليه وسلم منه في المدينة، من غير ضرورة. انتهى كلام النوويّ رحمه الله

(1)

.

وقال في "الفتح" ما حاصله: يستفاد من الحديث إباحة ميتة البحر، سواء مات بنفسه، أو مات بالاصطياد، وهو قول الجمهور، وعن الحنفية: يكره، وفرّقوا بين ما لَفَظَه، فمات، وبين ما مات فيه، من غير آفة، وتمسّكوا بحديث أبي الزبير، عن جابر:"ما ألقاه البحر، أو جَزَر عنه، فكلوه، وما مات فيه فطفا، فلا تأكلوه"، أخرجه أبو داود، مرفوعًا، من رواية يحيى بن سُليم الطائفيّ، عن أبي الزبير، عن جابر، ثم قال: روى الثوريّ، وأيوب، وغيرهما عن أبي الزبير، هذا الحديث موقوفًا، وقد أسند من وجه ضعيف، عن ابن أبي ذئب، عن أبي الزبير، عن جابر، مرفوعًا، وقال الترمذيّ: سألت البخاري عنه؟، فقال: ليس بمحفوظ، ويُرْوَى عن جابر خلافه. انتهى، ويحيى بن سليم

(1)

"شرح النوويّ" 13/ 86.

ص: 153

صدوق، وصفوه بسوء الحفظ، وقال النسائيّ: ليس بالقويّ، وقال يعقوب بن سفيان: إذا حدّث من كتابه، فحديثه حسن، وإذا حدّث حفظًا، يُعرَف ويُنكَر. وقال أبو حازم: لم يكن بالحافظ، وقال ابن حبان في "الثقات"، كان يخطئ، وقد توبع على رفعه، وأخرجه الدارقطنيّ، من رواية أبي أحمد الزبيريّ، عن الثوريّ، مرفوعًا، لكن قال: خالفه وكيع وغيره، فوقفوه عن الثوريّ، وهو الصواب، وروي عن ابن أبي ذئب، وإسماعيل بن أمية، مرفوعًا، ولا يصح، والصحيح موقوف، وإذا لم يصح إلا موقوفًا، فقد عارضه قول أبي بكر وغيره، والقياس يقتضي حله؛ لأنه سمك لو مات في البر، لأُكل بغير تذكية، ولو نضب عنه الماء، أو قتلته سمكة أخرى فمات، لأُكل، فكذلك إذا مات، وهو في البحر

(1)

.

وقال في "الفتح" أيضًا ما حاصله: وفي الحديث جوازُ أكل حيوان البحر مطلقًا؛ لأنه لم يكن عند الصحابة نصّ يخص العنبر، وقد أكلوا منه، كذا قال بعضهم، ويخدُش فيه أنهم أوّلًا إنما أقدموا عليه بطريق الاضطرار، ويجاب بأنهم أقدموا عليه مطلقًا، من حيث كونه صيد البحر، ثم توقفوا من حيث كونه ميتة، فدل على إباحة الإقدام على أكل ما صِيد من البحر، وبَيّن لهم الشارع آخِرًا أن ميتته أيضًا حلال، ولم يفرّق بين طافٍ ولا غيره.

واحتج بعض المالكية بأنهم أقاموا يأكلون منها أيامًا، فلو كانوا أكلوا منه على أنه ميتة، بطريق الاضطرار ما داوموا عليه؛ لأن المضطر، إذا أكل الميتة، يأكل منها بحسب الحاجة، ثم ينتقل لطلب المباح غيرها.

وجمع بعض العلماء بين مختلف الأخبار في ذلك، بحمل النهي على كراهة التنزيه، وما عدا ذلك على الجواز، ولا خلاف بين العلماء، في حِلّ السمك على اختلاف أنواعه، وإنما اختُلف فيما كان على صورة حيوان البر، كالآدمي، والكلب، والخنزير، والثعبان، فعند الحنفية، وهو قول الشافعية، يحرم ما عدا السمك، واحتجوا عليه بهذا الحديث، فإن الحوت المذكور، لا يسمى سَمَكًا، وفيه نَظَر، فإن الخبر وَرَدَ في الحوت نصًا.

(1)

"الفتح" 12/ 450.

ص: 154

وعن الشافعية الحلّ مطلقًا، على الأصح المنصوص، وهو مذهب المالكية، إلا الخنزير في رواية، وحجتهم قوله تعالى:{أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} [المائدة: 96]، وحديث:"هو الطهور ماؤه، الحل ميتته"، أخرجه مالك، وأصحاب "السنن"، وصححه ابن خزيمة، وابن حبان، وغيرهم. وعن الشافعية: ما يؤكل نظيره في البر حلال، وما لا فلا، واستثنوا على الأصح، ما يعيش في البحر والبر، وهو نوعان:

[النوع الأول]: ما ورد في مَنْع أَكْله شيء يخصه، كالضفدع، وكذا استثناه أحمد؛ للنهي عن قتله، وردَ ذلك من حديث عبد الرحمن بن عثمان التيمي، أخرجه أبو داود، والنسائيّ، وصححه، والحاكم، وله شاهد من حديث ابن عمر، عند ابن أبي عاصم، وآخر عن عبد الله بن عمر، وأخرجه الطبراني، في "الأوسط"، وزاد:"فإن نقيقها تسبيح"، وذكر الأطباء أن الضفدع نوعان: بري، وبحري، فالبري يَقتُل آكله، والبحريّ يضره.

ومن المستثنى أيضًا: التمساح؛ لكونه يَعْدُو بنابه، وعند أحمد فيه رواية، ومثله القِرْش في البحر الملح، خلافًا لِمَا أفتى به المحب الطبري، والثعبان، والعقرب، والسرطان، والسلحفاة؛ للاستخباث، والضرر اللاحق، من السم، ودنيلس، قيل: إن أصله السرطان، فإن ثَبَت حَرُم.

[النوع الثاني]: ما لم يَرِدْ فيه مانع، فيحل، لكن بشرط التذكية، كالبط، وطير الماء، والله أعلم. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن بما ذُكر أن أرجح الأقوال هو القول بتعميم حل أكل حيوان البحر، إلا ما ورد نصّ صحيح بمنع أكله، وإلا ما ثبت عن ثقات الأطبّاء، أو التجربة ضرره، فيحرم، وقد كنت رجحت في "شرح النسائيّ" في "الطهارة" قول من خصّ الحلّ بالسمك، فقط؛ لحديث:"أُحلّت لنا ميتتان. . ."، فقد بيّن الميتة بأنهما السمك والجراد، ولكن الآن ترجّح عندي ما ذكرته؛ لقوة حديث قصة جيش أبي عبيدة رضي الله عنه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1)

"الفتح" 12/ 450 - 451.

ص: 155

(المسألة الخامسة): قال في "الفتح": وقع في أواخر "صحيح مسلم" في الحديث الطويل، من طريق الوليد بن عبادة بن الصامت: أنهم دخلوا على جابر، فرأوه يصلي في ثوب. . . الحديث، وفيه قصة النخامة في المسجد، وفيه أنهم خرجوا في غزاة ببطن بُوَاط، وفيه قصة الحوض، وفيه قيام المأمومين خلف الإمام، كل ذلك مُطوَّل، وفيه قال: سرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان قوت كل رجل منا تمرة، كل يوم، فكان يمصها، وكنا نختبط بقِسِيّنا، ونأكل، وسرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى نزلنا واديًا أفيح، فذكر قصة الشجرتين اللتين التفّتا بأمر النبيّ صلى الله عليه وسلم، حتى تستّر بهما عند قضاء الحاجة، وفيه قصة القبرين اللذين غَرَس في كل منهما غصنًا، وفيه فأتينا العسكر، فقال:"يا جابر ناد الوضوء. . ."، فذكر القصة بطولها، في نبع الماء من بين أصابعه، وفيه: وشكا الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجوع، فقال:"عسى الله أن يطعمكم"، فأتينا سِيف البحر، فزجر البحر زَجْرة، فألقى دابة، فأَوْرينا على شِقِّها النار، فاطّبخنا، واشتوينا، وأكلنا، وشبعنا، وذكر أنه دخل هو وجماعة في عينها، وذكر قصة الذي دخل تحت ضلعها، ما يُطأطئ رأسه، وهو أعظم رجل في الركب، على أعظم جمل، وظاهر سياق هذه القصة، يقتضي مغايرة القصة المذكورة في هذا الباب، وهي من رواية جابر أيضًا، حتى قال عبد الحق، في "الجمع بين الصحيحين": هذه واقعة أخرى غير تلك، فإن هذه كانت بحضرة النبيّ صلى الله عليه وسلم، وما ذكره ليس بنص في ذلك؛ لاحتمال أن تكون الفاء في قول جابر، فأتينا سِيف البحر هي الفصيحة، وهي معقبة لمحذوف تقديره: فأرسَلَنا النبيّ صلى الله عليه وسلم مع أبي عبيدة، فأتينا سِيف البحر، فتتحد القصتان، قال الحافظ: وهذا هو الراجح عندي، والأصل عدم التعدد.

ومما ننبّه عليه هنا أيضًا، أن الواقديّ زعم أن قصة بعث أبي عبيدة، كانت في رجب سنة ثمان، وهو عندي خطأ؛ لأن في نفس الخبر الصحيح، أنهم خرجوا يترصدون عِير قريش، وقريش في سنة ثمان، كانوا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في هدنة، قال: وقد نبهت على ذلك في "المغازي"، وجوّزت أن يكون ذلك قبل الهدنة في سنة ست، أو قبلها، ثم ظهر لي الآن تقوية ذلك، بقول جابر، في رواية مسلم هذه: إنهم خرجوا في غَزاة بُواط، وغزاة بُواط كانت في السنة

ص: 156

الثانية من الهجرة، قبل وقعة بدر، وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم خرج في مائتين من أصحابه، يعترض عيرًا لقريش، فيها أمية بن خلف، فبلغ بُواطًا، وهي بضم الموحدة، جبال لجهينة، مما يلي الشام، بينها وبين المدينة أربعة بُرُد، فلم يلق أحدًا، فرجع، فكأنه أفرد أبا عبيدة، فيمن معه يرصُدون العير المذكورة، ويؤيد تقدمَ أمرها، ما ذُكر فيها من القِلّة والجهد، والواقع إنهم في سنة ثمان، كان حالهم اتسع، بفتح خيبر وغيرها، والجهد المذكور في القصة، يناسب ابتداء الأمر، فيرجح ما ذكرته، والله أعلم. انتهى كلام الحافظ رحمه الله تعالى

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي في دعوى اتّحاد قصّتي جابر رضي الله عنه هاتين نظرٌ؛ بل الذي يظهر لي هو ما قاله عبد الحقّ رحمه الله من تغاير الواقعتين كما يدلّ عليه سياقهما، والجمع الذي ذكره الحافظ لا يخفى ما فيه من التكلّف، فتأمله بالإمعان، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4991]

(. . .) - (حَدَّثَنَا عبد الجَبَّارِ بْنُ الْعَلَاءِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ: سَمِعَ عَمْرٌو جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ يَقُولُ: بَعَثَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَنَحْنُ ثَلَاثُمِائَةِ رَاكِبٍ، وَأَمِيرُنَا أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ، نَرْصُدُ عِيرًا لِقُرَيْشٍ، فَأَقَمْنَا بِالسَّاحِلِ نِصْفَ شَهْرٍ، فَأَصَابَنَا جُوعٌ شَدِيدٌ، حَتَّى أَكَلْنَا الْخَبَطَ، فَسُمِّيّ جَيْشَ الْخَبَطِ، فَأَلْقَى لَنَا الْبَحْرُ دَابَّةً، يُقَالُ لَهَا: الْعَنْبَرُ، فَأَكَلْنَا مِنْهَا نِصْفَ شَهْرٍ، وَادَّهَنَّا مِنْ وَدَكِهَا، حَتَّى ثَابَتْ أَجْسَامُنَا، قَالَ: فَأَخَذَ أَبُو عُبَيْدَةَ ضِلَعًا مِنْ أَضْلَاعِهِ، فَنَصَبَهُ، ثُمَّ نَظَرَ إِلَى أَطْوَلِ رَجُلٍ فِي الْجَيْشِ، وَأَطْوَلِ جَمَلٍ، فَحَمَلَهُ عَلَيْهِ، فَمَرَّ تَحْتَهُ، قَالَ: وَجَلَسَ فِي حَجَاجِ عَيْنِهِ نَفَرٌ، قَالَ: وَأَخْرَجْنَا مِنْ وَقْبِ عَيْنِهِ كَذَا وَكَذَا قُلَّةَ وَدَكٍ، قَالَ: وَكَانَ مَعَنَا جِرَابٌ مِنْ تَمْرٍ، فَكَانَ أَبُو عُبَيْدَةَ يُعْطِي كُلَّ رَجُلٍ مِنَّا قَبْضَةً قَبْضَةً، ثُمَّ أَعْطَانَا تَمْرَةً تَمْرَةً، فَلَمَّا فَنِيَ وَجَدْنَا فَقْدَهُ).

(1)

"الفتح" 12/ 451 - 452.

ص: 157

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(عبد الجَبَّارِ بْنُ الْعَلَاءِ) بن عبد الجبّار العطّار، أبو بكر البصريّ، نزيل مكة، لا بأس به، من صغار [10](ت 248)(م ت س) تقدم في "البيوع" 25/ 3973.

2 -

(سُفْيَانُ) بن عيينة، تقدّم في الباب الماضي.

3 -

(عَمْرُو) بن دينار الأثرم الْجُمَحيّ، أبو محمد المكيّ، ثقةٌ ثبتٌ [4](ت 126)(ع) تقدم في "الإيمان" 21/ 184.

و"جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما" ذُكر قبله.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (453) من رباعيّات الكتاب.

وقوله: (وَنَحْنُ ثَلَاثُمِائَةِ رَاكِبٍ) وفي رواية: "ونحن ثلاثمائة وبضعة عشر"، ويُجمع بينهما بأن من قال:"ثلاثمائة" ألغى الكسر، أو أن الثلاثمائة هو الجيش، والزائد غيرهم من الْخَدَم ونحوهم، والله تعالى أعلم.

وقوله: (نَرْصُدُ عِيرًا لِقُرَيْشٍ) بضم الصاد، يقال: رصدته رَصْدًا، من باب قتل: قعدت له على الطريق، والفاعل راصد، وربّما جُمِع على رَصَد، مثلُ خادم وخَدَم، قاله في "المصباح".

و"الْعِيرُ" - بالكسر -: الإبل تحمل الْمِيرة، ثم غلب على كلّ قافلة.

وقوله: (فَأَقَمْنَا بالسَّاحِلِ)؛ أي: ساحل البحر.

وقوله: (حَتَّى أَكَلْنَا الْخَبَطَ) - بفتح المعجمة، والموحدة، بعدها مهملة -، هو وَرَقُ السَّلَم.

وقوله: (وَادَّهَنَّا مِنْ وَدَكِهَا) - بفتح الواو، والمهملة -؛ أي: شحمه.

وقوله: (حَتَّى ثَابَتْ أَجْسَامُنَا) - بالثاء المثلّثة -؛ أي: رجعت إلى القوّة، وفيه إشارة إلى أنهم أصابهم هُزالٌ من الجوع السابق.

وقوله: (فَأَخَذَ أَبُو عُبَيْدَةَ)؛ أي: أمر بالأخذ.

وقوله: (فَأَخَذَ أَبُو عُبَيْدَةَ ضِلَعًا مِنْ أَضْلَاعِهِ، فَنَصَبَهُ) قال النوويّ رحمه الله: كذا هو في النسخ: "فنصبه"، وفي الرواية الأولى:"فأقامها"، فأنثها، وهو المعروف، ووجه التذكير أنه أراد به العضو. انتهى

(1)

.

(1)

"شرح النوويّ" 13/ 88.

ص: 158

وقوله: (وَجَلَسَ فِي حَجَاجِ عَيْنِهِ نَفَرٌ) وفي رواية: "أربعة نفر"، والْحِجَاج بكسر الحاء المهملة، وتُفتح: العظم المستدير حولَها، وهو مذكّرٌ، وجمعه أَحِجّة، وقال ابن الأنباريّ: الحِجَاج: العَظْم المُشْرِف على غار العين. ذكره الفيّوميّ.

وقال النوويّ رحمه الله: الْحِجاج بحاء، ثم جيم مخففة، والحاء مكسورة، ومفتوحة، لغتان مشهورتان، وهو بمعنى:"وَقْب عينه" المذكور في الرواية السابقة، وقد شرحناه. انتهى

(1)

.

وقوله: (قَبْضَةً قَبْضَةً) بفتح القاف، وضمّها.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4992]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا عبد الجَبَّارِ بْنُ الْعَلَاءِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ: سَمِعَ عَمْرٌو جَابِرًا يَقُولُ فِي جَيْشِ الْخَبَطِ: إِنَّ رَجُلًا نَحَرَ ثَلَاثَ جَزَائِرَ، ثُمَّ ثَلَاثًا، ثُمَّ ثَلَاثًا، ثُمَّ نَهَاهُ أَبُو عُبَيْدَةَ).

قوله: (إِنَّ رَجُلًا نَحَرَ ثَلَاثَ جَزَائِرَ. . . إلخ) الرجل: هو قيس بن سعد بن عبادة الخزرجيّ الأنصاريّ الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، مات سنة ستين تقريبًا، وقيل: بعد ذلك، تقدّمت ترجمته في "الجنائز" 23/ 2225.

وكان اشترى الْجُزُرَ من أعرابي جُهَنيّ، كلَّ جَزُور بوسق من تمر، يوفيه إياه بالمدينة.

(ثلاث جزائر) قال في "الفتح": المراد بقوله: "جزائر": جمع جَزُور، وفيه نظر، فإن جزائر جمع جزيرة، والجزور إنما يُجمع على جُزُر بضمتين، فلعله جَمْع الجمع. انتهى

(2)

.

وقال الفيّوميّ: الْجَزُور من الإبل خاصّةً، يقع على الذكر والأنثى، والجمع جُزُر، مثلُ رَسُول ورُسُل، ويُجمع أيضًا على جُزُرَات، ثم على جزائر،

(1)

"شرح النوويّ" 13/ 88.

(2)

"الفتح" 12/ 449.

ص: 159

ولفظ الجزُور أُنثى، يقال: رعت الجزور، وزاد الصغانيّ: وقيل: الجزور الناقة التي تُنْحَر. انتهى

(1)

.

وقوله: (ثُمَّ نَهَاهُ أَبُو عُبَيْدَةَ) وذلك لمّا رأى عمر رضي الله عنه ذلك، وكان في ذلك الجيش، سأل أبا عبيدة، أن ينهى قيسًا عن النحر، فعَزَمَ عليه أبو عبيدة، أن ينتهي عن ذلك، فأطاعه. انتهى.

قال في "الفتح": وقد اختلفوا في سبب نهي أبي عبيدة قيسًا أن يستمرّ على إطعام الجيش، فقيل: لخشية أن تَفْنَى حمولتهم، وفيه نظر؛ لأن القصة أنه اشترى من غير العسكر. وقيل: لأنه كان يستدين على ذمته، وليس له مال، فأراد الرفق به، وهذا أظهر، قاله في "الفتح". والله أعلم.

وفي رواية البخاريّ: "وكان عمرو - يعني: ابن دينار - يقول: أخبرنا أبو صالح، أن قيس بن سعد قال لأبيه: كنتُ في الجيش، فجاعوا، قال: انحر، قال: نحرتُ، ثم جاعوا، قال: انحر، قال: نحرتُ، قال: ثم جاعوا، قال: انحر، قال: نحرت، ثم جاعوا، قال: انحر، قال: نُهِيتُ".

قال في "الفتح" ما نصّه: وهذا صورته مرسل؛ لأن عمرو بن دينار

(2)

لم يُدرك زمان تحديث قيس لأبيه، لكنه في مسند الحميديّ موصول، أخرجه أبو نعيم في "المستخرج" من طريقه، ولفظه: عن أبي صالح، عن قيس بن سعد بن عبادة، قال: قلت لأبي: وكنت في ذلك الجيش، جيشِ الخبط، فأصاب الناس جوع، قال لي: انحر، قلت: نحرت، فذكره، وفي آخره، قلت: نهيتُ. وذكر الواقديّ بإسناد له، أن قيس بن سعد، لَمّا رأى ما بالناس، قال: من يشتري مني تمرًا بالمدينة بجزور هنا، فقال له رجل من جهينة: من أنت؟، فانتسب له، فقال: عرفت نسبك، فابتاع منه خمس جزائر، بخمسة أوسق، وأشهد له نفرًا من الصحابة، فامتنع عمر، لكون قيس لا مال له، فقال الأعرابيّ: ما كان سعد لِيَجْنِيَ بابنه في أوسق تمر، فبلغ ذلك سعدًا، فغضب، ووهب لقيس أربع

(1)

"المصباح المنير" 1/ 98.

(2)

كذا في "الفتح"، والظاهر أن صوابه: لأن أبا صالح لم يدرك. . . إلخ، فليُتأمّل، والله تعالى أعلم.

ص: 160

حوائط، أقلها يُجَذّ خمسين وسقًا، وزاد ابن خزيمة من طريق عمرو بن الحارث، عن عمرو بن دينار، وقال في حديثه: لَمّا قدِموا ذكروا شأن قيس، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"إن الْجُود من شيمة أهل ذلك البيت"، وفي حديث الواقديّ، أن أهل المدينة بلغهم الجهد الذي قد أصاب القوم، فقال سعد بن عبادة: إن يك قيس كما أعرف، فسينحر للقوم. انتهى

(1)

.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى البحث فيه مستوفًى، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوَّل الكتاب قال:

[4993]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدَةُ - يَعْنِي: ابْنَ سُلَيْمَانَ - عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ وَهْبِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: بَعَثَنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَنَحْنُ ثَلَاثُمِائَةٍ، نَحْمِلُ أَزْوَادَنَا عَلَى رِقَابِنَا).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم قريبًا.

2 -

(عَبْدَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ) الكلابيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

3 -

(هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ) بن الزبير الأسديّ، أبو المنذر المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ، ربما دلّس [5](ت 5 أو 146)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 350.

4 -

(وَهْبُ بْنُ كَيْسَانَ) القرشيّ مولاهم، أبو نعيم المدنيّ المعلّم، ثقةٌ، من كبار [4](ت 127)(ع) تقدم في "الحيض" 23/ 797.

و"جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما" ذُكر قبله.

[تنبيه]: اختصر المصنّف رواية وهب بن كيسان، عن جابر رضي الله عنه هنا، وقد ساقها ابن ماجه في "سننه" بسند المصنّف، أتمّ مما هنا، فقال:

(4159)

- حدّثنا عثمان بن أبي شيبة، ثنا عبدة بن سليمان، عن هشام بن عروة، عن وهب بن كيسان، عن جابر بن عبد الله قال: "بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن ثلاثمائة، نَحْمِل أزوادنا على رقابنا، ففني أزوادنا، حتى كان يكون للرجل منا تمرة، فقيل: يا أبا عبد الله، وأين تقع التمرة من الرجل؟ فقال: لقد

(1)

"الفتح"(509)، كتاب "المغازي"(4360).

ص: 161

وجدنا فَقْدها حين فقدناها، وأتينا البحر، فإذا نحن بحوت قد قذفه البحر، فأكلنا منه ثمانية عشر يومًا". انتهى

(1)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4994]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَبِي نُعَيْمٍ وَهْبِ بْنِ كَيْسَانَ، أَنَّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ أَخْبَرَهُ، قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم سَرِيَّةً ثَلَاثَمِائَةٍ، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ، فَفَنِيَ زَادُهُمْ، فَجَمَعَ أَبُو عُبَيْدَةَ زَادَهُمْ فِي مِزْوَدٍ، فَكَانَ يُقَوِّتُنَا، حَتَّى كَانَ يُصِيبُنَا كُلَّ يَوْمٍ تَمْرَةٌ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمِ) بن ميمون، تقدّم قبل باب.

2 -

(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ) تقدّم في الباب الماضي.

3 -

(مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ) إمام دار الهجرة، تقدّم أيضًا في الباب الماضي.

والباقيان ذُكرا قبله.

[تنبيه]: اختصر المصنّف أيضًا رواية مالك، عن وهب، وقد طوّلها البخاريّ في "صحيحه"، فقال:

(2351)

- حدّثنا عبد الله بن يوسف، أخبرنا مالك، عن وهب بن كيسان، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثًا قِبَل الساحل، فأمّر عليهم أبا عبيدة بن الجراح، وهم ثلاثمائة، وأنا فيهم، فخرجنا حتى إذا كنا ببعض الطريق فني الزاد، فأمر أبو عبيدة بأزواد ذلك الجيش، فجُمع ذلك كله، فكان مزودَي تمر، فكان يقوتنا كلَّ يوم قليلًا، حتى فني، فلم يكن يصيبنا إلا تمرة تمرة، فقلت: وما تغني تمرة؟ فقال: لقد وجدنا فَقْدها حين فنيت، قال: ثم انتهينا إلى البحر، فإذا حوت مثلُ الظَّرِب

(2)

، فأكل منه ذلك الجيش ثماني عشرة ليلةً، ثم أمر أبو عبيدة بضلعين من أضلاعه، فنُصبا،

(1)

"سنن ابن ماجه" 2/ 1392.

(2)

"الظرب" بفتح الظاء المعجمة، وكسر الراء: الجبل الصغير.

ص: 162

ثم أمر براحلة فرُحلت، ثم مرَّت تحتهما، فلم تُصِبْهما. انتهى

(1)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4995]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ - يَعْنِي: ابْنَ كَثِيرٍ - قَالَ: سَمِعْتُ وَهْبَ بْنَ كَيْسَانَ يَقُولُ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ يَقُولُ: بَعَثَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم سَرِيَّةً أَنَا فِيهِمْ، إِلَى سِيفِ الْبَحْرِ، وَسَاقُوا جَمِيعًا بَقِيَّةَ الْحَدِيثِ، كنَحْوِ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، وَأَبِي الزُّبَيْرِ، غَيْرَ أَنَّ فِي حَدِيثِ وَهْبِ بْنِ كَيْسَانَ: فَأَكَلَ مِنْهَا الْجَيْشُ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ لَيْلَةً).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أَبُو كُرَيْبٍ) محمد بن العلاء، تقدّم قريبًا.

2 -

(أَبُو أُسَامَةَ) حماد بن أسامة، تقدّم أيضًا قريبًا.

3 -

(الْوَلِيدُ بْنُ كَثِيرٍ) المخزوميّ، أبو محمد المدنيّ، ثم الكوفيّ، صدوقٌ عارف بالمغازي، ورُمي برأي الخوارج [6](ت 151)(ع) تقدم في "الإيمان" 64/ 361.

والباقيان ذُكرا قبله.

وقوله: (وَسَاقُوا جَمِيعًا بَقِيَّةَ الْحَدِيثِ) هكذا في النسخ التي بين أيدينا، والظاهر أنها غلط؛ والصواب:"وساق بقيّة الحديث. . . إلخ" بإفراد الضمير الراجع إلى وهب بن كيسان، فواو الجماعة، ولفظ "جميعًا" لا وجه لهما هنا، فيما يظهر، والله تعالى أعلم بالصواب.

[تنبيه]: رواية الوليد بن كثير، عن وهب بن كيسان هذه ساقها أبو عوانة رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(7626)

- حدّثنا أحمد بن عبد الحميد الحارثيّ، قال: ثنا أبو أسامة، قال: ثنا الوليد بن كثير، قال: سمعت وهب بن كيسان، قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سريةً أنا فيهم إلى سيف البحر، فأرملنا الزاد، حتى جمعنا ما مع كل إنسان، فجعلناه واحدًا، حتى كان يُعْطَى كلُّ إنسان قدر ملء نصيبه، حتى ما كان نصيب كل إنسان إلا تمرةٌ كلَّ يوم، قال

(1)

"صحيح البخاريّ" 2/ 879.

ص: 163

رجل لجابر: يا أبا عبد الله، وما يغني عن رجل تمرةٌ؟ قال: يا ابن أخي قد وجدنا فَقْدها حين فنيت، قال جابر: فبينا نحن على ذلك، إذ رأينا سَوَادًا، فلمّا غَشِيناه إذا دابة من البحر، قد خرجت من البحر، فأناخ عليها العسكر ثمانَ عشرة ليلةً، يأكلون منها ما شاؤوا، حتى أَرْبَعُوا

(1)

. انتهى

(2)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4996]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِي حَجَّاجُ بْنُ الشَّاعِرِ، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ (ح) وَحدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا أَبُو الْمُنْذِرِ الْقَزَّازُ، كِلَاهُمَا عَنْ دَاوُدَ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ مِقْسَمٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَعْثًا إِلَى أَرْضِ جُهَيْنَةَ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهِمْ رَجُلًا، وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِنَحْوِ حَدِيثِهِمْ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(حَجَّاجُ بْنُ الشَّاعِرِ) تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ) بن فارس الْعَبْديّ البصريّ، أصله من بُخارى، ثقةٌ، [9](ت 209)(ع) تقدم في "الإيمان" 79/ 417.

3 -

(مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ) النيسابوريّ، تقدّم في الباب الماضي.

4 -

(أَبُو الْمُنْذِرِ الْقَزَّازُ) إسماعيل بن عمر الواسطيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ [9] مات بعد المائتين (عخ م د س) تقدم في "الإمارة" 10/ 4769.

[تنبيه]: قال النوويّ رحمه الله: قوله: "أبو المنذر القزاز" هكذا هو في نسخ بلادنا: "الْقَزّاز" بالقاف، وفي أكثرها "البزاز" بالباء، وذكر القاضي أيضًا اختلاف الرواة فيه، والأشهر بالقاف، وهو الذي ذكره السمعانيّ في "الأنساب"، وآخرون، وذكره خَلَفٌ الواسطيّ في "الأطراف" بالباء عن رواية مسلم، لكن عليه تضبيب، فلعله يقال بالوجهين، فالقزاز بزاز، وأبو المنذر هذا اسمه إسماعيل بن حسين بن المثنى، كذا سماه أحمد بن حنبل فيما ذكره ابن

(1)

والظاهر أن معناه: استغنوا، ومنه حديث:"اللهم اسقنا غيثًا مغيثًا مُربعًا"؛ أي: عامًّا يُغني عن الارتياد، والنُّجعة، أفاده في "النهاية" ص 342.

(2)

"مسند أبي عوانة" 5/ 23.

ص: 164

أبي حاتم في كتابه، واقتصر الجمهور على أنه إسماعيل بن عمر، قال أبو حاتم: هو صدوق، وأمر أحمد بن حنبل بالكتابة عنه، وهو من أفراد مسلم. انتهى

(1)

.

5 -

(دَاوُدُ بْنُ قَيْسٍ) الفرّاء الدبّاغ، أبو سليمان القرشيّ مولاهم المدنيّ، ثقةٌ [5] مات في خلافة أبي جعفر (خت م 4) تقدم في "الصلاة" 42/ 1084.

6 -

(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مِقْسَمٍ) المدنيّ، ثقةٌ مشهورٌ [4](خ م د س ق) تقدم في "الجنائز" 23/ 2222.

و"جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما" ذُكر قبله.

وقوله: (كِلَاهُمَا عَنْ دَاوُدَ بْنِ قَيْسٍ) ضمير التثنية لعثمان بن عمر، وأبي المنذر القزّاز.

وقوله: (إِلَى أَرْضِ جُهَيْنَةَ) تقدّم أنه لا تعارض بين هذا وبين ما تقدّم أنه بعثهم ليتلقّوا عيرًا لقريش؛ لإمكان الجمع بأن يكون النبيّ صلى الله عليه وسلم بعثهم للأمرين جميعًا؛ أي: كونهم يتلقّون عيرًا لقريش، ويقصدون حيًّا من جهينة، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

وقوله: (وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهِمْ رَجُلًا) هو أبو عبيدة بن الجرّاح رضي الله عنه.

وقوله: (وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِنَحْوِ حَدِيثِهِمْ) فاعل "ساق" ضمير عبيد الله بن مِقسم، وضمير "حديثهم" لأبي الزبير، وعمرو بن دينار، ووهب بن كيسان، والله تعالى أعلم.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(5) - (بَابُ تَحْرِيمِ أَكْلِ لَحْمِ الْحُمُرِ الإِنْسِيَّةِ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4997]

(1407)

(2)

- (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكِ بْن أَنَسٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ وَالحَسَنِ ابْنَيْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ أَبِيهِمَا، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: "أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ مُتْعَةِ النِّسَاءِ يَوْمَ خَيْبَرَ، وَعَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الإِنْسِيَّةِ").

(1)

"شرح النوويّ" 13/ 89.

(2)

هذا الرقم مكرّر.

ص: 165

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ) بن أبي طالب الهاشميّ، أبو هاشم ابن الحنفيّة، ثقةٌ [4](ت 99) بالشام (ع) تقدم في "النكاح" 3/ 3432.

2 -

(الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ) بن أبي طالب الهاشميّ، أبو محمد المدنيّ، ثقةٌ فقيهٌ، يقال: إنه أول من تكلّم في الإرجاء [3](ت 100) أو قبلها (ع) تقدم في "الحيض" 10/ 749.

3 -

(أَبُوهُمَا) محمد بن عليّ بن أبي طالب الهاشميّ، أبو القاسم ابن الحنفيّة المدنيّ، ثقةٌ فقيهٌ [2] مات بعد الثمانين (ع) تقدم في "الحيض" 4/ 701.

4 -

(عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبِ) بن عبد المطّلب بن هاشم الهاشميّ، رابع الخلفاء الراشدين، استُشهد رضي الله عنه في رمضان سنة (40) وله (63) سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.

والباقون تقدّموا في البابين الماضيين.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من سُداسيّات المصنّف، وأنه مسلسل بالمدنيين، سوى شيخه، وقد دخل المدينة، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيين، عن أبيهما، عن جدّهما، وفيه أن صحابيّه ذو مناقب جمّة، فهو ابن عمّ النبيّ صلى الله عليه وسلم، وزوج ابنته فاطمة رضي الله عنهما، ومن السابقين الأولين إلى الإسلام، بل هو أول من آمن من الصبيان، وأحد الخلفاء الراشدين الأربعة، وأحد العشرة المبشّرين بالجنّة، ومات شهيدًا، وهو أفضل أهل الأحياء من بني آدم بالإجماع، والله تعالى أعلم.

وقوله: (نَهَى عَنْ مُتْعَةِ النِّسَاءِ)"الْمُتْعَةُ" - بضمّ الميم، وسكون المثناة الفوقانيّة -: هو النكاح إلى أجل معيّن، وهو من التمتّع بالشيء، وهو الانتفاع به، يقال: تمتّعتُ به أَتَمَتَّعُ تمتّعًا، والاسم: الْمُتْعة، كأنه يَنتَفِع بها إلى أمد معلوم. وقد كان مباحًا في أول الإسلام، ثم حُرّم، ولا يراه الآن جائزًا إلا الشيعة، ولا اعتداد بهم؛ أفاده ابن الأثير رحمه الله

(1)

.

وقال الفيّوميّ رحمه الله: نكاح المتعة: هو المؤقّت في العقد، وقال في العُبَاب: كان الرجل يُشارط المرأة شرطًا على شيء إلى أجل معلوم، ويُعطيها

(1)

"النهاية" 2/ 470

ص: 166

ذلك، فيستحلّ بذلك فرجها، ثم يُخلي سبيلها من غير تزويج، ولا طلاق. انتهى

(1)

.

وقد تقدّم البحث في هذا مستوفًى في "كتاب النكاح"، فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق.

وقوله: (يَوْمَ خَيْبَرَ) هكذا لجميع الرواة عن الزهريّ: "خيبر" بالمعجمة أوّله، والراء آخره، إلا ما رواه عبد الوهّاب الثقفيّ، عن يحيى بن سعيد، عن مالك في هذا الحديث، فإنه قال:"حُنَين" - بمهملة أوّله، ونونين - أخرجه النسائيّ، والدارقطنيّ، ونبّها على أنه وهمٌ، تفرّد به عبد الوهّاب، وقد تقدّم تمام البحث في "كتاب النكاح"، فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق.

وقوله: (وَعَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الإِنْسِيَّةِ) قال ابن الأثير رحمه الله: "الحمر الإنسيّة": هي التي تألف البيوت، والمشهور فيها كسر الهمزة، منسوبة إلى الإنس، وهم بنو آدم، الواحد إنسيٌّ، وفي كتاب أبي موسى ما يدلّ على أن الهمزة مضمومة، فإنه قال: هي التي تألف البيوت، والأُنسُ ضدّ الوحشة، والمشهور في ضدّ الوحشة الأُنسُ بالضمّ، وقد جاء فيه الكسر قليلًا، قال: ورواه بعضهم بفتح الهمزة والنون، وليس بشيء، قال ابن الأثير: إن أراد أن الفتح غير معروف في الرواية، فيجوز، وإن أراد أنه ليس بمعروف في اللغة فلا، فإنه مصدرُ أَنِستُ به آنَسُ أَنَسًا، وأَنَسَةً. انتهى كلام ابن الأثير رحمه الله

(2)

.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام شرحه، وبيان مسائله في "كتاب النكاح"(3/ 3423)، ولم يبق إلا أن نتكلّم في الجزء الثاني، وهو ما بوّب له المصنّف، وهو حكم الحمر الإنسيّة، فأقول:

(مسألة): في اختلاف أهل العلم في حكم أكل الحمر الأهليّة:

قال ابن قُدامة رحمه الله: أكثر أهل العلم يرون تحريم الحمر الأهليّة، قال أحمد: خمسة عشر من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم كرهوها. قال ابن عبد البرّ: لا خلاف بين علماء المسلمين اليوم في تحريمها. وحُكي عن ابن عبّاس، وعائشة رضي الله عنهما أنهما كانا يقولان بظاهر قوله سبحانه: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ

(1)

"المصباح المنير" 2/ 562.

(2)

"النهاية" 1/ 74 - 75.

ص: 167

مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ} الآية [الأنعام: 145]، وتلا هذه ابن عبّاس، وقال: ما خلا هذا، فهو حلالٌ. وسُئلت عائشة رضي الله عنها عن الفأرة؟ فقالت: ما هي بحرام، وتلت هذه الآية. ولم يرَ أبو وائل بأكل الحمر بأسًا. وقد رُوي عن غالب بن أبجر، قال: أصابتنا سَنَة، فلم يكن في مالي شيء، أطعم أهلي، إلا شيء من حُمر، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حرّم لحوم الحمر الأهلية، فأتيت النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله، أصابتنا السنة، ولم يكن في مالي ما أطعم أهلي، إلا سِمَان الحمر، وإنك حَرّمت لحوم الحمر الأهلية، فقال:"أطعم أهلك من سمين حُمُرك، فإنما حرّمتها من أجل جَوَّال القرية".

واحتجّ الأولون بالحديث المذكور في الباب، وهو متّفقٌ عليه. قال ابن عبد البرّ: ورَوَى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم تحريم الحمُر الأهليّة: عليّ، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عمرو، وجابر، والبراء، وعبد الله بن أبي أوفى، وأنس، وزاهر الأسلميّ بأسانيد صحاح حسان، وحديث غالب بن أبجر لا يُعرَّج على مثله، مع ما عارضه، ويحتمل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخصّ لهم في مَجاعتهم، وبيّن علّة تحريمها المطلق؛ لكونها تأكل العذرات، قال عبد الله بن أبي أوفى: حرّمها رسول الله صلى الله عليه وسلم البتّة من أجل أنها تأكل العذرة. متّفقٌ عليه. انتهى كلام ابن قُدامة رحمه الله

(1)

.

وقال في "الفتح" عند شرح قوله: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} ما نصّه: في رواية ابن مردويه، وصححه الحاكم من طريق محمد بن شريك، عن عمرو بن دينار، عن أبي الشعثاء، عن ابن عباس قال: كان أهل الجاهلية يأكلون أشياء، ويتركون أشياء تقذُّرًا، فبعث الله نبيّه صلى الله عليه وسلم، وأنزل كتابه، وأحلّ حلاله، وحرّم حرامه، فما أحل فيه فهو حلال، وما حرّم فيه فهو حرام، وما سكت عنه فهو عَفْوٌ، وتلا هذه:{قُلْ لَا أَجِدُ} إلى آخرها.

والاستدلال بهذا للحلّ إنما يتمّ فيما لم يأت فيه نصّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم

(1)

"المغني" لابن قُدامة رحمه الله 13/ 317 - 319.

ص: 168

بتحريمه، وقد تواردت الأخبار بذلك، والتنصيص على التحريم مقدَّم على عموم التحليل، وعلى القياس.

وقد ثبت عن ابن عباس أنه توقّف في النهي عن الحمر: هل كان لمعنى خاصّ، أو للتأبيد؟ فعن الشعبيّ عنه أنه قال: لا أدري أنهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم من أجل أنه كان حَمُولة الناس، فكَرِه أن تذهب حمولتهم، أو حرّمها البتة يوم خيبر؟ وهذا التردد أصحّ من الخبر الذي جاء عنه بالجزم بالعلة المذكورة.

وكذا فيما أخرجه الطبرانيّ، وابن ماجه من طريق شقيق بن سلمة، عن ابن عباس قال: إنما حَرَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم الحمر الأهلية مخافةَ قلة الظهر، وسنده ضعيف.

وفي حديث ابن أبي أوفى رضي الله عنه: فتحدّثنا أنه إنما نهى عنها؛ لأنها لم تُخْمَس، وقال بعضهم: نَهَى عنها؛ لأنها كانت تأكل العَذِرة.

وقد أزال هذه الاحتمالات من كونها لم تخمس، أو كانت جلّالةً، أو كانت انتُهِبَت حديثُ أنس رضي الله عنه الآتي عند مسلم بعد أربعة عشر حديثًا، حيث جاء فيه:"فإنها رجس"، وكذا الأمر بغسل الإناء في حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه الآتي.

قال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "فإنها رجس" ظاهر في عَوْد الضمير على الحمر؛ لأنها المتحدَّث عنها المأمور بإكفائها من القدور وغسلها، وهذا حكم المتنجس، فيستفاد منه تحريم أكلها، وهو دالّ على تحريمها لعينها، لا لمعنى خارج.

وقال ابن دقيق العيد رحمه الله: الأمر بإكفاء القدور ظاهرٌ أنه سبب تحريم لحم الحمر، وقد وردت علل أخرى إن صح رفع شيء منها وجب المصير إليه، لكن لا مانع أن يعلَّل الحكم بأكثر من علة، وحديث أبي ثعلبة صريح في التحريم، فلا مَعْدِل عنه.

وأما التعليل بخشية قلة الظهر فأجاب عنه الطحاويّ بالمعارضة بالخيل، فإن في حديث جابر النهي عن الحمر، والإذن في الخيل مقرونًا، فلو كانت العلة لأجل الحمولة لكانت الخيل أولى بالمنع لقلّتها عندهم، وعزّتها، وشدة حاجتهم إليها.

ص: 169

والجواب عن آية الأنعام أنها مكية، وخبر التحريم متأخر جدًّا، فهو مقدّم، وأيضًا فنص الآية خبر عن الحكم الموجود عند نزولها، فإنه حينئذ لم يكن نزل في تحريم المأكول إلا ما ذُكر فيها، وليس فيها ما يمنع أن ينزل بعد ذلك غير ما فيها، وقد نزل بعدها في المدينة أحكام بتحريم أشياء غير ما ذُكر فيها، كالخمر في آية المائدة، وفيها أيضًا تحريم ما أُهِلّ لغير الله به، والمنخنقة إلى آخره، وكتحريم السباع، والحشرات.

قال النوويّ: قال بتحريم الحمر الأهلية أكثر العلماء، من الصحابة، فمَن بعدَهم، ولم نجد عن أحد من الصحابة في ذلك خلافًا لهم، إلا عن ابن عباس، وعند المالكية ثلاث روايات، ثالثها الكراهة.

وأما الحديث الذي أخرجه أبو داود، عن غالب بن أبجر قال:"أصابتنا سَنَة، فلم يكن في مالي ما أُطعم أهلي، إلا سِمَان حمر، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: إنك حرَّمت لحوم الحمر الأهلية، وقد أصابتنا سَنَةٌ، قال: أطعم أهلك من سمين حمرك، فإنما حرمتها من أجل جَوّال القرية - يعني: الجلالة -"، وإسناده ضعيف، والمتن شاذّ مخالف للأحاديث الصحيحة، فالاعتماد عليها.

وأما الحديث الذي أخرجه الطبرانيّ عن أم نصر المحاربية: "أن رجلًا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحمر الأهلية، فقال: أليس ترعى الكلأ، وتأكل الشجر؟ قال: نعم، قال: فأصب من لحومها".

وأخرجه ابن أبي شيبة من طريق رجل من بني مُرّة، قال: سألت. . . فذكر نحوه، ففي السندين مقالٌ، ولو ثبتا احْتَمَل أن يكون قبل التحريم.

قال الطحاويّ: لو تواتر الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتحريم الحمر الأهلية، لكان النظر يقتضي حِلَّها؛ لأن كل ما حُرِّم من الأهليّ أُجمع على تحريمه، إذا كان وحشيًّا، كالخنزير، وقد أجمع العلماء على حِل الحمار الوحشيّ، فكان النظر يقتضي حِل الحمار الأهليّ.

وتعقّبه الحافظ، فقال: ما ادّعاه من الإجماع مردود، فإن كثيرًا من الحيوان الأهليّ مختلف في نظيره من الحيوان الوحشيّ، كالهرّ. انتهى

(1)

.

(1)

"الفتح" 12/ 510 - 512، كتاب "الذبائح والصيد" رقم (5530).

ص: 170

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن بما ذُكر أن ما ذهب إليه جمهور العلماء من تحريم الحمُر الأهليّة هو الحقّ؛ لكثرة الأحاديث الصحيحة الصريحة فيه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4998]

(. . .) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ نُمَيْرٍ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، قَالُوا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ (ح) وَحَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ (ح) وَحَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ، وَحَرْمَلَةُ قَالَا: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ (ح) وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ قَالَا: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، كُلُّهُمْ عَنِ الزُّهْرِيِّ، بِهَذَا الإِسْنَادِ، وَفِي حَدِيثِ يُونُسَ:"وَعَنْ أَكْلِ لُحُومِ الْحُمُرِ الإِنْسِيَّةِ").

رجال هذا الإسناد: خمسة عشر:

1 -

(ابْنُ نُمَيْرٍ) هو: محمد بن عبد الله بن نُمير الْهَمدانيّ الكوفيّ.

2 -

(عبدُ اللهِ بنُ نُمَيْرٍ الْهَمدانيّ الكوفيّ)، تقدّم أيضًا قبل ثلاثة أبواب.

3 -

(عُبَيْدُ اللهِ) بن عُمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطّاب العدويّ العُمريّ، أبو عثمان المدنيّ، ثقةُ ثبتٌ فقيه [5] مات سنة بضع و (140)(ع) تقدم في "الإيمان" 28/ 222.

والباقون تقدّموا في البابين الماضيين.

وقوله: (كُلُّهُمْ عَنِ الزُّهْرِيِّ. . . إلخ)؛ يعني: كلّ هؤلاء الأربعة: سفيان بن عيينة، وعبيد الله العمريّ، ويونس بن يزيد الأيليّ، ومعمر بن راشد رووا هذا الحديث عن الزهريّ، عن عبد الله والحسن ابني محمد بن عليّ، عن أبيهما، عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه.

[تنبيه]: روايات هؤلاء الأربعة سوى معمر عن الزهريّ قد تقدّم أن المصنّف ساقها في "كتاب النكاح" برقم [3434 و 3435 و 3436](1407)، فراجعها تستفد، وبالله تعالى التوفيق.

وأما رواية معمر، عن الزهريّ، فقد ساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:

ص: 171

(1203)

- حدّثنا عبد الله، حدّثني أبي، ثنا عبد الرزاق، أنبأنا معمر، عن الزهريّ، عن الحسن وعبد الله ابني محمد بن عليّ، عن أبيهما محمد بن عليّ، أنه سمع أباه عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه قال لابن عباس، وبلغه أنه رخص في متعة النساء، فقال له عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه:"إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نَهَى عنها يوم خيبر، وعن لحوم الحمر الأهلية". انتهى

(1)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4999]

(1936) - (وَحَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْحُلْوَانِيُّ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، كِلَاهُمَا عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَنَّ أَبَا إِدْرِيسَ أَخْبَرَهُ، أَنَّ أَبَا ثَعْلَبَةَ قَالَ: "حَرَّمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لُحُومَ الْحُمُرِ الأَهْلِيَّةِ").

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

وقد تقدّم الإسناد نفسه قبل باب.

وقوله: (حَرَّمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لُحُومَ الْحُمُرِ الأَهْلِيَّةِ) قال القرطبي: هذه الرواية نصٌّ في تحريمها، وهي مفسِّرة للنَّهي الوارد في الروايات الأخر، وبالتحريم للحوم الحمر الأهلية قال جمهور العلماء سلفًا وخلفًا، وفي مذهب مالك قولٌ بالكراهة المغلظة، والصحيح: الأول؛ لِمَا تقدم.

لا يقالُ: كيف يُجْزَم بتحريم أكْلها مع اختلاف الصحابة في تعليل النهي الوارد فيها على أقوال؛ فمنهم من قال: نهى عنها لأنَّها لم تُخَتَّس، ومنهم من قال: لأنها كانت حَمولتهم، ومنهم من قال: لأنها كانت تأكل الْجَلَّة، كما ذكره أبو داود، ومنهم من قال: لأنها رجس، وهذه كلها ثابتة بطرق صحيحة، وهي متقابلة، فلا تقوم بواحد منها حجَّة. فكيف يجزم بالتحريم، وإذا لم يجزم بالتحريم فأقل درجات النهي أن يحمل على الكراهة؟.

لأنَّا نجيب عن ذلك بأن الصحابيّ قد نصَّ على التحريم كما ذكرناه آنفًا، وبأن أولى العلل ما صرَّح به منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: "إن الله ورسوله

(1)

"مسند الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله" 1/ 142.

ص: 172

ينهيانكم عنها، فإنَّها رجسٌ من عمل الشيطان"، والرِّجس: النَّجس، فلحومها نجسة؛ لأنَّها هي التي عاد عليها ضمير "إنها رجس"، وهي التي أمر بإراقتها من القدور، وغسلها منها، وهذا حكم النجاسة.

فظهر: أن هذه العلَّة أَولى من كل ما قيل فيها.

وأما التعليل الذي ذكره أبو داود من حديث غالب بن أبجر، وهو الذي قال فيه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم:"إنما حرمتها عليكم من أجل جوَّال القرية"؛ فحديث لا يصح؛ لأنَّه يرويه عنه عبد الله بن عمرو بن لُويم

(1)

، وهو مجهول، وقد رواه رجل يقال له: عبد الرحمن بن بشر، وهو أيضًا مجهولٌ على ما ذكره أبو محمد عبد الحقّ.

وأما ما عدا ذلك من العلل التي ذكرنا فمتوهَّمة مقدَّرة، لا يشهد لها دليل، فصحَّ ما قلناه، والحمد لله.

ثم نقول: ولا بُعْد في تعليل تحريمها بعلل مختلفة، كل واحدة منها مستقلة بإفادة التحريم. وهو الصحيح من أحد القولين للأصوليين.

وأمَّا تعليل من علَّلها بعدم التخميس فغير صحيح؛ لأنَّه يجوز أكل الطعام والعلوفة من الغنيمة قبل القسمة اتفاقًا، لا سيما في حالة المجاعة، والحاجة. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(2)

.

مسألتان تتعلقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي ثعلبة الْخُشَنيّ رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخرجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [5/ 4999](1936)، و (البخاريّ) في "الذبائح"(4215 و 4218 و 5527)، و (النسائيّ) في "الصيد"(7/ 203) و"الكبرى"(3/ 161)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 21 و 203 و 143 و 144)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(5/ 16)، والله تعالى أعلم.

(1)

باللام مصغّرًا.

(2)

"المفهم" 5/ 224.

ص: 173

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5000]

(1)

(561) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ، حَدَّثَنى نَافِعٌ وَسَالِمٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: "أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ أَكْلِ لُحُومِ الْحُمُرِ الأَهْلِيَّةِ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(نَافِعٌ) العدويّ مولى ابن عمر، أبو عبد الله المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ مشهور [3](ت 117)(ع) تقدم في "الإيمان" 28/ 222.

2 -

(سَالِمُ) بن عبد الله بن عمر بن الخطّاب العدويّ، أبو عمر، أو أبو عبد الله المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ فاضل، من كبار [3](106) على الصحيح (ع) تقدم في "الإيمان" 14/ 162.

3 -

(ابْنُ عُمَرَ) هو: عبد الله بن عمر بن الخطّاب العدويّ، أبو عبد الرحمن المدنيّ، مات رضي الله عنه سنة (73) أو قبلها (ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 102.

والباقون ذُكروا قبل حديث، والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه مستوفًى، وفيه مسألتان:

(المسألة الأولى): حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [5/ 5000 و 5001](561)، والبخاريّ في "المغازي"(415 و 4217 و 4218) و"الذبائح"(5522)، و (النسائيّ) في "الصيد"(7/ 203)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 21 و 102 و 143 و 144)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(4/ 204)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5275)، و (ابن الجارود) في

(1)

قال الجامع عفا الله عنه وعن والديه: هذا الحديث نهاية الألف الخامس، وقد انتهيت منه - بحمد الله تعالى وتوفيقه - بعد صلاة العصر يوم الأربعاء 9/ 8/ 1431 هـ الموافق 21 يوليو 2010 م، وكانت المدّة التي بين نهاية الألف الرابع الماضي، ونهاية الألف الخامس هذا سنة كاملة، وشهرين وثلاثة عشر يومًا، وهذا من عظيم فضل الله تعالى عليّ، وحسن توفيقه، الحمد لله ربّ العالمين، الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه، مباركًا عليه، كما يحبّ ربنا ويرضى، سبحانك لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك، سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت أستغفرك، وأتوب إليك.

ص: 174

"المنتقى"(883)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(9/ 329)، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5001]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِي هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي نَافِعٌ، قَالَ: قَالَ ابْنُ عُمَرَ (ح) وَحَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا أَبِي وَمَعْنُ بْنُ عِيسَى، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ:"نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَكْلِ الْحِمَارِ الأَهْلِيِّ يَوْمَ خَيْبَرَ، وَكَانَ النَّاسُ احْتَاجُوا إِلَيْهَا").

رجال هذا الإسناد: تسعة:

1 -

(هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) أبو موسى الحمّال البغداديّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرِ) بن عثمان الْبُرْسانيّ، أبو عثمان البصريّ، صدوقٌ [9](ت 204)(ع) تقدم في "الإيمان" 65/ 369.

3 -

(ابْنُ جُرَيْجٍ) عبد الملك بن عبد العزيز بن جُريج الأمويّ مولاهم، أبو خالد، وأبو وليد المكيّ، ثقةٌ فقيهٌ فاضلٌ، يدلّس، ويرسل [6](ت 150) أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 129.

4 -

(وَالِدُ ابن أبي عمر) هو: يحيى بن أبي عُمر الْعَدنيّ المكيّ، والد محمد بن يحيى بن أبي عمر، ويقال: كنية يحيى: أبو عمر، مقبول [10].

روى عن مالك بن أنس، ومحمد بن عبد الملك بن جريج، وعنه ابنه محمد، تفرّد به مسلم، فأخرج له هذا الحديث فقط مقرونًا.

5 -

(مَعْنُ بْنُ عِيسَى) بن يحيى الأشجعيّ مولاهم، أبو يحيى المدنيّ القزّاز، ثقةٌ ثبتٌ، قال أبو حاتم: أثبت أصحاب مالك، من كبار [10](ت 198)(ع) تقدم في "الطهارة" 7/ 563.

والباقون تقدّموا في البابين الماضيين.

وقوله: (وَكَانَ النَّاسُ احْتَاجُوا إِلَيْهَا)؛ أي: إلى ركوبها، وحمل أمتعتهم عليها، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5002]

(1937) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، عَنِ الشَّيْبَانِيِّ قَالَ: سَأَلْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ أَبِي أَوْفَى عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الأَهْلِيَّةِ، فَقَالَ:

ص: 175

أَصَابَتْنَا مَجَاعَةٌ يَوْمَ خَيْبَرَ، وَنَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَقَدْ أَصَبْنَا لِلْقَوْمِ حُمُرًا خَارِجَةً مِنَ الْمَدِينَةِ، فَنَحَرْنَاهَا، فَإِنَّ قُدُورَنَا لَتَغْلِي، إِذْ نَادَى مُنَادِي رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"أَنِ اكْفَئُوا الْقُدُورَ، وَلَا تَطْعَمُوا مِنْ لُحُومِ الْحُمُرِ شَيْئًا"، فَقُلْتُ: حَرَّمَهَا تَحْرِيمَ مَاذَا؟ قَالَ: تَحَدَّثْنَا بَيْنَنَا، فَقُلْنَا: حَرَّمَهَا أَلْبَتَّةَ، وَحَرَّمَهَا مِنْ أَجْلِ أَنَّهَا لَمْ تُخَمَّسْ).

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ) تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

2 -

(الشَّيْبَانِيُّ) سليمان بن أبي سليمان فيروز، أبو إسحاق الكوفيّ، ثقةٌ [5] مات في حدود (140)(ع) تقدم في "الإيمان" 38/ 259.

3 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي أَوْفَى) علقمة بن خالد بن الحارث الأسلميّ الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، شَهِد الْحُديبية، وعُمّر بعد النبيّ صلى الله عليه وسلم دهرًا، ومات سنة (87)(ع) تقدم في "الصلاة" 41/ 1072.

و"أبو بكر" ذُكر في ثاني أحاديث الباب.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، كلاحقه، وهو (355) من رباعيّات الكتاب، وأنه مسلسلٌ بالكوفيين، وأن صحابيّه ابن صحابيّ، وأنه آخر من مات من الصحابة رضي الله عنهم بالكوفة.

شرح الحديث:

(عَنِ الشَّيْبَانِيِّ) سليمان بن أبي سليمان، واسم أبيه فيروز، (قَالَ: سَأَلْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ أَبِي أَوْفَى) تقدّم أن اسم أبيه علقمة بن خالد، (عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الأَهْلِيَّةِ)؛ أي: حُكم أكلها، (فَقَالَ: أَصَابَتْنَا مَجَاعَةٌ) بفتح الميم؛ أي: جُوَعٌ، قال المجد رحمه الله: الْجُوع - أي: بالضمّ -: شدّ الشِّبَع، وبالفتح: المصدر، يقال: جاع يجُوع جَوْعًا، ومَجَاعَةً، فهو جائع، وجَوْعانُ، وهي جائعة، وجَوْعَى. انتهى

(1)

.

وقال الفيّوميّ: جَاعَ الرجل جَوْعًا - أي: بالفتح - والاسم: الجُوعُ بالضمّ، وجَوْعَةٌ، وهو عامُ المَجَاعَةِ، والمَجْوَعَةِ، وجَوَّعَهُ تَجْويعًا، وأَجَاعَهُ إِجَاعَةً: منعه الطعام والشراب، فالرجل: جَائِعٌ، وجَوْعَانُ، وامرأة: جَائِعَةٌ، وجَوْعَى، وقومٌ: جِيَاعٌ، وجُوَّعٌ. انتهى

(2)

.

(1)

"القاموس المحيط" ص 248.

(2)

"المصباح المنير" 1/ 115.

ص: 176

وقوله: (يَوْمَ خَيْبَرَ) منصوب الظرفيّة لـ "أصابتنا"، وقوله:(وَنَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) جملة حاليّة من المفعول، وكذا قوله:(وَقَدْ أَصَبْنَا لِلْقَوْمِ)؛ أي: لليهود، (حُمُرًا) ذكر الواقديّ أن عِدّة الحمر التي ذبحوها كانت عشرين، أو ثلاثين، كذا رواه بالشكّ. (خَارِجَةً مِنَ الْمَدِينَةِ)؛ أي: من مدينة خيبر، لا من مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، (فَنَحَرْنَاهَا)؛ أي: طعنّا نحرها، والمراد أنهم ذبحوها، يقال: نحره، كمنعه نحرًا، وتِنْحَارًا: أصاب نَحْره، ونَحَر البعير: طعنه حيثُ يبدو الْحُلقوم على الصدر، قاله المجد رحمه الله

(1)

.

وفي رواية البخاريّ: "فلما كان يوم خيبر وقعنا في الحمر الأهليّة، فانتحرناها، فلما غلت القدور. . ." الحديث.

(فَإِنَّ قُدُورَنَا لَتَغْلِي) بفتح أوله، وكسر ثالثه، يقال: غَلَتِ القِدْرُ غَلْيًا، من باب ضَرَبَ، وغَلَيَانًا أيضًا، قال الفرّاء: إذا كان الفعل في معنى الذهاب والمجيء مُضطربًا، فلا تهابَنّ في مصدره الفَعَلانَ، وفي لغة: غَلِيَتْ تَغْلَى، من باب تَعِبَ، قال أبو الأسود الدُّؤليّ [من البسيط]:

وَلَا أَقُولُ لِقِدْرِ الْقَوْمِ قَدْ غَلِيَتْ

وَلَا أَقُولُ لِبَابِ الدَّارِ مَغْلُوقُ

والأُولى هي الْفُصحى، وبها جاء الكتاب العزيز في قوله تعالى:{يَغْلِي فِي الْبُطُونِ} الآية، ويتعدَّى بالهمزة، فيقال: أغليتُ الزيتَ، ونحوه إغلاءً، فهو مُغْلًى

(2)

.

(إِذْ نَادَى مُنَادِي رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) سيأتي قريبًا في حديث أنس رضي الله عنه أن المنادي هو أبو طلحة رضي الله عنه، وفي رواية أنه بلال رضي الله عنه، وفي رواية النسائيّ أنه عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، ولفظه: "فأمر

(3)

عبد الرحمن بن عوف، فأذّن في الناس: ألا إن لحوم الحمر الإنس لا تحلّ لمن يشهد أني رسول الله".

قال الحافظ: ولعلّ عبد الرحمن نادى أولًا بالنهي مطلقًا، ثم نادى أبو طلحة، وبلال بزيادة على ذلك، وهو قوله:"فإنها رجسٌ". انتهى.

(أَنِ اكْفَئُوا الْقُدُورَ)"أن" هنا تفسيريّة، بمعنى "أيْ"؛ أي: اكفئوا القدور، و"اكفئوا" قال القاضي عياض: ضبطناه بألف الوصل، وفتح الفاء، من كفأت

(1)

"القاموس المحيط" ص 1267.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 452 - 453.

(3)

أي: النبيّ صلى الله عليه وسلم.

ص: 177

ثلاثيًّا، ومعناه: قلبتُ، قال: ويصحّ قطع الهمزة، وكسر الفاء، من أكفأت رباعيًّا، وهما لغتان، بمعنى واحد، عند كثير من أهل اللغة، ومنهم الخليل، والكسائيّ، وابن السِّكِّيت، وابن قُتيبة، وغيرهم، وقال الأصمعيّ: يقال: كفأت، ولا يقال: أكفأت بالألف. انتهى

(1)

.

(وَلَا تَطْعَمُوا) بفتح أوله، وثالثه، من باب تَعِبَ، (مِنْ لُحُومِ الْحُمُرِ شَيْئًا)؛ أي: لا قليلًا، ولا كثيرًا. (فَقُلْتُ) القائل هو عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه، (حَرَّمَهَا تَحْرِيمَ مَاذَا؟)؛ أي: أي تحريم حرّمها صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ ابن أبي أوفى (تَحَدَّثْنَا بَيْنَنَا) أيتها الصحابة رضي الله عنهم (فَقُلْنَا حَرَّمَهَا)؛ أي: لحوم الحمر الأهلية (الْبَتَّةَ)؛ أي: قطعًا، قال في "الفتح": قوله: "البتّة" معناه القطع، وألفها ألف وصل، وجزم الكرمانيّ بأنها ألف قطع على غير قياس، قال الحافظ: ولم أر ما قاله في كلام أحد من أهل اللغة، قال الجوهريّ: الانبتات الانقطاع، ورجلٌ منبتّ؛ أي: مُنْقَطعٌ به، ويقال: لا أفعله بَتّةً، ولا أفعله البتّةَ لكلّ أمر لا رجعة فيه، ونصبه على المصدر. انتهى، قال الحافظ: ورأيته في النسخ المعتمدة بألف وصل. انتهى

(2)

.

وقال المرتضى في "التاج": قال ابنُ بَرِّيّ: مذهبُ سِيبَوَيْهِ وأصحابِه أنّ "البَتَّةَ" لا تكون إلّا مَعْرِفَةً، البَتَّةَ لا غيرُ، وإنّما أجاز تَنْكيرَه الفَرَّاءُ وَحْدَهُ، وهو كوفيٌّ، ونقل شيخُنا عن الدَّمامينيّ في "شرْحِ التَّسهيل" زَعَم في "اللُّباب" أنّه سُمع في البَتَّةِ قطعُ الهمزة، وقال شارحه في "العُباب": إنّه المسموع، قال البَدْرُ: ولا أعرِفُ ذلك من جهةِ غَيرِهِما؛ وبالغ في رَدِّه، وتَعقّبه وتَصدّى لذلك أيضًا عبد المَلِكِ العِصاميُّ في "حاشيته على شرح القَطْرِ" للمصنِّف. انتهى

(3)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن بما ذُكر أن الصواب في همزة "البتّة" الوصل، لا القطع، فليُتنبّه، والله تعالى أعلم.

وفي رواية البخاريّ: "وقال بعضهم: نهى عنها البتّة؛ لأنها تأكل العَذِرة".

(1)

"إكمال المعلم" 6/ 380، و"شرح النوويّ" 13/ 92 - 93.

(2)

"الفتح" 9/ 324 - 325، كتاب "المغازي" رقم (4220).

(3)

"تاج العروس" 1/ 1047.

ص: 178

وقوله: (وَحَرَّمَهَا)؛ أي: قال بعضٌ آخر: حَرّمها (مِنْ أَجْلِ أَنَّهَا لَمْ تُخَمَّسْ) على صيغة المبنيّ للمجهول، من التخميس؛ أي: لأنه لم يؤخذ منها الخمس، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [5/ 5002 و 5003](1937)، و (البخاريّ) في "فرض الخمس"(3155) و"المغازي"(4220 و 4222 و 4225 و 4226) و"الذبائح"(5526)، و (النسائيّ) في "الصيد"(4341) و"الكبرى"(4851)، و (ابن ماجه) في "الذبائح"(3152)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(5/ 122)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 354 و 355 و 357 و 381)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(5/ 30)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(9/ 330)، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5003]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو كَامِلٍ فُضَيْلُ بْنُ حُسَيْنٍ، حَدَّثَنَا عبد الوَاحِدِ - يَعْنِي: ابْنَ زِيَادٍ - حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ الشَّيْبَانِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ أَبِي أَوْفَى يَقُولُ: أَصَابَتْنَا مَجَاعَةٌ لَيَالِيَ خَيْبَرَ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ خَيْبَرَ وَقَعْنَا فِي الْحُمُرِ الأَهْلِيَّةِ، فَانْتَحَرْنَاهَا، فَلَمَّا غَلَتْ بِهَا الْقُدُورُ نَادَى مُنَادِي رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَنِ اكْفَئُوا الْقُدُورَ، وَلَا تَأْكُلُوا مِنْ لُحُومِ الْحُمُرِ شَيْئًا"، قَالَ: فَقَالَ نَاسٌ: إِنَّمَا نَهَى عَنْهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لأَنَّهَا لَمْ تُخَمَّسْ، وَقَالَ آخَرُونَ: نَهَى عَنْهَا الْبَتَّةَ).

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(أَبُو كَامِلٍ فُضَيْلُ بْنُ حُسَيْنٍ) تقدّم قبل باب.

2 -

(عبدُ الوَاحِدِ بْنُ زِيَادٍ) العبديّ، تقدّم قريبًا.

والباقيان ذُكرا قبله.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، كسابقه، وهو (356) من رباعيّات الكتاب.

ص: 179

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5004]

(1938) - (حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَدِيٍّ - وَهُوَ ابْنُ ثَابِتٍ - قَالَ: سَمِعْتُ الْبَرَاءَ، وَعَبْدَ اللهِ بْنَ أَبِي أَوْفَى يَقُولَانِ: أَصَبْنَا حُمُرًا، فَطَبَخْنَاهَا، فَنَادَى مُنَادِي رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "اكْفَئُو الْقُدُورَ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عَدِيُّ بْنُ ثَابِتٍ) الأنصاريّ الكوفيّ، ثقةٌ رُمي بالتشيّع [4](ت 116)(ع) تقدم في "الإيمان" 35/ 244.

2 -

(الْبَرَاءُ) بن عازب بن الحارث بن عديّ الأنصاريّ الأوسيّ الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، مات (72)(ع) تقدم في "الإيمان" 35/ 244.

والباقون ذُكروا في الباب وقبل باب.

وقوله: (فَنَادَى مُنَادِي رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) تقدّم أنه أبو طلحة الأنصاريّ، كما في رواية مسلم، أو عبد الرحمن بن عوف، كما في رواية للنسائيّ، أو بلال، كما عند النسائيّ أيضًا، وتقدّم وجه الجمع، فلا تغفل.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى البحث فيه مستوفًى، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5005]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى وَابْنُ بَشَّارٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، قَالَ: قَالَ الْبَرَاءُ: أَصَبْنَا يَوْمَ خَيْبَرَ حُمُرًا، فَنَادَى مُنَادِي رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَنِ اكْفَئُوا الْقُدُورَ").

رجال هذا الإسناد ستّة:

وكلّهم تقدّموا قريبًا، و"أبو إسحاق" هو: عمرو بن عبد الله بن عُبيد السَّبيعيّ.

[تنبيه]: قال أبو مسعود الدمشقيّ رحمه الله: لهذا الحديث تعليلٌ، وهو مرسل، قال الرشيد العطّار بعد نقل كلام أبي مسعود هذا: قلت: يعني أن أبا إسحاق لم يسمعه من البراء رضي الله عنه، ولذلك قال فيه: قال البراء، فإن ثبت اتّصاله

ص: 180

من هذا الوجه، فإنه متّصل في كتاب مسلم رحمه الله من رواية الشعبيّ وغيره عن البراء بنحوه.

وقال القاضي عياض في "الإكمال" وهذا مما يجب النظر فيه؛ لأنه لم يُعيّن المنادي، ولا ذكر إضافة نصّ قوله إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولكن الأظهر أن النداء في الجيش لا يخفى على الإمام والصاحب إضافته إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فهذا مما يُعلم بقرينة الحال. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: الذي يظهر لي أن صنيع مسلم رحمه الله يدلّ على أنه ثبت لديه سماع أبي إسحاق عن البراء رضي الله عنه، فإن أبا إسحاق مشهور بالتدليس، فلا يستجيز مسلم أن يسوق إسناده مساق الأسانيد المتّصلة، إلا وترجح لديه ثبوت سماعه، وما يقوّي ما قلته أن هذا الحديث رواه شعبة عن أبي إسحاق، وهو لا يروي عنه، ولا عن غيره من مشايخه المدلّسين إلا ما صرّحوا فيه بالسماع، وقد نظمت ذلك بقولي:

شُعْبَةُ لَا يَرْوِي عَنِ الْمُدَلِّسِ

إِلَّا الَّذِي سَمِعَهُ فَاسْتَأْنِسِ

لِذَا إِذَا رَوَى عَنِ الأَعْمَشِ أَوْ

قَتَادَةٍ أَوِ السَّبِيعِيْ مَا رَوَوْا

مُعَنْعَنًا لَا تَخْشَ تَدْلِيسًا فَقَدْ

كَفَاكَهُ هَذَا الإِمَامُ الْمُعْتَمَدْ

والحاصل أن ظاهر ما دلّ عليه صنيع مسلم من ترجيحه اتّصال هذا الإسناد هو الذي يظهر لي، والله تعالى أعلم.

وقوله: (فَنَادَى مُنَادِي رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) تقدّم أنه أبو طلحة رضي الله عنه، أو غيره.

وقوله: (أَنِ اكْفَئُوا الْقُدُورَ)"أن" هنا هي التفسيريّة، بمعنى "أَيْ"، و"اكفئوا" تقدّم بوصل الهمزة، من كفأ ثلاثيًّا، وبقطعها، من أكفأ رباعيًّا.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى البحث فيه مستوفًى، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5006]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ أَبُو كُرَيْبٍ: حَدَّثَنَا ابْنُ بِشْرٍ، عَنْ مِسْعَرٍ، عَنْ ثَابِتِ بْنِ عُبَيْدٍ، قَالَ: سَمِعْتُ الْبَرَاءَ يَقُولُ: نُهِينَا عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الأَهْلِيَّةِ).

(1)

"إكمال المعلم" 6/ 381.

ص: 181

رجال هذا الإسناد: ستّةٌ:

1 -

(ابْنُ بِشْرٍ) هو: محمد بن بشر بن الفرافصة العبديّ، أبو عبد الله الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ [9](ت 203)(ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 107.

2 -

(مِسْعَرُ) بن كدام بن ظُهير الهلاليّ، أبو سلمة الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ فاضلٌ [7](ت 3 أو 155)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 31.

3 -

(ثَابِتُ بْنُ عُبَيْدٍ) الأنصاريّ، مولى زيد بن ثابت، الكوفيّ، ثقةٌ [3](بخ م 4) تقدم في "الحيض" 3/ 695.

والباقون ذُكروا في الباب، وقبله، والحديث تقدّم البحث فيه مستوفًى، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5007]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، قَالَ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ نُلْقِيَ لُحُومَ الْحُمُرِ الأَهْلِيَّةِ نِيئَةً، وَنَضِيجَةً، ثُمَّ لَمْ يَأْمُرْنَا بِأَكْلِهِ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(جَرِيرُ) بن عبد الحميد، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

2 -

(عَاصِمُ) بن سليمان الأحول، تقدّم أيضًا قبل ثلاثة أبواب.

3 -

(الشَّعْبِيُّ) عامر بن شَرَاحيل، تقدّم أيضًا قبل ثلاثة أبواب.

والباقيان ذُكرا في الباب.

وقوله: (نِيئَةً) بكسر النون، وبالهمزة؛ أي: غير مطبوخة، قاله النوويّ، وقال الفيّوميّ: النِّيءُ مهموزٌ، وزانُ حِمِل: كلُّ شيء شأنه أن يُعَالَجَ بطبخ، أو شيّ، ولم يَنضَجْ، فيقال: لحم نَيْءٌ، والإبدال، والإدغام عاميّ، ونَاءَ اللحمُ وغيره نَيْئًا، من باب باع: إذا كان غير نَضِيج، ويُعَدَّى بالهمزة، فيقال: أَنَاءَهُ صاحبه: إذا لم ينضجه. انتهى

(1)

.

وقوله: (وَنَضِيجَةً)؛ أي: الصالح للأكل، يقال: نَضِجَ اللحم والفاكهة

(1)

"المصباح المنير" 2/ 632.

ص: 182

نَضْجًا، من باب تَعِبَ: طاب أكله، والاسم: النُّضْجُ بضمّ النون، وفتحُها لغةٌ، والفاعل: ناضجٌ، ونَضِيجٌ، وأنضجته بالطبخ، فهو مُنْضَجٌ، ونَضِيجٌ أيضًا

(1)

.

وقوله: (ثُمَّ لَمْ يَأْمُرْنَا بِأَكْلِهِ) وفي رواية البخاريّ: "فلم يأمرنا بعدُ بأكله" بضم الدال؛ أي: بعد أمره صلى الله عليه وسلم بإلقاء الحمر الأهلية، وفيه إشارة إلى استمرار تحريمه، وقد تقدّم البحث فيه مستوفًى في المسألة المذكورة في شرح حديث عليّ رضي الله عنه أوّل الباب، والحديث متّفقٌ عليه.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5008]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِيهِ أَبُو سَعِيدٍ الأَشَجُّ، حَدَّثَنَا حَفْصٌ - يَعْنِي: ابْنَ غِيَاثٍ - عَنْ عَاصِمٍ، بِهَذَا الإِسْنَادِ نَحْوَهُ).

رجال هذا الإسناد: ثلاثة:

1 -

(أَبُو سَعِيدٍ الأَشَجُّ) عبد الله بن سعيد بن حُصين الْكِنْديّ الكوفيّ، ثقةٌ، من صغار [10](ت 257)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 17.

2 -

(حَفْصُ بْنُ غِيَاثِ) بن طلق بن معاوية النخعيّ، أبو عمر الكوفيّ القاضي، ثقةٌ فقيهٌ، تغيّر حفظه قليلًا في الآخر [8](ت 4 أو 195)(ع) تقدم في "الإيمان" 8/ 136.

و"عاصم الأحول" ذُكر قبله.

[تنبيه]: رواية حفص بن غياث عن عاصم الأحول هذه لم أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5009]

(1939) - (وَحَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ يُوسُفَ الأَزْدِيُّ، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ عَامِرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: لَا أَدْرِي إِنَّمَا نَهَى عَنْهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ كَانَ حَمُولَةَ النَّاسِ، فَكَرِهَ أَنْ تَذْهَبَ حَمُولَتُهُمْ، أَوْ حَرَّمَهُ فِي يَوْمِ خَيْبَرَ لُحُومَ الْحُمُرِ الأَهْلِيَّةِ).

(1)

"المصباح المنير" 2/ 609.

ص: 183

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(أَحْمَدُ بْنُ يُوسُفَ الأَزْدِيُّ) أبو الحسن النيسابوريّ المعروف بحمدان، ثقةٌ حافظٌ [11](ت 264) وله ثمانون سنة (م د س ق) تقدم في "المقدمة" 6/ 90.

2 -

(عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ) أبو حفص الكوفيّ، ثقةٌ ربّما وَهِمَ [10](222)(خ م د ت س) تقدم في "الطهارة" 32/ 675.

3 -

(ابْنُ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما، تقدّم قبل باب.

والباقون ذكروا قبله.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من سُداسيّات المصنّف، وأن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه ابن عبّاس رضي الله عنهما أحد العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة، والمشهورين بالفتوى.

شرح الحديث:

(عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما أنه (قَالَ: لَا أَدْرِي)؛ أي: لا أعلم (إِنَّمَا نَهَى عَنْهُ)؛ أي: عن لحم الحمر الأهلية، والهمزة فيه للاستفهام، على سبيل الاستخبار

(1)

، (رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ كَانَ حَمُولَةَ النَّاسِ) بفتح الحاء، وهي التي يَحْمِل عليها الناس متاعهم، من الدوابّ، سواءٌ كانت عليها الأحمال، أو لم تكن، كالرَّكُوبة، وقال الكرمانيّ: الحمولة كلُّ ما احتَمَل عليه الحيّ، من حمار وغيره

(2)

. (فَكَرِهَ أَنْ تَذْهَبَ حَمُولَتُهُمْ، أَوْ حَرَّمَهُ فِي يَوْمِ خَيْبَرَ)؛ يعني: تحريمًا مطلقًا مؤبدًا، وقوله:(لُحُومَ الْحُمُرِ الأَهْلِيَّةِ) بنصب "لحوم" بفعل مقدّر؛ أي: أعني، ويَحْتَمِل الرفع على تقدير مبتدأ؛ أي: هو.

وفي رواية البخاريّ: "لحم الحمر الأهليّة" بإفراد لفظ "لحم"، قال في "العمدة": هذا بيان للضمير الذي في "عنه"، وفي "حرّمه"، ويجوز فيه النصب على تقدير: أعني لحمَ الحمر الأهلية، والرفع على تقدير: هو لحم الحمر الأهلية، فالنصب على المفعولية، والرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف. انتهى

(3)

.

(1)

"عمدة القاري" 17/ 250.

(2)

"عمدة القاري" 17/ 250.

(3)

"عمدة القاري" 17/ 250.

ص: 184

وهذا الذي قاله ابن عبّاس رضي الله عنهما هنا يبيّن أنه علم بالنهي، لكنه حمله على التنزيه توفيقًا بين الآية وعمومها، وبين أحاديث النهي.

وقال أبو عمر بن عبد البرّ رحمه الله: وفي إذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أكل الخيل وإباحته لذلك يوم خيبر دليل على أن نهيه عن أكل لحوم الحمر يومئذ عبادة لغير علة؛ لأنه معلوم أن الخيل أرفع من الحمير، وأن الخوف على الخيل وعلى قيامها فوق الخوف على الحمير، وأن الحاجة في الغزو وغيره إلى الخيل أعظم.

وبهذا يتبيّن أن أكل لحوم الحمر لم يكن لحاجة وضرورة إلى الظَّهر والحمل، وإنما كانت عبادةً وشريعةً، والذين ذهبوا إلى إباحة أكل لحوم الحمر الأهلية، وهم عاصم بن عمر بن قتادة، وعبيد بن الحسن، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وبعض المالكية، احتَجّوا بحديث غالب بن أبجر، قال: يا رسول الله إنه لم يبق من مالي شيء أستطيع أن أطعم منه أهلي غير حمر لي، أو حمرات لي، قال:"فأطعم أهلك من سمين مالك، وإنما قذرت لكم جوال القرية"، رواه الطحاويّ، وأبو داود، وأبو يعلى، والطبرانيّ.

وأجيب عنه بأن هذا الحديث مختلَف في إسناده، ففي طريق عن ابن معقل، عن رجلين من مزينة، أحدهما عن الآخر، عبد الله بن عمرو بن لُويم - بضم اللام، وفتح الواو، وسكون الياء، آخر الحروف، وفي آخره ميم - والآخر غالب بن أبجر، وقال مِسْعَر: أرى غالبًا الذي سأل النبيّ صلى الله عليه وسلم، وفي طريق عبد الرحمن بن معقل، وفي طريق عبد الله بن معقل، وفي طريق عبد الرحمن بن بشر، وفي طريق عبد الله بن بشر عوض عبد الرحمن، وهذا اختلاف شديد، فلا يقاوم الأحاديث الصحيحة التي وردت بتحريم لحوم الأهلية.

وقال ابن حزم: هذا الحديث بطرقه باطل؛ لأنها كلها من طريق عبد الرحمن بن بشر، وهو مجهول، والآخر من طريق عبد الله بن عمرو بن لويم، وهو مجهول، أو من طريق شريك، وهو ضعيف، ثم عن ابن الحسن، ولا يُدْرَى من هو؟ أو من طريق سَلْمَى بنت النضر الخضرية، ولا يُدْرَى من

ص: 185

هي؟ وقال البيهقيّ: هذا حديث معلول، ثم طوّل في بيانه. انتهى

(1)

.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [5/ 5009](1939)، و (البخاريّ) في "المغازي"(4227)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(5/ 32)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(9/ 330)، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5010]

(1802) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادٍ، وَقُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا حَاتِمٌ - وَهُوَ ابْنُ إِسْمَاعِيلَ - عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ، قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى خَيْبَرَ، ثُمَّ إِنَّ اللهَ فَتَحَهَا عَلَيْهِمْ، فَلَمَّا أَمْسَى النَّاسُ الْيَوْمَ الَّذِي فُتِحَتْ عَلَيْهِمْ، أَوْقَدُوا نِيرَانًا كَثِيرَةً، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"مَا هَذِهِ النِّيرَانُ؟ عَلَى أَيِّ شَيْءٍ تُوقِدُونَ؟ "، قَالُوا: عَلَى لَحْمٍ، قَالَ:"عَلَى أَيِّ لَحْمٍ؟ "، قَالُوا: عَلَى لَحْمِ حُمُرٍ إِنْسِيَّةٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَهْرِيقُوهَا

(2)

، وَاكْسِرُوهَا"، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَوْ نُهَرِيقُهَا، وَنَغْسِلُهَا؟ قَالَ: "أَوْ ذَاكَ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادِ) بن الزِّبْرِقان المكيّ نزيل بغداد، صدوقٌ يَهِمُ [10](ت 234)(خ م ت س ق) تقدم في "المقدمة" 4/ 19.

2 -

(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) تقدّم قريبًا.

3 -

(حَاتِمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ) الحارثي مولاهم، أبو إسماعيل المدنيّ، كوفيّ الأصل، صحيح الكتاب، صدوقٌ يَهِم [8](ت 6 أو 187)(ع) تقدم في "الصلاة" 42/ 1086.

4 -

(يَزِيدُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ) الأسلميّ، مولى سلمة بن الأكوع المدنيّ، ثقةٌ [4] مات سنة بضع وأربعين ومائة (ع) تقدم في "الصلاة" 51/ 1140.

(1)

"عمدة القاري" 13/ 31.

(2)

وفي نسخة: "هريقوها".

ص: 186

5 -

(سَلَمَةُ بْنُ الأَكْوَعِ) هو: سلمة بن عمرو بن الأكوع نُسب لجدّه الأسلميّ، أبو مسلم، أو أبو إياس الصحابيّ الشهير، شَهِدَ بيعة الرضوان، ومات بالمدينة سنة (64)(ع) تقدم في "الإيمان" 44/ 288.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من رباعيّات المصنّف، وهو (357) من رباعيّات الكتاب، وهو مسلسلٌ بالمدنيين، غير شيخيه، فالأول مكيّ، ثم بغداديّ، والثاني بغلانيّ.

شرح الحديث:

(عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى خَيْبَرَ)؛ أي: غزوها، (ثُمَّ إِنَّ اللهَ فَتَحَهَا عَلَيْهِمْ)؛ أي: على المسلمين، (فَلَمَّا أَمْسَى النَّاسُ)؛ أي: دخلوا في وقت المساء، وهو ما بين الظهر إلى المغرب، (الْيَوْمَ) منصوب على الظرفيّة لـ "أمسى"، (الَّذِي فُتِحَتْ) بالبناء للمفعول؛ أي: فُتحت خيبر (عَلَيْهِمْ)؛ أي: على المسلمين، (أَوْقَدُوا نِيرَانًا كَثِيرَةً) يطبخون بها لحوم الحمر الأهليّة، (فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"مَا هَذِهِ النِّيرَانُ؟ عَلَى أَيِّ شَيْءٍ تُوقِدُونَ؟ "، قَالُوا)؛ أي: الصحابة، (عَلَى لَحْمٍ)؛ أي: نوقدها لأجل طبخ لحم، (قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("عَلَى أَيِّ لَحْمٍ؟ ")؛ أي: على أيِّ لحم من أنواع اللحوم توقدونها؟ (قَالُوا: عَلَى لَحْمِ حُمُرٍ) وفي رواية البخاريّ: "قالوا: لحم حمر"، قال في "العمدة": يجوز في لفظ "لحم" الرفع، والنصب، فالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، تقديره: هو لحم حمر، والنصب بنزع الخافض، والتقدير: على لحم حمر، والحمر بضمتين جمع حمار. انتهى

(1)

.

(إِنْسِيَّةٍ) بالجرّ صفة "حُمُرٍ"، وهو بكسر الهمزة، وسكون النون، وكسر السين المهملة، وتشديد الياء آخر الحروف: نسبة الحمر إلى الإنس، ومعناه: الحمر الأهلية، وفي "المطالع": الأَنَسيّة بفتح الهمزة، وفتح النون، قاله في "العمدة"

(2)

.

(فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَهْرِيقُوهَا)؛ أي: أريقوها، فالهاء فيه زائدة، ووقع

(1)

"عمدة القاري" 17/ 236.

(2)

"عمدة القاري" 17/ 236.

ص: 187

في بعض النسخ: "هَرِيقوها" بلا همزة في أوله، وأصله: أريقوها بالهمز، فأُبدلت هاء، قال الفيّوميّ رحمه الله: ورَاقَ الماءُ والدمُ، وغيره رَيْقًا، من باب باع: انصبّ، ويتعدى بالهمزة، فيقال: أَرَاقَهُ صاحبُهُ، والفاعل: مُرِيقٌ، والمفعول: مُرَاقٌ، وتُبدل الهمزة هاء، فيقال: هَرَاقَهُ، والأصل: هَرْيَقَهُ، وزانُ دَحْرَجَهُ، ولهذا تُفتح الهاء من المضارع، فيقال: يُهَريقه، كما تفتح الدال من يُدَحْرِجه، وتفتح من الفاعل، والمفعول أيضًا، فيقال: مُهَرِيقٌ، ومُهَرَاقٌ، والأمر: هَرِقْ ماءَكَ، والأصل: هَرْيِقْ، وزانُ دَحْرِج، وقد يُجْمَع بين الهاء والهمزة، فيقال: أَهْرَاقَهُ يُهْرِيقُهُ ساكن الهاء؛ تشبيهًا له بأسطاع يُسطيع، كأن الهمزة زيدت عوضًا عن حركة الياء في الأصل، ولهذا لا يصير الفعل بهذه الزيادة خماسيًّا. انتهى

(1)

، وقد تقدّم بأتمّ مما هنا في "كتاب الجهاد"، ولله الحمد والمنّة.

(وَاكْسِرُوهَا")؛ أي: اكسروا القدور التي تُطبخ فيها؛ لتنجّسها. (فَقَالَ رَجُلٌ) قيل: يَحْتَمِل أن يكون عمر رضي الله عنه، وقد أسلفت في "الجهاد" أنه لم يذكر مستنده، والله تعالى أعلم. (يَا رَسُولَ اللهِ، أَوْ نُهَرِيقُهَا)؛ أي: أوْ نترك كَسْرها، بل نهريق ما فيها من اللحم (وَنَغْسِلُهَا؟ قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("أَوْ ذَاكَ") مفعول لفعل مقدّر؛ أي: افعلوا ذاك؛ أي: الغسل.

وقال السنوسي رحمه الله: قوله: "أوْ ذاك" بسكون الواو، وقال الأبيّ رحمه الله: الأظهر أنه تخيير في أحد الأمرين

(2)

؛ يعني: الكسر، أو الغسل.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم في القدور: "أهريقوها، واكسروها"، كان الأمر بكسر هذه القدور إنما صدر منه بناءً على أن هذه القدور لا يُنتفع بها مطلقًا، وأن الغسل لا يؤثّر فيها لِمَا يسري فيها من النجاسة، فلما قال له الرجل:"أو نهريقها، ونغسلها" فَهِم الرسول صلى الله عليه وسلم أنها مِمَّا تَنْغَسل، فأباح له ذلك، فتبدَّل الحكم لتبَدُّل سببه، ولهذا في الشريعة نظائر، وهي تدل على أنَّه صلى الله عليه وسلم كان يحكم بالاجتهاد فيما لم يُوح إليه فيه شيء، وقد تقدم التنبيه على هذا في الحجِّ عند قول العباس:"إلا الإذخر"، وفيه دليلٌ: على أن إزالة

(1)

"المصباح المنير" 1/ 248.

(2)

راجع: "شرح الأبّيّ" 5/ 282.

ص: 188

النجاسات إنما تكون بالماء، خلافًا لأبي حنيفة، وقد تقدم. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه، وقد مضى للمصنّف مطوّلًا في "كتاب الجهاد"[41/ 4659](1802) وقد مرّ شرحه مستوفًى، وكذا وبيان مسائله هناك، فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق.

[تنبيه]: في الحديث أن الذكاة لا تطهّر ما لا يحل أكله، وأن كل شيء تنجّس بملاقاة النجاسة يكفي غسله مرة واحدةً؛ لإطلاق الأمر بالغسل، فإنه يصدُق بالامتثال بالمرة، والأصل أن لا زيادة عليها، وأن الأصل في الأشياء الإباحة؛ لكون الصحابة رضي الله عنهم أقدموا على ذبحها، وطبخها، كسائر الحيوان من قبل أن يستأمروا، مع توفّر دواعيهم على السؤال عما يُشكل، وأنه ينبغي لأمير الجيش تفقّد أحوال رعيته، ومن رآه فَعَل ما لا يَسوغ في الشرع أشاع منعه، إما بنفسه، كأن يخاطبهم، وإما بغيره بأن يأمر مناديًا فينادي؛ لئلا يغترّ به من رآه، فيظنه جائزًا، قاله في "الفتح"

(2)

.

وقال النوويّ رضي الله عنه: هذا صريحٌ في نجاستها، وتحريمها، وتؤيده الرواية الأخرى:"فإنها رجس"، وفي الأخرى:"رجس، أو نجس".

وفيه وجوب غسل ما أصابته النجاسة، وأن الإناء النجس يطهر بغسله مرةً واحدةً، ولا يحتاج إلى سبع، إذا كانت غير نجاسة الكلب والخنزير، وما تولّد من أحدهما.

قال: وهذا مذهبنا، ومذهب الجمهور، وعند أحمد: يجب سبع في الجميع على أشهر الروايتين عنه، وموضع الدلالة أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم أطلق الأمر بالغسل، ويَصدُق ذلك على مرة، ولو وجبت الزيادة لبيّنها، فإن في المخاطَبِين من هو قريب العهد بالإسلام، ومن في معناه ممن لا يَفهم من الأمر بالغسل إلا مقتضاه عند الإطلاق، وهو مرةً.

وأما أمْره صلى الله عليه وسلم أوّلًا بكسرها، فيَحْتَمِل أنه كان بوحي، أو باجتهاد، ثم نُسِخَ، وتعيَّن الغسل، ولا يجوز اليومَ الكسرُ؛ لأنه إتلاف مال.

(1)

"المفهم" 3/ 226 - 227.

(2)

"الفتح" 12/ 512.

ص: 189

وفيه دليلٌ على أنه إذا غُسل الإناء النجس فلا بأس باستعماله. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5011]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا حَمَّادُ بْنُ مَسْعَدَةَ، وَصَفْوَانُ بْنُ عِيسَى (ح) وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ النَّضْرِ، حَدَّثَنَا أبُو عَاصِمٍ النَّبِيلُ، كُلُّهُمْ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ، بِهَذَا الإِسْنَادِ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(حَمَّادُ بْنُ مَسْعَدَةَ) التميميّ، أبو سعيد البصريّ، ثقةٌ [9](ت 202)(ع) تقدم في "الصلاة" 51/ 1140.

2 -

(صَفْوَانُ بْنُ عِيسَى) الزهريّ، أبو محمد البصريّ القسّام، ثقةٌ [9].

رَوَى عن يزيد بن أبي عبيد، وعبيد الله بن سعيد بن أبي هند، ومحمد بن عجلان، وهشام بن حسان، وعبد الله بن هارون، وهاشم بن هاشم، وغيرهم.

وروى عنه أحمد، وإسحاق بن راهويه، وأبو بكر بن أبي شيبة، وبندار، وأبو موسى، وعباس بن عبد العظيم العنبريّ، وأحمد بن إبراهيم الدورقيّ، والذُّهلي، وغيرهم.

قال أبو حاتم: صالح، وقال ابن سعد: كان ثقةً، صالِحًا، توفي بالبصرة سنة مائتين، في خلافة هارون، وقال البخاريّ: مات سنة (198)، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: مات سنة ثمان وتسعين، أو أول سنة (199)، وقيل: سنة مائتين، وقيل: سنة (208) في أول رجب، وكان من خيار عباد الله، وقال العجليّ: بصريّ ثقةٌ. وقال الذهبيّ: قول من قال: إنه مات سنة (208) غلط. انتهى.

أخرج له البخاريّ في التعاليق، والمصنّف، والأربعة، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.

(1)

شرح النوويّ" 13/ 93 - 94.

ص: 190

3 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ النَّضْرِ) بن أبي النضر هاشم بن القاسم البغداديّ، وقد يُنسب إلى جدّه، واسمه وكنيته واحد، وقيل: اسمه محمد، وقيل: أحمد، ثقةٌ [11](ت 245)(م ت س) تقدم في "المقدمة" 6/ 36.

4 -

(أَبُو عَاصِمٍ النَّبِيلُ) الضحّاك بن مَخْلَد الشيبانيّ البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [9](ت 212) أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 129.

والباقيان ذُكرا في الباب.

وقوله: (كُلُّهُمْ عَنْ يَزِيدَ أَبِي عُبَيْدٍ، بِهَذَا الإِسْنَادِ)؛ أي: كلّ هؤلاء الثلاثة: حمّاد بن مسعدة، وصفوان بن عيسى، وأبو عاصم النبيل رووا هذا الحديث عن يزيد بن أبي عُبيد، عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه.

[تنبيه]: رواية حمّاد بن مسعدة، عن يزيد بن أبي عُبيد ساقها الطبرانيّ رحمه الله في "الكبير"، فقال:

(6301)

- حدّثنا محمد بن يونس، ثنا نصر بن عليّ، أنا حماد بن مسعدة، عن يزيد، عن سلمة بن الأكوع، قال: أصابتنا مخمصة يوم خيبر، وأوقد الناس النيران، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"ما هذه النيران؟ " قالوا: الحمر الأهلية، قال:"أهريقوا ما فيها، واكسِروا القدور"، فقال رجل: يا رسول الله أوْ نهريق ما فيها، ونغسلها؟ قال:"أو ذاك". انتهى

(1)

.

(16560)

- حدّثنا عبد الله، حدّثني أبي، ثنا صفوان، عن يزيد بن أبي عبيد، عن سلمة، قال: لما قَدِمنا خيبر رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم نيرانًا توقد، فقال:"علام توقد هذه النيران؟ " قالوا: على لخوم الحمر الأهلية، قال:"كَسِّروا القدور، وأهريقوا ما فيها"، قال: فقام رجل من القوم: فقال: يا رسول الله أنهريق ما فيها، ونغسلها؟ قال:"أو ذاك". انتهى

(2)

.

وأما رواية أبي عاصم النبيل، عن يزيد بن أبي عُبيد، فلم أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم.

(1)

"المعجم الكبير" 7/ 34.

(2)

"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 4/ 48.

ص: 191

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5012]

(1940) - (وَحَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: لَمَّا فَتَحَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَيْبَرَ أَصَبْنَا حُمُرًا خَارِجًا مِنَ الْقَرْيَةِ، فَطَبَخْنَا مِنْهَا، فَنَادَى مُنَادِي رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَلَا إِنَّ اللهَ وَرَسُولَهُ يَنْهَيَانِكُمْ عَنْهَا، فَإِنَّهَا رِجْسٌ، مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ"، فأُكْفِئَتِ الْقُدُورُ بِمَا فِيهَا، وَإِنَّهَا لَتَفُورُ بِمَا فِيهَا).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أَيُّوبُ) بن أبي تميمة السّختيانيّ، تقدّم قبل باب.

2 -

(مُحَمَّدُ) بن سيرين الأنصاريّ مولاهم، أبو بكر بن أبي عمرة البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ عابد [3](110)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 308.

3 -

(أَنَسُ) بن مالك الصحابيّ الشهير رضي الله عنه، تقدّم قريبًا.

والباقيان ذُكرا في الباب، و"سفيان" هو: ابن عيينة، و"ابْنُ أَبِي عُمَرَ" هو: محمد بن يحيى بن أبي عمر العدنيّ، ثمّ المكيّ، ذُكر في الباب.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف، وأن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ، وفيه أنس رضي الله عنه أحد المكثرين السبعة، روى (2286) حديثًا، وهو من المعمّرين فوق المائة، وهو آخر من مات من الصحابة رضي الله عنهم بالبصرة، مات سنة (2 أو 93).

شرح الحديث:

(عَنْ أَنَسٍ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: لَمَّا فَتَحَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَيْبَرَ أَصَبْنَا حُمُرًا خَارِجًا) هكذا النسخ بالإفراد والتذكير، مع أن "حُمُرًا" جمعٌ، وأوَّلَهُ بعضهم على أنه أفرده نظرًا لكونه صفة لغير عاقل، وذكّره نظرًا إلى مفرده، ولا يخفى ما في الثاني من التعسّف، والله تعالى أعلم. (مِنَ الْقَرْيَةِ) متعلّق بـ "خارجًا" (فَطَبَخْنَا)؛ أي: ذبحناها، فطبخنا (مِنْهَا) "من" بمعنى "بعض"؛ أي: بعض تلك الحمر، (فَنَادَى مُنَادِي رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) يأتي في الرواية التالية أنه أبو طلحة رضي الله عنه، وقال في "الفتح": وقع عند مسلم أن الذي نادى بذلك هو أبو طلحة، وعزاه النوويّ لرواية أبي يعلى، فنُسِب إلى التقصير، ووقع عند مسلم أيضًا أن بلالًا

ص: 192

نادى بذلك، ووقع عند النسائيّ أن المنادي بذلك عبد الرحمن بن عوف، قال: ولعل عبد الرحمن نادى أوّلًا بالنهي مطلقًا، ثم نادى أبو طلحة، وبلال بزيادة على ذلك وهو قوله:"فإنها رجسٌ"، قال: ووقع في "الشرح الكبير" للرافعيّ أن المنادي بذلك خالد بن الوليد، وهو غلطٌ؛ فإنه لم يشهد خيبر، وإنما أسلم بعد فتحها. انتهى

(1)

.

("أَلَا) أداة استفتاح وتنبيه (إِنَّ اللهَ وَرَسُولَهُ) بكسر همزة "إن"؛ لوقوعها في افتتاح الكلام، (يَنْهَيَانِكُمْ عَنْهَا) هكذا عند مسلم بتثنية الضمير، ووقع في رواية عند البخاريّ:"ينهاكم" بالإفراد، ورواية التثنية دالّة على جواز جَمْع اسم الله تعالى مع غيره في ضمير واحد، فيُردّ به على من زعم أن قوله صلى الله عليه وسلم للخطيب:"بئس الخطيب أنت" لكونه قال: "ومن يعصهما فقد غوى"، وقد تقدّم تمام البحث في هذا في موضع آخر، ولله الحمد والمنّة.

(فَإِنَّهَا رِجْسٌ)؛ أي: نجس، وكذا وقع في رواية الطحاويّ من حديث أنس رضي الله عنه، قال:"لمّا افتتح النبيّ صلى الله عليه وسلم خيبر أصابوا منها حُمُرًا، فطبخوا منها مطبخةً، فنادى رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا إن الله ورسوله ينهيانكم عنها، فإنها نجسٌ"

(2)

، وقوله:(مِن عَمَلِ الشَّيْطَانِ")؛ أي: إن أكل لحوم الحمر الأهليّة عمل يُزيّنه الشيطان، ويلبّسه على الناس. (فَأُكْفِئَتِ الْقُدُورُ بِمَا فِيهَا) ببناء الفعل للمفعول؛ أي: قُلبت بما احتوته من اللحم، والمرق، قال في "الفتح": قال ابن التين: صوابه: "فكُفئت"، قال الأصمعيّ: كفأت الإناء: قلبته، ولا يقال: أكفأته، ويَحْتَمِل أن يكون المراد: أُميلت حتى أزيل ما فيها، قال الكسائيّ: أكفأت الإناء: أمَلْته. انتهى

(3)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قد تقدّم أن أكفأ رباعيًّا بمعنى قَلَب، صحيح، فلا تغفل.

(وَإِنَّهَا)؛ أي: القدور (لَتَفُورُ) مِنْ فَارَت القِدْر: إذا اشتد غَلَيانها، (بِمَا

(1)

"الفتح" 12/ 509، كتاب "الذبائح" رقم (5528).

(2)

"عمدة القاري" 21/ 130.

(3)

"الفتح" 9/ 302، كتاب "المغازي" رقم (4199).

ص: 193

فِيهَا)؛ أي: باللحم الذي جُعل فيها، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أنس رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [5/ 5012 و 5013](1940)، و (البخاريّ) في "الجهاد"(2991) و"المغازي"(4199) و"الذبائح"(5528)، و (النسائيّ) في "الصيد"(1/ 69 و 7/ 204) و"الكبرى"(64)، و (ابن ماجه) في "الذبائح"(3196)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(8719) و (الحميديّ) في "مسنده"(1200)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(8/ 262)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 121 و 164)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 86)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5274)، و (الطحاويّ) في "معاني الآثار"(4/ 206)، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5013]

(. . .) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مِنْهَالٍ الضَّرِيرُ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ حَسَّانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ خَيْبَرَ جَاءَ جَاءٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ أُكِلَتِ الْحُمُرُ، ثُمَّ جَاءَ آخَرُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ أُفْنِيَتِ الْحُمُرُ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَبَا طَلْحَةَ، فَنَادَى: "إِنَّ اللهَ وَرَسُولَهُ يَنْهَيَانِكُمْ عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ، فَإِنَّهَا رِجْسٌ، أَوْ نَجِسٌ"، قَالَ: فَأُكْفِئَتِ الْقُدُورُ بِمَا فِيهَا).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْن مِنْهَالٍ الضَّرِيرُ) أبو عبد الله، أو أبو جعفر التميميّ البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 231)(خ م د س) تقدم في "الإيمان" 60/ 336.

2 -

(يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ) العيشيّ، أبو معاوية البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 182)(ع) تقدم في "الإيمان" 7/ 132.

3 -

(هِشَامُ بْنُ حَسَّانَ) الأزديّ الْقُرْدوسيّ، أبو عبد الله البصريّ، ثقةٌ من أثبت الناس في ابن سيرين [6](ت 7 أو 148)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 26.

ص: 194

والباقيان ذُكرا قبله.

وقوله: (لَمَّا كَانَ يَوْمُ خَيْبَرَ. . . إلخ)"كان" هنا تامّة؛ أي: لما جاء يوم خيبر؛ أي: غزوتها.

وقوله: (جَاءَ جَاءٍ. . . إلخ) قال الحافظ رحمه الله: لم أعرف هذا الرجل، ولا اللذين بعده، ويَحْتَمِل أن يكونوا واحدًا، فإنه قال أوّلًا:"أُكلت"، فإما لم يسمعه النبيّ صلى الله عليه وسلم، وإما لم يكن أُمر فيها بشيء، وكذا في الثانية، فلما قال في الثالثة:"أُفنيت الحمر"؛ أي: لكثرة ما ذُبح منها ليُطبخ صادف نزول الأمر بتحريمها، ولعلّ هذا مستند من قال: إنما نهى عنها لكونها كانت حَمُولة الناس، كما سبق

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قوله: "ويَحْتَمِل أن يكونوا واحدًا. . . إلخ" هذا الاحتمال لا يخفى ما فيه من التكلّف، فتأمله بالإمعان، والله تعالى أعلم.

(فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ أُكِلَتِ الْحُمُرُ) ببناء الفعل للمفعول، (ثُمَّ جَاءَ آخَرُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ أُفْنِيَتِ الْحُمُرُ) بالبناء للمفعول أيضًا، (فَأَمَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَبَا طَلْحَةَ) الأنصاريّ، واسمه زيد بن سهل بن الأسود الصحابيّ الشهير، توُفّي سنة (34 هـ) تقدّمت ترجمته في "الحيض" 7/ 720. (فَنَادَى:"إِنَّ اللهَ وَرَسُولَهُ يَنْهَيَانِكُمْ عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ، فَإِنَّهَا) الفاء للتعليل؛ أي: لأنها (رِجْسٌ، أَوْ) للشكّ من الراوي (نَجِسٌ"، قَالَ) أنس رضي الله عنه (فَأُكْفِئَتِ الْقُدُورُ بِمَا فِيهَا).

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، ولله الحمد والمنّة.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(6) - (بَابٌ فِي أَكْلِ لُحُومِ الْخَيْلِ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5014]

(1941) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَأَبُو الرَّبِيعِ الْعَتَكِيُّ، وَقُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ - وَاللَّفْظُ لِيَحْيَى - قَالَ يَحْيَى: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ الآخَرَانِ: حَدَّثَنَا

(1)

"الفتح" 12/ 509، كتاب "الذبائح" رقم (5528).

ص: 195

حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ:"أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى يَوْمَ خَيْبَرَ عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الأَهْلِيَّةِ، وَأَذِنَ فِي لُحُومِ الْخَيْلِ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ النيسابوريّ، تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(أَبُو الرَّبِيعِ الْعَتَكِيُّ) سليمان بن داود الزهرانيّ، تقدّم قريبًا.

3 -

(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) تقدّم في الباب الماضي.

4 -

(حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ) تقدّم قريبًا.

5 -

(عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ) تقدّم قبل باب.

6 -

(مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ) بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب الهاشميّ، أبو جعفر المدنيّ المعروف بالباقر، ثقةٌ فاضلٌ [4] مات سنة بضع (110)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 61.

7 -

(جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) رضي الله عنهما تقدّم قبل باب.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف، وأن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وهو من رواية الأقران، فإن كُلًّا من عمرو بن دينار، ومحمد بن عليّ من الطبقة الرابعة، وفيه جابر بن عبد الله الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، ومن المكثرين السبعة، روى (1540) حديثًا.

شرح الحديث:

(عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ) وهو أبو جعفر الباقر، قال في "الفتح": كذا أدخل حماد بن زيد بين عمرو بن دينار وبين جابر في هذا الحديث محمد بن عليّ، ولَمّا أخرجه النسائيّ قال: لا أعلم أحدًا وافق حمادًا على ذلك، وأخرجه من طريق حسين بن واقد، وأخرجه هو والترمذيّ من رواية سفيان بن عيينة، كلاهما عن عمرو بن دينار، عن جابر، ليس فيه محمد بن عليّ، ومال الترمذيّ أيضًا إلى ترجيح رواية ابن عيينة، وقال: سمعت محمدًا يقول: ابن عيينة أحفظ من حماد.

ص: 196

قال الحافظ: لكن اقتصر البخاريّ ومسلم على تخريج طريق حماد بن زيد، وقد وافقه ابن جريج عن عمرو على إدخال الواسطة بين عمرو وجابر، لكنه لم يسمّه، أخرجه أبو داود من طريق ابن جريج.

وله طريق أخرى عن جابر، أخرجها مسلم من طريق ابن جريج، وأبو داود من طريق حماد، والنسائيّ من طريق حسين بن واقد، كلهم عن أبي الزبير، عنه.

وأخرجه النسائيّ صحيحًا عن عطاء، عن جابر أيضًا، وأغرب البيهقيّ، فجزم بأن عمرو بن دينار لم يسمعه من جابر.

واستَغْرَب بعض الفقهاء دعوى الترمذيّ أن رواية ابن عيينة أصحّ، مع إشارة البيهقيّ إلى أنها منقطعة، وهو ذهول، فإن كلام الترمذيّ محمول على أنه صحّ عنده اتصاله، ولا يلزم من دعوى البيهقيّ انقطاعه كون الترمذيّ يقول بذلك.

والحقّ أنه إن وُجدت رواية فيها تصريح عمرو بالسماع من جابر، فتكون رواية حماد من المزيد في متصل الأسانيد، وإلا فرواية حماد بن زيد هي المتصلة، وعلى تقدير وجود التعارض من كل جهة، فللحديث طُرُق أخرى عن جابر، غير هذه، فهو صحيح على كل حال. انتهى كلام الحافظ رحمه الله

(1)

، وهو تحقيقٌ نفيسٌ جدًّا، والله تعالى أعلم.

(عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ) رضي الله عنهما ("أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى يَوْمَ خَيْبَرَ عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الأَهْلِيَّةِ) قد تقدّم البحث في هذا مستوفًى في الباب الماضي. (وَأَذِنَ) بفتح، فكسر، يقال: أَذِنت له في كذا: إذا أطلقت له فِعله، والاسم: الإذن بالكسر، قاله الفيّوميّ

(2)

، وقال المجد: وأَذِن له في الشيء، كسُمِعَ إِذنًا بالكسر، وأَذينًا: أباحه له. انتهى

(3)

، وفي رواية البخاريّ:"ورخّص لنا في لحوم الخيل"، وفي حديث ابن عباس عند الدارقطنيّ:"أمر"، وفي رواية ابن جريج التالية هنا:"أكلنا زمن خيبر الخيل، وحمر الوحش، ونهانا النبيّ صلى الله عليه وسلم عن الحمار الأهليّ".

(1)

"الفتح" 12/ 500، كتاب "الذبائح" رقم (5520).

(2)

"المصباح المنير" 1/ 9.

(3)

"القاموس المحيط" ص 39.

ص: 197

(فِي لُحُومِ الْخَيْلِ")؛ أي: في أكلها، وفي رواية النسائيّ من طريق عطاء، عن جابر رضي الله عنه:"أطعمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لحوم الخيل، ونهانا عن لحوم الحمر"، ومن طريق عبد الكريم، عن عطاء:"كنّا نأكل لحوم الخيل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم"، وبهذا قال الجمهور، وهو الحقّ، وخالف أبو حنيفة، فقال بكراهة أكلها، وسيأتي تمام البحث في هذا قريبًا في المسألة الثالثة - إن شاء الله تعالى - والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [6/ 5014 و 5015 و 5016](1941)، و (البخاريّ) في "المغازي"(4219) و"الذبائح"(5520)، و (أبو داود) في "الأطعمة"(3788)، و (النسائيّ) في "الصيد"(7/ 201) و"الكبرى"(4839 و 4840 و 4841 و 4842 و 4855)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 361 و 385)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(4/ 204)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(3/ 457 و 4/ 114)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5273)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(885)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(9/ 326 - 327)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(2810)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في اختلاف أهل العلم في حكم أكل لحوم الخيل:

قال الإمام ابن قُدامة رحمه الله: وتُباح لحوم الخيل كلّها، عِرابها، وبَرَاذينها، نصّ عليه أحمد، وبه قال ابن سيرين، وروي ذلك عن ابن الزبير، والحسن، وعطاء، والأسود بن يزيد، وبه قال حمّاد بن زيد، والليث، وابن المبارك، والشافعيّ، وأبو ثور. قال سعيد بن جُبير: ما أكلت شيئًا أطيب من مَعْرَفة

(1)

بِرْذون. وحرّمها أبو حنيفة، وكرهها مالك، والأوزاعيّ، وأبو عُبيد؛ لقول الله تعالى:{وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا} الآية [النحل: 8].

(1)

"المَعْرَفة" موضع الْعُرْف من الخيل، وعُرْف الدابّة بالضم: الشعر النابت في محدّب رقبتها. "المصباح" 2/ 405.

ص: 198

ولحديث خالد بن الوليد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "حرام عليكم الحمر الأهلية، وخيلها، وبغالها"، ولأنه ذو حافر، فأشبه الحمار.

واحتجّ الجمهور بحديث جابر رضي الله عنه المذكور في الباب، وحديث أسماء رضي الله عنها عنها الآتي بعده، متّفقٌ عليهما، ولأنه حيَوانٌ طاهرٌ مستطابٌ، ليس بذي ناب، ولا مِخْلب، فيحلّ، كبهيمة الأنعام؛ ولأنه داخل في عموم الآيات والأخبار المبيحة. وأما الآية، فإنما يتعلّقون بدليل خطابها، وهم لا يقولون به. وحديث خالد ليس له إسناد جيّد، قاله أحمد، قال: وفيه رجلان لا يُعرفان، يرويه ثورٌ، عن رجل ليس بمعروف، وقال: لا نَدَعُ أحاديثنا لمثل هذا المنكَر. انتهى كلام ابن قدامة رحمه الله بنوع من التصرّف

(1)

.

وقال في "الفتح": قال الطحاويّ: وذهب أبو حنيفة إلى كراهة أكل الخيل، وخالفه صاحباه وغيرهما، واحتجوا بالأخبار المتواترة في حِلّها، ولو كان ذلك مأخوذًا من طريق النظر لَمَا كان بين الخيل والحمر الأهلية فرقٌ، ولكن الآثار إذا صحت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى أن يقال بها مما يوجبه النظر، ولا سيما وقد أخبر جابر أنه صلى الله عليه وسلم أباح لهم لحوم الخيل في الوقت الذي منعهم فيه من لحوم الحمر، فدل ذلك على اختلاف حكمهما.

قال الحافظ: وقد نقل الحِلّ بعض التابعين عن الصحابة من غير استثناء أحد، فأخرج ابن أبي شيبة بإسناد صحيح على شرط الشيخين، عن عطاء، قال: لم يزل سلفك يأكلونه، قال ابن جريج: قلت له: أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: نعم، وأما ما نُقِل في ذلك عن ابن عباس من كراهتها، فأخرجه ابن أبي شيبة، وعبد الرزاق بسندين ضعيفين، ويدل على ضعف ذلك عنه ما جاء عنه صحيحًا أنه استدَلّ لإباحة الحمر الأهلية بقوله تعالى:{قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} ، فإن هذا إن صلح مستمسكًا لِحِلّ الحُمُر صلح للخيل، ولا فرق، وثبت عنه أيضًا أنه توقف في سبب المنع من أكل الحمر، هل كان تحريمًا مؤبدًا، أو بسبب كونها كانت حمولة الناس؟ وهذا يأتي مثله في الخيل أيضًا، فيبعد أن يثبت عنه القول بتحريم الخيل، والقول بالتوقف في الحمر الأهلية،

(1)

"المغني" 13/ 324 - 325.

ص: 199

بل أخرج الدارقطنيّ بسند قويّ عن ابن عباس، مرفوعًا مثل حديث جابر، ولفظه:"نَهَى رسول صلى الله عليه وسلم عن لحوم الحمر الأهلية، وأمر بلحوم الخيل".

وصح القول بالكراهة عن الحكم بن عيينة، ومالك، وبعض الحنفية، وعن بعض المالكية، والحنفية: التحريمُ، وقال الفاكهيّ: المشهور عند المالكية الكراهة، والصحيح عند المحققين منهم التحريم.

وقال أبو حنيفة في "الجامع الصغير": أكره لحم الخيل، فحمله أبو بكر الرازي على التنزيه، وقال: لم يُطلق أبو حنيفة فيه التحريم، وليس هو عنده كالحمار الأهليّ، وصحح عنه أصحاب "المحيط"، و"الهداية"، و"الذخيرة" التحريمَ، وهو قول أكثرهم، وعن بعضهم يأثم آكله، ولا يسمى حرامًا.

وروى ابن القاسم، وابن وهب عن مالك المنع، وأنه احتج بالآية الآتي ذكرها.

وأخرج محمد بن الحسن في "الآثار" عن أبي حنيفة بسند له عن ابن عباس نحو ذلك، وقال القرطبيّ في "شرح مسلم": مذهب مالك الكراهة، واستَدَلّ له ابن بطال بالآية، وقال ابن الْمُنَيِّر: الشبه الخلقي بينها وبين البغال والحمير مما يؤكد القول بالمنع، فمن ذلك هيئتها، وزهومة لحمها، وغلظه، وصفة أرواثها، وأنها لا تجترّ، قال: وإذا تأكد الشبه الْخَلْقيّ التحق بنفي الفارق، وبَعُدَ الشَّبَه بالأنعام المتفق على أكلها. انتهى.

وقد تقدم من كلام الطحاويّ ما يؤخذ منه الجواب عن هذا.

وقال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة: الدليل في الجواز مطلقًا واضح، لكن سبب كراهة مالك لِأَكْلها؛ لكونها تُستعمل غالبًا في الجهاد، فلو انتفت الكراهة لكثر استعماله، ولو كثر لأدى إلى قتلها، فيفضي إلى فنائها، فيئول إلى النقص من إرهاب العدوّ الذي وقع الأمر به في قوله تعالى:{وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} .

فعلى هذا فالكراهة لسبب خارج، وليس البحث فيه، فإن الحيوان المتفق على إباحته لو حدث أمر يقتضي أن لو ذُبح لأفضى إلى ارتكاب محذور لامتنع، ولا يلزم من ذلك القول بتحريمه، وكذا قوله: إن وقوع أكلها في الزمن النبويّ كان نادرًا، فإذا قيل بالكراهة قلّ استعماله، فيوافق ما وقع قبلُ. انتهى.

ص: 200

وهذا لا ينهض دليلًا للكراهة، بل غايته أن يكون خلاف الأَولى، ولا يلزم من كون أصل الحيوان حِلّ أكله فناؤه بالأكل.

وأما قول بعض المانعين: لو كانت حلالًا لجازت الأضحية بها، فمنتقض بحيوان البرّ فإنه مأكول، ولم تشرع الأضحية به، ولعل السبب في كون الخيل لا تُشرع الأضحية بها استبقاؤها؛ لأنه لو شُرع فيها جميع ما جاز في غيرها لفاتت المنفعة بها في أهم الأشياء منها، وهو الجهاد.

وذكر الطحاويّ، وأبو بكر الرازيّ، وأبو محمد بن حزم من طريق عكرمة بن عمار، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن جابر، قال:"نَهَى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لحوم الحمر، والخيل، والبغال"، قال الطحاويّ: وأهل الحديث يضعّفون عكرمة بن عمار، قال الحافظ: لا سيما في يحيى بن أبي كثير، فإن عكرمة وإن كان مختلَفًا في توثيقه، فقد أخرج له مسلم، لكن إنما أخرج له من غير روايته عن يحيى بن أبي كثير، وقد قال يحيى بن سعيد القطان: أحاديثه عن يحيى بن أبي كثير ضعيفة، وقال البخاريّ: حديثه عن يحيى مضطرب، وقال النسائيّ: ليس به بأس إلا في يحيى، وقال أحمد: حديثه عن غير إياس بن سلمة مضطرب، وهذا أشدّ مما قبله، ودخل في عمومه يحيى بن أبي كثير أيضًا، وعلى تقدير صحة هذه الطريق فقد اختلف عن عكرمة فيها، فإن الحديث عند أحمد، والترمذيّ من طريقه ليس فيه للخيل ذِكر، وعلى تقدير أن يكون الذي زاده حَفِظه، فالروايات المتنوعة عن جابر المفصِّلة بين لحوم الخيل والحمر في الحكم أظهر اتّصالًا، وأتقن رجالًا، وأكثر عددًا.

وأعلَّ بعض الحنفية حديث جابر بما نقله عن ابن إسحاق أنه لم يشهد خيبر، وليس بعلّة؛ لأن غايته أن يكون مرسل صحابيّ.

ومن حجج من منع أكل الخيل حديثُ خالد بن الوليد المخرّج في "السنن": "أن النبيّ صلى الله عليه وسلم نَهَى يوم خيبر عن لحوم الخيل".

وتُعُقّب بأنه شاذّ منكر؛ لأن في سياقه أنه شهد خيبر، وهو خطأ، فإنه لم يُسلِم إلا بعدها، على الصحيح، والذي جزم به الأكثر أن إسلامه كان سنة الفتح، والعمدة في ذلك على ما قال مصعب الزبيريّ، وهو أعلم الناس بقريش، قال: كتب الوليد بن الوليد إلى خالد حين فَرَّ من مكة في عمرة القضيّة

ص: 201

حتى لا يرى النبيّ صلى الله عليه وسلم بمكة، فذكر القصة في سبب إسلام خالد، وكانت عمرة القضية بعد خيبر جزمًا.

وأُعِلّ أيضًا بأن في السند راويًا مجهولًا، لكن قد أخرج الطبريّ من طريق يحيى بن أبي كثير، عن رجل من أهل حمص، قال: كنا مع خالد، فذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرّم لحوم الحمر الأهلية، وخيلها، وبغالها.

وأُعِلّ بتدليس يحيى، وإبهام الرجل.

وادَّعَى أبو داود أن حديث خالد بن الوليد منسوخ، ولم يبين ناسخه، وكذا قال النسائيّ: الأحاديث في الإباحة أصحّ، وهذا إن صح كان منسوخًا، وكأنه لمّا تعارض عنده الخبران ورأى في حديث خالد "نَهَى"، وفي حديث جابر "أَذِنَ" حَمَلَ الإذن على نسخ التحريم، وفيه نظر؛ لأنه لا يلزم من كون النهي سابقًا على الإذن أن يكون إسلام خالد سابقًا على فتح خيبر، والأكثر على خلافه، والنسخ لا يثبت بالاحتمال.

وقد قرر الحازميّ النسخ بعد أن ذكر حديث خالد، وقال: هو شاميّ المخرج، جاء من غير وجه بما ورد في حديث جابر مِنْ رَخَّصَ وأَذِنَ؛ لأنه من ذلك يظهر أن المنع كان سابقًا، والإذن متأخرًا، فيتعيّن المصير إليه، قال: ولو لم تَرِدْ هذه اللفظة لكانت دعوى النسخ مردودةً؛ لعدم معرفة التاريخ. انتهى.

وليس في لفظ رَخّص وأَذِن ما يتعيّن معه المصير إلى النسخ، بل الذي يظهر أن الحكم في الخيل والبغال والحمير كان على البراءة الأصلية، فلمّا نهاهم الشارع يوم خيبر عن الحمر والبغال خَشي أن يظنوا أن الخيل كذلك؛ لِشَبَهها بها، فأَذِن في أكلها دون الحمير والبغال، والراجح أن الأشياء قبل بيان حكمها في الشرع لا توصف لا بحلّ ولا حرمة، فلا يثبت النسخ في هذا.

ونقل الحازميّ أيضًا تقرير النسخ بطريق أخرى، فقال: إن النهي عن أكل الخيل والحمير كان عامًّا من أجل أخْذهم لها قبل القسمة والتخميس، ولذلك أمر بإكفاء القدور، ثم بيَّن بندائه بأن لحوم الحمر رجس أن تحريمها لذاتها، وأن النهي عن الخيل إنما كان بسبب ترك القسمة خاصّةً، ويعكر عليه أن الأمر بإكفاء القدور إنما كان بطبخهم فيها الحمر، كما هو مصرّح به في الصحيح، لا الخيل، فلا يتمّ مراده.

ص: 202

والحق أن حديث خالد ولو سُلِّم أنه ثابت لا ينهض معارضًا لحديث جابر الدالّ على الجواز، وقد وافقه حديث أسماء.

وقد ضَعَّف حديث خالد: أحمد، والبخاريّ، وموسى بن هارون، والدارقطنيّ، والخطابيّ، وابن عبد البرّ، وعبد الحقّ، وآخرون.

وجمع بعضهم بين حديث جابر وخالد بأن حديث جابر دالّ على الجواز في الجملة، وحديث خالد دالّ على المنع في حالة دون حالة؛ لأن الخيل في خيبر كانت عزيزةً، وكانوا محتاجين إليها للجهاد، فلا يعارض النهي المذكور، ولا يلزم وَصْف أكل الخيل بالكراهة المطلقة فضلًا عن التحريم.

وقد وقع عند الدارقطنيّ في حديث أسماء: "كانت لنا فرس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرادت أن تموت، فذبحناها، فأكلناها".

وأجاب عن حديث أسماء بأنها واقعة عين، فلعل تلك الفرس كانت كبرت بحيث صارت لا يُنتفع بها في الجهاد، فيكون النهي عن الخيل لمعنى خارج لا لذاتها، وهو جمع جَيِّدٌ.

وزعم بعضهم أن حديث جابر في الباب دالّ على التحريم؛ لقوله: "ورَخَّص"؛ لأن الرخصة استباحة المحظور مع قيام المانع، فدل على أنه رخَّص لهم فيها بسبب المخمصة التي أصابتهم بخيبر، فلا يدل ذلك على الحل المطلق.

وأجيب بأن أكثر الروايات جاء بلفظ الإذن، وبعضها بالأمر، فدلّ على أن المراد بقوله: رَخَّص: أَذِن، لا خصوص الرخصة باصطلاح من تأخر عن عهد الصحابة.

ونوقض أيضًا بأن الإذن في أكل الخيل لو كان رخصة لأجل المخمصة لكانت الحمر الأهلية أولى بذلك؛ لكثرتها، وعِزّة الخيل حينئذ، ولأن الخيل يُنتفع بها فيما ينتفع بالحمير من الحمل وغيره، والحمير لا ينتفع بها فيما ينتفع بالخيل من القتال عليها، والواقع أنه صلى الله عليه وسلم أمر بإراقة القدور التي طُبخت فيها الحمر مع ما كان بهم من الحاجة، فدل ذلك على أن الإذن في أكل الخيل إنما كان للإباحة العامّة، لا لخصوص الضرورة.

وأما ما نُقل عن ابن عباس، ومالك، وغيرهما من الاحتجاج للمنع بقوله

ص: 203

تعالى: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} الآية [النحل: 8]، فقد تمسك بها أكثر القائلين بالتحريم، وقرروا ذلك بأوجه:

أحدها: أن اللام للتعليل، فدلّ على أنها لم تُخلق لغير ذلك؛ لأن العلة المنصوصة تفيد الحصر، فإباحة أكلها تقتضي خلاف ظاهر الآية.

ثانيها: عطف البغال والحمير، فدلّ على اشتراكها معها في حكم التحريم، فيحتاج من أفرد حكمها عن حُكم ما عُطفت عليه إلى دليل.

ثالثها: أن الآية سيقت مساق الامتنان، فلو كانت يُنتفع بها في الأكل لكان الامتنان به أعظم؛ لأنه يتعلق به بقاء البُنْيَة بغير واسطة، والحكيم لا يمتن بأدنى النعم، ويترك أعلاها، ولا سيما وقد وقع الامتنان بالأكل في المذكورات قبلها.

رابعها: لو أبيح أكلها لفاتت المنفعة بها فيما وقع به الامتنان، من الركوب، والزينة، هذا مُلَخَّص ما تمسكوا به من هذه الآية.

والجواب على سبيل الإجمال: أن آية النحل مكية اتفاقًا، والإذن في أكل الخيل كان بعد الهجرة من مكة بأكثر من ست سنين، فلو فَهِم النبيّ صلى الله عليه وسلم من الآية المنع لَمَا أذن في الأكل.

وأيضًا فآية النحل ليست نصًّا في منع الأكل، والحديث صريح في جوازه.

وأيضًا على سبيل التنزل، فإنما يدل ما ذُكر على ترك الأكل، والترك أعم من أن يكون للتحريم، أو للتنزيه، أو خلاف الأَولى، وإذا لم يتعيّن واحد منها بقي التمسك بالأدلة المصرِّحة بالجواز.

وعلى سبيل التفصيل، أمّا أوّلًا فلو سلّمنا أن اللام للتعليل لم نسلّم إفادة الحصر في الركوب والزينة، فإنه يُنتفع بالخيل في غيرهما، وفي غير الأكل اتفاقًا، وإنما ذَكر الركوب والزينة؛ لكونهما أغلب ما تطلب له الخيل، ونظيره حديث البقرة المذكور في "الصحيحين" حين خاطبت راكبها، فقالت:"إنا لم نُخلق لهذا، إنما خُلقنا للحرث"، فإنه مع كونه أصرح في الحصر لم يُقصد به الأغلب، وإلا فهي تؤكل، ويُنتفع بها في أشياء غير الحرث اتفاقًا.

ص: 204

وأيضًا فلو سُلِّم الاستدلال للزم منع حمل الأثقال على الخيل والبغال والحمير، ولا قائل به.

وأما ثانيًا: فدلالة العطف إنما هي دلالة اقتران، وهي ضعيفة.

وأما ثالثًا: فالامتنان إنما قصد به غالبًا ما كان يقع به انتفاعهم بالخيل، فخوطبوا بما أَلِفُوا، وعرفوا، ولم يكونوا يعرفون أكل الخيل؛ لعزّتها في بلادهم، بخلاف الأنعام، فإن أكثر انتفاعهم بها كان لحمل الأثقال، وللأكل، فاقتصر في كل من الصنفين على الامتنان بأغلب ما ينتفع به، فلو لزم من ذلك الحصر في هذا الشقّ للزم مثله في الشق الآخر.

وأما رابعًا: فلو لزم من الإذن في أكلها أن تفنى للزم مثله في البقر، وغيرها، مما أُبيح أكله، ووقع الامتنان بمنفعة له أخرى، والله أعلم. انتهى ما في "الفتح"

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا البحث الذي طوّل به الحافظ رحمه الله نَفَسه، بحث نفيسٌ مهمّ جدًّا.

والحاصل أن ما ذهب إليه الجمهور، من حلّ أكل لحوم الخيل هو الحقّ؛ لوضوح أدلّته، وصراحتها، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5015]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ، أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ يَقُولُ: أَكَلْنَا زَمَنَ خَيْبَرَ الْخَيْلَ، وَحُمُرَ الْوَحْشِ، وَنَهَانَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْحِمَارِ الأَهْلِيِّ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

وكلهم تقدّموا في البابين الماضيين، والحديث بهذا السياق من أفراد المصنّف، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، ولله الحمد والمنّة.

(1)

"الفتح" 12/ 501 - 505، كتاب "الذبائح" رقم (5520).

ص: 205

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5016]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِيهِ أَبُو الطَّاهِرِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ (ح) وَحَدَّثَنِي يَعْقُوبُ الدَّوْرَقِيُّ، وَأَحْمَدُ بْنُ عُثْمَانَ النَّوْفَليُّ، قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، كِلَاهُمَا عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، بِهَذَا الإِسْنَادِ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(يَعْقُوبُ الدَّوْرَقِيُّ) هو: يعقوب بن إبراهيم بن كثير العبديّ مولاهم، أبو يوسف البغداديّ، ثقةٌ [10](ت 252)(ع) تقدم في "الإيمان" 25/ 209، وهو أحد التسعة الذين روَى عنهم الجماعة بلا واسطة.

2 -

(أَحْمَدُ بْنُ عُثْمَانَ النَّوْفَلِيُّ) أبو عثمان البصريّ، يُلقّب أبا الجوزاء، ثقةٌ [11](ت 246)(م ت س) تقدم في "الإيمان" 65/ 369.

والباقون تقدّموا في الباب، والباب الماضي، و"أبو الطاهر" هو: أحمد بن عمرو بن عبد الله بن السرح المصريّ، و"أبو عاصم" هو: الضحّاك بن مخلد النبيل.

[تنبيه]: رواية ابن وهبّ، عن ابن جريج هذه ساقها أبو عوانة رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(7634)

- أخبرنا يونس بن عبد الأعلى، قال: أنبا ابن وهب، قال: أخبرني ابن جريج، أن أبا الزبير المكيّ أخبره، أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: أكلنا زمن خيبر الخيل، وحمر الوحش، ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحمار الأهلي. انتهى

(1)

.

ورواية أبي عاصم النبيل عن ابن جريج، ساقها ابن ماجه رحمه الله في "سننه"، فقال:

(3191)

- حدّثنا بكر بن خلف أبو بشر، ثنا أبو عاصم، ثنا ابن جريج، أخبرني أبو الزبير، أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: أكلنا زمن خيبر الخيل، وحمر الوحش. انتهى

(2)

.

(1)

"مسند أبي عوانة" 5/ 26.

(2)

"سنن ابن ماجه" 2/ 1064.

ص: 206

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5017]

(1942) - (وَحَدَّثَنَا محَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، وَحَفْصُ بْن غِيَاثٍ، وَوَكِيعٌ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ فَاطِمَةَ، عَنْ أَسْمَاءَ، قَالَتْ: نَحَرْنَا فَرَساً عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَكَلْنَاهُ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(وَكِيعُ) بن الجرّاح، تقدّم قريبًا.

2 -

(هِشَامُ) بن عروة، تقدّم أيضًا قريبًا.

3 -

(فَاطِمَةُ) بنت المنذر بن الزبير بن العوّام، زوج هشام بن عروة، ثقةٌ [3](ع) تقدم في "الطهارة" 33/ 681.

4 -

(أَسْمَاءُ) بنت أبي بكر الصدّيق رضي الله عنهما، زوج الزبير بن العوّام، من كبار الصحابيّات، عاشت مائة سنة، وماتت سنة ثلاث، أو أربع وسبعين (ع) تقدمت في "الطهارة" 33/ 681.

والباقون تقدّموا في الباب السابق.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف، وأنه مسلسل بالمدنيين من هشام، والباقون كلّهم كوفيّون، وفيه رواية الراوي عن زوجته، عن جدّتهما، فإن أسماء رضي الله عنها جدّة لهشام وفاطمة أم أبويهما، وفيه أسماء رضي الله عنها من الصحابيّات الفاضلات، ذات النطاقين.

شرح الحديث:

(عَنْ هِشَامِ) بن عروة، قال في "الفتح": قد اختُلِف في إسناد هذا الحديث على هشام، فقال أيوب من رواية عبد الوهاب الثقفيّ عنه، عن أبيه، عن أسماء، وكذا قال ابن ثوبان من رواية عُتبة بن حماد عنه، عن هشام بن عروة، وقال المغيرة بن مسلم: عن هشام، عن أبيه، عن الزبير بن العوّام، أخرجه البزار، وذكر الدارقطني الاختلاف، ثم رجّح رواية ابن عيينة، ومن وافقه. انتهى

(1)

.

(1)

"الفتح" 12/ 499 رقم (5519).

ص: 207

(عَنْ فَاطِمَةَ) بنت المنذر بن الزبير زوج هشام، وبنت عمّه (عَنْ) جدّتهما (أَسْمَاءَ) بنت أبي بكر الصدّيق رضي الله عنهما، أنها (قَالَتْ: نَحَرْنَا فَرَسًا)؛ أي: طعنّا نحره، وذبحناه، يقال: نحره، كمنعه نَحْرًا، وتِنْحَارًا: أصاب نحره، ونحر البعيرَ: طعنه حيث يبدو الْحُلْقُومُ على الصدر، قاله المجد

(1)

. (عَلَى عَهْدِ)؛ أي: في زمان (رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَكَلْنَاهُ) زاد عبدة بن سليمان، عن هشام:"ونحن بالمدينة"، وفي رواية للدارقطنيّ:"فأكلناه نحن، وأهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم"، ووقع عند البخاريّ من طريق عبدة بن سليمان عن هشام بلفظ:"ذبحنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فرسًا. . .".

[تنبيه]: وقع الاختلاف في لفظ: "نحرنا"، و"ذبحنا"، قال البخاريّ رحمه الله:"باب النحر، والذبح"، ثم أورد حديث أسماء رضي الله عنها هذا باللفظين المذكورين، فقال في "الفتح": ذكر البخاريّ في الباب، حديث أسماء بنت أبي بكر، في أكل الفرس، أورده من رواية سفيان الثوريّ، ومن رواية جرير، كلاهما عن هشام بن عروة، موصولًا بلفظ:"نحرنا"، وقال في آخره: تابعه وكيع، وابن عيينة، عن هشام في النحر، وأورده أيضًا من رواية عبدة - وهو ابن سليمان - عن هشام، بلفظ:"ذبحنا"، ورواية ابن عيينة التي أشار إليها، ستأتي موصولة بعد بابين، من رواية الحميديّ، عن سفيان - وهو ابن عيينة - به، وقال:"نحرنا"، ورواية وكيع، أخرجها أحمد عنه، بلفظ:"نحرنا"، وأخرجها مسلم، عن محمد بن عبد الله بن نمير: حدثنا أبي، وحفص بن غياث، ووكيع ثلاثتهم، عن هشام، بلفظ:"نحرنا"، وأخرجه عبد الرزاق، عن معمر، والثوريِّ جميعًا، عن هشام بلفظ:"نحرنا"، وقال الإسماعيلي: قال همام، وعيسى بن يونس، وعلي بن مسهر، عن هشام بلفظ:"نحرنا"، واختُلف على حماد بن زيد، وابن عيينة، فقال أكثر أصحابهما:"نحرنا"، وقال بعضهم:"ذبحنا"، وأخرجه الدارقطنيّ، من رواية مُؤَمَّل بن إسماعيل، عن الثوريّ، ووهيب بن خالد، ومن رواية ابن ثوبان - وهو عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان - ومن رواية يحيى القطان، كلهم عن هشام، بلفظ:"ذبحنا"، ومن رواية أبي

(1)

"القاموس المحيط" ص 1267.

ص: 208

معاوية، عن هشام:"انتحرنا"، وكذا أخرجه مسلم، من رواية أبي معاوية، وأبي أسامة، ولم يسق لفظه، وساقه أبو عوانة عنهما، بلفظ:"نحرنا".

وهذا الاختلاف كله، عن هشام، وفيه إشعار بأنه كان تارة يرويه بلفظ "ذبحنا"، وتارة بلفظ "نحرنا"، وهو مصير منه إلى استواء اللفظين في المعنى، وأن النحر يُطلق عليه ذَبْح، والذبح يُطلق عليه نَحْر، ولا يتعيّن مع هذا الاختلاف، ما هو الحقيقة في ذلك من المجاز، إلا إن رجح أحد الطريقين، وأما أنه يستفاد من هذا الاختلاف، جواز نحر المذبوح، وذبح المنحور، كما قاله بعض الشراح فبعيد؛ لأنه يستلزم أن يكون الأمر في ذلك، وقع مرتين، والأصل عدم التعدد، مع اتحاد المخرج، وقد جرى النوويّ على عادته، في الحمل على التعدد، فقال بعد أن ذكر اختلاف الرواة، في قولها:"نحرنا"، و"ذبحنا": يُجمع بين الروايتين بأنهما قضيتان، فمرة نحروها، ومرة ذبحوها، ثم قال: ويجوز أن تكون قصة واحدة، وأحد اللفظين مجاز، والأول أصح، كذا قال، والله أعلم. انتهى ما في "الفتح"

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي في قوله: "وأما أنه يستفاد من هذا الاختلاف. . . إلخ" نظر؛ بل الظاهر استفادته منه، وهو الذي يظهر من صنيع البخاريّ، حيث ترجم، بقوله:"باب النحر، والذبح"، ثم أورده مستدلًّا على جوازهما، وأصرح منه صنيع النسائيّ، حيث قال:"باب الرخصة في نحر ما يُذبح، وذبح ما يُنحر"، ووَجْه ذلك أن هشامًا أطلق النحر والذبح في هذا الحديث، فدلّ على أن ما أُطلق عليه النحر، كالبَدَنة يجوز ذبحه؛ وما أُطلق عليه الذبح، كالبقر يجوز نحره؛ لأن ذلك الإطلاق ليس إلا على غالب الاستعمال، فلا يستلزم ذلك عدم جواز غيره، والله تعالى أعلم.

[تنبيه آخر]: "النحر" - بفتح، فسكون -: مصدر نَحَر البعيرَ ينحره، من باب فتح: إذا أصاب نحره، وهو أعلى الصدر، ونحره أيضًا: إذا طعنه في مَنْحَره، حيث يبدو الْحُلْقوم من أعلى الصدر.

و"الذبح" - بفتح، فسكون -: مصدر ذبح الشاةَ يذبحها، من باب فتح:

(1)

"الفتح" 12/ 487 - 488 رقم (5510).

ص: 209

إذا قطع الحلقوم من الباطن عند النَّصِيل، وهو موضع الذبح من الحلق. و"النصيل" كأمير: مَفْصل ما بين العنق والرأس، تحت اللَّحْيين. أفاده في "اللسان".

وقال العلّامة ابن قُدامة رحمه الله: لا خلاف بين أهل العلم، في أن المستحب نَحْر الإبل، وذَبْح ما سواها، قال الله تعالى:{وَانْحَرْ} [الكوثر: 2]، وقال الله تعالى:{أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة: 67]. قال مجاهد: أُمرنا بالنحر، وأُمر بنو إسرائيل بالذبح، فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم بُعثَ في قوم، ماشيتهم الإبل، فَسُنَّ النحرُ، وكانت بنو إسرائيل ماشيتهم البقر، فأُمروا بالذبح، وثبت:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، نحر بَدَنة، وضَحَّى بكبشين أقرنين، ذبحهما بيده". متفق عليه.

ومعنى النحر: أن يضربها بحربة، أو نحوها في الْوَهْدَة التي بين أصل عنقها وصدرها. انتهى.

وقال في "الفتح" ما حاصله: النحر في الإبل خاصة، وأما غير الإبل فيُذبح، وقد جاءت أحاديث في ذَبْح الإبل، وفي نَحْر غيرها. وقال ابن التين: الأصل في الإبل النحر، وفي الشاة ونحوها الذبح، وأما البقر فجاء في القرآن ذِكر ذبحها، وفي السُّنَّة ذِكر نحرها، واختُلِفَ في ذبح ما يُنحَر، ونحر ما يُذبَح، فأجازه الجمهور، ومنع ابن القاسم. انتهى.

وقال في "الفتح" في موضع آخر بعد ذكر الاختلاف السابق ما نصّه: واختلف الشارحون في توجيهه، فقيل: يُحْمَل النحر على الذبح مجازًا، وقيل: وقع ذلك مرتين، وإليه جنح النوويّ، وفيه نظر؛ لأن الأصل عدم التعدد، والمخرج متّحدٌ، والاختلاف فيه على هشام، فبعض الرواة قال عنه:"نحرنا" وبعضهم قال: "ذبحنا"، والمستفاد من ذلك جواز الأمرين عندهم، وقيام أحدهما في التذكية مقام الآخر، وإلا لَمَا ساغ لهم الإتيان بهذا موضع هذا، وأما الذي وقع بعينه فلا يتحرر؛ لوقوع التساوي بين الرواة المختلفين في ذلك.

ويُستفاد من قولها: "ونحن بالمدينة" أن ذلك بعد فرض الجهاد، فيَرُدّ على من استند إلى منع أكلها بعلّة أنها من آلات الجهاد.

ومن قولها: "نحن وأهل بيت النبيّ صلى الله عليه وسلم" الردّ على من زعم أنه ليس فيه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم اطَّلَع على ذلك، مع أن ذلك لو لم يَرِد لم يُظَنّ بآل أبي بكر أنهم

ص: 210

يُقدمون على فعل شيء في زمن النبيّ صلى الله عليه وسلم إلا وعندهم العلم بجوازه؛ لشدة اختلاطهم بالنبيّ صلى الله عليه وسلم، وعدم مفارقتهم له.

هذا مع توفر داعية الصحابة رضي الله عنهم إلى سؤاله صلى الله عليه وسلم عن الأحكام، ومن ثَمّ كان الراجح أن الصحابيّ إذا قال: كنا نفعل كذا على عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم كان له حكم الرفع؛ لأن الظاهر اطلاع النبيّ صلى الله عليه وسلم على ذلك وتقريره، وإذا كان ذلك في مطلق الصحابيّ، فكيف بآل أبي بكر الصديق رضي الله عنه. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [6/ 5017 و 5018](1942)، و (البخاريّ) في "الصيد"(5519)، و (النسائيّ) في "الضحايا"(7/ 227 و 231) و"الكبرى"(3/ 63 و 367 و 4152)، و (ابن ماجه) في "الذبائح"(3190)، و (الشافعيّ) في "مسنده"(2/ 172)، و (عبد الرزّاق) في "مصنفه"(8731)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(8/ 255 - 256)، و (الحميديّ) في "مسنده"(1/ 153)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 345 و 346 و 353)، و (ابن راهويه) في "مسنده"(5/ 116)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 87)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(886)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5271)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(24/ 80)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(4/ 211)، و (الدارقطنيّ) في "سننه"(4/ 290)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(9/ 327)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): جواز أكل لحم الفرس، وقد تقدّم بيان اختلاف العلماء فيه في شرح حديث جابر رضي الله عنه الماضي، ولله الحمد والمنّة.

2 -

(ومنها): بيان جواز نَحْر ما يُذبح، وذَبْح ما يُنحر.

(1)

"الفتح" 12/ 499 رقم (5519).

ص: 211

3 -

(ومنها): أن قول الصحابيّ: فعلنا كذا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم له حكم الرفع، وكذا لو لم يُضفه إلى عهده صلى الله عليه وسلم، وكذا قوله:"من السنّة كذا"، و"أُمرنا بكذا"، و"نُهينا عن كذا"، على الأصحّ في كلّ ذلك، قال السيوطيّ رحمه الله في "ألفية الحديث":

وَلْيُعْطَ حُكْمَ الرَّفْعِ فِي الصَّوَابِ

نَحْوُ "مِنَ السُّنَّةِ" مِنْ صَحَابِي

كَذَا "أُمِرْنَا" وَكَذَا "كُنَّا نَرَى

فِي عَهْدِهِ" أَوْ عَن إِضَافَةٍ عَرَى

ثَالِثُهَا إِنْ كَانَ لَا يَخْفَى وَفِي

تَصْرِيحِهِ بِعِلْمِهِ الْخُلْفُ نُفِي

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في الذبح، والنحر:

قال العلّامة ابن قُدامة رحمه الله في "المغني": وأما المحل فالحلق واللَّبة، وهي الوَهْدة التي بين أصل العنق والصدر، ولا يجوز الذبح في غير هذا المحل بالإجماع. وقد رُوي في حديث، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، أنه قال:"الذكاة في الحلق واللبة"

(1)

، قال أحمد: الذكاة في الحلق واللبة. واحتج بحديث عمر رضي الله عنه، وهو ما روى سعيد، والأثرم، بإسنادهما عن الفرافصة، قال: كنا عند عمر، فنادى أن النحر في اللبة والحلق، لمن قَدَر

(2)

.

وإنما نَرَى أن الذكاة اختصت بهذا المحل؛ لأنه مجمع العروق، فتنفسخ بالذبح فيه الدماء السيالة، ويُسرع زُهُوق النفس، فيكون أطيب للحم، وأخفّ على الحيوان، قال أحمد: لو كان حديث أبي العُشَراء حديثًا؛ يعني: ما روى أبو العشراء، عن أبيه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، أنه سئل أَمَا تكون الذكاة إلا في الحلق واللبة؟، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لو طَعَنْت في فخذها لأجزأ عنك"، قال أحمد: أبو العشراء، هذا ليس بمعروف.

وأما الفعل: فيُعتبر قطع الحلقوم والمريء، وبهذا قال الشافعيّ، وعن أحمد رواية أخرى: أنه يُعتبر مع هذا قَطْع الودجين، وبه قال مالك، وأبو

(1)

حديث ضعيف جدًّا، رواه الدارقطنيّ في "سننه"(4/ 283)، وفي إسناده سعيد بن سلام العطّار كذّبه ابن نُمير، وأحمد، وقال البخاريّ: يُذكر بوضع الحديث، وقال الدارقطنيّ: يُحدّث بالبواطيل، متروك، أفاده في "التعليق المغني" 4/ 283.

(2)

رواه البيهقيّ في "الكبرى" 9/ 278، وضعّف رفعه.

ص: 212

يوسف؛ لِمَا روى أبو هريرة رضي الله عنه، قال:"نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن شَرِيطة الشيطان، وهي التي تُذبح، فيُقطع الجلد، ولا تُفرَى الأوداج، ثم تُترك حتى تموت"، رواه أبو داود

(1)

.

وقال أبو حنيفة: يُعتبر قطع الحلقوم والمريء، وأحد الودجين، ولا خلاف في أن الأكمل قطع الأربعة: الحلقوم، والمريء، والودجين، فالحلقومُ: مَجْرَى النفس، والمريء: وهو مجرى الطعام والشراب، والودجان، وهما عرقان محيطان بالحلقوم؛ لأنه أسرع لخروج روح الحيوان، فيَخِفّ عليه، ويَخرُج من الخلاف، فيكون أَولى، والأول يجزئ؛ لأنه قَطَعَ في محل الذبح ما لا تبقى الحياة مع قطعه، فأشبه ما لو قطع الأربعة. انتهى كلام ابن قُدامة رحمه الله

(2)

، وهو بحث مفيدٌ جدًّا، والله تعالى أعلم.

وقال الإمام البخاريّ رحمه الله: "باب النحر، والذبح"، وقال ابن جريج، عن عطاء: لا ذبح، ولا نحر إلا في الْمَذْبَح، والْمَنْحَر، قلت: أيُجزي ما يُذبح، أن أنحره؟ قال: نعم ذَكر الله ذبح البقرة، فإن ذَبحتَ شيئًا يُنحر جاز، والنحر أحبّ إلي، والذبح قطع الأوداج، قلت: فَيُخَلِّفُ الأوداجَ حتى يَقطع النُّخاع؟ قال: لا إِخال، وأخبرني نافع، أن ابن عمر نهى عن النَّخْع، يقول: يقطع ما دون العظم، ثم يَدَع حتى تموت. وقولُ الله تعالى:{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} الآية [البقرة: 67]، وقال:{فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} [البقرة: 71]، وقال سعيد، عن ابن عباس رضي الله عنهما: الذكاة في الحلق واللبة. وقال ابن عمر، وابن عباس، وأنس: إذا قطع الرأس فلا بأس. انتهى كلام البخاريّ رحمه الله.

قال في "الفتح": قوله: وقال ابن جريج، عن عطاء. . . إلخ، وصله عبد الرزاق، عن ابن جريج مقطعًا. وقوله: والذبح قطع الأوداج: جمع وَدَج - بفتح الدال المهملة، والجيم - وهو العِرْق الذي في الأَخدع، وهما عرقان،

(1)

حديث ضعيف؛ لأن في سنده عمرو بن عبد الله بن الأسوار اليمانيّ، قال ابن معين: ليس بالقويّ.

(2)

"المغني" لابن قُدامة رحمه الله 13/ 303 - 304.

ص: 213

متقابلان، قيل: ليس لكل بهيمة غير ودجين فقط، وهما محيطان بالحلقوم، ففي الإتيان بصيغة الجمع نظر، ويمكن أن يكون أضاف كل ودجين إلى الأنواع كلها، هكذا اقتصر عليه بعض الشراح، وبقي وجه آخر، وهو أنه أطلق على ما يُقطع في العادة وَدَجًا؛ تغليبًا، فقد قال أكثر الحنفية في كتبهم: إذا قطع من الأوداج الأربعةِ ثلاثةً، حصلت التذكية، وهما: الحلقوم، والمريء، وعرقان من كل جانب. وحكى ابن المنذر عن محمد بن الحسن: إذا قَطع الحلقوم والمريء، وأكثر من نصف الأوداج أجزأ، فإنْ قَطَع أقل، فلا خير فيها. وقال الشافعيّ: يكفي، ولو لم يقطع من الودجين شيئًا؛ لأنهما قد يُسَلّان من الإنسان وغيره، فيعيش. وعن الثوريّ: إن قَطَع الودجين أجزأ، ولو لم يقطع الحلقوم والمريء. وعن مالك، والليث: يُشترط قطع الودجين، والحلقوم فقط، واحتُج له بما في حديث رافع:"ما أنهر الدم"، وإنهاره إجراؤه، وذلك يكون بقطع الأوداج؛ لأنها مجرى الدم، وأما المريء، فهو مجرى الطعام، وليس به من الدم ما يحصل به إنهار، كذا قال. انتهى المقصود من "الفتح"

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: المعتبر في الذبح هو إخراج الدم، فما كان قطعه طريقًا إلى إخراجه هو المطلوب، وليس في النصّ تحديده، سوى كونه في الحلق واللبّة، فإنه صلى الله عليه وسلم نحر، وذبح، ومعلوم أن النحر والذبح في الحلق واللبّة، فالأَولى قطع الأربعة: الحلقوم، والمريء، والودجين، ليحصل المطلوب بأتمّ وَجْه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5018]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَاهُ يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ (ح) وَحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، كِلَاهُمَا عَنْ هِشَامٍ، بِهَذَا الإِسْنَادِ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أَبُو مُعَاوِيَةَ) محمد بن خازم الضرير، تقدّم قريبًا.

2 -

(أَبُو أُسَامَةَ) حمّاد بن أسامة، تقدّم قبل باب.

(1)

"الفتح" 12/ 486 رقم (5510).

ص: 214

والباقيان ذُكرا في الباب، والباب الماضي، و"أبو كُريب" هو: محمد بن العلاء، أحد مشايخ الجماعة بلا واسطة.

[تنبيه]: رواية أبي معاوية، عن هشام ساقها الطحاويّ رحمه الله في "شرح معاني الآثار"، فقال: حدّثنا محمد بن عمرو بن يونس، قال: ثنا أبو معاوية، عن هشام بن عروة، عن امرأته فاطمة بنت المنذر، عن أسماء بنت أبي بكر، قالت:"نحرنا فرسًا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأكلناه". انتهى

(1)

.

ورواية أبي أسامة، عن هشام، ساقها أبو عوانة رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(7640)

- حدّثنا الحسن بن علي بن عفان، قثنا

(2)

أبو أسامة، عن هشام بن عروة، عن فاطمة بنت المنذر، عن أسماء بنت أبي بكر، قالت: أكلنا لحم فرس على عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم. انتهى

(3)

.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(7) - (بَابُ إِبَاحَةِ الضَّبِّ)

" الضّبّ" بفتح الضاد المعجمة، وتشديد الموحدة: دُوَيِّبَة تشبه الْجِرْذون، لكنه أكبر من الجرذون، ويُكنى أبا حِسْل - بمهملتين، مكسورة ثم ساكنة - ويقال للأنثى: ضبة، وبه سمّيت القبيلة، وبالخيف من منى جبل يقال له: ضبّ، والضبّ: داء في خُفّ البعير، ويقال أن لأصل ذَكَر الضب فرعين، ولهذا يقال له: ذَكَران، وذكر ابن خالويه أن الضب يعيش سبعمائة سنة، وأنه لا يشرب الماء، ويبول في كل أربعين يومًا قطرةً، ولا يسقط له سنّ، ويقال: بل أسنانه قطعة واحدة، وحَكَى غيره أن أكْل لحمه يُذهب العطش، ومن الأمثال: لا أفعل كذا حتى يَرِد الضب، يقوله من أراد أن لا يفعل الشيء؛ لأن الضب لا يَرِد، بل يكتفي بالنسيم، وبرد الهواء، ولا يخرج من جُحْره في الشتاء، قاله في "الفتح"

(4)

.

(1)

"شرح معاني الآثار" 4/ 211.

(2)

مختصر من "قال: حدّثنا".

(3)

"مسند أبي عوانة" 5/ 27.

(4)

"الفتح" 12/ 522، كتاب "الذبائح" رقم (5536).

ص: 215

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: ما قاله ابن خالويه من أنه يعيش سبعمائة سنة، وأنه لا يشرب الماء إلى آخره، محلّ نظر؛ إذ يحتاج إلى مستند صحيح، والله تعالى أعلم بالصواب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5019]

(1943) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَيَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، وَقُتَيْبَةُ، وَابْنُ حُجْرٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ، قَالَ يَحْيَى بْنُ يَحْيَى: أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ دِينَارٍ، أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ: سُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنِ الضَّبِّ، فَقَالَ: "لَسْتُ بِآكِلِهِ، وَلَا مُحَرِّمِهِ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ) المقابريّ، أبو زكريّا البغداديّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(ابْنُ حُجْرٍ) هو: عليّ بن حُجْر السعديّ المروزيّ، ثقةٌ حافظٌ، من صغار [9](ت 244)(خ م ت س) تقدم في "المقدمة" 2/ 6.

3 -

(إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرِ) بن أبي كثير الأنصاريّ الزُّرَقيّ، أبو إسحاق المدنيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 180)(ع) تقدم في "الإيمان" 2/ 110.

4 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ دِينَارٍ) الْعَدويّ مولى ابن عمر، أبو عبد الرحمن المدنيّ، ثقةٌ [4](ت 127)(ع) تقدم في "الإيمان" 14/ 160.

والباقون تقدّموا في البابين الماضيين.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من رباعيّات المصنف، وهو (358) من رباعيّات الكتاب، وهو مسلسلٌ بالمدنيين، سوى شيوخه، وفيه ابن عمر رضي الله عنهما من المكثرين السبعة، والعبادلة الأربعة.

شرح الحديث:

(عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ دِينَارٍ، أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عُمَرَ) رضي الله عنهما (يَقُولُ: سُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم) بالبناء للمفعول، وفي رواية:"أن رجلًا قال: يا رسول الله، ما ترى في الضبّ. . ."، وفي رواية البخاريّ:"الضبّ لست آكله، ولا أحرّمه"، دون ذكر السؤال. قال في "الفتح": وَهَذَا السَّائِل يَحْتَمِل أَنْ يَكُون خُزَيْمَةَ بْن جَزْء، فَقَدْ

ص: 216

أَخْرَجَ ابْن مَاجَهْ مِنْ حَدِيثه: "قُلْت: يَا رَسُول الله، مَا تَقُول في الضبّ؟ فَقَالَ: "لا آكُلهُ، وَلا أُحَرِّمهُ"، قَالَ: قُلْت: فَإِنِّي آكُل مَا لَمْ تُحَرِّم"، لكن في سَنَده عبد الكريم بن أبي المخارق، وهو متّفقٌ على ضعفه.

ويأتي في الباب من حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه: "قال رجل: يا رسول الله أنا بأرض مضبّة، فما تأمرنا؟ قال: ذُكر لي أن أمة من بني إسرائيل مُسخت، فلم يَأمر، ولم يَنه".

وقوله: "مضبة" - بضم أوله، وكسر المعجمة -؛ أي: كثيرة الضباب، قال الحافظ: وهذا يمكن أن يفسَّر بثابت بن وديعة، فقد أخرج أبو داود، والنسائيّ من حديثه قال: أصبت ضبابًا، فشويت منها ضبًّا، فأتيت به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ عُودًا، فَعَدَّ به أصابعه، ثم قال:"إن أمة من بني إسرائيل مُسخت دواب في الأرض، وإني لا أدري أيّ الدوابّ هي، فلم يَأكل، ولم يَنه"، وسنده صحيح. انتهى

(1)

.

(عَنِ الضَّبِّ)؛ أي: عن أكل لحمه، (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("لَسْتُ بِآكِلِهِ) لكراهته له طبعًا، لا دينًا (وَلَا مُحَرِّمِهِ") وهذا صريحٌ في أنه حلالٌ، لكنه مستقذَر طبعًا، لا يوافق بعض الطبائع، قال النوويّ رحمه الله: ثبتت هذه الأحاديث التي ذكرها مسلم وغيره: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال في الضبّ: "لست بآكله، ولا محرِّمه"، وفي رواية:"لا آكله، ولا أحرّمه"، وفي رواية: أنه صلى الله عليه وسلم قال: "كلوا، فإنه حلال، ولكنه ليس من طعامي"، وفي رواية: أنه صلى الله عليه وسلم رفع يده منه، فقيل: أحرام هو يا رسول الله؟ قال: "لا، ولكنه لم يكن بأرض قومي، فأجدني أعافه"، فأكلوه بحضرته، وهو ينظر صلى الله عليه وسلم.

قال: وأجمع المسلمون على أن الضبّ حلال، ليس بمكروه، إلا ما حُكي عن أصحاب أبي حنيفة من كراهته، وإلا ما حكاه القاضي عياض عن قوم أنهم قالوا: هو حرام، قال النوويّ: وما أظنه يصح عن أحد، وإن صح عن أحد، فمحجوج بالنصوص، وإجماع مَن قبله. انتهى

(2)

.

(1)

"الفتح" 12/ 522، كتاب "الذبائح" رقم (5536).

(2)

"شرح النوويّ" 13/ 97 - 99.

ص: 217

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [7/ 5019 و 5020 و 5021 و 5022 و 5023](1943)، و (البخاريّ) في "الذبائح"(5536) و"أخبار الآحاد"(7267)، و (الترمذيّ) في "الأطعمة"(1790)، و (النسائيّ) في "الصيد"(7/ 197) و"الكبرى"(3/ 156)، و (ابن ماجه) في "الصيد"(3242)، و (مالك) في "الموطّأ"(2/ 968)، و (الشافعيّ) في "مسنده"(2/ 174)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1877)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(8672)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 62 و 74)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 92)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5265)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(5/ 35 و 37)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(4/ 200)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(9/ 322 - 333)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(2797 و 2798)، والله تعالى أعلم.

وفوائد الحديث، وبيان مذاهب العلماء ستأتي في شرح حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما الآتي في الباب - إن شاء الله تعالى - والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5020]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ (ح) وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحٍ، أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: سَأَلَ رَجُلٌ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَكْلِ الضَّبِّ، فَقَالَ:"لَا آكُلُهُ، وَلَا أُحَرِّمُهُ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحِ) بن مهاجر التجيبيّ المصريّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(اللَّيْثُ) بن سعد الإمام المصريّ المشهور، تقدّم أيضًا قريبًا.

ص: 218

3 -

(نَافِعٌ) مولى ابن عمر، تقدّم قبل باب.

والباقيان ذُكرا قبله.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من رباعيّات المصنّف، وهو (358) من رباعيّات الكتاب.

وقوله: (سَأَلَ رَجُلٌ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم. . . إلخ) قال في "الفتح": يَحْتَمِل أن يكون خزيمة بن جزء. انتهى.

والحديث متّفقٌ عليه.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5021]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: سَأَلَ رَجُلٌ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ عَنْ أَكْلِ الضَّبِّ، فَقَالَ: "لَا آكُلُهُ، وَلَا أُحَرِّمُهُ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(عُبَيْدُ اللهِ) بن عمر العمريّ المدنيّ، تقدّم قبل باب.

والباقون ذُكروا في الباب، والباب الماضي.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5022]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ، بِمِثْلِهِ فِي هَذَا الْإِسْنَادِ).

رجال هذا الإسناد: ثلاثة:

1 -

(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ سَعِيدِ) بن يحيى اليشكريّ، أبو قُدامة السرَخْسيّ، نزيل نيسابور، ثقةٌ مأمونٌ سنّيٌّ [10](ت 241)(خ م س) تقدم في "المقدمة" 6/ 39.

ص: 219

2 -

(يَحْيَى) بن سعيد بن فرّوخ التميميّ القطّان، أبو سعيد البصريّ، ثقةٌ متقنٌ حافظٌ إمامٌ قُدوة، من كبار [9](ت 198) وله (78) سنة (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 385.

و"عبيد الله" العمريّ، ذُكر قبله.

وقوله: (بِمِثْلِهِ)؛ يعني: أن يحيى بن سعيد القطّان حدّث عن عبيد الله العمريّ بمثل حديث ابن نمير عنه.

وقوله: (فِي هَذَا الإِسْنَادِ)"في" بمعنى الباء؛ أي: بالإسناد السابق لعبيد الله، وهو: عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما.

[تنبيه]: رواية يحيى القطّان عن عبيد الله هذه ساقها أبو عوانة رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(7691)

- حدّثنا أبو سعيد عبد الرحمن بن منصور البصريّ، قال: ثنا يحيى بن سعيد، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، قال: سأل رجل النبيّ صلى الله عليه وسلم عن الضبّ، فقال:"لا آمر به، ولا أنهى عنه". انتهى

(1)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5023]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَاهُ أَبُو الرَّبِيعِ، وَقُتَيْبَةُ، قَالَا: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ (ح) وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، كِلَاهُمَا عَنْ أَيُّوبَ (ح) وَحَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ مِغْوَلٍ (ح) وَحَدَّثَنِي هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ (ح) وَحَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، حَدَّثَنَا شُجَاعُ بْنُ الْوَلِيدِ، قَالَ: سَمِعْتُ مُوسَى بْنَ عُقْبَةَ (ح) وَحَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الأَيْلِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي أُسَامَةُ، كُلُّهُمْ عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الضَّبِّ، بِمَعْنَى حَدِيثِ اللَّيْثِ، عَنْ نَافِعٍ، غَيْرَ أَنَّ حَدِيثَ أَيُّوبَ:"أُتِيَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِضَبٍّ، فَلَمْ يَأْكُلْهُ، وَلَمْ يُحَرِّمْهُ"،

(1)

"مسند أبي عوانة" 5/ 36.

ص: 220

وَفِي حَدِيثِ أُسَامَةَ: "قَالَ: قَامَ رَجُلٌ فِي الْمَسْجِدِ، وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْمِنْبَرِ").

رجال هذا الإسناد: تسعة عشر:

1 -

(إِسْمَاعِيلُ) بن إبراهيم المعروف بابن عُليّة، تقدّم قريبًا.

2 -

(مَالِكُ بْنُ مِغْوَلٍ) أبو عبد الله الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار [7](ت 159) على الأصحّ (ع) تقدم في "الإيمان" 10/ 146.

3 -

(شُجَاعُ بْنُ الْوَلِيدِ) بن قيس السَّكونيّ، أبو بدر الكوفيّ، صدوقٌ ورِعٌ، له أوهامٌ [9].

رَوَى عن الأعمش، وموسى بن عقبة، وهاشم بن هاشم بن عتبة، وعمر بن محمد بن زيد العمريّ، وأبي خالد الدالانيّ، وزهير بن معاوية، وغيرهم.

وروى عنه بقية بن الوليد، ومات قبله، وأحمد، وإسحاق، ويحيى بن معين، وعليّ ابن المدينيّ، وهارون الحمال، ومحمد بن عبد الرحيم البزار، وابنه أبو همام الوليد بن شجاع، ونصر بن عليّ الجهضميّ، وأبو خيثمة زهير بن حرب، وغيرهم.

قال وكيع: سمعت سفيان يقول: ليس بالكوفة أعبد منه، وقال أحمد عن أبي نعيم: لقيت سفيان بمكة، فكان أول شيء سألني كيف شجاع؟ وقال أحمد بن حنبل: كنت مع يحيى بن معين، فلقي أبا بدر، فقال له: اتّق الله يا شيخ، وانظر هذه الأحاديث، لا يكون ابنك يعطيك، قال أبو عبد الله: فاستحييت، وتنحيت ناحيةً، وقال المروزيّ: فقلت لأحمد: ثقة هو؟ قال: أرجو أن يكون صدوقًا، وقال حنبل: قال أبو عبد الله: كان أبو بدر شيخًا صالحًا صدوقًا، كتبنا عنه قديمًا، قال: ولقيه ابن معين يومًا، فقال له: يا كذاب، فقال له الشيخ: إن كنت كذابًا، وإلا فهتكك الله، قال أبو عبد الله: فأظن دعوة الشيخ أدركته، وقال ابن خِرَاش عن محمد بن عبد الله الْمُخَرِّميّ: سئل وكيع عنه، فقال: كان جارنا ها هنا، ما عرفناه بعطاء بن السائب، ولا المغيرة، وقال ابن أبي خيثمة: عن ابن معين: شجاع بن الوليد ثقةٌ، وقال

ص: 221

العجليّ: كوفيّ ليس به بأسٌ، وقال أبو حاتم: عبد الله بن بكر السهميّ أحب إلي منه، وهو شيخ، ليس بالمتين، لا يُحتج بحديثه، وقال أبو زرعة: لا بأس به، وذكره ابن حبان في "الثقات".

وقال مطين: مات سنة ثلاث ومائتين، وقال ابن سعد: مات سنة أربع ومائتين في رمضان، وكان وَرِعًا، كثير الصلاة، وقال أحمد بن كامل: مات سنة خمس ومائتين.

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط، هذا الحديث برقم (1943)، وحديث (2047):"من تصبّح بسبع تمرات عجوة. . ."، وحديث (2305):"ألا إني فرط لكم على الحوض. . .".

4 -

(مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ) بن أبي عيّاش الأسديّ مولاهم المدنيّ، ثقةٌ فقيه، إمام في المغازي [5](141)(ع) تقدم في "الإيمان" 81/ 433.

5 -

(هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الأَيْلِيُّ) تقدّم قريبًا.

6 -

(أُسَامَةُ) بن زيد الليثيّ مولاهم، أبو زيد المدنيّ، صدوقٌ يَهِم [7](ت 153)(خت م 4) تقدم في "الصلاة" 42/ 1085.

والباقون ذُكروا في الباب، والبابين الماضيين، و"أبو الربيع" هو: سليمان بن داود الْعَتَكيّ، و "حماد" هو: ابن زيد، و "أيوب" هو: السختيانيّ، و"هارون بن عبد الله" هو: الحمّال البغداديّ.

وقوله: (كِلَاهُمَا عَنْ أَيُّوبَ)؛ يعني: أن كلًّا من حمّاد بن زيد، وإسماعيل بن عليّة روى هذا الحديث عن أيوب السَّختيانيّ.

وقوله: (كلُّهُمْ عَنْ نَافِعٍ. . . إلخ)؛ أي: كلّ هؤلاء الخمسة: أيوب السختيانيّ، ومالك بن مِغْول، وابن جريج، وموسى بن عقبة، وأسامة بن زيد الليثيّ رووا هذا الحديث عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، بمعنى رواية الليث بن سعد، عن نافع في الحديث السابق.

[تنبيه]: رواية أيوب السختيانيّ، عن نافع ساقها أبو عوانة رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(7693)

- حدّثنا الصغانيّ، وأبو أمية قالا: ثنا أبو النعمان، قال: ثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أُتِيَ

ص: 222

بضبّ، فلم يأكله، ولم يحرمه". انتهى

(1)

.

ورواية مالك بن مِغْول، عن نافع، ساقها أبو عوانة رحمه الله أيضًا في "مسنده"، فقال:

(7697)

- حدّثنا أبو عمرو بن حازم بن أبي غرزة، قال: ثنا عبيد الله بن موسى (ح) وحدّثنا أبو عمر إمام مسجد حَرّان، قال: ثنا مخلد بن يزيد، قالا: ثنا مالك بن مَغْوَل، عن نافع، عن ابن عمر، قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل الضبّ، فقال:"لا آكله، ولا أَنْهَى عنه". انتهى.

ورواية ابن جريج، عن نافع، ساقها أيضًا أبو عوانة، فقال:

(7695)

- حدّثنا يزيد بن سنان، والحميريّ البلخيّ بفارس قالا: ثنا مكيّ بن إبراهيم، قال: ثنا ابن جريج، عن نافع، قال: كان ابن عمر يقول: سئل النبيّ صلى الله عليه وسلم عن الضبّ، فقال:"لست بآكله، ولا محرِّمه". انتهى.

ورواية موسى بن عقبة، عن نافع ساقها أيضًا أبو عوانة، فقال:

(7696)

- حدّثنا سعيد بن مسعود المروزيّ، قال: ثنا شجاع بن الوليد، قال: سمعت موسى بن عقبة يحدّث عن نافع، عن ابن عمر: أن رجلًا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الضبّ آكله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لست بآكله، ولا محرِّمه"، قال: فتركه عبد الله حين سمع ذلك، وقد كان يأكله. انتهى

(2)

.

ورواية أسامة بن زيد ساقها أيضًا أبو عوانة، فقال:

(7694)

- حدّثنا الربيع بن سليمان، وعيسى بن أحمد العسقلانيّ، قالا: ثنا عبد الله بن وهب، عن أسامة بن زيد، عن نافع، عن ابن عمر، قال: قام رجل في المسجد، ورسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر، فقال: يا رسول الله كيف ترى في الضبّ؟ فقال: "لا آكله، ولا أُحَرِّمه". انتهى

(3)

، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5024]

(1944) - (وَحَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ تَوْبَةَ الْعَنْبَرِيِّ، سَمِعَ الشَّعْبِيَّ، سَمِعَ ابْنَ عُمَرَ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ مَعَهُ نَاسٌ مِنْ

(1)

"مسند أبي عوانة" 5/ 36.

(2)

"مسند أبي عوانة" 5/ 37.

(3)

"مسند أبي عوانة" 5/ 37.

ص: 223

أَصْحَابِهِ، فِيهِمْ سَعْدٌ، وَأُتُوا بِلَحْمِ ضَبٍّ، فَنَادَتِ امْرَأَةٌ مِنْ نِسَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّهُ لَحْمُ ضَبٍّ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"كُلُوا، فَإِنَّهُ حَلَالٌ، وَلَكِنَّهُ لَيْسَ مِنْ طَعَامِي").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(تَوْبَةُ الْعَنْبَرِيُّ) هو: توبة بن أبي الأسد، أبو الْمُوَرّع البصريّ، واسم أبي الأسد كيسان بن راشد، وقيل: توبة بن أبي راشد، ويقال: ابن أبي الْمُوَرِّع، ثقةٌ، أخطأ الأزديّ إذ ضعفّه [4].

رَوَى عن أنس، ومُوَرِّق العجليّ، والشعبيّ، وعمر بن عبد العزيز، ومحمد بن إبراهيم التيميّ، وأبي بردة بن أبي موسى، وأبي العالية، وغيرهم.

وروى عنه شعبة، والثوريّ، وأبو الأشهب، وأبو بشر، وأبو هلال الراسبيّ، ومطيع بن راشد، وهشام بن حسان، وجماعة.

قال إسحاق بن منصور عن ابن معين، وأبو حاتم، وإبراهيم بن عرعرة، والنسائيّ: ثقةٌ، وقال ابن سعد: أخبرنا إسحاق بن المورِّع بن توبة العنبريّ، قال: هو توبة بن كيسان بن أبي الأسد، أصله من سجستان، ومولده اليمامة، ومنشؤه بها، ثم تحول إلى البصرة، وهو مولى أيوب بن أزهر، وفد على عمر بن عبد العزيز، وولّاه يوسف بن عمر سابور، ثم ولّاه الأهواز، وكان يوم توفي ابن (74) سنةً، وقال خليفة: مات بعد الثلاثين ومائة، وقال حفيده العباس بن عبد العظيم العنبريّ: مات في الطاعون سنة (131)، قال ابن المدينيّ: له نحو ثلاثين حديثًا، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال الأزديّ وحده: توبة منكر الحديث، ورَوَى بإسناد له عن ابن معين يُضَعَّف، وقال ابن أبي خيثمة عن المدائنيّ، عن توبة: عملت ليوسف بن عمر، فحبسني حتى لم يبق في رأسي شعرة سوداء، فذكر قصةً.

أخرج له البخاريّ، والمصنّف، وأبو داود، والنسائيّ، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.

والباقون ذُكروا في الباب، وقبل باب.

شرح الحديث:

(عَنْ تَوْبَةَ) - بمثناة مفتوحة، وسكون الواو، بعدها موحّدة - هو ابن

ص: 224

كيسان، يُكنى أبا الْمُوَرِّع - بتشديد الراء، والاهمال - (الْعَنْبَرِيِّ) - بفتح العين المهملة، والموحدة، بينهما نون ساكنة - نسبة إلى بني العنبر، بطن شهير من بني تميم، قاله في "الفتح"

(1)

. أنه (سَمِعَ الشَّعْبِيَّ) عامر بن شَرَاحيل، وقوله:(سَمِعَ ابْنَ عُمَرَ) جملة حاليّة بتقدير "قد" عند البصريين، وبدونها عند الكوفيين، (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ مَعَهُ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِهِ) رضي الله عنهم (فِيهِمْ سَعْدٌ) ابن أبي وقّاص، (وَأُتُوا) بالبناء للمفعول، (بِلَحْمِ ضَبٍّ، فَنَادَتِ امْرَأَةٌ مِنْ نِسَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) هي ميمونة أم المؤمنين رضي الله عنها، كما سيأتي. (إِنَّهُ)؛ أي: إن اللحم الذي أتي به النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأصحابه (لَحْمُ ضَبٍّ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) لأصحابه ("كُلُوا، فَإِنَّهُ حَلَالٌ، وَلَكِنَّهُ لَيْسَ مِنْ طَعَامِي")؛ أي: ولكن أنا تعافه نفسي؛ لأنه ليس من الطعام الذي تعوّدت أكله؛ لعدم توفّره في مكة، ولفظ البخاريّ:"قال: كان ناس من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم فيهم سعد، فذهبوا يأكلون من لحم، فنادتهم امرأة من بعض أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم: إنه لحم ضبّ، فأمسكوا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كلوا، أو اطعَمُوا، فإنه حلال، أو قال: لا بأس به، ولكنه ليس من طعامي".

والمراد أنه صلى الله عليه وسلم ما ترك أكله لكونه حرامًا، وإنما تركه لأنه ليس من الطعام المألوف له، فلا تخالُفَ بين قوله هنا:"فإنه حلال"، وبين قوله السابق:"لا أحله ولا أحرمه"، فتنبّه.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى، ويأتي تمام البحث فيه، وبالله تعالى التوفيق.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5025]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ تَوْبَةَ الْعَنْبَرِيِّ، قَالَ: قَالَ لِي الشَّعْبِيُّ: أَرَأَيْتَ حَدِيثَ الْحَسَنِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَقَاعَدْتُ ابْنَ عُمَرَ قَرِيبًا مِنْ سَنَتَيْنِ، أَوْ سَنَةٍ وَنِصْفٍ، فَلَمْ أَسْمَعْهُ رَوَى عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم غَيْرَ هَذَا، قَالَ: كَانَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِيهِمْ سَعْدٌ، بِمِثْلِ حَدِيثِ مُعَاذٍ).

(1)

"الفتح" 17/ 119، كتاب "أخبار الآحاد"(7267).

ص: 225

رجال هذا الإسناد: ستة:

وكلهم ذُكروا في الباب، وقبل باب.

وقوله: (قَالَ لِي الشَّعْبِيُّ: أَرَأَيْتَ حَدِيثَ الْحَسَنِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. . . إلخ)؛ يعني: الحسن البصريّ، والرؤيا هنا بصرية، والاستفهام للإنكار، كأن الشعبيّ يُنكر على من يرسل الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، إشارةً إلى أن الحامل لفاعل ذلك طلب الإكثار من التحديث عنه، وإلا لكان يكتفي بما سمعه موصولًا.

وقال الكرمانيّ: مراد الشعبيّ أن الحسن مع كونه تابعيًّا كان يُكثر الحديث عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وابن عمر مع كونه صحابيًّا يحتاط، ويُقِلّ من ذلك مهما أمكن.

قال الحافظ: وكأن ابن عمر اتَّبَع رأي أبيه في ذلك، فإنه كان يحضّ على قلة التحديث عن النبيّ صلى الله عليه وسلم لوجهين:

أحدهما: خشية الاشتغال عن تعلم القرآن، وتفهّم معانيه.

والثاني: خشية أن يُحَدَّث عنه بما لم يقله؛ لأنهم لم يكونوا يكتبون، فإذا طال العهد لم يؤمَن النسيان.

وقد أخرج سعيد بن منصور بسند آخر صحيح، عن الشعبيّ، عن قَرَظَة بن كعب، عن عمر رضي الله عنه قال: أقلّوا الحديث عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأنا شريككم.

وقوله: (وَقَاعَدْتُ ابْنَ عُمَرَ) الجملة حالية، والمراد أنه جلس معه المدة المذكورة.

وقوله: (قَرِيبًا مِنْ سَنَتَيْنِ، أَوْ سَنَةٍ وَنِصْفٍ) ووقع عند ابن ماجه، من طريق عبد الله بن أبي السَّفَر، عن الشعبيّ، قال:"جالست ابن عمر سنةً"، فيُجمع بأن مدة مجالسته كانت سنة وكسرًا، فألغى الكسر تارةً، وجبره أخرى، وكان الشعبي جاور بالمدينة، أو بمكة، وإلا فهو كوفيّ، وابن عمر لم تكن له إقامة بالكوفة، قاله في "الفتح"

(1)

.

وقوله: (فَلَمْ أَسْمَعْهُ)؛ أي: ابن عمر، (رَوَى عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم غَيْرَ هَذَا)

(1)

"الفتح" 17/ 120، كتاب "أخبار الآحاد" رقم (7267).

ص: 226

أشار به إلى الحديث يريد أن يذكره، وهو حديث الضبّ، قال في "الفتح": وكأنه استحضره بذهنه إذ ذاك.

وقوله: (بِمِثْلِ حَدِيثِ مُعَاذٍ)؛ يعني: أن محمد بن جعفر حدّث عن الشعبيّ بمثل ما حدّث به معاذ بن معاذ عنه.

[تنبيه]: رواية محمد بن جعفر، عن شعبة هذه ساقها البخاريّ في "صحيحه"، فقال:

(7267)

- حدّثنا محمد بن الوليد، حدّثنا محمد بن جعفر، حدّثنا شعبة، عن توبة العنبريّ، قال: قال لي الشعبيّ: أرأيت حديث الحسن عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقاعدت ابن عمر قريبًا من سنتين، أو سنة ونصف، فلم أسمعه يُحَدِّث عن النبيّ صلى الله عليه وسلم غير هذا، قال: كان ناس من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم، فيهم سعد، فذهبوا يأكلون من لحم، فنادتهم امرأة من بعض أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم: إنه لحم ضبّ، فأمسكوا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كلوا، - أو اطْعَمُوا - فإنه حلال - أو قال: لا بأس به، شك فيه

(1)

- ولكنه ليس من طعامي". انتهى

(2)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5026]

(1945) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: دَخَلْتُ أَنَا وَخَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَيْتَ مَيْمُونَةَ، فَأُتِيَ بِضَبٍّ مَحْنُوذٍ، فَأَهْوَى إِلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِيَدِهِ، فَقَالَ بَعْضُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي فِي بَيْتِ مَيْمُونَةَ: أَخْبِرُوا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِمَا يُرِيدُ أَنْ يَأْكُلَ، فَرَفَعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَدَهُ، فَقُلْتُ: أَحَرَامٌ هُوَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: "لَا، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَكُنْ بِأَرْضِ قَوْمِي، فَأَجِدُنِي أَعَافُهُ"، قَالَ خَالِدٌ: فَاجْتَرَرْتُهُ، فَأَكَلْتُهُ، وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَنْظُرُ).

