المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

بسم الله الرحمن الرحيم يوم الأربعاء الثالث عشر من شهر شوال - البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج - جـ ٣٤

[محمد بن علي بن آدم الأثيوبي]

فهرس الكتاب

بسم الله الرحمن الرحيم

يوم الأربعاء الثالث عشر من شهر شوال 13/ 10/ 1431 هـ ابتدأت بكتابة أول الجزء الرابع والثلاثين من شرح "صحيح الإمام مسلم، المسمّى "البحر المحيط الثجّاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجّاج" رحمه الله تعالى.

(8) - (بَابُ إبَاحَةِ النَّبِيذِ الَّذِي لَمْ يَشْتَدَّ، وَلَمْ يَصِرْ مُسْكِرًا)

وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5215]

(2004) - (حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ الْعَنْبَرِيُّ، حَدَّثنَا أَبِي، حَدَّثنا شُعْبَةُ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عُبَيْدٍ أَبِي عُمَرَ الْبَهْرَانِيّ، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُنْتَبَذُ لَهُ أَوَّلَ اللَّيْل، فَيَشْرَبُهُ إِذَا أَصْبَحَ، يَوْمَهُ ذَلِكَ، وَاللَّيْلَةَ الَّتِي تَجِيءُ، وَالْغَدَ، وَاللَّيْلَةَ الأُخْرَى، وَالْغَدَ إِلَى الْعَصْر، فَإِنْ بَقِيَ شَيْء سَقَاهُ الْخَادِمَ، أَو أَمَرَ بِه، فَصُبَّ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ الْعَنْبَرِيُّ) أبو عمرو البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 237)(ح م د س) تقدم في "المقدمة" 3/ 7.

2 -

(أَبُوهُ) معاذ بن معاذ بن نصر بن حسّان العَنْبريّ، أبو المثنّى البصريّ، ثقةٌ متقنٌ، من كبار [9](ت 196)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 7.

3 -

(شُعْبَةُ) بن الحجّاج بن الْوَرْد العَتَكيّ مولاهم، أبو بسطام الواسطيّ، ثم البصريّ، ثقةٌ حافظٌ متقنٌ، عابدٌ، أمير المؤمنين في الحديث، وأول من فتّش عن الرجال بالعراق، وذبّ عن السُّنّة [7](ت 160)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 381.

4 -

(يَحْيَى بْنُ عُبَيْدٍ أَبو عُمَرَ الْبَهْرَانيِّ) الكوفيّ، صدوقٌ [4](م د س ق) تقدم في "الأشربة" 6/ 5171.

ص: 5

5 -

(ابْنُ عَبَّاسٍ) عبد الله البحر الحبر رضي الله عنهما، تقدّم في "الإيمان" 6/ 124.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيات المصنف رحمه الله، وأنه مسلسل بالبصريين، غير يحيى، فكوفيّ، وأن ابن عباس رضي الله عنهما أحد المكثرين السبعة، روى (1696) حديثًا، وهو أيضًا أحد العبادلة الأربعة، وآخر من مات من الصحابة بالطائف، وهو حبر الأمة، وبحرها، وترجمان القرآن، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ يَحْيَى بْنِ عُبَيْدٍ أَبِي عُمَرَ الْبَهْرَانِيِّ) تقدّم أنه منسوب إلى بهراء قبيلة من قُضاعة، (قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما (يَقُولُ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُنْتَبَذُ) بالبناء للمفعول، (لَهُ أَوَّلَ اللَّيْلِ) بنصب "أوّلَ" على الظرفيّة؛ أي: في أول الليل، (فَيَشْرَبُهُ إِذَا أَصْبَحَ)؟ أي: دخل في الصباح، (يَوْمَهُ) ظرف لـ"يشربه"، وقوله:(ذَلِكَ) بدل، أو عطف بيان لـ"يومه"، وقال الطيبيّ: صفة له؛ أي: يوم الليل الذي يُنبذ له، فيشربه وقت دخوله في الصباح. (وَاللَّيْلَةَ) بالنصب عطفًا على "يومَهُ" على سبيل الانسحاب، لا التقدير، قاله الطيبيّ

(1)

. (الَّتِي تَجِيءُ، وَالْغَدَ)؛ أي: اليوم التالي لليلة الجائية، (وَاللَّيْلَةَ الأُخْرَى)؛ أي: التي تلي الغد، (وَالْغَدَ)؛ أي: غد تلك الليلة الأخرى، وهو اليوم الثالث، (إِلَى الْعَصْرِ)؛ أي: إلى عصر اليوم الثالث، (فَإِنْ بَقِيَ شَيْءٌ) من النبيذ (سَقَاهُ الْخَادِمَ) قال المظهر: إنما لم يشربه صلى الله عليه وسلم؛ لأنه كان دُرْديًّا، ولم يبلُغ حدّ الإسكار، فإذا بلغ صبّه، وهذا يدلّ على جواز شرب النبيذ ما لم يكن مسكرًا، وعلى جواز أن يُطعم السيّد مملوكه طعامًا أسفل، ويَطعَم هو طعامًا أعلى، انتهى

(2)

. (أَو أَمَرَ) بالبناء للفاعل؛ أي: أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم خادمه، (بِهِ)؛ أي: بذلك النبيذ التي وصل إلى عصر اليوم الثالث، (فَصُبَّ) بالبناء للمفعول؛ أي: أهريق، وهذه الرواية فيها أنه في مساء الثالثة إذا فَضَل شيء لم يشربه، بل يصبّه، وفي رواية عند

(1)

"الكاشف عن حقائق السنن" 9/ 2884.

(2)

"الكاشف عن حقائق السنن" 9/ 2884.

ص: 6

النسائيّ أنه "إذا كان من آخر الثالثة سقاه، أو شربه، فإن أصبح منه شيء أهراقه"، فهذا يدل على أنهم يشربونه في مساء الثالث، وإنما يصبّونه في صباح الرابع، ويُجمع بأنه تارة يشربونه، حيث لا يظهر عليه أثر تغير، وتارة يهرقونه حيث يظهر فيه شيء من التغيّر.

وقال النووي رحمه الله عند قوله: "سقاه الخادم، أو صبه": معناه تارةً يسقيه الخادم، وتارةً يصبّه، وذلك الاختلاف لاختلاف حال النبيذ، فإن كان لم يظهر فيه تغيّر ونحوه من مبادئ الإسكار سقاه الخادم، ولا يُريقه؛ لأنه مال تَحْرُم إضاعته، ويترك شربه تنزّهًا، وإن كان قد ظهر فيه شيء من مبادئ الإسكار، والتغيّر أراقه؛ لأنه إذا أسكر صار محرّمًا، ونجسًا

(1)

، فيراق، ولا يسقيه الخادم؛ لأن المسكر لا يجوز سقيه الخادم، كما لا يجوز شُربه. وأما شُربه صلى الله عليه وسلم قبل الثلاث، فكان حيث لا تغيّر، ولا مبادئ تغيّر، ولا شكّ أصلًا، والله أعلم. انتهى

(2)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث ابن عباس رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [8/ 5215 و 5216 و 5217 و 5218 و 5219](2004)، و (أبو داود) في "الأشربة"(3713)، و (النسائيّ) في "الأشربة"(8/ 333) و"الكبرى"(3/ 244)، و (ابن ماجه) في "الأشربة"(3399)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(2714 - 2715)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 224 و 232 و 233 و 240)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5384)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(5/ 133)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(12623 و 12624 و 12625 و 12626 و 12627 و 12628 و 12629 و 12630 و 12631)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(8/ 294 و 300)، والله تعالى أعلم.

(1)

تقدّم الكلام في نجاسة الخمر محقّقًا، وأن القول بنجاستها - وإن ذهب إليه الجمهور - فلا دليل عليه، فلا تغفل، والله تعالى أعلم.

(2)

"شرح النووي" 13/ 174.

ص: 7

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان الشراب الذي يجوز شُربه، وهو ما كان من النبيذ إلى ثلاثة أيام.

2 -

(ومنها): ما قاله النوويّ رحمه الله: في هذه الأحاديث دلالة على جواز الانتباذ، وجواز شرب النبيذ ما دام حُلْوًا، لم يتغيّر، ولم يَغْل، وهذا جائز بإجماع الأمة، وأما سقيه الخادم بعد الثلاث، وصبّه، فلأنه لا يؤمَن بعد الثلاث تغيّره، وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم يتنزّه عنه بعد الثلاث. انتهى

(1)

.

3 -

(ومنها): ما قاله القرطبيّ رحمه الله: هذا الحديث، وما في معناه يدلّ على جواز الانتباذ، وشُربه حلوًا، وعلى أكثر قدر المدّة التي يُشرب إليها، وهي مقدّرة في هذا الحديث - يعني: رواية مسلم - بيومين وليلتين، غير أنه جعل غاية اليومين العصر، ثم سقاه الخادم، وفي الرواية الأخرى:"المساء، ثم أمر به فأُهريق"، وظاهر هاتين الروايتين أنهما مرّتان، أما الأُولى: فإنه لم يظهر فيه ما يقتضي إراقته، وإتلافه، لكن اتّقاه في خاصّة نفسه أخذًا بغاية الورع، وسقاه الخادم؛ لأنه حلال جائز، كما قال في أُجرة الحجّام:"أعلفه ناضحك"؛ يعني: بعيرك، وأما في المرة الأخرى: فتبيّن له فساده، فأمر بإراقته، ولا يُسبتعد أن يفسد النبيذ فيما بين العصر والمغرب في آخر مدّته في شدّة الحرّ. انتهى

(2)

، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5261]

(

) - (حَدَّثنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدثنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثنَا شُعْبَةُ، عَنْ يَحْيَى الْبَهْرَانِيّ، قَالَ: ذَكَرُوا النَّبِيذَ عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَقَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُنْتَبَذُ لَهُ فِي سِقَاءٍ قَالَ شُعْبَةُ: مِنْ لَيْلَةِ الاثْنَيْنِ - فَيَشْرَبُهُ

(3)

يَوْمَ الاثْنَيْن، وَالثُّلَاَثَاءِ

(4)

إِلَى الْعَصْر، فَإنْ فَضَلَ مِنْهُ شَيْءٌ سَقَاهُ الْخَادِمَ، أَو صَبَّهُ).

(1)

"شرح النووي" 13/ 173 - 174.

(2)

"المفهم" 5/ 271 - 272.

(3)

وفي نسخة: "فشربه".

(4)

وفي نسخة: "والثلاثا" بالقصر.

ص: 8

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ بَشارٍ) الْعَبديّ، أبو بكر البصريّ المعروف ببُندار، ثقةُ [10](ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.

2 -

(مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ) أبو عبد الله البصريّ المعروف بغُندر، ثقةٌ صحيح الكتاب [9](ت 3 أو 194)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.

والباقون ذُكروا قبله.

والحديث من أفراد المصنّف، وقد تقدّم شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، ولله الحمد.

وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5217]

(

) - (وَحَدَّثنَا أبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ - وَاللَّفْظُ لأَبِي بَكرٍ، وَأَبِي كُرَيْبٍ - قَالَ إِسْحَاقُ: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ الآخَرَانِ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الأَعْمَشَ، عَنْ أَبِي عُمَرَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُنْقَعُ لَهُ الزَّبِيبُ، فَيَشْرَبُهُ الْيَوْمَ، وَالْغَدَ، وَبَعْدَ الْغَدِ اِلَى مَسَاءِ الثالِثَة، ثُمَّ يَأَمُرُ بِهِ

(1)

، فَيُسْقَى، أَو يُهَرَاقُ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أبِي شَيْبَةَ) عبد الله بن محمد بن أبي شيبة إبراهيم بن عثمان الكوفيّ، واسطيّ الأصل، ثقةٌ حافظٌ، له تصانيف [10](ت 235)(خ م د س ق) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.

2 -

(أَبُو كُرَيْبٍ) محمد بن العلاء الهَمْدانيّ الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ أحد مشايخ الستة بلا واسطة [10](ت 247) وهو (87) سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 117.

3 -

(إِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ) بن مخلد، أبو محمد بن راهويه الحنظليّ المروزيّ، نزيل نيسابور، ثقةٌ حافظٌ مجتهد [10](ت 238)(خ م د ت س) تقدم في "المقدمة" 5/ 28.

4 -

(أَبُو مُعَاوِيَةَ) محمد بن خازم الضرير الكوفيّ، ثقةٌ أثبت الناس

(1)

وفي نسخة: "ثم أمر به".

ص: 9

لحديث الأعمش، وقد يَهِم في حديث غيره، وقد رُمي بالإرجاء من كبار [9](ت 195) وله (82) سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 117.

5 -

(الأَعْمَشُ) سليمان بن مِهْران الأسديّ الكاهليّ مولاهم، أبو محمد الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ عارف بالقراءة، ورعٌ، لكنّه يدلّس [5](ت 7 أو 148)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 297.

والباقيان ذُكرا قبله، و"أبو عمر" هو يحيى بن عُبيد البهرانيّ المذكور.

وقوله: (صلى الله عليه وسلم يُنْقَعُ لَهُ الزبِيبُ) ببناء الفعل للمفعول؛ أي: يُخلط بالماء ليصير شَرَابًا، قال ابن الأثير رحمه الله: كلُ ما ألقي في ماء، فقد أُنْقِعَ، يقال: أنقعت الدواءَ وغيره في الماء، فهو مُنقَعٌ، والنَّقُوع - بالفتح -: ما يُنقع في الماء من الليل ليُشرب نهارًا، وبالعكس، والنقيع: شرابٌ يُتّخذ من زبيب، أو غيره، يُنْقَعُ في الماء من غير طبخ. انتهى

(1)

.

وقال الفيّوميّ رحمه الله: أَنْقَعْتُ الدواءَ وغيرَهُ إِنْقَاعًا: تركته في الماء حتى انْتَقَعَ، وهو نَقِيعٌ فَعِيلٌ بمعنى مفعول، والنَّقُوعُ بالفتح: ما يُنقَع، مثلُ السَّحور، والطَّهور لِمَا يُتسحّر به، ويُتطهر به، فقبل أن يُنْقَعَ هو نَقُوعٌ، وبعده هو نَقُوعٌ، ونَقِيعٌ، ويُطلق النَّقِيعُ على الشراب الْمُتَّخَذ من ذلك، فيقال: نَقِيعُ التمر، والزبيب، وغيره، إذا تُرِك في الماء حتَّى يَنْتَقِعَ من غير طبخ، وجاز أيضًا: فهو مُنْتَقِعٌ على الأصل، ونُقَاعَةُ كلِّ شيء، بضمّ النون: الماء الذي يُنتقع فيه. انتهى

(2)

.

وقوله: (إِلَى مَسَاءِ الثَّالِثّةِ) هو على حذف مضاف؛ أي: مساء الليلة الثالثة، و"المساء": ضدّ الصباح، وهو بفتح الميم، لا غير، وأما قول النوويّ في "شرحه": يقال: بضمّ الميم، وكسرها لغتان، والضمّ أرجح، فلا أراه صحيحًا، فإن جواز الضم والكسر إنما هو للْمُسْي، لا للمَسَاء، وهو اسم منه. انظر:"القاموس". والله أعلم.

وقوله: (ثُمَّ يَأْمُرُ بِهِ) وفي بعض النسخ: "ثمّ أمر به".

وقوله: (فَيُسْقَى) بالبناء للمفعول؛ أي: يسقى للخادم.

(1)

"النهاية في غريب الحديث" ص 938.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 622.

ص: 10

وقوله: (أَو يُهَرَاقُ) بضمّ حرف المضارعة، وفتح الهاء؛ أي: يُصبّ، والحديث من أفراد المصنّف، وقد سبق تمام البحث فيه، ولله الحمد.

وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5218]

(

) - (وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الأَعْمَش، عَنْ يَحْيَى أَبِي عُمَرَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُنْبَدُ لَهُ الزَّبِيبُ فِي السِّقَاء، فَيَشْرَبُهُ يَوْمَهُ، وَالْغَدَ، وَبَعْدَ الْغَد، فَإِذَا كَانَ مَسَاءُ الثالِثَةِ شَرِبَهُ، وَسَقَاهُ، فَإنْ فَضَلَ شَيْءٌ أَهْرَاقَهُ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(جَريرُ) بن عبد الحميد بن قُرط الضبّيّ، أبو عبد الله الكوفيّ، نزيل الريّ وقاضيها، ثقةٌ، صحيح الكتاب [8](ت 188)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.

والباقون ذُكروا قبله.

[تنبيه]: وقع في بعض النسخ: "عن يحيى بن أبي عمر" بزيادة لفظ "ابن"، وهو غلط، فهو يحيى بن عبيد أبو عمر البهرانيّ المذكور في الأسانيد الماضية، فتنبّه.

وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5219]

(

) - (وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي خَلَفٍ

(1)

، حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ بْنُ عَدِيٍّ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ الله، عَنْ زيدٍ، عَنْ يَحْيَى أَبِي عُمَرَ النَّخَعِيّ، قَالَ: سَألَ قَوْمٌ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ بَيْعِ الْخَمْر، وَشِرَائِهَا، وَالتِّجَارَة فيهَا، فَقَالَ: أَمُسْلِمُونَ أنتُمْ؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: فَإِنَّهُ لَا يَصْلُحُ بَيْعُهَا، وَلَا شِرَاؤُهَا، وَلَا التِّجَارَةُ فِيهَا، قَالَ: فَسَأْلُوهُ عَنِ النَّبِيذ، فَقَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ، ثُمَّ رَجَعَ، وَقَدْ نبَذَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِهِ فِي حَنَاتِمَ، وَنَقِير، وَدُبَّاءٍ، فَأَمَرَ بِه، فَأُهْرِيقَ، ثُمَّ أَمَرَ بِسِقَاءٍ

(2)

، فَجُعِلَ فِيهِ زَبِيبٌ وَمَاءٌ، فَجُعِلَ مِنَ الليْل، فَأَصْبَحَ، فَشَرِبَ مِنْهُ يَوْمَهُ ذَلِكَ، وَلَيْلَتَهُ الْمُسْتَقْبِلَةَ، وَمِنَ الْغَد، حَتَّى أَمْسَى، فَشَرِبَ، وَسَقَى، فَلَمَّا أَصْبَحَ أَمرَ بِمَا بَقِيَ مِنْهُ، فَأُهَرِيقَ).

(1)

وفي نسخة: "محمد بن أبي خلف".

(2)

وفي نسخة: "بالسقاء، فجعل فيه زبيبًا".

ص: 11

رجال هذا الإسناد: ستّةٌ:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي خَلَفٍ) السلميّ، أبو عبد الله البغداديّ القطيعيّ، ثقةٌ [10](ت 237)(م د) تقدم في "الإيمان" 92/ 502.

2 -

(زَكَرِيَّاءُ بْنُ عَدِيَّ) بن الصَّلْت التيميّ مولاهم، أبو يحيى الكوفيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ حافظٌ فاضلٌ، من كبار [10](ت 11 أو 212)(خ م مد ت س ق) تقدّم في "المقدّمة" 6/ 88.

3 -

(عُبَيْدُ اللهِ) بن عمرو بن أبي الوليد الرّقّيّ، أبو وهب الأسديّ، ثقةٌ فقيهٌ ربّما وَهِمَ [8](ت 180) عن (80) إلا سنةً (ع) تقدّم في "المقدّمة" 6/ 96.

4 -

(زَيْدُ) بن أبي أُنيسة واسمه زيد، أبو أسامة الجَزَريّ، كوفيّ الأصل، ثمّ سكن الرُّها، ثقةٌ [6](ت 19 أو 124)(ع) تقدّم في "المقدّمة" 6/ 96.

والباقيان ذُكرا قبله.

وقوله: (عَنْ يَحْيَى أَبِي عُمَرَ النَّخَعِيِّ) هو: يحيى البهرانيّ المذكور في الروايات السابقة، يقال له: البَهْراني النخعيّ الكوفيّ.

وقوله: (سَأل قَوْمٌ ابْنَ عَبَاسٍ) قال صاحب "التنبيه": لا أعرفهم، ولا ما في هذا الحديث من المُبهَم. انتهى

(1)

.

وقوله: (أَمُسْلِمُونَ أنتُمْ؟) قال القرطبيّ رحمه الله: وقول ابن عباس رضي الله عنهما هذا استفهام لهم عن دخولهم في الإسلام؛ لأنَّهم سألوا عن بيع الخمر، والتجارة فيها، وذلك الحكم كان معلومًا عند المسلمين، بحيث لا يجهله من دخل في الدين، وامتدّ مُقامه فيه، وكأن هؤلاء السائلين كانوا حديثي عهد بالإسلام، أو كانوا من الأعراب، وفتيا ابن عباس بقوله: لا يصح، إنما معناه: أن ذلك حرام لنصوص السُّنَّة بالتحريم، كقوله صلى الله عليه وسلم:"إن الذي حرَّم شُربها حرّم بيعها"، و"إن الله إذا حرَّم على قومٍ شيئًا حزم عليهم ثمنه"، وهذا كله مفهوم من الأمر بإراقتها، وباجتنابها، فإنَّه إذا لم يُنتفع بها، فأخْذُ المال عوضًا عنها أكلٌ للمال بالباطل.

وإراقة النبيّ صلى الله عليه وسلم لِمَا نُبذ في الحنتم، والنقير كان ذلك - والله أعلم - قبل

(1)

"تنبيه المعلم" ص 345.

ص: 12

أن يُنسخ ذلك، كما تقدَّم. انتهى

(1)

.

وقوله: (خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم سَفَرٍ) لم يُعرف ذلك السفر.

وقوله: (وَقَدْ نبَذَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِهِ) لم يُعرف أسماؤهم.

وقوله: (حَنَاتِمَ) بالفتح: جمع حنتم، وتقدّم معناه.

وقوله: (بِسِقَاءٍ) وفي بعض النسخ: "بالسقاء" بالتعريف.

وقوله: (فَجُعِلَ مِنَ اللَّيْلِ)"من" بمعنى "في"؛ أي: في الليل، أو هي بمعنى بعض؛ أي: بعض الليل.

وقوله: (وَلَيْلَتَهُ الْمُسْتَقْبِلَةَ) بفتح الباء، وكسرها؛ إذ الاستقبال من الجانبين، فيصحّ أن يكون اسم فاعل؛ لأن الزمن يستقبل الناس، واسم مفعول؛ لأن الناس يستقبلونه.

وقوله: (حَتَّى أَمْسَى)؛ أي: دخل في المساء.

وقوله: (فَشَرِبَ)؛ أي: شرب النبيّ صلى الله عليه وسلم بنفسه.

وقوله: (وَسَقَى)؛ أي: سقى غيره من الناس، أو الخادم.

والحديث من أفراد المصنّف رحمه الله، وقد مضى تمام البحث فيه، ولله الحمد.

وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5220]

(2005) - (حَدَّثَنَا شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ، حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ - يَعْني: ابْنَ الْفَضْلِ الْحُدَّانِيَّ - حَدَّثنَا ثُمَامَةُ - يَعْني: ابْنَ حَزْنٍ الْقُشَيْرِيَّ - قَالَ: لَقِيتُ عَائِشَةَ، فَسأَلتُهَا عَنِ النَّبِيذ، فَدَعَتْ عَائِشَةُ جَارِيةً حَبَشِيَّةً، فَقَالَتْ: سَلْ هَذِه، فَإِنَّهَا كَانَتْ تَنْبذُ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتِ الْحَبَشِيةُ: كُنْتُ أَنبِدُ لَهُ فِي سِقَاءٍ مِنَ اللَّيْل، وَأوكِيه، وَأَعَلِّقُهُ، فَإِذَا أَصْبَحَ شَرِبَ مِنْهُ).

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ) الْحَبَطيّ الأبُليّ، أبو محمد، صدوقٌ يَهِمُ، ورُمي بالقدر، قال أبو حاتم: اضطرّ الناس إليه أخيرًا، من صغار [9](ت 5 أو 236) وله بضع و (90) سنةً (م د س) تقدم في "الإيمان" 12/ 751.

(1)

"المُفهم لِمَا أشكل من تلخيص كتاب مسلم" 17/ 12.

ص: 13

2 -

(الْقَاسِمُ بْنُ الْفَضْلِ الْحُدَّانِيُّ) - بضمّ الحاء المهملة، وتشديد الدال - أبو المغيرة البصريّ، ثقةٌ، رُمي بالإرجاء [7](167)(بخ م 4) تقدم في "الزكاة" 45/ 2458.

[تنبيه]: قوله: "الْحُدّانيّ" قال النوويّ رحمه الله: هو بضم الحاء، وتشديد الدّال المهملتين، وهو منسوب إلى بني حُدّان، ولم يكن من أنفسهم، بل كان نازلًا فيهم، وهو من بني الحارث بن مالك. انتهى

(1)

.

وقال في "اللباب": الْحُدّانيّ: نسبة إلى حُدّان، وهم بطن من الأزد، وهو حدّان بن شمس بن عمرو بن غَنْم بن غالب بن عثمان بن نصر بن الأزد، قال: ويُنسب إلى محلّة بالبصرة يقال لها: حُدّان، نزلها هذا البطن، فنُسبت إليهم، وممن يُنسب إلى هذه المحفة: القاسم بن الفضل أبو المغيرة الْحُدّانيّ. انتهى

(2)

.

3 -

(ثُمَامَةُ بْنُ حَزْنٍ الْقُشَيْرِيُّ) البصريّ، والد أبي الورد، ثقةٌ مخضرمٌ [2] وفد على عمر بن الخطّاب، وله (35) سنة (بخ م ت س) تقدم في "الأشربة" 6/ 5165.

4 -

(عَائِشَةُ) أم المؤمنين رضي الله عنهما، تقدّمت في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 315.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (384) من رباعيّات الكتاب، وفيه عائشة رضي الله عنهما أم المؤمنين، أفقه النساء مطلقًا، وأفضل أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم إلا خديجة ففيها خلاف مشهور، وهي من المكثرين السبعة، روت من الحديث (2210) أحاديث، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

عَن ثُمَامَة بْنِ حَزْنٍ - بفتح الحاء المهملة، وسكون الزاي - (الْقُشَيْرِيَّ) بضمّ القاف، وفتح الشين، آخره راء: نسبة إلى قُشير بن كعب بن ربيعة بن

(1)

"شرح النوويّ" 13/ 175 - 176.

(2)

"اللباب في تهذيب الأنساب" 1/ 347.

ص: 14

عامر بن صعصعة، قبيلة كبيرة، يُنسب إليها كثير من العلماء، وأيضًا نسبة إلى قشير بن خُزيمة بن مالك بن سلامان بن أسلم بن أفصى بن حارثة، بطن من أسلم. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: لم يتبيَّن لي نسبة ثمامة، هل إلى القبيلة الأولى، أم إلى الثانية؟ والله تعالى أعلم.

(قَالَ) ثُمامة: (لَقِيتُ) بكسر القاف، (عَائِشَةَ) رضي الله عنهما (فَسأَلتُهَا عَنِ النَّبِيدِ)؛ أي: عن كيفيّة صناعة النبيذ المباح شُربه، (فَدَعَتْ عَائِشَةُ جَارِيةً) قال الْمِزّيّ: لعلها بريرة، كذا قاله الذهبيّ

(2)

. (حَبَشِيَّةً) بفتح الحاء المهملة، والباء الموحّدة، في آخره شين معجمة: نسبة إلى الحَبَشة، وهم نوع من السودان مشهورون، يُنسب إليه بلال الحبشيّ مؤذّن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قاله في "اللباب"

(3)

. (فَقَالَتْ) عائشة رضي الله عنهما: (سَلْ هَذِهِ) الجارية، (فَإِنَّهَا) الفاء للتعليل؛ أي: وإنما أمرتك أن تسألها لأنها (كَانَتْ تَنْبِذُ) بكسر الموحّدة، من باب ضرب، (لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم)؛ أي: فهي أعلم مني بكيفيّة صناعة النبيذ الذي سألتَ عنه.

وهذا لا ينافي ما ثبت عنها أنها كانت تنبذ له صلى الله عليه وسلم، ففي رواية أبي داود من وجه آخر، عن عائشة رضي الله عنهما أنها كانت تنبذ للنبيّ صلى الله عليه وسلم غدوةً، فإذا كان من العشيّ تعشّى، فشرب على عشائه، فإن فَضَل شيء صبّته، ثم تنبذ له بالليل، فإذا أصبح، وتغدّى شرب على غدائه، قالت: نغسل السقاء غدوةً وعشيةً. انتهى؛ إذ يُحمل قولها هنا: كانت تنبذ

إلخ؛ أي: تامر جاريتها بأن تنبذ له صلى الله عليه وسلم، فتتفق الروايتان، أو يُحمل على أنها في بعض الأوقات كانت تنبذ بنفسها، والله تعالى أعلم.

(فَقَالَتِ الْحَبَشِيَّةُ: كُنْتُ أنبِذُ لَهُ) صلى الله عليه وسلم (فِي سِقَاءٍ) بكسر السين، وتخفيف القاف، (مِنَ اللَّيْلِ)"من" بمعنى "في"، أو هي للتبعيض، كما مرّ قريبًا. (وَأوكِيهِ) بضم الهمزة؛ أي: أربطه بالوِكاء، وهو بالكسر: خيط القِرْبة الذي

(1)

"اللباب" 3/ 39.

(2)

"تنبيه المعلم" ص 345 - 346.

(3)

"اللباب في تهذيب الأنساب" 1/ 336.

ص: 15

تُشَدّ به، واستُعْمِل في كل ما يُربط به من صُرّة، وغيرها

(1)

. (وَأُعَلِّقُهُ) من التعليق، (فَإِذَا أَصْبَحَ)؛ أي: دخل النبيّ صلى الله عليه وسلم في الصباح، (شَرِبَ مِنْهُ)؛ أي: من ذلك النبيذ، والله تعالى أعلم.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنف) هنا [8/ 5220 و 5221](2005)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(4/ 191)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 131 و 137) وفي "الأشربة"(1/ 23)، و (إسحاق بن راهويه) في "مسنده"(3/ 762)، و (ابن الجعد) في "مسنده"(1/ 486)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(5/ 128)، و (ابن أبي الدنيا) في "ذمّ المسكر"(1/ 56)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(8/ 299)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان جواز شرب النبيذ.

2 -

(ومنها): بيان النبيذ المباح شربه، وهو ما كان على صفة ما يُنبذ لرسول الله صلى الله عليه وسلم كما ثبت في هذا الحديث.

3 -

(ومنها): بيان فضل عائشة رضي الله عنهما حيث دلّت على الحبشية، ولم تستقلّ بالجواب بنفسها؛ لأنها أعلم منها بالموضوع، وهكذا ينبغي للعالم إذا سئل عن مسألة، وغيره أعلم بجوابها أن يدلّ عليه السائل، فإن هذا من النصيحة، وقد قال صلى الله عليه وسلم:"الدين النصيحة"، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5221]

(

) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى الْعَنَزِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيُّ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ الْحَسَن، عَنْ أُمِّه، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: كُنَّا نَنْبِذُ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي سِقَاءٍ يُوكَى أَعْلَاهُ، وَلَهُ عَزْلَاءُ، نَنْبِذُهُ غَدْوَةً، فَيَشْرَبُهُ عِشَاءً، وَنَنْبِذُهُ عِشَاءً، فَيَشْرَبُهُ غُدْوَةً).

(1)

"مشارق الأنوار"2/ 286.

ص: 16

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْن الْمُثَنَّى الْعَنَزِيُّ) أبو موسى البصريّ المعروف بالزمِن، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 252)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.

[تنبيه]: قوله: "الْعَنَزيّ" بفتح العين المهملة، والنون، آخره زاي: نسبة إلى عَنَزَة بن أسد بن ربيعة بن نِزار بن معدّ بن عبدنان، حيّ من ربيعة، قاله في "اللباب"

(1)

.

2 -

(عَبْدُ الْوَهَّابِ الثَّقَّفِيُّ) ابن عبد المجيد بن الصَّلْت، أبو محمد البصريّ، ثقةٌ [8](ت 194) عن نحو ثمانين سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 17/ 173.

وقوله: (الثقفيّ) بفتح الثاء المثلّثة، والقاف، والفاء: نسبة إلى ثَقِيف بن منبه بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان، قيل: إن اسم ثقيف: قسي، نزلوا الطائف، وانتشروا في الإسلام، قاله في "اللباب"

(2)

.

3 -

(يُونُسَ) بن عُبيد بن دينار الْعَبْديّ، أبو عبيد البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فاضلٌ ورعٌ [5](ت 139)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 73.

4 -

(الْحَسَن) بن أبي الحسن يسار الأنصاريّ مولاهم، ثقةٌ، فقيهٌ، فاضلٌ، مشهورٌ، وكان يرسل، ويدلّس، رأس الطبقة [3](ت 110) وقد قارب التسعين (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 306.

5 -

(أُمُّهُ) خيرة مولاة أم سلمة رضي الله عنهما ثقةٌ

(3)

[3].

رَوَت عن مولاتها، وعائشة، وعنها ابناها الحسن، وسعيد ابني أبي الحسن، وعلي بن زيد بن جُدْعان، ومعاوية بن قُرّة المزنيّ، وحفصة بنت سيرين، قال سليمان التيميّ: رأى الحسن مع أمه كُرّاثة، فقال: اطرحي هذه الشجرة الخبيثة، فقالت: اسكت، فإنك شيخ قد خَرِفْتَ، قال: فضحك

(1)

"اللباب في تهذيب الأنساب" 2/ 361 - 362.

(2)

"اللباب في تهذيب الأنساب" 1/ 240.

(3)

وقوله في "التقريب": مقبولة، غير مقبول؛ لأنها تابعيّة مشهورة، روى عنها جماعة، وأخرج لها مسلم، ووثقها ابن حبّان، ولم يَطعن فيها أحد، فتنبّه.

ص: 17

الحسن، وقال: أيما أكبر أنا أو أنت؟ وذكرها ابن حبان في "الثقات".

أخرج لها المصنّف، والأربعة، ولها في هذا الكتاب حديثان فقط هذا (2005)، وحديث (2916):"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال لعمّار: تقتلك الفئة الباغية"، وأعاده بعده.

و"عَائِشَةُ رضي الله عنهما" ذُكرت قبله.

وقوله: (فِي سِقَاءٍ يُوكَى أَعْلَاهُ)؛ أي: يُربط فمه الأعلى بالوكاء، ووقع في بعض النسخ بلفظ:"يوكأ" بالهمز، فقال النوويّ رحمه الله: قولها: "في سقاء يوكأ" هذا مما رأيته يُكتَب، ويضبط فاسدًا، وصوابه:"يُوكَى" بالياء غير مهموز، ولا حاجة إلى ذِكر وجوه الفساد التي قد يوجد عليها. انتهى

(1)

.

وقال الفيّوميّ رحمه الله: الْوِكاء: مثلُ كِتَابٍ حبْلٌ يُشدّ به رأس القِرْبة، والجمع أوكية، مثلُ سلاح وأسلحة، وأوكيت السقاء بالألف: شددتُ فمه بالوكاء، ووكيته، من باب وَعَدَ لغة قليلةٌ. انتهى

(2)

.

وقوله: (وَلَهُ عَزْلَاءُ) - بفتح العين المهملة، وإسكان الزاي، وبالمدّ - وهو الثُّقْب الذي يكون في أسفل المزادة، والقربة، قاله النوويّ

(3)

.

وقال الفيّوميّ رحمه الله: الْعَزْلاء، وزانُ حمراء: فَمُ الْمَزَادة الأسفلُ، والجمع الْعَزَالي، بفتح اللام، وكسرها، وأرسلت السماء عَزَاليها إشارة إلى شدّة وقع المطر، على التشبيه بنزوله من أفواه المزادات. انتهى

(4)

.

وقوله: (نَنْبِذُهُ غُدْوَةً) بضمّ الغين المعجمة، وسكون الدال المهملة: ما بين صلاة الصبح، وطلوع الشمس، وجمعه غُدًى، مثلُ مُدْيةٍ ومُدًى، هذا أصله، ثم كثُر حتى استُعمل في الذهاب والانطلاق أيَّ وقت كان، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: "واغْدُ يا أنيس

" الحديث؛ أي: انطلق، قاله الفيّوميّ

(5)

.

وقوله: (فَيَشْرَبُهُ عِشَاءً) - بكسر العين، وفتح الشين، وبالمدّ -، وضَبَطه بعضهم "عَشِيًّا" بفتح العين، وكسر الشين، وزيادة ياء مشددة، قاله النوويّ

(6)

.

(1)

"شرح النوويّ" 13/ 176.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 670 - 671.

(3)

"شرح النوويّ" 13/ 176.

(4)

"المصباح المنير" 2/ 408.

(5)

"المصباح المنير" 2/ 443.

(6)

"شرح النوويّ" 13/ 176.

ص: 18

والحديث من أفراد المصنّف رحمه الله، وقد تقدّم الكلام فيه مستوفًى، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5222]

(2006) - (حَدَّثنَا قتيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ - يَعْني: ابْنَ أَبِي حَازِمٍ - عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ: دَعَا أَبُو أسَيْدٍ السَّاعِدِيُّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي عرْسِه، فَكَانَتِ امْرَأتهُ يَوْمَئِذٍ خَادِمَهُمْ، وَهِيَ الْعَرُوسُ، قَالَ سَهْلٌ: تَدْرُونَ مَا سَقَتْ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ أنقَعَتْ لَهُ تَمَرَاتٍ مِنَ اللَّيْلِ فِي تَوْرٍ، فَلَمَا أَكَلَ سَقَتْهُ إِيَّاهُ).

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(قتيبَة بْن سَعِيدِ) بن جميل بن طريف الثقفيّ، أبو رجاء البغلانيّ، يقال: اسمه يحيى، وقيل: عليّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 240) عن تسعين سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.

2 -

(عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي حَازِمٍ) المدنيّ، ثقةٌ فقيهٌ [8](ت 184) وقيل غير ذلك (ع) تقدم في "الإيمان" 45/ 290.

3 -

(أَبُو حَازِمٍ) سلمة بن دينار الأعرج التمّار المدنيّ القاصّ، مولى الأسود بن سفيان، ثقةٌ عابدٌ [5](ت 140) أو قبلها، أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان"50/ 313.

4 -

(سَهْلُ بْنُ سَعْدِ) بن مالك بن خالد الأنصاريّ الخزرجيّ الساعديّ، أبو العبّاس الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، مات سنة (88) وقيل: بعدها، وقد جاوز المائة (ع) تقدم في "الإيمان" 50/ 313.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، كلاحقه، وهو (385) من رباعيّات الكتاب، وفيه رواية الراوي عن أبيه، وأن صحابيّه آخر من مات بالمدينة من الصحابة على بعض الأقوال.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي حَازِمٍ) سلمة بن دينار (عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ) رضي الله عنهما، وفي رواية للبخاريّ:"قال: سمعت سهل بن سعد"، (قَالَ: دَعَا أَبُو أُسَيْدٍ السَّاعِدِيُّ) هو

ص: 19

بضمّ الهمزة: مالك بن ربيعة بن الْبَدَن - بفتح الموحّدة، والمهملة، بعدها نون - الصحابيّ المشهور، شَهِد بدرًا وغيرها، ومات سنة ثلاثين، وقيل: بعد ذلك، حتى قال المدائنيّ: مات سنة ستين، قال: هو آخر من مات من البدريين، تقدّمت ترجمته في "صلاة المسافرين وقصرها" 11/ 1652. (رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي عُرْسِهِ) زاد في رواية عند البخاريّ: و"أصحابَهُ"، و"الْعُرْس" بضمّ العين المهملة، وسكون الراء: الزِّفَافُ، ويُذكّر، ويؤنّثُ، فيقال: هو الْعُرْس، والْجمع أعراس، مثلُ قُفْل وأقفال، وهي الْعُرْس، والجمع عُرْسات، ومنهم من يقتصر على إيراد التأنيث، والْعُرْس أيضًا: طعام الزِّفاف، وهو مذكّرٌ؛ لأنه اسم للطعام، قاله الفيّوميّ

(1)

. (فَكَانَتِ امْرَأَتُهُ) هي أمّ أُسيد بضمّ الهمزة، وهي ممن وافق كنيتها كنية زوجها، قال السيوطيّ رحمه الله في "ألفيّة الأثر":

وَأَلَّفُوا مَنْ وَرَدَتْ كُنْيَتُهُ

وَوَافَقَتْهُ كُنْيَةً زَوْجَتُهُ

مِثْلُ أَبِي بَكْرٍ وَأُمِّ بَكْرِ

كَذَا أَبُو ذَرٍّ وَأُمُّ ذَرِّ

واسمها: سلامة بنت وُهيب بن سلامة بن أمية

(2)

. (يَوْمَئِذٍ)؛ أي: يوم إذ دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم في عُرسه، (خَادِمَهُمْ) لم يقل: خادمتهم؛ لأن الأفصح إطلاق الخادم بلا هاء على الذكر والأنثى؛ قال الفيّوميّ رحمه الله: خَدَمَهُ يَخْدُمُهُ - أي: من بابي ضرب، ونصر

(3)

- خِدْمَة، فهو خادم، غُلامًا كان أو جاربة، والخَادِمَةُ بالهاء في المؤنث قليلٌ، والجمع خَدَمٌ، وخُدَّامٌ، وقولهم: فُلانَةٌ خَادِمَةٌ غَدًا ليس بوصف حقيقيّ، والمعنى ستصير كذلك، كما يقال: حائضة غدًا، وأَخْدَمْتُهَا بالألف: أعطيتها خادمًا، وخَدَّمْتُهَا بالتثقيل للمبالغة والتكثير، واسْتَخْدَمْتُهُ: سألته أن يُخْدِمني، أو جعلته كذلك. انتهى بزيادة يسيرة من "القاموس"

(4)

.

(وَهِيَ الْعَرُوسُ) بفتح العين المهملة: يُطلق على الذكر، والأنثى، قال المجد رحمه الله: الْعَرُوس: الرجل والمرأة ما داما في إعراسهما، وهم عُرُش، وهنّ عرائس. انتهى

(5)

.

(1)

"المصباح المنير" 2/ 402.

(2)

"مقدمة فتح الباري" 1/ 323.

(3)

راجع: "القاموس" ص 354.

(4)

"المصباح المنير" 1/ 165.

(5)

"القاموس المحيط" ص 855.

ص: 20

وقال الفيّوميّ رحمه الله: العَروس وصف يستوي فيه الذكر والأنثى ما داما في إعراسهما، وجمعُ الرجل: عُرُس بضمّتين، مثلُ رسول ورُسُلٍ، وجمعُ المرأة: عرائس، قال: وأعرس بامرأته با لألف: دخل بها، وأعرس: عَمِل عُرْسًا، قال: والإعراس: دخول الرجل بامرأته. انتهى باختصار

(1)

.

(قَالَ سَهْلٌ: تَدْرُونَ) بحذف همزة الاستفهام؛ أي: أتدرون (مَا) استفهاميّة؛ أي: أيّ شيء (سَقَتْ) تلك المرأة (رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟) ثم بيّن ما استفهمه بقوله: (أنقَعَتْ")؛ أي: تركت في الماء، قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في الأصول: "أنقعت"، وهو صحيح، يقال: أنقعتُ، ونقعت. انتهى

(2)

.

(لَهُ) صلى الله عليه وسلم (تَمَرَاتٍ) بالتاء، وفي رواية للبخاريّ:"بَلَّت تمرات" بموحّدة، ثم لام ثقيلة، وهو بمعنى أنقعت. (مِنَ اللَّيْلِ) تقدّم أن "من" بمعنى "في"، أو هي للتبعيض، (فِي تَوْرٍ) بالمثنّاة: إناء يكون من نُجاس وغيره، قاله في "الفتح"

(3)

، وقال النوويّ: وأما التور فهو بفتح التاء المثناة فوقُ، وهو إناء من صُفْر، أو حجارة، ونحوهما، كالإجّانة، وقد يُتوضأ منه. انتهى

(4)

.

وقد بيّن في الرواية الآتية أنه كان من حجارة، (فَلَمَّا أَكَلَ)؛ أي: فرغ صلى الله عليه وسلم من أَكْله، كما في الرواية الأخرى. (سَقَتْهُ إِيّاهُ)؛ أي: ذلك الشراب الذي أنقعته من الليل، وفي الرواية الآتية:"فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم" من الطعام أماثته، فسقته، تخصّه بذلك"، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث سهل بن سعد الساعديّ رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [8/ 5222 و 5223 و 5224](2006)، و (البخاريّ) في "النكاح"(5176 و 5182 و 5183) و"الأشربة"(5591 و 5597) و"الأيمان والنذور"(6685) وفي "الأدب المفرد"(1/ 261)،

(1)

"المصباح المنير" 1/ 401 - 402.

(2)

"شرح النوويّ" 13/ 176.

(3)

راجع: "الفتح" 11/ 554، كتاب "النكاح" رقم (5182).

(4)

"شرح النوويّ" 13/ 176.

ص: 21

و (النسائيّ) في "الكبرى"(4/ 146)، و (ابن ماجه)(1912)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 498)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(5/ 136)، و (الرويانيّ) في "مسنده"(2/ 197)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(2/ 45) و"الكبير"(6/ 200)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان إباحة شرب النبيذ الذي لم يشتدّ، ولم يبلغ حدّ الإسكار.

2 -

(ومنها): بيان مشروعيّة الدعوة لوليمة العرس.

3 -

(ومنها): بيان إجابة الدعوة، وقد تقدّم في "النكاح" اختلاف العلماء في وجوبها، وقدّمنا ترجيح الوجوب مطلقًا، ما لم يكن هناك منكر، أو عذر غيره يمنع من الحضور، وقد رجع ابن مسعود وابن عمر رضي الله عنهم لمّا رأيا تصاوير ذات الأرواح

(1)

.

4 -

(ومنها): جواز خدمة المرأة زوجها، ومن يدعوه، ولا يخفى أن محلّ ذلك عند أمْن الفتنة، ومراعاة ما يجب عليها من الستر، قاله في "الفتح"

(2)

، وقال النوويّ رحمه الله: هذا محمول على أنه كان قبل الحجاب، ويَبْعُد حمله على أنها كانت مستورة البشرة. انتهى

(3)

.

5 -

(ومنها): جواز استخدام الرجل امرأته في مثل ذلك.

6 -

(ومنها): بيان جواز شُرب ما لا يُسكر في الوليمة.

7 -

(ومنها): جواز إيثار كبير القوم في الوليمة بشيء دون من معه، قاله في "الفتح"

(4)

.

وقال النوويّ رحمه الله: وفي هذا جواز تخصيص صاحب الطعام بعض الحاضرين بفاخر من الطعام والشراب، إذا لم يتأذّ الباقون؛ لإيثارهم

(1)

"عمدة القاري" 20/ 159.

(2)

راجع: "الفتح" 11/ 554، كتاب "النكاح" رقم (5182).

(3)

"شرح النوويّ" 13/ 176.

(4)

راجع: "الفتح" 11/ 554، كتاب "النكاح" رقم (5182).

ص: 22

المخصَّص؛ لِعِلمه، أو صلاحه، أو شَرَفه، أو غير ذلك، كما كان الحاضرون هناك يُؤْثِرون رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويسَرُّون بإكرامه، وَيفْرَحون بما جرى، وإنما شَرِبه النبيّ صلى الله عليه وسلم لعلّتين: إحداهما: إكرام صاحب الشراب، وإجابته التي لا مفسدة فيها، وفي تَرْكها كَسْر قلبه، والثانية: بيان الجواز، والله أعلم. انتهى

(1)

.

وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5223]

(

) - (وَحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ - يَعْنِي: ابْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ - عَنْ أَبِي حَازِمٍ، قَالَ: سَمِعْتُ سَهْلًا يَقُولُ: أَتَى أَبُو أُسَيْدٍ السَّاعِدِيُّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَدَعَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِه، وَلَمْ يَقُلْ: فَلَمَّا أَكَلَ سَقَتْهُ إيَّاهُ).

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بن محمد بن عبد الله بن عبدٍ القاريّ

(2)

المدنيّ، نزيل الإسكندريّة، حليف بني زُهرة، ثقةٌ [3](181)(خ م د ت س) تقدم في "الإيمان" 35/ 245.

والباقون ذُكروا قبله.

[تنبيه]: رواية يعقوب بن عبد الرحمن القاريّ، عن أبي حازم هذه ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه" عن شيخ مسلم، فقال:

(5269)

- حدثنا قتيبة بن سعيد، حدّثنا يعقوب بن عبد الرحمن، عن أبي حازم، قال: سمعت سهلًا يقول: أتى أبو أسيد الساعديّ، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم في عُرسه، فكانت امرأته خادمهم، وهي العَرُوس، قال: أتدرون ما سقت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أنقعت له تمرات من الليل، في تور. انتهى

(3)

.

وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5224]

(

) - (وَحَدَّثَني مُحَمَّدُ بْنُ سَهْلٍ التَّمِيمِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبَي مَرْيَمَ، أخْبَرَنَا مُحَمَّدٌ - يَعْنِي: أَبَا غَسَّانَ - حَدَّثَنِي أَبُو حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، بِهَذَا

(1)

"شرح النوويّ" 13/ 176.

(2)

"القاري" بالقاف، والراء، وتشديد الياء: نسبة إلى قبيلة معروفة بجودة الرمي.

(3)

"صحيح البخاريّ" 5/ 2123.

ص: 23

الْحَدِيث، وَقَالَ: فِي تَوْرٍ مِنْ حِجَارَةٍ، فَلَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الطَّعَامِ أَمَاثَتْهُ، فَسَقَتْهُ، تَخُصُّهُ بِذَلِكَ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ سَهْلٍ التَّمِيمِيُّ) مولاهم، أبو بكر البخاريّ، نزيل بغداد، ثقةٌ [11](ت 251)(م ت س) تقدم في "الصيام" 8/ 2535.

2 -

(ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ) هو: سعيد بن الحكم بن محمد بن سالم الْجُمَحيّ مولاهم، أبو محمد المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ، من كبار [10](ت 224) وله ثمانون سنة (ع) تقدم في "الإيمان" 22/ 188.

3 -

(مُحَمَّدُ) بن مطرّف بن داود الليثيّ، أبو غسّان المدنيّ، نزيل عَسْقلان، ثقةٌ [7] مات بعد (160)(ع) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 52/ 1525.

والباقيان ذُكرا قبله.

وقوله: (وَقَالَ: في تَوْرٍ مِنْ حِجَارَةٍ) فاعل "قال" ضمير أبي غسّان محمد بن مطرّف.

وقوله: (أَمَاثَتْهُ) قال النوويّ رحمه الله: هكذا ضبطناه، وكذا هو في الأصول ببلادنا:"أماثته" - بمثلّثة، ثم مثناة، فوقُ - يقال: ماثه، وأماثه لغتان مشهورتان، وقد غَلِط من أنكر: أماثه، ومعناه: عَرَكَتْهُ، واستخرجت قُوّته، وأذابته، ومنهم من يقول: أي لَيَّنته، وهو محمول على معنى الأوّل، وحَكَى القاضي عياض أن بعضهم رواه:"أماتته" بتكرير المثناة، وهو بمعنى الأوّل. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: رواية "أماتته" بالتاءين جعلها القرطبيّ من التصحيف، وهو الظاهر عندي، ودونك حاصل عبارته: قوله: "فأماثته" هكذا الرواية بالهمزة رباعيًّا، والثاء المثلثة، والتاء باثنتين من فوقها، ومعناه: عركته، ويقال: ثلاثيًّا، قال الهرويّ: يقال: مُثْتُ الشيء، أَمِيثُه، وأمثْتُه أُمِيثُه، والثلاثي حكاه ابن السِّكِّيت، وقد وقع في بعض نُسخ مسلم:"أماتته" بتاءين، كل واحدة

(1)

"شرح النوويّ" 13/ 177.

ص: 24

منهما باثنتين فوقُ، وهو تصحيف، والله أعلم. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(1)

.

وقال في "الفتح": قوله: "أماثته" بمثلّثة، ثم مثناة، قال ابن التين: كذا وقع رُباعيًّا، وأهل اللغة يقولونه ثلاثيًّا، ماثته بغير ألف؛ أي: مَرَسته بيدها، يقال: ماثه يموثه، ويميثه، بالواو، وبالياء، وقال الخليل: مِثتُ الملحَ في الماء مَيْثًا: أذبته، وقد انماث هو. انتهى.

وقد أثبت الهرويّ اللغتين: ماثه، وأماثه، ثلاثيًّا، ورباعيًّا. انتهى

(2)

.

وقوله: (فَسَقَتْهُ، تَخُصُّهُ بِذَلِكَ) قال النوويّ رحمه الله: كذا هو في "صحيح مسلم": "تَخُصّه"، من التخصيص، وكذا رُوي في "صحيح البخاريّ"، ورواه بعض رواة البخاريّ "تتحفه"، من الإتحاف، وهو بمعناه، يقال: أتحفته به: إذا خَصّصته، وأطرفته. انتهى

(3)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "تَخُصُّه بذلك" كذا لجميع رواة مسلم، وإنما خَصَّته بذلك لقلَّته، فإنَّه كان لا يكفي أكثر من واحد، ويَحْتَمِل أن تكون بدأته به رجاء بركته صلى الله عليه وسلم على عاداتهم معه.

وقد رواه ابن السَّكن في كتاب البخاريّ: "تتحفه به"، وهو قريب المعنى من:"تخصُّه بذلك"، فإنَّه من التُّحفة، وهي الطُّرفة. انتهى

(4)

.

ووقع في رواية للبخاريّ بلفظ: "تُحْفَة بذلك"، قال في "الفتح": كذا للمستملي، والسرخسيّ:"تُحْفة" بوزن لُقْمة، وللأصيليّ مثله، وعنه بوزن تَخُصّه، وهو كذلك لابن السكن بالخاء، والصاد الثقيلة، وكذا هو لمسلم، وفي رواية الكشميهنيّ:"أتحفته بذلك". انتهى

(5)

.

[تنبيه]: رواية محمد بن مطرِّف، عن أبي حازم هذه ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، وفيه بعض اختلاف، فقال:

(1)

"شرح النوويّ" 13/ 177.

(2)

راجع: "الفتح" 11/ 554، كتاب "النكاح" رقم (5182).

(3)

"المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" 17/ 12.

(4)

"المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" 17/ 13.

(5)

راجع: "الفتح" 11/ 554، كتاب "النكاح" رقم (5182).

ص: 25

(4887)

- حدثنا سعيد بن أبي مريم، حدّثنا أبو غسّان، قال: حدّثني أبو حازم، عن سهل، قال: لَمّا عَرّس أبو أُسيد الساعديّ دعا النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فما صنع لهم طعامًا، ولا قَرّبه إليهم إلا امرأته أم أسيد، بَلَّت تمرات في تور، من حجارة من الليل، فلما فرغ النبيّ صلى الله عليه وسلم من الطعام أماثته له، فسقته، تتحفه بذلك. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5225]

(2007) - (حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَهْلٍ التَّمِيمِيُّ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ إسْحَاقَ - قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ ابْنُ سَهْلٍ: حَدَّثنَا - ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّد - وَهُوَ ابْنُ مُطَرِّفٍ أَبُو غَسَّانَ - أَخْبَرَنِي أَبُو حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ: ذُكِرَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم امْرَأةٌ مِنَ الْعَرَبِ، فَأَمَرَ أَبَا أُسَيْدٍ أَنْ يُرْسِلَ إِلَيْهَا، فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا، فَقَدِمَتْ، فَنَزَلَتْ فِي أُجُم بَنِي سَاعِدَةَ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَتى جَاءَهَا، فَدَخَلَ عَلَيْهَا، فَإِذَا امْرَأةٌ مُنَكِّسَةٌ رَأسَهَا، فَلَمَّا كلَّمَهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ: أَعُوذُ بِاللهِ مِنْكَ، قَالَ: "قَدْ أَعَذْتُكِ مِنِّي"، فَقَالُوا لَهَا: أتدْرِينَ مَنْ هَذَا؟ فَقَالَتْ: لَا، فَقَالُوا: هَذَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم جَاءَكِ لِيَخْطُبَك، قَالَتْ: أنَا كُنْتُ أَشْقَى مِنْ ذَلِكَ، قَالَ سَهْلٌ: فَأَقبَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَئِذٍ، حَتَّى جَلَسَ فِي سَقِيفَةِ بَنِي سَاعِدَةَ، هُوَ وَأَصْحَابُهُ، ثُمَّ قَالَ: "اسْقِنَا" لِسَهْلٍ، قَالَ: فَأَخْرَجْتُ لَهُمْ هَدَا الْقَدَحَ، فَأَسْقَيْتُهُمْ فِيه، قَالَ أَبُو حَازِمٍ: فَأَخْرَجَ لَنَا سَهْل ذَلِكَ الْقَدَحَ، فَشَرِبْنَا فِيه، قَالَ: ثُمَّ اسْتَوْهَبَهُ بَعْدَ ذَلِكَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيز، فَوَهَبَهُ لَهُ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرِ بْنِ إِسْحَاقَ: قَالَ: "اسْقِنَا يَا سَهْلُ").

رجال هذا الإسناد: ستّةٌ:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ إِسْحَاقَ) هو: محمد بن إسحاق بن جعفر الصاغانيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ ثبتٌ [11](ت 270)(م 4) تقدم في "الإيمان" 4/ 116.

والباقون ذُكروا قبله.

(1)

"صحيح البخاريّ" 5/ 1986.

ص: 26

شرح الحديث:

(عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ) الساعديّ رضي الله عنهما (قَالَ: ذُكِرَ) بالبناء للمفعول، قال صاحب "التنبيه": لا أعرف الشخص الذي ذكر له صلى الله عليه وسلم تلك المرأة

(1)

، ويَحْتَمل أن يكون الذاكر النعمان بن الجون الكنديّ، فقد ذكر ابن سعد أنه أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم مسلمًا، فقال: ألا أُزوّجك أجمل أيّم في العرب؟ والمرأة هي ابنته، والله تعالى أعلم. (لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم امْرَأةٌ مِنَ الْعَرَبِ) هي الْجَوْنية - بفتح الجيم، وسكون الواو، وبالنون - قيل: اسمها أُميمة بضم الهمزة

(2)

. (فَأَمَرَ أَبا أُسَيْدٍ) بضمّ الهمزة، هو مالك بن ربيعة الساعديّ الذي تقدّم في الحديث الماضي، (أَنْ يُرْسِلَ إِلَيْهَا) ظاهره أنه لم يذهب إليها أبو أُسيد بنفسه، وإنما أرسل إليها غيره. (فَأَرْسلَ إِلَيْهَا، فَقَدِمَتْ) بكسر الدال، (فَنَزَلَتْ فِي أُجُمِ بَنِي سَاعِدَةَ) بضمّ الهمزة والجيم، وهو الحِصْن، وجَمْعه آجامٌ بالمدّ، كعُنُق وأعناق، قال أهل اللغة: الآجام: الحصون، قاله النوويّ

(3)

.

وقال في "العمدة": قوله: "في أجم" - بضم الهمزة، والجيم - هو بناء يشبه القصر، وهو من حصون المدينة، والجمع آجام، مثل أطم وآطام، وقال الخطابيّ: الأُجُم، والأُطُم بمعنى، وأغرب الداوديّ، فقال: الآجام الأشجار، والحوائط، ومثله قول الكرمانيّ: الأجَمُ بفتحتين جَمْع أجَمَة، وهي الغَيْضة

(4)

، وقال الجوهريّ: هو حصن بناه أهل المدينة من الحجارة، وهو الصواب

(5)

.

(فَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَتى جَاءَهَا، فَدَخَلَ عَلَيْهَا، فَإِذَا امْرَأَةٌ)"إذا" هي الْفُجائيّة؛ أي: ففاجأه امرأةٌ (مُنَكِّسَة رَأسَهَا) اسم فاعل من التنكيس، يقال: نَكَس رأسه بالتخفيف، من باب نصر، فهو ناكسٌ، ونكّس بالتشديد، فهو منكّسٌ: إذا طأطأه، قاله النوويّ

(6)

، وقال الكرمانيّ: على صيغة اسم الفاعل، من الإنكاس، والتنكيس

(7)

.

(1)

"تنبيه المعلم" ص 346.

(2)

"عمدة القاري" 21/ 205.

(3)

"شرح النوويّ" 13/ 178.

(4)

"الفتح" 10/ 99.

(5)

"عمدة القاري" 21/ 205.

(6)

"شرح النوويّ" 13/ 178.

(7)

"عمدة القاري" 21/ 205.

ص: 27

(فَلَمَّا كَلَّمَهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ: أَعُوذُ بِاللهِ مِنْكَ) قال القرطبيّ رحمه الله: هذا يدلّ على أنها لم تعرفه، ولم تَعرف ما يراد منها، ولذلك قالت لَمّا أُخبرت بمن هو، وبما أُريدَ بها:"أنا كنت أشقى من ذلك". انتهى

(1)

.

(قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("قَدْ أَعَذْتُكِ مِني") قال القرطبيّ رحمه الله: هذا منه صلى الله عليه وسلم جواب لقولها، وموافقة لها على قصدها وذلك أنه فَهِم منها كراهية من قولها، ومن حالها؛ إذ كانت مُعْرِضةً عمَّن يُكلِّمُها، ولعلَّها لم تعجبه لا خُلُقًا، ولا خَلْقًا. انتهى

(2)

.

وقال النوويّ رحمه الله: معناه: تركتك، وتركُهُ صلى الله عليه وسلم تزوّجَها؛ لأنها لم تعجبه؛ إما لصورتها، وإما لخُلُقها، وإما لغير ذلك، وفيه دليل على جواز نظر الخاطب إلى من يريد نكاحها، وفي الحديث المشهور أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"من استعاذكم بالله فأعيذوه"، فلما استعاذت بالله تعالى لم يجد النبيّ صلى الله عليه وسلم بُدًّا من إعاذتها، وتركها، ثم إذا ترك شيئًا لله تعالى لا يعود فيه، والله أعلم. انتهى

(3)

.

(فَقَالُوا لَهَا: أتدْرِينَ مَنْ هَذَا؟ فَقَالَتْ: لَا، فَقَالُوا: هَذَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم جَاءَكِ لِيَخْطُبَك، قَالَتْ: أنا كنْتُ أَشْقَى مِنْ ذَلِكَ) قال في "العمدة": ليس أفعل التفضيل هنا على بابه، وإنما مرادها إثبات الشقاء لها؛ لِمَا فاتها من التزوج برسول الله صلى الله عليه وسلم. انتهى

(4)

.

(قَالَ سَهْلٌ) رضي الله عنه (فَأَقبَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَئِذٍ، حَتَّى جَلَسَ فِي سَقِيفَةِ بَنِي سَاعِدَةَ) هي ساباط

(5)

كانت لبني ساعدة الأنصاريين، وهو المكان الذي وقعت فيه البيعة لأبي بكر الصديق رضي الله عنه، قاله في "العمدة"

(6)

.

وقال الفيّوميّ رحمه الله: السَّقيفة: الصُّفّة، وكلّ ما سُقّف من جناح وغيره، وسقيفة بني ساعدة كانت ظُلّة، وقيل: صُفّةً، والجمع سَقَائف. انتهى

(7)

.

(1)

"المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" 17/ 13.

(2)

"المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" 17/ 13.

(3)

"شرح النوويّ" 13/ 178.

(4)

"عمدة القاري" 21/ 205.

(5)

"الساباط": سَقِيفة تحتها ممرّ نافذٌ، والجمع سوابط. اهـ. "المصباح".

(6)

"عمدة القاري" 21/ 205.

(7)

"المصباح المنير" 1/ 280.

ص: 28

(هُوَ) صلى الله عليه وسلم (وَأَصْحَابُهُ) رضي الله عنهم (ثُمَّ قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("اسْقِنَا") يجوز وصل همزته،

وقَطْعها؛ لأنه يقال: سقاه ثلاثيًّا، كما في قوله تعالى:{وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا (21)} ، ويقال: أسقاه رباعيًّا، كما في قوله تعالى:{لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا (16)} . (لِسَهْلِ) بن سعد رضي الله عنه، قال القرطبيّ رحمه الله: هذا دليل على التبسّط مع الصَّدِيق، واستدعاء ما عنده من طعام، أو شراب، وهذا لا خلاف فيه إذا كان الصديق ملاطفًا، طيّب النفس، وعُلم من حاله ذلك، وهذا الذي قال الله تعالى فيهم:{أَو صَدِيقِكُمْ} [النور: 61]

(1)

.

وقوله: (لِسَهْلٍ) متعلّق بـ "قال"، لا بـ"اسقنا"، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

ووقع عند أبي نعيم: "فقال: اسقنا يا أبا سعد"، قال الحافظ: والذي أعرفه في كنية سهل بن سعد: أبو العبّاس

(2)

، فلعلّ له كنيتين، أو كان الأصل:"يا ابن سعد" فتحرّفت. انتهى

(3)

.

(قَالَ: فَأَخْرَجْتُ لَهُمْ)؛ أي: للنبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه، (هَذَا الْقَدَحَ) مشيرًا إلى قدح معيّن معه، (فَأَسْقَيْتُهُمْ فِيه، قَالَ أَبُو حَازِمٍ) سلمة بن دينار: (فَأَخْرَجَ لنَا سَهْلٌ ذَلِكَ الْقَدَحَ) الذي شربه منه النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأصحابه، (فَشَرِبْنَا فِيهِ) تبرّكًا بأثر رسول الله صلى الله عليه وسلم. (قَالَ) أبو حازم (ثُمَّ اسْتَوْهَبَهُ)؛ أي: طلب من سهل أن يهبه، ويعطيه ذلك القدح (بَعْدَ ذَلِكَ)؛ أي: بعدما شرب منه أبو حازم وأصحابه، (عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ) برفع "عمر" على أنه فاعل لـ"استوهبه"، وهو عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم بن أبي العاص الأموي أمير المؤمنين الخليفة الراشد، المتوفّى في رجب سنة إحدى ومائة، وعمره أربعون سنةً، ومدّة خلافته سنتان ونصف، تقدّمت ترجمته في "المقدّمة" 6/ 46.

وكان استيهابه رضي الله عنه له لَمّا كان هو متولي إمرة المدينة حيث كان أميرها

(1)

"المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" 5/ 276.

(2)

ذكر الحافظ المزّيّ رحمه الله في ترجمته من "تهذيب الكمال"(12/ 188) أن له كنيتين: أبو العبّاس، ويقال: أبو يحيى.

(3)

"الفتح" 12/ 700، كتاب "الأشربة" رقم (5637).

ص: 29

للوليد، قال في "الفتح": وليست الهبة هنا حقيقةً، بل من جهة الاختصاص. انتهى

(1)

.

(فَوَهَبَهُ لَهُ)؛ أي: أعطاه إياه، قال القرطبيّ رحمه الله: واستيهابُ عمر بن عبد العزيز القدح من سهل رضي الله عنه؛ إنما كان على جهة التَّبُّرك بآثار النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولم يزل ذلك دأب الصحابة والتابعين وأتباعهم، والفضلاء في كلِّ عصر، فكان أصحابه يتبرَّكون بوضوئه، وشرا به، وبعرقه، ويستشفون بِجُبَّته، ويتبركون بآثاره، ومواطنه، وَيَدْعون، ويصلُّون عندها، وهذا كلُّه عملٌ بمقتضى الأمر بالتعزير، والتعظيم، ونتيجة الْحُبِّ الصحيح، رزقنا الله الحظَّ الأكبر من تعظيمه صلى الله عليه وسلم، ومحبَّته، وحشرنا في زمرته. انتهى

(2)

.

وقوله: (وَفِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرِ بْنِ إِسْحَاقَ) شيخه الثاني (قَالَ: "اسْقِنَا يَا سَهْلُ")؛ يعني: أن أبا بكر بن إسحاق قال في روايته: "اسقنا يا سهل" بدل قول محمد بن سهل شيخه الأول: "قال: اسقنا لسهل"، وهذا من العناية والاحتياط والورع في أداء ما سمعه من شيوخه من الألفاظ المختلفة، وإن لم يختلف بها المعنى، فلله درّ المحدّثين حيث يحتاطون في أداء ما سمعوه كما سمعوه، وللإمام مسلم رحمه الله من هذا القدح المعلّى، والْمُثُل الفُضلى، وقد نالتهم دعوة النبيّ صلى الله عليه وسلم المباركة، فقد أخرج أصحاب السنن، وصححه الترمذيّ، وابن حبّان عن ابن مسعود رضي الله عنه، قال: سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: "نَضَّرَ الله امرءًا، سمع منا شيئًا، فبلَّغه كما سَمِع، فرُبَّ مُبَلَّغ أوعى من سامع".

فَهَؤُلَاءِ أُمَنَاءُ السُّنَهْ

جَزَاهُمُ الله فَسِيحَ الْجَنّهْ

والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث سهل بن سعد الساعديّ رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخرجه:

(1)

"الفتح" 12/ 701، كتاب "الأشربة" رقم (5637).

(2)

"المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" 5/ 276.

ص: 30

أخرجه (المصنّف) هنا [8/ 5225](2007)، و (البخاريّ) في "الطلاق"(5254)، و (النسائيّ) في "الطلاق"(6/ 150) و"الكبرى"(3/ 355)، و (ابن ماجه) في "الطلاق"(2050)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 339)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4266)، و (الطحاويّ) في "مشكل الآثار"(635 - 636)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(738)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(5/ 135)، و (ابن الجعد) في "مسنده"(1/ 431)، و (الدارقطنيّ) في "سننه"(4/ 29)، و (الرويانيّ) في "مسنده"(2/ 201)، و (الحاكم) في "المستدرك"(4/ 35)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(7/ 39 و 342)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): التبسط على الصاحب واستدعاء ما عنده من مأكول ومشروب.

2 -

(ومنها): تعظيم ذي الفضل بدعائه بكنيته.

3 -

(ومنها): التبرك بآثار النبيّ صلى الله عليه وسلم. قال النوويّ رحمه الله: هذا فيه التبرك بآثار النبيّ صلى الله عليه وسلم، وما مسّه، أو لبسه، أو كان منه فيه سبب، وهذا نحو ما أجمعوا عليه، وأطبق السلف والخلف عليه من التبرك بالصلاة في مصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الروضة الكريمة، ودخول الغار الذي دخله النبيّ صلى الله عليه وسلم، وغير ذلك، ومن هذا إعطاؤه صلى الله عليه وسلم أبا طلحة شعره؛ ليقسمه بين الناس، وإعطاؤه صلى الله عليه وسلم حِقْوه؛ لتكفّن فيه بنته رضي الله عنهما، وجعْله الجريدتين على القبرين، وجَمَعت بنت ملحان عرقه صلى الله عليه وسلم، وتمسحوا بوَضوئه صلى الله عليه وسلم، ودَلَكُوا وجوههم بنخامته صلى الله عليه وسلم، وأشباه هذه كثيرة مشهورة في "الصحيح"، وكل ذلك واضح لا شك فيه. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: وأما التبرك بآثار غيره صلى الله عليه وسلم، وإن قال الشراح يُشرع، فمما لا دليل عليه، ويردّه عمل الصحابة رضي الله عنهم، فإن أبا بكر رضي الله عنه كان أحب الناس إليهم بعده صلى الله عليه وسلم، ولم يُنقل عن أحد منهم أنه تبرّك بآثاره، وكذا مَنْ بعده من الخلفاء الراشدين الذين أَمرنا النبيّ صلى الله عليه وسلم بالاقتداء بهم حيث قال: "وعليكم بسنتي وسُنَّة الخلفاء الراشدين من بعدي

" الحديث، فلم يثبت عن أحد منهم أنهم تبركوا بغيره صلى الله عليه وسلم، فينبغي التنبّه لذلك، والخير كلّ الخير في الاتبّاع، والشرّ كلّ الشرّ في الابتداع.

ص: 31

وكُلُّ خَيْرٍ فِي اتِّبَاعِ مَنْ سَلَفْ

وَكُلُّ شَرٍّ فِي ابْتِدَاعِ مَنْ خَلَفْ

4 -

(ومنها): استيهاب الصَّدِيق ما لا يشقّ عليه هبته، ولعل سهلًا رضي الله عنه سمح بذلك لعمر بن عبد العزيز لبدل كان عنده من ذلك الجنس، أو لأنه كان محتاجًا، فعوّضه ما يسدّ به حاجته، والله أعلم.

5 -

(ومنها): ما قاله في "العمدة": وفيه أن الشرب من قدحه صلى الله عليه وسلم، وآنيته من باب التبرك بآثاره:

لَعَلِّي أَرَاهُمْ أوْ أَرى مَنْ يَرَاهُمُ

كما كان ابن عمر رضي الله عنهما يصلي في المواضع التي كان يصلي فيها، ويُدَوِّر ناقته حيث أدارها صلى الله عليه وسلم تبركًا بالاقتداء به، وحرصًا على اقتفاء آثاره، والله تعالى أعلم.

(المسألة الرابعة): في الكلام على المرأة التي استعاذت منه صلى الله عليه وسلم: لقد أفاض الحافظ رحمه الله في "الفتح" في هذا البحث، وأحببت إيراده هنا لأن به يتمّ الاستفادة من رواية مسلم المذكورة هنا:

(اعلم): أنه الإمام البخاريّ رحمه الله قال في "صحيحه": "باب مَن طَلّق، وهل يواجه الرجل امرأته بالطلاق؟ ".

(5254)

- حدثنا الحميديّ، حدّثنا الوليد، حدّثنا الأوزاعيّ، قال: سألت الزهريّ: أيُّ أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم استعاذت منه؟ قال: أخبرني عروة، عن عائشة رضي الله عنهما أن ابنة الْجَوْن لَمّا أُدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودنا منها، قالت: أعوذ بالله منك، فقال لها:"لقد عُذْتِ بعظيم، الْحَقِي بأهلك".

قال أبو عبد الله: رواه حجاج بن أبي منيع، عن جدّه، عن الزهريّ، أن عروة، أخبره أن عائشة قالت.

(5255)

- حدثنا أبو نعيم، حدّثنا عبد الرحمن بن غَسيل، عن حمزة بن أبي أُسيد، عن أبي أُسيد رضي الله عنه قال: خرجنا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم حتى انطلقنا إلى حائط، يقال له: الشَّوْط، حتى انتهينا إلى حائطين، فجلسنا بينهما، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"اجلسوا ها هنا"، ودخل، وقد أُتي بالْجَوْنيّة، فأُنزلت في بيتٍ، في نخلٍ، في بيتِ أُميمة بنت النعمان بن شَراحيل، ومعها دايتها، حاضنة لها، فلما دخل عليها النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"هبي نفسك لي"، قالت: وهل تهب الملكة

ص: 32

نفسها للسُّوقة؟ قال: فأهوى بيده يضع يده عليها؛ لِتَسْكُن، فقالت: أعوذ باللَّه منك، فقال:"قد عُذت بمعاذ"، ثم خرج علينا، فقال:"يا أبا أُسيد اكسُها رازقيين، وألحقها بأهلها".

(5256 و 5257) - وقال الحسين بن الوليد النيسابوريّ، عن عبد الرحمن، عن عباس بن سهل، عن أبيه، وأبي أُسيد قالا: تزوج النبيّ صلى الله عليه وسلم أُميمة بنت شَراحيل، فلما أُدخلت عليه بسط يده إليها، فكأنها كرهت ذلك، فأمر أبا أسيد أن يُجَهِّزها، ويكسوها ثوبين رازقيين.

حدّثنا عبد اللَّه بن محمد، حدّثنا إبراهيم بن أبي الوزير، حدّثنا عبد الرحمن، عن حمزة، عن أبيه، وعن عباس بن سهل بن سعد، عن أبيه، بهذا.

فقال في "الفتح" في شرح الحديث الأول: قوله: "أنّ ابنة الْجَون" زاد في نسخة الصغاني: "الكلبية"، وهو بعيد على ما سأبيّنه، ووقع في "كتاب الصحابة" لأبي نعيم من طريق عبيد بن القاسم، عن هشام بن عروة، عن أبيه، "عن عائشة، أن عمرة بنت الْجَوْن تعوّذت من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حين أُدخلت عليه، قال: لقد عُذت بمعاذ. . . " الحديث، وعُبيد متروك، والصحيح أن اسمها: أُميمة بنت النعمان بن شَراحيل، كما في حديث أبي أُسيد، وقال مرّةً: أُميمة بنت شَراحيل، فنُسبت لجدّها، وقيل: اسمها أسماء، كما سابيّنه في حديث أبي أُسيد مع شرحه مستوفًى.

ورَوَى ابن سعد، عن الواقديّ، عن ابن أخي الزهريّ، عن الزهريّ، عن عروة، عن عائشة، قالت: تزوج النبيّ صلى الله عليه وسلم الكلابية، فذكر مثل حديث الباب، وقوله: الكلابية غلطٌ، وإنما هي الكندية، فكأنما الكلمة تصحفت.

نَعَم الكلابية قصّة أخرى، ذكرها ابن سعد أيضًا بهذا السند إلى الزهريّ، وقال: اسمها فاطمة بنت الضحاك بن سفيان، فاستعاذت منه، فطلّقها، فكانت تلقط البعر، وتقول: أنا الشقيّة، قال: وتُوُفِّيت سنة ستين.

ومن طريق عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدّه، أن الكندية لمّا وقع التخيير اختارت قومها، ففارقها، فكانت تقول: أنا الشقية.

ومن طريق سعيد بن أبي هند، أنها استعاذت منه، فأعاذها.

ص: 33

ومن طريق الكلبيّ: اسمها العالية بنت ظبيان بن عمرو.

وحَكَى ابن سعد أيضًا أن اسمها عمرة بنت يزيد بن عبيد، وقيل: بنت يزيد بن الْجَون، وأشار ابن سعد إلى أنها واحدة، اختُلف في اسمها، والصحيح أن التي استعاذت منه هي الْجَونية.

وروى ابن سعد من طريق سعيد بن عبد الرحمن بن أبزي، قال: لم تستعذ منه امرأة غيرها. قال الحافظ: وهو الذي يغلب على الظنّ؛ لأنَّ ذلك إنما وقع للمستعيذة بالخديعة المذكورة، فيبعد أن تُخدَع أخرى بعدها بمثل ما خُدعت به بعد شيوع الخبر بذلك.

قال ابن عبد البرّ: أجمعوا على أن النبيّ صلى الله عليه وسلم تزوج الْجَوْنية، واختلفوا في سبب فراقه، فقال قتادة: لمّا دخل عليها دعاها، فقالت: تعالَ أنت، فطلقها، وقيل: كان بها وَضَحٌ كالعامرية، قال: وزعم بعضهم أنها قالت: أعوذ باللَّه منك، فقال: قد عُذت بمعاذ، وقد أعاذك اللَّه مني، فطلّقها، قال: وهذا باطلٌ، إنما قال له هذا امرأة من بني العنبر، وكانت جميلة، فخاف نساؤه أن تغلبهن عليه، فقلن لها: إنه يُعجبه أن يقال له: نعوذ باللَّه منك، ففعلت، فطلّقها.

قال الحافظ: كذا قال، وما أدري لِمَ حَكَم ببطلان ذلك، مع كثرة الروايات الواردة فيه، وثبوته في حديث عائشة في "صحيح البخاريّ"؟ وسيأتي مزيد لذلك في الحديث الذي بعده، والقول الذي نسبه لقتادة ذَكَر مثله أبو سعيد النيسابوريّ عن شرقي بن قَطاميّ.

قوله: "رواه حجاج بن أبي مَنيع، عن جدّه" هو حجاج بن يوسف بن أبي منيع، وأبو منيع هو عبيد اللَّه بن أبي زياد الوصافيّ -بفتح الواو، وتشديد المهملة، وبالفاء- وكان يكون بحلب، ولم يخرج له البخاريّ إلَّا معلَّقًا، وكذا لجدّه، وهذه الطريق وصلها الذُّهْليّ في "الزهريات"، ورواه ابن أبي ذئب أيضًا عن الزهريّ نحوه، وزاد في آخره: قال الزهريّ: جعلها تطليقةً، أخرجه البيهقيّ.

وقوله: "الحقي بأهلك" بكسر الألف، من الحقي، وفتح الحاء، بخلاف قوله في الحديث الثاني:"ألحقها"، فإنه بفتح الهمزة، وكسر الحاء.

قوله: "حدّثنا عبد الرحمن بن غسيل" كذا في رواية الأكثر، بغير ألف

ص: 34

ولام، وفي رواية النسفيّ: ابن الغَسِيل، وهو أوجه، ولعلها كانت: ابن غسيل الملائكة، فسقط لفظ: الملائكة، والألف واللام بدل الإضافة، وعبد الرحمن يُنسب إلى جدّ أبيه، وهو عبد الرحمن بن سليمان بن عبد اللَّه بن حنظلة بن أبي عامر الأنصاريّ، وحنظلة هو غسيل الملائكة، استُشهِد بِأُحُدٍ، وهو جنب، فغسلته الملائكة، وقصته مشهورةٌ.

ووقع في رواية الجرجانيّ: عبد الرحيم، والصواب: عبد الرحمن، كما نبّه عليه الجيانيّ.

قوله: "إلى حائط، يقال له: الشَّوْط" بفتح المعجمة، وسكون الواو، بعدها مهملة، وقيل: معجمة، هو بستان، في المدينة معروف.

قوله: "حتى انتهينا إلى حائطين، جلسنا بينهما، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم اجلسوا هاهنا، ودخل"؛ أي: إلى الحائط، في رواية لابن سعد، عن أبي أُسيد:"قال: تزوج رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم امرأةً من بني الْجَوْن، فأمرني أن آتيه بها، فأتيته بها، فأنزلتها بالشَّوْط، من وراء ذُباب، في أُطُم، ثم أتيت النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأخبرته، فخرج يمشي، ونحن معه"، و"ذُباب" بضم المعجمة، وموحدتين مخففًا: جبل معروف بالمدينة، والأطم: الحصون، وهو الأجُم أيضًا، والجمع آطام، وآجام، كعُنُق وأعناق.

وفي رواية لابن سعد: "أن النعمان بن الْجَوْن الكِنديّ أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم مسلمًا، فقال: ألا أزوجك أجمل أَيِّم في العرب؟ فتزوجها، وبعث معه أبا أُسيد الساعديّ، قال أبو أُسيد: فأنزلتها في بني ساعدة، فدخل عليها نساء الحيّ فرحين بها، وخرجن، فذكرن من جمالها".

قوله: "فأُنزلت في بيتٍ، في نخلٍ، في بيتٍ، أُميمةُ بنتُ النعمان بن شَراحيل"، هو بالتنوين في الكلّ، وأميمة بالرفع

(1)

: إما بدلًا عن الْجَونية، وإما عطف بيان، وظَنّ بعض الشراح أنه بالإضافة، فقال في الكلام على الرواية التي بعدها:"تزوج رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أميمةَ بنت شَراحيل": ولعل التي نزلت في بيتها بنت أخيها، وهو مردود، فإن مخرج الطريقين واحد، وإنما جاء الوهم من

(1)

هكذا ذكر الحافظ في "الفتح"، ومثله العينيّ في "شرحه"، وهو محلّ نظر، فتأملّ.

ص: 35

إعادة لفظ "في بيتٍ"، وقد رواه أبو بكر بن أبي شيبة في "مسنده" عن أبي نعيم شيخ البخاريّ فيه، فقال:"في بيتٍ في النخلِ أُميمةُ. . . إلخ"، وجزم هشام ابن الكلبيّ بأنها أسماء بنت النعمان بن شَراحيل بن الأسود بن الْجَون الكِنديّة، وكذا جزم بتسميتها أسماء: محمد بن إسحاق، ومحمد بن حبيب، وغيرهما، فلعل اسمها أسماء، ولقبها أميمة.

ووقع في "المغازي" رواية يونس بن بكرٍ، عن ابن إسحاق: أسماء بنت كعب الْجَونية، فلعل في نسبها من اسمه كعب نَسَبها إليه، وقيل: هي أسماء بنت الأسود بن الحارث بن النعمان.

قوله: "ومعها دايتها حاضنة لها": الداية بالتحتانية: الظئر المرضع

(1)

، وهي معرّبة، قال الحافظ: ولم أقف على تسمية هذه الحاضنة.

قوله: "هبي نفسك لي. . . إلخ" السُّوقة بضم السين المهملة، يقال: للواحد من الرعية، والجمع، قيل لهم ذلك: لأن الملك يسوقهم، فيُساقون إليه، ويصرفهم على مراده، وأما أهل السوق فالواحد منهم سوقيّ، قال ابن المنيّر: هذا من بقية ما كان فيها من الجاهلية، والسوقة عندهم من ليس بمَلِك كائنًا من كان، فكأنها استبعدت أن يتزوج الملكة من ليس بملك، وكان صلى الله عليه وسلم قد خُيِّر أن يكون ملكًا نبيًّا، فاختار أن يكون عبدأ نبيًّا تواضعًا منه صلى الله عليه وسلم لربه، ولم يؤاخذها النبيّ صلى الله عليه وسلم بكلامها؛ معذرة لها؛ لقرب عهدها بجاهليتها، وقال غيره: يَحْتَمِل أنها لَمْ تعرفه صلى الله عليه وسلم، فخاطبته بذلك، وسياق القصّة من مجموع طرقها يأبى هذا الاحتمال، نعم سيأتي في أواخر "الأشربة" من طريق أبي حازم، عن سهل بن سعد

(2)

: "قال: ذُكر للنبيّ صلى الله عليه وسلم امرأة من العرب، فأمر أبا أسيد

(1)

تعقّب العيني هذا التفسير على الحافظ، فقال: وقال بعضهم: الظئر المرضع، قلت: ليس كما قال، وإنما الداية هي المرأة التي تُوَلِّد الأولاد، وهي القابلة، وهو لفظ معرّبٌ. انتهى. "عمدة القاري" 20/ 231.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: لم أجد تفسير الداية في كتب اللغة، لا بتفسير الحافظ، ولا بتفسير العينيّ، فليُنظر، واللَّه تعالى أعلم.

(2)

يعني: حديث مسلم الذي نحن الآن في شرحه.

ص: 36

الساعديّ أن يرسل إليها، فقَدِمت، فنزلت في أُجُم بني ساعدة، فخرج النبيّ صلى الله عليه وسلم حتى جاءها، فدخل عليها، فإذا امرأة منكسة رأسها، فلما كلمها قالت: أعوذ باللَّه منك، قال: لقد أعذتك مني، فقالوا لها: أتدرين من هذا؟ هذا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم جاء ليخطبك، قالت: كنت أنا أشقى من ذلك"، فإن كانت القصّة واحدةً، فلا يكون قوله في حديث الباب

(1)

: "ألحقها بأهلها"، ولا قوله في حديث عائشة:"الحقي بأهلك" تطليقًا، ويتعيّن أنها لم تعرفه، وإن كانت القصة متعددةً، ولا مانع من ذلك، فلعل هذه المرأة هي الكلابية التي وقع فيها الاضطراب، وقد ذكر ابن سعد بسند فيه العَرْزميّ الضعيف عن ابن عمر، قال: كان في نساء النبيّ صلى الله عليه وسلم سنا بنت سفيان بن عوف بن كعب بن أبي بكر بن كلاب، قال: وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم بعث أبا أُسيد الساعدي يخطب عليه امرأة من بني عامر، يقال لها: عمرة بنت يزيد بن عُبيد بن رؤاس بن كلاب بن ربيعة بن عامر، قال ابن سعد: اختَلَف علينا اسم الكلابية، فقيل: فاطمة بنت الضحاك بن سفيان، وقيل: عمرة بنت يزيد بن عبيد، وقيل: سنا بنت سفيان بن عوف، وقيل: العالية بنت ظبيان بن عمرو بن عوف، فقال بعضهم: هي واحدة، اختُلف في اسمها، وقال بعضهم: بل كنّ جَمْعًا، ولكن لكل واحدة منهن قصة غير قصة صاحبتها، ثم ترجم الْجَوْنية، فقال: أسماء بنت النعمان، ثم أخرج من طريق عبد الواحد بن أبي عون، قال: قَدِم النعمان بن أبي الْجَون الكنديّ على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مسلمًا، فقال: يا رسول اللَّه إلا أزوجك أجمل أَيِّم في العرب، كانت تحت ابن عمّ لها، فتُوُفّي، وقد رَغِبت فيك؟ قال: نعم، قال: فابعث من يحملها إليك، فبعث معه أبا أُسيد الساعديّ، قال أبو أسيد: فأقمت ثلاثة أيام، ثم تحمّلت معي في محفّة، فأقبلت بها حتى قدِمت المدينة، فأنزلتها في بني ساعدة، ووجهت إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وهو في بني عمرو بن عوف، فأخبرته الحديث، قال ابن أبي عون: وكان ذلك في ربيع الأول سنة تسع، ثم أخرج من طريق أخرى عن عمر بن الحكم، عن أبي أُسيد قال: "بعثني رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى الجونية، فحملتها، حتى نزلت بها في أُطُم بني

(1)

يعني: حديث البخاريّ.

ص: 37

ساعدة، ثم جئت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فأخبرته، فخرج يمشي على رجليه، حتى جاءها. . . " الحديث.

ومن طريق سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى قال: اسم الجونية: أسماء بنت النعمان بن أبي الجون، قيل لها: استعيذي منه، فإنه أحظى لك عنده، وخُدِعت لِمَا رؤي من جمالها، وذُكر لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مَن حَمَلها على ما قالت، فقال:"إنهنّ صواحب يوسف، وكيدهنّ"، فهذه تتنزل قصتها على حديث أبي حازم، عن سهل بن سعد، وأما القصة التي في حديث الباب

(1)

من رواية عائشة، فيمكن أن تنزل على هذه أيضًا، فإنه ليس فيها إلا الاستعاذة، والقصة التي في حديث أبي أُسيد فيها أشياء مغايرة لهذه القصة، فيقوى التعدد، ويقوى أن التي في حديث أبي أُسيد اسمها أميمة، والتي في حديث سهل اسمها أسماء، واللَّه أعلم، وأميمة كان قد عقد عليها، ثم فارقها، وهذه لم يعقد عليها، بل جاء ليخطبها فقط.

قوله: "فأهوى بيده"؛ أي: أمالها إليها، ووقع في رواية ابن سعد:"فأهوى إليها ليقبّلها، وكان إذا اختلى النساء أقعي، وقَبَّل"، وفي رواية لابن سعد:"فدخل عليها داخل من النساء، وكانت من أجمل النساء، فقالت: إنك من الملوك، فإن كنت تريدين أن تحظي عند رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فإذا جاءك فاستعيذي منه"، ووقع عنده عن هشام بن محمد، عن عبد الرحمن بن الغسيل بإسناد حديث الباب، أن عائشة وحفصة دخلتا عليها أول ما قدِمت، فمشطتاها، وخضبتاها، وقالت لها إحداهما: إن النبيّ صلى الله عليه وسلم يعجبه من المرأة إذا دخل عليها أن تقول: أعوذ باللَّه منك".

قوله: "فقال: قد عُذت بمعاذ" هو بفتح الميم: ما يستعاذ به، أو اسم مكان العَوْذ، والتنوين فيه للتعظيم، وفي رواية ابن سعد:"فقال بكمّه على وجهه، وقال: عُذت معاذًا ثلاث مرات"، وفي أخرى له:"فقال: أَمِنَ عائذُ اللَّه".

قوله: "ثم خرج علينا، فقال: يا أبا أسيد اكسها رازقيين" براء، ثم زاي،

(1)

يعني: حديث البخاريّ.

ص: 38

ثم قاف، بالتثنية: صفة موصوف محذوف للعلم به، والرازقية ثياب من كَتّان بيض طوال، قاله أبو عبيدة، وقال غيره: يكون في داخل بياضها زرقة، والرازقيّ الصفيق، قال ابن التين: مَتَّعها بذلك، إما وجوبًا، وإما تفضلًا.

قوله: "وألحقها بأهلها" قال ابن بطال: ليس في هذا أنه واجهها بالطلاق، وتعقبه ابن الْمُنَيِّر بأن ذلك ثبت في حديث عائشة أول أحاديث الباب، فيُحمل على أنه قال لها: الحقي بأهلك، ثم لما خرج إلى أبي أسيد قال له: ألحقها بأهلها، فلا منافاة، فالأول قَصَد به الطلاق، والثاني أراد به حقيقة اللفظ، وهو أن يعيدها إلى أهلها؛ لأنَّ أبا أسيد هو الذي كان أحضرها، كما ذكرناه.

ووقع في رواية لابن سعد عن أبي أسيد قال: "فأمرني، فرددتها إلى قومها"، وفي أخرى له:"فلما وصلت بها تصايحوا، وقالوا: إنك لغير مباركة، فما دهاك؟ قالت: خُدِعت، قال: فتوفيت في خلافة عثمان"، قال: وحدثني هشام بن محمد، عن أبي خيثمة زهير بن معاوية، أنها ماتت كَمَدًا، ثم روى بسند فيه الكلبيّ أن المهاجر بن أبي أمية تزوجها، فأراد عمر معاقبتها، فقالت: ما ضُرب عليّ الحجاب، ولا سُمِّيت أم المؤمنين، فكفّ عنها.

وعن الواقديّ: سمعت من يقول: إن عكرمة بن أبي جهل خَلَف عليها، قال: وليس ذلك بثبت، ولعل ابن بطال أراد أنه لم يواجهها بلفظ الطلاق.

وقد أخرج ابن سعد من طريق هشام بن عروة، عن أبيه، أن الوليد بن عبد الملك كتب إليه يسأله، فكتب إليه: ما تزوج النبيّ صلى الله عليه وسلم كندية إلا أخت بني الجون، فملكها، فلما قدِمت المدينة نظر إليها، فطلقها، ولم يَبْنِ بها، فقوله: فطلقها يَحْتَمِل أن يكون باللفظ المذكور قبل، ويَحْتمل أن يكون واجهها بلفظ الطلاق.

قال: واعترض بعضهم بأنه لم يتزوجها؛ إذ لم يجر ذكر سورة العقد، وامتنعت أن تهب له نفسها، فكيف يطلقها؟

والجواب أنه صلى الله عليه وسلم كان له أن يزوج من نفسه بغير إذن المرأة، وبغير إذن وليّها، فكان مجرد إرساله إليها، وإحضارها، ورغبته فيها كافيًا في ذلك، ويكون قوله:"هبي لي نفسك" تطييبًا لخاطرها، واستمالةً لقلبها، ويؤيده قوله في رواية لابن سعد: أنه اتفق مع أبيها على مقدار صداقها، وأن أباها قال له:

ص: 39

إنها رغبت فيك، وخطبت إليك. انتهى ما في "الفتح"، وهو وإن كان طويلًا، إلَّا أنه تضمّن فوائد كثيرة، فينبغي اغتنامها، وباللَّه تعالى التوفيق.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5226]

(2008) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: لَقَدْ سَقَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِقَدَحِي هَذَا الشَّرَابَ كُلَّهُ: الْعَسَلَ، وَالنَّبِيذَ، وَالْمَاءَ، وَاللَّبَنَ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبِ) بن شدّاد، أبو خيثمة النسائيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 234)(خ م د س ق) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.

2 -

(عَفَّانُ) بن مسلم بن عبد اللَّه الباهليّ، أبو عثمان الصفّار البصريّ، ثقةٌ ثبت، ربّما وَهِمَ، من كبار [10](ت 220)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 44.

3 -

(حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ) بن دينار، أبو سلمة البصريّ، ثقةٌ عابدٌ، أثبت الناس في ثابت، وتغيّر بآخره، من كبار [8](ت 167)(خت م 4) تقدم في "المقدمة" 6/ 80.

4 -

(ثَابِتُ) بن أسلم البنانيّ، أبو محمد البصريّ، ثقةٌ عابدٌ [4] مات سنة بضع و (120) وله (86) سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 80.

5 -

(أَنَسُ) بن مالك بن النضر الأنصاريّ الخزرجيّ الخادم الشهير، مات سنة (2 أو 93) وقد جاوز المائة (ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.

و"أبو بكر بن أبي شيبة" ذُكر في الباب.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالبصريين، سوى شيخيه، فالأول كوفيّ، والثاني نسائيّ، ثم بغدادي، وفيه أنس من المكثرين السبعة، روى (2286) حديثًا.

شرح الحديث:

(عَنْ أَنَسٍ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: لَقَدْ سَقَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) بفتح القاف، من باب ضرب، يقال: سقيت الزرعَ سقيًا، فأنا ساقٍ، وهو مَسْقيٌّ، على مفعول،

ص: 40

وأسقيته بالألف لغة

(1)

.

ثم إن ظاهر قوله: "لقد سقيت" أن أنسًا رضي الله عنه هو الذي سقى النبيّ صلى الله عليه وسلم من ذلك القدح، ويعارضه ما أخرجه النسائيّ من طريق أسد بن موسى، عن حمّاد بن سلمة، ولفظه:"عن أنس قال: كان لأم سليم قَدَح من عَيْدان، فقالت: سقيت فيه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كل الشراب: الماء، والعسل، واللبن، والنبيذ"، فقد اختلف عفّان، وأسد بن موسى على حمّاد، لكن عفّان أثبت من أشد، كما يظهر من مراجعة كتب الرجال، ويُمكن أن يكونا جميعًا سقياه من ذلك القدح؛ واللَّه تعالى أعلم

(2)

.

(بِقَدَحِي) بفتحتين جمعه أقداح، مثلُ سبب وأسباب، وقوله:(هَذَا) بدل من "قدحي"، أو عطف بيان، وقوله:(الشَّرَابَ) مفعول "سقيت"، (كُلَّهُ). وقوله:(الْعَسَلَ. . . . إلخ) بدل من الشراب، (وَالنَّبِيذَ) تقدّمت صفة النبيذ الذي كان يشربه صلى الله عليه وسلم، وأنه نقيع التمر، أو الزبيب، قاله في "الفتح"، وقال النوويّ رحمه الله: المراد بالنبيذ ههنا ما سبق تفسيره في أحاديث الباب، وهو ما لم يَنْتَهِ إلى حدّ الإسكار، وهذا متعيِّن؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في الأحاديث السابقة:"كل مسكر حرام"، واللَّه أعلم. انتهى

(3)

.

(وَالْمَاءَ، وَاللَّبَنَ) وفي رواية البخاريّ من طريق عاصم الأحول، قال: رأيت قدح النبيّ صلى الله عليه وسلم عند أنس بن مالك، وكان قد انصدع، فسلسله بفضة، قال: وهو قدح جيّد، عريض، من نُضَار

(4)

، قال: قال أنس: لقد سقيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في هذا القدح أكثر من كذا وكذا، قال: وقال ابن سيرين: إنه كان فيه حلقة من حديد، فأراد أنس أن يجعل مكانها حلقة من ذهب، أو

(1)

"المصباح المنير" 1/ 281.

(2)

راجع: "تكملة فتح الملهم" 3/ 651.

(3)

"شرح النوويّ" 13/ 179.

(4)

بضم النون، وتخفيف الضاد المعجمة، وبالراء، وقال أبو حنيفة "الدينوريّ": بضم النون، وكسرها، وهو أجود الخشب للآنية، ويُعمل منه ما رَقّ من الأقداح، واتسع، وما غلظ. "عمدة القاري" 21/ 206.

ص: 41

فضة، فقال له أبو طلحة: لا تُغَيِّرنّ شيئًا صنعه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فتركه. انتهى.

قوله: "رأيت قدح النبيّ صلى الله عليه وسلم عند أنس بن مالك"، وفي البخاريّ في "فرض الخمس" من طريق أبي حمزة السُّكّريّ، عن عاصم، "قال: رأيت القدح، وشربت منه"، وأخرجه أبو نعيم من طريق علي بن الحسن بن شقيق، عن أبي حمزة، ثم قال: "قال علي بن الحسن: وأنا رأيت القدح، وشربت منه"، وذكر القرطبيّ في "مختصر البخاريّ" أنه رأى في بعض النسخ القديمة من "صحيح البخاريّ": قال أبو عبد اللَّه البخاريّ: رأيت هذا القدح بالبصرة، وشربت منه، وكان اشتُرِي من ميراث النضر بن أنس بثمانمائة ألف. انتهى

(1)

.

واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أنس رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه

(2)

.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [8/ 5226](2008)، و (البخاريّ) في "الأشربة"(5638)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 247)، و (عبد بن حميد) في "مسنده"(1356)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(5/ 136)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(1/ 30 و 8/ 299)، و (الترمذيّ) في "الشمائل"(1/ 163)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): جواز شرب النبيذ الذي لم يصل إلى حدّ الإسكار.

2 -

(ومنها): ما قاله القرطبيّ رحمه الله: فيه دليل على استعمال الحلاوة، والأطعمة اللذيذة، وتناوبها، ولا يقال: إن ذلك يناقض الزهد، ويباعده، لكن إذا كان ذلك من وجهه، ومن غير سرف، ولا إكثار. انتهى

(3)

.

(1)

"الفتح" 12/ 701.

(2)

من الغريب عدّ هذا الحديث من أفراد مسلم، مع أن البخاريّ أخرجه في "صحيحه" برقم (5638)، فليُتنبّه.

(3)

"المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" 17/ 13.

ص: 42

3 -

(ومنها) مشروعيّة التبرّك بآثار النبيّ صلى الله عليه وسلم، وبما مسّ جسده الشريف صلى الله عليه وسلم، وهذا مما لا خلاف فيه، وأما غيره فلا يقاس عليه، كما أسلفنا تحقيقه، واللَّه تعالى أعلم.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(9) - (بَابُ شُرْبِ اللَّبَنِ)

هكذا ترجم البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:"بَابُ شُرب اللبن، وقول اللَّه تعالى: {مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ (66)} [النحل: 66] ".

قال في "الفتح": قال ابن الْمُنَيِّر: أطال التفنن في هذه الترجمة ليرُدّ قول من زعم أن اللبن يُسكر كثيره، فردّ ذلك بالنصوص، وهو قول غير مستقيم؛ لأن اللبن لا يُسكر بمجرده، وإنما يتفق فيه ذلك نادرًا بصفة تَحْدُث، وقال غيره: قد زعم بعضهم أن اللبن إذا طال العهد به، وتغيّر صار يسكر، وهذا ربما يقع نادرًا، إن ثبت وقوعه، ولا يلزم منه تأثيم شاربه، إلا إن عَلِم أن عقله يذهب به، فشربه لذلك، نعم قد يقع السُّكْر باللبن إذا جُعل فيه ما يصير باختلاطه معه مُسْكِرًا، فيَحْرُم.

قال الحافظ: أخرج سعيد بن منصور بسند صحيح، عن ابن سيرين، أنه سمع ابن عمر يُسأل عن الأشربة، فقال: إن أهل كذا يتخذون من كذا وكذا خمرًا، حتى عَدّ خمسة أشربة، لَمْ أحفظ منها إلَّا العسل، والشعير، واللبن، قال: فكنت أهاب أن أحدِّث باللبن، حتى أُنبئت أنه بأرمينية يُصنع شراب من اللبن، لا يَلبَث صاحبه أن يُصْرَع.

واستَدَلّ بالآية المذكورة أول الباب على أنَّ الماء إذا تغيَّر، ثم طال مكثه حتى زال التغيّر بنفسه، ورجع إلى ما كان عليه أنه يطهر بذلك، وهذا في الكثير، وبغير النجاسة من القليل متّفقٌ عليه، وأما القليل المتغير بالنجاسة، ففيما إذا زال تغيّره بنفسه خلاف، هل يطهر؟ والمشهور عند المالكية: يطهر، وظاهر الاستدلال يُقَوِّي القول بالتطهير، لكن في الاستدلال به لذلك نظر، وقريب منه في البُعد استدلال من استدلّ به على طهارة المنيّ، وتقريره أن اللبن

ص: 43

خالط الفرث والدم، ثم استحال، فخرج خالصًا طاهرًا، وكذلك المنيّ ينقصر من الدم، فيكون على غير صفة الدم، فلا يكون نجسًا.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: عندي أنه لا بُعد في الاستدلال المذكور، فتأمله بالإمعان، واللَّه تعالى أعلم.

والآية التي أوردها البخاريّ رحمه الله صريحة في إحلال شرب لبن الأنعام بجميع أنواعه؛ لوقوع الامتنان به، فيعمّ جميع ألبان الأنعام في حال حياتها.

و"الفَرْثُ" -بفتح الفاء، وسكون الراء، بعدها مثلثة- هو: ما يجتمع في الكرش، وقال القزاز: هو ما أُلقي من الكرش، تقول: فرثت الشيءَ: إذا أخرجته من وعائه، فشربته، فأما بعد خروجه، فإنما يقال له: سِرْجين، وزِبْل.

وأخرج القزّاز عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الدابة إذا أكلت العَلَف، واستقر في كرشها طبخته، فكان أسفله فرثًا، وأوسطه لبنًا، وأعلاه دمًا، والكبد مسلطة عليه، فتقسم الدم، وتجريه في العروق، وتُجري اللبن في الضرع، ويبقى الفرث في الكرش وحده.

وقوله تعالى: {لَبَنًا خَالِصًا} ؛ أي؛ من حمرة الدم، وقذارة الفرث، وقوله:{سَائِغًا} أي: لذيذًا، هنيئًا، لا يُغَصّ به شاربه. انتهى

(1)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5227]

(2009) - (حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ الْعَنْبَرِيُّ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ، قَالَ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ: لَمَّا خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ مَرَرْنَا بِرَاعٍ

(2)

، وَقَدْ عَطِشَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: فَحَلَبْتُ لَهُ كُثْبَةً مِنْ لَبَنٍ، فَأَتَيْتُهُ بِهَا، فَشَرِبَ، حَتَّى رَضِيتُ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أَبُو إِسْحَاقَ) عمرو بن عبد اللَّه الْهَمْدانيّ السَّبيعيّ الكوفيّ، ثقةٌ عابدٌ، يُدلّس، واختلط بآخره [3](129) أو قبل ذلك (ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 11.

(1)

"الفتح" 12/ 653 - 654، كتاب "الأشربة" رقم (5603).

(2)

وفي نسخة: "براعي".

ص: 44

2 -

(الْبَرَاءُ) بن عازب بن الحارث بن عديّ الأنصاريّ الأوسيّ الصحابيّ ابن الصحابيّ، نزل الكوفة، استُصغر يوم بدر، ومات سنة (72)(ع) تقدم في "الإيمان" 35/ 244.

والباقون تقدّموا في أول الباب الماضي.

وقوله: (مَرَرْنَا بِرَاعٍ) هكذا في بعض النسخ، ووقع في النسخة الهنديّة:"براعي" بالياء، قال النوويِّ: هكذا هو في الأصول: "براعي" بالياء، وهي لغة قليلة، والأشهر:"براع". انتهى.

وقوله: (كُثْبَةً مِن لَبَنٍ) بضمّ الكاف، وسكون الثاء؛ أي: قليلًا.

والحديث متّفقٌ عليه، وتمام شرحه يأتي بعده؛ وإنما أخّرت إليه؛ لكونه أتمّ مما هنا، واللَّه تعالى أعلم.

والباقون تقدّموا في الباب الماضي.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أَوَّل الكتاب قال:

[5228]

(. . .) - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ -وَاللَّفْظُ لِابْنِ الْمُثَنَّى- قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا إِسْحَاقَ الْهَمْدَانِيَّ يَقُولُ: سَمِعْتُ الْبَرَاءَ يَقُولُ: لَمَّا أَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَأَتْبَعَهُ سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ، قَالَ: فَدَعَا عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَسَاخَتْ فَرَسُهُ، فَقَالَ: ادْعُ اللَّهَ لِي، وَلَا أَضُرُّكَ، قَالَ: فَدَعَا اللَّهَ، قَالَ: فَعَطِشَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَمَرُّوا بِرَاعِي غَنَمٍ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ: فَأَخَذْتُ قَدَحًا، فَحَلَبْتُ فِيهِ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كُثْبَةً مِنْ لَبَنٍ، فَأَتَيْتُهُ بِهِ، فَشَرِبَ حَتَّى رَضِيتُ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

وكلّهم ذُكروا قبله، وفي الباب الماضي.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وهو مسلسلٌ بالتحديث والسماع، فانتفى تهمة التدليس من أبي إسحاق، فإنه مدلّس، مع أن الراوي عنه شعبة، وهو لا يروي عنه إلا ما سمع من شيوخه، كما تقدّم غير مرّة، وهو أيضًا مسلسل بالبصريين إلى شعبة، والباقيان كوفيّان، وأن شيخيه من التسعة الذين يروي عنهم الجماعة بلا واسطة، وقد جمعتهم في قولي:

ص: 45

اشْتَرَكَ الأَئِمَّةُ الْهُدَاةُ

ذَوُو الأُصُولِ السِّتَّةِ الْوُعَاةُ

فِي تِسْعَةٍ مِنَ الشُيُوخِ الْمَهَرَهْ

الْحَافِظِينَ الْبَارِعِينَ الْبَرَرَهْ

أُولَئِكَ الأَشَجُّ وَابْنُ مَعْمَرِ

نَصْرٌ وَيَعْقُوبُ وَعَمْرٌ السَّرِي

وَابْنُ الْعَلَاءِ وَابْنُ بَشَّارٍ

كَذَا ابْنُ الْمُثَنَّى وَزِيَادٌ يُحْتَذَى

شرح الحديث:

(قَالَ) شعبة (سَمِعْتُ أَبَا إِسْحَاقَ) عمرو بن عبد اللَّه السَّبيعيّ، وقوله:(الْهَمْدَانِيَّ) بفتح الهاء، وسكون الميم: نسبة إلى هَمْدان، واسمه أوسلة بن مالك بن زيد بن ربيعة، قاله في "اللباب"

(1)

. (يَقُولُ: سَمِعْتُ الْبَرَاءَ) بن عازب رضي الله عنهما (يَقُولُ)؛ أي: نقلًا من أبي بكر رضي الله عنه، وليس مما شهده بنفسه؛ لأنه أنصاريّ لم يحضر الهجرة، وإنما نقله منه، كما بيّنته الرواية السابقة، ولفظها:"عن البراء قال: قال أبو بكر الصدّيق: لَمّا خرجنا. . . إلخ". (لَمَّا أَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ)؛ أي: مهاجرًا إليها.

[تنبيه]: هذا الحديث مختصر، سيأتي مطوّلًا في آخر الكتاب، ونصّه هناك:

(2009)

- حدّثني سَلَمة بن شَبِيب، حدّثنا الحسن بن أعين، حدثنا زهير، حدّثنا أبو إسحاق، قال: سمعت البراء بن عازب يقول: جاء أبو بكر الصديق إلى أبي في منزله، فاشترى منه رَحْلًا، فقال لعازب: ابعث معي ابنك يحمله معي إلى منزلي، فقال لي أبي: احْمِلْه، فحملته، وخرج أبي معه ينتقد ثمنه، فقال له أبي: يا أبا بكر حدّثني كيف صنعتما ليلةَ سَرَيت مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، قال: نعم أسرينا ليلتنا كلّها، حتى قام قائم الظهيرة، وخلا الطريق، فلا يمرّ فيه أحدٌ، حتى رُفعت لنا صخرة طويلة، لها ظلّ، لَمْ تأت عليه الشمس بعدُ، فنزلنا عندها، فأتيت الصخرة، فسوّيت بيدي مكانًا ينام فيه النبيّ صلى الله عليه وسلم في ظلها، ثم بسطت عليه فَرْوَةً، ثم قلت: نَمْ يا رسول اللَّه، وأنا أنفُض لك ما حولك، فنام، وخرجت أنفُض ما حوله، فإذا أنا براعي غنم، مُقبلٍ بغنمه إلى الصخرة، يريد منها الذي أردنا، فلقِيته، فقلت: لمن أنت يا غلام؟ فقال: لرجل من أهل

(1)

"اللباب في تهذيب الأنساب" 3/ 391.

ص: 46

المدينة

(1)

، قلت: أفي غنمك لبن؟ قال: نعم، قلت: أفتحلُب لي؟ قال: نعم، فأخذ شاة، فقلت له: انفُض الضرع من الشعر والتراب والقَذَى، قال: فرأيت البراء يضرب بيده على الأخرى ينفض، فحلب لي في قَعْب معه كُثْبةً من لبن، قال: ومعي إداوة أرتوي فيها للنبيّ صلى الله عليه وسلم؛ ليشرب منها، ويتوضأ، قال: فأتيت النبيّ صلى الله عليه وسلم، وكَرِهت أن أوقظه من نومه، فوافقته استيقظ، فصببت على اللبن من الماء حتى بَرَدَ أسفله، فقلت: يا رسول اللَّه اشرب من هذا اللبن، قال: فشَرِب حتى رَضِيتُ، ثم قال:"ألم يَأْنِ للرحيل؟ " قلت: بلي، قال: فارتحلنا بعدما زالت الشمس، واتبعَنا سراقة بن مالك، قال: ونحن في جَلَد

(2)

من الأرض، فقلت: يا رسول اللَّه أُتِينا، فقال:{لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} ، فدعا عليه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فارتطمت فرسه إلى بطنها -أُرَى- فقال: إني قد علمت أنكما قد دعوتما عليّ، فادعوا لي، فاللَّه لكما أن أرد عنكما الطلب، فدعا اللَّه، فنَجَى، فرجع لا يلقى أحدًا إلا قال: قد كُفيتكم ما ها هنا، فلا يلقى أحدًا إلا ردّه، قال: ووفى لنا. انتهى.

(فَأَتْبَعَهُ)؛ أي: اتّبع النبيّ صلى الله عليه وسلم (سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ) -بضم الجيم، والشين المعجمة، وإسكان العين بينهما- ويقال: بفتح الشين، حكاه الجوهريّ في "الصحاح" عن الفرّاء، والصحيح المشهور ضمّها، وهو أبو سفيان الكنانيّ، ثم الْمُدلِجيّ الصحابيّ المشهور، من مسلمة الفتح، ومات في خلافة عثمان رضي الله عنهما سنة أربع وعشرين، وقيل: بعدها، وتقدّمت ترجمته في "كتاب الحجِّ" 17/ 2943.

وفي رواية إسرائيل: "فارتحلنا، والقوم يطلبوننا، فلم يُدركنا غير سُراقة بن مالك بن جُعْشُم".

(قَالَ) البراء عن أبي بكر رضي الله عنهما (فَدَعَا عَلَيْهِ)؛ أي: على سُراقة، (رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَسَاخَتْ فَرَسُهُ) -بالسين المهملة، وبالخاء المعجمة- ومعناه: نزلت في الأرض، وقبضتها الأرض، وكان في جَلَد من الأرض، كما جاء في الرواية الأخرى. (فَقَالَ) سراقة (ادْعُ اللَّهَ لِي) هكذا في بعض النسخ:"ادع اللَّه"

(1)

المراد بها مكة، لا المدينة النبويّة، فتنبّه.

(2)

"الْجَلَد" بفتحتين: الأرض الصلبة.

ص: 47

بلفظ الواحد، ووقع في بعضها:"فادعوا اللَّه لي" بلفظ التثنية، للنبيّ صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، وكلاهما ظاهر صحيح. (وَلَا أَضُرُّكَ، قَالَ) البراء عن أبي بكر رضي الله عنهما (فَدَعَا اللَّهَ)؛ أي: دعا النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يُنجي سراقة، فنجى، وفي رواية ابن حبّان:"وقال: اللهم اكفناه بما شئت". (قَالَ) البراء عن أبي بكر أيضًا (فَعَطِشَ) بكسر الطاء، (رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَمَرُّوا) كذا بواو الجمع؛ أي: مرّ النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر، ومن معهما من الدليل، كما ثبت في الروايات الأخرى، (بِرَاعِي غَنَمٍ) قال الحافظ: لم أقف على تسمية هذا الراعي، ولا على تسمية صاحب الغنم إلا أنه جاء في حديث عبد اللَّه بن مسعود رضي الله عنه شيء تمسَّك به من زعم أنه الراعي، وذلك فيما أخرجه أحمد، وابن حبّان من طريق عاصم، عن زِرّ، عن ابن مسعود، قال:"كنت أرعى غنمًا لعقبة بن أبي معيط، فمر بي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأبو بكر، فقال: يا غلام هل من لبن؟ قلت: نعم، ولكني مؤتمن. . . " الحديث، وهذا لا يصلح أن يفسّر به الراعي في حديث البراء؛ لأن ذاك قيل له: هل أنت حالب؟ فقال: نعم، وهذا أشار بأنه غير حالب، وذاك حَلَب من شاة حافل، وهذا من شاة لم تُطْرَق، ولم تَحْمِل، ثم إن في بقية هذا الحديث ما يدلّ على أن قصته كانت قبل الهجرة؛ لقوله فيه:"ثم أتيته بعد هذا، فقلت: يا رسول اللَّه علّمني من هذا القول"، فإن هذا يُشعر بأنها كانت قبل إسلام ابن مسعود، وإسلام ابن مسعود كان قديمًا قبل الهجرة بزمان، فبَطَل أن يكون هو صاحبَ القصة في الهجرة، واللَّه أعلم. انتهى

(1)

.

(قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ) رضي الله عنه (فَأَخَذْتُ قَدَحًا، فَحَلَبْتُ) المراد أنه أمر ذلك الغلام بالحَلْب، كما تقدّم في الرواية المطوّلة، حيث قال:"قلت: أفتحلُب لي؟ قال: نعم، فأخذ شاةً، فقلت له: انفُض الضرع من الشعر والتراب والقَذَى، قال: فحلب لي في قَعْب معه كُثْبةً من لبن". (فِيهِ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) الجارّان متعلّقان بـ "حلبت"؛ أي: حلبت في ذلك القدح لأجل أن يشرب صلى الله عليه وسلم منه، (كُثْبَةً) -بضم الكاف، وإسكان الثاء المثلثة، وبعدها موحّدة- وهو الشيء القليل، وقوله:(مِنْ لَبَنٍ) بيان لـ "كُثبة"، (فَأَتَيْتُهُ) صلى الله عليه وسلم (بِهِ)؛ أي: بذلك اللبن

(1)

"الفتح" 8/ 323، كتاب "فضائل أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم" رقم (3652).

ص: 48

(فَشَرِبَ حَتَّى رَضِيتُ) قال القرطبيّ رحمه الله: أي حتى رَوِيَ، فرضيت رَيَّه، وكأنَّه شقَّ عليه ما كان فيه من الحاجة إلى اللَّبن، فلمَّا شرب، وزال عنه ذلك رضي به، وفي رواية أخرى:"فأرضاني"، والمعنى واحد. انتهى

(1)

.

وقال النوويّ رحمه الله: معناه: شَرِب حتى عَلِمت أنه شرب حاجته، وكفايته. انتهى

(2)

.

وقال في "الفتح": قوله: "حتى رضيتُ" هذا يُشعرة بأنه أمعن في الشرب، وعادتُهُ المألوفةُ كانت عدم الإمعان. انتهى

(3)

.

[تنبيه]: قال النوويّ رحمه الله: وأما شربه صلى الله عليه وسلم من هذا اللبن، وليس صاحبه حاضرًا؛ لأنه كان راعيًا لرجل من أهل المدينة، كما جاء في الرواية الأخرى، وقد ذكرها مسلم في آخر الكتاب، والمراد بالمدينة هنا مكة، وفي رواية: لرجل من قريش، فالجواب عنه من أوجه:

أحدهما: أن هذا كان رجلًا حربيًّا لا أمان له، فيجوز الاستيلاء على ماله.

والثاني: يَحْتَمِل أنه كان رجلًا يُدْلِ عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولا يَكْرَه شربه صلى الله عليه وسلم من لبنه.

والثالث: لعله كان في عُرفهم مما يتسامحون به لكل أحد، ويأذنون لرعاتهم ليسقوا من يمرّ بهم.

والرابع: أنه كان مضطرًّا. انتهى

(4)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: أقرب الأجوبة عندي هو الثالث، وما عداه فلا يخلو من نظر، واللَّه تعالى أعلم.

وقال القرطبيّ رحمه الله: وقد يقال: كيف أقدم أبو بكر على حَلْب ما لم يؤذن له في حلبه؟ وكيف شرب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ذلك اللَّبن، ولم يكن مالكه

(1)

"المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" 15/ 17.

(2)

"شرح النوويّ" 13/ 179.

(3)

"الفتح" 8/ 323، كتاب "فضائل أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم" رقم (3652).

(4)

"شرح النوويّ" 13/ 180.

ص: 49

حاضرًا، ولا أَذِن في ذلك، مع نهيه صلى الله عليه وسلم عن مثل هذا بقوله:"لا يحلبن أحدٌ ماشية أحد إلا بإذنه"؟ الحديث.

وقد أجيب عن ذلك بأجوبة:

أحدها: أن ذلك اللَّبن كان تافهًا لا قيمة له، لا سيما مع بُعْدِه عن العمارة، فكأنه إن لم يَشْرَب وإلا تَلِفَ، فيكون هذا من باب قوله في الشَّاة:"هي لك، أو لأخيك، أو للذئب".

قال القرطبيّ: وهذا ليس بشيء؛ لأنَّ الحبَّة من مال الغير لا تحل إلا بطيب نفس منه، وتشبيهها باللقطة فاسدٌ، فإنَّ اللَّبن في الضَّرع محفوظ، كالطَّعام في المشربة، ثم لَمْ يكن على بُعْد من العمران بدليل إدراك سراقة لهم حين سمع أخبارهم من مكة، وخرج من فَوْره، فأدركهم يومه ذلك، على ما تدلُّ عليه قصته في كتب السِّير، واللَّه أعلم.

وثانيها: أن عادة العرب جارية بذلك، فعَمِلا على العادة، وذلك قبل ورود النهي المذكور عن ذلك.

وثالثها: أنه صلى الله عليه وسلم كان في حاجة وضرورة إلى ذلك، ولا خلاف في جواز مثل ذلك عند الضرورة إذا أمِن على نفسه، وهل يلزمه قيمة ذلك أو لا؟ قولان لأهل العلم.

ورابعها: أن ذلك كان مالًا لكافر، والأصل في أموالهم الإباحة.

قال القرطبيّ: وقد يُمنع هذا الأصل، لا سيما على مذهب من يقول: إن الكافر له شُبهة مُلك، وقد تقدَّم الخلاف في هذا في "الجهاد".

وخامسها: أنهما عَلِما لِمَن هي، فإمَّا أن يكون قد أباح لهما ذلك، أو علما من حاله أنه يطيب قلبه بذلك، وهذا أشبهها، وأبعدها عن الاعتراض -إن شاء اللَّه تعالى-. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: قد أسلفت لك ما هو الراجح عندي خلال كلام النوويّ رحمه الله، فلا تغفل، واللَّه تعالى أعلم.

(1)

"المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" 17/ 15.

ص: 50

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث البراء رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [9/ 5227 و 5228](2009)، وسيأتي في "كتاب الزهد" مطوّلًا في "باب حديث الهجرة"، و (البخاريّ) في "اللقطة"(2439) و"المناقب"(3615) و"فضائل الصحابة"(3652) و"مناقب الأنصار"(3908 و 3917) و"الأشربة"(5607)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 2 - 3)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(14/ 330)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6281 و 6870)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(5/ 137)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(1/ 105)، و (ابن الجعد) في "مسنده"(1/ 376)، و (البزّار) في "مسنده"(1/ 119)، و (الرويانيّ) في "مسنده"(1/ 211)، و (البيهقيّ) في "الدلائل"(2/ 485)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان جواز شرب اللبن، وهو مما لا خلاف فيه.

2 -

(ومنها): بيان جواز خدمة التابع الحرّ للمتبوع برضاه.

3 -

(ومنها): بيان ما وقع للنبيّ صلى الله عليه وسلم من علامات النبوّة حيث دعا على سراقة، فساخت قوائم فرسه، وكان في جَلَد من الأرض؛ أي: صَلْب، ولذلك قال سُراقة مخاطبًا لأبي جهل [من الطويل]:

أَبَا حَكَمٍ وَاللَّهِ لَوْ كُنْتَ شَاهِدًا

لأَمْرِ جَوَادِي إِذْ تَسُوخُ قَوَائِمُهْ

عَلِمْتَ وَلَمْ تَشْكُكْ بِأَنَّ مُحَمَّدًا

رَسُولٌ بِبُرْهَانٍ فَمَنْ ذَا يُقَاوِمُهْ

4 -

(ومنها): بيان ما كان عليه الصدّيق رضي الله عنه من شدّة حبّه للنبيّ صلى الله عليه وسلم، حيث بكى لمَّا لحقهم سراقة، فقاله النبيّ صلى الله عليه وسلم:"ما يبكيك؟ قال: واللَّه ما على نفسي أبكي، ولكن أبكي عليك"، رواه ابن حبّان.

5 -

(ومنها): بيان فضل أبي بكر رضي الله عنه حيث كان رفيق النبيّ صلى الله عليه وسلم في ذلك السفر المبارك، ولَحِقه ما لحقه من الحزن والخوف عليه صلى الله عليه وسلم، فأنزل اللَّه تعالى في ذلك: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ

ص: 51

هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40)} [التوبة: 40].

6 -

(ومنها): ما قاله بعضهم في قول الصديّق رضي الله عنه: "فشرب حتى رضِيتُ": هذا تعبير لطيف من الصدّيق رضي الله عنه لِمَا طُبع عليه من حبّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، والمراد أنه شرب من اللبن ما يكفيه، فسكن به اضطراب الصدّيق رضي الله عنه الذي حَدَث له بما رأى عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم من أثر الجوع، فإن المحبّ الصادق يرتاح براحة الحبيب أكثر مما يرتاح بها الحبيب

(1)

.

7 -

(ومنها): بيان جواز شرب المسافر من لبن الغنم في الطريق للحاجة بالصفة التي وقعت لأبي بكر رضي الله عنه من سؤال الراعي: هل تحلب لي؟ فإذا وافق جاز، وإن لم يكن صاحبها حاضرًا.

قال المهلّب بن أبي صُفرة: إنما شرب النبيّ صلى الله عليه وسلم من لبن تلك الغنم؛ لأنه كان حينئذٍ في زمن المكارَمة، ولا يعارضه حديثه:"لا يَحْلُبنّ أحد ماشية أحد إلا بإذنه"؛ لأن ذلك وقع في زمن التشاحّ، أو الثاني محمول على التسوّر والاختلاس، والأول لم يقع فيه ذلك، بل قَدَّم أبو بكر سؤال الراعي، هل أنت حالب؟ فقال: نعم، كأنه سأله: هل أَذِن لك صاحب الغنم في حلبها لمن يَرِدُ عليك؟ فقال: نعم، أو جرى على العادة المألوفة للعرب في إباحة ذلك، والإذن في الحلب على المارّ، ولابن السبيل، فكان كل راع مأذونًا له في ذلك.

وقال الداوديّ: إنما شرب من ذلك على أنه ابن سبيل، وله شُرب ذلك إذا احتاج، ولا سيما النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأبْعَدَ من قال: إنما استجازه؛ لأنه مال حربيّ؛ لأن القتال لم يكن فُرِض بعدُ، ولا أبيحت الغنائم. انتهى

(2)

، واللَّه تعالى أعلم.

(1)

راجع: "تكملة فتح الملهم" 3/ 652.

(2)

"الفتح" 8/ 324، كتاب "فضائل أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم" رقم (3652).

ص: 52

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أَوَّل الكتاب قال:

[5229]

(168) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادٍ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ -وَاللَّفْظُ لِابْنِ عَبَّادٍ- قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو صَفْوَانَ، أَخْبَرَنَا يُونُسُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: قَالَ ابْنُ الْمُسَيِّبِ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أُتِيَ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ، بِإِيلِيَاءَ، بِقَدَحَيْنِ، مِنْ خَمْرٍ وَلَبَنٍ، فَنَظَرَ إِلَيْهِمَا، فَأَخَذَ اللَّبَنَ، فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ عليه السلام:"الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَاكَ لِلْفِطْرَةِ، لَوْ أَخَذْتَ الْخَمْرَ غَوَتْ أُمَّتُكَ".

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادِ) بن الزِّبْرِقان المكّيّ، نزيل بغداد، صدوقٌ يَهِم [10](ت 234)(خ م ت س ق) تقدم في "المقدمة" 4/ 19.

2 -

(زهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) تقدّم قبل حديثين.

3 -

(أَبُو صَفْوَانَ) عبد اللَّه بن سعيد بن عبد الملك بن مروان الأمويّ الدمشقيّ، نزيل مكة، ثقةٌ [9] مات على رأس المائتين (خ م ت س) تقدم في "الحج" 88/ 3367.

4 -

(يُونُسُ) بن يزيد الأمويّ مولاهم، أبو يزيد بن أبي النِّجَاد الأيليّ، ثقةٌ، من كبار [7](ت 159)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 14.

5 -

(الزُّهْرِيُّ) محمد بن مسلم بن عبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن شهاب القرشيّ، أبو بكر المدنيّ، الإمام الحجة المثبت الفقيه، من رؤوس [4](ت 125)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 348.

6 -

(ابْنُ الْمُسَيِّب) سعيد الإمام الحجة المثبت الفقيه، أبو محمد المدنيّ، من كبار [3](ت 94)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 71.

7 -

(أَبُو هُرَيْرَةَ) الصحابيّ الشهير، مات رضي الله عنه (7 أو 8 أو 59) تقدم في "المقدمة" 2/ 4.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى في "كتاب الإيمان"[80/ 431](168)، ومضى شرحه مستوفًى هناك، وكذا بيان مسائله، فراجعه تستفد، وباللَّه تعالى التوفيق.

وقوله: (بِإِيلِيَاءَ) هو بيت المقدس، وهو بكسر الهمزة، والمدّ، ويقال: بالقصر، ويقال: إِلِيَاء بحذف الياء الأولى، وقد سبق بيانه، قاله النوويّ.

ص: 53

وقال القرطبيّ: "إيلياء" هي بيت المقدس، وهو ممدود بهمزة التأنيث، ولذلك لا ينصرف. انتهى

(1)

.

وكتب في الهامش: ويقال: إيليا مقصورًا، ويقال: أَلْيَا على وزن عَلْيا، ثلاث لغات.

وقوله: (فَنَظَرَ إِلَيْهِمَا، فَأَخَذَ اللَّبَنَ) في هذه الرواية محذوف تقديره: أُتِي بقدحين، فقيل له:"اختر أَيَّهما شئت؟ " كما جاء مُصَرَّحًا به في رواية البخاريّ، وقد سبق في الرواية التي تقدّمت في "كتاب الإيمان" بلفظ:"فأُتيت بإناءين، في أحدهما لبن، وفي الآخر خمر، فقيل لي: خذ أيهما شئت، فأخذت اللبن. . . " الحديث.

وقوله: (فَأَخَذَ اللَّبَنَ)، أي: فألهمه اللَّه تعالى اختيار اللبن، لِمَا أراده سبحانه وتعالى من توفيق هذه الأمة، واللطف بها، فللَّه الحمد والمنّة.

وقوله: (فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ عليه السلام: "الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَاكَ لِلْفِطْرَةِ. . . . إلخ") قال النوويّ رحمه الله: وقول جبريل عليه السلام: "أصبت الفطرة"، قيل في معناه أقوال المختار منها: أن اللَّه تعالى أعلم جبريل عليه السلام أن النبيّ صلى الله عليه وسلم إن اختار اللبن كان كذا، وإن اختار الخمر كان كذا، وأما الفطرة فالمراد بها هنا الإسلام، والاستقامة، وقد قدَّمنا شرح هذا كله، وبيان الفطرة، وسبب اختيار اللبن في أول الكتاب، في "باب الإسراء" من "كتاب الإيمان".

وقوله: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَاكَ لِلْفِطْرَةِ. . . إلخ) فيه استحباب حمد اللَّه عند تجدد النعم، وحصول ما كان الإنسان يتوقع حصوله، واندفاع ما كان يخاف وقوعه، قاله النوويّ رحمه الله.

وقال القرطبيّ رحمه الله: وقول جبريل عليه السلام: "الحمد للَّه الذي هداك للفطرة" يعني بها: فطرة دين الإسلام، كما قال تعالى:{فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} ، وقيل: جعل اللَّه ذلك علامة لجبريل عليه السلام على هداية هذه الأمة؛ لأنَّ اللَّبن أوّل ما يغذّيه الإنسان، وهو قُوتٌ خَلِيّ عن المفاسد، به قوام الأجسام، ولذلك آثره النبيّ صلى الله عليه وسلم على

(1)

"المفهم" 5/ 279.

ص: 54

الخمر، كما ذكرناه في الإسراء، ودين الإسلام كذلك، هو أوَّل ما أُخذ على بني آدم، وهم كالذَّرِّ، ثم هو قوت الأرواح، به قوامها، وحياتها الأبدية، وصار اللبن عبارة مطابقة لمعنى دين الإسلام من جميع جهاته، والخمر على النقيض من ذلك في جميع جهاتها، فكان العدول إليه لو كان وقع علامة على الغواية، وقد أعاذ اللَّه من ذلك نبيَّه صلى الله عليه وسلم طبعًا وشرعًا، والحمد للَّه تعالى، ويُفهم من نسبة الغواية إلى الخمر تحريمه، لكن ليس بصريح، ولذلك لم يَكْتَفِ النبيّ صلى الله عليه وسلم بمثل ذلك في التحريم حتَّى قَدِم المدينة فشربوها زمانًا، حتَّى أنزل اللَّه التحريم. انتهى

(1)

.

وقوله: (غَوَتْ أُمَّتُكَ) معناه: ضلّت، وانهمكت في الشرّ. واللَّه أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5230]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِي سَلَمَةُ بْنُ شَبِيبٍ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَعْيَنَ، حَدَّثَنَا مَعْقِلٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِهِ، وَلَمْ يَذْكُرْ بِإِيلِيَاءَ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(سَلَمَةُ بْنُ شَبِيبٍ) الْمِسْمَعيّ النيسابوريّ، نزيل مكة، ثقةٌ، من كبار [11] مات سنة بضع و (240)(م 4) تقدم في "المقدمة" 6/ 60.

2 -

(الْحَسَنُ بْنُ أَعْيَنَ) هو: الحسن بن محمد بن أعين، نُسب لجدّه أبو عليّ الْحَرّانيّ، صدوقٌ [9](ت 210)(خ م س) تقدم في "الإيمان" 4/ 119.

3 -

(مَعْقِلُ) بن عُبيد اللَّه الْعَبْسيّ مولاهم، أبو عبد اللَّه الْجَزَريّ، صدوقٌ يُخطئ [8](ت 166)(م د س) تقدم في "الإيمان" 4/ 119.

والباقون ذُكروا قبله.

وقوله: (وَلَمْ يَذْكُرْ بِإِيلِيَاءَ) فاعل "يذكُر" ضمير معقِل بن عبيد اللَّه.

[تنبيه]: رواية معقل بن عُبيد اللَّه عن الزهريّ هذه لم أجد من ساقها، فليُنظر، واللَّه تعالى أعلم.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(1)

"المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" 17/ 16.

ص: 55

(10) - (بَابُ اسْتِحْبَابِ تَخْمِيرِ الإِنَاءِ، وَهُوَ تَغْطِيَتُهُ، وَإِيكَاءِ السِّقَاءِ، وَإغْلَاقِ الأَبْوَابَ، وَذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهَا، وَإِطْفَاءِ السِّرَاجِ، وَالنَّارِ عِنْدَ النَّوْمِ، وَكَفِّ الصِّبْيَانِ، وَالْمَوَاشِي بَعْدَ الْمَغْرِبِ)

(1)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5231]

(2010) - (حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، كلُّهُمْ عَنْ أَبِي عَاصِم، قَالَ ابْنُ الْمُثَنَّى: حَدَّثَنَا الضَّحَّاكُ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ، أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: أَخْبَرَنِي أَبُو حُمَيْدٍ السَّاعِدِيُّ، قَالَ: أَتيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِقَدَحِ لَبَنٍ مِنَ النَّقِيعِ، لَيْسَ مُخَمَّرًا، فَقَالَ:"أَلَّا خَمَّرْتَهُ، وَلَوْ تَعْرُضُ عَلَيْهِ عُودًا؟ "، قَالَ أَبُو حُمَيْدٍ: إِنَّمَا أُمِرَ

(2)

بِالأَسْقِيَةِ أَنْ تُوكَأَ لَيْلًا، وَبِالأَبْوَابِ أَنْ تُغْلَقَ لَيْلًا).

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(عَبْدُ بْنُ حُمَيْدِ) بن نصر الْكِسّيّ، أبو محمد، ثقةٌ حافظٌ [11](ت 249)(خت م،) تقدم في "الإيمان" 7/ 131.

2 -

(الضَّحَّاكُ) بن مخلد بن الضحّاك الشيبانيّ، أبو عاصم النبيل البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [9](ت 212) أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 129.

3 -

(ابْنُ جُرَيْجٍ) عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج الأمويّ مولاهم، أبو خالد، وأبو الوليد المكيّ، ثقةٌ فقيه فاضلٌ، يدلّس، ويرسل [6](ت 150) أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 129.

4 -

(أَبُو الزُّبَيْرِ) محمد بن مسلم بن تَدْرُس المكيّ، صدوق يُدلّس [4](ت 126)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 119.

(1)

هكذا ترجم في النسخة الهنديّة في هذا الموضع، وهو أنسب مما وقع في بعض النُّسخ، فلذا أثبتّه هنا، فتنبّه.

(2)

وفي نسخة: "إنما أمرنا".

ص: 56

5 -

(جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ) بن عمرو بن حرام الأنصاريّ السَّلَميّ الصحابيّ ابن الصحابيّ، مات بعد السبعين، وهو ابن (94) سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 117.

6 -

(أَبُو حُمَيْدٍ السَّاعِدِيُّ) الصحابيّ المشهور، اسمه المنذر بن سعد بن المنذر، أو ابن مالك، وقيل: اسمه عبد الرحمن، وقيل: عمرة، شَهِد أُحدًا، وما بعدها، وعاش إلى خلافة يزيد سنة ستين (ع) تقدم في "الصلاة" 17/ 916.

والباقيان ذُكرا في الباب الماضي.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وهو مسلسل بالتحديث، والإخبار، والسماع، وأن شيخه ابن المثنّى أحد التسعة الذين روى عنهم الجماعة بلا واسطة، وتقدّموا قريبًا نظمًا، وفيه رواية صحابيّ عن صحابيّ، وفيه جابر بن عبد اللَّه رضي الله عنهما أحد المكثرين السبعة، روى (1540) حديثًا.

شرح الحديث:

عَنْ أبي الزُّبَيْرِ (أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ) رضي الله عنهما (يَقُولُ: أَخْبَرَنِي أَبُو حُمَيْدٍ السَّاعِدِيُّ) رضي الله عنه اختُلف في اسمه، كما أسلفته آنفًا. (قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِقَدَحِ لَبَنٍ مِنَ النَّقِيعِ) قال النوويّ رحمه الله: رُوي بالنون، والياء، حكاهما القاضي عياض، والصحيح الأشهر الذي قاله الخطابيّ، والأكثرون بالنون، وهو موضع بوادي العقيق، وهو الذي حَمَاه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم. انتهى

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: اختُلف في رواية هذا الحرف الذي هو "من النقيع"، فأكثر الرواة واللغويين على أنه بالنون والقاف، وقال الهرويّ: وهو وادي العقيق على عشرين فرسخًا من المدينة، وهو الذي حماه عمر رضي الله عنه لِنَعَم الصَّدقة، وقال الخطابيّ: هو القاع، قال غيره: وأصله كل موضع يستنقع فيه الماء، وقد رواه أبو بحر سفيان بن العاصي بالباء الموحدة، قال الخليل: البقيع بالباء: الأرض التي فيها شجر شتَّى، وأما بقيع الغرقد، وبقيع بطحان

(1)

"شرح النوويّ" 12/ 182.

ص: 57

فبالباء الموحّدة، ويَحْتَمِل أن يريد واحدًا منهما على رواية أبي بحر، واللَّه تعالى أعلم. انتهى

(1)

.

وقال في "الفتح": قوله: "من النقيع" بالنون، قيل: هو الموضع الذي حُمِي لرعي النَّعَم، وقيل غيره، وقد تقدم في "كتاب الجمعة" ذِكر نقيع الْخَضَمات، فدلّ على التعدد، وكان واديًا يجتمع فيه الماء، والماء الناقع هو المجتمِع، وقيل: كانت تُعمل فيه الآنية، وقيل: هو البدع، حكاه الخطابيّ، وعن الخليل: الوادي الذي يكون فيه الشجر، وقال ابن التين: رواه أبو الحسن -يعني: القابسيّ- بالموحدة، وكذا نقله عياض عن أبي بحر بن العاص، وهو تصحيف، فإن البقيع مَقبرة بالمدينة، وقال القرطبيّ: الأكثر على النون، وهو من ناحية العقيق، على عشرين فرسخًا من المدينة. انتهى

(2)

.

(لَيْسَ مُخَمَّرًا) اسم مفعول من التخمير؛ أي: ليس مغطًّا، والتخمير التغطية، ومنه الخمر؛ لتغطيتها على العقل، وخمار المرأة؛ لتغطيته رأسها

(3)

.

(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم (أَلَّا خَمَّرْتَهُ)؛ أي: غطّيته، و"ألا" هنا للعرض والتحضيض، ومعناهما: طَلَبُ الشيء، لكن العرض طلبٌ بِلِين، والتحضيض طلبٌ بحثّ، وهو المناسب هنا، وهي مختصّة بالجملة الفعليّة، كما في قوله عز وجل:{أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النور: 22]، {أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ} [التوبة: 13]، قاله ابن هشام الأنصاريّ رحمه الله

(4)

.

وقال الطيبيّ رحمه الله: قوله: "إلا خمرته""ألا" حرف تحضيض دخل على الماضي للّوم على الترك، واللوم إنما يكون على مطلوب الترك؛ لأن الرجل جاء بالإناء مكشوفًا غير مخمّر، فوبّخه. انتهى

(5)

.

(وَلَوْ تَعْرُضُ عَلَيْهِ عُودًا؟ ") -بفتح أوله، وضم الراء- قاله الأصمعيّ،

(1)

"المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" 5/ 283 - 284.

(2)

"الفتح" 12/ 654، كتاب "الأشربة" رقم (5603).

(3)

"شرح النوويّ" 12/ 182.

(4)

راجع: "مغني اللبيب عن كتب الأعاريب" 1/ 147.

(5)

"الكاشف عن حقائق السنن" 9/ 2888.

ص: 58

وهو رواية الجمهور، وأجاز أبو عبيد كسر الراء، وهو مأخوذ من العرض؛ أي: تجعل العُود عليه بالعرض، والمعنى: هلّا تغطيه بغطاء، فإن لم تفعل فلا أقلّ من أن تَعرْض عليه شيئًا

(1)

، قال الحافظ: وأظن السرّ في الاكتفاء بعَرْض العود أنّ تعاطي التغطية، أو العرض يقترن بالتسمية، فيكون العرض علامةً على التسمية، فتمتنع الشياطين من الدنو منه. انتهى

(2)

.

وقال النوويّ رحمه الله: المشهور في ضبطه "تعرُض" بفتح التاء، وضم الراء، وهكذا قاله الأصمعيّ، والجمهور، ورواه أبو عبيد بكسر الراء، والصحيح الأول، ومعناه: تَمُدّه عليه عَرْضًا؛ أي: خلاف الطول، وهذا عند عدم ما يغطيه به، كما ذكره في الرواية بعده:"إن لم يجد أحدكم إلا أن يَعْرض على إنائه عُودًا، ويذكر اسم اللَّه فليفعل"، فهذا ظاهر في أنه إنما يُقتصَر على العود عند عدم ما يغطيه به، وذكر العلماء للأمر بالتغطية فوائد، منها: الفائدتان اللتان وردتا في هذه الأحاديث، وهما: صيانته من الشيطان، فإن الشيطان لا يَكْشِف غطاء، ولا يَحُلّ سقاء، وصيانته من الوباء الذي ينزل في ليلة من السَّنَة، والفائدة الثالثة: صيانته من النجاسة، والمقذَّرات، والرابعة: صيانته من الحشرات، والهوامّ، فربما وقع شيء منها فيه، فشَربه، وهو غافل، أو في الليل، فيتضرر به، واللَّه أعلم. انتهى

(3)

.

وقوله: (عُودًا) بضمّ العين، وسكون الواو: الخشب، جمعه عِيدانٌ، وأَعْواد، قاله المجد

(4)

.

قال القرطبيّ رحمه الله: المراد بعرض العود: أن يُجْعَل العُود معروضًا على فم الإناء، ولا بدَّ من ذِكر اللَّه تعالى عند هذه الأفعال كُلِّها، كما جاء في الحديث الآخر بعد هذا، فيذكر اللَّه تعالى، وببركة اسمه تعالى تندفع المفاسد، ويحصل تمام المصالح، فمطلق هذه الكلمات مردود إلى مُقَيَّدِها. انتهى

(5)

.

(1)

"الكاشف عن حقائق السنن" 9/ 2888.

(2)

"الفتح" 12/ 654، كتاب "الأشربة" رقم (5603).

(3)

"شرح النوويّ" 12/ 182 - 183.

(4)

"القاموس المحيط" ص 924.

(5)

"المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" 17/ 17.

ص: 59

(قَالَ أَبُو حُمَيْدٍ) الساعديّ رضي الله عنه (إِنَّمَا أُمِرَ) وفي بعض النسخ: "إنما أُمرنا"، (بِالأَسْقِيَةِ)، وقوله:(أَنْ تُوكَأَ لَيْلًا)"أن" مصدريّة، والفعل مبنيّ للمفعول، والمصدر المؤوّل بدل من "الأسقية"؛ أي: بإيكاء الأسقية، وهكذا إعراب قوله:(وَبِالأَبْوَابِ أَنْ ئُغْلَقَ لَيْلًا) هذا الذي قاله أبو حميد رضي الله عنه: ظاهر في تقييد الإيكاء، والإغلاق بالليل، فما قاله بعض الشرّاح

(1)

معترضًا على النوويّ غير صحيح، فتنبّه.

قال النوويّ رحمه الله: هذا الذي قاله أبو حميد رضي الله عنه من تخصيصهما بالليل، ليس في اللفظ ما يدلّ عليه، والمختار عند الأكثرين من الأصوليين، وهو مذهب الشافعيّ وغيره رضي الله عنهم أن تفسير الصحابيّ إذا كان خلاف ظاهر اللفظ ليس بحجة، ولا يلزم غيرَه من المجتهدين موافقته على تفسيره، وأما إذا لم يكن في ظاهر الحديث ما يخالفه، بأن كان مجملًا، فيُرْجَع إلى تأويله، ويجب الحمل عليه؛ لأنه إذا كان مجملًا لا يحلّ له حمله على شيء إلا بتوقيف، وكذا لا يجوز تخصيص العموم بمذهب الراوي عند الشافعيّ والأكثرين، والأمر بتغطية الإناء عامّ، فلا يقبل تخصيصه بمذهب الراوي، بل يُتمسّك بالعموم. انتهى

(2)

.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي حميد الساعديّ رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه

(3)

.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [10/ 5231 و 5232](2010)، و (البخاريّ) في "الأشربة"(5605 و 5606)، و (أبو داود) في "الأشربة"(3734)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(4/ 149 و 197)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(8/ 229)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 294 و 5/ 425)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 122)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(129)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1270)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(3/ 308 و 8/ 4)، و (ابن الجعد) في "مسنده" (1/

(1)

هو: الشيخ الهرريّ. راجع: "شرحه" 21/ 119.

(2)

"شرح النوويّ" 13/ 183.

(3)

فما قاله الشيخ الهرري في "شرحه" 21/ 119: انفرد به مسلم غير صحيح، فتنبّه.

ص: 60

466)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(5/ 140، 141)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(8/ 304) و"شعب الإيمان"(5/ 127)، و (البغويّ) في "شرح السُّنّة"(3063)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم من المبادرة بخدمة النبيّ صلى الله عليه وسلم، وإحضار ما يحتاج إليه.

2 -

(ومنها): الحثّ على تخمير الإناء محافظةً على ما فيه من الطعام والشراب كي لا يقع عليه فيفسده.

3 -

(ومنها): بيان أنه إن لم يجد غطاء يغطي به الإناء ينبغي أن يعرِض عليه عودًا، ويسمّي اللَّه تعالى.

4 -

(ومنها): أنه ينبغي للمسلم إذا سمع توجيه النبيّ صلى الله عليه وسلم، وإرشاده أمته إلى شيء أن يتلقّى ذلك بانشراح صدر، ولا يقول: لم؟ وكيف؟، كان يقول في هذا الحديث: ماذا يفيد عرض العود على الإناء المكشوف؟ فإن ذلك ينافي مقتضى الإيمان، فواجب المسلم أن يقول: سمعنا، وأطعنا، وأيضًا فإن الحكمة في هذا ظاهرة، وذلك لأن عرض العود ليس هو المأمور به مجرّدًا، وإنَّما معه تسمية اللَّه تعالى، فاسم اللَّه تعالى هو الحصن الحصين، فليُتنبّه، واللَّه تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5232]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ دِينَارٍ، حَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ، حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، وَزَكَرِيَّاءُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَا: أَخْبَرَنَا أَبُو الزُّبَيْرِ، أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: أَخْبَرَنِي أَبُو حُمَيْدٍ السَّاعِدِيُّ، أَنَّهُ أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِقَدَحِ لَبَنٍ بِمِثْلِهِ، قَالَ: وَلَمْ يَذْكُرْ زَكَرِيَّاءُ قَوْلَ أَبِي حُمَيْدٍ بِاللَّيْلِ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(إِبْرَاهِيمُ بْنُ دِينَارٍ) أبو إسحاق التمّار البغداديّ، ثقةٌ [10](232)(م) تقدم في "الإيمان" 41/ 272.

2 -

(رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ) بن العلاء بن حسّان القيسيّ، أبو محمد البصريّ، ثقةٌ فاضلٌ، له تصانيف [9](ت 5 أو 207)(ع) تقدم في "الإيمان" 90/ 476.

ص: 61

3 -

(زَكَرِيَّاءُ بْنُ إِسْحَاقَ) المكيّ، ثقةٌ رُمي بالقدر [6](ع) تقدم في "الإيمان" 7/ 130.

والباقون ذُكروا قبله.

[تنبيه]: رواية ابن جريج، وزكريّا بن إسحاق كلاهما عن أبي الزبير ساقها أبو عوانة رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(8147)

- حدثنا أبو الحسن الميمونيّ، وأبو الأزهر، قالا: ثنا رَوْح بن عُبادة، قال: ثنا ابن جريج وزكريا بن إسحاق، قالا: ثنا أبو الزبير، أنه سمع جابر بن عبد اللَّه يقول: أخبرني أبو حميد، أنه أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم بقدح من لبن، من البقيع

(1)

، ليس بمخمّر، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"ألّا خمرته ولو بعود تعرضه"، قال أبو حميد: إنما أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بالأسقية أن توكأ، وبالأبواب أن تُغْلَق ليلًا، ولم يذكر زكريا قول أبي حميد بالليل. انتهى.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5233]

(2011) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْبٍ -وَاللَّفْظُ لأَبِي كُرَيْبِ- قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَاسْتَسْقَى، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا نَسْقِيكَ نَبِيذًا؟ فَقَالَ: "بَلَى"، قَالَ: فَخَرَجَ الرَّجُلُ يَسْعَى، فَجَاءَ بِقَدَحٍ فِيهِ نَبِيذٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَلَّا خَمَّرْتَهُ وَلَوْ تَعْرُضُ عَلَيْهِ عُودًا؟ "، قَالَ: فَشَرِبَ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(أَبُو صَالِحٍ) ذكوان السمّان الزيّات المدنيّ، ثقةٌ ثبت [3](ت 101)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 4.

والباقون ذُكروا في السند الماضي، وقبل باب.

وقوله: (كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. . . إلخ) هذا صريح في كون جابر رضي الله عنه حضر قصّة النبيذ، بخلاف قصّة اللبن، فإن ظاهرها أنه لم يحضره، وإنما

(1)

هكذا النسخة "بالبقيع" بالموحّدة، وتقدّم ما فيه، فلا تغفل.

ص: 62

أخذها من أبي حميد رضي الله عنه، وفي عبارة الحافظ هنا نظر، فإنه قال بعد ذِكره روايتي مسلم هذه، والتي قبلها ما نصّه:

والذي يظهر أن قصة اللبن كانت لأبي حميد، وأن جابرًا حضرها، وأن قصة النبيذ حملها جابر عن أبي حميد، وأبهم أبو حميد صاحبها، ويَحْتَمِل أن يكون هو أبا حميد راويها أبهم نفسه، ويَحْتَمِل أن يكون غيره، وهو الذي يظهر لي، واللَّه أعلم. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: الذي يظهر لي أن جابرًا رضي الله عنه حضر قصّة النبيذ؛ لقوله: "كنا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم. . . إلخ"، وأما قصّة اللبن، فحدّثه بها أبو حميد رضي الله عنه؛ لقوله:"حدّثني أبو حميد الساعديّ"، وأما حمل القصّة على التعدّد، فظاهر؛ فتأمله بالإمعان، واللَّه تعالى أعلم.

وقوله: (فَاسْتَسْقَى)؛ أي: طلب السُّقيا.

وقوله: (فَقَالَ رَجُلٌ. . . . إلخ) يَحْتَمِل أن يكون أبا حميد الساعديّ، ويَحْتَمِل أن يكون غيره، وهو الذي استظهره في "الفتح"، واللَّه تعالى أعلم.

وقوله: (أَلَا نَسْقِيكَ نَبِيذًا؟)"ألا" هنا للعرض، و"نسقيك" يَحْتَمِل أن يكون بفتح أوله، من سقاه ثلاثيًّا، ويَحْتَمِل أن يكون بضمّه، من أسقاه رباعيًّا، وقد تقدّم غير مرّة.

وقوله أيضًا: (نَسْقِيكَ نَبِيذًا؟) هو محمول على ما سبق في الباب السابق أنه نبيذ لَمْ يشتدّ، ولم يصر مسكرًا، قاله النوويّ رحمه الله

(2)

.

وقوله: (قَالَ: فَشَرِبَ) فيه بيان أن أمْره صلى الله عليه وسلم بتخميره للإرشاد، والاستحباب، لا للوجوب، فلو شرب الإنسان ما يُخمّر جاز، ولكنه خلاف الأولى، فتنبّه.

والحديث بلفظ النبيذ من أفراد المصنّف، والمتّفقٌ عليه بلفظ اللبن، فتنبّه، واللَّه تعالى أعلم.

(1)

"الفتح" 12/ 656، كتاب "الأشربة" رقم (5655).

(2)

"شرح النوويّ" 13/ 183.

ص: 63

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5234]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ، وَأَبِي صَالِحٍ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: أَبُو حُمَيْدٍ بِقَدَحٍ مِنْ لَبَنٍ، مِنَ النَّقِيعِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَلَّا خَمَّرْتَهُ، وَلَوْ تَعْرُضُ عَلَيْهِ عُودًا؟ ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) هو: عثمان بن محمد بن إبراهيم بن عثمان الْعَبْسيّ، أبو الحسن بن أبي شيبة الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ شهيرٌ [10](ت 239) وله (83) سنةً (خ م د س ق) تقدم في "الإيمان" 35/ 246.

2 -

(جَرِيرُ) بن عبد الحميد بن قُرْط الضبيّ، أبو عبد اللَّه الكوفيّ، نزيل الريّ وقاضيها، ثقةٌ صحيح الكتاب [8](ت 188)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.

3 -

(أَبُو سُفْيَانَ) طلحة بن نافع الإسكاف الواسطيّ، نزيل مكة، صدوقٌ [4](ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 117.

والباقون ذُكروا قبله.

وقوله: (يُقَالُ لَهُ: أَبُو حُمَيْدٍ) هو الساعديّ المتقدّم رضي الله عنه، والحديث متّفقٌ عليه، وقد تقدّم البحث فيه مستوفًى قبل حديث، وللَّه الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5235]

(2012) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ (ح) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحٍ، أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:"غَطُّو الإِنَاءَ، وَأَوْكُوا السِّقَاءَ، وَأَغْلِقُوا الْبَابَ، وَأَطْفِئُوا السِّرَاجَ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَحُلُّ سِقَاءً، وَلَا يَفْتَحُ بَابًا، وَلَا يَكْشِفُ إِنَاءً، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ أَحَدُكُمْ إِلَّا أَنْ يَعْرُضَ عَلَى إِنَائِهِ عُودًا، وَيَذْكُرَ اسْمَ اللَّهِ، فَلْيَفْعَلْ، فَإِنَّ الْفُويسِقَةَ تُضْرِمُ عَلَى أَهْلِ الْبَيْتِ بَيْتَهُمْ"، وَلَمْ يَذْكُرْ قُتَيْبَةُ فِي حَدِيثِهِ:"وَأَغْلِقُوا الْبَابَ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحِ) بن مهاجر التُّجيبيّ مولاهم المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 242)(م ق) تقدم في "الإيمان" 16/ 168.

ص: 64

2 -

(اللَّيْثُ) بن سعد بن عبد الرحمن الفَهْميّ، أبو الحارث المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ إمامٌ مشهورٌ [7] مات في شعبان (175)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" ج 2 ص 412.

والباقون ذُكروا في الباب الماضي، وقبل باب.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (387) من رباعيّات الكتاب.

شرح الحديث:

(عَنْ جَابِرٍ) رضي الله عنه، لا يقال: عنعنة أبي الزبير غير مقبولة؛ لأنه مدلّس؛ لأنا نقول: إن الراوي هنا هو الليث بن سعد، وهو لا يروي عنه إلا ما سمعه من جابر رضي الله عنه، وقد قدّمنا قصّته في هذا، وإلى هذا، أشرت في أبيات من جملتها:

كَذَاكَ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ اللَّيْثُ إِنْ

رَوَى فَلَا تَدْلِيسَ يُخْشَى يَا فَطِنْ

فَإِنَّهُ لَمْ يَرْوِ عَنْهُ غَيْرَ مَا

سَمِعَهُ مِنْ جَابِرٍ فَاغْتَنِمَا

(عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "غَطُّوا) بفتح الغين المعجمة، وضمّ الطاء المشدّدة، وأصله غَطِّيُوا، بوزن عَلِّمُوا، فنُقلت ضمّة الياء إلى الطاء دفعًا للثقل، ثم حذفت الياء لالتقاء الساكنين، وتشديد الطاء للمبالغة؛ إذ ثلاثيّه متعدّ، قال الفيّوميّ رحمه الله: غَطَوْتُ الشيءَ أَغْطُوهُ، وغَطَيْتُهُ أَغْطِيهِ، من بابي عَلَا، ورَمَى، والتثقيل مبالغةٌ، وأَغْطَيْتُهُ بالألف أيضًا، ويَختلف وزن المفعول بحسب وزن الفعل، والغِطَاءُ مثلُ كتاب: السِّتْرُ، وهو ما يُغَطَّى به، وجمعه: أَغْطِيَةٌ، مأخوذ من قولهم: غَطَا الليلُ يَغْطُو: إذا سترَتْ ظلمته كلَّ شيء. انتهى

(1)

.

وقوله: (الإِنَاءَ) مفعول "غَطُّوا"، وهو بكسر الهمزة، وجمعه الآنية، كالوِعاء والأوعية وزنًا ومعنًى، والأواني جمع الجمع، قاله الفيّوميّ

(2)

.

(وَأَوْكُوا السِّقَاءَ)؛ أي: اربطوه بالوِكاء، وهو بالكسر: ما يُربط به فم القِربة، ونحوها، وأصل "أوكوا":"أوكيوا" بوزن أَكرموا، فنُقلت ضمّة الياء إلى

(1)

"المصباح المنير" 2/ 449.

(2)

"المصباح المنير" 1/ 28.

ص: 65

الكاف بعد سَلْب حركتها؛ استثقالًا للخروج من الكسرة إلى الضمّة، ثم حُذفت الياء لالتقاء الساكنين، فصار "أَوْكُوا"، يقال: أوكيت السقاء بالألف: إذا شددتّ فمه بالوكاء، ووكيته من باب وَعَد لغة قليلة

(1)

.

وقال ابن عبد البرّ رحمه الله: قوله: "وأوكئوا السقاء" فالسقاء: القِربة، وشِبهها، والوكاء: الخيط الذي تُشد به، فكأنه قال صلى الله عليه وسلم: اربطوا فم الإناء إذا كان مما يُربط مثله، وشُدُّوه بالخيط.

وقال القرطبيّ: و"إيكاء السِّقاء": شَدُّهُ بالخيط، وهو الوِكاء، ممدود مهموز، ولذلك يجب أن يكون "أوكئوا" رباعيًّا مهموز اللام. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا الذي قاله القرطبيّ من أنه يجب أن يكون أوكئوا بالهمز غير صحيح، فإن أهل اللغة اتّفقوا على أنَّ الكلمة أوكى بالألف، لا بالهمز، قال المجدّ رحمه الله: الوكاء، ككِساء: رباط القِرْبة وغيرها، وقد وكاها، وأوكاها، وعليها. انتهى.

فأفاد أن الكلمة ليست مهموزة، وتقدّم عن الفيّوميّ نحوه، ونحوه للجوهريّ في "الصحاح"، وأما استدلاله على كونه مهموزًا بلفظ الوكاء، فهذا خطأ، فإن مصدر أعطى، وادّعى، وارتضى، واستقصى، وما أشبهها ممدود قياسًا مطّردًا، وإن الأفعال غير ممدودة، قال ابن مالك في "الخلاصة" في باب المقصور والممدود:

وَمَا اسْتَحَقَّ قَبْلَ آخِرٍ أَلِفْ

فَالمَدُّ نَظِيرِهِ حَتْمًا عُرِفْ

كَمَصْدرِ الْفِعْلِ الَّذِي قَدْ بُدِئَا

بِهَمْزِ وَصْلٍ كَارْعَوَى وَكَارْتَأى

واللَّه تعالى أعلم.

(وَأَغْلِقُوا الْبَابَ) بقطع الهمزة، من الإغلاق رباعيًّا، هذه هي اللغة الفصحى، وذكر بعضهم أنه يقال: غلق الباب، كضرب، قال الفيّوميّ رحمه الله: أغلقت الباب بالألف أوثقته بالغَلَقِ، وغلّقته بالتشديد مبالغةٌ وتكثيرٌ، وانغلق

(1)

"المصباح المنير" 2/ 671.

(2)

"المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" 5/ 280 - 281.

ص: 66

ضدّ انفتح، وغَلَقْتُهُ غَلْقًا، من باب ضرب لغة قليلة، حكاها ابن دريد عن أبي زيد، قال الشاعر:

وَلَا أَقُولُ لِقِدْرِ الْقَوْمِ قَدْ غَلِيَتْ

وَلَا أَقُولُ لِبَاب الدَّارِ مَغْلُوقُ

(1)

وقال المجد رحمه الله: وغَلَقَ البابَ يَغْلِقُه لُثْغَةٌ، أو لُغيّةٌ رديئةٌ في أغلقه. انتهى.

وقال المرتضى في "شرحه": وغلَقَ البابَ يَغْلِقُه، من حدِّ ضرَبَ غلْقًا، نقَلَها ابنُ دُريد، وعَزاها إلى أبي زيْدٍ، لُثْغَةٌ، أو لُغَيّة رَديئةٌ متْروكة في أغْلَقَه، فهو مُغْلَقٌ، أو نادِرَة، وقد جاءَ ذلك في قوْلِ الشّاعِرِ [من الطويل]:

لَعِرْضٌ من الأعْراضِ يُمْسي حَمامُهُ

ويُضْحِي عَلَى أفنائِهِ الغِينِ يهْتِفُ

أحَبُّ إِلَى قْلِبي من الدّيكِ رَنّةً

وَبَاب إِذَا مَا مَالَ للغَلْقِ يَصرِفُ

وهي لُغة متروكة كما قاله الجوهريّ، قالً أبو الأسود الدُّؤَليّ:

وَلَا أقولُ لقِدْرِ القوْمِ قَدْ غَلِيَتْ

وَلَا أقولُ لِبَابِ الدّارِ مَغْلوقُ

لَكِنْ أقولُ لِبابي مُغْلَقٌ وَغلَتْ

قِدْرِي وقابَلَها دَنٌّ وإبْريقُ

وأما غَلَّق البابَ فهي لُغَة فَصيحة، وربّما قالوا: أغْلَقْتُ الأبوابَ يُراد بها

التَّكثير، نقله سيبَوَيه، قال: وهو عرَبيٌّ جيّدٌ، وأنشَدَ الجوْهَريُّ للفَرزدق [من البسيط]:

مَا زِلْتُ أفتَحُ أبْوابًا وأُغْلِقُها

حَتَّى أتَيْتُ أبا عمْرِو بْنَ عمّارِ

قال أبو حاتِم السِّجِسْتانيّ: يُريدُ أبا عَمرو بنَ العَلاءِ. انتهى

(2)

.

(وَأَطْفِئُوا السِّرَاجَ) بقطع الهمزة، من الاطفاء رباعيًّا، يقال: طَفِئت النار تَطْفأ بالهمز، من باب تَعِب طُفُوءًا، على فُعُولٍ: خَمَدَت، وأطفأتها، ومنه أطفاتُ الفتنةَ: إذا سَكّنتها، على الاستعارة، قاله الفيّوميّ

(3)

.

وقال ابن عبد البرّ رحمه الله: قوله: "أطفؤوا السراج" مهموز أيضًا، قال اللَّه عز وجل:{كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ} [المائدة: 64]، وقال الشاعر:

بَرَزْتُ فِي غَايَتِي وَشَايَعَنِي

مُوقِدُ نَارِ الْوَغَى وَمُطْفِؤُهَا

وقال غيره:

(1)

"المصباح المنير" 2/ 451.

(2)

"تاج العروس" 1/ 6529 - 6530.

(3)

"المصباح المنير" 2/ 375.

ص: 67

وَعَادِلَةِ هَبَّتْ تَلُومُ وَلَوْمُهَا

لِنِيرَانِ شَوْقِي مُوقِدٌ غَيْرُ مُطْفِئِ

(1)

[تنبيه]: قال القرطبيّ رحمه الله: جميع أوامر هذا الباب من باب الإرشاد إلى المصلحة الدنيوية، كقوله تعالى:{وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} الآية [البقرة: 282]، وليس الأمر الذي قُصِد به الإيجاب، وغايته أن يكون من باب الندب، جل قد جعله كثير من الأصوليين قسمًا منفردًا بنفسه عن الوجوب والندب. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: قوله: "وليس الأمر الذي قُصد به الإيجاب. . . إلخ" محلّ نظر، فليُتأمّل، واللَّه تعالى أعلم.

ثمّ ذكر التعليل للأمر بهذه الأشياء بالفاء التعليليّة، فقال:(فَإِنَّ الشَّيْطَانَ) قال القرطبيّ رحمه الله: الشيطان هنا للجنس، بمعنى الشياطين. انتهى.

[تنبيه]: "الشيطان" في أصله قولان:

أحدهما: أنه من شَطَنَ: إذا بعُد عن الحقِّ، أو عن رحمة اللَّه، فتكون النون أصليّةً، ووزنه فَيْعالٌ، وكلّ عاتٍ متمرّدٍ من الجنّ والإنس، والدوابّ فهو شيطانٌ، ووصفَ أعرابيّ فرسه، فقال: كأنّه شيطان في "أشطان"

(3)

.

والقول الثاني: أن الياء أصليّةٌ، والنون زائدةٌ عكسُ الأول، وهو من شاط يَشيط: إذا بطل، أو احترق، فوزنه فَعْلانٌ

(4)

.

(لَا يَحُل سِقَاءً) ببناء الفعل للفاعل، وكذا الفعلان بعده، وهو بفتح حرف المضارعة، وضمّ الحاء، من حلّ الشيءَ يحلّه، من باب نصر: إذا نقضها، (وَلَا يَفْتَحُ بَابًا، وَلَا يَكْشِفُ إِنَاءً، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ أَحَدُكُمْ إِلَّا أَنْ يَعْرُضَ) تقدّم أنه بضم الراء أفصح من كسرها، (عَلَى إِنَائِهِ عُودًا) بالضمّ؛ أي: خشبًا، (وَيَذْكُرَ اسْمَ اللَّهِ) بنصب "يذكر" عطفًا على "يعرُض"، (فَلْيَفْعَلْ) قال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "إِلَّا أَنْ يَعْرُضَ. . . إلخ" هو بضم الراء، وكذا قاله الأصمعي، وقد رواه أبو عبيد بكسر الراء، والوجه الأول، وهو: أن يَجْعَل العود معروضًا على فم

(1)

"التمهيد" لابن عبد البرّ 12/ 177.

(2)

"المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" 5/ 280 - 281.

(3)

"الأشطان" بالفتح: جمع شَطَن محرّكةً، مثلُ سبب وأسباب، وهو الحبل.

(4)

"المصباح المنير" 1/ 313.

ص: 68

الإناء، ولا بدَّ من ذكر اللَّه تعالى عند هذه الأفعال كُلِّها، كما جاء في الحديث الآخر بعد هذا، فيذكر اللَّه تعالى، وببركة اسمه تندفع المفاسد، ويحصل تمام المصالح، فمطلق هذه الكلمات مردود إلى مُقَيَّدِها. انتهى

(1)

.

(فَإِنَّ الْفُوَيْسِقَةَ) تصغير فاسقة، وهي الفأرة، سُمّيت بذلك لخروجها من جُحرها للفساد.

وقال ابن عبد البرّ رحمه الله: الفويسقة: الفأرة، سماها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فاسقة في هذا الحديث وغيره، وقال صلى الله عليه وسلم:"خمس فواسق تُقتل في الحل والحرم"، فذكر منهن الفأرة، وكلُّ من آذى مسلمًا إذا تابع ذلك، وكَثُر منه، وعُرِف به فهو فاسق، والفارة أذاها كثير، وأصل الفسق: الخروج عن طاعة اللَّه، ومن الخروح عن طاعة اللَّه: أذى المسلم، والفأرة مؤذية، فلذلك سميت فاسقة، وفويسقةً، والرجل الظالم الفاجر فاسق، والمؤذي بيده، ولسانه، وفعله، وسعيه فاسقٌ، قال اللَّه عز وجل:{وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (58)} [الأحزاب: 58]. انتهى

(2)

.

(تُضْرِمُ عَلَى أَهْلِ الْبَيْتِ بَيْتَهُمْ") قال النوويّ رحمه الله: المراد بالفويسقة الفأرة، وتُضْرِم بالتاء، وإسكان الضاد؛ أي: تحرق سريعًا، قال أهل اللغة: ضَرِمَتِ النارُ بكسر الراء، وتَضَرَّمت، وأضرمت؛ أي: التهبت، وأضرمتها أنا، وضَرِمتها. انتهى

(3)

.

وقال الفيّوميّ: ضَرِمت النارُ ضَرَمًا، من باب تَعِبَ: التهبت، وتضرّمت، واضطرمت كذلك، وأضرمتها إضرامًا، وضَرِمَ الرجلُ ضَرَمًا، فهو ضَرِمٌ: اشتدّ جوعه، أو غضبه. انتهى

(4)

.

وقال ابن عبد البرّ رحمه الله: وقوله: "تُضرم": أي تُشعل، وتُحرق، وقال ابن وهب: أما قوله: "الفويسقة تضرم على الناس بيتهم" فإنما تَحْمِل الفتيلة، وهي تتقد حتى تجعلها في السقف، وقال أحمد بن عمران الأخفش: الفويسقة:

(1)

"المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" 5/ 281.

(2)

"التمهيد" لابن عبد البرّ 12/ 173 - 174.

(3)

"شرح النوويّ" 13/ 184.

(4)

"المصباح المنير" 2/ 361.

ص: 69

الفأرة، وقوله:"تُضرم على الناس بيتهم" تُشعل البيت عليهم بالنار، وذلك أنها إذا تناولت طرف الفتيلة، وفيها النار، فلعلها تمر بثياب، أو بحطب، فتشعل النار فيها، فيلتهب البيت على أهله، وقد أصاب ذلك أهلَ بيت بالمدينة، فذكر ذلك لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من الغد، فقال:"إن هذه النار عدوّ لكم، فإذا نِمتم فأطفئوها عنكم"، قال: حدثنا بذلك أبو أسامة، عن يزيد بن أبي بردة، عن أبي موسى، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم.

قال ابن عبد البرّ: ثبت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم من حديث ابن عمر وغيره أنه قال: "لا تتركوا النار في بيوتكم حين تنامون"، وكان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بالمؤمنين رؤوفًا رحيمًا.

ثم ساق بسنده إلى الزهريّ، عن سالم، عن أبيه، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"لا تتركوا النار في بيوتكم حين تنامون".

وأخرج أيضًا عن أبي سعيد الخدريّ أنه قال: الفأرة فويسقةٌ، قيل له: لم قيل لها: الفويسقة؟ قال: لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم "استيقظ، وقد أَخذت فتيلةً لتحرق بها البيت، ثم ساق بسنده إلى ابن عباس رضي الله عنهما قال: جاءت فأرة، فأخذت تجرّ الفتيلة، فجاءت بها، فألقتها بين يدي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على الخمرة التي كان قاعدًا عليها، فأحرقت منها مثل موضع الدرهم، فقال: "إذا نِمتم فأطفئوا سُرُجكم، فإن الشيطان يدل مثل هذه على هذا، فتحرقكم". انتهى

(1)

.

وقوله: (وَلَمْ يَذْكُرْ قُتَيْبَةُ فِي حَدِيثِهِ: "وَأَغْلِقُوا الْبَابَ") بيّن به اختلاف شيخيه، فمحمد بن رُمح ساقها بالسياق المذكور هنا، وأما قتيبة فأسقط منه قوله:"وأغلقوا الباب"، واللَّه تعالى أعلم.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث جابر رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [10/ 5235 و 5236 و 5237 و 5238 و 5239

(1)

"التمهيد" لابن عبد البرّ 12/ 175.

ص: 70

و 5240 و 5241] (2012)، و (البخاريّ) في "بدء الخلق"(3280 و 3304 و 3316) و"الأشربة"(5623 و 5624) و"الاستئذان"(6295 و 6296) وفي "الأدب المفرد"(1221)، و (أبو داود) في "الأشربة"(3731 و 3732 و 3733 و 3734)، و (الترمذيّ) في "الأطعمة"(1812)، و (ابن ماجه) في "الأشربة"(3452) و"الآداب"(3816)، و (النسائيّ) في "عمل اليوم والليلة"(745 و 746)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 301 و 312 و 362 و 374 و 386)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(132 و 2560)، و (البغويّ) في "مسنده"(5/ 141)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(4/ 98 و 155)، و (ابن الجعد) في "مسنده"(1/ 381)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده

(1)

:

1 -

(منها): ما قاله النوويّ رحمه الله: هذا الحديث فيه جُمل من أنواع الخير، والآداب الجامعة لمصالح الآخرة والدنيا، فأمر صلى الله عليه وسلم بهذه الآداب التي هي سبب للسلامة من إيذاء الشيطان، وجعل اللَّه هذه الأسباب أسبابًا للسلامة من إيذائه، فلا يقدر على كشف إناء، ولا حَلّ سقاء، ولا فتح باب، ولا إيذاء صبيّ وغيره إذا وُجدت هذه الأسباب، وهذا كما جاء في الحديث الصحيح "أن العبد إذا سَمَّى عند دخول بيته قال الشيطان: لا مبيت"؛ أي: لا سلطان لنا على المبيت عند هؤلاء، وكذلك إذا قال الرجل عند جماع أهله: "اللهم جنِّبنا الشيطان، وجنِّب الشيطان ما رزقتنا" كان سبب سلامة المولود من ضرر الشيطان، وكذلك شِبه هذا مما هو مشهور في الأحاديث الصحيحة.

2 -

(ومنها): ما قاله أيضًا أن فيه الحثّ على ذكر اللَّه تعالى في هذه المواضع، ويُلحق بها ما في معناها، قال أصحابنا -يعني: الشافعيّة-: يُستحب أن يذكر اسم اللَّه تعالى على كل أمر ذي بال، وكذلك يحمد اللَّه تعالى في أول كل أمر ذي بال للحديث الحسن المشهور فيه. انتهى كلام النوويّ رحمه الله

(2)

.

(1)

المراد فوائد حديث جابر رضي الله عنه بسياقاته المختلفة التي أوردها مسلم، وكذا ما في الشرح، لا خصوص السياق المذكور في هذه الرواية، فتدبّر.

(2)

"شرح النوويّ" 13/ 185.

ص: 71

قال الجامع عفا اللَّه عنه: قوله: "للحديث الحسن" هكذا حسّنه النوويّ، وليس كذلك، فإن الحديث ضعيف شديد الضعف، وقد استوفيت بيانه في "شرح المقدّمة"، فارجع إليه، تستفد علمًا جمًّا، وباللَّه تعالى التوفيق.

3 -

(ومنها): ما قاله القرطبيّ رحمه الله: قد تضمَّنت جملة هذه الأحاديث أن اللَّه تعالى قد أطلع نبيَّه صلى الله عليه وسلم على ما يكون في هذه الأوقات من المضارِّ من جهة الشياطين، والفأر، والوباء. وقد أرشدنا النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى ما يُتَّقى به ذلك، فليبادر الإنسان إلى فعل تلك الأمور ذاكرًا الله تعالى، مُمتثلًا أمر نبيَّه صلى الله عليه وسلم، وشاكرًا للَّه تعالى على ما أرشدنا إليه، وأعْلَمنا به، ولنبيِّه صلى الله عليه وسلم على تبليغه، ونصحه، فمن فعل ذلك لَمْ يصبه من شيء من ذلك ضررٌ بحول اللَّه وقُوّته، وبركة امتثال أوامره صلى الله عليه وسلم، وجازاه عنَّا أفضل ما جازى نبيًّا عن أمته، فلقد بلَّغ، ونصح صلى الله عليه وسلم. انتهى

(1)

.

4 -

(ومنها): ما قاله الحافظ ابن عبد البرّ رحمه الله في "التمهيد": وفي هذا الحديث من العلم أيضًا أن الشيطان لم يُعطَ مع ما به من القوّة أن يفتح غَلَقًا، ولا يَحُل وكاءً، ولا يكشف إناء؛ رحمةً من اللَّه تعالى بعباده، ورفقًا بهم

(2)

.

وقال في "الاستذكار": في هذا الحديث الأمرُ بغلق الأبواب من البيوت في الليل، وتلك سُنَّة مأمور بها؛ رفقًا بالناس لشياطين الإنس والجن، وأما قوله:"إن الشيطان لا يفتح غَلَقًا، ولا يَحُلّ وِكاءً" فذلك إعلام منه، وإخبار عن نِعم اللَّه على عباده من الإنس؛ إذ لَمْ يُعْطَ قوّة على فتح باب، ولا حَلّ وكاء، ولا كشف إناء، وأنه قد حُرِم هذه الأشياء، وإن كان قد أُعطي ما هو أكثر منها، من التخلُّل، والولوج حيث لا يلج الإنس.

قال: وقوله: "أوكوا السقاء": معناه أيضًا قريب مما وصفنا في غلق الباب، والسقاءُ القربةُ، وقد تكون الْقُلَّة، والخابية، وما كان مثلهما في ذلك المعنى. وقوله:"اكفؤوا الإناء": معناه: اقلبوه على فيه، "أو خمِّروه" شَكَّ المحدّث.

(1)

"المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" 5/ 282.

(2)

"التمهيد" لابن عبد البرّ 12/ 177.

ص: 72

والمعنى في ذلك أن الشياطين تجول بالبيوت والدُّور بالليل، وفيهم مَرَدَة تؤذي بدروب من الأذى، وذلك معروف في أفعالهم في كتاب العلماء، ومعلوم بالمشاهدات في أزمنة شتى، وهم لنا أعداء، وحسبك بفعل العدوّ، قال اللَّه تعالى:{أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ} [الكهف: 50].

قال: وأمر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بإطفاء المصباح رفقًا بأمته، وحياطة عليهم، وأدبًا لهم، وقال صلى الله عليه وسلم:"لا تتركوا النار في بيوتكم حين تنامون"، رواه الزهريّ، عن سالم بن عبد اللَّه بن عمر، عن أبيه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، ومن حديث عطاء بن يسار، عن جابر، قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا سمعتم نُباح الكلاب، أو نُهاق الحمير بالليل، فتعوذوا باللَّه من الشيطان الرجيم، فإنهنّ يرون ما لا تَرَوْن، وأَقِلّوا الخروج إذا هدأت الرِّجْلُ، فإن اللَّه تعالى يبث من خلقه في ليله ما شاء، وأجيفوا الأبواب، واذكروا اسم اللَّه عليها، فإن الشيطان لا يفتح بابًا أُجيف، وذُكر اسم اللَّه عليه، وغَطّوا الْجِرار، وأكفئوا الآنية، وأوكوا القِرَب".

قال أبو عمر: قد أَتَى في هذا الحديث شرطُ التسمية في الباب إذا أجيف، وجاء في غيره أيضًا مثله في تغطية الإناء، أو قلبه، إن الشيطان لا يعترضه إذا سُمِّي اللَّه تعالى عليه عند ذلك الفعل به، وهذه زيادة على ما جاء في حديث أبي الزبير، عن جابر.

وفي حديث القعقاع بن حكيم، عن جابر رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"غَطّوا الإناء، وأوكوا السقاء، فإن في السَّنَة ليلةً ينزل بها وباء، لا يمرّ بإناء ليس عليه غطاء، أو سقاءٍ ليس عليه وِكاء إلا نزل فيه من ذلك الوباء".

قال الليث بن سعد -وهو أحد رواة هذا الحديث-: والأعاجم يتقون ذلك في كانون الأول.

وفي حديث عطاء بن أبي رباح، عن جابر رضي الله عنه قال: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "خمِّروا الآنية، وأوكوا الأسقية، وأجيفوا الأبواب، وكُفُّوا صبيانكم عند المساء، فإن للجنّ انتشارًا، وخَطْفةً". انتهى كلام ابن عبد البرّ رحمه الله

(1)

، وهو بحث نفيسٌ جدًّا، واللَّه تعالى أعلم.

(1)

"الاستذكار" 8/ 364 - 366.

ص: 73

5 -

(ومنها): ما قال في "الفتح": قال القرطبيّ: الأمر والنهي في هذا الحديث للإرشاد، قال: وقد يكون للندب، وجزم النوويّ بأنه للإرشاد؛ لكونه لمصلحة دنيوية، وتُعُقِّب بأنه قد يفضي إلى مصلحة دينية، وهي حفظ النفس المحرَّم قَتْلها، والمال المحرم تبذيره.