(1)

قوله: "شكّ فيه" هو قول شعبة، والذي شَكَّ في أيّ اللفظين قال: هو توبة الراوي عن ابن عمر، بَيَّن ذلك محمد بن جعفر في روايته، عن شعبة، أخرجه أحمد في "مسنده" عنه، قاله في "الفتح" 17/ 120 رقم (7267).

(2)

"صحيح البخاريّ" 6/ 2652.

ص: 227

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أَبُو أُمَامَةَ بْنُ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ) - مصغّرًا - هو: أسعد بن سهل بن حُنيف الأنصاريّ، مشهور بكنيته، معدود من الصحابة؛ لرؤيته، ولم يسمع منه صلى الله عليه وسلم، ومات سنة مائة، وله اثنان وتسعون سنةً [2](ع) تقدم في "الحيض" 18/ 779.

والباقون تقدّموا قبل باب.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف، وأنه مسلسل بالمدنيين، غير شيخه، وقد دخل المدينة للأخذ عن مالك، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه ابن عبّاس رضي الله عنهما أحد المكثرين السبعة، والعبادلة الأربعة، والمشهورين بالفتوى.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي أُمَامَةَ) أسعد (بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ) بصيغة التصغير، له رؤية، وأبوه صحابيّ، وفي رواية للبخاريّ من طريق يونس، عن ابن شهاب:"قال أخبرني أبو أمامة"(عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما أنه (قَالَ: دَخَلْتُ أَنَا وَخَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ) بن المغيرة بن عبد الله بن عُمر بن مخزوم، سيف الله، أبو سليمان، من كبار الصحابة رضي الله عنهم، كان إسلامه بين الحديبية والفتح، وكان أميرًا على قتال أهل الرّدّة وغيرها من الفتوح، إلى أن مات رضي الله عنه سنة (1 أو 22)، تقدّمت ترجمته في "الجهاد والسِّيَر" 13/ 4560. (مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَيْتَ مَيْمُونَةَ) بنت الحارث رضي الله عنها، وهذه الرواية صريحة في كون الحديث من مسند ابن عبّاس رضي الله عنهما، وفي رواية يونس التالية: "أن ابن عباس أخبره أن خالد بن الوليد الذي يقال له: سيف الله أخبره"، فجعله من مسند خالد رضي الله عنه.

قال في "الفتح": وهذا الحديث مما اختُلف فيه على الزهريّ، هل هو من مسند ابن عباس، أو من مسند خالد؟ وكذا اختُلف فيه على مالك، فقال الأكثر: عن ابن عباس، عن خالد، وقال يحيى بن بكير في "الموطأ"، وطائفة: عن مالك، بسنده عن ابن عباس، وخالد أنهما دخلا، وقال يحيى بن يحيى التميميّ عن مالك، بلفظ:"عن ابن عباس، قال: دخلت أنا وخالد على النبيّ صلى الله عليه وسلم"، أخرجه مسلم عنه - يعني: هذه الرواية - وكذا أخرجه من طريق

ص: 228

عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهريّ، بلفظ:"عن ابن عباس، قال: أتي النبيّ صلى الله عليه وسلم، ونحن في بيت ميمونة بضبّين مشويين"، وقال هشام بن يوسف عن معمر كالجمهور.

والجمع بين هذه الروايات أن ابن عباس كان حاضرًا للقصة في بيت خالته ميمونة، كما صرَّح به في هذه الرواية، وكأنه استثبت خالد بن الوليد في شيء منه؛ لكونه الذي كان باشر السؤال عن حكم الضب، وباشر أكله أيضًا، فكان ابن عباس ربما رواه عنه، ويؤيد ذلك أن محمد بن المنكدر حدّث به عن أبي أمامة بن سهل، عن ابن عباس، قال:"أُتِيَ النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو في بيت ميمونة، وعنده خالد بن الوليد بلحم ضبّ"، الحديث أخرجه مسلم، وكذا رواه سعيد بن جبير، عن ابن عباس، فلم يذكر فيه خالدًا. انتهى

(1)

.

(فَأُتِيَ) بالبناء للمفعول، (بِضَبٍّ مَحْنُوذٍ) - بحاء مهملة ساكنة، ونون مضمومة، وآخره ذال معجمة -؛ أي: مَشْويّ بالحجارة المحمّاة، ووقع في رواية معمر:"بضبّ مَشْويّ"، والمحنوذ أخصّ، والحنيذ بمعناه، زاد يونس في روايته:"قَدِمت به أختها حُفَيدة"، وهي بمهملة، وفاء، مصغَّرًا، وفي رواية سعيد بن جبير:"أن أم حُفيدة بنت الحارث بن حزن خالة ابن عباس، أهدت للنبيّ صلى الله عليه وسلم سمنًا، وأَقِطًا، وأُضُبًّا"، وفي رواية عوف، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، عند الطحاويّ:"جاءت أم حفيدة بضبّ وقنفذ"، وذِكْر القنفذ فيه غريب.

وقد قيل في اسمها: هُزيلة بالتصغير، وهي رواية "الموطأ" من مرسل عطاء بن يسار، فإن كان محفوظًا، فلعل لها اسمين، أو اسم ولقب، وحَكَى بعض شراح "العمدة" في اسمها: حُمِيدة، بميم، وفي كنيتها: أم حُميد، بميم بغير هاء، وفي رواية بِهاء، وبفاء، ولكن بِراء بدل الدال، وبعين مهملة بدل الحاء، بغير هاء، وكلها تصحيفات

(2)

.

(فَأَهْوَى إِلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِيَدِهِ) زاد يونس: "وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قَلّما يُقَدِّم يده لطعام حتى يُسَمَّى له".

وأخرج إسحاق بن راهويه، والبيهقيّ في "الشعب" من طريق يزيد بن

(1)

"الفتح" 12/ 524.

(2)

"الفتح" 12/ 524.

ص: 229

الْحَوْتكية، عن عمر رضي الله عنه:"أن أعرابيًّا جاء إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم بأرنب يُهديها إليه، وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم لا يأكل من الهدية حتى يأمر صاحبها، فيأكل منها، من أجل الشاة التي أُهديت إليه بخيبر. . ." الحديث، وسنده حسن.

(فَقَالَ بَعْضُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي فِي بَيْتِ مَيْمُونَةَ: أَخْبِرُوا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِمَا يُرِيدُ أَنْ يَأْكُلَ، فَرَفَعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَدَهُ) وفي رواية البخاريّ: "فقالوا: هو ضبّ يا رسول الله، فرفع يده".

وفي رواية يونس: "فقالت امرأة من النسوة الحضور: أخبِرن رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قدمتنّ له، هو الضب يا رسول الله"، وكأن المرأة أرادت أن غيرها يخبره، فلمّا لم يُخبروا بادرت هي، فأخبرت. وفي رواية الشعبيّ، عن ابن عمر، قال:"كان ناس من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم، فيهم سعد - يعني: ابن أبي وقاص - فذهبوا يأكلون من لحم، فنادتهم امرأة من بعض أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم"، وفي رواية يزيد بن الأصم:"عن ابن عباس أنه بينما هو عند ميمونة، وعندها الفضل بن عباس، وخالد بن الوليد، وامرأة أخرى إذ قُرِّب إليهم خِوَانٌ عليه لحم، فلما أراد النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يأكل قالت له ميمونة: إنه لحم ضبّ، فكفّ يده".

وعُرِف بهذه الرواية اسم التي أُبهمت في الرواية الأخرى، وعند الطبرانيّ في "الأوسط" من وجه آخر صحيح:"فقالت ميمونة: أخبروا رسول الله صلى الله عليه وسلم ما هو"

(1)

.

وقوله أيضًا: (فَرَفَعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَدَهُ) زاد في رواية: "عن الضبّ"، ويؤخذ منه أنه أكل من غير الضب مما كان قُدِّم له من غير الضب، كما يأتي أنه كان فيه غير الضب، وقد جاء صريحًا في رواية سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال:"فأكل من السمن، والأقط، وترك الضبّ"، وفي رواية للبخاريّ:"فأكل الأقط، وشرِب اللبن".

(فَقُلْتُ) القائل هو خالد بن الوليد رضي الله عنه، كما يأتي بعده. (أَحَرَامٌ هُوَ)؛ أي: الضبّ (يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("لَا)؛ أي: ليس بحرام، (وَلَكِنَّهُ لَمْ يَكُنْ بِأَرْضِ قَوْمِي) في رواية يزيد بن الأصم:"هذا لحم لم آكله قطّ"، قال ابن

(1)

"الفتح" 12/ 524، كتاب "الذبائح" رقم (5537).

ص: 230

العربي: اعتَرَض بعض الناس على هذه اللفظة: "لم يكن بأرض قومي" بأن الضِّباب كثيرة بأرض الحجاز، قال ابن العربيّ: فإن كان أراد تكذيب الخبر فقد كَذَبَ هو، فإنه ليس بأرض الحجاز منها شيء، أو ذُكرت له بغير اسمها، أو حدثت بعد ذلك، وكذا أنكر ابن عبد البرّ، ومن تبعه أن يكون ببلاد الحجاز شيء من الضِّباب.

قال الحافظ: ولا يُحتاج إلى شيء من هذا، بل المراد بقوله صلى الله عليه وسلم:"بأرض قومي" قريشٌ فقط، فيختص النفي بمكة وما حولها، ولا يمنع ذلك أن تكون موجودة بسائر بلاد الحجاز، وقد وقع في رواية يزيد بن الأصم عند مسلم:"دعانا عروس بالمدينة، فقرّب إلينا ثلاثة عشر ضبًّا، فآكل، وتارك. . ." الحديث، فبهذا يدلّ على كثرة وجدانها بتلك الديار. انتهى

(1)

.

(فَأَجِدُنِي أَعَافُهُ) - بعين مهملة، وفاء خفيفة -؛ أي: أكره أكله، يقال: عاف الطعام، والشراب يعافه، من باب تَعِبَ عِيَافةً بالكسر: إذا كَرِهته، ووقع في رواية سعيد بن جبير: فتركهن النبيّ صلى الله عليه وسلم كالمتقذِّر لهنّ، ولو كُنّ حرامًا لَمَا أُكلن على مائدة النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولَمَا أَمَر بأكلهنّ"، كذا أطلق الأمر، وكأنه تلقاه من الإذن المستفاد من التقرير، فإنه لم يقع في شيء من طرق حديث ابن عباس بصيغة الأمر، إلا في رواية يزيد بن الأصم الآتية، فإن فيها: "فقال لهم: كُلُوا، فأكل منه الفضل، وخالد، والمرأة"، وكذا في رواية الشعبيّ عن ابن عمر: "فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: كُلُوا، أو اطْعَمُوا، فإنه حلال، أو قال: لا بأس به، ولكنه ليس طعامي".

وفي هذا كله بيان سبب ترك النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأنه بسبب أنه ما اعتاده، وقد ورد لذلك سبب آخر أخرجه مالك من مرسل سليمان بن يسار، فذكر معنى حديث ابن عباس، وفي آخره:"فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: كلا - يعني: لخالد وابن عباس - فإنني يحضرني من الله حاضرة"، قال المازريّ: يعني الملائكة، وكأن للحم الضب ريحًا، فترك أكْله لأجل ريحه، كما ترك أكل الثوم مع كونه حلالًا.

(1)

"الفتح" 12/ 524، كتاب "الذبائح" رقم (5537).

ص: 231

قال الحافظ: وهذا إن صح يمكن ضمّه إلى الأول، ويكون لتركه الأكلَ من الضب سببان. انتهى

(1)

.

(قَالَ خَالِدٌ)؛ أي: ابن الوليد، (فَاجْتَرَرْتُهُ) - بجيم ورائين - هذا هو المعروف في كتب الحديث، وضبطه بعض شراح "المهذّب" بزاي قبل الراء، وقد غلّطه النوويّ.

(فَأَكَلْتُهُ، وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَنْظُرُ) زاد يونس في روايته عند البخاريّ: "إِلَيَّ"، وفي روايته الآتية عند مسلم:"ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر، فلم ينهني".

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: [إن قيل]: إذا كان النبيّ صلى الله عليه وسلم ترك أكله؛ لكونه ليس بأرض قومه، فَلِمَ أكَله خالد بن الوليد، وهو من قوم النبيّ صلى الله عليه وسلم؟.

[قلت]: لعلّ خالدًا تعوّد أكله تقليدًا لأهل نجد، فإن المرأة التي أهدت الضبّ له صلى الله عليه وسلم من نجد، وهي خالته، فلعله كان يذهب إليها لزيارتها، فرأى الناس هناك يأكلونه بكثرة، فاكله معهم، بخلافه صلى الله عليه وسلم، ولم أر من تعرّض لهذا البحث، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [7/ 5026 و 5027 و 5028 و 5029 و 5030 و 5031 و 5032](1945 و 1946 و 1947 و 1948)، و (البخاريّ) في "الأطعمة"(5391) و"الذبائح"(5537)، و (أبو داود) في "الأطعمة"(3794)، و (الترمذيّ)(3455)، و (النسائيّ) في "الصيد"(7/ 197 - 198) و"الكبرى"(4826)، و (الشافعيّ) في "مسنده"(2/ 174)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 220 و 225 و 284 و 332)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 93)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5263)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(3815 و 3816 و 3817 و 3821 و 3822)،

(1)

"الفتح" 12/ 524، كتاب "الذبائح"(5537).

ص: 232

و (البيهقيّ) في "الكبرى"(9/ 323)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(2799)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان جواز أكل الضبّ، وحَكَى عياض عن قوم تحريمه، وعن الحنفية كراهته، وأنكر ذلك النوويّ، وقال: لا أظنه يصح عن أحد، فإن صح فهو محجوج بالنصوص، وبإجماع من قبله.

وتعقّبه الحافظ، فقال: قد نقله ابن المنذر عن عليّ رضي الله عنه، فأيُّ إجماع يكون مع مخالفته، ونقل الترمذيّ كراهته عن بعض أهل العلم، وقال الطحاويّ في "شرح معاني الآثار": كَرِه قوم أكل الضب، منهم أبو حنيفة، وأبو يوسف، ومحمد بن الحسن، قال: واحتَجَّ محمد بحديث عائشة رضي الله عنها أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أُهدي له ضبّ، فلم يأكله، فقام عليهم سائل، فأرادت عائشة أن تعطيه، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أتعطينه ما لا تأكلين؟ "، قال الطحاويّ: ما في هذا دليل على الكراهة؛ لاحتمال أن تكون عافته، فأراد النبيّ صلى الله عليه وسلم أن لا يكون ما يُتقرَّب به إلى الله إلا من خير الطعام، كما نَهَى أن يتصدق بالتمر الرديء. انتهى.

وقد جاء عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه نَهَى عن الضبّ، أخرجه أبو داود بسند حسن، فإنه من رواية إسماعيل بن عياش، عن ضمضم بن زُرْعة، عن شُريح بن عتبة، عن أبي راشد الْحُبْرانيّ، عن عبد الرحمن بن شِبْل، وحديث ابن عياش عن الشاميين قويّ، وهؤلاء شاميون ثقاتٌ، ولا يُغْتَرّ بقول الخطابيّ: ليس إسناده بذاك، وقولِ ابن حزم: فيه ضعفاء، ومجهولون، وقول البيهقيّ: تفرد به إسماعيل بن عياش، وليس بحجة، وقول ابن الجوزيّ: لا يصحّ، ففي كل ذلك تساهل لا يخفى، فإن رواية إسماعيل عن الشاميين قوية عند البخاريّ، وقد صحح الترمذيّ بعضها.

وقد أخرج أبو داود من حديث عبد الرحمن بن حسنة: "نزلنا أرضًا كثيرة الضِّباب. . ." الحديث، وفيه:"إنهم طبخوا منها، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: إن أمة من بني إسرائيل مُسخت دوابّ في الأرض، فاخشى أن تكون هذه، فاكفئوها"، أخرجه أحمد، وصححه ابن حبان، والطحاويّ، وسنده على شرط الشيخين، إلا الضحاك، فلم يُخرجا له.

ص: 233

وللطحاويّ من وجه آخر، عن زيد بن وهب، ووافقه الحارث بن مالك، ويزيد بن أبي زياد، ووكيع، وفي آخره:"فقيل له: إن الناس قد اشتووها، وأكلوها، فلم يأكل، ولم ينه عنه"، والأحاديث الماضية وإن دلت على الحلّ تصريحًا وتلويحًا نصًّا وتقريرًا، فالجمع بينها وبين هذا أن يُحْمَل النهي فيه على أول الحال عند تجويز أن يكون مما مُسخ، وحينئذ أَمَر بإكفاء القدور، ثم توقف، فلم يأمر به، ولم ينه عنه، ويُحْمَل الإذن فيه على ثاني الحال لَمّا عَلِم أن الممسوخ لا نسل له، ثم بعد ذلك كان يستقذره، فلا يأكله، ولا يحرمه، وأُكل على مائدته، فدل على الإباحة، وتكون الكراهة للتنزيه في حقّ من يتقذّره، وتُحْمَل أحاديث الإباحة على من لا يتقذّره، ولا يلزم من ذلك أنه يُكره مطلقًا.

وقد أفهم كلام ابن العربيّ أنه لا يحل في حقّ من يتقذّره؛ لِمَا يُتَوَقَّع في أكله من الضرر، وهذا لا يختصّ بهذا.

2 -

(ومنها): أنه استَدَلّ بعضُ من مَنَع أكل الضبّ بحديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه الآتي عند مسلم، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"ذُكر لي أن أمة من بني إسرائيل مُسخت"، قال الطبريّ: ليس في الحديث الجزم بأن الضبّ مما مُسِخ، وإنما خَشِي أن يكون منهم، فتوقف عنه، وإنما قال ذلك قبل أن يُعْلِم اللهُ تعالى نبيّه صلى الله عليه وسلم أن الممسوخ لا يُنسِل، وبهذا أجاب الطحاويّ، ثم أخرج من طريق المعرور بن سويد، عن عبد الله بن مسعود، قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القردة والخنازير، أهي مما مُسخ؟ قال: إن الله لم يُهلك قومًا، أو يَمْسَخْ قومًا، فيجعلَ لهم نسلًا، ولا عاقبةً".

قال الحافظ: وأصل هذا الحديث في مسلم، وكأنه لم يستحضره من "صحيح مسلم"، ويُتعجَّب من ابن العربيّ، حيث قال: قوله: إن الممسوخ لا يُنسِل دعوى، فإنه أمر لا يُعرف بالعقل، وإنما طريقه النقل، وليس فيه أمر يُعَوَّل عليه، كذا قال، ثم قال الطحاويّ بعد أن أخرجه من طرُق، ثم أخرج حديث ابن عمر: فثبت بهذه الآثار أنه لا بأس بأكل الضبّ، وبه أقول، قال: وقد احتج محمد بن الحسن لأصحابه بحديث عائشة، فساقه الطحاويّ من طريق حماد بن سلمة، عن حماد بن أبي سليمان، عن إبراهيم، عن الأسود،

ص: 234

عن عائشة: "أُهديَ للنبيّ صلى الله عليه وسلم، فلم يأكله، فقام عليهم سائل، فأرادت عائشة أن تعطيه، فقال لها: أتعطيه ما لا تأكلين؟ "، قال محمد: دَلّ ذلك على كراهته لنفسه ولغيره.

وتعقبه الطحاويّ باحتمال أن يكون ذلك من جنس ما قال الله تعالى: {وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} الآية [البقرة: 267]، ثم ساق الأحاديث الدالة على كراهة التصدق بحَشَف التمر، وبحديث البراء:"كانوا يحبون الصدقة بأردأ تمرهم"، فنزلت:{أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} الآية [البقرة: 267]، قال: فلهذا المعنى كره لعائشة الصدقة بالضب، لا لكونه حرامًا. انتهى.

وهذا يدلّ على أنه فَهِم عن محمد أن الكراهة فيه للتحريم، والمعروف عن أكثر الحنفية فيه كراهة التنزيه، وجنح بعضهم إلى التحريم، وقال: اختَلَفت الأحاديث، وتعذّرت معرفة المتقدِّم، فرجّحنا جانب التحريم؛ تقليلًا للنسخ. انتهى.

وتعقّبه الحافظ بأن دعواه التعذر ممنوعة؛ لِمَا تقدم، والله أعلم.

قال: ويُتعجب من ابن العربيّ حيث قال: قولهم: إن الممسوخ لا يُنسل دعوى، فإنه أمر لا يُعْرَف بالعقل، وإنما طريقه النقل، وليس فيه أمر يُعَوَّل عليه، كذا قال، وكأنه لم يستحضره من "صحيح مسلم"، ثم قال: وعلى تقدير ثبوت كون الضب ممسوخًا، فذلك لا يقتضي تحريم أكله؛ لأن كونه آدميًّا قد زال حكمه، ولم يبق له أثر أصلًا، وإنما كره صلى الله عليه وسلم الأكل منه لِمَا وقع عليه من سخط الله، كما كره الشرب من مياه ثمود. انتهى.

قال الحافظ: ومسألة جواز أكل الآدميّ إذا مُسخ حيوانًا مأكولًا لم أرها في كتب فقهائنا - يعني: الشافعيّة -. انتهى

(1)

.

3 -

(ومنها): أن فيه الإعلامَ بما شَكّ فيه؛ لإيضاح حكمه.

4 -

(ومنها): أن مطلق النّفْرَة عن الشيء، وعدم استطابته لا يستلزم التحريم.

5 -

(ومنها): أن المنقول عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان لا يعيب الطعام إنما هو فيما

(1)

"الفتح" 12/ 524، كتاب "الذبائح" رقم (5537).

ص: 235

صنعه الآدميّ؛ لئلا ينكسر خاطره، ويُنْسَب إلى التقصير فيه، وأما الذي خُلِق كذلك فليس نفور الطبع منه ممتنعًا.

6 -

(ومنها): أن وقوع مثل ذلك ليس بمعيب ممن يقع منه، خلافًا لبعض المتنطعة.

7 -

(ومنها): أن الطِّباع تختلف في النفور عن بعض المأكولات.

8 -

(ومنها): ما قيل: إنه قد يُستنبط منه أن اللحم إذا أنتن لم يحرم؛ لأن بعض الطباع لا تعافه.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا فيه نظر لا يخفى؛ لأنه تقدّم أنه صلى الله عليه وسلم قال في حديث أبي ثعلبة الخشنيّ رضي الله عنه: "فليأكله إلا أن يُنتن"، فإنه صريح أنه إذا أنتن لا يجوز أكله، وهو صريح، فيقدّم على هذا المفهوم، والله تعالى أعلم.

9 -

(ومنها): جواز دخول أقارب الزوجة بيتها، إذا كان بإذن الزوج، أو رضاه.

[تنبيه]: قال الحافظ: وذَهِل ابنُ عبد البرّ هنا ذهولًا فاحشًا، فقال: كان دخول خالد بن الوليد بيت النبيّ صلى الله عليه وسلم في هذه القصة قبل نزول الحجاب، وغفل عما ذَكَره هو أن إسلام خالد كان بين عمرة القضية والفتح، وكان الحجاب قبل ذلك اتفاقًا، وقد وقع في حديث الباب:"قال خالد: أحرام هو يا رسول الله؟ " فلو كانت القصة قبل الحجاب لكانت قبل إسلام خالد، ولو كانت قبل إسلامه لم يسأل عن حلال ولا حرام، ولا خاطب بقوله: يا رسول الله. انتهى

(1)

.

10 -

(ومنها): جواز الأكل من بيت القريب، والصهر، والصديق، وكأن خالدًا ومن وافقه في الأكل أرادوا جَبْر قَلْب الذي أهدته، أو ليتحقق حكم الحلّ، أو لامتثال قوله صلى الله عليه وسلم:"كلوا"، وفَهِم من لم يأكل أن الأمر فيه للإباحة.

11 -

(ومنها): أن فيه أنه صلى الله عليه وسلم كان يؤاكل أصحابه، ويأكل اللحم حيث تيسّر، وأنه كان لا يَعْلَم من المغيَّبات إلا ما علّمه الله تعالى.

12 -

(ومنها): أن فيه وفورَ عقل ميمونة أم المؤمنين رضي الله عنها، وعظيم نصيحتها للنبيّ صلى الله عليه وسلم؛ لأنها فَهِمت مظنة نفوره عن أكله بما استقرأت منه،

(1)

"الفتح" 12/ 524، كتاب "الذبائح" رقم (5537).

ص: 236

فخَشِيت أن يكون ذلك كذلك، فيتأذى بأكله؛ لاستقذاره له، فصَدَقت فراستها.

13 -

(ومنها): أنه يؤخذ منه أن من خُشِي أن يتقذّر شيئًا لا ينبغي أن يُدَلَّس له؛ لئلا يتضرر به، وقد شوهد ذلك من بعض الناس. ذكر هذا كلّه في "الفتح"

(1)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5027]

(1946) - (وَحَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ، وَحَرْمَلَةُ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ، قَالَ حَرْمَلَةُ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ الأَنْصَارِيِّ، أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ، أَنَّ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ الَّذِي يُقَالُ لَهُ: سَيْفُ اللهِ أَخْبَرَهُ، أَنَّهُ دَخَلَ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى مَيْمُونَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَهِيَ خَالَتُهُ، وَخَالَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَوَجَدَ عِنْدَهَا ضَبًّا مَحْنُوذًا، قَدِمَتْ بهِ أُخْتُهَا حُفَيْدَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ مِنْ نَجْدٍ، فَقَدَّمَتِ الضَّبَّ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَكَانَ قَلَّمَا يُقَدَّمُ إِلَيْهِ طَعَامٌ حَتَّى يُحَدَّثَ بِهِ، وَيُسَمَّى لَهُ، فَأَهْوَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَدَهُ إِلَى الضَّبِّ، فَقَالَتِ امْرَأَةٌ مِنَ النِّسْوَةِ الْحُضُورِ: أَخْبِرْنَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِمَا قَدَّمْتُنَّ لَهُ، قُلْنَ: هُوَ الضَّبُّ يَا رَسُولَ اللهِ، فَرَفَعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَدَهُ، فَقَالَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ: أَحَرَامٌ الضَّبُّ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: "لَا، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَكُنْ بِأَرْضِ قَوْمِي، فَأَجِدُنِي أَعَافُهُ"، قَالَ خَالِدٌ: فَاجْتَرَرْتُهُ، فَأَكَلْتُهُ، وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَنْظُرُ، فَلَمْ يَنْهَني).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

وكلّهم ذُكروا في الباب والبابين قبله، و"أبو الطاهر" هو: أحمد بن عمرو بن عبد الله بن السَّرْح المصريّ، و"حرملة" هو: ابن يحيى التجيبيّ المصريّ، و"ابن وهب" هو: عبد الله المصريّ، و"يونس" هو: ابن يزيد الأيليّ.

وقوله: (أَنَّ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ الَّذِي يُقَالُ لَهُ: سَيْفُ اللهِ) هذا لقب لخالد رضي الله عنه، لقّبه به رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما أخرجه الترمذيّ من حديث أبي

(1)

"الفتح" 12/ 525 - 529، كتاب "الذبائح" رقم (5537).

ص: 237

هريرة رضي الله عنه بسند رجاله ثقات، كما قال في "الإصابة"

(1)

.

وقوله أيضًا: (أَنَّ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ الَّذِي يُقَالُ لَهُ: سَيْفُ اللهِ أَخْبَرَهُ) هذا صريح في كون الحديث من مسند خالد بن الوليد رضي الله عنه، وقد تقدّم وجه الجمع بينه وبين الرواية السابقة، وخلاصته أن ابن عباس رضي الله عنهما كان حاضرًا للقصة في بيت خالته ميمونة رضي الله عنها، كما صرَّح به في الرواية الماضية، وكأنه استثبت خالد بن الوليد رضي الله عنه في شيء منه؛ لكونه الذي كان باشر السؤال عن حكم الضب، وباشر أكله أيضًا، فكان ابن عباس رضي الله عنهما ربما رواه عنه، والله تعالى أعلم.

وقوله: (وَهِيَ خَالَتُهُ، وَخَالَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ) يعني: أنها خالة لخالد بن الوليد، وخالة لابن عباس، فإن أم خالد لبابة الصغرى، وأم ابن عباس لبابة الكبرى، وميمونة وأم حُفيد كلهنّ أخوات، والدهنّ الحارث بن حَزْن بن بُجير بن الْهُزَم بن رويبة بن عبد الله.

وقوله: (ضَبًّا مَحْنُوذًا)؛ أي: مشويًّا، وقيل: المشويّ على الرَّضْف

(2)

، وهي الحجارة الْمُحمّاة.

وقال في "العمدة": قوله: "محنوذًا"؛ أي: مشويًّا، قال الله عز وجل {جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ} [هود: 69]؛ أي: مشويّ، يقال: حنذتُ الشاةَ أَحْنِذها حَنْذًا

(3)

؛ أي: شويتها، وجعلت فوقها حجارة مُحماة؛ لتُنضجها فهي حَنِيذ. انتهى

(4)

.

وقوله: (حُفَيْدَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ) وفي الرواية الأخرى: "أم حُفَيد"، وفي بعض النسخ:"أم حفيدة" بالهاء، وفي بعضها في رواية أبي بكر بن النضر:"أم حُميد"، وفي بعضها:"حُميدة"، وكله بضم الحاء، مصغرًا، قال القاضي عياض وغيره: والأصوب، والأشهر:"أم حُفيد" بلا هاء، واسمها هُزيلة، وكذا ذكرها ابن عبد البرّ وغيره في الصحابة، والله أعلم. انتهى

(5)

.

(1)

راجع: "الإصابة في تمييز الصحابة" 2/ 216.

(2)

الرَّضْف بالفتح: هي الحجارة المحمّاة، واحدها رَضْفة؛ كتمر وتمرة.

(3)

من باب ضرب.

(4)

راجع: "عمدة القاري" 21/ 39.

(5)

"شرح النوويّ" 13/ 99 - 100.

ص: 238

وقال في "الإصابة": هُزَيلة بنت الحارث بن حَزْن الهلالية، أخت ميمونة أم المؤمنين، قيل: هي أم حُفيد الآتية في الكنى، قاله أبو عمر، قال: وكانت نَكَحَت في الأعراب، وهي التي أهدت الضِّباب، وروى حديثها سليمان بن يسار وغيره عن ميمونة، وقد أخرجه مالك في "الموطأ" عن عبد الرحمن بن أبي صَعْصَعة، عن سليمان بن يسار، قال: دخل النبيّ صلى الله عليه وسلم بيت ميمونة بنت الحارث، فإذا بضباب، ومعه عبد الله بن عباس، وخالد بن الوليد، فقال:"من أين لكم هذا؟ " قالت: أهدته إليّ أختي هُزيلة بنت الحارث، فقال لعبد الله وخالد:"كُلا"، فقالا: ألا تأكل؟ قال: "إني يحضرني من الله حاضر"، وأصل الحديث في "الصحيحين" من طريق سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قالت:"أهدت خالتي أم حُفيد بنت الحارث إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم سمنًا، وأَقِطًا، وضِبابًا، فدعا بهنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأُكلن على مائدته. . ." الحديث، وأخرجه أبو داود وغيره من رواية عُمر بن حرملة، عن ابن عباس، فوقع في مسند ابن أبي عمر العدنيّ من هذا الوجه، بلفظ: أم عُتيق بعين مهملة، بدل الحاء المهملة، وقاف في آخره بدل الدال، والمعروف أم حُفيد، والله أعلم. انتهى

(1)

.

وقوله: (مِنْ نَجْدٍ) - بفتح، فسكون - البلد المعروف، قال الفيّوميّ رحمه الله: النَّجْدُ: ما ارتفع من الأرض، والجمع: نُجُودٌ، مثل فَلْس وفُلُوس، وبالواحد سُمِّي بلاد معروفة من ديار العرب، مما يلي العراق، وليست من الحجاز، وإن كانت من جزيرة العرب، قال في "التهذيب": كل ما وراء الخندق الذي خندقه كسرى على سواد العراق فهو نَجْدٌ إلى أن تميل إلى الْحَرّة، فإذا مِلت إليها فأنت في الحجاز، وقال الصغانيّ: كلّ ما ارتفع من تهامة إلى أرض العراق فهو نَجْدٌ. انتهى

(2)

.

وقوله: (وَكَانَ قَلَّمَا يُقَدَّمُ إِلَيْهِ طَعَامٌ. . . إلخ)"ما" في "قلّما" كافّة كفّت "قَلَّ" عن طلب الفاعل، كما "طال ما"، و"كثُر ما"، وزاد بعضهم "قصُر ما"، فهذه الأفعال لا فاعل لها، كالتوكيد اللفظيّ في "قام قام"، وكـ "كان" الزائدة، ذكره الأمير في "حاشيته على مغني اللبيب"، وقد نظمت ذلك بقولي:

(1)

"الإصابة في تمييز الصحابة" 8/ 147.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 593.

ص: 239

و"ما" تَكُفُّ "طَالَ""قَلَّ""كَثُرَا"

وَبَعْضُهُمْ زَادَ عَلَيْهَا "قَصُرَا"

فَلَا يَلِي الْفَاعِلُ هَذِهِ كَمَا

فِي "قَامَ قَامَ" إِذْ مُؤَكِّدًا سَمَا

وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ "مَا" مُؤَوِّلَهْ

فَمَعَ مَا يَلِي تَكُونُ فَاعِلَهْ

وقال في "العمدة": قوله: "وكان قلَّما يُقَدَّم" من التقديم، و"قَلَّ" فعل ماض، و"ما يقدَّم" فاعله، و"ما" مصدرية؛ أي: قَلَّ تقديم يده لطعام "حتى يُحَدَّث" على صيغة المجهول؛ أي: حتى يُخبَر به ما هو؟ و"يُسَمَّى" مجهول أيضًا

(1)

.

وقال القرطبيّ: وإنما كان يُسمَّى له الطعام إذا وُضع بين يديه صلى الله عليه وسلم؛ لِيُقْبِل على ما يحب، ويترك ما لا يحب؛ فإنَّه صلى الله عليه وسلم ما كان يذمُّ ذَوَاقًا، فإن أحبَّه أكله، وإن كرهه تركه، كما فعل بالضبِّ

(2)

.

وقوله: (فَأَهْوَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَدَهُ إِلَى الضَّبِّ)؛ أي: مدّ يده، وأومأ إليه ليأكل منه.

وقوله: (فَقَالَتِ امْرَأَةٌ مِنَ النِّسْوَةِ الْحُضُورِ) وَصَف النسوة بالحضور الذي هو جمع حاضر، مع أن المطابقة شرط بين الصفة والموصوف في التذكير والتأنيث وغيرهما؛ لأنه لوحظ فيهما صورة الجمع، أو يقال: إن الحضور مصدر، قاله في "العمدة"

(3)

.

وقال في "الفتح": قوله: "الحضور" كذا وقع بلفظ جمع المذكر، وكأنه باعتبار الأشخاص، وفيه:"أَخْبِرْنَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قدمتنّ له"، وهذه المرأة وَرَدَ التصريح بأنها ميمونة أم المؤمنين رضي الله عنها في رواية الطبرانيّ، ولفظه:"فقالت ميمونة: أخبروا رسول الله صلى الله عليه وسلم بما هو؟ فلما أخبروه تركه"، وعند مسلم من وجه آخر عن ابن عباس:"فقالت ميمونة: يا رسول الله إنه لحم ضبّ، فكفّ يده"

(4)

.

وقوله: (أَحَرَامٌ الضَّبُّ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: "لَا) قال القرطبيّ: فيه دليل على أنه ليس بحرام، وهذا يُبطل قول من قال بتحريمه، حكاه المازري عن

(1)

"عمدة القاري" 21/ 39.

(2)

"المفهم" 5/ 231.

(3)

"عمدة القاري" 21/ 39.

(4)

"الفتح" 12/ 309.

ص: 240

قومٍ، ولم يُعيِّنهم، وحكى ابن المنذر عن عليٍّ رضي الله عنه النهي عن أكله، والجمهور من السلف والخلف على إباحته؛ لِمَا ذكرناه، وقد كرهه آخرون: فمنهم من كرهه استقذارًا، ومنهم من كرهه مخافة أن يكون مما مُسخ، وقد جاء في هذه الأحاديث التنبيه على هذين التعليلين، وقد جاء في غير كتاب مسلم: أنه صلى الله عليه وسلم كرهه لرائحته، فقال:"إني تحضرني من الله حاضرة" يريد: الملائكة، فيكون هذا كنحو ما قال في الثوم:"إِنِّي أناجي من لا تناجي"، ولا بُعْد في تعليل كراهة الضبّ بمجموعها. انتهى

(1)

.

وقوله: (ولَكِنَّهُ لَمْ يَكُنْ بِأَرْضِ قَوْمِي) ظاهره أنه لم يكن موجودًا في مكة، وقد حُكي عن بعض العلماء: أن الضبَّ موجودٌ عندهم فيها؛ غير أنه قليل، وأنهم لا يأكلونه، والله تعالى أعلم

(2)

.

قال الزرقانيّ رحمه الله: ومعنى الاستدراك هنا تأكيد الخبر، كأنه لمّا قال: ليس بحرام، قيل: ولم لا تأكله أنت؟ قال: لأنه لم يكن بأرض قومي. انتهى

(3)

.

وقوله: (فَأَجِدُنِي) الفاء فيه سببيّة؛ أي: بسبب أنه لم يكن بأرض قومي أجدني (أَعَافُهُ)؛ أي: أكرهه، يقال: عِفْت الشيءَ أعافه عيفًا: إذا كرهته، وعِفْتُه أُعِيفُه عِيَافة: من الزجر، وعافَ الطيرُ يَعيفُ: إذا حام على الماء ليشرب

(4)

.

وقوله: (فَاجْتَرَرْتُهُ، فَأَكَلْتُهُ، وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَنْظُرُ، فَلَمْ يَنْهَنِي) هذا تقرير منه صلى الله عليه وسلم على جواز أكله، ولو كان حرامًا لم يقرَّ عليه، ولا أُكِلَ على مائدته، ولا بحضرته، فثبت: أنه حلال مطلقٌ لعينه، وإنَّما كرهه لأمور خارجةٍ عن عينه، كما نصَّ عليها فيما ذكرناه آنفًا

(5)

.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام البحث فيه في الحديث الماضي، ولله الحمد والمنّة.

(1)

"المفهم" 5/ 230.

(2)

"المفهم" 5/ 230.

(3)

"شرح الزرقانيّ" 4/ 473.

(4)

"المفهم" 5/ 230.

(5)

"المفهم" 5/ 232.

ص: 241

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5028]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ النَّضْرِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ عَبْدٌ: أَخْبَرَنِي، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَن خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ أَخْبَرَهُ، أَنَّهُ دَخَلَ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى مَيْمُونَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ، وَهِيَ خَالَتُهُ، فَقُدِّمَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَحْمُ ضَبٍّ، جَاءَتْ بِهِ أُمُّ حُفَيْدٍ بِنْتُ الْحَارِثِ مِنْ نَجْدٍ، وَكَانَتْ تَحْتَ رَجُلٍ مِنْ بَنِي جَعْفَرٍ، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَا يَأْكُلُ شَيْئًا حَتَّى يَعْلَمَ مَا هُوَ؟ ثُمَّ ذَكَرَ بِمِثْلِ حَدِيثِ يُونُسَ، وَزَادَ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ: وَحَدَّثَهُ ابْنُ الأَصَمِّ، عَنْ مَيْمُونَةَ، وَكَانَ فِي حَجْرِهَا).

رجال هذا الإسناد: تسعة:

وكلّهم تقدّموا في الباب، وقبل باب، و"أَبُو بَكْرِ بْنُ النَّضْرِ" اسمه كنيته، وقيل: أحمد.

وقوله: (وَكَانَتْ تَحْتَ رَجُلٍ مِنْ بَنِي جَعْفَرٍ) لم يُعرف اسم هذا الرجل.

وقوله: (وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَا يَأْكُلُ شَيْئًا) التعبير بلفظ "كان" يُشعر أنه كان يداوم على هذا السؤال، وهذا من كمال تنزّهه صلى الله عليه وسلم.

وقوله: (لَا يَأْكُلُ شَيْئًا حَتَّى يَعْلَمَ مَا هُوَ؟) قال ابن التين رحمه الله: إنما كان يسأل لأن العرب كانت لا تعاف شيئًا من المآكل لقلّتها عندهم، وكان هو صلى الله عليه وسلم قد يعاف بعض الشيء، فلذلك كان يسأل.

قال الحافظ: ويَحْتَمِل أن يكون سبب السؤال أنه صلى الله عليه وسلم ما كان يُكثر الكون في البادية، فلم يكن له خِبرة بكثير من الحيوانات، أو لأن الشرع وَرَدَ بتحريم بعض الحيوانات، وإباحة بعضها، وكانوا لا يُحَرِّمون منها شيئًا، وربما أتوا به مشويًّا، أو مطبوخًا، فلا يتميز عن غيره إلا بالسؤال عنه. انتهى

(1)

.

وقوله: (ثُمَّ ذَكَرَ بِمِثْلِ حَدِيثِ يُونُسَ) فاعل "ذَكَر" ضمير صالح بن كيسان.

(1)

"الفتح" 12/ 309 رقم (5391).

ص: 242

وقوله: (وَحَدَّثَهُ ابْنُ الأَصَمِّ. . . إلخ) الضمير المنصوب للزهريّ، كما صرّح به في "مسند أحمد"، ولفظه: "قال ابن شهاب: وحدثه الأصم - يعني: ابن يزيد

(1)

بن الأصم - عن ميمونة، وكان في حجرها". انتهى

(2)

.

وقوله: (ابن الأصمّ) هو: يزيد بن الأصمّ، واسمه عمرو بن عُبيد بن معاوية الْبَكّائيّ، أبو عوف الكوفيّ، نزيل الرّقّة، وهو ابن أخت ميمونة أم المؤمنين، ثقةٌ [3](ت 103)(بخ م 4) تقدم في "الإيمان" 63/ 357.

وقوله: (عَنْ مَيْمُونَةَ) بنت الحارث الهلاليّة، زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم، قيل: اسمها بَرّة، فسمّاها النبيّ صلى الله عليه وسلم ميمونة، تزوّجها بسرفَ سنة سبع، وماتت بها، ودُفنت سنة (51) على الصحيح (ع) تقدمت في "الحيض" 1/ 687.

وقوله: (وَكَانَ فِي حَجْرِهَا) بفتح الحاء المهملة، وكسرها؛ أي: تربيتها، وكفالتها، قال الفيّوميّ رحمه الله: وحَجْرُ الإنسان بالفتح، وقد يُكسر: حِضْنه، وهو ما دون إبطه إلى الكَشْحِ، وهو في حَجْره؛ أي: كَنَفه، وحِمايته، والجمع: حُجُورٌ. انتهى

(3)

.

[تنبيه]: رواية صالح بن كيسان عن الزهريّ هذه ساقها أبو عوانة رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(7704)

- حدّثنا محمد بن عبد الملك الواسطيّ، وأبو داود الْحَرّانيّ، قالا: ثنا يعقوب بن إبراهيم بن سعد، قال: ثنا أبي، عن صالح، عن ابن شهاب، عن أبي أمامة بن سهل بن حُنيف، عن ابن عباس، أنه أخبره، أن خالد بن الوليد أخبره، أنه دخل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على ميمونة بنت الحارث، وهي خالته، فقُدِّم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لحم ضبّ، جاءت به أم حُميد بنت الحارث من نجد، وكانت تحت رجل من بني جعفر، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يأكل شيئًا حتى يَعْلَم ما هو؟ فقال بعض النسوة: ألا تخبرين رسول الله صلى الله عليه وسلم ما

(1)

هكذا نسخة "المسند"، والظاهر أن لفظة "ابن" غلط، والصواب:"يعني: يزيد بن الأصم"، ومما يؤيّد هذا ما وقع في "المسند" في موضع آخر (6/ 331):"وأظنّ أن الأصم يزيد بن الأصم". انتهى.

(2)

"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 4/ 88.

(3)

"المصباح المنير" 1/ 122.

ص: 243

يأكل؟ فأخبرته أنه لحم ضب، فتركه، قال خالد: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: أحرام هو؟ قال: "لا، ولكنه طعام ليس في قومي، فأجدني أعافه"، قال خالد: فاجتررته إليّ، فأكلته، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر. وحدثه ابن الأصمّ، عن ميمونة، وكان في حجرها. انتهى

(1)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5029]

(1945) - (وَحَدَّثَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: أُتِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَنَحْنُ في بَيْتِ مَيْمُونَةَ بِضَبَّيْنِ مَشْوِيَّيْنِ، بِمِثْلِ حَدِيثِهِمْ، وَلَمْ يَذْكُرْ يَزِيدَ بْنَ الأَصَمِّ، عَنْ مَيْمُونَةَ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

وكلّهم ذُكروا في الباب، وقبل باب.

وقوله: (بِضَبَّيْنِ مَشْوَيَّيْنِ) لا ينافي هذا ما تقدّم من قوله: "لحم ضبّ" بالإفراد؛ لأن مفهوم العدد غير معتَبر، فلا ينافي ذِكر الأقل الزيادة، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

وقوله: (بِمِثْلِ حَدِيثِهِمْ) هكذا النُّسخ، والظاهر أن يقول:"بمثل حديثه"؛ لأن المراد صالح بن كيسان، لا الجماعة المتقدّمون الذين رووا عن الزهريّ، وهم: مالك بن أنس، ويونس بن يزيد، وصالح بن كيسان؛ وإنما مِلت إلى هذا بدليل قوله:"ولم يذكر يزيد بن الأصمّ"؛ أي: لم يزد معمر في روايته عن الزهريّ في آخر الحديث قوله: "وحدّثه ابن الأصمّ. . . إلخ"؛ لأن الذي زاده هو صالح فقط، وأما مالك، ويونس فلم يذكراه مثل معمر، فلا معنى لقوله:"بمثل حديثهم".

والحاصل أن النُّسخ دخلها التصحيف، فالظاهر أن يقول:"بمثل حديثه"؛ أي: حديث صالح، والله تعالى أعلم.

(1)

"مسند أبي عوانة" 5/ 39.

ص: 244

وقوله: (وَلَمْ يَذْكُرْ. . . إلخ) الفاعل ضمير معمر؛ أي: لم يذكر في آخر الحديث قوله.

[تنبيه]: رواية معمر عن الزهريّ هذه ساقها عبد الرزّاق رحمه الله في "مصنّفه"، فقال:

(8671)

- عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر، عن الزهريّ، عن أبي أمامة بن سهيل بن حُنيف، عن ابن عباس قال: أُتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بضبَّين مشويين، وعنده خالد بن الوليد، فأهوى النبيّ صلى الله عليه وسلم بيده ليأكله، فقيل: إنه ضبّ، فأمسك يده، فقال خالد: أحرام هو يا رسول الله؟ قال صلى الله عليه وسلم: "لا، ولكنه لا يكون بأرض قومي، فأجدني أعافه"، قال: فأكل خالد، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إليه. انتهى

(1)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5030]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا عبدُ المَلِكِ بْنُ شُعَيْبِ بْنِ اللَّيْثِ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ جَدِّي، حَدَّثَنِي خَالِدُ بْنُ يَزِيدَ، حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ أَبِي هِلَالٍ، عَنِ ابْنِ الْمُنْكَدِرِ، أَن أَبَا أُمَامَةَ بْنَ سَهْلٍ أَخْبَرَهُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: أُتِيَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ فِي بَيْتِ مَيْمُونَةَ، وَعِنْدَهُ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ بِلَحْمِ ضَبٍّ، فَذَكَرَ بِمَعْنَى حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ).

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(عبدُ المَلِكِ بْنُ شُعَيْبِ بْنِ اللَّيْثِ) الْفَهميّ مولاهم، أبو عبد الله المصريّ، ثقةٌ [11](ت 248)(م د س) تقدم في "الإيمان" 26/ 211.

2 -

(أَبُوهُ) شُعَيْبُ بْنُ اللَّيْثِ بن سعد الْفَهميّ، أبو عبد الملك المصريّ، ثقةٌ نبيلٌ فقيهٌ، من كبار [10](ت 199)(م د س) تقدم في "الإيمان" 26/ 211.

3 -

(خَالِدُ بْنُ يَزِيدَ) الْجُمحيّ، ويقال: السَّكْسكيّ، أبو عبد الرحيم المصريّ، ثقةٌ فقيهٌ [6](ت 139)(ع) تقدم في "الإيمان" 87/ 462.

4 -

(سَعِيدُ بْنُ أَبِي هِلَالٍ) الليثيّ مولاهم، أبو العلاء المصريّ، قيل:

(1)

"مصنف عبد الرزاق" 4/ 509.

ص: 245

مدنيّ الأصل، وقال ابن يونس: بل نشأ بها، صدوقٌ، حُكي عن أحمد أنه اختلط [6] مات بعد الثلاثين ومائة، وقيل غير ذلك (ع) تقدم في "الإيمان" 87/ 462.

5 -

(ابْنُ الْمُنْكَدِرِ) هو: محمد

(1)

بن المنكدر بن عبد الله بن الْهُدير التيميّ المدنيّ، ثقةٌ فاضلٌ [3](ت 130) أو بعدها (ع) تقدم في "الطهارة" 11/ 584.

والباقون ذُكروا في الباب، وجدّ عبد الملك هو: الليث بن سعد الإمام المشهور.

وقوله: (فَذَكَرَ بِمَعْنَى حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ) فاعل "ذَكَرَ" ضمير ابن المنكدر؛ أي: ذكر محمد بن المنكدر هذا الحديث عن أبي أمامة بمعنى ما ذكره الزهريّ عنه.

[تنبيه]: رواية محمد بن المنكدر عن أبي أمامة هذه ساقها الطبرانيّ رحمه الله في "المعجم الأوسط"، فقال:

(8754)

- حدّثنا مطلب بن شعيب، ثنا عبد الله بن صالح، حدّثني الليث، حدّثني خالد بن يزيد، عن سعيد بن أبي هلال، عن ابن المنكدر، أن أبا أمامة بن سهل بن حنيف أخبره، عن ابن عباس، قال: أُتي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو في بيت ميمونة، وعنده خالد بن الوليد بلحم ضبّ، فقالت ميمونة: أخبروا رسول الله صلى الله عليه وسلم ما هو؟ فلما أُخبر به تركه، فقال له خالد: أحرام هو يا رسول الله؟ قال: "لا، ولكني أعافه"، فأخذ خالد يتمشمش عظامه. انتهى

(2)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5031]

(1947) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ نَافِعٍ، قَالَ ابْنُ نَافِعٍ: أَخْبَرَنَا غُنْدَرٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبي بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: أَهْدَتْ خَالَتِي أُمُّ حُفَيْدٍ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم سَمْنًا، وَأَقِطًا، وَأَضُبًّا، فَأَكَلَ مِنَ السَّمْنِ، وَالأَقِطِ، وَتَرَكَ الضَّبَّ تَقَذُّرًا، وَأُكِلَ عَلَى مَائِدَةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَوْ كَانَ حَرَامًا مَا أُكِلَ عَلَى مَائِدَةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم).

(1)

صرّح بكونه محمدًا أبو عوانة في "مسنده" 5/ 39.

(2)

"المعجم الأوسط" 8/ 320.

ص: 246

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ نَافِعٍ) محمد بن أحمد بن نافع العبديّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(أَبُو بِشْرٍ) ابن أبي وحشيّة، واسمه جعفر بن إياس، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

3 -

(سَعِيدُ بْن جُبَيْرِ) بن هشام الأسديّ مولاهم، أبو محمد، أو أبو عبد الله الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ [3](ت 95) ولم يكمل الخمسين (ع) تقدم في "الإيمان" 57/ 329.

والباقون ذُكروا في الباب، وقبل باب.

وقوله: (خَالَتِي أُمُّ حُفَيْدٍ) - بضم الحاء المهملة، وفتح الفاء، وسكون الياء آخر الحروف، وبالدال المهملة - بنت الحارث بن حَزْن - بفتح الحاء المهملة، وسكون الزاي، وبالنون - واسمها هُزَيلة مصغّرُ هزلة، ولها أخوات: أم خالد بن الوليد، واسمها لبابة - بضم اللام - الصغرى، وأم ابن عباس، وهي اللبابة الكبرى، وميمونة زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم أم المؤمنين، كلهنّ بنات الحارث بن حَزْن الهلاليّ، قاله في "العمدة"

(1)

.

وقوله: (سَمْنًا) بفتح، فسكون: ما يُعْمل من لبن البقر، والغنم، والجمع: سُمْنان، مثلُ ظَهْر وظُهران، وبَطْن وبُطنان، قاله الفيّوميّ

(2)

.

وقال المجد: السَّمْنُ: سلاءُ الزُّبْد، يقاوم السموم كلّها، ويُنقّي الوَسَخَ من القُروح الخبيثة، ويُنضج الأورام كلّها، ويُذهب الْكَلَف، والنَّمْش من الوجه طلاءً، جمعه: أَسْمُنٌ، وسُمُونٌ، وسُمْنَانٌ. انتهى

(3)

.

وقوله: (وَأَقِطًا) قال الأزهريّ: يُتَّخَذُ من اللبن الْمَخِيض، يُطْبَخُ ثم يُترَك، حتى يَمْصُلَ

(4)

، وهو بفتح الهمزة، وكسر القاف، وقد تسكن القاف للتخفيف، مع فتح الهمزة، وكسرها، مثلُ تخفيف كَبِدٍ، نقله الصَّغَانيّ عن الفَرَّاء

(5)

.

(1)

"عمدة القاري" 21/ 38.

(2)

"المصباح المنير" 1/ 290.

(3)

"القاموس المحيط" ص 642.

(4)

"الْمَصْل": مثالُ فَلْس: عُصارة الأقط، وهو ماؤه الذي يُعصر منه حين يُطبخ. "المصباح" 2/ 574.

(5)

"المصباح المنير" 1/ 17.

ص: 247

وقال المجد: الأقط: مثلّثةً، ويُحرّك، وككَتِفٍ، ورِجْلٍ، وإبلٍ: شيءٌ يُتَخذ منه الْمَخيض الْغَنَميّ، جمعه أُقطانٌ. انتهى

(1)

.

وقوله: (وَأَضُبًّا) جمع ضبّ، وتقدّم البحث فيه أول الباب.

وقوله: (تَقَذُّرًا) نُصِب على التعليل؛ أي: لأجل التقذّر، يقال: قَذِرت الشيءَ، وتقذّرته، واستقذرته: إذا كرهته

(2)

.

وقوله: (وَأُكِلَ عَلَى مَائِدَةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) ببناء الفعل للمفعول؛ أي: أُكل الضبّ على مائدة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الداوديّ: يعني القصعة، والمنديل، ونحوهما؛ لأن أنسًا قال: ما أَكل على خُوَان، وأصل المائدة من الْمَيد، وهو العطاء، يقال: مادني يَميدني، وقال أبو عبيد: هي فاعلة بمعنى مفعولة، من العطاء، وقال الزجاج: هو عندي من ماد يميد: إذا تحرك، وقال ابن فارس: هو من ماد يميد: إذا أطعم

(3)

.

وقوله أيضًا: (وَأُكِلَ عَلَى مَائِدَةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) الذين أكلوا هم: الفضل بن العبّاس، وخالد بن الوليد، وامرأة أخرى، كما بُيّن في الرواية التالية، وأما زينب رضي الله عنها فلم تأكل، كما يأتي.

وقوله: (وَلَوْ كَانَ حَرَامًا مَا أُكِلَ عَلَى مَائِدَةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) قال النوويّ رحمه الله: هذا تصريح بما اتَّفَق عليه العلماء، وهو أن إقرار النبيّ صلى الله عليه وسلم الشيءَ، وسكوته عليه، إذا فُعِل بحضرته يكون دليلًا لإباحته، ويكون بمعنى قوله: أذنت فيه، وأبحته، فإنه لا يسكت على باطل، ولا يُقِرّ مُنكرًا، والله أعلم. انتهى

(4)

.

وقال في "العمدة": وبهذا احتجّ من قال بجواز أكل الضبّ، قالت الشافعية: وهو احتجاج حسنٌ، وهو قول الفقهاء كافّة، ونَصّ عليه مالك في "المدوّنة"، وعنه رواية بالمنع

(5)

.

(1)

"القاموس المحيط" ص 54.

(2)

"عمدة القاري" 13/ 134.

(3)

"عمدة القاري" 13/ 134.

(4)

"شرح النوويّ" 13/ 101.

(5)

"عمدة القاري" 13/ 134.

ص: 248

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام البحث فيه قريبًا، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5032]

(1948) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، عَنِ الشَّيْبَانِيِّ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ الأَصَمِّ، قَالَ: دَعَانَا عَرُوسٌ بِالْمَدِينَةِ، فَقَرَّبَ إِلَيْنَا ثَلَاثَةَ عَشَرَ ضَبًّا، فَآكِلٌ، وَتَارِكٌ، فَلَقِيتُ ابْنَ عَبَّاسٍ مِنَ الْغَدِ، فَأَخْبَرْتُهُ، فَأَكْثَرَ الْقَوْمُ حَوْلَهُ، حَتَّى قَالَ بَعْضُهُمْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا آكُلُهُ، وَلَا أَنْهَى عَنْهُ، وَلَا أُحَرِّمُهُ"، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بِئْسَ مَا قُلْتُمْ، مَا بُعِثَ نَبِيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَّا مُحِلًّا، وَمُحَرِّمًا، إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَمَا هُوَ عِنْدَ مَيْمُونَةَ، وَعِنْدَهُ الْفَضْلُ بْنُ عَبَّاسٍ، وَخَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، وَامْرَأَةٌ أُخْرَى، إِذْ قُرِّبَ إِلَيْهِمْ خِوَانٌ، عَلَيْهِ لَحْمٌ، فَلَمَّا أَرَادَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَأْكُلَ، قَالَتْ لَهُ مَيْمُونَةُ: إِنَّهُ لَحْمُ ضَبٍّ، فَكَفَّ يَدَهُ، وَقَالَ: "هَذَا لَحْمٌ لَمْ آكُلْهُ قَطُّ"، وَقَالَ لَهُمْ: "كُلُوا"، فَأَكَلَ مِنْهُ الْفَضْلُ، وَخَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، وَالْمَرْأَةُ وَقَالَتْ مَيْمُونَةُ: لَا آكُلُ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا شَيْءٌ يَأْكُلُ مِنْهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

وكلّهم ذُكروا في الباب، وقبل باب، و"الشيبانيّ" هو أبو إسحاق سليمان بن أبي سليمان فيروز.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه ابن عبّاس رضي الله عنهما أحد العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة.

شرح الحديث:

(عَنِ الشَّيْبَانِيِّ) سليمان بن أبي سليمان فيروز، (عَنْ يَزِيدَ بْنِ الأَصَمِّ) أنه (قَالَ: دَعَانَا عَرُوسٌ)؛ أي: رجل تزوّج قريبًا، ولا يُعرف اسمه

(1)

، و"العروس": بفتح العين: يقع على الرجل والمرأة، قال الفيّوميّ رحمه الله:

(1)

"تنبيه المعلم" ص 335.

ص: 249

العَرُوسُ وصفٌ يستوي فيه الذكر والأنثى ما داما في إِعراسهما، وجمع الرجل: عُرُسٌ بضمتين، مثلُ رَسول ورُسُل، وجمع المرأة: عَرَائِسُ، وعَرِسَ بالشيء أيضًا: لَزِمه، ويقال: العَرُوسُ من هذين، وأَعْرَسَ بامرأته بالألف: دخل بها، وأَعْرَسَ: عَمِل عُرْسًا، وأما عَرَّسَ بامرأته بالتثقيل على معنى الدخول، فقالوا: هو خطأ، وإنما يقال: عَرَّسَ: إذا نزل المسافر؛ ليستريح نَزْلَةً، ثم يرتحل، قال أبو زيد: وقالوا: عَرَّسَ القوم في المنزل تَعْرِيسًا: إذا نزلوا أَيَّ وقت كان، من ليل، أو نهار، فَالإِعْرَاسُ: دخول الرجل بامرأته، والتَّعْرِيسُ نزول المسافر ليستريح، وعِرْسُ الرجل بالكسر: امرأته، والجمع أَعْرَاسٌ، مثلُ حِمَل وأَحْمَال، وقد يقال للرجل: عِرْسٌ أيضًا، والعُرْسُ بالضم الزِّفَاف، ويُذَكَّر ويؤنَّث، فيقال: هو العُرْسُ، والجمع أَعْرَاسٌ، مثلُ قُفْل وأَقْفَال، وهي العُرْسُ، والجمع عُرْسَاتٌ، ومنهم من يقتصر على إيراد التأنيث، والعُرْسُ أيضًا: طعام الزِّفَاف، وهو مذكَّر؛ لأنه اسم للطعام. انتهى

(1)

.

وقوله: (بِالْمَدِينَةِ) متعلّق بوصف "عَروسٌ"، (فَقَرَّبَ إِلَيْنَا ثَلَاثَةَ عَشَرَ ضَبًّا) قال القرطبيّ رحمه الله: هذا دليل على أن أكلهم للضِّباب كان فاشيًا عندهم، معمولًا به في الحاضرة، وفي البادية، ولذلك قال عمر رضي الله عنه: إنه طعام عامة الرِّعاء، ولو كان عندي طَعِمْتُه.

وإنكار ابن عباس رضي الله عنهما على الذي نَقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا آكله، ولا أنهى عنه، ولا أحرِّمه"، إنما كان لأنَّه فَهِمَ من القائل أنه اعتقد أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يَحْكُم في الضبِّ بشيء، ولذلك قال له: بئسما قلت، ما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا محرِّمًا ومحلِّلًا، ثم بيَّن له بعد ذلك دليل أنَّه صلى الله عليه وسلم أباحه، فذكر الحديث. انتهى

(2)

.

(فَآكِلٌ)؛ أي: فانقسم الحاضرون قسمين: فمنهم آكلٌ ما قُرب لهم من الضِّباب؛ لاعتقاده حلّه، (وَتَارِكٌ) له؛ لاعتقاده حرمته، أو تقذّرًا له. (فَلَقِيتُ ابْنَ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما (مِنَ الْغَدِ)؛ أي: في اليوم الثاني، فـ "مَنْ" بمعنى "في"، (فَأَخْبَرْتُهُ)؛ أي: ما جرى في ذلك العُرْس من اختلاف الناس في أكل الضبّ

(1)

"المصباح المنير" 2/ 401 - 402.

(2)

"المفهم" 5/ 232.

ص: 250

وتركه، (فَأَكْثَرَ الْقَوْمُ حَوْلَهُ)؛ أي: الذين جلسوا حول ابن عبّاس حين ذكر له يزيد بن الأصمّ المسألة، (حَتَّى قَالَ بَعْضُهُمْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا آكُلُهُ، وَلَا أَنْهَى عَنْهُ، وَلَا أُحَرِّمُهُ"، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما (بِئْسَ مَا قُلْتُمْ)؛ أي: ما ذكرتموه من أنه صلى الله عليه وسلم قال: لا آكله. . . إلخ"، (مَا) نافية، (بُعِثَ) بالبناء للمفعول، (نَبِيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَّا مُحِلًّا، وَمُحَرِّمًا) بصيغة اسم الفاعل، من التحليل والتحريم، ونصبهما على الحال.

قال ابن العربيّ: ظنّ ابن عباس أن الذي أَخْبَر بقوله صلى الله عليه وسلم: "لا آكله"، أراد: لا أُحِلّه، فأنكر عليه؛ لأن خروجه من قسم الحلال والحرام محالٌ.

وتعقبه الحافظ العراقيّ في "شرح الترمذيّ" بأن الشيء إذا لم يتضح إلحاقه بالحلال أو الحرام يكون من الشبهات، فيكون من حكم الشيء قبل ورود الشرع، والأصح كما قال النوويّ أنه لا يحكم عليها بحلّ، ولا حرمة.

وتعقّبه الحافظ، فقال: وفي كون مسألة الكتاب من هذا النوع نظرٌ؛ لأن هذا إنما هو إذا تعارض الحكم على المجتهد، أما الشارع إذا سئل عن واقعة، فلا بُدّ أن يذكر فيها الحكم الشرعيّ، وهذا هو الذي أراده ابن العربيّ، وجَعَل محطّ كلام ابن عباس عليه.

قال: ثم وجدت في الحديث زيادة لفظة سقطت من رواية مسلم، وبها يتجه إنكار ابن عباس، ويُستغنَى عن تأويل ابن العربيّ:"لا آكله" بـ "لا أُحِلّه"، وذلك أن أبا بكر بن أبي شيبة، وهو شيخ مسلم فيه، أخرجه في "مسنده" بالسند الذي ساقه به عند مسلم، فقال في روايته:"لا آكله، ولا أنهى عنه، ولا أحله، ولا أحرمه"، ولعل مسلمًا حذفها عمدًا؛ لشذوذها؛ لأن ذلك لم يقع في شيء من الطرق، لا في حديث ابن عباس، ولا غيره، وأشهر من روى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم:"لا آكله، ولا أُحرِّمه" ابنُ عمر، كما تقدم، وليس في حديثه:"لا أحله"، بل جاء التصريح عنه بأنه حلال، فلم تثبت هذه اللفظة، وهي قوله:"لا أحله"؛ لأنها وإن كانت من رواية يزيد بن الأصم، وهو ثقةٌ، لكنه أخبر بها عن قوم كانوا عند ابن عباس، فكانت روايةً عن مجهول، ولم يقل يزيد بن الأصم: إنهم صحابةٌ، حتى يُغتفر عدم تسميتهم. انتهى

(1)

.

(1)

"الفتح" 12/ 527.

ص: 251

(إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم) بكسر همزة "إن"؛ لوقوعها في الابتداء؛ إذ الجملة مستأنفة استئنافًا بيانيًّا، فكأنه قيل: لِمَ أنكر القول المذكور؟ فأجاب بقوله: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم"، وقوله:(بَيْنَمَا) هي "بين" الظرفيّة زيدت عليها "ما"، فهي مضافة إلى الجملة الاسميّة، وتحتاج إلى جواب، وجوابها هنا قوله:"إذ قُرّب إليهم. . . إلخ"، (هُوَ عِنْدَ مَيْمُونَةَ) بنت الحارث أم المؤمنين رضي الله عنها، (وَعِنْدَهُ)؛ أي: والحال أن عند النبيّ صلى الله عليه وسلم، (الْفَضْلُ بْنُ عَبَّاسِ) بن عبد المطّلب بن هاشم الهاشميّ، ابن عمّ النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأكبر أولاد العبّاس، استُشهِد في خلافة عمر رضي الله عنه، تقدّمت ترجمته في "الصيام" 13/ 2589. (وَخَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ) تقدّمت ترجمته في الباب، (وَامْرَأَةٌ أُخْرَى) لا تُعرف، (إِذْ قُرِّبَ) بالبناء للمفعول، (إِلَيْهِمْ)؛ أي: إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، ومن معه (خِوَانٌ) بكسر الخاء، وضمّها، لغتان، والكسر أفصح، والجمع أَخْوِنَةٌ، وخُونٌ، وليس المراد بهذا الخوان ما نفاه في الحديث المشهور في قوله: "ما أكل رسول الله صلى الله عليه وسلم على خِوَان قطّ"، بل شيء من نحو السُّفْرة، قاله النوويّ

(1)

.

وقال الفيّوميّ رحمه الله: الخِوَانُ: ما يؤكل عليه، مُعَرَّبٌ، وفيه ثلاث لغات: كسر الخاء، وهي الأكثر، وضمّها، حكاه ابن السِّكِّيت، وإِخْوَانٌ بهمزة مكسورة، حكاه ابن فارس، وجمع الأُولى في الكثرة خُونٌ، والأصل بضمتين، مثلُ كتاب وكُتُب، لكن سُكِّن تخفيفًا، وفي القلة أَخْوِنَةٌ، وجمع الثالثة أَخَاوِينٌ، ويجوز في المضموم في القلة أَخْوِنَةٌ أيضًا، كغُرَاب وأَغْرِبَةٍ. انتهى

(2)

.

وقال في "العمدة": قال ابن فارس: والخوان مما يقال: إنه اسم أعجميّ، غير أني سمعت إبراهيم بن عليّ القطان يقول: سئل ثعلبٌ، وأنا أسمع: أيجوز أن يقال: إن الخوان سُمِّي بذلك؛ لأنه يتخوّن ما عليه؛ أي: ينتقص به، فقال: ما يَبْعُد ذلك. انتهى

(3)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: و"الخوان": ما يُجعل عليه الطعام، يقال بكسر الخاء، وضمّها، وجمعه: أَخْوِنَة وخُونٌ، ويُسمَّى بذلك إذا لم يكن عليه طعام، وإذا وُضع عليه الطعام يُسمَّى مائدة.

(1)

"شرح النوويّ" 13/ 102.

(2)

"المصباح المنير" 1/ 184.

(3)

"عمدة القاري" 13/ 134.

ص: 252

قال: وفيه دليل على جواز اتخاذ الأخْوِنة، والأكل عليها؛ فإنَّه صلى الله عليه وسلم قد كان له خُوان، وأُكِل عليه بحضرته، على ما اقتضاه ظاهر هذا الحديث، وما روي: أنه صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم لم تكن لهم موائد، وأنَّهم كانوا يأكلون على السُّفَرِ، فذلك كان غالب أحوالهم، والله تعالى أعلم. انتهى

(1)

.

وقوله: (عَلَيْهِ لَحْمٌ) جملة في محلّ رفع صفة لـ "خوان"، (فَلَمَّا أَرَادَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَأْكُلَ، قَالَتْ لَهُ مَيْمُونَةُ) رضي الله عنها (إِنَّهُ لَحْمُ ضَبٍّ، فَكَفَّ يَدَهُ)؛ أي: مَنَعها مِن تناول ذلك اللحم، يقال: كَفّ عن الشيء كفًّا، من باب قَتَلَ: تركه، وكففتُهُ كفًّا، منعته، فكفّ يتعدَّى، ولا يتعدَّى

(2)

، وما هنا من المتعدّي، ولذا نصب "يده". (وَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("هَذَا لَحْمٌ لَمْ آكُلْهُ قَطُّ")؛ أي: فيما مضى من الزمن، يقال: ما فعلت ذلك قطُّ؛ أي: في الزمان الماضي، بضمّ الطاء المشدّدة، قاله الفيّوميّ

(3)

. (وَقَالَ لَهُمْ)؛ أي: للحاضرين ("كُلُوا"، فَأَكَلَ مِنْهُ الْفَضْلُ) بن العبّاس (وَخَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، وَالْمَرْأَةُ) تقدّم أنها لا تُعرف، (وَقَالَتْ مَيْمُونَةُ) رضي الله عنها (لَا آكُلُ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا شَيْءٌ يَأْكُلُ مِنْهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) فيه ما كانت عليه ميمونة رضي الله عنها من شدّة محبّتها للنبيّ صلى الله عليه وسلم، حيث تركت أكْلَ ما أَمَر بأكله، لَمّا تركه هو، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [7/ 5032](1948)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(5/ 124)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 326)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(5/ 40)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(4/ 202)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(9/ 323)، والله تعالى أعلم.

(1)

"المفهم" 5/ 233.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 536.

(3)

"المصباح المنير" 2/ 508.

ص: 253

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5033]

(1949) - (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالَا: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ، أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ يَقُولُ: أُتِيَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِضَبٍّ، فَأَبَى أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ، وَقَالَ: "لَا أَدْرِي لَعَلَّهُ مِنَ الْقُرُونِ الَّتِي مُسِخَتْ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

وكلهم تقدّموا في الباب، والبابين السابقين، وشرح الحديث واضحٌ يُعلم مما سبق.

وقوله: (لَا أَدْرِي لَعَلَّهُ مِنَ الْقُرُونِ الَّتِي مُسِخَتْ) هذا قاله النبيّ صلى الله عليه وسلم قبل أن يوحى إليه أن الممسوخ لا يعيش فوق ثلاث، وأنه لا نسل له، وإنما الضبّ وغيره كان موجودًا قبل المسخ، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [7/ 5033](1949)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 323 و 380)، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5034]

(1950) - (وَحَدَّثَنِي سَلَمَةُ بْنُ شَبِيبٍ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَعْيَنَ، حَدَّثَنَا مَعْقِلٌ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، قَالَ: سَأَلْتُ جَابِرًا عَنِ الضَّبِّ، فَقَالَ: لَا تَطْعَمُوهُ، وَقَذِرَهُ، وَقَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُحَرِّمْهُ، إِنَّ اللهَ يَنْفَعُ بِهِ غَيْرَ وَاحِدٍ، فَإِنَّمَا طَعَامُ عَامَّةِ الرِّعَاءِ مِنْهُ، وَلَوْ كَانَ عِنْدِي طَعِمْتُهُ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(سَلَمَةُ بْنُ شَبِيبٍ) الْمِسْمَعيّ النيسابوريّ، نزيل مكة، ثقةٌ، من كبار [11] مات سنة بضع و (240)(م 4) تقدم في "المقدمة" 6/ 60.

ص: 254

2 -

(الْحَسَنُ بْنُ أَعْيَنَ) هو: الحسن بن مُحمد بن أعين، أبو الْحَرّانيّ، نُسب لجدّه، صدوقٌ [9](ت 210)(خ م س) تقدم في "الإيمان" 4/ 119.

3 -

(مَعْقِلُ) بن عبيد الله الْجَزَريّ، أبو عبد الله الْعَبْسيّ مولاهم، صدوقٌ يُخطئ [8](ت 166)(م د س) تقدم في "الإيمان" 4/ 119.

والباقيان ذُكرا قبله.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ) محمد بن مسلم بن تدرُس، أنه (قَالَ: سَأَلْتُ جَابِرًا) رضي الله عنه (عَنِ الضَّبِّ)؛ أي: عن حُكم أكْله، (فَقَالَ) جابر رضي الله عنه (لَا تَطْعَمُوهُ) بفتح أوله، وثالثه، قال الفيّوميّ: طَعِمْتُهُ أَطْعَمُهُ، من باب تَعِبَ طَعْمًا، بفتح الطاء، ويقع على كلّ ما يُساغ، حتى الماء، وذوقِ الشي، وفي التنزيل:{وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي} [البقرة: 249]، وقال صلى الله عليه وسلم في زمزم:"إِنَّهَا طَعَامُ طُعْمٍ"

(1)

، بالضمّ؛ أي: يَشْبَع منه الإنسان. انتهى

(2)

.

(وَقَذِرَهُ) بكسر الذال؛ أي: كرهه، يقال: قَذِرت الشيءَ أقذره، من باب تَعِبَ: كَرِهته لوسخه، كاستقذرته، وتقذّرته، ويقال أيضًا: قَذِر الشيءُ من باب تَعِبَ: إذا لم يكن نظيفًا

(3)

. (وَقَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ) رضي الله عنه (إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُحَرِّمْهُ)؛ أي: لحم الضبّ، (إِنَّ اللهَ عز وجل يَنْفَعُ بِهِ غَيْرَ وَاحِدٍ)؛ أي: كثيرًا من الناس، (فَإِنَّمَا طَعَامُ عَامَّةِ الرِّعَاءِ) بكسر الراء والمدّ: جمع راع، ويُجمع أيضًا على رُعاة، كقاض وقُضاة، وعلى رُعْيانٍ، مثلُ رُغْفان، يقال: رَعَت الماشية تَرْعَى بالفتح فيهما رَعْيًا: فهي راعيةٌ: إذا سَرَحَت بنفسها، ورَعَيتُها أَرْعاها، يُستعمل لازمًا، ومتعدّيًا

(4)

، وقوله:(مِنْهُ)؛ أي: من لحم الضبّ، متعلّق بحذوف خبر لـ "طعامُ"، (وَلَوْ كَانَ عِنْدِي طَعِمْتُهُ)؛ أي: لو كان الضبّ موجودًا عندي لأكلته، وهذا قاله عمر رضي الله عنه تأكيدًا لكونه مباحًا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1)

رواه مسلم في "صحيحه" رقم (2473).

(2)

"المصباح المنير" 2/ 372.

(3)

"المصباح المنير" 2/ 494.

(4)

"المصباح المنير" 1/ 231.

ص: 255

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عمر بن الخطّاب رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [7/ 5034](1950)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 342)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(5/ 42)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(9/ 324)، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5035]

(1951) - (وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ دَاوُدَ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّا بِأَرْضٍ مَضَبَّةٍ، فَمَا تَأْمُرُنَا؟، أَوْ فَمَا تُفْتِينَا؟ قَالَ: "ذُكِرَ لِي أَنَّ أُمَّةً مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مُسِخَتْ"، فَلَمْ يَأْمُرْ، وَلَمْ يَنْهَ، قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ قَالَ عُمَرُ: إِنَّ اللهَ عز وجل لَيَنْفَعُ بِهِ غَيْرَ وَاحِدٍ، وَإِنَّهُ لَطَعَامُ عَامَّةِ هَذِهِ الرِّعَاءِ، وَلَوْ كَانَ عِنْدِي لَطَعِمْتُهُ، إِنَّمَا عَافَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) المذكور في الباب.

2 -

(ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ) هو: محمد بن إبراهيم بن أبي عديّ، أبو عمرو البصريّ، ثقةٌ [9](ت 194) على الصحيح (ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 128.

3 -

(دَاوُدُ) بن أبي هند دينار الْقُشيريّ مولاهم، أبو بكر، أو أبو محمد البصريّ، ثقةٌ متقنٌ [5](ت 140) أو قبلها (خت م 4) تقدم في "الإيمان" 27/ 221.

4 -

(أَبُو نَضْرَةَ) المنذر بن مالك بن قُطعة الْعَبْديّ الْعَوَقيّ البصريّ، ثقةٌ [3](ت 8 أو 109)(خت م 4) تقدم في "الإيمان" 6/ 127.

5 -

(أَبُو سَعِيدٍ) سعد بن مالك بن سِنَان بن عُبيد الأنصاريّ الخدريّ الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، استُصغر يوم أُحد، ثم شَهِد ما بعدها، ومات بالمدينة سنة (3 أو 4 أو 65) وقيل:(74)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 485.

ص: 256

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خُماسيّات المصنّف، وأنه مسلسل بالبصريين، سوى الصحابيّ فمدنيّ، وأن شيخه أحد التسعة الذين روى عنهم الجماعة بلا واسطة، وقد تقدّموا غير مرّة، وأن صحابيّه ابن صحابيّ، وهو أحد المكثرين السبعة، روى (1170) حديثًا.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي سَعِيدٍ) الخدريّ رضي الله عنه أنه (قَالَ: قَالَ رَجُلٌ) وفي الرواية التالية: "أن أعرابيًّا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم. . ."، ولا يُعرف اسمه، لكن قال الحافظ: وهذا يمكن أن يفسر بثابت بن وديعة، فقد أخرج أبو داود، والنسائيّ من حديثه، قال: أصبت ضِبابًا، فشويت منها ضبًّا، فأتيت به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ عُودًا، فَعدّ به أصابعه، ثم قال:"إن أمة من بني إسرائيل مُسخت دوابّ في الأرض، وإني لا أدري أيّ الدواب هي؟ "، فلم يأكل، ولم يَنْهَ، وسنده صحيح. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: تفسير الرجل المبهم في حديث أبي سعيد هنا بثابت بن وديعة، مع اختلاف طريقي الحديثين محلّ نظر؛ إذ لا دليل عليه، فتأمل، والله تعالى أعلم.

(يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّا بِأَرْضٍ مَضَبَّةٍ) قال النوويّ: فيها لغتان مشهورتان: إحداهما: فتح الميم والضاد، والثانية ضم الميم، وكسر الضاد، والأول أشهر، وأفصح؛ أي: ذات ضِباب كثيرة. انتهى

(1)

.

وقال ابن الأثير رحمه الله: هكذا جاء في الرِّواية بضم الميم، وكسر الضاد، والمعْرُوف بفتحِهما، يقال: أضبَّت أرضُ فُلان: إذا كثر ضِبَابُها، وهي أرضٌ مَضَبَّة؛ أي: ذات ضِبَاب، مثْل مَأْسَدَة، ومَذْأَبَة، ومَرْبَعة؛ أي: ذات أُسُود، وذئَاب، ويَرَابيع، وجمع المَضَبّة: مَضَابُّ، فأمَّا مُضبّة: فهي اسمُ فاعل، من أضَبَّت، كأغدَّت، فهي مُغِدَّة، فإن صحَّت الرواية فهي

(1)

"شرح النوويّ" 13/ 102 - 103.

ص: 257

بمعناها، ونَحْوٌ من هذا البِنَاء. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: بناء الْمَفْعَلة والْمُفْعِلَة، وصفًا للمكان للدلالة على الكثرة من اسم ما كثُر فيه. ذَكَره ابن مالك رحمه الله في "لاميّته"، فقال:

مِنِ اسْمِ مَا كَثُرَ اسْمُ الأَرْضِ مَفْعَلَةٌ

كَمِثْلِ مَسْبَعَةٍ وَالزَّائِدُ اخْتُزِلَا

مِنَ الْمَزِيدِ كَمَفْعَاةٍ وَمُفْعِلَةٌ

وَأَفْعَلَتْ عَنْهُمُ فِي ذَلِكَ احْتُمِلَا

غَيْرُ الثَّلَاثِيِّ مِنْ ذَا الْوَضْعِ مُمْتَنِعٌ

وَرُبَّمَا جَاءَ مِنْهُ نَادِرٌ قُبِلَا

وأشار بقوله: "غير الثلاثيّ. . . إلخ" أن شرط البناء المذكور أن يكون من الثلاثيّ، وأما غيره فلا يُبنى منه إلا نادرًا، كمُعَقرِبةٍ، ومُثَعْلِبَةٍ؛ أي: كثيرة العقرب، والثعلب.

(فَمَا تَأْمُرُنَا؟، أَوْ) للشكّ من الراوي، (فَمَا تُفْتِينَا؟)؛ أي: تُخبرنا بحكمه، (قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("ذُكِرَ لِي) بالبناء للمفعول، والظاهر أن الذاكر له جبريل عليه السلام، فهو وحي، ولكنه لم يُبيّن له أيّ الدوابّ هي؟ (أَنَّ أُمَّةً)؛ أي: جماعة (مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ)؛ أي: أولاد يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل - عليهم الصلاة والسلام - (مُسِخَتْ") بالبناء للمفعول؛ أي: حُوّلت من صورتها الآدميّة إلى صورة حيوان آخر، يقال: مسَخَ الله مَسْخًا: حَوّل صورته التي كان عليها إلى غيرها، ومَسَخَ الكاتب: إذا صحّف، فأحال المعنى في كتابه

(2)

.

(فَلَمْ يَأْمُرْ) صلى الله عليه وسلم بأكلها (وَلَمْ يَنْهَ) عنه. (قَالَ أَبُو سَعِيدٍ) الخدريّ رضي الله عنه (فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ) اسم "كان" محذوف؛ أي: فلما كان الزمن بعد ذلك اليوم الذي قال فيه النبيّ صلى الله عليه وسلم ما ذُكر، (قَالَ عُمَرُ) بن الخطّاب رضي الله عنه (إِنَّ اللهَ عز وجل لَيَنْفَعُ بِهِ)؛ أي: بالضبّ؛ أي: بأكل لحمه (غَيْرَ وَاحِدٍ)؛ يعني: كثيرًا من الناس، (وَإِنَّهُ لَطَعَامُ عَامَّةِ هَذِهِ الرِّعَاءِ، وَلَوْ كَانَ عِنْدِي لَطَعِمْتُهُ، إِنَّمَا عَافَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم)؛ يعني: أنه صلى الله عليه وسلم إنما ترك أكله لا لكونه حرامًا، وإنما لكراهته له تقذّرًا، حيث لم يكن بأرض قومه، ولا من طعامهم، والله تعالى أعلم.

(1)

"النهاية في غريب الأثر" 3/ 150.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 572.

ص: 258

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [7/ 5035 و 5036](1951)، و (ابن ماجه)(2/ 1079)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1/ 286)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(5/ 123)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 5 و 19 و 66)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(2/ 403)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(4/ 198)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(5/ 42 و 43)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(9/ 325 و 424)، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5036]

(. . .) - (حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا بَهْزٌ، حَدَّثَنَا أَبُو عَقِيلٍ الدَّوْرَقِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، أَنَّ أَعْرَابِيًّا أَتَى رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: إِنِّي فِي غَائِطٍ مَضَبَّةٍ، وَإِنَّهُ عَامَّةُ طَعَامِ أَهْلِي، قَالَ: فَلَمْ يُجِبْهُ، فَقُلْنَا: عَاوِدْهُ، فَعَاوَدَهُ، فَلَمْ يُجِبْهُ ثَلَاثًا، ثُمَّ نَادَاهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي الثَّالِثَةِ، فَقَالَ: "يَا أَعْرَابِيُّ إِنَّ اللهَ لَعَنَ، أَوْ غَضِبَ عَلَى سِبْطٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَمَسَخَهُمْ دَوَابَّ يَدِبُّونَ فِي الأَرْضِ، فَلَا أَدْرِي لَعَلَّ هَذَا مِنْهَا، فَلَسْتُ آكُلُهَا، وَلَا أَنْهَى عَنْهَا").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(بَهْزُ) بن أسد الْعَمّيّ، أبو الأسود البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [9] مات بعد المائتين، وقيل: قبلها (ع) تقدم في "الإيمان" 3/ 112.

2 -

(أَبُو عَقِيلٍ الدَّوْرَقِيُّ) بشير بن عُقبة الناجيّ الساميّ، أو الأزديّ البصريّ، أبو عَقِيل - بفتح العين - ثقةٌ [7](خ م مد تم) تقدم في "البيوع" 42/ 4097.

والباقون ذُكروا في الباب وقبله، و"محمد بن حاتم" هو: ابن ميمون.

وقوله: (أَنَّ أَعْرَابِيًّا. . . إلخ) تقدّم ما قيل في اسمه في الحديث الماضي.

وقوله: (إِنِّي فِي غَائِطٍ مَضَبَّةٍ) الغائط: الأرض المطمئنّة، قال الفيّوميّ: الغَائِطُ: المطمئن الواسع من الأرض، والجمع: غِيطَانٌ، وأَغْوَاطٌ، وغُوْطٌ، ثم أطلق الغَائِطُ على الخارج المستقذَر من الإنسان؛ كراهةً لتسميته باسمه

ص: 259

الخاصّ؛ لأنهم كانوا يقضون حوائجهم في المواضع المطمَئِنّة، فهو من مجاز المجاورة، ثم توسعوا فيه حتى اشتقوا منه، وقالوا: تَغَوَّطَ الإنسان، وقال ابن الْقُوطية: غَاطَ في الماء غَوْطًا: دخل فيه، ومنه الغَائِطُ. انتهى

(1)

.

وقوله: (فَقُلْنَا: عَاوِدْهُ)؛ أي: راجع النبيّ صلى الله عليه وسلم مرّة أخرى.

وقوله: (إِن اللهَ لَعَنَ، أَوْ غَضِبَ. . . إلخ)"أو" للشك من الراوي.

وقوله: (عَلَى سِبْطٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ)"السبط" بكسر، فسكون: وَلَد الولد، والجمع أسباطٌ، مثلُ حِمْلٍ وأحمال، والسبط أيضًا الفريق من اليهود، يقال للعرب: قبائل، ولليهود: أسباط، قاله الفيّوميّ

(2)

.

وقال ابن الأثير رحمه الله: الأسباط في أولاد إسحاق بن إبراهيم الخليل بمنزلة القبائل في ولد إسماعيل، واحدهم سِبْطٌ، فهو واقع على الأمة، والأمة واقعة عليه. انتهى

(3)

.

وقوله: (فَمَسَخَهُمْ دَوَابَّ) الدوابّ: جمع دابّة، قال النوويّ: كذا وقع في بعض النسخ، ووقع في أكثرها "دوابًّا" بالألف، والأول هو الجاري على المعروف المشهور في العربيّة. انتهى

(4)

.

وقوله: (يَدِبُّونَ فِي الأَرْضِ) بكسر الدال، يقال: دبّ الصغير يدِبّ، من باب ضرب دَبِيبًا، ودبّ الجيش دبيبًا أيضًا: سار سيرًا ليّنًا

(5)

.

وقوله: (فَلَا أَدْرِي لَعَلَّ هَذَا مِنْهَا) تقدّم أن هذا قبل أن يعلم صلى الله عليه وسلم، فقد أخرج مسلم في "صحيحه"

(6)

عن ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعًا: "إن الله تعالى لم يجعل لمسخ نسلًا، ولا عَقِبًا، وقد كانت القِرَدة والخنازير قبل ذلك"، قال الشوكانيّ رحمه الله: وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أن الممسوخ لا نسل له، والظاهر أنه لم يعلم ذلك إلا بوحي، وأن تردّده في الضبّ كان قبل الوحي بذلك. انتهى

(7)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: هذا منه صلى الله عليه وسلم تَوقُّعٌ، وخوف لأن يكون الضَّبُّ من

(1)

"المصباح المنير" 2/ 457.

(2)

"المصباح المنير" 1/ 264.

(3)

"النهاية في غريب الأثر" ص 414.

(4)

"شرح النوويّ" 13/ 103.

(5)

"المصباح المنير" 1/ 188.

(6)

"صحيح مسلم" رقم (2663).

(7)

"نيل الأوطار" 8/ 287.

ص: 260

نسل ما مُسخ من الأمم، ومثله ما ذكره في الفأرة لمّا قال:"فُقِدت أمَّة من بني إسرائيل، لا أدري ما فَعَلت، ولا أراها إلا الفأر" كان هذا منه صلى الله عليه وسلم ظنًّا، وحَدْسًا قبل أن يوحى إليه:"إن الله تعالى لم يجعل لمسخٍ نسلًا"

(1)

، فلما أُوحي إليه بذلك زال عنه ذلك التخوُّف، وعلم أن الضَّبَّ، والفأر ليسا من نسل ما مُسِخ، وعند ذلك أخبرنا بقوله:"إن الله لم يجعل لمسخٍ نسلًا".

وقد تقدَّمت النصوص بإباحة أكل الضَّبِّ، وأما الفأر فلا يؤكل، لا لأنه مسخ، بل لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استخبثه، كما قد استخبث الوزغ، وأمر بقتله، وسَمَّاه: فويسقًا، وإذا ثبت ذلك فقد تناوله قوله تعالى:{وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} الآية [الأعراف: 157]، فيكون أكْلها حرامًا.

وأما الْهِرُّ: فقد تناوله عموم تحريم كل ذي ناب، فإنَّه من ذوات الأنياب على ما تقدم. وقد جاء فيه حديث صحيح ذكره أبو داود من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال:"نَهَى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكْل الْهِرِّ، وأكْل ثمنه"

(2)

، والله تعالى أعلم.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(8) - (بَابُ إِبَاحَةِ الْجَرَادِ)

قال في "لسان العرب": "الجراد" معروفٌ، الواحدة جرادة، تقع على الذكر والأنثى، قال الجوهريّ: وليس الجراد بذَكَر للجرادة، وإنما هو اسم للجنس، كالبقر والبقرة، والتمر والتمرة، والحمام والحمامة، وما أشبه ذلك، فحقّ مذكّره أن لا يكون مؤنّثه من لفظه؛ لئلا يلتبس الواحد المذكّر بالجمع. قال أبو عبيد: قيل: هو سِرْوَةٌ، ثم دَبَى، ثم غَوْغَاءُ، ثم خَيْفَانُ، ثم كُتْفان، ثم جَرَادٌ. وقيل: الجراد الذَّكر، والجرادة الأنثى، ومن كلامهم: رأيت جرادًا على جرادة، كقولهم: رأيت نَعامةً على نعامة. قال الفارسيّ: وذلك موضوعٌ على ما

(1)

رواه أحمد في "المسند"(1/ 433)، ومسلم (2663).

(2)

حديث ضعيف في سنده عمر بن زيد الصنعانيّ، ضعيف، كما في "التقريب".

ص: 261

يُحافظون عليه، ويتركون غيره بالغالب إليه، من إلزام المؤنّث العلامةَ المشعِرة بالتأنيث، وإن كان أيضًا غير ذلك من كلامهم واسعًا كثيرًا؛ يعني: المؤنّث الذي لا علامة فيه، كالعين، والقِدْر، والعَنَاق، والمذكّر الذي فيه علامة التأنيث، كالحمامة، والحيّة. قال أبو حنيفة: قال الأصمعيّ: إذا اصفَرَّتِ الذكور، واسودّت الإناث، ذهبت عنه الأسماء، إلا الجراد؛ يعني: أنه اسمٌ، لا يُفارقها. وذهب أبو عبيد في الجراد إلى أنه آخر أسمائه، كما تقدّم. وقال أعرابيّ: تركت جرادًا، كأنه نعامة جاثمة. انتهى

(1)

.

وقال في "الفتح": "الجراد" - بفتح الجيم، وتخفيف الراء -: معروف، والواحدة جرادة، والذكر والأنثى سواء، كالحمامة، ويقال: إنه مشتقّ من الجرد؛ لأنه لا يَنْزِل على شيء، إلا جَرَده، وخِلْقَةُ الجراد عجيبة، فيها عشرة من الحيوان، ذكر بعضها ابن الشَّهْرَزُوريّ، في قوله [من الطويل]:

لَهَا فَخِذَا بَكْرٍ وَسَاقَا نَعَامَةٍ

وَقَادِمَتَا نَسْرٍ وَجُؤْجُؤُ ضَيْغَمِ

حَبَتْهَا أَفَاعِي الرَّمْلِ بَطْنًا وَأَنْعَمَتْ

عَلَيْهَا جِيَادُ الْخَيْلِ بِالرَّأْسِ وَالْفَمِ

قيل: وفاتَهُ عين الفيل، وعُنُق الثور، وقَرن الأَيِّل، وذَنَب الحية، وهو صنفان: طَيّارٌ، ووَثّابٌ، ويبيض في الصخر، فيتركه حتى يَيْبَسَ، وينتشر، فلا يمرّ بزرع، إلا اجتاحه. واختُلف في أصله، فقيل: إنه نَثْرَةُ حوت، فلذلك كان أكْله بغير ذكاة، وهذا وَرَد في حديث ضعيف، أخرجه ابن ماجه، عن أنس رضي الله عنه رفعه:"إن الجراد نثرةُ حوت من البحر"، ومن حديث أبي هريرة رضي الله عنه:"خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، في حجّ، أو عمرة، فاستقبلنا رِجْلٌ، من جراد، فجعلنا نضرب بنعالنا، وأسواطنا، فقال: كلوه، فإنه من صيد البحر"، أخرجه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه، وسنده ضعيف، ولو صحّ لكان فيه حجة، لمن قال: لا جزاء فيه، إذا قتله المُحْرِم، وجمهور العلماء على خلافه. قال ابن المنذر رحمه الله: لم يقل لا جزاء فيه غيرُ أبي سعيد الخدريّ، وعروة بن الزبير، واختُلف عن كعب الأحبار، وإذا ثبت فيه الجزاء، دلّ على أنه بَرّيّ.

وقد أجمع العلماء على جواز أكله، بغير تذكية، إلا أن المشهور عند

(1)

3/ 117 - 118.

ص: 262

المالكية اشتراط تذكيته، واختلفوا في صفتها، فقيل: بقطع رأسه، وقيل: إن وقع في قِدْر، أو نار حَلّ، وقال ابن وهب: أخذُهُ ذكاته، ووافق مُطَرّف منهم الجمهور، في أنه لا يفتقر إلى ذكاته؛ لحديث ابن عمر:"أُحِلّت لنا ميتتان، ودمان: السمك، والجراد، والكبد، والطحال"، أخرجه أحمد، والدارقطنيّ مرفوعًا، وقال: إن الموقوف أصح، ورجّح البيهقيّ أيضًا الموقوف، إلا أنه قال: إن له حكمَ الرفع. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5037]

(1952) - (حَدَّثَنَا أبُو كَامِلٍ الْجَحْدَرِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ أَبِي يَعْفُورٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى، قَالَ: غَزَوْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم سَبْعَ غَزَوَاتٍ، نَأْكُلُ الْجَرَادَ).

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(أَبُو كَامِلٍ الْجَحْدَرِيُّ) فُضيل بن حسين، تقدّم قبل بابين.

2 -

(أَبُو عَوَانَةَ) وضّاح بن عبد الله اليشكريّ، تقدّم قريبًا.

3 -

(أَبُو يَعْفُور) - بفتح التحتانيّة، وسكون المهملة، وضمّ الفاء - اسمه: وَقْدَان - بفتح الواو، وسكون القاف - العبديّ الكوفيّ، مشهور بكنيته، وهو الأكبر، ويقال: اسمه واقد، ثقة [4] تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 5/ 1199.

وقال في "الفتح": "أبو يعفور" - بفتح التحتانية، وسكون المهملة، وضم الفاء - هو العبديّ، واسمه وقدان، وقيل: واقد، وقال مسلم: اسمه واقد، ولقبه وقدان، وهو الأكبر، وأبو يعفور الأصغر: اسمه عبد الرحمن بن عُبيد، وكلاهما ثقة، من أهل الكوفة، وليس للأكبر في البخاري، سوى هذا الحديث، وآخر تقدم في "الصلاة"، في أبواب الركوع، من صفة الصلاة، وقد ذكرت كلام النووي فيه، وجَزْمه بأنه الأصغر، وأن الصواب أنه الأكبر، وبذلك جزم الكلاباذي، وغيره، والنووي تَبِع في ذلك ابن العربي، وغيره، والذي يُرجّح كلام الكلاباذي، جَزْم الترمذي بعد تخريجه، بأن راوي حديث الجراد،

(1)

"الفتح" 12/ 453 - 454، كتاب "الذبائح" رقم (5495).

ص: 263

هو الذي اسمه واقد، ويقال: وقدان، وهذا هو الأكبر، ويؤيده أيضًا: أن ابن أبي حاتم، جزم في ترجمة الأصغر، بأنه لم يسمع من عبد الله بن أبي أوفى. انتهى

(1)

.

4 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي أَوْفَى) علقمة بن خالد بن الحارث الأسلميّ الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، شهد الْحُديبية، وعُمِّر بعد النبيّ صلى الله عليه وسلم دهْرًا، ومات سنة (87) وهو آخر من مات من الصحابة بالكوفة تقدم في "الصلاة" 41/ 1072.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من رباعيّات المصنف، وهو (359) من رباعيّات الكتاب، وأن صحابيّه ابن صحابيّ، ومن المعمّرين، وهو آخر من مات من الصحابة بالكوفة، كما أسلفته آنفًا.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي يَعْفُورٍ) - بفتح التحتانيّة، وسكون المهملة، وضمّ الفاء - تقدّم أنه الأكبر، واسمه واقد، أو وقدان الْعَبْديّ، وليس هو الأصغر عبد الرحمن بن عبيد بن نِسطاس، وإن زعم النووي ذلك، فهو غلط؛ لأن الأصغر لم يسمع من عبد الله بن أبي أوفى، كما قال ابن أبي حاتم، فتنبّه. (عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى) واسمه خالد بن علقمة، وهو أيضًا صحابيّ، (قَالَ: غَزَوْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم سَبْعَ غَزَوَاتٍ) وفي رواية ابن راهويه التالية: "ستّ"، وفي رواية ابن أبي عمر التالية أيضًا:"ستّ، أو سبع" بالشكّ، قال في "الفتح": وهذا الشك في عدد الغزوات، من شعبة، وقد أخرجه مسلم، من رواية شعبة بالشك أيضًا، والنسائي من روايته بلفظ الستّ، من غير شك، والترمذيّ، من طريق غندر، عن شعبة، فقال:"غزوات"، ولم يذكر عددًا.

وقال في "الفتح" أيضًا عند قول البخاريّ: "قال سفيان، وأبو عوانة، وإسرائيل عن أبي يعفور، عن ابن أبي أوفى: سبع غزوات" ما نصّه: قوله: "وقال سفيان" هو الثوريّ، وقد وصله الدارميّ عن محمد بن يوسف، وهو

(1)

"الفتح" 12/ 454، كتاب "الذبائح" رقم (5495).

ص: 264

الفريابيّ، عن سفيان، وهو الثوريّ، ولفظه:"غزونا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم سبع غزوات، نأكل الجراد"، وكذا أخرجه الترمذيّ من وجه آخر عن الثوريّ، وأفاد أن سفيان بن عيينة روى هذا الحديث أيضًا عن أبي يعفور، لكن قال:"ست غزوات"، وكذا أخرجه أحمد بن حنبل، عن ابن عيينة جازمًا بالستّ، وقال الترمذيّ: كذا قال ابن عيينة: "ستّ"، وقال غيره:"سبع".

قال الحافظ: ودلّت رواية شعبة على أن شيخهم كان يشكّ، فيُحْمَل على أنه جزم مرّةً بالسبع، ثم لمّا طرأ عليه الشك صار يجزم بالستّ؛ لأنه المتَيَقَّن، ويؤيِّد هذا الحمل أن سماع سفيان بن عيينة عنه متأخر دون الثوريّ، ومن ذكر معه، ولكن وقع عند ابن حبان من رواية أبي الوليد شيخ البخاريّ فيه:"سبعًا، أو ستًّا"، يشك شعبة. انتهى

(1)

.

[تنبيه]: وقع في "توضيح ابن مالك": "سبع غزوات، أو ثماني"، وتكلم عليه، فقال: الأجود أن يقال: "سبع غزوات، أو ثمانيةً" بالتنوين؛ لأن لفظ "ثمان"، وإن كان كلفظ جَوَارٍ في أن ثالث حروفه ألف، بعدها حرفان، ثانيهما ياء، فهو يخالفه في أن جَواري جَمْع، وثمانية ليس بجمع، واللفظ بهما في الرفع والجر سواء، ولكن تنوين ثمان تنوين صرف، وتنوين جوار تنوين عوض، وإنما يفترق لفظ ثمان وجوار في النصب، فإنك تقول: رأيت جواريَ ثمانيًا، فتترك تنوين جواري؛ لأنه غير منصرف، وقد استُغني عن تنوين العوض بتكميل لفظه، وتُنَوِّن ثمانيًا؛ لأنه منصرف؛ لانتفاء الجمعيّة، ومع هذا ففي قوله: أو ثماني بلا تنوين بالنصب، واستمر يتكلم على ذلك، ثم قال: وفي ذِكره له بلا تنوين ثلاثة أوجه:

أحدها، وهو أجودها: أن يكون أراد: أو ثماني غزوات، ثم حَذَفَ المضافَ إليه، وأبقى المضاف على ما كان عليه قبل الحذف، وحسّن الحذف دلالة ما تقدّم من مثل المحذوف، ومثله قول الشاعر [من الخفيف]:

خَمْسُ ذَوْدٍ أَوْ سِتُّ عُوِّضَ مِنْهَا

مِائَةٌ غَيْرُ أَبْكُرٍ وَإِفَالِ

(2)

(1)

"الفتح" 12/ 454 - 455 رقم (5495).

(2)

الأبكُر: جمع بَكْر، الفتي من الإبل، والأفيل؛ كالفصيل وزنًا ومعنًى، والجمع إفال.

ص: 265

وهذا من الاستدلال بالمتقدّم على المتأخّر، وهو في غير الإضافة كثيرٌ، كقوله تعالى:{وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ} الآية [الأحزاب: 35]، والأصل: والحافظات فروجهن، والذاكرات الله كثيرًا.

الوجه الثاني: أن تكون الإضافة غير مقصودة، وترك تنوين "ثمان" لمشابهته جواري لفظًا ومعنى، أما اللفظ فظاهر، وأما المعنى فلأن ثمانيًا، وإن لم يكن له واحد من لفظه، فإن مدلوله جمعٌ، وقد اعتُبر مجرّد الشبه اللفظيّ في سراويل، فأُجري مُجرى سرابيل، فلا يُستبعد إجراء ثمان مُجرى جوارٍ، ومن إجرائه مُجراه قول الشاعر:

يَحْدُو ثَمَانِيَ مُولَعًا بِلِقَاحِهَا

حَتَّى هَمَمْنَ بِزَيْغَةِ الإِرْتَاجِ

الوجه الثالث: أن يكون في اللفظ ثمانيًا بالنصب والتنوين، إلا أنه كُتب على لغة ربيعة، فإنهم يقفون على المنوّن المنصوب بالسكون، فلا يحتاج الكاتب على لغتهم إلى ألف؛ لأن من أثبتها في الكتابة لم يُراع إلا جانب الوقف، فإذا كان يحذفها في الوقف كما يحذفها في الوصل لزمه أن يحذفها خطًّا. انتهى كلام ابن مالك رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: إنما ذكرت كلام ابن مالك رحمه الله هذا هنا لأهميّته؛ إذ فيه فائدة نحويّة عزيزة، وإلا فالحديث بلفظ "ثمان" لم يثبت، وإنما هو بلفظ "ستّ"، أو "سبع"، قال الحافظ رحمه الله بعد ذكر كلام ابن مالك المذكور بالاختصار ما نصّه: ولم أره في شيء من طرق الحديث، لا في البخاريّ، ولا في غيره، بلفظ "ثمان"، فما أدري كيف وقع هذا؟. انتهى، والله تعالى أعلم.

(نَأْكُلُ الْجَرَادَ) وفي رواية البخاريّ: "فكنّا نأكل معه الجراد"، فقال في "الفتح": يَحْتَمِل أن يريد بالمعيّة مجرد الغزو، دون ما تَبِعه من أكْل الجراد. ويَحْتَمِل أن يريد: مع أكله، ويدلّ على الثاني، أنه وقع في رواية أبي نعيم في "الطب":"ويأكل معنا".

قال الحافظ رحمه الله: وهذا إن صحّ، يردّ على الصيمري، من الشافعية، في

(1)

"شواهد التوضيح والتصحيح لمشكلات الجامع الصحيح" ص 47 - 49.

ص: 266

زعمه أنه صلى الله عليه وسلم، عافه كما عاف الضبّ، ثم وقفتُ على مستند الصيمريّ، وهو ما أخرجه أبو داود، من حديث سلمان رضي الله عنه، سئل صلى الله عليه وسلم عن الجراد؟، فقال:"لا آكله، ولا أحرمه"، والصواب مرسل، ولابن عدي في ترجمة ثابت بن زهير، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما: أنه صلى الله عليه وسلم، سئل عن الضب، فقال:"لا آكله، ولا أحرمه"، وسئل عن الجراد، فقال مثل ذلك، وهذا ليس ثابتًا؛ لأن ثابتًا، قال فيه النسائي: ليس بثقة.

ونقل النوويّ الإجماع على حِلّ أكْل الجراد، لكن فصّل ابن العربيّ في "شرح الترمذيّ" بين جراد الحجاز، وجراد الأندلس، فقال في جراد الأندلس: لا يؤكل؛ لأنه ضرر محض، وهذا إن ثبت أنه يضرّ أكله، بأن يكون فيه سمّية تخصه، دون غيره من جراد البلاد، تعيّن استثناؤه. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [8/ 5037 و 5038 و 5039](1952)، و (البخاريّ) في "الذبائح والصيد"(5495)، (وأبو داود) في "الأطعمة"(3812)، و (الترمذيّ) في "الأطعمة"(1821 و 1822)، و (النسائيّ) في "الصيد"(7/ 210) و"الكبرى"(3/ 166)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(8762)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(818)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(8/ 325)، و (الحميديّ) في "مسنده"(713)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 353 و 358 و 380)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 91)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5257)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(2/ 350)، و (البزّار) في "مسنده" 8/ 268 و 269)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(880)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(5/ 45)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(9/ 257)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(2802)، والله تعالى أعلم.

(1)

"الفتح" 12/ 455 رقم (5495).

ص: 267

(المسألة الثالثة): في اختلاف أهل العلم في حكم أكل الجراد:

قال النوويّ رحمه الله: أجمع المسلمون على إباحة أكل الجراد، ثم قال الشافعيّ، وأبو حنيفة، وأحمد، والجماهير: يحلّ، سواءٌ مات بذكاة، أو باصطياد مسلم، أو مجوسيّ، أو مات حَتْفَ أنفه، سواء قطع بعضه، أو أُحدث فيه سبب، وقال مالك في المشهور عنه، وأحمد في رواية: لا يحل، إلا إذا مات بسبب، بأن يقطع بعضه، أو يُسْلَق

(1)

، أو يُلقى في النار حيًّا، أو يشوى، فإن مات حتف أنفه، أو في وعاء لم يحلّ، والله أعلم. انتهى

(2)

.

وقال ابن قُدمة رحمه الله: يباح أكل الجراد بإجماع أهل العلم، وقد قال عبد الله بن أبي أوفى:"غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات نأكل الجراد"، متّفقٌ عليه، ولا فرق بين أن يموت بسبب، أو بغير سبب في قول عامّة أهل العلم، منهم الشافعيّ، وأصحاب الحديث، وأصحاب الرأي، وابن المنذر، وعن أحمد: أنه إذا قتله البَرْد لم يؤكل، وعنه: لا يؤكل إذا مات بغير سبب، وهو قول مالك، ويُرْوَى أيضًا عن سعيد بن المسيِّب.

قال: وحجة الأولين عموم قوله صلى الله عليه وسلم: "أُحِلَّت لنا ميتتان، ودمان، فالميتتان: السمك، والجراد"، ولم يُفَصِّل، ولأنه تباح ميتته، فلم يعتبر له سبب، كالسمك، ولأنه لو افتقر إلى سبب لافتقر إلى ذَبْح، وذابح، وآلة، كبهيمة الأنعام. انتهى كلام ابن قدامة رحمه الله بتغيير يسير

(3)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله في شرح قوله: "غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات نأكل الجراد" ما نصّه: ظاهره جواز أكل الجراد مطلقًا، ولم يُختلف في جواز أكل الجراد على الجملة، لكن اختُلف فيه؛ هل يحتاج إلى سبب يموت به أم لا يحتاج؟ فعامَّة الفقهاء على أنه لا يحتاج إلى ذلك، فيجوز أكل الميت منه، وإليه ذهب ابن عبد الحكم، ومطرِّف من أصحابنا - يعني: المالكيّة - وذهب مالك: إلى أنَّه لا بدَّ من سبب يموت به، كقَطْع رؤوسه، أو أرجله، أو أجنحته إذا مات من ذلك، أو يُشْوَى، أو يُسْلَق، وقال اللَّيث: يُكره أكل ميت الجراد

(1)

يقال: سلقت الشاة، من باب قتل: نحّيت شعرها بالماء الحميم.

(2)

"شرح النوويّ" 13/ 103 - 104.

(3)

"المغني" لابن قُدامة رحمه الله 9/ 315.

ص: 268

إلا ما أُخذ حيًّا ثم مات، فإنّ أخْذَه ذكاته، وإليه ذهب سعيد بن المسيِّب، والجمهور؛ تمسُّكًا بظاهر حديث ابن أبي أوفى المتقدّم، وبما ذكره ابن المنذر: أن أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم يتهادين الجراد فيما بينهن، وبما ذكره الدارقطني عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أحل لنا ميتتان: الحوت والجراد، ودمان: الكبد والطحال"، على أنه لا يصحُّ

(1)

لأنه من رواية عبد الله، وعبد الرحمن ابني زيد بن أسلم، ولا يُحتج بحديثهما، ومن الجمهور من رأى: أنها من صيد البحر، وعلى هذا فيجوز للمُحرِم صيدها، من غير جزاء، ويجوز أكل ما صاد المجوسي منه، وإليه ذهب النَّخعيّ، والشافعيّ، والنعمان، وأبو ثور. فأما مالك والليث فرأيا: أن الجراد من حيوان البرّ فميتته محرَّمة؛ لأنَّها داخلة في عموم قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} الآية [المائدة: 3]، ولم يصح عندهم:"أحلّت لنا ميتتان"، وقالا بموجب حديث ابن أبي أوفى، ولِمَا ذَكَره ابن المنذر بشرط الذكاة؛ إذ ليسا بنصَّين، وإذا كان كذلك فلا بُدَّ فيها من ذكاة إلا أن ذكاة كل شيء بحسب ما يتأتى فيه، فرأى مالك: أنه لا بدَّ من فعلٍ يُفعل فيها حتى تموت بسببه، ورأى اللَّيث: أنّ أخْذَها وتَرْكَها إلى أن تموت سببٌ يبيحها، ولم ير مالك ذلك لأنه لم يفعل فيها شيئًا، وقال أشهب: لا يؤكل الجراد إلا إذا قُطعت رؤوسه، أو يُطرح حيًّا في نار، أو ماء، فأما قَطْع أرجله، وأجنحته، فلا يكون ذلك ذكاة عنده؛ وإن مات بسببه، وعلى هذا: فلو سُلِقَ الحيُّ منه مع الميت فقال أشهب: يُطرح الجميع، وقال سحنون: يؤكل الأحياء، وتكون الموتى بمنزلة خشاش الأرض يموت في القِدْر.

قلت: وهذا من سحنون مَيْل إلى أنه من الحيوان الذي ليس له نفسٌ سائلةٌ، ويلزم على هذا ألا ينجس بالموت، ولا ينجس ما مات فيه، وحينئذ يجوز أكله ميتًا، والله تعالى أعلم. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن بما سبق أن من ذَكَر مذاهب الأئمة، وأدلّتهم أن ما ذهب إليه جمهور العلماء من جواز أكل الجراد مطلقًا هو الحقّ؛

(1)

الحقّ أنه حديث صحيح، راجع:"السلسلة الصحيحة" للشيخ الألبانيّ رحمه الله 3/ 111.

(2)

"المفهم" 5/ 237 - 238.

ص: 269

لقوة حجته، ووضوح أدلّته، والمخالفون له ليس لهم حجة معتبرة، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5038]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَاهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَابْنُ أَبِي عُمَرَ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ أَبِي يَعْفُورٍ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ، قَالَ أَبُو بَكْرِ فِي رِوَايَتِهِ: سَبْعَ غَزَوَاتٍ، وَقَالَ إِسْحَاقُ: سِتَ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي عُمَرَ: سِتَّ، أَوْ سَبْعَ)

(1)

.

رجال هذا الإسناد: خمسة:

وكلّهم ذُكروا في الباب وقبله، سوى ابن عيينة، فتقدّم قبل بابين.

[تنبيه]: رواية أبي بكر بن أبي شيبة عن ابن عيينة، ساقها هو في "مصنّفه"، فقال:

(24561)

- حدّثنا أبو بكر، قال: حدّثنا ابن عيينة، عن أبي يعفور، عن ابن أبي أوفى، قال: غَزَوتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعَ غزوات، نأكل الجراد. انتهى

(2)

.

وأما روايتا إسحاق بن راهويه، وابن أبي عمر، كلاهما عن ابن عيينة، فلم أجد من ساقهما، فليُنظر، والله تعالى أعلم.

[5039]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ (ح) وَحَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ، كِلَاهُمَا عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ أَبِي يَعْفُورٍ، بِهَذَا الإِسْنَادِ، وَقَالَ: سَبْعَ غَزَوَاتٍ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

وكلهم ذُكروا في الباب، والباب الماضي، وابن أبي عديّ، هو: محمد بن إبراهيم بن أبي عديّ البصريّ.

[تنبيه]: رواية محمد بن جعفر عن شعبة، ساقها الإمام أحمد في "مسنده"، فقال:

(1)

وفي نسخة: "ستًا، أو سبعًا".

(2)

"مصنف ابن أبي شيبة" 5/ 144.

ص: 270

(19173)

- حدّثنا عبد الله، حدثني أبي، ثنا محمد بن جعفر، ثنا شعبة، عن أبي يعفور، قال: سأل شريكي وأنا معه، عبدَ الله بن أبي أوفى عن الجراد، فقال: لا بأس به، وقال: غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات، فكنا نأكله. انتهى

(1)

.

رواية ابن أبي عديّ عن شعبة لم أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(9) - (بَابُ إِبَاحَةِ الأَرْنَبِ)

" الأرنب" بفتح الهمزة، وسكون الراء، وفتح النون: فَعْلَلٌ عند أكثر النحويين، وزعم الليث أن الألف زائدة، وهو حَيَوان يُشبه العَنَاقَ، قصير اليدين، طويل الرجلين، عكس الزرافة، يطأ الأرض على مؤخّر قوائمه، وهو اسم جنس للذكر، والأنثى، أو الأرنب للأنثى، والْخُزَز، كصُرَد للذكر. قاله المرتضى في "شرح القاموس"

(2)

.

وقال في "الفتح": "الأرنب": دُوَيّبة معروفة، تُشْبِه الْعَناق، لكن في رجليها طول، بخلاف يديها، والأرنب اسم جنس للذكر والأنثى، ويقال للذكر أيضًا: الْخُزَز، وزنُ عُمَر - بمعجمات - وللأنثى عِكْرِشة

(3)

، وللصغير خِرْنِق - بكسر المعجمة، وسكون الراء، وفتح النون، بعدها قاف - هذا هو المشهور، وقال الجاحظ: لا يقال: أرنب إلا للأنثى، ويقال: إن الأرنب شديدة الجبن، كثيرة الشَّبَق، وإنها تكون سنة ذكرًا، وسنةً أنثى، وإنها تحيض، ويقال: إنها تنام مفتوحة العين. انتهى

(4)

.

(1)

"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 4/ 357.

(2)

راجع: "تاج العروس من جواهر القاموس" 1/ 279.

(3)

في "القاموس": الْعِكْرِشة بالكسر: الأرنبة الضخمة.

(4)

"الفتح" 12/ 519 - 520، كتاب "الذبائح" رقم (5535).

ص: 271

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5040]

(1953) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ

(1)

، عَنْ هِشَامِ بْنِ زيدٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: مَرَرْنَا، فَاسْتَنْفَجْنَا أَرْنَبًا بِمَرِّ الظَّهْرَانِ، فَسَعَوْا عَلَيْهِ، فَلَغَبُوا، قَالَ: فَسَعَيْتُ حَتَّى أَدْرَكْتُهَا، فَأَتَيْتُ بِهَا أَبَا طَلْحَةَ، فَذَبَحَهَا، فَبَعَثَ بِوَرِكِهَا وَفَخِذَيْهَا إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَتَيْتُ بِهَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَبِلَهُ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(هِشَامُ بْنُ زَيْدٍ) الأنصاريّ البصريّ، ثقةٌ [5](ع) تقدم في "الحيض" 6/ 714.

2 -

(أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ) الصحابيّ الشهير رضي الله عنه، تقدّم قبل بابين.

والباقون ذُكروا في الحديث الماضي.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف، وأنه مسلسل بالبصريين، وأن شيخه أحد التسعة الذين روى عنهم الجماعة بلا واسطة، وقد تقدّموا غير مرّة، وفيه رواية الراوي عن جدّه، فأنس جدّ هشام الراوي عنه، وفيه أنس رضي الله عنه من المكثرين السبعة، روى (1286) حديثًا، وهو آخر من مات من الصحابة رضي الله عنهم بالبصرة، وقد عُمّر أكثر من مائة سنة، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: مَرَرْنَا)؛ أي: اجتزنا، يقال: مررتُ بزيد، وعليه مَرًّا، ومُرُورًا، ومَمَرًّا: اجتزتُ، ومرّ الدهرُ مَرًّا، ومُرُورًا أيضًا: ذهب، قاله الفيّوميّ

(2)

، والمعنى: اجتزنا في بعض أسفارنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، (فَاسْتَنْفَجْنَا أَرْنَبًا)؛ أي: أَثَرْنا، وفي رواية البخاريّ:"فأنفجنا أرنبًا"، والأول استفعال منه، يقال: نَفَجَ الأرنبُ، من باب نصر: إذا ثار، وَعَدا، وانتَفَج كذلك، وأنفجته: إذا أثرته من موضعه، ويقال: إن الانتفاج الاقشعرار، فكأن المعنى: جعلناها بطلبنا لها تنتفج، والانتفاج أيضًا ارتفاع الشعر، وانتفاشه.

(1)

وفي نسخة: "قالا: حدّثنا شعبة".

(2)

"المصباح المنير" 2/ 568.

ص: 272

ووقع في "شرح مسلم" للمازريّ: "بَعَجْنا" - بموحدة، وعين مفتوحة - وفسّره بالشقّ، مِنْ بَعَج بطنه: إذا شقّه.

وتعقّبه عياض بأنه تصحيف، وبأنه لا يصح معناه من سياق الخبر؛ لأن فيه إنهم سَعَوا في طلبها بعد ذلك، فلو كانوا شقّوا بطنها كيف كانوا يحتاجون إلى السعي خلفها؟ انتهى

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: وقول أنس: "اسْتَنْفَجْنا أرنبًا" هذا الحرف صحيح روايته، ومشهورها عند أهل التقييد واللغة بالنون والفاء، لا يَعرفون غيره، ومعناه: اسْتَثَرنا الأرنب، وأخرجناه من مكمنه، يقال: نفَجَتِ الأرنبُ: إذا وثبت، قال الهرويّ: أنفجتُ الأرنبَ من جُحره، فنَفَج؛ أي: أثرتُه، فثار، وقد وقع للمازريّ:"فبعجنا" بالباء بواحدة من تحتها، والعين المهملة، وفسَّره: بشققنا، من: بعج بطنه؛ إذا شقَّه، وهذا لا يصحُّ روايةً، ولا معنى، وإنما هو تصحيف، وكيف يَشُقُّون بطنها، ثم يسعون خلفها؟! انتهى

(2)

.

(بِمَرِّ الظَّهْرَانِ) - بفتح الميم، وتشديد الراء - والظهران - بفتح المعجمة - بلفظ تثنية الظهر: اسم موضع على مرحلة من مكة، وقد يُسَمَّى بإحدى الكلمتين تخفيفًا، وهو المكان الذي تسمّيه عوامّ المصريين: بَطْنَ مَرْو، والصواب: مَرَّ بتشديد الراء، قاله في "الفتح".

وقال في موضع آخر: وَمَرّ الظَّهْرَانِ وَادٍ مَعْرُوفٌ، عَلَى خَمْسَة أَمْيَال مِنْ مَكَّة، إِلَى جِهَة الْمَدِينَة. وَقَدْ ذَكَرَ الْوَاقِدِيّ، أَنَّهُ مِنْ مَكَّة عَلَى خَمْسَة أَمْيَال. وَزَعَمَ ابْن وَضَّاح أَنَّ بَيْنهمَا أَحَدًا وَعِشْرِينَ مِيلًا. وَقِيلَ: سِتَّة عَشَر، وَبِهِ جَزَمَ الْبَكْرِيّ. قَالَ النَّوَوِيّ: وَالأَوَّل غَلَط، وَإِنْكَار لِلْمَحْسُوسِ. و"مَرّ": قَرْيَة ذَات نَخْل، وَزَرْع، وَمِيَاهُ، و"الظَّهْرَانِ": اسْم الْوَادِي، وَتَقُول الْعَامَّة: بَطْن مَرْوٍ.

وَقَوْل الْبَكْرِيّ هُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَالله أَعْلَم. انتهى

(3)

.

(فَسَعَوْا عَلَيْهِ) وفي رواية البخاريّ: "فسعى القوم"؛ أي: جَرَوا لِأَخْذه

(1)

"إكمال المعلم" 6/ 392، و"الفتح" 12/ 520.

(2)

"المفهم" 5/ 238 - 239.

(3)

"الفتح" 5/ 423، كتاب "الهبة" رقم (2572).

ص: 273

(فَلَغَبُوا) قال النوويّ رحمه الله: هو بفتح المعجمة في اللغة الفصيحة المشهورة، وفي لغة ضعيفة بكسرها، حكاها الجوهريّ، وغيره، وضعّفوها؛ أي: أَعْيَوْا. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: هكذا نقل النوويّ تضعيف الكسر، ولكن ظاهر عبارة الفيّوميّ، والمجد يدلّ على أن الكسر مثل الفتح، بل زاد الثاني أيضًا الضمّ، ونصّ الأول:

لَغَبَ لَغْبًا، من باب قَتَلَ، ولُغُوبًا: تَعِبَ، وأعيا، وَلَغِبَ لَغَبًا، من باب تَعِبَ لغةٌ. انتهى

(2)

.

ونصّ الثاني: لَغَبَ لَغْبًا، ولَغُوبًا، ولُغُوبًا، كمنع، وسَمِعَ، وكَرُم: أعيا أشدّ الإعياء، وألغبه السَّيْرُ، وتلغّبه، ولَغّبه. انتهى

(3)

.

وقال الشارح المرتضى: لَغَبَ لغْبًا بفتح فسكون، ولَغُوبًا، كصَبُورٍ، ولُغُوبًا بالضَمّ، قالَ: وقال الجوهريّ: لَغَبَ يَلْغُبُ بالضَّمّ لُغُوبًا. ولَغِبَ بالكسر يَلْغَب لُغُوبًا، قال: وصرّحوا بأَن اللَّغْبَ بتسكين الغَيْن مصدرُ لَغَبَ، كنَصَرَ، كاللّغُوب بالضَّمّ والفتح، والمفتوح مصدرُ لَغِب، كفَرِح على القياس، واللُّغُوبُ الأَوَّلُ بالضمّ على قياس فَعَلَ المفتوح اللّازم، كالجُلُوس، والثّاني بالفَتح شاذٌ مُلْحَقٌ بالمصادر الّتي على فَعُول، كالوَضُوءِ والقَبُول، وقوله: كمنَعَ، وسَمِعَ، حكاهما الفَيّوميُّ، وابْنُ القَطَّاع، ويُرْوَى لَغُبَ مثل كَرُمَ.

وقوله: أَعْيا أَشَدَّ الإِعياءِ، كذا في "المُحْكَم"، وفي "الصِّحاح": اللُّغُوبُ: التَّعَبُ والإِعْياءُ، ومثلُه في "النِّهاية"، و"الغَرِيبَيْنِ"، وقال جماعةٌ: اللُّغُوبُ هو النَّصَبُ، أَو الفُتُورُ اللّاحِقُ بسَببه، أَو النَّصَبُ جُسْمانِيٌّ، واللُّغُوب نَفْسَانِيٌّ، وهي فروقٌ لبعض فُقَهاءِ اللّغَة، والأَكثرُ على ما ذكره المصنِّفُ، والجوْهَرِيُّ، وابْنُ الأَثِيرِ، والهَرَوِيُّ، وغيرُهم.

وقوله: وأَلْغَبَه، وَتَلَغَّبَهُ مُشَدَّدًا: فَعَل به ذلك وأَتْعَبَهُ، قال كُثَيَّرُ عَزَّةَ [من الطويل]:

(1)

"شرح النوويّ" 13/ 104.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 554 - 555.

(3)

"القاموس المحيط" ص 1180.

ص: 274

تَلَغَّبَها دُونَ ابْنِ لَيْلَى وشَفَّها

سُهَادُ السُّرَى والسَّبْسَبُ المُتَمَاحِلُ

وقال الفَرَزْدقُ [من البسيط]:

بَلْ سوْفَ يَكْفِيكَ بازِيٌّ تَلَغَّبَها

إذا الْتَقَتْ بالسُّعُودِ الشَّمْسُ والقَمَرُ

والمرادُ بالبازِيّ هُنَا: عَمْرُو بْنُ هُبَيْرَةَ، وتَغَلَّبَهَا: تَوَلّاهَا، فقامَ بها، ولمْ يَعْجِزْ عنها. انتهى كلام المرتضى باختصار

(1)

.

ووقع بلفظ: "تَعِبوا" عند البخاريّ في رواية الكشميهني. (قَالَ) أنس (فَسَعَيْتُ)؛ أي: جريت (حَتَّى أَدْرَكْتُهَا) وفي رواية للبخاريّ: "فأدركتها، فأخذتها"، ولأبي داود من طريق حماد بن سلمة، عن هشام بن زيد:"وكنت غلامًا حَزَوّرًا"، وهو بفتح المهملة، والزاي، والواو المشددة، بعدها راء، ويجوز سكون الزاي، وتخفيف الواو، وهو المراهق

(2)

.

(فَأَتَيْتُ بِهَا أَبَا طَلْحَةَ) زيد بن سهل الصحابيّ المشهور، وهو زوج أم أنس رضي الله عنهم، تقدّمت ترجمته في "الحيض" 7/ 720. (فَذَبَحَهَا) زاد في رواية الطيالسيّ:"بمروة"، وزاد في رواية حماد المذكورة:"فشويتها"، (فَبَعَثَ بِوَرِكِهَا) قال المجد: الْورك بالفتح، والكسر، وككَتِف: ما فوق الفخذ مؤنّثةٌ، جَمْعه أوراك. انتهى

(3)

، وقال الفيّوميّ: الْوَرِك أنثى بكسر الراء، ويجوز التخفيف بكسر الواو، وسكون الراء، وهما وَرِكان، فوق الفخذين، كالكتفين فوق الْعَضُدين. انتهى

(4)

. (وَفَخِذَيْهَا) قال المجد: الْفَخِذ، ككَتِفٍ: ما بين الساق والْوَرِك، مؤنّث، كالْفَخْذ، ويُكسر. انتهى

(5)

.

ووقع في رواية للبخاريّ: "فبعث بوركيها، أو قال: بفخذيها" بالشك، ووقع في رواية حماد:"بعجزها". (إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَتَيْتُ بِهَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَبِلَهُ) ذكّر الضمير باعتبار أنه لحم؛ أي: قبِل اللحم الْمُهْدَى، وفي رواية البخاريّ:"فقبلها"؛ أي: الهدية، زاد في رواية للبخاريّ في "الهبة": "قلتُ:

(1)

"تاج العروس من جواهر القاموس" 1/ 944.

(2)

"الفتح" 12/ 520 رقم (5535).

(3)

"القاموس المحيط" ص 1394 - 1394.

(4)

"المصباح المنير" 2/ 656.

(5)

"القاموس المحيط" ص 979.

ص: 275

وأكل منه؟ قال: وأكل منه، ثم قال: فقبله"، وللترمذيّ من طريق أبي داود الطيالسيّ فيه: "فأكله، قلت: أكله؟ قال: قبله"، وهذا الترديد لهشام بن زيد وَقَّفَ جدَّه أنسًا على قوله: "أكله"، فكأنه توقف في الجزم به، وجزم بالقبول.

وقد أخرج الدارقطنيّ من حديث عائشة رضي الله عنها: "أُهدي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أرنب، وأنا نائمةٌ، فخبّأ لي منها العَجُز، فلمّا قُمتُ أطعمني"، وهذا لو صحّ لَأَشعر بأنه أكل منها، لكن سنده ضعيف.

ووقع في "الهداية" للحنفية أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أكل من الأرنب حين أُهدي إليه مشويًّا، وأمر أصحابه بالأكل منه، وكأنه تلقاه من حديثين، فأوَّلُه من حديث الباب، وقد ظهر ما فيه، والآخر من حديث أخرجه النسائيّ من طريق موسى بن طلحة، عن أبي هريرة:"جاء أعرابي إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم بأرنب قد شواها، فوضعها بين يديه، فأمسك، وأمر أصحابه أن يأكلوا"، ورجاله ثقات، إلا أنه اختُلِف فيه على موسى بن طلحة اختلافًا كثيرًا، قاله في "الفتح"

(1)

، والله تعالى أعلم.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أنس رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [9/ 5040 و 5041](1953)، و (البخاريّ) في "الهبة"(2572) و"الذبائح والصيد"(5489 و 5535)، و (أبو داود) في "الأطعمة"(3791)، و (الترمذيّ) في "الأطعمة"(1789)، و (النسائيّ) في "الصيد"(7/ 197) و"الكبرى"(3/ 155)، و (ابن ماجه) في "الصيد"(3243)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(5/ 117)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 118)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 127)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(1/ 224)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(5/ 43 و 44)، و (الطبريّ) في "تهذيب الآثار"(2/ 846)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(9/ 320)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(1)

"الفتح" 12/ 520 - 521، كتاب "الذبائح" رقم (5535).

ص: 276

1 -

(منها): بيان جواز أكل الأرنب، وعليه جمهور أهل العلم، وسيأتي تحقيق الخلاف في المسألة التالية - إن شاء الله تعالى -.

2 -

(ومنها): جواز استثارة الصيد، والْعَدْو في طلبه، وأما ما أخرجه أبو داود، والنسائيّ من حديث ابن عباس رضي الله عنهما رفعه:"مَنِ اتَّبَع الصيد غَفَل"، فهو محمول على من واظب على ذلك حتى يشغله عن غيره من المصالح الدينية وغيرها.

3 -

(ومنها): بيان أن آخذ الصيد يملكه بأخذه، ولا يشاركه مَن أثاره معه.

4 -

(ومنها): بيان مشروعيّة هدية الصيد، وقبولها من الصائد.

5 -

(ومنها): جواز إهداء الشيء اليسير للكبير القدر إذا عُلم من حاله الرضا بذلك.

6 -

(ومنها): أن وليّ الصبيّ يتصرف فيما يملكه الصبيّ بالمصلحة.

7 -

(ومنها): استثبات الطالب شيخه عما يقع في حديثه، مما يَحْتَمِل أنه يضبطه، كما وقع لهشام بن زيد مع أنس رضي الله عنه، كما مرّ آنفًا، والله تعالى أعلم.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في أكل الأرنب:

قال الإمام ابن قدامة رحمه الله: والأرنب مباحة، أكَلَها سعدُ بن أبي وقّاص، ورخّص فيها أبو سعيد، وعطاء، وابن المسيّب، والليث، ومالك، والشافعيّ، وأبو ثور، وابن المنذر، ولا نعلم قائلًا بتحريمها، إلا شيئًا رُوي عن عمرو بن العاص رضي الله عنه.

وقال في "الفتح" ما حاصله: ذهب الْعُلَمَاء كَافَّة إلى جَوَاز أَكْل الأَرْنَب، إِلا مَا جَاءَ فِي كَرَاهَتهَا عَن عَبْد الله بْن عُمَر، مِنَ الصَّحَابَة رضي الله عنهم، وَعَن عِكْرِمَة مِنَ التَّابِعِينَ، وَعَن مُحَمَّد بْن أَبِي لَيْلَى مِنَ الْفُقَهَاء، وَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ خُزَيْمَةَ بْن جَزْء: قُلْت: يَا رَسُول الله، مَا تَقُول فِي الأَرْنَب؟ قَالَ:"لا آكُلهُ، وَلا أُحَرِّمهُ"، قلت: فَإِنِّي آكُل مَا لا تُحَرِّمهُ، وَلمَ يَا رَسُول الله؟ قَالَ:"نُبِّئْت أَنَّهَا تَدْمَى"، وَسَنَده ضَعِيف، وَلَوْ صَحَّ لَمْ يَكُنْ فِيهِ دَلالَة عَلَى الْكَرَاهَة، كَمَا تقدّم تَقْرِيره فِي "باب إباحة الضبّ"، وَلَهُ شَاهِد، عَن عَبْد الله بْن عَمْرو، بِلَفْظِ: "جِيءَ بِهَا إِلَى

ص: 277

النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، فَلَمْ يَأْكُلهَا، وَلَمْ يَنْهَ عَنهَا، زَعَمَ أَنَّهَا تَحِيض"، أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَلَهُ شَاهِد عَن عُمَر، عِنْد إِسْحَاق بْن رَاهَوَيْهِ، فِي "مُسْنَده".

وَحَكَى الرَّافِعِيّ عَن أَبِي حَنِيفَة، أَنَّهُ حَرَّمَهَا، وَغَلَّطَهُ النَّوَوِيّ فِي النَّقْل عَن أَبِي حَنِيفَة. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: ما ذهب إليه كافّة أهل العلم من جواز أكل الأرنب هو الحقّ؛ لصحّة الأحاديث بذلك، كحديث أنس رضي الله عنه المذكور في الباب، وهو متّفقٌ عليه، وحديث أبي ذرّ رضي الله عنه عند النسائيّ

(2)

، وهو حديث صحيح، وحديث محمد بن صفوان الأنصاريّ، قال: أصبت أرنبين، فلم أجد ما أذكيهما به، فذكّيتهما بمروة، فسألت النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأمرني بأكلهما، رواه أبو داود، والنسائيّ، وابن ماجه، وهو حديث صحيح أيضًا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5041]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِيهِ زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ (ح) وَحَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ حَبِيبٍ، حَدَّثَنَا خَالِدٌ - يَعْنِي: ابْنَ الْحَارِثِ - كِلَاهُمَا عَنْ شُعْبَةَ، بِهَذَا الإِسْنَادِ، وَفِي حَدِيثِ يَحْيَى: بِوَرِكِهَا، أَوْ فَخِذَيْهَا).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ حَبِيبِ) بن عربيّ البصريّ، ثقةٌ [10](ت 248) أو بعدها (م 4) تقدم في "الإيمان" 14/ 165.

2 -

(خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ) بن عُبيد الْهُجيميّ، أبو عثمان البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [8](186)(ع) تقدم في "الإيمان" 35/ 243.

والباقون ذُكروا في الباب، وقبله، ويَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، هو القطّان.

(1)

"الفتح" 12/ 521، كتاب "الذبائح" رقم (5535).

(2)

هو ما أخرجه النسائيّ عن موسى بن طلحة، عن ابن الْحَوْتَكية قال: قال عمر رضي الله عنه: من حاضرنا يوم القاحة؟ قال: قال أبو ذر: أنا، أُتِيَ النبيّ صلى الله عليه وسلم بأرنب، فقال الرجل الذي جاء بها: إني رأيتها تَدْمَى، فكان النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يأكل، ثم إنه قال:"كلوا"، فقال رجل: إني صائم. . . الحديث، وهو حديث صحيح.

ص: 278

وقوله: (كِلَاهُمَا عَنْ شُعْبَةَ) ضمير التثنية ليحيى بن سعيد القطّان، وخالد بن الحارث الْهُجيميّ.

[تنبيه]: رواية يحيى القطّان رحمه الله عن شعبة ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:

(5171)

- حدّثنا مسدّد، حدّثنا يحيى، عن شعبة، قال: حدّثني هشام بن زيد، عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: أنفجنا أرنبًا بِمَرّ الظهران، فَسَعَوا عليها، حتى لَغَبُوا، فسعيت عليها، حتى أخذتها، فجئت بها إلى أبي طلحة، فبعث إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم بوَرِكِها، وفخذيها، فقبله. انتهى

(1)

.

ورواية خالد بن الحارث، عن شعبة، ساقها النسائيّ رحمه الله، فقال:

(4312)

- أخبرنا إسماعيل بن مسعود، قال: حدّثنا خالد، عن شعبة، عن هشام، وهو ابن زيد، قال: سمعت أنسًا يقول: أنفجنا أرنبًا بِمَرّ الظهران، فأخذتها، فجئت بها إلى أبي طلحة، فذبحها، فبعثني بفخذيها، ووركيها، إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقبله. انتهى

(2)

، والله تعالى أعلم.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(10) - (بَابُ إِبَاحَةِ مَا يُسْتَعَانُ بِهِ عَلَى الِاصْطِيَادِ، وَالْعَدُوِّ، وَالنَّهْيِ عَنِ الْخَذْفِ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5042]

(1954) - (حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ الْعَنْبَرِيُّ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا كَهْمَسٌ، عَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ، قَالَ: رَأَى عَبْدُ اللهِ بْنُ الْمُغَفَّلِ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِهِ يَخْذِفُ، فَقَالَ لَهُ: لَا تَخْذِفْ، فَإِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَكْرَهُ - أَوْ قَالَ: - يَنْهَى عَنِ الْخَذْفِ، فَإِنَّهُ لَا يُصْطَادُ بِهِ

(3)

الصَّيْدُ، وَلَا يُنْكَأُ بِهِ الْعَدُوُّ، وَلَكِنَّهُ يَكْسِرُ السِّنَّ، وَيَفْقَأُ الْعَيْنَ، ثُمَّ رَآهُ بَعْدَ ذَلِكَ يَخْذِفُ، فَقَالَ لَهُ: أُخْبِرُكَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ

(1)

"صحيح البخاريّ" 5/ 2091.

(2)

"سنن النسائيّ - المجتبى" 7/ 197.

(3)

وفي نسخة: "لا يصاد به".

ص: 279

يَكْرَهُ، أَوْ يَنْهَى عَنِ الْخَذْفِ، ثُمَّ أَرَاكَ تَخْذِفُ، لَا أُكَلِّمُكَ كَلِمَةً كَذَا وَكَذَا).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ الْعَنْبَرِيُّ) تقدّم قبل باب.

2 -

(أَبُوهُ) معاذ بن معاذ بن نصر العنبريّ، تقدّم أيضًا قبل باب.

3 -

(كَهْمَسُ) بن الحسن التميميّ، أبو الحسن البصريّ، ثقةٌ [5](ت 149)(ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 102.

4 -

(ابْنُ بُرَيْدَةَ) هو: عبد الله بن بُريدة بن الْحُصيب الأسلميّ، أبو سهل المروزيّ قاضيها، ثقةٌ [3] (ت 105) وقيل:(115) وله مائة سنة (ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 102.

5 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ الْمُغَفَّلِ) بن عُبيد بن نَهْم، أبو عبد الرحمن المزنيّ الصحابي الشهير، بايع تحت الشجرة، ونزل البصرة، ومات سنة (57) وقيل: بعد ذلك (ع) تقدم في "الطهارة" 27/ 659.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف، وأنه مسلسل بالبصريين، فابن بُريدة، وإن كان مروزيًّا، فقد سكن البصرة، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ.

شرح الحديث:

(عَنِ) عبد الله (ابْنِ بُرَيْدَةَ) مصغّرًا (قَالَ: رَأَى عَبْدُ اللهِ بْنُ الْمُغَفَّلِ) ويقال: ابن مغفّلّ، كما قال في "الخلاصة":

وَبَعْضُ الاعْلَامِ عَلَيْهِ دَخَلَا

لِلَمْحِ مَا قَدْ كَانَ عَنْهُ نُقِلَا

كَالْفَضْلِ وَالْحَارِثِ وَالنُّعْمَانِ

فَذِكْرُ ذَا وَحَذْفُهُ سِيَّانِ

(رَجُلًا) لم يُعرف اسمه، (مِنْ أَصْحَابِهِ)؛ أي: من أصحاب عبد الله بن المغفّل رضي الله عنه، وفي رواية سعيد بن جبير الآتية:"أن قريبًا لعبد الله بن مغفّل خَذَفَ. . ."، وقد بيّن ابن ماجه في روايته أنه ابن أخي عبد الله بن مغفّل، ولفظه:"عن عبد الله بن مغفّل أنه كان جالسًا إلى جنبه ابنُ أخ له، فخذف، فنهاه. . .". (يَخْذِفُ) - بخاء، فذال معجمتين، وآخره فاء - من باب ضرب؛ أي: يرمي بحصاة، أو نواة بين سبابتيه، أو بين الإبهام والسبابة، أو على ظاهر الوسطى وباطن الإبهام، وقال ابن فارس تقول: خَذَفْتُ الحصاةَ: إذا رميتها بين

ص: 280

إصبعيك، وقيل في حصى الخذف: أن يجعل الحصاة بين السبابة من اليمنى والإبهام من اليسرى، ثم يقذفها بالسبابة من اليمين، وقال ابن سيده: خَذَفَ بالشيء يَخْذِف فارسيّ، وخصّ بعضهم به الحصى، قال: والْمِخْذفة التي يوضع فيها الحجر، ويرمى بها الطير، ويُطْلَق على الْمِقلاع أيضًا، قاله في "الصحاح"

(1)

.

(فَقَالَ) عبد الله بن المغفّل (لَهُ)؛ أي: للرجل الذي خذف، (لَا) ناهية، ولذا جزم بها قوله:(تَخْذِفْ، فَإِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم) الفاء للتعليل؛ أي: إنما نهيتك عن الخذف؛ لأنه صلى الله عليه وسلم (كَانَ يَكْرَهُ - أَوْ) للشكّ من الراوي (قَالَ: - يَنْهَى عَنِ الْخَذْفِ) وفي رواية أحمد، عن وكيع:"نَهَى عن الخذف"، ولم يشكّ، وأخرجه عن محمد بن جعفر، عن كهمس بالشكّ، وبَيّن أن الشك من كهمس

(2)

، وكذلك بيّن النسائيّ أيضًا أن الشكّ من كهمس. (فَإِنَّهُ) الفاء للتعليل أيضًا؛ أي: لأن الخذف (لَا يُصْطَادُ بِهِ) بالبناء للمفعول، وفي بعض النسخ:"لا يُصاد به"(الصَّيْدُ) قال المهلّب رحمه الله: أباح الله الصيد على صفة، فقال:{تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ} الآية [المائدة: 94]، وليس الرمي بالبندقة ونحوها من ذلك، وإنما هو وَقِيذ، وأطلق الشارع أن الخذف لا يُصاد به؛ لأنه ليس من الْمُجْهِزات، وقد اتَّفَق العلماء إلا من شَذّ منهم على تحريم أكل ما قتلته البندقة، والحجر. انتهى، وإنما كان كذلك؛ لأنه يَقْتُل الصيد بقوّة راميه، لا بحدّه

(3)

.

(وَلَا يُنْكَأُ بِهِ الْعَدُوُّ) ببناء الفعل للمفعول أيضًا، قال النوويّ رحمه الله: بفتح الياء، وبالهمز في آخره، هكذا هو في الروايات المشهورة، قال القاضي عياض: كذا رويناه، قال: وفي بعض الروايات: "ينكي" بفتح الياء، وكسر الكاف، غير مهموز، قال القاضي: وهو أوجه؛ لأن المهموز، إنما هو مِن نكأت القرحة، وليس هذا موضعه إلا على تجوّز، وإنما هذا من النكاية،

(1)

"الفتح" 12/ 431 - 432، كتاب "الذبائح" رقم (5479).

(2)

"الفتح" 12/ 431 - 432، كتاب "الذبائح" رقم (5479).

(3)

"الفتح" 12/ 432، كتاب "الذبائح" رقم (5479).

ص: 281

يقال: نكيت العدوّ، وأنكيته نِكايةً، ونكأت بالهمز لغةٌ فيه، قال: فعلى هذه اللغة تتوجه رواية شيوخنا. انتهى

(1)

.

وقال في "الفتح": قوله: "ولا ينكأ به عدوٌّ" قال عياضٌ: الرواية بفتح الكاف، وبهمزة في آخره، وهي لغة، والأشهر بكسر الكاف بغير همز، وقال في "شرح مسلم":"لا ينكأ" بفتح الكاف مهموز، ورُوي:"لا ينكي" بكسر الكاف، وسكون التحتانية، وهو أوجه؛ لأن المهموز إنما هو من نكأت القرحة، وليس هذا موضعه، فإنه من النكاية.

لكن قال في "العين": نكأت لغةٌ في نكيت، فعلى هذا تتوجه هذه الرواية، قال: ومعناه: المبالغة في الأذى، وقال ابن سِيدَهْ: نكأ العدوّ نِكايةً: أصاب منه، ثم قال: نكأت العدوّ أنكؤهم لغةٌ في نكيتهم، فظهر أن الرواية صحيحة المعنى، ولا معنى لتخطئتها.

وأغرب ابن التين، فلم يُعَرِّج على الرواية التي بالهمز أصلًا، بل شرحه على التي بكسر الكاف، بغير همز، ثم قال: ونكأت القرحة بالهمز. انتهى

(2)

.

وقال الفيّوميّ: نَكأتُ القرحة أنكؤها مهموزٌ بفتحتين: قَشَرْتُها، ونكأت في العدوّ نَكْئًا، من باب نَفَعَ أيضًا لغة في نكيتُ فيه أنكي، من باب رَمَى، والاسم النكاية بالكسر: إذا قَتَلتَ، وأثخنتَ. انتهى

(3)

.

(وَلَكِنَّهُ)؛ أي: الخذف (يَكْسِرُ) بكسر السين مبنيًّا للفاعل، من باب ضرب، (السِّنَّ) أطلق السنّ، فيَشمل سنّ المرميّ وغيره من آدميّ وغيره، (وَيَفْقَأُ الْعَيْنَ) بفتح حرف المضارعة، والقاق، بينهما فاء، مهموزًا، قال المجد رحمه الله: فقأ العينَ، والبئرَ، ونحوهما، كمنع: كَسَرها، أو قَلَعها، كفقّأها، فانفقأت، وتفقّأت. انتهى

(4)

. (ثُمَّ رَآهُ)؛ أي: رأى عبد الله بن المغفّل ذلك الرجل (بَعْدَ ذَلِكَ) الوقت الذي أخبره بنهي النبيّ صلى الله عليه وسلم عن الْخَذْف (يَخْذِفُ، فَقَالَ لَهُ: أُخْبِرُكَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَكْرَهُ، أَوْ) للشكّ من الراوي، والشكّ من كهمس، كما

(1)

"إكمال المعلم" 6/ 393 - 394، و"شرح النوويّ" 13/ 105 - 106.

(2)

"الفتح" 12/ 432، كتاب "الذبائح" رقم (5479).

(3)

"المصباح المنير" 2/ 625.

(4)

"القاموس المحيط" ص 1004.

ص: 282

مرّ آنفًا (يَنْهَى عَنِ الْخَذْفِ، ثُمَّ أَرَاكَ تَخْذِفُ، لَا أُكَلِّمُكَ كَلِمَةً) بالتنوين، وقوله:(كَذَا وَكَذَا)؛ أي: مدّة من الزمان مبهمًا، ووقع في رواية سعيد بن جبير الآتية:"لا أكلّمك أبدًا"، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عبد الله بن مغفّلٍ رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [10/ 5042 و 5043 و 5044 و 5045 و 5046](1954)، و (البخاريّ) في "التفسير"(4842) و"الذبائح والصيد"(5479) و"الأدب"(6220)، و (أبو داود) في "الأدب"(5270)، و (النسائيّ) في "القسامة"(8/ 47) و"الكبرى"(7019)، و (ابن ماجه) في "المقدّمة"(17) و"الصيد"(3227)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(914 و 919)، و (الحميديّ) في "مسنده"(887)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 86 و 5/ 54 و 55 و 56)، و (الدارميّ) في "سننه"(1/ 117)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5949)، و (الحاكم) في "المستدرك"(4/ 283)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(9/ 248)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(2574 و 2575)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان تحريم الخذف؛ لكونه ضررًا محضًا.

2 -

(ومنها): بيان تعظيم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتغليظ على من خالفه، وقد ترجم ابن ماجه رحمه الله في "مقدّمة سننه" بقوله:"باب تعظيم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتغليظ على من عارضه"، ثم أورد هذا الحديث فيه، وهو ظاهر، والله تعالى أعلم.

3 -

(ومنها): أن فيه أن النهي عن الخذف؛ لأنه لا مصلحة فيه، بل يُخاف مفسدته، ويَلتحق به كلّ ما شاركه في هذا.

4 -

(ومنها): أن ما كان فيه مصلحة، أو حاجة في قتال العدوّ، وتحصيل الصيد فهو جائز.

5 -

(ومنها): جواز هجران أهل البِدَع، والفسوق، ومنابذي السنّة مع

ص: 283

العلم، وأنه يجوز هجرهم دائمًا، ولا تعارض بين هذا وبين قوله صلى الله عليه وسلم:"ولا يحلّ لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام" متّفقٌ عليه؛ لأن هذا فيمن هجر لحظّ نفسه، ومعايش الدنيا، وأما أهل البدع والفسوق، فيُهجرون دائمًا إلى أن يتوبوا، فقد هجر النبيّ صلى الله عليه وسلم كعب بن مالك، وصاحبيه الذين خُلّفوا، وأمَر بهجرهم إلى أن نزل قبول توبتهم، وكان ذلك خمسين يومًا، كما هو مشهور في "الصحيحين"، وغيرهما، والله تعالى أعلم.

6 -

(ومنها): تغيير المنكر بما يراه مناسبًا من الهجر وغيره.

7 -

(ومنها): ما قاله في "الفتح": فيه منع الرمي بالبندقة؛ لأنه إذا نَفَى الشارع أنه لا يصيد، فلا معنى للرمي به، بل فيه تعريض للحيوان بالتلَف، لغير مالكه، وقد ورد النهي عن ذلك، نعم قد يُدرك ذكاة ما رَمَى بالبندقة، فيحلّ أكله، ومن ثم اختُلِف في جوازه، فصرّح مجلي في "الذخائر" بمنعه، وبه أفتى ابن عبد السلام، وجزم النووي بحلّه؛ لأنه طريق إلى الاصطياد، والتحقيق التفصيل، فإن كان الأغلب من حال الرمي ما ذُكِر في الحديث امتنع، وإن كان عَكْسه جاز، ولا سيما إن كان المرميّ مما لا يصل إليه الرامي، إلا بذلك، ثم لا يقتله غالبًا، وقد كره الحسن في الرمي بالبندقة في القرى والأمصار، ومفهومه أنه لا يكره في الفلاة، فجعل مدار النهي على خشية إدخال الضرر، على أحد من الناس. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5043]

(. . .) - (حَدَّثَنِي أَبُو دَاوُدَ سُلَيْمَانُ بْنُ مَعْبَدٍ، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ، أَخْبَرَنَا كَهْمَسٌ، بِهَذَا الإِسْنَادِ نَحْوَهُ).

رجال هذا الإسناد: ثلاثة:

1 -

(أَبُو دَاوُدَ سُلَيْمَانُ بْنُ مَعْبَدِ) بن كوسجان المروزيّ السِّنْجيّ

(2)

ثقةٌ

(1)

"الفتح" 12/ 432 - 433، كتاب "الذبائح" رقم (5479).

(2)

بسين مهملة مكسورة، بعدها نون ساكنة، ثم جيم.

ص: 284

صاحب حديث، رَحّال، أديب [11](259)(م ت س) تقدم في "صلاة المسافرين وقصرها" 14/ 1674.

2 -

(عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ) بن فارس العَبْديّ البصريّ، أصله من بُخارى، ثقةٌ، قيل: كان يحيى سعيد لا يرضاه [9](209)(ع) تقدم في "الإيمان" 79/ 417.

و"كهمس" بن الحسن ذُكر قبله.

[تنبيه]: رواية عثمان بن عمر، عن كهمس هذه ساقها أبو عوانة رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(7735)

- حدّثنا عباس الدُّوريّ، قال: ثنا عثمان بن عمر، قال: أنبا كهمس، عن ابن بريدة، أن عبد الله بن مُغَفَّل رأى رجلًا من أصحابه يَخْذِف، فقال: لا تخذف، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم نَهَى، أو كَرِهَ الخذف، وقال:"إنه لا يصاد به صيد، ولا ينكأ به عدوّ، ولكنها تكسر السنّ، وتفقأ العين"، ثم رآه بعد ذلك يَخذف، فقال: أحدّثك أن النبيّ صلى الله عليه وسلم نَهَى، أو كره الخذف، ثم أراك تَخْذِف، لا أحدّثك حديثًا، إما قال: أبدًا، وإما قال: وقت وقتًا

(1)

. انتهى

(2)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5044]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، قَالَا: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ صُهْبَانَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُغَفَّلٍ، قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْخَذْفِ، قَالَ ابْنُ جَعْفَرٍ فِي حَدِيثِهِ: وَقَالَ: إِنَّهُ لَا يَنْكَأُ الْعَدُوَّ، وَلَا يَقْتُلُ الصَّيْدَ، وَلَكِنَّهُ يَكْسِرُ السِّنَّ، وَيَفْقَأُ الْعَيْنَ، وَقَالَ ابْنُ مَهْدِيٍّ: إِنَّهَا لَا تَنْكَأُ الْعَدُوَّ، وَلَمْ يَذْكُرْ تَفْقَأُ الْعَيْنَ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ) تقدّم قبل أربعة أبواب.

2 -

(قَتَادَةُ) بن دِعامة السَّدُوسيّ، أبو الخطّاب البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ، يُدلّس، رأس [4](117)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 70.

(1)

هكذا النسخة "وقت وقتًا" مكرّرًا، والظاهر أن اللفظ الأول زائد، فليُحرّر والله تعالى أعلم.

(2)

"مسند أبي عوانة" 5/ 47.

ص: 285

3 -

(عُقْبَةُ بْنُ صُهْبَانَ) - بضمّ الصاد المهملة، وسكون الهاء، بعدها موحّدة - الْحُدّانيّ، وقيل: الراسبيّ، وقيل: الْهُنَائيّ، وهُنَاة، وحُدّان، وراسب، من الأزد، البصريّ، ثقة [3].

رَوَى عن عثمان، وعياض بن حمار، وعبد الله بن مغفل، وأبي بكرة الثقفيّ، وعائشة.

وروى عنه قتادة، والصَّلْت بن دينار، وأبو الحسن العبديّ، وعليّ بن زيد بن جُدْعان، وأبو سليمان العَصَريّ.

قال العجليّ، وأبو داود، والنسائيّ: ثقةٌ، وقال ابن سعد: تُوُفّي في أول ولاية الحَجاج على العراق، وكان ثقةً، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وأَرَّخ ابن قانع وفاته سنة (82).

أخرج له البخاريّ، والمصنّف، وأبو داود، وابن ماجه أخرجوا له جميعًا هذا الحديث فقط، وأخرج له ابن ماجه حديثًا آخر، والبخاريّ في "خلق أفعال العباد" حديثًا آخر.

والباقون ذُكروا في الباب، والباب الماضي.

[تنبيه]: رواية محمد بن جعفر، عن شعبة ساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(20559)

- حدّثنا عبد الله

(1)

، حدّثني أبي، ثنا يحيى بن سعيد، عن شعبة، ومحمدُ بن جعفر: ثنا شعبة، ثنا قتادة، عن عقبة بن صُهبان، عن ابن مغفل: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نَهَى عن الخذف، وقال:"إنه لا ينكأ عدوًّا، ولا يصيد صيدًا، ولكنه يكسر السنّ، ويفقأ العين". انتهى

(2)

.

وأما رواية عبد الرحمن بن مهديّ، عن شعبة، فلم أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم.

(1)

هو: ولد الإمام أحمد راوي "المسند" عنه.

(2)

"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 5/ 54.

ص: 286

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5045]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، أَنَّ قَرِيبًا لِعَبْدِ اللهِ بْنِ مُغَفَّلٍ خَذَفَ، قَالَ: فَنَهَاهُ، وَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنِ الْخَذْفِ، وَقَالَ: "إِنَّهَا لَا تَصِيدُ صَيْدًا، وَلَا تَنْكَأُ عَدُوًّا، وَلَكِنَّهَا تَكْسِرُ السِّنَّ، وَتَفْقَأُ الْعَيْنَ"، قَالَ: فَعَادَ، فَقَالَ: أُحَدِّثُكَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْهُ، ثُمَّ تَخْذِفُ، لَا أُكَلِّمُكَ أَبَدًا).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

وكلّهم ذُكروا في الباب، وقبل باب، و"أيوب" هو: السَّخْتيانيّ، والحديث متّفقٌ عليه، وقد تقدّم البحث فيه مستوفًى قبل حديثين، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5046]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَاهُ ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا الثَّقَفِيُّ، عَنْ أَيُّوبَ، بِهَذَا الإِسْنَادِ نَحْوَهُ).

رجال هذا الإسناد: ثلاثة:

1 -

(الثَّقَفِيُّ) عبد الوهّاب بن عبد المجيد بن الصَّلْت، أبو محمد البصريّ، ثقةٌ [8](ت 194) عن نحو (80) سنة (ع) تقدم في "الإيمان" 17/ 173.

والباقيان ذُكرا في الباب، وقبله، و"ابن أبي عمر" هو: محمد بن يحيى بن أبي عمر الْعَدنيّ، ثم المكيّ، و"أيوب" هو السَّختيانيّ.

[تنبيه]: رواية عبد الوهّاب الثقفيّ، عن أيوب هذه ساقها ابن ماجه رحمه الله في "سننه، فقال:

(17)

- حدّثنا أحمد بن ثابت الْجَحْدريّ، وأبو عمرو حفص بن عُمَر، قالا: ثنا عبد الوهاب الثقفيّ، ثنا أيوب، عن سعيد بنِ جبير، عن عبد الله بن مُغَفَّل أنه كان جالسًا إلى جنبه ابنُ أخ له، فخَذَفَ، فنهاه، وقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نَهَى عنها، وقال:"إنها لا تصيد صيدًا، ولا تنكي عدوًّا، وإنها تكسر السنّ، وتفقأ العين"، قال: فعاد ابن أخيه يخذف، فقال:

ص: 287

أحدّثك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نَهَى عنها، ثم عُدت تخذف، لا أكلّمك أبدًا. انتهى

(1)

.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(11) - (بَابُ الأَمْرِ بِإِحْسَانِ الذَّبْحِ وَالْقَتْلِ، وَتَحْدِيدِ الشَّفْرَةِ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5047]

(1955) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ خَالِدٍ الْحَذاءِ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَبِي الأَشْعَثِ، عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ، قَالَ: ثِنْتَانِ حَفِظْتُهُمَا عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "إِنَّ اللهَ كَتَبَ الإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذَّبْحَ، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ، فَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(خَالِدٌ الْحَذَّاءُ) ابن مِهْرَان، أبو الْمَنَازل - بضمّ الميم، أو فتحها، وكسر الزاي - البصريّ، ثقة حافظٌ يرسل، وتغيّر في الآخر [5](1 أو 142)(ع) تقدم في "الإيمان" 10/ 144.

2 -

(أَبُو قِلَابَةَ) عبد الله بن زيد بن عمرو، أو عامر الْجَرْميّ البصريّ، ثقةٌ فاضلٌ، كثير الإرسال، فيه نَصْبٌ يسير [3](ت 104) أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 17/ 173.

3 -

(أَبُو الأَشْعَثِ) شَرَاحيل بن آدة الصنعانيّ، ويقال: آدة جدّ أبيه، وهو شَرَاحيل بن شُرَحبيل بن كُليب، ثقةٌ، شَهِد فتح دمشق [2](بخ م 4) تقدم في "البيوع" 36/ 4054.

4 -

(شَدَّادُ بْنُ أَوْسِ) بن ثابت الأنصاريّ النجّاريّ، أبو يعلى، ويقال: أبو عبد الرحمن المدنيّ الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما.

رَوَى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعن كعب الأحبار، وروى عنه ابناه: يعلى ومحمد، وبُشَير بن كعب الْعَدويّ، وضمرة بن حبيب، وجُبير بن نُفير،

(1)

"سنن ابن ماجه" 1/ 8.

ص: 288

وعبد الرحمن بن غَنْم، ومحمود بن الربيع، ومحمود بن لَبِيد، وأبو الأشعث الصنعانيّ، وأبو أسماء الرَّحَبيّ، وجماعة.

قال البخاريّ: قال بعضهم: شَهِد بدرًا، ولم يصحّ، وقال ابن الْبَرْقيّ: كان أوس بن ثابت شَهِد بدرًا، واستُشهد يوم أُحد، وتُوُفّي شداد بن أوس بالشام، وقال الطبرانيّ: أوس بن ثابت عَقَبيّ، وهو أخو حسان، وهو أبو شداد، وقال عبادة بن الصامت: شداد بن أوس من الذين أوتوا العلم والحلم.

وقال ابن جَوْصاء عن محمد بن عبد الوهاب بن محمد بن عَمْرو بن محمد بن شداد: حدّثني أبي، عن أبيه، عن جدّه، فذكر قصة فيها: وتُوُفّي شداد سنة أربع وستين، وقال ابن سعد، وغير واحد: مات بالشام سنة (58) وهو ابن خمس وسبعين سنةً، وقال ابن عبد البرّ: يقال: مات سنة (41)، ويقال: سنة (64)، وقال ابن حبان: قبره ببيت المقدس، ومات سنة (58)، وقال أبو نعيم في "الصحابة": تُوُفّي بفلسطين في أيام معاوية، وعَقِبُهُ ببيت المقدس.

أخرج له الجماعة، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.

والباقيان تقدّما في الباب الماضي.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه سُداسيّات المصنّف، وفيه ثلاثة من التابعين، روى بعضهم عن بعض: خالد الحذّاء، عن أبي قِلابة، عن أبي الأشعث، وأن صحابيّه ابن صحابيّ رضي الله عنهما.

شرح الحديث:

(عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسِ) بن ثابت الأنصاريّ رضي الله عنهما، أنه (قَالَ: ثِنْتَانِ)؛ أي: خصلتان اثنتان، وهما: إحسان القِتلة، وإحسان الذبحة، (حَفِظْتُهُمَا عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم)؛ أي: سمعتهما منه صلى الله عليه وسلم، دون واسطة، فحفظتهما، (قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("إِنَّ اللهَ كتَبَ)؛ أي: أمَر به، وحضّ عليه، وأصل "كتب": أثبت، وجمع، ومنه قوله تعالى:{كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ} [المجادلة: 22]؛ أي: ثبّته، وجَمَعه، ومنه كَتَبتُ البغلةَ: إذا جَمَعْتَ حياءها. (الإِحْسَانَ) بكسر الهمزة، مصدر أحسن، قال القرطبيّ رحمه الله: و"الإحسان " هنا: بمعنى الإحكام،

ص: 289

والإكمال، والتحسين في الأعمال المشروعة، فحقّ من شَرَع في شيء منها أن يأتي به على غاية كماله، ويُحافظ على آدابه المصحّحة، والمكمّلة، وإذا فعل ذلك قُبل عمله، وكثُر ثوابه. (عَلَى كُلِّ شَيْءٍ)"على" هنا بمعنى "في"، كما في قوله تعالى:{وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} الآية [البقرة: 102]؛ أي: في ملكه، ويقال: كان كذا على عهد فلان؛ أي: في عهده، حكاه الْقُتبيّ. فـ (إِذَا قَتَلْتُمْ)؛ أي: شرعتم في قتل شيء، (فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ) قال القرطبيّ: بكسر القاف، هي الرواية، وهي هيئة القتل، و"القَتْلَةُ" بالفتح مصدر قَتَل المحدود، وكذلك الرِّكْبَةُ، والْمِشْيَةُ الكسر للاسم، والفتح للمصدر.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: المراد أن المفتوح للمرة، والمكسور للهيئة، كما قال ابن مالك في "الخلاصة":

وَفَعْلَةٌ لِمَرَّةٍ كَـ "جَلْسَهْ"

وَفِعْلَةٌ لِهَيْئَةٍ كَـ "جِلْسَهْ"

وقال النوويّ: الْقِتْلة بكسر القاف: هي الهيئة، والحالة

(1)

.

(وَإِذَا ذَبَحْتُمْ)؛ أي: شرعتم في ذبح الحيوان، (فَأَحْسِنُوا الذَّبْحَ) بفتح الذال المعجمة، وسكون الموحّدة: أصله: الشقّ، والقطع، قال الشاعر [من الرجز]:

كَأَنَّ بَيْنَ فَكِّهَا وَالْفَكِّ

فَأْرَةَ مِسْكٍ ذُبِحَتْ فِي سُكّ

وقال النوويّ رحمه الله: وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "فأحسنوا الذبح" فوقع في كثير من النُّسخ، أو أكثرها:"فأحسنوا الذبح" بفتح الذال بغير هاء، وفي بعضها:"الذِّبْحَةَ" بكسر الذال، وبالهاء، كالْقِتلة، وهي الهيئة، والحالة أيضًا. انتهى

(2)

.

(وَلْيُحِدَّ) بضمّ أوّله، وكسر ثالثه، من الإحداد، أو من التحديد، يقال: أحدّ السكّينَ، وحدّدها، واستحدّها: بمعنىً. ويجوز أن يكون بفتح أوله، وضمّ ثالثه، من الحدّ، من باب قتل، وقال الفيّوميّ: حَدَّ السّيفُ وغيرُهُ يَحِدّ، من باب ضرب حِدَّةً، فهو حديد، وحادّ؛ أي: قاطعٌ ماضٍ، ويُعدّى بالهمزة، والتضعيف، فيقال: أحددته، وحَدَّدته، وفي لغة يتعدّى بالحركة، فيقال: حَدَدته أَحُدُّهُ، من باب قَتَل. انتهى

(3)

.

(1)

"شرح النوويّ" 13/ 107.

(2)

"شرح النوويّ" 13/ 107.

(3)

"المصباح المنير" 1/ 125.

ص: 290

والمعنى هنا؛ أي: ليجعله حَادًّا، سريع القطع.

وقال النوويّ رحمه الله: قوله: "ولْيُحِدّ" هو بضم الياء، يقال: أَحَدَّ السكينَ، وحدّدها، واستحدّها بمعنى.

(أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ) - بفتح الشين المعجمة، وسكون الفاء -: الْمُدية، وهي السكّين العريض، والجمع شِفَار، مثلُ كَلْبة وكِلاب، وشَفَرَات، مثلُ سَجْدة وسَجَدَات، أفاده الفيّوميّ

(1)

.

(فَلْيُرِحْ) بضم أوله، من الإراحة، (ذَبِيحَتَهُ") فَعِيلة بمعنى مفعولة؛ أي: مذبوحته، وجَمْعها ذبائح، ككريمة وكَرائم. فقوله:"وليُحدّ" تفسير لمعنى الإحسان إلى الذبيحة.

قال النوويّ رحمه الله: قوله: "ولْيُرِح ذبيحته"؛ أي: بإحداد السكين، وتعجيل إمرارها، وغير ذلك، ويستحبّ أن لا يُحِدّ السكين بحضرة الذبيحة، وأن لا يذبح واحدة بحضرة أخرى، ولا يَجُرّها إلى مذبحها.

قال: وقوله صلى الله عليه وسلم: "فأحسنوا القِتلة" عامّ في كل قتيل من الذبائح، والقتل قصاصًا، وفي حدّ، ونحو ذلك، وهذا الحديث من الأحاديث الجامعة لقواعد الإسلام، والله أعلم. انتهى

(2)

.

وقال القرطبيّ: وإحسان الذبح في البهائم: الرفقُ بالبهيمة، فلا يصرعها بعنف، ولا يجُرّها من موضع إلى موضع، وإحداد الآلة، وإحضار نيّة الإباحة والقربة، وتوجيهها إلى القبلة، والتسمية، والإجهاز، وقطع الودجين، والحلقوم، وإراحتها، وتركها إلى أن تبرُد، والاعتراف لله تعالى بالمنّة، والشكر له على النعمة بأنه سخّر لنا ما لو شاء لسلّطه علينا، وأباح لنا ما لو شاء لحرّمه علينا. وقال ربيعة: من إحسان الذبح ألا تذبح بهيمة، وأُخرى تنظر. وحُكي جوازه عن مالك، والأول أَولى.

ثم قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا قتلتم، فأحسنوا الْقِتلة" يُحمل على عمومه في كلّ شيء، من التذكية، والقصاص، والحدود، وغيرها، ولْيُجْهِز في ذلك، ولا

(1)

"المصباح المنير" 1/ 317.

(2)

"شرح النوويّ" 13/ 107.

ص: 291

يقصد التعذيب. انتهى كلام القرطبيّ

(1)

، وهو بحث مفيدٌ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث شدّاد بن أوس رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [11/ 5047 و 5048](1955)، و (أبو داود) في "الضحايا"(2815)، و (الترمذيّ) في "الديات"(1409)، و (النسائيّ) في "الضحايا"(7/ 227 و 229) و"الكبرى"(3/ 62 و 5/ 199)، و (ابن ماجه) في "الذبائح"(1370)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(8604)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1119)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(5/ 455)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 123 و 124 و 125)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 82)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5883 و 5884)، و (أبو القاسم البغويّ) في "مسند عليّ بن الجعد"(1301)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(7115 و 7116 و 7117 و 7118 و 7119 و 7120)، و (أبو عوانة) في " مسنده"(5/ 48 و 49 و 50)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(3/ 184)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(839 و 899)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(9/ 280)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(2783)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان الأمر بإحسان الذبح، والقتل، بإحداد الشَّفْرة.

2 -

(ومنها): ما قاله النوويّ رحمه الله: هذا الحديث من الأحاديث الجامعة لقواعد الإسلام.

3 -

(ومنها): لُطف الله تعالى بعباده، ورحمته، ورأفته حيث كتب الإحسان على كلّ شيء، وأمَر المكلّفين أن يُحسنوا إلى كلّ شيء، حتى

(1)

"المفهم" 5/ 240 - 242.

ص: 292

البهائم، فكما شرع معاقبة المجرم على إجرامه رحمة بمن أجرم بهم، أمر بأن يُحسَنَ إليه فيما عدا إجرامه، فلا يُمنع مَن وَجَب عليه القتل حدًّا، أو قصاصًا من الطعام، والشراب، وسائر ما يستمتع به من ملاذّ الحياة، حتى يقام عليه الحدّ، وهذا من عظيم لطف الله تعالى، وواسع كرمه، {وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الجمعة: 4].

4 -

(ومنها): ما قاله ابن أبي جمرة رحمه الله: فيه رحمة الله لعباده، حتى في حال القتل، فأمر بالقتل، وأمر بالرفق، ويؤخذ منه قهره لجميع عباده؛ لأنه لم يترك لأحد التصرّف في شيء، إلا وقد حدّ له فيه كيفيّة. انتهى، ذَكَره في "الفتح"

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5048]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَاهُ يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ (ح) وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا عبد الوَهَّابِ الثَّقَفِيُّ (ح) وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ نَافِعٍ، حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ (ح) وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ الرّحْمَنِ الدَّارِمِيُّ، أَخْبَرنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، عَنْ سُفْيَانَ (ح) وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، كُلُّ هَؤُلَاءِ عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ، بِإِسْنَادِ حَدِيثِ ابْنِ عُلَيَّةَ، وَمَعْنَى حَدِيثِهِ).

رجال هذا الإسناد: ثلاثة عشر:

1 -

(هُشَيْمُ) بن بَشِير تقدّم قريبًا.

2 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ الرّحْمَنِ الدَّارِمِيُّ) أبو محمد السَّمَرْقنديّ الحافظ، صاحب "المسند" ثقةٌ متقنٌ فاضلٌ [11](ت 255)(م د ت) تقدم في "المقدمة" 5/ 29.

3 -

(مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ) بن واقد بن عثمان الضبّيّ مولاهم الْفِريابيّ، ثقةٌ فاضلٌ [9](ت 212)(ع) تقدم في "القسامة" 2/ 4349.

4 -

(سُفْيَانُ) بن سعيد بن مسروق الثوريّ، أبو عبد الله الكوفيّ الإمام الثبت الحجة المشهور، من رؤوس [7](ت 161)(ع) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.

5 -

(جَرِيرُ) بن عبد الحميد بن قُرط الضبيّ، تقدّم قريبًا.

(1)

"الفتح" 11/ 75.

ص: 293

6 -

(مَنْصُورُ) بن المعتمر، تقدّم أيضًا قريبًا.

والباقون تقدّموا في الباب، والأبواب الثلاثة قبله.

وقوله: (كُلُّ هَؤُلَاءِ عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ)؛ يعني: أن هؤلاء الخمسة، وهم: هشيم، وعبد الوهّاب الثقفيّ، وشعبة، وسفيان الثوريّ، ومنصور بن المعتمر رووا هذا الحديث عن خالد الحذّاء، عن أبي قلابة، عن أبي الأشعث الصنعانيّ، عن شدّاد بن أوس رضي الله عنهما.

[تنبيه]: رواية هشيم بن بَشِير، عن خالد الحذّاء ساقها الترمذيّ رحمه الله في "جامعه"، فقال:

(1409)

- حدّثنا أحمد بن منيع، حدّثنا هُشيم، حدّثنا خالد، عن أبي قلابة، عن أبي الأشعث الصنعانيّ، عن شدّاد بن أوس: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله كَتَب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا الْقِتلةَ، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذِّبْحة، ولْيُحِدّ أحدكم شَفْرته، ولْيُرِح ذبيحته"، قال: هذا حديث حسن صحيحٌ، أبو الأشعث الصنعانيّ اسمه: شُرَحبيل بن آدة. انتهى

(1)

.

وأما رواية عبد الوهّاب الثقفيّ عن خالد الحذّاء، فقد ساقها الطحاويّ رحمه الله في "شرح معاني الآثار"، فقال:

حدّثنا إسماعيل بن يحيى المزنيّ، قال: ثنا محمد بن إدريس الشافعيّ، قال: أخبرنا عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفيّ، عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن أبي الأشعث، عن شدّاد بن أوس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا الْقِتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح، ولْيُحِدّ أحدكم شفرته، ولْيُرِح ذبيحته". انتهى

(2)

.

وأما رواية شعبة، عن خالد، فقد ساقها أبو داود في "سننه"، فقال:

(2815)

- حدّثنا مسلم بن إبراهيم، ثنا شعبة، عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن أبي الأشعث، عن شداد بن أوس، قال: خصلتان سمعتهما من رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا -

(1)

"جامع الترمذيّ" 4/ 23.

(2)

"شرح معاني الآثار" للطحاويّ رحمه الله 3/ 184.

ص: 294

قال غير مسلم: يقول -: فأحسنوا الْقِتَلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح، وليحدّ أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته". انتهى

(1)

.

وأما رواية سفيان الثوريّ، عن خالد الحذّاء، فقد ساقها الدارميّ رحمه الله في "سننه"، فقال:

(1970)

- حدّثنا محمد بن يوسف، عن سفيان، عن خالد الحذّاء، عن أبي قلابة، عن أبي الأشعث الصنعانيّ، عن شدّاد بن أوس، قال: حَفِظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم اثنتين، قال:"إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا الْقِتْلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح، ولْيُحدد أحدكم شفرته، ثم لْيُرِح ذبيحته". انتهى

(2)

.

وأما رواية منصور، عن خالد، فقد ساقها البيهقيّ رحمه الله، في "الكبرى"، فقال:

(8658)

- أنبأ أحمد بن سليمان، قال: حدّثنا حسين بن عليّ، عن زائدة، عن منصور، عن خالد الحذّاء، عن أبي قلابة، عن أبي الأشعث، عن شدّاد بن أوس، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا الْقِتْلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح، وليحدّ أحدكم شفرته، ولْيُرِح ذبيحته". انتهى

(3)

.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(12) - (بَابُ النَّهْيِ عَنْ صَبْرِ الْبَهَائِمِ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5049]

(1956) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: سَمِعْتُ هِشَامَ بْنَ زيدِ بْنِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: دَخَلْتُ مَعَ جَدِّي أنَسِ بْنِ مَالِكٍ دَارَ الْحَكَمِ بْنِ أَيُّوبَ، فَإِذَا قَوْمٌ فَدْ نَصَبُوا دَجَاجَةً يَرْمُونَهَا، قَالَ: فَقَالَ أَنَسٌ: نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ تُصْبَرَ الْبَهَائِمُ).

(1)

"سنن أبي داود" 3/ 100.

(2)

"سنن الدارميّ" 2/ 112.

(3)

"السنن الكبرى" للبيهقيّ 5/ 199.

ص: 295

رجال هذا الإسناد: خمسة:

وقد تقدّم السند نفسه قبل باب.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف، وأنه مسلسلٌ بالتحديث، والسماع، وفيه أنس رضي الله عنه من المكثرين السبعة.

شرح الحديث:

عَنْ هِشَامِ بْنِ زَيْدِ بْن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أنه (قَالَ: دَخَلْتُ مَعَ جَدِّي أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ) رضي الله عنه (دَارَ الْحَكَمِ بْنِ أَيُّوبَ)؛ يعني: ابن أبي عُقَيل الثقفيّ، ابن عم الحجاج بن يوسف، ونائبه على البصرة، وزوج أخته زينب بنت يوسف، وهو الذي يقول فيه جرير يمدحه:

حَتَّى أَنَخْنَاهَا عَلَى بَابِ الْحَكَمِ

خَلِيفَةِ الْحَجَّاجِ غَيْرِ الْمُتَّهَمِ

وقع ذِكْره في عدّة أحاديث، وكان يضاهي في الْجَوْر ابن عمه، وليزيد الضبيّ معه قِصّة طويلة، تدلّ على ذلك، أوردها أبو يعلى الموصلي في مسند أنس له.

ووقع في رواية الإسماعيليّ بلفظ: "خرجت مع أنس بن مالك، من دار الحكم بن أيوب، أمير البصرة".

(فَإِذَا) هي الْفُجائيّة؛ أي: ففاجأني (قَوْمٌ) وفي رواية البخاريّ: "فرأى غلمانًا، أو فِتيانًا"، بالشكّ، قال في "الفتح": لم أقف على أسمائهم، وظاهر السياق أنهم من أتباع الحكم بن أيوب المذكور. انتهى

(1)

.

(قَدْ نَصَبُوا دَجَاجَةً) قال الفيّوميّ رحمه الله: الدَّجَاج معروفٌ، وتُفتح الدال، وتُكسر، ومنهم من يقول: الكسر لغة قليلة، والجمع دُجُجٌ، مثلُ عَناق وعُنُق، أو كتاب وكُتُب، وربّما جُمع على دجائج. انتهى

(2)

.

وقال في "الفتح": الدجاج: اسم جنس، مثلّث الدال، ذكره المنذريّ في "الحاشية"، وابن مالك، وغيرهما، ولم يَحْكِ النوويّ الضم، والواحدة دجاجة

(1)

"الفتح" 12/ 490.

(2)

"المصباح المنير" 1/ 189.

ص: 296

مثلّث أيضًا، وقيل: إن الضم فيه ضعيف، قال الجوهريّ: دخلتها الهاء للوحدة، مثل الحمامة، وأفاد إبراهيم الحربيّ في "غريب الحديث" أن الدجاج بالكسر اسم للذُّكران، دون الإناث، والواحد منها دِيكٌ، وبالفتح الإناث، دون الذكران، والواحدة دَجاجة بالفتح أيضًا، قال: وسُمّي لإسراعه في الإقبال والإدبار، من دَجّ يَدِجّ: إذا أسرع، ودَجاجةُ: اسم امرأة، وهي بالفتح فقط، ويُسَمّى بها الْكُبّة من الغزل. انتهى

(1)

.

وقوله: (يَرْمُونَهَا) جملة في محل نصب صفة لـ "دجاجةً". (قَالَ) هشام (فَقَالَ أَنَسٌ) رضي الله عنه (نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ تُصْبَرَ الْبَهَائِمُ) ببناء الفعل للمفعول؛ أي: تُحبس لِتُرْمَى حتى تموت، وفي رواية الإسماعيليّ من هذا الوجه بلفظ:"سمعت أنس بن مالك يقول: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صَبْر الروح"، وأصل الصبر: الحبسُ، وأخرج الْعُقيليّ في "الضعفاء" من طريق الحسن، عن سَمُرة قال:"نَهَى النبيّ صلى الله عليه وسلم أن تُصْبَر البهيمة، وأن يؤكل لحمها إذا صُبِرت"، قال العقيليّ: جاء في النهي عن صبر البهيمة أحاديث جياد، وأما النهي عن أكلها فلا يُعْرَف إلا في هذا، قال الحافظ: إن ثبت فهو محمول على أنها ماتت بذلك بغير تذكية، كما تقدم في المقتول بالبندقة. انتهى

(2)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أنس رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [12/ 5049 و 5050](1956)، و (البخاريّ) في "الذبائح"(5513)، و (أبو داود) في "الضحايا"(2816)، و (النسائيّ) في "الضحايا"(7/ 238) و"الكبرى"(3/ 72)، و (ابن ماجه) في "الذبائح"(3186)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(4/ 258)، و (أحمد) في "مسنده" (3/

(1)

"الفتح" 12/ 493 - 494 رقم (5517).

(2)

"الفتح" 12/ 493 - 494 رقم (5517).

ص: 297

117 و 171 و 180 و 191)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(1/ 226)، (وأبو عوانة) في "مسنده"(5/ 51 و 52)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(3/ 183)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(9/ 334)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان النهي عن صبر البهائم، وهو معنى النهي عن المجثّمة.

2 -

(ومنها): تحريم تعذيب الحيوان: الآدميّ، أو غيره.

3 -

(ومنها): ما قاله الحافظ العراقيّ: فيه تحريم أكل المصبورة؛ لأنه قَتْل مقدور عليه بغير ذكاة شرعية، قال العينيّ: فإن أُدركت، وذُكّيت فلا بأس، كما في المقتول بالبندقة. انتهى

(1)

.

4 -

(ومنها): أن فيه قوّةَ أنس رضي الله عنه على الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، مع معرفته بشدّة الأمير المذكور، لكن كان الخليفة عبد الملك بن مروان، نهى الحجّاج عن التعرّض له، بعد أن كان صدر من الحجّاج في حقّه خشونة، فشكاه لعبد الملك، فأغلظ للحجّاج، وأمَره بإكرامه، قاله في "الفتح"

(2)

، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5050]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِيهِ زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ (ح) وَحَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ حَبِيبٍ، حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ (ح) وَحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، كُلُّهُمْ عَنْ شُعْبَةَ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ).

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(أَبُو كُرَيْبٍ) محمد بن العلاء، تقدّم قبل أربعة أبواب.

2 -

(أَبُو أُسَامَةَ) حماد بن أسامة، تقدّم أيضًا قبل أربعة أبواب.

والباقون ذُكروا في الباب، والأبواب الثلاثة قبله.

وقوله: (كُلُّهُمْ عَنْ شُعْبَةَ)؛ أي: كلّ هؤلاء الثلاثة: يحيى بن سعيد القطّان، وعبد الرحمن بن مهديّ، وخالد بن الحارث الْهُجَيميّ رووا هذا

(1)

"عمدة القاري" 21/ 124.

(2)

"الفتح" 12/ 490 رقم (5517).

ص: 298

الحديث عن شعبة، عن هشام بن زيد بن أنس، عن جدّه أنس بن مالك رضي الله عنه.

[تنبيه]: رواية يحيى بن القطّان عن شعبة ساقها ابن الجارود في "المنتقى"، فقال:

(898)

- حدّثنا عبد الله بن هاشم، قال: ثنا يحيى - يعني: ابن سعيد - عن شعبة، قال: ثنا هشام بن زيد، قال: سمعت أنسًا رضي الله عنه يقول: نَهَى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تُصْبَر البهائم. انتهى

(1)

.

وأما رواية خالد بن الحارث، عن شعبة، فقد ساقها النسائيّ رحمه الله في "الكبرى"، فقال:

(4528)

- أخبرنا إسماعيل بن مسعود، قال: حدّثنا خالد، عن شعبة، عن هشام بن زيد، قال: دخلت على الحكم - يعني: ابن أيوب - فإذا أناس يرمون دجاجة في دار الأمير، فقال: نَهَى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تصبر البهائم. انتهى

(2)

.

وأما رواية عبد الرحمن بن مهديّ، عن شعبة، فلم أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5051]

(1957) - (وَحَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَدِيٍّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا تَتَّخِذُوا شَيْئًا فِيهِ الرُّوحُ غَرَضًا").

رجال هذا الإسناد: ستّةٌ:

1 -

(عَدِيُّ) بن ثابت الأنصاريّ البصريّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(ابْنُ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما تقدّم قبل بابين.

والباقون ذُكروا في الباب، وقبل باب.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من سُداسيّات المصنّف، وأنه مسلسل بالبصريين، وفيه رواية تابعيّ

(1)

"المنتقى" لابن الجارود 1/ 226.

(2)

"السنن الكبرى" 3/ 72.

ص: 299

عن تابعيّ، وفيه ابن عبّاس رضي الله عنهما حبر الأمة، وبحرها، وأحد العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة، روى (1696) حديثًا.

شرح الحديث:

(عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا) ناهية، ولذا جُزم بها قوله:(تَتَّخِذُوا) بحذف النون، (شَيْئًا فِيهِ الرُّوحُ غَرَضًا") - بغين معجمة، وراء مفتوحتين، آخره ضاد معجمة -؛ أي: هَدَفًا منصوبًا للرمي؛ أي: لا تتخذوا الحيوان الحيّ غرضًا، ترمون إليه كالغرَض من الجلود وغيرها، وهذا النهي للتحريم، ولهذا قال في حديث ابن عمر رضي الله عنهما:"لعن الله مَن فَعَلَ هذا"، ولأنه تعذيب للحيوان، وإتلاف لنفسه، وتضييع لماليّته، وتفويتٌ لذكاته، إن كان مُذكّى، ولمنفعته إن لم يكن مذكّى، قاله النوويّ

(1)

.

وقال في "الفتح": فيه دليل على تحريم التمثيل بالحيوان؛ لأن اللعن من دلائل التحريم. وأخرج أحمد من طريق أبي صالح الحنفيّ، عن رجل من الصحابة، أراه عن ابن عمر، رفعه:"من مثَّل بذي رُوح، ثم لم يتب، مثَّل الله به يوم القيامة"، رجاله ثقات. انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله، وعلّقه البخاريّ بإثر حديث رقم (5515).

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [12/ 5051 و 5052](1957)، و (الترمذيّ) في "الأطعمة"(1475)، و (النسائيّ) في "الأضاحي"(7/ 238 و 239) و"الكبرى"(3/ 72)، و (ابن ماجه) في "الذبائح"(3187)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1/ 341)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 274 و 280 و 285 و 340 و 345)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5608)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(12262)،

(1)

"شرح النوويّ" 13/ 109.

ص: 300

و (أبو عوانة) في "مسنده"(5/ 52)، و (ابن الجعد) في "مسنده"(1/ 85)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(3/ 181)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(9/ 70)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(2784)، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5052]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، عَنْ شُعْبَةَ، بِهَذَا الإِسْنَادِ مِثْلَهُ).

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ) بُندار، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

والباقون ذُكروا قبله.

[تنبيه]: رواية محمد بن جعفر، عن شعبة هذه ساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(2586)

- حدّثنا عبد الله، حدّثني أبي، ثنا محمد بن جعفر، ثنا شعبة، عن عديّ بن ثابت، قال: سمعت سعيد بن جبير يحدِّث عن ابن عباس، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال:"لا تتخذوا شيئًا فيه الروح غَرَضًا". انتهى

(1)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5053]

(1958) - (وَحَدَّثَنَا شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ، وَأَبُو كَامِلٍ - وَاللَّفْظُ لأَبِي كَامِلٍ - قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: مَرَّ ابْنُ عُمَرَ بِنَفَرٍ، قَدْ نَصَبُوا دَجَاجَةً يَتَرَامَوْنَهَا

(2)

، فَلَمَّا رَأَوُا ابْنَ عُمَرَ تَفَرَّقُوا عَنْهَا، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: مَنْ فَعَلَ هَذَا؟، إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَعَنَ مَنْ فَعَلَ هَذَا).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ) أبو محمد الأُبُلّيّ، صدوقٌ يَهِمُ، ورُمي بالقدر، من صغار [9](ت 5 أو 236)(م د س) تقدم في "الإيمان" 12/ 157.

والباقون ذُكروا في الباب، وقبل بابين، و"أبو كامل" هو: فضيل بن

(1)

"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 1/ 285.

(2)

وفي نسخة: "يرمونها".

ص: 301

حسين الْجَحْدريّ، و"أبو بشر" هو: جعفر بن إياس، و"أبو معاوية" هو: محمد بن خازم.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيات المصنف وفيه رواية تابعي عن تابعيّ: أبو بشر، عن سعيد بن جبير، وفيه ابن عمر رضي الله عنهما أحد العبادلة الأربعة، وأحد المكثرين السبعة، روى (2630) حديثًا، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ) أنه (قَالَ: مَرَّ ابْنُ عُمَرَ) بن الخطّاب رضي الله عنهما (بِنَفَرٍ)؛ أي: جماعة، (قَدْ نَصَبُوا دَجَاجَةً) وفي الرواية التالية:"قد نصبوا طيرًا يرمونه"، (يَتَرَامَوْنَهَا)؛ أي: يتسابقون في الرمي إليها، وفي بعض النسخ:"يرمونها"، (فَلَمَّا رَأَوُا ابْنَ عُمَرَ) رضي الله عنهما (تَفَرَّقُوا عَنْهَا)؛ أي: عن تلك الدجاجة، (فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ) رضي الله عنهما (مَنْ فَعَلَ هَذَا؟)"من" استفهاميّة، والاستفهام للإنكار، (إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم) بكسر همزة "إن"؛ لوقوعها في الابتداء، (لَعَنَ)؛ أي: دعا عليه بأن يطرده الله تعالى من رحمته، وهذا يدلّ على أن هذا الفعل حرام؛ لاستحقاق اللعن به، (مَنْ فَعَلَ هَذَا)"من" موصولة مفعول "لَعَنَ".

وفي رواية البخاريّ: قال: كنت عند ابن عمر، فمروا بفتية، أو بنفر، نصبوا دجاجة، يرمونها، فلما رأوا ابن عمر تفرقوا عنها، وقال ابن عمر: من فعل هذا؟، إن النبيّ صلى الله عليه وسلم، لعن من فعل هذا، وفي رواية الإسماعيليّ:"فإذا فتية نصبوا دجاجة، يرمونها، وله كلّ خاطئة". يعني أن الذي يصيبها يأخذ السهم الذي تُرمَى به إذا لم يصبها.

وفي البخاريّ أيضًا من طريق إسحاق بن سعيد بن عمرو، عن أبيه، أنه سمعه يحدّث، عن ابن عمر رضي الله عنهما، أنه دخل على يحيى بن سعيد، وغلام من بني يحيى، رابطٌ دجاجةً يرميها، فمشى إليها ابن عمر، حتى حَلّها، ثم أقبل بها وبالغلام معه، فقال: ازجروا غلامكم، عن أن يَصْبِر هذا الطير للقتل، فإني سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم، نهى أن تُصبَر بهيمة أو غيرها للقتل، والله تعالى أعلم.

ص: 302

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.

[تنبيه]: قال الدارقطنيّ رحمه الله في "التتبّع": وأخرجا جميعًا حديث أبي بشر، عن سعيد بن جُبير، عن ابن عمر:"لَعَنَ من اتّخذ شيئًا فيه الروح غَرَضًا"، وهو الصحيح.

[فإن قال قائل]: فقد خالفه عديّ بن ثابت، عن سعيد بن جبير، عن ابن عبّاس.

[قيل له]: لم يُتابَع عديّ على قوله، وقد تابع أبا بشر المنهالُ بن عمرو، وسعيد بن عمرو، عن سعيد بن جبير، عن ابن عمر، فالحكم لهم على عديّ، وحديث عديّ وَهَمٌ، والله أعلم. انتهى كلام الدارقطنيّ.

قال الجامع عفا الله عنه: حاصل ما أشار إليه الدارقطنيّ رحمه الله أن المحفوظ في هذا الحديث أنه من مسند ابن عمر رضي الله عنهما، لا من مسند ابن عبّاس رضي الله عنهما، كما تقدّم ذلك في الرواية التي قبله، وذلك لمخالفة عديّ بن ثابت لأبي بشر في ذلك، ولم يوجد لعديّ فيه متابع، بخلاف أبي بشر، فقد تابعه فيه المنهال بن عمرو، وسعيد بن عمرو، كلاهما عن سعيد بن حبير، عن ابن عمر، فظهر بهذا أن عديًّا وَهِمَ فيه.

ولم يتكلّم الحافظ في "الفتح" بشيء من هذا، بل ظاهره أنه يرى صحّة الطريقين، كونه من مسند ابن عمر، كما هو متّفقٌ عليه، وكونه من مسند ابن عبّاس، كما عند مسلم حيث بيّن مَنْ وَصَل الطريقين، وسكت على ذلك، لكن صنيع البخاريّ رحمه الله يقوّي ما قاله الدارقطنيّ، حيث قال بعد ذكر طريق أبي بشر ما نصّه: تابعه سليمان

(1)

، عن شعبة، عن المنهال، عن سعيد، عن ابن عمر. . .، ثم قال: وقال عديّ عن سعيد: عن ابن عبّاس، فقد قوّى طريق أبي بشر بالمتابعة، وأشار إلى تفرّد عديّ، بلا متابع، فتأمله بالإمعان، والله تعالى أعلم.

(1)

هو: ابن حرب، وليس أبا داود الطيالسيّ، كما قال مغلطاي، وتبعه ابن الملقّن. راجع:"الفتح" 12/ 490.

ص: 303

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [12/ 5053 و 5054](1958)، و (البخاريّ) في "الذبائح"(5514 و 5515)، و (النسائيّ) في "الضحايا"(7/ 338) و"الكبرى"(4530 و 4531)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1/ 255)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 338 و 2/ 13 و 43 و 60 و 86 و 103 و 141)، و (الدارميّ) في "سننه"(1973)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(5/ 53)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(9/ 334)، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5054]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، أَخْبَرَنَا أَبُو بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: مَرَّ ابْنُ عُمَرَ بِفِتْيَانٍ مِنْ قُرَيْشٍ، قَدْ نَصَبُوا طَيْرًا، وَهُمْ يَرْمُونَهُ، وَقَدْ جَعَلُوا لِصَاحِبِ الطَّيْرِ كُلَّ خَاطِئَةٍ مِنْ نَبْلِهِمْ، فَلَمَّا رَأَوُا ابْنَ عُمَرَ تَفَرَّقُوا، فَقَالَ ابْن عُمَرَ مَنْ فَعَلَ هَذَا؟ لَعَنَ اللهُ مَنْ فَعَلَ هَذَا، إِن رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَعَنَ مَنِ اتَّخَذَ شَيْئًا فِيهِ الرُّوحُ غَرَضًا).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

وكلّهم ذُكروا في الباب، والذي قبله.

وقوله: (مَرَّ ابْنُ عُمَرَ بِفِتْيَانٍ) بكسر الفاء: جمع فَتًى، قال الفيّوميّ رحمه الله: الفتى: العبد، وجمعه في القلّة فِتْيَةٌ، وفي الكثرة فِتيانٌ، والأصل فيه أن يقال: للشابّ الْحَدَثِ فَتًى، ثمّ استُعير للعبد، وإن كان شيخًا مَجازًا؛ تسميةً باسم ما كان عليه. انتهى

(1)

.

وقوله: (قَدْ نَصَبُوا طَيْرًا) قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في النُّسخ: "طيرًا"، والمراد به واحد، والمشهور في اللغة أن الواحد يقال له: طائرٌ، والجمع طير، وفي لغة قليلة إطلاق الطير على الواحد، وهذا الحديث جارٍ على تلك اللغة. انتهى

(2)

.

(1)

"المصباح المنير" 2/ 462.

(2)

"شرح النوويّ" 13/ 108.

ص: 304

وقال الفيّوميّ رحمه الله: الطَّائِرُ على صيغة اسم الفاعل من طَارَ يَطِيرُ طَيَرَانًا، وهو له في الجوّ كمشي الحيوان في الأرض، ويُعَدَّى بالهمزة، والتضعيف، فيقال: طَيَّرْتُهُ، وأَطرْتُهُ، وجمع الطَّائِرِ طَيْرٌ، مثلُ صَاحِب وصَحْب، ورَاكِب ورَكْب، وجمع الطَّيْرِ طُيُورٌ، وأَطْيَارٌ، وقال أبو عبيدة، وقُطْرُب: ويقع الطير على الواحد والجمع، وقال ابن الأنباريّ: الطَّيْرُ جماعةٌ، وتأنيثها أكثر من التذكير، ولا يقال للواحد: طَيْرٌ، بل طَائِرٌ، وقَلّما يقال للأنثى: طَائِرَةٌ. انتهى

(1)

.

وقوله: (وَقَدْ جَعَلُوا لِصَاحِبِ الطَّيْرِ كُلَّ خَاطِئَةٍ مِنْ نَبْلِهِمْ) قال النوويّ رحمه الله: هو بهمز "خاطئة"؛ أي: ما لم يُصِب الْمَرْمَى، وقوله:"خاطئة" لغةٌ، والأفصح: مُخطئة، يقال لمن قَصَد شيئًا، فأصاب غيره غَلَطًا: أخطأ، فهو مُخطئ، وفي لغة قليلة: خطَأَ، فهو خاطئ، وهذا الحديث جاء على اللغة الثانية، حكاها أبو عبيد، والجوهريّ، وغيرهما

(2)

، والله أعلم.

وقال الفيّوميّ رحمه الله: الخَطَأُ مهموزًا - بفتحتين -: ضدّ الصواب، ويُقْصَر، ويُمَدّ، وهو اسم من أَخْطَأَ فهو مُخْطِئٌ، قال أبو عبيدة: خَطِئَ خِطْئًا، من باب عَلِمَ، وأَخْطَأَ بمعنى واحد، لمن يُذنب على غير عمد، وقال غيره: خَطِئَ في الدِّين، وأَخْطَأَ في كلّ شيء، عامدًا كان، أو غير عامد، وقيل: خَطِئَ: إذا تعمَّد ما نُهِي عنه، فهو خَاطِئٌ، وأَخطَأ: إذا أراد الصواب، فصار إلى غيره، فإن أراد غير الصواب، وفعله، قيل: قَصَدَه، أو تَعَمَّده، والخِطْءُ: الذنب تسميةً بالمصدر، وخَطَّأْتُهُ بالتثقيل: قلت له: أَخْطَأْتَ، أو جعلته مُخْطِئًا، وأَخْطَأَهُ الحقّ: إذا بَعُد عنه، وأَخْطَأَهُ السهمُ: تجاوزه، ولم يُصبه، وتخفيف الرباعيّ جائز. انتهى

(3)

.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله في الذي قبله، ولله الحمد والمنّة.

(1)

"المصباح المنير" 2/ 382.

(2)

"شرح النوويّ" 13/ 109.

(3)

"المصباح المنير" 1/ 174.

ص: 305

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5055]

(1959) - (حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ (ح) وَحَدَّثَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ (ح) وَحَدَّثَنِي هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ، أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ يَقُولُ: نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُقْتَلَ شَيْءٌ

(1)

مِنَ الدَّوَابِّ صَبْرًا).

رجال هذا الإسناد: تسعة:

1 -

(حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ) الأعور المصِّيصيّ، أبو محمد ترمذيّ الأصل، نزل بغداد، ثم الْمِصِّيصة، ثقةٌ ثبتٌ، اختلط في آخره [9](ت 206)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 94.

والباقون تقدَّموا قبل ثلاثة أبواب.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف، وأنه مسلسلٌ بالتحديث، والإخبار، والسماع، وفيه تصريح ابن جريج بإخبار أبي الزبير له، وتصريح أبي الزبير بالسماع من جابر رضي الله عنه، فزالت بهذا تهمة التدليس عنهما، فإنهما معروفان بالتدليس، وفيه جابر صحابيّ ابن صحابيّ رضي الله عنهما، وهو من المكثرين السبعة، روى (1540) حديثًا.

شرح الحديث:

(قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ) محمد بن مسلم بن تَدْرُس المكيّ، (أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ) رضي الله عنهما (يَقُولُ: نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُقْتَلَ شَيْءٌ) ببناء الفعل للمفعول، وقوله:(مِنَ الدَّوَابِّ) بيان لـ "شيء"، وهو جمع دابّة، والمراد: ذوات الأرواح، قال المجد رحمه الله: الدّابّة: ما دَبّ من الحيوان،

(1)

ووقع في هامش التركيّة ما نصّه: وفي نسخة: "أن تقتُل شيئًا" بتاء المتكلّم، والظاهر أنه غلط، والصواب:"أن نقتل" بنون المتكلّم، لا بالتاء، ولم يُشر في "الهنديّة" إلى هذه النسخة، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

ص: 306

وغَلَبَ على ما يُركب، ويقع على المذكّر. انتهى

(1)

.

وقال الفيّوميّ رحمه الله: دَبَّ الصغير يَدِبُّ، من باب ضرب دَبِيبًا، ودَبَّ الجيشُ دَبِيبًا أيضًا: ساروا سيرًا لَيِّنًا، وكلّ حيوان في الأرض دَابَّةٌ، وتصغيرها دُوَيْبَةٌ، على القياس، وسُمع دُوَابَّةٌ بقلب الياء ألفًا على غير قياس، وخالف فيه بعضهم، فأخرج الطير من الدوابّ، ورُدّ بالسماع، وهو قوله تعالى:{وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ} [النور: 45]، قالوا؛ أي: خلق الله كلّ حيوان مميزًا كان، أو غير مميز، وأما تخصيص الفرس والبغل بالدابة عند الإطلاق، فعُرْفٌ طارئ، وتُطْلَق الدَابَّةُ على الذكر والأنثى، والجمع: الدَّوَابُّ. انتهى

(2)

.

وقوله: (صَبْرًا) منصوب على الحال؛ لأنه مصدر منكّرٌ، كما قال في "الخلاصة":

وَمَصْدَرٌ مُنَكَّرٌ حَالًا يَقَعْ

كَثْرَةٍ كَـ "بَغْتَةً زَيْدٌ طَلَعْ"

ومعنى: صَبْرِ البهائم: أن تُحْبَسَ، وهي حيّةٌ، لتُقتَل بالرمي ونحوه، وقال ابن الأثير رحمه الله: هو: أن يُمسَك شيء من ذوات الروح حيًّا، ثم يُرمى بشيء حتى يموت. انتهى

(3)

، والله تعالى أعلم.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [12/ 5055](1959)، و (ابن ماجه) في "الذبائح"(3227)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 318 و 321 و 339)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(5/ 54)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(4/ 163)، والله تعالى أعلم.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(1)

"القاموس المحيط" ص 411.

(2)

"المصباح المنير" 1/ 188.

(3)

"النهاية" ص 507.

ص: 307

‌34 - (كِتَابُ الأَضَاحِي)

قال الجامع عفا الله عنه:

مناسبة "الأضاحي" للصيد والذبائح واضحة، حيث إن كلًّا يُبحث فيه إراقة دماء الحيوان للأكل، وقدّم الصيد والذبائح؛ لعمومهما؛ وخصوص الضحايا بالقُرَبِ، والله تعالى أعلم.

و"الأضحيّة": ذَبْحُ حيوان مخصوص بنيّة القربة في وقت مخصوص، كما في "الدرّ المختار"، وهي مشروعة من لدن آدم عليه السلام، فقد قرّب هابيل كبشًا، كما في تفسير ابن كثير، وذَكَره الله سبحانه وتعالى بقوله:{إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا} الآية [المائدة: 27]

(1)

.

و"الأضاحي" - بفتح الهمزة -: جمع أُضْحِيَّة - بضم الهمزة، ويجوز كسرها، ويجوز حذف الهمزة، فتُفتح الضاد، والجمع: ضَحَايا، وهي أضحاة، والجمع أضحى، وبه سُمِّي يوم الأضحى، وهو يُذَكَّر، ويؤنث، وكأن تسميتها اشتُقّت من اسم الوقت الذي تُشرَع فيه، قاله في "الفتح"

(2)

.

وقال الفيّوميّ رحمه الله: "الأضحيّة" فيها لغات:

[الأولى]: ضمّ الهمزة في الأكثر، وهي في تقدير أُفْعُولة.

[والثانية]: كسرُها إتباعًا لكسرة الحاء، والجمع أَضَاحيّ.

[والثالثة]: ضَحِيّةٌ، والجمع ضَحَايا، مثلُ عطيّة وعطايا.

[والرابعة]: أضحاة، بفتح الهمزة، والجمع أضحى، مثلُ أرطاة وأرطى، ومنه عيد الأضحى، والأضحى مؤنّثة، وقد تُذكّر، ذهابًا إلى اليوم، قاله الفرّاء.

(1)

راجع: "تكملة فتح الملهم" 3/ 544.

(2)

"الفتح" 12/ 541، كتاب "الأضاحي" رقم (5545).

ص: 308

وضَحّى تضحيةً: إذا ذبح الأضحيّة وقت الضّحى، هذا أصله، ثم كثُر حتّى قيل: ضَحّى في أيّ وقت كان من أيّام التشريق، ويتعدّى بالحرف، فيقال: ضَحّيتُ بشاة. انتهى

(1)

.

وقال أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله: قال الأصمعيّ: في الأضحيّة أربع لغات: أُضحيّة بضم الهمزة، وإضحيّة بكسرها، والجمع أضاحيّ بتشديد الياء، وتخفيفها، وضحيّةٌ، على وزن فَعِيلة، والجمع ضَحايا، وأضحاة، والجمع أَضْحًى، كما يقال: أرطاة وأرطى، وبها سُمّي يوم الأضحى.

وقال القاضي: وقيل: سمّيت بذلك؛ لأنها تُفعل في الضحى، وهو ارتفاع النهار، وفي "الأضحى" لغتان: التذكير لغة قيس، والتأنيث لغة تميم.

وفي "الصحاح": ضَحْوة النهار بعد طلوع الشمس، ثم بعده الضحى، وهو حين تُشرق الشمس، مقصورة، مؤنّثة، وتُذكّر، فمن أنّث ذهب إلى أنها جمع ضحوة، ومن ذكّر ذهب إلى أنه اسم على فُعَل، مثل نُغَر، وصُرَد، قال: وهو ظرفٌ غير متمكّن، مثلُ سَحَر، تقول: لقيته ضُحىً، وضُحَى، إذا أردت به ضحى يومك لم تنوّنه.

قال القرطبيّ: قياسه ضحى على سحر قد أَخَذَ عليه فيه ابن بَرّيّ، وهي مؤاخذة صحيحة؛ لأن الظروف التي لا تنصرّف إذا عُيّنت هي:"سحر" - كما ذكر - و"غَدْوَة"، و"بُكْرَة"، لا غير، فـ "سحر" إذا أريد به يوم بعينه لم ينصرف للتعريف والعدل، وفي "غدوة"، و"بُكرة" للتعريف والتأنيث، فأما بكير، وعشاء، وعتمة، وضحوة، وعشيّة، وضُحًى، ونحوها، فإنها منصرفة على كلّ حال، فإن أريد بها وقتٌ بعينه، كانت نكرات اللفظ، معرفة بالمعنى، على غير وجه التعريف، وهكذا ذكره الحسن بن خَرُوف، وغيره. انتهى كلام القرطبيّ، بزيادة من "شرح النوويّ"

(2)

.

وقال الإمام ابن قُدامة رحمه الله: الأصل في مشروعية الأضحية: الكتاب، والسُّنَّة، والإجماع، فأما الكتاب، فقول الله سبحانه:{فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2)}

(1)

"المصباح المنير" 2/ 359.

(2)

"المفهم" 5/ 347 - 348، و"شرح النوويّ على مسلم" 13/ 111.

ص: 309

[الكوثر: 2]، قال بعض أهل التفسير: المراد به الأضحية، بعد صلاة العيد، وأما السُّنَّة، فما رَوَى أنس رضي الله عنه، قال:"ضحى النبيّ صلى الله عليه وسلم بكبشين، أملحين، أقرنين، ذبحهما بيده، وسمّى، وكبّر، ووضع رجله على صفاحهما"، متفق عليه، والأملح: الذي فيه بياض وسواد، وبياضه أغلب، قال الكسائي: وقال ابن الأعرابي: وهو النقي البياض، قال الشاعر [من الرجز]:

حَتَّى اكْتَسَى الرَّأْسُ قِنَاعًا أَشْيَبَا

أَمْلَحَ لَا لَذًّا وَلَا مُحَبَّبَا

وأجمع المسلمون على مشروعية الأضحية. انتهى كلام ابن قُدامة رحمه الله

(1)

.

وقد كتب صاحب "التكملة" هنا كلامًا نفيسًا في مشروعيّة الأضحيّة، فقال بعد ذكر انحرافات أهل الملل في ذلك ما حاصله: وليست الأضحيّة في الإسلام إلا عبادة للتقرّب إلى الله تعالى شرعها الله تعالى رمزًا لامتثال العبد بأوامر الله سبحانه وتعالى، واستسلامًا كاملًا لِمَا يُحبّه ويرضاه، وهي علامة كون العبد يخضع لأمر الله تعالى في المنشط والمكره، سواء كان ذلك الأمر يوافق عقله، أو يخالفه، وسواء كان يلائم هواه، أو يعارضه.

قال: وبهذا تظهر رداءة قول من أنكر مشروعيّة الأضحيّة من الملحدين في عصرنا على أساس أن هذا الفعل لا فائدة فيه في الاقتصاد الاجتماعيّ، وأنه يؤدّي إلى إضاعة الأموال دون طائل، وإهراق الدماء بدون عائدة - والعياذ بالله -.

ومن نظر في حقيقة الأضحيّة ظهر له فساد هذا القول بالبداهة؛ فإن الأضحيّة إنما شُرعت تدريبًا على الامتثال لأمر الله تعالى في كلّ حال، مهما بَعُد ذلك الأمر عن موافقة العقل البشريّ المحدود، ومهما شعر فيه هذا العقل ضررًا أو نقصانًا في الظاهر، فمن شَرَع يبحث فيها عن فوائد اقتصاديّة، ومنافع ماديّة، فإنه جهل حقيقة الأضحيّة، وقَلَب موضوعها ظهرًا لبطن، وإن أعظم أضحيّة تُقُدّم بها إلى الله تعالى أضحيّة إبراهيم الخليل عليه السلام، فإنه أُمر بتضحية ولده المعصوم، ولم يكن في هذا الأمر أيّة مصلحة في الظاهر، فإنه كان عند ظاهر العقل ظلمًا من الأب على ابنه الصغير الذي لم يرتكب خطيئة، ولا

(1)

"المغني" 13/ 360.

ص: 310

اقترف إثمًا، فكان قتلَ نفس دون مبرّر، ولكن إبراهيم عليه السلام حينما أُمر به استَعَدّ لامتثاله، وخضع له خضوعًا كاملًا، وكذلك إسماعيل عليه السلام لم يعترض على الأمر، ولم يسأل والده ما هو الذنب الذي أعاقَب عليه هذه العقوبة القاسية، وإنما أجاب والده قائلًا:{يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات: 102].

وإن هذه السجيّة سجيّة الخضوع الكامل، والانقياد التامّ التي تقدّم بها الوالد والولد عليهما السلام سمّاها الله تعالى إسلامًا حينما قال تعالى في كتابه المجيد:{فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103)} [الصافات: 103].

وإن العقول اليوم قد غَرِقت في الأفكار الماديّة، وأصبحت أسيرةً للأهواء، فلا تبصر وراء المادّة شيئًا، ولا تعتبر النفع نفعًا حتى يتجلّى في صورة الفلوس والنقود، والمأكل، والمشرب، والملابس، والملاذّ، والشهوات، ولذلك لا ترى في العبادات المحضة شيئًا من النفع، ولا تشعر أن أعظم منفعة على وجه الأرض أن تتقوّى علاقة العبد بربّه، وتستحكم صلته به، وأن يُنيب المرء، ويُخبت إلى الله، ويكسر الشهوات؛ ابتغاء مرضاته، ويتذوّق لذّة مناجاته، والتقرّب إليه.

وبهذا تتكوّن فيه الْمُثُل العليا من العبديّة، والإنسانيّة، وتنشأ في نفسه عواطف الخشية والتقوى التي تمنعه من الدناءة، والفجور، وغمط حقّ الآخرين، والتي تتزكّى بها أخلاقه، وتتنظّف بها حياته، ويهتدي بها مسيره، وإن هذه المنفعة تفوق هذه المنافع الماديّة الظاهرة في صورة الأموال، والْمُتَع، والشهوات، وإن الأضحيّة لمن أقوى وسائل الحصول على هذه المنفعة الباطنة، والغذاء الروحيّ الذي إذا فقده الشخص فقد الخير كلّه. انتهى كلام صاحب "التكملة"

(1)

، وهو بحث مفيدٌ، والله تعالى أعلم بالصواب.

(1)

"تكملة فتح الملهم" 3/ 546 - 547.

ص: 311

(1) - (بَابُ وَقْتِهَا)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5056]

(1960) - (حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، حَدَّثَنَا الأَسْوَدُ بْنُ قَيْسٍ (ح) وَحَدَّثَنَاهُ يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا أَبُو خَيْثَمَةَ، عَنِ الأَسْوَدِ بْنِ قَيْسٍ، حَدَّثَنِي جُنْدَبُ بْنُ سُفْيَانَ، قَالَ: شَهِدْتُ الأَضْحَى مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَمْ يَعْدُ أَنْ صَلَّى، وَفَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ، سَلَّمَ، فَإِذَا هُوَ يَرَى لَحْمَ أَضَاحِيَّ قَدْ ذُبِحَتْ قَبْلَ أَنْ يَفْرُغَ مِنْ صَلَاتِهِ، فَقَالَ:"مَنْ كَانَ ذَبَحَ أُضْحِيَّتَهُ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ - أَوْ نُصَلِّيَ - فَلْيَذْبَحْ مَكَانَهَا أُخْرَى، وَمَنْ كَانَ لَمْ يَذْبَحْ فَلْيَذْبَحْ بِاسْمِ اللهِ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ) هو: أحمد بن عبد الله بن يونس التميميّ اليربوعيّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(زُهَيْرُ) بن معاوية بن حُديج، وهو أبو خيثمة المذكور في السند التالي، تقدّم أيضًا قريبًا.

3 -

(الأَسْوَدُ بْنُ قَيْسِ) الْعَبْديّ، ويقال: البجليّ، أبو قيس الكوفيّ، ثقةٌ [4](ع) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 36/ 1430.

4 -

(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ النيسابوريّ، تقدّم قبل باب.

5 -

(جُنْدَبُ بْنُ سُفْيَانَ) هو: جندب بن عبد الله بن سفيان الْبَجليّ، ثم الْعَلَقيّ، أبو عبد الله، نُسب لجدّه، صحابيّ مات رضي الله عنه بعد الستّين (ع) تقدم في "الإيمان" 43/ 286.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من رباعيات المصنّف رحمه الله، وهو (360) من رباعيات الكتاب، وأنه مسلسل بالكوفيين، ويحيى دخل الكوفة للأخذ من أهلها، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

عَنِ الأَسْوَدِ بْنِ قَيْسٍ البجليّ أنه قال: (حَدَّثَنِي جُنْدَبُ) بن عبد الله (بْنُ سُفْيَانَ)، البجليّ (قَالَ: شَهِدْتُ) بكسر الهاء؛ أي: حضرت (الأَضْحَى) جمع

ص: 312

أضحاة، كأرطاة وأرطى؛ أي: وقت ذبح الأضحية، وفي رواية البخاريّ:"شهدت النبيّ صلى الله عليه وسلم يوم النحر. . .". (مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَمْ يَعْدُ) بفتح، فسكون، فدال مضمومة؛ أي: لم يتجاوز، يقال: عَدَوته أعدُوه: تجاوزته إلى غيره، وعدّيته، وتعدّيته كذلك، قاله الفيّوميّ

(1)

. (أَنْ صَلَّى)"أن" مصدريّة، والمصدر المؤوّل مفعول "يَعْدُ"؛ أي: لم يتجاوز الصلاة إلى غيرها، والمراد أنه بدأ بها، ولم يبدأ بذبح الأضحية، كما فعله بعض الناس جهلًا منهم. (وَفَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ)، وقوله:(سَلَّمَ) حال بتقدير "قد" عند البصريين، وبدونها عند الكوفيين؛ أي: حال كونه مسلّمًا، (فَإِذَا هُوَ يَرَى لَحْمَ أَضَاحِيَّ) "إذا" هي الفجائيّة؛ أي: ففاجأه رؤية لحم الأضاحيّ، و"أضاحيّ" بتشديد الياء، تقدّم أنها جمع إِضْحِية بضمّ الهمزة، وكسرها، وقوله:(قَدْ ذُبِحَتْ) بالبناء للمجهول، والجملة حالٌ من "الأضاحيّ"؛ لكون المضاف جزءًا من المضاف إليه، كما قال في "الخلاصة":

وَلَا تُجِزْ حَالًا مِنَ الْمُضَافِ لَهْ

إِلَّا إِذَا اقْتَضَى الْمُضَافُ عَمَلَهْ

أَوْ كَانَ جُزْءَ مَا لَهُ أُضِيفَا

أَوْ مِثْلَ جُزْئِهِ فَلَا تَحِفَا

(قَبْلَ أَنْ يَفْرُغَ) بضمّ الراء؛ أي: قبل أن ينتهي النبيّ صلى الله عليه وسلم، و"قبل" ظرف لـ "ذُبحت"، (مِنْ صَلَاتِهِ، فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("مَنْ كَانَ ذَبَحَ)"كان" هنا زائدة، كما قال في "الخلاصة":

وَقَدْ تُزَادُ "كَانَ" فِي حَشْوٍ كَـ "مَا

كَانَ أَصَحَّ عِلْمَ مَنْ تَقَدَّمَا"

(أُضْحِيَّتَهُ) تقدّم أنه بضمّ الهمزة، وكسرها، (قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ - أَوْ نُصَلِّيَ)"أو" هنا للشكّ من الراوي، هل قال:"يصلي" بالياء، أو "نصلي" بالنون، (فَلْيَذْبَحْ مَكَانَهَا)؛ أي: بدلها (أُخْرَى)؛ أي: أضحيّةً أخرى؛ لعدم إجزائها، حيث وقعت قبل وقتها، (وَمَنْ كَانَ لَمْ يَذْبَحْ فَلْيَذْبَحْ بِاسْمِ اللهِ") وفي الرواية التالية:"فليذبح على اسم الله"، وفي رواية أبي عَوَانة:"ومن كان لم يذبح حتّى صلّينا، فليذبح على اسم الله".

[فائدة]: قال الكُتّاب من أهل العربيّة: إذا قيل: "باسم الله" تعيّن كَتْبه

(1)

"المصباح المنير" 2/ 397.

ص: 313

بالألف، وإنما تُحذف الألف إذا كُتب "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ" بكمالها، ذكره النوويّ

(1)

.

ومعنى "فليذبح باسم الله"؛ أي: فليذبح قائلًا باسم الله، أو مسمّيًا، والجارّ والمجرور متعلق بمحذوف، وهو حال من الضمير في قوله:"فليذبح"، وهذا أولى ما حُمِل عليه الحديث، وصححه النوويّ، ويؤيده ما في حديث أنس رضي الله عنه:"وسمّى، وكبّر".

وقال عياض: يَحْتَمِل أن يكون معناه: فليذبح لله، والباء تجيء بمعنى اللام، ويَحْتَمِل أن يكون معناه: بتسمية الله، ويَحْتَمِل أن يكون معناه: متبركًا باسمه، كما يقال: سِرْ على بركة الله، ويَحتَمِل أن يكون معناه: فليذبح بسُنَّة الله، قال: وأما كراهة بعضهم: افعَلْ كذا على اسم الله؛ لأنّ اسمه على كل شيء، فضعيف.

قال الحافظ: ويَحْتَمِل وجهًا خامسًا، أن يكون معنى قوله:"باسم الله"، مطلق الإذن في الذبيحة حينئذ؛ لأن السياق يقتضي المنع قبل ذلك، والإذن بعد ذلك، كما يقال للمستأذن: باسم الله؛ أي: ادخل.

وقد استَدَلّ بهذا الأمر، في قوله:"فليذبح مكانها أخرى"، من قال بوجوب الأضحية، قال ابن دقيق العيد: صيغة "مَن" في قوله: "مَن ذَبَح"، صيغة عموم، في حقّ كل من ذبح قبل أن يصلي، وقد جاءت لتأسيس قاعدة، وتنزيلُ صيغة العموم، إذا وردت لذلك على الصورة النادرة يُستنكر، فإذًا بعد تخصيصه بمن نذر أضحية معيَّنة، بقي التردّد هل الأَولى حَمْله على من سبقت له أضحية معينة، أو حَمْله على ابتداء أضحية، من غير سَبْق تعيين؟ فعلى الأول يكون حجةً لمن قال بالوجوب، على من اشترى الأضحيّة، كالمالكية، فإن الأضحية عندهم تجب بالتزام اللسان، وبنيّة الشراء، وبنيّة الذبح، وعلى الثاني يكون لا حجة لمن أوجب الضحيّة مطلقًا، لكن حصل الانفصال ممن لم يقل بالوجوب، بالأدلة الدالة على عدم الوجوب، فيكون الأمر للندب.

واستَدَلّ به مَن اشترط تقدم الذبح من الإمام، بعد صلاته، وخطبته؛ لأن

(1)

"شرح النوويّ" 13/ 110.

ص: 314

قوله: "من ذبح قبل أن يصلي، فليذبح مكانها أخرى"، إنما صدر منه بعد صلاته، وخطبته، وذبحه، فكأنه قال: من ذبح قبل فعل هذه الأمور، فليُعِد؛ أي: فلا يَعتَدّ بما ذبحه.

قال ابن دقيق العيد: وهذا استدلال غير مستقيم؛ لمخالفته التقييد بلفظ الصلاة، والتعقيب بالفاء، ذكره في "الفتح"

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث جندب بن سفيان رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [1/ 5056 و 5057 و 5058 و 5059 و 5060](1960)، و (البخاريّ) في "العيدين"(985) و"الذبائح"(5500) و"الأضاحي"(5562) و"الأيمان والنذور"(6674) و"التوحيد"(7400)، و (النسائيّ) في "الضحايا"(7/ 214 و 224) و"الكبرى"(4458 و 4484)، و (ابن ماجه) في "الأضاحي"(3152)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(936) و (الحميديّ) في "مسنده"(775)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 312 و 313)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5913)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(1532)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(4/ 173)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(5/ 72)، و (ابن أبي عاصم) في "الآحاد والمثاني"(4/ 475)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(1713 و 1714 و 1715 و 1716 و 1717 و 1718)، و (الرويانيّ) في "مسنده"(2/ 139)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(9/ 262 و 277)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان وقت الأضحيّة، وهو بعد صلاة العيد.

2 -

(منها): بيان مشروعيّة ذبح الناس بمصلّى العيد.

3 -

(ومنها): مشروعيّة صلاة العيد.

(1)

"الفتح" 12/ 571 - 572، كتاب "الأضاحي" رقم (5562).

ص: 315

4 -

(ومنها): أن السنّة صلاة العيد بالمصلّى المعدّ لها خارج المسجد، ولا تُصلّى في المسجد، إلا للضرورة.

5 -

(ومنها): عدم جواز ذبح الأضحيّة قبل الصلاة، فلو ذبح لزمه استبدالها بغيرها، وسيأتي بيان اختلاف العلماء في وقتها دخولًا، وخروجًا في المسألة الخامسة - إن شاء الله تعالى -.

6 -

(ومنها): أنه لا يذبح قبل الإمام، وفيه اختلاف بين العلماء سيأتي بيانه في المسألة السادسة - إن شاء الله تعالى -.

7 -

(ومنها): وجوب التسمية عند الذبح، وقد سبق بيان اختلاف العلماء في ذلك في "كتاب الصيد والذبائح"، والله تعالى أعلم.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في حكم الأضحيّة:

قال الإمام ابن قُدامة رحمه الله: أكثر أهل العلم، يرون الأضحية سُنَّة مؤكدة، غير واجبة، رُوي ذلك عن أبي بكر، وعمر، وبلال، وأبي مسعود البدريّ رضي الله عنهم، وبه قال سُويد بن غَفَلة، وسعيد بن المسيب، وعلقمة، والأسود، وعطاء، والشافعي، وإسحاق، وأبو ثور، وابن المنذر.

وقال ربيعة، ومالك، والثوري، والأوزاعي، والليث، وأبو حنيفة: هي واجبة؛ لِمَا روى أبو هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:"من كان له سعة، ولم يُضَحِّ فلا يَقْرَبَنّ مصلانا"، وعن مِحنَف بن سُلَيم أن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال:"يا أيها الناس، إن على كل أهل بيت، في كل عام أَضْحَاةً، وعتيرة".

واحتجّ الأولون بما رواه الدارقطنيّ، بإسناده، عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: قال: "ثلاث، كُتبت عليّ، وهنّ لكم تطوع"، وفي رواية:"الوتر، والنحر، وركعتا الفجر". قال: ولأن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال:"من أراد أن يضحي، فدخل العشر، فلا يأخذ من شعره، ولا بشرته شيئًا"، رواه مسلم. عَلّقه على الإرادة، والواجب لا يُعلَّق على الإرادة، ولأنها ذبيحة لم يجب تفريق لحمها، فلم تكن واجبة، كالعقيقة، فأما حديثهم، فقد ضعّفه أصحاب الحديث، ثم نحمله على تأكيد الاستحباب، كما قال:"غسل الجمعة واجب على كل محتلم"، وقال:"من أكل من هاتين الشجرتين، فلا يَقرَبَنّ مصلانا". وقد روي عن أحمد، في اليتيم يُضَحِّي عنه وليّه: إذا كان موسرًا، وهذا على سبيل

ص: 316

التوسعة، في يوم العيد، لا على سبيل الإيجاب. انتهى كلام ابن قُدامة رحمه الله.

وقال الإمام البخاريّ رحمه الله في "صحيحه": "باب سُنَّة الأضحية، وقال ابن عمر: هي سُنّة، ومعروف".

فقال في "الفتح": وكأنه ترجم بالسُّنَّة إشارةً إلى مخالفة من قال بوجوبها، قال ابن حزم: لا يصحّ عن أحد من الصحابة، أنها واجبة، وصح أنها غير واجبة عن الجمهور، ولا خلاف في كونها من شرائع الدِّين، وهي عند الشافعية، والجمهور سُنَّة مؤكدة، على الكفاية، وفي وجه للشافعية، من فروض الكفاية، وعن أبي حنيفة: تجب على المقيم الموسر، وعن مالك مثله، في رواية، لكن لم يقيّد بالمقيم، ونقل عن الأوزاعيّ، وربيعة، والليث مثله، وخالف أبو يوسف من الحنفية، وأشهب من المالكية، فوافقا الجمهور. وقال أحمد: يُكره تركها مع القدرة، وعنه: واجبة، وعن محمد بن الحسن: هي سُنَّة غير مُرَخّص في تركها، قال الطحاوي: وبه نأخذ، وليس في الآثار ما يدل على وجوبها. انتهى.

وأقرب ما يُتَمَسَّك به للوجوب حديث أبي هريرة، رفعه:"من وجد سعة، فلم يُضَحِّ، فلا يَقْرَبَنَّ مصلانا"، أخرجه ابن ماجه، وأحمد، ورجاله ثقات، لكن اختُلِف في رفعه، ووقفه، والموقوف أشبه بالصواب، قاله الطحاوي وغيره، ومع ذلك، فليس صريحًا في الإيجاب.

وقول ابن عمر: "هي سُنَّة، ومعروف" وَصَله حماد بن سلمة، في "مصنفه"، بسند جيد إلى ابن عمر، وللترمذي، مُحَسَّنًا، من طريق جَبَلَة بن سُحَيم: أن رجلا سأل ابن عمر، عن الأضحية، أهي واجبة؟، فقال: ضَحَّى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، والمسلمون بعده. قال الترمذي: العمل على هذا، عند أهل العلم، أن الأضحية ليست بواجبة، وكأنه فَهِمَ من كون ابن عمر، لم يقل في الجواب: نعم، أنه لا يقول بالوجوب، فإن الفعل المجرد، لا يدل على ذلك، وكأنه أشار بقوله:"والمسلمون" إلى أنها ليست من الخصائص، وكان ابن عمر حريصًا، على اتباع أفعال النبيّ صلى الله عليه وسلم، فلذلك لم يصرّح بعدم الوجوب.

وقد احتج من قال بالوجوب، بما ورد في حديث مِخْنَف بن سُلَيم، رفعه:"على أهل كل بيت أضحية"، أخرجه أحمد، والأربعة، بسند قوي، ولا

ص: 317

حجة فيه؛ لأن الصيغة ليست صريحة في الوجوب المطلق، وقد ذكر معها العتيرة، وليست بواجبة عند من قال بوجوب الأضحية.

واستدل من قال بعدم الوجوب، بحديث ابن عباس:"كُتِب عليّ النحرُ، ولم يُكتب عليكم"، وهو حديث ضعيف، أخرجه أحمد، وأبو يعلى، والطبراني، والدارقطني، وصححه الحاكم، فذَهِلَ، وقد استوعَبْتُ طرقه، ورجاله في الخصائص، من تخريج أحاديث الرافعي. انتهى كلام الحافظ في "الفتح"

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عبارته في "تخريج أحاديث الرافعيّ" المسمّى "تلخيصَ الحبير": قوله: "فمنها صلاة الضحى": رُوي أنه صلى الله عليه وسلم، قال:"كُتب عليّ ركعتا الضحى، وهما لكم سُنَّة"، رواه أحمد من طريق إسرائيل، عن جابر، عن عكرمة، عن ابن عباس، بلفظ:"أُمرت بركعتي الضحى، ولم تؤمروا بها، وأُمرت بالأضحى، ولم تُكتب"، وإسناده ضعيف، من أجل جابر الجعفيّ، ورواه أبو يعلى من طريق شريك، بلفظ:"كُتب عليّ النحر، ولم يُكتب عليكم، وأُمرت بصلاة الضحى، ولم تؤمروا بها"، ورواه البزار بلفظ:"أُمرت بركعتي الفجر والوتر، وليس عليكم"، ومن طريق أبي جناب الكلبيّ، عن عكرمة عنه، بلفظ:"ثلاث هنّ عليّ فرائض، ولكم تطوّع: النحر والوتر، وركعتا الضحى"، ورواه الحاكم، وابن عدي، من هذا الوجه، ولفظه:"الأضحى"، بدل "النحر"، و"ركعتا الفجر" بدل "الضحى"، وكذلك رواه الدارقطنيّ، والبيهقيّ، ورواه ابن حبان في "الضعفاء"، وابن شاهين في "ناسخه" من طريق وضاح بن يحيى، عن مندل، عن يحيى بن سعيد، عن عكرمة عنه، بلفظ:"ثلاث عليّ فريضة، وهنّ لكم تطوع: الوتر، وركعتا الفجر، وركعتا الضحى"، والوضاح ضعيف.

فتلخّص ضعف الحديث من جميع طرقه، ويلزم من قال به، أن يقول بوجوب ركعتي الفجر عليه، ولم يقولوا بذلك، وإن كان قد نُقل ذلك عن بعض السلف.

(1)

"الفتح" 12/ 541 - 542.

ص: 318

ووقع في كلام الآمديّ، وابن الحاجب، وقد وَرَدَ ما يعارضه، فروى الدارقطنيّ، وابن شاهين، في "ناسخه" من طريق عبد الله بن مُحَرَّر، عن قتادة، عن أنس، مرفوعا:"أُمرت بالوتر، والاضحى، ولم يُعزم عليّ"، ولفظ ابن شاهين:"ولم يُفرض عليّ"، وعبد الله بن مُحَرَّر متروك. انتهى كلام الحافظ في "التلخيص"

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: ذهب الجمهور من السلف والخلف على أن الأضحيّة سُنَّة مؤكدة، وهو مشهور مذهب مالك، متمسِّكين في ذلك بمداومة النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه على فعلها، وأنه لم يَرِد نصٌّ في وجوبها، بل ولا ظاهر صحيح، سليم من القوادح. وقد رَوَى الترمذيّ عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة عشر سنين يضحي. وسُئل ابن عمر عن الأضحية: أواجبة هي؟ فقال: ضحَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وضحّى المسلمون. قال الترمذيّ: إنهما حديثان حسنان. قال: والعمل على هذا عند أهل العلم: أن الأضحية ليست بواجبة، ولكنها سُنَّة من سنن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وما روي عن بعض السلف مِنْ تركه الأضحية مع تمكّنه، فذلك محمول على أنهم إنما تركوها مخافة أن يُعتقد أنها واجبة. وقال ابن عبد الحكم: سألت مالكًا عن الأضحية: أواجبة هي؟ فقال: إنها سُنَّة. ثم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أُمرت بالأضحى، وهي لكم سُنَّة".

قال القرطبيّ: فأفتى، واستَدَلَّ؛ وهذا يدلّ على صحة هذا الحديث عند مالك؛ إذ قد استدلَّ به، ولا يجوز الاستدلال بما لا يصح.

وقد ذهب إلى وجوب الأضحية طائفة، منهم: الأوزاعيّ، والليث، وأبو حنيفة؛ غير أنه اشترط في الوجوب أن يملك المضحِّي نصابًا. وقد روي القول بالوجوب عن مالك، وبعض أصحابه. وقد تَمَسَّك للقائلون بالوجوب بقول الله تعالى:{فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2)} ، وبما رواه أبو داود وغيره من حديث مِخْنَف بن سُليم، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"يا أيها الناس! إن على كلِّ أهل بيت في كلِّ عام أضحية، وعتيرة، أتدرون ما العتيرة؟ هذه التي يقول الناس: الرَّجبيَّة"، وبظاهر الأمر بالإعادة في الحديث المتقدِّم.

(1)

"تلخيص الحبير" 3/ 118.

ص: 319

قال القرطبيّ: ولا حجَّة في شيء من ذلك. أما الآية فلأنها محتملة لأمور متعددة، ولذلك اختَلَفت أقوال العلماء فيها، فقيل: معناهما: صلِّ الصلوات المعهودة، وَضَعْ يمينك على شمالك، وَضَعْهما على نحرك، قاله عليّ رضي الله عنه، وقال أبو الأحوص: ارفع يديك في التكبير إلى نحرك. وقيل: استقبل القبلة بنحرك في الصلاة. وقال مجاهد: صلِّ بالمزدلفة، وانحر الْهَدْي. وقال عطاء: صلِّ العيد، وانحر الأضحية. ونحوه قال مالك. وقال ابن جبير: ادع لربك، وارفع يديك إلى نحرك عند الدعاء. وقال عطاء: استو بين السجدتين حتى يبدو نحرك.

قال القرطبيّ: وهذه الأقوال كلها؛ الآية قابلة لها؛ على أن الأظهر منها قول من قال: إن المراد بها: صلِّ الصلوات المعهودة، وانحر الهدايا الواجبة؛ تمسُّكًا بالعُرْف المستعمل في ذينك اللفظين، والله أعلم، وعند هذا ظهر أن لا حجَّة في الآية.

وأما قوله: "على كل أهل بيت أضحية، وعَتِيرة": فليس بصحيح. قيل: هو حديث ضعيف على ما قاله أبو محمد عبد الحق وغيره، ولو سُلِّمت صحته فلا حجة فيه لوجهين:

أحدهما: أنه ليس صريحًا في الوجوب، بل قد يقال مثله في المندوب، كما قال في السواك:"وعليكم بالسواك"، وليس السواك واجبًا في الجمعة بالاتفاق، وإنما يُحمل ذلك على أن من أراد تحصيل الأجر الكثير، وإقامة السُّنَّة، فعليه بالسواك والأضحية. وهذا نحو قوله صلى الله عليه وسلم:"من أراد أن يضحي فلا يأخذنَّ من شعره ولا بَشَره شيئًا".

والثاني: عطفُ العتيرة على الأضحية، والعتيرة ليست بواجبةً باتفاق على ما ذكره المازريّ. وقال أبو داود: العتيرة منسوخة. وهذا من قول أبي داود يدلّ على أن العتيرة كانت مشروعة في أول الإسلام، ثم نُسخت، وكذلك قال ابن دريد، قال: العتيرة شاة كانت تُذبح في رجب في الجاهلية يُتقرَّب بها، وكان ذلك في صدر الإسلام أيضًا. والعَتْر: الذبح. قال غيره: وهي فعيلة بمعنى مفعولة، كذبيحة: بمعنى مذبوحة. يقال: عتر الرجل يعتر عترًا، بالفتح: إذا ذبح العتيرة. ويقال: هذه أيام تَرجيب، وتَعتار.

ص: 320

قلت

(1)

: وظاهر قول أبي داود في العتيرة: إنها منسوخة: أنها لم تبق لها مشروعية على جهة الوجوب، ولا الجواز. قال القاضي أبو الفضل: وعامة أهل العلم على تركها للنهي عنها، إلا ابن سيرين فإنَّه كان يذبح العتيرة في رجب، ولم يره منسوخًا؛ يعني: الجواز. وأما الوجوب فمتفق على تركه على ما حكاه المازريّ.

فإن قيل: لا نسلِّم أنَّ نسخ وجوب العتيرة يلزم منه نفي وجوب الأضحية؛ لأنَّ الحديث تضمّن أمرين:

أحدهما: الأضحية - ولم يقل أحدٌ: إنها منسوخة -، والعتيرة وهي المنسوخة، ولا يلزم من نسخِها نسخُها.

فالجواب: إنهما وإن كانا أمرين متغايرين، لكنهما قد اجتمعا في مفيد الوجوب، وهو: على الذي استدللتم بها على الوجوب؛ لأنَّه لمّا عَطَف العتيرة على الأضحية بالواو من غير إعادة "على"، عَلِمْنا أن العتيرة دخلت مع الأضحية في معنى "على". وهو معنى واحدٌ، فإذا رُفع ذلك المعنى عن العتيرة ارتفع عن الأضحية؛ لضرورة الاتحاد. وهذا حكمُ حروف العطف المشَرِّكة في المعنى إذا عُطف بها المفردات. فإنك إذا قلت: قام زيد وعمرو؛ استحال أن يُرفع القيام عن عمرو، ويبقى لزيد، فلو أعاد العامل لصحَّ أن يُرفع حكم أحدهما ويثبت حكم الآخر؛ لأنَّه يكون من باب عَطْف الجُمل، ويجوز عطف الجُمل المختلفة بعضها على بعض. وقد أشبعنا القول في هذا في الأصول. وهو أصل حسن يجب الاعتناء به.

وأما الاستدلال بقوله صلى الله عليه وسلم: "اذبح مكانها أخرى" فقد عضدوه بما جاء في بعض طرق هذا الحديث، من قوله:"أعد نسكًا"، وقوله:"ضحِّ بها - يعني: الجذعة من المعز - ولا تجزي عن أحد بعدك"، ولا حجَّة في شيء من ذلك واضحة؛ لأنَّ المقصود بيان كيفية مشروعية الأضحية لمن أراد أن يفعلها، أو من التزمها فأوقعها على غير الوجه المشروع غلطًا، أو جهلًا، فبيّن له النبيّ صلى الله عليه وسلم وَجْه تداركِ ما فرّط فيه. وهذا هو المعنيّ بقوله:"لا تجزي" أي: لا يحصل

(1)

القائل القرطبيّ.

ص: 321

لك مقصود القربة، ولا الثواب. وهذا كما يقال في صلاة النفل: لا تجزي إلا بطهارة، وستر عورة؛ أي: لا تصح في نفسها؛ إذ لا يحصل مقصود القربة إلا بتمام شروطها. وهذا واضح جدًّا.

وقد استَدَلَّ بعض من رأى الوجوب: بأن الأضحية من شريعة إبراهيم صلى الله عليه وسلم وقد أُمِرنا باتِّباعه؛ لقوله تعالى: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج: 78]، وهذا تَرِد عليه أسئلة كثيرة، قد ذكرناها في الأصول، فلا حجة فيه؛ لأنَّا نقول بموجب ذلك، ونسألهم: هل كانت الأضحية واجبة في شرعه، أو سُنَّة؟ وليس هناك ما يدلّ على شيء من ذلك، فإن استدلوا بقصة الذبيح؛ فتلك قضية خاصة، أو منسوخة، ولا حجة في شيء منها، والله تعالى أعلم. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن بما سبق أن أرجح المذاهب هو ما عليه الجمهور، من استحباب الأضحيّة، استحبابًا أكيدًا، وأنها ليست بواجبة؛ لوضوح أدلّتها.

قال أبو محمد بن حزم رحمه الله في كتابه "المحلّى": الأضحيّة سنّة حسنةٌ، وليست فرضًا، ومن تَرَكها غير راغب عنها، فلا حرج عليه في ذلك، ومن ضحّى عن امرأته، أو ولده، أو أمته، فحسنٌ، ومن لا فلا حرج في ذلك، ثم ذكر الأدلّة على هذا، وأقوال العلماء، وأدلّتهم، وناقشها على عادته، بما لا تراه في غير كتابه، فراجعه تستفد

(2)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): في اختلاف أهل العلم في وقت الأضحيّة:

ذهبت طائفة إلى أنه إذا مضى من نهار يوم العيد، قَدْر ما تَحِلّ فيه الصلاة، وقَدْر الصلاة والخطبتين تامّتين، في أخف ما يكون، فقد دخل وقت الذبح، ولا يُعتبر نفس الصلاة، لا فرق في هذا بين أهل المصر وغيرهم، وهذا مذهب الشافعيّ، وابن المنذر.

وذهبت طائفة إلى أن من شَرْط جواز التضحية، في حقّ أهل المصر، صلاةَ الإمام، وخطبَتَهُ، رُوي نحوُ هذا عن الحسن، والأوزاعيّ، ومالك، وأبي

(1)

"المفهم" 5/ 348 - 352.

(2)

"المحلّى" 7/ 355.

ص: 322

حنيفة، وإسحاق، وهو ظاهر كلام أحمد؛ لِمَا رَوَى جندبُ بن عبد الله البجليّ رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"من ذبح قبل أن يصلي، فليُعِد مكانها أخرى"، وعن البراء رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من صلى صلاتنا، ونَسَك نُسُكَنا، فقد أصاب النُّسك، ومن ذبح قبل أن يصلي، فليُعِد مكانها أخرى"، متفق عليه، وفي لفظ قال:"إن أول نُسُكنا، في يومنا هذا الصلاةُ، ثم الذبح، فمن ذبح قبل الصلاة، فتلك شاة لحم قدّمها لأهله، ليس من النسك في شيء"، وظاهر هذا اعتبار نفس الصلاة.

وذهب عطاء إلى أن وقتها إذا طلعت الشمس؛ لأنها عبادة، يتعلق آخرها بالوقت، فتعلّق أولها بالوقت، كالصيام.

وقال أبو حنيفة: أول وقتها في حقهم، إذا طلع الفجر الثاني؛ لأنه من يوم النحر، فكان وقتها منه كسائر اليوم.

قال ابن قُدامة: والصحيح - إن شاء الله تعالى - أن وقتها، في الموضع الذي يُصَلَّى فيه بعد الصلاة؛ لظاهر الخبر، والعمل بظاهره أَولى، فأما غير أهل الأمصار والقرى، فأول وقتها في حقهم قدر الصلاة، والخطبة بعد الصلاة؛ لأنه لا صلاة في حقّهم تُعتبر، فوجب الاعتبار بقدرها.

قال ابن قُدامة: فإن لم يصلِّ الإمام في المصر لم يَجُز الذبح، حتى تزول الشمس؛ لأنها حينئذ تسقط، فكأنه قد صَلَّى، وسواء ترك الصلاة عمدًا، أو غير عمد؛ لعذر أو غيره.

فأما الذبح في اليوم الثاني، فهو في أول النهار؛ لأن الصلاة فيه غير واجبة، ولأن الوقت قد دخل في اليوم الأول، وهذا من أثنائه، فلا تعتبر فيه صلاة ولا غيرها، وإن صلى الإمام في المصلَّى، واستخلف من صلى في المسجد، فمتى صَلَّوا في أحد الموضعين، جاز الذبح؛ لوجود الصلاة التي يَسقُط بها الفرض، عن سائر الناس، فإن ذبح بعد الصلاة قبل الخطبة، أجزأ في ظاهر كلام أحمد؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم عَلَّق المنع على فعل الصلاة، فلا يتعلق بغيره، ولأن الخطبة غير واجبة، وهذا قول الثوري. انتهى المقصود من كلام ابن قدامة رحمه الله باختصار، وتصرّف.

وقال في "الفتح" - عند قوله: "فلا يذبح، حتى ينصرف" - ما نصّه:

ص: 323

تمسَّك به الشافعية في أن أول وقت الأضحية قدر فراغ الصلاة والخطبة؛ وإنما شرطوا فراغ الخطيب؛ لأن الخطبتين مقصودتان مع الصلاة، في هذه العبادة، فيُعتبر مقدار الصلاة والخطبتين على أخف ما يجزي بعد طلوع الشمس، فإذا ذبح بعد ذلك أجزأه الذبح عن الأضحية، سواء صلى العيد أم لا، وسواء ذبح الإمام أضحيته أم لا، ويستوي في ذلك أهل المصر والحاضر والبادي. ونقل الطحاويّ عن مالك، والأوزاعيّ، والشافعيّ: لا تجوز أضحية قبل أن يذبح الإمام، وهو معروف عن مالك، والأوزاعيّ، لا الشافعيّ.

قال القرطبي: ظواهر الأحاديث تدل على تعليق الذبح بالصلاة، لكن لمّا رأى الشافعيّ، أن من لا صلاة عيد عليه، مخاطَب بالتضحية، حَمَل الصلاة على وقتها. وقال أبو حنيفة، والليث: لا ذبح قبل الصلاة، ويجوز بعدها، ولو لم يذبح الإمام، وهو خاص بأهل المصر، فأما أهل القرى والبوادي، فيدخل وقت الأضحية في حقهم، إذا طلع الفجر الثاني. وقال مالك: يذبحون إذا نحر أقرب أئمة القرى إليهم، فإن نحروا قبلُ أجزأهم. وقال عطاء، وربيعة: يذبح أهل القرى بعد طلوع الشمس. وقال أحمد، وإسحاق: إذا فرغ الإمام من الصلاة، جازت الأضحية، وهو وجه للشافعية، قويّ من حيث الدليل، وإن ضعّفه بعضهم، ومثله قول الثوري: يجوز بعد صلاة الإمام، قبل خطبته، وفي أثنائها، ويَحْتَمِل أن يكون قوله:"حتى ينصرف"؛ أي: من الصلاة، كما في الروايات الأخر، وأصرح من ذلك: ما وقع عند أحمد، من طريق يزيد بن البراء، عن أبيه، رفعه: إنما الذبح بعد الصلاة، ووقع في حديث جندب، عند مسلم:"من ذبح قبل أن يصلي، فليذبح مكانها أخرى"، قال ابن دقيق العيد: هذا اللفظ أظهر في اعتبار فعل الصلاة، من حديث البراء؛ أي: حيث جاء فيه: "من ذبح قبل الصلاة"، قال: لكن إن أجريناه على ظاهره، اقتضى أن لا تجزئ الأضحية، في حق من لم يصلّ العيد، فإن ذهب إليه أحد، فهو أسعد الناس بظاهر هذا الحديث، وإلا وجب الخروج عن هذا الظاهر، في هذه الصورة، ويبقى ما عداها في محل البحث.

وتُعقِّب بأنه قد وقع في "صحيح مسلم"، في رواية أخرى:"قبل أن يصلي"، أو "نصلي" بالشك، قال النووي: الأُولى بالياء، والثانية بالنون، وهو

ص: 324

شك من الراوي، فعلى هذا إذا كان بلفظ "يصلي"، ساوى لفظ حديث البراء، في تعليق الحكم بفعل الصلاة. قال الحافظ: وقد وقع عند البخاريّ، في حديث جندب، في "الذبائح" بمثل لفظ البراء، وهو خلاف ما يوهمه سياق صاحب "العمدة"، فإنه ساقه على لفظ مسلم، وهو ظاهر في اعتبار فعل الصلاة، فإن إطلاق لفظ الصلاة، وإرادة وقتها خلاف الظاهر، وأظهر من ذلك قوله:"قبل أن نصلي"، بالنون، وكذا قوله:"قبل أن ننصرف"، سواء قلنا من الصلاة، أم من الخطبة.

وادّعَى بعض الشافعية أن معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "من ذبح قبل أن يصلي، فليذبح مكانها أخرى"؛ أي: بعد أن يتوجه من مكان هذا القول؛ لأنه خاطب بذلك من حضره، فكأنه قال: من ذبح قبل فعل هذا من الصلاة والخطبة، فليذبح أخرى؛ أي لا يعتدّ بما ذبحه، ولا يخفى ما فيه.

وأورد الطحاويّ ما أخرجه مسلم، من حديث ابن جريج، عن أبي الزبير، عن جابر، بلفظ:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم صلى يوم النحر بالمدينة، فتقدم رجال، فنحروا، وظنوا أن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قد نحر فأمرهم أن يعيدوا"، قال: ورواه حماد بن سلمة، عن أبي الزبير، عن جابر، بلفظ:"أن رجلًا ذبح قبل أن يصلي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنهى أن يذبح أحد قبل الصلاة"، وصححه ابن حبان، ويشهد لذلك قوله في حديث البراء:"إن أول ما نصنع، أن نبدأ بالصلاة، ثم نرجع، فننحر"، فإنه دال على أن وقت الذبح يدخل بعد فعل الصلاة، ولا يُشترط التأخير إلى نحر الإمام، ويؤيده من طريق النظر، أن الإمام لو لم ينحر، لم يكن ذلك مسقطًا عن الناس مشروعية النحر، ولو أن الإمام نحر قبل أن يصلي، لم يجزئه نَحْره، فدل على أنه هو والناس في وقت الأضحية سواء.

وقال المهلّب: إنما كُره الذبح قبل الإمام؛ لئلا يشتغل الناس بالذبح عن الصلاة. انتهى ما في "الفتح"

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن مما ذُكر أن الأرجح - كما تقدّم تصحيحه عن ابن قُدامة رحمه الله أن وقتها، في الموضع الذي يُصَلَّى فيه العيدُ بعد

(1)

"الفتح" 12/ 572 - 574، كتاب "الأضاحي" رقم (5561).

ص: 325

الصلاة؛ لظاهر الخبر، فإن العمل بظاهر الخبر مهما أمكن هو الواجب، فأما غير أهل الأمصار والقرى، فأول وقتها في حقهم قدر الصلاة، والخطبة بعد الصلاة؛ إذا كانوا لا يُصلّون صلاة العيد، حيث كان مذهبهم عدم مشروعيّتها في حقّهم، فوجب الاعتبار بقدرها، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة السادسة): في اختلاف أهل العلم في آخر وقت الأضحيّة:

ذهبت طائفة إلى أن آخره اليوم الثاني من أيام التشريق، فتكون أيام النحر ثلاثة: يوم العيد، ويومان بعده، وهذا قول عمر، وعليّ، وابن عمر، وابن عباس، وأبي هريرة، وأنس رضي الله عنهم، قال أحمد: أيام النحر ثلاثة عن غير واحد، من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي رواية قال: خمسةٍ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يذكر أنسًا، وهو قول مالك، والثوريّ، وأبي حنيفة.

واحتجّ هؤلاء بأن النبيّ صلى الله عليه وسلم، نهى عن ادّخار الأضاحي فوق ثلاث، ولا يجوز الذبح في وقت لا يجوز ادخار الأضحية إليه، ولأن اليوم الرابع لا يجب الرمي فيه، فلم تجز التضحية فيه كالذي بعده، ولأنه قول من ذُكر من الصحابة، ولا مخالف لهم إلا رواية عن علي، وقد روي عنه ما يوافق الأولين.

وتُعقّب بأن النهي عن الادّخار فوق ثلاث؛ لا يستلزم النهي عن الذبح؛ لأن النهي إنما وَرَد لأجل أن يتصدّقوا باللحم على المحتاجين، وهذا لا يمنع الذبح، بل يقتضيه، ودعوى عدم مخالفة الصحابة للمذكورين غير صحيحة.

قال أبو محمد بن حزم رحمه الله بعد ذِكر احتجاجهم بما ذُكر من عدم المخالف لهؤلاء الصحابة - ما نصّه: قد ذكرنا قضايا عظيمة خالفوا فيها جماعة من الصحابة رضي الله عنه، لا يُعرف لهم مخالف، فكيف، ولا يصحّ شيء مما ذكرنا، إلا عن أنس وحده على ما بيّنّا قبلُ؟، وإن كان هذا إجماعًا، فقد خالف عطاء، وعمر بن عبد العزيز، والحسن، والزهريّ، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وسليمان بن يسار الإجماع، وأُفّ لكلّ إجماع يخرُج عنه هؤلاء، وقد روينا عن ابن عباس ما يدلّ على خلافه لهذا القول. انتهى كلام ابن حزم رحمه الله

(1)

.

(1)

"المحلّى" 7/ 378.

ص: 326

وذهبت طائفة إلى أن آخره آخر أيام التشريق، وإليه ذهب الشافعي، وبه قال عطاء، والحسن؛ لأنه روي عن جبير بن مطعم: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أيام منى كلها مَنْحَرٌ"؛ ولأنها أيام تكبير وإفطار، فكانت محلًا للنحر كالأوَّلَين.

وتُعقّب بأن الحديث إنما هو: "ومنى كلها منحر"، ليس فيه ذكر الأيام، والتكبير أعم من الذبح، وكذلك الإفطار، بدليل أول يوم النحر، ويوم عرفة يوم تكبير، ولا يجوز الذبح فيه.

وذهب ابن سيرين إلى أنه لا تجوز الأضحية إلا في يوم النحر خاصة؛ لأنها وظيفة عيد، فلا تجوز إلا في يوم واحد، كأداء الفطرة يوم الفطر، وبه قال سعيد بن جبير، وجابر بن زيد، في حقّ أهل الأمصار، وفي حقّ أهل منى كالقول الأول.

وذهب أبو سلمة بن عبد الرحمن، وعطاء بن يسار إلى أنه تجوز التضحية إلى هلال مُحَرَّم، وقال أبو أمامة بن سهل بن حنيف: كان الرجل من المسلمين، يشتري أضحية، فيُسَمّنها، حتى يكون آخر ذي الحجة، فيضحي بها، رواه الإمام أحمد، بإسناده، وقال: هذا الحديث عجيب، وقال: أيام الأضحى التي أجمع عليها ثلاثة أيام.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن ما ذهب إليه أبو سلمة بن عبد الرحمن، وعطاء بن يسار، ورُوي عن عليّ رضي الله عنه، من جواز التضحية إلى هلال محرّم هو الأرجح؛ لقوّة أدلّته، فقد أخرجه ابن حزم في "المحلّى" من طريق يحيى بن أبي كثير، عن محمد بن إبراهيم التيميّ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، وسليمان بن يسار، قالا جميعًا: بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الأضحى إلى هلال المحرّم لمن أراد أن يستأني بذلك"، قال ابن حزم: هذا من أحسن المراسيل، وأصحّها، فيلزم الحنفيين، والمالكيين القول به، وإلا فقد تناقضوا. انتهى.

قال الجامع: وهذا المرسل يعضده ما أخرجه أبو نعيم في "مستخرجه" من طريق أحمد بن حنبل، عن عباد بن العوّام، قال: أخبرني يحيى بن سعيد، وهو الأنصاريّ، قال: سمعت أبا أمامة بن سهل، قال:"كان المسلمون يشتري أحدهم الأضحيّة، فيُسمّنها، ويذبحها في آخر ذي الحجة".

ص: 327

فهذا أثر صحيح، وقد علّقه البخاريّ في "صحيحه" بصيغة الجزم، وأبو أُمامة، من كبار التابعين، وله رؤية، قد أخبر بأن ذلك كان فعل المسلمين، فصحّ الاحتجاج بالمرسل المذكور؛ لاعتضاده، عند من لا يحتجّ به إلا إذا اعتَضَدَ.

والحاصل أن الحقّ جواز التضحية إلى آخر ذي الحجة، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة السابعة): في اختلاف أهل العلم في زمن ذبح الأضحية:

ذهبت طائفة إلى أنه النهار، دون الليل، قال ابن قُدامة: نصَّ عليه أحمد، في رواية الأثرم، وهو قول مالك، وروي عن عطاء ما يدل عليه. قال: وحكي عن أحمد رواية أخرى، أن الذبح يجوز ليلًا، وهو اختيار أصحابنا المتأخرين، وقول الشافعيّ، وإسحاق، وأبي حنيفة، وأصحابه؛ لأن الليل زمن يصح فيه الرمي، فأشبه النهار.

ووجه الأول قولُ الله تعالى: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} الآية [الحج: 28]، وروي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، أنه نهى عن الذبح بالليل، ولأنه ليلُ يومٍ يجوز الذبح فيه، فأشبه ليلة يوم النحر، ولأن الليل تتعذر فيه تفرقة اللحم في الغالب، فلا يفرَّق طَرِيًّا، فيفوت بعض المقصود، ولهذا قالوا: يُكره الذبح فيه، فعلى هذا إن ذبح ليلًا لم يجزئه عن الواجب، وإن كان تطوعًا، فذَبَحها كانت شاة لحم، ولم تكن أضحية، فإن فرّقها حصلت القربة بتفريقها دون ذبحها. انتهى كلام ابن قُدامة رحمه الله بتصرّف

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن القول بجواز الذبح ليلًا هو الأرجح؛ لأنه ليس هناك نصّ يمنع من ذلك؛ والآية ليس فيها التعرّض للنهي عن ذلك أصلًا، وما ذكروه من الحديث غير ثابت، فقد أخرجه الطبرانيّ في "المعجم الكبير"، وفيه سليمان بن سلمة الْخَبَائريّ، وهو متروك، كما قاله

(1)

"المغني" 13/ 384 - 387.

ص: 328

الحافظ أبو بكر الهيثميّ

(1)

، بل كذّبه بعضهم، كما قال الذهبيّ

(2)

، فتنبّه.

وقد حقّق المسألة أبو محمد بن حزم، مرجّحًا الجواز إلى هلال محرّم، ليلًا ونهارًا، فراجعه تستفد

(3)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الثامنة): في اختلاف أهل العلم فيما إذا فات وقت الذبح:

ذهبت طائفة إلى أنه إذا فات وقت الذبح، ذَبَحَ الواجبَ قضاءً، وصنع به ما يصنع بالمذبوح في وقته، وهو مخيَّر في التطوع، فإن فرّق لحمها كانت القربة بذلك، دون الذبح؛ لأنها شاة لحم، وليست أضحية، وبهذا قال الشافعيّ، وأحمد.

وقال أبو حنيفة: يسلمها إلى الفقراء، ولا يذبحها، فإن ذبحها فرّق لحمها، وعليه أرش ما نَقَصَها الذبح؛ لأن الذبح قد سقط بفوات وقته.

واحتجّ الأولون بأن الذبح أحد مقصودَي الأضحية، فلا يسقط بفوات وقته، كتفرقة اللحم، وذلك أنه لو ذبحها في الأيام، ثم خرجت قبل تفريقها فرّقها بعد ذلك، ويفارق الوقوف، والرمي، ولأن الأضحية لا تسقط بفواتها بخلاف ذلك.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الذي يظهر لي هو الذي قاله الأولون؛ لأن ذمّته مشغولة بوجوبها، فلا تبرأ إلا بذبحها مهما أمكن، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

[تنبيه]: إذا وجبت الأضحية بإيجابه لها، فَضَلَّت، أو سُرِقت بغير تفريط منه، فلا ضمان عليه؛ لأنها أمانة في يده، فإن عادت إليه ذبحها، سواء كان في زمن الذبح، أو فيما بعده. ذكره ابن قُدامة رحمه الله

(4)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1)

"مجمع الزوائد، ومنبع الفوائد" 4/ 23.

(2)

"ميزان الاعتدال" للذهبيّ 2/ 209 - 210.

(3)

راجع: "المحلّى" 7/ 377 - 379.

(4)

"المغني" 13/ 387 - 388.

ص: 329

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5057]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو الأَحْوَصِ سَلَّامُ بْنُ سُلَيْمٍ، عَنِ الأَسْوَدِ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ جُنْدَبِ بْنِ سُفْيَانَ، قَالَ: شَهِدْتُ الأَضْحَى مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا قَضَى صَلَاتَهُ بِالنَّاسِ نَظَرَ إِلَى غَنَمٍ، قَدْ ذُبِحَتْ، فَقَالَ: "مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلَاةِ فَلْيَذْبَحْ شَاةً مَكَانَهَا، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ ذَبَحَ فَلْيَذْبَحْ عَلَى اسْمِ اللهِ").

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم قبل باب.

2 -

(أَبُو الأَحْوَصِ سَلَّامُ بْنُ سُلَيْمٍ) الحنفيّ مولاهم الكوفيّ، ثقةٌ متقنٌ، صاحب حديث [7](ت 179)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 115.

والباقيان ذُكرا قبله.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، كسابقه، وهو (361) من رباعيّات الكتاب.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5058]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَاهُ قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ (ح) وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَابْنُ أَبِي عُمَرَ، عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، كِلَاهُمَا عَنِ الأَسْوَدِ بْنِ قَيْسٍ، بِهَذَا الإسْنَادِ، وَقَالَا: عَلَى اسْمِ اللهِ، كَحَدِيثِ أَبِي الأَحْوَصِ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

وكلهم تقدّموا قريبًا، و"إسحاق بن إبراهيم" هو: ابن راهويه، و"أبو عوانة" هو: وضّاح بن عبد الله اليشكريّ، و"ابن أبي عمر" هو: محمد بن يحيى بن أبي عمر الْعَدَنيّ، ثمّ المكيّ.

وقوله: (كِلَاهُمَا عَنِ الأَسْوَدِ بْنِ قَيْسٍ) ضمير التثنية لأبي عوانة، وابن

ص: 330

عيينة؛ أي: رويا هذا الحديث عن الأسود بن قيس عن جندب بن سفيان رضي الله عنه.

[تنبيه]: رواية أبي عوانة عن الأسود بن قيس ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:

(5181)

- حدّثنا قتيبة، حدّثنا أبو عوانة، عن الأسود بن قيس، عن جندب بن سفيان البجليّ، قال: ضَحّينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أُضْحِيّةً ذات يوم، فإذا أُناس قد ذبحوا ضحاياهم قبل الصلاة، فلمّا انصرف رآهم النبيّ صلى الله عليه وسلم أنهم قد ذبحوا قبل الصلاة، فقال:"من ذبح قبل الصلاة فليذبح مكانها أخرى، ومن كان لم يذبح حتى صلينا، فليذبح على اسم الله". انتهى

(1)

.

وأما رواية ابن عيينة، عن الأسود، فقد ساقها أبو عوانة رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(7830)

- حدثنا يونس بن عبد الأعلى وسعدان بن نصر قالا: ثنا سفيان بن عيينة، عن الأسود بن قيس، سمع جندب بن سفيان، يقول: شَهِدتُ الأضحى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَعَلِم أن ناسًا ذبحوا قبل الصلاة، فقال:"من كان ذبح منكم قبل الصلاة فَلْيُعِدْ، ومن لا فليذبح على اسم الله". انتهى

(2)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5059]

(. . .) - (حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنِ الأَسْوَدِ، سَمِعَ جُنْدَبًا الْبَجَلِيَّ، قَالَ: شَهِدْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم صَلَّى يَوْمَ أَضْحًى، ثُمَّ خَطَبَ، فَقَالَ: "مَنْ كَانَ ذَبَحَ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ فَلْيُعِدْ مَكَانَهَا، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ ذَبَحَ فَلْيَذْبَحْ بِاسْمِ اللهِ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

وكلّهم ذُكروا في الباب، والذي قبله.

وقوله: (يَوْمَ أَضْحًى، ثُمَّ خَطَبَ) قال النوويّ رحمه الله: "أضحًى" مصروف؛ أي: في لغة قيس على أنه مذكّر، ولا يُصرف في لغة بني تميم؛ لأنه عندهم مؤنّثٌ، كما تقدّم بيانه قريبًا.

(1)

"صحيح البخاريّ" 5/ 2095.

(2)

"مسند أبي عوانة" 5/ 72.

ص: 331

وفي هذا أن الخطبة للعيد بعد الصلاة، وهو إجماعٌ الناس اليومَ، وقد سبق بيانه واضحًا في "كتاب الإيمان"، ثم في "كتاب الصلاة"

(1)

.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله قبل بابين، ولله الحمد والمنّة

وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5060]

(. . .) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثنَا شُعْبَةُ، بِهَذَا الإسْنَادِ مِثْلَهُ).

رجال هذا الإسناد: أربعة:

وقد ذُكروا في الباب، وقبله.

[تنبيه]: رواية محمد بن جعفر غُندر، عن شعبة هذه ساقها الرويانيّ رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(958)

- نا محمد بن بشار، نا محمد بن جعفر، نا شعبة، عن الأسود بن قيس، أنه سمع جندب بن عبد الله البجليّ أنه شَهِد النبيّ صلى الله عليه وسلم صلى، ثم خطب، فقال:"من ذبح قبل أن يصلي فليُعِد مكانها أخرى - وربما قال -: فليعد أخرى، ومن لا فليذبح باسم الله". انتهى

(2)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5061]

(1961) - (وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، عَنْ مُطَرِّفٍ، عَنْ عَامِرٍ، عَنِ الْبَرَاءِ، قَالَ: ضَحَّى خَالِي أَبُو بُرْدَةَ قَبْلَ الصَّلَاةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "تِلْكَ شَاةُ لَحْمٍ"، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ عِنْدِي جَذَعَةً مِنَ الْمَعْزِ، فَقَالَ: "ضَحِّ بِهَا، وَلَا تَصْلُحُ لِغَيْرِكَ"، ثُمَّ قَالَ: "مَنْ ضَحَّى قَبْلَ الصَّلَاةِ، فَإنَّمَا ذَبَحَ لِنَفْسِهِ، وَمَنْ ذَبَحَ بَعْدَ الصَّلَاةِ، فَقَدْ تَمَّ نُسُكُهُ، وَأَصَابَ سُنَّةَ الْمُسْلِمِينَ").

(1)

"شرح النوويّ" 13/ 112.

(2)

"مسند الرويانيّ" 2/ 141.

ص: 332

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) بن عبد الرحمن بن يزيد الطحان الواسطي، المزني مولاهم، ثقة ثبت، [8](ت 182) تقدم في "الإيمان" 78/ 407.

2 -

(مُطَرِّفُ) بن طَرِيف، أبو بكر، أو أبو عبد الرحمن الكوفيّ، ثقةٌ فاضلٌ، من صغار [6](ت 141) أو بعد ذلك (ع) تقدم في "الإيمان" 90/ 472.

3 -

(عَامِرُ) بن شَرَاحيل الشعبيّ، تقدّم قريبًا.

4 -

(الْبَرَاءُ) بن عازب، تقدّم أيضًا قريبًا.

وشيخه ذُكر في الباب.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف، وأنه مسلسل بالكوفيين، غير شيخه، فنيسابوريّ، وشيخ شيخه، فواسطيّ.

شرح الحديث:

(عَنِ الْبَرَاءِ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: ضَحَّى خَالِي أَبُو بُرْدَةَ) اسمه هانئ بن نِيَار، وقيل: الحارث بن عمرو، وقيل: مالك بن هُبيرة، الصحابيّ الْبَلَويّ، حليف الأنصار، وشَهِد العقبةَ، وبَدْرًا، والمشاهد، ومات رضي الله عنه سنة (41) وقيل: بعدها، تقدّمت ترجمته في "الحدود" 10/ 4452.

وقال في "الفتح": أبو بردة بن نيار - بكسر النون، وتخفيف الياء المثناة من تحت، وآخره راء - واسمه هانئ، واسم جده عمرو بن عبيد، وهو بَلَوِيّ، من حُلفاء الأنصار، وقد قيل: إن اسمه الحارث بن عمرو، وقيل: مالك بن هُبيرة، والأول هو الأصح، وأخرج ابن منده من طريق جابر الجعفيّ، عن الشعبيّ، عن البراء قال: كان اسم خالي قليلًا، فسمّاه النبيّ صلى الله عليه وسلم كثيرًا، وقال: يا كثير إنما نَسَكْنا بعد صلاتنا، ثم ذكر حديث الباب بطوله، وجابر ضعيف، وأبو بردة ممن شَهِد العقبة، وبدرًا، والمشاهد، وعاش إلى سنة اثنتين، وقيل: خمس وأربعين. انتهى

(1)

.

(قَبْلَ الصَّلَاةِ)؛ أي: قبل صلاة العيد، (فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) بعد أن ذكر

(1)

"الفتح" 12/ 558.

ص: 333

له عذره، ففي الرواية التالية: فقال: "يا رسول الله إن هذا يومٌ اللحم فيه مكروه، وإني عجّلت نسيكتي لأُطعم أهلي، وجيراني، وأهل داري". ("تِلْكَ)؛ أي: الشاة التي ذبحتها قبل الصلاة (شَاةُ لَحْمٍ")؛ أي: شاة يُراد لحمها للأكل، لا شاة نُسُك يُتقرّب بها إلى الله تعالى، وقال النوويّ رحمه الله: معناه؛ أي: ليست أضحيّةً، ولا ثواب فيها، بل هي لحم لك تنتفع به، كما في الرواية الأخرى:"إنما هو لحم قدّمته لأهلك".

[تنبيه]: قد استُشكلت الإضافة في قوله: "شاة لحم"، وذلك أن الإضافة قسمان: معنوية، ولفظية، فالمعنوية إما مقدّرة بـ "من"، كخاتم حديد، أو باللام، كغلام زيد، أو بـ "في"، كضُرب اليوم، معناه ضُرب في اليوم، وأما اللفظية فهي صفةٌ مضافةٌ إلى معمولها، كضارب زيد، وحسن الوجه، ولا يصح شيء من الأقسام الخمسة في "شاة لحم"، قال الفاكهيّ: والذي يظهر لي أن أبا بردة لَمّا اعتَقَد أن شاته شاة أضحية، أوقع في الجواب قوله:"شاة لحم" موقع قوله: شاةٌ غيرُ أضحية. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أنه لا وجه للاستشكال المذكور، فإن الإضافة هنا بمعنى اللام، فيكون المعنى أنها شاة مذبوحة للاستفادة من لحمها، لا لإقامة السنّة بالتضحية بها، وذلك أن القاعدة النحويّة، أن كلّ ما لا يصلح أن تكون إضافته بمعنى "من"، أو "في"، فإنها تكون بمعنى اللام، قال ابن مالك رحمه الله في "خلاصته":

وَالثَّانِيَ اجْرُرْ وَانْوِ "مِنْ" أَوْ "فِي" إِذَا

لَمْ يَصْلُحِ إلَّا ذَاكَ وَاللَّامَ خُذَا

لِمَا سِوَى ذَيْنِكَ وَاخْصُصَ اوَّلَا

أَوْ أَعْطِهِ التَّعْرِيفَ بِالَّذِي تَلَا

(2)

والله تعالى أعلم.

(فَقَالَ) أبو بُردة (يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ عِنْدِي جَذَعَةً) وفي رواية البخاريّ: "إن عندي داجنًا جَذَعةً من المعز"، والداجن التي تألف البيوت، وتستأنس، وليس

(1)

"الفتح" 12/ 558.

(2)

راجع: "شرح الألفية" لابن عَقِيل، مع حاشية الخضريّ 2/ 3/ 4.

ص: 334

لها سنّ معين، ولَمّا صار هذا الاسم عَلَمًا على ما يألف البيوت اضمَحَلّ الوصف عنه، فاستوى فيه المذكر والمؤنث

(1)

.

و"الجذعة": - بفتح الجيم، والذال المعجمة -، قال ابن الأثير رحمه الله: أصل الْجَذَع من أسنان الدوابّ، وهو ما كان منها شابًّا فَتِيًّا، فهو من الإبل ما دخل في السنة الخامسة، ومن البقر والمعز ما دخل في السنة الثانية، وقيل: البقر في الثالثة، ومن الضأن ما تمّت له سنة، وقيل: أقلّ منها، ومنهم من يخالف بعض هذا في التقدير. انتهى

(2)

.

وقال الفيّوميّ رحمه الله: "الجَذَعَة" - بفتحتين - أُنثى الْجَذَع، جَمْعها جَذَعات، مثلُ قَصَبَة وقَصَبَات، والْجَذَع - بفتحتين أيضًا: ما قَبْل الثنيّ، والجمع جِذَاع، مثلُ جبل وجبال، وجُذْعان، بضمّ الجيم، وكسرها، وأَجْذَعَ ولدُ الشاة في السنة الثانية، وأجذع ولد البقرة، والحافر في الثالثة، وأجذع الإبل في الخامسة، فهو جذَعٌ. وقال ابن الأعرابي: الإجذاع وقتٌ، وليس بسنّ، فالعناق تُجذع لسنة، وربّما أجذعت قبل تمامها للخِصْب، فَتَسْمُنُ، فيُسرع إجذاعها، فهي جذعة، ومن الضأن إذا كان من شابّين يُجذع لستّة أشهر إلى سبعة، وإذا كان من هرمين أجذع من ثمانية إلى عشرة. انتهى

(3)

.

وقال في "الفتح": اختَلَف القائلون بإجزاء الجذع من الضأن، وهم الجمهور، في سِنِّه على آراء:

[أحدها]: أنه ما أكمل سنة، ودخل في الثانية، وهو الأصح عند الشافعية، وهو الأشهر عند أهل اللغة.

[ثانيها]: نصف سنة، وهو قول الحنفية، والحنابلة.

[ثالثها]: سبعة أشهر، وحكاه صاحب "الهداية" من الحنفية، عن الزعفراني.

[رابعها]: ستة، أو سبعة، حكاه الترمذيّ عن وكيع.

(1)

"الفتح" 12/ 558.

(2)

"النهاية في غريب الحديث والأثر" ص 143.

(3)

"المصباح المنير" 1/ 94.

ص: 335

[خامسها]: التفرقة بين ما تولّد بين شابّين، فيكون له نصف سنة، أو بين هَرِمين، فيكون ابن ثمانية.

[سادسها]: ابن عشر.

[سابعها]: لا يجزي حتى يكون عظيمًا، حكاه ابن العربيّ، وقال: إنه مذهب باطل، كذا قال، وقد قال صاحب "الهداية": إنه إذا كانت عظيمة، بحيث لو اختلطت بالثنيات، اشتبهت على الناظر من بعيد، أجزأت. وقال العبادي من الشافعية: لو أجذع قبل السنة؛ أي: سقطت أسنانه، أجزأ كما لو تمّت السنة قبل أن يُجذِع، ويكون ذلك كالبلوغ، إمّا بالسن، وإما بالاحتلام، وهكذا قال البغوي: الجذع ما استكمل السنة، أو أجذع قبلها. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الظاهر أن القول الأول هو الأرجح؛ لشهرته عند أهل اللغة؛ لأن الشارع إنما يأمر بما هو متعارف عند أهل اللغة؛ إلا أن يكون هناك دليل يصرفه إلى غيره، والله تعالى أعلم بالصواب.

وقوله: (مِنَ الْمَعْزِ) بيان لـ "جذعة"، وهو بفتح الميم، وسكون العين المهملة، وتُفتح، قال الفيّوميّ: المعز: اسم جنس، لا واحد له من لفظه، وهي ذوات الشعر من الغنم، الواحدة شاةٌ، وهي مؤنّثة، وتُفتح العين، وتُسكّن، وجمْع الساكن: أَمْعُزٌ، ومَعِيزٌ، مثلُ عَبْد، وأَعْبُدٍ، وعَبِيدٍ، والمِعْزَى أَلِفها للإلحاق، لا للتأنيث، ولهذا يُنَوّن في النكرة، ويُصغّرُ على مُعَيْزٍ، ولو كانت للتأنيث لم تُحذَف، والذَّكَر ماعزٌ، والأنثى ماعزة. انتهى

(2)

.

(فَقَالَ) النبيّ صلى الله عليه وسلم ("ضَحِّ بِهَا)؛ أي: بتلك الجذعة، (وَلَا تَصْلُحُ) بضمّ اللام، وفتحها، وماضيه كنصر، ونفع، وكرُم، (لِغَيْرِكَ")؛ يعني: أنها خصوصيّة لك، لا تعمّ غيرك، (ثُمَّ قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("مَنْ ضَحَّى)؛ أي: ذبح أضحيّته (قَبْلَ الصَّلَاةِ)؛ أي: قبل صلاة العيد، (فَإنَّمَا ذَبَحَ لِنَفْسِهِ)؛ أي: لِنَفْع نفسه، لا ليُقيم به السُّنَّة، (وَمَنْ ذَبَحَ بَعْدَ الصَّلَاةِ، فَقَدْ تَمَّ نُسُكُهُ)؛ أي: عبادته، (وَأَصَابَ سُنَّةَ الْمُسْلِمِينَ")؛ أي: طريقتهم، وهي التضحية في وقتها، وهو ما قبل صلاة العيد.

(1)

"الفتح" 12/ 563، كتاب "الأضاحي" رقم (5556).

(2)

"المصباح المنير" 2/ 575.

ص: 336

وقال في "الفتح": قوله: "ثم قال: من ذبح قبل الصلاة"؛ أي: صلاة العيد، "فإنما يذبح لنفسه"؛ أي: وليس أضحية، "ومن ذبح بعد الصلاة، فقد تمّ نسكه"؛ أي: عبادته، "وأصاب سُنَّة المسلمين"؛ أي: طريقتهم.

قال: هكذا وقع في هذه الرواية أن هذا الكلام وقع بعد قصة أبي بردة بن نيار، والذي في معظم الروايات، كما سيأتي قريبًا من رواية زُبيد، عن الشعبيّ أن هذا الكلام من النبيّ صلى الله عليه وسلم وقع في الخطبة بعد الصلاة، وأن خطاب أبي بردة بما وقع له كان قبل ذلك، وهو المعتمَد، ولفظه: سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يخطب، فقال:"إن أول ما نبدأ به من يومنا هذا أن نصلي، ثم نرجع، فننحر، فمن فَعَل هذا فقد أصاب سُنَّتنا"، فقال أبو بردة:"يا رسول الله، ذبحت قبل أن أصلي"، وفي رواية منصور، عن الشعبيّ، عن البراء، قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأضحى بعد الصلاة، فقال:"من صلى صلاتنا، ونَسَك نُسُكنا، فقد أصاب النُّسُك، ومن نَسَك قبل الصلاة، فإنه لا نُسُك له"، فقال أبو بردة. . . فذكر الحديث. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث البراء بن عازب رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنف) هنا [1/ 5061 و 5062 و 5063 و 5064 و 5065 و 5066 و 5067 و 5068 و 5069 و 5070](1961)، و (البخاريّ) في "العيدين"(951 و 955 و 965 و 983) و"الأضاحي"(5545 و 5556 و 5557 و 5560) و"الأيمان والنذور"(6673)، و (أبو داود) في "الضحايا"(2800)، و (الترمذيّ) في "الأضاحي"(1508)، و (النسائيّ) في "العيد"(182 و 184 و 190) و"الضحايا"(7/ 223) و"الكبرى"(1/ 554 و 3/ 60)، و (الشافعيّ) في "سننه" 588)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(743)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 281 و 287 و 297 و 303)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 80)، و (ابن خزيمة)

(1)

"الفتح" 12/ 563، كتاب "الأضاحي" رقم (5556).

ص: 337

في "صحيحه"(1427)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5906 و 5907 و 5908 و 5910 و 5911)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(22/ 194)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(3/ 225)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(5/ 73 - 74)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(4/ 172)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(908)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(9/ 269 و 276)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(1114)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان حكم ذبح الأضحية قبل الإمام، وهو عدم الجواز، وقد تقدّم بيان اختلاف العلماء فيه في المسائل المذكورة في شرح حديث جندب بن سفيان رضي الله عنه أول الباب.

2 -

(ومنها): أنه استُدلّ به على وجوب الأضحية، على من التزم الأضحية، فأفسد ما يُضحِّي به، وردّه الطحاوي بأنه لو كان كذلك، لتعرّض إلى قيمة الأُولى ليلزم بمثلها، فلما لم يَعتبر ذلك دلّ على أن الأمر بالإعادة، كان على جهة الندب، وفيه بيانُ ما يجزي في الأضحية، لا على وجوب الإعادة.

3 -

(ومنها): أن المرجع في الأحكام إنما هو إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأنه قد يَخُصّ بعض أمته بحكم، ويمنع غيره منه، ولو كان بغير عذر.

4 -

(ومنها): أن خطاب الشارع للواحد يعمّ جميع المكلفين، حتى يَظهر دليل الخصوصية؛ لأن السياق يُشعر بأن قوله لأبي بردة:"ضَحِّ به" - أي: بالجذع - لو كان يفهم منه تخصيصه بذلك، لَمَا احتاج إلى أن يقول له:"ولن تجزي عن أحد بعدك".

ويَحْتَمِل أن تكون فائدة ذلك قطع إلحاق غيره به في الحكم المذكور، لا أن ذلك مأخوذ من مجرد اللفظ، وهو قويّ.

5 -

(ومنها): أن من ذبح قبل الصلاة لم يجزئه، ولزمه البدل، قال ابن قُدامة رحمه الله: وهذا محمول على الأضحية الواجبة بنذر، أو تعيين، فإن كانت غير واجبة بواحد من الأمرين، فهي شاة لحم، ولا بدل عليه، إلا أن يشاء؛ لأنه قصد التطوع، فأفسده، فلم يجب عليه بدله، كما لو خرج بصدقة تطوع،

ص: 338

فدفعها إلى غير مستحقها، والحديث يُحمل على أحد أمرين: إما على الندب، وإما على التخصيص بمن وجبت عليه، بدليل ما ذكرنا، فأما الشاة المذبوحة فهي شاة لحم، كما وصفها النبيّ صلى الله عليه وسلم، ومعناه: يصنع بها ما شاء، كشاةٍ ذبحها للحمها، لا لغير ذلك، فإن هذه إن كانت واجبة، فقد لزمه إبدالها، وذَبْح ما يقوم مقامها، فخرجت هذه عن كونها واجبة، كالهدي الواجب، إذا عَطِب دون محله، وإن كان تطوعًا، فقد أخرجها بذبحه إياها قبل محلها عن القربة، فبقيت مجرد شاة لحم.

ويَحْتَمِل أن يكون حكمها حكم الأضحية، كالهدي إذا عَطِب، لا يخرج عن حكم الهدي على رواية، ويكون معنى قوله:"شاة لحم"؛ أي: في فضلها، وثوابها خاصة، دون ما يصنع بها. انتهى.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الاحتمال الأول عندي هو الأظهر، والله تعالى أعلم.

6 -

(ومنها): أنه استُدلّ بقوله: "اذبح مكانها أخرى"، وفي لفظ:"أَعِد نسكًا"، وفي لفظ:"ضَحِّ بها"، وغير ذلك من الألفاظ المصرحة بالأمر بالأضحية، على وجوب الأضحية، قال القرطبي في "المفهم": ولا حجة في شيء من ذلك، وإنما المقصود بيان كيفية مشروعية الأضحية، لمن أراد أن يفعلها، أو من أوقعها على غير الوجه المشروع خطأً، أو جهلًا، فبَيَّن له وجه تدارك ما فرّط منه، وهذا معنى قوله:"لا تجزي عن أحد بعدك"؛ أي: لا يحصل له مقصود القربة، ولا الثواب، كما يقال في صلاة النفل: لا تجزي إلا بطهارة، وستر عورة، قال: وقد استدل بعضهم للوجوب بأن الأضحية من شريعة إبراهيم الخليل عليه السلام، وقد أُمرنا باتباعه، ولا حجة فيه؛ لأنا نقول بموجبه، ويُلزمهم الدليل على أنها كانت في شريعة إبراهيم واجبة، ولا سبيل إلى علم ذلك، ولا دلالة في قصة الذبيح للخصوصية التي فيها، والله أعلم.

7 -

(ومنها): أنَّ فيه أن الإمام يُعلّم الناس في خطبة العيد أحكام النحر.

8 -

(ومنها): أن فيه جوازَ الاكتفاء في الأضحية بالشاة الواحدة، عن الرجل وعن أهل بيته، وبه قال الجمهور، وعن أبي حنيفة، والثوريّ: يكره، وقال الخطابيّ: لا يجوز أن يضحى بشاة واحدة عن اثنين، وادَّعَى نسخ ما دلّ

ص: 339

عليه حديث عائشة رضي الله عنها: "ضَحّى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نسائه بالبقر"، رواه البخاريّ، وتُعقِّب بأن النسخ لا يثبت بالاحتمال.

9 -

(ومنها): أن فيه أن العمل وإن وافق نية حسنة، لم يصحّ إلا إذا وقع على وفق الشرع.

10 -

(ومنها): أن فيه جوازَ أكل اللحم يوم العيد، من غير لحم الأضحية؛ لقوله:"إنما هو لحم قدّمه لأهله".

11 -

(ومنها): أن فيه كرم الربّ سبحانه وتعالى؛ لكونه شرع لعبيده الأضحية، مع ما لهم فيها من الشهوة بالأكل والادّخار، ومع ذلك فاثبت لهم الأجر في الذبح، ثم من تصدق أثيب، وإلا لم يأثم.

12 -

(ومنها): أن فيه تخصيصَ أبي بردة بإجزاء الجذَع من المعز في الأضحية، لكن وقع في عدة أحاديث التصريح بنظير ذلك لغير أبي بردة، ففي حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه:"ولا رخصة فيها لأحد بعدك".

قال البيهقيّ: إن كانت هذه الزيادة محفوظة، كان هذا رخصة لعقبة، كما رخص لأبي بردة.

قال الحافظ: وفي هذا الجمع نظر؛ لأن في كل منهما صيغة عموم فأيُّهما تَقَدَّم على الآخر اقتضى انتفاء الوقوع للثاني، وأقرب ما يقال فيه: إن ذلك صَدَرَ لكل منهما في وقت واحد، أو تكون خصوصية الأول نُسِخت بثبوت الخصوصية للثاني، ولا مانع من ذلك؛ لأنه لم يقع في السياق استمرار المنع لغيره صريحًا، وقد انفصل ابن التين، وتبعه القرطبيّ، عن هذا الإشكال باحتمال أن يكون الْعَتُود، كان كبير السنّ، بحيث يجزيء، لكنه قال ذلك، بناءً على أن الزيادة التي في آخره، لم تقع له، ولا يتم مراده مع وجودها، مع مصادمته لقول أهل اللغة في العتود. وتمسك بعض المتأخرين بكلام ابن التين، فضعّف الزيادة، وليس بجيد، فإنها خارجة من مخرج الصحيح، فإنها عند البيهقي، من طريق عبد الله البوشنجي، أحد الأئمة الكبار في الحفظ والفقه، وسائر فنون العلم، رواها عن يحيى بن بكير، عن الليث، بالسند الذي ساقه البخاريّ، ولكني رأيت الحديث في "المتفق للجوزقي"، من طريق عبيد بن عبد الواحد، ومن طريق أحمد بن إبراهيم بن مِلْحان، كلاهما عن يحيى بن

ص: 340

بكير، وليست الزيادة فيه، فهذا هو السرّ في قول البيهقيّ: إن كانت محفوظة، فكأنه لَمّا رأى التفرد، خشي أن يكون دخل على راويها، حديث في حديث.

وقد وقع في كلام بعضهم أن الذين ثبتت لهم الرخصة أربعة، أو خمسة، واستَشكَلَ الجمعَ، وليس بمشكِل، فإن الأحاديث التي وردت في ذلك، ليس فيها التصريح بالنفي، إلا في قصة أبي بردة في "الصحيحين"، وفي قصة عقبة بن عامر في البيهقيّ، وأما ما عدا ذلك، فقد أخرج أبو داود، وأحمد، وصححه ابن حبان، من حديث زيد بن خالد: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أعطاه عَتُودًا جَذَعًا، فقال:"ضَحِّ به"، فقلت: إنه جذع، أفأضحي به؟ قال:"نعم، ضحِّ به"، فضحّيت به، لفظ أحمد.

وفي "صحيح ابن حبان"، وابن ماجه، من طريق عباد بن تميم، عن عويمر بن أشقر، أنه ذبح أضحيته، قبل أن يغدو يوم الأضحى، فأمره النبيّ صلى الله عليه وسلم، أن يعيد أضحية أخرى.

وفي الطبرانيّ الأوسط، من حديث ابن عباس: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم، أعطى سعد بن أبي وقاص جَذَعًا، من المعز، فأمره أن يُضحّي به، وأخرجه الحاكم، من حديث عائشة، وفي سنده ضعف.

ولأبي يعلى، والحاكم، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن رجلًا قال: يا رسول الله، هذا جذع من الضأن مهزول، وهذا جذع من المعز سمين، وهو خيرهما، أفأضحي به؟، قال:"ضحّ به، فإن لله الخير"، وفي سنده ضعف.

قال الحافظ رحمه الله: والحق أنه لا منافاة بين هذه الأحاديث، وبين حديثي أبي بردة، وعقبة؛ لاحتمال أن يكون ذلك في ابتداء الأمر، ثم قرَّر الشرع بأن الجذع من المعز لا يجزي، واختُصَّ أبو بردة، وعقبة بالرخصة في ذلك، وإنما قلت ذلك؛ لأن بعض الناس، زعم أن هؤلاء شاركوا عقبة، وأبا بردة في ذلك، والمشاركةُ إنما وقعت في مطلق الإجزاء، لا في خصوص منع الغير.

ومنهم من زاد فيهم: عويمر بن أشقر، وليس في حديثه إلا مطلق الإعادة؛ لكونه ذبح قبل الصلاة.

وأما ما أخرجه ابن ماجه، من حديث أبي زيد الأنصاريّ رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل من الأنصار: "اذبحها، ولن تجزي جذعة عن أحد

ص: 341

بعدك"، فهذا يُحمَل على أنه أبو بردة بن نِيَار، فإنه من الأنصار.

وكذا ما أخرجه أبو يعلى، والطبرانيّ، من حديث أبي جحيفة: أن رجلًا ذبح قبل الصلاة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا تجزي عنك"، قال: إن عندي جذعة، فقال:"تجزي عنك، ولا تجزي بعدُ"، فلم يثبت الإجزاء لأحد، ونفيه عن الغير، إلا لأبي بردة، وعقبة، وإن تعذّر الجمع الذي قدّمته، فحديث أبي بردة أصح مخرجًا، والله أعلم.

قال الفاكهيّ: ينبغي النظر في اختصاص أبي بردة بهذا الحكم، وكشف السرّ فيه.

وأجيب بأن الماورديّ قال: إن فيه وجهين:

[أحدهما]: أن ذلك كان قبل استقرار الشرع، فاستثنى.

[والثاني]: أنه عَلِمَ من طاعته، وخلوص نيّته ما ميّزه عمن سواه.

قال الحافظ: وفي الأول نظر؛ لأنه لو كان سابقًا، لامتنع وقوع ذلك لغيره، بعد التصريح بعدم الإجزاء لغيره، والفرض ثبوت الإجزاء لعدد غيره، كما تقدم. انتهى كلام الحافظ رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا البحث الذي تقدّم من الحافظ بحث نفيسٌ جدًّا، وخلاصته أن الجذع من المعز لا يُجوز التضحية به، إلا لمن خصّه الشارع، وهما أبو بُردة بن نيار، وعقبة بن عامر رضي الله عنهما، ومن عداهما ممن رُوي أنه صلى الله عليه وسلم أمره أن يُضحّي بالجذع، فمحمول على ما قبل استقرار النهي عن التضحية به، وأما الجذع من الضأن، فسيأتي أنه تجوز التضحية به، بل قال النوويّ: إنه مذهب كافّة العلماء، فتنبّه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5062]

(. . .) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ دَاوُدَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، أَنَّ خَالَهُ أبا بُرْدَةَ بْنَ نِيَارٍ ذَبَحَ قَبْلَ أَنْ يَذْبَحَ

(1)

"الفتح" 12/ 560 - 562، كتاب "الأضاحي" رقم (5556).

ص: 342

النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ هَذَا يَوْمٌ اللَّحْمُ فِيهِ مَكْرُوهٌ، وَإِنِّي عَجَّلْتُ نَسِيكَتِي لأُطْعِمَ أَهْلِي، وَجِيرَانِي، وَأَهْلَ دَارِي، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"أَعِدْ نُسُكًا"، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ عِنْدِي عَنَاقَ لَبَنٍ، هِيَ خَيْرٌ مِنْ شَاتَيْ لَحْمٍ، فَقَالَ:"هِيَ خَيْرُ نَسِيكَتَيْكَ، وَلَا تَجْزِي جَذَعَةٌ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(هُشَيْمُ) بن بَشِير، تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(دَاوُدُ) بن أبي هند، تقدّم قريبًا.

والباقون ذُكروا قبله.

وقوله: (إِنَّ هَذَا يَوْمٌ اللَّحْمُ فِيهِ مَكْرُوهٌ) قال القاضي عياض: كذا رويناه في مسلم: "مكروه" بالكاف والهاء، من طريق السجزيّ، والفارسيّ، وكذا ذكره الترمذيّ، قال: رويناه في مسلم من طريق العذريّ: "مقروم" بالقاف والميم، قال: وصوّب بعضهم هذه الرواية، وقال: معناه يُشتهى فيه اللحم، يقال: قَرِمتُ

(1)

إلى اللحم، وقَرِمته: إذا اشتهيته، قال: وهي بمعنى قوله في غير مسلم: "عَرَفت أنه يوم أكل وشرب، فتعجلت، وأكلت، وأطعمت أهلي، وجيراني"، وكما جاء في الرواية الأخرى:"إن هذا يوم يُشْتَهَى فيه اللحم"، وكذا رواه البخاريّ، قال القاضي: وأما رواية: "مكروه"، فقال بعض شيوخنا: صوابه: اللَّحَمُ فيه مكروه، بفتح الحاء؛ أي: تركُ الذبح، والتضحية، وبقاء أهله فيه بلا لحم حتى يشتهوه مكروه، واللَّحَم بفتح الحاء: اشتهاء اللحم، قال القاضي: وقال لي الأستاذ أبو عبد الله بن سليمان: معناه: ذَبْح ما لا يجزي في الأضحية مما هو لحم مكروه؛ لمخالفة السُّنَّة، هذا آخر ما ذكره القاضي.

وقال الحافظ أبو موسى الأصبهانيّ: معناه: هذا يومٌ طلبُ اللحم فيه مكروه شاقّ، وهذا حسنٌ، والله أعلم. انتهى

(2)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: وقوله: "إن هذا يومٌ اللحم فيه مكروه"، قال

(1)

من باب تعب، كما تفيده عبارة "الصحاح".

(2)

"إكمال المعلم" 6/ 404 - 405، و"شرح النوويّ" 13/ 113.

ص: 343

القاضي: هكذا رويناه بالهاء والكاف من طريق الفارسيّ، والسجزيّ، وكذا ذكره الترمذيّ، ورويناه من طريق العذريّ:"مقروم" بالقاف والميم.

قال القرطبيّ: وهذه الرواية هي الصواب الواضح. ومعناها: أن اللحم في هذا اليوم تتشوَّف النفوس إليه لشهوتها، يقال: قَرِمْتُ إلى اللحم، وقَرِمْتُه: إذا اشتهيته، أَقْرَمُ قَرَمًا. وأما رواية "مكروه" ففيها بُعْد، وقد تكلَّف لها بعضهم ما لا يصحّ روايةً ولا معنى، فقال: صوابه: اللَّحَم - بفتح الحاء - قال: ومعناه: أن يترك أهله بلا لحم حتى يشتهوه. و"اللَّحم" - بالفتح -: شهوة اللحم، فانظر مع هذا التكلُّف القبيح كيف لا يظهر منه معنى صحيح. وقال آخر: معنى: "اللحم فيه مكروه"؛ أي: لمخالفته السُّنَّة، كما قال في الحديث الآخر:"شاتك شاة لحم".

قال القرطبيّ: وهذا من قول من لم يتأمل مساق الحديث، فإنَّ هذا التأويل ليس ملائمًا له، ولا موافقًا لمعناه؛ إذ لا يستقيم أن يقول: إن هذا اليوم اللحم فيه مخالف للسُّنَّة، وإني عجلت نسيكتي لأطعم أهلي، وهذا فاسد، وأقرب ما يتكلّف لهذه الرواية وأنسبه أن يقال: إن معناه: اللحم فيه مكروه التأخير، فحذف التأخير، وهو يريده، ويشهد لهذا قوله بعده متصلًا به:"وإني عجلت نسيكتي لأطعم أهلي وجيراني"، وهذا مناسب لِمَا قدَّرناه من المحذوف، والله تعالى أعلم. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(1)

.

وقال في "الفتح" عند قوله: "إن هذا يوم يُشتَهَى فيه اللحم" ما نصّه: في رواية داود بن أبي هند، عن الشعبيّ عند مسلم:"فقال: يا رسول الله إن هذا يوم اللحم فيه مكروه"، وفي لفظ له:"مقروم"، وهو بسكون القاف، قال عياض: رَوَيناه في مسلم من طريق الفارسيّ، والسجزيّ:"مكروه"، ومن طريق العذري: مقروم، وقد صوّب بعضهم هذه الرواية الثانية. . . إلى آخر ما تقدّم من كلام عياض.

ثم قال: وبالغ ابن العربيّ، فقال: الرواية بسكون الحاء هنا غَلَطٌ، وإنما

(1)

"المفهم" 5/ 358 - 359.

ص: 344

هو اللَّحَم بالتحريك، يقال: لَحِمَ الرجلُ بكسر الحاء يَلْحَم بفتحها: إذا كان يشتهي اللحم.

وأما القرطبيّ في "المفهم"، فقال: تكلّف بعضهم ما لا يصح روايةً إلى آخر ما تقدّم عن القرطبيّ.

قال: وقال النوويّ: ذكر الحافظ أبو موسى أن معناه: هذا يومٌ طلبُ اللحم فيه مكروه شاقّ، قال: وهو معنى حسن، قال الحافظ: يعني طلبه من الناس كالصديق والجار، فاختار هو أن لا يحتاج أهله إلى ذلك، فأغناهم بما ذبحه عن الطلب.

ووقع في رواية منصور، عن الشعبيّ:"وعرفت أن اليوم يوم أكل وشرب، فأحببت أن تكون شاتي أول ما يذبح في بيتي".

قال الحافظ: ويظهر لي أن بهذه الرواية يَحصل الجمع بين الروايتين المتقدمتين، وأن وَصْفه اللحم بكونه مُشتَهًى، وبكونه مكروهًا لا تناقض فيه، وإنما هو باعتبارين، فمن حيث إن العادة جرت فيه بالذبائح، فالنفس تتشوق له يكون مُشتهًى، ومن حيث توارد الجميع عليه حتى يكثر يصير مملولًا، فأُطلقت عليه الكراهة لذلك، فحيث وصفه بكونه مشتهى أراد ابتداء حاله، وحيث وصفه بكونه مكروهًا أراد انتهاءه، ومن ثَمَّ استعجل بالذبح؛ ليفوز بتحصيل الصفة الأولى عند أهله، وجيرانه. انتهى ما في "الفتح"

(1)

، وهو بحث مفيدٌ، والله تعالى أعلم.

وقوله: (أَعِدْ نُسُكًا) بضمّتين، أو بضمّ، فسكون؛ أي: ذبيحتك

(2)

.

وقال ابن الأثير رحمه الله: قد تكرر ذِكْر المَناسِك، والنُّسُك، والنَّسِيكة في الحديث، فالمَناسِكُ: جمع مَنْسَكٍ، بفتح السين وكسرها، وهو المُتَعبَّد، ويَقَع على المصدر، والزمان، والمكان، ثم سُمِّيَت أمورُ الحجِّ كلها مَناسِكَ، والمَنْسِك: المَذْبَحُ، وقد نَسَك يَنْسُك نَسْكًا: إذا ذَبَحَ، والنَّسيكة: الذَّبيحة، وجَمْعُها: نُسُك، والنُّسْك والنُّسُك أيضًا: الطاعة، والعبادة، وكلُّ ما تُقُرِّبَ به إلى الله تعالى. انتهى

(3)

.

(1)

"الفتح" 12/ 547 - 548.

(2)

"القاموس" ص 1282.

(3)

"النهاية في غريب الأثر" 5/ 117.

ص: 345

وقوله: (إِنَّ عِنْدِي عَنَاقَ لَبَنٍ. . . إلخ) قال النوويّ رحمه الله: العناق - بفتح العين - وهي الأنثى من المعز، إذا قَوِيت ما لم تستكمل سنةً، وجمعها أَعْنُقٌ، وعُنُوقٌ، وأما قوله:"عناق لبن" فمعناه صغيرةٌ، قريبةٌ مما ترضع. انتهى

(1)

.

وقوله: (هِيَ خَيْرٌ مِنْ شَاتَيْ لَحْمٍ)؛ أي: أطيب لحمًا، وأنفع لسمنها، ونفاستها، وفيه إشارة إلى أن المقصود في الضحايا طيب اللحم، لا كثرته، فشاة نفيسة أفضل من شاتين غير سمينتين بقيمتها، وقد سبقت المسألة في "كتاب الإيمان"، مع الفرق بين الأضحية والعتق، ومختصره أن تكثير العدد في العتق مقصود، فهو الأفضل، بخلاف الأضحية. انتهى

(2)

.

وقوله أيضًا: (فَإنَّ عِنْدِي عَنَاقَ لَبَنٍ) بفتح العين المهملة، والإضافةِ إلى اللبن، و"العناق" هي الأنثى من أولاد المعز، دون المسنّة، وإضافتها إلى اللبن، إما للدلالة على أنها صغيرة، ترضع اللبن، أو للدلالة على أنها سمينة، أُعدّت للّبن. وفي رواية النسائيّ:"فإن عندي عَناقًا جذعةً"، وفي رواية البخاريّ:"إن عندي داجنًا جذعةً من المعز"، قال في "الفتح": والداجن: هي التي تَأْلَف البيوت، وتستأنس، وليس لها سنّ معين، ولمّا صار هذا الاسم عَلَمًا، على ما يَألَف البيوت، اضمحلّ الوصف عنه، فاستوى فيه المذكر والمؤنث، والجذعة تقدم بيانها، وقد بيَّن في هذه الرواية أنها من المعز.

قال: والعَنَاق - بفتح العين، وتخفيف النون -: الأنثى من ولد المعز، عند أهل اللغة، ولم يُصِب الداودي في زعمه، أن العناق هي التي استَحَقَّت أن تَحمل، وأنها تُطلق على الذكر والأنثى، وأنه بَيَّنَ بقوله:"لبن"، أنها أنثى. قال ابن التين: غَلِطَ في نقل اللغة، وفي تأويل الحديث، فإن معنى "عناق لبن": أنها صغيرة سن، تَرْضَع أمها.

ووقع عند الطبراني، من طريق سهل بن أبي حثمة، أن أبا بردة، ذبح ذبيحته بسَحَر، فذكر ذلك للنبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال:"إنما الأضحية ما ذُبح بعد الصلاة، اذهب فَضَحّ"، فقال: ما عندي إلا جذعة من المعز. . . الحديث. وزاد في رواية أخرى: "هي أحب إلي من شاتين". وفي رواية لمسلم: "من شاتي لحم".

(1)

"شرح النوويّ" 13/ 113.

(2)

"شرح النوويّ" 13/ 113.

ص: 346

والمعنى أنها أطيب لحمًا، وأنفع للآكلين؛ لِسِمَنِها، ونفاستها.

وقد استشكل هذا بما ذُكر أن عِتق نفسين أفضل، مِنْ عتق نفس واحدة، ولو كانت أنفس منهما.

وأجيب بالفرق بين الأضحية والعتق، أن الأضحية يُطلَب فيها كثرة اللحم، فتكون الواحدة السمينة أولى من الهزيلتين، والعتق يطلب فيه التقرب إلى الله بفك الرقبة، فيكون عتق الاثنين أولى من عتق الواحدة، نعم إن عرض للواحد وصف يقتضي رِفعته على غيره، كالعلم، وأنواع الفضل المتعدي، فقد جزم بعض المحققين بأنه أَولى؛ لعموم نفعه للمسلمين. ووقع في رواية أخرى:"وهي خير من مسنة"، وحكى ابن التين عن الداودي أن المسنة التي سقطت أسنانها للبدل، وقال أهل اللغة: المسنّ الثَّنِيُّ الذي يُلقي سنهُ، ويكون في ذات الخف، في السنة السادسة، وفي ذات الظلف والحافر، في السنة الثالثة. وقال ابن فارس: إذا دخل ولد الشاة في الثالثة، فهو ثَنِيٌّ، ومسن. ذكره في "الفتح"

(1)

.

وقوله: (هِيَ خَيْرُ نَسِيكَتَيْكَ)؛ أي: خير ذبيحتيك حيث تجزي عن الأضحية، بخلاف الأُولى.

وقال النوويّ: معناه: أنك ذبحت صورةً نسيكتين، وهما هذه، والتي ذبحها قبل الصلاة، وهذه أفضل؛ لأن هذه حصلت بها التضحية، والأُولى وقعت شاة لحم، لكن له فيها ثواب، لا بسبب التضحية، فإنها لم تقع أضحية، بل لكونه قَصَد بها الخير، وأخرجها في طاعة الله، فلهذا دخلهما أفعل التفضيل، فقال: هذه خير النسيكتين، فإن هذه الصيغة تتضمن أن في الأُولى خيرًا أيضًا. انتهى

(2)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "هي خير نسيكتيك" سَمَّى ما ذُبح قبل الصلاة نسيكة بحسب توهُّم الذابح وزعمه، وذلك: أنه إنما ذبحها في ذلك الوقت بنيَّة النسك، وبعد ذلك بيَّن له النبيّ صلى الله عليه وسلم أنها ليست نسكًا شرعًا؛ لمّا قال: "من ذبح

(1)

"الفتح" 11/ 128 - 129.

(2)

"شرح النوويّ" 13/ 113 - 114.

ص: 347

قبل الصلاة، فإنما هو لحم عجّله لأهله، ليس من النُّسك في شيء". انتهى

(1)

.

وقال في "الفتح": قوله: "هي خير نسيكتيك"، كذا فيه بالتثنية، وفيه ضم الحقيقة إلى المجاز بلفظ واحد، فإن النسيكة هي التي أجزأت عنه، وهي الثانية، والأُولى لم تُجْز عنه، لكن أطلق عليها نسيكةً؛ لأنه نحرها على أنها نسيكة، أو نحرها في وقت النسيكة، وإنما كانت خيرهما لأنها أجزأت عن الأضحية، بخلاف الأُولى، وفي الأُولى خير في الجملة باعتبار القصد الجميل.

وسيأتي عند مسلم بعد حديثين بلفظ: "قال: ضَحّ بها، فإنها خير نسيكة".

ونقل ابن التين عن الشيخ أبي الحسن - يعني: ابن القصار - أنه استَدَلّ بتسميتها نسيكةً على أنه لا يجوز بيعها، ولو ذُبحت قبل الصلاة، ولا يخفى وجه الضعف عليه. انتهى

(2)

.

وقوله: (وَلَا تَجْزِي جَذَعَةٌ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ) وفي رواية: "ولن تَجزي عن أحد بعدك": قال النوويّ: هو بفتح التاء، هكذا الرواية فيه في جميع الطرق، والكتب، ومعناه: لا تكفي، نحو قوله تعالى:{وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ} [لقمان: 33]، وفيه أن جذعة المعز لا تجزي في الأضحية، وهذا متفق عليه. انتهى

(3)

.

وقال في "الفتح": قوله: "لا تجزي" هو بفتح أوله، غيرَ مهموز: وهو بمعنى "تَقضِي"، يقال: جزا عني فلانٌ كذا؛ أي: قَضَى، ومنه:{لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ} الآية [البقرة: 48]؛ أي: لا تقضي عنها. قال ابن بَرِّيّ: الفقهاء يقولون: لا تُجزِئ - بالضم، والهمز - في موضعِ: لا تقضي، والصواب بالفتح، وترك الهمز، قال: لكن يجوز الضم والهمز، بمعنى الكفاية، يقال: أجزأ عنك. وقال صاحب "الأساس": بنو تميم يقولون: البَدَنة تُجزِي عن سبعة، بضم أوّله، وأهل الحجاز: تَجزِي بفتح أوله، وبهما قُرِئَ: {لَا تَجْزِي

(1)

"المفهم" 5/ 359.

(2)

"الفتح" 12/ 574.

(3)

"شرح النوويّ" 13/ 113.

ص: 348

نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا}، وفي هذا تَعَقُّب على من نقل الاتفاق، على منع ضم أوله، قاله في "الفتح"

(1)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5063]

(. . .) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ دَاوُدَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنِ الْبَرَاءِ بْن عَازِبٍ، قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ النَّحْرِ، فَقَالَ: "لَا يَذْبَحَنَّ أَحَدٌ حَتَّى يُصَلِّيَ"، قَاَلَ: فَقَالَ خَالِي: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ هَذَا يَوْمٌ اللَّحْمُ فِيهِ مَكْرُوهٌ، ثُمَّ ذَكَرَ بِمَعْنَى حَدِيثِ هُشَيْمٍ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ) هو: محمد بن إبراهيم بن أبي عديّ البصريّ، تقدّم قريبًا.

والباقون ذُكروا في الباب.

[تنبيه]: رواية ابن أبي عديّ عن داود بن أبي هند هذه ساقها الرويانيّ رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(370)

- وحدّثنا محمد بن بشار، حدّثنا ابن أبي عديّ، عن داود، عن عامر، عن البراء، قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:"لا تَذْبَحُنّ قبل أن نصلي"، فقال خالي: يا رسول الله، إن هذا يوم اللحم فيه مكروه، وإني عجّلت نسيكتي لأطعم منها أهلي، وأهل داري، وجيراني، فقال:"قد فعلت، أعِدْ ذبحًا"، فقال: عندي عناقُ لحم، وهي خير من شاتَيْ لحم، قال:"اذبحها، وهي خير نسيكتك، ولا تقضي جذعة عن أحد بعدك". انتهى

(2)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5064]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ نُمَيْرٍ (ح) وَحَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ، عَنْ فِرَاسٍ، عَنْ عَامِرٍ، عَنِ الْبَرَاءِ، قَالَ: قَالَ رَسُوَل اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ صَلَّى صَلَاتَنَا، وَوَجَّهَ قِبْلَتَنَا، وَنَسَكَ نُسُكَنَا، فَلَا يَذْبَحْ حَتَّى يُصَلِّيَ"، فَقَالَ خَالِي: يَا رَسُولَ اللهِ قَدْ نَسَكْتُ عَنِ ابْنٍ لِي، فَقَالَ:

(1)

"الفتح" 12/ 560.

(2)

"مسند الرويانيّ" 1/ 254.

ص: 349

"ذَاكَ شَيْءٌ عَجَّلْتَهُ لأَهْلِكَ"، فَقَالَ: إِنَّ عِنْدِي شَاةً خَيْرٌ مِنْ شَاتَيْنِ، قَالَ:"ضَحِّ بِهَا، فَإِنَّهَا خَيْرُ نَسِيكَةٍ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(ابْنُ نُمَيْرٍ) محمد بن عبد الله بن نُمير الهمدانيّ الكوفي، تقدّم قريبًا.

2 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ نُمَيْرٍ) الهمدانيّ الكوفي، تقدّم أيضًا قريبًا.

3 -

(زَكَرِيَّاءُ) بن أبي زائدة خالد، أو هُبيرة بن ميمون بن فيروز الْهَمْدانيّ الوادعيّ، أبو يحيى الكوفيّ، ثقةٌ، يدلّس [6](ت 7 أو 8 أو 149)(ع) تقدم في "الإيمان" 83/ 449.

4 -

(فِرَاسُ) بن يحيى الْهَمْدانيّ الخارفيّ، أبو يحيى المكتب الكوفيّ، صدوقٌ ربّما وَهِمَ [6](ت 129)(ع) تقدم في "الأيمان" 8/ 4290.

والباقون ذُكروا قبله.

وقوله: (مَنْ صَلَّى صَلَاتَنَا) قال في "العمدة"؛ أي: صلى كما نصلي، ولا يوجد إلا مِن معترف بالتوحيد، والنبوة، ومن اعترف بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم فقد اعترف بجميع ما جاء به عن الله تعالى، فلهذا جَعَل الصلاة عَلَمًا لإسلامه، ولم يذكر الشهادتين؛ لأنهما داخلتان في الصلاة، وإنما ذكر استقبال القبلة، والصلاة متضمِّنة له مشروطة به؛ لأن القبلة أعرف من الصلاة، فإن كل أحد يعرف قبلته، وإن كان لا يعرف صلاته، ولأن من أعمال صلاتنا ما هو يوجد في صلاة غيرنا، كالقيام، والقراءة، واستقبالُ قبلتنا مخصوص بنا. انتهى

(1)

.

وقوله: (وَوَجَّهَ قِبْلَتَنَا) - بفتح الواو، وتشديد الجيم - أي: وجّه وجهه، والمراد به: استقبال القبلة، والمراد: أن يكون معنا في هذه الأمور، وقال في "الفتح": المراد: من كان على دين الإسلام. انتهى

(2)

.

وقوله: (وَنَسَكَ نُسُكَنَا)؛ أي: أراد أن يذبح مثل ذبيحتنا، وقال في "العمدة": يقال: نَسَك ينسُك، من باب نصر ينصر، نَسْكًا، بفتح النون: إذا

(1)

"عمدة القاري" 4/ 125.

(2)

"الفتح" 12/ 572.

ص: 350

ذَبَحَ، والنسيكة: الذبيحة، وجمعها نُسُكٌ، ومعنى من نسك نسكنا: أن من ضحّى مثل ضحيّتنا. انتهى

(1)

.

وقوله: (حَتَّى يُصَلِّيَ)؛ أي: صلاة العيد.

وقوله: (قَدْ نَسَكْتُ عَنِ ابْنٍ لِي) قال في "الفتح": قد استُشكِل هذا، قال: وظهر لي أن مراده أنه ضَحَّى لأجله للمعنى الذي ذكره في أهله، وجيرانه، فخَصَّ ولده بالذِّكر؛ لأنه أخصّ بذلك عنده، حتى يستغني ولده بما عنده عن التشوّف إلى ما عند غيره. انتهى

(2)

.

وقوله: (عَجَّلْتَهُ لأَهْلِكَ)؛ يعني: أنه ليس مما أقيمت به سنّة الأضحية، فليس لك به ثوابها، بل هو لحم ينتفع به أهلك.

وقوله: (خَيْرٌ مِنْ شَاتَيْنِ) هكذا النُّسخ برفع "خيرٌ"، وهو صحيح، فيكون خبرًا لمحذوف؛ أي: هي خير.

قَالَ: (ضَحِّ بِهَا، فَإِنَّهَا خَيْرُ نَسِيكَةٍ) تقدّم بلفظ: "نسيكتيك"، وتقدّم توجيهه، فلا تغفل، وبالله تعالى التوفيق.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام شرحه، وبيان مسائله، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5065]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ - وَاللَّفْظُ لِابْنِ الْمُثَنَّى - قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ زُبَيْدٍ الإِيَامِيِّ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ أَوَّلَ مَا نَبْدَأُ بِهِ فِي يَوْمِنَا هَذَا نُصَلِّي، ثُمَّ نَرْجِعُ، فَنَنْحَرُ، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ أَصَابَ سُنَّتَنَا، وَمَنْ ذَبَحَ، فَإِنَّمَا هُوَ لَحْمٌ قَدَّمَهُ لأَهْلِهِ، لَيْسَ مِنَ النُّسُكِ فِي شَيْءٍ"، وَكَانَ أَبُو بُرْدَةَ بْنُ نِيَارٍ قَدْ ذَبَحَ، فَقَالَ: عِنْدِي جَذَعَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُسِنَّةٍ، فَقَالَ: "اذْبَحْهَا، وَلَنْ تَجْزِيَ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ").

(1)

"عمدة القاري" 6/ 278.

(2)

"الفتح" 12/ 548.

ص: 351

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(زُبَيْدُ الإِيَامِيُّ) - بكسرة الهمزة - ويقال: الياميّ، هو: زُبيد بن الحارث بن عبد الكريم بن عمرو، أبو عبد الرحمن الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ عابدٌ [6](ت 122) أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 30/ 228.

[تنبيه]: قوله: "الإياميّ" بكسر الهمزة، وتخفيف الياء: نسبة إلى إيام، ويقال: يام، وهو بطن من همدان، وهو يام بن أصبى بن دافع بن مالك بن جُشم بن حاشد بن خيوان بن نوف بن هَمْدان. انتهى ملخّصًا من "اللباب"

(1)

.

والباقون ذُكروا في الباب، وقبله.

وقوله: (إِنَّ أَوَّلَ مَا نَبْدَأُ بِهِ فِي يَوْمِنَا هَذَا نُصَلِّي) قال في "الفتح": فيه إشعارٌ بأن الصلاة ذلك اليوم هي الأمر المهمّ، وأن ما سواها من الخطبة، والنحر، والذِّكر، وغير ذلك، من أعمال البرّ يوم النحر فبطريق التبع، وهذا القدر مشترك بين العيدين. انتهى

(2)

.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5066]

(. . .) - (حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ زُبَيْدٍ، سَمِعَ الشَّعْبِيَّ، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِثْلَهُ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

وكلهم ذُكروا في الباب، وقبله.

[تنبيه]: رواية معاذ بن معاذ، عن شعبة هذه لم أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5067]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَهَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ، قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو الأَحْوَصِ (ح) وَحَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، جَمِيعًا عَنْ

(1)

راجع: "اللباب في تهذيب الأنساب" 1/ 96.

(2)

"الفتح" 2/ 445.

ص: 352

جَرِيرٍ، كِلَاهُمَا عَنْ مَنْصُورٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي يَوْمِ النِّحْرِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِهِمْ).

رجال هذا الإسناد: تسعة:

1 -

(هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ) التميميّ، أبو السّريّ الكوفيّ، ثقةٌ [10](243) وله (91) سنة (عخ م 4) تقدم في "الإيمان" 64/ 365.

2 -

(عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) الكوفيّ، تقدّم قريبًا.

3 -

(جَرِيرُ) بن عبد الحميد تقدّم قبل باب.

4 -

(مَنْصُورُ) بن المعتمر، تقدّم أيضًا قبل باب.

والباقون ذُكروا في الباب.

وقوله: (كِلَاهُمَا عَنْ مَنْصُورٍ) الضمير لأبي الأحوص، وجرير بن عبد الحميد.

وقوله: (ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِهِمْ) فاعل "ذَكَرَ" ضمير منصور بن المعتمر، وضمير الجماعة في "حديثهم" للأربعة الذين رووا عن الشعبيّ في الأسانيد الماضية، وهم: مطرّف بن طَرِيف، وداود بن أبي هند، وفِراس بن يحيى، وزُبيد الإياميّ، والله تعالى أعلم.

[تنبيه]: رواية أبي الأحوص، عن منصور بن المعتمر، عن الشعبيّ هذه ساقها أبو عوانة رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(7809)

- حدّثنا أبو داود السجزيّ، قال: ثنا مسدّد، قال: ثنا أبو الأحوص، قال: ثنا منصور، عن الشعبيّ، عن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النحر بعد الصلاة، فقال:"من صلى صلاتنا، ونَسَك نُسُكنا، فقد أصاب النسك، ومن نسك قبل الصلاة فتلك شاة لحم"، فقام أبو بردة بن نِيار، فقال: يا رسول الله، والله لقد نسكت قبل أن أخرج، وعَلِمت أن اليوم يوم أكل وشرب، فتعجلت، فأكلت، وأطعمت أهلي، وجيراني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"شاة لحم"، قال: فإن عندي عَناقَ جَذَعة، وهي خير من شاتي لحم، فهل تجزئ عني؟ قال:"نعم، ولن تجزئ عن أحد بعدك". انتهى

(1)

.

(1)

"مسند أبي عوانة" 5/ 66.

ص: 353

ورواية جرير بن عبد الحميد، عن منصور، ساقها أيضًا أبو عوانة في "مسنده"، فقال:

(7811)

- حدّثنا يوسف بن يعقوب، قال: ثنا أبو الربيع، قال: ثنا جرير بن عبد الحميد، عن منصور، عن الشعبيّ، عن البراء بن عازب، قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:"من صلى صلاتنا، ونسك نسكنا، فقد أصاب النسك، ومن نسك قبل الصلاة، فشاته شاة لحم، ولا نسك له"، فقال أبو بردة بن نيار، خال البراء رضي الله عنهما: يا رسول الله، فإني نسكت نسكي قبل الصلاة، وعرفت أن اليوم يوم أكل وشرب، وأحببت أن تكون شاتي أول شاة تذبح في بيتي، فذبحت شاتي، وتغدّيت قبل أن آتي الصلاة، قال:"شاتك شاة لحم"، فقلت: يا رسول الله عندنا عناق لنا جذعة، هي أحب إلي من شاتي لحم، أفتجزئ عني؟ قال:"نعم، ولن تجزئ عن أحد بعدك". انتهى

(1)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5068]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ صَخْرٍ الدَّارِمِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ عَارِمُ بْنُ الْفَضْلِ، حَدَّثَنَا عبد الوَاحِدِ - يَعْنِي: ابْنَ زِيَادٍ - حَدَّثَنَا عَاصِمٌ الأَحْوَلُ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، حَدَّثَنِي الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ، قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي يَوْمِ نَحْرٍ، فَقَالَ: "لَا يُضَحِّيَنَّ أَحَدٌ حَتى يُصَلِّيَ"، قَالَ رَجُلٌ: عِنْدِي عَنَاقُ لَبَنٍ هِيَ خَيْرٌ مِن شَاتَيْ لَحْمٍ، قَالَ: "فَضَحِّ بِهَا، وَلَا تَجْزِيَ جَذَعَةٌ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ صَخْرٍ الدَّارِمِيُّ) أبو جعفر السَّرَخْسيّ، ثقةٌ حافظٌ [11](ت 253)(خ م د ت ق) تقدم في "المقدمة" 6/ 93.

2 -

(أَبُو النُّعْمَانِ عَارِمُ بْنُ الْفَضْلِ) هو: محمد بن الفضل السَّدُوسيّ البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ تغيّر في آخره، من صغار [9](ت 3 أو 124)(ع) تقدم في "الحج" 28/ 3013.

3 -

(عبد الوَاحِدِ بْنُ زِيَادٍ) الْعَبديّ مولاهم البصريّ، ثقةٌ [8](ت 176) أو بعدها (ع) تقدم في "الطهارة" 11/ 584.

(1)

"مسند أبي عوانة" 5/ 66 - 67.

ص: 354

4 -

(عَاصِمٌ الأَحْوَلُ) ابن سليمان، أبو عبد الرحمن البصريّ، ثقة [4] مات بعد (140)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 27.

والباقيان ذُكرا قبله.

وقوله: (وَلَا تَجْزِيَ جَذَعَةٌ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ) قال النوويّ رحمه الله: معناه: جذعة المعز، وهو مقتضى سياق الكلام، وإلا فجذعة الضأن تجزي. انتهى

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "ولا تَجْزِي جذعة عن أحدٍ بعدك": يعني: من المعز، وهو الذي لا نعرف فيه خلافًا، وأما الجذع من الضأن: فإنَّه جائز عند الجمهور، وفيه خلاف شاذّ يردُّه حديث جابر رضي الله عنه، وهو قوله صلى الله عليه وسلم:"لا تذبحوا إلا مسنّة، إلا أن يعسر عليكم، فتذبحوا جذعة من الضأن"، رواه مسلم، وما رَوَى الترمذيّ عن أبي كباش، قال: جلبت غنمًا جُذعانًا إلى المدينة، فكسدت عليَّ، فلقيتُ أبا هريرة، فسألته، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "نِعْم - أو: نِعْمَت - الأضحية الجذع من الضأن"، فانتهبها الناس، قال: هذا حديث حسن غريب، والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم، وغيرهم: أن الجذع من الضأن يَجْزِي في الأضحية، فأمَّا الجذع من المعز، فلا يَجْزِي؛ لقوله صلى الله عليه وسلم لأبي بردة رضي الله عنه:"ولا تَجْزِي عن أحدٍ بعدك".

قال القاضي عياض: وقد أجمع العلماء على الأخذ بحديث أبي بردة، وأنَّه لا يَجْزي الجذع من المعز، فإنْ لم يتمكَّن إلا من الجذع من الضأن كان نِعم الأضحية، كما قاله صلى الله عليه وسلم، والله تعالى أعلم. انتهى

(2)

.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5069]

(. . .) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ - يَعْنِي: ابْنَ جَعْفَرٍ - حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، قَالَ: ذَبَحَ أَبُو بُرْدَةَ قَبْلَ الصَّلَاةِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"أَبْدِلْهَا"، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ لَيْسَ

(1)

"شرح النوويّ" 13/ 114.

(2)

"المفهم" 5/ 356 - 357.

ص: 355

عِنْدِي إِلَّا جَذَعَةٌ - قَالَ شُعْبَةُ: وَأَظُنُّهُ قَالَ: وَهِيَ خَيْرٌ مِنْ مُسِنَّةٍ -، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"اجْعَلْهَا مَكَانَهَا، وَلَنْ تَجْزِيَ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(سَلَمَةُ) بن كُهيل الحضرميّ، أبو يحيى الكوفي، ثقةٌ ثبتٌ [4](ت 122) أو بعدها (ع) تقدم في "الحيض" 5/ 704.

2 -

(أَبُو جُحَيْفَةَ) وهب بن عبد الله السُّوائيّ، ويقال: اسم أبيه وهب أيضًا، صحابيّ مشهور بكنيته، ويقال له: وهب الخير، وصَحِب عليًّا، ومات سنة (74)(ع) تقدم في "الصلاة" 48/ 1124.

والباقون ذُكروا في الباب.

وقوله: (أَبْدِلْهَا) بقطع الهمزة، من الإبدال رباعيًّا، وهو بمعنى قوله في الرواية الأخرى:"فليذبح مكانها أخرى".

قال في "الفتح": وقد تمسَّك بهذا الأمر من ادَّعَى وجوب الأضحية، ولا دلالة فيه؛ لأنه ولو كان ظاهر الأمر الوجوب إلا أن قرينة إفساد الأُولى تقتضي أن يكون الأمر بالإعادة لتحصيل المقصود، وهو أعم من أن يكون في الأصل واجبًا، أو مندوبًا، وقال الشافعيّ: يَحْتَمِل أن يكون الأمر بالإعادة للوجوب، ويَحْتَمِل أن يكون الأمر بالإعادة للإشارة إلى أن التضحية قبل الصلاة لا تقع أضحيةً، فأمَره بالإعادة؛ ليكون في عِداد مَن ضَحَّى، فلمّا احتَمَلَ ذلك وجدنا الدلالة على عدم الوجوب في حديث أم سلمة رضي الله عنها المرفوع:"إذا دخل العشر، فأراد أحدكم أن يُضَحِّي"، قال: فلو كانت الأضحية واجبة لم يَكِل ذلك إلى الإرادة.

وأجاب من قال بالوجوب بأن التعليق على الإرادة لا يمنع القول بالوجوب، فهو كما قيل:"من أراد الحج فليكثر من الزاد"، فإن ذلك لا يدل على أن الحج لا يجب.

وتُعُقّب بأنه لا يلزم من كون ذلك لا يدل على عدم الوجوب ثبوت الوجوب بمجرد الأمر بالإعادة؛ لِمَا تقدم من احتمال إرادة الكمال، وهو

ص: 356

الظاهر، والله أعلم. انتهى

(1)

.

وقوله: (قَالَ شُعْبَةُ: وَأَظُنُّهُ قَالَ. . . إلخ)؛ أي: أظنّ سلمة بن كُهيل. . . إلخ.

وقوله: (وَهِيَ خَيْرٌ مِنْ مُسِنَّةٍ) قال النوويّ رحمه الله: "الْمُسنّة": هي الثنيّة، وهي أكبر من الجذعة بسنة، فكانت هذه الجذعة أجود لِطِيب لحمها، وسِمَنها. انتهى

(2)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: ويعني بالمسنَّة: الكبيرة، وأوَّل ذلك: الثنيّ، وهو المعنيّ هنا، فإنَّها أطيب لحمًا مما قبلها، وأسرع نُضْجًا مما بعدها. انتهى

(3)

.

والحديث سبق البحث فيه مستوفًى، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5070]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَاهُ ابْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنِي وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ (ح) وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بنُ إِبرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَامِرٍ الْعَقَدِيُّ، قَالَ

(4)

: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، بِهَذَا الإِسْنَادِ، وَلَمْ يَذْكُرِ الشَّكَّ فِي قَوْلِهِ: هِيَ خَيْرٌ مِنْ مُسِنَّةٍ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(وَهْبُ بْنُ جَرِيرِ) بن حازم بن زيد الأزديّ، أبو عبد الله البصريّ، ثقةٌ [9](ت 206)(ع) تقدم في "الإيمان" 50/ 315.

2 -

(أَبُو عَامِرٍ الْعَقَدِيُّ) عبد الملك بن عمرو القيسيّ البصريّ، ثقةٌ [9](ت 4 أو 205)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 21.

والباقون ذُكروا في الباب.

وقوله: (قَالَ: حَدَّثَنا)، وقوله:(وَلَمْ يَذْكُرِ الشَّكَّ. . . إلخ) فاعل "قال"، وكذا "يذكر" ضمير أبي عامر العقديّ، وكان عادة المصنّف في مثل هذا أن يأتي بضمير التثنية العائد على وهب بن جرير، وأبي عامر العقديّ، إلا أن الظاهر هنا أنه ما أراد إلا بيان رواية أبي عامر.

(1)

"الفتح" 12/ 566.

(2)

"شرح النوويّ" 13/ 114 - 116.

(3)

"المفهم" 5/ 357.

(4)

لفظ "قال" يوجد في النسخة الهنديّة، ولا يوجد في غيرها، فتنبّه.

ص: 357

ولفظ "قَالَ" في قوله: "قَالَ: حدّثنا شعبة. . . إلخ" يوجد في النسخة الهنديّة، لا في غيرها، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

[تنبيه]: رواية أبي عامر الْعَقَديّ، عن شعبة، ساقها ابن حبّان رحمه الله في "صحيحه"، فقال:

(5911)

- أخبرنا عبد الله بن محمد الأزديّ، حدثنا إسحاق بن إبراهيم، حدّثنا أبو عامر الْعَقَديّ، حدّثنا شعبة، عن سلمة بن كُهيل، قال: سمعت أبا جحيفة وهبًا السُّوَائيّ يحدّث عن البراء بن عازب، أن خالي ذبح قبل أن يصلي النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"شاتك شاه لحم، وليس من النسك في شيء"، فقال: يا رسول الله فعندي عَناقٌ جَذَعَةٌ، هي خير من مُسِنّة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"تُوفِي عنك، ولا تُوفي عن أحد بعدك". انتهى

(1)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5071]

(1962) - وَحَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، وَعَمْرٌو النَّاقِدُ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ عُلَيَّةَ - وَاللَّفْظُ لِعَمْرٍو - قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ النَّحْرِ: "مَنْ كَانَ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلَاةِ فَلْيُعِدْ"، فَقَامَ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ هَذَا يَوْمٌ يُشْتَهَى فِيهِ اللَّحْمُ، وَذَكرَ هَنَةً مِنْ جِيرَانِهِ، كَأَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم صَدَّقَهُ، قَالَ: وَعِنْدِي جَذَعَةٌ هِيَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ شَاتَيْ لَحْمٍ، أفَأَذْبَحُهَا؟ قَالَ: فَرَخَّصَ لَهُ، فَقَالَ: لَا أَدْرِي أَبَلَغَتْ رُخْصَتُهُ مَنْ سِوَاهُ أَمْ لَا؟ قَالَ: وَانْكَفَأَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى كَبْشَيْنِ، فَذَبَحَهُمَا، فَقَامَ النَّاسُ إِلَى غُنَيْمَةٍ، فَتَوَزَّعُوهَا، أَوْ قَالَ: فتَجَزَّعُوهَا).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ) المقابريّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(عَمْرٌو النَّاقِدُ) هو: عمرو بن محمد بن بُكير البغداديّ، نزيل الرَّقّة، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 232)(خ م د س) تقدم في "المقدمة" 4/ 23.

3 -

(مُحَمَّدُ) بن سيرين، تقدّم قريبًا.

(1)

"صحيح ابن حبان" 13/ 232.

ص: 358

والباقون تقدّموا في الأبواب الثلاثة الماضية، و"إسماعيل بن إبراهيم" هو: ابن عليّة، و"أيّوب" هو: السَّخْتيانيّ.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف، وأنه مسلسل بالبصريين، غير شيوخه، فبغداديّون، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه أنس رضي الله عنه خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن المكثرين السبعة، روى (2286) حديثًا، وهو آخر من مات من الصحابة رضي الله عنهم بالبصرة، وقد جاوز عمره مائة.

شرح الحديث:

(عَنْ أَنَسٍ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ النَّحْرِ) ظرف لـ "قال"؛ أي: قال هذا القول في يوم النحر، وهو اليوم العاشر من ذي الحجة، ("مَنْ) شرطيّة، (كَانَ) زائدة للتوكيد، كما قال في "الخلاصة":

وَقَدْ تُزَادُ "كَانَ" فِي حَشْوٍ كَـ "مَا

كَانَ أَصَحَّ عِلْمَ مَنْ تَقَدَّمَا"

(ذَبَحَ) أضحيّته (قَبْلَ الصَّلَاةِ)؛ أي: صلاة العيد، (فَلْيُعِدْ") بضمّ حرف المضارعة، من الإعادة، وهو فعل مضارع، مجزوم بلام الأمر، وقد استدلّ به من قال بوجوب الأضحيّة؛ لكونه أمرًا، والمختار أنها مستحبّة، والمراد به هنا بيان أن سنّة الأضحية لا تتأدّى بالأُولى، بل يُحتاج إلى فعلها مرّةً أخرى، فالأمر بالإعادة؛ لتحصيل السُّنَّة، لا غير، وتقدّم البحث في هذا مستوفًى، فلا تغفُل.

(فَقَامَ رَجُلٌ) يَحْتَمِل أن يكون هو أبا بُردة بن نيار المذكور سابقًا، (فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ هَذَا يَوْمٌ يُشْتَهَى فِيهِ اللَّحْمُ) ببناء الفعل للمفعول، (وَذَكَرَ) الرجل (هَنَةً مِنْ جِيرَانِهِ)"الْهَنَةُ" - بفتحتين - تأنيث هَنٍ، وهو كناية عن كلّ اسم جنس، وهذا معنى قول من قال: يُعبَّر بها عن كلّ شيء، والمراد به هنا: الحاجة؛ أي: فذكر أنهم فقراء محتاجون إلى اللحم، (كَأَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم صَدَّقَهُ)؛ أي: صدّق ذلك الرجل فيما ذكره من حاجة جيرانه، وفي رواية البخاريّ:"فكأن النبيّ صلى الله عليه وسلم عَذَره"، وهو - بتخفيف الذال المعجمة - من العذر؛ أي: قَبِلَ عذره، ولكن لم يجعل ما فعله كافيًا، ولذلك أمَرَه بالإعادة.

ص: 359

قال ابن دقيق العيد رحمه الله: فيه دليلٌ على أن المأمورات إذا وقعت على خلاف مقتضى الأمر، لم يُعذر بالجهل، والفرق بين المأمورات والمنهيّات، أن المقصود من المأمورات إقامة مصالحها، وذلك لا يحصُل إلا بالفعل، والمقصود من المنهيّات الكفّ عنها بسبب مفاسدها، ومع الجهل والنسيان، لم يقصد المكلّف فعلها، فيُعذَرُ، ذكره في "الفتح"

(1)

.

(قَالَ) ذلك الرجل لَمّا علم أن ذبحه غير مجزئ: (وَعِنْدِي جَذَعَةٌ، هِيَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ شَاتَيْ لَحْمٍ) لِكِبَرها، وسِمَنها، (أفَأَذْبَحُهَا؟ قَالَ) أنس (فَرَخَّصَ لَهُ)؛ أي: سهّل النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأذن له أن يُضحّي بها، (فَقَالَ) أنس (لَا أَدْرِي)؛ أي: لا أعلم (أَبَلَغَتْ رُخْصَتُهُ مَنْ سِوَاهُ أَمْ لَا؟) قال النوويّ رحمه الله: هذا الشكّ بالنسبة إلى عِلم أنس رضي الله عنه، وقد صرّح النبيّ صلى الله عليه وسلم في حديث البراء رضي الله عنه السابق بأنها لا تبلغ غيره، ولا تجزئ أحدًا بعده. انتهى

(2)

.

(قَالَ) أنس (وَانْكَفَأَ) بالهمز؛ أي: مال، وانعطف (رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى كَبْشَيْنِ، فَذَبَحَهُمَا)"الكبشان": تثنية كَبْش - بفتح، فسكون -: هو الْحَمَل إذا أثنى، أو إذا خرجت رَبَاعيته، جمعه أَكْبُشٌ، وكِباشٌ، وأَكْباشٌ

(3)

.

(فَقَامَ النَّاسُ إِلَى غُنَيْمَةٍ) تصغير غَنَم، (فَتَوَزَّعُوهَا)؛ أي: اقتسموها، (أَوْ قَالَ: فَتَجَزَّعُوهَا) "أو" للشك من الراوي في أيّ اللفظتين قاله، وهما بمعنى واحد، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أنس رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [1/ 5071 و 5072 و 5073](1962)، و (البخاريّ) في "العيدين"(954 و 984) وفي "الأضاحي"(5546 و 5549 و 5561 و 554)، و (النسائيّ) في "كتاب العيدين" (1587 و 4387 و 4389

(1)

"الفتح" 12/ 570 - 571، كتاب "الأضاحي" رقم (5561).

(2)

"شرح النوويّ" 13/ 116.

(3)

"القاموس المحيط" ص 1111.

ص: 360

و 4390 و 4398) و"الكبرى"(4488)، و (ابن ماجه) في "الأضاحي"(3151)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 113 و 117)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(5/ 73)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(5/ 209)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(9/ 262)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان وجوب الإعادة على من ذبح قبل الصلاة، وقد تقدّم أنه اختُلف على من ذبح قبل الإمام بعد الصلاة، فقال مالك، وبعض أهل العلم بالإعادة، إلا أن الراجح جوازه قبل ذبحه، إذا كان بعد الصلاة، عملًا بظاهر الحديث، والله تعالى أعلم.

2 -

(ومنها): أن فيه إجزاء الذَّكر في الأضحيّة.

3 -

(ومنها): أن الأفضل أن يذبح الإنسان أضحيته بنفسه، وهذا والذي قبله مجمع عليهما. قاله النوويّ.

4 -

(ومنها): أن فيه استحباب التضحية باثنين، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5072]

(. . .) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ الْغُبَرِيُّ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْن زَيْدٍ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، وَهِشَامٌ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم صَلَّى، ثُمَّ خَطَبَ، فَأَمَرَ مَنْ كَانَ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلَاةِ أنْ يُعِيدَ ذِبْحًا، ثُمَّ ذَكَرَ بِمِثْلِ حَدِيثِ ابْنِ عُلَيَّةَ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْن عُبَيْدٍ الْغُبَرِيُّ) البصريّ، ثقةٌ [10](ت 238)(م د س) تقدم في "المقدمة" 2/ 4.

[تنبيه]: قوله: "الْغُبَريّ" - بضمّ الغين المعجمة، وفتح الموحّدة -: نسبة إلى غُبَر بن غَنْم بن حُبَيِّب بن كعب بن يشكر بن بكر بن وائل، بطن من يشكر، قاله في "اللباب"

(1)

.

2 -

(حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ) تقدّم قريبًا.

(1)

"اللباب في تهذيب الأنساب" 2/ 374.

ص: 361

3 -

(هِشَامُ) بن حسّان الْقُرْدوسيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

والباقون ذُكروا قبله.

وقوله: (ثُمَّ ذَكَرَ بِمِثْلِ حَدِيثِ ابْنِ عُلَيَّةَ) فاعل "ذَكَرَ" ضمير حماد بن زيد.

[تنبيه]: رواية حمّاد بن زيد عن أيوب، وهشام بن حسّان، كلاهما عن محمد بن سيرين هذه ساقها البيهقيّ رحمه الله في "الكبرى"، فقال:

(18897)

- أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، ثنا أبو الحسن عليّ بن محمد بن سختويه، ثنا تميم بن محمد، ثنا محمد - يعني: ابن عبيد بن حساب - ثنا حماد، ثنا أيوب وهشام، عن محمد، عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى، ثم خطب، فأمر من كان ذبح قبل الصلاة أن يعيد ذَبْحًا، قال: فقام رجل من الأنصار، فقال: إن جيراني بهم فاقة، أو قال: خصاصة، فذبحت قبل الصلاة، وعندي عَنَاق هي أحبّ إليّ من شاتي لحم، قال: فرخَّص له، فإن كانت رخصة له كان ذلك، وإلا فلا عِلم لي، ثم انكفأ إلى كبشين أملحين - يعني: فذبحهما - وتفرَّق الناس إلى غنيمة، فتجزّعوها. انتهى

(1)

.

والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5073]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِي زِيَادُ بْنُ يَحْيَى الْحَسَّانِيُّ، حَدَّثَنَا حَاتِمٌ - يَعْنِي: ابْنَ وَرْدَانَ - حَدَّثَنَا أيُّوبُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ أَضْحًى. قَالَ: فَوَجَدَ رِيحَ لَحْمٍ، فَنَهَاهُمْ أَنْ يَذْبَحُوا، قَالَ: "مَنْ كَانَ ضَحَّى فَلْيُعِدْ"، ثُمَّ ذَكَرَ بِمِثْلِ حَدِيثِهِمَا).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(زيَادُ بْنُ يَحْيَى الْحَسَّانِيُّ) النُّكْريّ البصريّ، ثقةٌ [10](ت 254)(ع) تقدم في "الزكاة" 44/ 2432، وهو أحد التسعة الذين روى عنهم الجماعة بلا واسطة، وتقدّموا غير مرّة.

(1)

"سنن البيهقيّ الكبرى" 9/ 277.

ص: 362

2 -

(حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ وَرْدَانَ) بن مروان السَّعْديّ، أبو صالح البصريّ، ثقةٌ [8](ت 184)(خ م ت س) تقدم في "الزكاة" 44/ 2432.

والباقون ذُكروا قبله.

وقوله: (ثُمَّ ذَكَرَ بِمِثْلِ حَدِيثِهِمَا) فاعل "ذَكَرَ" ضمير حاتم بن وردان، وضمير التثنية لابن عُليّة، وحمّاد بن زيد، يعني: أن حاتم بن وردان روى هذا الحديث عن أيوب السختيانيّ، عن محمد بن سيرين، عن أنس بن مالك رضي الله عنه، وساقه بمثل ما ساقه ابن عليّة، وحمّاد بن زيد.

[تنبيه]: رواية حاتم بن وردان عن أيوب هذه ساقها أبو عوانة رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(7836)

- حدّثنا عبد الرحمن بن خلف ابن بنت المبارك بن فَضَالة أبو محمد في بني طفاوة بالبصرة، قال: ثنا صالح بن حاتم بن وردان، حدّثني أبي حاتم بن وردان، قثنا أيوب السَّخْتيانيّ، عن محمد بن سيرين، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أضحى، فوجد ريح لحم، فقال:"من كان ضحّى فَلْيُعِد"، فقام إليه رجل من الأنصار، فذكر هَنَة، أو هَيَةً من جيرانه، كأن رسول الله صلى الله عليه وسلم عَذَره، فقال: يا رسول الله عندي عناق جذعة، هي أحبّ إلىّ من شاتَيْ لحم، فرخَّص له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا أدري جاوزت رخصته غيره أم لا؟ وانكفأ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى كبشين أملحين، فذبحهما، وانكفأ الناس إلى غنيمة فتوزعوها، أو قال: تجزّعوها. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(2) - (بَابُ سِنِّ الأُضْحِيَةِ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5074]

(1963) - (حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، حَدَّثَنَا أَبُو الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا تَذْبَحُوا إِلَّا مُسِنَّةً، إِلَّا أَنْ يَعْسُرَ عَلَيْكُمْ، فَتَذْبَحُوا جَذَعَةً مِنَ الضَّأْنِ").

(1)

"مسند أبي عوانة" 5/ 73.

ص: 363

رجال هذا الإسناد: أربعة:

وكلّهم تقدّموا في البابين الماضيين.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من رباعيّات المصنّف، وهو (362) من رباعيّات الكتاب، وفيه جابر بن عبد الله رضي الله عنه من المكثرين السبعة.

شرح الحديث:

(عَنْ جَابِرٍ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا تَذْبَحُوا إِلَّا مُسِنَّةً) - بضم الميم، وكسر السين المهملة -: اسم الفاعل من أسنّ: إذا نبت سنّه التي يصير بها مُسنًّا، والبقر والشاة يقع عليهما اسم المسنّ، إذا أَثْنَتَا، فإذا سقطت ثنيّتهما بعد طلوعها، فقد أسنّت، وليس معنى إسنانها كِبَرَ سنّها كالرجل، ولكن معناه طلوع ثنيّتها، وتُثني البقرة في السنة الثالثة، وكذلك الْمِعْزَى تُثني في الثالثة، ثم تكون رباعية في الرابعة، ثم سِدْسًا في الخامسة، ثم سالِغًا في السادسة، وكذلك البقر في جميع ذلك، قاله ابن منظور رحمه الله

(1)

.

(إِلَّا أَنْ يَعْسُرَ عَلَيْكُمْ) - بضم السين المهملة، وكسرها - يقال: عسُر الأمر عَسَارة بالفتح، فهو عَسير، وعَسِر عَسَرًا، من باب تعِبَ، فهو عَسِرٌ: إذا كان صعبًا شديدًا. (فَتَذْبَحُوا جَذَعَةً) - بفتحتين - قيل: هي من الضأن ما تمّ له سنة. وقيل: دون ذلك، وتقدّم بأتمّ من هذا في الباب الماضي. (مِنَ الضَّأْنِ") قال الفيّوميّ: الضأن ذوات الصوف، من الغنم، الواحدة ضائنة، والذَّكر ضائنٌ. قال ابن الأنباريّ: الضأن مؤنّثةٌ، والجمع أضْؤُنٌ، مثلُ فلس وأفلُس، وجَمْع الكثرة ضَئِين، مثلُ كَرِيم. انتهى

(2)

.

وقال النوويّ رحمه الله: قال العلماء: المسنّة هي الثنيّة من كل شيء، من الإبل، والبقر، والغنم، فما فوقها، وهذا تصريح بأنه لا يجوز الجذع من غير الضأن، في حال من الأحوال، وهذا مجمَع عليه، على ما نقله القاضي عياض، ونقل العبدريّ وغيره، من أصحابنا عن الأوزاعيّ، أنه قال: يُجزي

(1)

"لسان العرب" 13/ 222.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 365 - 366.

ص: 364

الجذع من الإبل والبقر والمعز والضأن، وحُكي هذا عن عطاء، وأما الجذع من الضأن، فمذهبنا ومذهب العلماء كافة، يجزي، سواء وجد غيره أم لا، وحكوا عن ابن عمر، والزهريّ، أنهما قالا: لا يجزي، وقد يحتج لهما بظاهر هذا الحديث، قال الجمهور: هذا الحديث محمول على الاستحباب والأفضل، وتقديره: يستحب لكم أن لا تذبحوا إلا مسنة، فإن عجزتم، فجذعة ضأن، وليس فيه تصريح بمنع جذعة الضأن، وأنها لا تجزئ بحال، وقد أجمعت الأمة أنه ليس على ظاهره؛ لأن الجمهور يُجَوِّزون الجذع من الضأن، مع وجود غيره وعدمه، وابن عمر، والزهريّ يمنعانه، مع وجود غيره وعدمه، فتعيّن تأويل الحديث على ما ذكرنا من الاستحباب، والله أعلم.

وأجمع العلماء على أنه لا تجزي الضحية بغير الإبل، والبقر، والغنم، إلا ما حكاه ابن المنذر، عن الحسن بن صالح، أنه قال: تجوز التضحية ببقرة الوحش عن سبعة، وبالظبي عن واحد، وبه قال داود في بقرة الوحش، والله أعلم.

والجذع من الضأن ما له سنة تامة، هذا هو الأصح عند أصحابنا، وهو الأَشهر عند أهل اللغة، وغيرهم، وقيل: ما له ستة أشهر، وقيل: سبعة. وقيل: ثمانية. وقيل: ابن عشرة. حكاه القاضي، وهو غريب، وقيل: إن كان متولدًا من بين شابين، فستة أشهر، وإن كان من هرمين، فثمانية أشهر.

ومذهبنا، ومذهب الجمهور: أن أفضل الأنواع البَدنة، ثم البقرة، ثم الضأن، ثم المعز، وقال مالك: الغنم أفضل؛ لأنها أطيب لحمًا. وحجة الجمهور أن البدنة تجزي عن سبعة، وكذا البقرة، وأما الشاة فلا تجزي إلا عن واحد، بالاتفاق، فدلّ على تفضيل البَدنة، والبقرة. واختلف أصحاب مالك فيما بعد الغنم، فقيل: الإبل أفضل من البقرة، وقيل: البقرة أفضل من الإبل، وهو الأشهر عندهم.

وأجمع العلماء على استحباب سمينها، وطيّبها، واختلفوا في تسمينها، فمذهبنا، ومذهب الجمهور استحبابه، وفي "صحيح البخاريّ" عن أبي أمامة، كنا نُسَمّن الأضحية، وكان المسلمون يسمنون. وحَكَى القاضي عياض، عن

ص: 365

بعض أصحاب مالك كراهة ذلك؛ لئلا يتشبه باليهود، وهذا قول باطل. انتهى كلام النوويّ رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: سيأتي تحقيق الخلاف في جواز التضحية بالجذع مستوفًى في المسألة الرابعة - إن شاء الله تعالى -.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث جابر رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

[تنبيه]: ضعّف الشيخ الألبانيّ هذا الحديث، وأعلّه بعنعنة أبي الزبير، مع أن الإمام مسلمًا رحمه الله أخرجه في "صحيحه"، وهذا عجيب منه؛ لأن من المعلوم أنه إذا أخرج صاحب الصحيح حديثًا للمدلّسين لا بدّ أن يكون ذلك الحديث ثابتًا عنده، زائلًا عنه تهمة التدليس، وأن إخراجه له في الصحيح، كحُكمه الصريح بأن هذا الحديث لا تدليس فيه، من دون فرق.

ومما أعلّه به أيضًا مخالفته حديثَ: "إن الجذع يوفي مما يوفي منه الثنيّ"، وهو حديث صحيح أخرجه النسائيّ، وهذا الإعلال غير صحيح؛ لأنه لا معارضة بين الحديثين؛ لأن المراد بالمسنّة المنهيّ عنها في حديث مسلم هي المسنة من المعز، فإنها التي لا تُجزئ، كما تقدّم في حديث البراء رضي الله عنه.

وأما قوله بعد ذكر هذا التأويل: فإنه خلاف الظاهر من السياق، ثم ادّعى بطلانه بما نقله من رواية أبي يعلى من طريق محمد بن عثمان القرشيّ، عن سليمان، بلفظ:"إذا عزّ عليك المَسَانّ من الضأن، أجزأ الجذع من الضأن"، فغير صحيح أيضًا.

أما أوّلًا: فما هو السياق الذي يخالف هذا الجمع؟، وأما ثانيًا: فإن محمد بن عثمان رجل مجهول، كما قال الدارقطنيّ، ولم يُعرف من هو سليمان؟ فكيف يُدَّعَى تضعيف حديث أخرجه مسلم في "صحيحه" بمثل هذا الحديث الضعيف الذي رواه مثل هذا المجهول، إن هذا لهو العجب العجاب.

والحاصل أن الحديث صحيح، كما صححه الإمام مسلم رحمه الله، وأنه لا

(1)

"شرح النوويّ" 13/ 117 - 118.

ص: 366

معارضة بينه وبين حديث: "إن الجذع يوفي

" الحديث؛ لِمَا عرفت من تأويله، فتبصّر، والله تعالى وليّ التوفيق.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [2/ 5074](1963)، و (أبو داود) في "الضحايا"(2797)، و (النسائيّ) في "الضحايا"(7/ 218) و"الكبرى"(3/ 56)، و (ابن ماجه) في "الأضاحي"(3141)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 312 و 327)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(2918)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(1/ 227)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(5/ 74)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(4/ 210)، و (ابن الجعد) في "مسنده"(1/ 382)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان أن المسنّة هي المجزئة في الأضاحي.

2 -

(ومنها): بيان مشروعية الأضحيّة.

3 -

(ومنها): أنه لا يجوز في الأضحية الجذع من المعز، ولا من البقر، ولا من الإبل، وهو قول أهل العلم، وإنما اختلفوا في إجزاء الجذعة من الضأن، وسيأتي تحقيقه في المسألة التالية - إن شاء الله تعالى -.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في الأضحيّة بالجذع من الضأن:

قال العلّامة ابن قُدامة رحمه الله: ولا يجزئ إلا الجذع من الضأن، والثنيّ من غيره، وبهذا قال مالك، والليث، والشافعيّ، وأبو عبيد، وأبو ثور، وأصحاب الرأي. وقال ابن عمر، والزهريّ: لا يجزئ الجذع؛ لأنه لا يجزئ من غير الضأن، فلا يجزئ منه، كالْحَمَل، وعن عطاء، والأوزاعيّ: يجزئ الجذع، من جميع الأجناس؛ لِمَا روى مُجاشع بن سليم، قال: سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الجذَع يُوَفِّي مما يوفى منه الثنيّ"، رواه داود، والنسائيّ.

واحتجّ الأولون على أن الجذع من الضأن يجزئ بحديث مجاشع، وأبي هريرة، وغيرهما، وعلى أن الجذعة، من غيرها لا تجزئ، بقول النبيّ صلى الله عليه وسلم:"لا تذبحوا إلا مسنة، فإن عسر عليكم، فاذبحوا الجذع من الضأن". وقال أبو بردة بن نيار: عندي جَذَعَة أحبّ إليّ من شاتين، فهل تجزئ عني؟ قال:

ص: 367

"نعم، ولا تجزئ عن أحد بعدك". متفق عليه، وحديثهم محمول على الجذع من الضأن؛ لِمَا ذكرنا، قال إبراهيم الحربيّ: إنما يجزئ الجذع من الضأن؛ لأنه ينزو، فيُلَقِّح، فإذا كان من المعز، لم يُلَقِّح حتى يكون ثُنْيَا. انتهى كلام ابن قُدامة رحمه الله

(1)

.

وقال في "الفتح": في الحديث أن الجذع من المعز لا يجزي، وهو قول الجمهور، وعن عطاء، وصاحبه الأوزاعيّ: يجوز مطلقًا، وهو وجه لبعض الشافعية، حكاه الرافعيّ، وقال النوويّ: وهو شاذّ، أو غلط، وأغرب عياض، فحكى الإجماع على عدم الإجزاء، قيل: والإجزاء مُصادرٌ للنص، ولكن يَحتمل أن يكون قائله، قيّد ذلك بمن لم يجد غيره، ويكون معنى نفي الإجزاء، عن غير من أَذِن له في ذلك محمولًا، على من وجد.

وأما الجذع من الضأن، فقال الترمذيّ: إن العمل عليه عند أهل العلم، من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم، وغيرهم، لكن حكى غيره عن ابن عمر، والزهريّ: أن الجذع لا يجزي مطلقًا، سواء كان من الضأن، أم من غيره، وممن حكاه عن ابن عمر ابن المنذر، في "الإشراف"، وبه قال ابن حزم، وعزاه لجماعة من السلف، وأطنب في الرد على من أجازه. وَيحتمل أن يكون ذلك أيضًا، مقيّدًا بمن لم يجد، وقد صح فيه حديث جابر، رفعه:"لا تذبحوا إلا مسنة، إلا أن يعسر عليكم، فتذبحوا جذعة من الضأن"، أخرجه مسلم، وأبو داود، والنسائي، وغيرهم. لكن نقل النوويّ عن الجمهور، أنهم حملوه على الأفضل، والتقدير: يستحب لكم أن لا تذبحوا إلا مسنة، فإن عجزتم، فاذبحوا جذعة من الضأن، قال: وليس فيه تصريح بمنع الجذعة من الضأن، وأنها لا تجزي، قال: وقد أجمعت الأمة على أن الحديث ليس على ظاهره؛ لأن الجمهور يجوّزون الجذع من الضأن، مع وجود غيره وعدمه، وابن عمر، والزهريّ يمنعانه مع وجود غيره وعدمه، فتعيّن تأويله.

وبدل للجمهور أحاديث، ومنها حديث أم هلال بنت هلال، عن أبيها، رفعه:"يجوز الجذع من الضأن أضحية"، أخرجه ابن ماجه، وحديث رجل من

(1)

"المغني" لابن قُدامة رحمه الله 13/ 367 - 368.

ص: 368

بني سليم، يقال له: مجاشع، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"إن الجذع يوفي ما يوفى منه الثنيّ"، أخرجه أبو داود، وابن ماجه، وأخرجه النسائي، من وجه آخر، لكن لم يسمِّ الصحابي، بل وقع عنده: أنه رجل من مزينة، وحديث معاذ بن عبد الله بن حبيب، عن عقبة بن عامر:"ضَحّينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، بجذع من الضأن"، أخرجه النسائي بسند قويّ، وحديث أبي هريرة رفعه:"نِعْمت الأضحية الجذعة، من الضأن"، أخرجه الترمذيّ، وفي سنده ضعف. انتهى ما في "الفتح" بتصرّف يسير.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن ما ذهب إليه الجمهور من أن الجذع يُجزئ إذا كان من الضأن، دون غيره هو الأرجح؛ لظهور أدلّته، كما سمعت، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5075]

(1964) - (وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْر، أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ يَقُولُ: صَلَّىَ بِنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ النَّحْرِ بِالْمَدِينَة، فَتَقَدَّمَ رِجَالٌ، فَنَحَرُوا، وَظَنُّوا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَدْ نَحَرَ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَنْ كَانَ نَحَرَ قَبْلَهُ أَنْ يُعِيدَ بِنَحْرٍ آخَرَ، وَلَا يَنْحَرُوا حَتَّى يَنْحَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

وكلّهم ذُكروا في الباب، وقبل باب، و"محمد بن حاتم" هو: ابن ميمون البغداديّ، و"محمد بن بكر" هو الْبُرسانيّ البصريّ، وشرح الحديث واضح.

وقوله: (وَلَا يَنْحَرُوا حَتَّى يَنْحَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم) قال النوويّ رحمه الله: هذا مما يحتج به مالك في أنه لا يجزي الذبح إلا بعد ذبح الإمام كما سبق في مسألة اختلاف العلماء في ذلك، والجمهور يتأولونه على أن المراد زجرهم عن التعجيل الذي قد يؤدي إلى فعلها قبل الوقت، ولهذا جاء في باقي الأحاديث التقييد بالصلاة، وأن من ضحّى بعدها أجزأه، ومن لا فلا. انتهى

(1)

.

(1)

"شرح النوويّ" 13/ 118.

ص: 369

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله، لم يُخرجه من أصحاب الأصول غيره.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [2/ 5075](1964)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 294 و 324 و 348)، و (الطحاويّ) في "معاني الآثار"(4/ 171)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(5/ 74)، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5076]

(1965) - (وَحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ (ح) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحٍ، أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ أَبِي الْخَيْر، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، أَن رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَعْطَاهُ غَنَمًا يَقْسِمُهَا عَلَى أَصْحَابِهِ ضَحَايَا، فَبَقِيَ عَتُودٌ، فَذَكَرَهُ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:"ضَحِّ بِهِ أَنْتَ"، قَالَ قُتَيْبَةُ: عَلَى صَحَابَتِهِ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحِ) بن مهاجر التجيبيّ، تقدّم قريبًا.

3 -

(اللَّيْثُ) بن سعد المصريّ الإمام المشهور، تقدّم أيضًا قريبًا.

4 -

(يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ) سُويد المصريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

5 -

(أَبُو الْخَيْرِ) مرثد بن عبد الله اليَزَنيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

6 -

(عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ) الْجُهنيّ رضي الله عنه، تقدّم أيضًا قريبًا.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيات المصنّف، وأنه مسلسل بالمصريين، وقتيبة، وإن كان بغلانيًّا إلا أنه دخل مصر، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ.

شرح الحديث:

(عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ) الْجُهنيّ رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَعْطَاهُ غَنَمًا) هو أعمّ من الضأن والمعز، قال الفيّوميّ رحمه الله: الغنم اسم جنس، يُطلق على الضأن والمعز، وقد تُجمَع على أغنام، على معنى قُطْعَانَات، من الغنم، ولا واحد

ص: 370

للغنم من لفظها، قاله ابن الأنباريّ. وقال الأزهريّ أيضًا: الغنم: الشاءُ، الواحدة شاة، وتقول العرب: راح على فلان غنمان؛ أي: قَطِيعان من الغنم، كلُّ قطيع منفردٌ بمَرْعًى، وراعٍ. وقال الجوهريّ: الغنم اسم مؤنّثٌ، موضوع لجنس الشاء، يقع على الذكر والإناث، وعليهما، ويُصغّر، فتدخل الهاء، ويقال: غُنيمةٌ؛ لأن أسماء الجموع التي لا واحد لها من لفظها، إذا كانت لغير الآدميين، وصُغّرت، فالتأنيث لازم لها. انتهى

(1)

.

(يَقْسِمُهَما عَلَى أَصْحَابِهِ) قال في "الفتح": يَحْتَمِل أن يكون الضمير للنبيّ صلى الله عليه وسلم، ويَحْتَمِل أن يكون لعقبة، فعلى كلٍّ، يَحتَمِل أن تكون الغنم ملكًا للنبيّ صلى الله عليه وسلم، وأمَر بقسمتها بينهم تبرعًا، ويَحْتَمِل أن تكون من الفيء، واليه جنح القرطبيّ، حيث قال رحمه الله في الحديث: إن الإمام ينبغي له أن يُفَرِّق الضحايا على من لم يقدر عليها، من بيت مال المسلمين. وقال ابن بطال: إن كان قَسَمها بين الأغنياء، فهي من الفيء، وإن كان خَصّ بها الفقراء، فهي من الزكاة، وقد ترجم له البخاريّ في "الشركة":"باب قسمة الغنم، والعدل فيها"، وكأنه فهم أن النبيّ صلى الله عليه وسلم بَيّن لعقبة، ما يعطيه لكل واحد منهم، وهو لا يُوَكِّل إلا بالعدل، وإلا لو كان وَكّلَ ذلك لرأيه، لَعَسُر عليه؛ لأن الغنم لا يتأتى فيها قسمة الأجزاء، وأما قسمة التعديل فتحتاج إلى ردّ؛ لأن استواء قِسمتها على التحرير بعيد.

قال الحافظ: ويَحتمل أن يكون النبيّ صلى الله عليه وسلم ضَحَّى بها عنهم، ووقعت القسمة في اللحم، فتكون القسمة قسمة الأجزاء.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: لكن هذا الاحتمال الذي قاله الحافظ فيه نظر؛ إذ يُبعده قوله: "فبقي عتود"؛ لأن الظاهر أنه بقي من الأغنام المقسومة، لا المذبوحة، والله تعالى أعلم.

وقوله: (ضَحَايَا) منصوب على الحال، وهو جمع ضَحِيّة، كهديّة وهدايا، قال ابن الْمُنَيِّر: يَحْتَمِل أن يكون المراد أنه أطلق عليها ضحايا باعتبار ما يؤول إليه الأمر، ويَحْتَمِل أن يكون عَيَّنها للأضحية، ثم قَسَمها بينهم ليحوز كل واحد

(1)

"المصباح المنير" 2/ 455.

ص: 371

نصيبه، فيؤخذ منه جواز قسمة لحم الأضحية بين الورثة، ولا يكون ذلك بيعًا، وهي مسألة خلاف للمالكية، قال: وما أرى البخاريّ مع دقة نظره قصد بالترجمة إلا هذا، كذا قال

(1)

.