وقال ابن دقيق العيد رحمه الله: هذه الأوامر لم يحملها الأكثر على الوجوب، ويلزم أهل الظاهر حملها عليه، قال: وهذا لا يختص بالظاهريّ، بل الحمل على الظاهر إلا لمعارضٍ ظاهرٍ يقول به أهل القياس، وإن كان أهل الظاهر أولى بالالتزام به؛ لكونهم لا يلتفتون إلى المفهومات، والمناسبات، وهذه الأوامر تتنوع بحسب مقاصدها، فمنها ما يُحمل على الندب، وهو التسمية على كل حال، ومنها ما يُحمل على الندب والإرشاد معًا، كإغلاق الأبواب؛ من أجل التعليل بأن الشيطان لا يفتح بابًا مغلقًا؛ لأن الاحتراز من مخالطة الشيطان مندوب إليه، وإن كان تحته مصالح دنيوية، كالحراسة، وكذا إيكاء السقاء، وتخمير الإناء، واللَّه أعلم. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: عندي أنه لا فرق بين هذه الأوامر في حمل جميعها على الوجوب؛ لأنها بصيغ الأمر، والأمر للوجوب ما لم يصرفه صارف، ولم يأت من فرّق بينها بحجة مقنعة صارفة، فتأمل بالإنصاف، واللَّه تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

6 -

(ومنها): ما قاله في "الفتح" أيضًا: وقال القرطبيّ: في هذه الأحاديث أن الواحد إذا بات ببيت ليس فيه غيره، وفيه نار فعليه أن يطفئها قبل نومه، أو يفعل بها ما يؤمَن معه الاحتراق، وكذا إن كان في البيت جماعة، فإنه يتعيَّن على بعضهم، وأحقّهم بذلك آخرهم نومًا، فمن فَرّط في ذلك كان للسُّنَّة مخالفًا، ولأدائها تاركًا، ثم أورد الحديث الذي أخرجه أبو داود، وصححه ابن حبان، والحاكم، من طريق عكرمة، عن ابن عباس، قال: "جاءت فأرة، فجرّت الفتيلة، فألقتها بين يدي النبيّ صلى الله عليه وسلم على الْخُمْرة التي كان قاعدًا عليها، فأحرقت منها مثل موضع الدرهم، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: إذا نِمْتم

(1)

"الفتح" 14/ 262، كتاب "الاستئذان" رقم (6293).

ص: 74

فأطفئوا سراجكم، فإن الشيطان يدلّ مثل هذه على هذا، فيحرقكم".

وفي هذا الحديث بيان سبب الأمر أيضًا، وبيان الحامل للفويسقة، وهي الفأرة على جرِّ الفتيلة، وهو الشيطان، فيستعين، وهو عدوّ الإنسان عليه بعدوِّ آخر، وهي النار، أعاذنا اللَّه بكرمه من كيد الأعداء، إنه رؤوف رحيم.

وقال ابن دقيق العيد: إذا كانت العلة في إطفاء السراج الحذر من جرّ الفويسقة الفتيلة، فمقتضاه أن السراج إذا كان على هيئة لا تصل إليها الفأرة لا يُمنع إيقاده، كما لو كان على منارة من نحاس أملس، لا يمكن الفأرة الصعود إليه، أو يكون مكانه بعيدًا عن موضع يمكنها أن تثب منه إلى السراج، قال: وأما ورود الأمر بإطفاء النار مطلقًا، كما في حديثي ابن عمر، وأبي موسى، وهو أعمّ من نار السراج، فقد يتطرق منه مفسدة أخرى غير جرّ الفتيلة، كسقوط شيء من السراج على بعض متاع البيت، وكسقوط المنارة، فينثر السراج إلى شيء من المتاع، فيحرقه فيحتاج إلى الاستيثاق من ذلك، فإذا استوثق بحيث يؤمَن معه الإحراق، فيزول الحكم بزوال علته.

وقد صرح النوويّ بذلك في القنديل مثلًا؛ لأنه يؤمَن معه الضرر الذي لا يؤمَن مثله في السراج. انتهى

(1)

، واللَّه تعالى أعلم.

[تنبيه]: ذكر أبو عمر بن عبد البرّ رحمه الله في "التمهيد" عن عطاء، عن جابر، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "خمِّروا الآنية، وأوكئوا الأسقية، وأجيفوا الأبواب، وكُفُّوا صبيانكم عند المساء، فإن للجن انتشارًا، وخَطْفَةً"، رواه البخاريّ.

قال أبو عمر: في معنى قوله هذا: "وخطفة" ما قد ذكره ابن أبي الدنيا، قال: حدّثنا إسحاق بن إسماعيل، قال: حدّثنا خالد بن الحارث الْهُجيميّ، قال: حدّثنا سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن أبي نَضْرة، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى أن رجلًا من قومه خرج ليصلي مع قومه صلاة العشاء، ففُقِد، فانطلقت امرأته إلى عمر بن الخطاب، فحدّثته بذلك، فسأل عن ذلك قومها،

(1)

"الفتح" 14/ 262، كتاب "الاستئذان" رقم (6293).

ص: 75

فصدّقوها، فأمرها أن تتربص أربع سنين، فتربصت، ثم أتت عمر، فأخبرته بذلك، فسأل عن ذلك قومها، فصدقوها، فأمروها أن تتزوج، ثم إن زوجها الأول قَدِم، فارتفعوا إلى عمر بن الخطاب، فقال عمر: يغيب أحدكم الزمان الطويل، لا يَعلم أهله حياته، قال: إن لي عذرًا، قال: فما عذرك؟ قال: خرجت أصلي مع قومي صلاة العشاء، فسَبَتْني الجنّ، أو قال: أصابتني الجنّ، فكنت فيهم زمانًا، فغزاهم جنّ مؤمنون، فقاتلوهم، فظهروا عليهم، وأصابوا لهم سبايا، فكنت فيمن أصابوا، فقالوا: ما دينك؟ قلت: مسلم، قالوا: أنت على ديننا، لا يحلّ لنا سبيك، فخيَّروني بين المقام وبين القفول، فاخترت القفول، فأقبلوا معي بالليل بَشَرٌ يحدثونني، وبالنهار إعصار ريح أتبعها، قال: فما كان طعامك؟ قال: الفول، وما لم يذكر اسم اللَّه عليه، قال: فما كان شرابك؟ قال: الْجَدَف، قال قتادة: الجدف ما لم يُخَمّر من الشراب، قال فخيَّره عمر بين المرأة والصداق.

قال أبو عمر: هذا خبر صحيح من رواية العراقيين، والمكيين، مشهور، وقد رَوَى معناه المدنيون في المفقود، إلا أنهم لم يذكروا معنى اختطاف الجنّ للرجل، ولا ذكروا تخيير المفقود بين المرأة والصداق، وإنما ذكرناه ههنا من أجل تخمير أواني الشراب والطعام، وهي لفظة لم أرها في هذا الحديث في غير هذا الإسناد، وقد ذكرنا هذا الخبر بإسناده من غير رواية قتادة في باب صيفيّ، والحمد للَّه.

قال أبو عمر: يُروَى هذا الجدف في هذا الحديث: الجدف بالدال، وقال أبو عبيد: هو كما جاء في الحديث ما لا يُغَطَّى من الشراب، قال: وقد قيل: هو نبات باليمن لا يحتاج آكله إلى شرب الماء، وأنكر ابن قتيبة هذا، وزعم أنه زُبْد الشراب، ورغوة اللبن، قال: وسُمّي جدفًا؛ لأنه يُقطع، ويُرمَى عن الشراب، قال: وقد يجوز أن يقال لِمَا لا يغطى من الشراب: جدف، كأن غطاه جدف؛ أي: قطع. انتهى

(1)

.

(1)

"التمهيد" لابن عبد البرّ 12/ 182 - 183.

ص: 76

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أَوَّل الكتاب قال:

[5236]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِهَذَا الْحَدِيثِ، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: "وَاكْفِئُوا الإِنَاءَ، أَوْ خَمِّرُوا الإِنَاءَ"، وَلَمْ يَذْكُرْ تَعْرِيضَ الْعُودِ عَلَى الإِنَاءِ).

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) بن بكر التميميّ، أبو زكرياء النيسابوريّ، ثقةٌ ثبتٌ إمامٌ [10](ت 226) على الصحيح (خ م ت س) تقدم في "المقدمة" 3/ 9.

2 -

(مَالِكُ) بن أنس بن مالك بن أبي عامر بن عمرو الأصبحيّ، أبو عبد اللَّه المدنيّ الفقيه، إمام دار الهجرة، رأس المتقنين، وكبير المتثبّتين [7](ت 179) وله (90) سنة (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 378.

والباقيان ذُكرا قبله.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، كلاحقه، وهو (388) من رباعيّات الكتاب، وفيه جابر رضي الله عنه أحد المكثرين السبعة، روى (1540) حديثًا.

وقوله: (غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ. . . . إلخ) فاعل "قال" ضمير مالك رحمه الله؛ أي: قال مالك: "واكفئوا الإناء، أو خمّروا الإناء"، بدل قول الليث:"غَطّوا الإناء"، و"أو" في روايته للشكّ

(1)

، حيث شكّ هل قال:"واكفئوا الإناء"، أو قال بدله:"خَمّروا الإناء"؟

وقال ابن عبد البرّ رحمه الله: وأما قوله: "وخمّروا الإناء" فالتخمير ههنا التغطية، وما خمّرته فقد غَظيته، وإنما يُكفأ من الأواني ما لا يمكن تغطيته، وتخميره، وقوله في حديث مالك:"خَمّروا الأناء، أو أكفئوا الإناء"، يَحْتَمِل أن يكون التخيير في تخمير الإناء، وتحويله، ويَحْتَمِل أن يكون شكًّا من المحدّث. انتهى

(2)

.

(1)

بيّن ذلك ابن عبد البرّ في "الاستذكار"، وذكر في "التمهيد" ما يدلّ على أنه يَحتمل أيضًا التخيير، فتنبّه.

(2)

"التمهيد" لابن عبد البرّ 12/ 177.

ص: 77

وقوله: ("وَاكْفِئُوا الإِنَاءَ) أمرٌ من الإكفاء، رباعيًّا، أو من الكَفْء ثلاثيًّا، فهمزته يجوز قطعها، ووصْلها، ومعناه: القلب، يقال: كفأه، كمنعه: صرفه، وكبّه، وقلبه، كأكفأه، واكتفأه، قاله المجد رحمه الله

(1)

.

وقال ابن عبد البرّ رحمه الله: وأما قوله: "وأكفئوا الإناء" فإنه يريد: اقلبوه، وكُبّوه، وحَوِّلوه إذا كان فارغًا، لا تدعوه مفتوحًا، ضاحيًا، يقال: كفأت الإناء: إذا قلبته، وهي كلمة مهموزة، وأنا أكفؤه، قال ابن هرمة:

عِندِي لِهَذَا الزَّمَانِ آنِيَةٌ

أَمْلَؤُهَا مَرَّةً وَأَكْفَؤُهَا

وقوله: (أَوْ خَمِّرُوا الإِنَاءَ") من التخمير، وهو التغطية.

وقوله: (وَلَمْ يَذْكُرْ تَعْرِيضَ الْعُودِ عَلَى الإِنَاءِ) فاعل "يذكر" ضمير مالك أيضًا؛ يعني: أن مالكًا لم يذكر في روايته قوله: "إلا أن يعرُض على إنائه عُودًا".

وقال النوويّ رحمه الله: قوله: "ولم يذكر تعريض العود" هكذا هو في أكثر الأصول، وفي بعضها:"تَعْرُضُ" فأما هذه فظاهرة، وأما تَعْرِيض" ففيه تسمّح في العبارة، والوجه أن يقول: "ولم يذكر عَرْضَ العُودِ"؛ لأنه المصدر الجاري على "تَعْرُض"، واللَّه أعلم، انتهى

(2)

.

[تنبيه]: رواية مالك، عن أبي الزبير هذه ساقها في "الموطّأ"، فقال:

(1659)

- وحدّثني عن مالك، عن أبي الزبير المكيّ، عن جابر بن عبد اللَّه، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"أغلقوا الباب، وأوكوا السقاء، وأكفئوا الإناء، أو خمِّروا الإناء، وأطفئوا المصباح، فإن الشيطان لا يفتح غَلَقًا، ولا يَحُلّ وِكَاءً، ولا يكشف إناءً، وإن الفويسقة تُضْرِم على الناس بيتهم". انتهى

(3)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلِّف رحمه الله أَوَّل الكتاب قال:

[5237]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، حَدَّثَنَا أَبُو الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَغْلِقُوا الْبَابَ"، فَذَكَرَ بِمِثْلِ حَدِيثِ اللَّيْثِ، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: "وَخَمِّرُوا الآنِيَةَ"، وَقَالَ: "تُضْرِمُ عَلَى أَهْلِ الْبَيْتِ ثِيَابَهُمْ").

(1)

"القاموس المحيط" ص 1137.

(2)

"شرح النوويّ" 13/ 184.

(3)

"موطأ مالك" 2/ 928.

ص: 78

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ) هو: أحمد بن عبد اللَّه بن يونس التميميّ اليربوعيّ، أبو عبد اللَّه الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ، من كبار [10](227) وهو ابن (94) سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 53.

2 -

(زهَيْرُ) بن معاوية بن حُديج، أبو خيثمة الجعفيّ الكوفيّ، نزيل الجزيرة، ثقةٌ ثبتٌ [7](ت 2 أو 3 أو 174)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 62.

والباقيان ذُكرا قبله.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله كسابقه، وهو (389) من رباعيّات الكتاب.

وقوله: (فَذَكَرَ بِمِثْلِ حَدِيثِ اللَّيْثِ) فاعل "ذَكَرَ" ضمير زهير بن معاوية، وكذا فاعل "قال" الآتي.

وقوله: (وَقَالَ: "تُضْرِمُ عَلَى أَهْلِ الْبَيْتِ ثِيَابَهُمْ") كذا هو في النسخ التي بين يديَّ بلفظ "ثيابهم"، ولم أجده بهذا اللفظ عند غيره، فإن الحديث أخرجه أبو عوانة، وغيره وكلّهم ذكروه بلفظ:"تُضرم على أهل البيت بيتهم"، فليُحرّر، واللَّه تعالى أعلم.

[تنبيه]: رواية زهير بن معاوية، عن أبي الزبير هذه ساقها أبو عوانة رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(8151)

- حدثنا أبو داود الحرّانيّ، قال: ثنا الحسن، وأبو جعفر قالا: ثنا زهير (ح) وحدّثنا محمد بن عبيد اللَّه بن المنادي، قال: ثنا يونس بن محمد (ح) وحدّثنا الصغانيّ، قال: ثنا سعيد بن سليمان، قالا: ثنا زهير بن معاوية، قال: ثنا أبو الزبير، عن جابر، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "أغلقوا الأبواب، وأوكوا الأسقية، وخَمِّروا الآنية، وأطفئوا السراج، فإن الشيطان لا يفتح غَلَقًا، ولا يَحُلّ وِكاءً، ولا يكشف إناءً، فإن الفويسقة -زاد يونس بن محمد: ولا يكشف إناءً، فإن لَمْ يجد أحدكم إلا أن يَعْرُض على إنائه عُودًا، ويذكر اللَّه فليفعل- وقالوا جميعًا: فإن الفويسقة تُضرم على أهل البيت بيتهم". انتهى

(1)

.

(1)

"مسند أبي عوانة" 5/ 141 - 142.

ص: 79

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5238]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أبي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِ حَدِيثِهِمْ، وَقَالَ: "وَالْفُويْسِقَةُ تُضْرِمُ الْبَيْتَ عَلَى أَهْلِهِ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(عَبْدُ الرَّحْمَنِ) بن مهديّ بن حسّان العنبريّ مولاهم، أبو سعيد البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ حافظ، عارف بالرجال والحديث [9](ت 198) وهو ابن (73) سنة، تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 388.

2 -

(سُفْيَانُ) بن سعيد بن مسروق الثوريّ، أبو عبد اللَّه الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ فقيهٌ إمام عابد حجةٌ، من رؤوس [4](ت 161)(ع) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.

والباقون ذُكروا في الباب.

وقوله: (وَقَالَ: "وَالْفُوَيْسِقَةُ) فاعل "قال" ضمير سفيان الثوريّ.

[تنبيه]: رواية سفيان الثوريّ، عن أبي الزبير هذه لم أجد من ساقها، فليُنظر، واللَّه تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلِّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5239]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، أَخْبَرَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ، حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنَا عَطَاءٌ، أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا كَانَ جُنْحُ اللَّيْلِ -أَوْ أَمْسَيْتُمْ- فَكُفُّوا صِبْيَانَكُمْ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْتَشِرُ حِينَئِذٍ، فَإِذَا ذَهَبَ سَاعَةٌ مِنَ اللَّيْلِ فَخَلُّوهُمْ، وَأَغْلِقُوا الأَبْوَابَ، وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَفْتَحُ بَابًا مُغْلَقًا، وَأَوْكُوا قِرَبَكُمْ، وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ، وَخَمِّرُوا آنِيَتَكُمْ، وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ، وَلَوْ أَنْ تَعْرُضُوا عَلَيْهَا شَيْئًا، وَأَطْفِئُوا مَصَابِيحَكُمْ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورِ) بن بَهْرام الْكَوْسج، أبو يعقوب التميميّ المروزيّ، ثقةٌ ثبت [11](ت 251)(خ م ت س ق) تقدم في "الإيمان" 12/ 156.

ص: 80

2 -

(عَطَاءٌ) بن أبي رَبَاح أسلم القرشيّ مولاهم، أبو محمد المكيّ، ثقةٌ فقيهٌ فاضلٌ، لكنه كثير الإرسال [3](ت 114)(ع) تقدم في "الإيمان" 83/ 442.

والباقون ذُكروا في الباب.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه مسلسل بالتحديث، والإخبار، والسماع.

شرح الحديث:

عن عَطَاء بن أبي رَباح (أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ) رضي الله عنه (يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا كَانَ جُنْحُ اللَّيْلِ) بضمّ الجيم، وكسرها

(1)

؛ أي: ظلامه، واختلاطه، يقال: جنح الليل يَجْنَح بفتحتين

(2)

: أقبل

(3)

.

وفي رواية البخاريّ: "إذا استجنح الليل، أو كان جنح الليل"، قال في "الفتح": وفي رواية الكشميهنيّ: "أو قال: جنح الليل"، وهو بضم الجيم، وبكسرها، والمعنى: إقباله بعد غروب الشمس، يقال: جنح الليل: أقبل، واستجنح: حان جُنحه، أو وقع، وحَكَى عياض أنه وقع في رواية أبي ذرّ:"استجنع" بالعين المهملة بدل الحاء، وهو تصحيف، وعند الأصيليّ:"أوّلُ الليل" بدل قوله: "أو كان جنح الليل"، و"كان" في قوله:"وكان جنح الليل" تامَّة؛ أي: حصل، ووُجد

(4)

.

وقال الطيبيّ رحمه الله: معنى جنح الليل: طائفة من اللَّه، وأراد به هنا الطائفة الأولى منه عند امتداد فحمة العشاء. انتهى

(5)

.

(أَوْ أَمْسَيْتُمْ)"أو" هنا للشكّ من الراوي، هل قال:"إذا كان جنح الليل"، أو قال:"إذا أمسيتم"؛ أي: دخلتم في المساء، والمساء: ما بين الظهر

(1)

وضبطه الطيبيّ بفتح الجيم وكسرها، والظاهر أن قوله بالفتح غلطٌ؛ لأنه لم يُذكر في كتب اللغة إلا الضمّ والكسر، فتنبّه.

(2)

وجعله في "القاموس" مثلّث النون، من باب نصر، وضرب، وفتح، فتنبّه.

(3)

"المصباح المنير" 1/ 111.

(4)

"الفتح" 7/ 569، و"عمدة القاري" 15/ 173، كتاب "بدء الخلق" رقم (3280).

(5)

"الكاشف عن حقائق السنن" 9/ 2886.

ص: 81

إلى المغرب، وليس مرادًا، بل المراد دخول الليل بدليل الروايات الأخرى، فتنبّه.

(فَكُفُّوا) أمر من الكفّ، وهو المنع، يقال: كفّ عن الشيء كفًّا، من باب نصر: تركه، وكففته كفًّا: منعته، فكفّ، يتعدَّى، ويلزم، وهنا من المتعدّي، ولذا نَصَبَ قوله:(صِبْيَانَكُمْ) بكسر الصاد المهملة، وتضمّ: جمع صبيّ، قال المجد رحمه الله: الصبيّ: من لم يَفطُم بعدُ، قال: جمعه أصبية، وأَصبٍ، وصِبْوةٌ، وصَبيةٌ، وصِبيةٌ، وصِبْوانٌ، وصِبيانٌ، وتُضمّ هذه الثلاثة. انتهى

(1)

.

(فَإِنَّ الشَّيْطَانَ)؛ أي: جنس الشيطان، (يَنْتَشِرُ حِينَئِذٍ)؛ أي: وقت دخول الليل، ومعناه أنه يخاف على الصبيان ذلك الوقت من إيذاء الشياطين؛ لكثرتهم حينئذٍ. (فَإِذَا ذَهَبَ سَاعَةٌ مِنَ اللَّيْلِ فَخَلُّوهُمْ) بالخاء المعجمة، من التخلية، هكذا في نُسخ مسلم، قال في "الفتح": قوله: "فخلّوهم" كذا للأكثر بفتح الخاء المعجمة، وللسرخسيّ بضم الحاء المهملة، قال ابن الجوزيّ: إنما خيف على الصبيان في تلك الساعة؛ لأن النجاسة التي تلوذ بها الشياطين موجودة معهم غالبًا، والذِّكر الذي يُحرز منهم مفقود من الصبيان غالبًا، والشياطين عند انتشارهم يتعلقون بما يمكنهم التعلق به، فلذلك خيف على الصبيان في ذلك الوقت، والحكمة في انتشارهم حينئذ أن حركتهم في الليل أمكن منها لهم في النهار؛ لأن الظلام أجمع للقوى الشيطانية من غيره، وكذلك كل سواد، ويقال: إن الشياطين تستعين بالظَّلْمة، وتكره النور، وتشأم به، ولهذا قال في حديث أبي ذرّ رضي الله عنه فيما يقطع الصلاة:"قال: الكلب الأسود شيطان"، أخرجه مسلم

(2)

.

(وَأَغْلِقُوا الأَبْوَابَ) من الإغلاق، فلهذا يقال: الباب مُغْلَق، ولا يقال: مغلوق، ووقع في رواية للبخاريّ:"وأغلق بابك"، فقال في "العمدة": وإنما قال: "فكُفُّوا" بصيغة الجمع، وقال:"وأغلق" بصيغة الإفراد؛ لأن المراد بقوله: "أغلق" لكل واحد، وهو عامّ بحسب المعنى، أو هو في معنى المفرد؛

(1)

"القاموس المحيط" ص 727.

(2)

"الفتح" 7/ 569، و"عمدة القاري" 15/ 173، كتاب "بدء الخلق" رقم (3280).

ص: 82

إذ مقابلة الجمع بالجمع تفيد التوزيع، فكأنه قال: كُفَّ أنت صبيّك، كذا قاله الكرمانيّ

(1)

.

(وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ) فيه أن ذِكر اسم اللَّه تعالى مع فعل هذه المأمورات هو الحصن الحصين من الشياطين، (فَإِنَّ الشَّيْطَانَ) الفاء للتعليل؛ أي: لأن الشيطان (لَا يَفْتَحُ بَابًا مُغْلَقًا، وَأَوْكُوا)؛ أي: اربطوا (قِرَبَكُمْ) بكسر القاف، وفتح الراء: جَمْع قِربة، وعاء من جلد، (وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ، وَخَمِّرُوا آنِيَتَكُمْ) من التخمير، وهو التغطية، (وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ، وَلَوْ أَنْ تَعْرُضُوا عَلَيْهَا شَيْئًا) قال الطيبيّ رحمه الله: هو بضمّ الراء، وكسرها، والأول أصحّ، والمذكور بعد "لو" فاعل فعل مقدّر؛ أي: ولو ثبت أن تعرُضوا عليها شيئًا، وجواب "لو" محذوفٌ؛ أي: لو خمّرتموها عرضًا بشيء، نحو العُود وغيره، وذكرتم اسم اللَّه تعالى لكان كافيًا، والمقصود هو ذِكر اسم اللَّه تعالى مع كل فعل؛ صيانةً عن الشيطان، والوباء، والحشرات الهوَامّ. انتهى

(2)

.

(وَأَطْفِئُوا مَصَابِيحَكُمْ") أمرٌ من الإطفاء، إنما أَمر بذلك لأنه جاء في "الصحيح":"أن الفويسقة جرّت الفتيلة، فأحرقت أهل البيت"، وهو عامّ يدخل فيه السراج وغيره، وأما القناديل المعلقة فإن خيف حريق بسببها دخلت في الأمر بالإطفاء، وإن أُمن ذلك، كما هو من الغالب، فالظاهر أنه لا بأس بها؛ لانتفاء العلة، وسبب ذلك أنه صلى على خُمرة، فجرّت الفتيلةَ الفأرةُ فأحرقت من الخُمرة مقدار الدرهم، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم ذلك. نبّه عليه ابن العربيّ، وفي "سنن أبي داود" عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:"جاءت فأرة، فأخذت تجر الفتيلة، فجاءت بها، وألقتها بين يدي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على الخمرة التي كان قاعدًا عليها، فأحرقت منها موضع درهم"

(3)

.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تخريجه، وبقيّة مسائله قبل ثلاثة أحاديث، وللَّه الحمد والمنّة.

(1)

"عمدة القاري" 15/ 173.

(2)

"الكاشف عن حقائق السنن" 9/ 2887.

(3)

"عمدة القاري" 15/ 174.

ص: 83

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5240]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، أَخْبَرَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ، حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ نَحْوًا مِمَّا أَخْبَرَ عَطَاءٌ، إِلَّا أَنَّهُ لَا يَقُولُ: "اذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عز وجل").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ) الأثرم الْجُمحيّ، أبو محمد المكيّ، ثقةٌ ثبتٌ [4](ت 126)(ع) تقدم في "الإيمان" 21/ 184.

والباقون ذُكروا قبله.

[تنبيه]: رواية عمرو بن دينار، عن جابر رضي الله عنه هذه لم أجد من ساقها بتمامها، فليُنظر، واللَّه تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5241]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُثْمَانَ النَّوْفَلِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، بِهَذَا الْحَدِيثِ، عَنْ عَطَاءٍ، وَعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، كَرِوَايَةِ رَوْحٍ).

رجال هدا الإسناد: خمسة:

1 -

(أَحْمَدُ بْنُ عُثْمَانَ النَّوْفَلِيُّ) أبو عثمان البصريّ، يُلقّب أبا الجوزاء، ثقةٌ [11](ت 246)(م ت س) تقدم في "الإيمان" 65/ 369.

والباقون ذُكروا في الباب، و"أَبُو عَاصِمٍ" هو: الضحّاك بن مخلد النبيل.

[تنبيه]: رواية أبي عاصم، عن ابن جريج هذه ساقها النسائيّ رحمه الله في "الكبرى"، فقال:

(10582)

- أخبرنا أحمد بن عثمان، قال: حدّثنا أبو عاصم، قال: حدّثنا ابن جريج، قال: أخبرني عطاء، أنه سمع جابرًا يقول: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "أغلقوا أبوابكم، واذكروا اسم اللَّه، فإن الشيطان لا يفتح مُغْلَقًا، وأوكوا قِرَبكم، واذكروا اسم اللَّه، وخَمِّروا آنيتكم، واذكروا اسم اللَّه، ولو أن تَعْرُضوا عليها شيئًا، وأطفئوا المصابيح". قال ابن جريج: وأخبرني

ص: 84

عمرو بن دينار أنه سمع جابرًا يُخبر نحو ما أخبرني عطاء، غير أنه لا يقول:"اذكروا اسم اللَّه". انتهى

(1)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5242]

(2013) - (وَحَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، حَدَّثَنَا أَبُو الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ (ح) وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا أَبُو خَيْثَمَةَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا تُرْسِلُوا فَوَاشِيَكُمْ

(2)

، وَصِبْيَانَكُمْ، إِذَا غَابَتِ الشَّمْسُ، حَتَّى تَذْهَبَ فَحْمَةُ الْعِشَاءِ، فَإِنَّ الشَّيَاطِينَ تَنْبَعِثُ إِذَا غَابَتِ الشَّمْسُ، حَتَّى تَذْهَبَ فَحْمَةُ الْعِشَاءِ").

رجال هذين الاسنادين: خمسة:

وقد تقدّم الإسناد الأول نفسه قبل أربعة أحاديث، وهما من رباعيّات المصنّف رحمه الله، (390 و 391) من رباعيّات الكتاب، و"أبو خيثمة" هو: زهير بن معاوية المذكور قبله.

شرح الحديث:

(عَنْ جَابِرٍ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا تُرْسِلُوا فَوَاشِيَكُمْ) قال أهل اللغة: الفواشي: كلُّ منتشر من المال، كالإبل، والغنم، وسائر البهائم، وغيرها، وهي جمع فاشية؛ لأنها تفشو؛ أي: تنتشر في الأرض، قاله النوويّ

(3)

.

ووقع في بعض النسخ: "مواشيكم"، وهو جمع ماشية، وهي المال من الإبل، والغنم، قاله ابن السكّيت، وجماعة، وبعضهم يجعل البقر من الماشية، قاله الفيّوميّ

(4)

.

[تنبيه]: جعل العسكريّ في "تصحيفاته": "مواشيكم" من التصحيفات، فقال: يُصَحِّفون فواشيكم بمواشيكم، وفَحْمة بقَحَمة، وإنما الرواية عند أهل الثبت والضبط:"فواشيكم" بالفاء، والواحدة فاشية، وهي ما ينتشر، ويفشو من

(1)

"السنن الكبرى" 6/ 187.

(2)

وفي نسخة: "مواشيكم".

(3)

"شرح النوويّ" 13/ 186.

(4)

"المصباح المنير" 2/ 574.

ص: 85

الإبل، والغنم، وغيرها، ومن لا يضبط يقول:"مواشيكم" على أنها جمع ماشية، وأكثر العرب ليسوا أصحاب مواشي. انتهى

(1)

.

(وَصِبْيَانَكُمْ، إِذَا غَابَتِ الشَّمْسُ، حَتَّى تَذْهَبَ فَحْمَةُ الْعِشَاءِ) -بفتح الفاء، وسكون الحاء المهملة-؛ أي: ظُلمتها، وسوادها، جَمْعه: فِحامٌ، وفُحُومٌ

(2)

، وفسَّرها بعضهم هنا بإقباله، وأول ظلامه، وكذا ذكره صاحب "نهاية الغريب" قال: ويقال للظلمة التي بين صلاتي المغرب والعشاء: الفحمة، وللتي بين العشاء والفجر: الْعَسْعَسة، قاله النوويّ

(3)

.

وقال العسكريّ: وأما قوله: "فحمة العشاء" فمنهم من يرويه بضم الفاء، ومنهم من يرويه بفتحها، والروايتان صحيحتان، يقال: فُحْمة، وفَحْمة العشاء؛ يعني به: سواد الليل وظلمته، وإنما يكون ذلك في أول الليل، وأما من رواه قحمة، بالقاف فهو خطأ وتصحيف. انتهى.

وقال أيضًا: عن ابن الأعرابيّ قال: فحمة العشاء من لدن المغرب إلى العشاء، وقال الفزاريّ: من لدن العشاء إلى نصف الليل، وقد أفحم القومُ: إذا أناخوا في فحمة الليل، وقال الغنويّ: إنما الفحمة في القيظ أولَ الليل، وليست لليل الشتاء فحمة؛ لأنه لا حرّ فيه، فيحبسهم، وإنما يُفحمون إذا أقاموا فحمة العشاء؛ ليسكن عنهم الحرّ، ويبرد الليل، ثم يسيرون ليلتهم. انتهى

(4)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: ضبطُ الفَحْمة بضمّ الفاء لم أجده في "القاموس"، ولا في "شرحه"، ولا في "الصحاح"، ولا في "اللسان"، فليُنظر، واللَّه تعالى أعلم.

قال في "القاموس"، و"شرحه": والفَحْمة من الليل: أوله، أو أشدّ سواده؛ أي: سواد أوله، أو أشده سوادًا، أو ما بين غروب الشمس إلى نوم الناس، سُميت بذلك لحرّها؛ لأن أول الليل أحَرّ من آخره، ومنه الحديث:"ضُمُّوا فواشيكم حتى تذهب فَحْمة العشاء"؛ أي: شدة سواد الليل، وظُلمته،

(1)

"تصحيفات المحدثين" للعسكريّ 1/ 194.

(2)

"القاموس" ص 978.

(3)

"شرح النوويّ" 13/ 186.

(4)

"تصحيفات" 1/ 195 - 196.

ص: 86

وإنما يكون ذلك في أوله، والتي بين العتمة والغداة: العسعسة، قال ابن بَرّيّ: حَكَى حمزة بن الحسن الأصبهانيّ، أن أبا الفضل قال: أخبرنا أبو معمر عبد الوارث، قال: كنا بباب بكر بن حبيب، فقال عيسى بن عُمر في عرض كلام له: قحمة العشاء، فقلنا: لعلها فحمة العشاء، فقال: هي قحمة بالقاف، لا يُختلف فيها، فدخلنا على بكر بن حبيب، فحكيناها له، فقال: هي بالفاء لا غير؛ أي: فَوْرَته. انتهى

(1)

.

(فَإِنَّ الشَّيَاطِينَ) الفاء تعليليّة؛ أي لأن الشياطين (تَنْبَعِثُ)؛ أي: تنتشر، وتتفرّق (إِذَا غَابَتِ الشَّمْسُ، حَتَّى تَذْهَبَ فَحْمَةُ الْعِشَاءِ")؛ أي: وبعد ذهابها لا ينبعثون، فلا يحصل منهم ضرر، فلكم أن ترسلوا فواشيكم وصبيانكم، واللَّه تعالى أعلم.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث جابر رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [10/ 5242 و 5243](2013)، و (أبو داود)(2604)، و (الحميديّ) في "مسنده"(2/ 535)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 312 و 384 و 395)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(5/ 144)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(2/ 90)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(3/ 306)، و (ابن الجعد) في "مسنده"(1/ 381)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 256)، واللَّه تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5243]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أبي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِنَحْوِ حَدِيثِ زُهَيْرٍ).

قال الجامع عفا اللَّه عنه: قد تقدّم هذا الإسناد نفسه قبل أربعة أحاديث، و"عبد الرحمن" هو: ابن مهديّ، و"سفيان" هو الثوريّ.

(1)

"تاج العروس" 1/ 7843 - 7844.

ص: 87

[تنبيه]: رواية سفيان الثوريّ، عن أبي الزبير هذه لم أجد من ساقها، فليُنظر، واللَّه تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5244]

(2514) - (وَحَدَّثَنَا عَمْرٌو النَّاقِدُ، حَدَّثَنَا هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُسَامَةَ بْنِ الْهَادِ اللَّيْثيُّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَكَمِ، عَنِ الْقَعْقَاعِ بْنِ حَكِيمٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "غَطُّوا الإِنَاءَ، وَأَوْكُوا السِّقَاءَ، فَإِنَّ فِي السَّنَةِ لَيْلَةً يَنْزِلُ فِيهَا وَبَاءٌ، لَا يَمُرُّ بِإِنَاءٍ لَيْسَ عَلَيْهِ غِطَاءٌ، أَوْ سِقَاءٍ لَيْسَ عَلَيْهِ وِكَاءٌ، إِلَّا نَزَلَ فِيهِ مِنْ ذَلِكَ الْوَبَاءِ").

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(عَمْرٌو النَّاقِدُ) هو: عمرو بن محمد بن بُكير، أبو عثمان البغداديّ، نزل الرّقّة، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 223)(خ م د س) تقدم في "المقدمة" 4/ 23.

2 -

(هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ) بن مسلم الليثيّ مولاهم، أبو النضر البغداديّ، لقبه قيصر، ثقةٌ ثبتٌ [9](ت 207)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 36.

3 -

(يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُسَامَةَ بْنِ الْهَادِ اللَّيْثِيُّ) أبو عبد اللَّه المدنيّ، ثقةٌ مكثرٌ [5](ت 139)(ع) تقدم في "الإيمان" 13/ 159.

4 -

(يَحْيَى بْنُ سَعِيدِ) بن قيس الأنصاريّ، أبو سعيد المدنىّ القاضي، ثقةٌ ثبتٌ [5](ت 144) أو بعدها (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 36.

5 -

(جَعْفَرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَكَمِ) الأنصاريّ، والد عبد الحميد المدنيّ، ثقةٌ [3](بخ م 4) تقدم في "الإيمان" 22/ 187.

6 -

(الْقَعْقَاعُ بْنُ حَكِيمٍ) الكنانيّ المدنيّ، ثقةٌ [4](بخ م 4) تقدم في "الإيمان" 25/ 204.

والباقيان ذُكرا في الباب.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من ثُمانيّات المصنّف، وهو مسلسل بالمدنيين من يزيد بن الهاد، وفيه أربعة من التابعين روى بعضهم عن بعض: يزيد، ويحيى، وجعفر، والقعقاع،

ص: 88

ورواية الأولين من رواية الأقران، فكلاهما من الطبقة الخامسة، واللَّه تعالى أعلم.

[تنبيه آخر]: قال الحافظ أبو عليّ الجيّاني في "التقييد" بعد أن ساق سند مسلم هذا ما نصّه: هكذا إسناد هذا الحديث عن أبي العبّاس الرازيّ، وفي النسخة المقروءة على الْجُلوديّ: حدّثني يزيد بن عبد اللَّه بن أُسامة بن الهاد، ويحيى بن سعيد -بواو العطف- عن جعفر، وكذلك عن أبي العلاء بن ماهان، والمحفوظ في هذا الإسناد: الليث، عن يزيد بن عبد اللَّه، عن يحيى بن سعيد، عن جعفر بن عبد اللَّه بن الحكم.

وهكذا خرّجه أبو مسعود، عن مسلم: حدّثنا أبو عمر أحمد بن محمد، قال: نا عبد الوارث بن سفيان، قال: نا قاسم بن أصبغ، قال: نا الحارث بن أبي أسامة، قال: نا أبو النضر هاشم بن القاسم، قال: نا الليث، قال: حدّثني يزيد بن عبد اللَّه بن أسامة الليثيّ، عن يحمص بن سعيد، عن جعفر بن عبد اللَّه بن الحكم، عن القعقاع بن حكيم، عن جابر بن عبد اللَّه، مرفوعًا.

حدّثنا أبو عمر النّمَريّ، قال: نا عبد اللَّه بن محمد بن يوسف الفَرَضيّ، قال: نا أبو الحسن عليّ بن القاسم بن العبّاس بن الفضل بن شاذان الرازيّ، قال: نا أبو محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازيّ، قال: نا أبو زرعة الرازيّ، قال: نا يحيى بن عبد اللَّه بن بُكير، قال: نا الليث، عن ابن الهادي، عن يحيى بن سعيد، عن جعفر بن عبد اللَّه بن الحكم، عن القعقاع بن حكيم، عن جابر بن عبد اللَّه، مرفوعًا. انتهى كلام الجيّانيّ رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: خلاصة ما ذكره الجيّانيّ رحمه الله أنه وقع اختلاف في هذا الإسناد، هل هو "عن يزيد بن عبد اللَّه، عن يحيى بن سعيد"، أو عن يزيد بن عبد اللَّه، ويحيى بن سعيد بالعطف؟ والمحفوظ أن يحيى شيخ ليزيد، وليس معطوفًا عليه، كما هو الموجود في معظم النُّسخ، فليُتنبّه، واللَّه تعالى أعلم.

(1)

"تقييد المهمل" 3/ 895.

ص: 89

شرح الحديث:

(عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ) رضي الله عنهما أنه (قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "غَطُّوا الإِنَاءَ) بفتح الغين المعجمة، وضمّ الطاء المهملة أمرٌ من التغطية؛ أي: اجعلوا عليه ساترًا، ولا تتركوه مكشوفًا، (وَأَوْكُوا السِّقَاءَ) بقطع الهمزة، من الإيكاء رباعيًّا، وتقدّم أن فيه لغةً قليلةً، وهي وَكَى يَكِي ثلاثيًّا، والمعنى: اربطوا فمه بالوِكاء، وهو ما يُربط به الشيء، ثم ذكر علّة الأمر بما ذُكر بالفاء التعليليّة، فقال:(فَإِنَّ فِي السَّنَةِ لَيْلَةً يَنْزِلُ فِيهَا وَبَاءٌ) قال النوويّ رحمه الله: الوباء يُمَدّ، ويُقصر، لغتان، حكاهما الجوهريّ وغيره، والقصر أشهر، قال الجوهريّ: جمع المقصور أوباء، وجمع الممدود أوبية، قالوا: والوباء مرض عامّ يُفضي إلى الموت غالبًا. انتهى

(1)

.

وقال الفيّوميّ رحمه الله: الوَبَاءُ بالهمز مرضٌ عامّ يُمَدّ، ويُقصَر، ويُجمع الممدود على أَوْبِئَةٍ، مثل مَتاع وأمتعة، والمقصور على أَوْبَاءٍ، مثلُ سبب وأسباب، وقد وَبئَتِ الأرضُ تَوْبَأُ، من باب تَعِبَ وَبْئًا، مثل فلس: كَثُر مَرَضها، فهي وَبِئَةٌ، ووَبِيئَةٌ، على فَعِلَة، وفَعِيلة، ووُبِئَتْ بالبناء للمفعول، فهي مَوْبُوءَةٌ؛ أي: ذات وباء. انتهى

(2)

.

وقال الأبيّ -بعد ذكر تفسير الجوهريّ للوباء-: قلت: الوباء المفسّر بما ذكره الجوهريّ هو الوباء المعروف، والأظهر أنه ليس المرادَ في الحديث، ويأتي الكلام عليه، وإنما هو وباء آخر، والنزول حقيقة إنما هو في الأجسام متحيّزة، ففيه أن هذا الشيء الذي ينزل متحيّز، واللَّه سبحانه أعلم بحقيقته. انتهى

(3)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا البحث الذي ذكره الأبيّ مما لا معنى له، فما المانع من كون المراد بالوباء هو الوباء المعروف، وأيّ وباء غيره؟، وما الداعي ليكون جسمًا متحيّزًا، أو غير متحيّز؟، هذا كلّه تكلّف وتعقيد لمعنى الحديث الواضح في الوباء المعروف عند أهل اللغة بلا حجة، ولا برهان، واللَّه تعالى المستعان.

(1)

"شرح النوويّ" 13/ 186 - 187.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 646.

(3)

"شرح الأبيّ" 5/ 331.

ص: 90

وقوله: (لَا يَمُرُّ بِإِنَاءٍ) جملة في محلّ رفع نعت لـ "وباءٌ"، وقوله:(لَيْسَ عَلَيْهِ غِطَاءٌ) في محلّ جرّ نعت لـ "إناء"، والغطاء بالكسر، وزانُ كتاب: السِّتْر، وهو ما يُغطَّى به، وجمعه أغطيةٌ، مأخوذ من قولهم: غَطَا الليل يَغْطُو: إذا سترت ظلمته كلَّ شيء

(1)

. (أَوْ سِقَاءٍ)"أو" هنا للتنويع، (لَيْسَ عَلَيْهِ وِكَاءٌ) بالكسر: ما يُشدّ به رأس القِرْبة، ونحوها. (إِلَّا نَزَلَ فِيهِ)؛ أي: في المذكور من الإناء، والسقاء، (مِنْ ذَلِكَ الْوَبَاءِ") "من" هنا للتبعيض؛ أي: بعض ذلك الوباء النازل.

قال الشوكانيّ رحمه الله: والتعليل بقوله: "فإن في السنة ليلةً" يُشعر بأن شرعية التخمير للوقاية عن الوباء، وكذلك الإيكاء، وقد تكلف بعضهم لتعيين هذه الليلة، ولا دليل له على ذلك. انتهى

(2)

.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث جابر بن عبد اللَّه رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [10/ 5244 و 5245](2014)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 355)، و (عبد بن حُميد) في "مسنده"(1140)، و (البخاريّ) في "الأدب المفرد"(1230)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(5/ 145)، و (البيهقيّ) في "شُعَب الإيمان"(5/ 127)، وفوائد الحديث تقدّمت، وللَّه الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5245]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ الْجَهْضَمِيُّ، حَدَّثَنِي أَبِي، حَدَّثَنَا لَيْثُ بْنُ سَعْدٍ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ، بِمِثْلِهِ، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ:"فَإِنَّ فِي السَّنَةِ يَوْمًا يَنْزِلُ فِيهِ وَبَاءٌ"، وَزَادَ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ: قَالَ اللَّيْثُ: فَالأَعَاجِمُ عِنْدَنَا يَتَّقُونَ ذَلِكَ

(3)

فِي كَانُونَ الأوَّلِ).

(1)

"المصباح المنير" 2/ 449.

(2)

"نيل الأوطار" 1/ 86.

(3)

وفي نسخة: "يتّقون في ذلك".

ص: 91

رجال هذا الإسناد: ثلاثة:

1 -

(نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ الْجَهْضَمِيُّ) البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ، طُلب للقضاء، فامتنع [10](ت 250) أو بعدها (ع) من مشايخ الجماعة بلا واسطة تقدم في "المقدمة" 5/ 30.

2 -

(أَبُوهُ) عليّ بن نصر بن عليّ الْجَهْضميّ البصريّ، ثقةٌ، من كبار [9](ت 187)(ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 126.

و"ليث بن سعد" ذُكر قبله.

وقوله: ("فَإِنَّ فِي السَّنَةِ يَوْمًا. . . إلخ") قال النوويّ رحمه الله: قوله: "يومًا"، وفي رواية:"ليلةً" لا منافاة بينهما؛ إذ ليس في أحدهما نفي الآخر، فهما ثابتان. انتهى

(1)

.

وقوله: (قَالَ اللَّيْثُ) هو ابن سعد راوي الحديث.

وقوله: (يَتَّقُونَ ذَلِكَ) وفي نسخة: "يتقون في ذلك"، قال النوويّ رحمه الله: معنى "يتقون ذلك"؛ أي: يتوقعونه، ويخافونه.

وقوله: (فِي كَانُونَ الأَوَّلِ) قال النوويّ رحمه الله: "كانون" غير مصروف؛ لأنه عَلَمٌ أعجميّ، وهو الشهر المعروف. انتهى

(2)

.

وقال صاحب "التكملة": كانون الأول اسم لشهر معروف، وهو شهر ديسمبر، قال: وليس في توقّعهم حجة للمسلمين، وإنما المذكور في الحديث يوم، أو ليلة، ولا سبيل لتعيينهما. انتهى

(3)

.

وقال في "القاموس" و"شرحه": والكانون الأول والآخر شهران في قلب الشتاء، رُوميّةٌ، قال الأزهريّ: وهما عند العرب: الهراران، والهباران، وهما شهرا سمقاح، وقماح. انتهى

(4)

.

وقال الأبيّ في "شرحه" متعقّبًا ما ذكره الليث من كون ذلك في الكانون

(1)

"شرح النوويّ" 13/ 187.

(2)

"شرح النوويّ" 13/ 187.

(3)

"تكملة فتح الملهم" 3/ 661.

(4)

"تاج العروس من جواهر القاموس" 1/ 8154.

ص: 92

الأول، فراجع شرحه، وإنما لم أنقله بلفظه؛ لأن عبارته غير واضحة، وأيضًا لا حاجة إلى التعقّب على كلام الليث، فإنه لم يَحْمِل الحديث عليه قطعًا، وإنما ذكر أن الأعاجم يتّقون ذلك، فيَحْتَمِل أن يكون هو المراد بالحديث، واللَّه تعالى أعلم.

[تنبيه]: رواية عليّ بن نصر، عن الليث هذه لم أجد من ساقها، فليُنظر، واللَّه تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5246]

(2015) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَمْرٌو النَّاقِدُ، وَزُهَيْرُ بْن حَرْبٍ، قَالُوا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "لَا تَتْرُكُوا النَّارَ فِي بُيُوتِكُمْ حِينَ تَنَامُونَ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ) بن أبي عمران ميمون الهلاليّ، أبو محمد الكوفيّ، ثمّ المكيّ، ثقةٌ حافظٌ فقيهٌ إمام حجةٌ، من كبار [8](ت 198) وله (91) سنةً (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 383.

2 -

(سَالِمُ) بن عبد اللَّه بن عمر بن الخطاب القرشيّ العدويّ، أبو عمر، أو أبو عبد اللَّه المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ عابدٌ فاضل، كان يشبّه بأبيه في الهدي والسّمت، من كبار [3] مات في آخر سنة (106) على الصحيح (ع) تقدم في "الإيمان" 14/ 162.

3 -

(أَبُوهُ) عبد اللَّه بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما الْعَدويّ، وُلد بعد المبعث بيسير، واستُصغر يوم أُحد، وهو ابن أربع عشرة سنةً، ومات سنة (3 أو 74)(ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 102.

والباقون ذُكروا في الباب.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وفيه رواية الراوي عن أبيه، وتابعيّ عن تابعيّ، وأن سالِمًا أحد الفقهاء السبعة عند بعضهم، وأن صحابيّه أحد العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة، وكان من أشدّ الناس اتّباعًا للأثر رضي الله عنه.

ص: 93

شرح الحديث:

(عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ) عبد اللَّه بن عمر رضي الله عنهما (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) أنه (قَالَ: "لَا تَتْرُكُوا النَّارَ فِي بُيُويكُمْ حِينَ تَنَامُونَ") قيّده بالنوم؛ لحصول الغفلة به غالبًا، ويُستنبط منه أنه متى وُجدت الغفلة حصل النهي، قاله في "الفتح"

(1)

.

وقال النوويّ رحمه الله: هذا عامّ يدخل فيه نار السراج وغيرها، وأما القناديل المعلّقة في المساجد وغيرها، فإن خيف بسببها حريق دخلت في الأمر بالإطفاء، وإن حصل الأمن منها، كما هو الغالب فالظاهر أنه لا بأس بها؛ لانتفاء العلّة؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم عَلَّل الأمر بالإطفاء في الحديث السابق بأن الفُويسقة تُضرم على أهل البيت بيتهم، فإذا انتفت العلة زال المنع. انتهى

(2)

.

وقال القرطبيّ: جميع أوامر هذا الباب من باب الإرشاد إلى المصلحة، ويَحْتَمِل أن تكون للندب، ولا سيما في حقّ من يفعل ذلك بنيَّة امتثال الأمر.

وقال ابن العربيّ: ظنّ قوم أن الأمر بغلق الأبواب عامّ في الأوقات كلّها، وليس كذلك، وإنما هو مقيّد بالليل، وكأن اختصاص الليل بذلك؛ لأن النهار غالبًا محلّ التيقظ، بخلاف الليل، والأصل في جميع ذلك يرجع إلى الشيطان، فإنه هو الذي يسوق الفأرة إلى حرق الدار. انتهى

(3)

، واللَّه تعالى أعلم.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عبد اللَّه بن عمر رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [10/ 5246](2015)، و (البخاريّ) في "بدء الخلق"(6293) وفي "الأدب المفرد"(1/ 420)، و (أبو داود) في "سننه"(5246)، و (الترمذيّ) في "جامعه"(1813)، و (ابن ماجه) في "سننه"(3769)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(11/ 46)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(5/ 263)، و (الحميديّ) في "مسنده"(2/ 278)، و (أحمد) في

(1)

"الفتح" 14/ 261، كتاب "الاستئذان" رقم (6293).

(2)

"شرح النوويّ" 13/ 187.

(3)

"الفتح" 7/ 594، كتاب "بدء الخلق" رقم (3316).

ص: 94

"مسنده"(2/ 7 و 448)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(5/ 145 - 146)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(9/ 321 و 369 و 398)، و (الطبرانيّ) في "مسند الشاميين"(3/ 41)، واللَّه تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5247]

(2016) - (حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عَمْرٍو الأَشْعَثِيُّ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ، وَأَبُو عَامِرٍ الأَشْعَرِيُّ، وَأَبُو كُرَيْبٍ -وَاللَّفْظُ لأَبِي عَامِرٍ- قَالُوا: حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ بُرَيْدٍ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى، قَالَ: احْتَرَقَ بَيْتٌ عَلَى أَهْلِهِ بِالْمَدِينَةِ مِنَ اللَّيْلِ، فَلَمَّا حُدِّثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِشَأْنِهِمْ، قَالَ: "إِنَّ هَذِهِ النَّارَ إِنَّمَا هِيَ عَدُوٌّ لَكُمْ، فَإِذَا نِمْتُمْ فَأَطْفِئُوهَا عَنْكُمْ").

رجال هذا الإسناد: تسعة:

1 -

(سَعِيدُ بْنُ عَمْرٍو الأَشْعَثِيُّ) الكِنْديّ، أبو عثمان الكوفيّ، ثقةٌ [10](ت 230)(م س) تقدم في "المقدمة" 4/ 19.

2 -

(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ) الْهَمْدانيّ، أبو عبد الرحمن الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ فاضلٌ [10](ت 234)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 5.

3 -

(أَبُو عَامِرٍ الأَشْعَرِيُّ) عبد اللَّه بن برّاد بن يوسف بن أبي بُردة الكوفيّ، صدوقٌ [10](خت م) تقدم في "المقدمة" 6/ 51.

4 -

(أَبُو أُسَامَةَ) حمّاد بن أسامة بن زيد القرشيّ مولاهم الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار [9](201) وله (80) سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 51.

5 -

(بُرَيْدُ) بن عبد اللَّه بن أبي بُردة الأشعريّ الكوفيّ، ثقةٌ [6](ع) تقدم في "الإيمان" 16/ 171.

6 -

(أَبُو بُرْدَةَ) بن أبي موسى الأشعريّ، قيل: اسمه عامر، وقيل: الحارث، ثقةٌ [3](ت 104) وقيل غير ذلك، وقد جاوز الثمانين (ع) تقدم في "الإيمان" 16/ 171.

7 -

(أَبُو مُوسَى) الأشعريّ عبد اللَّه بن قيس بن سُليم بن حضّار الصحابيّ المشهور، مات سنة (50) أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 16/ 171.

ص: 95

والباقيان ذُكرا في الباب.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسلٌ بالكوفيين من أوله إلى آخره، وله فيه خمسة من الشيوخ قرن بينهم؛ لاتّحادهم في كيفيّة التحمّل والأداء، فكلهم سمعوا من لفظ أبي أسامة، ولذا قالوا: حدّثنا، وفيه رواية الراوي عن جده عن أبيه.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي مُوسَى) الأشعريّ رضي الله عنه أنه (قَالَ: احْتَرَقَ بَيْتٌ عَلَى أَهْلِهِ) قال الحافظ رحمه الله: لم أقف على تسميتهم. (بِالْمَدِينَةِ مِنَ اللَّيْلِ)"من" بمعنى "في"، ويَحْتَمِل أن تكون للتبعيض، (فَلَمَّا حُدِّثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) ببناء الفعل للمفعول، ولم يُعرف من حدّثه (بِشَأْنِهِمْ)؛ أي: بحالهم، وما وقع لهم من احتراق بيتهم، (قَالَ) صلى الله عليه وسلم:("إِنَّ هَذِهِ النَّارَ إِنَّمَا هِيَ عَدُوٌّ لَكُمْ)"العدوّ" يستوي فيه المذكّر والمؤنث، والمثنى والجمع، قاله في "العمدة"

(1)

.

وقال الفيّوميّ رحمه الله: العَدُوُّ: خلاف الصَّدِيق الْمُوَالِي، والجمع: أَعْدَاءٌ، وعِدًى، بالكسر، والقصر، قالوا: ولا نظير له في النعوت؛ لأن باب فِعَلٍ، وزانَ عِنَبٍ مختصّ بالأسماء، ولم يأت منه في الصفات إلا قومٌ عِدًى، وضمّ العين لغةً، ومثله سِوًى وسُوًى، وطِوًى وطُوًى، وتثبت الهاء مع الضم، فيقال: عُدَاةٌ، ويُجمع الأَعْدَاءُ على الأَعَادِي، وقال في "مختصر العين": يقع العَدُوُّ بلفظ واحد على الواحد المذكر، والمؤنث، والمجموع، قال أبو زيد: سمعت بعض بني عُقَيل يقولون: هُنّ وَليّات اللَّه، وعَدُوَّاتُ اللَّه، وأولياؤه، وأَعْدَاؤُهُ، قال الأزهريّ: إذا أُريد الصفة قيل: عدوَّةٌ، وقال في "البارع": إذا كان فَعُولٌ بمعنى فاعل استَوَى فيه المذكّر والمؤنث، فلا يؤنث بالهاء سوى عَدُوٍّ، فيقال فيه: عَدُوَّةٌ. انتهى

(2)

.

(1)

"عمدة القاري" 22/ 270.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 398.

ص: 96

وقال في "الفتح": قوله: "إن هذه النار إنما هي عدوّ لكم" هكذا أورده بصيغة الحصر مبالغةً في تأكيد ذلك، قال ابن العربيّ رحمه الله: معنى كون النار عدوًّا لنا أنها تنافي أبداننا، وأموالنا منافاةَ العدوّ، وإن كانت لنا بها منفعة، لكن لا يحصل لنا منها إلا بواسطة، فأطلق أنها عدوّ لنا؛ لوجود معنى العداوة فيها، واللَّه أعلم. انتهى

(1)

.

(فَإِذَا نِمْتُمْ) بكسر النون، من باب خاف يخاف، (فَأَطْفِئُوهَا عَنْكُمْ") بقطع الهمزة، من الإطفاء رباعيًّا؛ أي: أَخْمِدوها.

قال ابن دقيق العيد رحمه الله: يؤخذ من حديث أبي موسى رضي الله عنه سبب الأمر في حديث جابر بإطفاء المصابيح، وهو فنّ حسن غريب، ولو تُتُبّع لحصل منه فوائد، قال الحافظ: قد أفرده أبو حفص العكبريّ من شيوخ أبي يعلى بن الفرّاء بالتصنيف، وهو في المائة الخامسة، ووقفت على مختصر منه، وكأن الشيخ ما وقف عليه، فلذلك تمنى أن لو تتبع. انتهى، واللَّه تعالى أعلم.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [10/ 5247](2016)، و (البخاريّ) في "الاستئذان"(6294)، و (ابن ماجه) في "الأدب"(3770)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(5/ 263)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 399)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5520)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(5/ 146)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(13/ 277)، و (البزّار) في "مسنده"(8/ 148)، و (البيهقيّ) في "شُعَب الإيمان"(5/ 128)، وفوائد الحديث تقدّمت، وللَّه الحمد والمنّة.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(1)

"الفتح" 14/ 262، كتاب "الاستئذان" رقم (6294).

ص: 97

‌36 - (كِتَابُ الأَطْعِمَةِ)

هكذا في النسخة التي شرح عليها الأبيّ، والسنوسيّ، وصاحب "التكملة"، ووقع في غيرها "باب آداب الطعام. . . إلخ" بدون تقديم لفظ "كتاب الأطعمة"، فليُتنبّه، واللَّه تعالى أعلم.

و"الأطعمة" بفتح الهمزة: جمع طعام، قال المجد رحمه الله: الطَّعَام: البُرّ، وما يؤكل، جمعه أَطْعِمةٌ، وجَمْع جَمْعه أطعمات، وطَعِمه، كسَمِعه طَعْمًا، وطَعَامًا. انتهى

(1)

.

وقال الفيّوميّ رحمه الله: طَعِمْتُهُ أَطْعَمُهُ، من باب تَعِبَ طَعْمًا بفتح الطاء، ويقع على كل ما يُساغ، حتى الماءُ، وذَوْقُ الشيء، وفي التنزيل:{وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي} [البقرة: 249]، وقال صلى الله عليه وسلم في زمزم:"إِنَّهَا طَعَامُ طُعْمٍ"، بالضمّ؛ أي: يَشْبَع منه الإنسان، والطُّعْمُ بالضم: الطَّعَام، قال أبو خراش [من الطويل]:

أَرُدُّ شُجَاعَ الْبَطْنِ قَدْ تَعْلَمِينَهُ

وَأُوْثِرُ غَيْرِي مِنْ عِيَالِكِ بِالطُّعْمِ

وَأَغْتَبِقُ الْمَاءَ الْقَرَاحَ وَأَنْتَهِي

إِذَا الزَّادُ أَمْسَى لِلْمُزَلَّجِ

(2)

ذَا طَعْمِ

أراد بالأول الطعام، وبالثاني ما يُشتَهَى

(3)

.

وفي "التهذيب": الطُّعْمُ بالضم: الْحَبّ الذي يُلقى للطير، وإذا أَطْلق أهل الحجاز لفظ الطَّعَامِ عَنَوا به البرّ خاصةً، وفي العرف الطَّعَامُ: اسم لما يؤكل، مثل الشراب اسم لما يُشرب، وجمعه: أَطْعِمَةٌ، وأَطْعَمْتُهُ، فَطَعِمَ، واسْتَطْعَمْتُهُ:

(1)

"القاموس المحيط" ص 803.

(2)

"الْمُزَلَّجُ"؛ كمحمَّد: القليل، والْمُلْصق بالقوم، وليس منهم، والرجل الناقص، والدُّون من كل شيء. اهـ. "القاموس" ص 567.

(3)

"الصحاح" ص 641.

ص: 98

سألته أن يُطعمني، واسْتَطْعَمْتُ الطعام: ذُقْته؛ لأعرف طَعْمه، وتَطَعَّمْتُهُ كذلك، والطُّعْمَةُ: الرِّزْق، وجمعها طُعَمٌ، مثلُ غُرْفَةٍ وغُرَفٍ، والطُّعْمَةُ: المأكلة، وأَطْعَمَتِ الشجرةُ بالألف: أدرك ثمرها، والطَّعْمُ بالفتح: ما يؤديه الذَّوْق، فيقال: طَعْمُهُ حلو، أو حامض، وتغيّر طَعْمُهُ: إذا خرج عن وصفه الْخِلْقيّ، والطَّعْمُ: ما يُشتَهَى من الطعام، وليس للغثّ طَعْمٌ، والطَّعَمُ بفتحتين لغة كِلابيةٌ، وقولهم:"الطَّعْمُ عِلَّةُ الرِّبَا" المعنى: كونه مما يُطْعَم؛ أي: مما يُساغ جامدًا كان، كالحبوب، أو مائعًا، كالعصير، والدّهن، والْخَلّ، والوجه أن يُقرأ بالفتح؛ لأن الطُّعْمَ بالضمّ يُطلق، ويراد به الطَّعام، فلا يتناول المائعات، والطَّعْمُ بالفتح يُطلق، ويراد به ما يُتناول استطعامًا، فهو أعمّ. انتهى

(1)

.

(1) - (بابُ آدَابِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، وَأَحْكَامِهِمَا)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5248]

(2517) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ خَيْثَمَةَ، عَنْ أَبِي حُذَيْفَةَ، عَنْ حُذَيْفَةَ، قَالَ: كُنَّا إِذَا حَضَرْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم طَعَامًا لَمْ نَضَعْ أَيْدِيَنَا حَتى يَبْدَأَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَيَضَعَ يَدَهُ، وَإِنَّا حَضَرْنَا مَعَهُ مَرَّةً طَعَامًا، فَجَاءَتْ جَارِيَةٌ كَأَنَّهَا تُدْفَعُ، فَذَهَبَتْ لِتَضَعَ يَدَهَا فِي الطَّعَامِ، فَأَخَدَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِيَدِهَا، ثُمَّ جَاءَ أَعْرَابِيٌّ كَأَنَّمَا يُدْفَعُ، فَأَخَذَ بِيَدِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ الشَّيْطَانَ يَسْتَحِلُّ الطَّعَامَ، أَنْ لَا يُذْكَرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَإِنَّهُ جَاءَ بِهَذِهِ الْجَارِيَةِ؛ لِيَسْتَحِلَّ بِهَا، فَأَخَذْتُ بِيَدِهَا، فَجَاءَ بِهَذَا الأَعْرَابِيِّ؛ لِيَسْتَحِلَّ بِهِ، فَأَخَذْتُ بِيَدِهِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنَّ يَدَهُ فِي يَدِي مَعَ يَدِهَا").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(خَيْثَمَةُ) بن عبد الرحمن بن أبي سَبْرة الْجُعفيّ الكوفيّ، ثقةٌ، يُرسل [3] مات بعد سنة ثمانين (ع) تقدم في "الزكاة" 12/ 2312.

(1)

"المصباح المنير" 2/ 372 - 373.

ص: 99

2 -

(أَبُو حُذَيْفَةَ) سلمة بن صُهيب، ويقال: ابن صهيبة، ويقال: صهبة، ويقال: صهبان، ويقال: أصيهيب الْهَمْدانيّ، الأَرْحَبيّ الكوفيّ، ثقةٌ [3].

رَوَى عن حذيفة، وابن مسعود، وعليّ بن أبي طالب، وعائشة رضي الله عنهم.

وروى عنه أبو إسحاق السَّبِيعيّ، وعليّ بن الأقمر، وخيثمة بن عبد الرحمن.

ذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال يعقوب بن سفيان: اسم أبي حذيفة: يزيد بن صهيبة، وهو ثقةٌ، قال: وذكر أبو إسحاق السَّبِيعيّ أن اسمه سلمة.

أخرج له المصنّف، وأبو داود، والترمذيّ، والنسائيّ، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.

3 -

(حُذَيْفَةُ) بن اليمان، واسم اليمان حُسيل، أو حِسْل العبسيّ، حليف الأنصار الصحابيّ الجليل، من السابقين الأولين، وأبوه أيضًا صحابيّ، استُشهد بأُحد، ومات حُذيفة في أول خلافة عليّ سنة (36)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 457.

والباقون ذُكروا في الباب الماضي.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالكوفيين، وأن فيه ثلاثة من ثقات التابعين الكوفيين روى بعضهم عن بعض: الأعمش، عن خيثمة، عن أبي حُذيفة، وأن صحابيّه ابن صحابي رضي الله عنهما، وقد أعلمه النبيّ صلى الله عليه وسلم بما كان وبما يكون إلى أن تقوم الساعة، كما هو في "صحيح مسلم".

شرح الحديث:

(عَنْ حُذَيْفَةَ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: كُنَّا) معاشر أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم (إِذَا حَضَرْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم طَعَامًا) بالفتح تقدّم أنه اسم لما يُؤكل، (لَمْ نَضَعْ أَيْدِيَنَا)؛ أي: في ذلك الطعام، (حَتَّى يَبْدَأَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم)؛ أي: ليبارك ذلك الطعام بسبب وضع يده صلى الله عليه وسلم فيه، (فَيَضَعَ يَدَهُ، وَإِنَّا حَضَرْنَا مَعَهُ مَرَّةً)؛ أي: وقتًا من الأوقات، (طَعَامًا، فَجَاءَتْ جَارِيَةٌ) لم يُعرف اسمها، قاله صاحب "التنبيه"

(1)

، وقال

(1)

"تنبيه المعلم" ص 347.

ص: 100

القرطبيّ رحمه الله: الجارية في النساء كالغلام في الذكور، وهو ما دون البلوغ

(1)

. (كأَنَّهَا تُدْفَعُ) بالبناء للمفعول؛ أي: يدفعها دافع؛ يعني: أنها جاءت مسرعة، كما قال في الرواية الأخرى:"كأنما تُطرد"، وكذلك فعل الأعرابيّ، وكل ذلك إزعاج من الشيطان لهما؛ ليسبقا إلى الطعام قبل النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقبل التسمية، فيصل إلى غرضه من الطعام، ولمّا اطَّلع النبيّ صلى الله عليه وسلم على ذلك أخذ بيديهما، ويدي الشيطان منعًا لهم من ذلك، قاله القرطبيّ

(2)

.

(فَذَهَبَتْ لِتَضَعَ يَدَهَا فِي الطَّعَامِ، فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِيَدِهَا)؛ أي: الجارية، (ثُمَّ جَاءَ أَعْرَابِيٌّ) لا يُعرف اسمه، كما قال صاحب "التنبيه"

(3)

. (كَأَنَّمَا يُدْفَعُ)؛ أي: من شدّة سرعته فكأن دافعًا من ورائه يدفعه، وهو الشيطان، (فَأَخَذَ) النبيّ صلى الله عليه وسلم (بِيَدِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ الشَّيْطَانَ يَسْتَحِلُّ الطَّعَامَ) قال النوويّ رحمه الله: معنى "يَستَحِلّ": يتمكن من أكله، ومعناه: أنه يتمكن من أكل الطعام إذا شرع فيه إنسان بغير ذكر اللَّه تعالى، وأما إذا لم يشرع فيه أحد فلا يتمكن، وإن كان جماعة، فذكر اسم اللَّه بعضهم دون بعض لم يتمكن منه. انتهى

(4)

.

قال التوربشتيّ: قوله: معنى "يستحلّ الطعام": يجد سبيلًا إلى تطيير بركة الطعام بترك التسمية عليه في أول ما يتناوله المتناولون، وذلك حظّه من ذلك الطعام، ومعنى استحلال الطعام: هو أن تسمية اللَّه تعالى تمنعه عن الطعام، كما أن التحريم يمنع المؤمن عن تناول ما حُرّم عليه، والاستحلال: استنزال الشيء المحرّم محلّ الحلال، وهو في الأصل مستعار من حلّ العقدة.

قال الطيبيّ: كأنه أراد أن ترك التسمية في الطعام إذن للشيطان من اللَّه تعالى في تناوله، كما أن التسمية مَنْع له منه، فيكون استعارةً تبعيّةً. انتهى

(5)

.

(أنْ لَا يُذْكَرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ) ببناء الفعل للمفعول، و"أن" مصدريّة، واللام

(1)

"المفهم" 5/ 293.

(2)

"المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" 17/ 23.

(3)

"تنبيه المعلم" ص 347.

(4)

"شرح النوويّ" 13/ 189.

(5)

"الكاشف عن حقائق السنن" 9/ 2838.

ص: 101

مقدّرة، أو الوقت، قاله الطيبيّ

(1)

؛ أي: لئلا يُذكر. . . إلخ، أو وقت عدم ذكر اسم اللَّه عليه.

(وَإِنَّهُ)؛ أي: الشيطان (جَاءَ بِهَذِهِ الْجَارِيَةِ؛ لِيَسْتَحِلَّ بِهَا)؛ أي: يجعل الطعام الحاضر حلالًا له، (فَأَخَذْتُ بِيَدِهَا، فَجَاءَ بِهَذَا الأَعْرَابِيِّ؛ لِيَسْتَحِلَّ بِهِ، فَأَخَذْتُ بِيَدِهِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنَّ يَدَهُ فِي يَدِي مَعَ يَدِهَا") قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في معظم الأصول: "يدها"، وفي بعضها:"يدهما"، فهذا ظاهر، والتثنية تعود إلى الجارية والأعرابيّ، ومعناه: إن يدي في يد الشيطان مع يد الجارية والأعرابيّ، وأما على رواية "يدها" بالإفراد فيعود الضمير على الجارية، وقد حَكَى القاضي عياض رحمه الله أن الوجهَ التثنيةُ، قال النوويّ: والظاهر أن رواية الإفراد أيضًا مستقيمة، فإن إثبات يدها لا ينفي يد الأعرابيّ، وإذا صحّت الرواية بالإفراد وجب قبولها، وتأويلها على ما ذكرناه، واللَّه أعلم. انتهى كلام النوويّ رحمه الله

(2)

، وهو بحث نفيسٌ، واللَّه تعالى أعلم.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث حُذيفة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [1/ 5248 و 5249 و 5250](2017)، و (أبو داود) في "الأطعمة"(3766)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(4/ 173) وفي "عمل اليوم والليلة"(273)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 382 و 397)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(5/ 161)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): أن فيه ما يدلّ على مشروعية التسمية عند الطعام والشراب، وعلى بَرَكتها، قال النوويّ رحمه الله: فيه استحباب التسمية في ابتداء الطعام، وهذا مُجْمَع عليه.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: قوله: مجمع عليه، فيه نظر لا يخفى، فقد تعقّبه

(1)

"الكاشف عن حقائق السنن" 9/ 2838.

(2)

"شرح النوويّ" 13/ 189.

ص: 102

الحافظ في "الفتح"، فقال: وفي نقل الإجماع على الاستحباب نظرٌ، إلا إن أُريدَ بالاستحباب أنه راجح الفعل، وإلا فقد ذهب جماعة إلى وجوب ذلك، وهو قضية القول بإيجاب الأكل باليمين؛ لأن صيغة الأمر بالجميع واحدة. انتهى

(1)

.

قال الجامع: عندي أن القول بالوجوب هو الظاهر؛ لظهور حجته، واللَّه تعالى أعلم.

قال: وكذا يُستحب حَمْد اللَّه تعالى في آخره، كما سيأتي في موضعه -إن شاء اللَّه تعالى- وكذا تستحب التسمية في أول الشراب، بل في أول كل أمر ذي بال، كما ذكرنا قريبًا.

قال العلماء: ويستحب أن يجهر بالتسمية؛ ليُسْمِع غيره، وينبّهه عليها، ولو تَرَك التسمية في أول الطعام عامدًا، أو ناسيًا، أو جاهلًا، أو مكرهًا، أو عاجزًا لعارض آخر، ثم تمكّن في أثناء أكله منها يستحب أن يُسَمِّي، ويقول: بسم اللَّه أوله وآخره؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا أكل أحدكم، فليذكر اسم اللَّه، فإن نسي أن يذكر اللَّه في أوله، فليقل: بسم اللَّه أوله وآخره"، رواه أبو داود، والترمذيّ، وغيرهما، قال الترمذيّ: حديث حسن صحيح.

والتسميةُ في شرب الماء، واللبن، والعسل، والمرق، والدواء، وسائر المشروبات كالتسمية على الطعام في كل ما ذكرناه، وتحصل التسمية بقوله:"بسم اللَّه"، فإن قال:"بسم اللَّه الرحمن الرحيم" كان حسنًا.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: قوله: "فان قال: بسم اللَّه الرحمن الرحيم كان حسنًا"، فيه نظر؛ فإن الذي ثبت عنه صلى الله عليه وسلم قوله:"فليقل: باسم اللَّه"، فهذا هو الأحسن، وسيأتي اعتراض الحافظ عليه قريبًا.

قال: وسواء في استحباب التسمية الجُنُب، والحائض، وغيرهما، وينبغي أن يُسمي كلُّ واحد من الآكلين، فإن سمى واحد منهم حصل أصل السُّنَّة، نَصَّ عليه الشافعيّ، ويُستدل له بأن النبيّ صلى الله عليه وسلم أخبر أن الشيطان إنما يتمكن من الطعام إذا لم يُذكر اسم اللَّه تعالى عليه، ولأن المقصود يحصل بواحد، ويؤيده

(1)

"الفتح" 12/ 288 - 289، كتاب "الأطعمة" رقم (5376).

ص: 103

أيضًا ما سيأتي في حديث الذِّكر عند دخول البيت. انتهى كلام النوويّ رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: ظاهر النصوص يدلّ على أن التسمية على كل آكل، ولا بُدّ، والأدلة التي ذكرها النوويّ للاكتفاء بتسمية الواحد عن الجماعة ليست واضحة، فليُتأملّ، واللَّه تعالى أعلم.

وقال في "الفتح": المراد بالتسمية على الطعام قول: "بسم اللَّه" في ابتداء الأكل، وأصرح ما ورد في صفة التسمية ما أخرجه أبو داود، والترمذيّ، من طريق أم كلثوم، عن عائشة رضي الله عنها مرفوعًا:"إذا أكل أحدكم طعامًا، فليقل: بسم اللَّه، فإن نسي في أوله، فليقل: بسم اللَّه في أوله وآخره"، وله شاهد من حديث أمية بن مَخْشيّ، عند أبي داود، والنسائيّ، وأما قول النووي في أدب الأكل من "الأذكار": صفة التسمية من أهم ما ينبغي معرفته، والأفضل أن يقول:"بسم اللَّه الرحمن الرحيم"، فإن قال: بسم اللَّه كفاه، وحصلت السُّنَّة، فلم أر لِمَا ادّعاه من الأفضلية دليلًا خاصًّا، وأما ما ذكره الغزاليّ في آداب الأكل من "الإحياء" أنه لو قال في كل لقمة: بسم اللَّه كان حسنًا، وأنه يستحب أن يقول مع الأُولى: بسم اللَّه، ومع الثانية: بسم اللَّه الرحمن، ومع الثالثة: بسم اللَّه الرحمن الرحيم، فلم أر لاستحباب ذلك دليلًا، والتكرار قد بَيَّن هو وجهه بقوله: حتى لا يشغله الأكل عن ذكر اللَّه. انتهى

(2)

.

2 -

(ومنها): جواز الحلف من غير استحلاف، وقد تقدّم بيانه مرّات، وتفصيل الحال في استحبابه وكراهته.

3 -

(ومنها): بيان تسلّط الشيطان على بني آدم، إذا لم يعتصموا بذكر اللَّه تعالى، فيدفعهم إلى ما يُلحق بهم الضرر في دينهم، ودنياهم، فينبغي للعبد أن يتعوّذ، ويلجأ إلى اللَّه تعالى في أحواله كلّها، فقد قال اللَّه تعالى:{إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا} [فاطر: 6]، ولا يمكن اتخاذ عدوّ يَرَى من حيث لا يُرى إلا باللَّه الذي يراه، ولا يراه، أعاذنا اللَّه تعالى من إبليس وجنوده بمنّه وفضله.

(1)

شرح النوويّ" 13/ 189.

(2)

"الفتح" 12/ 287، كتاب "الأطعمة" رقم (5376).

ص: 104

4 -

(ومنها): بيان معجزة للنبيّ صلى الله عليه وسلم، حيث يرى ما لا يراه الحاضرون من تلاعب الشيطان بالجارية والأعرابيّ.

5 -

(ومنها): ما قاله القرطبيّ رحمه الله: يدلّ الحديث على أن للشيطان يدًا، وأنه يصيب من الطعام إذا لم يذكر اللَّه تعالى عليه، وهل هذه الإصابة أكلٌ، كما قد نَصَّ عليه حيث قال:"فإنَّ الشيطان يأكل بشماله، ويشرب بشماله"، وهو الظاهر، أو يكون شَمًّا للطعام يحصل له به من التغذي، كنحو ما يحصل لنا به من الأكل؟ قد قيل كلّ ذلك، وهو مُحْتَمِلٌ، والقدرة صالحة.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: الاحتمال الثاني الذي ذكره بقوله: أو يكون شمًّا للطعام. . . إلخ بعيد عن ظواهر النصوص، فلا يُلتفت إليه، بل الحقّ أن الشيطان يأكل حقيقةً، ويشرب حقيقةً، فتبصّر بالإمعان، واللَّه تعالى المستعان.

قال: واستحلال الشيطان الطعام الذي لا يُذكر اسم اللَّه عليه إنما هو عبارة عن تناوله منه على نحو ما ذكرناه.

وقيل: هو استحسانه رفع البَرَكة من ذلك الطعام، ورُوي عن وهب بن مُنَبِّه أنه قال: هم أجناس؛ فخالص الجنّ لا يأكلون، ولا يشربون، ولا يتناكحون، هم ريح، ومنهم أجناس يفعلون ذلك كلَّه، ويتوالدون، ومنهم: السعالي، والغِيلان، والقطاربة

(1)

. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا الذي رُوي عن وهب يحتاج إلى دليل، فليُتأمل، واللَّه تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5249]

(. . .) - (وَحَدَّثنَاهُ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ، أخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، أَخْبَرَنَا الأَعْمَشُ، عَنْ خَيْثَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي حُدَيْفَةَ الأَرْحَبِيِّ، عَنْ حُذَيفَةَ بْنِ الْيَمَانِ، قَالَ: كُنَّا إِذَا دُعِينَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى طَعَامٍ، فَذَكَرَ بِمَعْنَى حَدِيثِ أَبِي مُعَاوِيَةَ، وَقَالَ:"كَأَنَّمَا يُطْرَدُ"، وَفِي الْجَارِيَةِ:"كَأَنَّمَا تُطْرَدُ"،

(1)

جمع قُطْرُب: ذَكَر الْغِيلان، وصغار الجنّ. اهـ. "ق".

(2)

"المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" 17/ 23.

ص: 105

وَقَدَّمَ مَجِيءَ الأَعْرَابِيِّ فِي حَدِيثِهِ قَبْلَ مَجِيءِ الْجَارِيةِ، وَزَادَ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ:"ثُمَّ ذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ، وَأَكَلَ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عِيسَى بْنُ يُونُسَ) بن أبي إسحاق السَّبيعيّ الكوفيّ، نزل الشام مرابطًا، ثقةٌ مأمون [8](ت 187 أو 191)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 28.

والباقون ذُكروا في السند الماضي، وقبل ثلاثة أبواب.

وقوله: "الأرحبيّ" بفتح الهمزة، وسكون الراء، وفتح الحاء المهملة، بعدها موحّدة: نسبة إلى بني أرحب، وهو بطن من هَمْدان ولدِ أرحب بن دعام بن مالك بن معاوية بن صعب بن دومان بن بكيل بن جُشم بن خيوان بن نوف بن همدان، قاله في "اللباب"

(1)

.

وقوله: (كُنَّا إِذَا دُعِينَا) بالبناء للمجهول.

وقوله: (فَذَكَرَ. . . إلخ) فاعل "ذَكَر" ضمير عيسى بن يونس، وكذا فاعل "قال"، و"قَدم"، و"زاد" الآتية.

وقوله: ("كَأَنَّمَا يُطْرَدُ"، وَفِي الْجَارِيةِ: "كَأَنَّمَا تُطْرَدُ") هو بمعنى "يُدفع" الماضي.

وقوله: (وَقَدَّمَ مَجِيءَ الأَعْرَابِيِّ فِي حَدِيثِهِ. . . إلخ) قال النوويّ رحمه الله: قوله في الرواية الثانية: "وقَدَّم مجيء الأعرابيّ قبل مجيء الجارية"، عكس الرواية الأولى، والثالثةُ كالأولى، ووجه الجمع بينهما أن المراد بقوله في الثانية:"قَدَّم مجيء الأعرابيّ" أنه قدَّمه في اللفظ بغير حرف ترتيب، فذكره بالواو، فقال: جاء أعرابيّ، وجاءت جارية، والواو لا تقتضي ترتيبًا، وأما الرواية الأولى فصريحة في الترتيب، وتقديم الجارية؛ لأنه قال:"ثم جاء أعرابيّ"، و"ثُمَّ" للترتيب، فيتعيَّن حَمْل الثانية على الأُولى، ويَبْعُد حَمْله على واقعتين. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا الذي قاله النوويّ من التوجيه، والجمع بين

(1)

"اللباب في تهذيب الأنساب" 1/ 40 - 41.

(2)

"شرح النوويّ" 13/ 190.

ص: 106

الروايتين فيه نظر لا يخفى؛ فإن رواية عيسى أيضًا بـ "ثمّ"، لا بالواو، كما سيأتي في التنبيه التالي، ولا سيّما وقد قال صلى الله عليه وسلم:"إن الشيطان لمّا أعياه أن نَدَع ذِكْر اسم اللَّه على طعامنا، جاء بهذا الأعرابيّ يستحلّ به طعامنا، فلما حبسناه، جاء بهذه الجارية يستحلّ بها طعامنا"، فقد أوضح أن مجيء الأعرابيّ أول، ومجيء الجارية ثان، فلا وجه لِمَا قاله النوويّ، فتأمله بالإمعان.

والوجه عندي أن تُرَجّح رواية عيسى بتقديم الأعرابيّ على الجارية؛ لأنه تابعه على ذلك سفيان الثوريّ عند أحمد في "مسنده"(5/ 397)، والحاكم في "المستدرك"(4/ 121)، وحفص بن غياث، كما عند أبي عوانة في "مسنده"(5/ 161)، فاتّفق الثلاثة عن الأعمش في تقديم الأعرابيّ على الجارية، فتُقدَّم روايتهم على رواية أبي معاوية، وهو وإن كان أحفظ لرواية الأعمش من غيره إلا الثوريّ يقدَّم عليه فيه، ولا سيّما مع متابعة عيسى، وحفص بن غياث له، فتنبّه.

هذا هو الذي ظهر لي، وأما مسلم رحمه الله فظاهر صنيعه ترجيح رواية أبي معاوية، حيث أوردها مورد الأصل، ثم ذكر رواية سفيان الثوريّ الثالثة متابعةً لها، وهذا ترجيح وجيه، لكني لم أجد رواية سفيان إلا بتقديم الأعرابيّ، كرواية عيسى، فليُتأمل، واللَّه تعالى أعلم.

وقوله: (ثُمَّ ذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ، وَأَكَلَ)؛ يعني: أنه صلى الله عليه وسلم بعدما أخبر بواقعة دفع الشيطان للجارية، والأعرابيّ، وإمساك يديه مع أيديهما سمّى اللَّه تعالى، وأكل من ذلك الطعام، واللَّه تعالى أعلم.

[تنبيه]: رواية عيسى بن يونس، عن الأعمش هذه ساقها النسائيّ في "الكبرى" بسند المصنّف، فقال:

(10103)

- أخبرنا إسحاق بن إبراهيم، قال: أخبرنا عيسى بن يونس، قال: حدّثنا الأعمش، عن خيثمة، عن أبي حذيفة، عن حذيفة، قال: كنّا إذا كنّا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فدُعينا إلى طعام لم نضع أيدينا حتى يضع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يده، فدُعينا إلى طعام، فلم يضع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يده، فكففنا أيدينا، فجاء أعرابيّ كأنما يُطْرَد، فأهوى بيده إلى القصعة، فأخذ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بيده، فأجلسه، ثم جاءت جارية، فأهوت بيدها إلى القصعة، فأخذ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم-

ص: 107

بيدها، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"إن الشيطان لمّا أعياه أن نَدَع ذِكر اسم اللَّه على طعامنا، جاء بهذا الأعرابيّ يستحلّ به طعامنا، فلمّا حبسناه، جاء بهذه الجارية يستحلّ بها طعامنا، فواللَّه إن يده في يدي مع يدها"، ثم ذكر اسم اللَّه، فأكل. انتهى

(1)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5250]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِيهِ أَبُو بَكْرِ بْنُ نَافِعٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الأَعْمَشِ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَقَدَّمَ مَجِيءَ الْجَارِيةِ قَبْلَ مَجِيءِ الأَعْرَابِيٍّ).

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ نَافِعٍ) هو: محمد بن أحمد بن نافع الْعَبديّ البصريّ، مشهور بكنيته، صدوقٌ، من صغار [10] مات بعد (240)(م ت س) تقدم في "الإيمان" 12/ 158.

والباقون ذُكروا قبله وفي الباب الماضي.

وقوله: (وَقَدَّمَ مَجِيءَ الْجَارَيةِ قَبْلَ مَجِيءِ الأَعْرَابِيٍّ) فاعل "قَدَّم" ضمير سفيان الثوريّ.

[تنبيه]: هذا الذي قاله المصنّف رحمه الله من كون رواية الثوريّ بتقديم الجارية لم أجده، فقد أخرج الإمام أحمد روايته في "مسنده"(5/ 397)، فقال:

(23421)

- حدثنا عبد اللَّه، حدّثني أبي، ثنا عبد الرحمن، عن سفيان، عن الأعمش، عن خيثمة، عن أبي حذيفة

(2)

عن حذيفة، قال: كنّا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فأُتي بطعام، فجاء إعرابيّ كأنما يُطْرَد، فذهب يتناول، فأخذ النبيّ صلى الله عليه وسلم بيده، وجاءت جارية، كأنها تُطْرَد، فأهوت، فأخذ النبيّ صلى الله عليه وسلم بيدها، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"إن الشيطان لمّا أعييتموه جاء بالأعرابيّ، والجارية يستحلّ الطعام، إذا لم يُذْكَر اسم اللَّه عليه، بسم اللَّه، كلُوا". انتهى

(3)

.

(1)

"السنن الكبرى" للنسائيّ 6/ 76.

(2)

وقع في النسخة: "عن ابن حذيفة"، وهو غلط، فتنبّه.

(3)

"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 5/ 397.

ص: 108

فقد قدّم الأعرابيّ، على الجارية.

وكذا أخرجه الحاكم في "المستدرك"(4/ 121)، فقال:

(7088)

- حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، ثنا هارون بن سليمان الأصبهانيّ، ثنا عبد الرحمن بن مهديّ، ثنا سفيان، عن الأعمش، عن خيثمة بن عبد الرحمن، عن أبي حذيفة، عن حذيفة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه أُتي بطعام، فجاء أعرابيّ كأنما يُطْرَد، فتناول، فأخذ النبيّ صلى الله عليه وسلم يده، ثم جاءت جارية، فكأنما تُطْرَد، فأخذ النبيّ صلى الله عليه وسلم بيدها، ثم قال:"إن الشيطان لمّا أعييتموه جاء بالأعرابي، والجارية، ليستحلّ بهما الطعام، إذا لم يُذكَر اسم اللَّه عليه، بسم اللَّه، كلوا". انتهى

(1)

.

فقدَّم الأعرابيّ على الجارية أيضًا.

ومما يؤيّد ما قلنا أن الحديث أخرجه عبد الرزّاق من رواية زيد بن وهب، عن حذيفة رضي الله عنه، بتقديم الأعرابيّ أيضًا، قال:

(19563)

- أخبرنا عبد الرزاق، عن معمر، عن الأعمش، عن زيد بن وهب، عن حذيفة، قال: كنا إذا دُعينا إلى طعام، والنبيّ صلى الله عليه وسلم معنا لم نضع أيدينا حتى يضع يده، قال: فأُتينا بِجَفْنه، فكَفّ يده، فكففنا أيدينا، فجاء أعرابيّ كأنما يُطْرَد، فوضع يده فيها، فأخذ النبيّ صلى الله عليه وسلم بيده، فأجلسه، ثم جاءت جارية، فوقعت بها، فأخذ النبيّ صلى الله عليه وسلم، ثم قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "إن الشيطان يستحلّ طعام القوم إذا لم يذكروا عليه اسم اللَّه، وإن الشيطان لمّا رآنا كففنا أيدينا، جاء بهذا الرجل، وهذه الجارية، يستحلّ بهما طعامنا، والذي لا إله غيره إن يده لَمَعْ أيديهما

(2)

في يدي". انتهى

(3)

.

والحاصل أن ترجيح رواية عيسى بتقديم الأعرابيّ واضح، لكنّ مسلمًا إمام مطّلع، فلعلّه وقعت له رواية سفيان بتقديم الجارية كما قال، فليُنظر، واللَّه تعالى أعلم.

(1)

"المستدرك على الصحيحين" 4/ 121.

(2)

هكذا النسخة: "لَمَعْ أيديهما"، والظاهر أن الصواب "لَمَع يدها"، فليُحرّر.

(3)

"مصنف عبد الرزاق" 10/ 420.

ص: 109

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5251]

(2018) - (وحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى الْعَنَزِيُّ، حَدَّثَنَا الضَّحَّاكُ -يَعْنِي: أَبَا عَاصِمٍ- عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِذَا دَخَلَ الرَّجُلُ بَيْتَهُ، فَذَكَرَ اللَّهَ عِنْدَ دُخُولِهِ، وَعِنْدَ طَعَامِهِ، قَالَ الشَّيْطَانُ: لَا مَبِيتَ لَكُمْ، وَلَا عَشَاءَ، وَإِذَا دَخَلَ فَلَمْ يَذْكُرِ اللَّهَ عِنْدَ دُخُولِهِ، قَالَ الشَّيْطَانُ

(1)

: أَدْرَكْتُمُ الْمَبِيتَ، وَإِذَا لَمْ يَذْكُرِ اللَّهَ عِنْدَ طَعَامِهِ قَالَ: أَدْرَكْتُمُ الْمَبِيتَ وَالْعَشَاءَ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

وكلّهم تقدّموا في الباب الماضي.

شرح الحديث:

(عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ) رضي الله عنهما، وفي رواية روح بن عبادة التالية:"حدّثنا ابن جريج، أخبرني أبو الزبير، أنه سمع جابر بن عبد اللَّه"، فصرّح ابن جريج، بالإخبار، وأبو الزبير بالسماع، فانتفت عنهما تهمة التدليس، فتنبّه. (أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِذَا دَخَلَ الرَّجُلُ بَيْتَهُ) ومثله المرأة؛ إذ لا فرق بينهما في ذلك، (فَذَكَرَ اللَّهَ عِنْدَ دُخُولِهِ، وَعِنْدَ طَعَامِهِ، قَالَ الشَّيْطَانُ: لَا مَبِيتَ لَكُمْ)؛ أي: لا موضع بيتوتة لكم؛ لأن صاحبه تحصّن منكم بذكر اللَّه تعالى، (وَلَا عَشَاءَ) بفتح العين، والمدّ: هو الطعام الذي يؤكل في العشية، وهي من صلاة المغرب إلى العِشاء، بكسر العين؛ أي: لا يحصل لكم مسكن، وطعام، بل صرتم محرومين، بسبب التسمية

(2)

.

وقال النوويّ رحمه الله: معناه: قال الشيطان لإخوانه، وأعوانه، ورُفقته

(3)

.

وقال البيضاويّ: المخاطَب به أعوانه؛ أي: لا حظّ، ولا فُرصة لكم الليلةَ من أهل هذا البيت، فانهم قد أحرزوا عنكم طعامهم وأنفسهم، وتحقيق ذلك أن انتهاز الشيطان فرصة من الإنسان إنما تكون حال الغفلة، ونسيان

(1)

وفي نسخة: "عند دخوله، فإن الشيطان يقول: أدركتم".

(2)

"عون المعبود" 10/ 171.

(3)

"شرح النوويّ" 13/ 190.

ص: 110

الذِّكر، فإذا كان الرجل متيقّظًا، محتاطًا، متذكّرًا للَّه تعالى في جملة حالاته، لم يتمكّن الشيطان من إغوائه، وتسويله، وأيس عنه بالكلّيّة.

وقال المظهر، والأشرف: ويجوز أن يكون المخاطَب به الرجل، وأهل بيته، على سبيل الدعاء عليهم من الشيطان.

قال الطيبيّ: وهو بعيد؛ لقوله: "قال الشيطان: أدركتم المبيت"، والمخاطبون أعوانه، وأما تخصيص المبيت والعشاء، فلغالب الأحوال؛ لأن ذلك صادق في عموم الأحوال. انتهى

(1)

.

(وَإِذَا دَخَلَ فَلَمْ يَذْكُرِ اللَّهَ عِنْدَ دُخُولِهِ، قَالَ الشَّيْطَانُ) وفي بعض النسخ: "فإن الشيطان يقول"، (أَدْرَكْتُمُ الْمَبِيتَ، وَإِذَا لَمْ يَذْكُرِ اللَّهَ عِنْدَ طَعَامِهِ قَالَ: أَدْرَكْتُمُ الْمَبِيتَ وَالْعَشَاءَ") لعدم تحصّن الرجل منهم بسبب تَرْكه ذِكر اللَّه عز وجل عند الدخول، وعند الطعام، وفيه تأكّد ذِكر اللَّه تعالى، والاهتمام بالتسمية عند دخول البيت، وعند الطعام، وهو اعتراف من العبد بأن هذا البيت، وهذا الطعام إنما رَزَقه اللَّه تعالى بفضله، وليس له فيه سبيل إلى تحصيله إلا بفضل من اللَّه تعالى، وتيسير، وتسخير منه، ومتى فعل ذلك صار فعله كله طاعة للَّه عز وجل وعبادةً، وأصبح وثيق العلاقة بربّه سبحانه وتعالى، وصار من الشاكرين، واللَّه تعالى يقول:{وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145)} [آل عمران: 145]، واللَّه تعالى أعلم.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث جابر بن عبد اللَّه رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [1/ 5251 و 5252](2018)، و (البخاريّ) في "الأدب المفرد"(1/ 376)، و (أبو داود) في "الأطعمة"(3765)، و (ابن ماجه) في "الدعاء"(3887)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 383)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(6/ 52) وفي "عمل اليوم والليلة"(178)، و (ابن حبّان) في

(1)

"الكاشف عن حقائق السنن" 9/ 2838 - 2839.

ص: 111

"صحيحه"(819)، و (الحاكم) في "المستدرك"(2/ 436)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(5/ 162)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(7/ 276) و"شُعَب الإيمان"(5/ 73)، وفوائده تقدّمت، وللَّه الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5252]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِيهِ إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، أَخْبَرَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ، حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ، أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: إِنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ، بِمِثْلِ حَدِيثِ أَبِي عَاصِمٍ، إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: "وَإِنْ لَمْ يَذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ عِنْدَ طَعَامِهِ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ عِنْدَ دُخُولِهِ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

وكلّهم ذُكروا في الباب، وقبله، و"إسحاق بن منصور" هو: الْكَوْسج.

[تنبيه]: رواية رَوْح بن عُبادة، عن ابن جريج هذه لم أجد من ساقها بتمامها، فليُنظر، واللَّه تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5253]

(2019) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ (ح) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحٍ، أخْبَرَنَا اللَّيْثُ، عَنْ أَبي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"لَا تَأْكُلُوا بِالشِّمَالِ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَأْكُلُ بِالشِّمَالِ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

وقد تقدّم هذا السند نفسه في الباب الماضي، وهو من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (392) من رباعيّات الكتاب.

شرح الحديث:

(عَنْ جَابِرِ) بن عبد اللَّه رضي الله عنهما (عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) أنه (قَالَ: "لَا) ناهية، ولذا جُزم بها قوله:(تَأْكُلُوا بِالشِّمَالِ) بكسر الشين المعجمة، وتخفيف الميم: خلاف اليمين، وهي مؤنّثةٌ، وجَمْعها أَشْمُلٌ، مثلُ ذراع وأَذرُع، وشمائلُ أيضًا، والشِّمال أيضًا الجهة، والتفت يمينًا وشِمالًا؛ أي: جهة اليمين، وجهة

ص: 112

الشمال، وجمعها أَشمُلٌ وشَمائل أيضًا، قاله الفيّوميّ

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله في شرح قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا أكل أحدكم فليأكل بيمينه، وإذا شرب فليشرب بها" ما نصّه: هذا الأمر على جهة الندب؛ لأنَّه من باب تشريف اليمين على الشمال، وذلك لأنها أقوى في الغالب، وأسبق للأعمال، وأمكن في الأشغال.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: قوله: على جهة الندب، فيه نظرٌ؛ لأنه على جهة الوجوب، كما سيأتي تحقيقه -إن شاء اللَّه تعالى-.

قال: ثم هي مشتقة من اليُمن، وهو البركة، وقد شرّف اللَّه تعالى أهل الجنة بأن نَسَبهم إليها، كما ذمَّ أهل النار حين نسبهم إلى الشمال، فقال:{وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ (27)} [الواقعة: 27]، وقال:{وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91)} [الواقعة: 90، 91]، وقال عكس هذا في أصحاب الشمال، وعلى الجملة: فاليمين وما نُسب إليها، وما اشتُقّ عنها محمود لسانًا، وشرعًا، ودنيًا، وآخرة، والشمال على النقيض من ذلك.

قال: وإذا كان هذا، فمن الآداب المناسبة لمكارم الأخلاق، والسيرة الحسنة عند الفضلاء اختصاص اليمين بالأعمال الشريفة، والأحوال النظيفة، وإن احتيج في شيء منها إلى الاستعانة بالشمال فبحكم التبعية، وأما إزالة الأقذار، والأمور الخسيسة فبالشمال؛ لِمَا يناسبها من الحقارة، والاسترذال. انتهى

(2)

.

(فَإِنَّ الشَّيْطَانَ) الفاء للتعليل؛ أي: إنما نهيتكم عن الأكل بالشِّمال لئلا تتشبّهوا بالشيطان؛ لأنه (يَأْكُلُ بِالشِّمَالِ") قال القرطبيّ رحمه الله: ظاهره أن من أكل بشماله تشئه بالشيطان في ذلك الفعل؛ إذ الشيطان بشماله يأكل، وبها يشرب، ولقد أبعد، وتعسَّف من أعاد الضمير في "شماله" على الآكل. انتهى

(3)

، واللَّه تعالى أعلم.

(1)

"المصباح المنير" 1/ 373.

(2)

"المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" 5/ 295 - 296.

(3)

"المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" 17/ 24.

ص: 113

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث جابر رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله، وسيأتي أيضًا في "كتاب اللباس" -إن شاء اللَّه تعالى-.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [1/ 5253](2019)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(4/ 172)، و (ابن ماجه) في "الأطعمة"(3310)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 334 و 387)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(5/ 163)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(4/ 178)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان النهي عن الأكل والشرب بالشمال؛ لأنه تشبّه بالشيطان، وقال النوويّ: فيه استحباب الأكل والشرب باليمين، وكراهتهما بالشمال.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: سيأتي في المسألة التالية أن الحقّ الوجوب، لا الاستحباب، فتنبّه.

قال: وقد زاد نافع: الأخذ والإعطاء، وهذا إذا لم يكن عذر، فإن كان عذر يَمنع من الأكل والشرب باليمين، من مرض، أو جراحة، أو غير ذلك فلا كراهة في الشمال

(1)

.

وقال الحافظ ابن عبد البرّ رحمه الله: وفي هذا الحديث أدب الأكل والشرب، ولا يجوز لأحد أن يأكل بشماله، ولا أن يشرب بشماله؛ لنهي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وفي أَمْره صلى الله عليه وسلم بالأكل باليمين، والشرب بها نَهْيٌ عن الأكل بالشمال، والشرب بها؛ لأن الأمر يقتضي النهي عن جميع أضداده، فمن أكل بشماله، أو شَرِب بشماله، وهو بالنهي عالم، فهو عاصٍ للَّه تعالى، ولا يَحْرُم عليه مع ذلك طعامه ذلك، ولا شرابه؛ لأن النهي عن ذلك نهي أدب، لا نهي تحريم

(2)

، والأصل في النهي أن ما كان لي ملكًا، فنُهيت عنه،

(1)

"شرح النوويّ" 13/ 191.

(2)

أي: للطعام؛ يعني: أن النهي قاصر على الفعل، ولا يتعدى ذلك إلى تحريم الطعام، فتنبّه.

ص: 114

فإنما النهي عنه تأديب، ونَدْب إلى الفضل، والبرّ، وإرشاد إلى ما فيه المصلحة في الدنيا، والفضل في الدين، وما كان لغيري، فنُهيت عنه، فالنهي عنه نهي تحريم، وتحظير، واللَّه أعلم.

قال: وقد جاءت السُّنَّة المجتمع عليها أن اليمين للأكل والشرب، والشمال للاستنجاء، ونَهَى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن يستنجي باليمين، كما نَهَى أن يؤكل، أو يشرب بالشمال، وما عدا الأكل، والشرب، والاستنجاء، فبأيّ يديه فَعَل الإنسان ذلك، فلا حرج عليه، إلا أن التيامن كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يحبه في الأمر كله، فينبغي للمؤمن أن يُحب ذلك، ويَرغب فيه، ففي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الأسوة الحسنة على كل حال. انتهى كلام ابن عبد البرّ رحمه الله

(1)

، وهو بحث نفيسٌ جدًّا، واللَّه تعالى أعلم.

2 -

(ومنها): ما قاله ابن عبد البرّ رحمه الله: في هذا الحديث دليل على أن الشياطين يأكلون، ويشربون، والشيطان المقصود إلى ذكره في هذا الحديث من الجنّ جنس من أجناسهم، نحو قول اللَّه عز وجل:{وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210) وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ (211)} [الشعراء: 210، 211]، ومثله كثير، وقد يكون الشيطان من الإنس على طريق اتساع اللغة، كما قال اللَّه عز وجل:{شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ} [الأنعام: 112]، وإنما قيل لهؤلاء: شياطين؛ لِبُعْدهم من الخير، من قول العرب: نَوًى شُطُون؛ أي: بعيدة شاقّةٌ، قال جرير [من البسيط]:

أَيَّامَ يَدْعُونَنِي الشَّيْطَانَ مِنْ غَزَلِي

وَكُنَّ يَهْوِينَنِي إِذْ كُنْتُ شَيْطَانَا

وقال منظور بن رواحة [من الطويل]:

فَلَمَّا أَتَانِي مَا تَقُولُ تَرَقَّصَتْ

شَيَاطِينُ رَأْسِي وَانْتَشَيْنَ مِنَ الْخَمْرِ

وقال ابن ميادة [من الطويل]:

فَلَمَّا أَتَانِي مَا تَقُولُ مُحَارِبٌ

بَعَثْتُ شَيَاطِينِي وَجِنٌّ جُنُونُهَا

وقال أبو النجم [من الرجز]:

إِنِّي وَكُلُّ شَاعِرٍ مِنَ الْبَشَرْ

شَيْطَانُهُ أُنْثَى وَشَيْطَانِي ذَكَرْ

ولا خلاف أنها لشياطين الجنّ، أو من الجن اسم لازم لهم من أسمائهم

(1)

"التمهيد" لابن عبد البرّ 11/ 113.

ص: 115

للصالح منهم، والطالح، فأغنى ذلك عن الإكثار، والأسماء لا تؤخذ قياسًا، فإنما هي على حساب ما علّمها اللَّه تعالى صلى الله عليه وسلم أسماء علامات للمسمَّيات.

قال: وقد حَمَل قوم هذا الحديث، وما كان مثله على المجاز، فقالوا في قوله:"إن الشيطان يأكل بشماله": إن الأكل بالشمال أكل يُحبه الشيطان، كما قال في الخمرة: زينة الشيطان، وفي الاقتعاط بالعمامة: عمامة الشيطان؛ أي: إن الخمرة، ومثل تلك العِمّة يزيّنها الشيطان، ويدعو إليها، وكذلك يدعو إلى الأكل بالشمال، ولزيّنه.

قال: وهذا عندي ليس بشيء، ولا معنى لحمل شيء من الكلام على المجاز، إذا أمكنت فيه الحقيقة بوجهٍ ما.

وقال آخرون: أكل الشيطان صحيح، ولكنه تَشَمُّم، واسترواح، لا مضغ، ولا بلع، وإنما المضغ والبلع لذوي الجثث، ويكون استرواحه، وشمّه من جهة شماله، ويكون بذلك مشاركًا في المال.

قال أبو عمر: أكثر أهل العلم بالتأويل يقولون في قول اللَّه عز وجل: {وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ} قالوا: الإنفاق في الحرام، {وَالْأَوْلَادِ} [الإسراء: 64] قالوا: الزنا.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: القول بأن أكل الشيطان تشمّم مخالف للنصوص الصريحة بكون الشيطان يأكل، فتأويل أكله بالشمّ غير صحيح، وقد أشار ابن عبد البرّ إلى ردّه، بقوله:

ومن الدليل على أن الشياطين من الجنّ يأكلون، ويشربون، قوله صلى الله عليه وسلم في العظم، والروثة في حديث الاستنجاء:"هي زاد إخوانكم من الجنّ"، وفي غير هذا الحديث أن طعامهم ما لم يُذكَر اسم اللَّه عليه، وما لم يُغسل من الأيدي، والصحاف، وشرابهم الْجَدَف، وهي الرِّغْوة، والزَّبَد، وهذه أشياء لا تُدرك بعقل، ولا تقاس على أصل، وإنما فيه التسليم لمن آتاه اللَّه تعالى من العلم ما لم يؤتنا، وهو نبيّنا صلى الله عليه وسلم. انتهى

(1)

، وهو بحثٌ نفيسٌ جدًّا، واللَّه تعالى أعلم.

3 -

(ومنها): أنه ينبغي اجتناب الأفعال التي تشبه أفعال الشياطين.

(1)

التمهيد" لابن عبد البر 11/ 114 - 116.

ص: 116

4 -

(ومنها): أن فيه إثبات اليدين للشياطين.

5 -

(ومنها): اهتمام الشرع في تعليم الأمة أمر دينها، حتى في حالة الأكل والشرب، واللَّه تعالى أعلم.

[تنييه]: ذكر الحافظ ابن عبد البرّ رحمه الله في "التمهيد" بحثًا يتعلّق بالجنّ، والشيطان أحببت إيراده لفائدته، قال رحمه الله: وفي هذا الحديث، حديث ابن عمر المذكور في هذا الباب ما يرفع الإشكال، قوله:"إن الشيطان يأكل بشماله، ويشرب بشماله"، ويَحْتَمل أن يكون الجن كلهم يأكلون، ويشربون، ويَحْتَمِل أن يكون كذلك بعضهم، جنس منهم، ثم أخرج بسنده عن وهب بن منبه أنه سئل عن الجنّ، ما هم؟ وهل يأكلون، ويشربون، ويموتون؟ ويتناكحون؟ قال: هم أجناس: فأما الذين هم خالص الجنّ فهم ريح، لا يأكلون، ولا يشربون، ولا يتوالدون، ومنهم أجناس يأكلون، ويشربون، ويتناكحون، ويتوالدون، ويموتون، ومنهم السَّعَالي، والغُول، والقطرب، وأشباه ذلك.

قال: فهذا وهب بن منبه قد قال ما ترى -واللَّه أعلم-.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: قول وهب لا يكون حجة في ردّ ما صحّ لدينا عن النبيّ صلى الله عليه وسلم من أن الجنّ والشياطين يأكلون، ويشربون على الإطلاق، فَوَهَب كان ممن يتحدّث بالإسرائيّليات، فلا حجة في قوله، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم.

قال: ولأهل الكلام وغيرهم أقاويل في إدراك الجنّ بالأبصار، وفي دخولهم في الإنسان، وهل هم مكلفون، أو غير مكلفين؟ ليس بنا حاجة إلى ذِكر شيء من ذلك في كتابنا هذا؛ لأنه ليس بموضع. ذلك، وهم عند الجماعة مكلَّفون، مخاطبون، لقوله تعالى:{يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ} [الرحمن: 33]، وقوله تعالى:{فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (13)} [الرحمن: 13]، وقوله:{سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ (31)} [الرحمن: 31]، وقوله:{لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (56)} [الرحمن: 56]، ولا يختلفون أن محمدًا صلى الله عليه وسلم رسول إلى الإنس والجن، نذير، وبشير، دهذا مما فُضِّل به على الأنبياء، أنه بعث إلى الخلق كافّة: الجنّ، والإنس، وغيرُه لم يُرسل إلا بلسان قومه، ودليل ذلك، ما نطق به القرآن فن دعائهم إلى الإيمان بقوله في مواضع من كتابه:{يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ} [الرحمن: 33]، والجنّ عند أهل الكلام، وأهل العلم باللسان ينزلون على

ص: 117

مراتب، فإذا ذكروا الواحد من الجنّ خالصًا قالوا: جنيّ، فإن أرادوا أنه ممن يسكن مع الناس قالوا: عامرٌ، والجمع عُمّار، وإن كان ممن يَعْرِض للصبيان قالوا: أرواح، فإن خَبُث، وتعرَّم فهو شيطان، فإن زاد على ذلك فهو مارد، فإن زاد على ذلك، وقَوِي أمره قالوا: عِفريت، والجمع عفاريت. انتهى

(1)

.

وقال الزرقانيّ في "شرح الموطّأ" عند قوله: "فإن الشيطان يأكل بشماله، ويشرب بشماله"؛ أي: حقيقةً؛ لأن العقل لا يحيله، والشرع لا ينكره، وقد ثبت به الخبر، فلا يحتاج إلى تأويله بأن معناه: إن فعلتم كنتم أولياءه؛ لأنه يَحمِل أولياءه على ذلك، قال ابن عبد البرّ: وهذا ليس بشيء، فلا معنى لحمل شيء من الكلام على المجاز، إذا أمكنت الحقيقة فيه بوجه ما.

وقال ابن العربيّ: من نَفَى عن الجن الأكل والشرب فقد وقع في حيالة إلحاد، وعدم رَشَاد، بل الشيطان وجميع الجانّ يأكلون ويشربون، وينكحون، ويولد لهم، ويموتون، وذلك جائز عقلًا، وورد به الشرع، وتضافرت به الأخبار، فلا يَخرُج عن هذا المضمار إلا حمار، ومن زعم أن أكلهم شمّ فما شَمّ رائحة العلم. انتهى.

ويقوي ذلك ما في مسلم أن الجنّ سألوه الزاد، فقال صلى الله عليه وسلم:"كلُّ عظم ذُكِر اسم اللَّه عليه يقع في يد أحدكم أوفر ما كان لحمًا"؛ لأن صيرورته لحمًا إنما يكون للأكل حقيقةً.

وروى ابن عبد البرّ عن وهب بن منبه: الجن أصناف، فخالصهم لا يأكلون، ولا يشربون، ولا يتوالدون، وصنف تفعل ذلك، ومنهم السعالي، والغِيلان، والقطرب.

قال الحافظ: وهذا إن ثبت كان جامعًا للقولين، ويؤيده ما لابن حبان، والحاكم، عن أبي ثعلبة الْخُشنيّ مرفوعًا: الجنّ على ثلاث أصناف، لهم أجنحة يطيرون في الهواء، وصنف حيات وعقارب، وصنف يَحُلّون، ويظعنون، ويرحلون، ولابن أبي الدنيا مرفوعًا نحوه، لكن قال في الثالث: وصِنْف عليهم الحساب والعقاب. انتهى.

(1)

التمهيد" لابن عبد البر 11/ 116 - 118.

ص: 118

قال السهيليّ: ولعل الصنف الطيار هو الذي لا يأكل ولا يشرب، إن صح القول به.

وقال صاحب "آكام المرجان": وبالجملة فالقائلون: الجن لا يأكل، ولا يشرب، إن أرادوا جميعهم فباطل؛ لمصادمة الأحاديث الصحيحة، وإن أرادوا صنفًا منهم، فمُحْتَمِلٌ، لكن العمومات تقتضي أن الكل يأكلون، ويشربون. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: قد أسلفت لك أن الاستدلال بأثر وَهَب ونحوه غير صحيح، والحقّ أن الجنّ بأصنافهم يأكلون، ويشربون؛ للنصوص الصحيحة الصريحة، وما أحسن كلام ابن العربيّ المذكور، فتبصّر بالإنصاف، ولا تكن أسير التقليد، واللَّه تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في حكم الأكل باليمين:

قال النوويّ: أجمع العلماء على استحباب التسمية على الطعام في أوله. وتعقّبه في "الفتح"، فقال: وفي نقل الإجماع على الاستحباب نظرٌ، إلا إن أريدَ بالاستحباب أنه راجح الفعل، وإلا فقد ذهب جماعة إلى وجوب ذلك، وهو قضية القول بإيجاب الأكل باليمين؛ لأن صيغة الأمر بالجميع واحدة.

وقال الحافظ العراقيّ رحمه الله في "شرح الترمذيّ": حمله أكثر الشافعية على الندب، وبه جزم الغزاليّ، ثم النوويّ، لكن نَصّ الشافعيُّ في "الرسالة"، وفي موضع آخر من "الأُمّ" على الوجوب.

قال الحافظ: وكذا ذكره عنه الصيرفيّ في "شرح الرسالة"، ونقل البويطيّ في "مختصره" أن الأكل من رأس الثريد، والتعريس على الطريق، والقِرَان في التمر، وغير ذلك، مما ورد الأمر بضدّه حرام، ومثَّل البيضاويّ في "منهاجه" للندب بقوله صلى الله عليه وسلم:"كُلْ مما يليك".

وتعقبه تاج الدين السبكيّ في "شرحه" بأن الشافعيّ نَصّ في غير موضع على أن من أكل مما لا يليه عالمًا بالنهي كان عاصيًا آثمًا، قال: وقد جمع

(1)

"شرح الزرقانيّ على الموطّأ" 4/ 364.

ص: 119

والدي -يعني: تقي الدين السبكيّ- نظائر هذه المسألة في كتاب له سمّاه "كشف اللبس عن المسائل الخمس"، ونصر القول بأن الأمر فيها للوجوب.

قال الحافظ: ويدلّ على وجوب الأكل باليمين ورود الوعيد في الأكل بالشمال، ففي "صحيح مسلم" من حديث سلمة بن الأكوع، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم رأى رجلًا يأكل بشماله، فقال:"كُلْ بيمينك"، قال: لا أستطيع، قال:"لا استطعتَ"، فما رفعها إلى فيه بَعْدُ.

وأخرج الطبراني من حديث سُبيعة الأسلمية، من حديث عقبة بن عامر، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم رأى سبيعة الأسلمية تأكل بشمالها، فقال:"أخذها داء غَزّة"، فقال: إن بها قرحةً، قال:"وإن"، فمرّت بغزّة، فأصابها طاعون، فماتت، وأخرج

(1)

محمد بن الربيع الجيزيّ في "مسند الصحابة" الذين نزلوا مصر، وسنده حسن.

وثبت النهي عن الأكل بالشمال، وأنه من عمل الشيطان، من حديث ابن عمر، ومن حديث جابر، عند مسلم، وعند أحمد بسند حسن عن عائشة، رفعته:"من أكل بشماله أكل معه الشيطان. . . " الحديث.

ونقل الطيبيّ أن معنى قوله: "إن الشيطان يأكل بشماله"؛ أي: يحمل أولياءه من الإنس على ذلك؛ ليضادّ به عباد اللَّه الصالحين، قال الطيبيّ: وتحريره: لا تأكلوا بالشمال، فإن فعلتم كنتم من أولياء الشيطان، فإن الشيطان يَحْمِل أولياءه على ذلك. انتهى.

وتعقّبه الحافظ، وأجاد في ذلك، فقال: وفيه عدول عن الظاهر، والأَولى حمل الخبر على ظاهره، وأن الشيطان يأكل حقيقةً؛ لأن العقل لا يحيل ذلك، وقد ثبت الخبر به، فلا يحتاج إلى تأويله.

وحَكَى القرطبيّ في ذلك احتمالين، ثم قال: والقدرة صالحة.

وقد صرح ابن العربيّ بإثم من أكل بشماله، واحتجّ بأن كل فِعل يُنْسَب إلى الشيطان حرام. انتهى

(2)

.

(1)

هكذا النسخة، والظاهر أن الصواب: وأخرجه. . . إلخ، واللَّه أعلم.

(2)

"الفتح" 12/ 289 - 290، كتاب "الأطعمة" رقم (5376).

ص: 120

قال الجامع عفا اللَّه عنه: قد تبيّن بما سبق من ذكر الأقوال، وأدلتها في هذه المسألة أن الأرجح قول من قال بوجوب الأكل باليمين، وتحريمه بالشمال؛ لقوّة أدلّة ذلك، فإن الأحاديث بعضها بصيغة الأمر، وبعضها بصيغة النهي، والأول للوجوب، والثاني للتحريم، ومما يؤكّد ذلك دعاؤه صلى الله عليه وسلم على ذلك الرجل بقوله:"لا استطعتَ"، واستجيبت دعوته، فما رفع يده بعدُ، فمثل هذا الدعاء لا يكون إلا لترك واجب، أو ارتكاب محرّم، فتبصّر بالإنصاف، واللَّه تعالى أعلم.

وبالسند المتَّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5254]

(2020) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَابْنُ أَبِي عُمَرَ -وَاللَّفْظُ لِابْنِ نُمَيْرٍ- قَالُوا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ جَدِّهِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَأْكُلْ بِيَمِينِهِ، وَإِذَا شَرِبَ فَلْيَشْرَبْ بِيَمِينِهِ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَأْكُلُ بِشِمَالِهِ، وَيَشْرَبُ بِشِمَالِهِ").

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(ابْنُ أَبِي عُمَرَ) هو: محمد بن يحيى بن أبي عُمر الْعَدَنيّ، ثم المكيّ، صدوقٌ [10](ت 242)(م ت س ق) تقدم في "المقدمة" 5/ 31.

2 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ) بن الخطّاب المدنيّ، ثقةٌ [4].

رَوَى عن جدّه، وعمّه سالم، وروى عنه قريبه عمر بن محمد بن زيد بن عبد اللَّه بن عُمر، والزهريّ.

قال أبو زرعة: مدنيّ ثقةٌ، قليل الحديث، قال خليفة: مات في زمن مروان بن محمد.

أخرج له المصنّف، وأبو داود، والترمذيّ، والنسائيّ، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.

والباقون كلّهم تقدّموا في الباب الماضي، وشرح الحديث واضحٌ، يُعلم مما سبق.

ص: 121

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عبد اللَّه بن عمر رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

[تنبيه]: انتقد الدارقطنيّ هذا الإسناد، فقال: لم يسمع أبو بكر بن عبيد اللَّه هذا الحديث من جدّه عبد اللَّه بن عمر، إنما سمعه من عمه سالم، عن أبيه، واللَّه أعلم.

قال الرشيد العطار بعد نقل كلام الدارقطنيّ المذكور ما نصّه: وقد تابع مالكًا على روايته كذلك: عبيد اللَّه بن عمر، وسفيان بن عيينة، وفي إسناده اختلاف بين رواته، وقد أخرجه مسلم من حديث الليث بن سعد، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد اللَّه الأنصاريّ بنحوه، واللَّه عز وجل أعلم. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: حاصل ما أشار إليه الرشيد كأنه يقول: إن الحديث أخرجه مسلم بسند متّصل، وهو حديث جابر رضي الله عنه المذكور قبله، وأما حديث ابن عمر رضي الله عنهما فإنه أورده على سبيل الاستشهاد لحديث جابر، فلا يضرّه الانتقاد المذكور؛ إذ المتابعات، والشواهد يُغتفر فيها ما لا يُغتفر في الأصول، واللَّه تعالى أعلم.

[تنبيه آخر]: قال الإمام الترمذيّ رحمه الله:

(554)

- حدثنا ابن أبي عمر، حدّثنا سفيان، حدّثنا الزهريّ، قال: أخبرني أبو بكر بن عبد اللَّه بن عمر، عن جدّه عبد اللَّه بن عمر، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"إذا أكل أحدكم فليأكل بيمينه. . . " الحديث.

قال سفيان: فذكرت هذا الحديث لمعمر أريد أن أَبْلُوه، فأنظر كيف حفظه للحديث، فقلت: عمن سمعت من الزهريّ؟ فقال: عن سالم، عن ابن عمر، فقلت: لا، أخبَرنيه الزهريّ عن أبي بكر بن عبد اللَّه، فقال معمر: إنما عَرْضَناه عليه.

قال أبو عيسى: كذا يقول ابن عيينة: عن أبي بكر بن عبد اللَّه، وإنما هو أبو بكر بن عبيد اللَّه بن عبد اللَّه، سألت محمدًا عن هذا الحديث، فقال: رَوَى

(1)

"غرر الفوائد" 1/ 315 - 316.

ص: 122

مالك، وعبيد اللَّه بن عمر، وابن عيينة، عن الزهريّ، عن أبي بكر، وهو ابن عبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن عمر، عن ابن عمر.

ورَوَى عُقيل، ومعمر، عن الزهريّ، عن سالم، عن أبيه، ورَوَى سفيان الثوريّ، وابن وهب، عن عمر بن محمد، عن القاسم بن عبيد اللَّه، عن سالم، عن ابن عمر هذا الحديث.

وزعموا أن القاسم بن عبيد اللَّه كنيته أبو بكر، فإن كان هذا صحيحًا، فإنه يصح حديث معمر، وعُقيل، عن الزهريّ، عن سالم، عن أبيه؛ لأن أبا بكر بن عبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن عمر لا يزعم في حديثه أنه سمع جدّه ابن عمر، قلت له: فإن ابن جريج روى هذا عن النعمان بن راشد، عن الزهريّ، عن سعيد بن المسيِّب، عن أبي هريرة، قال: هذا ليس بمحفوظ. انتهى

(1)

.

وقال البيهقيّ رحمه الله في "السنن الكبرى":

(14387)

- وأخبرنا أبو الحسين بن بشران العدل ببغداد، أنبأ إسماعيل بن محمد الصفّار، نا أحمد بن منصور، نا عبد الرزاق، أنا معمر، عن الزهريّ، عن سالم، عن أبيه ابن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إذا أكل أحدكم فليأكل بيمينه، وإذا شرب فليشرب بيمينه، فإن الشيطان يأكل ويشرب بشماله".

قال عبد الرزاق: قال سفيان بن عيينة لمعمر: فإن الزهريّ حدثني به عن أبي بكر بن عبيد اللَّه، عن ابن عمر، فقال له معمر: فإن الزهريّ كان يذكر الحديث عن النفر، فلعله عنهما جميعًا.

قال البيهقيّ: هذا مُحْتَمِلٌ، فقد رواه عمر بن محمد، عن القاسم بن عبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن عمر، عن سالم، عن أبيه. انتهى

(2)

.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [1/ 5254 و 5255 و 5256](2020)، و (أبو داود) في "الأطعمة"(3376)، و (الترمذيّ) في "الأطعمة"(1799 و 1800)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(4/ 172 و 199)، و (مالك) في "الموطّأ"(2/ 922 - 923)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(19541)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"

(1)

"علل الترمذيّ" 1/ 299 - 299.

(2)

"سنن البيهقيّ الكبرى" 7/ 277.

ص: 123

(5/ 132)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 8 و 80)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 97)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5226)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(5/ 147)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(9/ 433)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(7/ 277) و"شُعَب الإيمان"(5/ 76)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(2836)، واللَّه تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5255]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، فِيمَا قُرِئَ عَلَيْهِ (ح) وَحَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي (ح) وَحَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا يَحْيَى -وَهُوَ الْقَطَّانُ- كِلَاهُمَا عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ جَمِيعًا، عَنِ الزُّهْرِيِّ، بِإِسْنَادِ سُفْيَانَ).

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(ابْنُ نُمَيْرِ) محمد بن عبد اللَّه بن نُمير الْهَمْدانيّ، أبو عبد الرحمن الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ فاضلٌ [10](ت 234)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 5.

2 -

(أَبُوهُ) عبد اللَّه بن نُمير الْهَمْدانيّ، أبو هشام الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ سُنّيّ، من كبار [9](ت 199)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 5.

والباقون ذُكروا في الباب وقبله.

وقوله: (كِلَاهُمَا عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ) ضمير التثنية لعبد اللَّه بن نُمير، ويحيى القطّان.

وقوله: (جَمِيعًا، عَنِ الزُّهْرِيِّ)؛ يعني أن كلًّا من مالك، وعُبيد اللَّه الْعُمَريّ رويا هذا الحديث عن الزهريّ بإسناد سفيان بن عيينة المذكور قبله.

[تنبيه]: رواية مالك عن الزهريّ هذه ساقها في "الموطّأ"، فقال:

(1644)

- وحدّثني عن مالك

(1)

، عن ابن شهاب، عن أبي بكر بن عبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن عمر، عن عبد اللَّه بن عمر: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أكل أحدكم فليأكل بيمينه، وليشرب بيمينه، فإن الشيطان يأكل بشماله،

(1)

قائل: "وحدّثني. . . إلخ" هو عبيد اللَّه بن يحيى بن يحيى الليثيّ، يروي "الموطّأ" عن أبيه، عن مالك، فتنبّه.

ص: 124

ويشرب بشماله". انتهى

(1)

.

ورواية عبيد اللَّه بن عمر الْعُمَريّ، عن الزهريّ ساقها أبو عوانة رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(8176)

- حدثنا أبو الحسن الميمونيّ في آخرين، قالوا: ثنا محمد بن عبيد، قال: ثنا عبيد اللَّه بن عمر، عن الزهريّ، عن أبي بكر بن عبيد اللَّه، عن ابن عمر، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"لا يأكل أحدكم بشماله، ولا يشرب بشماله، فإن الشيطان يأكل بشماله، ويشرب بشماله". انتهى

(2)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5256]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ، وَحَرْمَلَةُ -قَالَ أَبُو الطَّاهِرِ: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ حَرْمَلَةُ: حَدَّثَنَا- عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ، حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنِي الْقَاسِمُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، حَدَّثَهُ عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا يَأْكُلَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ بِشِمَالِهِ، وَلَا يَشْرَبَنَّ بِهَا، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَأْكُلُ بِشِمَالِهِ، وَيَشْرَبُ بِهَا"، قَالَ: وَكَانَ نَافِعٌ يَزِيدُ فِيهَا: "وَلَا يَأْخُذُ بِهَا، وَلَا يُعْطِي بِهَا"، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي الطَّاهِرِ: "لَا يَأْكُلَنَّ أَحَدُكُمْ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(أَبُو الطَّاهِرِ) أحمد بن عمرو بن عبد اللَّه بن عمرو بن السَّرْح المصريّ، ثقةٌ [10](ت 250)(م د س ق) تقدم في "المقدمة" 3/ 10.

2 -

(حَرْمَلَةُ) بن يحيى التُّجيبيّ، أبو حفص المصريّ، صاحب الشافعيّ، صدوقٌ [11](ت 3 أو 244)(م س ق) تقدم في "المقدمة" 3/ 14.

3 -

(عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبِ) بن مسلم القرشيّ مولاهم، أبو محمد المصريّ، ثقةٌ حافظٌ فقيهٌ عابدٌ [9](ت 197)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 10.

4 -

(عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدِ) بن زيد بن عبد اللَّه بن عمر بن الخطّاب المدنيّ، نزيل عَسْقلان، ثقةٌ [6] مات قبل (150)(خ م د س) تقدم في "الإيمان" 31/ 233.

(1)

"موطأ مالك" 2/ 922.

(2)

"مسند أبي عوانة" 5/ 147.

ص: 125

5 -

(الْقَاسِمُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ) بن الخطّاب، أبو محمد المدنيّ، ثقةٌ [6].

رَوَى عن أبيه، وعمه سالم، وروى عنه عمر وعاصم ابنا محمد بن زيد بن عبد اللَّه بن عمر، وأبو عَقِيل يحيى بن المتوكل، ذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: رَوَى عن جدّه عبد اللَّه، رَوَى عنه الزهريّ، وقال ابن سعد: أمه أم عبد اللَّه بن عمر بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر، تُوُفّي في خلافة مروان بن محمد، وكان قليل الحديث، وقال ابن حزم: مُتَّفق على سقوطه.

أخرج له البخاريّ في "الأدب المفرد"، والمصنّف، والنسائيّ، وليس له عندهم إلا هذا الحديث

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: قول ابن حزم: متّفق على سقوطه، لا يخفى سقوطه، فتنبّه.

وسالم وأبوه ذُكِرا في الباب، وقبله.

والحديث من أفراد المصنّف، وشرحه واضح يُعلم مما سبق.

وقوله: (وَلَا يَأْخُذُ بِهَا، وَلَا يُعْطِي بِهَا) هكذا النسخة برفع "يأخذ"، و"يُعطي"، فعلى هذا تكون "لا" نافية، والمراد من النفي النهي، ومعنى ذلك: أنه لا يستعمل اليد اليسرى في أخذ شيء وإعطائه، وإنما يفعل ذلك بيمينه، وقد تقدّم عن النوويّ أن هذا إذا لم يكن له عذر يمنع من استعمال اليمنى، وإلا فلا بأس، قال اللَّه عز وجل:{وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام: 119].

[تنبيه]: قوله: (وَكَانَ نَافِعٌ يَزِيدُ فِيهَا: وَلَا يَأْخُذُ. . . إلخ) ظاهر هذا أنه موقوف على نافع، ويَحْتَمِل أن يكون مرفوعًا، فيكون معنى زيادة نافع: أن سالِمًا، وأبا بكر بن عبيد اللَّه في روايتيهما السابقتين لم يذكرا: "ولا يأخذ

(1)

تقدّم في "مقدّمة صحيح مسلم" أنه رَوَى له قوله مخاطبًا ليحيى بن سعيد لَمّا قال له: "إنه يقبح على مثلك، وأنت ابن إمامي هدى: أبي بكر وعمر، أن تسأل عن شيء من أمر هذا الدين، فلا يوجد عندك منه علم، فقال له: أقبح من ذلك عند اللَّه، وعند من عَقِل عن اللَّه أن أقول بغير علم، أو آخذ عن غير ثقة". انتهى.

ص: 126

بها. . . إلخ"، فزاده نافع في روايته حيث سمعه من ابن عمر رضي الله عنهما كذلك، فيكون كلّه مرفوعًا.

ويشهد لهذا حديث أبي هريرة رضي الله عنه حيث رواه كلّه مرفوعًا، فقد أخرج ابن ماجه في "سننه" بسند صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"ليأكل أحدكم بيمينه، وليشرب بيمينه، وليأخذ بيمينه، وليعط بيمينه، فإن الشيطان يأكل بشماله، ويشرب بشماله، ويعطي بشماله، ويأخذ بشماله". انتهى

(1)

.

قال الحافظ البوصيريّ رحمه الله: هذا إسناد صحيح، رجاله ثقاتٌ، وأصله في "الصحيحين"، من حديث عمر بن أبي سلمة، وفي مسلم وغيره، من حديث جابر، وابن عمر رضي الله عنهم. انتهى

(2)

.

ويشهد له أيضًا ما أخرجه ابن حبّان في "صحيحه" من طريق يحيى بن أبي كثير، عن عبد اللَّه بن أبي قتادة، عن أبيه، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم نَهَى أن يُعطي الرجل بشماله شيئًا، أو يأخذ بها، ونَهَى أن يتنفس في إنائه إذا شرب". انتهى

(3)

.

وأخرج الإمام أحمد في "مسنده" بسند صحيح عن يحيى بن أبي كثير، عن عبد اللَّه بن أبي قتادة، عن أبيه، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"إذا شرب أحدكم فلا يتنفس في الإناء، وإذا دخل الخلاء فلا يتمسَّح بيمينه، وإذا بال فلا يمسّ ذَكَره بيمينه".

قال يحيى بن أبي كثير: وحدّثني عبد اللَّه بن أبي طلحة، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"إذا أكل أحدكم فلا يأكل بشماله، وإذا شرب فلا يشرب بشماله، وإذا أخذ فلا يأخذ بشماله، وإذا أعطى فلا يعطي بشماله". انتهى

(4)

.

وأخرج النسائيّ في "سننه" بسند صحيح عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يحبّ التيمن، يأخذ بيمينه، ويعطي بيمينه، ويحب التيمّن في

(1)

"سنن ابن ماجه" 2/ 1087.

(2)

"مصباح الزجاجة" 4/ 10.

(3)

"صحيح ابن حبان" 12/ 32.

(4)

"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 5/ 311.

ص: 127

جميع أموره". انتهى

(1)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5257]

(2021) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ، عَنْ عِكْرِمَةَ بْنِ عَمَّارٍ، حَدَّثَنِي إِيَاسُ بْنُ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ، أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ، أَنَّ رَجُلًا أَكَلَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِشِمَالِهِ، فَقَالَ: "كُلْ بِيَمِينِكَ لا، قَالَ: لَا أَسْتَطِيعُ، قَالَ: "لَا اسْتَطَعْتَ"، مَا مَنَعَهُ إِلَّا الْكِبْرُ، قَالَ: فَمَا رَفَعَهَا إِلَى فِيهِ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(زَيْدُ بنُ الْحُبَابِ) أبو الحسن الْعُكْليّ، أصله من خُرَاسان، وكان بالكوفة، صدوقٌ يُخطئ في حديث الثوريّ [9](ت 203)(م 4) تقدم في "الطهارة" 6/ 560.

2 -

(عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ) الْعِجليّ، أبو عمّار اليماميّ، بصريّ الأصل، ثقةٌ ضعّف في يحيى بن أبي كثير؛ لاضطرابه [5] ما قبيل (160)(خت م س ق) تقدم في "الإيمان" 12/ 155.

3 -

(إِيَاسُ بْنُ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ) الأسلميّ، أبو سلمة، أو أبو بكر المدنيّ، ثقةٌ [3](ت 119)(ع) تقدم في "الإيمان" 44/ 288.

4 -

(أَبُوهُ) سلمة بن عمرو بن الأكوع الأسلميّ، أبو مسلم، وأبو إياس الصحابيّ الشهير، شهد بيعة الرضوان، ومات بالمدينة سنة (64)(ع) تقدم في "الإيمان" 44/ 288.

وشيخه ذُكر قبل حديثين.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف، وفيه رواية الابن عن أبيه، وتابعيّ عن تابعيّ.

شرح الحديث:

(عَنْ عِكْرِمَةَ بْنِ عَمَّارٍ) الْعِجليّ أنه قال: (حَدَّثَنِي إِيَاسُ بْنُ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ أَنَّ أَبَاهُ) سلمة رضي الله عنه (حَدَّثَهُ، أَنَّ رَجُلًا) قال النوويّ رحمه الله: هذا الرجل هو

(1)

"السنن الكبرى" للنسائيّ 5/ 411، و"المجتبى" 8/ 133.

ص: 128

بُسر بضم الباء، وبالسين المهملة، ابن راعي الْعَيْر، بفتح العين، وبالمثناة، الأشجعيّ، كذا ذكره ابن منده، وأبو نعيم الأصبهانيّ، وابن ماكولا، وآخرون، وهو صحابيّ مشهور، عَدّه هؤلاء وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم، وأما قول القاضي عياض رحمه الله: إن قوله: "ما منعه إلا الكبر" يدلّ على أنه كان منافقًا، فليس بصحيح، فإن مجرد الكبر والمخالفة لا يقتضي النفاق والكفر، لكنه معصية، إن كان الأمر أمر إيجاب. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: التعقيب على كلام النوويّ هذا في كلام الحافظ، فتنبّه.

وقال في "الإصابة": بُسْر ابن راعي الْعَيْر الأشجعيّ، رَوَى الدارميّ، وعبد بن حميد، وابن حبان، والطبرانيّ من طريق عكرمة بن عمار، عن إياس بن سلمة بن الأكوع، عن أبيه، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أبصر بُسر ابن راعي العير يأكل بشماله، فقال:"كل بيمينك"، فقال: لا أستطيع، فقال:"لا استطعتَ"، فما نالت

(2)

يمينه إلى فيه بعدُ، ورواه مسلم من هذا الوجه، فلم يُسَمِّ بُسرًا، وزاد في روايته:"لم يمنعه إلا الكبر".

واستَدَلّ عياض في "شرح مسلم" على أنه كان منافقًا، وزيّفه النوويّ في "شرحه" متمسكًا بأن ابن منده، وأبا نعيم، وابن ماكولا، وغيرهم ذكروه في الصحابة.

وتعقّب الحافظ تزييف النوويّ، وأجاد في ذلك، فقال: وفي هذا الاستدلال نظرٌ؛ لأن كل من ذكره لم يَذكُر له مستندًا إلا هذا الحديث، فالاحتمال قائم، ويمكن الجمع أنه كان في تلك الحالة لم يُسلم، ثم أسلم بعد ذلك.

وقد قيل فيه: بشر بالمعجمة، وبذلك ذَكَره ابن منده، وأنكر عليه أبو نعيم، ونسبه إلى التصحيف، ولم يَحْكِ الدارقطنيّ، وابن ماكولا فيه خلافًا أنه بالمهملة، وأما البيهقيّ، فحَكَى في "السنن" أنه بالمعجمة أصحّ، وأغرب ابن فتحون، فاستدركه فيمن اسمه بشير. انتهى

(3)

.

(1)

"شرح النوويّ" 13/ 192.

(2)

أي: لم تقرب، ولم تدنُ.

(3)

"الإصابة في تمييز الصحابة" 1/ 291.

ص: 129

قال الجامع عفا اللَّه عنه: قد تبيّن بما ذُكر أن الأكثرين على أنه بُسر بالسين المهملة، فليُتنبّه، واللَّه تعالى أعلم.

(أَكَلَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِشِمَالِهِ، فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم له ("كُلْ بِيَمِينِكَ"، قَالَ) الرجل (لَا أَسْتَطِيعُ) أي لا أقدر على الأكل باليمين، (قَالَ) صلى الله عليه وسلم دعاءً عليه حيث خالف أمْره الذي أوجب اللَّه تعالى امتثاله، حيث قال:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الحشر: 7]، وقال:{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63)} [النور: 63]. ("لَا اسْتَطَعْتَ") قال القرطبيّ رحمه الله: هذا دعاء منه صلى الله عليه وسلم عليه؛ لأنَّه لم يكن له في ترك الأكل باليمين عذر، وإنما قَصَد المخالفة، وكأنه كان منافقًا، واللَّه تعالى أعلم، ولذلك قال الراوي: وما منعه إلا الكِبْر، وقد أجاب اللَّه تعالى دعاء النبيّ صلى الله عليه وسلم في هذا الرجل، حتى شُلَّت يمينه، فلم يرفعها لفيه بعد ذلك اليوم. انتهى

(1)

.

وقوله: (مَا مَنَعَهُ إِلَّا الْكِبْرُ) الظاهر أنه من قول سلمة رضي الله عنه، واللَّه تعالى أعلم.

(قَالَ) الراوي، وهو سلمة رضي الله عنه، (فَمَا رَفَعَهَا)؛ أي: يده اليمنى، (إِلَى فِيهِ)؛ يعني: أن ذلك الرجل لم يستطع بعد ذلك اليوم أن يرفع يده اليمنى إلى فيه، وهو كناية عن كونها شُلّت بدعائه صلى الله عليه وسلم عليه.

و"فيه" لغة في "فمه"، وهي من الأسماء الستة التي تُرفع بالواو، وتُنصب بالألف، وتُجرّ بالياء، كما قال في "الخلاصة":

وَارْفَعْ بِوَاوٍ وَانْصبَنَّ بِالأَلِفْ

وَاجْرُرْ بِيَاءِ مَا مِنَ الأَسْمَا أَصِفْ

مِنْ ذَاكَ "ذُو" إِنْ صُحْبَةً أَبَانَا

وَ"الْفَمُ" حَيْثُ الْمِيمُ مِنْهُ بَانَا

"أَبٌ""أَخٌ""حَمٌ" كَذَاكَ وَ"هَنُ". . . وَالنَقْصُ فِي هَذَا الأَخِيرِ أَحْسَنُ

وَفِي "أَبٍ" وَتَالِيَيْهِ يَنْدُرُ

وَقَصْرُهَا مِنْ نَقْصِهِنَّ أَشْهَرُ

واللَّه تعالى أعلم.

(1)

"المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" 5/ 297.

ص: 130

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [1/ 5257](2021)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(5/ 132)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 45 - 46 و 50)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 97)، و (عبد بن حميد) في "مسنده"(1/ 149)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(6235)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6512 و 6513)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(5/ 163 - 164)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(7/ 277) و"دلائل النبوّة"(6/ 238) و"شُعَب الإيمان"(5/ 77)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان وجوب الأكل باليمين، قال الشوكانيّ رحمه الله: فيه النهي عن الأكل والشرب بالشمال، والنهي حقيقة في التحريم، كما تقرر في الأصول، ولا يكون لمجرد الكراهة فقط إلا مجازًا، مع قيام صارف.

وقال النوويّ: فيه استحباب الأكل والشرب باليمين، وكراهتهما بالشمال، قال المباركفوريّ: بل في هذا الحديث وجوب الأكل والشرب باليمين، كما قال الشوكانيّ، ويدل على الوجوب قوله صلى الله عليه وسلم:"إذا أكل أحدكم فليأكل بيمينه، وإذا شرب فليشرب بيمينه. . . " الحديث، وقوله صلى الله عليه وسلم لعُمر بن أبي سلمة:"كُلْ بيمينك"، فإن الأصل في الأمر الوجوب. انتهى

(1)

.

2 -

(ومنها): جواز الدعاء على من خالف الحكم الشرعيّ بلا عذر، قاله النوويّ، وقال في "الفتح" في ذكر الأقوال في لعن الفاسق المعيَّن ما حاصله: المنع مطلقًا، وقيل: إن المنع خاصّ بما يقع في حضرة النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ لئلا يتوهم الشارب عند عدم الإنكار أنه مستحقّ لذلك، فربما أوقع الشيطان في قلبه ما يتمكن به من فتنة، وإلى ذلك الإشارة بقوله في حديث أبي هريرة:"لا تكونوا عون الشيطان على أخيكم"، وقيل: المنع مطلقًا في حقّ من أقيم عليه الحدّ؛

(1)

"تحفة الأحوذيّ" 5/ 422.

ص: 131

لأن الحدّ قد كَفّر عنه الذنب المذكور، وقيل: المنع مطلقًا في حقّ ذي الزلة، والجواز مطلقًا في حق المجاهرين، وصوّب ابن الْمُنَيِّر أن المنع مطلقًا في حقّ المعيَّن، والجواز في حق غير المعيَّن؛ لأنه في حق غير المعيَّن زجرٌ عن تعاطي ذلك الفعل، وفي حق المعيَّن أذى له، وسبّ، وقد ثبت النهي عن أذى المسلم.

واحتج من أجاز لعن المعيّن بأن النبيّ صلى الله عليه وسلم إنما لعن من يستحق اللعن، فيستوي المعيَّن وغيره.

وتُعُقّب بأنه إنما يستحق اللعن بوصف الإبهام، ولو كان لَعْنه قبل الحدّ جائزًا لاستمرّ بعد الحدّ كما لا يسقط التغريب بالجلد، وأيضًا فنصيب غير المعيَّن من ذلك يسير جدًّا، واللَّه اعلم.

قال النوويّ في "الأذكار": وأما الدعاء على إنسان بعينه، ممن اتصف بشيء من المعاصي، فظاهر الحديث أنه لا يَحْرُم، وأشار الغزاليّ إلى تحريمه، وقال في "باب الدعاء على الظلمة" بعد أن أورد أحاديث صحيحة في الجواز: قال الغزاليّ: وفي معنى اللعن الدعاء على الإنسان بالسوء، حتى على الظالم، مثل: لا أصحّ اللَّه جسمه، وكل ذلك مذموم. انتهى.

والأَولى حَمْل كلام الغزاليّ على الأول، وأما الأحاديث فتدل على الجواز، كما ذكره النوويّ في قوله صلى الله عليه وسلم للذي قال:"كل بيمينك" فقال: لا أستطيع، فقال:"لا استطعت" فيه دليل على جواز الدعاء على من خالف الحكم الشرعيّ، ومال هنا إلى الجواز قبل إقامة الحدّ، والمنع بعد إقامته، وصنيع البخاريّ يقتضي لعن المتصف بذلك من غير أن يعيّن باسمه، فيجمع بين المصلحتين؛ لأن لعن المعيَّن، والدعاء عليه قد يَحمله على التمادي، أو يُقَنِّطه من قبول التوبة، بخلاف ما إذا صَرَف ذلك إلى المتصف، فإن فيه زجرًا، وردعًا عن ارتكاب ذلك، وباعثًا لفاعله على الإقلاع عنه، ويقوّيه النهي عن التثريب على الأَمَة إذا جُلدت على الزنا، قال: واحتج شيخنا الإمام البلقينيّ على جواز لعن المعيَّن بالحديث الوارد في المرأة إذا دعاها زوجها إلى فراشه، فأبَتْ لعنتها الملائكة حتى تصبح، وهو في "الصحيح"، وقد توقف فيه بعض من لَقِيناه بأن اللاعن لها الملائكة، فيَتوقف الاستدلال به على جواز التأسي بهم، وعلى التسليم فليس في الخبر تسميتها، والذي قاله شيخنا أقوى، فإن

ص: 132

المَلَك معصوم، والتأسي بالمعصوم مشروع، والبحث في جواز لعن المعيَّن، وهو الموجود. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: عندي أن الأَولى عدم التعيين في اللعن، بل يدعو على عموم الفسّاق، والمجرمين؛ لأنه أجمع للمصلحة، وأبعد عن المفسدة؛ وبهذا يُجمع بين النصوص، والله تعالى أعلم.

3 -

(ومنها): الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر في كل حال، حتى في حال الأكل.

4 -

(ومنها): استحباب تعليم الآكل آداب الأكل إذا خالفه، كما في حديث عُمر بن أبي سلمة رضي الله عنهما الذي بعد هذا، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5258]

(2022) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ أَبِي عُمَرَ، جَمِيعًا عَنْ سُفْيَانَ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ كَثِيرٍ، عَنْ وَهْبِ بْنِ كيْسَانَ، سَمِعَهُ مِنْ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ، قَالَ: كُنْتُ فِي حَجْرِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَكَانَتْ يَدِي تَطِيشُ فِي الصَّحْفَةِ، فَقَالَ لِي: "يَا غُلَامُ سَمِّ اللهَ، وَكُلْ بِيَمِينِكَ، وَكُلْ مِمَّا يَلِيكَ").

رجال هذا الإسناد: ستّة:

1 -

(الْوَلِيدُ بْنُ كَثِيرٍ) المخزوميّ، أبو محمد المدنيّ، ثمّ الكوفيّ، صدوقٌ عارفٌ بالمغازي، ورُمي برأي الخوارج [6](ت 151)(ع) تقدم في "الإيمان" 64/ 361.

2 -

(وَهْبُ بْنُ كَيْسَانَ) القرشيّ مولاهم، أبو نعيم المدنيّ المعلّم، ثقةٌ، من كبار [4](ت 127)(ع) تقدم في "الحيض" 23/ 797.

3 -

(عُمَرُ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ) عبد الله بن عبد الأسد المخزوميّ، ربيب النبيّ صلى الله عليه وسلم، صحابيّ صغير، أمه أم سلمة زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأمّره عليّ رضي الله عنه على البحرين، ومات رضي الله عنه سنة (83) على الصحيح (ع) تقدم في "الصلاة" 54/ 1157.

والباقون ذُكروا في الباب.

(1)

"الفتح" 15/ 537 - 538، كتاب "الحدود" رقم (6780).

ص: 133

شرح الحديث:

(عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ كَثِيرٍ) وفي رواية البخاريّ: "أخبرنا سفيان، قال: الوليد بن كثير أخبرني"، قال في "الفتح": كذا وقع هنا وهو من تأخير الصيغة عن الراوي، وهو جائز، وقد أخرجه الحميديّ في "مسنده"، وأبو نعيم في "المستخرج" من طريقه، عن سفيان، قال: حدثنا الوليد بن كثير، وأخرجه الإسماعيليّ من رواية محمد بن خلاد، عن سفيان عن الوليد بالعنعنة، ثم قال في آخره: فسألوه عن إسناده، فقال: حدّثني الوليد بن كثير، ولعل هذا هو السرّ في سياق عليّ بن عبد الله - يعني: شيخ البخاريّ في هذا الحديث - له على هذه الكيفية، ولسفيان بن عيينة في هذا الحديث سند آخر، أخرجه النسائيّ عن محمد بن منصور، وابن ماجه عن محمد بن الصباح، كلاهما عن سفيان، عن هشام، عن أبيه، عن عُمر بن أبي سلمة، وقد اختُلف على هشام في سنده، فكأن البخاريّ عَرَّج عن هذه الطريق لذلك. انتهى

(1)

.

(عَنْ وَهْبِ بْنِ كَيْسَانَ) المدنيّ المعلّم أنه (سَمِعَهُ)؛ أي: هذا الحديث (مِنْ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ)؛ أي: ابن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عُمر بن مخزوم، واسم أبي سلمة عبد الله، وأم عمر المذكورة هي أم سلمة زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولذا وصفوه بأنه ربيب النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه (قَالَ: كُنْتُ فِي حَجْرِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) وفي رواية البخاريّ: "كنت غلامًا في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم"؛ أي: دون البلوغ، يقال للصبي من حين يولد إلى أن يبلغ الْحُلُم: غلام، وقد ذكر ابن عبد البرّ أنه وُلد في السنة الثانية من الهجرة إلى المدينة بأرض الحبشة، وتبعه غير واحد، قال الحافظ: وفيه نظرٌ، بل الصواب أنه وُلد قبل ذلك، فقد صحّ في حديث عبد الله بن الزبير أنه قال: كنت أنا وعمر بن أبي سلمة مع النسوة يوم الخندق، وكان أكبر مني بسنتين. انتهى، ومولد ابن الزبير في السنة الأولى على الصحيح، فيكون مولد عمر قبل الهجرة بسنتين. انتهى

(2)

.

(1)

"الفتح" 12/ 287 - 288، كتاب "الأطعمة" رقم (5376).

(2)

"الفتح" 12/ 288، كتاب "الأطعمة" رقم (5376).

ص: 134

وقوله: (فِي حَجْرِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) - بفتح الحاء المهملة، وسكون الجيم -؛ أي في تربيته، وتحت نظره، وأنه يربيه في حِضنه تربية الولد، قال عياض: الحجر يُطلق على الحضن، وعلى الثوب، فيجوز فيه الفتح والكسر، وإذا أُريد به معنى الحضانة فبالفتح لا غير، فإن أريد به المنع من التصرف فبالفتح في المصدر، وبالكسر في الاسم، لا غير. انتهى

(1)

.

(وَكَانَتْ يَدِي تَطِيشُ فِي الصَّحْفَةِ)؛ أي: عند الأكل، ومعنى:"تطيش"، وهو بالطاء المهملة، والشين المعجمة، بوزن تطير: تتحرك، فتميل إلى نواحي القصعة، ولا تقتصر على موضع واحد، قاله الطيبيّ، قال: والأصل: أطيش بيدي، فأَسند الطيش إلى يده مبالغةً، وقال غيره: معنى "تطيش": تَخِفّ، وتُسرع.

وفي الرواية التالية: "أكلت يومًا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعلت آخذ من لحمٍ حول الصحفة"، وهو يفسّر المراد.

و"الصَّحْفة": دون القصعة، وهي ما تَسَعُ ما يُشبع خمسةً، فالقصعة تُشبع عشرةً، كذا قاله الكسائيّ فيما حكاه الجوهريّ وغيره عنه، وقيل: الصحفة كالقصعة، وجمعها صِحَاف

(2)

.

ووقع في رواية الترمذيّ من طريق عروة، عن عمر بن أبي سلمة: أنه دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعنده طعام، فقال:"ادْنُ يا بني"، وفي رواية للبخاريّ:"أتي النبيّ صلى الله عليه وسلم بطعام، وعنده ربيبه"، والجمع بينهما أن مجيء الطعام وافق دخوله، قاله في "الفتح"

(3)

.

(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم (لِي: "يَا غُلَامُ سَمِّ اللهَ) فيه وجوب التسمية على الأكل، وادّعى النوويّ الإجماع على استحبابها، وقد سبق تعقّبه في دعوى الإجماع، فقد ثبت عن جماعة القول بوجوبها، وهو الحقّ؛ لوضوح أدلّته، فتبصّر، والله تعالى أعلم.

(1)

"الفتح" 12/ 288، كتاب "الأطعمة" رقم (5376).

(2)

"شرح النوويّ" 13/ 193.

(3)

"الفتح" 12/ 288، كتاب "الأطعمة" رقم (5376).

ص: 135

(وَكُلْ بِيَمِينِكَ) قد سبق أن الحقّ وجوب الأكل باليمين، فلا تغفل، والله تعالى أعلم.

(وَكُلْ مِمَّا يَلِيكَ") قال القرطبيّ رحمه الله: محلُّه ما إذا كان الطعام نوعًا واحدًا، وسبب ذلك الاستقباح؛ لأن كل آكل كالحائز لِمَا يليه من الطعام، فأخذُ الغير له تَعَدٍّ عليه، مع ما فيه من تقذُّر النفس، مما خاضت فيه الأيدي، ولِمَا فيه من إظهار الحرص والنَّهَم، وهو مع ذلك سوء أدب بغير فائدة إذا كان الطعام واحدًا، أما إذا اختلفت الأنواع، فقد أباح ذلك العلماء؛ إذ ليس فيه شيء من تلك الأمور المستقبَحة

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: "أما إذا اختلفت الأنواع. . . إلخ" سيأتي قريبًا الردّ على هذا، وأن الحقّ حمل النهي على العموم؛ لعدم دليل فارق، فتنبّه، وبالله تعالى التوفيق.

[تنبيه]: زاد في رواية للبخاريّ في آخر الحديث قول ابن أبي سلمة رضي الله عنهما: "فما زالت تلك طِعْمتي بعدُ" بكسر الطاء؛ أي: صفة أكلي؛ أي: لَزِمت ذلك، وصار عادةً لي، قال الكرمانيّ: وفي بعض الروايات بالضم، يقال: طَعِم: إذا أكل، والطُّعمة الأُكلة، والمراد جميع ما تقدم، من الابتداء بالتسمية، والأكل باليمين، والأكل مما يليه، وقوله:"بعدُ" بالضم على البناء؛ أي: استمرّ ذلك من صنيعي في الأكل

(2)

، والله تعالى أعلم.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عمر بن أبي سلمة رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [1/ 5258 و 5259](2022)، و (البخاريّ) في "الأطعمة"(5376 و 5377)، و (الترمذيّ) في "الأطعمة"(1858)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(6759 و 3760) و"عمل اليوم والليلة" (274 و 275 و 276

(1)

"المفهم" 5/ 298.

(2)

"الفتح" 12/ 288، كتاب "الأطعمة" رقم (5376).

ص: 136

و 277 و 278)، و (ابن ماجه) في "الأطعمة"(3265 و 3267)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(5/ 132)، و (الحميديّ) في "مسنده"(1/ 259)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 26 و 27)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(5/ 165)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(9/ 27 و 28)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(7/ 277)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): أن فيه الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر حتى في حال الأكل.

2 -

(ومنها): استحباب تعليم آداب الأكل والشرب.

3 -

(ومنها): أن فيه منقبةً لعمر بن أبي سلمة رضي الله عنهما؛ لامتثاله الأمر، ومواظبته على مقتضاه.

وقال النوويّ رحمه الله: في هذا الحديث بيان ثلاث سنن، من سنن الأكل، وهي التسمية، والأكل باليمين، وقد سبق بيانهما، والثالثة: الأكل مما يليه؛ لأن أَكْله من موضع يد صاحبه سُوء عشرة، وتَرْك مروءة، فقد يتقذّره صاحبه، لا سيّما في الأَمْراق، وشِبْهها، وهذا في الثريد، والأمراق، وشبهها، فإن كان تمرًا، أو أجناسًا، فقد نقلوا إباحة اختلاف الأيدي في الطبق ونحوه، والذي ينبغي تعميم النهي؛ حَمْلًا للنهي على عمومه، حتى يثبت دليل مخصص. انتهى كلام النوويّ رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قد أجاد النوويّ رحمه الله في قوله: بتعميم النهي، فالحقّ أن النهي شامل لِمَا كان لونًا واحدًا، أو ألوانًا، فمن فرّق بينهما فإنما استند إلى حديث ضعيف أخرجه الترمذيّ، فقال في "الجامع":

(1848)

- حدثنا محمد بن بشار، حدثنا العلاء بن الفضل بن عبد الملك بن أبي سَوِيّة أبو الهذيل، حدّثنا عبيد الله بن عِكْراش، عن أبيه عِكراش بن ذؤيب، قال: بعثني بنو مُرّة بن عبيد بصدقات أموالهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقَدِمت عليه المدينة، فوجدته جالسًا بين المهاجرين والأنصار،

(1)

"شرح النوويّ" 13/ 193.

ص: 137

قال: ثم أخذ بيدي، فانطلق بي إلى بيت أم سلمة، فقال:"هل من طعام؟ " فأُتينا بجفنة كثيرة الثريد، والوَذَر، وأقبلنا نأكل منها، فخبطت بيدي من نواحيها، وأكل رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين يديه، فقبض بيده اليسرى على يدي اليمنى، ثم قال: يا عكراش كُلْ من موضع واحد، فإنه طعام واحد، ثم أُتينا بطَبَق فيه ألوان الرطب، أو من ألوان الرطب - عبيد الله شك - قال: فجعلت آكل من بين يدي، وجالت يد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطبق، وقال:"يا عكراش كل من حيث شئت، فإنه غير لون واحد. . ."، الحديث.

قال أبو عيسى: هذا حديث غريب، لا نعرفه إلا من حديث العلاء بن الفضل، وقد تفرَّد العلاء بهذا الحديث، ولا نعرف لعكراش عن النبيّ صلى الله عليه وسلم إلا هذا الحديث. انتهى

(1)

.

فهذا الحديث ضعيف؛ لأن فيه العلاء بن الفضل، قال عنه في "التقريب": ضعيف، وعبيد الله بن عكراش قال عنه البخاريّ: لا يثبت حديثه.

والحاصل أن الحديث لا يصلح للاحتجاج به، فالحقّ إبقاء النهي على عمومه، والله تعالى أعلم بالصواب.

وبالسند المتَّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5259]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْحُلْوَانِيُّ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَا: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ، أَخْبَرَنَا مُحَمَدُ بْنُ جَعْفَرٍ، أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَلْحَلَةَ، عَنْ وَهْبِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنْ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ، أنَّهُ قَالَ: أَكَلْتُ يَوْمًا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَجَعَلْتُ آخُذُ مِنْ لَحْمٍ حَوْلَ الصَّحْفَةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "كُلْ مِمَّا يَلِيكَ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْحُلْوَانِيُّ) أبو عليّ الخلّال، نزيل مكة، ثقةٌ حافظٌ له تصانيف [11](ت 242)(خ م د ت ق) تقدم في "المقدمة" 4/ 24.

(1)

"جامع الترمذيّ" 4/ 283.

ص: 138

2 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ إِسْحَاقَ) هو: محمد بن إسحاق الصاغانيّ البغداديّ، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

3 -

(ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ) هو: سعيد بن الحكم بن محمد المصريّ، تقدّم أيضًا قبل ثلاثة أبواب.

4 -

(مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ) بن أبي كثير الأنصاريّ مولاهم المدنيّ، أخو إسماعيل، وهو الأكبر، ثقةٌ [7](ع) تقدم في "الإيمان" 27/ 219.

5 -

(مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَلْحَلَةَ) - بحاءين مهملتين، بينهما لام ساكنة - الدِّيليّ - بكسر الدال، وسكون الياء - المدنيّ، ثقةٌ [6](خ م د س) تقدم في "الحيض" 23/ 806.

والباقيان ذُكرا قبله.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتَّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5260]

(2023) - (وَحَدَّثَنَا عَمْرٌو النَّاقِدُ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ، عَنْ أَبِى سَعِيدٍ، قَالَ: نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنِ اخْتِنَاثِ الأَسْقِيَةِ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(عُبَيْدُ اللهِ) بن عبد الله بن عُتبة بن مسعود الْهُذليّ، أبو عبد الله المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ [3](ت 94) وقيل غير ذلك (ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 14.

2 -

(أَبُو سَعِيدٍ) سعد بن مالك بن سِنان بن عُبيد الأنصاريّ الْخُدريّ الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، مات سنة (3 أو 4 أو 65) وقيل:(74)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 485.

والباقون ذُكروا في الباب، و"عمرو الناقد" هو: ابن محمد بن بُكير.

[تنبيه]: من لطائف هدا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف، وفيه رواية تابعيّ عن تابعىّ، وفيه عبيد الله أحد الفقهاء السبعة المجموعين في قول بعضهم:

إِذَا قِيلَ مَنْ فِي الْعِلْمِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ

مَقَالَتُهُمْ لَيْسَتْ عَنِ الْحَقِّ خَارِجَهْ

ص: 139

فَقُلْ هُمْ عُبَيْدُ اللهِ عُرْوَةُ قَاسِمٌ

سَعِيدٌ أَبُو بَكْرٍ سُلَيْمَانُ خَارِجَهْ

وقال الحافظ العراقيّ رحمه الله في "ألفيّة الحديث":

وَفِي الْكِبَارِ الْفُقَهَاءُ السَّبْعَةُ

خَارِجَةُ الْقَاسِمُ ثُمَّ عُرْوَةُ

ثُمَّ سُلَيْمَانُ عُبَيْدُ اللهِ .... سَعِيدُ وَالسَّابِعُ ذُو اشْتِبَاهِ

إِمَّا أَبُو سَلَمَةٍ أَوْ سَالِمُ

أَوْ فَأَبُو بَكْرٍ خِلَافٌ قَائِمُ

وفيه أيضًا أبو سعيد الخُدريّ رضي الله عنه أحد المكثرين السبعة المجموعين في قولي:

الْمُكْثِرُونَ فِي رِوَايَةِ الْخَبَرْ

مِنَ الصَّحَابَةِ الأَكَارِمِ الْغُرَرْ

أَبُو هُرَيْرَةَ يَلِيهِ ابْنُ عُمَرْ

فَأَنَسٌ فَزَوْجَةُ الْهَادِي الأَبَرّ

ثُمَّ ابْنُ عَبَّاسٍ يَلِيهِ جَابِرُ

وَبَعْدَهُ الْخُدْرِيُّ فَهْوَ آخِرُ

وهذا كلّه تقدّم غير مرّة، وإنما أعدته تذكيرًا؛ لطول العهد به، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ عُبَيْدِ اللهِ) بالتصغير بن عبد الله بن عُتبة، وصرّح في رواية للبخاريّ بتحديث عبيد الله للزهريّ، ولفظه:"عن الزهريّ قال: حدّثني عبيد الله بن عبد الله". (عَنْ أَبِي سَعِيدٍ) الخدريّ رضي الله عنه، وصرّح عند البخاريّ بالسماع، ولفظه:"أنه سمع أبا سعيد الخدريّ يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى. . .". (قَالَ: نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنِ اخْتِنَاثِ الأَسْقِيَةِ)"الاختناث": افتعال من الْخَنْث، بالخاء المعجمة، والنون، والثاء المثلثة، وهو الانطواء، والتكسر، والانثناء، و"الأسقية": جمع السِّقاء، والمراد به المتَّخَذ من الأَدَم، صغيرًا كان، أو كبيرًا، وقيل: القربة قد تكون كبيرة، وقد تكون صغيرة، والسقاء لا يكون إلا صغيرًا، قاله في "الفتح"

(1)

.

وقال النوويّ رحمه الله: قوله: "نَهَى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اختناث الأسقية"، وقال في الرواية الأخرى:"واختناثها أن يُقلَب رأسها، حتى يُشْرَب منه"،

(1)

"الفتح" 12/ 684، كتاب "الأشربة" رقم (5625).

ص: 140

الاختناث بخاء معجمة، ثم تاء مثناة فوقُ، ثم نون، ثم ألف، ثم مثلثة، وقد فسّره في الحديث، وأصل هذه الكلمة: التكسر، والانطواء، ومنه سُمّي الرجل المتشبه بالنساء في طبعه، وكلامه، وحركاته مُخَنّثًا.

قال: واتفقوا على أن النهي عن اختناثها نهي تنزيه، لا تحريم، ثم قيل: سببه أنه لا يؤمَن أن يكون في السِّقاء ما يؤذيه، فيدخل في جوفه، ولا يدري، وقيل: لأنه يُقَذِّره على غيره، وقيل: إنه يُنتنه، أو لأنه مستقذر.

وقد رَوَى الترمذيّ وغيره عن كبشة بنت ثابت، وهي أخت حسان بن ثابت رضي الله عنهما قالت: دخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فشرب من قِربة معلَّقة قائمًا، فقمت إلى فيها فقطعته، قال الترمذيّ: هذا حديث حسنٌ صحيحٌ.

وقَطْعُها لفم القربة فَعَلَتْه لوجهين:

أحدهما: أن تصون موضعًا أصابه فم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أن يُبتذل، ويمسّه كل أحد.

والثاني: أن تحفظه؛ للتبرك به، والاستشفاء، والله أعلم.

فهذا الحديث يدلّ على أن النهي ليس للتحريم. انتهى كلام النوويّ رحمه الله

(1)

، وهو بحث حسنٌ، والله تعالى أعلم.

زاد في رواية البخاريّ بعد قوله: "عن اختناث الأسقية" ما نصّه: "يعني أن تُكسر أفواهها، فيُشرب منها"، فقال في "الفتح": قوله: "يعني أن تُكسر أفواهها، فيُشرب منها" المراد بكسرها ثَنْيُها، لا كسرها حقيقةً، ولا إبانتها، والقائل:"يعني" لم يصَرَّح به في هذه الطريق، ووقع عند أحمد، عن أبي النضر، عن ابن أبي ذئب بحذف لفظ "يعني" فصار التفسير مدرَجًا في الخبر.

ووقع في الرواية الثانية: قال عبد الله -هو ابن المبارك -: قال معمر - هو ابن راشد - أو غيره: هو الشرب من أفواهها، وعبد الله بن المبارك روى المرفوع عن يونس، عن الزهريّ، وروى التفسير عن معمر، مع التردد.

وقد أخرجه الإسماعيليّ من طريق ابن وهب، عن يونس، وابن أبي ذئب معًا مدرجًا، ولفظه: "ينهى عن اختناث الأسقية، أو الشرب أن يشرب من

(1)

"شرح النوويّ" 13/ 194.

ص: 141

أفواهها"، كذا فيه بحرف التردد، وهو عند مسلم من طريق ابن وهب، عن يونس وحده، بلفظ: "عن اختناث الأسقية، أن يُشرَب من أفواهها"، وهذا أشبه، وهو أنه تفسير الاختناث، لا أنه شكٌّ من الراوي في أيّ اللفظين وقع في الحديث، لكن ظاهره أن التفسير في نفس الخبر، وأخرجه مسلم أيضًا من طريق عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهريّ، ولم يسق لفظه، لكن قال مثله، قال: غير أنه قال: "واختناثها أن يُقْلَب رأسها، ثم يُشْرَب"، وهو مدرج أيضًا، وقد جزم الخطابيّ أن تفسير الاختناث من كلام الزهريّ، ويُحْمَل التفسير المطلق، وهو الشرب من أفواهها على المقيّد بكسر فمها، أو قلب رأسها.

ووقع في مسند أبي بكر بن أبي شيبة، عن يزيد بن هارون، عن ابن أبي ذئب في أول هذا الحديث: شَرِب رجل من سقاء، فانساب في بطنه جَانّ، فنَهَى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكره

(1)

، وكذا أخرجه الإسماعيليّ من طريق أبي بكر وعثمان ابني أبي شيبة، فرّقهما، عن يزيد به، قاله في "الفتح"

(2)

.

[تنبيه]: قال الإمام البخاريّ رحمه الله في "صحيحه": "بَابُ الشرب من فم السقاء":

(5628)

- حدثنا مسدَّد، حدّثنا إسماعيل، أخبرنا أيوب، عن عكرمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه:"نَهَى النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يُشْرَب مِنْ في السقاء".

(5629)

- حدثنا مسدّد، حدّثنا يزيد بن زُريع، حدّثنا خالد، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:"نَهَى النبيّ صلى الله عليه وسلم عن الشرب من في السقاء". انتهى.

هذا الحديثان ما أخرجهما مسلم، قال ابن الْمُنَيِّر: لم يقنع بالترجمة التي قبلها - يعني قوله: باب اختناث الأسقية - لئلا يُظَنّ أن النهي خاصّ بصورة الاختناث، فبيّن أن النهي يَعُمّ ما يمكن اختناثه، وما لا يمكن، كالفَخّار مثلًا. انتهى.

وقال في "الفتح": قوله: "أن يشرب من في السقاء" زاد أحمد عن إسماعيل بهذا الإسناد والمتن: "قال أيوب: فأنبئت أن رجلًا شرب من في

(1)

إسناده صحيح.

(2)

"الفتح" 12/ 684، كتاب "الأشربة" رقم (5625).

ص: 142

السقاء، فخرجت حية"، وكذا أخرجه الإسماعيليّ من رواية عباد بن موسى، عن إسماعيل، ووَهِمَ الحاكم، فأخرج الحديث في "المستدرك" بزيادته، والزيادة المذكورة ليست على شرط الصحيح؛ لأن راويها لم يُسَمَّ، وليست موصولةً، لكن أخرجها ابن ماجه من رواية سَلَمة بن وَهْرام، عن عكرمة، بنحو المرفوع، وفي آخره: "وأن رجلًا قام من الليل بعد النهي إلى سقاء، فاختنثه، فخرجت عليه منه حية"، وهذا صريح في أن ذلك وقع بعد النهي، بخلاف ما تقدم من رواية ابن أبي ذئب في أن ذلك كان سبب النهي، ويمكن الجمع بأن يكون ذلك وقع قبل النهي، فكان من أسباب النهي، ثم وقع أيضًا بعد النهي تأكيدًا. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: رواية ابن ماجه المذكورة ضعيفة أيضًا؛ لأن في سندها زَمْعَة بن صالح، وهو ضعيف، كما في "التقريب".

لكن أخرج الحديث ابن أبي شيبة في "مصنّفه" بسند صحيح، فقال:

(24127)

-حدثنا أبو بكر، قال: حدّثنا يزيد بن هارون، عن ابن أبي ذئب، عن الزهريّ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن أبي سعيد، قال: شَرِب رجل من سقاء، فانساب في بطنه جانّ، فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اختناث الأسقية. انتهى

(2)

، والله تعالى أعلم.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي سعيد الْخُدْريّ رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [1/ 5260 و 5261 و 5262](2023)، و (البخاريّ) في "الأشربة"(5625 و 5626)، و (أبو داود) في "الأشربة"(3720)، و (الترمذيّ) في "الأشربة"(1890)، و (ابن ماجه) في "الأشربة"(3418)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(19599)، و (ابن أبي شيبة) في

(1)

"الفتح" 12/ 686، كتاب "الأشربة" رقم (5625).

(2)

"مصنف ابن أبي شيبة" 5/ 102.

ص: 143

"مصنّفه"(5/ 102)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 6 و 67 و 69 و 93)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 119)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(6/ 282)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5317)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(2/ 365)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(5/ 148 - 149)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(4/ 277)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(7/ 285) و"شُعَب الإيمان"(5/ 116)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(3041)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في اختلاف أهل العلم في حكم الشرب من في السقاء:

قال في "الفتح": قال النوويّ: اتفقوا على أن النهي هنا للتنزيه، لا للتحريم، كذا قال، وفي نقل الاتفاق نظرٌ؛ لِمَا سأذكره، فقد نقل ابن التين وغيره عن مالك أنه أجاز الشرب من أفواه القِرَب، وقال: لم يبلغني فيه نهي، وبالغ ابن بطال في ردّ هذا القول، واعتذر عنه ابن الْمُنَيّر باحتمال أنه كان لا يَحمِل النهي فيه على التحريم، كذا قال، مع النقل عن مالك أنه لم يبلغه فيه نهي، فالاعتذار عنه بهذا القول أَولى، والحجة قائمة على من بلغه النهي.

قال النوويّ: ويؤيّد كون هذا النهي للتنزيه أحاديث الرخصة في ذلك.

قال الحافظ: لم أرَ في شيء من الأحاديث المرفوعة ما يدلّ على الجواز، إلا مِنْ فِعله صلى الله عليه وسلم، وأحاديث النهي كلها من قوله، فهي أرجح إذا نظرنا إلى علة النهي عن ذلك، فإن جميع ما ذكره العلماء في ذلك يقتضي أنه مأمون منه صلى الله عليه وسلم: أما أوّلًا فلعصمته، ولطيب نكهته، وأما ثانيًا فلرفقه في صب الماء، وبيان ذلك بسياق ما ورد في علة النهي، فمنها ما تقدم من أنه لا يؤمَن دخول شيء من الهوامّ مع الماء في جوف السقاء، فيدخل فم الشارب، وهو لا يشعر، وهذا يقتضي أنه لو ملأ السقاء، وهو يشاهد الماء يدخل فيه، ثم ربطه ربطًا محكمًا، ثم لمّا أراد أن يشرب حلّه فشرب منه، لا يتناوله النهي.

ومنها ما أخرجه الحاكم من حديث عائشة رضي الله عنها بسند قويّ، بلفظ:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم نَهَى أن يُشْرَب من في السقاء؛ لأن ذلك يُنتنه"، وهذا يقتضي أن يكون النهي خاصًّا بمن يشرب، فيتنفس داخل الإناء، أو باشر بفمه باطن السقاء، أما من صبّ من القربة داخل فمه من غير مماسة فلا.

ص: 144

ومنها أن الذي يشرب من فم السقاء قد يغلبه الماء، فينصب منه أكثر من حاجته، فلا يأمَن أن يُشْرَق به، أو تبتلّ ثيابه.

قال ابن العربيّ: وواحدة من الثلاثة تكفي في ثبوت الكراهة، وبمجموعها تقوى الكراهة جدًّا.

وقال الشيخ محمد بن أبي جمرة ما ملخّصه: اختُلف في علة النهي، فقيل: يخشى أن يكون في الوعاء حيوان، أو ينصب بقوة، فيشرق به، أو يقطع العروق الضعيفة التي بإزاء القلب، فربما كان سبب الهلاك، أو بما يتعلق بفم السقاء من بخار النفَس، أو بما يخالط الماء من ريق الشارب فيتقذره غيره، أو لأن الوعاء يفسد بذلك في العادة، فيكون من إضاعة المال، قال: والذي يقتضيه الفقه أنه لا يبعد أن يكون النهي لمجموع هذه الأمور، وفيها ما يقتضي الكراهة، وفيها ما يقتضي التحريم، والقاعدة في مثل ذلك ترجيح القول بالتحريم، وقد جزم ابن حزم بالتحريم؛ لثبوت النهي، وحَمَل أحاديث الرخصة على أصل الإباحة، وأطلق أبو بكر الأثرم صاحب أحمد أن أحاديث النهي ناسخة للإباحة؛ لأنهم كانوا أوّلًا يفعلون ذلك حتى وقع دخول الحية في بطن الذي شرب من فم السقاء، فنُسخ الجواز.

قال الحافظ: ومن الأحاديث الواردة في الجواز ما أخرجه الترمذيّ، وصحَّحه من حديث عبد الرحمن بن أبي عمرة، عن جدّته كبشة، قالت:"دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فشَرِب من في قِربة معلّقة"، وفي الباب عن عبد الله بن أنيس، عند أبي داود، والترمذيّ، وعن أم سلمة في "الشمائل"، وفي "مسند أحمد"، والطبرانيّ، و"المعاني" للطحاويّ.

قال الحافظ العراقيّ في "شرح الترمذيّ": لو فُرِّق بين ما يكون لعذر، كأن تكون القربة معلقةً، ولم يجد المحتاج إلى الشرب إناء متيسِّرًا، ولم يتمكن من التناول بكفه، فلا كراهة حينئذ، وعلى ذلك تُحمل الأحاديث المذكورة، وبين ما يكون لغير عذر، فتُحمل عليه أحاديث النهي.

قال الحافظ: ويؤيده أن أحاديث الجواز كلها فيها أن القربة كانت معلَّقة، والشرب من القربة المعلقة أخص من الشرب من مطلق القربة، ولا دلالة في أخبار الجواز على الرخصة مطلقًا، بل على تلك الصورة وحدها، وحَمْلها على

ص: 145

حال الضرورة جمعًا بين الخبرين أَولى من حملها على النَّسخ، والله أعلم.

وقد سبق ابن العربيّ إلى نحو ما أشار إليه العراقيّ، فقال: يَحْتَمِل أن يكون شُربه صلى الله عليه وسلم في حال ضرورة، إما عند الحرب، وإما عند عدم الإناء، أو مع وجوده، لكن لم يتمكن لشغله من التفريغ من السقاء في الإناء، ثم قال: ويَحْتَمِل أن يكون شرب من إداوة، والنهي محمول على ما إذا كانت القربة كبيرة؛ لأنها مظنة وجود الهوامّ، كذا قال، والقربة الصغيرة لا يمتنع وجود شيء من الهوامّ فيها، والضرر يحصل به، ولو كان حقيرًا، والله أعلم. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: عندي أن القول بحمل النهي على التحريم أرجح؛ لأن النهي يقتضي التحريم إلا لصارف، ولا صارف هنا، لأن ما ذكروه صارفًا من فعل النبيّ صلى الله عليه وسلم ليس قويًّا؛ لِمَا ذُكر من حَمْله على حالة الضرورة، فتأمل بالإمعان، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتَّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5261]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُتْبَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، أَنَّهُ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ اخْتِنَاثِ الأَسْقِيَةِ، أَنْ يُشْرَبَ مِنْ أَفْوَاهِهَا).

رجال هذا الإسناد: ستة:

وكلّهم ذُكروا في الباب، وقبل بابين، والحديث متّفقٌ عليه.

وقوله: (نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ اخْتِنَاثِ الأَسْقِيَةِ) قال القرطبيّ رحمه الله: ونهيه صلى الله عليه وسلم عن اختناث الأسقية، قال الراوي: واختناثها أن يُقْلَبَ رأسُها، ويُشرب منه، قال ابن دريد: اختناث الأسقية: كسر أفواهها إلى خارج؛ ليُشرب منها، فأمَّا كسرها إلى داخل فهو القَمْع.

قال القرطبيّ: وأصل هذه اللفظة: التَّكسر، والتثني، ومنه: المخنَّث وهو

(1)

"الفتح" 12/ 686 - 688، كتاب "الأشربة" رقم (5625).

ص: 146

الذي يتكسَّر في كلامه تكسُّر النساء، ويَنْثَنِي في مِشْيَته كمشيتهنَّ.

وقيل في هذا، وفي نهيه صلى الله عليه وسلم عن الشرب من فم السقاء أن ذلك مخافة أن يتقزَّز منه بعض الناس فيستقذره، وقيل: لِمَا يُخاف من ضرر يكون هنالك، كما رُوي عن أبي سعيد: أن رجلًا شرب من في سقاء فانساب جانّ

(1)

في بطنه، فنهى النبيّ صلى الله عليه وسلم عن اختناث الأسقية، وأن يُشرب من أفواهها، ذكره أبو بكر بن أبي شيبة من رواية الزهريّ، وقد خرَّج الزبيريّ وغيره: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قام إلى قربة، فخنثها، وشرب من فيها، وهذا - إن صحَّ

(2)

- محمله: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم عَلِم أنه لم يكن هنالك شيء يضرّ، وأنه لم يكن يُستقذر منه شيء، بل كان كلُّ ما يُستقذر من غيره يستطاب منه، وتطيب به الأشياء. انتهى

(3)

.

وقوله: (أَنْ يُشْرَبَ مِنْ أفوَاهِهَا)"أن" مصدريّة، والفعل مبنيّ للمفعول، والمصدر المؤوّل بدل من "اختناث"، فهو تفسير لمعنى الاختناث، وهذا التفسير تقدّم أنه مدرج، وقد جزم الخطّابيّ أنه من تفسير الزهريّ.

ويُحمل هذا التفسير المطلق، وهو الشرب من أفواهها على المقيّد بكسر فمها، أو قلب رأسها؛ أي: في رواية للبخاريّ بقوله: "يعني: أن تُكسر أفواهها، فيُشرب منها"، والله تعالى أعلم.

وقوله: (مِنْ أفوَاهِهَا) قال في "العمدة": الأفواه: جمع فم، على سبيل

(1)

الجانّ: ضرب من الحيّات، أكحل العينين، يَضرب إلى الصفرة، لا يؤذي، والجمع: جِنّان.