(فَبَقِيَ عَتُودٌ) - بفتح المهملة، وضم المثناة الخفيفة -، وهو من أولاد المعز ما قَوِيَ، وَرَعَى، وأَتَى عليه حول، والجمع أَعْتِدَة، وعِتْدَانٌ، وتدغم التاء في الدال، فيقال: عِدّان. وقال ابن بطال: العتود الجذع، من المعز ابن خمسة أشهر، وهذا يُبَيّن المراد بقوله في الرواية التالية عن عقبة رضي الله عنه:"فصارت لي جذعة"، وأنها كانت من المعز، وزعم ابن حزم أن العتود لا يقال، إلا للجذع من المعز. وتعقبه بعض الشراح بما وقع في كلام صاحب "المحكم" أن العتود الجدي الذي استكرش. وقيل: الذي بلغ السِّفَاد. وقيل: هو الذي أجذع، قاله في "الفتح"

(2)

.

وقال النوويّ رحمه الله: قال أهل اللغة: الْعَتُود من أولاد المعز خاصّة، وهو ما رَعَى، وقَوِيَ، قال الجوهريّ وغيره: هو ما بلغ سنةً، وجمعه أَعْتُدة وعِدّان بإدغام التاء في الدال، قال البيهقيّ، وسائر أصحابنا، وغيرهم: كانت هذه رخصة لعقبة بن عامر، كما كان مثلها رخصةً لأبي بردة بن نيار المذكور في حديث البراء بن عازب رضي الله عنهم السابق، قال البيهقيّ: وقد روينا ذلك من رواية الليث بن سعد، ثم روى ذلك بإسناده الصحيح عن عقبة بن عامر، قال: أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم غنمًا أقسمها ضحايا بين أصحابي، فبقي عَتُود منها، فقال:"ضَحِّ بها أنت، ولا رخصة لأحد فيها بعدك"، قال البيهقيّ: وعلى هذا يُحْمَل أيضًا ما رويناه عن زيد بن خالد، قال: قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه غنمًا، فأعطانى عَتودًا جَذَعًا فقال:"ضَحِّ به"، فقلت: إنه جذع من المعز أُضَحِّي به؟ قال: "نعم ضَحِّ به"، فضحّيت، هذا كلام البيهقيّ.

وهذا الحديث رواه أبو داود بإسناد جيّد حسنٍ، وليس في رواية أبي داود "من المعز"، ولكنه معلوم من قوله:"عَتُود"، وهذا التأويل الذي قاله البيهقيّ

(1)

"الفتح" 12/ 544، كتاب "الأضاحي" رقم (5547).

(2)

"الفتح" 12/ 556.

ص: 372

وغيره متعيّن، والله أعلم. انتهى

(1)

.

(فَذَكَرَهُ)؛ أي: ذكر عقبة بقاء ذلك العتود (لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("ضَحِّ بِهِ أَنْتَ") - بفتح الضاد المعجمة، وتشديد الحاء المهملة -: فعلُ أَمْر من التضحية، وزاد البيهقيّ في روايته من طريق يحيى بن بُكير، عن الليث:"ولا رخصة فيها لأحد بعدك"، وقد تقدّم الكلام في هذه الزيادة في شرح حديث البراء رضي الله عنه[1/ 5061] عند قوله صلى الله عليه وسلم لأبي بُردة بن نيار:"ضحّ بها، ولا تصلح لغيرك"، فراجعه تستفد، والله تعالى وليّ التوفيق.

(قَالَ قُتَيْبَةُ) في روايته: (عَلَى صَحَابَتِهِ) بدل قول محمد بن رُمح: "على أصحابه"، وهذا لا يختلف به المعنى، وإنما هو من باب الورع، والاحتياط في أداء ألفاظ الشيوخ كما سُمعت، ولله درّ الإمام مسلم، وأهل الحديث في صنيعهم هذا، ما أجمله، وما أدقّه، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [2/ 5076 و 5077 و 5078](1965)، و (البخاريّ) في "الوكالة"(2136) و"الشركة"(2319) و"الأضاحيّ"(5121 و 5129)، و (الترمذيّ) في "الأضاحي"(1420)، و (النسائيّ) في "الأضاحيّ"(7/ 218) و"الكبرى"(3/ 56)، و (ابن ماجه) في "الأضاحي"(2129)، و (أحمد) في "مسنده"(16666 و 16707 و 16740 و 16783)، و (الدارميّ) في "سننه"(1871 و 1872)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(17/ 276)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(9/ 270)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان حكم التضحية بالجذع.

2 -

(ومنها): أن الإمام يقسم الضحايا بين الرعيّة، إذا لم يجدوها.

(1)

"شرح النوويّ" 13/ 118 - 119.

ص: 373

3 -

(ومنها): جواز التوكيل بالقسمة.

4 -

(ومنها): أنه استُدِلّ به على إجزاء الأضحية بالشاة الواحدة، وأن التضحية بكبشين الآتي في الباب التالي ليس على الوجوب، بل على الاختيار، فمن ذبح واحدة، أجزأت عنه، ومن زاد فهو خير، والأفضل الاتباع في الأضحية بكبشين، ومن نظر إلى كثرة اللحم، كالشافعيّ، قال: الأفضل الإبل، ثم الضأن، ثم البقر. قال ابن العربيّ: وافق الشافعيَّ أشهبُ من المالكية، ولا يُعْدَلُ بفعل النبيّ صلى الله عليه وسلم شيء، لكن يمكن التمسك بقول ابن عمر رضي الله عنهما: كان يذبح، وينحر بالمصلى؛ أي: فإنه يشمل الإبل وغيرها، قال: لكنه عموم، والتمسك بالصريح أَولى، وهو الكبش.

قال الحافظ: قلت: قد أخرج البيهقيّ من حديث ابن عمر: "كان النبيّ صلى الله عليه وسلم، يُضَحِّي بالمدينة، بالجزور أحيانًا، وبالكبش، إذا لم يجد جزورًا". فلو كان ثابتًا لكان نصًّا في موضع النزاع، لكن في سنده عبد الله بن نافع، وفيه مقال، وقد ثبت حديث عائشة رضي الله عنها:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم، ضَحّى عن نسائه بالبقر"، وقد ثبت في حديث عروة، عن عائشة رضي الله عنها، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أمر بكبش أقرن، يطأ في سواد، وينظر في سواد، ويبرك في سواد، فأضجعه، ثم ذبحه، ثم قال:"باسم الله، اللهم تقبّل من محمد، وآل محمد، ومن أمة محمد"، ثم ضَحَّى، أخرجه مسلم. قال الخطابيّ: قولها: "يطأ في سواد

إلخ": تريد أن أظلافه، ومواضع البروك منه، وما أحاط بملاحظ عينيه، من وجهه أسود، وسائر بدنه أبيض، قاله في "الفتح"

(1)

، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5077]

(

) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، عَنْ هِشَامٍ الدَّسْتَوَائِيّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ بَعْجَةَ الْجُهَنِيّ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الْجُهَنِيّ، قَالَ: قَسَمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِينَا ضَحَايَا، فَأَصَابَنِي جَذَعٌ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّهُ أَصَابَنِي جَذَعٌ، فَقَالَ: "ضَحِّ بِهِ").

(1)

"الفتح" 12/ 556 - 557، كتاب "الأضاحي" رقم (5547).

ص: 374

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ) السلميّ مولاهم، أبو خالد الواسطيّ، ثقةٌ متقنٌ عابدٌ [9](ت 206) وقد قارب التسعين (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 45.

3 -

(هِشَامٌ الدَّستَوَائِيُّ) ابن أبي عبد الله سَنْبَر، أبو بكر البصريّ، ثقةٌ، ثبتٌ، رُمي بالقدر، من كبار [7](ت 154)(ع) تقدم في "الإيمان" 12/ 156.

4 -

(يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ) صالح بن المتوكّل الطائيّ مولاهم، أبو نصر البصريّ، سكن اليمامة، ثقةٌ ثبتٌ، يدلّس ويرسل [5](ت 132)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 424.

5 -

(بَعْجَةُ الْجُهَنِيُّ) ابن عبد الله بن بدر المدنيّ، ثقة [3] مات على رأس المائة (خ م قد ت س ق) تقدم في "الإمارة" 34/ 4881.

و"عقبة رضي الله عنه " ذُكر قبله.

وقوله: (إِنَّهُ أَصَابَنِي جَذَعٌ، فَقَالَ: "ضَحِّ بِهِ") قال القرطبيّ رحمه الله: وفي الرواية الأخرى: "عَتُود"، هذه الرواية تدلُّ على أن الجذع المذكور في حديث عقبة هو من المعز، فإنَّ العَتُود إنما هو بأصل وضعه اسم لِمَا رَعَى وقَوِي من أولاد المعز، وأتى عليه حول. هذا هو المعروف في اللغة، وعلى هذا: فيكون هذا الحديث معارضًا لحديث أبي بردة، ولذلك قال علماؤنا: إن حديث عقبة منسوخ بحديث أبي بردة، ودلَّ على هذا: ما حُكي من الإجماع على عدم إجزاء الجذع من المعز.

قال القرطبيّ: ويمكن في حديث عقبة تأويلان، ولا يصار فيه إلى النَّسخ:

أحدهما: أن الجذع المذكور فيه: هو من الضأن، وأطلق عليه العَتُود؛ لأنَّه في سِنِّه وقوّته، ولا يُستنكر هذا، فمن المعلوم: أن العرب تسمي الشيء باسم الشيء إذ جاوره، أو كان منه بسبب، أو شَبَه.

وثانيهما: أن العَتُود وإن كان من المعز، فقد يقال على ما خرج من السَّنة الأُولى، ودخل في السنة الثانية لِتقارُب ما بينهما. وقد دلَّ على صحة هذا ما حكاه القاضي عن أهل اللغة: أن العتود: الجدي الذي بلغ السِّفَاد. قال ابن

ص: 375

الأعرابيّ: المعز، والإبل، والبقر: لا تضرب فحولها إلا بعد أن تثني، وإذا صحَّ هذا ارتفع التعارض، وصحَّ الجمع بين الحديثين، والجمع أَولى من الترجيح، والنسخُ لا يصح مع إمكان الجمع.

وفي حديث عقبة دليل على تأكد أمر الأضحية، وأن الإمام ينبغي له أن يفرِّق الضحايا على من لا يقدر عليها من بيت مال المسلمين. انتهى

(1)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5078]

(

) - (وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ الرّحْمَنِ الدَّارِمِيُّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى - يَعْنِي: ابْنَ حَسَّانَ - أَخْبَرَنَا مُعَاوِيةُ - وَهُوَ ابْنُ سَلَّامٍ - حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ، أَخْبَرَنِي بَعْجَةُ بْنُ عَبْدِ الله، أَن عُقْبَةَ بْنَ عَامِرٍ الْجُهَنِيَّ أَخْبَرَهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَسَمَ ضَحَايَا بَيْنَ أَصْحَابِه، بِمِثْلِ مَعْنَاهُ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ الرّحْمَنِ الدَّارِمِيُّ) تقدّم قبل بابين.

2 -

(يَحْيَى بْنُ حَسَّانَ) التّنِّيسيّ، بصريّ الأصل، ثقةٌ [9](ت 208)(خ م د ت س) تقدم في "الحيض" 7/ 723.

3 -

(مُعَاوِيَةُ بْنُ سَلَّامٍ) أبو سلّام الدمشقيّ، وكان يسكن حِمْص، ثقةٌ [7] مات في حدود (170)(ع) تقدم في "الإيمان" 49/ 309.

والباقون ذُكروا قبله.

[تنبيه]: رواية معاوية بن سلّام، عن يحيى بن أبي كثير هذه ساقها الطبرانيّ في "مسند الشاميين"، فقال:

(2817)

- حدّثنا أبو زرعة، ثنا يحيى بن صالح، ثنا معاوية بن سلّام، عن يحيى بن أبي كثير، عن بعجة بن عبد الله، أن عقبة بن عامر أخبره، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قسم ضحايا بين أصحابه، فصار لي منها جذعة، وقلت: يا رسول الله إنه صارت لي جذعة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ضَحِّ بها". انتهى

(2)

.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(1)

"المفهم" 5/ 359 - 360.

(2)

"مسند الشاميين" 4/ 91.

ص: 376

(3) - (بَابُ استِحْبَابِ الضَّحِيَّة، وَذَبْحِهَا مُبَاشَرَةً، بِلَا تَوْكِيلٍ، وَالتَّسْمِيَة، وَالتَّكْبِيرِ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5079]

(1966) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: ضَحَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْن، أَقْرَنَيْن، ذَبَحَهُمَا بِيَدِه، وَسَمَّى، وَكَبَّرَ، وَوَضَعَ رِجْلَهُ عَلَى صِفَاحِهِمَا).

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(قَتَادَةُ) بن دِعامة السَّدُوسيّ، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

والباقون ذُكروا في البابين الماضيين، وأَبُو عَوَانَةَ هو: وضّاح بن عبد الله اليشكريّ.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من رباعيّات المصنّف، وهو (363) من رباعيّات الكتاب.

شرح الحديث:

(عَنْ أَنَسٍ) صلى الله عليه وسلم أنه (قَالَ: ضَحَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم) كذا في هذه الرواية بصيغة الماضي، وفي رواية همّام عن قتادة عند البخاريّ:""كان يُضحي"، وهو أظهر في المداومة على ذلك، قاله في "الفتح"

(1)

. (بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ) قال ابن الأعرابيّ وغيره: الأملح: هو الأبيض الخالص البياض، وقال الأصمعيّ: هو الأبيض، ويشوبه شيء من السواد، وقال أبو حاتم: هو الذي يخالط بياضه حمرة، وقال بعضهم: هو الأسود يعلوه حمرة، وقال الكسائيّ: هو الذي فيه بياض وسواد، والبياض أكثر، وقال الخطابيّ: هو الأبيض الذي في خِلَل صوفه طبقات سُود، وقال الداوديّ: هو المتغير الشعر بسواد وبياض، ذكره النوويّ رحمه الله

(2)

.

وقال في "الفتح": "الأملح" - بالمهملة - هو الذي فيه سواد وبياض،

(1)

"الفتح" 12/ 567، كتاب "الأضاحي" رقم (5558).

(2)

"شرح النوويّ" 13/ 120.

ص: 377

والبياض أكثر، ويقال: هو الأغبر، وهو قول الأصمعيّ، وزاد الخطابيّ: هو الأبيض الذي في خِلَل صوفه طبقات سُود، ويقال: الأبيض الخالص، قاله ابن الأعرابيّ، وبه تمسّك الشافعية في تفضيل الأبيض في الأضحية، وقيل: الذي يعلوه حمرة، وقيل: الذي ينظر في سواد، ويمشي في سواد، ويأكل في سواد، ويبرك في سواد؛ أي: أن مواضع هذه منه سُود وما عدا ذلك أبيض، وحَكَى ذلك الماورديّ عن عائشة، وهو غريب، ولعله أراد الحديث الذي جاء عنها كذا، لكن ليس فيه وصفه بالأملح، وسيأتي عند مسلم بعد ثلاثة أحاديث، فإن ثبت فلعله كان في مرة أخرى.

واختُلِف في اختيار هذه الصفة فقيل: لِحُسْن منظره، وقيل: لشحمه، وكثرة لحمه. انتهى

(1)

.

(أَقْرَنَيْنِ) الأقرن الذي له قرنان معتدلان

(2)

، وقال النوويّ؛ أي: لكل واحد منهما قرنان حسنان، قال العلماء: فيستحب الأقرن.

(ذَبَحَهُمَا بِيَدِهِ) فيه مشروعيّة ذبح أضحيته بيده، وقد اتفقوا على جواز التوكيل فيها للقادر، لكن عند المالكية رواية بعدم الإجزاء مع القدرة، وعند أكثرهم يُكره، لكن يُستحب أن يشهدها، ويكره أن يستنيب حائضًا، أو صبيًّا، أو كتابيًّا، وأوّلهم أَولى، ثم ما يليه، قاله في "الفتح"

(3)

.

(وَسَمَّى، وَكَبَّرَ) وفي رواية: "يُسمّي، ويُكبّر" بصيغة المضارع، وهو أظهر في وقوع ذلك عند الذبح. (وَوَضَعَ رِجْلَهُ عَلَى صِفَاحِهِمَا)؛ أي: صفحة عنق كلّ منهما، وهي جانبه، وإنما فعل هذا ليكون أثبت له، وأمكن؛ لئلا تضطرب الذبيحة برأسها، فتمنعه من إكمال الذبح، أو تؤذيه، وهذا أصح من الحديث الذي جاء بالنهي عن هذا، قاله النوويّ رحمه الله

(4)

.

وقال في "الفتح": قوله: "على صفاحهما"؛ أي: على صفاح كل منهما عند ذبحه، و"الصفاح" - بكسر الصاد المهملة، وتخفيف الفاء، وآخره حاء

(1)

"الفتح" 12/ 554 رقم (5553).

(2)

"شرح السيوطيّ لسنن النسائيّ" 7/ 219.

(3)

"الفتح" 12/ 567 رقم (5558).

(4)

"شرح النوويّ" 13/ 121.

ص: 378

مهملة -: الجوانب، والمراد: الجانب الواحد من وجه الأضحية، وإنما ثُنِّيَ إشارةً إلى أنه فَعَلَ ذلك في كل منهما، فهو من إضافة الجمع إلى المثنى بإرادة التوزيع، قاله في "الفتح"

(1)

، والله تعالى أعلم.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أنس رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [3/ 5079 و 5080 و 5081 و 5082](1966)، و (البخاريّ) في "الحجّ"(1551) و"الأضاحي"(5558 و 5564 و 5565) و"التوحيد"(7399)، و (أبو داود) في "الأضاحي (2793 و 2794)، و (الترمذيّ) في "الأضاحي" (1494)، و (النسائيّ) في "العيدين" (1588) و"الضحايا" (7/ 220) و"الكبرى" (3/ 65 - 66)، و (ابن ماجه) في "الأضاحي" (3120) و (الشافعيّ) في "مسنده" (1/ 174)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه" (8129)، و (الطيالسيّ) في "مسنده" (1968)، و (أحمد) في "مسنده" (3/ 115 و 183 و 222 و 255 و 272 و 279)، و (عبد بن حميد) في "مسنده" (1/ 407)، و (الدارميّ) في "سننه" (2/ 75)، و (أبو يعلى) في "مسنده" (2859 و 2877 و 3118 و 3166 و 3247)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه" (4/ 286)، و (ابن حبّان) في "صحيحه" (5900 و 5901)، و (الدارقطنيّ) في "سننه" (4/ 285)، و (أبو عوانة) في "مسنده" (5/ 50 - 51)، و (البيهقيّ) في "الكبرى" (9/ 259 و 283 و 285)، و (البغويّ) في "شرح السنّة" (1118 و 1119)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): مشروعيّة تضحية الإنسان بعدد من الحيوان، قاله النوويّ رحمه الله

(2)

، وقال في "الفتح": واستُدِلّ به على اختيار العدد في الأضحية، ومن ثم قال الشافعية: إن الأضحية بسبع شياه أفضل من البعير؛ لأن الدم المراق فيها أكثر، والثواب يزيد بحَسَبه، وأن من أراد أن يضحي بأكثر من

(1)

"الفتح" 12/ 567 رقم (5558).

(2)

"شرح النوويّ" 13/ 121.

ص: 379

واحد يعجّله، وحَكَى الرويانيّ من الشافعية استحباب التفريق على أيام النحر، قال النوويّ: هذا أرفق بالمساكين، لكنه خلاف السُّنَّة، كذا قال، والحديث دالّ على اختيار التثنية، ولا يلزم منه أن من أراد أن يضحي بعدد فضحّى أول يوم باثنين، ثم فرّق البقية على أيام النحر أن يكون مخالفًا للسُّنَّة. انتهى

(1)

.

2 -

(ومنها): أن الذكر في الأضحية أفضل من الأنثى، وهو قول أحمد، وعنه رواية أن الأنثى أَولى، وحَكَى الرافعيّ فيه قولين عن الشافعيّ، أحدهما عن نصّه في البويطي: الذَّكر؛ لأن لحمه أطيب، وهذا هو الأصح، والثاني: أن الأنثى أَولى، قال الرافعيّ: وإنما يذكر ذلك في جزاء الصيد عند التقويم، والأنثى أكثر قيمة، فلا تُفْدَى بالذكر، أو أراد: الأنثى التي لم تلد، وقال ابن العربيّ: الأصح أفضلية الذكور على الإناث في الضحايا، وقيل: هما سواء. انتهى

(2)

.

3 -

(ومنها): استحباب الأقرن، قال النوويّ: وأجمع العلماء على جواز التضحية بالأجمّ الذي لم يُخلق له قرنان، واختلفوا في مكسورة القرن، فجوّزه الشافعيّ، وأبو حنيفة، والجمهور، سواء كان يَدْمَى أم لا، وكَرِهه مالك إذا كان يَدْمَى، وجعله عيبًا، وأجمعوا على استحباب استحسانها، واختيار أكملها، وأجمعوا على أن العيوب الأربعة المذكورة في حديث البراء رضي الله عنه، وهو المرض، والعَجَف، والعَوَر، والعَرَج الْبَيِّن لا تجزي التضحية بها، وكذا ما كان في معناها، أو أقبح، كالعمى، وقطع الرجل، وشِبهه، وحديث البراء هذا لم يخرجه البخاريّ، ومسلم في "صحيحهما"، ولكنه صحيح، رواه أبو داود، والترمذيّ، والنسائيّ، وغيرهم، من أصحاب السنن بأسانيد صحيحة، وحسنة، قال أحمد بن حنبل: ما أحسنه من حديث، وقال الترمذيّ: حديث حسن صحيح، والله أعلم.

4 -

(ومنها): أنه يؤخذ من قوله: "أملحين" استحباب استحسان لون الأضحية، وقد أجمعوا عليه، قال النوويّ: قال أصحابنا: أفضلها البيضاء، ثم

(1)

"الفتح" 12/ 554 رقم (5554).

(2)

"الفتح" 12/ 554 رقم (5554).

ص: 380

الصفراء، ثم الغبراء، وهي التي لا يصفو بياضها، ثم البلقاء، وهي التي بعضها أبيض، وبعضها أسود، ثم السوداء، قاله النوويّ رحمه الله

(1)

.

وقال في "الفتح": واستُدِلّ به على مشروعية استحسان الأضحية صفةً ولونًا، قال الماورديّ: إن اجتمع حسن الْمَنْظَر مع طيب الْمَخْبَر في اللحم فهو أفضل، وإن انفردا فطيب المخبر أَولى من حسن المنظر، وقال أكثر الشافعية: أفضلها البيضاء، ثم الصفراء، ثم الغبراء، ثم البلقاء، ثم السوداء. انتهى

(2)

.

5 -

(ومنها): بيان أنه يستحب أن يتولى الإنسان ذبح أضحيته بنفسه، ولا يوكِل في ذبحها إلا لعذر، وحينئذ يستحب أن يشهد ذبحها، وإن استناب فيها مسلمًا جاز بلا خلاف، وإن استناب كتابيًّا كُره كراهية تنزيه، وأجزأه، ووقعت التضحية عن الموكِل، قال النوويّ: هذا مذهبنا، ومذهبْ العلماء كافة، إلا مالكًا في إحدى الروايتين عنه، فإنه لم يجوّزها، ويجوز أن يستنيب صبيًّا، أو امرأة حائضًا، لكن يُكره توكيل الصبيّ، وفي كراهة توكيل الحائض وجهان، قال أصحابنا: الحائض أولى بالاستنابة من الصبيّ، والصبيّ أولى من الكتابيّ، قال أصحابنا: والأفضل لمن وكّل أن يوكّل مسلمًا فقيهًا بباب الذبائح والضحايا؛ لأنه أعرف بشروطها، وسننها، والله أعلم.

6 -

(ومنها): أن فيه إثباتَ التسمية على الضحية، وسائر الذبائح، وهذا مجمع عليه، لكن هل هو شرط، أم مستحب؟ فيه خلاف، سبق إيضاحه في "كتاب الصيد".

7 -

(ومنها): استحباب التكبير مع التسمية، فيقول:"باسم الله، والله أكبر".

8 -

(ومنها): استحباب وضع الرِّجل على صفحة عنق الأضحية الأيمن، واتفقوا على أن إضجاعها يكون على الجانب الأيسر، فيضع رجله على الجانب الأيمن؛ ليكون أسهل على الذابح في أخذ السكين باليمين، وإمساك رأسها بيده اليسار، قاله في "الفتح"

(3)

، والله تعالى أعلم.

(1)

"شرح النوويّ" 13/ 121.

(2)

"الفتح" 12/ 554 رقم (5554).

(3)

"الفتح" 12/ 568 رقم (5558).

ص: 381

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5080]

(

) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا وَكِيعٌ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: ضَحَّى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْن، أَقْرَنَيْن، قَالَ: وَرَأَيْتُهُ يَذْبَحُهُمَا بِيَدِه، وَرَأَيْتُهُ وَاضِعًا قَدَمَهُ عَلَى صِفَاحِهِمَا، قَالَ: وَسَمَّى، وَكَبَّرَ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ النيسابوريّ، تقدّم قبل باب.

2 -

(وَكِيعُ) بن الجرّاح، تقدّم قريبًا.

3 -

(شُعْبَةُ) بن الحجّاج، تقدّم قبل باب.

والباقيان ذُكرا قبله.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5081]

(

) - (وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حَبِيبٍ، حَدَّثَنَا خَالِدٌ - يَعْنِي: ابْنَ الْحَارِثِ - حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، أَخْبَرَنِي قَتَادَةُ، قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسًا يَقُولُ: ضَحَّى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، بِمِثْلِه، قَالَ: قُلْتُ: آنْتَ سَمِعْتَهُ مِنْ أَنَسٍ؟ قَالَ: نَعَمْ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ حَبِيبِ) بن عربيّ البصريّ، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

2 -

(خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ) الْهُجَيميّ، تقدّم أيضًا قبل ثلاثة أبواب.

والباقون ذُكروا قبله.

وقوله: (بِمِثْلِهِ)؛ أي: روى خالد بن الحارث هذا الحديث عن شعبة بمثل ما رواه وكيع عنه.

وقوله: (قَالَ: قُلْتُ: آنْتَ سَمِعْتَهُ

إلخ) فاعل "قال" ضمير شعبة، والمقول له هو قتادة، وإنما قال له ذلك؛ ليتأكّد من ثبوت سماعه؛ لأن قتادة معروف بالتدليس.

[فإن قلت]: كيف يسأله عن سماعه، وقد صرّح بقوله:"سمعت أنسًا؟ ".

ص: 382

[قلت]: لعلّ شعبة لم يسمع منه لفظة "سمعت"، أو شكّ فيها، فاستثبت منه، والله تعالى أعلم.

[تنبيه]: رواية خالد بن الحارث عن شعبة هذه ساقها النسائيّ في "سننه"، فقال:

(4504)

- أخبرنا إسماعيل بن مسعود، قال: حدّثنا خالد، عن شعبة، قال: أخبرني قتادة، قال: سمعت أنسًا قال: ضَحّى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكبشين، أملحين، أقرنين، يكبّر، ويسمّي، ولقد رأيته يذبحهما بيده واضعًا على صفاحهما قدمه، قلت: أنت سمعته منه؟ قال: نعم. انتهى

(1)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5082]

(

) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِه، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: وَيَقُولُ: "بِاسْمِ الله، وَاللهُ أَكْبَرُ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) تقدّم قبل باب.

2 -

(ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ) هو: محمد بن إبراهيم بن أبي عديّ، تقدّم أيضًا قبل باب.

3 -

(سَعِيدُ) بن أبي عروبة مِهْران اليشكريّ مولاهم، أبو النضر البصريّ، ثقةٌ حافظٌ، له تصانيف، لكنه كثير التدليس، واختلط [6](ت 6 أو 157)(ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 127.

والباقيان ذُكرا قبله.

وقوله: (بِمِثْلِهِ)؛ يعني: أن سعيد بن أبي عَروبة روى هذا الحديث عن قتادة بمثل ما رواه شعبة عنه.

وقوله: (غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ

إلخ) بنصب "غيرَ" على الاستثناء، كما قال في "الخلاصة":

(1)

"السنن الكبرى" للنسائيّ 3/ 65، و"المجتبى" 7/ 230.

ص: 383

وَاسْتَثْنِ نَاصِبًا بِـ "غَيْرٍ" مُعْرَبَا

بِمَا لِمُسْتَثْنًى بِـ "إِلَّا" نُسِبَا

[تنبيه]: رواية سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة هذه لم أجد من ساقها على لفظ المصنّف، وساقها أبو عوانة في "مسنده" بلفظ مخالف له، فقال:

(7793)

- حدّثنا الصغانيّ، وأبو أمية، قالا: ثنا رَوْح بن عُبادة، قال: ثنا سعيد بن أبي عَروبة، عن قتادة، عن أنس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يضحي بكبشين، أقرنين، أملحين، يذبحهما بيده، ويطأهما على صفاحهما، ويكبِّر. انتهى

(1)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5083]

(1967) - (حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ مَعْرُوفٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ حَيْوَةُ: أَخْبَرَنِي أَبُو صَخْرٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ قُسَيْطٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْر، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِكَبْشٍ أَقْرَنَ، يَطَأُ فِي سَوَادٍ، وَيَبْرُكُ فِي سَوَادٍ، وَيَنْظُرُ فِي سَوَادٍ، فَأُتِيَ بِهِ لِيُضَحِّيَ بِه، فَقَالَ لَهَا: "يَا عَائِشَةُ هَلُمِّي الْمُدْيَةَ"، ثُمَّ قَالَ: "اشْحَذِيهَا بِحَجَرٍ"، فَفَعَلَتْ، ثُمَّ أَخَذَهَا، وَأَخَدَ الْكَبْشَ، فَأَضْجَعَهُ، ثُمَّ ذَبَحَهُ، ثُمَّ قَالَ: "بِاسْمِ الله، اللَّهُمَّ تَقَبَّلْ مِنْ مُحَمَّدٍ، وَآلِ مُحَمَّدٍ، وَمِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ"، ثُمَّ ضَحَّى بِهِ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(هَارُونُ بْنُ مَعْرُوفٍ) المروزيّ، أبو عليّ الْخَزّاز الضرير، نزيل بغداد، ثقةٌ 1 [10](231) وله (71) سنة (خ م د) تقدم في "الإيمان" 63/ 350.

2 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْبِ) الحافظ المصريّ، تقدّم قريبًا.

3 -

(حَيْوَةُ) بن شُريح بن صفوان التُّجيبيّ، أبو زرعة المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ زاهدٌ [7](ت 8 أو 159)(ع) تقدم في "الإيمان" 57/ 328.

4 -

(أَبُو صَخْرٍ) ابن أبي الْمُخارق حُميد بن زياد الْخَرّاط، صاحب الْعَبَاء المدنيّ، سكن مصر، ويقال: هو حميد بن صخر أبو مَوْدود الخرّاط، وقيل: إنهما اثنان، صدوقٌ يَهِم [6](ت 189)(بخ م د ت عس ق) تقدم في "الطهارة" 5/ 558.

(1)

"مسند أبي عوانة" 5/ 62.

ص: 384

5 -

(يَزِيدُ بْنُ قُسَيْطٍ) هو: يزيد بن عبد الله بن قُسيط بن أسامة الليثيّ المدنيّ، نُسب لجدّه، أبو عبد الله الأعرج، ثقةٌ [4](ت 122) وله تسعون سنة (ع) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 20/ 1301.

6 -

(عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ) بن العوّام الأسديّ، أبو عبد الله المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ مشهور [3](ت 94) على الصحيح (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 407.

7 -

(عَائِشَةُ) بنت أبي بكر الصدّيق، أم المؤمنين رضي الله عنها أفقه النساء مطلقًا، وأفضل أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم إلا خديجة، ففيها خلاف مشهور، ماتت سنة (57) على الصحيح (ع) تقدّمت في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 315.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من سُداسيّات المصنّف، وأنه مسلسل بالمدنيين من أبي صخر، والباقون مصريّون، سوى شيخه، فبغداديّ، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه عروة من الفقهاء السبعة، وعائشة رضي الله عنها من المكثرين السبعة، روت (2210) أحاديث، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ عَائِشَةَ) أم المؤمنين رضي الله عنها (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِكَبْشٍ)؛ أي: بإحضار كبش (أَقْرَنَ)؛ أي: له قرنان حَسَنان، (يَطَأُ فِي سَوَادٍ)؛ يعني: أنه أسود القوائم، (وَيَبْرُكُ فِي سَوَادٍ)؛ يعني: أن ما يلي الأرض منه إذا بَرَك أسود، (وَيَنْظُرُ فِي سَوَادٍ)؛ يعني: أن حَدَقته سوداء؛ لأن إنسان العين فيها، وبه ينظر فإذا هي اسودّت نظر في سواد، قال كُثَيِّر، وذَكَر المرأة [من الوافر]:

وَعَنْ نَجْلَاءَ تَدْمَعُ فِي بَيَاضٍ

إَذَا دَمَعَتْ وَتَنْظُرُ فِي سَوَادِ

قال ابن قُتيبة: قوله: تدمع في بياض، يريد أن دموعها تسيل على خدّ أبيض، وأن نظرها من حدقة سوداء، وأنا أحسبه لم يُرِد في الكبش الحدقة وحدها، ولكنه أراد العين والوجه، يقول: نظره من وجه أسود. انتهى

(1)

.

وقال في "اللسان": "ويبرك في سواد" يريد أن ما يلي الأرض منه إذا

(1)

"غريب الحديث" لابن قتيبة 1/ 459.

ص: 385

برك أسود، والمعنى أنه أسود القوائم، والمرابض، والمحاجر. انتهى

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "أمر بكبش أقرن، يطأ في سواد، وينظر في سواد، ويبرك في سواد"؛ أي: أمر بأن يُنتخب له كبش على هذه الشِّيَة، ففيه ما يدلّ على أن المضحي ينبغي له أن يختار الأفضل نوعًا، وأكمل خَلْقًا، والأحسن شِيَة، فالأقرن: الطويل القرن، وهو أفضل، ولا خلاف في جواز الأجم، واختُلِف في المكسورة القرن، فالجمهور على الجواز، وقد روى أبو داود عن عليّ رضي الله عنه: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم نَهَى أن يُضحَّى بعضباء الأذن والقرن، وكرهه مالك إن كان يَدْمَى؛ لأنَّه مرض، وأجازه إن لم يَدْم، ومعنى:"يطأ في سواد"؛ أي: أسود القوائم، "ويبرك في سواد"؛ أي: في بطنه سواد، "وينظر في سواد"؛ أي: ما حول عينيه أسود. انتهى

(2)

.

(فَأُتِيَ بِهِ) بالبناء للمفعول؛ أي: أُتي بذلك الكبش الموصوف بما ذُكر، (لِيُضَحِّيَ بِهِ)؛ أي: ليذبحه أضحيةً، (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم (لَهَا)؛ أي: لعائشة رضي الله عنها ("يَا عَائِشَةُ هَلُمِّي)؛ أي: أحضري، وهي بفتح الهاء، وضمّ اللام، فعلُ أَمْر اختُلف فيها، قال الفيّوميّ رحمه الله: هَلُمَّ كلمة بمعنى الدعاء إلى الشيء، كما يقال: تَعَالَ، قال الخليل: أصله لُمَّ، من الضمّ، والجمع، ومنه: لمّ الله شعثَهُ، وكأن المنادي أراد لُمَّ نفسَك إلينا، و"هَا" للتّنبيه، وحُذفت الألف؛ تخفيفًا؛ لكثرة الاستعمال، وجُعِلا اسمًا واحدًا، وقيل: أصلها: هَلْ أُمَّ؛ أي: قُصِد، فنقلت حركة الهمزة إلى اللام، وسقطت، ثم جُعِلا كلمةً واحدةً للدعاء، وأهل الحجاز يُنادُون بها بلفظ واحد للمذكَّر، والمؤنث، والمفرد، والجمع، وعليه قوله تعالى:{وَالْقَائِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا} [الأحزاب: 18]، وفي لغة نجد تَلْحقها الضمائرُ، وتُطَابَقُ، فيقال: هَلُمِّي، وهَلُمَّا، وهَلُمُّوا، وهَلْمُمْنَ؛ لأنهم يجعلونها فعلًا، فيُلحقونها الضمائرَ، كما يُلحقونها قُمْ، وقُوما، وقُوموا، وقُمن، وقال أبو زيد: استعمالها بلفظ واحد للجميع من لغة عُقيل، وعليه قَيْس بَعْدُ، وإلحاق الضمائر من لغة بني تميم، وعليه أكثر العرب، وتُستعمل لازمةً، نحو:{هَلُمَّ إِلَيْنَا} [الأحزاب: 18]؛ أي: أَقْبِلْ، ومتعديةً، نحو:{هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ}

(1)

"لسان العرب" 3/ 231.

(2)

"المفهم" 5/ 360 - 361.

ص: 386

[الأنعام: 150]؛ أي: أحضروهم. انتهى كلام الفيّوميّ رحمه الله

(1)

، وما في الحديث هنا من المتعدّي، حيث نصب "المدية".

(الْمُدْيَةَ") بالنصب على المفعوليّة لـ"هَلُمّي"، قال النوويّ:"هلمّي المدية"؛ أي: هاتيها، وهي بضمّ الميم، وكسرها، وفتحها، وهي السكّين. انتهى

(2)

.

وقال الفيّومي: "المدية": بضمّ الميم، وسكون الدال المهملة، وتخفيف الياء: الشَّفْرة، والجمع مُدًى، ومُدْياتٌ، مثلُ غُرْفة وغُرَفٍ، وغُرفات بالسكون، والفتح، وبنو قشير تقول: مِدْيةٌ بكسر الميم، والجمع مِدًى بالكسر، مثلُ سِدْرةٍ وسِدَرٍ. انتهى

(3)

.

وقال المجد رحمه الله: "الْمُدية" مثلّثةً: الشَّفْرة، جمعه مِدًى، ومُدَى. انتهى

(4)

.

وقال المرتضى في "شرحه": والمدية مثلثة، قال الجوهريّ: بالضم: الشفرة، وقد يُكسَر، وفي "المحكم": قوم يقولون مِدية بالكسر، وآخرون بالضم، والفتحُ لغة ثالثة، عن ابن الأعرابيّ، قال الفارسيّ: قال أبو إسحاق: سُمِّيت؛ لأن انقضاء المدى يكون بها، قال: ولا يعجبني، جَمْعه: مِدًى، ومُدًى، بالكسر، والضم، وهو مطَّرد عند سيبويه؛ لدخول كل واحدة منهما على الأخرى، وقال الجوهريّ: الجمع مِدياتٌ، ومُدًى. انتهى

(5)

.

(ثُمَّ قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("اشْحَذِيهَا بِحَجَرٍ") - بالشين المعجمة، والحاء المهملة المفتوحة، وبالذال المعجمة - من باب نفع؛ أي: حَدِّديها، وهذا موافق للحديث السابق في الأمر بإحسان الْقِتْلة، والذبح، وإحداد الشفرة، قاله النوويّ

(6)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: و"الشحذ": الحذُّ، ومنه قوله [من المتقارب]:

فَيَا حَجَر الشَّحْذِ حَتَّى مَتَى

تَسُنُّ الْحَدِيدَ وَلَا تَقْطع

(1)

"المصباح المنير" 2/ 639 - 640.

(2)

"شرح النوويّ" 13/ 121.

(3)

"المصباح المنير" 2/ 567.

(4)

"القاموس المحيط" ص 1212.

(5)

"تاج العروس" 1/ 8594.

(6)

"شرح النوويّ" 13/ 121.

ص: 387

وفيه الأمر بحدِّ آلة الذبح، كما قال في الحديث الآخر:"إذا ذبحتم فأحسنوا الذِّبحة، وليحدَّ أحدكم شفرته، وليُرح ذبيحته"، رواه مسلم، وهو من باب الرِّفق بالبهيمة بالإجهاز عليها، وتَرْك التعذيب، فلو ذبح بسكين كالَّةٍ، أو بشيء له حدٌّ، وإن لم يكن مجهزًا بل مُعذِّبًا فقد أساء، لكنه إن أصاب سُنَّة الذبح؛ لم تحرم الذبيحة، وبئسما صنع، إلا إذا لم يجد إلا تلك الآلة. انتهى

(1)

.

(فَفَعَلَتْ) عائشة رضي الله عنها ما أمرها به النبيّ صلى الله عليه وسلم من شحذ تلك المدية، (ثُمَّ أَخَذَهَا)؛ أي: أخذ صلى الله عليه وسلم تلك المدية (وَأَخَذَ الْكَبْشَ، فَأَضْجَعَهُ؛ أي: ألقاه على جنبه؛ ليتمكّن من ذبحه (ثُمَّ ذَبَحَهُ، ثُمَّ قَالَ) صلى الله عليه وسلم عند ذبحه "بِاسْمِ اللهِ" أذبحه، (اللَّهُمَّ تَقَبَّلْ مِنْ مُحَمَّدٍ، وَآلِ مُحَمَّدٍ، وَمِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ"، ثُمَّ ضَحَّى بِهِ) قال النوويّ رحمه الله: هذا الكلام فيه تقديم وتأخير، وتقديره: فأضجعه، وأخذ في ذبحه قائلًا: باسم الله، اللهم تقبّل من محمد، وآل محمد، وأمته، مُضَحّيًا به، ولفظة "ثُمّ" هنا متأوّلة على ما ذكرته بلا شك. انتهى

(2)

، والله تعالى أعلم.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية) في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [3/ 5083](1967)، و (أبو داود) في "الضحايا"(2792)، و (ابن ماجه) في "الضحايا"(2/ 1046)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 78)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5915)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(5/ 62)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(4/ 176)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(9/ 267 و 272 و 286)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان استحباب إضجاع الغنم في الذبح، وأنها لا تُذبح قائمةً، ولا باركةً، بل مُضْجَعَة؛ لأنه أرفق بها، قال النوويّ رحمه الله: وبهذا

(1)

"المفهم" 5/ 361 - 362.

(2)

"شرح النوويّ" 13/ 122.

ص: 388

جاءت الأحاديث، وأجمع المسلمون عليه، واتفق العلماء، وعمل المسلمين على أن إضجاعها يكون على جانبها الأيسر؛ لأنه أسهل على الذابح في أخذ السكين باليمين، وإمساك رأسها باليسار. انتهى

(1)

.

2 -

(ومنها): بيان استحباب قول الْمُضَحِّي حال الذبح مع التسمية والتكبير: "اللهم تقبّل مني"، قال النوويّ: قال أصحابنا: ويستحب معه: "اللهم منك، وإليك، تقبّل مني"، فهذا مستحب عندنا، وعند الحسن، وجماعة، وكرهه أبو حنيفة، وكره مالك:"اللهم منك، وإليك"، وقال: هي بدعة. انتهى

(2)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "اللهم تقبَّل من محمدٍ

إلخ " هذا دليلٌ للجمهور على جواز قول المضحِّي: اللهم تقبّل مني، وَرَدٌّ على أبي حنيفة؛ حيث كره أن يقول شيئًا من ذلك، وكذلك عند الذبح، وقد استحسنه بعض أصحابنا، واستحب بعضهم أن يقول ذلك بنص الآية: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة: 127]، وكره مالك قولهم: اللهم منك، وإليك، وقال: هذه بدعة، وأجاز ذلك ابن حبيب من أصحابنا، والحسن. قلت: وقد رَوَى أبو داود من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: ذبح النبيّ صلى الله عليه وسلم يوم الذبح كبشين، أقرنين، موجئين، أملحين، فلمّا وجّههما قال: " {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا

} وقرأ إلى قوله: {وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 163]، اللهم منك وإليك عن محمد وأمته، باسم الله، والله أكبر"

(3)

، ثم ذبح، فهذا الحديث حجَّة للحسن، وابن حبيب، وأما مالك: فلعل هذا الحديث لم يبلغه، أو لم يصحّ عنده، أو رأى: أن العمل يُخالفه، وعلى هذا يدلّ قوله: إنَّه بدعة. انتهى

(4)

.

3 -

(ومنها): أنه استَدَلّ بهذا من جوّز تضحية الرجل عنه، وعن أهل

(1)

"شرح النوويّ" 13/ 122.

(2)

"شرح النوويّ" 13/ 122.

(3)

رواه أبو داود برقم (2795)، وهو حديث ضعيف في سنده أبو عيّاش، قال في "التقريب": مقبول، وفيه عنعنة ابن إسحاق، وهو مدلّس.

(4)

"المفهم" 5/ 364.

ص: 389

بيته، واشتراكهم معه في الثواب، قال النوويّ: وهو مذهبنا، ومذهب الجمهور، وكرهه الثوريّ، وأبو حنيفة، وأصحابه، وزعم الطحاويّ أن هذا الحديث منسوخ، أو مخصوص، وغَلَّطه العلماء في ذلك، فإن النسخ، والتخصيص لا يثبتان بمجرد الدعوى. انتهى

(1)

.

وقال القرطبيّ: فيه من الفقه ما يدلّ على جواز تشريك الرجل أهل بيته في أضحيته، وأن ذلك يجزئ عنهم، وكافة علماء الأمصار على جواز ذلك، مع استحباب مالك أن يكون لكل واحدٍ من أهل البيت أضحية واحدة، وكان أبو حنيفة، وأصحابه، والثوريّ يكرهون ذلك، وقال الطحاويّ: لا يجزئ، وزعم: أن الحديث في ذلك من فِعْل النبيّ صلى الله عليه وسلم منسوخ، أو مخصوص، وممن قال بالمنع: عبد الله بن المبارك.

قال القرطبيّ: وهذه المسألة فيها نظر، وذلك: أن الأصل أن كل واحد مخاطب بأضحية، وهذا متّفَقٌ عليه، فكيف يسقط عنهم بفعل أحدهم؟! وقوله:"اللهم تقبَّل من محمد وآل محمد" ليس نصًّا في إجزاء ذلك عن أهل بيته، بل هو دعاء لمن ضحَّى بالقبول، ويدلُّ عليه قوله:"ومن أمة محمد"، وقد اتَّفق الكل على أن أضحية النبيّ صلى الله عليه وسلم لا تجزئ عن أمته، ولو سُلِّم ذلك لكان يلزم عليه أن تجزئ أضحية النبيّ صلى الله عليه وسلم عن آل النبيّ صلى الله عليه وسلم حيث كانوا، وإن لم يكونوا في بيته، ثم يلزم عليه ألا يدخل أزواجه فيهم؛ فإنَّهم ليسوا آلًا له على الحقيقة اللغوية، وقد تقدَّم القول على آل النبي صلى الله عليه وسلم في الزكاة، والذي يظهر لي: أن الحجَّة للجمهور على ذلك: ما رُوي أن النبيّ صلى الله عليه وسلم ضحَّى عن نسائه ببقرة، وروي: بالبقر. وأيضًا فلم يُرْوَ أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أمر كل واحدة من نسائه بأضحية، ولو كان ذلك؛ لنُقل، لتكرار سِنِيِّ الضحايا عليهن معه، ولكثرتهن، فالعادة تقتضي أن ذلك لو كان لنُقل كما نُقل غير ذلك من جزئيات أحوالهن، فدلَّ ذلك على أنَّه كان يكتفي بما يضحِّي عنه وعنهن، والله تعالى أعلم.

وقد رَوى الترمذيّ عن عطاء بن يسار، قال: سألت أبا أيوب الأنصاريّ: كيف كانت الضحايا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: كان الرجل يضحِّي بالشاة

(1)

"شرح النوويّ" 13/ 122.

ص: 390

عنه وعن أهل بيته، فيأكلون، ويطعمون حتى تباهى الناس فيها كما ترى، قال: هذا حديث حسن صحيح. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن بما ذُكر أن قول الجمهور أن أضحية الرجل الواحدة تجزي عنه وعن أهل بيته هو الحقّ؛ لوضوح أدلّته، فقد كان هذا هو المعمول به في عهده صلى الله عليه وسلم، إلى أن تباهى الناس بعده، كما قال جابر رضي الله عنه، وأنه لم يُنقل عن أهل بيته صلى الله عليه وسلم أنهم ضحّوا غير ضحاياه صلى الله عليه وسلم، وكذلك أصحابه، وقد أجاد القرطبيّ رحمه الله في آخر كلامه حيث قرّر ذلك، واستدلّ له، وإن كان أول كلامه فيه نظر، فتأمله بالإمعان، والله تعالى أعلم.

[تنبيه]: قال القاضي عياض رحمه الله: وضبطُ من يصحُّ أن يُدخله الرجل في الأضحية عندنا بثلاث صفات:

أحدها: أن يكونوا من قرابته، وحُكم الزوجين، وأمِّ الولد حُكمهم عند مالك والكافة. وأباه الشافعي في أم الولد، وقال: لا أجيز لها، ولا للمكاتَب، والمدبَّر، والعبد أن يضحُّوا.

والثاني: أن يكونوا في نفقته، وجبت عليه، أو تطوّع بها.

والثالث: أن يكونوا في بيته، ومساكنته غير نائين عنه، فإن انخرم شيء من هذه الشروط لم يصح اشتراكهم في ضحيَّته.

قال الجامع عفا الله عنه: هذه الشروط تحتاج إلى أدلة، فليُتأمل، والله تعالى أعلم.

قال: ولا يجوز عند جميعهم شركة جماعة في ضحية يشترونها، ويذبحونها عن أنفسهم، أو في هدي إذا كانوا أكثر من سبعة، واختلفوا فيما دونها. فمذهب الليث، ومالك: أن الشركة لا تجوز بوجهٍ فيها؛ كانت بدنة، أو بقرة، أو شاة، أَهْدُوا أو ضحُّوا. وذهب جمهور العلماء من الحجازيين، والكوفيين، والشاميين: إلى جواز اشتراك السبعة فما دون ذلك في البقرة، والبَدَنة، في الهدي والضحيَّة، ولا تجزئ شاة إلا عن واحد.

(1)

"المفهم" 5/ 364 - 365.

ص: 391

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي قاله الجمهور هو الأظهر، والله تعالى أعلم.

قال القرطبيّ: وقد حصل من مجموع حديث عائشة، وأنس، وجابر رضي الله عنه أن الأَولى في الأضحية نهاية الكمال في الخلق والصّفة، وهو متفق عليه، وأن الوجاء ليس بنقص؛ لأنَّه وإن كان نقصان عضو، فإنَّه يصلح اللَّحم ويُطَيِّبُه، وقد قلنا: إن الطيب في الأضحية: هو المقصود الأول، وأما العيوب الْمُنَقِّصة، فقال القاضي: أجمعوا أنَّ العيوب الأربعة المذكورة في حديث البراء؛ من: المرَض، والعَجَف، والعَوَر، والعَرَج لا تجزئ بها الضحيَّة. وكذلك ما هو من نوعها أشنع، كالعمى، وقطع الرِّجل. واختُلف فيما عدا ذلك. فذهب قومٌ: إلى أنها تجزئ بكل عيب غير هذه الأربعة؛ إذ لم ينصَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم على غيرها، وهو موضع بيان، وبه قال بعض أئمتنا البغداديين، وذهب الجمهور إلى اعتبار ما كان نقصًا وعيبًا، ثم اختلفوا في أعيانها على ما ترتَّب في كتب الفقه.

قال الجامع عفا الله عنه: كون ما عدا الأربعة من العيوب غير مانع عن التضحية هو الظاهر؛ لعدم دليل يؤيّده، والله تعالى أعلم.

قال: ولم يخرّج البخاريّ، ولا مسلم حديث عيوب الضحايا؛ لأنَّه مما تفرَّد به عبيد بن فيروز، ولا يُعرف إلا بهذا الحديث، وقد أدخله مالك في "الموطأ" لَمّا صحبه عنده العمل من المسلمين، ولاتفاقهم على قبوله.

قال القاضي عياض: حديث البراء الذي خرَّجه مالك عن عمرو بن الحارث المصريّ عن عبيد بن فيروز، عن البراء بن عازب: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئل: ماذا يُتَّقى من الضحايا؟ فأشار بيده وقال: "أربع

"، وذكر الحديث. وهذا الحديث صحيح، وانفراد الثقة به لا يضرُّه، وإنَّما لم يخرِّجه البخاريّ ولا مسلم؛ لأنَّه ليس على ما شرطاه في كتابيهما، وقد خرَّجه النسائيّ، والترمذيّ، وقال: حديث حسن، صحيح، غريب، لا نعرفه إلا من حديث عبيد بن فيروز، وكذلك خرَّج النسائيّ أيضًا حديث عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه من طرق قال فيه: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستشرف العين، والأذن، وألا نضحِّي بعوراء، ولا مقابَلَة، ولا مُدابَرة، ولا شَرْقاء، ولا خَرْقاء، وفي أخرى: ولا بتراء. وفي أخرى: ولا جدعاء، وصححه الترمذيّ.

ص: 392

وقوله: أمَرَنا أن نستشرف العين والأذن؛ أي: نرفع نظرنا إلى ذلك، ونختار السالم من عيوب ذينك، ثم فسَّر ذلك بقوله: ولا نضحِّي بعوراء، وبما بعده.

و"المقابلة" هي التي يقطع بعض أذنها، ويترك مُعلَّقًا على وجهها، و"المدابَرة": أن يُترك معلَّقًا إلى خلفها، و"الشرقاء" هي: المشقوقة الأذن طولًا، و"الخرقاء": التي خُرق من غير شق. و"الجدعاء": المقطوعة الأذن، وظاهر عَطْف هذه العيوب على العوراء - وهي لا تجزئ باتفاق - أن لا تجزئ الأضحية مع شيء من هذه العيوب، وهو أصل الظاهرية، لكن لمّا كانت العوراء مقيَّدة بالبيِّن عَوَرُها، كما قال في حديث البراء؛ تحققنا أن المنهيّ عنه من هذه العيوب ما تفاحش منها، ولا شكَّ أن ما أذهب الأُذن من هذه الأمور، أو جلّها لا تجزئ به، وما لم يكن كذلك، فقال أصحابنا في المقطوع بعض أذنها: إن زاد القطع على الثلث منع الإجزاء، وإن نقص عنه أجزأت، واختُلف في الثلث، هل تجزئ أو لا؟ على قولين. وكذلك القول في البتراء، والنظر في آحاد العيوب، وتفصيل الخلاف يستدعي تطويلًا فلنقتصر على ما ذكرناه. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(1)

، وهو بحث مفيدٌ، والله تعالى أعلم.

4 -

(ومنها): ما قاله القرطبيّ رحمه الله: فيه استحباب العدد في الأضاحي، ما لم يقصد المباهاة، وأن المضحِّي يلي ذبح أضحيته بنفسه؛ لأنَّه هو المخاطَب بذلك، ولأنه من باب التواضع، وكذلك الهدايا، فلو استناب مسلمًا جاز، واختُلف في الذميّ، فأجاز ذلك عطاء ابتداءً، وهو أحد قَوْلي مالك، وقال في قول له آخر: لا يُجزئه، وعليه إعادة الأضحية، وكره ذلك جماعة من السلف، وعامة أئمة الأمصار، إلا أنهم قالوا: يجزئه إذا فعل. انتهى

(2)

.

5 -

(ومنها): استحباب وضع الرِّجل على جانب عنق الذبيحة، وهو المعبَّر عنه بالصِّفاح. وصفحة كل شيء: جانبه وصفحه أيضًا، وإنما يستحب ذلك لئلا تضطرب الذبيحة فتَزِلَّ يدُ الذابح عند الذبح، وقد روي النهي عن

(1)

"المفهم" 5/ 365 - 367.

(2)

"المفهم" 5/ 362.

ص: 393

ذلك، والصحيح: ما ذُكر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم من وضعه رجله على صفاحهما، قاله القرطبيّ رحمه الله

(1)

.

6 -

(ومنها): تعيُّن التسمية في الذبح؛ فإنَّه قال: "باسم الله، والله أكبر"، قال القرطبيّ: وقد اختُلف في ذلك، فقال أبو ثور: التسمية متعيّنة كالتكبير في الصلاة، وكافة العلماء على استحباب ذلك، فلو قال ذِكرًا آخر فيه اسم من أسماء الله، وأراد به التسمية جاز، وكذلك لو قال: الله أكبر - فقط - أو: لا إله إلا الله، قاله ابن حبيب، فلو لم يُرِد التسمية لم تُجزئ عن التسمية، ولا تؤكل، قاله الشافعيّ، ومحمد بن الحسن. وكره كافة العلماء من أصحابنا، وغيرهم الصلاة على النبيّ صلى الله عليه وسلم عند التسمية في الذبح، أو ذِكره، وقالوا: لا يُذكر هنا إلا الله وحده، وأجاز الشافعيّ الصلاة على النبيّ صلى الله عليه وسلم عند الذبح. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: القول بكراهة الصلاة على النبيّ صلى الله عليه وسلم عند الذبح فيه نظر؛ لأنه لم يَرِدْ نصّ يَمنع عنه، إلا أن يقال: إنه لم يُنقل عنه صلى الله عليه وسلم، فلا ينبغي لذلك، والله تعالى أعلم.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(4) - (بَابُ جَوَازِ الذَّبْحِ بِكُلِّ مَا أَنْهَرَ الدَّمَ، إِلَّا السِّنَّ، وَالظُّفُرَ، وَسَائِرَ الْعِظَامِ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5084]

(1968) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى الْعَنَزِيُّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ سُفْيَانَ، حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ عَبَايَةَ بْنِ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيج، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّا لَاقُو الْعَدُوِّ غَدًا، وَلَيْسَتْ مَعَنَا مُدًى، قَالَ صلى الله عليه وسلم: "أَعْجِلْ، أَو أَرْنِي

(2)

، مَا أَنْهَرَ الدَّمَ، وَذُكِرَ اسْمُ الله، فَكُلْ، لَيْسَ السِّنَّ، وَالظُّفُرَ، وَسَاُحَدِّثُكَ، أَمَّا السِّنُّ فَعَظْمٌ، وَأَمَّا الظُّفُرُ فَمُدَى الْحَبَشَةِ"، قَالَ: وَأَصَبْنَا

(1)

"المفهم" 5/ 362.

(2)

وفي نسخة: "أو أرن ما أنهر".

ص: 394

نَهْبَ إِبِلٍ، وَغَنَمٍ، فَنَدَّ مِنْهَا بَعِيرٌ، فَرَمَاهُ رَجُلٌ بِسَهْمٍ، فَحَبَسَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ لِهَذِهِ الإِبِلِ أَوَابِدَ كَأَوَابِدِ الْوَحْش، فَإِذَا غَلَبَكُمْ

(1)

مِنْهَا شَيْءٌ فَاصْنَعُوا بِهِ هَكَذَا").

رجال هذا الإسناد: ستّةٌ:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى الْعَنَزِيُّ) تقدّم قبل حديث.

2 -

(يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ) القطّان، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

3 -

(سُفْيَانُ) بن سعيد بن مسروق الثوريّ، تقدّم قبل أربعة أبواب.

4 -

(أَبُوهُ) سعيد بن مسروق الثوريّ، ثقةٌ [6](ت 126) أو بعدها (ع) تقدم في "صلاة المسافرين وقصرها" 19/ 1738.

5 -

(عَبَايَةُ بْنُ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ) الأنصاريّ الزُّرقيّ، أبو رفاعة المدنيّ، ثقةٌ [3](ع) تقدم في "الزكاة" 44/ 2443.

6 -

(رَافِعُ بْنُ خَدِيجِ) بن عديّ الحارثيّ الأوسيّ الأنصاريّ الصحابيّ الشهير، أول مشاهده أُحُد، ثم الخندق، مات سنة (3 أو 74) وقيل: بعد ذلك (ع) تقدم في "شرح المقدمة" جـ 2 ص 489.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من سُداسيّات المصنّف، وفيه رواية الابن عن أبيه، والراوي عن جدّه، وأن شيخه أحد التسعة الذين روى عنهم الجماعة بلا واسطة، وأنه ويحيى بصريّان، وسفيان وأباه كوفيّان والباقيان مدنيّان.

شرح الحديث:

(عَنْ سُفْيَانَ) الثوريّ (حَدَّثَنِي أَبِي) سعيد بن مسروق الثوريّ.

[تنبيه]: قال في "الفتح": مدار هذا الحديث في "الصحيحين" على سعيد بن مسروق. انتهى

(2)

.

(عَنْ عَبَايَةَ) - بفتح العين المهملة، وتخفيف الموحّدة، وبعد الألف

(1)

وفي نسخة: "فإذا ندّ عليكم منها شيء".

(2)

"الفتح" 12/ 459 رقم (5498).

ص: 395

تحتانيّة - (ابْنِ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ) قال في "الفتح": كذا قال أكثر أصحاب سعيد بن مسروق عنه، وقال أبو الأحوص: عن سعيد، عن عباية، عن أبيه، عن جدّه، وليس لرفاعة بن رافع ذِكر في كُتُب الأقدمين ممن صنَّف في الرجال

(1)

، وإنما ذكروا ولده عباية بن رفاعة، نَعَم ذَكَره ابن حبان في ثقات التابعين، وقال: إنه يكنى أبا خَديج.

وتابع أبا الأحوص على زيادته في الإسناد حسان بن إبراهيم الكرمانيّ، عن سعيد بن مسروق، أخرجه البيهقيّ من طريقه، وهكذا رواه ليث بن أبي سُليم، عن أبي سليم، عن عباية، عن أبيه، عن جدّه، قاله الدارقطنيّ في "العلل"، قال: وكذا قال مبارك بن سعيد الثوريّ، عن أبيه، وتُعُقّب بأن الطبرانيّ أخرجه من طريق مبارك، فلم يقل في الإسناد: عن أبيه، فلعله اختُلِف على المبارك فيه، فإن الدارقطنيّ لا يتكلم في هذا الفنّ جِزَافًا، ورواية ليث بن أبي سليم عند الطبرانيّ، وقد أغفل الدارقطنيّ ذِكر طريق حسان بن إبراهيم.

قال الجيانيّ: رَوَى البخاري حديث رافع من طريق أبي الأحوص، فقال: عن سعيد بن مسروق، عن عباية بن رافع، عن أبيه، عن جدّه، هكذا عند أكثر الرواة، وسقط قوله:"عن أبيه" في رواية أبي علي بن السكن عند الفربريّ، وحده، وأظنه من إصلاح ابن السكن، فإن ابن أبي شيبة أخرجه عن أبي الأحوص بإثبات قوله:"عن أبيه"، ثم قال أبو بكر: لم يقل أحد في هذا السند: "عن أبيه" غير أبي الأحوص. انتهى، وقد عرفت آنفًا ذِكر من تابع أبا الأحوص على ذلك.

ثم نقل الجيانيّ عن عبد الغنيّ بن سعيد حافظ مصر أنه قال: خرّج البخاري هذا الحديث عن مسدّد، عن أبي الأحوص، على الصواب - يعني: بإسقاط "عن أبيه" -، قال: وهو أصل يَعْمَل به مَن بعد البخاريّ إذا وقع في الحديث خطأ لا يُعَوَّل عليه، قال: وإنما يحسن هذا في النقص دون الزيادة،

(1)

انتقد بعضهم على الحافظ هذا الكلام، فقال ما ملخّصه: بل ترجمه ابن سعد في "الطبقات" 5/ 257، وخليفة بن خيّاط في "طبقاته" 250، وابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل". انتهى.

ص: 396

فيحذف الخطأ، قال الجيّانيّ: وإنما تكلم عبد الغني على ما وقع في رواية ابن السكن ظنًّا منه أنه من عمل البخاريّ، وليس كذلك؛ لِمَا بيّنا أن الأكثر رووه عن البخاريّ بإثبات قوله:"عن أبيه". انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الذي يظهر لي أن رواية أبي الأحوص بزيادة "عن أبيه" غير محفوظة؛ لمخالفته الحفاظ الذين رووه عن سعيد بن مسروق، بدونها، فقد رواه عن سعيد سبعة من الحفاظ، وهم: ولده سفيان الثوريّ عند البخاريّ (2507 و 5506 و 5509)، ومسلم (1968) وغيرهما، وولده الآخر عمر بن سعيد عند مسلم (1968) وغيره، وأبو عوانة عند البخاريّ (2488 و 3075 و 5498)، وشعبة بن الحجاج عند البخاريّ (5503)، ومسلم (1968) وغيرهما، وعمر بن عُبيد الطنافسيّ عند البخاريّ (5544)، وإسماعيل بن مسلم العبديّ عند مسلم (1668)، وزائدة بن قدامة عند مسلم (1968) وغيره

(2)

.

والحاصل أن الرواية المحفوظة هي رواية هؤلاء الجماعة عن سعيد بن مسروق، عن عباية بن رفاعة، عن رافع بن خَديج، كما هي رواية المصنف هنا، والله تعالى أعلم.

(قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّا لَاقُو الْعَدُوِّ غَدًا) هكذا بالجزم في روايات مسلم في الباب، ولعله عَرَف ذلك بخبر من صدّقه، أو بالقرائن، وفي رواية البخاريّ من طريق أبي عوانة:"إنا لنرجو، أو نخاف" بالشك من الراوي، قال في "الفتح": وفي التعبير بالرجاء إشارة إلى حرصهم على لقاء العدو؛ لِمَا يرجونه من فضل الشهادة، أو الغنيمة، وبالخوف إشارة إلى أنهم لا يحبون أن يَهْجُم عليهم العدو بغتة.

وفي رواية يزيد بن هارون عن الثوريّ عند أبي نعيم في "المستخرج على مسلم": "إنا نلقى العدو غدًا، وإنا نرجو"، كذا بحذف متعلق الرجاء، ولعل مراده الغنيمة. انتهى

(3)

.

(1)

"الفتح" 12/ 459 - 460، كتاب " الذبائح" رقم (5498).

(2)

انظر: ما كتبه د. بشار عواد، وشعيب الأرنؤوط على "التقريب" 1/ 402 - 403.

(3)

"الفتح" 12/ 465، كتاب "الذبائح" رقم (5498).

ص: 397

والحديث مختصر، وقد ساقه البخاريّ مطوّلًا من طريق أبي عوانة، عن سعيد بن مسروق، عن عباية بن رفاعة بن رافع، عن جدّه رافع بن خديج، قال: كنا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم بذي الحليفة، فأصاب الناس جوع، فأصبنا إبلًا وغنمًا، وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم في أخريات الناس، فعجَّلوا، فنصبوا القدور، فدفع إليهم النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأمر بالقدور فأُكفئت، ثم قَسَم، فعَدَل عشرة من الغنم ببعير، فَنَدَّ منها بعير، وكان في القوم خيل يسيرة، فطلبوه، فأعياهم، فأهوى إليه رجل بسهم، فحبسه الله، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"إن لهذه البهائم أوابد، كأوابد الوحش، فما نَدَّ عليكم منها فاصنعوا به هكذا"، قال: وقال جدّي: إنا لنرجو، أو نخاف أن نلقى العدو غدًا، وليس معنا مُدًى أفنذبح بالقصب؟، فقال:"ما أنهر الدم، وذُكِر اسم الله عليه فَكُلْ، ليس السنَّ والظفرَ، وسأخبركم عنه، أما السنّ فعظم، وأما الظفر فمُدَى الحبشة".

(وَلَيْسَتْ مَعَنَا مُدًى) - بضم أوله، مخففًا، مقصورًا - جمع مدية - بسكون الدال، بعدها تحتانية -: وهي السكّين، سُمّيت بذلك؛ لأنها تقطع مَدَى الحيوان؛ أي: عمره، والرابط بين قوله:"نلقى العدوّ"، وقوله:"وليست معنا مدى"، يَحْتَمِل أن يكون مراده أنهم إذا لَقُوا العدو، صاروا بصدد أن يَغْنَمُوا منهم ما يذبحونه، ويَحْتَمِل أن يكون مراده أنهم يحتاجون، إلى ذبح ما يأكلونه؛ ليتقووا به على العدو، إذا لقوه، ويؤيده ما يأتي من قسمة الغنم، والإبل بينهم، فكان معهم ما يذبحونه، وكرهوا أن يذبحوا بسيوفهم؛ لئلا يضر ذلك بحدها، والحاجة ماسة له، فسأل عن الذي يُجزئ في الذبح، غير السكين والسيف، وهذا وجه الحصر في المدية والقصب ونحوه، مع إمكان ما في معنى المدية، وهو السيف.

وقد وقع في حديث غير هذا: "إنكم لاقو العدوّ غدًا، والفطر أقوى لكم"، فندبهم إلى الفطر ليتقووا، قاله في "الفتح"

(1)

.

وقال في رواية إسماعيل بن مسلم الآتية: "فنُذكّي بالليط"، وفي رواية للبخاريّ:"أفنذبح بالقصب؟ ".

(1)

"الفتح" 12/ 464، كتاب " الذبائح" رقم (5498).

ص: 398

قال أبو العباس القرطبيّ رحمه الله: "الليط": قِطَع القصب، والشَّظير: قطعة العصا، والظُّرَر: قطعة الحجر، ويُجمع على ظِرّان، ويقال عليها: المروة أيضًا، وكذلك رواه أبو داود في هذا الحديث:"أفنذكّي بالمروة؟ " مكان اللَّيط، والشّظاظ: فِلْقة العود، فهذه كلّها إذا قُطع بها الودجان، والحلقوم جازت الذبيحة، غير أنه لا يُذبح بها إلا عند عدم الشِّفَار، وما يتنزّل منزلتها؛ لِمَا ثبت من الأمر بحدّ الأشفار، وتحسين الذبح، والنهي عن تعذيب الحيوان، وقد نبّه مالك على هذا لَمّا ترجم على الذكاة بالشِّظَاظ:"ما يجوز من الذكاة على الضرورة".

ومعنى هذا السؤال أنهم لَمّا كانوا عازمين على قتال العدوّ، صانوا ما عندهم من السيوف، والأسنّة، وغير ذلك عن استعمالها في الذبح؛ لأن ذلك ربّما يفسد الآلة، أو يَعِيبها، أو ينقُص قطعها، ولم تكن لهم سكاكين صغار مُعدّة للذبح، فسألوا هل يجوز لهم الذبح بغير محدّد السلاح؟ فأجابهم النبيّ صلى الله عليه وسلم بما يقتضي الجواز، وقد دخل في هذا العموم أن كلّ آلة تقطع ذبحًا، أو نحرًا، فالذكاة بها مبيحة للذبيحة، والحديد الْمُجْهِز أَولى؛ لِمَا تقدّم، ولا يُستثنى من الآلات شيء إلا السنّ، والظفر على ما يأتي. انتهى كلام القرطبيّ

(1)

.

(قَالَ صلى الله عليه وسلم: "أَعْجِلْ، أَو أَرْنِي) وفي بعض النسخ: "أو أرن"، قال النوويّ رحمه الله: أمّا "أَعْجِلْ " فهو بكسر الجيم، وأما "أَرِنْ" فبفتح الهمزة، وكسر الراء، وإسكان النون، ورُوي بإسكان الراء، وكسر النون، ورُوي "أَرْني" بإسكان الراء، وزيادة ياء، وكذا وقع هنا في أكثر النسخ، قال الخطابيّ: صوابه: "أَرْنِ" على وزن أَعْجِلْ، وهو بمعناه، وهو من النشاط والخِفّة؛ أي: أعجِل ذبحها؛ لئلا تموت خَنْقًا، قال: وقد يكون "أَرِنْ" على وزن أَطِعْ؛ أي: أهلِكها ذبحًا، من أران القومُ: إذا هلكت مواشيهم، قال: ويكون أَرْنِ على وزن أَعْط بمعنى أَدِمِ الْحَزّ، ولا تَفْتُر، من قولهم: رَنَوْتُ: إذا أدمت النظر، وفي "الصحيح":"أَرْنِ": بمعنى أَعْجِلْ، وأن هذا شكّ من الراوي، هل قال:"أَرْنِ"، أو قال:"أَعْجِلْ".

(1)

"المفهم" 5/ 367 - 368.

ص: 399

قال القاضي عياض: وقد رَدّ بعضهم على الخطابيّ قوله: إنه من أران القومُ: إذا هلكت مواشيهم؛ لأن هذا لا يتعدى، والمذكور في الحديث متعدّ على ما فسّره، ورَدّ عليه أيضًا قوله: إنه أَأْرِنْ؛ إذ لا تجتمع همزتان إحداهما ساكنة في كلمة واحدة، وإنما يقال في هذا: أيرن بالياء.

قال القاضي: وقال بعضهم: معنى أَرْنِي بالياء: سيلان الدم، وقال بعض أهل اللغة: صواب اللفظة بالهمزة، والمشهور بلا همز، والله أعلم. انتهى

(1)

. وقال القرطبيّ رحمه الله: هذا الحرف وقع في كتاب البخاريّ، ومسلم، وأبي داود، واختَلَف الرواة في تقييده على أربعة أوجه:

[الأول]: قيّده النسفيّ، وبعض رواة البخاريّ:"أَرِنْ" بكسر الراء، وسكون النون، مثل أَقِمْ.

[الثاني]: قيّده الأصيليّ: "أَرِنِي" بكسر النون، بعدها ياء المتكلّم.

[الثالث]: قيّده بعض رُواة مسلم كذلك، إلا أنه سكن الراء.

[الرابع]: قيّده في كتاب أبي داود بسكون الراء، ونون مطلقة، هذه التقييدات المنقولة. قال الخطّابيّ: وطالما استثبتُّ فيه الرواة، وسألت عنه أهل العلم، فلم أجد عند أحد منهم ما يُقطع بصحّته.

قال القرطبيّ: قال بعض علمائنا في الوجه الأول: هو بمعنى قد أنشط، وأسرع، فهو بمعنى أَعْجِل، فكأنه يشير إلى أنه شكٌّ وقع من أحد الرواة في أيّ اللفظين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال القرطبيّ: وهذه غفلة؛ إذ لو كان من الأرَن الذي بمعنى النشاط، لَلَزم أن يكون مفتوح الراء؛ لأن ماضيه أَرِنَ، ومضارعه يأرَنُ، قال الفرّاء: الأَرَنُ النشاط، يقال: أَرِنَ البعيرُ بالكسر يأْرَنُ بالفتح أَرَنًا: إذا مَرِح مَرَحًا، فهو آرنٌ؛ أي: نشيطٌ، وقياس الأمر من هذا أن تُجتلَبَ له همزة الوصل مكسورة، وتفتح الراء، فيقال: ائْرَنْ، مثل "ائذن"، من أَذِنَ يأذَنُ، ولم يُروَ كذلك.

وأما تقييد الأصيليّ، فقال بعضهم: يكون بمعنى أَرِني سيلان الدم. قال القرطبيّ: وعلى هذا فيبعُد أن تكون "أو" للشكّ، بل للجمع بمعنى الواو على

(1)

"شرح النوويّ" 13/ 122 - 123.

ص: 400

المذهب الكوفيّ، فإنه طلب الاستعجال، وأن يُريه دم ما ذَبَح.

وأما ما وقع في كتاب مسلم من تسكين الراء، فهو تخفيف للراء المكسورة، وهي لغة معروفةٌ، قرأ بها ابن كثير.

وأما ما وقع في كتاب أبي داود، فقيل: بمعنى أَدِم الْحَزَّ، ولا تَفْتُر، من رَنَوتُ؛ أي: أدمتُ النظر. قال القرطبيّ: ويلزم على هذا أن تكون مضمومة النون؛ لأنه أمرٌ، من رَنَا يَرْنُو، فتُحذف الواو لبناء الأمر، ويبقى ما قبلها مضمومًا على أصله، ولم يُحقَّق ضَبْطه كذلك. وقد ذكر الخطّابيّ في هذه اللفظة أوجهًا محتملةً، لم يجئ بها تقييد عن مُعتبَر، ولا صحّت بها روايةٌ، رأيت الإضراب عنها؛ لعدم فائدتها، وبُعدها عن مقصود الحديث، وأثبتُّ ما فيها روايةٌ، وأقربه معنًى مَن جعله من رؤية العين، وذلك أن اللِّيط والمروة، وما أشبههما مما ليس بمحدَّد يُخاف منه ألا يكون مُجْهِزًا، فإن لم يستعجل بالْمَرِّ لم يَقطَع، وربما يموت الحيوان خنقًا، فإذا استعجل في المرّ، ورأى أن الدم قد سال من موضع القطع، فقد تحقّق الذبح المبيح، والله تعالى أعلم بما أراد رسوله صلى الله عليه وسلم. انتهى كلام القرطبيّ

(1)

.

وقال في "الفتح": قوله: "فقال: أعجل، أو أرن": في رواية كريمة - بفتح الهمزة، وكسر الراء، وسكون النون - وكذا ضبطه الخطابيّ في "سنن أبي داود"، وفي رواية أبي ذر - بسكون الراء، وكسر النون - ووقع في رواية الإسماعيليّ من هذا الوجه الذي هنا:"وأرني" بإثبات الياء آخره، قال الخطابيّ: هذا حرف طالما استثبت فيه الرواة، وسألت عنه أهل اللغة، فلم أجد عندهم ما يُقطع بصحته، وقد طلبت له مَخرَجًا، فذكر أوجهًا:

[أحدها]: أن يكون على الرواية بكسر الراء، من أَرَانَ القومُ: إذا هلكت مواشيهم، فيكون المعنى: أهلَكَها ذبحًا.

[ثانيها]: أن يكون على الرواية بسكون الراء بوزن أَعْطِ؛ يعني: أَنْظِرْ، وأَنظِر، وانتظر بمعنى، قال الله تعالى، حكاية عمن قال:{انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ} الآية [الحديد: 13]؛ أي: أنظرونا. أو هو بضم الهمزة بمعنى أَدِمِ الْحَزَّ، من قولك

(1)

"المفهم" 5/ 370 - 372.

ص: 401

رَنَوْتُ: إذا أدمت النظر إلى الشيء، وأراد: أَدِمِ النظر إليه، وراعِهِ ببصرك.

[ثالثها]: أن يكون مهموزًا، من قولك: أَرْأَنَ يُرْئِنُ: إذا نشِطَ، وخَفّ، كأنه فعلُ أَمْر بالإسراع؛ لئلا يموت خنقًا، ورجح في "شرح السنن" هذا الوجه الأخير، فقال: صوابه أرئن بهمزة، ومعناه: خِفَّ واعْجَل؛ لئلا تخنقها، فإن الذبح إذا كان بغير الحديد احتاج صاحبه إلى خفة يد، وسرعة في إمرار تلك الآلة، والإتيان على الحلقوم، والأوداج كلها، قبل أن تهلك الذبيحة، بما ينالها من ألم الضغط، قبل نطح مذابحها، ثم قال: وقد ذكرت هذا الحرف في "غريب الحديث"، وذكرت فيه وجوهًا يَحْتَمِلها التأويل، وكان قال فيه: يجوز أن تكون الكلمة تصحّفت، وكان في الأصل: أَزِّزْ بالزاي، من قولك: أزَّز الرجل إصبعه: إذا جعلها في الشيء، وأززت الجرادةُ أززًا: إذا أدخلت ذَنَبها في الأرض، والمعنى: شُدَّ يدك على النحر، وزعم أن هذا الوجه أقرب الجميع.

قال ابن بطال: عرضت كلام الخطابي على بعض أهل النقد، فقال: أما أخْذُه من أران القوم، فمعترض؛ لأن أران لا يتعدى، وإنما يقال: أران هو، ولا يقال: أران الرجل غنمه. وأما الوجه الذي صوّبه، ففيه نظر، وكأنه من جهة أن الرواية لا تساعده. وأما الوجه الذي جعله أقرب الجميع، فهو أبعدُها؛ لعدم الرواية به.

وقال عياض: ضبطه الأصيليّ "أَرِني" فعلَ أمر من الرؤية، ومثله في مسلم، لكن الراء ساكنة، قال: وأفادني بعضهم أنه وقف على هذه اللفظة، في "مسند علي بن عبد العزيز" مضبوطة هكذا:"أرني، أو اعْجَلْ"، فكأن الراوي شك في أحد اللفظين، وهما بمعنى واحد، والمقصود الذبح بما يُسرع القطع، ويُجري الدم. ورجح النوويّ أن "أرن" بمعنى "أَعْجِلْ"، وأنه شك من الراوي، وضبط أَعجِل بكسر الجيم، وبعضهم قال في رواية لمسلم: أَرْني، بسكون الراء، وبعد النون ياء؛ أي: أحضرني الآلة التي تَذبح بها لأراها، ثم أضرب عن ذلك، فقال: أو أعجل، و"أو" تجيء للإضراب، فكأنه قال: قد لا يتيسر إحضار الآلة، فيتأخر البيان، فَعَرَّفَ الحكمَ، فقال: أعجل، ما أنهر الدم

إلخ، قال: وهذا أَولى مِن حَمْله على الشك.

ص: 402

وقال المنذريّ: اختُلف في هذه اللفظة، هل هي بوزن أَعْط، أو بوزن أَطِعْ، أو هي فعل أمر من الرؤية، فعلى الأول المعنى: أَدِمِ الْحَزَّ، من رَنَوْتُ: إذا أدمت النظر، وعلى الثاني: أهلكها ذبحًا، من أران القومُ: إذا هلكت مواشيهم.

وتعُقّب بأنه لا يتعدى، وأجيب بأن المعنى: كن ذا شاة هالكة، إذا أُزهقت نفسُها بكل ما أنهر الدم.

قال الحافظ: ولا يخفى تكلفه، وأما على أنه بصيغة فعل الأمر، فمعناه: أَرِني سيلان الدم، ومن سكّن الراء، اختلس الحركة، ومن حَذَف الياء جاز.

وقوله: "واعْجَلْ" بهمزة وصل، وفتح الجيم، وسكون اللام، فعلُ أَمْر من العجلة؛ أي: اعْجَل، لا تموت الذبيحة خَنقًا، قال: ورواه بعضهم بصيغة أَفْعَل التفضيل؛ أي: ليكن الذبح أعجل ما أنهر الدم.

قال الحافظ: وهذا وإن تمشّى على رواية أبي داود، بتقديم لفظ "أرني" على "أعجل"، لم يستقم على رواية البخاري بتأخيرها.

وجوّز بعضهم في رواية "أرن" بسكون الراء أن يكون من أَرْنَانِي حُسنُ ما رأيته؛ أي: حملني على الرُّنُوّ إليه، والمعنى على هذا: أَحْسِنِ الذبح، حتى تحب أن ننظر إليك، ويؤيده حديث:"إذا ذبحتم، فأحسنوا"، أخرجه مسلم. انتهى ما في "الفتح"

(1)

.

(مَا أَنْهَرَ الدَّمَ)؛ أي: أساله، وصبَّه بكثرة، ووزْنه أفعل، من النهر، شُبِّهَ خُروج الدم بجري الماء في النهر. قال عياض: هذا هو المشهور في الروايات بالراء، وذكره أبو ذر الخشني بالزاي، وقال: النهز بمعنى الرفع، وهو غريب، و"ما" موصولة، في موضع رفع بالابتداء، وخبرها "فكلوا"، والتقدير: ما أنهر الدم، فهو حلال، فكلوا. ويَحْتَمِل أن تكون شرطية. ووقع في رواية أبي إسحاق، عن الثوريّ:"كلُّ ما أنهر الدم ذكاة"، و"ما" في هذا موصوفة. انتهى

(2)

.

(1)

"الفتح" 12/ 483 - 484 رقم (5509).

(2)

"إكمال المعلم" 6/ 416.

ص: 403

(وَذُكِرَ اسْمُ اللهِ) قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في النُّسخ كلها، وفيه محذوف؛ أي: وذُكِر اسم الله عليه، أو معه، ووقع في رواية أبي داود وغيره:"وذُكر اسم الله عليه". انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: هكذا عزا النوويّ هذه الرواية إلى أبي داود، وقد ثبتت في رواية البخاريّ في "الشركة"، قال الحافظ: وكلام النوويّ في "شرح مسلم" يوهم أنها ليست في البخاريّ؛ إذ قال: هكذا هو في النسخ كلها - يعني: من مسلم - وفيه محذوف؛ أي: ذُكر اسم الله عليه، أو معه، ووقع في رواية أبي داود وغيره:"وذُكر اسم الله عليه". انتهى، فكأنه لمّا لم يرها في "الذبائح" من البخاري أيضًا، عزاها لأبي داود، إذ لو استحضرها من البخاريّ، ما عدل عن التصريح بذكرها فيه. انتهى.

وفيه اشتراط التسمية؛ لأنه عَلّق الإذن بمجموع الأمرين: وهما الإنهار، والتسمية، والمعلَّق على شيئين لا يُكتفَى فيه إلا باجتماعهما، وينتفي بانتفاء أحدهما.

وقد تقدم البحث في اشتراط التسمية وعدمه مستوفًى في المسائل المذكورة في شرح حديث عديّ بن حاتم رضي الله عنه أوّلَ "كتاب الصيد والذبائح"، فراجعه تستفد.

(فَكُلْ) كذا هنا بأمر الواحد، ووقع عند البخاريّ وغيره:"فكلوا" بأمر الجماعة.

(لَيْسَ السِّنّ، وَالظُّفُرَ)"ليس" هنا للاستثناء، كما قال في "الخلاصة":

وَاسْتَثْنِ نَاصِبًا بِـ "لَيْسَ" و"خَلَا"

وَبـ "عَدَا" وَبِـ "يَكُونُ" بَعْدَ "لَا"

وقال في "الفتح": قوله: "ليس السنّ، والظفر" بالنصب على الاستثناء بـ "ليس"، ويجوز الرفع؛ أي: ليس السنُّ والظفرُ مباحًا، أو مجزئًا، ووقع في رواية أبي الأحوص:"ما لم يكن سنٌّ، أو ظفرٌ"، وفي رواية عُمر بن عبيد:

(1)

"شرح النوويّ" 13/ 123.

ص: 404

"غيرَ السنِّ والظفر"، وفي رواية داود بن عيسى:"إلا سنًّا، أو ظفرًا". انتهى

(1)

.

ووقع في رواية النسائيّ: "فَكُلُوا مَا لَمْ يَكُنْ سِنًّا، أَو ظُفُرًا" فـ "ما" مصدريّة ظرفيّة، واسم "يكن" ضمير يعود إلى "ما" من قوله:"ما أنهر الدم"؛ أي: مدّة عدم كون ذلك الذي أنهر الدم سنًّا، أو ظفرًا، والله تعالى أعلم.

(وَسَأُحَدِّثُكَ) بالإفراد، وللبخاريّ وغيره:"وَسَأُحَدِّثُكُمْ عَن ذَلِكَ"، وفي رواية:"وسأخبركم"، قال الحافظ في "الفتح": جزم النوويّ بأنه من جملة المرفوع، وهو من كلام النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو الظاهر من السياق، وجزم أبو الحسن بن القطان في "كتاب بيان الوهم والإيهام" بأنه مُدرج من قول رافع بن خديج، راوي الخبر، وذَكَر ما حاصله: أن أكثر الرواة عن سعيد بن مسروق أوردوه على ظاهر الرفع، وأن أبا الأحوص، قال في روايته عنه بعد قوله:"أو ظفر": "قال رافع: وسأحدثكم عن ذلك" ونسب ذلك لرواية أبي داود، قال الحافظ: وهو عجيب، فإن أبا داود أخرجه عن مسدّد، وليس في شيء من نُسخ "السنن" قوله:"قال رافع"، وإنما فيه كما عند البخاريّ هنا بدونها، وشيخ أبي داود فيه مسدّد، هو شيخ البخاري فيه، وقد أورده البخاريّ في الباب الذي بعد هذا، بلفظ: "غير السنّ والظفر، فإن السن عظم

إلخ"، وهو ظاهر جدًّا، في أن الجميع مرفوع. انتهى ما في "الفتح"

(2)

، وهو تحقيقٌ حسنٌ جدًّا، والله تعالى أعلم.

(أَمَّا السِّنُّ فَعَظْمٌ) قال البيضاويّ: هو قياس حُذفت منه المقدمة الثانية؛ لِشُهرتها عندهم، والتقدير: أما السن فَعَظْم، وكلُّ عَظْم لا يحلّ الذبح به، وطَوَى النتيجة؛ لدلالة الاستثناء عليها. وقال ابن الصلاح في "مشكل الوسيط": هذا يدلّ على أنه صلى الله عليه وسلم، كان قد قرّر كون الذكاة، لا تحصل بالعظم، فلذلك اقتصر على قوله:"فعظم"، قال: ولم أر بعد البحث، مَن نقل للمنع من الذبح بالعظم معنى يُعقَل، وكذا وقع في كلام ابن عبد السلام.

(1)

"الفتح" 12/ 466 رقم (5498).

(2)

"الفتح" 12/ 536 - 537 رقم (5543).

ص: 405

وقال النوويّ: معنى الحديث: لا تذبحوا بالعظام، فإنها تنجس بالدم، وقد نهيتكم عن تنجيسها؛ لأنها زادُ إخوانكم من الجن. انتهى، وهو مُحْتَمِل، ولا يقال: كان يمكن تطهيرها بعد الذبح بها؛ لأن الاستنجاء بها كذلك، وقد تقرّر أنه لا يجزئ.

وقال ابن الجوزيّ في "المشكل": هذا يدلّ على أن الذبح بالعظم، كان معهودًا عندهم، أنه لا يجزئ، وقرّرهم الشارع على ذلك، وأشار إليه هنا.

وأخرج الطبرانيّ في "الأوسط" من حديث حذيفة رضي الله عنه، رفعه:"اذبحوا بكلّ شيء فرَى الأوداجَ، ما خلا السنّ والظفر"، وفي سنده عبد الله بن خِراش، مختلفٌ فيه، وله شاهد من حديث أبي أُمامة نحوه، قاله في "الفتح"

(1)

.

(وَأَمَّا الظُّفُرُ فَمُدَى الْحَبَشَةِ")؛ أي: وهم كفّار، وقد نُهيتم عن التشبه بهم، قاله ابن الصلاح، وتبعه النوويّ، وقيل: نَهَى عنهما؛ لأن الذبح بهما تعذيب للحيوان، ولا يقع به غالبًا، إلا الخنق، الذي ليس هو على صورة الذبح، وقد قالوا: إن الحبشة تُدمي مذابح الشاة بالظفر، حتى تُزهق نفسها خَنْقًا.

واعتُرِض على التعليل الأول، بأنه لو كان كذلك؛ لامتنع الذبح بالسكين، وسائر ما يَذبح به الكفار.

وأجيب، بأن الذبح بالسكين، هو الأصل، وأما ما يلتحق بها، فهو الذي يعتبر فيه التشبّه؛ لِضَعْفها، ومن ثَمَّ كانوا يسألون عن جواز الذبح بغير السكين وشِبْهها.

وروى البيهقيّ في "المعرفة"، من رواية حرملة، عن الشافعيّ: أنه حمل الظفر في هذا الحديث، على النوع الذي يدخل في البخور، فقال: معقول في الحديث، أن السن إنما يذكى بها، إذا كانت منتزعة، فأما وهي ثابتة، فلو ذبح بها لكانت منخنقة - يعني: فدل على أن المراد بالسن: السن المنتزعة - وهذا بخلاف ما نقل عن الحنفية، من جوازه بالسن المنفصلة، قال: وأما الظفر، فلو كان المراد به ظفر الإنسان، لقال فيه ما قال في السن، لكن الظاهر أنه أراد به

(1)

"الفتح" 12/ 536 - 537 رقم (5543).

ص: 406

الظفر، الذي هو طِيْب من بلاد الحبشة، وهو لا يَفرِي، فيكون في معنى الخنق. قاله في "الفتح"

(1)

.

(قَالَ) رافع رضي الله عنه (وَأَصَبْنَا نَهْبَ إِبِلٍ، وَغَنَمٍ)"النهب" - بفتح النون، وسكون الهاء: المنهوب، وكان هذا النهب غنيمة، وفي الرواية التالية:"فَأَصَابُوا إِبِلًا وَغَنَمًا"، وللبخاريّ:"فأصاب الناسَ جوع، فأصبنا إبلًا وغنمًا"، قال في "الفتح": كأن الصحابيّ قال هذا ممهّدًا لِعُذْرهم في ذبحهم الإبل، والغنم التي أصابوا، وفي رواية:"وتقدّم سَرَعان الناس، فأصابوا من المغانم".

(فَنَدَّ) بتشديد الدال المهملة؛ أي: شرد، وهَرَب (مِنْهَا)؛ أي: من تلك الإبل، والغنم المنهوبة، (بَعِيرٌ) بفتح الموحّدة، يجوز كسرها: هو مثلُ الإنسان يقع على الذكر والأنثى، يقال: حلبتُ بعيري، وأما الجَمل فهو بمنزلة الرجل يختصّ بالذكر، والناقة بمنزلة المرأة تختصّ بالأنثى، قاله الفيّوميّ

(2)

.

وفي رواية للبخاريّ: "فندّ منها بعير، وكان في القوم خيلٌ يسيرة، فطلبوه، فأعياهم، فأهوى إليه رجلٌ، فحبسه الله".

قال في "الفتح": قوله: "وكان في القوم خيل يسيرة" فيه تمهيد لَعَذَرهم في كون البعير الذي نَدّ أتعبهم، ولم يقدروا على تحصيله، فكأنه يقول: لو كان فيهم خيول كثيرة لأمكنهم أن يحيطوا به، فيأخذوه.

ووقع في رواية أبي الأحوص: "ولم يكن معهم خيل"؛ أي: كثيرة، أو شديدة الْجَرْي، فيكون النفي لصفة في الخيل، لا لأصل الخيل؛ جمعًا بين الروايتين.

وقوله: "فطلبوه، فأعياهم"؛ أي: أتعبهم، ولم يقدروا على تحصيله. انتهى

(3)

.

(فَرَمَاهُ رَجُلٌ بِسَهْمٍ) قال الحافظ: ولم أقف على اسم هذا الرامي، وأما صاحب "التنبيه"، فقال: هو رافع بن خَديج راوي الحديث، قال: ودليله في

(1)

"الفتح" 12/ 566 - 567 رقم (5498).

(2)

"المصباح المنير" 1/ 53.

(3)

"الفتح" 12/ 563 - 564 رقم (5498).

ص: 407

البخاريّ، ومسلم بعد هذا من حديثه:"فرميناه". انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي استدلّ به صاحب "التنبيه" على أن الرامي هو رافع لا يخفى بُعده؛ لأن معنى قوله: "فرميناه"؛ أي: رماه بعضنا، ولا يلزم منه أن يكون هو الرامي، فتبصّر، والله تعالى أعلم.

(فَحَبَسَهُ) وفي رواية للبخاريّ: "فحبسه الله"؛ أي: أَصابه السهم، فوقف، (فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"إِنَّ لِهَذِهِ الإِبِلِ) وللبخاريّ: "إن لهذه البهائم"، قال بعض شراح "المصابيح": هذه اللام تفيد معنى "مِنْ"؛ لأن البعضية تستفاد من اسم "إِنَّ"؛ لكونه نكرةً. انتهى.

(أَوَابِدَ) جمع آبدةٍ بالمدّ، وكسر الموحدة؛ أي: غريبة، يقال: جاء فلان بآبدة؛ أي: بكلمة، أو فعلة منَفِّرة، يقال: أبدت بفتح الموحدة تأبُد بضمّها، ويجوز الكسر أُبُودًا، ويقال: تأبدت؛ أي: توحّشت، والمراد أن لها توحشًا، قاله في "الفتح".

وقال الفيّوميّ رحمه الله: أَبَدَ الشيءُ، من بَابَي ضرب، وقتل يَأْبِدُ، ويأبُدُ أُبُودًا: نَفَرَ، وتَوَحَّش، فهو آبِدٌ، على فاعل، وأبَدَت الوحوش: نَفَرت من الإنس، فهي أَوَابِدُ، ومن هنا وُصف الفَرَسُ الخفيف الذي يُدرك الوحش، ولا يكاد يفوته بأنه قَيْدُ الأَوَابِد؛ لأنه يمنعها المُضِيّ، والخلاصَ من الطالب، كما يمنعها القيد، وقيل للألفاظ التي يَدِقّ معناها: أوَابِدُ؛ لبُعد وضوحه. انتهى

(2)

.

(كَأَوَابِدِ الْوَحْشِ) قال الفيّوميّ رحمه الله: الوَحْشُ: ما لا يَستأنس من دوابّ البِّر، وجمعه وُحُوشٌ، وكل شيء يَسْتَوْحِشُ عن الناس فهو وَحْشٌ، ووَحْشِيٌّ، كأن الياء للتوكيد، كما في قوله:

أَطَرَبًا وَأَنْتَ قِنَّسْرِيُّ

وَالدَّهْرُ بِالإِنْسَانِ دَوَّارِيٌّ

أي: كثير الدّوَران، وقال الفارابيّ: الوَحْشُ: جمع وَحْشِيٌّ، ومنه الوَحْشَةُ بين الناس، وهي الانقطاع، وبُعْدُ القلوب عن المودّات، ويقال: إِذَا أَقْبَلَ الليْلُ اسْتَأْنَسَ كُلُّ وَحْشِيٍّ، واسْتَوْحَشَ كل إِنْسِيٍّ، وأَوْحَشَ المكان، وتَوَحَّشَ: خلا

(1)

"تنبيه المعلم" ص 338.

(2)

"المصباح المنير" 1/ 1.

ص: 408

من الإنس، وحمار وَحْشِيٌّ بالوصف، وبالإضافة. انتهى

(1)

.

(فَإِذَا غَلَبَكُمْ مِنْهَا شَيْءٌ) وفي بعض النُّسخ: "فإذا ندّ عليكم منها شيء"(فَاصْنَعُوا بهِ هَكَذَا") زاد عمر بن سعيد بن مسروق، عن أبيه:"فاصنعوا به ذلك وكُلوه"، أَخرجه الطبرانيّ، وفيه جواز أكْل ما رُمِي بالسهم، فجُرح في أيّ موضع كان من جسده، بشرط أن يكون وحشيًّا، أو متوحشًا، والله تعالى أعلم بالصواب، واليه المرجع والمآب.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث رافع بن خَدِيج رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [4/ 5084 و 5085 و 5086 و 5087 و 5088](1968)، و (البخاريّ) في "الشركة"(2488 و 2507) و"الجهاد"(3075) و"الذبائح والصيد"(5498 و 5503 و 5506 و 5509 و 5543 و 5544)، و (أبو داود) في "الأضاحي"(2821)، و (الترمذيّ) في "الأحكام"(1491 و 1492)، و (النسائيّ) في "الضحايا"(7/ 226 و 228 و 229) و"الكبرى"(3/ 64)، و (ابن ماجه) في "الأضاحي"(3137)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(963)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(8481)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(5/ 387 - 388)، و (الحميديّ) في "مسنده"(411)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 463 و 140/ 4464 و 141 و 142)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 84)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5886)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(895)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(5/ 7 و 54 و 55)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(4/ 183)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(4380 و 4381 و 4382 و 4383 و 4384 و 4386 و 4387 و 4388 و 4389 و 4390 و 4391 و 4392 و 4393)، و (البيهقيّ) في "الكبير"(9/ 245 و 246 و 247)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(2782)، والله تعالى أعلم.

(1)

"المصباح المنير" 2/ 651.

ص: 409

(المسألة الثالثة): في فوائده

(1)

:

1 -

(منها): بيان أن ما توحش من المستأنِس يُعطَى حكم المتوحش، وبالعكس.

2 -

(ومنها): جواز الذبح بما يُحَصِّل المقصود، سواء كان حديدًا أم لا.

3 -

(ومنها): جواز عقر الحيوان النادّ لمن عجز عن ذبحه، كالصيد البريّ، والمتوحش من الإنسيّ، ويكون جميع أجزائه مَذْبَحًا، فإذا أصيب، فمات من الإصابة حلّ، أما المقدور عليه فلا يباح إلا بالذبح، أو النحر، إجماعًا.

4 -

(ومنها): التنبيه على أن تحريم الميتة؛ لبقاء دمها فيها.

5 -

(ومنها): منع الذبح بالسن والظفر متصلًا كان، أو منفصلًا، طاهرًا كان، أو متنجسًا، وفرّق الحنفية بين السنّ والظفر المُتَّصِلَيْن، فخصّوا المنع بهما، وأجازوه بالمنفصلين، وفرّقوا بأن المتصل يصير في معنى الخنق، والمنفصل في معنى الحَجَر، وجزم ابن دقيق العيد بحمل الحديث على المتصلين، ثم قال: واستَدَلّ به قوم على منع الذبح بالعظم مطلقًا؛ لقوله: "أما السن فعظم"، فعلَّل منع الذبح به؛ لكونه عظمًا، والحكم يعمّ بعموم علّته، وقد جاء عن مالك في هذه المسألة أربع روايات: ثالثها: يجوز بالعظم دون السنّ مطلقًا، رابعها: يجوز بهما مطلقًا، حكاها ابن المنذر، وحَكَى الطحاويّ الجواز مطلقًا عن قوم، واحتجوا بقوله في حديث عديّ بن حاتم:"أَمْرِ الدمَ بما شئت"، أخرجه أبو داود، لكن عمومه مخصوص بالنهي الوارد صحيحًا في حديث رافع؛ عملًا بالحديثين، وسلك الطحاويّ طريقًا آخر، فاحتج لمذهبه بعموم حديث عديّ، قال: والاستثناء في حديث رافع يقتضي تخصيص هذا العموم، لكنه في المنزوعَيْن غير محقَّق، وفي غير المنزوعين محقَّق من حيث النظر، وأيضًا فالذبح بالمتصلين يشبه الخَنْق، وبالمنزوعين يشبه الآلة المستقلة، من حجر، وخشب. انتهى.

(1)

المراد حديث رافع رضي الله عنه برواياته المختلفة التي وردت في الباب، وكذا في الشرح، لا خصوص السياق المذكور هنا، فتنبّه.

ص: 410

قال الجامع عفا الله عنه: القول بمنع الذبح بالعظم مطلقًا هو الأرجح عندي؛ لإطلاق حديث رافع رضي الله عنه المذكور في الباب، فتأمل بالإمعان، والله تعالى أعلم.

6 -

(ومنها)

(1)

: تحريم التصرف في الأموال المشتركة من غير إذن، ولو قلّت، ولو وقع الاحتياج إليها.

7 -

(ومنها): انقياد الصحابة رضي الله عنهم لأمر النبيّ صلى الله عليه وسلم حتى في ترك ما بهم إليه الحاجة الشديدة.

8 -

(ومنها): أن للأمام عقوبةَ الرعية بما فيه إتلاف منفعة، ونحوها، إذا غلبت المصلحة الشرعية.

9 -

(ومنها): أن قسمة الغنيمة يجوز فيها التعديل والتقويم، ولا يشترط قسمة كل شيء منها على حدة، ذكره في "الفتح"

(2)

، والله تعالى أعلم.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في حكم الحيوان الإنسيّ، إذا توحّش:

قال الإمام البخاريّ رحمه الله في "صحيحه": "باب ما ندّ من البهائم، فهو بمنزلة الوحش"، وأجازه ابن مسعود، وقال ابن عبّاس: ما أعجزك من البهائم، مما في يديك، فهو كالصيد، وفي بعير تردّى في بئر، من حيث قدرتَ عليه، فذكّه. ورأى ذلك عليّ، وابن عمر، وعائشة رضي الله عنها. انتهى.

وقد نقله ابن المنذر وغيره عن الجمهور، وخالفهم في ذلك مالكٌ، والليث. ونُقل أيضًا عن سعيد بن المسيّب، وربيعة، فقالوا: لا يحلّ أكل الإنسيّ إذا توحّش، إلا بتذكيته في حلقه، أو لبّته، وحجة الجمهور حديث رافع رضي الله عنه المذكور في الباب. أفاده في "الفتح"

(3)

.

وقال ابن قُدامة رحمه الله: إذا تردّى في بئر، فلم يقدر على تذكيته، فجَرَحه في أيّ موضع قَدَر عليه، فقتله، أُكل، إلا أن تكون رأسه في الماء، فلا يؤكل؛

(1)

هذه الفائدة وما بعدها ليست في سياق الحديث هنا، بل في الروايات الآتية، فتنبّه.

(2)

"الفتح" 12/ 467، كتاب " الذبائح" رقم (5498).

(3)

"الفتح" 12/ 481 - 482، كتاب "الذبائح" رقم (5509).

ص: 411

لأن الماء يُعين على قتله. هذا قول أكثر الفقهاء، رُوي ذلك عن عليّ، وابن مسعود، وابن عمر، وابن عبّاس، وعائشة رضي الله عنهم، وبه قال مسروقٌ، والأسود، والحسن، وعطاءٌ، وطاوسٌ، وإسحاق، والشعبيّ، والحكم، وحمّاد، والثوريّ، وأبو حنيفة، والشافعيّ، وأبو ثور. وقال مالك: لا يجوز أكله إلا أن يُذكّى، وهو قول ربيعة، والليث. قال أحمد: لعلّ مالكًا لم يسمع حديث رافع بن خديج رضي الله عنه، واحتُجّ لمالك بأن الحيوان الإنسيّ إذا توحّش لم يثبُت له حكم الوحشيّ، بدليل أنه لا يجب على المحرم الجزاء بقتله، ولا يصير الحمار الأهليّ مباحًا إذا توحّش. انتهى كلام ابن قُدامة رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: ما ذهب إليه الجمهور من جواز أكل الحيوان المتوحّش بجرحه، هو الأرجح عندي؛ لحديث رافع بن خَدِيج رضي الله عنه المذكور؛ وأما احتجاج مالك، ومن قال بقوله بما ذُكر، ففيه نظر لا يخفى؛ لأنه في مقابلة النصّ، ونعتذر عنهم بما تقدّم عن أحمد رضي الله عنه من أنهم لم يبلغهم النصّ، فقاسوا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5085]

(

) - (وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ مَسْرُوقٍ، عَنْ أَبِيه، عَنْ عَبَايَةَ بْنِ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِذِي الْحُلَيْفَة، مِنْ تِهَامَةَ، فَأَصَبْنَا غَنَمًا، وَإِبِلًا، فَعَجِلَ الْقَوْمُ، فَأَغْلَوْا بِهَا الْقُدُورَ، فَأَمَرَ بِهَا، فَكُفِئَتْ، ثُمَّ عَدَلَ عَشْرًا مِنَ الْغَنَمِ بِجَزُورٍ، وَذَكَرَ بَاقِيَ الْحَدِيث، كَنَحْوِ حَدِيثِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

وكلّهم ذُكروا في الباب، والباب الماضي، وقبله بباب.

وقوله: (كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِذِي الْحُلَيْفَةِ) هو مكان غير ميقات أهل المدينة؛ لأن الميقات في طريق الذاهب من المدينة، ومن الشام إلى مكّة، وهذه بالقرب من ذات عِرق، بين الطائف ومكة، وكذا جزم به أبو بكر

(1)

"المغني" لابن قُدامة رحمه الله 13/ 291 - 292.

ص: 412

الحازميّ، وياقوت. ووقع للقابسيّ أنها الميقات المشهور، وَكَذَا ذَكَرَ النَّوَوِيّ، قَالُوا: وَكَانَ ذَلِكَ عِنْد رُجُوعهمْ مِنَ الطَّائِف، سَنَة ثَمَانٍ. قاله في "الفتح"

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هكذا عزاه في "الفتح" إلى النوويّ، والذي ذكره في شرحه هنا هو الأول، ونصّه: قال العلماء: ذو الحليفة هذه مكان من تهامة بين حاذة وذات عرق، وليست بذي الحليفة التي هي ميقات أهل المدينة. هكذا ذكره الحازميّ، في كتابه "المؤتلف، في أسماء الأماكن"، لكنه قال:"الحليفة" من غير لفظ "ذي"، والذي في "صحيح البخاريّ ومسلم":"بذي الحليفة"، فكأنه يقال: بالوجهين. انتهى

(2)

.

وقوله: (مِنْ تِهَامَةَ) اسْم لِكُلِّ مَا نَزَلَ مِنْ بِلَاد الْحِجَاز، سُمِّيَتْ بِذَلِك؛ مِنَ التَّهَم - بِفَتْحِ الْمُثَنَّاة وَالْهَاء - وَهُوَ شِدَّة الْحَرّ، وَرُكُود الرِّيح. وَقِيلَ: تَغَيُّر الْهَوَاء. قاله في "الفتح"

(3)

.

وقال الفيّوميّ: تَهِمَ اللبنُ، واللحمُ تَهَمًا، من باب تَعِبَ: تغيّر، وأنتن، وتَهِمَ الحرُّ: اشتدّ مع رُكُود الريح، ويقال: إنّ تهامة مُشتقّةٌ من الأوّل؛ لأنها انخفضت عن نجد، فتغيّرت ريحها، ويُقال: من المعنى الثاني؛ لشدّة حرّها، وهي أرضٌ أوّلُها ذات عِرْقٍ من قِبَل نجد إلى مكة، وما وراءها بمرحلتين، أو أكثر، ثمّ تتّصل بالْغَوْر، وتأخذ إلى البحر، ويقال: إن تهامة تتّصل بأرض اليمن، وإنّ مكة من تهامة اليمن، والنسبة إليها تَهَاميّ، وتَهَام أيضًا - بالفتح - وهو من تغييرات النسب. قال الأزهريّ: رجلٌ تَهَامٍ، وامرأةٌ تَهَامِيَةٌ، مثلُ رَبَاعٍ ورَبَاعِيَةٍ. انتهى كلام الفيّوميّ

(4)

.

وقوله: (فَأَصَبْنَا غَنَمًا، وَإِبِلًا) وللنسائيّ: "فَأَصَابُوا إِبِلًا وَغَنَمًا"، وفي رواية البخاريّ:"فأصاب الناسَ جوع، فأصبنا إبلًا وغنمًا"، قال في "الفتح": كأن الصحابيّ قال هذا ممهّدًا لعذرهم في ذبحهم الإبل، والغنم التي أصابوا. وفي

(1)

"الفتح" 12/ 461، كتاب "الذبائح" رقم (5498).

(2)

"شرح النوويّ" 13/ 126.

(3)

"الفتح" 12/ 461، كتاب "الذبائح" رقم (5498).

(4)

"المصباح المنير" 1/ 77 - 78.

ص: 413

رواية: "وتقدّم سَرَعان الناس، فأصابوا من المغانم"، وفي رواية:"فأصبنا نَهْب إبل وغنم".

زاد في رواية البخاريّ، وغيره:"وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فِي أُخْرَيَاتِ الْقَوْمِ"، قال في "الفتح": جمع أخرى، وفي رواية:"في آخر الناس"، وَكَانَ صلى الله عليه وسلم، يَفْعَل ذَلِكَ، صَوْنًا لِلْعَسْكَر، وَحِفْظًا؛ لِأَنَّهُ لَوْ تَقَدَّمَهُمْ لَخَشِيَ أَنْ يَنْقَطِع الضَّعِيف مِنْهُمْ دُونه، وَكَانَ حِرْصهمْ عَلَى مُرَافَقَته شَدِيدًا، فَيَلْزَم مِنْ سَيْره فِي مَقَام السَّاقَة، صَوْن الضُّعَفَاء، لِوُجُودِ مَنْ يَتَأَخَّر مَعَهُ قَصْدًا مِنَ الأَقْوِيَاء. انتهى

(1)

.

وقوله: (فَعَجِلَ الْقَوْمُ، فَأَغْلَوْا بِهَا الْقُدُورَ)؛ أي: أوقدوا النار تحتها حتى غَلَت، وفي رواية البخاريّ:"فعجلوا، فنصبوا القدور": يعني من الجوع الذي كان بهم، فاستعجلوا، فذبحوا الذي غَنِموه، ووضعوه في القدور، وأغلَوه، ووقع في رواية داود بن عيسى، عن سعيد بن مسروق:"فانطلق ناس من سَرَعان الناس، فذبحوا، ونصبوا قدورهم قبل أن يُقْسَم".

زاد في رواية البخاريّ: "فدُفع النبيّ صلى الله عليه وسلم إليهم"، دُفع بضم أوله على البناء للمجهول، والمعنى: أنه وصل إليهم، ووقع في رواية:"فانتهى إليهم"، أخرجه الطبرانيّ.

وقوله: (فَأَمَرَ بِهَا، فَكُفِئَتْ) بالبناء للمفعول ثلاثيًّا، ويقال: أُكفت رباعيًّا؛ أي: قُلبت، وأريق ما فيها، ولفظ البخاريّ:"فأمر بالقدور، فأكفت" - بضم الهمزة، وسكون الكاف - قال في "الفتح"؛ أي: قُلبت، وأُفرغ ما فيها، وقد اختُلِف في هذا المكان في شيئين:

أحدهما: سبب الإراقة.

والثاني: هل أتلف اللحم أم لا؟.

فأما الأول: فقال عياض: كانوا انتَهَوْا إلى دار الإسلام، والمحلِّ الذي لا يجوز فيه الأكل من مال الغنيمة المشتركة إلا بعد القسمة، وأن محل جواز ذلك قبل القسمة إنما هو ما داموا في دار الحرب، قال: ويَحْتَمِل أن سبب ذلك كونهم انتهبوها، ولم يأخذوها باعتدال، وعلى قدر الحاجة، قال: وقد

(1)

"الفتح" 12/ 461، كتاب "الذبائح" رقم (5498).

ص: 414

وقع في حديث آخر ما يدلّ لذلك، يشير إلى ما أخرجه أبو داود من طريق عاصم بن كليب، عن أبيه، وله صحبة، عن رجل من الأنصار، قال: أصاب الناس مجاعة شديدة، وجَهْد، فأصابوا غنمًا، فانتهبوها، فإن قدورنا لتغلي بها إذ جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم على فرسه، فأكفأ قدورنا بقوسه، ثم جعل يُرَمّل اللحم بالتراب، ثم قال:"إن النهبة ليست بأحلّ من الميتة". انتهى.

وهذا يدلّ على أنه عامَلَهم من أجل استعجالهم بنقيض قصدهم، كما عومل القاتل بمنع الميراث.

وأما الثاني: فقال النوويّ: المأمور به من إراقة القدور إنما هو إتلاف المرق عقوبةً لهم، وأما اللحم فلم يتلفوه، بل يُحْمَل على أنه جُمِع ورُدّ إلى المغنم، ولا يُظَنّ أنه أَمَر بإتلافه، مع أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن إضاعة المال، وهذا من مال الغانمين، وأيضًا فالجناية بطبخه لم تقع من جميع مستحقي الغنيمة، فإن منهم من لم يطبخ، ومنهم المستحقون للخمس.

[فإن قيل]: لم يُنقل إنهم حملوا اللحم إلى المغنم.

[قلنا]: ولم يُنقل إنهم أحرقوه، أو أتلفوه، فيجب تأويله على وفق القواعد. انتهى.

قال الحافظ: وَيرِد عليه حديث أبي داود، فإنه جَيّد الإسناد، وترك تسمية الصحابيّ لا يضرّ، ورجال الإسناد على شرط مسلم، ولا يقال: لا يلزم من تتريب اللحم إتلافه؛ لإمكان تداركه بالغسل؛ لأن السياق يُشعر بأنه أريد المبالغة في الزجر عن ذلك الفعل، فلو كان بصدد أن يُنتفع به بعد ذلك لم يكن فيه كبير زجر؛ لأن الذي يَخُصّ الواحد منهم نزر يسير، فكان إفسادها عليهم مع تعلّق قلوبهم بها، وحاجتهم إليها، وشهوتهم لها، أبلغ في الزجر.

وأبعد المهلَّب، فقال: إنما عاقبهم لأنهم استعجلوا، وتركوه في آخر القوم متعرضًا لمن يقصده من عدوّ ونحوه.

وتُعُقِّب بأنه صلى الله عليه وسلم كان مختارًا لذلك، كما تقدم تقريره، ولا معنى للحمل على الظنّ مع ورود النصّ بالسبب.

وقال الإسماعيليّ: أمْره صلى الله عليه وسلم بإكفاء القدور يجوز أن يكون من أجل أن ذَبْح من لا يملك الشيء كله، لا يكون مُذَكِّيًا ويجوز أن يكون من أجل إنهم

ص: 415

تعجلوا إلى الاختصاص بالشيء دون بقية من يستحقه من قبل أن يقسم، ويخرج منه الخمس، فعاقبهم بالمنع من تناول ما سبقوا إليه زجرًا لهم عن معاودة مثله، ثم رجح الثاني، وزيّف الأول بأنه لو كان كذلك لم يحل أكل البعير النادّ الذي رماه أحدهم بسهم؛ إذ لم يأذن لهم الكل في رميه، مع أن رميه ذكاة له، كما نص عليه في نفس حديث الباب. انتهى ملخصًا.

وقد جنح البخاري إلى المعنى الأول، وترجم عليه حيث قال: "باب إذا أصاب قوم غنيمةً، فذبح بعضهم غنمًا، أو إبلًا بغير أمر أصحابهم لم تُؤكل؛ لحديث رافع عن النبيّ صلى الله عليه وسلم. انتهى، فهذا مصير منه إلى أن سبب منع الأكل من الغنم التي طُبخت في القصّة التي ذكرها رافع بن خديج كونها لم تُقسم.

ويمكن الجواب عما ألزمه به الإسماعيلي من هذه القصة بأن يكون الرامي رَمَى بحضرة النبيّ صلى الله عليه وسلم والجماعة، فأقرّوه، فدلّ سكوتهم على رضاهم، بخلاف ما ذبحه أولئك قبل أن يأتي النبيّ صلى الله عليه وسلم ومن معه، فافترقا، والله أعلم. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي جنح إليه البخاريّ من كون سبب المنع من أكل الغنم والإبل المطبوخة هو كونها لم تقسم هو الأرجح عندي؛ لظاهر حديث رافع رضي الله عنه المذكور، ولحديث أبي داود المتقدّم، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

وقوله: (ثُمَّ عَدَلَ عَشْرًا مِنَ الْغَنَمِ بِجَزُورٍ) - بفتح الجيم، بعدها زاي، وآخره راء -: البعير، أو خاصّ بالناقة المجزورة، قاله المجد رحمه الله

(2)

.

وقال الفيّوميّ رحمه الله: الجَزُورُ: من الإبل خاصًّة يقع على الذكر والأنثى، والجمع: جُزُرٌ، مثلُ رسول ورُسُلٌ، ويجمع أيضًا على جُزُرَاتٍ، ثم على جَزَائِرَ، ولفظ الجزور أنثى، يقال: رَعَت الجَزُورُ، قاله ابن الأنباريّ، وزاد الصغانيّ: وقيل: الجَزُورُ الناقة التي تُنْحَر، وجَزَرْتُ الجَزُورَ وغيرها، من باب قتل: نحرتُها، والفاعل جَزَّارٌ، والحرفة الجِزَارَةُ بالكسر، والمَجْزَرُ: موضع

(1)

"الفتح" 12/ 462 - 463، كتاب "الذبائح" رقم (5498) و 536 رقم (5543).

(2)

"القاموس المحيط" ص 213.

ص: 416

الجزر، مثل جَعْفَرٍ، وربما دخلته الهاء، فقيل: مَجْزَرَةٌ. انتهى

(1)

.

وفي رواية البخاريّ: "ثم قسم، فعدل عشرةً من الغنم ببعير"، وللنسائيّ:"ثُمَّ قَسَّمَ بَيْنَهُمْ، فَعَدَلَ عَشْرًا مِن الشَّاءِ بِبَعِيرٍ"، قال القرطبيّ رحمه الله: يعني أنه صلى الله عليه وسلم قسم ما بقي من الغنيمة على الغانمين، فجعل عشرة من الغنم بإزاء جَزور، ولم يَحتج إلى القرعة؛ لرضا كلّ منهم بما صار إليه من ذلك، ولم يكن بينهم تشاحّ في شيء من ذلك. قال: وكأن هذه الغنيمة لم يكن فيها إلا الإبل، والغنم، ولو كان فيها غيرهما، لقُوّم جميع الغنيمة، ولَقُسم على القِيَم. انتهى

(2)

.

وقال في "الفتح": قوله: "ثم قسم، فعدل عشرة من الغنم ببعير"، وهذا محمول على أن هذا كان قيمة الغنم إذ ذاك، فلعل الإبل كانت قليلة، أو نفيسة، والغنم كانت كثيرة، أو هَزِيلة، بحيث كانت قيمة البعير عشر شياه، ولا يخالف ذلك القاعدة في الأضاحي من أن البعير يَجزي عن سبع شياه؛ لأن ذلك هو الغالب في قيمة الشاة والبعير المعتدلين، وأما هذه القسمة فكانت واقعة عين، فَيَحْتَمِل أن يكون التعديل لِمَا ذُكر من نفاسة الإبل دون الغنم، وحديث جابر رضي الله عنه عند مسلم صريح في الحكم حيث قال فيه: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نشترك في الإبل والبقر كل سبعة منا في بَدَنة، والبدنة تُطلق على الناقة والبقرة.

وأما حديث ابن عباس رضي الله عنهما: كنا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في سفر، فحضر الأضحى، فاشتركنا في البقرة تسعة، وفي البدنة عشرة، فحسّنه الترمذيّ،

وصححه ابن حبان، وعضده بحديث رافع ابن خديج هذا.

قال الحافظ: والذي يتحرر في هذا أن الأصل أن البعير بسبعة، ما لم يَعْرِض عارض من نفاسة، ونحوها، فيتغيّر الحُكم بحسب ذلك، وبهذا تجتمع الأخبار الواردة في ذلك.

ثم الذي يظهر من القسمة المذكورة أنها وقعت فيما عدا ما طُبخ، وأريق من الإبل والغنم التي كانوا غنموها.

ويَحْتَمِل إن كانت الواقعة تعددت أن تكون القصة التي ذكرها ابن عباس

(1)

"المصباح المنير" 1/ 98.

(2)

" المفهم" 5/ 375.

ص: 417

أُتلف فيها اللحم؛ لكونه كان قطع للطبخ، والقصة التي في حديث رافع طُبخت الشياه صحاحًا مثلًا، فلما أريق مرقها ضُمّت إلى المغنم؛ لتُقسم، ثم يَطبخها من وقعت في سهمه، ولعل هذا هو النكتة في انحطاط قيمة الشياه عن العادة، والله أعلم. انتهى

(1)

.

[تنبيه]: رواية وكيع بن الجرّاح، عن سفيان الثوريّ هذه ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:

(2372)

- حدّثنا محمد

(2)

، أخبرنا وكيع، عن سفيان، عن أبيه، عن عَباية بن رِفاعة، عن جدّه رافع بن خَدِيج رضي الله عنه قال: كنا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم بذي الحليفة، من تِهامة، فأصبنا غنمًا، وإبلًا، فعَجِل القومُ، فأغلوا بها القدور، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأَمَر بها، فأُكفئت، ثم عَدَلَ عشرًا من الغنم بجزور، ثم إن بعيرًا نَدّ، وليس في القوم إلا خيل يسيرة، فرماه رجل، فحبسه بسهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن لهذه البهائم أوابدَ كأوابد الوحش، فما غلبكم منها، فاصنعوا به هكذا"، قال: قال جدي: يا رسول الله، إنا نرجو، أو نخاف أن نلقى العدوّ غدًا، وليس معنا مُدًى، فنذبح بالقصب، فقال:"اعجل، أو أرني، ما أنهر الدم، وذُكِر اسمُ الله عليه، فكلوا، ليس السن والظفر، وسأحدثكم عن ذلك، أما السن فَعَظْم، وأما الظفر فمُدى الحبشة". انتهى

(3)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5086]

(

) - (وَحَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبَايَةَ، عَنْ جَدِّهِ رَافِعٍ، ثُمَّ حَدَّثَنِيهِ عُمَرُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ مَسْرُوقٍ، عَنْ أَبِيه، عَنْ عَبَايَةَ بْنِ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، عَنْ جَدِّه، قَالَ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ الله، إِنَّا لَاقُو الْعَدُوِّ غَدًا، وَلَيْسَ مَعَنَا مُدًى، فَنُذكِّي بِاللِّيط، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ بِقِصَّتِه، وَقَالَ: فَنَدَّ عَلَيْنَا بَعِيرٌ مِنْهَا، فَرَمَيْنَاهُ بِالنَّبْل، حَتَّى وَهَصْنَاهُ).

(1)

"الفتح" 12/ 463، كتاب "الذبائح" رقم (5498).

(2)

هو ابن سلام، كما في "الفتح" 6/ 324.

(3)

"صحيح البخاريّ" 2/ 886.

ص: 418

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(ابْنُ أَبِي عُمَرَ) محمد بن يحيى بن أبي عمر الْعَدَنيّ، ثم المكيّ، تقدّم قبل بابين.

2 -

(سُفْيَانُ) بن عيينة الإمام المشهور، تقدّم أيضًا قبل بابين.

3 -

(إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُسْلِمٍ) الْعَبْديّ، أبو محمد البصريّ القاضي، ثقةٌ [6](م ت س) تقدم في "الطهارة" 15/ 602.

4 -

(عُمَرُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ مَسْرُوقٍ) الثوريّ، أخو سفيان، ثقةٌ [7](م د س) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 46/ 1491.

والباقون ذُكروا قبله.

وقوله: (ثُمَّ حَدَّثَنِيهِ عمر بن سعيد

إلخ) قائل: "حدثنيه" هو سفيان بن عيينة؛ يعني: أنه حدثه بهذا الحديث إسماعيل مسلم، عن سعيد بن مسروق، ثم بعد ذلك لقي عمر بن سعيد ولد شيخ شيخه سعيد، فحدّثه به عن أبيه سعيد بن مسروق، والله تعالى أعلم.

وقوله: (إِنَّا لَاقُو الْعَدُوِّ) من إضافة اسم الفاعل إلى مفعوله.

وقوله: (فَنُذَكِّي بِاللِّيطِ) - بلام مكسورة، ثم ياء مثناة تحتُ ساكنة، ثم طاء مهملة - وهي قشور القصب، وليط كل شيء قشوره، والواحدة ليطة، وهو معنى قوله في الرواية الثانية:"أفنذبح بالقصب"، وفي رواية أبي داود وغيره:"أفنذبح بالمروة"، فهو محمول على أنهم قالوا هذا، وهذا، فأجابهم صلى الله عليه وسلم بجواب جامع لِمَا سألوه، ولغيره نفيًا وإثباتًا، فقال:"كُلُّ ما أنهر الدمَ، وذكر اسم الله، فكُلْ، ليس السنّ، والظفر"، قاله النوويّ

(1)

.

وقال في "العمدة": "الليط" - بكسر اللام، وسكون الياء، وبالطاء المهملة -: هي قِطَع القصب، قاله القرطبيّ، وقال النوويّ: قشوره، الواحد ليطة، وفي "سنن أبي داود":"أَنُذَكِّي بالمروة".

[فإن قلت]: ما معنى هذا السؤال عند لقاء العدو؟.

[قلت]: لأنهم كانوا عازمين على قتال العدوّ، وصانوا سيوفهم،

(1)

"شرح النوويّ" 13/ 127.

ص: 419

وأسنّتهم، وغيرها عن استعمالها؛ لأن ذلك يفسد الآلة، ولم يكن لهم سكاكين صغار مُعَدَّة للذبح، قاله في "العمدة"

(1)

.

وقوله: (وَذَكَرَ الْحَدِيثَ بِقِصَّتِهِ) فاعل "ذَكَرَ" ضمير إسماعيل بن مسلم، كما سيأتي في "مسند الحميديّ".

وقوله: (وَقَالَ: فَنَدَّ عَلَيْنَا

إلخ) فاعل "قال" ضمير إسماعيل بن مسلم أيضًا.

وقوله: (فَرَمَيْنَاهُ بِالنَّبْلِ) - بفتح، فسكون -: السهام العربيّة، وهي مؤنّثة، لا واحد لها من لفظها، بل الواحد سهمٌ، فهي مفردة اللفظ، مجموعة المعنى، قاله الفيّومي

(2)

.

وقوله: (حَتَّى وَهَصْنَاهُ) - بهاء مفتوحة مخففة، ثم صاد مهملة ساكنة، ثم نون - ومعناه: رميناه رَمْيًا شديدًا، وقيل: أسقطناه إلى الأرض، ووقع في غير مسلم:"رَهَصناه" بالراء؛ أي: حبسناه، قاله النوويّ

(3)

.

وقال المجد رحمه الله: الوهص: كالوعد: كسر الشيء الرخو، وشدّة الوطء، والرمي الْعَنيف، والشَّدْخُ، والْجَبّ، والْخِصاء. انتهى

(4)

.

[تنبيه]: رواية سفيان بن عيينة، عن إسماعيل بن مسلم ساقها البيهقيّ رحمه الله في "الكبرى"، فقال:

(18715)

- وأخبرنا أبو عبد الله الحافظ، ثنا أبو عبد الله محمد بن يعقوب، ثنا أحمد بن سهل بن بحر، ثنا ابن أبي عمر، ثنا سفيان، عن إسماعيل بن مسلم، عن سعيد بن مسروق، عن عَباية بن رِفاعة، عن جدّه، قال: قلنا: يا رسول الله إنا لاقو العدوّ غدًا، وليس معنا مُدًى، أفَنُذَكِّي بالليط؟ فقال:"ما أنهرَ الدمَ، وذُكر اسم الله، فكلوا، إلا ما كان من ظفر، أو سنّ، فإن السنّ عظم من الإنسان، والظفر مُدَى الحبش"، قال: وأصبنا إبلًا، وغنمًا، فكنا نَعْدِل البعير بعشر من الغنم، فنَدّ علينا بعير منها، فرميناه بالنبل، حتى وَهَصْناه، قال: فسألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "إن لهذه الإبل أوابدَ، كأوابد

(1)

"عمدة القاري" 13/ 47.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 591.

(3)

"شرح النوويّ" 13/ 127 - 128.

(4)

"القاموس المحيط" ص 1423.

ص: 420

الوحش، فإذا نَدَّ منها شيء، فاصنعوا به ذلك، وكُلُوا". انتهى

(1)

.

ورواية سفيان بن عيينة عن عمر بن سعيد ساقها الحميديّ في "مسنده"، فقال:

(411)

- حدّثنا الحميديّ، قال: ثنا سفيان، قال: ثنا عمر بن سعيد بن مسروق، عن أبيه، عن عَباية بن رِفاعة، عن رافع بن خَدِيج، قال: أصبنا إبلًا، وغنمًا، وكنا نَعْدل البعير بعشر من الغنم، فنَدّ علينا بعير منها، فرميناه بالنبل، ثم سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:"إن لهذه الإبل أوابدَ كأوابد الوحش، فإذا نَدَّ منها شيء، فاصنعوا به ذلك، وكُلوه"، قال سفيان: وزاد فيه إسماعيل بن مسلم: "فرميناه بالنبل، حتى وَهَصناه". انتهى

(2)

.

وساقها أيضًا أبو عوانة في "مسنده"، فقال:

(7776)

- حدّثنا أبو داود الحرانيّ، قال: ثنا عليّ بن المدينيّ، قثنا سفيان، قال: حدّثني عمر بن سعيد بن مسروق، عن أبيه، عن عَباية بن رِفاعة، عن جدّه، قال: قلنا: يا رسول الله إنا لاقو العدوّ غدًا، وليس معنا مُدًى، أفنذكِّي بالليط؟ فقال: "ما أنهر الدمَ، وذُكر اسم الله عليه فكلوه، إلا ما كان من سنّ، أو ظفر، فإنّ السنّ عظم من الأسنان

(3)

، وإن الظفر مُدَى الحبشة، قال: فأصبنا إبلًا وغنمًا، فعَدَلنا البعير بعشرة، فنَدّ منها بعير، فرميناه حتى حبسناه، فقال:"إن فيها أوابدَ، كأوابد الوحش، فإذا نَدّ منها شيء، فافعلوا به ذلك". انتهى

(4)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5087]

(

) - (وَحَدَّثَنِيهِ الْقَاسِمُ بْنُ زَكَرِيَّاءَ، حَدَّثنَا حُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ، عَنْ زَائِدَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ مَسْرُوقٍ، بِهَذَا الإسْنَادِ الْحَدِيثَ إِلَى آخِرِهِ بِتَمَامِه، وَقَالَ فِيهِ: وَلَيْسَتْ مَعَنَا مُدًى، أفَنَذْبَحُ بِالْقَصَبِ؟).

(1)

"سنن البيهقيّ الكبرى" 9/ 247.

(2)

"مسند الحميديّ" 1/ 200.

(3)

هكذا النسخة بلفظ: "الأسنان" جمع سنّ، وتقدّم في رواية البيهقيّ بلفظ:"من الإنسان"، فليُحرّر، والله تعالى أعلم.

(4)

"مسند أبي عوانة" 5/ 56.

ص: 421

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(الْقَاسِمُ بْنُ زَكَرِيَّاءَ) بن دينار القُرشيّ، أبو محمد الكوفيّ الطّحّان، وربّما نُسب لجدّه، ثقةٌ [11](تم ت س ق) تقدم في "الإيمان" 4/ 118.

2 -

(حُسَيْنُ بْنُ عَلِيِّ) بن الوليد الْجُعفيّ الكوفيّ المقرئ، ثقةٌ عابدٌ [9](ت 3 أو 204) وله (4 أو 85) سنة (ع) تقدم في "الإيمان" 11/ 154.

3 -

(زَائِدَةُ) بن قُدامة الثقفيّ، أبو الصَّلْت الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ سنّيّ [7](ت 160) أو بعدها (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 53.

و"سعيد بن مسروق" ذُكر قبله.

وقوله: (وَقَالَ فِيهِ: وَلَيْسَتْ مَعَنَا مُدًى

إلخ) فاعل "قال" ضمير زائدة.

[تنبيه]: رواية زائدة بن قُدامة، عن سعيد بن مسروق ساقها البيهقيّ في "الكبرى"، فقال:

(18707)

- أخبرنا أبو بكر محمد بن الحسن بن فُورك، أنبأ عبد الله بن جعفر، ثنا يونس بن حبيب، ثنا أبو داود، ثنا زائدة بن قُدامة الثقفيّ، ثنا سعيد بن مسروق الثوريّ، عن عَباية بن رِفاعة بن رافع بن خَدِيج، عن جدّه رافع رضي الله عنه قال: كُنّا مع رسول الله بذي الحليفة، من تهامة، وقد جاع القوم، فأصابوا إبلًا، وغنمًا، فانتهى إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد نُصِبت القدور، فأَمَرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بالقدور، فأُكفئت، ثم قَسَم بينهم، فعَدَل عشرًا من الغنم ببعير، قال: فنَدّ بعير من إبل القوم، وليس في القوم إلا خيل يسيرة، فرماه رجل بسهم، فحبسه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن لهذه الإبل أوابدَ كأوابد الوحش، فما غلبكم منها، فاصنعوا به هكذا"، وعن عَباية، عن رافع، قال: قلنا: يا رسول الله، إنا لاقو العدوّ غدًا، وليس معنا مُدًى، أفنذبح بالقصب؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ما أنهر الدمَ، وذَكَرت اسمَ الله عليه، فَكُلْ، ما خلا السنّ، والظفر، وسأخبرك عن ذلك، أما السن فعظم، وأما الظفر فمُدَى الحبشة". انتهى

(1)

.

(1)

"سنن البيهقيّ الكبرى" 9/ 246.

ص: 422

وساقها أيضًا أبو عوانة رحمه الله في "مسنده"

(1)

، فقال:

(7777)

- حدّثنا يونس بن حبيب، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا زائدة بن قُدامة الثقفيّ - وكان لا يحدِّث قدريًّا، ولا صاحب بدعة يعرفه - قال: ثنا سعيد بن مسروق الثوريّ، عن عَباية بن رِفاعة بن رافع بن خَدِيج، عن جدّه رافع، قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بذي الحليفة، من تِهامة، وقد جاع القوم، فأصابوا إبلًا وغنمًا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في أُخْريات الناس، فانتهى إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد نُصِبت القدور، فأَمَر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقدور، فأُكفئت، ثم قَسَم بينهم، فعَدَل عشرًا من الغنم ببعير، قال: فبينا هم كذلك، إذ نَدّ بعير من إبل من بين القوم، وليس في القوم إلا خيل يسيرة، فطلبوه، فأعياهم، فرماه رجل بسهم، فحبسه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن لهذه الإبل أوابدَ كأوابد الوحش، فما غلبكم منه شيء، فاصنعوا هكذا"، قال: قلنا: يا رسول الله إنا لاقو العدوّ غدًا، وليس معنا مُدًى، فنذبح بالقصب؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ما أنهر الدمَ، وذَكَرت اسم الله عليه فَكُلْ، ما خلا السنّ، والظفر، وسأخبرك عن ذلك، أما السنّ فعظم، وأما الظفر فمُدَى الحبشة".

قال أبو داود: قال زائدة: ترون الدنيا؟ ما في الدنيا حديث في هذا الباب أحسن منه، قال أبو داود: وهو والله من خيار الحديث. انتهى

(2)

.

وبالسند المتّصل إِلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5088]

(

) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ عبد الحَمِيد، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبَايَةَ بْنِ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ، عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، أنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ الله، إِنَّا لَاقُو الْعَدُوِّ غَدًا، وَلَيْسَ مَعَنَاَ مُدًى، وَسَاقَ الْحَدِيثَ، وَلَمْ يَذْكُرْ: فَعَجِلَ الْقَوْمُ، فَأَغْلَوْا بِهَا الْقُدُورَ، فَأَمَرَ بِهَا، فَكُفِئَتْ، وَذَكَرَ سَائِرَ الْقِصَّةِ).

(1)

إنما أوردتها من رواية البيهقيّ لموافقتها ما أشار إليه مسلم رحمه الله، وإنما أوردتها من رواية أبي عوانة؛ لأجل كلام زائدة المذكور فيه، فتنبّه.

(2)

"مسند أبي عوانة" 5/ 56 - 57.

ص: 423

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ الْوَليدِ بْنِ عبد الحَمِيدِ) القُرشيّ الْبُسْريّ البصريّ الملقّب حمدان، ثقةٌ [10](ت 250) أو بعدها (خ م س ق) تقدم في "الإيمان" 40/ 268.

2 -

(مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ) غُندر، تقدّم قبل بابين.

3 -

(شُعْبَةُ) بن الحجّاج الإمام الشهير، تقدّم في الباب الماضي.

والباقون ذُكروا قبله.

وقوله: (وَسَاقَ الْحَدِيثَ

إلخ) فاعل "ساق" ضمير شعبة رحمه الله.

[تنبيه]: رواية شعبة، عن سعيد بن مسروق ساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(15851)

- حدّثنا عبد الله، حدّثني أبي، ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن سعيد بن مسروق، عن عَباية بن رفاعة بن رافع، عن رافع بن خَدِيج جدِّه، أنه قال: يا رسول الله إنا لاقو العدوّ غدًا، وليس معنا مُدًى، قال:"ما أنهر الدمَ، وذُكِر اسمُ الله عليه فَكُل، ليس السنّ، والظفر، وسأحدثك، أما السنّ فعظم، وأما الظفر فمُدَى الحبشة"، وأصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم نَهْبًا، فنَدّ بعير منها، فسَعَوا، فلم يستطيعوه، فرماه رجل من القوم بسهم، فحبسه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن لهذه الإبل، أو النَّعَم، أوابدَ كأوابد الوحش، فإذا غلبكم شيء منها فاصنعوا به هكذا"، قال: وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم يجعل في قَسْم الغنائم عشرًا من الشاء ببعير، قال شعبة: وأكثر علمي أني قد سمعت من سعيد هذا الحرف: "وجعل عشرًا من الشاء ببعير"، وقد حدّثني سفيان عنه، قال محمد

(1)

: وقد سمعت من سفيان هذا الحرف. انتهى.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(1)

هو: محمد بن جعفر غندر الراوي عن شعبة.

ص: 424

(5) - (بَابُ بَيَانِ مَا كَانَ مِنَ النَّهْيِ عَنْ أَكْلِ لُحُومِ الأَضَاحِيِّ بَعْدَ ثَلَاثٍ، فِي أَوَّلِ الإِسْلَام، وَبَيَانِ نَسْخِه، وَإِبَاحَتِهِ إِلَى مَتَى شَاءَ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5089]

(1969) - (حَدَّثَني عبدُ الجَبَّارِ بْنُ الْعَلَاء، حَدَّثنا سُفْيَانُ، حَدَّثنا الزُّهْرِيُّ، عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ، قَالَ: شَهِدْتُ الْعِيدَ مَعَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، فَبَدَأَ بِالصَّلَاةِ قَبْلَ الْخُطْبَة، وَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَانَا أَنْ نَأْكُلَ مِنْ لُحُومِ نُسُكِنَا بَعْدَ ثَلَاثٍ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(عبدُ الجَبَّارِ بْنُ الْعَلَاءِ) بن عبد الجبّار العطّار أبو بكر البصريّ، نزيل مكة، لا بأس به، من صغار [10](ت 248) تقدم في "البيوع" 25/ 3973.

2 -

(سُفْيَانُ) بن عيينة المذكور قبل حديث.

3 -

(الزُّهْرِيُّ) محمد بن مسلم الإمام الشهير، تقدّم قريبًا.

4 -

(أَبُو عُبَيْدٍ) سعد بن عُبيد الزهريّ، مولى عبد الرحمن بن أزهر، أبو عبيدة المدنيّ، ثقةٌ [2] وقيل: له إدراك (ت 98)(ع) تقدم في "الإيمان" 73/ 390.

5 -

(عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبِ) بن عبد المطّلب بن هاشم الهاشميّ، أبو الحسن الخليفة الرابع، استُشهد سنة (40)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.

[تنبيه]: هذا الإسناد مما انتقده الدارقطنيّ، قال القاضي عياض: لهذا الحديث من رواية سفيان عند أهل الحديث علّة في رفعه؛ لأن الحفاظ من أصحاب سفيان لم يرفعوه، ولهذا لم يروه البخاريّ من رواية سفيان، ورواه من غير طريقه، قال الدارقطنيّ: هذا مما وَهِمَ فيه عبد الجبار بن العلاء؛ لأن الْحُميديّ، وعليّ بن المدينيّ، والقعنبيّ، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وأبا بكر بن أبي شيبة، وأبا خيثمة، وابن أبي عمر، وقتيبة، وأبا عبيد الله، وغيرهم رووه عن ابن عيينة، موقوفًا، قال: واحتَمَلَ أن يكون خَفِي على مسلم أن ابن عيينة يرويه موقوفًا؛ لأنه لعله لم يقع عنده إلا من رواية عبد الجبّار، ولأنّ الحديث رَفْعه عن الزهريّ صحيح، رَفعه صالح، ويونس،

ص: 425

ومعمر، وابن أخي الزهريّ، ومالك، من رواية جويرية، والزبيديّ، كلهم رووه عن الزهريّ مرفوعًا، وأما البخاريّ فأخرجه من حديث يونس وحده، ولم يعرض لحديث ابن عيينة. انتهى كلام الدارقطنيّ

(1)

.

وقال الحافظ أبو مسعود الدمشقيّ في "الأجوبة" بعد نقل كلام الدارقطنيّ: وهذا كما قال، غير أن مسلمًا أخرجه أيضًا من حديث يونس، وصالح بن كيسان، وابن أخي الزهريّ، ومعمر مسندًا، وأخرجه عن عبد الجبّار كما قال، قال أبو مسعود: ومسلم لم يعلم أن عبد الجبّار أوقفه من حديث ابن عيينة، والله أعلم، وإن كان الحديث له أصلٌ ثابتٌ من غير حديث ابن عيينة رحمه الله. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: ما ذكره الدارقطنيّ رحمه الله من إعلال رواية عبد الجبّار هذه قويّ، وقد أجاد حيث اعتذر عن مسلم بأنه لعله لم يقع له إلا من رواية عبد الجبّار، فخفي عليه.

والحاصل أن هذا السند معلول، وأما المتن فهو صحيح بكلّ حال، مرفوع عن الزهريّ من غير طريق ابن عيينة، كما أخرجه مسلم بعدُ منها، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ) سعد بن عُبيد مَوْلَى عبد الرحمن بْنِ عَوْفٍ، ويقال: مولى ابن أزهر؛ أي: عبد الرحمن بن أزهر بن عوف، ابن أخي عبد الرحمن بن عوف، الزهريّ المدنيّ أنه (قَالَ: شَهِدْتُ)؛ أي: حضرت (الْعِيدَ)؛ أي: عيد الأضحى، فقد وقع التصريح به في رواية عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهريّ، عن أبي عبيد أنه سمع عليًّا، يقول يوم الأضحى.

(مَعَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِب) رضي الله عنه (فَبَدَأَ بِالصَّلَاةِ قَبْلَ الْخُطْبَةِ)؛ أي: قدّم الصلاة على الخطبة؛ لأنه سنّة النبيّ صلى الله عليه وسلم، كما قال. (وَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَانَا أَنْ نَأْكُلَ مِنْ لُحُومِ نُسُكِنَا) بضمّتين، وبضمّ، فسكون؛ أي: لحم أضحيتنا (بَعْدَ ثَلَاثٍ)؛ أي: بعد ثلاث ليال.

(1)

راجع: رسالة الشيخ ربيع بن هادي "بين الإمامين" ص 325 - 328.

ص: 426

قال القرطبيّ رحمه الله: اختُلف في أول الثلاث، التي كان الادخار فيها جائزًا، فقيل: أولها يومُ النحر، فمن ضَحَّى فيه جاز له أن يمسك يومين بعده، ومن ضحى بعده أمسك ما بقي له من الثلاثة. وقيل: أولها يوم يُضَحِّي، فلو ضَحَّى في آخر أيام النحر، جاز له أن يُمسك ثلاثًا بعدها. ويَحْتمل أن يؤخذ من قوله:"فوق ثلاث" أن لا يُحْسَبَ اليوم الذي يقع فيه النحر من الثلاث، وتُعتبر الليلة التي تليه، وما بعدها.

قال الحافظ رحمه الله: ويؤيده ما في حديث جابر: "كنا لا نأكل من لحوم بُدْننا، فوق ثلاث منى"، فإن ثلاث منى، تتناول يومًا بعد يوم النحر، لأهل النفر الثاني.

قال الشافعيّ: لعل عليًّا رضي الله عنه لم يبلغه النسخ، وقال غيره: يَحْتَمل أن يكون الوقت الذي قال عليّ فيه ذلك، كان بالناس حاجة، كما وقع في عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم، وبذلك جزم ابن حزم، فقال: إنما خطب عليّ بالمدينة في الوقت الذي كان عثمان حُوصر فيه، وكان أهل البوادي، قد ألجأتهم الفتنة إلى المدينة، فأصابهم الجهد، فلذلك قال عليّ ما قال.

قال الحافظ: أما كون عليّ خطب به، وعثمان محصورٌ، فأخرجه الطحاويّ من طريق الليث، عن عُقيل، عن الزهري، في هذا الحديث، ولفظه:"صلّيت مع عليّ العيد، وعثمان محصور"، وأما الحمل المذكور، فلِمَا أخرج أحمد، والطحاويّ أيضًا، من طريق مخارق بن سليم، عن عليّ رضي الله عنه، رفعه:"إني كنت نهيتكم عن لحوم الأضاحي فوق ثلاث، فادّخروا ما بدا لكم"، ثم جمع الطحاويّ بنحو ما تقدم، وكذلك يجاب عما أخرج أحمد، من طريق أمّ سليمان، قالت: دخلت على عائشة رضي الله عنها، فسألتها عن لحوم الأضاحي؟ فقالت: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم، نهى عنها، ثم رخّص فيها، فَقَدِم عليٌّ من السفر، فأتته فاطمة بلحم من ضحاياها، فقال: أوَ لم نُنْه عنه؟، قالت: إنه قد رُخّص فيها. فهذا عليّ، قد اطلع على الرخصة، ومع ذلك خطب بالمنع، فطريق الجمع ما ذكرته. وقد جزم به الشافعيّ في "الرسالة"، في آخر "باب العلل في الحديث"، فقال ما نصّه: فإذا دَفَّت الدافّة ثبت النهي عن إمساك لحوم الضحايا، بعد

ص: 427

ثلاث، وإن لم تَدُفّ دافّة، فالرخصة ثابتة بالأكل، والتزوّد، والادخار، والصدقة.

قال الشافعيّ: ويَحْتَمل أن يكون النهي عن إمساك لحوم الأضاحي، بعد ثلاث منسوخًا، في كل حال.

قال الحافظ: وبهذا الثاني أخذ المتأخرون من الشافعية، فقال الرافعيّ: الظاهر أنه لا يحرم اليوم بحال، وتبعه النوويّ، فقال في "شرح المهذّب": الصواب المعروف، أنه لا يحرم الادخار اليوم بحال. وحَكَى في "شرح مسلم" عن جمهور العلماء، أنه مِنْ نَسْخ السُّنَّة بالسُّنَّة، قال: والصحيح نَسْخ النهي مطلقًا، وأنه لم يبق تحريم، ولا كراهة، فيباح اليوم الادخار فوق ثلاث، والأكل إلى متى شاء. انتهى.

وإنما رجح ذلك؛ لأنه يلزم من القول بالتحريم، إذا دَفّت الدافّة إيجاب الإطعام، وقد قامت الأدلة عند الشافعية، أنه لا يجب في المال حقٌّ سوى الزكاة.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تقدّم في أواخر "كتاب الزكاة" من "شرح النسائيّ" البحث عن هذه المسألة، وأن الصحيح وجوب حقّ سوى الزكاة، بحسب ما تدعو الحاجة إليه، فراجعه، تجده موضّحًا بأدلّته، والله تعالى وليّ التوفيق.

قال: ونقل ابن عبد البرّ ما يوافق ما نقله النوويّ، فقال: لا خلاف بين فقهاء المسلمين، في إجازة أكل لحوم الأضاحي بعد ثلاث، وأن النهي عن ذلك منسوخ، كذا أطلق، وليس بجيد، فقد قال القرطبيّ: حديث سلمة، وعائشة، نصّ على أن المنع كان لعلة، فلما ارتفعت ارتفع؛ لارتفاع موجبه، فتعيَّن الأخذ به، وبعَوْد الحكم تعود العلة، فلو قَدِم على أهل بلد ناس، محتاجون في زمان الأضحى، ولم يكن عند أهل ذلك البلد سعة، يَسُدُّون بها فاقتهم، إلا الضحايا، تَعَيّن عليهم ألا يدّخروها فوق ثلاث.

قال الحافظ: والتقييد بالثلاث واقعة حال، وإلا فلو لم تُسَدّ الخلة إلا بتفرقة الجميع، لزم على هذا التقرير عدم الإمساك، ولو ليلة واحدة. وقد حكى الرافعي عن بعض الشافعية: أن التحريم كان لعلة، فلما زالت زال الحكم،

ص: 428

لكن لا يلزم عَوْد الحكم عند عود العلة. قال الحافظ: واستبعدوه، وليس ببعيد؛ لأن صاحبه قد نظر إلى أن الخلة، لم تُسدّ يومئذ، إلا بما ذُكر، فأما الآن فإن الخلة تُسدّ بغير لحم الأضحية، فلا يعود الحكم إلا لو فُرض أن الخلة لا تُسدّ، إلا بلحم الأضحية، وهذا في غاية الندور.

وحكى البيهقي عن الشافعيّ، أن النهي عن أكل لحوم الأضاحي فوق ثلاث، كان في الأصل للتنزيه، قال: وهو كالأمر في قوله تعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ} الآية [الحج: 36]، وحكاه الرافعي، عن أبي عليّ الطبري احتمالًا، وقال المهلب: إنه الصحيح؛ لقول عائشة رضي الله عنها: "وليس بعزيمة". انتهى ما في "الفتح"

(1)

، والله أعلم.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [5/ 5089 و 5090 و 5091](1969)، و (البخاريّ) في "الأضاحي"(5571)، و (النسائيّ) في "الضحايا"(7/ 232 و 233) و"الكبرى"(3/ 68)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 61 و 70 و 78 و 103 و 140 و 141 و 149)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(5/ 78)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(3/ 318)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان النهي عن أكل لحوم الأضاحيّ، وادّخارها بعد ثلاثة أيام.

2 -

(ومنها): مشروعيّة الخطبة في العيد.

3 -

(ومنها): أن خطبة العيد تُخالف خطبة الجمعة في كونها بعد الصلاة، وقد تقدّم في "كتاب العيدين" القول في أول من قدّم الخطبة على الصلاة فيها.

(1)

"الفتح" 12/ 583 - 584، كتاب "الأضاحي" رقم (5571).

ص: 429

4 -

(ومنها): أنه لا يُشرع الأذان، ولا الإقامة لصلاة العيد.

5 -

(ومنها): أن فيه مراعاة الشارع مصالح العباد؛ لأنه سيأتي في حديث عائشة رضي الله عنها أن النهي لأجل الدّافّة التي دفّت إلى المدينة، يوم الأضحى، فأراد الشارع الحكيم أن يواسي المؤمنون هؤلاء المساكين، فتبيّن به أنه لا يأمر، ولا ينهى إلا لمصلحة، وإن لم نَصِلْ إلى معرفتها؛ لِقُصور عِلْمنا.

6 -

(ومنها): ما قيل: إنه استُدل بهذه الأحاديث، على أن النهي عن الأكل فوق ثلاث، خاص بصاحب الأضحية، فأما من أُهدي له، أو تُصدق عليه، فلا؛ لمفهوم قوله عند مسلم:"من لحم أضحيته"، وفي حديث عليّ رضي الله عنه:"مِن نُسُكه"، وقد جاء في حديث الزبير بن العوام، عند أحمد، وأبي يعلى ما يفيد ذلك، ولفظه: قلت: يا نبي الله، أرأيت قد نُهي المسلمون أن يأكلوا من لحم نسكهم، فوق ثلاث، فكيف نصنع بما أُهدي لنا؟ قال:"أما ما أهدي إليكم، فشأنَكم به"، فهذا نص في الهدية، وأما الصدقة، فإن الفقير لا حَجر عليه في التصرف، فيما يُهدَى له؛ لأن القصد أن تقع المواساة من الغنيّ للفقير، وقد حصلت، أفاده في "الفتح"

(1)

، والله تعالى أعلم.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في النهي عن ادّخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث:

(اعلم): أنهم اختلفوا في ذلك على مذاهب:

(المذهب الأول): أنه كان للتحريم، وأنه منسوخٌ بالأحاديث الآتية الموضّحة لذلك، حكاه النوويّ عن جماهير العلماء، قال: وهذا من نَسخ السُّنَّة بالسُّنَّة، قال: والصحيح نَسخ النهي مطلقًا، وأنه لم يبق تحريم، ولا كراهة، فيُباح اليوم الادّخار فوق ثلاثة، والأكل إلى متى شاء، كصريح حديث بُريدة وغيره، وكذا قال في "شرح المهذّب": الصواب المعروف أنه لا يحرم الادّخار اليوم بحال، وسبقه إلى ذلك الرافعيّ، فقال: والظاهر أنه لا تحريم اليوم بحال.

(1)

"الفتح" 12/ 584، كتاب "الأضاحي" رقم (5571).

ص: 430

وقال ابن عبد البرّ: لا خلاف بين فقهاء المسلمين في إجازة أكل لحوم الأضاحي بعد ثلاث، وأن النهي عن ذلك منسوخ.

(المذهب الثاني): أن هذا ليس نَسخًا، ولكن كان التحريم لعلّة، فلما زالت زال، فلو عادت لعاد، وبهذا قال ابن حزم، واستدلّ بحديث عليّ المذكور هنا، قال: هذا كان عام حُصِر عثمان رضي الله عنه، وكان أهل البوادي قد ألجأتهم الفتنة إلى المدينة، ودفّت دافّة. انتهى. وللشافعيّ رحمه الله نصّ، حكاه البيهقيّ، تردّد فيه بين هذا القول، والذي قبله، قال بعد ذكر حديث عائشة، وجابر رضي الله عنهما: يجب على من علِم الأمرين معًا أن يقول: نهى النبيّ صلى الله عليه وسلم عنه لمعنًى، فإذا كان مثله، فهو منهيّ عنه، وإذا لم يكن مثله لم يكن منهيًّا عنه، أو يقول: نهى النبيّ صلى الله عليه وسلم في وقت، ثم أرخص فيه بعده، والآخر من أمْره ناسخٌ للأول. وقال الإسنويّ رحمه الله: الصحيح أن النهي كان مخصوصًا بحالة الضيق، والصحيح أيضًا أنه إذا حَدَثَ ذلك في زماننا أن يعود المنع على خلاف ما رجّحه الرافعيّ، فقد نصّ الشافعيّ على ذلك كلّه، فقال في "الرسالة" في آخر "باب العلل في الحديث" ما نصّه: فإذا دفّت الدّافّة، ثبت النهي عن إمساك لحوم الضحايا بعد ثلاث، وإن لم تدفّ دافّة، فالرخصة ثابتةٌ بالأكل، والتزوّد، والادّخار، والصدقة، قال الشافعيّ: ويَحْتَمِل أن يكون النهي عن إمساك لحوم الضحايا بعد ثلاث منسوخًا في كلّ حال. انتهى.

وقال أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله: حديث سلمة، وعائشة رضي الله عنهما نصّ على أن المنع كان لعلّة، ولمّا ارتفعت ارتفع؛ لارتفاع موجبه، لا لأنه منسوخٌ، فتعيّن الأخذ به، ويعود الحكم لِعَوْد العلّة، فلو قَدِم على أهل بلدة ناسٌ محتاجون في زمان الأضحى، ولم يكن عند أهل ذلك البلد سعة يسدّون بها فاقتهم إلا الضحايا، لتعيّن عليهم أن لا يدّخروها فوق ثلاث.

(المذهب الثالث): كالذي قبله في أن هذا ليس نسخًا، ولكن التحريم لعلّة، فلما زالت زال، ولكن لا يعود الحكم لو عادت، وهذا وجه لبعض الشافعيّة، حكاه الرافعيّ، والنوويّ، وهو بعيد.

(المذهب الرابع): أن النهي الأول لم يكن للتحريم، وإنما كان للكراهة، وهذا ذكره أبو عليّ الطبريّ، صاحب "الإفصاح" على سبيل الاحتمال، كما

ص: 431

حكاه الرافعيّ، ونصّ عليه الشافعيّ، كما حكاه البيهقيّ، فقال: وقال الشافعيّ رحمه الله في موضع آخر: يُشبه أنه يكون نهي النبيّ صلى الله عليه وسلم عن إمساك لحوم الضحايا بعد ثلاث، إذا كانت الدّافّة، على معنى الاختيار، لا على معنى الفرض؛ لقوله تعالى في البُدْن:{فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا} الآية [الحج: 36]، وهذه الآية في البُدْن التي يَتطوّع بها أصحابها، قال النوويّ: قال هؤلاء: والكراهة باقية إلى اليوم، ولكن لا يحرُم، قالوا: ولو وقع مثل تلك العلّة اليوم، فدفّت دافّة، واساهم الناس، وحملوا على هذا مذهب عليّ، وابن عمر. انتهى. وإلى هذا ذهب المهلّب، فقال: إنه الذي يصحّ عندي. انتهى.

قال الحافظ وليّ الدين العراقيّ: ويدلّ لهذا قوله في حديث عائشة رضي الله عنها: "وليست بعزيمة، ولكن أراد أن يُطعِم منه"، وقال ابن حزم: لا حجة فيه؛ لأن قوله: "ليست بعزيمة"، ليس من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما ظنّ بعض رواة الخبر، ويبيّن ذلك قوله بعده:"ولكن أراد أن يطعم منه"، والله تعالى أعلم.

(المذهب الخامس): أن هذا النهي للتحريم، وأن حكمه مستمرّ، لم يُنسخ، وحُمل على هذا ما تقدّم عن عليّ رضي الله عنه، وما رواه ابن أبي شيبة عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال وليّ الدين: وحَمْله على أنهما رأيا عَوْد الحكم لِعَوْد العلّة، كما تقدّم في القول الثاني أَولى، وبتقدير أن لا يؤوّل على هذا، فسببه عدم بلوغ الناسخ، فإنه لا يسع أحدًا العمل بالمنسوخ بعد ورود الناسخ، ومن علم حجة على من لم يعلم، ذكر هذه المذاهب الحافظ وليّ الدين العراقيّ رحمه الله تعالى في "شرح التقريب"

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أرجح المذاهب هو المذهب الثاني؛ لوضوح دليله، وحاصله أن النهي مستمرّ، وليس منسوخًا، وإنما كان لعلة، فلما زالت زال، فإذا عادت تلك عاد الحكم، وهذا هو الأَولى في المجمع بين الأحاديث من غير دعوى إهمال لبعضها، والله تعالى أعلم.

(1)

"طرح التثريب في شرح التقريب" 5/ 197 - 199.

ص: 432

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5090]

(

) - (حَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، حَدَّثَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، حَدَّثَنِي أَبُو عُبَيْدٍ مَوْلَى ابْنِ أَزْهَرَ، أنَّهُ شَهِدَ الْعِيدَ مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّاب، قَال: ثُمَّ صَلَّيْتُ مَعَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، قَالَ: فَصَلَّى لَنَا قَبْلَ الْخُطْبَة، ثُمَّ خَطَبَ النَّاسَ، فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ نَهَاكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا لُحُومَ نُسُكِكُمْ فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ، فَلَا تَأْكلُوا).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى) التُّجيبيّ المصريّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(ابْنُ وَهْبٍ) عبد الله المصريّ، تقدّم قبل باب.

3 -

(يُونُسُ) بن يزيد الأيليّ، تقدّم قريبًا.

4 -

(عُمَرُ بْنُ الخطّاب) رضي الله عنه، تقدّم أيضًا قريبًا.

والباقون ذُكروا قبله، والحديث متّفقٌ عليه.

[تنبيه]: هذا الحديث مختصر، وقد ساقه البخاريّ في "صحيحه"، مطوّلًا، فقال:

(5251)

- حدّثنا حِبّان بن موسى، أخبرنا عبد الله، قال: أخبرني يونس، عن الزهريّ، قال: حدّثني أبو عبيد، مولى ابن أزهر، أنه شهد العيد، يوم الأضحى، مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فصلى قبل الخطبة، ثم خطب الناس، فقال: يا أيها الناس، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد نهاكم عن صيام هذين العيدين، أما أحدهما فيوم فطركم من صيامكم، وأما الآخر فيوم تأكلون نُسُكَكم، قال أبو عبيد: ثم شهدت مع عثمان بن عفان، فكان ذلك يوم الجمعة، فصلى قبل الخطبة، ثم خطب، فقال: يا أيها الناس إن هذا يوم، قد اجتمع لكم فيه عيدان، فمن أحب أن ينتظر الجمعة، من أهل العوالي فلينتظر، ومن أحب أن يرجع، فقد أذنت له

(1)

، قال أبو عبيد: ثم شهدته مع علي بن أبي طالب،

(1)

مسألة اجتماع العيد مع الجمعة قد حقَّقتها في "شرح النسائيّ" في "كتاب العيدين"، فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق.

ص: 433

فصلى قبل الخطبة، ثم خطب الناس، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم، نهاكم أن تأكلوا لحوم نسككم فوق ثلاث. انتهى.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5091]

(

) - (وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَخِي ابْنِ شِهَابٍ (ح) وَحَدَّثَنَا حَسَنٌ الْحُلْوَانِيّ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثنَا أَبِي، عَنْ صَالِحٍ (ح) وَحَدَّثنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاق، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، كُلُّهُمْ عَنِ الزُّهْرِيِّ بِهَذَا الإسْنَادِ مِثْلَهُ).

رجال هذا الإسناد: عشرة:

1 -

(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

2 -

(يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) الزهريّ، تقدّم قريبًا.

3 -

(أَبُوهُ) إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

4 -

(ابْنُ أَخِي ابْنِ شِهَابٍ) محمد بن عبد الله بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب الزهريّ المدنيّ، صدوقٌ له أوهامٌ [6](ت 152) أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 63/ 352.

5 -

(حَسَن الْحُلْوَانيّ) ابن عليّ الخلال نزيل مكة، تقدّم قريبًا.

6 -

(صَالِحُ) بن كيسان الغفاريّ مولاهم المدنيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

7 -

(عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ) الكسيّ، تقدّم قبل أربعة أبواب.

8 -

(عَبْدُ الرَّزَّاقِ) بن همّام الصنعانيّ، تقدّم قريبًا.

9 -

(مَعْمَرُ) بن راشد، تقدم أيضًا قريبًا.

و"الزهريّ" ذُكر قبله.

وقوله: (كلُّهُمْ عَنِ الزُّهْرِيِّ بِهَذَا الإسْنَادِ مِثْلَهُ)؛ يعني: أن كلًّا من ابن أخي ابن شهاب، وصالح بن كيسان، ومعمر بن راشد رووا هذا الحديث عن الزهريّ، عن أبي عبيد مولى ابن أزهر، بمثل ما رواه يونس عنه.

[تنبيه]: رواية ابن أخي ابن شهاب، عن الزهريّ ساقها أبو عوانة رحمه الله في "مسنده"، فقال:

ص: 434

(7856)

- حدّثنا أبو داود الحرانيّ، قال: نا يعقوب بن إبراهيم بن سعد، قال: ثنا ابن أخي الزهريّ، عن عمه، قال: أخبرني أبو عبيد مولى عبد الرحمن بن عوف، أنه سمع عليّ بن أبي طالب يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل لامرئ مسلم أن يصبح في بيته بعد ثلاث من لحم نسكه شيء"

(1)

.

ورواية صالح بن كيسان، عن الزهريّ ساقها أبو عوانة أيضًا في "مسنده"، فقال:

(7855)

- حدّثنا الصغانيّ، قثنا يونس بن محمد، قال: نا إبراهيم بن سعد، عن صالح، عن ابن شهاب (ح) وحدّثنا أبو داود الحرانيّ، قال: ثنا يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا أبي، عن صالح بن كيسان، عن ابن شهاب، عن أبي عُبيد مولى عبد الرحمن، أنه سمع عليًّا يخطب، فقال: أيها الناس إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نهاكم أن تأكلوا من لحوم نسككم فوق ثلاث ليال، فلا تأكلوها فوق ثلاث ليال، هذا لفظ يعقوب، وقال يونس بن محمد: إنه سمع عليًّا يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل لمسلم أن يأكل من لحم نسكه فوق ثلاث". انتهى

(2)

.

ورواية معمر عن الزهريّ ساقها أيضًا أبو عوانة في "مسنده"، فقال:

(7854)

- حدّثنا الدَّبَريّ، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهريّ، عن أبي عُبيد مولى عبد الرحمن بن عوف، أنه سمع عليًّا رضي الله عنه يخطب، فقال: يا أيها الناس إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نَهَى أن تأكلوا نسككم بعد ثلاث. انتهى

(3)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال.

[5092]

(1970) - (وَحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ (ح) وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بن رُمْحٍ، أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّهُ قَالَ: "لَا يَأكُلْ أَحَدٌ

(4)

مِنْ لَحْمِ أُضْحِيَّتِهِ فَوْقَ ثَلَاَثَةِ أَيَّامٍ").

(1)

"مسند أبي عوانة" 5/ 78.

(2)

"مسند أبي عوانة" 5/ 78.

(3)

"مسند أبي عوانة" 5/ 77.

(4)

وفي نسخة: "أحدكم".

ص: 435

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(نَافِعٌ) مولى ابن عمر، تقدّم قريبًا.

2 -

(ابْنُ عُمَرَ) عبد الله رضي الله عنهما، تقدّم أيضًا قريبًا.

والباقون تقدّموا قبل بابين.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من رباعيّات المصنف، وهو (364) من رباعيّات الكتاب، وفيه ابن عمر رضي الله عنهما أحد العبادلة الأربعة، وأحد المكثرين السبعة، وشرح الحديث واضح يُعلم مما سبق.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [5/ 5092 و 5093 و 5094](1970)، و (البخاريّ) في "الأضاحي"(5574)، و (الترمذيّ) في "الأضاحي"(1509)، و (النسائيّ) في "الضحايا"(7/ 232) و"الكبرى"(3/ 67)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 9 و 34)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5923 و 5927)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(4/ 184)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(9/ 290)، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5093]

(

) - (وَحَدَّثَني مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، حَدَّثنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ (ح) وَحَدَّثَني مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثنَا ابْنُ أَبيِ فُدَيْكٍ، أَخْبَرَنَا الضَّحَّاكُ - يَعْني: ابنَ عُثْمَانَ - كِلَاهُمَا عَن نَافِعٍ، عَنِ ابنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِ حَدِيثِ اللَّيثِ).

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ) النيسابوريّ الحافظ تقدّم قريبًا.

2 -

(ابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ) هو: محمد بن إسماعيل بن مسلم بن أبي فُديك الدِّيليّ مولاهم، أبو إسماعيل المدنيّ، صدوق، من صغار [8](ت 200) على الصحيح (ع) تقدم في "الحيض" 16/ 775.

ص: 436

3 -

(الضَّحَّاكُ بْنُ عُثْمَانَ) بن عبد الله بن خالد بن حِزام الأسديّ الحِزاميّ، أبو عثمان المدنيّ، صدوقٌ يَهِمُ [7](م 4) تقدم في "الحيض" 16/ 774.

والباقون ذُكروا في الباب، والباب الذي قبله، وقبل بابين.

وقوله: (كِلَاهُمَا عَنْ نَافِعٍ)؛ يعني: أن ابن جريج، والضحاك بن عثمان رويا هذا الحديث عن نافع بمثل ما رواه الليث عنه.

[تنبيه]: رواية ابن جريج، عن نافع ساقها الدارميّ في "سننه"، فقال:

(1957)

- أخبرنا أبو عاصم، عن ابن جريج، عن نافع، عن ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نَهَى عن لحوم الأضاحي - أو قال -:"لا تأكلوا لحوم الأضاحي بعد ثلاث". انتهى

(1)

.

وأما رواية الضحّاك بن عثمان عن نافع، فلم أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5094]

(

) - (وَحَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ ابْنُ أَبِي عُمَرَ: حَدَّثَنَا، وَقَالَ عَبْدٌ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاق، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى أَنْ تُؤْكَلَ لُحُومُ الأَضَاحِي بَعْدَ ثَلَاثٍ، قَالَ سَالِمٌ: فَكَانَ ابْنُ عُمَرَ لَا يَأْكُلُ لُحُومَ الأَضَاحِيِّ فَوْقَ ثَلَاثٍ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي عُمَرَ بَعْدَ ثَلَاثٍ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(سَالِمُ) بن عبد الله بن عمر بن الخطاب الفقيه المدنيّ، تقدّم قريبًا.

والباقون ذُكروا في الباب، وقبله، و"ابن أبي عمر" هو: محمد بن يحيى بن أبي عمر العدنيّ، ثم المكيّ.

والحديث متّفقٌ عليه، وتقدّم تخريجه في الذي قبله.

(1)

"سنن الدارميّ" 2/ 107.

ص: 437

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5095]

(1971) - (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ، أَخْبَرَنَا رَوْحٌ، حَدَّثَنَا مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ وَاقِدٍ، قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَكْلِ لُحُومِ الضَّحَايَا بَعْدَ ثَلَاثٍ، قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ: فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِعَمْرَةَ، فَقَالَتْ: صَدَقَ، سَمِعْتُ عَائِشَةَ تَقُولُ: دَفَّ أَهْلُ أَبْيَاتٍ، مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ حِضْرَةَ الأَضْحَى، زَمَنَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "ادَّخِرُوا ثَلَاثًا، ثُمَّ تَصَدَّقُوا بِمَا بَقِيَ)، فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ قَالُوا: يَا رَسُولَ الله، إِنَّ النَّاسَ يَتَّخِذُونَ الأَسْقِيَةَ مِنْ ضَحَايَاهُمْ، وَيَحْمِلُونَ مِنْهَا الْوَدَكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"وَمَا ذَاكَ؟ ". قَالُوا: نَهَيْتَ أَنْ تُؤْكَلَ لُحُومُ الضَّحَايَا بَعْدَ ثَلَاثٍ، فَقَالَ:"إِنَّمَا نَهَيْتُكُمْ مِنْ أَجْلِ الدَّافَّةِ الَّتي دَفَّتْ، فَكُلُوا، وَادَّخِرُوا، وَتَصَدَّقُوا").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ) ابن راهويه، تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(رَوْحُ) بن عُبادة بن العلاء بن حسّان القيسيّ، أبو محمد البصريّ، ثقةٌ فاضلٌ، له تصانيف [9](ت 5 أو 207)(ع) تقدم في "الإيمان" 90/ 476.

3 -

(مَالِكُ) بن أنس إمام دار الهجرة، تقدّم قريبًا.

4 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي بَكْرِ) بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاريّ المدنيّ القاضي، ثقةٌ [5](ت 135) وهو ابن (70) سنة (ع) تقدم في "الصلاة" 17/ 916.

5 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ وَاقِدِ) بن عبد الله بن عمر بن الخطّاب العدويّ المدنيّ، ثقةٌ

(1)

[4].

رَوَى عن جدّه، وعمه عبد الله بن عبد الله بن عمر، وعائشة، وأرسل عن النبيّ صلى الله عليه وسلم.

وروى عنه عمرُ بن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر، وعبد الله بن أبي

(1)

وقوله في "التقريب": "مقبول" غير مقبول، فقد روى عنه جماعة، ووثقه ابن حبّان، وابن عبد البرّ، ولم يجرحه أحد، وأخرج له مسلم هنا، فتنبّه.

ص: 438

بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، والزهريّ، وفُضيل بن غزوان، وإبراهيم بن مُجَمِّع، وغيرهم.

قال مالك: رأيته، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: مات سنة تسع عشرة ومائة.

وفي "طبقات ابن سعد": مات قديمًا في خلافة هشام بن عبد الملك، وفي "رجال الموطأ" لابن الحذاء: قيل: هو عبد الله بن واقد بن زيد بن عبد الله بن عمر، قال: والأول أصح. انتهى.

وقال أبو عمر بن عبد البرّ: عبد الله بن واقد هذا هو عبد الله بن واقد بن عبد الله بن عمر تابعيّ ثقةٌ، شريفٌ، جليلٌ، سمع عبد الله بن عمر، وأمه أمة الله بنت عبد الله بن عيّاش بن أبي ربيعة، ومات عبد الله بن واقد في سنة سبع عشرة ومائة في خلافة هشام بن عبد الملك. انتهى

(1)

.

أخرج له مسلم وأبو داود وابن ماجه، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا (1971)، وحديث (2086): "يا عبد الله ارفع إزارك، فرفعته، ثم قال: زد، فزدت

" الحديث.

6 -

(عَمْرَةُ) بنت عبد الرحمن: بن سعد بن زرارة الأنصاريّة المدنيّة ثقةٌ [3] ماتت قبل المائة، ويقال: بعدها (ع) تقدمت في "شرح المقدمة" جـ 2 ص 417.

7 -

(عَائِشَةُ) أم المؤمنين رضي الله عنها، تقدّمت قبل باب.

شرح الحديث:

(عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ) بن محمد بن عمرو بن حزم (عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ وَاقِدٍ) أنه (قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ "أَكْلِ لُحُومِ الضَّحَايَا بَعْدَ ثَلَاثٍ) قال القاضي عياض: يَحْتَمِل أن يكون ابتداء الثلاث من يوم ذبحها، ويَحْتَمِل من يوم النحر، وإن تأخّر ذبحها إلى أيام التشريق، قال: وهذا أظهر. انتهى

(2)

.

[تنبيه]: قول عبد الله بن واقد هذا: "قال نهى رسول الله

إلخ" مرسلٌ؛ لأن عبد الله بن واقد تابعيّ، وإنما الموصول، وهو العمدة حديث

(1)

"التمهيد" لابن عبد البر 17/ 208.

(2)

"إكمال المعلم" 6/ 424.

ص: 439

عمرة، كما بيّنه مسلم بقوله:(قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ) ابن محمد بن عمرو المذكور في السند (فَذَكَرْتُ ذَلِكَ)؛ أي: حديث عبد الله بن واقد (لِعَمْرَةَ) بنت عبد الرحمن الأنصاريّة، (فَقَالَتْ: صَدَقَ) عبد الله بن واقد فيما حدّث به، ثم ذكر دليل تصديقها له، فقالت:(سَمِعْتُ عَائِشَةَ) أمّ المؤمنين رضي الله عنها (تَقُولُ: دَفَّ أَهْلُ أَبْيَاتٍ) قال النوويّ: قال أهل اللغة: الدافّة بتشديد الفاء: قوم يسيرون جميعًا سيرًا خفيفًا، ودَفّ يَدِفّ بكسر الدال، ودافّة الأعراب: مَن يَرِدُ منهم المصرَ، والمراد هنا: مَن وَرَد من ضعفاء الأعراب للمواساة. انتهى

(1)

.

وقال ابن عبد البرّ: معناه عند أهل اللغة: أتونا، وأصله عندهم مِنْ دَفَّفَ الطائرُ: إذا حرّك جناحيه، ورجلاه في الأرض، يقال في ذلك: دَفّ الطائر يَدِفّ دَفِيفًا، وقال الخليل: والدافّة: قوم يدُفّون؛ أي: يسيرون سيرًا لينًا، وتدافّ القومُ: إذا ركب بعضهم بعضًا، في قتال، أو نحوه. انتهى

(2)

.

وقال القرطبيّ: الدَّفِيف: الدبيب، وهو السير الخفيّ اللَّين، والدَّافة: الجيش الذين يدِبّون إلى أعدائهم، وكان هؤلاء ناسٌ ضعفاء، فجاؤوا دابين؛ لِضَعفهم من الحاجة والجوع. انتهى

(3)

.

وقال ابن الأثير رحمه الله: الدّافّة: القوم يسيرون سيرًا ليس بالشديد، يقال: هم يدفّون دفيفًا، والدافّة: قومٌ من الأعراب، يَرِدون المصر، يُريد أنهم قوم قَدِموا المدينة عند الأضحى، فنهاهم عن ادّخار لحوم الأضاحي، ليفرّقوها، ويتصدّقوا بها، فينتفع أولئك القادمون بها. انتهى

(4)

.

(مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ)؛ أي: من الأعراب الذين يسكنون البادية، وهو خلاف الحاضرة، وهو متعلِّق بصفة لـ"أهل أبيات"، (حِضْرَةَ الأَضْحَى) قال القرطبيّ: الرواية المعروفة بسكون الضاد، وهو منصوب على الظرف؛ أي: زمن حضور الأضحى، ومشاهدته، وقيَّده بعضهم: حَضَرَة - بفتح الضاد - وفي "الصحاح" يقال: كلَّمته بَحضْرة فلان، وبمحضر من فلان؛ أي: بمشهد منه، وحَكَى يعقوب: كلَّمته بحَضَر فلان - بالتحريك من غير هاء - وكلَّمته بِحَضْرة فلان،

(1)

"شرح النوويّ" 13/ 130.

(2)

"التمهيد" لابن عبد البرّ 17/ 208.

(3)

"المفهم" 5/ 377 - 378.

(4)

"النهاية" لابن الأثير 2/ 124.

ص: 440

وحُضرته، وحِضرته. انتهى

(1)

.

وقال النوويّ: هي بفتح الحاء، وضمّها، وكسرها، والضاد ساكنة فيها كلِّها، وحُكي فتحها، وهو ضعيفٌ، وإنما تُفتَح إذا حُذفت الهاء، فيقال: بحضر فلان. انتهى

(2)

.

(زَمَنَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "ادَّخِرُوا ثَلَاثًا) وفي رواية النسائيّ: "كُلُوا، وادّخروا ثلاثًا"، (ثُمَّ تَصَدَّقُوا بِمَا بَقِيَ"): والمعنى: كلوا بعضه، وادّخروا بعضه مدةَ ثلاث ليال، وما فَضَل عن ذلك، فتصدّقوا به على هؤلاء المحتاجين. (فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ) اسم "كان" محذوف؛ أي: فلمّا كان الزمن بعد ذلك الوقت الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم: "ادّخروا

إلخ"؛ أي: في العام الذي يليه، (قَالُوا: يَا رَسُولَ الله، إِنَّ النَّاسَ يَتَّخِذُونَ الأَسْقِيَة) بفتح الهمزة: جمع سقاءَ، قال المجد رحمه الله: السِّقاء، ككِسَاءٍ: جلدُ السَّخْلة إذا أجذع، يكون للماء واللبن، جَمْعه: أسقية، وأسقياتٌ، وأساقٍ. انتهى

(3)

.

(مِنْ ضَحَايَاهُمْ) بفتح الضاد: جمع ضَحِيّة، كعطيّة وعطايا، كما سبق أول الكتاب، (وَيَجْمِلُونَ) بالجيم، وفتح أوله، وضمّه، من جَمَل، كنصر، وضرب، وأجمل، يقال: جَمَلتُ الدهن، أَجمِله، بكسر الميم، وأجمُلُه بضمّها جَمْلًا، وأجملته إجمالًا؛ أي: أَذَبْته، قاله النوويّ

(4)

.

وقال القرطبيّ: "الأسقية": جمع سقاء، كالأخبية، جمع خِبَاء، و"يجملون": يُذيبون، و"الودك": الشحم، يقال: جملت الشحم، واجتملته: إذا أذبته، وربّما قالوا: أجملت، وهو قليل. انتهى

(5)

.

ووقع في بعض النُّسخ: "ويَحْملون" بالحاء المهملة، من الحمل؛ أي: يحملون الودك في تلك الأسقية، والله تعالى أعلم.

(مِنْهَا)؛ أي: من تلك الضحايا، (الْوَدَكَ) بفتحتين؛ أي: الشحم، ودَسَم اللحم؛ أي: يُذيبون الشحم، ويستخرجون دهنه، (فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "وَمَا

(1)

"الصحاح" ص 241.

(2)

"شرح النوويّ" 13/ 130.

(3)

"القاموس المحيط" ص 624.

(4)

"شرح النوويّ" 13/ 131.

(5)

"المفهم" 5/ 378.

ص: 441

ذَاكَ؟ ")؛ أي: ما سبب قولكم هذا؟، مع ظهور أنه جائز، (قَالُوا: نَهَيْتَ أَنْ تُؤْكَلَ لُحُومُ الضَّحَايَا) ببناء الفعل للمفعول، (بَعْدَ ثَلَاثٍ)؛ أي: بعد ثلاث ليال.

(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("إِنَّمَا نَهَيْتُكُمْ مِنْ أَجْلِ الدَّافَّةِ الَّتِي دَفَّتْ)؛ أي: لأجل الجماعة التي أتتكم من البادية، أردت أن تتصدّقوا عليهم، وهذا ظاهر فيما قدّمناه من أن المدار هو الحاجة، وليس هذا من باب النَّسخ. قال أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله: وهذا نصّ منه صلى الله عليه وسلم على أن المنع كان لعلّة، ولَمّا ارتفعت ارتفع المنع المتقدّم؛ لارتفاع موجِبه، لا لأنه منسوخٌ، وهذا يُبطل قول من قال: إن ذلك المنع إنما ارتفع بالنَّسخ، لا يقال: فقد قال صلى الله عليه وسلم: "كنت نهيتكم عن ادّخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث، فادّخروا"، وهذا رفعٌ لحكم الخطاب الأول بخطاب متأخّر عنه، وهذا هو حقيقة النسخ؛ لأنا نقول: هذا لَعَمْر الله ظاهر هذا الحديث، مع أنه يَحْتَمِل أن يكون ارتفاعه بأمر آخر غير النسخ، فلو لم يرد لنا نصّ بأن المنع من الادخار ارتفع لارتفاع علّته، لَمَا عدَلنا عن ذلك الظاهر، وقلنا: هو نسخٌ، كما قلناه في زيارة القبور، وفي الانتباذ بالحنتم المذكورين معه في حديث بُريدة رضي الله عنه الآتي، لكن النصّ الذي في حديث عائشة رضي الله عنها في التعليل بيّنَ أن ذلك الرفع ليس للنسخ، بل لعدم العلّة، فتعيّن ترك ذلك الظاهر، والأخذ بذلك الاحتمال لِعَضَد النصّ له، والله تعالى أعلم.

[تنبيه]: الفرق بين رفع الحكم بالنَّسخ، ورفعه لارتفاع علّته أن المرفوع بالنسخ لا يُحكم به أبدًا، والمرفوع لارتفاع علّته يعود الحكم لِعَود العلّة، فلو قَدِمَ على أهل بلدة ناس محتاجون في زمان الأضحى، ولم يكن عند أهل ذلك البلد سعةٌ، يسدّون بها فاقتهم إلا الضحايا، لتعيّن عليهم أن لا يدّخروها فوق ثلاث، كما هو فِعل النبيّ صلى الله عليه وسلم. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(1)

، وهو تحقيقٌ حسنٌ، والله تعالى أعلم.