(2)

قال الجامع: لا يصحّ هذا الحديث، فقد قال الترمذيّ في "الجامع" بعد إخراجه من حديث عيسى بن عبد الله بن أُنيس عن أبيه: هذا إسناد ليس إسناده بصحيح، وعبد الله بن عمر الْعُمَريّ يُضعّف من قِبَل حفظه، ولا أدري سمع من عيسى أم لا. انتهى.

وإنما الحديث صحيح بغير ذكر لفظ: "فخنثها"، فقد أخرجه الترمذي بسند صحيح 4/ 306، عن عبد الرحمن بن أبي عمرة، عن جدّته كبشة، قالت:"دخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فشرب من في قربة معلقة، قائمًا، فقمت إلى فيها فقطعته"، قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح غريب. انتهى.

(3)

"المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" 5/ 286 - 288.

ص: 147

الردّ إلى الأصل؛ لأن أصل فَمٍ: فَوْهٌ، حُذفت منه الهاء؛ لاستثقالها عند الضمير، لو قيل:"فَوْهُهُ"، فلما حُذفت عُوِّضت عنها الميم. انتهى

(1)

.

وقال في "الفتح": الأفواه: جمع فم، وهو على سبيل الردّ إلى الأصل في الفم أنه فَوْهٌ، نُقصت منه الهاء؛ لاستثقال هاءين عند الضمير لو قال: فَوْهُهُ، فلمّا لم تَحْتَمِل الواوُ بعد حذف الهاء الإعرابَ؛ لسكونها عُوِّضت ميمًا، فقيل: فَمٌ وهذا إذا أُفرد، ويجوز أن يُقتصر على الفاء إذا أضيف، لكن تزاد حركة مُشْبَعةٌ يختلف إعرابها بالحروف، فإن أضيف إلى مضمر كَفَت الحركات، ولا يضاف مع الميم إلا في ضرورة الشعر، كقول الشاعر [من الرجز]:

كَالْحُوتِ لَا يُلْهِيهِ شَيْءٌ يَلْقَمُهْ

يُصْبِحُ عَطْشَانَ وَفِي الْبَحْرِ فَمُهْ

فإذا أرادوا الجمع، أو التصغير ردّوه إلى الأصل، فقالوا: فُوَيْهٌ، وأَفْواهٌ، ولم يقولوا: فُمَيمٌ، ولا أَفْمَامٌ. انتهى

(2)

.

وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5262]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَاهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، بِهَذَا الإِسْنَادِ، مِثْلَهُ، غَيْرَ أنَّهُ قَالَ: وَاخْتِنَاثُهَا أَنْ يُقْلَبَ رَأْسُهَا، ثُمَّ يُشْرَبَ مِنْهُ).

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ) الْكِسّيّ، تقدّم قبل بابين.

2 -

(عَبْدُ الرَّزَّاقِ) بن همّام بن نافع الْحِمْيريّ مولاهم، أبو بكر الصنعانيّ، ثقةٌ حافظٌ مصنّف شهير، عَمِي في آخره، فتغيّر، وكان يتشيّع [9](211) وله (85) سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.

3 -

(مَعْمَرُ) بن راشد الأزديّ مولاهم، أبو عروة البصريّ، نزيل اليمن، ثقةٌ ثبتٌ فاضلٌ، من كبار [8](ت 154) وهو ابن (58) سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.

و"الزهريّ" ذُكر قبله.

(1)

"عمدة القاري" 21/ 198.

(2)

"الفتح" 12/ 685، كتاب "الأشربة" رقم (5625).

ص: 148

وقوله: (بِهَذَا الإِسْنَادِ)؛ أي: بإسناد الزهريّ السابق، وهو: عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، عن أبي سعيد الْخُدريّ رضي الله عنه.

وقوله: (مِثْلَهُ)؛ أي: مثل المتن السابق.

وقوله: (غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ) الضمير لمعمر بن راشد.

[تنبيه]: رواية معمر، عن الزهريّ هذه ساقها أبو عوانة رحمه الله في "مسنده"، لكنه بالشكّ، فقال:

(8185)

- حدثنا أبو داود السجزيّ، قثنا مسدّد، قثنا سفيان، عن الزهريّ (ح) وحدّثنا السلميّ، قال: ثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهريّ، عن عبيد الله، أو عطاء بن يزيد، عن أبي سعيد الخدريّ، قال: نَهَى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اختناث الأسقية، واختناثُها أن يُقْلَب رأسها، ثم يُشْرَب منه. انتهى

(1)

.

وساقها البيهقيّ في "الكبرى" بدون شكّ، ولكن جعل التفسير عن الأصمعيّ، فقال:

(14438)

- أخبرنا أبو الحسين بن بشران، أنا إسماعيل بن محمد الصفّار، نا أحمد بن منصور، نا عبد الرزاق، أنا معمر، عن الزهريّ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن أبي سعيد الخدريّ، قال:"نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اختناث الأسقية"، رواه مسلم في "الصحيح" عن عبد بن حميد، عن عبد الرزاق، وأخرجه البخاريّ من وجهين آخرين، عن الزهريّ، قال الأصمعيّ: الاختناث أن تُثني أفواهها، ثم يشرب منها. انتهى

(2)

.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}

(2) - (بَابُ النَّهْيِ عَنِ الشُّرْبِ قَائِمًا)

وبالسند المتَّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5263]

(2024) - (حَدَّثَنَا هَدَّابُ بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم زَجَرَ عَنِ الشُّرْبِ قَائِمًا).

(1)

"مسند أبي عوانة" 5/ 149.

(2)

"سنن البيهقيّ الكبرى" 7/ 285.

ص: 149

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(هَدَّابُ بْنُ خَالِدِ) بن الأسود القيسيّ، أبو خالد البصريّ، ويقال له: هُدْبة، ثقةٌ عابدٌ، تفرّد النسائيّ بتليينه، من صغار [9] مات سنة بضع و (230)(خ م د) تقدم في "الإيمان" 11/ 151.

2 -

(هَمَّامُ) بن يحيى بن دينار الْعَوْذيّ، أبو عبد الله، أو أبو بكر البصريّ، ثقةٌ [7](ت 4 أو 165)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 70.

3 -

(قَتَادَةُ) بن دِعامة السَّدُوسيّ، أبو الخطّاب البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ يُدلّس، من رؤوس [4](ت 7 أو 118)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 70.

4 -

(أَنَسُ) بن مالك رضي الله عنه تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (393) من رباعيّات الكتاب، وأنه مسلسلٌ بالبصريين، وفيه أنس رضي الله عنه من المكثرين السبعة، روى (2286) حديثًا.

شرح الحديث:

(عَنْ أَنَسِ) بن مالك رضي الله عنه (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم زَجَرَ) هو بمعنى الراوية التالية: "نَهَى"، يقال: زجرته زَجْرًا، من باب نصر: إذا منعته، فانزجر، وازدجر ازدجارًا، والأصل: ازتجر، على اعتَعَلَ، يُستعمل لازمًا، ومتعدّيًا، وتزاجروا عن المنكر: زَجَرَ بعضُهم بعضًا، قاله الفيّوميّ

(1)

. (عَنِ الشُّرْبِ قَائِمًا) قال النوويّ رحمه الله: قوله: "زَجَر عن الشرب قائمًا"، وفي رواية:"نَهَى عن الشرب قائمًا"، قال قتادة: قلنا: فالأكل؟ قال: "أشرّ، أو أخبث"، وفي رواية عن قتادة، عن أبي عيسى الأُسْواريّ، عن أبي سعيد الخدريِّ:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم زَجَر عن الشرب قائمًا"، وفي رواية عنه:"نَهَى عن الشرب قائمًا"، وفي رواية عن عُمر بن حمزة قال: أخبرني أبو غَطَفان الْمُرّيّ أنه سمع أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يشربنّ أحدكم قائمًا، فمن نسي فليستقيء"، وعن ابن

(1)

"المصباح المنير" 1/ 251.

ص: 150

عباس: "سقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم من زمزم، فشَرِب وهو قائم"، وفي الرواية الأخرى:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم شَرِب من زمزم، وهو قائم"، وفي "صحيح البخاريّ" أن عليًّا رضي الله عنه شَرِب قائمًا، وقال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل كما رأيتموني فعلتُ.

على أن هذه الأحاديث أشكل معناها على بعض العلماء، حتى قال فيها أقوالًا باطلةً، وزاد حتى تجاسر، ورام أن يضعّف بعضها، وادَّعَى فيها دعاوى باطلة، لا غرض لنا في ذكرها، ولا وجه لإشاعة الأباطيل، والغلطات في تفسير السنن، بل نذكر الصواب، ويشار إلى التحذير من الاغترار بما خالفه، وليس في هذه الأحاديث - بحمد الله تعالى - إشكال، ولا فيها ضَعْف، بل كلها صحيحة، والصواب فيها أن النهي فيها محمول على كراهة التنزيه، وأما شُربه صلى الله عليه وسلم قائمًا فبيان للجواز، فلا إشكال، ولا تعارض، وهذا الذي ذكرناه يتعيّن المصير إليه، وأما من زعم نَسْخًا، أو غيره فقد غَلِط غلطًا فاحشًا، وكيف يصار إلى النسخ مع إمكان الجمع بين الأحاديث، لو ثبت التاريخ، وأنّى له بذلك؟ والله أعلم.

[فإن قيل]: كيف يكون الشرب قائمًا مكروهًا، وقد فعله النبيّ صلى الله عليه وسلم؟.

[فالجواب]: أن فعله صلى الله عليه وسلم إذا كان بيانًا للجواز، لا يكون مكروهًا، بل البيان واجب عليه صلى الله عليه وسلم، فكيف يكون مكروهًا؟، وقد ثبت عنه أنه صلى الله عليه وسلم توضأ مرةً مرةً، وطاف على بعير، مع أن الإجماع على أن الوضوء ثلاثًا، والطواف ماشيًا أكمل، ونظائر هذا غير منحصرة، فكان صلى الله عليه وسلم ينبّه على جواز الشيء مرّةً، أو مرّات، ويواظب على الأفضل منه، وهكذا كان أكثر وضوئه صلى الله عليه وسلم ثلاثًا ثلاثًا، وأكثر طوافه ماشيًا، وأكثر شُربه جالسًا، وهذا واضح، لا يتشكك فيه من له أدنى نسبة إلى علم، والله أعلم. انتهى كلام النوويّ رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قد أجاد النوويّ رحمه الله في شرح أحاديث هذا الباب، وسيأتي تمام البحث فيه في المسألة الثالثة - إن شاء الله تعالى -.

(1)

"شرح النوويّ" 13/ 194 - 195.

ص: 151

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أنس رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [2/ 5263 و 5264 و 5265](2024)، و (أبو داود) في "الأشربة"(3717)، و (الترمذيّ) في "الأشربة"(1879)، و (ابن ماجه) في "الأشربة"(3424)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(2000)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 118 و 182 و 247)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(8/ 206)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 120 - 121) و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5321 و 5323)، و (الطحاويّ) في "معاني الآثار"(4/ 272)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(2973 و 3165 و 3195)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(5/ 451)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(7/ 281 - 282) و"شُعَب الإيمان"(5/ 108)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في اختلاف أهل العلم في حُكم الشرب قائمًا:

قال أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله: لم يَصِرْ أحدٌ من العلماء فيما علمتُ إلى أن هذا النهي على التحريم، وإن كان جاريًا على أصول الظاهرية، إنَّما حَمَله بعض العلماء على الكراهة، والجمهور: على جواز الشرب قائمًا، فمن السلف: أبو بكر، وعمر، وعليّ رضي الله عنهم، وجمهور الفقهاء، ومالك متمسكين في ذلك بشرب النبيّ صلى الله عليه وسلم من زمزم قائمًا، وكأنهم رأوا هذا الفعل منه متأخرًا عن أحاديث النهي، فإنَّه كان في حجة الوداع، فهو ناسخٌ، ويُحَقِّقُ ذلك حُكم الخلفاء الثلاثة بخلافها، ويبعدُ أن تخفى عليهم تلك الأحاديث مع كثرة علمهم، وشدَّة ملازمتهم للنبيّ صلى الله عليه وسلم، وتشدُّدهم في الدين، وهذا وإن لم يصلح للنسخ فيصلح لترجيح أحد الحديثين على الآخر.

وأمَّا من قال بالكراهة: فيجمع بين الحديثين بأن فعل النبيّ صلى الله عليه وسلم يبيِّن الجواز، والنَّهي يقتضي التنزيه؛ فالأولى: ترك ذلك على كل حال.

وأما قول قتادة: "الأكلُ أَشَرُّ": فَشَيءٌ لم يقل به أحدٌ من أهل العلم فيما علمتُ، وعلى ما حكاه النّقَلة والحفاظ، فهو رأيه، لا روايته، والأصل: الإباحة، والقياس خليٌّ عن الجامع.

ص: 152

قال الجامع عفا الله عنه: قوله: لا روايته فيه نظر لا يخفى، فإن قول قتادة: قلنا: فالأكل؛ أي: سألنا أنسًا عن الأكل، يردّه؛ فقد صرّح بأنه رواه عن أنس، وليس رأيًا له، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

قال: وقد ذهب بعض الناس: إلى أن النهي عن الشرب قائمًا إنما كان لئلا يستعجل القائم فَيَعُبَّ، فيأخذه الكُباد

(1)

، أو يُشْرَق، أو يأخذه وجع في الحلق، أو في المعدة؛ فينبغي ألا يشرب قائمًا، وحيث شرب النبيّ صلى الله عليه وسلم قائمًا أَمِن ذلك، أو دَعَته إلى ذلك ضرورة، أو حاجة، لا سيما وكان على زمزم، وهو موضع مزدحم الناس، أو لعلَّه فعل ذلك ليري الناس أنه ليس بصائم، أو لأن شُرب ماء زمزم في مثل ذلك الوقت مندوبٌ إليه، والله تعالى أعلم. انتهى

(2)

.

وقد أجاد الحافظ رحمه الله في "الفتح" في هذا المسألة، فأطال في البحث، وحقّق، وشرح ما تقدّم من كلام النوويّ، والقرطبيّ، وغيرهما من العلماء، أحببت إيراده بطوله؛ لنفاسته، وغزارة فوائده، قال رحمه الله:

قال المازريّ: اختَلَف الناس في هذا، فذهب الجمهور إلى الجواز، وكرهه قوم، فقال بعض شيوخنا: لعل النهي ينصرف لمن أتى أصحابه بماء، فبادر لشربه قائمًا قبلهم؛ استبدادًا به، وخروجًا عن كون ساقي القوم آخرهم شربًا، قال: وأيضًا فإن الأمر في حديث أبي هريرة بالاستقاء لا خلاف بين أهل العلم في أنه ليس على أحد أن يستقيء، قال: وقال بعض الشيوخ: الأظهر أنه موقوف على أبي هريرة، قال: وتضمَّن حديث أنس الأكل أيضًا، ولا خلاف في جواز الأكل قائمًا، قال: والذي يظهر لي أن أحاديث شُربه صلى الله عليه وسلم قائمًا تدلّ على الجواز، وأحاديث النهي تُحمَل على الاستحباب، والحثِّ على ما هو أَولى وأكمل، أو لأن في الشرب قائمًا ضررًا، فأنكره من أجله، وفَعَله هو لِأَمْنه، قال: وعلى هذا الثاني يُحمل قوله: "فمن نسي فليستقيء" على أن ذلك يُحَرِّك خِلْطًا يكون القيء دواءه، ويؤيده قول النخعيّ: إنما نُهِي عن ذلك لداء البطن. انتهى كلام المازريّ ملخصًا.

(1)

"الْكُبَاد"؛ كغُرَاب: وَجَع الْكَبِد، قاله في "القاموس".

(2)

"المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" 5/ 285 - 286.

ص: 153

وقال عياض: لم يُخَرِّج مالك، ولا البخاريّ أحاديث النهي، وأخرجها مسلم من رواية قتادة، عن أنس، ومن روايته عن أبي عيسى، عن أبي سعيد، وهو معنعن، وكان شعبة يتقي من حديث قتادة ما لا يصرح فيه بالتحديث، وأبو عيسى غير مشهور، واضطراب قتادة فيه مما يُعِلّه، مع مخالفة الأحاديث الأخرى، والأئمة له، وأما حديث أبي هريرة ففي سنده عُمر بن حمزة، ولا يُحْتَمَل منه مثل هذا؛ لمخالفة غيره له، والصحيح أنه موقوف. انتهى كلام عياض ملخصًا.

ووقع للنوويّ ما ملَخَّصه: هذه الأحاديث أشكل معناها على بعض العلماء، حتى قال فيها أقوالًا باطلةً، وزاد حتى تجاسر، ورام أن يُضَعِّف بعضها، ولا وجه لإشاعة الغلطات، بل يذكر الصواب، ويشار إلى التحذير عن الغلط، وليس في الأحاديث إشكال، ولا فيها ضعيف، بل الصواب أن النهي فيها محمول على التنزيه، وشُربه صلى الله عليه وسلم قائمًا لبيان الجواز، وأما من زعم نَسخًا، أو غيره، فقد غَلِطَ، فإن النسخ لا يصار إليه مع إمكان الجمع، لو ثبت التاريخ، وفِعْله صلى الله عليه وسلم لبيان الجواز لا يكون في حقه مكروهًا أصلًا، فإنه كان يفعل الشيء للبيان مرّةً، أو مرّات، ويواظب على الأفضل، والأمرُ بالاستقاءة محمول على الاستحباب، فيستحب لمن شرب قائمًا أن يستقيء لهذا الحديث الصحيح الصريح، فإن الأمر إذا تعذر حمله على الوجوب حُمِل على الاستحباب، وأما قول عياض: لا خلاف بين أهل العلم في أن من شرب قائمًا ليس عليه أن يتقيأ، وأشار به إلى تضعيف الحديث، فلا يلتفت إلى إشارته، وكون أهل العلم لم يوجبوا الاستقاءة لا يمنع من استحبابه، فمن ادعى منع الاستحباب بالإجماع فهو مجازف، وكيف تُترك السُّنَّة الصحيحة بالتوهمات، والدعاوي، والترهات؟ انتهى كلام النوويّ.

قال الحافظ: وليس في كلام عياض التعرض للاستحباب أصلًا، بل ونَقْلُ الاتفاق المذكور إنما هو كلام المازريّ كما مضى، وأما تضعيف عياض للأحاديث فلم يتشاغل النوويّ بالجواب عنه.

قال: وطريق الإنصاف أن لا تُدفَع حجة العالم بالصدر، فأما إشارته إلى تضعيف حديث أنس بكون قتادة مدلسًا، وقد عنعنه، فيجاب عنه بأنه صرّح في

ص: 154

نفس السند بما يقتضي سماعه له من أنس، فإن فيه:"قلنا لأنس: فالأكل؟ ".

وأما تضعيفه حديث أبي سعيد بأن أبا عيسى غير مشهور، فهو قول سَبَق إليه ابن المدينيّ؛ لأنه لم يرو عنه إلا قتادة، لكن وثقه الطبريّ، وابن حبان، ومثل هذا يُخَرَّج في الشواهد.

ودعواه اضطرابه مردودة؛ لأن لقتادة فيه إسنادين، وهو حافظ.

وأما تضعيفه لحديث أبي هريرة بعُمر بن حمزة فهو مختلف في توثيقه، ومثله يُخَرِّج له مسلم في المتابعات، وقد تابعه الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، كما أشرت إليه عند أحمد، وابن حبان، فالحديث بمجموع طرقه صحيح، والله أعلم.

قال النوويّ وتبعه العراقيّ في "شرح الترمذيّ": إن قوله: "فمن نسي" لا مفهوم له، بل يستحب ذلك للعامد أيضًا بطريق الأَولى، وإنما خص الناسي بالذِّكر؛ لكون المؤمن لا يقع ذلك منه بعد النهي غالبًا إلا نسيانًا.

قال الحافظ: وقد يُطلق النسيان، ويراد به الترك، فيشمل السهو والعمد، فكأنه قيل: من تَرَك امتثال الأمر، وشرب قائمًا، فليستقيء.

وقال القرطبيّ في "المفهم": لم يَصِر أحد إلى أن النهي فيه للتحريم، وإن كان جاريًا على أصول الظاهرية، والقول به، وتُعُقّب بأن ابن حزم منهم جزم بالتحريم، وتمسك من لم يقل بالتحريم بحديث عليّ المذكور عند البخاريّ

(1)

، وصححّ الترمذيّ من حديث ابن عمر:"كنا نأكل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن نمشي، ونشرب ونحن قيام"، وفي الباب عن سعد بن أبي وقاص، أخرجه الترمذيّ أيضًا، وعن عبد الله بن أُنيس، أخرجه الطبرانيّ، وعن أنس، أخرجه البزار، والأثرم، وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدّه، أخرجه الترمذيّ، وحسّنه، وعن عائشة، أخرجه البزار، وأبو علي الطوسيّ في "الأحكام"، وعن أم سليم نحوه، أخرجه ابن شاهين، وعن عبد الله بن السائب، عن خباب، عن أبيه، عن جدّه، أخرجه ابن أبي حاتم، وعن كبشة، قالت: دخل عليّ النبيّ صلى الله عليه وسلم، فشَرِب من قِرْبة مُعلّقة، أخرجه

(1)

هو حديث عليّ رضي الله عنه في شُربه قائمًا من فَضْل وضوئه، وقوله: إنه صلى الله عليه وسلم فعل ذلك.

ص: 155

الترمذيّ، وصحّحه، وعن كلثم نحوه، أخرجه أبو موسى بسند حسن.

قال: وثبت الشرب قائمًا عن عمر، أخرجه الطبريّ، وفي "الموطأ" أن عمر، وعثمان، وعليًّا كانوا يشربون قيامًا، وكان سعد، وعائشة لا يرون بذلك بأسًا، وثبتت الرخصة عن جماعة من التابعين.

قال: وسلك العلماء في ذلك مسالك:

[أحدها]: الترجيح، وأن أحاديث الجواز أثبت من أحاديث النهي، وهذه طريقة أبي بكر الأثرم، فقال: حديث أنس - يعني: في النهي - جيد الإسناد، ولكن قد جاء عنه خلافه - يعني: في الجواز - قال: ولا يلزم من كون الطريق إليه في النهي أثبت من الطريق إليه في الجواز أن لا يكون الذي يقابله أقوى؛ لأن الثَّبْت قد يروي من هو دونه الشيءَ، فيرجَّح عليه، فقد رُجِّح نافع على سالم في بعض الأحاديث، عن ابن عمر، وسالم مقدَّم على نافع في الثبت، وقُدِّم شريك على الثوريّ في حديثين، وسفيان مقدَّم عليه في جملة أحاديث، ثم أسند عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لا بأس بالشرب قائمًا، قال الأثرم: فدلّ على أن الرواية عنه في النهي ليست ثابتة، وإلا لَمَا قال: لا بأس به، قال: ويدلّ على وهاء أحاديث النهي أيضًا اتفاق العلماء على أنه ليس على أحد شرب قائمًا أن يستقيء.

[المسلك الثاني]: دعوى النسخ، وإليها جنح الأثرم، وابن شاهين، فقررا على أن أحاديث النهي على تقدير ثبوتها منسوخة بأحاديث الجواز، بقرينة عمل الخلفاء الراشدين، ومعظم الصحابة والتابعين بالجواز، وقد عكس ذلك ابن حزم، فادَّعَى نسخ أحاديث الجواز بأحاديث النهي؛ متمسكًا بأن الجواز على وفق الأصل، وأحاديث النهي مُقَرِّرة لحكم الشرع، فمن ادعى الجواز بعد النهي فعليه البيان، فإن النسخ لا يثبت بالاحتمال.

وأجاب بعضهم بأن أحاديث الجواز متأخرة؛ لِمَا وقع منه صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، كما ثبت ذلك في حديث ابن عباس، وإذا كان ذلك الأخير من فِعْله صلى الله عليه وسلم دلّ على الجواز، ويتأيّد بفعل الخلفاء الراشدين بعده.

[المسلك الثالث]: الجمع بين الخبرين بضرب من التأويل، فقال أبو الفرج الثقفيّ في نَصْره الصحاح: والمراد بالقيام هنا: المشي، يقال: قام في

ص: 156

الأمر إذا مشى فيه، وقمتَ في حاجتي: إذا سعيت فيها، وقضيتها، ومنه قوله تعالى:{إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا} [آل عمران: 75]؛ أي: مواظبًا بالمشي عليه.

وجنح الطحاويّ إلى تأويل آخر، وهو حمل النهي على من لم يسمّ عند شربه، وهذا إن سُلّم له في بعض ألفاظ الأحاديث لم يسلّم له في بقيتها.

وسلك آخرون في الجمع بحمل أحاديث النهي على كراهة التنزيه، وأحاديث الجواز على بيانه، وهي طريقة الخطابيّ، وابن بطال، في آخرين، قال الحافظ: وهذا أحسن المسالك، وأسلمها، وأبعدها من الاعتراض، وقد أشار الأثرم إلى ذلك أخيرًا، فقال: إن ثبتت الكراهة حُملت على الإرشاد، والتأديب، لا على التحريم، وبذلك جزم الطبريّ، وأيده بأنه لو كان جائزًا ثم حرّمه، أو كان حرامًا ثم جوّزه لبيَّن النبيّ صلى الله عليه وسلم ذلك بيانًا واضحًا، فلما تعارضت الأخبار بذلك جمعنا بينها بهذا.

وقيل: إن النهي عن ذلك إنما هو من جهة الطبّ مخافة وقوع ضرر به، فإن الشرب قاعدًا أمكن، وأبعد من الشرق، وحصول الوجع في الكبد، أو الحلق، وكل ذلك قد لا يأمَن منه من شرب قائمًا. انتهى كلام الحافظ رحمه الله في "الفتح"

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن بما سبق من استعراض الأقوال، وأدلّتها في مسألة الشرب قائمًا أن الذي يترجّح عندي مذهب من جمع بين الأحاديث بحمل أحاديث النهي على كراهة التنزيه، كما قال به جماعة، وحقّقه الطبريّ، واستحسنه الحافظ؛ لأن به تجتمع الأدلّة من غير إجحاف ببعضها، ولا تكلّف، فتأمل ذلك بالإمعان، والله تعالى أعلم بالصواب.

وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5264]

(. . .) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَى، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ نَهَى أَنْ يَشْرَبَ الرَّجُلُ قَائِمًا، قَالَ قَتَادَةُ: فَقُلْنَا

(2)

: فَالأَكْلُ؟ فَقَالَ: ذَاكَ أَشَرُّ، أَوْ أَخْبَثُ).

(1)

"الفتح" 12/ 673 - 676، كتاب "الأشربة" رقم (5615).

(2)

وفي نسخة: "فقلت".

ص: 157

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(عَبْدُ الأَعْلَى) بن عبد الأعلى الساميّ، أبو محمد البصريّ، ثقةٌ [8](ت 189)(ع) تقدم في "الطهارة" 5/ 557.

2 -

(سَعِيدُ) بن أبي عروبة مِهْران اليشكريّ مولاهم، أبو النضر البصريّ، ثقةٌ حافظ، له تصانيف، إلا أنه مدلّس، واختلط، وكان من أثبت الناس في قتادة [6](ت 6 أو 157)(ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 127.

والباقون ذُكروا في الباب، وقبله.

وقوله: (قَالَ قَتَادَةُ: فَقُلْنَا) وفي بعض النسخ: "فقلت".

وقوله: (فَالأَكْلُ) بالرفع؛ أي: ما حكم الأكل قائمًا؟.

وقوله: (فَقَالَ: ذَاكَ أَشَرُّ، أَوْ أَخْبَثُ) فاعل "قال" ضمير أنس، و"أو" فيه للشكّ من الراوي، ثم إن هذا ظاهر في أن قتادة رواه عن أنس، وليس رأيًا له، فيردّ ما سبق من قول بعضهم: إنه رأيه، فتنبّه.

وقوله: (ذَاكَ أَشَرُّ، أَوْ أَخْبَثُ) هكذا وقع في الأصول: "أشرّ" بالألف، والمعروف في العربية "شَرّ" بغير ألف، وكذلك "خير"، قال الله تعالى:{أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا} [الفرقان: 24]، وقال تعالى:{فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا} [مريم: 75]، ولكن هذه اللفظة وقعت هنا على الشكّ، فإنه قال:"أشر، أو أخبث" فشك قتادة في أن أنسًا قال: "أشر"، أو قال:"أخبث" فلا يثبت عن أنس أشر بهذه الرواية، فإن جاءت هذه اللفظة بلا شك، وثبتت عن أنس، فهو عربيّ فصيح، فهي لغة، وإن كانت قليلة الاستعمال، ولهذا نظائر، مما لا يكون معروفًا عند النحويين، وجاريًا على قواعدهم، وقد صحّت به الأحاديث، فلا ينبغي ردّه إذا ثبت، بل يقال: هذه لغة قليلة الاستعمال، ونحو هذا من العبارات، وسببه أن النحويين لم يحيطوا إحاطة قطعية بجميع كلام العرب، ولهذا يَمنع بعضهيم ما ينقله غيره عن العرب، كما هو معروف، والله أعلم. انتهى كلام النوويّ رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: أخير وأشرّ أثبته أهل اللغة نقلًا عن بعض

(1)

"شرح النوويّ" 13/ 196 - 197.

ص: 158

العرب، قال الفيّوميّ رحمه الله: وهذا أخير من هذا بالألف في لغة بني عامر، وكذلك أشرّ منه، وسائر العرب تُسقط الألف منهما. انتهى

(1)

.

وقال المجد رحمه الله: وهو أخير منك، كخيرٌ. انتهى

(2)

.

وقال ابن مالك رحمه الله في "الكافية" مشيرًا إلى مذهب جمهور العرب:

وَغَالِبًا أَغْنَاهُمُ خَيْرٌ وَشَرّ

عَنْ قَوْلِهِمْ أَخْيَرُ مِنْهُ وَأَشَرّ

وقال الخضريّ رحمه الله في "حاشيته" عند تعريف أفعل التفضيل بأنه الوصف الموازن لأفعل؛ أي: ولو تقديرًا. قولنا: ولو تقديرًا لإدخال خير وشرّ، فأصلهما أخير، وأشرّ، وقد يُستعملان كذلك، كقراءة بعضهم:"مَن الكذّاب الأشرّ"، وقوله:

بِلَالٌ خَيْرُ النَّاسِ وَابْنُ الأَخْيَرِ

حُذفت همزتها؛ لكثرة الاستعمال، فهو شاذّ قياسًا، لا استعمالًا، وفيهما شُذوذ آخر، وهو كونهما لا فِعْل لهما، وقد يُحمَل عليهما في الحذف أحبّ، كقوله:

وَحَبُّ شَيْءٍ إِلَى الإِنْسَانِ مَا مُنِعَا

وهو قليل. انتهى

(3)

.

وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5265]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَاهُ قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، قَالَا: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِهِ، وَلَمْ يَذْكُرْ قَوْلَ قَتَادَةَ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(وَكِيعُ) بن الجرّاح بن مَلِيح، أبو سفيان الرُّؤاسيّ الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ عابدٌ، من كبار [9](ت 6 أو 197)(ع) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.

(1)

"المصباح المنير" 1/ 186.

(2)

"القاموس" ص 406.

(3)

"حاشية الخضريّ على شرح ابن عقيل على الخلاصة" 2/ 73.

ص: 159

2 -

(هِشَامُ) بن أبي عبد الله سَنْبَر الدستوائيّ، أبو بكر البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ، وقد رُمي بالقدر، من كبار [7](ت 154)(ع) تقدم في "الإيمان" 12/ 156.

والباقون ذُكروا في الباب وقبله.

وقوله: (وَلَمْ يَذْكُرْ قَوْلَ قَتَادَةَ) فاعل "يَذكُر" ضمير هشام الدستوائيّ.

[تنبيه]: رواية هشام الدستوائيّ، عن قتادة هذه ساقها أبو داود رحمه الله في "سننه"، فقال:

(3717)

- حدثنا مسلم بن إبراهيم، ثنا هشام، عن قتادة، عن أنس:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نَهَى أن يشرب الرجل قائمًا". انتهى

(1)

.

وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5266]

(2025) - (حَدَّثَنَا هَدَّابُ بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، عَنْ أَبِي عِيسَى الأُسْوَارِيِّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم زَجَرَ عَنِ الشُّرْبِ قَائِمًا).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أَبُو عِيسَى الأُسْوَارِيُّ) البصريّ، وثّقه الطبرانيّ، وابن حبّان

(2)

[4].

رَوَى عن أبي سعيد الخدريّ، وابن عمر، وأبي العالية، وروى عنه ثابت البنانيّ، وقتادة، وعاصم الأحول.

قال الميمونيّ عن أحمد: لا أعلم أحدًا روى عنه إلا قتادة، وقال الطبرانيّ: بصريّ ثقةٌ، لا يحضرني اسمه، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقد قال عليّ ابن المدينيّ: أبو عيسى الإِسواريّ: مجهول، لم يرو عنه إلا قتادة، وخالفه أبو بكر البزار، فزعم أنه مشهور

(3)

.

أخرج له البخاريّ في "الأدب المفرد"، والمصنّف، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث متابعةً.

[تنبيه]: قوله: "الأسواريّ": قال النوويّ رحمه الله: هو بضم الهمزة، وحُكي

(1)

"سنن أبي داود" 3/ 336.

(2)

وقال في "التقريب": مقبول.

(3)

"تهذيب التهذيب" 4/ 569.

ص: 160

كسرها، والذي ذكره السمعانيّ، وصاحبا "المشارق"، و"المطالع" هو الضم فقط، قال أبو عليّ الغسانيّ، والسمعانيّ، وغيرهما: لا يُعرف اسمه، قال الإمام أحمد بن حنبل: لا نعلم أحدًا روى عنه غير قتادة، وقال الطبرانيّ: هو بصريّ ثقة، وهو منسوب إلى الأُسوار، وهو الواحد من أَساورة الفُرْس، قال الجوهريّ: قال أبو عبيدة: هو الفرسان، قال: والأساورة أيضًا قوم من العجم بالبصرة، نزلوها قديمًا، كالأخامرة بالكوفة. انتهى

(1)

.

والباقون ذُكروا قبل حديثين، والحديث من أفراد المصنّف، وتقدّم تخريجه قبل حديثين.

وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5267]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ - وَاللَّفْظُ لِزُهَيْرٍ، وَابْنِ الْمُثَنَّى - قَالُوا: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا قتَادَةُ، عَنْ أَبِي عِيسَى الأُسْوَارِيِّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنِ الشُّرْبِ قَائِمًا).

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

وكلّهم ذُكروا في الباب، والبابين قبله، والحديث من أفراد المصنّف، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله أول الباب، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5268]

(2026) - (حَدَّثَنِي عَبْدُ الْجَبَّارِ بْنُ الْعَلَاءِ، حَدَّثَنَا مَرْوَانُ - يَعْنِي: الْفَزَارِيَّ - حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَمْزَةَ، أَخْبَرَنِي أَبُو غَطَفَانَ الْمُرِّيُّ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا يَشْرَبَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ

(2)

قَائِمًا، فَمَنْ نَسِيَ، فَلْيَسْتَقِئْ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(عَبْدُ الْجَبَّارِ بْنُ الْعَلَاءِ) بن عبد الجبّار العطّار، أبو بكر البصريّ، نزيل مكّة، لا بأس به [10](ت 248)(م ت س) تقدم في "البيوع" 25/ 3973.

(1)

"شرح النوويّ" 13/ 197.

(2)

وفي نسخة: "أحدكم".

ص: 161

2 -

(مَرْوَانُ الْفَزَارِيُّ) ابن معاوية بن الحارث بن أسماء، أبو عبد الله الكوفيّ، نزيل مكة، ثم دمشق، ثقةٌ حافظٌ، كان يدلّس أسماء الشيوخ [8](ت 193)(ع) تقدم في "الإيمان" 8/ 138.

3 -

(عُمَرُ بْنُ حَمْزَةَ) بن عبد الله بن عمر بن الخطاب العُمريّ المدنيّ، ضعيف [6](خت م د ت ق) تقدم في "النكاح" 22/ 3542.

4 -

(أَبُو غَطَفَانَ

(1)

الْمُرِّيُّ)

(2)

ابن طَريف، أو ابن مالك المدنيّ، قيل: اسمه سَعْد، من كبار [3](م د س) تقدم في "الحيض" 23/ 803.

5 -

(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه تقدم في "المقدمة" 2/ 4.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه مسلسلٌ بالتحديث والسماع.

شرح الحديث:

عن عُمَرَ بْنِ حَمْزَةَ أنه قال: (أَخْبَرَنِي أَبُو غَطَفَانَ) بفتح الغين المعجمة، والطاء المهملة، مشهور بكنيته، ولا يُعرف اسمه. (الْمُرِّيُّ) بضمّ الميم، وتشديد الراء: نسبة إلى عدّة قبائل فصّلها في "اللباب"

(3)

. (أَنَّهُ سَمِعَ أَبا هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا) ناهية، والفعل بعدها مجزوم المحلّ؛ لكونه مبنيًّا؛ لاتّصاله بنون التوكيد المشدّدة. (يَشْرَبَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ) وفي بعض النسخ:"أحدكم" بالإضافة، حال كونه (قَائِمًا، فَمَنْ نَسِيَ) بكسر السين، من باب تَعِب؛ أي: من نسي الشرب قاعدًا، فشرب قائمًا (فَلْيَسْتَقِئْ")؛ أي: فليتكلّف خروج قيئه، يقال: قاء الرجلُ ما أكله قيئًا، من باب باع: إذا استخرج ما في جوفه من الطعام، ثمّ أُطلق المصدر على الطعام المقذوف، واستقاء استقاءةً، وتقيّأ: تكلّفه، ويتعدّى بالتضعيف، فيقال: قيّأه غيرُهُ، قاله الفيّوميّ

(4)

.

قال العراقي في "شرح الترمذيّ": إن قوله: "فمن نَسِي" لا مفهوم له، بل يُستحب ذلك للعامد أيضًا بطريق الأَولى، وإنما خَصّ الناسي بالذِّكر؛ لكون

(1)

بفتحات.

(2)

بضمّ الميم، وتشديد الراء.

(3)

"اللباب في تهذيب الأنساب" 3/ 201 - 202.

(4)

"المصباح المنير" 2/ 522 بزيادة يسيرة.

ص: 162

المؤمن لا يقع ذلك منه بعد النهي غالبًا إلا نسيانًا. انتهى

(1)

.

وقال النوويّ: الأمر بالاستقاء محمول على الاستحباب، فيستحب لمن يشرب قائمًا أن يستقيء؛ لهذا الحديث الصحيح، فإن الأمر إذا تعذّر حَمْله على الوجوب يُحمل على الاستحباب. انتهى

(2)

.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

[تنبيه]: إن قلت: كيف أخرج مسلم رواية عمر بن حمزة، وهو ضعيف؟.

[قلت]: إنما أخرج له لكونه لم ينفرد بها، بل تابعه الأعمش، عن أبي صالح، عند عبد الرزّاق في "مصنّفه"(10/ 427)، وأحمد في "مسنده"(2/ 283)، وابن حبّان في "صحيحه"(12/ 142)، (والبيهقيّ) في "الكبرى"(7/ 282)، ولفظ "المسند":

(7795)

- حدثنا عبد الله، حدّثني أبي، ثنا عبد الرزاق، ثنا معمر، عن الزهريّ، عن رجل، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو يعلم الذي يشرب، وهو قائم، ما في بطنه لاستقاءه".

(7796)

- حدثنا عبد الله، حدّثني أبي، ثنا عبد الرزاق، ثنا معمر، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم كمثل حديث الزهريّ. انتهى

(3)

.

[فإن قلت]: لماذا أخرج رواية عمر، دون رواية الأعمش؟.

[قلت]: لعله لكون رواية عمر مسموعة له، دون رواية الأعمش؛ إذ يحتمل أن تكون إجازةً، أو نحوه، والله تعالى أعلم.

ثم إن هذا كلّه بالنسبة لزيادة: "فمن نَسِيَ فليستقئ"، وأما أصل الحديث، فهو صحيح لا كلام فيه، وقد أخرجه مسلم قبل هذا بأسانيد صحيحة، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

(1)

"نيل الأوطار" 9/ 82.

(2)

"شرح النوويّ" 13/ 196.

(3)

"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 2/ 283.

ص: 163

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [2/ 5268](2026)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(5/ 151)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(7/ 282)، والله تعالى أعلم.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}

(3) - (بَابٌ فِي الشُّرْبِ مِنْ زَمْزَمَ قَائِمًا)

وبالسند المتَّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5269]

(2027) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو كَامِلٍ الْجَحْدَرِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: سَقَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ زَمْزَمَ، فَشَرِبَ، وَهُوَ قَائِمٌ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أَبُو كَامِلٍ الْجَحْدَرِيُّ) فُضيل بن حسين بن طلحة البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 237) وله أكثر من ثمانين سنةً (خت م د ت س) تقدم في "المقدمة" 6/ 57.

2 -

(أَبُو عَوَانَةَ) وضّاح بن عبد الله اليشكريّ الواسطيّ، البزّاز، ثقةٌ ثبتٌ [7](ت 5 أو 176)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 4.

3 -

(عَاصِمُ) بن سليمان الأحول، أبو عبد الرحمن البصريّ، ثقةٌ [4] مات بعد (140)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 27.

4 -

(الشَّعْبِيُّ) عامر بن شَرَاحيل، أبو عمر الكوفيّ، ثقةٌ فقيهٌ فاضلٌ مشهور [3] مات بعد المائة، وله نحو من ثمانين سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.

5 -

(ابْنُ عَبَّاسٍ) عبد الله البحر الحبر رضي الله عنهما، مات سنة (68)(ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 124.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف، وأن فيه روايةَ تابعيّ عن تابعيّ، وفيه ابن عبّاس رضي الله عنهما حبر الأمة، وبحرها، وأحد العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة، والمشهورين بالفتوى، والله تعالى أعلم.

ص: 164

شرح الحديث:

(عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما أنه (قَالَ: سَقيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم) بفتح القاف، من باب ضرب، يقال: سَقَيْتُ الزرعَ سَقْيًا، فأنا سَاقٍ، وهو مَسْقِيٌّ، على مَفْعول، ويقال للقناة الصغيرة: سَاقِيَةٌ؛ لأنها تَسْقِي الأرض، وأَسْقَيْتُهُ بالألف لغةٌ، وسَقَانَا اللهُ الغيثَ، وأَسْقَانَا، ومنهم من يقول: سَقَيْتُهُ: إذا كان بيدك، وأَسْقَيْتُهُ بالألف: إذا جَعَلت له سِقْيًا، وسَقَيْتُهُ، وأَسْقَيْتُهُ: دعوت له، فقلت له: سَقْيًا لَكَ، وفي الدعاء:"سُقْيَا رَحْمَةٍ، وَلا سُقْيَا عَذَابٍ"، على فُعْلى بالضم؛ أي: اسقنا غَيثًا فيه نفعٌ، بلا ضرر، ولا تخريب، والسِّقَايَةُ، بالكسر: الموضع يُتّخَذ لسقي الناس، قاله الفيّوميّ

(1)

.

(مِنْ زَمْزَمَ) اسم لبئر مكة، ولا تُصرف؛ للتأنيث والعلميّة. (فَشَرِبَ، وَهُوَ قَائِمٌ) وفي رواية ابن ماجه من وجه آخر عن عاصم، في هذا الحديث:"قال - أي: عاصم -: فذكرت ذلك لعكرمة، فحَلَف أنه ما كان حينئذٍ إلا راكبًا"، وعند أبي داود من وجه آخر، عن عكرمة، عن ابن عباس أن النبيّ صلى الله عليه وسلم طاف على بعيره، ثم أناخه بعد طوافه، فصلى ركعتين، فلعله - كما قال الحافظ - حينئذ شرب من زمزم قبل أن يعود إلى بعيره، ويخرج إلى الصفا، بل هذا هو الذي يتعيّن المصير إليه؛ لأن عمدة عكرمة في إنكار كونه شرب قائمًا إنما هو ما ثبت عنده أنه صلى الله عليه وسلم طاف على بعيره، وخرج إلى الصفا على بعيره، وسعى كذلك، لكن لا بدّ من تخلل ركعتي الطواف بين ذلك، وقد ثبت أنه صلاهما على الأرض، فما المانع من كونه شرب حينئذ من سقاية زمزم قائمًا؟ كما حفظه الشعبيّ عن ابن عباس رضي الله عنهما

(2)

، والله تعالى أعلم.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

(1)

"المصباح المنير" 1/ 281.

(2)

"الفتح" 12/ 677، كتاب "الأشربة" رقم (5617).

ص: 165

أخرجه (المصنّف) هنا [3/ 5269 و 5270 و 5271 و 5272 و 5273](2027)، و (البخاريّ) في "الحجّ"(1637) و"الأشربة"(5617)، و (الترمذيّ) في "الأشربة"(1882) و"الشمائل"(207)، و (ابن ماجه) في "الأشربة"(3422)، و (النسائيّ) في "مناسك الحجّ"(5/ 237) و"الكبرى"(2/ 410)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1/ 344)، و (الحميديّ) في "مسنده"(1/ 225)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 220 و 243 و 249 و 287 و 342 و 369 و 372)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(2945)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(3838 و 5319 و 5320)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(2406)، و (الطحاويّ) في "معاني الآثار"(4/ 273)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(5/ 151 - 152)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(12575 و 12576 و 12577) و"الأوسط"(2/ 41) و"الصغير"(1/ 239)، و (ابن الجعد) في "مسنده"(1/ 316)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 147 و 7/ 482)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(3046)، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5270]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم شَرِبَ مِنْ زَمْزَمَ، مِنْ دَلْوٍ مِنْهَا، وَهُوَ قَائِمٌ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

وكلّهم ذُكروا في الباب، وقبل باب، وسفيان هو: ابن عيينة.

[تنبيه]: روى البخاريّ هذا الحديث في "صحيحه"، فقال:"حدّثنا أبو نعيم، حدّثنا سفيان، عن عاصم الأحول. . . إلخ"، فقال الكرمانيّ: ذكر الكِلاباذيّ أن أبا نعيم سمع من سفيان الثوريّ، ومن سفيان بن عيينة، وأن كلًّا منهما روى عن عاصم الأحول، فَيَحْتَمِل أن يكون أحدهما.

وتعقّبه الحافظ، فقال: ليس الاحتمالان فيهما هنا على السواء، فإن أبا نعيم مشهور بالرواية عن الثوريّ، معروف بملازمته، وروايتُهُ عن ابن عيينة قليلةٌ، وإذا أطلق اسم شيخه حُمِل على من هو أشهر بصحبته، وروايته عنه أكثر، ولهذا جزم المزيّ في "الأطراف" أن سفيان هذا هو الثوريّ، وهذه قاعدة

ص: 166

مطّردة عند المحدثين في مثل هذا، وللخطيب فيه تصنيف سمّاه "المكمل لبيان المهمل"، وقد روى هذا الحديث بعينه سفيان بن عيينة، عن عاصم الأحول، أخرجه أحمد عنه، وكذا هو عند مسلم رواية ابن عيينة، وأخرجه أحمد أيضًا من وجه آخر، عن سفيان الثوريّ، عن عاصم الأحول، لكن خصوص رواية أبي نعيم فيه إنما هي عن الثوريّ كما تقدم. انتهى كلام الحافظ رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي قاله الحافظ رحمه الله بحث نفيسٌ، وتحقيقٌ أنيس، وقد نظمت هذه القاعدة، أعني قاعدة التمييز بين السفيانين، مع قاعدة التمييز بين الحمادين: ابن سلمة، وابن زيد، فقلت في القاعدة الأولى:

وَهَكَذَا جَاءَ اشْتِبَاهُ الثَّوْرِي

بِابْنِ عُيَيْنَةَ فَتَابِعْ سَيْرِي

فَأَوَّلٌ أَصْحَابُهُ كِبَارُ

وَابْنُ عُيَيْنَةَ لَهُ الصِّغَارُ

تَاسِعَةُ الطِّبَاقِ أَوْ بَعْضُ كِبَارْ

عَاشِرَةٍ لأَوَّلِ لَهَا اخْتِيَارْ

فَمِنْهُمُ الْقَطَّانُ وَابْنُ مَهْدِي

أَبُو نُعَيْمٍ وَوَكَيعٌ يَهْدِي

وَابْنُ كَثِيرٍ وَقَبيصَةُ مُعَاذْ

يَحْيَى يَزِيدُ مَخْلَدٌ لَهُ نَفَادْ

أَمَّا الْحُمَيْدِيُّ قُتَيْبَةُ كَذَا

مُسَدَّدٌ وَنَحْوُهُمْ فَقَدْ حَذَا

لِلثَّانِ فَالْمُمَيِّزُ الطَّبِقَةُ

فَاعْنَ بِحِفْظِهَا فَفِيهَا الْفُرْقَةُ

وَإِنْ عَنِ الزُّهْرِيِّ سُفْيَانُ رَوَى

فَابْنُ عُيَيْنَةَ الرَّفِيعُ الْمُسْتَوَى

وَهَكَذَا اعْتَنَى الإِمَامُ الذّهَبِي

فِي سِيَرِ الأعْلَامِ فَاقْبَلْ نَصَبِي

وقد تقدّمت الأبيات في هذا الشرح، وهي القاعدة السابعة والثلاثون في "الفوائد السميّة"، فراجعها تستفد، وبالله تعالى التوفيق.

وقوله: (مِنْ دَلْوٍ مِنْهَا) الجارّ والمجرور الأول بدل من قوله: "من زمزم"، والثاني صفة لـ "دلو".

قال الفيّوميّ رحمه الله: الدَّلْوُ تأنيثها أكثر، فيقال: هي الدَّلْوُ، وفي التذكير يُصَغَّر على دُلَيٍّ، مثل فَلْس وفُلَيس، وثلاثة أَدْلٍ، وفي التأنيث دُلَيَّةٌ بالهاء، وثلاث أَدْلٍ، وجمع الكثرة الدِّلاءُ، والدُّليُّ، والأصل فُعُول، مثل فُلُوس، وأَدْلَيْتُهَا إِدْلاءً: أرسلتها؛ ليُستَقَى بها، ودَلَوْتُهَا، أَدْلُوهَا لغةٌ فيه، ودَلَوْتُهَا،

(1)

"الفتح" 12/ 677، كتاب "الأشربة" رقم (5617).

ص: 167

ودَلَّوْتُ بها: أخرجتها مملوءةً. انتهى

(1)

.

وقوله: (وَهُوَ قَائِمٌ) جملة في محلّ نصب على الحال من الفاعل.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام البحث فيه في الحديث الماضي، ولله الحمد.

وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5271]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا سُرَيْجُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، أَخْبَرَنَا عَاصِمٌ الأَحْوَلُ (ح) وَحَدَّثَنِي يَعْقُوبُ الدَّوْرَقِيِّ، وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ سَالِمٍ، قَالَ إِسْمَاعِيلُ: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ يَعْقُوبُ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، حَدَّثَنَا عَاصِمٌ الأَحْوَلُ، وَمُغِيرَةُ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم شَرِبَ مِنْ زَمْزَمَ، وَهُوَ قَائِمٌ).

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(سُرَيْجُ بْنُ يُونُسَ) بن إبراهيم، أبو الحارث البغداديّ، مروزيّ الأصل، ثقةٌ عابدٌ [10](ت 235)(خ م س) تقدم في "الإيمان" 25/ 209.

2 -

(هُشَيْمُ) بن بَشِير بن القاسم بن دينار السلميّ، أبو معاوية بن أبي خازم الواسطيّ، ثقةٌ ثبتٌ كثير التدليس والإرسال الخفيّ [7](ت 183) وقد قارب الثمانين (ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 9.

3 -

(يَعْقُوبُ الدَّوْرَقِيُّ) ابن إبراهيم بن كثير بن أفلح العبديّ مولاهم، أبو يوسف البغداديّ، ثقةٌ حافظٌ [10](252) وله (96) سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 25/ 209.

4 -

(إِسْمَاعِيلُ بْنُ سَالِمٍ) الصائغ البغداديّ، نزيل مكة، ثقةٌ [10] من أفراد مسلم، تقدم في "الحيض" 10/ 748.

5 -

(مُغِيرَةُ) بن مِقْسم الضبّيّ مولاهم، أبو هشام الكوفيّ الأعمى، ثقةٌ متقنٌ، إلا أنه يدلّس [6](ت 136) على الصحيح (ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 25.

والباقون ذُكروا قبله، والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، ومسائله، ولله الحمد.

(1)

"المصباح المنير" 1/ 199.

ص: 168

وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5272]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَاصِمٍ، سَمِعَ الشَّعْبِيَّ، سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ، قَالَ: سَقَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ زَمْزَمَ، فَشَرِبَ قَائِمًا، وَاسْتَسْقَى، وَهُوَ عِنْدَ الْبَيْتِ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ) العنبريّ البصريّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(أَبُوهُ) معاذ بن معاذ العنبريّ البصريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

والباقون ذُكروا في الباب وقبله.

وقوله: (وَاسْتَسْقَى)؛ أي: طلب سَقْيَ الماء.

وقوله: (وَهُوَ عِنْدَ الْبَيْتِ)؛ أي: الكعبة؛ لأنه صار لها عَلَمًا بالغلبة، كما قال في "الخلاصة":

وَقَدْ يَصِيرُ عَلَمًا بِالْغَلَبَهْ

مُضَافٌ أوْ مَصْحُوبُ "أَلْ" كَالْعَقَبَهْ

والحديث متفق عليه.

وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5273]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ (ح) وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ، كِلَاهُمَا عَنْ شُعْبَةَ، بِهَذَا الإِسْنَادِ، وَفِي حَدِيثِهِمَا: فَأَتَيْتُهُ بِدَلْوٍ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ) المعروف بغُندر، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

2 -

(وَهْبُ بْنُ جَرِيرِ) بن حازم الأزديّ، أبو عبد الله البصريّ، ثقةٌ [9](ت 206)(ع) تقدم في "الإيمان" 50/ 315.

والباقون ذُكروا في الباب، وقبله.

وقوله: (كِلَاهُمَا عَنْ شُعْبَةَ) ضمير التثنية لمحمد بن جعفر، ووهب بن جرير.

[تنبيه]: رواية محمد بن جعفر عن شعبة ساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:

ص: 169

(2244)

- حدثنا عبد الله

(1)

، حدّثني أبي، ثنا محمد بن جعفر، ثنا شعبة، عن عاصم الأحول، عن الشعبيّ، عن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا بشراب، قال: فأتيته بدلو من ماء زمزم، فشرب قائمًا. انتهى

(2)

.

ورواية وهب بن جرير عن شعبة ساقها البيهقيّ رحمه الله في "الكبرى"، فقال:

(9080)

- أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، ثنا إبراهيم بن مرزوق، ثنا وهب بن جرير، ثنا شعبة، عن عاصم، عن الشعبيّ، عن ابن عباس، قال: مَرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بزمزم، فاستسقى، فأتيته بدلو من ماء زمزم، فشرب، وهو قائم. انتهى

(3)

.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}

(4) - (بَابُ كَرَاهَةِ التَّنَفُّسِ فِي نَفْسِ الإِنَاءِ، وَاسْتِحْبَابِ التَّنَفُّسِ ثَلَاثًا خَارِجَ الإِنَاءِ)

وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5274]

(267)

(4)

- (حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا الثَّقَفِيُّ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى أَنْ يُتَنَفَّسَ فِي الإِنَاءِ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(ابْنُ أَبِي عُمَرَ) محمد بن يحيى بن أبي عمر الْعَدنيّ، ثم المكيّ، تقدّم قبل بابين.

2 -

(الثَّقَفِيُّ) عبد الوهّاب بن عبد المجيد، تقدّم قريبًا.

3 -

(أَيُّوبُ) بن أبي تميمة كيسان السَّخْتِيانيّ، أبو بكر البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ

(1)

عبد الله هو: ابن الإمام أحمد راوي "المسند" عنه، وقائل:"حدثنا" هو القطيعيّ، أو غيره ممن روى عنه "المسند".

(2)

"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 1/ 249.

(3)

"سنن البيهقيّ الكبرى" 5/ 86.

(4)

هذا الرقم مكرّر، تقدّم.

ص: 170

حجةٌ فقيهٌ عابدٌ [5](ت 131)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 305.

4 -

(يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ) صالح بن المتوكّل الطائيّ مولاهم، أبو نصر البصريّ، ثمّ اليماميّ، ثقةٌ ثبتٌ يدلّس ويرسل [5](ت 132)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 424.

5 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي قَتَادَةَ) الأنصاريّ المدنيّ، ثقةٌ [3](95)(ع) تقدم في "الطهارة" 18/ 619.

6 -

(أَبُوهُ) أبو قتادة الحارث بن رِبْعيّ بن يُلْدُمة، وقيل: غيره، الأنصاريّ السَّلَميّ الصحابيّ الشهير، شهِد أُحدًا، وما بعدها، ولم يشهد بدرًا، مات رضي الله عنه سنة (54) على الصحيح تقدم في "الطهارة" 18/ 619.

[تنبيه]: قال الحافظ أبو عليّ الجيّانيّ رحمه الله بعد أن أورد إسناد مسلم المذكور- ما نصّه: هكذا رُوي إسناد هذا الحديث مُجَوَّدًا، ووقع في النسخة عن الجلوديّ، روايةِ السجزيّ فيه وَهَمٌ، قال:"عن يحيى بن أبي كثير، عن عبد الله، عن أبي قتادة، عن أبيه"، وهذا ليس بشيء، إنما هو عبد الله بن أبي قتادة، عن أبيه، واتّفَقَ الرازيّ مع الكسائيّ، وابن ماهان على الصواب. انتهى

(1)

.

[تنبيه آخر]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وأن فيه رواية الابن عن أبيه، وتابعيّ عن تابعيّ.

شرح الحديث:

(عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ) الأنصاريّ (عَنْ أَبِيهِ) أبي قتادة الأنصاريّ رضي الله عنه.

(أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى أنْ يُتَنَفَّسَ فِي الإِنَاءِ) ببناء الفعل للمفعول؛ أي: نهى الشارب عن تنفّسه في نفس الإناء، وأما التنفّس ثلاثًا خارج الإناء فسُنّة معروفة.

وقال القرطبيّ رحمه الله: نهيه صلى الله عليه وسلم عن التنفس في الإناء إنما هو لئلا يتنفس

(1)

"تقييد المهمل" 3/ 896 - 897.

ص: 171

فيه، فيتقذر الماء ببزاقٍ يخرج من الفم، أو بريح كريهة تتعلَّق بالماء، أو بالإناء، وعلى هذا: فإذا لم يتنفس في الإناء فليشرب في نفسٍ واحد ما شاء، قاله عمر بن عبد العزيز، وأجازه جماعة؛ منهم: ابن المسيِّب، وعطاء بن أبي رباح، ومالك بن أنس، وكره ذلك قومٌ؛ منهم: ابن عباس، وطاووس، وعكرمة، وقالوا: هو شرب الشيطان، والقول الأول أظهر؛ لقوله صلى الله عليه وسلم للذي قال: إنه لا يروي من نفس واحدٍ: "أَبِنِ القَدَحَ عن فِيكَ، ثم تَنَفَّس"، وظاهره أنه أباح له الشرب في نفَس واحدٍ إذا كان يَروى منه. انتهى

(1)

.

[تنبيه]: قيل: الحكمة في النهي عن التنفّس في الإناء أنه أبعد عن تقذير الإناء والماء، فإنه من ألطف الجواهر، وأقبلها للتغيّر بالريح، وعن خروج شيء تَعَافُهُ النفس من الفم، فإذا أبانه عند إرادة التنفّس أُمِن من ذلك، وقد ثبت إبانة الإناء للتنفّس ثلاثًا، ولأن إبانة الإناء أهنأ في الشرب، وأحسن في الأدب، وأبعد عن الشَّرَه، وأخفّ للمعدة، وإذا تنفّس في الإناء، واستوفى رِيّه حَمَله ذلك على فوات ما ذكرناه من حكمة النهي، وتكاثر الماء في حلقه، وأثقل معدته، وربّما شُرق به، وآذى كبده، وقيل غير ذلك مما تقدّم ذِكره في "كتاب الطهارة".

وهذا الحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تخريجه، وبيان مسائله في "كتاب الطهارة"[18/ 619](267) فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق.

وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5275]

(2028) - (وَحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، قَالَا: حَدَّثَنَا وَكيعٌ، عَنْ عَزْرَةَ بْنِ ثَابِتٍ الأَنْصَارِيِّ، عَنْ ثُمَامَةَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم -كَانَ يَتَنَفَّسُ فِي الإِنَاءِ ثَلَاثًا).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عَزْرَةُ بْنُ ثَابتٍ الأَنْصَارِيُّ) هو: عزرة بن ثابت بن أبي زيد بن أخطب الأنصاريّ البصريّ، ثقةٌ [5](خ م قد ت س) تقدم في "الحج" 60/ 3188.

(1)

"المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" 5/ 288.

ص: 172

[تنبيه]: قال في "الفتح": عَزْرَة - بفتح المهملة، وسكون الزاي، بعدها راء - ابن ثابت، هو تابعيّ صغير، أنصاريّ، أصله من المدينة، نزل البصرة، وقد سمع من جدّه لأمه عبد الله بن يزيد الخطميّ، وعبد الله بن أبي أوفى، وغيرهما. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي قاله في "الفتح" يردّ جعله في "التقريب" من الطبقة السابعة، وقد كنت قلدته فيما مضى من ترجمته، والآن تبيّن لي أنه ليس من السابعة، بل هو من الخامسة، فليُتنبّه، والله تعالى وليّ التوفيق.

2 -

(ثُمَامَةُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ أنَسِ) بن مالك الأنصاريّ البصريّ قاضيها، صدوقٌ [4].

رَوَى عن جدّه أنس، والبراء بن عازب، وأبي هريرة، ولم يدركه.

ورَوَى عنه ابن أخيه عبد الله بن المثنى، وحميد الطويل، وعَزْرة بن ثابت، وعبد الله بن عون، وحماد بن سلمة، ومعمر، وعوف الأعرابيّ، وأبو عوانة، وجماعة.

قال أحمد، والنسائيّ: ثقةٌ، وقال ابن عديّ: له أحاديث عن أنس، وأرجو أنه لا بأس به، وأحاديثه قريبة من غيره، وهو صالح فيما يرويه عن أنس عندي، وقال العجليّ: تابعيّ ثقة، وقال ابن سعد: كان قليل الحديث، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وذكره ابن عديّ في "الكامل"، ورَوَى عن أبي يعلى أن ابن معين أشار إلى تضعيفه.

قال عُمر بن شَبّة: سمعت بعض علمائنا يذكر أن ثمامة لمّا دُعي إلى ولاية القضاء شاور محمد بن سيرين، فأشار عليه أن لا تَقْبَلْ، فقال: لا أُتْرَك، فقال: أخبرهم أنك لا تحسن القضاء، قال: فأكذب، قال: فجعل ابن سيرين يَعْجَب منه، وقال ثمامة: وقعت على باب من القضاء جسيم أدفع الخصوم، حتى يصطلحوا، فكتب بذلك بلال إلى خالد، فعزله عن القضاء في سنة عشر ومائة، وكان ولّاه في سنة (106).

(1)

"الفتح" 12/ 690، كتاب "الأشربة" رقم (5631).

ص: 173

أخرج له الجماعة، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.

والباقون تقدّموا قبل باب.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خُماسيّات المصنّف، وأنه مسلسل بالبصريين من عزرة، وفيه رواية الراوي عن جدّه، فأنس رضي الله عنه جدّ ثمامة، وفيه أنس رضي الله عنه أحد المكثرين السبعة، وآخر من مات من الصحابة بالبصرة.

شرح الحديث:

(عَنْ أنَسِ) بن مالك رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَتَنَفَّسُ فِي الإِنَاءِ ثَلَاثًا) معناه: أنه كان يتنفّس في حالة الشرب من الإناء ثلاثًا، خارج الإناء، لا فيه، فلا تعارض بينه وبين حديث أبي قتادة رضي الله عنه الذي قبله:"نهى أن يُتنفّس في الإناء"، فتنفّسه صلى الله عليه وسلم كان خارج الإناء، والنهي إنما هو عن التنفّس فيه، فتنبّه.

قال البغويّ رحمه الله: المراد من هذا الحديث أنه كان يشرب ثلاثًا، كلّ ذلك يُبِينُ الإناء عن فيه. انتهى

(1)

.

ثم إن رواية مسلم "ثلاثًا" بالجزم، ووقع في رواية البخاريّ:"كان يتنفّس في الإناء مرّتين، أو ثلاثًا"، فقال في "الفتح": قوله: "أو ثلاثًا" يَحْتَمِل أن تكون "أو" للتنويع، وأنه كان صلى الله عليه وسلم لا يقتصر على المرّة، بل إن رَوِيَ من نَفَسَيْن اكتفى بهما، وإلا فثلاث.

ويَحْتَمِل أن تكون "أو" للشكّ، فقد أخرج إسحاق بن راهويه الحديث المذكور، عن عبد الرحمن بن مهديّ، عن عزرة، بلفظ:"كان يتنفس ثلاثًا"

(2)

، ولم يقل:"أو".

وأخرج الترمذيّ بسند ضعيف، عن ابن عباس، رفعه:"لا تشربوا واحدةً، كما يشرب البعير ولكن اشربوا مثنى، وثلاث"، فإن كان محفوظًا فهو يُقَوِّي ما تقدم من التنويع.

(1)

"الكاشف عن حقائق السنن" 9/ 2875 - 2876.

(2)

قال الجامع: هذا غريب من الحافظ رحمه الله لِمَ نَسَبَ هذه الرواية لـ "مسند ابن راهويه"، ولم ينسبها إلى مسلم؟!.

ص: 174

وأخرج أيضًا بسند ضعيف، عن ابن عباس أيضًا: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم "كان إذا شَرِب تنفس مرتين"، وهذا ليس نصًّا في الاقتصار على المرتين، بل يَحْتَمِل أن يُراد به التنفس في أثناء الشرب، فيكون قد شرب ثلاث مرّات، وسكت عن التنفس الأخير؛ لكونه من ضرورة الواقع.

وأخرج مسلم، وأصحاب "السنن" من طريق أبي عاصم، عن أنس: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم "كان يتنفس في الإناء ثلاثًا، ويقول: هو أروى، وأمرأ، وأبرأ"، لفظ مسلم، وفي رواية أبي داود:"أهنأ" بدل قوله: "أروى"، والله تعالى أعلم.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أنس رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [4/ 5275 و 5276 و 5277](2028)، و (البخاريّ) في "الأشربة"(5631)، و (الترمذيّ) في "الأشربة"(1884) وفي "الشمائل"(214)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(4/ 168 و 169)، و (ابن ماجه) في "الأشربة"(3416)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(8/ 219)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 114 و 119)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5329)، و (أبو الشيخ) في "أخلاق النبيّ صلى الله عليه وسلم"(ص 223)، و (الحاكم) في "المستدرك"(4/ 154)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(7/ 284)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده

(1)

:

1 -

(منها): بيان آداب الشرب، وهو الشرب في ثلاثة أنفاس، وأن يكون ذلك النّفس خارج الإناء، وبهذا يتّفق مع حديث أبي قتادة رضي الله عنه الماضي:"نهى أن يتنفَّس في الإناء"، فتنبّه.

2 -

(ومنها): أنه يؤخذ من قوله: "إنه أروى، وأبرأ، وأمرأ" أنه أقمع للعطش، وأقوى على الهضم، وأقلّ أثرًا في ضَعف الأعضاء، وبرد المعدة.

(1)

المراد فوائد حديث أنس رضي الله عنه برواياته المختلفة، لا خصوص السياق الماضي، فتنبّه.

ص: 175

3 -

(ومنها): أن استعمال أفعل التفضيل في قوله: "أروى. . . إلخ" يدلّ على أن للمرتين في ذلك مدخلًا في الفضل المذكور.

4 -

(ومنها): أنه يؤخذ منه أيضًا أن النهي عن الشرب في نفس واحد للتنزيه، قال المهلَّب: النهي عن التنفس في الشرب كالنهي عن النفخ في الطعام والشراب، من أجل أنه قد يقع فيه شيء من الريق، فيعافه الشارب، ويتقذّره؛ إذ كان التقذر في مثل ذلك عادة غالبة على طباع أكثر الناس، ومحل هذا إذا أكل وشرب مع غيره، وأما لو أكل وحده، أو مع أهله، أو من يعلم أنه لا يتقذر شيئًا مما يتناوله فلا بأس.

وقال الحافظ: والأولى تعميم المنع؛ لأنه لا يؤمَن مع ذلك أن تَفْضل فضلة، أو يحصل التقذر من الإناء، أو نحو ذلك.

وقال ابن العربيّ: قال علماؤنا: هو من مكارم الأخلاق، ولكن يحرم على الرجل أن يناول أخاه ما يتقذره، فإن فَعَله في خاصّة نفسه، ثم جاء غيره فناوله إياه فليُعْلِمه، فإن لم يُعْلِمه فهو غَشّ، والغش حرام.

وقال القرطبيّ: قد حَمَل بعضهم هذا الحديث على ظاهره، وهو أن يتنفس في الإناء ثلاثًا، وقال: فَعَلَ ذلك ليبيِّن به جواز ذلك، ومنهم من عَلّل جواز ذلك في حقه صلى الله عليه وسلم بأنه لم يكن يُتَقَذَّرُ منه شيء، بل الذي يُتَقَذَّرُ من غيره يُستطاب منه، فإنَّهم كانوا إذا بزق، أو تنخع تدلكوا بذلك، وإذا توضأ اقتتلوا على فَضْل وضوئه، إلى غير ذلك مما في هذا المعنى.

قال: وحملُ هذا الحديث على هذا ليس بصحيح؛ بدليل بقية الحديث، فإنَّه قال:"إنه أروى، وأبرأ، وأمرأ"، وهذه الثلاثة الأمور إنما تحصل بأن يشرب في ثلاثة أنفاس خارج القدح، فأما إذا تنفس في الماء وهو يشرب فلا يأمن الشَّرَق، ويحصل تقذير الماء، وقد لا يَرْوَى إذا سقط من بزاقه شيء، أو خالطه من رائحة نفَسه إن كانت هنالك رائحة كريهة. وعلى هذا المعنى حَمَلَ الحديث الجمهور، وهو الصواب إن شاء الله تعالى نظرًا إلى المعنى، ولبقية الحديث، ولقوله للرجل:"أَبِنِ القدح عن فيك"، ولا شك أن هذا من مكارم الأخلاق، ومن باب النظافة، وما كان صلى الله عليه وسلم يأمر بشيء من مكارم الأخلاق، ثم

ص: 176

لا يفعله. انتهى

(1)

.

[تنبيه]: قال في "الفتح": أخرج الطبرانيّ في "الأوسط" بسند حسن، عن أبي هريرة رضي الله عنه:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم يشرب في ثلاثة أنفاس، إذا أدنى الإناء إلى فيه يُسَمِّي الله، فإذا أخّره حَمِدَ الله، يفعل ذلك ثلاثًا"، وأصله في ابن ماجه، وله شاهد من حديث ابن مسعود عند البزار، والطبرانيّ، وأخرج الترمذيّ من حديث ابن عباس

(2)

: "وسَمُّوا إذا أنتم شربتم، واحْمَدُوا إذا أنتم رفعتم"، وهذا يَحْتَمِل أن يكون شاهدًا لحديث أبي هريرة المذكور، ويَحْتَمِل أن يكون المراد به في الابتداء والانتهاء فقط. انتهى

(3)

، والله أعلم.

وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5276]

(. . .) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ سَعِيدٍ (ح) وَحَدَّثَنَا شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ، عَنْ أَبِي عِصَامٍ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَتَنَفَّسُ فِي الشَّرَابِ ثَلَاثًا، وَيَقُولُ:"إِنَّهُ أَرْوَى، وَأَبْرَأُ، وَأَمْرَأُ"، قَالَ أَنَسٌ: فَأَنَا أَتَنَفَّسُ فِي الشَّرَابِ ثَلَاثًا).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ النيسابوريّ الحافظ الإمام، تقدّم قريبًا.

2 -

(عَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ سَعِيدِ) بن ذكوان الْعَنْبريّ مولاهم، أبو عبيدة التّنّوريّ البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 180)(ع) تقدم في "الإيمان" 18/ 176.

3 -

(شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ) الأُبُليّ، تقدّم قريبًا.

4 -

(أَبُو عِصَامٍ) الْمُزنيّ البصريّ، قيل: اسمه ثُمامة، مقبول [5].

رَوَى عن أنس هذا الحديث وروى عنه شعبة، وهشام الدستوائيّ، وعبد الوارث بن سعيد، ذكره ابن حبان في "الثقات"، قال السليمانيّ: يقال:

(1)

"المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" 5/ 289.

(2)

حديث ابن عبّاس هذا ضعيف؛ لأن في سنده يزيد بن سنان أبو فروة الرُّهاويّ ضعيف، وشيخه ابن عطاء بن أبي رباح مجهول.

(3)

"الفتح" 12/ 690، كتاب "الأشربة" رقم (5631).

ص: 177

اسمه ثمامة، وقال البخاريّ في "التاريخ": خالد بن عُبيد رَوَى عن أبي عصام، وعبد الله بن عبد الرحمن بن أبي أسيد، ورَدّ ذلك عليه أبو زرعة، وأبو حاتم، فقالا: أبو عصام هو خالد بن عبيد، كذا ذكره ابن عديّ، ومسلم في "الكنى"، وأبو أحمد الحاكم، وقال اللالكائيّ: رجعت إلى تاريخ مرو لأحمد بن سيار، فقال: أبو عصام هو خالد بن عبيد العتكيّ، كان شيخًا نبيلًا، روى عن أنس ثلاثة أحاديث، وعن ابن بريدة، والحسن، وعنه ابن المبارك، والفضل بن موسى، وأبو تُميلة، وكان العلماء في ذلك الزمان يعظمونه، ويكرمونه، وكان ابن المبارك ربما سَوَّى عليه الثياب إذا رَكِب، قال اللالكائيّ: وجعله ابن عديّ والذي روى عنه شعبة وهشام واحدًا، وميَّز أبو أحمد - يعني: الحاكم - بينهما، وكأنه الصواب؛ لأن طبقة الذي روى عنه شعبة وهشام أعلى من طبقة الذي يروي عنه ابن المبارك وأبو تُميلة، وقال غيره: قد قيل: إن أصله من البصرة، وإنه صار إلى مرو، فلا يبعد حينئذٍ أن يروي عنه القدماء من أهل البصرة، والمتأخرون من أهل مرو، والله تعالى أعلم.

وقال الحاكم، وأبو أحمد: أبو عصام خالد بن عبيد الذي روى عن ابن بريدة، وعنه أبو تُميلة حديثه ليس بالقائم، وقال البخاريّ: فيه نظر، وقال أيضًا في الذين لا يُعرف أسماؤهم: أبو عصام عن أنس، وعنه هشام وشعبة. انتهى.

أخرج له المصنّف، وأبو داود، والترمذيّ، والنسائيّ، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.

و"أنس رضي الله عنه" ذُكر قبله.

وقوله: (كانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَتَنَفَّسُ فِي الشَّرَابِ) وفي الرواية التالية: "في الإناء"، قال النوويّ رحمه الله: معناه: في أثناء شربه من الإناء، أو في أثناء شربه الشراب، والله أعلم. انتهى

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: الشراب هنا مصدر، بمعنى الشرب، لا بمعنى الشراب الذي هو المشروب، فتأمله، فإنه حسنٌ معنى، وفصيح لغةً، فإنه يقال:

(1)

"شرح النوويّ" 13/ 199.

ص: 178

شَرِب شُربًا، وشَرَابًا بمعنى واحد. انتهى

(1)

.

وقوله: (إِنَّهُ أَرْوَى) من الرِّيّ؛ أي: أكثر ريًّا.

وقوله: (وَأَبْرَأُ، وَأَمْرَأُ) قيل: إنهما بمعنى واحد؛ أي: أحسن شربًا، والباء تُبدل من الميم في مواضع، و"أمرأ" من قوله تعالى:{هَنِيئًا مَرِيئًا (4)} [النساء: 4]، يقال: استمرأتُ الطعامَ: إذا استحسنته، واستطبته، قاله القرطبيّ

(2)

.

وقال النوويّ رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم: "أروى" من الرِّيّ؛ أي: أكثر رِيًّا، و"أمرأ، وأبرأ" مهموزان، ومعنى أبرأ؛ أي: أبرأ من ألم العطش، وقيل: أبرأ؛ أي: أسلم من مرض، أو أذًى يحصل بسبب الشرب في نَفَس واحد، ومعنى "أمرأ"؛ أي: أجمل انسياغًا، والله أعلم. انتهى

(3)

.

وقال في "الفتح": قوله: "أروى" هو من الرِّيِّ، بكسر الراء، غير مهموز؛ أي: أكثر رِيًّا، ويجوز أن يُقرأ مهموزًا؛ للمشاكلة، و"أمرأ" بالهمز، من الْمَرَاءة، يقال: مَرأَ الطعامُ بفتح الراء

(4)

، يَمْرَأ بفتحها، ويجوز كسرها: صار مَرِيئًا، و"أبرأ" بالهمز، من البراءة، أو من الْبُرء؛ أي: يُبرئ من الأذى، والعطش، و"أهنأ" بالهمز من الْهَنْءِ.

والمعنى أنه يصير هنيئًا، مَريئًا، بَريئًا؛ أي: سالِمًا، أو مُبرئًا من مرض، أو عطش، أو أذى. انتهى

(5)

.

وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5277]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَاهُ قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، قَالَا: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ هِشَامٍ الدَّسْتَوَائِيِّ، عَنْ أَبِي عِصَامٍ، عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِهِ، وَقَالَ: فِي الإِنَاءِ).

(1)

"المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" 5/ 290.

(2)

"المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" 5/ 290.

(3)

" شرح النوويّ" 13/ 199.

(4)

وفي "القاموس": ومرأ الطعام مثلّثة الراء مراءةً، فهو مريءٌ، هنيءٌ، حميد الْمَغَبّة. انتهى.

(5)

"الفتح" 12/ 690، كتاب "الأشربة" رقم (5631).

ص: 179

رجال هذا الإسناد: ستة:

كلّهم ذُكروا في الباب، وقبل باب.

وقوله: (وَقَالَ: فِي الإِنَاءِ) فاعل "قال" ضمير هشام الدستوائيّ؛ يعني: أن هشامًا قال: "يتنفّس في الإناء ثلاثًا" بدل قول عبد الوارث: "يتنفسّ في الشراب ثلاثًا".

[تنبيه]: رواية هشام الدستوائيّ عن أبي عصام هذه ساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(12207)

- حدثنا عبد الله، حدّثني أبي، ثنا وكيع، ثنا هشام الدستوائيّ، عن أبي عصام

(1)

، عن أنس، قال: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يتنفس في الإناء ثلاثًا، ويقول:"هذا أهنأ، وأمرأ، وأبرأ". انتهى

(2)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}

(5) - (بَابُ اسْتِحْبَابِ إِدَارَةِ الْمَاءِ وَاللَّبَنِ وَنَحْوِهِمَا عَنْ يَمِينِ الْمُبْتَدِئِ)

وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5278]

(2029) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بِلَبَنٍ، قَدْ شِيبَ بِمَاءٍ، وَعَنْ يَمِينِهِ أَعْرَابِيٌّ، وَعَنْ يَسَارِهِ أَبُو بَكْرٍ، فَشَرِبَ، ثُمَّ أَعْطَى الأَعْرَابِيَّ، وَقَالَ: "الأَيْمَنَ، فَالأَيْمَنَ").

رجال هذا الإسناد: أربعة:

وكلّهم تقدّموا في الباب الماضي، وقبل ثلاثة أبواب.

(1)

وقع في النسخة: "أبو عاصم"، وهو تصحيف فاحشٌ، والصواب:"أبو عصام"، فتنبّه.

(2)

"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 3/ 1189.

ص: 180

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، كالأسانيد الخمسة اللاحقة، وهو (394) من رباعيّات الكتاب، وشرح الحديث يأتي في الحديث التالي، وانما أخّرته إليه؛ لكونه أتمّ مما هنا، فتنبّه.

وقوله: (أُتِيَ بِلَبَنٍ) ببناء الفعل للمفعول، والآتي به هو أنس رضي الله عنه، كما سيبيَّن في الرواية التالية.

وقوله: (قَدْ شِيبَ بِمَاءٍ) بكسر الشين المعجمة، مبنيًّا للمفعول، ومعناه: خُلط به.

وقوله: (وَعَنْ يَمِينِهِ أَعْرَابِيٌّ) سيأتي الخلاف في اسمه في الحديث التالي - إن شاء الله تعالى -.

وقوله: ("الأَيْمَنَ، فَالأَيْمَنَ") يجوز نَصْبهما على تقدير: أَعْطِ الأيمنَ، ورَفْعهما على تقدير: الأيمنُ أحقّ، أو نحو ذلك.

وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5279]

(. . .) (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَمْرٌو النَّاقِدُ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ - وَاللَّفْظُ لِزُهَيْرٍ - قَالُوا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: قَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ، وَأَنَا ابْنُ عَشْرٍ، وَمَاتَ، وَأَنَا ابْنُ عِشْرِينَ، وَكُنَّ أُمَّهَاتِي يَحْثُثْنَنِي عَلَى خِدْمَتِهِ، فَدَخَلَ عَلَيْنَا دَارَنَا، فَحَلَبْنَا لَهُ مِنْ شَاةٍ دَاجِنٍ، وَشِيبَ لَهُ مِنْ بِئْرٍ فِي الدَّارِ، فَشَرِبَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ - وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ شِمَالِهِ -: يَا رَسُولَ اللهِ أَعْطِ

(1)

أَبا بَكْرٍ، فَأَعْطَاهُ أَعْرَابِيًّا عَنْ يَمِينِهِ، وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"الأَيْمَنَ، فَالأَيْمَنَ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

وكلهم تقدّموا في الباب، وفي الأبواب الأربعة السابقة.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من رباعيّات المصنّف، كسابقه، والأسانيد الأربعة اللاحقة.

(1)

وفي نسخة: "أعطه".

ص: 181

شرح الحديث:

(عَنْ أَنَسٍ) وفي رواية البخاريّ من طريق يونس عن الزهريّ، قال: أخبرني أنس بن مالك رضي الله عنه (قَالَ: قَدِمَ) بكسر الدال، كعَلِم يَعْلَمُ، (النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ، وَأنَا ابْنُ عَشْرٍ) جملة في محلّ نصب على الحال، (وَمَاتَ) صلى الله عليه وسلم (وَأَنَا ابْنُ عِشْرِينَ، وَكُنَّ أُمَّهَاتِي) قال النوويّ رحمه الله: المراد بأمهاته: أمه أم سُليم، وخالته أم حرام، وغيرهما، من محارمه، فاستَعْمَل لفظ الأمهات في حقيقته ومجازه، وهذا على مذهب الشافعيّ رحمه الله، والقاضي أبي بكر الباقلانيّ، وغيرهما، ممن يجوّز إطلاق اللفظ الواحد على حقيقته ومجازه. انتهى

(1)

.

وقوله أيضًا: (وَكُنَّ أُمَّهَاتِي) قال النوويّ رحمه الله: هذا على لغة "أكلوني البراغيث"؛ وهي لغة صحيحة، وإن كانت قليلة الاستعمال، وقد تقدّم إيضاحها عند قوله صلى الله عليه وسلم:"يتعاقبون فيكم ملائكة"، ونظائره. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: اللغة الفصحى تجريد الفعل عن علامة التثنية والجمع، وقد أشار ابن مالك رحمه الله إلى اللغتين في "خلاصته"، فقال:

وَجَرِّدِ الْفِعْلَ إِذَا مَا أُسْنِدَا

لاثْنَيْنِ أَوْ جَمْعٍ كـ "فَازَ الشُّهَدَا"

وَقَدْ يُقَالُ "سَعِدَا"، و"سَعِدُوا"

وَالْفِعْلُ لِلظَّاهِرِ بَعْدُ مُسْنَدُ

وقال الحريريّ في "مُلحته":

وَوَحِّدِ الْفِعْلَ مَعَ الْجَمَاعَهْ

كَقَوْلِهِمْ "سَارَ الرِّجَالُ السَّاعَهْ"

وَإِنْ تَشَأْ فَزِدْ عَلَيْهِ التَّاءَ

نَحْوُ "اشْتَكَتْ عُرَاتُنَا الشِّتَاءَ"

(يَحْثُثْنَنِي) من باب نصر؛ أي: يُحرّضنني، قال الفيّوميّ رحمه الله: حَثثت الإنسان على الشيء حثًّا، من باب قَتَلَ، وحرّضته عليه بمعنى، وذَهَب حثيثًا؛ أي: مسرعًا، وحثثتُ الفرسَ على الْعَدْو: صِحْتُ به، أو وَكَزته برجل، أو ضرب، واستحثثته ذلك. انتهى

(3)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: حَثّ، وحضّ، ورغّب بمعنى واحد

(4)

.

(عَلَى خِدْمَتِهِ) صلى الله عليه وسلم (فَدَخَلَ) صلى الله عليه وسلم (عَلَيْنَا دَارَنَا) وفي الرواية التالية: "أتانا

(1)

"شرح النوويّ" 13/ 202.

(2)

"شرح النوويّ" 13/ 202.

(3)

"المصباح المنير" 1/ 121.

(4)

"المفهم" 5/ 290.

ص: 182

رسول الله صلى الله عليه وسلم في دارنا، فاستسقى، فحلبنا شاةً لنا". (فَحَلَبْنَا لَهُ) وفي رواية للبخاريّ:"فحلبت شاةً"، فبيّن أن أنسًا هو الذي تولّى الحلب.

والْحَلْب بفتح، فسكون، أو بفتحتين: استخراج ما في الضرع من اللبن، كالْحِلاب بالكسر، والاحتلاب، وهو من بابي ضرب، ونصر، أفاده المجد

(1)

. (مِنْ شَاةٍ دَاجِنٍ) بغير هاء صفة لـ "شاة"، وقد يقال: داجنة بالهاء؛ أي: آلفة للبيت، قال المجد رحمه الله: ودَجَنَ بالمكان دُجُونًا: أقام، والْحَمَامُ، والشاة، وغيرهما: أَلِفت البيوت، وهي داجنٌ، والجمع: دَوَاجن. انتهى

(2)

.

وقال الفيّوميّ رحمه الله: دَجَنَ بالمكان دَجْنًا، من باب قَتَلَ، ودُجُونًا: أقام به، وأدجن بالألف مثله، ومنه قيل لِمَا يَأَلَف البيوت من الشاة، والحمام، ونحوه: دواجن، وقد قيل: داجنةٌ بالهاء، وسَحَابةٌ داجنة؛ أي: ممطرةٌ، والدَّجْنُ وزانُ فَلْس: المطر الكثير. انتهى

(3)

.

وقال النوويّ رحمه الله: قوله: "من شاة داجنٍ" هي بكسر الجيم، وهي التي تُعْلَف في البيوت، يقال: دَجَنت تَدْجُن دُجُونًا، ويُطلق الداجن أيضًا على كل ما يَألَف البيت من طير وغيره. انتهى

(4)

.

وقال في "العمدة": قوله: "شاة داجن": الداجن شاةٌ أَلِفت البيوتَ، وأقامت بها، والشاة تذكَّر وتؤنَّث، فلذلك قال: داجنٌ، ولم يقل: داجنةٌ، وقال ابن الأثير: الداجن: الشاة التي يَعلِفها الناسُ في منازلهم، يقال: دَجَنت تَدْجُنُ دُجُونًا. انتهى

(5)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قوله: "تذكّر وتؤنّث" عبارة الفيّوميّ: الشاة: من الغنم يقع على الذكر والأنثى، فيقال: هذا شاةٌ للذكر، وهذه شاةٌ للأنثي، وشاةٌ ذَكَرٌ، وشاةٌ أنثى، وتصغيرها شُوَيهةٌ، والجمع شاءٌ، وشِياهٌ بالهاء رُجوعًا إلى الأصل، كما قيل: شَفَةٌ وشِفَاهٌ، ويقال: أصلها شاهَةٌ، مثلُ عَاهَةٍ. انتهى

(6)

.

(1)

"القاموس المحيط" ص 310.

(2)

"القاموس المحيط" ص 416.

(3)

"المصباح المنير" 1/ 190.

(4)

"شرح النوويّ" 13/ 202.

(5)

"عمدة القاري" 12/ 192.

(6)

"المصباح المنير" 1/ 326.

ص: 183

(وَشِيبَ) بكسر الشين، مبنيًّا للمفعول؛ أي: خُلط، قال الفيّوميّ رحمه الله: شابه شَوْبًا، من باب قال: خَلَطه، مثلُ شُوبَ اللبنُ بالماء، فهو مَشُوبٌ، والعربُ تُسَمّي العسلَ شَوْبًا؛ لأنه عندهم مِزَاجٌ للأشربة، وقولهم: ليس فيه شائبة مِلْكٍ يجوز أن يكون مأخوذًا من هذا، ومعناه: ليس فيه شيءٌ مختلطٌ به، وإن قَلّ، كما ليس له فيه عُلْقةٌ ولا شُبهةٌ، وأن تكون فاعلةً بمعنى مفعولةٍ، مثلُ {عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (21)} [الحاقة: 21]، هكذا استعمله الفقهاء، قال: ولم أجد فيه نصًّا، نعم قال الجوهريّ: الشائبة واحدة الشوائب، وهي الأدناس والأقذار. انتهى

(1)

.

قال العلماء: والحكمة في شوب اللبن بالماء ليبرد، أو ليكثر، أو للمجموع

(2)

.

(لَهُ)؛ أي: لأجله صلى الله عليه وسلم، (مِنْ بِئْرٍ فِي الدَّارِ)؛ أي: دار أنس، وفي الرواية التالية:"ثمّ شُبته من ماء بئري هذه"، (فَشَرِبَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ لَهُ) صلى الله عليه وسلم، (عُمَرُ) بن الخطّاب رضي الله عنه، قال في "الفتح": كذا لجميع أصحاب الزهريّ، وشذّ معمر فيما رواه وُهيب عنه، فقال:"فقال عبد الرحمن بن عوف" بدل عمر، أخرجه الإسماعيليّ، والأول هو الصحيح، ومعمر لَمّا حَدّث بالبصرة حدَّث من حفظه، فوَهِمَ في أشياء، فكان هذا منها، ويَحْتَمِل أن يكون محفوظًا، بأن يكون كلٌّ من عمر وعبد الرحمن قال ذلك؛ لتوفُّر دواعي الصحابة على تعظيم أبي بكر. انتهى

(3)

.

وقوله: (وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ شِمَالِهِ) جملة حاليّة؛ أي: والحال أن أبا بكر الصدّيق رضي الله عنه جالس في جهة شمال النبيّ صلى الله عليه وسلم، وفي الرواية التالية:"وأبو بكر عن يساره، وعمر وُجاهه، وأعرابيّ عن يمينه".

(يَا رَسُولَ اللهِ أَعْطِ) وفي بعض النسخ "أعطه"، (أَبَا بَكْرٍ) الصدّيق، وفي رواية للبخاريّ:"فقال عمر - وخاف أن يعطيه الأعرابيّ -: أعط أبا بكر"، وفي رواية أبي طُوالة التالية:"فقال عمر: هذا أبو بكر يا رسول الله يُريه إيّاه".

(1)

"المصباح المنير" 1/ 328.

(2)

"شرح النوويّ" 13/ 201.

(3)

"الفتح" 6/ 156، كتاب "المساقاة" رقم (2352).

ص: 184

قال الخطابيّ وغيره: كانت العادة جاريةً لملوك الجاهلية، ورؤسائهم بتقديم الأيمن في الشرب، حتى قال عمرو بن كلثوم في قصيدة له [من الطويل]:

وَكَانَ الْكَأْسُ مَجْرَاهَا الْيَمِينَا

فخَشِي عمر لذلك أن يقدِّم الأعرابيّ على أبي بكر في الشرب، فنبّه عليه؛ لأنه احتَمَل عنده أن النبيّ صلى الله عليه وسلم يُؤْثِر تقديم أبي بكر على تلك العادة، فتصير السُّنَّة تقديم الأفضل في الشرب على الأيمن، فبَيَّن النبيّ صلى الله عليه وسلم بفعله وقوله أن تلك العادة لم تغيّرها السُّنَّة، وأنها مستمرّة، وأن الأيمن يقدَّم على الأفضل في ذلك، ولا يلزم من ذلك حط رتبة الأفضل، وكان ذلك لفضل اليمين على اليسار. انتهى

(1)

.

(فَأَعْطَاهُ)؛ أي: أعطى النبيّ صلى الله عليه وسلم ذلك اللبن (أَعْرَابِيًّا عَنْ يَمِينِهِ) قيل: إن الأعرابيّ هو خالد بن الوليد، حكاه ابن التين، وتُعُقّب بأن مثله لا يقال له: أعرابيّ، وكأن الحامل له على ذلك أنه رأى في حديث ابن عباس الذي أخرجه الترمذيّ، قال:"دخلت أنا وخالد بن الوليد على ميمونة، فجاءتنا بإناء من لبن، فشرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا على يمينه، وخالد على شماله، فقال لي: الشَّرْبة لك، فإن شئت آثرتَ بها خالدًا"، فقلت: ما كنت أُوثر على سؤرك أحدًا، فظنّ أن القصة واحدة، وليس كذلك، فإن هذه القصة في بيت ميمونة، وقصة أنس في دار أنس، فافترقا، نعم يصلح أن يُعَدّ خالد من الأشياخ المذكورين في حديث سهل بن سعد، والغلام هو ابن عباس، ويقوّيه قوله في حديث سهل أيضًا: ما كنت أوثر بفضلي منك أحدًا، ولم يقع ذلك في حديث أنس، وليس في حديث ابن عباس ما يمنع أن يكون مع خالد بن الوليد في بيت ميمونة غيره، بل قد روى ابن أبي حازم، عن أبيه، في حديث سهل بن سعد ذِكر أبي بكر الصديق فيمن كان على يساره صلى الله عليه وسلم. ذكره ابن عبد البرّ، وخَطّأه.

قال ابن الجوزيّ: إنما استأذن الغلامَ، ولم يستأذن الأعرابيّ؛ لأن

(1)

"الفتح" 12/ 662، كتاب "الأشربة" رقم (5612).

ص: 185

الأعرابيّ لم يكن له علم بالشريعة، فاستألفه بترك استئذانه، بخلاف الغلام، قاله في "الفتح"

(1)

.

وقال في "الفتح" أيضًا في موضع آخر ما حاصله: من زَعَم أن اسم هذا الأعرابي خالد بن الوليد، فقد وَهِمَ، ووقع عند الطبرانيّ من حديث عبد الله بن أبي حبيبة قال: "أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجد قباء، فجئت، فجلست عن يمينه، وجلس أبو بكر عن يساره، ثم دعا بشراب، فشرب، وناولني عن يمينه، وأخرجه أحمد، لكن لم يسمّ الصحابيّ، قال: ولا يمكن تفسير المبهَم في حديث أنس به أيضًا؛ لأن هذه القصة كانت بقُباء، وتلك في دار أنس أيضًا، فهو أنصاريّ، ولا يقال له: أعرابيّ، كما استُبْعِد ذلك في حقّ خالد بن الوليد. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن بما ذُكر أنه لم يُعرف اسم الأعرابيّ المذكور في حديث أنس رضي الله عنه هذا، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

(وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "الأَيْمَنَ، فَالأَيْمَنَ") بالنصب، على تقدير: قدِّموا، أو أعطوا الأيمن، أو بالرفع؛ أي: الأيمن مقدّم، وفي رواية أبي طُوالة التالية:"الأيمنون، الأيمنون، الأيمنون"، وهذه الرواية ترجّح الرفع على النصب في قوله هنا:"الأيمنُ، فالأيمنُ"، وفي رواية البخاريّ:"الأيمنون، الأيمنون، إلا فَيَمِّنوا".

قال في "الفتح": قوله: "الأيمنون الأيمنون" فيه تقدير مبتدأ مضمر؛ أي: المقدَّم الأيمنون، والثانية للتأكيد، وقوله:"ألا فَيَمِّنوا" كذا وقع بصيغة الاستفتاح، والأمر بالتيامن، قال: وتوجيهه أنه لمّا بَيّن أن الأيمن يقدَّم، ثم أكّده بإعادته، أَكْمَل ذلك بصريح الأمر به، ويُستفاد من حذف المفعول التعميم في جميع الأشياء؛ لقول عائشة رضي الله عنها:"كان يعجبه التيمن في شأنه كله". انتهى

(3)

.

(1)

"الفتح" 6/ 156، كتاب "المساقاة" رقم (2352).

(2)

"الفتح" 12/ 662، كتاب "الأشربة" رقم (5612).

(3)

"الفتح" 6/ 422، كتاب "الهبة" رقم (2571).

ص: 186

وقال القرطبيّ رحمه الله: وإنما بدأ النبيّ صلى الله عليه وسلم بالأعرابيّ؛ لأنه كان عن يمينه، فبيَّن أن ذلك سُنَّة، ولذلك قال:"الأيمن فالأيمن"؛ أي: أَعْطِ الأيمن، وابدأ به، وقيل: أيضًا إنه قصد استئلافه، فإنَّه كان من كبراء قومه، فلذلك جلس عن يمينه صلى الله عليه وسلم، والأول أظهر، ولا يبعد قَصْد المعنى الثاني. انتهى

(1)

.

وقال في "الفتح": استنبط بعضهم من تكرار الأيمن أن السُّنَّة إعطاء من على اليمين، ثم الذي يليه، وهَلُمّ جَرًّا، ويلزم منه أن يكون عُمر في الصورة التي وردت في هذا الحديث شَرِب بعد الأعرابيّ، ثم شرب أبو بكر بعده، لكن الظاهر عن عُمر إيثاره أبا بكر بتقديمه عليه، والله أعلم.

[تنبيه]: ألحق بعضهم بتقديم الأيمن في المشروب تقديمه في المأكول، ونُسب لمالك، وقال ابن عبد البرّ: لا يصحّ عنه. انتهى

(2)

.

وقال المناويّ: قوله: "الأيمن، فالأيمن"؛ أي: ابتدأوا بالأيمن، أو قَدِّموا الأيمن؛ يعني: مَنْ عِند اليمين في نحو الشرب، فهو منصوب، ورُوي رفعه، وخبره محذوف؛ أي: الأيمن أحقّ، ورجّحه العينيّ بقوله في بعض طرق الحديث:"الأيمنون، فالأيمنون"، وكَرّر لفظ "الأيمن" للتأكيد؛ إشارةً إلى نَدْب البداءة بالأيمن، ولو مفضولًا، وحُكي عليه الاتفاق، بل قال ابن حزم: لا يجوز مناولة غير الأيمن إلا بإذنه، قال ابن العربيّ: وكلّ ما يدور على جَمْع من كتاب، أو نحوه، فإنما يدور على اليمين قياسًا على ما ذَكَره، وتقديم مَن على اليمين ليس لمعنى فيه، بل المعنى في جهة اليمين، وهو فضْلها على جهة اليسار، فيؤخذ منه أن ذلك ليس ترجيحًا لمن عن اليمين، بل لجهته، ولا يعارِض هذا ما في خبر الأمر بمناولة السواك الأكبر، ولا ما ثبت في خبر القسامة:"كَبِّر كَبِّر"، ولا قوله في حديث أبي يعلى:"كان إذا سقى قال: ابدؤوا بالكبير"؛ لِحَمْله على الحالة التي يجلسون فيها متساويين بين يديه، أو عن يساره، أو خلفه، فتُخص هذه الصورة من عموم تقديم الأيمن، أو يُخَصّ من عموم الأمر بالبداءة بالكبير ما لو قَعَد بعض عن يمين الرئيس، وبعض عن

(1)

"المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" 5/ 290.

(2)

"الفتح" 6/ 156، كتاب "المساقاة" رقم (2352).

ص: 187

يساره، ففي هذه الصورة يقدَّم الصغير على الكبير، والمفضول على الفاضل، فالأيمن لم يَمْتَزْ بمجرد القعود في الجهة اليمني، بل لخصوص كونها يمين الرئيس، فالفضل إنما فاض عليه من الأفضل، وأُخذ من الحديث أن كل ما كان من أنواع التكريم يقدَّم فيه مَن على اليمين. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أنس رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [5/ 5278 و 5279 و 5280](2029)، و (البخاريّ) في "الهبة"(2571) و"الأشربة"(5612 و 5619)، و (أبو داود) في "الأشربة"(3726)، و (الترمذيّ) في "الأشربة"(1893)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(4/ 193)، و (ابن ماجه) في "الأشربة"(3425)، و (مالك) في "الموطّأ"(2/ 926)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(10/ 425)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(5/ 108)، و (الحميديّ) في "مسنده"(2/ 499)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 110 و 113 و 231 و 239)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 160)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(5/ 155 و 156)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5333 و 5334 و 5336 و 5337)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(6/ 253 و 255 و 260 و 262 و 286 و 295)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(7/ 285) و"شُعَب الإيمان"(5/ 121)، و (أبو الشيخ) في "أخلاق النبيّ صلى الله عليه وسلم"(ص 225)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(3051 و 3053)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): ما قاله النوويّ رحمه الله: في أحاديث الباب بيان هذه السُّنَّة الواضحة، وهو موافق لِمَا تظاهرت عليه دلائل الشرع، من استحباب التيامن في كل ما كان من أنواع الإكرام

(2)

.

(1)

"فيض القدير على الجامع الصغير" للمناويّ رحمه الله 3/ 190 - 191.

(2)

"شرح النوويّ" 13/ 200.

ص: 188

2 -

(ومنها): بيان مشروعية تقديم من هو على يمين الشارب في الشرب، وإن كان صغيرًا، أو مفضولًا بالنسبة إلى من كان على يسار الشارب؛ لفضل جهة اليمين على جهة اليسار، فقد قدّم رسول الله صلى الله عليه وسلم الأعرابيّ، والغلام على أبي بكر.

قال في "العمدة: وهل هو على جهة الاستحباب، أو أنه حقّ ثابت للجالس على اليمين؟ فقال القاضي عياض: إنه سُنَّةٌ، قال: وهذا مما لا خلاف فيه، وكذا قال النوويّ: إنها سُنَّة واضحة، وخالف فيه ابن حزم، فقال: لا بُدّ من مناولة الأيمن كائنًا من كان، فلا يجوز مناولة غير الأيمن إلا بإذن الأيمن، قال: ومن لم يُرِدْ أن يناول أحدًا فله ذلك.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي قاله ابن حزم هو الحقّ الذي عليه ظواهر النصوص، فلا ينبغي عنها العدول إلا لنصّ صحيح، فلا يجوز تقديم غير الأيمن إلا بإذنه، ولم يأت من ادّعى الاستحباب بصارف يصرف الأمر عن الوجوب إليه، فتبصّر بالإنصاف، ولا تكن أسير التقليد، والله تعالى أعلم.

[فإن قلت]: في حديث ابن عباس رضي الله عنهما أخرجه أبو يعلى بإسناد صحيح، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سقى قال: "ابدأوا بالكبراء"، أو قال:"بالأكابر"، فكيف الجمع بينه وبين أحاديث الباب؟.

[أجيب]: بأن هذا الحديث يُحْمَل على ما إذا لم يكن على جهة يمينه صلى الله عليه وسلم، بل كان الحاضرون تلقاء وجهه مثلًا، أو وراءه.

وقال النوويّ: وأما تقديم الأفاضل والكبار، فهو عند التساوي في باقي الأوصاف، ولهذا يقدَّم الأعلم، والأقرأ على الأسنّ النسيب في الإمامة في الصلاة. انتهى.

3 -

(ومنها): ما قيل: إن غير المشروب، مثل الفاكهة، واللحم، ونحوهما، هل حكمه حكم الماء؟ فنُقل عن مالك تخصيص ذلك بالشرب، وقال ابن عبد البر وغيره: لا يصحّ هذا عن مالك، وقال القاضي عياض: يُشْبِه أن يكون قول مالك: إن السُّنَّة وردت في الشرب خاصّة، وإنما يقدَّم الأيمن، فالأيمن في غيره بالقياس؛ لأن السُّنَّة منصوصة فيه، وكيف ما كان فالعلماء متفقون على استحباب التيامن في الشرب، وأشباهه.

ص: 189

4 -

(ومنها): جواز شَوْب اللبن بالماء لنفسه، ولأهل بيته، ولأضيافه، وإنما يمتنع شَوْبه بالماء إذا أراد بيعه؛ لأنه غَشّ.

5 -

(ومنها): أن الجلساء شركاء في الهديّة، وذلك على جهة الأدب، والمروءة، والفضل، والأُخُوّة، لا على الوجوب؛ لإجماعهم على أن المطالبة بذلك غير واجبة لأحد.

[فإن قلت]: رُوي أنه صلى الله عليه وسلم قال: "جلساؤكم شركاؤكم في الهدية".

[أجيب]: بأنه محمول على ما ذَكَرنا من الاستحباب، مع أن إسناده فيه لِيْن

(1)

، قاله في "العمدة"

(2)

.

وعبارة "الفتح": وفيه أن الجلساء شركاء فيما يُقَرَّب إليهم على سبيل الفضل، لا اللزوم؛ للإجماع على أن المطالبة بذلك لا تجب، قاله ابن عبد البرّ، ومحله ما إذا لم يكن فيهم الإمام، أو من يقوم مقامه، فإن كان فالتصرف في ذلك له. انتهى

(3)

.

6 -

(ومنها): أن من قُدِّم إليه شيء من الأكل، أو الشرب، فليس عليه أن يسأل من أين هو؟ وما أصله؟ إذا عَلِم طِيْب مكسب صاحبه في الأغلب.

7 -

(ومنها): جواز طلب الأعلى من الأدنى ما يريده من مأكول، ومشروب، إذا كانت نفس المطلوب منه طيّبة به، ولا يُعَدّ ذلك من السؤال المذموم

(4)

.

8 -

(ومنها): ما قيل: ما الحكمة في كونه صلى الله عليه وسلم استأذن ابن عباس أن يعطي خالد بن الوليد قبله، ولم يستأذن الأعرابيّ في أن يعطي أبا بكر الصديق رضي الله عنه قبله؟.

[وأجيب]: بأنه إنما استأذن الغلام دون الأعرابيّ؛ إدلالًا على الغلام، وهو ابن عباس ثقةً بطِيْب نَفْسه بأصل الاستئذان، والأشياخ أقاربه، وأما

(1)

قاله الحافظ أبو عمر بن عبد البرّ رحمه الله في "التمهيد" 21/ 124.

(2)

"عمدة القاري" 12/ 193.

(3)

"الفتح" 12/ 663، كتاب "الأشربة" رقم (5612).

(4)

"الفتح" 6/ 422 - 423، كتاب "الهبة" رقم (2571).

ص: 190

الأعرابي فلم يستأذنه مخافةً من إيحاشه في استئذانه في صرفه إلى أصحابه، وربما سبق إلى قلب ذلك الأعرابيّ شيء يأنف به؛ لقُرب عهده بالجاهلية.

9 -

(ومنها): ما قيل: ما الحكمة في كون ابن عباس لم يوافق استئذان النبيّ صلى الله عليه وسلم له في أن يقدّم في الشرب من هو أَولى منه بذلك؟.

[وأجيب]: بأنه صلى الله عليه وسلم لم يأمره بذلك بقوله: اترك له حقّك، ولو أَمَره لأطاعه فلمّا لم يقع منه إلا استئذانه له في ذلك فقط لم يفوّت نَفْسه حظه من سؤر النبيّ صلى الله عليه وسلم.

10 -

(ومنها): ما قيل: هل مَنْ سَبَق إلى مجلس عالم، أو كبير، أو إلى موضع من المسجد، أو إلى موضع مباح فهو أحقّ به ممن يجيء بعده أم لا؟.

والجواب أن حكمَ الشرب في أن القاعد على اليمين أحقّ كائنًا من كان، فكذلك هنا السابق أحقّ كائنًا من كان، ولا يُقام أحد من مجلس جَلَسه، قاله في "العمدة"

(1)

.

وقال في "الفتح": وفيه أن من سَبَق إلى مجلس علم، أو مجلس رئيس، لا يُنَحَّى منه لمجيء من هو أَولى منه بالجلوس في الموضع المذكور، بل يجلس الآتي حيث انتهى به المجلس، لكن إن آثره السابق جاز. انتهى.

11 -

(ومنها): أن من استحقّ شيئًا لم يُدْفَع عنه إلا بإذنه كبيرًا كان، أو صغيرًا، إذا كان ممن يجوز إذنه.

12 -

(ومنها): جواز دخول الكبير بيت خادمه، وصاحبه، ولو كان صغير السنّ، وتناوله مما عندهم من طعام وشراب، من غير بحث، قاله في "الفتح"

(2)

، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5280]

(. . .) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، وَقُتَيْبَةُ، وَعَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، قَالُوا: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ - وَهُوَ ابْنُ جَعْفَرٍ - عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَعْمَرِ بْنِ حَزْمٍ أَبِي طُوَالَةَ الأَنْصَارِيِّ، أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسٍ بْنَ مَالِكٍ (ح) وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ

(1)

راجع: "عمدة القاري" 12/ 193.

(2)

"الفتح" 12/ 663، كتاب "الأشربة" رقم (5612).

ص: 191

مَسْلَمَةَ بْنِ قَعْنَبٍ - وَاللَّفْظُ لَهُ - حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ - يَعْنِي: ابْنَ بِلَالٍ - عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يُحَدِّثُ، قَالَ

(1)

: أَتَانَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي دَارِنَا، فَاسْتَسْقَى، فَحَلَبْنَا لَهُ شَاةً، ثُمَّ شُبْتُهُ مِنْ مَاءِ بِئْرِي هَذِهِ، قَالَ: فَأَعْطَيْتُ

(2)

رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَشَرِبَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ يَسَارِهِ، وَعُمَرُ وُجَاهَهُ، وَأَعْرَابِيٌّ عَنْ يَمِينِهِ، فَلَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ شُرْبِهِ، قَالَ عُمَرُ: هَذَا أَبُو بَكْرٍ يَا رَسُولَ اللهِ، يُرِيهِ إِيَّاهُ، فَأَعْطَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الأَعْرَابِيَّ، وَتَرَكَ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ، وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"الأَيْمَنُونَ، الأَيْمَنُونَ، الأَيمَنُونَ"، قَالَ أَنَسٌ: فَهِيَ سُنَّةٌ، فَهِيَ سُنَّةٌ، فَهِيَ سُنَّةٌ).

رجال هذين الإسنادين: ثمانية:

1 -

(يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ) المقابريّ، أبو زكريّاء البغداديّ، ثقةٌ عابدٌ [10](ت 234)(عخ م د عس) تقدم في "الإيمان" 2/ 110.

2 -

(عَلِيُّ بْنُ حُجْرِ) بن إياس السعديّ المروزيّ، ثقةٌ حافظٌ، من صغار [9](ت 244) وقد قارب المائة، أو جاوزها (خ م ت س) تقدم في "المقدمة" 2/ 6.

3 -

(إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرِ) بن أبي كثير الأنصاريّ الزُّرَقيّ، أبو إسحاق المدنيّ القارئ، نزيل بغداد، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 180)(ع) تقدم في "الإيمان" 2/ 110.

4 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَعْمَرِ بْنِ حَزْمٍ أَبِي طُوَالَةَ

(3)

الأَنْصَارِيِّ) المدنيّ، قاضي المدينة لعمر بن عبد العزيز، ثقةٌ [5](ت 134) أو بعد ذلك (ع) تقدم في "الصيام" 13/ 2593.

5 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ بْنِ قَعْنَبٍ) القعنبيّ الحارثيّ، أبو عبد الرحمن البصريّ، مدنيّ الأصل، وقد سكنها مدّةً، ثقةٌ عابدٌ، كان ابن معين، وابن المدينيّ لا يقدّمان عليه في "الموطّأ" أحدًا، من صغار [9](ت 221) بمكة (خ م د ت س) تقدم في "الطهارة" 17/ 617.

(1)

وفي نسخة: "يقول".

(2)

وفي نسخة: "فأعطيته".

(3)

بضمّ الطاء المهملة، وتخفيف الواو، قال النوويّ: هذا هو الصحيح المشهور، وحَكَى صاحب "المطالع" ضمّها، وفتحها، قالوا: ولا يُعرَف في المحدّثين من يُكنى أبا طُوالة غيره، وقد ذكره الحاكم أبو أحمد في الكنى المفردة. انتهى.

ص: 192

6 -

(سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ) التيميّ مولاهم، أبو محمد، أو أبو أيّوب المدنيّ، ثقةٌ [8](ت 177)(ع) تقدم في "الإيمان" 14/ 160.

والباقيان ذُكرا في الباب، وقبله.

[تنبيه]: من لطائف هذين الإسنادين أنهما من رباعيّات المصنّف رحمه الله، كالأسانيد الماضية واللاحقة.

وقوله: (فَاسْتَسْقَى)؛ أي: طلب منّا أن نسقيه ماءً، قال في "الفتح": أشار الإسماعيليّ إلى أن سليمان بن بلال تفرّد عن أبي طُوالة بقوله: "فاستسقى"، وأخرجه من طريق إسماعيل بن جعفر، وخالد الواسطيّ، عن أبي طُوالة بدونها. انتهى.

قال الحافظ: وسليمان حافظ، وزيادته مقبولة، وقد ثبتت هذه اللفظة في حديث جابر، من طريق الأعمش، عن أبي صالح، عنه في حديث - تقدّم عند مسلم في "الأشربة"[10/ 5233](2011) -

(1)

.

وقوله: (ثُمَّ شُبْتُهُ) بضمّ الشين المعجمة، من باب قال.

وقوله: (مِنْ مَاءِ بِئْرِي هَذِهِ) اسم الإشارة بدل من "بئري".

وقوله: (قَالَ عُمَرُ: هَذَا أَبُو بَكْرٍ يَا رَسُولَ اللهِ، يُرِيهِ إِيَّاهُ) قال النوويّ رحمه الله: إنما قال عمر رضي الله عنه هذا لتذكيره صلى الله عليه وسلم بأبي بكر مخافةً من نسيانه، وإعلامًا لذلك الأعرابيّ الذي على اليمين بجلالة أبي بكر رضي الله عنه. انتهى

(2)

.

وقوله: (الأَيْمَنُونَ، الأَيْمَنُونَ، الأَيْمَنُونَ) مبتدأ خبره محذوف؛ أي: الأيمنون مقدّمون، أو الأيمنون أولى بالتقديم، وإن كانوا مفضولين.

وقوله: (قَالَ أَنَسٌ: فَهِيَ سُنَّةٌ، فَهِيَ سُنَّة، فَهِيَ سُنَّةٌ) كرّره للتأكيد؛ يعني: أن هذه الخصلة، وهي تقديم الأيمن على غيره سُنَّة ثابتة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، والله تعالى أعلم.

(1)

"الفتح" 6/ 422، كتاب "الهبة" رقم (2571).

(2)

"شرح النوويّ" 13/ 200.

ص: 193

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5281]

(2030) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، فِيمَا قُرِئَ عَلَيْهِ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بِشَرَابٍ، فَشَرِبَ مِنْهُ، وَعَنْ يَمِينِهِ غُلَامٌ، وَعَنْ يَسَارِهِ أَشْيَاخٌ، فَقَالَ لِلْغُلَامِ: "أَتَأْذَنُ لِي أَنْ أُعْطِيَ هَؤُلَاءِ؟ "، فَقَالَ الْغُلَامُ: لَا، وَالله، لَا أُوثِرُ بِنَصِيبِي مِنْكَ أَحَدًا"، قَالَ: فَتَلَّهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي يَدِهِ).

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(أَبُو حَازِمٍ) سلمة بن دينار التمّار الأعرج المدنيّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ السَّاعِدِيُّ) بن مالك بن خالد الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، تقدّم أيضًا قريبًا.

والباقيان ذُكرا في الباب.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، كالأسانيد السابقة، والآتي بعده، وهو (398) من رباعيّات الكتاب.

شرح الحديث:

(عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَاعِدِيِّ) رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بِشَرَابٍ) ببناء الفعل للمفعول، والآتي به هي ميمونة بنت الحارث زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم رضي الله عنها، فقد أخرج الترمذيّ وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: دخلت أنا وخالد بن الوليد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على ميمونة، فجاءتنا بإناء من لبن، فشَرِب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا عن يمينه، وخالد عن شماله، فقال لي:"الشَّرْبة لك، وإن شئت آثرت بها خالدًا"، فقلت: ما كنت لأوثر بسؤرك أحدًا، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من أطعمه الله طعامًا، فليقل: اللهم بارك لنا فيه، وأطعمنا خيرًا منه، ومن سقاه الله لبنًا، فليقل: اللهم بارك لنا فيه، وزدنا منه"، قال الترمذيّ: حديث حسنٌ، وهو كما قال.

(فَشَرِبَ مِنْهُ)؛ أي: من ذلك اللبن، وقوله:(وَعَنْ يَمِينِهِ غُلَامٌ) جملة حاليّة من الفاعل، والأصحّ أن الغلام هو عبد الله بن عبّاس رضي الله عنهما، وقال ابن

ص: 194

التين: من قال: الغلام هو ابن عباس يؤخذ منه أن الصبيّ يُسَمَّى غلامًا، ومن قال: إنه الفضل يؤخذ منه أن البالغ يُسَمّى غلامًا. انتهى

(1)

.

(وَعَنْ يَسَارِهِ أَشْيَاخٌ) خالد بن الوليد وغيره (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم (لِلْغُلَامِ: "أَتَأْذَنُ لِي أَنْ أُعْطِيَ هَؤُلَاءِ؟ ") الأشياخ، قال في "الفتح": لم يقع في حديث أنس أنه استأذن الأعرابيّ الذي عن يمينه، فأجاب النوويّ وغيره بأن السبب فيه أن الغلام كان ابن عمه، فكان له عليه إدلالٌ، وكان مَنْ على اليسار أقارب الغلام أيضًا، وطيّب نفسه مع ذلك بالاستئذان لبيان الحكم، وأن السُّنَّة تقديم الأيمن، ولو كان مفضولًا بالنسبة إلى مَن على اليسار، وقد وقع في حديث ابن عباس في هذه القصّة أن النبيّ صلى الله عليه وسلم تلطف به حيث قال له:"الشَّرْبة لك، وإن شئت آثرت بها خالدًا"، كذا في "السنن"، وفي لفظ لأحمد:"وإِن شئت آثرت به عمّك"، وإنما أَطلق عليه عمه؛ لكونه أسنّ منه، ولعل سنّه كان قريبًا من سنّ العباس، وإن كان من جهة أخرى من أقرانه؛ لكونه ابن خالته، وكان خالد مع رياسته في الجاهلية، وشَرَفه في قومه قد تأخر إسلامه، فلذلك استأذن له، بخلاف أبي بكر، فإنّ رسوخ قدمه في الإسلام وسَبْقه يقتضي طمأنينته بجميع ما يقع من النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولا يتأثر لشيء من ذلك، ولهذا لم يستأذن الأعرابيّ له، ولعله خَشِي من استئذانه أن يتوهّم إرادة صرفه إلى بقية الحاضرين بعد أبي بكر دونه، فربما سَبَق إلى قلبه من أجل قُرب عهده بالإسلام شيء، فجرى صلى الله عليه وسلم على عادته في تأليف مَن هذا سبيله، وليس ببعيد أنه كان من كبراء قومه، ولهذا جلس عن يمين النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأقره على ذلك. انتهى

(2)

.

(فَقَالَ الْغُلَامُ: لَا)؛ أي: لا آذن لك في ذلك، (وَاللهِ، لَا أُوثِرُ بِنَصِيبِي)؛ أي: بحظي (مِنْكَ أَحَدًا، قَالَ) سهل رضي الله عنه (فتَلَّهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) قال النوويّ رحمه الله: أي وَضَعه فيها، وقد جاء في "مسند أبي بكر بن أبي شيبة" أن هذا الغلام هو عبد الله بن عباس، ومن الأشياخ خالد بن الوليد رضي الله عنه. انتهى

(3)

.

(1)

"عمدة القاري" 12/ 297.

(2)

"الفتح" 12/ 679 - 680، كتاب "الأشربة" رقم (5620).

(3)

"شرح النوويّ" 13/ 201.

ص: 195

وقال في "الفتح": قوله: "فتلّه" - بفتح المثناة، وتشديد اللام -؛ أي: وَضَعه، وقال الخطابيّ: وضعه بعُنْف، وأصله من الرمي على التّلّ، وهو المكان العالي المرتفع، ثم استُعمل في كل شيء يُرمَى به، وفي كل إلقاء، وقيل: هو من التَّلْتَل بلام ساكنة بين المثناتين المفتوحتين، وآخره لام، وهو العنق، ومنه:{وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103)} [الصافات: 103]؛ أي: صَرَعه، فألقى عنقه، وجعل جنبه إلى الأرض، والتفسير الأول أليق بمعنى حديث الباب، وقد أنكر بعضهم تقييد الخطابيّ الوضع بالعنف، قاله في "الفتح"

(1)

، والله تعالى أعلم.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث سهل بن سعد رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [5/ 5281 و 5282](2030)، و (البخاريّ) في "المساقاة"(2351 و 2366) و"المظالم"(2451) و"الهبة"(2602 و 2605) و"الأشربة"(5620)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(4/ 195)، و (مالك) في "الموطّأ"(2/ 926)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 333 و 338)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5335)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(5/ 158)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(6/ 139 و 170)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(7/ 286) و"شُعَب الإيمان"(5/ 121)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(3054)، و (الضياء المقدسيّ) في "المختارة"(9/ 243)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان أن سُنَّة الشُّرب العامة تقديم الأيمن في كل موطن، وأن تقديم الذي على اليمين ليس لمعنى فيه، بل لمعنى في جهة اليمين، وهو فَضْلها على جهة اليسار، فيؤخذ منه أن ذلك ليس ترجيحًا لمن هو على اليمين، بل هو ترجيح لجهته.

قال في "الفتح": وقد يعارض حديثَ سهل هذا، حديثُ أنس الذي قبله،

(1)

"الفتح" 12/ 679 - 680، كتاب "الأشربة" رقم (5620).

ص: 196

وحديث سهل بن أبي خيثمة المتقدّم في "القسامة": "كَبِّر كَبِّر"، وتقدم في "الطهارة" حديث ابن عمر في الأمر بمناولة السواك الأكبر، وأخص من ذلك حديث ابن عباس الذي أخرجه أبو يعلى بسند قويّ، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سَقَى، قال:"ابدءوا بالكبير".

ويُجْمَع بأنه محمول على الحالة التي يجلسون فيها متساوين، إما بين يدي الكبير، أو عن يساره كلهم، أو خلفه، أو حيث لا يكون فيهم، فتُخَصّ هذه الصورة من عموم تقديم الأيمن، أو يُخص من عموم هذا الأمر بالبداءة بالكبير ما إذا جلس بعضٌ عن يمين الرئيس، وبعض عن يساره، ففي هذه الصورة يقدَّم الصغير على الكبير، والمفضول على الفاضل، ويظهر من هذا أن الأيمن ما امتاز بمجرد الجلوس في الجهة اليمنى، بل بخصوص كونها يمين الرئيس، فالفضل إنما فاض عليه من الأفضل.

وقال ابن المنير: تفضيل اليمين شرعيّ، وتفضيل اليسار طبعيّ، وإن كان وَرَد به الشرع، لكن الأول أدخل في التعبد. انتهى

(1)

.

2 -

(ومنها): ما قاله ابن المنيّر رحمه الله: إذا تعارضت فضيلة الفاعل، وفضيلة الوظيفة اعتُبرت فضيلة الوظيفة، كما لو قُدّمت جنازتان لرجل وامرأة، ووليّ المرأة أفضل من وليّ الرجل، قُدِّم وليّ الرجل، ولو كان مفضولًا؛ لأن الجنازة هي الوظيفة، فتُعتبر أفضليتها، لا أفضلية المصلي عليها، قال: ولعل السرّ فيه أن الرجولية، والميمنة أمر يقطع به كل أحد، بخلاف أفضلية الفاعل، فإن الأصل فيه الظنّ، ولو كان مقطوعًا به في نفس الأمر، لكنه مما يخفَى مثله على بعض، كأبي بكر بالنسبة إلى علم الأعرابي، والله أعلم. انتهى

(2)

.

3 -

(ومنها): أن قوله: "أتأذن لي أن أعطي هؤلاء؟ " ظاهر في أنه لو أَذِن له لأعطاهم، ويؤخَذ منه جواز الإيثار بمثل ذلك، وهو مشكِل على ما اشتَهَر من أنه لا إيثار بالقُرَب، وعبارة إمام الحرمين في هذا: لا يجوز التبرع في العبادات، ويجوز في غيرها، وقد يقال: إن القُرَب أعمّ من العبادة، وقد أُورد

(1)

"الفتح" 12/ 679 - 680، كتاب "الأشربة" رقم (5620).

(2)

"الفتح" 12/ 679 - 680، كتاب "الأشربة" رقم (5620).

ص: 197

على هذه القاعدة تجويز جذب واحد من الصفّ الأول ليصلي معه؛ ليخرج الجاذب عن أن يكون مصليًا خلف الصفّ وحده؛ لثبوت الزجر عن ذلك، ففي مساعدة المجذوب للجاذب إيثار بقربة كانت له، وهي تحصيل فضيلة الصفّ الأول؛ ليحصل فضيلة تحصل للجاذب، وهي الخروج من الخلاف في بطلان صلاته.

ويمكن الجواب بأنه لا إيثار؛ إذ حقيقة الإيثار إعطاء ما استحقه لغيره، وهذا لم يُعطِ الجاذب شيئًا، وإنما رجَّح مصلحته على مصلحته؛ لأن مساعدة الجاذب على تحصيل مقصود ليس فيه إعطاؤه ما كان يحصل للمجذوب لو لم يوافقه، والله أعلم. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: لم يثبت في الجذب المذكور حديث، وما ورد من ذلك فضعيف؛ فلا ينبغي الجذب، ولا موافقة الجاذب فيه، بل ينتظر حتى يأتي آخر، وإلا صلّى وحده؛ للضرورة، قال الله تعالى:{وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام: 119]، فتنبّه، وقد استوفيت البحث فيه في محلّه، والله تعالى أعلم.

وقد لخّص النوويّ رحمه الله فوائد هذا الحديث، أحببت إيراده، وإن كان تقدّم؛ لتلخيصه، قال: تضمَّن بيان هذه السُّنَّة، وهي أن الأيمن أحقّ، ولا يدفع إلى غيره إلا بإذنه، وأنه لا بأس باستئذانه، وأنه لا يلزمه الإذن، وينبغي له أيضًا أن لا يأذن إن كان فيه تفويت فضيلة أخروية، ومصلحة دينية، كهذه الصورة، وقد نَصّ أصحابنا وغيرهم من العلماء على أنه لا يُؤْثِر في القُرَب، وإنما الإيثار المحمود ما كان في حظوظ النفس دون الطاعات، قالوا: فيكره أن يؤثِر غيره بموضعه من الصفّ الأول، وكذلك نظائره، وأما الأعرابيّ فلم يستأذنه مخافة من إيحاشه في استئذانه في صرفه إلى أصحابه صلى الله عليه وسلم، وربما سبق إلى قلب ذلك الأعرابيّ شيء يهلك به؛ لقُرْب عهده بالجاهلية وأَنَفَتها، وعدم تمكّنه في معرفته خُلُق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد تظاهرت النصوص على تألّفه صلى الله عليه وسلم قلب من يخاف عليه.

(1)

"الفتح" 12/ 679 - 680، كتاب "الأشربة" رقم (5620).

ص: 198

قال: وفي هذه الأحاديث أنواع من العلم، منها أن البداءة باليمين في الشراب ونحوه سُنَّة، وهذا مما لا خلاف فيه، ونُقِل عن مالك تخصيص ذلك بالشراب، قال ابن عبد البرّ وغيره: لا يصحّ هذا عن مالك، قال القاضي عياض: يُشبه أن يكون قول مالك رحمه الله: أن السُّنَّة وردت في الشراب خاصّة، وإنما يقدَّم الأيمن فالأيمن في غيره بالقياس، لا بسُّنَّة منصوصة فيه، وكيف كان فالعلماء متفقون على استحباب التيامن في الشراب، وأشباهه، وفيه جواز شرب اللبن المشوب، وفيه أن من سبق إلى موضع مباح، أو مجلس العالم والكبير، فهو أحق به ممن يجيء بعده. انتهى

(1)

، والله أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5282]

(. . .) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي حَازِمٍ (ح) وَحَدَّثَنَاهُ قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ - يَعْنِي: ابْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْقَارِيَّ - كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِهِ، وَلَمْ يَقُولَا: فَتَلَّهُ، وَلَكِنْ فِي رِوَايَةِ يَعْقُوبَ: قَالَ: فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي حَازِمٍ) سلمة بن دينار المدنيّ، ثقةٌ فقيهٌ [8](ت 184) أو قبل ذلك (ع) تقدم في "الإيمان" 45/ 290.

2 -

(يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْقَارِيُّ) المدنيّ، نزيل الإسكندريّة، حليف بني زُهْرة، ثقةٌ [3](ت 181)(خ م د ت س) تقدم في "الإيمان" 35/ 245.

[تنبيه]: قوله: "القاريّ" بتشديد الياء، وليس بتخفيفها من القراء، بل هو نسبة إلى قارة اسم قبيلة معروفة.

والباقون ذُكروا في الباب.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من رباعيّات المصنّف، كالأسانيد الخمسة الماضية، وهو (399) من رباعيّات الكتاب.

(1)

"شرح النوويّ" 13/ 201 - 202.

ص: 199

وقوله: (وَلَمْ يَقُولَا: فَتَلَّهُ) ضمير التثنية لعبد العزيز، ويعقوب القاريّ.

وقوله: (وَلَكِنْ فِي رِوَايَةِ يَعْقُوبَ: قَالَ: فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ) هكذا نصّ مسلم على أن قوله: "فأعطاه إياه" في رواية يعقوب، ويُفهم منه أنه ليس في رواية عبد العزيز، وفيه نظر، فإنه أيضًا في روايته بهذا اللفظ، كما سنورده في التنبيه من رواية البخاريّ

(1)

، اللَّهم إلا أن يقال: إن مسلمًا لم يقع له كذلك، وهو إمام مطّلع، لا يدافَع، ولا ينازَع، والله تعالى أعلم.

[تنبيه]: رواية عبد العزيز بن أبي حازم، عن أبيه ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:

(2237)

- حدثنا قتيبة، حدّثنا عبد العزيز، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد رضي الله عنه، قال: أُتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بقدح، فشرب، وعن يمينه غلام، هو أحدث القوم، والأشياخ عن يساره، قال:"يا غلام أتأذن لي أن أعطي الأشياخ؟ "، فقال: ما كنت لأوثر بنصيبي منك أحدًا يا رسول الله، فأعطاه إياه. انتهى

(2)

.

ورواية يعقوب، عن أبي حازم ساقها أبو عوانة رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(8232)

- حدثني إسماعيل بن إبراهيم أبو الأحوص، قال: ثنا أبو رجاء قتيبة بن سعيد، قال: ثنا يعقوب، عن أبي حازم، أنه سمع سهل بن سعد يقول: أُتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بقدح، فشرب، وعن يمينه غلام، وهو أحدث القوم، والأشياخ عن يساره، فقال للغلام:"ائذن لي أن أعطي الأشياخ"، فقال: ما كنت لأؤثر بنصيبي منك أحدًا يا رسول الله، فأعطاه إياه. انتهى

(3)

.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(1)

وكذا وقع بلفظ: "فأعطاه إياه" عند أبي عوانة في "مسنده" 5/ 159.

(2)

"صحيح البخاريّ" 2/ 834.

(3)

"مسند أبي عوانة" 5/ 158.

ص: 200

(6) - (بَابُ اسْتِحْبَابِ لَعْقِ الأَصَابِعِ، وَالْقَصْعَةِ، وَأَكْلِ اللُّقْمَةِ السَّاقِطَةِ، بَعْدَ مَسْحِ مَا يُصِيبُهَا مِنْ أَذًى، وَالنَّهْيِ عَنْ مَسْحِ الْيَدِ قَبْلَ لَعْقِهَا)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5283]

(2031) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَمْرٌو النَّاقِدُ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَابْنُ أَبِي عُمَرَ - قَالَ إِسْحَاقُ: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ الآخَرُونَ: حَدَّثَنَا - سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ طَعَامًا، فَلَا يَمْسَحْ يَدَهُ حَتَّى يَلْعَقَهَا أَوْ يُلْعِقَهَا").

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) المعروف بابن راهويه، تقدم قريبًا.

2 -

(عَمْرُو) بن دينار الأثرم، أبو محمد الْجُمحيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

3 -

(عَطَاءُ) بن أبي رباح أسلم المكيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

والباقون تقدّموا في الأبواب الثلاثة الماضية.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه ابن عبّاس رضي الله عنهما حبر الأمة، وبحرها، وأحد العبادلة الأربعة، وأحد المكثرين السبعة، وأحد المشهورين بالفتوى، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ عَمْرِو) بن دينار (عَنْ عَطَاءِ) بن أبي رباح، وفي رواية الحميديّ، ومن طريقه الإسماعيليّ:"حدّثنا عمرو بن دينار، أخبرني عطاء"، (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) وفي رواية ابن جريجٍ التالية:"سمعت عطاءً، يقول: سمعت ابن عباس"، زاد ابن أبي عمر في روايته عن سفيان:"سمعت عُمر بن قيس يسأل عمرو بن دينار عن هذا الحديث، فقال: هو عن ابن عباس، قال: فإن عطاء حدّثناه عن جابر، قال: حفظناه عن عطاء عن ابن عباس قبل أن يَقْدَم علينا جابر". انتهى.

ص: 201

قال الحافظ: وهذا إن كان عُمر بن قيس حفظه احتَمَل أن يكون عطاءٌ سمعه من جابر بعد أن سمعه من ابن عباس، ويؤيده ثبوته من حديث جابر الآتي عند مسلم، وإن كان من غير طريق عطاء، وفي سياقه زيادة ليست في حديث ابن عباس، ففي أوله:"إذا وقعت لقمة أحدكم فَلْيُمِط ما كان بها من أذى، ولا يدعها للشيطان"، ثم ذكر الحديث، وفي آخره زيادة:"فإنه لا يدري في أيّ طعامه تكون البركة"، قال: فلعل ذلك سبب أخذ عطاء له عن جابر رضي الله عنه. انتهى

(1)

.

(قَالَ) ابن عبّاس رضي الله عنهما (قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ طَعَامًا) وفي رواية ابن جريج الآتية: "إذا أكل أحدكم من الطعام"، (فَلَا يَمْسَحْ يَدَهُ) وفي حديث كعب بن مالك الآتي:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل بثلاث أصابع، فإذا فرغ لَعِقَها"، فَيَحْتَمِل أن يكون أَطْلَق على الأصابع اليدَ، ويَحْتَمِل، وهو الأَولى أن يكون المراد باليد الكفّ كلُّها، فيَشْمَل الحكمُ مَن أكل بكفّه كلها، أو بأصابعه فقط، أو ببعضها.

وقال ابن العربيّ في "شرح الترمذيّ": يدلّ على الأكل بالكفّ كلها أنه صلى الله عليه وسلم كان يتعرّق العظم، وينهش اللحم، ولا يمكن ذلك عادةً إلا بالكفّ كلها.

وقال العراقيّ: فيه نظرٌ؛ لأنه يمكن بالثلاث، سلّمنا، لكن هو مُمْسِك بكفه كلّها، لا أكل بها، سلّمنا لكن محل الضرورة لا يدلُّ على عموم الأحوال. انتهى

(2)

.

(حَتَّى يَلْعَقَهَا) - بفتح أوله - من لَعِقَ الثلاثيّ؛ أي: يَلعقها هو بنفسه، قال الفيّوميّ رحمه الله: لَعِقْتُهُ أَلعَقُهُ، من باب تَعِبَ لَعْقًا، مثل فَلْس: أكلته بإصبع، واللُّعُوقُ بالفتح: كلُّ ما يُلْعَق، كالدواء، والعسل، وغيره، ويتعدى إلى ثانٍ بالهمزة، فيقال: ألعقتُهُ العسلَ، فَلَعِقَهُ، واللَّعْقَةُ بالفتح المرّة، واللُّعقَةُ بالضم:

(1)

"الفتح" 12/ 382، كتاب "الأطعمة" رقم (5456).

(2)

"الفتح" 12/ 382 - 383، كتاب "الأطعمة" رقم (5456).

ص: 202

اسم لما يُلْعَق بالإصبع، أو بالمِلْعَقَةِ، وهي بكسر الميم آلة معروفة، والجمع المَلاعِقُ. انتهى

(1)

.

(أَوْ يُلْعِقَهَا") - بضم أوله - من ألعق الرباعيّ؛ أي: يُلعقها غيره، قال النوويّ: المراد إلعاق غيره ممن لا يتقذر ذلك، من زوجة، وجارية، وخادم، وولد، وكذا من كان في معناهم، كتلميذ يعتقد البركة بِلَعقها، وكذا لو ألعقها شاةً، ونحوها.

قال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "حتى يلعقها. . . إلخ" هذا يدلّ على استحباب لعق الأصابع إذا تعلَّق بها شيء من الطعام، لكنه في آخر الطعام، كما نُصّ عليه، لا في أثنائه؛ لأنَّه يمس بأصابعه بزاق في فيه إذا لعق أصابعه، ثم يعيدها، فيصير كأنه يبصق في الطعام، وذلك مستقذَر، مستقبَح. انتهى

(2)

.

وقال البيهقيّ: إن قوله: "أو" شكّ من الراوي، ثم قال: فإن كانا جميعًا محفوظين، فإنما أراد أن يُلعقها صغيرًا، أو من يعلم أنه لا يتقذر بها، ويَحْتَمِل أن يكون أراد أن يُلعق أصبعه فمه، فيكون بمعنى يَلعقها، يعني: فتكون "أو" للشك.

وقال ابن دقيق العيد: جاءت علة هذا مبيَّنة في بعض الروايات: "فإنه لا يدري في أيّ طعامه البركة"، وقد يُعَلَّل بأن مسحها قبل ذلك فيه زيادة تلويث لِمَا يمسح به، مع الاستغناء عنه بالريق، لكن إذا صحّ الحديث بالتعليل لم يُعْدَل عنه.

قال الحافظ: الحديث صحيحٌ أخرجه مسلم في آخر حديث جابر، ولفظه من حديث جابر:"إذا سقطت لقمة أحدكم فليُمط ما أصابها من أذى، وليأكلها، ولا يمسح يده حتى يَلعقها، أو يُلعقها، فإنه لا يدري في أيّ طعامه البركة"، زاد فيه النسائي من هذا الوجه:"ولا يرفع الصحفة حتى يَلعقها أو يُلعقها"، ولأحمد من حديث ابن عمر نحوه بسند صحيح، وللطبرانيّ من حديث أبي سعيد نحوه، بلفظ:"فإنه لا يدري في أيّ طعامه يبارَك له"، ولمسلم نحوه

(1)

"المصباح المنير" 2/ 554.

(2)

"المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" 5/ 301.

ص: 203

من حديث أنس، ومن حديث أبي هريرة أيضًا، والعلة المذكورة لا تمنع ما ذكره الشيخ، فقد يكون للحكم علتان فأكثر، والتنصيص على واحدة لا ينفي غيرها، وقد أبدى عياض علة أخرى، فقال: إنما أَمر بذلك؛ لئلا يُتهاون بقليل الطعام. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [6/ 5283 و 5284](2031)؛ و (البخاريّ) في "الأطعمة"(5456)، و (أبو داود) في "الأطعمة"(3847)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(4/ 179)، و (ابن ماجه) في "الأطعمة"(3311)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(5/ 133)، و (الحميديّ) في "مسنده"(1/ 229)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 221 و 293 و 346 و 370)، و (عبد بن حميد) في "مسنده"(626)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(5/ 166)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(11/ 166)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(4/ 382)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(7/ 278)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان النهي عن مسح اليد بعد الأكل حتى يلعقها، أو يُلعقها.

2 -

(ومنها): الرد على من كَرِه لعق الأصابع استقذارًا، قال في "الفتح": نعم يحصل ذلك لو فعله في أثناء الأكل؛ لأنه يعيد أصابعه في الطعام، وعليها أثر ريقه، قال الخطابيّ: عاب قوم أفسد عقلهم الترفّه، فزعموا أن لعق الأصابع مستقبح، كأنهم لم يعلموا أن الطعام الذي عَلِق بالأصابع، أو الصحفة جزء من أجزاء ما أكلوه، وإذا لم يكن سائر أجزائه مستقذرًا لم يكن الجزء اليسير منه مستقذرًا، وليس في ذلك أكبر من مصّه أصابعه بباطن شفتيه، ولا يشك عاقل في أن لا بأس بذلك، فقد يُمضمض الإنسان، فيدخل أصبعه في

(1)

"الفتح" 12/ 382 - 383، كتاب "الأطعمة" رقم (5456).

ص: 204

فيه، فيدلك أسنانه، وباطن فمه، ثم لم يقل أحد: إن ذلك قذارة، أو سوء أدب. انتهى.

3 -

(ومنها): أن فيه استحبابَ مسح اليد بعد الطعام، قال عياض: محله فيما لم يُحتج فيه إلى الغسل مما ليس فيه غَمَرٌ

(1)

ولُزوجة، مما لا يذهبه إلا الغسل؛ لِمَا جاء في الحديث من الترغيب في غسله، والتحذير من تركه، كذا قال.

قال الحافظ: وحديث الباب يقتضي منع الغسل والمسح بغير لَعْق؛ لأنه صريح في الأمر باللعق دونهما؛ تحصيلًا للبركة، نعم قد يتعيَّن الندب إلى الغسل بعد اللعق؛ لإزالة الرائحة، وعليه يُحمل الحديث الذي أشار إليه، وقد أخرجه أبو داود بسند صحيح، على شرط مسلم، عن أبي هريرة رضي الله عنه، رفعه:"مَن بات وفي يده غَمَرٌ، ولم يغسله، فأصابه شيء، فلا يلومنّ إلا نفسه"، وأخرجه الترمذيّ دون قوله:"ولم يغسله".

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "فلا يمسحها. . . إلخ" هذا يدلّ على جواز مسح اليد من الطعام بالمنديل قبل الغسل، لكن بعد لعقها، وهو محمول على ما إذا لم من يكن في الطعام غَمَر، أمَّا إذا كان فيه غَمَرٌ فينبغي أن يغسلها؛ لِمَا جاء في الترمذيّ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا:"من نام وفي يده غَمَرٌ، فأصابه شيء فلا يلومنّ إلا نفسه"، قال: حديث حسن غريب، وقد ذهب قومٌ إلى استحباب غسل اليد قبل الطعام وبعده؛ لِمَا رواه الترمذيّ من حديث سلمان رضي الله عنه: أنه صلى الله عليه وسلم قال: "بركة الطعام الوضوء قبله وبعده"، ورُوي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:"الوضوء قبل الطعام ينفي الفقر، وبعده ينفي اللمم"، ولا يصحُّ شيء منهما، وكرهه قبله كثير من أهل العلم، منهم: سفيان، ومالك، والليث، وقال مالك: هو من فِعْل الأعاجم. واستحبّوه بعده، وقد رُوي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: أنه شرب لبنًا، فمضمض، وقال:"إن له دَسَمًا"، وأمر بالمضمضة من اللبن، وقد رُوي عن مالك: أنه كره ذلك، وقال: وقد تُؤُوِّل على أن يُتّخذ ذلك سُنَّة، أو في طعام لا دسم فيه، والله تعالى أعلم. انتهى

(2)

.

(1)

بالتحريك.

(2)

"المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" 5/ 299 - 300.

ص: 205

قال الجامع عفا الله عنه: كراهة مالك للمضمضة لا وجه له، فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم ذلك، كما هو في "الصحيحين"، وغيرهما، ولا حاجة إلى التأويل المذكور، فتبصّر، والله تعالى أعلم.

4 -

(ومنها): أن فيه المحافظةَ على عدم إهمال شيء من فضل الله تعالى، كالمأكول، أو المشروب، وإن كان تافهًا حقيرًا في العرف.

5 -

(ومنها): أنه يؤخذ من حديث كعب بن مالك أن السُّنَّة الأكل بثلاث أصابع، وإن كان الأكل بأكثر منها جائزًا، وقد أخرج سعيد بن منصور، عن سفيان، عن عبيد الله بن أبي يزيد، أنه رأى ابن عباس إذا أكل لَعِق أصابعه الثلاث، قال عياض: والأكل بأكثر منها من الشَّرَه، وسوء الأدب، وتكبير اللقمة، ولأنه غير مضطرّ إلى ذلك لجمعه اللقمة، وإمساكها من جهاتها الثلاث، فإن اضطر إلى ذلك؛ لخفة الطعام، وعدم تلفيفه بالثلاث، فيدعمه بالرابعة، أو الخامسة، وقد أخرج سعيد بن منصور، من مرسل ابن شهاب:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا أكل أكل بخمس"، قال الحافظ رحمه الله: فيُجمَع بينه وبين حديث كعب باختلاف الحال. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: من المعلوم أن مرسل ابن شهاب ضعيف، فلا حاجة إلى الجمع المذكور، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5284]

(. . .) - (حَدَّثَنِي هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ (ح) وَحَدَّثَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، أَخْبَرَنِي أَبُو عَاصِمٍ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ (ح) وَحَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ - وَاللَّفْظُ لَهُ - حَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ، حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، قَالَ: سَمِعْتُ عَطَاءً يَقُولُ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ مِنَ الطَّعَامِ، فَلَا يَمْسَحْ يَدَهُ حَتَّى يَلْعَقَهَا، أَوْ يُلْعِقَهَا) ".

رجال هذا الإسناد: تسعة:

1 -

(هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) بن مروان، أبو موسى الْحَمّال البغداديّ البزّاز، ثقةٌ [10](ت 243) وقد ناهز الثمانين (م 4) تقدم في "الإيمان" 64/ 361.

(1)

"الفتح" 12/ 383، كتاب "الأطعمة" رقم (5456).

ص: 206

2 -

(حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ) الْمِصِّيصيّ الأعور، أبو محمد الترمذيّ الأصل، نزيل بغداد، ثمّ الْمِصِّيصة، ثقةٌ ثبتٌ، اختلط في آخره [9](ت 206)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 94.

3 -

(عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ) الْكِسّيّ، تقدّم قريبًا.

4 -

(أَبُو عَاصِمٍ) الضحّاك بن مخلد النبيل، تقدّم أيضًا قريبًا.

5 -

(ابْنُ جُرَيْجٍ) عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج، تقدّم أيضًا قريبًا.

6 -

(رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ) القيسيّ البصريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

والباقون ذكروا في الباب، وقبله.

وقوله: (إِذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ مِنَ الطَّعَامِ)؛ أي: الذي يَعْلَق باليد، و"من" للتبعيض، وتمام شرح الحديث تقدّم قبله، وهو متّفقٌ عليه، كما تقدّم تخريجه أيضًا، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5285]

(2032) - حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، قَالُوا: حَدَّثَنَا ابْنُ مَهْدِيٍّ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ ابْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَلْعَقُ أَصَابِعَهُ الثَّلَاثَ مِنَ الطَّعَامِ، وَلَمْ يَذْكُرِ ابْنُ حَاتِمٍ الثَّلَاثَ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي رِوَايَتِهِ: عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبٍ، عَنْ أَبِيهِ).

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمِ) بن ميمون البغداديّ، مروزيّ الأصل، المعروف بالسمين، صدوقٌ فاضلٌ، ربّما وَهِمَ [10](ت 5 أو 236)(م د) تقدم في "الإيمان" 1/ 104.

2 -

(ابْنُ مَهْدِيٍّ) هو: عبد الرحمن الناقد المشهور، تقدّم قريبًا.

3 -

(سُفْيَانُ) بن سعيد الثوريّ الإمام الحجة المشهور، تقدّم أيضًا قريبًا.

4 -

(سَعْدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) بن عبد الرحمن بن عوف المدنيّ قاضيها، ثقةٌ فاضلٌ عابدٌ [5](ت 120) أو بعدها (ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 31.

5 -

(ابْنُ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ) هو: عبد الرحمن

(1)

بن كعب بن مالك

(1)

نصّ عليه في "التقريب".

ص: 207

الأنصاريّ السَّلَميّ، أبو الخطّاب المدنيّ، ثقةٌ من كبار التابعين، ويقال: وُلد في عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم[2].

رَوَى عن أبيه، وأخيه عبد الله بن كعب، وأبي قتادة، وجابر، وعائشة، وسلمة بن الأكوع، على خلاف فيه.

وروى عنه ابنه كعب، وأبو أُمامة بن سهل بن حُنيف، وهو أكبر منه، والزهريّ، وسعد بن إبراهيم، وأبو عامر الخزاز، ورَوَى عبد الرحمن بن سعد مولى الأسود بن سفيان، عن عبد الله بن كعب، أو عبد الرحمن بن كعب، عن أبيه، في لعق الأصابع.

ذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال الهيثم بن عديّ: مات في خلافة سليمان بن عبد الملك، وقال ابن سعد: كان ثقةً، وهو أكثر حديثًا من أخيه، وتُوُفّي في خلافة سليمان، وكذا ذكر خليفة، ويعقوب بن سفيان، وغير واحد، وذكره العسكريّ في مَن وُلد على عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولم يَرْوِ عنه شيئًا، وقال أحمد بن صالح: لم يسمع الزهريّ من عبد الرحمن بن كعب شيئًا، إنما روى عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب، ولم يذكره النسائيّ في شيوخ الزهريّ، إنما ذكر ابن أخيه حَسْبُ.

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا برقم (2032) وكرّره ثلاث مرّات، وحديث (2810):"مثلُ المؤمن كمثل الخامة من الزَّرع. . ." الحديث، وأعاده بعده.

6 -

(أَبُوهُ) كعب بن مالك بن أبي كعب الأنصاريّ السَّلَميّ المدنيّ الصحابيّ المشهور، وهو أحد الثلاثة الذين خُلّفوا، مات في خلافة عليّ رضي الله عنهما (ع) تقدم في "صلاة المسافرين وقصرها" 13/ 1659.

والباقيان ذُكرا في الباب.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، والابن عن أبيه، وصحابيّه من مشاهير الصحابة رضي الله عنهم، نزلت فيه وفي صاحبيه آية:{وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} [التوبة: 118] الآية.

ص: 208

شرح الحديث:

(عَنِ ابْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ) هو عبد الرحمن، كما سيأتي بيانه في رواية ابن أبي شيبة. (عَنْ أَبِيهِ) كعب بن مالك الأنصاريّ السّلَميّ - بفتحتين - أنه (قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَلْعَقُ) - بفتح أوله، وثالثه -، من باب تَعِب، (أَصَابِعَهُ الثَّلَاثَ مِنَ الطَّعَامِ)؛ أي: لأجل ما تعلّق بها من الطعام، فـ "من" تعليليّة، وفي الرواية التالية:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل بثلاث أصابع، ويَلعَق يده قبل أن يمسحها"، وفي الرواية الثالثة:"كان يأكل بثلاث أصابع، فإذا فرغ لَعِقها".

[تنبيه]: وقع بيان تلك الأصابع، وكيفيّة لعقها فيما أخرجه عبد الرزَّاق في "مصنّفه"، عن معمر، عن هشام بن عروة، عن أبيه، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا أكل طعامًا يَلْعَق أصابعه الثلاث: الإبهام، واللتين تليانها، يُدخِلهنّ في فيه واحدةً واحدةً

(1)

.

وهذا مرسل، وقد أخرجه الطبرانيّ في "الأوسط" موصولًا من حديث كعب بن عُجرة رضي الله عنه، فقال:

(1649)

- حدثنا أحمد، قال: حدّثنا الحسين بن إبراهيم الأَذَنيّ، قال: حدّثنا عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي روّاد، عن ابن جريج، عن هشام بن عروة، عن محمد بن كعب بن عُجرة، عن أبيه، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل بأصابعه الثلاث: بالإبهام، والتي تليها، والوسطى، ثم رأيته يَلعق أصابعه الثلاث قبل أن يمسحها، ويَلعق الوسطى، ثم التي تليها، ثم الإبهام.

قال: لم يرو هذا الحديث عن ابن جريج إلا عبد المجيد. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قوله: "لم يرو هذا الحديث. . . إلخ" فيه نظر، فقد رواه عبد الله بن المبارك عن ابن جريج، فقد أخرجه ابن سعد من طريقه في "الطبقات"، فقال: أخبرنا محمد بن مقاتل، قال: أخبرنا عبد الله بن المبارك، قال: قراءةً على ابن جريج، قال: أخبرنا هشام بن عروة، أن ابن كعب بن عُجرة أخبره، عن كعب بن عُجرة، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل بثلاث أصابع، قال هشام: بالإبهام، والتي تليها، والوسطى، قال: ثم رأيته

(1)

"مصنف عبد الرزاق" 10/ 418.

(2)

"المعجم الأوسط" 2/ 180.

ص: 209

يلعق أصابعه الثلاث، حين أراد أن يمسحها قبل أن يمسحها، فلَعِقَ قبلُ الوسطى، ثم التي تليها، ثم الإبهام

(1)

.

قال الحافظ العراقيّ رحمه الله في "شرح الترمذي": كأن السر فيه أن الوسطى أكثر تلويثًا؛ لأنها أطول، فيبقى فيها من الطعام أكثر من غيرها، ولأنها لطولها أول ما تنزل في الطعام، ويَحْتَمِل أن الذي يَلْعَق يكون بطن كفه إلى جهة وجهه، فإذا ابتدأ بالوسطى انتقل إلى السبابة على جهة يمينه، وكذلك الإبهام، والله أعلم، أفاده في "الفتح"

(2)

.

وقوله: (وَلَمْ يَذْكُرِ ابْنُ حَاتِمٍ الثَّلَاثَ)؛ يعني: أن شيخه محمد بن حاتم لم يذكر في روايته لفظ "الثلاث"، بل قال:"رأيت النبيّ صلى الله عليه وسلم يلعق أصابعه".

(وَقَالَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي رِوَايَتِهِ: عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبٍ، عَنْ أَبِيهِ)؛ يعني: أن شيخه أبا بكر بن أبي شيبة بيّن المبهم في رواية الآخرين بلفظ: "عن ابن كعب بن مالك، عن أبيه"، فقال:"عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، عن أبيه"، والله تعالى أعلم.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث كعب بن مالك رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [6/ 5285 و 5286 و 5287 و 5288](2032)، و (أبو داود) في "الأطعمة"(3847)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(4/ 173)، و (الترمذيّ) في "الشمائل"(1/ 123)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 454 و 6/ 386)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(5/ 167)، و (ابن أبي عاصم) في "الآحاد

(1)

"الطبقات الكبرى" لابن سعد رحمه الله 1/ 381.

قال الجامع: وسند ابن سعد كلهم ثقات، وابن كعب بن عجرة سمّاه الطبرانيّ في "الأوسط" محمد بن كعب، وهو ثقة، كما في "التقريب"، فالحديث صحيح، والله تعالى أعلم.

(2)

"الفتح" 12/ 383، كتاب "الأطعمة" رقم (5456).

ص: 210

والمثاني" (4/ 68)، و (الطبرانيّ) في "الكبير" (19/ 93)، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5286]

(. . .) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَعْدٍ، عَنِ ابْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَأْكُلُ بِثَلَاثِ أَصَابِعَ، وَيَلْعَقُ يَدَهُ قَبْلَ أَنْ يَمْسَحَهَا).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(أَبُو مُعَاوِيَةَ) محمد بن خازم الضرير، تقدّم قريبًا.

2 -

(هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ) بن الزبير بن العَوّام الأسديّ، أبو المنذر، أبو عبد الله المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ ربّما دلّس [5](ت 5 أو 146) وله (87) سنةً (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 350.

3 -

(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَعْدٍ) المدنيّ الأعرج، أبو حميد المُقعد، مولى بني مخزوم، ثقة [3] تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 20/ 1305.

والباقون ذُكروا في الباب، وقبله.

والحديث من أفراد المصنّف، وقد تقدّم شرحه، وبيان مسائله، ولله الحمد.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5287]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَعْدٍ، أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ - أَوْ عَبْدَ اللهِ بْنَ كَعْبٍ - أَخْبَرَهُ عَنْ أَبِيهِ كَعْبٍ، أَنَّهُ حَدَّثَهُمْ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَأْكُلُ بِثَلَاثِ أَصَابِعَ، فَإِذَا فَرَغَ لَعِقَهَا).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ) تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(أَبُوهُ) عبد الله بن نُمير الْهَمْدانيّ الكوفيّ، تقدّم قريبًا.

3 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ كَعْبِ) بن مالك الأنصاريّ المدنيّ، ثقةٌ، يقال: له رؤية [2](ت 7 أو 98)(خ م د س ق) تقدم في "الإيمان" 64/ 360.

والباقون ذُكروا قبله.

ص: 211

وقوله: (أَوْ عَبْدَ اللهِ بْنَ كعْبٍ) هذا الشك لا يضرّ؛ لأن كليهما ثقتان، قال النوويّ رحمه الله: هذا قد تقدّم مثله مرّات، وذكرنا أنه لا يضرّ الشك في الراوي إذا كان الشك بين ثقتين؛ لأن ابني كعب هذين ثقتان. انتهى

(1)

.

والحديث من أفراد المصنّف، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله قبل حديث، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5288]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَاهُ أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَعْدٍ، أَنَّ عَبْد الرَّحْمَنِ بْنَ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، وَعَبْدَ اللهِ بْنَ كَعْبٍ حَدَّثَاهُ - أَوْ أَحَدُهُمَا - عَنْ أَبِيهِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِهِ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(أَبُو كُرَيْبٍ) محمد بن العلاء الْهَمْدانيّ الكوفيّ، تقدّم قريبًا.

والباقون ذُكروا قبله، و"ابن نُمير" هو: عبد الله المذكور قبله.

[تنبيه]: رواية أبي كريب، عن عبد الله بن نمير هذه لم أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5289]

(2033) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِلَعْقِ الأَصَابِعِ، وَالصَّحْفَةِ، وَقَالَ: "إِنَّكُمْ لَا تَدْرُونَ فِي أَيِّهِ الْبَرَكَةُ").

رجال هذا الإسناد: أربعة:

وكلّهم ذُكروا في الباب.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (400) من رباعيّات الكتاب، وشرح الحديث يأتي بعده، وهو من أفراد المصنّف رحمه الله.

وقوله: (وَالصَّحْفَةِ) - بفتح الصاد، وسكون الحاء المهملتين -: إناء

(1)

"شرح النوويّ" 13/ 206.

ص: 212

كالقَصْعة، والجمع صِحَافٌ، مثلُ كَلْبة وكلابٍ، وقال الزمخشريّ: الصَّحْفة: قَصْعَةٌ مستطيلة، ذكره الفيّوميّ رحمه الله

(1)

.

وقوله: (فِي أَيِّهِ الْبَرَكَةُ)؛ أي: في أيّ الطعام تكون البركة، أفيما أكل، أو فيما علق بأصابعه، أو فيما بقي في الصحفة؟، فإذا لم يَدْر ذلك، فينبغي أن يحافِظ على هذا كلّه، ولا يفرِّط فيه حتى لا يُحرم تلك البركة، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5290]

(. . .) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا وَقَعَتْ لُقْمَةُ أَحَدِكُمْ فَلْيَأْخُذْهَا، فَلْيُمِطْ مَا كَانَ بِهَا مِنْ أَذًى، وَلْيَأْكُلْهَا، وَلَا يَدَعْهَا لِلشَّيْطَانِ، وَلَا يَمْسَحْ يَدَهُ بِالْمِنْدِيلِ حَتَّى يَلْعَقَ أَصَابِعَهُ، فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي فِي أَيِّ طَعَامِهِ الْبَرَكَةُ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

وكلّهم ذُكروا في الباب، و"سفيان" هنا هو: الثوريّ، لا ابن عيينة الذي ذُكر في السند الذي قبله، فتنبّه.

شرح الحديث:

(عَنْ جَابِرٍ) رضي الله عنه، وقد وقع تصريح أبي الزبير بسماعه عن جابر رضي الله عنه عند أبي عوانة في "مسنده"

(2)

، فزالت تهمة التدليس عنه، ولفظه من طريق حجاج الأعور، عن ابن جريج، قال: أخبرني أبو الزبير، أنه سمع جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه سمع النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول:"إذا طَعِم أحدكم، فسقطت لقمته. . ." الحديث. (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا وَقَعَتْ)؛ أي: سقطت إلى الأرض (لُقْمَةُ أَحَدِكُمْ)"اللُّقْمة" بضمّ اللام، وتُفتح، وإسكان القاف: ما يهيّأ للَّقْم، قاله المجد

(3)

، وقال الفيّوميّ رحمه الله: اللُّقْمَةُ من الخبز: اسمٌ لِمَا يُلقَمُ في مرَّة، كالْجُرْعة اسمٌ لما يُجْرع في مرّة، ولَقِمْتُ الشيءَ لَقَمًا، من باب تَعِبَ،

(1)

"المصباح المنير" 1/ 334.

(2)

"مسند أبي عوانة" 5/ 171.

(3)

"القاموس المحيط" ص 1185.

ص: 213

والتَقْمتُهُ: أكلته بسرعة، ويُعَدّى بالهمزة والتضعيف، فيقال: لقَّمْتُهُ الطعامَ تَلْقِيمًا، وألقَمْتُهُ إياه إلقامًا، فَتَلقَّمَه تَلَقُّمًا، وأَلْقَمْتُهُ الحجرَ: أسْكَتُّهُ عند الخصام، واللَّقَمُ بفتحتين: الطريق الواضح. انتهى

(1)

.

(فَلْيَأْخُذْهَا، فَلْيُمِطْ) بضمّ الياء، من الإماطة، وهو الإزالة، وقال النوويّ رحمه الله: أمّا يُمِطْ فبضم الياء، ومعناه: يزيلُ، ويُنَحِّي، وقال الجوهريّ: حَكَى أبو عبيد: ماطه، وأماطه: نَحّاه، وقال الأصمعيّ: أماطه، لا غير، ومنه إماطة الأذي، ومِطْت أنا عنه؛ أي: تنحيت. انتهى

(2)

.

أي: فليُزِل (مَا كَانَ بِهَا مِنْ أَذًى) المراد بالأذى هنا: المستقذَر، من غبار، وتراب، وقذًى، ونحو ذلك، وأما إذا كان نجاسة، فلا بدّ من غسله. (وَلْيَأْكُلْهَا) قال القرطبيّ رحمه الله: هذا أمرٌ على جهة الاحترام لتلك اللقمة، فإنَّها من نِعَم الله تعالى، لم تصل للإنسان حتى سَخّر الله فيها أهل السموات والأرض

(3)

.

(وَلَا يَدَعْهَا)؛ أي: لا يتركها (لِلشَّيْطَانِ)؛ يعني: أنه إذا تركها، ولم يرفعها فقد مكَّن الشيطان منها؛ إذ قد تكبَّر عن أخذها، ونسي حق الله تعالى فيها، وأطاع الشيطان في ذلك، وصارت تلك اللقمة مناسبة للشيطان؛ إذ قد تكبَّر عليها، وهو متكبِّر، فصارت طعامه، وهذا كله ذمٌّ لحال التارك، وتنبيهٌ على تحصيل غرض الشيطان من ذلك، قاله القرطبيّ رحمه الله

(4)

.

(وَلَا يَمْسَحْ يَدَهُ بِالْمِنْدِيلِ) - بكسر الميم، وتُفتح -، وكمِنْبَرٍ: الذي يُتمسّح به، وتندّل به، وتمندل: تمسّح، قاله المجد رحمه الله

(5)

.

وقال النوويّ رحمه الله: وأما المنديل: فمعروف، وهو بكسر الميم، قال ابن فارس في "المجمل": لعله مأخوذ من النَّدْل، وهو النقل، وقال غيره: هو مأخوذ من النَّدل، وهو الوسخ؛ لأنه يُندل به، قال أهل اللغة: يقال: تندّلت

(1)

"المصباح المنير" 2/ 557 - 558.

(2)

"شرح النوويّ" 13/ 206.

(3)

"المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" 5/ 301.

(4)

"المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" 5/ 301.

(5)

"القاموس المحيط" ص 1274.

ص: 214

بالمنديل، قال الجوهريّ: ويقال أيضًا: تمندلت، قال: وأنكر الكسائيّ تمندلت. انتهى

(1)

.

وقال الفيّوميّ رحمه الله: الْمِندِيل: مذكَّر، قاله ابن الأنباريّ، وجماعة، ولا يجوز التأنيث؛ لعدم العلامة في التصغير، والجمع، فإنه لا يقال: مُنَيْدِيلَةٌ، ولا منْدِيلاتٌ، ولا يوصف بالمؤنَّث، فلا يقال: مِنْدِيلٌ حسنةٌ، فإنّ ذلك كلّه يدلّ على تأنيث الاسم، فإذا فُقدت علامة التأنيث، مع كَوْنِها طارئة على الاسم، تعيَّن التَّذْكيرُ، الذي هو الأصل، وتَمَنْدَلْتُ بِالمِنْدِيلِ، وتَنَدَّلْتُ: تمسّحت به، وحَذْف الميم أكثر، وأنكر الكسائيّ تَمَنْدَلْتُ بالميم، ويقال: هو مشتقّ من نَدَلتُ الشيءَ نَدْلًا، من باب قَتَل: إذا جذبته، أو أخرجته، ونقلته. انتهى

(2)

.

(حَتَّى يَلْعَقَ أَصَابِعَهُ، فَإِنَّهُ) الفاء للتعليل، والضمير للشخص الآكل؛ أي: لأنه (لَا يَدْرِي) بالبناء للفاعل؛ أي: لا يعلم (فِي أَيِّ طَعَامِهِ الْبَرَكَةُ") قال النوويّ رحمه الله: معناه: أن الطعام الذي يحضره الإنسان فيه بركة، لا يَدرِي أن تلك البركة فيما أكل، أو فيما بقي على أصابعه، أو فيما بقي في أسفل القصعة، أو في اللقمة الساقطة، فينبغي أن يحافظ على هذا كله؛ لتحصيل البركة، قال: وأصل البركة الزيادة، وثبوت الخير، والإمتاع به، والمراد هنا - والله أعلم - ما تحصل به التغذية، وتَسْلم عاقبته من الأذي، ويُقَوِّي على طاعة الله تعالى، وغير ذلك. انتهى

(3)

.

وقال المناويّ رحمه الله: قوله: "فإنه لا يدري في أيّ طعامه البركة"؛ أي في أيّ جزء من أجزاء طعامه تكون البركة، أفيما أكل، أو في الباقي بأصابعه، أو الباقي بأسفل القصعة؟ قال القرطبيّ: ومعناه أنه تعالى قد يخلق الشبع عند لعقها، فلا يترك شيئًا احتقارًا له، فيحفظ تلك البركة بلعقها، قال: ومما عُلّل به ندب اللعق أيضًا أن مسحها قبل ذلك فيه زيادة تلويث لِمَا يمسح به، مع الاستغناء عنه بالريق، ومنه يؤخذ أن تقييد المسح بالمنديل لا مفهوم له، وأن

(1)

"شرح النوويّ" 13/ 206.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 598.

(3)

"شرح النوويّ" 13/ 206.

ص: 215

المنهي عنه المسح بأيّ شيء كان، وذكر المنديل لبيان الواقع غالبًا

(1)

، والله تعالى أعلم.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث جابر رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [6/ 5289 و 5290 و 5291 و 5292 و 5293 و 5294](2033)، و (الترمذيّ) في "الأطعمة"(1802)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(3/ 1606)، و (ابن ماجه) في "الأطعمة"(2/ 1088)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(5/ 134)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 293 و 301 و 331 و 337 و 365 و 393 و 394)، و (عبد بن حميد) في "مسنده"(1/ 324)، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5291]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَاهُ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا أَبُو دَاوُدَ الْحَفَرِيُّ (ح) وَحَدَّثَنِيهِ مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، كِلَاهُمَا عَنْ سُفْيَانَ، بِهَذَا الإِسْنَادِ مِثْلَهُ، وَفِي حَدِيثِهِمَا:"وَلَا يَمْسَحْ يَدَهُ بِالْمِنْدِيلِ حَتَّى يَلْعَقَهَا، أَوْ يُلْعِقَهَا"، وَمَا بَعْدَهُ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أبُو دَاوُدَ الْحَفَرِيُّ)

(2)

عمر بن سَعْد بن عُبيد الكوفيّ، ثقةٌ عابدٌ [9](ت 203)(م 4) تقدم في "النكاح" 15/ 3498.

2 -

(مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ) القشيريّ مولاهم، أبو عبد الله النيسابوريّ، ثقةٌ حافظٌ عابدٌ زاهدٌ [11](ت 245)(خ م د ت س) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.

3 -

(عَبْدُ الرَّزَّاقِ) بن همّام الصنعانيّ، تقدّم قريبًا.

والباقيان ذُكرا في الباب، و"سفيان" هو: ابن سعيد الثوريّ.

(1)

"فيض القدير على الجامع الصغير" للمناويّ 1/ 297.

(2)

بفتحتين: نسبة إلى حَفَر موضع بالكوفة.

ص: 216

وقوله: (كِلَاهُمَا عَنْ سُفْيَانَ) ضمير التثنية لأبي داود، وعبد الرزّاق.

[تنبيه]: رواية أبي داود الْحَفَريّ، عن سفيان الثوريّ ساقها أبو عوانة رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(8275)

- حدثنا عليّ بن حرب الطائيّ، قال: ثنا أبو داود الْحَفَريّ، قال: ثنا سفيان، عن أبي الزبير، عن جابر رضي الله عنه قال: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "إذا سَقَطت لقمةُ أحدكم، فليُمِط عنها الأذى، ولا يَدَعْها للشيطان، ولا يمسح يده حتى يَلعقها، أو يُلعقها، فإنه لا يدري في أيّ طعامه البركة". انتهى

(1)

.

ورواية عبد الرزّاق، عن الثوريّ ساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"، مقرونًا بوكيعٍ، فقال:

(14259)

- حدثنا عبد الله

(2)

، حدّثني أبي، ثنا وكيع، ثنا سفيان (ح) وعبد الرزاق، أنا سفيان، عن أبي الزبير، عن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أكل أحدكم طعامًا، فلا يمسح يده في المنديل، حتى يَلعقها، أو يُلعقها، فإنه لا يدري في أيّ طعامه البركة". انتهى

(3)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5292]

(. . .) - حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أبِي سُفْيَانَ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِنَّ الشَّيْطَانَ يَحْضُرُ أَحَدَكُمْ عِنْدَ كُلِّ شَيْءٍ مِنْ شَأْنِهِ، حَتَّى يَحْضُرَهُ عِنْدَ طَعَامِهِ، فَإِذَا سَقَطَتْ مِنْ أَحَدِكُمُ اللُّقْمَةُ فَلْيُمِطْ مَا كَانَ بِهَا مِنْ أَذًى، ثُمَّ لْيَأْكُلْهَا، وَلَا يَدَعْهَا لِلشَّيْطَانِ، فَإِذَا فَرَغَ فَلْيَلْعَقْ أَصَابِعَهُ، فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي فِي أيِّ طَعَامِهِ تَكُونُ الْبَرَكَةُ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) أبو الحسن الكوفيّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(جَرِيرُ) بن عبد الحميد الضبيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

(1)

"مسند أبي عوانة" 5/ 169.

(2)

هو: ولد الإمام أحمد راوي "المسند" عنه، فتنبّه.

(3)

"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 3/ 301.

ص: 217

3 -

(الأَعْمَشُ) سليمان بن مِهْران، تقدّم أيضًا قريبًا.

4 -

(أَبُو سُفْيَانَ) طلحة بن نافع الإسكاف الواسطيّ، نزيل مكة، صدوقٌ [4](ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 117.

و"جابر بن عبد الله رضي الله عنهما" ذُكر قبله.

وقوله: ("إِنَّ الشَّيْطَانَ يَحْضُرُ أَحَدَكُمْ. . . إلخ) قال النوويّ رحمه الله: فيه التحذير من الشيطان، والتنبيه على ملازمته للإنسان في تصرفاته، فينبغي أن يتأهب، ويحترز منه، ولا يغترّ بما يزيّنه له. انتهى

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "إن الشيطان يحضر. . . إلخ" فائدته أن يُحضِر الإنسان هذا المعنى عند إرادته فعلًا من الأفعال كائنًا ما كان، فيتعوذ بالله من الشيطان، ويُسمِّي الله تعالى، فإنَّه يُكْفَى مضرَّة الشيطان، كما قد جاء في حديث الجماع؛ الذي ذكرناه في "النكاح"، وكما يأتي في "الدعوات" - إن شاء الله تعالى - انتهى

(2)

.

وقال المناويّ رحمه الله: قوله: "إن الشيطان يحضر أحدكم عند كل شيء من شأنه"؛ أي: من أمره الخاصّ به، أو المشارِك فيه غيره، فإنه بصدد أن يُغايظ الإنسان المؤمن، ويكايده، ويناقضه، حتى يُفسد عليه شأنه في كل أموره.

قال ابن العربيّ: لا يخلو أحد من الخلق عن الشيطان، وهو موكل بالإنسان يداخله في أمره كله، ظاهرًا وباطنًا، عبادةً، وعادةً، ليكون له منه نصيب.

"حتى يحضره عند طعامه"؛ أي: عند أكله للطعام، وشربه للشراب.

"فإذا سقطت"؛ أي: وقعت "من أحدكم اللقمة" حال الأكل، "فليُمِط ما كان بها من أذى"؛ أي: فليُزل ما عليها من تراب، أو غيره، والإماطة: التنحية، قال في "الصحاح": أماطه: نَحّاه، ومنه: إماطة الأذى عن الطريق، "ثم ليأكلها" ندبًا، أو يُطعمها غيره، "ولا يدَعها للشيطان"؛ أي: لا يتركها له.

(1)

"شرح النوويّ" 13/ 205 - 206.

(2)

"المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" 5/ 301.

ص: 218

"فإذا فرغ" من الأكل "فليلعق أصابعه"؛ أي: يَلْحسها، قال في "الصحاح": لَعِقَ الشيءَ لَحَسَهُ، وبابه فَهِمَ، والْمِلعقة بالكسر: واحدة الملاعق، واللُّعقة بالضم: اسم ما تأخذه الملعقة، واللَّعْقة بالفتح: المرّة الواحدة، واللَّعُوق: اسم ما يُلعق. انتهى.

وزاد في روايات: "أو يُلعقها" غيره ممن لا يتقذر ذلك، فإنه لا يدري في أيّ طعامه تكون البركة"، أفي الساقط، أم فيما في القصعة، أم فيما على الأصابع؟

قال المحقِّق أبو زرعة: الظاهر أن المراد - هنا، وفيما مرّ، ويجيء - بالشيطان: الجنس، فلا يختص بواحد من الشياطين، والشيطان كلُّ عَاتٍ متمرِّد، من الجنّ، والإنس، والدوابّ، لكن المراد هنا: شياطين الجنّ خاصةً، ويَحْتَمِل اختصاصه بالشيطان الأكبر إبليس.

وفيه ترك الكِبْر، وتغيير عادة الأكابر، وإماطة الأذى عن المأكول والمشروب، وإرغام الشيطان بلعق الأصابع، وأكل المتناثر، وإطابة المطاعم حِسًّا ومعنى. انتهى

(1)

.

وقوله: (وَلَا يَدَعْهَا لِلشَّيْطَانِ) إنما صار تركها للشيطان؛ لأنه فيه إضاعة نعمة الله تعالى، واستحقارها، أو لأن المانع عن تناول تلك اللقمة هو الكِبْر غالبًا، وكلاهما منهيّ عنه.

وقال الأبّيّ في "شرحه": معناه: لا يترك أكلها كِبْرًا واستهانةً باللقمة، فإنما يحمله على الكِبْر، وترفيعه نفسه هو الشيطان، ويَحْتَمل أن يكون في تركها غذاء للشيطان، والأول أوجه، قال: فاللام على الأول للتعليل، وعلى الثاني للمُلك. انتهى

(2)

.

والحديث من أفراد المصنّف، وقد مضى تمام شرحه، وبيان مسائله، ولله الحمد والمنّة.

(1)

"فيض القدير على الجامع الصغير" للمناويّ رحمه الله 2/ 350 - 351.

(2)

"شرح الأبّيّ" 5/ 341.

ص: 219

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5293]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَاهُ أَبُو كُرَيْبٍ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، جَمِيعًا عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ: "إِذَا سَقَطَتْ لُقْمَةُ أَحَدِكُمْ" إِلَى آخِرِ الْحَدِيثِ، وَلَمْ يَذْكُرْ أَوَّلَ الْحَدِيثِ: "إِنَّ الشَّيْطَانَ يَحْضُرُ أَحَدَكُمْ").

رجال هذا الإسناد: أربعة:

وكلّهم ذُكروا في الباب.

وقوله: (وَلَمْ يَذْكُرْ أَوَّلَ الْحَدِيثِ) فاعل "يذكُر" ضمير أبي معاوية.

[تنبيه]: رواية أبي معاوية، عن الأعمش هذه ساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(14428)

- حدّثنا عبد الله، حدّثني أبي، ثنا أبو معاوية، أنا الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا سقطت لقمة أحدكم فليأخذها، فليُمِط ما بها من الأذى، وليأكلها، ولا يدعها للشيطان". انتهى

(1)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5294]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، وَأَبِي سُفْيَانَ، عَنْ جَابِرٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي ذِكْرِ اللَّعْقِ، وَعَنْ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ جَابِرٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَذَكَرَ اللُّقْمَةَ، نَحْوَ حَدِيثِهِمَا).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلِ) بن غَزْوان الضبّيّ مولاهم، أبو عبد الرحمن الكوفيّ، ثقةٌ رُمي بالتشيّع [9](ت 195)(ع) تقدم في "الإيمان" 63/ 358.

2 -

(أَبُو صَالِحٍ) ذكوان السّمّان الزيّات المدنيّ، تقدّم قريبًا.

والباقون ذُكروا في الباب.

وقوله: (وَعَنْ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ جَابِرٍ. . . إلخ)؛ يعني: أن الأعمش روى عن أبي سفيان وحده، عن جابر، فذكر قوله صلى الله عليه وسلم:"إذا سقطت لقمة أحدكم. . . إلخ".

(1)

"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 3/ 315.

ص: 220

وقوله: (وَذَكَرَ اللُّقْمَةَ) فاعل "ذَكَرَ" ضمير محمد بن فضيل.

وقوله: (نَحْوَ حَدِيثِهِمَا)؛ أي: رَوَى محمد بن فُضيل عن الأعمش نحو حديث جرير، وأبي معاوية عنه.

[تنبيه]: رواية محمد بن فُضيل عن الأعمش ساقها أبو عوانة رحمه الله في "مسنده" مقرونًا بأبي معاوية، فقال:

(8287)

- حدثنا عليّ بن حرب، قال: ثنا أبو معاوية، ومحمد بن فضيل، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر، قال: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "إذا سقطت لقمة أحدكم فليأخذها، فلْيُمِطْ ما بها، وليأكلها، ولا يدعها للشيطان". انتهى

(1)

.

وأما رواية محمد بن فُضيل، عن الأعمش، عن أبي صالح، وأبي سفيان كلاهما عن جابر رضي الله عنه فلم أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5295]

(2034) - (وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ نَافِعٍ الْعَبْدِيُّ، قَالَا: حَدَّثَنَا بَهْزٌ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، حَدَّثَنَا ثَابِتٌ، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا أَكَلَ طَعَامًا لَعِقَ أَصَابِعَهُ الثَّلَاثَ، قَالَ: وَقَالَ: "إِذَا سَقَطَتْ لُقْمَةُ أَحَدِكُمْ فَلْيُمِطْ عَنْهَا الأَذَى، وَلْيَأْكُلْهَا، وَلَا يَدَعْهَا لِلشَّيْطَانِ"، وَأَمَرَنَا أَنْ نَسْلُتَ الْقَصْعَةَ، قَالَ: "فَإِنَّكُمْ لَا تَدْرُونَ فِي أَيِّ طَعَامِكُمُ الْبَرَكَةُ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمِ) بن ميمون، ذُكر في الباب.

2 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ نَافِعٍ الْعَبْدِيُّ) هو: محمد بن أحمد بن نافع البصريّ، تقدّم قريبًا.

3 -

(بَهْزُ) بن أسد الْعَميّ، أبو الأسود البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [9] مات بعد المائتين، وقيل: قبلها (ع) تقدم في "الإيمان" 3/ 112.

4 -

(حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ) بن دينار، أبو سلمة البصريّ، تقدَّم قريبًا.

(1)

"مسند أبي عوانة" 5/ 171.

ص: 221

5 -

(ثَابِتُ) بن أسلم البنانيّ البصريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

6 -

(أَنَسُ) بن مالك رضي الله عنه، تقدّم أيضًا قريبًا.

[تنبيه] من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خُماسيّات المصنّف، وأنه مسلسل بالبصريين، غير محمد بن حاتم، فبغداديّ، وفيه أنس رضي الله عنه أحد المكثرين السبعة، وآخر من مات من الصحابة بالبصرة.

شرح الحديث:

(عَنْ أَنَسٍ) رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا أَكَلَ طَعَامًا لَعِقَ) بكسر العين المهملة، من باب تَعِبَ، (أَصَابِعَهُ الثَّلَاثَ) تقدّم أنه الإبهام، والتي تليها، والوسطى. (قَالَ) أنس (وَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("إِذَا سَقَطَتْ) على الأرض (لُقْمَةُ أَحَدِكُمْ فَلْيُمِطْ)؛ أي: يُزِل (عَنْهَا الأَذَى)؛ أي: ما تعلّق بها، من التراب، ونحوه (وَلْيَأْكُلْهَا، وَلَا يَدَعْهَا)؛ أي: لا يتركها (لِلشَّيْطَانِ")؛ أي: لأجله حيث يأكلها، أو لكونه هو السبب في احتقار نعمة الله تعالى. (وَأَمَرَنَا) صلى الله عليه وسلم (أَنْ نَسْلُتَ) بضمّ اللام، من باب نصر، وضرب

(1)

، يقال: سَلَت المرأةُ خضابَها من يدها: نحّته، وأزالته

(2)

. (الْقَصْعَةَ) قال الفيّوميّ رحمه الله: "الْقَصْعة بالفتح: معروفٌ، والجمع قِصَعٌ، مثلُ بِدْرَةٍ وبِدَرٍ، وقِصَاعٌ، مثلُ كَلْبَةٍ وكِلابٍ، وقَصَعَاتٌ، مثلُ سَجْدةٍ وسَجَدَات، وهي عربيّة، وقيل: مُعَرّبةٌ". انتهى

(3)

.

وقال المجد رحمه الله: الْقَصْعَةُ: الصَّحْفَةُ، جَمْعه قَصَعَاتٌ، محرّكةً، وكَعِنَبٍ، وجِبَالٍ. انتهى

(4)

.

قال النوويّ رحمه الله: معناه: أن نمسح القصعة، ونتتبّع ما بقي فيها من الطعام، ومنه سلت الدم. انتهى

(5)

.

(قَالَ) صلى الله عليه وسلم سبب أمره بسَلْت القصعة ("فَإِنَّكُمْ) الفاء للتعليل؛ أي: لأنكم (لَا تَدْرُونَ)؛ أي: لا تعلمون (فِي أَيِّ طَعَامِكُمُ الْبَرَكَةُ")؛ يعني: فيما أكل، أو

(1)

راجع: "القاموس المحيط" ص 627.

(2)

"المصباح المنير" 1/ 284.

(3)

"المصباح المنير" 2/ 506.

(4)

راجع: "القاموس المحيط" ص 1064.

(5)

"شرح النوويّ" 13/ 207.

ص: 222

فيما بقي في الإناء، فيلعق يده، ويمسح الإناء؛ رجاءَ حصول البركة، والمراد بالبركة - والله أعلم - ما يحصل به التغذية، وتسلم عاقبته من أذى، ويُقَوِّي على طاعة الله تعالى، وغير ذلك، وقال النووي: وأصل البركة الزيادة، وثبوت الخير، والتمتّع به، قاله في "العمدة"

(1)

.

وقال في "العمدة": الكلام في هذا الباب على أنواع:

[الأول]: أن نَفْس اللعق مستحبّ محافظةً على تنظيفها، ودفعًا للكِبْر، والأمر فيه محمول على الندب، والإرشاد، عند الجمهور، وحَمَله أهل الظاهر على الوجوب.

قال الجامع عفا الله عنه: لا يخفى أن ما ذهب إليه الظاهرية من الوجوب هو ظواهر النصوص، فتبصّر بالإنصاف. والله تعالى أعلم.

[الثاني]: أن من الحكمة في لعق الأصابع ما ذَكَره في حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وأخرجه الترمذيّ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أكل أحدكم، فليلعق أصابعه، فإنه لا يدري في أيّ طعامه البركة"، ولفظ مسلم:"فإنه لا يدري في أيّتهنّ البركة".

[والثالث]: أنه ينبغي في لعق الأصابع الابتداء بالوسطى، ثم السبابة، ثم الإبهام، كما جاء في حديث كعب بن عُجرة رضي الله عنه، رواه الطبراني في "الأوسط"، قال:"رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل بأصابعه الثلاث: بالإبهام، والتي تليها، والوسطى، ثم رأيته يلعق أصابعه الثلاث قبل أن يمسحها، ويلعق الوسطى، ثم التي تليها، ثم الإبهام".

وكأن السبب في ذلك أن الوسطى أكثر الثلاثة تلويثًا بالطعام؛ لأنها أعظم الأصابع، وأطولها، فينزل في الطعام منه أكثر مما ينزل من السبابة، وينزل من السبابة في الطعام أكثر من الإبهام؛ لطول السبابة على الإبهام.

ويَحْتَمِل أن يكون البدء بالوسطى؛ لكونها أول ما ينزل في الطعام؛ لطولها.

[والرابع]: أن في الحديث: "فلا يمسح يده حتى يَلعقها"، وهذا مطلق،

(1)

"عمدة القاري" 21/ 77.

ص: 223

والمراد به: الأصابع الثلاث التي أَمَر بالأكل بها، كما في حديث أنس هذا، ففيه:"كان إذا أكل طعامًا لَعِق أصابعه الثلاث"، وبَيّن الثلاث في حديث كعب بن عُجرة المذكور آنفًا، وهذا يدلّ على أنه كان يأكل بهذه الثلاث المذكورة في حديث كعب، وقال ابن العربيّ: فإن شاء أحد أن يأكل بالخمس فليأكل، فقد كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يتعرَّق العظم، وينهش اللحم، ولا يمكن أن يكون ذلك في العادة إلا بالخمس كلها.

وتعقّبه الحافظ العراقيّ، فقال: فيه نظر؛ لأنه يمكن بالثلاث، ولئن سلّمنا ما قاله فليس هذا أكلًا بالأصابع الخمس، وإنما هو ممسك بالأصابع فقط، لا آكل بها، ولئن سلّمنا أنه آكل بها؛ لعدم الإمكان فهو محل الضرورة، كمن ليس له يمين فله الأكل بالشمال.

قال العينيّ: حاصل هذا أن العراقيّ منع استدلال ابن العربيّ بما ذكره، والأمر فيه أن السُّنَّة أن يأكل بالأصابع الثلاث، وإن أكل بالخمس فلا يُمنع، ولكنه يكون تاركًا للسُّنَّة، إلا عند الضرورة، فافهم.

[الخامس]: أنه ورد أيضًا استحباب لعق الصحفة أيضًا على ما رَوَى الطبرانيّ من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَن لَعِق الصحفة، ولَعِق أصابعه أشبعه الله في الدنيا والآخرة"

(1)

.

ورَوَى الترمذيّ من حديث أبي اليمان، قال: حدثتني أم عاصم، وكانت أم ولد لسنان بن سلمة، قالت: دخل علينا نُبيشة الخير

(2)

، ونحن نأكل في قَصعة، فحدّثنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"من أكل في قصعة، ثم لحسها، استغفرت له القصعة"، وقال: هذا حديث غريب

(3)

.

(1)

قال الشيخ الألبانيّ رحمه الله في "السلسلة": ضعيف جدًّا.

(2)

قال في "العمدة": نُبيشة - بضم النون، وفتح الباء الموحدة، وسكون الياء آخر الحروف، وبشين معجمة - ابن عبد الله بن عمرو بن عتاب بن الحارث بن نصير بن حصين بن رابغة، وقيل: لرابغة بن لحيان بن هذيل بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار الهذليّ، ويقال له: نبيشة الخير، ويقال: الخيل باللام، وهو ابن عم سَلَمة بن الْمُحَبّق. انتهى.

(3)

هذا حديث ضعيف.

ص: 224

قال العينيّ رحمه الله: استغفار القصعة يَحتمل أن يكون الله تعالى يخلق فيها تمييزًا، أو نُطقًا تطلب به المغفرة، وقد ورد في بعض الآثار أنها تقول:"آجرك الله كما آجرتني من الشيطان"، ولا مانع من الحقيقة، ويَحْتَمِل أن يكون ذلك مجازًا كُنِي به. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: لا حاجة إلى ترديد هذه الاحتمالات؛ لأن الأحاديث الواردة في استغفار القصعة ليست ثابتةً، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أنس رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [6/ 5295 و 5297](2034)، و (أبو داود) في "الأطعمة"(3845)، و (الترمذيّ) في "الأطعمة"(1803) و"الشمائل"(141)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(4/ 176)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(8/ 294)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 100 و 177 و 290)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5249 و 5252)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(5/ 170)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(6/ 63)، و (ابن الجعد) في "مسنده"(1/ 482)، و (عبد بن حميد) في "مسنده"(1/ 400)، و (أبو الشيخ) في "أخلاق النبيّ صلى الله عليه وسلم"(ص 194)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(7/ 278) و"شُعَب الإيمان"(5/ 82)، و (البغويّ) في "شرح السُّنّة"(2873)، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5296]

(2035) - (وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا بَهْزٌ، حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، حَدَّثَنَا سُهَيْلٌ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أبي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَلْعَقْ أَصَابِعَهُ، فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي فِي أَيَّتِهِنَّ الْبَرَكَةُ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(وُهَيْبُ) بن خالد بن عجلان الباهليّ مولاهم، أبو بكر البصريّ،

(1)

"عمدة القاري" 21/ 77.

ص: 225

ثقةٌ ثبتٌ تغير بآخره قليلًا [7](ت 165) أو بعدها (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 413.

2 -

(سُهَيْلُ) بن أبي صالح، أبو يزيد المدنيّ، صدوقٌ تغيّر بآخره [6](ت 138)(ع) تقدم في "الإيمان" 14/ 161.

3 -

(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه تقدّم قريبًا.

والباقون ذُكروا في الإسنادين الماضيين، و"أبو سُهيل" هو: أبو صالح السمّان.

وقوله: (فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي فِي أَيَّتِهِنَّ الْبَرَكَةُ) قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في معظم الأصول، وفي بعضها:"لا يدري أيتهنّ"، وكلاهما صحيح، أما رواية:"في أيتهنّ" فظاهرةٌ، وأما رواية:"لا يدري أيتهنّ البركة" فمعناه: أيتهن صاحبة البركة، فَحَذف المضاف، وأقام المضاف إليه مقامه، والله أعلم. انتهى

(1)

.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [6/ 5296](2035)، و (الترمذيّ) في "الأطعمة"(1801)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 341 و 415)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(5/ 169)، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5297]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِيهِ أَبُو بَكْرِ بْنُ نَافِعٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ - يَعْنِي: ابْنَ مَهْدِيٍّ - قَالَا: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، بِهَذَا الإِسْنَادِ، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: "وَلْيَسْلُتْ أَحَدُكُمُ الصَّحْفَةَ"، وَقَالَ: "فِي أَيِّ طَعَامِكُمُ الْبَرَكَةُ، أَوْ يُبَارَكُ لَكُمْ").

قال الجامع عفا الله عنه: هكذا النُّسخ الموجودة بين أيدينا كلّها بتأخير هذه الرواية على حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وكان حقّها أن تقدَّم عليه؛ لأنها من توابع حديث أنس رضي الله عنه، أَوْرَدَها لبيان متابعة عبد الرحمن بن مهديّ لبهز بن

(1)

"شرح النوويّ" 13/ 207.

ص: 226

أسد، والظاهر أن هذا من تصرّف النُّسّاخ، والله تعالى أعلم.

ورجال إسناده: ثلاثة:

وكلّهم ذُكروا في الباب، و"أبو بكر بن نافع" هو: محمد بن أحمد بن نافع البصريّ، و"حمّاد" هو: ابن سلمة.

وقوله: (غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: "وَلْيَسْلُتْ. . . إلخ) فاعل "قال" ضمير عبد الرحمن بن مهديّ.

وقوله: (وَلْيَسْلُتْ أَحَدُكُمُ) تقدّم أنه بضمّ اللام، من باب نصر، والسَّلْت معناه: الإزالة، والتنحية.

وقوله: (الصَّحْفَةَ) بفتح الصاد، وإسكان الحاء المهملتين، قال المجد رحمه الله: الصَّحْفة: معروفة، وأعظم الْقِصاع: الْجَفْنة، ثمّ الصَّحْفة، ثمّ الْمِئْكلة، ثم الصُّحَيفة. انتهى

(1)

.

وقال المرتضى: في "شرحه": الصَّحْفةُ: مَعْروفَةٌ، والجَمْعُ: صِحَافٌ. قال الأَعْشى:

والمَكَاكِيكَ والصِّحَافَ مِنَ الْعضَّـ

ــةِ والضَّامِرَاتِ تَحْتَ الرِّجالِ

وقال ابنُ سِيدَه: الصَّفْحَةُ: شِبْهُ قَصْعَةٍ، مُسْلَنْطِحَةٍ، عَرِيضَةٍ، وهي تُشْبِعُ الخَمْسَةَ، ونَحْوَهُم، وفي التَّنْزِيلِ:{يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ} [الزخرف: 71] وقال الكِسَائِيُّ: أَعْظَمُ الْقِصَاع: الجَفْنَةُ، ثم القَصْعَةُ تَلِيها، تُشْبِعُ العَشَرَة، ثُمَّ الصَّحْفَةُ تُشْبِعُ الخَمْسَةَ، ثُمَّ المِئْكَلَةُ تُشْبِعُ الرَّجُلَيْنِ، والثَّلَاثَةَ، ثُمَّ الصُّحَيْفَةُ مُصَغَّرًا، تُشْبِعُ الرَّجُلَ، هذا نَصُّ الكسائيِّ، وقال غيرُه في الأَخير: وكأَنَّه مُصَغَّرٌ لا مُكَبَّرَ لَهُ. انتهى

(2)

.

وقوله: (أَوْ يُبَارَكُ لَكُمْ)"أو" للشكّ من الراوي، والظاهر أن الشكّ من ابن مهديّ، في أيّ اللفظين قال حمّاد، هل قال:"في أي طعامكم البركة"، أو قال:"في أيّ طعامكم يبارك لكم"؟

وهذا الشكّ لم أجده في رواية أحمد الآتية في التنبيه، وإنما وقع عند مسلم هنا، ولم أجده عند غيره، والله تعالى أعلم.

(1)

"القاموس المحيط" ص 729.

(2)

"تاج العروس" 1/ 5952.

ص: 227

[تنبيه]: رواية عبد الرحمن بن مهديّ، عن حمّاد بن سلمة هذه ساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"، دون ذكر الشكّ، فقال:

(12838)

- حدثنا عبد الله، حدّثني أبي، ثنا عبد الرحمن، ثنا حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يَلعق أصابعه الثلاث، إذا أكل، وقال:"إذا وقعت لقمة أحدكم فليمط عنها الأذى، وليأكلها، ولا يَدَعها للشيطان، وليسلُت أحدكم الصحفة، فإنكم لا تدرون في أي طعامكم البركة". انتهى

(1)

.

(7) - (بَابُ مَا يَفْعَلُ الضَّيْفُ إِذَا تَبِعَهُ غَيْرُ مَنْ دَعَاهُ صَاحِبُ الطَّعَامِ، وَاسْتِحْبَابِ إِذْنِ صَاحِبِ الطَّعَامِ لِلتَّابِعِ)

وبالسند المتَّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[2598]

(2036) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَعُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ - وَتَقَارَبَا فِي اللَّفْظِ - قَالَا: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الأَنْصَارِيِّ، قَالَ: كَانَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ: أَبُو شُعَيْبٍ، وَكَانَ لَهُ غُلَامٌ لَحَّامٌ، فَرَأَى رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَعَرَفَ فِي وَجْهِهِ الْجُوعَ، فَقَالَ لِغُلَامِهِ: وَيْحَكَ اصْنَعْ لَنَا طَعَامًا لِخَمْسَةِ نَفَرٍ، فَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَدْعُوَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَامِسَ خَمْسَةٍ، قَالَ: فَصَنَعَ، ثُمَّ أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَدَعَاهُ خَامِسَ خَمْسَةٍ، وَاتَّبَعَهُمْ رَجُلٌ، فَلَمَّا بَلَغَ الْبَابَ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ هَذَا اتَّبَعَنَا، فَإِنْ شِئْتَ أَنْ تَأْذَنَ لَهُ، وَإِنْ شِئْتَ رَجَعَ"، قَالَ: لَا، بَلْ آذَنُ لَهُ يَا رَسُولَ اللهِ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(أَبُو وَائِلٍ) شقيق بن سلمة الأسديّ الكوفيّ، ثقةٌ مخضرمٌ [2](ت 82)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 57.

2 -

(أَبُو مَسْعُودٍ الأَنْصَارِيُّ) عقبة بن عمرو بن ثعلبة البدريّ الصحابيّ الشهير،

(1)

"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 3/ 177.

ص: 228

مات قبل الأربعين، وقيل: بعدها (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 458.

والباقون تقدّموا في البابين السابقين.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان قرن بينهما؛ لاتحادهما تحمّلًا، وأداء، فهما سمعا من جرير، ولذا قال:"حدّثا جرير"، وأنه مسلسل بالكوفيين من أوله إلى آخره، غير قتيبة، فبغلانيّ، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ مخضرم، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي وَائِلٍ) شقيق بن سلمة (عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الأَنْصَارِيِّ) عقبة بن عمرو رضي الله عنه، وفي رواية أبي أسامة الآتية:"عن الأعمش، حدّثنا شقيق بن سلمة، حدّثنا أبو مسعود الأنصاريّ"، وسيأتي من طريق زهير وغيره، عن أبي سفيان، عن جابر مقرونًا برواية أبي وائل، عن أبي مسعود، وهو عقبة بن عمرو، قال الحافظ: ووقع في بعض النسخ المتأخرة: "عن ابن مسعود"، وهو تصحيف. انتهى

(1)

.

[تنبيه]: قال في "الفتح": اتّفَقَت الطرق على أن هذا الحديث من مسند أبي مسعود الأنصاريّ رضي الله عنه، إلا ما رواه أحمد، عن ابن نُمير، عن الأعمش بسنده، فقال فيه:"عن رجل من الأنصار، يُكنى أبا شعيب، قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعَرَفتُ في وجهه الجوع، فأتيت غلامًا لي"، فذكر الحديث، قال الحافظ رحمه الله: وكذا رويناه في الجزء التاسع من "أمالي المحامليّ" من طريق ابن نُمير، وزاد في مسلم في بعض طريقه الآتية:"وعن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر". انتهى

(2)

.

(قَالَ) أبو مسعود رضي الله عنه (كَانَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ: أَبُو شُعَيْبٍ) قال الحافظ رحمه الله: لم أقف على اسمه. (وَكَانَ لَهُ غُلَامٌ) قال الحافظ أيضًا: لم أقف

(1)

"الفتح" 12/ 351، كتاب "الأطعمة" رقم (5434).

(2)

"الفتح" 5/ 538، كتاب "البيوع" رقم (2081).

ص: 229

على اسمه، و"الغلام": الطارّ الشاربِ، والكهل، ضِدٌّ، أو من حين يولد إلى أن يَشِبّ، جمعه أَغْلمةٌ، وغِلْمةٌ، وغلَمانٌ، وهي غلامة، قاله المجد رحمه الله

(1)

. (لَحَّامٌ) بفتح اللام، وتشديد الحاء المهملة: هو الذي يبيع اللحم، وهو الجزّار، وهذا على قياس قولهم: عطّارٌ، وتمّار للذي يبيع ذلك، قاله القرطبيّ رحمه الله

(2)

.

ووقع في رواية للبخاريّ بلفظ: "قصّاب" بفتح القاف، وتشديد الصاد المهملة، وآخره موحّدة، وهو الجزّار. (فَرَأَى رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَعَرَفَ فِي وَجْهِهِ) صلى الله عليه وسلم (الْجُوعَ)؛ أي: أثر الجوع، (فَقَالَ لِغُلَامِهِ: وَيْحَكَ) - بفتح الواو، وإسكان التحتانيّة، بعدها حاء مهملة، فكاف خطاب -: كلمة ترحّم، ويجوز رفعها، ونصبها، كما يأتي.

[فائدة]: قال المجد رحمه الله: وَيْحٌ لزيد، وويحًا له: كلمة رحمة، ورفْعه على الابتداء، ونصْبه بإضمار فِعل، وويحَ زيد، وويحَه نصبهما به أيضًا، وويحُمَا زيد بمعناه، أو أصله وَيْ، فوُصلت بحاء مرّةً، وبلام مرّةً، وبباء مرّةً، وبسين مرّةً. انتهى

(3)

.

وقال المرتضى في "شرحه": وَيْحٌ لزيدٍ بالرفْع، ووَيْحًا له بالنّصب: كَلمةُ رَحْمَةٍ، وويْلٌ: كلمةُ عَذَابٍ، وقيل: هما بمعنىً واحدٍ، وقال الأَصمعيّ: الوَيل قُبُوحٌ، والوَيْح تَرحُّمٌ، ووَيْسٌ تَصغيرُها؛ أَي: هي دونها، وقال أَبو زيد: الوَيْلُ هَلَكةٌ، والويْحُ قُبُوحٌ، والوَيْس ترَحُّمٌ، وقال سيبويه: الوَيْلُ يقال لمن وَقَعَ في الهَلَكَةِ، والوَيْحُ زَجْرٌ لمن أَشرَف في الهَلَكةِ، ولم يذْكر في الوَيس شيئًا، وقال ابن الفَرج: الوَيْحُ، والوَيْلُ، والوَيْس واحدٌ، وقال ابن سِيدَهْ: وَيْحَه، كوَيْله، وقيل: وَيْحٌ تقبيحٌ، قال ابن جنّي: امتنعوا من استعمال فِعْل الويحِ؛ لأَنّ القياس نَفاه، ومَنَع منه، وذلك لأَنّه لو صُرِّف الفِعْلُ من ذلك لوجبَ إِعلالُ فائِه، كوَعَد، وعَيْنِه، كباع، فتحامَوا استعمالَه؛ لِمَا كان يُعقِب من اجتماع إِعلالين، قال: ولا أَدرِي أَأُدخل الأَلفُ واللّام على الوَيْح سَمَاعًا، أَم تَبسُّطًا، وإِدلالًا؟

(1)

"القاموس المحيط" ص 658.

(2)

"المفهم" 5/ 302.

(3)

"القاموس المحيط" ص 1424.

ص: 230

وقال الخليل: وَيْسٌ كلمةٌ في موضع رأْفةٍ، واستملاحٍ، كقَولك للصّبيّ: وَيْحَه ما أَملَحَه، ووَيْسَه ما أَمْلَحَه، وقال نصرٌ النَّحوِيّ: سمعْت بعضَ مَن يَتنطَّع يقول: الوَيْح رَحمةٌ، وليس بينه وبين الوَيْل فُرقَانٌ، إِلّا أَنّه كان أَلْيَنَ قليلًا. وفي "التهذيب": قد قال أَكثرُ أَهلِ اللُّغَةِ: إِنَّ الوَيلَ كلمةٌ تقال لكلّ مَن وَقَع في هَلَكةٍ وعَذاب، والفرْقُ بين وَيْح، ووَيْل: أَنَّ وَيْلًا تقال لمن وَقَعَ في هَلَكةٍ، أَو بَلِيّة لا يُترحَّمُ عليه، ووَيْح تُقال لكلِّ مَن وَقَعَ في بَلِيّة يُرْحَم، ويُدعَى له بالتخلُّص منها، أَلا ترَى أَنَّ الوَيْل في القرآن لمستحِقيِّ العذابِ بجرائِمهم، وأَمّا وَيْح فَإِنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قالها لعمّار:"وَيْحَك يا ابنَ سُميّةَ بُؤسًا لكَ تَقتُلكَ الفِئةُ الباغِية"، كأَنّه أُعلِمَ ما يُبتلَى به من القَتْل، فتوجَّعَ له، وتَرحَّمَ عليه.

ورَفْعُه على الابتداءِ؛ أَي: على أَنه مبتدَأٌ، والظرْف بعده خبَرُهُ: والمسوّغ للابتداءِ بالنكرة التعظيمُ المفهومُ من التنوين، أَو التنكير، أَو لأَنَّ هذه الأَلفاظَ جَرتْ مَجْرَى الأَمثال، أَو أُقيمَت مُقامَ الدُّعَاءِ، أَو فيها التعجُّبُ دائمًا، أَو لوُضوحه، أَو نحو ذلك مما يُبديه النّظَرُ، وتَقتضِيه قواعدُ العربيّة.

ونَصْبُه بإِضمارِ فعْل، وكأَنك قلت: أَلْزمَه اللهُ وَيْحًا، كذا في "الصّحاح"، و"اللّسان"، وفي "الفائق" للزّمخشريّ؛ أَي: أَتَرحَّمه تَرحُّمًا، وزاد في "الصّحاح": وأَما قوله: {فَتَعْسًا لَهُمْ} [محمد: 8]، و {بُعْدًا لِثَمُودَ (68)} [هود: 68]، وما أَشبه ذلك فهو منصوبٌ أَبَدًا؛ لأَنّه لا تَصِحُّ إِضافتُه بغير لامٍ؛ لأنّك لو قلْتَ: فتعسَهم، أَو بُعْدَهم، لم يَصلُح، فلذلك افترقَا، ولك أَن تقول: وَيْحَ زيدٍ، ووَيْحَه، ووَيْلَ زَيْدِ، ووَيْلَه، بالإِضافَة ونَصْبُهما به؛ أَي: بإِضمار الفِعْل أَيضًا، كذا في "الصّحاح"، وربما جُعِل مع "ما" كلمةً واحدةً، وقيل: ويْحمَا زيدٍ بمعْناهُ؛ أَي: هي مثلُ وَيْح، كلمة ترحُّم، قال حُميدُ بنُ ثورٍ [من الطويل]:

أَلَا هَيَّمَا مِمّا لَقِيتُ وهَيَّمَا

ووَيْحٌ لمن لم يَدْرِ مَا هُنّ ويْحَمَا

أَو أَصلُه؛ أي: أَصلُ وَيْح: ويْ، وكذلك ويْس، ووَيْل، وُصِلَت بحاءٍ مَرَةً، فقيل: وَيْل، وبباءٍ مرّةً، فقيل: وَيْب، وبسِينٍ مرّة، فقيل: وَيْس، وكذا ويْك، ووَيْه، وويْح، قال سيبويه: سأَلتُ الخليلَ عنها، فزعم أَنّ كلّ مَن نَدِم، فأَظهر نَدَامَتَه قال: وَيْ، ومعناها التَّنديمُ، والتَّنبيه، قال ابن كَيْسَان: إِذا قالوا: وَيْلٌ له، ووَيْحٌ لي، ووَيْسٌ له، فالكلام فيهنّ الرَّفعُ على الابتداءِ، واللام في

ص: 231

موضع الخبر، فإِن حذفت اللام لم يكن إِلّا النصب، كقوله: وَيْحَه، ووَيْسَه. انتهى كلام المرتضى رحمه الله ببعض اختصار

(1)

، وهو بحث ممتعٌ جدًّا، والله تعالى أعلم.

(اصْنَعْ لَنَا طَعَامًا لِخَمْسَةِ نَفَرٍ) - بفتحتين - جماعة الرجال من ثلاثة إلى عشرة، وقيل: إلى سبعة، ولا يقال نَفَرٌ فيما زاد على العشرة

(2)

. (فَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَدْعُوَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَامِسَ خَمْسَةٍ) يقال: خامس أربعة، وخامس خمسة بمعنًى، قال الله تعالى:{ثَانِيَ اثْنَيْنِ} [التوبة: 40]، وقال:{ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ} [المائدة: 73]، وفي حديث ابن مسعود:"رابع أربعة"، ومعنى خامس أربعة: أي: زائد عليهم، وخامس خمسة؛ أي: أحدهم، والأجود نصب "خامسَ" على الحال، ويجوز الرفع، على تقدير مبتدأ؛ أي: وهو خامس، والجملة حينئذ حالية، أفاده في "الفتح".

وقال في "العمدة": قوله: "خامس خمسة"؛ أي: أحد خمسة، وقال الداوديّ: جائز أن يقول: خامس خمسة، وخامس أربعة، وعن المهلَّب: إنما صنع طعام خمسة؛ لِعِلْمه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم سيتبعه من أصحابه غيره. انتهى

(3)

.

وقال في موضع آخر: قوله: "خامس خمسة" معناه: أدعو أربعة أنفس، ويكون النبيّ صلى الله عليه وسلم خامسهم، يقال: خامس أربعة، وخامس خمسة، بمعنى واحد، وفي الحقيقة يكون المعنى: الخامس مُصَيِّر الأربعة خمسةً، وانتصاب "خامسَ" على الحال، ويجوز الرفع، بتقدير: أدعو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو خامس خمسة، والجملة أيضًا تكون حالًا. انتهى

(4)

.

(قَالَ: فَصَنَعَ)؛ أي: صنع له الغلام الطعام الذي طلبه منه، (ثُمَّ أَتَى) أبو شعيب (النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَدَعَاهُ خَامِسَ خَمْسَةٍ)؛ أي: أحد خمسة، وفي رواية الترمذيّ:"فدعاه، وجلساءه الذين معه"، وكأنهم كانوا أربعة، وهو خامسهم. (وَاتَّبَعَهُمْ) بتشديد التاء، من الاتّباع، وهو افتعال من تَبِع، وفي رواية للبخاريّ:

(1)

"تاج العروس من جواهر القاموس" 1/ 1794 - 1795.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 617.

(3)

"عمدة القاري" 11/ 197.

(4)

"عمدة القاري" 21/ 63.

ص: 232

"فتبعهم"، ثلاثيًّا، وذكرها الداوديّ بهمزة قطع، وتكلف ابن التين في توجيهها، ووقع في رواية:"فجاء معهم رجل"، وقوله:(رَجُلٌ) قال الحافظ رحمه الله: ولم أقف على اسم هذا الرجل في شيء من طرق هذا الحديث، ولا على اسم واحد من الأربعة. انتهى

(1)

.

(فَلَمَّا بَلَغَ) صلى الله عليه وسلم (الْبَابَ)؛ أي: باب أبي شعيب، (قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"إِنَّ هَذَا اتَّبَعَنَا) بتشديد التاء، وفي رواية للبخاريّ: "وهذا رجل تَبِعنا"، وفي رواية: "لم يكن معنا حين دعوتنا"، (فَإِنْ شِئْتَ أَنْ تَأْذَنَ لَهُ) بتقدير الجواب، وقد ذُكر في رواية البخاريّ: "فإن شئت أَذِنت له، وإن شئت تركته"، (وَإِنْ شِئْتَ رَجَعَ") وفي رواية للبخاريّ: "وإن شئت أن يرجع رجع"، وفي رواية:"فإنه اتّبعنا، ولم يكن معنا حين دعوتنا، فإن أذنت له دخل". (قَالَ) أبو شعيب (لَا)؛ أي: لا يرجع، (بَلْ آذَنُ) بالمدّ مضارع للمتكلّم من أَذِنَ يأذن، كفرح يفرح، (لَهُ يَا رَسُولَ اللهِ) وفي رواية:"فقد أَذِنّا له، فليدخل".

قال القرطبيّ رحمه الله: هذا الحديث، وما يأتي بعده يدلّ على ما كانوا عليه من شدَّة الحال، وشظف العيش، وذلك للتمحيص في الدنيا، وليتوفّر لهم أجر الآخرة.

وهذا المتَّبِع لهم كان ذا حاجة، وفاقة، وجوع، واستئذان النبيّ صلى الله عليه وسلم لصاحب الدعوة في حقّ المتبع بيان لحاله، وتطييب لقلب المستأذَن، ولو أَمَره بإدخاله معهم له لكان ذلك، فإنَّه صلى الله عليه وسلم قد أَمَرهم بذلك، وقال:"من كان عنده طعام اثنين فليذهب بثالث، أو أربع فليذهب بخامس"، متّفقٌ عليه، والوقت كان وقت فاقة وشدّة، وكانت المواساة واجبة إذ ذاك، والله أعلم.

ومع ذلك فاستأذن صاحب المحلّ؛ تطييبًا لقلبه، وبيانًا للمشروعية في ذلك؛ إذ الأصل ألا يَتَصَرَّف في مُلك الغير أحدٌ إلا بإذنه. انتهى

(2)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1)

"الفتح" 12/ 352 - 353، كتاب "الأطعمة" رقم (5434).

(2)

"المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" 5/ 302 - 303.

ص: 233

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي مسعود الأنصاريّ رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [7/ 5298 و 5299 و 5300](2036)، و (البخاريّ) في "البيوع"(2081) و"المظالم"(2456) و"الأطعمة"(5434 و 5461)، و (الترمذيّ) في "النكاح"(1099)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 353 و 396)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 105، 106)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5300)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(17/ 530، 531) و"الأوسط"(2/ 21 و 5/ 184)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(5/ 173، 174)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(7/ 264، 265)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان جواز الاكتساب بصنعة الجزارة.

2 -

(ومنها): جواز استعمال العبد فيما يطيق من الصنائع، والانتفاع بكسبه منها.

3 -

(ومنها): مشروعية الضيافة، وتأكد استحبابها لمن غلبت حاجته لذلك.

4 -

(ومنها): أن مَن صَنَع طعامًا لغيره فهو بالخيار بين أن يُرسله إليه، أو يدعوه إلى منزله.

5 -

(ومنها): أن من دعا أحدًا استُحِبّ أن يدعو معه من يرى من أخصّائه، وأهل مجالسته.

6 -

(ومنها): أن فيه الحكمَ بالدليل؛ لقوله: "إني عرفت في وجهه الجوع".

7 -

(ومنها): أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يديمون النظر إلى وجهه صلى الله عليه وسلم تبركًا به، وكان منهم من لا يطيل النظر في وجهه؛ حياءً منه، كما صَرَّح به عمرو بن العاص رضي الله عنه فيما أخرجه مسلم.

8 -

(ومنها): بيان أنه صلى الله عليه وسلم كان يجوع أحيانًا.

9 -

(ومنها): أن فيه إجابةَ الإمام، والشريف، والكبير دعوةَ من دونهم،

ص: 234

وأكْلَهم طعامَ ذي الحرفة غير الرفيعة، كالجزار، وأن تعاطي مثل تلك الحرفة لا يَضَع قَدْر من يتوقى فيها ما يَكْرَه، ولا تَسْقُط بمجرد تعاطيها شهادته.

10 -

(ومنها): أن من صنع طعامًا لجماعة، فليكن على قَدْرهم إن لم يقدر على أكثر، ولا ينقص من قدرهم مستندًا إلى أن طعام الواحد يكفي الإثنين.

11 -

(ومنها): أن من دعا قومًا متصفين بصفة، ثم طرأ عليهم من لم يكن معهم حينئذٍ أنه لا يدخل في عموم الدعوة، وإن قال قوم: إنه يدخل في الهدية، كما تقدم أن جلساء المرء شركاؤه فيما يُهدَى إليه.

قال الجامع عفا الله عنه: تقدّم أن هذا الحديث لا يثبت، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

12 -

(ومنها): أن من تطفل في الدعوة كان لصاحب الدعوة الاختيار في حرمانه، فإن دخل بغير إذنه كان له إخراجه.

13 -

(ومنها): أن من قَصَد التطفيل لم يُمنع ابتداءً؛ لأن الرجل تَبِع النبيّ صلى الله عليه وسلم، فلم يردّه؛ لاحتمال أن تطيب نفس صاحب الدعوة بالإذن له، كما الواقع في هذه القصّة.

14 -

(ومنها): ما قيل: إنه ينبغي أن يكون هذا الحديث أصلًا في جواز التطفيل، لكن يقيَّد بمن احتاج إليه، وقد جمع الخطيب في أخبار الطُّفَيليين جزءًا فيه عدة فوائد:

منها: أن الطفيلي منسوب إلى رجل كان يقال له: طفيل من بني عبد الله بن غطفان، كَثُر منه الإتيان إلى الولائم بغير دعوة، فسُمِّي طفيل العرائس، فسُمِّي من اتَّصف بعده بصفته: طفيليًّا، وكانت العرب تسميه: الوارش - بشين معجمة - وتقول لمن يتبع المدعوّ بغير دعوة: ضيفن - بنون زائدة - قال الكرمانيّ: في هذه التسمية مناسبة اللفظ للمعنى في التبعية، من حيث إنه تابع للضيف، والنون تابعة للكلمة.

15 -

(ومنها): أنه استُدِلّ به على منع استتباع المدعو غيره إلا إذا عَلِم من الداعي الرضا بذلك، وأن الطفيليّ يأكل حرامًا.

ولنصر بن عليّ الجهضميّ في ذلك قصة جرت له مع طفيليّ، واحتَجّ

ص: 235

نصر بحديث ابن عمر رفعه: "مَن دخل بغير دعوة دخل سارقًا، وخرج مُغِيرًا"، وهو حديث ضعيف، أخرجه أبو داود.

واحتَجّ عليه الطفيليّ بأشياء يؤخذ منها تقييد المنع بمن لا يحتاج إلى ذلك، ممن يتطفل، وبمن يتكره صاحب الطعام الدخول إليه، إما لقلة الشيء، أو استثقال الداخل، وهو يوافق قول الشافعية: لا يجوز التطفيل إلا لمن كان بينه وبين صاحب الدار انبساط.

16 -

(ومنها): بيان أن المدعو لا يمتنع من الإجابة إذا امتنع الداعي من الإذن لبعض من صحبه، وأما قصّة الفارسي الآتي في الحديث التالي، فيجاب عنه بأن الدعوة لم تكن لوليمة، وإنما صنع الفارسيّ طعامًا بقدر ما يكفي الواحد، فخشي إن أذن لعائشة رضي الله عنها أن لا يكفي النبيّ صلى الله عليه وسلم، ويَحْتَمِل أن يكون الفرق أن عائشة رضي الله عنها كانت حاضرةً عند الدعوة بخلاف الرجل، وأيضًا فالمستحب للداعي أن يدعو خواص المدعوّ معه، كما فعل اللحام، بخلاف الفارسيّ، فلذلك امتنع صلى الله عليه وسلم من الإجابة إلا أن يدعوها، أو عَلِم حاجة عائشة رضي الله عنها لذلك الطعام بعينه، أو أحبّ أن تأكل معه منه؛ لأنه كان موصوفًا بالجودة، ولم يعلم مثله في قصة اللحام.

وأما قصة أبي طلحة رضي الله عنه حيث دعا النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى طعام، كما سيأتي في الباب التالي - إن شاء الله تعالى - فقال صلى الله عليه وسلم لمن معه:"قوموا"، فأجاب عنه المازريّ أنه يَحْتَمِل أن يكون عَلِم رضا أبي طلحة، فلم يستأذنه، ولم يعلم رضا أبي شعيب، فاستأذنه، ولأن الذي أكله القوم عند أبي طلحة كان مما خَرَق الله تعالى فيه العادة لنبيّه صلى الله عليه وسلم، فكان جلّ ما أكلوه من البركة التي لا صنيع لأبي طلحة فيها، فلم يفتقر إلى استئذانه، أو لأنه لم يكن بينه وبين القصّاب من الموَدّة ما بينه وبين أبي طلحة، أو لأن أبا طلحة صنع الطعام للنبيّ صلى الله عليه وسلم، فتصرّف فيه كيف أراد، وأبو شعيب صنعه له ولنفسه، ولذلك حدّد بعدد معين؛ ليكون ما يفضُل عنهم له، ولعياله مثلًا، واطَّلَع النبيّ صلى الله عليه وسلم على ذلك، فاستأذنه لذلك؛ لأنه أخبر بما يصلح نفسه وعياله

(1)

، والله تعالى أعلم.

(1)

"الفتح" 12/ 354، كتاب "الأطعمة" رقم (5434).

ص: 236

17 -

(ومنها): أنه ينبغي لمن استؤذن في مثل ذلك أن يأذن للطارئ، كما فعل أبو شعيب، وذلك من مكارم الأخلاق، ولعله سمع الحديث:"طعام الواحد يكفي الاثنين"، أو رجا أن يعم الزائد بركة النبيّ صلى الله عليه وسلم، وإنما استأذنه النبيّ صلى الله عليه وسلم تطييبًا لنفسه، ولعله عَلِم أنه لا يمنع الطارئ.

وأما توقف الفارسيّ في الإذن لعائشة رضي الله عنها ثلاثًا وامتناع النبيّ صلى الله عليه وسلم من إجابته، فأجاب عياض بأنه لعله إنما صنع قدر ما يكفي النبيّ صلى الله عليه وسلم وحده، وعَلِم حاجته لذلك، فلو تبعه غيره لم يسدّ حاجته، والنبيّ صلى الله عليه وسلم اعتَمَد على ما أَلِف من إمداد الله تعالى له بالبركة، وما اعتاده من الإيثار على نفسه، ومن مكارم الأخلاق مع أهله، وكان من شأنه صلى الله عليه وسلم أن لا يراجِع بعد ثلاث، فلذلك رجع الفارسيّ عن المنع.

18 -

(ومنها): أن في قوله صلى الله عليه وسلم: "إنه اتَّبعنا رجل لم يكن معنا حين دعوتنا" إشارةً إلى أنه لو كان معهم حالة الدعوة لم يَحتج إلى الاستئذان عليه، فيؤخذ منه أن الداعي لو قال لرسوله: ادعُ فلانًا وجلساءه جاز لكل من كان جليسًا له أن يحضر معه، وإن كان ذلك لا يستحبّ، أو لا يجب حيث قلنا بوجوبه إلا بالتعيين.

19 -

(ومنها): أنه لا ينبغي أن يُظهر الداعي الإجابةَ وفي نفسه الكراهة؛ لئلا يَطعَم ما تكرهه نفسه، ولئلا يجمع الرياء، والبخل، وصفةَ ذي الوجهين، كذا استدَلّ به عياض.

وتعقبه العراقيّ في "شرح الترمذيّ" بأنه ليس في الحديث ما يدلّ على ذلك، بل فيه مطلق الاستئذان والإذن، ولم يكلّفه أن يَطّلع على رضاه بقلبه، قال: وعلى تقدير أن يكون الداعي يكره ذلك في نفسه، فينبغي له مجاهدة نفسه على دفع تلك الكراهة، وما ذَكَره من أن النفس تكون بذلك طيّبة لا شك أنه أَولى، لكن ليس في سياق هذه القصة ذلك، فكأنه أَخَذه من غير هذا الحديث.

قال الحافظ: والتعقب عليه واضحٌ؛ لأنه ساقه مساق من يستنبطه من حديث الباب، وليس ذلك فيه. انتهى.

20 -

(ومنها): ما قال في "الفتح": إن في قوله صلى الله عليه وسلم: "اتبعنا رجل"، فأبهمه، ولم يعيّنه أدبًا حسنًا؛ لئلا ينكسر خاطر الرجل، ولا بد أن ينضم إلى

ص: 237

هذا أنه اطَّلع على أن الداعي لا يردّه، وإلا فكان يتعيَّن في ثاني الحال، فيحصل كسر خاطره، وأيضًا ففي رواية لمسلم:"إن هذا اتبعنا"، ويُجمع بين الروايتين بأنه أبهمه لفظًا، وعيّنه إشارةً، وفيه نوع رفق به بحسب الطاقة. انتهى

(1)

.

[تنبيه]: قال في "الفتح": وقع هنا عند أبي ذرّ عن المستملي وحده: "قال محمد بن يوسف - وهو الفريابيّ -: سمعت محمد بن إسماعيل - هو البخاريّ - يقول: إذا كان القوم على المائدة، فليس لهم أن يناولوا من مائدة إلى مائدة أخرى، ولكن ينال بعضهم بعضًا في تلك المائدة، أو يَدَعُوا؛ أي: يتركوا، وكأنه استَنْبَط ذلك من استئذان النبيّ صلى الله عليه وسلم الداعي في الرجل الطارئ، ووجْهُ أخْذِه منه أن الذين دُعُوا صار لهم بالدعوة عموم إذن بالتصرف في الطعام المدعوّ إليه، بخلاف من لم يُدْعَ، فيتنزّل مَن وُضع بين يديه الشيء منزلة من دُعِي له، وينزل الشيء الذي وُضع بين يدي غيره منزلة من لم يُدْعَ إليه، قال الحافظ: وأغفل مَن وقفت على كلامه من الشراح التنبيه على ذلك. انتهى

(2)

.

وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5299]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَاهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، جَمِيعًا عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ (ح) وَحَدَّثَنَاهُ نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ الْجَهْضَمِيُّ، وَأَبُو سَعِيدٍ الأَشَجُّ، قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ (ح) وَحَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ (ح) وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّارِمِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، عَنْ سُفْيَانَ، كُلُّهُمْ عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ، بِهَذَا الْحَدِيثِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِنَحْوِ حَدِيثِ جَرِيرٍ، قَالَ نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ فِي رِوَايَتِهِ لِهَذَا الْحَدِيثِ: حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ، حَدَّثَنَا شَقِيقُ بْنُ سَلَمَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو مَسْعُودٍ الأَنْصَارِيُّ، وَسَاقَ الْحَدِيثَ).

رجال هذه الأسانيد: خمسة عشر:

1 -

(نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ الْجَهْضَمِيُّ) البصريّ، تقدّم قريبًا.

(1)

"الفتح" 12/ 354، كتاب "الأطعمة" رقم (5434).

(2)

"الفتح" 12/ 355 - 356، كتاب "الأطعمة" رقم (5434).

ص: 238

2 -

(أَبُو سَعِيدٍ الأَشَجُّ) عبد الله بن سعيد بن حصين الكنديّ الكوفيّ، ثقةٌ، من صغار [10](ت 257)(ع) أحد مشايخ الجماعة بلا واسطة تقدم في "المقدمة" 4/ 17.

3 -

(أَبُو أُسَامَةَ) حمّاد بن أسامة بن زيد الكوفيّ، تقدّم قريبًا.

4 -

(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ) العنبريّ البصريّ، تقدّم قبل أربعة أبواب.

5 -

(أَبُوهُ) معاذ بن معاذ بن نصر العنبريّ البصريّ، تقدّم أيضًا قبل أربعة أبواب.

6 -

(شُعْبَةُ) بن الحجّاج الإمام المشهور، تقدّم أيضًا قبل أربعة أبواب.

7 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّارِمِيُّ) أبو محمد السَّمَرقنديّ الحافظ، صاحب "المسند"، ثقةٌ متقنٌ فاضلٌ [11](ت 255) وله (74) سنةً (م د ت) تقدم في "المقدمة" 5/ 29.

8 -

(مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ) بن واقد بن عثمان الضبيّ مولاهم الفِريابيّ، نزيل قيسارية من ساحل الشام، ثقةٌ فاضلٌ [9](ت 212)(ع) تقدم في "القسامة" 2/ 4349.

والباقون كلّهم ذُكروا في الباب الماضي، و"سُفْيَانُ" هو: الثوريّ.

وقوله: (كُلُّهُمْ عَنِ الأَعْمَشِ. . . إلخ) الضمير يرجع إلى أبي معاوية، وأبي أسامة، وشعبة، وسفيان الثوريّ؛ يعني: أن هؤلاء الأربعة رووا هذا الحديث عن الأعمش بسنده السابق، وهو عن أبي وائل، عن أبي مسعود الأنصاريّ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، بنحو حديث جرير بن عبد الحميد المذكور في السند الماضي عن الأعمش.

وقوله: (قَالَ نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ فِي رِوَايَتِهِ لِهَذَا الْحَدِيثِ: حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ. . . إلخ) غَرَضُه بذلك أن شيخه نصر بن عليّ صرّح بتحديث الأعمش له، وتحديث شقيق بن سلمة، وهو أبو وائل للأعمش، وتحديث أبي مسعود رضي الله عنه لشقيق، فانتفت تهمة تدليس الأعمش؛ إذ هو مدلّس.

وقوله: (وَسَاقَ الْحَدِيثَ) فاعل "ساق" ضمير نصر بن عليّ.

[تنبيه]: رواية أبي معاوية عن الأعمش ساقها ابن حبّان في "صحيحه"، مقرونًا بجرير بن عبد الحميد، فقال:

ص: 239

(5300)

- أخبرنا أحمد بن علي بن المثنى، قال: حدّثنا أبو خيثمة، قال: حدّثنا جرير، وأبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن أبي مسعود، قال: كان رجل من الأنصار، يقال له: أبو شعيب، وكان له غلام لَحّام، فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعرف في وجهه الجوع، فقال لغلامه: اصنع لنا طعامًا لخمسة، فإني أريد أن أدعو النبيّ صلى الله عليه وسلم خامس خمسة، قال: فصنع، ثم جاء النبيّ صلى الله عليه وسلم خامس خمسة، وتَبِعهم رجل، فلما بلغ الباب، قال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"إن هذا تَبِعنا، فإن شئت أن تأذن له، وإن شئت رجع"، قال: بل آذن له يا رسول الله. انتهى

(1)

.

ورواية أبي أسامة عن الأعمش ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:

(5145)

- حدثنا عبد الله بن أبي الأسود، حدّثنا أبو أسامة، حدّثنا الأعمش، حدّثنا شقيق، حدّثنا أبو مسعود الأنصاريّ، قال: كان رجل من الأنصار يكنى أبا شعيب، وكان له غلام لَحّام، فأتى النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو في أصحابه، فعَرَف الجوع في وجه النبيّ صلى الله عليه وسلم، فذهب إلى غلامه اللحام، فقال: اصنع لي طعامًا يكفي خمسةً، لعلّي أدعو النبيّ صلى الله عليه وسلم خامس خمسة، فصنع له طُعيمًا، ثم أتاه، فدعاه، فتبعهم رجل، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"يا أبا شعيب إن رجلًا تبعنا، فإن شئت أذنت له، وإن شئت تركته"، قال: لا، بل أذنت له. انتهى

(2)

.

ورواية شعبة، عن الأعمش ساقها أبو عوانة رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(8298)

- حدثنا يونس بن حبيب، وأبو أمية، قالا: ثنا أبو داود الطيالسيّ، قال: ثنا شعبة، عن الأعمش، قال: سمعت أبا وائل يحدث عن أبي مسعود البدريّ، قال: صنع رجل منا يكنى أبا شعيب لرسول الله صلى الله عليه وسلم طعامًا، فقال: تعال أنت وخمسة معك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"تأذن لي في السادس؟ ". انتهى

(3)

.

ورواية سفيان الثوريّ، عن الأعمش ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:

(1)

"صحيح ابن حبان" 12/ 111.

(2)

"صحيح البخاريّ" 5/ 2079.

(3)

"مسند أبي عوانة" 5/ 174.

ص: 240

(5118)

- حدّثنا محمد بن يوسف، حدّثنا سفيان، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن أبي مسعود الأنصاريّ، قال: كان من الأنصار رجل يقال له: أبو شعيب، وكان له غلام لَحّام، فقال: اصنع لي طعامًا أدعو رسول الله صلى الله عليه وسلم خامس خمسة، فدعا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم خامس خمسة، فتبعهم رجل، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"إنك دعوتنا خامس خمسة، وهذا رجل قد تبعنا، فإن شئت أذنت له، وإن شئت تركته"، قال: بل أذنت له.

قال محمد بن يوسف: سمعت محمد بن إسماعيل يقول: إذا كان القوم على المائدة، ليس لهم أن يناولوا من مائدة إلى مائدة أخرى، ولكن يناول بعضهم بعضًا في تلك المائدة، أو يَدَعُوا. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتَّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5300]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ جَبَلَةَ بْنِ أَبِي رَوَّادٍ، حَدَّثَنَا أَبُو الْجَوَّابِ، حَدَّثَنَا عَمَّارٌ - وَهْوَ: ابْنُ رُزَيْقٍ - عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أبي سُفْيَانَ، عَنْ جَابِرٍ (ح) وَحَدَّثَنِي سَلَمَةُ بْنُ شَبِيبٍ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَعْيَنَ، حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ، عَنْ شَقِيقٍ، عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَعَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ جَابِرٍ، بِهَذَا الْحَدِيثِ).

رجال الإسنادين: أحد عشر:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ جَبَلَةَ بْنِ أَبِي رَوَّادٍ) هو: محمد بن عمرو بن عبّاد بن جَبَلَة بن أبي رَوّاد الْعَتَكيّ، أبو جعفر البصريّ، صدوقٌ [11](ت 234)(م د) تقدم في "الإيمان" 63/ 348.

2 -

(أَبُو الْجَوَّابِ) أحوص بن جوّاب الضبيّ الكوفيّ، صدوقٌ ربّما وَهِمَ [9](ت 211)(م د ت س) تقدم في "الإيمان" 63/ 348.

3 -

(عَمَّارُ بْنُ رُزَيْقٍ) الضبيّ، أو التميميّ، أبو الأحوص الكوفيّ، ثقة [7]

(2)

(ت 159)(م د س ق) تقدم في "الإيمان" 63/ 348.

(1)

"صحيح البخاريّ" 5/ 2071.

(2)

في "التقريب": "لا بأس به من الثامنة". والظاهر أنه ثقةٌ، فقد وثّقه الأئمة، وأنه =

ص: 241

4 -

(سَلَمَةُ بْنُ شَبِيبٍ) الْمِسمعيّ النيسابوريّ، نزيل مكة، ثقةٌ، من كبار [11] مات سنة بضع و (140)(م 4) تقدم في "المقدمة" 6/ 60.

5 -

(الْحَسَنُ بْنُ أَعْيَنَ) هو: الحسن بن محمد بن أعين، نُسب لجدّه الحرّاني، أبو عليّ، صدوقٌ [9](ت 210)(خ م س) تقدم في "الإيمان" 4/ 119.

6 -

(زُهَيْرُ) بن معاوية بن حُديج، أبو خيثمة الجعفيّ الكوفيّ، تقدّم قريبًا.

والباقون ذُكروا في الباب وقبله، و"أبو سفيان" هو: طلحة بن نافع الإسكاف.

وقوله: (وَعَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ. . . إلخ) هذا من كلام زهير بن معاوية، فهو يروي هذا الحديث عن الأعمش بطريقين: طريق شقيق بن سلمة، عن أبي مسعود عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وطريق أبي سفيان طلحة بن نافع، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، فالحديث محفوظ بالطريقين جميعًا، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

[تنبيه]: رواية عمّار بن رُزيق عن الأعمش ساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"، بلفظ:"سادس ستّة"، والمشهور:"خامس خمسة"، فقال:

(14843)

- حدّثنا عبد الله، حدّثني أبي، حدّثنا أبو الْجَوّاب، حدّثنا عمّار بن رُزيق، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر، قال: كان رجل من الأنصار، يقال له: أبو شعيب، وكان له غلام لَحّام، فقال له: اجعل لنا طعامًا، لعلي أدعو رسول الله صلى الله عليه وسلم سادس ستة، فدعاهم، فاتَّبعهم رجل، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن هذا قد اتّبعنا، أفتأذن له؟ " قال: نعم. انتهى

(1)

.

ورواية زهير بن معاوية، عن الأعمش، عن شقيق، عن أبي مسعود ساقها الطبرانيّ رحمه الله في "المعجم الكبير"، فقال:

= من السابعة، كما يظهر من النظر في شيوخه، والرواة عنه، فتأمل، والله تعالى أعلم.

(1)

"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 3/ 353.

ص: 242

(527)

- حدّثنا محمد بن عمرو بن خالد، ثنا أبي، زهير بن معاوية

(1)

، عن سليمان الأعمش، عن شقيق بن سلمة، عن عقبة بن عمرو، قال: كان لأبي شعيب غلام لَحّام، فلما رأى ما برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من الجَهد أمر غلامه أن يأتي بلحم، يكفي خمسة، فأرسل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ائتنا خامس خمسة، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم خامس خمسة، وتبعهم رجل سادس، فلما انتهى إلى باب أبي شعيب قال:"إنك أرسلت إلى خمسة، وإن هذا قد تبعنا، فإن أذنت له دخل، وإلا رجع"، فقال: لا، بل قد أذنت له، فليأكل. انتهى

(2)

.

ورواية زهير، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر ساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(15302)

- حدثنا عبد الله، حدّثني أبي، ثنا أحمد بن عبد الملك، ثنا زهير، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر، قال: كان لأبي شعيب غلام لحام، فلما رأى ما برسول الله صلى الله عليه وسلم من الجهد أمر غلامه أن يجعل له طعامًا يكفي خمسة، فأرسل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ائتنا خامس خمسة، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، واتبعه رجل، فلما انتهيا إلى بابه قال:"إنك أرسلت إليّ أن آتيك خامس خمسة، وإن هذا قد اتبعنا، فإن أذنت له دخل، وإلا رجع"، قال: فإني قد أذنت له يا رسول الله، فدخل. انتهى

(3)

، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتَّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5301]

(2037) - (وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، أَخْبَرَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أنَسٍ، أَنَّ جَارًا لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَارِسِيًّا، كَانَ طَيِّبَ الْمَرَقِ، فَصَنَعَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ جَاءَ يَدْعُوهُ، فَقَالَ:"وَهَذِهِ؟ " لِعَائِشَةَ، فَقَالَ: لَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"لَا" فَعَادَ يَدْعُوهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:

(1)

هكذا النسخة، وهو غلطٌ بلا شكّ، سقط منه لفظة "عن"، أو "حدّثنا"، والأصل: عن زهير بن معاوية، أو: حدَّثنا زهير بن معاوية، فتأمله بالإمعان، والله أعلم.

(2)

"المعجم الكبير" 17/ 197.

(3)

"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 3/ 396.

ص: 243

"وَهَذِهِ؟ "، قَالَ: لَا، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"لَا"، ثُمَّ عَادَ يَدْعُوهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"وَهَذِهِ؟ "، قَالَ: نَعَمْ فِي الثَّالِثَةِ، فَقَامَا يَتَدَافَعَانِ، حَتَّى أَتَيَا مَنْزِلَهُ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ) السلميّ مولاهم، أبو خالد الواسطيّ، ثقةٌ متقنٌ عابدٌ [9](ت 206) وقد قارب التسعين (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 45.

والباقون ذُكروا في الباب الماضي.

شرح الحديث:

(عَنْ أنَسٍ) رضي الله عنه (أَنَّ جَارًا) قال صاحب "التنبيه": لا أعرفه، ولا أعرف في الصحابة فارسيًّا إلا سلمان رضي الله عنه. انتهى

(1)

. (لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَارِسِيًّا)؛ أي: منسوبًا إلى البلد المسمّى بفارس، قال ابن منظور: وفارس بلد ذو جيل، والنسبة إليه فارسيّ، والجمع فُرْس، قال ابن مقبل:

طَافَتْ بِهِ الْفُرْسُ حَتَّى بَدَّ نَاهِضُهَا

(2)

(كَانَ طَيِّبَ الْمَرَقِ) بفتحتين، قال ابن منظور: الْمَرَق: الذي يؤتَدَم به، معروفٌ، واحدته مرقةٌ، والمرقة أخصّ منه. انتهى. (فَصَنَعَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم)؛ يعني: صنع له طعامًا، (ثُمَّ جَاءَ يَدْعُوهُ)؛ أي: يدعو النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى طعامه الذي صنعه له، (فَقَالَ:"وَهَذِهِ؟ ") يَحتمل أن يكون كلامًا استفهاميًّا؛ أي: أتدعو هذه معي؟ أو أمرًا منه صلى الله عليه وسلم أن يدعوها؛ أي: ادعها معي، وسياق المصنّف يقتضي أنه صلى الله عليه وسلم صرّح بذلك بالقول، ولكن وقع عند النسائيّ أنه بالإشارة، ولفظه:"كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم جار فارسيّ طيّبُ المرقة، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، وعنده عائشة؛ فأومأ إليه بيده أن تَعَالَ، وأومأ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عائشة؛ أي: وهذه، فأومأ إليه الآخر هكذا بيده أن لا مرّتين أو ثلاثًا"، ويمكن الجمع بأنه جَمَع بين الإشارة والقول الصريح، ولا مانع من ذلك، والله تعالى أعلم.

واللام في قوله: (لِعَائِشَةَ) قيل: هي بمعنى "عن"، وقيل: هي لام التعليل، وقيل: لام التبليغ، ومنه قوله تعالى: {قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ

(1)

"تنبيه المعلم" ص 350.

(2)

"لسان العرب" 6/ 163.

ص: 244

أَضَلُّونَا} [الأعراف: 38]، وقوله:{وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا} [هود: 31]، وقول الشاعر [من الكامل]:

كَضَرَائِرِ الْحَسْنَاءِ قُلْنَ لِوَجْهِهَا

حَسَدًا وَبُغْضًا إِنَّهُ لَدَمِيمُ

(1)

(فَقَالَ) الفارسيّ (لَا)؛ أي: لا أدعوها معك، بل الدعوة قاصرة عليك. (فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم "لَا")؛ أي: لا أُجيبك لدعوتك إلا أن تدعوها معي. (فَعَادَ)؛ أي: رجع الفارسيّ من بيته إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم مرّةً ثانية، حال كونه (يَدْعُوهُ) إلى ما صنعه له من الطعام، (فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) مرّةً أخرى (وَهَذهِ")؛ يعني: عائشة رضي الله عنها (قَالَ) الفارسيّ (لَا) أدعوها معك، (قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"لَا") أجيب دعوتك، (ثُمَّ عَادَ)؛ أي: رجع الفارسيّ مرّةً ثالثة (يَدْعُوهُ) صلى الله عليه وسلم (فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "وَهَذهِ؟ "، قَالَ) الفارسيّ (نَعَمْ) أدعوها معك، (فِي) المرّة (الثَّالِثَةِ، فَقَامَا)؛ أي: قام النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعائشة رضي الله عنها إلى بيت الفارسيّ (يَتَدَافَعَانِ)؛ أي: يمشي كلّ واحد منهما إثر صاحبه، (حَتَّى أَتَيَا مَنْزِلَهُ)؛ أي: بيت الفارسيّ.

وقال النوويّ رحمه الله: قوله: "فقاما يتدافعان": معناه: يمشي كل واحد منهما في إثر صاحبه، قالوا: ولعل الفارسيّ إنما لم يَدْع عائشة رضي الله عنها أوّلًا؛ لكون الطعام كان قليلًا، فأراد توفيره على رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقال القرطبيّ رحمه الله: وامتناع الفارسيّ من الإذن لعائشة رضي الله عنها أَولى ما قيل فيه: إنه إنَّما كان صَنَع من الطعام ما يكفي النبيّ صلى الله عليه وسلم وحده؛ للذي رأى عليه من الجوع، فكأنه رأى أن مشاركة النبيّ صلى الله عليه وسلم في ذلك يُجحف بالنبيّ صلى الله عليه وسلم، وامتناع النبيّ صلى الله عليه وسلم من إجابة الفارسيّ عند امتناعه من إذن عائشة رضي الله عنها إنما كان - والله أعلم - لأن عائشة رضي الله عنها كان بها من الجوع مثل الذي كان بالنبيّ صلى الله عليه وسلم، فكره النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يستأثر عليها بالأكل دونها، وهذا تقتضيه مكارم الأخلاق، وخصوصًا مع أهل بيت الرجل، ولذلك قال بعض الشعراء

(2)

:

(1)

راجع: "مغني اللبيب عن كتب الأعاريب" 1/ 419 - 420.

(2)

هو: بشر بن المغيرة بن المهلّب بن أبي صفرة، وهو عَجُز بيت من الطويل، وصَدْره:

وَكُلُّهُمُ قَدْ نَالَ شِبْعًا لِبَطْنِهِ

ص: 245

وَشِبْعُ الْفَتَى لُؤْمٌ إِذَا جَاعَ صَاحِبُهْ

وقد نبَّه مالك رحمه الله على هذا المعنى حين سُئل عن الرجل يدعو الرجل يُكرمه، قال: إذا أراد فليبعث بذلك إليه يأكله مع أهله. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى) حديث أنس رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [7/ 5301](2037)، و (النسائيّ) في "الطلاق"(6/ 158) و"الكبرى"(5629)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 123 و 272)، و (الدارمي) في "سننه"(2067)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(5/ 172)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): جواز أكل المرق، والطيّبات، قال الله تعالى:{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} الآية [الأعراف: 32].

قال القرطبيّ رحمه الله: فيه دليل على جواز تطييب الأطعمة، والاعتناء بها، ولا خلاف في جواز ذلك بين الأئمة. انتهى

(2)

.

2 -

(ومنها): أن في امتناع النبيّ صلى الله عليه وسلم من إجابة دعوة الفارسيّ، إلا أن يأذن لعائشة رضي الله عنها دليلٌ على أنه لا تجب إجابة الدعوة في مثل ذلك؛ فيكون من مسقطات وجوب إجابة الدعوة، قال النووي رحمه الله ما معناه: هذا محمول على أنه كان هناك عذرٌ يمنع وجوب إجابة الدعوة، فكان النبيّ صلى الله عليه وسلم مخيّرًا بين إجابته، وتَرْكها، فاختار أحد الجائزين، وهو تَرْكها، إلا أن يأذن لعائشة رضي الله عنها؛ لِمَا كان بها من الجوع، أو نحوه، فكره صلى الله عليه وسلم الاختصاص بالطعام دونها، وهذا من جميل المعاشرة، وحقوق المصاحبة، وآداب المجالسة، فلمّا أَذِن لها اختار النبيّ صلى الله عليه وسلم الجائز الآخر؛ لتجدّد المصلحة، وهو حصول ما كان يريده، من

(1)

"المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" 5/ 303 - 304.

(2)

"المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" 5/ 303 - 304.

ص: 246

إكرام جليسه، وإيفاء حقّ معاشره، ومواساته فيما يحصل. انتهى كلام النوويّ رحمه الله.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي في قوله: "على أنه كان هناك عذر يمنع. . . إلخ" نظر؛ إذ الظاهر من سياق الحديث أن المانع من الإجابة هو عدم سماح الفارسيّ لعائشة رضي الله عنها في مصاحبته صلى الله عليه وسلم في أكل الطعام، لا أمر آخر، فيُستفاد منه أن المدعوّ إذا كانت زوجته، أو من عليه نفقته محتاجين إلى الطعام، فله أن يمتنع من الإجابة، إلا أن يؤذَن لهم، فيكون هذا عذرًا من الأعذار التي تُسقط وجوب إجابة الدعوة.

وقال في "الفتح": وأما ما أخرجه مسلم من حديث أنس رضي الله عنه "أن فارسيًّا كان طيب المرق صنع للنبيّ صلى الله عليه وسلم طعامًا. . . إلخ"، فيجاب عنه بأن الدعوة لم تكن لوليمة، وإنما صنع الفارسيّ طعامًا بقدر ما يكفي الواحد، فخشي إن أذن لعائشة أن لا يكفي النبيّ صلى الله عليه وسلم، ويَحْتَمِل أن يكون الفرق أن عائشة رضي الله عنها كانت حاضرة عند الدعوة، بخلاف الرجل في قصّة أبي شعيب، وأيضًا فالمستحب للداعي أن يدعو خواصّ المدعوّ معه، كما فعل اللحّام بخلاف الفارسيّ، فلذلك امتنع صلى الله عليه وسلم من الإجابة إلا أن يدعوها، أو عَلِم حاجة عائشة لذلك الطعام بعينه، أو أحب أن تأكل معه منه؛ لأنه كان موصوفًا بالجودة، ولم يعلم مثله في قصة اللحّام. انتهى

(1)

.

3 -

(ومنها): أن النسائيّ رحمه الله استنبط من هذا الحديث وقوع الطلاق بالإشارة المفهومة، ووجه الاستدلال بالحديث أن الإشارة المفهومة تُستعمل في المقاصد؛ لأن الفارسيّ دعا النبيّ صلى الله عليه وسلم للطعام بالإشارة، ففهمها صلى الله عليه وسلم، وبنى على ذلك، أنْ طَلَب منه الإذن لعائشة رضي الله عنها، وراجعه في ذلك حتى أَذِن لها، فمضيا إلى بيته بناء على ذلك، فدلّ على أن الإشارة تقوم مقام العبارة إذا كانت مفهومة.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الاستدلال لا يتمّ على رواية مسلم؛ لأنها بالقول الصريح، لا بالإشارة، وإنما يتمّ على رواية النسائيّ؛ لأنها بالإشارة،

(1)

"الفتح" 12/ 354، كتاب "الأطعمة" رقم (5434).

ص: 247

كما أسلفته قريبًا، والظاهر أنه جَمَع بينهما، فلا يتمّ الاستدلال المذكور، والله تعالى أعلم بالصواب.

(8) - (بَابُ جَوَازِ اسْتِتْبَاعِ الشَّخْصِ غَيْرَهُ إِلَى دَارِ مَنْ يَثِقُ بِرِضَاهُ بِذَلِكَ، وَيَتَحَقَّقُهُ تَحَقُّقًا تَامًّا، وَاسْتِحْبَابِ الِاجْتِمَاعِ عَلَى الطَّعَامِ)

وبالسند المتَّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5302]

(2038) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا خَلَفُ بْنُ خَلِيفَةَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ كَيْسَانَ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ، أَوْ لَيْلَةٍ، فَإذَا هُوَ بِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، فَقَالَ:"مَا أَخْرَجَكُمَا مِنْ بُيُوتِكُمَا هَذِهِ السَّاعَةَ؟ "، قَالَا: الْجُوعُ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ:"وَأَنَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لأَخْرَجَنِي الَّذِي أَخْرَجَكُمَا، قُومُوا"، فَقَامُوا مَعَهُ

(1)

، فَأَتَى رَجُلًا مِنَ الأَنْصَارِ، فَإِذَا هُوَ لَيْسَ فِي بَيْتِهِ، فَلَمَّا رَأَتْهُ الْمَرْأَةُ قَالَتْ: مَرْحَبًا، وَأَهْلًا، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"أَيْنَ فُلَانٌ؟ "، قَالَتْ: ذَهَبَ يَسْتَعْذِبُ لَنَا مِنَ الْمَاءِ، إِذْ جَاءَ الأَنْصَارِيُّ، فَنَظَرَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَصَاحِبَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، مَا أَحَدٌ الْيَوْمَ أَكْرَمَ أَضْيَافًا مِنِّي، قَالَ: فَانْطَلَقَ، فَجَاءَهُمْ بِعِذْقٍ فِيهِ بُسْرٌ، وَتَمْرٌ، وَرُطَبٌ، فَقَالَ: كُلُوا مِنْ هَذِهِ، وَأَخَذَ الْمُدْيَةَ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"إِيَّاكَ وَالْحَلُوبَ"، فَذَبَحَ لَهُمْ، فَأَكَلُوا مِنَ الشَّاةِ، وَمِنْ ذَلِكَ الْعِذْقِ، وَشَرِبُوا، فَلَمَّا أَنْ شَبِعُوا، وَرَوُوا، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ:"وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتُسْأَلُنَّ عَنْ هَذَا النَّعِيمِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمُ الْجُوعُ، ثُمَّ لَمْ تَرْجِعُوا حَتَّى أَصَابَكُمْ هَذَا النَّعِيمُ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) هو: عبد الله بن محمد بن أبي شيبة إبراهيم بن عثمان، تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(خَلَفُ بْنُ خَلِيفَةَ) بن صاعد الأشجعيّ مولاهم، أبو أحمد الكوفيّ،

(1)

وفي نسخة: "قوما، فقاما معه".

ص: 248

نزيل واسط، ثم بغداد، صدوقٌ اختلط في آخره، وادّعى أنه رأى عمرو بن حُريث الصحابيّ، فأنكر عليه ذلك ابن عيينة، وأحمد [8](ت 181) على الصحيح (بخ م 4) تقدم في "الطهارة" 13/ 592.

3 -

(يَزِيدُ بْنُ كَيْسَانَ) اليشكريّ، أبو إسماعيل، أو أبو منين الكوفيّ، صدوقٌ يُخطئ [6](بخ م 4) تقدم في "الإيمان" 9/ 142.

4 -

(أَبُو حَازِمٍ) سلمان الأشجعيّ الكوفيّ، ثقةٌ [3] مات على رأس المائة (ع) تقدم في "الإيمان" 9/ 142.

5 -

(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه تقدم في "المقدمة" 2/ 4.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالكوفيين غير الصحابيّ فمدنيّ، وهو رأس المكثرين السبعة.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ، أَوْ لَيْلَةٍ)"أو" هنا للشكّ من الراوي، (فَإِذَا) هي "إذا" الفجائيّة، (هُوَ بِأَبِي بَكْرٍ) الصدّيق رضي الله عنه، (وَعُمَرَ) الفاروق رضي الله عنه؛ يعني: أنه فاجأ خروجه صلى الله عليه وسلم لقاء هذين الصحابيين رضي الله عنهما، (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("مَا) استفهاميّة؛ أي: أيُّ شيء (أَخْرَجَكُمَا مِنْ بُيُوتِكُمَا) بضمّ الباء، وكسرها، لغتان فصيحتان قُرئ بهما في السبع

(1)

.

(هَذِهِ السَّاعَةَ؟ ") الظاهر أن تلك الساعة لا يخرج من بيته عادة من كان مثلهما إلا للضرورة، ولهذا قال لهما صلى الله عليه وسلم مستغربًا ذلك:"ما أخرجكما. . . إلخ"، وقد أشار إلى هذا في رواية الترمذيّ، ولفظه:"قال: خرج النبيّ صلى الله عليه وسلم في ساعة لا يَخرُج فيها، ولا يلقاه فيها أحدٌ. . ." الحديث، وجاء في بعض الروايات أن ذلك كان وقت الظهيرة

(2)

، والله تعالى أعلم.

(1)

"شرح النوويّ" 13/ 212.

(2)

راجع: "الرياض النضرة" 1/ 339، ولفظه:"خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا عند الظهيرة، فرأى أبا بكر جالسًا في المسجد، فقال: ما أخرجك يا أبا بكر هذه الساعة. . ." الحديث.

ص: 249

(قَالَا: الْجُوعُ) فاعل لفعل مقدَّر دلّ عليه السؤال؛ أي: أخرجنا الجوع (يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("وَأَنَا) بالواو، وفي بعض النسخ:"فأنا" بالفاء، (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ) فيه الحَلِف من غير استحلاف، (لأَخْرَجَنِي الَّذِي أَخْرَجَكُمَا)؛ أي: وهو الجوع.

قال النوويّ رحمه الله: وأما قولهما رضي الله عنهما: "أخرجنا الجوع"، وقوله صلى الله عليه وسلم:"وأنا والذي نفسي بيده لأخرجني الذي أخرجكما": فمعناه: أنهما لِمَا كانا عليه من مراقبة الله تعالى، ولزوم طاعته، والاشتغال به، فعَرَض لهما هذا الجوع الذي يُزعجهما، ويُقلقهما، ويمنعهما من كمال النشاط للعبادة، وتمام التلذذ بها، سَعَيَا في إزالته بالخروج في طلب سبب مباح، يدفعانه به، وهذا من أكمل الطاعات، وأبلغ أنواع المراقبات، وقد نُهي عن الصلاة مع مدافعة الأخبثين، وبحضرة طعام، تتوق النفس إليه، وفي ثوب له أعلام، وبحضرة المتحدثين، وغير ذلك، مما يَشْغَل قلبه، ونُهي القاضي عن القضاء في حال غضبه، وجوعه، وهمّه، وشدة فرحه، وغير ذلك، مما يَشغَل قلبه، ويمنعه كمال الفكر، والله أعلم. انتهى

(1)

.

ثم قال لهما: (قُومُوا") أمرٌ بالقيام لطلب العيش عند الحاجة، (فَقَامُوا مَعَهُ) قال الطيبيّ رحمه الله: هكذا هو في الأصول بضمير الجمع، وهو جائز، فمن قال: إن أقل الجمع اثنان فظاهرٌ، ومن قال: إن أقله ثلاثة فمجاز. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قد تقدّم غير مرّة أن المذهب الصحيح أن أقل الجمع اثنان؛ لأدلّة كثيرة، قد أوضحتها في "التحفة المرضيّة"، و"شرحها" في الأصول، فراجعها، وبالله تعالى التوفيق.

ووقع في بعض النسخ بلفظ: "قوما، فقاما معه"، وهو ظاهر، والله تعالى أعلم.

(فَأَتَى) صلى الله عليه وسلم (رَجُلًا)؛ أي: بيت رجل، أو قَصَده، (مِنَ الأَنْصَارِ) قال الطيبيّ رحمه الله: إفراد الضمير، وإسناده إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم بعد قوله:"قوموا، فقاموا"

(1)

"شرح النوويّ" 13/ 212.

(2)

"الكاشف عن حقائق السنن" 9/ 2867.

ص: 250

إيذان بأنه صلى الله عليه وسلم هو المطاع، وأنهما كانا مطيعين، منقادين، كمن لا اختيار له.

قال النوويّ رحمه الله: الرجل الأنصاريّ هو أبو الهيثم مالك بن التّيِّهان - بفتح التاء، وكسر المثنّاة تحتُ، وتشديدها

(1)

.

وقال في "الإصابة": أبو الهيثم بن التَّيِّهان - بفتح المثناة الفوقانية، مع كسر الياء - ابن مالك بن عَتيك بن عمرو بن عبد الأعلم بن عامر بن زعوراء الأنصاريّ الأوسيّ، وزعوراء أخو عبد الأشهل، ويقال: التَّيِّهان لقب، واسمه مالك، وهو مشهور بكنيته، وقد وقع في "مصنف عبد الرزاق" أن اسمه عبد الله، قال ابن إسحاق فيمن شهد بدرًا: أبو الهيثم، واسمه مالك، وأخوه عَتيك ابنا التَّيِّهان، وقال في بيعة العقبة: وكان نقيبَ بني عبد الأشهل أُسيدُ بنُ حُضير وأبو الهيثم بن التّيّهان، وقال ابن السكن: ذكر ابن إسحاق أن أبا الهيثم من بَلِيّ، من بني عمرو بن الحاف بن قُضاعة، حالف بني عبد الأشهل، وآخى النبيّ صلى الله عليه وسلم بينه وبين عثمان بن مظعون، وشهد المشاهد كلها، وكذا قال موسى بن عقبة، عن ابن شهاب، فيمن شهد بدرًا، والعقبة: وكان أول من بايع.

ثم ذكر الاختلاف في وفاته، ثم قال: وكأن الأصوب قول من قال: سنة عشرين، أو إحدى وعشرين، قال: وقال: القول بأنه مات سنة عشرين نقله ابن أبي خيثمة، عن صالح بن كيسان، عن الزهريّ.

وأنشده أبو الربيع بن سالم الكلاعيّ لأبي الهيثم في النبيّ صلى الله عليه وسلم بمرثية يقول فيها:

لَقَدْ جُدِعَتْ آذَانُنَا وَأُنُوفُنَا

غَدَاةَ فُجِعْنَا بِالنَّبِيِّ مُحَمَّدِ

(2)

وقال صاحب "التنبيه": قوله: "فأتى رجلًا من الأنصار" هو أبو الهيثم بن التَّيِّهان الأنصاريّ، واسم أبي الهيثم: مالك، وقيل: هو أبو أيوب الأنصاريّ. انتهى

(3)

.

وقال الزرقانيّ رحمه الله: وفي رواية الترمذيّ: "فانطلقوا إلى منزل أبي

(1)

"الكاشف عن حقائق السنن" 9/ 2867.

(2)

"الإصابة في تمييز الصحابة" 7/ 450 - 451.

(3)

"تنبيه المعلم" ص 350.

ص: 251

الهيثم بن التيّهان الأنصاريّ، وكان رجلًا كثير النخل والشياه، ولم يكن له خَدَمٌ"، وكذا عند البزار، وأبي يعلى، والطبرانيّ عن ابن عباس، وللطبراني أيضًا: عن ابن عمر، أنه أبو الهيثم، وللطبراني أيضًا، وابن حبان، عن ابن عباس أنه أبو أيوب، والظاهر أن القصة اتَّفَقت مرّةً مع أبي الهيثم، كما صَرّح به في أكثر الروايات، ومرّةً مع أبي أيوب، قاله المنذريّ.

قال: وذهابهم إليه لا ينافي كمال شَرَفهم، فقد استَطْعَم قبلهم موسى والخضر لإرادة الله سبحانه بتسلية الخلق بهم، وأن يستن بهم السنن، ففعلوا ذلك تشريعًا للأمة.

وهل خَرَج قاصدًا من أول خروجه إنسانًا معينًا، أو جاء التعيين بالاتفاق؟ احتمالان، قال بعضهم: الأصح أن أول خاطر حرّكه للخروج لم يكن إلى جهة معينة؛ لأن الكُمّل لا يعتمدون إلا على الله. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قوله: "الكمّل. . . إلخ" فيه نظر لا يخفى، فإن هذا ليس من الاعتماد على غير الله تعالى، بل هو من باب الأخذ بالأسباب، فتنبّه، ولا تغترّ به، والله تعالى أعلم.

(فَإِذَا هُوَ لَيْسَ فِي بَيْتِهِ)"إذا" هي الفجائيّة أيضًا؛ أي: ففاجأهم عدم وجود أبي الهيثم في بيته؛ كقوله تعالى: {إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [الروم: 48]. (فَلَمَّا رَأَتْهُ الْمَرْأَةُ) قال صاحب "التنبيه": إن كان أبا الهيثم فامرأته لا أعرفها، وإن كان أبا أيوب، فامرأته هي أم أيوب، وهي بنت قيس بن عمرو بن امرئ القيس من الخزرج، ولا أعرف اسمها، ولعلّ اسمها كنيتها. انتهى

(2)

.

(قَالَتْ: مَرْحَبًا، وَأَهْلًا) قال النوويّ رحمه الله: كلمتان معروفتان للعرب، ومعناهما: صادفت رَحْبًا، وسعةً، وأهلًا تأنس بهم. انتهى

(3)

.

وقال ابن منظور رحمه الله: وقولهم: مَرْحَبًا وأهلًا؛ أي: أتيت سعةً، وأتيت أهلًا، فاستأنِس، ولا تستوحش، قال: وقيل: معنى مَرْحَبًا: أتيت، أو لقيت رُحْبًا وسعةً، لا ضِيقًا، وكذلك إذا قال: سهلًا، أراد: نزلت بلدًا سهلًا،

(1)

"شرح الزرقاني" 4/ 396.

(2)

"تنبيه المعلم" ص 351.

(3)

"شرح النوويّ" 13/ 212.

ص: 252

لا حَزْنًا غَلِيظًا. انتهى باختصار

(1)

.

(فَقَالَ لَهَا)؛ أي: للمرأة (رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَيْنَ فُلَانٌ؟ ") يريد: زوجها، (قَالَتْ: ذَهَبَ يَسْتَعْذِبُ لَنَا مِنَ الْمَاءِ)؛ أي: يأتينا بماء عذب طيّب؛ لأن ماء المدينة أكثره مالح، قال الطيبيّ رحمه الله: و"من" إما بيانيّة، أو تبعيضيّة. انتهى

(2)

. (إِذْ جَاءَ الأَنْصَارِيُّ) أبو الهيثم رضي الله عنه (فَنَظَرَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَصَاحِبَيْهِ) أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، (ثُمَّ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ) على ما أنعم به عليّ من نزول رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصاحبيه في بيتي، (مَا) نافية، (أَحَدٌ الْيَوْمَ أَكْرَمَ أَضْيَافًا مِنِّي)؛ لأنه لا يوجد على الإطلاق أكرم وأشرف على الله تعالى من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن صاحبيه بعد النبيين، وقال القرطبيّ رحمه الله: هذا قولٌ صدقٌ، ومقالٌ حقٌّ؛ إذ لم تُقِلّ الأرض، ولا أظلَّت السَّماء في ذلك الوقت - أي: ولا في وقت من الأوقات على الإطلاق - أفضل من أضيافه؛ فإنَّهم: محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخليفتاه: أنجو بكر، وعمر، ولمّا تحقق الرجل عظيم هذه النعمة قابلها بغاية مقدور الشكر، فقال: الحمد لله. انتهى

(3)

.

(قَالَ) أبو هريرة: (فَانْطَلَقَ) أبو الهيثم (فَجَاءَهُمْ بِعِذْقٍ) بكسر العين، وهي الكِباسة، وهي الغصن من النخل، وإنما أتى بهذا العذق الملَوَّن؛ ليكون أطرف، وليجمعوا بين أكل الأنواع، فقد يطيب لبعضهم هذا، ولبعضهم هذا، قاله النوويّ رحمه الله

(4)

.

وقال الفيّوميّ رحمه الله: العِذْقُ: الكِباسة، وهو جامع الشماريخ، والجمع: أَعْذَاقٌ، مثل حِمْل وأَحْمَال، والعَذْقُ، مثالُ فَلْس: النخلة نفسها، ويُطلق العَذْقُ على أنواع من التمر، ومنه عَذْقُ ابن الْحُبَيق، وعَذْق ابن طاب، وعَذْق ابن زيد، قاله أبو حاتم. انتهى

(5)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: و"العِذق" - بكسر العين -: الكِباسة، وهي:

(1)

"لسان العرب" 1/ 414.

(2)

"الكاشف عن حقائق السنن" 9/ 2868.

(3)

"المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" 5/ 306.

(4)

"شرح النوويّ" 13/ 212.

(5)

"المصباح المنير" 2/ 399.

ص: 253

العرجون، و"العَذْق" - بفتح العين -: النخلة، وإنما قدَّم لهم هذا العرجون؛ لأنَّه الذي تيسَّر له بغير كلفة، لا سيما مع تحققه حاجتهم، ولأن فيه ألوانًا من التمر، والبسر، والرطب، ولأن الابتداء بما يتفكه به من الحلاوة أَولى من حيث إنه أقوى للمعدة؛ لأنَّه أسرع هَضْمًا. انتهى

(1)

.

(فِيهِ بُسْرٌ) بضمّ، فسكون. قال ابن فارس: الْبُسْر من كل شيء: الْغَضّ، ونَباتٌ بُسْرٌ؛ أي: طريّ. انتهى

(2)

، وقال المجد رحمه الله: الْبُسْر: التمرُ قبل إرطابه، واحدته بُسرة، وتُضمّ الميم. انتهى

(3)

.

(وَتَمْر) قال الفيّوميّ رحمه الله: "التمر": من ثمر النخل؛ كالزبيب من العنب، وهو اليابس بإجماع أهل اللغة؛ لأنه يُترك على النخل بعد إرطابه حتى يجفّ، أو يقارب، ثم يُقطع، ويُترك في الشمس حتى يَيْبَس، قال أبو حاتم: وربما جُدّت النخلة، وهي باسرة بعدما أَخَلّت؛ ليُخَفَّف عنها، أو لخوف السرقة، فتُترك حتى تكون تمرًا، الوا حدة: تَمْرَةٌ، والجمع: تُمُورٌ، وتُمْرَانٌ بالضمّ. انتهى

(4)

.

(وَرُطَبٌ) بضمّ، ففتح، بوزن صُرَد: نَضِيج الْبُسْر، واحدته بِهاء، قاله المجد رحمه الله

(5)

.

وقال الفيّوميّ رحمه الله: الرُّطَبُ: ثمر النخل إذا أَدْرك، ونَضَج قبل أن يتتمر، الواحدة رُطَبَةٌ، والجمع أَرْطَابٌ، وأَرْطَبَتِ البسرة إِرْطَابًا: بدا فيها التَّرْطِيبُ، والرُّطَبُ نوعان: أَحَدُهُمَا: لا يتتمّر، وإذا تأخر أَكْله تسارع إليه الفساد، والثَّانِي: يتتمّر، ويصير عجوةً، وثمرًا يابسًا. انتهى

(6)

.

(فَقَالَ) الأنصاريّ للنبيّ صلى الله عليه وسلم، وصاحبيه رضي الله عنهما (كُلُوا مِنْ هَذِهِ) البسر، والتمر، والرطب، (وَأَخَذَ الْمُدْيَةَ) بضمّ الميم، وكسرها، وسكون الدال: هي السكّين، وتقدّم بيانها مرّات.

(1)

"المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" 5/ 306.

(2)

"المصباح المنير" 1/ 48.

(3)

"القاموس المحيط" ص 106.

(4)

"المصباح المنير" 1/ 76 - 77.

(5)

"القاموس المحيط" ص 513.

(6)

"المصباح المنير" 1/ 230.

ص: 254

وقال الفيّوميّ: الْمُدْيةُ: الشَّفْرة، والجمع: مُدًى، ومُدْياتٌ، مثلُ غُرْفة، وغُرَف، وغُرُفات بالسكون، والفتح، وبنو قُشير تقول: مِدْيةٌ بكسر الميم، والجمع مِدًى بالكسر، مثلُ سِدْرة وسِدَر، قاله الفيّوميّ

(1)

.

(فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِيَّاكَ وَالْحَلُوبَ")؛ أي: احذر ذبح الحلوب؛ أي: ذات اللَّبَن، وهو فعولٌ بمعنى مفعول، كرَكُوب، ونظائره، وقال ابن الأثير رحمه الله:"إيّاك والحلوبَ"؛ أي: ذات اللبن، يقال: ناقة حَلُوب؛ أي: هي مما يُحْلَب، وقيل: الحلوب، والحلوبة سواء، وقيل: الحلوب: الاسم، والحلوبة: الصفة، وقيل: الواحدة، والجماعة. انتهى

(2)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: "الحلوب" - بفتح الحاء -: الشاة التي تُحلَب لبنًا كثيرًا، إنَّما نهاه عنها؛ لأنَّ ذَبْحها تضييعٌ لِلَبَنها، مع أن غير ذات اللبن تتنزل منزلتها عند الضيف، ويحصل بها المقصود. انتهى

(3)

.

(فَذَبَحَ لَهُمْ) وفي رواية الترمذيّ: "فذبح لهم عَنَاقًا، أو جَدْيًا"، (فَأَكَلُوا مِنَ الشَّاةِ، وَمِنْ ذَلِكَ الْعِذْقِ، وَشَرِبُوا) من ذلك الماء العذب الذي أتى به أبو الهيثم. (فَلَمَّا أَنْ شَبِعُوا، وَرَوُوا) بضمّ الواو الأولى، وسكون الثانية، أصله رَوِيُوا بوزن عَلِموا، فنُقلت ضمّة الياء إلى الواو بعد سلب كسرتها استثقالًا للخروج من الكسرة إلى الضمّة، ثم حُذفت الياء لالتقائها ساكنة مع واو الجماعة الساكنة، فصار: رَوُوا. (قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ) رضي الله عنهما ("وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتُسْأَلُنَّ عَنْ هَذَا النَّعِيمِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) كما قال الله عز وجل: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8)} [التكاثر: 8]، ثم بيّن وجه عظمة النعم، وذلك أنه (أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمُ الْجُوعُ، ثُمَّ لَمْ تَرْجِعُوا) إلى بيوتكم (حَتَّى أَصَابَكُمْ هَذَا النَّعِيمُ") حيث أكلتم، وشربتم، فزال جوعكم.

وقال الطيبيّ رحمه الله: قوله: "أخرجكم من بيوتكم. . . إلخ" جملة مستأنفة بيان لموجب السؤال عن النعيم؛ يعني: حيث كنتم محتاجين إلى الطعام، مضطرين إليه، فنلتم غاية مطلوبكم من الشِّبَع، والرِّيّ، يجب أن تُسألوا، ويقال

(1)

"المصباح المنير" 1/ 567.

(2)

"النهاية في غريب الأثر" 1/ 422.

(3)

"المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" 5/ 306.

ص: 255

لكم: هل أدّيتم شكرها أم لا؟. انتهى

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: وقول النبيّ صلى الله عليه وسلم: "لتُسألُنَّ عن نعيم هذا اليوم"؛ أي: سؤال عَرْض، لا سؤال مناقشة، وسؤال إظهار التفضل والمنن، لا سؤالًا يقتضي المعاتبة، والْمِحَن، و"النعيم": كل ما يُتنعم به؛ أي: يُستطاب، ويُتلذذ به، وإنما قال النبيّ صلى الله عليه وسلم هذا استخراجًا للشكر على النعم، وتعظيمًا لذلك، والله تعالى أعلم. انتهى

(2)

.

وقال النوويّ رحمه الله: وأما السؤال عن هذا النعيم، فقال القاضي عياض: المراد السؤال عن القيام بحقّ شكره، والذي نعتقده أن السؤال هنا سؤال تعداد النعم، وإعلام بالامتنان بها، وإظهار الكرامة بإسباغها، لا سؤال توبيخ، وتقريع، ومحاسبة، والله أعلم. انتهى

(3)

.

[تنبيه]: أخرج الترمذيّ رحمه الله هذا الحديث مطوّلًا، فقال:

(2369)

- حدّثنا محمد بن إسماعيل، حدّثنا آدم بن أبي إياس، حدّثنا شيبان أبو معاوية، حدّثنا عبد الملك بن عُمير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، قال: خرج النبيّ صلى الله عليه وسلم في ساعة لا يَخرُج فيها، ولا يلقاه فيها أحدٌ، فأتاه أبو بكر، فقال:"ما جاء بك يا أبا بكر؟ " فقال: خرجت ألقى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنظر في وجهه، والتسليم عليه، فلم يلبث أن جاء عمر، فقال:"ما جاء بك يا عمر؟ " قال: الجوع يا رسول الله، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وأنا قد وجدت بعض ذلك"، فانطلقوا إلى منزل أبي الهيثم بن التَّيِّهان الأنصاريّ، وكان رجلًا كثير النخل والشاء، ولم يكن له خَدَمٌ، فلم يجدوه، فقالوا لامرأته: أين صاحبك؟ فقالت: انطلقَ يستعذب لنا الماء، فلم يلبثوا أن جاء أبو الهيثم بقربة يزعبها

(4)

، فوضعها، ثم جاء يلتزم النبيّ صلى الله عليه وسلم، ويُفَدِّيه بأبيه وأمه، ثم انطلق بهم

(1)

"الكاشف عن حقائق السنن" 9/ 2868.

(2)

"المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" 5/ 306.

(3)

"شرح النوويّ" 13/ 211 - 214.

(4)

قال في "النهاية في غريب الأثر" 2/ 302: يَزْعبها؛ أي: يتدافع بها، ويحملها؛ لثقلها، وقيل: زعب بحمله إذا استقام. انتهى.

ص: 256

إلى حديقته، فبسط لهم بساطًا، ثم انطلق إلى نخلة، فجاء بقِنْوٍ، فوضعه، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"أفلا تنقيت لنا من رُطَبه؟ " فقال: يا رسول الله إني أردت أن تختاروا، أو قال: تخيَّروا من رُطَبه، وبُسره، فأكلوا، وشربوا من ذلك الماء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"هذا والذي نفسي بيده من النعيم الذي تُسألون عنه يوم القيامة، ظلّ باردٌ، ورُطَب طيبٌ، وماء باردٌ"، فانطلق أبو الهيثم ليصنع لهم طعامًا، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"لا تذبحنّ ذات دَرّ"، قال: فذبح لهم عَناقًا، أو جَدْيًا، فأتاهم بها، فأكلوا، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"هل لك خادم؟ " قال: لا، قال:"فإذا أتانا سبي فائتنا"؛ فَأُتِيَ النبيّ صلى الله عليه وسلم برأسين ليس معهما ثالث، فأتاه أبو الهيثم، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"اختر منهما"، فقال: يا نبيّ الله اختر لي، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"إن المستشار مؤتمنٌ، خذ هذا، فإني رأيته يصلي، واستوص به معروفًا"، فانطلق أبو الهيثم إلى امرأته، فأخبرها بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت امرأته: ما أنت ببالغ ما قال فيه النبيّ صلى الله عليه وسلم إلا أن تُعتقه، قال: فهو عتيق، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"إن الله لم يبعث نبيًّا، ولا خليفةً، إلا وله بطانتان: بطانة تأمره بالمعروف، وتنهاه عن المنكر، وبطانة لا تألوه خبالًا، ومن يوق بطانة السوء، فقد وُقِي"، قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح غريب.

قال الجامع عفا الله عنه: هو كما قال؛ فإن رجاله رجال الصحيح، والله تعالى أعلم.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [8/ 5302 و 5303](2038)، و (الترمذيّ) في "الزهد"(2369) و"الشمائل"(113)، و (مالك) في "الموطّأ"(2/ 932)، و (ابن ماجه)(3180) مختصرًا، و (أبو عوانة) في "مسنده"(5/ 176)، و (الطبريّ) في "تهذيب الآثار"(2/ 705)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(19/ 257)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(11/ 41)، و (البيهقيّ) في "شعب الإيمان"(4/ 144)، والله تعالى أعلم.

ص: 257

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان جواز استتباع الإنسان غيره إلى دار من يثق برضاه بذلك، ويتحققه تحققًا تامًّا.

2 -

(ومنها): بيان ما كان القوم عليه في أول الإسلام، من ضيق الحال، وشَظَف العيش، وما زال الأنبياء والصالحون يجوعون مرّةً، ويشبعون أخرى، وتُزوَى عنهم الدنيا، قاله ابن عبد البرّ رحمه الله

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: هذا يدلّ على شدَّة حالهم في أوَّل أمرهم، وسبب ذلك أن أهل المدينة كانوا في شَظَف من العيش عندما قَدِم عليهم النبيّ مع المهاجرين، وكان المهاجرون فرُّوا بأنفسهم، وتركوا أموالهم، وديارهم، فقَدِموا فقراء على أهل شدَّة، وحاجة، مع أن الأنصار رضي الله عنهم واسوهم فيما كان عندهم، وأشركوهم فيما كان لهم، ومنحوهم، وهادَوْهم، غير أن ذلك ما كان يسدُّ خلَّاتهم، ولا يرفع فاقاتهم، مع إيثارهم الضراء على السراء، والفقر على الغنى. ولم يزل ذلك دأبهم إلى أن فتح الله عليهم وادي القرى، وخيبر، وغير ذلك؛ فردُّوا لهم منائحهم، واستغنوا بما فتح الله عليهم، ومع ذلك فلم يزل عيشهم شديدًا، وجهدهم جهيدًا حتَّى لقوا الله تعالى مؤثرين ما عندهم، صابرين على شدَّة عيشهم، معرضين عن الدنيا وزهرتها ولذاتها، مقبلين على الآخرة، ونعيمها، وكراماتها، فحماهم الله ما رغبوا عنه، وأوصلهم إلى ما رغبوا فيه، حشرنا الله في زمرتهم، واستعملنا بسنَّتهم. انتهى

(2)

.

وقال النوويّ رحمه الله: هذا الحديث فيه بيان ما كان عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم، وكبار أصحابه رضي الله عنهم من التقلل من الدنيا، وما ابتُلُوا به من الجوع، وضيق العيش في أوقات، وقد زعم بعض الناس أن هذا كان قبل فتح الفتوح والقرى عليهم، وهذا زعم باطل، فإن راوي الحديث أبو هريرة رضي الله عنه، ومعلوم أنه أسلم بعد فتح خيبر.

[فإن قيل]: لا يلزم من كونه رواه أن يكون أدرك القضية، فلعله سمعها من النبيّ صلى الله عليه وسلم، أو غيره.

(1)

"التمهيد" لابن عبد البرّ 24/ 339.

(2)

"المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" 5/ 305.

ص: 258

[فالجواب]: أن هذا خلاف الظاهر، ولا ضرورة إليه، بل الصواب خلافه، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يزل يتقلّب في اليسار والقلّة حتى توفي صلى الله عليه وسلم، فتارةً يوسر، وتارة يَنْفَد ما عنده، كما ثبت في "الصحيح" عن أبي هريرة رضي الله عنه: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من الدنيا، ولم يشبع من خبز الشعير، وعن عائشة رضي الله عنها: ما شبع آل محمد صلى الله عليه وسلم منذ قدم المدينة من طعام ثلاث ليال تباعًا حتى قُبض، وتُوفّي صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة على شعير استدانه لأهله، وغير ذلك، مما هو معروف، فكان النبيّ صلى الله عليه وسلم في وقت يوسِر، ثم بعد قليل يَنْفَد ما عنده؛ لإخراجه في طاعة الله تعالى من وجوه البرّ، وإيثار المحتاجين، وضيافة الطارقين، وتجهيز السرايا، وغير ذلك، وهكذا كان خُلُق صاحبيه رضي الله عنهما، بل أكثر أصحابه، وكان أهل اليسار من المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم مع بِرّهم له صلى الله عليه وسلم، وإكرامهم إياه، وإتحافه بالطُّرَف، وغيرها ربما لم يعرفوا حاجته في بعض الأحيان؛ لكونهم لا يعرفون فراغ ما كان عنده من القوت، بإيثاره به، ومَن عَلِم ذلك منهم ربما كان ضيق الحال في ذلك الوقت، كما جرى لصاحبيه، ولا يُعلم أحد من الصحابة رضي الله عنهم عَلِم حاجة النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو متمكن من إزالتها إلا بادر إلى إزالتها، لكن كان صلى الله عليه وسلم يكتمها عنهم؛ إيثارًا لتحمل المشاقّ، وحملًا عنهم، وقد بادر أبو طلحة حين قال:"سمعت صوت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضعيفًا، أعرف فيه الجوع" إلى إزالة تلك الحاجة، وكذا حديث جابر رضي الله عنه، وسنذكرهما بعد هذا - إن شاء الله تعالى - وكذا حديث أبي شعيب الأنصاريّ الذي سبق في الباب قبله أنه عَرَف في وجهه صلى الله عليه وسلم الجوع فبادر بصنيع الطعام، وأشباه هذا كثيرة، في "الصحيح" مشهورة، وكذلك كانوا يُؤْثِر بعضهم بعضًا، ولا يَعلم أحد منهم ضرورة صاحبه إلا سعى في إزالتها، وقد وصفهم الله سبحانه وتعالى بذلك، فقال تعالى:{وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9]، وقال تعالى:{رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29]. انتهى كلام النوويّ رحمه الله، وهو بحث نفيسٌ جدًّا، والله تعالى أعلم

(1)

.

3 -

(ومنها): جواز ذكر الإنسان ما يناله من ألم ونحوه، لا على سبيل

(1)

"شرح النوويّ" 13/ 211 - 212.

ص: 259

التشكّي، وعدم الرضا، بل للتسلية، والتصبر؛ كفعله صلى الله عليه وسلم هنا، ولالتماس دعاء، أو مساعدة على التسبب في إزالة ذلك العارض، فهذا كله ليس بمذموم، إنما يُذَمّ ما كان تشكيًا وتسخطًا وتجزعًا.

4 -

(ومنها): طلب الرزق، والنزول على الصَّدِيق الذي يوثَق به، وأكْل ماله، واستتباع جماعة إلى بيته.

5 -

(ومنها): أن فيه منقبةً لأبي الهيثم رضي الله عنه؛ إذ جعله النبيّ صلى الله عليه وسلم أهلًا لضيافته، وصاحبيه، وكفى به شرفًا ذلك.

6 -

(ومنها): بيان استحباب الاجتماع على الطعام.

7 -

(ومنها): مشروعيّة الضيافة، وبرّ الضيف بكل ما يمكن، ولا سيّما إذا كان مستحقًّا لذلك؛ كالنبيّ صلى الله عليه وسلم، وصاحبيه رضي الله عنهما.

8 -

(ومنها): استحباب إكرام الضيف بقول: "مرحبًا، وأهلًا"، وشِبْهِه، وإظهار السرور بقدومه، وجَعْله أهلًا لذلك، كل هذا وشِبْهِه إكرام للضيف، وقد قال صلى الله عليه وسلم:"من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليُكْرِم ضيفه"، متّفقٌ عليه.

9 -

(ومنها): جواز سماع كلام الأجنبية، ومراجعتها الكلام للحاجة.

10 -

(ومنها): جواز إذن المرأة في دخول منزل زوجها لمن علمت علمًا محقّقًا أنه لا يكرهه، بحيث لا يخلو بها الخلوة المحرمة.

11 -

(ومنها): استحباب حمد الله تعالى عند حصول نعمة ظاهرة، وكذا يستحب عند اندفاع نقمة كانت متوقعةً، وفي غير ذلك من الأحوال.

12 -

(ومنها): استحباب إظهار البِشر والفرح بالضيف في وجهه، وحَمْد الله تعالى، وهو يَسْمَع على حصول هذه النعمة، والثناء على ضيفه إن لم يَخَفْ عليه فتنةً، فإن خاف لم يُثْنِ عليه في وجهه، وهذا طريق الجمع بين الأحاديث الواردة بجواز ذلك ومنعه، قاله النوويّ رحمه الله

(1)

.

13 -

(ومنها): أن فيه دليلًا على كمال فضيلة هذا الأنصاريّ رضي الله عنه، وبلاغته، وعظيم معرفته؛ لأنه أتى بكلام مختصر بديع في الحُسْن في هذا الموطن رضي الله عنه، حيث قال:"الحمد لله ما أحدٌ اليومَ أكرم أضيافًا منّي".

(1)

"شرح النوويّ" 13/ 213.

ص: 260

وقال عبد الله بن رواحة رضي الله عنه في هذه القصّة يمدح بها أبا الهيثم ابن التّيِّهان رضي الله عنه[من الطويل]:

فَلَمْ أَرَ كَالإِسْلَامٍ عِزًّا لأُمَّةٍ

وَلَا مِثْلَ أَضْيَافِ الإِرَاشِيِّ مَعْشَرَا

نَبِيٌّ وِصِدِّيقٌ وَفارُوقُ أُمَّةٍ

وَخَيْرُ بَنِي حَوَّاءَ فَرْعًا وَعُنْصُرَا

فَوَافَوْا لِمِيقَاتٍ وَقَدْرِ قَضِيَّةٍ

وَكَانَ قَضَاءُ الله قَدْرًا مُقَدَّرَا

إِلَى رَجُلٍ نَجْدٍ يُبَارِي بجُودِهِ

شُمُوسَ الضُّحَى جُودًا وَمَجْدًا وَمْفَخَرا

وَفَارِسِ خَلْقِ اللهِ فِي كُلِّ غَارَةٍ

إِذَا لَبِسَ الْقَوْمُ الْحَدِيدَ الْمُسَمَّرا

فَفَدَّى وَحَيَّا ثُمَّ أَدْنَى قِرَاهُمُ

فَلَمْ يَقْرِهِمْ إِلَّا سَمِينًا مُتَمَّرَا

(1)

14 -

(ومنها): استحباب تقديم الفاكهة على الخبز واللحم وغيرهما.

15 -

(ومنها): استحباب المبادرة إلى الضيف بما تيسَّر، وإكرامه بعده بطعام يصنعه له، لا سيما إن غلب على ظنه حاجته في الحال إلى الطعام، وقد يكون شديد الحاجة إلى التعجيل، وقد يشق عليه انتظار ما يُصنع له لاستعجاله للانصراف، قال النوويّ: وقد كَرِه جماعة من السلف التكلف للضيف، وهو محمول على ما يشقّ على صاحب البيت مشقةً ظاهرةً؛ لأن ذلك يمنعه من الإخلاص، وكمال السرور بالضيف، وربما ظهر عليه شيء من ذلك، فيتأذى به الضيف، وقد يُحضر شيئًا يعرف الضيف من حاله أنه يشقّ عليه، وأنه يتكلفه له، فيتأذى الضيف؛ لشفقته عليه، وكل هذا مخالف لقوله صلى الله عليه وسلم:"من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه"؛ لأن أكمل إكرامه إراحة خاطره، وإظهار السرور به، وأما فعل الأنصاريّ رضي الله عنه، وذَبْحه الشاة فليس مما يشقّ عليه، بل لو ذبح أغنامًا، بل جمالًا، وأنفق أموالًا في ضيافة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه رضي الله عنهما كان مسرورًا بذلك، مغبوطًا فيه، والله أعلم. انتهى

(2)

.

16 -

(ومنها): جواز الشِّبَع، وأما ما جاء في كراهة الشِّبَع فمحمول على المداومة عليه؛ لأنه يُقسي القلب، ويُنسي أمر المحتاجين.

وقال القرطبيّ رحمه الله: في الحديث دليل على جواز الشبع من الحلال، وما جاء مما يدلُّ على كراهة الشبع عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعن السلف: إنما ذلك في

(1)

"التمهيد" لابن عبد البرّ 24/ 341.

(2)

"شرح النوويّ" 13/ 213.

ص: 261

الشبع المثقل للمعدة، المبطئ بصاحبه عن الصلوات، والأذكار، المضرِّ للإنسان بالتُّخَم، وغيرها؛ الذي يفضي بصاحبه إلى البطر، والأشر، والنوم، والكسل، فهذا هو المكروه، وقد يُلْحَق بالْمُحرَّم إذا كثرت آفاته، وعمَّت بليَّاته، والقسطاس المستقيم ما قاله النبيّ صلى الله عليه وسلم:"ما ملأ آدمي وعاءً شرًّا من بطن، بحسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه؛ فإنَّ كان ولا بدَّ، فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنَفَسِه". انتهى

(1)

.

17 -

(ومنها): كراهية ذبح ما يَجري نفعه مياومةً، ومداومةً كراهية إرشاد، لا كراهية تحريم، قاله ابن عبد البرّ رحمه الله

(2)

.

18 -

(ومنها): مشروعيّة استعذاب الماء، وتخيّره، وتبريده بالريح وغير ذلك مما في معناه.

19 -

(ومنها): بيان أن الناس سيُسألون يوم القيامة عن نعيم الدنيا كلّها، جليلها ودقيقها؛ لظاهر الآية، وظاهر حديث الباب.

وقال ابن عبد البرّ رحمه الله: وفيه دليل على أن ما سدّ الجوع، وسَتَر العورة من خَشِن الطعام واللباس، لا يُسأل عنه المرء في القيامة، والله أعلم، وإنما يُسأل عن النعيم، هذا قاله ابن عيينة، واحتج بقول الله عز وجل لآدم عليه السلام:{وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (119)} [طه: 119]، وبقوله:{ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8)} [التكاثر: 8]، قال: وهذه المسألة فيها نظر، واختلاف، وليس هذا موضع ذِكر ذلك، وبالله التوفيق. انتهى

(3)

.

قال الجامع عفا الله عنه: ما قاله ابن عبد البرّ، ونقله عن ابن عيينة لا يخفى ما فيه؛ لمخالفته ظاهر الآية، وسيأتي تحقيق ذلك في المسألة التالية - إن شاء الله تعالى -.

20 -

(ومنها): جواز الجمع بين طعامين، فأكثر على مائدة واحدة، والله تعالى أعلم.

(1)

"المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" 5/ 305.

(2)

"التمهيد" لابن عبد البرّ 24/ 339.

(3)

"التمهيد" لابن عبد البرّ 24/ 340.

ص: 262

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في قوله تعالى: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8)} :

قال أبو عبد الله القرطبيّ رحمه الله في "تفسيره": واختلف أهل التأويل في النعيم المسئول عنه على عشرة أقوال:

[أحدها]: الأمن، والصحة، قاله ابن مسعود رضي الله عنه.

[الثاني]: الصحة، والفراغ، قاله سعيد بن جبير، وفي "صحيح البخاريّ" عنه صلى الله عليه وسلم:"نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة، والفراغ".

[الثالث]: الإدراك بحواس السمع، والبصر، قاله ابن عباس رضي الله عنهما، وفي التنزيل:{إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: 36]، وأخرج الترمذيّ عن أبي هريرة، وأبي سعيد رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يؤتى بالعبد يوم القيامة، فيقول له: ألم أجعل لك سمعًا، وبصرًا، ومالًا، وولدًا. . ."، الحديث، قال الترمذيّ: حديث حسن صحيح.

[الرابع]: ملاذّ المأكول والمشروب، قاله جابر بن عبد الله الأنصاريّ رضي الله عنهما، وحديث أبي هريرة يدل عليه.

[الخامس]: أنه الغداء، والعشاء، قاله الحسن.

[السادس]: قول مكحول الشاميّ: إنه شِبَع البطون، وبارد الشراب، وظلال المساكن، واعتدال الخلق، ولذة النوم، ورواه زيد بن أسلم عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} [التكاثر: 8]؛ يعني: عن شبع البطون. . .، فذكره، ذكره الماورديّ، وقال: وهذا السؤال يعم الكافر والمؤمن، إلا أن سؤال المؤمن تبشير بأن يجمع له بين نعيم الدنيا ونعيم الآخرة، وسؤال الكافر تقريع أن قابَلَ نعيم الدنيا بالكفر والمعصية.

وقال قوم: هذا السؤال عن كل نعمة، إنما يكون في حق الكفار، فقد روي أن أبا بكر لمّا نزلت هذه الآية قال: يا رسول الله، أرأيت أكلة أكلتها معك في بيت أبي الهيثم بن التيّهان، من خبز شعير، ولحم، وبسر قد ذَنّب، وماء عذب، أتخاف علينا أن يكون هذا من النعيم الذي نسأل عنه؟ فقال صلى الله عليه وسلم:"ذلك للكفار، ثم قرأ: {وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (17)} [سبأ: 17] "، ذكره القشيريّ أبو نصر.

ص: 263

قال الجامع عفا الله عنه: هذه الحكاية عن أبي بكر لا تصحّ؛ لأن الثابت في "صحيح مسلم" عكسها، وهو أنه صلى الله عليه وسلم قال لهما في نفس القصّة:"لتسألنّ عن هذا النعيم يوم القيامة"، فتأمله بالإمعان، والله تعالى أعلم.

قال: وقال الحسن: لا يُسأل عن النعيم إلا أهل النار.

وقال القشيريّ: والجمع بين الأخبار: أن الكل يُسألون، ولكن سؤال الكافر توبيخ؛ لأنه قد ترك الشكر، وسؤال المؤمن سؤال تشريف؛ لأنه شكر، وهذا النعيم في كل نعمة.

قال القرطبيّ: هذا القول حسن؛ لأن اللفظ يعمّ، وقد ذكر الفريابيّ قال: حدّثنا ورقاء عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله تعالى:{ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8)} قال: كل شيء من لذّة الدنيا.

وروى أبو الأحوص عن عبد الله رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال:"إن الله تعالى ليعدِّد نِعَمَه على العبد يوم القيامة، حتى يعدّ عليه: سألتَني فلانة أن أزوجكها - فيسميها باسمها - فزوجتكها".

وفي الترمذيّ عن أبي هريرة قال: لمّا نزلت هذه الآية: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8)} قال الناس: يا رسول الله، عن أبيّ النعيم نُسأل؟ فإنما هما الأسودان، والعدو حاضر، وسيوفنا على عواتقنا؟ قال:"إن ذلك سيكون"

(1)

.

وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أول ما يُسأل عنه يوم القيامة - يعني: العبد - أن يقال له: ألم نُصَحّ لك جسمك، ونُرويك من الماء البارد؟ "

(2)

.

وفي حديث ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا كان يوم القيامة دعا الله بعبد من عباده، فيوقفه بين يديه، فيسأله عن جاهه كما يسأله عن ماله"

(3)

، والجاه من نعيم الدنيا لا محالة.

وقال مالك رحمه الله: إنه صحة البدن، وطِيْب النفس، وهو القول السابع.

(1)

حديث حسن.

(2)

حديث صحيح.

(3)

حديث ضعيف، قال الهيثميّ: في سنده يوسف بن يونس الأفطس، وهو ضعيف جدًّا.

ص: 264

وقيل: النوم مع الأمن والعافية.

وقال سفيان بن عيينة: إن ما سدَّ الجوع وسَتَر العورة من خشن الطعام واللباس، لا يُسأل عنه المرء يوم القيامة، وإنما يُسأل عن النعيم.

قال: والدليل عليه أن الله تعالى أسكن آدم الجنة، فقال له:{إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (119)} [طه: 118، 119].

فكانت هذه الأشياء الأربعة - ما يسد به الجوع، وما يدفع به العطش، وما يستكن فيه من الحرّ، ويستر به عورته - لآدم عليه السلام بالإطلاق، لا حساب عليه فيها؛ لأنه لا بدّ له منها.

قال: ونحو هذا ذكره القشيريّ أبو نصر، قال: إن مما لا يسأل عنه العبد: لباسًا يواري سوأته، وطعامًا يقيم صُلبه، ومكانًا يكنّه من الحرّ والبرد.

قال القرطبيّ: وهذا منتزَع من قوله صلى الله عليه وسلم: "ليس لابن آدم حقّ في سوى هذه الخصال: بيت يسكنه، وثوب يواري عورته، وجِلْف الخبز والماء"

(1)

، خرجه الترمذيّ.

وقال النضر بن شميل: جِلْف الخبز: ليس معه إدام.

وقال محمد بن كعب: النعيم: هو ما أنعم الله علينا بمحمد صلى الله عليه وسلم، وفي التنزيل:{لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [آل عمران: 164].

وقال الحسن أيضًا والمفضل: هو تخفيف الشرائع، وتيسير القرآن، قال الله تعالى:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]، وقال تعالى:{وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17)} [القمر: 17].

قال القرطبيّ: وكل هذه نِعَم، فيُسأل العبد عنها: هل شَكَر ذلك أم كَفَر؟ والأقوال المتقدمة أظهر، والله أعلم. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: عندي أن أرجح الأقوال هو القول بعموم المسألة عن النِّعم كلّها، جليلها وحقيرها؛ لظاهر الآية، وظاهر حديث الباب،

(1)

قال الترمذيّ: هذا حديث حسن صحيح، وضعّفه الشيخ الألبانيّ، والظاهر أن ما قاله الترمذيّ صحيح.

(2)

"تفسير القرطبيّ" 20/ 176 - 178.

ص: 265

ولا ينافيه حديث الترمذيّ المذكور: "ليس لابن آدم حقّ في سوى هذه الخصال. . ." الحديث؛ لأنه لا ينافي السؤال، وإنما غايته أنّ هذه الأشياء مباحة له، لا يعذَّب عليها، وهذا لا ينافي السؤال، على أن الحديث ضعّفه بعضهم، فتبصّر، والله تعالى أعلم بالصواب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5303]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، أَخْبَرَنَا أَبُو هِشَامٍ - يَعْنِي: الْمُغِيرَةَ بْنَ سَلَمَةَ - حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زِيَادٍ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ، حَدَّثَنَا أبُو حَازِمٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: بَيْنَا أَبُو بَكْرٍ قَاعِدٌ، وَعُمَرُ مَعَهُ، إِذْ أَتَاهُمَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: "مَا أَقْعَدَكُمَا هَا هُنَا؟ "، قَالَا: أَخْرَجَنَا الْجُوعُ مِنْ بُيُوتِنَا، وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ خَلَفِ بْنِ خَلِيفَةَ).

[تنبيه]: وقع في النسخة التي شَرَح عليها النوويّ هذا السند هكذا: "وحدثني إسحاق بن منصور، أنبأنا أبو هشام - يعني: المغيرة بن سلمة - أنبأنا يزيد، أنبأنا أبو حازم، قال: "سمعت أبا هريرة يقول. . . إلخ" بإسقاط عبد الواحد، فقال النوويّ: هكذا وقع هذا الإسناد في النسخ ببلادنا، وحَكَى القاضي عياض أنه وقع هكذا في رواية ابن ماهان، وفي رواية الرازيّ من طريق الجلوديّ، وأنه وقع من رواية السجزيّ، عن الجلوديّ بزيادة رجل بين المغيرة بن سلمة ويزيد بن كيسان، هو عبد الواحد بن زياد، قال أبو عليّ الجيانيّ

(1)

: ولا بد من إثبات عبد الواحد، ولا يتصل الحديث إلا به، قال: وكذلك خرّجه أبو مسعود الدمشقيّ في "الأطراف" عن مسلم، عن إسحاق، عن مُغيرة، عن عبد الواحد، عن يزيد بن كيسان، عن أبي حازم، عن أبي هريرة، قال الجيانيّ: وما وقع في رواية ابن ماهان، وغيره، من إسقاطه خطأ بَيِّنٌ.

قال النوويّ: ونقله خلف الواسطيّ في "الأطراف" بإسقاط عبد الواحد، والظاهر الذي يقتضيه حال مغيرة ويزيد أنه لا بدّ من إثبات عبد الواحد، كما قاله الجيانيّ، والله أعلم. انتهى

(2)

.

(1)

راجع: "تقييد المهمل" 3/ 898 - 899.

(2)

"شرح النوويّ" 13/ 214 - 215.

ص: 266

رجال هذا الإسناد: ستّة:

1 -

(إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورِ) بن بَهْرام الْكَوْسج، أبو يعقوب التميميّ المروزيّ، ثقةٌ ثبتٌ [11](ت 251)(خ م ت س ق) تقدم في "الإيمان" 12/ 156.

2 -

(أَبُو هِشَامٍ الْمُغِيرَةُ بْنُ سَلَمَةَ) المخزوميّ البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ، من صغار [9](ت 200)(خت م د س ق) تقدم في "الطهارة" 11/ 584.

3 -

(عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زِيادٍ) العَبْديّ مولاهم البصريّ، ثقةٌ [8](ت 176)(ع) تقدم في "الطهارة" 11/ 584.

والباقون ذُكروا قبله، و"يزيد" هو: ابن كيسان.

وقوله: (ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ خَلَفِ بْنِ خَلِيفَةَ) فاعل "ذَكَرَ" ضمير عبد الواحد بن زياد.

[تنبيه]: رواية عبد الوحد بن زياد، عن يزيد بن كيسان هذه لم أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5304]

(2039) - (حدَّثَنِي حَجَّاجُ بْنُ الشَّاعِرِ، حَدَّثَنِي الضَّحَّاكُ بْنُ مَخْلَدٍ، مِنْ رُقْعَةٍ عَارَضَ لِي بِهَا، ثُمَّ قَرَأَهُ عَلَيَّ، قَالَ: أَخْبَرَنَاهُ حَنْظَلَةُ بْنُ أبِي سُفْيَانَ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مِينَاءَ، قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ يَقُولُ: لَمَّا حُفِرَ الْخَنْدَقُ رَأَيْتُ بِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَمَصًا، فَانْكَفَأْتُ إِلَى امْرَأَتِي، فَقُلْتُ لَهَا: هَلْ عِنْدَكِ شَيْءٌ؟ فَإِنِّي رَأَيْتُ بِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَمَصًا شَدِيدًا، فَأَخْرَجَتْ لِي جِرَابًا فِيهِ صاعٌ مِنْ شَعِيرٍ، وَلَنَا

(1)

بُهَيْمَةٌ دَاجِنٌ، قَالَ: فَذَبَحْتُهَا، وَطَحَنَتْ، فَفَرَغَتْ إِلَى فَرَاغِي، فَقَطَّعْتُهَا فِي بُرْمَتِهَا، ثُمَّ وَلَّيْتُ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ: لَا تَفْضَحْنِي بِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَمَنْ مَعَهُ، قَالَ: فَجِئْتُهُ، فَسَارَرْتُهُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّا قَدْ ذَبَحْنَا بُهَيْمَةً لَنَا، وَطَحَنَتْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، كَانَ عِنْدَنَا، فَتَعَالَ أَنْتَ فِي نَفَرٍ مَعَكَ

(2)

، فَصَاحَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَقَالَ:"يَا أَهْلَ الْخَنْدَقِ إِنَّ جَابِرًا قَدْ صَنَعَ لَكُمْ سُورًا، فَحَيَّهَلَا بِكُمْ"، وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا تُنْزِلُنَّ بُرْمَتَكُمْ، وَلَا تَخْبِزُنَّ

(1)

وفي نسخة: "ولها".

(2)

وفي نسخة: "ونفرٌ معك".

ص: 267

عَجِينَتَكُمْ

(1)

، حَتَّى أَجِيءَ"، فَجئْتُ، وَجَاءَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقْدُمُ النَّاسَ، حَتَّى جِئْتُ امْرَأَتِي، فَقَالَتْ: بِكَ، وَبِكَ، فَقُلْتُ: قَدْ فَعَلْتُ الَّذِي قُلْتِ لِي، فَأَخْرَجْتُ لَهُ عَجِينَتَنَا

(2)

، فَبَصَقَ فِيهَا، وَبَارَكَ، ثُمَّ عَمَدَ إِلَى بُرْمَتِنَا، فَبَصَقَ فِيهَا، وَبَارَكَ، ثُمَّ قَالَ:"ادْعِي خَابزَةً، فَلْتَخْبِزْ مَعَكِ، وَاقْدَحِي مِنْ بُرْمَتِكُمْ، وَلَا تُنْزِلُوهَا"، وَهُمْ أَلْفٌ، فَأُقْسِمُ بِاللَّهِ لأَكَلُوا حَتَّى تَرَكُوهُ، وَانْحَرَفُوا، وَإِنَّ بُرْمَتَنَا لَتَغِطُّ كمَا هِيَ، وَإِنَّ عَجِينَتَنَا

(3)

- أَوْ كَمَا قَالَ الضَّحَّاكُ - لَتُخْبَزُ كَمَا هُوَ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(حَجَّاجُ بْنُ الشَّاعِرِ) هو: حجاج بن أبي يعقوب يوسف بن حجاج الثقفيّ البغداديّ، ثقةٌ حافظٌ [11](ت 259)(م د) تقدم في "المقدمة" 6/ 40.

2 -

(الضَّحَّاكُ بْنُ مَخْلَدٍ) أبو عاصم النبيل، تقدّم قبل باب.

3 -

(حَنْظَلَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ) الأسود بن عبد الرحمن بن صفوان بن أُميّة الْجُمَحيّ المكيّ، ثقةٌ حجةٌ [6](ت 151)(ع) تقدم في "الإيمان" 5/ 123.

4 -

(سَعِيدُ بْنُ مِينَاءَ) - بكسر الميم، والمدّ - مولى البختريّ بن أبي ذُباب الحجازيّ المكيّ، أو المدنيّ، يكنى أبا الوليد، ثقةٌ [3](خ م د ت ق) تقدم في "الجنائز" 21/ 2207.

5 -

(جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) رضي الله عنهما تقدّم في الباب الماضي.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالتحديث، والإخبار، والسماع، وفيه جابر بن عبد الله رضي الله عنهما الصحابيّ ابن الصحابيّ، أحد المكثرين السبعة، ومن المعمَّرين، مات وقد جاوز التسعين.

شرح الحديث:

قال حَجَّاجُ بْنُ الشَّاعِرِ: (حَدَّثَنِي الضَّحَّاكُ بْنُ مَخْلَدٍ) أبو عاصم النبيل (مِنْ رُقْعَةٍ) بضم، فسكون: ما يُكتب فيه، (عَارَضَ لِي بِهَا)؛ أي: قابل نسختي بِرُقْعته، يقال: عارضتُ الشيءَ بالشيء: قابلته به

(4)

. (ثُمَّ قَرَأَهُ)؛ أي: قرأ

(1)

وفي نسخة: "عجينكم".

(2)

وفي نسخة: "عجيننا".

(3)

وفي نسخة: "وإن عجيننا".

(4)

"المصباح المنير" 2/ 404.

ص: 268

الضحّاك الحديث الذي عارض لي بتلك الرقعة (عَلَيَّ، قَالَ) الضحّاك (أَخْبَرَنَاهُ)؛ أي: هذا الحديث (حَنْظَلَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ) تقدّم أن اسمه الأسود، قال:(حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مِينَاءَ) بكسر الميم، والمدّ، (قَالَ) سعيد (سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ) الأنصاريّ رضي الله عنهما (يَقُولُ: لَمَا حُفِرَ الْخَنْدَقُ) ببناء الفعل للمفعول؛ أي: لَمّا حفر الصحابة رضي الله عنهم الخندق بأمره صلى الله عليه وسلم، و"الخَنْدق" كجعفر: حَفِيرٌ حول أسوار المُدُن، قال ابن دُريد: فارسيّ معرّب كَنْدَه، قاله في "التاج"

(1)

.

والمراد بالخندق: غزوة الخندق، وتُسمّى أيضًا غزوة الأحزاب، وكانت سنة أربع من الهجرة، على ما قال موسى بن عقبة، وقال ابن إسحاق: كانت في شوّال سنة خمس، وقد تقدّم البحث في هذا مستوفًى في محلّه، ولله الحمد والمنّة.

(رَأَيْتُ بِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَمَصًا) بخاء معجمة، وميم مفتوحتين، وصاد مهملة، وقد تُسكّن الميم، وهو خُمُوص البطن، قال المجد رحمه الله: والمخمصة: المجاعة، وقد خَمَصه الجوع خَمْصًا، ومَخْمَصَةً، وخَمُص البطن مثلَّثة الميم: خلا. انتهى

(2)

، وفي رواية البخاريّ:"رأيت بالنبيّ صلى الله عليه وسلم خمصًا شديدًا".

(فَانْكَفَأْتُ) بفاء مفتوحة، وهمزة ساكنة؛ أي: انقلبت، ورجعت (إِلَى امْرَأَتِي) هي سهلة بنت مسعود الأنصاريّة رضي الله عنها، (فَقُلْتُ لَهَا: هَلْ عِنْدَكِ شَيْءٌ؟)؛ أي: مما يؤكل، (فَإِنِّي) الفاء للتعليل؛ أي: إنما سألتك عنه؛ لأني (رَأَيْتُ بِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَمَصًا شَدِيدًا، فَأَخْرَجَتْ لِي جِرَابًا) - بكسر الجيم، وفتحها، والكسر أشهر -: وِعاءٌ من جلد (فِيهِ صَاعٌ مِنْ شَعِيرٍ، وَلَنَا) وفي بعض النسخ: "ولها"، (بُهَيْمَةٌ) - بضم الباء الموحّدة - تصغير بَهْمة، وهي الصغيرة من أولاد الضأن، قال الجوهريّ: وتُطلق على الذكر والأنثى؛ كالشاة، والسَّخْلةُ الصغيرة من أولاد المعز

(3)

، وقوله:(دَاجِنٌ) صفة لـ "بُهيمة"، وقد سبق قريبًا أن الداجن ما أَلِف البيوت، وقال في "العمدة": الداجن - بكسر الجيم: هو من أولاد الغنم يُرَبَّى في البيوت، ولا يخرج إلى المرعَى، واشتقاقه من الدَّجْن، وهو

(1)

" تاج العروس" 1/ 6295.

(2)

"القاموس المحيط" ص 395.

(3)

"شرح النوويّ" 13/ 216.

ص: 269

الإقامة بالمكان، ولم تدخل التاء فيه؛ لأنه صار اسْمًا للشاة. انتهى

(1)

.

(قَالَ) جابر (فَذَبَحْتُهَا)؛ أي: ذبحت تلك البهيمة، (وَطَحَنَتْ) امرأتي ذلك الشعير، (فَفَرَغَتْ) امرأتي من طحنها (إِلَى فَرَاغِي)؛ أي: مع فراغي من ذبح تلك البهيمة، والفراغ بفتح الفاء: اسمٌ مِنْ فَرَغ من الشُّغْل فُرُوغًا، من باب قَعَد، وفَرِغَ يَفْرَغ، من باب تَعِبَ لغة لبني تميم، وفرغت للشيء، وإليه: قصدت، وفرغ الشيءُ: خلا، ويتعدّى بالهمزة والتضعيف، فيقال: أفرغته، وفرّغته، قاله الفيّوميّ

(2)

، وقال المجد رحمه الله: فَرَغَ منه، كمَنَعَ، وسَمِعَ، ونَصَرَ فُرُوغًا، وفَرَاغًا، فهو فَرغٌ، وفارغٌ: خلا ذَرْعه، وفرغ له، وإليه: قصده. انتهى

(3)

.

وفي رواية عند أحمد: "فأمرت امرأتي، فطحنت لنا الشعير، وصنعت لنا منه خبزًا".

(فَقَطَّعْتُهَا) بتشديد الطاء المهملة؛ أي: قطّعت تلك البهيمة المذبوحة، وجعلتها (فِي بُرْمَتِهَا) - بضمّ الموحّدة، وإسكان الراء -: قِدْرٌ من حجارة، جمعه: بُرْمٌ بضمّ، فسكون أيضًا، وكصُرَد، وجِبَالٍ، والْمُبْرِمُ كمُحْسنٍ: صانعها، أو من يقتلع حجارتها من الجبال، قاله المجد

(4)

.

قال جابر رضي الله عنه: (ثُمَّ وَلَّيْتُ)؛ أي: أدبرت، وذهبت (إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم)؛ أي: ليدعوه إلى ذلك الطعام، (فَقَالَتْ) امرأته (لَا تَفْضَحْنِي)؛ أي: لا تكشف عيبي، قال الفيّوميّ رحمه الله: الفضيحة: العيب، والجمع: فضائح، وفضحته فَضْحًا، من باب نَفَعَ: كَشَفْته، وفي الدعاء:"لا تفضحنا بين خلقك"؛ أي: استُر عُيوبنا، ولا تكشفها، ويجوز أن يكون المعنى: اعصِمنا حتى لا نعصي، فنستحقّ الكشف. انتهى

(5)

.

والمعنى هنا: لا تكشف عيبي (بـ) مجيء (رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَمَنْ مَعَهُ) من الصحابة رضي الله عنهم؛ لأن الطعام لا يكفيهم، فأفتضح بذلك، ويظهر عيبي بين الناس. (قَالَ) جابر (فَجِئْتُهُ) صلى الله عليه وسلم (فَسَارَرْتُهُ)؛ أي: كلّمته سرًّا فيما بيني وبينه،

(1)

"عمدة القاري" 17/ 181.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 470.

(3)

"القاموس المحيط" ص 990.

(4)

"القاموس المحيط" ص 101.

(5)

"المصباح المنير" 2/ 475.

ص: 270

حتى لا يسمع الناس، قال النوويّ رحمه الله: فيه جواز المساررة بالحاجة بحضرة الجماعة، وإنما نُهِي أن يتناجى اثنان دون الثالث، كما سنوضحه في موضعه - إن شاء الله تعالى -.

(فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّا قَدْ ذَبَحْنَا بُهَيْمَةً لَنَا، وَطَحَنَتْ) امرأتي (صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، كَانَ) ذلك الصاع من الشعير (عِنْدَنَا، فَتَعَالَ) أمرُ تعالى يتعالى، بمعنى أقبِلْ، وقوله:(أَنْتَ) تأكيد للضمير المستتر في "تعال"، (فِي نَفَرٍ)؛ أي: في جملة جماعة (مَعَكَ) وفي بعض النسخ: "ونفرٌ معك"، (فَصَاحَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم)؛ أي: نادى رافعًا صوته (وَقَالَ: أيَا أَهْلَ الْخَنْدَقِ إِنَّ جَابِرًا قَدْ صَنَعَ لَكُمْ سُورًا) - بضم السين، وإسكان الواو، غير مهموز -، وهو الطعام الذي يُدْعَى إليه، وقيل: الطعام مطلقًا، وهي لفظة فارسية، وقد تظاهرت أحاديث صحيحة بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم تكلّم بألفاظ غير العربية، فيدلّ على جوازه، قاله النوويّ رحمه الله

(1)

.

وقال في "العمدة": قوله: "سُورًا" بضم السين المهملة، وسكون الواو بغير همز، ومعناه الصنيع بالحبشية، وقيل: معناه العرس بالفارسية، ويُطلق أيضًا على البناء الذي يخيط بالمدينة، وأما السؤر بالهمزة، فهو البقية، والذي يُحفظ أنه صلى الله عليه وسلم مما تكلم به من الأعجمية هذه اللفظة، وقوله للحسن رضي الله عنه:"كِخْ"، ولعبد الرحمن بن عوف:"مَهْيَم؟ "؛ أي: ما هذا؟ ولأم خالد: "سَنَا سَنَا"؛ يعني: حسنة، وذكر ابن فارس أن معنى مهيم: ما حالك، وما شأنك؟، ولم يذكر أنها أعجمية، وقال الهرويّ: إنها كلمة يمانية. انتهى

(2)

.

(فَحَيَّهَلَا بِكُمْ")؛ أي: أقبلوا، وهلُمّوا، وقال النوويّ رحمه الله: هو: بتنوين "هَلًا"، وقيل: بلا تنوين، على وزن علا، ويقال: حَيَّ هَلْ، فمعناه: عليك بكذا، أو ادع بكذا، قاله أبو عبيد وغيره، وقيل: معناه: أعجل به، وقال الهرويّ: معناه: هاتِ، وعَجِّلْ به. انتهى

(3)

.

وقال في "العمدة": قوله: "فحَيّ هلا بكم" هي كلمة استدعاء، فيها حَثّ؛ أي: هَلُمُّوا مسرعين، ومنه "حيّ على الصلاة" بمعنى هَلُمّوا، وفيها

(1)

"شرح النوويّ" 13/ 216.

(2)

"عمدة القاري" 17/ 181.

(3)

"شرح النوويّ" 13/ 216.

ص: 271

لغات، يقال: حَيّهَلْ بفلان، وحَيّهَلَا، بزيادة الألف، وحَيَهلًا، بالتنوين للتنكير، وحَيْهلا، بتخفيف الياء، ورُوي حَيّهْل، بالتشديد، وسكون الهاء. انتهى

(1)

.

(وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا تُنْزِلُنَّ) بضمّ أوله، وكسر ثالثه، من الإنزال، (بُرْمَتَكُمْ)؛ أي: من الأثافي؛ لأنها كانت عليها، ففي رواية البخاريّ:"والْبُرْمة بين الأثافي"، وهي بمثلّثة، وفاء: الحجارة التي توضع عليها القِدْر، وهي ثلاثة، قاله في "الفتح"

(2)

.

(وَلَا تَخْبِزُنَّ) بفتح أوله، وكسر ثالثه، من باب ضرب، (عَجِينَتَكُمْ) وفي بعض النسخ:"عجينكم"، (حَتَّى أَجِيءَ") إنما نهاهم ليدعو لهم بالبركة، فيشبع الجميع. (فجِئْتُ، وَجَاءَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقْدُمُ) بضمّ الدال؛ أي: يتقدّم (النَّاسَ) قال النوويّ رحمه الله: إنما فعل هذا؛ لأنه صلى الله عليه وسلم دعاهم، فجاؤا تبعًا له؛ كصاحب الطعام إذا دعا طائفةً، يمشي قُدّامهم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في غير هذا الحال لا يتقدمهم، ولا يُمَكِّنهم من وطء عقبيه، وفعله هنا لهذه المصلحة. انتهى

(3)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "يقدم الناس" هذا منه صلى الله عليه وسلم مخالفٌ للذي نُقل من سيرته مع أصحابه أنه كان لا يتقدمهم، ولا يوطأ عقبه؛ وإنما كان يمشي بين أصحابه، أو يقدِّمهم. إنَّما تقدّمهم في هذا الموضع؛ لأنه هو الذي دعاهم، فكان دليلهم إلى الموضع الذي دعاهم إليه. انتهى

(4)

.

(حَتَّى جِئْتُ امْرَأَتِي، فَقَالَتْ: بِكَ، وَبِكَ)؛ أي: ذَمّته، ودعت عليه، وقيل: معناه: بك تَلحَق الفضيحة، وبك يتعلق الذمّ، وقيل: معناه: جرى هذا برأيك، وسوء نظرك، وتسبّبك، قاله النوويّ

(5)

.

وقال في "العمدة": قوله: "فقالت: بك، وبك" الباء فيه تتعلق بمحذوف، تقديره: فعل الله بك كذا وكذا، حيث أتيت بناس كثير، والطعام

(1)

"عمدة القاري" 17/ 181 - 182.

(2)

"الفتح" 9/ 190، كتاب "المغازي" رقم (4101).

(3)

"شرح النوويّ" 13/ 216 - 217.

(4)

"المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" 5/ 309.

(5)

"شرح النوويّ" 13/ 216.

ص: 272

قليل، وذلك موجب للخجلة. انتهى

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قولها: "بك وبك" عَتْبٌ عتَبت عليه، وكأنها قالت له: فعلت هذا برأيك، وسوء نظرك؛ تعني: دعاءه للناس كلهم، وظنّت أنه لم يُخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقدر الطعام، ويَحْتَمِل أن يكون معناه: بك تنزل الفضيحة، وبك يقع الخجل، ويَحْتَمل أن يكون دعاء؛ أي: أوقع الله بك الفضيحة، أو الخجل، ونحو هذا. انتهى

(2)

.

(فَقُلْتُ: قَدْ فَعَلْتُ الَّذِي قُلْتِ لِي)؛ أي: وهو إخباره صلى الله عليه وسلم بمقدار ما صنعه من الطعام، حتى لا يكثر الناس، ولكنه جاء بالناس كلّهم، فهو أعلم بالمصلحة.

(فَأَخْرَجْتُ) المرأة (لَهُ) صلى الله عليه وسلم (عَجِينَتَنَا) وفي بعض النسخ: "عجيننا"، (فَبَصَقَ) من باب نصر، (فِيهَا)؛ أي: تفل صلى الله عليه وسلم من ريقه المبارك في تلك العجينة، قال المجد رحمه الله: البصاق؛ كالغُراب، والبُساق، والْبُزاق: ماء الفم إذا خرج منه، وما دام فيه فَرِيقٌ. انتهى

(3)

.

وقال النوويّ رحمه الله: وقوله: "بَصَق" هكذا هو في أكثر الأصول، وفي بعضها:"بسق"، وهي لغة قليلة، والمشهور "بصَق"، و"بزق"، وحكى جماعة من أهل اللغة بسق، لكنها قليلة، كما ذكرنا. انتهى

(4)

.

(وَبَارَكَ)؛ أي: دعا بالبركة، فاستجيب له على الفور، وظهرت معجزاته، وبركاته لَمّا أكل من صاع الشعير، والبهيمة ذلك العدد الكثير، ثم بقي الطعام على حاله كما كان أوَّل مرة، وعلى هذا: لو كانوا مائة ألف لكفاهم

(5)

.

(ثُمَّ عَمَدَ) بفتح الميم؛ أي: قصد، يقال: عَمَدت للشيء عَمْدًا، من باب ضرب، وعمدت إليه: قصدتُ، وتعمّدته: قصدت إليه أيضًا

(6)

. (إِلَى بُرْمَتِنَا،

(1)

"عمدة القاري" 17/ 182.

(2)

"المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" 5/ 309.

(3)

"القاموس المحيط" ص 111.

(4)

"شرح النوويّ" 13/ 217.

(5)

"المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" 5/ 309.

(6)

"المصباح المنير" 2/ 428.

ص: 273

فَبَصَقَ فِيهَا، وَبَارَكَ، ثُمَّ قَالَ) صلى الله عليه وسلم للمرأة ("ادْعِي خَابِزَةً، فَلْتَخْبزْ مَعَكِ) قال النوويّ رحمه الله: هذه اللفظة، وهي "ادعي" وقعت في بعض الأصول هكذا:"ادع" بعين، ثم ياء، وهو الصحيح الظاهر؛ لأنه خطاب للمرأة، ولهذا قال:"فلتخبز معك"، وفي بعضها:"ادعوني" بواو، ونون، وفي بعضها:"ادعني"، وهما أيضًا صحيحان، وتقديره: اطلبوا، واطلب لي خابزة. انتهى.

(وَاقْدَحِي)؛ أي: اغرفي، والْمِقْدَحة: الْمِغْرفة، يقال: قَدَحت المرقَ أقدحه: بفتح الدال، من باب منع: غَرَفْته. (مِنْ بُرْمَتِكُمْ، وَلَا تُنْزِلُوهَا")؛ أي: من الأثافي، قال جابر رضي الله عنه:(وَهُمْ)؛ أي: القوم الذين أكلوا من ذلك الطعام (أَلْفٌ) قال في "الفتح": وفي رواية أبي نعيم في "المستخرج": "فأخبرني أنهم كانوا تسعمائة، أو ثمانمائة"، وفي رواية عبد الواحد بن أيمن، عند الإسماعيليّ:"كانوا ثمانمائة، أو ثلاثمائة"، وفي رواية أبي الزبير:"كانوا ثلاثمائة"، والحكم للزائد؛ لمزيد علمه؛ لأن القصة متحدةٌ. انتهى

(1)

.

(فَأُقْسِمُ بِاللهِ لأَكَلُوا حَتَّى تَرَكُوهُ)؛ أي: تركوا ذلك الطعام لِشِبَعهم، (وَانْحَرَفُوا)؛ أي: مالوا، وانصرفوا إلى جهة أخرى، (وَإِنَّ بُرْمَتَنَا لَتَغِطُّ) بكسر الغين المعجمة، وتشديد الطاء المهملة؛ أي: تغلي، وتفور من الامتلاء، فيُسمع غطيطها، وهو من معجزات النبيّ صلى الله عليه وسلم. (كَمَا هيَ)؛ أي: ممتلئة على حالتها الأولى قبل الغرف منها، فخبر "هي" محذوف، والمعنى: تغلي غليانًا مثل غليان هي عليه قبل ذلك، قال الطيبيّ:"ما" كافّة، وهي المصحّحة لدخول الكاف على الجملة، و"هي" مبتدأ، والخبر محذوف؛ أي: كما هي قبل ذلك. انتهى

(2)

.

(وَإِنَّ عَجِينَتَنَا) وفي بعض النسخ: "عجيننا"، وقوله:(أَوْ كَمَا قَالَ الضَّحَّاكُ) شكٌّ من حجّاج الشاعر في قول الضحّاك بن مخلد، هل هو "وإن عجينتنا"، أو هو "عجيننا"، كما هو في بعض النسخ، أو غير ذلك. (لَتُخْبَزُ) بالبناء للمفعول، (كَمَا هُوَ) هكذا النسخ، بالتذكير، وقال النوويّ: وقوله: "كما هو" يعود إلى العجين. انتهى.

(1)

"الفتح" 9/ 193، كتاب "المغازي" رقم (4101).

(2)

"الكاشف عن حقائق السنن" 12/ 3764.

ص: 274

قال الجامع عفا الله عنه: عَوْدُه إلى العجين على ما هو في بعض النسخ ظاهر، وأما على نسخة "عجينتنا"، فيكون من باب التأويل؛ أي: بتأويل العجينة بالعجيب، والله تعالى أعلم.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [8/ 5304](2039)، و (البخاريّ) في "الجهاد"(3070) و"المغازي"(4101 و 4102)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 300 و 301 و 377)، و (الحاكم) في "المستدرك"(3/ 32)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 351 و 5/ 177)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(7/ 274)، و (الفريابيّ) في "دلائل النبوّة"(1/ 50)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان جواز استتباع الشخص غيره إلى دار من يثق برضاه بذلك.

2 -

(ومنها): بيان ما كان عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه من الابتلاء بالأعداء حتى تكلّفوا بحفر الخندق تحصّنًا من كيدهم، يأتيهم النصر، وتكون العاقبة لهم، كما قال الله عز وجل:{وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (173)} [الصافات: 171 - 173].

3 -

(ومنها): بيان ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم من شدّة حبهم للنبيّ صلى الله عليه وسلم، وتفقّدهم أحواله، فإن جابرًا رضي الله عنه لَمّا نظر إليه صلى الله عليه وسلم رأى فيه الجوع، وقد أثّر فيه، فبادر إلى بيته حتى يزيل عنه ذلك الجوع.

4 -

(ومنها): بيان فضل جابر، وزوجته رضي الله عنهما حيث قاما بضيافة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه في تلك الشدّة.

5 -

(ومنها): بيان كمال إيمان زوجة جابر رضي الله عنهما، حيث قالت - لَمّا أخبرها أنه كلّم النبيّ صلى الله عليه وسلم بمقدار ما عندهم من الطعام، ثم أقبل هو بجميع أهل الخندق - قالت:"الله ورسوله أعلم"، وفي رواية يونس: قال جابر: "فلقيت

ص: 275

من الحياء ما لا يعلمه إلا الله عز وجل، وقلت: جاء الخلق على صاع من شعير، وعناق، فدخلت على امرأتي، أقول: افتَضَحتِ، جاءك رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخندق أجمعين، فقالت: هل كان سألك كم طعامك؟ فقلت: نعم، فقالت: الله ورسوله أعلم، ونحن قد أخبرناه بما عندنا، فكَشَفتْ عني غمًّا شديدًا".

قال في "الفتح": ويُجمع بين هذا، وبين قوله:"فقالت: بك وبك" بأنها أوصته أوّلًا بأن يُعلمه بالصورة، فلما قال لها: إنه جاء بالجميع ظنت أنه لم يُعلمه، فخاصمته، فلما أعلمها أنه أعلمه سَكَن ما عندها؛ لِعِلْمها بإمكان خرق العادة، ودلّ ذلك على وفور عقلها، وكمال فضلها.

وقد وقع لها مع جابر في قصة التمر أن جابرًا أوصاها لمّا زارهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا تكلمه، فلما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم الانصراف نادته: يا رسول الله صَلِّ عليّ، وعلى زوجي، فقال:"صلى الله عليك، وعلى زوجك" فعاتبها جابر، فقالت له: أكنت تظن أن الله يورد رسوله صلى الله عليه وسلم بيتي، ثم يخرج، ولا أسأله الدعاء؟ أخرجه أحمد بإسناد حسن، في حديث طويل. انتهى

(1)

.

6 -

(ومنها): أن البخاريّ رحمه الله استنبط من الحديث جواز التكلّم بغير العربيّة لمن يطيقها، فقال:"باب من تكلّم بالفارسيّة، والرَّطانة"، وقول الله عز وجل:{وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ} [الروم: 22]، وقال:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} [إبراهيم: 4].

و"الرطانة بكسر الراء، وفتحها: كلام غير عربيّ، وكأن البخاريّ أشار بالآية الثانية أنه صلى الله عليه وسلم كان يعرف الألسنة كلها؛ لأنه أُرسل إلى الأمم كلّها على اختلاف ألسنتهم، فجميع الأمم قومه بالنسبة إلى عموم رسالته، فاقتضى أن يعرف ألسنتهم؛ ليَفهم عنهم، ويفهموا عنه، وَيحْتَمل أن يقال: لا يستلزم ذلك نُطقه بجميع الألسنة؛ لإمكان الترجمان الموثوق به عندهم، قاله في "الفتح"

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: لا يخفى أن الاحتمال الثاني غير ظاهر، فتأمله بالإمعان، والله تعالى أعلم.

(1)

"الفتح" 9/ 191، كتاب "المغازي" رقم (4101).

(2)

"الفتح" 7/ 324، كتاب "الجهاد" رقم (3070).

ص: 276

7 -

(ومنها): بيان ما حصل للنبيّ صلى الله عليه وسلم في تلك الواقعة من المعجزات الباهرة، قال النوويّ رحمه الله: وقد تضمن هذا الحديث عَلَمين من أعلام النبوة: أحدهما: تكثير الطعام القليل، والثاني: عِلْمه صلى الله عليه وسلم بأن هذا الطعام القليل الذي يكفي في العادة خمسة أنفس، أو نحوهم سيكثر، فيكفي ألفًا، وزيادةً، فدعا له ألفًا قبل أن يَصِل إليه، وقد عَلِم أنه صاع شعير، وبهيمة. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5303]

(2040) - (وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: قَالَ أَبُو طَلْحَةَ لأُمِّ سُلَيْمٍ: قَدْ سَمِعْتُ صَوْتَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ضَعِيفًا، أَعْرِفُ فِيهِ الْجُوعَ، فَهَلْ عِنْدَكِ مِنْ شَيْءٍ؟ فَقَالَتْ: نَعَمْ، فَأَخْرَجَتْ أَقْرَاصًا مِنْ شَعِيرٍ، ثُمَّ أَخَذَتْ خِمَارًا لَهَا، فَلَفَّتِ الْخُبْزَ بِبَعْضِهِ، ثُمَّ دَسَّتْهُ تَحْتَ ثَوْبِي، وَرَدَّتْنِي بِبَعْضِهِ، ثُمَّ أَرْسَلَتْنِي إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: فَذَهَبْتُ بِهِ، فَوَجَدْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم جَالِسًا فِي الْمَسْجِدِ، وَمَعَهُ النَّاسُ، فَقُمْتُ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"أَرْسَلَكَ أَبُو طَلْحَةَ؟ "، قَالَ: فَقُلْتُ: نَعَمْ، فَقَالَ:"أَلِطَعَامٍ؟ "، فَقُلْتُ: نَعَمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِمَنْ مَعَهُ:"قُومُوا"، قَالَ: فَانْطَلَقَ، وَانْطَلَقْتُ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، حَتَّى جِئْتُ أَبَا طَلْحَةَ، فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: يَا أُمَّ سُلَيْمٍ، قَدْ جَاءَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِالنَّاسِ

(2)

، ولَيْسَ عِنْدَنَا مَا نُطْعِمُهُمْ، فَقَالَت: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: فَانْطَلَقَ أَبُو طَلْحَةَ، حَتَّى لَقِيَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَقْبَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَعَهُ، حَتَّى دَخَلَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"هَلُمِّي مَا عِنْدَكِ يَا أُمَّ سُلَيْمٍ"، فَأَتَتْ بِذَلِكَ الْخُبْزِ، فَأَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَفُتَّ وَعَصَرَتْ عَلَيْهِ أُمُّ سُلَيْمٍ عُكَّةً لَهَا، فَأَدَمَتْهُ، ثُمَّ قَالَ فِيهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَقُولَ، ثُمَّ قَالَ:"ائْذَنْ لِعَشَرَةٍ"، فَأَذِنَ لَهُمْ، فَأَكَلُوا، حَتَّى شَبِعُوا، ثُمَّ خَرَجُوا، ثُمَّ قَالَ:"ائْذَنْ لِعَشَرَةٍ"، فَأَذِنَ لَهُمْ، فَأَكَلُوا، حَتَّى شَبِعُوا، ثُمَّ خَرَجُوا، ثُمَّ قَالَ: "ائْذَنْ

(1)

"شرح النوويّ" 13/ 217.

(2)

وفي نسخة: "والناسُ".

ص: 277

لِعَشَرَةٍ"، حَتَّى أَكَلَ الْقَوْمُ كُلُّهُمْ، وَشَبِعُوا، وَالْقَوْمُ سَبْعُونَ رَجُلًا، أَوْ ثَمَانُونَ).

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ النيسابوريّ الإمام، تقدّم قبل باب.

2 -

(مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ) إمام دار الهجرة، تقدّم قبل بابين.

3 -

(إِسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ) الأنصاريّ، أبو يحيى المدنيّ، ثقةٌ حجةٌ [4](ت 132) أو بعدها (ع) تقدم في "الطهارة" 30/ 667.

4 -

(أنَسُ بْنُ مَالِكٍ) الصحابيّ الخادم الشهير رضي الله عنه، تقدّم في الباب الماضي.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (401) من رباعيّات الكتاب، وهو مسلسلٌ بالمدنيين، غير شيخه، وقد دخل المدينة للأخذ عن مالك، وفيه رواية الراوي عن عمّه، فأنس عمّ لإسحاق، وفيه مالك بن أنس أحد الأئمة الأربعة، وفيه أنس رضي الله عنه أحد المكثرين السبعة روى (2286) حديثًا، وهو أحد المشهورين بخدمة النبيّ صلى الله عليه وسلم، خدمه عشر سنين، فنال بركة دعوته المباركة، فطال عمره، وكثر ماله، وأولاده، وهو آخر من مات بالبصرة من الصحابة، مات سنة (2 أو 93) وقد جاوز المائة.

شرح الحديث:

(عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ) الأنصاري حفيد أبي طلحة صاحب القصّة، وابن أخي أنس بن مالك، (أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ) رضي الله عنه (يَقُولُ: قَالَ أَبُو طَلْحَةَ) هو: زيد بن سهل بن الأسود بن حرام الأنصاريّ النجّاريّ الصحابيّ المشهور، شهد بدرًا وما بعدها، ومات سنة (34 هـ)، وقيل غير ذلك، تقدّمت ترجمته في "الحيض" 7/ 720.

(لأُمِّ سُلَيْمٍ) - بالتصغير - بنت مِلْحان بن خالد الأنصاريّة، والدة أنس، يقال: اسمها سهلة، أو رُميلة، أو رُميثة، وقيل غير ذلك، كانت من الصحابيّات الفاضلات، ماتت في خلافة عثمان رضي الله عنهما، تقدّمت ترجمتها في "الحيض" 7/ 716.

ص: 278

[تنبيه]: قال في "الفتح": وقد اتفقت الطرق على أن هذا الحديث من مسند أنس، وقد وافقه على ذلك أخوه لأمه عبد الله بن أبي طلحة، فرواه مطوّلًا عن أبيه، أخرجه أبو يعلى من طريقه، بإسناد حسن، وأوله:"عن أبي طلحة قال: دخلت المسجد، فعرفت في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم الجوع. . ." الحديث، والمراد بالمسجد: الموضع الذي أعدّه النبيّ صلى الله عليه وسلم للصلاة فيه محاصرة الأحزاب للمدينة، في غزوة الخندق. انتهى

(1)

.

(قَدْ سَمِعْتُ صَوْتَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ضَعِيفًا)؛ أي: من شدّة الجوع، كما قال:(أَعْرِفُ فِيهِ الْجُوعَ) فيه العمل على القرائن، ووقع في رواية مبارك بن فَضَالة، عن بكر بن عبد الله، وثابت، عن أنس، عند أحمد:"أن أبا طلحة رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم طاويًا"، وعند أبي يعلى، من طريق محمد بن سيرين، عن أنس:"أن أبا طلحة بلغه أنه ليس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم طعام، فذهب، فأجّر نفسه بصاع من شعير، بعمل بقية يومه ذلك، ثم جاء به. . ." الحديث.

وفي رواية عمرو بن عبد الله بن أبي طلحة - وهو أخو إسحاق، راوي حديث الباب - عن أنس، الآتية عند مسلم، وأبي يعلى، قال:"رأى أبو طلحة رسول الله صلى الله عليه وسلم مضطجعًا، يتقلّب ظهرًا لبطن".

وفي رواية يعقوب بن عبد الله بن أبي طلحة الآتية عند مسلم أيضًا، عن أنس، قال:"جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجدته جالسًا مع أصحابه، يحدثهم، وقد عَصَب بطنه بعصابة، فسألت بعض أصحابه، فقالوا: من الجوع، فذهبت إلى أبي طلحة، فأخبرته، فدخل على أم سليم، فقال: هل من شيء. . ." الحديث.

وفي رواية محمد بن كعب، عن أنس، عند أبي نعيم:"جاء أبو طلحة إلى أم سليم، فقال: أعندك شيء؟ فإني مررت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يقرئ أصحاب الصفّة "سورة النساء"، وقد ربط على بطنه حجرًا من الجوع".

قال الجامع عفا الله عنه: هكذا أورد الروايات في "الفتح"، ولم يتكلّم على وجه الجمع فيها، والذي يظهر لي أنه لا تعارض بينها؛ لإمكان حَمْلها على التعدّد، ففي بعضها يظهر فيه هذا المعنى، فإن حديث الباب يوم الخندق،

(1)

"الفتح" 8/ 236، كتاب "المناقب" رقم (3578).

ص: 279

وحديث إقرائه صلى الله عليه وسلم أصحاب الصفّة غيره، وحديث أنس في تحديثه صلى الله عليه وسلم يَحتمل أن يكون قصّة أصحاب الصفّة، فذهب إلى أبي طلحة، فأخبره به، فجاء حتى نظر إليه نفسه، ويَحْتَمل أن تكون واقعة أخرى، والله تعالى أعلم.

(فَهَلْ عِنْدَكِ مِنْ شَيْءٍ؟)؛ أي: مما يكون طعامًا له صلى الله عليه وسلم، (فَقَالَتْ: نَعَمْ، فَأَخْرَجَتْ أَقْرَاصًا) بفتح الهمزة: جمع قُرص، بضمّ، فسكون، وهو الْخُبْز، قال الفيّوميّ: الْقُرْص: معروف، والجمع أقراص، مثلُ قُفْل وأقفال، وقِرَصَةٌ، مثلُ عِنَبَةٍ، وقَرَّصتُ العجين بالتثقيل: قطعته قُرْصًا قُرْصًا. انتهى

(1)

.

وقال المجد: الْقُرصةُ: الْخُبْزةُ؛ كالقُرْص، جمعه: قِرَصَةٌ، وأَقْراصٌ، وقُرَصٌ. انتهى

(2)

.

وقوله: (مِنْ شَعِيرٍ) بيان لـ "أقراصًا"، وفي رواية محمد بن سيرين، عن أنس، عند أحمد:"قال: عَمَدَت أم سليم إلى نصف مُدّ من شعير، فطحنته"، وعند البخاريّ من هذا الوجه، ومن غيره عن أنس:"أن أمه أم سليم عَمَدت إلى مُدّ من شعير جَرَشته، ثم عملته"، وفي رواية عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن أنس، عند أحمد، ويأتي أيضًا عند مسلم في الباب:"أتى أبو طلحة بمُدّ من شعير، فأَمَر به، فصُنع طعامًا".

قال الحافظ: ولا منافاة بين ذلك؛ لاحتمال أن تكون القصة تعدّدت، وأن بعض الرواة حَفِظ ما لم يحفظ الآخر.

قال: ويمكن الجمع بأن يكون الشعير في الأصل كان صاعًا، فأفْرَدَتْ بعضه لعيالهم، وبعضه للنبيّ صلى الله عليه وسلم، ويدلّ على التعدد ما بين العصيدة، والخبز المفتوت الملتوت بالسمن من المغايرة.

وقد وقع لأم سليم في شيء صنعته للنبيّ صلى الله عليه وسلم لمّا تزوج زينب بنت جحش قريبٌ من هذه القصة، من تكثير الطعام، وإدخال عشرة عشرة، كما تقدّم في مكانه من "كتاب النكاح"[16/ 3507].

ووقع عند أحمد في رواية ابن سيرين، عن أنس: "عَمَدت أم سليم إلى

(1)

"المصباح المنير" 2/ 497.

(2)

"القاموس المحيط" ص 1044.

ص: 280

نصف مدّ من شعير، فطحنته، ثم عَمَدت إلى عُكّة فيها شيء من سَمْن، فاتخذت منه خَطِيفة. . ." الحديث.

و"الْخَطِيفة": هي العَصِيدة وزنًا ومعنًى، وهو أيضًا عند البخاريّ في "الأطعمة"

(1)

.

(ثُمَّ أَخَذَتْ خِمَارًا لَهَا) - بكسر الخاء المعجمة -: ثوب تُغطّي به المرأة رأسها، والجمع: خُمُرٌ، ككتاب وكُتُب، واختمرت المرأة، وتخمّرت: لبست الخمار

(2)

. (فَلَفَّتِ الْخُبْزَ بِبَعْضِهِ)؛ أي: ببعض ذلك الخمار، (ثُمَّ دَسَّتْهُ)؛ أي: أخْفَتْه، يقال: دسّه في التراب دَسًّا، من باب قَتَلَ: دفنته فيه، وكلُّ شيء أخفيته فقد دسسته، ومنه يقال للجاسوس: دسيس القوم

(3)

. (تَحْتَ ثَوْبِي) قال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "فدسّته تحت ثوبي" كذا في كتاب مسلم عند سائر رواته، وفي "الموطّأ":"تحت يدي"؛ أي: إبطي، والدّسّ: وضع الشيء في خفية ولطافة. انتهى

(4)

.

(وَرَدَّتْنِي بِبَعْضِهِ) من الرّدّ؛ أي: أعادت بعضه عليّ، وألبستنيه، ويقال: إنه من التردية، وهو إلباس الرداء؛ أي: جعلت الطرف الثاني من الخمار عليه رداء غطّته به، وما قيل: من أن معناه: ردّت جوعي ببعضه؛ أي: ببعض ذلك الطعام، فمعنى باطل، واضح البطلان.

وفي رواية للبخاريّ في "المناقب": "ولاثتني ببعضه"؛ أي: لَفَّتني به، يقال: لاث العمامة على رأسه؛ أي: عَصَبها، والمراد أنها لَفّت بعضه على رأسه، وبعضه على إبطه.

(ثُمَّ أَرْسَلَتْنِي إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: فَذَهَبْتُ بِهِ)؛ أي: بالطعام الذي دسّته تحت ثوبه، (فوَجَدْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم جَالِسًا فِي الْمَسْجِدِ، وَمَعَهُ النَّاسُ) جملة في محلّ نصب على الحال من المفعول، (فَقُمْتُ عَلَيْهِمْ) هذا من ذكاء أنس رضي الله عنه وفِطنته حيث إنه لم يذكر للنبيّ صلى الله عليه وسلم ما أُرسل به؛ لئلا يشاركه الناس

(1)

"الفتح" 8/ 237، كتاب "المناقب" رقم (3578).

(2)

"المصباح المنير" 1/ 181.

(3)

"المصباح المنير" 1/ 194.

(4)

"المفهم" 5/ 310.

ص: 281

على طعام قليل لا يكفيهم، (فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"أَرْسَلَكَ أَبُو طَلْحَةَ؟ ") هكذا النسخة: "أرسلك" بهمزة واحدة، فتقدّر همزة الاستفهام، ولفظ البخاريّ:"آرسلك أبو طلحة؟ "، (قَالَ: فَقُلْتُ: نَعَمْ، فَقَالَ:"أَلِطَعَامٍ؟ ")؛ أي: أرسلك لأجل آكل طعامًا؟ (فَقُلْتُ: نَعَمْ) ظاهره - كما قال في "الفتح" - أن النبيّ صلى الله عليه وسلم فَهِم أن أبا طلحة استدعاه إلى منزله، فلذلك قال لمن عنده:"قوموا"، وأول الكلام يقتضي أن أم سليم، وأبا طلحة أرسلا الخبز مع أنس، فيُجْمَع بأنهما أرادا بإرسال الخبز مع أنس أن يأخذه النبيّ صلى الله عليه وسلم، فيأكله، فلما وصل أنس، ورأى كثرة الناس حول النبيّ صلى الله عليه وسلم استحيى، وظهر له أن يدعو النبيّ صلى الله عليه وسلم ليقوم معه وحده إلى المنزل، فيحصل مقصودهم من إطعامه.

ويَحْتَمِل أن يكون ذلك عن رأي من أرسله، عَهِد إليه إذا رأى كثرة الناس أن يستدعي النبيّ صلى الله عليه وسلم وحده؛ خشيةَ أن لا يكفيهم ذلك الشيء هو ومن معه، وقد عَرفوا إيثار النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأنه لا يأكل وحده.

قال الحافظ: وقد وجدت أن أكثر الروايات تقتضي أن أبا طلحة استدعى النبيّ صلى الله عليه وسلم في هذه الواقعة، ففي رواية سعد بن سعيد، عن أنس:"بعثني أبو طلحة إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم لأدعوه، وقد جَعَل له طعامًا"، وفي رواية عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن أنس:"أمر أبو طلحة أم سليم أن تصنع للنبيّ صلى الله عليه وسلم لنفسه خاصّةً، ثم أرسلتني إليه"، وفي رواية يعقوب بن عبد الله بن أبي طلحة، عن أنس:"فدخل أبو طلحة على أمي، فقال: هل من شيء؟ فقالت: نعم، عندي كِسَرٌ من خبز، فإن جاءنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده أشبعناه، وإن جاء أحد معه قلّ عنهم"، وجميع ذلك عند مسلم.

وفي رواية مبارك بن فَضالة: "أن أبا طلحة قال: اعجنيه، وأصلحيه، عسى أن ندعو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيأكل عندنا، ففعلت، فقالت: ادع رسول الله صلى الله عليه وسلم".

وفي رواية يعقوب بن عبد الله بن أبي طلحة، عن أنس، عند أبي نعيم، وأصله عند مسلم:"فقال لي أبو طلحة، يا أنس اذهب، فقم قريبًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا قام فدعه حتى يتفرق أصحابه، ثم اتّبعه، حتى إذا قام على عتبة بابه، فقل له: إن أبي يدعوك".

ص: 282

وفي رواية عمرو بن عبد الله بن أبي طلحة، عند أبي يعلى، عن أنس:"قال لي أبو طلحة: اذهب، فادع رسول الله صلى الله عليه وسلم".

وعند البخاريّ من رواية ابن سيرين، عن أنس:"ثم بعثني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتيته، وهو في أصحابه، فدعوته".

وعند أحمد من رواية النضر بن أنس، عن أبيه:"قالت لي أم سليم: اذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقل له: إن رأيت أن تَغَدَّى عندنا فافعل".

وفي رواية عمرو بن يحيى المازنيّ، عن أبيه، عن أنس، عند البغوىّ:"فقال أبو طلحة: اذهب يا بُنَىَّ إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فادعه، قال: فجئته، فقلت له: إن أبي يدعوك. . ." الحديث.

وفي رواية محمد بن كعب: "فقال: يا بُنَيّ اذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فادعه، ولا تدع معه غيره، ولا تفضحني". انتهى

(1)

.

(فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِمَنْ مَعَهُ: "قُومُوا") وفي رواية محمد بن كعب: "فقال للقوم: انطلقوا، فانطلقوا، وهم ثمانون رجلًا"، وفي رواية يعقوب:"فلما قلت له: إن أبي يدعوك قال لأصحابه: يا هؤلاء تعالَوْا، ثم أخذ بيدى، فشَدّها، ثم أقبل بأصحابه حتى إذا دَنَوْا أرسل يدي، فدخلت، وأنا حزين؛ لكثرة من جاء معه".

(قَالَ) أنس: (فَانْطَلَقَ) النبيّ صلى الله عليه وسلم بأصحابه، (وَانْطَلَقْتُ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، حَتَّى جِئْتُ أَبَا طَلْحَةَ، فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: يَا أُمَّ سُلَيْمٍ، قَدْ جَاءَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِالنَّاسِ)، وفي بعض النسخ:"والناسُ"، (وَلَيْسَ عِنْدَنَا مَا نُطْعِمُهُمْ)؛ أي: قَدْر ما يكفيهم، (فَقَالَت) أم سليم:(اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ) كأنها عرفت أنه فَعَل ذلك عمدًا؛ ليُظهر الكرامة في تكثير ذلك الطعام، ودلّ ذلك على فطنة أم سليم، ورجحان عقلها.

وقال القرطبيّ رحمه الله: وقول أبي طلحة لأم سليم: "قد جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس، وليس عندنا ما نطعمهم" قولٌ على مقتضى العادة، وجواب أم سليم

(1)

"الفتح" 8/ 237 - 238، كتاب "المناقب" رقم (3578).

ص: 283

بقولها: "الله ورسوله أعلم" قولٌ أخرجه النظر إلى إمكان خرق العادة، ورجاء بركة رسول الله صلى الله عليه وسلم كالذي كان. انتهى

(1)

.

(قَالَ: فَانْطَلَقَ أَبُو طَلْحَةَ، حَتَّى لَقِيَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم)، وفي رواية مبارك بن فَضالة:"فاستقبله أبو طلحة، فقال: يا رسول الله ما عندنا إلا قُرص عملته أم سليم"، وفي رواية سعد بن سعيد:"فقال أبو طلحة: إنما صنعت لك شيئًا"، ونحوه في رواية ابن سيرين، وفي رواية عمرو بن عبد الله:"فقال أبو طلحة: إنما هو قرص، فقال: إن الله سيبارك فيه"، ونحوه في رواية عمرو بن يحيى المازنيّ، وفي رواية يعقوب:"فقال أبو طلحة: يا رسول الله، إنما أرسلت أنسًا يدعوك وحدك، ولم يكن عندنا ما يُشبع من أرى، فقال: ادخل، فإن الله سيبارك فيما عندك"، وفي رواية النضر بن أنس، عن أبيه:"فدخلت على أم سليم، وأنا مندهش"، وفي رواية عبد الرحمن بن أبي ليلى:"أن أبا طلحة قال: يا أنس فَضَحْتَنا"، وللطبرانيّ في "الأوسط":"فجعل يرميني بالحجارة"

(2)

.

(فَأَقْبَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَعَهُ، حَتَّى دَخَلَا) بيت أم سليم، (فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"هَلُمِّى مَا عِنْدَكِ يَا أُمَّ سُلَيْمٍ") معنى "هَلُمّي"؛ أي: أحضري، قال في "الفتح": كذا لأبي ذرّ عن الكشميهنيّ، ولغيره:"هَلُمَّ"، وهي لغة حجازية، "هَلُمّ" عندهم لا يؤنث، ولا يُثنى، ولا يُجمع"، ومنه قوله تعالى:{وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا} [الأحزاب: 18]، والمراد بذلك: طَلَبُ ما عندها. انتهى

(3)

.

[فائدة]: قال الفيّوميّ رحمه الله: "هَلُمَّ": كلمةٌ بمعنى الدعاء إلى الشيء، كما يقال: تعال، قال الخليل: أصله: لُمَّ من الضمِّ، والجمعِ، ومنه: لمّ الله شَعَثَهُ، وكأن المنادى أراد: لُمَّ نفسَك إلينا، و"هَا" للتّنبيه، وحذفت الألف؛ تخفيفًا؛ لكثرة الاستعمال، وجُعلا اسمًا واحدًا، وقيل: أصلها: "هَلْ أُمَّ"؛ أي: قُصِد، فنُقلت حركة الهمزة إلى اللام، وسقطت، ثم جُعلا كلمة واحدة للدعاء.

(1)

"المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" 5/ 311.

(2)

"الفتح" 8/ 237 - 238، كتاب "المناقب" رقم (3578).

(3)

"الفتح" 8/ 237 - 238، كتاب "المناقب" رقم (3578).

ص: 284

وأهل الحجاز ينادُون بها بلفظ واحد للمذكر، والمؤنث، والمفرد، والجمع، وعليه قوله تعالى:{وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا} .

وفي لغة نجد تَلحقها الضمائر، وتُطابَقُ، فيقال: هَلُمِّي، وهَلُمَّا، وهَلُمُّوا، وهَلْمُمْنَ؛ لأنهم يجعلونها فعلًا، فيُلحقونها الضمائر، كما يلحقونها قُمْ، وقوما، وقوموا، وقُمْن.

وقال أبو زيد: استعمالها بلفظ واحد للجميع من لغة عُقَيل، وعليه قِيسَ بعدُ، وإلحاق الضمائر من لغة بني تميم، وعليه أكثر العرب، وتُستعمل لازمةً، نحو:{هَلُمَّ إِلَيْنَا} ؛ أي: أقبل، ومتعديةً، نحو:{قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ} [الأنعام: 150]؛ أي: أحضروهم. انتهى

(1)

.

(فَأَتَتْ بِذَلِكَ الْخُبْزِ) الذي بعثت به ابنها أنسًا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، (فَأَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَفُتَّ) بضمّ الفاء، وتشديد التاء، مبنيًّا للمفعول: يقال: فَتَّ الرجلُ الخبزَ فَتًّا، من باب نصر، فهو مفتوتٌ، وفَتِيتٌ، والْفَتيتة أخصّ منه، والْفُتاتُ بالضمّ: ما تفتّت من الشيء

(2)

.

(وَعَصَرَتْ عَلَيْهِ أُمُّ سُلَيْمٍ عُكَّةً لَهَا، فَأَدَمَتْهُ) بالقصر، والمدّ لغتان: أَدَمته، وآدمته؛ أي: صَيّرت ما خرج من العُكّة له إدامًا، و"الْعُكّة" - بضم المهملة، وتشديد الكاف -: إناء صغير، من جلد، مستدير، يُجعل فيه السمن غالبًا، والعسل، وفي رواية مبارك بن فَضالة:"فقال: هل من سَمْن؟ فقال أبو طلحة: قد كان في العُكّة سَمْن، فجاء بها، فجعلا يعصرانها، حتى خرج، ثم مسح رسول الله صلى الله عليه وسلم به سبابته، ثم مسح القرص، فانتفخ، وقال: بسم الله، فلم يزل يصنع ذلك، والقرص ينتفخ، حتى رأيت القرص في الجفنة يتميّع"، وفي رواية سعد بن سعيد:"فمسَّها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودعا فيها بالبركة"، وفي رواية النضر بن أنس:"فجئت بها، ففتح رباطها، ثم قال: بسم الله، اللهم أَعْظِم فيها البركة"، وعُرف بهذا المرادُ بقوله:"وقال فيها ما شاء الله أن يقول".

(ثُمَّ قَالَ فِيهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَقُولَ) قد تبيّن آنفًا الدعاء الذي قاله صلى الله عليه وسلم، فتنبّه. (ثُمَّ قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("ائْذَنْ لِعَشَرَةٍ") ظاهره أنه صلى الله عليه وسلم دخل منزل أبي

(1)

"المصباح المنير" 2/ 639 - 640.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 461.

ص: 285

طلحة وحده، وصُرِّح بذلك في رواية عبد الرحمن بن أبي ليلى، ولفظه:"فلما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الباب، فقال لهم: اقعدوا، ودخل".

وفي رواية يعقوب: "أَدْخِل عليّ ثمانية، فما زال، حتى دخل عليه ثمانون رجلًا، ثم دعاني، ودعا أمي، وأبا طلحة، فأكلنا حتى شبعنا". انتهى.

وهذا يدلّ على تعدد القصّة، فإن أكثر الروايات فيها أنه أدخلهم عشرةً عشرةً، سوى هذه، فقال: إنه أدخلهم ثمانيةً ثمانيةً، فالله أعلم، قاله في "الفتح"

(1)

.

(فَأَذِنَ لَهُمْ) قال النوويّ رحمه الله: وإنما أَذِن لعشرة عشرة؛ ليكون أرفق بهم، فإن القصعة التي فتَّ فيها تلك الأقراص لا يتحلق عليها أكثر من عشرة إلا بضرر يلحقهم لِبُعدها عنهم، والله أعلم.

(فَأَكَلُوا، حَتَّى شَبِعُوا) وفي رواية مبارك بن فَضالة: "فوضع يده وسط القرص، وقال: كلوا بسم الله، فأكلوا من حوالي القصعة، حتى شبعوا"، وفي رواية بكر بن عبد الله:"فقال لهم: كلوا من بين أصابعيّ".

(ثُمَّ خَرَجُوا) وفي رواية عبد الرحمن بن أبي ليلى: "ثم قال لهم: قوموا، وليدخل عشرةٌ مكانكم"، (ثُمَّ قَالَ:"ائْذَنْ لِعَشَرَةٍ"، فَأَذِنَ لَهُمْ، فَأَكَلُوا، حَتَّى شَبِعُوا، ثُمَّ خَرَجُوا، ثُمَّ قَالَ:"ائْذَنْ لِعَشَرَةٍ"، حَتَّى أكَلَ الْقَوْمُ كُلُّهُمْ، وَشَبِعُوا، وَالْقَوْمُ سَبْعُونَ رَجُلًا، أَوْ ثَمَانُونَ) كذا وقع في هذه الرواية بالشكّ، وفي غيرها بالجزم بالثمانين، كما هو من رواية محمد بن كعب، وغيره، وفي رواية مبارك بن فَضالة:"حتى أكل منه بضعةٌ وثمانون رجلًا"، وفي رواية عبد الرحمن بن أبي ليلى الآتية عند مسلم في الباب:"حتى فعل ذلك بثمانين رجلًا، ثم أكل النبيّ صلى الله عليه وسلم بعد ذلك، وأهل البيت، وتركوا سؤرًا"؛ أي: فضلًا.

وفي روايته عند أحمد: "قلت: كم كانوا؟ قالوا: كانوا نَيِّفًا وثمانين، قال: وأفضل لأهل البيت ما يشبعهم".

قال الحافظ رحمه الله: ولا منافاة بينهما؛ لاحتمال أن يكون ألغى الكسر، ولكن وقع في رواية ابن سيرين عند أحمد: "حتى أكل منها أربعون رجلًا،

(1)

"الفتح" 8/ 239، كتاب "المناقب" رقم (3578).

ص: 286

وبقيت كما هي"، وهذا يؤيد التغاير الذي أشرت إليه، وأن القصة التي رواها ابن سيرين غير القصة التي رواها غيره.

ويأتي عند مسلم في رواية عبد الله بن عبد الله بن أبي طلحة: "وأفضل ما بَلَّغوا جيرانهم"، وفي رواية عمرو بن عبد الله:"وفضلت فضلة، فأهديناها لجيراننا"، ونحوه عند أبي نعيم، من رواية عُمارة بن غَزِيّة، عن ربيعة، عن أنس، بلفظ:"حتى أهدت أم سليم لجيراننا".

ويأتي أيضًا لمسلم في أواخر رواية سعد بن سعيد: "حتى لم يبق منهم أحد إلا دخل، فأكل، حتى شبع"، وفي رواية له من هذا الوجه:"ثم أخذ ما بقي، فَجَمَعه، ثم دعا فيه بالبركة، فعاد كما كان"، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أنس بن مالك رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [8/ 5305 و 5306 و 5307 و 5308 و 5309 و 5310 و 5311 و 5312 و 5313](2040)، و (البخاريّ) في "الصلاة"(422) و"الأنبياء"(3578) و"الأطعمة"(5381 و 5450) و"الأيمان والنذور"(6688)، و (الترمذيّ) في "المناقب"(3634)، و (مالك) في "الموطّأ"(2/ 927)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(4/ 142)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(25/ 107)، و (عبد بن حميد) في "مسنده"(1/ 371)، و (الفريابيّ) في "مسنده"(1/ 36)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(7/ 273)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم من ضيق الحال، وشَظَف العيش، وأنه صلى الله عليه وسلم كان يجوع حتى يبلغ به الجوع والجهد إلى ضَعف الصوت، وهو غير صائم.

2 -

(ومنها): بيان أن الطعام الذي لمثله يُدْعَى الضيف، ولا يُدْعَى إلا لأرفع ما يُقْدَر عليه كان عندهم الشعير، وقد كان أكثر طعامهم التمر في أول

ص: 287

الإسلام، وكان يَمُرّ بهم الشهر والشهران ما توقد في بيت أحدهم نار، وذلك محفوظ معناه من حديث عائشة وغيرها.

3 -

(ومنها): قبول مواساة الصَّدِيق، وأكْل طعامه، وأن ذلك ليس بصدقة، وإنما كان صلة وهدية، ولو كان صدقة ما أكله رسول الله صلى الله عليه وسلم.

4 -

(ومنها): أن الرجل إذا دُعِيَ إلى طعام جاز لجلسائه أن يأتوا معه إذا دعاهم الرجل، وإن لم يدعهم صاحب الطعام، قال ابن البرّ رحمه الله: وذلك عندي محمول على أنهم عَلِموا أن صاحب الطعام تطيب لهم نفسه بذلك، ووجه آخر أن يكون الطعام يكفيهم، وقد قال مالك: لا ينبغي لمن دُعي إلى طعام أن يحمل مع نفسه غيره؛ إذ لا يدري هل يُسَرّ بذلك صاحب الطعام أم لا؟ قال مالك: إلا أن يقال له: ادع من لقيت.

5 -

(ومنها): بيان فضل فطنة أم سليم رضي الله عنها لحسن جوابها زوجها حين شَكَى إليها كثرة من حَلّ به مع قلة طعامه، فقالت له: الله ورسوله أعلم؛ أي: لم يأت بهم إلا وسيطعمهم.

6 -

(ومنها): استحباب الخروج إلى الطريق لاستقبال من أتى إلى بيته؛ لأنه من البِرّ، فإن أبا طلحة رضي الله عنه استقبل النبيّ صلى الله عليه وسلم حين جاء إليه.

7 -

(ومنها): أن صاحب الدار لا يُستأذن في داره، وأن من دخل معه يَستغني عن الاستئذان.

8 -

(ومنها): أن الصَّدِيق الملاطف يأمر في دار صديقه بما يحب، ويظهر إدلاله في الأمر والنهي والتحكم في ذلك؛ لأنه صلى الله عليه وسلم اشترط عليهم أن يُفَتّ الخبز، وهو فعل يرضاه أهل الكرم من الضيف، ولقد أحسن القائل:

يَسْتَأْنِسُ الضَّيْفُ فِي أَبْيَاتِنَا أَبَدًا

فَلَيْسَ يَعْرِفُ خَلْقٌ أَيُّنَا الضَّيْفُ

9 -

(ومنها): أن الإنسان لا يُدخَل عليه بيته إلا معه، أو بإذنه، ألا ترى إلى قوله صلى الله عليه وسلم:"ايذن لعشرة"، وقد استحب أهل العلم أن لا يكون على الخُوّان الذي عليه الطعام أكثر من عشرة.