(فَكُلُوا، وَادَّخِرُوا) - بالدال المهملة المشدّدة - لأن أصلها اذتخروا، من ذَخَرَ بالذال المعجمة، اجتمع مع تاء الافتعال، وقُلبت التاء دالًا، فصار إذدَخِروا، ثم قُلبت الذال دالًا، وأدغمت الدال في الذال، فصار: ادَّخِروا

(2)

، كما قال في "الخلاصة":

(1)

"المفهم" 5/ 378 - 379.

(2)

"عمدة القاري" 21/ 159.

ص: 442

طَا تَا افْتِعَالٍ رُدَّ إِثْرَ مُطْبَقِ

فِي ادَّانَ وَازْدَدْ وَادَّكِرْ دَالًا بَقِي

(وَتَصَدَّقُوا") قال النوويّ رحمه الله: هذا تصريح بزوال النهي عن ادّخارها فوق ثلاث، وفيه الأمر بالصدقة منها، والأمر بالأكل، فأما الصدقة منها، إذا كانت أضحية تطوّع، فواجبة على الصحيح عند أصحابنا بما يقع عليه الاسم منها، ويستحبّ أن يكون بمعظمها، قالوا: وأدنى الكمال أن يأكل الثلث، ويتصدّق بالثلث، ويُهدي الثلث. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا متّفقٌ عليه.

[تنبيه]: قد أشرت فيما مضى أن أول هذا الحديث مرسل، قال الحافظ رشيد الدين العطّار رحمه الله في "غرر الفوائد": هذا مرسل، فإن عبد الله بن واقد تابعيّ يروي عن عبد الله بن عمر وغيره، وهو عبد الله بن واقد بن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ولم يحتجّ مسلم بهذا المرسل، إنما احتج بباقي الحديث، وهو قول عبد الله بن أبي بكر بن حزم: فذكرت ذلك لعمرة، فقالت: صدق، سمعت عائشة رضي الله عنها تقول: دَفّ أهل أبيات، من أهل البادية حضرةَ الأضحى، زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ادّخِرُوا ثلاثًا

" الحديث، وهذا مسند، ولا يخفى على من له أُنْسٌ بعلم الرواية أن هذا المسند من هذا الحديث هو الذي احتجّ به مسلم، وقد رواه القعنبيّ عن مالك، عن عبد الله بن أبي بكر، عن عمرة، عن عائشة به، لم يذكر فيه عبد الله بن واقد، وكذلك رواه يحيى القطان عن مالك أيضًا، وأخرجه أبو داود في "سننه" عن القعنبيّ كذلك، وأخرجه النسائيّ أيضًا في "سننه" عن عبيد الله بن سعيد، وهو أبو قُدامة السرخسيّ، عن يحيى، وهو القطان، فيما علمت عن مالك، كذلك.

وأما المرسل الذي في أوله، فإنه متصلٌ في كتاب مسلم من حديث ابن عمر وغيره، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم. انتهى كلام الحافظ العطّار رحمه الله

(2)

.

(1)

"شرح النوويّ" 13/ 131.

(2)

"غرر الفوائد" 1/ 284 - 285.

ص: 443

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي قال العطّار رحمه الله تحقيقٌ نفيسٌ جدًّا، وخلاصته أنه لا عيب على مسلم في إيراده حديث عبد الله بن واقد، وهو مرسل؛ لأنه لم يُرِد الاحتجاج به، وإنما أراد الاحتجاج بالموصول، وهو حديث عمرة، عن عائشة رضي الله عنها، وإنما ساقه حيث سمعه من شيخه كذلك، فأدّاه كما سمعه، وقد تقدّم كلام العطّار هذا في "مقدّمة شرح المقدّمة" وإنما أعدته هنا؛ لطول العهد به، فتنبّه، والله تعالى وليّ التوفيق.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [5/ 5095](1971)، و (البخاريّ) في "الأطعمة"(5423 و 5438) و"الأضاحي"(5570)، و (أبو داود) في "الضحايا"(2812)، و (الترمذيّ) في "الأضاحي"(1511)، و (النسائيّ) في "الضحايا"(7/ 235)، و (ابن ماجه) في "الأضاحي"(2159)، و (مالك) في "الموطّأ"(2/ 484 - 485)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 51)، و (ابن راهويه) في "مسنده"(2/ 444)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 79)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5927)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(4/ 188)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(9/ 293)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(1134)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان جواز الادّخار من الأضاحي، فوق ثلاثة أيام، قال ابن بطال رحمه الله: في الحديث ردٌّ على من زعم من الصوفية أنه لا يجوز ادّخار طعام لغد، وأن اسم الولاية لا يُستحقّ لمن ادّخر شيئًا، ولو قَلّ، وأن من ادّخر أساء الظن بالله، وفي هذه الأحاديث كفاية في الردّ على من زعم ذلك. انتهى

(1)

.

2 -

(ومنها): جواز النَّسخ في الأحكام الشرعيّة.

3 -

(ومنها): ما قاله في "الفتح": في هذه الأحاديث من الفوائد، غير ما تقدم، نَسْخ الأثقل بالأخفّ؛ لأن النهي عن ادّخار لحم الأضحية بعد ثلاث، مما يثقل على المضحِّين، والإذن في الادّخار أخفّ منه، وفيه ردّ على من

(1)

"شرح ابن بطال على البخاريّ" 9/ 488.

ص: 444

يقول: إن النسخ لا يكون إلا بالأثقل للأخف، وعَكَسه ابن العربي زعمًا أن الإذن في الادخار نَسخ بالنهي.

وتُعُقّب بأن الادّخار كان مباحًا بالبراءة الأصلية، فالنهي عنه ليس نسخًا، وعلى تقدير أن يكون نسخًا، ففيه نسخ الكتاب بالسُّنَّة؛ لأن في الكتاب الإذن في أكلها، من غير تقييد؛ لقوله تعالى:{فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا} [الحج: 28].

ويمكن أن يقال: إنه تخصيص، لا نسخ، وهو الأظهر. انتهى ما قاله في "الفتح"

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي استظهره الحافظ من كون هذا النهي ليس بنسخ، وإنما هو من باب التخصيص، هو الحقّ، كما سبق بيانه في كلام القرطبيّ رحمه الله، فتبصّر، والله تعالى أعلم.

4 -

(ومنها): ما قاله القرطبيّ رحمه الله: وفي هذا الحديث أبواب من أصول الفقه، وهو أن الشرع يُراعي المصالح، ويحكم لأجلها، ويسكت عن التعليل، ولَمّا تصفّح العلماء ما وقع في الشريعة من هذا وجدوه كثيرًا، بحيث حصل لهم منه أصل كلّيّ، وهو أن الشارع مهما حكم، فإنما يحكم لمصلحة، ثم قد يجدون في كلام الشارع ما يدلّ عليها، وقد لا يجدون، فيسبُرُون أوصاف المحلّ الذي يحكم فيه الشرع حتى يتبيّن لهم الوصف الذي يمكن أن يعتبره الشرع بالمناسبة، أو لصلاحيته لها، فيقولون: الشرع يحكم بالمصلحة، والمصلحة لا تعدو أوصاف المحلّ، وليس في أوصافه ما يصلح للاعتبار إلا هذا، فتعيّن. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(2)

، وهو بحثٌ نفيسٌ جدًّا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في حكم الأكل من الأضحية: ذهب جمهور العلماء إلى أنه مستحبّ، قال النوويّ رحمه الله: هذا مذهبنا، ومذهب العلماء كافّةً، إلا ما حُكي عن بعض السلف أنه أوجب الأكل منها، وهو قول أبي الطيب بن سلمة من أصحابنا، حكاه عنه الماورديّ؛ لظاهر هذا

(1)

"الفتح" 12/ 585 - 586، كتاب "الأضاحي" رقم (5570).

(2)

"المفهم" 5/ 379.

ص: 445

الحديث في الأمر بالأكل، مع قوله تعالى:{فَكُلُوا مِنْهَا} ، وحَمَل الجمهور هذا الأمر على الندب، أو الإباحة، لا سيّما وقد ورد بعد الحظر، فقد قال جماعة من أصحابنا: إنه في هذه الحالة للإباحة، والجمهور على أنه للوجوب، كما لو ورد ابتداء، وبوجوب الأكل، ولو لُقمة قاله ابن حزم الظاهريّ.

وأما الصدقة منها، فالصحيح عند الشافعيّة، والحنابلة بما يقع عليها الاسم، ويستحبّ أن يتصدّق بمعظمها، ويُهدي الثلث، وللشافعيّ قول إنه يأكل النصف، ويتصدّق بالنصف، وهذا الخلاف في قدر أوفى الكمال في الاستحباب، وأما الإجزاء فتجزيه الصدقة بما يقع عليه الاسم، وذهب بعضهم إلى أنه لا تجب الصدقة بشيء منها، وهو مذهب المالكيّة، قال ابن عبد البرّ: وعلى هذا جماعة العلماء، إلا أنهم يكرهون أن لا يتصدّق منها بشيء. انتهى.

وقالت الحنفيّة: يستحبّ أن يتصدّق بالثلث، ويأكل الثلث، ويدّخر الثلث.

قال وليّ الدين رحمه الله: وأما الادّخار فالأمر به للإباحة بلا شكّ. انتهى.

وقال أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله في قوله: "فكلوا، وادّخروا، وتصدّقوا": هذه أوامر وردت بعد الحظر، فهل تقَدُّمه عليها يُخرجها عن أصلها من الوجوب عند من يراه، أو لا يُخرجها؟ اختلف الأصوليون فيه على قولين. قال: والظاهر من هذه الأوامر هنا إطلاق ما كان ممنوعًا، بدليل اقتران الادّخار مع الأكل، والصدقة، ولا سبيل إلى حمل الادّخار على الوجوب بوجهٍ، فلا يجب الأكل، ولا الصدقة من هذا اللفظ، وجمهور العلماء على أن الأكل من الأضحيّة ليس بواجب، وقد شذّت طائفة، فأوجبت الأكل منها؛ تمسّكًا بظاهر الأمر هنا، وفي قوله تعالى:{فَكُلُوا مِنْهَا} [الحج: 28]، ووقع لمالك في كتاب ابن حبيب أن ذلك على الندب، وأنه إن لم يأكل مخطئ، وقال أيضًا: لو أراد أن يتصدّق بلحم أضحيته كلِّه كان له، كأكله كلّه حتى يفعل الأمرين.

وقال الطبريّ: جميع أئمة الأمصار على جواز أن لا يأكل منها، إن شاء، ويَطعم جميعها، وهو قول محمد بن الموّاز. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(1)

.

(1)

"المفهم" 5/ 379 - 381.

ص: 446

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: مسألة الأمر بعد الحظر، قيل: للإباحة؛ لِتبادُره إلى الذهن، وقيل: للوجوب حقيقةً؛ لأن الصيغة تقتضيه. وقيل: بالتفصيل، فما كان قبل الحظر واجبًا كان للوجوب، كما في قوله تعالى:{فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} الآية [التوبة: 5]، فإنَّه كان واجبًا قبل تلك المدة، فاستمرّ كذلك بعدها، وإلا كان للإباحة، كما في قوله تعالى:{وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} الآية [المائدة: 2]، وهذا القول هو الأرجح عندي

(1)

، وقد اختاره شيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه الله في "المسوّدة"

(2)

، والحافظ ابن كثير رحمه الله في "تفسيره"

(3)

عند قوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2]، وإلى الاختلافات المتقدّمة أشار السيوطيّ رحمه الله في "الكوكب الساطع" بقوله:

فَإنْ أَتَى افْعَلْ بَعْدَ حَظْرٍ دَانِي

قَالَ الإِمَامُ أَوِ الاسْتِئْذَانِ

فَلِلإِبَاحَةِ وَقِيلَ الْحَتْمِ

وَقِيلَ مَا قَدْ كَانَ قَبْلَ الْحِرْمِ

وقد نظمت القول الراجح عندي في "التحفة المرضيّة"، فقلت:

إِنْ وَرَدَ الْحَظْرُ بُعَيْدَ النَّهْي قَدْ

يُفِيدُ مَا كَانَ قُبَيْلُ يُعْتَمَدْ

مِنْ نَدْبٍ اوْ وَجُوبٍ اوْ إِباحَةِ

بِذَا يَقُولُ جِلَّةُ الأَئِمَّةِ

وَهْوَ الَّذِي إِلَيْهِ يَنْحُو السَّلَفُ

حُجَجُهُ كَالشَّمْسِ ظُهْرًا تُعْرَفُ

وقول الطبريّ: "جميع أئمة الأمصار

إلخ" فيه نظر، فقد تقدّم أن ابن حزم قال بالوجوب، وقد نقله عن بعض السلف، فليس هناك إجماع.

والحاصل أن الأرجح استحباب كل: من الأكل، والصدقة، والادّخار؛ لوضوح حجّته، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5096]

(1972) - (حَدَّثنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْر، عَنْ جَابِرٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّهُ نَهَى عَنْ أَكْلِ لُحُومِ الضَّحَايَا بَعْدَ ثَلَاثٍ، ثُمَّ قَالَ بَعْدُ: "كُلُوا، وَتَزَوَّدُوا، وَادَّخِرُوا").

(1)

كنت رجحت في "شرح النسائيّ" القول بأنه للإباحة، لكن الآن ترجّح عندي هذا القول؛ فتنبّه.

(2)

"المسوّدة" 1/ 106.

(3)

"تفسير ابن كثير" 2/ 6 - 7.

ص: 447

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ النيسابوريّ، تقدّم قبل باب.

2 -

(أَبُو الزُّبَيْرِ) محمد بن مسلم بن تَدْرُس، تقدّم قبل بابين.

3 -

(جَابِرُ) بن عبد الله بن عمرو بن حَرَام رضي الله عنهما، تقدّم أيضًا قبل بابين.

و"مالك" ذُكر في السند الماضي.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من رباعيّات المصنّف، وهو (365) من رباعيّات الكتاب، وفيه جابر رضي الله عنه من المكثرين السبعة، روى (1540) حديثًا.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ) محمد بن مسلم بن تَدْرُس المكيِّ (عَنْ جَابِرٍ) رضي الله عنه، في رواية النسائيّ: (عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله أنه أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم

"، فصرّح بإخبار جابر له، فزالت عنه تهمة التدليس. (عَنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّهُ نَهَى عَنْ أكْلِ لُحُومِ الضَّحَايَا بَعْدَ ثَلَاثٍ)؛ أي: بعد ثلاث ليال، فتذكير العدد باعتبار الليالي، وفي الرواية التالية: "كنا لا نأكل من لحوم بُدُننا فوق ثلاث منى، فأرخص لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:"كُلُوا، وتزوّدوا"، وفي رواية:"كنا لا نمسك لحوم الأضاحي فوق ثلاث، فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتزوّد منها، ونأكل" - يعني: فوق ثلاث -. وفي رواية: "كنا نتزوّدها إلى المدينة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ". (ثُمَّ قَالَ) صلى الله عليه وسلم (بَعْدُ) بالبناء على الضمّ؛ لِقَطْعه عن الإضافة، ونيّة معناها؛ أي: بعد ذلك النهي ("كُلُوا) تقدّم أن الأمر فيه للاستحباب عند الجمهور، وأوجبه ابن حزم الظاهري. (وَتَزَوَّدُوا)؛ أي: خذوا منه زادًا في السفر، وهذا لمن أراد أن يسافر، (وَادَّخِرُوا") بالمهملة، وأصله من ذخر بالمعجمة، دخلت عليها تاء الافتعال، ثم أُدغمت، ونظيره قوله تعالى:{وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ} الآية [يوسف: 45].

وفي حديث عائشة رضي الله عنها الماضي: "وكلوا، وادّخروا، وتصدّقوا"، قال السنديّ: قوله: "ثم كلوا" هذا ظاهر في النسخ، والذي يدلّ عليه النظر في أحاديث الباب أن المدار على حاجة الناس، فإن رأى حاجتهم شديدة ينبغي له

ص: 448

أن لا يدّخر فوق ثلاث، وإلا فله ذلك، وعلى هذا فلا نسخ، ولعلّ نهي عليّ رضي الله عنه مبنيّ على ذلك، لا على عدم بلوغ النسخ إليه. انتهى.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث جابر رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [5/ 5096 و 5097 و 5098 و 5099](1972)، و (البخاريّ) في "الحج"(1719) و"الجهاد"(2980) و"الأطعمة"(5424) و"الأضاحي"(5567)، و (النسائيّ) في "الضحايا"(7/ 233)، و (مالك) في "الموطأ"(2/ 484)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1740)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 386 و 388)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(4/ 186)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5925)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(9/ 290 - 291)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(1133)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان الإذن في أكل لحم الأضحيّة، والادخار بعد ثلاث.

2 -

(ومنها): استحباب الادّخار، من لحوم الأضاحيّ.

3 -

(ومنها): جواز الادّخار للقوت، خلافًا لمن كرهه، وقد ورد في الادّخار:"كان يدّخر لأهله قوت سنة"، وفي رواية:"كان لا يدّخر لغد"، والأول في "الصحيحين"، والثاني في "صحيح مسلم"، والجمع بينهما أنه كان لا يدّخر لنفسه، ويدّخر لعياله، أو أن ذلك كان باختلاف الحال، فيتركه عند حاجة الناس إليه، ويفعله عند عدم الحاجة.

4 -

(ومنها): ما قال ابن العربيّ: فيه ردّ على المعتزلة الذين يرون أن النسخ لا يكون إلا بالأخفّ للأثقل، وقد كان أكلها مباحًا، ثم حُرّم، ثم أُبيح، وأيّ هذين أخفّ، أو أثقل، فقد نُسخ أحدهما بالآخَر.

وتعقّبه وليّ الدين، فقال: تحريمها بعد الإباحة ليس نسخًا؛ لأنه رفع للبراءة الأصليّة، ورفع البراءة الأصليّة، ليس بنسخ، على ما تقرّر في الأصول، وإن صحّ ما قاله، فقد وقع النسخ هنا مرّتين، وذلك في مواضع محصورة، لم

ص: 449

يُذكر هذا منها. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5097]

(

) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ (ح) وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أيُّوبَ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، كِلَاهُمَا عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ جَابِرٍ (ح) وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ - وَاللَّفْظُ لَهُ - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، حَدَّثنَا عَطَاءٌ، قَالَ: سَمِعتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ يَقُولُ: كُنَّا لَا نَأْكُلُ مِنْ لُحُومِ بُدْنِنَا فَوْقَ ثَلَاثِ مِنًى، فَأَرْخَصَ لَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:"كُلُوا، وَتَزَوَّدُوا"، قُلْتُ لِعَطَاءٍ: قَالَ جَابِرٌ: حَتَّى جِئْنَا الْمَدِينَةَ؟ قَالَ: نَعَمْ).

رجال هذا الإسناد: تسعة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم قبل بابين.

2 -

(عَليُّ بْنُ مُسْهِرٍ) الكوفيّ، تقدّم قريبًا.

3 -

(يَحْيَى بْنُ أيُّوبَ) المقابريّ البغداديّ، تقدّم ثلاثة أبواب.

4 -

(ابْنُ عُلَيَّةَ) إسماعيل بن إبراهيم، تقدّم أيضًا قبل ثلاثة أبواب.

5 -

(عَطَاءُ) بن أبي رباح أسلم القرشيّ مولاهم، أبو محمد المكيّ، ثقةٌ فقيهٌ فاضلٌ، لكنه كثير الإرسال [3](ت 114)(ع) تقدم في "الإيمان" 83/ 442.

والباقون ذُكروا في الباب.

وقوله: (كُنَّا لَا نَأْكُلُ مِنْ لُحُومِ بُدْنِنَا) بضمّتين، وتُسكّن داله تخفيفًا، جمع بَدَنة بفتحات، ويُجمع أيضًا على بدنات؛ كقصب، وقصبات، قال الفيّوميّ رحمه الله: والبَدَنَةُ قالوا: هي ناقة، أو بقرة، وزاد الأزهريّ: أو بعير ذَكر، قال: ولا تقع البَدَنَةُ على الشاة، وقال بعض الأئمة: البَدَنَةُ هي الإبل خاصّةً، ويدلّ عليه قوله تعالى:{فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} الآية [الحج: 36]، سُمّيت بذلك؛ لِعِظَم بَدَنها، وإنما أُلحقت البقرة بالإبل بالسُّنَّة، وهو قوله صلى الله عليه وسلم:"تجزئ البدنة عن سبعة، والبقرة عن سبعة"، ففرّق الحديث بينهما بالعطف؛ إذ لو كانت البدنة في الوضع تُطلق على البقرة لَمَا ساغ عَطْفها؛ لأن المعطوف غير

(1)

"طرح التثريب في شرح التقريب" 5/ 201.

ص: 450

المعطوف عليه، وفي الحديث ما يدلّ عليه، قال:"اشتركنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحج والعمرة سبعةٌ منّا في بدنة، فقال رجل لجابر: أنشترك في البقرة ما نشترك في الجزور؟ فقال: ما هي إلا من البُدْن"، والمعنى: في الحكم؛ إذ لو كانت البقرة من جنس البدن لَمَا جهلها أهل اللسان، ولفُهِمت عند الإطلاق أيضًا، قالوا: وإذا أطلقت البَدَنَةُ في الفروع، فالمراد البعير ذكرًا كان أو أنثى. انتهى

(1)

.

وقوله: (فَوْقَ ثَلَاثِ مِنًى) بإضافة ثلاث إلى منى.

وقوله: (فَأَرْخَصَ لَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) يقال: رَخّصَ الشرع لنا في كذا ترخيصًا، وأرخص إرخاصًا: إذا يسّره، وسهّله، والترخيص: التسهيل في الأمر، والتيسير، قاله الفيّوميّ

(2)

.

وقوله: (قُلْتُ لِعَطَاءٍ: قَالَ جَابِرٌ: حَتَّى جِئْنَا الْمَدِينَةَ؟) السائل هو ابن جُريج، ففي رواية البخاريّ:"وقال ابن جريج: قلت لعطاء: أقال: حتى جئنا المدينة؟ ".

وقوله: (قَالَ: نَعَم)؛ أي: قال عطاء: نعم قال جابر هذا، هكذا في رواية مسلم بلفظ:"نعم"، ووقع في رواية البخاريّ بلفظ:"قال: لا"، وجَمَع النوويّ بين الاختلافين، فقال: يَحْتَمل أنه نسي في وقت، فقال: لا، وذكر في وقت، فقال: نعم. انتهى

(3)

.

وأما الحافظ فقد رجّح رواية البخاريّ، فقال - بعد ذكر رواية مسلم بلفظ:"نعم" -: كذا وقع عنده بخلاف ما وقع عند البخاريّ: "قال: لا"، والذي وقع عند البخاريّ هو المعتمد، فإن أحمد أخرجه في "مسنده" عن يحيى بن سعيد كذلك، وكذلك أخرجه النسائيّ عن عمرو بن عليّ، عن يحيى بن سعيد، وقد نَبَّهَ على اختلاف البخاريّ ومسلم في هذه اللفظة الحميديّ في "جمعه"، وتبعه عياض، ولم يذكرا ترجيحًا، وأغفل ذلك شُرّاح البخاري أصلًا، فيما وقفت عليه، ثم ليس المراد بقوله:"لا" نفي الحكم، بل مراده أن جابرًا لم يُصَرِّح

(1)

"المصباح المنير" 1/ 39.

(2)

"المصباح المنير" 1/ 223 - 224.

(3)

"شرح النوويّ" 13/ 132.

ص: 451

باستمرار ذلك منهم، حتى قَدِموا، فيكون على هذا معنى قوله في رواية عمرو بن دينار، عن عطاء:"كنا نتزوّد لحوم الهدي إلى المدينة"؛ أي: لِتَوَجُّهِنا إلى المدينة، ولا يلزم من ذلك بقاؤها معهم حتى يصلوا المدينة، والله أعلم.

لكن قد أخرج مسلم من حديث ثوبان رضي الله عنه: "قال: ذبح النبيّ صلى الله عليه وسلم أضحيته، ثم قال لي: يا ثوبان أصلح لحم هذه، فلم أزل أُطعمه منه حتى قدم المدينة". انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: هكذا أورد الحافظ حديث ثوبان، ولم يجمع بينه وبين نفي عطاء المذكور، وهو سهل؛ إذ يُحمَل أن عدم ذِكر جابر له لا يستلزم عدم تزوّدهم إلى المدينة، ويؤيّد ذلك رواية عمرو بن دينار المذكورة، فيكون قوله:"إلى المدينة" بمعنى قول ثوبان: "حتى قَدِمنا المدينة"، فلا تَخَالُف، ولا حاجة إلى تأويل الحافظ المتقدّم، فتأمله بالإمعان، والله تعالى أعلم.

والحديث متّفقٌ عليه.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5098]

(

) - (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا زَكَرِيَّاءُ بْنُ عَدِيٍّ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَبِي أُنيْسَةَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ الله، قَالَ: كُنَّا لَا نُمْسِكُ لُحُومَ الأَضَاحِيِّ فَوْقَ ثَلَاثٍ، فَأَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ نتزَوَّدَ مِنْهَا، وَنَأْكُلَ مِنْهَا؛ يَعْني: فَوْقَ ثَلَاثٍ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(زَكَرِيَّاءُ بْنُ عَدِيِّ) بن الصَّلْت التيميّ مولاهم، أبو يحيى الكوفيّ، نزيل بغداد، أخو يوسف، ثقة حافظ جليلٌ، من كبار [10](ت 11 أو 212)(خ م مد ت س ق) تقدّم في "المقدّمة" 6/ 88.

2 -

(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو) بن أبي الوليد الرَّقّيّ، أبو وهب الأسديّ، ثقةٌ فقيهٌ، ربّما وَهِمَ [8](ت 180) عن ثمانين إلا سنة (ع) تقدّم في "المقدّمة" 6/ 96.

3 -

(زَيْدُ بْنُ أَبِي أُنَيْسَةَ) واسمه زيد الْجَزَريّ، أبو أسامة، أصله من

ص: 452

الكوفة، ثمّ سكن الرُّها، ثقةٌ [6](119)(ع) تقدّم في "المقدّمة" 6/ 96.

والباقون ذُكروا في الباب.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى البحث فيه مستوفًى، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5099]

(

) - (وَحَدَّثنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: كُنَّا نَتَزَوَّدُهَا إِلَى الْمَدِينَةِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(عَمْرُو) بن دينار الأثرم الْجُمَحيّ، أبو محمد المكيّ، تقدّم قريبًا.

والباقون ذُكروا في الباب.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد تقدّم البحث فيه مستوفًى، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5100]

(1973) - حَدَّثنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثنَا عبدُ الأَعْلَى، عَنِ الْجُرَيْرِيِّ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ (ح) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عبدُ الأَعْلَى، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "يَا أَهْلَ الْمَدِينَةِ لَا تَأكُلُوا لُحُومَ

(1)

الأَضَاحِي فَوْقَ ثَلَاثٍ"، وَقَالَ ابْنُ الْمُثنَّى: "ثَلَاثَةِ أيَّام"، فَشَكَوْا إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّ لَهُمْ عِيَالًا، وَحَشَمًا، وَخَدَمًا، فَقَالَ: "كُلُوا، وَأطعمُوا، وَاحْبِسُوا، أَوِ ادَّخِرُوا"، قَالَ ابْنُ الْمُثَنَّى: شَكَّ عبدُ الأَعْلَى).

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(عبدُ الأَعْلَى) بن عبد الأعلى الساميّ، أبو محمد البصريّ، ثقةٌ [8](ت 189)(ع) تقدم في "الطهارة" 5/ 557.

(1)

وفي نسخة: "لَحْمَ".

ص: 453

2 -

(الْجُرَيْرِيُّ) سعيد بن إياس، أبو مسعود البصريّ، ثقةٌ، اختلط قبل موته بثلاث سنين [5](ت 144)(ع) تقدم في "الإيمان" 40/ 266.

3 -

(سَعِيدُ) بن أبي عَروبة مِهْران اليشكريّ، أبو النضر البصريّ، ثقةٌ حافظ، له تصانيف، لكنه كثر التدليس، واختلط، وكان من أثبت الناس في قتادة [6](ت 6 أو 157)(ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 127.

4 -

(قَتَادَةُ) بن دِعامة السَّدُوسيّ، أبو الخطاب البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ يُدلّس، من رؤوس [4](117)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 70.

5 -

(أَبُو نَضْرَةَ) المنذر بن مالك بن قُطعة الْعَبْديّ الْعَوَفيّ البصريّ، ثقةٌ [3](ت 8 أو 109)(خت م 4) تقدم في "المقدمة" 6/ 127.

6 -

(أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ) سعد بن مالك بن سنان رضي الله عنهما، تقدّم قريبًا.

و"شيخه" ذُكر قبله.

[تنبيه]: انتقد بعض الحفّاظ ذِكر قتادة في هذا السند، فقال النوويّ رحمه الله: هكذا وقع في نُسخ بلادنا: "سعيد، عن قتادة، عن أبي نضرة"، وكذا ذكره أبو عليّ الغسانيّ، والقاضي عن نسخة الْجُلُوديّ، والكسائيّ، قالا: وفي نسخة ابن ماهان: "سعيدٌ، عن أبي نضرة"، من غير ذِكر قتادة، وكذا ذَكره أبو مسعود الدمشقيّ في "الأطراف"، وخَلَفٌ الواسطيّ، قال أبو عليّ الغسانيّ: وهذا هو الصواب عندي، والله أعلم. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: هكذا قال الجيّاني: إن الصواب إسقاط قتادة من السند، وأقرّه النوويّ عليه، لكن الذي ذكره الحافظ في "النكت الظراف" تصويب ذكر قتادة، فإنه قال - عند قول الحافظ المزيّ رحمه الله:(م) حديث قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "يا أهل المدينة لا تأكلوا لحوم الأضاحي فوق ثلاث": عن أبي بكر بن أبي شيبة - ومحمد بن المثنّى - كلاهما عن عبد الأعلى، عنه به.

قال الحافظ: هذه رواية أبي بكر وحده، وأما ابن المثنّى، فإنه أدخل بين سعيد وأبي نضرة قتادة، والذي يظهر أن الحديث عند عبد الأعلى عن السعيدين: سعيد بن إياس الْجُرَيريّ، وسعيد بن أبي عروبة، أما الْجُريريّ، فعن

(1)

"شرح النوويّ" 13/ 132، و"تقييد المهمل" للغسّاني 3/ 892.

ص: 454

أبي نضرة بلا واسطة، وهذه رواية أبي بكر بن أبي شيبة عنه، وأما ابن أبي عروبة، فعن قتادة، عن أبي نضرة به.

ويؤيّد ذلك أن المزّيّ لم يذكر في "التهذيب" لسعيد الجريريّ رواية عن قتادة، وجزم أبو العبّاس أحمد بن ثابت الطرقيّ في "الأطراف" أن سعيدًا الراوي هنا عن قتادة هو ابن أبي عروبة. انتهى

(1)

.

فقد تبيّن بما ذُكر أن الحافظ يصوّب ذِكر قتادة في سند محمد بن المثنّى، والظاهر أن هذا هو الحقّ؛ لأن من صوّب إسقاطه يدّعي الغلط على مسلم في ذِكره، والدعوى لا بدّ لها من بيّنة، كما قيل:

وَالدَّعَاوِي إِنْ لَمْ تُقِيمُوا عَلَيْهَا

بَيِّنَاتٍ أَبْنَاؤُهَا أَدْعِيَاءُ

فما لم يأت بحجة تؤيّد تغليطه مسلمًا، لم يُلتفت إليه، والله تعالى أعلم.

[تنبيه آخر]: قال النوويّ رحمه الله: قوله في طريق ابن أبي شيبة، وابن المثنى:"عن أبي نضرة، عن أبي سعيد" هذا خلاف عادة مسلم في الاقتصار، وكان مقتضى عادته حذف أبي سعيد في الطريق الأول، ويقتصر على "أبي نضرة"، ثم يقول (ح) ويتحول، فإن مدار الطريقين على أبي نضرة، والعبارة فيهما "عن أبي سعيد الخدريّ" بلفظ واحد، وكان ينبغي تَرْكه في الأولى. انتهى كلام النوويّ رحمه الله

(2)

، وهو تنكيت مفيدٌ، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ) سعد بن مالك بن سنان الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "يَا أَهْلَ الْمَدِينَةِ لَا تَأكُلُوا لُحُومَ) ووقع في بعض النُّسخ: "لحم" بالإفراد. (الأَضَاحِيِّ) بتشديد الياء، وتُخفّف: جمع أضحيّة، (فَوْقَ ثَلَاثٍ")؛ أي: فوق ثلاث ليال. (وَقَالَ ابْنُ الْمُثَنَّى: "ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ"، فَشَكَوْا) بفتح الشين المعجمة، وتخفيف الكاف المفتوحة، مضارع شَكَى، كدعا يدعو، (إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّ لَهُمْ عِيَالًا) بفتح همزة "أنّ"؛ لوقوعها موقع المفرد، حيث إن المصدر المؤوّل مفعول به لـ"شَكَوْا"، قال في "الخلاصة":

(1)

"النكت الظراف" 3/ 460 - 461.

(2)

"شرح النوويّ" 13/ 132 - 133.

ص: 455

وَهَمْزَ "إِنَّ" افْتَحْ لِسَدِّ مَصْدَرِ

مَسَدَّهَا وَفِي سِوَى ذَاكَ اكْسِرِ

و"الْعِيَال" بكسر العين المهملة، وتخفيف التحتانيّة: هم أهل بيت الإنسان، ومن يمونه الواحد عَيِّلٌ بتشديد الياء، مثل جِيَادٍ وجَيّدٍ، أفاده الفيّوميّ

(1)

.

(وَحَشَمًا) قال النوويّ: قال أهل اللغة: الْحَشَم - بفتح الحاء، والشين - هم اللائذون بالإنسان، يَخْدُمونه، ويقومون بأموره، وقال الجوهريّ: هم خَدَم الرجل، ومَن يَغْضَب له، سُمّوا بذلك لأنهم يغضبون له، والْحِشْمة الغَضَب، ويُطلق على الاستحياء أيضًا، ومنه قولهم: فلان لا يَحتشم؛ أي: لا يستحي، ويقال: حَشَمته، وأحشمته: إذا أغضبته، وإذا أخجلته، فاستحيى الْخَجْلة، وكأن الْحَشَم أعمّ من الْخَدَم، فلهذا جُمِع بينهما في هذا الحديث، وهو مِن باب ذكر الخاصّ بعد العامّ، والله أعلم. انتهى

(2)

.

وقال الفيُّوميّ رحمه الله: "الحَشَمُ": خَدَمُ الرجل، قال ابن السِّكِّيت: هي كلمة في معنى الجمع، ولا واحد لها من لفظها، وفسّرها بعضهم بالعيال، والقرابة، ومَن يَغْضَب له إذا أصابه أمرٌ، وحَشِمَ يَحْشَمُ، من باب تَعِبَ: إذا غَضِب، ويتعدى بالألف، فيقال: أَحْشَمْتُهُ، وبالحركة أيضًا، فيقال: حَشَمْتُهُ حَشْمًا، من باب ضَرَبَ، وحَشِمَ يَحْشَمُ، مثل خَجِلَ يَخْجَلُ وزنًا ومعنًى، ويتعدى بالألف، فيقال: أَحْشَمْتُهُ، واحْتَشَمَ: إذا غَضِبَ، وإذا استحيا أيضًا، والحِشْمَةُ بالكسر: اسم منه، وقال الأصمعيُّ: الحِشْمَةُ: الغضب فقط، وقال الفارابيّ: حَشَمْتُهُ، وأحشمتُهُ بمعنى، وهو أن يجلس إليك، فتؤذيَهُ، وتُغْضِبَهُ. انتهى

(3)

.

قال الجامع: إنما ذكرت كلام الفيّوميّ، وإن كان ذَكَره النوويّ شاملًا له؛ لأن فيه تفصيلًا في الضبط، فيكون كالشرح له، فتنبّه، وبالله تعالى التوفيق.

وقوله: (وَخَدَمًا) بفتحتين من عطف العام على الخاصّ إن قلنا إن الحشم من يغضب له، يقال: خَدَمَهُ يَخْدِمُهُ، ويَخْدُمه، من بابي ضرب، ونصر، خِدْمَة،

(1)

"المصباح المنير" 2/ 438.

(2)

"شرح النوويّ" 13/ 133.

(3)

"المصباح المنير" 1/ 137 - 138.

ص: 456

فهو خادم، غُلامًا كان أو جاريةً، والخَادِمَةُ بالهاء في المؤنث قليل، والجمع: خَدَمٌ، وخُدَّامٌ، وقولهم: فُلانَةٌ خَادِمَةٌ غَدًا، ليس بوصف حقيقيّ، والمعنى ستصير كذلك، كما يقال حائضة غدًا، وأَخْدَمْتُهَا بالألف: أعطيتها خادمًا، وخَدَّمْتُهَا: بالتثقيل للمبالغة والتكثير، واسْتَخْدَمْتُهُ: سألته أن يُخْدِمني، أو جعلته كذلك، قاله الفيّوميّ

(1)

.

(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("كُلُوا، وَأَطْعِمُوا، وَاحْبِسُوا، أَوِ) للشكّ من الراوي (ادَّخِرُوا"، قَالَ) محمد (بْنُ الْمُثَنَّى: شَكَّ عبدُ الأَعلَى)؛ أي: في قوله: "واحبسوا، أو ادّخروا"، والله تعالى أعلم.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [5/ 5100](1973)، و (النسائيّ) في "الضحايا"(7/ 236) و"الكبرى"(3/ 70)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 85)، و (الحاكم) في "المستدرك"(4/ 232)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5928)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(1078)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(5/ 82)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(9/ 292)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): رواية مسلم لحديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه ظاهرة في أنه سمع الترخيص في أكل لحوم الأضاحي من رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه، لكن الذي في "صحيح البخاريّ" وغيره أنه سمعه من أخيه النعمان بن قتادة رضي الله عنه، قال البخاريّ رحمه الله:

(3775)

- حدّثنا عبد الله بن يوسف، حدّثنا الليث، قال: حدّثني يحيى بن سعيد، عن القاسم بن محمد، عن ابن خباب، أن أبا سعيد بن مالك الخدريّ رضي الله عنه قَدِمَ من سفر، فقَدَّم إليه أهله لحمًا من لحوم الأضاحي، فقال:

(1)

"المصباح المنير" 1/ 165.

ص: 457

"ما أنا بآكله حتى أسأل، فانطلق إلى أخيه لأمه

(1)

، وكان بدريًّا قتادة بن النعمان، فسأله، فقال: إنه حَدَث بعدك أَمْرٌ نَقْضٌ لِمَا كانوا يُنهَون عنه، من أكل لحوم الأضحى بعد ثلاثة أيام". انتهى

(2)

.

وساقه الإمام أحمد رحمه الله بأطول من هذا، فقال في "مسنده":

(16259)

- حدّثنا عبد الله، حدّثني أبي، ثنا يعقوب، قال: ثنا أبي، عن محمد بن إسحاق، قال: حدّثني محمد بن عليّ بن حسين بن جعفر، وأبي إسحاقُ بن يسار، عن عبد الله بن خَبّاب مولى بني عديّ بن النجار، عن أبي سعيد الخدريّ، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نهانا عن أن نأكل لحوم نُسُكنا فوق ثلاث، قال: فخرجت في سفر، ثم قَدِمت على أهلي، وذلك بعد الأضحى بأيام، قال: فأتتني صاحبتي بساق، قد جعلت فيه قَديدًا، فقلت لها: أنى لك هذا القديد؟ فقالت: من ضحايانا، قال: فقلت لها: أوَ لَمْ ينهنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أن نأكلها فوق ثلاث؟ قال: فقالت: إنه قد رَخَّصَ للناس بعد ذلك، قال: فلم أصدّقها حتى بعثت إلى أخي قتادة بن النعمان، وكان بدريًّا أسأله عن ذلك، قال: فبعث إليّ أن كل طعامك، فقد صَدَقت، قد أرخص رسول الله صلى الله عليه وسلم للمسلمين في ذلك. انتهى

(3)

.

فهذا صريح بأن أبا سعيد لم يسمع الترخيص منه صلى الله عليه وسلم، وإنما سمعه من أخيه لأمه قتادة بن النعمان رضي الله عنه.

ويمكن أن يجاب بأنه سمعه منه صلى الله عليه وسلم، ثم نسيه، فتذكّره لمّا أخبره به أخوه، أو سمع أول الحديث منه صلى الله عليه وسلم، وآخره من أخيه، ثم كان يسوقه مساقًا واحدًا، فيكون آخره من مراسيل الصحابة رضي الله عنهم، وهي مقبولة، ولم أر من تعرّض لهذا البحث، والله تعالى أعلم.

(1)

قال في "الفتح"(12/ 578): وأم أبي سعيد، وقتادة المذكور: أنيسة بنت أبي خارجة عمرو بن قيس بن مالك، من بني عديّ بن النجّار، ذكر ذلك ابن سعد. انتهى.

(2)

"صحيح البخاريّ" 4/ 1468.

(3)

"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 4/ 15.

ص: 458

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5101]

(1974) - (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأكْوَع، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ ضَحَّى مِنْكُمْ فَلَا يُصْبِحَنَّ فِي بَيْتِهِ بَعْدَ ثَالِثَةٍ

(1)

شَيْئًا"، فَلَمَّا كَانَ في الْعَامِ الْمُقْبِلِ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ نَفْعَلُ كمَا فَعَلْنَا عَامَ أَوَّلَ؟ فَقَالَ: "لَا، إِنَّ ذَاكَ عَامٌّ كَانَ النَّاسُ فِيهِ بِجَهْدٍ، فَأَرَدْتُ أَنْ يَفْشُوَ فِيهِمْ").

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورِ) بن بَهْرَام الْكَوْسج، أبو يعقوب التميميّ المروزيّ، ثقةٌ ثبتٌ [11](ت 251)(خ م ت س ق) تقدم في "الإيمان" 12/ 156.

2 -

(أَبُو عَاصِمٍ) الضّحّاك النبيل، تقدّم قريبًا.

3 -

(يَزِيدُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ) الأسلميّ، مولى سلمة بن الأكوع المدنيّ، ثقةٌ [4] مات سنة بضع و (140)(ع) تقدم في "الصلاة" 51/ 1140.

4 -

(سَلَمَةُ بْنُ الأكوَعِ) هو: سلمة بن عمرو بن الأكوع الأسلميّ، أبو مسلم، أو أبو إياس، الصحابيّ الشهير، شَهِد بيعة الرضوان، ومات سنة (64)(ع) تقدم في "الإيمان" 44/ 288.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من رباعيّات المصنّف، وهو (366) من رباعيّات الكتاب، وقد وقع عند البخاريّ ثلاثيًّا، حيث رواه عن أبي عاصم، شيخ شيخ مسلم، فتنبّه.

شرح الحديث:

(عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأكْوَعِ) رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ ضَحَّى مِنْكُمْ فَلَا يُصْبِحَنَّ فِي بَيْتِهِ بَعْدَ ثَالِثَة) وفي بعض النُّسخ: "بعد ثلاثة"، وقوله:(شَيْئًا") هكذا في معظم النسخ، بالنصب، ووقع في بعضها، كما أشار إليه في "الهنديّة" بلفظ:"شيءٌ" بالرفع، وهو الظاهر؛ لأنه فاعل لـ"يُصْبِحَنّ" التامّة؛ لأنها بمعنى: لا يدخلنّ في الصباح، ويوجَّه ما وقع في معظم النسخ، بأن يقدّر:

(1)

وفي نسخة: "بعد ثلاثة".

ص: 459

وقد ترك شيئًا؛ أي: فلا يُصبحنّ في بيته بعد ليلة ثالثة، وقد ترك شيئًا من لحم أضحيته، والله تعالى أعلم.

وفي رواية البخاريّ: "فلا يُصبحنّ بعد ثالثة، وبقي في بيته منه شيءٌ"، وهو واضح.

قال في "العمدة": قوله: "فلا يُصبحنّ" من الإصباح: قوله: "بعد ثالثة"؛ أي: ليلة ثالثة من وقت التضحية، وقوله:"وفي بيته" الواو فيه للحال. انتهى

(1)

.

(فَلَمَّا كَانَ فِي الْعَامِ الْمُقْبِلِ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ نَفْعَلُ كَمَا فَعَلْنَا عَامَ أَوَّلَ؟) قال في "الفتح": يُستفاد منه أن النهي كان سنة تسع؛ لِمَا دل عليه الذي قبله

(2)

أن الإذن كان في سنة عشر، قال ابن الْمُنَيِّر: وجه قولهم: هل نفعل كما كنا نفعل؟ مع أن النهي يقتضي الاستمرار؛ لأنهم فَهِمُوا أن ذلك النهي وَرَد على سبب خاصّ، فلما احتَمَل عندهم عموم النهي، أو خصوصه من أجل السبب، سألوا، فأرشدهم إلى أنه خاصّ بذلك العام، من أجل السبب المذكور. انتهى

(3)

.

(فَقَالَ: "لَا)؛ أي: ليس عليكم أن تفعلوا كما فعلتم في العام الماضي من عدم أكلكم من لحوم الأضاحي فوق ثلاث، ثم بيّن سبب قوله:"لا" بقوله: (إِنَّ ذَاكَ) العام الماضي (عَامٌ كَانَ النَّاسُ فِيهِ بِجَهْدٍ) - بفتح الجيم. - أي: مشقة، وفاقة من شدّة القحط، يقال: جَهِد عيشهم؛ أي: نَكِد، واشتدّ، وبلغ غاية المشقة

(4)

.

(1)

"عمدة القاري" 21/ 159.

(2)

أي: الحديث الذي أورده في "الفتح" قبل هذا، وهو ما أخرجه أحمد في "مسنده"، وفيه: "أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قام في حجة الوداع، فقال: إني كنت أمرتكم ألا تأكلوا الأضاحي فوق ثلاثة أيام؛ لِتَتَّسعكم، وإني أُحلّه لكم، فكلوا منه ما شئتم

" الحديث، فقد بيّن فيه وقت الإحلال، وأنه كان في حجة الوداع. انتهى.

(3)

"الفتح" 12/ 579 رقم (5569).

(4)

"عمدة القاري" 21/ 159.

ص: 460

وفي الحديث دلالة على أن تحريم ادّخار لحم الأضاحي كان لعلة، فلما زالت العلة زال التحريم، قال الكرمانيّ: فإن قلت: فهل يجب الأكل من لحمها؛ لظاهر الأمر، وهو قوله:"كلوا"؟.

قلت: ظاهره حقيقة في الوجوب إذا لم تكن قرينة صارفة عنه، وكان ثمة قرينة على أنه لرفع الحرمة؛ أي: للإباحة، ثم إن الأصوليين اختلفوا في الأمر الوارد بعد الحظر: أهو للوجوب، أم للإباحة؟ ولئن سلمنا أنه الوجوب حقيقة، فالإجماع هنا مانع من الحمل عليها. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: دعوى الكرماني الإجماع في المسألة غير صحيحة، فقد قال به ابن حزم، ونقله عن بعض السلف، فأين الإجماع؟ والصحيح في كون الأمر هنا للإباحة هو كونها بعد الحظر، فإن الصحيح من أقوال العلماء أنه بعده يعود إلى ما كان عليه قبلُ، وكان الأكل قبل ذلك مباحًا، فعاد إليه، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

(فَأَرَدْتُ أَنْ يَفْشُوَ فِيهِمْ") قال النوويّ: هكذا هو في جميع نُسخ مسلم: "يفشو" بالفاء، والشين؛ أي: يشيع لحم الأضاحي في الناس، وينتفع به المحتاجون، ووقع في رواية البخاريّ:"يعينوا" بالعين، من الإعانة، قال القاضي عياض رحمه الله في "شرح مسلم": الذي في مسلم أشبه، وقال في "المشارق": كلاهما صحيح، والذي في البخاريّ أوجه، والله أعلم.

ووقع في رواية البخاريّ: "فأردت أن تعينوا فيها"، قال في "الفتح": قوله: "فأردت أن تعينوا فيها" كذا هنا من الإعانة، وفي رواية مسلم، عن محمد بن المثنى، عن أبي عاصم، شيخ البخاري فيه:"فأردت أن تفشوا فيهم"، وللإسماعيليّ، عن أبي يعلى، عن أبي خيثمة، عن أبي عاصم:"فأردت أن تقسموا فيهم، كلوا، وأطعموا، وادخروا"، قال عياض: الضمير في "تعينوا فيها" للمشقة المفهومة من الجهد، أو من الشدة، أو من السَّنَة؛ لأنها سبب الجهد، وفي "أن تفشوا فيهم"؛ أي: في الناس المحتاجين إليها، قال في "المشارق": ورواية البخاريّ أوجه، وقال في "شرح مسلم": ورواية مسلم أشبه.

(1)

"عمدة القاري" 21/ 160.

ص: 461

قال الحافظ: قد عرفت أن مخرج الحديث واحدٌ، ومداره على أبي عاصم، وأنه تارةً قال هذا، وتارةً قال هذا، والمعنى في كل صحيح، فلا وجه للترجيح. انتهى.

وتعقّبه العينيّ في هذا على عادته المستمرّة، ولكنّ من تأمل كلام الحافظ يراه وجيهًا، فكيف يرجح قول أبي عاصم هذا تارة، وهذا تارةً؟ فتأمله بالإنصاف، والله تعالى أعلم.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [5/ 5101](1974)، و (البخاريّ) في "الأضاحي"(5569)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5929)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(5/ 82 - 83)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(9/ 292)، و (الرويانيّ) في "مسنده"(2/ 247)، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5102]

(1975) - (حَدَّثَنِي زُهَيْرٌ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا مَعْنُ بْنُ عِيسَى، حَدَّثنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَن أَبِي الزَّاهِرِيَّة، عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ، عَنْ ثَوْبَانَ، قَالَ: ذَبَحَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ضَحِيَّتَهُ، ثُمَّ فَالَ: (يَا ثَوْبَانُ أَصْلِحْ لَحْمَ هَذِهِ"، فَلَمْ أَزَلْ أُطْعِمُهُ مِنْهَا حَتَّى قَدِمَ الْمَدِينَةَ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(مَعْنُ بْنُ عِيسَى) بن يحيى الأشجعيّ مولاهم، أبو يحيى المدنيّ القزّاز، ثقةٌ ثبتٌ، قال أبو حاتم: هو أثبت أصحاب مالك، من كبار [10](ت 198)(ع) تقدم في "الطهارة" 7/ 563.

2 -

(مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحِ) بن حُدير الْحَضرميّ، أبو عمرو، أو أبو عبد الرحمن الْحِمصيّ، قاضي الأندلس، ثقةٌ له أفراد [7](ت 158)(ز م 4) تقدم في "الطهارة" 6/ 559.

3 -

(أَبُو الزَّاهِرِيَّةِ) حُدير بن كُريب - بالتصغير فيهما - الحمصيّ، صدوقٌ [3] مات على رأس المائة (ز م س ق) تقدم في "الصيد والذبائح" 2/ 4979.

ص: 462

4 -

(جُبَيْرُ بْنُ نُفَيْرٍ) - بالتصغير فيهما - ابن مالك بن عامر الْحَضرميّ الْحِمصيّ، ثقةٌ جليلٌ، مخضرم [2](ت 80) أو بعدها (بخ م 4) تقدم في "الطهارة" 6/ 559.

5 -

(ثَوْبَانُ) بن بُجدد الهاشميّ، مولى النبيّ صلى الله عليه وسلم، صحبه، ولازمه، ونزل بعده الشام، ومات بحِمْصَ سنة (54)(بخ م 4) تقدم في "الحيض" 7/ 722.

وشيخه ذُكر في الباب.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من سُداسيّات المصنّف، وأنه مسلسل بالشاميين من معاوية، وشيخه بغداديّ، ومعن مدنيّ، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ.

شرح الحديث:

(عَنْ ثَوْبَانَ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: ذَبَحَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ضَحِيَّتَهُ) هي شاة، كما سيأتي في التنبيه الآتي، وكان ذلك في حجة الوداع، كما يأتي في الرواية الثالثة (ثُمَّ قالَ: "يَا ثَوْبَانُ أَصْلِحْ) بقطع الهمزة، من الإصلاح رباعيًّا، (لَحْمَ هَذِهِ) الأضحية، (فَلَمْ أَزَلْ أُطْعِمُهُ) بضمّ الهمزة، من الإطعام، (مِنْهَا)؛ أي: من لحم تلك الأضحية، (حَتَّى قَدِمَ الْمَدِينَةَ) قال النوويّ رحمه الله: هذا فيه تصريح بجواز ادّخار لحم الأضحية فوق ثلاث، وجواز التزود منه، وفيه أن الادّخار، والتزود في الأسفار لا يقدح في التوكل، ولا يُخرج صاحبه عن التوكل، وفيه أن الضحيّة مشروعة للمسافر، كما هي مشروعة للمقيم، قال: وهذا مذهبنا، وبه قال جماهير العلماء، وقال النخعيّ، وأبو حنيفة: لا ضَحِيّة على المسافر، ورُوي هذا عن عليّ رضي الله عنه، وقال مالك، وجماعة: لا تُشرع للمسافر بمنى، ومكة. انتهى.

وقال القرطبيّ رحمه الله: حديث ثوبان رضي الله عنه هذا ظاهر أنه صلى الله عليه وسلم ضحَّى في السفر، وعليه، فيكون المسافر مخاطَبًا بالأضحية كما يخاطب بها الحاضر؛ إذ الأصل عموم الخطاب بها، وقد قال:"أُمرت بالأضحى، وهو لكم سُنَّة"؛ وهذا قول كافة العلماء، وخالف في ذلك أبو حنيفة، والنخعيّ، فلم يريا على المسافرين أضحية. وروي ذلك عن عليّ رضي الله عنه. واستثنى مالك من المسافرين الحاج بمنى، فلم ير عليه أضحية. وبه قال النخعيّ، ويروى ذلك عن الخليفتين

ص: 463

أبي بكر، وعمر، وابن عمر رضي الله عنهم، وجماعة من السلف؛ لأنَّ الحاج إنما هو مخاطَب في الأصل بالهدي، فإذا أراد أن يضحِّي جعله هديًا. والناس غير الحاج إنما أمروا بالأضحية ليتشبَّهوا بأهل منى، فيحصل لهم من أجرهم.

وقال الشافعيّ، وأبو ثور: الأضحية واجبة على الحاج بمنى أخذًا بالعموم المتقدِّم، والقول ما قاله الخليفتان رضي الله عنهما؛ إذ قد أُمرنا بالاقتداء بهما، كما بيّناه في الأصول.

قال الجامع عفا الله عنه: والقول ما قال الخليفتان

إلخ فيه نظر لا يخفى، بل القول ما قاله النبيّ صلى الله عليه وسلم، وفَعَله، فإنه ضحّى بمنى، فالواجب الاقتداء به، ويُعتذر عن الخليفتين، ومن قال بقولهما بأنهم لم يعلموا بهذه السُّنَّة، كما عَلِمها ثوبان رضي الله عنه، فلذا قالوا ما قالوا.

والحاصل أن الأضحية مشروعة للمسافر كالمقيم، كما هو مذهب كافّة العلماء، كما عزاه إليه القرطبيّ في كلامه السابق، فتبصّر بالإنصاف، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث ثوبان رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [5/ 5102 و 5103 و 5104 و 5105](1975)، و (أبو داود) في "الأضاحي"(2814)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 277 - 278 و 281)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 79)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5932)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(4/ 185)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(5/ 81 - 82)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(1411)، و (الحاكم) في "المستدرك"(4/ 230)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(9/ 291)، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5103]

(

) - (وَحَدَّثنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ رَافِعٍ، قَالَا: حَدَّثنَا زَيْدُ بْنُ حُبَابٍ (ح) وَحَدَّثنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِي، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، كِلَاهُمَا عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ، بِهَذَا الإسْنَادِ).

ص: 464

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(زيدُ بْنُ حُبَابٍ) أبو الحسين الْعُكليّ، أصله من خراسان، وكان بالكوفة، ورحل في الحديث، فأكثر منه، صدوقٌ يُخطئ في حديث الثوريّ [9](ت 203)(م 4) تقدم في "الطهارة" 6/ 560.

2 -

(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ) تقدّم قبل أربعة أبواب.

والباقون ذُكروا في الباب.

وقوله: (كِلَاهُمَا عَنْ مُعَاوِيةَ بْنِ صَالِحٍ) ضمير التثنية لزيد بن الحباب، وعبد الرحمن بن مهديّ.

[تنبيه]: رواية زيد بن الحباب، عن معاوية بن صالح ساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(22474)

حدّثنا عبد الله، حدّثني أبي، ثنا زيد بن الْحُبَاب، ثنا معاوية بن صالح، حدّثني أبو الزاهريّة، عن جُبير بن نُفير، عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ذَبَحَ رسول الله صلى الله عليه وسلم أضحية له، ثم قال لي:"يا ثوبان أصلح لحم هذه الشاة"، قال: فما زلت أُطعمه منها حتى قَدِم المدينة. انتهى

(1)

.

ورواية عبد الرحمن بن مهديّ، عن معاوية بن صالح ساقها النسائيّ رحمه الله في "الكبرى"، فقال:

(4156)

- أنبأ عمرو بن عليّ، عن ابن مهديّ، قال: حدّثنا معاوية بن صالح، عن أبي الزاهريّة، عن جُبير بن نُفير، عن ثوبان، قال: ذبح رسول الله صلى الله عليه وسلم أضحيته، ثم قال:"يا ثوبان أصلح لحم هذه الشاة"، فكنت أُطعمه منها، حتى قدمنا المدينة أيام منى. انتهى

(2)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5104]

(

) - (وَحَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، أَخْبَرَنَا أَبُو مُسْهِرٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حَمْزَةَ، حَدَّثَنِي الزُّبَيْدِيُّ، عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ، عَنْ أَبِيه، عَنْ ثَوْبَانَ مَوْلَى رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ:

(1)

"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 5/ 281.

(2)

"السنن الكبرى" للنسائيّ 2/ 458.

ص: 465

"أَصْلِحْ هَذَا اللَّحْمَ"، قَالَ: فَأَصْلَحْتُهُ، فَلَمْ يَزَلْ يَأْكُلُ مِنْهُ حَتَّى بَلَغَ الْمَدِينَةَ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(أَبُو مُسْهِرٍ) عبد الأعلى بن مسهر الغسّانيّ الدمشقيّ، ثقةٌ فاضلٌ، من كبار [10](ت 218)(ع) تقدم في "البيوع" 19/ 3942.

2 -

(يَحْيَى بْنُ حَمْزَةَ) بن واقد الْحَضرميّ، أبو عبد الرحمن الدمشقيّ القاضي، ثقةٌ رُمي بالقدر [8](ت 183) على الصحيح، وله ثمانون سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 46/ 294.

3 -

(الزُّبَيْدِيُّ) محمد بن الوليد بن عامر، أبو الْهُذيل الْحِمصيّ القاضي، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار أصحاب الزهريّ [7](ت 6 أو 7 أو 149)(خ م دس ق) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 5/ 1174.

4 -

(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ) الْحَضْرميّ الْحِمْصيّ، ثقةٌ [4](ت 118)(بخ م 4) تقدم في "الجنائز" 25/ 2232.

والباقون ذُكروا في الباب، و"إسحاق بن منصور" هو: الْكَوْسج.

والحديث من أفراد المصنّف رحمه الله، وقد مضى البحث فيه مستوفًى في الحديث الماضي، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5105]

(

) - (وَحَدَّثَنِيهِ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّارِمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُبَارَك، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حَمْزَةَ، بِهَذَا الإسْنَاد، وَلَمْ يَقُلْ: فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ).

رجال هذا الإسناد: ثلاثة:

1 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّارِمِيُّ) تقدّم قبل بابين.

2 -

(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُبَارَكِ) القرشيّ القلانسيّ الصوريّ، نزيل دمشق، ثقةٌ، من كبار [10](215)(ع) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 28/ 1366.

و"يحيى بن حمزة" ذُكر قبله.

[تنبيه]: رواية محمد بن المبارك، عن يحيى بن حمزة ساقها أبو عوانة رحمه الله في "مسنده"، فقال:

ص: 466

(7870)

- حدّثنا عمران بن بكار البرّاد، ويزيد بن عبد الصمد، وأبو زرعة عبد الرحمن بن عمرو، قالوا: ثنا محمد بن المبارك الصوريّ، قال: ثنا يحيى بن حمزة، عن الزُّبَيديّ، عن عبد الرحمن بن جُبير بن نُفير، أنه حدثه، قال: حدّثني أبي، عن ثوبان رضي الله عنه مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قال رسول الله "أصلح هذا اللحم"، قال: فأصلحته، فلم يزل يأكل منه، حتى بلغ المدينة. انتهى

(1)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5106]

(977)

(2)

- (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: عَنْ أَبِي سِنَانٍ، وَقَالَ ابْنُ الْمُثَنَّى: عَنْ ضِرَارِ بْنِ مُرَّةَ، عَنْ مُحَارِبٍ، عَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ

(3)

، عَنْ أَبِيهِ (ح) وَحَدَّثنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ، حَدَّثَنَا ضِرَارُ بْنُ مُرَّةَ أَبُو سِنَانٍ، عَنْ مُحَارِبِ بْنِ دِثَارٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارةِ الْقُبُور، فَزُورُوهَا، وَنَهَيْتُكُمْ عَنْ لُحُومِ الأَضَاحِيِّ فَوْقَ ثَلَاثٍ، فَأمْسِكُوا مَا بَدَا لَكُمْ، وَنَهَيْتُكُمْ عَنِ النَّبِيذِ إِلَّا فِي سِقَاءٍ، فَاشْرَبُوا فِي الأَسْقِيَةِ كُلِّهَا، وَلَا تَشْرَبُوا مُسْكِرًا").

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ) تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

2 -

(مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلِ) بن غَزْوان الضبيّ مولاهم، أبو عبد الرحمن الكوفيّ، ثقة، رُمي بالتشيّع [9](ت 195)(ع) تقدم في "الإيمان" 63/ 358.

3 -

(ضِرَارُ بْنُ مُرَّةَ أَبُو سِنَانٍ) الشيبانيّ الأكبر

(4)

الكوفيّ، ثقةٌ ثبت [6](ت 132)(بخ م مد ت س) تقدم في "الجنائز" 34/ 2260.

(1)

"مسند أبي عوانة" 5/ 81.

(2)

هذا مكرر، تقدّم.

(3)

وفي نسخة: "عن عبد الله بن بُريدة".

(4)

وأما الأصغر، فهو أبو سنان الشيبانيّ سعيد بن سنان الْبُرْجُميّ الكوفيّ، نزيل الريّ، صدوق له أوهام من السادسة، هكذا قال في "التقريب"، وطبقته محل نظر، فليتأمل، والله أعلم.

ص: 467

4 -

(مُحَارِبُ بْنُ دِثَارٍ) السَّدُوسيّ الكوفيّ القاضي، ثقةٌ إمامٌ زاهدٌ [4](ت 116)(ع) تقدم في "الصلاة" 40/ 1069.

5 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ بُرَيْدَةَ) بن الْحُصيب الأسلميّ، تقدّم قريبًا.

6 -

(أَبُوهُ) بُريدة بن الْحُصَيب الأسلميّ، أبو عبد الله الصحابيّ الشهير، أسلم قبل بدر، ومات سنة (63)(ع) تقدم في "الإيمان" 100/ 533.

والباقيان ذُكرا في الباب وقبله.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الحديث تقدّم في كتاب الجنائز" [34/ 2260](977) وتقدّم شرحه، وبيان مسائله، وهو من أفراد المصنّف، فراجعه هناك تستفد علمًا جمًّا، وبالله تعالى التوفيق.

وقال النوويّ رحمه الله: هذا الحديث مما صُرِّح فيه بالناسخ والمنسوخ جميعًا، قال العلماء: يُعرَف نَسخ الحديث تارةً بنصٍّ كهذا، وتارةً بإخبار الصحابيّ، ككان آخر الأمرين من رسول صلى الله عليه وسلم تركَ الوضوء مما مست النار، وتارةً بالتاريخ إذا تعذر الجمع، وتارةً بالإجماع، كترك قتل شارب الخمر في المرة الرابعة

(1)

، والإجماعُ لا يَنسخ، لكن يدلّ على وجود ناسخ، أما زيارة القبور فسبق بيانها في "كتاب الجنائز"، وأما الانتباذ في الأسقية، فسبق شرحه في "كتاب الإيمان"، وسنعيده قريبًا في "كتاب الأشربة" - إن شاء الله تعالى - ونذكر هناك اختلاف ألفاظ هذا الحديث، وتأويل المؤوَّل منها، وأما لحوم الأضاحي فذكرنا حُكمها، والله أعلم. انتهى

(2)

.

وبالسند - المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5107]

(

) - (وَحَدَّثَني حَجَّاجُ بْنُ الشاعِر، حَدَّثنَا الضحَّاكُ بْنُ مَخْلَدٍ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ مَرْثَدٍ، عَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيه، أَن رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "كُنْتُ نَهَيْتكُمْ"، فَذَكَرَ بِمَعْنَى حَدِيثِ أَبِي سِنَانٍ).

(1)

دعواه الإجماع على ترك شارب الخمر في المرّة الرابعة غير صحيحة، فراجع ما كتبته في "شرح النسائيّ" تَرَ حقيقة الأمر، وبالله تعالى التوفيق.

(2)

"شرح النوويّ" 13/ 135.

ص: 468

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(حَجَّاجُ بْنُ الشَّاعِرِ) هو: حجاج بن أبي يعقوب يوسف بن حجاج، تقدّم قريبًا.

1 -

(عَلْقَمَةُ بْنُ مَرْثَدٍ) أبو الحارث الكوفي، ثقة [6](ع) تقدم في الطهارة 25/ 648.

2 -

(ابْنُ بُرَيْدَةَ) هو: سليمان بن بريدة بن الحصيب الأسلميّ المروزيّ قاضيها، ثقةٌ [3](ت 115) وله تسعون سنة (م 4) تقدم في "الطهارة" 25/ 648.

[تنبيه]: كون ابن بُريدة هنا هو سليمان، لا عبد الله هو الصواب، خلاف ما وقع لبعض الشرّاح

(1)

وذلك لأمور:

1 -

(منها): أن مسلمًا صرّح في "الجنائز" بأن رواية علقمة هذه عن سليمان بن بريدة.

2 -

(ومنها): أن البيهقيّ صرّح بذلك في "الكبرى"، كما سيأتي في التنبيه الآتي.

3 -

(ومنها): أن الحافظ المزّي رحمه الله: صرّح في "تحفة الأشراف" به، حيث قال في ترجمة سليمان بن بُريدة، عن أبيه ما نصّه: حديث "كنت نهيتكم عن زيارة القبور

إلخ" أخرجه مسلم في "الجنائز" عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن قبيصة بن عُقبة، وفي "الأضاحيّ" عن حجاج بن الشاعر، عن أبي عاصم الضحّاك بن مَخْلد، كلاهما عن سفيان، عن علقمة بن مَرْثد، عنه - أي: عن سليمان - به، وأعاده في "الأشربة" عن حجاج بقصّة الظروف. انتهى كلام الحافظ المزّيّ رحمه الله

(2)

.

4 -

(ومنها): القاعدة التي ذَكر في "تهذيب التهذيب" وهي أن أربعة إذا أطلقوا ابن بريدة، فهو سليمان، وإذا أطلق غيرهم فهو عبد الله، وعلقمة بن مرثد من هؤلاء الأربعة، وقد نظمت ذلك بقولي:

ابْنُ بُرَيْدَةَ سُلَيْمَانُ كَذَا

أَخُوهُ عَبْدُ اللهِ وَالْفَرْقَ خُذَا

عَلْقَمَةُ بْنُ مَرْثَدٍ إِنْ أَبْهَمَا

وَأَعْمَشٌ مُحَارِبٌ فَلْتَعْلَمَا

(1)

هو: الشيخ الهرري، فقال: هو: عبد الله بن بريدة، وهو غلط بلا شكّ.

(2)

"تحفة الأشراف" 2/ 84.

ص: 469

مُحَمَّدٌ نَجْلُ جُحَادَةَ كَذَا

فَهْوَ سُلَيْمَانُ وَنِعْمَ الْمُحْتَذَى

وَغَيْرُ هَؤُلَاءِ إِنْ أَبْهَمَ قُلْ

إِنَّهُ عَبْدُ اللهِ تَؤءَمُ الرَّجُلْ

أَفَادَهُ الْحَافِظُ فِي "التَّهْذِيبِ"

حَمْدًا لِمَن أَعَانَ فِي التَّقْرِيبِ

(1)

والباقون ذُكروا في الباب وقبله، فالضحّاك بن مخلد هو أبو عاصم المذكور قبل خمسة أحاديث، وسفيان هو الثوريّ.

وقوله: (فَذَكَرَ بِمَعْنَى حَدِيثِ أَبِي سِنَانٍ) فاعل "ذَكَرَ" ضمير سفيان الثوريّ، فتكون المتابعة ناقصة؛ لأنه تابعه في شيخ شيخه، فتنبّه.

[تنبيه]: رواية سفيان الثوريّ، عن علقمة بن مَرْثَدٍ، عن سليمان بن بُريدة ساقها البيهقيّ رحمه الله في "الكبرى"، فقال:

(17263)

- أخبرنا محمد بن عبد الله الحافظ، أنبأ أبو الحسن بن عبدوس، ثنا عثمان بن سعيد الداريّ، ثنا محمد بن كثير، أنبأ سفيان (ح) قال: وأنبأ أبو الفضل بن إبراهيم، ثنا أحمد بن سلمة، ثنا محمد بن بشار، ثنا أبو عاصم، ثنا سفيان، عن علقمة بن مَرْثَد، عن سليمان بن بُريدة، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فقد أُذن لمحمد في زيارة قبر أمه، فزوروها، فإنها تذكّر الآخرة، وكنت نهيتكم عن لحوم الأضاحيّ فوق ثلاث، ليتسع ذو الطَّوْل على من لا طَوْل له، فكلوا ما بدا لكم، وأطعموا، وادَّخِرُوا، ونهيتكم عن الظروف، وإن الظروف لا تُحَرِّم شيئًا، ولا تُحَلّله، وكل مسكر حرام".

لفظ حديث أبي عاصم، رواه مسلم في "الصحيح" عن حجاج بن الشاعر، عن أبي عاصم. انتهى

(2)

.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(1)

"الفوائد السميّة في قواعد وضوابط علميّة" ص 54.

(2)

"سنن البيهقيّ الكبرى" 8/ 311.

ص: 470

(6) - (بَابُ الْفَرَعِ، وَالْعَتِيرَةِ)

(اعلم): أن الْفَرَع، والْفَرَعَةُ - بفتح الراء -: أولُ نِتَاج الإبل والغنم، وكان أهل الجاهليّة يذبحون لآلهتهم يتبرّكون بذلك، فنُهي عنه المسلمون، وجمعُ الفرَع فَرُعُ - أي: بضمّتين - أنشد ثعلبٌ [من الرمل]:

كَغَرِيّ

(1)

أَجْسَدَتْ رَأْسَهُ

فَرُعٌ بَيْنَ رِئَاسٍ وَحَامِ

رئاسٌ وحَامٌ: فحلان. وفي الحديث: "لا فَرَعَ، ولا عَتِيرَةَ"، تقول: أفرع القومُ: إذا ذبحوا أوّلَ ولد تُنتَجُهُ

(2)

الناقةُ لآلهتهم، وأفرعوا: نُتِجُوا. والفرَعُ والْفَرَعَةُ: ذِبْحٌ كان يُذبح، إذا بلغت الإبل ما يتمنّاه صاحبها، وجَمْعها فِرَاعٌ. والفرَعُ: بعيرٌ كان يُذبح في الجاهليّة، إذا كان للإنسان مائة بعير، نَحَر منها بَعيرًا كلّ عام، فأطعم الناسَ، ولا يذوقه هو، ولا أهله. وقيل: إنه كان إذا تمّت له إبله مائةً قدّم بَكْرًا، فنحره لصنمه، وهو الفرَعُ، قال الشاعر [من البسيط]:

إِذْ لَا يَزَالُ قَتِيلٌ تَحْتَ رَايَتِنَا

كَمَا تَشَحَّطَ سَقْبُ النَّاسِكِ الْفَرَعُ

وقيل: الْفَرَعُ طعامٌ يُصنَع لنتاج الإبل، كالْخَرْسِ لولادة المرأة، قاله في "اللسان"

(3)

.

و"الْعَتِيرَةُ" - بفتح العين المهملة، وكسر التاء -: هي: الشاة تُذبح عن أهل بيت في رجب، وقال أبو عبيد: العتيرة هي الرجبية، ذبيحة كانوا يذبحونها في الجاهلية في رجب، يتقربون بها لأصنامهم، وقال غيره: العتيرة: نذرٌ كانوا ينذرونه، من بَلَغ ماله كذا أن يذبح من كل عشرة منها رأسًا في رجب، وذكر ابن سِيدَهْ أن العتيرة أن الرجل كان يقول في الجاهلية: إن بلغ إبلي مائة عترت منها عتيرة، زاد في "الصحاح": في رجب، ونقل أبو داود تقييدها بالعشر

(1)

"الْغَرِيّ": صنم كان طُلي رأسه بدم. اهـ. لسان.

(2)

بضمّ أوله، وفتح ثالثه، يقال: نُتجت الناقة بضمّ النون، وكسر المثنّاة: إذا وَلَدَتْ، ولا يُستعمل هذا الفعل إلا هكذا، وإن كان مبنيًّا للفاعل، أفاده في "الفتح".

(3)

"لسان العرب" باختصار 8/ 248 - 249.

ص: 471

الأُوَلِ من رجب، ونقل النوويّ الاتفاق عليه، قال الحافظ: وَفِيهِ نَظَرٌ

(1)

.

وذكر ابن منظور رحمه الله في "اللسان": أن العرب في الجاهليّة كانت إذا طلب أحدهم أمرًا نذر، لئن ظَفِر به ليذبحنّ من غنمه في رجب كذا وكذا، وهي العتائر أيضًا، فإذا ظفِر به، فربّما ضاقت نفسه عن ذلك، وضنّ بغنمه، وهي الرَّبِيض، فيأخذ عددها ظباء، فيذبحها في رجب مكان تلك الغنم، فكأن تلك عتائره. انتهى باختصار.

وقال النوويّ رحمه الله: والفرع أول النتاج، كان ينتج لهم، فيذبحونه، قال أهل اللغة وغيرهم: الفرع - بفاء، ثم راء مفتوحتين، ثم عين مهملة - ويقال فيه: الْفَرَعَةُ - بالهاء - والعتيرة - بعين مهملة مفتوحة، ثم تاء مثناة من فوقُ - قالوا: والعتيرة ذبيحة كانوا يذبحونها في العشر الأُوَل من رجب، ويسمونها الرجبية أيضًا، واتفق العلماء على تفسير العتيرة بهذا.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تقدّم في كلام الحافظ أن دعواه الاتفاق فيه نظر.

قال: وأما الفرع فقد فُسّر هنا بأنه أول النتاج، كانوا يذبحونه، قال الشافعيّ، وأصحابه، وآخرون: هو أول نتاج البهيمة، كانوا يذبحونه، ولا يملكونه؛ رجاءَ البركة في الأمّ، وكثرة نسلها، وهكذا فَسَّره كثيرون من أهل اللغة وغيرهم، وقال كثيرون منهم: هو أول النتاج كانوا يذبحونه لآلهتهم، وهي طواغيتهم، وكذا جاء هذا التفسير في "صحيح البخاريّ" و"سنن أبي داود"، وقيل: هو أول النتاج لمن بلغت إبله مائة يذبحونه، وقال شَمِر: قال أبو مالك: كان الرجل إذا بلغت إبله مائة قَدَّمَ بَكْرًا، فنحره لصنمه، ويسمّونه الفرع. انتهى كلام النوويّ رحمه الله

(2)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5108]

(1976) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى التَّمِيمِيُّ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَمْرٌو النَّاقِدُ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، قَالَ يَحْيَى: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ الآخَرُونَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

(1)

"الفتح" 12/ 416، كتاب "العقيقة" رقم (5474).

(2)

"شرح النوويّ" 13/ 135 - 136.

ص: 472

(ح) وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ عَبْدٌ: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ ابْنُ رَافِعٍ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاق، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنِ ابْنِ الْمُسَيِّب، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا فَرَعَ، وَلَا عَتِيرَةَ"، زَادَ ابْنُ رَافِعٍ فِي رِوَايَتِهِ: وَالْفَرَعُ أَوَّلُ النِّتَاج، كَانَ يُنْتَجُ لَهُمْ، فَيَذْبَحُونَهُ).

رجال هذا الإسناد: اثنا عشر:

1 -

(عَمْرٌو النَّاقِدُ) هو: عمرو بن محمد بن بُكير البغداديّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّب) بن حَزْن بن أبي وهب القرشيّ المخزوميّ، أبو محمد المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ مشهور، من كبار [3](ت 94) وقد ناهز الثمانين (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 71.

3 -

(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه، تقدّم قريبًا.

والباقون ذُكروا في الباب الماضي.

[تنبيه]: من لطائف هدا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف بالنسبة لِمَا قبل التحويل، ومن سداسيّاته بالنسبة لِمَا بعده، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه ابن المسيّب أحد الفقهاء السبعة، وأبو هريرة رضي الله عنه رأس المكثرين السبعة.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا فَرَعَ) - بفتح الفاء، والراء، بعدها مهملة - (وَلَا عَتِيرَةَ") - بفتح العين المهملة، وكسر التاء المثنّاة التحتانيّة - هَكَذَا جَاءَ في "الصحيحين" بِلَفْظِ النَّفْي، وَالْمُرَاد بِهِ النَّهْي، وقد جاء بِصِيغَةِ النَّهْي فِي رِوَايَة النسائيّ:"نَهَى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم عن الفَرَع والعتيرة"، لكن في سندها سفيان بن حسين، وهو ضعيف في الزهريّ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَة لِأَحْمَد:"لَا فَرَع، وَلَا عَتِيرَة فِي الْإِسْلَام".

(زَادَ ابْنُ رَافِعٍ) هو محمد شيخه الخامس، (فِي رِوَايَتِهِ: وَالْفَرَعُ أَوَّلُ النِّتَاج، كَانَ يُنْتَجُ لَهمْ) - بضم أوله، وفتح ثالثه - يقال: نُتِجت الناقةُ - بضم النون، وكسر المثناة -: إذا وَلَدت، ولا يُستعمل هذا الفعل إلا هكذا، وإن كان مبنيًّا للفاعل. (فَيَذْبَحُونَهُ)؛ أي: لأصنامهم.

ص: 473

وفي رواية البخاريّ من طريق ابن عيينة، عن الزهريّ في آخر الحديث:"قال: والفرَع أوّل نتاج كان يُنْتَجُ لهم، كانوا يذبحونه لطواغيتهم، والعتيرة في رجب". انتهى.

قال في "الفتح": قوله: "قال: والفرع" لم يتعيَّن هذا القائل هنا، ووقع في رواية مسلم من طريق عبد الرزاق، عن معمر التفسيرُ موصولًا بالحديث، ولأبي داود من رواية عبيد الرزاق، عن معمر، عن الزهريّ، عن سعيد بن المسيِّب، قال: "الفرع أول النتاج

" الحديث، جعله موقوفًا على سعيد بن المسيِّب، وقال الخطابيّ: أحسب التفسير فيه من قول الزهريّ، قال الحافظ: قد أخرج أبو قُرّة في "السنن" الحديث عن عبد المجيد بن أبي روّاد

(1)

عن معمر، وصرّح في روايته أن تفسير الفرع والعتيرة من قول الزهريّ، والله أعلم. انتهى

(2)

.

وقوله: "كانوا يذبحونه لطواغيتهم" زاد أبو داود عن بعضهم: "ثم يأكلونه، يُلْقَى جلده على الشجر"، وفيه إشارة إلى علة النهي، واستَنبط الشافعيّ منه الجواز، إذا كان الذبح لله؛ جَمْعًا بينه وبين حديث:"الفرع حقّ"، وهو حديث صحيح، رواه أبو داود، والنسائيّ، وسيأتي تمام البحث فيه في المسألة الثالثة - إن شاء الله تعالى -.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [6/ 5108](1976)، و (البخاريّ) في "العقيقة"(5473 و 5474)، و (أبو داود) في "الأضاحي"(2831 و 2832)، و (الترمذيّ) في "الأضاحي"(1512)، و (النسائيّ) في "الضحايا"(7/ 167) و"الكبرى"(3/ 78)، و (ابن ماجه) في "الذبائح"(3168)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"

(1)

وقع في النسخة: "ابن داود"، والظاهر أنه تصحيف.

(2)

" الفتح" 12/ 414، كتاب "العقيقة" رقم (5474).

ص: 474

(7998)

، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(2298 و 2307)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(8/ 252)، و (الحميديّ) في "مسنده"(2/ 468)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 229 و 239 و 279 و 459 و 495)، و (الدارميّ) في "سننه"(1964)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5890)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(5/ 85 - 86)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(913)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(10/ 282)، و (الدارقطنيّ) في "سننه"(4/ 304)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(9/ 313)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(1129)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في اختلاف أهل العلم في الجمع بين حديث: "لا فرَعَ، ولا عَتِيرة"، وحديث:"الفَرَعُ حقّ":

قال النوويّ رحمه الله ما حاصله: قد صحّ الأمر بالعتيرة، والْفَرَع في غير هذا الحديث، وجاءت به أحاديث منها حديث نُبيشة رضي الله عنه قال:"نادى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إنا كنا نَعْتِر عتيرة في الجاهلية في رجب، قال: اذبحوا لله في أيّ شهر كان، وبَرُّوا لله، وأطعموا، قال: إنا كنا نُفْرع فَرَعًا في الجاهلية، فما تأمرنا؟ فقال: في كل سائمة فَرَعٌ، تغذوه ماشيتك، حتى إذا استَحْمَل ذبحته، فتصدقت بلحمه"، رواه أبو داود وغيره بأسانيد صحيحة، قال ابن المنذر: هو حديث صحيح، قال أبو قلابة أحد رواة هذا الحديث: السائمة مائة.

وروى البيهقيّ بإسناده الصحيح، عن عائشة رضي الله عنهما قالت:"أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفَرَعة من كل خمسين واحدة"، وفي رواية: من كل خمسين شاةً شاةٌ، قال ابن المنذر: حديث عائشة صحيح.

وفي سنن أبي داود عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، قال الراوي: أُراه عن جدّه، قال:"سئل النبيّ صلى الله عليه وسلم عن الْفَرَع، قال: الفرع حقّ، وأن تتركوه حتى يكون بَكْرًا، أو ابن مَخَاض، أو ابن لَبُون، فتعطيه أرملة، أو تَحْمِل عليه في سبيل الله خير من أن تذبحه، فيلزق لحمه بوَبَره، وتَكْفأ إناؤك، وتُولَّه ناقتك"، قال أبو عبيد في تفسير هذا الحديث: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "الفَرَعُ حَقٌّ"، ولكنهم كانوا يذبحونه حين يولد، ولا شبع فيه، ولهذا قال:"تذبحه، فيلزَق لحمه بوَبَره"، وفيه أن ذهاب ولدها يدفع لبنها، ولهذا قال:"خير من أن تكفأ"؛

ص: 475

يعني: إذا فعلت ذلك، فكأنك كفأت إناءك، وأَرَقته، وأشار به إلى ذهاب اللبن، وفيه أنه يَفْجَعها بولدها، ولهذا قال:"وتُوَلِّهَ ناقتك"، فأشار بتركه حتى يكون ابن مخاض، وهو ابن سنة، ثم يذهب، وقد طاب لحمه، واستمتع بلبن أمه، ولا يشُقّ عليها مفارقته؛ لأنه استغنى عنها، هذا كلام أبي عبيد.

ورَوَى البيهقيّ بإسناده عن الحارث بن عَمْرو، قال: أتيت النبيّ صلى الله عليه وسلم بعرفات، أو قال: بمنى، وسأله رجل عن العتيرة، فقال: "مَن شاء عَتَرَ، ومن شاء لم يَعْتِرْ، ومن شاء فَرَّع

(1)

، ومن شاء لم يُفَرِّع"

(2)

.

وعن أبي رَزِين قال: يا رسول الله إنا كنا نذبح في الجاهلية ذبائح في رجب، فنأكل منها، ونطعم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا بأس بذلك".

وعن أبي رَمْلة، عن مِخْنف بن سُليم، قال: كنا وُقُوفًا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفات، فسمعته يقول:"يا أيها الناس إن على أهل كل بيت في كل عام أضحيةً، وعتيرةً، هل تدري ما العتيرة؟ هي التي تسمى الرجبية"، رواه أبو داود، والترمذيّ، والنسائيّ، وغيرهم، قال الترمذيّ: حديث حسن.

وقال الخطابيّ: هذا الحديث ضعيف المخرج؛ لأن أبا رملة مجهول، هذا مختصر ما جاء من الأحاديث في الفرع والعتيرة.

قال الشافعيّ رحمه الله: الفرع شيء كان أهل الجاهلية يطلبون به البركة في أموالهم، فكان أحدهم يذبح بِكْر ناقته، أو شاته، فلا يغذوه رجاء البركة فيما يأتي بعده، فسألوا النبيّ صلى الله عليه وسلم عنه، فقال:"فَرَّعوا إن شئتم"؛ أي: اذبحوا إن شئتم، وكانوا يسألونه عما كانوا يصنعونه في الجاهلية؛ خوفًا أن يُكْرَه في الإسلام، فأعلمهم أنه لا كراهة عليهم فيه، وأمرهم استحبابًا أن يغذوه، ثم يُحْمَل عليه في سبيل الله.

قال الشافعيّ: وقوله صلى الله عليه وسلم: "الفَرَعُ حَقٌّ"؛ معناه: ليس بباطل، وهو كلام عربيّ خرج على جواب السائل، قال: وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا فَرَعَ، ولا عَتِيرة"؛ أي:

(1)

عبارة "القاموس" تقتضي أن فرّع بتشديد الراء، من التفريع، فتنبّه.

(2)

رواه أحمد، والنسائيّ، وهو ضعيف؛ لجهالة بعض رواته، راجع:"شرحي على النسائيّ" جـ 32 ص 392 - 393.

ص: 476

لا فرع واجب، ولا عتيرة واجبة، قال: والحديث الآخر يدلّ على هذا المعنى، فإنه أباح له الذبح، واختار له أن يعطيه أرملة، أو يَحْمِل عليه في سبيل الله، قال: وقوله صلى الله عليه وسلم في العتيرة: "اذبحوا لله في أيِّ شهر كان"؛ أي: اذبحوا إن شئتم، واجعلوا الذبح لله في أيّ شهر كان، لا أنها في رجب دون غيره من الشهور.

قال النووي: والصحيح عند أصحابنا، وهو نصّ الشافعيّ استحباب الفَرَع، والعَتِيرة، وأجابوا عن حديث:"لا فَرَعَ، ولا عَتِيرة" بثلاثة أوجه:

[أحدها]: جواب الشافعيّ السابق، أن المراد نفي الوجوب.

[والثاني]: أن المراد نفي ما كانوا يذبحون لأصنامهم.

[والثالث]: أنهما ليسا كالأضحية في الاستحباب، أو في ثواب إراقة الدم، فأما تفرقة اللحم على المساكين، فَبِرّ، وصدقة، وقد نَصّ الشافعيّ في "سنن حرملة" أنها إن تيسَّرت كلَّ شهر كان حسنًا، هذا تلخيص حُكمها في مذهبنا، وادَّعَى القاضي عياض أن جماهير العلماء على نَسْخ الأمر بالفَرَع، والعتيرة، والله أعلم. انتهى كلام النوويّ رحمه الله

(1)

.

وقال في "الفتح": واستنبط الشافعي منه - أي: من حديث: "لا فَرَع ولا عَتِيرة" - الجوازَ إذا كان الذبح لله؛ جمعًا بينه وبين حديث: "الفَرَعُ حَقٌّ"، وهو حديث أخرجه أبو داود، والنسائيّ، والحاكم، من رواية داود بن قيس، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدّه عبد الله بن عمرو، كذا في رواية الحاكم:"سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الفَرَع، قال: الفَرَع حقّ، وأن تتركه حتى يكون بنت مخاض، أو ابن لبون، فتَحْمِل عليه في سبيل الله، أو تعطيه أرملة خير من أن تذبحه، يلصق لحمه بوبره، وتُوَلِّه ناقتك".

وللحاكم من طريق عمار بن أبي عمار، عن أبي هريرة من قوله:"الفرعة حقّ، ولا تذبحها، وهي تلصق في يدك، ولكن أمْكِنها من اللبن حتى إذا كانت من خيار المال، فاذبحها".

قال الشافعيّ فيما نقله البيهقي من طريق المزنيّ عنه: الفرَع شيء كان

(1)

"شرح النوويّ" 13/ 136 - 137.

ص: 477

أهل الجاهلية يذبحونه، يطلبون به البركة في أموالهم، فكان أحدهم يذبح بِكْر ناقته، أو شاته؛ رجاء البركة فيما يأتي بعده، فسألوا النبيّ صلى الله عليه وسلم عن حُكْمها، فأعلمهم أنه لا كراهة عليهم فيه، وأمرهم استحبابًا أن يتركوه حتى يُحْمَل عليه في سبيل الله. وقوله:"حَقّ"؛ أي: ليس بباطل، وهو كلام خرج على جواب السائل، ولا مخالفة بينه وبين حديثه الآخر:"لا فَرَعَ، ولا عَتِيرة"، فإن معناه: لا فرع واجب، ولا عتيرة واجبة، وقال غيره: معنى قوله: "لا فَرَعَ، ولا عَتِيرة"؛ أي: ليسا في تأكد الاستحباب كالأضحية، والأول أولى.

وقال النوويّ

(1)

: نَصّ الشافعيّ في حرملة على أن الفَرَع والعتيرة مستحبان، ويؤيِّده ما أخرجه أبو داود، والنسائيّ، وابن ماجه، وصححه الحاكم، وابن المنذر، عن نُبيشة - بنون، وموحدة، ومعجمة، مصغرًا - قال: نادى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا كنا نَعْتِر عَتِيرةً في الجاهلية في رجب، فما تأمرنا؟ قال:"اذبحوا لله، في أيّ شهر كان"، قال: إنا كنا نَفْرع في الجاهلية؟ قال: "في كل سائمة فَرَعٌ، تغذوه ماشيتك، حتى إذا استَحْمَل ذبحته، فتصدقت بلحمه، فإن ذلك خير"، وفي رواية أبي داود، عن أبي قلابة: السائمة مائة.

ففي هذا الحديث أنه صلى الله عليه وسلم لم يبطل الفَرَع والعتيرة من أصلهما، وإنما أبطل صفةً من كلّ منهما، فمن الفَرَع كونه يذبح أول ما يولد، ومن الْعَتِيرة خصوص الذبح في شهر رجب.

وأما الحديث الذي أخرجه أصحاب "السنن" من طريق أبي رَمْلة، عن مِخْنف بن سُليم، قال: كنا وقوفًا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم بعرفة، فسمعته يقول:"يا أيها الناس على كل أهل بيت في كل عام أضحيةٌ، وعتيرةٌ، هل تدرون ما العتيرة؟ هي التي يسمونها الرجبية"، فقد ضعّفه الخطابيّ

(2)

لكن حسّنه الترمذيّ.

وجاء من وجه آخر عن عبد الرزاق، عن مِخْنف بن سُليم، ويمكن رَدّه إلى ما حُمِل عليه حديث نُبيشة.

ورَوَى النسائيّ، وصححه الحاكم، من حديث الحارث بن عمرو، أنه

(1)

"المجموع شرح المهذّب" 8/ 428، وشرح مسلم" 13/ 136.

(2)

"معالم السنن" 2/ 195.

ص: 478

لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، فقال رجل: يا رسول الله العتائر، والفرائع، قال:"من شاء عَتَرَ، ومن شاء لم يعتر، ومن شاء فَرَّع، ومن شاء لم يُفَرِّع"، وهذا صريح في عدم الوجوب، لكن لا ينفي الاستحباب، ولا يُثبته، فيؤخذ الاستحباب من حديث آخر.

وقد أخرج أبو داود من حديث أبي العُشَراء، عن أبيه، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم سئل عن العتيرة، فحسَّنها.

وأخرج أبو داود، والنسائيّ، وصححه ابن حبان، من طريق وَكِيع بن عُدُس، عن عمه أبي رَزِين العُقَيليّ قال: قلت: يا رسول الله إنا كنا نذبح ذبائح في رجب، فنأكل، ونطعم من جاءنا؟، فقال:"لا بأس به"، قال وكيع بن عُدُس: فلا أَدَعُه.

وجزم أبو عبيد بأن العتيرة تُستحب، وفي هذا تعقّب على من قال: إن ابن سيرين تفرد بذلك، ونَقَل الطحاويّ عن ابن عون أنه كان يفعله، ومال ابن المنذر إلى هذا، وقال: كانت العرب تفعلهما، وفَعَلهما بعض أهل الإسلام بالإذن، ثم نَهَى عنهما، والنهي لا يكون إلا عن شيء كان يُفْعَلُ، وما قال أحد: إنه نهَى عنهما، ثم أَذِن في فعلهما، ثم نَقَل عن العلماء تَرْكهما إلا ابن سيرين، وكذا ذكر عياض أن الجمهور على النَّسخ، وبه جزم الحازميّ، وما تقدم نَقْله عن الشافعيّ يَرُدّ عليهم.

وقد أخرج أبو داود، والحاكم، والبيهقيّ، واللفظ له، بسند صحيح، عن عائشة رضي الله عنهما:"أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفَرَعَة في كل خمسين واحدة". انتهى ما في "الفتح"

(1)

، وهو بحث نفيسٌ.

وقال العلّامة الشوكانيّ رحمه الله: أحاديث الباب يدلّ بعضها على وجوب العَتيرة والفرَع، وهو حديث مِخنَف، وحديث نُبيشة، وحديث عائشة، وحديث عمرو بن شُعيب، وبعضها يدلّ على مجرّد الجواز من غير وجوب، وهو حديث الحارث بن عمرو، وأبي رَزين، فيكون هذان الحديثان كالقرينة الصارفة للأحاديث المقتضية للوجوب إلى الندب. وقد اختُلف في الجمع بين الأحاديث

(1)

"الفتح" 12/ 414 - 416، كتاب "العقيقة" رقم (5474).

ص: 479

المذكورة، والأحاديث القاضية بالمنع من الفرَع والعَتيرة، فقيل: إنه يُجمع بينها بحمل أحاديث الجواز على الندب، وحمل أحاديث المنع على عدم الوجوب، ذكر ذلك جماعة، منهم: الشافعيّ، والبيهقيّ، وغيرهما، فيكون المراد بقوله:"لا فرَع، ولا عَتِيرة"؛ أي: لا فرَع واجب، ولا عَتِيرة واجبةٌ، وهذا لا بدّ منه، مع عدم العلم بالتاريخ؛ لأن المصير إلى الترجيح مع إمكان الجمع لا يجوز، كما تقرّر في موضعه.

وقد ذهب جماعة من أهل العلم إلى أن أحاديث الجواز منسوخة بأحاديث المنع، وادّعى القاضي عياضٌ أن جماهير العلماء على ذلك، ولكنّه لا يجوز الجزم به إلا بعد ثبوت أنها متأخرة، ولم يثبت.

وقال أيضًا عند شرح حديث: "لا فرَع، ولا عتيرة" ما حاصله: وقد استدلّ بهذا من قال: إن الفرع والعتيرة منسوخان، وقد عرفت أن النَّسخ لا يتمّ إلا بعد معرفة تأخّر تاريخ ما قيل: إنه ناسخٌ، فأعدل الأقوال الجمع بين الأحاديث بما سلف، ولا يعكُر على ذلك رواية النهي؛ لأن معنى النهي الحقيقيّ، وإن كان هو التحريم، لكن إذا وُجدت قرينة أخرجته عن ذلك.

ويمكن أن يُجعل النهي موجّهًا إلى ما كانوا يذبحونه لأصنامهم، فيكون على حقيقته، ويكون غير متناول لِمَا ذُبح من الفرع، والعتيرة لغير ذلك، مما فيه وجه قربة.

وقد قيل: إن المراد بالنفي المذكور نفي مساواتهما للأضحية في الثواب، أو تأكّد الاستحباب. وقد استدلّ الشافعيّ بما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:"اذبحوا لله في أيّ شهر كان" على مشروعيّة الذبح في كلّ شهر إن أمكن، قال في "سنن حرملة": إنها إن تيسّرت كلّ شهر كان حسنًا .. انتهى كلام الشوكانيّ رحمه الله ببعض تصرّف.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي قاله الشوكانيّ رحمه الله تحقيق نفيسٌ جدًّا.

وحاصله أن يُجمع بين حديث: "لا فرع، ولا عَتيرة" وأحاديث الأمر بالفرع والعتيرة، بأن الأمر للندب، والنفي محمول على نفي الوجوب، أو أن النفي محمول على الفَرَع والعتيرة التي كانت على صفة الجاهليّة، مِنْ ذَبْحها

ص: 480

تقرّبًا لآلهتهم، وأما أحاديث الجواز فمحمولة على ما كان لله تعالى، وأما دعوى النسخ، أو الترجيح، فمما لا يُلتفت إليه؛ إذ هما لا يُصار إليهما إلا عند تعذّر الجمع بين النصوص، وأيضًا لا بدّ في النسخ من عِلْم تأخّر المدّعَى أنه ناسخٌ، ولا يوجد هنا.

والحاصل أن القول بمشروعيّة الفَرَع والعتيرة على الوجه المشروع هو الحقّ، وهو أن يكون لله تعالى، لا لأيّ مخلوق كان، من الأصنام وغيرها، كما كان يفعله الجاهليّون الأولون، أو كما يفعله الجاهليّون المعاصرون من ذبحهم لقبور مشايخهم، أو كما يفعله الآخرون من ذبحهم للجن والتقرّب إليهم، فكلّ هذا حرام، والمذبوح به ميتة، وأما ما كان خالصًا لله تعالى، فلا نهي فيه في أيّ شهر كان، وفي أيّ مكان كان، اللهم اهدنا فيمن هديت، وتولّنا فيمن تولّيت، اللهم أرنا الحقّ حقًّا، وارزقنا اتّباعه، وأرنا الباطل باطلًا، وارزقنا اجتنابه، آمين.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(7) - (بَابُ نَهْي مَنْ دَخَلَ عَلَيْهِ عَشْرُ ذِي الْحِجَّة، وَهُوَ مُرِيدُ التَّضْحِيَة، أَنْ يَأْخُذَ مَنْ شَعْرِه، أَو أَظْفَارِهِ شَيْئًا)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5109]

(1977) - (حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ الْمَكِّيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ حُمَيْدِ بْنِ الرّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، سَمِعَ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّب، يُحَدَّثُ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِذَا دَخَلَتِ الْعَشْرُ، وَأَرَادَ أَحَدُكُمْ أَنْ يُضَحِّيَ، فَلَا يَمَسَّ مِنْ شَعَرِه، وَبَشَرِهِ شَيْئًا"، قِيلَ لِسُفْيَانَ: فَإِنَّ بَعْضَهُمْ لَا يَرْفَعُهُ، قَالَ: لَكِنِّي أَرْفَعُهُ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ) الزهريّ المدنيّ، ثقةٌ [6](ت 137)(ع) تقدم في "الحج" 78/ 3298.

ص: 481

2 -

(أُمُّ سَلَمَةَ) هند بنت أبي أميّة حذيفة أو سُهيل بن المغيرة بن عبد الله بن عُمر بن المغيرة بن مخزوم المخزوميّة، أم المؤمنين رضي الله عنهما تزوّجها النبيّ صلى الله عليه وسلم بعد أبي سلمة سنة أربع، وقيل: ثلاث، وعاشت بعد ذلك ستين سنةً، وماتت سنة (62) على الأصحّ (ع) تقدمت في "شرح المقدمة" جـ 2 ص 473.

والباقون ذُكروا في البابين الماضيين، و"ابن أبي عمر" هو: محمد بن يحيى العدنيّ، ثم المكيّ.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف، وأنه مسلسل بالمدنيين من عبد الرحمن، والباقيان مكيّان.

شرح الحديث:

(عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ) رضي الله عنهما (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِذَا دَخَلَتِ الْعَشْرُ)؛ أي: عشر ذي الحجة، (وَأَرَادَ أَحَدُكُمْ أَنْ يُضَحِّيَ) فيه دلالة على عدم وجوب الأضحية، لكونه أسنده إلى إرادته، وقد تقدّم تحقيق القول فيه قريبًا، وفي رواية إسحاق التالية:"إذا دخل العشر، وعنده أضحية، يريد أن يُضحّي"، وفي رواية:"من كان له ذِبْحٌ يذبحه، فإذا أهلّ هلال ذي الحجة، فلا يأخذنّ من شعره، وأظفاره حتى يضحّي". و"الذبح" بكسر الذال: المذبوح، (فَلَا يَمَسَّ)"لا" ناهية، ولذا جُزم الفعل بعدها، والسين المشدّدة يجوز كسرها على أصل التخلّص من التقاء الساكنين، ويجوز فتحها؛ تخفيفًا، هذا على لغة مسَّ يمسّ، من باب تَعِب، وأما على لغة مسّ يَمُسّ، من باب نصر، فيجوز ضمّ السين؛ إتباعًا لضمّ عين الكلمة. (مِنْ شَعَرِهِ) بفتح العين المهملة، وسكونها، (وَبَشَرِهِ) بفتحين: جمع بَشَرة، كقصَبة وقَصَب، والبَشَر: ظاهر الجلد، ثم أُطلق على الإنسان واحده، وجَمْعه، لكن العرب ثَنَّوه، ولم يجمعوه، وفي التنزيل:{فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا} الآية [المؤمنون: 47]

(1)

. (شَيْئًا)؛ أي: قليلًا، أو كثيرًا.

قال النوويّ رحمه الله: قال أصحابنا - يعني: الشافعيّة -: والمراد بالنهي عن

(1)

"المصباح المنير" 1/ 49.

ص: 482

أخْذ الظفر والشعر، النهي عن إزالة الظفر بقَلْم، أو كَسْر، أو غيره، والمنع من إزالة الشعر بحلق، أو تقصير، أو نتف، أو إحراق، أو أخذه بِنُوَرة، أو غير ذلك من شعور بَدَنه، وسواء شعر الإبط، والشارب، والعانة، والرأس، وغير ذلك، من شُعور بدنه. قال إبراهيم المروزي وغيره، من أصحابنا: حكم أجزاء البدن كلها، حكم الشعر والظفر، ودليله ما ثبت في رواية لمسلم:"فلا يَمَسّنّ من شعره وبشره شيئًا".

قالوا: والحكمة في النهي أن يبقى كامل الأجزاء؛ للعتق من النار. وقيل: للتشبّه بالمُحْرِم. قالوا: هذا الوجه الثاني غلط؛ لأنه لا يعتزل النساء، ولا يترك الطيب، واللباس، وغير ذلك، مما يتركه المحرم. انتهى كلام النوويّ

(1)

.

(قِيلَ لِسُفْيَانَ) بن عيينة (فَإنَّ بَعْضَهُمْ لَا يَرْفَعُهُ)؛ أي: يجعله موقوفًا على أم سلمة رضي الله عنهما.

قال صاحب التنبيه: القائل لسفيان، وكذا بعضهم لا أعرفهما. انتهى

(2)

.

(قَالَ) سفيان (لَكِنِّي أَرْفَعُهُ)؛ أي: لأني سمعته مرفوعًا، والله تعالى أعلم.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أم سلمة رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [7/ 5109 و 5110 و 5111 و 5112 و 5113 و 5114 و 5115](1977)، و (أبو داود) في "الضحايا"(2791)، و (الترمذيّ) في "الأضاحي"(1523)، و (النسائيّ) في "الضحايا"(7/ 211 و 212) و"الكبرى"(3/ 51 و 52)، و (ابن ماجه) في "الأضاحي"(3149 و 3150)، و (الحميديّ) في "مسنده"(293)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 289 و 301 و 311)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5897)، و (الطحاويّ) في "معاني الآثار"(4/ 181)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(5/ 59 و 61)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"

(1)

"شرح النوويّ" 13/ 139.

(2)

"تنبيه المعلم" ص 338.

ص: 483

(23/ 563)، و (الحاكم) في "المستدرك"(4/ 225 - 221)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(9/ 266)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(1127)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): مشروعيّة الأضحيّة.

2 -

(ومنها). أنها مستحبّة، وليست بواجبة؛ لقوله:"وأراد أحدكم أن يُضحّي"، فعلّقه بإرادته، والواجب لا يُعلّق بها.

3 -

(ومنها): أن من أراد أن يضحّي، لا يأخذ من شعره، ولا من بشره شيئًا، وهل هو للتحريم، أم للتنزيه؟ يأتي التحقيق في المسألة التالية - إن شاء الله تعالى -.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم فيمن دخل عليه عشر ذي الحجة، وهو مريد التضحية، هل يأخذ من شعره، أو أظفاره، أم لا؟:

قال النوويّ رحمه الله: واختلف العلماء فيمن دخلت عليه عشر ذي الحجة، وأراد أن يضحي، فقال سعيد بن المسيَّب، وربيعة، وأحمد، وإسحاق، وداود، وبعض أصحاب الشافعيّ: إنه يحرم عليه أخذ شيء من شعره، وأظفاره حتى يضحي، في وقت الأضحية.

وقال الشافعيّ، وأصحابه: هو مكروه، كراهةَ تنزيه، وليس بحرام.

وقال أبو حنيفة: لا يكره، وقال مالك في رواية: لا يكره، وفي رواية: يكره، وفي رواية: يحرم في التطوع، دون الواجب.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: القول بعدم الكراهة يردّه حديث الباب. فتنبّه.

قال: واحتج من حرّم بهذه الأحاديث، واحتج الشافعيّ، والآخرون، بحديث عاثشة رضي الله عنهما، قالت:"كنت أفتل قلائد هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم يُقَلِّده، ويبعث به، ولا يُحَرِّم عليه شيء، أحله الله، حتى ينحر هديه"، رواه البخاريّ، ومسلم، قال الشافعيّ: البعث بالهدي أكثر من إرادة التضحية، فدلّ على أنه لا يحرم ذلك، وحمل أحاديث النهي على كراهة التنزيه. انتهى كلام النوويّ رحمه الله

(1)

.

(1)

"شرح النوويّ" 13/ 18.

ص: 484

وقال العلّامة ابن قُدامة رحمه الله - عند قول الْخِرَقيّ: ومن أراد أن يضحي، فدخل العشر، فلا يأخذ من شعره، ولا بشرته شيئًا - ما نصّه: ظاهر هذا تحريم قص الشعر، وهو قول بعض أصحابنا، وحكاه ابن المنذر عن أحمد، وإسحاق، وسعيد بن المسيِّب، وقال القاضي، وجماعة من أصحابنا، هو مكروه، غير محرَّم، وبه قال مالك، والشافعيّ؛ لقول عائشة رضي الله عنهما:"كنت أَفتِل قلائد هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم يقلّدها بيده، ثم يبعث بها، ولا يحرم عليه شيء، أحله الله له، حتى ينحر الهدي"، متفق عليه.

وقال أبو حنيفة: لا يكره ذلك؛ لأنه لا يحرم عليه الوطء، واللباس، فلا يكره له حلق الشعر، وتقليم الأظافر، كما لو لم يُرِد أن يضحي.

قال: ولنا ما روت أم سلمة رضي الله عنهما، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال: "إذا

دخل العشر، وأراد أحدكم أن يُضَحِّي، فلا يأخذ من شعره، ولا من أظفاره شيئًا، حتى يضحي"، رواه مسلم، ومقتضى النهي التحريم، وهذا يردّ القياس ويبطله، وحديثهم عامّ، وهذا خاصّ يجب تقديمه، بتنزيل العامّ على ما عدا ما تناوله الحديث الخاصّ، ولأنه يجب حَمْل حديثهم على غير محل النزاع؛ لوجوه:

[منها]: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم، لم يكن ليفعل ما نَهَى عنه، وإن كان مكروهًا، قال الله تعالى؛ إخبارًا عن شعيب عليه السلام:{وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} الآية [هود: 88]، ولأن أقل أحوال النهي أن يكون مكروهًا، ولم يكن النبيّ صلى الله عليه وسلم ليفعله، فيتعيّن حَمْل ما فعله في حديث عائشة على غيره، ولأن عائشة تعلم ظاهرًا، ما يباشرها به، من المباشرة، أو ما يفعله دائمًا؛ كاللباس، والطيب، فأما ما يفعله نادرًا؛ كقص الشعر، وقَلْم الأظافر، مما لا يفعله في الأيام إلا مرة، فالظاهر أنها لم تُرِدْه بخبرها، وإن احتَمَل إرادتها إياه، فهو احتمال بعيد، وما كان هكذا، فاحتمال تخصيصه قريب، فيكفي فيه أدنى دليل، وخبرنا دليل، فكان أَولى بالتخصيص، ولأن عائشة تُخبر عن فِعله، وأم سلمة عن قوله، والقول يُقَدَّم على الفعل؛ لاحتمال أن يكون فِعْله خاصًّا له، إذا ثبت هذا، فإنه يَترُك قَطْع الشعر، وتقليم الأظافر، فإن فعل استغفر الله تعالى، ولا

ص: 485

فدية فيه إجماعًا، سواء فعله عمدًا، أو نسيانًا. انتهى كلام ابن قُدمة رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي حقّقه ابن قُدامة رحمه الله تحقيقٌ حسنٌ جدًّا.

والحاصل أن أرجح الأقوال هو القول بتحريم الأخذ من الشعر، والأظفار، إذا دخل عَشْر ذي الحجة لمن أراد أن يضحّي، حتّى يضحّي؛ لوضوح دليله، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5110]

(

) - (وَحَدَّثَنَاهُ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّب، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، تَرْفَعُهُ، قَالَ: "إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ، وَعِنْدَهُ أُضْحِيَّةٌ يُرِيدُ أَنْ يُضَحِّيَ، فَلَا يَأْخُذَنَّ شَعْرًا، وَلَا يَقْلِمَنَّ ظُفُرًا").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

وكلّهم ذُكروا قبله، إلا إسحاق بن راهويه، فذُكر قبل باب.

وقوله: (تَرْفَعُهُ) حال من أم سلمة؛ أي: حال كونها ترفع الحديث إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم.

والحديث من أفراد المصنّف، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5111]

(

) - (وَحَدَّثَنِي حَجَّاجُ بْنُ الشَّاعِر، حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ كَثِيرٍ الْعَنْبَرِيُّ أَبُو غَسَّانَ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّب، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِذَا رَأَيْتُمْ هِلَالَ ذِي الْحِجَّة، وَأَرَادَ أَحَدُكُمْ أَنْ يُضَحِّيَ، فَلْيُمْسِكْ عَنْ شَعْرِه، وَأَظْفَارِهِ").

(1)

"المغني" لابن قُدامة رحمه الله 13/ 362 - 363.

ص: 486

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(حَجَّاجُ بْنُ الشَّاعِرِ) تقدّم قبل باب.

2 -

(يَحْيَى بْنُ كَثِيرٍ الْعَنْبَرِيُّ أَبُو غَسَّانَ) البصريّ، ثقةٌ [9]. (ت 206)(ع) تقدم في "الزكاة" 16/ 2332.

3 -

(شُعْبَةُ) بن الحجّاج الإمام المشهور، تقدّم قبل بابين.

4 -

(مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ) إمام دار الهجرة، تقدّم قبل باب.

5 -

(عُمَرُ بْنُ مُسْلِم) بن عُمارة بن أُكيمة الليثيّ الْجندعيّ المدنيّ، وقيل: اسمه عَمْرو، صدوق [6].

رَوَى عن سعيد بن المسيِّب، عن أم سلمة حديث:"من أراد أن يضحي، فدخل العشر، فلا يأخذ من شعره، ولا من أظفاره"، وعنه مالك، وسعيد بن أبي هلال، ومحمد بن عمرو بن علقمة، وعبد الرحمن بن سعد بن عمار المؤذن، وقد قيل: إن الزهريّ روى عنه، والمحفوظ أن الزهري إنما روى عن جدّه.

قال ابن معين: ثقةٌ، وفي رواية: لا بأس به، وأسنند الخطيب في "الموضح" عن ابن معين أنه قيل فيه: عمار، وعمرو، يختلفون فيه، وادَّعَى ابن حبان في "الثقات"، والصحيح أن الذي روى عنه الزهريّ اسمه عمرو بن مسلم بن أكيمة، وأن الذي روى عنه مالك وغيره أخوه عُمَر بن مسلم، قال الحافظ: ولم يوافقه أحد علمته على ذلك

(1)

.

وقال النوويّ رحمه الله: قوله: "عن عمر بن مسلم، عن سعيد بن المسيِّب" كذا رواه مسلم عُمَر بضم العين في كل هذه الطرُق، إلا طريق حسن بن عليّ الحلوانيّ، ففيها عَمْرو بفتح العين، وإلا طريق أحمد بن عبد الله بن الحكم، ففيها عُمَر، أو عَمْرٌو، قال العلماء: الوجهان منقولان في اسمه. انتهى

(2)

.

أخرج له المصنّف، والأربعة، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث، وأعاده بعده.

والباقيان ذُكرا قبله.

(1)

"تهذيب التهذيب" 3/ 305.

(2)

"شرح النوويّ" 13/ 139.

ص: 487

والحديث من أفراد المصنّف، وقد مضى البحث فيه، ولله الحمد.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5112]

(

) - (وَحَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ الْحَكَمِ الْهَاشِمِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ عُمَرَ، أَو عَمْرِو بْنِ مُسْلِمٍ، بِهَذَا الإِسْنَاد، نَحْوَهُ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ الْحَكَمِ الْهَاشِمِيُّ) يُعرف بابن الكرديّ، أبو الحسين البصريّ، ثقةٌ [10](ت 247)(م ت س) تقدم في "صلاة المسافرين وقصرها" 15/ 1678.

2 -

(مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ) غُندر، تقدّم قبل بابين.

والباقون ذُكروا قبله.

[تنبيه]: رواية محمد بن جعفر غُندر، عن شعبة هذه ساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(26696)

- حدّثنا عبد الله

(1)

، حدّثني أبي، ثنا محمد بن جعفر، ثنا شعبة، عن مالك بن أنس، عن عُمَر، أو عمرو بن مسلم، عن سعيد بن المسيِّب، عن أم سلمة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال:"من أراد أن ينحر في هلال ذي الحجة، فلا يأخذ من شعره، وأظفاره". انتهى

(2)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5113]

(

) - (وَحَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ الْعَنْبَرِيُّ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو اللَّيْثِيُّ، عَنْ عُمَرَ بْنِ مُسْلِم بْن عَمَّارِ بْنِ أُكَيْمَةَ

(3)

اللَّيْثِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ يَقُولُ: سَمِعْتُ أُمَّ سَلَمَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم تَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ كَانَ لَهُ ذِبْحٌ يَذْبَحُهُ، فَإِذَا أُهِلَّ هِلَالُ ذِي الْحِجَّة، فَلَا يَأْخُذَنَّ مِنْ شَعْرِه، وَلَا مِنْ أَظْفَارِهِ شَيْئًا، حَتَّى يُضَحَّيَ").

(1)

هو: ولد الإمام أحمد راوي "المسند" عنه، وقائل:"حدّثنا" تلميذه.

(2)

"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 6/ 311.

(3)

"أُكيمة" بضمّ الهمزة، وفتح الكاف، وإسكان الياء، وآخره تاء تُكتب هاء، قاله النوويّ.

ص: 488

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ الْعَنْبَرِيُّ) البصريّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(أَبُوهُ) معاذ بن معاذ العنبريّ البصريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

3 -

(مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو اللَّيْثِيُّ) هو: محمد بن عمرو بن علقمة بن وقّاص المدنيّ، صدوقٌ له أوهامٌ [6](ت 245) على الصحيح تقدم في "الصلاة" 42/ 1085.

والباقون ذُكروا قبله.

وقوله: (مَنْ كَانَ لَهُ ذِبْحٌ) بكسر الذال؛ أي: حيوان يريد ذبحه، فهو فِعْلٌ بمعنى مفعول، كحِمْلٍ بمعنى محمول، ومنه قوله تعالى:{وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107)} [الصافات: 107]

(1)

.

والحديث من أفراد المصنّف رحمه الله، وقد مضى البحث فيه مستوفًى، ولله الحمد.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5114]

(

) - (حَدَّثَنِي الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْحُلْوَانِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مُسْلِمِ بْنِ عَمَّارٍ اللَّيْثِيُّ، قَالَ: كُنَّا فِي الْحَمَّامِ قُبَيْلَ الأَضْحَى، فَاطَّلَى فِيهِ نَاسٌ

(2)

، فَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْحَمَّامٍ: إِنَّ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ يَكْرَهُ هَذَا، أَو يَنْهَى عَنْهُ، فَلَقِيتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّب، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: يَا ابْنَ أَخِي هَذَا حَدِيثٌ قَدْ نُسِيَ، وَتُرِكَ، حَدَّثَتْنِي أُمُّ سَلَمَةَ زَوْجُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، بِمَعْنَى حَدِيثِ مُعَاذٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْحُلْوَانِيُّ) تقدّم قبل باب.

2 -

(أَبُو أُسَامَةَ) حمّاد بن أُسامة بن زيد القرشيّ مولاهم الكوفيّ، تقدّم قريبًا.

والباقون ذُكروا قبله.

وقوله: (كُنَّا فِي الْحَمَّامِ) بتشديد الميم، مذكّر، مشتقّ من الحميم، وقال

(1)

"شرح النوويّ" 13/ 139.

(2)

وفي نسخة: "أناسٌ".

ص: 489

المجد رحمه الله: الْحَمّام، كشدّاد: الدِّيماس

(1)

، مذكّرٌ، جمعه حَمّامات. انتهى

(2)

.

وقال المرتضى في "شرحه": قوله: "والحمّام، كشدّاد: الدِّيماس": إما لأنه يُعْرَق، أو لِمَا فيه من الماء الحارّ، قال ابن سِيدَهْ: مشتقّ من الحميم، وقوله:"مذكر" تُذَكِّره العرب، وهو أحد ما جاء من الأسماء على فَعَّال، نحو الْقَذّاف، والْجَبَّان، وقوله:"جمعه حمّامات" قال سيبويه: جَمَعوه بالألف والتاء، وإن كان مذكرًا حين لم يُكَسِّر، جعلوا ذلك عوضًا عن التكسير، وأنشد ابن بَرّيٍّ لعبيد بن القُرْط الأسديِّ [من الطويل]:

نَهَيْتُهُمَا عَنْ نُورَةٍ أَحْرَقَتْهُمَا

وَحَمَّامِ سَوْءٍ مَاؤُهُ يَتَسَعَّرُ

قال: نقل الشهاب عن ابن الخباز أن الحمام مؤنث، وغلّطوه

(3)

،

وقالوا: التأنيث غير مسموع. انتهى

(4)

.

وقوله: (قُبَيْلَ الأَضْحَى) تصغير قَبْل؛ أي: قبل يوم الأضحى.

وقوله: (فَاطَّلَى فِيهِ نَاسٌ)؛ أي: أزالوا شعر العانة بالنورة، قاله النوويّ، وقال الفيّوميّ رحمه الله: طَلَيتُه بالطين وغيره طَلْيًا، من باب رَمَى، واطّلَيْتُ، على افتعلتُ: إذا فعلتَ ذلك لنفسك، ولا يُذكر معه المفعول. انتهى

(5)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: "واطّلى" يعني بالنُّورة، وهو جائز للرجال والنساء؛ لأنه من باب إصلاح الجسد، وتنظيفه، وإنما اختُلف في كراهته في العَشر لمن أراد أن يضحّي؛ لأنه مما تضمّنه النهي المذكور. انتهى

(6)

.

وقوله: (فَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْحَمَّامِ) لم يُذكر اسمه.

وقوله: (إِنَّ سَعِيدَ بْنَ المُسَيِّبِ يَكْرَهُ هَذَا) قال القرطبيّ: هذا يدلّ على أن مذهب سعيد في كراهة ذلك كان معروفًا، وهل تلك الكراهة بمعنى الحظر، أو بمعنى التنزيه؟ الأظهر منها التنزيه. انتهى

(7)

.

(1)

"الدَّيْمَاسُ" بالفتح، ويُكسر: الْكِنُّ، والسَّرَبُ، والْحَمّام. اهـ. "ق".

(2)

"القاموس المحيط" ص 323.

(3)

بهذا يتبيّن أن ما ذكره في "المصباح" من أن الحمّام مؤنثٌ غلط، فتنبّه.

(4)

"تاج العروس من جواهر القاموس" 1/ 7680.

(5)

"المصباح المنير" 2/ 377.

(6)

"المفهم" 5/ 383.

(7)

"المفهم" 5/ 383.

ص: 490

قال الجامع عفا الله عنه: قوله: "الأظهر التنزيه" فيه نظر، بل ظواهر النصوص تدلّ على التحريم، كما أسلفت تحقيقه، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

وقال النوويّ: وقوله: (إِنَّ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ يَكْرَهُ هَذَا)؛ يعني: أنه يَكْره إزالة الشعر في عشر ذي الحجة لمن يريد التضحية، لا أنه يَكره مجَرّد الاطّلاء، ودليل ما ذكرناه احتجاجه بحديث أم سلمة رضي الله عنهما، وليس فيه ذكر الاطّلاء، إنما فيه النهي عن إزالة الشعر، وقد نَقَل ابن عبد البرّ عن ابن المسيِّب جواز الاطّلاء في العشر بالنورة، فإن صحّ هذا عنه فهو محمول على أنه أفتى به إنسانًا لا يريد التضحية. انتهى

(1)

.

وقوله: (أَو يَنْهَى عَنْهُ)"أو" للشكّ من الراوي.

وقوله: (فَلَقِيتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ) قائل: "فلقيت

إلخ" هو عمرو بن مسلم بن عمّار الليثيّ.

وقوله: (يَا ابْنَ أَخِي) هذا من بماب الإيناس والاحترام؛ لأن عَمْرًا ليس من نسب ابن المسيّب، فتنبّه.

وقوله: (قَدْ نُسِيَ، وَتُرِكَ) بالبناء للمفعول؛ أي: نسيه الناس، وتركوا العمل به.

وقوله: (بِمَعْنَى حَدِيثِ مُعَاذٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو)؛ يعني: أن حديث أبي أسامة عن محمد بن عمرو بمعنى حديث معاذ بن معاذ عنه.

[تنبيه]: رواية أبي أُسامة عن محمد بن عمرو هذه لم أجد من ساقها، لكنّ ابن حبّان ساقها في "صحيحه" من رواية عبدة بن سليمان، عن محمد بن عمرو، فقال:

(5918)

- أخبرنا جعفر بن أحمد بن سنان القطان، قال: حدّثنا محمد بن العلاء بن كُريب، قال: حدّثنا عبدة بن سليمان، عن محمد بن عمرو، قال: حدّثني عُمَر بن مسلم بن عَمّار، قال: كنا في الحمّام قبُيل الأضحى، فإذا أناس قد اطَّلَوا، فقال بعضُ مَن في الحمّام: إن سعيد بن المسيِّب يَكره هذا، وينهى عنه، قال: فلقيت سعيد بن المسيِّب، فذكرت ذلك له، فقال: ابنَ أخي

(1)

"شرح النوويّ" 13/ 140.

ص: 491

إن هذا حديث قد نُسِيَ، حدّثتني أم سلمة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إذا دخل العَشر، وعند أحدكم ذِبْحٌ، يريد أن يذبحه، فليمسك عن شعره، وأظفاره". انتهى

(1)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5115]

(

) - (وَحَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، وَأَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الرّحْمَنِ ابْنُ أَخِي ابْنِ وَهْبٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي حَيْوَةُ، أَخْبَرَنِي خَالِدُ بْنُ بَزِيدَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلَالٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ مُسْلِمٍ الْجُنْدَعِيِّ، أَنَّ ابْنَ الْمُسَيِّبِ أَخْبَرَهُ، أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَخْبَرَتْهُ، وَذَكَرَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِمَعْنَى حَدِيثِهِمْ).

رجال هذا الإسناد: تسعة:

1 -

(حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى) التُّجِيبيّ، تقدّم قبل باب.

2 -

(أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الرّحْمَنِ ابْنُ أَخِي ابْنِ وَهْبٍ) أبو عبيد الله المصريّ، لقبه بَحْشَل، صدوقٌ تغيّر بآخره [11](ت 264)(م) من أفراد المصنّف تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 19/ 1277.

[تنبيه]: قوله: (ابْنُ أَخِي ابْنِ وَهْبٍ) برفع "ابنُ" الأول؛ لأنه صفة لـ"أحمد" بعد صفة بـ "بن" الماضي، وتكتب فيه همزة الوصل، وأما الثاني فمجرور بالإضافة، فتنبّه.

3 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْبٍ) المصريّ، تقدّم قبل باب.

4 -

(حَيْوَةُ) بن شُريح التُّجيبيّ المصريّ، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

5 -

(خَالِدُ بْنُ يَزِيدَ) الْجُمحيّ، أبو عبد الرحيم المصريّ الإسكندرانيّ، تقدّم قريبًا.

6 -

(سَعِيدُ بْنُ أَبِي هِلَالٍ) الليثيّ، أبو العلاء المصريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

والباقون ذُكروا قبله.

وقوله: (الْجُنْدَعِيِّ) وفي الرواية السابقة: "الليثيّ الْجُنْدعيّ"، وهو بضمّ الجيم، وإسكان النون، وبفتح الدال، وضمّها، وجُنْدع بطن من بني ليث، وقد

(1)

"صحيح ابن حبان" 13/ 239.

ص: 492

سبق بيانه أوّل الكتاب

(1)

، فتنبّه.

وقوله: (وَذَكَرَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِمَعْنَى حَدِيثِهِمْ) فاعل "ذَكَر" ضمير سعيد بن أبي هلال؛ يعني: أنه ذكر في حديثه النبيّ صلى الله عليه وسلم، بمعنى أنه رفع الحديث، ولم يوقفه على أم سلمة رضي الله عنهما.

وقوله: (بِمَعْنَى حَدِيثِهِمْ) هكذا النسخ التي بأيدينا بضمير الجمع، وهو يرجع لمالك، ومحمد بن عمرو، مع أنهما اثنان، وهو جائز فصيح، واقع في أفصح الكلام، قال الله تعالى:{وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} بعد قوله: {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ} الآية [الأنبياء: 78].

وأما قول بعض الشرّاح

(2)

: إنه من تحريف النسّاخ فغير مقبول؛ لأمرين: أحدهما أنه لا توجد نسخة على ما قاله، وإنما هو من إصلاحه، فيما تتبّعت من النُّسخ الموجودة عندنا، وثانيًا أن تغليطه مبنيّ على ما ذهب إليه القائلون: إن أقلّ الجمع ثلاثة، وهو وإن كان قول الجمهور، إلا أن استعمال العرب يخالفه، فاستعمالها المثنّى استعمال الجمع فصيح، كما أسلفته، وقد تقدّم له مثل هذا التغليط لنُسخ "صحيح مسلم"، ونبّهت عليه في موضعه، فتنبّه، والله تعالى وليّ التوفيق.

[تنبيه]: رواية سعيد بن أبي هلال، عن عمرو بن مسلم هذه ساقها أبو عوانة رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(7785)

- حدّثنا عيسى بن أحمد، قال: أنبا ابن وهب، أخبرني حَيْوة، أخبرني خالد بن يزيد، عن سعيد بن أبي هلال، عن عُمَر بن مسلم الْجُنْدَعيّ، أن سعيد بن مسيِّب أخبره أن أم سلمة زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم أخبرته، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"من أراد أن يضحي، فلا يُقَلِّم أظفاره، ولا يَحْلِق شيئًا من شعره، في العشر الأُوَل من ذي الحجة". انتهى

(3)

.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(1)

"شرح النوويّ" 13/ 140،

(2)

هو: الشيخ الهرريّ. راجع: "شرحه لصحيح مسلم" 20/ 461.

(3)

"مسند أبي عوانة" 5/ 60.

ص: 493

(8) - (بَابُ تَحْرِيمِ الذَّبْحِ لِغَيْرِ اللهِ تَعَالَى، وَلَعْنِ فَاعِلِهِ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5116]

(1978) - (حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَسُرَيْجُ بْنُ يُونُسَ، كِلَاهُمَا عَنْ مَرْوَانَ، قَالَ زُهَيْرٌ: حَدَّثَنَا مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ الْفَزَارِيُّ، حَدَّثَنَا مَنْصُورُ بْنُ حَيَّانَ، حَدَّثَنَا أَبُو الطُّفَيْلِ عَامِرُ بْنُ وَاِثلَةَ، قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، فَأَتَاهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: مَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُسِرُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: فَغَضِبَ، وَقَالَ: مَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُسِرُّ إِلَيَّ شَيْئًا يَكْتُمُهُ النَّاسَ، غَيْرَ أَنَّهُ قَدْ حَدَّثَنِي بِكَلِمَاتٍ أَرْبَعٍ، قَالَ: فَقَالَ: مَا هُنَّ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ قَالَ: قَالَ: "لَعَنَ اللهُ مَنْ لَعَنَ وَالِدَهُ، وَلَعَنَ اللهُ مَنْ ذَبَحَ لِغَيْرِ الله، وَلَعَنَ اللهُ مَنْ آوَى مُحْدِثًا، وَلَعَنَ اللهُ مَنْ غَيَّرَ مَنَارَ الأَرْضِ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) تقدّم قبل باب.

2 -

(سُرَيْجُ بْنُ يُونُسَ) بن إبراهيم أبو الحارث البغداديّ، مروزيّ الأصل، ثقةٌ عابدٌ رُمي بالقدر [10](ت 235)(خ م س) تقدم في "الإيمان" 25/ 209.

3 -

(مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ الْفَزَارِيُّ) أبو عبد الله الكوفيّ، نزيل مكة، ثم دمشق، ثقةٌ حافظٌ، يدلّس أسماء الشيوخ [8](ت 193)(ع) تقدم في "الإيمان" 8/ 138.

4 -

(مَنْصُورُ بْنُ حَيَّانَ) - بالتحتانيّة - ابن حِصن الأسديّ، والد إسحاق، ثقةٌ [5].

وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا برقم (1978) وأعاده بعده، وحديث (1997):"نهى عن الدبّاء، والحنتم، والمزفّت، والنقير".

5 -

(أَبُو الطُّفَيْلِ عَامِرُ بْنُ وَاثِلَةَ) بن عبد الله بن عَمرو بن جحش الليثيّ، وُلد عام أُحُد، ورأى النبيّ صلى الله عليه وسلم، وروى عن أبي بكر، ومن بعده، وعُمّر إلى أن مات سنة (110) على الصحيح، (ع) تقدم في "صلاة المسافرين" 7/ 1631.

6 -

(عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ) رضي الله عنه تقدّم قبل بابين.

ص: 494

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف، وهو في حكم الرباعيّات؛ لأن فيه رواية صحابيّ، عن صحابيّ، وهما في درجة واحدة، فكأنهما راو واحد، وأنه مسلسلٌ بالتحديث، وأن فيه رواية صحابيّ عن صحابيّ، وفيه أحد الخلفاء الأربعة، والعشرة المبشّرين بالجنّة، وفيه أبو الطفيل، وهو آخر من مات من الصحابة رضي الله عنهم على الإطلاق، قاله مسلم وغيره.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ عَامِرُ بْنُ وَاثِلَةَ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، فَأَتَاهُ رَجُلٌ) لم يُعرف هذا الرجل، وفي الرواية التالية: "قلنا لعليّ بن أبي طالب

"، (فَقَالَ) الرجل (مَا) استفهاميّة؛ أي: أي شيء (كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُسِرُّ إِلَيْكَ؟) بضم حرف المضارعة، من الإسرار، وهو خلاف الجهر؛ أي: يُخفيه عن غيرك، ويخبرك به. (قَالَ) أبو الطفيل (فَغَضِبَ) وفي رواية النسائيّ: "فغضب عليّ حتى احمرّ وجهه"؛ أي: من شدّة غضبه؛ وإنما غضب رضي الله عنه من هذا السؤال؛ لتضمّنه باطلًا، وهو التقوّل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما افترته الشيعة عليه، وأشاعته بين الناس من أنه صلى الله عليه وسلم أسرّ إلى عليّ وأهل بيته أسرارًا ما أسرّها إلى غيرهم، فأغضبه هذا الافتراء. (وَقَالَ: مَا) نافية، (كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُسِرُّ إِلَيَّ شَيْئًا يَكْتُمُهُ النَّاسَ) قال أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله: قول عليّ رضي الله عنه هذا فيه ردّ، وتكذيب للفِرَق الغالية فيه، وهم: الشيعة، والإماميّة، والرافضة، الزاعمون أن النبيّ صلى الله عليه وسلم وصّى لعليّ رضي الله عنه، وولّاه بالنصّ، وأسرّ إليه، دون الناس كلِّهم بعلوم عظيمة، وأمور كثيرة، وهذه كلّها منهم أكاذيب، وتُرّهاتٌ، وتمويهاتٌ، يشهد بفسادها نصوص متبوعهم، وما تقتضيه العادات من انتشار ما تدعو إليه الحاجة العامّة، وغَضَبُ عليّ رضي الله عنه على ذلك دليلٌ على أنه لا يرتضي شيئًا مما قيل هنالك. انتهى

(1)

.

(غَيْرَ) منصوب على الاستثناء، كما قال في "الخلاصة":

(1)

"المفهم" 5/ 244.

ص: 495

وَاسْتَثْنِ نَاصِبًا بِـ "غَيْرٍ" مُعْرَبَا

بِمَا لِمُسْتَثْنًى بِـ "إِلَّا" نُسِبَا

(أَنَّهُ) صلى الله عليه وسلم (قَدْ حَدَّثَنِي بِكَلِمَاتٍ أَرْبَعٍ) وفي رواية النسائيّ: "بأربع كلمات"، زاد في روايته:"وأنا وهو في البيت"، والبيت يَحْتَمِل أن يكون المراد به بيته صلى الله عليه وسلم، ويَحْتَمِل أن يكون بيت عليّ رضي الله عنه، أو بيت الله الحرام، والجملة في محلّ نصب على الحال.

(قَالَ) أبو الطفيل (فَقَالَ) الرجل السائل (مَا) استفهاميّة، (هُنَّ)؛ أي: الأربع الكلمات (يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟) هذا فيه أن هذا السؤال والجواب وقع في خلافة عليّ رضي الله عنه. (قَالَ) عليّ رضي الله عنه (قَالَ)("لَعَنَ اللهُ)؛ أي: أبعده، وطرده من رحمته، يقال: لعنه لعنًا، من باب نفع: إذا طرده، وأبعده، أو سبّه، فهو لعينٌ، أو ملعون. قاله الفيّوميّ

(1)

. (مَنْ لَعَنَ وَالِدَهُ)؛ أي: دعا على والده باللعن، أو سبّه، وفي الرواية التالية:"من لعن والديه" بالتثنية، قال القرطبيّ رحمه الله: وإنما استحقّ لاعن أبويه لعنة الله؛ لمقابلته نعمة الأبوين بالكفران، وانتهائه إلى غاية العقوق والعصيان، كيف لا، وقد قرن الله تعالى برّهما بعبادته، وإن كانا كافرين بتوحيده، وشريعته. انتهى

(2)

.

وقال النوويّ رحمه الله: لعن الوالد، والوالدة، من كبائر الذنوب، وقد سبق ذلك مشروحًا واضحًا في "كتاب الإيمان"، فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق.

هذه هي إحدى الكلمات الأربع، وأما الثانية فأشار إليها بقوله:(وَلَعَنَ اللهُ مَنْ ذَبَحَ لِغَيْرِ اللهِ) قال النوويّ رضي الله عنه: المراد به أن يذبح باسم غير الله تعالى، كمن ذبح للصنم، أو الصليب، أو لموسى، أو لعيسى - صلى الله طيهما - أو للكعبة، ونحو ذلك، فكل هذا حرام، ولا تحلّ هذه الذبيحة، سواء كان الذابح مسلمًا، أو نصرانيًّا، أو يهوديًّا، نصّ عليه الشافعيّ، واتَّفَقَ عليه أصحابنا، فإن قَصَد مع ذلك تعظيم المذبوح له غير الله تعالى، والعبادةَ له كان ذلك كفرًا، فإن كان الذابح مسلمًا قبل ذلك صار بالذبح مرتدًّا، وذكر الشيخ إبراهيم المروزيّ من أصحابنا أن ما يُذبح عند استقبال السلطان تقربًا إليه أفتى أهل

(1)

"المصباح المنير" 2/ 554.

(2)

"المفهم" 5/ 244.

ص: 496

بخارى بتحريمه؛ لأنه مما أُهِلّ به لغير الله تعالى، قال الرافعيّ: هذا إنما يذبحونه استبشارًا بقدومه، فهو كذبح العقيقة لولادة المولود، ومثل هذا لا يوجب التحريم، والله أعلم. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: ما قاله الرافعيّ رحمه الله من أن هذا الذبح مثل العقيقة لا يوجب التحريم، هو الأظهر عندي، فتأمله بالإمعان، والله تعالى أعلم.

وقال أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله: وأما لعن من ذبح لغير الله، فإن كان كافرًا يَذبح للأصنام، فلا خفاء بحاله، وهي التي أُهلّ بها لغير الله، والتي قال الله تعالى فيها:{وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} الآية [الأنعام: 121]، وأما إن كان مسلمًا، فيتناوله عموم هذا اللعن، ثم لا تَحلّ ذبيحته؛ لأنه لم يَقصد بها الإباحة الشرعيّة، وقد تقدّم أنها شرط في الذكاة، ويُتصوَّر ذبح المسلم لغير الله فيما إذا ذبح عابثًا، أو مُجرِّبًا لآلة الذبح، أو اللَّهو، ولم يقصِد الإباحة، وما أشبه ذلك. انتهى

(2)

.

والثالثة ما أشار إليها بقوله: (وَلَعَنَ اللهُ مَنْ آوَى) بالمدّ، ويجوز القصر؛ لأنه يتعدّى، ولا يتعدّى، قاله الطيبيّ رحمه الله

(3)

.

وقوله أيضًا: (وَلَعَنَ اللهُ مَنْ آوَى)؛ أي: ضمّه، ومنعه ممن له عليه حقّ، ونصره، ويقال: أوى بالقصر والمدّ، متعدّيًا، ولازمًا، والقصر في اللازم أكثر، والمدّ في المتعدّي أكثر، قاله القرطبيّ رحمه الله

(4)

.

وبالأكثر جاء القرآن العزيز في الموضعين، قال الله تعالى في اللازم:{أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ} الآية [الكهف: 63]، وقال في المتعدّي:{وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ} الآية [المؤمنون: 50].

(مُحْدِثًا) - بكسر الدال - هو الذي جنى على غيره جناية، وإيواؤه: إجارته من خصمه، والحيلولة بينه وبين ما يحقّ استيفاؤه منه، ويدخل في ذلك الجاني

(1)

"شرح النوويّ" 13/ 141.

(2)

"المفهم" 5/ 244 - 245.

(3)

"الكاشف عن حقائق السنن" 9/ 2805.

(4)

"المفهم" 3/ 487.

ص: 497

على الإسلام بإحداث بدعة، إذا حماه عن التعرّض له، والأخذ على يده؛ لِدَفْع عادِيَته، قاله الطيبيّ رحمه الله

(1)

.

وقوله أيضًا: (مُحْدِثًا) بكسر الدال، اسم فاعل مِنْ أحدث، والمراد: من يأتي بالفساد في الأرض، قاله النوويّ. وقال القرطبيّ: يعني من أحدث ما يخالف الشرع، من بدعة، أو معصية، أو ظلم، كما قال صلى الله عليه وسلم:"من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه، فهو ردّ"، متّفقٌ عليه.

قال النوويّ نقلًا عن القاضي عياض عند قوله في "باب فضل المدينة" من "صحيح مسلم": "من أحدث فيها حدثًا، أو آوى محدثًا" الحديث، ما حاصله: ولم يُرو هذا الحرف إلا "محدثًا" بكسر الدال، ثم قال: وقال الإمام المازريّ: رُوي بوجهين، كسرِ الدال، وفتحها، قال: فمن فتح أراد الإحداث نفسه، ومن كسر أراد فاعل الحدث. انتهى

(2)

.

وقال ابن الأثير رحمه الله: "الحدث": الأمر الحادث المنكَر الذي ليس بمعتاد، ولا معروف في السُّنَّة، و"المحدث": يُروَى بكسر الدال، وفتحها، على الفاعل، والمفعول، فمعنى الكسر: من نصر جانيًا، أو آواه، وأجاره من خصمه، وحال بينه وبين أن يُقتصّ منه، والفتح هو الأمر المبتدَع نفسه، ويكون معنى الإيواء فيه: الرضا به، والصبر عليه، فإذا رَضي بالبدعة، وأقرّ فاعلها، ولم يُنكرها عليه، فقد آواه. انتهى

(3)

.

والرابعة ما أشار إليها بقوله: (وَلَعَنَ اللهُ مَنْ غَيَّرَ مَنَارَ الأَرْضِ) - بفتح الميم -؛ أي: علامات حدودها، قال التوربشتيّ رحمه الله: المنار: الْعَلَم، والحدّ بين الأرضين، وذلك بأن يُسوّيه، أو يغيّره؛ ليستبيح بذلك ما ليس بحق من مُلك، أو طريق. انتهى

(4)

.

وقال ابن الأثير رحمه الله: المنار جمع منارة: وهي العلامة تُجعل بين

(1)

"الكاشف عن حقائق السنن" 9/ 2805.

(2)

"شرح النوويّ" 9/ 143.

(3)

"النهاية" 1/ 351.

(4)

"الكاشف عن حقائق السنن" 9/ 2805.

ص: 498

الحدّين، ومنار الحرَم: أعلامه التي ضربها الخليل عليه السلام على أقطاره، ونواحيه، والميم زائدة. انتهى

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: منار الأرض: هي التُّخُوم، والحدود التي بها تتميّز الأملاك، والمغيّر لها إن أضافها إلى مُلكه، فهو غاصبٌ، وإن لم يُضفها إلى مُلكه، فهو متعدّ، ظالم، مفسدٌ لملك الغير، وقد قال صلى الله عليه وسلم:"من غصب شبرًا من الأرض، طُوّقه يوم القيامة من سبع أرضين". وقد حَمَل أبو عُبيد هذا الحديث على تغيير حدود الحرم، ولا معنى للتخصيص، بل هو عامّ في كلّ الحدود، والتُّخُوم، والله تعالى أعلم. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(2)

، وهو بحث نفيسٌ جدًّا، والله تعالى أعلم.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [8/ 5116 و 5117 و 5118](1978)، و (النسائيّ) في "الضحايا"(7/ 232) و"الكبرى"(3/ 67)، و (البخاريّ) في "الأدب المفرد"(17)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(4/ 449)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 118 و 152)، و (عبد الله بن أحمد) في "زوائد المسند"(1/ 108)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(602)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5896)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(5/ 75 - 76)، و (الطبريّ) في "تهذيب الآثار"(3/ 170) و (البزّار) في "مسنده"(2/ 135)، و (الحاكم) في "مستدركه"(4/ 153)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(6/ 99) و"شعب الإيمان"(6/ 189)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(2788)، والله تعالى أعلم.

(1)

"النهاية" 5/ 127.

(2)

"المفهم" 5/ 245.

ص: 499

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان وعيدِ مَن ذبح لغير الله تعالى، وهو أنه ملعون، ومطرود عن رحمة الله تعالى.

2 -

(ومنها): تحريم إيواء من أحدث في دين الله تعالى.

3 -

(ومنها): تحريم لعن الوالدين.

4 -

(ومنها): تحريم تغيير علامات الأرض، وحدودها التي تعلّق بها حقوق الناس.

5 -

(ومنها): أن هذه الأعمال من الكبائر؛ لأن اللعنة لا تكون إلا في كبيرة، قيل: المراد باللعن هنا: العذاب الذي يستحقّه على ذنبه، والطرد عن الجنة أول الأمر، وليست هي كلعنة الكفّار الذين يُبعَدون من رحمة الله تعالى كلَّ الإبعاد.

6 -

(ومنها): أن فيه إبطالَ ما تزعمه الرافضة، والشيعة، والإماميّة، من الوصيّة إلى عليّ رضي الله عنه، وغير ذلك من افتراءاتهم.

7 -

(ومنها): جواز كتابة العلم، حيث كان لعليّ رضي الله عنه صحيفة كتبها عنه صلى الله عليه وسلم، وهو مُجْمَع عليه الآن، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5117]

(

) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو خَالِدٍ الأَحْمَرُ سُلَيْمَانُ بْنُ حَيَّانَ، عَنْ مَنْصُورِ بْنِ حَيَّانَ، عَنْ أَبِي الطُّفَيْل، قَالَ: قُلْنَا لِعَلِيَّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: أَخْبِرْنَا بِشَيءٍ أَسَرَّهُ إِلَيْكَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: مَا أَسَرَّ إِلَيَّ شَيْئًا كَتَمَهُ النَّاسَ، وَلَكِنِّي سَمِعْتُهُ يَقُولُ: "لَعَنَ اللهُ مَنْ ذَبَحَ لِغَيْرِ الله، وَلَعَنَ اللهُ مَنْ آوَى مُحْدِثًا، وَلَعَنَ اللهُ مَنْ لَعَنَ وَالِدَيْه، وَلَعَنَ اللهُ مَنْ غَيَّرَ الْمَنَارَ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم قبل باب.

2 -

(أَبُو خَالِدٍ الأَحْمَرُ سُلَيْمَانُ بْنُ حَيَّانَ) الأزديّ الكوفيّ، صدوقٌ يخطئ [8](ت 190) أو قبلها، وله بضع و (70) سنة (ع) تقدم في "الإيمان" 5/ 120.

والباقون ذُكروا قبله.

والحديث من أفراد المصنّف، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، ولله الحمد، والمنّة، وله الفضل والنعمة.

ص: 500

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5118]

(

) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَمُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ - وَاللَّفْظُ لِابْنِ الْمُثَنَّى - قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: سَمِعْتُ الْقَاسِمَ بْنَ أَبِي بَزَّةَ، يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي الطُّفَيْل، قَالَ: سُئِلَ عَلِيٌّ: أَخَصَّكُمْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِشَيْءٍ؟ فَقَالَ: مَا خَصَّنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِشَيْءٍ لَمْ يَعُمَّ بِهِ النَّاسَ كَافَّةً، إِلَّا مَا كَانَ فِي قِرَابِ سَيْفِي هَذَا، قَالَ: فَأَخْرَجَ صَحِيفَةً، مَكْتُوبٌ فِيهَا: "لَعَنَ اللهُ مَنْ ذَبَحَ لِغَيْرِ الله، وَلَعَنَ اللهُ مَنْ سَرَقَ مَنَارَ الأَرْض، وَلَعَنَ اللهُ مَنْ لَعَنَ وَالِدَهُ، وَلَعَنَ اللهُ مَنْ آوَى مُحْدِثًا").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ) بُنْدار، تقدّم قريبًا.

2 -

(الْقَاسِمُ بْنُ أَبِي بَزَّةَ) - بفتح الموحّدة، وتشديد الزاي - واسمه نافع، ويقال: يسار، ويقال: نافع بن يسار، أبو عبد الله، ويقال: أبو عاصم المكيّ، مولى بني مخزوم القارئ، قيل: أصله من هَمَذَان، ثقةٌ [5].

رَوَى عن أبي الطفيل، وسعيد بن جبير، وعكرمة، ومجاهد، وسليمان بن قيس، وعطاء الكيخارانيّ، وعطاء الخراسانيّ، وجماعة.

وروى عنه فِطر بن خليفة، وعمرو بن دينار، وابن جريج، وشعبة، ومسعر، وسعيد بن أبي هلال، وحجاج بن أرطاة، وهشام الدستوائيّ، وغيرهم.

قال ابن معين، والعجليّ، والنسائيّ: ثقةٌ، وقال ابن سعدت قال محمد بن عمر: تُوُفّي سنة أربع وعشرين ومائة بمكة، وكان ثقةً قليل الحديث، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: مات سنة أربع عشرة، أو خمس عشرة، وقد قيل: سنة خمس وعشرين ومائة، والأول أصحّ، وجدّه من فارس، أسلم على يد السائب بن صيفيّ، قال: ولم يسمع التفسير من مجاهد أحد غير القاسم، وكل من يروي عن مجاهد التفسير، فإنما أخذه من كتاب القاسم، وذكر البخاري في "الأوسط" عن أحمد بن محمد بن عبد الله بن القاسم بن أبي بَزّة أن جدّه القاسم مات سنة خمس عشرة ومائة.

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا برقم (1978)، وحديث (3023): "هذه آية مكيّة نسختها آية مدنيّة

" الحديث.

ص: 501

والباقون ذُكروا في الباب، والبابين قبله.

وقوله: (لَمْ يَعُمَّ بِهِ النَّاسَ كَافَّةً) قال النوويّ رحمه الله: هكذا تستعمل "كافّةً" حالًا، وأما ما يقع في كثير من كتب المصنفين، من استعمالها مضافة، وبالتعريف، كقولهم: هذا قول كافة العلماء، ومذهب الكافة، فهو خطأ، معدود في لحن العوامّ، وتحريفهم. انتهى

(1)

.

وقال الفيّوميّ رحمه الله: وجاء الناس كَافَّةً، قيل: منصوب على الحال، نصبًا لازمًا، لا يُستعمل إلا كذلك، وعليه قوله تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ} الآية [سبأ: 28]؛ أي: إلا للناس جميعًا، وقال الفراء في "كتاب معاني القرآن": نُصِبت لأنها في مذهب المصدر، ولذلك لم تُدْخِل العرب فيها الألف واللام؛ لأنها آخرٌ لكلامٍ مع معنى المصدر، وهي في مذهب قولك: قاموا معًا، وقاموا جميعًا، فلا يُدخلون الألف واللام على معًا، وجميعًا إذا كانت بمعناها أيضًا، وقال الأزهريّ أيضًا: كَافّةً منصوب على الحال، وهو مصدر على فَاعِلَةٍ، كالعافية، والعاقبة، ولا يُجْمَع، كما لو قلت: قاتلوا المشركين عامّةً، أو خاصّة، لا يُثَنَّى ذلك، ولا يجمع. انتهى

(2)

.

وقوله: (إِلَّا مَا كَانَ فِي قِرَابِ سَيْفِي هَذَا)"القِرَاب" - بكسر القاف، وتخفيف الراء: جَمْعه: قُرُبٌ، وأَقْربةٌ، مثالُ حِمار، وحُمُر، وأَحْمِرة، قال النوويّ: هو وِعَاءٌ من جِلْد، ألطف من الْجِرَاب، يُدْخَل فيه السيفُ بغمده، وما خَفَّ من الآلة. انتهى

(3)

.

وقوله: (وَلَعَنَ اللهُ مَنْ سَرَقَ مَنَارَ الأَرْضِ) هو بمعنى قوله في الرواية السابقة: "من غيّر منار الأرض"، فالسرقة كناية عن التغيير.

والحديث من أفراد المصنّف، وقد مضى تمام شرحه، وبيانه مسائله، ولله الحمد، والمنّة.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88)} .

(1)

"شرح النوويّ" 13/ 142.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 536.

(3)

"شرح النوويّ" 13/ 142.

ص: 502

‌35 - (كِتَابُ الأَشْرِبَةِ)

(اعلم): أن "الأشربة" - بفتح الهمزة، وكسر الراء -: جمع شَرَاب، وهو ما يُشرب من المائعات، وشَرِبته شَرْبًا بالفتح، والاسم: الشُّرْبُ بالضمّ، وقيل: هما لغتان، والفاعل شاربٌ، والجمع شاربون، وشَرْبٌ، مثلُ صاحب وصَحْب، ويجوز شَرَبَةٌ، مثلُ كافر وكَفَرَة. قال السَّرَقُسْطِيّ: ولا يُقال في الطائر: شَرِبَ الماء، ولكن يقال: حَسَاه، وقال ابن فارس في مُتَخَيَّرِ الألفاظ: الْعَبُّ شُرب الماء من غير مصّ. وقال في "البارع": قال الأصمعيّ: يقال في الحافر كلِّه، وفي الظِّلْف: جَرَعَ الماءَ يَجْرَعه، وهذا كلُّهُ يدلّ على أن الشرب مخصوصٌ بالمصّ حقيقةً، ولكنه يُطلق على غيره مجازًا. قاله الفيّوميّ

(1)

. والله تعالى أعلم بالصواب.

(1) - (بَابُ تَحْرِيمِ الْخَمْر، وَبَيَانِ أَنَّهَا تَكُونُ مِنْ عَصِيرِ الْعِنَب، وَمِنَ التَّمْر، وَالْبُسْر، وَالزَّبِيب، وَغَيْرِهَا، مِمَّا يُسْكِرُ)

(اعلم): أن "الخمر" - بفتح الخاء المعجمة، وسكون الميم، آخره راء -: مأخوذة من خَمَر إذا ستر، ومنه خِمار المرأة، وكل شيء غَطَّى شيئًا فقد خمره، ومنه:"خَمِّرُوا آنيتكم"، فالخمر تخمّر العقل؛ أي: تغطيه وتستره، ومن ذلك الشجر الملتفّ، يقال له: الْخَمَر - بفتح الميم - لأنه يُغَطِّي ما تحته ويستره، يقال منه: أخمرتِ الأرضُ كَثُر خَمَرها، قال الشاعر [من الوافر]:

أَلَا يَا زَيْدُ وَالضَّحَّاكَ سِيرَا

فَقَدْ جَاوَزْتُمَا خَمَرَ الطَّرِيقِ

أي: سيرا مُدِلِّين، فقد جاوزتما الوَهْدة التي يستتر بها الذئب وغيره،

(1)

"المصباح المنير" 1/ 308.

ص: 503

وقال العجّاج يصف جيشًا يمشي برايات، وجيوش غيرُ مُستَخفٍ [من الرجز]:

فِي لَامِعِ الْعِقْبَانِ لَا يَمْشِي الْخَمَرْ

يُوَجِّهُ الأَرْضَ وَيَسْتَاقُ الشَّجَرْ

ومنه قولهم: دخل في غُمار الناس وخُمارهم؛ أي: هو في مكان خاف، فلمّا كانت الخمر تستر العقل، وتغطيه سُمّيت بذلك، وقيل: إنما سميت الخمرُ خمرًا لأنها تُرِكت حتى أَدركت، كما يقال: قد اختمر العجين؛ أي: بلغ إدراكه، وخُمِر الرأيُ؛ أي: تُرِك حتى يتبيّن فيه الوجه، وقيل: إنما سميت الخمر خمرًا؛ لأنها تخالط العقل، من المخامرة، وهي المخالطة، ومنه قولهم: دخلت في خُمار الناس؛ أي: اختلطت بهم، فالمعاني الثلاثة متقاربة، فالخمر تُركت وخُمِرت حتى أدركت، ثم خالطت العقل، ثم خمّرته، والأصل الستر.

والخمر ماء العنب الذي غَلَى، أو طُبخ، وما خامر العقل من غيره، فهو في حُكمه؛ لأن إجماع العلماء أن القمار كله حرام، وإنما ذُكر الميسر من بينه فجُعل كله قياسًا على الميسر، والميسر إنما كان قِمارًا في الْجُزُر خاصّة،

فكذلك كل ما كان كالخمر فهو بمنزلتها.

والجمهور من الأمة على أن ما أسكر كثيره، من غير خمر العنب فمحرم قليله وكثيره، والحدّ في ذلك واجب، وقال أبو حنيفة، والثوريّ، وابن أبي ليلى، وابن شُبْرمة، وجماعة من فقهاء الكوفة: ما أسكر كثيره من غير خمر العنب فهو حلال، وإذا سَكِر منه أحد دون أن يتعمد الوصول إلى حدّ السكر، فلا حدّ عليه، وهذا ضعيف، يَرُدُّه النظر، والخبر على ما يأتي بيانه - إن شاء الله تعالى -.

[تنبيه]: قال بعض المفسرين: إن الله تعالى لم يَدَعْ شيئًا من الكرامة والبرّ، إلا أعطاه هذه الأمة، ومن كرامته وإحسانه أنه لم يوجب عليهم الشرائع دفعة واحدة، ولكن أوجب عليهم مرّة بعد مرّة، فكذلك تحريم الخمر، فأول ما نزل في أمر الخمر آية:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} الآية [البقرة: 219]، ثم بعده:{لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} الآية [النساء: 43]، ثم قوله:{إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91)} [المائدة: 91]، ثم قوله:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90)} [المائدة: 90]، ذَكَره

ص: 504

أبو عبد الله القرطبيّ رحمه الله في "تفسيره"

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5119]

(1979) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى التَّمِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، حَدَّثَنِي ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ أَبِيهِ حُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِب، قَالَ: أَصَبْتُ شَارِفًا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي مَغْنَمٍ يَوْمَ بَدْرٍ، وَأَعْطَاني رَسُولُ صلى الله عليه وسلم شَارِفًا أُخْرَى، فَأَنخْتُهُمَا يَوْمًا عِنْدَ بَاب رَجُلٍ مِنَ الأنصَار، وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَحْمِلَ عَلَيْهِمَا إِذْخِرًا؛ لأَبِيعَهُ، وَمَعِي صَائِغٌ مِنْ بَنِي قَيْنُقَاعَ، فَأَسْتَعِينَ بِهِ عَلَى وَليمَةِ فَاطِمَةَ، وَحَمْزَةُ بْنُ عبد المُطَّلِبِ يَشْرَبُ في ذَلِكَ الْبَيْت، مَعَهُ قَيْنَةٌ تُغَّنِّيه، فَقَالَتْ:

ألَا يَا حَمْزَ لِلشُّرُفِ النِّوَاءِ

فَثَارَ إِلَيْهِمَا حَمْزَةُ بِالسَّيْف، فَجَبَّ أَسْنِمَتَهُمَا، وَبَقَرَ خَوَاصِرَهُمَا، ثُمِّ أَخَذَ مِنْ كبَادِهِمَا، قُلْتُ لِابْنِ شِهَابٍ: وَمِنَ السَّنَامِ؟ قَالَ: قَدْ جبَّ أَسْنِمَتَهُمَا، فَذهَبَ بِهَا، قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: قَالَ عَليٌّ. فَنَظَرْتُ إِلَى مَنْظَرٍ أفظَعَني، فَأَتَيْتُ نَبِيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَعِنْدَهُ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ، فَأَخْبَرْتُهُ الْخَبَرَ، فَخَرَجَ، وَمَعَهُ زَيْدٌ، وَانْطَلَقْتُ مَعَهُ، فَدَخَلَ عَلَى حَمْزَةَ، فَتَغَيَّظَ عَلَيْه، فَرَفَعَ حَمْزَةُ بَصَرَهُ، فَقَالَ: هَلْ أنتُمْ إِلَّا عَبِيدٌ لآبَائِي؟ فَرَجَعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُقَهْقِرُ، حَتَّى خَرَجَ عَنْهُمْ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى التَّمِيمِيُّ) النيسابوريّ، تقدّم قبل بابين.

2 -

(حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ) الأعور الْمِصّيصيّ، تقدّم قريبًا.

3 -

(ابْنُ جُرَيْجٍ) عبد الملك بن عبد العزيز بن جُريج المكيّ، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

4 -

(ابْنُ شِهَابٍ) محمد بن مسلم الزهريّ الإمام الشهير، تقدّم قبل بابين.

(1)

"الجامع لأحكام القرآن" 3/ 51 - 52.

ص: 505

5 -

(عَلِيُّ بْنُ حُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ) زين العابدين، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ عابدٌ فاضل مشهورٌ [3](ت 93)(ع) تقدم في "صلاة المسافرين وقصرها" 30/ 1818.

6 -

(أَبُوهُ حُسَيْنُ بْنُ عَلِيّ) بن أبي طالب الهاشميّ سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم وريحانته، حَفِظ عنه، استُشهد بكربلاء يوم عاشوراء سنة (61) وله (56) سنة (ع) تقدم في "صلاة المسافرين وقصرها" 30/ 1818.

7 -

(عَلِي بْنُ أَبِي طَالِبٍ) صلى الله عليه وسلم ذُكر في الحديث الماضي.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من سباعيّات المصنّف، وأنه مسلسل بالمدنيين من ابن شهاب، وأن فيه رواية صحابيّ عن صحابيّ، وتابعيّ عن تابعيّ، والابن عن أبيه عن أبيه، وأن رواية ابن شهاب بالإسناد المذكور، مما قيل فيه: إنه أصحّ الأسانيد.

شرح الحديث:

(عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: أَصَبْتُ شَارِفًا) الشارف: المسنّ من النُّوق، ولا يقال للذكر عند الأكثر، وحَكَى إبراهيم الحربيّ عن الأصمعيّ جوازه، جَمْعها شُرُفٌ بضمّ الراء، وإسكانها، قال عياض: جَمْع فاعل على فُعُل بضمتين قليل.

وقال المجد: والشارف من النوق: المسنة الْهَرِمة، كالشارفة. انتهى

(1)

.

وقال المرتضى في "شرحه": الشَّارِفُ مِن النُّوقِ: الْمُسِنَّةُ الْهَرِمَةُ، وقال ابنُ الأَعْرَابِيِ: هي النَاقَةُ الهِمَّةُ، وفي الأَسَاسِ: هي الْعَالِيَةُ السِّنّ، كَالشَّارِفَة، وقد شَرُفَتْ شُرُوفًا بالضَّمّ، كَكَرُمَ، ونَصَرَ، والمصدرُ الذي ذكَره مِن باب نَصَرَ قِياسًا، ومن بابِ كَرُمَ بخِلافِ ذلك، جمعه شَوَارِفُ، وشُرُفٌ، كَكُتُبٍ، ورُكَّعٍ، وقال الجَوْهَرِيُّ: بضَمِّ فسُكُونٍ، ومِثْلُه باَزِلٌ وبُزْلٌ، وعَائِذٌ وعُوذٌ، وشُرُوفٌ مِثْل عُدُولٍ، ولا يُقَالُ للجَمَلِ: شَارِفٌ، وأَنْشَدَ اللَّيْثُ [من الطويل]:

نَجَاةٌ مِنَ الْهُوجِ الْمَرَاسِيلِ هِمَّة

كمَيْتٌ عَلَيْهَا كَبْرةٌ فَهْيَ شَارِفُ

(2)

.

(مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي مَغْنَمٍ يَوْمَ بَدْرٍ، وَأَعْطَانِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم شَارِفًا

(1)

"القاموس المحيط" ص 680.

(2)

"تاج العروس" 1/ 5937.

ص: 506

أُخْرَى) وفي الرواية التالية: "قال: كانت لي شارف من نصيبي من المغنم يوم بدر، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاني شارفًا من الخُمس يومئذ".

قال ابن بطال رحمه الله: ظاهره أن الخُمس شُرع يوم بدر، ولم يَخْتَلِف أهلُ السِّيَر أن الخُمس لم يكن يوم بدر، وقد ذكر إسماعيل القاضي في غزوة بني قريظة، قال: قيل: إنه أول يوم فُرض فيه الخمس، قال: وقيل: نزل بعد ذلك، قال: ولم يأت ما فيه بيانٌ شافٍ، وإنما جاء صريحًا في غنائم حُنين، قال ابن بطال: وإذا كان كذلك فيحتاج قول عليّ رضي الله عنه إلى تأويل، قال: ويمكن أن يكون ما ذكر ابن إسحاق في سرية عبد الله بن جَحْش التي كانت في رجب قبل بدر بشهرين، وأن ابن إسحاق قال: ذَكَر لي بعضُ آل جحش أن عبد الله قال لأصحابه: إن لرسول الله صلى الله عليه وسلم مما غَنِمنا الخمس، وذلك قبل أن يفرض الله الخمس، فعزل له الخمس، وقسم سائر الغنيمة بين أصحابه، قال: فوقع رضا الله بذلك، قال: فيُحْمَل قول عليّ: "وكان قد أعطاني شارفًا من الخمس"؛ أي: من الذي حَصَل من سرية عبد الله بن جحش.

قال الحافظ: ويعكُر عليه أن في رواية البخاريّ في "المغازي": "وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم أعطاني مما أفاء الله عليه من الخمس يومئذ"، والعجب أن ابن بطال عزا هذه الرواية لأبي داود، وجعلها شاهدة لِمَا تأوّله، وغَفَل عن كونها في البخاريّ الذي شَرَحه، وعن كون ظاهرها شاهدًا عليه، لا له، قال: ولم أقف على ما نقله عن أهل السِّيَر صريحًا في أنه لم يكن في غنائم بدر خمسٌ، والعجب أنه يُثبت في غنيمة السرية التي قبل بدر الخمس، ويقول: إن الله رضي بذلك، وينفيه في يوم بدر، مع أن الأنفال التي فيها التصريح بفرض الخمس نزل غالبها في قصّة بدر.

وقد جزم الداوديّ الشارح بأن آية الخمس نزلت يوم بدر، وقال السبكيّ: نزلت الأنفال في بدر، وغنائمها.

والذي يظهر أن آية قسمة الغنيمة نزلت بعد تفرقة الغنائم؛ لأن أهل السِّير نقلوا أنه صلى الله عليه وسلم قَسَمها على السواء، وأعطاها لمن شهد الوقعة، أو غاب لعذر تكرُّمًا منه؛ لأن الغنيمة كانت أوّلًا بنص أول "سورة الأنفال" للنبيّ صلى الله عليه وسلم، قال: ولكن يعكُر على ما قال أهل السِّيَر حديث عليّ - يعني: حديث الباب - حيث

ص: 507

قال: "وأعطاني شارفًا من الخمس يومئذ"، فإنه ظاهر في أنه كان فيها خمس.

قال الحافظ: ويَحْتَمِل أن تكون قسمة غنائم بدر وقعت على السواء بعد أن أخرج الخمس للنبيّ صلى الله عليه وسلم على ما تقدّم من قصة سرية عبد الله بن جحش، وأفادت آية الأنفال، وهي قوله تعالى:{وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ} إلى آخرها [الأنفال: 41]، بيان مصرف الخمس، لا مشروعية أصل الخمس، والله أعلم.

وأما ما نقله عن أهل السير، فأخرجه ابن إسحاق بإسناد حسن يُحتجّ بمثله، عن عُبادة بن الصامت، قال:"فلما اختلفنا في الغنيمة، وساءت أخلاقنا انتزعها الله منا، فجعلها لرسوله صلى الله عليه وسلم، فقسمها على الناس عن سواء"؛ أي: على سواء، ساقه مطوّلًا، وأخرجه أحمد، والحاكم، من طريقه، وصححه ابن حبان من وجه آخر، ليس فيه ابن إسحاق

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن بما سبق أن أول فرض الخمس كان قبل بدر، وأن عبد الله بن جحش إنما عزل الخمس للنبيّ صلى الله عليه وسلم لِمَا يعلمه من كونه من حقّه الذي شرعه الله تعالى له، وأما يوم بدر فنزلت الآية مقرّرة، وموضّحةً لِمَا سبق، فلا استشكال كما أبداه ابن بطّال، ولا داعي إلى التكلّفات الباردة في الأجوبة، فتأملّ بالإمعان، والله تعالى أعلم.

(فَأَنَخْتُهُمَا)؛ أي: أبركتهما، يقال: أناخ الرجل الجمل إناخةً، قالوا: ولا يقال في المطاوع: فناخ، بل يقال: فَبَرَكَ، وتنوّخ، وقد يقال: فاستناخ، والْمُنَاخُ بضمّ الميم: موضع الإناخة

(2)

. (يَوْمًا عِنْدَ بَابِ رَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ) قال الحافظ: لم أقف على اسمه. (وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَحْمِلَ عَلَيْهِمَا إِذْخِرًا) بكسر الهمزة والخاء، بينهما ذال معجمة ساكنة: نبتٌ معروفٌ، ذَكيّ الريح، وإذا جفّ ابيَضّ

(3)

. (لأَبِيعَهُ، وَمَعِي صَائِغٌ) اسم فاعل من صاغ الذهب يصوغه صوغًا: إذا جعله حَلْيًا، فهو صائغ، وصَوّاغ، والحرفة الصَّياغة، ولا يُعرف اسم ذلك الصائغ، كما قال في "الفتح". (مِنْ بَنِي قَيْنُقَاعَ) - بضم النون، وكسرها، وفتحها - وَهُم طائفة من يهود المدينة، فيجوز صَرْفه على إرادة الحيّ، وتَرْك

(1)

"الفتح" 7/ 346 - 347، كتاب "فرض الخمس" رقم (3091).

(2)

"المصباح المنير" 2/ 629.

(3)

"المصباح المنير" 2/ 629.

ص: 508

صَرْفه على إرادة القبيلة، أو الطائفة، وفيه اتخاذ الوليمة للعرس، سواء في ذلك من له مال كثير، ومن دونه، وقد سبقت المسألة في "كتاب النكاح"، وفيه جواز الاستعانة في الأعمال والاكتساب باليهوديّ، وفيه جواز الاحتشاش للتكسب، وبيعه، وأنه لا ينقص المروءة، وفيه جواز بيع الوَقُود للصواغين، ومعاملتهم، قاله النوويّ رحمه الله

(1)

.

وقال في "الفتح": يؤخذ منه جواز معاملة الصائغ، ولو كان غير مسلم، ويؤخذ منه أنه لا يلزم من دخول الفساد في صنعة أن تترك معاملة صاحبها، ولو تعاطاها أراذل الناس مثلًا. انتهى.

(فَأَسْتَعِينَ بِهِ)؛ أي: بثمن ذلك الإذخر المبيع، (عَلَى وَلِيمَةِ فَاطِمَةَ) وفي الرواية التالية:"فلما أردت أن أبتني بفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم واعدت رجلًا صوّاغًا من بني قينقاع"، وقوله:"أن أبتني بفاطمة"؛ أي: أدخل بها، والبناء: الدخول بالزوجة، وأصله أنهم كانوا من أراد ذلك بُنيت له قُبّة، فخلا فيها بأهله.

واختُلف في وقت دخول عليّ بفاطمة رضي الله عنهما، وهذا الحديث يُشعر بأنه كان عقب وقعة بدر، ولعله كان في شوال سنة اثنتين، فإن وقعة بدر كانت في رمضان منها، وقيل: تزوجها في السنة الأولى، ولعل قائل ذلك أراد العقد، ونقل ابن الجوزيّ أنه كان في صفر سنة اثنتين، وقيل: في رجب، وقيل: في ذي الحجة، قال الحافظ: وهذا الأخير يشبه أن يُحْمَل على شهر الدخول بها، وقيل: تأخر دخوله بها إلى سنة ثلاث، فدخل بها بعد وقعة أُحُد، حكاه ابن عبد البرّ، وفيه بُعْدٌ.

قوله: "واعدت رجلًا صواغًا" بفتح الصاد المهملة والتشديد، ولم أقف على اسمه.

(وَحَمْزَةُ بْنُ عبد المُطَّلِبِ يَشْرَبُ)؛ أي: الخمر، وذلك قبل أن تُحَرَّم، (فِي ذَلِكَ الْبَيْت، مَعَهُ قَيْنَةٌ) - بفتح القاف، وسكون التحتانية، بعدها نون -: هي الجارية المغنية، والجملة حال من فاعل "يشرب"، وقوله:(تُغَنِّيهِ) جملة في محلّ رفع صفة لـ"قينة"، (فَقَالَتْ) تلك المغنّية:

(1)

"شرح النوويّ" 13/ 143.

ص: 509

(أَلَا يَا حَمْزَ لِلشُّرُفِ النِّوَاءِ)

و"الشُّرُف" جمع شارف، كما تقدّم، و"النِّوَاء" بكسر النون، والمدّ مخففًا: جمع ناوية، وهي الناقة السمينة.

وحَكَى الخطابيّ أن ابن جرير الطبريّ رواه: "ذا الشَّرَف" بفتح الشين، وفسَّره بالرفعة، وجعله صفة لحمزة، وفتح نون النَّوَاء، وفسَّره بالبُعد؛ أي: الشرف البعيد؛ أي: مناله بعيدٌ، قال الخطابيّ: وهو خطأ، وتصحيفٌ.

وحَكَى الإسماعيليّ أن أبا يعلى حدّثه به من طريق ابن جريج، فقال:"الثواء" بالثاء المثلثة، قال: فلم نضبطه.

ووقع في رواية القابسيّ، والأصيليّ: النوى بالقصر، وهو خطأ أيضًا.

وقال الداوديّ: النواء الخباء، وهذا أفحش في الغلط، وحَكَى المرزبانيّ في "معجم الشعراء" أن هذا الشعر لعبد الله بن السائب بن أبي السائب المخزوميّ، جدّ أبي السائب المخزوميّ المدنيّ، وبقيته:

...................

وَهُنَّ مُعَقَّلَاتٌ بِالْفِنَاءِ

ضعِ السِّكِّينَ فِي اللَّبَّاتِ مِنْهَا

وَضَرَّجْهُنَّ حَمْزَةُ بِالدِّمَاءِ

وَعَجِّلْ مِنْ أَطَايِبِهَا لِشَرْبٍ

قَدِيدًا مِنْ طَبِيخٍ أَو شَوَاءِ

و"الشَّرْب" بفتح المعجمة، وشكون الراء، بعدها موحدة: جمع شارب، كتاجر وتَجْرٍ، و"الفِنَاء" بكسر الفاء، والمدّ: الجانب؛ أي: جانب الدار التي كانوا فيها، و"القديد": اللحم المطبوخ، والتضريج بمعجمة، وجيم: التلطيخ، فإن كان ثابتًا، فقد عُرِف بعض المبهم في قوله:"في شَرْبٍ من الأنصار" لكن المخزوميّ ليس من الأنصار، وكأن قائل ذلك أطلقه عليهم بالمعنى الأعمّ، وأراد الذي نَظَمَ هذا الشعر، وأمَرَ القينة أن تُغَنِّي به، أن يبعث هِمَّة حمزة؛ لِمَا عُرِف من كرمه على نحر الناقتين؛ ليأكلوا من لحمهما، وكأنه قال: انْهَضْ إلى الشّرُف، فانحرها، وقد تبيّن ذلك من بقية الشعر.

وفي قولها: "للشُّرُف" بصيغة الجمع مع أنه لم يكن هناك إلا اثنتان دلالة على جواز إطلاق صيغة الجمع على الاثنين.

قال الجامع عفا الله عنه: هكذا قال في "الفتح"، وهذه المسألة قد تقدّم قريبًا الكلام فيها، وهي أن أقلّ الجمع اثنان؛ لأدلّة كثيرة وردت عن العرب في

ص: 510

ذلك، وهذا البيت من جملة تلك الأدلّة، فتنبّه، وسنعود إليه كرّة بعد كرّة؛ لأني أرى كثيرًا من الشرّاح يتكلّفون التأويل المتعسّف، بل بعضهم يغلّط ما يقع في "صحيح مسلم" بسبب ذلك مع أنه الموافق لاستعمال العرب لذلك، والله تعالى أعلم.

وقوله: "يا حمزُ" ترخيم، وهو بفتح الزاي، ويسمّى لغة من ينتظر المحذوف للترخيم، ويجوز ضمها، ويُسمّى لغة من لا ينتظر، وإليه أشار ابن مالك رحمه الله في "الخلاصة" حيث قال:

وإِنْ نَوَيْتَ بَعْدَ حَذْفِ مَا حُذِفْ

فَالْبَاقِيَ اسْتَعْمِلْ بِمَا فِيهِ أُلِفْ

وَاجْعَلْهُ إِنْ لَمْ تَنْوِ مَحْذُوفًا كَمَا

لَوْ كَانَ بِالآخِرِ وَضْعًا تُمِّمَا

فَقُلْ عَلَى الأَوَّلِ فِي ثَمُودَ يَا

ثَمُو وَيَا ثَمِي عَلَى الثَّانِي بِيَا

(فَثَارَ)؛ أي: نَهَضَ، يقال: ثار الْغُبارُ يثور ثَوْرًا، وثُؤُورًا على فُعُول، وثَوَرَانًا: هاج، ومنه قيل للفتنة: ثارت، وأثارها العدوّ، وثار الغضبُ: احْتَدَّ، وثار إلى الشرّ: نَهَضَ، قاله الفيّوميّ رحمه الله، وهذا الأخير هو المناسب هنا، ولهذا عدّاه بـ "إلى"، فقال:(إِلَيْهِمَا) إلى الشارفين، (حَمْزَةُ بِالسَّيْف، فَجَبَّ) من باب نصر، والْجَبّ: الاستئصال في القطع، (أَسْنِمَتَهُمَا) بفتح الهمزة: جمع سَنَامٍ، وهو للبعير كالأَلْيِةِ للغنم، وسُنِمَ البعيرُ وأُسْنِمَ بالبناء للمفعول: عَظُمَ سَنَامُهُ، ومنهم من يقول: أَسْنَمَ بالبناء للفاعل، وسَنِمَ سَنَمًا، فهو سَنِمٌ، من باب تَعِبَ كذلك، قاله الفيّوميّ

(1)

.

(وَبَقَرَ) من باب نصر أيضًا؛ أي: شقّ (خَوَاصِرَهُمَا) قال المجد رحمه الله: الخاصِرَةُ: الشَّاكِلَةُ، وما بَيْنَ الحَرْقَفَة

(2)

والقُصَيْرَى

(3)

، وقال المرتضى في "شرحه": وهما خَاصِرَتَان، قيل: الخَصْرَان، والخاصِرَتانِ: ما بَيْنَ الحَرْقَفَة والقُصيْرَى، وهو ما قَلَص عنه القَصَرَتَان، وتقدَّم من الحَجَبَتَيْن

(4)

، وما فَوْق

(1)

"المصباح المنير" 1/ 291.

(2)

الحَرْقَفة: عَظْم الْحَجَبة؛ أي: رأس الوَرِك. اهـ. "ق".

(3)

"القصيرى" مقصورة: أسفل الأضلاع، أو آخر ضِلَعٍ في الجنب، وأصلُ العُنُق. اهـ. "ق".

(4)

"الْحَجَبتان" محرّكة: حَرْفا الوَرِك المشرفان على الخاصرة، أو العظمان فوق العانة =

ص: 511

الخَصْر من الجِلْدَةِ الرَّقيقَةِ الطَّفْطِفَة. انتهى

(1)

.

(ثُمَّ أَخَذَ مِنْ أَكْبَادِهِمَا) بفتح الهمزة: جمع كَبِد، وهي من الأمعاء معروفة، وهي أنثى، وقال الفرّاء: تُذكّر، وتؤنّث، ويجوز التخفيف بكسر الكاف، وسكون الباء، ويُجمع قليلًا على كُبُود

(2)

.

قال ابن جُريج: (قُلْتُ لِابْنِ شِهَابٍ: وَمِنَ السَّنَامِ؟)؛ أي: وأخذ أيضًا من سنامهما؟، وهو ما على ظهر البعير، (قَالَ) ابن شهاب (قَدْ جَبَّ أَسْنِمَتَهُمَا)؛ أي: قَطَعهما (فَذَهَبَ بِهَا)؛ أي: أخذ أسنمتهما مع الأكباد.

(قَالَ ابْنُ شِهَابٍ) بالإسناد السابق (قَالَ عَلِيٌّ) رضي الله عنه (فَنَظَرْتُ إِلَى مَنْظَرٍ أَفْظَعَنِي) - بفاء وظاءً معجمة؛ أي: نزل بي أمر مُفظِعٌ؛ أي: مُخيف، مَهُول، وذلك لتصوّره تأخر الابتناء بزوجته، بسبب فوات ما يُستعان به عليه، أو لخشية أن يُنسَب في حقها إلى تقصير، لا لمجرد فوات الناقتين، قاله في "الفتح"

(3)

.

(فَأَتَيْتُ نَبِيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَعِنْدَهُ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ) جملة حاليّة من "نبيّ الله صلى الله عليه وسلم"، وهو زيد بن حارثة بن شَرَاحيل الكلبيّ، أبو أسامة، مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحابيّ الجليل من أول الناس إسلامًا، استُشهِد يوم مؤتة في حياة النبيّ صلى الله عليه وسلم سنة ثمان من الهجرة، وهو ابن خمس وخمسين سنةً، تقدّمت ترجمته في "الجنائز" 10/ 2161.

(فَأَخْبَرْتُهُ الْخَبَرَ)؛ أي: ما وقع له من اعتداء حمزة رضي الله عنه على شارفيه (فَخَرَجَ) صلى الله عليه وسلم (وَمَعَهُ زَيْدٌ) جملة حاليّة، (وَانْطَلَقْتُ مَعَهُ) صلى الله عليه وسلم (فَدَخَلَ عَلَى حَمْزَةَ، فَتَغَيَّظَ عَلَيْهِ)؛ أي: غضب عليه، قال الفيّوميّ رحمه الله: الغَيْظُ: الغضب المحيط بالكبد، وهو أشدّ الْحَنَق، وفي التنزيل:{قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ} [آل عمران: 119]، وهو مصدر من غَاظَهُ الأمرُ، من باب سار، قال ابن الأعرابيّ - كما حكاه الأزهريّ -: غَاظَهُ يَغِيظُهُ، وأَغَاظَهُ بالألف، واسم المفعول من الثلاثيّ مَغِيظٌ قال [من الكامل]:

مَا كَانَ ضَرَّكَ لَوْ مَنَنْتَ وَرُبَّمَا

مَنَ الفَتَى وَهُوَ المَغِيظُ المُحَنَقُ

= المشرفان على مَرَاقّ البطن من يمين وشمال. اهـ. "ق".

(1)

"تاج العروس" 1/ 2763.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 523.

(3)

"الفتح" 7/ 349، كتاب "فرض الخمس" رقم (3094).

ص: 512

واغْتَاظَ فلان من كذا، ولا يكون الغَيْظُ إلا بوصول مكروه إلى المُغْتَاظ، وقد يقام الغَيْظُ مقام الغضب في حقّ الإنسان، فيقال: اغْتَاظَ من لا شيء، كما يقال: غَضِبَ من لا شيء، وكذا عكسه. انتهى

(1)

.

(فَرَفَعَ حَمْزَةُ بَصَرَهُ) وفي الرواية التالية: "فطفق رسول الله صلى الله عليه وسلم يلوم حمزة فيما فعل، فإذا حمزة مُحْمَرّة عيناه، فنظر حمزة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم صَعَّد النظر إلى ركبتيه، ثم صَعّد النظر، فنظر إلى سرّته، ثم صَعّد النظر، فنظر إلى وجهه، فقال حمزة: وهل أنتم إلا عبيد لأبي؟ "، (فَقَالَ) حمزة (هَلْ أَنْتُمْ إِلَّا عَبِيدٌ لآبَائِي؟) وفي رواية:"إلا عبيد لأبي"، قيل: أراد أن أباه عبد المطلب جدّ للنبيّ صلى الله عليه وسلم، ولِعَلِيّ أيضًا، والجدّ يُدْعَى سيّدًا، وحاصله أن حمزة أراد الافتخار عليهم بأنه أقرب إلى عبد المطلب منهم. (فَرَجَعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُقَهْقِرُ)؛ أي: يمشي القَهْقرى، وهو المشي إلى خلف، وكأنه صلى الله عليه وسلم فَعَلَ ذلك خشيةَ أن يزداد عبث حمزة في حال سُكره، فينتقل من القول إلى الفعل، فأراد أن يكون ما يقع من حمزة بمرأى منه؛ ليدفعه إن وقع منه شيء.