10 -

(ومنها): أن الثريد أعظم بركةً من غيره من الطعام، ولذلك أَمَرهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله أعلم.

11 -

(ومنها): أن لصاحب الطعام أن يُقَدِّم إلى طعامه ممن حضره من

ص: 288

شاء من غير قُرعة، وإن كان قد دعاهم جميعًا إذا علم أن كل واحد منهم يصل من الطعام إلى ما يكفيه في ذلك الوقت.

12 -

(ومنها): استحباب اجتماع العدد من الناس على جفنة واحدة عند كثرتهم، لكن هذا إذا لم تَحمل الجفنة أكثر من ذلك، فلو كانت كجفنة الرَّكب لَأَكل عليها أكثر من هذا العدد، قاله القرطبيّ

(1)

.

13 -

(ومنها): جواز الشِّبَع، خلافًا لمن كرهه مطلقًا، وهم قومٌ من المتصوفة، لكن الذي يُكره منه ما يزيد على الاعتدال، وهو الأكل بكلّ البطن، حتى لا يترك للماء، ولا للنَّفس مساغًا، وقد ينتهي هذا إلى تجاوز الحد، فيُحكم عليه بالتحريم كما تقدَّم. وكونه صلى الله عليه وسلم أَكَل بعدهم؛ إنَّما كان ذلك لأنه هو أطعمهم ببركة دعائه، فكان آخرهم أكلًا، كما قال في الشراب:"ساقي القوم آخرهم شُربًا"، رواه مسلم، وأيضًا: فليحصل على درجة الإيثار؛ فإنَّه صلى الله عليه وسلم كان أشدَّهم جوعًا؛ لأنَّه كان قد شدَّ على بطنه بحجرين، ومع ذلك فقدَّمهم عليه وآثرهم بالأكل قبله.

وشدُّ البطن بالحجر يُسْكن سَوْرة الجوع، وذلك: أنه يلصق البطن بالأمعاء، والأمعاء بالبطن، فتلتصق المعدة بعضها بالبعض، فيقل الجوع. وقيل: إنما يفعل ذلك ليقوى من الضعف الذي يجده بسبب الجوع. والأول أبْيَن، قاله القرطبيّ رحمه الله أيضًا

(2)

.

14 -

(ومنها): أن فيه العَلَم الساطع النيِّر، والبرهان الواضح من أعلام نبوّته صلى الله عليه وسلم، وقد رُوي هذا المعنى وشِبْهه من وجوه كثيرة؛ كحديث أنس هذا، وحديث جابر رضي الله عنه الماضي، وكذلك حديث أبي أيوب الأنصاريّ رضي الله عنه، وغيرهم.

وقال النوويّ رحمه الله في شرح حديث جابر رضي الله عنه: وقد تضمن هذا الحديث عَلَمين من أعلام النبوة: أحدهما: تكثير الطعام القليل، والثاني: عِلْمه صلى الله عليه وسلم بأن هذا الطعام القليل الذي يكفي في العادة خمسة أنفس، أو نحوهم سيكثر، فيكفي ألفًا وزيادة، فدعا له ألفًا قبل أن يصل إليه، وقد عَلِم

(1)

"المفهم" 5/ 311.

(2)

"المفهم" 5/ 311.

ص: 289

أنه صاع شعير، وبهيمة، والله أعلم، وأما الحديث الثالث، وهو حديث أنس في طعام أبي طلحة ففيه أيضًا هذان العَلَمان من أعلام النبوة، وهما: تكثير القليل، وعِلْمه صلى الله عليه وسلم بأن هذا القليل سيكثره الله تعالى، فيكفي هؤلاء الخلق الكثير، فدعاهم له.

وقال عند شرح قوله: "أرسلك أبو طلحة؟، فقلت: نعم"، وقوله:"ألطعام؟ فقلت: نعم" ما نصّه: هذان عَلَمان من أعلام النبوة، وذهابه صلى الله عليه وسلم بهم عَلَمٌ ثالث، كما سبق، وتكثير الطعام عَلَمٌ رابع، وفيه ما تقدم في حديث أبي هريرة، وحديث جابر، من ابتلاء الأنبياء - صلوات الله عليهم وسلامه - والاختبار بالجوع وغيره من المشاقّ؛ ليصبروا، فَيَعْظُم أجرهم، ومنازلهم، وفيه ما كانوا عليه من كتمان ما بهم، وفيه ما كانت الصحابة رضي الله عنهم عليه من الاعتناء بأحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيه استحباب بعث الهديّة، وإن كانت قليلة بالنسبة إلى مرتبة المبعوث إليه؛ لأنها وإن قَلَّت فهي خير من العدم، وفيه جلوس العالم لأصحابه يفيدهم، ويؤدبهم، واستحباب ذلك في المساجد، وفيه انطلاق صاحب الطعام بين يدي الضِّيفان، وخروجه؛ ليتلقاهم، وفيه منقبة لأم سليم رضي الله عنها، ودلالة على عظيم فقهها، ورجحان عقلها؛ لقولها: الله ورسوله أعلم، ومعناه: أنه قد عرف الطعام، فهو أعلم بالمصلحة، فلو لم يَعْلَمها في مجيء الجمع العظيم لم يفعلها، فلا تحزن من ذلك، وفيه استحباب فَتِّ الطعام، واختيار الثريد على الغمس باللقم. انتهى كلام النوويّ- رحمه الله

(1)

، وإنما ذكرته، وإن كان جلّه تقدّم؛ لكونه مجموعًا في محل واحد، فهو أَفْيد، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

15 -

(ومنها): ما قال أبو عمر بن عبد البرّ رحمه الله: احتج بعض أصحابنا بهذا الحديث في جواز شهادة الأعمى على الصوت، وقال: لم يمنع أبا طلحة ضَعْف صوت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تمييزه؛ لِعِلْمه به، فكذلك الأعمى إذا عرف الصوت، وعارضه بعض من لا يرى شهادة الأعمى جائزة على الكلام بأن أبا طلحة قد تغيّر عنده صوت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولولا رؤيته له لاشتبه عليه في حين

(1)

"شرح النوويّ" 13/ 19.

ص: 290

سماعه منه، وما عرفه، قال: والتشغيب في هذه المسألة طويل. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: مسألة شهادة الأعمى، قد تكلّمنا عليها في غير هذا الموضع، ورجّحنا جوازها، وهو مذهب مالك، ورجحه البخاريّ، وهو الحقّ، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5306]

(. . .) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ نُمَيْرٍ (ح) وَحَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ - وَاللَّفْظُ لَهُ - حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنِي أنَسُ بْنُ مَالِكٍ، قَالَ: بَعَثَنِي أَبُو طَلْحَةَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم لأَدْعُوَهُ، وَقَدْ جَعَلَ طَعَامًا، قَالَ: فَأَقْبَلْتُ، وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَعَ النَّاسِ، فَنَظَرَ إِلَيَّ، فَاسْتَحْيَيْتُ، فَقُلْتُ: أَجِبْ أَبَا طَلْحَةَ، فَقَالَ لِلنَّاسِ:"قُومُوا"، فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: يَا رَسُولَ اللهِ إنَّمَا صَنَعْتُ لَكَ شَيْئًا، قَالَ: فَمَسَّهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَدَعَا فِيهَا بِالْبَرَكَةِ، ثُمَّ قَالَ:"أَدْخِلْ نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِي عَشَرَةً"، وَقَالَ:"كُلُوا"، وَأَخْرَجَ لَهُمْ شَيْئًا مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ، فَأَكَلُوا، حَتَّى شَبِعُوا، فَخَرَجُوا

(2)

، فَقَالَ:"أَدْخِلْ عَشَرَةً"، فَأَكَلُوا، حَتَّى شَبِعُوا، فَمَا زَالَ يُدْخِلُ عَشَرَةً، وَيُخْرِجُ عَشَرَةً، حَتَّى لَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ أَحَدٌ إِلَّا دَخَلَ، فَأَكَلَ، حَتَّى شَبِعَ، ثُمَّ هَيَّأَهَا، فَإذَا هِيَ مِثْلُهَا حِينَ أكَلُوا مِنْهَا).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(سَعْدُ بْنُ سَعِيدِ) بن قيس بن عمرو الأنصاريّ، أخو يحيى، صدوقٌ سيّئ الحفظ [4](ت 141)(خت م 4) تقدم في "صلاة المسافرين وقصرها" 26/ 1775.

والباقون ذُكروا في الباب، وقبل باب، وشرح الحديث واضحٌ يُعلم مما سبق.

وقوله: (وَأَخْرَجَ لَهُمْ شَيْئًا مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ) قال النوويّ رحمه الله: وهذا

(1)

"التمهيد" 1/ 289 - 290.

(2)

وفي نسخة: "فأكلوا حتى خرجوا".

ص: 291

الحديث قضية أخرى بلا شك، وفيها ما سبق في الحديث الأول، وزيادة هذا العَلَم الآخر من أعلام النبوّة، وهو إخراج ذلك الشيء من بين أصابعه الكريمات صلى الله عليه وسلم

(1)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5307]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ يَحْيَى الأُمَوِيُّ، حَدَّثَنِي أَبِي، حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أنَسَ بْنَ مَالِكٍ قَالَ: بَعَثَنِي أَبُو طَلْحَةَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِنَحْوِ حَدِيثِ ابْنِ نُمَيْرٍ، غَيْرَ أنَّهُ قَالَ فِي آخِرِهِ: ثُمَّ أَخَذَ مَا بَقِيَ، فَجَمَعَهُ، ثُمَّ دَعَا فِيهِ بِالْبَرَكَةِ، قَالَ: فَعَادَ كَمَا كَانَ، فَقَالَ: "دُونَكُمْ هَذَا").

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(سَعِيدُ بْنُ يَحْيَى الأُمَوِيُّ) أبو عثمان البغداديّ، ثقةٌ ربّما أخطأ [10](ت 249)(خ م د ت س) تقدم في "الإيمان" 16/ 171.

2 -

(أَبُوهُ) يحيى بن سعيد بن أبان بن سعيد بن العاص الأمويّ، أبو أيوب الكوفيّ، نزيل بغداد، لقبه الْجَمَل، صدوقٌ يُغرب، من كبار [9](ت 194) وله (80) سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 16/ 171.

والباقيان ذُكرا قبله.

وقوله: (وَسَاقَ الْحَدِيثَ. . . إلخ) فاعل "ساق" ضمير يحيى بن سعيد الأمويّ.

[تنبيه]: رواية يحيى بن سعيد الأمويّ، عن سعد بن سعيد ساقها الطبرانيّ رحمه الله في "المعجم الأوسط"، فقال:

(6485)

- حدّثنا محمد بن عيسى بن شيبة، ثنا سعيد بن يحيى، حدّثني أبي، ثنا سعد بن سعيد، قال: سمعت أنس بن مالك يقول: بعثني أبو طلحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بحريرة صنعها له، يختصّه بها، فقال: اذهب، فادع لي رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فانطلقت إليه، فلما نظر إليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو في

(1)

"شرح النوويّ" 13/ 230 - 231.

ص: 292

أصحابه أَبَدّ بصره إليّ، حتى نظر إليّ القومُ جميعًا، فخَجِلت، فقال:"أرسل إلينا أبو طلحة؟ " فقلت: نعم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"قوموا"، قال: فقام الناس معه، فانطلقت أسعى إلى أبي طلحة، فأخبرته الخبر، فقام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله إنما جعلت شيئًا لك، لا يَسَعُهم، فقال:"سَيَسَعُهم إن شاء الله"، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعا بالبركة، ثم قال:"ائذن لعشرة"، قال: فدخلوا، فأكلوا حتى اكتفَوْا، ثم خرجوا، فقال:"ائذن لعشرة آخرين"، فدخل عشرة، فأكلوا حتى اكتفوا جميعًا، ثم أخذ ما بقي، فجمعه، ثم دعا فيه بالبركة، فعاد لِما كان، فقال:"دونكم هذا".

قال: لم يَرْوِ هذا الحديث عن سعد بن سعيد إلا يحيى بن سعيد الأموي. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: قوله: "لم يرو هذا الحديث. . . إلخ" الظاهر أنه يريد هذا السياق، لا أصل الحديث، فقد تقدّم في الرواية السابقة أن عبد الله بن نمير رواه عن سعد، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5308]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِي عَمْرٌو النَّاقِدُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ الرَّقِّيُّ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: أَمَرَ أَبُو طَلْحَةَ أُمَّ سُلَيْمٍ أَنْ تَصْنَعَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم طَعَامًا لِنَفْسِهِ خَاصَّةً، ثُمَّ أَرْسَلَنِي إِلَيْهِ، وَسَاقَ الْحَدِيثَ، وَقَال فِيهِ: فَوَضَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَدَهُ، وَسَمَّى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: "ائْذَنْ لِعَشَرَةٍ"، فَأَذِنَ لَهُمْ، فَدَخَلُوا، فَقَالَ: "كُلُوا، وَسَمُّوا اللهَ"، فَأكَلُوا، حَتَّى فَعَلَ ذَلِكَ بِثَمَانِينَ رَجُلًا، ثُمَّ أَكَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ ذَلِكَ، وَأهْلُ الْبَيْتِ، وَتَرَكُوا سُؤْرًا).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عَمْرٌو النَّاقِدُ) هو: عمرو بن محمد بن بُكير، تقدّم قبل باب.

2 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ الرَّقِّيُّ) هو: عبد الله بن جعفر بن غيلان، أبو عبد الرحمن القرشيّ مولاهم، ثقةٌ، لكنه تغيَّر بآخره، فلم يفحش اختلاطه [10](ت 220)(ع) تقدم في "البيوع" 22/ 3954.

ص: 293

3 -

(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو) بن أبي الوليد الرقّيّ، أبو وهب الأسديّ، ثقةٌ فقيهٌ، ربّما وَهِمَ [8](ت 180) عن (80) سنةً (ع) تقدّم في "المقدّمة" 6/ 96.

4 -

(عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عُمَيْرِ) بن سُويد اللَّخْميّ الكوفيّ، ويقال له: الْفَرَسيّ، لفرس له سابق، ثقةٌ فقيهٌ تغيّر حفظه، وربّما دلّس [3](ت 136) وله (103)(ع) تقدم في "الإيمان" 46/ 296.

5 -

(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي لَيْلَى) الأنصاريّ المدنيّ، ثمّ الكوفيّ، ثقةٌ، من كبار [3](ت 86)(ع) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.

و"أنس بن مالك رضي الله عنه" ذُكر قبله.

وقوله: (وَسَاقَ الْحَدِيثَ، وَقَالَ فِيهِ) فاعل "ساق"، و"قال" ضمير عبد الرحمن بن أبي ليلى.

[تنبيه]: رواية عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن أنس بن مالك رضي الله عنه ساقها أبو عوانة رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(8310)

- حدّثنا هلال بن العلاء أبو عمر الباهليّ، قال: ثنا عبد الله بن جعفر، قال: ثنا عبيد الله بن عمرو، عن عبد الملك بن عُمير، عن عبد الرحمن بن أبي ليلي، عن أنس بن مالك، قال: أمر أبو طلحة أم سليم، فقال: اصنعي للنبيّ صلى الله عليه وسلم طعامًا لنفسه خاصّةً، يأكل منه، قال: ثم أرسلني أبو طلحة إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأتيته، فقلت: إليك بعثني أبو طلحة، فقال للقوم:"قوموا"، قال: فلقينا أبو طلحة، فقال: يا نبي الله إنما صنعنا طعامًا لنفسك خاصّةً، فقال:"لا عليك، انطلق"، فانطلق القوم معه، فجاء بطعام، إنما صنعه للنبيّ صلى الله عليه وسلم وحده، فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده في القصعة، وسَمَّى عليه، ثم قال:"ائذن لعشرة"، فأَذِن لهم، فدخلوا، فقال:"كلوا بسم الله"، فأكلوا حتى شبعوا، ثم قاموا، ثم وضع النبيّ صلى الله عليه وسلم يده كما وضع المرة الأولى، وسَمَّى، ثم قال:"ائذن لعشرة"، حتى فَعَل ذلك بثمانين رجلًا، ثم أكل النبيّ صلى الله عليه وسلم بعد ذلك، وأهل البيت، وتركوا سؤرًا. انتهى

(1)

.

(1)

"مسند أبي عوانة" 5/ 178 - 179.

ص: 294

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5309]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أنَسِ بْنِ مَالِكٍ، بِهَذِهِ الْقِصَّةِ فِي طَعَامِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَقَالَ فِيهِ: فَقَامَ أَبُو طَلْحَةَ عَلَى الْبَابِ، حَتَّى أَتَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّمَا كَانَ شَيْءٌ يَسِيرٌ

(1)

، قَالَ:"هَلُمَّهُ، فَإنَّ اللهَ سَيَجْعَلُ فِيهِ الْبَرَكَةَ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ) الكسيّ، تقدّم قبل باب.

2 -

(عَبْدُ اللهِ بنُ مَسْلَمَةَ) القعنبيّ، تقدّم قبل بابين.

3 -

(عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدِ) بن عُبيد الدراورديّ، أبو محمد المدنيّ، صدوقٌ، كان يُحدّث من كتب غيره فيُخطئ [8](ت 6 أو 187)(ع) تقدم في "الإيمان" 8/ 135.

4 -

(عَمْرُو بْنُ يَحْيَى) بن عُمارة المازنيّ المدنيّ، ثقةٌ [6] مات بعد (130)(ع) تقدم في "الإيمان" 88/ 464.

5 -

(أَبُوهُ) يحيى بن عُمارة بن أبي حسن الأنصاريّ المدنيّ، ثقةٌ [3](ع) تقدم في "الإيمان" 88/ 464.

و"أنس بن مالك رضي الله عنه" تقدم قريبًا.

وقوله: (وَقَالَ فِيهِ. . . إلخ) فاعل "قال" ضمير يحيى بن عُمارة.

وقوله: (إِنَّمَا كَانَ شَيْءٌ يَسِيرٌ) هكذا في بعض النسخ بالرفع، على أن "كان" تامّة، ويَحْتمل أن تكون ناقصةً، ويقدّر خبرها؛ أي: عندنا، أو نحوه، وفي بعض النسخ:"إنما كان شيئًا يسيرًا" بالنصب، وهو ظاهر؛ أي: إنما كان الطعامُ شيئًا قليلًا.

وقوله: (هَلُمَّهُ)؛ أي: أَحْضِرْه.

[تنبيه]: رواية يحيى بن عمارة، عن أنس ساقها الطبرانيّ في "المعجم الكبير"، فقال:

(279)

- حدّثنا عليّ بن عبد العزيز، ثنا القعنبيّ (ح) وحدّثنا أبو خليفة،

(1)

وفي نسخة: "إنما كان شيئًا يسيرًا".

ص: 295

ثنا عليّ ابن المدينيّ، قالا: ثنا عبد العزيز بن محمد الدراوَرْديّ، عن عمرو بن يحيى بن عُمارة، عن أبيه، عن أنس بن مالك، وكانت أم سُليم بنت مِلْحان تحت أبي طلحة، فصنعت خزيرًا، ثم قال لي أبو طلحة: اذهب يا بُنَيّ، فادع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذهبت، فدعوته، فجئته، وهو بين ظهراني الناس، فقلت: إن أبي يدعوك، فقال للناس:"انطلقوا"، فلما رأيته قال للناس تقدمت بين أيديهم، حتى جئت أبا طلحة، فقلت: يا أبة هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم معه الناس، فقام أبو طلحة على الباب، حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله إنما كان شيئًا يسيرًا، قال:"هَلُمَّهُ، فإن الله سيجعل فيه بركة"، فجاء به، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه فيه، ودعا فيه، حتى أكل منه ثمانون رجلًا. انتهى

(1)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5310]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ الْبَجَلِيُّ، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَي عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِهَذَا الْحَدِيثِ، وَقَالَ فِيهِ: ثُمَّ أَكَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَكَلَ أَهْلُ الْبَيْتِ، وَأَفْضَلُوا مَا أَبْلَغُوا

(2)

جِيرَانَهُمْ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ الْبَجَلِيُّ) مولاهم، أبو الهيثم الْقَطَوانيّ، صدوقٌ يتشيّع، وله أفراد، من كبار [10](ت 213) أو بعدها (خ م كد ت س ق) تقدم في "الإيمان" 65/ 367.

2 -

(مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى) بن أبي عبد الله الْفِطريّ - بكسر الفاء، وسكون الطاء - أبو عبد الله بن أبي طلحة المدنيّ، صدوقٌ رُمي بالتشيّع [7].

روى عن المقبريّ ويعقوب بن سلمة الليثيّ، وعون بن محمد ابن الحنفية، ومحمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان.

وروى عنه عبد الرحمن بن أبي الموال، وابن مهديّ، وابن أبي فُديك، ومعن بن عيسى، وأبو عامر العقديّ، وخالد بن مخلد، وقتيبة بن سعيد، وغيرهم.

(1)

"المعجم الكبير" للطبرانيّ 25/ 111.

(2)

وفي نسخة: "ما بلغوا".

ص: 296

قال أبو حاتم: صدوقٌ، صالح الحديث، كان يتشيع، وقال الترمذيّ: ثقةٌ، وقال أبو جعفر الطحاويّ: محمود في روايته، وقال ابن شاهين في "الثقات": قال أحمد بن صالح: محمد بن موسى الفِطْريّ شيخٌ، ثقةٌ من الفِطريين، حسن الحديث، قليل الحديث، وذكره ابن حبان في "الثقات".

أخرج له المصنّف، والأربعة، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.

3 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ) الأنصاريّ، أبو يحيى المدنيّ، أخو إسحاق [4].

رَوى عن أبيه، وعمه أنس بن مالك، وعنه محمد بن عُمارة بن حزم، ومحمد بن موسى الفِطْريّ، وسعيد بن عبد الرحمن الْجُمَحيّ، وغيرهم.

قال إبراهيم بن الجنيد، عن ابن معين: إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، وأخواه إسماعيل، وعبد الله ثقات، وقال أبو زرعة، والنسائيّ: ثقةٌ، وقال أبو حاتم: صالح، ووثّقه العجليّ، وذكره ابن حبّان في "الثقات".

قال الواقديّ: مات سنة أربع وثلاثين ومائة، وكان أصغر من أخيه إسحاق.

انفرد به المصنّف، والنسائيّ، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.

والباقيان ذُكرا قبله.

وقوله: (وَقَالَ فِيهِ. . . إلخ) فاعل "قال" ضمير عبد الله بن عبد الله بن أبي طلحة.

وقوله: (وَأَفْضَلُوا مَا أبْلَغُوا جِيرَانَهُمْ) وفي بعض النسخ: "بَلّغوا" جيرانهم، و"ما" موصولة مفعول "أفضلوا".

[تنبيه]: رواية عبد الله بن عبد الله بن أبي طلحة، عن أنس رضي الله عنه ساقها أبو عوانة رحمه الله في "مسنده" باختلاف يسير، فقال:

(8317)

- حدّثنا أحمد بن يوسف السلميّ، ومحمد بن أحمد بن أبي المثنى الموصليّ قالا: ثنا خالد بن مَخْلد الْقَطَوانيّ، قال: ثنا محمد بن موسى، قال: حدّثني عبد الله بن عبد الله بن أبي طلحة، عن أنس بن مالك،

ص: 297

قال: بعثني أبو طلحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أدعوه، فأقبلت، حتى إذا نظر إليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"يا أنس دعانا أبوك؟ " قلت: نعم يا رسول الله، فقام فلم يَمُرّ بمجلس إلا قال:"قوموا"، قال أنس: فأقبلت سريعًا حتى جئت إلى أبي طلحة، فقلت: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جاء، ومعه الناس، فتلقاه أبو طلحة على باب الدار، قال: يا رسول الله، إنما كان شيئًا أردنا أن نخُصّك به، قال:"ادخل"، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي يد أم سليم عُكّة، قد صُنع ثريدة شعير، فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده عليها، ثم قال:"يا أبا طلحة أدخل عليّ عشرة"، قال: وهم سبعون، أو ثمانون، ثم أكل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأكل أهل البيت، وأفضلوا فضلًا، فأهدوهم جيرانهم. انتهى

(1)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5311]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْحُلْوَانِيُّ، حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، قَالَ: سَمِعْتُ جَرِيرَ بْنَ زَيْدٍ، يُحَدِّثُ عَنْ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: رَأَى أَبُو طَلْحَةَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم مُضْطَجِعًا فِي الْمَسْجِدِ، يَتَقَلَّبُ ظَهْرًا لِبَطْنٍ، فَأَتَى أُمَّ سُلَيْمٍ، فَقَالَ: إِنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم مُضْطَجِعًا فِي الْمَسْجِدِ، يَتَقَلَّبُ ظَهْرًا لِبَطْنٍ، وَأَظُنُّهُ جَائِعًا، وَسَاقَ الْحَدِيثَ، وَقَالَ فِيهِ: ثُمَّ أَكَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَبُو طَلْحَةَ، وَأُمُّ سُلَيْمٍ، وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، وَفَضَلَتْ فَضْلَةٌ، فَأَهْدَيْنَاهُ

(2)

لِجِيرَانِنَا).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْحُلْوَانِيُّ) الخلّال، تقدّم قريبًا.

2 -

(وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ) بن حازم، تقدّم أيضًا قريبًا.

3 -

(أَبُوهُ) جرير بن حازم بن زيد بن عبد الله الأزديّ، أبو النضر البصريّ، ثقةٌ، ضُعّف في قتادة، وله أوهام إذا حدّث من حفظه [6](ت 170)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 81.

(1)

"مسند أبي عوانة" 5/ 182.

(2)

وفي نسخة: "فأهديناها".

ص: 298

4 -

(جَرِيرُ بْنُ زَيْدٍ) الأزديّ، أبو سلمة البصريّ، عمّ جرير بن حازم صدوقٌ [6].

رَوى عن عمرو بن عبد الله بن أبي طلحة، وسالم بن عبد الله بن عمر، وعامر بن سعد بن أبي وقاص، وغيرهم.

وروى عنه ابنا أخيه: جرير، ويزيد.

وقال أبو حاتم: لا بأس به، روى له البخاري مقرونًا، وذكره ابن حبان في "الثقات".

قال الجامع عفا الله عنه: هكذا قال الحافظ المزيّ رحمه الله: "روى له البخاريّ مقرونًا"، وتعقّبه الحافظ، فقال: بل جميع ما له عنده حديث واحد في "اللباس" رواه عن سالم، عن أبي هريرة، وخالفه فيه الزهريّ، فإنه رواه عن سالم، عن أبيه، وكأنّ الطريقين صحّا عند البخاريّ، فبنى على أنه عند سالم عن الاثنين، وليس مثل هذه الرواية تسمى مقرونة. انتهى

(1)

.

روى له البخاريّ، والمصنّف، والنسائيّ، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.

5 -

(عَمْرُو بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ) الأنصاريّ، ثقةٌ عابدٌ [4].

روى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مرسلًا، وعن عمه أنس بن مالك، وعبد الله بن الزبير، وروى عنه ابن عمه موسى بن أنس، وجرير بن زيد، وابن إسحاق. استعمله عمر بن عبد العزيز، أخرجه عبد الله بن أحمد في "زيادات الزهد" بإسناده إلى الأوزاعيّ، قال: وكان عاملًا له على عمان. ذكره ابن حبان في "الثقات".

تفرّد به المصنّف، وأبو داود في "فضائل الأنصار"، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.

و"أنس بن مالك رضي الله عنه" ذُكر قبله.

وقوله: (يَتَقَلَّبُ ظَهْرًا لِبَطْنٍ) قال النوويّ رحمه الله: وفي الرواية الأخرى: "وقد عَصَب بطنه بعصابة"، ولا مخالفة بينهما، وأحدهما يُبيّن الأخرى،

(1)

"تهذيب التهذيب" 2/ 63.

ص: 299

ويقال: عصب، وعصّب بالتخفيف، والتشديد. انتهى

(1)

.

وقوله: (وَسَاقَ الْحَدِيثَ، وَقَالَ فِيهِ. . . إلخ) فاعل "سقا"، و"قال" ضمير عمرو بن عبد الله بن أبي طلحة.

وقوله: (وَفَضَلَتْ فَضْلَةٌ) قال الفيّوميّ رحمه الله: فَضَلَ فَضْلًا، من باب قَتَل: بَقِيَ، وفي لغة: فَضِلَ يفَضَلُ، من باب تَعِبَ، وفَضِلَ بالكسر يَفْضُلَ بالضم لغةٌ ليست بالأصل، ولكنها على تداخل اللغتين، ونظيره في السالم: نَعِمَ يَنْعُمُ، ونَكِلَ يَنْكُلُ، وفي المعتلّ: دِمْتَ تَدُومُ، ومِتَّ تَمُوت، وفَضَلَ فَضْلًا، من باب قَتَل أيضًا: زاد. انتهى

(2)

.

وقوله: (فَأَهْدَيْنَاهُ لِجِيرَانِنَا) هكذا في بعض النسخ: "فأهديناه" بالتذكير، فيكون عائدًا على الفضلة بمعنى الفاضل: فأهدينا الفاضل، وفي بعض النسخ:"فأهديناها" بالتأنيث، وهو ظاهر؛ أي: فأهدينا الفضلة، والله تعالى أعلم.

[تنبيه]: رواية عمرو بن عبد الله بن أبي طلحة لم أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5312]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى التُّجِيبِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي أُسَامَةُ، أَنَّ يَعْقُوبَ بْنَ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ الأَنْصَارِيَّ حَدَّثَهُ، أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: جِئْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمًا، فَوَجَدْتُهُ جَالِسًا مَعَ أَصْحَابِهِ، يُحَدِّثُهُمْ، وَقَدْ عَصَّبَ بَطْنَهُ بِعِصَابَةٍ - قَالَ أُسَامَةُ: وَأَنَا أَشُكُّ - عَلَى حَجَرٍ، فَقُلْتُ لِبَعْضِ أَصْحَابِهِ: لِمَ عَصَّبَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَطْنَهُ؟ فَقَالُوا: مِنَ الْجُوعِ، فَذَهَبْتُ إِلَى أَبِي طَلْحَةَ، وَهُوَ زَوْجُ أُمِّ سُلَيْمٍ بِنْتِ مِلْحَانَ، فَقُلْتُ: يَا أَبَتَاهُ، قَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَصَّبَ بَطْنَهُ بِعِصَابَةٍ، فَسَأَلْتُ بَعْضَ أَصْحَابِهِ، فَقَالُوا: مِنَ الْجُوعِ، فَدَخَلَ أَبُو طَلْحَةَ عَلَى أُمِّي، فَقَالَ: هَلْ مِنْ شَيْءٍ؟ فَقَالَتْ: نَعَمْ عِنْدِي كِسَرٌ مِنْ خُبْزٍ، وَتَمَرَاتٌ، فَإنْ جَاءَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَحْدَهُ أَشْبَعْنَاهُ، وَإِنْ جَاءَ آخَرُ مَعَهُ

(3)

قَلَّ عَنْهُمْ، ثُمَّ ذَكَرَ سَائِرَ الْحَدِيثِ بِقِصَّتِهِ).

(1)

"شرح النوويّ" 13/ 222.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 475.

(3)

وفي نسخة: "وإن جاء أحدٌ معه".

ص: 300

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى التُّجِيبِيُّ) المصريّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْبٍ) المصريّ الحافظ الفقيه، تقدّم أيضًا قريبًا.

3 -

(أُسَامَةُ) بن زيد الليثيّ مولاهم، أبو زيد المدنيّ، صدوقٌ يهم [7](ت 153)(خت م 4) تقدم في "الصلاة" 42/ 1085.

4 -

(يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ الأَنْصَارِيُّ) ثقةٌ [4].

روى عن عمه أنس بن مالك، وامرأة من آل أبي قتادة، وعنه أسامة بن زيد الليثيّ، وعبد الله بن أبي بكر بن حزم.

قال أبو زرعة: ثقةٌ، وقال النسائيّ: مشهور الحديث، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال أبو زرعة: لم يرو عنه إلا أسامة بن زيد.

تفرّد به المصنّف، وليس له عنده إلا هذا الحديث.

و"أنس بن مالك رضي الله عنه" ذُكر قبله.

وقوله: (وَقَدْ عَصَّبَ بَطْنَهُ بِعِصَابَةٍ)؛ أي: شدّها بها، والعصابة بكسر العين: هي كلّ ما عَصَبت؛ أي: شددت به رأسك، من عمامة، أو منديل، أو خرقة

(1)

.

وقوله: (قَالَ أُسَامَةُ: وَأَنَا أَشُكُّ - عَلَى حَجَرٍ)؛ يعني: أن أسامة بن زيد شكّ في قول يعقوب، هل قال:"وقد عصب بطنه بعصابة"، أو قال:"وقد عصب بطنه على حجر"؟

وقوله: (فَقُلْتُ لِبَعْضِ أَصْحَابِهِ) لم يُعرف هذا البعض

(2)

.

وقوله: (وَهُوَ زَوْجُ أُمِّ سُلَيْمٍ بِنْتِ مِلْحَانَ) بكسر الميم، وسكون اللام.

وقوله: (فَقُلْتُ: يَا أَبَتَاهُ) قال النوويّ رحمه الله: فيه استعمال المجاز؛ لقوله: "يا أبتاه"، وإنما هو زوج أمه. انتهى

(3)

.

وقوله: (كِسَرٌ مِنْ خُبْزٍ) بكسر الكاف، وفتح السين المهملة: جمع كسرة، مثل سِدْرة وسِدَر: القطعة من الخبز.

(1)

"النهاية" ص 618.

(2)

"تنبيه المعلم" ص 351.

(3)

"شرح النوويّ" 13/ 223.

ص: 301

وقولها: (وَإِنْ جَاءَ آخَرُ مَعَهُ)، وفي بعض النُّسخ:"وإن جاء أحد معه".

وقولها: (قَلَّ عَنْهُمْ)؛ أي: صار قليلًا، فلا يُشبعهم.

وقوله: (ثُمَّ ذَكَرَ سَائِرَ الْحَدِيثِ بِقِصَّتِهِ) فاعل "ذَكَرَ" ضمير يعقوب بن عبد الله.

[تنبيه]: رواية يعقوب بن عبد الله بن أبي طلحة، عن أنس بن مالك رضي الله عنه ساقها أبو عوانة رحمه الله في "مسنده"، ببعض اختلاف، فقال:

(8315)

- أخبرنا أحمد بن عبد الرحمن الْوَهْبيّ، قال: أنبا عمي ابن وهب، حدّثني أسامة بن زيد، أن يعقوب بن عبد الله بن أبي طلحة الأنصاريّ حدّثه، أنه سمع أنس بن مالك يقول: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجدته جالسًا مع أصحابه، وقد عَصب بطنه بعصابة، فسألت بعض أصحابه، فقالوا: من الجوع، فدخل أبو طلحة على أمي، فقال: هل من شيء؟ فقالت: نعم، عندي كِسَرٌ من خبز، وتمرات، فإن جاءنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده أشبعناه، وإن جاء معه بأحد قَلّ عنهم، فقال أبو طلحة: اذهب يا أنس، فقم قريبًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا قام، فَدَعْ حتى يتفرق أصحابه، ثم اتّبعه، فقل: أبي يدعوك، ففعلت ذلك، فلما قلت: إن أبي يدعوك، قال لأصحابه:"يا هؤلاء تعالَوا"، ثم أخذ بيدي، فشدّها، ثم أقبل بأصحابه، حتى إذا دنونا من بيتنا أرسل يدي، فدخلت وأنا حزين لكثرة من جاء به، فقلت: يا أبتاه قد قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قلت لي، فدعا أصحابه، فقد جاءك بهم، فخرج أبو طلحة إليه، فقال: يا رسول الله إنما أرسلت إليك أنسًا يدعوك وحدك، ولم يكن عندي ما يُشبع ما أرى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ادْخُل، فإن الله عز وجل سيبارك في ما عندك"، فدخل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:"اجمعوا ما عندكم، ثم قرِّبوه"، وجلس من معه بالسُّدَّة، فقرَّبنا ما كان عندنا من خبز وتمر، فجعلناه على حصيرنا، فدعا فيه بالبركة، ثم قال:"أَدْخِلْ عليّ ثمانيةً"، فأدخلنا عليه ثمانيةً، وجعل كفّه فوق الطعام، وقال:"كُلُوا، وسَمُّوا الله"، فأكلوا من بين أصابعه، حتى شبعوا، ثم أمرني أن أُدخل عليه ثمانيةً، وقام الأولون، ففعلت، ودخلوا عليه، فأكلوا، حتى شبعوا، ثم أمرني، فأدخلت عليه ثمانيةً، فما زال ذلك أمرَهُ حتى دخل ثمانون رجلًا، كلهم يأكل حتى شبع، ثم دعاني، ودعا أمي، وأبا طلحة، فقال:"كلوا"، فأكلنا حتى شبعنا، ثم رفع يده، فقال:"يا أم سليم أين هذا من طعامك حين قدمتيه؟ " قالت: بأبي

ص: 302

أنت وأمي، لولا أني رأيتهم يأكلون لقلت ما يُقطع من طعامنا شيء. انتهى

(1)

.

وساقه الطبرانيّ أيضًا، إلا أنه جعله من رواية عمرو بن عبد الله بن أبي طلحة، فقال في "المعجم الكبير":

(278)

- حدّثنا إسماعيل بن الحسن الخفّاف المصريّ، ثنا أحمد بن صالح، ثنا ابن وهب، أنا أسامة بن زيد، أن عمرو بن عبد الله بن أبي طلحة حدّثه، أنه سمع أنس بن مالك يقول: جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا فوجدته جالسًا مع أصحابه يحدّثهم، وقد عصب بطنه على حجر، فقلت لبعض أصحابه: لِمَ عصب رسول الله صلى الله عليه وسلم بطنه؟ فقال: من الجوع، فذهبت إلى أبي طلحة، وهو زوج أم سليم بنت ملحان، فقلت: يا أبتاه قد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عصب بطنه بعصابة، فسألت بعض أصحابه، فقال: من الجوع، فدخل أبو طلحة على أمي، فقال: هل من شيء؟ فقالت: عندي كِسَرٌ من خبز وتمرات، فإن جاء النبيّ صلى الله عليه وسلم أشبعناه، وإن جاء معه أحد قَلّ عنهم، فقال أبو طلحة: اذهب يا أنس، فقم قريبًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا قام فدَعْه حتى يتفوق أصحابه ومن معه، حتى إذا قام على عتبة بابه، فقل: أبي يدعوك، ففعلت ذلك، فلما قلت: أبي يدعوك، قال لأصحابه:"يا هؤلاء تعالَوا"، ثم أخذ بيدي، فشدّها، وأقبل بأصحابه حتى إذا دَنَوْا من بيتنا أرسل يدي، فدخلت وأنا حزين؛ لكثرة من جاء معه، فقلت: يا أبتاه قد قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قلت لي، فدعا أصحابه، فقد جاءك بهم، فخرج أبو طلحة إليهم، فقال: يا رسول الله إنما أرسلت أنسًا يدعوك وحدك، ولم يك عندي ما يُشبع من أرى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ادْخُلْ، فإن الله عز وجل سيشبعهم بما عندك"، فدخل معي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:"اجمعوا ما كان عندكم، ثم قرِّبوه"، وجلس من كان عنده بالسُّدّة، وقرَّبت ما كان عندنا من خبزٍ وتمر، فجعلناه على حصيرنا، فدعا فيه بالبركة، ثم قال:"أدْخِل عليّ ثمانيةً" فأدخلت عليه ثمانيةً، وجعل كفه فوق الطعام، فقال:"كُلُوا، وسَمُّوا الله" فأكلوا من بين أصابعه، حتى شبعوا، ثم أمرني، فأدخلت ثمانية، وقام الأولون، ففعلت، فدخلوا، فأكلوا حتى شبعوا، ثم أمرني، فأدخلت ثمانيةً، فما زال على ذلك حتى دخل ثمانون رجلًا، كلهم يأكل حتى

(1)

"مسند أبي عوانة" 5/ 180 - 181.

ص: 303

يشبع، ثم دعاني، ودعا أمي، وأبا طلحة، فقال:"كلوا"، فأكلنا حتى شبعنا، ثم رفع يده، فقال:"يا أم سليم أين هذا من طعامك حين قدمته؟ " قالت: بأبي أنت وأمي، لولا أني رأيتهم يأكلون لقلت ما نقص من طعامنا شيء. انتهى

(1)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5313]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِي حَجَّاجُ بْنُ الشَّاعِرِ، حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا حَرْبُ بْنُ مَيْمُونٍ، عَنِ النَّضْرِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم في طَعَامِ أَبي طَلْحَةَ، نَحْوَ حَدِيثِهِمْ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(يُونُسُ بْنُ مُحَمَّدِ) بن مسلم، أبو محمد المؤدّب البغداديّ، ثقةٌ ثبتٌ، من صغار [9](ت 207)(ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 105.

2 -

(حَرْبُ بْنُ مَيْمُونٍ) الأكبر، أبو الخطّاب الأنصاريّ، مولى النضر بن أنس البصريّ، صدوقٌ، رُمي بالقدر [7].

روى عن النضر بن أنس، وعن حميد الطويل، وأيوب، وغيرهم.

وروى عنه عبد الصمد، ويونس المؤدّب، وعبد الله بن رجاء، وغيرهم.

قال الخطيب في "المتفق والمفترق": كان ثقةً، وقال الساجيّ في حرب بن ميمون الأصغر: ضعيف الحديث، عنده مناكير، والأكبر صدوقٌ، حدّثني يحيى بن يونس، ثنا مسلم بن إبراهيم، ثنا حرب بن ميمون، وكان قَدَريًّا، قال الساجيّ: وقال عبد الرحمن بن المتوكل: ثنا حرب بن ميمون، عن هشام بن حسان، قال الساجيّ الذي روى عنه مسلم: هو الأكبر، والذي روى عنه أبو المتوكل هو الأصغر، وقال ابن حبان في "الثقات": يخطئ، قال الحافظ: وقرأت بخط الذهبيّ: وثقه ابن المديني، ومات في حدود الستين ومائة.

أخرج له المصنّف، والترمذيّ، وابن ماجه في "التفسير"

(2)

، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.

(1)

"المعجم الكبير" للطبرانيّ 25/ 110.

(2)

قال في "التهذيب": روى له مسلم حديثًا في تكثير الطعام عند أم سليم، والآخر في قوله صلى الله عليه وسلم لأنس:"اطلبني أول ما تطلبني عند الصراط". انتهى.

ص: 304

3 -

(النَّضْرُ بْنُ أَنَسِ) بن مالك الأنصاريّ، أبو مالك البصريّ، ثقةٌ [3] مات سنة بضع و (100)(ع) تقدم في "العتق" 2/ 3767.

والباقيان ذُكرا في الباب.

وقوله: (نَحْوَ حَدِيثِهِمْ)؛ يعني: أن حديث النضر بن مالك نحو حديث السبعة، وهم: إسحاق بن عبد الله، وسعد بن سعيد، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، ويحيى بن عمارة، وعبد الله بن عبد الله، وعمرو بن عبد الله، ويعقوب بن عبد الله، السبعة كلّهم عن أنس رضي الله عنه.

[تنبيه]: رواية النضر بن أنس، عن أبيه أنس بن مالك رضي الله عنه ساقها أبو عوانة رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(8316)

- حدّثنا عباس بن محمد الدُّوريّ، ومحمد بن عبيد الله بن المنادي، قالا: ثنا يونس بن محمد، قال: ثنا حرب بن ميمون أبو الخطاب الأنصاريّ، عن النضر بن أنس، عن أنس بن مالك، قال: قالت أم سليم: اذهب إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم، فقل له: إن رأيت أن تتغدى عندنا، فافعل، قال: فجئته، فبلّغته، فقال:"ومَنْ عندي؟ " فقلت: نعم، فقال:"انهضوا"، قال: فجئت، فدخلت على أم سليم، وأنا مُدْهَشٌ بمن أقبل مع النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقالت أم سليم: ما صنعت يا أنس؟ فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أثر ذلك، فذكرت له أنه أرسلني إليك، وهذا غداؤك، قال:"هل عندك سَمْن؟ " قالت: نعم، قد كان عندي منه عكة فيها سمن، قال:"فأْتني بها" قال: فجئته بها، ففتح رباطها، فقال:"بسم الله، اللهم أعظم فيها البركة"، فقال:"اقلبها"، فعصرها نبي الله صلى الله عليه وسلم، وهو يسمّي، فأخذت تقع فِدَرًا

(1)

، فأكل منه بضع وثمانون رجلًا، وفَضَل منها فَضَل، فدفعه إلى أم سليم، فقال:"كلي، وأطعمي جيرانك". انتهى

(2)

.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(1)

بكسر، ففتح: جمع فِدْرة، بكسر، فسكون، وهي القطعة من اللحم وغيره.

(2)

"مسند أبي عوانة" 5/ 181 - 182.

ص: 305

(9) - (بَابُ جَوَازِ أَكْلِ الْمَرَقِ، وَاسْتِحْبَابِ أَكْلِ الْيَقْطِينِ، وَإِيثَارِ أَهْلِ الْمَائِدَةِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، وَإِنْ كَانُوا ضِيفَانًا، إِذَا لَمْ يَكْرَهْ ذَلِكَ صَاحِبُ الطَّعَامِ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5314]

(2041) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أنَسٍ، فِيمَا قُرِئَ عَلَيْهِ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، أَنَّهُ سَمِعَ أنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: إِنَّ خَيَّاطًا دَعَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِطَعَامٍ صَنَعَهُ، قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ: فَذَهَبْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى ذَلِكَ الطَّعَامِ، فَقَرَّبَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم خُبْزًا مِنْ شَعِيرٍ، وَمَرَقًا فِيهِ دُبَّاءٌ، وَقَدِيدٌ، قَالَ أنَسٌ: فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَتَتَبَّعُ

(1)

الدُّبَّاءَ مِنْ حَوَالَيِ الصَّحْفَةِ، قَالَ: فَلَمْ أَزَلْ أُحِبُّ الدُّبَّاءَ مُنْذُ يَوْمَئِذٍ).

رجال هذا الإسناد: أربعة:

وقد تقدّموا كلّهم في البابين السابقين.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (403) من رباعيّات الكتاب.

شرح الحديث:

(عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ) الأنصاريّ (أَنَّهُ سَمِعَ أنَسَ بْنَ مَالِكٍ) رضي الله عنه (يَقُولُ: إِنَّ خَيَّاطًا) قال الحافظ رحمه الله: لم أقف على اسمه، لكن في رواية ثُمامة، عن أنس أنه كان غلامُ النبيّ صلى الله عليه وسلم، وفي لفظ:"إن مولًى له خيّاطًا دعاه".

[فائدة]: "الخيّاط" - بفتح الخاء المعجمة، وتشديد الياء، آخر الحروف - ويلتبس هذا بـ "الحناط" - بفتح الحاء المهملة، وتشديد النون - وهو بَيّاع الحنطة، وبـ "الخباط" - بفتح الخاء المعجمة، وتشديد الباء الموحدة - وهو بيّاع

(1)

وفي نسخة: "يتبع".

ص: 306

الْخَبَط

(1)

، منهم عيسى بن أبي عيسى، كان كوفيًّا، ثم انتقل إلى المدينة، وكان خيّاطًا، ثم ترك ذلك، وصار خبّاطًا، ثم ترك ذلك، وصار يبيع الحنطة، بل قال عن نفسه فيما حكاه ابن سعد: أنا خيّاطٌ، وحنّاطٌ، وخبّاطٌ، كلًّا عالجت.

ومثله موسى بن أبي مسلم، كان يوصف بالأوصاف الثلاثة، وإلى هذا أشار السيوطيّ رحمه الله في "ألفيّة الحديث"، فقال:

عِيسَى وَمُسْلِمٌ هُمَا حَنَّاطُ

وَإِنْ تَشَا خَبَّاطٌ اوْ خَيَّاطُ

(2)

(دَعَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِطَعَامٍ صَنَعَهُ) كان الطعام المذكور ثريدًا، كما سيأتي بيانه. (قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ) رضي الله عنه (فَذَهَبْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى ذَلِكَ الطَّعَامِ، فَقَرَّبَ) بالبناء للفاعل؛ أي: أدنى ذلك الخيّاط (إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم خُبْزًا مِنْ شَعِيرٍ، وَمَرَقًا فِيهِ دُبَّاءٌ) - بضم الدال المهملة، وتشديد الموحّدة، ممدود -، ويجوز القصر، حكاه القزّاز، وأنكره القرطبيّ: هو القرع، وقيل: خاصّ بالمستدير منه، ووقع في "شرح المهذّب" للنوويّ أنه القرع اليابس، قال الحافظ: وما أظنه إلا سهوًا، وهو اليقطين أيضًا، واحده دباة، ودُبّة، وكلام أبي عبيد الهرويّ يقتضي أن الهمزة زائدة، فإنه أخرجه في "دبب"، وأما الجوهريّ فأخرجه في المعتل، على أن همزته منقلبة، وهو أشبه بالصواب، لكن قال الزمخشريّ: لا ندري هي منقلبة عن واو، أو ياء. انتهى

(3)

.

(وَقَدِيدٌ) - بفتح القاف، وكسر الدال المهملة - قال المجد رحمه الله: هو اللحم الْمُشَرّرُ الْمُقَدَّدُ، أو ما قُطع منه طِوَالًا. انتهى

(4)

.

قال المرتضى: "الْمُشَرَّرُ": هو الذي قُطِعَ وشُرِّرَ، "المُقَدَّد"؛ أي: المَمْلُوحُ المُجَفَّفُ في الشمس. انتهى

(5)

.

(قَالَ أَنَسٌ) رضي الله عنه (فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَتَتَبَّعُ) بتاءين، من التتبّع، وفي

(1)

الخبط بفتح الخاء المعجمة، والموحّدة: ما سقط من ورق الشجر.

(2)

راجع: "عمدة القاري" 11/ 210، و"شرحي على ألفيّة الحديث" 2/ 337.

(3)

"الفتح" 12/ 294، كتاب "الأطعمة" رقم (5379).

(4)

"القاموس المحيط" ص 1033.

(5)

"تاج العروس" 1/ 2191.

ص: 307

بعض النسخ: "يتّبع" بتاء واحدة، من الاتّباع، أو من التبَعِ. (الدُّبَّاءَ مِنْ حَوَالَيِ الصَّحْفَةِ)؛ أي: من جوانبها، وفي رواية البخاريّ:"من حوالي القصعة" - بفتح القاف - زاد في رواية: "يأكلها"؛ أي: لأنها كانت تعجبه، ويترك القديد؛ إذ كان لا يشتهيه حينئذ، قال الزرقانيّ رحمه الله: فيه أن المؤاكل لأهله وخدمه يأكل ما يشتهيه، حيث رآه في ذلك الإناء، إذا عُلِم أن مؤاكله لا يَكْرَه ذلك، وإلا فلا يتجاوز ما يليه، وقد عُلِم أن أحدًا لا يَكره منه صلى الله عليه وسلم شيئًا، بل كانوا يتبركون بِريقه وغيره، مما مسّه، بل كانوا يتبادرون إلى نخامته، فيتدلكون بها. انتهى

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: وتتبّع النبيّ صلى الله عليه وسلم الدبّاء من حوالي القصعة إنما كان ذلك؛ لأن الطعام كان مختلفًا، فكان يأكل ما يعجبه منه - وهو الدُّباء - ويترك ما لا يعجبه - وهو القديد - وقد قدَّمنا جواز ذلك. انتهى

(2)

.

وقال النوويّ رحمه الله: وأما تتبّعه صلى الله عليه وسلم الدباء من حوالي الصحفة: فيَحْتَمِل وجهين:

[أحدهما]: من حوالي جانبه، وناحيته من الصحفة، لا من حوالي جميع جوانبها، فقد أمر بالأكل مما يلي الإنسان.

[والثاني]: أن يكون من جميع جوانبها، وإنما نُهِيَ ذلك؛ لئلا يتقذره جليسه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لا يتقذّره أحد، بل يتبرّكون بآثاره صلى الله عليه وسلم فقد كانوا يتبرّكون ببصاقه صلى الله عليه وسلم، ونخامته، ويَدْلُكون بذلك وجوههم، وشَرِب بعضهم بَوْله، وبعضهم دمه، وغير ذلك مما هو معروف، من عظيم اعتنائهم بآثاره صلى الله عليه وسلم التي يخالفه فيها غيره. انتهى

(3)

.

(قَالَ) أنس رضي الله عنه (فَلَمْ أَزَلْ أُحِبُّ الدُّبَّاءَ مُنْذُ يَوْمَئِذٍ)؛ أي: من يوم رأيت النبيّ صلى الله عليه وسلم يتتبّعه من حوالي الصحفة، وفي رواية ثابت عن أنس الآتية:"فجعلت أُلقيه إليه، ولا أطعمه، قال: فقال أنس: فما زلت بعدُ يُعجبني الدبّاء"، وفي

(1)

"شرح الزرقانيّ على الموطّأ" 3/ 211.

(2)

"المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" 5/ 314.

(3)

"شرح النوويّ" 13/ 224.

ص: 308

رواية: "قال ثابت: فسمعت أنسًا يقول: فما صُنع لي طعام بعدُ أَقْدِر على أن يُصنَع فيه دباءٌ إلا صُنع"، وفي رواية ثُمامة عند البخاريّ:"قال أنس: لا أزال أُحبّ الدبّاء بعدما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صَنَعَ ما صَنَعَ"، ولابن ماجه بسند صحيح عن حميد، عن أنس:"قال: بعثت معي أم سليم بِمِكْتَل فيه رُطَبٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم أجده، وخرج قريبًا إلى مولى له دعاه، فصنع له طعامًا، فأتيته وهو يأكل، فدعاني، فأكلت معه، قال: وصنع له ثريدةً بلحم، وقَرْع، فإذا هو يعجبه القَرْع، فجعلت أجمعه، فأُدنيه منه. . ." الحديث، وأخرج مسلم بعضه من هذا الوجه، بلفظ:"كان يُعجبه القرع"، وللنسائيّ:"كان يحب القرع، ويقول: إنها شجرة أخي يونس".

قال في "الفتح": ويُجمع بين قوله في هذه الرواية: "فلم أجده"، وبين حديث الباب:"ذهبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم" أنه أطلق المعيّة باعتبار ما آل إليه الحال، ويَحْتَمِل تعدّد القصّة على بُعْد. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أنس بن مالك رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [9/ 5314 و 5315 و 5316](2041)، و (البخاريّ) في "البيوع"(2092) و"الأطعمة"(5379 و 5420 و 5433 و 5435 و 5436 و 5437 و 5439)، و (أبو داود) في "الأطعمة"(3782)، و (الترمذيّ) في "جامعه"(1850) و"الشمائل"(163)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(4/ 155)، و (مالك) في "الموطّأ"(2/ 546)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(10/ 448)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 101)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4539)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(5/ 184)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(5/ 303 و 471 و 7/ 13)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(7/ 273 - 274) و"شُعَب الإيمان"(5/ 83 و 101)، والله تعالى أعلم.

(1)

"الفتح" 12/ 294 - 295.

ص: 309

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان إجابة الدعوة، وإباحة كسب الخياط، وإباحة المرق، وفضيلة أكل الدباء.

2 -

(ومنها): بيان جواز أكل الشريف طعام مَنْ دونه من محترف وغيره، وإجابة دعوته، ومؤاكلة الخادم.

3 -

(ومنها): بيان ما كان في النبيّ صلى الله عليه وسلم من التواضع، واللطف بأصحابه، وتعاهدهم بالمجيء إلى منازلهم.

4 -

(ومنها): أن فيه الإجابةَ إلى الطعام، ولو كان قليلًا.

5 -

(ومنها): جواز مناولة الضيفان بعضهم بعضًا مما وُضع بين أيديهم، وإنما يمتنع من يأخذ من قُدّام الآخر شيئًا لنفسه أو لغيره، قاله في "الفتح"

(1)

، وقال القرطبيّ رحمه الله: فيه دليل على جواز مناولة بعض المجتمعين على الطعام لبعضٍ شيئًا منه، ولا يُنكَر على من فعل ذلك؛ وإنما الذي يُكره: أن يتناول شيئًا من أمام غيره، أو يتناول من على مائدة من مائدة أخرى، فقد كرهه ابن المبارك. انتهى

(2)

.

6 -

(ومنها): جواز ترك المضيف الأكل مع الضيف؛ لأن في رواية ثمامة عن أنس عند البخاريّ أن الخياط قَدَّم لهم الطعام، ثم أقبل على عمله، فيؤخذ جواز ذلك من تقرير النبيّ صلى الله عليه وسلم، ويَحْتَمِل أن يكون الطعام كان قليلًا، فآثرهم به، ويَحْتَمِل أن يكون كان مكتفيًا من الطعام، أو كان صائمًا، أو كان شغله قد تحتم عليه تكميله.

7 -

(ومنها): الحرص على التشبه بالنبيّ صلى الله عليه وسلم، والاقتداء به في المطاعم وغيرها، قال النوويّ رحمه الله: فيه أنه يستحبّ أن يحبّ الدباء، وكذلك كل شيء كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبّه، وأنه يَحْرِص على تحصيل ذلك.

وقال ابن عبد البرّ رحمه الله: ومن صريح الإيمان حبّ ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبه، واتباع ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله، ألا ترى إلى قول أنس رضي الله عنه: "فلم

(1)

"الفتح" 12/ 295.

(2)

"المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" 5/ 314.

ص: 310

أزل أُحبّ الدباء بعد ذلك اليوم". انتهى

(1)

.

8 -

(ومنها): أن فيه فضيلةً ظاهرةً لأنس؛ لاقتفائه أثر النبيّ صلى الله عليه وسلم حتى في الأشياء الجبِلّيّة، وكان يأخذ نفسه باتباعه فيها رضي الله عنه.

9 -

(ومنها): إباحة إجالة اليد في الصحفة، قال ابن عبد البرّ رحمه الله: وهذا عند أهل العلم على وجهين: أحدهما: أن ذلك لا يَحْسُن، ولا يَجْمُل إلا بالرئيس، ورب البيت، والآخر: أن المرق، والإدام، وسائر الطعام، إذا كان فيه نوعان، أو أنواع، فلا بأس أن تجول اليد فيه للتخيّر مما وُضِع في المائدة والصحفة، من صنوف الطعام؛ لأنه لذلك قُدِّم ليأكل كلٌّ ما أراد، وهذا كله مأخوذ من هذا الحديث، ألا ترى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جالت يده في الصحفة، يتّبع الدباء، فكذلك سائر الرؤساء، ولمّا كان في الصحفة نوعان، وهما اللحم، والدباء، حَسُنَ بالآكل أن تجول يده فيما اشتَهَى من ذلك، بدليل هذا الحديث، ولا يجوز ذلك على غير هذين الوجهين؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر بن أبي سلمة رضي الله عنهما:"سَمِّ الله، وكُلْ بيمينك، وكل مما يليك"، وإنما أَمَره أن يأكل مما يليه؛ لأن الطعام كله كان نوعًا واحدًا، والله أعلم، كذلك فسَّره أهل العلم. انتهى

(2)

.

10 -

(ومنها): بيان ما كان القوم عليه من شَظَف العيش في أكل الشعير، وما أشبهه، وما كانوا عليه من المواساة، وإطعام الطعام، مع ما كانوا فيه من هذه الحال، وقد رُوي أنهم كانوا يُكَثِّرون طعامهم بالدباء

(3)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5315]

(. . .) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ الْمُغِيرَةِ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: دَعَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ، فَانْطَلَقْتُ مَعَهُ، فَجِيءَ بِمَرَقَةٍ، فِيهَا دُبَّاءٌ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَأْكُلُ مِنْ ذَلِكَ

(1)

"التمهيد" لابن عبد البرّ 1/ 276 - 277.

(2)

"التمهيد" لابن عبد البرّ 1/ 276 - 277.

(3)

"التمهيد" لابن عبد البرّ 1/ 276 - 277.

ص: 311

الدُّبَّاءِ، وَيُعْجِبُهُ، قَالَ: فَلَمَّا رَأَيْتُ ذَلِكَ جَعَلْتُ أُلْقِيهِ إِلَيْهِ، وَلَا أَطْعَمُهُ، قَالَ: فَقَالَ أَنَسٌ: فَمَا زِلْتُ بَعْدُ يُعْجِبُنِي الدُّبَّاءُ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ أَبُو كُرَيْبٍ) الهَمْدانيّ الكوفيّ، تقدّم قبل بابين.

2 -

(أَبُو أُسَامَةَ) حماد بن أسامة الكوفيّ، تقدّم قبل باب.

3 -

(سُلَيْمَانُ بْنُ الْمُغِيرَةِ) القيسيّ مولاهم، أبو سعيد البصريّ، ثقة ثقة

(1)

[7](ت 165)(ع) تقدم في "الإيمان" 3/ 111.

4 -

(ثَابِتُ) بن أسلم البنانيّ البصريّ، تقدّم قبل باب.

و"أنس رضي الله عنه" ذُكر قبله.

وقوله: (أُلْقِيهِ إِلَيْهِ) من الإلقاء؛ أي: أُلقي ذلك الدبّاء إليه صلى الله عليه وسلم.

وقوله: (وَلَا أَطْعَمُهُ) بفتح أوله وثالثه، من باب تَعِب؛ أي: لا آكل ذلك الدبّاء؛ إيثارًا للنبيّ صلى الله عليه وسلم به.

وقوله: (فَمَا زِلْتُ بَعْدُ) بالبناء على الضمّ؛ لِقَطْعه عن الإضافة، ونيّة معناها؛ أي: بعد ذلك اليوم.

وقوله: (يُعْجِبُنِي الدُّبَّاءُ) من الإعجاب، وهو استحسان الشيء، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5316]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِي حَجَّاجُ بْنُ الشَّاعِرِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، جَمِيعًا عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ، وَعَاصِمٍ الأَحْوَلِ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ رَجُلًا خَيَّاطًا دَعَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَزَادَ: قَالَ ثَابِتٌ: فَسَمِعْتُ أَنَسًا يَقُولُ: فَمَا صُنِعَ لِي طَعَامٌ بَعْدُ، أَقْدِرُ عَلَى أَنْ يُصْنَعَ فِيهِ دُبَّاءٌ إِلَّا صُنِعَ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(عَبْدُ الرَّزَّاقِ) بن همّام الصنعانيّ، تقدّم قريبًا.

(1)

كذا قال ابن معين: ثقة مرّتين.

ص: 312

2 -

(مَعْمَرُ) بن راشد، تقدّم أيضًا قريبًا.

3 -

(عَاصِمٌ الأَحْوَلُ) ابن سليمان البصريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

والباقون ذُكروا في الباب وقبله.

[تنبيه]: رواية ثابت وعاصم الأحول، كلاهما عن أنس رضي الله عنه ساقها أبو عوانة رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(8327)

- حدّثنا محمد بن يحيى النيسابوريّ، ومحمد بن مُهَلّ الصنعانيّ، قالا: ثنا عبد الرزاق، قال: أنبا معمر، عن ثابت، وعاصم الأحول، عن أنس بن مالك، أن رجلًا خيّاطًا دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقَرَّب له ثريدًا، عليه دباءٌ، ولحمٌ، قال: فجعل النبيّ صلى الله عليه وسلم يأكل الدباء، وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم يحب الدباء، قال ثابت: فسمعت أنس بن مالك يقول: ما صُنِع لي طعام قطّ أقدر على أن يكون فيه الدباء، إلا صنعته. انتهى

(1)

.

(10) - (بَابُ اسْتِحْبَابِ وَضْعِ النَّوَى خَارِجَ التَّمْرِ، وَاسْتِحْبَابِ دُعَاءِ الضَّيْفِ لأَهْلِ الطَّعَامِ، وَطَلَبِ الدُّعَاءِ مِنَ الضَّيْفِ الصَّالِحِ، وَإِجَابَتِهِ لِذَلِكَ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5317]

(2042) - (حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى الْعَنَزِىُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ خُمَيْرٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ بُسْرٍ، قَالَ: نَزَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَبِي، قَالَ: فَقَرَّبْنَا إِلَيْهِ طَعَامًا، وَوَطْبَةً، فَأَكَلَ مِنْهَا، ثُمَّ أُتِيَ بِتَمْرٍ، فَكَانَ يَأْكُلُهُ، وَيُلْقِي النَّوَى بَيْنَ إِصْبَعَيْهِ، وَيَجْمَعُ السَّبَّابَةَ وَالْوُسْطَى - قَالَ شُعْبَةُ: هُوَ ظَنِّي، وَهُوَ فِيهِ إِنْ شَاءَ اللهُ، إِلْقَاءُ النَّوَى بَيْنَ الإِصْبَعَيْنِ - ثُمَّ أُتِيَ بِشَرَابٍ، فَشَرِبَهُ، ثُمَّ نَاوَلَهُ الَّذِي عَنْ يَمِينِهِ، قَالَ: فَقَالَ أَبِي، وَأَخَذَ بِلِجَامِ دَابَّتِهِ: ادْعُ اللهَ لَنَا، فَقَالَ: "اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمْ فِيمَا رَزَقْتَهُمْ، وَاغْفِرْ لَهُمْ، وَارْحَمْهُمْ").

(1)

"مسند أبي عوانة" 5/ 185.

ص: 313

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى الْعَنَزِيُّ) أبو موسى الزَّمِنُ، تقدّم قريبًا.

2 -

(مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ) المعروف بغُندر، تقدّم أيضًا قريبًا.

3 -

(شُعْبَةُ) بن الحجّاج الإمام الشهير، تقدّم أيضًا قريبًا.

4 -

(يَزِيدُ بْنُ خُمَيْرٍ) - بخاء معجمة، مصغّرًا - ابن يزيد الرحبيّ - بحاء مهملة ساكنة - أبو عمر الحمصيّ، صدوقٌ [5](بخ م 4) تقدم في "صلاة المسافرين وقصرها" 2/ 1584.

5 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ بُسْرِ) بن أبي بُسْر المازنيّ القيسيّ، أبو بسر، ويقال: أبو صفوان، له ولأبيه صحبة.

سَكَن حِمْص، رَوَى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعن أبيه، إن كان محفوظًا، وأخته الصمّاء، وقيل: عمته، وقيل: خالته.

ورَوَى عنه أبو الزاهرية حُدير بن كُريب، وخالد بن مَعْدان، وسُليم بن عامر، ومحمد بن عبد الرحمن بن عوف اليحصبيّ، ومحمد بن زياد، ويزيد بن خُمير الرحبيّ، وعمرو بن قيس السّكُونيّ، وصفوان بن عمرو، وحَريز بن عثمان، وغيرهم.

قال ابن سعد وغيره: مات سنة ثمان وثمانين بالشام، وقال بعضهم: بحمص، وهو ابن (94) سنةً، وهو آخر من مات بالشام من الصحابة.

وقال أبو القاسم عبد الصمد بن سعيد الحمصيّ في الصحابة الذين نزلوا حمص: مات عبد الله بن بسر سنة (96) وله مائة سنة، وكذا ذكر أبو نعيم في "معرفة الصحابة"، وساق في ترجمته حديث وَضْع النبيّ صلى الله عليه وسلم يده على رأسه، فقال:"يعيش هذا الغلام قَرْنًا"، فعاش مائة سنة

(1)

.

أخرج له الجماعة، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأن شيخه أحد التسعة الذين روى

(1)

وفي الصحابة أيضًا: عبد الله بن بسر النصريّ، رَوَى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعنه ابنه عبد الواحد، وقد فرق بينه وبين المازنيّ الخطيب، وابن عساكر، وابن عبد البرّ، وآخرون، قاله في "تهذيب التهذيب" 5/ 139.

ص: 314

عنهم الجماعة بلا واسطة، وقد تقدّموا غير مرّة، وأن صحابيّه ابن صحابيّ رضي الله عنهما، وهو آخر من مات من الصحابة بالشام، وهو من المعمّرين، قيل: بلغ المائة، كما مرّ آنفًا، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ يَزِيدَ بْنِ خُمَيْرٍ) بخاء معجمة، مصغّرًا (عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ بُسْرٍ) بضمّ الموحّدة، وإسكان السين المهملة، آخره راء رضي الله عنه أنه (قَالَ: نَزَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَبِي)؛ أي: والدي، (قَالَ) عبد الله (فَقَرَّبْنَا إِلَيْهِ طَعَامًا) لضيافته، (وَوَطْبَةً) قال النوويّ رحمه الله: هكذا رواية الأكثرين: "وطبة" بالواو، وإسكان الطاء، وبعدها باء موحدة، وهكذا رواه النضر بن شُميل، راوي الحديث عن شعبة، والنضر إمام من أئمّة اللغة، وفسَّره النضر، فقال: الْوَطْبةُ: الْحَيْس، يَجمَع التمر الْبَرْنيّ، والأَقِط المدقوق، والسَّمْن، وكذا ضبطه أبو مسعود الدمشقيّ، وأبو بكر الْبَرْقانيّ، وآخرون، وهكذا هو عندنا في معظم النسخ، وفي بعضها:"رطبة" بِراء مضمومة، وفتح الطاء، وكذا ذكره الحميديّ، وقال: هكذا جاء فيما رأيناه من نُسخ مسلم: "رُطَبة" بالراء، قال: وهو تصحيف من الراوي، وإنما هو بالواو، قال النوويّ: وهذا الذي ادّعاه على نُسخ مسلم هو فيما رآه هو، وإلا فأكثرها بالواو، وكذا نقله أبو مسعود، والْزرقانيّ، والأكثرون عن نسخ مسلم، ونقل القاضي عياض عن رواية بعضهم في مسلم:"وَطِئة" بفتح الواو، وكسر الطاء، وبعدها همزة، وادَّعَى أنه الصواب، وهكذا ادّعاه آخرون، والْوَطِئة بالهمز عند أهل اللغة: طعام يُتّخذ من التمر؛ كالحيس، هذا ما ذكروه، ولا منافاة بين هذا كلّه، فيُقبل ما صحَّت به الروايات، وهو صحيح في اللغة. انتهى كلام النوويّ رحمه الله

(1)

، وهو بحثٌ جيّدٌ، والله أعلم.

(فَأَكَلَ) صلى الله عليه وسلم (مِنْهَا)؛ أي: من تلك الوطبة، ولفظ الترمذيّ:"منه"؛ أي: من ذلك الطعام، (ثُمَّ أُتِيَ) بالبناء للمفعول؛ أي: جيء إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولم يُعرف الآتي

(2)

. (بِتَمْرٍ، فَكَانَ يَأْكُلُهُ، وَيُلْقِي) بضمّ أوله، من الإلقاء، وهو

(1)

"شرح النوويّ" 13/ 226.

(2)

"تنبيه المعلم" ص 352.

ص: 315

الرمي؛ أي: يرمي (النَّوَى) - بفتحتين - هو الْعَجَمُ

(1)

، الواحدة نواةٌ، والجمع نوَيَات، وأنواءٌ، ونُويٌّ، وِزانُ فُلُوسٍ، قاله الفيّوميّ

(2)

. (بَيْنَ إِصْبَعَيْهِ) فيه عشر لغات: تثليث الهمزة، مع تثليث الباء، والعاشرة أُصْبُوع، بالضمّ، بوزن عُصْفُور، وأفصحها كسر الهمزة، وفتح الموحّدة.

قال النوويّ رحمه الله: قوله: "ويُلْقِي النوى بين إصبعيه"؛ أي: يجعله بينهما؛ لقلّته، ولم يُلقه في إناء التمر؛ لئلا يختلط بالتمر، وقيل: كان يجمعه على ظهر الإصبعين، ثم يرمي به. انتهى

(3)

.

وقوله: (وَيَجْمَعُ السَّبَّابَةَ وَالْوُسْطَى) تفسير لكيفيّة رميه للنوى؛ أي: يجمع بينهما ليرمي النوى بينهما. (قَالَ شُعْبَةُ: هُوَ)؛ أي: ذِكْر إلقاء النوى بين الإصبعين، (ظَنِّي)؛ أي: مظنوني، ومُعتقدي، (وَهُوَ)؛ أي: ذكره، (فِيهِ)؛ أي: في الحديث (إِنْ شَاءَ اللهُ)، وقوله:(إِلْقَاءُ النَّوَى بَيْنَ الإِصْبَعَيْنِ) بيان لـ "هو".

وقال النوويّ رحمه الله: قوله: "قال شعبة: هو ظني. . . إلخ": معناه أن شعبة قال: الذي أظنه أن إلقاء النوى مذكور في الحديث، فأشار إلى تردد فيه، وشَكّ، وفي الطريق الثاني جَزَم بإثباته، ولم يشكّ، فهو ثابت بهذه الرواية، وأمّا رواية الشكّ فلا تضرّ، سواءٌ تقدّمت على هذه، أو تأخرت؛ لأنه تيقَّن في وقت، وشكّ في وقت، فاليقين ثابت، ولا يمنعه النسيان في وقت آخر. انتهى كلام النوويّ رحمه الله

(4)

، وهو تحقيق مفيدٌ، والله تعالى أعلم.

(ثُمَّ أُتِيَ) بالبناء للمجهول؛ أي: جيء إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولم يعرف الآتي؛ كسابقه. (بشَرَابٍ، فَشَرِبَهُ، ثُمَّ نَاوَلَهُ)؛ أي: أعطى صلى الله عليه وسلم ما بقي بعد شُربه الشخصّ (الَّذِي عَنْ يَمِينِهِ) كما سبق قوله صلى الله عليه وسلم: "الأيمنون، الأيمنون". (قَالَ) عبد اللهِ بن بسر رضي الله عنهما (فَقَالَ أَبِي) بسر بن أبي بسر المازنيّ، روى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعنه ابنه عبد الله، له في هذا الكتاب ذِكر هنا بلا رواية، قاله في "التهذيب".

(1)

قال الفيّوميّ أيضًا: الْعَجَم بفتحتين: النوى، من التمر، والْعِنَب، والنَّبْق، وغير ذلك، الواحدة عَجَمَةٌ بالهاء. اهـ.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 632.

(3)

"شرح النوويّ" 13/ 226.

(4)

"شرح النوويّ" 13/ 226.

ص: 316

وقال في "الإصابة": بُسر بن أبي بُسر المازنيّ والد عبد الله بن بسر، من بني مازن بن منصور بن عكرمة، ثبت ذِكره في "صحيح مسلم" من حديث عبد الله بن بسر، قال:"نزل النبيّ صلى الله عليه وسلم على أبي. . . " الحديث، ووقع للنسائيّ عن عبد الله بن بسر، عن أبيه، وروى في "الصوم" حديثًا في صوم يوم السبت، من رواية عبد الله بن بسر، عن أبيه، وقيل: عن أخته، عن أبيه، وقيل: عنه بلا واسطة، وقال أبو زرعة الدمشقيّ: صَحِبَ بُسْرٌ النبيّ صلى الله عليه وسلم هو وابناه وابنته. انتهى

(1)

.

وقوله: (وَأَخَذَ بِلِجَامِ دَابَّتِهِ) جملة في محلّ نصب على الحال، واللجام بكسر اللام، ككتاب للدابّة فارسيّ معرّب، قاله المجد، وقال المرتضى في "شرحه": قرأت في "كتاب السَّرْج واللِّجام" لأبي بكر بن دُريد ما نَصُّه: اللجام هي الحديدة في فم الفرس، ثم كَثُر في كلامهم، حتى سَمُّوا اللجام بِسُيُوره، وآلته لجامًا، ففيه الشَّكِيمة، وهي الحديدة المعترضة في الفم، والفَأْس، وهي الحديدة القائمة في الفم، والْمِسْحَل، وهي حديدة تحت الْحَنَك، والْخُطّافان

(2)

، وهما حديدتان، مُعْوَجّتان في الْمِسْحَل، والشَّكِيمة، من عن يمين، وشمال، والفَرَاشَتان، وهما حديدتان تُشَدّ بهما أطراف العِذارين، والحَكَمة

(3)

، وهي حلقة تُحيط بالْمَرْسَن

(4)

والْحَنَك، من فضة، أو حديد، أو قِدّ، والجمع أَلْجِمَةٌ، ولُجُمٌ، ولُجْمٌ. انتهى

(5)

.

(ادْعُ اللهَ لَنَا، فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمْ فِيمَا رَزَقْتَهُمْ، وَاغْفِرْ لَهُمْ، وَارْحَمْهُمْ") جَمَع صلى الله عليه وسلم لهم فيه خيرات الدنيا والآخرة، وكان صلى الله عليه وسلم يُحب الجوامع من الدعاء، وفي "سنن أبي دواد" وغيره بإسناد صحيح، وصححه ابن حبّان، والحاكم عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستحب الجوامع من

(1)

"الإصابة في تمييز الصحابة" 1/ 290.

(2)

تثنية خُطّاف، بوزن رُمّان: الحديدة الْحَجْنَاءُ؛ أي: المعوجّة.

(3)

بفتحتين.

(4)

بوزن مَجْلِسٍ، ومَقْعَدٍ، هو الأنف.

(5)

"تاج العروس من جواهر القاموس" 1/ 7888.

ص: 317

الدعاء، ويَدَعُ ما سوى ذلك"، ولفظ ابن حبّان: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُعجبه الجوامع من الدعاء"، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عبد الله بن بُسر رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [10/ 5317 و 5318](2042)، و (أبو داود) في "الأشربة"(3729)، و (الترمذيّ) في "الدعوات"(3576)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(6/ 80) و"عمل اليوم والليلة"(1/ 266)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 187 و 188 و 190)، و (الضياء) في "المختارة"(9/ 68)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان استحباب نزول الرئيس على بعض أصحابه؛ إكرامًا لهم.

2 -

(ومنها): استحباب المبادرة في إكرام الضيف، وتقديم الطعام والشراب له.

3 -

(ومنها): أن الشراب، ونحوه يدار على اليمين، كما سبق تقريره في بابه قريبًا.

4 -

(ومنها): استحباب إلقاء النوى بين الإصبعين: السبّابة والوسطى، قال القرطبيّ رحمه الله: وكونه صلى الله عليه وسلم يُلقي النوى بين السَّبابة والوسطى مبيّن أنَّه يجوز تصريف الإصبعين لذلك؛ لئلا يظن أنَّه لا يجوز تصريف السَّبابة إلا مع الإبهام؛ لأنَّه الأمكن، والذي جرت به العادة. وإلقاء النوى خارجًا عنهم تعليم لاجتناب إلقائها بين أيدي الآكلين؛ لأنَّ ذلك مِمَّا يُستكره، ويستقذر. انتهى

(1)

.

5 -

(ومنها): استحباب أخذ ركاب الأكابر، ولِجامهم؛ تواضعًا واستمالة لقلوبهم.

(1)

"المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" 5/ 317.

ص: 318

6 -

(ومنها): استحباب طلب الدعاء من أهل الفضل والصلاح.

7 -

(ومنها): استحباب دعاء الضيف لأهل بيت الضيافة بتوسعة الرزق، والمغفرة، والرحمة، فقد جَمَع النبيّ صلى الله عليه وسلم في هذا الدعاء لهم خيرات الدنيا والآخرة، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5318]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ (ح) وَحَدَّثَنِيهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حَمَّادٍ، كِلَاهُمَا عَنْ شُعْبَةَ، بِهَذَا الإِسْنَادِ، وَلَمْ يَشُكَّا فِي إِلْقَاءِ النَّوَى بَيْنَ الإِصْبَعَيْنِ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ) أبو بكر المعروف ببدار، تقدّم قريبًا.

2 -

(ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ) محمد بن إبراهيم بن أبي عديّ، أبو عمرو البصريّ، ثقةٌ [9](ت 194) على الصحيح (ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 128.

3 -

(يَحْيَى بْنُ حَمَّادِ) بن أبي زياد الشيبانيّ مولاهم، البصريّ، خَتَنُ أبي عوانة، ثقةٌ عابدٌ، من صغار [9](ت 215)(خ م خد ت س ق) تقدم في "الإيمان" 41/ 272.

والباقيان ذُكرا قبله.

[تنبيه]: رواية يحيى بن حمّاد، عن شعبة، ساقها أبو عوانة، لكنها من رواية عبد الله بن بُسر، عن أبيه، قال في "مسنده":

(8329)

- حدَّثنا عباس الدُّوريّ، قال: ثنا يحيى بن حماد، قال: ثنا شعبة، عن يزيد بن خُمير، عن عبد الله بن بُسر، عن أبيه رضي الله عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم نزل بهم، فذكر طعامًا وشرابًا أَتَوه به، ورُطَبَةً، قال: فجعل يأكل التمر، ويضع النوى على ظهر إصبعيه، ثم يرمي به، ثم قام، فركب بغلة له بيضاء، فأخذتُ بركابه، فقلت: يا رسول ألله ادعُ الله لنا، قال:"اللهم بارك لهم فيما رزقتهم، واغفر لهم، وارحمهم". انتهى

(1)

.

(1)

"مسند أبي عوانة" 5/ 186.

ص: 319

وأما رواية ابن أبي عديّ، عن شعبة، فلم أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم.

[تنبيه آخر]: ظاهر إحالة مسلم لروايتي ابن أبي عديّ، ويحيى بن حمّاد على رواية محمد بن جعفر يدلّ على أن الحديث من مسند عبد الله بن بُسر، لكن رواية يحيى بن حمّاد ليست من مسنده، بل من مسند أبيه، كما ساقها أبو نعيم آنفًا، وهكذا أخرجها أحمد في "مسنده"، والنسائيّ في "الكبرى"، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني"، فكلّهم جعلوها من رواية عبد الله بن بُسر، عن أبيه، فأدخلوا أباه في السند، وقال النسائيّ بعد إخراجه رواية يحيى بن حمّاد هذه: خالفه أبو داود، وبهز بن أسد، ثم أخرجه عنهما، فجعله من مسند عبد الله بن بسر نفسه، وليس لأبيه ذِكر في السند، فكأن النسائيّ يشير إلى ترجيح رواية أبي داود، وبهز.

ولعل مسلمًا أيضًا يرى هذا، أو وجد رواية صريحة من طريقهما جعلته من مسند عبد الله بن بُسر نفسه، والله تعالى أعلم.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(11) - (بَابُ أَكْلِ الْقِثَّاءِ بِالرُّطَبِ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5319]

(2043) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى التَّمِيمِيُّ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ عَوْنٍ الْهِلَالِيُّ - قَالَ يَحْيَى: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ ابْنُ عَوْنٍ: حَدَّثَنَا - إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ جَعْفَرٍ، قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَأْكُلُ الْقُثَّاءَ بِالرُّطَبِ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى التَّمِيمِيُّ) أبو زكريّاء النيسابوريّ الإمام، تقدّم قبل باب.

2 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ عَوْنٍ الْهِلَالِيُّ) هو: عبد الله بن عون بن أبي عون بن يزيد الخزّاز، أبو محمد البغداديّ، ثقةٌ عابدٌ [10](ت 232) على الصحيح (م س) تقدم في "المقدمة" جـ 1 ص 303.

ص: 320

3 -

(إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدِ) بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهريّ، أبو إسحاق المدنيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ حجة، تُكُلّم فيه بلا قادح [8](ت 185)(ع) تقدم في "الإيمان" 9/ 141.

4 -

(أَبُوهُ) سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهريّ المدنيّ قاضيها، ثقةٌ فاضلٌ عابدٌ [5](ت 125) أو بعدها (ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 31.

5 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرِ) بن أبي طالب الهاشميّ، أحد الأجواد، صحابيّ ابن صحابيّ رضي الله عنهما، وُلد بالحبشة، مات سنة ثمانين، وهو ابن ثمانين (ع) تقدم في "الحيض" 19/ 780.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، كلاحقيه، وهو (404) من رباعيّات الكتاب، وفيه رواية الابن عن أبيه.

شرح الحديث:

(عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ جَعْفَر) بن أبي طالب رضي الله عنهما أنه (قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَأْكُلُ الْقُثَّاءَ بِالرُّطَبِ)، وفي رواية البخاريّ:"يأكل الرُّطَبَ بالقثّاء".

و"القِثّاء": بكسر القاف، وتُضمّ، والمدّ، قال الفيّوميّ رحمه الله: القِثَّاءُ فِعّال، وهمزته أصلية، وكسر القاف أكثر من ضمّها، وهو اسم لِمَا يسمّيه الناس الخيارَ، والْعَجّورَ، والْفَقُّوسَ، الواحدة قِثّاءَةٌ، وأرض مَقْثَأَةٌ، وزانُ مَسْبَعَةٍ، وضمّ الثاء لغة ذاتُ قِثَّاءٍ، وبعض الناس يُطلق القِثَّاءَ على نوع يُشبه الخيار، وهو مطابق لقول الفقهاء في الربا: وفي القِثَّاءِ مع الخيار وجهان، ولو حلف لا يأخذ الفاكهةَ حَنِث بالقِثّاء والخيار. انتهى

(1)

.

وأما "الرُّطَبُ" فبضمّ الراء، وفتح الطاء، وهو ثمر النخل إذا أَدْرك، وَنَضَجَ قبل أن يتتمّر، الواحدة رُطَبةٌ، والجمع أَرْطابٌ

(2)

.

والمعنى: أنه صلى الله عليه وسلم أكل القثّاء مع الرُّطَب، قال في "الفتح": وقع في رواية الطبرانيّ كيفية أكله لهما، فأخرج في "الأوسط" من حديث عبد الله بن جعفر

(1)

"المصباح المنير" 2/ 490.

(2)

"المصباح المنير" 1/ 230.

ص: 321

قال: "رأيت في يمين النبيّ صلى الله عليه وسلم قثاءً، وفي شماله رُطَبًا، وهو يأكل من ذا مرّةً، ومن ذا مرّةً"، وفي سنده ضعف، وأخرج فيه، وهو في "الطب" لأبي نعيم، من حديث أنس رضي الله عنه:"كان يأخذ الرُّطَب بيمينه، والبطيخ بيساره، فيأكل الرُّطب بالبطيخ، وكان أحبَّ الفاكهة إليه"، وسنده ضعيف أيضًا، وأخرج النسائيّ بسند صحيح، عن حُميد، عن أنس:"رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يَجْمَع بين الرُّطَب والْخِرْبِزِ"، وهو بكسر الخاء المعجمة، وسكون الراء، وكسر الموحدة، بعدها زاي: نوع من البطيخ الأصفر، قال الحافظ: وقد تكبر القثاء فتصفرّ من شدة الحرّ، فتصير كالخربز، كما شاهدته كذلك بالحجاز.

وفي هذا تعقّب على من زعم أن المراد بالبطيخ في الحديث الأخضر، واعتَلَّ بأن في الأصفر حرارة كما في الرُّطَب، وقد ورد التعليل بأن أحدهما يُطفئ حرارة الآخر.

والجواب عن ذلك بأن في الأصفر بالنسبة للرُّطَب برودة، وإن كان فيه لحلاوته طرف حرارة، والله أعلم.

وفي النسائيّ أيضًا بسند صحيح، عن عائشة رضي الله عنها:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أكل البطيخ بالرطب"، وفي رواية له:"جَمَع بين البطيخ والرطب جميعًا".

وأخرج ابن ماجه عن عائشة رضي الله عنها: "أرادت أمي تعالجني للسمنة لتدخلني على النبيّ صلى الله عليه وسلم، فما استقام لها ذلك حتى أكلت الرطب بالقثاء، فسمنت كأحسن سمنة".

وللنسائيّ من حديثها: "لَمّا تزوجني النبيّ صلى الله عليه وسلم عالجوني بغير شيء، فأطعموني القثاء بالتمر، فسمنت عليه كأحسن الشحم".

وعند أبي نعيم في "الطب" من وجه آخر، عن عائشة رضي الله عنها أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أمر أبويها بذلك.

ولابن ماجه من حديث ابني بسر: "أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يحب الزبد والتمر. . ." الحديث.

ولأحمد من طريق إسماعيل بن أبي خالد، عن أبيه، قال: دخلت على رجل، وهو يتمجَّع لبنًا بتمر، فقال: ادْنُ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمَّاهما الأطيبين، وإسناده قويّ. انتهى، والله تعالى أعلم.

ص: 322

مسائل تتعلَّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [11/ 5319](2043)، و (البخاريّ) في "الأطعمة"(5440 و 5447 و 7449)، و (أبو داود) في "الأطعمة"(3835)، و (الترمذيّ) في "الأطعمة"(1844) و"الشمائل"(1/ 164)، و (ابن ماجه) في "الأطعمة"(3325)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(5/ 143)، و (الحميديّ) في "مسنده"(1/ 248)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 203)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 140)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(12/ 171 و 203)، و (البزّار) في "مسنده"(6/ 199 و 206)، و (الرويانيّ) في "مسنده"(2/ 356)، و (تمّام) في "فوائده"(2/ 118)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(7/ 281) و"شُعَب الإيمان"(5/ 36 و 111)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان جواز أكل الطيّبات من الأطعمة، والحلاوة الحلال.

2 -

(ومنها): بيان جواز أكل الشيئين من الفاكهة وغيرها معًا في واحد، خلافًا لمن كرهه من المتقشّفين.

3 -

(ومنها): جواز التوسع في المطاعم، قال النوويّ: ولا خلاف بين العلماء في جواز ذلك، وما نُقل عن السلف من خلاف هذا محمول على الكراهة؛ منعًا لاعتياد التوسع والترفه والإكثار لغير مصلحة دينية.

4 -

(ومنها): أنه يؤخذ منه جواز مراعاة صفات الأطعمة، وطبائعها، واستعمالها على الوجه اللائق بها، على قاعدة الطبّ؛ لأن في الرُّطَب حرارة، وفي القثاء برودة، فإذا أُكلا معًا اعتدلا، وهذا أصل كبير في المركبات من الأدوية، وترجم أبو نعيم في "الطب":"باب الأشياء التي تؤكل مع الرُّطَب ليذهب ضَرَره"، فساق هذا الحديث، لكن لم يذكر الزيادة التي ترجم بها، وهي عند أبي داود، في حديث عائشة رضي الله عنها بلفظ:"كان يأكل البطيخ بالرطب"، فيقول: يُكسَر حرّ هذا ببَرْد هذا، وبَرْد هذا بِحَرّ هذا، والطبيخ بتقديم الطاء لغة في البطيخ

ص: 323

بوزنه، والمراد به الأصفر، بدليل ورود الحديث بلفظ الْخِرْبِز بدل البطيخ، وكان يكثر وجوده بأرض الحجاز، بخلاف البطيخ الأخضر، قاله في "الفتح"

(1)

.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(12) - (بَابُ اسْتِحْبَابِ تَوَاضُعِ الآكِلِ، وَصِفَةِ قُعُودِهِ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5320]

(2044) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو سَعِيدٍ الأَشَجُّ، كِلَاهُمَا عَنْ حَفْصٍ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ، عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سُلَيْمٍ، حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مُقْعِيًا يَأْكُلُ تَمْرًا).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) عبد الله بن محمد بن أبي شيبة إبراهيم بن عثمان، تقدّم قبل بابين.

2 -

(أَبُو سَعِيدٍ الأَشَجُّ) عبد الله بن سعيد بن حُصين الكِنْديّ، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

3 -

(حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ) بن طلق بن معاوية النخعيّ، أبو عمر الكوفيّ القاضي، ثقةٌ فقيهٌ تغيّر قليلًا في الآخر [8](ت 4 أو 195)(ع) تقدم في "الإيمان" 8/ 136.

4 -

(مُصْعَبُ بْنُ سُلَيْمٍ) الأسديّ مولى آل الزبير - ويقال له: الزهريّ؛ لأنه كان عَرِيف بني زهرة - الكوفيّ، صدوقٌ [5].

روى عن أنس، وأبي بكر بن أبي موسى، ومحمد بن أيوب.

وروى عنه ابن أخيه أبو محمد عبد الله بن ميمون صاحب الطيالسة، وحفص بن غياث، ووكيع، وابن عيينة، وغيرهم.

قال ابن معين، وأبو زرعة: لا بأس به، وقال أبو حاتم: صالحٌ، وقال

(1)

"الفتح" 12/ 375 - 376، كتاب "الأطعمة" رقم (5449).

ص: 324

النسائيّ: ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال ابن شاهين في "الثقات": قال يحيى بن معين: ثقةٌ، وقد حدّث عنه وكيع.

أخرج له المصنّف، وأبو داود، والترمذيّ في "الشمائل"، والنسائيّ، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث، وأعاده بعده.

و"أنس رضي الله عنه" تقدّم قبل باب.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من رباعيّات المصنّف؛ كسابقه، ولاحقه، وهو (405) من رباعيّات الكتاب.

شرح الحديث:

(عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سُلَيْمٍ) بضمّ أوله، مصغّرًا، أنه قال:(حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ) رضي الله عنه (قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مُقْعِيًا) بضمّ أوله اسم فاعل من الإقعاء: وهو الجلوس على إليتيه، ونَصْب ساقيه، قال ابن الأثير رحمه الله: قوله: "مُقعيًا" أراد أنه كان يجلس عند الأكل على وركيه، مُستوفِزًا، غير متمكِّن، قال ابن شُميل: الإقعاء أن يجلس الرجل على وِرْكيه، وهو الاحتفاز، والاستيفاز. انتهى

(1)

.

وقال الفيّوميّ رحمه الله: أقْعَى إقْعَاءً: ألصق أليتيه بالأرض، ونَصَب ساقيه، ووضع يديه على الأرض، كما يُقْعِي الكلبُ، وقال الجوهريّ: الإقْعَاءُ عند أهل اللغة، وأورد نحو ما تقدم، وجعل مكان وضع يديه على الأرض: ويتساند إلى ظهره، وقال ابن القطاع: أقعى الكلبُ: جلس على أليتيه، ونصب فخذيه، والرجل جلس تلك الْجِلْسَة. انتهى

(2)

.

وقال النوويّ رحمه الله: قوله: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مُقعيًا يأكل تمرًا"، وفي الرواية الأخرى:"أُتِي بتمر، فجعل النبيّ صلى الله عليه وسلم يقسمه، وهو مُحتفز، يأكل منه أكلًا ذَريعًا"، وفي رواية:"أكلًا حثيثًا".

(1)

"النهاية في غريب الأثر" 4/ 89، و"لسان العرب" 15/ 192.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 510 - 511.

ص: 325

قوله: "مُقعيًا"؛ أي: جالسًا على أليتيه

(1)

ناصبًا ساقيه، ومُحتفزٌ هو بالزاي؛ أي: مُستعجلٌ، مُستوفزٌ، غير متمكن في جلوسه، وهو بمعنى قوله:"مُقعيًا"، وهو أيضًا معنى قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر في "صحيح البخاريّ" وغيره:"لا آكل متكئًا"، على ما فسَّره الإمام الخطابيّ، فإنه قال: المتكئ هنا: المتمكِّن في جلوسه، من التربّع وشِبهه المعتمد على الوِطاء تحته، قال: وكل من استوى قاعدًا على وِطاء فهو متكئ، ومعناه: لا آكل أكل من يريد الاستكثار من الطعام، ويقعد له متمكنًا، بل أقعد مستوفزًا، وآكل قليلًا.

وقوله: (يَأْكُلُ تَمْرًا) جملة حاليّة من "النبيّ صلى الله عليه وسلم" بعد الحال المفرد، وهو جائز، قال في "الخلاصة":

وَالْحَالُ قَدْ يَجِيءُ ذَا تَعَدُّدِ

لِمُفْرَدٍ فَاعْلَمْ وَغَيْرِ مُفْرَدِ

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أنس بن مالك رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [12/ 5320 و 5321](2044)، و (أبو داود) في "الأطعمة"(3771)، و (الترمذيّ) في "الشمائل"(142)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(4/ 171)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(2/ 197)، و (الحميديّ) في "مسنده"(2/ 512)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 180 و 203)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(6/ 324)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(7/ 283) و"شُعب الإيمان"(5/ 107)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): قال الإمام البخاريّ رحمه الله في "صحيحه": "باب الأكل متّكئًا"، ثم أورد حديث أبي جُحيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني لا آكل متّكئًا"، وفي رواية:"كنت عند النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال لرجل عنده: لا آكل وأنا متّكئ".

(1)

ألية الشاة بفتح الهمزة، ولا تُكسر، قاله في "المصباح".

ص: 326

قال في "الفتح": وكان سبب هذا الحديث قصة الأعرابي المذكور في حديث عبد الله بن بُسر عند ابن ماجه، والطبرانيّ بإسناد حسن، قال:"أُهديت للنبيّ صلى الله عليه وسلم شاة، فجثا على ركبتيه يأكل، فقال له أعرابيّ: ما هذه الْجِلْسة؟ فقال: إن الله جعلني عبدًا كريمًا، ولم يجعلني جبارًا عنيدًا".

قال ابن بطال: إنما فعل النبيّ صلى الله عليه وسلم ذلك تواضعًا لله، ثم ذكر من طريق أيوب، عن الزهريّ قال:"أَتَى النبيَّ صلى الله عليه وسلم مَلَكٌ لم يأته قبلها، فقال: إن ربك يُخَيِّرك بين أن تكون عبدًا نبيًّا، أو مَلِكًا نبيًّا، قال: فنظر إلى جبريل كالمستشير له، فأومأ إليه أنْ تواضَعْ، فقال: بل عبدًا نبيًّا، قال: فما أكل متكئًا". انتهى، وهذا مرسلٌ، أو معضلٌ، وقد وصله النسائيّ من طريق الزبيديّ، عن الزهريّ، عن محمد بن عبد الله بن عباس، قال: كان ابن عباس يحدِّث، فذكر نحوه.

وأخرج أبو داود من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص قال: "ما رؤي النبيّ صلى الله عليه وسلم يأكل متكئًا قط".

وأخرج ابن أبي شيبة، عن مجاهد، قال:"ما أكل النبيّ صلى الله عليه وسلم متكئًا إلا مرّةً، ثم نزع، فقال: اللهم إني عبدك ورسولك"، وهذا مرسلٌ.

ويمكن الجمع بأن تلك المرّة التي في أثر مجاهد ما اطّلع عليها عبد الله بن عمرو، فقد أخرج ابن شاهين في "ناسخه" من مرسل عطاء بن يسار:"أن جبريل رأى النبيّ صلى الله عليه وسلم يأكل متكئًا، فنهاه"، ومن حديث أنس:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لمّا نهاه جبريل عن الأكل متكئًا لم يأكل متكئًا بعد ذلك".

واختُلِف في صفة الاتكاء، فقيل: أن يتمكن في الجلوس للأكل على أيّ صفة كان، وقيل: أن يميل على أحد شقيه، وقيل: أن يعتمد على يده اليسرى من الأرض، قال الخطابيّ: تحسب العامة أن المتكئ هو الآكل على أحد شقيه، وليس كذلك، بل هو المعتمد على الوِطاء الذي تحته، قال: ومعنى الحديث: إني لا أقعد متكئًا على الوطاء عند الأكل فِعْلَ مَن يَستكثر من الطعام، فإني لا آكل إلا البُلْغة من الزاد، فلذلك أقعد مستوفزًا.

وفي حديث أنس: "أنه صلى الله عليه وسلم أكل تمرًا، وهو مُقْعٍ"، وفي رواية:"وهو مُحتفزٌ"، والمراد: الجلوس على وركيه، غير متمكِّن.

ص: 327

وأخرج ابن عديّ بسند ضعيف: "زجر النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يعتمد الرجل على يده اليسرى عند الأكل".

قال مالك: هو نوع من الاتكاء، قال الحافظ: وفي هذا إشارة من مالك إلى كراهة كل ما يُعَدّ الآكل فيه متكئًا، ولا يختص بصفة بعينها.

وجزم ابن الجوزيّ في تفسير الاتكاء بأنه الميل على أحد الشقين، ولم يلتفت لإنكار الخطابيّ ذلك.

وحَكَى ابن الأثير في "النهاية" أن من فسَّر الاتكاء بالميل على أحد الشقين تأوّله على مذهب الطبّ بأنه لا ينحدر في مجاري الطعام سهلًا، ولا يُسيغه هنيئًا، وربما تأذى به.

واختلف السلف في حكم الأكل متكئًا، فزعم ابن القاص أن ذلك من الخصائص النبوية، وتعقّبه البيهقيّ، فقال: قد يُكره لغيره أيضًا؛ لأنه من فِعل المتعظمين، وأصله مأخوذ من ملوك العجم، قال: فإن كان بالمرء مانع لا يَتمكَّن معه من الأكل إلا متكئًا لم يكن في ذلك كراهة، ثم ساق عن جماعة من السلف أنهم أكلوا كذلك، وأشار إلى حَمْل ذلك عنهم على الضرورة، وفي الحمل نَظَر.

وقد أخرج ابن أبي شيبة، عن ابن عباس، وخالد بن الوليد، وعَبيدة السَّلْمانيّ، ومحمد بن سيرين، وعطاء بن يسار، والزهريّ جواز ذلك مطلقًا.

وإذا ثبت كونه مكروهًا، أو خلاف الأَولى، فالمستحب في صفة الجلوس للأكل أن يكون جاثيًا على ركبتيه، وظهور قدميه، أو ينصب الرجل اليمنى، ويجلس على اليسرى.

واستثنى الغزاليّ من كراهة الأكل مضطجعًا أكل البقل، واختُلف في علة الكراهة، وأقوى ما ورد في ذلك ما أخرجه ابن أبي شيبة من طريق إبراهيم النخعيّ قال: كانوا يكرهون أن يأكلوا اتكاءةً مخافة أن تعظم بطونهم، وإلى ذلك يشير بقية ما ورد فيه من الأخبار، فهو المعتمد، ووجه الكراهة فيه ظاهر، وكذلك ما أشار إليه ابن الأثير من جهة الطبّ. انتهى

(1)

.

(1)

"الفتح" 12/ 319 - 321، كتاب "الأطعمة" رقم (5398).

ص: 328

قال الجامع عفا الله عنه: الذي يظهر مما سبق من الأدلّة أنه لا ينبغي الأكل متّكئًا؛ لمخالفته هدي النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأما النهي عنه فلم يثبت، فالأَولى أن يأكل مستوفزًا، مقعيًا؛ اتّباعًا للسُّنَّة، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5321]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَابْنُ أَبِي عُمَرَ، جَمِيعًا عَنْ سُفْيَانَ، قَالَ ابْنُ أَبِي عُمَرَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سُلَيْمٍ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: أُتِيَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِتَمْرٍ، فَجَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقْسِمُهُ، وَهُوَ مُحْتَفِزٌ، يَأْكُلُ مِنْهُ أَكْلًا ذَرِيعًا، وفي رِوَايَةِ زُهَيْرٍ: أَكْلًا حَثِيثًا).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

2 -

(ابْنُ أَبِي عُمَرَ) محمد بن يحيى بن أبي عمر الْعَدنيّ، ثم المكيّ، تقدّم قبل أربعة أبواب.

3 -

(سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ) تقدّم أيضًا قبل أربعة أبواب.

والباقيان ذُكرا قبله.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من رباعيّات المصنّف؛ كسابقيه، وهو (406) من رباعيّات الكتاب.

وقوله: (أُتِيَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) بالبناء للمجهول، ولم يُعرَف الآتي به.

وقوله: (فَجَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقْسِمُهُ)؛ أي: يفرّقه على من يراه أهلًا لذلك، وهذا التمر كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وتبرّع بتفريقه صلى الله عليه وسلم، فلهذا كان يأكل منه، والله أعلم

(1)

.

وقوله: (مُحْتَفِزٌ)؛ أي: مستعجِلٌ مستوفِزٌ، غير متمكِّن في جلوسه؛ كأنه يثور للقيام

(2)

.

وقوله: (أكلًا ذريعًا، وحَثيثًا) هما بمعنى؛ أي: مستعجلًا؛ لاستيفازه لشغل آخر، فأسرع في الأكل، وكان استعجاله ليقضي حاجته منه، ويَرُدّ الْجَوْعة، ثم يذهب في ذلك الشغل.

(1)

"شرح النوويّ" 13/ 228.

(2)

"مشارق الأنوار" 1/ 207.

ص: 329

وقال القرطبيّ رحمه الله: وقوله: "أكلًا ذريعًا"؛ أي: كثيرًا، و"حثيثًا"؛ أي: مستعجِلًا، وحاصلهما أنَّه كان يأكل أكلًا لا تصنُّع فيه، ولا رياء، ولا كِبْر؛ فإذا احتاج إلى الإكثار أكل، وإذا حفزه أمرٌ استعجل، لكنه ما كان يخرج عن أدب، ولا يفعل شيئًا غير مستحسَن صلى الله عليه وسلم. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(13) - (بابُ نَهْيِ الآكِلِ مَعَ جَمَاعَةٍ عَنْ قِرَانِ تَمْرَتَيْنِ وَنَحْوِهِمَا، فِي لُقْمَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ أَصْحَابِهِ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5322]

(2045) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: سَمِعْتُ جَبَلَةَ بْنَ سُحَيْمٍ قَالَ: كَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ يَرْزُقُنَا التَّمْرَ. قَالَ: وَقَدْ كَانَ أَصَابَ النَّاسَ يَوْمَئِذٍ جُهْدٌ، وَكُنَّا نأْكُلُ، فَيَمُرُّ عَلَيْنَا ابْنُ عُمَرَ، وَنَحْنُ نَأْكُلُ، فَيَقُولُ: لَا تُقَارِنُوا، فَإنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنِ الإِقْرَانِ، إِلَّا أَنْ يَسْتَأْذِنَ الرَّجُلُ أَخَاهُ، قَالَ شُعْبَةُ: لَا أُرَى هَذِهِ الْكَلِمَةَ إِلَّا مِنْ كَلِمَةِ ابْنِ عُمَرَ، يَعْنِي الاِسْتِئْذَانَ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(جَبَلَةُ بْنُ سُحَيْمٍ) - بمهملتين، مصغّرًا - الكوفيّ، ثقةٌ [3](ت 125)(ع) تقدم في "الصيام" 2/ 2509.

2 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ) بن الخطّاب رضي الله عنهما، تقدّم قريبًا.

والباقون تقدّموا قبل باب.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأن شيخه أحد التسعة الذين روى عنهم الجماعة بلا واسطة، كما مرّ غير مرّة، وفيه ابن عمر رضي الله عنهما أحد العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة، وأنه مسلسل بالتحديث والسماع.

(1)

"المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" 5/ 316.

ص: 330

شرح الحديث:

عَن جَبَلَةَ - بفتحتين - ابْنَ سُحَيْمٍ - بمهملتين مصغّرًا - ليس له في "الصحيحين" عن غير ابن عمر، وله في "صحيح مسلم" سبعة أحاديث بالمكرّر، وأربعة بدون المكرّر، وله في "صحيح البخاريّ" سبعة أحاديث، وقد تقدم بيانها في "الصيام" 2/ 2509.

(قَالَ: كَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ) عبد الله رضي الله عنهما، تقدّمت ترجمته في "الطهارة" 16/ 610، وذلك في أيام خلافته. (يَرْزُقُنَا التَّمْرَ)؛ أي: يعطينا التمر رزقًا، وهو القَدْر الذي يُصرف لهم في كل سنة من مال الخراج وغيره بدل النقد تمرًا؛ لقلة النقد إذ ذاك، بسبب المجاعة التي حصلت. (قَالَ) جبلة (وَقَدْ كَانَ أَصَابَ النَّاسَ يَوْمَئِذٍ جُهْدٌ) بضمّ الجيم، وفتحها؛ أي: قلّة، وحاجةٌ، ومشقّة، وقال ابن الأثير رحمه الله: الجهد بالضمّ: الوُسع والطاقة، وبالفتح: المشقّة، وقيل: المبالغة والغاية، وقيل: هما لغتان في الوُسع والطاقة، فأما في المشقّة والغاية فالفتح لا غير. انتهى

(1)

.

وقال الفيّوميّ رحمه الله: الجُهْدُ بالضمّ في الحجاز، وبالفتح في غيرهم: الوسع والطاقة، وقيل: المضموم: الطاقة، والمفتوح: المشقة، والجَهْدُ بالفتح لا غير: النهاية والغاية، وهو مصدر من جَهَدَ في الأمر جَهْدًا، من باب نَفَعَ: إذا طلب حتى بلغ غايته في الطلب، وجَهَدَهُ الأمرُ والمرضُ جَهْدًا أيضًا: إذا بلغ منه المشقة، ومنه جَهْدُ البَلاءِ، ويقال: جَهَدْتُ فلانًا جَهْدًا: إذا بلغت مشقته، وجَهَدْتُ الدابة، وأَجْهَدْتُهَا: حَمَلت عليها في السير فوق طاقتها، وجَهَدْتُ اللبنَ جَهْدًا: مزجته بالماء، ومَخَضْتُهُ حتى استخرجت زُبْده، فصار حُلْوًا لذيذًا. انتهى

(2)

.

(وَكُنَّا نَأْكُلُ، فَيَمُرُّ عَلَيْنَا) عبد الله (بْنُ عُمَرَ) بن الخطّاب رضي الله عنهما، (وَنَحْنُ نَأْكُلُ) جملة حاليّة من "علينا"، (فَيَقُولُ) ابن عمر (لَا) ناهية، ولذا جزم بها قوله:(تُقَارِنُوا) وفي رواية للبخاريّ: "لا تقرنُوا"؛ أي: لا تجمعوا بين اثنين من التمر، (فَإنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنِ الإِقْرَانِ) قال الحافظ: كذا لأكثر الرواة، وقد أوضحت في "كتاب الحج" أن اللغة الفصحى بغير ألف، وقد

(1)

"النهاية في غريب الحديث والأثر" ص 175.

(2)

"المصباح المنير" 1/ 112.

ص: 331

أخرجه أبو داود الطيالسيّ بلفظ: "القِران"، وكذلك قال أحمد، عن حجاج بن محمد، عن شعبة، وقال عن محمد بن جعفر، عن شعبة:"الإقران".

قال القرطبيّ: ووقع عند جميع رواة مسلم: "الإقران"، وفي ترجمة أبي داود:"باب الإقران في التمر"، وليست هذه اللفظة معروفة، وأقرن من الرباعيّ، وقرن من الثلاثيّ، وهو الصواب، قال الفراء: قرن بين الحج والعمرة، ولا يقال: أقرن، وإنما يقال: أقرن إذا قوي عليه، وأطاقه، ومنه قوله تعالى:{وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} [الزخرف: 13]، قال: لكن جاء في اللغة: أقرن الدمُ في العِرْق؛ أي: كَثُر، فيَحْتَمِل أن يُحْمَل الإقران المذكور في الحديث على ذلك، فيكون معناه: أنه نهى عن الإكثار من أكل التمر إذا كان مع غيره، ويرجع معناه إلى القران المذكور في الرواية الأخرى.

قال الحافظ: لكن يصير أعمّ منه، والحقّ أن هذه اللفظة من اختلاف الرواة، وقد ميَّز أحمد بين من رواه بلفظ أقرن، وبلفظ قَرَن من أصحاب شعبة، وكذا قال الطيالسيّ عن شعبة: القِران، ووقع في رواية الشيبانيّ: الإقران، وفي رواية مسعر: القِران. انتهى

(1)

.

(إِلَّا أنْ يَسْتَأْذِنَ الرَّجُلُ أَخَاهُ)؛ أي: فإذا أَذِن له في ذلك جاز، والمراد بالأخ: رفيقه الذي اشترك معه في ذلك التمر. (قَالَ شُعْبَةُ: لَا أُرَى) بالبناء للمفعول؛ أي: لا أظنّ (هَذِهِ الْكَلِمَةَ إِلَّا مِنْ كَلِمَةِ ابْنِ عُمَرَ) رضي الله عنهما (يَعْنِي الاِسْتِئْذَانَ)؛ يعني: أن قوله: "إلا أن يستأذن. . . إلخ" ليست مرفوعة إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، وإنما هي من قول ابن عمر رضي الله عنهما موقوفة عليه.

وقال النوويّ رحمه الله: قوله: "قال شعبة: لا أُرَى هذه الكلمة إلا من كلمة ابن عمر"؛ يعني: بالكلمة الكلام، وهذا شائع معروف، وهذا الذي قاله شعبة لا يؤثّر في رفع الاستئذان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه نفاه بظنّ وحُسبان، وقد أثبته سفيان في الرواية الثانية، فثبت. انتهى

(2)

.

وقال في "الفتح": قوله: "قال شعبة. . . إلخ" موصول بالسند الذي قبله، وقد

(1)

"الفتح" 12/ 369 - 370، كتاب "الأطعمة" رقم (5398).

(2)

"شرح النوويّ" 13/ 229.

ص: 332

أخرجه أبو داود الطيالسيّ في "مسنده" عن شعبة مُدرجًا، وكذا فعل أبو الوليد في رواية للبخاريّ، وللإسماعيليّ، وأصله لمسلم في الرواية التالية كذلك عن معاذ بن معاذ، وكذا أخرجه أحمد، عن يزيد، وبهز، وغيرهما، عن شعبة، وتابع آدم على فصل الموقوف من المرفوع شَبابة بن سَوّار، عن شعبة، أخرجه الخطيب من طريقه، مثل ما ساقه آدم إلى قوله: الإقران، "قال ابن عمر: إلا أن يستأذن الرجل منكم أخاه"، وكذا قال عاصم بن عليّ، عن شعبة: "أُرَى الإذن من قول ابن عمر"، أخرجه الخطيب، وقد فصله أيضًا عن شعبة سعيد بن عامر الضبعيّ، فقال في روايته: "قال شعبة: إلا أن يستأذن أحدكم أخاه"، هو من قول ابن عمر، أخرجه الخطيب أيضًا، إلا أن سعيدًا أخطأ في اسم التابعىّ، فقال: "عن شعبة، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر"، والمحفوظ: جَبَلة بن سُحيم، كما قال الجماعة.

والحاصل أن أصحاب شعبة اختلفوا، فأكثرهم رواه عنه مُدرجًا، وطائفة منهم رووا عنه التردد في كون هذه الزيادة مرفوعة أو موقوفة، وشَبابة فصل عنه، وآدم جزم عنه بأن الزيادة من قول ابن عمر، وتابعه سعيد بن عامر إلا أنه خالف في التابعيّ، فلمّا اختلفوا على شعبة، وتعارَض جَزْمه وتردده، وكان الذي رووا عنه التردد أكثر نَظَرنا فيمن رواه غيره من التابعين، فرأيناه قد ورد عن سفيان الثوريّ، وأبي إسحاق الشيبانيّ، ومسعر، وزيد بن أبي أنيسة.

فأما الثوريّ: فروايته عند البخاريّ في "الشركة"، ولفظه:"نَهَى أن يَقْرُن الرجل بين التمرتين جميعًا حتى يستأذن أصحابه"، وهذا ظاهره الرفع، مع احتمال الإدراج.

وأما رواية الشيبانيّ: فاخرجها أحمد، وأبو داود، بلفظ:"نَهَى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإقران إلا أن تستأذن أصحابك"، والقول فيها كالقول في رواية الثوريّ.

وأما رواية زيد بن أبي أُنيسة، فأخرجها ابن حبّان في النوع الثامن والخمسين من القسم الثاني من "صحيحه" بلفظ:"من أكل مع قوم من تمر، فلا يَقْرُن، فإن أراد أن يفعل ذلك فليستأذنهم، فإن أذنوا فليفعل"، وهذا أظهر في الرفع، مع احتمال الإدراج أيضًا.

ثم نظرنا فيمن رواه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم غير ابن عمر، فوجدناه عن أبي هريرة، وسياقه يقتضي أن الأمر بالاستئذان مرفوع، وذلك أن إسحاق في "مسنده"، ومن

ص: 333

طريقه ابن حبان أخرجا من طريق الشعبيّ، عن أبي هريرة، قال:"كنت في أصحاب الصفّة، فَبَعث إلينا رسول الله-صلى الله عليه وسلم تَمْر عَجْوة، فكُبّت بيننا، فجعلنا نأكل الثنتين من الجوع، فجعل أصحابنا إذا قَرَن أحدهم قال لصاحبه: إني قد قرنت، فاقرنوا"، وهذا الفعل منهم في زمن النبيّ صلى الله عليه وسلم دالّ على أنه كان مشروعًا لهم، معروفًا، وقول الصحابيّ: كنا نفعل في زمن النبيّ صلى الله عليه وسلم كذا له حكم الرفع عند الجمهور.

وأصرح منه ما أخرجه البزار من هذا الوجه، ولفظه:"قَسَم رسول الله صلى الله عليه وسلم تمرًا بين أصحابه، فكان بعضهم يَقْرُن، فنَهَى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقرن إلا بأذن أصحابه".

قال الحافظ رحمه الله: فالذي ترجح عندي أن لا إدراج فيه، وقد اعتَمَد البخاريّ هذه الزيادة، وترجم عليها في "كتاب المظالم"، وفي "الشركة"، ولا يلزم من كون ابن عمر ذكر الإذن مرّةً غير مرفوع أن لا يكون مستنده فيه الرفع، وقد ورد أنه استُفتي في ذلك فأفتى، والمفتي قد لا يَنشط في فتواه إلى بيان المستند.

فأخرج النسائيّ من طريق مِسعر، عن صِلَة، قال: سئل ابنُ عمر عن قران التمر، قال: لا تَقْرُن إلا أن تستأذن أصحابك، فيُحْمَل على أنه لمّا حدّث بالقصة ذكرها كلها مرفوعة، ولمّا استُفْتِي أفتى بالحكم الذي حفظه على وقفه، ولم يصرح حينئذ برفعه. انتهى كلام الحافظ رحمه الله.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي قاله الحافظ في هذا الحديث تحقيقٌ نفيسٌ جدًّا، وخلاصته أنهم اختلفوا في رفع الاستئذان ووقفه، ولكن الراجح رَفْعه؛ كما رجحه البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، حيث ترجم عليه في كتابين منه، فدلّ على أن من روى الوقف عن ابن عمر رضي الله عنهما نقل فتواه، وأن من روى الرفع نقل روايته، فلا تنافي بين الرواية والفتوى كما هو مشهور بين العلماء المحققين، فتأمل بالإمعان، والله تعالى أعلم بالصواب.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث ابن عمر رضي الله عنه، هذا متفق عليه.

(المسألة الثانية) من تخريجه:

أخرجه المصنف هنا [5322 و 5323 و 5324](2045)، والبخاري في "صحيحه"(2455 و 2489 و 2490 و 5446)، و (أبو داود) في "سننه"

ص: 334

(3834)

، و (الترمذي) في "جامعه"(1814)، و (النسائي) في "الكبرى"(6728 و 6729)، و (ابن ماجه) في "سننه"(333)، و (أحمد) في "مسنده"(7 و 44 و 46 و 60 و 74 و 81 و 103 و 131).

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان النهي عن الإقران في التمر ونحوه.

2 -

(ومنها): حرص الشريعة على ابعاد الظلم عن المجتمع، ومراعاة حقوق الناس.

3 -

(ومنها): جواز الإقران إن أذن الرفقاء؛ لأن النهي كان لحقّهم، فإذا سمحوا جاز الإقران. والله تعالى أعلم.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في حُكم القِران بين التمر ونحوه: قال في "الفتح": وقد اختُلِف في حكم المسألة، قال النوويّ: اختلفوا في هذا النهي، هل هو على التحريم، أو الكراهة؟ والصواب التفصيل، فإن كان الطعام مشتركًا بينهم، فالقران حرام، إلا برضاهم، ويحصل بتصريحهم، أو بما يقوم مقامه من قرينة حال، بحيث يغلب على الظنّ ذلك، فإن كان الطعام لغيرهم حَرُم، وإن كان لأحدهم، وأَذِن لهم في الأكل اشتُرِط رضاه، ويحرم لغيره، ويجوز له هو إلا أنه يُستحب أن يستأذن الآكلين معه، وحَسَنٌ للمضيف أن لا يقرن؛ ليساوي ضيفه، إلا إن كان الشيء كثيرًا يفضل عنهم، مع أن الأدب في الأكل مطلقًا تركُ ما يقتضي الشَّرَه، إلا أن يكون مستعجلًا يريد الإسراع لشغل آخر.

وذكر الخطابيّ أن شرط هذا الاستئذان إنما كان في زمنهم، حيث كانوا في قلة من الشيء، فأما اليوم مع اتساع الحال، فلا يُحتاج إلى استئذان.

وتعقبه النوويّ بأن الصواب التفصيل؛ لأن العبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب، كيف وهو غير ثابت.

قال الحافظ: حديث أبي هريرة الذي قدّمته يرشد إليه، وهو قويّ، وقصة ابن الزبير في حديث الباب كذلك.

وقال ابن الأثير في "النهاية": إنما وقع النهي عن القران؛ لأن فيه شَرَهًا، وذلك يُزري بصاحبه، أو لأن فيه غَبْنًا برفيقه، وقيل: إنما نُهِي عنه لِمَا كانوا فيه من شدة العيش، وقلة الشيء، وكانوا مع ذلك يواسون من القليل، وإذا اجتمعوا

ص: 335

ربما آثر بعضهم بعضًا، وقد يكون فيهم من اشتدّ جوعه، حتى يحمله ذلك على القرن بين التمرتين، أو تعظيم اللقمة، فأرشدهم إلى الاستئذان في ذلك؛ تطييبًا لنفوس الباقين، وأما قِصّة جَبَلة بن سُحيم فظاهرها أنها من أجل الغبن، ولكون مُلْكهم فيه سواء، ورُوي نحوه عن أبي هريرة في أصحاب الصفّة. انتهى.

وقد أخرج ابن شاهين في "الناسخ والمنسوخ"، وهو في "مسند البزار" من طريق ابن بُريدة، عن أبيه، رفعه:"كنت نهيتكم عن القران في التمر، وإن الله وسّع عليكم، فاقرنوا"، فلعل النووي أشار إلى هذا الحديث، فإن في إسناده ضعفًا، قال الحازميّ: حديث النهي أصحّ، وأشهر، إلا أن الخطب فيه يسير؛ لأنه ليس من باب العبادات، وإنما هو من قبيل المصالح الدنيوية، فيُكتَفَى فيه بمثل ذلك، ويعضده إجماع الأمة على جواز ذلك، كذا قال، ومراده بالجواز في حال كون الشخص مالكًا لذلك المأكول، ولو بطريق الإذن له فيه، كما قرره النوويّ، وإلا فلم يُجِز أحد من العلماء أن يستأثر أحد بمال غيره بغير إذنه، حتى لو قامت قرينة تدلّ على أن الذي وضع الطعام بين الضيفان لا يرضيه استئثار بعضهم على بعض حَرُم الاستئثار جزمًا، وإنما تقع المكارمة في ذلك إذا قامت قرينة الرضا.

وذكر أبو موسى المدينيّ في "ذيل الغريبين" عن عائشة، وجابر استقباح القِران لِمَا فيه من الشَّرَه والطمع المُزري بصاحبه، وقال مالك: ليس بجميل أن يأكل أكثر من رفقته. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: عندي أن ما تقدّم عن النوويّ من التفصيل هو الأرجح؛ لوضوح حجته، وحاصله: أنه إن كان الطعام مشتركًا بينهم، فالقران حرام، إلا برضاهم، ويحصل بتصريحهم، أو بما يقوم مقامه من قرينة حال إلى آخر كلامه، والله تعالى أعلم.

[تنبيه]: في معنى التمر: الرطب، وكذا الزبيب، والعنب، ونحوهما؛ لوضوح العلة الجامعة، قال القرطبيّ: حَمَل أهل الظاهر هذا النهي على التحريم، وهو سهوٌ منهم، وجهلٌ بمساق الحديث، وبالمعنى، وحَمَله الجمهور

(1)

"الفتح" 12/ 371 - 372، كتاب "الأطعمة" رقم (5398).

ص: 336

على حال المشاركة في الأكل، والاجتماع عليه، بدليل فهم ابن عمر راويه، وهو أفهم للمقال، وأقعد بالحال.

قال الجامع عفا الله عنه: قول القرطبيّ: "سهو، وجهل" مما لا ينبغي أن يصدر من مثله؛ لأن الظاهريّة ما ذهبوا إلى التحريم إلا لظاهر النهي، وهو يتقضي التحريم إلا لصارف، فهل عند القرطبيّ نصّ صارف عن التحريم؟، كلّا، وبالجملة: إن القول بالتحريم على التفصيل السابق هو الحقّ، فتبصّر، ولا تكن أسير التقليد، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

[تنبيه آخر]: اختَلَف العلماء فيمن يوضع الطعام بين يديه: متى يملكه؟ فقيل: بالوضع، وقيل: بالرفع إلى فيه، وقيل غير ذلك، فعلى الأول فمُلكهم فيه سواءٌ، فلا يجوز أن يَقْرُن إلا بإذن الباقين، وعلى الثانيِ يجوز أن يقرُن، لكن التفصيل الذي تقدم هو الذي تقتضيه القواعد الفقهية، نَعَم ما يوضع بين يدي الضِّيفان، وكذلك النِّثار في الأعراس سبيله في العُرف سبيل المكارمة، لا التشاحّ؛ لاختلاف الناس في مقدار الأكل، وفي الاحتياج إلى التناول من الشيء، ولو حُمل الأمر على تساوي السُّهْمان بينهم لضاق الأمر على الواضع، والموضوع له، وَلَمَا ساغ لمن لا يكفيه اليسير أن يتناول أكثر من نصيب من يشبعه اليسير، ولَمّا لم يتشاحّ الناس في ذلك، وجرى عملهم على المسامحة فيه عُرف أن الأمر في ذلك ليس على الإطلاق في كل حالة، قاله في "الفتح"

(1)

، وهو بحث جيّد، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5323]

(

) - (وَحَدَّثَنَاهُ عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ، حَدَّثَنَا أَبِي (ح) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، كِلَاهُمَا عَنْ شُعْبَةَ، بِهَذَا الإِسْنَادِ، وَلَيْسَ: فِي حَدِيثهِمَا قَوْلُ شُعْبَةَ، وَلَا قَوْلُهُ: وَقَدْ كَانَ أَصَابَ النَّاسَ يَوْمَئِذٍ جَهْدٌ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ) العَنْبريّ البصريّ، تقدّم قريبًا.

(1)

"الفتح" 12/ 373، كتاب "الأطعمة" رقم (5398).

ص: 337

2 -

(أَبُوهُ) معاذ بن معاذ بن نصر العنبريّ البصريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

3 -

(مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ) تقدّم قبل باب.

4 -

(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ) تقدّم قريبًا.

و"شعبة" ذُكر قبله.

وقوله: (كِلَاهُمَا عَنْ شُعْبَةَ) الضمير لمعاذ بن معاذ، وعبد الرحمن بن مهديّ.

[تنبيه]: رواية معاذ بن معاذ، عن شعبة هذه ساقها الخطيب البغداديّ في "الفصل للوصل المدرج"، فقال:

أخبرنا ابن غالب، قال: قرئ على أبي بكر الإسماعيليّ، وأنا أسمع: أخبركم يحيى بن محمد بن البختريّ، نا عبيد الله بن معاذ، نا أبي، نا شعبة، عن جَبَلة بن سُحيم قال: كنا بالمدينة في بعث أهل العراق، فأصابتنا سَنَة، وكان ابن الزبير يرزقنا التمر، فكان ابن عمر يمرّ بنا، فيقول: لا تقارنوا، "فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم نَهَى عن القران، إلا أن يستأذن الرجل أخاه". انتهى

(1)

.

وأما رواية عبد الرحمن بن مهديّ عن شعبة، فلم أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5324]

(

) - (حَدَّثَنى زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَا: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ جَبَلَةَ بْنِ سُحَيْمٍ، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ: نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَقْرِنَ الرَّجُلُ بَيْنَ التمْرَتَيْنِ حَتَّى يَسْتَأْذِنَ أَصْحَابَهُ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(سُفْيَانُ) بن سعيد الثوريّ، تقدّم قريبًا.

والباقون ذُكروا في الباب وقبله، و"عبد الرحمن" هو: ابن مهديّ.

وقوله: (نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَقْرِنَ الرَّجُلُ)؛ أي: يجمع، وهو بضم الراء، وكسرها، لغتان

(2)

.

(1)

"الفصل للوصل المدرج" 1/ 132.

(2)

"شرح النوويّ" 13/ 229.

ص: 338

قال القرطبيّ رحمه الله: قد علل الجمهور النهي عن القران بعلتين:

إحداهما: أن ذلك يدلّ على كثرة الشَّرَه، والنَّهم، وبهذا علَّلته عائشة رضي الله عنهما حيث قالت: إنها نَذَالة

(1)

.

وثانيتهما: إيثار الإنسان نفسه بأكثر من حقّه على مشاركه، وحكمهم في ذلك التساوي. انتهى

(2)

.

وقوله: (حَتَّى يَسْتَأْذِنَ أَصْحَابَهُ) قال الخطابيّ: إن ذلك النهي إنما كان في زمنهم؛ لِمَا كانوا عليه من الضيق والمواساة، فأمَّا اليوم فلا يحتاجون إلى الاستئمار.

وتعقّبه القرطبيّ، فقال: وهذا فيه نظر، وذلك أن الطعام إذا قُدِّم إلى قوم فقد تشاركوا فيه، وإذا كان كذلك، فليأكل كل واحد منهم على الوجه المعتاد، على ما تقتضيه المروءة، والنَّصَفَة من غير أن يقصد اغتنام زيادة على الآخر، فإنْ فعل، وكان الطعام شَرِكَةً بحُكم المُلك؛ فقد أخذ ما ليس له، وإن كان إنما قدَّمه لهم غيرهم، فقد اختَلَف العلماء فيما يملكون منه، فإنَّ قلنا: إنهم يملكونه بوضعه بين أيديهم؛ فكالأول، وإن قلنا: إنهم إنما يملك كل واحد منهم ما رفع إلى فيه؛ فهذا سوء أدب، وشَرَه، ودناءة، فعلى الوجه الأول يكون محرَّمًا، وعلى الثاني مكروهًا؛ لأنَّه يناقض مكارم الأخلاق، والله تعالى أعلم. انتهى

(3)

.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام شرحه، والمسائل المتعلّقة به قبل حديث، ولله الحمد والمنّة.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(1)

يقال: نَذُلَ بالضمّ نَذَالةً: سَقَطَ في دِيْن، أو حَسَب، فهو نَذْلٌ، ونذيل؛ أي: خسيس. "المصباح" 2/ 599.

(2)

"المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" 5/ 319.

(3)

"المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" 5/ 319.

ص: 339

(14) - (بَابٌ فِي ادِّخَارِ التَّمْرِ، وَنَحْوِهِ، مِنَ الأَقْوَاتِ لِلْعِيَالِ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5325]

(2046) - (حَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّارِمِيُّ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ حَسَّانَ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، أَن النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا يَجُوعُ أَهْلُ بَيْتٍ عِنْدَهُمُ التَّمْرُ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّارِمِيُّ) الحافظ، صاحب "المسند"، تقدّم قريبًا.

2 -

(يَحْيَى بْنُ حَسَّانَ) البصريّ، نزيل تنِّيس، ثقةٌ [9](ت 208)(خ م د ت س) تقدم في "الحيض" 7/ 723.

3 -

(سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ) المدينيّ، تقدّم قريبًا.

4 -

(هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ) تقدّم أيضًا قريبًا.

5 -

(أَبُوهُ) عروة بن الزبير بن العوّام الأسديّ، أبو عبد الله المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ مشهور [3](ت 94) على الصحيح (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 407.

6 -

(عَائِشَةُ) بنت أبي بكر الصّدّيق رضي الله عنهما، ماتت سنة (57) على الصحيح، تقدّمت في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 315.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من سُداسيّات المصنّف، وأنه مسلسل بالمدنيين من سليمان، وفيه رواية الابن عن أبيه، عن خالَتَيْه، ورواية الابن عن أبيه، وفيه عروة أحد الفقهاء السبعة، وفيه عائشة من المكثرين السبعة.

شرح الحديث:

(عَنْ عَائِشَةَ) رضي الله عنها (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا يَجُوعُ أَهْلُ بَيْتٍ عِنْدَهُمُ التَّمْرُ") وفي الرواية التالية: "يا عائشة بيتٌ لا تمر فيه جياعٌ أهله" مرّتين أو ثلاثًا. "قال

ص: 340

المناويّ رحمه الله: هذا وارد في بلاد ليس من عادتهم الشِّبَع بغيره، وفيه حَثّ على الْقَنَعِ، وتنبيهٌ على حِلّ ادِّخار قُوت العيال، فإنه أسكن للنفس، وأحصن عن الْمَلال. انتهى

(1)

.

وقال القاضي أبو بكر ابن العربيّ في "شرح الترمذيّ": وهذا لأن التمر كان قُوْتَهم، فإذا خلا منه البيت جاع أهله، وأهل كل بلدة بالنظر إلى قُوتِهم يقولون كذلك، وقال الطيبيّ: لعله حثٌّ على القناعة في بلادٍ كثر فيها التمر؛ أي: من قَنِع به لا يجوع، وقيل: هو تفضيل للتمر، والله تعالى أعلم. انتهى

(2)

.

وقال النوويّ رحمه الله: فيه فضيلة التمر، وجواز الادّخار للعيال، والحثّ عليه. انتهى

(3)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: هذا إنما عنى به النبيّ صلى الله عليه وسلم المدينة، ومن كان على حالهم، ممن غالب قُوتهِم التمر، وذلك أنه إذا خلا البيت عن غالب القوت في ذلك الموضع كان عن غير الغالب أخلى، فيجوع أهله؛ إذ لا يجدون شيئًا، ويصدق هذا القول على كل بلد ليس فيه إلا صنف واحد، أو يكون الغالب فيه صنفًا واحدًا، فيقال على بلد ليس فيه إلا البُرّ: بيت لا بُرَّ فيه جياع أهله، ويفيد هذا: التنبيه على مصلحة تحصيل القوت، وادِّخاره؛ فإنَّه أسكن للنفس غالبًا، وأبعد عن التشويش. انتهى

(4)

.

وقال المناويّ رحمه الله: "بيت لا تمر فيه جياع أهله" لكونه أنفس الثمار التي بها قوام النفس والأبدان، مع كونه أغلب أقوات الحجاز، وفي رواية لابن ماجه بسند جيّد، كما قاله زين الحافظ:"بيت لا تمر فيه كالبيت لا طعام فيه". انتهى.

قال: قال القرطبىّ: ويصدق هذا على كل بلد ليس فيه إلا صنف واحد، ويكون الغالب فيه صنفًا واحدًا، فيقال على بلد ليس فيه إلا البرّ: بيت لا بر

(1)

"فيض القدير" 6/ 446.

(2)

"عون المعبود"10/ 219.

(3)

"شرح النوويّ" 13/ 230.

(4)

"المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" 5/ 320.

ص: 341

فيه جياع أهله، فكان التمر إذ ذاك قُوْتُهم، كما يقول أهل الأندلس: بيت لا تِيْن فيه جياع أهله، قال ابن العربيّ رحمه الله: وأنا أقول: ما يناسب الخلقة والشرعة، وتصدقه التجربة: بيت لا زبيب فيه جياع أهله، وأهل كل قطر يقولون في قُوْتِهم مثله.

وقال الطيبيّ: الحديث يَحمِل على الحثّ على القناعة في بلاد يكثر فيها التمر، يعني بيت فيه تمر، وقَنِعوا به لا يجوع أهله، وإنما الجائع من ليس عنده تمر، وفيه تنبيه على مصلحة تحصيل القوت، وادّخاره. انتهى

(1)

.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [14/ 5325 و 5326](2046)، و (أبو داود) في "الأطعمة"(3/ 362)، و (الترمذيّ) في "الأطعمة"(1815)، و (ابن ماجه) في "الأطعمة"(3327)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(8/ 306)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 179 و 188)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 103 - 104)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5206)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(5/ 188 - 189)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(5/ 253 و 7/ 83)، و (أبو نعيم) في "الحلية"(10/ 31) وفي "أخبار أصبهان"(1/ 92 و 2/ 116)، و (أبو الشيخ) في "الأمثال"(231)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(2885)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): قال الحافظ ابن عمّار الشهيد رحمه الله في "علل الحديث": ووجدت فيه -يعني: "صحيح مسلم"- عن يحيى بن حسان، عن سليمان بن بلال، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"لا يجوع أهل بيت عندهم التمر"، ورَوَى بهذا الإسناد أيضًا عن النبيّ صلى الله عليه وسلم:"نِعم الإدام الخلّ"، حدّثنا أحمد بن محمد بن القاسم الفَسَوِيّ، حدّثنا أحمد بن سفيان، حدّثنا أحمد بن صالح، حدّثنا يحيى بن حسان بهذين

(1)

"فيض القدير على الجامع الصغير" للمناويّ رحمه الله 3/ 209.

ص: 342

الحديثين، قال أحمد بن صالح: نظرت في كتب سليمان بن بلال، فلم أجد لهذين الحديثين أصلًا، قال أحمد بن صالح: وحدّثني ابن أبي أويس، قال: حدّثني ابن أبي الزناد، عن هشام، عن رجل من الأنصار: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل قومًا: "ما إدامكم؟ " قالوا: الخلّ، قال:"نِعْم الإدام الخلّ". انتهى كلام ابن عمّار رحمه الله

(1)

.

وقال الترمذيّ رحمه الله في "علله": سألت محمدًا -يعني: البخاريّ- عن هذين الحديثين- أي: حديث: "بيت لا تمر فيه جياع أهله"، وحديث:"نِعْم الإدام الخلّ"- فقال: لا أعلم أحدًا روى هذين الحديثين غير يحيى بن حسان، عن سليمان بن بلال، ولم يعرفهما محمد إلا من هذا الوجه. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قوله: "لا أعلم أحدًا روى هذا الحديث غير يحيى بن حسّان" فيه نظر، فقد رواه مروان بن محمد، عن سليمان، أخرجه من طريقه أبو داود، وابن ماجه، وابن حبّان، قال أبو داود في "سننه":

(3831)

- حدّثنا الوليد بن عتبة، ثنا مروان بن محمد، ثنا سليمان بن بلال، حدّثني هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "بيت لا تمر فيه جياع أهله". انتهى

(3)

.

[تنبيه]: هذا الحديث روي من حديث سلمى رضي الله عنها، أخرجه ابن ماجه في "سننه"، فقال:

(33278)

- حدّثنا عبد الرحمن بن إبراهيم الدمشقيّ، ثنا بن أبي فُديك، ثنا هشام بن سعد، عن عبيد الله بن أبي رافع، عن جدّته سلمى، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"بيت لا تمر فيه كالبيت لا طعام فيه"

(4)

انتهى

(5)

.

وأخرجه الطبرانيّ في "المعجم الكبير"، فقال:

(758)

- حدّثنا سعيد بن محمد بن سعيد بن حمزة بن المغيرة بن نشيط

(1)

"علل الحديث في كتاب الصحيح" 1/ 109 - 110.

(2)

"علل الترمذي" 1/ 302.

(3)

"سنن أبي داود" 3/ 362.

(4)

حسّنه الشيخ الألبانيّ رحمه الله في "السلسلة الصحيحة" 4/ 377.

(5)

"سنن ابن ماجه" 2/ 1105.

ص: 343

المخزوميّ المصريّ، ثنا سعيد بن سليمان الواسطيّ، ثنا إسماعيل بن زكريا، عن حارثة بن محمد، قال: أخبرني عبيد الله بن أبي رافع، عن أمه، وكانت خادمًا للنبيّ صلى الله عليه وسلم قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "بيت لا تمر فيه جياع أهله". انتهى

(1)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5326]

(

) - (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ بْنِ قَعْنَبٍ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ طَحْلَاءَ، عَنْ أَبِي الرِّجَالِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أُمِّهِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "يَا عَائِشَةُ بَيْتٌ لَا تَمْرَ فِيهِ جِيَاعٌ أَهْلُهُ، يَا عَائِشَةُ بَيْتٌ لَا تَمْرَ فِيهِ جِيَاعٌ أَهْلُهُ - أَوْ: "جَاعَ أَهْلُهُ"- قَالَهَا مَرَّتَيْنِ، أَوْ ثَلَاثًا).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ بْنِ قَعْنَبٍ) القعنبىّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(يَعْقُوبُ بْنُ مُحَمَدِ بْنِ طَحْلَاءَ) -بمهملتين الثانية ساكنة- أبو يوسف، مولى بني ليث، وقيل: مولى جويرية بنت الحارث الهلالية، المدنيّ، ثقةٌ من كبار [7].

روى عن أبي الرجال محمد بن عبد الرحمن الأنصاريّ، وبلال بن أبي بردة، وإسحاق بن يسار المدنيّ، وغيرهم.

وروى عنه مالك، وابن أبي الزناد، والثوريّ، وإسماعيل بن أبي عياش، وعبد الرحمن بن مهديّ، وعبد الرحمن بن أبي الرجال، وابن المبارك، والأصمعيّ، والقعنبيّ، وغيرهم.

قال أحمد، وابن معين، وأبو حاتم، والنسائيّ: ثقةٌ، وقال أبو حاتم، والنسائيّ: لا بأس به، وكذا قال أبو داود، وذكره ابن حبان في "الثقات".

قال ابن سعد: تُوُفّي في خلافة أبى جعفر، وكان قليل الحديث، وقال خليفة: مات سنة اثنتين وستّين ومائة.

تفرّد به المصنّف، وليس له عنده في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.

(1)

"المعجم الكبير" للطبرانيّ 24/ 299.

ص: 344

3 -

(أبُو الرِّجَالِ

(1)

مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بن حارثة الأنصاريّ، مشهور بهذه الكنية، وهي لقبه، وكنيته في الأصل أبو عبد الرحمن، ثقةٌ [5](خ م س ق) تقدم في "صلاة المسافرين وقصرها" 46/ 1890.

4 -

(أُمّهُ) عمرة بنت عبد الرحمن بن سعد بن زُرارة الأنصاريّة المدنيّ، أكثرت عن عائشة رضي الله عنها، ثقةٌ [3] ماتت قبل المائة، ويقال: بعدها (ع) تقدمت في "شرح المقدمة" جـ 2 ص 417.

و"عائشة رضي الله عنها" ذُكرت قبله.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه مسلسل بالمدنيين من أوله إلى آخره، والقعنبيّ، وإن كان بصريًّا، إلا أن أصله من المدينة، وقد سكنها مدّة.

والحديث من أفراد المصنّف رحمه الله، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، ولله الحمد والمنّة.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(15) - (بَابُ فَضْلِ تَمْرِ الْمَدِينَةِ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5327]

(2047) - (حَدَّثنا عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ بْنِ قَعْنَبٍ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ -يَعْنِي: ابْنَ بِلَالٍ- عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، عَنْ أبِيهِ، أن رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ أَكَلَ سَبْعَ تَمَرَاتٍ مِمَّا بَيْنَ لَابَتَيْهَا حِينَ يُصْبحُ، لَمْ يَضُرُّهُ سُمٌّ حَتَّى يُمْسِيَ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بن معمر بن حزم الأنصاريّ أبو طُوَالة -بضمّ الطاء المهملة- المدنيّ، القاضي، تقدَّم قريبًا.

2 -

(عَامِرُ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ) الزهريّ المدنيّ، ثقةٌ [3](ت 104)(ع) تقدم في "الإيمان" 13/ 159.

(1)

بكسر الراء، وتخفيف الجيم لُقّب به؛ لأنه كان له عشرة أولاد ذكور.

ص: 345

3 -

(أَبُوهُ) سعد بن أبي وقّاص مالك بن وُهيب بن عبد مناف بن زُهرة بن كلاب الزهريّ، أبو إسحاق الصحابيّ الشهير، مات بالعقيق، ثم نُقل إلى المدينة، ودفن بالبقيع سنة (55) على المشهور تقدم في "المقدمة" 6/ 71.

والباقيان ذُكرا في الإسنادين الماضيين.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف، وأنه مسلسلٌ بالمدنيين، وفيه رواية الراوي عن أبيه، وأن صحابيّه أحد العشرة المبشّرين بالجنة رضي الله عنهم، وأول من رمى بسهم في سبيل الله، ومناقبه جمّة، وهو آخر من مات من العشرة رضي الله عنهم.

شرح الحديث:

(عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، عَنْ أَبِيهِ) سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه، وفي رواية هاشم بن هاشم التالية: "قال: سمعت عامر بن سعد بن أبي وقّاص، يقول: سمعت سعدًا يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول

". (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ أَكَلَ سَبْعَ تَمَرَاتٍ مِمَّا بَيْنَ لَابَتَيْهَا) أراد: لابَتَي المدينة، وإن لم يَجر لها ذِكرٌ؛ للعِلم بها، واللابتان تثنية لابة، وهي الحَرّة، وهي الأرض ذات الحجارة السُّود، والجمع لابٌ، مثلُ ساعة وساعٍ، واللُّوبة بالضمّ لغةٌ، والجمعُ لُوْبٌ، قاله الفيّوميّ

(1)

. (حِين يُصْبِحُ)؛ أي: حين يدخل وقت الصباح، (لَمْ يَضُرُّهُ) بضمّ الراء للإتباع، (سُمٌّ) قال الفيّوميّ: السمّ: ما يَقْتُلُ، بالفتح في الأكثر، وجمعه سُمومٌ، مثلُ فَلْس وفُلُوس، وسِمَامٌ أيضًا، مثلُ سَهْمٍ وسِهام، والضمّ لغةٌ لأهل العالية، والكسر لغة لبني تميم، وسَمَمْتُ الطعامَ، من باب قَتَلَ: جعلتُ فيه السمّ. انتهى

(2)

.

[فائدة]: قال الخضريّ رحمه الله في "حاشية شرح ابن عقيل على الخلاصة": إذا اتّصل بآخر الفعل المدغم من المجزوم وشِبهه هاء الغائبة وجب فتحه، كَرُدَّهَا، ولم يَرُدَّها، أو هاء الغائب وجب ضمّه، كرُدُّهُ، ولم يردّه؛ لأن الهاء خفيّة، فلن يُعتدّ بها، فكأنّ الدال قد وَليها الألف والواو، وحَكَى ثعلبٌ التثليث

(1)

"المصباح المنير" 2/ 560.

(2)

"المصباح المنير" 1/ 289.

ص: 346

قبل هاء الغائب، وغُلِّط في جواز الفتح، وأما الكسر فالصحيح أنه لغيّةٌ، سَمِع الأخفش: مُدِّهِ، وغُطِّهِ، وحكى الكوفيّون التثليث قبل كلّ منهما.

فإن اتّصل بآخر الفعل ساكنٌ، فأكثرهم يكسره، كرُدِّ القومَ بالكسر؛ لأنها حركة لالتقاء الساكنين، وبنو أسد تفتحه تخفيفًا، وحَكَى ابن جنّي ضمّه إتباعًا، وقد رُوي بهنّ قول جرير [من الطويل]:

فَغُضّ الطَّرْفَ إِنَّكَ مِنْ نُمَيْرٍ

فَلَا كَعْبًا بَلَغْتَ وَلَا كِلَابَا

نَعَم الضمّ قليلٌ، ولذا أنكره في "التسهيل".

فإن لم يتّصل الفعل بشيء من ذلك ففيه ثلاث لغات: الفتح؛ للخفّة مطلقًا؛ أي: في مضموم الفاء، كرُدَّه، ومكسورها، كفِرّ، ومفتوحها، كَعَضَّ، وهو لغة أسد وغيرهم، والكسر مطلقًا على أصل التخلّص، وهو لغة كعب، والإتباع بحركة الفاء، كرُدُّ بالضمّ، وفِرِّ بالكسر، وعَضَّ بالفتح، وهذا أكثر في كلامهم. انتهى

(1)

.

(حَتَّى يُمْسِيَ")؛ أي: يدخل في المساء. وفي الرواية التالية: "من تصبّح بسبع تمرات عجوة، لم يضرّه ذلك اليوم سمّ، ولا سحرٌ"، وفي رواية البخاريّ:"من اصطَبَح كلَّ يوم تمرات عجوة، لم يضرّه سمّ، ولا سحرٌ ذلك اليوم إلى الليل".

قوله: "كلَّ يوم تمرات عجوة" كذا أطلق في هذه الرواية، ووقع مقيَّدًا في غيرها، ففي رواية جمعة، وابن أبي عمر:"سبع تمرات"، وكذا أخرجه الإسماعيليّ من رواية دُحَيم، عن مروان، وكذا هو في رواية أبي أسامة في الباب، ووقع مقيَّدًا بالعجوة في رواية أبي ضمرة أنس بن عياض، عن هاشم بن هاشم، عند الإسماعيليّ، وكذا في رواية أبي أسامة، وزاد أبو ضمرة في روايته التقييد بالمكان أيضًا، ولفظه:"مَن تصبَّح بسبع تمرات عجوة من تمر العالية"، والعالية: القرى التي في الجهة العالية من المدينة، وهي جهة نجد، قال: وللزيادة شاهد عند مسلم من طريق ابن أبي مليكة، عن عائشة بلفظ:"في عجوة العالية شفاء في أول البكرة"، ووقع لمسلم أيضًا من طريق أبي طُوالة

(1)

"حاشية الخضريّ على شرح ابن عقيل" 2/ 329.

ص: 347

عبد الله بن عبد الرحمن الأنصاريّ، عن عامر بن سعد بلفظ:"من أكل سبع تمرات مما بين لابتيها حين يصبح".

قوله: "لم يضره سمّ، ولا سحرٌ ذلك اليوم إلى الليل": السمّ معروف، وهو مثلث السين. وقوله:"ذلك اليوم" ظرف، وهو معمول لـ "يضرّه"، أو صفة لـ"سحر".

وقوله: "إلى الليل" فيه تقييد الشفاء المطلق في رواية ابن أبي مليكة، حيث قال:"شفاء، أو أنها ترياق أول البكرة"، وتردده في ترياق شكّ من الراوي، والبكرة بضم الموحدة، وسكون الكاف، يوافق ذِكر الصباح في حديث سعد، والشفاء أشمل من الترياق، يناسب ذكر السمّ، والذي وقع في حديث سعد شيئان: السحر والسم، فمعه زيادة علم.

وقد أخرج النسائيّ من حديث جابر، رفعه:"العجوة من الجنة، وهي شفاء من السمّ"، وهذا يوافق رواية ابن أبي مليكة.

والترياق بكسر المثناة، وقد تضمّ، وقد تُبْدَل المثناة دالًا، أو طاءً، بالإهمال فيهما، وهو دواء مركّبٌ معروف يعالَج به المسموم، فأُطلق على العجوة اسم الترياق؛ تشبيهًا لها به.

وأما الغاية في قوله: "إلى الليل" فمفهومه أن السر الذي في العجوة من دفع ضرر السحر والسم يرتفع إذا دخل الليل في حقّ مَن تناوله مِن أول النهار، ويستفاد منه إطلاق اليوم على ما بين طلوع الفجر، أو الشمس إلى غروب الشمس، ولا يستلزم دخول الليل.

قال الحافظ: ولم أقف في شيء من الطرق على حكم من تناول ذلك في أول الليل، هل يكون كمن تناوله أول النهار، حتى يندفع عنه ضرر السم والسحر إلى الصباح؟ والذي يظهر خصوصية ذلك بالتناول أول النهار؛ لأنه حينئذ يكون الغالب أنّ تناوله يقع على الريق، فيَحْتَمِل أن يُلحق به من تناول الليل على الريق؛ كالصائم، وظاهر الإطلاق أيضًا المواظبة على ذلك، وقد وقع مقيّدًا فيما أخرجه الطبريّ من رواية عبد الله بن نمير، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تأمر بسبع تمرات عجوة في سبع غدوات.

وأخرجه ابن عديّ من طريق محمد بن عبد الرحمن الطُّفاويّ، عن

ص: 348

هشام، مرفوعًا، وذكر ابن عديّ أنه تفرَّد به، ولعله أراد تفرّده برفعه، وهو من رجال البخاريّ، لكن في المتابعات.

قال: ويجوز في تمرات عجوة الإضافة، فتخفض، كما تقول: ثياب خَزّ، ويجوز التنوين على أنه عَطْف بيان، أو صفة لسبع، أو تمرات، ويجوز النصب منوّنًا على تقدير فِعْل، أو على التمييز.

قال الخطابيّ: كون العجوة تنفع من السم والسحر إنما هو ببركة دعوة النبيّ صلى الله عليه وسلم لتمر المدينة، لا لخاصية في التمر.

قال الجامع عفا الله عنه: قوله: لا لخاصيّة في التمر، فيه نظر لا يخفى، بل هو ظاهر في كونه لخاصيّة تمر المدينة؛ إذ دعوة النبيّ صلى الله عليه وسلم لتمر المدينة عامّة، لا تخصّ العجوة، فتأمله بالإمعان، والله تعالى أعلم.

وقال ابن التين: يَحْتَمِل أن يكون المراد نخلًا خاصًّا بالمدينة لا يُعرف الآن، وقال بعض شراح "المصابيح" نحوه، وأن ذلك لخاصية فيه، قال: ويَحتَمِل أن يكون ذلك خاصًّا بزمانه صلى الله عليه وسلم.

قال الحافظ: وهذا يُبعده وَصْف عائشة لذلك بَعْده صلى الله عليه وسلم.

وقال بعض شراح "المشارق": أما تخصيص تمر المدينة بذلك فواضح من ألفاظ المتن، وأما تخصيص زمانه بذلك فبعيد، وأما خصوصية السبع فالظاهر أنه لسرّ فيها، وإلا فيُستحب أن يكون ذلك وترًا.

وقال المازريّ: هذا مما لا يُعقل معناه في طريقة علم الطبّ، ولو صح أن يخرج لمنفعة التمر في السم وجه من جهة الطب، لم يقدر على إظهار وجه الاقتصار على هذا العدد الذي هو السبع، ولا على الاقتصار على هذا الجنس الذي هو العجوة، ولعل ذلك كان لأهل زمانه صلى الله عليه وسلم خاصة، أو لأكثرهم إذ لم يثبت استمرار وقوع الشفاء في زماننا غالبًا، وإن وُجد في الأكثر حُمِل على أنه أراد وصف غالب الحال.

وقال عياض: تخصيصه ذلك بعجوة العالية، وبما بين لابتي المدينة يرفع هذا الإشكال، ويكون خصوصًا لها، كما وُجد الشفاء لبعض الأدواء في الأدوية التي تكون في بعض تلك البلاد دون ذلك الجنس في غيره؛ لتأثير يكون في ذلك من الأرض، أو الهواء، قال: وأما تخصيص هذا العدد فَلِجَمْعه بين

ص: 349

الأفراد والأشفاع؛ لأنه زاد على نصف العشرة، وفيه أشفاع ثلاثة، وأوتار أربعة، وهي من نمط غسل الإناء من ولوغ الكلب سبعًا، وقوله تعالى:{سَبْعَ سَنَابِلَ} [البقرة: 261]، وكما أن السبعين مبالغة في كثرة العشرات، والسبعمائة مبالغة في كثرة المئين.

وقال النوويّ: في الحديث تخصيص عجوة المدينة بما ذُكر، وأما خصوص كون ذلك سبعًا فلا يُعقل معناه، كما في أعداد الصلوات، ونُصُب الزكوات، قال: وقد تكلم في ذلك المازريّ، وعياض بكلام باطل، فلا يُغترّ به. انتهى.

قال الحافظ: ولم يظهر لي من كلامهما ما يقتضي الحكم عليه بالبطلان، بل كلام المازريّ يشير إلى محصّل ما اقتصر عليه النوويّ، وفي كلام عياض إشارة إلى المناسبة فقط، والمناسبات لا يُقصد فيها التحقيق البالغ، بل يُكتفَى منها بطرق الإشارة.

وقال القرطبيّ: ظاهر الأحاديث خصوصية عجوة المدينة بدفع السم، وإبطال السحر، والمطلق منها محمول على المقيد، وهو من باب الخواص التي لا تُدرك بقياس ظنيّ، ومن أئمتنا من تكلَّف لذلك، فقال: إن السموم إنما تَقْتُل لإفراط برودتها، فإذا داوم على التصبّح بالعجوة تحكمت فيه الحرارة، وأعانتها الحرارة الغريزية، فقاوم ذلك برودة السم ما لم يستحكم، قال: وهذا يلزم منه رفع خصوصية عجوة المدينة، بل خصوصية العجوة مطلقًا، بل خصوصية التمر، فإن من الأدوية الحارة ما هو أَولى بذلك من التمر، والأَولى أن ذلك خاصّ بعجوة المدينة، ثم هل هو خاصّ بزمان نُطْقِه، أو في كل زمان؟ هذا مُحْتَمِلٌ، ويرفع هذا الاحتمال التجربة المتكررة، فمن جرَّب ذلك فصحَّ معه عَرَف أنه مستمرّ، وإلا فهو مخصوص بذلك الزمان، قال: وأما خصوصية هذا العدد فقد جاء في مواطن كثيرة من الطب، كحديث:"صُبُّوا عليّ من سبع قِرَب"، وقوله للمفؤود الذي وجّهه للحارث بن كَلَدَة أن يَلُدّه بسبع تمرات، وجاء تعويذه سبع مرات إلى غير ذلك.

وأما في غير الطب فكثير، فما جاء من هذا العدد في معرض التداوي فذلك لخاصية لا يعلمها إلا الله، أو من أطلعه على ذلك، وما جاء منه في غير

ص: 350

معرض التداوي، فإن العرب تضع هذا العدد موضع الكثرة، وإن لم تُرِد عددًا بعينه.

وقال ابن القيّم: عجوة المدينة من أنفع تمر الحجاز، وهو صنف كريم ملذذ متين الجسم والقوة، وهو من أَلْيَن التمر، وألذّه، قال: والتمر في الأصل من أكثر الثمار تغذية؛ لِمَا فيه من الجوهر الحار الرطب، وأكْله على الريق يقتل الديدان؛ لِمَا فيه من القوة الترياقية، فإذا أُديم أَكْله على الريق جفف مادة الدود، وأضعفه، أو قتله. انتهى.

وفي كلامه إشارة إلى أن المراد نوع خاص من السم، وهو ما ينشأ عن الديدان التي في البطن لا كل السموم، لكن سياق الخبر يقتضي التعميم؛ لأنه نكرة في سياق النفي، وعلى تقديم التسليم في السم فماذا يصنع في السحر؟. انتهى كلام الحافظ رحمه الله

(1)

، وهو بحث نفيسٌ جدًّا، والله تعالى أعلم.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [15/ 5327 و 5328 و 5329](2047)، و (البخاريّ) في "الأطعمة"(5445) و"الطبّ"(5768 و 5769)، و (أبو داود) في "الأطعمة"(3875 - 3876)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(4/ 165)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(5/ 36)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 181)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(5/ 190)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(2/ 72 و 120)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(8/ 135 و 9/ 345)، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5328]

(

) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ هَاشِمِ بْنِ هَاشِمٍ، قَالَ: سَمِعْتُ عَامِرَ بْنَ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقاصٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ سَعْدًا يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَنْ تَصَبَّحَ بِسَبْعِ تَمَرَاتٍ عَجْوَةً لَمْ يَضُرَّهُ ذَلِكَ الْيَوْمَ سُمٌّ، وَلَا سِحْرٌ").

(1)

"الفتح" 13/ 228 - 230، كتاب "الطبّ" رقم (5768).

ص: 351

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم قبل بابين.

2 -

(أَبُو أُسَامَةَ) حمّاد بن اسامة، تقدّم قريبًا.

3 -

(هَاشِمُ بْنُ هَاشِمٍ) بن عُتبة بن أبي وقّاص الزهريّ المدنيّ، ويقال له: هاشم بن هاشمَ بن هاشم، وهو أصحّ؛ لأن هاشم بن عتبة قُتل بصفين سنة سبع وثلاثين، فيبعد أن يكون صاحب الترجمة ابنه؛ لِبُعد ما بين وفاتيهما

(1)

، ثقةٌ [6].

رَوَى عن سعيد بن المسيِّب، وعامر، وعائشة ابني سعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن وهب بن زمعة، وعبد الله بن نِسطاس، وغيرهم.

وروى عنه مالك، والدراوَرْديّ، ويحيى بن أبي زائدة، وموسى بن يعقوب الزَّمْعيّ، وأبو أسامة، وأبو ضمرة، وشجاع بن الوليد، وعبد الله بن نمير، وغيرهم.

قال صالح بن أحمد عن أبيه: ليس به بأسٌ، وقال ابن معين، والنسائيّ: ثقةٌ، ذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: مات سنة أربع وأربعين ومائة، وقال البخاريّ عن مكيّ: سمعت منه سنة أربع، وقال أحمد بن حنبل عن مكيّ: سمعت منه سنة سبع وأربعين، وقال العجليّ: هاشم بن هاشم بن عتبة مدنيّ ثقةٌ، وقال البزار: ليس به بأس.

أخرج له الجماعة، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.

والباقيان ذُكرا قبله.

وقوله: (مَنْ تَصَبَّحَ) وفي رواية للبخاريّ: "من اصطبح". قال في "الفتح": قوله: "من اصطبح"، وفي رواية:"مَن تَصَبّح"، وكلاهما بمعنى التناول صباحًا، وأصل الصَّبُوح والاصطباح: تناول الشراب صُبْحًا، ثم استُعمل في الأكل، ومقابله: الْغَبُوق، والاغتباق، بِالْغَين المعجمة، وقد يُستعمل في مطلق الغذاء أعمّ من الشرب والأكل، وقد يُستعمل في أعمّ من ذلك، كما قال الشاعر:

صَبَحْنَا الْخَزْرَجِيَةَ مُرْهَفَاتٍ

(1)

"تهذيب الكمال" 11/ 19.

ص: 352

و"تَصَبَّحَ" مطاوع صَبَّحْتَهُ بكذا: إذا أتيته به صباحًا، فكأن الذي يتناول العجوة صباحًا قد أتي بها، وهو مِثْل تَغَذَّى، وتَعَشَّى: إذا وقع ذلك في وقت الغداء، أو العشاء.

وقوله: (بِسَبْعِ تَمَرَاتٍ عَجْوَةً) تقدّم أنه يجوز إضافة "تمرات" إلى "عجوة"، فتُخفض، كما في: ثوبُ خزّ، ويجوز التنوين على أنه عَطْف بيان، أو صفة لـ "سبع"، أو "تمرات"، ويجوز نصبه منوّنًا على تقدير فعل، أو على التمييز.

والحديث متّفق عليه، وقد مضى تمام البحث فيه في الحديث الماضي، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5329]

(

) - (وَحَدَّثنَاهُ ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثنَا مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ الْفَزَارِيُّ (ح) وَحَدَّثنَاهُ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا أَبُو بَدْرٍ شُجَاعُ بْنُ الْوَلِيدِ، كِلَاهُمَا عَنْ هَاشِمِ بْنِ هَاشِم، بِهَذَا الإِسْنَادِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِثْلَهُ، وَلَا يَقُولَانِ: سَمِعْتُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(ابْنُ أَبِي عُمَرَ) محمد بن يحيى بن أبي عُمر العدنيّ، تقدّم قبل بابين.

2 -

(مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ الْفَزَارِيُّ) الكوفيّ، تقدّم قريبًا.

3 -

(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه، تقدّم أيضًا قريبًا.

4 -

(أَبُو بَدْرٍ شُجَاعُ بْنُ الْوَليدِ) بن قيس السَّكُونيّ، الكوفيّ، صدوقٌ، ورعٌ، له أوهامٌ [9](ت 204)(ع) تقدم في "الصيد والذبائح" 7/ 5023.

و"هاشم" ذُكر قبله.

[تنبيه]: رواية مروان بن معاوية عن هاشم بن هاشم ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:

(5130)

- حدّثنا جمعةُ بن عبد الله، حدّثنا مروان، أخبرنا هاشم بن هاشم، أخبرنا عامر بن سعد، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من تَصَبّح

ص: 353

كلَّ يوم سبع تمرات عجوة، لم يضره في ذلك اليوم سمّ، ولا سحر". انتهى

(1)

.

ورواية شُجاع بن الوليد عن هاشم ساقها البيهقيّ رحمه الله في "الكبرى"، فقال:

(19353)

- أخبرنا أبو الحسين بن بشران، أنبأ أبو عليّ إسماعيل بن محمد الصفّار، ثنا محمد بن عبيد الله المنادي، ثنا أبو بدر شجاع بن الوليد، ثنا هاشم بن هاشم، عن عامر بن سعد، أن سعدًا رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من تصبَّح بسبع تمرات من عجوة، لم يضرّه ذلك اليوم سمّ، ولا سحر". انتهى

(2)

، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5330]

(2048) - (وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَيَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، وَابْنُ حُجْرٍ، قَالَ يَحْيَى بْنُ يَحْيَى: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ الآخَرَانِ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ -وَهُوَ: ابْنُ جَعْفَرٍ- عَنْ شَرِيكٍ -وَهُوَ: ابْنُ أَبِي نَمِرٍ- عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي عَتِيقٍ، عَنْ عَائِشَةَ، أَن رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّ في عَجْوَةِ الْعَالِيَةِ شِفَاءً، أَوْ إِنَّهَا تِرْيَاقٌ أَوَّلَ الْبُكْرَةِ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

2 -

(يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ) المقابريّ، أبو زكريّاء البغداديّ، تقدّم قريبًا.

3 -

(ابْنُ حُجْرٍ) هو: عليّ بن حُجر السعديّ المروزيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

4 -

(إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرِ) بن أبي كثير الأنصاريّ المدنيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

5 -

(شَرِيكُ بْنُ أَيِ نَمِرٍ) هو: شريك بن عبد الله بن أبي نَمِر، أبو عبد الله المدنيّ، صدوقٌ يُخطى [5] مات في حدود (140)(خ م د تم س ق) تقدم في "الإيمان" 80/ 421.

6 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي عَتِيقٍ) هو: عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصدّيق المدنيّ، صدوقٌ فيه مزاح [3](خ م س ق) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 16/ 1250.

(1)

"صحيح البخاريّ" 5/ 2075.

(2)

"سنن البيهقيّ الكبرى" 9/ 345.

ص: 354

و"عَائِشَةُ رضي الله عنها" ذُكرت في الباب الماضي.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خُماسيّات المصنّف رحمه الله، وهو مسلسل بالمدنيين غير شيوخه، فالأول نيسابوريّ، والثاني بغداديّ، والثالث مروزيّ، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه عائشة رضي الله عنها من المكثرين السبعة، روت (2210) أحاديث، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ عَائِشَةَ) أم المؤمنين رضي الله عنها (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّ فِي عَجْوَةِ الْعَالِيَةِ)"العَجْوة" -بفتح العين المهملة، وإسكان الجيم- نوع جيّد من التمر، قال ابن الأثير: تكرر ذكرها في الحديث، وهو نوعٌ من تَمْرِ المَدِينةِ، أكبرُ من الصَّيْحَانِيّ، يضرب إلى السَّواد من غَرْس النبيّ صلى الله عليه وسلم. انتهى

(1)

.

و"العالية": ما كان من الحوائط، والقرى، والعمارات من جهة المدينة العليا، مما يلي نجدًا، والسافلة من الجهة الأخرى مما يلي تهامة، قال القاضي: وأدنى العالية ثلاثة أميال، وأبعدها ثمانية من المدينة.

(شِفَاءً، أَوْ) شكّ من الراوي، هل قال: شفاء، أو قال:(إِنَّهَا تِرْيَاقٌ) -بكسر التاء، وضمّها، لغتان-، ويقال: دِرْياق، وطرياق أيضًا، كله فصيح، قاله النوويّ، وقال القرطبي:"الترياق": دواء مركّب معلومٌ، ينفع من السموم، ويقال فيه: دِرياقٌ، وطِرْياقٌ، وتِرياق. انتهى

(2)

.

وقال في "القاموس"، و"شرحه": التِّرياق بالكسر: دواءٌ مركّب من أجزاء كثيرة، ويُطلق على ما له زهرية، ونفع عظيم سريع، وهو الآن يُطلق على العاديّ الذي اخترعه ماغنيس الحكيم، وتمَّمه أندروماخس القديم بعد ألف ومائة وخمسين سنة بزيادة لحوم الأفاعي فيه، وبها كَمُل الغرض، وهو مسمِّيه بهذا الاسم؛ لأنه نافعٌ من لدغ الهوامّ السَّبُعيّة، وهي باليونانية ترياء بالكسر، ونافع أيضًا من الأدوية المشروبة السُّمّيّة، وهي باليونانية قا آممدودة، ثم خُفّف

(1)

"النهاية في غريب الأثر" 3/ 413.

(2)

"المفهم" 5/ 323.

ص: 355

وعُرِّب، ويقال: بالدال أيضًا بدل التاء، وفي "العباب": الترياق دواء السموم، فارسيّ، مركب، وقال غيره: لغة في الدرياق. انتهى

(1)

.

وقال الفيّوميّ رحمه الله: والتِّرْيَاقُ قيل: وزنه فِعْيَالٌ بكسر الفاء، وهو روميّ مُعَرَّبٌ، ويجوز إبدال التاء دالًا وطاء مهملتين؛ لتقارب المخارج، وقيل: مأخوذ من الريق، والتاء زائدة، ووزنه تِفْعال بكسرها؛ لِمَا فيه من ريق الحيّات، وهذا يقتضي أن يكون عربيًّا. انتهى

(2)

.

(أَوَّلَ الْبُكْرَةِ") بنصب "أَوّلَ" على الظرفيّة، وهو بمعنى الرواية الأخرى:"مَن تَصَبّح".

قال النوويّ رحمه الله: وفي هذه الأحاديث فضيلة تمر المدينة، وعجوتها، وفضيلة التصبّح بسبع تمرات منه، وتخصيص عجوة المدينة دون غيرها، وعَدَد السبع من الأمور التي عَلِمَها الشارع، ولا نعلم نحن حكمتها، فيجب الإيمان بها، واعتقاد فضلها، والحكمة فيها، وهذا كأعداد الصلوات، ونُصُب الزكاة، وغيرها، فهذا هو الصواب في هذا الحديث، وأما ما ذكره الإمام أبو عبد الله المازريّ، والقاضي عياض فيه، فكلام باطلٌ، فلا تلتفت إليه، ولا تُعَرِّجْ عليه، وقصدتُّ بهذا التنبيهِ التحذيرَ من الاغترار به، والله أعلم. انتهى

(3)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قد تقدّم أن الحافظ تعقّب النووي في ردّه على المازريّ والقاضي عياض، فراجع ما سبق في ذلك، والله تعالى أعلم.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [15/ 5330](2048)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(4/ 165 و 369)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 105 و 152)، و (ابن راهويه) في "مسنده"(2/ 534 و 3/ 1028 و 1048)، والله تعالى أعلم.

(1)

"تاج العروس من جواهر القاموس" 1/ 6226.

(2)

"المصباح المنير" 1/ 74.

(3)

"شرح النوويّ" 14/ 3.

ص: 356

(16) - (بَابُ فَضْلِ الْكَمْأَةِ، وَمُدَاوَاةِ الْعَيْنِ بِهَا)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5331]

(2049) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ (ح) وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا جَرِيرٌ، وَعُمَرُ بْنُ عُبَيْدٍ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ زيدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "الكَمْأَةُ مِنَ الْمَنِّ، وَمَاؤُهَا شِفَاءٌ لِلْعَيْنِ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(قتيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) الثقفيّ البغلانيّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(إِسْحَاقُ بْن إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه، ذُكر في الباب الماضي.

3 -

(جَرِيرُ) بن عبد الحميد الضبيّ، تقدّم قريبًا.

4 -

(عُمَرُ بْن عُبَيْدِ) بن أبي أميّة الطَّنافسيّ الكوفيّ، صدوق [8](ت 185) أو بعدها (ع) تقدم في "الصلاة" 48/ 1117.

5 -

(عَبْدُ الْمَلِكِ بْن عُمَيْرٍ) الفَرَسيّ الكوفيّ، تقدّم قريبًا.

6 -

(عَمْرُو بْنُ حُرَيْثِ) بن عمرو بن عُثمان بن عبد الله بن عُمر بن مخزوم القرشيّ المخزوميّ، صحابيّ صغير، مات سنة (85)(ع) تقدم في "الصلاة" 36/ 1028.

7 -

(سَعِيدُ بْنُ زيدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ) العَدويّ، أبو الأعور الصحابيّ الشهير، أحد العشرة، مات سنة (50) أو بعدها بسنة، أو سنتين (ع) تقدم في "البيوع" 51/ 4125.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وفيه رواية صحابيّ عن صحابيّ، وأن سعيدًا رضي الله عنه أحد العشرة المبشّرين بالجنّة رضي الله عنهم.

شرح الحديث:

(عَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ) قال في "الفتح": كذا قال عبد الملك بن عُمير، ومن تابعه، وخالفهم عطاء بن السائب، من رواية

ص: 357

عبد الوارث عنه، فقال:"عن عمرو بن حُريث، عن أبيه"، أخرجه مسدّد في "مسنده"، وابن السكن في "الصحابة"، والدارقطنيّ في "الأفراد"، وقال في "العلل": الصواب رواية عبد الملك، وقال ابن السكن: أظنّ عبد الوارث أخطأ فيه، وقيل: كان سعيد بن زيد تزوج أم عمرو بن حريث، فكأنه قال: حدّثني أبي، وأراد زوج أمه مجازًا، فظنه الراوي أباه حقيقة. انتهى

(1)

.

(قَالَ) سعيد رضي الله عنه (سَمِعْتُ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "الْكَمْأَةُ") -بفتح الكاف، وسكون الميم، بعدها همزة مفتوحة- قال الخطابيّ: وفي العامة من لا يهمزه، واحدة الكمء- بفتح، ثم سكون، ثم همزة- مثل تمرة وتمر، وعكس ابن الأعرابيّ، فقال: الكمأة الجمع، والكمء الواحد، على غير قياس، قال: ولم يقع في كلامهم نظير هذا سوى خَبْأة وخَبْء، وقيل: الكمأة قد تُطلق على الواحد، وعلى الجمع، وقد جمعوها على أكمؤ، قال الشاعر [من الكامل]:

وَلَقَدْ جَنَيْتُكَ أَكْمُؤًا

(2)

وَعَسَاقِلًا

وَلَقَدْ نَهَيْتُكَ عَنْ بَنَاتِ الأَوْبَرِ

والعساقل بمهملتين وقاف ولام: السَّرَاب

(3)

، وكأنه أشار إلى أن الأكمؤ محلّ وجدانها الفَلَوات، والكمأة نبات لا ورق لها، ولا ساق، توجد في الأرض من غير أن تُزرع، قيل: سُمّيت بذلك لاستتارها، يقال: كمأ الشهادة إذا كتمها، ومادة الكمأة من جوهر أرضيّ بخاريّ يحتقن نحو سطح الأرض

(1)

"الفتح" 13/ 103، كتاب "الطبّ" رقم (5708).

(2)

"الأكْمُؤ": جمع كَمْء؛ كأَفْلُس وفَلْس، والكمء: واحد الكمأة؛ لأنها اسم جنس جمعيّ له، على خلاف الغالب من كون التاء في المفرد، وهي نبتٌ في البادية، له ثمرٌ يُجنى، و"العساقل": جمع عُسْقول، كعُصفور نوع منها، وهي الكبار البِيض التي يقال لها: شحمة الأرض، وأصله: عساقيل كعصافير، حُذفت ياؤه للضرورة، ونبات الأوبر: كماة صغيرة مزغبة على لون التراب رديئة الطعم، وهي أول الكمأة، وقيل: مثلها، وليست منها، قاله في "التصريح" بزيادة. انتهى. "حاشية الخضريّ على ابن عقيل" 1/ 119.

(3)

بالسين المهملة، كما في "القاموس"، هكذا فسّره في "الفتح"، ولكن هذا التفسير غير مناسب هنا، وإنما المناسب تفسيره بأنه نوع من الكمأة، كما ذكرته في التعليق السابق، فتنبّه.

ص: 358

ببرد الشتاء، وينمّيه مطر الربيع، فيتولد، ويندفع متجسدًا، ولذلك كان بعض العرب يسمّيها جُدَريّ الأرض

(1)

تشبيهًا لها بالجدريّ مادةً وصورةً؛ لأن مادته رطوبة دموية، تندفع غالبًا عند الترعرع، وفي ابتداء استيلاء الحرارة، ونماء القوة، ومشابهتها له في الصورة ظاهر.

وأخرج الترمذيّ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن ناسًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: الكمأة جُدَريّ الأرض، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "الكمأة من المنّ

" الحديث.

وللطبريّ من طريق ابن المنكدر، عن جابر قال: كَثُرت الكمأة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فامتنع قوم من أكلها، وقالوا: هي جدريّ الأرض، فبلغه ذلك، فقال:"إن الكمأة ليست من جدريّ الأرض، ألا إن الكمأة من المنّ"، والعرب تسمي الكمأة أيضًا بنات الرعد؛ لأنها تكثر بكثرته، ثم تنفطر عنها الأرض، وهي كثيرة بأرض العرب، وتوجد بالشام، ومصر، فأجودها ما كانت أرضه رملة قليلة الماء، ومنها صنف قتّال يضرب لونه إلى الحمرة، وهي باردة رطبة في الثانية، رديئة للمعدة، بطيئة الهضم، وإدمان أكلها يورث القولنج، والسكتة، والفالج، وعسر البول، والرطب منها أقل ضررًا من اليابس، وإذا دُفنت في الطين الرطب، ثم سلقت بالماء والملح والسَّعْتَر

(2)

، وأُكلت بالزيت، والتوابل الحارة قلّ ضررها، ومع ذلك ففيها جوهر مائي لطيف بدليل خفتها، فلذلك كان ماؤها شفاء للعين، قاله في "الفتح"

(3)

.

(مِنَ الْمَنِّ) قيل: في المراد بالمنّ ثلاثة أقوال:

[أحدها]: أن المراد أنها من المنّ الذي أُنزل على بني إسرائيل، وهو الطَّلّ الذي يسقط على الشجر، فيُجمَع، ويؤكل حلوًا، ومنه الترنجبين، فكأنه

(1)

قال في "لسان العرب" 4/ 121: الجدريّ هو الحَبّ الذي يظهر في جسد الصبي؛ شبّهوها به؛ لظهورها من بطن الأرض كما يظهر الجدريّ من باطن الجلد، وأراد به ذمها. انتهى.

(2)

"السَّعْتَرْ": نبت معروف. اهـ. "ق".

(3)

"الفتح" 13/ 103 - 104، كتاب "الطبّ"(5708).

ص: 359

شبَّه به الكمأة بجامع ما بينهما من وجود كل منهما عفوًا بغير علاج.

[والثاني]: أن المعنى أنها من المن الذي امتنّ الله به على عباده عفوًا بغير علاج، قاله أبو عبيد، وجماعة، وقال الخطابيّ: ليس المراد أنها نوع من المنّ الذي أُنزل على بني إسرائيل، فإن الذي أُنزل على بني إسرائيل كان كالترنجبين الذي يسقط على الشجر، وإنما المعنى أن الكمأة شيء ينبت من غير تكلّف ببذر، ولا سقي، فهو من قبيل المنّ الذي كان ينزل على بني إسرائيل، فيقع على الشجر، فيتناولونه، ثم أشار إلى أنه يَحْتَمِل أن يكون الذي أُنزل على بني إسرائيل كان أنواعًا منها ما يسقط على الشجر، ومنها ما يخرج من الأرض، فتكون الكمأة منه، وهذا هو:

[القول الثالث]: وبه جزم الموفّق عبد اللطيف البغداديّ، ومن تبعه، فقالوا: إن المنّ الذي أُنزل على بني إسرائيل ليس هو ما يسقط على الشجر فقط، بل كان أنواعًا من الله عليهم بها من النبات الذي يوجد عفوًا، ومن الطير التي تسقط عليهم بغير اصطياد، ومن الطلّ الذي يسقط على الشجر.

قال الجامع عفا الله عنه: لا يخفى أن هذا القول الثالث هو الأظهر في معنى الحديث، الموافق لظاهره، فيكون المراد بالمنّ في الحديث هو المنّ الذي أُنزل على بني إسرائيل، ولا مانع من هذا الظاهر، فيتعيّن المصير إليه، وعدم التكلّف بالتأويل الذي قاله أهل القولين الآخرين، فتبصّر بالإنصاف، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

قال: و"المنّ": مصدر بمعنى المفعول؛ أي: ممنون به، فلمّا لم يكن للعبد فيه شائبة كسب، كان مَنًّا محضًا، وإن كانت جميع نِعَم الله تعالى على عبيده منًّا منه عليهم، لكن خُصّ هذا باسم المنّ؛ لكونه لا صُنع فيه لأحد، فجعل سبحانه وتعالى قُوْتَهم في التيه الكمأة، وهي تقوم مقام الخبز، وأُدْمهم السلوى، وهي تقوم مقام اللحم، وحلواهم الطلّ الذي ينزل على الشجر، فكمل بذلك عيشهم، ويشير إلى ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:"من المنّ"، فأشار إلى أنها فرد من أفراده، فالترنجبين كذلك فرد من أفراد المنّ، وإن غلب استعمال المنّ عليه عرفًا. انتهى.

قال الحافظ: ولا يعكر على هذا قولهم: {لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ}

ص: 360

[البقرة: 61]؛ لأن المراد بالوحدة دوام الأشياء المذكورة من غير تبدّل، وذلك يصدق على ما إذا كان المطعوم أصنافًا، لكنها لا تتبدل أعيانها. انتهى

(1)

.

(وَمَاؤُهَا شِفَاءٌ لِلْعَيْنِ") قال في "الفتح": كذا للأكثر، وكذا عند مسلم، وفي رواية المستملي:"من العين"؛ أي: شفاء من داء العين، قال الخطابيّ: إنما اختصت الكمأة بهذه الفضيلة؛ لأنها من الحلال المحض الذي ليس في اكتسابه شبهة، ويُستنبط منه أن استعمال الحلال المحض يجلو البصر، والعكس بالعكس.

وقال ابن الجوزيّ: في المراد بكونها شفاء للعين قولان:

[أحدهما]: أنه ماؤها حقيقةً، إلا أن أصحاب هذا القول اتفقوا على أنه لا يُستعمل صرفًا في العين، لكن اختلفوا كيف يُصنع به؟ على رأيين: أحدهما: أنه يُخلط في الأدوية التي يكتحل بها، حكاه أبو عبيد، قال: ويصدق هذا الذي حكاه أبو عبيد أن بعض الأطباء قالوا: أكل الكمأة يجلو البصر. ثانيهما: أن تؤخذ، فتشق، وتوضع على الجمر حتى يغلي ماؤها، ثم يؤخذ المِيل، فيُجعل في ذلك الشق، وهو فاتر، فيكتحل بمائها؛ لأن النار تلطّفه، وتذهب فضلاته الرديئة، ويبقى النافع منه، ولا يجعل الميل في مائها، وهي باردة يابسة، فلا ينجع، وقد حَكَى إبراهيم الحربيّ عن صالح وعبد الله ابني أحمد بن حنبل، أنهما اشتكت أعينهما، فأخذا كمأة، وعصراها، واكتحلا بمائها، فهاجت أعينهما، ورَمِدا، قال ابن الجوزيّ: وحَكَى شيخنا أبو بكر بن عبد الباقي أن بعض الناس عصر ماء كمأة، فاكتحل به، فذهبت عينه.