وقال النوويّ رحمه الله: قوله: "فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقهقر"، وفي الرواية الأخرى:"فنكص على عقبيه القهقرى"، قال جمهور أهل اللغة وغيرهم: القهقرى: الرجوع إلى وراء، ووَجْهه إليك، إذا ذهب عنك، وقال أبو عمر: وهو الإخصار في الرجوع؛ أي: الإسراع، فعلى هذا معناه: خرج مسرعًا، والأول هو المشهور المعروف، وإنما رجع القهقرى خوفًا من أن يبدو من حمزة رضي الله عنه أمر يكرهه لو وَلّاه ظهره؛ لكونه مغلوبًا بالسكر. انتهى

(2)

.

(حَتَّى خَرَجَ عَنْهُمْ) وفي الرواية التالية: "فنكص رسول الله صلى الله عليه وسلم على عقبيه القهقرى، وخرج وخرجنا معه"، قال في "الفتح": زاد ابن جريج: "وذلك قبل تحريم الخمر"؛ أي: ولذلك لم يؤاخذ النبيّ صلى الله عليه وسلم حمزة بقوله، وفي هذه الزيادة رَدّ على من احتجّ بهذه القصة على أن طلاق السكران لا يقع، فإنه إذا عُرف أن ذلك كان قبل تحريم الخمر كان ترك المؤاخذة؛ لكونه لم يُدْخِل على نفسه الضررَ، والذي يقول: يقع طلاق السكران يحتجّ بأنه أدخل على نفسه السُّكْر،

(1)

"المصباح المنير" 2/ 459.

(2)

"شرح النوويّ" 13/ 145 - 146.

ص: 513

وهو مُحَرَّم عليه، فعوقب بإمضاء الطلاق عليه، فليس في هذا الحديث حجةٌ لإثبات ذلك، ولا نفيه.

قال أبو داود: سمعت أحمد بن صالح يقول: في هذا الحديث أربع وعشرون سُنَّةً. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: ستأتي فوائد الحديث في المسألة الثالثة - إن شاء الله تعالى -.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنف) هنا [1/ 5119 و 5120 و 5121 و 5122](1979)، و (البخاريّ) في "البيوع "(2089) و"الشُرْب والمساقاة"(2375) و"فرض الخمس"(3091) و"المغازي"(4003) و"اللباس"(5793)، و (أبو داود) في "الخراج والإمارة"(2986)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 142)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4536)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(5/ 90 و 91)، و (البزّار) في "مسنده"(2/ 141)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(1/ 416)، و (ابن أبي عاصم) في "الآحاد والمثاني"(1/ 154)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(6/ 153 و 341 و 342)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان أن الخمر كانت من الأشربة المباحة في أول الإسلام، ثم نُسخت إباحتها، فصارت محرّمة إلى يوم القيامة.

2 -

(ومنها): ما يفعله السكران في حال سُكره لا يؤاخذ به، إذا كان السُّكْر بسبب مباح، قال النوويّ رحمه الله: وهذا الفعل الذي جرى من حمزة رضي الله عنه من شُرْبه الخمر، وقَطْع أسنمة الناقتين، وبَقْر خواصرهما، وأكْل لحمهما، وغير

(1)

"الفتح" 7/ 349 و 350، كتاب "فرض الخمس" رقم (3094).

ص: 514

ذلك، لا إثم عليه في شيء منه، أما أصل الشُّرْب والسُّكْر، فكان مباحًا؛ لأنه قبل تحريم الخمر.

وأما ما قد يقوله بعض مَن لا تحصيل له: إن السكر لم يزل محرمًا، فباطل، لا أصل له، ولا يُعرف أصلًا، وأما باقي الأمور فجرت منه في حال عدم التكليف، فلا إثم عليه فيها، كمن شَرِب دواءً لحاجة، فزال به عقله، أو شرب شيئًا يظنه خَلًّا، فكان خمرًا، أو أُكره على شرب الخمر، فشربها، وسَكِر فهو في حال السكر غير مكلَّف، ولا إثم عليه فيما يقع منه في تلك الحال، بلا خلاف.

وأما غرامة ما أتلفه فيجب في ماله، فلعل عليًّا رضي الله عنه أبرأه من ذلك بعد معرفته بقيمة ما أتلفه، أو أنه أدّاه إليه حمزة بعد ذلك، أو أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أدّاه عنه لِحُرْمته عنده، وكمال حقّه ومحبته إياه، وقرابته، وقد جاء في كتاب عُمَر بن شَبّة، من رواية أبي بكر بن عياش: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم غَرَّم حمزة الناقتين، وقد أجمع العلماء أن ما أتلفه السكران من الأموال يلزمه ضمانه، كالمجنون، فإن الضمان لا يُشترط فيه التكليف، ولهذا أوجب الله تعالى في كتابه في قتل الخطأ الدية، والكفارة.

وأما هذا السنام المقطوع فإن لم يكن تقدَّم نَحْرُهما فهو حرام بإجماع المسلمين؛ لأن ما أُبين من الحيّ فهو ميت، وفيه حديث مشهور في كتب "السنن".

ويَحْتَمِل أنه ذكّاهما، ويدل عليه الشِّعر الذي قدّمناه، فإن كان ذكّاهما فلحمهما حلال باتفاق العلماء، إلا ما حُكِي عن عكرمة، وإسحاق، وداود أنه لا يحلّ ما ذبحه سارق، أو غاصب، أو متعدّ، والصواب الذي عليه الجمهور حِلّه، وإن لم يكن ذكّاهما، وثبت أنه أكل منهما، فهو أكل في حالة السكر المباح، ولا إثم فيه، كما سبق، والله أعلم. انتهى كلام النوويّ رحمه الله

(1)

، وهو بحث حسنٌ جدًّا، والله تعالى أعلم.

(1)

"شرح النوويّ" 13/ 144 - 145.

ص: 515

3 -

(ومنها): بيان أن الغانم يُعطى من الغنيمة من جهتين، من الأربعة الأخماس بحقّ الغنيمة، ومن الخمس إذا كان ممن له فيه حقّ.

4 -

(ومنها): بيان أن لمالك الناقة الانتفاع بها في الحَمْل عليها.

5 -

(ومنها): إباحة الإناخة على باب الناس إذا عُرِف رضاهم بذلك، وعدم تضررهم به.

6 -

(ومنها): أن البكاء الذي يجلُبه الحزن غير مذموم.

7 -

(ومنها): أن المرء قد لا يملك دمعه إذا غلب عليه الغيظ.

8 -

(ومنها): بيان ما رُكّب في الإنسان، من الأسف على فوت ما فيه نفعه، وما يحتاج إليه.

9 -

(ومنها): أن استعداء المظلوم على من ظلمه، وإخباره بما ظَلَم به خارج عن الغيبة والنميمة.

10 -

(ومنها): أن فيه قبولَ خبر الواحد.

11 -

(ومنها): جواز الاجتماع في الشُّرب المباح.

12 -

(ومنها): جواز تناول ما يوضع بين أيدي القوم.

13 -

(ومنها): جواز الغناء بالمباح من القول، وإنشاد الشعر، والاستماع من الأَمَة.

14 -

(ومنها): جواز التخيّر فيما يأكله، وأكل الكبد، وإن كانت دمًا.

15 -

(ومنها): أن السُّكر كان مباحًا في صدر الإسلام، وهو رَدّ على من زعم أن السكر لم يُبَحْ قطّ، ويمكن حَمْل ذلك على السكر الذي يفقد معه التمييز من أصله.

قال الجامع عفا الله عنه: هكذا قال في "الفتح"، وفيه نَظَر؛ لأن سكر حمزة رضي الله عنه قد تجاوز الحدّ حتى وقع منه ما وقع في شارفيّ عليّ رضي الله عنه، ثم ما نظره إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم نظرًا مزريًا، ثم كلامه الأخير، فكل هذا ظاهر في كونه فقد وعيه، وتمييزه، فتأمله بالإمعان، والله تعالى أعلم.

16 -

(ومنها): مشروعية وليمة العرس، وقد مضى شرحها في "كتاب النكاح" مستوفًى، فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق.

17 -

(ومنها): مشروعية الصياغة، والتكسب بها.

ص: 516

18 -

(ومنها): جواز جمع الإذخر وغيره من المباحات، والتكسب بذلك.

19 -

(ومنها): مشروعيّة الاستعانة في كل صناعة بالعارف بها.

20 -

(ومنها): ما قاله المهلَّب: وفيه أن العادة جرت بأن جناية ذوي الرحم مغتفرة.

وتعقّبه الحافظ، فقال: وفيه نظر؛ لأن ابن أبي شيبة رَوَى عن أبي بكر بن عياش، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أغرم حمزة ثمن الناقتين.

21 -

(ومنها): أن فيه علةَ تحريم الخمر.

22 -

(ومنها): أن للإمام أن يَمْضي إلى بيت من بلغه أنهم على مُنكر؛ ليغيّره.

23 -

(ومنها): أن فيه حِلَّ تذكية الغاصب؛ لأن الظاهر أنه ما بَقَرَ خواصرهما، وجَبّ أسنمتهما إلا بعد التذكية المعتبرة.

قال الجامع عفا الله عنه: هكذا قيل، وهو محلّ نظر، والله تعالى أعلم.

24 -

(ومنها): أن فيه سُنَّةَ الاستئذان في الدخول.

25 -

(ومنها): أن الإذن للرئيس يَشْمَل أتباعه؛ لأن زيد بن حارثة وعليًّا دخلا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو الذي كان استأذن، فأَذِنُوا له.

26 -

(ومنها): أن السكران يلام إذا كان يعقل اللوم.

قال الجامع عفا الله عنه: هكذا قيل، وفيه نظرٌ، فحال حمزة رضي الله عنه بعيد عن هذا، وإنما لامه النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ لظنّه أنه لم يبلغ إلى هذا الحدّ، والله تعالى أعلم.

27 -

(ومنها): أن للكبير في بيته أن يُلْقِي رداءه تخفيفًا عنه.

28 -

(ومنها): أنه إذا أراد لقاء أتباعه يكون على أكمل هيئة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لمّا أراد أن يخرج إلى حمزة أخذ رداءه.

29 -

(ومنها): أن الصاحي لا ينبغي له أن يخاطب السكران.

30 -

(ومنها): أن الذاهب من بين يدي زائل العقل لا يولّيه ظهره، كما فعل صلى الله عليه وسلم هنا.

31 -

(ومنها): أن فيه إشارةً إلى عِظَم قَدْر عبد المطلب.

ص: 517

32 -

(ومنها): جواز المبالغة في المدح؛ لقول حمزة: هل أنتم إلا عبيد لأبي؟ ومراده كالعبيد، ونكتة التشبيه أنهم كانوا عنده في الخضوع له، وجواز تصرّفه في مالهم في حكم العبيد.

قال الجامع عفا الله عنه: قوله: "جواز المبالغة في المدح" فيه نظر؛ كيف يُستدلّ بفعل حمزة، وهو سكران؛ وإنما سكت عنه صلى الله عليه وسلم؛ لكونه رآه لا يَقبل التوجيه حتى يردّ عليه، وقد ورد النهي عن المبالغة في المدح، فينبغي التعويل عليه، وقد عقد أبو داود رحمه الله في "سننه":"باب في كراهية التمادح"، وأخرج في ذلك الباب عن عبد الرحمن بن أبي بكرة، عن أبيه، أن رجلًا أثنى على رجل عند النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال له:"قطعت عنق صاحبك" ثلاث مرات، ثم قال:"إذا مدح أحدكم صاحبه لا محالة، فليقل: إني أحسبه كما يريد أن يقول، ولا أزكيه على الله". انتهى

(1)

.

33 -

(ومنها): ما قاله صاحب "التكملة": إنما أورد مسلم رحمه الله حديث عليّ رضي الله عنه هذا في أول "كتاب الأشربة" ليتبيّن به حكمة تحريم الخمر، فإن الإنسان بعد شربها لا يملك نفسه، فيتعدّى على مال الغير، ويرتكب ما فيه غضاضة له، فإن حمزة رضي الله عنه مع كونه عمًّا لرسول الله صلى الله عليه وسلم كان من أكثر الناس إجلالًا له صلى الله عليه وسلم، وما كان يُتصوّر منه أن يخاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم بما خاطبه به في حالة السكر. انتهى

(2)

، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5120]

(

) - (وَحَدَّثَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، أَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّزَّاق، أَخْبَرَنِي ابْنُ جُرَيْجٍ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ مِثْلَهُ).

رجال هذا الإسناد: ثلاثة:

وكلّهم ذُكروا في الباب، وقبل بابين.

[تنبيه]: رواية عبد الرزّاق، عن ابن جريج هذه ساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(1)

"سنن أبي داود" 4/ 254.

(2)

"تكملة فتح الملهم" 3/ 596.

ص: 518

(1200)

- حدّثنا عبد الله، حدّثني أبي، ثنا عبد الرزاق، أنبأنا ابن جريج، حدّثني ابن شهاب، عن عليّ بن حسين بن عليّ، عن أبيه حسين بن عليّ، عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال عليٌّ: أصبت شارفًا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في المغنم يوم بدر، وأعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم شارفًا أخرى، فأنختهما يومًا عند باب رجل من الأنصار، وأنا أريد أن أَحْمِل عليهما إذخرًا؛ لأبيعه، ومعي صائغ من بني قينقاع؛ لأستعين به على وليمة فاطمة، وحمزة بن عبد المطلب يشرب في ذلك البيت، فثار إليهما حمزة بالسيف، فجبّ أسنمتهما، وبَقَرَ خواصرهما، ثم أخذ من أكبادهما، قلت لابن شهاب: ومن السنام؟ قال: جَبّ أسنمتهما، فذهب بها، قال: فنظرت إلى منظر أفظعني، فأتيت نبيّ الله صلى الله عليه وسلم، وعنده زيد بن حارثة، فأخبرته الخبر، فخرج، ومعه زيد، فانطلق معه، فدخل على حمزة، فتغيّظ عليه، فرجع حمزة بصره، فقال: هل أنتم إلا عبيد لأبي؟ فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم يُقَهْقِرُ حتى خرج عنهم، وذلك قبل تحريم الخمر. انتهى

(1)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5121]

(

) - (وَحَدَّثَني أَبُو بَكْرِ بْنُ إِسْحَاقَ، أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ كثِيرِ بْنِ عُفَيْرٍ أَبُو عُثْمَانَ الْمِصْرِيُّ، حَدَّثنا عَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْبٍ، حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَخْبَرَنِي عَلِيُّ بْنُ حُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ، أَنَّ حُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ أَخْبَرَهُ، أَنَّ عليًّا قَالَ: كَانَتْ لِي شَارِفٌ مِنْ نَصِيبِي مِنَ الْمَغْنَمِ يَوْمَ بَدْرٍ، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَعْطَاني شَارِفًا مِنَ الْخُمُسِ يَوْمَئِذٍ، فَلَمَّا أَرَدْتُ أَنْ أَبْتَنيَ بِفَاطِمَةَ بِنْتِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَاعَدْتُ رَجُلًا صَوَّاغًا مِنْ بَنِي قَيْنُقَاعَ، يَرْتَحِلُ مَعِي، فَنَأتِي بِإِذْخِرٍ، أَرَدْتُ أَنْ أَبِيعَهُ مِنَ الصَّوَّاغِينَ، فَأَسْتَعِينَ بِهِ فِي وَليمَةِ عُرْسِي، فَبَيْنَا أنَا أَجْمَعُ لِشَارِفَيَّ مَتَاعًا، مِنَ الأقتَابِ، وَالْغَرَائِرِ، وَالْحِبَالِ، وَشَارِفَايَ مُنَاخَانِ إِلَى جَنْبِ حُجْرَةِ رَجُلٍ مِنَ الأنصَار، وَجَمَعْتُ حِينَ جَمَعْتُ مَا جَمَعْتُ، فَإِذَا شَارِفَايَ قَدِ اجْتُبَّتْ أَسْنِمَتُهُمَا، وَبُقِرَتْ خَوَاصِرُهُمَا، وَأُخِذَ مِنْ أَكبَادِهِمَا، فَلَمْ أَمْلِكْ عَيْنَيَّ حِينَ رَأَيْتُ ذَلِكَ الْمَنْظَرَ مِنْهُمَا، قُلْتُ: مَنْ فَعَلَ هَذَا؟ قَالُوا: فَعَلَهُ حَمْزَةُ بْنُ عبد المُطَّلِب، وَهُوَ فِي هَذَا

(1)

"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 1/ 142.

ص: 519

الْبَيْتِ فِي شَرْبٍ مِنَ الأنْصَار، غَنَّتْهُ قَيْنَةٌ وَأَصْحَابَهُ، فَقَالَتْ فِي غِنَائِهَا:

أَلا يَا حَمْزَ لِلشُّرُفِ النِّوَاءِ

فَقَامَ حَمْزَةُ بِالسَّيْف، فَاجْتَبَّ أَسْنِمَتَهُمَا، وَبَقَرَ خَوَاصِرَهُمَا، فَأَخَذَ مِنْ أكبَادِهِمَا، قَالَ عَلِيٌّ: فَانْطَلَقْتُ حَتَّى أَدْخُلَ عَلَى رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَعِنْدَهُ زيدُ بْنُ حَارِثَةَ، قَالَ: فَعَرَفَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي وَجْهِيَ الَّذِي لَقِيتُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"مَا لَكَ؟ "، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ وَاللهِ مَا رَأَيْتُ كَالْيَوْمِ قَطُّ، عَدَا حَمْزَةُ عَلَى نَاقَتَيَّ، فَاْجْتَبَّ أَسْنِمَتَهُمَا، وَبَقَرَ خَوَاصِرَهُمَا، وَهَا هُوَ ذَا فِي بَيْتٍ، مَعَهُ شَرْبٌ، قَالَ: فَدَعَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم بِرِدَائِه، فَارْتَدَاهُ، ثُمَّ انْطَلَقَ يَمْشِي، وَاتَّبُعْتُهُ أَنَا وَزيدُ بْنُ حَارِثَةَ، حَتَّى جَاءَ الْبَابَ الَّذِي فِيهِ حَمْزَةُ، فَاسْتَأَذَنَ، فَأَذِنُوا لَهُ، فَإِذَا هُمْ شَرْبٌ، فَطَفِقَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَلُومُ حَمْزَةَ فِيمَا فَعَلَ، فَإِذَا حَمْزَةُ

(1)

مُحْمَرَّةٌ عَيْنَاهُ، فَنَظَرَ حَمْزَةُ إِلَى رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ صَعَّدَ الَّنظَرَ اِلَى رُكْبَتَيْه، ثُمَّ صَعَّدَ النَّظَرَ، فَنَظَرَ إِلَى سُرَّتِه، ثُمَّ صَعَّدَ النَّظَرَ، فَنَظَرَ إِلَى وَجْهِه، فَقَالَ حَمْزَةُ: وَهَلْ أْنتُمْ إِلا عَبِيدٌ لأَبِي؟ فَعَرَفَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ ثَمِل، فَنَكَصَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى عَقِبَيْهِ الْقَهْقَرَى، وَخَرَجَ، وَخَرَجْنَا مَعَهُ).

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ إسْحَاقَ) محمد بن إسحاق بن جعفر الصغانيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ ثبتٌ [11](ت 270)(م 4) تقدم في "الإيمان" 4/ 116.

2 -

(سَعِيدُ بْنُ كَثِيرِ بْنِ عُفَيْرٍ أَبُو عُثْمَانَ الْمِصْرِيُّ) هو: سعيد بن كثير بن عُفير بن مسلم بن يزيد بن الأسود الأنصاريّ مولاهم، أبو عثمان المصريّ، وقد يُنسب إلى جدّه، صدوقٌ عالم بالأنساب وغيرها [10].

رَوَى عن الليث، ومالك، وسليمان بن بلال، وكهمس بن المنهال، وخاله المغيرة بن الحسن الهاشميّ، ويحيى بن أيوب الغافقيّ، وغيرهم.

وروى عنه البخاريّ، وروى له هو في "الأدب"، ومسلم، وأبو داود في

(1)

وفي نسخة: "وإذا حمزة".

ص: 520

"القدر"، والنسائيّ بواسطة أحمد بن عاصم البلخيّ، ومحمد بن إسحاق الصنعانيّ، وغيرهم.

قال أبو حاتم: لم يكن بالثبت، كان يقرأ من كتب الناس، وهو صدوق، وقال ابن عديّ: سمعت ابن حماد يقول: قال السعديّ: سعيد بن عُفير فيه غير لون من الْبِدَع، وكان مخلطًا غير ثقةٌ، قال أبو أحمد بن عديّ: وهذا الذي قاله السعديّ لا معنى له، ولا أسمع أحدًا، ولا بلغني عن أحد في سعيد بن كثير بن عُفير كلام، وهو عند الناس صدوقٌ ثقةٌ، ولا أعرف سعيد بن عفير غير المصريّ ولم يُنسب المصريّ إلى بدع، ولا إلى كَذِب، وروى له حديثين من رواية ابنه عبيد الله عنه، ثم قال: ولعل البلاء من عبيد الله؛ لأن سعيد بن عفير مستقيم الحديث، وقال ابن يونس: كان سعيد من أعلم الناس بالأنساب، والأخبار الماضية، وأيام العرب، مآثرها، ووقائعها، والمناقب، والمثالب، كان في ذلك كله شيئًا عجيبًا، وكان أديبًا فصيح اللسان، حسن البيان، لا تُمَلّ مجالسته، ولا ينزف علمه، وله أخبار مشهورة، تركتها لشهرتها، وكان غير ظِنّين في جميع ذلك، وُلد سنة (146) وتُوُفّي سنة ست وعشرين ومائتين، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال إبراهيم بن الجنيد عن ابن معين: ثقةٌ، لا بأس به، وقال النسائيّ: سعيد بن عُفير صالح، وابن أبي مريم أحبّ إلي منه، وقال الحاكم: يقال إن مصر لم تُخرج أجمع للعلوم منه.

أخرج له البخاريّ، والمصنّف، وأبو داود في "القدر"، والنسائيّ، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا (1979)، وحديث (2403): "ائذن له، وبشّره بالجنّة

" الحديث.

3 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْبٍ) المصريّ، تقدّم قبل باب.

4 -

(يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ) الأيليّ، تقدّم قبل أربعة أبواب.

والباقون ذُكروا قبله.

شرح الحديث:

عن عليّ رضي الله عنه أنه (قَالَ: كَانَتْ لِي شَارِفٌ)؛ أي: ناقة مسنّة (مِنْ نَصِيبِي مِنَ الْمَغْنَمِ يَوْمَ بَدْرٍ، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَعْطَانِي شَارِفًا مِنَ الْخُمُسِ يَوْمَئِذٍ) فيه

ص: 521

أن الخمس كان مشروعًا حينئذ. (فَلَمَّا أَرَدْتُ أَنْ أَبْتَنيَ بِفَاطِمَةَ بِنْتِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) من الابتناء، وهو الدخول بالزوجة، وكذلك البناء، وقد ذكرنا أن أصل ذلك أن الرجل كان إذا أراد تزوُّج امرأة بنى عليها قبة؛ ليدخل بها فيها، فيقال: بنى الرجل على أهله. (وَاعَدْتُ رَجُلًا صَوَّاغًا مِنْ بَني قَيْنُقَاعَ) - بفتح القافين، وضمّ النون، وفتحها، وكسرها، منصرفًا، وغير منصرف، قال الكرمانيّ -: هم قبيلة من اليهود، وقال الصاغانيّ: هم حيّ من اليهود، وقال العينيّ: هو مركّب من قَيْن الذي هو الحدّاد، وقاع اسم أُطُم من آطام المدينة. انتهى

(1)

.

(يَرْتَحِلُ مَعِي، فَنَأْتِي بِإِذْخِرٍ) - بكسر الهمزة -: حشيشةٌ طيبة الرائحة، يُسَقَّف بها البيوت فوق الخشب، وهمزته زائدة، وقد مر في "كتاب الحجّ"

(2)

. (أَرَدْتُ أَنْ أَبِيعَهُ مِنَ الصَّوَّاغِينَ) جمع صوّاغ، وهو الذي يصوغ الذهب والفضّة، وهو للمبالغة.

وقال النوويّ رحمه الله: قوله: "أن أبيعه من الصوّاغين" هكذا هو في جميع نُسخ مسلم، وفي بعض الأبواب من البخاريّ:"من الصواغين"، ففيه دليل لصحة استعمال الفقهاء في قولهم: بعت منه ثوبًا، وزوجت منه، ووهبت منه جارية، وشِبه ذلك، والفصيح حَذْف "مِنْ"، فإن الفعل متعدّ بنفسه، ولكن استعمال "من" في هذا صحيح، وقد كثُر ذلك في كلام العرب، وقد جمعت من ذلك نظائر كثيرة في "تهذيب اللغات"، في حرف الميم مع النون، وتكون "مِنْ" زائدة، على مذهب الأخفش، ومَنْ وافقه في زيادتها في الواجب. انتهى كلام النوويّ رحمه الله في "شرحه"

(3)

.

(فَأَسْتَعِينَ بِهِ فِي وَلِيمَةِ عُرْسِي) هو: طعام الزِّفَاف، وقيل: اسم لكل طعام، والعِرس بالكسر امرأة الرجل، وبالضم طعام الوليمة، ويجوز هنا أن يكون بضمّ العين، فتكون الإضافة للبيان؛ أي: وليمة هي الْعُرْس، ويجوز أن يكون بالكسر، فتكون الإضافة بمعنى اللام؛ أي: وليمة لعِرْسي؛ أي: لزوجتي، والله تعالى أعلم.

(1)

"عمدة القاري" 15/ 18.

(2)

"عمدة القاري" 15/ 18.

(3)

"شرح النوويّ" 13/ 146.

ص: 522

(فَبَيْنَا أنا أَجْمَعُ لِشَارِفَيَّ مَتَاعًا) بالفتح في اللغة: كلّ ما يُنتفع به، كالطعام، والبزّ، وأثاث البيت، وأصل المتاع: ما يُتبلّغ به من الزاد، وهو اسم مِنْ مَتَّعته بالتثقيل: إذا أعطيته ذلك، والجمع أمتعة، قاله الفيّوميّ

(1)

.

والمراد هنا ما بيّنه بقوله: (مِنَ الأقتَابِ) بالفتح: جمع قَتَب بفتحتين، وهو الإكاف، أو الإكاف الصغير على قدر سنام البعير

(2)

، وقال القرطبيّ: الأقتاب: جمع قَتَب، وهو أداة الرَّحْل

(3)

. (وَالْغَرَائِرِ) بالغين المعجمة، وبالراء المكرّرة: ظرف التِّبْن ونحوه، وهو جمع غِرَارة، قال الجوهريّ: أظنه مُعَرَّبًا. انتهى

(4)

.

(وَالْحِبَالِ) بالكسر: جمع حَبْل، وهو معروف، وقوله:(وَشَارِفَايَ مُنَاخَانِ) مبتدأ وخبره، والجملة في محلّ نصب على الحال، وقوله:"مناخان"؛ أي: مبروكان.

وقال النوويّ رحمه الله: قوله: "وشارفاي مناخان" هكذا في معظم النسخ: "مناخان"، وفي بعضها:"مناختان" بزيادة التاء، وكذلك اختُلِف فيه نسخ البخاريّ، وهما صحيحان، فأَنّث باعتبار المعنى، وذَكَّر باعتبار اللفظ. انتهى

(5)

.

ويُروَى: "مناختان" فالتذكير باعتبار لفظ شارف، والتأنيث باعتبار معنا

(6)

.

(إِلَى جَنْبِ حُجْرَةِ رَجُلٍ مِنَ الأنْصَار، وَجَمَعْتُ حِينَ جَمَعْتُ مَا جَمَعْتُ)؛ أي: من الأقتاب، والغرائر، والحبال.

وقال النوويّ: قوله: "وجمعت حين جمعت ما جمعت

إلخ" هكذا في بعض نُسخ بلادنا، ونقله القاضي عن أكثر نُسخهم، وسقطت لفظة: "وجمعت" التي عقب قوله: "رجل من الأنصار" من أكثر نسخ بلادنا، ووقع في بعض النسخ: "حتى جمعت" مكان: "حين جمعت". انتهى

(7)

.

(1)

"المصباح المنير" 2/ 562.

(2)

"القاموس المحيط" ص 1027.

(3)

"المفهم" 5/ 247.

(4)

"عمدة القاري" 15/ 18.

(5)

"شرح النوويّ" 13/ 146.

(6)

"عمدة القاري" 15/ 18.

(7)

"شرح النوويّ" 13/ 146.

ص: 523

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "وجمعتُ حتَّى جمعتُ ما جمعت" هكذا رواه الطبريّ، والعذريّ، وابن ماهان بـ "حتى" التي هي للغاية، وقد رواه السِّجْزيّ، والسَّمرقندي:"حين" مكان "حتى" والأول أوضح، وقد سقط "وجمعت" الأوَّل في بعض النسخ، وبسقوطه وثبوت "حتى" يَحسُن الكلام، وقد ذكره الحميديّ في "مختصره" بلفظٍ أحسن من هذا، فقال:"وأقبلت حين جمعت ما جمعت".

قال القرطبيّ: وهذا الحديث يدلُّ على أن شُرب الخمر كان إذ ذاك مباحًا، معمولًا به، معروفًا عندهم بحيث لا يُنكر، ولا يُغيّر، وأن النبيّ صلى الله عليه وسلم أقرَّ عليه، وعليه يدلُّ قوله تعالى:{لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النساء: 43]، وقوله تعالى:{تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا} [النحل: 67] وهل كان يباح لهم شرب القَدْر الذي يُسْكِر؟ ظاهر هذا الحديث يدلّ عليه، فإنَّ ما صدر عن حمزة رضي الله عنه للنبيّ صلى الله عليه وسلم من القول الجافي المخالف لِمَا يجب من احترام النبيّ صلى الله عليه وسلم، وتوقيره، وتعزيره، يدلُّ: على أن حمزة كان قد ذهب عقله بما يسكر، ولذلك قال الراوي: فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ثَمِلَ، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يُنكر على حمزة، ولا عنَّفه لا في حال سكره، ولا بعد ذلك. فكان ذلك دليلًا على إباحة ما يُسكر عندهم، وهذا خلاف ما قاله الأصوليون وحكوه، فإنَّهم قالوا: إن السكر حرام في كل شريعة قطعًا؛ لأن الشرائع مصالح العباد قطعًا، لا مفاسدهم، وأصل المصالح العقل، كما أن أصل المفاسد ذهابه، فيجب المنع من كل ما يُذهبه ويشوشه، وما ذكروه واضح، ويمكن أن ينفصل عن حديث حمزة بأن النبيّ صلى الله عليه وسلم ترك الإنكار على حمزة في حال سكره؛ لكونه لا يعقل، وعلى إثر ذلك نزل تحريم الخمر، وأن حمزة لم يقصد بشربه السُّكر، لكنه أسرع فيه فغلبه، والله تعالى أعلم.

ولم يقع في شيء من الصحيح أن النبيّ صلى الله عليه وسلم ألزم حمزة غرامة الشارفين، لكن روى هذا الحديث عمر بن شبَّة في كتابه، وزاد فيه من رواية أبي بكر بن عياش: فَغَرِمهما النبيّ صلى الله عليه وسلم عن حمزة، وهذه الرواية جارية على الأصول؛ إذ لا خلاف في أنَّ ما يُتْلِف السكران من الأموال لزمه غرمه، وعلى تقدير ألَّا تثبت هذه الزيادة؛ فعدم النقل لا يدلّ على عدم المنقول، ولو دلَّ على ذلك لأمكن أن يقال: إنما لم يحكم عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم بالغرامة؛ لأن عليًّا رضي الله عنه لم يطلبها منه،

ص: 524

أو لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم تحمَّلها عنه كما قال في صدقة العباس، والله تعالى أعلم.

وقد احتجّ بهذا الحديث من لا يلزم طلاق السكران؛ من جهة أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يؤاخذ حمزة بما صدر عنه من قوله له، وإليه ذهب الْمُزنيّ، والليث، وبعض أصحاب أبي حنيفة، وتوقف فيها: أحمد بن حنبل، والجمهور من السَّلف وكافة الفقهاء على أن ذلك يلزمه؛ لأنَّ السكران بعد التحريم أدخل نفسه في السُّكر بمعصية الله تعالى فكان مختارًا لِمَا يكون منه فيه، ولم يكن حمزة كذلك، بل كان شُرْبُه مباحًا كما قدَّمناه، فصار ذلك بمثابة من سَكِر من شُرب اللَّبن، أو غيره من المباحات، فإنَّه لا يلزمه شيء مما يجري منه من القول، ويكون كالْمُغمى عليه، والله أعلم. انتهى

(1)

.

وقوله: (فَإِذَا شَارِفَايَ) بصيغة التثنية، ووقع عند النوويّ بلفظ:"فإذا شارفي"، فقال النوويّ: هكذا هو في معظم النسخ: "فإذا شارفي"، وفي بعضها:"فإذا شارفاي"، وهذا هو الصواب، أو يقول:"فإذا شارفي"، إلا أن يُقرأ:"فإذا شارفِي" بتخفيف الياء، على لفظ الإفراد، ويكون المراد جنس الشارف، فيدخل فيه الشارفان، والله أعلم. انتهى

(2)

.

و"إذا" هي الفجائيّة؛ أي: ففاجأني شارفاي (قَدِ اجْتبَّتْ) بالبناء للمفعول، افتُعِل من الْجَبّ، بفتح الجيم، وتشديد الباء الموحّدة، وهو القطع؛ أي: شُقّ عنها الجلد، وأخرج الشحم الذي فيها. (أَسْنِمَتُهُمَا) جمع سنام، وتقدّم معناه. (وَبُقِرَتْ) بالبناء للمفعول، من الْبَقْر، بالباء الموحدة، والقاف، وهو الشقّ. (خَوَاصِرُهُمَا) تقدّم معناه، (وَأخِذَ) بالبناء للمفعول أيضًا، (مِنْ أَكبَادِهِمَا) قال القرطبيّ رحمه الله: وهذا إنما فَعَل ذلك بعد أن نحرهما على عادتهم، وعلى هذا يدلُّ الشِّعر المذكور بعد هذا، ويَحْتَمِل أن يكون فَعَل ذلك بها من غير نحر استعجالًا لإجابة الإغراء الذي أغرته به المغنية، لا سيما، وقد كانت الخمر أخذت منه. انتهى

(3)

.

(1)

"المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" 16/ 144 - 250.

(2)

"شرح النوويّ" 13/ 146.

(3)

"المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" 16/ 143.

ص: 525

(فَلَمْ أَمْلِكْ عَيْنَيَّ)؛ أي: بكيت مغلوبًا من شدّة ما شاهدته، كما قال:(حِينَ رَأَيْتُ ذَلِكَ الْمَنْظَرَ مِنْهُمَا) قال النوويّ رحمه الله: هذا البكاء، والحزن الذي أصابه سببه ما خافه من تقصيره في حق فاطمة رضي الله عنها، وجهازها، والاهتمام بأمرها، وتقصيره أيضًا بذلك في حقّ النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولم يكن لمجرد الشارفين من حيث هما، من متاع الدنيا، بل لِمَا قدمناه، والله أعلم. انتهى

(1)

.

(قُلْتُ: مَنْ فَعَلَ هَذَا؟ قَالُوا: فَعَلَهُ حَمْزَةُ بْنُ عبد المُطلِب، وَهُوَ فِي هَذَا الْبَيْتِ فِي شَرْبٍ) بفتح الشين المعجمة، وسكون الراء: جمع شارب، وهم الجماعة الشاربون. (مِنَ الأنصَار، غَنَّتْهُ قَيْنَةٌ وَأَصْحَابَهُ، فَقَالَتْ فِي غِنَائِهَا:

أَلا يَا حَمْزَ لِلشُّرُفِ النِّوَاءِ)

قال القرطبيّ رحمه الله: قولها: "ألَّا يا حَمْزُ للشُّرُفِ النِّواءِ"؛ الرواية الصحيحة المشهورة في هذا اللفظ: "للشُّرُف" باللام، وضم الراء، و"النواء" بكسر النون، فالشُّرُف بضم الراء: جمع شارف على غير قياس، وذلك أن الشارف مؤنث؛ لأنَّه اسم للناقة الْمُسِّنة، وهو في أصله صفة لها، فكان حَقَّه أن يجمع على "فواعل"، أو "فُعَّل"؛ لأنَّهما مثالا جمع فاعل، إذا كان للمؤنث، لكنه لما كان مذكر اللفظ - أي: ليس فيه علامة تأنيث - حملوه على "بازل" الذي هو صفة للجمل المسنِّ، فجمعوه جَمْعَهُ، فقالوا: شُرُف، كما قالوا: بُزُل، واللام في "للشُّرُف" لام الجرّ، وهي متعلقة بفعل محذوف دلَّ عليه الحال؛ أي: انْهَضْ للشُّرُف، أو: قُم لها، تُحرِّضُه على نحرها، ولذلك قام حمزة فنحرها.

و"النواء": السمان، يقال: نَوَتِ الناقةُ، تنوي: إذا سَمِنت، فهي ناوية، وجمعها: نِوَاء، وهو أيضًا على غير قياس، كما تقدَّم، قال الخطابيّ: وقد رَوَى هذا اللفظ أبو جعفر الطبريّ: "ذا الشَرَف النواء" بـ "ذا" التي بمعنى صاحب، وبفتح الراء والشين، قال: وفسَّره بالبُعْد.

قال القرطبيّ: وفي هذه الرواية ومعناها بُعْدٌ، والصواب: رواية الجماعة كما ذكرناه آنفًا. انتهى

(2)

.

(فَقَامَ حَمْزَةُ بِالسَّيْف، فَاجْتَبَّ أَسْنِمَتَهُمَا، وَبَقَرَ خَوَاصِرَهُمَا، فَأَخَذَ مِنْ

(1)

"شرح النووي" 13/ 146.

(2)

"المفهم" 5/ 246 - 247.

ص: 526

أَكْبَادِهِمَا، قَالَ عَلِيٌّ: فَانْطَلَقْتُ حَتَّى أَدْخُلَ)؛ أي: ذهبت حتى دخلت عليه صلى الله عليه وسلم ويجوز فيه الرفع، والنصب، ورجّح ابن مالك النصب، وعبّر بصيغة المضارعة مبالغة في استحضار صورة الحال، وإلا فكان الأصل أن يقول: حتى دخلت على النبيّ صلى الله عليه وسلم

(1)

. (عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَعِنْدَهُ زيدُ بْنُ حَارِثَةَ، قَالَ) عليّ رضي الله عنه (فَعَرَفَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي وَجْهِي الَّذِي لَقِيتُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا لَكَ؟ "، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ وَاللهِ مَا رَأَيْتُ كَالْيَوْمِ قَطُّ) قال القرطبيّ رحمه الله: هذا كلام كثُر عندهم، حتى صار كالمثل، والكاف فيه نعت لـ"يوم" محذوف، تقديره: ما رأيت يومًا مثل اليوم، يُهَوِّله لِمَا لقي فيه، ويَحْتَمِل أن يكون نعتًا لمصدر محذوف؛ أي: ما رأيت كرْبًا مثل كرْب اليوم، أو ما شاكل ذلك، ويدلُّ على الأول ما أنشده ابن شبَّة من الزيادة في شعر القَيْنة، فقال:

ألا يا حمز للشُّرفِ النِّواءِ

وهنَّ مُعَقَّلاتٌ بالفِنَاء

ضع السكين في اللَّبَّات مِنها

وضَرِّجْهُنَّ حَمْزةُ بالدِّماءِ

وعَجِّل من أَطايِبها لِشَرْبٍ

قَدِيرًا من طَبِيخٍ أو شِواءِ

قال القرطبيّ: وعلى هذا فيكون فيه حجةٌ على إباحة أكل ما ذبحه غير المالك تعديًّا، كالغاصب، والسارق، وهو قول جمهور العلماء: مالك، والشافعيّ، وأبي حنيفة، والثوريّ، والأوزاعيّ، وخالف في ذلك: إسحاق، وداود، وعكرمة، فقالوا: لا يؤكل، وهو قول شاذٌّ، وحجَّة الجمهور: أن الذكاة وقعت من المتعدِّي على شروطها الخاصة بها، وقيمة الذبيحة قد تعلَّقت بذمة المتعدِّي، فلا موجب للمنع، وقد وقع التفويت، وقد روى ابن وهب حديثًا يدلُّ على جواز الأكل، فليُبحث عنه، ويُكتب هنا. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله.

قال الجامع عفا الله عنه: أشار بالحديث إلى ما أخرجه أبو داود بسند صحيح، عن عاصم بن كليب، عن أبيه، عن رجل من الأنصار، قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة، فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو على القبر يوصي الحافر:"أَوْسِعْ من قِبَل رجليه، أَوْسِعْ من قبل رأسه"، فلما رجع استقبله داعي

(1)

"الكوكب الوهّاج" 21/ 17.

ص: 527

امرأةٍ، فجاء، وجيء بالطعام، فوَضَع يده، ثم وَضَع القوم، فأكلوا، فنظر آباؤنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يلوك لقمة في فمه، ثم قال:"أجد لحم شاة أُخذت بغير إذن أهلها"، فأرسلت المرأة، قالت: يا رسول الله، إني أرسلت إلى البقيع تُشتَرَى لي شاة، فلم أجد، فأَرسلت إلى جار لي قد اشترى شاةً، أن أرسل إليّ بها بثمنها، فلم يوجد، فأرسلت إلى امرأته، فأرسلت إليّ بها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أطعميه الأسارى". انتهى

(1)

.

والحديث صحيح، وهو نصّ في الموضوع، وهو أن ما ذُبح بغير إذن صاحبه يجوز أكله، فإنه صلى الله عليه وسلم أمر بإطعامه الأسارى، وإنما تَرَكه هو تورّعًا، لا تحريمًا، ولذلك أورده أبو داود محتجًّا به في "باب في اجتناب الشبهات"، فتأمل، والله تعالى أعلم.

(عَدَا حَمْزَةُ عَلَى نَاقَتَيَّ، فَاْجْتَبَّ أَسْنِمَتَهُمَا، وَبَقَرَ خَوَاصِرَهُمَا، وَهَا هُوَ ذَا فِي بَيْتٍ، مَعَهُ شَرْبٌ، قَالَ: فَدَعَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِرِدَائِه، فَارْتَدَاهُ) قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في النُّسخ كلِّها: "فارتداه"، وفيه جواز لباس الرداء، وترجم له البخاريّ بابًا، وفيه أن الكبير إذا خرج من منزله تجمَّل بثيابه، ولا يقتصر على ما يكون عليه في خلوته في بيته، وهذا من المروءات، والآداب المحبوبة. انتهى

(2)

.

(ثُمَّ انْطَلَقَ يَمْشِي، وَاتَّبَعْتُهُ أَنَا وَزيدُ بْنُ حَارِثَةَ، حَتى جَاءَ الْبَابَ الَّذِي فِيهِ حَمْزَةُ، فَاسْتَأْذَنَ، فَأَذِنُوا لَهُ، فَإِذَا هُمْ شَرْبٌ، فَطَفِقَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَلُومُ حَمْزَةَ فِيمَا فَعَلَ)؛ أي: جعل يلومه، يقال:" طَفِقَ" بكسر الفاء، وفتحها، حكاه القاضي وغيره، والمشهور الكسر، وبه جاء القرآن، قال الله تعالى:{رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ} [ص: 33].

(فَإِذَا حَمْزَةُ

(3)

مُحْمَرَّةٌ عَيْنَاهُ، فَنَظَرَ حَمْزَةُ إِلَى رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ صَعَّدَ النَّظَرَ) بفتح الصاد المهملة، وتشديد العين المهملة المفتوحة؛ أي: جَرّ النظر (إِلَى رُكبَتَيْهِ) صلى الله عليه وسلم (ثُمَّ صَعَّدَ النَّظَرَ، فَنَظَرَ إِلَى سُرَّتِهِ) صلى الله عليه وسلم (ثُمَّ صَعَّدَ النَّظَرَ، فَنَظَرَ إِلَى

(1)

"سنن أبي داود" 3/ 244.

(2)

"شرح النوويّ" 13/ 146.

(3)

وفي نسخة: "وإذا حمزة".

ص: 528

وَجْهِهِ) صلى الله عليه وسلم (فَقَالَ حَمْزَةُ: وَهَلْ أنتُمْ إِلَّا عَبِيدٌ لأَبِي؟)؛ أي: كعبيد، وغرضه أن عبد الله وأبا طالب كانا كأنهما عبدان لعبد المطلب في الخضوع لحرمته، وأنه أقرب إليه منهما. (فَعَرَفَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنَّهُ ثَمِلُ) بفتح الثاء المثلّثة، وكسر الميم؛ أي: سكران، (فَنكَصَ)؛ أي: رجع (رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى عَقِبَيْهِ الْقَهْقَرَى) قال الأخفش: يعني رجع وراءه، ووَجْهه إليه، والنكوص: الرجوع إلى وراء، يقال: نَكَصَ يَنكُصُ، من باب نصر، فهو ناكص، قال ابن الأثير: القهقرى مصدر، ومنه قولهم: رجع القهقرى؛ أي: رجع الرجوعَ الذي يُعْرَف بهذا الاسم، وقال في "العمدة": فيكون القهقرى منصوبًا على المصدرية من غير لفظه، كما في قعدت جلوسًا، وقال الأزهريّ: القهقرى: الارتداد عما كان عليه، وقد قَهْقَر، وتقهقر، وقيل: إنه مشتق من القهر. انتهى

(1)

.

(وَخَرَجَ) صلى الله عليه وسلم عن مكان حمزة رضي الله عنه (وَخَرَجْنَا مَعَهُ).

قال في "العمدة": وقال الطبريّ: وفي حديث عليّ رضي الله عنه أن المسلمين كانوا يشربون الخمر، ويسمعون الغناء في أول الإسلام، حتى نهى الله عن ذلك بقوله:{إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} الآية [المائدة: 90]، وإنما حُرِّمت الخمر بعد غزوة أُحد، والله تعالى أعلم.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام البحث فيه، ولله الحمد.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5122]

(

) - (وَحَدَّثَنِيهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ قُهْزَاذَ، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ عُثْمَانَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ الْمُبَارَك، عَنْ يُونُسَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، بِهَذَا الإِسْنَاد، مِثْلَهُ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ قُهْزَاذَ) المروزيّ، ثقةٌ [11](262)(م) تقدم في "المقدمة" 5/ 32.

2 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ عُثْمَانَ) بن جَبَلَة بن أبي رَوّاد الْعَتَكيّ، أبو عبد الرحمن المروزيّ الملقّب بعبدان، ثقةٌ حافظٌ [10](221) في شعبان (خ م د ت س) تقدم في "المقدمة" 5/ 32.

(1)

"عمدة القاري" 15/ 18.

ص: 529

3 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ الْمُبَارَكِ) الإمام الشهير، تقدّم قريبًا.

والباقيان ذُكرا قبله.

[تنبيه]: رواية ابن المبارك، عن يونس بن يزيد الأيليّ هذه ساقها البخاريّ في "صحيحه"، بسند مسلم، فقال:

(2925)

- حدّثنا عبدان، أخبرنا عبد الله، أخبرنا يونس، عن الزهريّ قال: أخبرني عليّ بن الحسين، أن حسين بن عليّ عليه السلام أخبره أن عليًّا قال: كانت لي شارف من نصيبي من المغنم يوم بدر، وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم أعطاني شارفًا من الخمس، فلما أردت أن أبتني بفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم واعدت رجلًا صوّاغًا من بني قينقاع أن يرتحل معي، فنأتي بإذخر، أردت أن أبيعه الصوّاغين، وأستعين به في وليمة عرسي، فبينا أنا أجمع لشارفيّ متاعًا من الأقتاب، والغرائر، والحبال، وشارفاي مُناخان إلى جنب حجرة رجل من الأنصار، رجعت حين جمعت ما جمعت، فإذا شارفاي قد اجتُبَّ أسنمتُهُما، وبُقِرت خواصرهما، وأُخذ من أكبادهما، فلم أملك عينيّ حين رأيت ذلك المنظر منهما، فقلت: من فعل هذا؟ فقالوا: فعل حمزة بن عبد المطلب، وهو في هذا البيت في شَرْب من الأنصار، فانطلقت حتى أدخلَ على النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعنده زيد بن حارثة، فعَرَف النبيّ صلى الله عليه وسلم في وجهي الذي لقيت، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"ما لك؟ " فقلت: يا رسول الله ما رأيت كاليوم قطّ، عدا حمزة على ناقتيّ، فأجبّ أسنمتهما، وبَقَر خواصرهما، وها هو ذا في بيت، معه شَرْب، فدعا النبيّ صلى الله عليه وسلم بردائه، فارتدى، ثم انطلق يمشي، واتبعته أنا وزيد بن حارثة، حتى جاء البيت الذي فيه حمزة، فاستأذن، فأذنوا لهم، فإذا هم شَرْب، فطَفِق رسول الله صلى الله عليه وسلم يلوم حمزة فيما فَعَل، فإذا حمزة قد ثَمِلَ، محمرّة عيناه، فنظر حمزة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم صَعّد النظر، فنظر إلى ركبته، ثم صعّد النظر، فنظر إلى سرّته، ثم صعّد النظر، فنظر إلى وجهه، ثم قال حمزة: هل أنتم إلا عبيد لأبي؟ فعَرَف رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قد ثَمِلَ، فنَكَص رسول الله صلى الله عليه وسلم على عقبيه القهقرَى، وخرجنا معه. انتهى

(1)

.

(1)

"صحيح البخاريّ" 3/ 1125.

ص: 530

والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5123]

(1980) - (حَدَّثَنِي أَبُو الرَّبِيعِ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ الْعَتَكِيُّ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ - يَعْنِي: ابْنَ زيدٍ - أَخْبَرَنَا ثَابِتٌ، عَنْ أنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ؛ كُنْتُ سَاقِيَ الْقَوْمِ يَوْمَ حُرِّمَتِ الْخَمْرُ فِي بَيْتِ أَبِي طَلْحَةَ، وَمَا شَرَابُهُمْ إِلَّا الْفَضِيخُ، الْبُسْرُ، وَالتَّمْرُ، فَإِذَا مُنَادٍ يُنَادِي، فَقَالَ: اخْرُجْ، فَانْظُرْ، فَخَرَجْتُ، فَإِذَا مُنَادٍ يُنَادِي: أَلا إِنَّ الْخَمْرَ قَدْ حُرِّمَتْ، قَالَ: فَجَرَتْ فِي سِكَكِ الْمَدِينَة، فَقَالَ لِي أَبُو طَلْحَةَ: اخْرُجْ، فَأَهْرِقْهَا، فَهَرَقْتُهَا، فَقَالُوا، أَو قَالَ بَعْضُهُمْ: قُتِلَ فُلَانٌ، قُتِلَ فُلَانٌ، وَهِيَ فِي بُطُونِهِمْ - قَالَ: فَلَا أَدْرِي هُوَ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ - فَأَنزَلَ اللهُ: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [المائدة: 93]).

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(أَبُو الرَّبِيعِ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ الْعَتَكِيُّ) تقدّم قريبًا.

2 -

(حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ) تقدّم أيضًا قريبًا.

3 -

(ثَابِتُ) بن أسلم الْبُنانيّ البصريّ، أبو محمد البصريّ، ثقةٌ عابدٌ [4] مات سنة بضع و (120) وله (86) سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 80.

4 -

(أنسُ بْنُ مَالِكٍ) الصحابيّ الشهير رضي الله عنه، تقدّم قريبًا.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، كالأسانيد الثلاثة التالية، وهو (367) من رباعيّات الكتاب، وهو مسلسلٌ بالبصريين، وفيه ثابت لزم أنسًا رضي الله عنه أربعين سنةً، وفيه أنس بن مالك رضي الله عنه الخادم الشهير، وأحد المكثرين السبعة، وآخر من مات من الصحابة بالبصرة، مات سنة (2 أو 93) وقد جاوز المائة.

شرح الحديث:

(عَنْ أنَسِ بْنِ مَالِكٍ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: كنْتُ سَاقِيَ الْقَوْمِ) وفي الرواية التالية: "إني لقائم أسقيها أبا طلحة، وأبا أيّوب، ورجالًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتنا"، وفي الرواية الثالثة: "إني لقائم على الحيّ، على

ص: 531

عُمومتي، أسقيهم من فضيخ لهم"، وفي الرواية الرابعة: "كنت قائمًا على الحيّ أسقيهم"، وفي الرواية الخامسة: "كنت أسقي أبا طلحة، وأبا دُجانة، ومعاذ بن جبل في رهط من الأنصار"، وفي الرواية السادسة: "إني لأسقي أبا طلحة، وأبا دُجانة، وسُهيل بن بيضاء من مزادة فيها خليط بُسْر وتمر"، وفي الرواية السابعة: "كنت أسقي أبا عُبيدة بن الجرّاح، وأبا طلحة، وأُبيّ بن كعب شرابًا من فضيخ وتمر". (يَوْمَ حُرِّمَتِ الْخَمْرُ) ببناء الفعل للمفعول، والظرف متعلّق بـ "كنت"، أو بـ "ساقي"، وكذا قوله:(في بَيْتِ أَبِي طلْحَةَ) وهو زيد بن سهل بن الأسود بن حرام الأنصاريّ النجّاري رضي الله عنه، تقدّمت ترجمته قريبًا. (وَمَا شَرَابُهُمْ)؛ أي: شراب الصحابة الذين سقاهم أنس، وغيرهم (إِلَّا الْفَضِيخُ) - بفتح الفاء، وكسر الضاد المعجمة، آخره خاء معجمة - بوزن عظيم: شراب يُتّخذ من البُسر المفضوخ؛ أي: المكسور، ومراد أنس رضي الله عنه أن الفضيخ هو محل الآية، فتناوُل الآية له أولى، وقوله:(الْبُسْرُ، وَالتَّمْرُ) بدل من الفضيخ، وقال النوويّ: قال إبراهيم الحربيّ: الْفَضِيخ أن يَفْضُخَ الْبُسْر، ويَصُبّ عليه الماءَ، وَيَتركه حتى يَغْلِيَ، وقال أبو عُبيد: هو ما فُضِخ من الْبُسْر من غير أن يمسّه نار، فإن كان معه تمر فهو خليط. انتهى

(1)

.

وفي رواية للبخاريّ: "من فضيخ زَهْوٍ وتمرٍ"، فقال في "الفتح": قوله: "من فَضِيخِ زَهْوٍ، وتمر" أما الفَضِيخ فهو بفاء، وضاد معجمتين، وزن عظيم: اسم للبسر إذا شُدِخ، ونُبِذ، وأما الزَّهْوُ فبفتح الزاي، وسكون الهاء، بعدها واو، وهو البُسر الذي يَحْمَرّ، أو يَصْفَرّ قبل أن يترطّب، وقد يُطلق الفضيخ على خليط البسر والرطب، كما يُطلق على خليط البسر والتمر، وكما يُطلق على البسر وحده، وعلى التمر وحده، وسيأتي عند مسلم من طريق قتادة، عن أنس:"أسقيهم من مَزادة، فيها خليط بسر وتمر"، وعند أحمد من طريق قتادة، عن أنس:"وما خمرهم يومئذ إلا البسر والتمر مخلوطين"

(2)

.

(1)

"شرح النوويّ" 13/ 148.

(2)

"الفتح" 12/ 600، كتاب "الأشربة" رقم (5582).

ص: 532

(فَإِذَا مُنَادٍ يُنَادِي) لا يُعرف اسمه

(1)

، وفي رواية:"فأتاهم آتٍ، فقال: إن الخمر حرّمت"، وفي رواية للبخاريّ:"فجاءهم آت"، قال الحافظ: لم أقف على اسمه، ووقع في رواية حميد، عن أنس عند أحمد بعد قوله:"أسقيهم": "حتى كاد الشراب يأخذ فيهم"، ولابن مردويه:"حتى أسرعت فيهم"، ولابن أبي عاصم:"حتى مالت رؤوسهم، فدخل داخل"، وفي رواية عند البخاريّ أيضًا:"فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مناديًا، فنادى"، وفي رواية عنده:"إذ جاء رجل، فقال: هل بلغكم الخبر؟ قالوا: وما ذاك؟ قال: قد حُرِّمت الخمر".

قال في "الفتح": وهذا الرجل يَحْتَمِل أن يكون هو المنادي، ويَحْتَمِل أن يكون غيره، سمع المنادي، فدخل إليهم، فأخبرهم.

وقد أخرج ابن مردويه، من طريق بكر بن عبد الله، عن أنس: "قال: لَمّا حُرِّمت الخمر، وحلف على أناس

(2)

من أصحابي، وهي بين أيديهم، فضربتها برجلي، وقلت: نزل تحريم الخمر"، فَيَحْتَمِل أن يكون أنس خرج، فاستخبر الرجل، لكن أخرجه من وجه آخر أن الرجل قام على الباب، فذكر لهم تحريمها، ومن وجه آخر: "أتانا فلان من عند نبيّنا، فقال: قد حُرِّمت الخمر، قلنا: ما تقول؟ فقال: سمعته من النبيّ صلى الله عليه وسلم الساعةَ، ومن عنده أتيتكم". انتهى

(3)

.

(فَقَالَ) أبو طلحة لأنس (اخْرُجْ) من البيت (فَانْظُرْ) وفي رواية: "فقال أبو طلحة: اخرج، فانظر ما هذا الصوت؟ "، (فَخَرَجْتُ، فَإِذَا) هي الفجائيّة؛ أي: ففاجأني (مُنَادٍ) هو منادي النبيّ صلى الله عليه وسلم أمره بذلك، (يُنَادِي: ألَا) أداة استفتاح وتنبيه، (إِن الْخَمْرَ) بكسر همزة "إن" لوقوعها في الابتداء، كما قال في "الخلاصة":

فَاكْسِرْ فِي الابْتِدَا وَفِي بَدْءِ صِلَهْ

وَحَيْثُ "إِنَّ" لِيَمِينٍ مُكْمِلَهْ

(قَدْ حُرِّمَتْ) بالبناء للمفعول؛ أي: نزل تحريمها.

(1)

راجع: "الفتح" 12/ 600، و"تنبيه المعلم" ص 340.

(2)

محلّ تأمل، فليُحرّر.

(3)

"الفتح" 12/ 600، كتاب "الأشربة" رقم (5582).

ص: 533

[تنبيه]: قال في "الفتح" في رواية عبد العزيز بن صهيب: "أن رجلًا أخبرهم أن الخمر حُرِّمت، فقالوا: أَرِقْ يا أنس"، وفي رواية ثابت، عن أنس:"أنهم سمعوا المنادي، فقال أبو طلحة: اخرج يا أنس، فانظر ما هذا الصوت؟ "، وظاهرهما التعارض؛ لأن الأول يُشعر بأن المنادي بذلك شافههم، والثاني يُشعر بأن الذي نقل لهم ذلك غير أنس، فنقل ابن التين عن الداوديّ أنه قال: لا اختلاف بين الروايتين؛ لأن الآتي أخبر أنسًا، وأنس أخبر القوم، وتعقبه ابن التين بأن نصّ الرواية الأولى أن الآتي أخبر القوم مشافهة بذلك. قال الحافظ: فيمكن الجمع بوجه آخر، وهو أن المنادي غير الذي أخبرهم، أو أن أنسًا لمّا أخبرهم عن المنادي جاء المنادي أيضًا في أثره، فشافههم. انتهى

(1)

، وهو بحث حسنٌ مفيد، والله تعالى أعلم.

(قَالَ) أنس (فَجَرَتْ) الخمر المصبوبة (فِي سِكَكِ الْمَدِينَةِ)؛ أي: طُرُقها، وهي بكسر السين، وفتح الكاف: جمع سِكّة، مثلُ سِدْرة وسِدَر، وهي الزُّقاق، وهي أيضًا الطريق المصطفّة من النخل، والسّكة أيضًا: حديدة منقوشة تُطبع فيها الدراهم والدنانير، أفاده الفيّوميّ

(2)

، والمناسب هنا المعنى الأول.

قال في "الفتح": وفيه إشارة إلى توارد من كانت عنده من المسلمين على إراقتها حتى جرت في الأزقة من كثرتها، قال القرطبيّ: تمسّك بهذه الزيادة بعدُ من قال: إن الخمر المتخذة من غير العنب ليست نجسةً؛ لأنه صلى الله عليه وسلم نَهَى عن التخلي في الطرق، فلو كانت نجسة ما أقرّهم على إراقتها في الطرقات، حتى تجري.

والجواب أن القصد بالإراقة كان لإشاعة تحريمها، فإذا اشتهر ذلك كان أبلغ، فيُحْتَمَل أخف المفسدتين لحصول المصلحة العظيمة الحاصلة من الاشتهار، ويَحْتَمِل أنها إنما أريقت في الطرق المنحدرة بحيث تنصب إلى الأسربة، والحشوش، أو الأودية، فتُستهلك فيها، ويؤيّده ما أخرجه ابن مردويه من حديث جابر بسند جيّد في قصة صبّ الخمر، قال: "فانصبّت حتى

(1)

"الفتح" 10/ 99، كتاب "التفسير" رقم (4620).

(2)

"المصباح المنير" 1/ 282.

ص: 534

استنقعت في بطن الوادي"، والتمسّك بعموم الأمر باجتنابها كافٍ في القول بنجاستها. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: القول بنجاسة الخمر محلّ نظر، سيأتي تحقيقه قريبًا - إن شاء الله تعالى -.

قال أنس: (فَقَالَ لِي أَبُو طَلْحَةَ: اخْرُجْ، فَأَهْرِقْهَا) أصله فَأَرِقْها، فالهاء زائدة، وقوله:(فَهَرَقْتُهَا) أصله أيضًا أرقتها، فأُبدلت الهمزة هاء، قال الفيّوميّ رحمه الله: رَاقَ الماءُ والدمُ وغيره رَيْقًا، من باب باع: انصبّ، ويتعدى بالهمزة، فيقال: أَرَاقَهُ صاحبه، والفاعل مُرِيقٌ، والمفعول مُرَاقٌ، وتبدل الهمزة هاء، فيقال: هَرَاقَهُ، والأصل هَرْيَقَهُ، وِزانُ دَحْرَجَهُ، ولهذا تُفتح الهاء من المضارع، فيقال: يُهَرِيقه، كما تُفْتح الدالُ من يُدَحْرجه، وتُفتح من الفاعل، والمفعول أيضًا، فيقال: مُهَرِيقٌ، ومُهَرَاقٌ، قال امرؤ القيس [من الطويل]:

وَإِنَّ شِفَائِي عَبْرَةٌ مُهَرَاقَةٌ

فَهْلْ عِنْدَ رَسْمِ دَارِسٍ مِنْ مُعَوَّلٍ

والأمر: هَرِقْ ماءك، والأصل: هَرْيِقْ وزانُ دَحْرِج، وقد يُجمع بين الهاء والهمزة، فيقال: أَهْرَاقَة يُهْرِيقُهُ ساكن الهاء؛ تشبيهًا له بأَسْطَاع يُسْطيع، كأن الهمزة زيدت عوضًا عن حركة الياء في الأصل، ولهذا لا يصير الفعل بهذه الزيادة خماسيًّا، ودعا بذَنُوب، فَأُهْرِقَ ساكن الهاء، وفي "التهذيب": من قال: أَهْرَقْتُ فهو خطأ في القياس، ومنهم من يجعل الهاء كأنها أصل، ويقول: هَرَقْتُهُ هَرْقًا، من باب نفع، وفي الحديث:"إِنَّ امْرَأَةً كَانَتْ تُهْرَاقُ الدِّمَاءَ" بالبناء للمفعول، والدماءَ نُصِب على التمييز، ويجوز الرفع على إسناد الفعل إليها، والأصل: تُهْرَاقُ دماؤها، لكن جُعلت الألف واللام بدلًا عن الإضافة، كقوله تعالى:{عُقْدَةَ النِّكَاحِ} [البقرة: 235]؛ أي: نكاحها. انتهى

(2)

.

وهذا البحث بكامله قد تقدّم في "كتاب الطهارة"، وإنما أعدته؛ لطول العهد به، فتنبَّه، وبالله تعالى التوفيق.

ووقع في رواية بلفظ: "فَأَرِقْها"، ورواية: "فقالوا: أَرِق هذه القلال يا

(1)

"الفتح" 12/ 602.

(2)

"المصباح المنير" 1/ 248.

ص: 535

أنس"، وهو محمول على أن المخاطِب له بذلك أبو طلحة، ورَضِي الباقون بذلك، فنُسب الأمرُ بالإراقة إليهم جميعًا.

ووقع في رواية بلفظ: "أكفئها" بكسر الفاء مهموزًا بمعنى: أَرِقْها، وأصل الإكفاء الإمالة.

وفي رواية مالك، عن إسحاق الآتية:"قال أبو طلحة: يا أنس قم إلى هذه الجرّة، فاكسرها، فقمت إلى مِهْرَاس لنا، فضربتها بأسفله، حتى انكسرت".

قال في "الفتح": وهذا لا ينافي الروايات الأخرى، بل يُجمع بأنه أراقها، وكَسَر أوانيها، أو أراق بعضًا، وكَسَر بعضًا.

وقد ذكر ابن عبد البرّ إن إسحاق بن أبي طلحة تفرّد عن أنس بذكر الكسر، وأن ثابتًا، وعبد العزيز بن صهيب، وحميدًا، وعَدّ جماعة من الثقات رووا الحديث بتمامه، عن أنس، منهم من طوّله، ومنهم من اختصره، فلم يذكروا إلا إراقتها.

والْمِهْراس بكسر الميم، وسكون الهاء، وآخره مهملة: إناء يُتَّخَذ من صخر، ويُنقر، وقد يكون كبيرًا كالحوض، وقد يكون صغيرًا بحيث يتأتى الكسر به، وكأنه لم يحضره ما يكسر به غيره، أو كسر بآلة المهراس التي يُدَقّ بها فيه، كالهاوَن، فأَطْلق اسمه عليها مجازًا.

ووقع في رواية حميد عن أنس، عند أحمد:"فوالله ما قالوا: حتى ننظر، ونسأل"، وفي رواية عبد العزيز بن صهيب عند البخاريّ في "التفسير":"فوالله ما سألوا عنها، ولا راجعوها بعد خبر الرجل". انتهى

(1)

.

(فَقَالُوا)؛ أي: الناس الذين في بيت أبي طلحة، (أَو قَالَ بَعْضُهُمْ)"أو" هنا للشك من الراوي، ولا يُعرف اسم القائلين، ولا القائل، كما قاله في "الفتح". (قُتِلَ فُلَانٌ، قُتِلَ فُلَانٌ، وَهِيَ)؛ أي: الخمر (فِي بُطُونِهِمْ - قَالَ) القائل هو حمّاد بن زيد، ففي رواية الإسماعيليّ، قال حماد: فلا أدري هذا في الحديث؛ أي: عن أنس، أو قاله ثابت؛ أي: مرسلًا؛ يعني: قوله: "فقال

(1)

"الفتح" 12/ 601، كتاب "الأشربة" رقم (5582).

ص: 536

بعض القوم " إلى آخر الحديث، ووقع للبخاريّ في "المظالم " عن أنس بطوله، من طريق عفّان عن حماد، كما وقع عنده في "التفسير"، فالله أعلم، وأخرجه ابن مردويه من طريق قتادة، عن أنس بطوله، وفيه الزيادة المذكورة، أفاده في "الفتح"

(1)

.

(فَلَا أَدْرِي هُوَ)؛ أي: قوله: "فقال بعض القوم

إلخ " (مِنْ حَدِيثِ أنسٍ - فَأَنزَلَ اللهُ: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} .

وروى النسائيّ، والبيهقيّ من طريق ابن عباس، قال: "نزل تحريم الخمر في ناس شربوا، فلما ثَمِلوا عَبَثُوا، فلما صَحوا جعل بعضهم يَرَى الأثر بوجه الآخر، فنزلت، فقال ناس من المتكلفين: هي رجس، وهي في بطن فلان، وقد قُتل بأحد، فنزلت:{لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ} إلى آخرها.

ورَوَى البزار من حديث جابر: أن الذين قالوا ذلك كانوا من اليهود.

وروى أصحاب "السنن " من طريق أبي ميسرة، عن عُمَر أنه قال: اللهم بَيِّن لنا في الخمر بيانًا شافيًا، فنزلت الآية التي في "البقرة":{قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ} فقرئت عليه، فقال: اللهم بَيِّن لنا في الخمر بيانًا شافيًا، فنزلت التي في النساء:{لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} فقرئت عليه، فقال: اللهم بَيِّن لنا في الخمر بيانًا شافيًا، فنزلت التي في المائدة:{فَاجْتَنِبُوهُ} إلى قوله: {مُنْتَهُونَ} ، فقال عمر: انتهينا، انتهينا. وصححه عليّ بن المدينيّ، والترمذيّ.

وأخرج أحمد من حديث أبي هريرة نحوه، دون قصّة عمر، لكن قال عند نزول آية "البقرة": فقال الناس: ما حُرِّم علينا، فكانوا يشربون، حتى أَمّ رجل أصحابه في المغرب، فخلط في قراءته، فنزلت الآية التي في "النساء"، فكانوا يشربون، ولا يقرب الرجل الصلاة حتى يُفيق، ثم نزلت آية "المائدة"، فقالوا: يا رسول الله ناسٌ قُتلوا في سبيل الله، وماتوا على فُرُشهم، وكانوا يشربونها؟، فأنزل الله تعالى:{لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ} الآية، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"لو حُرِّم عليهم لتركوه، كما تركتموه".

(1)

"الفتح" 10/ 98، كتاب "التفسير" رقم (4620).

ص: 537

وفي "مسند الطيالسيّ " من حديث ابن عمر نحوه، وقال:"في الآية الأولى: قيل: حُرِّمت الخمر، فقالوا: دعنا يا رسول الله ننتفع بها، وفي الثانية: فقيل: حُرِّمت الخمر، فقالوا: لا، إنا لا نشربها قُرب الصلاة، وقال في الثالثة: فقالوا: يا رسول الله حُرِّمت الخمر"، والله تعالى أعلم.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "قال بعضهم: قُتِل فلان، قُتِل فلان، وهي في بطونهم" هذا القول أصدره عن قائله إما غلبةُ خوف، وشفقة، وإما غفلةٌ عن المعنى، وبيان ذلك أن الخمر كانت مباحة لهم، كما قد صحَّ أنهم كانوا يشربونها، والنبيّ صلى الله عليه وسلم يُقرّهم عليها، وهو ظاهر قوله تعالى:{لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} الآية [النساء: 43]، ومَنْ فَعَل ما أُبيحَ له حتى مات على فعله لم يكن له، ولا عليه شيء، لا إثم، ولا مؤاخذة، ولا ذمٌّ، ولا أجر، ولا مدح، لأنَّ المباح مستوي الطرفين بالنسبة للشرع كما يُعرف في الأصول. وعلى هذا فما ينبغي أن يُتخوَّف، ولا يُسأل عن حال من مات والخمر في بطنه وقت إباحتها، فإمَّا أن يكون ذلك القائل غَفَلَ عن دليل الإباحة، فلم يخطر له، أو يكون لغلبة خوفه من الله تعالى، وشَفَقته على إخوانه المؤمنين توهَّم مؤاخذةً، ومعاقبةً؛ لأجل شرب الخمر المتقدّم، فإنَّ الشفيقَ بسوءِ الظنِّ مولعٌ، فرفع الله ذلك التوهُّم بقوله تعالى:{لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} [المائدة: 93]؛ أي: فيما شربوا، وهذا مثل قوله تعالى في نَهْر طالوت:{فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي} [البقرة: 249]؛ أي: ومن لم يشربه، وأصل هذا اللفظ في الأكل، يُقال: طَعِمَ الطَّعام، وشَرِب الشراب، لكن قد تجوَّز في ذلك، وأحسن ما قيل في الآية: إن معنى قوله: {طَعِمُوا} : شربوا الخمر قبل تحريمها، {إِذَا مَا اتَّقَوْا} شُرْبها بعده، {وَآمَنُوا} بتحريمها، {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}: التي تَصدُّ عنها، {ثُمَّ اتَّقَوْا} داوموا على اجتنابها، {وَآمَنُوا}: بالوعيد عليها، {ثُمَّ اتَّقَوْا} سوء التأويل في تحريمها، {وَأَحْسَنُوا} ، في اجتنابها مراقبةً لله، وقيل: إنَّ تكرار الاتّقاء في مقابلة دواعي النفس، وتكرار الإيمان تذكير بتحريمها، وتشديد الوعيد فيها، و"الْجُناح": الإثم، والمؤاخذة. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(1)

، وهو بحث حسن جدًّا، والله تعالى أعلم.

(1)

"المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" 17/ 2.

ص: 538

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أنس بن مالك رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنف) هنا [1/ 5123 و 5124 و 5125 و 5126 و 5127 و 5128](1980)، و (البخاريّ) في "المظالم"(2464) و"التفسير"(4617 و 4620) و"الأشربة"(5580 و 5582 و 5583 و 5584 و 5622) و"أخبار الآحاد"(7253) و"الأدب المفرد"(1241)، و (أبو داود) في "الأشربة"(3673)، و (النسائيّ) في "الأشربة"(8/ 287) و"الكبرى"(3/ 203 و 4/ 182)، و (مالك) في "الموطّأ "(2/ 846 - 847)، و (الشافعيّ) في "مسنده"(1/ 281)، و (الحميديّ) في "مسنده"(1210)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(5/ 94)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 183 و 189 - 190 و 227) وفي "كتاب الأشربة) (18)، و (ابن حبّان) في "صحيحه" (5352 و 5362 و 5363)، و (أبو عوانة) في "مسنده" (5/ 92 و 94)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار" (4/ 213)، و (أبو يعلى) في "مسنده" (6/ 101)، و (البغويّ) في "مسنده الجعد" (3317)، و (البيهقيّ) في "الكبرى" (8/ 286)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة" (2043)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان سبب نزول الآية الكريمة.

2 -

(ومنها): بيان وجوب قبول خبر الواحد، والعمل به في النَّسخ وغيره، وأن هذا كان معمولًا به عندهم، معلومًا لهم، ألَّا ترى أنهم لم يتوقفوا عند إخبار المُخبِر، بل بادروا إلى إتلاف الخمر، والامتناع مما كان مباحًا لهم

(1)

.

3 -

(ومنها): أن نداء المنادي عن الأمير يتنزل في العمل به منزلة سماع قوله.

4 -

(ومنها): أن المحرَّم الأكل والشُّرب لا يُنتفع به، في شيء من الأشياء، لا من بيع، ولا من غيره.

(1)

"المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" 16/ 149.

ص: 539

5 -

(ومنها): بيان عدم مشروعية تخليل الخمر؛ لأنه أَبُو جاز لَمَا أراقوها، قال النوويّ رحمه الله: وفي هذه الأحاديث أنها لا تطهر بالتخليل، وهو مذهبنا، ومذهب الجمهور، وجوّزه أبو حنيفة، وفيه أنه لا يجوز إمساكها، وقد اتّفق عليه الجمهور، انتهى

(1)

، وسيأتي مزيد لذلك في الباب التالي - إن شاء الله تعالى -.

6 -

(ومنها): أن ابن حزم رحمه الله استدل به على طهارة الخمر؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم كان أكثرهم يمشي حافيًا، فما يصيب قدمه لا ينجس به.

وتعقّبه العينيّ، فقال: هذه جراءة عظيمة؛ لأن القرآن أخبر بنجاستها. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: أقول: هذه هفوة عظيمة من العينيّ سامحه الله، فأين نصّ القرآن الكريم بنجاسة الخمر؟ إن لهو العجب العجاب، فإن أراد قوله تعالى - ومعلوم أنه لا يريد إلا إياه - {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} ، فهذا لا يدل على النجاسة أصلًا، فضلًا عن كونه نصًّا، فإن الآية ذكرت أربعة أشياء: الخمر، والميسر، والأنصاب، والأزلام، ثم قالت:{رِجْسٌ} فهل العينيّ يقول إن الأربعة كلها نجسة؟ فهذا ما لا يقوله هو، ولا غيره، فأين النص الذي زعمه؟

والحاصل أن ما قاله ابن حزم رحمه الله قاله غيره من أهل العلم، كما سيأتي بيانه فلا جراءة منه، والله تعالى المستعان.

7 -

(ومنها): أنه يستحبّ لصغير السنّ خدمة الكبار، هذا إذا تساووا في الفضل، أو تقاربوا.

8 -

(ومنها): مشروعيّة كسر أواني الخمور، إذا كان فيه مصلحة، وإلا فيُجزي غسلها، قال النوويّ رحمه الله: وهذا الكسر - يعني: المذكور في حديث الباب - محمول على أنهم ظنوا أنه يجب كسرها، وإتلافها، كما يجب إتلاف الخمر، وإن لم يكن في نفس الأمر هذا واجبًا، فلما ظنوه كسروها، ولهذا لم يُنكر عليهم النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعَذَرهم؛ لعدم معرفتهم الحكم، وهو غسلها من غير

(1)

"شرح النوويّ" 13/ 150.

(2)

راجع: "عمدة القاري" 13/ 12.

ص: 540

كسر، وهكذا الحكم اليوم في أواني الخمر، وجميع ظروفه، سواء الفخّار، والزجاج، والنحاس، والحديد، والخشب، والجلود، فكلها تطهر بالغسل، ولا يجوز كسرها. انتهى

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: وفيه كسر أواني الخمر، وعليه تُخَرَّج إحدى الروايتين عن مالك في كسرها؛ لِمَا داخلها من الخمر، ولعُسْر غسلها، وفي الأخرى: إذا طُبخ فيها الماء، وغُسلت جاز استعمالها، وعلى هذا فإذا كانت الأواني مضرَّاة بالخمر، لا يُنتفع بها لشيء من الأشياء؛ بل تُكسر على كل حال، ولذلك شدَّد مالك في الزِّقاق، فإنَّ تَعَلُّق الرائحة بها عَسِير الانفكاك، بل لا تنفك. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: القول بوجوب الكسر محلّ نظر، فإنه صلى الله عليه وسلم ما أوجب عليهم، وما أمرهم به، ولكنهم فعلوه بأنفسهم، وقد تقدّم أنهم لمّا أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم في القدور التي طبخوا بها لحم الغنيمة قبل القسمة بكسرها، قالوا له:"أوْ نغسلها؟ "، فقال:"أوْ ذلك"، فأجاز غسلها، وهذه المسألة نظيرها، فتأمل، والله تعالى أعلم.

9 -

(ومنها): بيان أن الشراب الذي أهريق، بسبب تحريم الخمر، هو ما كان من البسر والتمر، وغير ذلك.

10 -

(ومنها): أن أحاديث الباب من أقوى الحجج على أن الخمر اسم جنس لكل ما يُسكر، سواء كان من العنب، أو من نقيع الزبيب، أو التمر، أو العسل، أو غيرهما، وأما دعوى بعضهم: أن الخمر حقيقة في ماء العنب، مَجاز في غيره، فإن سُلِّم في اللغة، لزم من قال به جواز استعمال اللفظ الواحد في حقيقته ومجازه، والكوفيون لا يقولون بذلك. انتهى.

وأما من حيث الشرع، فالخمر حقيقة في الجميع؛ لثبوت حديث:"كُلُّ مسكر خمر"، فمن زعم بأنه جَمَع بين الحقيقة والمجاز في هذا اللفظ، لزم أن يجيزه، وهذا ما لا انفكاك لهم عنه.

(1)

"شرح النوويّ" 13/ 151.

(2)

"المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" 16/ 150.

ص: 541

11 -

(ومنها): أنه استُدِلّ به على أن شرب الخمر كان مباحًا، لا إلى نهاية، ثم حُرّمت، وقيل: كان المباح الشرب، لا السكر المزيل للعقل، وحكاه أبو نصر بن القشيريّ في "تفسيره" عن القفّال، ونازعه فيه، وبالغ النوويّ في "شرحه" هنا، فقال: ما يقوله بعض من لا تحصيل عنده: إن السكر لم يزل محرمًا باطل، لا أصل له، وقد قال الله تعالى:{الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} الآية [النساء: 43]، فإن مقتضاه وجود السكر، حتى يصل إلى الحدّ المذكور، ونهوا عن الصلاة في تلك الحالة، لا في غيرها، فدل على أن ذلك كان واقعًا، ويؤيده قصّة حمزة، والشارِفَين كما بُيِّن في الحديث الماضي، وعلى هذا، فهل كانت مباحة بالأصل، أو بالشرع، ثم نُسخت؟ فيه قولان للعلماء: والراجح الأول.

12 -

(ومنها): أنه استُدلّ به على أن المتَّخَذ من غير العنب، يسمى خمرًا.

13 -

(ومنها): أنه استُدل به على أن السَّكَر المتخذ من غير العنب، يحرم شرب قليله كما يحرم شرب القليل من المتخذ من العنب، إذا أسكر كثيره؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم فَهِموا من الأمر باجتناب الخمر تحريم ما يُتخذ للسكر من جميع الأنواع، ولم يستفصلوا، وإلى ذلك ذهب جمهور العلماء من الصحابة والتابعين، وخالف في ذلك الحنفية، ومن قال بقولهم من الكوفيين، فقالوا: يحرم المتخذ من العنب، قليلًا كان أو كثيرًا، إلا إذا طُبخ على تفصيل سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى، فإنه يَحِلُّ، وقد انعقد الإجماع على أن القليل من الخمر، المتخذ من العنب يحرم قليله وكثيره، وعلى أن العلة في تحريم قليله كونه يدعو إلى تناول كثيره، فيلزم ذلك من فرّق في الحكم بين المتخذ من العنب وبين المتخذ من غيرها، فقال في المتخذ من العنب: يحرم القليل منه والكثير، إلا إذا طُبخ كما سيأتي بيانه، وفي المتخذ من غيرها: لا يحرم منه إلا القدر الذي يُسْكِر، وما دونه لا يحرم، ففرّقوا بينهما بدعوى المغايرة في الاسم، مع اتحاد العلة فيهما، فإن كلّ ما قدِّر في المتخذ من العنب يقدَّر في المتخذ من غيرها.

قال القرطبي رحمه الله: وهذا من أرفع أنواع القياس لمساواة الفرع فيه

ص: 542

للأصل في جميع أوصافه، مع موافقته فيه؛ لظواهر النصوص الصحيحة، والله أعلم.

قال الشافعيّ رحمه الله: قال لي بعض الناس: الخمر حرام، والسكر من كل شراب حرام، ولا يحرم المسكر منه حتى يُسكر، ولا يحدّ شاربها.

فقلت: كيف خالفت ما جاء به عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، ثم عن عمر، ثم عن عليّ، ولم يقل أحد من الصحابة خلافه؟ قال: وروينا عن عمر، قلت: في سنده مجهول عنده فلا حجةٌ فيه، قال البيهقيّ: أشار إلى رواية سعيد بن ذي لعوة أنه شرب من سطيحة لعمر، فسكر فجلده عمر، قال: إنما شربت من سطيحتك، قال أضربك على السكر، وسعيد قال البخاري وغيره: لا يُعرف. قال: وقال بعضهم: سعيد بن ذي حدان، وهو غلط، ثم ذكر البيهقيّ الأحاديث التي جاءت في كسر النبيذ بالماء.

منها: حديث همام بن الحارث، عن عمر، أنه كان في سفر، فأُتي بنبيذ، فشرب منه، فقَطَب، ثم قال: إن نبيذ الطائف له عُرام - بضم المهملة، وتخفيف الراء - أي: شِدَّة، ثم دعا بماء، فصبه عليه، ثم شرب، وسنده قويّ، وهو أصح شيء وَرَدَ في ذلك، وليس نصًّا في إنه بلغ حدّ الإسكار، فلو كان بلغ حدّ الإسكار، لم يكن صبّ الماء عليه مزيلًا لتحريمه.

وقد اعترف الطحاويّ بذلك، فقال: أَبُو كان بلغ التحريم لكان لا يحلّ، ولو ذهبت شدته بصب الماء، فثبت أنه قبل أن يصب عليه الماء كان غير حرام.

قال الحافظ: وإذا لم يبلغ حد الإسكار فلا خلاف في إباحة شرب قليله وكثيره، فدل على أن تقطيبه لأمر غير الإسكار، قال البيهقيّ: حَمْلُ هذه الأشربة على أنهم خَشُوا أن تتغير، فتشتد، فجوّزوا صب الماء فيها؛ ليمتنع الاشتداد أَولى من حَمْلِها على أنها كانت بلغت حد الإسكار، فكان صب الماء عليها لذلك؛ لأن مزجها بالماء لا يمنع إسكارها إذا كانت قد بلغت حد الإسكار.

ويَحْتَمِل أن يكون سبب صب الماء كون ذلك الشراب، كان حَمْضَ،

ص: 543

ولهذا قَطّب عمر لمّا شربه، فقد قال نافع: والله ما قطب عمر وجهه لأجل الإسكار حين ذاقه، ولكنه كان تخلل.

وعن عتبة بن فرقد قال: كان النبيذ الذي شربه عمر قد تخلل، وهذا الثاني أخرجه النسائيّ بسند صحيح.

وروى الأثرم عن الأوزاعيّ، وعن العمريّ، أن عمر إنما كسره بالماء؛ لشدة حلاوته.

قال الحافظ: ويمكن الحمل على حالتين: هذه لفا لم يقطب حين ذاقه، وأما عندما قطب فكان لحموضته.

واحتجّ الطحاوي لمذهبهم أيضًا بما أخرجه من طريق النخعيّ، عن علقمة، عن ابن مسعود، في قوله:"كل مسكر حرام"، قال: هي الشربة التي تُسكر.

وتُعُقّب بأنه ضعيف؛ لأنه تفرد به حجاج بن أرطاة، عن حماد بن أبي سليمان، عن النخعيّ، وحجاج ضعيف، وهو مدلس أيضًا.

قال البيهقي: ذُكر هذا لعبد الله بن المبارك، فقال: هذا باطل، ورَوَى بسند له صحيحٍ، عن النخعيّ، قال: إذا سَكِر من شراب لم يحل أن يعود فيه أبدًا، وهذا أيضًا عند النسائيّ بسند صحيح، ثم رَوَى النسائيّ عن ابن المبارك قال: ما وجدت الرخصة فيه من وجه صحيح، إلا عن النخعيّ من قوله.

وأخرج النسائيّ في "الكبرى"، والأثرم من طريق خالد بن سعد، عن أبي مسعود، قال: عطش النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو يطوف، فأُتي بنبيذ من السقاية، فقطّب، فقيل: أحرام هو؟ قال: "لا، عليّ بذَنوب من ماء زمزم، فصبَّ عليه، وشرب"، قال الأثرم: احتجّ به الكوفيون لمذهبهم، ولا حجةٌ فيه؛ لأنهم متفقون على أن النبيذ إذا اشتدّ بغير طبخ، لا يحلّ شربه، فإن زعموا أن الذي شربه النبيّ صلى الله عليه وسلم كان من هذا القبيل، فقد نسبوا إليه أنه شرب المُسْكِر، ومعاذ الله من ذلك، وإن زعموا أنه قطّب من حموضته، لم يكن لهم فيه حجةٌ؛ لأن النقيع ما لم يشتدّ، فكثيره وقليله حلال بالاتفاق.

قال الحافظ: وقد ضعّف حديث أبي مسعود المذكور: النسائيّ، وأحمد، وعبد الرحمن بن مهديّ، وغيرهم؛ لتفرّد يحيى بن يمان برفعه، وهو ضعيف،

ص: 544

ذكر هذا كلّه في "الفتح"

(1)

، وهو بحث نفيس جدًّا، والله تعالى أعلم بالصواب.

(المسألة الرابعة): في بيان تحريم الخمر، وبيان ما هي الخمر؟:

قال النوويّ رحمه الله: وفي هذه الأحاديث التي ذكرها مسلم تصريح بتحريم جميع الأنبذة المسكرة، وأنها كلها تسمى خمرًا، وسواء في ذلك الفَضِيخ، ونبيذ التمر، والرُّطَب، والْبُسْر، والزبيب، والشعير، والذُّرة، والعَسَل، وغيرها، وكلها محرّمة، وتسمى خمرًا.

هذا مذهبنا، وبه قال مالك، وأحمد، والجماهير من السلف والخلف.

وقال قوم من أهل البصرة: إنما يحرم عصير العنب، ونقيع الزبيب النيء، فأما المطبوخ منهما، والنيء والمطبوخ مما سواهما، فحلال ما لم يشرب، ويَسْكَر.

وقال أبو حنيفة: إنما يحرم عصير ثمرات النخل والعنب، قال، فسُلافة العنب

(2)

يحرم قليلها وكثيرها، إلا أن يُطبخ حتى ينقص ثلثاها، وأما نقيع التمر، والزبيب، فقال: يَحِلّ مطبوخهما، وإن مسته النار شيئًا قليلًا من غير اعتبار لحد، كما اعتُبر في سُلافة العنب، قال: والنيء منه حرام، قال: ولكنه لا يُحدّ شاربه، هذا كله ما لم يُسكِر، فإن أسكر فهو حرام بإجماع المسلمين.

واحتجّ الجمهور بالقرآن، والسُّنَّة، أما القرآن فهو أن الله تعالى نبّه على أن علة تحريم الخمر كونها تصدّ عن ذكر الله، وعن الصلاة، وهذه العلة موجودة في جميع المسكرات، فوجب طرد الحكم في الجميع.

[فإن قيل]: إنما يحصل هذا المعنى في الإسكار، وذلك مجمَع على تحريمه.

[قلنا]: قد أجمعوا على تحريم عصير العنب، وإن لم يُسْكِر، وقد علَّل الله سبحانه وتعالى تحريمه كما سبق، فإذا كان ما سواه في معناه وجب طرد الحكم في الجميع، ويكون التحريم للجنس المسكر، وعلَّل بما يحصل من الجنس في

(1)

"الفتح" 12/ 603 - 606، كتاب "الأشربة" رقم (5582).

(2)

السُّلافة كثُمامة: الخمر. اهـ. "ق".

ص: 545

العادة، قال المازريّ: هذا الاستدلال آكد من كل ما يُسْتَدلّ به في هذه المسألة.

قال: ولنا في الاستدلال طريق آخر، وهو أن نقول: إذا شرب سُلافة العنب عند اعتصارها، وهي حُلْوة لم تُسكر فهي حلال بالإجماع، وإن اشتدت، وأسكرت حرمت بالإجماع، فإن تخللت من غير تخليل آدميّ حلت، فنظرنا إلى مستبدل هذه الأحكام، وتجددها عند تجدد الصفات، وتبدلها، فأشعرنا ذلك بارتباط هذه الأحكام بهذه الصفة، وقام ذلك مقام التصريح بذلك بالنطق، فوجب جعل الجميع سواء في الحكم، وأن الإسكار هو علة التحريم، هذه إحدى الطريقتين في الاستدلال لمذهب الجمهور.

والثانية الأحاديث الصحيحة الكثيرة التي ذكرها مسلم وغيره، كقوله صلى الله عليه وسلم:"كلُّ مسكر حرام"، وقوله:"نَهَى عن كلّ مسكر"، وحديث:"كلُّ مسكر خمر"، وحديث ابن عمر رضي الله عنهما الذي ذَكَره مسلم هنا في آخر "كتاب الأشربة": أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كلُّ مسكر خمر، وكل مسكر حرام"، وفي رواية له:"كلّ مسكر خمر، وكل خمر حرام"، وحديث النهي عن كل مسكر أسكر عن الصلاة، والله أعلم. انتهى كلام النووي رحمه الله

(1)

.

وقال الإمام البخاريّ رحمه الله: "باب ما جاء في أن الخمر ما خامر العقل من الشراب".

ثم أخرج بسنده، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: خطب عمر على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "إنه قد نزل تحريم الخمر، وهي من خمسة أشياء: العنب، والتمر، والحنطة، والشعير، والعسل، والخمر ما خامر العقل

" الحديث.

قال في "الفتح": هذا الحديث أورده أصحاب المسانيد، والأبواب في الأحاديث المرفوعة؛ لأن له عندهم حكم الرفع؛ لأنه خبر صحابيّ شهد التنزيل أخبر عن سبب نزولها، وقد خطب به عمر على المنبر بحضرة كبار الصحابة وغيرهم، فلم يُنقل عن أحد منهم إنكاره، وأراد عمر بنزول تحريم الخمر آية

(1)

"شرح النوويّ" 12/ 148 - 149.

ص: 546

المائدة: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} إلى آخرها [المائدة: 90]، فأراد عمر التنبيه على أن المراد بالخمر في هذه الآية ليس خاصًّا بالمتخذ من العنب، بل يتناول المتخذ من غيرها، ويوافقه حديث أنس المذكور في الباب، فإنه يدلّ على أن الصحابة فَهِموا من تحريم الخمر تحريم كل مسكر، سواء كان من العنب أم من غيرها، وقد جاء هذا الذي قاله عمر، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم صريحًا، فأخرج أصحاب "السنن" الأربعة، وصححه ابن حبان من وجهين، عن الشعبيّ، أن النعمان بن بشير، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الخمر من العصير، والزبيب، والتمر، والحنطة، والشعير، والذّرَة

(1)

، وإني أنهاكم عن كل مسكر"، لفظ أبي داود، وكذا ابن حبان، وزاد فيه أن النعمان خطب الناس بالكوفة، ولأبي داود من وجه آخر عن الشعبيّ، عن النعمان، بلفظ: "إن من العنب خمرًا، وأن من التمر خمرًا، وإن من العسل خمرًا، وإن من البُرّ خمرًا، وإن من الشعير خمرًا"، ومن هذا الوجه أخرجها أصحاب "السنن"، والتي قبلها فيها الزبيب دون العسل.

ولأحمد من حديث أنس بسند صحيح عنه قال: "الخمر من العنب، والتمر، والعسل".

ولأحمد من حديث أنس بسند صحيح عنه قال: "الخمر من العنب، والتمر، والعسل، والحنطة، والشعير، والذرة"، أخرجه أبو يعلى من هذا الوجه، بلفظ: "حُرِّمت الخمر يوم حُرِّمت، وهي

"، فذكرها، وزاد الذرة.

وأخرج الخلعيّ في "فوائده" من طريق خلاد بن السائب عن أبيه، رَفَعه مثل الرواية الثانية، لكن ذكر الزبيب بدل الشعير، وسنده لا بأس به، ويوافق ذلك ما عند البخاريّ في "التفسير" من حديث ابن عمر رضي الله عنهما:"نزل تحريم الخمر، وإن بالمدينة يومئذ لخمسةَ أشربة، ما فيها شراب العنب".

وقوله: "والخمر ما خامر العقل"؛ أي: غَطّاه، أو خالطه فلم يتركه على حاله، وهو من مجاز التشبيه، والعقلُ هو آلة التمييز، فلذلك حُرِّم ما غطّاه، أو غَيَّره؛ لأن بذلك يزول الإدراك الذي طلبه الله من عباده ليقوموا بحقوقه، قال

(1)

"الذُّرَة" بضم المعجمة، وتخفيف الراء: من الحبوب معروفة.

ص: 547

الكرمانيّ: هذا تعريف بحَسَب اللغة، وأما بحسب العرف فهو ما يخامر العقل، من عصير العنب خاصّة، كذا قال، قال الحافظ: وفيه نظر؛ لأن عمر ليس في مقام تعريف اللغة، بل هو في مقام تعريف الحكم الشرعيّ، فكأنه قال: الخمر الذي وقع تحريمه في لسان الشرع هو ما خامر العقل، على أن عند أهل اللغة اختلافًا في ذلك.

ولو سُلِّم أن الخمر في اللغة يختص بالمتَّخَذ من العنب، فالاعتبار بالحقيقة الشرعية، وقد تواردت الأحاديث على أن المسكر من المتخذ من غير العنب يسمى خمرًا، والحقيقة الشرعية مقدَّمة على اللغوية.

وقد ثبت في "صحيح مسلم" عن أبي هريرة رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الخمر من هاتين الشجرتين: النخلة، والعنبة"، قال البيهقيّ: ليس المراد الحصر فيهما؛ لأنه ثبتٌ أن الخمر تُتَّخذ من غيرهما في حديث عمر، وغيره، وإنما فيه الإشارة إلى أن الخمر شرعًا لا تختص بالمتخذ من العنب.

قال الحافظ: وجعل الطحاويّ هذه الأحاديث متعارضة، وهي حديث أبي هريرة في أن الخمر من شيئين، مع حديث عمر، ومن وافقه أن الخمر تُتَّخذ من غيرهما، وكذا حديث ابن عمر:"لقد حُرّمت الخمر، وما بالمدينة منها شيء"، وحديث أنس يعني حديث الباب باختلاف ألفاظه:

منها: "إن الخمر حُرِّمت، وشرابهم الفضيخ"، وفي لفظ له:"وإنّا نَعُدّها يومئذ خمرًا"، وفي لفظ له:"إن الخمر يوم حُرِّمت البُسر والتمر"، قال: فلما اختلف الصحابة في ذلك، ووجدنا اتفاق الأمة على أن عصير العنب إذا اشتدّ، وغلى، وقذف بالزبد فهو خمر، وأن مستحله كافر دلّ على أنهم لم يعملوا بحديث أبي هريرة؛ إذ لو عملوا به لكفَّروا مستحلّ نبيذ التمر، فثبت أنه لم يدخل في الخمر غير المتخذ من عصير العنب. انتهى.

ولا يلزم من كونهم لم يكفّروا مستحلّ نبيذ التمر أن يمنعوا تسميته خمرًا، فقد يشترك الشيئان في التسمية، ويفترقان في بعض الأوصاف، مع أنه هو يوافق على أن حُكمَ المسكر من نبيذ التمر حُكمُ قليل العنب في التحريم، فلم تبق المشاححة إلا في التسمية.

والجمع بين حديث أبي هريرة وغيره بِحَمْل حديث أبي هريرة على

ص: 548

الغالب؛ أي: أكثر ما يُتخذ الخمر من العنب والتمر، ويُحْمَل حديث عمر، ومن وافقه، على إرادة استيعاب ذِكر ما عُهد حينئذ أنه يُتخذ منه الخمر.

وأما قول ابن عمر فعلى إرادة تثبيت أن الخمر يُطلق على ما لا يُتخذ من العنب؛ لأن نزول تحريم الخمر لم يصادف عند من خوطب بالتحريم حينئذ إلا ما يُتخذ من غير العنب، أو على إرادة المبالغة، فأطلق نفي وجودها بالمدينة، وإن كانت موجودة فيها بقلّة، فإن تلك القلة بالنسبة لكثرة المتخذ مما عداها كالعدم.

وقد قال الراغب في "مفردات القرآن": سُمّي الخصر؛ لكونه خامرًا للعقل؛ أي: ساترًا له، وهو. عند بعض الناس اسم لكل مسكر، وعند بعضهم للمتَّخَذ من العنب خاصّةً، وعند بعضهم للمتخذ من العنب والتمر، وعند بعضهم لغير المطبوخ، فرجّح أن كل شيء يستر العقل يسمى خمرًا حقيقة، وكذا قال أبو نصر بن القشيريّ في "تفسيره": سُمّيت الخصر خمرًا؛ لسترها العقل، أو لاختمارها، وكذا قال غير واحد من أهل اللغة، منهم أبو حنيفة الدِّينَوَرِيُّ، وأبو نصر الجوهريّ، ونُقِل عن ابن الأعرابيّ قال: سُمِّيت الخمر؛ لأنها تُرِكَت حتى اختَمَرت، واختمارها تغيّر رائحتها، وقيل: سُمّيت بذلك؛ لمخامرتها العقل.

نعم جزم ابن سِيدَهْ في "المحكم" بأن الخمر حقيقةً إنما هي للعنب، وغيرها من المسكرات يُسَمَّى خمرًا مجازًا.

وقال صاحب "الفائق" في حديث: "إياكم والغبيراء، فإنها خمر العالَم": هي نبيذ الحبشة، متخذة من الذُّرة، سُمِّيت الغبيراء؛ لِمَا فيها من الْغَبَرة، وقوله:"خمر العالم"؛ أي: هي مثل خمر العالم، لا فرق بينها وبينها.

قال الحافظ: وليس تأويله هذا بأَولى عن تأويل من قال: أراد أنها معظم خمر العالم.

وقال صاحب "الهداية" من الحنفية: الخمر عندنا ما اعتُصِر من ماء العنب إذا اشتَدّ، وهو المعروف عند أهل اللغة، وأهل العلم، قال: وقيل: هو اسم لكل مُسْكِر؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "كل مسكر خمر"، وقوله:"الخمر من هاتين الشجرتين"، ولأنه من مخامرة العقل، وذلك موجود في كل مسكر.

ص: 549

قال: ولنا إطباق أهل اللغة على تخصيص الخمر بالعنب، ولهذا اشتهر استعمالها فيه، ولأن تحريم الخمر قطعيّ، وتحريم ما عدا المتخذ من العنب ظنيّ، قال: وإنما سُمّي الخمر خمرًا؛ لتخمّره، لا لمخامرة العقل، قال: ولا ينافي ذلك كون الاسم خاصًّا فيه، كما في "النجم"، فإنه مشتق من الظهور، ثم هو خاصّ بالثريا. انتهى.

والجواب عن الحجة الأولى: ثبوت النقل عن بعض أهل اللغة بأن غير المتخذ من العنب يسمى خمرًا، وقال الخطابيّ: زعم قوم أن العرب لا تعرف الخمر إلا من العنب، فيقال لهم: إن الصحابة رضي الله عنهم الذين سَمّوا غير المتخذ من العنب خمرًا عربٌ فصحاءُ، فلو لم يكن هذا الاسم صحيحًا لَمَا أطلقوه.

وقال ابن عبد البرّ: قال الكوفيون: إن الخمر من العنب؛ لقوله تعالى: {أَعْصِرُ خَمْرًا} [يوسف: 36]، قال: فدل على أن الخمر هو ما يُعتصر، لا ما يُنتبذ، قال: ولا دليل فيه على الحصر، وقال أهل المدينة، وسائر الحجازيين، وأهل الحديث كلهم: كل مسكر خمر، وحُكمه حُكم ما اتُّخِذ من العنب.

ومن الحجة لهم: أن القرآن لمَّا نزل بتحريم الخمر فَهِم الصحابة، وهم أهل اللسان أن كل شيء يسمى خمرًا يدخل في النهي، فأراقوا المتخذ من التمر، والرطب، ولم يخصّوا ذلك بالمتخذ من العنب.

وعلى تقدير التسليم، فإذا ثبتٌ تسمية كل مسكر خمرًا من الشرع، كان حقيقةً شرعيةً، وهي مقدَّمة على الحقيقة اللغوية.

وعن الثانية: ما تقدَّم من أن اختلاف مشترِكَين في الحكم في الغِلَظ، لا يلزم منه افتراقهما في التسمية، كالزنا مثلًا، فإنه يصدق على من وطئ أجنبية، وعلى من وطئ امرأة جاره، والثاني أغلظ من الأول، وعلى من وطئ مَحْرَمًا له، وهو أغلظ، واسم الزنا مع ذلك شامل الثلاثة.

وأيضًا فالأحكام الفرعية لا يُشترط فيها الأدلة القطعية، فلا يلزم من القطع بتحريم المتخذ من العنب، وعدم القطع بتحريم المتخذ من غيره، أن لا يكون حرامًا، بل يُحكم بتحريمه إذا ثبتٌ بطريق ظنيّ تحريمه، وكذا تسميته خمرًا، والله أعلم.

وعن الثالثة: ثبوت النقل عن أعلم الناس بلسان العرب بما نفاه هو،

ص: 550

وكيف يستجيز أن يقول: لا لمخامرة العقل، مع قول عمر بمحضر الصحابة رضي الله عنهم: الخمر ما خامر العقل؟ كأن مستنده ما ادّعاه من اتّفاق أهل اللغة، فيُحمَل قولُ عمر على المجاز، لكن اختَلَف قول أهل اللغة في سبب تسمية الخمر خمرًا، فقال أبو بكر بن الأنباريّ: سُمِّيت الخمر خمرًا؛ لأنها تخامر العقل؛ أي: تخالطه، قال: ومنه قولهم: خامره الداء؛ أي: خالطه، وقيل: لأنها تخمّر العقل؛ أي: تستره، ومنه حديث:"خَمِّروا آنيتكم"، ومنه خمار المرأة؛ لأنه يستر وجهها، وهذا أخص من التفسير الأول؛ لأنه لا يلزم من المخالطة التغطية، وقيل: سُمّيت خمرًا؛ لأنها تُخَمَّر حتى تُدرِك، كما يقال: خَمَّرت العجينَ، فتخمَّر؛ أي: تركته حتى أدرك، ومنه خَمَّرت الرأي أي: تركته حتى ظهر، وتحرّر، وقيل: سُمِّيت خمرًا؛ لأنها تُغَطَّى حتى تَغْلِي، ومنه حديث المختار بن فلفل: قلت لأنس: الخمر من العنب، أو من غيرها؟ قال: ما خمَّرت من ذلك فهو الخمر، أخرجه ابن أبي شيبة، بسند صحيح، ولا مانع من صحة هذه الأقوال كلها؛ لثبوتها عن أهل اللغة، وأهل المعرفة باللسان.

قال ابن عبد البر: الأوجُهُ كلها موجودة في الخمرة؛ لأنها تُرِكت حتى أَدْرَكَتْ، وسَكَنَتْ، فإذا شُربت خالطت العقل، حتى تغلب عليه، وتغطيه.

وقال القرطبيّ: الأحاديث الواردة عن أنس وغيره على صحتها، وكثرتها تُبطل مذهب الكوفيين القائلين بأن الخمر لا يكون إلا من العنب، وما كان من غيره لا يسمى خمرًا، ولا يتناوله اسم الخمر، وهو قول مخالف للغة العرب، وللسُّنَّة الصحيحة، وللصحابة؛ لأنهم لمّا نزل تحريم الخمر فَهِموا من الأمر باجتناب الخمر تحريمَ كل مسكر، ولم يفرّقوا بين ما يُتخذ من العنب، وبين ما يُتَّخذ من غيره، بل سوَّوْا بينهما، وحَرّموا كل ما يُسكر نوعه، ولم يتوقفوا، ولا استفصلوا، ولم يُشكل عليهم شيء من ذلك، بل بادروا إلى إتلاف ما كان من غير عصير العنب، وهم أهل اللسان، وبِلُغَتهم نزل القرآن، فلو كان عندهم فيه تردّد لتوقفوا عن الإراقة، حتى يستكشفوا، ويستفصلوا، ويتحققوا التحريم لِمَا كان تقرر عندهم من النهي عن إضاعة المال، فلَمّا لم يفعلوا ذلك، وبادروا إلى الإتلاف علمنا أنهم فَهِموا التحريم نصًّا، فصار القائل بالتفريق سالكًا غير

ص: 551

سبيلهم، ثم انضاف إلى ذلك خطبة عمر رضي الله عنه بما يوافق ذلك، وهو ممن جعل الله الحقّ على لسانه، وقلبه، وسَمِعَهُ الصحابة وغيرهم، فلم ينقل عن أحد منهم إنكار ذلك، وإذا ثبتٌ أن كل ذلك يسمى خمرًا لزم تحريم قليله وكثيره، وقد ثبتت الأحاديث الصحيحة في ذلك، ثم ذَكَرها.

قال: وأما الأحاديث عن الصحابة التي تمسَّك بها المخالف فلا يصح منها شيء، على ما قال عبد الله بن المبارك، وأحمد، وغيرهم.

وعلى تقدير ثبوت شيء منها فهو محمول على نقيع الزبيب، أو التمر، من قبل أن يدخل حدّ الإسكار؛ جمعًا بين الأحاديث.

قال الحافظ: ويؤيده ثبوت مثل ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم كما سيأتي في "باب نقيع التمر"

(1)

.

ولا فرق في الحلّ بينه وبين عصير العنب أول ما يُعصر، وإنما الخلاف فيما اشتدّ منهما، هل يفترق الحكم فيه أو لا؟

وقد ذهب بعض الشافعية إلى موافقة الكوفيين في دعواهم أن اسم الخمر خاصّ بما يُتَّخذ من العنب، مع مخالفتهم له في تفرقتهم في الحكم، وقولهم بتحريم قليل ما أسكر كثيره من كل شراب، فقال الرافعيّ: ذهب أكثر الشافعية إلى أن الخمر حقيقةٌ فيما يُتخذ من العنب، مجازٌ في غيره، وخالفه ابن الرفعة، فنقل عن المزنيّ، وابن أبي هريرة، وأكثر الأصحاب أن الجميع يسمى خمرًا حقيقةً، قال: وممن نقله عن أكثر الأصحاب القاضيان: أبو الطيب، والرويانيّ، وأشار ابن الرفعة إلى أن النقل الذي عزاه الرافعيّ للأكثر لم يجد نقله عن الأكثر، إلا في كلام الرافعيّ، ولم يتعقبه النوويّ في "الروضة"، لكن كلامه في "شرح مسلم" يوافقه، وفي "تهذيب الأسماء" يخالفه.

وقد نقل ابن المنذر عن الشافعيّ ما يوافق ما نقلوا عن المزنيّ، فقال:

(1)

أراد به قول البخاريّ رحمه الله: "باب نقيع التمر ما لم يُسكر"، ثم ساق بسنده عن سهل بن سعد الساعديّ أن أبا أسيد الساعدي دعا النبي صلى الله عليه وسلم لعرسه، فكانت امرأته خادمهم يومئذ، وهي العروس، فقالت: هل تدرون ما أنقعت لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أنقعت له تمرات من الليل، في تَوْر. انتهى.

ص: 552

قال: إن الخمر من العنب، ومن غير العنب: عمرُ، وعليّ، وسعيد، وابن عمر، وأبو موسى، وأبو هريرة، وابن عباس، وعائشة، ومن التابعين: سعيد بن المسيِّب، وعروة، والحسن، وسعيد بن جُبير، وآخرون، وهو قول مالك، والأوزاعيّ، والثوريّ، وابن المبارك، والشافعيّ، وأحمد، وإسحاق، وعامة أهل الحديث.

ويمكن الجمع بأن من أطلق على غير المُتَّخَذ من العنب حقيقةً يكون أراد الحقيقة الشرعية، ومن نفى أراد الحقيقة اللغوية، وقد أجاب بهذا ابن عبد البرّ، وقال: إن الحكم إنما يتعلق بالاسم الشرعيّ دون اللغويّ، والله أعلم.

قال الحافظ: وقد قدمت في "باب نزول تحريم الخمر، وهو من البُسر" إلزامَ من قال بقول أهل الكوفة: إن الخمر حقيقة في ماء العنب، مجازٌ في غيره، أنه يلزمهم أن يُجَوِّزوا إطلاق اللفظ الواحد على حقيقته ومجازه؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم لمّا بلغهم تحريم الخمر أراقوا كل ما كان يُطلق عليه لفظ الخمر حقيقةً ومجازًا، وإذا لم يُجَوّزوا ذلك صحّ أن الكل خمر حقيقةٌ، ولا انفكاك عن ذلك، وعلى تقدير إرخاء الْعِنَان والتسليم أن الخمر حقيقةٌ في ماء العنب خاصّةً، فإنما ذلك من حيث الحقيقة اللغوية، فأما من حيث الحقيقة الشرعية فالكل خمر حقيقةً؛ لحديث:"كلُّ مسكر خمر"، فكلّ ما اشتَدّ كان خمرًا، وكل خمر يحرم قليله وكثيره، وهذا يخالف قولهم، وبالله التوفيق. انتهى كلام الحافظ بطوله

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: لقد أجاد الحافظ رحمه الله فيما ساقه من البحث الطويل ببيان أقوال أهل العلم، وأدلّتهم، وتحقيق ما هو الحقّ في المسألة بأدلته.

وخلاصة القول أنه قد تبيّن بهذا أن المذهب الحقّ، والقول الواجب الاتّباع هو ما ذهب إليه الجمهور من تحريم الخمر بأنواعها، وأنها كلّ ما خامر العقل، وأسكر، من أيّ نوع اتُّخذ، فلا فرق بين التمر، والزبيب، والعسل، والذّرَة، والشعير، والحنطة، وغير ذلك من أنواع الحبوب والثمار التي يُتخّذ

(1)

"الفتح" 12/ 613 - 619، كتاب "الأشربة" رقم (5588).

ص: 553

منها النبيذ، فأيّ نوع منها بلغ حدّ الإسكار، صار خمرًا، وتناولته النصوص الصحيحة الصريحة في تحريم الخمر، فمن قال: إنه لا يسمّى خمرًا إلا إذا كان من النوع الفلانيّ، فقوله مردود، غير مقبول؛ لمخالفته صحيح المنقول، وصريح المعقول، فتمسَّكْ بالحق الناصع، والطريق الواسع، وإياك وبُنيّات الطريق، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالجملة فالنصوص صريحة في تسمية كلّ ما أسكر خمرًا، والخمر محرّم بنصّ كتاب الله، وبإجماع الأمة جملةً، وليس بعد العيان بيان، ولا بعد المشاهدة برهان، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5124]

(

) - (وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، حَدثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، أَخْبَرَنَا عبدُ العَزِيزِ بْنُ صُهَيْبٍ، قَالَ: سَأَلوا أنسَ بْنَ مَالِكٍ عَنِ الْفَضِيخ، فَقَالَ: مَا كانَتْ لَنَا خَمْرٌ غَيْرَ فَضِيخِكُمْ هَذَا الَّذِي تُسَمُّونَهُ الْفَضِيخَ، إِنِّي لَقَائِمٌ أَسْقِيهَا أَبا طَلْحَةَ، وَأَبَا أيُّوبَ، وَرِجَالًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَيْتِنَا، إِذْ جَاءَ رَجُلٌ، فَقَالَ: هَلْ بَلَغَكُمُ الْخَبَرُ؟ قُلْنَا: لَا، قَالَ: فَإِن الْخَمْرَ قَدْ حُرِّمَتْ، فَقَالَ: يَا أنسُ أَرِقْ هَذه الْقِلَالَ، قَالَ: فَمَا رَاجَعُوهَا، وَلَا سَأَلوا عَنْهَا بَعْدَ خَبَرِ الرَّجُلِ).

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(يَحْيىَ بْنُ أَيُّوبَ) المقابريّ، أبو زكريّا البغداديّ، تقدّم قبل أربعة أبواب.

2 -

(ابْنُ عُلَيَّةَ) إسماعيل بن إبراهيم، تقدّم أيضًا قبل أربعة أبواب.

3 -

(عبدُ العَزِيزِ بْنُ صُهَيْبٍ) الْبُنانيّ البصريّ، ثقةٌ [4](ت 130)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.

و"أنس بن مالك" رضي الله عنه ذُكر قبله.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، كسابقه، ولاحقيه، وهو (368) من رباعيّات الكتاب.

وقوله: (الَّذِي تُسَمُّونَهُ الْفَضِيخَ) - بفتح الفاء، وكسر الضاد المعجمة، وفي آخره خاء معجمة - وهو شراب يُتخذ من البُسر وحده، من غير أن تمسَّه

ص: 554

النار، واشتقاقه من الفَضْخ، وهو الكسر، وقال إبراهيم الحربيّ: الفضيخ أن يُكْسَر البسر، ويُصَبّ عليه الماء، ويترَك حتى يَغْلِي، وقال أبو عبيد: هو ما فُضِخ من البسر، من غير أن تمسه نار، فإن كان تمرًا فهو خليط، قاله في "العمدة"

(1)

.

(إِنِّي لَقَائِمٌ أَسْقِيهَا أَبا طَلْحَةَ) تقدّمت ترجمة أبي طلحة رضي الله عنه في الحديث الماضي.

وقوله: (وَأَبا أيُّوبَ) هو الأنصاريّ: خالد بن زيد بن كُليب، من كبار الصحابة رضي الله عنهم، شَهِد بدرًا، ونزل النبيّ صلى الله عليه وسلم حين قَدِم المدينة عليه، ومات غازيًا بالروم سنة خمسين، وقيل: بعدها، تقدّمت ترجمته في "الإيمان" 4/ 113.

وقوله: (وَرِجَالًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) وفي رواية للبخاريّ: "كنت أسقي أبا عبيدة، وأبا طلحة، وأبيّ بن كعب"، فقال في "الفتح": قوله: "كنت أسقي أبا عبيدة": هو ابن الجرّاح، وأبا طلحة: هو زيد بن سهل، زوج أم سليم، أم أنس، وأُبيّ بن كعب كذا اقتصر في هذه الرواية على هؤلاء الثلاثة، فأما أبو طلحة فلكون القصّة كانت في منزله، كما قال في رواية مسلم هذه:"في بيتنا"، وفي رواية للبخاريّ:"كنت ساقي القوم في منزل أبي طلحة"، وأما أبو عبيدة فلأن النبيّ صلى الله عليه وسلم آخى بينه وبين أبي طلحة، كما أخرجه مسلم من وجه آخر عن أنس، وأما أُبيّ بن كعب فكان كبير الأنصار، وعالمهم.

ووقع في رواية عند البخاريّ: "إني لقائم أسقي أبا طلحة، وفلانًا، وفلانًا"، كذا وقع بالإبهام، وسَمَّى في رواية مسلم منهم أبا أيوب، وفي رواية عن أنس:"إني كنت لأسقي أبا طلحة، وأبا دجانة، وسهيل بن بيضاء"، وسمَّى في رواية فيهم معاذ بن جبل، وكلها في مسلم.

وفي رواية: "كنت أسقي أبا عبيدة، وأبَيّ بن كعب، وسهيل بن بيضاء، ونفرًا من الصحابة عند أبي طلحة".

ووقع عند عبد الرزاق: أن القوم كانوا أحد عشر رجلًا، وقد حصل من الروايات التي ذُكرت تسمية سبعة منهم، وأبهمهم في رواية سليمان التيمي

(1)

"عمدة القاري" 18/ 210.

ص: 555

التالية، ولفظها:"إني لقائم على الحيّ، على عُمومتي أسقيهم"، وأطلق عليهم عمومته؛ لأنهم كانوا أسنّ منه، ولأن أكثرهم من الأنصار.

قال الحافظ رحمه الله: ومن المستغربات ما أورده ابن مردويه في" تفسيره " من طريق عيسى بن طهمان، عن أنس أن أبا بكر وعمر كانا فيهم، وهو منْكَر، مع نظافة سنده، وما أظنه إلا غلطًا.

وقد أخرج أبو نعيم في "الحلية" في ترجمة شعبة من حديث عائشة، قالت: حَرَّم أبو بكر الخمر على نفسه، فلم يشربها في جاهلية، ولا إسلام، ويَحْتَمِل إن كان محفوظًا أن يكون أبو بكر وعمر زارا أبا طلحة في ذلك اليوم، ولم يشربا معهم، قال: ثم وجدت عند البزار من وجه آخر عن أنس، قال: "كنت ساقي القوم، وكان في القوم رجل يقال له: أبو بكر، فلما شرب قال: تحيي بالسلامة أم بكر ..... الأبيات، فدخل علينا رجل من المسلمين، فقال: قد نزل تحريم الخمر

" الحديث، وأبو بكر هذا يقال له: ابن شغوب، فظنّ بعضهم أنه أبو بكر الصذيق، وليس كذلك، لكن قرينة ذِكر عمر تدلّ على عدم الغلط في وصف الصدّيق، فحصلنا تسمية عشرة، قال: وقد قدّمت في غزوة بدر من "المغازي! ترجمة أبي بكر بن شغوب المذكور، وفي "كتاب مكة" للفاكهي من طريق مرسل ما يشيد ذلك. انتهى كلام الحافظ رحمه الله

(1)

، وهو بحث مفيد، والله تعالى أعلم.

وقوله: (فِي بَيْتِنَا) هو بمعنى قوله في الأخرى: "في بيت أبي طلحة".

وقوله: (إِذْ جَاءَ رَجُلٌ) لا يُعرف هذا الرجل.

وقوله: (فَقَالَ: يَا أنسُ

إلخ) القائل هو أبو طلحة رضي الله عنه.

وقوله: (أَرِقْ هَذِهِ الْقِلَالَ) أمرٌ من الإراقة، وهو الصبّ، و"القلال" بالكسر: جمع قُلّة بالضمّ، مثلُ بُرْمة وبِرَام، وربما قيل: قُلَلٌ، مثل غُرْفة وغُرَف وهو: إناء للعرب، كالجرّة الكبيرة، شِبْهُ الْحُبّ، قال الأزهريّ: ورأيت القُلَّةَ من قلال هَجَر، والأَحساء، تَسَع ملء مَزَادة، والمزادة شطر الراوية، كأنها سُمِّيت قُلَّة؛ لأن الرجل القويّ يُقِلُّهَا؛ أي: يَحْمِلُها، وكلّ شيء حملته فقد

(1)

"الفتح" 12/ 599 - 600.

ص: 556

أَقْلَلْتَهُ، وأَقْلَلْتُهُ عن الأرض رفعته بالألف أيضًا، ومن باب قَتَل لغةٌ. انتهى

(1)

.

وقوله: (فَمَا رَاجَعُوهَا، وَلَا سَأَلوا عَنْهَا بَعْدَ خَبَرِ الرَّجُلِ) فيه العمل بخبر الرجل الواحد، وأن هذا كان معروفًا عندهم.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام شرحه، وبيان مسائله، ولله الحمد.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5125]

(

) - (وَحَدَّثنَا يَحْيَى بْنُ أيُّوبَ، حَدَّثنَا ابْنُ عُلَيةَ، قَالَ: وَأَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ، حَدَّثَنَا أنَسُ بْنُ مَالِكٍ، قَالَ: إِنِّي لَقَائِمٌ عَلَى الْحَيِّ، عَلَى عُمُومَتِي، أَسقِيهِمْ مِنْ فَضِيخٍ لَهُمْ، وَأنا أَصْغَرُهُمْ سِنًّا، فَجَاءَ رَجُلٌ، فَقَالَ: إِنَّهَا قَدْ حُرِّمَتِ الْخَمْرُ، فَقَالُوا: اكْفَأْهَا يَا أنَسُ، فَكَفَأْتُهَا، قَالَ: قُلْتُ لانَسٍ: مَا هُوَ؟ قَالَ: بُسْرٌ وَرُطَبٌ، قَالَ: فَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أنَسٍ: كَانَتْ خَمْرَهُمْ يَوْمَئِذٍ، قَالَ سُلَيْمَانُ: وَحَدَّثَني رَجُلٌ عَنْ أنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ أَيْضًا).

[تنبيه]: قال أبو عليّ الجيّانيّ رحمه الله في "التقييد": وقع في بعض النُّسخ: حدثنا يحيى بن يحيى، قال: نا ابن عُليّة، وهو وَهَمٌ، والصواب: يحيى بن أيوب، وكان أيضًا في أصل أبي العلاء بن ماهان في هذا الإسناد: ابن عيينة بدل ابن عُليّة، وهو وَهَمٌ، والصواب: ابن عليّة، قال عبد الغنيّ: كان في أصل أبي العلاء: ابن عُيينة، عن عبد العزيز، قال: وهو خطأ، ليس عند ابن عُيينة عن عبد العزيز بن صُهيب شيء. انتهى

(2)

.

ورجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ) هو: ابن طَرَخان، أبو المعتمر البصريّ، ثقةٌ عابدٌ [4](ت 143) وهو ابن (97) سنة (ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 9.

والباقون ذُكروا قبله.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من رباعيّات المصنّف، كسابقيه، ولاحقه، وهو (369) من رباعيّات الكتاب.

(1)

"المصباح المنير" 2/ 514.

(2)

"تقييد المهمل" 3/ 893.

ص: 557

وقوله: (إِنِّي لَقَائِمٌ عَلَى الْحَيِّ) - بفتح الحاء المهملة، وتشديد الياء التحتانيّة: القَبيلة من العرب، والجمع أحياء، قاله الفيّوميّ

(1)

.

وقال المرتضى في "التاج"

(2)

: والحيُّ: البطن من بطون العرب، جَمْعه أحياء، قال الأزهريّ: الحيّ يقع على بني أب كَثُروا، أو قَلُّوا، وعلى شَعْب يجمع القبائل، ومنه قول الشاعر [من الخفيف]:

قَاتَلَ اللهُ قَيْسَ عَيْلَانَ حَيًّا

مَا لَهُمْ دَونَ عُذْرَةٍ مِنْ حِجَابِ

وقوله: (عَلَى عُمُومَتي) بدل من الجارّ والمجرور قبله، و"العمومة" بالَضمّ - كما في "القاموس" - يكون مصدرًا، ويكون جمع عمّ، والثاني هو المراد هنا، وتقدّم أنه إنما سمّاهم عُمومته؛ لأنهم كانوا أسنّ منهم، ولأن أكثرهم من الأنصار، والله تعالى أعلم.

وقوله: (أَسْقِيهِمْ) يَحْتَمِل أن يكون بفتح الهمزة، مضارع سقى ثلاثيًّا، كما في قوله تعالى:{وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا} [الإنسان: 21]، ويَحْتَمِل أن يكون بضمّها؛ مضارع أسقى رباعيًّا؛ كما في قوله تعالى:{لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا} الآية [الجن: 16].

وقوله: (مِنْ فَضِيخٍ لَهُمْ) وفي رواية البخاريّ: "من فَضيخ زَهْو وتمر": أما الفَضِيخ: فهو - بفاء وضاد، معجمتين، وِزان عظيم -: اسم للبُسْر إذا شُدِخَ، ونُبِذ، وأما الزَّهْوُ - فبفتح الزاي، وسكون الهاء، بعدها واو -: وهو البُسر الذي يَحمَرّ، أو يَصْفَرُّ قبل أن يترطب، وقد يُطلق الفضيخ على خليط البُسر والرُّطب، كما يُطلق على خليط البسر والتمر، كما في الرواية التالية، وكما يُطلق على البسر وحده، وعلى التمر وحده، كما في رواية عند البخاريّ، وعند أحمد من طريق قتادة، عن أنس:"وما خَمْرُهم يومئذ إلا البسر والتمر، مخلوطين"، ووقع عند مسلم من طريق قتادة، عن أنس:"أسقيهم من مزادة فيها خليط بُسر وتمر".

وقوله: (فَجَاءَ رَجُلٌ) تقدّم أنه لا يُعرف اسمه.

وقوله: (فَقَالُوا: اكْفَأْهَا يَا أنسُ) بوصل الهمزة، من كفأ، من باب نفع؛

(1)

"المصباح المنير" 1/ 160.

(2)

"تاج العروس" 1/ 8360.

ص: 558

أي: اقْلِبْ وعاءها، ويقال: أكفأ بالهمز أيضًا، قال في "القاموس": كفأه، كمنعه: صرفه، وكبّه، وقلبَهُ، كأكفأه، وا كتفأه. انتهى.

وقوله: (قُلْتُ لأَنَسٍ) القائل هو سليمان التيميّ.

وقوله: (مَا هُوَ؟) وفي رواية البخاريّ: "ما شرابهم".

وقوله: (قَالَ: بُسْرٌ وَرُطَبٌ)؛ أي: قال أنس: كان شرابهم مخلوطًا من بُسْر وتمر، و"الْبُسْر" - بضم، فسكون - قال ابن فارس: البسر من كلّ شيء: الْغَضّ، ونباتٌ بُسْرٌ؛ أي: طَرِيّ. انتهى من "المصباح". وقال في "القاموس": البُسر: التمر قبل إرطابه، والبُسْرة واحدتها، وتُضمّ السين. انتهى.

وقوله: (فَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أنسٍ) ابن مالك الأنصاريّ، ثقةٌ من الطبقة الرابعة، من رجال المصنّف، وأبي داود في "المراسيل"، والنسائيّ.

وقوله: (كَانَتْ خَمْرَهُمْ يَوْمَئِذٍ) بنصب "خمرهم " خبرًا لـ"كان"، واسمها ضمير يعود إلى الفضيخ، وأنّثها نظرًا لكونها خمرًا.

وهذا الذي قاله أبو بكر قد ثبتٌ تحديث أنس به، كما أشار إليه بقوله:(قَالَ سُلَيْمَانُ) التيميّ، وهو موصول بالسند الماضي، (وَحَدَّثَنِي رَجُلٌ) يَحْتَمِل أن يكون قتادة، أو بكر بن عبد الله المزنيّ، كما قال الحافظ. (عَنْ أنسِ بْنِ مَالِكٍ) رضي الله عنه (أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ أَيْضًا)؛ أي: حدّث بما قاله ولده أبو بكر.

وفي الرواية التالية عن معتمر بن سليمان، عن أبيه، قال: حدّثني بعض من كان معي، أنه سمع أنسًا يقول:"كان خمرَهم يومئذ"، فيَحْتَمِل أن يكون أنس حدّث بها حينئذ، فلم يسمعه سليمان، أو حدّث بها في مجلس آخر، فحفظها عنه الرجل الذي حدّث بها سليمان.

قال الجامع عفا الله عنه: هكذا قال في "الفتح""، لكن يُبعد الاحتمال الثاني قوله هنا في الرواية التالية: "فحدّثني بعض من كان معي

إلخ"، فالاحتمال الأول هو الأقرب، والله تعالى أعلم.

قال الحافظ: وهذا المبهم يَحْتَمِل أن يكون هو قتادة، فقد أخرجه مسلم أيضًا من طريقه، عن أنس، بلفظ:"وقال أنس بن مالك: لقد حُرِّمت الخمر، وكانت عامّة خمورهم يومئذ خليط الْبُسر والتمر".

ويَحْتَمِل أن يكون هو بكر بن عبد الله المزنيّ، فقد أخرج البخاريّ من

ص: 559

طريق سعيد بن عُبيد الله، عن بكر بن عبد الله المزنيّ، أن أنس بن مالك حدّثهم "أن الخمر حُرِّمت، والخمر يومئذ البسر والتمر". وأخرجه الإسماعيلي من طريق رَوْح بن عُبادة، عن سعيد بن عبيد الله بهذا السند مطولًا، ولفظه:"عن أنس: نزل تحريم الخمر، فدخلت على أناس من أصحابي، وهي بين أيديهم، فضربتها برجلي، فقلت: انطلقوا فقد نزل تحريم الخمر، وشرابهم يومئذ البسر والتمر"، وهذا الفعل من أنس رضي الله عنه كأنه بعد أن خرج، فسمع النداء بتحريم الخمر، فرجع فأخبرهم.

ووقع عند ابن أبي عاصم، من وجه آخر، عن أنس:"فأراقوا الشراب، وتوضأ بعض، واغتسل بعض، وأصابوا من طيب أم سليم، وأتوا النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ فإذا هو يقرأ: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} الآية".

وهذا من أقوى الحجج على أن الخمر اسم جنس لكل ما يُسكر، سواء كان من العنب، أو من نقيع الزبيب، أو التمر، أو العسل، أو غيرها، وأما دعوى بعضهم أن الخمر حقيقةٌ في ماء العنب، مجازٌ في غيره، فإن سُلِّم في اللغة لزم من قال به جواز استعمال اللفظ الواحد في حقيقته ومجازه، والكوفيون لا يقولون بذلك، وأما من حيث الشرع فالخمر حقيقة في الجميع؛ لثبوت حديث:"كلُّ مسكر خمر"، فمن زعم أنه جَمَع بين الحقيقة والمجاز في هذا اللفظ لزمه أن يجيزه، وهذا ما لا انفكاك لهم عنه، أفاده في "الفتح"

(1)

، والله تعالى أعلم.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام البحث فيه، ولله الحمد.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5126]

(

) - (حَدَّثنَا مُحَمَّدُ بْنُ عبد الأَعْلَى، حَدَّثنَا الْمُعْتَمِرُ، عَنْ أَبِيه، قَالَ: قَالَ أنسٌ: كُنْتُ قَائِمًا عَلَى الْحَيِّ أَسْقِيهِمْ، بِمِثْلِ حَدِيثِ ابْنِ عُلَيَّةَ، غَيْرَ أنَّهُ قَالَ: فَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أنسٍ: كَانَ خَمْرَهُمْ يَوْمَئِذٍ، وَأنَسٌ شَاهِدٌ، فَلَمْ يُنْكِرْ أنسٌ ذَاكَ، وَقَالَ ابْنُ عبد الأَعْلَى: حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ، عَنْ أَبِيه، قَالَ: حَدَّثَنِي بَعْضُ مَنْ كَانَ مَعِي، أَنَّهُ سَمِعَ أنَسًا يَقُولُ: كَانَ خَمْرَهُمْ يَوْمَئِذٍ).

(1)

"الفتح" 12/ 602، كتاب "الأشربة".

ص: 560

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ عبد الأَعْلَى) الصنعانيّ، أبو عبد الله البصريّ، ثقةٌ [10](ت 245)(م قد ت س ق) تقدم في "الإيمان" 92/ 503.

2 -

(الْمُعْتَمِرُ) بن سليمان التيميّ، أبو محمد البصريّ، يُلقّب بالطُّفيل، ثقةٌ، من كبار [9](ت 187) وقد جاوز الثمانين (ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 105.

والباقيان ذُكرا قبله.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من رباعيّات المصنّف، كالأسانيد الثلاثة الماضية، و (370) من رباعيّات الكتاب.

وقوله: (بِمِثْلِ حَدِيثِ ابْنِ عُلَيَّةَ)؛ يعني: حديث المعتمر عن أبيه مثل حديث ابن عليّة عنه.

وقوله: (فَلَمْ يُنْكِرْ أنسٌ ذَاكَ) والمعنى: أن أبا بكر بن أنس كان حاضرًا عند أنس رضي الله عنه لَمّا حدثهم، فكأن أنسًا حينئذ لم يحدثهم بهذه الزيادة، إما نسيانًا، وإما اختصارًا، فذكّره بها ابنه أبو بكر، فأقرّه عليها.

وقوله: (حَدَّثَنِي بَعْضُ مَنْ كَانَ مَعِي)؛ أي: بعض من كان حاضرًا مجلس أنس رضي الله عنه حين حدّث بهذا الحديث.

[تنبيه]: قال الحافظ رشيد الدين بن العطّار رحمه الله في "غرر الفوائد" في بيان قوله: "حدّثني بعض من كان معي

إلخ": وقد أورد مسلم بعد ذلك حديث قتادة، عن أنس متّصلًا، وفيه: "نزل تحريم الخمر، فأكفأناها يومئذ، وإنها لخليط البسر والتمر، قال قتادة: وقال أنس بن مالك: لقد حُرّمت الخمر، وكانت عامّة خمورهم يومئذ البسر والتمر"، فثبت اتّصاله، والله أعلم.

قال الجامع عفا الله عنه: غرض الرشيد بن العطّار رحمه الله بهذا الكلام بيان أن الإبهام الواقع في رواية سليمان التيميّ حيث أبهم من حدّثه بقول أنس: "كان خمرهم يومئذ" زال برواية قتادة التي أخرجها مسلم بعده، فصار متّصلًا، والله تعالى أعلم.

وقوله: (كَانَ خَمْرَهُمْ يَوْمَئِذٍ) اسم "كان" ضمير يعود إلى الفضيخ، و"خمرَهم" منصوب على أنه خبرها.

ص: 561

[تنبيه]: رواية المعتمر بن سليمان، عن أبيه هذه ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:

(5261)

- حدّثنا مسدّد، حدّثنا معتمر، عن أبيه، قال: سمعت أنسًا قال: كنت قائمًا على الحيّ أسقيهم عمومتي، وأنا أصغرهم الفضيخَ، فقيل: حُرِّمت الخمر، فقالوا: أكفئها، فكفأتها، قلت لأنس: ما شرابهم؟ قال: رطب وبسر، فقال أبو بكر بن أنس:"وكانت خمرَهُمْ، فلم يُنكر أنس، وحدّثني بعض أصحابي أنه سمع أنس بن مالك يقول: كانت خمرهم يومئذ". انتهى

(1)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5127]

(

) - (وَحَدَّثنَا يَحْيىَ بْنُ أَيُّوبَ، حَدَّثنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، قَالَ: وَأَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قتَادَةَ، عَنْ أنسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: كُنْتُ أَسْقِي أَبا طَلْحَةَ، وَأَبَا دُجَانَةَ، وَمُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ، فِي رَهْطٍ مِنَ الأنصَار، فَدَخَلَ عَلَيْنَا دَاخِلٌ، فَقَالَ: حَدَثَ خَبَرٌ، نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْر، فَكَفَاناهَا يَوْمَئِذٍ، وَإِنَّهَا لَخَلِيطُ الْبُسْرِ وَالتَّمْر، قَالَ قَتَادَةُ: وَقَالَ أنسُ بْنُ مَالِكٍ: لَقَدْ حُرِّمَتِ الْخَمْرُ، وَكَانَتْ عَامَّةُ خُمُورِهِمْ يَوْمَئِذٍ خَلِيطَ الْبُسْرِ وَالتَّمْرِ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ) مِهْران اليشكريّ، تقدّم قبل أربعة أبواب.

2 -

(قَتَادَةُ) بن دِعامة السدوسيّ، تقدّم أيضًا قبل أربعة أبواب.

والباقون ذُكروا في الباب.

وقوله: (وَأَبا دُجَانَةَ) - بضم الدال المهملة، وتخفيف الجيم - هو سِمَاك بن خَرَشَة، وقيل: ابن أوس بن خَرَشة، متّفقٌ على شهوده بدرًا، وعلى أنه استُشهد باليمامة. وأسند ابن إسحاق من طريق يزيد بن السكن: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لمّا التحم القتال، ذَبّ عنه مصعب بن عمير - يعني: يوم أُحد - حتى قُتل، وأبو دُجانة سِماك بن خَرَشة، حتى كَثُرت فيه الجراحة، وقيل: إنه ممن شارك في قتل مسيلمة.

(1)

"صحيح البخاريّ" 5/ 2121.

ص: 562

وثبت ذِكره في "صحيح مسلم" من طريق حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم، أخذ سيفًا يوم أُحد، فقال:"من يأخذ هذا السيف بحقه؟ "، فأخذه أبو دُجانة، ففَلَق به هام المشركين.

وأخرج الدُّولابيّ في "الكنى" من طريق عبيد الله بن الوازع، عن هشام بن عروة، عن أبيه، قال: قال الزبير بن العوام: عرض النبيّ صلى الله عليه وسلم يوم أُحد سيفًا، فقال:"من يأخذ هذا السيف بحقه؟ "، فقام أبو دُجانة سِماك بن خَرَشة، فقال: أنا، فما حقّه؟ قال:"لا تقتل به مسلمًا، ولا تَفِرُّ به من كافر"، قاله في "الإصابة"

(1)

.

وقوله: (وَمُعَاذَ بْنَ جَبَلِ) بن عمرو بن أوس الأنصاريّ الْخَزرجيّ، أبو عبد الرحمن، من أعيان الصحابة رضي الله عنهم، شَهِدَ بدرًا، وما بعدها، وكان إليه المنتهى في العلم بالأحكام، والقرآن، مات رضي الله عنه بالشام سنة (18)(ع) تقدّمت ترجمته في "الإيمان" 7/ 130.

وقوله: (فِي رَهْطٍ مِنَ الأَنْصَارِ) - بفتح، فسكون -: ما دون عشرة من الرجال، ليس فيهم امرأة، وسكون الهاء أفصح مِن فَتْحها، وهو جَمْع لا واحد له من لفظه. وقيل: الرهط من سبعة إلى عشرة، وما دون السبعة إلى الثلاثة نفر. وقال أبو زيد: الرهط، والنفر: ما دون العشرة من الرجال. وقال ثعلب أيضًا: الرهط، والنفر، والقوم، والْمَعْشر، والْعَشيرة: معناهم الجمع، لا واحد لهم من لفظهم، وهو للرجال، دون النساء. وقال ابن السكّيت: الرهط، والعشيرة بمعنًى. ويقال: الرهط: ما فوق العشرة إلى الأربعين، قاله الأصمعيّ في "كتاب الضاد والظاء"، ونقله ابن فارس أيضًا. ورَهْطُ الرجل قومه، وقبيلته الأقربون. انتهى من "المصباح المنير".

وقوله: (فَدَخَلَ عَلَيْنَا دَاخِلٌ)؛ أي: رجل داخل من خارج البيت، وتقدّم أنه لا يُعرف اسمه.

وقوله: (فَقَالَ: حَدَثَ خَبَرٌ)؛ أي: استجدّ أمر من أمور التشريع، وقوله:"نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ" مستأنَف استئنافًا بيانيًّا، وهو ما وقع جوابًا عن سؤال

(1)

"الإصابة في تمييز الصحابة" 11/ 112.

ص: 563

مقدَّر، كأن قائلًا قال: وما هو الخبر الحادث؟ فأجاب بقوله: نزل تحريم الخمر.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى البحث فيه مستوفًى، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5128]

(

) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو غَسَّانَ الْمِسْمَعِيّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ، قَالُوا: أَخْبَرَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: إِنِّي لأَسْقِي أَبَا طَلْحَةَ، وَأَبَا دُجَانَةَ، وَسُهَيْلَ ابْنَ بَيْضَاءَ، مِنْ مَزَادَةٍ، فِيهَا خَلِيطُ بُسْرٍ وَتَمْرٍ، بِنَحْوِ حَدِيثِ سَعِيدٍ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(أَبُو غَسَّانَ الْمِسْمَعِيُّ) مالك بن عبد الواحد البصريّ، ثقةٌ [10](ت 230)(م د) تقدم في "الإيمان" 8/ 137.

2 -

(مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ) الدستوائيّ البصريّ، وقد سكن اليمن، صدوقٌ ربّما وَهِمَ [9](ت 200)(ع) تقدم في "الإيمان" 12/ 156.

3 -

(أَبُوهُ) هشام بن أبي عبد الله سَنْبَر الدستوائيّ، أبو بكر البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ رُمي بالقدر، من كبار [7](ت 154) وله (78)(ع) تقدم في "الإيمان" 12/ 156.

والباقون ذُكروا في الباب وقبله.

وقوله: (إِنِّي لأَسْقِي) تقدّم أنه بفتح الهمزة من سقى ثلاثيًّا، وبضمّها، من أسقى رباعيًّا.

وقوله: (وَسُهَيْلَ ابْنَ بَيْضَاءَ) القرشي الفِهْريّ، يكنى أبا أمية فيما زعم بعضهم، والبيضاء أمه التي كان يُنسب إليها، اسمها: دَعْد بنت الجحدم بن أمية بن ضبة بن الحارث بن فِهْر بن مالك بن النضر بن كنانة، وهو سهيل بن عمرو بن وهب، وقيل: سهيل بن وهب بن ربيعة بن هلال بن أهيب بن ضبة بن الحارث بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة، وقيل: سهيل ابن بيضاء هو سهيل بن عمرو بن وهب بن ربيعة بن هلال

إلخ.

خرج سهيل مهاجرًا إلى أرض الحبشة حتى فشا الإسلام، وظهر، ثم قَدِم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، فأقام معه حتى هاجر، وهاجر سهيل، فجمع

ص: 564

الهجرتين جمعًا، ثم شهد بدرًا، ومات بالمدينة في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة تسع، وصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد.

ورَوَى سفيان بن عيينة، عن علي بن زيد بن جُدْعان، عن أنس بن مالك قال: كان أسنّ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر، وسهيل ابن بيضاء، ذكره في "الاستيعاب"

(1)

.

وقوله: (مِنْ مَزَادَةٍ) هي شطر الراوية، وهي بفتح الميم، والقياس كسرها؛ لأنه آلة يُستقَى بها الماءُ، وجمعها مَزَايدُ، وربَّما قيل: مَزَادٌ بغير هاء، والْمَزَادة مَفْعَلَةٌ، من الزاد؛ لأنه يَتَزَوَّد فيها الماءَ، قاله الفيّوميّ رحمه الله

(2)

.

وقال ابن الأثير رحمه الله: قد تكرّر ذكر المزادة في غير موضع من الحديث، وهو الظرف الذي يُحمَل في الماء، كالراوية، والْقِرْبة، والسَّطِيحة، والجمع: المزاود، والميم زائدة. انتهى

(3)

.

وقال المجد رحمه الله: "المزادة": الراوية، أو لا تكون إلَّا من جِلْدَين تُفْأم بثالث بينهم لتتسع، جمعه مَزَادٌ، ومَزَايِدُ. انتهى.

وقال المرتضى في "شرحه": قوله: "والمَزَادَةُ: الرَّاوِيَةُ": قال شيخُنا: وإِطلاقُ المَزَادَة على الرَّاوِية، وبالعكس إِنما هو مَجازٌ في الأَصحّ، قالوا: سُمِّيَت رَاوِيَةً مجازًا للمُجاورة؛ إِذ الرَّاوِيَةُ هي الدَّابَّة التي تَحْمِلُها، وهو الذِي جَزَم به في "المفْتَاح"، وزَعم طائفةٌ من أَهلِ اللُّغَة، منهم أَبو منصور أَن عَيْنَ المَزادَةِ واوٌ، وأَنَّهَا من الزَّوْد، وبه جَزَمَ صاحبُ "المِصْباحِ"، وأَوردَه صاحبُ "اللسان" في الواو والياء، وهو وَهَمٌ. قال الخَفَاجِيُّ في "شرح الشفاءِ": هي من الزيادة؛ لأَنه يُزادُ فيها جِلْدٌ ثالثٌ كما قاله أبو عُبَيْدَةَ، لا من الزَّادِ كما تُوْهِّم، وقال السيد في "شرح المفتاح": ومن فَسَّرَ المزادةَ بما جُعِل فيها الزّادُ فقدْ سَهَا.

وقوله: "أَو المَزَادة لا تكون إِلَّا من جِلْدَيْنِ تُفْأَمُ بثالثٍ بينهما لِتَتَّسِعَ"،

(1)

"الاستيعاب في معرفة الأصحاب" 2/ 667 - 668.

(2)

"المصباح المنير" 1/ 260.

(3)

"النهاية في غريب الحديث والأثر" ص 868.

ص: 565

وكذلك السَّطِيحةُ، "جمعه: مَزَادٌ ومَزَايِدُ" قاله أَبو عُبَيدَةَ، والظاهر من عبارة المصنّف أَنهما قولان، والمعروف أَن الثاني بيانٌ للأَول كما قاله شيخُنا، وفي "المحكم": والمَزَادَةُ التي يُحمَل فيها الماءُ وهي ما فُئِمَ بجِلْدِ ثالثٍ بين الجِلْدَيْنِ لتتَّسِعَ، سُمِّيَ بذلك لمَكَانِ الزِّيادة، وقيل: هي المَشْعُوبة من جانب واحدٍ، فإِن خَرَجَتْ من وَجْهَيْنِ فهي شَعِيبٌ. وقالوا: البَعيرُ يَحمِل الزَّادَ والمَزَادَ؛ أي: الطَّعامَ والشَّرَابَ، والمَزادةُ بمنزلةِ رَاوِيةٍ لا عَزْلاءَ لها. قال أَبو منصور: المَزَادُ بغير هاءٍ هي الفَرْدةُ التي يَحْتَقِبها الرَّاكبُ بِرَحْلِه ولا عزلاءَ لها. وأَما الرَّاوِيةُ فإِنها تَجْمَع بينْ المَزادتينِ يُعكَمانَ على جَنْبَي البَعِير، ويرَوَّى عليهما بالرِّواءِ وكلّ واحدة منها مَزَادةٌ، والجمع مَزايِدُ. وربما حذَفُوا الهاءَ فقالوا: مَزَادٌ. وقال ابن شُمَيْل: السَّطِيحة جلدان مُقابَلَان، والمَزَادةُ تكون من جِلْدين ونِصْف وثَلاثةِ جُلود، سُمِّيَتْ لَأنها تَزِيد على السَّطِيحَتَيْنِ. قال شيخُنا: والمعروفُ في المَزَادةِ فتح الميم. وقال صاحب "المصباح": القِياسُ كسرُها؛ لأَنها آلة يُستقَى فيها الماءُ. قلت: ويخالفه قول السيد في "شرح المفتاح": إنها ظَرْفٌ للماء، وعليه فالقيَاسُ الفتْحُ، ويؤَيِّده قولُه بعدُ: يُستَقَى فيها؛ إذ لو كانَتْ آلة لقال يُسْتَقَى بِهَا. فَتأَمَّلْ، والله أعلم. انتهى كلام المرتضى رحمه الله

(1)

.

وقوله: (خَلِيطُ بُسْرٍ وَتَمْرٍ)"الْخَليط": المختلط من أنواع شتّى، والمراد هنا: ما خُلِط من بسر، وتمر.

وقال ابن الأثير رحمه الله: في قوله: "نَهَى عن الخَلِيطَين أن يُنْبَذا": يريد ما يُنْبَذ من البُسر والتَّمر معًا، أو من العِنَب والزَّبيب، أو من الزَّبيب والتمر، ونحو ذلك، مما يُنْبَذ مُخْتلِطًا، وإنما نَهى عنه؛ لأنّ الأنْواع إذا اختَلَفت في الانْتبَاذِ كانت أسْرَع للشدة، والتَّخْمِير.

والنَّبيذُ المعمولُ من خَلِيطَين ذَهَبَ قوم إلى تَحْريمه، وإن لَمْ يُسْكِر أخْذًا بظاهر الحديث، وبه قال مالك، وأحمد، وعامَّة المُحَدِّثين، قالوا: من شَرِبه قبل حُدوث الشَّدة فيه، فهو آثِمٌ من جهةٍ واحدةٍ، ومَن شَرِبه بعد حُدوثها، فهو

(1)

"تاج العروس" 1/ 2014.

ص: 566

آثِمٌ من جِهَتَين: شُرْبِ الخَلِيطَين، وشُرْبِ المُسْكِر، وغيرهم رخَّص فيه، وعَلَّلوا التحريم بالإسكار. انتهى

(1)

.

وقوله: (بِنَحْوِ حَدِيثِ سَعِيدٍ)؛ يعني: أن حديث هشام الدستوائيّ، عن قتادة نحو حديث سعيد بن أبي عروبة عنه المذكور قبله.

[تنبيه]: رواية هشام الدّستوائيّ، عن قتادة هذه ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:

(5278)

- حدّثنا مسلم، حدّثنا هشام، حدّثنا قتادة، عن أنس رضي الله عنه قال: إني لأسقي أبا طلحة، وأبا دُجانة، وسهيل ابن البيضاء، خَلِيطَ بُسْر وتمر، إذ حُرِّمت الخمر، فقذفتها، وأنا ساقيهم، وأصغرهم، وإنا نَعُدّها يومئذ الخمر، وقال عمرو بن الحارث: حدّثنا قتادة، سمع أنسًا. انتهى

(2)

.

وساقها أبو يعلى رحمه الله في "مسنده" بلفظ مسلم، فقال:

(3008)

- حدثنا أبو موسى، حدّثنا معاذ بن هشام، حدثني أبي، عن قتادة، عن أنس، قال: إني لأسقي أبا طلحة، وأبا دُجانة، ولسُهيل ابن بيضاء، من مزادة لهم، فيها خليط بُسر وتمر، إذ دخل علينا داخلٌ، فقال: إنه قد حدث اليوم أمرٌ، قلنا: وما هو؟ قال: حُرِّمت الخمر، فأكفأناها، وكنا نَعُدّها يومئذ خمرًا. انتهى

(3)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5129]

(1981) - (وَحَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ سَرْحٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِث، أَنَّ قَتَادَةَ بْنَ دِعَامَةَ حَدَّثَهُ، أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُخْلَطَ التَّمْرُ وَالزَّهْوُ، ثُمَّ يُشْرَبَ، وَإِنَّ ذَلِكَ كَانَ عَامَّةَ خُمُورِهِمْ يَوْمَ حُرِّمَتِ الْخَمْرُ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(أَبُو الطَّاهِرِ أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ سَرْحٍ) المصريّ، تقدّم قريبًا.

(1)

"النهاية في غريب الأثر" 2/ 141.

(2)

"صحيح البخاريّ" 5/ 2126.

(3)

"مسند أبي يعلى" 5/ 361 - 362.

ص: 567

2 -

(عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ) بن يعقوب الأنصاريّ مولاهم، أبو أيوب المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيه [7] مات قبل (150)(ع) تقدم في "الإيمان" 16/ 169.

والباقون ذُكروا في الباب.

وقوله: (نَهَى أَنْ يُخْلَطَ التَّمْرُ وَالزَّهْوُ) أما "التمر"، فقال الفيّوميّ رحمه الله: هو: من ثمر النخل، كالزبيب من العنب، وهو اليابس بإجماع أهل اللغة؛ لأنه يُتْرَك على النخل بعد إرطابه حتى يجفّ، أو يقارب، ثم يُقطع، ويترك في الشمس حتى ييبس، قال أبو حاتم: وربما جُدّت النخلة، وهي باسرة بعدما أَخَلَّت؛ ليخفَّف عنها، أو لخوف السرقة، فتُترك، حتى تكون تمرًا، الواحدة: تَمْرَةٌ، والجمع: تُمُورٌ، وتُمْرَانٌ بالضمّ، والتَّمْرُ يذكَّر في لغة، ويؤنّث في لغة، فيقال: هو التَّمْرُ، وهي التَّمْرُ، وتَمَرْتُ القومَ تَمْرًا، من باب ضرب: أطعمتهم التمر، ورجل تَامِرٌ، ولابِنٌ: ذو تمر، ولبن، قال ابن فارس: التَّامِرُ، الذي عنده التمر، والتَّمَّارُ: الذي يبيعه، وتَمَّرْتُهُ تَتْمِيرًا: يبّسته، فَتَتَمَّرَ هو، وأَتْمَرَ الرطبُ: حان له أن يصير تمرًا. انتهى

(1)

.

وأما "الزَّهْو" - بفتح الزاي، وضمّها - لغتان مشهورتان، قال الجوهريّ: أهل الحجاز يضمّون، وهو البُسر الملوّن الذي بدا فيه حمرة، أو صفرة، وطاب. كذا قال النوويّ رحمه الله. وقال الفيّوميّ: زَها النخلُ يزهو زَهْوًا، والاسم الزُّهُوُّ بالضمّ: ظهرت الحمرة، والصفرة في ثمره. وقال أبو حاتم: وإنما يُسَمّى زَهْوًا: إذا خَلَصَ لونُ البُسرة في الحمرة، أو الصفرة، ومنهم من يقول: زها النخلُ: إذا نبت ثمره، وأزهى: إذا احمرّ، أو اصفرّ. انتهى.

وخلاصة القول أنه يُستفاد مما سبق أن الزهو فيه ثلاث لغات: الزّهو بفتح، فسكون، كالدلو، والزُّهو بضم، فسكون، كالقفل، والزهُوّ بضم، فتشديد واو، كالغُلُوّ، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى البحث فيه مستوفًى، ولله الحمد.

(1)

"المصباح المنير" 1/ 75 - 76.

ص: 568

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5130]

(1980) - (وَحَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِر، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ أَسْقِي أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاح، وَأَبَا طَلْحَةَ، وَأُبَيَّ بْنَ كعْبٍ شَرَابًا مِنْ فَضِيخٍ وَتَمْرٍ، فَأَتَاهُمْ آتٍ، فَقَالَ: إِنَّ الْخَمْرَ قَدْ حُرِّمَتْ، فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: يَا أَنَسُ قُمْ إِلَى هَذِهِ الْجَرَّةِ فَاكْسِرْهَا، فَقُمْتُ إِلَى مِهْرَاسٍ لَنَا، فَضَرَبْتُهَا بِأَسْفَلِه، حَتَّى تَكَسَّرَتْ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(إِسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ) الأنصاريّ، أبو يحيى المدنيّ، ثقةٌ حجّةٌ [4](ت 132) أو بعدها (ع) تقدم في "الطهارة" 30/ 667.

والباقون ذُكروا في الباب وقبل باب.

وقوله: (أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ) هو: عامر بن عبد الله بن الْجَرّاح بن هلال بن أُهيب بن ضَبّة بن الحارث بن فِهْر القرشيّ الْفِهريّ، أحد العشرة المبشّرين بالجنّة، أسلم قديمًا، وشَهِدَ بدرًا، ومات شهيدًا بطاعون عمواس سنة (18) وله (58) سنةً له ذِكر في هذا الكتاب، بلا رواية، وتقدّمت ترجمته في "الصيد والذبائح" 4/ 4990.

وقوله: (وَأُبَيَّ بْنَ كَعْبِ) بن قيس بن عُبيد بن زيد بن معاوية بن عمرو بن مالك بن النجّار الأنصاريّ الخزرجيّ، أبو المنذر سيّد القرّاء، ويُكنى أيضًا أبا الطُّفيل، من فضلاء الصحابة رضي الله عنهم، قيل: توفّي سنة (19) وقيل: (32)، وقيل غير ذلك، وتقدّمت ترجمته في "شرح المقدمة" ص 2 ص 466.

وقوله: (مِنْ فَضِيخِ وَتَمْرٍ) تقدّم معنى الفضيخ، والتمر، والمراد هنا: شربًا مخلوطًا منهما.

وقوله: (فَأَتَاهُمْ آتٍ) لَمْ يُعرف اسمه.

وقوله: (إِلَى هَذِهِ الْجَرَّةِ) بفتح الجيم: إناء معروف من الْفَخّار، والجمع: جِرَار، مثلُ كَلْبة وكلاب.

ص: 569

وقوله: (إِلَى مِهْرَاسٍ لنَا) - بكسر الميم، وسكون الهاء، وآخره سين مهملة -: إناء يُتّخَذ من صَخْر، ويُنقَر، وقد يكون كبيرًا، كالحوض، وقد يكون صغيرًا، بحيث يتأتى الكسر به، وكأنه لَمْ يَحْضُره ما يَكسر به غيره، أو كسر بآلة الْمِهْراس التي يُدَقّ بها فيه، كالهاوَنِ، فأطلق اسمه عليها مجازًا، قاله في "الفتح"

(1)

.

وقوله: (حَتَّى تَكَسَّرَتْ) قال في "الفتح": وهذا لا ينافي الروايات الأخرى - يعني: التي فيها الإراقة دون الكسر - بل يُجمع بأنه أراقها، وكسر أوانيها، أو أراق بعضًا، وكسر بعضًا، وقد ذكر ابن عبد البرّ أن إسحاق بن أبي طلحة تفرّد عن أنس بذكر الكسر، وأن ثابتًا، وعبد العزيز بن صهيب، وحُميدًا، وعَدّ جماعة من الثقات، رووا الحديث بتمامه عن أنس، منهم من طوَّله، ومنهم من اختصره، فلم يذكروا إلَّا إراقتها. انتهى

(2)

.

وقال النوويّ رحمه الله: وهذا الكسر محمول على أنَّهم ظَنّوا أنه يجب كسرها، وإتلافها، كما يجب إتلاف الخمر، وإن لَمْ يكن في نفسِ الأمر هذا واجبًا، فلما ظنّوه كسروها، ولهذا لَمْ يُنكر عليهم النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعَذرهم؛ لعدم معرفتهم الحكم، وهو غَسْلها من غير كسر. انتهى

(3)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أَوَّل الكتاب قال:

[5131]

(1982) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ - يَعْنِي: الْحَنَفِيَّ - حَدَّثَنَا عبدُ الحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنِي أَبِي، أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسٍ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: لَقَدْ أَنْزَلَ اللهُ الآيةَ الَّتي حَرَّمَ اللهُ فِيهَا الْخَمْرَ، وَمَا بِالْمَدِينَةِ شَرَابٌ يُشْرَبُ إِلَّا مِنْ تَمْرٍ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أَبُو بَكْرٍ الْحَنَفِيُّ) عبد الكبير بن عبد المجيد بن عُبيد الله البصريّ، ثقةٌ [9](ت 204)(ع) تقدم في "الصلاة" 49/ 1136.

2 -

(عبدُ الحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرِ) بن عبد الله بن الحكم الأنصاريّ المدنيّ،

(1)

"الفتح" 12/ 601.

(2)

"الفتح" 12/ 601.

(3)

"شرح النوويّ" 13/ 151.

ص: 570

صدوقٌ رُمي بالقدر، وربّما وَهِمَ [6](ت 153)(خت م 4) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 4/ 1195.

3 -

(أَبُوهُ) جعفر بن عبد الله بن الحكم بن رافع الأنصاريّ، أبو عبد الحميد، ثقةٌ [3](بخ م 4) تقدم في "الإيمان" 22/ 187.

والباقيان ذُكرا في الباب.

وقوله: (لَقَدْ أنزَلَ اللهُ الآيَةَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ فِيهَا الْخَمْرَ)؛ يعني: قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90)} [المائدة: 90].

[خاتمة]: في شرح الآية الكريمة، وما يتعلّق بها:

قَالَ اللهُ تبارك وتعالى ناهيًا عباده المؤمنين عن تعاطي الخمر، والميسر، وهو القمار ({يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}) خطاب لجميع المؤمنين بترك هذه الأشياء؛ إذ كانت شهوات وعادات، تَلَبَّسوا بها في الجاهلية، وغلبت على النفوس، فكان نَفِيٌّ منها في نفوس كثير من المؤمنين. قال ابن عطية: ومن هذا القبيل هَوَى الزجر بالطير، وأخذ الفأل في الكتب ونحوه، مما يصنعه الناس اليوم، وأما الخمر فكانت لَمْ تحرَّم بعدُ، إنما نزل تحريمها في سنة ثلاث، بعد وقعة أُحد، وكانت وقعة أُحد في شوال سنة ثلاث من الهجرة.

{إِنَّمَا الْخَمْرُ} تقدم اشتقاقها، ومعناها، في أول الباب. {وَالْمَيْسِرُ} هو قِمار العرب بالأزلام، قال ابن عباس رضي الله عنهما: كان الرجل في الجاهلية، يُخاطر الرجل على أهله وماله، فأيهما قَمَر صاحبه ذهب بماله وأهله، فنزلت الآية. وقال مجاهد، ومحمد بن سيرين، والحسن، وابن المسيب، وعطاء، وقتادة، ومعاوية بن صالح، وطاوس، وعلي بن أبي طالب، وابن عباس أيضًا: كلّ شيء فيه قمار من نَرْد، وشطرنج فهو الميسر، حتى لَعِبُ الصبيان بالْجَوْز والكِعَاب

(1)

، إلَّا ما أبيح من الرِّهان في الخيل، والقرعة في إفراز الحقوق، وقال مالك: الميسر ميسران: ميسر اللَّهو، وميسر القمار، فمن ميسر اللَّهو: النردُ، والشطرنج، والملاهي كلها، وميسر القمار: ما يتخاطر الناس عليه. قال

(1)

"الكعاب": فصوص النرد.

ص: 571

علي بن أبي طالب رضي الله عنه: الشطرنج ميسر المعجم، وكل ما قومر به فهو ميسر عند مالك وغيره من العلماء، و"الميسر": مأخوذ من اليَسَر، وهو وجوب الشيء لصاحبه، يقال: يَسَر لي كذا: إذا وجب فهو يَيْسِرَ يَسَرًا ومَيْسِرًا، والياسر: اللاعب بالقِداح، وقد يَسَر يَيْسِر، قال الشاعر [من الكامل]:

فَأَعِنْهُمُ وَايْسِرْ بِمَا يَسَرُون بِهِ

وَإِذَا هُمُ نَزَلُوا بِضَنْكٍ فَانْزِلِ

وقال الأزهريّ: الميسر الجزور الذي كانوا يتقامرون عليه، سُمِّي ميسرًا؛ لأنه يُجَزّأ أجزاء، فكأنه موضع التجزئة، وكل شيء جزأته فقد يسرته، والياسر الجازر؛ لأنه يُجَزِّيء لحم الجزور، قال: وهذا الأصل في الياسر، ثم يقال للضاربين بالقداح، والمتقامرين على الجزور: ياسرون؛ لأنهم جازرون، إذْ كانوا سببًا لذلك. وفي "الصحاح": ويسر القوم الجزور؛ أي: اجتزروها، واقتسموا أعضاءها، قال سحيم بن وَثِيل اليربوعيُّ [من الطويل]:

أَقُولُ لَهُمْ بِالشِّعْبِ إِذْ يَيْسِرُونَنِي

أَلَمْ تَيْأَسُوا أَنِّي ابْنُ فَارِسِ زَهْدَمِ

كان قد وقع عليه سِباء، فضرب عليه بالسهام، ويقال: يَسَر القوم: إذا قامروا، ورجل يَسَرٌ، وياسر: بمعني، والجمع أيسار، قال النابغة [من البسيط]:

أَنِّي أُتَمِّمُ أَيْسَارِي وَأَمْنَحُهُمْ مَثْنَى

الأَيَادِي وَأَكْسُو الْجَفْنَةَ الأَدَمَا

وقال طَرَفَةُ:

وَهُمْ أَيْسَارُ لُقْمَانَ إِذَا

أَغْلَتِ الشَّتْوَةُ أَبْدَاءَ الْجُزُرْ

وكان من تَطَوَّع بنحرها ممدوحًا عندهم، قال الشاعر؛

وَنَاجِيَةٍ نَحَرْتُ لِقَوْم صِدْقٍ

وَمَا نَادَيْتُ أَيْسَارَ الْجُزُرْ

{وَالْأَنْصَابُ} بفتح الهمزةَ: جمع نُصُب بضمتين: وهو حجر نُصِبَ، وعُبد من دون الله، وقيل: النُّصُب جَمْع، واحدها نِصَابٌ، قيل: هي الأصنام، وقيل: غيرها، فإن الأصنام مصوّرةٌ منقوشةٌ، والأنصاب بخلافها. قاله الفيّوميّ. وقال في "اللسان": قال الجوهريّ: النَّصْب - أي: بفتح، فسكون -: ما نُصب، فعُبد من دون الله تعالى، وكذلك النُّصب بالضمّ، وقد يُحرّك، مثلُ عسُر، قال الأعشى [من الطويل]:

وَذَا النُّصُبَ الْمَنْصُوبَ لَا تَنْسُكَنَّهُ

لِعَافِيَةِ وَاللهَ رَبَّكَ فَاعْبُدَا

ويُروى عجُزُه:

وَلَا تَعبد الشَّيْطَانَ وَاللهَ فَاعْبُدَا

ص: 572

وقال القرطبيّ في "تفسيره"

(1)

: قال ابن فارس: النُّصُب حجر كان يُنصب، فيعبد، وتُصَبّ عليه دماء الذبائح، وهو النَّصْب - بالفتح - أيضًا، والنصائب حجارة تُنصب حوالي شفير البئر، فتُجعل عضائدَ، وغُبار منتصبٌ: مرتفع، وقيل: النُّصُب جمعٌ واحده نِصاب، كحمار وحُمُر، وقيل: هو اسم مفرد، والجمع أنصاب، وكانت ثلاثمائة وستين حجرًا، وقال مجاهد: هي حجارة كانت حوالي مكة يذبحون عليها قال ابن جريجٍ: كانت العرب تذبح بمكة، وتنضح بالدم ما أقبل من البيت، ويشرحون اللحم، ويضعونه على الحجارة، فلما جاء الإسلام قال المسلمون للنبيّ صلى الله عليه وسلم: نحن أحقّ أن نعظِّم هذا البيت بهذه الأفعال، فكأنه صلى الله عليه وسلم لَمْ يكره ذلك، فأنزل الله تعالى:{لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا} [الحج: 37"، ونزلت: وَ {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} [المائدة: 3].

{وَالْأَزْلَامُ} هي: قِداح الميسر، واحدهما زَلَمٌ، وزُلَم، قال:

بَاتَ يُقَاسِيهَا غُلَامٌ كَالزُّلَمْ

وقال آخر، فجَمَع [من الكامل]:

فَلَئِنْ جَذِيمَةُ قَتَّلَتْ سَرَوَاتِهَا

فَنِسَاؤُهَا يَضْرِبْنَ بِالأَزْلَامِ

وذكر محمد بن جرير، أن ابن وكيع حدّثهم، عن أبيه، عن شَرِيك، عن أبي حَصِين، عن سعيد بن جبير: أن الأزلام حَصًى بِيضٌ، كانوا يضربون بها.

قال محمد بن جرير: قال لنا سفيان بن وكيع: هي الشَّطْرنج، فأما قول لبيد:

تَزِلُّ عَنِ الثَّرَى أَزْلَامُهَا

فقال: أراد أظلاف البقرة الوحشية، والأزلام للعرب ثلاثة أنواع:

[منها]: الثلاثة التي كان يتخذها كلّ إنسان لنفسه، على أحدها: افْعَلْ، وعلى الثاني: لا تفعل، والثالث مهمل، لا شيء عليه، فيجعلها في خريطة معه، فإذا أراد فعل شيء، أدخل يده وهي متشابهة، فإذا خرج أحدها ائتمر، وانتهى بحسب ما يَخرج له، وإن خرج القدح الذي لا شيء عليه أعاد الضرب، وهذه هي التي ضرب بها سُراقة بن مالك بن جُعشُم، حين اتّبع النبيّ صلى الله عليه وسلم وأبا بكر، وقت الهجرة، وإنما قيل لهذا الفعل: استقسام؛ لأنهم كانوا يستقسمون به

(1)

"الجامع لأحكام القرآن" 6/ 57.

ص: 573

الرزق، وما يريدون، كما يقال: الاستسقاء في الاستدعاء للسقي، ونظير هذا الذي حرّمه الله تعالى قول المنجّم: لا تخرج من أجل نجم كذا، واخرج من أجل نجم كذا، وقال عز وجل:{وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا} الآية [لقمان: 34].

[والنوع الثاني]: سبعة قِداح، كانت عند هُبَل في جوف الكعبة، مكتوب عليها ما يدور بين الناس من النوازل، كلّ قدح منها فيه العقل، من أمر الديات، وفي آخر "منكم"، وفي آخر "من غيركم"، وفي آخر "مُلصَق"، وفي سائرها أحكام المياه، وغير ذلك، وهي التي ضرب بها عبد المطلب علي بنيه؛ إذ كان نذر نحر أحدهم، إذا كملوا عشرة، الخبر المشهور، ذكره ابن إسحاق، وهذه السبعة أيضًا كانت عند كلّ كاهن، من كُهّان العرب، وحكامهم، على نحو ما كانت في الكعبة عند هُبَل.

[والنوع الثالث]: هو قداح الميسر، وهي عشرة: سبعة منها فيها حُظُوظ، وثلاثة أغفال، وكانوا يضربون بها مُقامرة لهوًا ولعبًا، وكان عقلاؤهم يقصدون بها إطعام المساكين، الْمُعدِم في زمن الشتاء، وكَلَب البرد، وتعذّر التحرف. وقال مجاهد: الأزلام هي كعاب فارس والروم، التي يتقامرون بها. وقال سفيان، ووكيع: هي الشطرنج، فالاستقسام بهذا كله هو طلب القَسْمِ والنصيب، كما بيّنا، وهو من أكَلْ المال بالباطل، وهو حرام، وكل مقامرة بحَمَام، أو بنرد، أو شطرنج، أو بغير ذلك من هذه الألعاب، فهو استقسام بما هو في معنى الأزلام، حرام كله، وهو ضرب من التكهن، والتعرض لدعوى علم الغيب. قال ابن خويز منداد: ولهذا نهى أصحابنا عن الأمور التي يفعلها المنجمون على الطرقات، من السهام التي معهم، ورقاع الفأل في أشباه ذلك. وقال إِلْكِيا الطبري: وإنما نهى الله عنها فيما يتعلق بأمور الغيب، فإنه لا تدري نفس ماذا يصيبها غدًا، فليس للأزلام في تعريف المغيبات أثر، فاستنبط بعض الجاهلين من هذا الرد على الشافعيّ، في الإقراع بين المماليك في العتق، ولم يعلم هذا الجاهل أن الذي قاله الشافعيّ بُنِي على الأخبار الصحيحة، وليس مما يُعترض عليه بالنهي عن الاستقسام بالأزلام، فإن العتق حكم شرعيّ، يجوز أن يَجعَل الشرع خروج القرعة عَلَمًا على إثبات حُكم العتق، قطعًا للخصومة،

ص: 574

أو لمصلحة يراها، ولا يساوي ذلك قول القائل: إذا فعلت كذا، أو قلت كذا، فذلك يدلك في المستقبل على أمر من الأمور، فلا يجوز أن يجعل خروج القداح عَلَمًا على شيء يتجدد في المستقبل، ويجوز أن يُجعَل خروج القرعة عَلَمًا على العتق؛ قطعًا، فظهر افتراق البابين.

[تنبيه]: وليس من هذا الباب طلب الفَأْل، وكان صلى الله عليه وسلم يُعجبه أن يسمع يا راشد، يا نجيح، أخرجه الترمذيّ، وقال: حديث صحيح غريب، وإنما كان يعجبه الفأل لأنه تنشرح له النفس، وتستبشر بقضاء الحاجة، وبلوغ الأمل، فيحسن الظنّ بالله عز وجل، وقد قال:"أنا عند ظن عبدي بي"، وكان صلى الله عليه وسلم: يَكرَه الطيرة؛ لأنَّها من أعمال أهل الشرك، ولأنها تجلب ظن السوء بالله عز وجل، قال الخطابيّ: الفرق بين الفأل والطيرة: أن الفأل إنما هو من طريق حسن الظن بالله، والطيرة إنما هي من طريق الاتكال على شيء سواه. وقال الأصمعيّ: سألت ابن عون عن الفأل؟ فقال: هو أن يكون مريضًا، فيسمع: يا سالم، أو يكون باغيًا، فيسمع: يا واجد، وهذا معنى حديث الترمذيّ، وفي "صحيح مسلم"، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: "لا طيرة، وخيرها الفأل"، قيل: يا رسول الله، وما الفأل؟ قال:"الكلمة الصالحة يسمعها أحدكم".

{رِجْسٌ} قال ابن عباس رضي الله عنهما في هذه الآية: "رجس": سخط، وقد يقال للنَّتْن والعَذِرة والأقذار: رجس، والرجز بالزاي: العذاب لا غير، والركس: العذرة لا غير، والرجس يقال للأمرين، ذكره القرطبيّ.

{مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} ؛ أي: بحمله عليه، وتزيينه، وقيل: هو الذي كان عمل مبادئ هذه الأمور بنفسه، حتى اقتُدي به فيها. {فَاجْتَنِبُوهُ} قال النسفيّ: الضمير يرجع إلى الرجس، أو إلى عمل الشيطان، أو إلى المذكور، أو إلى المضاف المحذوف، كأنه قيل: إما تعاطي الخمر، والميسر، ولذا قال:{رِجْسٌ} .

وقال القرطبيّ: قوله تعالى: {فَاجْتَنِبُوهُ} يريد: أَبْعِدوه، واجعلوه ناحيةً، فأَمَر الله تعالى باجتناب هذه الأمور، واقترنت بصيغة الأمر، مع نصوص الأحاديث، وإجماع الأمة، فحصل الاجتناب في جهة التحريم، فبهذا حرمت

ص: 575

الخمر، ولا خلاف بين علماء المسلمين، أن سورة المائدة نزلت بتحريم الخمر، وهي مدنية من آخر ما نزل، وورد التحريم في الميتة، والدم، ولحم الخنزير في قوله تعالى:{قُلْ لَا أَجِدُ} وغيرها من الآي خبرًا، وفي الخمر نهيًا وزجرًا، وهو أقوى التحريم، وأوكده، رَوَى ابن عباس رضي الله عنهما قال: لمّا نزل تحريم الخمر، مَشَى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعضهم إلى بعض، وقالوا: حُرِّمت الخمر، وجُعلت عِدلًا للشرك - يعني: أنه قرنها بالذبح للأنصاب، وذلك شرك - ثم علّق الفلاح بالأمر، فقال:{لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} دلالة على تأكيد الوجوب. قاله القرطبيّ.

وقال النسفيّ: أكّد تحريم الخمر، والميسر من وجوه: حيث صدّر الجملة بـ "إنما"، وقرنهما بعبادة الأصنام، وجعلهما رجسًا من عمل الشيطان، ولا يأتي منه إلَّا الشرّ البحت، وأمر بالاجتناب، وجعل الاجتناب من الفلاح، وإذا كان الاجتناب فلاحًا، كان الارتكاب خسارة. انتهى

(1)

.

{إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} الآية [المائدة: 9] قال القرطبيّ رحمه الله: أعلم الله تعالى عباده أن الشيطان، إنما يريد أن يوقع العداوة والبغضاء بيننا، بسبب الخمر وغيره، فحذّرنا منها، ونهانا عنها.

رُوي أن قبيلتين من الأنصار شربوا الخمر، وانتشوا، فعبث بعضهم ببعض، فلما صحوا رأى بعضهم في وجه بعض آثار ما فعلوا، وكانوا إخوة ليس في قلوبهم ضغائن، فجعل بعضهم يقول: لو كان أخي بي رحيمًا ما فعل بي هذا، فحدثت بينهم الضغائن، فأنزل الله:{إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} الآية.

{وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ} المائدة: 9] يقول: إذا سكرتم لَمْ تذكروا الله، ولم تصلّوا، وإن صلّيتم خلط عليكم كما فعل بعلي رضي الله عنه، ورُوي بعبد الرَّحمن، وقال عبيد الله بن عمر: سئل القاسم بن محمد، عن الشطرنج، أهي ميسر، وعن النرد أهو ميسر؟ فقال: كلّ ما صدّ عن ذكر الله، وعن الصلاة

(1)

"تفسير النسفيّ" 1/ 300.

ص: 576

فهو مَيْسر. قال أبو عبيد: تأوّل قوله تعالى: {وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ} .

وقال النسفيّ رحمه الله: ذَكَر الله تعالى ما يتولّد منهما من الوبال، وهو وقوع التعادي والتباغض بين أصحاب الخمر، والقمر، وما يؤدّيان إليه من الصدّ عن ذِكر الله، وعن مراعاة أوقات الصلاة من بين الذِّكر لزيادة درجتها، كأنه قال: وعن الصلاة خصوصًا، وإنما جَمَع الخمر والميسر مع الأنصاب والأزلام أَوّلًا، ثم أفردهما آخِرًا؛ لأنَّ الخطاب مع المؤمنين، وإنما نهاهم عما كانوا يتعاطونه من شرب الخمر واللعب بالميسر، وذَكَر الأنصاب والأزلام لتأكيد تحريم الخمر والميسر وإظهار أن ذلك جميعًا من أعمال أهل الشرك، فكأنه لا مباينة بين عابد الصنم، وشارب الخمر والمقامر، ثم أفردهما بالذِّكر ليُعلم أنهما المقصود بالذِّكر. انتهى

(1)

.

{فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} قال النسفيّ: من أبلغ ما يُنهى به، كأنه قيل: قد تُلي عليكم ما فيها من أنواع الصوارف، والزواجر، فهل أنتم مع هذه الصوارف منتهون، أم أنتم على ما كنتم عليه، كان لَمْ توعظوا، ولم تزجروا؟ انتهى

(2)

.

وقال القرطبيُّ: لَمّا عَلِم عمر رضي الله عنه أن هذا وعيد شديد زائد على معنى: "انتهوا"، قال: انتهينا، وأمر النبيّ صلى الله عليه وسلم مناديه أن ينادي في سكك المدينة:"إلا إنّ الخمر قد حُرِّمت"، فكُسِرت الدِّنَانُ، وأريقت الخمر، حتى جرت في سكك المدينة. انتهى

(3)

، والله تعالى أعلم.

مسائل تتعلّق بهاتين الآيتين الكريمتين:

(المسألة الأولى): كان تحريم الخمر بتدريج، ونوازل كثيرة، فإنهم كانوا مُولَعين بشربها، وأول ما نزل في شأنها:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} الآية [البقرة: 219]؛ أي: في تجارتهم، فلما نزلت هذه الآية تركها بعض الناس، وقالوا: لا حاجة لنا فيما فيه إثم كبير، ولم يتركها بعض الناس، وقالوا: نأخذ منفعتها، ونترك إثمها، فنزلت هذه

(1)

"تفسير النسفيّ" 1/ 300 - 301.

(2)

"تفسير النسفيّ" 1/ 301.

(3)

"تفسير القرطبيّ" 6/ 292.

ص: 577

الآية: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} الآية [النساء: 43]: فتركها بعض الناس، وقالوا: لا حاجة لنا فيما يشغلنا عن الصلاة، وشَرِبها بعض الناس في غير أوقات الصلاة، حتى نزلت:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ} الآية [المائدة: 90]، فصارت حرامًا عليهم، حتى صار يقول بعضهم: ما حرَّم الله شيئًا أشد من الخمر، وقال أبو ميسرة: نزلت بسبب عمر بن الخطاب، فإنه ذكر للنبيِّ صلى الله عليه وسلم عيوب الخمر، وما ينزل بالناس من أجلها، ودعا الله في تحريمها، وقال: اللَّهم بيِّن لنا في الخمر بيانًا شافيًا، فنزلت هذه الآيات، فقال عمر: انتهينا انتهينا.

وروى أبو داود، عن ابن عباس، قال:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} الآية [النساء: 43]، {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} الآية [البقرة: 219] نسختها التي في المائدة: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ} الآية [المائدة: 90]، وفي "صحيح مسلم" عن سعد بن أبي وقاص أنه قال: نزلت فيّ آيات من القرآن، وفيه قال: وأَتيت على نفر من الأنصار، فقالوا: تعال، نطعمك، ونسقيك خمرًا، وذلك قبل أن تحرَّم الخمر، قال: فأتيتهم في حَشّ - والْحَشّ البستان -، فإذا رأس جَزُور مشويّ عندهم، وزِقّ من خمر، قال: فأكلت، وشربت معهم، قال: فذكرت الأنصار والمهاجرين عندهم، فقلت: المهاجرون خير من الأنصار، قال: فأخذ رجل لَحْي جمل فضربني به، فجرح أنفي، وفي رواية: ففزره، وكان أنف سعد مفزورًا، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فانزل الله تعالى فِيَّ - يعني: نفسه - شأن الخمر: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} الآية [المائدة: 90]. ذكره القرطبيّ رحمه الله، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثانية): هذه الأحاديث تدل على أنَّ شرب الخمر، كان إذ ذاك مباحًا، معمولًا به معروفًا عندهم، بحيث لا يُنكر، ولا يغيَّر، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أقرّهم عليه، وهذا ما لا خلاف فيه، تدل عليه آية النساء:{لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النساء: 43]، على ما تقدم، وهل كان يباح لهم شرب القدر الذي يُسكر؟، حديث حمزة رضي الله عنه ظاهر فيه حين بقر خواصر ناقتي علي رضي الله عنهما، وجَبّ أسنمتهما، فأخبر عليٌّ بذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم، فجاء إلى حمزة، فصدر عن

ص: 578

حمزة للنبيِّ صلى الله عليه وسلم من القول الجافي المخالف لِمَا يجب عليه من احترام النبيّ صلى الله عليه وسلم، وتوقيره وتعزيره، ما يدلُّ على أنَّ حمزة كان قد ذهب عقله بما يُسكر، ولذلك قال الراوي: فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ثَمِلٌ، ثم إن النبيّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُنكر على حمزة، ولا عَنّفَه، لا في حال سُكره، ولا بعد ذلك، بل رجع لمّا قال حمزة: وهل أنتم إلَّا عبيد لأبي؟ على عقيبيه القهقرَى، وخرج عنه، كما هو في "الصحيحين"، وغيرهما.

وهذا خلاف ما قاله الأصوليون وحكوه، فإنهم قالوا: إن السكر حرام في كلّ شريعة؛ لأنَّ الشرائع مصالح العباد، لا مفاسدهم، وأصل المصالح العقل، كما أن أصل المفاسد ذهابه، فيجب المنع من كلّ ما يُذهبه، أو يشوشه، إلَّا أنه يُحمَل حديث حمزة على أنَّه لَمْ يقصد بشربه السكر، لكنه أسرع فيه فغلبه، قاله أبو عبد الله القرطبيّ رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: ما قاله الأصوليّون من أن السكر حرام في كلّ شريعة يحتاج إلى دليل، فإن ظاهر قصّة حمزة رضي الله عنه يدلّ على أنَّ السكر كان مباحًا، فتأمله بالإمعان، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): قال أبو عبد الله القرطبيّ رحمه الله أيضًا: فَهِمَ الجمهور من تحريم الخمر، واستخباث الشرع لها، وإطلاق الرجس عليها، والأمر باجتنابها الحكم بنجاستها، وخالفهم في ذلك ربيعة، والليث بن سعد، والمزنيّ صاحب الشافعيّ، وبعض المتأخرين من البغداديين، والقرويين، فرأوا أنَّها طاهرة، وأن المحرَّم إنما هو شربها، وقد استدلّ سعيد بن الحداد القروي على طهارتها بسفكها في طريق المدينة، قال: ولو كانت نجسة لَمَا فَعل ذلك الصحابة رضوان الله عليهم، ولَنَهَى رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه، كما نَهَى عن التخلي في الطرق.

[والجواب]: أن الصحابة فعلوا ذلك؛ لأنه لَمْ يكن لهم سُرُوب، ولا آبار يريقونها فيها؛ إذ الغالب من أحوالهم أنهم لَمْ يكن لهم كُنُف في بيوتهم، وقالت عائشة رضي الله عنها: إنهم كانوا يتقذرون من اتخاذ الكنف في البيوت، ونَقْلها إلى خارج المدينة فيه كُلفة ومشقة، ويلزم منه تأخير ما وجب على الفور،

(1)

"تفسير القرطبيّ" 6/ 287.

ص: 579

وأيضًا فإنه يمكن التحرز منها، فإن طرق المدينة كانت واسعة، ولم تكن الخمر من الكثرة بحيث تصير نهرًا يعمّ الطريق كلها، بل إنما جرت في مواضع يسيرة، يمكن التحرز عنها، وهذا مع ما يحصل في ذلك من فائدة شهرة إراقتها في طرق المدينة؛ ليشيع العمل على مقتضى تحريمها من إتلافها، وأنه لا يُنتفع بها، وتتابَع الناس، وتوافقوا على ذلك، والله أعلم.

[فإن قيل]: التنجيس حكم شرعيّ، ولا نصّ فيه، ولا يلزم من كون الشيء محرَّمًا أن يكون نجسًا، فكم من محرّم في الشرع ليس بنجس.

[قلنا]: قوله تعالى: {رِجْسٌ} يدلُّ على نجاستها، فإن الرجس في اللسان: النجاسة، ثم لو التزمنا إلَّا نحكم بحكم إلَّا حتى نجد فيه نصًّا، لتعطلت الشريعة، فإن النصوص فيها قليلة، فأيّ نصّ يوجد على تنجيس البول، والعذرة، والدم والميتة، وغير ذلك؟ وإنما هي الظواهر، والعمومات والأقيسة. انتهى كلام القرطبيّ.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: فيما قاله القرطبيّ نظر لا يخفي، إذ استدلاله بقوله:{رِجْسٌ} غير صحيح؛ لأنه يلزمه أن تكون الأنصاب، والأزلام أيضًا نجسًا، ولا قائل به، وأيضًا قوله: "لا يوجد نصّ على تنجيس البول

إلخ"، غير صحيح، فقد ثبتت نجاسة البول، والغائط، والميتة بنصوص كثيرة، كحديث: "استنزهوا من البول"، وحديث: "أيما إهاب دُبغ، فقد طهر"، وأمْره صلى الله عليه وسلم المستحاضة بغسل الدم، وغير ذلك، مما لا يخفى على من يتتبع النصوص.

والحاصل أن القول بنجاسة الخمر محلّ نظر، فإن حديث أنس رضي الله عنه في صبّها في سكك المدينة ظاهر في طهارتها، فتأمله بالإنصاف، والله تعالى أعلم.

(المسألة الرابعة): قوله تعالى: {فَاجْتَنِبُوُه} يقتضي الاجتناب المطلق الذي لا يُنتفَع معه بوجه من الوجوه، لا بشرب، ولا بيع، ولا تخليل، ولا مداواة، ولا غير ذلك، وعلى هذا تدل الأحاديث الواردة في الباب، رَوَى مسلم، عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رجلًا أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم راوية خمر، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:"هل علمت أن الله حرمها؟ " قال: لا، قال: فسارّ رجلًا، فقال

ص: 580

له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بم ساررته؟ " قال: أمرته ببيعها، فقال:"إن الذي حرَّم شربها، حرم بيعها"، قال: ففتح المزادة حتى ذهب ما فيها، فهذا حديث يدلُّ على ما ذكرناه، إذ لو كان فيها منفعة من المنافع الجائزة، لبيَّنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قال في الشاة الميتة: "هلا أخذتم إهابها، فدبغتموه، فانتفعتم به

" الحديث.

[تنبيه]: إنما أهدى هذا الرجل الراوية لأنه لَمْ يبلغه الناسخ، وكان متمسكًا بالإباحة المتقدمة، فكان ذلك دليلًا على أنَّ الحكم لا يرتفع بوجود الناسخ، كما يقوله بعض الأصوليين، بل ببلوغه، كما دلّ عليه هذا الحديث، وهو الصحيح؛ لأنَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يوبخه، بل بيَّن له الحكم، ولأنه مخاطب بالعمل بالأول، بحيث لو تركه عصى بلا خلاف، وإن كان الناسخ قد حصل في الوجود، وذلك كما وقع لأهل قباء، إذ كانوا يصلّون إلى بيت المقدس، إلى أن أتاهم الآتي، فأخبرهم بالناسخ، فمالوا نحو الكعبة، أفاده القرطبيّ رحمه الله في "تفسيره"

(1)

، وهو بحث نفيسٌ، والله تعالى أعلم.

(المسألة الخامسة): هذه الآية تدل على تحريم اللعب بالنرد، والشطرنج قمارًا، أو غير قمار؛ لأنَّ الله تعالى لمّا حرّم الخمر أخبر بالمعنى الذي فيها، فقال:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} الآية [المائدة: 90]، ثم قال: إِنَّمَا {يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} الآية [المائدة: 90]، فكل لهو دعا قليله إلى كثير، وأوقع العداوة والبغضاء بين العاكفين عليه، وصَدّ عن ذكر الله، وعن الصلاة فهو كشرب الخمر، وأوجب أن يكون حرامًا مثله.

[فإن قيل]: إن شرب الخمر يورث السكر، فلا يقدر معه على الصلاة، وليس في اللعب بالنرد والشطرنج هذا المعنى.

[قيل له]: قد جمع الله تعالى بين الخمر والميسر في التحريم، ووصفهما جميعًا بأنهما يوقعان العداوة والبغضاء بين الناس، ويصدّان عن ذكِر الله، وعن الصلاة، ومعلوم أن الخمر إن أسكرت، فالميسر لا يسكر، ثم لَمْ يكن عند الله افتراقهما في ذلك يمنع من التسوية بينهما في التحريم؛ لأجل ما اشتركا فيه من

(1)

"الجامع لأحكام القرآن" 6/ 289.

ص: 581

المعاني، وأيضًا فإن قليل الخمر لا يُسكر، كما أن اللعب بالنرد والشطرنج لا يسكر، ثم كان حرامًا مثل الكثير، فلا يُنْكَر أن يكون اللعب بالنرد والشطرنج حرامًا مثل الخمر، وإن كان لا يسكر، وأيضًا فإن ابتداء اللعب يورث الغفلة، فتقوم تلك الغفلة المستولية على القلب مكان السكر، فإن كانت الخمر إنما حرمت لأنَّها تسكر، فتَصد بالإسكار عن الصلاة، فليحرم اللعب بالنرد والشطرنج؛ لأنه يغفل ويُلهي، فيصد بذلك عن الصلاة، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(2) - (بَابُ تَحْرِيمِ تَخْلِيلِ الْخَمْرِ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلِّف رحمه الله أَوَّل الكتاب قال:

[5132]

(1983) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ (ح) وَحَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَن، عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ السُّدِّيّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبَّادٍ، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عَنِ الْخَمْر، تُتَّخَذُ خَلًّا؟ فَقَالَ:"لَا").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ) تقدّم قريبًا.

2 -

(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) تقدّم قبل باب.

3 -

(سُفْيَانُ) بن سعَيد الثوريّ، تقدّم قبل بابين.

4 -

(السُّدِّيُّ) إسماعيل بن عبد الرَّحمن بن أبي كريمة، أبو محمد الكوفيّ، صدوقٌ يَهِم، ورُمي بالتشيّع [4](ت 127)(م 4) تقدم في "صلاة المسافرين وقصرها" 8/ 1640.

[تنبيه]: قوله: "السّدّيّ" بضمّ السين، وتشديد الدال المهملتين: نسبة إلى سُدّة المسجد الجامع بالكوفة، كان يبيع بها المقامع، والسّدّة: الباب، و"المقامع": ما تلفّ به المرأة رأسها، وهو السدّي الكبير الأعور.

وأما السديّ الصغير، فهو محمد بن مروان بن عبد الله بن إسماعيل بن عبد الرَّحمن حفيد السدّيّ الكبير هذا، يروي التفسير عن الكلبيّ، وكان ضعيفًا

ص: 582

منكر الحديث، أفاده في "اللباب"

(1)

، وقال في "التقريب" متّهم بالكذب

(2)

.

5 -

(يَحْيَى بْنُ عَبَّادِ) بن شيبان بن مالك الأنصاريّ السلميّ، أبو هبيرة الكوفيّ، يقال: إنه ابن بنت البراء بن عازب، ويقال: ابن بنت خَبّاب بن الأرتّ، ثقةٌ [4].

رَوَى عن أبيه، وجدّه أبي يحيى شيبان، وله صحبة، وأنس، وجابر، وأم الدرداء، وسعيد بن جبير، وأرسل عن خَبّاب بن الأرتّ، وأبي هريرة.

وروى عنه سليمان التيميّ، وليث بن أبي سُليم، ومجالد بن سعيد، وعبد المجيد بن سهيل، وإسماعيل السُّدّيّ، ومِسْعر، وغيرهم.

قال النسائيّ: ثقةٌ، وقال يعقوب بن سفيان: كوفيّ ثقةٌ، وقال ليث، عن مجاهد: أحبّ أهل الكوفة إليّ أربعة، فذكره فيهم، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: مات في ولاية يوسف بن عُمَر على العراق.

أخرج له البخاريّ في "الأدب المفرد"، والمصنّف، والأربعة، وليس له في هذا الكتاب إلَّا هذا الحديث.

والباقيان ذُكرا في الباب وقبله.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه أنس رضي الله عنه من المكثرين السبعة.

شرح الحديث:

(عَنْ أَنَسٍ) رضي الله عنه (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عَنِ الْخَمْرِ)؛ أي: حكمها، وقوله:(تُتَّخَذُ خَلًّا؟) بالبناء للمفعول، جملة في محلّ نصب على الحال من "الخمر"، وَيحْتَمل أن تكون في محل جرّ نعتًا على تقدير أن المعرَّف بـ"أل" الجنسيّة في معنى النكرة، كما في قول الشاعر [من الكامل]:

وَلَقَدْ أَمُرُّ عَلَى اللَّئِيمِ يَسُبُّنِي

فَمَضَيْتُ ثُمَّتَ قُلْتُ لَا يَعْنِينِي

(1)

راجع: "اللباب في تهذيب الأنساب" 2/ 110.

(2)

"التقريب" ص 318.

ص: 583

و"الْخَلُّ" بفتح الخاء المعجمة، وتشديد اللام: قال ابن سِيدَهْ: هو: ما حَمُض من عصير الْعِنَب وغيره، وقال ابن دُريد: هو عربيّ صحيح، وفي الحديث:"نِعْم الإدام الخلّ"، واحدته خَلّة، يُذهب بها إلى الطائفة منه، قاله في "اللسان"

(1)

.

(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("لَا")؛ أي: لا تتخللوا الخمر، فإنه لا يجوز، قال النوويّ رحمه الله: هذا دليل الشافعيّ والجمهور أنه لا يجوز تخليل الخمر، ولا تطهر بالتخليل، هذا إذا خلّلها بخبز، أو بَصَل، أو خَمِيرة، أو غير ذلك، مما يُلْقَى فيها، فهي باقية على نجاستها، وينجس ما أُلقي فيها، ولا يطهر هذا الخل بعده أبدًا، لا بغسل، ولا بغيره، أما إذا نُقِلت من الشمس إلى الظلّ، أو من الظل إلى الشمس، ففي طهارتها وجهان لأصحابنا: أصحهما تطهر، وهذا الذي ذكرناه من أنَّها لا تطهر إذا خُلِّلت بإلقاء شيء فيها، هو مذهب الشافعيّ، وأحمد، والجمهور، وقال الأوزاعيّ، والليث، وأبو حنيفة: تطهر، وعن مالك ثلاث روايات: أصحها عنه: أن التخليل حرام، فلو خللها عصي، وطَهُرت، والثانية: حرام، ولا تطهُر، والثالثة: حلال، وتطهر، وأجمعوا على أنَّها إذا انقلبت بنفسها خلًّا طهرت، وقد حُكِيَ عن سحنون المالكيّ أنَّها لا تطهر، فإن صحَّ عنه فهو محجوج بإجماع من قبله، والله أعلم. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قد تقدَّم أن القول بنجاسة الخمر وإن قاله الجمهور فهو محلّ نظر، فتنته، والله تعالى أعلم.

وقال القرطبيّ رحمه الله: نهيه صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ الخمر خلًّا ظاهرٌ في تحريم ذلك، وبه قالت طائفة من أهل العلم، ورُوي عن عمر رضي الله عنه، وبه قال الزهريّ، وكرهه مالك، وقال أبو حنيفة: لا بأس بأن يتخذ الخمر خلًّا، وكيف يصحُّ له هذا مع هذا الحديث؟ ومع سببه الذي خرج عليه، وهو: أن أنسًا روى أن أبا طلحة سأل النبيّ صلى الله عليه وسلم عن أيتام ورثوا خمرًا أنجعله خلًّا؟ قال: "لا"

(3)

، فهراقه،

(1)

"لسان العرب" 11/ 211.

(2)

"شرح النوويّ" 13/ 152.

(3)

حديث صحيح، رواه أبو داود في "سننه" (3/ 326) ولفظه: أن أبا طلحة سأل النبيّ صلى الله عليه وسلم عن أيتام وَرِثُوا خمرًا، قال:"أهرقها"، قال: أفلا أجعلها خلًّا؟ قال: "لا"، ورواه أحمد في "مسنده" 3/ 260.

ص: 584

فلو كان هذا جائزًا لكان قد ضيَّع على الأيتام مالهم، ولوجب الضمان على من أراقها عليهم، وهو: أبو طلحة، وكل ذلك لَمْ يلزم، فدلَّ ذلك على فساد ذلك القول.

وهذا الحديث أيضًا يدلّ على أنَّ الخمر لا تُملك بوجه، وهو مذهب الشافعيّ، وقال بعض المالكيّة: إنَّها تُملك، وليس بصحيح؛ إذ لا تُقرُّ تحت يد أحد من المسلمين، ولا يجوز له التصرُّف فيها إلَّا بالإراقة، ولا يُنتفع بها، فأيّ معنى لقول من قال: إنه يملكها؟! غير أنه يُطلق لفظ التمليك بالمجاز المحض، والله أعلم.

[تنبيه]: لو تخلَّلت الخمر بأمرٍ من الله عز وجل حلَّت، ولا خلاف في ذلك على ما حكاه القاضي عبد الوهاب، فأمَّا لو خلَّلها آدميّ فقد أَثِمَ؛ لاقتحامه النهي، ثم إنها تحلّ وتطهر، على الرواية الظاهرة عن مالك، وعنه رواية أخرى: أنَّها لا تحل تغليظًا على المقتحم.

قال الجامع: هذا القول هو الصحيح؛ للنهي في هذا الحديث، وهو للتحريم، والتحريم يقتضي الفساد، والله تعالى أعلم.

وقال الشافعيّ: إنها تحلّ وهي على النجاسة، قال القرطبيّ: وهذا ضعيف لوجهين:

أحدهما: بأنه منتقضٌ بما إذا تخلَّلت بنفسها.

والثاني: أن الموجب للتحريم والتنجيس وهو الشدَّة؛ قد زال، فيزول الحكم.

فإن قيل: هَبْكَ أن الشدة قد زالت، لكن بقيت علَّة أخرى للتَّنجيس وهو مخالطة الوعاء النجس فإنَّه تنجَّس بالخمر، فلما استحالت عينها للخَليَّة بقيت ممازجته للوعاء النجس، فتنجست بما خالطها من نجاسة الوعاء.

فالجواب: أن الوعاء حين استحالت الخمر خلًّا طاهرٌ لطهارة ما تعلق به فيه؛ إذ هو الآن جزء من الخل الذي في الوعاء.

فإن قيل: فيلزم على هذا أن يزول حكم النجاسة عن المحل بغير الماء، وليس بأصلكم؟.

فالجواب: إنا وإن لَمْ يكن ذلك أصلنا، فقد خرج عن ذلك الأصل الكلِّيِّ

ص: 585

فروع: كالْمَخْرَجين، وذيل المرأة، والخفّ، والنعل إذا تعلقت بها أرواث الدواب، وكالسَّيف الصقيل، وغير هذا مِمَّا استثني عن ذلك الأصل بحكم الدليل الخاصّ، فيمكن أن تَلْحق هذه المسألة بتلك المواضع، والتحقيق في الجواب ما أشرنا إليه، من أن عين ما حكمنا بنجاسته لأجله قد طهر، فالمتعلق به الآن طاهرٌ لا نجس، فالوعاء ليس بنجس. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله. انتهى

(1)

.

فال الجامع عفا الله عنه: قد عرفت أن القول بنجاسة الخمر، محلّ نظر، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أنس رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [2/ 5132](1983)، و (أبو داود) في "الأشربة"(3675)، و (الترمذيّ) في "البيوع"(1294)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 119 و 180 و 260)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(5/ 107)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(6/ 37)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في اختلاف أهل العلم في حكم تخليل الخمر:

قال أبو عبد الله القرطبيّ رحمه الله في "تفسيره": ذهب جمهور الفقهاء إلى أن الخمر لا يجوز تخليلها لأحد، ولو أجاز تخليلها، ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليدع الرجل أن يفتح المزادة، حتى يذهب ما فيها

(2)

؛ لأنَّ الخل مال، وقد نَهَى عن

(1)

"المفهم لِمَا أشكل من تلخيص كتاب مسلم" 5/ 260 - 261.

(2)

يعني به: ما تقدَّم لمسلم في "البيوع" عن عبد الرَّحمن بن وَعْلة السَّبَئيّ من أهل مصر أنه سأل عبد الله بن عباس عما يُعصَر من العنب، فقال ابن عباس: إن رجلًا أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم راوية خمر، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:"هل علمت أن الله قد حرّمها؟ " قال: لا، فسارّ إنسانًا، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:"بم ساررته؟ " فقال: أمرته ببيعها، فقال:"إن الذي حرَّم شربها حرّم بيعها"، قال: ففتح المزاد حتى ذهب ما فيها. انتهى.

ص: 586

إضاعة المال، ولا يقول أحد فيمن أراق خمرًا على مسلم، أنه أتلف له مالًا، وقد أراق عثمان بن أبي العاص خمرًا ليتيم، واستؤذن صلى الله عليه وسلم في تخليلها، فقال:"لا"، ونهى عن ذلك، ذهب إلى هذا طائفة من العلماء، من أهل الحديث والرأي، وإليه مال سحنون بن سعيد.

وقال آخرون: لا بأس بتخليل الخمر، ولا بأس بأكل ما تخلل منها بمعالجة آدميّ، أو غيرها، وهو قول الثوريّ، والأوزاعيّ، والليث بن سعد، والكوفيين.

وقال أبو حنيفة: إن طُرح فيها المسك، والملح، فصارت مُرَبَّى، وتحولت عن حال الخمر جاز، وخالفه محمد بن الحسن في المربى، وقال: لا تعالج الخمر بغير تحويلها إلى الخل وحده.

قال أبو عمر بن عبد البرّ: احتج العراقيون في تخليل الخمر بأبي الدرداء، وهو ما يُروَى عن أبي إدريس الخولاني، عن أبي الدرداء من وجه ليس بالقوي، أنه كان يأكل المربى منه، ويقول: دبغته الشمس والملح، وخالفه عمر بن الخطاب، وعثمان بن أبي العاص في تخليل الخمر، وليس في رأي أحد حجة مع السُّنَّة، وبالله التوفيق.

وقد يَحْتَمِل أن يكون المنع من تخليلها، كان في بدء الإسلام عند نزول تحريمها؛ لئلا يستدام حبسها لِقُرب العهد بشربها، إرادة لقطع العادة في ذلك، وإذا كان كذلك لَمْ يكن في النهي عن تخليلها حينئذ، والأمر بإراقتها ما يمنع من أَكْلها إذا خُلِّلت.

ورَوَى أشهب عن مالك قال: إذا خلَّل النصراني خمرًا فلا بأس بأكله، وكذلك إن خللَّها مسلم، واستغفر الله، وهذه الرواية ذكرها ابن عبد الحكم في كتابه، والصحيح ما قاله مالك في رواية ابن القاسم، وابن وهب أنه لا يحل لمسلم أن يعالج الخمر حتى يجعلها خلًّا، ولا يبيعها، ولكن ليهرقْهَا.

ولم يختلف قول مالك وأصحابه، أن الخمر إذا تخللت بذاتها، أنَّ أكل ذلك الخل حلال، وهو قول عمر بن الخطاب، وقبيصة، وابن شهاب، وربيعة، وأحد قولي الشافعيّ، وهو تحصيل مذهبه عند أكثر أصحابه. انتهى

(1)

.

(1)

"الجامع لأحكام القرآن" 6/ 290.

ص: 587

قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن مما سبق أن ما ذهب إليه الجمهور من أن تخليل الخمر حرام، لا يجوز لمسلم أن يفعله، فلو فعله لا تكون حلالًا هو الحقّ؛ لوضوح حجته، فإن حديث الباب صريح في النهي، والنهي للتحريم، فتبصّر.

وأما مسألة كون الخمر نجسة، فقد قدّمنا أنه وإن ذهب إليه الجمهور، إلَّا أنه لا دليل عليه، فالقول بطهارتها أظهر دليلًا، فتأمل بالإمعان، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(3) - (بابُ تَحْرِيمِ التَّدَاوِي بِالْخَمْرِ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلِّف رحمه الله أَوَّل الكتاب قال:

[5133]

(1984) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَمُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ - وَاللَّفْظُ لِابْنِ الْمُثَنَّى - قَالا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ وَائِلٍ، عَنْ أَبِيهِ وَائِلٍ الْحَضْرَمِيّ، أَنَّ طَارِقَ بْنَ سُويدٍ الْجُعْفِيَّ سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْخَمْر، فَنَهَا، أَو كَرِهَ أَنْ يَصْنَعَهَا، فَقَالَ: إِنَّمَا أَصْنَعُهَا لِلدَّوَاء، فَقَالَ: "إِنَّهُ لَيْسَ بِدَوَاءٍ، وَلَكِنَّهُ دَاءٌ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(سِمَاكُ بْنُ حَرْبِ) بن أوس بن خالد الذُّهليّ البكريّ، أبو المغيرة الكوفيّ، صدوقٌ، تغيّر بآخره، فربّما تلقّن [4](ت 113)(خت م 4) تقدم في "الإيمان" 64/ 365.

2 -

(عَلْقَمَةُ بْنُ وَائِلِ) بن حُجْر الْحَضرميّ الكوفيّ، صدوقٌ [3](م 4) تقدم في "الإيمان" 64/ 365.

3 -

(وَائِلُ الْحَضْرَمِيُّ) ابن حُجْر بن سعد بن مسروق الحضرميّ الصحابيّ الجليل، كان من ملوك اليمن، ثم نزل الكوفة، ومات في خلافة معاوية رضي الله عنهما (ز م 4) تقدم في "الإيمان" 64/ 365.

والباقون تقدّموا قبل بابين.

ص: 588

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من سُداسيّات المصنّف، وأن شيخيه من التسعة الذين روى عنهم الجماعة بلا واسطة، وقد تقدّموا غير مرّة.

شرح الحديث:

(عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ وَائِلٍ، عَنْ أَبِيهِ وَائِلٍ) ابن حُجر (الْحَضْرَمِيِّ) بفتح الحاء المهملة، وسكون الضاد المعجمة، وفتح الراء، آخره ميم: نسبة إلى حضرموت، وهي من أقصى بلاد اليمن، ونسبة أيضًا إلى حضرموت القبيلة المشهورة، ووائل هذا منسوب إليها، لا إلى البلد، كما حققه ابن الأثير في "اللباب"، متعقّبًا على السمعاني حيث ادّعى الأول

(1)

. (أَنَّ طَارِقَ بْنَ سُوَيْدٍ الْجُعْفِيَّ) ويقال: سويد بن طارق، ويقال أيضًا؛ الحضرميّ، قال في "الإصابة": طارق بن سُويد الحضرميّ، أو الجعفيّ، ويقال: سُويد بن طارق، قال ابن منده: وهو وَهَمٌ، وقال ابن السكن، والبغويّ: له صحبة، وروى البخاريّ في "تاريخه"، وأحمد، وابن ماجة، والبغويّ، وابن شاهين، من طريق حماد بن سلمة، عن سماك، عن علقمة بن وائل، عن طارق بن سُويد، قال: قلت: يا رسول الله إن بأرضنا أعنابًا نعتصرها، فنشرب منها، قال:"لا"، وأخرجه أبو داود، من طريق شعبة، عن سماك، فقال: سأل سُويد بن طارق، أو طارق بن سُويد، وقال البغويّ: رواه غير حماد، فقال: سُويد بن طارق، والصحيح عندي: طارق بن سويد، وقد أخرجه ابن شاهين، من طريق إبراهيم بن طهمان، عن سماك، كما قال حماد بن سلمة سواءً، ونسبه جُعْفيًّا، وقال أبو زرعة: طارق بن سويد أصحّ، وقال ابن مندهْ: سويد بن طارق وَهَمٌ، وجزم أبو زرعة، والترمذيّ أيضًا، وابن حبان بأنه طارق بن سويد، وعكس أبو حاتم، وقال البخاريّ: قال شريك، عن سماك: طارق بن زياد، أو زياد بن طارق، وقال أبو النضر، عن شعبة، عن سماك، عن علقمة، عن أبيه: سأل سُويد بن طارق، وجعله من مسند وائل، وجزم بأنه سويد بن طارق، وأخرجه

(1)

راجع: "اللباب في تهذيب الأنساب" 1/ 370.

ص: 589

ابن قانع من رواية شريك، عن سماك، فقال: طارق بن زياد، ولم يشكّ.

ورواه ابن منده من طريق وهب بن جرير، عن شعبة كذلك، لكن قال: عن أبيه وائل الحضرميّ، عن سويد بن طارق، أو طارق بن سويد، رجل من جُعْفَى.

ورواه ابن السكن، والبغويّ من طريق غندر، عن شعبة، فقال: عن علقمة بن وائل، أن طارق بن سويد سأل، قال ابن السكن: قال أسامة، وأبو عامر، وأبو النضر، عن شعبة: إن سويد بن طارق، وقال وهب، وأبو داود، عن شعبة: إن سويد بن طارق، أو طارق بن سويد، قال: والصواب قول غندر.

ورواه إسرائيل، عن سماك، فاختُلف عليه هل هو طارق بن سويد، أو سويد بن طارق؟ وفيه اختلاف آخر على سماك. انتهى

(1)

.

وقال في "تهذيب التهذيب": وقال البغويّ: الصحيح عندي: طارق بن سويد، وكذا قال أبو عليّ بن السكن، وقال ابن مندهْ: سويد بن طارق وَهَمٌ. انتهى

(2)

.

وقال في "تهذيب الكمال": قال أبو عمر بن عبد البرّ: حديثه في الشراب صحيح الإسناد. انتهى

(3)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قد كثر الاختلاف في اسمه، فالذي يظهر لي أن ما في "صحيح مسلم" من أنه طارق بن سويد الجعفيّ هو الصواب، كما هو رأي مسلم، وكما قال البغويّ، وابن السكن، وغيرهما، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

(سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْخَمْرِ) ولفظ حديثه، كما في "مسند الإمام أحمد": من رواية علقمة بن وائل، عن طارق بن سويد الحضرميّ أنه قال: قلت: يا رسول الله إن بأرضنا أعنابًا نعتصرها، فنشرب منها؟ قال:"لا"، فعاودته، فقال:"لا"، فقلت: إنا نستشفي بها للمريض، فقال: "إن ذاك ليس شفاء،

(1)

"الإصابة في تمييز الصحابة" 3/ 508 - 509.

(2)

"تهذيب التهذيب" 5/ 4.

(3)

"تهذيب الكمال" 13/ 340.

ص: 590

ولكنه داء". (فَنَهَا) صلى الله عليه وسلم (أَو كَرِهَ) "أو" للشكّ من الراوي، إما علقمة، أو من دونه، قال شيخه: "فنها"، أو قال: "كَرِه". (أَنْ يَصْنَعَهَا)؛ أي: يعتصر الخمر، (فَقَالَ) طارق (إِنَّمَا أَصْنَعُهَا لِلدَّوَاءِ)؛ أي: لأجل أن أداوي بها المرضي، (فَقَالَ: "إِنَّهُ)؛ أي: إن المصنوع من الخمر (لَيْسَ بِدَوَاءٍ، وَلَكِنَّهُ دَاءٌ") ولكونه داء أسكر شاربه، فأزال عقله، فأي مرض أشدّ من فقدان العقل الذي هو مدار التكليف، ومعدن التشريف؟ فما شرّف الأنسان على غيره من الحيوان إلَّا به، فسبحان من أكرم العقلاء، وميّزهم من البهائم، وسائر الحيوانات بما ركّبه فيهم من هذا العقل الشريف، {وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (70)} [القصص: 70].

[فائدة]: ذَكَر بعض المحقّقين أن كلّ ما يقوله الأطباء من المنافع في الخمر، وشربها، كان عند شهادة القرآن أن فيها منافع للناس قبلُ، وأما بعد نزول آية "المائدة"، فإن الله تعالى الخالق لكل شيء سَلَبها المنافع جملةً، فليس فيها شيء من المنافع، وبهذا تسقط مسألة التداوي بالخمر. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا بحث نفيسٌ جدًّا، وهو الذي يشهد له حديث الباب، فقد قال صلى الله عليه وسلم لَمّا قال له طارق: إنما أصنعها للدواء: "إنه ليس بدواء، ولكنه داء"، فصرّح بأن الخمر داء، وليس فيه دواءٌ، فليتنبّه العاقل لهذا البحث الدقيق، فإنه جامع مانع، فمن ادّعى بعد هذا أن الخمر فيها دواء لكذا وكذا من الأمراض، فقد عاند النصّ الصريح الذي أخبرنا بسلب الله سبحانه وتعالى عنها النفع على الإطلاق، {وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر: 14]، والله تعالى أعلم.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث وائل بن حجر رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

[تنبيه]: أخرج مسلم رحمه الله هنا رواية علقمة عن أبيه، "أن طارق بن سويد سأل

إلخ" فجعله من مسند وائل بن حُجر، لا من مسند طارق نفسه، فالظاهر أنه يرجّح هذه الرواية، وقد تقدّم الخلاف في ذلك، فمنهم من جعله

(1)

راجع: "سبل السلام شرح بلوغ المرام" للصنعانيّ رحمه الله 4/ 36.

ص: 591

من مسند طارق، قال المقدسيّ رحمه الله في "المختارة" بعد ذكر الاختلاف ما نصّه: فيكون - والله أعلم - سمعه علقمة بن وائل من أبيه، ومن طارق بن سويد. انتهى

(1)

، فكأنه يرى أن الحديث محفوظ من كلتا الطريقين.

ويرى الشيخ أحمد محمد شاكر رحمه الله في تعليقه على "المحلّى" ترجيح كونه من مسند وائل ابن حجر، كما هو رأي مسلم، ودونك عبارته:

قال - ردًّا على ابن حزم في تضعيفه الحديث بسماك بن حرب بأنه يقبل التلقين - قال: سماك بن حرب ثقةٌ، وكان تغتر في آخر حياته، فربّما لُقّن، ولذلك كان من سمع منه قديمًا، مثل شعبة، وسفيان، فحديثهم صحيح مستقيم، وهذا الحديث رواه مسلم، وأبو داود، والترمذيّ، والطيالسيّ، وأحمد كلهم من طريق شعبة، عن سماك، عن علقمة بن وائل، عن أبيه، وفي لفظ أحمد: "أنه شهد النبيّ صلى الله عليه وسلم

إلخ"، ورواه أحمد أيضًا من طريق إسرائيل، عن سماك، وفي جميع هذه الروايات الحديث من رواية وائل بن حُجْر.

ورواه أحمد، وابن ماجة من طريق حماد بن سلمة، عن سماك، عن علقمة بن وائل، عن طارق بن سُويد، فجعله حماد من مسند طارق، وهو مُحْتَمِل، إلَّا أني أرجّح خطأ حماد في هذا، فقد خالفه شعبة، وإسرائيل - وهما أحفظ منه - فجعلاه من مسند وائل بن حجر والدِ علقمة، ويؤيّد هذا أن علقمة روى الشكّ في اسم طارق بن سُويد، فلو كان رُوي عنه الحديث مباشرة لرفع هذا الشكّ، والحديث فيما نرى صحيح من طريق شعبة، وإسرائيل، والله أعلم. انتهى كلام الشيخ أحمد شاكر رحمه الله

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا البحث الذي كتبه الشيخ أحمد شاكر رحمه الله بحث نفيس جدًّا، خلاصته ترجيح ما رجّحه مسلم رحمه الله، من كون الحديث من مسند وائل بن حُجر، لا من مسند طارق بن سُويد، كما هو رواية حماد بن سلمة، وذلك لاتفاق شعبة وإسرائيل عليه، ومخالفة حماد بن سلمة لهما لا تؤثّر في ذلك؛ لأنه دونهما في الحفظ، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

(1)

"الأحاديث المختارة" 8/ 108.

(2)

راجع: "تعليق أحمد محمد شاكر رحمه الله" على "المحلّى" لابن حزم رحمه الله 1/ 175.

ص: 592

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [3/ 5133](1984)، و (أبو داود) في "الطبّ"(3873)، و (الترمذيّ) في "الطبّ"(2119 و 2120)، و (ابن ماجة) في "الطبّ"(3545)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1/ 339)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(17100)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(7/ 22)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 311 و 317 و 399 و 5/ 293)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 38)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1389 و 1390)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(5/ 107 و 108)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(1/ 108)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(8/ 323)، و (المقدسيّ) في "المختارة"(8/ 107)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(10/ 4)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في اختلاف أهل العلم في التداوي بالخمر، وسائر النجاسات:

قال العلامة ابن قُدامة رحمه الله: ولا يجوز التداوي بمحرّم، ولا شيء فيه محرّم، مثل ألبان الأُتُن، ولَحْم شيء من المحرّمات، ولا شُرب الخمر للتداوي به؛ لِمَا ذكرنا من الخبر، ولأن النبيّ صلى الله عليه وسلم ذُكِر له النبيذ يُصنع للدواء، فقال:"إنه ليس بدواء، ولكنه داء". انتهى.

وقال الشوكانيّ رحمه الله: قوله: "ولا تتداووا بحرام"؛ أي: لا يجوز التداوي بما حرّمه الله من النجاسات وغيرها، مما حرّمه الله، ولو لَمْ يكن نجسًا، قال ابن رسلان في "شرح السنن": والصحيح من مذهبنا - يعني: الشافعية - جواز التداوي بجميع النجاسات، سوى المُسْكِر؛ لحديث العرنيين في "الصحيحين" حيث أمَرهم صلى الله عليه وسلم بالشرب من أبوال الإبل للتداوي، قال: وحديث الباب محمول على عدم الحاجة، بأن يكون هناك دواء غيره يغني عنه، ويقوم مقامه من الطاهرات، قال البيهقيّ: هذان الحديثان

(1)

إن صحّا محمولان على النهي

(1)

يعني حديث: "ولا تتداووا بحرام"، وهو حديث صحيح، وحديث:"إن الله لَمْ يجعل شفاءكم فيما حرّم عليكم"، حديث صحيح موقوفًا على ابن مسعود، ورَفْعه ضعيف.

ص: 593

عن التداوي بالمسكر، والتداوي بالحرام من غير ضرورة؛ ليُجْمَع بينهما، وبين حديث العرنيين. انتهى.

قال الشوكانيّ: ولا يخفى ما في هذا الجمع من التعسف، فإن أبوال الإبل الخصمُ يمنع اتصافها بكونها حرامًا، أو نجسًا، وعلى فرض التسليم فالواجب الجمع بين العامّ، وهو تحريم التداوي بالحرام، وبين الخاصّ، وهو الإذن بالتداوي بأبوال الإبل، بأن يقال: يحرم التداوي بكل حرام إلَّا أبوال الإبل، هذا هو القانون الأصوليّ. انتهى كلام الشوكانيّ رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي قاله الشوكانيّ رحمه الله تحقيقٌ حسنٌ، وخلاصته أن الصحيح تحريم التداوي بالحرام، كالخمر، وغيرها، من النجاسات؛ لصحّة الأحاديث بذلك، كحديث الباب، وحديث:"ولا تتداووا بحرام"، وهو حديث صحيح

(2)

، وحديث:"إن الله لَمْ يجعل شفاءكم فيما حرّم عليكم"، صحيح موقوفًا على ابن مسعود رضي الله عنه

(3)

، وعلقه البخاريّ بصيغة الجزم، ورفعه بعضهم، ولا يصحّ رفعه.

وأما الاحتجاج بحديث العرنيين على جواز التداوي بالنجاسات، فغير صحيح؛ لأنَّ الصحيح من أقوال العلماء أن أبوال الإبل طاهرة، وقد تقدّم البحث في هذا مستوفى في "كتاب الطهارة".

والحاصل أنه لا يجوز التداوي بالخمر، وسائر النجاسات؛ لِمَا ذَكَرنا؛ فتبصّر، والله تعالى أعلم.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(1)

"نيل الأوطار" 9/ 94.

(2)

أخرجه الطبرانيُّ، ولفظه:"إن الله تعالى خلق الداء، والدواء، فتداووا، ولا تتداووا بحرام". راجع: "السلسلة الصحيحة" للشيخ الألبانيّ رحمه الله 4/ 174، وصححه في "صحيح الجامع".

(3)

راجع: "السلسلة الصحيحة" 4/ 174.

ص: 594

(4) - (بَابُ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: "الْخَمْرُ مِنْ هَاتَيْنِ الشَّجَرَتَيْنِ: النَّخْلَة، وَالْعِنَبَةِ")

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5134]

(1985) - (حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا الْحَجَّاجُ بْنُ أَبِي عُثْمَانَ، حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ، أَنَّ أَبَا كَثِيرٍ حَدَّثَهُ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "الْخَمْرُ مِنْ هَاتَيْنِ الشَّجَرَتَيْنِ: النَّخْلَة، وَالْعِنَبَةِ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

2 -

(إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن عليّة، تقدّم قبل باب.

3 -

(الْحَجَّاجُ بْنُ أَبِي عُثْمَانَ) ميسرة، أو سالم الصوّاف، أبو الصَلْت الكنديّ مولاهم البصريّ، ثقةٌ حافظ [6](ت 143)(ع) تقدم في "الإيمان" 52/ 318.

4 -

(يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ) صالح بن المتوكّل الطائيّ مولاهم، أبو نصر البصريّ، ثم اليماميّ، ثقةٌ ثبت، لكنه يدلّس ويُرسل [5](ت 132) أو قبل ذلك، تقدّم في "شرح المقدّمة" ج 2 ص 424.

5 -

(أَبُو كَثِيرٍ) السُّحَيميّ الْغُبَريّ اليماميّ الأعمي، قيل: هو يزيد بن عبد الرَّحمن، وقيل: يزيد بن عبد الله بن أُذَينة، أو ابن غُفَيلة، ثقةٌ [3](بخ م 4) تقدم في "الإيمان" 12/ 155.

6 -

(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه تقدم في "المقدمة" 2/ 4.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من سُداسيّات المصنّف، وأنه مسلسل بالتحديث، والإخبار، والقول، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه رأس المكثرين السبعة، روى (5374) حديثًا.

ص: 595

شرح الحديث:

عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ (أَنَّ أَبَا كَثِيرٍ) يزيد بن عبد الرَّحمن، وقيل: غيره، كما تقدّم آنفًا. (حَدَّثَهُ)؛ أي: حدّث يحيى بنَ أبي كثير (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم") وفي الراوية التالية: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم"، ("الْخَمْرُ مِنْ هَاتَيْنِ الشَّجَرَتَيْنِ) قال البيهقي رحمه الله: ليس المراد الحصر فيها؛ لأنه ثبت أن الخمر تُتخذ من غيرهما في حديث عمر وغيره، وإنما فيه الإشارة إلى أن الخمر شرعًا لا تختص بالمتخذ من العنب. انتهى.

وقال السنديّ رحمه الله: هذا ليس على وجه القصر عليهما، بل المعنى أنه منهما، ولا يُقتصر على العنب. وقيل: المقصود بيان ذلك لأهل المدينة، ولم يكن عندهم مشروب إلَّا من هذين النوعين. وقيل: إن معظم ما يُتّخذ من الخمر، أو أشدّ ما يكون في معنى المخامرة والإسكار إنما هو من هاتين. انتهى.

وقال النوويّ رحمه الله: هذا دليل على أنَّ الأنبذة المتّخذة من التمر، والزهو، والزبيب، وغيرها تُسمّى خمرًا، وهي حرام، إذا كانت مسكرة، وهو مذهب الجمهور، كما سبق، وليس فيه نفي الخمريّة عن نبيذ الذُّرَة، والعسل، والشعير، وغير ذلك، فقد ثبت في تلك الألفاظ أحاديث صحيحة بأنها كلها خمر وحرام. انتهى

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "الخمر من هاتين الشجرتين": حجة للجمهور على تسمية ما يُعتصر من غير العنب بالخمر إذا أسكر، كما قدَّمناه، ولا حجة فيه لأبي حنيفة على قوله، حيث قَصَر الحكم بالتحريم على هاتين الشجرتين؛ لأنه قد جاء في أحاديث أُخَر ما يقتضي تحريم كلّ ما أسكر، كقوله:"كلّ مسكر حرام"، و"كلّ ما أسكر حرام"، وحديث معاذ رضي الله عنه حيث سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شراب العسل، والذُّرَة، والشعير؟ فقال:"أَنْهَى عن كلّ مسكر"، وإنما خصّ في هذا الحديث هاتين الشجرتين بالذِّكر؛ لأنَّ أكثر الخمر

(1)

"شرح النوويّ" 13/ 153 - 154.

ص: 596

منهما، أو على أنَّ الخمر عند أهلها، والله أعلم، وهذا نحو قولهم: المالُ الإبلُ؛ أي: أكثرها، وأعمّها. انتهى

(1)

.

وقوله: (النَّخْلَة، وَالْعِنَبَةِ") بالجرّ على البدليّة، ويجوز الرفع بتقدير مبتدإ؛ أي: هما، والنصب بتقدير فعل؛ أي: أعني. وفي الرواية الآتية: "الكرمة، والنخلة"، وفي رواية:"الكرم والنخل"، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [4/ 5134 و 5135 و 5136](1985)، و (أبو داود) في "الأشربة"(3678)، و (الترمذيّ) في "الأشربة"(1875)، و (النسائيّ) في "الأشربة"(8/ 294) و"الكبرى"(3/ 210 و 4/ 158 و 181)، و (ابن ماجة) في "الأشربة"(3378)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(17053)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1/ 335)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(8/ 109)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 279 و 408 و 409 و 474 و 496 و 517 و 518 و 526) وفي "الأشربة"(215)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 113)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(4/ 211)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5344)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(5/ 95 و 96 و 97)، و (أبو علي) في "مسنده"(10/ 398)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(8/ 289 - 290)، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5135]

(

) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا الأَوْزَاعِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو كَثِيرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ؛ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "الْخَمْرُ مِنْ هَاتَيْنِ الشَّجَرَتَيْنِ: النَّخْلَة، وَالْعِنبَةِ").

(1)

"المفهم" 5/ 257 - 258.

ص: 597

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ) تقدّم قريبًا.

2 -

(أَبُوهُ) عبد الله بن نمير الهمدانيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

3 -

(الأَوْزَاعِيُّ) عبد الرَّحمن بن عمرو، أبو عمرو، ثقةٌ ثبت فقيه فاضلٌ [7](ت 157)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 28.

والباقيان ذُكرا قبله.

وقوله: ("الْخَمْرُ مِنْ هَاتَيْنِ الشَّجَرَتَيْنِ) قد تقدّم آنفًا المراد بيان أن الخمر غالب ما يُتّخذ من هاتين الشجرتين، فليس المعنى على الحصر، وإنما هو على الغالب، فلا ينافي ما ثبت في الأحاديث الصحيحة من أن الخمر كلّ ما خامر العقل، سواء كان متّخذًا من هاتين الشجرتين، أو من غيرهما من الحبوب، كالبُرّ والشعير، والذُّرَة، والعسل، ونحوها.

والحديث من أفراد المصنّف رحمه الله، وقد مضى تمام البحث فيه قبله، ولله الحمد.

وبالسند المتّصل إلى المؤلِّف رحمه الله أَوَّل الكتاب قال:

[5136]

(

) - (وَحَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنِ الأَوْزَاعِيّ، وَعِكْرِمَةَ بْنِ عَمَّارٍ، وَعُقْبَةَ بْنِ التَّوْأَم، عَنْ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "الْخَمْرُ مِنْ هَاتَيْنِ الشَّجَرَتَيْنِ: الْكَرْمَة، وَالنَّخْلَةِ"، في رِوَايَةِ أَبِي كُرَيْبٍ: "الْكَرْم، وَالنَّخْلِ").

رجال هذا الإسناد: تسعة:

1 -

(أَبُو كُرَيْبٍ) محمد بن العلاء، تقدّم قريبًا.

2 -

(وَكِيعُ) بن الجرّاح، تقدّم أيضًا قريبًا.

3 -

(عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ) الْعِجليّ، أبو عمّار اليماميّ، بصريّ الأصل، ثقةٌ، إلَّا في روايته عن يحيى بن أبي كثير، فضعيف؛ لاضطرابه [5] ت قُبيل (160)(خت م 4) تقدم في "الإيمان" 12/ 155.

4 -

(عُقْبَةُ بْنُ التَّوْأَمِ) - بمثنّاة مفتوحة، ثمّ واو ساكنة، ثم همزة، ثم ميم - مقبول [7].

ص: 598

روى عن أبي كثير السَّحَيميّ، وعنه وكيعٌ. قال الحافظ: قرأت بخط الذهبيّ: لا يُعرف.

تفرّد به المصنّف، مقرونًا بالأوزاعيّ، وعكرمة بن عمار، وليس له في هذا الكتاب إلَّا هذا الحديث.

والباقون ذُكروا قبله.

وقوله: (الْكَرْمَة، وَالنَّخْلَةِ"، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي كُرَيْبٍ: "الْكَرْم، وَالنَّخْلِ") قال القرطبيّ رحمه الله: هذا يُشكل مع قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تقولوا للعنب: الكرم، فإن الكرم قلب المؤمن"، رواه مسلم. ويزول الإشكال بأن نقول: إطلاق هذا كان قبل النهي، ثم بعد ذلك وَرَد النهي، أو يقال: إنه صلى الله عليه وسلم لَمْ يدخل في هذا الخطاب، فإنه قال فيه:"ولا تقولوا"، فواجَهَنا به، والمخاطِبُ غير المخاطَب، كما تقرّر في الأصول. انتهى

(1)

.

وقال النوويّ رحمه الله: يَحْتَمِل أن هذا الاستعمال كان قبل النهي، ويَحْتَمِل أنه استعمله بيانًا للجواز، وأن النهي عنه ليس للتحريم، بل لكراهة التنزيه، ويَحتمل أنهم خوطبوا به للتعريف؛ لأنه المعروف في لسانهم الغالب في استعمالهم. انتهى

(2)

، والله تعالى أعلم.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(5) - (بَابُ كَرَاهَةِ انْتِبَاذِ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ مَخْلُوطَيْنِ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5137]

(1986) - (حَدَّثَنَا شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ، حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ، سَمِعْتُ عَطَاءَ بْنَ أَبِي رَبَاحٍ، حَدَّثَنَا جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ الأنصَارِيُّ، أَنَّ النَّبِي صلى الله عليه وسلم نَهَى أَنْ يُخْلَطَ الزَّبِيبُ وَالتَّمْرُ، وَالْبُسْرُ وَالتَّمْرُ).

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ) الأُبُليّ، أبو محمد، صدوقٌ يَهِم، ورُمي بالقدر، من صغار [9](ت 235) وله بضع و (90) سنة (م د س) تقدم في "الإيمان" 12/ 157.

(1)

"المفهم" 5/ 258.

(2)

"شرح النوويّ" 13/ 154.

ص: 599

2 -

(جَرِيرُ بْنُ حَازِمِ) بن زيد بن عبد الله الأزديّ، أبو النضر البصريّ، ثقةٌ إلَّا في قتادة، فضعيف [6](ت 170)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 81.

3 -

(عَطَاءَ بْنَ أَبِي رَبَاحٍ) أسلم، تقدّم قريبًا.

4 -

(جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ الأنصَارِيُّ) رضي الله عنهما، تقدَّم أيضًا قريبًا.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، كلاحقه، وهو (371) من رباعيّات الكتاب، وأنه مسلسل بالتحديث، والسماع.

شرح الحديث:

(عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الأنصَارِيِّ) رضي الله عنهما (أَنَّ النَّبِيَّ نَهَى أَنْ يُخْلَطَ) بالبناء للمفعول، (الزَّبِيبُ) اسم جَمْع يُذكّر، ويؤنّث، فيقال: هو الزبيب، وهي الزبيب، والواحدة زبيبة، قاله الفيّوميّ

(1)

. (وَالتَّمْرُ) تقدّم معناه قريبًا. (وَالْبُسْرُ) بضمّ، فسكون: من ثمر النخل معروفٌ، قال ابن فارس: الْبُسر من كلّ شيء: الْغَضّ، ونباتٌ بُسْرٌ؛ أي: طَرِيّ، قاله الفيّوميّ

(2)

، وقال المجد: الْبُسْر: التمر قبل إرطابه، والْبُسْرة واحدتها، وتُضمّ السين. انتهى

(3)

.

[فائدة]: ذكر المجد اللغويّ رحمه الله المَراتب التي عَدَّها أَهلُ النَّخْلِ في تَدْرِيجِ ثَمَرِ التَّمْرِ حتى يصلَ إلى مَرتَبةِ التَّمْر فقال: أوَّلُه طَلْعٌ، فإذا انْعَقَدَ فسَيَابٌ - كَسَحَابٍ - فإذا اخْضَرَّ، واستَدَارَ فجَدَالٌ، وَسَرَادٌ، وخَلَالٌ - كَسحَابٍ في الكُلِّ - فإذا كَبِرَ شيئًا فبَغْوٌ - بفتح الموحَّدة، وسكونِ الغَيْن - فإذا عَظُمَ فبُسْرٌ - بالضَّمِّ - ثم مُخَطَّمٌ - كمُعَظَّمٍ - ثم مُوَكِّت - على صيغةِ اسمِ الفاعل - ثم تُذْنُوبٌ - بالضّمّ - ثم جُمْسَة - بضمِّ الجيم، وسكونِ الميم، وسينٍ مهملةٍ مفتوحة - ثم ثَعْدَةٌ - بفتحِ المُثَلَّثة، وسكونِ العينِ المُهْمَلَة، ثمَّ دال - وخالِعٌ، وخالِعَةٌ، فإذا انتهى نُضْجُه فرُطَبٌ، ومَعْوٌ، فإن لَمْ يَنْضَج كلُّه فمُنَاصِف، ثمّ تَمْرٌ، وهو آخِرُ المَراتِبِ.

(1)

"المصباح المنير" 1/ 250.

(2)

"المصباح المنير" 1/ 48.

(3)

"القاموس المحيط" ص 106.

ص: 600

وقال الأصمعيّ: إذا اخْضَرَّ حَبُّه، واستدارَ فهو خَلَالٌ، فإذا عَظُمَ فهو البُسْرُ، فإذا احْمَرَّتْ فهي شِقْحَةٌ، وبَسَطْتُ ذلك في الرَّوْض المَسْلُوف فيما له اسْمَانِ إلى أُلُوف. انتهى من "القاموس، وشرحه"

(1)

.

وقد نظمت ذلك بقولي:

لِثَمَرِ النَّخْلِ مَرَاتِبُ وَرَدْ

أَوَلُهَا طَلْعٌ فَإِنْ هُوَ انْعَقَدْ

فَقُلْ سَيَابٌ كَسَحَابٍ فَإِذَا

اخْضَرَّ وَاسْتَدَارَ فَاسْمَهُ خُذَا

جَدَالٌ اوْ سَرَادٌ اوْ خَلَالُ

وَزْنَ سَحَابٍ كُلُّهَا تُقَالُ

بَغْوٌ إِذَا كَبِرَ شَيْئًا وَإِذَا

عَظُمَ بُسْرٌ ثُمَّ بَعْدُ أُخِذَا

مُخَطَّمٌ مِثْلُ مُعَظَّمٍ يَلِي

مُوَكِّت مِثْلُ مُعَلِّمٍ جَلِي

ثُمَّ يَلِي التُّذْنُوبُ ثُمَّ جُمْسَةُ

فَثَعْدَةٌ فَخَالِعٌ خَالِعَةُ

إِذَا انْتَهَى النُّضْجُ يُسَمَّى رُطَبَا

كَذَاكَ مَعْوًا مِثْلَ فَلْسٍ صَحِبَا

مُنَاصِفُ إِنْ كُلُّهُ لَمْ يَنْضِجِ

وَبَعْدَهُ تَمْرٌ مُتَمِّمًا يَجِي

وَذَكَرَ الأَصْمَعِيّ أَنَّهُ إِذَا

اخْضَرَّ وَاسْتَدَارَ حَبُّهُ حَذَا

بِكَوْنِهِ الْخَلَالَ ثُمَّ إِنْ عَظُمْ

بُسْرٌ إِنِ احْمَرَّتْ بِشِقْحَةٍ تُسَمّْ

وَهَكَذَا ذَكَرَ في "الْقَامُوسِ"

و"شَرْحِهِ" الْحِلْيَةِ لِلْعَرُوسِ

(وَالتَّمْرُ")؛ يعني: أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن الجمع بين النوعين في الانتباذ؛ لمسارعة الإسكار، والاشتداد عند الخلط.

فقوله: "أن النبيّ صلى الله عليه وسلم نَهَى أن يُخْلَط التمر والزبيب، والبُسر والتمر"، وفي رواية:"نَهَى أن يُنبذ التمر والزبيب جميعًا، ونَهَى أن يُنبذ الرُّطَب والبُسر جميعًا"، وفي رواية:"لا تجمعوا بين الرُّطَب والبسر، وبين الزبيب والتمر نَبِيذًا"، وفي رواية:"مَن شَرِب النبيذ منكم فليشربه زبيبًا فَرْدًا، أو تمرًا فردًا، أو بُسرًا فردًا"، وفي رواية:"لا تَنْتَبِذوا الزَّهْو والرُّطَب جميعًا".

فهذه الأحاديث صريحة في النهي عن انتباذ الخليطين وشربهما، وهما تمر وزبيب، أو تمر ورُطَب، أو تمر وبُسر، أو رطب وبسر، أو زهو وواحد من هذه المذكورات، ونحو ذلك، ثم إن هذا النهي للتحريم، كما قال به بعض

(1)

"تاج العروس من جواهر القاموس" 1/ 2511.

ص: 601

المالكية، وهو الحقّ؛ لظواهر النصوص، فإنها وردت بصيغة النهي، والنهي للتحريم عند جمهور العلماء إلَّا لصارف، ولا صارف له هنا، فتأمل بالإمعان، ولا تكن أسير التقليد، وبالله تعالى التوفيق.

وأما قول أبي حنيفة وأبي يوسف في رواية عنه: لا كراهة فيه، ولا بأس به؛ لأنَّ ما حلّ مفردًا حلّ مخلوطًا، فقوله منابذةٌ لصاحب الشرع، فقد ثبتت الأحاديث الصحيحة الصريحة في النهي عنه، والقياس في مقابلة النصّ باطل، ولقد أحسن من قال، وأجاد في المقال:

إِذَا جَالَتْ خُيُولُ النَّصِّ يَوْمًا

تُجَارِي فِي مَيَادِينِ الْكِفَاحِ

غَدَتْ شُبَهُ الْقِيَاسِيِّينَ صَرْعَى

تَطِيرُ رُؤُوسُهُنَّ مَعَ الرِّيَاحِ

والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [5/ 5137 و 5138 و 5139 و 5140](1986)، و (البخاريّ) في "الأشربة"(5601)، و (أبو داود) في "الأشربة"(3703)، و (الترمذيّ) في "الأشربة"(1876)، و (النسائيّ) في "الأشربة"(8/ 290) و"الكبرى"(3/ 206 و 207 و 4/ 184)، و (ابن ماجة) في "الأشربة"(3395)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1705)، و (عبد الرزاق) في "مصنّفه"(16967 و 16968 و 16969)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 294 و 300 و 302 و 317 و 363 و 369 و 389) وفي "الأشربة"(147)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5379)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(1768 و 1872 و 2238 و 2325)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(5/ 110 و 118 و 119)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(8/ 306)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في اختلاف أهل العلم في حكم شرب الخليطين:

قال النووي رحمه الله: مذهب الجمهور أن النهي في ذلك للتنزيه، وإنما يمتنع إذا صار مسكرًا، ولا تخفى علامته، وقال بعض المالكية: هو للتحريم.

ص: 602

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: ما قاله بعض المالكيّة هو الظاهر؛ لأنَّ النصّ ورد بصيغة النهي، والنهي للتحريم، ما لَمْ يصرفه صارف، ولم يذكروا هنا صارفًا، وأيضًا ما قاله النوويّ يخالف نصّ الشافعيّ رحمه الله الآتي بالتحريم، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

قال: واختُلف في خلط نبيذ البسر الذي لَمْ يشتدّ، مع نبيذ التمر الذي لَمْ يشتدّ عند الشرب، هل يمتنع، أو يختص النهي عن الخلط عند الانتباذ؟ فقال الجمهور: لا فرق، وقال الليث: لا بأس بذلك عند الشرب. ونقل ابن التين عن الداوديّ: أن سبب النهي أن النبيذ يكون حُلْوًا، فإذا أُضيف إليه الآخر أسرعت إليه الشدّة، وهذه سورة أخرى، كأنه يخص النهي بما إذا نبذ أحدهما ثم أضيف إليه الآخر، لا ما إذا نُبذا معًا.

واختُلف في الخليطين من الأشربة غير النبيذ، فحكى ابن التين عن بعض الفقهاء أنه كَرِه أن يخلط للمريض شرابين، وردّه بأنهما لا يُسرع إليهما الإسكار اجتماعًا وانفرادًا.

وتُعُقّب باحتمال أن يكون قائل ذلك يرى أن العلة الإسراف كما تقدم، لكن يقيّد كلام هذا في مسألة المريض بما إذا كان المفرد كافيًا في دواء ذلك المرض، وإلا فلا مانع حينئذ من التركيب.

وقال ابن العربي: ثبت تحريم الخمر؛ لِمَا يَحْدُث عنها من السكر، وجواز النبيذ الحلو الذي لا يَحدُث عنه سكر، وثبت النهي عن الانتباذ في الأوعية، ثم نُسخ، وعن الخليطين، فاختلف العلماء، فقال أحمد، وإسحاق، وأكثر الشافعية بالتحريم، ولو لَمْ يُسكر، وقال الكوفيون: بالحِل، قال: واتفق علماؤنا على الكراهة، لكن اختلفوا هل هو للتحريم، أو للتنزيه؟ واختُلِف في علة المنع، فقيل: لأنَّ أحدهما يشدّ الآخر، وقيل: لأنَّ الإسكار يُسرع إليهما، قال: ولا خلاف أن العسل باللبن ليس بخليطين؛ لأنَّ اللبن لا يُنبذ، لكن قال ابن عبد الحكم: لا يجوز خلط شرابَيْ سكر، كالورد والجلاب، وهو ضعيف. قال: واختلفوا في الخليطين لأجل التخليل، ثم قال: ويتحصل لنا أربع صور: أن يكون الخليطان منصوصين، فهو حرام، أو منصوص ومسكوت عنه، فإن كان كلّ منهما لو انفرد أسكر فهو حرام، قياسًا على المنصوص، أو مسكوت

ص: 603

عنهما، وكل منهما لو انفرد لَمْ يسكر جاز، قال: وهنا مرتبة رابعة، وهي ما لو خلط شيئين، وأضاف إليهما دواء يمنع الإسكار، فيجوز في المسكوت عنه، ويُكره في المنصوص، وما نقله عن أكثر الشافعية، وُجد نصّ الشافعي بما يوافقه، فقال: ثبت نهيُ النبيّ صلى الله عليه وسلم عن الخليطين، فلا يجوز بحال، وعن مالك قال: أدركت على ذلك أهل العلم ببلدنا.

وقال الخطابي: ذهب إلى تحريم الخليطين، وإن لَمْ يكن الشراب منهما مُسكِرًا جماعة، عملًا بظاهر الحديث، وهو قول مالك، وأحمد، وإسحاق، وظاهر مذهب الشافعي، وقالوا: من شرب الخليطين أثم من جهة واحدة، فإن كان بعد الشدّة أثم من جهتين، وخَصَّ الليث النهي بما إذا نُبذا معًا. انتهى.

وجرى ابن حزم على عادته في الجمود، فخصّ النهي عن الخليطين بخلط واحد من خمسة أشياء، وهي التمر، والرطب، والزهو، والبسر، والزبيب، في أحدها، أو في غيرها، فأما لو خلط واحد من غيرها في واحد من غيرها، لَمْ يمتنع كاللبن والعسل مثلًا، ويَرِدُ عليه ما أخرجه أحمد في "الأشربة" من طريق المختار بن فُلفُل، عن أنس رضي الله عنه، قال:"نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُجمع بين شيئين نبيذًا، مما يبغي أحدهما على صاحبه".

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن ما قاله ابن حزم رحمه الله هو الظاهر، والحديث الذي ذكره عن أحمد، لا ينافيه؛ لأنه ظاهر في النبيذ، فيُحْمَل على الأشياء المنصوص عليها، وأما خلط نحو اللبن والعسل، فلا يشمله، فتبصّر، والله تعالى أعلم.

وقال القرطبي رحمه الله: النهي عن الخليطين ظاهر في التحريم، وهو قول جمهور فقهاء الأمصار، وعن مالك: يُكره فقط، وشذَّ من قال: لا بأس به؛ لأنَّ كلًّا منهما يَحِلّ منفردًا فلا يُكره مجتمعًا، قال: وهذه مخالفة للنص، وقياس مع وجود الفارق، فهو فاسد من وجهين، ثم هو منتقض بجواز كلّ واحدة من الأختين منفردة، وتحريمهما مجتمعين، قال: وأعجب من ذلك تأويل من قال منهم: إن النهي إنما هو من باب السَّرَف بجمع إدامين، قال: وهذا تبديل، لا تأويل، ويشهد ببطلانه الأحاديث الصحيحة، قال: وتسمية

ص: 604

الشراب إدامًا قول من ذَهِلَ عن الشرع واللغة والعادة، وتعامي، وكيف ينهى عن الجمع بين إدامين، وقد جُمعا على مائدة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟

قال: واختلف القائلون بمنع الخلط في تعليل ذلك وعدمه، فالذي يليق بمذهب أهل الظاهر النهي عن الخلط على كلّ شيئين يؤثّر كلّ واحد منهما في الآخر إسراع الشدّة إذا خُلطا، وهذا هو الذي يُفهم من الأحاديث الواردة في هذا الباب، فإنها مصرّحة بالنهي عن الخلط للانتباذ والشرب، وقد أبعد بعض أصحابنا، فمنع الخلط، وإن لَمْ يكن كذلك، حتى منع خلطهما للتخليل، وهذا إنما يليق بمن لَمْ يُعلّل النهي عن الخليطين بعلّة، ويلزم منه أن يجري النهي على خلط العسل واللبن، وشراب الورد والبنفسج، والعسل والخلّ، وغير ذلك، والصواب ما ذهب إليه مالك، والجمهور، وبالله تعالى التوفيق. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تقدّم لك أن ابن العربي حكى القول بتعميم منع الخلط عن محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، وقال: إنه حَمَل النهي عن الخليطين من الأشربة على عمومه، وضعّفه، وهو أحقّ بالتضعيف.

والحاصل أن الخلط الوارد في الأحاديث الصحيحة المذكورة في هذا الباب وغيرها محرّم، وأن شرب الخليطين حرام، وأما ما عدا ذلك من الأصناف فيجوز خلطه؛ كاللبن والعسل، ونحو ذلك؛ لعدم النهي عنه، ولفقدان العلّة التي من أجلها نهى الشارع عن الخليطين، فتأمل بالإمعان، والله الهادي إلى سواء السبيل.

[تنبيه]: قد اعترض العينيّ على عادته المستمزة في نصر مذهبه بأحاديث ضعيفة في مقابلة الأحاديث الصحيحة المتّفق عليها المخالفة لمذهبه، وذلك لمّا قال النوويّ رحمه الله: إن قول أبي حنيفة: لا بأس بالخليطين؛ لأنَّ ما حلّ مفردًا حلّ مخلوطًا: أكد عليه الجمهور، وقالوا: هذه منابذة لصاحب الشرع، فقد ثبتت الأحاديث الصحيحة الصريحة في النهي عنه. انتهى كلام النوويّ.

فقال العينيّ ردًّا على هذا: هذه جرأة على إمام أجلّ من ذلك، وأبو

(1)

"المفهم" 5/ 258 - 259.

ص: 605

حنيفة لَمْ يكن قال ذلك برأيه، وإنما مستنده في ذلك أحاديث، ثم ذكر ثلاثة أحاديث كلها ضعيفة:

(الأول): ما أخرجه أبو داود من طريق أبي بحر، ثنا عتّاب بن عبد العزيز الْحِمّانيّ، حدّثتني صفية بنت عطية، قالت: دخلت مع نسوة من عبد القيس على عائشة، فسألناها عن التمر والزبيب، فقالت: كنت آخذ قبضة من تمر، وقبضة من زبيب، فألقيه في إناء، فأمرسه، ثم أسقيه النبيّ صلى الله عليه وسلم

(1)

.

ولمّا اعترض عليه ابن حزم بأن في إسناده أبا بحر لا يُدرى من هو؟ أجاب العينيّ بأن ابن عديّ قال: أبو بحر مشهور معروف، وله أحاديث غرائب عن شعبة وغيره من البصريين، وهو ممن يُكتب حديثه، وذكر عن كتاب السامي قول يحيى بن سعيد: هو صدوقٌ صاحب حديث، وهو عبد الرَّحمن بن عثمان بن أميّة بن عبد الرَّحمن بن أبي بكرة البكراويّ، وذكره ابن شاهين، وابن حبّان في "كتاب الثقات"، وقال البخاريّ: لَمْ يستبن لي طرحه، وقال أبو عمر، وأحمد بن صالح العجليّ: هو ثقةٌ بصريّ. انتهى كلام العينيّ.

قال الجامع عفا الله عنه: هكذا ردّ العينيّ على ابن حزم بكلام بعضهم مما يدلّ على تقويته، وليس الأمر كما زعم، فإن الأكثرين على تضعيفه، قال أحمد: طرح الناس حديثه، وقال ابن معين: ضعيف، وقال ابن المدينيّ: ذهب حديثه، وقال أبو داود: تركوا حديثه، وقال أبو حاتم: ليس بقويّ، يُكتب حديثه، ولا يُحتجّ به، وقال النسائيّ: ضعيف، وقال أبو أحمد الحاكم: ليس بالقويّ عندهم، وقال ابن حبّان: يروي المقلوبات عن الأثبات، فلا يجوز الاحتجاج به، هذا كله من "تهذيب التهذيب"، وقال في "التقريب": ضعيف من التاسعة، فتبيّن بهذا أن الرجل لا يجوز الاحتجاج به لو لَمْ يعارِض ما رواه حديثًا صحيحًا، فكيف بأحاديث اتفق عليها الشيخان، فهيهات هيهات.

وأما عتّاب بن عبد العزيز، فقال العينيّ: روى عنه يزيد بن هارون، وأحمد بن سعيد الدارميّ، وآخرون، وذكره ابن حبّان في "الثقات"، هذا ما قاله العينيّ.

(1)

"سنن أبي داود" 3/ 333.

ص: 606

وإذا رجعت إلى ترجمته لَمْ تجد من وثّقه إلَّا أن ابن حبّان ذكره في "الثقات"، ولذا قال عنه في "التقريب": مقبول من السابعة.

وأما صفيّة بنت عطيَّة، فهي مجهولة؛ لَمْ يرو عنها إلَّا عتّاب بن عبد العزيز، وهي جدّته، وقال عنها في "التقريب": لا تُعرف.

فتبيّن بهذا أن الحديث ضعيف، فكيف يعارِض العينيّ به ما اتّفق عليه الشيخان، هيهات هيهات.

ثم ذكر حديثًا آخر أخرجه أبو داود بسنده عن امرأة من بني أسد، عن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يُنبذ له زبيب، فيلقي فيه تمرًا، وتمرٌ فيلقي فيه الزبيب. انتهى.

وهذا كما ترى حديث ضعيف أيضًا؛ لأنه من رواية امرأة مجهولة، لا تقوم بها الحجة، فكيف يعارض العينيّ بها ما في "الصحيحين" نصرًا، وتعصّبًا لمذهبه؟ والله المستعان.

وأيضًا قال: أخرج محمد في "كتاب الآثار"(ص 120) عن أبي حنيفة، عن سليمان الشيبانيّ، عن ابن زياد أنه أفطر عند عبد الله بن عمر، فسقاه شرابًا له، فكأنه أخذ فيه، فلما أصبح، قال: ما هذا الشراب؟ ما كنت أهتدي إلى منزلي، فقال عبد الله: ما زدناك على عجوة وزبيب. انتهى.

وهذا الإسناد يحتاج إلى بحث، فمن هو ابن زياد؟ وعلى تقدير صحّته، فهو فِعل ابن عمر رضي الله عنهما موقوفًا عليه، فلا يُعارَض به ما صحَّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم.

وذكر صاحب "التكملة"

(1)

حديثًا آخر أيضًا، فقال: أخرج محمد أيضًا عن أبي حنيفة، عن نافع، عن ابن عمر أنه كان يُنبذ له نبيذ الزبيب، فلم يكن يستمرئه، فقال للجارية: اطرحي فيه تمرات. انتهى.

وهذا أيضًا لو صحّ فإنه فِعل ابن عمر، لا يعارَض به المرفوع، كما أسلفناه، فتبيّن بهذا أن ما شغّب به العينيّ على من ردّ على مذهبه مجرّد تعصّب، لا وزن له في التحقيق، فلا تغترّ بسكوت صاحب "التكملة"، وغيره

(1)

تكملة "فتح الملهم" 3/ 617 - 618.

ص: 607

على ما قاله العينيّ، ورِضاهم به، فإنه مجرّد نَصْر مذهب، قاتل الله التعصّب، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

وبالسند المتّصل إلى المؤلِّف رحمه الله أَوَّل الكتاب قال:

[5138]

(

) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الأَنْصَارِيّ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ نَهَى أَنْ يُنْبَذَ التَّمْرُ وَالزَّبِيبُ جَمِيعًا، وَنَهَى أَنْ يُنبذَ الرُّطَبُ وَالْبُسْرُ جَمِيعًا).

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) تقدَّم قريبًا.

2 -

(لَيْثُ) بن سعد الإمام المصريّ، تقدَّم أيضًا قريبًا.

والباقيان ذُكرا قبله.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، كسابقه، وهو (372) من رباعيّات الكتاب.

والحديث متَّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلِّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5139]

(

) - (وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ (ح) وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ - وَاللَّفْظُ لِابْنِ رَافِعٍ - قَالَا: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاق، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، قَالَ: قَالَ لِي عَطَاءٌ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا تَجْمَعُوا بَيْنَ الرُّطَبِ وَالْبُسْر، وَبَيْنَ الزَّبِيبِ وَالتَّمْرِ نَبِيذًا").

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمِ) بن ميمون، تقدَّم قريبًا.

2 -

(يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ) القطّان، تقدَّم أيضًا قريبًا.

3 -

(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه، تقدَّم أيضًا قريبًا.

4 -

(مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ) تقدّم أيضًا قريبًا.

ص: 608

5 -

(عَبْدُ الرَّزَّاقِ) بن همّام الصنعانيّ، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

6 -

(ابْنُ جُرَيْجٍ) عبد الملك بن عبد العزيز بن جريجٍ، تقدّم أيضًا قبل ثلاثة أبواب.

والباقيان ذُكرا قبله.

وقوله: (نَبِيذًا) منصوب على الحال؛ أي: حال كونه مطرحًا عليه الماء.

والحديث متّفقٌ عليه، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5140]

(

) - (وَحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ (ح) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحٍ، أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ الْمَكِّيِّ مَوْلَى حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الأنصَارِيِّ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ نَهَى أَنْ يُنْبَذَ الزَّبِيبُ وَالتَّمْرُ جَمِيعًا، وَنَهَى أَنْ يُنْبَذَ الْبُسْرُ وَالرُّطَبُ جَمِيعًا).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحِ) بن المهاجر التُّجيبيّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(أَبُو الزُّبَيْرِ الْمَكِّيِّ) تقدّم أيضًا قريبًا.

[تنبيه]: قوله: (مَوْلَى حَكِيمِ بْنِ حِزَام)؛ يعني: أن أبا الزبير المكيّ مولى لحكيم بن حزام بن خُويلد بن أسد بن عبدً العزّى الأسديّ، ابن أخي خديجة، أم المؤمنين رضي الله عنهما، الصحابيّ الشهير، أسلم يوم الفتح وتُوُفِّي سنة (54) أو بعدها، تقدّمت ترجمته في "الإيمان" 58/ 330.

والباقون ذُكروا قبله.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (373) من رباعيّات الكتاب.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى البحث فيه، ولله الحمد.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5141]

(1987) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا يَزِيدُ بْنُ زُريعٍ، عَنِ التَّيْمِيّ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنِ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ أَنْ يُخْلَطَ بَيْنَهُمَا، وَعَنِ التَّمْرِ وَالْبُسْرِ أَنْ يُخْلَطَ بَيْنَهُمَا).

ص: 609

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ النيسابوريّ، تقدّم قبل بابين.

2 -

(يَزِيدُ بْنُ زُريعٍ) العيشيّ، أبو معاوية البصريّ، تقدّم قريبًا.

3 -

(التَّيْمِيُّ) سليمان بن طرخان، أبو المعتمر البصريّ، تقدّم قبل أربعة أبواب.

4 -

(أَبُو نَضْرَةَ) المنذر بن مالك بن قُطعة الْعبْديّ البصريّ، تقدّم قريبًا.

5 -

(أَبُو سَعِيدٍ) سعد بن مالك بن سنان الخدريّ رضي الله عنهما، تقدّم أيضًا قريبًا.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه أبو سعيد الخدريّ رضي الله عنه أحد المكثرين السبعة، روى (1170) حديثًا، وشرح الحديث واضح يُعلم مما سبق.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [5/ 5141 و 5142 و 5143 و 5144 و 5145](1987)، و (الترمذيّ) في "الأشربة"(1938)، و (النسائيّ) في "الأشربة"(8/ 289 و 290 و 293 و 294) و"الكبرى"(6804)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 3 و 9 و 34 و 90) وفي "الأشربة"(50)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5378)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(1176 - 1177)، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5142]

(

) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ يَزِيدَ أَبُو مَسْلَمَةَ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، قَالَ: نَهَانَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ نَخْلِطَ بَيْنَ الزَّبِيبِ

(1)

وَالتَّمْر، وَأَنْ نَخْلِطَ الْبُسْرَ وَالتَّمْرَ).

(1)

وفي نسخة: "أن نخلط الزبيب".

ص: 610

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ) المقابريّ البغداديّ، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

2 -

(ابْنُ عُلَيَّةَ) إسماعيل بن إبراهيم، تقدّم أيضًا قبل ثلاثة أبواب.

3 -

(سَعِيدُ بْنُ يَزِيدَ أَبُو مَسْلَمَةَ) الأزديّ، ثم الطاحيّ البصريّ القصير، ثقةٌ [4](ع) تقدم في "الإيمان" 88/ 466.

والباقيان ذُكرا قبله.

والحديث من أفراد المصنّف، وقد مضى البحث فيه في الحديث الماضي، ولله الحمد.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5143]

(

) - (وَحَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ الْجَهْضَمِيُّ، حَدَّثَنَا بِشْرٌ - يَعْنِي: ابْنَ مُفَضَّلٍ - عَنْ أَبِي مَسْلَمَةَ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ مِثْلَهُ).

رجال هذا الإسناد: ثلانة:

1 -

(نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ الْجَهْضَمِيُّ) البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 250) أو بعدها (ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 30.

2 -

(بِشْرُ بْنُ مُفَضَّلِ) بن لاحق الرَّقَاشيّ، أبو إسماعيل البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ عابدٌ [8](ت 6 أو 187)(ع) تقدم في "الإيمان" 10/ 145.

و"أبو مسلمة" ذُكر قبله.

وقوله: (بِهَذَا الْإِسْنَادِ مِثْلَهُ)؛ يعني: أن بشر بن المفضّل روى هذا الحديث عن أبي مسلمة سعيد بن يزيد بالسند المذكور؛ أي: عن أبي نضرة، عن أبي سعيد رضي الله عنه مثل ما حدّث به ابن عليّة، عن أبي مسلمة في الحديث الماضي

[تنبيه]: رواية بشر بن مفضّل، عن أبي مسلمة هذه ساقها أبو عوانة رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(8006)

- حدّثنا يوسف القاضي، قال: ثنا مسدّد، قال: ثنا بشر بن المفضَّل، قال: أنبأ سعيد بن يزيد أبو مسلمة، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد

ص: 611

الخدريّ، قال:"نَهَى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُخْلَط بين البسر والتمر، وبين الزبيب والتمر". انتهى

(1)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلِّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5144]

(

) - (وَحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُسْلِمٍ الْعَبْدِيِّ، عَنْ أَبِي الْمُتَوَكِّلِ النَّاجِيِّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ شَرِبَ النَّبِيذَ مِنْكُمْ فَلْيَشْرَبْهُ زَبِيبًا فَرْدًا، أَو تَمْرًا فَرْدًا، أَو بُسْرًا فَرْدًا").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُسْلِمٍ الْعَبْدِيُّ) أبو محمد البصريّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(أَبُو الْمُتَوَكِّلِ النَّاجِيُّ) عليّ بن داود، ويقال: ابن دُؤاد البصريّ، ثقةٌ [3](ت 108) أو قبل ذلك (ع) تقدم في "الطهارة" 15/ 602.

والباقون ذُكروا في الباب، والباب الماضي.

وقوله: (مَنْ شَرِبَ النَّبِيذَ

إلخ) النبيذ: ماءٌ أُلقي فيه تمر، أو زبيب، أو نحوهما.

وقوله: (زَبِيبًا فَرْدًا

الخ)؛ أي: ليشربه حال كون الْمُلقَى في الماء زبيبًا منفردًا غير مخلوط بغيره من الحبوب، وفيه إشارة إلى أن شُرب الخليط من الأنبذة غير جائز، وهو الذي عليه الجمهور، وخالف في ذلك الحنفيّة، وقد علمت الردّ عليهم فيما أسلفته قريبًا، فلا تنس، وبالله تعالى التوفيق.

[تنبيه]: ذُكر سبب نهي النبيّ صلى الله عليه وسلم عن الخليطين، فقد أخرج ابن أبي شيبة في "مصنَّفه"، فقال:

(24014)

- حدَّثنا أبو الأحوص، عن أبي إسحاق، عن الْبجرانيّ

(2)

، قال: قلت لعبد الله بن عمر: إنا بأرض ذات تمر وزبيب، هل يُخلط التمر والزبيب،

(1)

"مسند أبي عوانة" 5/ 111 - 112.

(2)

وقع في النسخة: "الحراني"، والتصحيح من "الكامل" لابن عديّ 7/ 301، قال ابن معين، وابن عديّ: مجهول.

ص: 612

فننبذهما جميعًا؟، قال: لا، قلت: لَمْ؟ قال: إن رجلًا سَكِر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأُتي به النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو سكران، فضربه، ثم سأله عن شرابه، قال: شربت نبيذًا، قال:"أيُّ نبيذ؟ " قال: نبيذ تمر وزبيب، قال: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "لا تخلطوهما، فإن كلّ واحد منهما يكفي وحده". انتهى

(1)

.

وأخرج أبو يعلى في "مسنده"، فقال:

(1322)

- حدّثنا زهير، حدّثنا عفّان، حدّثنا حماد بن سلمة، عن أبي التيّاح، عن أبي الوَدّاك، قال: اختلفت أنا وصاحب لي في الحنتم، فأتينا أبا سعيد الخدريّ، فقلنا له: حدّثنا بشيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحنتم، قال: لئن قلت ذاك لقد كنا أحيانًا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم منا من يحضره يسمع منه، ومنا من تشغله الضَّيعة، فيجيء، وقد قام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقول: ماذا قال؟ فنخبره ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنه أتي بشارب ذات يوم، فنُهز بالأيدي، وخُفق بالنعال، فقال: يا رسول الله والله ما شربت خمرًا، قال:"فما شربت؟ " قال: إنما أخذت تمرات وزبيبات، فجعلتهن في دباءة لي، فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُخلط بين التمر والزبيب، في الدباء، والمزفت. انتهى

(2)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5145]

(

) - (وَحَدَّثَنِيهِ أَبُو بَكْرِ بْنُ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُسْلِمٍ الْعَبْدِيُّ، بِهَذَا الْإِسْنَاد، قَالَ: نَهَانَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ نَخْلِطَ بُسْرًا بِتَمْرٍ، أَو زَبِيبًا بِتَمْرٍ، أَو زَبِيبًا بِبُسْرٍ، وَقَالَ: "مَنْ شَرِبَهُ مِنْكُمْ"، فَذَكَرَ بِمِثْلِ حَدِيثِ وَكِيعٍ).

رجال هذا الإسناد: ثلاثة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ إِسْحَاقَ) محمد بن إسحاق بن جعفر الصغانيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ ثبتٌ [11](ت 270)(م 4) تقدم في "الإيمان" 4/ 116.

(1)

"مصنف ابن أبي شيبة" 5/ 92.

(2)

"مسند أبي يعلى" 2/ 487. وهذا الإسناد رجاله رجال مسلم، وأبو الودّاك وثقه ابن معين، وأخرج له مسلم.

ص: 613

2 -

(رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ) القيسيّ البصريّ، تقدّم قريبًا.

و"إسماعيل بن مسلم" ذُكر قبله.

وقوله: (فَذَكَرَ بِمِثْلِ حَدِيثِ وَكِيعٍ) فاعل "ذَكَرَ" ضمير رَوح بن عبادة.

رواية روح بن عبادة، عن إسماعيل بن مسلم هذه ساقها أبو عوانة رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(8007)

- حدَثنا إبراهيم بن مرزوق، والصغانيّ، ثنا رَوْح بن عبادة

(1)

، ثنا إسماعيل بن مسلم العبديّ، ثنا أبو المتوكل الناجيّ، عن أبي سعيد الخدريّ، قال: نَهَى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نخلط بُسرًا بتمر، أو زبيبًا ببسر، وقال:"من شربه منكم فليشرب كل واحد منه فردًا، تمرًا فردًا، وبُسرًا فردًا، أو زبيبًا فردًا". انتهى

(2)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5146]

(1988) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، أَخْبَرَنَا هِشَامٌ الدَّسْتَوَائِيُّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ، عَنْ أَبِيه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا تَنْتَبِذُوا الزَّهْوَ وَالرُّطَبَ جَمِيعًا، وَلَا تَنْتَبِذُوا الزَّبِيبَ وَالتَّمْرَ جَمِيعًا، وَانْتَبِذُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى حِدَتِهِ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(هِشَام الدَّسْتَوَائِيُّ) ابن أبي عبد الله سنبر، تقدّم قبل أربعة أبواب.

2 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي قتَادَةَ) الأنصاريّ المدنيّ، ثقةٌ [3](ت 95)(ع) تقدم في "الطهارة" 18/ 619.

(1)

وقع في النسخة: "حدثنا إبراهيم بن مرزوق، والصغاني، وروح بن عبادة، ثنا إسماعيل. . . إلخ" بعطف روح على ما قبله، وهو غلط صريح؛ فإن روحًا ليس شيخًا لأبي عوانة، وإنما هو شيخ شيخيه في هذا السند، فالصواب: ثنا روح بن عبادة، ومما يبيّن هذا أنه وقع له في الصفحة التي قبل هذه ما نصّه:"حدّثنا الصغانيّ، قال: حدَّثنا روح ابن عبادة إلخ"، فهذا يُبيّن كون ما قلناه صوابًا، فليُتنبّه، وبالله تعالى التوفيق.

(2)

"مسند أبي عوانة" 5/ 112.

ص: 614

3 -

(أَبُوهُ) أبو قتادة الأنصاريّ الحارث، ويقال: عمرو، أو النعمان بن رِبْعيّ بن بُلْدُمة السَّلَميّ المدنيّ الصحابيّ الشهير، شهد أُحُدًا، وما بعدها، ولم يصحّ شهوده بدرًا، ومات سنة (54) على الأصحّ (ع) تقدم في "الطهارة" 18/ 619.

والباقون ذُكروا في الباب وقبله.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من سُداسيّات المصنّف، وأن فيه روايةَ تابعيّ عن تابعيّ، والابن عن أبيه.

شرح الحديث:

(عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ، عَنْ أَبِيهِ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا تَنْتَبِذُوا) من الانتباذ، وللنسائيّ:"لا تنبذوا" ثلاثيًّا، وهو من باب ضرب، قال المجد: النَّبْذُ: طرحك الشيء أمامك، أو وراءك، أو عامّ، والفعل كضرب، قال: والنَّبيذ: الْملْقَى، وما نُبذ من عصير، ونحوه، وقد نبذه، وأنبذه، وانتبذه، ونَبّذه. انتهى

(1)

. (الزَّهْوَ وَالرُّطَبَ جَمِيعًا)"الزَّهْو" - بفتح الزاي، وضمّها لغتان مشهورتان، قال الجوهريّ: أهل الحجاز يضمّون، وهو البسر الملوّن الذي بدا فيه حمرة، أو صفرة، وطاب. كذا قال النوويّ. وقال الفيّوميّ: زَها النخلُ يزهو زَهْوًا، والاسم الزُّهُوُّ بالضمّ: ظهرت الحمرة، والصفرة في ثمره. وقال أبو حاتم: وإنما يُسَمّى زَهْوًا: إذا خَلَصَ لونُ البسرة في الحمرة، أو الصفرة، ومنهم من يقول: زها النخلُ: إذا نبت ثمره، وأزهى: إذا احمرّ، أو اصفرّ. انتهى.

وخلاصة القول أنه يُستفاد مما سبق أن الزهو فيه ثلاث لغات: الزّهو بفتح، فسكون، كالدلو، والزُّهو بضم، فسكون، كالقفل، والزهُوّ بضم، فتشديد واو، كالغُلُوّ. فتنبّه. والله تعالى أعلم.

و"الرُّطَبُ" تقدّم ضبطه، ومعناه قريبًا.

(وَلَا تَنْتَبِذُوا الزَّبِيبَ وَالتَّمْرَ جَمِيعًا) تقدّم الكلام في "الزبيب"، و"التمر"

(1)

"القاموس المحيط" ص 1255 - 1256.

ص: 615

(وَانْتَبِذُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى حِدَتِهِ") بكسر الحاء المهملة، وفتح الدال المخفّفة؛ أي: وحده منفردًا عن خَلْط صِنْف آخَر به، والله تعالى أعلم.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي قتادة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [5/ 5146 و 5147 و 5148 و 5149 و 5150](1988)، و (البخاريّ) في "الأشربة"(5602)، و (أبو داود) في "الأشربة"(3704)، و (النسائيّ) في "الأشربة"(8/ 289 و 291 و 292)، و (ابن ماجه) في "الأشربة"(3397) و"الكبرى"(3/ 208 و 209 و 4/ 184 و 5/ 133)، و (الحميديّ) في "مسنده"(1/ 173)، و (أحمد) في "مسند"(5/ 295 و 307 و 309 و 310)، و (الدارميّ) في "سننه")، و (أبو عوانة) في "مسنده"(5/ 113 و 114)، و (البيهقيُّ) في "الكبرى"(8/ 307)، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5147]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ الْعَبْدِيُّ، عَنْ حَجَّاجِ بْنِ أَبِي عُثْمَانَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ مِثْلَهُ).

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم قريبًا.

2 -

(مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ الْعَبْدِيُّ) أبو عبد الله الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ [9](ت 203)(ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 107.

3 -

(حَجَّاجُ بْنُ أَبِي عُثْمَانَ) ميسرة، أبو الصلت الصوّاف البصريّ، تقدّم في الباب الماضي.

و"يحيى بن أبي كثير" ذُكر قبله.

[تنبيه]: رواية حجاج بن أبي عثمان، عن يحيى بن أبي كثير هذه ساقها أبو بكر بن أبي شيبة رحمه الله في "مسنده"، فقال:

ص: 616

(24016)

- حدّثنا أبو بكر

(1)

، قال: حدّثنا محمد بن بشر العبديّ، عن حجاج بن أبي عثمان، عن يحيى بن أبي كثير، عن عبد الله بن أبي قتادة، عن أبيه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لا تنتبذوا التمر والزبيب جميعًا، ولا تنتبذوا الزَّهْو والرُّطَب، وانتبذوا كل واحد منهما على حِدَةٍ". انتهى

(2)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5148]

(. . .) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَذَثنا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ، أَخْبَرَنَا عَلِيٌّ - وَهُوَ ابْنُ الْمُبَارَكِ - عَنْ يَحْيَى، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي قَتَادَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم: قَالَ: "لَا تَنْتَبِذُوا الزَّهْوَ وَالرُّطَبَ جَمِيعًا، وَلَا تَنْتَبِذُوا الرُّطَبَ وَالزَّبِيبَ جَمِيعًا، وَلَكِنِ انْتَبِذُوا كُلَّ وَاحِدٍ عَلَى حِدَتِهِ"، وَزَعَمَ يَحْيَى أَنَّهُ لَقِيَ عَبْدَ اللهِ بْنَ أَبِي قَتَادَةَ، فَحَدَّثَهُ عَنْ أَبِيه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِ هَذَا).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) تقدّم قبل باب.

2 -

(عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ) بن فارس العبديّ البصريّ، بخاريّ الأصل، ثقةٌ [9](ت 209)(ع) تقدم في "الإيمان" 79/ 417.

3 -

(عَلِيُّ بْنُ الْمُبَارَكِ) الْهُنَائيّ البصريّ، ثقةٌ كان له عن يحيى بن أبي كثير كتابان، أحدهما سماع، والآخر إرسال، فحديث الكوفيين عنه فيه شيء، من كبار [7](ع) تقدم في "الإيمان" 79/ 417.

4 -

(أَبُو سَلَمَةَ) بن عبد الرحمن بن عوف الزهريّ المدنيّ، قيل: اسمه عبد الله، وقيل: إسماعيل، ثقة ثبتٌ فقيه، من كبار [3](ت 94)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 423.

والباقيان ذُكرا قبله، و"يحيى" هو: ابن أبي كثير.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله.

(1)

هو: ابن أبي شيبة، وهو من قول تلميذه.

(2)

"مصنف ابن أبي شيبة" 5/ 92.

ص: 617

[تنبيه]: من غريب ما رأيت ما كتبه بعض محققي

(1)

"صحيح مسلم" معلّقًا على رواية يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة، قال: وكأن هذا وهمٌ ممن روى عن يحيى، أو اضطرب فيه يحيى بن أبي كثير، والصواب رواية الجمع الكثير عن يحيى بن أبي كثير، عن عبد الله بن أبي قتادة، وهي المختارة عن البخاريّ. انتهى كلامه.

وهذا منه بحث غريب ما سبق أحد من النقاد فيما علمت، أراد به الطعن على مسلم حيث أخرجه مع علّته، فيما ظنّه، والصواب عدم إخراجها، وتركها كما تركها البخاريّ للعلة المذكورة، والغريب قوله:"رواية الجمع الكثير عن يحيى. . . إلخ" من هم الجمع الكثير الذين رووه عن يحيى؟ فقد أخرجه مسلم من رواية هشام الدستوائيّ، وهي التي شاركه فيها البخاريُّ، ومن رواية حجاج الصوّاف، وهما اللذان اقتصرا على رواية يحيى عن عبد الله بن أبي قتادة، ثم أخرجه من رواية علي بن المبارك، وحسين المعلّم، وأبان بن يزيد العطّار كلهم عن يحيى بن أبي كثير بالطريقين: طريق أبي سلمة، عن أبي قتادة، وطريق عبد الله بن أبي قتادة، عن أبيه، وزاد أبو عوانة في "مسنده" رواية معمر، عن يحيى بالطريقين أيضًا، فاتّفق الأربعة على أن يحيى روى الحديث بالطريقين، هكذا رواه مسلم وغيره مفصّلًا محقّقًا، ثم طعن هذا الزاعم على مسلم، وغيره بمخالفة الجمع الكثير، فأين هؤلاء المخالفون للأربعة؟، وقد سبق لهذا الزاعم غير مرّة مثل هذه الجرأة في الطعن علي مسلم نبّهت على بعضها في محلّها، فليُنتبه لها، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

وقوله: (وَزَعَمَ يَحْيَى. . . إلخ) هو ابن أبي كثير، و"زعم" هنا للقول المحقّق؛ يعني: أن يحيى بن أبي كثير قال: لقيتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ أَبِي قَتَادَةَ بعد ما حدّثني أبو سلمة، فَحَدَّثني عبد الله عَنْ أَبِيهِ أبي قتادة عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِ ما حدّثني عنه أبو سلمة بن عبد الرحمن.

ولفظ أبي عوانة: "قال: فسألت عن ذلك عبد الله بن أبي قتادة، فأخبرني

(1)

هو: فضيلة الشيخ مسلم بن محمود عثمان الأثريّ، على ما كُتب في غلاف النسخة.

ص: 618

أنه سمع ذاك من أبيه". انتهى

(1)

.

وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5149]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِيهِ أَبُو بَكْرِ بْنُ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ، حَدَّثنَا حُسَيْن الْمُعَلِّمُ، حَدَّثنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ، بِهَذَيْنِ الإِسنَادَيْن، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: "الرُّطَبَ وَالزَّهْوَ، وَالتَّمْرَ وَالزَّبِيبَ").

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(حُسَيْن الْمُعَلِّمُ) ابن ذكوان الْعَوْذيّ البصريّ، ثقةٌ، ربّما وَهِمَ [6](ت 245)(ع) تقدم في "الإيمان" 19/ 179.

والباقون ذُكروا في الباب.

[تنبيه]: رواية حسين المعلّم، عن يحيى بن أبي كثير هذه ساقها البيهقيّ رحمه الله في "الكبرى"، فقال:

(17234)

- وأخبرنا أبو عليّ الحسين بن محمد الروذباريّ، أنبأ إسماعيل بن محمد الصفار، ثنا عباس بن محمد، ثنا رَوْح بن عُبادة، ثنا حسين المعلِّم، ثنا يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي قتادة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لا تنتبذوا الرُّطَب والزهو جميعًا، والتمر والزبيب جميعًا، وانبذوا كل واحدة منهما على حَدَتِهِ".

قال يحيى: فسألت عن ذلك عبد الله بن أبي قتادة، فأخبرني بذلك عن أبيه. انتهى

(2)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5150]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنَا عَفَّانُ بْنُ مُسْلِمٍ، حَدَّثنَا أَبَانٌ الْعَطَّارُ، حَدَّثنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي قَتَادَةَ، عَنْ أَبِيه، أَنَّ نَبِيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ خَلِيطِ التَّمْرِ وَالْبُسْر، وَعَنْ خَلِيطِ الزبِيبِ وَالتَّمْر، وَعَنْ خَلِيطِ الزَّهْوِ وَالرُّطَب، وَقَالَ:"انْتَبِذُوا كُلَّ وَاحِدٍ عَلَى حِدَتِهِ".

(1)

"مسند أبي عوانة" 5/ 113.

(2)

"سنن البيهقيّ الكبرى" 8/ 307.

ص: 619

وَحَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرّحْمَن، عَنْ أَبِي قَتَادَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِ هَذَا الْحَدِيثِ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(عَفَّانُ بْنُ مُسْلِمِ) بن عبد الله الصفّار، أبو عثمان الباهليّ البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار [10](ت 220)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 44.

2 -

(أبَانٌ الْعَطَارُ) ابن يزيد، أبو يزيد البصريّ، ثقةٌ له أفراد [7] مات في حدود (160)(خ م دت س) تقدم في "الطهارة" 1/ 540.

والباقون كلّهم ذُكروا قبله.

وقوله: (وَحَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ. . . إلخ) معطوف على قوله: "حدّثني عبد الله بن أبي قتادة. . . إلخ"، فهو من مقول يحيى بن أبي كثير، فتنبّه.

وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5151]

(1989) - (حَدَّثنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَأَبُو كُرَيْبٍ - وَاللَّفْظُ لِزُهَيْرٍ - قَالَا: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ عِكْرِمَةَ بْنِ عَمَّارٍ، عَنْ أَبِي كَثِيرٍ الْحَنَفِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الزَّبِيبِ وَالتَّمْر، وَالْبُسْرِ وَالتَّمْر، وَقَالَ: "يُنْبَذ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى حِدَتِهِ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

وكلّهم تقدّموا في الباب الماضي، و"أبو كثير" هو: يزيد بن عبد الرحمن بن أُذينة الغبريّ السُّحَيْميّ اليماميّ الآتي في السند التالي، وقد تقدّم أيضًا.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وفيه أبو كريب محمد بن العلاء أحد التسعة الذين روى عنهم الجماعة بلا واسطة، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه رأس المكثرين السبعة.

وشرح الحديث واضح يُعلم مما سبق.

ص: 620

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [5/ 5151 و 5152](1989)، و (النسائيّ) في "الأشربة"(8/ 293) و"الكبرى"(5080)، و (ابن ماجه) في "الأشربة"(3396)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 526)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5381)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(5/ 114)، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5152]

(. . .) - وَحَدَّثَنِيهِ زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثنَا هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِم، حَدَّثنَا عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ، حَدَّثنَا يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ أُذَيْنَةَ - وَهُوَ أَبُو كَثِيرٍ الغُبَرِيُّ - حَدَّثَنِي أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِهِ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ) بن مسلم الليثيّ مولاهم، أبو النضر البغداديّ، لقبه قيصر، ثقةٌ ثبتٌ [9](ت 207)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 36.

والباقون ذُكروا قبله.

وقوله: (الْغُبَرِيُّ) بضمّ الغين المعجمة، وفتح الموحّدة: نسبة إلى غُبَر بن غَنْم بن كعب بن يشكر بن بكر بن وائل، بطن من يشكر، قاله في "اللباب"

(1)

.

[تنبيه]: رواية هاشم بن القاسم، عن عكرمة بن عمّار هذه لم أجد من ساقها بتمامها، فليُنظر، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5153]

(1990) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، عَنِ الشَّيْبَانِيّ، عَنْ حَبِيبٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُخْلَطَ التَّمْرُ وَالزَّبِيبُ جَمِيعًا، وَأَنْ يُخْلَطَ الْبُسْرُ وَالتَّمْرُ جَمِيعًا، وَكَتَبَ إِلَى أَهْلِ جُرَشَ يَنْهَاهُمْ عَنْ خَلِيطِ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ).

(1)

"اللباب في تهذيب الأنساب" 2/ 374.

ص: 621

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ) الكوفيّ القاضي، تقدّم قريبًا.

2 -

(الشَّيْبَانِيُّ) هو: سليمان بن أبي سليمان فيروز الكوفيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

3 -

(حَبِيبُ) بن أبي ثابت قيس، ويقال: هند بن دينار الأسديّ مولاهم، أبو يحيى الكوفيّ، ثقةٌ فقيهٌ فاضلٌ، لكنه كثير الإرسال والتدليس [3](ت 119)(ع) تقدّم في "المقدّمة" 1/ 1.

4 -

(سَعِيدُ بْنُ جُبَبْرٍ) الأسديّ الوالبيّ الكوفي، تقدّم قريبًا.

5 -

(ابْنُ عَبَّاسٍ) عبد الله الحبر البحر رضي الله عنهما، تقدّم أيضًا قريبًا.

و"شيخه" ذُكر في الباب، وشرح الحديث واضح يُعلم مما سبق.

وقوله: (وَكَتَبَ إِلَى أَهْلِ جُرَشَ يَنْهَاهُمْ عَنْ خَلِيطِ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ) فاعل "كَتَب" ضمير النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقد بيّن ذلك أبو عوانة في "مسنده" من طريق أسباط بن محمد، عن الشيبانيّ، ولفظه:"كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل جُرش ينهاهم أن يخلطوا التمر والزبيب". انتهى

(1)

.

وقوله: (إِلَى أَهْلِ جُرَشَ) بضمّ الجيم، وفتح الراء: بلدٌ باليمن، قاله النوويّ، وقال ياقوت الحمويّ: من مخاليف اليمن، من جهة مكة، وقيل: إن جُرَش مدينة عظيمة باليمن، وولاية واسعة

(2)

.

وقال في "اللباب": الْجُرشيّ: نسبة إلى بني جُرَش، بطن من حِمْير، ثم ساق نسبه، ثم قال: وقيل: إن جُرَش موضع باليمن، ويَحْتَمِل أن تكون هذه القبيلة نزلته، فسُمّي بها، مثلُ حَضْرَمَوْت. انتهى

(3)

.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

(1)

"مسند أبي عوانة" 5/ 114.

(2)

راجع: "معجم البلدان" 1/ 487.

(3)

"اللباب في تهذيب الأنساب" 1/ 272.

ص: 622

أخرجه (المصنّف) هنا [5/ 5153 و 5154](1990)، و (النسائيّ) في "الأشربة"(8/ 290) و"الكبرى"(3/ 436 و 437)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(5/ 93 و 7/ 292)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 224 و 336)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(1/ 219)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(5/ 115)، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5154]

(. . .) - وَحَدَّثَنِيهِ وَهْبُ بْنُ بَقِيَّةَ، أَخْبَرَنَا خَالِدٌ - يَعْني: الطَّحَّانَ - عَنِ الشَّيْبَانِيّ، بِهَذَا الْإِسْنَاد، فِي التَّمْرِ وَالزَّبِيب، وَلَمْ يَذْكُرِ الْبُسْرَ وَالتَّمْرَ).

رجال هذا الإسناد: ثلاثة:

1 -

(وَهْبُ بْنُ بَقِيَّةَ) بن عثمان الواسطيّ، أبو محمد، ويقال له: وهبان، ثقةٌ [10](ت 239) وله (5 أو 96) سنة (م د س) تقدم في "الإمارة" 15/ 479.

2 -

(خَالِدٌ الطَّحَّانَ) ابن عبد الله بن عبد الرحمن المزنيّ مولاهم، أبو الهيثم الواسطيّ، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 182)(ع) تقدم في "الإيمان" 78/ 407.

و"الشيبانيّ"، وهو: سليمان بن أبي سليمان، ذُكر قبله.

وقوله: (وَلَمْ يَذْكُرِ الْبُسْرَ وَالتَّمْرَ) فاعل "يَذْكُر" ضمير خالد الطحّان.

[تنبيه]: رواية خالد الطحّان، عن الشيبانيّ هذه ساقها أبو عوانة رحمه الله في "مسنده"، مقرونًا بحصين، فقال:

(8024)

- حدّثنا عباس بن محمد الدُّوريّ، وسأله ابن أورمة، قال: ثنا أبو سعيد الحداد، قال: ثنا خالد بن عبد الله، عن حُصين، عن حبيب بن أبي ثابت، وعن الشيبانيّ، عن حبيب بن أبي ثابت، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل جُرَش أن لا يَخلطوا التمر بالزبيب، وفي حديث حصين عن حبيب:"وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل البحرين: لا يخلطوا التمر بالزَّهْو - يعني: الفضيخ -". انتهى.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5155]

(1991) - (حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاق، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، عَنْ نَافِع، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: قَدْ نُهِيَ أَنْ يُنْبَذَ الْبُسْرُ وَالرُّطَبُ جَمِيعًا، وَالتَّمْرُ وَالزَّبِيبُ جَمِيعًا).

ص: 623

رجال هذا الإسناد: ستة:

وكلهم تقدّموا قريبًا.

وقوله: (قَدْ نُهِيَ. . . إلخ) بالبناء للمجهول، وله حُكم الرفع على الراجح من أقوال العلماء، قال السيوطيّ رحمه الله في "ألفيّة الحديث":

وَلْيُعْطَ حُكْمَ الرَّفْعِ فِي الصَّوَابِ

نَحْوُ "مِنَ السُّنَّةِ" مِنْ صَحَابِي

كَذَا "أُمِرْنَا" وَكَذَا "كُنَّا نَرَى"

فِي عَهْدِهِ أَو عَنْ إِضَافَةٍ عَرَى

والحديث من أفراد (المصنّف)، لم يُخرجه من أصحاب الكتب الستّة غيره، وأخرجه (عبد الرزاق) في "مصنفه"(16977)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(5/ 115)، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5156]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنَا رَوْحٌ، حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ قَالَ: قَدْ نُهِيَ أَنْ يُنْبَذَ الْبُسْرُ وَالرُّطَبُ جَمِيعًا، وَالتَّمْرُ وَالزَّبِيبُ جَمِيعًا).

رجال هذا الإسناد: ستة:

وكلّهم تقدّموا قريبًا أيضًا، و"رَوحٌ" هو ابن عبادة القيسيّ، والله تعالى أعلم.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(6) - (بَابُ النَّهْيِ عَن الانْتِبَاذِ: فِي الْمُزَفَّت، وَالدُّبَّاء، وَالْحَنْتَم، وَالنَّقِير، وَبَيَانِ أنَّهُ مَنْسُوخٌ، وَأنَّهُ الْيَوْمَ حَلَالٌ، مَا لَمْ يَصِرْ مُسْكِرًا)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5157]

(1992) - (حَدَّثنَا قُتيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثنَا لَيْثٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ؛ عَنْ أنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنِ الدُّبَّاء، وَالْمُزَفَّتِ، أَنْ يُنْبَذَ فِيهِ).

ص: 624

رجال هذا الإسناد: أربعة:

وكلّهم تقدّموا في الباب الماضي، غير ابن شهاب، فتقدّم قبل أربعة أبواب.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من رباعيّات المصنف، كلاحقه، وهو (374) من رباعيّات الكتاب.

شرح الحديث:

(عَنْ أنسِ بْنِ مَالِكٍ) رضي الله عنه (أَنَّهُ)؛ أي: أنسًا (أَخْبَرَهُ)؛ أي: أخبر ابنَ شهاب (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنِ الدُّبَّاءِ)؛ أي: عن الانتباذ في الدّبّاء، بضمّ الدال المهملة، وتشديد الموحّدة، والمدّ، وجوّز فيه بعضهم القصر، وهو القرع اليابس؛ أي: الوعاء منه. (وَالْمُزَفَّتِ) هو المقيّر، كما فسّره به ابن عمر في كلامه الآتي، وهو المطليّ بالقار، وهو الزِّفْت، وقوله:(أَنْ يُنْبَذَ فِيهِ) بالبناء للمفعول، وهو في تأويل المصدر بدل من "الدباء" و"المزفّت"، وأفرد الضمير باعتبار المذكور.

قال الجامع عفا الله عنه: قد تقدّم في أوائل "كتاب الإيمان"[6/ 124](17) شرح أحاديث هذا الباب، وبيان معاني هذه الألفاظ عند ذكر حديث وفد عبد القيس، فلا حاجة إلى الإطالة بإعادة ذلك، وإنما نذكر حَلّ بعض ما يُستشكَل، وما لم يتقدّم ذِكره هناك.

وخلاصة القول - كما قال النوويّ: - أن الانتباذ في هذه الأوعية مَنهيًّا عنه في أول الإسلام؛ خوفًا من أن يصير مُسكرًا فيها، ولا يُعلَم به؛ لكثافتها، فتتلف ماليّته، وربما شربه الإنسان ظانًّا أنه لم يصر مسكرًا، فيصير شاربًا للمسكر، وكان العهد قريبًا بإباحة المسكر، فلما طال الزمان، واشتهر تحريم المسكر، وتقرر ذلك في نفوسهم نُسِخ ذلك، وأبيح لهم الانتباذ في كل وعاء، بشرط أن لا يشربوا مسكرًا، وهذا صريحُ قوله صلى الله عليه وسلم في حديث بُريدة المذكور في آخر هذه الأحاديث:"كنت نهيتكم عن الانتباذ إلا في سقاء، فاشربوا في كل وِعاء، غير أن لا تشربوا مسكرًا"، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

ص: 625

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أنس بن مالك رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [6/ 5157 و 5158](1992)، و (البخاريّ) في "الأشربة"(5587)، و (النسائيّ) في "الأشربة"(8/ 305) و"الكبرى"(5139 و 5152)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 110 و 165)، و (الدارميّ) في "سننه"(2018)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(5/ 130)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(4/ 226)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(1/ 120)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(8/ 308)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في اختلاف أهل العلم في حكم الانتباذ في الأوعية المذكورة وغيرها:

ذهب الجمهور إلى أن أحاديث النهي عن الانتباذ في الأوعية منسوخة بحديث بريدة بن الحصيب رضي الله عنه المذكورة في آخر الباب، وذهب بعضهم إلى أن النهي باق، قال الخطّابيّ رحمه الله: القول بالنسخ هو أصحّ الأقاويل، قال: وقال قوم: التحريم باق، وكرهوا الانتباذ في هذه الأوعية، ذهب إليه مالكٌ، وأحمد، وإسحاق، وهو مرويّ عن ابن عمر، وابن عبّاس رضي الله عنهم، أفاده النوويّ رحمه الله

(1)

.

وقال الإمام البخاريُّ رحمه الله في "صحيحه": "باب ترخيص النبيّ صلى الله عليه وسلم في الأوعية والظروف بعد النهي"، ثم ذكر فيه خمسة أحاديث.

[ثانيها]: حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، وفيه استثناء المزفت.

قال في "الفتح": وظاهر صنيعه أنه يرى أن عموم الرخصة مخصوص، بما ذُكر في الأحاديث الأخرى، وهي مسألة خلاف، فذهب مالك إلى ما دلّ عليه صنيع البخاريّ، وقال الشافعيّ، والثوريّ، وابن حبيب من المالكية: يُكره ذلك، ولا يَحْرُم، وقال سائر الكوفيين: يباح، وعن أحمد روايتان.

وقد أسند الطبريّ عن عمر ما يؤيد قول مالك، وهو قوله: "لأن أشرب

(1)

"شرح النوويّ" 1/ 186.

ص: 626

من قُمقُم مُحْمًى فيُحرِق ما أحرق، ويُبقي ما أبقى أحب إلي من أن أشرب نبيذ الجر"، وعن ابن عباس: "لا يُشرَب نبيذ الجرّ، ولو كان أحلى من العسل"، وأسند النهي عن جماعة من الصحابة.

وقال ابن بطال: النهي عن الأوعية إنما كان قطعًا للذريعة، فلمّا قالوا: لا نجد بُدًّا من الانتباذ في الأوعية، قال:"انتبذوا، وكلُّ مسكر حرام"، وهكذا الحكم في كل شيء نُهي عنه بمعنى النظر إلى غيره، فإنه يسقط للضرورة، كالنهي عن الجلوس في الطرقات، فلما قالوا: لا بد لنا منها، قال:"فأعطوا الطريق حقها".

وقال الخطابي: ذهب الجمهور إلا أن النهي إنما كان أوّلًا، ثم نُسخ، وذهب جماعة إلى أن النهي عن الانتباذ في هذه الأوعية باق، منهم ابن عمر، وابن عباس، وبه قال مالك، وأحمد، وإسحاق، كذا أطلق، قال: والأول أصح، والمعنى في النهي أن العهد بإباحة الخمر كان قريبًا، فلما اشتهر التحريم أبيح لهم الانتباذ، في كل وعاء، بشرط ترك شرب المسكر، وكأن من ذهب إلى استمرار النهي، لم يبلغه الناسخ.

وقال الحازميّ: لمن نصَر قول مالك أن يقول: وَرَدَ النهي عن الظروف كلها، ثم نُسخ منها ظروف الأَدَم، والجرار غير المزفتة، واستمر ما عداها على المنع.

ثم تعقب ذلك بما ورد من التصريح في حديث بريدة عند مسلم، ولفظه:"نهيتكم عن الأشربة إلا في ظروف الأدم، فاشربوا في كل وعاء، غير أن لا تشربوا مسكرًا"، قال: وطريق الجمع أن يقال: لمّا وقع النهي عامًّا، شَكَوا إليه الحاجة، فرخص لهم في ظروف الأدم، ثم شكوا إليه أن كلهم لا يجد ذلك، فرخَّص لهم في الظروف كلها. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن بما تقدّم من الحجج أن أرجح الأقوال هو القول بأن الانتباذ جائز في أيّ وعاء كان، وأنه يُعتذر للمانعين بأنه لم يبلغهم النَّسخ الواضح في حديث بُريدة رضي الله عنه المذكور في الباب، فإنه نصّ

(1)

"الفتح" 123/ 633 - 634، كتاب "الأشربة" رقم (5592).

ص: 627

لا يحتمل التأويل، فقد قال صلى الله عليه وسلم:"نهيتكم عن النبيذ إلا في سقاء، فاشربوا في الأسقية كلها، ولا تشربوا مسكرًا"، وفي لفظ:"نهيتكم عن الظروف وإن الظروف - أو ظرفًا - لا يُحِلّ شيئًا ولا يُحَرِّمه، وكلُّ مسكر حرام"، وفي لفظ:"كنت نهيتكم عن الأشربة في ظروف الأَدَم، فاشربوا في كل وعاء، غير أن لا تشربوا مسكرًا".

فدلالة النصّ على أن النسخ عاتم في جميع الأوعية، لا يُخص منه شيءٌ، مما لا يتردد فيها ذو فهم.

والحاصل أن النهي الوارد في الانتباذ في الأوعية منسوخ، فيجوز الانتباذ في أيّ وعاء كان، مع تجنّب المسكر، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5158]

(1993) - (وَحَدَّثَني عَمْرٌو النَّاقِدُ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنِ الدُّبَّاء، وَالْمُزَفَّت، أَنْ يُنْتَبذَ فِيه، قَال: وَأَخْبَرَهُ أَبُو سَلَمَةَ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا تَنْتَبِذُوا فِي الدُّبَّاء، وَلَا في الْمُزَفَّتِ"، ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ: وَاجْتَنِبُوا الْحَنَاتِمَ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عَمْرٌو النَّاقِدُ) هو: عمرو بن محمد بن بُكير، تقدّم قريبًا.

2 -

(سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ) تقدّم أيضًا قريبًا.

والباقون ذُكروا قبله.

وقوله: (قَال: وَأَخْبَرَهُ أَبُو سَلَمَةَ. . . إلخ) فاعل "قال" ضمير الزهريّ، وقوله:"وأخبره" فيه التفات، والظاهر أن يقول: وأخبرني. . . إلخ، وجعل بعض الشرّاح فاعل "قال" ضمير ابن عيينة، والأول أَولى، فقد ساقه أبو عوانة في "مسنده"

(1)

، فقال: قال الحميديّ، قال: وثنا سفيان قال: ثنا الزهريّ، قال: أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن. . . إلخ، والله تعالى أعلم.

وقوله: (ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ: وَاجْتَنِبُوا الْحَنَاتِمَ)؛ أي: أخذًا من النبيّ صلى الله عليه وسلم،

(1)

راجع: "مسند أبي عوانة" 5/ 130.

ص: 628

لا من عنده، بدليل الروايتين التاليتين، قال:"عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن المزفّت، والحنتم، والنقير"، وإنما غيّر الأسلوب، فقال:"ثم يقول أبو هريرة. . . إلخ" إشارة إلى أنه وافق أنسًا رضي الله عنهما في قوله: "نهى عن الدباء والمزفّت"، ثم زاد أبو هريرة مما سمعه عنه صلى الله عليه وسلم الحنتم، فقال: و"اجتنبوا الحناتم".

و"الحناتم": جمع حنتم، - بحاء مهملة مفتوحة، ثم نون ساكنة، ثم تاء مثناة من فوقُ مفتوحة، ثم ميم - والواحدة حنتمة، قال النوويّ رحمه الله: اختُلف في تفسيرها:

[فأصح الأقوال، وأقواها]: أنها جرار خُضْر، وهذا التفسير ثابت عن أبي هريرة رضي الله عنه في الرواية التالية، وهو قول عبد الله بن مغفل الصحابيّ رضي الله عنه، وبه قال الأكثرون، أو كثيرون من أهل اللغة، وغريب الحديث، والمحدثين، والفقهاء.

[الثاني]: أنها الجرار كلها، قاله عبد الله بن عمر، وسعيد بن جبير، وأبو سلمة.

[والثالث]: أنها جرار يؤتى بها من مصر، مُقَيَّرات الأجواف، ورُوي ذلك عن أنس بن مالك رضي الله عنه، ونحوه عن ابن أبي ليلى، وزاد أنها حُمْر.

[والرابع]: عن عائشة رضي الله عنها: جرار حُمْر أعناقها في جُنُوبها، يُجلب فيها الخمر من مصر.

[والخامس]: عن ابن أبي ليلى أيضًا: أفواهها في جنوبها يُجلب فيها الخمر من الطائف، وكان ناس ينتبذون فيها يضاهون به الخمر.

[والسادس]: عن عطاء: جِرَار كانت تُعمل من طين وشعر ودَم.

وأما معنى النهي عن هذه الأربع، فهو أنه نهي عن الانتباذ فيها، وهو أن يُجعل في الماء حبات، من تمر، أو زبيب، أو نحوهما؛ ليحلو ويُشرَب، وإنما خُصّت هذه بالنهي؛ لأنه يُسرع الإسكار فيها، فيصير حرامًا، وتبطل ماليّته، فنُهي عنه؛ لِمَا فيه من إتلاف المال، ولأنه ربما شربه بعد إسكاره مَن لم يَطّلع عليه، ولم يَنهَ عن الانتباذ في أسقية الأدم، بل أَذِنَ فيها؛ لأنها لرِقّتها لا يخفى فيها المسكر، بل إذا صار مسكرًا شقّها غالبًا.

ص: 629

ثم إن هذا النهي كان في أول الأمر، ثم نُسخ بحديث بُريدة رضي الله عنه الآتي في هذا الباب، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"كنت نهيتكم عن الانتباذ، إلا في الأسقية، فانتبذوا في كل وعاء، ولا تشربوا مسكرا". انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5159]

(. . .) - (حَدَّثَني مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، حَدَّثنَا بَهْزٌ، حَدَّثنا وُهَيْبٌ، عَنْ سُهَيْلٍ، عَنْ أَبِيه، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّهُ نَهَى عَنِ الْمُزَفَّت، وَالْحَنْتَم، وَالنَّقِير، قَالَ: قِيلَ لأَبِي هُرَيْرَةَ: مَا الْحَنْتَمُ؟ قَالَ: الْجِرَارُ الْخُضْرُ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِم) بن ميمون، تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(بَهْزُ) بن أسد العَمّيّ البصريّ، تقدّم قريبًا.

3 -

(وُهَيْبُ) بن خالد بن عجلان الباهليّ مولاهم، أبو بكر البصرفي، ثقةٌ ثبتٌ، تغيّر قليلًا بآخره [7](ت 165) أو بعدها (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 413.

4 -

(سُهَيْلُ) بن أبي صالح أبو يزيد المدنيّ، صدوقٌ تغيّر بآخره [6](ت 138)(ع) تقدم في "الإيمان" 14/ 161.

5 -

(أَبُوهُ) أبو صالح ذكوان السمان المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ [3](ت 101)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 4.

6 -

(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه تقدم في "المقدمة" 2/ 4، وشرح الحديث واضح يُعلم مما مضى.

وقوله: (الْجِرَارُ الْخُضْرُ) الوصف بالخضرة لا مفهوم له، وكأن الجرار الخضر حينئذ كانت شائعة بينهم، فكان ذِكر الأخضر لبيان الواقع، لا للاحتراز، أفاده في "الفتح"

(2)

.

وقال في "العمدة": "الحنتم" - بفتح الحاء المهملة، وسكون النون، وفتح التاء المثناة من فوقُ - وهي جرار خُضْرٌ مدهونةٌ، كانت تُحْمل الخمر فيها إلى

(1)

"شرح النوويّ" 1/ 185، كتاب "الإيمان".

(2)

"الفتح" 10/ 61.

ص: 630

المدينة، ثم اتُّسِع فيها، فقيل للخزف كله: حنتم، واحدتها حنتمة، وإنما نَهَى النبيّ صلى الله عليه وسلم عن الانتباذ فيها؛ لأنها تُسرع الشدةُ فيها لأجل دَهْنِها، وقيل: لأنها كانت تُعْمل من طين يُعْجَن بالدّم، فنُهِي عنها؛ لِيُمْتَنَع عن عملها، قال ابن الأثير: والأول أوجه. انتهى

(1)

.

وقال في موضع آخر: قال ابن عمر: الحنتم: هي الجرار كلها، وقال أنس بن مالك: جرار يؤتى بها من مصر مُقَيَّرات الأجواف، وقالت عائشة: جرار حُمْر أعناقها في جُنُوبها يُجلَب فيها الخمر من مصر، وقال ابن أبي ليلى: أفواهها في جُنوبها يُجلب فيها الخمر من الطائف، وكانوا يَنبذون فيها، وقال عطاء: هي جرار تُعمل من طين، ودَمٍ، وشَعْرٍ، وفي "الْمُحْكَمِ": الحنتم: جرار خُضْرٌ تَضْرِب إلى الحمرة، وفي "مجمع الغرائب": حُمْرٌ، وقال الخطابيّ هي جرة مَطْليّة بما يَسُدّ مَسَامّ الخزف، ولها التأثير في الانتباذ؛ لأنها كالمزَفَّت، وقال ابن حبيب

(2)

: الحنتم الْجَرّ، وكل ما كان من فَخّار أبيض، وأخضر، وقال المازريّ: قال بعض أهل العلم: ليس كذلك، إنما الحنتم ما طُلِي من الفَخّار بالحنتم المعمول بالزجاج وغيره. انتهى

(3)

.

وقال الكرمانيّ: مفهوم الأخضر يقتضي مخالفة حكم الأبيض له، وأجاب بأن شرط اعتبار المفهوم أن لا يكون الكلام خارجًا مخرج الغالب، وكانت عادتهم الانتباذ في الجرار الْخُضْر، فذكر الأخضر لبيان الواقع، لا للاحتراز، وقال الخطابيّ: لم يتعَلَّق الحكم في ذلك بخضرة الجرّ وبياضه، وإنما يتعلّق بالإسكار، وذلك أن الجرار أوعية متينة قد يتغير فيها الشراب، ولا يَشْعُر به، فنُهوا عن الانتباذ فيها، وأُمروا أن ينتبذوا في الأسقية لرقّتها، فإذا تغيّر الشراب فيها يُعْلَم حالها، فيُجتنب عنه، وأما ذِكر الخضرة فمن أجل أن الجرار التي كانوا ينتبذون فيها كانت خُضْرًا، والأبيض بمثابته فيه، والآنية لا تُحَرِّم شيئًا ولا تحلله.

(1)

"عمدة القاري" 21/ 180.

(2)

وقع في النسخة: "وقال أبي حبيب"، والظاهر أنه مصحّف من ابن حبيب، فليُحرّر، والله أعلم.

(3)

"عمدة القاري" 1/ 305.

ص: 631

وقال ابن عبد البر: هذا عندي كلام خرج على جواب سؤال كأنه قيل: الجر الأخضر، فقال: لا تنتبذوا فيه فسمعه الراوي، فقال: نَهَى عن الجر الأخضر.

وأخرجه الشافعي رحمه الله عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن ابن أبي أوفى:"نَهَى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نبيذ الجرّ الأخضر، والأبيض، والأحمر".

قال العينيّ رحمه الله: حاصل الكلام أن النهي يتعلق بالإسكار، لا بالخضرة، ولا بغيرها، وقد أخرج ابن أبي شيبة، عن ابن أبي أوفى أنه كان يَشرب نبيذ الجر الأخضر، وأخرج أيضًا بسند صحيح عن ابن مسعود، أنه كان ينتبذ له في الجر الأخضر، ومن طريق مَعْقِل بن يسار، وجماعة من الصحابة نحوه. انتهى

(1)

.

وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5160]

(. . .) - (حَدَّثنَا نَصْرُ بْنُ عَلِي الْجَهْضَمِيُّ، أَخْبَرَنَا نُوحُ بْنُ قَيْسٍ، حَدَّثنَا ابْنُ عَوْنٍ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِوَفْدِ عبد القَيْسِ: "أَنْهَاكُمْ عَنِ الدُّبَّاء، وَالْحَنْتَم، وَالنَّقِير، وَالْمُقَيَّرِ - وَالْحَنْتَمُ: الْمَزَادَةُ الْمَجْبُوبَةُ - وَلَكِنِ اشْرَبْ فِي سِقَائِكَ، وَأَوْكِهِ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(نُوحُ بْنُ قَيْسِ) بن رَبَاح الأزديّ الْحُدّانيّ، ويقال: الطاحيّ، أبو رَوْح البصريّ، صدوقٌ رُمي بالتشيع [8].

رَوَى عن أخيه خالد بن قيس، وثُمامة بن عبد الله بن أنس، وأيوب، وابن عون، وأبي هارون العبدي، وعمرو بن مالك النُّكريّ، وغيرهم.

وروى عنه يزيد بن هارون، وعفان، ومسلم بن إبراهيم، وموسى بن إسماعيل، ومسدّد، وحميد بن مسعدة، وقتيبة، ونصر بن علي الجهضميّ، وغيرهم.

قال أحمد، وابن معين، في رواية عثمان الدارميّ عنه: ثقةٌ، وقال أبو

(1)

"عمدة القاري" 21/ 180 بزيادة من "الفتح" 10/ 61.

ص: 632

داود: ثقهٌ، بلغني عن يحيى أنه ضعّفه، وقال مرةً: يتشيع، وقال النسائيّ: ليس به بأس، وقال ابن شاهين في "الثقات": قال ابن معين: هو شيخٌ صالح الحديث، وقال العجليّ: بصريّ ثقةٌ، وقال ابن سعد: نوح بن قيس الْحُدّانيّ كان ينزل سُويقة طاحية، فنُسب إليها.

قال نصر بن عليّ، وابن حبان: مات سنة ثلاث أو أربع وثمانين ومائة.

أخرج له المصنّف، والأربعة، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا (1993)، وحديث (2092):"فصاغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتمًا حَلْقته فضّة. . ." الحديث.

2 -

(ابْنُ عَوْنٍ) عبد الله بن أرطبان، أبو عون البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ فاضلٌ [5](ت 150) على الصحيح (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 303.

3 -

(مُحَمَّدُ) بن سيرين الأنصاريّ الإمام الشهير، تقدّم قريبًا.

والباقيان ذُكرا في الباب والباب الماضي.

وقوله: (لِوَفْدِ عبد القَيْسِ)"الوفد" بفتح، فسكون: القوم يجتمعون، وَيَرِدون البلاد، واحدهم وافد، وكذلك الذين يقصدون الأمراء لزيارة، واسترفاد، وانتجاع، وغير ذلك، قاله ابن الأثير

(1)

.

وفي "الصحاح": وَفَدَ فلانٌ على الأمير رسولًا، والجمع وَفْدٌ، وجمع الوافد أوفاد، والاسم الوِفادة، وأوفدته أنا إلى الأمير؛ أي: أرسلته، وفي "المغيث": الوفد قوم يجتمعون، فيَرِدُون البلاد، وكذا ذكره الفارسيّ في "مجمع الغرائب"، وقال صاحب "التحرير": والوفد: الجماعة المختارة من القوم، ليتقدّموهم إلى لُقِيّ العظماء، والمصير إليهم في المهمات، وقال القاضي: هم القوم يأتون المَلِك رِكابًا، ذكره في "العمدة"

(2)

.

و"عبد القيس": أبو قبيلة، وهو ابن أفصى - بفتح الهمزة، وسكون الفاء، وبالصاد المهملة المفتوحة - ابن دُعْميّ - بضم الدال المهملة، وسكون العين المهملة، وبياء النسبة - ابن جديلة - بفتح الجيم - ابن أسد بن ربيعة بن نِزار،

(1)

"النهاية في غريب الحديث" ص 982.

(2)

"عمدة القاري" 1/ 304.

ص: 633

كانوا ينزلون البحرين، وحوالي القطيف، والأحساء، وما بين هجر إلى الديار المصرية، ذكره في "العمدة"

(1)

وقوله: (أَنْهَاكُمْ عَنِ الدُّبَّاءِ) بضمِّ الدال، وتشديد الباء، وبالمدّ، وقد يُقصر، وقد تُكسر الدال، وهو: اليقطين اليابس؛ أي: الوعاء منه، وهو القَرْع، وهو جمعٌ، والواحدة دُبّاءة، ومن قصر قال: دُبّاة، قال عياض: ولم يحك أبو عليّ، والجوهريّ غير المد. انتهى

(2)

.

وقوله: (وَالنَّقِيرِ) - بفتح النون، وكسر القاف -، وسيأتي تفسيره في الباب بأنه جِذْعٌ ينقُرون وسطه، وينبذون فيه.

وقوله: (وَالْمُقَيَّرِ) - بضمّ الميم، وفتح القاف، وتشديد الياء المفتوحة -؛ أي: المطليّ بالقار، وفي حديث ابن عبّاس:"والمزفّت" - بتشديد الفاء -؛ أي: المطلي بالزِّفت؛ أي: القار بالقاف، ويقال: الزفت نوع من القار، وقال ابن سِيدَهْ: هو شيء أسود، يُطْلَى به الإبل، والسُّفُنُ، وقال أبو حنيفة

(3)

: إنه شجرٌ مُرّ، والقار يقال له: القِير بكسر القاف، وسكون الياء آخر الحروف، قيل: هو نبت يُحْرَق إذا يبس يطلى به السُّفن وغيرها، كما يطلى بالزِّفْت، ذكره في "العمدة"

(4)

.

وقوله: (وَالْحَنْتَمُ: الْمَزَادَةُ الْمَجْبُوبَةُ) قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في جميع النُّسخ ببلادنا: "والحنتم المزادة المجبوبة"، وكذا نقله القاضي عياضٌ عن جماهير رواة "صحيح مسلم"، ومعظم النُّسخ، قال: ووقع في بعض النُّسخ: "والحنتم، والمزادة المجبوبة"، قال: وهذا هو الصواب، والأُولى تغيير، وَوَهمٌ، قال: وكذا ذكره النسائيّ: "وعن الحنتم، وعن المزادة المجبوبة"، وفي سنن أبي داود:"والحنتم، والدباء، والمزادة المجبوبة"، قال: وضَبَطْناه في جميع هذه الكتب: "المجبوبة" بالجيم، وبالباء الموحّدة المكررة، قال: ورواه بعضهم: "المخنوثة" بخاء معجمة، ثم نون، وبعد الواو ثاء مثلّثة،

(1)

"عمدة القاري" 1/ 304 - 305.

(2)

"عمدة القاري" 1/ 305.

(3)

هو الدِّينوريّ اللغويّ، لا الإمام الفقيه المشهور، فتنبّه.

(4)

"عمدة القاري" 1/ 305.

ص: 634

كأنه أخذه من اختناث الأسقية المذكورة في حديث آخر، وهذه الرواية ليست بشيء، والصواب الأول أنها بالجيم، قال إبراهيم الحربيّ، وثابت: هي التي قُطع رأسها، فصارت كهيئة الدَّنّ، وأصل الْجَبّ القطع، وقيل: هي التي قُطِع رأسها، وليست لها عَزْلاء من أسفلها، يَتنفّس الشراب منها، فيصير شرابها مسكرًا، ولا يُدرَى به. انتهى.

و"المزادة" بفتح الميم: هي الراوية، أو لا تكون إلا من جلدين تُفْأَمُ بثالث بينهما لتتّسع، جمعه مزاد، ومزايد، قاله المجد

(1)

.

وقوله: (وَلَكِنِ اشْرَبْ فِي سِقَائِكَ) بكسر السين، ككساء: جلدُ السَّخْلة إذا أجذع، يكون للماء واللبن، جمعه أسقيةٌ، وأسقياتٌ، وأساقٍ، قاله المجد

(2)

.

وقوله: (وَأَوْكِهِ) - بقطع الهمزة - أمْر من أوكى، يقال: أوكيت السقاء بالألف: شددت فمه بالوكاء، ووكيته، من باب وعد لغة قليلة، والوكاء ككتاب: حَبْلٌ يُشدّ به رأس القربة، أفاده الفيّوميّ.

قال الجامع عفا الله عنه: وعلى اللغة الأخيرة يجوز وصل الهمزة هنا.

قال النوويّ: قال العلماء: معناه: أن السقاء إذا أُوكي أُمِنت مفسدة الإسكار؛ لأنه متى تغيّر نبيذه، واشتدّ، وصار مسكرًا شَقّ الجلد الْمُوكَى، فما لم يشقّه لا يكون مسكرًا، بخلاف الدباء، والحنتم، والمزادة المجبوبة، والمزفّت، وغيرها من الأوعية الكثيفة، فإنه قد يصير فيها مسكرًا، ولا يُعْلَم. انتهى

(3)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5161]

(1994) - (حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عَمْرٍو الأَشْعَثِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْثَرٌ (ح) وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثنا جَرِيرٌ (ح) وَحَدَّثَنِي بِشْرُ بْنُ خَالِدٍ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدٌ - يَعْنِي: ابْنَ جَعْفَرٍ - عَنْ شُعْبَةَ، كُلُّهُمْ عَنِ الأَعْمَش، عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ سُوَيْدٍ، عَنْ عَلِيٍّ، قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُنْتَبَذَ

(4)

فِي الدُّبَّاء،

(1)

"القاموس المحيط" ص 583.

(2)

"القاموس المحيط" ص 624.

(3)

"شرح النوويّ" 13/ 160.

(4)

وفي نسخة: "أن يُنبذ".

ص: 635

وَالْمُزَفَّت، هَذَا حَدِيثُ جَرِيرٍ، وَفِي حَدِيثِ عَبْثَرٍ، وَشُعْبَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنِ الدُّبَّاء، وَالْمُزَفَّتِ).

رجال هذا الإسناد: أحد عشر:

1 -

(سَعِيدُ بْنُ عَمْرٍو الأَشْعَثِيُّ) أبو عثمان الكوفي، ثقة [10](م س) تقدم في "المقدمة" 4/ 19.

2 -

(عَبْثَرُ) بن القاسم الزبيديّ، أبو زُبيد الكوفيّ، ثقةٌ [8](ت 179)(ع) تقدم في "الإيمان" 48/ 305.

3 -

(جَرِيرُ) بن عبد الحميد، تقدّم قريبًا.

4 -

(بِشْرُ بْنُ خَالِدٍ) العسكريّ، أبو محمد الفرائضيّ، نزيل البصرة، ثقةٌ يُغرب [10](ت 3 أو 255)(خ م دس) تقدم في "الإيمان" 23/ 200.

5 -

(الأَعْمَشُ) سليمان بن مِهْران الأسديّ الكاهليّ مولاهم، أبو محمد الكوفيّ، ثقةٌ حافظ قارئ، يدلّس [5](7 أو 148)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 297.

6 -

(إِبْرَاهِيمُ التَّيْمِيُّ) ابن يزيد بن شريك أبو أسماء الكوفيّ، ثقةٌ عابد يرسل ويدلّس [5](ت 92) وله أربعون سنة (ع) تقدم في "الإيمان" 78/ 406.

7 -

(الْحَارِثُ بْنُ سُويدٍ) التيميّ، أبو عائشة الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ [2].

روى عن ابن مسعود، وعمر، وعليّ، وعمرو بن ميمون الأوديّ.

وروى عنه إبراهيم التيميّ، وعمارة بن عمير، وثمامة بن عقبة، وأشعث بن أبي الشعثاء، وغيرهم.

قال عبد الله: ذكره أبي، فعَظَّم شأنه، وقال ابن أبي خيثمة، عن ابن معين: ثقة، وقال ابن معين أيضًا: إبراهيم التيميّ، عن الحارث بن سويد، عن عليّ ما بالكوفة أجود إسنادًا منه.

قال ابن سعد: تُوُفّي في آخر خلافة عبد الله بن الزبير، وأرّخه ابن أبي خيثمة سنة إحدى، أو اثنتين وسبعين، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: صلى عليه عبد الله بن يزيد، وقال ابن عيينة: كان الحارث من عِلْيَة أصحاب ابن مسعود، وقال العجليّ: ثقة.

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب أربعة أحاديث فقط هذا (1994)،

ص: 636

وحديث (2571): "أجل إني أُوعك كما يوعك رجلان منكم. . ." الحديث، و (2608):"ما تعُدّون الرقوب فيكم؟. . ." الحديث، و (2744):"لَلَّه أشدّ فرحًا بتوبة عبده. . ." الحديث.

8 -

(عَلِيُّ) بن أبي طالب رضي الله عنه تقدّم قريبًا.

والباقون تقدّموا في الباب الماضي، وقبل بابين، وشرح الحديث واضح، يُعلم مما سبق.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عليّ رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [6/ 5161](1994)، و (البخاريّ) في "الأشربة"(5594)، و (النسائيّ) في "الأشربة"(8/ 305) و"الكبرى"(3/ 220)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 83 و 139)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(5/ 119)، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5162]

(1995) - (وَحَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، كِلَاهُمَا عَنْ جَرِيرٍ، قَالَ زُهَيْرٌ: حَدَّثنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: قُلْتُ لِلأَسْوَدِ: هَلْ سَأَلْتَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ عَمَّا يُكْرَهُ أَنْ يُنْتَبَذَ فِيهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ أَخْبِرِينِي عَمَّا نَهَى عَنْهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُنْتَبَذَ فِيه، قَالَتْ: نَهَانَا أَهْلَ الْبَيْتِ أَنْ نَنْتَبِذَ فِي الدُّبَّاء، وَالْمُزَفَّت، قَالَ: قُلْتُ لَهُ: أَمَا ذَكَرَتِ الْحَنْتَمَ، وَالْجَرَّ؟ قَالَ: إِنَّمَا أُحَدِّثُكَ بِمَا سَمِعْتُ، أَأُحَدِّثُكَ

(1)

مَا لَمْ أَسْمَعْ؟).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(مَنْصُورُ) بن المعتمر بن عبد الله السلميّ، أبو عَتّاب الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ فاضلٌ [6](132)(ع) تقدم في "شرح المقدمة" جـ 1 ص 296.

2 -

(إِبْرَاهِيمُ) بن يزيد بن قيس النخعيّ، أبو عمران الكوفيّ، ثقةٌ فقيه يرسل كثيرًا [5](96)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 52.

(1)

وفي نسخة: "أأحدّثكم".

ص: 637

3 -

(الأَسْوَدُ) بن يزيد بن قيس النخعيّ، أبو عمرو، أو أبو عبد الرحمن، مخضرمٌ ثقةٌ فقيهٌ مكثرٌ [2](4 أو 75)(ع) تقدم في "الطهارة" 32/ 674.

4 -

(أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ) عائشة رضي الله عنها، ماتت (57)(ع) تقدّمت في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 315.

والباقون ذُكروا في الباب وقبله.

شرح الحديث:

(عَنْ إِبْرَاهِيمَ) النخعيّ أنه (قَالَ: قُلْتُ لِلأَسْوَدِ) بن يزيد النخعيّ، وهو خال إبراهيم الراوي عنه، (هَلْ سَأَلْتَ أمّ الْمُؤْمِنِينَ) عائشة رضي الله عنها (عَمَّا يُكْرَهُ أَنْ يُنْتَبَذَ فِيهِ؟) ببناء الفعلين للمفعول؛ أي: عن الوعاء الذي يُكره الانتباذ فيه؟ (قَالَ) الأسود (نَعَمْ) سألتها عنه، ثم فسّر "نعم" بقوله:(قُلْتُ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ أَخْبِرِينِي عَمَّا نَهَى) بالبناء للفاعل، و"ما" موصولة، لا استفهاميّة، ولذا لم تُحذف ألفها. (عَنْهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُنْتَبَذَ فِيهِ) بالبناء للمفعول، وفي رواية البخاريّ:"قلت: يا أمّ المؤمنين عَمَّ نَهَى النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يُنتبذ فيه؟ "؛ أي: أخبريني عما نهى، و"عمّ" أصلها "عن ما" فَأدغمت النون في ميم، وحُذفت ألفها؛ لكونها استفهاميّةً بخلافها في رواية مسلم، فإنها موصولة، كما أسلفته آنفًا. (قَالَتْ: نَهَانَا أَهْلَ الْبَيْتِ) بالنصب على الاختصاص؛ أي: أخصّ أهل البيت، قال في "الخلاصة":

الاخْتِصَاصُ كَنِدَاءٍ دُونَ "يَا"

كَـ "أَيُّهَا الْفَتَى" بِإِثْرِ "ارْجُونِيَا"

وَقَدْ يُرَى ذَا دُونَ "أَيٍّ" تِلْوَ "أَلْ"

كَمِثْلِ "نَحْنُ الْعُرْبَ أَسْخَى مَنْ بَذَلْ"

وَيَحْتَمل نَصْب "أهلَ" على أنه عطف بيان، أو بدل لـ"نا".

(أَنْ نَنْتَبِذَ فِي الدُّبَّاء، وَالْمُزَفَّت، قَالَ) إبراهيم (قُلْتُ لَهُ)؛ أي: للأسود، (أَمَا ذَكَرَتِ) عائشة (الْحَنْتَمَ، وَالْجَرَّ؟)؛ أي: مع الدبّاء، والمزفّت، (قَالَ) الأسود (إِنَّمَا أُحَدِّثُكَ بِمَا سَمِعْتُ) منها، (أَأُحَدِّثُكَ) وفي بعض النُّسخ:"أأحدّثكم؟ "(مَا لَمْ أَسْمَعْ؟) وهو استفهام إنكاريّ، وإنما استفهم إبراهيم عن الحنتم والجرّ؛ لاشتهار الحديث بالنهي عن الانتباذ في الأربعة، ولعلّ هذا هو السرّ في التقييد بأهل البيت، فإن الدبّاء والمزفّت كان عندهم متيسّرًا، فلذلك

ص: 638

خصّ نهيهم عنهما، قاله في "الفتح"

(1)

، والله تعالى أعلم.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [6/ 5162 و 5163 و 5164 و 5165 و 5166 و 5167](1995)، و (البخاريّ) في "الأشربة"(5595)، و (النسائيّ) في "الأشربة"(8/ 305)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 115 و 133 و 172 و 203 و 278)، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5163]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عَمْرٍو الأَشْعَثِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْثَرٌ، عَنِ الأَعْمَش، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الأَسْوَد، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنِ الدُّبَّاء، وَالْمُزَفَّتِ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

وكلّهم ذُكروا في الإسنادين الماضيين.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسألتيه في الحديث الماضي، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5164]

(. . .) - (وَحَدَّثَني مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، حَدَّثنا يَحْيَى - وَهُوَ الْقَطَّانُ - حَدَّثنا سُفْيَانُ، وَشُعْبَةُ، قَالَا: حَدَّثَنَا مَنْصُورٌ، وَسُلَيْمَانُ، وَحَمَّاد، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الأَسْوَد، عَنْ عَائِشَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِهِ).

رجال هذا الإسناد: عشرة:

1 -

(سُفْيَانُ) بن سعيد الثوريّ، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

(1)

"الفتح" 12/ 639، كتاب "الأشربة" رقم (5595).

ص: 639

2 -

(حَمَّادُ) بن أبي سليمان مسلم الأشعريّ مولاهم، أبو إسماعيل الكوفيّ الفقيه، صدوقٌ، له أوهامٌ، ورُمي بالإرجاء [5].

روى عن أنس، وزيد بن وهب، وسعيد بن المسيِّب، وسعيد بن جبير، وعكرمة، وأبي وائل، وإبراهيم النخعيّ، والحسن، وعبد الله بن بريدة، والشعبيّ، وغيرهم.

وروى عنه ابنه إسماعيل، وعاصم الأحول، وشعبة، والثوريّ، وحماد بن سلمة، ومِسْعَر بن كِدام، وهشام الدستوائيّ، وأبو حنيفة، وغيرهم.

قال أحمد: مقارب، ما روى عنه القدماء سفيان وشعبة، وقال أيضًا: سماع هشام منه صالح، قال: ولكن حماد - يعني: ابن سلمة - عنده عنه تخليط كثير، وقال أيضًا: كان يُرمَى بالإرجاء، وهو أصح حديثًا من أبي معشر - يعني: زياد بن كُليب - وقال مغيرة: قلت لإبراهيم: إن حمادًا قعد يفتي، فقال: وما يمنعه أن يفتي، وقد سألني هو وحده عما لم تسألوني كلكم عن عُشره، وقال ابن شُبرمة: ما أحدٌ أمن عليّ بعلم من حماد، وقال معمر: ما رأيت أفقه من هؤلاء: الزهري، وحماد، وقتادة، وقال بقية: قلت لشعبة: حماد بن أبي سليمان؟ قال: كان صدوق اللسان، وقال ابن المبارك عن شعبة: كان لا يحفظ، وقال القطان: حماد أحب إلي من مغيرة، وكذا قال ابن معين، وقال: حماد ثقةٌ، وقال أبو حاتم: حماد هو صدوق لا يُحتجّ بحديثه، وهو مستقيم في الفقه، فإذا جاء الآثار شَوَّش، وقال العجليّ: كوفيّ ثقةٌ، وكان أفقه أصحاب إبراهيم، وقال النسائيّ: ثقة إلا أنه مُرجئ، وقال ابن عديّ: وحماد كثير الرواية خاصّة عن إبراهيم، ويقع في حديثه أفراد، وغرائب، وهو متماسك في الحديث، لا بأس به.

وقال أبو بكر بن أبي شيبة: مات سنة (120)، وقال غيره: سنة (119)، وهو قول البخاريّ، وابن حبان في "الثقات"، وقال: يخطئ، وكان مرجئًا، وكان لا يقول بخلق القرآن، ويُنكر على من يقوله، ونقل ابن سعد أنهم أجمعوا على أنه مات سنة عشرين؛ أي: ومائة.

أخرج له البخاريّ في "الأدب المفرد"، والمصنّف، والأربعة، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.

ص: 640

والباقون ذُكروا في الباب، والباب الماضي.

[تنبيه]: رواية سفيان الثوريّ، عن منصور، وحماد بن أبي سليمان، وسليمان الأعمش ثلاثتهم عن إبراهيم ساقها النسائيّ رحمه الله بمفردها في "المجتبى"، فقال:

(5626)

- أخبرنا محمد بن المثنى، قال: حدّثنا يحيى بن سعيد، قال: حدّثنا سفيان، عن منصور، وحماد، وسليمان، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة، قالت:"نَهَى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الدباء، والمزفت". انتهى

(1)

.

ورواية سفيان، وشعبة، كلاهما عن منصور، وحماد بن أبي سليمان، كلاهما عن إبراهيم ساقها أبو عوانة رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(8047)

- حدّثنا يوسف بن يعقوب، قال: ثنا محمد بن أبي بكر، قال: ثنا يحيى بن سعيد، عن سفيان وشعبة، عن منصور، وحماد، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة، قالت:"نَهَى النبيّ صلى الله عليه وسلم عن الدباء، والمزفت"، إلا أن شعبة زاد فيه عن منصور: قلت: الحنتم، أو الجر؟ قال: ما أنا بزائدك على ما سمعت. انتهى

(2)

.

ورواية شعبة، عن حمّاد بن أبي سليمان ساقها بمفردها أبو عوانة في "مسنده"، فقال:

(8045)

- حدّثنا يونس بن حبيب، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا شعبة، أخبرني حماد، عن إبراهيم، عن الأسود، قال: قلت لعائشة: ما نَهَى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأوعية؟ قالت: "نَهَى عن الدباء، والمزفت". انتهى

(3)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5165]

(. . .) - (حَدَّثَنَا شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ، حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ - يَعْنِي: ابْنَ

(1)

"سنن النسائيّ - المجتبى" 8/ 305.

(2)

"مسند أبي عوانة" 5/ 120.

(3)

"مسند أبي عوانة" 5/ 119 - 120.

ص: 641

الْفَضْلِ - حَدَّثنَا ثُمَامَةُ بْنُ حَزْنٍ الْقُشَيْرِيُّ، قَالَ: لَقِيتُ عَائِشَةَ، فَسَأَلْتُهَا عَنِ النَّبِيذ، فَحَدَّثَتْنِي أَنَّ وَفْدَ عبد القَيْسِ قَدِمُوا عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَسَأَلُوا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنِ النَّبِيذ، فَنَهَاهُمْ أَنْ يَنْتَبِذُوا في الدُّبَّاء، وَالنَّقِير، وَالْمُزَفَّت، وَالْحَنْتَمِ).

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(الْقَاسِمُ بْنُ الْفَضْلِ) بن معدان الْحُدَّائيّ

(1)

، أبو المغيرة البصريّ، ثقة، رُمي بالإرجاء [7](ت 167)(بخ م 4) تقدم في "الزكاة" 45/ 2458.

[تنبيه]: قوله: "القاسم بن الفضل" هذا هو الصواب، قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في جميع نُسخ بلادنا: "الفضل" بغير ميم، وكذا نقله القاضي عياض عن معظم نسخ بلادهم، وهو الصواب، ووقع في بعض نسخ المغاربة:"المفضل" بالميم، وهو خطأ صريح، وقد ذكره مسلم بعد هذا في "باب الانتباذ للنبيّ صلى الله عليه وسلم" على الصواب. انتهى

(2)

.

2 -

(ثُمَامَةُ بْنُ حَزْنٍ

(3)

الْقُشَيْرِيُّ) ثمامة بن حَزْن بن عبد الله بن قُشَير القشيريّ البصريّ، والد أبي الورد بن ثُمامة، أدرك النبيّ صلى الله عليه وسلم ولم يره، ثقة [2].

رَوى عن عمر، وعثمان، وعائشة، وأبي هريرة، وأبي الدرداء، وحبشية كانت تخدم النبيّ صلى الله عليه وسلم وغيرهم.

وروى عنه القاسم بن الفضل الْحُدّانيّ، وسعيد الْجُريريّ، وداود بن أبي هند، والأسود بن شيبان، والقاسم بن عمرو العبدي، وغيرهم.

وقال الآجريّ عن أبي داود: ثقة، قيل: سمع من عائشة؟ قال: نعم، ووقع ذِكره في حديث علّقه البخاريّ في "الشِّرب"، فقال: وقال عثمان: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "من يشتري بئر رُومة. . ." الحديث، ووصله الترمذيّ، والنسائيّ من رواية أبي مسعود الْجُريريّ، عن ثمامة هذا، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وفي "تاريخ البخاريّ": أنه قَدِم على عمر بن الخطاب، وهو ابن (35) سنة، وقال ابن الْبَرْقيّ: ذكر بعض أهل النسب من بني عامر أن لثمامة صحبةً.

(1)

بضمّ الحاء، وتشديد الدال.

(2)

"شرح النوويّ" 13/ 160.

(3)

بفتح الحاء المهملة، وسكون الزاي.

ص: 642

أخرج له البخاريّ في "الأدب المفرد"، والمصنّف، والترمذيّ، والنسائيّ، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا (1995)، وحديث (2005):"كنت أَنْبِذ له في سقاء من الليل. . ." الحديث.

والباقيان ذُكرا في الباب، وقبله.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله وهو (376) من رباعيّات الكتاب.

شرح الحديث:

(عن ثُمَامَة بْنِ حَزْنٍ) بفتح الحاء المهملة، وسكون الزاي، (الْقُشَيْرِيُّ) بضمّ القاف، مصغّرًا: نسبة إلى قُشير بن كعب بن عامر بن صعصعة، أو إلى قشير بن خُزيمة بطن من أسلم. قاله في "اللّباب" 2/ 181، أنه (قَالَ: لَقِيتُ) بكسر القاف، من باب تعب، (عَائِشَةَ) أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها، (فَسَأَلْتهَا عَنِ النَّبِيذِ؟)؛ أي: عن حكم الانتباذ في الأوعية، وفي نسخة:"عن نبيذ الجرّ". (فَحَدَّثَتْني أَنَّ وَفْدَ عبد القَيْسِ قَدِمُوا) بكسر الدال، من باب تعب، قال صاحب "التحرير": الوفد: الجماعة المختارة من القوم؛ ليتقدّموهم في لُقِيّ العظماء، والمصير إليهم في المهمات، واحدهم وافد، قال: وَفدُ عبد القيس هؤلاء تقدموا قبائل عبد القيس، للمهاجَرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا أربعة عشر راكبًا، الأشجّ الْعَصَريّ رئيسهم، ومزيدة بن مالك المحاربيّ، وعبيدة بن همام المحاربيّ، وصحار بن العباس الْمُرّيّ، وعمرو بن مرحوم الْعَصَريّ، والحارث بن شعيب العصريّ، والحارث بن جندب من بني عايش، ولم نَعْثُرْ بعد طول التتبع على أكثر من أسماء هؤلاء.

قال: وكان سبب وفودهم، أن منقذ بن حيان أحد بني غَنْم بن وديعة، كان مَتْجَره إلى يثرب في الجاهلية، فشخص إلى يثرب بَملاحِفَ وتمر من هَجَر، بعد هجرة النبيّ صلى الله عليه وسلم، فبينا منقذ بن حيان قاعد، إذ مرَّ به النبيّ صلى الله عليه وسلم، فنهض منقذ إليه، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"أمنقذ بن حيان، كيف جميع هيئتك وقومك؟ " ثم سأله عن أشرافهم رجل رجل يسميهم بأسمائهم، فأسلم منقذ، وتعلم سورة الفاتحة، و {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق: 1]، ثم رحل قِبَلَ هَجَر، فكتب

ص: 643

النبيّ صلى الله عليه وسلم معه إلى جماعة عبد القيس كتابًا، فذهب به، وكتمه أيامًا، ثم اطّلعت عليه امرأته، وهي بنت المنذر بن عائذ - بالذال المعجمة - ابن الحارث، والمنذر هو الأشج، سمّاه رسول الله صلى الله عليه وسلم به؛ لأثر كان في وجهه، وكان منقذ رضي الله عنه يصلي، ويقرأ، فنكرت امرأته ذلك، فذكرته لأبيها المنذر، فقالت: أنكرت بَعْلي منذ قدم من يثرب، أنه يغسل أطرافه، ويستقبل الجهة؛ تعني: القِبلة، فيحني ظهره مرة، ويضع جبينه مرة، ذلك ديدنه منذ قَدِم، فتلاقيا، فتجاريا ذلك، فوقع الإسلام في قلبه، ثم ثار الأشج إلى قومه عَصَر، ومحارب بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقرأه عليهم، فوقع الإسلام في قلوبهم، وأجمعوا على السير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسار الوفد، فلما دنوا من المدينة، قال النبيّ صلى الله عليه وسلم لجلسائه:"أتاكم وفد عبد القيس، خير أهل المشرق، وفيهم الأشج العصريّ، غير ناكثين، ولا مُبدِّلين، ولا مرتابين، إذ لم يُسْلِم قوم حتى وَتِرُوا".

وقال القاضي عياض رحمه الله: وكانت وفادة عبد القيس عام الفتح قبل خروج النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى مكة، ونزلت فريضة الحج سنة تسع بعدها على الأشهر، وتقدّم ذِكر هذا كلّه في "كتاب الإيمان"، وإنما أعدته؛ تذكيرًا؛ لطول العهد به. (عَلَى النَّبِيّ، فَسَأَلُوا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنِ النَّبِيذِ) وفي رواية النسائيّ: "فسألوه فيما ينبذون"، و"في" بمعن "عن"، و"ما" موصولة؛ أي: عن الوعاء الذي ينبذون فيه.

(فَنَهَاهُمْ) صلى الله عليه وسلم (أَنْ يَنْتَبِذُوا فِي الدُّبَّاءِ) بضم الدال، وبالمدّ: هو القرع اليابس؛ أي: الوعاء منه. (وَالنَّقِيرِ) بالنون المفتوحة، والقاف، وقد جاء في تفسيره في رواية أنه جذع يُنقر وسطه، (وَالْمُزَفَّتِ)؛ أي: المطليّ بالزفت، وهو القار، (وَالْحَنْتَمِ) - بحاء مهملة مفتوحة، ثم نون ساكنة، ثم تاء مثناة من فوقُ مفتوحة، ثم ميم، الواحدة حنتمة - وقد تقدّم الاختلاف في تفسيرها قريبًا، وأن معنى النهي عن هذه الأربع، أنه نهي عن الانتباذ فيها، وهو أن يُجعل في الماء حبات، من تمر، أو زبيب، أو نحوهما؛ ليحلو ويُشرَب، وإنما خُصّت هذه بالنهي؛ لأنه يُسرع الإسكار فيها، فيصير حرامًا، وتبطل ماليّته، فنُهي عنه؛ لِمَا فيه من إتلاف المال، ولأنه ربما شربه بعد إسكاره مَن لم يَطّلع عليه، ولم يَنهَ عن الانتباذ في أسقية الأدم، بل أَذِنَ فيها؛ لأنها لرِقّتها لا يخفى فيها المسكر، بل إذا صار مسكرًا شقها غالبًا.

ص: 644

ثم إن هذا النهي كان في أول الأمر، ثم نُسخ بحديث بُريدة الآتي في الباب، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"كنت نهيتكم عن الانتباذ، إلا في الأسقية، فانتبذوا في كل وعاء، ولا تشربوا مسكرًا"، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنف) هنا [6/ 5165 و 5166 و 5167](1995)، و (النسائيّ) في "الأشربة"(8/ 307) و"الكبرى"(5147 و 5148 و 5149)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 131)، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5166]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ سُويدٍ، عَنْ مُعَاذَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الدُّبَّاء، وَالْحَنْتَم، وَالنَّقِير، وَالْمُزَفَّتِ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهيمَ) الدورقيّ، أبو يوسف البغداديّ، ثقةٌ حافظ [10](ت 252)(ع) تقدم في "الإيمان" 25/ 209.

2 -

(ابْنُ عُلَيَّةَ) إسماعيل بن إبراهيم، تقدّم في الباب الماضي.

3 -

(إِسْحَاقُ بْنُ سُويدِ) بن هُبيرة العدويّ البصريّ، صدوق تُكُلّم فيه للنصب [3](131)(خ م س) تقدم في "الإيمان" 14/ 165.

4 -

(مُعَاذَةُ) بنت عبد الله العدويّة، أم الصهباء البصريّة، ثقةٌ [3](ع) تقدمت في "الحيض" 9/ 738.

و"عائشة رضي الله عنها " ذُكرت قبله.

والحديث بهذا السياق من أفراد المصنّف رحمه الله، وقد مضى شرحه، ولله الحمد.

ص: 645

وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5167]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَاهُ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا عبدُ الوَهَّابِ الثَّقَفِيُّ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ سُوَيْدٍ، بِهَذَا الْإِسْنَاد، إِلَّا أَنَّهُ جَعَلَ مَكَانَ الْمُزَفَّتِ الْمُقَيَّرِ).

رجال هذا الإسناد: ثلاثة:

1 -

(عبدُ الوَهَّابِ الثَّقَفِيُّ) ابن عبد المجيد بن الصَّلْت الثقفيّ، أبو محمد البصريّ، ثقةٌ [8](ت 194)(ع) تقدم في "الإيمان" 17/ 173.

والباقيان ذُكرا في الباب.

وقوله: (إِلَّا أَنَّهُ جَعَلَ. . . إلخ) فاعل "جَعَل" ضمير عبد الوهّاب الثقفيّ.

[تنبيه]: رواية عبد الوهّاب الثقفيّ، عن إسحاق بن سُويد هذه ساقها إسحاق بن راهويه رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(1396)

- أخبرنا عبد الوهاب الثقفيّ، نا إسحاق بن سويد، عن معاذة العدويّة، عن عائشة، قالت: نَهَى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الدباء، والحنتم، والنقير، والمقير. انتهى

(1)

.

وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5168]

(17)

(2)

- (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا عَبَّادُ بْنُ عَبَّادٍ، عَنْ أَبِي جَمْرَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (ح) وَحَدَّثنَا خَلَفُ بْنُ هِشَامٍ، حَدَّثنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَبِي جَمْرَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: قَدِمَ وَفْدُ عبد القَيْسِ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"أَنْهَاكُمْ عَنِ الدُّبَّاء، وَالْحَنْتَم، وَالنَّقِير، وَالْمُقَيَّرِ"، وَفِي حَدِيثِ حَمَّادٍ جَعَلَ مَكَانَ الْمُقَيَّرِ: الْمُزَفَّتِ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ، تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(عَبَّادُ بْنُ عَبَّادٍ) بن حبيب بن الْمُهَلّب بن أبي صُفْرة الأزديّ الْمُهلّبيّ،

(1)

"مسند إسحاق بن راهويه" 3/ 773.

(2)

هذا الرقم مكرر تقدّم.

ص: 646

أبو معاوية البصريّ، ثقة ربّما وَهِمَ [7](ت 179) أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 124.

3 -

(خَلَفُ بْنُ هِشَامِ) بن ثعلبة الْبَزّار المقرئ البغداديّ، ثقةٌ له اختيارات في القراءات [10](ت 229)(م د) تقدم في "الإيمان" 6/ 124.

4 -

(حَمَّادُ بْنُ زَيْدِ) بن درهم، تقدّم قريبًا.

5 -

(أَبُو جَمْرَةَ) نصر بن عمران بن عصام الضُّبعيّ البصريّ، نزيل خراسان، ثقةٌ ثبتٌ [3](ت 128)(ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 124.

6 -

(ابْنُ عَبَّاسٍ) عبد الله رضي الله عنهما، تقدّم في الباب الماضي.

قال الجامع عفا الله عنه: حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه، وقد مضى في "كتاب الإيمان"[6/ 124](17) وقد استوفيت شرحه، وبيان مسائله هناك، فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5169]

(. . .) - (حَدَّثنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، عَنِ الشَّيْبَانِيّ، عَنْ حَبِيبٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الدُّبَّاء، وَالْحَنتم، وَالْمُزَفَّت، وَالنَّقِيرِ).

قال الجامع عفا الله عنه: تقدّم هذا الإسناد نفسه في الباب الماضي، و"الشيبانيّ " هو: سليمان بن أبي سليمان، و"حبيب " هو: ابن أبي ثابت، والحديث متّفقٌ عليه، وقد سبق الكلام فيه في الحديث الماضي.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5170]

(. . .) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي عَمْرَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الدُّبَّاء، وَالْحَنْتَم، وَالْمُزَفَّت، وَالنَّقِير، وَأَنْ يُخْلَطَ البَلَحُ بِالزَّهْوِ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلِ) بن غَزْوان الضبيّ الكوفيّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(حَبِيبُ بْنُ أَبِي عَمْرَةَ) القصّاب بَيّاع القصب، ويقال: اللَّحّام، أبو عبد الله الْحِمّانيّ - بكسر الحاء المهملة، وتشديد الميم - مولاهم الكوفيّ، ثقةٌ [6].

ص: 647

رَوَى عن مجاهد، وسعيد بن جبير، ومنذر الثوريّ، وعائشة بنت طلحة، وأم الدرداء.

وروى عنه الثوريّ، وأخوه المبارك بن سعيد، وشعبة، وخالد الواسطيّ، وحفص بن غياث، ومحمد بن فضيل، وجرير، وعليّ بن عاصم، وجماعة.

قال يحيى بن المغيرة الرازيّ عن جرير بن عبد الحميد: كان ثقةً، وكان من اللَّحّامين، وقال ابن معين، والنسائيّ: ثقةٌ، وقال أحمد: شيخ ثقةٌ، وقال أبو حاتم: صالحٌ، وقال البخاري عن علي: له نحو خمسة عشر حديثًا، وقال يعقوب بن سفيان: لا بأس به، وقال ابن سعد: كان ثقةً قليل الحديث.

قال خليفة، وابن قانع، وابن حبان، في "الثقات"، وغيرهم: مات سنة (142).

أخرج له البخاريُّ، والمصنف، وأبو داود في "الناسخ والمنسوخ"، والترمذيّ، والنسائيّ، وابن ماجه، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث. والباقون ذُكروا قبله.

وقوله: (وَأَنْ يُخْلَطَ الْبَلَحُ بِالزَّهْوِ) قال في "القاموس": "الْبَلَح"، محرّكة بين الْخَلَال والبسر. وقال في "المصباح": الْبَلَحُ: ثمر النخل ما دام أخضر، قريبًا إلى الاستدارة إلى أن يغلُظ النوى، وهو كالْحِصْرِم

(1)

من العِنب، وأهل البصرة يُسمّونه الْخَلَال، الواحدة بَلَحَةٌ، وخَلَالَةٌ، فإذا أخذ في الطول، والتلوّن إلى الحمرة، أو الصفرة، فهو بُسْر، فإذا خَلَص لونه، وتكامل إرطابه، فهو الزَّهْو. انتهى

(2)

.

وأما "الزَّهْو": سبق أن الزهو فيه ثلاث لغات: الزهو بفتح، فسكون، كالدلو، والزُّهو بضم، فسكون، كالقفل، والزهُوّ بضم، فتشديد واو، كالغُلُوّ، وهو البسر الملوّن الذي بدا فيه حمرة، أو صفرة، وطاب، وقد تقدّم البحث فيه في الباب الماضي بأتمّ من هذا، وبالله تعالى التوفيق.

(1)

"الْحِصْرم" بكسر الحاء، وسكون الصاد، وكسر الراء: أوّلُ العِنَب ما دام حامضًا، وحِصْرِم كلّ شيء حَشَفُهُ. اهـ. "المصباح".

(2)

"المصباح المنير" 1/ 60.

ص: 648

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5171]

(. . .) - (حَدَّثنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ يَحْيَى الْبَهْرَانِيّ، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ (ح) وَحَدَّثنا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثنَا شُعْبَةُ، عَنْ يَحْيَى أَبِي عُمَرَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الدُّبَّاء، وَالنَّقِير، وَالْمُزَفَّتِ).

رجال هذا الإسناد: تسعة:

1 -

(يَحْيَى الْبَهْرَانِي) ابن عُبيد بغير إضافة، أبو عمر الكوفيّ، صدوقٌ [4].

رَوَى عن ابن عباس، وعنه أبو إسحاق السبيعيّ، والأعمش، وزيد بن أبي أُنيسة، وأبو إسرائيل الملائيّ، ومُطيع الغَزّال، وشعبة، وغيرهم.

قال ابن معين: ثقةٌ، وقال أبو زرعة: ليس به بأسٌ، وقال أبو حاتم: صدوقٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات".

أخرج له المصنّف، وأبو داود، والنسائيّ، وابن ماجه، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا [5171](77)، وحديث (2004) كرّره خمس مرّات.

[تنبيه]: قوله في الإسناد الثاني: (عَنْ يَحْيَى أَبِي عُمَرَ) هو الْبَهْراني المذكور قبل التحويل، قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في معظم نسخ بلادنا: "عن يحيى أبي عمر" بالكنية، وهو الصواب، وذكر القاضي أنه وقع لجميع شيوخهم:"يحيى بن عمر" بالباء والنون، قال: ولبعضهم: يحيى بن أبي عمر قال: وكلاهما وَهَمٌ، وإنما هو يحيى بن عُبيد أبو عمر الْبَهْرانيّ، وكذا جاء بعد هذا في "باب الانتباذ للنبيّ صلى الله عليه وسلم" على الصواب. انتهى

(1)

.

[تنبيه آخر]: قوله: (الْبَهْرَانِيِّ) بفتح الموحّدة، وسكون الهاء: نسبة إلى بَهْراء، أبو قبيلة من قُضاعة، وهو بهراء بن عمرو بن الحاف بن قُضاعة، نزل أكثرها مدينة حِمْص من الشام، أفاده في "اللباب"

(2)

.

(1)

"شرح النوويّ" 13/ 162.

(2)

"اللباب في تهذيب الأنساب" 1/ 192.

ص: 649

والباقون ذُكروا في الباب، وقبل ثلاثة أبواب، وشرح الحديث واضح، يُعلم مما سبق.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5172]

(1996) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا يَزِيدُ بْنُ زُريعٍ، عَنِ التَّيْمِيِّ (ح) وَحَدَّثنَا يَحْيَى بْنُ أيُّوبَ، حَدَّثنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، أَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، أَن رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنِ الْجَرِّ أَنْ يُنْبَذَ فِيهِ).

قال الجامع عفا الله عنه: تقدّم هذا الإسناد بعينه في الباب الماضي، فلا حاجة إلى إعادته، و"التيميّ" هو: سليمان بن طرخان، و"أبو نضرة" هو: المنذر بن مالك بن قُطَعة العبدي، و"أبو سعيد" هو سعد بن مالك بن سِنَان الخُدريّ الصحابيّ الشهير.

وقوله: (نَهَى عَنِ الْجَرِّ أَنْ يُنْبَذَ فِيهِ) هو بمعنى الجرار، الواحدة جَرّة، وهذا يدخل فيه جميع أنواع الجرار، من الحنتم وغيره، كما سيأتي تفسير ابن عبّاس له بذلك، وقد سبق أن هذا منسوخ، فلا تغفل.

والحديث من أفراد المصنف، وقد مضى البحث فيه مستوفًى، ولله الحمد.

وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5173]

(. . .) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنِ الدُّبَّاء، وَالْحَنْتَم، وَالنَّقِير، وَالْمُزَفَّتِ).

رجال هذا الإسناد: ستّة:

1 -

(سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ) مهران اليشكريّ، أبو النضر البصريّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(قَتَادَةُ) بن دِعَامة السَّدُوسيّ، أبو الخطّاب البصريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

والباقون كلهم ذُكروا في الباب الماضي، والحديث من أفراد المصنّف، وقد مضى البحث فيه مستوفًى، ولله الحمد.

ص: 650

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5174]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَاهُ مُحَمَّد بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ قَتَادَةَ، بِهَذَا الإِسْنَاد، أَنَّ نَبِيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى أَنْ يُنْتبَذَ، فَذَكَرَ مِثْلَهُ).

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ) الدستوائيّ البصريّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(أَبُوهُ) هشام بن أبي عبد الله سَنْبَر الدستوائيّ البصريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

والباقيان ذُكرا قبله.

[تنبيه]: رواية هشام الدستوائيّ، عن قتادة هذه ساقها أبو يعلى رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(1340)

- حدّثنا زهير، حدّثنا معاذ بن هشام، عن أبيه، عن قتادة، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الْخُدْريّ:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم نَهَى أن يُنتبذ في الحنتم، والدباء، والنقير، وأن يُخلَط الزَّهْوُ بالتمر، والزبيب بالتمر". انتهى

(1)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5175]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ الْجَهْضَمِيُّ، حَدَّثَنِي أَبِي، حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى - يَعْنِي: ابْنَ سَعِيدٍ - عَنْ أَبِي الْمُتَوَكِّل، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الشُّرْبِ

(2)

في الْحَنتمَة، وَالدُّبَّاء، وَالنَّقِيرِ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(والد نصر) عليّ بن نصر بن عليّ بن صُهبان الأزديّ الْجَهْضميّ البصريّ، ثقةٌ، من كبار [9](ت 187)(ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 126.

2 -

(الْمُثَنَّى بْنُ سَعِيدٍ) الضُّبَعيّ، أبو سعيد البصريّ القسّام القصير، ثقةٌ 161 (ع) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 57/ 1569.

3 -

(أَبُو الْمُتَوَكِّلِ) عليّ بن داود، ويقال: دؤاد، تقدّم في الباب الماضي.

(1)

"مسند أبي يعلى" 2/ 496.

(2)

وفي نسخة: "عن الشراب".

ص: 651

والباقيان ذُكرا في الباب.

وقوله: (عَنِ الشُّرْبِ) وفي بعض النسخ: "عن الشراب"، والحديث من أفراد المصنّف، وقد سبق البحث فيه مستوفًى، ولله الحمد.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5176]

(1997) - (وَحَدَّثنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَسُرَيْجُ بْنُ يُونُسَ - وَاللَّفْظُ لأَبِي بَكْرٍ - قَالَا: حَدَّثَنَا مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، عَنْ مَنْصُورِ بْنِ حَيَّانَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: أَشْهَدُ عَلَى ابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَاسٍ، أنَّهُمَا شَهِدَا أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنِ الدُّبَّاء، وَالْحَنْتَم، وَالْمُزَفَّت، وَالنَّقِيرِ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(سُرَيْجُ بْنُ يُونُسَ) بن إبراهيم المروزيّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوَيةَ) الفزاريّ، أبو عبد الله الكوفي، تقدّم أيضًا قريبًا.

3 -

(مَنْصُورُ بْنُ حَيَّانَ) بن حصين الأسديّ الكوفيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

والباقون ذُكروا في الباب، وقبله.

وقوله: (أَنَّهُمَا شَهِدَا أَن رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى. . . إلخ) زاد في رواية أحمد، والنسائيّ في آخر الحديث:"ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] ".

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث ابن عمر، وابن عبّاس رضي الله عنهم هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [6/ 5176 و 5177](1997)، و (أبو داود) في "الأشربة"(3690)، و (النسائيّ) في "الأشربة"(8/ 308) و"الكبرى"(3/ 223)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(5/ 70)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 352)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(5/ 124)، والله تعالى أعلم.

ص: 652

وبالسند المتّصل أبي المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5177]

(. . .) - (حَدَّثَنَا شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ، حَدَّثنا جَرِيرٌ - يَعْنِي: ابْنَ حَازِمٍ - حَدَّثَنَا يَعْلَى بْنُ حَكِيمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ عُمَرَ عَنْ نَبِيذِ الْجَرِّ، فَقَالَ: حَرَّمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَبِيذَ الْجَرّ، فَأَتَيْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ، فَقُلْتُ: ألَا تَسْمَعُ مَا يَقُولُ ابْنُ عُمَرَ؟ قَالَ: وَمَا يَقُولُ؟ قُلْتُ: قَالَ: حَرَّمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَبِيذَ الْجَرّ، فَقَالَ: صَدَقَ ابْنُ عُمَرَ، حَرَّمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَبِيذَ الْجَرّ، فَقُلْتُ: وَأَيُّ شَيْءٍ نَبِيذُ الْجَرِّ؟ فَقَالَ: كُلُّ شَيْءٍ يُصْنَعُ مِنَ الْمَدَرِ".

رجال هذا الإسناد: ستّة:

1 -

(يَعْلَى بْنُ حَكِيمٍ) الثقفيّ مولاهم المكيّ، نزيل البصرة، ثقةٌ [6](خ م دس ق) تقدم في "النكاح" 25/ 3449.

والباقون ذكروا في الباب، وقبله.

شرح الحديث:

(عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ) أنه (قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ عُمَرَ) رضي الله عنهما، وللنسائيّ:"سألنا ابن عمر"، (عَنْ نَبِيذِ الْجَرِّ)؛ أي: عن حُكم شُربه، (فَقَالَ) ابن عمر رضي الله عنهما (حَرَّمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَبِيذَ الْجَرِّ) المراد: ما اشتدّ منه، وصار مسكرًا، لا مطلقُ النبيذ، ويَحْتَمِل أن يكون أراد ما قبل النسخ، قال سعيد:(فَأَتَيْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما (فَقُلْتُ) له (ألَا تَسْمَعُ مَا يَقُولُ ابْنُ عُمَرَ؟) وفي رواية النسائيّ: "فَقُلْتُ: سَمِعْتُ الْيَوْمَ شَيْئًا، عَجِبْتُ مِنْهُ" بكسر الجيم، من باب تعب، (قَالَ) ابن عبّاس (وَمَا يَقُولُ؟) استفهاميّة؛ أي: أي شيء يقول ابن عمر؟ (قُلْتُ: قَالَ: حَرَّمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَبِيذَ الْجَرّ، فَقَالَ) ابن عبّاس (صَدَقَ ابْنُ عُمَرَ) فيما قاله، (حَرَّمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَبِيذَ الْجَرِّ). قال سعيد (فَقُلْتُ) لابن عبّاس (وَأَيُّ شَيْءٍ نَبِيذُ الْجَرِّ؟)؛ أي: وما المراد بالجرّ الذي حرم النبيّ صلى الله عليه وسلم الانتباذ فيه؟ (فَقَالَ) ابن عبّاس رضي الله عنهما (كُلُّ شَيْءٍ) مرفوع على أنه خبر لمحذوف؛ أي: هو كلّ شيء (يُصْنَعُ) بالبناء للمفعول، (مِنَ الْمَدَرِ)؛ أي: هو كلّ شيء مصنوع منه، و"المدر" بفتحتين: جمع مَدَرة، مثلُ قَصَب وقَصَبَة، وهو التراب المتلبّد، قال الأزهريّ: المَدَر قِطَع الطين، وبعضهم يقول: الطين: الْعِلْك الذي لا يُخالطه رملٌ،

ص: 653

والعرب تُسمّي القرية مَدَرةً؛ لأن بُنيانها غالبًا من المدر، قاله الفيّوميّ

(1)

.

وهذا تصريح من ابن عبّاس رضي الله عنهما بأن الجرّ يدخل فيه جميع أنواع الجرار المتخذة من المدر، الذي هو التراب، قاله النوويّ رحمه الله

(2)

.

[تنبيه]: قال القاضي عياض رحمه الله في "المشارق": قوله: "قال: كلُّ شيء يصنع من المدر" كذا للكافة، وعند بعض رواة ابن الحذاء:"من الْمِزْر"، وهو وَهَمٌ. انتهى

(3)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث ابن عمر، وابن عبّاس رضي الله عنهم هذا أخرجه من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [6/ 5177]، و (أبو داود) في "الأشربة"(3691)، و (النسائيّ) في "الأشربة"(8/ 303 و 304) و"الكبرى"(5129 و 5130)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 48 و 104 و 112 و 115 و 153)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(8/ 308)، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5178]

(. . .) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَن رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَطَبَ النَّاسَ فِي بَعْضِ مَغَازِيه، قَالَ ابْنُ عُمَرَ: فَأَقْبَلْتُ نَحْوَهُ، فَانْصَرَفَ قَبْلَ أَنْ أَبْلُغَهُ، فَسَأَلْتُ مَاذَا قَالَ؟ قَالُوا: نَهَى أَنْ يُنْتبَذَ فِي الدُّبَّاء، وَالْمُزَفَّتِ).

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(مَالِكُ) بن أنس، إمام دار الهجرة، تقدّم قريبًا.

والباقون ذُكروا في الباب وقبله.

(1)

"المصباح المنير" 2/ 566.

(2)

شرح النوويّ" 13/ 163 - 164.

(3)

"مشارق الأنوار" 1/ 376.

ص: 654

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (377) من رباعيّات الكتاب، وأنه أصحّ الأسانيد على الإطلاق، كما نُقل عن البخاريّ رحمه الله، وأنه المسمّى بسلسلة الذهب، روى الخطيب بسنده عن يحيى بن بُكير أنه قال لأبي زرعة الرازيّ: يا أبا زرعة ليس ذا زَعْزَعَةِ عن زَوْبَعَةٍ

(1)

، إنما ترفع الستر، فتنظر إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، والصحابة رضي الله عنهم: حدّثنا مالك، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما

(2)

.

شرح الحديث:

(عَنِ ابْنِ عُمَرَ) رضي الله عنهما (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَطَبَ النَّاسَ فِي بَعْضِ مَغَازِيهِ) لم تُسَمَّ هذه الغزوة، وهذه الرواية صريحة أن هذه الخطبة وقعت في سفر، وأخرج أبو عوانة في "مسنده" من طريق يحيى بن سعيد، عن نافع، عن ابن عمر قال:"دخلت المسجد، فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، والناس حوله، فأسرعت لأسمع كلامه، فتفرّق الناس قبل أن أبلغهم، فسألت رجلًا منهم، ماذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فزعم الرجلُ أنه نهى عن الدبّاء والمزفّت"، وفي رواية:"رأيت النبيّ صلى الله عليه وسلم على المنبر، فلما رأيت أسرعت إليه، فلم أنتهي إليه حتى نزل. . ." الحديث.

وهذه صريحة أنها وقعت في الحضر، وطريق الجمع أن تُحمل الروايتان على تعدُّد الواقعة، والله تعالى أعلم.

(قَالَ ابْنُ عُمَرَ) رضي الله عنهما (فَأَقْبَلْتُ نَحْوَهُ)؛ أي: جهة النبيّ صلى الله عليه وسلم لأسمع خطبته، (فَانْصَرَفَ قَبْلَ أَنْ أَبْلُغَهُ)؛ أي: قبل وصولي إلى محلّه، (فَسَأَلْتُ) من حضر خطبته (مَاذَا قَالَ؟)؛ أي: أيّ شيء ذَكَر صلى الله عليه وسلم في خطبته هذه؟ (قَالُوا: نَهَى أَنْ يُنْتَبَذَ) بالبناء للمفعول، (فِي الدُّبَّاءِ) قال ابن عبد البرّ رحمه الله: الدباء هو القرع المعروف، وهو إذا يبس، وصُنِع منه ظرف يُسرع فيه النبيذ إلى الشدّة، مُزَفّتًا كان، أو غير مُزَفّت، ولذلك جاء في هذا الحديث وغيره ذِكر الدباء مطلقًا، ثم

(1)

الزعزعة: تحريك الريح الشجرة ونحوها، وكلّ تحريك شديد، و"الزَّوْبَعَةُ" هي الإعصار الذي يرفع التراب في الجوّ، ويستدير كأنه عمود.

(2)

راجع: "تدريب الراوي" 1/ 78.

ص: 655

عَطَف عليه المزفت منه، ومن غيره، والله أعلم. انتهى

(1)

.

(وَالْمُزَفَّتِ)، وفي رواية لأبي عوانة:"نَهَى أن يُنبذ في المزّفت والقَرْع"، والقَرْع هو الدبّاء.

قال ابن عبد البرّ: كان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يرى أن النهي عن الانتباذ في الظروف، نحو الدباء، والمزفت، غير منسوخ، وكان مالك يذهب إلى هذا، وتابعه عليه طائفة من أهل العلم.