[والقول الثاني]: أن المراد ماؤها الذي تنبت به، فإنه أول مطر يقع في الأرض، فتربى به الأكحال، حكاه ابن الجوزيّ عن أبي بكر بن عبد الباقي أيضًا، فتكون الإضافة إضافة الكل، لا إضافة جزء، قال ابن القيّم: وهذا أضعف الوجوه.

قال الحافظ: وفيما ادّعاه ابن الجوزيّ من الاتفاق على أنها لا تُستعمل صرفًا نَظَر، فقد حَكَى عياض عن بعض أهل الطبّ في التداوي بماء الكمأة

(1)

"الفتح" 13/ 103 - 104، كتاب "الطبّ"(5708).

ص: 361

تفصيلًا، وهو إن كان لتبريد ما يكون بالعين من الحرارة، فتستعمل مفردةً، وإن كان لغير ذلك فتستعمل مركبةً، وبهذا جزم ابن العربيّ، فقال: الصحيح أنه ينفع بصورته في حال، وبإضافته في أخرى، وقد جُرِّب ذلك، فوُجد صحيحًا، نَعَم جزم الخطابيّ بما قال ابن الجوزيّ، فقال: تربى بها التوتياء وغيرها من الأكحال، قال: ولا تُستعمل صِرفًا، فإن ذلك يؤذي العين.

وقال الغافقيّ في "المفردات": ماء الكمأة أصلح الأدوية للعين، إذا عُجن به الإثمد، واكتُحِل به، فإنه يقوي الجفن، ويزيد الروح الباصر حدّةً، وقُوّةً، ويدفع عنها النوازل.

وقال النوويّ: الصواب أن ماءها شفاء للعين مطلقًا، فيعصر ماؤها، ويجعل في العين منه، قال: وقد رأيت أنا وغيري في زماننا من كان عَمِي، وذهب بصره حقيقةً، فكُحل عينه بماء الكمأة مجردًا فشُفِي، وعاد إليه بصره، وهو الشيخ العدل الأمين الكمال بن عبد الدمشقيّ، صاحب صلاح، ورواية في الحديث، وكان استعماله لماء الكمأة اعتقادًا في الحديث، وتبركًا به، فنفعه الله به.

قال الحافظ: الكمال المذكور هو كمال الدين بن عبد العزيز بن عبد المنعم بن الخضر يُعْرَف بابن عبد بغير إضافة الحارثيّ الدمشقيّ، من أصحاب أبي طاهر الخشوعيّ سَمِع منه جماعة من شيوخ شيوخنا، عاش ثلاثًا وثمانين سنةً، ومات سنة اثنتين وسبعين وستمائة قبل النوويّ بأربع سنين.

وينبغي تقييد ذلك بمن عَرَف من نفسه قوّةَ اعتقاد في صحة الحديث، والعمل به، كما يشير إليه آخر كلامه، وهو ينافي قوله أوّلًا: مطلقًا.

وقد أخرج الترمذيّ في "جامعه" بسند صحيح إلى قتادة قال: حُدِّثت أن أبا هريرة قال: أخذت ثلاثة أكمؤ، أو خمسًا، أو سبعًا، فعصرتهنّ، فجعلت ماءهنّ في قارورة، فكحلت به جارية لي، فَبَرِئت.

وقال ابن القيم: اعترف فضلاء الأطباء أن ماء الكمأة يجلو العين، منهم المسبحيّ، وابن سينا، وغيرهما، والذي يزيل الإشكال عن هذا الاختلاف أن الكمأة وغيرها من المخلوقات خُلقت في الأصل سليمة من المضارّ، ثم عرضت لها الآفات بأمور أخرى، من مجاورة، أو امتزاج، أو غير ذلك، من

ص: 362

الأسباب التي أرادها الله تعالى، فالكمأة في الأصل نافعة لِمَا اختصت به من وصفها بأنها من الله، وإنما عرضت لها المضارّ بالمجاورة، واستعمال كل ما وردت به السُّنَّة بصدقٍ يَنتفع به من يستعمله، ويدفع الله عنه الضرر بنيّته، والعكس بالعكس، والله أعلم. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي ذكره ابن القيّم رحمه الله تحقيقٌ نفيسٌ جدًّا، خلاصته أن ما دلّ عليه حديث الباب من كون ماء الكمأة شفاءً للعين حقّ وصدقٌ، ينتفع به من اعتقد صحّة ذلك عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، واستعمله تحقيقًا لاتباع سنّته، وتصديقًا لِمَا أخبر به من الوحي الذي لا شكّ فيه، فإذا استعمله الإنسان على هذه النيّة المصالحة، فإنه يُشفى بإذن الله تعالى، فعليك أيها المسلم بالصدق مع الله عز وجل، وإخلاص التوحيد، وطهارة الطويّة تظفر بما طلبته من الخيرات الدينيّة والدنيويّه، والله تعالى أعلم.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث سعيد بن زيد رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [16/ 5331 و 5332 و 5333 و 5334 و 5335 و 5336 و 5337](2049)، و (البخاريّ) في "التفسير"(4478 و 4639) و"الطبّ"(5708)، و (الترمذيّ) في "الطبّ"(2067)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(4/ 156)، و (ابن ماجه) في "الطبّ"(3498)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(5/ 60)، و (الحميديّ) في "مسنده"(1/ 43 - 44)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 187 و 188)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(5/ 191 و 192 و 193 و 194)، و (الضياء) في "المختارة"(10/ 217)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(6/ 324)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(2/ 256 - 257)، و (البزّار) في "مسنده"(4/ 82 و 83 و 84)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(9/ 345)، و (ابن أبي عاصم) في "الآحاد والمثاني"(1/ 178 - 179)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(2896 - 2897)، والله تعالى أعلم.

(1)

"الفتح" 13/ 103 - 104، كتاب "الطبّ" رقم (5708).

ص: 363

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5332]

(

) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ عَمْرَو بْنَ حُرَيْثٍ، قَالَ: سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ زَيْدٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "الكَمْأَةُ مِنَ الْمَنِّ، وَمَاؤُهَا شِفَاءٌ لِلْعَيْنِ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

وكلّهم ذُكروا في الباب، وقبل باب.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5333]

(

) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: وَأَخْبَرَنى الْحَكَمُ بْنُ عُتَيْبَةَ، عَنِ الْحَسَنِ الْعُرَنِيِّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ شُعْبَةُ: لَمَّا حَدَّثَنِي بِهِ الْحَكَمُ لَمْ أُنْكِرْهُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الْمَلِكِ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(الْحَكَمُ بْنُ عُتَيْبَةَ) الكنديّ، أبو محمد الكوفيُّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيةٌ، ربّما دلّس [5](ت 113) أو بعدها (ع) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.

2 -

(الْحَسَنُ الْعُرَنِيُّ) هو: الحسن بن عبد الله البجليّ الكوفيّ، ثقةٌ [4].

رَوَى عن ابن عباس، وعمرو بن حريث، وعبيد بن نَضْلة، ويحيى بن الجزار، وسعيد بن جبير، وغيرهم.

وروى عنه الحكم بن عتيبة، وسلمة بن كهيل، وأشعث بن طليق، وعزرة بن عبد الرحمن، ويحيى بن ميمون.

قال ابن أبي خيثمة، عن يحيى بن معين: صدوقٌ، ليس به بأس، إنما يقال: إنه لم يسمع من ابن عباس، وقال أبو زرعة: ثقةٌ، وحديثه عند البخاريّ مقرون بغيره، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: يخطئ، وقال ابن سعد:

ص: 364

كان ثقةً، وله أحاديث، وقال العجليّ: كوفيّ ثقةٌ، وقال أحمد بن حنبل: الحسن العُرَنيّ لم يسمع من ابن عباس شيئًا، وقال أبو حاتم: لم يدركه.

أخرج له البخاريّ مقرونًا بغيره، والمصنّف، وأبو داود، والنسائيّ، وابن ماجه، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، حديث الباب وكرّره ثلاث مرّات، وحديث (2799): حديث أُبيّ بن كعب في قوله عز وجل: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى} الآية [السجدة: 21].

[تنبيه]: قوله: (الْعُرَنِيُّ) -بضمّ العين المهملة، وفتح الراء، بعدها نون-: نسبة إلى عُرَينة بن نذير بن قسر بن عبقر بن أنمار بن أراش، بطن من بَجِيلة، قاله في "اللباب"

(1)

.

والباقون ذُكروا قبله.

وقوله: (قَالَ شُعْبَةُ

إلخ) موصول بالإسناد المذكور، وليس معلّقًا، فتنبّه.

وقوله: (لَمَّا حَدَّثَنِي بِهِ الْحَكَمُ لَمْ أُنْكِرْهُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الْمَلِكِ) قال في "الفتح": كأنه أراد أن عبد الملك كَبِر، وتغيَّر حفظه، فلما حدّث به شعبةَ توقف فيه، فلما تابعه الحكم بروايته ثبت عند شعبة، فلم ينكره، وانتفى عنه التوقف فيه.

وقد تكلف الكرمانيّ لتوجيه كلام شعبة أشياء فيها نظر:

أحدها: أن الحكم مدلِّس، وقد عنعن، وعبد الملك صرح بقوله:

سمعته، فلما تقوى برواية عبد الملك لم يبق به محل للإنكار، قال الحافظ: شعبة ما كان يأخذ عن شيوخه الذين ذُكر عنهم التدليس إلا ما يتحقق سماعهم فيه، وقد جزم بذلك الإسماعيليّ وغيره ببُعد هذا الاحتمال، وعلى تقدير تسليمه كان يلزم الأمر بالعكس، بأن يقول: لمّا حدثني عبد الملك لم أنكره من حديث الحكم.

ثانيها: لم يكن الحديث منكورًا لي لأني كنت أحفظه.

(1)

"اللباب في تهذيب الأنساب" 2/ 336.

ص: 365

ثالثها: يَحْتَمِل العكس بأن يراد: لم ينكر شيئًا من حديث عبد الملك. انتهى

(1)

.

والحديث متّفق عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5334]

(

) - (حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عَمْرٍو الأَشْعَثِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْثَرٌ، عَنْ مُطَرِّفٍ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "الكَمْأَةُ مِنَ الْمَنِّ الَّذِي أَنْزَلَ اللهُ تبارك وتعالى عَلَى بَنى إِسْرَائِيلَ، وَمَاؤُهَا شِفَاءٌ لِلْعَيْنِ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(سَعِيدُ بْنُ عَمْرٍو الأَشْعَثِيُّ) الكنديّ الكوفيّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(عَبْثَرُ) بن القاسم الزُّبيديّ، أبو زُبيد الكوفيّ، ثقةٌ [8](ت 179)(ع) تقدم في "الإيمان" 48/ 305.

3 -

(مُطَرِّفُ) بن طَرِيف، أبو بكر، أو أبو عبد الرحمن الكوفيّ، ثقةٌ فاضلٌ، من صغار [6](ت 141) أو بعد ذلك (ع) تقدم في "الإيمان" 90/ 472.

والباقون ذُكروا قبله.

وقوله: (أَنْزَلَ اللهُ تبارك وتعالى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ) هذا نصّ صريح يُبطل التأويلات السابقة، ويُوضّح أن المنّ الموجود الآن نوع من الأنواع التي أنزلها الله على بني إسرائيل حقيقة، لا مجازًا، فتنبّه.

وقال القرطبيّ رحمه الله: ظاهر هذا اللفظ أنها مما أنزل الله تعالى على بني إسرائيل؛ مما خلقه الله تعالى لهم في التِّيه، وذلك أنه كانوا ينزل عليهم في أشجارهم مثل السُّكَّر، ويقال: هو الطرنجبين، وهو المنُّ في قول أكثر المفسرين، وعلى ظاهر هذا الحديث تكون الكمأة أيضًا مما خُلق لهم في مواضع نزولهم، وقيل: الكمء من المنّ، بمعنى: أنه يُشْبهه من حيث إن الكمأة

(1)

"الفتح" 13/ 107 - 108، كتاب "الطبّ" رقم (5708).

ص: 366

تطلع من عند الله تعالى من غير كلفة منا ببذر، ولا حرث، ولا سقي، كما كان المنِّ ينزل عليهم عفوًا من غير سبب منهم. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قد عرفت أن الأرجح هو القول الأول، فلا تغفل.

وقوله: (وَمَاؤُهَا شِفَاءٌ لِلْعَيْنِ) قال القاضي عياض: قال بعض أهل العلم بالطب في معنى هذا الحديث: إما لتبريد العين من بعض ما يكون فيها من الحرارة فتُستعمل بنفسها مفردة، وإما لغير ذلك فمركبة مع غيرها

(2)

.

والحديث بهذا السياق من أفراد المصنّف رحمه الله، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5335]

(

) - (وَحَدَّثنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مُطَرِّفٍ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ، عَنِ الْحَسَنِ الْعُرَنِيِّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ زبدٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "الكَمْأَةُ مِنَ الْمَنِّ الَّذِي أَنْزَلَ اللهُ عَلَى مُوسَى، وَمَاؤُهَا شِفَاءٌ لِلْعَيْنِ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

وكلّهم ذُكروا في الباب، و"إسحاق بن إبراهيم" هو: ابن راهويه، و"جرير" هو: ابن عبد الحميد، و"مطرّف" هو: ابن طَرِيف.

وقوله: (أَنْزَلَ اللهُ عَلَى مُوسَى)؛ أي: ابن عمران نبيّ بني إسرائيل عليه السلام، والحديث سبق القول فيه قبله.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5336]

(

) - (حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ قَالَ: سَمِعْتُ عَمْرَو بْنَ حُرَيْثٍ يَقُولُ: قَالَ: سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ زيدٍ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "الكَمْأَةُ مِنَ الْمَنِّ الَّذِي أَنْزَلَ اللهُ عز وجل عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَمَاؤُهَا شِفَاءٌ لِلْعَيْنِ").

(1)

"المفهم" 5/ 324.

(2)

"المفهم" 5/ 324.

ص: 367

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(ابْنُ أَبِي عُمَرَ) محمد بن يحيى بن أبي عمر الْعَدنيّ، ثمّ المكيّ، تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(سُفْيَانُ) بن عيينة، تقدّم قريبًا.

والباقون ذُكروا في الباب.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى البحث فيه مستوفًى، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5337]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حَبِيبٍ الْحَارثِيُّ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زيدٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَدُ بْنُ شَبِيبٍ، قَالَ: سَمِعْتُهُ مِنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ، فَسَأَلْتُهُ، فَقَالَ: سَمِعْتُهُ مِنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، قَالَ: فَلَقِيتُ عَبْدَ الْمَلِكِ، فَحدَّثَنِي عَنْ عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ-صلى الله عليه وسلم: "الكَمْأَةُ مِنَ الْمَنِّ، وَمَاؤُهَا شِفَاءٌ لِلْعَيْنِ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ حَبِيبٍ الْحَارِثيُّ) البصريّ، ثقةٌ [10](ت 248) أو بعدها (م 4) تقدم في "الإيمان" 14/ 165.

2 -

(حَمَّادُ بْنُ زَيْدِ) بن درهم البصريّ، تقدّم قريبًا.

3 -

(مُحَمَّدُ بْنُ شَبِيبٍ) الزهرانيّ البصريّ، ثقةٌ [6].

روى عن عبد الملك بن عُمير، والشعبيّ، والحسن البصريّ، وشهر بن حوشب، وغيرهم.

وروى عنه هشام بن حسان، وهشام الدستوائيّ، وشعبة، ومعمر، وحماد بن زيد.

قال ابن معين: ثقةٌ، وقال النسائيّ: لا بأس به، وذكره ابن حبان في "الثقات".

تفرّد به المصنّف، والنسائيّ، وليس له عندهما إلا هذا الحديث.

4 -

(شَهْر بْنُ حَوْشَبٍ) الأشعريّ الشاميّ، مولى أسماء بنت يزيد بن السكن، صدوقٌ كثير الإرسال [3](ت 112)(بخ م 4) تقدّم في "المقدّمة" 6/

ص: 368

39، وليس عند مسلم رواية في هذا الباب، وقد توسّعت في شرح المقدّمة في ذكر أقوال الجارحين والمعدّلين له، ورجّحت أن الاحتجاج به هو الحقّ، فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق.

والباقون ذُكروا قبله، والحديث مضى البحث فيه مستوفًى، ولله الحمد والمنّة.

(17) - (بَابُ فَضِيلَةِ الأَسْوَدِ مِنَ الْكَبَاثِ)

" الكَبَاثُ" بفتح الكاف، وتخفيف الموحّدة، وبعد الألف ثاء مثلّثة: ثمر الأراك.

وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5338]

(2050) - (حَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْبٍ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ شِهَاب، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمَرِّ الظَّهْرَانِ، وَنَحْنُ نَجْنِي الْكَبَاثَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "عَلَيْكُمْ بِالأَسْوَدِ مِنْهُ"، قَالَ: فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ كَأنَّكَ رَعَيْتَ الْغَنَمَ؟ قَالَ: "نَعَمْ، وَهَلْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا وَقَدْ رَعَاهَا؟ "، أَوْ نَحْوَ هَذَا مِنَ الْقَوْلِ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(أَبُو الطَّاهِرِ) أحمد بن عمرو بن عبد الله بن عمرو بن السرح المصريّ، ثقةٌ [10](ت 250)(م د س ق) تقدم في "المقدمة" 3/ 10.

2 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْبِ) بن مسلم القرشيّ مولاهم، أبو محمد المصريّ الفقيه، ثقةٌ حافظٌ عابدٌ [9](ت 197)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 10.

3 -

(يُونُسُ) بن يزيد بن أبي النِّجاد الأمويّ مولاهم، أبو يزيد الأيليّ، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار [7](ت 159)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 14.

4 -

(ابْنُ شِهَابٍ) محمد بن مسلم الإمامْ الشهير، تقدّم أيضًا قريبًا.

5 -

(أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بن عوف الزهريّ المدنيّ، قيل: اسمه عبد الله، وقيل: إسماعيل، ثقةٌ مكثرٌ [3](ت 94)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 423.

6 -

(جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) بن عمرو بن حرام رضي الله عنهما، تقدّم قريبًا.

ص: 369

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وأن نصفه الأول مسلسلٌ بالمصريين، ويونس وإن كان أيليًّا إلا أنه نزل مصر، ونصفه الثاني مسلسل بالمدنيين، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه أبو سلمة أحد الفقهاء السبعة على بعض الأقوال، وفيه جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أحد المكثرين السبعة، روى (1540) حديثًا.

شرح الحديث:

(عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ) رضي الله عنهما (قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ-صلى الله عليه وسلم بِمَرِّ الظَّهْرَانِ) -بفتح الميم، وتشديد الراء- والظهران -بفتح الظاء، وسكون الهاء- بلفظ تثنية الظَّهر، وهو موضع معروف على دون مرحلة من مكة

(1)

. (وَنَحْنُ نَجْنِي)؛ أي: نقتطف (الْكَبَاثَ) هو ثمر الأراك، وهو الْبَرِير بموحدة، بوزن الْحَرِير، فإذا اسوَدّ فهو الكباث، وقال ابن بطال: الكباث ثمر الأراك الغَضّ منه، والْبَرِير ثمره الرطب واليابس، وقال ابن التين: الذي في اللغة أنه ثمر الأراك، وقيل: هو نضيجه، فإذا كان طَرِيًّا فهو موز، وقيل عكس ذلك، وأن الكباث الطريّ، وقال أبو عبيد: هو ثمر الأراك إذا يبس، وليس له عجم، قال أبو زياد: يشبه التين يأكله الناس والإبل والغنم، وقال أبو عمرو: هو حارّ كان فيه ملحًا. انتهى، وقال عياض: الكباث ثمر الأراك، وقيل: نضيجه، وقيل: غَضّه. انتهى

(2)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: و"الكَبَاث" هو النضيج من ثمر الأراك، قاله الأصمعيُّ، وقال غيره: الصواب أن الكباث هو الذي لم ينضج، والمرْد

(3)

: هو الذي نضج، واسْوَدّ، وأنشد [من الطويل]:

وَغَيَّر مَاءُ الْمَرْدِ فَاهَا فَلَوْنُهُ

كَلَوْنِ النَّؤُور

(4)

وَهْيَ أَدْمَاءُ سَارُهَا

(1)

"عمدة القاري" 21/ 75.

(2)

"الفتح" 12/ 380، كتاب "الأطعمة" رقم (5453).

(3)

المرد بفتح، فسكون: الغَضّ من ثمر الأراك، أو نضيجه. اهـ. "ق".

(4)

"النَّؤُور" كصَبُور: النِّيلج، وهو بالكسر: دخان الشحم يعالج به الوَشْم ليخضرّ. اهـ. "ق".

ص: 370

أي: سائرها، وقد حُكي أيضًا عن الأصمعيّ، وحُكي عن ابن الأعرابيّ أن الذي لم يَسْوَدَّ هو الكَبَاث، والأسود هو الْبَرِير، وجماعه الْمُرْد، وعن مصعب أن المرد هو إذا ورَّد؛ فإذا اخْضَرّ فهو الْكَبَاث، فإذا اسودّ، فهو الْبَرِير. انتهى

(1)

.

(فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "عَلَيْكُمْ بِالأَسْوَدِ مِنْهُ") زاد البخاريّ في روايته: "فإنه أيطب"، وهو لغة في أطيب، مقلوب منه، كما قالوا في جذب: جبذ

(2)

.

(قَالَ) جابر رضي الله عنه (فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ كَأَنَّكَ رَعَيْتَ الْغَنَمَ؟)، وفي رواية البخاريّ:"فقيل: أكنت ترعى الغنم؟ "، قال في "الفتح": في السؤال اختصار، والتقدير: أكنت ترعى الغنم حتى عرفت أطيب الكباث؟ لأن راعي الغنم يَكثُر تردده تحت الأشجار، لطلب المرعى منها، والاستظلال تحتها.

(قَالَ: "نَعَمْ، وَهَلْ مِنْ نَبِيٍّ)؛ أي: وما من نبيّ (إِلَّا وَقَدْ رَعَاهَا؟ ") قال القرطبيّ رحمه الله: فيه أن الله تعالى درَّب الأنبياء عليهم السلام على رعاية الغنم، وسياستها؛ ليكون ذلك تدريجًا إلى سياسة الأمم؛ إذ الراعي يقصد مصلحة الغنم، ويحملها على مراشدها، ويقوم بكُلَفها وسياستها، ومَن تدرَّب على هذا، وأحكمه كان متمكنًا من سياسة الخلق، ورحمتهم، والرفق بهم، وكانت الغنم بهذا أولى لِمَا خُصّ به أهلها من السكينة، وطلب العافية، والتواضع، وهي صفات الأنبياء عليهم السلام، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم:"السكينة في أهل الغنم، والفخر والخيلاء في أهل الإبل"، متّفقٌ عليه. انتهى

(3)

.

وقال في "العمدة": والحكمة فيه أن يأخذ الأنبياء عليهم السلام لأنفسهم بالتواضع، وتصفية قلوبهم بالخلوة، ويترقّوا من سياستها بالنصيحة إلى سياسة أممهم بالشفقة عليهم، وهدايتهم إلى الصلاح.

ونقل ابن التين عن الداوديّ أن الحكمة في اختصاص الغنم بذلك لكونها لا تُركَب، فلا تزهو نفسُ راكبها. انتهى"

(4)

.

(1)

"المفهم" 5/ 324 - 325.

(2)

"الفتح" 12/ 380، كتاب "الأطعمة" رقم (5453).

(3)

"المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" 5/ 325.

(4)

"عمدة القاري" 21/ 75.

ص: 371

وقال في "الفتح": قال العلماء: الحكمة في إلهام الأنبياء عليهم السلام رَعْيَ الغنم قبل النبوة أن يَحْصُل لهم التمرّن برعيها على ما يُكَلَّفونه من القيام بأمر أمتهم، ولأن في مخالطتها ما يحصل لهم الحلم، والشفقة؛ لأنهم إذا صبروا على رعيها، وجَمْعها بعد تفرقها في المرعى، ونَقْلها من مسرح إلى مسرح، ودفع عدوّها من سبع وغيره؛ كالسارق، وعَلِموا اختلاف طباعها، وشدة تفرقها مع ضعفها، واحتياجها إلى المعاهدة، أَلِفُوا من ذلك الصبرَ على الأمة، وعرفوا اختلاف طباعها، وتفاوت عقولها، فجبروا كسرها، ورَفَقُوا بضعيفها، وأحسنوا التعاهد لها، فيكون تحمّلهم لمشقة ذلك أسهل، مما لو كُلِّفوا القيام بذلك من أول وَهْلة؛ لِمَا يحصل لهم من التدريج على ذلك برعي الغنم، وخُصّت الغنم بذلك؛ لكونها أضعف من غيرها، ولأن تفرقها أكثر من تفرق الإبل والبقر؛ لإمكان ضبط الإبل والبقر بالربط دونها في العادة المالوفة، ومع أكثرية تفرقها، فهي أسرع انقيادًا من غيرها.

وفي ذِكر النبيّ صلى الله عليه وسلم لذلك بعد أن عَلِم كونه أكرم الخلق على الله، ما كان عليه من عظيم التواضع لربه، والتصريح بمنّته عليه، وعلى إخوانه من الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليه وعلى سائر الأنبياء- انتهى

(1)

.

وقوله: (أَوْ نَحْوَ هَذَا مِنَ الْقَوْلِ)"أو" فيه للشكّ من الراوي، هل قال هذا القول، أو قال قولًا شبيهًا به.

[تكملة]: أخرج البيهقيّ هذا الحديث في "كتاب الدلائل" من طريق عُبيد بن شريك، عن يحيى بن بكير، عن الليث، عن يونس بسند المصنّف، فذكر هذا الحديث، وقال في آخره:"وقال: إن ذلك كان يوم بدر، يوم جمعة، لثلاث عشرة بقيت من رمضان"، قال البيهقيّ: رواه البخاري عن يحيى بن بكير، دون التاريخ؛ يعني دون قوله:"إن ذلك كان. . . إلخ"، قال الحافظ: وهو كما قال، ولعل هذه الزيادة من ابن شهاب أحد رواته. انتهى

(2)

، والله تعالى أعلم.

(1)

"الفتح" 6/ 28، كتاب "الإجارات" رقم (2262).

(2)

"الفتح" 12/ 380، كتاب "الأطعمة" رقم (5453).

ص: 372

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [17/ 5338](2050)، و (البخاريّ) في "الأنبياء"(3406) و"الأطعمة"(5453)، و "النسائيّ" في "الكبرى"(4/ 168)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1692)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 326)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5143 و 5144)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(2062)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(5/ 200 و 201)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(2899)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): أن فيه إباحةَ التحدث عن الماضين من الأنبياء، والأمم بذكر سِيَرهم، وأخبارهم.

2 -

(ومنها): أن التحرّف في المعيشة ليس في شيء منها إذا لم تنه عنه الشريعة نقيصة.

3 -

(ومنها): أن الأنبياء والمرسلين- عليهم الصلاة والسلام- أحوالهم في تواضعهم غير أحوال الملوك والجبارين، وكذلك أحوال الصالحين، والحمد لله رب العالمين

(1)

.

4 -

(ومنها): بيان فضيلة رعي الغنم، وأن الأنبياء- عليهم الصلاة والسلام- تدرّبوا عليها قبل سياستهم أممهم؛ لِمَا أسلفناه من الحكمة.

5 -

(ومنها): إباحة أكل ثمر الشجر الذي لا يُمْلَك، قال ابن بطال: كان هذا في أول الإسلام عند عدم الأقوات، فإذ قد أغنى الله عباده بالحنطة، والحبوب الكثيرة، وَسَعة الرزق فلا حاجة بهم إلى ثمر الأراك.

وتعقّبه الحافظ، فقال: إن أراد بهذا الكلام الإشارةَ إلى كراهة تناوله

(1)

"التمهيد" لابن عبد البرّ 24/ 344.

ص: 373

فليس بمسلَّم، ولا يلزم من وجود ما ذُكر منع ما أبيح بغير ثمن، بل كثير من أهل الورع لهم رغبة في مثل هذه المباحات أكثر من تناول ما يُشتَرَى. انتهى

(1)

، والله أعلم.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(18) - (بَابُ فَضِيلَةِ الْخَلِّ، وَالتَّأَدُّمِ بِهِ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5339]

(2051) - (حَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّارِمِيُّ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ حَسَّانَ، أَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "نِعْمَ الأُدُمُ -أَوِ الإِدَامُ- الْخَلُّ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

وقد تقدّم بنصّه قبل ثلاثة أبواب، فلا حاجة إلى إعادة الكلام فيه، فتنبّه.

شرح الحديث:

(عَنْ عَائِشَةَ) رضي الله عنهما (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "نِعْمَ الأُدُمُ -أَوِ الإِدَامُ- الْخَلُّ") قال أهل اللغة: "الإدام" -بكسر الهمزة-: ما يؤتدم به، يقال: أَدَمَ الخبزَ يَأُدِمُهُ -بكسر الدال- وجمع الإدام أُدُم بضم الهمزة والدال؛ كإهاب وأُهُب، وكتاب وكُتُب، والأُدْم -بإسكان الدال- مفرد؛ كإدام، ذكره النوويّ

(2)

.

وقال في "النهاية": الإدام -بالكسر-، والأُدُم- بالضم-: ما يؤكل مع الخبز أيَّ شيء كان. انتهى

(3)

.

وقال الفيّوميّ رحمه الله: يقال: أَدَمتُ الخبزَ، من باب ضرَبَ، وآدمته بالمدّ لغة فيه: إذا أصلحت إساغته بالإدام، و"الإدام" بكسر الهمزة: ما يُؤتدم به، مائعًا كان، أو جامدًا، وجمعه أُدُمٌ بضمّتين، مثلُ كتاب وكُتُبٍ، ويُسكّن للتخفيف، فيُعامل معاملة المُفرَد، ويُجمع على آدام، مثلُ قُفْل وأقفال.

(1)

"الفتح" 12/ 380، كتاب "الأطعمة" رقم (5453).

(2)

"شرح النوويّ" 14/ 6.

(3)

"النهاية في غريب الأثر" 1/ 31.

ص: 374

وقال أيضًا: الْخَلُّ: معروفٌ، والجمع خُلُولٌ، مثل فَلْس وفُلُوس، سُمّي بذلك؛ لأنه اختَلَّ منه طَعْمُ الْحَلاوة، يقال: اختلّ الشيءُ: إذا تغيّر، واضطرب. قال: وخَلَّلتُ النبيذَ تخليلًا: جعلته خلًّا، وقد يُستعمل لازمًا أيضًا، فيقال: خَلَّلَ النبيذُ: إذا صار بنفسه خلًّا. انتهى كلام الفيّوميّ رحمه الله بتصرّف

(1)

.

وقال ابن منظور رحمه الله في "اللسان": قال ابن سِيدَهْ: الخلّ: ما حَمُضَ من عصير العنب وغيره. قال ابن دُريد: هو عربيّ صحيح. قال: وخَلَّلَتِ الخمرُ وغيرها من الأشربة: فسدت، وحَمُضَت. وخلَّلَ الخمرَ: جعلها خلًّا. انتهى باختصار

(2)

.

وقال المجد رحمه الله في "القاموس": الخلّ: ما حَمُضَ من عَصِير العنب وغيره، عربيّ صحيح، والطائفة منه خَلَّةٌ، وأجوده خلّ الخمرِ، مركّبٌ من جوهرين: حارٍّ وباردٍ، نافعٌ للمعدة، واللِّثَةِ، والقُرُح الخبيثة، والْحِكَّةِ، ونَهْشِ الْهَوامّ، وأكل الأَفْيُون، وحرقِ النار، وأوجاعِ الأسنان، وبُخَارُ حَارِّهِ للاستسقاء، وعُسْرِ السمعِ، والدَّوِيِّ، والطَّنِين. انتهى

(3)

.

وقال الخطابيّ، والقاضي عياض: معنى الحديث مدح الاقتصار في المأكل، ومنع النفس عن ملاذّ الأطعمة؛ كأنه يقول: ائتدموا بالخلّ، وما كان في معناه، مما تَخِفّ مؤنته، ولا يَعِزّ وجوده، ولا تتأنقوا في الشهوات، فإنها مفسدة للدِّين، مَسْقَمة للبدن.

وذكر النوويّ كلام الخطابيّ هذا، ثم قال: والصواب الذي ينبغي أن يُجزم به أنه مدحٌ للخل نفسه، وأما الاقتصار في المطعم، وترك الشهوات، فمعلوم من قواعد أُخَر. انتهى

(4)

.

قال الجامع عفا الله عنه: عندي أن ما قاله الخطابي وغيره هو الأقرب إلى معنى الحديث، وهو أنه مدحٌ للاقتصار في المأكل، ومنعُ النفس عن ملاذّ الأطعمة، قال ابن القيم رحمه الله: هذا ثناء عليه بحسب الوقت، لا لتفضيله على غيره؛ لأن سببه أن أهله قَدّموا له خبزًا، فقال:"ما من أدم؟ " قالوا: ما عندنا

(1)

"المصباح المنير" 1/ 180 - 181.

(2)

"لسان العرب" 11/ 211.

(3)

"القاموس المحيط" ص 894.

(4)

"تحفة الأحوذيّ" 5/ 465.

ص: 375

إلا خلٌّ، فقال ذلك جبرًا لقلب مَن قدّمه، وتطييبًا لنفسه، لا تفضيلًا له على غيره؛ إذ لو حصل نحو لحم، أو عسل، أو لبن، كان أحقّ بالمدح. انتهى.

ويؤيّد هذا ما أخرجه أحمد في "مسنده" -إن صحّ- عن عبد الله بن عُبيد بن عُمير قال: دخل على جابر نفر من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقدَّم إليهم خبزًا وخلًّا، فقال: كلوا، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"نعم الإدام الخلّ"، إنه هلاك بالرجل أن يدخل عليه النفر من إخوانه، فيحتقر ما في بيته أن يقدِّمه إليهم، وهلاك بالقوم أن يحتقروا ما قُدِّم إليهم. انتهى

(1)

.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [18/ 5339 و 5340](2051)، و (الترمذيّ) في "الأطعمة"(1840)، و (ابن ماجه) في "الأطعمة"(3316)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(5/ 148)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 138)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(5/ 198)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(7/ 423)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(10/ 62)، وفوائده تأتي في شرح حديث جابر رضي الله عنه الآتي- إن شاء الله تعالى-.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5340]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَاهُ مُوسَى بْنُ قُرَيْشِ بْنِ نَافِعٍ التَّمِيمِيُّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ صَالِحٍ الْوُحَاظِيُّ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ، بِهَذَا الإِسْنَادِ، وَقَالَ: "نِعْمَ الأُدُمُ، وَلَمْ يَشُكَّ).

رجال هذا الإسناد: ثلاثة:

1 -

(مُوسَى بْنُ قُرَيْشِ بْنِ نَافِعٍ التَّمِيمِيُّ) البخاريّ، مقبول [11](ت 252) من أفراد المصنّف تقدم في "الحيض" 13/ 766.

(1)

"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 3/ 371، وفي إسناده عبيد الله بن الوليد الصافيّ، وهو ضعيف، كما في "التقريب".

ص: 376

2 -

(يَحْيَى بْنُ صَالِحٍ الْوُحَاظِيُّ) الحِمصيّ، صدوقٌ، من أهل الرأي، من صغار [9](212) وقد جاوز التسعين (خ م د ت ق) تقدم في "البيوع" 37/ 4067.

[تنبيه]: قوله: (الوُحاظيُّ) هو -بضم الواو، وتخفيف الخاء المهملة، وبالظاء المعجمة-: منسوب إلى وُحاظة قبيلة من حمير، هكذا ضبطه الجمهور، وكذا نقله القاضي عياض عن شيوخهم، قال: وقال أبو الوليد الباجيّ: هو بفتح الواو، قاله النوويّ رحمه الله

(1)

.

وقال ابن الأثير رحمه الله: الْوُحاظيّ بضمّ الواو: نسبة إلى وُحاظة بن سعد بن عوف بن عديّ بن مالك بن زيد بن سهل بن عمرو بن قيس بن معاوية بن جُشم بن عبد شمس بن وائل بن الغوث بن قطر بن عريب. انتهى

(2)

.

و"سليمان بن بلال" ذُكر قبله.

[تنبيه]: رواية يحيى بن صالح الْوُحاظيّ عن سلمان بن بلال هذه لم أجد من ساقها بتمامها، فليُنظر، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5341]

(2052) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ أَبي بِشْرٍ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سَأَل أَهْلَهُ الأُدُمُ، فَقَالُوا: مَا عِنْدَنَا إِلَّا خَلٌّ، فَدَعَا بِهِ، فَجَعَلَ يَأْكُلُ بِهِ

(3)

، وَيَقُولُ:"نِعْمَ الأُدُمُ الْخَلُّ، نِعْمَ الأُدُمُ الْخَلُّ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ النيسابوريّ، تقدّم قبل بابين.

2 -

(أَبُو عَوَانَةَ) وضّاح بن عبد الله اليشكريّ الواسطيّ، تقدّم قريبًا.

3 -

(أَبُو بِشْرٍ) ابن أبي وَحْشيّة جعفر بن إياس الواسطيّ، بصريّ الأصل، ثقةٌ [5](ت 5 أو 126)(ع) تقدم في "الطهارة" 9/ 578.

4 -

(أَبُو سُفْيَانَ) طلحة بن نافع الإسكاف القرشيّ، تقدّم قريبًا.

(1)

"شرح النوويّ" 14/ 6.

(2)

"اللباب في تهذيب الأنساب" 3/ 354.

(3)

وفي نسخة: "فجعل يأكل منه".

ص: 377

5 -

(جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) رضي الله عنهما، تقدّم قبل حديث.

شرح الحديث:

(عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ) رضي الله عنهما، وفي رواية المثنّى بن سعيد التالية:"حدّثني طلحة بن نافع، أنه سمع جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يقول. . ."(أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سَأَل أَهْلَهُ)؛ أي: زوجه، ويَحتمل أن تكون هي عائشة رضي الله عنها، (الأُدُمَ) تقدّم أنه بضمّتين جمع إدام، وهو ما يؤكل به الخبز، (فَقَالُوا: مَا عِنْدَنَا إِلَّا خَلٌّ، فَدَعَا) صلى الله عليه وسلم (بِهِ)؛ أي: بذلك الخلّ (فَجَعَلَ يَأْكُلُ بِهِ)، وفي بعض النسخ:"يأكل منه"، (وَيَقُولُ:"نِعْمَ الأُدُمُ الْخَلُّ، نِعْمَ الأُدُمُ الْخَلُّ") كرّره مبالغة في مدحه، زاد في الرواية التالية:"قال جابر: فما زلت أحبّ الخلّ منذ سمعتها من نبيّ الله صلى الله عليه وسلم، وقال طلحة: ما زلت أحبّ الخلّ منذ سمعتها من جابر رضي الله عنه"، والله تعالى أعلم.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [18/ 5341 و 5342 و 5343 و 5344](2052)، و (أبو داود) في "الأطعمة"(3820)، و (الترمذيّ) في "الأطعمة"(1839 و 1842)، و (النسائيّ) في "الأيمان والنذور"(7/ 14) و"الكبرى"(4/ 460)، و (ابن ماجه) في "الأطعمة"(3360)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(5/ 148)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 301 و 304 و 353 و 364 و 379 و 389 و 390 و 400)، و (الدارميّ) في "سننه"(2048)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(5/ 195)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(1/ 195) و"الكبير"(2/ 184)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(7/ 279)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده

(1)

:

1 -

(منها): استحباب الحديث على الأكل، تأنيسًا للآكلين.

(1)

المراد فوائد حديث جابر رضي الله عنه بجميع سياقاته في الباب، وغيره، لا خصوص المتن هذا الذي شرحناه، فتنبّه.

ص: 378

2 -

(ومنها): استحباب مدح الشخص طعامه أمام الآكلين حتى ينبسطوا لِأَكْله، ويقضوا حاجاتهم منه.

3 -

(ومنها): جواز أخذ الإنسان بيد صاحبه في تماشيهما؛ لِأَخْذه صلى الله عليه وسلم بيد جابر رضي الله عنه.

4 -

(ومنها): استحباب مواساة الحاضرين على الطعام.

5 -

(ومنها): أنه يستحبّ جعل الخبز ونحوه بين أيدي الآكلين بالسويّة.

6 -

(ومنها): أنه لا بأس بوضع الأرغفة، والأقراص صحاحًا، غير مكسورة، ومكسّرةً.

7 -

(ومنها): بيان حُكم من حلف أن لا يأتدم، فأكل خبزًا بخلّ، فإنه يحنث؛ لأنه صلى الله عليه وسلم سمّاه "إدامًا" ومَدَحه.

8 -

(ومنها): ما قاله القرطبيّ: وقسمة النبيّ صلى الله عليه وسلم الأقرصة نصفين يدلّ على جواز فعل مثل ذلك مع الضيف، بل يدلّ على كرم أخلاق فاعله، وإيثاره الضيف عند قلّة الطعام، كما فعل النبيّ صلى الله عليه وسلم، فإن الذي قُدّم إليه كان غداءه، فإن أقرصتهم صغار، لا سيّما في مثل ذلك الوقت، ومع ذلك، فشرّك فيه غيره، وفاءً بقوله صلى الله عليه وسلم:"طعام الواحد كافي الاثنين، وطعام الاثنين كافي الثلاثة"، رواه مسلم.

9 -

(ومنها): أن فيه استحباب حب الأشياء التي يُحبها النبيّ صلى الله عليه وسلم، وإن لم تكن ملائمة لطبع الشخص، فقد قال جابر رضي الله عنه:"فما زلت أحبّ الخلّ منذ سمعتها من نبيّ الله صلى الله عليه وسلم"، وقال طلحة:"ما زلت أحبّ الخلّ منذ سمعتها من جابر رضي الله عنه"، وهذا من علامة كمال المحبّة له صلى الله عليه وسلم، فإن من أحبّ شخصًا أحبّ كلّ ما يُحبه المحبوب، وكلّ من ينتسب إليه.

10 -

(ومنها): قال القرطبيّ رحمه الله أيضًا: الإدام: كلّ ما يُؤتدم به؛ أي: يُؤكل به الخبز مما يُطيّبه، سواء كان مما يُصطبغ به؛ كالأَمْراق، والمائعات، أو مما لا يُصطبغ به؛ كالجامدات؛ كاللحم، والبيض، والجبن، والزيتون، وغير ذلك، هذا معنى الإدام عند الجمهور، من الفقهاء، والعلماء، سلفًا، وخلفًا، وشذّ أبو حنيفة، وصاحبه أبو يوسف، فقالا في البيض، واللحم المشويّ، وشِبْه ذلك، مما لا يُصطبغ به ليس شيء من ذلك بإدام.

ص: 379

وينبني على هذا الخلاف الخلافُ فيمن حلف ألا يأكل إدامًا، فأكل شيئًا من هذه الجامدات، فحنّثه الجمهور، ولم يحنّثه أبو حنيفة، ولا صاحبه، والصحيح ما صار إليه الجمهور بدليل قوله صلى الله عليه وسلم، وقد وضع تمرةً على كسرة، وقال:"هذه إدام هذه"، رواه أبو داود، وبدليل قوله صلى الله عليه وسلم أيضًا، وقد سئل عن إدام أهل الجنّةِ الجنّةَ أوّل ما يدخلونها، فقال:"زيادة كبد الحوت"، رواه البخاريّ. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله، وهو تحقيق نفيسٌ جدًّا. والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال

[5342]

(

) - (حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الدَّوْرَقِيُّ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ -يَعْنِي: ابْنَ عُلَيَّةَ- عَنِ الْمُثَنَّى بْنِ سَعِيدٍ، حَدَّثَنِي طَلْحَةُ بْنُ نَافِعٍ، أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ يَقُولُ: أَخَذَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِيَدِي ذَاتَ يَوْمٍ إِلَى مَنْزِلِهِ، فَأَخْرَجَ إِلَيْهِ فِلَقًا مِنْ خُبْزٍ، فَقَالَ: "مَا مِنْ أُدُم؟ "، فَقَالُوا: لَا، إِلَّا شَيْءٌ مِنْ خَلٍّ، قَالَ: "فَإنَّ الْخَلَّ نِعْمَ الأدُمُ"، قَالَ جَابِرٌ: فَمَا زِلْتُ أُحِبُّ الْخَلَّ مُنْذُ سَمِعْتُهَا مِنْ نَبِيِّ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَقَالَ طَلْحَةُ: مَا زِلْتُ أُحِبُّ الْخَلَّ مُنْذُ سَمِعْتُهَا مِنْ جَابِرٍ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الدَّوْرَقِيُّ) العَبْديّ مولاهم، أبو يوسف البغداديّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 252) وله (96) سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 25/ 209.

2 -

(إِسْمَاعِيلُ ابْنُ عُلَيَّةَ) هو: إسماعيل بن إبراهيم بن مِقْسم الأسديّ مولاهم، أبو بشر البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [8](ت 193) وهو ابن (83) سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.

3 -

(الْمُثَنَّى بْنُ سَعِيدٍ) الضُّبَعيّ، أبو سعيد البصريّ القسّام القصير، ثقةٌ [6](ع) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 57/ 1569.

والباقيان ذُكرا قبله.

وقوله: (أَخَذَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِيَدِي ذَاتَ يَوْمٍ إِلَى مَنْزِلِهِ) وفي الرواية

ص: 380

الآتية: "قال: كنت جالسًا في داري، فمرّ بي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأشار إليّ، فقمت إليه، فأخذ بيدي، فانطلقنا حتى أتى حُجَر بعض نسائه. . .".

وقوله: (فَأَخْرَجَ إِلَيْهِ. . . إلخ) ببناء الفعل للفاعل، والفاعل ضمير يعود إلى المفهوم من المقام؛ أي: المخرِج، وهو الخادم، وهذا مذهب البصريّين، كما قال في "الخلاصة":

وَبَعْدَ فِعْلٍ فَاعِلٌ فَإِنْ ظَهَرْ

فَهْوَ وإِلَّا فَضَمِيرٌ اسْتَتَرْ

ويَحْتَمِل أن يكون مِنْ حَذْف الفاعل، على مذهب الكوفيين، ويكون التقدير: فأخرج الخادم، أو نحو ذلك.

قال النوويّ: قوله: "فأخْرَج إليه

إلخ" هكذا هو في الأصول: "فأَخْرَج إليه فِلَقًا"، وهو صحيح، ومعناه "أخرج الخادم" ونحوه. انتهى

(1)

.

وذكر بعضهم احتمال أن يكون الفاعل ضمير النبيّ صلى الله عليه وسلم، وضمير "إليه" لجابر، على سبيل الالتفات من التكلّم إلى الغيبة؛ أي: فأخرج النبيّ صلى الله عليه وسلم إلي فلقًا من خبز

(2)

.

وقوله: (فِلَقًا مِنْ خُبْزٍ) بكسر الفاء، وفتح اللام: جمع فِلْقة بكسر، فسكون؛ كالكِسْرة وزنًا ومعنًى، يقال: هذا فِلْقته؛ أي: كِسْرته.

وقوله: ("مَا مِنْ أُدُمٍ؟ ")؛ أي: أما عندكم شيء من أُدُم؟، فـ "ما" نافية، وهمزة الاستفهام مقدّرة، و"من" زائدة للتوكيد، كما قال في "الخلاصة":

وَزِيدَ فِي نَفْي وَشِبْهِهِ فَجَرّ

نَكِرَةً كَـ "مَا لِبَاغٍ مِنْ مَفَرّ"

وقوله: (فَقَالُوا: لَا، إِلَّا شَيْءٌ مِنْ خَلٍّ)؛ أي: ليس عندنا أُدُم إلا شيء قليل من خلّ، وهذا دليل أنهم لا يعتدّون الخلّ من الأُدُم المعتَبرة التي تُقرَّب للضيف، فتبيّن بهذا أن قوله صلى الله عليه وسلم:"نِعْم الأُدُم الخلّ" ليس مدحًا للخلّ على الإطلاق، وإنما هو مدح له في نفس الوقت، ورفعٌ لشأنه عند الضيف حتى لا ينقبض منه، وجبرٌ للمضيف حيث لا ينكسر قلبه بتقديمه غير اللائق بالضيافة، فتأمّله بالإمعان، ويؤيّد هذا قول جابر رضي الله عنه:"فما زلت أحبّ الخلّ. . . إلخ"،

(1)

"شرح النوويّ" 14/ 7 - 8.

(2)

راجع: "شرح الشيخ الهرريّ" 21/ 250.

ص: 381

فإنه ظاهر في كونه لا يُحبّ الخلّ قبل ذلك؛ لكونه مرغوبًا عنه عندهم، فلما سمع مقالة النبيّ صلى الله عليه وسلم أعجبه، وأحبّه لقول النبيّ صلى الله عليه وسلم، والله تعالى أعلم.

قال النوويّ: وأما قول جابر رضي الله عنه: "فما زلت أحبّ الخلّ منذ سمعتها من نبيّ الله صلى الله عليه وسلم"، فهو كقول أنس رضي الله عنه:"ما زلت أحبّ الدباء"، وقد سبق بيانه، وهذا مما يؤيّد ما قلناه: إنه مدح للخلّ نفسه، وقد ذكرنا مرّات أن تأويل الراوي إذا لم يخالف الظاهر يتعيَّن المصير إليه، والعمل به عند جماهير العلماء، من الفقهاء، والأصوليين، وهذا كذلك، بل تأويل الراوي هنا هو ظاهر اللفظ، فيتعيّن اعتماده، والله أعلم. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قد عرفت أن الظاهر أن الحديث ليس مدحًا للخلّ لذاته، وإنما هو مدحٌ له بحسب الوقت.

والحاصل أن ما تقدّم عن الخطّابيّ، وغيره من أن مَدْحه صلى الله عليه وسلم ليس للخلّ

نفسه، هو الأظهر، وليس في قول جابر ما يؤيّد ما قاله النوويّ، بل هو بالعكس؛ إذ مفهومه أن جابرًا كان لا يحبّ الخلّ قبل ذلك، وإنما أحبّه بعد مقالة النبيّ صلى الله عليه وسلم هذه، مع أن الخلّ موجود بكثرة عندهم قبل ذلك، فتأمله بالإنصاف، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5343]

(. . .) - (حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ الْجَهْضَمِيُّ، حَدَّثَنِي أَبِي، حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ نَافِعٍ، حَدَّثنَا جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَخَذَ بِيَدِهِ إِلَى مَنْزِلِهِ، بِمِثْلِ حَدِيثِ ابْنِ عُلَيَّةَ إِلَى قَوْلِهِ: "فَنِعْمَ الأُدُمُ الْخَلُّ"، وَلَمْ يَذْكُرْ مَا بَعْدَهُ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ الْجَهْضَمِيُّ) البصريّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(أَبُوهُ) عليّ بن نصر بن عليّ بن صُهبان الْجَهْضميّ البصريّ، ثقةٌ، من كبار [9](ت 187)(ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 126.

(1)

"شرح النوويّ" 14/ 7.

ص: 382

والباقون ذُكروا قبله.

[تنبيه]: رواية عليّ بن نصر، عن المثنّى بن سعيد هذه لم أجد من ساقها بتمامها، فليُنظر، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5344]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، أَخْبَرَنَا حَجَّاجُ بْنُ أَبِي زينَبَ، حَدَّثَنِي أَبُو سُفْيَانَ طَلْحَةُ بْنُ نَافِعٍ، قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا فِي دَارِي، فَمَرَّ بِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَشَارَ إِلَيَّ، فَقُمْتُ إِلَيْهِ، فَأَخَذَ بِيَدِي، فَانْطَلَقْنَا حَتَّى أَتَى بَعْضَ حُجَرِ نِسَائِهِ، فَدَخَلَ، ثُمَّ أَذِنَ لِي، فَدَخَلْتُ الْحِجَابَ عَلَيْهَا، فَقَالَ:"هَلْ مِنْ غَدَاءٍ؟ "، فَقَالُوا: نَعَمْ، فَأُتِيَ بِثَلَاثَةِ أَقْرِصَةٍ

(1)

، فَوُضِعْنَ عَلَى نَبِيٍّ، فَأَخَذَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قُرْصًا، فَوَضَعَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَأَخَذَ قُرْصًا آخَرَ، فَوَضَعَهُ بَيْنَ يَدَيَّ، ثُمَّ أَخَذَ الثَّالِثَ فَكَسَرَهُ بِاثْنَيْنِ، فَجَعَلَ نِصْفَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَنصْفَهُ بَيْنَ يَدَيَّ، ثُمَّ قَالَ:"هَلْ مِنْ أُدُمٍ؟ "، قَالُوا: لَا، إِلَّا شَيْءٌ مِنْ خَلٍّ، قَالَ:"هَاتُوهُ، فَنِعْمَ الأُدُمُ هُوَ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم قبل بابين.

2 -

(يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ) الواسطيّ، تقدّم قريبًا.

3 -

(حَجَّاجُ بْنُ أَبِي زينَبَ) السُّلميّ، أبو يوسف الصَّيْقل الواسطيّ، صدوقٌ يُخطئ [6].

روى عن أبي سفيان طلحة بن نافع، وأبي عثمان النَّهْديّ.

وروى عنه ابن مهديّ، وهشيم، ويزيد بن هارون، وغيرهم.

قال أحمد: أخشى أن يكون ضعيف الحديث، وقال ابن معين: ليس به بأسٌ، وقال الحسن بن شجاع البلخيّ، عن عليّ ابن المدينيّ: شيخ من أهل واسط ضعيفٌ، وقال النسائيّ: ليس بالقويّ، وقال ابن عديّ: أرجو أنه لا بأس به فيما يرويه، قال الدارقطنيّ: ليس بقويّ، ولا حافظ، وقال في موضع

(1)

وفي نسخة: "بثلاثة قرص".

ص: 383

آخر: ثقةٌ، وقال الآجريّ عن أبي داود: ليس به بأسٌ، وقال العُقيليّ: روى عن أبي عثمان النَّهْديّ حديثًا لا يُتَابع عليه، وذكره ابن حبان في "الثقات".

أخرج له المصنّف، وأبو داود، والنسائيّ، وابن ماجه، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.

والباقيان ذُكرا قبله.

وقوله: (فَأَخَذَ بيَدِي) فيه مشروعيّة أخذ الإنسان بيد صاحبه في تماشيهما.

وقوله: (حَتَّى أَتَى بَعْضَ حُجَرِ نِسَائِهِ) لم يُعرف اسمها

(1)

، جمع حُجْرة، و"الْحُجَرُ": كغُرَف وغُرْفة وزنًا ومعنًى

(2)

.

وقوله: (فَدَخَلْتُ الْحِجَابَ عَلَيْهَا) قال النوويّ رحمه الله: معناه: دخلت الحجاب إلى الموضع الذي فيه المرأة، وليس فيه أنه رأى بشرتها.

وقال القرطبيّ رحمه الله: وقول جابر رضي الله عنه: "فدخلت الحجاب عليها" ظاهره أن هذا كان بعد نزول الحجاب، غير أنه ليس فيه أنه رآها، فقد تستتر بثوب آخر، أو بحجاب آخر، وَيحْتَمِل أن يكون ذلك قبل نزول الحجاب. انتهى

(3)

.

وقوله: (فَأُتِيَ بِثَلَاثَةِ أَقْرِصَةٍ) لم يُعرف الآتي بها، قاله صاحب "التنبيه"

(4)

.

وقوله: (فَأُتِيَ بِثَلَاثَةِ أَقرِصَةٍ) هكذا النسخ بلفظ "أقرصة"؛ كأسلحة، ولم أجد هذا في كتب اللغة التي بين يديّ، وإنما جَمْع القُرْصة، أو القُرْصٍ: أقراص؛ كأقفال، وقِرَصَة، كعِنَبة، وقُرَصٌ؛ كصُرَد، ولعلّ الهمزة في "أقرصة" غلطٌ، والصواب بثلاثة قِرَصَة، وقد نصّ في "اللسان" على هذا، فقال:"وفي الحديث: فأُتي بثلاثة قِرَصَة من شعير"، قال: والْقِرَصَة بوزن الْعِنَبة: جَمْع قُرْص، وهو الرغيف؛ كجُحْرٍ وجِحَرَةٍ. انتهى.

وقال في "القاموس"، و"شرحه": والقُرْصَةُ: الخُبْزَةُ، ويُقَال: هي الصَّغيرَةُ جدًّا؛ كالقُرْصِ، والتَّذْكيرُ أَكْثَر، وجمع "القُرْصِ" قِرَصَةٌ، وأَقْرَاصٌ، مثْل غُصْنٍ

(1)

"تنبيه المعلم" ص 352.

(2)

"القاموس المحيط" ص 166.

(3)

"المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" 5/ 326 - 3270.

(4)

"تنبيه المعلم" ص 352.

ص: 384

وغِصَنَةٍ، وأَغْصَانٍ، جَمْعُ "القُرْصَة": قُرَصٌ؛ كغُرْفَةٍ وغُرَفٍ، وفي الحديث:"فأُتِيَ بثَلاثَةِ قِرَصَةٍ من شَعِيرٍ". انتهى

(1)

.

وقوله: (فَوُضِعْنَ عَلَى نَبِيٍّ) قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في أكثر الأصول: "نَبِيّ" بنون مفتوحة، ثم باء موحّدة مكسورة، ثم ياء مثناة تحتُ مشدّدة، وفسّروه بمائدة من خُوص، ونَقَل القاضي عياض عن كثير من الرواة، أو الأكثرين أنه:"بَتّيّ" بباء موحدة مفتوحة، ثم مثناة فوق مكسورة مشدّدة، ثم ياء مثناة من تحتُ مشدّدة، والْبَتّ: كساءٌ من وَبَرٍ، أو صوف، فلعله منديل وُضع عليه هذا الطعام، قال: ورواه بعضهم بضم الباء، وبعدها نون مكسورة مشدّدة، قال القاضي الكنانيّ: هذا هو الصواب، وهو طَبَقٌ من خُوص. انتهى

(2)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: وقوله: "على بَتّيّ" كذا ضبطه الصدفيّ، والأسديّ بباء واحدة مفتوحة، وبعدها تاء باثنتين من فوقها مكسورة مشدَّدة، وبعدها ياء باثنتين من تحتها مشدَّدة، منوَّنة، قال: والبَتّ: كساء من وَبَر، أو صوف، قال الشاعر [من الرجز]:

مَنْ كَانَ ذَا بَتٍّ فَهَذَا بَتِّي

مُصَيِّفٌ مُقَيِّظٌ مُشَتِّي

وكأنّ الذي وُضعت القرصة عليه منديل من صوف، وكذلك عند ابن ماهان، غير أنه فتح التّاء، وعند الطبريّ:"بُنِّيّ" بضم الباء، بعدها نون مكسورة مشددة، والياء المشدَّدة، قال الكنانيّ: وهو الصواب، وهو: طَبَقٌ من خُوص، قال ابن وضاح:"بُنيءٍ": طبق، أو مائدة من خوص، أو حلفاء، ووقع في بعض النسخ:"على نبيّ" بتقديم النون مفتوحة، وكسر الباء الموَحّدة بعدها، وقيل في تفسيره: إنَّه مائدة من خُوص، قال ثعلب: النبيئة شيءٌ مُدَوَّر يُعْمَل من خُوص وشَرِيط.

قال: وقسمة النبيّ صلى الله عليه وسلم الأقرصة الثلاثة نصفين يدلّ على جواز فعل مثل

(1)

"تاج العروس من جواهر القاموس" 1/ 4502 - 4503.

(2)

"شرح النوويّ" 14/ 8.

ص: 385

ذلك مع الضيف، بل يدلّ على كرم أخلاق فاعله، وإيثاره الضيف عند قلَّة الطعام، كما فعل النبيّ صلى الله عليه وسلم، فإنَّ الذي قُدّم إليه كان غداؤه، فإنَّ أقرصتهم صغار، لا سيما في مثل ذلك الوقت، ومع ذلك فشرّك فيه الغير وفاءً بقوله صلى الله عليه وسلم:"طعام الواحد يكفي الاثنين، وطعام الاثنين كافي الأربعة"، رواه مسلم. انتهى

(1)

.

وقوله: (فَأَخَذَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قُرْصًا، فَوَضَعَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ. . . إلخ) قال النوويّ رحمه الله: فيه استحباب مواساة الحاضرين على الطعام، وأنه يستحب جعل الخبز ونحوه بين أيديهم بالسوية، وأنه لا بأس بوضع الأرغفة، والأقراص صِحاحًا غير مكسورة. انتهى

(2)

.

وقوله: (قَالُوا: لَا، إِلَّا شَيْءٌ مِنْ خَلٍّ) قال الطيبيّ رحمه الله: المستثنى منه محذوف، والمستثنى بدل منه، قال: ونظيره ما في حديث عائشة رضي الله عنها: "لا إلا شيء بَعَثت به أم عطيّة"، متّفقٌ عليه. قال ابن مالك رحمه الله: فيه شاهد على إبدال ما بعد "إلا" من محذوف؛ لأن الأصل: لا شيء عندنا إلا شيء بعثت به أم عطيّة. انتهى

(3)

.

وقوله: (قَالَ: "هَاتُوهُ)؛ أي: أحضروا الخلّ الذي عندكم.

وقوله: (فَنِعْمَ الأُدُمُ هُوَ")"نعم الأدم" فعل وفاعلٌ، خبر مقدّم عن "هو"، وهو المخصوص بالمدح، أو هو خبر لمبتدإ محذوف وجوبًا

(4)

؛ أي: المخصوص بالمدح هو، قال في "الخلاصة":

وَيُذْكَرُ الْمَخْصُوصُ بَعْدُ مُبْتَدَا

أَوْ خَبَرَ اسْمٍ لَيْسَ يَبْدُو أَبَدَا

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(1)

"المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" 5/ 327.

(2)

"شرح النوويّ" 14/ 8.

(3)

"الكاشف عن حقائق السنن" 9/ 2858.

(4)

ويجوز كونه مبتدأ حُذف خبره؛ أي: هو مخصوص بالمدح.

ص: 386

(19) - (بَابُ إِبَاحَةِ أَكْلِ الثُّوم، وَأنَّهُ يَنْبَغِي لِمَنْ أرَادَ خِطَابَ الْكِبَارِ تَرْكُهُ، وَكَذَا مَا فِي مَعْنَاهُ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5345]

(2053) - (حَدَّثنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ -وَاللَّفْظُ لِابْنِ الْمُثَنَّى- قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ، عَنْ أبِي أَيُّوبَ الأَنْصَارِيِّ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أُتِيَ بِطَعَامٍ أَكَلَ مِنْهُ، وَبَعَثَ بِفَضْلِهِ إِلَيَّ، وَإِنَّهُ بَعَثَ إِلَيَّ يَوْمًا بِفَضْلَةٍ، لَمْ يَأْكُلْ مِنْهَا؛ لأَنَّ فِيهَا ثُومًا، فَسَأَلْتُهُ أَحَرَامٌ هُوَ؟ قَالَ: "لَا، وَلَكِنِّي أَكرَهُهُ مِنْ أَجْلِ رِيحِهِ"، قَالَ: فَإِنِّي أَكْرَهُ مَا كَرِهْتَ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(ابْنُ بَشَّارٍ) هو: محمد المعروف ببندار، تقدّم قريبًا.

2 -

(سِمَاكُ بْنُ حَرْبِ) بن أوس بن خالد الباهليّ، أبو المغيرة الكوفيّ، صدوقٌ، مضطرب في عكرمة، وتغيّر بآخره، فربّما تلقّن [4](ت 123)(خت م 4) تقدم في "الإيمان" 64/ 365.

3 -

(جَابِرُ بْنُ سَمُرَةَ) بن جُنادة السُّوائيّ الصحابيّ ابن الصحابيّ، نزل الكوفة، ومات بها بعد سنة سبعين (ع) تقدم في "الحيض" 24/ 808.

4 -

(أَبُو أَيُّوبَ الأَنْصَارِيُّ) خالد بن زبد بن كُليب، من كبار الصحابة رضي الله عنه، شهد بدرًا، ونزل النبيّ صلى الله عليه وسلم عليه حين قَدِم المدينة، ومات غازيًا بالروم سنة خمسين، وقيل بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 113.

والباقون تقدّموا قبل بابين.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف، وأن فيه رواية صحابيّ عن صحابيّ، وأن صحابيّه من أفاضل الصحابة رضي الله عنهم.

ص: 387

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الأَنْصَارِيِّ) خالد بن زيد رضي الله عنه أنه (قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أُتِيَ بِطَعَامٍ) ببناء الفعل للمفعول، (أَكَلَ مِنْهُ، وَبَعَثَ بِفَضْلِهِ)؛ أي: بما بقي منه بعد أكله (إِلَيَّ، وَإِنَّهُ بَعَثَ إلَيَّ يَوْمًا بِفَضْلَةٍ)؛ أي: ببقيّة طعام (لَمْ يَأْكُلْ مِنْهَا؛ لأَنَّ فِيهَا ثُومًا)، وكان صلى الله عليه وسلم يكرهه؛ لأجل ريحه الكريه، (فَسَأَلْتُهُ أَحَرَامٌ هُوَ؟)؛ أي: الثوم، (قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("لَا)؛ أي: ليس محرّمًا (وَلَكِنِّي أَكْرَهُهُ)؛ أي: أكره أكله (مِنْ أَجْلِ رِيحِهِ") هذا تصريح بإباحة الثوم، وهو مُجمَع عليه، لكن يُكره لمن أراد حضور المسجد، أو حضور جمع في غير المسجد، أو مخاطبة الكبار، ويُلحق بالثوم كل ما له رائحة كريهة، قال النوويّ رحمه الله: واختلف أصحابنا في حكم الثوم في حقه صلى الله عليه وسلم، وكذلك البصل، والكُرّاث، ونحوها، فقال بعض أصحابنا: هي محرمة عليه، والأصح عندهم أنها مكروهة كراهة تنزيه، ليست محرّمة؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم:"لا" في جواب قوله: أحرام هي؟ ومن قال بالأول يقول: معنى الحديث ليس بحرام في حقكم. انتهى

(1)

.

(قَالَ) أبو أيوب رضي الله عنه (فَإِنِّي أَكْرَهُ مَا كَرِهْتَ)؛ أي: لأني أحبّك، ومن أوصاف المحبّ الصادق أن يُحبّ ما أحبّ محبوبه، وَيكره ما كره، والله تعالى أعلم.

والحديث من أفراد المصنّف: رحمه الله، وسيأتي بيان مسائله بعد حديث- إن شاء الله تعالى-.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف: رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5346]

(. . .) - (وَحَدَّثنا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ شُعْبَةَ، في هَذَا الْإِسْنَادِ).

رجال هذا الإسناد: ثلاثة:

1 -

(يَحْيىَ بْنُ سَعِيدِ) بن فرّوخ التميميّ، أبو سعيد القطّان البصريّ، ثقة ثبت حافظٌ إمام قُدوة، من كبار [9](ت 198)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 385.

(1)

"شرح النوويّ" 14/ 9، و "تحفة الأحوذيّ" 5/ 430.

ص: 388

والباقيان ذُكرا قبله.

[تنبيه]: رواية يحيى بن سعيد القطّان عن شعبة هذه ساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(23584)

- حدّثنا عبد الله

(1)

، حدّثني أبي، ثنا يحيى بن سعيد، عن شعبة، حدّثني سماك، عن جابر بن سَمُرة، عن أبي أيوب، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أكل طعامًا بعث بفضله إلى أبي أيوب، قال: فأُتي يومًا بقصعة فيها ثُوم، فبعث بها، قال: يا رسول الله أحرام هو؟ قال: "لا، ولكني أكره ريحه"، قال: فإني أكره ما تكره. انتهى

(2)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5347]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِي حَجَّاجُ بْنُ الشَّاعِرِ، وَأَحْمَدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ صَخْرٍ -وَاللَّفْظُ مِنْهُمَا قَرِيبٌ- قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ، حَدَّثَنَا ثَابِتٌ -فِي رِوَايَةِ حَجَّاجٍ: ابْنُ يَزِيدَ، أَبُو زَيْدٍ الأَحْوَلُ- حَدَّثَنَا عَاصِمٌ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ أَفْلَحَ مَوْلَى أَبِي أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَزَلَ عَلَيْهِ، فَنَزَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي السُّفْلِ، وَأَبُو أَيُّوبَ فِي الْعُلْوِ، قَالَ: فَانْتبَهَ أَبُو أَيُّوبَ لَيْلَةً، فَقَالَ: نَمْشِي فَوْقَ رَأْسِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَتَنَحَّوْا، فَبَاتُوا فِي جَانِبٍ، ثُمَّ قَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "السُّفْلُ أَرْفَقُ"، فَقَالَ: لَا أَعْلُو سَقِيفَةً أَنْتَ تَحْتَهَا، فَتَحَوَّلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي الْعُلْوِ، وَأبُو أَيُّوبَ فِي السُّفْلِ، فَكَانَ يَصْنَعُ لِلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم طَعَامًا، فَإذَا جِيء بِهِ إِلَيْهِ سَأَل عَنْ مَوْضِعِ أَصَابِعِهِ، فَيَتَتَبَّعُ مَوْضِعَ أَصَابِعِهِ، فَصَنَعَ لَهُ طَعَامًا فِيهِ ثُومٌ، فَلَمَّا رُدَّ إِلَيْهِ سَأَل عَنْ مَوْضِعِ أَصَابعِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقِيلَ لَهُ: لَمْ يَأْكُلْ، فَفَزعَ، وَصَعِدَ إِلَيْهِ، فَقَالَ: أَحَرَامٌ هُوَ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "لَا وَلَكِنِّي أَكْرَهُهُ"، قَالَ: فَإنِّي أَكْرَهُ مَا تَكْرَهُ، أَوْ مَا كَرِهْتَ، قَالَ: وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُؤْتَى).

(1)

هو: ولد الإمام أحمد راوي "المسند" عنه.

(2)

"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 5/ 417.

ص: 389

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(حَجَّاجُ بْنُ الشَّاعِرِ) هو حجاج بن يوسف بن حجاج البغداديّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ صَخْرٍ) أبو جعفر السَّرَخْسيّ، ثقةٌ حافظٌ [11](ت 253)(خ م د ت ق) تقدم في "المقدمة" 6/ 93.

3 -

(أَبُو النُّعْمَانِ) محمد بن الفضل السدوسيّ الملقّب بعارم البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ، تغيّر بآخره، من صغار [9](ت 3 أو 224)(ع) تقدم في "الحج" 28/ 3013.

4 -

(ثَابِتُ بْنُ يَزِيدَ أَبُو زَيْدٍ الأَحْوَلُ) البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [7].

روى عن هلال بن خباب، وعاصم الأحول، وسليمان التيميّ، وجماعة.

وروى عنه عبد الله بن معاوية الْجُمَحيّ، ومعاوية بن عمرو، وأبو سلمة التبوذكيّ، ومحمد بن الصَّلْت، وعارمٌ، وغيرهم.

قال ابن معين: ثقةٌ، وقال أبو زرعة: لا بأس به، وقال أبو حاتم: ثقة أوثق من عبد الأعلى، وأحفظ من عاصم الأحول، وقال النسائيّ: ليس به بأسٌ، وقال عفان: دلّنا عليه شعبة، ووثقه أبو داود، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: كان عطّارًا بالبصرة، قال الحافظ: وقرأت بخط الذهبيّ رحمه الله: مات سنة (169).

أخرج له الجماعة، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.

5 -

(عَاصِمُ) بن سليمان الأحول، أبو عبد الرحمن البصريّ، ثقةٌ [4] مات بعد سنة (140)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 27.

6 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ الْحَارِثِ) الأنصاريّ، أبو الوليد البصريّ، نسيب ابن سيرين، ثقةٌ [3](ع) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 26/ 1338.

[تنبيه]: وقع في النسخ هنا تصحيف فاحش، وهو قوله:"حدّثنا عاصم بن عبد الله بن الحارث"، فتصحّف "عن" إلى "ابن"، فصار عبد الله بن الحارث أبًا لعاصم، وهذا غلطٌ، والصواب ما هنا، ووقع في النسخة الهنديّة على الصواب، فتنبّه، والله تعالى وليّ التوفيق.

7 -

(أَفْلَحُ مَوْلَى أَبِي أَيُّوبَ) الأنصاريّ، أبو عبد الرحمن، وقيل: أبو كثير، وقيل غير ذلك، كان من سبي عين التمر، مخضرمٌ ثقةٌ [2].

روى عن مولاه، وزيد بن ثابت، وأبي سعيد الخدريّ، وعمر، وعثمان، وعبد الله بن سلام.

ص: 390

وروى عنه محمد بن سيرين، ونسيبه أبو الوليد عبد الله بن الحارث، وأبو بكر بن حزم، وواقد بن عمرو بن سعد بن معاذ، وغيرهم.

قال العجليّ: مدنيّ تابعيّ ثقةٌ، من كبار التابعين، وقال ابن سعد: مات في خلافة يزيد بن معاوية سنة (63)، وكان ثقةً قليل الحديث، وقال ابن المدينيّ: قُتِل بالحرّة، ورواه البخاريّ في "تاريخه" عن ابن سيرين بسند صحيح، ونقله ابن عساكر عن الواقديّ، وقال ابن عساكر: أدرك عمر، ورَوَى عن عثمان، وقال ابن سيرين: كاتبه أبو أيوب على أربعين ألفًا، ثم تركها له، وأعتقه، وذكره ابن حبان في "الثقات".

أخرج له المصنّف، وأبو داود في "المراسيل"، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.

8 -

(أبو أيوب) الأنصاري خالد بن زيد بن كليب، من كبار الصحابة، شهد بدرًا، ونزل النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة عليه، ومات غازيًا بالروم سنة خمسين، وقيل: بعدها، (ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 113.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من سُباعيّات المصنّف رحمه الله، وفيه ثلاثة من التابعين روى بعضهم عن بعض: عاصم، عن عبد الله بن الحارث، عن أفلح، وفيه أبو أيوب رضي الله عنه من أكابر الصحابة رضي الله عنهم، وممن نزل عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم أول هجرته حتى بني حُجَر أزواجه، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي أَيُّوبَ) خالد بن زيد الأنصاريّ الصحابيّ الشهير رضي الله عنه (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَزَلَ عَلَيْهِ)؛ أي: نزل صلى الله عليه وسلم في بيته ضيفًا عليه، حين هاجر من مكة إلى المدينة، (فَنَزَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي السُّفْلِ) بضمّ السين المهملة، وكسرها لغتان، قاله النوويّ

(1)

، والفاء ساكنة، وقال الفيّوميّ: السُّفْل: خلاف الْعُلْو بالضمّ، والكسرُ لغة، وابن قُتيبة يمنع الضمّ. انتهى

(2)

.

وقال المجد: رحمه الله: السُّفْلُ والسُّفُولُ، والسُّفَالةُ بضمّهنّ، والسِّفْلُ، والسِّفْلَةُ

(1)

"شرح النوويّ" 14/ 10.

(2)

"المصباح المنير" 1/ 279.

ص: 391

بكسرهما، والسَّفَالُ بالفتح: نقض الْعُلْوِ، والْعُلُوِّ، والْعُلَاوَةِ، والْعِلْوِ، والْعِلْوَةِ، والْعَلَاءِ. انتهى

(1)

.

(وَأَبُو أَيُّوبَ) الأنصاريّ رضي الله عنه (فِي الْعُلْوِ) بتثليث العين، مع سكون اللام، قال المجد رحمه الله: عُلْوُ الشيء مثلّثةٌ، وعُلاوته، بالضمّ، وعاليته: أرفعه. انتهى

(2)

. (قَالَ) الراوي (فَانْتَبَهَ أَبُو أَيُّوبَ لَيْلَةً) من الليالي، (فَقَالَ) في نفسه، أو قال لمن معه من الأهل (نَمْشِي فَوْقَ رَأسِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) قاله إنكارًا على نفسه، حيث إن هذا المشي يُخلّ بتعظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلذلك شَقَّ على أبي أيوب رضي الله عنه. (فَتَنَحَّوْا)؛ أي: انتقلوا من المكان الذي كانوا فيه، (فَبَاتُوا فِي جَانِبٍ)؛ أي: في جهة أخرى من البيت، (ثُمَّ قَالَ) أبو أيوب بعدما أصبح (لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم)؛ أي: كلّمه بما فعل من انتقاله من مكان إلى آخر بسبب كونه صلى الله عليه وسلم تحتهم، (فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"السُّفْلُ أَرْفَقُ")؛ أي: كوننا في الطبق الأسفل أيسر علينا، وأسهل بنا، وقال القرطبيّ رحمه الله: وقوله صلى الله عليه وسلم: "السُّفل أرفق بنا"؛ يعني بذلك: من جهة الصعود إلى العلو، وبما يلحق في تكرار ذلك من المشقّة، ومع ذلك فتجشمها النبيّ صلى الله عليه وسلم لَمّا رأى صدق أبي أيوب في احترامه، وعزمه على ألا يسكن العلو بوجه، فلو لم يُجبه إلى ذلك لانتقل منه أبو أيوب إلى موضع آخر، وربما تكثر عليه المشقة، والحرج، فآثر صلى الله عليه وسلم موافقته على المشقة اللاحقة له في الصعود. انتهى

(3)

.

(فَقَالَ) أبو أيوب (لَا أَعْلُو سَقِيفَةً) -بفتح، فكسر-: الصُّفَّة، وكلُّ ما سُقّف من جَناح وغيره، وسَقِيفة بني ساعدة ظُلّةٌ، وقيل: صُفّة، والجمع سَقَائف، قاله الفيّوميّ

(4)

. (أَنْتَ تَحْتَهَا، فَتَحَوَّلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي الْعُلْوِ)؛ أي: إلى المكان العلو، (وَأَبُو أَيُّوبَ الأنصاريّ في السُّفْلِ)؛ أي: إلى المكان السُّفْل.

قال النوويّ رحمه الله: أما نزوله صلى الله عليه وسلم أوّلًا في السفل، فقد صَرَّح بسببه، وأنه أرفق به، وبأصحابه، وقاصديه، وأما كراهة أبي أيوب، فمن الأدب المحبوب

(1)

"القاموس المحيط" ص 620.

(2)

"القاموس المحيط" ص 908.

(3)

"المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" 5/ 329.

(4)

"المصباح المنير" 1/ 280.

ص: 392

الجميل

(1)

؛ إذ هو تعظيم للنبيّ صلى الله عليه وسلم غاية التعظيم.

وقال القرطبيّ رحمه الله: وإنما تحرَّج أبو أيوب رضي الله عنه من البقاء في العلو الذي كان النبيّ صلى الله عليه وسلم تحته؛ إعظامًا للرسول صلى الله عليه وسلم، واحترامًا عن أن يعلوه، ولإمكان أن يسقط من العلو شيء عند حركتهم في العلو، فيؤذي النبيّ صلى الله عليه وسلم. انتهى

(2)

.

(فَكَانَ) أبو أيوب (يَصْنَعُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم طَعَامًا، فَإِذَا جِيء بِهِ)؛ أي: بذلك الطعام (إِلَيْهِ)؛ أي: إلى أبي أيوب بعدما يأكل النبيّ صلى الله عليه وسلم منه، (سَأَل) أبو أيوب (عَنْ مَوْضِعِ أَصَابِعِهِ) صلى الله عليه وسلم (فَيَتَتبَّعُ مَوْضِعَ أصَابِعِهِ) والمعنى: أن أبا أيوب رضي الله عنه إذا بَعَث إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم طعامًا، فأكل منه حاجته، ثم رَدّ الفضلة أكل أبو أيوب من موضع أصابع النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ تبرّكًا به، ففيه التبرك بآثار النبيّ صلى الله عليه وسلم في الطعام، وغيره، والله تعالى أعلم.

(فَصَنَعَ) أبو أيوب (لَهُ) صلى الله عليه وسلم (طَعَامًا فِيهِ ثُومٌ، فَلَمَّا رُدَّ) بالبناء للمفعول؛ أي: لمّا رُد ذلك الطعام من عنده صلى الله عليه وسلم (إِلَيْهِ)؛ أي: إلى أبي أيوب، (سَأَل) أبو أيوب (عَنْ مَوْضِعِ أَصابِع النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقِيلَ لَهُ: لَمْ يَأْكُلْ) صلى الله عليه وسلم منه؛ لكون الثّوم فيه. (فَفَزعَ) بكسر الزاي، من باب تَعِب؛ أي: فَزَع أبو أيوب رضي الله عنه من عدم أَكْله صلى الله عليه وسلم من ذلك الطعام؛ لخوفه أن يكون حَدَث منه أمر أوجب الامتناع من طعامه، (وَصَعِدَ) بكسر العين المهملة، من باب سَمِعَ صُعُودًا: رَقِي، (إِلَيْهِ) صلى الله عليه وسلم (فَقَالَ) بعدما سأل النبيّ صلى الله عليه وسلم عن عدم أَكْله منه، فأخبره بأن فيه ثُومًا، (أَحَرَامٌ هُوَ؟)؛ أي: الثوم، قال القرطبيّ رحمه الله: هذا سؤال من يعتقد أن النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا ترك أكل شيء جرت العادة بأكله كان ذلك دليلًا على تحريمه ذلك، ولذلك أجابه النبيّ صلى الله عليه وسلم بقوله:"لا"، وهو ردٌّ على من يقول من أهل الظاهر: إنه حرام، يمنع حضور الجماعات للصلاة، وقد تقدّم الكلام على هذا في "كتاب الصلاة". انتهى

(3)

.

(فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "لَا)؛ أي: ليس بحرام، (وَلَكِنِّي أَكْرَهُهُ)؛ أي: لرائحته

(1)

"شرح النوويّ" 14/ 10.

(2)

"المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" 5/ 328.

(3)

"المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" 5/ 328.

ص: 393

الكريهة، قال القرطبيّ رحمه الله: هذا يدلّ على كراهة أكل الثوم، وإن كان مطبوخًا، وقد تقدم قول عمر رضي الله عنه:"فمن أَكَلهما فَلْيُمِتْهُما طبخًا"، وإنما كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يكرههما مطلقًا؛ لخصوصيته بمناجاة الملائكة، ولذلك قال في بعض الحديث:"كُلْ، فإني أناجي من لا تناجي"، متّفقٌ عليه. انتهى

(1)

.

(قَالَ) أبو أيوب (فَإِنِّي أَكْرَهُ مَا تَكْرَهُ)؛ لأن مِن صِدْق المحبّة أن يُحب المرء ما يُحبّه محبوبه، ويكره ما يكرهه، وقوله:(أَوْ) للشكّ من الراوي، هل قال: ما تكره بصيغة المضارع، أو قال:(مَا كَرِهْتَ) بصيغة الماضي؟ (قَالَ) الراوي أبو أيوب أو غيره (وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُؤْتَى) بالبناء للمفعول، وهذا بيان لسبب كراهة النبيّ صلى الله عليه وسلم أَكْل الطعام الذي فيه الثوم، وذلك لأنه يأتيه المَلَك، والثوم له رائحة كريهة، والملائكة تتأذّى منها.

وقال النوويّ رحمه الله: قوله: (وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُؤْتَى) معناه: تأتيه الملائكة، والوحيُ، كما جاء في الحديث الآخر:"إني أناجي من لا تناجي"، و"إن الملائكة تتأذى مما يتاذى منه بنو آدم"، وكان صلى الله عليه وسلم يترك الثوم دائمًا؛ لأنه يتوقع مجيء الملائكة والوحي كلَّ ساعة.

قال: واختَلَف أصحابنا في حكم الثوم في حقه صلى الله عليه وسلم، وكذلك البصل، والْكُرّاث، ونحوها، فقال بعض أصحابنا: هي محرّمة عليه، والأصح عندهم أنها مكروهة كراهة تنزيه، ليست محرّمة لعموم قوله صلى الله عليه وسلم:"لا" في جواب قوله: "أحرام هو؟ " ومن قال بالأول يقول: معنى الحديث: ليس بحرام في حقكم، والله أعلم. انتهى

(2)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: وقوله: "كان يؤتى" قد فسَّره الراوي بقوله: يعني: يأتيه الوحي، ومعناه: يؤتى بالوحي؛ أي: يجاء إليه به، والوحي: ما يبلّغه النبيّ صلى الله عليه وسلم عن الله تعالى مما يبلّغه جبريل عليه السلام. انتهى

(3)

.

(1)

"المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" 5/ 328.

(2)

"شرح النوويّ" 14/ 9.

(3)

"المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" 5/ 329.

ص: 394

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي أيوب الأنصاريّ رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [19/ 5345 و 5346 و 5347](2053)، و (الترمذيّ) في "الأطعمة"(1811)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(. . .)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 416 و 417)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(5/ 200)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(4/ 153)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): ما قال العلماء فيه أنه يستحب للآكل والشارب أن يُفضل مما يَأكل، وَيشرب فضلةً ليواسي بها من بعده، لا سيما إن كان من أهل الفضل، وكذا إذا كان في الطعام قلّة، ولهم إليه حاجة، ويتأكد هذا في حق الضيف، لا سيما إن كانت عادة أهل الطعام أن يُخرجوا كل ما عندهم، وتنتظر عيالهم الفَضْلة، كما يفعله كثير من الناس، ونقلوا أن السلف كانوا يَستحبون إفضال هذه الفضلة المذكورة، وهذا الحديث أصلُ ذلك كله، كما قال النوويّ رحمه الله

(1)

.

2 -

(ومنها): أن فيه إجلال أهل الفضل، والمبالغة في الأدب معهم.

3 -

(ومنها): أن فيه منقبةً ظاهرةً لأبي أيوب الأنصاريّ رضي الله عنه من أَوْجُه: منها: نزول النبيّ صلى الله عليه وسلم ـ عليه، ومنها أدبه معه، ومنها موافقته في ترك الثوم.

4 -

(ومنها): ما قاله القرطبيّ رحمه الله في قول أبي أيوب: "أكره ما تكره" جواز الامتناع من المباح، وإطلاق اسم الكراهة عليه، وإن لم يكن مطلوب الترك. انتهى

(2)

، والله تعالى أعلم.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(1)

"شرح النوويّ" 14/ 10.

(2)

"المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" 5/ 329.

ص: 395

(20) - (بَابُ إِكْرَامِ الضَّيْفِ، وَفَضْلِ إِيثَارِهِ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5348]

(2054) - (حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثنَا جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ، عَنْ فُضَيْلِ بْنِ غَزْوَانَ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ الأَشْجَعِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: إِنِّي مَجْهُودٌ، فَأَرْسَلَ إِلَى بَعْضِ نِسَائِهِ، فَقَالَتْ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا عِنْدِي إِلَّا مَاءٌ، ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى أُخْرَى، فَقَالَتْ مِثْلَ ذَلِكَ، حَتَّى قُلْنَ كُلُّهُنَّ مِثْلَ ذَلِكَ: لَا وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا عِنْدِي إِلَّا مَاءٌ، فَقَالَ: "مَنْ يُضِيفُ هَذَا اللَّيْلَةَ رحمه الله؟ "، فَقَامَ رَجُل مِنَ الأَنْصَارِ، فَقَالَ: أنَا يَا رَسُولَ اللهِ، فَانْطَلَقَ بِهِ إِلَى رَحْلِهِ، فَقَالَ لِامْرَأَتِهِ: هَلْ عِنْدَكِ شَيْءٌ؟ قَالَتْ: لَا، إِلَّا قُوتُ صِبْيَانِي، قَالَ: فَعَلِّلِيهِمْ بِشَيْءٍ، فَإِذَا دَخَلَ ضَيْفُنَا، فَأَطْفِئِي السِّرَاجَ، وَأَرِيهِ أنَّا نَأْكُلُ، فَإِذَا أَهْوَى لِيَأْكلَ، فَقُومِي إِلَى السِّرَاجِ، حَتَّى تُطْفِئِيهِ، قَالَ: فَقَعَدُوا، وَأَكَلَ الضَّيْفُ، فَلَمَّا أَصْبَحَ غَدَا عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: "قَدْ عَجِبَ اللهُ مِنْ صنِيعِكُمَا بِضَيْفِكُمَا اللَّيْلَةَ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) أبو خيثمة النسائيّ، ثم البغداديّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ) بن قُرط الضبيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

3 -

(فُضَيْلُ بْنُ غَزْوَانَ) بن جرير الضبّيّ مولاهم، أبو الفضل الكوفيّ، ثقةٌ، من كبار [7] مات بعد سنة (146)(ع) تقدم في "الإيمان" 78/ 405.

4 -

(أَبُو حَازِمٍ الأَشْجَعِيُّ) سلمان الكوفيّ، مولى عَزّة الأسلميّة، ثقةٌ [3] مات على رأس المائة (ع) تقدم في "الإيمان" 9/ 142.

5 -

(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه تقدم في "المقدمة" 2/ 4.

[تنبيه]: لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسلٌ بالكوفيين، غير شيخه، فنسائيّ، ثمّ بغداديّ، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه رأس المكثرين السبعة، روى (5374) حديثًا.

ص: 396

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي حَازِمٍ الأَشْجَعِيِّ) وقع عند البخاريّ في "التفسير" مسلسلًا بالتحديث، ولفظه:"حدّثنا يعقوب بن إبراهيم بن كثير، حدّثنا أبو أُسامة، حدّثنا فُضيل بن غزوان، حدّثنا أبو حازم الأشجعيّ". (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) قال في "الفتح": هذا الرجل هو أبو هريرة رضي الله عنه، وقع مفسَّرًا في رواية الطبرانيّ، وقد نَسَبْتُه في "المناقب" إلى تخريج أبي البختريّ الطائيّ في صفة النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأبو البختريّ لا يوثق به. انتهى

(1)

.

(فَقَالَ) ذلك الرجل (إِنِّي مَجْهُودٌ) أي: أصابني الجهد، وهو المشقّة، والحاجة، وسوء العيش، والجوع

(2)

، يقال: جهده الأمرُ والمرضُ جَهْدًا: إذا بلغ منه المشقّة، ومنه: جَهْدُ البلاء

(3)

.

وفي رواية البخاريّ: "فقال: يا رسول الله أصابني الْجَهْدُ". (فَأَرْسَلَ) صلى الله عليه وسلم (إِلَى بَعْضِ نِسَائِهِ) لم يُعرف اسمها؛ أي: أرسل صلى الله عليه وسلم إليها يطلب منها ما يُضيفه به، (فَقَالَتْ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا عِنْدِي إِلَّا مَاءٌ)؛ أي: ليس عندي طعام يأكله الضيف، وإنما عندي ماء، وهو لا يُغني عن الطعام.

وقال في "الفتح": وفيه ما يُشعر بأن ذلك كان في أول الحال قبل أن يفتح الله لهم خيبر وغيرها. انتهى

(4)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قول أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم: "ليس عندنا إلا ماء" يدلّ على شدة حالهم، وضيق عيشهم، وكان هذا -والله أعلم- في أول الأمر، وأما بعد ذلك لمّا فُتحت خيبر، فقد كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يحبس لأهله قُوْتَ سَنَتهم، وَيحْتَمِل أن يكون بعد ذلك، وأن أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم كنَّ يتصدَّقن بما كان عندهن، ويُؤْثِرْن غيرهنّ بذلك، ويبقين على ما يفتح الله تعالى، ولا يطلبن من النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ لسقوط ذلك عنه بالذي دفع لهنَّ. انتهى

(5)

.

(1)

"الفتح" 10/ 680، كتاب "التفسير" رقم (4889).

(2)

"شرح النوويّ" 14/ 11.

(3)

"المصباح المنير" 1/ 112.

(4)

"الفتح" 8/ 497، كتاب "مناقب الأنصار" رقم (3798).

(5)

"المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" 5/ 330.

ص: 397

(ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى أُخْرَى) لم تُعرف أيضًا، (فَقَالَتْ مِثْلَ ذَلِكَ)؛ أي: مثل ما قالت الأولى: "والذي بعثك بالحقّ ما عندي إلا ماء"، (حَتَّى قُلْنَ كُلُّهُنَّ مِثْلَ ذَلِكَ: لَا وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا عِنْدِي إِلَّا مَاءٌ، فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("مَنْ يُضِيفُ هَذَا اللَّيْلَةَ رحمه الله؟)"من" يَحْتَمِل أن تكون موصولة مبتدأ، خبرها جملة "رحمه الله"، ويَحْتَمل أن تكون استفهاميّة مبتدأ خبرها جملة "يُضيف. . . إلخ"؛ أي: أي شخص يقوم بضيافته؟، وعليه فقوله:"يرحمه الله" جملة خبريّة حال من الفاعل، ويَحْتَمل أن تكون جملة دعائيّة، فتكون مستأنفةً، وعلى الأول فهي خبريّة.

ولفظ البخاريّ: "ألا رجلٌ يُضيفه الليلة يرحمه الله".

وقوله: "يُضيف" بضمّ أوله، من الأضافة رباعيًّا، قال الفيّوميّ رحمه الله: الضَّيْفُ: معروف، ويُطلق بلفظ واحد على الواحد وغيره؛ لأنه مصدر في الأصل من ضَافَهُ ضَيْفًا، من باب باع: إذا نزل عنده، وتجوز المطابقة، فيقال: ضَيْفٌ، وضَيْفَةٌ، وأَضْيَافٌ، وضِيفَانٌ، وأَضَفْتُهُ، وَضَيَّفْتُهُ: إذا أنزلته، وقَرَيته، والاسم: الضِّيَافَةُ، قال ثعلب: ضِفْتَهُ: إذا نزلت به، وأنت ضيف عنده، وأَضَفْتَهُ بالألف: إذا أنزلته عندك ضَيْفًا، وأَضَفْتَهُ إِضَافَةً: إذا لجأ إليك من خوف، فَأَجَرْتَه، واسْتَضَافَنِي، فَأَضَفْتُهُ: استجارني، فأجرته، وتَضَيَّفَنِي، فَضَيَّفْتُهُ: إذا طلب الْقِرَى، فَقَرَيته، أو استجارك، فمنعته ممن يطلبه، وأَضَافَهُ إلى الشيء إِضَافَةً: ضمّه إليه، وأماله. انتهى

(1)

.

وقوله: (هَذَا اللَّيْلَةَ) إشارة إلى الرجل المجهود، و"الليلة" منصوب على الظرفيّة، متعلّق بـ "يُضيف"، وفي رواية للبخاريّ:"ألا رجلٌ يُضيفه هذه الليلة". (فَقَامَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ) قال في "الفتح": زعم ابن التين أنه ثابت بن قيس بن شَمّاس، وقد أورد ذلك ابن بشكوال من طريق أبي جعفر بن النحاس، بسند له عن أبي المتوكل الناجيّ مرسلًا، ورواه إسماعيل القاضي في "أحكام القرآن"، ولكن سياقه يشعر بأنها قصة أخرى؛ لأن لفظه: "أن رجلًا من الأنصار عَبَر عليه ثلاثة أيام، لا يجد ما يُفطر عليه، ويصبح صائمًا حتى فَطِن له رجل من

(1)

"المصباح المنير" 2/ 366.

ص: 398

الأنصار، يقال له: ثابت بن قيس"، فقصّ القصة، وهذا لا يمنع التعدد في الصنيع مع الضيف.

وفي نزول الآية قال ابن بشكوال: وقيل: هو عبد الله بن رواحة، ولم يذكر لذلك مستندًا.

وروى أبو البختريّ القاضي أحد الضعفاء المتروكين في "كتاب صفة النبيّ صلى الله عليه وسلم" له أنه أبو هريرة راوي الحديث، والصواب الذي يتعيَّن الجزم به في حديث أبي هريرة ما وقع عند مسلم من طريق محمد بن فضيل بن غزوان، عن أبيه بإسناد البخاريّ:"فقام رجل من الأنصار يقال له: أبو طلحة"، وبذلك جزم الخطيب، لكنه قال: أظنه غير أبي طلحة زيد بن سهل المشهور، وكأنه استبعد ذلك من وجهين: أحدهما: أن أبا طلحة زيد بن سهل مشهور، لا يحسن أن يقال فيه: فقام رجل يقال له: أبو طلحة، والثاني: أن سياق القصة يُشعر بأنه لم يكن عنده ما يتعشى به هو وأهله، حتى احتاج إلى إطفاء المصباح، وأبو طلحة زيد بن سهل كان أكثر أنصاريّ بالمدينة مالًا، فيَبْعُد أن يكون بتلك الصفة من التقلل.

قال الحافظ: ويمكن الجواب عن الاستبعادين، والله أعلم. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: هكذا قال الحافظ رحمه الله: "ويمكن الجواب"، ولم يذكر ذلك الجواب، وقد أجاب بعض المتأخّرين، فقال: ويمكن الجواب عن الأول: بأن شهرة أبي طلحة لا تمنع من أن يقال فيه: رجل من الأنصار، وعن الثاني: بأن المال غادٍ ورائحٌ، فلا يمنع كون أبي طلحة من المياسير أن تمرّ عليه ليلة، وفي طعامه قلّة

(2)

، والله تعالى أعلم.

[تنبيه]: قال في "الفتح" في "كتاب التفسير": أردت التنبيه هنا على شيء وقع للقرطبيّ المفسِّر، ولمحمد بن عليّ بن عسكر في "ذيله" على تعريف السهيليّ، فإنهما نقلا عن النحاس، والمهدويّ أن هذه الآية نزلت في أبي المتوكل، زاد ابن عسكر الناجيّ: وأن الضيف ثابت بن قيس، وقيل: إن فاعلها

(1)

"الفتح" 8/ 497، كتاب "مناقب الأنصار" رقم (3798).

(2)

"تكملة فتح الملهم" 4/ 66.

ص: 399

ثابت بن قيس، حكاه يحيى بن سلام. انتهى، وهو غلطٌ بَيِّنٌ، فإن أبا المتوكل الناجيّ تابعيّ مشهور، وليس له في القصة ذِكر، إلا أنه رواها مرسلة، أخرجها من طريق إسماعيل القاضي، وكذا ابن أبي الدنيا في "كتاب قرى الضيف"، وابن المنذر في تفسير هذه السورة، كلهم من طريق إسماعيل بن مسلم، عن أبي المتوكل: "أن رجلًا من المسلمين مكث ثلاثة أيام لا يجد شيئًا يُفطر عليه، حتى فَطِن له رجل من الأنصار، يقال له: ثابت بن قيس

" الحديث.

وقد تَبع ابنَ عسكر جماعةٌ من الشارحين ساكتين عن وَهَمه، فلهذا نبَّهت عليه، وتفطَّن شيخنا ابن الملَقِّن لقول ابن عسكر: إنه أبو المتوكل الناجيّ، فقال: هذا وَهَمٌ؛ لأن أبا المتوكل الناجيّ تابعيّ إجماعًا. انتهى، فكأنه جوّز أنه صحابيّ يكنى أبا المتوكل، وليس كذلك. انتهى

(1)

.

(فَقَالَ: أَنَا)؛ أي: أنا أُضيفه هذه الليلة (يَا رَسُولَ اللهِ، فَانْطَلَقَ بِه)؛ أي: ذهب ذلك الأنصاريّ بذلك الرجل المجهودِ (إِلَى رَحْلِهِ)؛ أي: إلى منزله، ورحلُ الإنسان هو منزله، من حَجَر، أو مَدَر، أو شَعَر، أو وَبَر، قاله النوويّ رحمه الله.

قال الفيّوميّ رحمه الله: ورَحْلُ الشخص: مأواه في الحضر، ثمّ أُطلق على أمتعة المسافر؛ لأنها هناك مأواه. انتهى

(2)

.

وفي رواية للبخاريّ: "فذهب إلى أهله"، (فَقَالَ لِامْرَأَتِهِ) لا يُعرف اسمها، وقال صاحب "التنبيه": قوله: "فقال لامرأته" إن كان أبا طلحة زيد بن سهل، فامرأته هي أمّ سُليم، وإن كان أبا طلحة ثانيًا، فذَكَر المختلعات منه في "التوضيح"، وإن كان عبد الله بن رواحة، فلا أعلم اسم زوجته. انتهى

(3)

.

(هَلْ عِنْدَكِ شَيْءٌ؟)؛ أي: من الطعام، (قَالَتْ: لَا، إِلَّا قُوتُ صِبْيَانِي) بكسر الصاد وضمّها: جمع صبيّ.

قال في "الفتح": قوله: "إلا قوت صبياني" يَحْتَمِل أن يكون هو وامرأته تعشَّيَا، وكان صبيانهم حينئذ في شغلهم، أو نيامًا، فأخَّروا لهم ما يكفيهم، أو

(1)

"الفتح" 10/ 680 - 681، كتاب "التفسير" رقم (4889).

(2)

"المصباح المنير" 1/ 222.

(3)

"تنبيه المعلم" ص 354.

ص: 400

نسبوا العشاء إلى الصِّبية؛ لأنهم إليه أشدّ طلبًا، وهذا هو المعتَمد؛ لقوله في رواية أبي أسامة:"ونطوي بطوننا الليلة"، وفي آخر هذه الرواية أيضًا:"فأصبحا طاويين"، وقد وقع في رواية وكيع عند مسلم:"فلم يكن عنده إلا قُوته، وقُوت صبيانه". انتهى

(1)

.

(قَالَ) الرجل (فَعَلِّلِيهِمْ بِشَيْءٍ)؛ أي: ألهيهم بشيء من اللهو يشغلهم عن طلب الطعام، وفي رواية البخاريّ:"فإذا أراد الصبية العَشاءَ، فنوّميهم".

قال النوويّ رحمه الله: قوله: "فعلّليهم بشيء" هذا محمول على أن الصبيان لم يكونوا محتاجين إلى الأكل، وإنما تطلبه أنفسهم على عادة الصبيان، من غير جوع يضرّهم، فانهم لو كانوا على حاجة بحيث يضرّهم تَرْك الأكل لكان إطعامهم واجبًا، ويجب تقديمه على الضيافة، وقد أثنى الله تعالى، ورسوله صلى الله عليه وسلم على هذا الرجل وامرأته، فدلّ على أنهما لم يتركا واجبًا، بل أحسنا، وأجملا رضي الله عنهما، وأما هو وامرأته فآثرا على أنفسهما برضاهما مع حاجتهما، وخصاصتهما، فمدحهما الله تعالى، وأنزل فيهما:{وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9] انتهى

(2)

.

(فَإذَا دَخَلَ ضَيْفُنَا، فَأَطْفِئِي السِّرَاجَ) وفي رواية البخاريّ: "فأطفئي السراج، ونطوي بطوننا الليلة، ففعلت". (وَأَرِيهِ أَنَّا نَأْكُلُ)، وذلك لأن الضيف إذا علم أن مُضيفَه لا يأكل ربّما امتنع عن الأكل، أو أكل قليلًا، وهذا من فرط إيثاره رضي الله عنه، وحُسْن سياسته.

وفي حديث أنس عند ابن أبي الدنيا: "فجعل يتلمّظ، وتتلمّظ هي حتى رأى الضيف أنهما يأكلان". (فَإِذَا أَهْوَى لِيَأْكُلَ)؛ أي: إذا أمال يده إلى المائدة للأكل، (فَقُومِي إِلَى السِّرَاجِ، حَتَّى تُطْفِئِيهِ)؛ أي: لئلا يظهر له تَرْكُهما الأكل، فيَتْرُك هو. (قَالَ: فَقَعَدُوا)؛ أي: الثلاثة: الرجل، والمرأة، والضيف لِأَكْل ذلك الطعام، ولكنْ الزوجان لم يأكلا، (وَأَكَلَ الضَّيْفُ) وحده، وفي رواية البخاريّ: "فقال: هيئي طعامك، وأصبِحي سراجك، ونَوِّمي صبيانك، إذا

(1)

"الفتح" 8/ 497 - 498، كتاب "مناقب الأنصار" رقم (3798).

(2)

"شرح النوويّ" 14/ 12.

ص: 401

أرادوا عَشاءً، فهيأت طعامها، وأصبحت سراجها، ونوَّمت صبيانها، ثم قامت كأنها تُصلح سراجها، فأطفأته، فجعلا يُريانه أنهما يأكلان، فباتا طاويين".

(فَلَمَّا أَصْبَحَ)؛ أي: دخل وقت الصباح، (غَدَا) ذلك الرجل الذي أضاف ذلك الضيف (عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم)، وفي حديث أنس:"فصلّى معه الصبح"، (فَقَالَ:"قَدْ عَجِبَ اللهُ) بكسر الجيم من باب تَعِبَ، وفيه إثبات العَجَب لله سبحانه وتعالى على ما يليق بجلاله، (مِنْ صَنِيعِكُمَا بِضَيْفِكُمَا اللَّيْلَةَ")؛ أي: حيث آثراه بطعامهما، وباتا جائعين، وفي رواية البخاريّ:"فقال: لقد عجِب الله عز وجل، أو ضَحِكَ من فلان وفلانةَ، فأنزل الله عز وجل: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} ".

وقال في "الفتح": قوله: "لقد عَجِب الله عز وجل، أو ضحك" كذا هنا بالشكّ، وذكره مسلم من طريق جرير، عن فضيل بن غزوان بلفظ:"عجب" بغير شكّ، وعند ابن أبي الدنيا في حديث أنس:"ضحك" بغير شكّ، وقال الخطابيّ: إطلاق العجب على الله محال، ومعناه الرضا، فكأنه قال: إن ذلك الصنيع حَلّ من الرضا عند الله حلول العجب عندكم، قال: وقد يكون المراد بالعجب هنا: أن الله يُعجب ملائكته من صنيعهما؛ لِنُدُور ما وقع منهما في العادة، ثم قول من قال: معنى الضحك هنا الرحمة، قال الخطابيّ: وتأويل الضحك بالرضا أقرب من تأويله بالرحمة؛ لأن الضحك من الكرام يدل على الرضا، فإنهم يوصفون بالبِشْر عند السؤال.

قال الحافظ: الرضا من الله يستلزم الرحمة، وهو لازمه. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: من العجيب الغريب نَقْل الحافظ قول الخطّابيّ: "إطلاق العجب على الله محال" إلى آخر كلامه، بل أقرّه في آخر كلامه، وقد أشار الحافظ نفسه هو في "كتاب التوحيد" من "الفتح" أن التأويل مذهب المتكلّمين، وليس مذهب أهل السُّنَّة من السلف، وأهل الحديث، فكيف يوافق، ويسكت على هذا التأويل السخيف؟

والحاصل أن الواجب إثبات ما أثبته الله في كتابه، أو أثبته النبيّ صلى الله عليه وسلم في حديثه الصحيح من صفات الله تعالى على الوجه اللائق به سبحانه وتعالى، ومن ذلك صفة

(1)

"الفتح" 10/ 680 - 681، كتاب "التفسير" رقم (4889).

ص: 402

العَجَب، فقد ثبتت في كتاب الله عز وجل في قوله تعالى:(بَلْ عَجِبْتُ) بضمّ التاء على إحدى القراءتين، وفي السُّنَّة الصحيحة، كهذا الحديث الصحيح، ثم إن العَجَب المثبَت لله ليس كعجب المخلوقين الذي منشأه غالبًا خفاء السبب، كما يقال: إذا ظهر السبب بطل العجب، وهذا النوع هو الممتنع على الله عز وجل؛ لأنه لا تخفى عليه خافية، ولكن العجب الثابت له يدلّ على عِظَم الشيء وتميّزه عن أمثاله فيما يوجب مدحًا أو ذمًّا

(1)

، وبالله تعالى التوفيق.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [20/ 5348 و 5349 و 5350](2054)، و (البخاريّ) في "مناقب الأنصار"(3798) و"التفسير"(4889) وفي "الأدب المفرد"(740)، و (الترمذيّ) في "التفسير"(3304)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(11582)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5286)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(11/ 30)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 185) و"الأسماء والصفات"(2/ 217)، و (الواحديّ) في "أسباب النزول"(ص 281)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): ما كان عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأهل بيته من الزهد في الدنيا، والصبر على الجوع، وضِيْق حال الدنيا.

2 -

(ومنها): أنه ينبغي لكبير القوم أن يبدأ في مواساة الضيف، ومن يَطرُقهم بنفسه، فيواسيه من ماله أوّلًا بما يتيسَّر إن أمكنه، ثم يطلب له على سبيل التعاون على البرّ والتقوى من أصحابه.

3 -

(ومنها): المواساة في حال الشدائد.

4 -

(ومنها): فضيلة إكرام الضيف، وإيثاره.

5 -

(ومنها): منقبة لهذا الأنصاريّ وامرأته رضي الله عنهما، وقال القرطبيّ رحمه الله:

(1)

راجع ما كتبه الشيخ عبد الرحمن بن ناصر البرّاك تعليقًا على هامش: "الفتح" 10/ 681.

ص: 403

وهذا الحديث يدلّ على فضل أبي طلحة، وأهل بيته رضي الله عنهم، وأنَّهم المعنيون بقوله تعالى:{وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} ، و"الخصاصة": الجوع والفاقة. انتهى

(1)

.

6 -

(ومنها): مشروعيّة الاحتيال في إكرام الضيف إذا كان يمتنع منه، رفقًا بأهل المنزل؛ لقوله:"أطفئي السراج، وأَريه أنا نأكل"، فإنه لو رأى قلة الطعام، وأنهما لا يأكلان معه لامتنع من الأكل.

7 -

(ومنها): بيان سبب نزول الآية الكريمة، قال في "الفتح": هذا هو الأصح في سبب نزول هذه الآية، وعند ابن مردويه من طريق محارب بن دِثار، عن ابن عمر:"أُهدي لرجل رأس شاة، فقال: إن أخي وعياله أحوج منا إلى هذا، فبعث به إليه، فلم يزل يَبعث به واحد إلى آخر، حتى رجعت إلى الأول بعد سبعة، فنزلت"، ويَحْتَمِل أن تكون نزلت بسبب ذلك كله. انتهى

(2)

.

8 -

(ومنها): ما قاله في "الفتح": قيل: في الحديث دليل على نفوذ فعل الأب في الابن الصغير، وإن كان مطويًّا على ضرر خفيف، إذا كان في ذلك مصلحة دينية، أو دنيوية، وهو محمول على ما إذا عُرف بالعادة من الصغير الصبر على مثل ذلك، والعلم عند الله تعالى. انتهى

(3)

.

9 -

(ومنها): ما قال النوويّ رحمه الله: فيه فضيلةُ الإيثار، والحثّ عليه، وقد أجمع العلماء على فضيلة الإيثار بالطعام ونحوه من أمور الدنيا، وحظوظ النفوس، أما القربات فالأفضل أن لا يُوثر بها؛ لأن الحقّ فيها لله تعالى. انتهى

(4)

، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5349]

(. . .) - (حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ فُضَيْلِ بْنِ غَزْوَانَ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَجُلًا مِنَ الأَنْصَارِ بَاتَ بِهِ

(1)

"المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" 5/ 330.

(2)

"الفتح" 8/ 498، كتاب "مناقب الأنصار" رقم (3798).

(3)

"الفتح" 8/ 498، كتاب "مناقب الأنصار" رقم (3798).

(4)

شرح النوويّ" 14/ 12.

ص: 404

ضَيْفٌ، فَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ إِلَّا قُوتُهُ، وَقُوتُ صِبْيَانِهِ، فَقَالَ لِامْرَأَتِهِ: نَوِّمِي الصِّبْيَةَ، وَأَطْفِئِي السِّرَاجَ، وَقَرِّبِي لِلضَّيْفِ مَا عِنْدَكِ، قَالَ: فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أَبُو كُرَيْبٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ) الهَمْدانيّ الكوفيّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(وَكِيعُ) بن الْجَرّاح بن مَليح الرؤاسيّ، أبو سفيان الكوفيّ، ثقة حافظٌ عابدٌ، من كبار [9](ت 6 أو 197)(ع) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.

والباقون ذُكروا قبله.

[تنبيه]: رواية وكيع عن فُضيل بن غَزْوان هذه ساقها الترمذيّ رحمه الله، فقال:

(3304)

- حدّثنا أبو كريب، حدّثنا وكيع، عن فُضيل بن غزوان، عن أبي حازم، عن أبي هريرة، أن رجلًا من الأنصار بات به ضيف، فلم يكن عنده إلا قُوْته وقُوْت صبيانه، فقال لامرأته: نَوِّمي الصبية، وأطفئي السراج، وقرِّبي للضيف ما عندك، فنزلت هذه الآية:{وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} ، قال الترمذيّ: هذا حديث حسن صحيحٌ. انتهى

(1)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5350]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَاهُ أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَيِ حَازِم، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِيُضِيفَهُ، فَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مَا يُضِيفُهُ، فَقَالَ: "ألَا رَجُلٌ يُضِيفُ هَذَا رحمه الله، فَقَامَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ، يُقَالُ لَهُ: أبُو طَلْحَةَ، فَانْطَلَقَ بِهِ إِلَى رَحْلِهِ، وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِنَحْوِ حَدِيثِ جَرِيرٍ، وَذَكَرَ فِيهِ نُزُولَ الآيَةِ، كَمَا ذَكَرَهُ وَكِيعٌ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(ابْنُ فُضَيْلٍ) هو: محمد بن فُضيل بن غَزْوان، تقدّم قريبًا.

(1)

"جامع الترمذيّ" 5/ 409.

ص: 405

والباقون ذُكروا قبله.

وقوله: (يُقَالُ لَهُ: أَبُو طَلْحَةَ. . . إلخ) تقدّم أن الخطيب قال بهذا، لكنه قال: أظنّه غير أبي طلحة زيد بن سهل المشهور، فتنبّه.

وقوله: (وَسَاقَ الْحَدِيثَ. . . إلخ) فاعل "ساق" ضمير ابن فُضيل.

[تنبيه]: رواية محمد بن غزوان عن أبيه هذه ساقها الطبريّ رحمه الله في "تفسيره" بسند المصنّف، فقال:

حدّثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن فضيل، عن أبيه، عن أبي حازم، عن أبي هريرة، قال: جاء رجل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ ليضيفه، فلم يكن عنده ما يضيفه، فقال:"ألا رجل يُضيف هذا رحمه الله؟ " فقام رجل من الأنصار يقال له: أبو طلحة، فانطلق به إلى رحله، فقال لامرأته: أكرمي ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم، نَوِّمي الصبية، وأطفئي المصباح، وأَريه بأنك تأكلين معه، واتركيه لضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففعلت، فنزلت:{وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} . انتهى

(1)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5351]

(2055) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا شَبَابَةُ بْنُ سَوَّارٍ، حَدَّثنَا سُلَيْمَانُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنِ الْمِقْدَادِ، قَالَ: أَقْبَلْتُ أنَا وَصَاحِبَانِ لِي، وَقَدْ ذَهَبَتْ أَسْمَاعُنَا، وَأَبْصَارُنَا، مِنَ الْجَهْدِ، فَجَعَلْنَا نَعْرِضُ أَنْفُسَنَا عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْهُمْ يَقْبَلُنَا، فَأَتَيْنَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَانْطَلَقَ بِنَا إِلَى أَهْلِهِ، فَإذَا ثَلَاثَةُ أَعْنُزٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"احْتَلِبُوا هَذَا اللَّبَنَ بَيْنَنَا"، قَالَ: فَكُنَّا نَحْتَلِبُ، فَيَشْرَبُ كُلُّ إِنْسَانٍ مِنَّا نَصِيبَهُ، وَنَرْفَعُ

(2)

لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم نَصِيبَهُ، قَالَ: فَيَجِيءُ مِنَ اللَّيْلِ، فَيُسَلِّمُ تَسْلِيمًا لَا يُوقِظُ نَائِمًا، ويُسْمِعُ الْيَقْظَانَ، قَالَ: ثُمَّ يَأْتي الْمَسْجِدَ، فَيُصَلِّي، ثُمَّ يَأْتي شَرَابَهُ، فَيَشْرَبُ، فَأَتَانِي الشَّيْطَانُ ذَاتَ لَيْلَةٍ، وَقَدْ شَرِبْتُ نَصِيبِي، فَقَالَ: مُحَمَّدٌ يَأْتِي الأَنْصَارَ، فَيُتْحِفُونَهُ، وَيُصِيبُ عِنْدَهُمْ مَا بهِ حَاجَةٌ إِلَى هَذِهِ الْجُرْعَةِ، فَأَتَيْتُهَا، فَشَرِبْتُهَا، فَلَمَّا أَنْ وَغَلَتْ فِي بَطْنِي، وَعَلِمْتُ أَنَّهُ لَيْسَ إِلَيْهَا سَبِيلٌ، قَالَ: نَدَّمَنِي الشَّيْطَانُ، فَقَالَ: وَيْحَكَ، مَا

(1)

"تفسير الطبريّ" 28/ 42 - 43.

(2)

وفي نسخة: "ويُرْفَع".

ص: 406

صنَعْتَ؟ أَشَرِبْتَ شَرَابَ مُحَمَّدٍ؟ فَيَجِيءُ، فَلَا يَجِدُهُ، فَيَدْعُو عَلَيْكَ، فَتَهْلِكُ، فَتَذْهَبُ دُنْيَاكَ وَآخِرَتُكَ، وَعَلَيَّ شَمْلَةٌ إِذَا وَضَعْتُهَا عَلَى قَدَمَيَّ خَرَجَ رَأْسِي، وَإِذَا وَضَعْتُهَا عَلَى رَأْسِي خَرَجَ قَدَمَايَ، وَجَعَلَ لَا يَجِيئُنِي النَّوْمُ، وَأَمَّا صَاحِبَايَ، فَنَامَا، وَلَمْ يَصْنَعَا مَا صَنَعْتُ، قَالَ: فَجَاءَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَسَلَّمَ كَمَا كَانَ يُسَلِّمُ، ثُمَّ أَتَى الْمَسْجِدَ، فَصَلَّى، ثُمَّ أَتَى شَرَابَهُ، فَكَشَفَ عَنْهُ، فَلَمْ يَجِدْ فِيهِ شَيْئًا، فَرَفَعَ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ، فَقُلْتُ: الآنَ يَدْعُو عَلَيَّ، فَأَهْلِكُ، فَقَالَ:"اللَّهُمَّ أَطْعِمْ مَنْ أَطْعَمَنِي، وَأَسْقِ مَنْ أَسْقَانِي"، قَالَ: فَعَمَدْتُ إِلَى الشَّمْلَةِ، فَشَدَدْتُهَا عَلَيَّ، وَأَخَذْتُ الشَّفْرَةَ، فَانْطَلَقْتُ إِلَى الأَعْنُزِ أَيُّهَا أَسْمَنُ، فَأَذْبَحُهَا لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَإِذَا هِيَ حَافِلَةٌ

(1)

، وَإِذَا هُنَّ حُفَّلٌ كُلُّهُنَّ، فَعَمَدْتُ إِلَى إِنَاءٍ لآلِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم مَا كَانُوا يَطْمَعُونَ

(2)

أَنْ يَحْتَلِبُوا فِيهِ، قَالَ: فَحَلَبْتُ فِيهِ حَتَّى عَلَتْهُ رَغْوَةٌ، فَجِئْتُ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:"أَشَرِبْتُمْ شَرَابَكُمُ اللَّيْلَةَ؟ "، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ اشْرَبْ، فَشَرِبَ، ثُمَّ نَاوَلَنِي، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ اشْرَبْ، فَشَرِبَ، ثُمَّ نَاوَلَنِي، فَلَمَّا عَرَفْتُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَدْ رَوِيَ، وَأَصَبْتُ دَعْوَتَهُ ضَحِكْتُ، حَتَّى أُلْقِيتُ إِلَى الأَرْضِ، قَالَ: فَقَالَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: "إِحْدَى سَوْآتِكَ يَا مِقْدَادُ"، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ كَانَ مِنْ أَمْرِي كَذَا وَكَذَا، وَفَعَلْتُ كَذَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"مَا هَذِهِ إِلَّا رَحْمَةٌ مِنَ اللهِ، أفَلَا كُنْتَ آذَنْتَنِي، فَنُوقِظَ صَاحِبَيْنَا، فَيُصِيبَانِ مِنْهَا"، قَالَ: فَقُلْتُ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، مَا أُبَالِى إِذَا أَصَبْتَهَا، وَأَصَبْتُهَا مَعَكَ مَنْ أَصَابَهَا مِنَ النَّاسِ).

رجال هذا الإسناد: ستّة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) هو: عبد الله بن محمد بن أبي شيبة إبراهيم بن عثمان، تقدّم قبل باب.

2 -

(شَبَابَةُ بْنُ سَوَّار) المدائنيّ، خراساني الأصل، يقال: اسمه مروان الفزاريّ مولاهم، ثقة حافظ، رُمي بالإرجاء [9](ت 4 أو 5 أو 206)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 40.

(1)

وفي نسخة: "فإذا هي حافل".

(2)

وفي نسخة: "يطعمون".

ص: 407

3 -

(سُلَيْمَانُ بْنُ الْمُغِيرَةِ) القيسيّ مولاهم، أبو سعيد البصريّ، ثقةٌ ثقةٌ

(1)

[7](ت 165)(ع) تقدم في "الإيمان" 3/ 111.

4 -

(ثَابِت) بن أسلم البُنَانيّ، أبو محمد البصريّ، ثقةٌ عابد [4] مات سنة بضع و (120)(ع) وله (86) سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 80.

5 -

(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي لَيْلَى) الأنصاريّ المدنيّ، ثمّ الكوفيّ، ثقةٌ [3](ت 86)(ع) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.

6 -

(الْمِقْدَادُ) بن عمرو بن ثعلبة بن مالك بن ربيعة الْبَهْرانيّ، ثمّ الْكِنْديّ، ثمّ الزهريّ، مات سنة (33)، وهو ابن (70) سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 43/ 281.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وأن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وأن صحابيّه من مشاهير الصحابة رضي الله عنهم، من السابقين إلى الإسلام، ولم يثبُت أنه كان ببدر فارسٌ غيره رضي الله عنه.

شرح الحديث:

(عَنِ الْمِقْدَادِ) بن عمرو رضي الله عنه، ويقال له: المقداد بن الأسود؛ لأن الأسود بن عبد يغوث الزهريّ تبنّاه في الجاهليّة، فنُسب إليه. (قَالَ: أَقْبَلْتُ أَنَا وَصَاحِبَانِ لِي) قال صاحب "التنبيه": لا أعرفهما

(2)

. (وَقَدْ ذَهَبَتْ أَسْمَاعُنَا، وَأَبْصَارُنَا، مِنَ الْجَهْدِ) بفتح الجيم، وهو الجوع والمشقّة، كما سبق في حديث أول الباب. (فَجَعَلْنَا نَعْرِضُ) بكسر الراء، يقال: عَرَضَ الشيءَ عليه، من باب سَمِعَ: إذا أراه إيّاه، وعَرَض له: إذا أظهره له

(3)

؛ أي: نُري (أَنْفُسَنَا عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) بمعنى: أنهم يُرُون أنفسهم، ويُظهرون للصحابة جوعهم، وما أصابهم من الجهد حتى يواسُوهم، ويقوموا بضيافتهم، (فَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْهُمْ يَقْبَلنا) قال النوويّ رحمه الله: هذا محمول على أن الذين عَرَضوا أنفسهم عليهم كانوا مُقِلِّين ليس عندهم شيء يُواسُون به. انتهى

(4)

.

(1)

مكرّرًا، قاله ابن معين.

(2)

"تنبيه المعلم" ص 354.

(3)

راجع: "القاموس المحيط" ص 857.

(4)

"شرح النوويّ" 14/ 13 - 14.

ص: 408

وقال القرطبيّ رحمه الله: وقوله: "فليس أحدٌ منهم يقبلنا"؛ أي: يُطعمنا، وظاهر حالهم: أن ذلك الامتناع ممن تعرضوا له إنَّما كان لأنهم ما وجدوا شيئًا يُطعمونهم إيَّاه، كما اتَّفَق للنبيّ صلى الله عليه وسلم حيث طلب من جميع بيوت نسائه، فلم يجد عندهم شيئًا؛ فإنَّ الوقت كان شديدًا عليهم. انتهى

(1)

.

(فَأَتَيْنَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَانْطَلَقَ)؛ أي: ذهب (بِنَا إِلَى أَهْلِهِ، فَإذَا ثَلَاثةُ أَعْنُزٍ)"إذا" هنا هي الفُجائيّة؛ أي: ففاجأنا وجود ثلاثة أعنز، وهي بفتح الهمزة، وضمّ النون: جمع عَنْز، بفتح، فسكون: هي الأنثى من المعز إذا أتى عليها حول، وقال الجوهريّ: والعنز: الأنثى من الظباء، والأوعال، وهي الماعز

(2)

. (فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "احْتَلِبُوا هَذَا اللَّبَنَ)؛ أي: لبن هؤلاء الأعنز الثلاثة، وقوله:(بَيْنَنَا")؛ أي: واقسموه بيننا. (قَالَ) المقداد (فَكُنَّا نَحْتَلِبُ، فَيَشْرَبُ كُلُّ إِنْسَانٍ مِنَّا نَصِيبَهُ)؛ أي: حظّه من ذلك اللبن، (وَنَرْفَعُ) بالبناء للفاعل، وفي بعض النسخ:"ويُرْفَع" بالبناء للمفعول، (لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم نَصِيبَهُ)؛ أي: حظّه من ذلك اللبن. (قَالَ) المقداد (فَيَجِيءُ) النبيّ صلى الله عليه وسلم (مِنَ اللَّيْلِ)؛ أي: في الليل، فـ "من" بمعنى "في"، ويَحْتَمِل أن تكون للتبعيض؛ أي: في بعض الليل، (فَيُسَلِّمُ تَسْلِيمًا) فيه مشروعيّة السلام على الجماعة، وإن كان بعضهم نائمًا، (لَا يُوقِظُ نَائِمًا، وَيُسْمِعُ الْيَقْظَانَ) بضمّ حرف المضارعة، من الإسماع، وفيه بيان آداب السلام، وهو أنه لا يرفع صوته إذا هناك نائم؛ لئلا يقطع عليه نومه، ولا يَخفضه بحيث لا يُسمع؛ ليردّ عليه اليقظان. (قَالَ) المقداد (ثُمَّ يَأْتِي) صلى الله عليه وسلم (الْمَسْجِدَ)؛ أي: المكان الذي اتّخذه للصلاة فيه، (فَيُصَلِّي) تحيّة المسجد، أو أعمّ من ذلك، (ثُمَّ يَأْتِي شَرَابَهُ، فَيَشْرَبُ) فيه أنه يبدأ بتحيّة المسجد قبل أن يجلس للشراب والطعام. (فَأَتَانِي الشَّيْطَانُ ذَاتَ لَيْلَةٍ)؛ أي: ليلةً من الليالي، وقوله:(وَقَدْ شَرِبْثُ نَصِيبِي) جملة حاليّة من المفعول، (فَقَالَ) الشيطان:(مُحَمَّدٌ) صلى الله عليه وسلم (يَأْتِي الأَنْصَارَ)؛ أي: بيوت الأنصار رضي الله عنهم، (فَيُتْحِفُونَهُ) بضمّ حرف المضارعة، من الإتحاف؛ أي: يكرمونه بالهدايا والعطايا، قال المجد رحمه الله:

(1)

"المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" 5/ 332.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 432.

ص: 409

التُّحْفَة بالضمّ، وكهُمَزَة: البِرّ، واللُّطف، والطُّرْفة، جمعه: تُحُفٌ، وقد أتحفته تُحْفَةً: إذا أطرفته بها، أو أصلها وُحْفَةٌ بالواو، فقُلبت تاءً. انتهى

(1)

.

(وَيُصِيبُ عِنْدَهُمْ)؛ أي: ينال غرضه من الطعام والشراب ما يُغنيه عن هذا اللبن، وقوله:(مَا) نافية؛ أي: ليست (بِهِ) صلى الله عليه وسلم (حَاجَةٌ إِلَى هَذِهِ الْجُرْعَةِ) -بضم الجيم، وفتحها-، حكاهما ابن السِّكِّيت وغيره، وهي الْحَثْوَة من المشروب، والفعل منه: جَرِعتُ بفتح الجيم، وكسر الراء، قاله النوويّ، وقال الفيّوميّ: جَرَعتُ الماءَ جَرْعًا، من باب نفع، وجَرِعتُ أجْرَعُ، من باب تَعِب لغةٌ، وهو الابتلاع، والْجُرْعة من الماء كاللقمة من الطعام، وهو ما يُجرع مرّةً واحدةً، والجمع جُرَع، مثلُ غُرْفة وغُرَف. انتهى

(2)

.

(فَأَتيْتُهَا)؛ أي: تلك الْجُرعة (فَشَرِبْتُهَا، فَلَمَّا أَنْ) قال ابن هشام الأنصاريّ رحمه الله في "مغنيه": "أن الواقعة بعد "لَمَّا" التوقيتيّة زائدة، نحو قوله عز وجل: {وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ} الآية [العنكبوت: 33] "

(3)

.

(وَغَلَتْ فِي بَطْنِي) بِالْغَين المعجمة المفتوحة، من وَعَد؛ أي: دَخَلَت، وتمكَّنت تلك الجرعة.

وقال القرطبيّ رحمه الله: وقوله: "وغلت في بطني"؛ أي: دخلت فيه، فكل من دخل في شيء فهو واغل فيه، ومنه قول الشاعر:

فاليوم أشربُ غيرَ مُسْتَحْقب

إثْمًا من الله ولا وَاغِلِ

يقال: وغَلْتُ، أَغِلَ، وُغُولًا، وَوَغْلًا، وهو ثلاثيّ، فأمَّا أوغل -رباعيًّا- فهو بمعنى: السَّير الشديد، والإمعان فيه، قاله الأصمعيّ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم:"إن هذا الدِّين مَتِين، فأوغل فيه برفق"، رواه أحمد؛ أي: فَسِرْ فيه برفق. انتهى

(4)

.

(وَعَلِمْتُ) بتاء المتكلّم، (أَنَّهُ) الضمير للشأن، أي: أن الأمر والشأن، (لَيْسَ إِلَيْهَا سَبِيلٌ)؛ أي: لا يوجد طريق إلى الوصول إليها، والانتفاع بها ثانيًا.

وقال بعضهم: قوله: "وعلمت أنه ليس إليها سبيل" يحتَمِل معنيين:

(1)

"القاموس المحيط" ص 151 بزيادة يسيرة.

(2)

"المصباح المنير" 1/ 97.

(3)

راجع: "مغني اللبيب" 1/ 75.

(4)

"المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" 5/ 332 - 333.

ص: 410

الأول: أني تنبّهت بعد الشُّرب أنه لم يكن لي سبيل في جواز شرب نصيب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والثاني: أنه لا سبيل الآن إلى إعادة ما شربته إلى محلّه. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: لا يَخفى ما في الاحتمال الأول من البُعد، فالاحتمال الثاني، هو الأقرب، والأظهر، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

(قَالَ) المقداد (نَدَّمَنِي الشَّيْطَانُ) بتشديد الدال المهملة؛ أي: حملني على الندم، وقوله:(فَقَالَ. . . إلخ) بيان لكيفيّة تنديمه. (فَقَالَ) الشيطان (وَيْحَكَ) تقدّم أنها كلمة ترحّم، لكنها هنا بمعنى ويلك، وهي كلمة عذاب. (مَا صنَعْتَ؟)"ما" استفهاميّة، مفعول مقدَّم لـ "صنعت"؛ أي: أي شيء صنعت؟ وهو استفهام إنكار، وتوبيخ. (أَشَرِبْتَ شَرَابَ مُحَمَّدٍ؟) صلى الله عليه وسلم (فَيَجِيءُ) صلى الله عليه وسلم إلى شرابه (فَلَا يَجِدُهُ) حيث شربته أنت، (فَيَدْعُو عَلَيْكَ) بالهلاك (فَتَهْلِكُ، فَتَذْهَبُ دُنْيَاكَ وَآخِرَتُكَ)؛ أي: تخسر في الدنيا والآخرة. (وَعَلَيَّ شَمْلَةٌ) بفتح الشين المعجمة، وإسكان الميم: كِساء صغير يُشتَمَل به؛ أي: يُلتَحَف به على كيفيّة مخصوصة، قد ذكرناها في "كتاب الصلاة"

(2)

.

وقال الفيّوميّ: الشَّمْلة: كساء صغير يُؤتَزَر به، والجمع: شَمَلاتٌ، مثلُ سَجْدةٍ وسَجَداتٍ، وشِمَالٌ أيضًا، مثلُ كَلْبة وكلاب. انتهى

(3)

.

(إِذَا وَضَعْتُهَا عَلَى قَدَمَيَّ) يَحْتَمِل أن يكون بالتثنية، فالياء مشدّدة، ويَحْتَمِل الإفراد، فالميم مخفّفة، والأول هو الأَولى بدليل قوله الآتي:"قدماي". (خَرَجَ رَأْسِي، وَإِذَا وَضَعْتُهَا عَلَى رَأْسِي خَرَجَ قَدَمَايَ، وَجَعَلَ لَا يَجِيئُنِي النَّوْمُ)؛ أي: لاشتداد كَرْبه بسبب ما صنعه مِن شُرب نصيب النبيّ صلى الله عليه وسلم، أو لأجل البرد حيث فقد لباسًا يعمّ جسده، والأول أظهر، كما يقتضيه السياق. (وَأمَّا صاحِبَايَ، فَنَامَا) لعدم ما يمنعهما من النوم؛ إذ لم يفعلا ما فعل المقداد، كما أشار إليه بقوله:(وَلَمْ يَصْنَعَا مَا صَنَعْتُ، قَالَ) المقداد (فَجَاءَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَسَلَّمَ كَمَا كَانَ

(1)

"تكملة فتح الملهم" 4/ 69.

(2)

"المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" 5/ 333.

(3)

"المصباح المنير" 1/ 323.

ص: 411

يُسَلِّمُ)؛ أي: كما هو هديه عند دخوله البيت، فإنه لا يدخل إلا بسلام (ثُمَّ أَتَى الْمَسْجِدَ) قال القرطبيّ: يعني به -والله أعلم-: مسجد بيته؛ أي: حيث كان يصلّي النوافل

(1)

. (فَصَلَّى، ثُمَّ أَتَى شَرَابَهُ)؛ أي: أتى موضع شرابه الذي خُبئ له فيه، (فَكَشَفَ عَنْهُ)؛ أي: كشف الغطاء عن إناء شرابه (فَلَمْ يَجِدْ فِيهِ شَيْئًا) من اللبن، (فَرَفَعَ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ)؛ أي: ليدعو ربّه، قال المقداد رضي الله عنه:(فَقُلْتُ: الآنَ)؛ أي: في هذه الساعة التي رفع صلى الله عليه وسلم رأسه فيها إلى السماء (يَدْعُو عَلَيَّ) حيث شربت نصيبه، وبات طويًا (فَأَهْلِكُ) بدعائه صلى الله عليه وسلم. (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("اللَّهُمَّ أَطْعِمْ) بقطع الهمزة فعلُ دعاء من الرباعيّ، (مَنْ أَطْعَمَنِي)؛ أي: يُطعمني، فهو بمعنى المضارع، (وَأَسْقِ) يَحْتَمِل أن يكون بوصل الهمزة، من سقى الثلاثيّ، وأن يكون بقطعها من أسقى الرباعيّ، فكلاهما لغتان فصيحتان، قال الله تعالى:{وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا} [الإنسان: 21]، وقال:{لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا} [الجن: 16]، والاحتمال الثاني أَولى؛ لمناسبة قوله:(مَنْ أَسْقَانِي")؛ أي: يُسقيني، كما في "من أطعمني". (قَالَ) المقداد رضي الله عنه:(فَعَمَدْتُ) بفتح الميم، من باب ضرب؛ أي: قصدت (إِلَى الشَّمْلَةِ)؛ أي: إلى الاشتمال بها، وتشميرها، كما بيّنه بقوله:(فَشَدَدْتُهَا)؛ أي: ربطت تلك الشملة (عَلَيَّ، وَأَخَذْتُ الشَّفْرَةَ) بفتح الشين المعجمة، وسكون الفاء: هي الْمُدْية، وهي السكّين العَرِيض، والجمع شِفَارٌ، مثلُ كَلْبة وكلاب، وشَفَرَاتٌ، مثلُ سجْدَة وسجدات، قاله الفيّوميّ رحمه الله

(2)

. (فَانْطَلَقْتُ إِلَى الأَعْنُزِ أَيُّهَا أَسْمَنُ)"أيّ" هنا موصولة بمعنى "التي"، صفة لـ "الأعنُز" فهي مبنيّة على الضمّ لِحَذْف صَدْر صِلَتها؛ أي: هي أسمن، وإلى هذا أشار في "الخلاصة" حيث قال:

"أَيٌّ" كَـ "مَا" وَأُعْرِبَتْ مَا لَمْ تُضَفْ

وَصَدْرُ وَصْلِهَا ضَمِيرٌ انْحَذَفْ

ونظيره قوله تعالى: {ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا (69)} [مريم: 69].

(فَأَذْبَحُهَا لِرَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَإذَا هِيَ حَافِلَةٌ)"إذا" هنا فجائيّة؛ أي: ففاجأني

(1)

"المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" 5/ 333.

(2)

"المصباح المنير" 1/ 317.

ص: 412

كونها حافلة؛ أي: ممتلئة الضرع باللبن، وفي بعض النسخ:"حافل" بدون هاء، وهو لغة، قال المجد رحمه الله: وضَرْع حافلٌ: كثيرٌ لَبَنُه، وجَمْعه كرُكَّعٍ، وناقةٌ حافلةٌ، وحَفُولٌ، وشاةٌ حافلٌ، وقال أيضًا: حَفَلَ الماء واللبن يَحْفِل حَفْلًا، وحُفُولًا، وحَفِيلًا: اجتمع، كتحفّل، واحتفل. انتهى

(1)

.

(وَإِذَا هُنَّ)؛ أي: الأعنز، (حُفَّلٌ) بضمّ الحاء، وتشديد الفاء: جمع حافل، أو حافلة، كما قال في "الخلاصة":

وَفُعَّلٌ لِفَاعِلٍ وَفَاعِلَهْ

وَصْفَيْنِ نَحْوُ عَاذِلٍ وَعَاذِلَهْ

والمعنى: مجتمع لبنهنّ في ضروعهنّ، وقوله:(كُلُّهُنَّ) توكيد لـ "حُفّل"، وهذا من أعلام نبوّته صلى الله عليه وسلم الظاهرة، ومعجزته الباهرة، حيث صرن كلّهنّ حُفّلًا بعدما حُلب لبنهنّ في وقت قريب.

قال القرطبيّ رحمه الله: ولمّا فَهِم المقداد منه صلى الله عليه وسلم الدعاء، وطلب أن يفعل الله ذلك معه في الحال؛ عرف أن الله تعالى يجيبه، ولا يردّ دعوته، لا سيما عند شدَّة الحاجة، والفاقة، فقام لينظر له شيئًا تكون به إجابة دعوته، فوجد الأعنز حُفّلًا؛ أي: ممتلئة الضروع باللبن. انتهى

(2)

.

(فَعَمَدْتُ) بفتح الميم؛ أي: قصدت (إِلَى إِنَاءٍ لآلِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم)؛ أي: أهل

بيته، (مَا كَانُوا)؛ أي: آل محمد صلى الله عليه وسلم (يَطْمَعُونَ)؛ أي: يرجون (أَنْ يَحْتَلِبُوا فِيهِ)

لِكِبَره، وقلّة اللبن عندهم، ووقع في بعض النسخ:"يطعمون" بدل "يطمعون"؛ أي: كانوا لا يأكلون في ذلك الإناء، ولا يستعملونه في الأكل. (قَالَ) المقداد رضي الله عنه (فَحَلَبْتُ فِيهِ)؛ أي: في ذلك الإناء، (حَتَّى عَلَتْهُ)؛ أي: ارتفعت على فم ذلك الإناء (رَغْوَةٌ) بتثليث الراء، وإسكان الغين المعجمة: هو الزَّبَد الذي يعلو اللبن عند الصبّ والحلب، قال المجد رحمه الله: رَغْوةُ اللبنِ مثلّثةً، ورُغَاوته، ورُغايته، مضمومتين، ويُكسران: زَبَدُهُ. انتهى.

وقال الفيّوميّ رحمه الله: الرَّغْوَةُ: الزَّبَدُ يَعْلُو الشيءَ عند غَلَيانه، بفتح الراء، وضمّها، وحُكي الكسر، وجَمْع المفتوح: رَغَوَاتٌ، مثل شَهْوَةٍ وشَهَواتٍ،

(1)

"القاموس المحيط" ص 304 - 305.

(2)

"المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" 5/ 333 - 334.

ص: 413

وجَمْع المضموم: رُغًى، مثلُ مُدْية ومُدًى، والرُّغَايَةُ بالضم، والكسر، والرِّغَاوَةُ بالكسر مع الواو: رُغْوَة اللبن، وارْتَغَى: شَرِب الرَّغْوَةَ، ورَغَّى اللبنُ بالتشديد

(1)

: عَلَتْ رُغوته. انتهى

(2)

.

وقال النوويّ رحمه الله: "الرغوة": هي زَبَد اللبن الذي يعلوه، وهي بفتح الراء، وضمها، وكسرها، ثلاث لغات مشهورات، ورُغاوة بكسر الراء، وحُكي ضمّها، ورُغاية بالضم، وحُكي الكسر، وارتغيت: شربت الرُّغوة. انتهى

(3)

.

(فَجِئْتُ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) آخذًا ذلك اللبن الذي علته الرغوة، (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("أَشَرِبْتُمْ شَرَابَكُمُ اللَّيْلَةَ؟ "، قَالَ) المقداد (قُلْتُ)؛ أي: بعد إجابته بنعم، (يَا رَسُولَ اللهِ اشْرَبْ) هذا اللبن، (فَشَرِبَ) بكسر الراء، (ثُمَّ نَاوَلَني)؛ أي: أعطاني الفاضل منه لأشربه، (فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ اشْرَبْ) مرّة ثانيةً، (فَشَرِبَ، ثمَّ نَاوَلَنِى، فَلَمَّا عَرَفْتُ) بفتح الراء، فما اشتهر على ألسنة عوامّ الطلبة، من قولهم:"عَرِفتُ" بكسر الراء، فَلَحْن فاحش، فليُتنبّه، والله تعالى وليّ التوفيق.

(أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَدْ رَوِيَ) بكسر الواو، كرَضِي.

وقال القرطبيّ رحمه الله: و"رَوِي" بكسر الواو، وتحريك الياء في الماضي، يروَى بفتح الواو وسكون الياء: في الشرب، فأما "رَوَى" بفتح الواو في الماضي، وكسرها في المستقبل: فهو في رواية الأخبار، ويقال أيضًا: بمعنى الاستقاء على الإبل، قال: وهذا الحديث من دلائل نبوة النبيّ صلى الله عليه وسلم

(4)

.

(وَأَصَبْتُ دَعْوَتَهُ) حيث قال: "اللهمّ أطعم من أطعمني، وأسق من سقاني"، (ضَحِكْتُ) من شدّة الفرح والسرور بذلك، (حَتَّى أُلْقِيتُ إِلَى الأَرْضِ) ببناء الفعل للمفعول؛ أي: ضحِكت ضَحِكًا كثيرًا حتى سقطت إلى الأرض من شِدّة الضحك.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "فضحكت حتى أُلْقِيتُ إلى الأرض" كذا

(1)

بل يجوز التخفيف، فقد قال في "القاموس": ورَغَا اللبن، وأرغى، ورَغَّى: صارت له رُغوة. انتهى.

(2)

"المصباح المنير" 1/ 232.

(3)

"شرح النوويّ" 14/ 15.

(4)

"المفهم" 5/ 334.

ص: 414

قيّدناه مبنيًا لِمَا لم يُسَمّ فاعله، وقد وجدناه في بعض النسخ:"أَلْقَيتُ" مبنيًا للفاعل؛ أي: أَلْقَيت نفسي إلى الأرض من شدَّة الضحك، ولما رأى النبيّ صلى الله عليه وسلم منه ذلك كَرِه ذلك، وقال له:"إحدى سوآتك يا مقداد"؛ أي: هذه الحالة حالة سيئة من جملة حالاتك التي تسوء، منكِرًا لذلك؛ لأن كثرة الضحك يميت القلب، كما قاله صلى الله عليه وسلم لأبي ذرّ رضي الله عنه

(1)

، فلما أخبره المقداد بما جرى له، وبما أجاب الله من دعوته قال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"ما هذه إلا رحمة من الله"، معترفًا بفضل الله تعالى، وشاكرًا لنعمته، ومقرًّا بمنّته، فله الحمد أوّلًا وآخرًا، وباطنًا وظاهرًا. انتهى

(2)

.

قال النوويّ رحمه الله: قوله: "فلما عَلِمتُ أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قد رَوِي" إلى قوله:

(1)

أشار به إلى ما أخرجه ابن حبّان في "صحيحه" وغيره عن أبي ذرّ رضي الله عنه، وهو حديث طويل، مشتمل على وصايا كثيرة، وكثير منها ضعيف، وبعضه صحيح، ومنه قوله:"إياك وكثرة الضحك، فإنه يميت القلب، وَيذهب بنور الوجه"، قاله الشيخ الألبانيّ رحمه الله في "صحيح الترغيب والترهيب".

وأخرج الترمذيّ رحمه الله في "جامعه" 4/ 551، عن الحسن، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من يأخذ عني هؤلاء الكلمات، فيعمل بهنّ، أو يعلِّم من يعمل بهنّ؟ "، فقال أبو هريرة: فقلت: أنا يا رسول الله، فأخذ بيدي، فعَدّ خمسًا، وقال:"اتق المحارم تكن أعبد الناس، وارض بما قسم الله لك تكن أغنى الناس، وأحسن إلى جارك تكن مؤمنًا، وأحب للناس ما تحب لنفسك تكن مسلمًا، ولا تُكثر الضحك فإن كثرة الضحك تميت القلب".

قال أبو عيسى: هذا حديث غريب، لا نعرفه إلا من حديث جعفر بن سليمان، والحسن لم يسمع عن أبي هريرة شيئًا، هكذا رُوي عن أيوب، ويونس بن عبيد، وعلي بن زيد، قالوا: لم يسمع الحسن من أبي هريرة، ورَوَى أبو عبيدة الناجيّ، عن الحسن، هذا الحديث قولَهُ، ولم يذكر فيه:"عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم". انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: سماع الحسن البصريّ من أبي هريرة رضي الله عنه مختلفٌ فيه، والصحيح أنه سمع منه، كما حقّقته في "شرح النسائيّ"، وهذا الحديث صححه الشيخ الألبانيّ رحمه الله في "الصحيحة" 2/ 32، وغيرها.

(2)

"المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" 5/ 334 - 335.

ص: 415

إحدى سوآتك يا مقداد": معناه أنه كان عنده حُزْن شديدٌ خوفًا من أن يدعو عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ لكونه أذهبَ نصيب النبيّ صلى الله عليه وسلم، وتَعَرّض لأذاه، فلما عَلِمَ أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قد رَوِيَ، وأُجيبت دعوته، فَرِح، وضَحِك، حتى سقط إلى الأرض من كثرة ضحكه؛ لذهاب ما كان به من الحزن، وانقلابه سُرورًا بشرب النبيّ صلى الله عليه وسلم، وإجابة دعوته لمن أطعمه، وسقاه، وجريان ذلك على يد المقداد، وظهور هذه المعجزة، ولتعجّبه من قُبح فِعله أوّلًا، وحُسْنِه آخرًا، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: "إحدى سوآتك يا مقداد"؛ أي: إنك فعلتَ سَوءةً من الفعلات، ما هي؟ فأخبره خَبَره، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "ما هذه إلا رحمة من الله تعالى"؛ أي: إحداث هذا اللبن في غير وقته، وخلاف عادته، وإن كان الجميع من فضل الله تعالى. انتهى

(1)

.

(قَالَ) المقدادل رضي الله عنه (فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "إِحْدَى سَوْآتِكَ) خبر لمحذوف؛ أي: هذه الحالة، وهي حالة كثرة الضحك إحدى حالاتك التي تسوء، وتعيب لك (يَا مِقْدَادُ") قال القاضي عياض رحمه الله في "المشارق": قوله: "إحدى سوآتك يا مقداد" كذا لأكثر شيوخنا، وعند ابن الحذاء، والهوزنيّ من طريق ابن ماهان:"أخبرني" مكان "إحدى"، وعند ابن الحذاء "شرابك" مكان "سوآتك"، والصواب الأول؛ أي: إن ضحكك، وما صنعتَ من أحد أفعالك السيئة، وجاء في بعض النسخ:"ما شأنك يا مقداد؟ ". انتهى

(2)

.

(فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ كَانَ مِنْ أَمْرِي كَذَا وَكَذَا، وَفَعَلْتُ كَذَا)؛ أي: من شُرب نصيبه صلى الله عليه وسلم بتسويل الشيطان له، (فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "مَا هَذِهِ)؛ أي: الخصلة التي حصلت في هذه الليلة من شُرب اللبن الذي نزل من الأعنز اللاتي حُلبن، وجفّ ضرعهنّ، (إِلَّا رَحْمَةٌ مِنَ اللهِ) سبحانه وتعالى.

وحاصل ما أشار إليه في قوله: "ضحكت حتى سقطت إلى الأرض" إلى قوله: هذه رحمة من الله" أن ضحكه رضي الله عنه كان من كمال سروره، وزوال حزنه؛ لأنه لَمّا شَرِب نصيبه صلى الله عليه وسلم خاف أشدّ الخوف من أن يدعو عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولَمّا قال صلى الله عليه وسلم: "اللهم أطعم من أطعمني. . . إلخ"، وعَلِم أن دعاءه صلى الله عليه وسلم مستجابٌ،

(1)

"شرح النوويّ" 14/ 15.

(2)

"مشارق الأنوار" 1/ 20.

ص: 416

زال حزنه، وخوفه، وسُرّ أشدّ سرور، ولهذا ضحك إلى أن سقط على الأرض ثم عمد إلى الأعنز، فوجدها حُفّلًا، فحلب منها، فجاء به إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فشرب منه، وأصاب حاجته، ولما أخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم بالقصّة، قال:"ما هذه إلا رحمة من الله تعالى"، فله الحمد، والمنّة، وله النعمة والقضل، وله الثناء الحسن.

أ- وقعت لك هذه النعمة الجسيمة، والمنّة العظيمة من درور اللبن من الأعنز الهزال (أفَلَا كُنْتَ آذَنتَنِي) بالمدّ؛ أي: أعلَمْتَني بها (فَنُوقِظَ صَاحِبَيْنَا) بنصب "يوقظ" بعد الفاء السببيّة، كما قال في "الخلاصة":

وَبَعْدَ فَا جَوَابَ نَفْيٍ أَوْ طَلَبْ

مَحْضَيْنِ "أَنْ" وَسَتْرُهُ حَتْمٌ نَصَبْ

(فَيُصِيبَانِ مِنْهَا") برفع "يصيبان" على تقدير مبتدأ؛ أي: فهما يصيبان من هذه النعمة التي هي رحمة من الله. (قَالَ) المقداد (فَقُلْتُ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، مَا أُبَالِي)؛ أي: لا أكترث (إِذَا أَصَبْتَهَا)؛ أي: شربتها أنت، (وَأصَبْتُهَا)؛ أي: شربتُها (مَعَكَ مَنْ أَصَابَهَا)؛ أي: شَرِبها (مِنَ النَّاسِ) والمعنى: إذا شربَتها أنت، وشربتُها معك، فلا أبالي، ولا أكترث بالناس، فلا يسرّني من شربها، ولا يحزنني من لم يشربها، والله تعالى أعلم.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث المقداد بن عمرو رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [20/ 5351 و 5352](2055)، و (الترمذيّ) في "الاستئذان"(2719)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 2 و 3 و 4)، و (البخاريّ) في "الأدب المفرد"(1008)، و (النسائيّ) في "عمل اليوم والليلة"(323)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(5/ 203)، و (البزّار) في "مسنده"(6/ 42)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(3/ 87)، و (أبو نعيم) في "الحلية"(1/ 174)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان ما كان عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم من كريم الأخلاق، والجود حيث انطلق بالمقداد وصاحبيه إلى بيته؛ ليزيل ما حلّ بهم من الجهد والجوع.

ص: 417

2 -

(ومنها): ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم في أول الأمر من الفقر، وضيق العيش، فلم يستطيعوا أن يواسوا المقداد وصاحبيه حين عرضوا عليهم أنفسهم، مع أنهم موصوفون بقوله عز وجل:{وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} ، إلا أن عدم شيء في بيوتهم أدّاهم إلى أن لا يقبلوهم.

3 -

(ومنها): بيان استحباب السلام لمن دخل بيتًا، وإن كان فيه نائمون، وقال القرطبيّ رحمه الله: في الحديث دليل على مشروعية السَّلام عند دخول البيت، وقد استحبَّه مالك، وأن ذلك مما ينبغي أن يكون برفق، واعتدال. انتهى

(1)

.

4 -

(ومنها): بيان آداب السلام على الأيقاظ في موضع فيه نِيام، أو من في معناهم، فإنه يكون سلامًا متوسطًا بين الرفع والمخافتة، بحيث يسمعه الأيقاظ، فيردّوه، ولا يُهَوّش على النائمين.

5 -

(ومنها): أن فيه الدعاءَ للمحسِن، والخادم، ولمن سيفعل خيرًا.

6 -

(ومنها): بيان ما كان عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم من الحلم، والأخلاق العليّة، والمحاسن المرضية، وكرم النفس، والصبر، والإغضاء عن حقوقه، فإنه صلى الله عليه وسلم لم يسأل عن نصيبه من اللبن.

7 -

(ومنها): أن فيه معجزات النبوة، وآثار بركته صلى الله عليه وسلم، حيث كانت الأعنز كلّهنّ حُفّلًا في غير الوقت المعتاد، وذلك من الله سبحانه وتعالى عليه وعلى الناس أجمعين، كما قال تعالى:{وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} [النساء: 113]، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5352]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ، حَدَّثنَا سُلَيْمَانُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ).

رجال هذا الإسناد: ثلاثة:

1 -

(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) المعروف بابن راهويه، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

2 -

(النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ) المازنيّ، أبو الحسن البصريّ النحويّ، نزيل

(1)

"المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" 5/ 332.

ص: 418

مرو، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار [9](ت 204) وله (82) سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 39.

و"سليمان بن المغيرة" ذُكر قبله.

[تنبيه]: رواية النضر بن شُميل عن سليمان بن المغيرة هذه لم أجد من ساقها بتمامها، فليُنظر، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5353]

(2056) - (وَحَدَّثنا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ الْعَنْبَرِيُّ، وَحَامِدُ بْنُ عُمَرَ الْبَكْرَاوِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، جَمِيعًا عَنِ الْمُعْتَمِرِ بْنِ سُلَيْمَانَ -وَاللَّفْظُ لِابْنِ مُعَاذٍ- حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ، وَحَدَّثَ أَيْضًا عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثَلَاثِينَ وَمِائَةً، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "هَلْ مَعَ أَحَدٍ مِنْكُمْ طَعَامٌ؟ "، فَإذَا مَعَ رَجُلٍ صَاعٌ مِنْ طَعَامٍ، أَوْ نَحْوُهُ، فَعُجِنَ، ثُمَّ جَاءَ رَجُلٌ مُشْرِكٌ، مُشْعَانٌّ، طَوِيلٌ، بِغَنَمٍ يَسُوقُهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "أَبَيْعٌ، أَمْ عَطِيَّةٌ -أَوْ قَالَ- أَمْ هِبَةٌ؟ "، فَقَالَ: لَا، بَلْ بَيْعٌ، فَاشْتَرَى مِنْهُ شَاةً، فَصُنِعَتْ، وَأَمَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِسَوَادِ الْبَطْنِ أَنْ يُشْوَى، قَالَ: وَايْمُ اللهِ، مَا مِنَ الثَّلَاثينَ وَمِائَةٍ إِلَّا حَزَّ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حُزَّةً حُزَّةً مِنْ سَوَادِ بَطْنِهَا، إِنْ كَانَ شَاهِدًا أَعْطَاهُ، وَإِنْ كَانَ غَائِبًا خَبَأَ لَهُ، قَالَ: وَجَعَلَ قَصْعَتَيْنِ، فَأَكَلْنَا مِنْهُمَا أَجْمَعُونَ، وَشَبِعْنَا، وَفَضَلَ فِي الْقَصْعَتَيْنِ، فَحَمَلْتُهُ عَلَى الْبَعِيرِ، أَوْ كَمَا قَالَ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ الْعَنْبَرِيُّ) البصريّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(حَامِدُ بْنُ عُمَرَ الْبَكْرَاوِيُّ) الثقفيّ، أبو عبد الرحمن البصريّ، قاضي كرمان، ثقةٌ [10](ت 233)(خ م) تقدم في "الطهارة" 26/ 649.

3 -

(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى) الصنعانيّ القيسيّ، أبو عبد الله البصريّ، ثقةٌ [10](ت 245)(م ق د ت س ق) تقدم في "الإيمان" 92/ 503.

4 -

(الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ) التيميّ، أبو محمد البصريّ، يُلقّب بالطُّفيل، ثقةٌ، من كبار [9](ت 187) وقد جاوز الثمانين (ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 105.

ص: 419

5 -

(أَبُوهُ) سليمان بن طَرْخان التيميّ، أبو المعتمر البصريّ، نزل في بني تيم، فنُسب إليهم، ثقةٌ عابدٌ [4](ت 143) وهو ابن (97)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 9.

6 -

(أَبُو عُثْمَانَ) عبد الرحمن بن ملّ -بتشديد اللام، والميم مثلّثة- ابن عمرو الكوفيّ، ثمّ البصريّ، مخضرم، ثقةٌ ثبتٌ عابدٌ، من كبار [2](ت 95) أو بعدها، وعاش (130) وقيل: أكثر (ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 9.

7 -

(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ) الصدّيق، شقيق عائشة رضي الله عنهم، تأخّر إسلامه إلى قُبيل الفتح، وشَهِد اليمامة، والفتوحَ، ومات سنة (53) في طريق مكّة فجْأةً، وقيل: بعد ذلك (ع) تقدم في "الطهارة" 9/ 572.

[تنبيه] من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وهو مسلسلٌ بالبصريين إلا الصحابيّ، فمدنيّ، وفيه للمصنّف ثلاثة من الشيوخ قرن بينهم، وفيه رواية الابن عن أبيه، وتابعيّ عن تابعيّ مخضرم.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي عُثْمَانَ) عبد الرحمن بن ملّ النَّهديّ، وقوله:(وَحَدَّثَ أَيْضًا) بواو العطف، وفي الهنديّة:"حدّث أيضًا" بلا عاطف، وعلى كليهما فهو مشكل؛ لأن فاعله ضمير سليمان أبي المعتمر، فلا يمكن تعلّق قوله:"عن عبد الرحمن بن أبي بكر" عليه؛ لأنه لا يروي عنه، اللهمّ إلا أن يقدَّر المتعلّق، بأن يقال:"وحدّث أيضًا عن غيره"؛ أي: حدّث سليمان عن أبي عثمان، وعن غير أبي عثمان، والله تعالى أعلم.

(عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ) الصدّيق رضي الله عنهما أنه (قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثَلَاثِينَ وَمِائَةً، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "هَلْ مَعَ أَحَدٍ مِنْكُمْ طَعَامٌ؟ ")؛ أي: طعام يُشبع هؤلاء القوم، (فَإذَا مَعَ رَجُلٍ صَاعٌ مِنْ طَعَامٍ) "إذا" هي الفجائيّة؛ أي: ففاجأهم كون صاع من طعام (أَوْ نَحْوُهُ) بالرفع، والضمير للصاع؛ أي: نحو الصاع مما هو بمقداره، و"أو" فيه للتنويع، لا للشكّ. (فَعُجِنَ) بالبناء للمفعول، يقال: عَجَنه يَعْجِنُهُ، ويعجُنُهُ، من بابَي ضرب، ونصر، فهو معجونٌ، وعَجِينٌ: إذا

ص: 420

اعتَمَد عليه بجُمْعِ كفّه يَغْمِزُهُ

(1)

. (ثُمَّ جَاء رَجُلٌ مُشْرِكٌ) قال الحافظ: لم أقف على اسمه، ولا على اسم صاحب الصاع المذكور

(2)

. (مُشْعَانٌّ طَوِيلٌ) -بضم الميم، وسكون المعجمة، بعدها مهملة، وآخره نون ثقيلة- فسّره البخاريّ في آخر الحديث في رواية المستملي بأنه الطويل جدًّا فوق الطول، وزاد غيره مع إفراد الطول: شعث الرأس، وَيحْتَمِل أن يكون قوله:"طويل" تفسيرًا لـ "المشعانّ"، وقال القزاز: المشعانّ: الجافي الثائر الرأس، أفاده في "الفتح"

(3)

.

وقال النوويّ: "المشعانّ": -بضم الميم، وإسكان الشين المعجمة، وتشديد النون-: منتفش الشعر، ومتفرقه. انتهى

(4)

.

(بِغَنَمٍ يَسُوقُهَا) متعلّق بـ "جاء"، (فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"أَبَيْعٌ، أَمْ عَطِيَّةٌ) بالرفع؛ أي: هي بيع؛ أي: مبيعة، أو هي عطيّة، ووقع عند البخاريّ بلفظ: "أبيعًا، أم عطيّةً"، فيكون النصب بفعل مقدّر؛ أي: أتبيع بيعًا، أم تُعطي عطيّةً؟ وقوله: (أَوْ قَالَ- أَمْ هِبَةٌ؟ ") "أو" هنا للشكّ من الراوي، هل قال:"عطيّةٌ"، أم قال:"هديّةٌ". (فَقَالَ) الرجل (لَا)؛ أي: ليست عطيّة، (بَلْ) هي (بَيْعٌ)؛ أي: مبيعة، أبيعها لمن يشتري منّي. (فَاشْتَرَى) النبيّ صلى الله عليه وسلم (مِنْهُ)؛ أي: من ذلك الرجل، وفي رواية الكشميهني:"فاشترى منها"؛ أي: من تلك الغنم (شَاةً) واحدةً، (فَصُنِعَتْ) بالبناء للمفعول؛ أي: ذُبحت، وأُصلحت للأكل، (وَأَمَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِسَوَادِ الْبَطْنِ) هو الكبد، أو كلّ ما في البطن من كبد وغيرها، واستبعد القرطبيّ الاحتمال الثاني، ونصّه: و"سواد البطن" هو الكبد، وقيل: هو جميع الحشا، وفيه بُعدٌ. انتهى

(5)

. (أَنْ يُشْوَى) بالبناء للمفعول؛ أي: أن يُنضَج بالنار، يقال: شَوَيْتُ اللحمَ أَشْوِيهِ شيًّا، فانشوى، مثلُ كَسَرته، فانكسر، وهو مَشْوِيٌّ، وأصله مفعول، وأَشْوَيْتُهُ بالألف لغة، واشْتَوَيْتُهُ على افتعلت، مثلُ

(1)

"القاموس المحيط" ص 845.

(2)

"الفتح" 6/ 469، كتاب "الهبة" رقم (2618).

(3)

"الفتح" 6/ 469، كتاب "الهبة" رقم (2618).

(4)

"شرح النوويّ" 14/ 16.

(5)

"المفهم أشكل من تلخيص كتاب مسلم" 5/ 335.

ص: 421

شَوَيْتُهُ، قالوا: ولا يقال في المطاوع: فَاشْتَوَى على افتعل، فإن الافتعال فعل الفاعل، والشِّوَاءُ بالمد فِعَالٌ، بمعنى مفعول، مثل كِتاب، وبساطٍ، بمعنى مكتوب، ومبسوطٍ، وله نظائر كثيرة، وأَشْوَيْتُ القومَ بالألف: أطعمتهم الشِّوَاءَ، قاله الفيّوميّ رحمه الله

(1)

.

فقوله: "أن يُشوى" بدل من "سواد البطن"؛ أي: أمر بشيّه، والله تعالى أعلم.

(قَالَ) عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما، وقوله:(وَايْمُ اللهِ) مبتدأ خبره محذوف؛ أي: وايم الله؛ أي: يمين الله قَسَمي، وقد تقدّم أنه يقال بقطع الهمزة، ووَصْلها، وغير ذلك من اللغات

(2)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "وايم الله" قَسَمٌ بيمن الله، وبركته، وأَلِفه أَلِف وَصْل، وفيه لغات قد ذُكرت، وهذا قول سيبويه، وقال الفراء: ألفه ألف قطع، وهي عنده: جمع يمين، والذي قاله سيبويه أَولى سماعًا، وقياسًا، بدليل الحذف الذي دخل الكلمة في اللغات التي رُوي فيها. انتهى

(3)

.

وقال في "العمدة": قوله: "وايم الله" هو: قَسَمٌ، يعني من ألفاظ القسم، نحو: لَعَمْر الله، وعَهْد الله، وفيه لغات كثيرة، وتُفتح همزتها، وتُكسر، وهي همزة وصل، وقد تُقطع، وأهل الكوفة من النحاة يزعمون أنه جَمْع يمين، وغيرهم يقولون: هو اسم موضوع للقسم. انتهى

(4)

.

(مَا) نافية؛ أي: ما أحدٌ (مِنَ الثَّلَاثينَ وَمِائَةٍ إِلَّا حَزَّ)؛ أي: قَطَع (لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حُزَّةً حُزَّةً)؛ أي: قطعةً قطعةً، والحزّة: القطعة من اللحم تُقطع طولًا، والجمع: الْحُزَزُ، مثلُ غُرْفة وغُرَفٍ، ويقال: حَزَزتُ الخشبةَ حَزًّا، من باب قتل: فَرَضتها، والْحَزّ: الفَرْض، وحُزّة السراويل، مثلُ الْحُجْزة، ويقال: الْحُزّة: الْعُنُق، أفاده الفيّوميّ

(5)

.

(1)

"المصباح المنير" 1/ 328.

(2)

راجع: "الفتح" 6/ 469، كتاب "الهبة" رقم (2618).

(3)

"المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" 5/ 335.

(4)

"عمدة القاري" 13/ 172.

(5)

"المصباح المنير" 1/ 133.

ص: 422

وقال المجد: والْحُزّة بالضمّ: الْحُجْزة، والْعُنُق، وقطعةٌ من اللحم قُطعت طُولًا، أو خاصّ بالكبد. انتهى

(1)

.

(مِنْ سَوَادِ بَطْنِهَا، إِنْ كَانَ) الواحد منهم (شَاهِدًا)؛ أي: حاضرًا في المجلس، (أَعْطَاهُ) النبيّ صلى الله عليه وسلم نصيبه، وفي رواية البخاريّ:"أعطاه إياه"، قال في "الفتح": هو من القلب، وأصله أعطاه إياها. انتهى

(2)

. (وَإِنْ كَانَ غَائِبًا) عن المجلس (خبَأَ لَهُ)؛ أي: أخفاها، وحفظها حتى يحضر، ويأخذ نصيبه. (قَالَ) عبد الرحمن رضي الله عنه (وَجَعَلَ)؛ أي: أمر صلى الله عليه وسلم أن يُجعل ذلك الطعام (قَصْعَتَيْنِ) بفتح القاف: تثنية قَصْعة، وهي الصَّحْفة، وجَمْعها قَصَعَاتٌ، محرّكةً، وقِصَعٌ، كعِنَبٍ، وقصاعٌ، كجبال

(3)

. (فَأَكَلْنَا مِنْهُمَا)؛ أي: من القصعتين، وقوله:(أجْمَعُونَ) توكيد لـ "نا"، (وَشَبِعْنَا) قال في "الفتح": يَحْتَمِل أن يكونوا اجتمعوا على القصعتين، فيكون فيه معجزة أخرى؛ لكونهما وَسِعتا أيدي القوم، ويَحْتَمِل أن يريد أنهم أكلوا كلهم في الجملة، أعمَّ من الاجتماع والافتراق. انتهى

(4)

.

(وَفَضَلَ) بفتح الضاد، من باب بصر؛ أي: بَقِي، وفي لغة: فَضِل يَفْضَلُ، من باب تَعِبَ، وفيه أيضًا فَضِل بالكسر، يَفْضُل بالضمّ، لكنها ليست لغة أصليّةً، وإنما هي من باب تداخل اللغتين، ونظيره في السالم: نَعِمَ يَنْعُمُ، ونَكِلَ يَنْكُلُ، وفي المعتلّ: دِمْتَ تَدُومُ، ومِتَّ تَمُوتُ، ويقال أيضًا: فَضَلَ يفْضُلُ من باب نصر: إذا زاد، وخُذِ الفضل؛ أي: الزيادة، والجمع: فضول

(5)

. (فِي الْقَصْعَتَيْنِ)؛ أي: بقي بعض الطعام في القصعتين، (فَحَمَلْتُهُ)؛ أي: القدر الفاضل من ذلك الطعام، (عَلَى الْبَعِيرِ) وفي رواية البخاريّ:"ففضلت القصعتان، فحملناه"، قال في "الفتح"؛ أي: حملنا الطعام، ولو أراد القصعتين لقال: حملناهما. انتهى

(6)

.

(1)

"القاموس المحيط" ص 285.

(2)

راجع: "الفتح" 6/ 469، كتاب "الهبة" رقم (2618).

(3)

"القاموس المحيط" ص 1064.

(4)

راجع: "الفتح" 6/ 469، كتاب "الهبة" رقم (2618).

(5)

راجع: "المصباح المنير" 2/ 475.

(6)

راجع: "الفتح" 6/ 470، كتاب "الهبة" رقم (2618).

ص: 423

وقوله: (أَوْ كَمَا قَالَ) شكّ من الراوي، ولم أعرفه من هو؟، والله تعالى أعلم.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عبد الرحمن بن أبي بكر الصدّيق رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [20/ 5353](2056)، و (البخاريّ) في "البيوع"(2216) و"الهبة"(2618) و"الأطعمة"(5382)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 197 و 198)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(5/ 204 و 205)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(9/ 215)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): أن فيه المواساةَ عند الضرورة.

2 -

(ومنها): أن فيه ظهورَ البركة في الاجتماع على الطعام.

3 -

(ومنها): جواز القَسَم لتأكيد الخبر، وإن كان المخبِر صادقًا.

4 -

(ومنها): أن فيه معجزةً ظاهرةً وآيةً باهرة للنبيّ صلى الله عليه وسلم من تكثير القَدْر اليسير من الصاع، ومن اللحم حتى وَسِع الجمع المذكور، وفضل منه.

وقال النوويّ رحمه الله: وفي هذا الحديث معجزتان ظاهرتان لرسول الله صلى الله عليه وسلم، إحداهما: تكثير سواد البطن حتى وَسِع هذا العدد، والأخرى: تكثير الصاع ولحم الشاة حتى أشبعهم أجمعين، وفَضَلت منه فضلة حملوها؛ لعدم حاجة أحد إليها، وفيه مواساة الرفقة فيما يَعْرِض لهم من طُرْفة وغيرها، وأنه إذا غاب بعضهم خُبِئ نصيبه. انتهى

(1)

.

قال الحافظ رحمه الله: "ولم أر هذه القصة إلا من حديث عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما، وقد ورد تكثير الطعام في الجملة من أحاديث جماعة من الصحابة رضي الله عنهم محل إيرادها كتاب علامات النبوّة"

(2)

.

(1)

"شرح النوويّ" 14/ 17.

(2)

راجع: "الفتح" 6/ 469، كتاب "الهبة" رقم (2618).

ص: 424

5 -

(ومنها): بيان جواز بيع الكافر، وإثبات مُلكه على ما في يده.

6 -

(ومنها): أن ابتياع الأشياء من المجهول الذي لا يُعرَف جائز، حتى يُطَّلَع على ما يَلزم التورع عنه، أو يوجب ترك مبايعته، من غصب، أو سرقة، أو شِبْههما، وقال ابن المنذر: من كان بيده شيء فظاهره أنه مالكه، ولا يلزم المشتري أن يَعْلَم حقيقة ملكه.

[تنبيه]: اختَلَف العلماء في مبايعة مَن الغالب على ماله الحرام، وقبول هديته، وجائزته، فرخَّصت فيه طائفة، فكان الحسن بن أبي الحسن لا يرى بأسًا أن يأكل الرجل من طعام العَشّار، والصَّرّاف، والعامل، ويقول: قد أحلّ الله طعام اليهود، والنصارى، وقد أخبر أن اليهود أكّالون للسحت، قال الحسن: ما لم يَعرِفوا شيئًا منه حرامًا، يعني معيّنًا، وعن الزهريّ، ومكحول: إذا كان المال فيه حرام وحلال، فلا بأس أن يؤكل منه، إنما يُكره من ذلك الشيء الذي يُعرف بِعَيْنه، وقال الشافعيّ: لا أُحب مبايعة من أكثر ماله رِبًا، أو كَسْبه من حرام، فإن بويع لا يفسخ البيع، وقال ابن بطال: والمسلم، والذميّ، والحربيّ في هذا سواء.

وحجة من رَخّص حديثُ الباب، وحديث رهنه صلى الله عليه وسلم درعه عند اليهوديّ، وكان ابن عمر، وابن عباس رضي الله عنهم يأخذان هدايا المختار، وبعث عمرو بن عبيد الله بن معمر إلى ابن عمر بألف دينار، وإلى القاسم بن محمد بألف دينار، فأخذها ابن عمر، وقال: لقد جاءتنا على حاجة، وأبى أن يقبلها القاسم، فقالت امرأته: إن لم تقبلها فأنا ابنة عمه، كما هو ابن عمه، فأخَذَتْها، وقال عطاء: بعث معاوية إلى عائشة رضي الله عنها بطوق من ذهب فيه جوهر قُوِّم بمائة ألف، وقَسَمَتْه بين أمهات المؤمنين.

وكرهت طائفة الأخذ منهم، رُوي ذلك عن مسروق، وسعيد بن المسيِّب، والقاسم بن محمد، وبشر بن سعيد، وطاووس، وابن سيرين، والثوريّ، وابن المبارك، ومحمد بن واسع، وأحمد، وأخذ ابن المبارك قَذَاة من الأرض، وقال: من أخذ منهم مثل هذه فهو منهم. انتهى

(1)

.

(1)

"عمدة القاري" 12/ 28.

ص: 425

قال الجامع عفا الله عنه: القول الأول، وهو جواز الأخذ، إلا أن يكون عَيْنه حرامًا، هو الأرجح عندي؛ لقوة أدلّته، كما سبقت الإشارة إليه، والله تعالى أعلم.

7 -

(ومنها): بيان جواز قبول هدية المشرك؛ لأنه صلى الله عليه وسلم سأل الرجل: هل يبيع، أو يهدي؟، وفيه فساد قول من حَمَل ردّ الهدية على الوثنيّ دون الكتابيّ؛ لأن هذا الأعرابي كان وثنيًّا، قاله في "الفتح".

وقال في "العمدة": قال الخطابيّ: في قوله: "أم هبة" دليل على قبول الهدية من المشرك لو وهب.

[فإن قلت]: قد قال صلى الله عليه وسلم لعياض بن حمار حين أَهْدَى له في شركه: "إنا لا نقبل زَبَد المشركين" يريد عطاءهم.

[قلت]: قال أبو سليمان: يُشبه أن يكون ذلك منسوخًا؛ لأنه قَبِل هدية غير واحد من أهل الشرك: أَهْدَى له المقوقس، وأُكيدر دُومة، قال: إلا أن يزعم زاعم أن بين هدايا أهل الشرك، وهدايا أهل الكتاب فرقًا. انتهى.

قال العينيّ رحمه الله: فيه نظر في مواضع:

[الأول]: أن الزعم بالفرق المذكور يردّه قول عبد الرحمن في نفس هذا الحديث: إن هذا الرجل كان مشركًا، وقد قال له:"أبيعٌ، أم هدية؟ ".

[الثاني]: هدية أكيدر كانت قبل إسلام عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما راوي هذا الحديث؛ لأن إسلامه كان في هدنة الحديبية، وذلك في سنة سبع، وهدنة أكيدر كانت بعد وفاة سعد بن معاذ رضي الله عنه الذي قال في حقه صلى الله عليه وسلم لمّا عَجِب الناسُ من هدية أكيدر-:"والذي نفسي بيده لمناديل سعد بن معاذ في الجنة أحسن من هذه"، وسعد تُوُفّي بعد غزوة بني قريظة سنة أربع، في قول عقبة، وعند ابن إسحاق سنة خمس، وأيًّا ما كان فهو قبل إسلام عبد الرحمن، وبَعْثُ حاطب بن أبي بلتعة إلى المقوقس كان في سنة ست، ذكره ابن منده وغيره، فدلّ على أنه قبل هذا الحديث.

[الثالث]: لقائل أن يقول: هذان اللذان قَبِل منهما هديتهما ليسا سُوقَةً، إنما هما مَلِكان، فَقَبِل هديتهما تألّفًا؛ لأن في ردّ هديتهما نوع حصول شيء.

[الرابع]: نقول: كان قبول هديتهم بإثابته عليهما، وقوله صلى الله عليه وسلم لهذا

ص: 426

المشرك أيضًا كان تأنيسًا له، ولَأن يثيبه بأكثر مما أهدى، وكذا يقال في هدية كسرى المذكورة في كتاب الحربيّ من حديث عليّ رضي الله عنه، وردّ هدية عياض بن حمار، وكان بينه وبين النبيّ صلى الله عليه وسلم معرفة قبل البعثة، فلما بُعث أهدى له، فردّ هديته، وكذا ردّ هدية ذي الجوشن، وكانت فرسًا، وكذا ردّ هدية ملاعب الأسنّة؛ لأنهم كانوا سُوقةً، وليسوا ملوكًا، وأهدى له مَلِك أيلة بغلةً، وفروة الجذاميّ هدية، فقبلهما، وكانا مَلِكين.

ومما يؤيد هذا ما ذكره أبو عبيد في "كتاب الأموال" أنه صلى الله عليه وسلم إنما قَبِل هدية أبي سفيان بن حرب؛ لأنها كانت في مدة الهدنة، وكذا هدية المقوقس إنما كان قَبِلها؛ لأنه أكرم حاطبًا، وأقرّ بنبوته صلى الله عليه وسلم، ولم يؤيسه من إسلامه، وقبل هدية الأكيدر؛ لأن خالدًا رضي الله عنه قَدِم به، فحَقَن صلى الله عليه وسلم دمه، وصالحه على الجزية؛ لأنه كان نصرانيًّا، ثم خلّى سبيله، وكذا مَلِك أيلة لمّا أهدى كساه صلى الله عليه وسلم بُرْدًا له، وهذا كله يرجع إلى أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يقبل هدية إلا ويكافئ.

[ثم اعلم]: أن الناس اختلفوا فيما يُهدى للأئمة، فروي عن عليّ رضي الله عنه أنه كان يوجِب ردّه إلى بيت المال، وإليه ذهب أبو حنيفة، وقال أبو يوسف: ما أهدى إليه أهل الحرب، فهو له، دون بيت المال، وأما ما يُهدى للنبيّ صلى الله عليه وسلم خاصة فهو في ذلك بخلاف الناس؛ لأن الله تعالى اختصه في أموال أهل الحرب بخاصة لم تكن لغيره، قال تعالى:{وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ} [الحشر: 6] بعد قوله: {وَمَا أَفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ} [الحشر: 6] فسبيل ما تصل إليه يده من أموالهم على جهة الهدية والصلح سبيل الفيء، يضعه حيث أراه الله، فأما المسلمون إذا أَهْدَوا إليه فكان من سجيته أن لا يردّها، بل يثيبهم عليها. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5354]

(2057) - (حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ الْعَنْبَرِيُّ، وَحَامِدُ بْنُ عُمَرَ الْبَكْرَاوِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى الْقَيْسِيُّ، كُلُّهُمْ عَنِ الْمُعْتَمِرِ - وَاللَّفْظُ لِابْنِ

(1)

"عمدة القاري" 12/ 27 - 28.

ص: 427

مُعَاذٍ - حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: قَالَ أَبِي: حَدَّثَنَا أَبُو عُثْمَانَ، أَنَّهُ حَدَّثَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، أَنَّ أَصْحَابَ الصُّفَّةِ كَانُوا نَاسًا فُقَرَاءَ، وَإِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ مَرَّةً:"مَنْ كَانَ عِنْدَهُ طَعَامُ اثْنَيْنِ فَلْيَذْهَبْ بِثَلَاثةٍ، وَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ طَعَامُ أَرْبَعَةٍ، فَلْيَذْهَبْ بِخَامِسٍ بِسَادِسٍ"، أَوْ كَمَا قَالَ، وَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ جَاءَ بِثَلَاثةٍ، وَانْطَلَقَ نَبِيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِعَشَرةٍ، وَأَبُو بَكْرٍ بِثَلَاثةٍ، قَالَ: فَهُوَ وَأَنَا وَأَبِي وَأُمِّي، -وَلَا أَدْرِي هَلْ قَالَ: وَامْرَأَتِي، وَخَادِمٌ بَيْنَ بَيْتِنَا وَبَيْتِ أَبِي بَكْرٍ. قَالَ: وَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ تَعَشَّى عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ لَبِثَ حَتَّى صُلِّيَتِ الْعِشَاءُ، ثمَّ رَجَعَ، فَلَبِثَ حَتَّى نَعَسَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَجَاءَ بَعْدَمَا مَضَى مِنَ اللَّيْلِ مَا شَاءَ اللهُ، قَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ: مَا حَبَسَكَ عَنْ أَضْيَافِكَ؟ -أَوْ قَالَتْ: ضَيْفِكَ؟ - قَالَ: أَوَ مَا عَشَّيْتِهِمْ؟ قَالَتْ: أَبَوْا حَتَّى تَجِيءَ، قَدْ عَرَضُوا عَلَيْهِمْ فَغَلَبُوهُمْ، قَالَ: فَذَهَبْتُ أَنَا، فَاخْتَبَأْتُ، وَقَالَ: يَا غُنْثَرُ، فَجَدَّع، وَسَبَّ، وَقَالَ: كُلُوا لَا هَنِيئًا، وَقَالَ: وَاللهِ لَا أَطْعَمُهُ أَبَدًا، قَالَ: فَايْمُ اللهِ مَا كُنَّا نَأْخُذُ مِنْ لُقْمَةٍ إِلَّا رَبَا مِنْ أَسْفَلِهَا أَكْثَرُ مِنْهَا، قَالَ: حَتَّى شَبِعْنَا، وَصَارَتْ أَكْثَرَ مِمَّا كَانَتْ قَبْلَ ذَلِكَ، فَنَظَرَ إِلَيْهَا أَبُو بَكْرٍ، فَإِذَا هِيَ كَمَا هِيّ، أَوْ أَكْثَرُ، قَالَ لِامْرَأَتِهِ: يَا أُخْتَ بَنِي فِرَاسٍ، مَا هَذَا؟ قَالَتْ: لَا، وَقُرَّةِ عَيْني لَهِيَ الآنَ أَكْثَرُ مِنْهَا قَبْلَ ذَلِكَ بِثَلَاثِ مِرَارٍ، قَالَ: فَأَكَلَ مِنْهَا أَبُو بَكْرٍ، وَقَالَ: إِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ مِنَ الشَّيْطَانِ، يَعْنِي يَمِينَهُ، ثُمَّ أَكَلَ مِنْهَا لُقْمَةً، ثُمَّ حَمَلَهَا إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَصْبَحَتْ عِنْدَهُ، قَالَ: وَكَانَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمٍ عَقْدٌ، فَمَضَى الأَجَلُ، فَعَرَّفْنَا اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا، مَعَ كُلِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ أُنَاسٌ اللهُ أَعْلَمُ كَمْ مَعَ كُلِّ رَجُلٍ؛ إِلَّا أَنَّهُ بَعَثَ مَعَهُمْ، فَأَكَلُوا مِنْهَا أَجْمَعُونَ، أَوْ كَمَا قَالَ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

وهم الذين ذُكروا في الإسناد الماضي.