قال: وفي هذا الحديث دليل على أن الإمام يخطب رعيته، ويعلِّمهم في خطبته ما بهم الحاجة إليه، من أحكامهم في دينهم، ودنياهم. انتهى

(2)

، والله تعالى أعلم.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنف) هنا [6/ 5178 و 5179]، و (النسائيّ) في "الأشربة"(8/ 305)، و (ابن ماجه) في "الأشربة"(1127)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(5/ 71)، و (الشافعيّ) في "مسنده"(1/ 283)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 102)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 3 و 10 و 48 و 54 و 77 و 93 و 102 و 5/ 125 - 126)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(8/ 308)، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5179]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، وَابْنُ رُمْحٍ، عَنِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ (ح) وَحَدَّثنا أَبُو الرَّبِيع، وَأَبُو كَامِلٍ، قَالَا: حَدَّثنا حَمَّادٌ (ح) وَحَدَّثَني زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ جَمِيعًا عَنْ أَيُّوبَ (ح) وَحَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ (ح) وَحَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ أَبِي عُمَرَ، عَنِ الثَّقَفِيّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ (ح) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ، أَخْبَرَنَا الضَّحَّاكُ - يَعْني: ابْنَ عُثْمَانَ (ح) وَحَدَّثَني هَارُونُ الأَيلِيُّ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي أُسَامَةُ،

(1)

"التمهيد" لابن عبد البرّ 15/ 332.

(2)

"التمهيد" لابن عبد البرّ 15/ 331.

ص: 656

كُلُّ هَؤُلَاءِ عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، بِمِثْلِ حَدِيثِ مَالِكٍ، وَلَمْ يَذْكُرُوا فِي بَعْضِ مَغَازِيه، إِلَّا مَالِكٌ، وَأُسَامَةُ).

رجال هذا الإسناد: ثلاثة وعشرون:

1 -

(أَبُو الرَّبِيعِ) سليمان بن داود العتكيّ الزهرانيّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(أَبُو كَامِلٍ) فضيل بن حسين الجحدريّ البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 237) وله أكثر من (80) سنة (خت م دت س) تقدم في "المقدمة" 6/ 57.

3 -

(عُبَيْدُ اللهِ) بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطّاب العدويّ، أبو عثمان العمريّ المدنيّ الفقيه، ثقةٌ ثبتٌ [5] مات سنة بضع و (140)(ع) تقدم في "الإيمان" 28/ 222.

4 -

(ابْنُ أَبِي عُمَرَ) محمد بن يحيى بن أبي عمر العدنيّ، ثم المكيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

5 -

(يَحْيَى بْنُ سَعِيدِ) بن قيس الأنصاريّ، أبو سعيد القاضي المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ [5](ت 144)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 36.

6 -

(ابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ) محمد بن إسماعيل بن مسلم المدنيّ، تقدّم قريبًا.

7 -

(الضَّحَّاكُ بْنُ عُثْمَانَ) الحزاميّ، أبو عثمان المدنيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

8 -

(هَارُونُ الأَيْلِيُّ) ابن سعيد السعديّ مولاهم، أبو جعفر، نزيل مصر، ثقةٌ فاضلٌ [10](253)، وله (83) سنة (م دس ق) تقدم في "الإيمان" 29/ 225.

9 -

(ابْنُ وَهْبٍ) عبد الله المصريّ الحافظ الفقيه، تقدّم قريبًا.

10 -

(أُسَامَةُ) بن زيد الليثيّ مولاهم، أبو زيد المدنيّ، صدوقٌ يَهِم [7](ت 153) وله بضع و (70) سنة (خت م 4) تقدم في "الصلاة" 42/ 1085.

والباقون ذُكروا في الأبواب الثلاثة الماضية، و"ابن رُمْح" هو: محمد بن رُمح بن مهاجر، و"حمّاد" هو ابن زيد، و"إسماعيل" هو: ابن عُليّة، و"أيوب" هو السختيانيّ، و"ابن نُمير" هو: محمد بن عبد الله بن نُمير، و"أبوه" هو: عبد الله بن نمير، و"ابن المثنّى" هو: محمد، و"الثقفيّ" هو: عبد الوهّاب بن عبد المجيد.

وقوله: (كُلُّ هَؤُلَاءِ. . . إلخ)؛ يعني: أن كلّ هؤلاء الستة، وَهُمْ: الليث بن

ص: 657

سعد، وأيوب السختيانيّ، وعبيد الله العمريّ، ويحيى بن سعيد الأنصاريّ، والضحّاك بن عثمان، وأسامة بن زيد الليثيّ رووا هذا الحديث عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما بمثل ما رواه مالك بن أنس عن نافع في الحديث الماضي.

وقوله: (وَلَمْ يَذْكُرُوا)؛ أي: هؤلاء الذين رووا الحديث عن نافع.

وقوله: (فِي بَعْضِ مَغَازِيهِ. . . إلخ) مفعول "يذكروا" محكيّ؛ لِقَصْد لَفْظه؛ يعني: أنهم لم يذكروا هذا اللفظ، إلا مالك، كما سبق، وأسامة بن زيد، كما يأتي في التنبيه التالي، وقريب منه رواية الليث كما يأتي، فإنه ذكره بلفظ:"كان في بعض أسفاره"، والله تعالى أعلم.

[تنبيه]: رواية الليث بن سعد، عن نافع ساقها أبو عوانة رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(8083)

- حدثنا طاهر بن عمرو بن الربيع بن طارق، حدّثني أبي، حدثني الليث بن سعد، عن نافع، عن ابن عمر، أنه كان في بعض أسفاره، فتكلم الناس، وابن عمر في الرحل، فذَهَب سريعًا قِبَلَهُ، فوجده قد انصرف، فقال لهم: بماذا قام رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: "نَهَى أن يُنبذ في المزفّت، والقَرْع". انتهى

(1)

.

ورواية أيوب، عن نافع ساقها أيضًا أبو عوانة رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(8075)

- حدّثنا الصغانيّ، قال: ثنا عارم، قال: ثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، قال: دُفِعتُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد خَطَب، ونزل، فقلت: بما قام به رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: "نَهَى عن الدباء، والحنتم". انتهى

(2)

.

ورواية عبيد الله العمريّ، عن نافع ساقها أيضًا أبو عوانة رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(8079)

- حدّثنا أبو الحسن الميمونيّ، قال: ثنا محمد بن عبيد، قال: ثنا عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، قال: خطب النبيّ صلى الله عليه وسلم ذات

(1)

"مسند أبي عوانة" 5/ 125 - 126.

(2)

"مسند أبي عوانة" 5/ 124.

ص: 658

يوم، فجئت، وقد فرغ، فسألت الناس ماذا قال؟ فقالوا:"نَهَى أن يُنبذ في المزفّت، والقرع". انتهى

(1)

.

ورواية يحيى بن سعيد الأنصاريّ، عن نافع ساقها أيضًا أبو عوانة رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(8081)

- حدّثنا الدقيقيّ، قال: ثنا يزيد بن هارون، قال: أنبا يحيى بن سعيد، قال: سمعت نافعًا يُحَدِّث عن ابن عمر، قال: دخلتُ المسجدَ، فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، والناس حوله، فأسرعت لأسمع كلامه، فتفرق الناس قبل أن أبْلُغَهم، فسألت رجلًا منهم ماذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم؟، فزعم الرجل أنه:"نَهَى عن الدباء، والمزفت". انتهى

(2)

.

ورواية أسامة بن زيد الليثيّ، عن نافع ساقها أيضًا أبو عوانة رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(8082)

- حدّثنا عيسى بن أحمد العسقلانيّ، قال: ثنا ابن وهب، عن أسامة بن زيد، عن نافع، عن ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام في بعض مغازيه، قال عبد الله: فأقبلت نحوه، فلم آتهم حتى انصرف، فسألت ماذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالوا:"نَهَى أن يُنبذ في الدباء، والمزفت". انتهى

(3)

.

وأما رواية الضحاك بن عثمان، عن نافع فلم أجد من ساقها بتمامهما، فليُنظر، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5180]

(. . .) - وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ ثَابِتٍ، قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ عُمَرَ: نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ نَبِيذِ الْجَرِّ؟ قَالَ: فَقَالَ: قَدْ زَعَمُوا ذَاكَ، قُلْتُ: أنهَى عَنْهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: قَدْ زَعَمُوا ذَاكَ).

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(ثَابِتُ) بن أسلم البنانيّ، تقدّم قريبًا.

(1)

"مسند أبي عوانة" 5/ 125.

(2)

"مسند أبي عوانة" 5/ 125.

(3)

"مسند أبي عوانة" 5/ 125.

ص: 659

والباقون ذُكروا قبله.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (378) من رباعيّات الكتاب.

شرح الحديث:

(عَنْ ثَابِتٍ) البنانيّ أنه (قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ عُمَرَ) بن الخطّاب رضي الله عنهما (نَهَى) بتقدير همزة الاستفهام؛ أي: أنهى (رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ نَبِيذِ الْجَرِّ؟ قَالَ) ثابتٌ (فَقَالَ) ابن عمر: (قَدْ زَعَمُوا ذَاكَ)؛ أي: قال الناس: إنه صلى الله عليه وسلم نهى عنه، والمراد بالزعم هنا: القول المحقّق، لا الباطل، بدليل أنه جزم بأنه صلى الله عليه وسلم حرّم ذلك، والله تعالى أعلم.

[تنبيه]: هذه الرواية تخالف ما مرّ عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: "حَرّم رسول الله صلى الله عليه وسلم نبيذ الجرّ" بالجزم، وكذا ما يأتي عن طاوس، قال: قال رجل لابن عمر: أَنَهَى نبيّ صلى الله عليه وسلم عن نبيذ الجرّ؟ قال: نعم، فظاهر هذا أنه سمع النهي منه صلى الله عليه وسلم، وقد جَمَع بعضهم بين الروايتين بأن ابن عمر أوّلًا نسي سماعه مباشرة، فأخبر السائل بأن الناس أخبروه بنهيه صلى الله عليه وسلم عن نبيذ الجرّ، ثم تذكّر بعد ذلك، فأخبر السائل الآخر بأنه صلى الله عليه وسلم نهى عنه، والله تعالى أعلم.

(قُلْتُ: أنَهَى عَنْهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟)؛ يعني: هل سمعته منه صلى الله عليه وسلم؟ (قَالَ) ابن عمر مرّة ثانيةً (قَدْ زَعَمُوا ذَاكَ) وفي رواية أحمد، عن ثابت البنانيّ قال: سألت ابن عمر، فقلت: أنُهِي عن نبيذ الجر؟ فقال: قد زعموا ذاك، فقلت: مَن زَعَم ذاك، النبيّ صلى الله عليه وسلم؟ قال: زعموا ذاك، فقلت: يا أبا عبد الرحمن أنت سمعته من النبيّ صلى الله عليه وسلم؟ قال: قد زعموا ذاك، قال: فصرفه الله تعالى عني يومئذ، وكان أحدهم إذا سئل، أنت سمعته من النبيّ صلى الله عليه وسلم غَضِبَ، ثم هَمَّ بصاحبه

(1)

، والله تعالى أعلم.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(1)

"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 2/ 47.

ص: 660

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [6/ 5180]، و (الترمذيّ) في "الأشربة"(1867)، و (النسائيّ) في "الأشربة"(8/ 302 و 303 و 304 و 305)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 35 و 47 و 73 و 78 و 96)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(5/ 126)، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5181]

(. . .) - (حَدَّثنا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ، عَنْ طَاوُسٍ، قَالَ: قَالَ رَجُلٌ لِابْنِ عُمَرَ: أنَهَى نَبِيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ نَبِيذِ الْجَرِّ؟ قَالَ: نَعَمْ، ثُمَّ قَالَ طَاوُسٌ: وَاللهِ إِنِّي سَمِعْتُهُ مِنْهُ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(طَاوُسُ) بن كيسان الحميريّ مولاهم، أبو عبد الرحمن اليمانيّ، يقال: اسمه ذكوان، وطاوس لقبٌ، ثقهٌ فقيهٌ فاضلٌ [3](ت 106) أو بعد ذلك (ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.

والباقون تقدّموا في الباب الماضي.

وقوله: (قَالَ رَجُلٌ لِابْنِ عُمَرَ) الظاهر أنه غير ثابت المتقدّم قبله، وأما ما أشار إليه صاحب "تنبيه المعلم"، وكذا ما صرّح به بعض الشرّاح

(1)

من أنه ثابتٌ، فيُبعده اختلاف الجواب، فإن جواب ثابت "قد زعموا ذاك"، مع تكرار السؤال له، وجواب هذا:"نعم" دون ترّدد، فتأمله بالإمعان، والله تعالى أعلم.

وقوله: (ثُمَّ قَالَ طَاوُسٌ: وَاللهِ إِنِّي سَمِعْتُهُ مِنْهُ)؛ يعني: أنه سمع ابن عمر رضي الله عنهما يُجيب السائل بصريح قوله: "نعم"، وهذا كما أسلفناه لعله نسي أوّلًا، فأجاب بـ "قد زعموا ذاك"، ثم تذكّر فأجاب بـ "نعم" صريحًا، والله تعالى أعلم.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف يرحمه الله.

(1)

هو: الشيخ الهرري. راجع: "شرحه" 21/ 69.

ص: 661

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [6/ 5181 و 5182 و 5183 و 5184 و 5185 و 5186 و 5187 و 5188]، و (الترمذيّ) في "الأشربة"(1867)، و (النسائيّ) في "الأشربة"(8/ 303) و"الكبرى"(3/ 218)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(8/ 127)، و (الحميديّ) في "مسنده"(2/ 309)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 29 و 35)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5411)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(5/ 122)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(4/ 225)، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5182]

(. . .) - (وَحَدَّثَني مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثنَا عَبْدُ الرَّزَّاق، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي ابْنُ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيه، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَن رَجُلًا جَاءَهُ، فَقَالَ: أنَهَى النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُنْبَذَ في الْجَرّ، وَالدُّبَّاءِ؟، قَالَ: نَعَمْ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(ابن طاوس) هو: عبد الله بن طاوس بن كيسان، أبو محمد اليمانيّ، ثقةٌ فاضلٌ عابدٌ [6](132)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.

والباقون ذُكروا في الباب وقبله.

وقوله: (أَنَّ رَجُلًا جَاءَهُ) تقدّم أنه لا يُعرف، ومن زعم أنه ثابت، يردّه الجواب، كما سبق وَجْهه، والحديث من أفراد المصنف، وقد سبق البحث فيه فيما قبله، ولله الحمد.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5183]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا بَهْزٌ، حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيه، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنِ الْجَرِّ، وَالدُّبَّاءِ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

وكلهم ذُكروا في الباب، والحديث من أفراد المصنّف، وقد سبق البحث فيه مستوفًى، ولله الحمد.

ص: 662

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5184]

(. . .) - (حَدَّثَنَا عَمْرٌو النَّاقِدُ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مَيْسَرَةَ، أَنَّهُ سَمِعَ طَاوُسًا يَقُولُ: كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ ابْنِ عُمَرَ، فَجَاءَهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: أَنَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ نَبِيذِ الْجَرِّ، وَالدُّبَّاء، وَالْمُزَفَّتِ؟ قَالَ: نَعَمْ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(إِبْرَاهِيمُ بْنُ مَيْسَرَةَ) الطائفيّ، نزيل مكة، ثقةٌ ثبتٌ حافظٌ [5](ت 132)(ع) تقدم في "صلاة المسافرين وقصرها" 2/ 1582.

والباقون ذُكروا في الباب.

والحديث من أفراد المصنّف، وقد سبق القول فيه، ولله الحمد.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5185]

(. . .) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مُحَارِبِ بْنِ دِثَارٍ، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ: نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْحَنْتَم، وَالدُّبَّاء، وَالْمُزَفَّت، قَالَ: سَمِعْتُهُ غَيْرَ مَرَّةٍ).

رجال هذا الإسناد: ستّة:

1 -

(مُحَارِبُ بْنُ دِثَّارٍ) السَّدُوسيّ الكوفيّ القاضي، ثقة إمامٌ زاهدٌ [4](ت 116)(ع) تقدم في "الصلاة" 40/ 1069.

والباقون ذُكروا في الباب.

وقوله: (قَالَ: سَمِعْتُهُ غَيْرَ مَرَّةٍ) فاعل "قال" ضمير محارب، والحديث من أفراد المصنّف، وقد مضى البحث فيه مستوفًى، ولله الحمد.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5186]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عَمْرٍو الأَشْعَثِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْثَرٌ، عَنِ الشَّيْبَانِيِّ، عَنْ مُحَارِبِ بْنِ دِثَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِه، قَالَ: وَأُرَاهُ قَالَ: وَالنَّقِيرِ).

ص: 663

رجال هذا الإسناد: خمسة:

وكلّهم ذُكروا في الباب، و"عبثر" هو: ابن القاسم، و"الشيبانيّ" هو: سليمان بن أبي سليمان.

وقوله: (بِمِثْلِهِ)؛ يعني: أن حديث الشيبانيّ عن محارب بن دثار مثل حديث شعبة عنه في الذي قبله.

وقوله: (قَالَ: وَأُرَاهُ قَالَ: وَالنَّقِيرِ) فاعل "قال" الشيبانيّ؛ أي: وأظنّ محاربًا زاد في الحديث لفظ: "والنقير".

[تنبيه]: ظاهر رواية المصنّف رحمه الله أن قوله: "وأُراه قال

إلخ " للشيبانيّ؛ لأنه الذي جاء بدل شعبة في الرواية السابقة، والضمير المنصوب لمحارب، وكذا فاعل "قال"، لكن الذي في "مسند أحمد"، وغيره أن هذا الشكّ من شعبة، فيكون هذا الكلام من جملة الرواية التي قبل هذه، لا في هذه الرواية، قال الإمام أحمد في "مسنده":

(5224)

- حدّثنا وكيعٌ، ثنا شعبة، عن محارب بن دثار، قال: سمعت ابن عمر يقول: "نَهَى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الدباء، والحنتم، والمزفت"، قال شعبة: وأراه قال: "والنقير". انتهى

(1)

، ونحوه في "مصنّف ابن أبي شيبة"، و"مسند أبي يعلى"، فليُتأمّل بالإمعان، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلِّف رحمه الله أَوَّل الكتاب قال:

[5187]

(

) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ حُرَيْثٍ، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ: نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْجَرّ، وَالدُّبَّاء، وَالْمُزَفَّت، وَقَالَ: "انْتَبِذُوا فِي الأَسْقِيَةِ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عُقْبَةُ بْنُ حُرَيْثٍ) التَّغْلبيّ الكوفيّ، ثقةٌ [4](م س) تقدم في "صلاة المسافرين وقصرها" 22/ 1763.

(1)

"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 2/ 58.

ص: 664

والباقون ذُكروا قبل حديث، والحديث من أفراد المصنّف، وقد مضى البحث فيه، ولله الحمد.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5188]

(

) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ جَبَلَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ يُحَدِّثُ، قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْحَنْتَمَة، فَقُلْتُ: مَا الْحَنْتَمَةِ؟ قَالَ: الْجَرَّةُ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(جَبَلَةُ) بن سُحَيم الكوفيّ، ثقةٌ [3](125)(ع) تقدم في "الصيام" 2/ 2509.

والباقون ذُكروا قبله، والحديث من أفراد المصنّف، وقد مضى شرحه.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5189]

(

) - (حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، حَدَّثَنِي زَاذَانُ، قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ عُمَرَ: حَدِّثْنِي بِمَا نَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنَ الأَشْرِبَةِ بِلُغَتِكَ، وَفَسِّرْهُ لِي بِلُغَتِنَا، فَمن لَكُمْ لُغَةً سِوَى لُغَتِنَا، فَقَالَ: نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْحَنْتَم، وَهِيَ الْجَرَّةُ، وَعَنِ الدُّبَّاء، وَهِيَ الْقَرْعَةُ، وَعَنِ الْمُزَفَّت، وَهُوَ الْمُقَيَّرُ، وَعَنِ النَّقِير، وَهِيَ النَّخْلَةُ تُنْسَحُ نَسْحًا، وَتُنْقَرُ نَقْرًا، وَأَمَرَ أَنْ يُنْتَبَذَ في الأَسْقِيَةِ).

رجال هذا الإسناد: ستّة:

1 -

(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ) العنبريّ البصريّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(أَبُوهُ) معاذ بن معاذ العنبريّ البصريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

3 -

(عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ) بن عبد الله بن طارق الْجَمَليّ المراديّ، أبو عبد الله الكوفيّ، ثقةٌ عابد رُمي بالإرجاء [5](ت 118) أو قبلها (ع) تقدم في "الإيمان" 85/ 452.

4 -

(زَاذَانُ) أبو عمرو الكنديّ البزّاز، ويكنى أيضًا أبا عبد الله الكوفيّ، صدوقٌ يُرسل، وفيه تشيّع 21، (ت 82)(بخ م 4) تقدم في "الإيمان" 8/ 4290.

والباقيان ذُكرا قبله.

ص: 665

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من سداسيات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالبصريين إلى شعبة، وابن عمر مدنيّ، والباقيان كوفيّان، وفيه رواية تابعي عن تابعيّ، وفيه ابن عمر رضي الله عنهما من العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عن عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ) الجمليّ، أنه (قَالَ: حَدَّثَنِي زَاذَانَ) الكنديّ (قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ عُمَرَ) رضي الله عنهما (حَدَّثْنِي بِمَا) موصولة؛ أي: باليء الذي (نَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنَ الأَشْرِبَةِ بِلُغَتِكَ)؛ أي: باللغة التي تتداولونها في المدينة، (وَفَسَّرْهُ لِي بِلُغَتِنَا)؛ أي: باللغة التي نتداولها في الكوفة، فكلا اللغتين عربيتان، إلَّا أن كلّ قوم من العرب لهم لهجات تخالف لهجات الآخرين، كما جرى هنا تفسير ابن عمر، فإن الألفاظ المفسّرة، وتفسيرها كلاهما عربيّان، فقوله:(فَإِنَّ لَكُمْ لُغَةً سِوَى لُغَتِنَا) يريد الاختلاف في بعض الألفاظ، لا في أصل اللغة، فإن الكوفة من عراق العرب، لا من عراق العجم، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

(فَقَالَ) ابن عمر رضي الله عنهما (نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْحَنْتَمِ)؛ أي: عن الانتباذ فيه، ثم فسّره له بلغته، فقال:(وَهِيَ الْجرَّةُ) بفتح الجيم، وتشديد الراء، وفي رواية النسائيّ:"وهو الذي تسمّونه أنتم الجرّة". (وَعَنِ الدُّبَّاءِ)؛ أي: ونهى عن الانتباذ في الدبّاء، ثم فسّره له، فقال:(وَهِيَ الْقَرْعَةُ) بفتح، فسكون، قال الفيّوميّ رحمه الله: الْقَرْع: المأكول بسكون الراء، وفتحِها لغتان، قاله ابن السِّكِّيت، والسكون هو المشهور في الكتب، وهو الدبّاء، ويقال: ليس القرع بعربيّ، قال ابن دريد: وأحسبه مشبّهًا الرأس الأقرع. انتهى

(1)

.

(وَعَنِ الْمُزَفَّتِ)؛ أي: ونهى عن الانتباذ في الإناء المزَفّت، ثم فسّره له بلغته:(وَهُوَ الْمُقَيَّرُ)؛ أي: المطليّ بالقار، وهو الزفت. (وَعَنِ النَّقِيرِ)؛ أي: ونهى عن الانتباذ بالنقير، ثم فسَّره له بلغته، فقال:(وَهْيَ النَّخْلَةُ تُنْسَحُ نَسْحًا) بالحاء المهملة، قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في معظم الروايات، والنسح بسين،

(1)

"المصباح المنير" 2/ 499.

ص: 666

وحاء مهملتين؛ أي: تُقْشَر، ثم تُنقر، فتصير نَقِيرًا، ووقع لبعض الرواة في بعض النسخ:"تُنسج" بالجيم، قال القاضي عياض وغيره: هو تصحيف، وادَّعَى بعض المتأخرين أنه وقع في نُسخ "صحيح مسلم"، وفي الترمذيّ بالجيم، وليس كما قال، بل معظم نُسخ مسلم بالحاء. انتهى

(1)

.

(وَتُنْقَرُ نَقْرًا)؛ أي: يُحفر وسطها، يقال: نقرت الخشبة نقرأ، من باب نصر: حفرتها، ومنه قيل: نقرتُ عن الأمر: إذا بحثت عنه، والنقير: خشبة تُنقر، ويُنبذ فيها، فَعِيل بمعنى مفعول

(2)

.

(وَأَمَرَ) صلى الله عليه وسلم (أَنْ يُنْتَبَذَ) بالبناء للمفعول، (فِي الأَسْقِيَةِ) بالفتح: جمع سِقاء، كبناء، وأبنية، وتقدّم أن السقاء: جلد السَّخْلة إذا أجذع، ويكون للماء واللبن، والله تعالى أعلم.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [6/ 5189 و 5190]، و (النسائيّ) في "الأشربة"(8/ 305) و"الكبرى"(5155)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(5/ 116)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(8/ 309)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان تفسير الأوعية.

2 -

(ومنها): أنه ينبغي لطالب العلم أن يجدّ في الفهم بحيث إذا لَمْ يفهم النصّ يطلب من يشرح له بما يفهمه من اللغات.

3 -

(ومنها): أنه ينبغي للعالِم إذا طُلب منه توضيح معنى الآية، أو الحديث أن يعتني بذلك حتى يستفيد الطلّاب، ويفهموا حقّ الفهم، ولا يقتصر بسرد النصوص فقط؛ إذ لا جدوى في ذلك إلَّا بالفهم، قال الله عز وجل:{كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (29)} [ص: 29]، فالمقصود من

(1)

"شرح النوويّ" 13/ 165.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 621.

ص: 667

إنزال الكتاب فَهْمه، ثم العمل به، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلِّف عز وجل أَوَّل الكتاب قال:

[5190]

(

) - (وَحَدَّثَنَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ في هَذَا الْإِسْنَادِ).

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(أَبُو دَاوُد) سليمان بن داود بن الجارود الطيالسيّ البصريّ، ثقةٌ حافظ [9](ت 204)(خت م 4) تقدم في "المقدمة" 6/ 73.

والباقون ذُكروا قبل حديث.

وقوله: (فِي هَذَا الْإِسْنَادِ)"في" بمعنى الباء؛ أي: حدثنا بهذا الإسناد المتقدَّم، وهو عن عمرو، عن زاذان، قال: قلت لابن عمر

إلخ.

[تنبيه]: رواية أبي داود، عن شعبة هذه ساقها البيهقيُّ رحمه الله في "الكبرى"، فقال:

(17255)

- وأخبرنا أبو بكر محمد بن الحسن بن فُورك رحمه الله، أنبأ عبد الله بن جعفر بن أحمد بن فارس، ثنا يونس بن حبيب، ثنا أبو داود الطيالسيّ، ثنا شعبة، أخبرني عمرو بن مُرَّة، قال: سمعت زاذان يقول: قلت لابن عمر: أخبِرنا بما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأوعية، أخبِرنا بلغتكم، وفسِّره لنا بلغتنا، قال: نَهَى عن الحنتم، وهي الجرة، ونهى عن المزفت، وهي المقير، ونهى عن الدباء، وهو القرع، ونهى عن النقير، وهي أصل النخلة، تُنقَر نَقْرًا، وتُنسج نسجًا، وأمر أن يُنتبذ في الأسقية. انتهى

(1)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلِّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5191]

(

) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، أَخْبَرَنَا عبدُ الخَالِقِ بْنُ سَلِمَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ يَقُولُ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ يَقُولُ عِنْدَ هَذَا الْمِنْبَرِ - وَأَشَارَ إِلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: قَدِمَ

(1)

"سنن البيهقيّ الكبرى" 8/ 309.

ص: 668

وَفْدُ عبد القَيْسِ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَسَأَلُوهُ عَنِ الأَشْرِبَة، فَنَهَاهُمْ عَنِ الدُّبَّاء، وَالنَّقِير، وَالْحَنْتَم، فَقُلْتُ لَهُ: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ وَالْمُزَفَّتِ؟ وَظنَنَّا أَنَّهُ نَسِيَهُ، فَقَالَ: لَمْ أَسْمَعْهُ يَوْمَئِذٍ مِنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، وَقَدْ كَانَ يَكْرَهُ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ) الواسطيّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(عبدُ الخَالِقِ بْنُ سَلِمَةَ) - بكسر اللام، ويقال: بفتحها - الشيبانيّ، أبو رَوْح البصريّ، وقيل: هما اثنان، ثقةٌ مُقِلّ [6].

رَوَى عن سعيد بن المسيِّب، وعنه شعبة، وحماد بن زيد، وسعيد بن أبي عروبة، ووهيب، وعُمَر بن عليّ المقدميّ، وإسماعيل ابن عُلَيّة - وكَسَرَ اللامَ - ويزيد بن هارون - وفَتَحها -.

قال عبد الله بن أحمد عن أبيه: ثقةٌ، وكذا قال ابن معين، وأبو داود، والنسائيّ، وقال أبو حاتم: شيخ صالح الحديث، وقال الدارقطنيّ: قال يزيد بن هارون: عبد الخالق بن سَلِمة ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات".

أخرج له المصنّف، وأبو داود في "المراسيل"، والنسائيّ، وله عند المصنّف والنسائيّ هذا الحديث فقط، وعند أبي داود في "المراسيل" حديث:"كانت الصدقة نصف صاع".

3 -

(سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ) تقدّم أيضًا قريبًا.

والباقيان ذُكرا في الباب.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف، وأنه مسلسلٌ بالتحديث، والإخبار، والسماع، وأن فيه ابن المسيّب من الفقهاء السبعة، وفيه ابن عمر رضي الله عنهما أحد العبادلة الأربعة، وأحد المكثرين السبعة، روى (2630) حديثًا.

شرح الحديث:

(عن عبد الخَالِقِ بْنِ سَلِمَةَ) بكسر، وتُفتح، (قَالَ: سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ) بكسر الياء المشدّدة، وفَتَحها بعضهم، والأول هو الصواب. (يَقُولُ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ) بن الخطّاب رضي الله عنهما (يَقُولُ عِنْدَ هَذَا الْمِنْبَرِ) ظاهره أنه

ص: 669

قال: حدّث بهذا الحديث، وهو عند المنبر، لا عليه، ويَحْتَمل أن يكون حدّث به وهو يخطب عليه. (وَأَشَارَ) سعيد (إِلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: قَدِمَ وَفْدُ عبد القَيْسِ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) الوَفْدُ: قوم يجتمعون، فيَرِدُون إلى البلاد لِلُقِيّ الملوك وغيرهم، وعبد القيس أبو قبيلة مشهورة، وقال السيوطيّ رحمه الله في "الديباج": الوفد: الجماعة المختارة للمصير إليهم في المهمات، واحدهم وافد، وكان قدومهم في عام الفتح، وكانوا أربعة عشر راكبًا: الأشج العَصَريّ، ومزيدة بن مالك المحاربيّ، وعبيدة بن همام المحاربيّ، وصحار بن العباس المريّ، وعمرو بن مرحوم العَصَريّ، والحارث بن شعيب العصّريّ، والحارث بن جندب من بني عايش، ولم يُعْثَر بعد طول التتبع على أكثر من أسماء هؤلاء، كذا ذكره النوويّ عن صاحب "التحرير"

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قد تقدَّم البحث فيهم، وذكرنا أن عددهم بلغ نيّفًا وأربعين، وذكرنا من ذكرهم من العلماء في "كتاب الإيمان"، فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق.

(فَسَأَلُوهُ عَنِ الأَشْرِبَةِ)؛ أي: حُكم انتباذها في الأوعية، (فَنَهَاهُمْ عَنِ الدُّبَّاءِ) - بتشديد الباء، والمدّ -: القرع، والواحدة دباءة، (وَالنَّقِيرِ) - بفتح النون، وكسر القاف - أصل النخلة يُنقر جوفها، ويُنبذ فيها، (وَالْحَنْتَمِ) - بفتح الحاء المهملة، وسكون النون، وفتح التاء المثناة من فوقُ - قال أبو هريرة رضي الله عنه: هي الجرار الْخُضْر، وقال ابن عمر رضي الله عنهما: هي الجرار كلُّها، وقال أنس بن مالك رضي الله عنه: جرار يؤتى بها من مصر مُقَيَّرات الأجواف، قال عبد الخالق (فَقُلْتُ لَهُ) لسعيد بن الْمُسَيِّب (يَا أَبَا مُحَمَّدٍ) كنية سعيد، (وَالْمُزَفَّتِ؟)؛ أي: أقال ابن عمر: والمزفّت أيضًا؟ (وَظَنَنَّا أَنَّهُ)؛ أي: سعيدًا (نَسِيَهُ) فترك ذِكره، وإنما ظنوا ذلك؛ لأنَّ ذِكره مشهور في قصّة الوفد، من حديث ابن عبّاس، وغيره. (فَقَالَ) سعيد (لَمْ أَسْمَعْهُ)، أي: لَمْ أسمع ذِكر المزفّت (يَوْمَئِذٍ)؛ أي: يوم سمعت منه هذا الحديث عند المنبر النبويّ (مِنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ) رضي الله عنهما، قال سعيد:(وَقَدْ كَانَ يَكْرَهُ) - بفتح أوله، وثالثه، مبنيًّا

(1)

"الديباج على مسلم" 1/ 24.

ص: 670

للفاعل -؛ أي: قد كان ابن عمر رضي الله عنهما يكره الانتباذ في المزفّت، ولكنه لَمْ يذكره يومئذ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [6/ 5191]، و (النسائيّ) في "الأشربة"(8/ 306)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 14 و 78)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(5/ 72)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(12/ 273)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(9/ 464)، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أَوَّل الكتاب قال:

[5192]

(1998) - (وَحَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، حَدَّثَنَا أَبُو الزُّبَيْرِ (ح) وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا أَبُو خَيْثَمَةَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْر، عَنْ جَابِرٍ، وَابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنِ النَّقِير، وَالْمُزَفَّت، وَالدُّبَّاءِ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ) هو: أحمد بن عبد الله بن يونس، نُسب لجدّه، تقدّم قريبًا.

2 -

(زُهَيْرُ) بن معاوية بن حُدَيج، وهو أبو خَيْثَمَةَ المذكور بعد التحويل، تقدّم أيضًا قريبًا.

3 -

(أَبُو الزُّبَيْرِ) محمد بن مسلم بن تَدْرُس، تقدّم في الباب الماضي.

4 -

(جَابِرُ) بن عبد الله رضي الله عنهما، تقدّم أيضًا في الباب الماضي.

والباقيان ذُكرا في الباب.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (379) من رباعيّات الكتاب، وأن صحابييه من المكثرين السبعة، كما تقدّم غير مرّة، وشرح الحديث واضح، يُعلم مما مضى.

ص: 671

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث جابر، وابن عمر رضي الله عنهم هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [6/ 5192 و 5193](1998)، و (النسائيّ) في "الأشربة"(8/ 309 و 310)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1/ 260)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 35 و 120 و 4/ 303 و 356 و 357 و 379 و 384 و 386)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(5/ 123)، و (البيهقيُّ) في "الكبرى"(8/ 309)، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلِّف رحمه الله أوَّل الكتاب قال:

[5193]

(1999) - (وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاق، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْر، أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَنْهَى عَنِ الْجَرِّ، وَالدُّبَّاء، وَالْمُزَفَّتِ، قَالَ أَبُو الزُّبَيْرِ: وَسَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ يَقُولُ: نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْجَرَّ، وَالْمُزَفَّت، وَالنَّقِير، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا لَمْ يَجِدْ شَيْئًا يُنْتَبذُ لَهُ فِيه، نُبِذَ لَهُ

(1)

فِي تَوْرٍ مِنْ حِجَارَةٍ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

وكلهم ذُكروا قبله، وفي الباب الماضي، والحديث من أفراد المصنّف، كما أسلفته في الذي قبله.

وقوله: (وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا لَمْ يَجِدْ شَيْئًا يُنْتَبَذُ لَهُ فِيهِ) بالبناء للمفعول.

وقوله: (نُبِذَ لَهُ) بالبناء للمفعول أيضًا، وفي بعض النسخ:"يُنبذ له".

وقوله: (فِي تَوْرٍ مِنْ حِجَارَةٍ) - بفتح التاء المثناة من فوقُ، وسكون الواو، وفي آخره راء - قال الداوديّ: التور: قَدَحٌ من أيّ شيء كان، ويقال: إناء يكون من نُحَاس وغيره، وقد بُيِّن هنا أنه من حجارة، قاله في "العمدة"

(2)

.

(1)

وفي نسخة: "يُنبذ له" في الموضعين.

(2)

"عمدة القاري" 20/ 164.

ص: 672

وقال النوويّ رحمه الله: فيه التصريح بنسخ النهي عن الانتباذ في الأوعية الكثيفة، كالدباء، والحنتم، والنقير، وغيرها؛ لأنَّ تور الحجارة أكثف من هذه كلها، وأَولى بالنهي منها، فلمّا ثبت أنه صلى الله عليه وسلم انتُبِذ له فيه دلّ على النسخ، وهو موافق لحديث بُريدة الآتي:"كنت نهيتكم عن النبيذ إلَّا في سقاء، فاشربوا في الأسقية كلِّها، ولا تشربوا مسكرًا"

(1)

، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أَوَّل الكتاب قال:

[5194]

(

) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْر، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ الله، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُنْبَذُ لَهُ فِي تَوْرٍ مِنْ حِجَارَةٍ).

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(أَبُو عَوَانَةَ) وضّاح بن عبد الله اليشكريّ الواسطيّ، تقدّم قريبًا.

والباقون ذُكروا قبله.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، كلاحقه، وهو (380) من رباعيّات الكتاب.

وقوله: (كَانَ يُنْبَذُ لَهُ فِي تَوْرٍ مِنْ حِجَارَةٍ) ببناء الفعل للمفعول، قال النوويّ رحمه الله: التور: بالتاء المثناة فوقُ، وفي الرواية الأخرى:"تَوْر من بِرَام"، وهو بمعنى قوله:"من حجارة"، وهو قَدَحٌ كبيرٌ، كالقِدْر، يُتَّخذ تارةً من الحجارة، وتارةً من النحاس، وغيره. انتهى

(2)

.

وقال في "الفتح": "التور" - بفتح المثناة -: إناء من حجارة، أو من نحاس، أو من خشب، ويقال: لا يقال له: تور إلَّا إذا كان صغيرًا، وقيل: هو قدح كبير، كالقِدْر، وقيل: مثل الطَّسْت، وقيل: كالإِجّانة، وهي بكسر الهمزة، وتشديد الجيم، وبعد الألف نون: وعاء. انتهى

(3)

.

(1)

"شرح النوويّ" 13/ 166 - 167.

(2)

"شرح النوويّ" 13/ 166.

(3)

"الفتح" 12/ 631.

ص: 673

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [6/ 5194 و 5195](1999)، و (أبو داود) في "الأشربة"(3702)، و (النسائيّ) في "الأشربة"(8/ 309) و"الكبرى"(3/ 218)، و (ابن ماجة) في "الأشربة"(3400)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(16935)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(8/ 140)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1751)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 304 و 326 و 379 و 384) وفي "الأشربة"(37)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 116)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(5/ 132)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5387)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(9/ 150)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(3/ 303)، و (ابن الجعد) في "مسنده"(1/ 385)، و (أبو الشيخ) في "أخلاق النبيّ صلى الله عليه وسلم"(ص 210)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(8/ 359)، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلِّف رحمه الله أَوَّل الكتاب قال:

[5195]

(

) - (وَحَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، حَدَّثَنَا أَبُو الزُّبَيْرِ (ح) وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا أَبُو خَيْثَمَةَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْر، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: كَانَ يُنْتَبَذُ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي سِقَاءٍ، فَإِذَا لَمْ يَجِدُوا سِقَاءً نُبِذَ لَهُ فِي تَوْرٍ مِنْ حِجَارَةٍ، فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْم، وَأَنَا أَسْمَعُ لأَبِي الزُّبَيْرِ: مِنْ بِرَامٍ؟ قَالَ: مِنْ بِرَامٍ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

وهو الإسناد الذي ذُكر قبل حديث، وهو أيضًا من رباعيّات المصنّف رحمه الله لهُ، كسابقه، وهو (381) من رباعيّات الكتاب.

وقوله: (فِي سِقَاءٍ) - بكسر السين المهملة، وتخفيف القاف - ككساء: جلدُ السَّخْلَة إذا أجذع، يكون للماء، واللبن، جَمْعه: أَسقيةٌ، وأسقياتٌ، وأساقٍ، قاله المجد

(1)

.

(1)

"القاموس المحيط" ص 624.

ص: 674

وقال المرتضى في "شرحه": والسقاء، ككِسَاء: جِلْدُ السَّخْلة إذا أجذع، كما في "المحكم"، قال الجوهريّ عن ابن السِّكِّيت: يكون للماء، واللبن، والوطب: للبن خاصّةً، والنِّحْيُ: للسَّمْن، والقَرْبة: للماء. انتهى، وقال ابن سِيدَهْ: لا يكون إلَّا للماء، وأنشد [من الطويل]:

يَجُبْنَ بِهَا عَرْضَ الْفَلَاةِ وَمَا لَنَا

عَلَيْهِنَّ إِلَّا وَخْدَهُنَّ سِقَاءُ

"الوخْدُ": سيرٌ سهلٌ؛ أي: لا نحتاج إلى سقاء للماء لأنهنّ يَرِدْن بنا الماءَ وقتَ حاجتنا إليه، جَمْعه في القليل: أسقيةٌ، وأسقياتٌ، وفي الكثير: أَسَاقٍ، وفي "التهذيب": الأساقي جمع الجمع. انتهى

(1)

.

(فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ) قال صاحب "التنبيه": لا أعرفهم. انتهى

(2)

.

وقوله: (وَأَنَا أَسْمَعُ) من كلام أبي خيثمة، زهير بن معاوية الراوي عن أبي الزبير.

وقوله: (مِنْ بِرَامٍ؟

إلخ) - بكسر الموحّدة، وتخفيف الراء، آخره ميم: جمع بُرْمة - بضمّ، فسكون - قال الفيّوميّ: الْبُرْمة: القِدْرُ من الحجر، والجمع: بُرَمٌ، كغُرْفة وغُرَفٍ، وبِرَامٌ. انتهى

(3)

.

وفي "القاموس" و"شرحه": "الْبُرْمة" بالضم: قِدْر تُنْحَتُ من حجارة، وعمَّمه بعضهم، فيشمل النحاس، والحديد، وغيرهما، جَمْعه: بُرَمٌ بالضم في الكثير، كجُرْفَة وجُرْفٍ، قال طرفة [من الكامل]:

جَاؤُ إِلَيْكَ بِكُلِّ أَرْمَلَةٍ

شَعْثَاءَ تَحْمِلُ مْنْقَعَ الْبُرْمِ

وأيضًا بُرَمٌ، كصُرَدٍ، وجِبَالٍ، وعلى الأخيرة اقتصر الجوهريّ، وأنشد ابن بَرّيٍّ للنابغة الذبيانيّ:

وَالْبَائِعَاتِ بِشَطَّيْ نَخْلَةَ الْبُرَمَا

انتهى

(4)

.

ومراد السائل بقوله: "من برام"؛ يعني: هل أردت بقولك: "من حجارة"

(1)

"تاج العروس" 1/ 8435 بزيادة يسيرة من "لسان العرب" 14/ 392.

(2)

"تنبيه المعلم" ص 344.

(3)

"المصباح المنير" 1/ 45.

(4)

"تاج العروس" 1/ 7618.

ص: 675

معنى: "من برام"؟، ومعنى أن كون التور من البرام معروف لديهم، فلذلك استفسروا أبا الزبير عن ذلك، بأنه هو المعنيّ، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلِّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5196]

(977)

(1)

- (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: عَنْ أَبِي سِنَانٍ، وَقَالَ ابْنُ الْمُثَنَّى: عَنْ ضِرَارِ بْنِ مُرَّةَ، عَنْ مُحَارِبٍ، عَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ (ح) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ، حَدَّثَنَا ضِرَارُ بْنُ مُرَّةَ أَبُو سِنَانٍ، عَنْ مُحَارِبِ بْنِ دِثَارٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "نَهَيْتُكُمْ عَنِ النَّبِيذِ إِلَّا فِي سِقَاءٍ، فَاشْرَبُوا فِي الأَسْقِيَةِ كُلِّهَا، وَلَا تَشْرَبُوا مُسْكِرًا").

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الحديث من أفراد المصنّف، وتقدّم قريبًا سندًا ومتنًا في "كتاب الأضاحي" قبل تسعة أبواب، وتقدّم أيضًا قبل ذلك في "كتاب الجنائز"[34/ 2260](977) وقد استوفيت شرحه، وبيان مسائله هناك، فراجعه هناك تستفد علمًا جمًّا، وبالله تعالى التوفيق.

وقوله: (عَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ) هو عَبْدُ اللهِ بْنُ بُرَيْدَةَ المذكور بعده، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلِّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5197]

(

) - (وَحَدَّثَنَا حجَّاجُ بْنُ الشَّاعِر، حَدَّثَنَا ضَحَّاكُ بْنُ مَخْلَدٍ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ مَرْثَدٍ، عَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيه، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "نَهَيْتُكُمْ عَنِ الظُّرُوف، وَإِنَّ الظُّرُوفَ - أَو ظَرْفًا - لَا يُحِلُّ شَيْئًا، وَلَا يُحَرِّمُهُ، وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ).

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الحديث أيضًا تقدّم في "كتاب الأضاحي" سندًا، ومتنًا، إلَّا أن متنه هناك أُحيل على ما قبله، و"سفيان" هو الثوريّ.

قال القاضي عياض رحمه الله: هذه الرواية الثانية فيها تغيير من بعض الرواة،

(1)

هذا رقم سبق، فهو مكرّر.

ص: 676

وصوابه: "كنت نهيتكم عن الأشربة إلَّا في ظروف الأَدَم"، فحذف لفظة "إلَّا" التي للاستثناء، ولا بُدّ منها، قال: والرواية الأُولى فيها تغيير أيضًا، وصوابها:"فاشربوا في الأوعية كلِّها"؛ لأنَّ الأسقية، وظروف الأدم لَمْ تزل مباحةً، مأذونًا فيها، وإنما نُهِي عن غيرها من الأوعية، كما قال في الرواية الأولى:"كنت نهيتكم عن الانتباذ إلَّا في سقاء".

فالحاصل أن صواب الروايتين: "كنت نهيتكم عن الانتباذ إلَّا في سقاء، فانتبذوا، واشربوا في كلِّ وِعَاءٍ"، وما سوى هذا تغيير من الرواة، والله أعلم. انتهى

(1)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5198]

(

) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ مُعَرِّفِ بْنِ وَاصِلٍ، عَنْ مُحَارِبِ بْنِ دِثَارٍ، عَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنِ الأَشْرِبَةِ فِي ظُرُوفِ الأَدَم، فَاشْرَبُوا فِي كلِّ وِعَاءٍ، غَيْرَ أَنْ لَا تَشْرَبُوا مُسْكِرًا").

رجال هذا الإسناد: ستّةٌ:

1 -

(مُعَرِّفُ

(2)

بْنُ وَاصِلٍ) السعْديّ، أبو بَدَل، ويقال: أبو يزيد الكوفيّ، ثقةٌ [6].

رَوَى عن أبي وائل، وإبراهيم التيميّ، وإبراهيم النخعيّ، والمشعبيّ، وعبد الله بن بريدة، ومحارب بن دثار، والأعمش، وغيرهم.

وروى عنه ابن أخيه محمد بن مُطَرِّف بن واصل، ووكيع، وابن مهديّ، وأبو أحمد الزبيريّ، وأبو حذيفة، والفريابيّ، وأحمد بن يونس، وعليّ بن الجعد، وغيرهم.

(1)

"شرح النوويّ" 13/ 167 - 168.

(2)

بضمّ الميم، وفتح العين المهملة، وكسر الراء المشدّدة، بصيغة اسم الفاعل، وقال النووي في "شرحه" (13/ 168): هو بكسر الراء على المشهور، ويقال: بفتحها، حكاه صاحب "المشارق"، و"المطالع"، ويقال فيه: معروف. انتهى.

ص: 677

قال عليّ بن المدينيّ عن القطان: وهو أثبت من الأجلح، وقال عبد الله بن أحمد عن أبيه: ثقةٌ، وقال إسحاق بن منصور، عن ابن معين: ثقةٌ، وقال أبو قُدامة السَّرَخْسيّ، عن ابن مهديّ: مُعَرِّف بن واصل، وعيسى بن عبد الرَّحمن، وأبو بكر النَّهْشليّ، ويعلى بن الحارث من ثقات مشيخة الكوفة، وقال النسائي: ثقةٌ، وذكره ابن حبان في الثقات. قلت: وقال أحمد بن يونس: كان من أفضل الشيوخ، وذَكَره ابن عدي في الكامل فلم يذكر فيه جرحًا لأحد، وقال: هو ممن يُكتب حديثه.

أخرج له مسلم وأبو داود، وليس له في هذا الكتاب إلَّا هذا الحديث.

والباقون ذُكروا في الباب، وقبله.

وقوله: (ظُرُوفِ الأَدَمِ)"الظروف" بضمّ الظاء المعجمة: جمع ظرف، وهو الوعاء، و"الأدم" بفتح الهمزة والدال: جمع أَدِيم، ويقال: أُدُم بضمّهما، وهو القياس، ككَثِيب وكُثُب، وبَرِيد وبُرُد، والأديم: الجلد المدبوغ.

وقال السيوطيّ في "الديباج": قوله: "في ظروف الأدم": قال القاضي عياض: فيه تغيير من بعض الرواة، وصوابه:"إلَّا في ظروف"، فحذف لفظة "إلَّا" التي للاستثناء، ولا بُدّ منها؛ لأنَّ ظروف الأدم لَمْ تزل مباحةً، مأذونًا فيها، وإنما نهي عن غيرها، من الأوعية. انتهى

(1)

.

ووقع في رواية أبي داود: "ونهيتكم عن الأشربة أن تشربوا إلَّا في ظروف الأدم

" الحديث، وهو الصواب.

وقال في "العون": قوله: "إلَّا في ظروف الأدم" الاستثناء منقطع؛ لأنَّ المنهيّ عنه هي الأشربة في الظروف المخصوصة، وليست ظروف الأدم من جنس ذلك، ذكره الطيبيّ. انتهى

(2)

.

وقال المناويّ: قوله: "كنت نهيتكم عن الأشربة": جمع شراب، وهو كلّ مائعٍ رقيقٍ، يُشرَب، ولا يتأتى فيه المضغ حلالًا أو حرامًا، قاله ابن الكمال. "إلَّا في ظروف الأدم"، فإنها جِلد رقيقٌ لا تجعل الماء حارًّا، فلا

(1)

"الديباج على مسلم بن الحجاج" 5/ 54.

(2)

"عون المعبود" 10/ 117.

ص: 678

يصير مسكرًا، وأما الآن فاشربوا في كلّ وعاء، ولو غير أَدَمٍ، غير أن لا تشربوا مسكرًا، فإن زمن الجاهلية قد بَعُدَ، واشتهر التحريم، وتقرر في النفوس، فيُنسخ ما كان قبل ذلك من تحريم الانتباذ في تلك الأوعية؛ خوفًا من مصيره مسكرًا، فلمّا تقرر الأمر أبيح الانتباذ في كلّ وعاء، بشرط عدم الإسكار. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5199]

(2000) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ أَبِي عُمَرَ - وَاللَّفْظُ لِابْنِ أَبِي عُمَرَ - قَالَا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ سُلَيْمَانَ الأَحْوَل، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ أَبِي عِيَاضٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: لَمَّا نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ النَّبِيذِ فِي الأَوْعِيَة، قَالُوا: لَيْسَ كُلُّ النَّاسِ يَجِدُ، فَأَرْخَصَ لَهُمْ فِي الْجَرّ، غَيْرِ الْمُزَفَّتِ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(سُلَيْمَانُ الأَحْوَلُ) ابن أبي مسلم المكيّ، خال ابن أبي نَجِيح، قيل: اسم أبيه عبد الله، ثقةٌ ثقةٌ، قاله أحمد [5](ع) تقدم في "الإيمان" 65/ 368.

2 -

(مُجَاهِدُ) بن جَبْر المخزوميّ مولاهم، أبو الحجّاج المكيّ، ثقةٌ فقيهٌ عالم بالتفسير [3](ت 1 أو 2 أو 3 أو 104) وله (83) سنة (ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 21.

3 -

(أَبُو عِيَاضٍ) عمرو بن الأسود العنسيّ، وقد يُصغّر، حمصيّ سَكَنَ داريا، مخضرم، ثقةٌ عابدٌ، من كبار التابعين 21، مات في خلافة معاوية رضي الله عنه (خ م د س ق) تقدم في "الصيام" 37/ 2742.

[تنبيه]: كتب في "الفتح" بحثًا يتعلّق بأبي عياض هذا، ونصّه: قوله: "عن أبي عياض الْعَنْسِيّ" بالنون، وعياض بكسر المهملة، وتخفيف التحتانية، وبعد الألف ضاد معجمةٌ، واسمه عمرو بن الأسود، وقيل: قيس بن ثعلبة، وبذلك جزم أبو نصر الكلاباذيّ في "رجال البخاريّ"، وكأنه - تَبعَ ما نقله البخاريّ عن عليّ بن المدينيّ، وقال النسائيّ في "الكنى": أبو عياض عمرو بن الأسود العَنْسيّ، ثم ساق من طريق شُرَحْبيل بن عمرو بن مسلم، عن عمرو بن

(1)

"فيض القدير" 5/ 54.

ص: 679

الأسود الحمصيّ أبي عياض، ثم رَوَى عن معاوية بن صالح، عن يحيى بن معين، قال: عمرو بن الأسود العنسيّ يكنى أبا عياض، ومن طريق البخاريّ قال لي عليّ - يعني: ابن المدينيّ -: إن لَمْ يكن اسم أبي عياض قيس بن ثعلبة فلا أدري، قال البخاريّ: وقال غيره: عمرو بن الأسود، قال النسائيّ: ويقال: كنية عمرو بن الأسود أبو عبد الرَّحمن، قال الحافظ: أورد الحاكم أبو أحمد في "الكنى" مُحَصَّل ما أورده النسائيّ إلَّا قول يحيى بن معين، وذكر: أنه سَمِعَ عُمَر، ومعاوية، وأنه رَوَى عنه مجاهد، وخالد بن معدان، وأرطاة بن المنذر، وغيرهم، وذكر في رواية شُرحبيل بن مسلم، عن عمرو بن الأسود أنه مَرّ على مجلس، فسلّم، فقالوا: لو جلست إلينا يا أبا عياض.

ومن طريق موسى بن كثير، عن مجاهد، حدّثنا أبو عياض في خلافة معاوية.

وروى أحمد في "الزهد" أن عمر أثنى على أبي عياض، وذكره أبو موسى في "ذيل الصحابة"، وعزاه لابن أبي عاصم، قال الحافظ: وأظنه ذَكَره لإدراكه، ولكن لَمْ تَثْبت له صحبة، وقال ابن سعد: كان ثقةً قليل الحديث، وقال ابن عبد البرّ: أجمعوا على أنَّه كان من العلماء الثقات.

قال الحافظ: وإذا تقرر ذلك، فالراجح في أبي عياض الذي يروي عنه مجاهد أنه عمرو بن الأسود، وأنه شاميّ، وأما قيس بن ثعلبة، فهو أبو عياض آخر، وهو كوفيّ، ذكره ابن حبان في ثقات التابعين، وقال: إنه يروي عن عُمَر، وعليّ، وابن مسعود، وغيرهم، روى عنه أهل الكوفة، وإنما بسطت ترجمته؛ لأنَّ المزيّ لَمْ يستوعبها، وخلط ترجمة بترجمة، وأنه صغّر اسمه، فقال: عمير بن الأسود الشاميّ العنسيّ، صاحب عبادة بن الصامت، والذي يظهر لي أنه غيره، فإن كان كذلك فما له في البخاريّ سوى هذا الحديث، وإن كان كما قال المزيّ فإن له عند البخاريّ حديثًا تقدم ذِكْره في "الجهاد" من رواية خالد بن معدان، عن عمير بن الأسود، عن أم حرام بنت ملحان، وكأن عمدته في ذلك أن خالد بن معدان روى عن عمرو بن الأسود أيضًا، وقد فرّق ابن حبان في "الثقات" بين عمير بن الأسود الذي يكنى أبا عياض، وبين عمير بن الأسود الذي يروي عن عبادة بن الصامت، وقال: كلّ منهما عمير

ص: 680

بالتصغير، فإن كان ضَبَطه فلعل أبا عياض كان يقال له: عمرو وعمير، ولكنه آخر غير صاحب عبادة، والله أعلم. انتهى

(1)

.

4 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو) بن العاص بن وائل بن هاشم بن سُعيد بن سعد بن سَهْم السَّهْميّ، أبو محمد، أو أبو عبد الرَّحمن، الصحابى ابن الصحابيّ، أحد السابقين الفقهاء من الصحابة، وأحد العبادلة الأربعة، مات ليالي الحرّة بالطائف على الراجح سنة (63)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.

والباقون ذُكروا في الباب، وفيبن أبي عمر" هو: محمد بن يحيى بن أبي عمر العدنيّ، ثم المكيّ، و"سفيان" هو: ابن عيينة.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وأن فيه ثلاثة من التابعين روى بعضهم عن بعض: سليمان الأحول، عن مجاهد، عن أبي عياض.

شرح الحديث:

(عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو) رضي الله عنهما، قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في النسخ المعتمدة ببلادنا، ومعظمِ النسخ:"عن عبد الله بن عَمْرو" بفتح العين من عَمْرو وبواو من الخط، وهو ابن عمرو بن العاص، ووقع في بعضها: ابن عُمَر: بضم العين - يعني: ابن الخطاب - وذكر القاضي أن نُسخهم أيضًا اختَلَفت فيهم، وأن أبا علي الغسانيّ قال: المحفوظ: ابن عَمْرو بن العاص، وقد ذَكَره الحميديّ صاحب ابن عيينة، وابن أبي شيبة، كلاهما عن سفيان بن عيينة، في مسند ابن عمرو بن العاص، وكذا ذكره البخاريّ، وأبو داود، وكذا ذكره الحميديّ في "الجمع بين الصحيحين"، ونَسَبه إلى رواية البخاريّ ومسلم، وكذا ذَكَره جمهور المحدثين، وهو الصحيح، والله أعلم. انتهى

(2)

.

وقال في "الفتح": قوله: "عن عبد الله بن عمرو"؛ أي: ابن العاص، كذا في جميع نُسخ البخاريّ، ووقع في بعض نُسخ مسلم:"عبد الله بن عُمر" بضم العين، وهو تصحيف، نبّه عليه أبو عليّ الجيانيّ. انتهى

(3)

.

(1)

"الفتح" 12/ 635 - 636.

(2)

"شرح النوويّ" 13/ 167.

(3)

"الفتح" 12/ 636.

ص: 681

قال الجامع عفا الله عنه: عبارة الجيَّانيّ رحمه الله بعد أن ساق نصّ مسلم المذكور قال: هكذا هذا الإسناد عند ابن ماهان، ووقع في النسخة: عن أبي العبّاس الرازيّ، عن مجاهد، عن عبد الله بن عمر - يعني: ابن الخطّاب - وكذلك وقع عند السِّجزيّ، وعند الكسائيّ، كلهم قال فيه: عن عبد الله بن عمر بن الخطّاب، قال أبو عليّ: والحديث محفوظ العبد الله بن عمرو بن العاص، وكذلك جعله الحميديّ، وابن أبي شيبة، عن سفيان بن عيينة في مسند عبد الله بن عمرو بن العاص. انتهى كلام الجيّانيّ رحمه الله

(1)

.

والحاصل أن الصواب ما وقع في "صحيح البخاريّ"، ومعظم نُسخ مسلم أنه عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

(قَالَ) عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما (لَمَّا نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ النَّبِيذِ فِي الأَوْعِيَةِ) قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في مسلم: "عن النبيذ في الأوعية"، وهو الصواب، ووقع في غير مسلم:"عن النبيذ في الأسقية"، وكذا نقله الحميديّ في "الجمع بين الصحيحين" عن رواية عليّ بن المدينيّ، عن سفيان:"عن النبيذ في الأوعية". انتهى.

[تنبيه]: وقع في رواية البخاريّ: "لَمّا نَهَى النبيّ صلى الله عليه وسلم عن الأسقية"، بلفظ "الأسقية" بدل "الأوعية"، فقال في "الفتح": كذا وقع في هذه الرواية، وقد تفطّن البخاريّ لِمَا فيها، فقال بعد سياق الحديث: حدّثني عبد الله بن محمد، حدّثنا سفيان، بهذا، وقال:"عن الأوعية"، وهذا هو الراجح، وهو الذي رواه أكثر أصحاب ابن عيينة عنه، كأحمد، والحميديّ، في "مسنديهما"، وأبي بكر بن أبي شيبة، وابن أبي عُمَر عند مسلم، وأحمد بن عَبْدة، عند الإسماعيليّ، وغيرهم.

وقال عياض: ذِكْر الأسقية وَهَمٌ من الراوي، وإنما هو:"عن الأوعية"؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لَمْ ينه قطّ عن الأسقية، وإنما نَهَى عن الظروف، وأباح الانتباذ في الأسقية، فقيل له: ليس كلّ الناس يجد سِقَاءً، فاستثنى ما يُسْكِر، وكذا قال لوفد عبد القيس لمّا نهاهم عن الانتباذ في الدباء، وغيرها، قالوا: ففيم

(1)

"تقييد المهمل" 3/ 894.

ص: 682

نشرب؟ قال: "في أسقية الأَدَمِ"، قال: ويَحْتَمِل أن تكون الرواية في الأصل كانت: لَمّا نَهَى عن النبيذ إلَّا في الأسقية، فسقط من الرواية شيء. انتهى.

وسبقه إلى هذا الحميديّ، فقال في "الجمع": لعله نقص منَ لفظ المتن، وكان في الأصل: لمّا نَهَى عن النبيذ إلَّا في الأسقية.

وقال ابن التين: معناه: لمّا نهى عن الظروف إلَّا الأسقية، قال الحافظ: وهو عجيب، والذي قاله الحميديّ، أقرب، وإلا فحَذْف أداة الاستثناء مع المستثنى منه، وإثبات المستثنى غير جائز، إلَّا إن ادَّعَى ما قال الحميديّ أنه سقط على الراوي.

وقال الكرمانيّ: يَحْتَمِل أن يكون معناه: لمّا نهى في مسألة الأنبذة عن الجِرار، بسبب الأسقية، قال: ومجيء "عن" سببية شائع، مثل: يَسْمَنُون عن الأكل، أي: بسبب الأكل، ومنه:{فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا} الآية [البقرة: 36]؛ أي: بسببها.

قال الحافظ: ولا يخفى ما فيه، ويظهر لي أن لا غَلَط، ولا سَقْط، وإطلاق السقاء على كلّ ما يُسْقَى منه جائز، فقوله:"نَهَى عن الأسقية" بمعنى الأوعية؛ لأنَّ المراد بالأوعية: الأوعية التي، يُستقى منها، واختصاص اسم الأسقية بما يُتخذ من الأَدَمِ إنما هو بالعُرف.

وقال ابن السِّكِّيت: السقاء يكون للّبن، والماء، والوَطْبُ بالواو للّبن خاصّةً، والنِّحْي بكسر النون، وسكون المهملة للسَّمْن، والقربةُ للماء، وإلا فمن يجيز القياس في اللغة لا يَمنع ما صَنَع سفيان، فكأنه كان يرى استواء اللفظين، فحدّث به مرّةً هكذا، ومرارًا هكذا، ومن ثَمَّ لَمْ يَعُدّها البخاريّ وَهَمًا. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: عندي أن ما تقدّم من توهيم عياض، وغيره لرواية "الأسقية" هو الأظهر، وقد تقدّم في أول كلام الحافظ ترجيحه لها، وأن البخاريّ تفطّن لِمَا فيها، والحاصل أن رواية مسلم بلفظ "الأوعية" سالمة، فتفطّن، والله تعالى أعلم.

(1)

"الفتح" 12/ 636، كتاب "الأشربة" رقم (5593).

ص: 683

[تنبيه آخر]: الفرق بين الأسقية من الأدم وبين غيرها، أن الأسقية يتخللها الهواء من مسامّها، فلا يُسرع إليها الفساد مثل ما يسرع إلى غيرها من الجرار، ونحوها، مما نُهِي عن الانتباذ فيه، وأيضًا فالسقاء إذا نُبذ فيه، ثم رُبط أُمنت مفسدة الإسكار بما يُشرب منه؛ لأنه متى تغيّر، وصار مسكرًا شقّ الجلد، فلمّا لَمْ يشقّه فهو غير مسكر، بخلاف الأوعية؛ لأنَّها قد تصير النبيذ فيها مسكرًا، ولا يُعلم به، وأما الرخصة في بعض الأوعية دون بعض، فمن جهة المحافظة على صيانة المال؛ لثبوت النهي عن إضاعته؛ لأنَّ التي نُهي عنها يُسرع التغيّر إلى ما يُنبذ فيها، بخلاف ما أُذِن فيه، فإنه لا يُسرع إليه التغير، ولكن حديث بُريدة ظاهر في تعميم الإذن في الجميع بقَيْد أن لا تشربوا المسكر، فكأن الأمن حصل بالإشارة إلى ترك الشرب من الوعاء ابتداءً حتى يُختبر حاله، هل تغيّر أو لا؟ فإنه لا يتعيّن الاختبار بالشرب، بل يقع بغير الشرب، مثل أن يصير شديد الغليان، أو يقذف بالزبد، ونحو ذلك، قاله في "الفتح"

(1)

.

(قَالُوا)؛ أي: الصحابة الحاضرون لنهيه صلى الله عليه وسلم، (لَيْسَ كُلُّ النَّاسِ يَجِدُ)؛ أي: أسقية الأَدَم، فحَذَف المفعول؛ لِعِلْمه. (فَأَرْخَصَ لَهُمْ فِي الْجَرّ، غَيْرِ الْمُزَفَّتِ) قال النوويّ رحمه الله: هذا محمول على أنَّه رخَصَّ فيه أَوّلًا، ثم رخّص في جميع الأوعية في حديث بريدة وغيره، والله أعلم. انتهى

(2)

.

وقد وقع عند البخاريّ بلفظ: "فرَخّص لهم"، وهو لغة في "أرخص"، يقال: رَخّص الشرع لنا في كذا ترخيصًا، وأرخص إرخاصًا: إذا يسّره، وسهّله، قاله الفيّوميّ

(3)

.

وفي رواية ابن أبي شيبة: "فَأَذِن لهم في شيء منه"، وفي هذا دلالة على أن الرخصة لَمْ تقع دفعةً واحدةً، بل وقع النهي عن الانتباذ إلَّا في سقاء، فلما شَكَوْا رَخَّص لهم في بعض الأوعية دون بعض، ثم وقعت الرخصة بعد ذلك عامّةً.

(1)

"الفتح" 12/ 638، كتاب "الأشربة" رقم (5593).

(2)

"شرح النوويّ" 13/ 169.

(3)

"المصباح المنير" 1/ 224.

ص: 684

قال الحافظ رحمه الله: لكن يفتقر من قال: إن الرخصة وقعت بعد ذلك إلى أن يُثبت أن حديث بريدة الدالّ على ذلك كان متأخرًا عن حديث عبد الله بن عمرو هذا. انتهى.

[تنبيه] كما قال الإمام البخاريّ رحمه الله في "صحيحه": "باب ترخيص النبيّ صلى الله عليه وسلم في الأوعية والظروف بعد النهي"، قال في "الفتح": ذكر فيه خمسة أحاديث: أولها: حديث جابر، وهو عامّ في الرخصة، ثانيها: حديث عبد اللُّه بن عمرو - يعني: حديثه المذكور عند مسلم هنا - وفيه استثناء المزَفّت، ثالثها: حديث عليّ في النهي عن الدباء، والمزفّت، رابعها: حديث عائشة مثله، خامسها: حديث عبد الله بن أبي أوفى في النهي عن الجرّ الأخضر، وظاهر صنيعه أنه يرى أن عموم الرخصة مخصوص بما ذُكر - في الأحاديث الأخرى، وهي مسألة خلاف، فذهب مالك إلى ما دلّ عليه صنيع البخاريّ، وقال الشافعيّ، والثوريّ، وابن حبيب من المالكية: يُكره ذلك، ولا يحرم، وقال سائر الكوفيين: يباح، وعن أحمد روايتان، وقد أسند الطبريّ عن عمر ما يؤيّد قول مالك، وهو قوله:"لَأَنْ أشرب من قُمْقُم مُحْمًى، فيُحرِق ما أحرق، ويبقي ما أبقى أحبّ إليّ من أن أشرب نبيذ الجرّ"، وعن ابن عباس:"لا يشرب نبيذ الجرّ، ولو كان أحلى من العسل"، وأسند النهي عن جماعة من الصحابة.

وقال ابن بطال رحمه الله

(1)

: النهي عن الأوعية إنما كان قطعًا للذريعة، فلمّا قالوا:"لا نجد بُدًّا من الانتباذ في الأوعية، قال: "انتبذوا، وكلّ مسكر حرام"، وهكذا الحكم في كلّ شيء نُهِي عَنه بمعنى النظر إلى غيره، فإنه يسقط للضرورة، كالنهي عن الجلوس في الطرقات، فلما قالوا: لا بُدّ لنا منها، قال: "فأعطوا الطريق حقّها".

وقال الخطابيّ رحمه الله

(2)

: ذهب الجمهور إلى أن النهي إنما كان أوّلًا، ثم نُسِخ، وذهب جماعة إلى أن النهي عن الانتباذ في هذه الأوعية باقٍ، منهم ابن عمر، وابن عباس، وبه قال مالك، وأحمد، وإسحاق، قال الحافظ: كذا أطلق، قال: والأول أصحّ، والمعنى في النهي أن العهد بإباحة الخمر كان

(1)

راجع: "شرح ابن بطال على البخاريّ" 6/ 55.

(2)

راجع: "معالم السنن" 4/ 248.

ص: 685

قريبًا، فلمّا اشتَهَر التحريم أُبيح لهم الانتباذ في كلّ وعاء، بشرط تَرْك شُرب المسكر، وكأن من ذهب إلى استمرار النهي لَمْ يبلغه الناسخ.

وقال الحازميّ رحمه الله: لِمَن نَصَر قول مالك أن يقول: وَرَد النهي عن الظروف كلها، ثم نُسخ منها ظروف الأَدَم، والجرار غير المزفتة، واستمرّ ما عداها على المنع، ثم تَعَقّب ذلك بما ورد من التصريح في حديث بريدة عند مسلم، ولفظه:"نهيتكم عن الأشربة إلَّا في ظروف الأدم، فاشربوا في كلّ وعاء، غير أن لا تشربوا مسكرًا".

قال: وطريق الجمع أن يقال: لمّا وقع النهي عامًّا شَكَوا إليه الحاجة، فرخّص لهم في ظروف الأدم، ثم شَكَوا إليه أن كلهم لا يجد ذلك، فرخّص لهم في الظروف كلها. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي قاله الحازميّ مِنْ وجه الجمع بين الروايات تحقيق حسن جدًّا، والله تعالى أعلم.

والحديث أخرجه المصنّف رحمه الله هنا [6/ 5199](2000)، و (البخاري) في "صحيحه"(5271)، و (الشافعي) في "مسنده"(1/ 282)، و (البيهقي) في "الكبرى"(8/ 310)، و (الطحاوي) في "معاني الآثار"(4/ 221)، و (الحميدي) في "مسنده"(1/ 265)، والله تعالى أعلم.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(7) - (بَابُ بَيَانِ أَنَّ كُلَّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ، وَأَنَّ كُلَّ خَمْرٍ حَرَامٌ، وَبَيَانِ عُقُوبَةِ مَنْ لَمْ يَتُبْ عَنْ شُرْبِهَا بِمَنْعِهِ إِيَّاهَا فِي الآخِرَةِ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلِّف رحمه الله أَوَّل الكتاب قال:

[5200]

(2001) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَاب، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَن، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: سُئِلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْبِتْع، فَقَالَ: "كُلُّ شَرَابٍ أَسْكَرَ فَهُوَ حَرَامٌ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

وكلّهم تقدّموا في الباب الماضي.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

ص: 686

أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بثقات المدنيين، غير شيخه، فنيسابوريّ، وقد دخل المدينة للأخذ عن مالك، وفيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ، وفيه أحد الفقهاء السبعة على بعض الأقوال، وهو أبو سلمة، وفيه عائشة رضي الله عنها من المكثرين السبعة، روت من الحديث (2210)، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ عَائِشَةَ) أم المؤمنين رضي الله عنها أنَّها (قَالَتْ: سُئِلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْبِتْعِ) بكسر الموحّدة، وسكون المثناة، وقد تُفتح، وهي لغة يمانية. قاله في "الفتح"، وقال النوويّ: هو بباء موحّدة مكسورة، ثم مثناة فوقُ ساكنة، ثم عين مهملة، وهو نبيذ العسل، وهو شراب أهل اليمن، قال الجوهريّ: ويقال أيضًا: بفتح التاء المثنّاة، كقِمْعٍ، وقَمَعٍ. انتهى.

زاد في روائة البخاري: "وهو نبيذ العسل، وكان أهل اليمن يشربونه"، قال في "الفتح": وظاهره أن التفسير من كلام عائشة رضي الله عنها، ويَحْتَمِل أن يكون من كلام مَنْ دونها، ووقع في رواية معمر، عن الزهري، عند أحمد مثل رواية مالك، لكن قال في آخره:"والبتع نبيذ العسل"، وهو أظهر في احتمال الإدراج؛ لأنه أكثر ما يقع في آخر الحديث، وقد أخرجه مسلم من طريق معمر، لكن لَمْ يَسُقْ لفظه. انتهى.

قال الحافظ رحمه الله: ولم أقف على اسم السائل، في حديث عائشة رضي الله عنها صريحًا، لكنني أظنه أبا موسى الأشعريّ رضي الله عنه، ففي رواية مسلم الآتية عن أبي بردة، عن أبيه قال: فقلت: يا رسول الله، أفتنا في شرابين، كنا نصنعهما باليمن: الْبتْع من العسل، يُنبَذ حتى يَشتدّ، والمزر من الشعير والذرة يُنبذ حتى يشتدّ؟ قالَ: وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم، أُعطي جوامع الكلم بخواتمه، فقال:"أنهى عن كلّ مسكر أسكر عن الصلاة". انتهى.

قال: وفي رواية أبي داود، التصريح بأن تفسير البتع مرفوع، ولفظه: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شراب من العسل؟ فقال: "ذاك البتع"، قلت: ومن الشعير، والذرة؛ قال:"ذاك الْمِزْر"، ثم قال:"أَخبِرْ قومك أن كلّ مسكر حرام"، وقد سأل أبو وهب الجيشانيّ، عن شيء مما سأله أبو موسى، فعند الشافعيّ، وأبي داود، من حديثه، أنه سأل النبيّ صلى الله عليه وسلم عن المزر؟ فأجاب بقوله:"كلّ مسكر حرام".

ص: 687

(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("كُلُّ شَرَابٍ أَسْكَرَ فَهُوَ حَرَامٌ)؛ أي: كلّ شراب صالح لأنَّ يكون مسكرًا فإنه محرّم، فليس المراد تخصيص التحريم بحالة الإسكار، بل إذا كانت فيه صلاحية الإسكار حَرُم تناوله، ولو لَمْ يَسْكَر المتناوِل بالقَدْر الذي تناوله منه، كما فسّرته الروايات الأخرى:"كلُّ مسكر حرام"، ويؤخذ من لفظ السؤال، أنه وقع عن حكم جنس البتع، لا عن القدر المسكر منه؛ لأنه لو أراد السائل ذلك، لقال: أخبرني عما يحل منه وما يحرم، وهذا هو المعهود من لسان العرب، إذا سألوا عن الجنس، قالوا: هل هذا نافع أو ضار؟ مثلًا، وإذا سألوا عن القدر، قالوا: كم يؤخذ منه؟. أفاده في "الفتح"

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا متَّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [7/ 5200 و 5201 و 5202](2001)، و (البخاريّ) في "الوضوء"(242) و"الأشربة"(5585 و 5586 و 5595)، و (أبو داود) في "الأشربة"(3687 و 3386 و 3687)، و (الترمذيّ) في "الأشربة"(1863 و 1866)، و (النسائيّ) في "الأشربة"(8/ 297 و 320) و"الكبرى"(3/ 213 و 214 و 216 و 4/ 185 و 186)، و (ابن ماجة) في "الأشربة"(3386)، و (مالك) في "الموطّأ"(1595)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1478)، و (عبد الرزّاق) في "مصنفه"(17002)، و (الشافعيّ) في "مسنده"(2/ 92)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(8/ 100 - 101)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 36 و 96 و 190 و 225)، وفي "الأشربة"(2)، و (الدارميّ) في "سننه"(2005)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5345)، و (الطحاويّ) في "معاني الآثار"(4/ 216)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(855)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(5/ 97 - 98)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(8/ 20)، و (إسحاق بن راهويه) في

(1)

"الفتح" 12/ 607 - 608، كتاب "الأشربة" رقم (5585).

ص: 688

"مسنده"(2/ 291 و 285 و 486)، و (الدارقطنيّ) في "سننه"(4/ 251)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(8/ 291)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(3008)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان تحريم كلّ شراب أسكر، قال أبو عمر بن عبد البرّ رحمه الله: والبتع شراب العسل لا خلاف عَلِمْتُه في ذلك بين أهل الفقه، ولا بين أهل اللغة، وإذا خرج الخبر بتحريم المسكر على شراب العسل، فكل مسكر مثله في الحكم، وكذلك قال ابن عمر رضي الله عنهما:"كلّ مسكر خمر". انتهى

(1)

.

2 -

(ومنها): هذا من جوامع كَلِمه صلى الله عليه وسلم، كما أخبر بذلك أبو موسى الأشعريّ رضي الله عنه في حديثه الآتي.

3 -

(ومنها): أنه يستحبّ للمفتي إذا رأى بالسائل حاجة أن يضمّه إلى المسئول عنه، ونظير هذا الحديث حديث:"هو الطهور ماؤه، الحلّ ميتته".

4 -

(ومنها): أن فيه تحريم كلّ مسكر، سواء كان متَّخَذًا من عصير العنب، أو من غيره.

5 -

(ومنها): أنه استُدل بمطلق قوله: "كلّ مسكر حرام" على تحريم ما يُسكر، ولو لَمْ يكن شرابًا، فيدخل في ذلك الحشيشة وغيرها، وقد جزم النوويّ وغيره بأنها مسكرة، وجزم آخرون بأنها مُخَدّرة، وهو مكابرة؛ لأنَّها تُحدِث بالمشاهدة ما يُحدث الخمر من الطرب، والنشأة، والمداومة عليها، والانهماك فيها، وعلى تقدير تسليِم أنَّها ليست بمسكرة، فقد ثبت في أبي داود: النهي عن كلّ مسكر، ومُفتِّر، وهو بالفاء، والله أعلم، قاله في "الفتح"

(2)

، وهو بحث مفيد، والله تعالى أعلم.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في حكم شرب المسكر غير عصير العنب:

قال الحافظ ابن عبد البرّ رحمه الله: أجمعوا على أنَّ عصير العنب إذا غلا،

(1)

"التمهيد" لابن عبد البرّ 7/ 125.

(2)

"الفتح" 12/ 611، كتاب "الأشربة" رقم (5585).

ص: 689

واشتدّ، وقَذَف بالزَّبَد، وأسكر الكثير منه أو القليل، أنه الخمر المحرّمة بالكتاب والسُّنَّة المجتمع عليها، وأن مستحلها كافر، يستتاب، فإن تاب وإلا قُتل، هذا كله ما لا خلاف فيه بين أئمة الفتوي، وسائر العلماء، واختلفوا في شارب المسكر من غير خمر العنب إذا لَمْ يُسكر، فأهل الحجاز يرون المسكر حرامًا، ويرون في قليله الحدّ كما في كثيره على من شربه، وبه قال مالك، والشافعيّ، وأصحابهما، وجماعة أهل الحجاز، وأهل الحديث من أهل العراق، وأما فقهاء العراق فجمهورهم لا يرون في المسكر على من شَرِبه حدًّا إذا لَمْ يُسكر، ولا يَدْعُون ما عدا خمر العنب خمرًا، ويدعونه نبيذًا.

قال: وأما اختلاف العلماء في حدّ عصير العنب الذي إذا بلغه كان خمرًا فاختلاف متقارِب فنذكره هنا لتكمل فائدة الكتاب بذلك: روى ابن القاسم عن مالك أنه كان لا يعتبر الغليان في عصير العنب، ولا يلتفت إليه، ولا إلى ذهاب الثلثين في المطبوخ، وقال: أنا أحدّ كلّ من شرب شيئًا من عصير العنب، وإن قلّ إذا كان يسكر منه، وهو قول الشافعيّ، وقال الليث بن سعد: لا بأس بشرب عصير العنب ما لَمْ يَغل، ولا بأس بشرب مطبوخه إذا ذهب الثلثان، وبقي الثلث، وقال سفيان الثوريّ: اشرب عصير العنب حتى يَغْلِي، وغليانه أن يقذف بالزبد، فإذا غَلَى فهو خمر، وهو قول أبي حنيفة، وأبي يوسف، ومحمد، وزفر، إلَّا أن أبا يوسف قال: إذا غَلَى فهو خمر، وقال أبو حنيفة: لا بأس به ما لَمْ يقذف بالزبد، وقالوا: إذا طُبخ حتى يذهب ثلثاه، ويبقى الثلث، ثم غَلَى بعد ذلك فلا بأس به؛ لأنه قد خرج من الحال المكروهة الحرام إلى حال الحلال، فسواء غَلَى بعد ذلك، أو لَمْ يَغْل، وقال أحمد بن حنبل: العصير إذا أتت عليه ثلاثة أيام فقد حَرُم، إلَّا أن يَغْلِيَ قبل ذلك فيحرم، قال: وكذلك النبيذ، وعن سعيد بن المسيِّب: أنه لا بأس بشرب العصير ما لَمْ يُزْبِد، وإذا أزبد فهو حرام، هذه رواية يزيد بن قُسيط عنه، وروى عنه قتادة: اشربه ما لَمْ يَغْل، فإذا غَلَى فهو خمر، وكذلك قال إبراهيم النخعيّ، وعامر الشعبيّ، وقال الحسن: اشربه ما لَمْ يتغيّر، وقال سعيد بن جبير: اشربه يومًا وليلةً، وروى ذلك عن أبي جعفر محمد بن عليّ، وعن عطاء، وابن سيرين، والشعبيّ، وعن عطاء أيضًا: اشربه ثلاثًا ما لَمْ يَغْل، وقال ابن عباس:

ص: 690

اشربه ما كان طريًّا، وقال ابن عمر: اشربه ما لَمْ يأخذه شيطانه، قيل له: ومتى يأخذه شيطانه؟ قال: في ثلاث. انتهى كلام ابن عبد البرّ رحمه الله

(1)

.

وقال المازريّ رحمه الله: أجمعوا على أنَّ عصير العنب قبل أن يشتدّ حلال، وعلى أنَّه إذا اشتدّ، وغَلَي، وقذف بالزبد حَرُم قليله وكثيره، ثم لو حصل له تخلُّل بنفسه، حلّ بالإجماع أيضًا، فوقع النظر في تبدّل هذه الإحكام عند هذه المتخذات، فأشعر ذلك بارتباط بعضها ببعض، ودلّ على أنَّ علة التحريم الإسكار، فاقتضى ذلك أن كلّ شراب وُجد فيه الإسكار، حرم تناول قليله وكثيره. انتهى

(2)

.

قال الحافظ رحمه الله: وما ذكره استنباطًا ثبت التصريح به في بعض طرق الخبر، فعند أبي داود، والنسائيّ، وصححه ابن حبان من حديث جابر رحمه الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أسكر كثيره، فقليله حرام"، للنسائيّ من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدّه مثله، وسنده إلى عمرو صحيح، ولأبي داود من حديث عائشة رضي الله عنها، مرفوعًا:"كلّ مسكر حرام، وما أسكر منه الفَرَق، فملء الكف منه حرام"، ولابن حبان، والطحاويّ، من حديث عامر بن سعد بن أبي وقاص، عن أبيه رضي الله عنه، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال:"أنهاكم عن قليل ما أسكر كثيره".

وقد اعتَرَف الطحاوي بصحة هذه الأحاديث، لكن قال: اختلفوا في تأويل الحديث، فقال بعضهم: أراد به جنس ما يُسكر، وقال بعضهم: أراد به ما يقع السكر عنده، ويؤيده أن القاتل لا يسمى قاتلًا حتى يَقْتُل، قال: ويدلّ له حديث ابن عباس رضي الله عنهما رفعه: "حُرّمت الخمر قليلها وكثيرها، والسكر من كلّ شراب". انتهى.

وهذا الحديث أخرجه النسائيّ، ورجاله ثقات، إلَّا أنه اختُلف في وصله وافي عمه، وفي رفعه ووقفه، وعلى تقدير صحته فقد رجح الإمام أحمد وغيره، أن الرواية فيه بلفظ:"والمسكر" - بضم الميم، وسكون السين - لا "السكر" - بضم، ثم سكون، أو بفتحتين - وعلى تقدير ثبوتها، فهو حديث فَرْد، ولفظه

(1)

"الاستذكار" 8/ 12.

(2)

"المعلم بفوائد صحيح مسلم" للمازريّ رحمه الله 3/ 62.

ص: 691

مُحْتَمِل، فكيف يعارض عموم تلك الأحاديث، مع صحتها وكثرتها؟.

وجاء عن عليّ عند الدارقطنيّ، وعن ابن عمر عند ابن إسحاق، والطبرانيّ، وعن خَوّات بن جبير، عند الدارقطنيّ، والحاكم، والطبرانيّ، وعن زيد بن ثابت، عند الطبرانيّ، وفي أسانيدها مقال، لكنها تزيد الأحاديث التي قبلها قوّة وشهرةً.

قال أبو المظفر ابن السمعانيّ: وكان حنفيًّا، فتحوّل شافعيًّا: ثبتت الأخبار عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، في تحريم المسكر، ثم ساق كثيرًا منها، ثم قال: والأخبار في ذلك كثيرة، ولا مساغ لأحد في العدول عنها، والقول بخلافها، فإنها حُجج قواطع، قال: وقد زَلَّ الكوفيون في هذا الباب، ورووا أخبارًا معلولةً، لا تُعارض هذه الأخبار بحال، ومن ظنَّ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم شَرِب مسكرًا، فقد دخل في أمر عظيم، وباء بإثم كبير، وإنما الذي شَرِبه كان حلوًا، ولم يكن مسكرًا.

وقد رَوَى ثمامة بن حزن القشيريّ، أنه سأل عائشة رضي الله عنها عن النبيذ؟ فدعت جارية حبشية، فقالت: سل هذه، فإنها كانت تنبذ لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت الحبشية: كنت أَنْبِذ له في سقاء من الليل، وأوكؤه، وأعلّقه، فإذا أصبح شرب منه، أخرجه مسلم، وروى الحسن البصريّ، عن أمه، عن عائشة رضي الله عنها نحوه.

ثم قال: فقياس النبيذ على الخمر بعلّة الإسكار، والاضطراب من أَجَلِّ الأقيسة، وأوضحِها، والمفاسدُ التي توجد في الخمر توجد في النبيذ، ومن ذلك أن علة الإسكار في الخمر؛ لكون قليله يدعو إلى كثيره موجودة في النبيذ؛ لأنَّ السكر مطلوب على العموم، والنبيذ عندهم عند عدم الخمر يقوم مقام الخمر؛ لأنَّ حصول الفرح والطرب موجود في كلّ منهما، وإن كان في النبيذ غِلَظ وكدرة، وفي الخمر رقّة وصفاء، لكن الطبع يَحْتَمِل ذلك في النبيذ؛ لحصول السكر كما تُحْتَمَل المرارة في الخمر؛ لِطَلَب السكر، قال: وعلى الجملة فالنصوص المصرحة بتحريم كلّ مسكر، قلّ أو كثر، مُغْنِيَة عن القياس، والله تعالى أعلم.

وقد قال عبد الله بن المبارك: لا يصح في حلّ النبيذ الذي يُسكر كثيره

ص: 692

عن الصحابة شيء، ولا عن التابعين، إلَّا عن إبراهيم النخعيّ، قال: وقد ثبت حديث عائشة رضي الله عنها: "كلّ شراب أسكر فهو حرام".

وأما ما أخرج ابن أبي شيبة، من طريق أبي وائل:"كنا ندخل على ابن مسعود، فيسقينا نبيذًا شديدًا"، ومن طريق علقمة:"أكلت مع ابن مسعود، فأُتينا بنبيذ شديد، نبذته سيرين، فشربوا منه".

[فالجواب عنه]: من ثلاثة أوجه:

[أحدها]: لو حُمل على ظاهره، لَمْ يكن معارِضًا للأحاديث في تحريم كلّ مسكر.

[ثانيها]: أنه ثبت عن ابن مسعود رضي الله عنه تحريم المسكر قليله وكثيره، فإذا اختلف النقل عنه، كان قوله الموافق لقول إخوانه من الصحابة، مع موافقة الحديث المرفوع أَولى.

[ثالثها]: يَحْتَمِل أن يكون المراد بالشدّة شدّة الحلاوة، أو شدة الحموضة، فلا يكون فيه حجة أصلًا.

وأسند أبو جعفر النحاس، عن يحيى بن معين، أن حديث عائشة رضي الله عنها:"كلّ شراب أسكر، فهو حرام"، أصح شيء في الباب.

وفي هذا تَعَقُّب على من نقل عن ابن معين أنه قال: لا أصل له، وقد ذكر الزيلعيّ في "تخريج أحاديث الهداية"، وهو من أكثرهم اطلاعًا: أنه لَمْ يثبت في شيء من كتب الحديث نَقْل هذا عن ابن معين. انتهى.

وكيف يتأتى القول بتضعيفه، مع وجود مخارجه الصحيحة، ثم مع كثرة طرقه؟ حتى قال الإمام أحمد: إنها جاءت عن عشرين صحابيًّا، فأورد كثيرًا منها في "كتاب الأشربة" المفرد، فمنها ما تقدم، ومنها حديث ابن عمر الآتي عند مسلم آخر الباب، وحديث عمر بلفظ:"كلّ مسكر حرام"، عند أبي يعلى، وفيه الإفريقي، وحديث عليّ، بلفظ:"اجتنبوا ما أسكر"، عند أحمد، وهو حسن، وحديث ابن مسعود، عند ابن ماجة، من طريق ليّن بلفظ عمر، وأخرجه أحمد من وجه آخر ليّن أيضًا، بلفظ عليّ، وحديث أنس، أخرجه أحمد بسند صحيح، بلفظ:"ما أسكر فهو حرام"، وحديث أبي سعيد، أخرجه البزار بسند صحيح، بلفظ عمر، وحديث الأشج العَصَري، أخرجه أبو يعلى كذلك بسند

ص: 693

جيّد، وصححه ابن حبان، وحديث دَيْلَم الحميريّ، أخرجه أبو داود بسند حسن، في حديث فيه قال:"هل يسكر؟ " قال: نعم، قال:"فاجتنبوه"، وحديث ميمونة، أخرجه أحمد بسند حسن، بلفظ:"وكل شراب أسكر، فهو حرام"، وحديث ابن عباس، أخرجه أبو داود، من طريق جيّد، بلفظ عمر، والبزار من طريق ليّن، بلفظ:"واجتنبوا كلّ مسكر"، وحديث قيس بن سعد، أخرجه الطبرانيّ، بلفظ حديث ابن عمر، وأخرجه أحمد من وجه آخر، بلفظ حديث عمر، وحديث النعمان بن بشير، أخرجه أبو داود بسند حسن، بلفظ:"وإني أنهاكم عن كلّ مسكر"، وحديث معاوية، أخرجه ابن ماجة بسند حسن، بلفظ عمر، وحديث وائل بن حجر أخرجه ابن أبي عاصم، وحديث قرة بن إياس المزنيّ، أخرجه البزار، بلفظ عمر بسند ليِّن، وحديث عبد الله بن مُغَفَّل، أخرجه أحمد بلفظ:"اجتنبوا المسكر"، وحديث أم سلمة، أخرجه أبو داود بسند حسن، بلفظ:"نُهي عن كلّ مسكر ومُفَتِّر"، وحديث بريدة أخرجه مسلم في أثناء حديث، ولفظه مثل لفظ عمر، وحديث أبي هريرة أخرجه النسائيّ بسند حسن كذلك، ذَكَر أحاديث هؤلاء الترمذيّ في الباب، وفيه أيضًا عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جذه، عند النسائيّ، بلفظ عمر، وعن زيد بن الخطاب، أخرجه الطبرانيّ بلفظ عليّ:"اجتنبوا كلّ مسكر"، وعن الرَّسيم أخرجه أحمد، بلفظ:"اشربوا فيما شئتم، ولا تشربوا مسكرا"، وعن أبي بردة بن نيار، أخرجه ابن أبي شيبة بنحو هذا اللفظ، وعن طلق بن عليّ، رواه ابن أبي شيبة بلفظ:"يا أيها السائل عن المسكر، لا تشربه، ولا تُسْقِه أحدًا من المسلمين"، وعن صحار العبدي، أخرجه الطبرانيّ بنحو هذا، وعن أم حبيبة عند أحمد في "كتاب الأشربة"، وعن الضحاك بن النعمان، عند ابن أبي عاصم في "الأشربة"، وكذا عنده عن خَوّات بن جبير.

فإذا انضمت هذه الأحاديث إلى حديث ابن عمر، وأبي موسى، وعائشة، زادت عن ثلاثين صحابيًّا، وأكثر الأحاديث عنهم جياد، ومضمونها أن المسكر لا يحلّ تناوله، بل يجب اجتنابه، والله أعلم.

وقد رَدَّ أنس الاحتمال الذي جنح إليه الطحاويّ، فقال أحمد: حدّثنا عبد الله بن إدريس، سمعت المختار بن فُلْفُل، يقول: سألت أنسًا؟، فقال:

ص: 694

نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المزفت، وقال:"كلّ مسكر حرام"، قال: فقلت له: صدقت، المسكر حرام، فالشربة، والشربتان على الطعام، فقال: ما أسكر كثيره، فقليله حرام، وهذا سند صحيح على شرط مسلم، والصحابيّ أعرف بالمراد، ممن تأخر بعده، ولهذا قال عبد الله بن المبارك ما قال. انتهى ما في "الفتح"

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: لقد أجاد الحافظ رحمه الله في تتبّع أحاديث النبيّ صلى الله عليه وسلم المرويّة في تحريم شرب المسكر، ولو لَمْ يَسْكَر، فمحاولة الطحاويّ، ومن تبعه في تأويل حديث:"كلّ شراب أسكر فهو حرام" بأن المراد السكر منه، لا تناول ما لا يُسكر؛ يعني: القليل منه محاولةٌ فاشلة، باطلة يُبطلها ما صحّ عن جماهير الصحابة، والتابعين في حَمْلهم الحديث على أنَّ المراد منه شرب المسكر، سواء أسكر؛ لكثرته، أم لَمْ يُسكر لقلّته.

والحاصل أن ما أسكر كثيره، فقليله حرام، فلا يحلّ شرب النبيذ إذا بلغ حدّ الإسكار، ولو لَمْ يَسكر منه؛ لنصّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على تحريمه، والله تعالى أعلم.

[تنبيه]: أخرج النسائيّ رحمه الله بسند حسن، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: عَلِمْتُ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصوم، فتحيّنت فِطره بنبيذ صنعته له في دباء، فجئته به، فقال:"أَدْنِهِ"، فأدنيته منه، فإذا هو يَنِشّ، فقال:"اضْرِب بهذا الحائطَ، فإن هذا شراب من لا يؤمِن بالله واليوم الآخر".

قال أبو عبد الرَّحمن - النسائيّ -: وفي هذا دليل على تحريم السكر قليله وكثيره، وليس كما يقول المخادعون لأنفسهم بتحريمهم آخر الشربة، وتحليلهم ما تقدمها الذي يُشْرَب في الفَرَق قبلها، ولا خلاف بين أهل العلم أن السُّكْرَ بكلّيته لا يَحْدُث على الشربة الآخرة، دون الأولى والثانية بعدها، وبالله التوفيق. انتهى

(2)

.

[فائدة]: رأيت للعلامة اللغويّ أحمد بن محمد بن عليّ المقرئ الفيّوميّ

(1)

"الفتح" 12/ 608 - 611، كتاب "الأشربة" رقم (5585).

(2)

"سنن النسائيّ - المجتبى" 8/ 301.

ص: 695

المتوفّى سنة (770 هـ) الذي أعزو إليه غالب النقول اللغوية في هذا الشرح؛ لوجازته مع إتقانه، فائدةً تتعلق بهذا الموضوع، حيث قال في كتابه الممتع "المصباح المنير في غريب الشرح الكبير" ما نصّه:

ويُرْوَى

(1)

: "ما أسكر كثيره، فقليله حرام"، ونُقل عن بعضهم أنه أعاد الضمير على "كثيره"، فيبقى المعنى على قوله:"فقليل الكثير حرام، حتى لو شرب قَدَحين من النبيذ مثلًا، ولم يَسْكَر بهما، وكان يسكر بالثالث، فالثالث كثير، فقليل الثالث، وهو الكثير حرام، دون الأَوَّلَين".

وهذا كلام منحرف عن اللسان العربيّ؛ لأنه إخبار عن الصلة دون الموصول، وهو ممنوع باتّفاق النحاة، وقد اتّفقوا على إعادة الضمير من الجملة على المبتدإ لِيُرْبَطَ به الخبرُ، فيصيرُ المعنى: الذي يُسكر كثيره، فقليل ذلك الذي يُسكر كثيره حرام، وقد صَرّح به في الحديث، فقال:"كلُّ مسكر حرام، وما أسكر الفرق منه، فملء الكفّ منه حرام". ولأن الفاء جواب لِمَا في المبتدإ من معنى الشرط، والتقدير: مهما يكن من شيء يسكر كثيره، فقليل ذلك الشيء حرام، ونظيره: الذي يقوم غلامه فله درهم، والمعنى: فلذلك الذي يقوم غلامه، ولو أعيد الضمير على الغلام بقي التقدير: الذي يقوم غلامه، فللغلام درهم، فيكون إخبارًا عن الصلة دون الموصول، فيبقى المبتدأ بلا رابط، فتأمله، وفيه فساد من جهة المعنى أيضًا؛ لأنه إذا أُريدَ: فقليل الكثير حرام يبقى مفهومه: فقليل القليل غير حرام، فيؤدّي إلى إباحة ما لا يُسكر من الخمر، وهو مخالفٌ للإجماع. انتهى كلام الفيّوميّ رحمه الله

(2)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي قاله الفيّوميّ رحمه الله تحقيق نفيسٌ جدًّا، يقطع دابر المفسدين الذين يقولون: إن المحرَّم هو الشربة الأخيرة، حيث تبيّن به أن ما تمسّكوا به من التمويهات الباطلة، لا يؤتده النقل اللغويّ، كما

(1)

كان الأَولى في مثل هذا الحديث الصحيح التعبير بثبت، أو بصحّ، ونحو ذلك، لا "يروى" بصيغة التمريض، إلَّا أن العذر للفيّوميّ أنه لغويّ، وليس محدّثًا، حتى يَعرف هذه الدقائق الحديثية، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

(2)

"المصباح المنير" 1/ 283.

ص: 696

أن النصوص الصحيحة تنابذه. {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8)} [آل عمران: 8]. اللَّهمّ أرنا الحقّ حقًّا، وارزقنا اتّباعه، وأرنا الباطل باطلًا، وارزقنا اجتنابه، آمين.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5201]

(

) - (وَحَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى التُّجِيبِيُّ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَن، أَنَّهُ سَمِعَ عَائِشَةَ، تَقُولُ: سُئِلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْبِتْع، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "كُلُّ شَرَابٍ أَسْكَرَ فَهُوَ حَرَامٌ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى التُّجِيبِيُّ) المصري، صدوق [11](م س ق) تقدم في "المقدمة" 3/ 14.

2 -

(ابْنُ وَهْبٍ) عبد الله، تقدّم في الباب الماضي.

3 -

(يُونُسُ) بن يزيد الأيليّ، تقدّم قريبًا.

والباقون ذُكروا قبله.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5202]

(

) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَمْرٌو النَّاقِدُ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، كُلُّهُمْ عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ (ح) وَحَدَّثَنَا حَسَنٌ الْحُلْوَانِيُّ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ صَالِحٍ (ح) وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالَا: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقَ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، كُلُّهُمْ عَنِ الزُّهْرِيِّ، بِهَذَا الْإِسْنَاد، وَلَيْسَ فِي حَدِيثِ سُفْيَانَ، وَصَالِحٍ:"سُئِلَ عَنِ الْبِتْعِ"، وَهُوَ فِي حَدِيثِ مَعْمَرٍ، وَفِي حَدِيثِ صَالِحٍ: أَنَّهَا سَمِعَتْ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "كُلُّ شَرَابٍ مُسْكِرٍ حَرَامٌ").

رجال هذا الإسناد: خمسة عشر:

1 -

(سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورِ) بن شعبة، أبو عثمان الْخُرَاسانيّ، نزيل مكة، ثقةٌ مصنّفٌ [10](ت 227) أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 61/ 338.

ص: 697

2 -

(حَسَنٌ الْحُلْوَانِيُّ) ابن عليّ الخلّال، نزيل مكة، تقدّم قريبًا.

3 -

(عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ) الكسيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

4 -

(يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ) الزهريّ المدنيّ، نزيل بغداد، تقدّم أيضًا قريبًا.

5 -

(أَبُوهُ) إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرَّحمن بن عوف المدنيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

6 -

(صَالِحُ) بن كيسان الغفاريّ المدنيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

7 -

(مَعْمَرُ) بن راشد اليمنيّ الحافظ، تقدّم أيضًا قريبًا.

والباقون كلّهم ذُكروا في الباب والذي قبله.

وقوله: (كُلّهُمْ عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ)؛ يعني: أن شيوخه الخمسة رووا هذا الحديث عن سفيان بن عيينة.

وقوله: (كُلُّهُمْ عَنِ الزُّهْرِيِّ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ)؛ يعني: أن هؤلاء الثلاثة: ابن عيينة، وصالح بن كيسان، ومعمر بن راشد رووا هذا الحديث عن الزهريّ بسنده الماضي؛ أي: عن أبي سلمة، عن عائشة رضي الله عنها.

[تنبيه]: رواية سفيان بن عيينة، عن الزهريّ ساقها ابن ماجة رحمه الله في "سننه"، فقال:

(3386)

- حدّثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا سفيان بن عيينة، عن الزهريّ، عن أبي سلمة، عن عائشة، تَبْلُغ به النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"كلّ شراب أسكر فهو حرام". انتهى

(1)

.

ورواية صالح بن كيسان عن الزهريّ، ساقها أبو عوانة رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(7940)

- حدّثنا عباس الدُّوريّ، قال: ثنا يعقوب بن إبراهيم بن سعد، قال: ثنا أبي، عن صالح، عن ابن شهاب، أن أبا سلمة بن عبد الرَّحمن أخبره، أن عائشة أم المؤمنين أخبرته، أنَّها سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول:"كلّ شراب مسكر حرام". انتهى

(2)

.

(1)

"سنن ابن ماجة" 2/ 1123.

(2)

"مسند أبي عوانة" 5/ 98.

ص: 698

ورواية معمر بن راشد عن الزهريّ ساقها إسحاق بن راهويه في "مسنده"، فقال:

(1067)

- أخبرنا عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهريّ، عن أبي سلمة، عن عائشة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الْبِتْع، فقال:"كلّ شراب أسكر فهو حرام"، قال:"والبتعُ نبيذ العسل". انتهى

(1)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5203]

(1733)

(2)

- (وَحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ - وَاللَّفْظُ لِقُتَيْبَةَ - قَالَا: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِيه، عَنْ أَبِي مُوسَى، قَالَ: بَعَثَنِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنَا وَمُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ إِلَى الْيَمَن، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ شَرَابًا يُصْنَعُ بِأَرْضِنَا، يُقَالُ لَهُ: الْمِزْرُ، مِنَ الشَّعِير، وَشَرَابٌ يُقَالُ لَهُ: الْبِتْعُ، مِنَ الْعَسَل، فَقَالَ: "كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(سَعِيدُ بْنُ أَبِي بُرْدَةَ) الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ [5](ع) تقدم في "الزكاة" 16/ 2333.

2 -

(أَبُوهُ) أبو بُردة بن أبي موسى الأشعريّ، الكوفيّ، وُلد بالبصرة، قيل: اسمه عامر، وقيل: الحارث، ثقةٌ [3](ت 104) وقيل غير ذلك، وقد جاوز الثمانين (ع) تقدم في "الإيمان" 16/ 171.

3 -

(أَبُو مُوسَى) عبد الله بن قيس بن سُليم بن حَضّار الأشعريّ الصحابيّ المشهور، مات رحمه الله سنة (50) أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 16/ 171.

والباقون ذُكروا في الباب وقبله.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من سُداسيّات المصنّف، وأنه مسلسل بالكوفيين، سوى شعبة، فواسطيّ، ثم بصريّ، وقتيبة فبغلانيّ، وإسحاق، فمروزيّ، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، ورواية الراوي عن أبيه، عن جدّه.

(1)

"مسند إسحاق بن راهويه" 2/ 486.

(2)

هذا رقم مكرّر.

ص: 699

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِيِ مُوسَى) الأشعريّ رضي الله عنه أنه (قَالَ: بَعَثَنِي)؛ أي: أرسلني (النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنَا وَمُعَاذَ بْنَ جَبَلِ) بن عمرو بن أوس الأنصاريّ الخزرجيّ، الصحابيّ الشهير المتوفّى سنة ثمان عشرة بالشام، تقدّمت ترجمته في "الإيمان" 7/ 135. (إِلَى الْيَمَنِ) البلد المعروف، قال في "الفتح": كان بَعْثُ أبي موسى رضي الله عنه إلى اليمن بعد الرجوع من غزوة تبوك؛ لأنه شهد تبوك مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وقال في الكلام على بعث معاذ رضي الله عنه: وروى أحمد من طريق عاصم بن حميد، عن معاذ: "لمّا بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن خرج يوصيه، ومعاذ راكب

" الحديث، ومن طريق يزيد بن قطيب، عن معاذ: "لمّا بعثني النبيّ صلى الله عليه وسلم لي إلى اليمن قال: قد بعثتك إلى قوم رقيقة قلوبهم، فقاتِل بمن أطاعك من عصاك"، وعند أهل المغازي أنَّها كانت في ربيع الآخر سنة تسع من الهجرة. انتهى

(1)

.

(فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ شَرَابًا يُصْنَعُ بِأَرْضِنَا)؛ أي: أرض اليمن، (يُقَالُ لَهُ: الْمِزْرُ) بكسر الميم، وسكون الزاي، آخره راء، (مِنَ الشَّعِيرِ) متعلّق بـ "يُصنع"، ويُصنع أيضًا من الذّرَة، والحنطة. (وَشَرَابٌ يُقَالُ لَهُ: الْبِتْعُ) بكسر الموحّدة، وسكون التاء، (مِنَ الْعَسَلِ)؛ أي: يُصنع منه، المراد من السؤال: معرفة حُكْم شُربه، ففي رواية زيد بن أبي أنيسة عن سعيد بن أبي بردة الآتية: "قلت: يا رسول الله أفتنا في شرابين نصنعهما باليمن: البتع، وهو من العسل، يُنبذ حتى يشتدّ، والْمِزْر، وهو من الذرة والشعير، يُنبذ حتى يشتدّ

".

(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ") وفي رواية زيد الآتية: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أُعطي جوامع الكلم بخواتمه، فقال:"أنهى عن كلّ مسكر أسكر عن الصلاة"، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

(1)

راجع: "الفتح" 9/ 477 - 479، كتاب "المغازي" رقم (4341).

ص: 700

أخرجه (المصنّف) هنا [5203 و 5204 و 5205](1733)، و (البخاريّ) في "الجهاد والسير"(3038) و"المغازي"(4343 و 4345) و"الأدب"(6124) و"الأحكام"(7172)، و (أبو داود) في "الأشربة"(3684)، و (النسائيّ) في "الأشربة"(8/ 298) و"الكبرى"(3/ 214)، و (ابن ماجة) في "الأشربة"(3291)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(3/ 357)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 410 و 417) وفي "الأشربة"(238)، و (الدارميّ) في "سننه"(2006)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(856)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5373)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(5/ 99)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(8/ 291)، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5204]

(

) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرٍو، سَمِعَهُ مِنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِيه، عَنْ جَدِّه، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَهُ وَمُعَاذًا إِلَى الْيَمَن، فَقَالَ لَهُمَا: "بَشِّرَا، وَيَسِّرَا، وَعَلِّمَا، وَلَا تُنَفِّرَا"، وَأُرَاهُ قَالَ: "وَتَطَاوَعَا"، قَالَ: فَلَمَّا وَلَّى رَجَعَ أَبُو مُوسَى، فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله، إِنَّ لَهُمْ شَرَابًا مِنَ الْعَسَل، يُطْبَخُ حَتَّى يَعْقِدَ، وَالْمِزْرُ يُصْنَعُ مِنَ الشَّعِير، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "كُلُّ مَا أَسْكَرَ عَنِ الصَّلَاةِ فَهُوَ حَرَامٌ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادِ) بن الزِّبْرقان المكيّ، نزيل بغداد، صدوقٌ يَهِمُ [10](ت 234)(خ م ت س ق) تقدم في "المقدمة" 4/ 19.

2 -

(عَمْرُو) بن دينار الأثرم الجمحيّ مولاهم، أبو محمد المكيّ، تقدّم قريبًا.

والباقون ذُكروا في الباب، و"سفيان" هو: ابن عيينة.

[تنبيه]: انتقد الدارقطنيّ هذا الإسناد، وقال: لَمْ يتابع ابن عبّاد عن سفيان، عن عمرو، عن سعيد، وقد روي عن سفيان، عن مسعر، عن سعيد، ولا يثبت، ولم يُخرجه البخاريّ من طريق سفيان. انتهى، ونقل النوويّ كلام الدارقطنيّ هذا، ولم يتعقّبه.

ص: 701

وعبارة الدارقطنيّ في "العلل": واختُلِف عن ابن عيينة، فرُوي عن محمد بن عباد المكيّ عنه، عن عمرو بن دينار، عن سعيد بن أبي بُردة، عن أبيه، عن أبي موسى، وخالفه سهل صقير، فرواه عن ابن عيينة عن مسعر، وغيره، عن سعيد بن أبي بردة، وكلاهما غير محفوظ. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: خلاصة القول أن ما قاله الدارقطنيُّ رحمه الله وجيه، وذلك أن محمد بن عبّاد تفرّد عن سفيان، وخالفه غيره، وهو ليس بحافظ، إلَّا أن متن الحديث صحيح محفوظ من الطرق الأخرى، فلا حرج على مسلم، حيث أورده في معرض المتابعة، لا في معرض الاحتجاج، فتأمل بالإنصاف، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ عَمْرٍو) هو ابن دينار أنه (سَمِعَهُ)؛ أي: سمع هذا الحديث (مِنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ) أبي بردة عامر، وقيل غيره، (عَنْ جَدِّهِ) أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَهُ)؛ أي: أبا موسى (وَمُعَاذًا)؛ أي: ابن جبل رضي الله عنه (إِلَى الْيَمَن، فَقَالَ لَهُمَا: (بَشِّرَا، وَيَسِّرَا)؛ أي: خذا بما فيه اليُسر والسهولة، زاد في الرواية السابقة في "الجهاد والسِّير":"ولا تعسّرا"؛ أي: لا تأخذا بما فيه الشدّة. (وَعَلِّمَا)؛ أي: علِّما الناس أمور دينهم، (ولَا تَنَفِّرَا") وفي الرواية السابقة في "الجهاد والسِّير" [3/ 4516] (1733):"يسّرا، ولا تعسّرا، وبشّرا، ولا تُنفّرا"، قال الطيبيّ رحمه الله: قوله: "يسّرا، ولا تعسّرا، وبشّرا ولا تنفّرا" هذا من باب المقابلة المعنوية، لأنَّ الحقيقية أن يقال: بشّرا، ولا تنذرا، وآنسا، ولا تنفّرا، فجَمَع بينهما، لتعمّ البشارة والنذارة، والتأنيس والتنفير.

قال الحافظ رحمه الله بعد نقل كلام الطيبيّ هذا: ويظهر لي أن النكتة في الإتيان بلفظ البشارة، وهو الأصل، وبلفظ التنفير، وهو اللازم، وأتى بالذي بعده على العكس، للإشارة إلى أن الإنذار لا يُنفَى مطلقًا، بخلاف التنفير، فاكتفَى بما يلزم عنه الإنذار، وهو التنفير، فكأنه قيل: إن أنذرتم، فليكن بغير

(1)

"علل الدارقطنيّ" 7/ 215.

ص: 702

تنفير، كقوله تعالى:{فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا} الآية [طه: 44] انتهى

(1)

، وتقدّم في "الزكاة" بأتمّ مما هنا، فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق.

وقوله: (وَأُرَاهُ قَالَ) يَحْتَمل أن يكون الشكّ من أبي موسى رضي الله عنه؛ أي: أظنّه صلى الله عليه وسلم قال: ("وَتَطَاوَعَا")؛ أي: فيما بينهما، ليُطع أحدكما الآخر فيما يأمره به، وقد مرّ في "الزكاة" من غير شك، ولفظه:"وتطاوعا، ولا تختلفا".

(قَالَ) أبو موسى (فَلَمَّا وَلَّى رَجَعَ أَبُو مُوسَى) فيه التفات؛ إذ الظاهر أن يقول: فلمّا وليتُ رجعتُ، ويَحْتَمِل أن يكون من كلام أبي بردة، والوجه الأول أظهر، لأنَّ هذا ظاهر أنه منقطع؛ لأنَّ أبا بردة لَمْ يشهد القصّة، وإن كان يمكن تأويله بأنه أخذه من أبيه، فتأملّ.

(فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله، إِنَّ لَهُمْ)؛ أي: لأهل اليمن (شَرَابًا مِنَ الْعَسَلِ) هو المسمّى بالبتع كما بيّنه في الرواية التالية، (يُطْبَخُ) بالبناء للمفعول، (حَتَّى يَعْقِدَ) بفتح الياء، وكسر القاف، يقال: عَقَدت الْعَسَل، ونحوه، وأعقدته، هكذا ضبطه النوويّ، والذي في "القاموس" و"شرحه": وعَقّدته تعقيدًا بالتشديد -: أغليته حتى غَلُظَ، كأعقدته فهو مُعْقَد، قال الكِسائيّ: ويقال للقَطِران والرُّبِّ ونحوِه: أَعقَدْتُه حتى تَعَقَّدَ، وفي "المحكم": عَقَدَ العَسَلُ، والرُّبُّ، ونحوهما يَعْقِدُ، وانعَقَدَ، وأعقَدْتُه، فهو مُعْقَدٌ، وعَقِيدٌ: غَلُظَ. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: يستفاد مما ذَكَره في "القاموس"، و"شرحه" أن عَقَد بالتخفيف ثلاثيًّا لازم، وأما المتعدّي، فهو أعقدته بالألف، أو عقّدته بالتشديد، فيكون الصواب في عبارة النووي:"عَقَدَ العسلُ ونحوه"، فالعسل مرفوع على الفاعليّة، وليس منصوبًا، ويكون معنى "حتى يعقِد"؛ أي: حتى يَغْلُظ، فتأمل، والله تعالى أعلم.

(وَ) لهم (الْمِزْرُ) بالكسر، (يُصْنَعُ) بالبناء للمفعول، (مِنَ الشَّعِير، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "كُلُّ مَا أَسكَرَ عَنِ الصَّلَاةِ)؛ أي: صدّ عن إقامتها بسبب إسكاره، كما قال تعالى:{وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ}

(1)

"الفتح" 9/ 478، كتاب "المغازي" رقم (4341).

(2)

"تاج العروس" 1/ 2129.

ص: 703

[المائدة: 91](فَهُوَ حَرَامٌ")؛ أي: فشُربه محرّم، والله تعالى أعلم.

والحديث تقدّم تمام البحث فيه في الحديث الماضي، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5205]

(

) - (وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي خَلَفٍ - وَاللَّفْظُ لِابْنِ أَبِي خَلَفٍ - قَالَا: حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ بْنُ عَدِيٍّ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ - وَهُوَ ابْنُ عَمْرٍو - عَنْ زيدِ بْنِ أَبِي أُنَيْسَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو بُرْدَةَ، عَنْ أَبيه، قَالَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَمُعَاذًا إِلَى الْيَمَن، فَقَالَ: "ادْعُوَا النَّاسَ، وَبَشِّرَا، وَلَا تُنَفِّرَا، وَيَسِّرَا، وَلَا تُعَسِّرَا"، قَالَ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ أَفْتِنَا فِي شَرَابَيْن، كُنَّا نَصْنَعُهُمَا بِالْيَمَنِ: الْبِتْعُ، وَهُوَ مِنَ الْعَسَل، يُنْبَذُ حَتَّى يَشْتَدَّ، وَالْمِزْرُ، وَهُوَ مِنَ الذُّرَةِ وَالشَّعِير، يُنْبَذُ حَتَّى يَشْتَدَّ، قَالَ: وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ أُعْطىَ جَوَامِعَ الْكَلِمِ بِخَوَاتِمِه، فَقَالَ: "أَنْهَى عَنْ كُلِّ مُسْكِرٍ، أَسْكَرَ عَنِ الصَّلَاةِ").

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي خَلَفٍ) السلميّ، أبو عبد الله البغداديّ، ثقةٌ [10](ت 237)(م د) تقدم في "الإيمان" 92/ 502.

2 -

(زَكَرِيَّاءُ بْنُ عَدِيِّ) بن الصَّلت التيميّ مولاهم، أبو يحيى الكوفيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ حافظ فاضل، من كبار [10](ت 11 أو 212)(خ م مد ت س ق) تقدّم في "المقدّمة" 6/ 88.

3 -

(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو) بن أبي الوليد الرّقّيّ، أبو وهب الأسديّ، ثقةٌ فقيهٌ ربّما وَهِمَ [8](ت 180) عن (85) سنة (ع) تقدّم في "المقدّمة" 6/ 96.

4 -

(زيدُ بْنُ أَبِي أُنَيْسَةَ) واسم أبيه زيد، تقدّم قريبًا.

والباقون ذُكروا في الباب وقبله.

وقوله: (فَقَالَ: "ادْعُوَا النَّاسَ) بألف التثنية خطابًا لأبي موسى ومعاذ رضي الله عنهما.

وقوله: (وَبَشِّرَا، وَلَا تُنَفِّرَا)"بشّرا" أمرّ من البشارة، وهي الإخبار بالخير، وهي نقيض النذارة، وهي الإخبار بالشرّ، والمعنى: وبشّرا الناسَ، أو المؤمنين بفضل الله تعالى، وثوابه، وجزيل عطائه، وسعة رحمته، وكذا المعنى في قوله:"ولا تنفّرا"، يعني: بذكر التخويف، وأنواع الوعيد، فيُتألّف من قرُب إسلامه

ص: 704

بترك التشديد عليهم، وكذلك من قارب البلوغ من الصبيان، ومن بلغ وتاب من المعاصي ونحوهم، أفاده العينيّ.

وقال المناويّ رحمه الله: قوله: "وبشّرا" بفضل الله تعالى، وعظيم ثوابه، وجزيل عطائه، وسعة رحمته، وشمول عفوه، ومغفرته، من التبشير، وهو إدخال السرور، والبشارة: الإخبار بخبر سارّ، وقوله:"بشّرا" بعد قوله: "يسّرا" فيه جناس خطيّ، ولم يكتف به، بل أردفه بقوله:"ولا تنفرا" لِمَا مرّ؛ وهو من التنفير؛ أي: لا تذكرا شيئًا تهزمون منه، ولا تصدروا بما فيه الشدّة، وقابَل به "بشّرا" مع أن ضد البشارة النذارة؛ لأنَّ القصد من النذارة التنفير، فصرّح بالمقصود منها.

قال: ومن جعل معنى "يسّرا" اصرفا وجوه الناس إلى الله في الرغبة فيما عنده، وردّاهم في طلب الحوائج إليه، ودلّاهم في كلّ أحوالهم، ومعنى:"لا تعسّرا" لا تردّاهم إلى الناس في طلب ما يحتاجونه، فقد صرف اللفظ عن ظاهره بلا ضرورة.

وهذا الحديث كما قال الكرمانيّ وغيره من جوامع الكلم؛ لاشتماله على الدنيا والآخرة؛ لأنَّ الدنيا دار العمل، والآخرة دار الجزاء، فأمَر النبيّ صلى الله عليه وسلم فيما يتعلق بالدنيا بالتسهيل، وفيما يتعلق بالآخرة بالوعد بالجميل، والإخبار بالسرور تحقيقًا لكونه رحمةً للعالمين في الدارين، وفيه الأمر بالتيسير بسعة الرحمة، والنهي عن التنفير بذكر التخويف؛ أي: من غير ضمّه إلى التبشير، وتأليف من قَرُب إسلامه، وتَرْك التشديد عليه، والأخذ بالأرفق، وتحسين الظن بالله، لكن لا يجعل وَعْظَه كله رجاءً، بل يشوبه بالخوف، فيجعلهما كأدنى حافر، والعلم والعمل كجناحي طائر. انتهى ببعض تصرّف

(1)

(2)

.

(1)

والتصرّف أنه وقع في روايته بلفظ: "يسّروا ولا تعسّروا

إلخ" بواو الجمع، فأوردته هنا بألف التثنية؛ ليوافق رواية مسلم، وقال أبو البقاء: وإنما قال: "يسروا" بالجمع مع أن المخاطب اثنان؛ لأنَّ الاثنين جَمْع في الحقيقة؛ إذ الجمع ضمّ شيء إلى شيء، أو يقال: إن الاثنين أميران، والأمير إذا قال شيئًا توقّع قبول الأمر إلى الجمع، أو أراد: أمَرَهما وأمَرَ من يولّيانه. انتهى.

(2)

"فيض القدير" 6/ 461 - 462.

ص: 705

وقوله: (وَيَسِّرَا، وَلَا تُعَسِّرَا") قال النوويّ رحمه الله: إنما جمع في هذه الألفاظ، بين الشيء وضدّه؛ لأنَّ الأمر يصدق بمرّة، أو مرات، مع فِعل ضدّه في سائر الحالات، والنهي ينفي الفعل في جميع الأحوال، وهو المطلوب. انتهى.

وقال المناويّ رحمه الله: قوله: "يسّرا" بفتح، فتشديد؛ أي: خذا بما فيه التيسير على الناس بذِكْر ما يؤلِّفهم لقبول المواعظ في جميع الأيام؛ لئلا يثقل لجهم، فينفُروا، وذلك لأنَّ التيسير في التعليم يورث قبول الطاعة، ويرغِّب في العبادة، ويَسْهُل به العلم والعمل.

وقوله: "ولا تعسّرا": لا تشددا، أردفه بنفي التعسير مع أن الأمر بالشيء نهي عن ضده؛ تصريحًا بما لزم ضمنًا للتأكيد، ذكره الكرمانيّ، قال: وأَولى منه قول جَمْعٍ: عَقَّبه به؛ إيذانًا بأن مراده نفي التعسير رأسًا، ولو اقتصر على يَسِّرَا لَصَدَق على كلّ من يسَّر مرةً، وعَسَّر كثيرًا كذا قرره أئمة هذا الشأن، ومنهم النوويّ وغيره، وبه يُعرَف أن لا حاجة لِمَا تكلَّفه المولى ابن الكمال حيث قال: أراد بالتعسير التهيئة، كخبر:"كلٌّ ميسرٌ لِمَا خُلِق له"، فلا يكون قوله:"ولا تعسرا" تأكيدًا، بل تأسيسًا.

وأنت خبير بأنه مع عدم دعاء الحاجة إليه لا يلائمه السياق، بل ينافره. انتهى

(1)

.

وقوله: (يُنْبَذُ حَتَّى يَشْتَدَّ) الأول بالبناء للمفعول، والثاني بالبناء للفاعل، وهذا لا ينافي ما في الرواية السابقة من قوله:"يُطبخ حتى يَعْقِد"؛ لإمكان أن يُصنع بالصناعتين، تارةً بالطبخ حتى يَعْقِد، وتارةً بالنبذ بلا طبخ، ويترك حتى يشتذ، والله تعالى أعلم.

وقوله: (وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ أُعْطِيَ جَوَامِعَ الْكَلِمِ)؛ أي: إيجاز اللفظ مع تناوله المعاني الكثيرة جدًّا، وقوله:(بِخَوَاتِمِهِ)؛ أي: كان يختم على المعاني الكثيرة التي تضمَّنها اللفظ اليسير، فلا يخرج منها شيء عن طالبه، ومستنبِطه؛ لعذوبة لفظه، وجزالته، قاله النوويّ رحمه الله

(2)

.

(1)

"فيض القدير" 6/ 461 - 462.

(2)

"شرح النوويّ" 13/ 170.

ص: 706

وقال في "المشارق": وقوله: "أُعطي جوامع الكلم بخواتمه"، وعند العذريّ:"جوامع الكلم وخواتمه"، هما بمعنى جَمْعِ المعاني الكثيرة في الألفاظ القليلة، والختم عليها بضمّها في تلك الكلمات، كما يُختم على ما في الكتاب. انتهى

(1)

.

وقال في "العمدة": قوله: "بجوامع الكلم" قال ابن التين: جوامع الكلم: القرآن؛ لأنه يقع فيه المعاني الكثيرة بالألفاظ القليلة، وكذلك يقع في الأحاديث النبوية الكثير من ذلك، وقال الخطابيّ: معناه إيجاز الكلام في إشباع المعاني، قال العينيّ: الإضافة في "جوامع الكلم" من إضافة الصفة إلى الموصوف، وهي الكلمة الموجزة لفظًا المتَّسعة معنًى؛ يعني: يكون اللفظ قليلًا، والمعنى كثيرًا، وقالوا: فيه الحثّ على استخراج تلك المعاني، وتبيين تلك الدقائق المودَعة فيها، وقال ابن شهاب - فيما ذكره الإسماعيليّ -: بلغني أن جوامع الكلم أن الله تعالى يَجمع له الأمور الكثيرة التي كانت تُكتب في الكتب قبله في الأمر الواحد، أو الأمرين، أو نحو ذلك. انتهى

(2)

.

وقال في "الفتح" ما حاصله: دخول القرآن في قوله: "بُعثت بجوامع الكلم" لا شك فيه، وإنما النزاع: هل يدخل غيره من كلامه من غير القرآن؟ وقد ذكروا من أمثلة جوامع الكلم في القرآن قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179)} [البقرة: 179]، وقوله:{وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (52)} [النور: 52] إلى غير ذلك، ومن أمثلة جوامع الكلم من الأحاديث النبوية حديث عائشة:"كلُّ عمل ليس عليه أمرنا فهو ردّ"، وحديث:"كلُّ شرط ليس في كتاب الله فهو باطل"، متَّفقٌ عليهما، وحديث أبي هريرة:"وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم"، متّفقٌ عليه أيضًا، وحديث المقدام: "ما ملأ ابن آدم وعاءً شرًّا من بطنه

" الحديث، أخرجه الأربعة، وصححه ابن حبان، والحاكم إلى غير ذلك، مما يكثر بالتتبع، وإنما يُسَلَّم ذلك فيما لَمْ تتصرف الرواة في ألفاظه، والطريق إلى معرفة ذلك أن تَقِلَّ مخارج الحديث، وتتفق ألفاظه، وإلا فإن مخارج الحديث

(1)

"مشارق الأنوار" 1/ 230.

(2)

"عمدة القاري" 14/ 235.

ص: 707

إذا كثرت قلّ أن تتفق ألفاظه؛ لِتوارد أكثر الرواة على الاقتصار على الرواية بالمعنى بحسب ما يظهر لأحدهم أنه وافٍ به، والحامل لأكثرهم على ذلك أنهم كانوا لا يكتبون، ويطول الزمان، فيتعلق المعنى بالذهن، فيرتسم فيه، ولا يستحضر اللفظ، فيحدّث بالمعنى؛ لمصلحة التبليغ، ثم يظهر من سياق ما هو أحفظ منه أنه لَمْ يُوفّ بالمعنى. انتهى

(1)

.

وقال الحافظ ابن رجب رحمه الله في أول كتابه الممتع "جامع العلوم والحكم": أما بعد: فإن الله سبحانه وتعالى بعث محمدًا صلى الله عليه وسلم بجوامع الكلم، وخصّه ببدائع الحِكَم، كما في "الصحيحين"، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"بُعِثت بجوامع الكلم"، قال الزهريّ: جوامع الكلم - فيما بلغنا - أن الله تعالى يجمع له الأمور الكثيرة التي كانت تُكتب في الكتب قبله في الأمر الواحد، والأمرين، ونحو ذلك.

وأخرج الإمام أحمد رحمه الله من حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا، كالمودِّع، فقال:"أنا محمد النبيّ الأُميّ" قال ذلك ثلاث مرات، "ولا نبيّ بعدي، أوتيت فواتح الكلم، وخواتمه، وجوامعه"، وذكر الحديث

(2)

.

وأخرج أبو يعلى الموصليّ من حديث عمر بن الخطاب، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"إني أوتيت جوامع الكلم، وخواتمه، واختُصِر لي الكلام اختصارًا".

وأخرج الدارقطنيّ رحمه الله من حديث ابن عباس رضي الله عنهما عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "أعطيت جوامع الكلم، واختُصِر لي الحديث اختصارًا"

(3)

.

قال: ورَوينا من حديث عبد الرَّحمن بن إسحاق القرشيّ، عن أبي بُردة، عن أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه قال: قال رسول الله: "أعطيت فواتح الكلم، وخواتمه، وجوامعه"، فقلنا: يا رسول الله علِّمنا مما علمك الله عز وجل، قال: فعلَّمنا التشهد.

(1)

"الفتح" 13/ 248.

(2)

في سنده ابن لهيعة، وهو متكلّم فيه.

(3)

"سنن الدارقطنيّ" 4/ 144 - 145، وفي سنده ضعف.

ص: 708

وفي "صحيح مسلم" عن سعيد بن أبي بردة، عن أبي موسى، عن أبيه، عن جدّه، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم سئل عن البتع والمزر، قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أعطي جوامع الكلم بخواتمه، فقال:"أنهى عن كلّ مسكر أسكر عن الصلاة".

وروى هشام بن عمار في "كتاب البعث" بإسناده عن أبي سلّام الحبشيّ قال: حُدِّثت أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يقول: "فضِّلت على مَن قبلي بستّ، ولا فخر

"، فذكر منها جوامع الكلم، فقال: "وأُعطيت جوامع الكلم، وكان أهل الكتاب يجعلونها جزءًا بالليل إلى الصباح، فجمَعها لي ربي في آية واحدة:{سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1)} [الحديد: 1]

(1)

.

قال: فجوامع الكلم التي خُصَّ بها النبيّ صلى الله عليه وسلم نوعان:

أحدهما: ما هو في القرآن، كقوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ} الآية [النحل: 90]، قال الحسن: لَمْ تترك هذه الآية خيرًا إلَّا أمرت به، ولا شرًّا إلَّا نهت عنه.

والثاني: ما هو في كلامه صلى الله عليه وسلم، وهو منتشر موجود في السنن المأثورة عنه صلى الله عليه وسلم، وقد جَمَع العلماء رضي الله عنهم جموعًا من كلماته صلى الله عليه وسلم الجامعة، فصنّف الحافظ أبو بكر بن السنيّ كتابًا سمّاه:"الإيجاز وجوامع الكلم من السنن المأثورة"، وجَمَع القاضي أبو عبد الله القُضَاعيّ من جوامع الكلم الوجيزة كتابًا سمّاه:"الشهاب في الحِكَم والاداب"، وصنّف على منواله قوم آخرون، فزادوا على ما ذكره زيادة كثيرة، وأشار الخطابيّ في أول كتابه "غريب الحديث" إلى يسير من الأحاديث الجامعة، وأملى الإمام الحافظ أبو عمرو بن الصلاح مجلسًا سمّاه:"الأحاديث الكلية" جمع فيه الأحاديث الجوامع التي يقال: إن مَدَار الدِّين عليها، وما كان في معناها من الكلمات الجامعة الوجيزة، فاشتمل مجلسه هذا على ستة وعشرين حديثًا، ثم إن الفقيه الإمام الزاهد القدوة أبا زكريا يحيى النوويّ رحمة الله عليه أخذ هذه الأحاديث التي أملاها ابن الصلاح، وزاد عليها تمام اثنين وأربعين حديثًا، وسَمّى كتابه بالأربعين، واشتهرت هذه الأربعون التي جَمَعها، وكَثُر حِفْظها، ونفع الله بها ببركة نيّة

(1)

هذا خبر مرسل.

ص: 709

جامعها، وحُسْن قَصْده رحمه الله تعالى. انتهى كلام ابن رجب: رحمه الله

(1)

.

وقوله: (فَقَالَ: "أنهَى عَنْ كُلّ مُسْكِرٍ، أَسْكَرَ عَنِ الصَّلَاةِ")؛ أي: صدّ عن إقامتها.

[تنبيه]: كتب الحافظ ابن رجب على هذا الحديث بحثًا طويلًا مفيدًا جدًّا، ولكثرة فوائد، وغزارة عوائده أحببت إيراده هنا؛ لأنَّ كتابي هذا ليس موضوعًا على الاختصار، وإنما هو موضوع على التطويل، واستيفاء المسائل، وغَرَضي من كتابته جَمْع ما وصل إليّ من الفوائد النفيسة، المتعلّقة بأحاديث مسلم، فلا تسام أيها الطالب المنهوم بالعلم، والمشغوف بالفهم إن أطلت عليك البحث، وقد نبّهتك على هذا في أوائل الكتاب، والله تعالى يتولّى هُداي وهُداك.

قال: رحمه الله هذا الحديث أصل في تحريم تناول جميع المسكرات المغطية للعقل، وقد ذكر الله تعالى في كتابه العلة المقتضية لتحريم المسكرات، وكان أول ما حُرّمت الخمر عند حضور وقت الصلاة لَمّا صلى بعض المهاجرين، وقرأ في صلاته، فخلط في قراءته، فنزل قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43]، وكان منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم ينادي: لا يقرب الصلاة سكران

(2)

، ثم إن الله حرّمها على الإطلاق بقوله:{إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 90 - 91]، فذَكَر علة تحريم الخمر والميسر وهو القمار، وهو أن الشيطان يوقع بينهم العداوة والبغضاء، فإن من سَكِرَ اختل عقله، فربما تسلّط على أذى الناس في أنفسهم وأموالهم، وربما بلغ إلى القتل، وهي أم الخبائث، فمن شربها قتل النفس، وزنى، وربما كَفَر، وقد رُوي هذا المعنى عن عثمان

(1)

"جامع العلوم والحكم" 1/ 4 - 5.

(2)

رواه أحمد 1/ 53، وأبو داود (3670)، والترمذيّ (3049)، والنسائيّ 8/ 286 - 287، وصححه ابن المدينيّ والترمذيّ.

ص: 710

وغيره، وروي مرفوعًا أيضًا

(1)

.

ومن قامر فربما قُهِر، وأُخذ ماله قهرًا، فلم يبق له شيء، فيشتد حقده على من أَخذ ماله، وكل ما أبي إلى إيقاع العداوة والبغضاء كان حرامًا، وأخبر أن الشيطان يصدُّكم بالخمر والميسر عن ذكر الله، وعن الصلاة، فإن السكران يزول عقله، أو يختلّ، فلا يستطيع أن يذكر الله، ولا أن يصلي، ولهذا قالت طائفة من السلف: إن شارب الخمر تمرّ عليه ساعة لا يَعرف فيها ربه، والله سبحانه وتعالى إنما خلقهم ليعرفوه، ويذكروه، ويعبدوه، ويطيعوه، فما أدى إلى الامتناع من ذلك، وحال بين العبد وبين معرفة ربه وذكره ومناجاته كان محرَّمًا، وهو السكر، وهذا بخلاف النوم، فإن الله تعالى جبل العباد عليه، واضطرهم إليه، ولا قوام لأبدانهم إلَّا به؛ إذ هو راحة لهم من السعي والنصب، فهو من أعظم أَنْعُم الله على عباده، فإذا نام المؤمن بقدر الحاجة، ثم استيقظ إلى ذكر الله ومناجاته ودعائه، كان نومه عونًا له على الصلاة والذكر، ولهذا قال بعض الصحابة: إني أحتسب نومتي كما أحتسب قومتي.

وكذلك المَيْسر يصدّ عن ذكر الله، وعن الصلاة، فإن صاحبه يعكف بقلبه عليه، ويشتغل به عن جميع مصالحه ومهماته، حتى لا يكاد يذكرها؛ لاستغراقه فيه، ولهذا قال عليّ لمّا مرّ على قوم يلعبون بالشطرنج: ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون؟

(2)

، فشبّهم بالعاكفين على التماثيل، وجاء في الحديث:"إن مدمن الخمر كعابد الوثن"

(3)

، فإنه يتعلق قلبه به فلا يكاد يمكنه أن يَدَعها كما لا يدع عابد الوثن عبادته، وهذا كله مضادّ لِمَا خلق الله العباد لأجله من تفريغ قلوبهم لمعرفته ومحبته وخشيته وذِكره ومناجاته ودعائه والابتهال إليه، فما حال بين العبد وبين ذلك، ولم يكن بالعبد إليه ضرورة، بل كان ضررًا محضًا عليه كان محرّمًا، وقد روي عن عليّ أنه قال لمن رآهم يلعبون بالشطرنج: ما لهذا

(1)

رواه النسائيّ 8/ 315 موقوفًا على عثمان، ورواه ابن حبّان في "صحيحه"(5324) عنه مرفوعًا.

(2)

رواه ابن أبي شيبة 8/ 738، والبيهقيّ 10/ 212، وفي إسناده انقطاع.

(3)

رواه أحمد، وابن ماجة، وصححه ابن حبّان.

ص: 711

خُلقتم. ومن هنا يُعلم أن المَيْسر محرّم سواء كان بِعِوَض، أو بغير عوض، وأن الشطرنج كالنَّرد، أو شرّ منه؛ لأنَّها تشغل أصحابها عن ذكر الله، وعن الصلاة أكثر من النرد.

والمقصود أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "كلّ مسكر حرام، وكل ما أسكر عن الصلاة فهو حرام".

وقد تواترت الأحاديث بذلك عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فأخرجا في "الصحيحين" عن ابن عمر، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"كلّ مسكر خمر، وكل خمر حرام"، ولفظ مسلم:"وكل مسكر حرام"، وأخرج أيضًا من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبيّ صلى الله عليه وسلم سئل عن البتع، فقال:"كلّ شراب أسكر فهو حرام"، وقد صحح هذا الحديث أحمد، ويحيى بن معين، واحتجا به، ونقل ابن عبد البرّ إجماع أهل العلم بالحديث على صحته، وأنه أثبت شيء يُرْوَى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في تحريم المسكر.

وأما ما نقله بعض فقهاء الحنفية عن ابن معين مِنْ طَعْنه فيه، فلا يَثبت ذلك عنه.

وأخرج مسلم من حديث أبي الزبير، عن جابر، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"كلّ مسكر حرام".

وإلى هذا القول ذهب جمهور من علماء المسلمين من الصحابة والتابعين، ومَنْ بَعْدَهم من علماء الأمصار، وهو مذهب مالك، والشافعيّ، والليث، والأوزاعي، وأحمد، وإسحاق، ومحمد بن الحسن، وغيرهم، وهو مما أَجمع على القول به أهل المدينة كلهم.

وخالف فيه طوائف من علماء أهل الكوفة، وقالوا: إن الخمر إنما هو خمر العنب خاصّةً، وما عداها فإنما يَحْرُم منه القَدْر الذي يُسكر، ولا يحرم ما دونه، وما زال علماء الأمصار يُنكرون ذلك عليهم، وإن كانوا في ذلك مجتهدين مغفورًا لهم، وفيهم خَلْق من أئمة العلم والدّين، قال ابن المبارك: ما وجدت في النبيذ رخصة عن أحد صحَّ إلَّا عن إبراهيم؛ يعني: النخعيّ، ولذلك أنكر الإمام أحمد أن يكون فيه شيء يصحّ، وقد صنّف "كتاب الأشربة"، ولم يذكر فيه شيئًا من الرخصة، وصنّف كتابًا في المسح على الخفين، وذكر فيه عن بعض السلف إنكاره، فقيل له: كيف لَمْ تجعل في "كتاب الأشربة" الرخصة كما

ص: 712

جعلت في المسح؟ فقال: ليس في الرخصة في السكر حديث صحيح.

ومما يدلّ على أنَّ كلّ مسكر خمر أن تحريم الخمر إنما نزل في المدينة بسبب سؤال أهل المدينة عما عندهم من الأشربة، ولم يكن بها خمر العنب، فلو لَمْ تكن آية تحريم الخمر شاملة لِمَا عندهم لَمَا كان فيها بيان لِمَا سألوا عنه، ولكان محمل السبب خارجًا من عموم الكلام، وهو ممتنع، ولمّا نزل تحريم الخمر أنّ أقوامًا أهرقوا ما عندهم من الأشربة، فدلّ على أنَّهم فَهِموا أنه من الخمر المأمور باجتنابه.

وفي "صحيح البخاري" عن أنس قال: حُرِّمت علينا الخمر حين حُرِّمت وما نجد خمر الأعناب إلَّا قليلًا، وعامة خمرنا البسر والتمر، وعنه أنه قال: إني لأسقي أبا طلحة، وأبا دُجانة، وسهيل ابن بيضاء، خليط بسر وتمر، إذ حرمت الخمر، فقذفتها، وأنا ساقيهم، وأصغرهم، وإنا لنعدّها حينئذ الخمر.

وفي "الصحيحين" عنه قال: ما كان لنا خمر غير فضيخكم هذا الذي تسمّونه الفضيخ.

وفي "صحيح مسلم" عنه قال: لقد أنزل الله الآية التي حَرَّم فيها الخمر، وما بالمدينة شراب يُشرب إلَّا من تمر.

وفي "صحيح البخاريّ" عن ابن عمر قال: نزل تحريم الخمر، وإن بالمدينة يومئذ لخمسةَ أشربة، ما منها شراب العنب.

وفي "الصحيحين" عن الشعبيّ عن ابن عمر قال: قام عمر رضي الله عنه على المنبر، فقال: أما بعدُ: نزل تحريم الخمر، وهي من خمس: العنب، والتمر، والعسل، والحنطة، والشعير، والخمرُ ما خامر العقل، وخرّجه الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذيّ، من حديث الشعبيّ عن النعمان بن بشير، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وذكر الترمذيّ أن قول من قال عن الشعبيّ، عن ابن عمر، عن عمر أصحّ، وكذا قال ابن المدينيّ، وروى أبو إسحاق عن أبي هريرة، قال: قال عمر: ما خَمّرته فعَتَّقته فهو خمر، وأَنّا كانت لنا الخمر خمر العنب.

وفي مسند الإمام أحمد، عن المختار بن فُلْفُل قال: سألت أنس بن مالك عن الشرب في الأوعية، قال: نَهَى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المزفت، فقال:"كلّ مسكر حرام"، قلت له: صدقت، فالشربة والشربتان على طعامنا؟ قال:

ص: 713

المسكر قليله وكثيره حرام، وقال: الخمر من العنب، والتمر، والعسل، والحنطة، والشعير، والذرة، فما خَمّرت من ذلك، فهو الخمر، أخرجه أحمد، عن عبد الله بن إدريس، سمعت المختار يقول، فذكره، وهذا إسناد على شرط مسلم.

وفي "صحيح مسلم" عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"الخمر من هاتين الشجرتين: النخلة، والعنبة"، وهذا صريح في أن نبيذ التمر خمر.

وجاء التصريح بالنهي عن قليل ما أسكر كثيره، كما خرّجه أبو داود، وابن ماجه، والترمذيّ، وحسّنه من حديث جابر، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"ما أسكر كثيره فقليله حرام". وأخرج أبو داود، والترمذيّ، وحسّنه، من حديث عائشة رضي الله عنهما، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"كل مسكر حرام، وما أسكر الفَرَقُ فملء الكفّ منه حرام"، وفي رواية:"الْحَسْوَة منه حرام"، وقد احتجّ به أحمد، وذهب إليه، وسئل عمن قال: إنه لا يصحّ، فقال: هذا رجل مُغْلٍ؛ يعني: أنه قد غلا في مقالته.

وقد أخرج النسائيّ هذا الحديث من رواية سعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن عمرو، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقد رُوي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم من وجوه كثيرة يطول ذكرها.

ورَوَى ابن عجلان، عن عمرو بن شعيب، حدّثني أبو وهيب الجيشانيّ، عن وَفْد أهل اليمن، أنهم قَدِمُوا على النبيّ صلى الله عليه وسلم، فسألوه عن أشربة تكون باليمن، فسَمَّوا له الْبِتْع من العسل، والْمِزْر من الشعير، قال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"هل تَسكرون منها؟ "، قالوا: إن أكثرنا منها أسكرنا، قال:"فحرام قليله ما أسكر كثيره"، أخرجه القاضي إسماعيل

(1)

.

وقد كانت الصحابة رضي الله عنهم تحتجّ بقول النبيّ صلى الله عليه وسلم: "كل مسكر حرام" على تحريم جميع أنواع المُسكِرات، ما كان موجودًا منها على عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم، وما حَدَث بعده، كما سئل ابن عباس عن الباذِق

(2)

، فقال: "سَبَق محمد صلى الله عليه وسلم

(1)

في سنده ضعف. فيه أبو وهب الجيشانيّ، قال ابن القطان: مجهول الحال.

(2)

"الباذق" بكسر الذال، وفتحها: ما طُبخ من عصير العنب أدنى طبخة، فصار شديدًا. انتهى. "القاموس" ص 88 - 89.

ص: 714

الباذِق، فما أسكر فهو حرام"، أخرجه البخاريّ، يشير إلى أنه إن كان مسكرًا فقد دخل في هذه الكلمة الجامعة العامة.

(واعلم): أن المسكر المزيل للعقل نوعان:

[أحدهما]: ما كان فيه لذّة وطرب، فهذا هو الخمر المحرّم شُربه، وفي "المسند"

(1)

عن طلق الحنفيّ أنه كان جالسًا عند النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال رجل: يا رسول الله ما ترى في شراب نصنعه بأرضنا، من ثمارنا، فقال صلى الله عليه وسلم:"مَن سائلٌ عن المسكر؟ فلا تشربه، ولا تُسقه أخاك المسلم، فوالذي نفسي بيده، أو بالذي يُحلف به لا يشربه رجل ابتغاء لذة مسكرة، فيسقيه الله الخمر يوم القيامة".

قالت طائفة من العلماء: وسواء كان هذا المسكر جامدًا، أو مائعًا، وسواء كان مطعومًا، أو مشروبًا، وسواء كان من حَبّ، أو تمر، أو لبن، أو غير ذلك، وأدخَلوا في ذلك الحشيشة التي تُعمل من ورق العنب وغيرها، مما يؤكل لأجل لذته، وسكره.

وفي "سنن أبي داود" من حديث شهر بن حوشب، عن أم سلمة، قالت:"نَهَى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل مسكر، ومُفَتِّر"

(2)

، والمفتر هو المخدِّر للجسد، وإن لم يَنته إلى حدّ الإسكار.

[والثاني]: ما يزيل العقل، ويسكره، ولا لذّة فيه، ولا طَرَب، كالبنج ونحوه، فقال أصحابنا - يعني: الحنبليّة - إنْ تناوله لحاجة التداوي، وكان الغالب منه السلامة جاز.

وقد رُوي عن عروة بن الزبير لَمّا وقعت الأَكَلة في رجله، وأرادوا قطعها، قال له الأطباء: نسقيك دواءًا حتى يغيب عقلك، ولا تُحسّ بألم القطع، فأبى، وقال: ما ظننت أن خَلْقًا يشرب شرابًا يزول منه عقله، حتى لا

(1)

قال الهيثميّ: رجاله ثقات.

(2)

ضعفّه بعضهم بضعف شهر بن حوشب، والصحيح من أقوال العلماء أن شهرًا ليس ضعيفًا، بل ثقةٌ، وأقل أحواله أن يكون حسن الحديث، وقد حقّقت هذا الموضع في "شرح المقدّمة" عند ذكر ترجمة شَهْر، فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق.

ص: 715

يَعرف ربه، ورُوي عنه أنه قال: لا أشرب شيئًا يحول بيني وبين ذِكر عز وجل، وإن تناول ذلك لغير حاجة التداوي، فقال أكثر أصحابنا، كالقاضي، وابن عَقيل، وصاحب "المغني": إنه محرّم؛ لأنه سبب إلى إزالة العقل لغير حاجة، فحَرُم كشرب المسكر، وروى حَنَش الرحبيّ، وفيه ضعف، عن عكرمة، عن ابن عباس، مرفوعًا:"من شَرِب شرابًا يَذهب بعقله، فقد أتى بابًا من أبواب الكبائر"

(1)

.

وقالت طائفة منهم ابن عقيل في "فنونه": لا يحرم ذلك؛ لأنه لا لذّة فيه، والخمر إنما حُرّمت لِمَا فيها من الشدّة المطربة، ولا إطراب في البنج ونحوه، ولا شدّة، فعلى قول الأكثرين أَبُو تناول ذلك لغير حاجة، وسكر به، فطلّق، فحُكم طلاقه حُكم طلاق السكران، قاله أكثر أصحابنا، كابن حامد، والقاضي، وأصحاب الشافعيّ، وقالت الحنفية: لا يقع طلاقه، وعلّلوا بأنه ليس فيه لذة، وهذا يدلّ على أنهم لم يحرّموه.

وقالت الشافعية: هو محرَّم، وفي وقوع الطلاق معه وجهان، وظاهر كلام أحمد أنه لا يقع طلاقه، بخلاف السكران، وتأوله القاضي، وقال: إنما قال ذلك إلزامًا للحنفية، لا اعتقادًا له، وسياق كلامه مُحْتَمِل لذلك.

وأما الحدّ فإنما يجب بتناول ما فيه شدّة وطرب من المسكرات؛ لأنه هو الذي تدعو النفوس إليه، فجعل الحدّ زاجرًا عنه، فأما ما فيه سكر بغير طرب، ولا لذّة فليس فيه سوى التعزير؛ لأنه ليس في النفوس داع إليه، حتى يحتاج إلى حدّ مقدَّر زاجر عنه، فهو كأكل الميتة، ولحم الخنزير، وشرب الدم.

وأكثر العلماء الذين يرون تحريم قليل ما أسكر كثيره يرون حدّ من شرب ما يُسكر كثيره، وإن اعتقد حلّه متأولًا، وهو قول الشافعيّ، وأحمد، خلافًا لأبي ثور، فإنه قال: لا يُحَدّ؛ لتأوله، فهو كالناكح بلا وليّ، وفي حدّ الناكح بلا وليّ خلاف أيضًا، ولكن الصحيح أنه لا يحدّ، وقد فُرِّق بينه وبين شرب النبيذ متأولًا بأن شرب النبيذ المختلف فيه داعٍ إلى شرب الخمر المجمع على تحريمه، بخلاف النكاح بغير وليّ، فإنه مُغْنٍ عن الزنا المجمع على تحريمه،

(1)

رواه أبو يعلى، والبزار، والطبرانيّ، وإسناده ضعيف؛ لِضَعْف حنش الرحبيّ.

ص: 716

وموجب للاستعفاف عنه، والمنصوص عن أحمد أنه إنما حَدَّ شارب النبيذ متأولًا أن تأويله ضعيف، لا يدرأ عنه الحدّ به، فإنه قال في رواية للأثرم: يُحَدّ من شرب النبيذ متأولًا، ولو رُفع إلى الإمام من طلق البتة، ثم راجعها متأولًا أن طلاق البتة واحدة، والإمام يرى أنها ثلاث، لا يفرَّق بينهما، وقال: هذا غير ذاك، وأمْرُه بَيِّن في كتاب الله، وسُنَّة نبيّه صلى الله عليه وسلم، ونزل تحريم الخمر، وشرابهم الفضيخ، وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"كل مسكر خمر"، فهذا بَيِّن، وطلاق البتة إنما هو شيء اختلَفَ الناس فيه. انتهى كلام الحافظ ابن رجب رحمه الله

(1)

، وهو مع طوله بحث نفيسٌ جدًّا، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5206]

(2002) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا عبدُ العَزِيزِ - يَعْنِي: الدَّرَاوَرْدِيَّ - عَنْ عُمَارَةَ بْنِ غَزِيَّةَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْر، عَنْ جَابِرٍ، أَنَّ رَجُلًا قَدِمَ مِنْ جَيْشَانَ - وَجَيْشَانُ مِنَ الْيَمَنِ - فَسَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْ شَرَابٍ يَشْرَبُونَهُ بِأَرْضِهِمْ، مِنَ الذُّرَةِ، يُقَالُ لَهُ: الْمِزْرُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "أَوَ مُسْكِرٌ هُوَ؟ "، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ، إِنَّ عَلَى اللهِ عَهْدًا لِمَنْ يَشْرَبُ الْمُسْكِرَ أَنْ يَسْقِيَهُ مِنْ طِينَةِ الْخَبَالِ"، قَالُوا: يَا رَسُولَ الله، وَمَا طِينَةُ الْخَبَالِ؟ قَالَ: "عَرَقُ أَهْلِ النَّار، أَو عُصَارَةُ أَهْلِ النَّارِ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(عبدُ العَزِيزِ الدَّرَاوَرْدِيُّ) ابن محمد بن عُبيد، أبو محمد الْجُهنيّ مولاهم المدنيّ، صدوقٌ كان يُحدّث من كُتب غيره، فيُخطئ [8](ت 6 أو 187)(ع) تقدم في "الإيمان" 8/ 135.

2 -

(عُمَارَةُ بْنُ غَزِيَّةَ) بن الحارث الأنصاريّ المازنيّ المدنيّ، ثقةٌ [6](ت 140)(خت م 4) تقدم في "الطهارة" 12/ 585.

والباقون ذُكروا في الباب الماضي.

(1)

"جامع العلوم والحكم" 1/ 420 - 424.

ص: 717

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيات المصنف رحمه الله، وأنه مسلسل بالمدنيين، سوى شيخه، فبغلانيّ، وأبي الزبير فمكيّ، وفيه جابرٌ رضي الله عنه من المكثرين السبعة، روى (1540) حديثًا، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ جَابِرٍ) هو ابن عبد الله رضي الله عنهما (أَن رَجُلًا) قال صاحب "التنبيه": هو ديلم، قاله ابن بشكوال، قال: قيل: اسمه فيروز، وابنه ديلم، له وفادة، نزل مصر. انتهى

(1)

.

وقال ابن عبد البرّ: دَيلَم الحميريّ الجيشانيّ، هو ديلم بن أبي ديلم، ويقال: ديلم بن فيروز، ويقال: ديلم بن الهوشع، وهو من وَلَد حِمْير بن سبأ، له صحبة، سكن مصر، ولم يُرْوَ عنه فيما أعلم غير حديث واحد في الأشربة، رواه عنه المصريون، ورواه مرثد بن عبد الله اليزنيّ، وقد قيل: إن ديلم بن الهوشع غير ديلم الحميريّ، وليس بشيء. انتهى

(2)

.

(قَدِمَ) بكسر الدال، من باب تَعِبَ، (مِنْ جَيْشَانَ - وَجَيْشَانُ مِنَ الْيَمَنِ -)؛ أي: مكان من جملة أماكن اليمن، قال في "القاموس": وجيشانُ: خِطّة بالْفُسْطاط، ومِخْلافٌ باليمن، ولقبُ عَبْدانَ بن حَجْر بن ذي رُعَين، وإليه يُنسب الجيشانيون، وأبو تميم الجيشانيّ تابعيّ من أهل اليمن. انتهى

(3)

.

(فَسَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْ شَرَابٍ)؛ أي: عن حُكمه، (يَشْرَبُونَهُ بِأَرْضِهِمْ، مِنَ الذُّرَةِ) بضمّ الذال، وتخفيف الراء، قال المجد: الذرَةُ، كَثُبَةٍ: حَبّ معروفٌ، أصلها ذُرَوٌ. انتهى

(4)

، وقال الفيّوميّ: الذُّرة: حبّ معروفٌ، ولامها محذوفةٌ، والأصل ذُرَوٌ، أو ذُريٌ، فحُذفت اللام، وعُوّض عنها الهاء. انتهى

(5)

.

زاد في رواية النسائيّ قولَهُ: "يقال له: الْمِزْر".

(1)

"تنبيه المعلم" ص 344 - 345.

(2)

"الاستيعاب في معرفة الأصحاب" 1/ 137.

(3)

"القاموس المحيط" ص 252.

(4)

"القاموس المحيط" ص 469.

(5)

"المصباح المنير" 1/ 208.

ص: 718

(يُقَالُ لَهُ: الْمِزْرُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "أَوَ مُسْكِرٌ هُوَ؟ ") قال القرطبيّ رحمه الله: الرواية التي لا يُعرَف غيرها هي بفتح الهمزة، وفتح الواو على جهة الاستفهام عن صفة النبيذ المسؤول عنه، وهو حجة على من علّق التحريم على وجود الإسكار بالشارب من غير اعتبار وصف المشروب، وهم الحنفيّة، وهذا نصٌّ في أن المعتبَر شرعًا إنما هو المعنى الذي في الخمر الذي يعبّر عنه الفقهاء بالشدّة المطربة، والمسكرة. انتهى

(1)

.

(قَالَ) الرجل (نَعَمْ)؛ أي: هو مسكرٌ (قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ، إِن عَلَى اللهِ عز وجل عَهْدًا)؛ أي: وعيدًا جعله على نفسه سبحانه وتعالى حسبما سبق في عِلْمه، (لِمَنْ يَشْرَبُ الْمُسْكِرَ أَنْ يَسْقِيَهُ) بفتح حرف المضارعة، وضمّها، كما سبق بيانه غير مرّة، (مِنْ طِينَةِ الْخَبَال") بفتح الخاء المعجمة. (قَالُوا: يَا رَسُولَ الله، وَمَا طِينَةُ الْخَبَالِ؟ قَالَ:"عَرَق) بفتحتين، (أَهْلِ النَّار، أَو) للشكّ من الراوي؛ أي: أو قال (عُصَارَةُ أَهْلِ النَّارِ") "العُصارة" - بضم العين المهملة: ما سال عن العَصْر، ومنه قيل: اعتصرت مال فلان: إذا استخرجته منه. قاله في "المصباح". قال القرطبيّ رحمه الله: وفي حديث آخر: "صديد أهل النار"، وسُمّي ذلك بطينة الخبال؛ لأنها تَخْبُل عقل شاربها، وتُفسد حاله، مأخوذ من الْخَبَل في العقل، قال: وهذا الوعيد، وإن كان معلّقًا على مُطْلَق الشرب، فقد قيّده في الحديث الآخر منها، فقال رحمه الله:"من شرب الخمر في الدنيا، فمات، وهو يُدمنها، لم يتب، لم يشربها في الآخرة"، وأما من تاب منها، فلم يدخل في هذا الوعيد إذا حَسُنَت توبته. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(2)

.

[تنبيه]: حديث جابر رضي الله عنه هذا مختصر هنا، وقد ساقه أبو عوانة في "مسنده" مطوّلًا، فقال:

(7953)

- حدّثنا محمد بن إسماعيل بن سالم الصائغ، قال: ثنا محرز بن عون، أو ابن سلمة، قال: ثنا عبد العزيز بن محمد، عن عُمارة بن غَزِيّة، عن أبي الزبير، عن جابر رضي الله عنه قال: قَدِمَ نفر من جَيشان، من أهل اليمن، فقالوا:

(1)

"المفهم" 5/ 268.

(2)

"المفهم" 5/ 269.

ص: 719

يا رسول الله سمعنا بذكرك، فأحببنا أن نأتيك، فنسمع منك، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"أسلِموا تَسْلَموا"، قال: فأسلموا، وقالوا: يا رسول الله مُرنا، وانْهَنا، فإنا نرى أن الإسلام قد نهانا عن أشياء كنا نأتيها، وأمَرَنا بأشياء لم نكن نقربها، قال: فأمَرهم النبيّ صلى الله عليه وسلم، ونهاهم، ثم خرجوا حتى جاؤا رحالهم، وقد خَلَّفوا فيها رجلًا، فقالوا: اذهب، فضَعْ من إسلامك على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل الذي وَضَعْنا، وسَلْه عن شرابنا، فإنا نَسِينا أن نساله، وقد كان من أهم الأمر عندنا، فجاء ذلك الفتى، فأسلم، فقال: يا رسول الله، إن النفر الذين جاؤك، وأسلموا على يديك، قد أمروني أن أسألك عن شراب يشربونه بأرضهم من الذرة، يقال له: الْمِزْر، وأرضهم أرض باردة، وهم يعملون لأنفسهم، وليس لهم من يمتهن الأعمال دونهم، وإذا شربوه قَوُوْا به على العمل، قال:"أو مسكر هو؟ " قال: اللهم نعم، قال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"كل مسكر حرام"، قال: فأفزعهم ذلك، فخرجوا بأجمعهم حتى جاؤا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا رسول الله، إن أرضنا أرض باردة، وإنا نعمل لأنفسنا، وليس لنا من يمتهن دون أنفسنا، وإنما شراب نشربه بأرضنا من الذرة، يقال له: الْمِزْر، وإذا شربناه، فأُعِنّا على البرد، وقَوِينا على العمل، فقال:"أمسكر هو؟ " قالوا: نعم، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"كلُّ مسكر حرام، إن على الله عهدًا لمن يشرب مسكرًا أن يسقيه من طينة الْخَبَال"، قالوا: يا رسول الله، وما طينة الخبال؟ قال:"عَرَقُ أهل النار - أو عصارة أهل النار". انتهى

(1)

.

مسألتان تتعلقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث جابر رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [7/ 5206](2002)، و (النسائيّ) في "الأشربة"(8/ 327) و"الكبرى"(3/ 238 و 4/ 186)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 361) و (البزّار) في "مسنده"(2927)، و"ابن حبّان" في "صحيحه"(5360)،

(1)

"مسند أبي عوانة" 5/ 102 - 103.

ص: 720

و (البيهقيّ) في "الكبرى"(8/ 291 - 292)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(3015)، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5207]

(2003) - (حَدَّثنا أَبُو الرَّبِيعِ الْعَتَكِيُّ، وَأَبُو كَامِلٍ، قَالَا: حَدَّثنا حَمَّادُ بْنُ زيدٍ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ، وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ، وَمَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فِي الدُّنْيَا فَمَاتَ، وَهُوَ يُدْمِنُهَا، لَمْ يَتُبْ لَمْ يَشْرَبْهَا: فِي الآخِرَةِ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

وكلّهم تقدّموا في الباب الماضي، و"أيوب" هو السَّخْتِيانيّ.

شرح الحديث:

(عَنِ ابْنِ عُمَرَ) رضي الله عنهما أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "كلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ)؟ أي: مخامر للعقل، ومغطيه؛ يعني: أن الخمر اسم لكل ما يوجد فيه الإسكار، قال المناويّ: وللشرع أن يُحْدِث الأسماء بعد أن لم تكن، كما أن له وَضْع الأحكام كذلك، أو أنه كالخمر في الحرمة، ووجوب الحد، وإن لم يكن خمرًا، وكل مسكر حرام.

قال الجامع عفا الله عنه: قوله: "وللشرع

إلخ" هذا لا يخفى ما فيه، إذ مضمونه أن كون كل مسكر خمرًا لم يُعرف إلا من الشرع، وهذا كلام باطلٌ، بل هو معروف في اللغة، وأدلّ دليل على ذلك حديث أنس رضي الله عنه أنهم كانو يشربون الفضيخ، فجاء رجل، فقال: إن الخمر حُرّمت، فأمر أنسًا أن يُهرقها، وليس من عصير العنب، كما يزعم هؤلاء، فلو لم يكن اسم الخمر يُطلق على كلّ مسكر، لَمَا أقدموا على ذلك، ومن أقوى الأدلّة أيضًا خطبة عمر رضي الله عنه، فقد أخرج الشيخان، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "خطب عمر على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إنه قد نزل تحريم الخمر، وهي من خمسة أشياء: العنب، والتمر، والحنطة، والشعير، والعسل، والخمرُ ما خامر العقلَ

" الحديث، فهذا النصّ من عمر رضي الله عنه بمحضَر جَمْع من الصحابة رضي الله عنهم يقطع دابر هؤلاء، إلا من أبى، وكابر عقله، والله تعالى المستعان.

ص: 721

وقوله: "أو كالخمر

إلخ" فيه أيضًا نظر لا يخفى؛ إذ هذا تأويل سخيف، مضادّ لِمَا صحّ أنه صلى الله عليه وسلم، وصحابته رضي الله عنهم أطلقوا عليه اسم الخمر دون تأويل، فتبصّر بالإنصاف، ولا تكن أسير التقليد، والله تعالى المستعان.

وقال ابن العربيّ رحمه الله: من زعم أن قوله: "كل مسكر خمر" معناه: مثل الخمر؛ لأن حذف "مثل" في مثله مسموع شائع، فقد وَهِمَ، قال: بل الأصل عدم التقدير، ولا يصار إلى التقدير إلا لحاجة، ولا يقال: احتجنا إليه؛ لأن المصطفى صلى الله عليه وسلم لم يُبعث لبيان الأسماء، قلنا: بل بيان الأسماء من جملة الأحكام لمن لم يعلمها.

وقال الطيبيّ: فيه دليل على جواز القياس باطراد العلّة، وقال في "الفائق": قول نُعمان: الخمر كل ما أسكر، فغيره حلال طاهر، رُدَّ بخبر:"كلُّ مسكر خمر"، إن من الحنطة خمرًا، الخمر من هاتين الشجرتين، فالخمر في الكل حقيقة شرعية أو مجاز في الغير فيلزم النجاسة والتحريم. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قد عرفت فيما أسلفته الآن أن قوله: "أو مجاز

إلخ" غير صحيح، فتنبّه والله تعالى وليّ التوفيق.

(وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٍ) قال النوويّ رحمه الله: فيه تصريح بتحريم جميع الأنبذة المسكرة، وأن كلها تسمى خمرًا، سواء في ذلك الفضيخ، ونبيذ التمر، والرُّطَب، والبُسْر، والزبيب، والشعير، والذُّرَة، والعسل، وغيرها، هذا مذهبنا، وبه قال مالك، وأحمد، والجماهير من السلف، والخلف. انتهى.

(وَمَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فِي الدُّنْيَا فَمَاتَ، وَهُوَ يُدْمِنُهَا، لَمْ يَتُبْ لَمْ يَشْرَبْهَا فِي الآخِرَةِ") وفي الرواية الآتية: "حُرِمها في الآخر"؛ أي: مُنع شربها.

قال الخطابيّ، والبغويّ في "شرح السُّنَّة": معنى الحديث: لا يدخل الجنة؛ لأن الخمر شراب أهل الجنة، فإذا حُرم شربها دلّ على أنه لا يدخل الجنة. وقال ابن عبد البرّ: هذا وعيد شديد يدل على حرمان دخول الجنة؛ لأن الله تعالى، أخبر أن في الجنة أنهار الخمر لذة للشاربين، وأنهم لا يُصَدَّعون عنها ولا يُنْزِفون، فلو دخلها وقد علم أن فيها خمرًا، أو أنه حُرِمَها

(1)

"فيض القدير على الجامع الصغير" للمناويّ 5/ 30 - 31.

ص: 722

عقوبة له، لزم وقوع الهمّ والحَزَن في الجنة، ولا هَمّ فيها، ولا حَزَن، وإن لم يعلم بوجودها في الجنة، ولا أنه حُرمها عقوبة له، لم يكن عليه في فَقْدها ألم، فلهذا قال بعض من تقدم: إنه لا يدخل الجنة أصلًا، قال: وهو مذهب غير مرضيّ، قال: ويُحْمَل الحديث عند أهل السُّنَّة على أنه لا يدخلها، ولا يشرب الخمر فيها، إلا إن عفا الله عنه، كما في بقية الكبائر، وهو في المشيئة، فعلى هذا فمعنى الحديث: جزاؤه في الآخرة أن يُحْرَمها؛ لحرمانه دخول الجنة، إلا إن عفا الله عنه، قال: وجائز أن يدخل الجنة بالعفو، ثم لا يشرب فيها خمرًا، ولا تشتهيها نفسه، وإن عَلِم بوجودها فيها، ويؤيده حديث أبي سعيد رضي الله عنه، مرفوعًا:"من لبس الحرير في الدنيا، لم يلبسه في الآخرة، وإن دخل الجنة، لَبِسه أهل الجنة، ولم يلبسه هو"، أخرجه الطيالسيّ، وصححه ابن حبان. وقريب منه حديث عبد الله بن عمرو، رفعه:"من مات من أمتي، وهو يشرب الخمر، حرّم الله عليه شربها في الجنة"، أخرجه أحمد بسند حسن.

وقد لخّص عياض، كلام ابن عبد البر، وزاد احتمالًا آخر، وهو أن المراد بحرمانه شُربَهَا: أنه يُحبس عن الجنة مدّة، إذا أراد الله عقوبته، ومثله الحديث الآخر:"لم يَرِح رائحة الجنة"، قال: ومن قال: لا يشربها في الجنة، بأن ينساها، أو لا يشتهيها يقول: ليس عليه في ذلك حسرة، ولا يكون تَرْك شهوته إياها عقوبة في حقه، بل هو نقصُ نعيم بالنسبة إلى من هو أتم نعيمًا منه، كما تختلف درجاتهم، ولا يُلحَق من هو أنقص درجة حينئذ، بمن هو أعلى درجة منه، استغناءً بما أُعطي، واغتباطًا له.

وقال ابن العربيّ: ظاهر الحديثين أنه لا يشرب الخمر في الجنة، ولا يلبس الحرير فيها، وذلك لأنه استعجل ما أمر بتأخيره، ووُعد به فحُرمه عند ميقاته، كالوارث فإنه إذا قتل مورِّثه، فإنه يُحرَم ميراثه؛ لاستعجاله، وبهذا قال نفر من الصحابة، ومن العلماء، وهو موضع احتمال، وموقف إشكال، والله أعلم كيف يكون الحال.

وفصّل بعض المتأخرين بين من يشربها مستحلًّا، فهو الذي لا يشربها أصلًا؛ لأنه لا يدخل الجنة أصلًا، وعدم الدخول يستلزم حرمانها، وبين من

ص: 723

يشربها عالِمًا بتحريمها، فهو محل الخلاف، وهو الذي يُحرَم شربها مدة، ولو في حال تعذيبه، إن عُذّب، أو المعنى: أن ذلك جزاؤه إن جوزي. ذَكَره في "الفتح"

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا، الجزء الأخير منه - أعني قوله: "ومن شرب الخمر

إلخ" - متفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنف) هنا [7/ 5207 و 5211 و 5212 و 5213 و 5214، (2003)، و (البخاريّ) في "الأشربة" 5575)، و (أبو داود) في "الأشربة"(3/ 327)، و (الترمذيّ) في "الأشربة"(4/ 290)، و (النسائيّ) في "الأشربة"(8/ 318) و"الكبرى"(3/ 231 و 4/ 195)، و (ابن ماجه) في "الأشربة"(2/ 1119 و 1120)، و (مالك) في "الموطّأ"(2/ 746)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(17056)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنفه"(5/ 96)، و (الشافعيّ) في "مسنده"(2/ 92)، و (أحمد) في"مسنده"(2/ 19 و 21 و 22 و 28) وفي "الأشربة"(74 و 75 و 195)، و (الدارمّي) في"سننه"(2/ 111)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(857)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5366)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(5/ 102 و 103 و 104)، و (الدارقطنيّ) في"سننه"(4/ 249)، و (الطبرانيّ) في "الصغير"(143)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(4/ 216)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(8/ 288 و 293)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(3012)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان أن كل مسكر من أيّ نوع كان خمر، وكلّ مسكر حرام.

(1)

"الفتح" 12/ 590 - 591، كتاب "الأشربة" رقم (5575).

ص: 724

2 -

(ومنها): بيان أن من مات، وهو مدمن للخمر لم يشربها في الآخرة، وإن دخل الجنّة.

3 -

(ومنها): بيان توبة شارب الخمر، فإنه إن تاب تاب الله عز وجل عليه.

4 -

(ومنها): أن التوبة تكفّر المعاصي الكبائر، وهو في التوبة من الكفر قطعيّ، وفي غيره من الذنوب خلاف بين أهل السُّنَّة، هل هو قطعيّ، أو ظنيّ؟ قال النوويّ رحمه الله: الأقوى أنه ظنيّ، وقال القرطبيّ رحمه الله بعد أن ذكر الخلاف -: والذي أقول به: إن من استقرأ الشريعة قرآنًا وسُنَّةً، وتتبّع ما فيهما من هذا المعنى علم على القطع واليقين أن الله تعالى يقبل توبة الصادقين. انتهى.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن ما قاله القرطبيّ رحمه الله هو الحقّ؛ للأدلة الكثيرة الصريحة في ذلك، كقوله تعالى:{أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104)} [التوبة: 104]، وقوله:{وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ} الآية [الشورى: 25]، وقوله تعالى:{إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70)} [الفرقان: 70]، وغير ذلك من الآيات، ولحديث:"التائبُ من الذنب، كمن لا ذنب له"، وهو حديث حسن، أخرجه ابن ماجه من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، والله تعالى أعلم.

5 -

(ومنها): ما قيل: يمكن أن يُستدل بحديث الباب على صحة التوبة من بعض الذنوب دون بعض.

6 -

(ومنها): أن هذا الوعيد يتناول من شرب الخمر، وإن لم يحصل له السكر؛ لأنه رتّب الوعيد في الحديث على مجرد الشرب، من غير قَيْد، وهو مُجْمَع عليه في الخمر المتَّخَذ من عصير العنب، وكذا فيما يُسكر من غيرها، وأما ما لا يُسكر من غيرها فالأمر فيه كذلك عند الجمهور، وهو الحقّ، كما سبق بيانه.

7 -

(ومنها): أنه يؤخذ من قوله: "ثم لم يتب منها" أن التوبة مشروعة في جميع العمر ما لم يصل إلى الغرغرة؛ لِمَا دلّ عليه "ثُمّ" من التراخي، وليست

ص: 725

المبادرة إلى التوبة شرطًا في قبولها، قاله في "الفتح"

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5208]

(

) - (وَحَدَّثنَا إِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهيمَ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ إسْحَاقَ، كِلَاهُمَا عَنْ رَوْحِ بْنِ عُبَادَةَ، حَدَّثنَا ابْنُ جُريجٍ، أَخْبَرَنِي مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَن رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ، وَكُل مُسْكِرٍ حَرَامٌ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

وكلهم ذُكروا في الباب، وقبل باب، و"إسحاق بن إبراهيم" هو: ابن راهويه، و"أبو بكر بن إسحاق" هو: محمد بن إسحاق الصاغانيّ.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنف) هنا [7/ 5208 و 5209 و 5210]، و (أبو داود) في "الأشربة"(3/ 327)، و (الترمذيّ) في "الأشربة"(4/ 290)، و (النسائيّ) في "الأشربة"(8/ 324) و"الكبرى"(3/ 212 و 236)، و (ابن ماجه) في "الأشربة"(3387 و 3392)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 16) وفي "الأشربة "(74 و 195)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(8/ 101)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(5/ 103)، و (الدارقطنيّ) في "سننه"(4/ 249)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(857)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5354)، و (الطبرانيّ) في "الصغير"(143)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(8/ 293 و 296)، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5209]

(

) - (وَحَدَّثَنَا صَالِحُ بْنُ مِسْمَارٍ السُّلَمِيُّ، حَدَّثَنَا مَعْن، حَدَّثَنَا عبدُ العَزِيزِ بْنُ الْمُطَّلِب، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، بِهَذا الإِسْنَادِ مِثْلَهُ).

(1)

"الفتح" 12/ 591، كتاب "الأشربة" رقم (5575).

ص: 726

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(صَالِحُ بْن مِسْمَارٍ السُّلَمِيُّ) أبو الفضل، ويقال: أبو العبّاس المروزيّ الْكُشْمِيهنيّ، صدوقٌ، من صغار [10] مات سنة (250) أو قبلها بقليل، أو بعدها بقليل (م ت) تقدم في "الحج" 8/ 2854.

2 -

(مَعْنُ) بن عيسى بن يحيى الأشجعيّ مولاهم، أبو يحيى المدنيّ القزّاز، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار [10](198)(ع) تقدم في "الطهارة" 7/ 563.

3 -

(عبدُ العَزِيز بْنُ الْمُطَّلِبِ) بن عبد الله بن حَنْطَب المخزوميّ، أبو طالب المدنيّ، صدوقٌ [7] مات في خلافة المنصور (خت م ت ق) تقدم في "الإيمان" 26/ 213.

و"موسى بن عقبة" ذُكر قبله.

[تنبيه]: رواية عبد العزيز بن المطّلب، عن موسى بن عُقبة هذه لم أجد من ساقها بتمامها، فليُنظر، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5210]

(

) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَمُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا يَحْيَى - وَهُوَ الْقَطَّانُ - عَنْ عُبَيْدِ الله، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: وَلَا أَعْلَمُهُ إِلا عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ، وَكُلُّ خَمْرٍ حَرَامٌ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

وكلهم ذُكروا في الباب، وقبله، و"عبيد الله" هو ابن عمر العُمريّ الفقيه المدنيّ.

وقوله: (قَالَ: وَلَا أَعْلَمُهُ إِلا عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) الظاهر أن فاعل "قال" ضمير عبيد الله، ويَحْتَمِل أن يكون ضمير نافع، والأول أقرب، والحديث تقدّم الكلام عليه، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5211]

(

) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَن رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فِي الدُّنْيَا، حُرِمَهَا في الآخِرَةِ").

ص: 727

رجال هذا الإسناد: أربعة:

وكلهم ذُكروا في الباب.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، كلاحقه، وهو (382) من رباعيّات الكتاب، والحديث متّفق عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله قبل ثلاثة أحاديث، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5212]

(

) - (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ بْنِ قَعْنَبٍ، حَدَّثَنَا مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: (مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ غي الدُّنْيَا، فَلَمْ يَتُبْ مِنْهَا، حُرِمَهَا فِي الآخِرَة، فَلَمْ يُسْقَهَا"، قِيلَ لِمَالِكٍ: رَفَعَهُ؟ قَالَ: نَعَمْ).

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ بْنِ قَعْنَبٍ) القعنبيّ الحارثيّ، أبو عبد الرحمن البصريّ، مدنيّ الأصل، وقد سكنها مدّةً، من صغار [9](ت 221) بمكة (خ م د ت س) تقدم في "الطهارة" 17/ 617.

والباقون ذُكروا قبله.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، كسابقه، وهو (383) من رباعيَّات الكتاب.

وقوله: (قِيلَ لِمَالِكٍ: رَفَعَهُ؟

إلخ) لم يُعرف القائل له، قاله صاحب "التنبيه"

(1)

.

والحديث متّفق عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله قريبًا، ولله الحمد والمنة.

وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5213]

(

) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ نُمَيْرٍ (ح) وَحَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ الله، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ

(1)

"تنبيه المعلم" ص 345.

ص: 728

رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فِي الدُّنْيَا، لَمْ يَشْرَبْهَا فِي الآخِرَة، إِلَّا أَنْ يَتُوبَ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

وكلّهم ذُكروا في الباب، وقبله، و"ابن نُمير" هو: محمد بن عبد الله بن نُمير الهمدانيّ الكوفيّ.

وقوله: ("مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فِي الدُّنْيَا

إلخ) قال النوويّ رحمه الله: معناه: أنه يُحرم شربها في الجنة، وإن دخلها، فإنها من فاخر شراب الجنة، فيُمنعها هذا العاصي بشربها في الدنيا، قيل: إنه يَنْسَى شهوتها؛ لأن الجنة فيها كل ما يُشتَهَى، وقيل: لا يشتهيها، وإن ذَكَرها، ويكون هذا نَقْصُ نعيم في حقه تمييزًا بينه وبين تارك شُرْبها، وفي هذا الحديث دليل على أن التوبة تكفّر المعاصي الكبائر، وهو مجمَع عليه، واختَلَف متكلمو أهل السُّنَّة في أن تكفيرها قطعيّ، أو ظنيّ، وهو الأقوى، والله أعلم. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قوله: "وهو الأقوى" تقدّم قريبًا ترجيح القول بأن قبول التوبة قطعيّ بأدلّته، فلا تنس، وبالله تعالى التوفيق.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5214]

(

) - (وَحَدَّثنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثنَا هِشَامٌ - يَعْنِي: ابْنَ سُلَيْمَانَ الْمَخْزُومِيَّ - عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِ حَدِيثِ عُبَيْدِ اللهِ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(ابْنُ أَبِي عُمَرَ) هو: محمد بن يحيى بن أبي عمر العدنيّ، ثم المكيّ، تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(هِشَامُ بْنُ سُلَيْمَانَ الْمَخْزُومِيُّ) المكيّ، صدوقٌ [8](خت م ق) تقدم في "الحج" 23/ 2989.

(1)

"شرح النوويّ" 13/ 173.

ص: 729

والباقون ذُكروا في الباب.

وقوله: (بِمِثْلِ حَدِيثِ عُبَيْدِ اللهِ)؛ يعني: أن موسى بن عقبة حدّث عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما بمثل حديث عبيد الله بن عمر الْعُمريّ، عنه.

[تنبيه]: رواية موسى بن عُقبة، عن نافع هذه ساقها أبو عوانة رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(7967)

- حدّثنا يوسف بن مسلم، ومحمد بن الخليل المخرميّ، والصغانيّ، قالوا: ثنا حجاج بن محمد، عن ابن جريج، أخبرني موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من شرب الخمر في الدنيا لم يشربها في الآخرة، إلا أن يتوب". انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

قال الجامع الفقير إلى مولاه الغنيّ القدير محمد ابن الشيخ العلامة عليّ بن آدم بن موسى خُويدم العلم بمكة المكرّمة:

قد انتهيتُ من كتابة الجزء الثالث والثلاثين من "شرح صحيح الإمام مسلم" المسمَّى "البحرَ المحيطَ الثّجّاج شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجّاج" مع الأذان لصلاة الظهر، يوم الأربعاء المبارك، وهو اليوم الثالث عشر من شهر شوال (13/ 10/ 1431 هـ الموافق 22 سبتمبر 2010 م).

أسأل الله العليّ العظيم ربّ العرش العظيم أن يجعله خالصًا لوجهه الكريم، وسببًا للفوز بجنات النعيم لي ولكلّ من تلقّاه بقلب سليم، إنه بعباده رؤوف رحيم.

وآخر دعوانا: {أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس: 10].

{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} الآية [الأعراف: 43].

{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (182)} [الصافات: 180 - 183].

(1)

"مسند أبي عوانة" 5/ 105.

ص: 730

"اللهم صلّ على محمد، وعلى آل محمد، كما صلّيت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد".

"السلام عليك أيها النبيّ ورحمة الله وبركاته".

ويليه - إن شاء الله تعالى - الجزء الرابع والثلاثون مفتتحًا بـ (8) - (بَابُ إِبَاحَةِ النبِيذِ الَّذِي لَمْ يَشْتَدَّ، وَلَمْ يَصِرْ مُسْكِرًا) رقم [5215](2004).

"سبحانك اللهمّ وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك".

* * *

ص: 731