شرح الحديث:

عن الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ أنه (قَالَ: قَالَ أَبِي) سليمان بن طرخان التيميّ، أحد صغار التابعين، (حَدَّثنَا أَبُو عُثْمَانَ) عبد الرحمن بن ملّ النَّهْديّ، (أَنَّهُ حَدَّثَهُ

ص: 428

عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ) الصدّيق رضي الله عنهما (أَنَّ أَصْحَابَ الصُّفَّةِ) -بضمّ الصاد المهملة، وتشديد الفاء-: مكان في مؤخَّر المسجد النبويّ، مظلَّلٌ، أُعِدّ لنزول الغرباء فيه، ممن لا مأوى له، ولا أهل، وكانوا يَكثرون فيه، ويُقلّون بحسب من يتزوج منهم، أو يموت، أو يسافر، وقد سرد أسماءهم أبو نعيم في "الحلية"، فزادوا على المائة، كذا ذكره الحافظ في "الفتح" في "باب علامات النبوة"، وقال في "كتاب الرقاق": وقد اعتنى بجمع أسماء أهل الصفة أبو سعيد ابن الأعرابيّ، وتبعه أبو عبد الرحمن السُّلَميّ، فزاد أسماء، وجمع بينهما أبو نعيم في أوائل "الحلية"، فَسَرَد جميع ذلك

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: "الصُّفة": سَقِيفة المسجد، كانت منزلًا للغرباء والمهاجرين، وكانوا ضيف الإسلام، وكانوا يحتطبون في النهار، ويسقون الماء لأبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقرؤون القرآن بالليل، ويصلُّون، هكذا وَصَفَهم البخاريّ وغيره. انتهى

(2)

.

(كَانُوا نَاسًا فُقَرَاءَ) وفي رواية للبخاريّ في "الرقاق": "وأهل الصفّة أضياف الإسلام، لا يأوون على أهل، ولا مال، ولا على أحد، إذا أتته صدقةٌ بعث بها إليهم، ولم يتناول منها شيئًا، وإذا أتته هديّةٌ أرسل إليهم، وأصاب منها، وأشركهم فيها".

وفي حديث طلحة بن عمرو عند أحمد، وابن حبان، والحاكم:"كان الرجل إذا قَدِم على النبيّ صلى الله عليه وسلم، وكان له بالمدينة عَريف نزل عليه، فإذا لم يكن له عريف نزل مع أصحاب الصفة"، وفي مرسل يزيد بن عبد الله بن قُسيط عند ابن سعد:"كان أهل الصفة ناسًا فقراء، لا منازل لهم، فكانوا ينامون في المسجد، لا مأوى لهم غيره"، وله من طريق نُعيم المجمر، عن أبي هريرة رضي الله عنه:"كنت من أهل الصفّة، وكنا إذا أمسينا حضرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيأمر كلَّ رجل، فينصرف برجل، أو أكثر، فيبقى من بقي عشرةٌ، أو أقلّ، أو أكثر، فيأتي النبيّ صلى الله عليه وسلم بعشائه، فنتعشى معه، فإذا فرغنا قال: ناموا في المسجد".

(1)

"الفتح" 14/ 582، كتاب "الرقاق" رقم (6452).

(2)

"المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" 5/ 336.

ص: 429

ولأبي نعيم في "الحلية" من مرسل محمد بن سيرين: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى قَسَم ناسًا من أصحاب الصفّة بين ناس من أصحابه، فيذهب الرجل بالرجل، والرجل بالرجلين، حتى ذكر عشرة

" الحديث.

وله من حديث معاوية بن الحكم: "بينا أنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصفّة، فجعل يوجه الرجل مع الرجل من الأنصار، والرجلين، والثلاثة، حتى بقيت في أربعة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم خامسنا، فقال: انطلقوا بنا، فقال: يا عائشة عشِّينا

" الحديث

(1)

.

(وَإِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ مَرَّةً)؛ أي: وقتًا من الأوقات، ("مَنْ كَانَ عِنْدَهُ طَعَامُ اثْنَيْنِ فَلْيَذْهَبْ بِثَلَاثةٍ) قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في جميع نُسخ "صحيح مسلم": "فليذهب بثلاثة"، ووقع في "صحيح البخاريّ":"فليذهب بثالث"، قال القاضي عياض: هذا الذي ذكره البخاريّ هو الصواب، وهو الموافق لسياق باقي الحديث.

قال النوويّ: وللذي في مسلم أيضًا وَجْه، وهو محمول على موافقة البخاريّ، وتقديره: فليذهب بمن يُتمّ ثلاثة، أو بتمام ثلاثة، كما قال الله تعالى:{وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ} [فصلت: 10]؛ أي: في تمام أربعة أيام، وسبق في "كتاب الجنائز" إيضاح هذا، وذِكْر نظائره. انتهى

(2)

.

وقال القرطبيّ: رحمه الله: قوله: "من كان عنده طعام اثنين فليذهب بثلاثة" كذا صحَّت الرواية فيه عن جميع رواة مسلم، والصواب:"بثالث"؛ لأن البخاريّ كذا ذكره "بثالث"؛ ولأن بقية الحديث يدلّ عليه؛ إذ قال: "ومن كان عنده طعام أربعة فليذهب بخامس، بسادس"؛ ولأنه إن حُمِل على ظاهره فسد المعنى، وذلك أن الذي عنده طعام اثنين إذا أكله في خمسة لم يَكْفِ أحدًا منهم، فلا يَرُدّ جوعًا، ولا يُمسك لأحدهم رَمَقًا، فاقتصار الاثنين على طعامهما كان أصلح؛ لأنَّه كان يردّ جوعهما، ويمسك رمقهما، وذلك بخلاف الواحد، فإنَّه يتحمل الاثنان أكله، ولا يُجحف بهما، ونحو ذلك في تشريك

(1)

"الفتح" 14/ 581، كتاب "الرقاق" رقم (6452).

(2)

"شرح النوويّ" 14/ 17.

ص: 430

الاثنين في طعام الأربعة لا يُجحف بهم، وكذلك الخامس بسادس لمن كان عنده طعام أربعة، وفي ذلك كانت المواساة واجبة لشدَّة الحال، والحُكم كذلك مهما وقعت شدَّة بالمسلمين، والله الكافي، والواقي. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: لا يخفى أن ما تقدّم عن النوويّ رحمه الله من تأويله بمن يُتمّ ثلاثة، أو بتمام ثلاثة أولى من تغليط ما اتّفق عليه رواة "صحيح مسلم"، فليُتنبّه، والله تعالى أعلم.

(وَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ طَعَامُ أَرْبَعَةٍ، فَلْيَذْهَبْ بِخَامِسٍ بِسَادِسٍ")؛ أي: فليذهب بخامس إن لم يكن عنده ما يقتضي أكثر من ذلك، وإلا فليذهب بسادس مع الخامس، إن كان عنده أكثر من ذلك، والحكمة في كونه يزيد كل أحد واحدًا فقط أن عيشهم في ذلك الوقت لم يكن متسعًا، فمن كان عنده مثلًا ثلاثة أنفس لا يضيق عليه أن يطعم الرابع من قُوتِهم، وكذلك الأربعة وما فوقها بخلاف ما لو زيدت الأضياف بعدد العيال، فإنما ذلك يحصل الاكتفاء فيه عند اتساع الحال.

ووقع في رواية أبي النعمان: "وإن أربعِ فخامسٍ، أو سادس"، و"أو" فيه للتنويع، أو للتخيير، كما في الرواية الأخرى، ويَحْتَمِل أن يكون معنى "أو سادس": وإن كان عنده طعام خمس فليذهب بسادس، فيكون من عطف الجملة على الجملة، وقوله:"وإن أربع فخامس" بالجرّ فيهما، والتقدير: فإن كان عنده طعام أربع، فليذهب بخامس، أو بسادس، فحُذف عامل الجرّ، وأُبقي عمله، كما يقال: مررت برجل صالح، وإن لا صالحٍ فطالحٍ؛ أي: إن لا أمرّ بصالح، فقد مررت بطالح، ويجوز الرفع على حذف مضاف، وإقامة المضاف إليه مُقامه، وهو أوجَهُ.

قال ابن مالك: تضمَّن هذا الحديث حَذْف فعلين، وعامِلَي جرّ مع بقاء عملهما، بعد "إن"، وبعد الفاء، والتقدير: من كان عنده طعام اثنين، فليذهب بثالث، وإن قام بأربعة، فليذهب بخامس، أو سادس. انتهى.

وهذا قاله في الرواية التي في "الصلاة"، وأما هذه الرواية وهي قوله:

(1)

"المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" 5/ 336 - 337.

ص: 431

"بخامس، بسادس"، فيكون حُذف منها شيء آخر، والتقدير: أو إن قام بخمسة، فليذهب بسادس. انتهى

(1)

.

وقوله: (أَوْ كَمَا قَالَ)"أو" للشكّ من الراوي، ويَحْتَمِل أن يكون عبد الرحمن، أو من دونه، والله تعالى أعلم.

(وَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ) الصدّيق رضي الله عنه (جَاءَ بِثَلَاثةٍ، وَانْطَلَقَ نَبِيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِعَشَرَةٍ) قال في "الفتح": عَبَّر عن أبي بكر بلفظ المجيء؛ لِبُعد منزله من المسجد، وعن النبيّ صلى الله عليه وسلم بالانطلاق؛ لِقُربه.

وقال النوويّ رحمه الله: هذا مبيِّن لِمَا كان عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم من الأخذ بأفضل الأمور، والسبق إلى السخاء والجود، فإن عيال النبيّ صلى الله عليه وسلم كانوا قريبًا من عدد ضِيفانه هذه الليلة، فأتى بنصف طعامه، أو نحوه، وأتى أبو بكر رضي الله عنه بثلث طعامه، أو أكثر، وأتى الباقون بدون ذلك، والله أعلم. انتهى

(2)

.

وقوله: (وَأَبُو بَكْرٍ بِثَلَاثةٍ) معطوف على ما قبله؛ أي: وانطلق أبو بكر بثلاثة، ووقع عند البخاريّ بلفظ:"وأبو بكر ثلاثةً" بالنصب عند الأكثر؛ أي: أخذ أبو بكر ثلاثة، ولا يكون تكرارًا مع قوله قبل ذلك جاء بثلاثة؛ لأن هذا بيان لابتداء ما جاء في نصيبه، والأول لبيان من أحضرهم إلى منزله، قال في "الفتح": وأبْعَدَ من قال: "ثلاثةٌ" بالرفع، وقدَّره: وأبو بكر أهله ثلاثةٌ؛ أي: عدد أضيافه، ودلّ ذلك على أن أبا بكر كان عنده طعام أربعة، ومع ذلك فأخذ خامسًا، وسادسًا، وسابعًا، فكأن الحكمة في أخذه واحدًا زائدًا عما ذكر النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه أراد أن يُؤثِر السابع بنصيبه؛ إذ ظهر له أنه لم يأكل أوّلًا معهم، ووقع في رواية الكشميهنيّ:"وأبو بكر بثلاثة"، كما هي رواية مسلم، فيكون معطوفًا على قوله:"وانطلق النبيّ صلى الله عليه وسلم بعشرة"، قال: والأول أوجَهُ، والله أعلم. انتهى

(3)

.

(قَالَ) عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما (فَهُوَ)؛ أي: الشأن، وهو مبتدأ،

(1)

"الفتح" 8/ 247، كتاب "المناقب" رقم (3581).

(2)

"شرح النوويّ" 14/ 17 - 18.

(3)

"الفتح" 8/ 247 - 248، كتاب "المناقب" رقم (3581).

ص: 432

وقوله: (أَنَا) مبتدأ ثانٍ، (وَأَبِي وَأُمِّي) معطوفان على "أنا"، وخبر المبتدأ الثاني محذوف؛ لدلالة السياق عليه؛ أي: في الدار.

[تنبيه]: قوله: "فهو أنا

إلخ" هكذا في النسخة الهنديّة، والنسخة التي شرح عليها الأبيّ، وهو الذي في "صحيح البخاريّ"، ووقع في معظم النسخ: "وأنا" بالواو وهو غلطٌ، والظاهر أنه من بعض النسّاخ، فليُتنبّه، والله تعالى أعلم.

وقوله: (وَلَا أَدْرِي هَلْ قَالَ) هو من كلام أبي عثمان النّهديّ شكّ فيما قاله عبد الرَّحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما، هل قال عاطفًا على ما سبق:(وَامْرَأَتِي، وَخَادِمٌ) يُطلق على الذكر والأنثى، والخادمة في المؤنّث بالهاء قليل، والجمع: خَدَمٌ، وخُدّام

(1)

.

قال في "الفتح": الخادم المذكورة لَمْ أعرف اسمها. انتهى.

وقوله: (بَيْنَ بَيْتِنَا وَبَيْتِ أَبِي بَكْرٍ) بنصب "بين" على الظرفيّة، متعلّق بـ"خادم"، يعني أن خدمتها مشتركة بين بيتنا، وبين أبي بكر رضي الله عنه.

[تنبيه]: أمّ عبد الرَّحمن هي أم رُومان، مشهورة بكنيتها، واسمها زينب، وقيل: وَعْلة بنت عامر بن عويمر، وقيل: عميرة من ذرية الحارث بن غَنْم بن مالك بن كنانة، كانت قبل أبي بكر عند الحارث بن سَخْبرة الأزديّ، فقَدِم مكة، فمات، وخلَّف منها ابنه الطفيل، فتزوجها أبو بكر، فولدت له عبد الرَّحمن وعائشة، وأسلمت أم رُومان قديمًا، وهاجرت، ومعها عائشة، وأما عبد الرَّحمن فتأخر إسلامه، وهِجْرته إلى هُدْنة الحديبية، فقَدِم في سنة سبع، أو أول سنة ثمان.

واسم امرأته والدة أكبر أولاده أبي عَتِيق محمد: أُميمة بنت عديّ بن قيس السَّهْميّة، قاله في "الفتح"

(2)

.

(قَالَ) عبد الرَّحمن (وَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ) الصدّيق رضي الله عنه (تَعَشَّى)؛ أي: أكل الْعَشَاء بالفتح، والمدّ، وهو الطعام الذي يؤكل وقت الْعِشاء، (عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم،

(1)

"المصباح المنير" 1/ 165.

(2)

"الفتح" 8/ 248، كتاب "المناقب" رقم (3581).

ص: 433

ثُمَّ لَبِثَ) بكسر الموحّدة، من باب تَعِب؛ أي: تأخّر أبو بكر عنده صلى الله عليه وسلم (حَتَّى صلِّيَتِ الْعِشَاءُ) ببناء الفعل للمفعول؛ أي: صلاتها، (ثُمَّ رَجَعَ)؛ أي: رجع أبو بكر إلى منزله.

وقال في "الفتح": قوله: "وإن أبا بكر تعشى عند النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ثم لَبِث حتى صلى العشاء، ثم رجع"، ووقع في الرواية التي في "الصلاة":"ثم لبث حتى صليت العشاء"، وفي رواية:"حيث صليت، ثم رجع"، فَشَرحه الكرمانيّ، فقال: هذا يُشعر بأن تعشِّي أبي بكر كان بعد الرجوع إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، والذي تقدَّم بعكسه، والجواب أن الأول بيان حال أبي بكر في عدم احتياجه إلى الطعام عند أهله، والثاني فيه سياق القصة على الترتيب الواقع، الأول: تعشي الصديق، والثاني: تعشي النبيّ صلى الله عليه وسلم، والأول: من العَشاء بفتحها؛ أي: الأكل، والثاني: بكسرها؛ أي: الصلاة، فأحَد هذه الاحتمالات أن أبا بكر لَمّا جاء بالثلاثة إلى منزله لبث إلى وقت صلاة العشاء، فرجع إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم حتى تعشى عنده، وهذا لا يصح؛ لأنه يخالف صريح قوله في حديث الباب:"وإن أبا بكر تعشى عند النبيّ صلى الله عليه وسلم، ثم إن الذي وقع عند البخاريّ بلفظ: "ثم رجع" بالجيم ليس متفقًا عليه من الرواة؛ لِمَا سأذكره، وظاهر قوله في هذه الرواية: "ثم رجع"؛ أي: إلى منزله، وعلى هذا ففي قوله: "فلبث حتى تعشى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء بعدما مضى من الليل ما شاء الله" تكرارٌ، وفائدته الإشارة إلى أن تأخره عند النبيّ صلى الله عليه وسلم كان بمقدار أن تعشى معه، وصلى العشاء، وما رجع إلى منزله إلَّا بعد أن مضى من الليل قطعةٌ، وذلك أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يحب أن يؤخِّر صلاة العشاء، كما تقدم في حديث أبي برزة رضي الله عنه.

ووقع عند الإسماعيليّ: "ثم ركع" بالكاف؛ أي: صلى النافلة بعد العشاء، فعلى هذا فالتكرار في قوله:"فلبث حتى تعشى" فقط، وفائدته ما تقدم.

ووقع في رواية مسلم، والإسماعيليّ أيضًا:"فلبث حتى نَعَسَ" بِعَيْن، وسين مهملتين، مفتوحتين، من النعاس، وهو أَوْجَهُ، وقال عياض: إنه الصواب، وبه ينتفي التكرار من المواضع كلها إلَّا في قوله:"لَبِثَ"، وسببه اختلاف تعلق اللبث، فالأول قال:"لبث حتى صلى العشاء"، ثم قال:"فلبث حتى نعس".

ص: 434

والحاصل أنه تأخر عند النبيّ صلى الله عليه وسلم حتى صلى العشاء، ثم تأخر حتى نعس النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقام لينام، فرجع أبو بكر حينئذ إلى بيته.

ووقع في رواية أبي داود من رواية الْجُريريّ عن أبي عثمان، أو أبي السليل، عن عبد الرَّحمن بن أبي بكر قال:"نزل بنا أضياف، وكان أبو بكر يتحدث عند النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: لا أرجع إليك حتى تفرغ من ضيافة هؤلاء"، ونحوه عند البخاريّ في "كتاب الأدب" من طريق أخرى عن الجريريّ، عن أبي عثمان، بلفظ:"أن أبا بكر تضيّف رهطًا، فقال لعبد الرَّحمن: دونك أضيافك، فإني منطلق إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فافرغ من قِراهم قبل أن أجيء"، وهذا يدلّ على أنَّ أبا بكر أحضرهم إلى منزله، وأمر أهله أن يضيّفوهم، ورجع هو إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، ويدلّ عليه صريح قوله في حديث الباب:"وإن أبا بكر جاء بثلاثة". انتهى

(1)

.

(فَلَبِثَ) أبو بكر رضي الله عنه عند النبيِّ صلى الله عليه وسلم (حَتَّى نَعَسَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) قال الفيّوميّ رحمه الله: نَعَسَ يَنْعُسُ، من باب قتل، والاسم النُّعَاسُ، فهو نَاعِسٌ، والجمع نُعَّسٌ، مثل راكع ورُكَّع، والمرأة ناعسة، والجمع نَوَاعِسُ، وربما قيل: نَعْسَانُ، ونَعْسَى، حملوه على وَسْنان ووسنى، وأول النوم النُّعَاسُ، وهو أن يحتاج الإنسان إلى النوم، ثم الوَسَنُ، وهو ثقل النُّعَاسُ، ثم التَّرْنِيقُ، وهو مخالطة النُّعاس للعين، ثم الكَرَى، والغَمْضُ، وهو أن يكون الإنسان بين النائم واليقظان، ثم العَفْقُ، وهو النوم، وأنت تسمع كلام القوم، ثم الهُجُودُ، والهُجُوعُ، وصحّ أن أهل الجَنَّة لا ينامون؛ لأنَّ النوم موت أصغر، قال الله تعالى:{اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} [الزمر: 42]، وكثيرًا ما يُحمل الشيء على نظيره، قال الفراء: وأحسن ما يكون ذلك في الشِّعر، قال الأزهريّ: حقيقة النُّعَاسِ: الوَسَنُ من غير نوم. انتهى

(2)

.

(فَجَاءَ) أبو بكر إلى بيته (بَعْدَمَا مَضَى مِنَ اللَّيْلِ مَا شَاءَ اللهُ) كناية عن طول الوقت الذي غاب فيه أبو بكر عن أضيافه، (قَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ) أم رُومان، واسمها زينب، وقيل: غيرها، (مَا حَبَسَكَ عَنْ أَضْيَافِكَ؟)"ما" استفهاميّة

(1)

"الفتح" 8/ 249، كتاب "المناقب" رقم (3581).

(2)

"المصباح المنير" 2/ 613.

ص: 435

إنكاريّة؛ أي: أي شيء منك عن الحضور عندهم؟ (أَو قَالَتْ: ضَيْفِكَ؟) بالإفراد، قال في "الفتح": هو شك من الراوي، والمراد به الجنس؛ لأنهم ثلاثة، واسم الضيف يُطلق على الواحد، وما فوقه، وقال الكرمانيّ: أو هو مصدر يتناول المثنى، والجمع، كذا قال، وليس بواضح. انتهى

(1)

.

(قَالَ) أبو بكر (أَوَ مَا عَشَّيْتِهِمْ؟) هو استفهام إنكاريّ، (قَالَتْ: أَبوْا)؛ أي: امتنعوا من قبول العشاء (حَتَّى تَجِيءَ) أنت، (قَدْ عَرَضُوا عَلَيْهِمْ) بفتح العين، والراء، والفاعل محذوف؛ أي: الْخَدَم، أو الأهل، أو نحو ذلك، (فَغَلَبُوهُمْ)؛ يعني: أن آل أبي بكر عَرَضُوا على الأضياف العَشاءَ، فأبوا، فعالجوهم، فامتنعوا حتى غلبوهم.

ووقع في رواية للبخاريّ في "الصلاة": "قد عُرِّضُوا" بضم أوله، وتشديد الراء؛ أي: أُطعموا من العُراضة

(2)

، وهي الهديّة، قاله عياض، قال: وهو في الرواية بتخفيف الراء، وحَكَى ابن قرقول أن القياس بتشديد الراء، وبه جزم الجوهريّ، وقال الكرمانيّ موجِّهًا للتخفيف؛ أي: عُرِض الطعام عليهم، فحُذف الجارّ، ووُصِل الفعل، فهو من القلب، كعَرَضت الناقةَ على الحوض.

ووقع عنده أيضًا في الصلاة: "قد عرضنا عليهم، فامتنعوا"، وحَكَى ابن التين أنه وقع في بعض الروايات:"عرصوا" بصاد مهملة، قال: ولا أعرف لها وجهًا، ووجّهها غيره أنَّها من قولهم: عَرَص إذا نَشِط، فكأنه يريد أنهم نَشِطوا في العزيمة عليهم، ولا يخفى تكلفه. انتهى

(3)

.

وقال النوويّ رحمه الله عند شرح قوله في الأضياف: إنهم امتنعوا من الأكل حتى يحضر أبو بكر رضي الله عنه: هذا فعلوه أدبًا، ورفقًا بأبي بكر فيما ظنوه؛ لأنهم ظنوا أنه لا يحصل له عشاء من عشائهم، قال العلماء: والصواب للضيف أن لا يمتنع مما أراده المضيف، من تعجيل طعام، وتكثيره، وغير ذلك من أموره، إلَّا أن يعلم أنه يتكلف ما يشُقّ عليه حياء منه، فيمنعه برفق، ومتى شكّ لَمْ

(1)

"الفتح" 8/ 250، كتاب "المناقب" رقم (3581).

(2)

"الْعُرَاضة" بضمّ العين: الهديّة، وما يُحمَل إلى الأهل. اهـ. "ق".

(3)

"الفتح" 8/ 250، كتاب "المناقب" رقم (3581).

ص: 436

يعترض عليه، ولم يمتنع، فقد يكون للمضيف عذر، أو غرض في ذلك، لا يمكنه إظهاره، فتَلْحقه المشقة بمخالفة الأضياف، كما جرى في قصة أبي بكر رضي الله عنه. انتهى

(1)

.

(قَالَ) عبد الرَّحمن (فَذَهَبْتُ أنا، فَاخْتَبَأْتُ)؛ يعني: أنه اختفى خوفًا من خصام أبي بكر له، وتغيّظه عليه، وشَتْمه إياه، وفي رواية الْجُريريّ عند البخاريّ:"فعرفت أنه يَجِد عليّ - أي: يغضب - فلما جاء تغيَّبت عنه، فقال: يا عبد الرَّحمن، فسكتّ، ثم قال: يا عبد الرَّحمن، فسكتّ".

(وَقَالَ: يَا غُنْثَرُ) - بضم الغين المعجمة، وسكون النون، وفتح الثاء المثلّثة - هذه الرواية المشهورة، وحُكِي ضمّ المثلّثة، وحَكَى عياض عن بعض شيوخه فتح أوله، مع فتح المثلّثة، وحكاه الخطابيّ بلفظ:"عَنْتَرُ" بلفظ اسم الشاعر المشهور، وهو بالمهملة، والمثناة المفتوحتين، بينهما النون الساكنة.

ورُوي عن أبي عمر، عن ثعلب أن معناه الذباب، وأنه سُمِّي بذلك؛ لصوته، فشبّهه به حيث أراد تحقيره، وتصغيره.

وقال غيره: معنى الرواية المشهورة: الثقيل الوَخْمُ

(2)

، وقيل: الجاهل، وقيل: السفيه، وقيل: اللئيم، وهو مأخوذ من الغثر، ونونه زائدة، وقيل: هو ذباب أزرق، شبّهه به لتحقيره، كما تقدم، قاله في "الفتح"

(3)

.

وقال النوويّ رحمه الله: وقوله: "يا غنثر" بغين معجمة مضمومة، ثم نون ساكنة، ثم ثاء مثلثة مفتوحة، ومضمومة، لغتان، هذه هي الرواية المشهورة في ضبطه، قالوا: وهو الثقيل الوَخْم، وقيل؛ هو الجاهل، مأخوذ من الغَثَارة، بفتح الغين المعجمة، وهي الجهل، والنون فيه زائدة، وقيل: هو السفيه، وقيل: هو ذباب أزرق، وقيل: هو اللئيم، مأخوذ من الغثر، وهو اللؤم، وحَكَى القاضي عن بعض الشيوخ أنه قال: إنما هو غنثر بفتح الغين والثاء، ورواه الخطابيّ، وطائفة: عنتر بعين مهملة، وتاء مثناة مفتوحتين، قالوا: وهو

(1)

"شرح النوويّ" 14/ 18.

(2)

بفتح، فسكون، وككتِفٍ، وأمير، وصبور: الرجل الثقيل.

(3)

"الفتح" 8/ 251، كتاب "المناقب" رقم (3581).

ص: 437

الذباب، وقيل: هو الأزرق منه، شَبّهه به تحقيرًا له. انتهى

(1)

.

وفي رواية الجريريّ: "فقال: يا غنثر أقسمت عليك إن كنت تسمع صوتي لَمّا جئت، قال: فخرجت، فقلت: والله ما لي ذنب، هؤلاء أضيافك، فَسَلْهُم، قالوا: صدقك، قد أتانا".

(فَجَدَّعَ)؛ أي: دعا عليه بالْجَدْع، وهو قطع الأذن، أو الأنف، أو الشَّفَة، وقيل: المراد به السبّ، والأول أصحّ، وفي رواية الجريريّ عند البخاريّ:"فَجَزَّع" بالزاي بدل الدال؛ أي: نسبه إلى الْجَزَع - بفتحتين - وهو الخوف، وقيل: المجازعة المخاصمة، فالمعنى خاصم.

قال القرطبيّ: ظنَّ أبو بكر أن عبد الرَّحمن فَرَّط في حقّ الأضياف، فلمّا تبيّن له الحال أدّبهم بقوله:"كُلُوا لا هنيئًا".

(وَسَبَّ)؛ أي: شتم، وحذف المفعول للعلم به.

وقال القرطبيّ رحمه الله: وقوله: "جدَّع"؛ أي: دعا عليه بالجدع، وهو قطع الأنف، وقال أبو عمرو الشيبانيّ: معناه: سبَّ، يقال: جادعته مجادعة: ساببته.

قال القرطبيّ: وهذا فيه بُعدٌ؛ لقوله: "جدَّع وسبَّ"، فلو كان كما قال لكان تكرارًا لا فائدة له، والأول أصوب.

وكل ذلك أبرزه من أبي بكر الصديق رضي الله عنه على عبد الرَّحمن ظنُّ أنه فرّط في الأضياف، فلما تبيَّن له أنه لَمْ يكن منه تفريط، وأنَّه إنما كان ذلك امتناعًا من الأضياف، أدَّبهم بقوله لهم:"لا هنيئًا"، وحلف لا يطعمه، وذلك أن هؤلاء الأضياف تحكّموا على ربِّ المنزل بالحضور معهم، وقالوا: لا نأكل حتى يحضر أبو منزلنا، فنكّدوا على أهل المنزل، ولا يلزم حضور ربِّ المنزل مع الضيف إذا أحضر ما يحتاجون إليه، فقد يكون في مُهِمّ من أشغاله لا يمكنه تركه، فهذا منهم جفاء، لكن حَمَلهم على ذلك صِدْق رغبتهم في التبرُّك بمؤاكلته، وحضوره معهم، فأبوا حتى يجيء، وانتظروه، فجاء فصدر منه ذلك، فتكدَّر الوقت، وتشوّش الحال عليهم أجمعين، وكانت نزغة شيطان، فأزال الله

(1)

"شرح النوويّ" 14/ 19.

ص: 438

تعالى ذلك النكد بما أبداه من الكرامة، والبركة في ذلك الطعام، فعاد ذلك النكد سرورًا، وانقلب الشيطان مدحورًا، وعند ذلك عاد أبو بكر رضي الله عنه إلى مكارم الأخلاق، فأحنث نفسه، وأكل مع أضيافه، وطيَّب قلوبهم، وحصل مقصودهم لقوله صلى الله عليه وسلم:"من حلف على يمين فرأى غيرها خيرًا منها فليكفِّر عن يمينه وليأت الذي هو خير". انتهى

(1)

.

(قَالَ) أبو بكر للأضياف (كُلُوا لَا هَنِيئًا)؛ أي: لا أكلتم هنيئًا، قال النوويّ رحمه الله: إنما قاله لِمَا حَصَل له من الحرج، والغيظ بتركهم العَشاء بسببه، وقيل: إنه ليس بدعاء، إنما أخبر؛ أي لَمْ تتهنأوا به في وقته. انتهى

(2)

.

وقال في "الفتح": هو دعاء عليهم، وقيل: خبر؛ أي: لَمْ تتهيئوا في أول نُضجه، ويُستفاد من ذلك جواز الدعاء على من لَمْ يحصل منه الإنصاف، ولا سيما عند الحرج والتغيظ، وذلك أنهم تَحَكَّموا على ربّ المنزل بالحضور معهم، ولم يكتفوا بولده، مع إذنه لهم في ذلك، وكان الذي حملهم على ذلك رغبتهم في التبرك بمؤاكلته، ويقال: إنه إنما خاطب بذلك أهله، لا الأضياف، وقيل: لَمْ يُرِد الدعاء، وإنما أخبر أنهم فاتَهُم الهناء به؛ إذ لَمْ يأكلوه في وقته

(3)

.

(وَقَالَ: وَاللهِ لَا أَطْعَمُهُ أَبَدًا) وفي رواية الجريريّ: "فقال: فإنما انتظرتموني، والله لا أطعمه أبدًا، فقال الآخر: والله لا نطعمه"، هذا لفظ البخاريّ، ولفظ مسلم:"فقال أبو بكر: فوالله لا أطعمه الليلة، قال: فقالوا: فوالله لا نطعمه حتى تطعمه"، وفي رواية أبي داود:"فقال أبو بكر: فما منعكم؟ قالوا: مكانك، قال: والله لا أطعمه أبدًا، قال: لَمْ أر في الشر كالليلة، ويلكم، ما أنتم؟ لَمْ لا تقبلون عنا قِراكم، هات طعامك، فوُضع، فقال: بسم الله، الأول من الشيطان، فأكل، وأكلوا".

قال ابن التين: لَمْ يخاطب أبو بكر رضي الله عنه أضيافه بذلك، إنما خاطب أهله.

(1)

"المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" 5/ 337 - 338.

(2)

"شرح النوويّ" 14/ 19.

(3)

"الفتح" 8/ 251 - 252، كتاب "المناقب" رقم (3581).

ص: 439

وتعقّبه الحافظ بأن الرواية التي تقدّمت تردّ عليه، والله تعالى أعلم.

(قَالَ: فَايْمُ اللهِ) همزته همزة وَصْل عند الجمهور، وقيل: يجوز القطع، وهو مبتدأ وخبره محذوف؛ أي: فأيم الله قَسَمي، أو خبر لمحذوف؛ أي: قَسَمي ايم الله، قال الفيّوميّ رحمه الله:"أيمن" اسم استُعمل في القسم، والتُزم رفعه، كما التُزم رفعُ لَعمْرُ الله، وهمزته عند البصريين وصلٌ، واشتقاقه عندهم من الْيُمْن، وهو البركة، وعند الكوفيين قطعٌ؛ لأنه جَمْع يمين عندهم، وقد يُختصر منه، فيقال: وايم الله بحذف الهمزة والنون، ثم اختُصر ثانيًا، فقيل: مُ الله، بضمّ الميم وكسرها. انتهى

(1)

.

وقال في "القاموس" و"شرحه": و"ايمن الله" بضم الميم والنون، وأَلِفه أَلِف وَصْل عند أكثر النحويين، ولم يجئ في الأسماء ألف وصل مفتوحة غيرها، نقله الجوهريّ، و"ايم الله"، ويُكسر أوّلهما، عن ابن سيده، وقال ابن الأثير: أهل الكوفة يقولون: أيمُن جمع يمين للقسم، والألف فيها ألف وصل، ويُفتح، ويُكسر، والكسر في "ايم الله"، حكاه يونس، ونقله ابن جني، وذهب ابن كيسان، وابن دُرُستويه إلى أن ألف أيمُن ألف قطع، وهو جمع يمين، وإنما خُفّفت همزتها، وطُرحت في الوصل؛ لكثرة استعمالهم لها، ويقولان: إن ايم الله أصله: أيمن الله، حُذفت النون، كما حُذفت مِن: لَمْ يَكُ، و"ايمن الله" بفتح الميم، والهمزة، وقد تُكسر الهمزة، و"ايم الله" بكسر الهمزة، والميم، وقيل: ألِفه أَلِف وصل، وهو قول النحويين، إلَّا ما كان من ابن كيسان، وابن درستويه، كما ذكرنا، وقالوا:"هيم الله" بفتح الهاء، وضم الميم، والأصل "ايم الله" قُلبت الهمزة هاء، وربما حَذَفوا منه الياء، فقالوا:"ام الله" مثلثة الميم، و"ام الله" بكسر الهمزة، وضم الميم، وفتحها، وربما قالوا:"مُنِ الله" بضم الميم، وكسر النون، و"مُن الله" مثلثة الميم، والنون؛ أي: بضم الميم، والنون، وبفتحهما، وبكسرهما، وربما أبقوا الميم وحدها، فقالوا:"م الله" مثلثة، أما الضم فهو الأصل، وأما الكسر فلأنها صارت حرفًا واحدًا، فيشبِّهونها بالباء، وربما أدخلوا عليها اللام؛ لتأكيد الابتداء، فقالوا:"ليم الله"،

(1)

"المصباح المنير" 2/ 682.

ص: 440

و"ليمن الله"، الأخيرة نقلها الجوهريّ، وحينئذ يذهب الألف في الوصل، قال نصيب [من الطويل]:

فَقَالَ فَرِيقُ الْقَوْمِ لَمَّا نَشَدتُهُمْ

نَعَمْ وَفَرِيقٌ لَيْمُنُ اللهِ مَا نَدْرِي

كلّ ذلك اسم وُضع للقسم، وهو مرفوع بالابتداء، وخبره محذوف، والتقدير: أيمن الله قَسَمي، وايمن الله ما أُقسم به. انتهى ببعض تصرّف

(1)

.

(مَا كُنَّا نَأْخُذُ مِنْ لُقْمَةٍ إِلَّا رَبَا)؛ أي: زاد (مِنْ أَسْفَلِهَا)؛ أي: من الموضع الذي أُخذت منه، (أَكْثَرُ مِنْهَا) ضبطوا "أكثر" في المواضع كلّها بالباء الموحّدة، وبالثاء المثلّثة. (قَالَ) عبد الرَّحمن (حَتَّى شَبِعْنَا) بكسر الباء، قال المجد: الشَّبْعُ بالفتح، وكعِنَبٍ: ضدّ الجوع، شَبعَ كسَمِنَ خُبزًا ولحمًا، ومنهما، وأشبعته من الجوع، والشِّبْعُ بالكسر، وكعِنَبٍ: اسم ما أشبعك. انتهى

(2)

. (وَصَارَتْ أَكْثَرَ مِمَّا كَانَتْ قَبْلَ ذَلِكَ، فَنَظَرَ إِلَيْهَا أَبُو بَكْرٍ) رضي الله عنه (فَإِذَا هِيَ)؛ أي: الجفنة التي فيها الطعام (كَمَا هِيّ)؛ أي: كما كانت أوّلًا (أَو أَكْثَرُ) من الأول. (قَالَ) أبو بكر (لِامْرَأَتِهِ) أمّ رُومان (يَا أُخْتَ بَنِي فِرَاسٍ، مَا هَذَا؟) قال النوويّ رحمه الله: هذا خطاب من أبي بكر لامرأته أمّ رُومان رضي الله عنهما، ومعناه: يا من هي من بني فراس، قال القاضي: فراس هو ابن غَنْم بن مالك بن كنانة، ولا خلاف في نسب أم رومان إلى غنم بن مالك، واختلفوا في كيفية انتسابها إلى غنم اختلافًا كثيرًا، واختلفوا هل هي من بني فِراس بن غنم، أم من بني الحارث بن غنم؟ وهذا الحديث الصحيح يؤيّد كونها من بني فراس بن غنم. انتهى

(3)

.

وقال في "الفتح": وبنو فِراس - بكسر الفاء، وتخفيف الراء، وآخره مهملة - ابن غنم بن مالك بن كنانة، وقال النوويّ رحمه الله: التقدير: يا مَن هي من بني فراس، وفيه نظر، والعرب تُطلِق على من كان منتسبًا إلى قبيلة أنه أخوهم، كما قال ضمام: أنا أخو بني سعد بن بكر.

وقد تقدم أن أم رُومان من ذرية الحارث بن غنم، وهو أخو فراس بن

(1)

"تاج العروس من جواهر القاموس" 1/ 8203.

(2)

"القاموس المحيط" ص 664.

(3)

"شرح النوويّ" 14/ 20.

ص: 441

غنم، فلعل أبا بكر نسبها إلى بني فراس؛ لكونهم أشهر من بني الحارث، ويقع في النسب كثيرٌ من ذلك، وينسبون أحيانًا إلى أخي جدّهم، أو المعنى: يا أخت القوم المنتسبين إلى بني فراس، ولا شك أن الحارث أخو فراس، فأولاد كلّ منهما إخوة للآخرين؛ لكونهم في درجتهم.

وحَكَى عياض أنه قيل في أم رومان: إنها من بني فراس بن غنم، لا من بني الحارث، وعلى هذا فلا حاجة إلى هذا التأويل، قال الحافظ: ولم أر في كتاب ابن سعد لها نسبًا إلَّا إلى بني الحارث بن غنم، ساق لها نَسَبَيْن مختلفين، فالله أعلم. انتهى

(1)

.

(قَالَتْ) أمّ رومان رضي الله عنها (لَا، وَقُرَّةِ عَيْنِي) قال أهل اللغة: قُرّة العين يُعبَّر بها عن المسرّة، ورؤية ما يحبه الإنسان، ويوافقه، قيل: إنما قيل ذلك: لأنَّ عينه تَقَرّ لبلوغه أمنيته فلا يستشرف لشيء، فيكون ماخوذًا من القرار، وقيل: معناه: أنام الله عينك، وهو يرجع إلى هذا، وقيل: مأخوذ من القُرّ بالضمّ، وهو البَرْد؛ أي: عينه باردة لسرورها، وعدم مُقْلقها، قال الأصمعيّ وغيره: أقرّ الله عينه؛ أي: أبرد دمعته؛ لأنَّ دمعة الفرَح باردة، ودمعة الحزن حارّة، ولهذا يقال في ضدّه: أسخن الله عينه، قال صاحب "المطالع": قال الداوديّ: أرادت بِقُرَّة عَيْنها النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأقسمت به، وفيه بُعدٌ.

ولفظة "لا" في قولها: "لا وقرّة عيني" زائدة، ولها نظائر مشهورة، ويَحْتَمِل أن تكون نافيةً، وفيه محذوف؛ أي: لا شيء غير ما أقول، وهو: وقرّة عيني لهي أكثر منها، ذكره النوويّ رحمه الله

(2)

.

وقال في "الفتح" بعد ذكر ما تقدّم ما نصّه: وإنما حلفت أم رُومان رضي الله عنها بذلك لِمَا وقع عندها من السرور بالكرامة التي حصلت لهم ببركة الصدّيق رضي الله عنه

(3)

.

(لَهِيَ الآنَ)؛ أي: في الوقت الحاضر، وهو ما بعد الأكل منها، (أَكْثَرُ)

(1)

"الفتح" 8/ 252 - 253، كتاب "المناقب" رقم (3581).

(2)

"شرح النوويّ" 14/ 19 - 20.

(3)

"الفتح" 8/ 252 - 253، كتاب "المناقب" رقم (3581).

ص: 442

بالثاء المثلّثة، وضَبَطه بعضهم بالباء الموحّدة، (مِنْهَا قَبْلَ ذَلِكَ بِثَلَاثِ مِرَارٍ، قَالَ) عبد الرَّحمن (فَأَكَلَ مِنْهَا أَبُو بَكْرٍ، وَقَالَ) أبو بكر رضي الله عنه (إِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ مِنَ الشَّيْطَان، يَعْنِي يَمِينَهُ)؛ أي: حَلِفَه على عدم الأكل من ذلك الطعام بسبب غضبه على أهل بيته، وثم على الأضياف.

والمعنى: إنما كان الشيطان هو الحاملَ على ذلك، يعني الحامل على يمينه التي حلفها في قوله:"والله لا أطعمه".

قال في "الفتح": وظاهر هذا السياق مخالف لرواية الجريريّ الآتية، فقال عياض: في هذا السياق خطأ، وتقديم، وتأخير، ثم ذكر ما حاصله: أن الصواب ما في رواية الجريريّ، وهو أن رواية سليمان التيميّ هذه تقتضي أن سبب أكل أبي بكر من الطعام ما رآه من البركة فيه، فرغب في الأكل منه، وأعرض عن يمينه التي حلف، لِمَا رَجَح عنده من التناول من البركة، ورواية الجريريّ تقتضي أن سبب أَكْله من الطعام لَجاج الأضياف، وحَلِفهم بأنهم لا يَطعمون من الطعام، حتى يأكل أبو بكر، ولا شك في كونها أوجه، لكن يمكن ردّ رواية سليمان التيميّ إليها بأن يكون قوله:"فأكل منها أبو بكر" معطوفًا على قوله: "والله لا أطعمه"، لا على القصة التي دلّت على بركة الطعام، وغايته أن حَلِف الأضياف أن لا يَطعموه لَمْ يقع في رواية سليمان، والله أعلم.

قال الحافظ رحمه الله: ثم ظهر لي أن ذلك من معتمر بن سليمان، لا من أبيه، فقد وقع في "كتاب الأدب" عند البخاريّ من رواية ابن أبي عديّ، عن سليمان التيميّ:"فحلفت المرأة لا تطعمه حتى تطعموه، فقال أبو بكر: كأن هذه من الشيطان، فدعا بالطعام، فأكل، وأكلوا، فجعلوا لا يرفعون اللقمة إلَّا رَبَا من أسفلها".

ويَحْتَمِل أن يُجمع بأن يكون أبو بكر أكل لأجل تحليل يمينهم شيئًا، ثم لَمّا رأى البركة الظاهرة عاد، فأكل منها؛ لتحصل له، وقال كالمعتذر عن يمينه التي حلف:"إنما كان ذلك من الشيطان".

قال الجامع عفا الله عنه: ما أحسن هذا الاحتمال، وأليقه بالمقام، وأما الاحتمال الأول الذي أدّى إلى دعوى التقديم والتأخير ونحو ذلك، فلا يخفى بُعده، فتأمله بالإمعان، والله تعالى وليّ التوفيق.

ص: 443

والحاصل أن الله أكرم أبا بكر رضي الله عنه، فأزال ما حصل له من الحرج، فعاد مسرورًا، وانفكّ الشيطان مدحورًا، واستعمل الصدّيق مكارم الأخلاق، فحَنَّث نفسه زيادةً في إكرام ضِيفانه؛ ليحصل مقصوده من أكلهم، ولكونه أكثر قدرةً منهم على الكفّارة. انتهى

(1)

.

(ثُمَّ أَكَلَ) أبو بكر رضي الله عنه (مِنْهَا)؛ أي: من تلك الجفنة، (لُقْمَةً، ثُمَّ حَمَلَهَا إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَصْبَحَتْ) الجفنة (عِنْدَهُ) صلى الله عليه وسلم. (قَالَ) عبد الرَّحمن (وَكَانَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمٍ عَقْدٌ، فَمَضَى الأَجَلُ، فَعَرَّفْنَا اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا) قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في معظم النسخ: "فَعَرَّفنا" بالعين، وتشديد الراء؛ أي: جعلنا عُرفاء، وفي كثير من النسخ:"ففرقنا" بالفاء المكرّرة في أوله، وبقاف، من التفريق؛ أي: جُعِل كلّ رجل من الاثني عشر مع فرقة، فهما صحيحان، ولم يذكر القاضي هنا غير الأول.

وقوله: (فَعَرَّفْنَا اثْنَا عَشَرَ رَجُلَا) قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في معظم النسخ، وفي نادر منها:"اثني عشر"، وكلاهما صحيح، والأول جارٍ على لغة مَن جَعَل المثنى بالألف في الرفع، والنصب، والجرّ، وهي لغة أربع قبائل من العرب، ومنها قوله تعالى:{إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ} [طه: 63]، وغير ذلك، وقد سبقت المسألة مرات. انتهى

(2)

.

(مَعَ كُلِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ أُنَاسٌ اللهُ أَعْلَمُ كَمْ مَعَ كُلِّ رَجُلٍ؟ إِلَّا أَنَّهُ بَعَثَ مَعَهُمْ)، يعني: أنه تحقّق أنه جعل عليهم اثنا عشر عَرِيفًا، لكنه لا يدري كم كان تحت يد كلّ عريف منهم، لأنَّ ذلك يَحْتَمِل الكثرة والقلة، غير أنه يتحقق أنه بعث معهم أي مع كلّ ناس عَريفًا، (فَأَكَلُوا مِنْهَا أَجْمَعُونَ، أَو كَمَا قَالَ) هو شكّ من أبي عثمان في لفظ عبد الرَّحمن، وأما المعنى: فالحاصل أن جميع الجيش أكلوا من تلك الجفنة التي أرسل بها أبو بكر إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وظهر بذلك أن تمام البركة في الطعام المذكور كانت عند النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ لأنَّ الذي وقع فيها في بيت أبي بكر ظهور أوائل البركة فيها، وأما انتهاؤها إلى أن تكفي

(1)

"الفتح" 8/ 252 - 253 - 254، كتاب "المناقب" رقم (3581).

(2)

"شرح النوويّ" 14/ 20.

ص: 444

الجيش كلهم فما كان إلَّا بعد أن صارت عند النبيّ صلى الله عليه وسلم على ظاهر الخبر، والله أعلم.

وقد رَوَى أحمد، والترمذيّ، والنسائيّ من حديث سمرة رضي الله عنه قال:"أُتِي النبيّ صلى الله عليه وسلم بقَصْعة فيها ثريد، فأكل، وأكل القوم، فما زالوا يتداولونها إلى قريب من الظهر، يأكل قوم، ثم يقومون، ويجيء قوم، فيتعاقبونه، فقال رجل: هل كانت تُمَدّ بطعام؟ قال: أما من الأرض فلا، إلَّا أن تكون كانت تُمَدّ من السماء".

قال الحافظ: قال بعض شيوخنا: يَحْتَمِل أن تكون هذه القصعة هي التي وقع فيها في بيت أبي بكر ما وقع

(1)

، والله تعالى أعلم.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عبد الرَّحمن بن أبي بكر الصدّيق رضي الله عنهما هذا متَّفقٌ عليه.

(المسألة الثاتية): في تخريجه:

أخرجه (الصنّف) هنا [20/ 5354 و 5355](2057)، و (البخاريّ) في "الصلاة"(602) و"المناقب"(3581) و"الأدب"(6140 و 6141)، و (أبو داود)(3270)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 197 و 198)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(5/ 204 و 206)، و (البزار) في "مسنده"(6/ 227)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(10/ 34)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان التجاء الفقراء إلى المساجد عند الاحتياج إلى المواساة، إذا لَمْ يكن في ذلك إلحاح، ولا إلحاف، ولا تشويش على المصلين، واستحباب مواساتهم عند اجتماع هذه الشروط.

2 -

(ومنها): مشروعية التوظيف في المخمصة.

(1)

"الفتح" 8/ 255 - 256 - 254، كتاب "المناقب" رقم (3581).

ص: 445

3 -

(ومنها): جواز الغَيبة عن الأهل والولد والضيف، إذا أُعدت لهم الكفاية، قاله في "الفتح"

(1)

.

وقال النوويّ رحمه الله؛ فيه جواز ذهاب مَن عنده ضِيفان إلى أشغاله، ومصالحه، إذا كان له من يقوم بأمورهم، وشمد مسدّه، كما كان لأبي بكر هنا عبد الرَّحمن رضي الله عنهما. انتهى

(2)

.

4 -

(ومنها): فيه بيان ما كان عليه أبو بكر رضي الله عنه من الحبّ للنبيّ صلى الله عليه وسلم، والانقطاع إليه، وإيثاره في ليله ونهاره، على الأهل، والأولاد، والضيفان، وغيرهم.

5 -

(ومنها): أن فيه تصرفَ المرأة فيما تُقَدِّم للضيف، والإطعام بغير إذن خاصّ من الرجل.

6 -

(ومنها): جوازُ سبّ الوالد للولد على وجه التأديب، والتمرين على أعمال الخير، وتعاطيه.

7 -

(ومنها): جواز الحلف على ترك المباح.

8 -

(ومنها): توكيد الرجل الصادق لِخَبره بالقَسَم.

9 -

(ومنها): جواز الحنث بعد عقد اليمين.

10 -

(ومنها): عرض الطعام الذي تظهر فيه البركة على الكبار، وقبولهم ذلك.

11 -

(ومنها): العمل بالظنّ الغالب؛ لأنَّ أبا بكر ظنّ أن عبد الرَّحمن فَرّط في أمر الأضياف، فبادر إلى سبّه، وقَوَّى القرينة عنده اختباؤه منه.

12 -

(ومنها): بيان ما يقع من لطف الله تعالى بأوليائه، وذلك أن خاطر أبي بكر رضي الله عنه تشوّش، وكذلك ولده، وأهله، وأضيافه بسبب امتناعهم من الأكل، وتكدّر خاطر أبي بكر رضي الله عنه من ذلك حتى احتاج إلى ما تقدم ذكره من الحرج بالحَلِف، وبالحنث، وبغير ذلك، فتدارك الله ذلك، ورفعه عنه بالكرامة التي أبداها له، فانقلب ذلك الكَدَر صفاءً، والنكد سرورًا، ولله الحمد والمنة.

(1)

"الفتح" 8/ 256، كتاب "المناقب" رقم (3581).

(2)

"شرح النوويّ" 14/ 20.

ص: 446

13 -

(ومنها): أن من حلف على يمين، فرأى غيرها خيرًا منها فَعَل ذلك، وكَفَّر عن يمينه، كما جاءت به الأحاديث الصحيحة.

14 -

(ومنها): حَمْلُ الْمُضِيف المشقّة على نفسه في إكرام ضيفانه، وإذا تعارض حِنْثه وحِنْثهم حَنَّث نفسه؛ لأنَّ حقهم عليه آكد.

15 -

(ومنها): أن فيه كرامةً ظاهرةً لأبي بكر الصديق رضي الله عنه، وفيه إثبات كرامات الأولياء، وهو مذهب أهل السُّنَّة، خلافًا للمعتزلة، قاله النوويّ رحمه الله

(1)

.

16 -

(ومنها): أن فيه دليلًا لجواز تفريق العرفاء على العساكر، ونحوها، وفي "اسنن أبي داود":"العِرافة حقّ"

(2)

؛ لِمَا فيه من مصلحة الناس، وليتيسَّر ضَبْط الجيوش ونحوها على الإمام باتخاذ العرفاء، وأما الحديث الآخر:"العرفاء في النار"

(3)

، فمحمول على العرفاء المقصرين في ولايتهم المرتكبين فيها ما لا يجوز، كما هو معتاد لكثير منهم، قاله النوويّ رحمه الله

(4)

، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5355]

(

) - (حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا سَالِمُ بْنُ نُوحٍ الْعَطَّارُ، عَنِ الْجُرَيْرِيِّ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، قَالَ: نَزَلَ عَلَيْنَا أَضْيَافٌ لنَا، قَالَ: وَكَانَ أَبِي يَتَحَدَّثُ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ اللَّيْل، قَالَ: فَانْطَلَقَ، وَقَالَ: يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ افْرُغْ مِنْ أَضْيَافِكَ، قَالَ: فَلَمَّا أَمْسَيْتُ جِئْنَا بِقِرَاهُمْ، قَالَ: فَأَبوْا، فَقَالُوا: حَتَّى يَجِيء أَبُو مَنْزِلِنَا، فَيَطْعَمَ مَعَنَا، قَالَ: فَقُلْتُ لَهُمْ: إِنَّهُ رَجُلٌ حَدِيدٌ، وَإِنَّكُمْ إِنْ لَمْ تَفْعَلُوا خِفْتُ أَنْ يُصِيبَنِي مِنْهُ أَذًى، قَالَ: فَأَبَوْا، فَلَمَّا جَاءَ لَمْ يَبْدَأْ بِشَيْءٍ أَوَّلَ مِنْهُمْ، فَقَالَ: أَفَرَغْتُمْ مِنْ أَضْيَافِكُمْ؟ قَالَ: قَالُوا: لَا، وَاللهِ مَا فَرَغْنَا، قَالَ: أَلَمْ آمُرْ عَبْدَ الرَّحْمَنِ؟ قَالَ: وَتَنَحَّيْتُ عَنْهُ، فَقَالَ: يَا عَبْدَ الرَّحْمَن،

(1)

"شرح النوويّ" 14/ 20.

(2)

أخرجه أبو داود في "سننه" 3/ 131 وهو ضعيف، في سنده مجهول.

(3)

هو جزء من الحديث السابق، ضعيف؛ لِمَا مرّ.

(4)

"شرح النوويّ" 14/ 20.

ص: 447

قَالَ: فَتَنَحَّيْتُ، قَالَ: فَقَالَ: يَا غُنْثَرُ أَقْسَمْتُ عَلَيْكَ إِنْ كُنْتَ تَسْمَعُ صَوْتِي إِلَّا جِئْتَ، قَالَ: فَجِئْتُ، فَقُلْتُ: وَاللهِ مَا لِي ذَنْبٌ، هَؤُلَاءِ أَضْيَافُكَ فَسَلْهُمْ، قَدْ أَتَيْتُهُمْ بِقِرَاهُمْ، فَأَبَوْا أَنْ يَطْعَمُوا حَتَّى تَجِيءَ، قَالَ: فَقَالَ: مَا لَكُمْ أَلَا تَقْبَلُوا عَنَّا قِرَاكُمْ؟ قَالَ: فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَوَاللهِ لَا أَطْعَمُهُ اللَّيْلَةَ، قَالَ: فَقَالُوا: فَوَاللهِ لَا نَطْعَمُهُ حَتَّى تَطْعَمَهُ، قَالَ: فَمَا رَأَيْتُ كَالشَّرِّ كَاللَّيْلَةِ قَطَّ، ويلَكُمْ مَا لَكُمْ أَنْ لَا تَقْبَلُوا عَنَّا قِرَاكُمْ، قَالَ: ثُمَّ قَالَ: أَمَّا الأُولَى فَمِنَ الشَّيْطَان، هَلُمُّوا قِرَاكُمْ، قَالَ: فَجِيءَ بِالطَّعَام، فَسَمَّى، فَأَكَلَ، وَأَكَلُوا، قَالَ: فَلَمَّا أَصْبَحَ غَدَا عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ بَرُّوا، وَحَنِثْتُ، قَالَ: فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ:"بَلْ أَنْتَ أَبَرُّهُمْ، وَأَخْيَرُهُمْ"، قَالَ: وَلَمْ تَبْلُغْنِي كَفَّارَةٌ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) أبو موسى الْعَنَزيّ البصريّ، تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(سَالِمُ بْنُ نُوحٍ الْعَطَّارُ) أبو سعيد البصريّ، صدوقٌ له أوهامٌ [9] مات بعد المائتين (بخ م د ت س) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 55/ 1532.

3 -

(الْجُرَيْرِيُّ) سعيد بن إياس، أبو مسعود البصريّ، ثقةٌ اختلط قبل موته بثلاث سنين [5](ت 144)(ع) تقدم في "الإيمان" 40/ 266.

والباقيان ذُكرا قبله.

وقوله: (نَزَلَ عَلَيْنَا أَضْيَافٌ لَنَا) هم الذين جاء بهم أبو بكر رضي الله عنه من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم كما بُيّن في الرواية السابقة.

وقوله: (وَكَانَ أَبِي يَتَحَدَّثُ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ اللَّيْلِ)"إلى" بمعنى "عند"، و"من" بمعنى "في"، أو هي للتبعيض.

وقوله: (فَانْطَلَقَ)؛ أي: أراد أبو بكر رضي الله عنه أن يذهب إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم.

وقوله: (افْرُغْ مِنْ أَضْيَافِكَ)؛ أي: انته من ضيافهم، يقال: فَرغ؛ كمنع، وسَمِعَ، ونَصَرَ فُرُوغًا، وفَرَاغًا، فهو فَرغٌ، وفارغٌ: خلا ذَرْعه، وفرغ له، وإليه:

ص: 448

قصد، قاله المجد رحمه الله

(1)

.

وقوله: (جِئْنَا بِقِرَاهُمْ) بكسر القاف، والقصر، يقال: قَرَيتُ الضيفَ أقريه، من باب رَمَي، قِرَى بالكسر، والقصر، وبالفتح والمدّ: إذا أضفته

(2)

.

وقوله: (حَتى يَجِيءَ أَبُو مَنْزِلِنَا)؛ أي: صاحبه.

وقوله: (إِنَّهُ رَجُلٌ حَدِيدٌ)؛ أي: فيه قُوّةٌ وصلابةٌ، ويَغضَب لانتهاك الحرمات والتقصير في ضيفه، ونحو ذلك

(3)

.

وقوله: (لَمْ يَبْدَأْ بِشَيْءٍ أَوَّلَ مِنْهُمْ) بجرّ "أول" صفة لـ"شيء"، وهو غير منصرف للصفة ووزن الفعل، وهو بمعنى أسبق.

[تنبيه]: "أوّل" أصله أوأل، قُلبت الهمزة التي بعد الواو واوًا، وأُدغمت الواو الأُولى فيها، فصار أَوَّل، وقيل: وَوْأل، قُلبت الواو الأولى همزةً، وقُلبت الهمزة التي بعد الواو واوًا، وأُدغمت الواو الأولى فيها، ففيه أعمالٌ ثلاثٌ، وعلى القول الأول عَملان، ولذا رُجّح بقلّة الأعمال التصريفيّة فيه، قال الحفنيّ: وبدليل قولهم في الجمع أوائل بالهمز، ولم يقولوا: أواول، وهو لا يستلزم ثانيًا؛ لأنَّ معناه: ابتداء الشيء، ويستعمل صفةً بمعنى أسبق، فيُمنع من الصرف؛ للوصفيّة ووزن الفعل، ويمتنع حينئذ تأنيثه بالتاء، ودخول "من" عليه، ويُستعمل اسمًا بمعنى سابق، نحو لقِيته عامًا أَوَّلا، نحو قولهم: ما له أوّلٌ ولا آخرٌ، فيُصرف، ويؤنّث بالتاء، ويُستعمل ظرفًا، نحو رأيت الهلال أوّل الناس؛ أي: قبلهم، قال ابن هشام: وهذا هو الذي إن قُطع عن الإضافة بُني على الضمّ. انتهى كلام الحفنيّ، ونظم الأجهوريّ ذلك، فقال [من الطويل]:

إِذَا أَوَّلٌ قَدْ جَاءَ مَعْنَاهُ أَسْبَقُ

فَمَنْعُ انْصِرَافٍ فِيهِ أَمْرٌ مُحَتَّمُ

لِوَصْفٍ وَوَزْنِ الْفِعْلِ فِيهِ أَيَا فَتًى

فَكُنْ حَافِظًا لِلْعِلْمِ تَحْظَى وَتَغْتَمُ

وَمَا جَاءَ ظَرْفًا مِثْلَ قَبْلُ فَذَا لَهُ

كَقَبْلُ مِنَ الأَحْوَالِ وَاللهُ أَعْلَمْ

انتهى من "حاشية محمد عبادة العدويّ على شرح شُذور الذهب"

(4)

.

(1)

"القاموس المحيط" ص 990.

(2)

"القاموس المحيط" ص 1053.

(3)

"شرح النوويّ" 14/ 21.

(4)

"حاشية محمد عبادة العدويّ على شرح شُذور الذهب" 1/ 6.

ص: 449

وقال الفيّوميّ رحمه الله: الأَوَّلُ: مُفْتَتَح العدد، وهو الذي له ثانٍ، ويكون بمعنى الواحد، ومنه في صفات الله تعالى هو الأَوَّلُ؛ أي: هو الواحد الذي لا ثاني له، وعليه استعمال المصنِّفين في قولهم: وله شروط: الأَوَّلُ كذا، لا يراد به السابق الذي يترتب عليه شيء بعده، بل المراد الواحد، وقول القائل: أول وَلَدٍ تَلِده الأَمَةُ حُرُّ محمول على الواحد أيضًا، حتى يتعلق الحكم بالولد الذي تلده سواءٌ ولدت غيره أم لا.

إذا تقرر أنَّ الأول بمعنى الواحد، فالمؤنثة هي الأُوْلَى، بمعنى الواحدة أيضًا، ومنه قوله تعالى:{إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى} [الدخان: 56]؛ أي: سوى الموتة التي ذاقوها في الدنيا، وليس بعدها أخرى، وقد تقدم في الآخر أنه يكون بمعنى الواحد، وأن الأخرى بمعنى الواحدة، فقوله في ولوغ الكلب:"يُغسَل سبعًا"، في رواية:"أُولاهُنَّ"، وفي رواية:"أُخْرَاهُنَّ"، وفي رواية:"إِحْدَاهُنَّ"، الكل ألفاظ مترادفة على معنى واحد، ولا حاجة إلى التأويل، وتَنَبَّهْ لهذه الدقيقة، وتخريجها على كلام العرب، واستَغْنِ بها عما قيل من التأويلات، فإنها إذا عُرِضت على كلام العرب لا يقبلها الذوق.

وتجمع الأُوْلَى على الأُوْلَيَات، والأوَل، والعشرُ الأُوَلُ، والأَوَائِلُ أيضًا؛ لأنه صفة الليالي، وهي جمع مؤنث، ومنه قوله تعالى:{وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2)} [الفجر: 1، 2]، وقول العامة:"العَشْرُ الأَوَّلُ" بفتح الهمزة، وتشديد الواو خطأ.

وأما وزن أَوّل قيل: فوعل، وأصله وَوْوَلٌ، فقُلبت الواو الأُولى همزة، ثم أُدغم، ولهذا اجترأ بعضهم على تأنيثه بالهاء، فقال: أَوَّلَةٌ، وليس التأنيث بالمرضيّ، وقال المحققون: وزنه أفعل، من آل يؤول: إذا سَبَقَ، وجاء، ولا يلزم من السابق أن يلحقه شيء، وهذا يؤيد ما سَبَق من قولهم: أول ولد تلده؛ لأنه بمعنى ابتداء الشيء، وجائز أن لا يكون بعده شيء آخر، وتقول: هذا أول ما كَسَبت، وجائز أن لا يكون بعده كَسْب آخر، والمعنىْ هذا ابتداء كسبي، والأصل: أأول بهمزتين، لكن قُلبت الهمزة الثانية واوًا، وأدغمت في الواو، قال الجوهريّ: أصله أوأل بهمز الوسط، لكن قُلبت الهمزة واوًا للتخفيف، وأدغمت في الواو، والجمع: الأَوَائِلُ، وجاء في أَوَائِل القوم: جمع أول؛

ص: 450

أي: جاء في الذين جاءُوا أَوّلًا، ويُجمع بالواو والنون أيضًا، وسمع أُوَلٌ، بضم الهمزة، وفتح الواو، مخففةً، مثل أكبر، وكُبَر.

وفي "أَوَّلَ" معنى التفضيل، وإِن لَمْ يكن له فعلٌ، ويُستعمل كما يستعمل أفعل التفضيل، من كونه صفة للواحد، والمثني، والمجموع، بلفظ واحد، قال تعالى:{وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ} [البقرة: 41]، وقال:{وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ} [البقرة: 96]، ويقال: الأَوَّلُ، وأَوَّلُ القوم، وأَوَّلُ من القوم، ولمّا استُعْمِل استعمال أفعل التفضيل انتصب عنه الحال، والتمييز، وقيل: أنت أَوَّلُ دخولًا، وأنتما أَوَّلُ دخولًا، وأنتم أَوَّلُ دخولًا، وكذلك في المؤنث، (فَأَوَّلُ) لا ينصرف؛ لأنه أفعل التفضيل، أو على زِنَته، قال ابن الحاجب: أَوَّلُ أفعل التفضيل، ولا فعل له، ومثله آبلُ، وهو صفة لمن أحسن القيام على الإبل، قال: وهذا مذهب البصريين، وهو الصحيح؛ إذ لو كان على فوعل كما ذهب إليه الكوفيون، لقيل: أولةٌ بالهاء، وهذا كالتصريح بامتناع الهاء، وتقول: عامٌ أولُ، إن جعلته صفة لَمْ تصرفه؛ لوزن الفعل والصفة، وإن لَمْ تجعله صفة صرفتَ، وجاز عامُ الأولِ بالتعريف والإضافة، ونقل الجوهريّ عن ابن السِّكِّيت مَنْعها، ولا يقال: عامَ أولَ على التركيب. انتهى ما كتبه الفيّوميّ رحمه الله

(1)

، وهو بحثٌ نفيسٌ جدًّا، والله تعالى أعلم.

وقوله: (أفَرَغْتُمْ مِنْ أَضْيَافِكُمْ؟)؛ أي: من قِراهم، وضيافتهم.

وقوله: (وَتَنَحَّيْتُ عَنْهُ)؛ أي: ابتعدت عن مكان أبي بكر رضي الله عنه؛ لئلا يلحقني منه ضرر.

وقوله: (مَا لَكُمْ أَلَا تَقْبَلُوا عَنَّا قِرَاكُمْ؟) قال القاضي عياض رحمه الله: قوله: "ألا" هو بتخفيف اللام على التحضيض، واستفتاح الكلام، هكذا رواه الجمهور، قال: ورواه بعضهم بالتشديد، ومعناه: ما لكم لا تقبلوا قراكم؟ وأيّ شيء منعكم ذلك، وأحوجكم إلى تركه؟ انتهى

(2)

.

وقال القرطبيّ بعد ذكر كلام عياض المذكور: قلت: ويلزم على هذا ثبوت النون من "تقبلون"؛ إذ لا موجب لحذفها مع الاستفتاح، قال: "وما

(1)

"المصباح المنير" 1/ 29 - 31.

(2)

"شرح النوويّ" 14/ 21.

ص: 451

لكم" استفهام إنكاريّ، وعند ابن أبي جعفر بتشديد اللام على زيادة "لا"، كما في قوله تعالى:{قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ} [الأعراف: 12]{مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ} [الحجر: 32]. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قوله: "ويلزم ثبوت النون

إلخ" فيه أنه قد جاء حذف النون بلا ناصب، ولا جازم

(2)

، ومنه حديث: "والذي نفس محمد بيده لا تدخلوا الجنّة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابُّوا

" الحديث

(3)

، وقول الشاعر:

أَبِيتُ أَسْرِي وَتَبِيتِي تَدْلُكِي

وَجْهَكِ بِالْعَنْبَرِ وَالْمِسْكِ الذَّكِي

وقوله: (قَالَ: فَمَا رَأَيْتُ كَالشَّرِّ

إلخ) القائل هو أبو بكر رضي الله عنه، ويَحْتَمل أن يكون عبد الرَّحمن، والأول أَولى.

وقوله: (كَالشَّرِّ) الكاف بمعنى "مثل"؛ أي: مثل الشرّ الواقع في هذه الليلة.

وقوله: (كَاللَّيْلَةِ) بدل من "كالشرّ"، على حذف مضاف؛ أي: كشرّ هذه الليلة.

وقوله:. (قَطُّ) بضمّ الطاء المشدّدة: ظرف مستغرِق لِمَا مضى من الزمان، ضدّ عَوْضُ

(4)

؛ أي: لَمْ أر فيما مضى من الزمان مثل الشر الذي وقع في هذه الليلة مع هؤلاء الأضياف.

وقوله: (قَالَ: ثُمَّ قَالَ: أَمَّا الأُولَى فَمِنَ الشَّيْطَانِ) فاعل "قال" الأول ضمير عبد الرَّحمن، والثاني ضمير أبي بكر رضي الله عنهما.

وقوله: (أَمَّا الأُولَى فَمِنَ الشَّيْطَانِ) قال القاضي عياض رحمه الله: يعني حَلِفه أن لا يطعمه، وقد جاء كذا في الحديث نفسِهِ مفسّرًا، وقيل: أراد أن اللقمة الأُولى للشيطان؛ أي: لِقَمعه، وإرغامه، ومخالفته في مراده باليمين، وهو إيقاع

(1)

"المفهم" 5/ 340.

(2)

راجع: "الكافية الشافية" وشرحها لابن مالك رحمه الله 1/ 215.

(3)

حديث صحيح، رواه أصحاب السنن بهذا اللفظ، ورواه مسلم أيضًا كذلك في بعض نُسخه، ووقع في بعضها بلفظ: "لا تدخلون الجنّة

إلخ".

(4)

"عَوْضُ" بمعنى الزمن المستقبل، ضد "قَطُّ".

ص: 452

الوحشة بينه وبين أضيافه، فأخزاه أبو بكر رضي الله عنه بالحِنث الذي هو خير

(1)

.

وقوله: (هَلُمُّوا قِرَاكُمْ)؛ أي: أحضروه.

وقوله: (فَلَمَّا أَصْبَحَ غَدَا عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم)؛ أي: لَمّا دخل أبو بكر رضي الله عنه في "الصباح ذهب أول النهار إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ ليُخبره بما جرى بينه وبين أضيافه تلك الليلة.

وقوله: (بَرُّوا) بفتح الموحّدة، وتشديد الراء، يقال: بَرِرْتَ، وبَرَرْتَ، بفتح الراء، وكسرها، وبَرّت اليمين تَبَرّ، كيَمَلّ، وَيحِلّ، بِرًّا، بالكسر، وبَرًّا بالفتح، وبُرُورًا، وأبرّها: أمضاها على الصدق، قاله المجد رحمه الله، وقال أيضًا: البَرّ في اليمين بالفتح، ويُكسر: الصدق

(2)

.

وقوله: (وَحَنِثْتُ) من باب عَلِمَ، يقال: حَنِث في يمينه يَحْنَثُ حِنْثًا: إذا لَمْ يَفِ بموجبها، قاله الفيّوميّ رحمه الله

(3)

.

والمعنى: أنَّ الأضياف بَرُّوا في يمينهم؛ لأنهم حلفوا أن لا يأكلوا إلَّا إذا أكل، وقد أكل معهم، وحنِثت أنا يميني؛ لأنني حلفت أن لا آكل من ذلك الطعام مطلقًا، ثم أكلت، فحنثت في يميني.

وقوله: ("بَلْ أَنْتَ أَبَرُّهُمْ)؛ أي: أكثرهم طاعةً، وخيرٌ منهم؛ لأنك حَنِثت في يمينك حِنثًا مندوبًا إليه، محثوثًا عليه، فأنت أفضل منهم.

وقوله: (وَأَخْيَرُهُمْ") هكذا هو في جميع النُّسخ: "وأخيرهم" بالألف، وهي لغة سبق بيانها مرات، قاله النوويّ

(4)

.

قال الجامع عفا الله عنه: أخير، وأشرّ أصلان لخير وشرّ، قال ابن مالك رحمه الله في "الكافية":

وَغَالِبًا أَغْنَاهُمُ خَيْرٌ وَشَرٌّ

عَنْ قَوْلِهِمْ أَخْيَرُ مِنْهُ وَأَشَرّ

وقوله: (قَالَ: وَلَمْ تَبْلُغْنِي كَفَّارَةٌ) فاعل "قال" يَحْتَمل أن يكون ضمير أبي عثمان النَّهْديّ، وهو الظاهر، ويَحْتَمِل أن يكون مَن دونه، والله تعالى أعلم.

(1)

"شرح النوويّ" 14/ 22، و"إكمال المعلم" 6/ 551.

(2)

"القاموس المحيط" ص 94.

(3)

"المصباح المنير" 1/ 154.

(4)

"شرح النوويّ" 14/ 22.

ص: 453

وقوله: (وَلَمْ تَبْلُغْنِي كَفَّارَةٌ) قال النوويّ رحمه الله: يعني: لَمْ يبلغني أنه كفَّر قبل الحنث، فأما وجوب الكفّارة فلا خلاف فيه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"من حلف على يمين، فرأى غيرها خيرًا منها، فليأت الذي هو خير، وليكفِّر عن يمينه"، وهذا نصّ في عين المسألة، مع عموم قوله تعالى:{وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} الآية [المائدة: 89]، والله تعالى أعلم.

[تنبيه]: قال في "الفتح": ووقع في رواية الجريريّ عند مسلم: "فقال أبو بكر: يا رسول الله بَرُّوا، وحَنِثت، فقال: بل أنت أبرّهم، وأخيرهم، قال: ولم يبلغني كفّارة"، وسقط ذلك من رواية الجريريّ عند المصنّف - يعني: البخاريّ - وكأن سبب حذفه لهذه الزيادة أن فيها إدراجًا بيّنته رواية أبي داود، حيث جاء فيها: "فأُخبرت - بضم الهمزة - أنه أصبح، فغدا على النبيِّ صلى الله عليه وسلم

إلخ".

وقوله: "أبرّهم"؛ أي: أكثرهم بِرًّا؛ أي: طاعةً.

وقوله: "وأخيرهم"؛ أي: لأنك حَنِثت في يمينك حنثًا مندوبًا إليه مطلوبًا، فأنت أفضل منهم بهذا الاعتبار.

وقوله: "ولم تبلغني كفارة" استُدِلّ به على أنَّه لا تجب الكفّارة في يمين اللجاج والغضب، ولا حجة فيه؛ لأنه لا يلزم من عدم الذِّكر عدم الوجود فلمن أثبت الكفّارة أن يتمسَّك بعموم قوله:{وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} الآية [المائدة: 89]، ويَحْتَمِل أن يكون ذلك وقع قبل مشروعية الكفّارة في الإيمان، لكن يعكُر عليه ما ثبت من حديث عائشة أن أبا بكر لَمْ يكن يحنث في يمين حتى نزلت الكفّارة.

وقال النوويّ: قوله: "ولم تبلغني كفارة"؛ يعني: أنه لَمْ يكفِّر قبل الحنث، فأما وجوب الكفّارة فلا خلاف فيه، كذا قال، وقال غيره: يَحْتَمِل أن يكون أبو بكر لَمّا حلف أن لا يطعمه أضمر وقتًا معينًا، أو صفة مخصوصة؛ أي: لا أطعمه الآن، أو لا أطعمه معكم، أو عند الغضب، وهو مبني على أنَّ اليمين هل تقبل التقييد في النفس أم لا؟ ولا يخفى ما فيه من التكلف.

وقول أبي بكر رضي الله عنه: "والله لا أطعمه أبدًا" يمين مؤكدةٌ، ولا تَحتمل أن

ص: 454

تكون من لغو الكلام، ولا من سَبْق اللسان. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}

(21) - (بَابُ فَضِيلَةِ الْمُوَاسَاةِ: فِي الطَّعَامِ الْقَلِيلِ، وَأَنَّ طَعَامَ الاثْنَيْنِ يَكْفِي الثَّلَاثَةَ، وَنَحْوِ ذَلِكَ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أَوَّل الكتَّاب قال:

[5356]

(2558) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنْ أَبِي الزِّنَاد، عَنِ الأَعْرَج، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّهُ فَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم "طَعَامُ الاثْنَيْنِ كَافِي الثَّلَاثَة، وَطَعَامُ الثَّلَاثَةِ كَافِي الأَرْبَعَةِ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ، أبو زكريّاء النيسابوريّ، ثقةٌ ثبتٌ إمامٌ [10](ت 226)(خ م د س) تقدم في "المقدمة" 9/ 3.

2 -

(مَالِكُ) بن أنس الأصبحيّ، أبو عبد الله الإمام الحجة المثبت القدوة الفقيه، أبو عبد الله، إمام دار الهجرة [7](ت 179)(ع) وقد بلغ تسعين سنةً، تقدّم في "شرح المقدّمة" ج 1 ص 378.

3 -

(أَبُو الزِّنَادِ) عبد الله بن ذكوان القرشيّ مولاهم، أبو عبد الرَّحمن المدنيّ، ثقةٌ فقيهٌ [5](ت 130) أو بعدها (ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 30.

4 -

(الأَعْرَجُ) عبد الرَّحمن بن هُرْمُز القرشيّ مولاهم، أبو داود المدنيّ، ثقةُ ثبتٌ فقيهٌ [3](117)(ع) تقدم في "الإيمان" 23/ 192.

5 -

(أَبُو هُرَيْرَةَ) الصحابيّ المشهور رضي الله عنه تقدم في "المقدمة" 2/ 4.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وهو مسلسل بالمدنيين، غير شيخه، وقد دخل المدينة، وهو أصحّ أسانيد أبي هريرة رضي الله عنه على ما نُقل عن بعضهم،

(1)

"الفتح" 8/ 254 - 255، كتاب "المناقب" رقم (3581).

ص: 455

وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه رأس المكثرين السبعة، روى (5374) حديثًا، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "طَعَامُ الاثْنَيْنِ)؛ أي: المُشْبِع لهما، (كَافِي الثَّلَاثَةِ)؛ أي: لِقُوْتِهم، (وَطَعَامُ الثَّلَاثَةِ)؛ أي: المشبع لهم (كَافي الأَرْبَعَةِ")؛ أي: لِقُوْتِهم.

وفي حديث جابر رضي الله عنه الآتي بعد هذا عند مسلم مرفوعًا: "طعام الواحد يكفي الاثنين، وطعام الاثنين يكفي الأربعة، وطعام الأربعة يكفي الثمانية"، وعند ابن ماجة من حديث عمر رضي الله عنه:"إن طعام الواحد يكفي الاثنين، وإن طعام الاثنين يكفي الثلاثة والأربعة، وإن طعام الأربعة يكفي الخمسة والستة"، وقال المهلَّب: المراد بهذه الأحاديث الحضّ على المكارمة، والتقنع بالكفاية؛ يعني: وليس المراد الحصر في مقدار الكفاية، وإنما المراد المواساة، وأنه ينبغي للاثنين إدخال ثالث لطعامهما، ورابع أيضًا بحَسَب من يحضر.

وعند الطبرانيّ ما يرشد إلى العلة في ذلك، وأوله: "كُلُوا جميعًا، ولا تفرَّقوا، فإن طعام الواحد يكفي الاثنين

" الحديث، فيؤخذ منه أن الكفاية تنشأ عن بركة الاجتماع، وأن الجمع كلما كثر زادت البركة.

وقيل: معناه: إن الله يضع من بركته فيه ما وَضع لنبيه صلى الله عليه وسلم، فيزيد حتى يكفيهم.

قال ابن العربيّ: وهذا إذا صحّت نيّتهم، وانطلقت ألسنتهم به، فإن قالوا: لا يكفينا قيل لهم: البلاء موكَّل بالمنطق.

وقال العز بن عبد السلام في "الأمالي": إن أُريدَ الإخبار عن الواقع فمُشْكِلٌ؛ لأنَّ طعام الاثنين لا يكفي إلَّا اثنين، وإن كان له معنى آخر، فما هو؟.

والجواب من وجهين: أحدهما: أنه خبر بمعنى الأمر؛ أي: أطعموا طعام الاثنين الثلاث، والثاني: أنه للتنبيه على أنَّ ذلك يَقُوت الثلاث، وأخبرنا بذلك لئلا نجزع، والأول أرجح؛ لأنَّ الثاني معلوم. انتهى.

ص: 456

وروى العسكريّ في "المواعظ" عن عمر رضي الله عنه مرفوعًا: "كُلُوا، ولا تَفَرَّقُوا، فإن طعام الواحد يكفي الاثنين، وطعام الاثنين يكفي الثلاثة والأربعة، كُلوا جميعًا، ولا تفرقوا، فإن البركة في الجماعة"، فيؤخذ من هذا أن الشرط الاجتماع على الأكل، وأن معنى الحديث: طعام الاثنين إذا كانا مُتفَرِّقَيْنِ كافي الثلاثة إذا أكلوا مُجْتَمِعين، ذكره الزرقانيّ رحمه الله

(1)

.

وقال الحافظ أبو عمر بن عبد البرّ رحمه الله: هكذا جاء هذا الحديث في "الموطأ" وغيره من حديث أبي الزناد، بهذا الإسناد، وقد رَوَى أبو الزبير عن جابر ما هو أعمّ من هذا، ثم أخرج بسنده عن ابن جريجٍ، قال: أخبرنا أبو الزبير، أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: "طعام الواحد يكفي الاثنين، وطعام الاثنين يكفي الأربعة، وطعام الأربعة يكفي الثمانية".

قال: فأما الكفاية والاكتفاء فليس بالشِّبَع والاستغناء، ألا ترى إلى قول أبي حازم رحمه الله: إذا كان لا يغنيك ما يكفيك، فليس في الدنيا شيء يغنيك، ومن هذا الحديث - والله أعلم - أخذ عمر بن الخطاب رضي الله عنه فِعْله عام الرَّمادة حين كان يُدخل على أهل كلّ بيت مثلهم، ويقول: لن يهلك امرؤ عن نصف قُوتِه. انتهى

(2)

.

وقال في "الفتح": نُقل عن إسحاق بن راهويه، عن جرير قال: معنى الحديث أن الطعام الذي يُشبع الواحد يكفي قُوْت الاثنين، ويشبع الاثنين قوت الأربعة، وقال المهلَّب: المراد بهذه الأحاديث الحضّ على المكارم، والتقنع بالكفاية، يعني وليس المراد الحصر في مقدار الكفاية، وإنما المراد المواساة، وأنه ينبغي للاثنين إدخال ثالث لطعامهما، وإدخال رابع أيضًا بحسب من يحضر، وقد وقع في حديث عمر عند ابن ماجة بلفظ:"إن طعام الواحد يكفي الاثنين، وإِن طعام الاثنين يكفي الثلاثة والأربعة، وإن طعام الأربعة يكفي الخمسة والستة"، ووقع في حديث عبد الرَّحمن بن أبي بكر في قصة أضياف أبي بكر رضي الله عنهما المذكور في الباب الماضي: "فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: من كان عنده طعام

(1)

"شرح الزرقاني على الموطّأ" 4/ 379 - 381.

(2)

"التمهيد" لابن عبد البرّ 19/ 25.

ص: 457

اثنين فليذهب بثالث، ومن كان عنده طعام أربعة فليذهب بخامس أو سادس"، وعند الطبرانيّ من حديث ابن عمر ما يرشد إلى العلة في ذلك، وأوله: "كُلُوا جميعًا ولا تفرّقوا، فإن طعام الواحد يكفي الاثنين

" الحديث، فيؤخذ منه أن الكفاية تنشأ عن بركة الاجتماع، وأن الجمع كلما كثر ازدادت البركة، وقد أشار الترمذيّ إلى حديث ابن عمر، وعند البزار من حديث سمرة نحو حديث عمر، وزاد في آخره: "ويد الله على الجماعة". انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [21/ 5356](2058)، و (البخاريّ) في "الأطعمة"(5392)، و (الترمذيّ) في "الأطعمة"(1820)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(4/ 178)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 407)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(5/ 207)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): استحباب الاجتماع على الطعام، وأن لا يأكل المرء وحده.

2 -

(ومنها): الإشارة إلى أن المواساة إذا حصلت حصلت معها البركة، فتعمّ الحاضرين.

3 -

(ومنها): أنه لا ينبغي للمرء أن يستحقر ما عنده، فيمتنع من تقديمه، فإن القليل قد يحصل به الاكتفاء، بمعنى حصول سدّ الرَّمَق، وقيام البُنْيَة، لا حقيقة الشِّبَع، ومنه قول عمر رضي الله عنه عام الرَّمَادة:"لقد هممت أن أُنزل على أهل كلّ بيت مثل عددهم، فإن الرجل لا يهلك على ملء بطنه".

4 -

(ومنها): أنه يؤخذ منه أن السلطان في الْمَسْغَبة يُفرِّق الفقراء على أهل السَّعة بقدر ما لا يضرّ بهم، والله تعالى أعلم.

(1)

"الفتح" 12/ 310، كتاب "الأطعمة" رقم (5392).

ص: 458

وبالسند المتّصل إلى المؤلِّف رحمه الله أَوَّل الكتاب قال:

[5357]

(2059) - (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ (ح) وَحَدَّثَنَي يَحْيَى بْنُ حَبِيبٍ، حَدَّثَنَا رَوْحٌ، حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، أخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْر، أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "طَعَامُ الْوَاحِدِ يَكْفِي الاثْنَيْن، وَطَعَامُ الاثْنَيْنِ يَكْفِي الأَرْبَعَةَ، وَطَعَامُ الأَرْبَعَةِ يَكْفِي الثَّمَانِيَةَ"، وَفِي رِوَايَةِ إِسْحَاقَ:"قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم"، لَمْ يَذْكُرْ:"سَمِعْتُ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

وكلّهم تقدّموا قريبًا، و"إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ" هو: ابن راهويه، و"ابْنُ جُرَيْجٍ" هو: عبد الملك بن عبد العزيز بن جُرَيْج، و"أَبُو الزُّبَيْرِ" هو: محمد بن مسلم بن تَدْرُس المكيّ، وشرح الحديث وأضح يُعلم مما سبق.

مسألتان تتعلّقان بهدا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [21/ 5357 و 5358 و 5359 و 5360](2059)، و (الترمذيّ) في "الأطعمة"(1820)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(6774)، و (ابن ماجة) في "الأطعمة"، و (ابن أبي شيبة) في "مصنفه"(5/ 143)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 301 و 382)، و (الدارميّ) في مسننه" (2/ 136)، و (أبو عوانة) في "مسنده" (5/ 206 و 207)، وأبو يعلى في "مسنده" (4/ 192)، و (ابن حبّان) في "صحيحه" (5237)، و (البيهقيّ) في "شُعَب الإيمان" (5/ 24)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة" (11/ 321)، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلِّف: رحمه الله أَوَّل الكتاب قال:

[5358]

(

) - (حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَمِي، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ (ح) وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَن، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ أبِي الزُّبَيْر، عَنْ جَابِرٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِ حَدِيثِ ابْنِ جُرَيْجٍ).

ص: 459

رجال هذا الإسناد: سبعة:

وكلّهم تقدّموا قريبًا، و"ابن نُمير" هو: محمد بن عبد الله، و"أبوه" هو: عبد الله بن نُمير الْهَمْدانيّ، و"عبد الرَّحمن " هو: ابن مهديّ، و"سفيان" هو الثوريّ.

[تنبيه]: رواية سفيان عن أبي الزبير هذه ساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(14260)

- حدّثنا عبد الله

(1)

، حدّثني أبي، ثنا وكيع، ثنا سفيان (ح) وعبد الرَّحمن، عن سفيان، عن أبي الزبير، عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "طعام الواحد يكفي الاثنين، وطعام الاثنين يكفي الأربعة، وطعام الأربعة يكفي الثمانية". انتهى

(2)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أَوَّل الكتاب قال:

[5359]

(

) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ، وَأَبُو كُرَيْبٍ: حَدَّثَنَا، وَقَالَ الآخَرَانِ: أَخْبَرَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الأَعْمَش، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ جَابِر، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "طَعَامُ الْوَاحِدِ يَكْفِي الاثْنَيْن، وَطَعَامُ الاثْنَيْنِ يَكْفِي الأَرْبَعَةَ").

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

وكلّهم تقدّموا قريبًا، و"أبو كريب" هو: محمد بن العلاء، و"أبو معاوية" هو: محمد بن خازم الضرير، و"أبو سفيان" هو: طلحة بن نافع.

والحديث من أفراد المصنّف: رحمه الله، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5360]

(

) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَعُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، قَالَا: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الأَعْمَش، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ جَابِرٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "طَعَامُ

(1)

ولد الإمام أحمد، راوي "المسند" عنه.

(2)

"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 3/ 301.

ص: 460

الرَّجُلِ يَكْفِي رَجُلَيْن، وَطَعَامُ رَجُلَيْنِ يَكْفِي أَرْبَعَةً، وَطَعَامُ أَرْبَعَةٍ يَكْفِي ثَمَانِيَةً").

رجال هذا الإسناد: ستّة:

وكلّهم تقدّموا قريبًا، و"جرير" هو: ابن عبد الحميد، و"الأعمش" هو: سليمان بن مِهْران، والحديث من أفراد المصنّف رحمه الله، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله، ولله الحمد والمنّة.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(22) - (بَابٌ "المُؤْمِنُ يَأْكُلُ في مِعًى وَاحِدٍ، وَالْكَافِرُ يَأْكُلُ فِي سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ")

" المِعَى" بكسر الميم، مقصورًا، وفي لغة حكاها في "المحكم" بسكون العين، بعدها تحتانية، والجمع أمعاء، ممدودًا، وهي المصارين

(1)

، وقد وقع في شعر القطاميّ بلفظ الإفراد في الجمع، فقال في أبيات له، حكاها أبو حاتم:

حَوَالِبُ غَزْرًا وَمِعًى جِيَاعًا

وهو كقوله تعالى: {ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا} [غافر: 67]، قال أبو حاتم السجستانيّ: المِعى مذكر، ولم أسمع من أثق به يؤنثه، فيقول: مِعًى واحدة، لكن قد رواه من لا يوثق به. انتهى

(2)

.

وقال في "القاموس"، و"شرحه":"الْمَعْيُ" بالفتح، و"الْمِعَى" كإِلَي، من أعفاج البطن، الأُولى عن ابن سِيدَهْ، واقتصر الجوهريّ وغيره على الأخيرة، وبه جاء الحديث:"المؤمن يأكل في مِعًى واحد"، وهو مذكَّر، وقد يؤنث، قال الفرّاء: أكثر الكلام على تذكيره، وربما ذهبوا به إلى التأنيث، كأنه واحد دلّ على الجمع، وأنشد للقطاميّ [من الوافر]:

(1)

"المَصِير": الْمِعَى، والجمع مُصْران، مثلُ رَغِيفِ ورُغْفَان، ثم المصارين جمع الجمع. اهـ. "المصباح" 2/ 574.

(2)

"الفتح" 12/ 312، كتاب "الأطعمة" رقم (5393).

ص: 461

كَأنَّ نُسُوعَ رَحْلِي حِينَ ضُمَّتْ

حَوَالِبَ غُرَّزًا وَمِعًى جِيَاعَا

أقام الواحد مقام الجمع، كما قال تعالى:{ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا} [غافر: 67] والجمع: أمعاء، ومنه الحديث:"والكافر يأكل في سبعة أمعاء"، قال القالي: الهاء في "سبعة" تدلّ على التذكير في الواحد، وقال الليث: الأمعاء: المصارين، وقال الأزهريّ: هو جميع ما في البطن، مما يتردّد فيه، من الْحَوَايَا كلّها. انتهى

(1)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أَوَّل الكتاب قال:

[5361]

(2060) - (حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْب، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَعُبَيْدُ اللهِ بْنُ سَعِيدٍ، قَالُوا: أَخْبَرَنَا يَحْيَى - وَهُوَ الْقطَّانُ - عَنْ عُبَيْدِ الله، أَخْبَرنِي نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "الكَافِرُ يَأْكُلُ فِي سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ، وَالْمُؤْمِنُ يَأْكُلُ فِي مِعًى وَاحِدٍ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ سَعِيدِ) بن يحيى اليشكريّ، أبو قُدامة السرخسيّ، ثقةٌ مأمون سنّيّ [10](ت 241)(خ م س) تقدم في "المقدمة" 6/ 39.

2 -

(عُبَيْدُ اللهِ) بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطّاب العُمَريّ، أبو عثمان المدنيّ، ثقةٌ ثبت فقيه [5] مات سنة بضع و (140)(ع) تقدم في "الإيمان" 28/ 222.

3 -

(نَافِعٌ) مولى ابن عمر، أبو عبد الله المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ مشهورٌ [3](ت 117)(ع) تقدم في "الإيمان" 28/ 222.

والباقون تقدّموا قريبًا.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه ثلاثة من الشيوخ قرن بينهم؛ لاتحادهم في الأخذ والأداء، فإنهم قرءوا على يحيى القظان، فقالوا: أخبرنا، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه ابن عمر رضي الله عنهما من العبادلة الأربعة، ومن المكثرين السبعة، ومن أشدّ الناس اتّباعًا للأثر رضي الله عنه.

(1)

"تاج العروس من جواهر القاموس" 1/ 8601.

ص: 462

شرح الحديث:

(عَنِ ابْنِ عُمَرَ) رضي الله عنهما (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (الكَافِرُ) ووقع عند البخاريّ من طريق عبدة بن سليمان، عن عبيد الله العمري بلفظ:"وأن الكافر، أو المنافق، فلا أدري أيهما قال عبيد الله"، قال في "الفتح": هذا الشكّ من عبدة، وقد أخرجه مسلم من طريق يحيى القطان عن عبيد الله بن عمر، بلفظ:"الكافر" بغير شكّ، وكذا رواه عمرو بن دينار، وكذا هو في رواية غير ابن عمر، ممن رَوَى الحديث من الصحابة رضي الله عنهم، إلَّا أنه ورد عند الطبرانيّ في رواية له من حديث سَمُرة رضي الله عنه بلفظ:"المنافق" بدل "الكافر". انتهى

(1)

.

(يَأْكُلُ فِي سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ) وإنما عَدِّي "يأكل" بـ "في"؛ لأنه بمعنى: يوقع الأكل فيها، ويجعلها ظرفًا للمأكول، ومنه قوله تعالى:{إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} [النساء: 10]؛ أي: ملء بطونهم. (وَالْمُؤْمِنُ يْأْكُلُ فِي مِعًى وَاحِدٍ") قال القرطبيّ رحمه الله ما حاصله: إن المؤمن الذي يعلم أن مقصود الشرع من الأكل ما يَسُدّ الجوع، ويمسك الرَّمَقَ، وَيقْوَى به على عبادة الله تعالى، ويخاف من الحساب على الزائد على ذلك، يَقِلّ أكله ضرورةً، ولذلك قال:"ما ملأ ابن آدم وعاءً شرًّا من بطن، حَسْبُ ابن آدم لُقيماتٌ يُقِمن صُلْبه، فإن كان لا مَحالةَ، فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لِنَفَسِه"

(2)

، وعلى هذا فقد يكون أكل المؤمن المذكور إذا نُسب إلى أكل الكافر المذكور سبُعًا، فيصير الكافر كان له سبعةَ أمعاء، يأكل فيها، والمؤمن له مِعًى واحد، وهذا أحد تأويلات الحديث، وهو أحسنها عندي. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(3)

.

وقال في "الفتح": قال العلماء: يؤخذ من الحديث الحضّ على التقلّل من الدنيا، والحثّ على الزهد فيها، والقناعة بما تيسَّر منها، وقد كان العقلاء في الجاهلية والإسلام يتمدَّحون بقلة الأكل، ويذمّون كثرة الأكل، كما في

(1)

"الفتح" 12/ 313، كتاب "الأطعمة" رقم (5393).

(2)

حديث صحيح، رواه أحمد 4/ 132، والترمذيّ (2380)، وصححه (ابن حبّان)(674).

(3)

"المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" 17/ 49.

ص: 463

حديث أم زرع أنَّها قالت في معرض المدح لابن أبي زرع: "ويشبعه ذراع الْجَفْرة"، وقال حاتم الطاليّ [من الطويل]:

فَإِنَّكَ إِنْ أَعْطَيْتَ بَطْنَكَ سُؤْلَهُ

وَفَرْجَكَ نَالا مُنْتَهَى الذَّمِّ أَجْمَعَا

وقال ابن التين رحمه الله: قيل: إن الناس في الأكل على ثلاث طبقات: طائفة تأكل كلّ مطعوم من حاجة وغير حاجة، وهذا فعل أهل الجهل، وطائفة تأكل عند الجوع بقدر ما يسدّ الجوع حسبُ، وطائفة يُجَوِّعون أنفسهم يقصدون بذلك قمع شهوة النفس، وإذا أكلوا أكلوا ما يَسُدّ الرّمَقَ. انتهى ملخصًا، وهو صحيح، لكنه لَمْ يتعرض لتنزيل الحديث عليه، وهو لائق بالطائفة الثانية. انتهى

(1)

.

[تنبيه]: اختُلِف في معنى هذا الحديث على أقوال:

[أحدها]: أنه ليس المراد به ظاهره، وإنما هو مَثَلٌ ضُرِب للمؤمن، وزُهده في الدنيا، والكافر، وحرصه عليها، فكأنّ المؤمن لتقلّله من الدنيا، يأكل في مِعًى واحدٍ، والكافر لشدة رغبته فيها، واستكثاره منها يأكل في سبعة أمعاء، فليس المراد حقيقة الأمعاء، ولا خصوص الأكل، وإنما المراد: التقلّل من الدنيا، والاستكثار منها، فكأنَّه عَبَّر عن تناول الدنيا بالأكل، وعن أسباب ذلك بالأمعاء، ووجه العلاقة ظاهرٌ.

[الثاني]: أن المعنى أن المؤمن يأكل الحلال، والكافر يأكل الحرام، والحلالُ أقلُّ من الحرام في الوجود، نقله ابن التين، ونَقَل الطحاويّ نحو الذي قبله، عن أبي جعفر بن أبي عمران، فقال: حَمَل قوم هذا الحديث على الرغبة في الدنيا، كما تقول: فلان يأكل الدنيا أكلُا؛ أي: يرغب فيها، وَيحْرِص عليها، فمعنى:"المؤمنُ يأكل في مِعًى واحدٍ"؛ أي: يزهد فيها، فلا يتناول منها إلَّا قليلًا، والكافر في سبعة؛ أي: يرغب فيها، فيستكثر منها.

[الثالث]: أن المراد: حضّ المؤمن على قلة الأكل، إذا عَلِم أن كثرة الأكل صفة الكافر، فإن نفس المؤمن تنفر من الاتّصاف بصفة الكافر، ويدلّ على أنَّ كثرة الأكل من صفة الكفار، قوله تعالى:{وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ} [محمد: 12].

(1)

"الفتح" 12/ 318، كتاب "الأطعمة" رقم (5393).

ص: 464

[الرابع]: أنه على ظاهره، ثم اختلفوا في ذلك على أقوال:

أحدهما: أنه ورد في شخص بعينه، واللام عهديّة، لا جنسيّة، جزم بذلك ابن عبد البرّ، فقال: لا سبيل إلى حمله على العموم؛ لأنَّ المشاهدة تدفعه، فكم من كافر يكون أقلّ أكلًا من مؤمن، وعكسه، وكم من كافر أسلم، فلم يتغيَّر مقدار أَكْله، قال: وحديث أبي هريرة يدلّ على أنَّه ورد في رجل بِعَيْنه، ولذلك عقَّب به مالك الحديث المطلق، وكذا البخاريّ، فكأنه قال: هذا إذا كان كافرًا كان يأكل في سبعة أمعاء، فلما أسلم عوفي، وبورك له في نفسه، فكفاه جزء من سبعة أجزاء، مما كان يكفيه وهو كافر. انتهى.

وقد سبقه إلى ذلك الطحاويّ في "مشكل الآثار"، فقال: قيل: إن هذا الحديث كان في كافر مخصوص، وهو الذي شرب حِلاب السبع شياه، قال: وليس للحديث عندنا مَحْملٌ غير هذا الوجه، والسابق إلى ذلك أوّلًا أبو عبيدة.

وقد تُعُقِّب هذا الحَمْل بأن ابن عمر راوي الحديث فَهِم منه العموم، فلذلك مَنَع الذي رآه يأكل كثيرًا من الدخول عليه، واحتجّ بالحديث، ثم كيف يتأتى حَمْله على شخص بِعَيْنه، مع ما سيأتي من ترجيح تعدد الواقعة، ويورد الحديث المذكور عقب كلّ واحدة منها في حقّ الذي وقع له نحو ذلك؟

القول الثاني: أن الحديث خرج مخرج الغالب، وليست حقيقة العدد مرادةً، قالوا: تخصيص السبعة للمبالغة في التكثير، كما في قوله تعالى:{وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ} [لقمان: 27]، والمعنى أن من شأن المؤمن التقلّل من الأكل؛ لاشتغاله باسباب العبادة، ولعِلْمه بأن مقصود الشرع من الأكل ما يسدّ الجوع، ويُمسك الرّمَق، ويعِيْن على العبادة، ولخشيته أيضًا من حساب ما زاد على ذلك، والكافر بخلاف ذلك كلّه، فإنه لا يقف مع مقصود الشرع، بل هو تابع لشهوة نفسه، مسترسل فيها، غير خائف من تَبِعات الحرام، فصار أكْل المؤمن لِمَا ذكرته إذا نُسب إلى أكل الكافر؛ كأنه بقَدْر السبع منه، ولا يلزم من هذا اطّراده في حقّ كلّ مؤمن وكافر، فقد يكون في المؤمنين من يأكل كثيرًا، إما بحَسَب العادة، وأما لعارض يَعْرِض له من مرض باطن، أو لغير ذلك، ويكون في الكفار من يأكل قليلًا، إما لمراعاة الصحة

ص: 465

على رأي الأطباء، وإما للرياضة على رأي الرهبان، وإما لعارض؛ كضعف المعدة.

قال الطيبيّ: ومُحَصَّل القول أن من شأن المؤمن الحرص على الزهادة، والاقتناع بالبُلغة، بخلاف الكافر، فإذا وُجد مؤمن، أو كافر على غير هذا الوصف، لا يقدح في الحديث، ومن هذا قوله تعالى:{الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَو مُشْرِكَةً} [النور: 3]، وقد يوجد من الزاني نكاح الحرّة، ومن الزانية نكاح الحرّ.

القول الثالث: أن المراد بالمؤمن في هذا الحديث: التامّ الإيمان؛ لأنَّ مَن حَسُن إسلامه، وكَمُل إيمانه اشتغل فكره فيما يصير إليه من الموت، وما بعده، فيمنعه شدَّة الخوف، وكثرة الفكر، والاشفاق على نفسه، من استيفاء شهوته، كما ورد في حديث لأبي إمامة رضي الله عنه رَفَعَهُ:"من كَثُر تفكّره قلّ طعمه، ومن قلَّ تفكره كثر طعمه، وقسا قلبه"، ويشير إلى ذلك حديث أبي سعيد رضي الله عنه الصحيح:"إن هذا المال حُلْوةٌ خَضِرةٌ، فمن أخذه بإشراف نفس، كان كالذي يأكل ولا يشبع"، فدلّ على أنَّ المراد بالمؤمن من يقتصد في مطعمه، وأما الكافر فمن شأنه الشَّرَهُ، فيأكل بالنَّهَم، كما تأكل البهيمة، ولا يأكل بالمصلحة لقيام البُنْية.

وقد رَدّ هذا الخطابيّ، وقال: قد ذُكِر عن غير واحد من أفاضل السلف الأكل الكثير، فلم يكن ذلك نقصًا في إيمانهم.

الرابع: أن المراد أن المؤمن يسمي الله تعالى عند طعامه، وشرابه، فلا يَشْرَكُهُ الشيطان، فيكفيه القليل، والكافر لا يسمي، فيشركه الشيطان، كما تقدم تقريره قبلُ، وفي "صحيح مسلم" في حديث مرفوع:"إن الشيطان يستحل الطعام، إذا لَمْ يُذكر اسم الله عليه".

الخامس: أن المؤمن يقلّ حرصه على الطعام، فيبارَك له فيه، وفي مأكله، فيشبع من القليل، والكافر طامح البصر إلى المأكل كالأنعام، فلا يُشبعه القليل، وهذا يمكن ضمّه إلى الذي قبله، ويُجعلان جوابًا واحدًا مركّبًا.

السادس: قال النوويّ: المختار أن المراد أن بعض المؤمنين يأكل في

ص: 466

مِعًى واحد، وأن أكثر الكفار يأكلون في سبعة أمعاء، ولا يلزم أن يكون كلّ واحد من السبعة مثل مِعَى المؤمن. انتهى.

قال الحافظ: ويدلّ على تفاوت الأمعاء ما ذكره عياض عن أهل التشريح، أن أمعاء الإنسان سبعة: المعدة، ثم ثلاثة أمعاء بعدها متصلة بها: البواب، ثم الصائم، ثم الرقيق، والثلاثة رقاق، ثم الأعور، والقولون، والمستقيم، وكلها غلاظ، فيكون المعنى أن الكافر لكونه يأكل بشراهة لا يشبعه إلَّا ملء أمعائه السبعة، والمؤمن يشبعه ملء مِعًى واحد.

ونَقَل الكرمانيّ عن الأطباء في تسمية الأمعاء السبعة أنَّها: المعدة، ثم ثلاثة متصلة بها رِقاق، وهي الاثنا عشري، والصائم، والقولون، ثم ثلاثة غلاظ، وهي الفانفيّ، بنون، وفاءين، أو قافين، والمستقيم، والأعور.

السابع: قال النوويّ رحمه الله: يَحْتَمِل أن يريد بالسبعة في الكافر صفات: هي الحرص، والشَّرَهُ، وطول الأمل، والطمع، وسوء الطبع، والْحَسَد، وحُبُّ السِّمَن، وبالواحد في المؤمن سدّ خَلَّته.

الثامن: قال القرطبيّ: شهوات الطعام سبع: شهوة الطبع، وشهوة النفس، وشهوة العين، وشهوة الفم، وشهوة الأذن، وشهوة الأنف، وشهوة الجوع، وهي الضرورية التي يأكل بها المؤمن، وأما الكافر فيأكل بالجميع.

قال الحافظ: ثم رأيت أصل ما ذكره في كلام القاضي أبي بكر بن العربيّ ملخّصًا، وهو أن الأمعاء السبعة كناية عن الحواسّ الخمس، والشهوة، والحاجة. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: عندي أن أرجح الأقوال هو ما تقدَّم عن القرطبيّ رحمه الله، وخلاصته: أن المؤمن الذي يعلم أن مقصود الشرع من الأكل ما يَسُدُّ الجوع، ويُمسك الرَّمَقَ، ويَقْوَى به على عبادة الله تعالى، ويخاف من الحساب على الزائد على ذلك، يَقلّ أَكْله ضرورة، فيكون أكل المؤمن إذا نُسب إلى أكل الكافر سُبُعًا، فيصير الكافر كأن له سبعةَ أمعاء، يأكل فيها، والمؤمن

(1)

"الفتح" 12/ 315 - 318، كتاب "الأطعمة" رقم (5393).

ص: 467

له مِعًى واحد، ويكون ذكر السبعة للتكثير، والمبالغة، لا للتحديد، وهذا واضح جدًّا.

قال أبو عمر بن عبد البرّ رحمه الله: هذا الحديث وما كان مثله فليس فيه إلَّا مدح المؤمن بقلّة رغبته في الدنيا، وزُهده فيها بأخذ القليل منها، في قُوْتِه، وأكْله، وشُربه، ولُبْسه، وكَسْبه، وأنه يأكل لِيَحْيَى، لا ليَسْمَن، كما جاء عن الحكماء، وقد صحّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال:"ما ملأ ابن آدم وعاءً شرًّا من بطنه، حسب ابن آدم أكلات يُقمن صلبه، وإن لا محالة، فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنَفَسِه"، وقد كانت العرب تمتدح بقلة الأكل، وذلك معروف في أشعارها، فكيف بأهل الإيمان؛ وأما من عَظُمت الدنيا في عينه، من كافر، وسفيه، فإنما همّته في شبع بطنه، ولذة فرجه، وأخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم أن المؤمن حقّ المؤمن شأنه يأكل في مِعىً واحد، وهذا مجاز دالّ على المدح في القليل من الأكل، والقناعة فيه، والاكتفاء به، والله تعالى أعلم بالصواب. انتهى

(1)

.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [22/ 5361 و 5362 و 5363](2060)، و (البخاريّ) في "الأطعمة"(5393 و 5394 و 5395)، و (الترمذيّ) في "الأطعمة"(4/ 266)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(4/ 178)، و (ابن ماجة) في "الأطعمة"(3257)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1/ 251)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(19559)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(8/ 321)، و (الحميديّ) في "مسنده"(2/ 295)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 21 و 74 و 145)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 99)، و (الطحاويّ) في "مشكل الآثار"(2/ 406)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5238)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(5/ 208 و 209 و 210)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(2/ 168)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(8/ 10)،

(1)

"الاستذكار" 8/ 347.

ص: 468

و (تمام الرازيّ) في "فوائده"(1/ 80)، و (البيهقيّ) في "شُعَب الإيمان"(5/ 22)، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5362]

(

) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي (ح) وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، وَابْنُ نُمَيْرٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ الله (ح) وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاق، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ أَيُّوبَ، كِلَاهُمَا عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِهِ).

رجال هذا الإسناد: اثنا عشر:

وكلّهم تقدَّموا قريبًا، و"أبو أسامة" هو: حمّاد بن أسامة، و"ابن نمير" هو: عبد الله بن نُمير، والد محمد شيخ المصنّف، و"عبيد الله" هو: ابن عمر الْعُمَريّ، و"عبد الرزّاق" هو: ابن همّام الصنعانيّ، و"معمر" هو: ابن راشد، و"أيّوب" هو: السختيانيّ.

وقوله: (قَالَا) الضمير لأبي أسامة، وابن نُمير.

وقوله: (كِلَاهُمَا عَنْ نَافِعٍ) الضمير لعبيد الله بن العمريّ، وأيوب السختيانيّ.

[تنبيه]: رواية أبي أسامة، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع ساقها ابن أبي شيبة رحمه الله في "مصنّفه"، فقال:

(24546)

- حدّثنا أبو بكر، قال: حدّثنا أبو أسامة، قال: حدّثنا عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المؤمن يأكل في مِعًى واحد، والكافر يأكل في سبعة أمعاء". انتهى

(1)

.

ورواية ابن نُمير، عن عبيد الله، عن نافع ساقها ابن ماجة: رحمه الله في "سننه"، فقال:

(3257)

- حدّثنا عليّ بن محمد، ثنا عبد الله بن نمير، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "الكافر يأكل في سبعة أمعاء،

(1)

"مصنف ابن أبي شيبة" 5/ 142.

ص: 469

والمؤمن يأكل في مَعْي واحد". انتهى

(1)

.

ورواية أيوب، عن نافع ساقها عبد الرزاق في "مصنّفه"، فقال:

(19059)

- أخبرنا عبد الرزاق، عن معمر، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن المؤمن يأكل في مِعًى واحد، وإن الكافر يأكل في سبعة أمعاء". انتهى

(2)

، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلِّف رحمه الله أَوَّل الكتاب قال:

[5363]

(

) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ خَلَّادٍ الْبَاهِلِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ وَاقِدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ زيدٍ، أَنَّهُ سَمِعَ نَافِعًا قَالَ: رَأَى ابْنُ عُمَرَ مِسْكِينًا، فَجَعَلَ يَضَعُ بَيْنَ يَدَيْه، وَيَضَع بَيْنَ يَدَيْه، فَالَ: فَجَعَلَ يَأْكُلُ أَكْلًا كَثِيرًا، قَالَ: فَقَالَ: لَا يُدْخَلَنَّ هَذَا عَلَيَّ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِنَّ الْكَافِرَ يَأْكُلُ فِي سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ خَلَّادٍ الْبَاهِلِيُّ) محمد بن خلّاد بن كثير البصريّ، ثقةٌ [10](ت 240) على الصحيح (مِ د ت س) تقدم في "المقدمة" 5/ 31.

2 -

(وَاقِدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زْيدِ) بن عبد الله بن عُمر بن الخطّاب العدويّ المدنيّ، ثقةٌ [6](خ م د س) تقدم في "الإيمان" 8/ 137.

والباقون ذُكروا في السند الماضي، وقبل بابين.

وقوله: (رَأَى ابْنُ عُمَرَ مِسْكِينًا) وفي رواية البخاريّ: "عن نافع قال: كان ابن عمر لا يأكل حتى يُؤْتَى بمسكين، يأكل معه، فأَدخلت رجلًا يأكل معه، فأكل كثيرًا، فقال: يا نافع لا تُدخِل هذا عليّ، سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: "المؤمن يأكل في مِعًى واحد، والكافر يأكل في سبعة أمعاء". انتهى.

[تنبيه]: هذا المسكين قال الحافظ في "الفتح": لعلّه أبو نَهِيك، وجزم في "مقدّمة الفتح" بأنه هو، والمذكور في "صحيح البخاريّ"، من طريق ابن عيينة، عن عمرو بن دينار: "كان أبو نَهِيك رجلًا أكولًا، فقال له ابن عمر: إن

(1)

"سنن ابن ماجة" 2/ 1084.

(2)

"مصنف عبد الرزاق" 10/ 419.

ص: 470

رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الكافر يأكل في سبعة أمعاء"، فقال:"أنا أومن بالله ورسوله"، وفي رواية الحميديّ: "قيل لابن عمر: إن أبا نَهِيك رجل من أهل مكّة يأكل أكلًا كثيرًا

" الحديث.

وقوله: (لَا يُدْخَلَنَّ هَذَا عَلَيَّ) ببناء الفعل للمفعول، وفي رواية البخاريّ المذكورة:"فقال: يا نافع لا تُدخِل هذا عليّ"، قال في "الفتح": هكذا حَمَل ابن عمر رضي الله عنهما الحديث على ظاهره، ولعلّه كَرِه دخوله عليه لَمّا رآه متَّصفًا بصفة وُصِف بها الكافر. انتهى

(1)

.

وقال النوويّ رحمه الله: وأما قول ابن عمر رضي الله عنهما في المسكين الذي أكل عنده كثيرًا: لا يُدْخَلنّ هذا عليّ، فإنما قال هذا؛ لأنه أشْبَه الكفار، ومَنْ أشبه الكفار كُرِهت مخالطته لغير حاجة، أو ضرورة، ولأن القَدْر الذي يأكله هذا يمكن أن يَسُدّ به خَلَّة جماعة. انتهى

(2)

.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله قبل حديث، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلِّف رحمه الله أَوَّل الكتاب قال:

[5364]

(2061) - (حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَن، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْر، عَنْ جَابر، وَابنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "المُؤْمِنُ يَأْكُلُ فِي مِعًى وَاحِدٍ، وَالْكَافِرُ يَأْكُلُ في سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

وكلّهم ذُكروا في الباب وقبله، وكذا شرح الحديث، وبيان مسائله، والله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلِّف رحمه الله أَوَّل الكتاب قال:

[5365]

(

) - (وَحَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْر، عَنْ جَابِرٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِه، وَلَمْ يَذْكَرِ ابْنَ عُمَرَ).

(1)

"الفتح" 12/ 313.

(2)

"شرح النوويّ" 14/ 25.

ص: 471

رجال هذا الإسناد: خمسة:

وكلّهم ذُكروا في الباب وقبله، و"ابن نُمير" هو: محمد بن عبد الله، و"أبوه" هو: عبد الله بن نُمير، و"سفيان" هو الثوريّ، و"أبو الزبير" هو: محمد بن مسلم بن تَدْرُس.

[تنبيه]: رواية سفيان الثوريّ، عن أبي الزبير هذه ساقها أبو عوانة رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(8408)

- حدّثنا أبو زرعة الرازيّ، قثنا قبيصة (ح) وحدّثنا الغزيّ، قال: ثنا الفِرْيابيّ، قالا: ثنا سفيان، عن أبي الزبير، عن جابر رضي الله عنه قال: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "المؤمن يأكل في مِعًى واحد، والكافر يأكل في سبعة أمعاء". انتهى

(1)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلِّف رحمه الله أَوَّل الكتاب قال:

[5366]

(2062) - (حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاء، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، حَدَّثَنَا بُرَيْدٌ، عَنْ جَدِّه، عَنْ أَبِي مُوسَى، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "المُؤْمِنُ يَأْكُلُ في مِعًى وَاحِدٍ، وَالْكَافِرُ يَأْكُلُ فِي سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(بُرَيْدُ) بن عبد الله بن أبي بُردة الأشعريّ الكوفيّ، ثقةٌ [6](ع) تقدم في "الإيمان" 16/ 171.

2 -

(جَدُّهُ) أبو بُردة بن أبي موسى الأشعريّ، قيل: اسمه عامر، وقيل: الحارث، ثقةٌ [3](ت 104)(ع) تقدم في "الإيمان" 16/ 171.

3 -

(أبُو مُوسَى) الأشعريّ عبد الله بن قيس بن سُليم بن حضّار الصحابيّ الشهير، مات رضي الله عنه سنة (50) أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 16/ 171.

والباقيان ذُكرا في الباب وقبله، وشرح الحديث واضح يُعلم مما سبق.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(1)

"مسند أبي عوانة" 5/ 207.

ص: 472

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [22/ 5366 و 5367](2062)، و (الترمذيّ) في "العلل الصغير"(1/ 759)، و (ابن ماجة) في "الأطعمة"(3258)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(917)، و (الطحاويُّ) في "مشكل الآثار"(2/ 408)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5234)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(5/ 208)، والله تعالى أعلم.

[تنبيه]: ذكر الترمذيّ رحمه الله حديث أبي موسى رضي الله عنه هذا، واستغربه، فقال في "العلل الصغير": رُبّ حديث يُروى من أوجه كثيرة، وإنما يستغرب لحال الإسناد.

حدّثنا أبو كريب، وأبو هشام الرِّفَاعيّ، وأبو السائب، والحسين الأسود، قالوا: ثنا أبو أسامة، عن بريد بن عبد الله بن أبي بردة، عن جدّه أبي بردة، عن أبي موسى، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"الكافر يأكل في سبعة أمعاء، والمؤمن يأكل في مِعًى واحد".

قال: هذا حديث غريب من هذا الوجه، من قِبَل إسناده، وقد رُوي من غير وجه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وإنما يُستغرب من حديث أبي موسى، وسألت محمود بن غيلان عن هذا الحديث، فقال: هذا حديث أبي كريب، عن أبي أسامة، وسألت محمد بن إسماعيل عن هذا الحديث، فقال: هذا حديث أبي كريب، عن أبي أسامة، ولم نعرفه إلَّا من حديث أبي كريب، عن أبي أسامة، فقلت: حدّثنا غير واحد عن أبي أسامة بهذا، فجعل يتعجب، ويقول: ما علمت أن أحدًا حدَّث بهذا غير أبي كريب، قال محمد: وكنا نُرَى أن أبا كريب أخذ هذا الحديث عن أبي أسامة في المذاكرة. انتهى

(1)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5367]

(

) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ - يَعْني: ابْنَ مُحَمَّدٍ - عَنِ الْعَلَاء، عَنْ أَبِيه، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِ حَدِيثِهِمْ).

(1)

"شرح علل الترمذيّ" لابن رجب رحمه الله 2/ 643.

ص: 473

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ) الدّراوَرْديّ الجهنيّ مولاهم، أبو محمد المدنيّ، صدوقٌ، كان يُحدِّث من كُتُب غيره، فيُخطئ [8](ت 6 أو 187)(ع) تقدم في "الإيمان" 8/ 135.

2 -

(الْعَلَاءُ) بن عبد الرَّحمن بن يعقوب الْحُرَقيّ، أبو شِبْل المدنيّ، صدوقٌ ربّما وَهِمَ (ز م 4) تقدم في "الإيمان" 8/ 135.

3 -

(أَبُوهُ) عبد الرَّحمن الْجُهنيّ الْحُرقيّ مولاهم المدنيّ، ثقةٌ [3](ز م 4) تقدم في "الإيمان" 8/ 135.

والباقيان ذُكرا في البابين الماضيين.

وقوله: (بِمِثْلِ حَدِيثِهِمْ)؛ يعني: أن أبا هريرة رضي الله عنه حدِّث عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم بما حدّث به عنه ابن عمر، وجابر بن عبد الله، وأبو موسى الأشعريّ رضي الله عنهم.

[تنبيه]: رواية أبي هريرة رضي الله عنه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم هذه ساقها أبو عوانة رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(8426)

- حَدَّثَنَا الصغانيّ، قال: ثنا الهيثم بن خارجة، قال: ثنا حفص بن ميسرة، عن العلاء بن عبد الرَّحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"الكافر يأكل في سبعة أمعاء، والمؤمن يأكل في مِعًى واحدٍ". انتهى

(1)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5368]

(2063) - (وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ عِيسَى، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِيه، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم ضَافَهُ ضَيْفٌ، وَهُوَ كَافِرٌ، فَأَمَرَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِشَاةٍ، فَحُلِبَتْ، فَشَرِبَ حِلَابَهَا، ثُمَّ أُخْرَي، فَشَرِبَهُ، ثُمَّ أُخْرَى، فَشَرِبَهُ، حَتَّى شَرِبَ حِلَابَ سَبْعِ شِيَاهٍ، ثُمَّ إِنَّهُ أَصْبَحَ، فَأَسْلَمَ، فَأَمَرَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِشَاةٍ، فَشَرِبَ حِلَابَهَا، ثُمَّ أَمَرَ بِأُخْرَى، فَلَمْ يَسْتَتِمَّهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "المُؤْمِنُ يَشْرَبُ فِي مِعًى وَاحِدٍ، وَالْكَافِرُ يَشْرَبُ فِي سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ").

(1)

"مسند أبي عوان" 5/ 210.

ص: 474

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(إِسْحَاقُ بْنُ عِيسَى) بن نَجِيح، أبو يعقوب بن الطبَّاع البغداديّ، سكن أَذَنَةَ، صدوقٌ [9](ت 214)، أو بعدها بسنة (م ت س ق) تقدم في "الكسوف" 3/ 2110.

2 -

(سُهَيْلُ بْنُ أَبِي صَالِحٍ) المدنيّ، تقدّم قريبًا.

3 -

(أَبُوهُ) أبو صالح ذكوان السمّان الزيّات، تقدّم أيضًا قريبًا.

والباقون ذُكروا في الباب وقبله.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم ضَافَهُ ضَيْفٌ)؛ أي: نزل عنده، وصار ضيفه، يقال: أضفته: إذا أنزلته، وضفتُ الرجلَ: إذا نزلت به، والضيف: اسم للواحد، والجميع، والمذكر، والمؤنث، يُذْهَب به مذهب المصدر، كما يقال: زَوْرٌ، وعَدْلٌ، ورِضًا، وقد جُمع على أضيافٍ، وضيوفٍ، وضِيفان، قاله القرطبيّ رحمه الله

(1)

.

وقال الفيّوميّ رحمه الله: الضَّيْفُ معروف، ويُطلق بلفظٍ واحدٍ على الواحد وغيره؛ لأنه مصدر في الأصل، من ضَافَهُ ضَيْفًا، من باب باع: إذا نزل عنده، وتجوز المطابقة، فيقال: ضَيْفٌ، وضَيْفَةٌ، وأَضْيَافٌ، وضِيفَانٌ، وأَضَفْتُهُ، وَضَيَّفْتُهُ: إذا أنزلته، وقَرَيْته، والاسم: الضِّيَافَةُ، قال ثعلب: ضِفْتَهُ: إذا نزلت به، وأنت ضيف عنده، وأَضَفْتَهُ بالألف: إذا أنزلته عندك ضَيْفًا، وأَضَفْتَهُ إِضَافَة: إذا لجأ إليك من خوف، فَأجَرْته، واسْتَضَافَنِي، فَأَضَفْتُهُ: استجارني، فأجرته، وتَضَيَّفَنِي، فَضَيَّفْتُهُ: إذا طلب الْقِرَي، فَقَريته، أو استجارك، فمنعته ممن يطلبه، وأَضَافَهُ إلى الشيء إِضَافَةً: ضمّه إليه، وأماله. انتهى

(2)

.

وقوله: (وَهُوَ كَافِرٌ) جملة حاليّة.

[تنبيه]: قال في "الفتح": هذا الرجل يُشبه أن يكون جَهْجاه الغفاريّ، فأخرج ابن أبي شيبة، وأبو يعلى، والبزار، والطبرانيُّ من طريقه: "أنه قَدِم في

(1)

"المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" 5/ 343 - 344.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 366.

ص: 475

نفر من قومه، يريدون الإسلام، فحضروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المغرب، فلما سَلّم، قال: ليأخذ كل رجل بيد جليسه، فلم يبق غيري، فكنت رجلًا عظيمًا طويلًا لا يُقَدَّم عليّ أحدٌ، فذهب بي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى منزله، فحَلَب لي عَنْزًا، فأتيت عليه، ثم حَلَب لي آخر، حتى حلب لي سبعةَ أَعْنُز، فأتيت عليها، ثم أتيت بصنيع بُرْمة، فأَتيت عليها، فقالت أم أيمن: أجاع الله من أجاع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: مَهْ يا أم أيمن، أَكَلَ رزقه، ورزقُنا على الله، فلما كانت الليلة الثانية، وصلَّينا المغرب صنع ما صَنَع في التي قبلها، فحَلَب لي عَنْزًا، ورَوِيتُ، وشَبِعتُ، فقالت أم أيمن: أليس هذا ضيفنا؟ قال: إنه أكل في مِعًى واحد الليلة، وهو مؤمن، وأكل قبل ذلك في سبعة أمعاء، الكافر يأكل في سبعة أمعاء، والمؤمن يأكل في مِعًى واحد".

وفي إسناد الجميع موسى بن عبيدة، وهو ضعيف.

وأخرج الطبرانيّ بسند جَيِّد عن عبد الله بن عمر، وقال:"جاء إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم سبعة رجال، فأخذ كلّ رجل من الصحابة رجلًا، وأخذ النبيّ صلى الله عليه وسلم رجلًا، فقال له: ما اسمك؟ قال: أبو غَزْوان، قال: فحَلَب له سبع شياه، فشَرِب لبنها كلّه، فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم: هل لك يا أبا غزوان أن تُسلِم؟ قال: نعم، فأسلم، فمسح رسول الله صلى الله عليه وسلم صدره، فلمّا أصبح حَلَب له شاةً واحدةً، فلم يُتِمّ لبنها، فقال: ما لك يا أبا غزوان؟ قال: والذي بعثك نبيًّا، لقد رَوِيتُ، قال: إنك أمس كان لك سبعة أمعاء، وليس لك اليوم إلَّا مِعًى واحد"، وهذه الطريق أقوى من طريق جهجاه.

ويَحْتَمِل أن تكون تلك كنيته، لكن يُقَوِّي التعدد أن أحمد أخرج من حديث أبي بصرة الغفاريّ قال: "أتيت النبيّ صلى الله عليه وسلم لَمّا هاجرت قبل أن أُسلم، فحَلَب لي شويهةً، كان يحلبها لأهله، فشربتها، فلما أصبحت أسلمت، وقال عيال النبيّ صلى الله عليه وسلم: نَبِيتُ الليلة كما بتنا البارحة جِياعًا، فحلب لي رسول الله صلى الله عليه وسلم شاةً، فشربتها، ورَوِيتُ، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: أَرَوِيت؟ فقلت: يا رسول الله قد رَوِيتُ، ما شَبِعت، ولا رَوِيت قبل اليوم

" الحديث، وهذا لا يُفَسَّر به المبهم في حديث الباب، وإن كان المعنى واحدًا، لكن ليس في قصته خصوص العدد.

ص: 476

ولأحمد أيضًا، وأبي مسلم الكجيّ، وقاسم بن ثابت، في "الدلائل"، والبغويّ في "الصحابة" من طريق محمد بن معن بن نَضْلة الغفاريّ: حدّثني جدّي نَضْلة بن عمرو قال: أقبلت في لقاح لي حتى أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأسلمت، ثم أخذت عُلبة، فحلبت فيها فشربتها، فقلت: يا رسول الله إن كنت لأشربها مرارًا لا أمتلئ - وفي لفظ: إن كنت لأشرب السبعة فما أمتليء، فذكر الحديث، وهذا أيضًا لا ينبغي أن يُفَسَّر به مبهم حديث الباب؛ لاختلاف السياق.

ووقع في كلام النوويّ

(1)

تبعًا لعياض

(2)

أنه بصرة بن بصرة

(3)

الغفاريّ، وذكر ابن إسحاق في "السيرة" من حديث أبي هريرة في قصة ثُمامة بن أثال أنه لَمّا أُسر، ثم أسلم، وقعت له قصة تشبه قصة جَهْجاه، فيجوز أن يُفَسَّر به، وبه صدّر المازريّ

(4)

كلامه. انتهى.

(فَأَمَرَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِشَاةٍ، فَحُلِبَتْ) بالبناء للمفعول، (فَشَرِبَ حِلَابَهَا)

بكسر الحاء المهملة، بوزن كتاب: المراد به هنا هو المحلوب، وهو اللبن، وقد يقال على الْمِحْلَب: حلاب، وهو: الإناء الذي يُحلَب فيه، وقد تقدَّم في "الطهارة"، قاله القرطبيّ رحمه الله

(5)

.

وقال المجد: رحمه الله: الْحَلْبُ - أي: بفتح، فسكون - ويُحرّك: استخراج ما في الضرع من اللبن؛ كالحِلَاب بالكسر، والاحتلاب، والفعل من بابي نصر، وضرب، والْمِحْلب، والحلاب بكسرهما: إناء يُحْلبَ فيه. انتهى

(6)

.

قال الجامع عفا الله عنه: والمناسب هنا هو المعنى المصدريّ، كما قال القرطبيّ بتأويله بالمفعول؛ أي: شرب محلوبها كلِّه، والله تعالى أعلم.

(1)

"شرح النوويّ" 14/ 25.

(2)

"إكمال العلم" 6/ 556.

(3)

وقع في النُّسخ عند النووي، وعياض، و"الفتح": نضرة بن أبي نضرة بالضاد المعجمة، وهو غلط، وإنما هو بالصاد المهملة.

(4)

"المعلم" 3/ 72.

(5)

"المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" 5/ 344.

(6)

"القاموس المحيط" ص 310.

ص: 477

(ثُمَّ أُحرَى)؛ أي؛ ثمّ أمر صلى الله عليه وسلم بحلب شاة أخرى، فحُلبت (فَشَرِبَهُ) كلِّه، (ثُمَّ أُخْرَى، فَشَرِبَهُ) كلّه (حَتَّى شَرِبَ حِلَابَ سَبْعِ شِيَاهٍ) بالكسر: جمع شاة، قال الفيّوميّ رحمه الله: الشاة: من الغنم يقع على الذكر والأنثى، فيقال: هذا شاةٌ للذكر، وهذه شاةٌ للأنثى، وشاةٌ ذَكَرٌ، وشاةٌ أنثى، وتصغيرها شُويهةٌ، والجمع شاءٌ، وشِياهٌ بالهاء رجوعًا إلى الأصل، كما قيل: شَفَةٌ وشِفَاهٌ، ويقال: أصلها شاهةٌ، مثلُ عاهة. انتهى

(1)

.

(ثُمَّ إِنَّهُ أصْبَحَ) الرجل (فَأَسْلَمَ، فَأَمَرَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِشَاةٍ)؛ أي: بحلب شاة، فحُلبت (فَشَرِبَ حِلَابَهَا، ثُمَّ أَمَرَ) بِـ "حَلْب شاةٍ"(أُخْرَي، فَلَمْ يَسْتَتِمَّهَا)؛ أي: لَمْ يشرب كلّها، بل اكتفى ببعضها، (فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"المُؤْمِنُ يَشْرَبُ فِي مِعًى وَاحِدٍ، وَالْكَافِرُ يَشْرَبُ فِي سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ") قال البيهقيّ رحمه الله في "شُعَبه" بعد أن ساق الحديث المذكور ما نصّه: وقد أشار أبو عبيد في معنى الحديث إلى هذه الرواية المفسَّرة، فلم أر الْحَلِيميّ رضيه، فكأن الحليمي لَمْ يَحفظ هذه الرواية، ثم قال في آخر كلامه: وإن كان إنما قاله حين وُصف له رجل بِعَيْنه، فمعناه إذًا أن الذي يليق بالكافر أن يكثر أكله، وبالمؤمن أن يقلّ أكله؛ لأنَّ الكافر لا يقصد إلَّا تسكين المجاعة، وقضاء الشهوة، والمؤمن يَدَع البعض؛ لأنه حرام، ويَدَع البعض إيثارًا به على نفسه، ويَدَع البعض لئلا يثقل، فتنقطع العبادة، ويدع البعض لِفَرط ما فيه من النعمة خيفة ألا يستطيع القيام بشكره، ويدع البعض رياضةً لنفسه، وقَمْعًا لشهوته، حتى لا يستقصى عليه، وَيدَع البعض لئلا يعتاده، فإن لَمْ يجده في وقتٍ اشتَدّ عليه ذلك، أو وجد من ذلك في نفسه، والكافر ليس به إلَّا مَلْء بطنه؛ لأنَّ هذه الوجوه كلها إنما تنبعث عن النظر من قِبَل الإيمان والتقوي، فهو لا يترك لأجلهما شيئًا، وإنما أمامه شهوته دون ما عداها.

والْمِعَى في هذا الحديث الْمَعِدة، ومعناه أنه يأكل الكافر أَكْل من له سبعة أمعاء، والمؤمن لِخِفّة أكْله يأكل أَكْل من ليس له إلَّا معى واحد، والله أعلم.

قال: وقرأت في "كتاب الغريبين" قال: قال أبو عبيد: نرى ذلك بتسمية

(1)

"المصباح المنير" 1/ 328.

ص: 478

المؤمن عند طعامه، فيكون فيه البركة، والكافر لا يفعل ذلك، وقيل: إنه خاصّ لرجل، وقال غيره: وفيه وجه أحسن من ذلك كله، وهو أنه مَثَل ضربه النبيّ صلى الله عليه وسلم للمؤمن، وزهده في الدنيا، والكافر وحرصه عليها، ولهذا قيل: الرُّغْب

(1)

شُؤم؛ لأنه يَحْمِل صاحبه على اقتحام النار، وليس معناه كثرة الأكل دون اتساع الرغبة في الدنيا.

وذكر أبو سليمان هذه الوجوه، ثم قال: وقد قيل: إن الناس في الأكل على طبقات: فطائفة يأكلون كلما وجدوا مطعومًا عن حاجة إليه، وعن غير حاجة، وهذا فِعْل أهل الجهل، والغفلة الذين شاكلت طباعهم طباع البهائم، وطائفة يأكلون إذا جاعوا، فإذا ارتفع الجوع أمسكوا، وهذه عادة المقتصدين من الناس، والمتماسكين منهم في الشمائل والأخلاق، وطائفة يتجوّعون، ويرتاضون الجوع قمعًا لشهوات النفوس، فلا يأكلون إلَّا عند الضرورة، ولا يزيدون منه على ما يكسر غرب الجوع، وهذا من عادة الأبرار، وشمائل الصالحين الأخيار. انتهى ما كتبه البيهقيّ رحمه الله في "شُعَب الإيمان"

(2)

.

وقال الحاكم الترمذيّ في كتابه "نوادر الأصول في أحاديث الرسول": "الأصل التاسع والخمسون" في معنى أمعاء الآدميّ لِمَ كانت سبعًا، فصارت واحدة، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:"المؤمن يأكل في مِعًى واحد، والكافر يأكل في سبعة أمعاء".

قال أبو عبد الله: الإنسان مبني على سبعة: على الشرك، والشكّ، والغفلة، والرغبة، والرهبة، والشهوة، والغضب، فهذه أخلاقه، وأيُّ خلق من هذه الأخلاق استولى على قلبه نُسب إليه دون الآخر.

ومما يُحَقّق ذلك قوله تعالى: {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43) لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (44)} [الحجر: 43، 44]، فأهل النار مجزءون مقسمون على هذه الأبواب السبعة، فكل جزء منهم صار جزءًا بِخُلُق من هذه الأخلاق المستولية عليه.

ومما يحقق ذلك ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

(1)

بضمّ الراء، وفتحها مصدر رَغِب.

(2)

"شُعَب الإيمان" 5/ 23.

ص: 479

"للنار باب لا يدخلها منه إلَّا من شفا غيظه بسخط الله تعالى"، وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لجهنم سبعة أبواب، باب منها لمن سَلّ سيفه على أمتي"، فهذه للرغبة، والأول للغضب، فابن آدم مبني على هذه الأخلاق السبعة، فإذا ولج الإيمان القلب نفى هذه السبعة من القلب، فبقدر قوّة الإيمان تذوب هذه الأخلاق من النفس، وعلى قدر ضَعفه يبقى ضررهنّ، فإذا اكتمل النور، وامتلأ القلب منه لَمْ يبق لهذه الأخلاق فيه موضع، فنفى الشرك، والشك، والغفلة أصلًا، وصار بدل الشرك إخلاصًا، وبدل الشك يقينًا، وبدل الغفلة انتباهًا، وكشف غطاء معاينة، وصار الغضب له، وفي ذاته، وصارت الرغبة إليه، والرهبة منه، وصارت الشهوة مُنْيَة، وكانت نهمة، وبقدر ضعف الإيمان، وسقمه يبقى من هذه الأخلاق في المؤمن، فبقي منه شرك الأسباب، وشك الأرزاق، وغفلة التدبير في كُنْه الأمور، والرغبة، والطمع في الخلق، والرهبة منهم في المضارّ والمنافع، واستعمال الشهوات على النهمة، فإيمانه يقتضيه ما عقد في توحيده لربه أن هذه الأشياء كلها منه، وله، وأخلاقه تمنعه الوفاء بذلك عند نوائبه، فلذلك يبقى في عرصة القيامة محاسبًا في مدة طويلة، والآخر كَمُل إيمانه، فامتلأ قلبه من نور الإيمان، فصار كما وصفنا بدءًا، فسقط عنه الحساب غدًا.

فابن أدم يأكل في مِعًى واحد أعني الخِلقة، إلَّا أن هذه الأخلاق السبعة سوى الغضب قد عملت على قلبه، فصار كأنه يأكل في سبعة أمعاء، فإذا آمن، فامتلأ قلبه من نور الإيمان سكنت هذه الأخلاق، فشبع، ورَوِي؛ لأنه قد ثقل قلبه بما وَلَج فيه من الإيمان، فإذا آمن، فإنما يأكل بمعاه الذي خُلق فيه، وكلما كان أوفر حظًّا من إيمانه، كان أقلّ لطعمه بهذا المعى الواحد أيضًا، وإذا كان كافرًا فهذه الأخلاق الستة تعمل على قلبه حتى يصير كأنه يأكل في سبعة أمعاء؛ لأنَّ الشرك، والشكّ، والغفلة، والشهوة، والرغبة، والرهبة، هي أعوان لحرصه، فإذا حَرَص لَمْ يشبع، واحتاج إلى الكثير، والذي سكنت عنه هذه الستة الأخلاق بولوج الإيمان قلبه ذاب الحرص في جوفه، وثقل الإيمان في قلبه، فأكل بمعاه الذي خُلق للآدميين، فاكتفى بذلك. انتهى

(1)

، وقد تقدّم

(1)

"نوادر الأصول في أحاديث الرسول" 1/ 29.

ص: 480

تمام البحث في هذا في شرح الحديث الأول في الباب، ولله الحمد والمنّة.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف رحمه الله) هنا [22/ 5368](2063)، وأخرجه (البخاريّ) مختصرًا بلفظ: "المؤمن يأكل

إلخ" (5396 و 5397)، و (الترمذيّ) في "الأطعمة" (1819)، و (النسائيّ) في "الكبرى" (4/ 200)، و (ابن ماجة) في "الأطعمة" (3256)، و (مالك) في "الموطأ" (3/ 109 و 110)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه" (19558)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه" (8/ 321)، و (أحمد) في "مسنده" (2/ 257 و 318 و 375 و 415 و 435 و 455)، و (الطحاويّ) في "مشكل الآثار" (2/ 408 و 409)، و (ابن حبّان) في "صحيحه" (162)، و (أبو عوانة) في "مسنده" (5/ 209)، و (البيهقيّ) في "دلائل النبوّة" (6/ 116 - 117) و"شُعَب الإيمان" (5/ 23)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة" (2880)، والله تعالى أعلم.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(23) - (بَابٌ لَا يَعِيبُ الطَّعَامَ)

قوله: "يَعِيبُ" بفتح حرف المضارعة، مضارع عاب، من باب باع.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف: رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5369]

(2064) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ زُهَيْرٌ: حَدَّثَنَا، وَقَالَ الآخَرَانِ: أخْبَرَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الأَعْمَش، عَنْ أَبِي حَازِم، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: مَا عَابَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم طَعَامًا قَطُّ، كَانَ إِذَا اشْتَهَى شَيْئًا أَكَلَهُ، وَإِنْ كَرِهَهُ تَرَكَهُ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(أبُو حَازِمٍ) سلمان الأشجعيّ الكوفيّ، تقدّم قبل بابين.

ص: 481

والباقون تقدّموا في البابين الماضيين، و"جرير" هو: ابن عبد الحميد.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه رأس المكثرين السبعة.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: مَا عَابَ)؛ أي: ما تنقّص (رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم

طَعَامًا قَطُّ)؛ أي: طعامًا مباحًا، أما الحرام فكان يعيبه، ويذُمّه، وينهى عنه، وذهب بعضهم إلى أن العيب إن كان من جهة الْخِلْقة كُرِهَ، وإن كان من جهة الصَّنْعة لَمْ يُكرَه، قال: لأنَّ صنعة الله لا تُعاب، وصنعة الآدميين تعاب.

والذي يظهر - كما قال الحافظ رحمه الله: التعميم، فإن فيه كسر قلب الصانع، قال النوويّ: من آداب الطعام المتأكدة أن لا يعاب؛ كقوله: مالحٌ، حامضٌ، قليل الملح، غليظٌ، رقيقٌ، غير ناضج، ونحو ذلك. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: والذي يظهر لي أن ما قاله النوويّ ليس على إطلاقه، فإنه إن كان لتنبيه خادمه أو أهل بيته على أنْ لا يصنعوا مثله، فهو جائز دون كراهة؛ لأنَّ هذا من باب التعليم لهم، والتدريب على الصنعة، وإن كان نزل ضيفًا، أو دخل على بعض أصدقائه، فقرّبوا له طعامًا، فلا ينبغي له أن يقول ما سبق؛ فإن فيه كسر قلب المضيف، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

(كَانَ) صلى الله عليه وسلم (إِذَا اشْتَهَى شَيْئًا)؛ أي: أَكْل شيء (أَكَلَهُ، وَإِنْ كَرِهَهُ تَرَكَهُ) هذا مثلُ ما وقع له صلى الله عليه وسلم في الضبّ، ووقع في رواية أبي يحيى التالية:"وإن لَمْ يشتهه سكت"؛ أي: عن عيبه، قال ابن بطال: هذا من حُسن الأدب؛ لأنَّ المرء قد لا يشتهي الشيء، ويشتهيه غيره، وكلُّ مأذون في أكْله من قِبَل الشرع ليس فيه عيب. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(1)

"شرح البخاريّ" لابن بطال 9/ 478.

ص: 482

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [23/ 5369 و 5370 و 5371 و 5372 و 5373](2064)، و (البخاريّ) في "الأنبياء"(3563) و"الأطعمة"(5409)، و (أبو داود) في "الأطعمة"(3764)، و (الترمذيّ) في "البرّ والصلة"(2031)، و (ابن ماجه) في "الأطعمة"(3300 و 3301)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 474 و 479 و 481) و"الزهد"(1/ 4)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6436 و 6437)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(5/ 212 و 213)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(11/ 77)، و (ابن راهويه) في "مسنده"(1/ 251)، و (ابن الجعد) في "مسنده"(1/ 120)، و (أبو نعيم) في "الحلية"(7/ 131)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(7/ 279) و"دلائل النبوّة"(1/ 321) و"شُعَب الإيمان"(5/ 84)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(2843)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان ما كان عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم من حسن الخُلُق، وَليْن الجانب، فلا يعيب طعامًا، ولا يذمّه، وإن لم يُعجبه، تعظيمًا لنعمة الله تعالى، وسترًا على صانعه، فهو كما وصفه الله - سبحانه الله وتعالى - بقوله:{وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)} [القلم: 4]

2 -

(ومنها): بيان أدب من آداب الأكل، وهو أن لا يعيب الطعام، بل إن أعجبه، وإلا تركه، وسكت على ما يراه عيبًا.

قال القرطبيّ رحمه الله: هذا من أحسن آداب الأكل، وأهمها، وذلك: أن الأطعمة كلها نِعَم الله تعالى، وعَيْبُ شيء من نِعَم الله تعالى مخالف للشكر الذي أمر الله تعالى به عليها، وعلى هذا فمن استطاب طعامًا فليأكل، ويشكر الله تعالى؛ إذ مَكَّنه منه، وأوصل منفعته إليه، وإن كرهه فليتركه، ويشكر الله تعالى؛ إذ مكّنه منه، وأعفاه عنه، ثم قد يستطيبه، أو يحتاج إليه في وقت آخر فيأكله، فتتمّ عليه النعمة، ويَسْلَم مما يناقض الشكر. انتهى

(1)

.

3 -

(ومنها): أن هذا لا ينافي ما تقدّم من قوله صلى الله عليه وسلم في الضبّ: "تعافه

(1)

"المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" 5/ 344.

ص: 483

نفسي"؛ لأن ذاك إخبار بعدم رغبته في أكله، لا عيب في نفس الضبّ، فإنه من جملة نِعَم الله تعالى التي تستحقّ التعظيم والشكر لخالقها، ولذا أمر صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد بأكلها.

4 -

(ومنها): أن هذا أيضًا لا ينافي الإنكار على من أساء في صنعة الطعام من الخدم، والأهل، فإن تعليمهم، وتنبيههم على أخطائهم؛ لئلا يقعوا في مثله فيما يُستقبَل مشروع، وممدوح لا ممنوع، ولا مذموم.

قال بعضهم: الذي يظهر أن عيب الطعام إن كان من أجل خِلْقته، فهو حرامٌ؛ لكونه عيبًا لِخَلْق الله - سبحانه الله وتعالى -، وإن كان من أجل سوء صُنعته، فمكروه إن كان المقصود منه تحقير الطعام، أو الكفر بالنعمة، أو تحقير الصانع، وأما إذا كان لأجل النصح للصانع حتى يتنبّه على ما أخطأ في صنعته، فيجتنب فيما يُستقبل، فالظاهر أنه ليس من العيب الممنوع إذا كان برفق، لا يكسر به قلب الصانع من غير ضرورة، وكذلك إذا كان إخبارًا عن كراهية طبيعيّة في قلب الطاعم، كما مرّ من قوله صلى الله عليه وسلم:"تعافه نفسي" في الضبّ

(1)

.

وأخرج الترمذيّ في "الشمائل" حديثًا لهند بن أبي هالة رضي الله عنه بسند فيه ضَعف، وَصَفَ فيه هند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيه:"يعظم النعمة، وإن دقّت، غير أنه لم يكن يذمّ ذواقًا، ولا يمدحه".

قال الشيخ علي القاري رحمه الله

(2)

: أما نفي الذمّ فلكونه نعمةً أيّ نعمة، وذمّ النعمة كفران، وشعار للمتكبّرين والجبابرة، وأما نفي مدحه فلكونه يُشعر بالحرص والشَّرَه، ولعلّ المدح هنا هو ما كان منشؤه الحرص والشّرَهَ، أما إذا كان شكرًا لله تعالى، أو تشجيعًا لصانعه، وشكرًا لحسن صنعته، فالظاهر أنه ليس بمكروه، ويدلّ عليه ما أخرجه مسلم، والترمذيّ في قصّة ضيافة أبي الهيثم بن التّيّهان رضي الله عنه من قول النبيّ صلى الله عليه وسلم:"لتسئلنّ عن هذا النعيم يوم القيامة، ظل باردٌ، ورُطَبٌ طيّبٌ، وماءٌ باردٌ"، وقد تقدّمت القصّة في "باب جواز استتباعه غيره

إلخ"، فراجعها، وبالله تعالى التوفيق.

(1)

راجع: "تكملة فتح الملهم"4/ 85.

(2)

راجع: "جمع الوسائل في شرح الشمائل" لعليّ القاري رحمه الله 2/ 13.

ص: 484

وبالسند المتّصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5370]

(

) - (وَحَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ الأَعْمَشُ، بِهَذَا الإسْنَادِ مِثْلَهُ).

رجال هذا الإسناد: ثلاثة:

1 -

(أحْمَدُ بْنُ يُونُسَ) هو: أحمد بن عبد الله بن يونس التميميّ اليربوعيّ، أبو عبد الله الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ، من كبار [10](ت 227) وهو ابن (94)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 53.

2 -

(زُهَيْرُ) بن معاوية بن حُديج، تقدّم قريبًا.

و"الأعمش" ذُكر قبله.

[تنبيه]: رواية زهير بن معاوية، عن الأعمش هذه ساقها ابن حبّان رحمه الله في "صحيحه"، فقال:

(6436)

- أخبرنا أبو عروبة، حدّثنا عبد الرحمن بن عمرو البجليّ، حدّثنا زهير بن معاوية، حدّثنا الأعمش، عن أبي حازم، عن أبي هريرة، قال:"ما عاب رسول الله صلى الله عليه وسلم طعامًا قطّ، إذا اشتهى أكل، وإلا ترك". انتهى

(1)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5371]

(

) - (وَحَدَّثَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزاق، وَعَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عَمْرو، وَعُمَرُ بْنُ سَعْدٍ أَبُو دَاوُدَ الْحَفَرِيُّ، كُلُّهُمْ عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ الأَعْمَش، بِهَذَا الإسْنَادِ نَحْوَهُ).

رجال هذا الإسنَاد: ستة:

1 -

(عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عَمْرٍو) أبو عامر الْعَقَديّ البصريّ، ثقة [9](ت 4 أو 205)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 21.

2 -

(عُمَرُ بْنُ سَعْدٍ أَبُو دَاوُدَ الْحَفَرِيُّ) بفتحتين: نسبة إلى موضع بالكوفة، ثقةٌ عابدٌ [9](ت 203)(م 4) تقدم في "النكاح" 15/ 3498.

والباقون ذُكروا في الباب وقبله، و"سفيان" هو: الثوريّ.

(1)

"صحيح ابن حبان" 14/ 347.

ص: 485

[تنبيه]: رواية سفيان الثوريّ عن الأعمش هذه ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:

(5093)

- حدّثنا محمد بن كثير، أخبرنا سفيان، عن الأعمش، عن أبي حازم، عن أبي هريرة، قال:"ما عاب النبيّ صلى الله عليه وسلم طعامًا قطّ إن اشتهاه أكله، وإن كرهه تركه". انتهى

(1)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5372]

(

) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْب، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَعَمْرٌو النَّاقِدُ - وَاللَّفْظُ لأَبِي كُرَيْبٍ - قَالُوا: أَخْبَرَنَا أَبُوً مُعَاوَيةَ، حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ، عَنْ أبِي يَحْيَى مَوْلَى آلِ جَعْدَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَابَ طَعَامًا قطُّ، كَانَ إِذَا اشْتَهَاهُ أكَلَهُ، وإِنْ لَمْ يَشْتهِهِ سَكَتَ).

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(عَمْرٌو النَّاقِدُ) هو: عمرو بن محمد بن بُكير البغداديّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(أَبُو يَحْيَى مَوْلَى آلِ جَعْدَةَ) ابن هُبيرة المخزوميّ المدنيّ، مقبولٌ [4].

رَوَى عن أبي هريرة هذا الحديث، وعنه الأعمش.

أخرج له البخاريّ في "الأدب المفرد"، والمصنّف، وابن ماجه، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الموضع.

والباقون تقدّموا في البابين الماضيين.

[تنبيه]: قال النوويّ رحمه الله: ذَكَر مسلم في الباب اختلاف طرُق هذا الحديث، فرواه أوّلًا من رواية الأكثرين عن الأعمش، عن أبي حازم، عن أبي هريرة، ثم رواه عن أبي معاوية، عن الأعمش، عن أبي يحيى مولى آل جعدة، عن أبي هريرة، وأنكر عليه الدارقطنيّ هذا الإسناد الثاني، وقال: هو مُعَلٌّ، قال القاضي عياض: وهذا الإسناد من الأحاديث المعلّة في كتاب مسلم التي بَيّن مسلم علّتها كما وَعَدَ في خطبته، وذكر الاختلاف فيه، ولهذه العلّة لم يذكر البخاريّ حديث أبي معاوية، ولا خَرّجه من طريقه، بل خَرَّجه من طريق آخر،

(1)

"صحيح البخاريّ" 5/ 2065.

ص: 486

وعلى كل حال فالمتن صحيحٌ، لا مَطْعَن فيه، والله أعلم. انتهى

(1)

.

وقال في "الفتح" بعد ذكر رواية أبي حازم عن الأعمش ما نصّه:

وللأعمش فيه شيخ آخر، أخرجه مسلم من طريق أبي معاوية عنه، عن أبي يحيى مولى آل جعدة، عن أبي هريرة، وأخرجه أيضًا من طريق أبي معاوية، وجماعة عن الأعمش، عن أبي حازم، واقتصر البخاريّ على أبي حازم؛ لكونه على شرطه دون أبي يحيى، وأبو يحيى مولى جعدة بن هُبيرة المخزوميّ مدنيّ، ما له عند مسلم سوى هذا الحديث، وقد أشار أبو بكر بن أبي شيبة فيما رواه ابن ماجه عنه إلى أن أبا معاوية تفرّد بقوله:"عن الأعمش، عن أبي يحيى"، فقال لمّا أورده من طريقه: يخالفه فيه بقوله: عن أبي حازم، وذكره الدارقطنيّ فيما انتَقَد على مسلم، وأجاب عياض بأنه من الأحاديث المعللة التي ذَكَر مسلم في خطبة كتابه أنه يوردها، ويبيّن علّتها، كذا قال.

قال الحافظ: والتحقيق أن هذا لا علّة فيه لرواية أبي معاوية الوجهين جميعًا، وإنما كان يأتي هذا لو اقتصر على أبي يحيى، فيكون حينئذ شاذًّا، أما بعد أن وافق الجماعة على أبي حازم، فتكون زيادة محضةً، حفظها أبو معاوية، دون بقية أصحاب الأعمش، وهو من أحفظهم عنه، فيُقبَل، والله أعلم. انتهى كلام الحافظ رحمه الله

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: هكذا أجاب الحافظ رحمه الله عن هذا الانتقاد، وله وجهٌ، إلا أن ما سلكه القاضي عياض رحمه الله هو الأظهر بصنيع مسلم رحمه الله، وذلك أنه إنما أورد روايتي أبي معاوية ليُبيّن علّة الرواية الأولى منهما، وهي طريق الأعمش، عن أبي يحيى مولى آل جعدة، فبيّن رحمه الله أن رواية أبي معاوية التي وافق فيها الجماعة من كون الأعمش يروي عن أبي حازم، لا عن أبي يحيى هي المحفوظة، وأما الرواية المخالفة لها، فهي شاذّة معلّة بها، والله تعالى أعلم.

(1)

"شرح النوويّ" 14/ 26 - 27.

(2)

"الفتح" 12/ 331 - 332، كتاب "الأطعمة" رقم (5409).

ص: 487

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5373]

(

) - (وَحَدَّثَنَاهُ أَبُو كُرَيْبٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الأَعْمَش، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِهِ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

وكلّهم ذُكروا قبله، وغرضه بيان موافقة أبي معاوية لجرير، والثوريّ في روايتهما عن الأعمش، عن أبي حازم.

[تنبيه]: رواية أبي معاوية، عن الأعمش، عن أبي حازم هذه لم أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(24) - (بَابُ النَّهْيِ عَنِ الأَكْلِ وَالشُّرْبِ فِي آنِيَة الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ)

(1)

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الباب ذُكر في معظم النُّسخ بعد قوله: "كتاب اللباس والزينة" الآتي، ووقع في بعضها قبله، وهذا هو اللائق، فلهذا قدّمته، فتنبّه، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5374]

(2065) - (حَدَّثنَا يَحْيىَ بْنُ يَحْيىَ، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ الله، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيق، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "الذِي يَشْرَبُ فِي آنِيَة الْفِضَّة، إِنَّمَا يُجَرْجِرُ فِي بَطْنِهِ نَارَ جَهَنَّمَ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(زَيْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) بن عمر بن الخطّاب العدويّ المدنيّ، ثقةٌ [2].

(1)

هكذا ترجم القرطبيّ رحمه الله في "مختصره"، وترجم النوويّ وغيره "باب تحريم استعمال أواني الذهب والفضّة في الشرب وغيره على الرجال والنساء"، والأول أخصر، وأنسب، ولذا أثبتّه هنا، فتنبّه.

ص: 488

رَوَى عن أبيه، وعبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر، وعنه ابن ابنه عمر بن محمد بن زيد، ونافع مولى ابن عمر، ذكره ابن حبان في "الثقات"، وذكره مسلم في الطبقة الأولى من تابعي أهل المدينة، وروى ابن أبي شيبة ما يدلّ على أنه وُلد في عهد عمر، فإنه أخرج من طريق عمر بن محمد بن زيد، عن أبيه، عن جدّه أنه لما وُلد ألحقه عمر في مائة من العطاء.

أخرج له البخاريّ، والمصنّف، والنسائي، وابن ماجه، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.

2 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ) التيميّ، ابن أخت أم سلمة زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم، ثقةٌ

(1)

[3].

روى عن أبيه، وخالته أم سلمة، - وعنه ابنه طلحة، وأخته أسماء بنت عبد الرحمن، وابن عمه القاسم بن محمد، وزيد بن عبد الله بن عمر، وعثمان بن مرّة البصريّ.

ذكره ابن حبان في "الثقات"، وذكره البخاريّ في "التاريخ الأوسط" في فصل من مات بين السبعين إلى الثمانين، وذكر أنه وَرِثَ عائشة رضي الله عنهما.

أخرج له البخاريّ، والمصنّف، وأبو داود في "الناسخ والمنسوخ"، والنسائيّ، وابن ماجه، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث، وأعاده بعده، وقال في "التهذيب": له عندهم في الشرب في الفضة.

3 -

(أُمُّ سَلَمَةَ) هند بنت أبي أُميّة حُذيفة أو سُهيل بن المغيرة بن عبد الله بن عُمر بن المغيرة بن مخزوم المخزوميّة، أم المؤمنين، تزوّجها النبيّ صلى الله عليه وسلم بعد أبي سلمة سنة أربع، وقيل: ثلاث، وعاشت بعد ذلك ستّين سنةً، ماتت سنة (62) على الأصحّ (ع) تقدمت في "شرح المقدمة" جـ 2 ص 473.

والباقون تقدّموا في البابين الماضيين.

(1)

هكذا قال في "الفتح": ثقةٌ، وقال في "التقريب": مقبولٌ، والأول أَولى؛ لأنه روى عنه جماعة، وأخرج له الشيخان في الأصول، فتنبّه.

ص: 489

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من سُداسيّات المصنف رحمه الله، وفيه ثلاثة من التابعين روى بعضهم عن بعض: نافع، وزيد، وعبد الله، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ زيدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ) هو تابعي ثقة، ليست له رواية عند مسلم إلا هذا الحديث، وله في البخاريّ، هذا وحديث في إسلام عمر رضي الله عنه.

وقد تابع مالكًا عن نافع عليه موسى بن عقبة، وأيوب، وغيرهما، وذلك عند مسلم، وخالفهم إسماعيل بن أمية عن نافع، فلم يذكر زيدًا في إسناده، جعله عن نافع عن عبد الله بن عبد الرحمن، أخرجه النسائيّ، والْحُكْمُ لمن زاد من الثقات، ولا سيما وهم حفّاظ، وقد اجتمعوا، وانفرد إسماعيل.

وقال محمد بن إسحاق: عن نافع، عن صفية بنت أبي عُبيد، عن أم سلمة، ووافقه سعد بن إبراهيم، عن نافع في صفية، لكن خالفه، فقال: عن عائشة، بدل أم سلمة، وقول محمد بن إسحاق أقرب، فإن كان محفوظًا، فلعلّ لنافع فيه إسنادين.

وشذّ عبد العزيز بن أبي روّاد، فقال: عن نافع، عن أبي هريرة.

وسلك بُرْد بن سِنان، وهشام بن الغاز الجادّةَ، فقالا: عن نافع، عن ابن عمر، أخرج الجميع النسائيّ، وقال: الصواب من ذلك كله رواية أيوب، ومَنْ تابَعه، ذكره في "الفتح"

(1)

.

(عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ) هو ابن أخت أم سلمة رضي الله عنهما التي روى عنها هذا الحديث، أمه قُريبة بنت أبي أمية بن المغيرة المخزومية، وهو ثقة، ما له عند الشيخين غير هذا الحديث، قاله في "الفتح"

(2)

، وكذا ليس له عند مسلم إلا هذا الحديث، وأعاده بعده.

(عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) رضي الله عنهما أَنَّ رَسولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: "الذِي يَشْرَبُ

(1)

"الفتح" 12/ 695 - 696، كتاب "الأشربة" رقم (5634).

(2)

"الفتح" 12/ 696، كتاب "الأشربة" رقم (5634).

ص: 490

فِي آنِيَةِ الْفِضةِ)، وفي الرواية الآتية من طريق عثمان بن مُرّة، عن عبد الله بن عبد الرحمن:"من شَرِب من إناء ذهب، أو فضة"، وفي رواية عليّ بن مُسْهِر، عن عبيد الله بن عمر الْعُمَريّ، عن نافع:"أن الذي يأكل ويشرب في آنية الذهب والفضة"، وأشار مسلم إلى تفرّد عليّ بن مسهر بهذه اللفظة، أعني الأكل. (إِنَّمَا يُجَرْجِرُ) - بضم التحتانية، وفتح الجيم، وسكون الراء، ثم جيم مكسورة، ثم راء - من الجرجرة، وهو صوت يُرَدِّده البعير في حنجرته إذا هاج، نحو صوت اللجام في فَكّ الفرس.

قال النوويّ: اتفقوا على كسر الجيم الثانية من يجرجر، وتُعُقّب بأن الموفق بن حمزة في كلامه على "المهذب" حَكَى فتحها، وحَكَى ابن الفركاح عن والده أنه قال: رُوي يُجَرْجَر على البناء للفاعل والمفعول، وكذا جوّزه ابن مالك في "شواهد التوضيح"، نعم رَدّ ذلك ابن أبي الفتح تلميذه، فقال في جزء جَمَعه في الكلام على هذا المتن: لقد كَثُر بحثي على أن أرى أحدًا رواه مبنيًّا للمفعول فلم أجده عند أحد من حفاظ الحديث، وإنما سمعناه من الفقهاء الذين ليست لهم عناية بالرواية، وسألت أبا الحسين اليونينيّ، فقال: ما قرأته على والدي، ولا على شيخنا المنذريّ إلا مبنيّاَ للفاعل، قال: ويبعد اتفاق الحفاظ قديمًا وحديثًا على ترك رواية ثابتة، قال: وأيضًا فإسناده إلى الفاعل هو الأصل، وإسناده إلى المفعول فرع، فلا يصار إليه بغير حاجة، وأيضًا فإن علماء العربية قالوا: يُحذف الفاعل إما للعلم به، أو للجهل به، أو إذا تُخُوِّف منه، أو عليه، أو لِشَرَفه، أو لحقارته، أو لإقامة وزن، وليس هنا شيء من ذلك. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: الاحتجاج الأخير ليس بشيء؛ لأنه يَحْتَمل أن يكون حذفه للعلم به، وإنما الحجة إن صحّ اتفاق الحفّاظ على تركه، فتأمّل بالإمعان، والله تعالى أعلم.

(فِي بَطْنِهِ نَارَ جَهَنَّمَ") وقع للأكثر بنصب "نار" على أن الجرجرة بمعني الصبّ، أو التجرّع، فيكون "نار" نُصب على المفعولية، والفاعل الشارب؛

(1)

"الفتح" 12/ 696، كتاب "الأشربة" رقم (5634).

ص: 491

أي: يَصُبّ، أو يتجرّع، وجاء الرفع على أن الجرجرة هي التي تُصَوِّت في البطن، قال النوويّ: النصب أشهر، ويؤيده رواية عثمان بن مرّة الآتية بلفظ:"فإنما يجرجر في بطنه نارًا من جهنم"، وأجاز الأزهريّ النصب على أن الفعل عُدِّي إليه، وابن السيد الرفع، على أنه خبر "إنّ"، و"ما" موصولة، قال: ومن نصب جعل "ما" زائدة كافّة لـ"إنّ" عن العمل، وهو نحو:{إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ} ، فقرئ بنصب {كَيْدُ} ، ورَفْعه.

ويدفعه أنه لم يقع في شيء من النُّسخ بفصل "ما" من "إنّ"، وقوله: إن النار تصوِّت في بطنه كما يصوِّت البعير بالجرجرة مجازُ تشبيهٍ؛ لأن النار لا صوت لها، كذا قيل، وفي النفي نظر لا يخفى، قاله في "الفتح"

(1)

، والله تعالى أعلم.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أم سلمة صلى الله عليه وسلم هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [24/ 5375 و 5375 و 5376](2065)، و (البخاريّ) في "الأشربة"(5634)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(4/ 195 و 196 و 197)، و (ابن ماجه) في "الأشربة"(3413)، و (مالك) في "الموطّأ"(2/ 924 - 925)، و (الشافعيّ) في "مسنده"(1/ 10)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(11/ 66)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1/ 223)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(8/ 209)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 300 و 301 و 302 و 304)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 121)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5341 و 5342)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(23/ 633 و 634 و 635)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(12/ 309 و 345 و 369 و 431)، و (ابن راهويه) في "مسنده"(4/ 88 و 159)، و (ابن الجعد) في "مسنده"(1/ 233 و 444)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(5/ 216 و 217 و 218)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(1/ 27)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(3030)، والله تعالى أعلم.

(1)

"الفتح" 12/ 696، كتاب "الأشربة" رقم (5634).

ص: 492

(المسألة الثالثة): في اختلاف أهل العلم في حكم استعمال آنية الذهب والفضّة:

(اعلم): أن أحاديث الباب تدلّ على تحريم الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة على كل مكلَّف، رجلًا كان، أو امرأةً، ولا يلتحق ذلك بالحُلي للنساء؛ لأنه ليس من التزين الذي أبيح لها في شيء، قال القرطبيّ وغيره: في الحديث تحريم استعمال أواني الذهب والفضة في الأكل والشرب، ويُلحق بهما ما في معناهما مثل التطيب، والتكحل، وسائر وجوه الاستعمالات، وبهذا قال الجمهور، وأغربت طائفة شذّت، فأباحت ذلك مطلقًا، ومنهم من قصر التحريم على الأكل والشرب، ومنهم من قصره على الشرب؛ لأنه لم يقف على الزيادة في الأكل.

قال في "الفتح": واختُلِف في علة المنع، فقيل: إن ذلك يرجع إلى عَيْنهما، ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم:"هي لهم في الدنيا، وهي لكم في الآخرة".

وقيل: لكونهما الأثمان، وقِيَم المتلفات، فلو أبيح استعمالهما لجاز اتخاذ الآلات منهما، فيفضي إلى قلّتهما بأيدي الناس، فيُجحف بهم، ومَثَّله الغزاليّ بالحكام الذين وظيفتهم التصرف لإظهار العدل بين الناس، فلو مُنعوا التصرف لأخلّ ذلك بالعدل، فكذا في اتخاذ الأواني من النقدين حَبْس لهما عن التصرف الذي ينتفع به الناس، وَيرِد على هذا جواز الحلي للنساء من النقدين، ويمكن الانفصال عنه، وهذه العلة هي الراجحة عند الشافعية، وبه صرّح أبو علي السنجيّ، وأبو محمد الجوينيّ.

وقيل: علة التحريم السَّرَف والخيلاء، أو كسر قلوب الفقراء، وَيرِدُ عليه جواز استعمال الأواني من الجواهر النفيسة، وغالبها أنفس، وأكثر قيمةً من الذهب والفضة، ولم يمنعها إلا من شَذّ، وقد نَقَل ابن الصباغ في "الشامل" الإجماع على الجواز، وتبعه الرافعيّ، ومن بعده، لكن في زوائد العمرانيّ عن صاحب الفروع نَقَل وجهين.

وقيل: العلة في المنع التشبه بالأعاجم، وفي ذلك نظر؛ لثبوت الوعيد لفاعله، ومجرد التشبه لا يَصِل إلى ذلك، قاله في "الفتح".

قال الجامع عفا الله عنه: عندي أنه لا حاجة إلى هذه التكلّفات الباردة،

ص: 493

فأيّ حاجة في البحث عن علّة مَنْع الشريعة عن شيء؟، هذا من فضول البحث، لا يليق بالعاقل فضلًا عن العالم أن يشغل وقته به، فإن التعليل إن جاء صريحًا، أو إشارة في النصّ اتُّبع، وإلا فلا حاجة إلى التكلّف، فتبصّر، ولا تكن أسير التقليد، والله تعالى وليّ التوفيق.

قال: واختُلِف في اتخاذ الأواني دون استعمالها، كما تقدم، والأشهر المنع، وهو قول الجمهور، ورَخّصت فيه طائفة، وهو مبني على العلة في منع الاستعمال، ويتفرع على ذلك غرامة أَرْش ما أُفسد منها، وجواز الاستئجار عليها. نتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: منع اتّخاذ الأواني يحتاج إلى دليل، فأين هو؟ فتأمّل، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5375]

(

) - (وَحَدَثَنَاة فتَيْبَة، وَمُحَمَّدُ بْنُ رُمْحٍ، عَنِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ (ح) وَحَدَّثَنِيهِ عَلِيَّ بْن حُجْرٍ السَّعْدِيُّ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيل - يَعْني: ابْنَ عُلَيَّةَ - عَنْ أيُّوبَ (ح) وَحَدَّثَنَا ابْن نمَيْرٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْن بِشْرٍ (ح) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْن الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْن سَعِيدٍ (ح) وَحَدَّثنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَالْوَليدُ بْن شُجَاعٍ، قَالَا: حَدَّثنَا عَلِيُّ بْن مُسْهِرٍ، عَنْ عُبَيْدِ الله (ح) وَحَدَّثنَا مُحَمَّدُ بْن أَبِي بَكْرٍ الْمُقَدَّمِيُّ، حَدَّثنَا الْفُضَيْل بْن سُلَيْمَانَ، حَدَّثنَا موسَى بْن عُقْبَةَ (ح) وَحَدَّثنَا شَيْبَان بْنُ فَرُّوخَ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ - يَعْنِي: ابْنَ حَازِمٍ - عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ السَّرَّاج، كُلُّ هَؤُلَاءِ عَنْ نَافِعٍ، بِمِثْلِ حَدِيثِ مَالِكِ بْنِ أنس، بِإسْنَادِه، عَنْ نَافِعٍ، وَزَادَ فِي حَدِيثِ عَلِيِّ ابْنِ مُسْهِرٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ:"أَنَّ الَّذِي يَأْكُلُ، أَو يَشْرَبُ فِي آنِيَةِ الْفِضةِ وَالذَّهَبِ"، وَلَيْسَ في حَدِيثِ أَحَدٍ مِنْهُمْ ذِكْرُ الأَكْلِ، وَالذَّهَب، إِلَّا في حَدِيثِ ابْنِ مُسْهِرٍ).

رجال هذا الإسناد: واحِدٌ وعشرون:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحِ) بن المهاجر التجيبيّ المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [10]، (242)(م ق) تقدم في "الإيمان" 16/ 168.

2 -

(اللَّيْثُ بْنُ سَعْدِ) بن عبد الرحمن الفهميّ مولاهم، أبو الحارث

ص: 494

المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ إمامٌ مشهور [7](ت 175)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 412.

3 -

(مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ) العبديّ، أبو عبد الله الكوفيّ، ثقةٌ حافظ [9](ت 203)(ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 107.

4 -

(الْوَليدُ بْنُ شُجَاعِ) بن الوليد بن قيس السكونيّ، أبو همام بن أبي بدر الكوفيّ، نزيل بغداد، ثقة [10](ت 243)(م دت ق) تقدم في "الإيمان" 77/ 402.

5 -

(عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ) القرشيّ الكوفيّ، قاضي الْمَوْصل، ثقةٌ [8](ت 189)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 6.

6 -

(مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُقَدَّمِيُّ) أبو عبد الله الثقفيّ مولاهم البصريّ، ثقةٌ [10](ت 234)(خ م س) تقدم في "الإيمان" 10/ 145.

7 -

(الْفُضَيْلُ بْنُ سُلَيْمَانَ) النُّميريّ، أبو سليمان البصريّ، صدوق له خطأ كثير [8](ت 183)(ع) تقدم في "الصيام" 8/ 2534.

8 -

(مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ) بن أبي عيّاش الأسديّ مولاهم، ثقةٌ فقيهٌ إمام في المغازي [5](ت 141) أو بعد ذلك (ع) تقدم في "الإيمان" 81/ 433.

9 -

(شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ) الحَبَطيّ الأبليّ، أبو محمد، صدوقٌ يَهِم، ورُمي بالقدر، من صغار [9](ت 236) وله بضع وتسعون سنة (م دس) تقدم في "الإيمان" 12/ 157.

10 -

(جَرِيرُ بْنُ حَازِمِ) بن زيد بن عبد الله الأزديّ، أبو النضر البصريّ، ثقةٌ إلا في حديث قتادة، ففيه ضعف [6](ت 170)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 81.

11 -

(عَبْدُ الرَّحْمَنِ السَّرَّاجُ) ابن عبد الله البصريّ، ثقة [8](م س) تقدم في "النكاح" 7/ 3467.

والباقون تقدّموا قريبًا.

وقوله: (كُلُّ هَؤُلَاءِ عَنْ نَافِعٍ)؛ يعني: أن هؤلاء الخمسة، وهم: الليث بن سعد، وأيوب السختيانيّ، وعبيد الله الْعُمَريّ، وموسى بن عقبة، وعبد الرحمن السرّاج رووا هذا الحديث عن نافع بمثل رواية مالك عنه.

[تنبيه]: رواية الليث، عن نافع ساقها ابن ماجه رحمه الله في "سننه"، فقال:

ص: 495

(3413)

- حدّثنا محمد بن رُمْح، أنبأنا الليث بن سعد، عن نافع، عن زيد بن عبد الله بن عمر، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر، عن أم سلمة، أنها أخبرته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إن الذي يشرب في إناء الفضة، إنما يجرجر في بطنه نار جهنم". انتهى.

ورواية أيوب عن نافع، ساقها النسائيّ رحمه الله في "الكبرى"، فقال:

(6873)

- أخبرنا عليّ بن حُجر، قال: أنا إسماعيل، عن أيوب، عن نافع، عن زيد بن عبد الله، عن عبد الله بن عبد الرحمن، عن أم سلمة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"الذي يشرب في إناء من فضة، إنما يُجرجر في بطنه نار جهنم". انتهى

(1)

.

ورواية يحيى بن سعيد، عن عبيد الله، عن نافع، ساقها النسائيّ رحمه الله أيضًا في "الكبرى"، فقال:

(6872)

- أخبرني شعيب بن يوسف، قال: ثنا يحيى، عن عبيد الله، عن نافع، عن زيد بن عبد الله، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر، عن أم سلمة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"إن الذي يشرب في آنية الفضة، إنما يجرجر في بطنه نار جهنم". انتهى

(2)

.

ورواية عليّ بن مسهر، عن عبيد الله، عن نافع ساقها ابن أبي شيبة رحمه الله في "مصنّفه"، فقال:

(24135)

- حدّثنا أبو بكر، قال: حدّثنا عليّ بن مُسهِر، عن عبيد الله، عن نافع، عن زيد بن عبد الله بن عمر، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر، عن أم سلمة زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الذي يأكل، أو يشرب في آنية الذهب والفضة، فإنما يجرجر في بطنه نار جهنم". انتهى

(3)

.

ورواية موسى بن عُقبة عن نافع، ساقها أبو عوانة رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(8466)

- حدّثنا إبراهيم بن إسحاق الحربيّ، قثنا إسحاق بن إسماعيل، قال: ثنا حاتم بن إسماعيل، عن موسى بن عقبة، عن نافع، عن زيد بن عبد الله، عن عبد الله بن عبد الرحمن، عن أمّ سلمة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:

(1)

"السنن الكبرى" للنسائيّ 4/ 196.

(2)

"السنن الكبرى" للنسائيّ 4/ 195.

(3)

"مصنف ابن أبي شيبة" 5/ 103.

ص: 496

"الذي يشرب في آنية الفضة، إنما يجرجر في بطنه نار". انتهى

(1)

.

ورواية عبد الرحمن السرّاج عن نافع، ساقها أبو عوانة: رحمه الله أيضًا في "مسنده"، مقرونًا بأيوب، فقال:

(8457)

- حدّثنا أحمد بن يوسف التغلبيّ صاحب أبي عبيد، وعباس الدُّوريّ قالا: ثنا أبو النعمان، قال: ثنا حماد بن زيد، عن أيوب، وعبد الله السراج، عن نافع، عن زيد بن عبد الله بن عمر، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر، عن أم سلمة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الذي يشرب في آنية فضة، إنما يجرجر في بطنه نار جهنم". انتهى

(2)

.

وقوله: (وَلَيْسَ فِي حَدِيثِ أَحَدٍ مِنْهُمْ ذِكْرُ الأَكل، وَالذَّهَب، إِلَّا فِي حَدِيثِ ابْنِ مُسْهِرٍ) هذا إشارة إلى أن عليّ بن مسهر تفرّد بذكر الأكل، والذهب في الحديث، مخالفًا للجماجمة، والمراد بمخالفته مخالفة من رواه عن عبيد الله، عن نافع، وإنما قيّدته بهذا؛ لأن في رواية عثمان بن مُرّة، عن عبد الله بن عبد الرحمن التالية ذِكْر الذهب، والله تعالى أعلم.

ثم رأيت البيهقيّ رحمه الله حقّق الموضوع في "الكبرى"، ودونك نصّه: قال رحمه الله بعد إخراج الحديث ما نصّه: قال مسلم رحمه الله: وليس في حديث أحد منهم - يعني: حديث الجماعة الذين رووه عن نافع، ثم الجماعة الذين رووه عن عبيد الله بن عمر - ذكرُ الأكل، والذهب، إلا في حديث ابن مسهر، ثم أخرج الحديث الآتي بعد هذا عند مسلم بسنده، عن عثمان بن مرّة، ثنا عبد الله بن عبد الرحمن، عن خالته أم سلمة رضي الله عنهما قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من شَرِب في إناء من ذهب، أو فضة، فإنما يُجرجر في بطنه نارًا من جهنم".

ثم قال البيهقيّ: وفي هذا ذكر الذهب دون الأكل، وقد روينا ذكر الأكل في حديث حُذيفة بن اليمان، ثم في حديث عليّ بن أبي طالب، وأنس بن مالك رضي الله عنه في "كتاب الطهارة"، وبالله التوفيق. انتهى كلام البيهقيّ رحمه الله

(3)

.

قال الجامع عفا الله عنه: حاصل ما أشار إليه البيهقيّ أن تفرّد عليّ بن

(1)

"مسند أبي عوانة" 5/ 217.

(2)

"مسند أبي عوانة" 5/ 217.

(3)

"سنن البيهقيّ الكبرى" 4/ 145 - 146.

ص: 497

مسهر لا يضرّ بصحّة الحديث، أما بالنسبة للأكل فلحديث عثمان بن مرّة المذكور، وأما بالنسبة إلى ذكر الذهب فَلِمَا له من الشواهد من حديث حُذيفة، وعليّ، وأنس رضي الله عنهما، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5376]

(

) - (وَحَدَّثَنِي زَيْدُ بْنُ يَزِيدَ أَبُو مَعْنٍ الرَّقَاشِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عُثْمَانَ - يَعْني: ابْنَ مُرَّةَ - حَدّثنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَن، عَنْ خَالَتِهِ أُمِّ سَلَمَةَ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "منْ شَرِبَ فِي إِنَاءٍ مِنْ ذَهَبٍ، أَو فِضَّةٍ، فَإنَّمَا يُجَرْجِرُ في بَطْنِهِ نَارًا مِنْ جَهَنَّمَ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(زيدُ بْنُ يَزِيدَ أَبُو مَعْنٍ الرَّقَاشِيُّ) الثقفيّ البصريّ، ثقةٌ [11](م) من أفراد المصنّف تقدم في "الإيمان" 57/ 328.

2 -

(أَبُو عَاصِمٍ) الضحّاك بن مخلد النبيل البصريّ، تقدّم قريبًا.

3 -

(عُثْمَانُ بْنُ مُرَّةَ) البصريّ، مولى قريش، لا بأس به [7].

روى عن القاسم بن محمد بن أبي بكر، وأبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، وعبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر، ومعاذ بن عبد الله بن خُبيب الجهنيّ، وغيرهم.

وروى عنه يحيى بن سعيد القطان، وعثمان بن عمر بن فارس، والنضر بن شُميل، ورَوح بن عبادة، وعباس بن حماد بن زائدة، وأبو عاصم.

قال ابن معين: صالحٌ، وقال أبو زرعة: لا بأس به، وقال أبو حاتم: يكتب حديثه، وذكره ابن حبان في "الثقات".

تفرّد به المصنّف، والنسائيّ، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث، وله عند النسائيّ أيضًا حديث واحد في كراء الأرض.

والباقيان ذُكرا قبله.

وقوله: (عَنْ خَالَتِهِ أُمِّ سَلَمَةَ) فأم سلمة هي هند بنت أبي أميّة المخزوميّ، كما أسلفته قريبًا، وأمه هي قُريبة بنت أبي أميّة المخزوميّة

(1)

، فهو ابن أختها

(1)

راجع: "الفتح" 12/ 696، كتاب "الأشربة" رقم (5634).

ص: 498

نسبًا، فما كتبه بعض الشرّاح من قوله: لعلها خالته من الرضاعة خطأ، فليُتنبّه، وبالله تعالى التوفيق.

وقوله: (فَإِنَّمَا يُجَرْجِرُ فِي بَطْنِهِ نَارًا مِنْ جَهَنَّمَ) قال الأبيّ: المراد بالنار: المُهل، والحميم الذي يُسقاه، ويوصف بأنه نار، ويكون مما العقوبة فيه بجنس الذنب، كما جاء في عقاب شارب الخمر. انتهى

(1)

.

وقال النوويّ رحمه الله: اتَّفَقَ العلماء من أهل الحديث، واللغة، والغريب، وغيرهم على كسر الجيم الثانية، من "يُجَرْجِرُ"، وأختلفوا في راء النار في الرواية الأولى، فنقلوا فيها النصب، والرفع، وهما مشهوران في الرواية، وفي كتب الشارحين، وأهل الغريب، واللغة، والنصب هو الصحيح المشهور الذي جزم به الأزهريُّ، وآخرون من المحققين، ورجّحه الزجاج، والخطابيّ، والأكثرون، وتؤيّده الرواية الثالثة:"يجرجر في بطنه نارًا من جهنم"، قال: ورويناه في "مسند أبي عوانة الإسفراينيّ"، وفي "الجعديات" من رواية عائشة رضي الله عنهما:"إنما يجرجر في جوفه نارًا"، كذا هو في الأصول:"نار" من غير ذكر جهنم.

وأما معناه: فعلى رواية النصب الفاعلُ هو الشارب مضمر في "يُجرجر"؛ أي: يلقيها في بطنه، بجرع متتابع، يُسمَع له جرجرة، وهو الصوت؛ لتردده في حلقه، وعلى رواية الرفع تكون النار فاعله، ومعناه: تصوّت النار في بطنه، والجرجرة هي التصويت، وسُمِّي المشروب نارًا" لأنه يؤول إليها، كما قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} [النساء: 10].

وأما جهنم - عافانا الله منها، ومن كل بلاء - فقال الواحديّ: قال يونس، وأكثر النحويين: هي عجمية لا تنصرف؛ للتعريف والعجمية، وسُمِّيت بذلك؛ لِبُعد قَعْرها، يقال: بئر جهنام، إذا كانت عميقة القعر، وقال بعض اللغويين: مشتقة من الجهومة، وهي الغِلَظ، سُمّيت بذلك؛ لِغِلَظ أمرها في العذاب، والله أعلم.

(1)

"شرح الأبيّ" 5/ 369.

ص: 499

قال القاضي عياض رحمه الله: واختلفوا في المراد بالحديث، فقيل: هو إخبار عن الكفار من ملوك العجم، وغيرهم، الذين عادَتُهم فعل ذلك، كما قال في الحديث الآخر:"هي لهم في الدنيا، ولكم في الآخرة"؛ أي: هم المستعملون لها في الدنيا، وكما قال صلى الله عليه وسلم في ثوب الحرير:"إنما يلبس هذا من لا خلاق له في الآخرة"؛ أي: لا نصيب، قال: وقيل: المراد نهيُ المسلمين عن ذلك، وأن من ارتكب هذا النهي استوجب هذا الوعيد، وقد يعفو الله عنه، هذا كلام القاضي.

قال النوويّ رحمه الله: والصواب أن النهي يتناول جميع من يستعمل إناء الذهب، أو الفضة، من المسلمين والكفار؛ لأن الصحيح أن الكفار مخاطبون بفروع الشرع، والله أعلم.

وأجمع المسلمون على تحريم الأكل والشرب في إناء الذهب، وإناء الفضة، على الرجل، وعلى المرأة، ولم يخالف في ذلك أحد من العلماء، إلا ما حكاه أصحابنا العراقيون أن للشافعيّ قولًا قديمًا أنه يُكره، ولا يَحْرُم، وحَكَوا عن داود الظاهريّ تحريم الشرب، وجواز الأكل، وسائر وجوه الاستعمال، وهذان النقلان باطلان، أما قول داود فباطل؛ لمنابذة صريح هذه الأحاديث في النهي عن الأكل والشرب جميعًا، ولمخالفة الإجماع قبله، قال أصحابنا: انعقد الإجماع على تحريم الأكل والشرب، وسائر الاستعمال في إناء ذهب، أو فضة، إلا ما حُكي عن داود، وقول الشافعيّ في القديم، فهما مردودان بالنصوص، والإجماع، وهذا إنما يحتاج إليه على قول من يعتدّ بقول داود في الإجماع والخلاف، وإلا فالمحققون يقولون: لا يُعتدّ به لإخلاله بالقياس، وهو أحد شروط المجتهد الذي يُعتدّ به.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي قاله النوويّ في حقّ داود الظاهريّ قول مردود باطلٌ، فليس هناك محقّق قال بهذا، بل المحقّقون من زمان داود إلى يومنا هذا لا يزالون يعتدّون بخلاف داود وغيره من الظاهريّة، ويعتبرونهم من الأئمة المعتبَرين في الوفاق والخلاف، وقد حقّقت هذا البحث في "كتاب الطهارة" من شرح النسائيّ، فراجعه تستفد علمًا جمًّا، وبالله تعالى التوفيق.

قال: وأما قول الشافعيّ القديم، فقال صاحب "التقريب": إن سياق كلام

ص: 500

الشافعي في القديم يدلّ على أنه أراد أن نفس الذهب والفضة الذي اتُّخِذ منه الإناء ليست حرامًا، ولهذا لم يَحْرُم الحليّ على المرأة، هذا كلام صاحب "التقريب"، وهو من متقدِّمي أصحابنا، وهو أتقنُهم لِنَقْل نصوص الشافعيّ، ولأن الشافعيّ رجع عن هذا القديم، والصحيح عند أصحابنا وغيرهم من الأصوليين أن المجتهد إذا قال قولًا، ثم رجع عنه لا يبقى قولًا له، ولا يُنسب إليه، قالوا: وإنما يُذكر القديم، وينسب إلى الشافعيّ مجازًا، وباِسْم ما كان عليه، لا أنه قول له الآن، فحصل مما ذكرناه أن الإجماع منعقد على تحريم استعمال إناء الذهب، وإناء الفضة في الأكل، والشرب، والطهارة، والأكلِ بمعلقة من أحدهما، والتجمّرِ بمجمرة منهما، والبول في الإناء منهما، وجميع وجوه الاستعمال، ومنها المكحلة، والمِيْل، وطرف العالية، وغير ذلك، سواءٌ الإناء الصغير والكبير، ويستوي في التحريم الرجل والمرأة، بلا خلاف، وإنما فُرِّق بين الرجل والمرأة في التحلي؛ لِمَا يُقصد منها من التزيّن للزوج والسيد، قال أصحابنا: ويحرم استعمال ماء الورد، والأدهان من قارورة الذهب والفضة، قالوا: فإن ابتلي بطعام في إناء ذهب أو فضة، فيُخرج الطعام إلى إناء آخر من غيرهما، ويأكل منه، فإن لم يكن إناء آخر فليجعله على رغيف، إن أمكن، وإن ابتلي بالدهن في قارورة فضة، فليصبّه في يده اليسرى، ثم يصبه من اليسرى في اليمين، ويستعمله.

قال أصحابنا: ويحرم تزيين الحوانيت، والبيوت، والمجالس بأواني الفضة والذهب، هذا هو الصواب، وجوّزه بعض أصحابنا، قالوا: وهو غلط، قال الشافعيّ، والأصحاب: لو توضأ، أو اغتسل من إناء ذهب أو فضة عصى بالفعل، وصحّ وضوءه وغُسله، قال: هذا مذهبنا، وبه قال مالك، وأبو حنيفة، والعلماء كافّة، إلا داود، فقال: لا يصحّ، والصواب الصحة، وكذا لو أكل منه، أو شرب عصى بالفعل، ولا يكون المأكول، والمشروب حرامًا، هذا كله في حال الاختبار، وأما إذا اضطر إلى استعمال إناء فلم يجد إلا ذهبًا، أو فضةً، فله استعماله في حال الضرورة، بلا خلاف، صَرَّح به أصحابنا، قالوا: كما تُباح الميتة في حال الضرورة، قال أصحابنا: ولو باع هذا الإناء صح بيعه؛ لأنه عين طاهرة، يمكن الانتفاع بها بأن تُسْبَك، وأما اتخاذ هذه الأواني

ص: 501

من غير استعمال، فللشافعيّ، والأصحاب فيه خلاف، والأصح تحريمه، والثاني كراهته، فإن كرهناه استحقّ صانعه الأجرة، ووجب على كاسره أرش النقص، ولا فلا، وأما إناء الزجاج النفيس، فلا يحرم بالإجماع، وأما إناء الياقوت، والزمرد، والفيروزج، ونحوها، فالأصح عند أصحابنا جواز استعمالها، ومنهم من حرّمها، والله أعلم. انتهى كلام النوويّ رحمه الله

(1)

، والله تعالى أعلم.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88)} .

* * *

(1)

"شرح النوويّ" 14/ 27 - 30.

ص: 502

‌37 - (كِتَابُ اللِّبَاسِ، وَالزِّينَةِ)

مسائل تتعلّق بهذه الترجمة:

(المسألة الأولى): أنه لا يخفى مناسبة هذا الكتاب لكتابَي الأشربة، والأطعمة، فإن الإنسان مع الأكل، والشرب محتاج إلى اللباس، فلا بدّ من بيان أحكام اللباس أيضًا؛ ليكون على بصيرة في شؤون حياته في أكْله، وشُربه، ولباسه، منوّرًا بنور الشريعة الغرّاء، ومهتديًا بهدى الكتاب والسُّنَّة، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثانية): اللباس بكسر اللام: ما يُلبس، وجمعه لُبُسٌ، مثل كتاب وكُتُب، قال المجد رحمه الله: لَبِسَ الثَّوْبَ؛ كسَمِعَ لُبْسًا بالضم، وامرأةً: تَمَتَّعَ بها زَمانًا، وقَوْمًا: تَمَلَّى بِهم دَهْرًا، وفلانَةَ عُمُرَهُ: كانتْ معه شَبَابَهُ كُلَّه، واللّبَاسُ، واللَّبُوسُ، واللِّبْسُ، بالكسر، والمَلْبَسُ، كَمَقْعَدٍ، ومِنْبَرٍ: ما يُلْبَسُ. انتهى

(1)

.

وقال الفيّوميّ رحمه الله: لَبِسْتُ الثوبَ، من باب تَعِبَ لُبْسًا، بضم اللام، واللِّبْسُ، بالكسر، واللِّبَاسُ: ما يُلْبَس، ولبَاسُ الكعبة، والهودجِ كذلك، وجَمْع اللِبَاسِ: لُبُسٌ، مثل كِتابٍ وكُتُب، ويُعَدَّى بالهمزة إلى مفعول ثان، فيقال: ألبَستُهُ الثوبَ، والمَلبَسُ بفتح الميم والباء، مثل اللباس، وجمعه مَلِابسُ. انتهى

(2)

.

و"الزينة" بالكسر: ما يُتزيّن به؛ كالزِّيَان، ككتاب، قاله المجد رحمه الله

(3)

.

وقال الفيّوميّ رحمه الله: زانَ الشيءُ صاحبه زَيْنًا، من باب سار، وأزانه إزانةً مثله، والاسم الزِّينة، وزينّه تزيينًا مثله، والزَّيْنُ نقيض الشين. انتهى

(4)

.

(1)

"القاموس المحيط" 1/ 738.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 548.

(3)

"القاموس المحيط" ص 584.

(4)

"المصباح المنير"1/ 261.

ص: 503

(المسألة الثالثة): كتب بعض الفضلاء

(1)

في هذا المحلّ بحثًا نفيسًا أحببت إيراده هنا؛ لنفاسته، قال: إن أكبر ما يحتاج إليه الإنسان بعد الطعام والشراب هو اللباس الذي يستر عورته، ويدفع عنه الحرّ والبرد، ويتجمّل به في المجامع، ولكون الإسلام دينًا تشمل أحكامه جميع شُعب الحياة لم يَدَعْ باب اللباس هَمَلًا، بل وضع له مبادئ، وأحكامًا لا يجوز لمسلم أن يخالفها.

وقد يزعم الإنسان المعاصر أن اللباس والزينة من الأمور العاديّة البسيطة التي تخضع للتقاليد الرائجة في كلّ عصر ومصر، ولا علاقة لها بأحكام الحلال والحرام، فإنها ليست من الأمور الجذريّة التي تقوم على أساسها الحياة، ولكنّ هذا الزعم إنما نشأ من قلّة التدبّر، وعوز الاطّلاع على ما يؤثّر اللباس في حياة الإنسان، والواقع أن اللباس والزيّ، وإن كان أمرًا يتعلّق بمظهر الإنسان دون مخبره، غير أن له أثرًا عميقًا على سيرته، وخُلقه، وأحواله النفسيّة، فإن من اللباس ما يغرس في النفوس بُذور الكِبْر والخيلاء، ومنه ما يربّي فيها التواضع لله، ومنه ما يُنشئ فيها الأخلاق الحسنة، ومنه ما يمهّد لها السبيل إلى الإسراف، والأَشَرِ، والبَطَر، وغَمْط حقوق الناس، فمن زعم أن اللباس ليس إلا مظهرًا من المظاهر، ولا صلة له بالسِّيَر والأخلاق الكامنة في الصدور، فقد جَهِل طبيعة الإنسان.

ولذلك لم يترك الإسلام أمر اللباس سُدًى، ولكن الإسلام لا يسلك في شأن من شؤون الحياة إلا طريقًا يتّفق مع الفطرة السليمة، ويتجاوب مع مقتضيات الطبيعة، ولمّا كان الإنسان جُبل على حبّ التنوّع في أنواع اللباس والطعام لم يقصُره الإسلام على نوع دون نوع، ولم يقرّر للإنسان نوعًا خاصًّا، أو هيئةً خاصّةً من اللباس، ولا أسلوبًا خاصًّا للمعيشة، وإنما وضع مجموعة من المبادئ، والقواعد الأساسيّة يجب على المسلم أن يحتفظ بها في أمر لباسه، ثم تركه حرًّا في اختيار ما يراه من أنواع الملابس، وليس هناك ما يمنع التطوّر في أنواع اللباس ما دام الإنسان يحتفظ بهذه المبادئ، ويفي بشروطها الواجبة.

(1)

هو صاحب "تكملة فتح الملهم" 4/ 87 - 89.

ص: 504

فمن مقدّمة هذه المبادئ أن اللباس يجب أن يكون ساترًا لعورة الإنسان، فالإسلام يُلزم الرجل أن يلبس ما يستر ما بين سرّته وركبتيه، ويُلزم المرأة أن تستر جميع جسدها ما عدا وجهها وكفّيها، وقدميها على خلاف في ذلك، فسترُ العورة من أهمّ ما يُقصد باللباس، قال الله - سبحانه الله وتعالى -:{يَابَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا} الآية [الأعراف: 26] فبيّن الله - سبحانه الله وتعالى - أن مواراة السوءة، وهو ستر العورة من أعظم مقاصد اللباس، وإن اللباس الذي يُخلّ بهذا المقصد يُهمل ما خُلق اللباس لأجله، فيَحْرُم على الإنسان استعماله، فكلّ لباس ينكشف معه جزء من عورة الرجل والمرأة لا تُقرّه الشريعة الإسلاميّة مهما كان جميلًا، أو موافقًا لِدُور الأزياء، وكذلك اللباس الرقيق، أو اللاصق بالجسم الذي يحكي للناظر شكل حصّة من الجسم الذي يجب سَتْره، فهو في حكم ما سبق في الحرمة، وعدم الجواز.

والمبدأ الثاني أن اللباس إنما يُقصد به الستر والتجمّل، أما الستر فَلِما سبق، وأما التجمّل فلأن الله - سبحانه الله وتعالى - سمّاه زينة في قوله عز وجل:{خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31]، وفي قوله تعالى:{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32]، وقد أخرج النسائيّ عن أبي الأحوص، عن أبيه قال: دخلت على النبيّ صلى الله عليه وسلم، فرآني سيئ الهيئة، فقال:"ألك من مال؟ " قلت: نعم، من كلّ المال قد آتاني الله، فقال:"إذا كان لك مالٌ، فَلْيُرَ عليك"

(1)

، وفي رواية ابن حبّان في "صحيحه"، عن أبي الأحوص، عن أبيه أنه أَتَى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فرآه رسول الله صلى الله عليه وسلم أشعث، أغبر، في هيئة أعرابيّ، فقال:"ما لك من المال؟ " قال: من كل المال قد آتاني الله، قال:"إن الله إذا أنعم على العبد نعمةً، أحب أن تُرَى به"

(2)

.

وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله يُحبّ أن يُرى أثرُ نعمته على عبده"، أخرجه الترمذي، وحسّنه

(3)

.

وأما ما يُقصد به الخيلاء، والكبر، أو الأشر، والبطر، أو الرياء، فهو

(1)

"السنن الكبرى" للنسائيّ 5/ 459.

(2)

"صحيح ابن حبان" 12/ 235.

(3)

"سنن الترمذيّ" 5/ 123.

ص: 505

حرامٌ، وعن ابن عبّاس رضي الله عنهما أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"كُلْ ما شئت، والبَسْ ما شئت، ما أخطَأتْكَ اثنتان: سَرَف، ومخيلة"، ذكره البخاريّ تعليقًا في أوائل اللباس، وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنّفه"

(1)

.

والمبدأ الثالث أن اللباس الذي يتشبّه به الإنسان بأقوام كفرة لا يجوز لُبْسه لمسلم إذا قصد بذلك التشبّه بهم، قال ابن نُجيم في "البحر الرائق"

(2)

: ثم اعلم أن التشبّه بأهل الكتاب لا يُكره في كلّ شيء، فإنا نأكل ونشرب كما يفعلون، إنما الحرام هو التشبّه فيما كان مذمومًا، وفيما يُقصد به التشبّه، كذا ذكره قاضي خان في "شرح الجامع الصغير"، فعلى هذا لو لم يقصد التشبّه لا يُكره عندهما، وقال هشام في "نوادره: رأيت على أبي يوسف رحمه الله نعلين محفوفين بمسامير الحديد، فقلت له: أترى بهذا الحديد بأسًا؟ فقال: لا، فقلت له: إن سفيان، وثور بن يزيد كرها ذلك؛ لأنه تشبُّه بالرهبان، فقال أبو يوسف رحمه الله: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبس النعال التي لها شُعور، وإنها من لباس الرهبان، فقد أشار إلى أن صورة المشابهة فيما يتعلّق به صلاح العباد لا تضرّ، وقد يتعلّق بهذا النوع من الأحكام صلاح العباد، فإن من الأراضي ما لا يمكن قطع المسافة البعيدة فيها إلا بهذا النوع من الأحكام، كذا في "المحيط" في المتفرّقات

(3)

.

والمبدأ الرابع أن لُبس الحرير حرام للرجال دون النساء، وكذلك إسبال الإزار تحت الكعبين لا يجوز للرجال، ويجوز للنساء.

وقال الإمام الشيخ وليّ الله الدهلويّ رحمه الله في "حجة الله البالغة": اعلم أن النبيّ صلى الله عليه وسلم نظر إلى عادات العجم، وتعمّقاتهم في الاطمئنان بلذّات الدنيا، فحرّم رؤوسها، وأصولها، وكَرِه ما دون ذلك؛ لأنه عَلِم أن ذلك مُفضٍ إلى نسيان الدار الآخرة، مستلزم للإكثار من طلب الدنيا، فمن تلك الرؤوس اللباس الفاخرة، فإن ذلك أكبر همّهم، وأعظم فخرهم، والبحث عنه من وجوه:

(1)

"مصنف ابن أبي شيبة" 5/ 171.

(2)

"البحر الرائق شرح كنز الدقائق" 2/ 11.

(3)

راجع: "الفتاوى الهنديّة" 5/ 333 الباب التاسع من الكراهية.

ص: 506

منها: الاسبال في القُمُص، والسراويلات، فإنه لا يُقصد بذلك الستر، والتجمّل اللذان هما المقصودان في اللباس، وإنما يُقصد به الفخر، وإرادة الغنى، ونحو ذلك، والتجمّل ليس إلا في القدر الذي يساوي البَدَن.

ومنها: الجنس المستغرب الناعم من الثياب، قال صلى الله عليه وسلم:"من لَبِس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة".

ومنها: الثوب المصبوغ بلون مُطْرب يحصل به الفخر والمراءاة، فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المعصفر، والمزعفر.

قال: ولا اختلاف بين قوله صلى الله عليه وسلم: "إن البذاذة من الإيمان"

(1)

، وبين قوله صلى الله عليه وسلم:"إن الله يحبّ أن يُرى أثر نعمته على عبده"

(2)

؛ لأن هناك شيئين مختلفين في الحقيقة قد يشتبهان بادئ الرأي، أحدهما مطلوب، والآخر مذموم، فالمطلوب: ترك الشحّ، ويختلف باختلاف طبقات الناس، فالذي هو في الملوك شحّ ربما يكون إسرافًا في حقّ الفقير، وتركُ عادات البدو، واللاحقين بالبهائم، واختيارُ النظافة، ومحاسنُ العادات، والمذموم: الإمعان في التكلّف، والمراءاة، والتفاخر بالثياب، وكسر قلوب الفقراء، ونحو ذلك، وفي ألفاظ الحديث إشارات إلى هذه المعاني، كما لا يخفى على المتأمّل. انتهى كلام وليّ الله رحمه الله باختصار

(3)

.

(1) - (بَابُ تَحْرِيمِ اسْتِعْمَالِ إِنَاءِ الذَّهَبِ وَالْفِضةِ عَلَى الرِّجَالِ وَالنِّسَاء، وَتَحْرِيمِ خَاتَمِ الذَّهَبِ، وَلُبْسِ الْحَرِيرِ عَلَى الرِّجَالِ، وَإِبَاحَتِهِ لِلنِّسَاء، وَإِبَاحَةِ الْعَلَمِ وَنَحْوِهِ لِلرِّجَالِ مَا لَمْ يَزِدْ عَلَى أَرْبَعِ أَصَابعَ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5377]

(2066) - أحَدَّثنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى التَّمِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو خَيْثَمَةَ، عَنْ أَشْعَثَ بْنِ أَبِي الشَّعْثَاءِ (ح) وَحَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ يُونُسَ، حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، حَدَّثَنَا أَشْعَثُ، حَدَّثَنِي مُعَاوِيةُ بْنُ سُوَيْدِ بْنِ مُقَرِّنٍ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى

(1)

حديث صحيح، أخرجه أبو داود في "سننه" 4/ 75.

(2)

حديث صحيح، تقدّم قريبًا.

(3)

"حجة الله البالغة" 2/ 189.

ص: 507

الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِسَبْعٍ، وَنَهَانَا عَنْ سَبْعٍ: أَمَرَنَا بِعِيَادَةِ المَرِيض، وَاتِّبَاعِ الْجَنَار، وَتَشْمِيتِ الْعَاطِس، وَإِبْرَارِ الْقَسَمِ - أَوِ الْمُقْسِمِ - وَنَصْرِ الْمَظْلُوم، وَإِجَابَةِ الدَّاعِي، وَإِفْشَاءِ السَّلَامِ. وَنَهَانَا عَنْ خَوَاتِيمَ، أَو عَنْ تَخَتُّمٍ بِالذَّهَب، وَعَنْ شُرْبٍ بِالْفِضة، وَعَنِ الْمَيَاثِر، وَعَنِ الْقَسِّيّ، وَعَنْ لُبْسِ الْحَرِير، وَالإِسْتبرَق، وَالدِّيبَاجِ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(يَحيْىَ بْنُ يَحْيىَ التَّمِيمِيُّ) النيسابوريّ، تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(أَبُو خَيْثَمَةَ)

(1)

زهير بن معاوية بن حُديج، تقدّم قبل باب.

3 -

(أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ يُونُسَ) التميميّ اليربوعيّ، تقدّم أيضًا قبل باب.

4 -

(أَشْعَثُ) بن أبي الشعثاء سُليم بن الأسود المحاربيّ الكوفيّ، ثقة [6](ت 125)(ع) تقدم في "الإيمان" 11/ 153.

5 -

(مُعَاوِيَةُ بْنُ سُويدِ بْنِ مُقَرِّنٍ) المُزنيّ، أبو سُويد الكوفيّ، ثقة [3] لم يُصب من زعم أن له صحبةً (ع) تقدم في "الأيمان" 8/ 4293.

6 -

(الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبِ) بن الحارث بن عديّ الأنصاريّ الأوسيّ الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، نزل الكوفة، ومات سنة (72)(ع) تقدم في "الإيمان" 35/ 244.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه إسنادان فرَّق بينهما بالتحويل، وهو مسلسلٌ بالكوفيين غير يحيى، فنيسابوريّ، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ أَشْعَثَ بْنِ أَبِي الشَّعْثَاءِ) سليم بن الأسود أنه قال: (حَدَّثَني مُعَاوِيةُ بْنُ سُويدِ بْنِ مُقَرِّنٍ الْمُزنيّ الكوفيّ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ) رضي الله عنهما (فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِسَبْعٍ)؛ أي: سبع خصال، (وَنَهَانَا عَنْ سَبْعٍ) قال العلامة ابن دقيق العيد رحمه الله: إخبار الصحابيّ عن الأمر والنهي على ثلاث مراتب:

(1)

هو: زهير المذكور بعد التحويل.

ص: 508

الأولى: أن يأتي بالصيغة؛ كقوله: افعلوا، أو لا تفعلوا.

الثانيه: قوله: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا، ونهانا عن كذا، وهو كالمرتبة الأُولى في العمل به، أمرًا ونهيًا، وإنما نزل عنها؛ لاحتمال أن يكون ظنّ ما ليس بأمير أمرًا، إلا أن هذا الاحتمال مرجوح، للعلم بعدالته، ومعرفته بمدلولات الألفاظ لغة.

الثالثة: قوله: أُمرنا، ونُهينا على البناء للمجهول، وهي كالثانية، وإنما نزلت عنها؛ لاحتمال أن يكون الآمر غير النبيّ صلى الله عليه وسلم. انتهى

(1)

.

(أَمَرَنَا) بدل تفصيل من قوله: "أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم"، بدلُ فِعْلٍ من فِعْلٍ، كما قال في "الخلاصة":

وَيُبْدَلُ الْفِعْلُ مِنَ الْفِعْلِ كَمَنْ

يَصِلْ إِلَيْنَا يَسْتَعِنْ بِنَا يُعَنْ

(بِعِيَادَةِ الْمَرِيضِ) متعلّق بـ "أمرنا"، وهو بكسر العين المهملة، وتخفيف التحتانيّة مصدر عاده، يقال: عُدتُ المريضَ عِيَادةً: زُرتُهُ، فالرجل عائد، وجمعه عُوّاد، والمرأة عائدةٌ، وجمعها عُوَّد بغير ألف، قال الأزهريّ: هكذا كلام العرب، قاله في "المصباح"، وقد أشار ابن مالك رحمه الله إلى أن فُعّالًا بالألف للمذكّر فقط، دون الفُعَّل بلا ألف، فإنه للمذكَّر والمؤنث، حيث قال في "خلاصته":

وَفُعَّلٌ لِفَاعِلٍ وَفَاعِلَهْ

وَصْفَيْنِ نَحْوُ عَاذِلٍ وَعَاذِلَهْ

وِمِثْلُهُ الْفُعَّالُ فِيمَا ذُكَّرَا

وَذَانِ فِي الْمُعَلِّ لَامًا نَدَرَا

(وَاتِّبُاعِ الْجَنَازَةِ) قال ابن دقيق العيد رحمه الله: "اتباع الجنائز يَحْتَمِل أن يراد به اتّباعها للصلاة، فإن عبّر به عن الصلاة، فذلك فَرْضٌ من فروض الكفاية عند الجمهور، ويكون التعبير بالاتّباع عن الصلاة من باب مجاز الملازمة في الغالب؛ لأنه ليس من الغالب أن يصلى على الميت، ويدفن في محلّ موته.

ويَحْتَمِل أن يراد بالاتّباع: الرواح إلى محلّ الدفن لمواراته، والمواراة أيضًا من فروض الكفايات، لا تسقط إلا بمن تتأدى به". انتهى

(2)

.

(1)

راجع: "الفتح" 13/ 355، كتاب "اللباس" رقم (5863).

(2)

"إحكام الأحكام" 4/ 491 بنسخة "الحاشية".

ص: 509

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الاحتمال الثاني هو الأقرب؛ لأنه حقيقة، فالحمل عليه أَولى، كما أشار إلى ذلك الصنعانيّ رحمه الله في "حاشيته".

(وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ) التشميت بالسين المهملة، والشين المعجمة، لغتان مشهورتان، قال ابن منظور رحمه الله: والتسميت ذكر الله على الشيء، وقيل: التسميتُ: ذِكْر الله عز وجل على كلّ حال، والتسميت: الدعاء للعاطس، وهو قولك له: يرحمك الله. وقيل: معناه: هداك الله إلى السَّمت، وذلك لِمَا في العاطس من الانزعاج، والْقَلَق، هذا قول الفارسيّ.

وقد سمَّتَهُ: إذا عطس، فقال له: يرحمك الله، أُخِذَ من السمت إلى الطريق، والقصد، كأنه قصده بذلك الدعاء؛ أي: جعلك الله على سمت حسن. وقد يجعلون السين شينًا، كسمّر السفينةَ، وشمّرها: إذا أرساها. وقال النضر بن شُميل: التسميتُ: الدعاء بالبركة، يقول: بارك الله فيه. وقال أبو العباس: يقال: سَمَّتَ العاطسَ تسميتًا، وشمّته تشميتًا: إذا دعا له بالهَدْي، وقصدِ السَّمْتِ المستقيم، والأصل فيه السين، فقُلبت شينًا، قال ثعلبٌ: والاختيار بالسين؛ لأنه مأخوذ من السمت، وهو القصد والمحجّة، وقال أبو عبيد: الشين أعلى في كلامهم وأكثر. انتهى

(1)

.

وقال صاحب "المحكم": التسميت: الدعاء للعاطس، وقال الهرويّ في باب الشين المعجمة: قال أبو عبيد: يقال: سمّت العاطسَ، وشمّته بالسين، والشين: إذا دعا له بالخير، والسين أعلى اللغتين. وقال أبو بكر: يقال: سمَّتُّ فلانًا، وسَمَّتُّ عليه: إذا دعوت له، وكلّ داع بالخير، فهو مسمّتٌ، ومشمّتٌ. وقال أحمد بن يحيى: الأصل فيها السين، من السمت، وهو القصد، والهدي، قال ثعلب: ومعناه بالمعجمة: أبعد الله عنك الشماتة. انتهى، ذكره النوويّ في "تهذيب الأسماء"

(2)

.

وقال في "الفتح" ما نصّه: قال الخليل، وأبو عبيد، وغيرهما: يقال بالمعجمة، وبالمهملة، وقال ابن الأنباريّ: كلّ داع بالخير مشمّت بالمعجمة،

(1)

"لسان العرب" 2/ 46 - 47.

(2)

"تهذيب الأسماء واللغات" 3/ 154 - 155.

ص: 510

وبالمهملة، والعرب تجعل الشين والسين في اللفظ الواحد بمعنى. انتهى.

قال: وهذا ليس مطّردًا، بل هو في مواضع معدودة، وقد جمعها شيخنا شمس الدين الشيرازيّ صاحب "القاموس" في جزء لطيف، قال أبو عبيد: التشميت بالمعجمة أعلى وأكثر، وقال عياض: هو كذلك للأكثر من أهل العربية، وفي الرواية. وقال ثعلب: الاختيار بالمهملة؛ لأنه مأخوذ من السمت، وهو القصد، والطريق القويم، وأشار ابن دقيق العيد في "شرح الإلمام" إلى ترجيحه. وقال القزّاز: التشميت التبريك، والعرب تقول: شَمَّتَهُ: إذا دعا له بالبركة، وشَمَّتَ عليه: إذا برّك عليه. وفي الحديث في قصّة تزويج علي بفاطمة رضي الله عنهما: "شَمَّتَ عليهما"؛ أي: دعا لهما بالبركة.

ونقل ابن التين عن أبي عبد الملك، قال: التسميت بالمهملة أفصح، وهو من سُمَّتِ الإبلُ في المرعَى إذا جُمِعَت، فمعناه على هذا: جَمَع الله شملك، وتعقّبه بأن سمت الإبل إنما هو بالمعجمة، وكذا نقله غير واحد أنه بالمعجمة، فيكون معنى سَمَّتَه: دعا له بأن يُجمَع شمله. وقيل: هو بالمعجمة من الشماتة، وهو فرح الشخص بما يسوء عدوّه، فكأنه دعا له أن يكون في حال من يُشْمَتُ به، أو أنه إذا حمد الله أدخل على الشيطان ما يسوؤه، فشَمَّت هو بالشيطان. وقيل: هو من الشوامت، جَمْع شامتة، وهي القائمة، يقال: لا ترك الله له شامتة؛ أي: قائمة.

وقال ابن العربي في "شرح الترمذيّ": تكلّم أهل اللغة على اشتقاق اللفظين، ولم يُبَيّنوا المعنى فيه، وهو بديع، وذلك أن العاطس يَنْحَلّ كلّ عضو في رأسه، وما يتّصل به من العنق، ونحوه، فكأنه إذا قيل: رحمك الله، كان معناه: أعطاه الله رحمة يرجع بها بذلك

(1)

إلى حاله قبل العطاس، ويقيم على حاله من غير تغيير، فإن كان التسميت بالمهملة، فمعناه: رجع كلّ عضو إلى سَمْته الذي كان عليه، وان كان بالمعجمة، فمعناه: صان الله شوامته؛ أي: قوائمه التي بها قوام بَدَنه عن خروجها عن الاعتدال، قال: وشوامت كلّ شيء قوامه، فقوام الدابّة بسلامة قوامها التي يُنتَفع بها إذا سَلِمت، وقوائم الآدميّ

(1)

كذا نسخة "الفتح"، ولعل الصواب:"بَدَنه"، والله أعلم.

ص: 511

بسلامة قوائمه التي بها قوامه، وهي رأسه، وما يتّصل به من عنق وصدر. انتهى ملخّصًا

(1)

.

[تنبيه]: من آداب العاطس أن يَخفِض صوته بالعُطاس، ويرفع بالحمد، وأن يُغطّي وجهه، لئلا يبدو من فيه، أو أنفه ما يتأذّى به جليسه، ولا يَلْوِي عنقه يمينًا، ولا شمالًا لئلا يتضرّر بذلك.

قال ابن العربيّ رحمه الله: الحكمة في خفض الصوت بالعطاس أن في رَفْعه إزعاجًا للأعضاء، وفي تغطية الوجه أنه لو بدر منه شيء آذى جليسه، ولو لوى عنقه صيانة لجليسه لم يأْمَن من الالتواء، وقد شاهدنا مَن وقع له ذلك.

وقد أخرج أبو داود، والترمذيّ بسند جيّد عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم: "إذا عطس وضع يده على فيه، وخفض صوته"، وله شاهد من حديث ابن عمر رضي الله عنهما بنحوه عند الطبرانيّ.

قال ابن دقيق العيد رحمه الله: ومن فوائد التشميت: تحصيل المودّة، والتأليف بين المسلمين، وتأديب العاطس بكسر النفس عن الكِبْر، والحملِ على التواضع، لِمَا في ذِكر الرحمة من الإشعار بالذنب الذي لا يَعْرَى عنه أكثر المكلّفين. انتهى

(2)

.

(وَإبْرَارِ الْقَسَم، أَوِ الْمُقْسِمِ)"أو" فيه للشكّ من الراوي، هل قال:"القسم"، أو قال:"المقسم"، "وَإبْرَارِ الْقَسَمِ" بكسر الهمزة، مصدر أبَرّه، و"القسم" بفتحتين: اليمين، ومعنى "إبرار القسم": فعلُ ما أراده الحالف ليصير بذلك بارًّا.

وقال الإمام ابن دقيق العيد رحمه الله: قوله: "إبرار القَسَم، أو المقسم": فيه وجهان:

"أحدهما": أن يكون "المقسم" مضموم الميم، مكسور السين، ويكون في الكلام حذفُ مضاف، تقديره يمين المُقْسِم.

(1)

"الفتح" 14/ 108 - 109، كتاب "الأدب" رقم (6221).

(2)

"الفتح" 14/ 110، كتاب "الأدب" رقم (6221).

ص: 512

"والثاني": بفتح الميم

(1)

والسين، على أن يكون بمعنى القسم، وإبراره هو الوفاء بمقتضاه، وعدم التحنيث فيه، فإن كان ذلك على سبيل اليمين، كما إذا قال: والله لتفعلنّ كذا، فهو آكد مما إذا كان على سبيل التحليف؛ كقوله: بالله افعل كذا؛ لأن في الأول إيجاب الكفارة على الحالف

(2)

، وفيه تغريم للمال، وذلك إضرار به. انتهى

(3)

.

قال الحافظ رحمه الله عند قوله: "وإبرار المقسم" -: واختُلف في ضبط السين، فالمشهور أنها بالكسر، وضمّ أوله على أنه اسم فاعل، وقيل: بفتحها؛ أي: الإقسام، والمصدر قد يأتي للمفعول، مثل: أدخلته مُدْخَلًا بمعنى الإدخال، وكذا أخرجته. انتهى

(4)

.

[تنبيه]: إبرار القسم إنما يلزم فيما إذا كان جائزًا، ولا يمنع منه مانعٌ، وإلا فلا يلزم؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم لمّا أقسم أبو بكر عليه لَيُخبرنّه بما أصاب في تعبير الرؤيا، وما أخطأ، قال له:"لا تُقسم"، ولم يبرّ صلى الله عليه وسلم قسمه، لحكمة لا نعلمها، قاله الصنعانيّ، ومعنى قوله:"لا تقسم"؛ أي: لا تكرر القسم، وإلا فإنه قد أقسم، حيث قال: "أقسمت عليك يا رسول الله لتخبرنّي بالذي أصبت من الذي أخطأت

". قاله الكرمانيّ، والحديث متّفقٌ عليه.

(وَنَصْرِ الْمَظْلُومِ)؛ أي: إعانته، وهو فرض كفاية، وهو عامّ في المظلومين، وكذلك في الناصرين، بناءً على أن فرض الكفاية مخاطَب به الجميع، وهو الراجح، ويتعيّن أحيانًا على من له القدرة عليه وحده، إذا لم يترتّب على إنكاره مفسدة، أشدّ من مفسدة المنكَر، فلو علم، أو غلب على ظنه أنه لا يُفيد سقط الوجوب، وبقي أصل الاستحباب بالشرط المذكور، فلو تساوت المفسدتان تخيّر.

(1)

يَحْتَمِل أن يكون بضمّ الميم أيضًا، كما هو مقتضى ما يأتي في عبارة الحافظ، فتنبّه.

(2)

هذا مبنيّ على أنها تنعقد اليمين على الغير. انتهى. "العدّة حاشية العمدة" 4/ 493.

(3)

"إحكام الأحكام" 4/ 494 بنسخة "الحاشية".

(4)

"الفتح" 15/ 292 - 293، كتاب "الأيمان والنذور" رقم (6654).

ص: 513

وشَرْطُ الناصرِ أن يكون عالمًا بكون الفعل ظلمًا، ويقع النصر مع وقوع الظلم، وهو حينئذ حقيقة، وقد يقع قبل وقوعه، كمن أنقذ إنسانًا، من يد إنسان طالبه بمال ظلمًا، وهدّده إن لم يبذله، وقد يقع بَعْدُ، وهو كثير. قاله في "الفتح"

(1)

.

وقد جاء الأمر بنصر الأخ ظالمًا، أو مظلومًا، وذلك فيما أخرجه البخاريّ في "صحيحه" عن حميد، عن أنس رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "انصر أخاك ظالمًا، أو مظلومًا"، قالوا: يا رسول الله، هذا ننصره مظلومًا، فكيف ننصره ظالمًا؟ قال:"تأخذ فوق يديه". وللإسماعيليّ من رواية معاذ، عن حميد: فقال: "يكُفّه عن الظلم، فذاك نصره إياه"، ولمسلم من حديث جابر رضي الله عنه نحوه، وفيه:"إن كان ظالمًا، فليَنْهَه، فإنه له نُصرةٌ".

وقوله: "فقال: تأخذ فوق يديه" كَنَى به عن كفّه عن الظلم بالفعل، إن لم يكُفّ بالقول، وعبَّر بالفوقية إشارة إلى الأخذ بالاستعلاء والقوّة، وفي رواية معاذ عن حميد عند الإسماعيليّ:"فقال: يَكُفّه عن الظلم، فذاك نَصْره إياه".

قال ابن بطال: النصر عند العرب: الإعانة، وتفسيره لنصر الظالم بمنعه من الظلم مِنْ تسمية الشيء بما يؤول إليه، وهو من وجيز البلاغة.

قال البيهقيّ: معناه أن الظالم مظلوم في نفسه، فيدخل فيه ردع المرء عن ظلمه لنفسه حسًّا ومعنى، فلو رأى إنسانًا يريد أن يَجُبّ نفسه لظنه أن ذلك يزيل مفسدة طَلَبِه الزنا مثلًا مَنَعه من ذلك، وكان ذلك نصرًا له، واتَّحَد في هذه الصورة الظالم والمظلوم.

وقال ابن الْمُنَيِّر: فيه إشارة إلى أن الترك كالفعل في باب الضمان، وتحته فروع كثيرة، قاله في "الفتح"

(2)

.

(وَإِجَابَةِ الدَّاعِي)؛ أي: إجابة دعوة الداعي إذا دعا، وظاهره عموم وجوب الإجابة لكلّ دعوة، عُرْسًا كان أو غيره، وبه يقول ابن عمر رضي الله عنهما، وهو

(1)

"الفتح" 6/ 264، كتاب "المظالم" رقم (2445).

(2)

"الفتح" 6/ 263، كتاب "المظالم" رقم (2443 - 2444).

ص: 514

الحقّ، وقد تقدّم البحث فيه مستوفًى، في "كتاب النكاح"، فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق.

(وَإِفْشَاءِ السَّلَامِ)؛ أي: إشاعته، وإكثاره، وأن يبذُله لكلّ مسلم، كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر:"وتقرأ السلام على من عرفت، ومن لم تعرف"، وسبق بيان هذا في "كتاب الإيمان"، في حديث:"أفشوا السلام".

وفي الرواية الآتية من طريق شعبة، عن الأشعث بلفظ:"ورَدِّ السلام"، ولا مغايرة بين الروايتين في المعنى؛ لأن ابتداء السلام وردَّه متلازمان، وإفشاء السلام ابتداءً يستلزم إفشاءَهُ جوابًا.

وقال في "الفتح": والمراد من إفشاء السلام نَشْره بين الناس ليُحْيُوا سُنَّته، وقد جاء إفشاء السلام من حديث البراء رضي الله عنه بلفظ آخر، أخرجه البخاريّ في "الأدب المفرد"، وصححه ابن حبّان، من طريق عبد الرحمن بن عَوْسَجة، عنه رفعه:"أفشوا السلام تَسْلَموا"، وله شاهد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، مرفوعًا:"ألا أدلّكم على ما تَحابّون به؟ أفشوا السلام بينكم".

وعن عبد الله بن سَلَام رفعه: "أطعموا الطعام، وأفشوا السلام

" الحديث، وفيه: "تدخلوا الجنّة بسلام". أخرجه البخاري في "الأدب المفرد"، وصححه الترمذيّ، والحاكم، وللأولين، وصححه ابن حبّان، من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما رفعه: "اعبدوا الرحمن، وأفشوا السلام

" الحديث، وفيه: "تدخلوا الجنّة".

ومن الأحاديث في إفشاء السلام: ما أخرجه النسائيّ في "عمل اليوم والليلة"، عن أبي هريرة رضي الله عنه، رفعه:"إذا جاء أحدكم إلى القوم، فليُسلّم، وإذا قام فليسلّم، فليست الأولى بأحقّ من الآخرة". وأخرج ابن أبي شيبة، من طريق مجاهد، عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال:"إن كنت لَأَخرج إلى السوق، وما لي حاجة إلا أن أسلّم، ويُسلَّم عليّ".

والأحاديث في إفشاء السلام كثيرة، منها عند البزّار، من حديث ابن الزبير، وعند أحمد من حديث عبد الله بن الزبير، وعند الطبرانيّ من حديث ابن مسعود، وأبي موسى، وغيرهم.

ص: 515

وأخرج البخاريّ رحمه الله في "الأدب المفرد" بسند صحيح، عن ابن عمر رضي الله عنهما:"إذا سلمتَ، فأسمع، فإنها تحيّة من عند الله".

واستدلّ بالأمر بإفشاء السلام أنه لا يكفي السلام سرًّا، بل يُشترط الجهر، وأقلّه أن يُسمَع في الابتداء، وفي الجواب.

قال النوويّ رحمه الله: أقلّه أن يرفع صوته بحيث يُسمِع المسلَّمَ عليه، فإن لم يُسمعه لم يكن آتيًا بالسُّنَّة، ويستحبّ أن يرفع صوته بقدر ما يتحقّق أنه سمعه، فإن شكّ استظهر، ويُستثنى من رفع الصوت بالسلام ما إذا دخل على مكان، فيه أيقاظ، ونيام، فالسُّنَّة فيه ما تقدّم في "صحيح مسلم" عن المقداد رضي الله عنه، قال:"كان النبيّ صلى الله عليه وسلم من الليل، فيسلّم تسليمًا، لا يُوقظ نائمًا، ويُسمِع اليقظان".

ولا تكفي الإشارة باليد ونحوه، وقد أخرج النسائيّ في "عمل اليوم والليلة" بسند جيّد، عن جابر رضي الله عنه، رفعه:"لا تسلّموا تسليم اليهود، فإن تسليمهم بالرؤوس والأكفّ".

ويُستثنى من ذلك حالة الصلاة، فقد وردت أحاديث جيّدة أنه صلى الله عليه وسلم ردّ السلام، وهو يصلي إشارةً، منها:"حديث أبي سعيد رضي الله عنه أن رجلًا سلّم على النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو يُصلي، فردّ عليه إشارةً"، ومن حديث ابن مسعود نحوه.

وكذا من كان بعيدًا، بحيث لا يسمع التسليم يجوز السلام عليه إشارةً، ويتلفّظ مع ذلك بالسلام، وأخرج ابن أبي شيبة عن عطاء، قال: يُكره السلام باليد، ولا يكره بالرأس.

ونقل النوويّ، عن المتولّي أنه قال: يُكره إذا لقي جماعة أن يخصّ بعضهم بالسلام؛ لأن القصد بمشروعيّة السلام تحصيل الألفة، وفي التخصيص إيحاشٌ لغير من خصّ بالسلام. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى: ويدلّ لِمَا قاله المتولي: ما أخرجه البخاريّ في "الأدب المفرد" بسند صحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه مرّ رجل، فقال: السلام عليك يا أبا عبد الرحمن، فردّ عليه، ثم قال: "إنه سيأتي على الناس

(1)

"الفتح" 14/ 153، كتاب "الاستئذان" رقم (6235).

ص: 516

زمان يكون السلام فيه للمعرفة"، وأخرجه الطحاويّ، والطبرانيّ، والبيهقيّ في "الشعب" من وجه آخر عن ابن مسعود مرفوعًا، ولفظه: "إن من أشراط الساعة أن يمرّ الرجل بالمسجد، لا يُصلي فيه، وأن لا يُسلّم إلا على من يعرفه"، ولفظ الطحاويّ: "إن من أشراط الساعة السلام للمعرفة"، والله تعالى أعلم.

(وَنَهَانَا عَنْ خَوَاتِيمَ، أَو) للشكّ من الراوي (عَنْ تَخَتُّمٍ بِالذَّهَبِ)، وفي رواية شعبة الآتية:"نهانا عن خاتم الذهب، أو حلقة الذهب"، وفي رواية سفيان الآتية:"وخاتم الذهب" من غير شكّ.

والمعنى: نهانا عن لُبس الخواتيم، وهي جمع خاتم، ويُجمع أيضًا على خواتم بلا ياء، وعلى خياتيم بياء بدل الواو، وبلا ياء أيضًا، وفي الخاتم ثماني لغات: فتح التاء، وكسرها، وهما واضحتان، وبتقديمها على الألف، مع كسر الخاء، خِتَام، وبفتحها، وسكون التحتانيّة، وضمّ المثنّاة، بعدها واو، وبحذف الياء والواو، مع سكون المثنّاة، خَتْم، وبألف بعد الخاء، وأخرى بعد التاء، خاتام، وبزيادة تحتانيّة بعد المثناة المكسورة، خاتِيَام، وبحذف الأولى، وتقديم التحتانيّة، خَيْتَام، وقد جمعها الحافظ رحمه الله بقوله

(1)

[من البسيط]:

خُذْ نَظْمَ عَدِّ لُغَاتِ الْخَاتَمِ انْتَظَمَتْ

ثَمَانِيًا مَا حَوَاهَا قَبْلُ نِظَامُ

خَاتَامُ خَاتَمُ خَتْمٌ خَاتِمٌ وَخِتَا

مٌ خَاتِيَامٌ وَخَيْتُومٌ وَخَيْتَامُ

وَهَمْزُ مَفْتُوحِ تَاءٍ تَاسِعٌ وَإِذَا

سَاغَ الْقِيَاسُ أَتَمَّ الْعَشْرَ خَأْتَامُ

قال في "الفتح": أما الأول، فذكر أبو البقاء في إعراب الشواذّ في الكلام على من قرأ "العألمين" بالهمز، قال: ومثله الْخَأْتَم، وأما الثاني فهو على الاحتمال، واقتصر كثيرون منهم النوويّ

(2)

على أربعة، والحقّ أن الختم،

(1)

هكذا نسب الحافظ الأبيات إلى نفسه في "الفتح"، لكن رأيت في "تاج العروس شرح القاموس" في مادّة "ختم" نَسْبَ الأبيات للحافظ العراقيّ، فلا أدري ممن الخطأ، فليُحرّر، والله تعالى أعلم.

(2)

وعبارة النوويّ في "تهذيب الأسماء واللغات"(3/ 88): الخاتم، والخاتم، بفتح التاء، وكسرها، والخيتام، والخاتام، كلّه بمعنى، والجمع خواتيم، هذه اللغات الأربع مشهورة. انتهى.

ص: 517

والختام مختصّ بما يُختم به، فتكمل الثمان به، وأما ما يُتزيّن به فليس فيه إلا ستّة، وأنشدوا في "الخاتيام"، وهو أغربها:

أَخَذْتَ مِنْ سُعْدَاكَ خَاتِيَامَا

لِمَوْعِدٍ تَكْتَسِبُ الآثَامَا

ثم إن النهي عن لُبسه للتحريم، وهو خاصّ بالرجال، دون النساء، والله تعالى أعلم.

(وَعَنْ شُرْب بِالْفِضَّةِ)؛ أي: ونهانا عن استعمال آنية الفضة، والنهي فيه للتحريم، وهو عامّ في الرجال والنساء، فيَحْرُم استعمال آنية الفضّة، ومثله الذهب في الأكل، والشرب، ونحوهما على كلّ مكلف، رجلًا كان أو امرأةً، ولا يلتحق ذلك بالحليّ للنساء؛ لأنه ليس من التزيّن الذي أُبيح لهنّ في شيء، وقد تقدّم البحث فيه مستوفًى في الباب الماضي.

(وَعَنِ الْمَيَاثِرِ) وفي رواية للبخاريّ، من طريق الثوريّ، عن أشعث:"والمياثير الْحُمْرِ".

و"المياثير": جمع مِيثرة، قال ابن الأثير: المِيثرة بالكسر، مِفْعلَةٌ، من الْوَثَارَة، يقال: وَثُرَ وَثَارَةً، فهو وَثيرٌ؛ أي: وَطِيءٌ لَيِّنٌ، وأصلها مِوْثَرَةٌ، فقُلِبت الواو ياءً، لكسرة الميم، وهي من مراكب العجم، تُعمل من حرير، أو ديباجٍ. انتهى

(1)

.

وقال في "الفتح": "الميثرة": بكسر الميم، وسكون التحتانيّة، وفتح المثلّثة، بعدها راء، ثم هاء، ولا همز فيها أصلًا، وأصلها من الوَثَارة، أو الوِثْرَة بكسر الواو، وسكون المثلّثة، والوَثِيرُ هو الفراش الوطيء، وامرأة وَثيرة، كثيرة اللحم. انتهى.

وفي "صحيح البخاريّ": "أن أبا بردة سأل عليًّا رضي الله عنه عن الميثرة؟ فقال: كانت النساء تصنعنه لبعولتهنّ، مثل القَطَائف

(2)

، يَصُفُّونها". انتهى.

قال في "الفتح": "يصفّونها"؛ أي: يجعلونها كالصُّفَّة، وحَكَى عياض في

(1)

"النهاية في غريب الحديث والأثر" 5/ 150.

(2)

"القطائف": جمع قطيفة: دثارٌ مُخملٌ، يضعونه فوق الرحال، قاله في "طرح التثريب" 3/ 230.

ص: 518

رواية: "يصَفِّرْنَها" بكسر الفاء، ثم راء، وأظنّه تصحيفًا، وإنما قال:"يصفّونها" بلفظ المذكّر للإشارة إلى أن النساء يصنعن ذلك، والرجال هم الذين يستعملونها في ذلك.

وقال الزبيديّ اللغويّ: و"الميثرة" مِرْفَقَة؛ كصُفَّةِ السَّرج. وقال الطبريّ: هو وِطَاء يوضع على سَرج الفرس، أو رَحْل البعير، كانت النساء تصنعنه لأزواجهنّ، من الأرجوان الأحمر

(1)

، ومن الديباج، وكانت مراكبَ العجم. وقيل: هي أغشية للسروج من الحرير. وقيل: هي سروج من الديباج. فحصّلنا على أربعة أقوال في تفسير "الميثرة"، هل هي وطاء للدابّة، أو لراكبها، أو هي السرج نفسه، أو غشاوته؟

(2)

.

وقال في "الفتح" أيضًا عند شرح قوله: "والمياثير الْحُمْر" ما نصّه: قال أبو عُبيد: المياثر الحمر التي جاء النهي عنها، كانت من مراكب العجم، من ديباج، أو حرير. وقال الطبريّ: هي وعاء يوضع على سرج الفرس، أو رحل البعير، من الأرْجُوَان. وحكى في "المشارق" قولًا: إنها سروج من ديباج، وقولًا: إنها أغشية للسروج من حرير، وقولًا: إنها تُشبه المِخَدَّة، تُحشَى بقطن، أو ريش، يَجعلها الراكب تحته، وهذا يوافق تفسير الطبريّ، والأقوال الثلاثة يحتمل أن لا تكون متخالفةً، بل الميثرة تُطلق على كلّ منها، وتفسير أبي عبيد يحتمل الثاني، والثالث.

وعلى كلّ تقدير، فالميثرة، إن كانت من حرير، فالنهي فيها كالنهي عن الجلوس على الحرير، ولكن تقييدها بالأحمر أخصّ من مطلق الحرير، فيمتنع إن كانت حريرًا، ويتأكد المنع إن كانت مع ذلك حمراء، وإن كانت من غير حرير، فالنهي فيها للزجر عن التشبّه بالأعاجم.

(1)

"الأرْجُوان" بضمّ الهمزة، والجيم، بينهما راء ساكنةٌ، ثمّ واو خفيفةٌ، وحكى عياض، ثم القرطبيّ فتح الهمزة، وأنكره النوويّ، وصوّب أن الضمّ هو المعروف في كُتب الحديث، واللغة، والغريب، واختلفوا في المراد به، فقيل: هو صبغ أحمر شديد الحمرة، وهو نَوْرُ شجر من أحسن الألوان، وقيل: الصوف الأحمر، وقيل: كلّ شيء أحمر، فهو أرجوان، قاله في "الفتح" 11/ 491.

(2)

"الفتح" 11/ 473 - 474.

ص: 519

قال ابن بطّال: كلام الطبريّ يقتضي التسوية في المنع من الركوب عليه، سواء كانت من حرير، أم من غيره، فكان النهي عنها إذا لم يكن من حرير للتشبّه، أو للسَّرَف، أو التزيّن، وبحَسْب ذلك تفصيل الكراهة بين التحريم والتنزيه، وأما تقييدها بالحُمرة، فمن يَحمل المطلق على المقيّد وهم الأكثرون يخصّ المنع بما كان أحمر. انتهى

(1)

.

وقال الحافظ ولي الدين رحمه الله: قال النوويّ: قال العلماء: الميثرة، وإن كانت من الحرير، كما هو الغالب فيما كان من عادتهم، فهي حرام؛ لأنه جلوس على حرير، واستعمال له، وهو حرام على الرجال، سواء كان على رَحْل، أو سرج، أو غيرهما، وإن كانت ميثرة من غير حرير، فليست بحرام، ومذهبنا أنها ليست مكروهة أيضًا، فإن الثوب الأحمر، لا كراهة فيه، فسواء كانت حمراء، أم لا، وقد ثبتت الأحاديث الصحيحة أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لبس حُلَّة حمراء.

وحكى القاضي عياض، عن بعض العلماء كراهتها، لئلا يظنها الرائي من بُعْد حريرًا. انتهى.

وقال ابن قُدامة: قال أصحابنا: يُكره لُبس الأحمر، وهو مذهب ابن عمر، والصحيح أنه لا بأس به، وأحاديث الإباحة أصحّ.

وقال أبو العباس القرطبيّ: وأما من كانت عنده الميثرة من جلود السباع، فوجه النهي عنها أنها لا تَعْمَل الذّكاة فيها، وهو أحد القولين عند أصحابنا، أو لأنها لا تُذكَّى غالبًا.

قال وليّ الدين: لكنها تطهر بالدباغ، إلا أن العلماء اختلفوا في طهارة الشَّعْر تبعًا للجِلد، إذا دُبغ، والمشهور عند الشافعية عدم طهارته، وقالت الحنفيّة بطهارته، والأغلب في المياثير أنها لا شَعْر عليها، والله أعلم.

وقد يقال: إن المعنى في النهي عن المياثير ما فيه من الترفّه، وقد يتعذّر في بعض الأوقات، فيشقّ تركها على من اعتادها، فيكون حينئذ إرشادًا، نُهي عنه لمصلحة دنيويّة، وقد يكون لمصلحة دينيّة، وهي ترك التشبّه بعظماء

(1)

"الفتح" 11/ 490 - 491، كتاب "اللباس" رقم (5839).

ص: 520

الفُرس؛ لأنه كان شعارهم ذلك الوقت، فلما لم يَصِر شعارًا لهم، وزال ذلك المعنى زالت الكراهة، والله تعالى أعلم.

قال: وقد عرفت أن الميثرة قُيّدت تارة بكونها حمراء، وأُطلقت تارة، فمن يَحْمِل المطلق على المقيّد يخصّ النهي بالحمراء، ومن يأخذ بالمطلق، وهم الحنفيّة، والظاهريّة، فمقتضى مذهبهم طَرْد النهي عنها، وإن لم تكن حمراء.

ووقع في حديث عليّ رضي الله عنه عند أبي داود: "ونُهي عن مَيَاثير الأُرْجُوان". فإن فُسّر الأرجوان بمطلق الأحمر ساوى الرواية التي فيها المياثر الحمر، وإن فسّرناه بالمصبوغ بصبغ مخصوص، فمقتضاه اختصاصه بالمصبوغ بذلك الصبغ المخصوص خاصّة، وأنه لا يتعدّى لِمَا سواه إلا أن تكون تَعْدِيَته بطريق القياس، والله أعلم. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: التعليلات التي ذكروها في سبب النهي عن المياثر، من كونها حريرًا، أو غير ذلك، لم تُذكر في الحديث، فالظاهر أن النهي عام في جميع أنواع المياثر، سواء كانت من حرير، أو من غيره، وسواء كانت حمراء، أو غيرها، كما تقدّم عن الطبريّ، وأن النهي للتحريم في الجميع، إذ النصّ لم يفرّق بين نوع ونوع، والله تعالى أعلم.

(وَعَنِ الْقَسِّيِّ)؛ أي: نهى عن لُبس الثياب القَسّيّة، وهي بفتح القاف، وتشديد المهملة، بعدها ياء النسبة.

وقد ذكر البخاريّ رحمه الله في "صحيحه" تفسيرها فيما علّقه عن عاصم - يعني: ابن كُليب - عن أبي بُردة، قال: قلت لعلي: ما القسّيّة؟ قال: ثيابٌ أتتنا من الشام - أو من مصر - مُضَلَّعَةٌ

(2)

فيها حرير، وفيها أمثال الأتْرُنْج

(3)

. انتهى.

وقال في "الفتح": وذكر أبو عبيد في "غريب الحديث" أَن أهل الحديث يقولونه بكسر القاف، وأهل مصر يفتحونها، وهي نسبة إلى بلدة، يقال لها:

(1)

"طرح التثريب في شرح التقريب" 3/ 231.

(2)

أي: فيها خطوط عريضةٌ الأضلاع.

(3)

أي: إن الأضلاع التي فيها غليظة معوجّة.

ص: 521

القَسّ، رأيتها، ولم يعرفها الأصمعيّ، وكذا قال الأكثر: هي نسبة للقَسّ بمصر، منهم الطبريّ، وابن سِيدَهْ، وقال الحازميّ: هي من بلاد الساحل، وقال المهلّب: هي على ساحل مصر، وهي حصن بالقرب من الْفَرَمَا، من جهة الشام، وكذا وقع في حديث ابن وهب أنها تلي الفرَمَا - والْفَرَمَا بالفاء، وراء مفتوحة - وقال النوويّ: هي بقرب تِنِّيس، وهو متقاربٌ.

وحَكَى أبو عبيد الهرويّ عن شَمِر اللغويّ أنها بالزاي، لا بالسين، نسبة إلى الْقَزّ، وهو الحرير، فأبدلت الزاي سينًا.

وحكى ابن الأثير في "النهاية" أن القَسّ الذي نُسب إليه هو الصقيع، سمِّي بذلك لبياضه، وهو، والذي قبله كلامُ من لم يعرف القَسّ القرية. انتهى

(1)

.

وقيل: هي ثياب من كَتّان مخلوط بحرير، وقيل: هي ثياب من القّزّ، وأصله: الْقَزّيّ، بالزاي، منسوب إلى القَزّ، وهو رديء الحرير، فأُبدلت الزاي سينًا، ذكره في "الطرح"

(2)

.

(وَعَنْ لُبْسِ الْحَرِيرِ) بفتح الحاء المهملة، معروف، وهو عربيّ، سمِّي بذلك لخلوصه، يقال لكلّ خالص: مُحرَّر، وحرّرتُ الشيءَ: خلّصته من الاختلاط بغيره. وقيل: هو فارسيّ معرّبٌ

(3)

.

(وَالاسْتَبْرَقِ) بكسر الهمزة، هي - كما في "المصباح" - غَليظ الديباج، فارسيّ مُعَرَّب. وقال ابن الأثير رحمه الله: قد تكرر ذكر الإستبرق في الحديث، وهو ما غَلُظ من الحرير، والإِبْرَيْسَم، وهي لفظة أعجميّة، معرَّبَةٌ، أصلها اسْتَبْرَه، وقد ذكرها الجوهريّ في الباء من القاف، على أن الهمزة، والسين، والتاء زوائد، وأعاد ذِكرها في السين من الراء، وذكرها الأزهريّ في خُماسيّ القاف، على أن همزتها وحدها زائدة، وقال: أصلها بالفارسية: اسْتَفرَه، وقال أيضًا: إنها، وأمثالها من الألفاظ حروفٌ عربيّة، وقع فيها وفاق بين العجمية

(1)

"الفتح" 13/ 314 - 315، كتاب "اللباس" رقم (5838).

(2)

"طرح التثّريب" 3/ 232.

(3)

"الفتح" 13/ 301، كتاب "اللباس" رقم (5828).

ص: 522

والعربيّة، وقال: هذا عندي هو الصواب. انتهى

(1)

.

(وَالدِّيبَاجِ) بكسر الدال المهملة، وقد تُفتح، وبعضهم قال: الكسر أصوب من الفتح: هي الثياب المتّخذة من الإبرِيسَم، فارسيّ معرّب.

وقال ابن منظور رحمه الله: والدِّيباجُ ضَرْبٌ من الثياب مشتقّ من الدَّبْج، وهو النقش، والتزيين، وهو بالكسر والفتح: مُوَلَّدٌ، والجمع دَيابيجُ، ودبابيج، قال ابن جني: قولهم: دبابيج يدلّ على أَن أَصله دِبَّاخٌ، وأَنهم إِنما أَبدلوا الباء ياء استثقالًا لتضعيف ابباء، وكذلك الدينار، والقيراط، وكذلك في التَّصْغير، وفي الحَديثِ ذكْرُ الدِّيباج، وهي الثياب المتَّخَذة من الإبريسم، فارسيّ مُعَرَّب، وقد تُفتح داله، وقال الليث: الدِّيباج - بالكسر - أَصوب من الدَّيْباج - بالفتح - وكذلك قال أَبو عبيد في الدِّيباج، والدِّيوان، وجَمْعهما دَبابِيجُ، ودَواوينُ. انتهى

(2)

.

وقال الفيّوميّ رحمه الله: الدِّيبَاجُ: ثوبٌ سَدَاه ولُحْمَتُهُ إِبْرَيْسَم، ويقال: هو معَرَّبٌ، ثم كَثُر، حتى اشتقَّت العربُ منه، فقالوا: دَبَجَ الغيثُ الأرضَ دَبْجًا، من باب ضرب: إذا سقاها، فأنبتت أزهارًا مختلفة؛ لأنه عندهم اسم للمُنَقَّش، واختُلِف في الياء، فقيل: زائدةٌ، ووزنه فيعالٌ، ولهذا يُجمع بالياء، فيقال: دَبَابِيجُ، وقيل: هي أصل، والأصل دَبَّاجٌ بالتضعيف، فأُبدل من أحد المضعَّفَين حرف العلة، ولهذا يُرَدّ في الجمع إلى أصله، فيقال: دَيَابِيجٌ بياء مثناة بعد الدال. نتهى

(3)

.

وقال أيضًا: و"الإبريسم": معرّبٌ، وفيها لغات، كسر الهمزة، والراء، والسين، وابن السِّكِّيت يمنعها، ويقول: ليس في الكلام إِفْعِيلِلٌ بكسر اللام، بل بالفتح، مثلُ إِهْلِيلَجٍ، وإِطْرِيفل، والثانية فَتْح الثلاثة، والثالثة كَسْر الهمزة، وفتح الراء والسين. انتهى

(4)

.

وقال في "القاموس": "الإبريسم" بفتح السين وضمّها: الحرير، أو معرّب. انتهى

(5)

.

(1)

"النهاية في غريب الأثر" 1/ 47.

(2)

"لسان العرب" 2/ 262.

(3)

"المصباح المنير" 1/ 188.

(4)

"المصباح المنير"1/ 42.

(5)

"القاموس المحيط" ص 95.

ص: 523

وقال وليّ الدين رحمه الله: ذِكرُ الديباج، والاستبرق بعد الحرير - أي: في بعض الروايات - من ذِكْر الخاصّ بعد العامّ، وكأنه أشار بذلك إلى أنه لا فرق في تحريم الحرير بين جيّده، وهو الديباج، ورديئه، وهو الإستبرق، والله أعلم. انتهى.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: النهي عن لُبس الحرير، والإستبرق، والديباج، مختصّ بالرجال، فيجوز لُبسه للنساء، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث البراء بن عازب رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [1/ 5377 و 5378 و 5379 و 5380 و 5381 و 5382](2066)، و (البخاريّ) في "الجنائز"(1239) و"المظالم"(2445) و"النكاح"(5175) و"الأشربة"(5635) و"المرضى"(5650) و"اللباس"(5838 و 5849 و 5863) و"الأدب"(6222) و"الاستئذان"(6235) و"الأيمان والنذور"(6654) وفي "الأدب المفرد"(924)، و (أبو داود) في "اللباس"(5051)، و (الترمذيّ) في "الأدب"(2809)، و (النسائيّ) في "الجنائز"(4/ 54) و"الأيمان والنذور"(7/ 8)، و (ابن ماجه) في "اللباس"(2115 و 3589)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(2836)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(746)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(8/ 210 - 211)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 284 و 299)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(1/ 482)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(3040 و 5340 و 5438)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1/ 406 و 2/ 70 و 4/ 50 و 5/ 219 و 220 و 221 و 222)، و (البيهميّ) في "الكبرى"(6/ 94 و 7/ 263 و 10/ 108) و"شُعب الإيمان"(7/ 23)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(1406)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان الأمر بعيادة المريض، وقال النوويّ: أما عيادة المريض فسُنَّة بالإجماع، وسواء فيه من يعرفه، ومن لا يعرفه، والقريب، والأجنبيّ،

ص: 524

واختلف العلماء في الأوكد، والأفضل منها. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: دعواه الإجماع على سُنيّته فيه نظر لا يخفى، وسيأتي بيان اختلاف العلماء في ذلك في المسألة التالية - إن شاء الله تعالى -.

2 -

(ومنها): بيان الأمر باتباع الجنائز، قال النوويّ: وأما اتّباع الجنائز فسُنَّة بالإجماع أيضًا، وسواء فيه من يعرفه، وقريبه، وغيرهما، وسبق إيضاحه في "الجنائز". انتهى

(2)

.

3 -

(ومنها): الأمر بتشميت العاطس، قال النوويّ: وهو سُنَّة على الكفاية إذا فعله بعض الحاضرين سقط الأمر عن الباقين، وشَرْطه أن يَسمع قول العاطس:"الحمد لله"، كما سنوضّحه مع فروع تتعلق به في بابه - إن شاء الله تعالى - انتهى

(3)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قوله: "سُنَّة على الكفاية" فيه نَظَر لا يخفى، وسيأتي أن الراجح أنه فرض عَيْن، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

4 -

(ومنها): الأمر بإبرار القسم، قال النوويّ رحمه الله: وأما إبرار القسم فهو سنة أيضًا مستحبة متأكدةٌ، وإنما يُندب إليه إذا لم يكن فيه مفسدة، أو خوف ضرر، أو نحو ذلك، فإن كان شيء من هذا لم يبرّ قَسَمه، كما ثبت أن أبا بكر رضي الله عنه لَمّا عَبّر الرؤيا بحضرة النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم:"أصبت بعضًا، وأخطأت بعضًا"، فقال: أقسمت عليك يا رسول الله لتخبرنِّي، فقال:"لا تُقسم"، ولم يخبره. انتهى

(4)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قوله: "مستحبّة" فيه نظر لا يخفى؛ إذ ورد الأمر به، والأمر للوجوب، إلا لصارف، ولم يوجد هنا صارف، فالظاهر الوجوب، فتأمّل، والله تعالى أعلم.

5 -

(ومنها): الأمر بنصر المظلوم، وهو على الكفاية، قال النوويّ رحمه الله: وأما نَصْر المظلوم فمن فروض الكفاية، وهو من جملة الأمر بالمعروف،

(1)

"شرح النوويّ" 14/ 31.

(2)

"شرح النوويّ" 14/ 31.

(3)

"شرح النوويّ" 14/ 31.

(4)

"شرح النوويّ" 14/ 31.

ص: 525

والنهي عن المنكر، وإنما يتوجه الأمر به على من قَدَر عليه، ولم يَخَفْ ضررًا. انتهى

(1)

.

6 -

(ومنها): الأمر بإجابة الداعي، والمراد به الداعي إلى وليمة ونحوها من الطعام، وقد سبق البحث فيه مستوفًى في "باب الوليمة" من "كتاب النكاح"، فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق.

7 -

(ومنها): الأمر بإفشاء السلام، وهو إشاعته، وإكثاره، وبَذْله لكل مسلم، كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر:"وتقرأ السلام على من عرفت، ومن لم تعرف"، وسبق بيان هذا مستوفًى في "كتاب الإيمان"، ولله الحمد والمنّة.

وأما ردّ السلام فهو فرض بالإجماع، فإن كان السلام على واحد كان الردّ فرض عين عليه، وان كان على جماعة كان فرض كفاية في حقهم، إذا ردّ أحدهم سقط الحرج عن الباقين.

8 -

(ومنها): تحريم استعمال خواتيم الذهب، وهو خاصّ بالرجال، كما تقدّم.

9 -

(ومنها): تحريم استعمال آنية الفضّة، ومثلها الذهب، وهو عامّ للرجال والنساء، كما تقدّم أيضًا.

10 -

(ومنها): تحريم استعمال المياثر، وقد تقدم اختلاف أهل اللغة في معناها.

11 -

(ومنها): تحريم استعمال القَسّيّة، وهي الثياب المخطّطة بالحرير.

12 -

(ومنها): تحريم لبس الإستبرق، وهو ما غلظ من الديباج، والحرير، والديباج، وقد تقدّم بيان الفرق بينها في خلال شرحها، والله تعالى أعلم بالصواب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في وجوب عيادة المريض:

قال الإمام البخاريّ رحمه الله في "صحيحه": "باب وجوب عيادة المريض"، ثم أخرج بسنده عن أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

(1)

"شرح النوويّ" 14/ 31.

ص: 526

"أطعموا الجائع، وعُودوا المريض، وفُكُّوا العاني". وأخرج أيضًا حديث البراء رحمه الله المذكور في الباب.

قال في "الفتح": قوله: "باب وجوب عيادة المريض" كذا جزم بالوجوب على ظاهر الأمر بالعيادة. قال ابن بطّال: يَحْتَمِل أن يكون الأمر على الوجوب بمعنى الكفاية؛ كإطعام الجائع، وفكّ الأسير، ويَحتمل أن يكون للندب، للحثّ على التواصل والألفة، وجزم الداوديّ بالأول، فقال: هي فرض، يَحمله بعض الناس عن بعض.

وقال الجمهور: هي في الأصل ندب، وقد تصل إلى الوجوب في حقّ بعض دون بعض. وعن الطبريّ: تتأكّد في حقّ من تُرجى بركته، وتُسنّ فيمن يراعى حاله، وتباح فيما عدا ذلك.

ونقل النوويّ الإجماع على عدم الوجوب؛ يعني: على الأعيان. انتهى.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الأرجح عندي ما جزم به الإمام البخاريّ رحمه الله، من وجوب عيادة المريض، لصريح الأمر في قوله:"وعودوا المريض"، لكنه على الكفاية كما قال الداوديّ، وأما ما ذهب إليه الجمهور من الندب، فيحتاج إلى صارف للأمر عن الوجوب إلى الندب، ولم يذكروا ذلك، وأما ما قاله الطبريّ من التفصيل بين من تُرجى بركته وغيره، فمما لا دليل عليه، وأما ما ادعاه النوويّ من الإجماع، فقد أجاب عنه الحافظ بأنه يقصد عدم الوجوب على الأعيان، فلا يخالف القول الأول، والله تعالى أعلم.

[تنبيهات]:

(الأول): يستحبّ عيادة الذميّ، قال الإمام البخاريّ رحمه الله في "صحيحه":"باب عيادة المشرك"، ثم أخرج بسنده عن أنس رضي الله عنه أن غلامًا ليهود، كان يخدُم النبيّ صلى الله عليه وسلم، فمرض، فأتاه يعوده، فقال:"أسلم" فاسلم. انتهى.

قال ابن بطال رحمه الله: إنما تُشرع عيادته إذا رُجِي أن يجيب إلى الدخول في الإسلام، فأما إذا لم يُطمَع في ذلك، فلا. انتهى.

قال الحافظ رحمه الله: والذي يظهر لي أن ذلك يختلف باختلاف المقاصد، فقد يقع بعيادته مصلحة أخرى، قال الماورديّ رحمه الله: عيادة الذميّ جائزة، والقربة موقوفة على نوع حرمة، تقترن بها، من جِوار، أو قرابة. انتهى.

ص: 527

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن استحباب عيادة الذمّيّ هو الأرجح، اقتداء بالنبيّ صلى الله عليه وسلم، ورجاء إسلامه، وقول ابن بطال: فإذا لم يُطمع

إلخ فيه نظر؛ لأن ذلك غير محقّق؛ إذ ربما يظهر عليه الآن عدم الرغبة في الإسلام، ثم يتحوّل بعده، فيرغب، فلا ينبغي اليأس نظرًا لأول حاله، والله تعالى أعلم.

(التنبيه الثاني): عموم هذا الحديث يدلّ على مشروعية عيادة كلّ مريض، لكن استثنى بعضهم الأرمد؛ لكون عائده قد يرى ما لا يراه هو، وهذا الأمر خارجيّ، قد يأتي مثله في بقية الأمراض؛ كالمُغمَى عليه، وقد جاء في عيادة الأرمد بخصوصه حديث زيد بن أرقم رضي الله عنه، قال:"عادني رسول الله صلى الله عليه وسلم، من وجع كان بعيني"، أخرجه أبو داود، وصححه الحاكم، وهو عند البخاريّ في "الأدب المفرد"، وسياقه أتم.

وأما ما أخرجه البيهقيّ، والطبرانيّ مرفوعًا:"ثلاثة ليس لهم عيادة: العين، والدُّمَّلُ، والضِّرْس"، فصحح البيهقيّ أنه موقوف على يحيى بن أبي كثير.

(التنبيه الثالث): يؤخذ من إطلاق الحديث عدم تقييد العيادة بزمان يمضي، من ابتداء مرضه، وهو قول الجمهور، وجزم الغزاليّ في "الإحياء" بأنه لا يُعاد إلا بعد ثلاث، واستند إلى حديث أخرجه ابن ماجه:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعود إلا بعد ثلاث"، وهذا حديث ضعيف جدًّا، تفرّد به مسلمة بن عليّ، وهو متروك، وقد سئل عنه أبو حاتم؟ فقال: هو حديث باطل، وله شاهد من حديث أبي هريرة، عند الطبرانيّ في "الأوسط"، لكن فيه راو متروك، فلا يثبت الحديث أصلًا، والله تعالى أعلم.

ويلتحق بعيادة المريض: تعهّده، وتفقّد أحواله، والتلطّف به، وربما كان ذلك في العادة سببًا لوجود نشاطه، وانتعاش قوّته.

وفي إطلاق الحديث أيضًا أن العيادة لا تتقيّد بوقت دون وقت، لكن جرت العادة بها في طرفَي النهار، وترجم البخاريّ في "الأدب المفرد":"العيادة في الليل"، وساق عن خالد بن الربيع، قال: "لمّا ثقُل حذيفة أتوه في جوف الليل، أو عند الصبح، فقال: أي ساعة هذه؟ فأخبروه، فقال: أعوذ بالله

ص: 528

من صباح إلى النار

" الحديث. ونقل الأثرم عن أحمد أنه قيل له بعد ارتفاع النهار في الصيف: تعود فلانًا؟ قال: ليس هذا وقت عيادة. ونقل ابن الصلاح عن الفُرَاويّ أن العيادة تستحبّ في الشتاء ليلًا، وفي الصيف نهارًا، وهو غريب.

(التنبيه الرابع): من آداب العيادة أن لا يُطيل الجلوس حتى يُضجر المريض، أو يشقّ على أهله، فإن اقتضت ذلك ضرورة، فلا بأس، كما في حديث جابر رضي الله عنه حيث عاده النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر رضي الله عنه، فوجداه أغمي عليه، فتوضأ النبيّ صلى الله عليه وسلم، ثم صبّ وَضُوءه عليه، فأفاق، فإذا النبيّ صلى الله عليه وسلم عنده، فقاله: كيف أصنع في مالي؟ الحديث، أخرجه البخاريّ، أفاده في "الفتح"

(1)

.

(التنبيه الخامس): قد ورد في فضل عيادة المريض أحاديث كثيرة جياد، منها عند مسلم، والترمذيّ، من حديث ثوبان رضي الله عنه، مرفوعًا:"إن المسلم إذا عاد أخاه المسلم، لم يزل في خُرْفة الجنّة". و"الخرفة" بضم المعجمة، وسكون الراء بعدها فاء، ثم هاء: هي الثمرة، إذا نضِجَت، شُبّه ما يحوزه عائد المريض من الثواب بما يحوزه الذي يجتني الثمر. وقيل: المراد بها هنا الطريق، والمعنى أن العائد يمشي في طريق تؤديه إلى الجنّة، والتفسير الأول أَولى، فقد أخرجه البخاريّ في "الأدب المفرد" من هذا الوجه، وفيه: فقلت لأبي قلابة: ما خُرفة الجنّة؟ قال: جَنَاها، وهو عند مسلم من جملة المرفوع. وأخرج البخاريّ في "الأدب المفرد" أيضًا من طريق عمر بن الحكم، عن جابر، رفعه:"من عاد مريضًا خاض في الرحمة، حتى إذا قعد استقرّ فيها"، وأخرجه أحمد، والبزّار، وصححه ابن حبّان، والحاكم من هذا الوجه، وألفاظهم مختلفة، ولأحمد نحوه من حديث كعب بن مالك بسند حسن

(2)

، والله تعالى أعلم.

(المسألة الخامسة): في اختلاف أهل العلم في حكم تشميت العاطس:

ذهبت طائفة إلى أنه فرض عين، قال في "الفتح": وقد أخذ بظاهرها

(1)

"الفتح" 13/ 21 - 22، كتاب "المرضى" رقم (5649 و 5650).

(2)

"الفتح" 13/ 22، كتاب "المرضى" رقم (5649 و 5650).

ص: 529

- يعني: الأحاديث المذكورة في الباب - ابن مزين من المالكية، وقال به جمهور أهل الظاهر، وقال ابن أبي جمرة: قال جماعة من علمائنا: إنه فرض عين. وقوّى ابن القيّم رحمه الله هذا المذهب، كما سيأتي ذِكر كلامه قريبًا.

وذهب آخرون إلى أنه فرض كفاية، إذا قام به البعض سقط عن الباقين، ورجّحه أبو الوليد ابن رشد، وأبو بكر بن العربي، وبه قالت الحنفيّة، وجمهور الحنابلة.

وذهب عبد الوهّاب، وجماعة من المالكيّة إلى أنه مستحبّ، ويجزئ الواحد عن الجماعة، وهو قول الشافعيّة.

احتجّ الأولون بأحاديث كثيرة، منها حديث الباب: "للمؤمن على المؤمن ست خصال

"، ولفظ مسلم: "حقّ المسلم على المسلم ستّ" - فذكر فيها -: "وإذا عَطَس، فحمد الله، فشمّته".

وأخرج البخاريّ، عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: "خمس تجب للمسلم على المسلم

"، وأخرج من حديث أبي هريرة أيضًا عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله يُحِبّ العطاس، وَيكْرَه التثاؤب، فإذا عطس، فحمِد الله، فحقّ على كلّ مسلم سمعه أن يشمته

" الحديث. وأخرج من حديثه أيضًا، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال: "إذا عطس أحدكم، فليقل: الحمد لله، وليقل له أخوه، - أو صاحبه - يرحمك الله، فإذا قال له: يرحمك الله، فليقل: يهديكم الله، ويُصلح بالكم".

وفي حديث عائشة رضي الله عنهما عند أحمد، وأبي يعلى:"إذا عطَس أحدكم، فليقل: الحمد لله، وليقل له مَنْ عنده يرحمك الله"، ونحوه عند الطبرانيّ، من حديث أبي مالك.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن بهذه الأحاديث الصحيحة أن المذهب الراجح وجوب تشميت العاطس على الأعيان، كما هو المذهب الأول، وقد قَوَّى العلامة ابن القيّم رحمه الله هذا المذهب، في "حواشي السنن"، فقال: جاء بلفظ الوجوب الصريح، وبلفظ "الحقّ" الدالّ عليه، وبلفظ "عَلَى" الظاهرة فيه، وبصيغة الأمر التي هي حقيقة فيه، وبقول الصحابيّ: "أَمَرَنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ولا ريب أن الفقهاء أثبتوا وجوب أشياء كثيرة بدون مجموع هذه الأشياء. انتهى.

ص: 530

وأما ترجيح الحافظ القولَ بأنه فرض كفاية، قائلًا: إن الأحاديث الصحيحة الدالّة على الوجوب لا تنافي كونه على الكفاية

إلى آخر كلامه، فيردّه ما تقدم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عند البخاريّ بلفظ:"فحقّ على كلّ مسلم سمعه أن يشمّته"، فإنه صريح في كونه فرض عين، فتنبّه، ولا تكن أسير التقليد، والله تعالى أعلم.

[تنبيه]: ثم إنّ شَرْط فرض التشميت أن يَحمَد العاطسُ اللهَ تعالى، لِمَا أخرجه مسلم في "صحيحه"، من حديث أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا عَطَسَ أحدكم، فحمد الله، فشمّتوه، وإن لم يحمد، فلا تشمّتوه"، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة السادسة): في اختلاف العلماء في حكم الابتداء بالسلام:

ذهب بعض أهل العلم إلى أن الابتداء بالسلام واجب، لظاهر الأمر، وذهب آخرون إلى استحبابه. قال العلامة ابن دقيق العيد رحمه الله: استَدَلّ بالأمر بإفشاء السلام من قال بوجوب الابتداء بالسلام، وفيه نظر، إذ لا سبيل إلى القول بأنه فرض عين على التعميم من الجانبين، وهو أن يجب على كلّ أحد أن يسلّم على كلّ من لقيه، لِمَا في ذلك من الحرج والمشقّة، فإذا سقط من جانبي العمومين سقط من جانبي الخصوصين؛ إذ لا قائل: يجب على واحد دون الباقين، ولا يجب السلام على واحد دون الباقين، قال: وإذا سقط على هذه الصورة، لم يسقط الاستحباب؛ لأن العموم بالنسبة إلى كلا الفريقين ممكن. انتهى.

قال الحافظ: رحمه الله: وهذا البحث ظاهر في حقّ من قال: إن ابتداء السلام فرض عين، وأما من قال: فرض كفاية، فلا يَرِدُ عليه إذا قلنا فرض الكفاية ليس واجبًا على واحد بِعَيْنه.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الذي يظهر لي أن قول من قال بالوجوب هو الأرجح، لظاهر النصوص الواردة بصيغة الأمر، ولكنه وجوب كفائيّ، لِمَا تقدّم من حديث عليّ رضي الله عنه، وغيره، وما ذكره ابن دقيق العيد رحمه الله من الحرج والمشقّة في الإيجاب على كل أحد أن يسلّم على كل من لقيه، فليس كذلك، فإن الراجح أنه كفائيّ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

ص: 531

(المسألة السابعة): قال في "الفتح": استُدلّ بالنهي عن لُبس القسيّ على مَنْع لُبس ما خالطه الحرير من الثياب؛ لتفسير القسيّ بأنه ما خالط غيرُ الحرير فيه الحريرَ، ويؤيّده عطفُ الحرير على القسيّ في حديث البراء، ووقع كذلك في حديث عليّ عند أبي داود، والنسائيّ، وأحمد، بسند صحيح على شرط الشيخين، من طريق عَبِيدة بن عمرو، عن عليّ قال:"نهاني النبيّ صلى الله عليه وسلم عن القسيّ، والحرير"، ويَحْتَمِل أن تكون المغايرة باعتبار النوع، فيكون الكل من الحرير، كما وقع عطف الديباج على الحرير، ولكن الذي يظهر من سياق طرق الحديث في تفسير القسيّ أنه الذي يخالط الحرير، لا أنه الحرير الصّرْف، فعلى هذا يَحْرُم لُبس الثوب الذي خالطه الحرير، وهو قول بعض الصحابة؛ كابن عمر، والتابعين؛ كابن سيرين.

وذهب الجمهور إلى جواز لُبس ما خالطه الحرير، إذا كان غير الحرير الأغلب، وعُمْدتهم في ذلك ما تقدم في تفسير الحلة السيراء، وما انضاف إلى ذلك من الرخصة في العَلَم في الثوب، إذا كان من حرير، كما تقدم تقريره في حديث عمر رضي الله عنه.

قال ابن دقيق العيد: وهو قياس في معنى الأصل، لكن لا يلزم من جواز ذلك جواز كل مختلط، وإنما يجوز منه ما كان مجموع الحرير فيه قَدْر أربع أصابع، لو كانت منفردة بالنسبة لجميع الثوب، فيكون المنع من لبس الحرير شاملًا للخالص والمختلِط، وبعد الاستثناء يُقتصر على القدر المستثنى، وهو أربع أصابع إذا كانت منفردة، ويلتحق بها في المعنى ما إذا كانت مختلطة، قال: وقد توسّع الشافعية في ذلك، ولهم طريقان: أحدهما، وهو الراجح: اعتبار الوزن، فإن كان الحرير أقلّ وزنًا لم يحرم، أو أكثر حَرُم، وإن استويا فوجهان، اختَلَف الترجيح فيهما عندهم.

والطريق الثاني: أن الاعتبار بالقلّة والكثرة بالظهور، وهذا اختيار القفال، ومن تبعه.

وعند المالكية في المختلط أقوال: ثالثها الكراهة، ومنهم من فرّق بين الخزّ، وبين المختلط بقطن ونحوه، فأجاز الخزّ، ومنع الآخر، وهذا مبني على تفسير الخزّ، وقد تقدَّم في بعض تفاسير القسيّ أنه الخز، فمن قال: إنه رديء

ص: 532

الحرير، فهو الذي يتنزّل عليه القول المذكور، ومن قال: إنه ما كان من وَبَر، فخُلط بحرير لم يتجه التفصيل المذكور، واحتَجّ أيضًا من أجاز لبس المختلط بحديث ابن عباس رضي الله عنهما: إنما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الثوب الْمُصْمَت من الحرير، فأما العَلَم من الحرير، وسدى الثوب فلا بأس به، أخرجه الطبرانيّ بسند حسن، هكذا وأصله عند أبي داود، وأخرجه الحاكم بسند صحيح، بلفظ: إنما نُهي عن المصمت إذا كان حريرًا، وللطبراني من طريق ثالث: نُهي عن مصمت الحرير، فأما ما كان سداه من قطن، أو كتان، فلا بأس به.

واستَدَلّ ابن العربيّ للجواز أيضًا بأن النهي عن الحرير حقيقة في الخالص، والإذن في القطن ونحوه صريح، فإذا خُلطا بحيث لا يسمى حريرًا بحيث لا يتناوله الاسم، ولا تشمله علة التحريم، خرج عن الممنوع فجاز.

وقد ثبت لُبس الخزّ عن جماعة من الصحابة وغيرهم، قال أبو داود: لَبِسه عشرون نفسًا من الصحابة وأكثر، وأورده ابن أبي شيبة عن جَمْع منهم، وعن طائفة من التابعين بأسانيد جياد، وأعلى ما ورد في ذلك ما أخرجه أبو داود، والنسائيّ من طريق عبد الله بن سعد الدَّشْتَكيّ، عن أبيه، قال: رأيت رجلًا على بغلة، وعليه عمامة خزّ سوداء، وهو يقول: كسانيها رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وأخرج ابن أبي شيبة، من طريق عمار بن أبي عمار، قال: أتت مروان بن الحكم مطارف خزّ، فكساها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

والأصح في تفسير الخزّ أنه ثياب سَداها من حرير، ولُحمتها من غيره، وقيل: تُنسج مخلوطة من حرير وصوف، أو نحوه، وقيل: أصله اسم دابة يقال لها: الخزّ، سُمِّي الثوب المتخذ من وبره خزًّا؛ لنعومته، ثم أطلق على ما يُخلط بالحرير؛ لنعومة الحرير، وعلى هذا فلا يصح الاستدلال بلبسه على جواز لُبس ما يخالطه الحرير ما لم يتحقق أن الخزّ الذي لَبِسه السلف كان من المخلوط بالحرير، والله أعلم.

وأجاز الحنفية، والحنابلة لُبس الخزّ ما لم يكن فيه شهرة، وعن مالك: الكراهة، وهذا كله في الخزّ.

وأما القّزّ بالقاف بدل الخاء المعجمة، فقال الرافعيّ: عَدّ الأئمة القز من الحرير، وحرّموه على الرجال، ولو كان كَمِدَ اللون، ونقل الإمام الاتفاق

ص: 533

عليه، لكن حكى المتولي في "التتمة" وجهًا أنه لا يَحْرُم؛ لأنه ليس من ثياب الزينة.

قال ابن دقيق العيد: إن كان مراده بالقزّ ما نطلقه نحن الآن عليه فليس يخرج عن اسم الحرير، فيحرم، ولا اعتبار بكمودة اللون، ولا بكونه ليس من ثياب الزينة، فإن كلًّا منهما تعليل ضعيف، لا أثر له بعد انطلاق الاسم عليه. انتهى كلامه.

قال الحافظ: ولم يتعرض لمقابل التقسيم، وهو وإن كان المراد به شيئًا آخر، فيتجه كلامه، والذي يظهر أن مراده به رديء الحرير، وهو نحو ما تقدم في الخزّ، ولأجل ذلك وَصَفه بكمودة اللون، والله أعلم. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: الذي يظهر مما سبق أن الأرجح تحريم الخزّ، والقزّ إن كان المراد به ما كان من نوع الحرير؛ لشمول أدلّة تحريم لبس الحرير له، وأما ما ليس منه، ولكن أُطلق عليه الاسم فلا يحرم، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5378]

(

) - (حَدَّثَنَا أَبُو الرَّبِيعِ الْعَتَكِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ أَشْعَثَ بْنِ سُلَيْمٍ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ مِثْلَهُ، إِلا قَوْلَهُ: "وَإِبْرَارِ الْقَسَم، أَوِ الْمُقْسِمِ"، فَإِنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ هَذَا الْحَرْفَ فِي الْحَدِيثِ، وَجَعَلَ مَكَانَهُ: "وَإِنْشَادِ الضَّالِّ").

رجال هذا الإسناد: ثلاثة:

1 -

(أَبُو الرَّبِيعِ الْعَتَكِيُّ) سليمان بن داود الزهرانيّ البصريّ، نزيل بغداد، ثقةٌ [10](ت 234)(خ م د س) تقدم في "الإيمان" 23/ 190.

2 -

(أَبُو عَوَانَةَ) وضّاح بن عبد الله اليشكريّ الواسطيّ، تقدّم قريبًا. و"أشعث" ذُكر قبله.

وقوله: (وَإِنْشَادِ الضَّالِّ) هكذا في رواية مسلم بلفظ: "إنشاد الضالّ"، ووقع في رواية أبي عوانة في "مسنده" بلفظ:"إرشاد الضالّ"، قال القاضي عياض رحمه الله في "المشارق":"وإنشاد الضالّ" كذا لكافّتهم، وعند ابن ماهان:

(1)

"الفتح" 13/ 317 - 319، كتاب "اللباس" رقم (5838).

ص: 534

"الضالة"، قال بعضهم: صوابه: "وإرشاد الضالّ" بالراء، وكذا أصلحه القاضي الكنانيّ، وهو أوْجَه، والأول يتجه أيضًا، ويصح لا سيما مع من رواه:"الضالة"، لكن الرواية الأولى أعرف وأشهر في غير هذا الحديث. انتهى

(1)

.

والظاهر أن معنى "إنشاد الضالّ"؛ أي: طلب الشيء الذي ضلّ عن صاحبه، وغاب عنه معه؛ أي: مساعدة صاحبه في طلبه، والله تعالى أعلم.

[تنبيه]: رواية أبي عوانة عن أشعث بن سُليم ساقها البخاريّ في "صحيحه" بلفظ رواية الجماعة، لا باللفظ الذي أشار إليه المصنّف، فقال:

(5312)

- حدّثنا موسى بن إسماعيل، حدّثنا أبو عوانة، عن الأشعث بن سليم، عن معاوية بن سويد بن مُقَرِّن، عن البراء بن عازب قال:"أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبع، ونهانا عن سبع: أمرنا بعيادة المريض، واتّباع الجنازة، وتشميت العاطس، وإجابة الداعي، صمافشاء السلام، ونصر المظلوم، وإبرار المقسم، ونهانا عن خواتيم الذهب، وعن الشرب في الفضة، أو قال: آنية الفضة، وعن المياثر، والقسيّ، وعن لبس الحرير، والديباج، والإستبرق". انتهى

(2)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5379]

(

) - (وَحَدثنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ (ح) وَحَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، كِلَاهُمَا عَنِ الشَّيْبَانِيِّ، عَنْ أَشْعَثَ بْنِ أَبِي الشَّعْثَاء، بِهَذَا الْإِسْنَاد، مِثْلَ حَدِيثِ زُهَيْرٍ، وَقَالَ:"إِبْرَارِ الْقَسَمِ" مِنْ غَيْرِ شَكٍّ، وَزَادَ فِي الْحَدِيثِ:"وَعَنِ الشُّرْبِ فِي الْفِضَّة، فَإِنَّهُ مَنْ شَرِبَ فِيهَا في الدُّنْيَا لَمْ يَشْرَبْ فِيهَا في الآخِرَةِ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم قريبًا.

2 -

(جَرِيرُ) بن عبد الحميد، تقدّم أيضًا قريبًا.

3 -

(الشَّيْبَانِيُّ) سليمان بن أبي سليمان فيروز، أبو إسحاق الكوفيّ، ثقةٌ [5] مات في حدود (140)(ع) تقدم في "الإيمان" 38/ 259.

(1)

"مشارق الأنوار" 2/ 29.

(2)

"صحيح البخاريّ" 5/ 2134.

ص: 535

والباقون ذُكروا في الباب وقبله.

وقوله: (كِلَاهُمَا عَنِ الشَّيْبَانِيِّ)؛ يعني: عليّ بن مُسهر، وجرير بن عبد الحميد رويا عن سليمان الشيبانيّ.

وقوله: (وَقَالَ: "إِبْرَارِ الْقَسَمِ

إلخ) فاعل "قال" ضمير الشيبانيّ، وكذلك فاعل "زاد" الآتي.

[تنبيه]: رواية عليّ بن مسهر، عن الشيبانيّ هذه ساقها ابن أبي شيبة في "مصنّفه"، فقال:

(24138)

- حدّثنا أبو بكر، قال: حدّثنا عليّ بن مُسْهِر، عن الشيبانيّ، عن أشعث بن أبي الشعثاء، عن معاوية بن سُويد بن مقرن، عن البراء بن عازب، قال:"نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشرب في الفضة، فإنه مَن شَرِب فيها في الدنيا لم يشرب فيها في الآخرة". انتهى

(1)

.

ورواية جرير بن عبد الحميد عن الشيبانيّ، ساقها البخاريّ في "صحيحه"، فقال:

(5881)

- حدّثنا قتيبة، حدّثنا جرير، عن الشيبانيّ، عن أشعث بن أبي الشعثاء، عن معاوية بن سُويد بن مُقَرّن، عن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال:"أمرنا النبيّ صلى الله عليه وسلم بسبع: بعيادة المريض، واتّباع الجنائز، وتشميت العاطس، ونصر الضعيف، وعون المظلوم، وإفشاء السلام، وإبرار المقسم، ونَهَى عن الشرب في الفضة، ونَهَى عن تختم الذهب، وعن ركوب المياثر، وعن لبس الحرير، والديباج، والقسيّ، والإستبرق". انتهى

(2)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5380]

(

) - (وَحَدَّثَنَاهُ أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ، أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الشَّيْبَانِيُّ، وَلَيْثُ بْنُ أَبِي سُلَيْمٍ، عَنْ أَشْعَثَ بْنِ أَبِي الشَّعْثَاء، بِإِسْنَادِهِمْ، وَلَمْ يَذْكُرْ زَيادَةَ جَرِيرٍ، وَابْنِ مُسْهِرٍ).

(1)

"مصنف ابن أبي شيبة" 5/ 103.

(2)

"صحيح البخاريّ" 5/ 2302.

ص: 536

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(ابْنُ إِدْرِيسَ) عبد الله بن إدريس بن يزيد الأوديّ، أبو محمد الكوفيّ، ثقةٌ فقيهٌ عابدٌ [8](ت 192) وله بضع وسبعون سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 24.

2 -

(لَيْثُ بْنُ أَبِي سُلَيْمِ) بن زُنيم، واسم أبيه: أيمن، وقيل: أنس، وقيل غير ذلك، صدوقٌ اختلط أخيرًا، ولم يتميّز حديثه، فتُرك [6](ت 148)(خت م 4) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 289.

والباقون ذُكروا في السند الماضي، وقبل باب.

وقوله: (وَلَمْ يَذْكُرْ زِيَادَةَ جَرِيرٍ وابن مُسهر) فاعل "يذكر" ضمير عبد الله بن إدريس.

[تنبيه]: رواية عبد الله بن إدريس، عن أبي إسحاق الشيبانيّ، وليث بن أبي سُليم لم أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5381]

(

)

(1)

- (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ (ح) وَحَدَّثنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ، حَدَّثنَا أَبي (ح) وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَامِرٍ الْعَقَدِيُّ (ح) وَحَدَّثنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ بِشْرٍ، حَدَّثنَا بَهْزٌ، قَالُوا جَمِيعًا: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَشْعَثَ بْنِ سُلَيْمٍ، بِإِسْنَادِهِمْ، وَمَعْنَى حَدِيثِهِمْ، إِلَّا قَوْلَهُ:"وَإِفْشَاءِ السَّلَامِ"، فَإِنَّهُ قَالَ بَدَلَهَا:"وَرَدِّ السَّلَامِ"، وَقَالَ:"نَهَانَا عَنْ خَاتَمِ الذَّهَب، أَو حَلْقَةِ الذَّهَبِ").

رجال هذا الأسانيد: أحد عشر:

1 -

(ابْنُ بَشَّارٍ) هو: محمد المعروف ببندار، تقدّم قريبًا.

2 -

(مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ) المعروف بغُندر، تقدّم قبل بابين.

3 -

(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ) العنبريّ البصريّ، تقدّم قريبًا.

(1)

كتب في بعض النسخ هنا (ح) إشارة إلى التحويل، ولا يوجد في النسخة الهنديّة، وهو الصواب، فتنبّه.

ص: 537

4 -

(أَبُوهُ) معاذ بن معاذ بن نصر بن حسّان العنبريّ، أبو المثنّى البصريّ القاضي، ثقةٌ متقنٌ، من كبار [9](ت 196)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 7.

5 -

(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ بِشْرِ) بن الحكم العبديّ، أبو محمد النيسابوريّ، ثقةٌ، من صغار [10](ت 260) أو بعدها (خ م دق) تقدم في "المقدمة" 6/ 99.

6 -

(بَهْزُ) بن أسد الْعَمّيّ، أبو الأسود البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [9] مات بعد المائتين، وقيل: قبلها (ع) تقدم في "الإيمان" 3/ 112.

7 -

(شُعْبَةُ) بن الحجّاج، تقدّم قبل بابين.

والباقون ذُكروا في الباب، وقبل باب، وأَبُو عَامِرٍ الْعَقَدِيُّ هو: عبد الملك بن عمرو.

وقوله: (قَالُوا جَمِيعًا

إلخ) الضمير يرجع إلى هؤلاء الأربعة: محمد بن جعفر، ومعاذ بن معاذ، وأبي عامر الْعَقَديّ، وبهز بن أسد، فكلّهم قالوا: حدّثنا شعبة

إلخ.

وقوله: (عَنْ أَشْعَثَ بْنِ سُلَيْم، بِإِسْنَادِهِمْ)؛ يعني: إسناد الأربعة المتقدّمين الذين رووا عن أشعث بن أبي الشَّعثاء، وهم: زهير بن معاوية أبو خيثمة، وأبو عوانة، وأبو إسحاق الشيبانيّ، وليث بن أبي سُليم، وإسنادهم عن أشعث بن سُليم، عن معاوية بن سُويد، عن البراء بن عازب رضي الله عنهما، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله تعالى أعلم.

وقوله: (إِلَّا قَوْلَهُ: "وَإِفْشَاءِ السَّلَامِ") الضمير للنبيّ صلى الله عليه وسلم.

وقوله: (فَإِنَّهُ قَالَ بَدَلَهَا: "وَرَدِّ السَّلَامِ") الضمير في "فإنه"، وكذا في "قال " في الموضعين لشعبة، والله تعالى أعلم.

وقوله: (نَهَانَا عَنْ خَاتَمِ الذَّهَب، أَو حَلْقَةِ الذَّهَبِ)"أو" فيه للشكّ من الراوي، والحلقة بمعنى الخاتم.

قال الفيّوميّ رحمه الله: حَلْقَةُ البابِ بالسكون، من حديد، وغيره، وحَلْقَةُ القومِ: الذين يجتمعون مستديرين، والحَلْقَةُ: السلاح كلُّه، والجمع حَلَقٌ، بفتحتين، على غير قياس، وقال الأصمعيّ: والجمع حِلَق، بالكسر، مثل قَصْعَة وقِصَع، وبَدْرَة وبِدَر، وحكى يونس عن أبي عمرو بن العلاء أن الحَلَقَةَ، بفتح اللام لغة في السكون، وعلى هذا فالجمع بحذف الهاء قياسٌ، مثل قَصَبَة

ص: 538

وقَصَبٍ. انتهى

(1)

.

[تنبيه]: رواية شعبة، عن أشعث بن سُليم ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:

(5525)

- حدّثنا آدم، حدّثنا شعبة، حدّثنا أشعث بن سُليم، قال: سمعت معاوية بن سُويد بن مُقَرِّن، قال: سمعت البراء بن عازب رضي الله عنهما يقول: "نهانا النبيّ صلى الله عليه وسلم عن سبع: نهى عن خاتم الذهب، أو قال: حلقة الذهب، وعن الحرير، والإستبرق، والديباج، والميثرة الحمراء، والقسيّ، وآنية الفضة، وأمرنا بسبع: بعيادة المريض، واتّباع الجنائز، وتشميت العاطس، وردّ السلام، وإجابة الداعي، وإبرار المقسم، ونصر المظلوم". انتهى

(2)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5382]

(

) - (وَحَدَّثَنَا

(3)

إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ، وَعَمْرُو بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَشْعَثَ بْنِ أَبِي الشَّعْثَاء، بِإِسْنَادِهِمْ، وَقَالَ:"وَإِفْشَاءِ السَّلَام، وَخَاتَمِ الذَّهَبِ"، مِنْ غَيْرِ شَكٍّ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ آدَمَ) بن سليمان الأمويّ مولاهم، أبو زكريّاء الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ فاضلٌ، من كبار [9](ت 203)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 24.

2 -

(عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدٍ) العَنْقَزيّ - بفتح العين المهملة، والقاف، بينهما نون ساكنةٌ، وآخره زاي - القرشيّ مولاهم، أبو سعيد الكوفيّ، ثقةٌ [9]. قال ابن حبان: كان يبيع العنقز، فنُسب إليه، والعنقز: المرز نجوش

(4)

.

رَوَى عن عيسى بن طهمان، وحنظلة بن أبي سفيان، ويونس بن أبي إسحاق، وابن جريج، وإسرائيل، والثوريّ، وغيرهم.

وروى عنه ابناه: الحسين، وقاسم، وقتيبة، وإسحاق بن راهويه، وعليّ بن المدينيّ، وعليّ بن محمد الطنافسيّ، وأبو سعيد الأشجّ، والذُّهْليّ، وغيرهم.

(1)

"المصباح المنير" 1/ 146.

(2)

"صحيح البخاريّ" 5/ 2202.

(3)

وفي نسخة: "حدّثناه".

(4)

"تهذيب التهذيب" 8/ 86.

ص: 539

قال أحمد، والنسائيّ: ثقةٌ، وقال ابن معين: ليس به بأس، وقال العجليّ: ثقةٌ، جائز الحديث.

وذكره ابن حبان في "الثقات".

قال البخاريّ: قال أحمد بن نصر: مات سنة تسع وتسعين ومائة.

أخرج له البخاريّ في التعاليق، والمصنّف، والأربعة، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.

3 -

(سُفْيَانُ) بن سعيد الثوريّ، تقدّم قبل باب.

والباقيان ذُكرا قبله.

[تنبيه]: رواية سفيان الثوريّ، عن أشعث بن أبي الشعثاء هذه ساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(18667)

- حدّثنا عبد الله، حدّثني أبي، ثنا يحيى بن آدم، ثنا سفيان، عن أشعث بن أبي الشعثاء، عن معاوية بن سُويد بن مُقَرِّن، عن البراء بن عازب، قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبع، ونهانا عن سبع، أمرنا بعيادة المريض، واتِّباع الجنائز، وإجابة الداعي، وإفشاء السلام، وتشميت العاطس، وإبرار القسم، ونَصْر المظلوم، ونهانا عن خواتيم الذهب، وآنية الفضة، والحرير، والديباج، والإستبرق، والمياثر الْحُمْر، والقسيّ. انتهى

(1)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5383]

(2067) - حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ سَهْلِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، سَمِعْتُهُ يَذْكُرُهُ عَنْ أَبِي فَرْوَةَ، أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَكَيْمٍ، قَالَ: كُنَّا مَعَ حُذَيْفَةَ بِالْمَدَائِن، فَاسْتَسْقَى حُذَيْفَةُ، فَجَاءَهُ دِهْقَانٌ بِشَرَابٍ في إِنَاءٍ مِنْ فِضةٍ، فَرَمَاهُ بِه، وَقَالَ: إِنِّي أُخْبِرُكُمْ أَنِّي قَدْ أَمَرْتُهُ أَنْ لَا يَسْقِيَني فِيه، فَإِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"لَا تَشْرَبُوا فِي إِنَاءِ الذَّهَب، وَالْفِضَّة، وَلَا تَلْبَسُوا الدِّيبَاجَ، وَالْحَرِيرَ، فَإِنَّهُ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَهُوَ لَكُمْ فِي الآخِرَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ").

(1)

"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 4/ 299.

ص: 540

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(سَعِيدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ سَهْلِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ) الكِنْديّ الأشعثيّ، أبو عثمان الكوفيّ، ثقةٌ [10](ت 230)(م س) تقدم في "المقدمة" 4/ 19.

2 -

(سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ) الإمام الحجة الثبت المشهور، من كبار [8](ت 198)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 383.

3 -

(أَبُو فَرْوَةَ) الأصغر، مسلم بن سالم النَّهْديّ الكوفيّ، ويقال له: الْجُهنيّ؛ لنزوله فيهم، مشهور بكنيته، صدوقٌ [6].

روى عن عبد الله بن عُكيم الجهنيّ، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وابنه عيسى بن عبد الرحمن، وعبد الله بن أبي الْهُذيل، وأبي الأحوص الجشميّ، وغيرهم.

وروى عنه ابنه عمر، وحفيده حفص بن عمر بن مسلم، وجعفر بن زياد الأحمر، وشعبة، وفطر بن خليفة، وأبو عوانة، وعبد الواحد بن زياد، والسفيانان، وآخرون.

قال ابن أبي خيثمة، عن ابن معين: ثقةٌ، وقال أبو حاتم: صالح الحديث، ليس به بأس، وقال يعقوب بن سفيان: لا بأس به، وذكره ابن حبان في "الثقات".

أخرج له البخاريّ، والمصنّف، وأبو داود، والنسائيّ، وابن ماجه، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.

4 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ عُكَيْمٍ) - بالتصغير - الْجُهَنيّ، أبو معبد الكوفيّ، مخضرم، قال: قُرئ علينا كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بأرض جهينة، ثقةٌ [2].

روى عن أبي بكر، وعمر، وحذيفة بن اليمان، وعائشة.

وروى عنه زيد بن وهب، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وابنه عيسى بن عبد الرحمن، وأبو فَرْوة مسلم بن سالم الجهنيّ، وغيرهم.

قال الخطيب: سكلن الكوفة، وقدم المدائن في حياة حذيفة، وكان ثقةً، وقال ابن عيينة، عن هلال الوزّان: حدّثنا شيخنا القديم عبد الله بن عُكيم، وكان قد أدرك الجاهليّة، وقال موسى الْجُهنيّ، عن أبيه عبد الله بن عُكيم: كان أبي يُحبّ عثمان، وكان عبد الرحمن بن أبي ليلى يُحب عليًّا، وكانا متواخيين،

ص: 541

فما سمعتهما إلا أن أبي قال مرّة لعبد الرحمن: لو أن صاحبك صبر أتاه الناس، وقال البخاريّ: أدرك زمن النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولا يُعرف له سماع صحيحٌ، وكذا قال أبو نعيم، وقال ابن حبان في "الصحابة": أدرك زمنه، ولم يسمع منه شيئًا، وكذا قال أبو زرعة، وقال ابن منده، وأبو نعيم: أدركه، ولم يره، وقال البغويّ: يُشَكّ في سماعه، وقال أبو حاتم أيضًا: له سماع من النبيّ صلى الله عليه وسلم، من شاء أدخله في المسند على المجاز، وقال ابن سعد: كان إمام مسجد جهينة، وقال حكايةً عن غيره: إنه مات في ولاية الحجاج.

أخرج له المصنّف، والأربعة، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.

5 -

(حُذَيْفَةُ) بن اليمان، واسمه حِسْل، أو حُسيل الْعَبسيّ، حليف الأنصار، الصحابيّ الجليل ابن الصحابيّ، من السابقين، استُشهد أبوه بأحُد، ومات هو في أول خلافة عليّ رضي الله عنهم سنة (36)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 457.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسلٌ بالكوفيين، وأن صحابيّه رضي الله عنه ذو مناقب جمّة، فقد ثبت في "صحيح مسلم" أنه صلى الله عليه وسلم أعلمه بما كان وبما يكون إلى أن تقوم الساعة.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبي فَرْوَةَ) بفتح الفاء، وسكون الراء، مسلم بن سالم النَّهْديّ الكوفيّ، (أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُكَيْم) بالتصغير، الْجُهنيّ، (قَالَ: كُنَّا مَعَ حُذَيْفَةَ) بن اليمان رضي الله عنهما (بِالْمَدَائِنِ)، وفي رواية البخاريّ:"كان حذيفة بالمدائن، فاستسقى"، والمدائن اسم بلفظ جَمْع مدينة، وهي بلدة عظيمة على دجلة، بينها وبين بغداد سبعة فراسخ، كانت مسكن ملوك الفرس، وبها إيوان كسرى المشهور، وكان فَتْحها على يد سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه في خلافة عمر رضي الله عنه سنة ست عشرة. وقيل: قبل ذلك، وكان حُذيفة عاملًا عليها في خلافة عمر،

ص: 542

ثم عثمان إلى أن مات بعد قَتْل عثمان رضي الله عنهم، ذكره في "الفتح"

(1)

.

(فَاسْتَسْقَى حُذَيْفَةُ) رضي الله عنه؛ أي: طلب الماء ليشربه، (فَجَاءَهُ دِهْقَانٌ) بكسر الدال المهملة، ويجوز ضمّها، بعدها هاء ساكنة، ثم قاف، هو كبير القرية بالفارسيّة، قاله في "الفتح"

(2)

.

وقال النوويّ رحمه الله: هو بكسر الدال على المشهور، وحُكي ضمّها، وممن حكاه: صاحب "المشارق"، و"المطالع"، وحكاهما القاضي في "الشرح" عن حكاية أبي عبيدة، ووقع في نُسخ "صحاح الجوهريّ"، أو بعضها مفتوحًا، وهذا غريب، وهو زعيم فَلّاحي العجم، وقيل: زعيم القرية ورئيسها، وهو بمعنى الأول، وهو عجميّ مُعَرَّب، قيل: النون فيه أصلية، مأخوذ من الدَّهْقَنَة، وهي الرياسة، وقيل: زائدة من الدّهق، وهو الامتلاء، وذكره الجوهريّ في "دهقن" لكنه قال: إن جعلتَ نونه أصلية، من قولهم: تدهقن الرجل، صرفتَه؛ لأنه فعلالٌ، وإن جعلتَه من الدهق، لم تصرفه؛ لأنه فعلان. قال القاضي: يَحْتَمِل أنه سُمّي به مَن جَمَعَ المالَ، وملأ الأوعية منه، يقال: دَهقتُ الماءَ وأدهقته: إذا أفرغته، ودهق لي دهقة من ماله؛ أي: أعطانيها، وأدهقت الإناء؛ أي: ملأته، قالوا: يَحْتَمِل أن يكون من الدَّهْقَنَة، والدَّهْقَمَة، وهي لين الطعام؛ لأنهم يليّنون طعامهم، وعيشهم؛ لسعة أيديهم وأحوالهم، وقيل: لحذقه، ودَهائه، والله أعلم. انتهى كلام النوويّ رحمه الله

(3)

.

ووقع في رواية أحمد عن وكيع، عن شُعبة:"استسقى حذيفة من دهقان، أو عِلْج"، وعند البخاريّ في "الأطعمة" من طريق سيف، عن مجاهد، عن ابن أبي ليلى:"أنهم كانوا عند حُذيفة، فاستسقى، فسقاه مجوسيّ". قال الحافظ: لم أقف على اسمه. انتهى.

(بِشَرَابٍ)، وعند النسائيّ:"بِمَاءٍ"، (فِي إِنَاءٍ مِنْ فِضَّةٍ)، وعند البخاريّ:"بقدح من فضّة"، (فَرَمَاهُ بِهِ)؛ يعني: أن حذيفة رضي الله عنه رَمَى ذلك الدهقان بذلك

(1)

"الفتح" 12/ 693، كتاب "الأشربة" رقم (5632).

(2)

"الفتح" 12/ 693، كتاب "الأشربة" رقم (5632).

(3)

"شرح النووي" 14/ 35.

ص: 543

الإناء عقوبة له، وللنسائيّ:"فَحَذَفَهُ"، وفي رواية البخاريّ:"فرمى به وجهه"، ولأحمد من رواية يزيد، عن ابن أبي ليلى:"ما يألو أن يُصيب به وجهه"، زاد في رواية الإسماعيليّ، وأصله عند مسلم:"فرماه به، فكسره".

(وَقَالَ) حذيفة رضي الله عنه معتذرًا عما فعله به، وللنسائيّ:"ثُمَّ اعْتَذَرَ إِلَيْهِمْ مِمَّا صَنَعَ بِهِ"، (إِنِّي أُخْبِرُكُمْ أَنِّي قَدْ أَمَرْتُهُ أَنْ لَا يَسْقِيَنِي فِيهِ)؛ يعني: أنه إنما فعل به ذلك؛ لأنه نهاه قبلُ أن يسقيه بذلك الإناء؛ لكونه ذهبًا، وفي رواية البخاريّ:"فقال: إني لم أرمه إلا أني نهيته، فلم ينته"، وفي رواية الإسماعيليّ:"لم أكسره إلا أني نهيته، فلم يَقبَل"، وفي رواية وكيع:"ثم أقبل على القوم، فاعتذر"، وفي رواية يزيد:"لولا أني تقدّمت إليه مرّة، أو مرّتين، لم أفعل به هذا"، وفي رواية عبد الله بن عُكيم:"إني أمرته أن لا يسقيني فيه". ذكر هذا كله في "الفتح".

وفي رواية الحميديّ في "مسنده": "فحذفه حذيفة، وكان رجلًا فيه حِدّةٌ، فكَرِهوا أن يكلِّموه، ثم التفت إلى القوم، فقال: أعتذر إليكم من هذا، إني كنت تقدّمت إليه أن لا يسقيني في هذا"

(1)

.

(فَإِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم) الفاء تعليليّة؛ أي لأنه صلى الله عليه وسلم (قَالَ: "لَا تَشْرَبُوا فِي إِنَاءِ الذَّهَب، وَالْفِضَّة، وَلَا تَلْبَسُوا الدِّيبَاجَ) بكسر الدال: ثوبٌ سَدَاه، ولُحْمته إِبْرَيسمٌ، ويقال: هو معرّب، وقد تقدّم تمام البحث فيه في شرح حديث البراء رضي الله عنه الماضي، ولله الحمد والمنّة.

(وَالْحَرِيرَ، فَإِنَّهُ) أفرد الضمير بتأويله بما ذُكر؛ أي: إن جميع ما ذُكر من الذهب، وما عُطف عليه، وللنسائيّ:"فإنها"؛ أي: هذه الأشياء، من الذهب، والفضّة، والديباج، والحرير، وفي رواية للبخاريّ:"وقال: هُنّ لهم في الدنيا، وهنّ لكم في الآخرة"، قال في "الفتح": كذا فيه بلفظ "هُنّ" بضم الهاء، وتشديد النون في الموضعين، وفي رواية أبي داود، عن حفص بن عمر شيخ البخاريّ فيه بلفظ:"هِيَ" بكسر الهاء، ثم التحتانية، وكذا في رواية غندر، عن شعبة، ووقع عند الإسماعيليّ، وأصله في مسلم:"هو"؛ أي: جميع ما ذُكِر. انتهى.

(1)

"المسند" للحميديّ" 1/ 209.

ص: 544

(لَهُمْ)؛ أي: للكفّار (فِي الدُّنْيَا، وَهُوَ)؛ أي: المذكور، (لَكُمْ) أيها المسلمون (فِي الآخِرَةِ) قال الإسماعيليّ رحمه الله: ليس المراد بقوله: "في الدنيا" إباحة استعمالهم إياه، وإنما المعنى بقوله:"لهم"؛ أي: هم الذين يستعملونه مخالفةً لزيّ المسلمين، وكذا قوله:"ولكم في الآخرة"؛ أي: تستعملونه مكافأة لكم على تركه في الدنيا، ويُمنعه أولئك جزاءً لهم على معصيتهم باستعماله.

ويَحْتَمِل أن يكون فيه إشارة إلى أن الذي يتعاطى ذلك في الدنيا، لا يتعاطاه في الآخرة، مِنْ شرب الخمر، ولباس الحرير، ففي حديث عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما، مرفوعًا:"مَنْ لبس الحرير في الدنيا، فلن يلبسه في الآخرة"، رواه البخاريّ، ومسلم، وعن ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعًا:"من شرب الخمر في الدنيا لم يشربها في الآخرة"، متّفقٌ عليه.

وقال النوويّ رحمه الله: أي: إن الكفار إنما يحصل لهم ذلك في الدنيا، وأما الآخرة فما لهم فيها من نصيب، وأما المسلمون فلهم في الجنة الحرير، والذهب، وما لا عين رأت، ولا أُذُن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.

وليس في الحديث حجة لمن يقول: الكفار غير مخاطبين بالفروع؛ لأنه لم يصرِّح فيه بإباحته لهم، وإنما أخبر عن الواقع في العادة، أنهم هم الذين يستعملونه في الدنيا، وإن كان حرامًا عليهم، كما هو حرام على المسلمين. انتهى

(1)

.

وقوله: (يَوْمَ الْقِيَامَةِ") قال النوويّ رحمه الله: إنما جَمَع بينهما؛ لأنه قد يُظن أنه بمجرد موته صار في حكم الآخرة، في هذا الإكرام، فبيَّن أنه إنما هو في يوم القيامة، وبَعده في الجنة أبدًا، ويَحْتَمِل أن المراد: أنه لكم في الآخرة، من حين الموت، ويستمر في الجنة أبدًا. انتهى

(2)

.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث حذيفة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

(1)

"شرح النوويّ" 14/ 36.

(2)

"شرح النوويّ" 14/ 36.

ص: 545

أخرجه (المصنّف) هنا [1/ 5383 و 5384 و 5385 و 5386 و 5387 و 5388 و 5389](2067)، و (البخاريّ) في "الأطعمة"(5426) و"الأشربة"(5632 و 5633) و "اللباس"(5831 و 5837)، و (أبو داود) في "الأشربة"(3723)، (والترمذيّ) في "الأشربة"(1878)، و (النسائيّ) في "الزينة"(8/ 198) و"الكبرى"(5/ 472)، و (ابن ماجه) في "الأشربة"(3414 و 3590)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(19928)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(8/ 210)، و (الحميديّ) في "مسنده"(440)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 385 و 390 و 396 و 397 و 398 و 400 و 404 و 408)، و (الدارميّ) في "الأشربة"(2037)، و (الدارقطنيّ) في "سننه"(4/ 293)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(865)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5339)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(3031)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان تحريم الشرب في إناء الذهب، والفضّة.

2 -

(ومنها): بيان النهي عن لُبس الديباج، والحرير، وهو عند الجمهور خاصّ بالرجال، دون النساء، كما سيأتي في المسألة التالية - إن شاء الله تعالى -.

3 -

(ومنها): أن فيه تعزيرَ من ارتكب معصية، لا سيما إن كان قد سبق نهيه عنها، كقضية الدهقان مع حذيفة رضي الله عنه.

4 -

(ومنها): أنه لا بأس أن يُعَزِّرَ الأميرُ بنفسه بعض مستحقي التعزير.

5 -

(ومنها): أن الأمير، والكبير، إذا فعل شيئًا صحيحًا في نفس الأمر، ولا يكون وجهه ظاهرًا لمن حضره ينبغي له أن ينبِّه بذكر سبب فِعله، ويبيّن دليله، حتى لا يَحْمِل من يراه على إساءة الظنّ به، كما صحّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قوله:"إنها صفيّة"، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5384]

(

) - (وَحَدَّثَنَاهُ ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي فَرْوَةَ الْجُهَنِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُكَيْمٍ يَقُولُ: كُنَّا عِنْدَ حُذَيْفَةَ بِالْمَدَائِن، فَذَكَرَ نَحْوَهُ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْحَدِيثِ: "يَوْمَ الْقِيَامَةِ").

ص: 546

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(ابْنُ أَبِي عُمَرَ) هو: محمد بن يحيى بن أبي عُمر الْعَدَنيّ، ثم المكيّ، تقدّم قريبًا.

والباقون ذُكروا قبله، و"سفيان" هو: ابن عيينة، وأبو فروة هو: مسلم بن سالم.

وقوله: (فَذَكَرَ نَحْوَهُ

إلخ) فاعل "ذَكَر"، وكذا "لم يذكر" ضمير ابن أبي عمر شيخ مسلم، فتنبّه.

[تنبيه]: رواية ابن أبي عمر، عن سفيان بن عيينة هذه لم أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5385]

(

) - (وَحَدَّثَنِي عَبْدُ الْجَبَّارِ بْنُ الْعَلَاء، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ أَوَّلًا عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ حُذَيْفَةَ، ثُمَّ حَدَّثَنَا يَزِيدُ، سَمِعَهُ مِنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ حُذَيْفَةَ، ثُمَّ حَدَّثَنَا أَبُو فَرْوَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عُكَيْمٍ، فَظَنَنْتُ أَنَّ ابْنَ أَبِي لَيْلَى إِنَّمَا سَمِعَهُ مِنِ ابْنِ عُكَيْمٍ، قَالَ: كُنَّا مَعَ حُذَيْفَةَ بِالْمَدَائِن، فَذَكَرَ نَحْوَهُ، وَلَمْ يَقُلْ: "يَوْمَ الْقِيَامَةِ").

رجال هذا الإسناد: تسعة:

1 -

(عَبْدُ الْجَبَّارِ بْنُ الْعَلَاءِ) بن عبد الجبّار العطّار، أبو بكر البصريّ، نزيل مكّة، لا بأس به، من صغار [10](ت 248)(م ت س) تقدم في "البيوع" 25/ 3973.

2 -

(ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ) هو: عبد الله بن أبي نَجِيح، واسمه يسار الثقفيّ مولاهم، أبو يسار المكِّيّ، ثقةٌ رُمي بالقدر، وربّما دلّس [6](ت 131) أو بعدها (ع) تقدم في "الجنائز" 6/ 2134.

3 -

(مُجَاهِدُ) بن جبر المخزوميّ مولاهم، أبو الحجاج المكيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيه إمام مشهور [3](ت 1 أو 2 أو 3 أو 204)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 21.

4 -

(يَزِيدُ) بن أبي زياد الهاشميّ مولاهم الكوفيّ، ضعيف، كبرَ، فصار يتلقّن، وكان شيعيًّا [5](ت 136)(خت م 4) تقدّم في "شرح المقدِّمة" جـ 1 ص 288.

ص: 547

والباقون ذُكروا قبله.

وقوله: (حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ أَوَّلًا عَنْ مُجَاهِدٍ

إلخ) قائل: "حدّثنا" هو: سفيان بن عيينة.

وقوله: (ثُمَّ حَدَّثنَا يَزِيدُ

إلخ) هذا أيضًا من قول ابن عيينة.

وقوله: (ثُمَّ حَدَّثنَا أَبُو فَرْوَةَ

إلخ) أيضًا من كلام ابن عيينة.

وقوله: (فَظَنَنْتُ

إلخ) هو أيضًا من كلام ابن عيينة، وحاصل ما أشار إليه أن ابن عيينة سمع هذا الحديث أوّلًا من ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد، عن ابن أبي ليلى، عن حذيفة، ثم سمعه من يزيد بن أبي زياد، عن ابن أبي ليلى، عن حذيفة، ثم حدّثه به أبو فَرْوة مسلم بن سالم، عن عبد الله بن عُكيم، عن حذيفة.

وقوله: "فظننت

إلخ" جملة معترضة بين قوله: "سمعت ابن عُكيم"، وقوله: "قال: كنّا مع حذيفة

إلخ"، ولم يتبيّن لي سبب ظنّه هذا، فقد ثبت سماع ابن أبي ليلى هذا الحديث من حُذيفة رضي الله عنه، فقد أخرجه الشيخان بما يدلّ على أنه سمعه منه، ففي رواية مسلم التالية من طريق الحكم، عن ابن أبي ليلى، قال: شهِدت حذيفة استسقى بالمدائن

إلخ، وفي رواية البخاريّ من طريق مجاهد، عن ابن أبي ليلى، أنهم كانوا عند حذيفة، فاستسقى

إلخ، فتبيّن بهذا أن عبد الرحمن بن أبي ليلى سمعه عن حذيفة مباشرةً لا بواسطة ابْنِ عُكَيْم، كما قال ابن عيينة هنا، فليُتأمّل، والله تعالى أعلم.

وقوله: (فَذَكَرَ نَحْوَهُ، وَلَمْ يَقُلْ: "يَوْمَ الْقِيَامَةِ") فاعل "ذَكَر"، و"يقل" ضمير عبد الجبّار

(1)

، والله تعالى أعلم.

[تنبيه]: رواية عبد الجبّار، عن سفيان بن عيينة هذه لم أجد من ساقها بسياق مسلم، وقد أخرجها النسائيّ في "المجتبى"، عن شيخه محمد بن

(1)

أي: لشيخ مسلم، كما هو لشيخه في السند الماضي، فما وقع في شرح الشيخ الهرريّ من كون الضمير لابن أبي ليلى محلّ نظر، ومن الغريب أنه جعله لشيخ مسلم في السند الماضي، وهنا لابن أبي ليلى، وسياق الإسناد متّحد، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

ص: 548

عبد الله بن يزيد المقرئ، إلا أنه لم يذكر قوله: "فظننت

إلخ"، قال رحمه الله:

(5301)

- أخبرنا محمد بن عبد الله بن يزيد، قال: حدّثنا سفيان، قال: حدّثنا ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد، عن ابن أبي ليلى، ويزيدُ بن أبي زياد، عن ابن أبي ليلى، وأبو فَرْوة عن عبد الله بن عُكيم، قال: استسقى حذيفة، فأتاه دِهْقان بماء في إناء، من فضة، فحذفه، ثم اعتذر إليهم مما صنع به، وقال: إني نهيته، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"لا تشربوا في إناء الذهب والفضة، ولا تلبسوا الديباج، ولا الحرير، فإنها لهم في الدنيا، ولنا في الآخرة". انتهى

(1)

.

وأخرجها ابن الجارود في "المنتقى"، فقال:

(865)

- حدّثنا ابن المقرئ، قال: ثنا سفيان، عن ابن نَجِيح، عن مجاهد، عن ابن أبي ليلى، ويزيد بن أبي زياد، عن ابن أبي ليلى، وأبي فروة عن عبد الله بن عُكيم، قالا: استسقى حذيفة رضي الله عنه، فأتاه دِهقان بماء في إناء من فضة، فحذفه، ثم اعتذر إليهم فيما صنع، فقال: إني قد نهيته، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"لا تشربوا في إناء الذهب، والفضة، ولا تلبسوا الديباج، ولا الحرير، فإنها لهم في الدنيا، ولنا في الآخرة". انتهى

(2)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5386]

(

) - (وَحَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ الْعَنْبَرِيُّ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنِ الْحَكَم، أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ - يَعْني: ابْنَ أَبِي لَيْلَى - قَالَ: شَهِدْتُ حُذَيْفَةَ اسْتَسْقَى بِالْمَدَائِن، فَأَتَاهُ إِنْسَان بِإِنَاءٍ مِنْ فِضةٍ، فَذَكَرَهُ بِمَعْنَى حَدِيثِ ابْنِ عُكَيْمٍ، عَنْ حُذَيْفَةَ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(الْحَكَمُ) بن عُتيبة الْكِنديّ، أبو محمد الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ، ربّما دلّس [5](ت 113) أو بعدها (ع) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.

والباقون ذُكروا في الباب.

(1)

"سنن النسائيّ - المجتبى" 8/ 198.

(2)

"المنتقى" لابن الجارود 1/ 219.

ص: 549

وقوله: (فَأَتَاهُ إِنْسَانٌ

إلخ) هو الدهقان المذكور في الرواية السابقة، ولا يُعرف اسمه.

وقوله: (فَذَكَرَهُ بِمَعْنَى حَدِيثِ ابْنِ عُكَيْمٍ، عَنْ حُذَيْفَةَ) فاعل "ذَكَر" ضمير الحكم، والله تعالى أعلم.

[تنبيه]: رواية الحكم عن ابن أبي ليلى هذه لم أجد من ساقها بسياق مسلم، إلا أن الترمذيّ أخرجها بسياق قريب منه، فقال:

(1878)

- حدّثنا محمد بن بشار، حدّثنا محمد بن جعفر، حدّثنا شعبة، عن الحكم، قال: سمعت ابن أبي ليلى يحدّث أن حذيفة استسقى، فأتاه إنسان بإناء من فضة، فرماه به، وقال: إني كنت قد نهيته، فأبى أن ينتهي، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نَهَى عن الشرب في آنية الفضة، والذهب، ولبس الحرير، والديباج، وقال:"هي لهم في الدنيا، ولكم في الآخرة". انتهى

(1)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5387]

(

) - (وَحَدَّثَنَاهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ (ح) وَحَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ (ح) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ (ح) وَحَدَّثَني عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ بِشْرٍ، حَدَّثنَا بَهْزٌ، كُلُّهُمْ عَنْ شُعْبَةَ، بِمِثْلِ حَدِيثِ مُعَاذٍ، وَإِسْنَادِه، وَلَمْ يَذْكُرْ أَحَدٌ مِنْهُمْ فِي الْحَدِيثِ:"شَهِدْتُ حُذَيْفَةَ"، غَيْرُ مُعَاذٍ وَحْدَهُ، إِنَّمَا قَالُوا: إِن حُذَيْفَةَ اسْتَسْقَى).

رجال هذه الأسانيد: تسعة:

1 -

(وَكِيعُ) بن الجرّاح، تقدّم قبل أربعة أبواب.

2 -

(ابْنُ أبِي عَدِيٍّ) هو: محمد بن إبراهيم بن أبي عديّ البصريّ، تقدّم قريبًا.

والباقون ذُكروا في الباب.

وقوله: (كُلُّهُمْ عَنْ شُعْبَةَ)؛ أي: كلّ هؤلاء الأربعة: وكيعٌ، ومحمد بن جعفر، وابن أبي عديّ، وبهز رووه عن شعبة.

(1)

"جامع الترمذيّ" 4/ 299.

ص: 550

وقوله: (بِمِثْلِ حَدِيثِ مُعَاذٍ، وَإِسْنَادِهِ) إسناده: حدثنا شعبة، عن الحكم، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن حذيفة رضي الله عنه.

[تنبيه]: رواية وكيع، عن شعبة ساقها، الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(23449)

- حدّثنا عبد الله، حدّثني أبي، ثنا وكيع، ثنا شعبة، عن الحكم، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، قال: استسقى حُذيفة من دهقان، أو عِلْج، فأتاه بإناء فضة، فحذفه به، ثم أقبل على القوم، اعتذر اعتذارًا، وقال: إني إنما فعلت ذلك به عمدًا؛ لأني كنت نهيته قبل هذه المرّة، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهانا عن لبس الديباج، والحرير، وآنية الذهب، والفضة، وقال:"هو لهم في الدنيا، وهو لنا في الآخرة". انتهى

(1)

.

ورواية محمد بن جعفر، عن شعبة ساقها الترمذيّ رحمه الله في "جامعه"، فقال:

(1878)

- حدثنا محمد بن بشار، حدّثنا محمد بن جعفر، حدّثنا شعبة، عن الحكم، قال: سمعت ابن أبي ليلى يحدّث، أن حذيفة استسقى، فأتاه إنسان بإناء من فضة، فرماه به، وقال: إني كنت قد نهيته، فأبى أن ينتهي، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نَهَى عن الشرب في آنية الفضة، والذهب، ولبس الحرير، والديباج، وقال:"هي لهم في الدنيا، ولكم في الآخرة". انتهى.

وأما روايتا ابن أبي عديّ، ويهز بن أسد، كلاهما عن شعبة، فلم أجد من ساقهما بتمامهما، فليُنظر، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5388]

(

) - (وَحَدَّثنا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ (ح) وَحَدَّثنا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ، كِلَاهُمَا عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ حُذَيْفَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمَعْنَى حَدِيثِ مَنْ ذَكَرْنَا).

(1)

"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 5/ 400.

ص: 551

رجال هذين الإسنادين: تسعة:

1 -

(مَنْصُورُ) بن المعتمر بن عبد الله السلميّ، أبو عتّاب الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ [6](ت 132)(ع) تقدم في "شرح المقدمة" جـ 1 ص 296.

2 -

(ابْنُ عَوْنٍ) عبد الله بن عون بن أرطبان، أبو عون البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فاضلٌ [5](ت 150) على الصحيح (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 303.

والباقون ذُكروا في الباب.

[تنبيه]: رواية ابن عون، عن مجاهد ساقها أبو عوانة في "مسنده"، فقال:

(8449)

- وحدّثنا أبو بكر الصغانيّ، وأبو داود الحرانيّ، قالا: ثنا عثمان بن عمر، قال: ثنا ابن عون (ح) وحدّثنا أبو أمية، قال: ثنا أشهل بن حاتم، قال: أنبا ابن عون، عن مجاهد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، قال: كنا مع حذيفة بالمدائن، فاستسقى، فأتاه دهقان بماناء من فضة، فرمى به وجهه، فقلنا: اسكتوا، فإنا إن سألناه لم يحدّثنا، فلما كان بعدُ قال: تدرون لِمَ رميته؟ إني كنت نهيته، قال: فذكر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن الشرب في آنية الذهب، والفضة، وعن لبس الحرير، والديباج، قال:"هو لهم في الدنيا، ولكم في الآخرة". انتهى

(1)

.

وأما رواية منصور، عن مجاهد، فلم أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5389]

(

) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا سَيْفٌ، قَالَ: سَمِعْتُ مُجَاهِدًا يَقُولُ: سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي لَيْلَى، قَالَ: اسْتَسْقَى حُذَيْفَةُ، فَسَقَاهُ مَجُوسِيٌّ فِي إِنَاءٍ مِنْ فِضةٍ، فَقَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لَا تَلْبَسُوا الْحَرِيرَ، وَلَا الدِّيبَاجَ، وَلَا تَشْرَبُوا فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضة، وَلَا تَأْكُلُوا فِي صِحَافِهَا، فَإِنَّهَا لَهُمْ في الدُّنْيَا").

(1)

"مسند أبي عوانة" 5/ 214 - 215.

ص: 552

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ) الهَمْدانيّ الكوفيّ، تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(أَبُوهُ) عبد الله بن نُمير الْهَمْدانيّ الكوفيّ، تقدّم قبل بابين.

3 -

(سَيْفُ) بن سليمان، أو ابن أبي سليمان المخزوميّ المكيّ، ثقةٌ ثبتٌ رُمي بالقدر، سكن البصرة أخيرًا [6] مات بعد سنة (150)(خ م س ق) تقدم في "الصلاة" 16/ 906.

والباقون ذُكروا في الباب.

وقوله: (فَسَقَاهُ مَجُوسِيٌّ) هو الدهقان المذكور فيما مضى.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5390]

(2068) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطابِ رَأَى حُلَّةً سِيَرَاءَ، عِنْدَ بَابِ الْمَسْجِد، فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله، لَوِ اشْتَرَيْتَ هَدِه، فَلَبِسْتَهَا لِلنَّاسِ يَوْمَ الْجُمُعَة، وَلِلْوَفْدِ إِذَا قَدِمُوا عَلَيْكَ؟، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّمَا يَلْبَسُ هَذِهِ مَنْ لَا خَلَاقَ لَهُ فِي الآخِرَةِ"، ثُمَّ جَاءتْ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْهَا حُلَلٌ، فَأَعْطَى عُمَرَ مِنْهَا حُلَّةً، فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللهِ كسَوْتَنِيهَا، وَقَدْ قُلْتَ فِي حُلَّةِ عُطَارِدٍ مَا قُلْتَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنِّي لَمْ أَكسُكَهَا لِتَلْبَسَهَا"، فَكَسَاهَا عُمَرُ أَخًا لَهُ مُشْرِكًا بِمَكَّةَ).

رجال هذا الإسناد: أربعة:

وكلّهم تقدّموا قريبًا.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (407) من رباعيّات الكتاب، وفيه ابن عمر رضي الله عنهما أحد العبادلة الأربعة، وأحد المكثرين السبعة، والمشهورين بالفتوى، وأشهر الناس باتّباع الأثر، والتشدّد فيه، والله تعالى أعلم.

ص: 553

شرح الحديث:

(عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ) أباه (عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ) رضي الله عنهما هكذا رواه أكثر أصحاب نافع، وأخرجه النسائيّ من رواية عُبيد الله بن عمر العُمريّ، عن نافع، عن ابن عمر، عن عمر، أنه "رأى حلةَ"، فجعله من مسند عمر رضي الله عنه، قال الدارقطنيّ: المحفوظ أنه من مسند ابن عمر. انتهى.

وقال أبو عمر بن عبد البرّ رحمه الله: لم يُختَلَف عن مالك في إسناد هذا الحديث، ولا يَختلف مالك وغيره من أصحاب نافع، عن نافع فيه أيضًا، وبعض أصحاب عبيد الله يقولون فيه: عن ابن عمر، عن عمر، فيجعلونه من مسند عمر، وهو عند أهل العلم بالحديث، وأهل الفقه سواء في وجوب الاحتجاج به، والعمل. انتهى

(1)

.

(رَأَى حُلَّةً) - بضم المهملة - قال أبو عُبيد: الْحُلَل: برود اليمن، والحُلَّة إزار ورداء، ونقله ابن الأثير، وزاد: إذا كان من جنس واحد. وقال ابن سيده في "المحكم": الحلّة بُرْدٌ أو غيره، وحَكَى عياض أن أصل تسمية الثوبين حُلّة أنهما يكونان جديدين كما حُلَّ طيُّهما. وقيل: لا يكون الثوبان حُلّة حتى يَلبس أحدهما فوق الآخر، فإذا كان فوقه فقد حلّ عليه، والأوّل أشهر.

(سِيَرَاءَ) - بكسر المهملة، وفتح التحتانية، والراء، مع المدّ - قال الخليل: ليس في كلام العرب فِعَلاءُ - بكسر أوله، مع المدّ - سوى سِيَراء، وحِوَلاء، وهو الماء الذي يخرج على رأس الولد، وعِنَباء، لغة في العنب.

قال مالك: هو الوَشْيُ من الحرير، كذا قال. والوَشْيُ - بفتح الواو، وسكون المعجمة، بعدها تحتانية. وقال الأصمعيّ: ثياب، فيها خطوط من حرير، أو قَزّ، وإنما قيل لها: سيراء؛ لتسيير الخطوط فيها. وقال الخليل: ثوب مُضَلَّع بالحرير، وقيل: مختلف الألوان، فيه خطوط ممتدّة، كأنها السيور. وقال ابن سيده: هو ضرب من البرود. وقيل: ثوب مسيّر فيه خطوط يُعمل من القَزّ، وقيل: ثياب من اليمن. وقال الجوهريّ: بُرْد فيه خطوط صُفْر. ونقل عياض عن سيبويه، قال: لم يأت فِعَلاء صفةً، لكن اسمًا، وهو الحرير الصافي.

(1)

"التمهيد" لابن عبد البرّ 14/ 240.

ص: 554

وقال ابن عبد البرّ رحمه الله: قأما قوله في هذا الحديث: "حُلّة سيراء"، فإن أهل العلم يقولون: إنها كانت حلة من حرير، ولا يختلفون في الثوب المُصْمَت الحرير الصافي الذي لا يخالطه غيره أنه لا يحل للرجال لباسه، واختلفوا في الثوب الذي يخالطه الحرير على ما نذكره في هذا الباب إن شاء الله.

وأما أهل اللغة فإنهم يقولون: الحلة السيراء هي التي يخالطها الحرير، قال الخليل بن أحمد: السيراء بُرود يخالطها حرير، وقال غيره: هي ضروب من الوشي، والبرود.

وأما الحلة عندهم فثوبان اثنان، لا يقع اسم الحلة على واحد، وأما الحلة المذكورة في هذا الحديث فحرير كلها بنقل الثقات لذلك. انتهى

(1)

.

[تنبيه]: اختُلِف في قوله: "حلة سيراء"، هل هو بالإضافة، أو لا؟ فوقع عند الأكثر بتنوين "حلّة"، على أنّ "سيراء" عطف بيان، أو نعت، وجزم القرطبيّ بأنه الرواية. وقال الخطابيّ: قالوا: "حلّةٌ سيراءُ"، كما قالوا:"ناقةٌ عُشَراءُ"، ونقل عياض عن أبي مروان ابن السرّاج أنه بالإضافة، قال عياض: وكذا ضبطناه عن متقني شيوخنا، وقال النوويّ: إنه قول المحققين، ومتقني العربية، وإنه من إضافة الشيء لصفته، كما قالوا: ثوب خزّ. انتهى.

وفي الرواية الآتية من طريق سالم، عن أبيه: "قال: وجد عمر بن الخطاب رضي الله عنه حُلّة من إستبرق، تباع بالسوق

"، والإستبرق: ما غلظ من الحرير، وفي رواية عند النسائيّ: "أن عمر كان مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في السوق، فرأى الحلّة"، ولا تعارض بين هذا، وبين قوله:(عِنْدَ بَاب الْمَسْجِدِ)؛ أي: النبويّ؛ لأن طرف السوق كان يَصِل إلى قرب باب المسجد، قاله الحافظ رحمه الله

(2)

.

(فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله، لَوِ اشْتَرَيْتَ هَذِهِ)"لو" هنا للتمنّي، أو للعَرْض، فلا تحتاج إلى جواب، ويَحْتَمِل أن تكون شرطية، حُذف جوابها؛ أي: لكان خيرًا.

(1)

"التمهيد" لابن عبد البرّ 14/ 242.

(2)

"الفتح" 13/ 324، كتاب "اللباس" رقم (5841).

ص: 555

وفي رواية سالم الآتية: "ابتع هذه، فتجمّل بها"، وكأن عمر رضي الله عنه أشار بشرائها، وتمنّاه.

(فَلَبِسْتَهَا لِلنَّاسِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ) فيه استحباب التجمل، وحسن الهيئة للجمعة، ووجه ذلك أن عمر رضي الله عنه أشار على النبيّ صلى الله عليه وسلم بالتجمل للجمعة، فلم يُنكر عليه، وإنما أنكر التجمل بالحرير، فدلّ على أن التجمل بما يحلّ لُبسه من أنواع الحُلَل مستحب.

وقال السنديّ رحمه الله: وفي قول عمر رضي الله عنه هذا دلالة على أن التجمل يوم الجمعة كان مشهورًا بينهم، مطلوبًا؛ كالتجمّل للوفود، وقد قرّره النبيّ صلى الله عليه وسلم على ذلك، وإنما ردّه من حيث إن الحرير لا يليق به. انتهى.

(وَللْوَفْدِ) قيل: الوفد: الرُّكبان المكرمون، يقال: وَفَدَ فلان يَفِدُ، وِفَادةً: إذا خرج إلى مَلِك، أو أمير. والوَفْدُ اسم جَمْع، وقيل: جمعٌ، وأما الوفود، فجَمْع وافد. أفاده في "اللسان".

وفي رواية سالم الآتية: "فتجمّل بها للعيد وللوفد".

وفي رواية جرير بن حازم، عن نافع الآتية:"فلبستها لوفود العرب إذا قَدِموا عليك"، وفي رواية النسائيّ: "فتجمّل بها لوفود العرب، إذا أتوك، وإذا خطبت الناس في يوم عيد وغيره

".

قال في "الفتح": وكأنه خصّه بالعرب؛ لأنهم كانوا إذ ذاك الوفودَ في الغالب؛ لأن مكة لَمّا فُتحت بادر العرب بإسلامهم، فكانت كلّ قبيلة تُرسل كُبراءها لِيُسْلموا، ويتعلّموا، ويرجعوا إلى قومهم، فيدعوهم إلى الإسلام، ويعلّموهم. انتهى

(1)

.

(إِذَا قَدِمُوا عَلَيْكَ؟) - بفتح القاف، وكسر الدّال -، يقال: قَدِمَ من سفره، كعَلِم، قُدُومًا، وقِدْمانًا - بالكسر -: رجع، فهو قادم. أفاده في "القاموس". وفي رواية للنسائيّ:"إذا أتوك".

(فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّمَا يَلْبَسُ هَذِهِ) وفي رواية جرير بن حازم الآتية: "إنما يلبس الحرير في الدنيا"، (مَنْ لَا خَلَاقَ لَهُ فِي الآخِرَةِ")"الخَلَاق" - بفتح

(1)

"الفتح" 13/ 325، كتاب "اللباس" رقم (5841).

ص: 556

المعجمة، وتخفيف اللام -: النصيب، وقيل: الحظّ، وهو المراد هنا، ويُطلق على الحرمة، وعلى الدين، ويَحْتَمِل أن يُراد: مَنْ لا نصيب له في الآخرة؛ أي: مِنْ لبس الحرير. قاله الطيبيّ.

ويؤيده ما أخرجه الشيخان من حديث أبي عثمان، عن عمر رضي الله عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"لا يُلبَسُ الحريرُ في الدنيا إلا لم يُلبَس منه شيء في الآخرة"، وفي رواية لمسلم:"لا يَلْبَسُ الحرير إلا من ليس له منه شيء في الآخرة".

والمعنى: أنه لا نصيب له في لُبس حرير الجنّة، قال السنديّ رحمه الله: ويمكن تحقّق ذلك مع الدخول في الجنّة بأن يصرف الله تعالى الاشتهاء عنه، فلا ينافي قوله تعالى:{وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ} [فصلت: 31]، بل هذا لازم في الجنّة، وإلا لاشتهى كلّ أحد درجة نبيّنا صلى الله عليه وسلم. انتهى

(1)

.

(ثُمَّ جَاءَتْ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْهَا حُلَل) بنصب "رسول" على أنه مفعول مقدّم، و"حُلَلٌ" فاعل مؤخر، وفي رواية سالم الآتية: "ثم أُتِي رسول الله صلى الله عليه وسلم بثلاث حُلَل منها، فكسا عمرَ حُلّةً، وكسا عليّا حلّةً، وكسا أُسامةَ حُلّةً

".

(فَأَعْطَى عُمَرَ مِنْهَا حُلَّةً) وفي رواية سالم: "فلبث عمر ما شاء الله، ثم أرسل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بجبّة ديباج"، وفي رواية:"وأن النبيّ صلى الله عليه وسلم بعث بعد ذلك إلى عمر حلة سيراء"، وزاد الإسماعيليّ:"بحلة سيراء من حرير"، و"من" بيانية، وهو يقتضي أن السيراء قد تكون من غير حرير، قاله في "الفتح"

(2)

.

(فَقَالَ عُمَرُ) رضي الله عنه (يَا رَسُولَ اللهِ كَسَوْتَنِيهَا) إنما قال ذلك باعتبار ما فهمه، وإلّا فقد ظهر في بقية الحديث أنه لم يُعطِه ليلبسها، أو المراد: أعطيتني ما يصلح كسوة.

(وَقَدْ قُلْتَ فِي حُلَّةِ عُطَارِدٍ) هو عطارد بن حاجب بن زُرَارة بن عُدُس بن زيد بن عبد الله بن دارم بن مالك بن حَنظلة بن زيد مناة بن تميم التميميّ، أبو عكرمة، وَفَدَ على النبيّ صلى الله عليه وسلم، واستعمله على صدقات بني تميم.

روى الطبرانيّ من طريق محمد بن زياد الْجُمَحيّ، عن عبد الرحمن بن

(1)

"شرح السنديّ على النسائيّ" 8/ 197.

(2)

"الفتح" 13/ 325، كتاب "اللباس" رقم (5841).

ص: 557

عمرو بن مُعاذ، عن عُطارد بن حاجب، أنه أهدى إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ثوب ديباج، كساه إياه كسرى، فدخل أصحابه، فقالوا: نزل عليك من السماء؟! فقال: "وما تَعجَبون مِن ذا؟ لَمناديل سعد بن معاذ في الجنّة خير من هذا".

وقال أبو عبيدة: وكان حاجب بن زُرَارة، يقال له: ذو القوس، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لمّا دعا على مضر بالقحط، فأقحطوا، ارتحل حاجب إلى كسرى، فسأله أن يأذن له أن ينزل حَوْلَ بلاده، فقال: إنكم أهل غَدْر، فقال: أنا ضامن، فقال: ومن لي بأن تَفيَ؟ قال: أرهنك قوسي، فَأَذِن لهم في دخول الرِّيف، فلما استسقت مُضَر بالنبيّ صلى الله عليه وسلم دعا الله، فرفع عنهم القحط، وكان حاجب مات، فرحل عُطارد بن الحاجب إلى كسرى، يطلب قوس أبيه، فردّها عليه، وكساه حُلّة.

وروى الواقديّ في "المغازي" بأسانيده: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بشر بن سفيان العدويّ على صدقات خُزَاعة، فجمعوا له، فمنعهم بنو تميم، فبعث النبيّ صلى الله عليه وسلم إليهم عُيينة بن حصن في خمسين فارسًا، فأغار، وسَبَى منهم أحدَ عشر رجلًا، وإحدى عشرة امرأة، وثلاثين صبيًّا، فوفد بعد ذلك رؤساء بني تميم، منهم عُطارد بن حاجب، فذكر القصّة، وأنهم أسلموا، وأجارهم، وارتدّ عُطارد بن حاجب بعد النبيّ صلى الله عليه وسلم مع من ارتدّ من بني تميم، وتَبع سَجَاح، ثم عاد إلى الإسلام، وهو الذي قال فيها:[من البسيط]

أَضْحَتْ نَبِيَّتُنَا أُنْثَى نُطِيفُ بِهَا

وَأَصْبَحَتْ أَنْبِيَاءُ النَّاسِ ذُكْرَانَا

فَلَعْنَةُ اللهِ رَبِّ النَّاسِ كُلِّهِمِ

عَلَى سَجَاحِ وَمَنْ بِالْكُفْرِ أَغْوَانَا

(1)

(مَا قُلْتَ)"ما" اسم موصول في محلّ نصب على أنه مفعول مطلق؛ أي: قلت القول الذي قلته في حُلّة عطارد، وهو قوله صلى الله عليه وسلم:"إنما يلبس هذه من لا خلاق له في الآخرة".

(فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إني لم أكسكها لتلبسها")؛ أي: لم أُعطك إياها لأجل أن تلبسها، وفي الرواية الآتية:"إِنِّي لَمْ أبعث بها إليك لتلبسها، ولكني بعثت بها إليك لتُصيب بها"، وفي رواية:"تبيعها، وتصيب بها حاجتك"، وفي

(1)

"الإصابة في تمييز الصحابة" 7/ 11 - 12.

ص: 558

رواية: "إنما بعثت بها إليك لتستمتع بها"، وفي رواية:"بعها، واقض بها حاجتك، أو شَقِّقْها خُمُرًا بين نسائك".

(فَكَسَاهَا عُمَرُ أَخًا لَهُ) زاد في رواية سالم: "من أمه"، (مُشْرِكًا بِمَكَّةَ)، وفي رواية البخاريّ من طريق عبد الله بن دينار، عن ابن عمر:"فأرسل بها عمر إلى أخ له، من أهل مكّة قبل أن يُسلم"، قال النوويّ: هذا يُشعر بأنه أسلم بعد ذلك. انتهى

(1)

.

قال الحافظ: ولم أقف على تسمية هذا الأخ إلا فيما ذكره ابن بشكوال في "المبهمات" نقلًا عن ابن الحذّاء في رجال "الموطإ"، فقال: اسمه عُثمان بن حكيم. قال الدمياطيّ: هو السلميّ أخو خولة بنت حكيم بن أميّة بن حارثة بن الأوقص، قال: وهو أخو زيد بن الخطاب لأمه، فمن أطلق عليه أنه أخو عمر لأمه لم يُصب.

قال الحافظ: قلت: بل له وجه بطريق المجاز. ويَحْتَمِل أن يكون عمر ارتضع من أم أخيه زيد، فيكون عثمان أخا عمر لأمه من الرضاع، وأخا زيد لأمه من النسب.

وأفاد ابن سعد أن والدة سعيد بن المسيِّب هي أم سعيد بن عثمان بن الحكم، ولم أقف على ذِكره في الصحابة، فإن كان أسلم، فقد فاتهم، فليُستَدرك، وإن كان مات كافرًا، وكان قوله:"قبل أن يسلم" لا مفهوم له، بل المراد أن البعث إليه كان في حال كفره، مع قَطْع النظر عما وراء ذلك، فلتُعدّ بنته في الصحابة. انتهى

(2)

.

وقال صاحب "التنبيه": قوله: "فكساها عمر أخًا له" هو أخو أخيه زيد بن الخطّاب؛ لأمه أسماء بنت وهب، واسمه عثمان بن حكيم، قاله الدمياطيّ، وقال ابن الحذّاء في "التعريف": إنه أخوه لأمه عثمان بن حكيم، قال الحافظ وليّ الدين: والصواب مع الدمياطيّ. انتهى

(3)

، والله تعالى أعلم.

(1)

"شرح النوويّ" 14/ 38 - 39.

(2)

"الفتح" 13/ 326، كتاب "اللباس" رقم (5841).

(3)

"تنبيه المعلم" ص 358.

ص: 559

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما هذا متفق عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [1/ 5390 و 5391 و 5392 و 5393 و 5394 و 5395](2068)، و (البخاريّ) في "الجمعة"(886) و"العيدين"(948) و"الهبة"(2619) و"اللباس"(5841) و"الأدب"(5981)، و (أبو داود) في "اللباس"(4040)، و (النسائيّ) في "الجمعة"(3/ 96) و"الزينة"(8/ 196) و"الكبرى"(1/ 523 و 5/ 462 و 463)، و (ابن ماجه) في "اللباس"(3591)، و (مالك) في "الموطّأ"(2/ 917 - 918)، و (الشافعيّ) في "مسنده"(1/ 62)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(19929)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1937)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(5/ 152)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 20 و 24 و 39 و 51 و 68 و 82 و 146)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5113 و 5439)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(4/ 244 و 4252)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(5/ 224 و 225)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(10/ 187)، و (البزّار) في "مسنده"(1/ 285)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 422 و 9/ 129)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(3099)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان استحباب حسن الهيئة للجمعة، والعيدين، ونحوهما بلبس الملابس الحسنة، لكونه صلى الله عليه وسلم أقرّ عمر رضي الله عنه على ذلك، وإنما أنكر عليه استعمال السيراء، وما في معناه، وفي سنن أبي داود، وابن ماجه، عن عبد الله بن سلَام رضي الله عنه مرفوعًا:"ما على أحدكم، لو اشترى ثوبين ليوم الجمعة، سوى ثوبي مِهْنَته" وتقدم أن في رواية سالم، عن أبيه:"للعيد" بدل "للجمعة"، وفي رواية ابن إسحاق، عن نافع:"فتجملت بها لوفود العرب إذا أتوك، وإذا خطبت الناس في يوم عيد، وغيره".

فأخذ العلماء من هذا استحباب التجمل في سائر مجامع الخير، إلا ما ينبغي فيه إظهار التمسكن، والتواضع، والخوف؛ كالاستسقاء، والكسوف.

ص: 560

أفاده ولي الدين رحمه الله

(1)

.

2 -

(ومنها): عَرض المفضول على الفاضل، والتابع على المتبوع ما يَحتاج إليه من مصالحه مما يظنّ أنه لم يطّلع عليه.

3 -

(ومنها): أن فيه إباحة الطعن لمن يستحقّه.

4 -

(ومنها): جواز البيع والشراء على أبواب المساجد.

5 -

(ومنها): مباشرة الصالحين، والفُضلاء البيع والشراء.

6 -

(ومنها): أن الجمعة يلبس فيها من أحسن الثياب، وكذلك يُتَجَمَّل بالثياب الحسان في الأعياد؛ لأن الجمعة عيد، ويُتَجَمَّل بها أيضًا على وجه الترهيب للعدوّ، والتغليظ عليهم، قال ابن عبد البرّ رحمه الله: ولا أعلم بين العلماء اختلافًا في استحباب التجمل بأحسن الثياب يوم الجمعة لمن قَدَر. انتهى

(2)

.

7 -

(ومنها)؛ أن الإنسان يجوز له أن يملك ما لا يجوز له أن يلبس، وفيه إباحة الطعن عليه

(3)

.

8 -

(ومنها): جواز قبول الخليفة للهدايا من قِبَل الروم، وغيرهم، من الكفرة.

9 -

(ومنها): أن فيه بيان بعض ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من السخاء، وصلة الإخوان بالعطاء.

10 -

(ومنها): أنه جائز أن يعطي الرجل ما لا يجوز له لباسه، إذا جاز له مُلكه، والتصرف فيه.

11 -

(ومنها): جواز صلة القريب المشرك ذميًّا كان، أو حربيًّا؛ لأن مكة لم يبق فيها بعد الفتح مشرك، وكانت قبل ذلك حربًا، قال ابن عبد البرّ رحمه الله: ولم يَختلف العلماء في الصدقة التطوع أنها جائزة من المسلم على المشرك قريبًا كان، أو غيره، والقريب أولى ممن سواه، والحسنة فيه أتمّ، وأفضل، وإنما اختلفوا في كفارة الأيمان، وزكاة الفطر، فجمهور العلماء على أنها لا تجوز لغير المسلمين؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: أُمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائكم، وأردّها

(1)

"طرح التثريب في شرح التقريب" 3/ 226.

(2)

"التمهيد" لابن عبد البرّ 14/ 262.

(3)

"التمهيد" لابن عبد البرّ 14/ 262.

ص: 561

على فقرائكم، وكذلك كل ما يجب أن يؤخذ منهم، فواجب أن يُرَدّ على فقرائهم، وأجمعوا أن الزكاة المفروضة لا تحل لغير المسلمين، فسائر ما يجب أداؤه عليهم من زكاة الفطر، وكفارة الأيمان، والظهار فقياس على الزكاة عندنا، وأما التطوع بالصدقة فجائز على أهل الكفر من القرابات وغيرهم، لا أعلم في ذلك خلافًا، والله أعلم. انتهى.

قال: روى الثوريّ، عن الأعمش، عن جعفر بن إياس، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: كانوا يكرهون أن يَرْضخوا لأنسابهم من أجل الكفر، فنزلت:{لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ} [البقرة: 272].

ثم أخرج بسنده عن عكرمة، أن صفية زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم قالت لأخ لها يهوديّ: أسلم ترثني، فسمع ذلك قومه، فقالوا: أتبيع دينك بالدنيا؟ فأبى أن يُسلم، فأوصت له بالثلث.

ثم أخرج عن فاطمة ابنة المنذر، عن جدّتها أسماء بنت أبي بكر، قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلت: أتتني أمي، وهي راغبة، فأعطيها؟ قال:"نعم، فَصِلِيها"

(1)

.

وذكر في "الفتح" تعقّبًا على قول ابن عبد البرّ: فيه جواز الهديّة للكافر، ولو كان حربيًّا.

فقال: وتُعُقّب بأن عُطاردًا إنما وَفَد سنة تسع، ولم يبق بمكة بعد الفتح مشرك.

وأجيب بأنه لا يلزم من كون وفادة عطارد سنة تسع أن تكون قصة الحلّة كانت حينئذ، بل جاز أن تكون قبل ذلك، وما زال المشركون يَقْدَمون المدينة، ويُعاملون المسلمين بالبيع وغيره، وعلى تقدير أن يكون ذلك سنة الوفود، فيَحْتَمِل أن يكون في المدّة التي كانت بين الفتح، وحجّ أبي بكر رضي الله عنه، فإنّ مَنْع المشركين من مكة إنما كان من حجة أبي بكر رضي الله عنه سنة تسع، ففيها وقع النهي

(1)

"التمهيد" لابن عبد البرّ 14/ 264.

ص: 562

أن لا يحجّ بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان. انتهى

(1)

.

12 -

(ومنها): ما قاله ابن بطال: فيه تَرْك النبيّ صلى الله عليه وسلم لباس الحرير، زُهدًا في الدنيا، وإرادة تأخير الطيبات إلى الآخرة التي لا انقضاء لها؛ إذ تعجيل الطيبات في الدنيا ليس من الحزم، فزَهِد في الدنيا للآخرة، وأمَر بذلك، ونَهَى عن كل سَرَف وحرّمه

(2)

.

وتَعَقّبه ابن الْمُنَيِّر بأن تركه صلى الله عليه وسلم لبس الحرير إنما هو لاجتناب المعصية، وأما الزهد فإنما هو في خالص الحلال، وما لا عقوبة فيه، فالتقلل منه، وتركه مع الإمكان هو الذي تتفاضل فيه درجات الزهاد.

قال الحافظ: ولعل مراد ابن بطال بيان سبب التحريم، فيستقيم ما قاله. انتهى

(3)

.

13 -

(ومنها): تحريم الحرير على الرجال مطلقًا، وفيه تفاصيل للعلماء، وقد تقدّم بيانه، وبالله تعالى التوفيق.

14 -

(ومنها): جواز لبس الحرير للنساء، سواء كان الثوب حريرًا كلّه أو بعضه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"أو شقِّقها خُمُرًا بين نسائك".

15 -

(ومنها): جواز بيع الرجال الثياب الحرير، وتصرّفهم فيها بالهبة والهديّة، لا اللبس.

16 -

(ومنها): أنه استَدَلّ به من قال: إن الكافر ليس مخاطبًا بالفروع؛ لأن عمر رضي الله عنه لَمّا مُنع من لبس الحلة أهداها لأخيه المشرك، ولم يُنكر صلى الله عليه وسلم عليه ذلك.

وتُعُقّب بأنه لم يأمر أخاه بلبسها، فيَحْتَمِل أن يكون وقع الحكم في حقّه كما وقع في حق عمر رضي الله عنه، فينتفع بها بالبيع، أو كسوة النساء، ولا يلبس هو.

وأجيب بأن المسلم عنده من الوازع الشرعيّ ما يحمله بعد العلم بالنهي على الكفّ، بخلاف الكافر، فإنّ كُفْره يحمله على عدم الكفّ عن تعاطي

(1)

"الفتح" 13/ 329، كتاب "اللباس" رقم (5841).

(2)

"شرح البخاريّ" لابن بطال رحمه الله 9/ 110 - 111.

(3)

"الفتح" 13/ 329، كتاب "اللباس" رقم (5841).

ص: 563

المحرّم، فلولا أنه مباح له لُبسه لَمَا أهدى له، لِمَا في تمكينه من الإعانة على المعصية، ومن ثَمَّ يَحرم بيع العصير ممن جرت عادته أن يتخذه خمرًا، وإن احتَمَل أنه قد يشربه عصيرًا، وكذا بيع الغلام الجميل ممن يشتهر بالمعصية، لكن يَحْتَمِل أن يكون ذلك على أصل الإباحة، وتكون مشروعيّة خطاب الكافر بالفروع تراخت عن هذه الواقعة. والله أعلم. ذكره في "الفتح"

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: الحقّ أن الكفّار مخاطبون بفروع الشريعة؛ كأصوله، وقد تقدّم تحقيق هذا غير مرّة، وبالله تعالى التوفيق.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5391]

(

) - (وَحَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي (ح) وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ (ح) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُقَدَّمِيُّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، كُلُّهُمْ عَنْ عُبَيْدِ الله (ح) وَحَدَّثَنِي سُويدُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ مَيْسَرَةَ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، كِلَاهُمَا عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِنَحْوِ حَدِيثِ مَالِكٍ).

رجال هذه الأسانيد: اثنا عشر:

1 -

(أَبُو أُسَامَةَ) حمّاد بن أسامة الكوفيّ، تقدّم قبل بابين.

2 -

(سُويْدُ بْنُ سَعِيدِ) بن سهل الْهَرويّ الأصل، ثمّ الْحَدَثانيّ، أبو محمد، صدوقٌ في نفسه، إلا أنه عَمِي، فصار يتلقّن ما ليس من حديثه، من قُدماء [10](ت 240) وله مائة سنة (م ق) تقدم في "المقدمة" 6/ 87.

3 -

(حَفْصُ بْنُ مَيْسَرَةَ) العُقيليّ، أبو عمر الصنعانيّ، نزيل عسقلان، ثقةٌ ربّما وَهِمَ [8](ت 181)(خ م مد س ق) تقدم في "الإيمان" 87/ 461.

والباقون ذُكروا في الباب، والباب الماضي.

وقوله: (كُلُّهُمْ عَنْ عُبَيْدِ اللهِ)؛ يعني: أن هؤلاء الثلاثة: عبد الله بن نُمير، وأبا أسامة، ويحيى بن سعيد القطّان رووا هذا الحديث عن عُبيد الله بن عُمر الْعُمَريّ.

(1)

"الفتح" 13/ 329 - 330، كتاب "اللباس" رقم (5841).

ص: 564

وقوله: (كِلَاهُمَا عَنْ نَافِع) أن عبيد الله العمريّ، وموسى بن عُقبة رويا هذا الحديث عن نافع

إلخ.

[تنبيه]: رواية عبيد الله بن عمر، عن نافع ساقها النسائيّ في "سننه"، فقال:

(9570)

- أخبرنا إسحاق بن منصور، قال: أنبأنا عبد الله بن نُمير، قال: حدّثنا عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، عن عمر بن الخطاب

(1)

، أنه رأى حُلّة سيراء تباع عند باب المسجد، فقلت: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم لو اشتريتها هذا ليوم الجمعة، وللوفد إذا قَدِموا عليك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إنما يلبس هذه من لا خَلاق له في الآخرة"، قال: فأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدُ منها بحلل، فكساني منها حلة، فقال: يا رسول الله كسوتنيها، وقد قلت فيها ما قلت؟ قال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"إني لم أكسكها لتلبسها، إنما كسوتكها لتكسوها، أو لتبيعها"، فكساها عمر أخًا له من أمه مشركًا. انتهى.

وأما رواية موسى بن عُقبة، عن نافع فلم أجد من ساقها بتمامها، فليُنظر، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5392]

(

) - (وَحَدَّثَنَا شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ، حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ، حَدَّثَنَا نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: رَأَى عُمَرُ عُطَارِدًا التَّمِيمِي يُقِيمُ بِالسُّوقِ حُلَّةً سِيَرَاءَ - وَكَانَ رَجُلًا يَغْشَى الْمُلُوكَ، وَيُصِيبُ مِنْهُمْ - فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ الله، إِنِّي رَأَيْتُ عُطَارِدًا يُقِيمُ فِي السُّوقِ حُلَّةً سِيَرَاءَ، فَلَوِ اشْتَرَيْتَهَا، فَلَبِسْتَهَا لِوُفُودِ الْعَرَب، إِذَا قَدِمُوا عَلَيْكَ - وَأَظُنُّهُ قَالَ: وَلَبِسْتَهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ - فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّمَا يَلْبَسُ الْحَرِيرَ فِي الدُّنْيَا مَنْ لَا خَلَاقَ لَهُ فِي الآخِرَةِ"، فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ أُتِيَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِحُلَلٍ سِيَرَاءَ، فَبَعَثَ إِلَى عُمَرَ بِحُلَّةٍ، وَبَعَثَ إِلَى أُسَامَةَ بْنِ زيدٍ بِحُلَّةٍ، وَأَعْطَى عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ حُلَّةً، وَقَالَ: "شَقِّقْهَا خُمُرًا بَيْنَ

(1)

قوله: "عن عمر

إلخ" تقدّم أن المحفوظ كون الحديث من مسند ابن عمر، لا من مسند عمر رضي الله عنهما، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

ص: 565

نِسَائِكَ"، قَالَ: فَجَاءَ عُمَرُ بِحُلَّتِهِ يَحْمِلُهَا، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ بَعَثْتَ إِلَيَّ بِهَذِه، وَقَدْ قُلْتَ بِالأَمْسِ فِي حُلَّةِ عُطَارِدٍ مَا قُلْتَ، فَقَالَ: "إِنِّي لَمْ أَبْعَثْ بِهَا إِلَيْكَ لِتَلْبَسَهَا، وَلَكِنِّي بَعَثْتُ بِهَا إِلَيْكَ لِتُصِيبَ بِهَا"، وَأَمَّا أسَامَةُ فَرَاحَ فِي حُلَّتِه، فَنَظَرَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَظَرًا عَرَفَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ أَنْكَرَ مَا صَنَعَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ مَا تَنْظُرُ إِلَيَّ؟ فَأَنْتَ بَعَثْتَ إِلَيَّ بِهَا، فَقَالَ: "إِنِّي لَمْ أَبْعَثْ إِلَيْكَ لِتَلْبَسَهَا، وَلَكِنِّي بَعَثْتُ بِهَا إِلَيْكَ لِتُشَقِّقَهَا خُمُرًا بَيْنَ نِسَائِكَ").

رجال هذا الإسناد: أربعة:

وكلّهم ذُكروا في الباب، وقبله.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (408) من رباعيّات الكتاب.

وقوله: (قَالَ: رَأَى عُمَرُ عُطَارِدًا التَّمِيمِيَّ يُقِيمُ بِالسُّوقِ حُلَّةً)؛ أي: يَعْرضها للبيع.

وقوله: (وَكَانَ رَجُلًا يَغْشَى الْمُلُوكَ)؛ أي: يأتيهم، يقال: غَشِيته أغشاه، من باب تَعِب: إذا أتيته، والاسم: الْغِشْيَانُ بالكسر

(1)

.

وقوله: (وَيُصِيبُ مِنْهُمْ)؛ أي: ينال منهم الجواز، ويأخذها.

وقوله: (فَلَبِسْتَهَا لِوُفُودِ الْعَرَبِ) تقدّم أنه إنما خصّ العرب بالذِّكر؛ لكونهم أكثر الوفود في ذلك الوقت غالبًّا.

وقوله: (وَأَظنُّهُ قَالَ

إلخ) هذا الظنّ يَحْتَمل أن يكون من ابن عمر، أو ممن دونه، والله تعالى أعلم.

وقوله: (مَنْ لَا خَلَاقَ لَهُ فِي الآخِرَةِ)؛ يعني: من لا نصيب له في اعتقاد الآخرة، وهذا في حقّ الكفّار ظاهر، وأما في حقّ المؤمن فيُحمَل على التغليظ؛ لعدم جريانه على موجب اعتقاده، ويَحْتَملُ أن يكون المراد أنه لا نصيب له مِن لُبس الحرير في الآخرة، فيكون كناية عن حرمانه من الجنّة التي لباس أهلها الحرير، كما قال تعالى:{وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} [الحج: 23]،

(1)

"المصباح المنير" 2/ 448.

ص: 566

وهذا في حقّ الكافر ظاهر أيضًا، وأما في حقّ المؤمن فمحمول على التغليظ أيضًا، والله تعالى أعلم.

وقوله: ("شَقِّقْهَا خُمُرًا بَيْنَ نِسَائِكَ")"خُمُرًا" بضمّ الخاء، والميم، ويجوز إسكانها: جمع خمار بالكسر، وهو ما يوضع على رأس المرأة، وقوله:"بين نسائك" ويأتي بلفظ: "بين الفواطم"، وهنّ: فاطمة بنت النبيّ صلى الله عليه وسلم، وفاطمة بنت أسد أم عليّ، وفاطمة بنت حمزة رضي الله عنهم، وفيه دليل على جواز لبس النساء الحرير، وهو مجمع عليه اليوم، وإن كان فيه خلاف بين السلف، كما أسلفنا تحقيقه في المسائل المذكورة في شرح حديث البراء رضي الله عنه أول الباب، ولله الحمد والمنّة.

وقوله: (وَقَدْ قُلْتَ بِالأَمْسِ

إلخ) هذا ظاهر أن القصّة وقعت خلال يومين متتالين، ويَحْتَمِل أن يكون مجازًا عما مضى من الوقت القريب، ويدلّ عليه ظاهر قوله في الرواية التالية بلفظ:"فَلَبِثَ عُمَرُ مَا شَاءَ اللهُ"، والله تعالى أعلم.

وقوله: (لِتُصِيبَ بِهَا)؛ أي: لتنال بسبب بيعها مالًا تتنفع به.

والحديث بهذا السياق من أفراد المصنف رحمه الله، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5393]

(

) - (وَحَدَّثَنِي أبُو الطَّاهِر، وَحَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى - وَاللَّفْظُ لِحَرْمَلَةَ - قَالَا: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، حَدَّثنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ الله، أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ قَالَ: وَجَدَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ حُلَّةً مِنْ إِسْتَبْرَقٍ، تُبَاعُ بِالسُّوق، فَأَخَذَهَا، فَأَتَى بِهَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ ابْتَعْ هَذِه، فَتَجَمَّلْ بِهَا لِلْعِيد، وَللْوَفْد، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّمَا هَذِهِ لِبَاسُ مَنْ لَا خَلَاقَ لَهُ"، قَالَ: فَلَبِثَ عُمَرُ مَا شَاءَ اللهُ، ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِجُبَّةِ دِيبَاجٍ، فَأَقْبَلَ بِهَا عُمَرُ، حَتَّى أَتَى بِهَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ قُلْتَ: "إِنَّمَا هَذِهِ لِبَاسُ مَنْ لَا خَلَاقَ لَهُ"، أَو: "إِنَّمَا يَلْبَسُ هَذِهِ مَنْ لَا خَلَاقَ لَهُ"، ثُمَّ أَرْسَلْتَ إِلَيَّ بِهَذِهِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "تَبِيعُهَا، وَتُصِيبُ بِهَا حَاجَتَكَ").

ص: 567

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(أَبُو الطَّاهِرِ) أحمد بن عمرو بن السرح المصريّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى) التُّجيبيّ المصريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

3 -

(ابْنُ وَهْب) عبد الله الحافظ المصريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

4 -

(يُونُسُ) بن يزيد الأيليّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

5 -

(ابْنُ شِهَابٍ) محمد بن مسلم الإمام الشهير، تقدّم أيضًا قريبًا.

6 -

(سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) بن عمر بن الخطاب العدويّ، أبو عمر المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيه فاضلٌ، من كبار [3](ت 106) على الصحيح (ع) تقدم في "الإيمان" 14/ 162.

7 -

(عبد الله بن عمر) بن الخطاب رضي الله عنه، تقدم في السند الماضي.

وقوله: (ابْتَعْ هَذِهِ) من الابتياع؛ أي: اشتر هذه الحلّة، قال الكرمانيّ:"هذه" إشارة إلى نوع الجبّة، قال الحافظ: كذا قال، والذي يظهر إشارة إلى عينها، ويلتحق بها جنسها. انتهى

(1)

.

وقوله: (فَتَجَمَّلْ بِهَا لِلْعِيد، وَللْوَفْدِ) كذا في رواية سالم بلفظ: "للعيد"، وتقدّم في رواية نافع بلفظ:"للجمعة" بدل العيد، وكلاهما صحيح، وكأن ابن عمر رضي الله عنهما ذكرهما معًا، فاقتصر كل راو على أحدهما، قاله في "الفتح"

(2)

.

وقوله: (بِجُبَّةِ دِيبَاجٍ)"الجُبّة" بضمّ الجيم، وتشديد الموحّدة: ثوب سابغٌ، واسع الكمّين، مشقوق المقدَّم، يُلبس فوق الثياب

(3)

.

و"الديباج" بالكسر: هي الثياب المتَّخذة من الإبريسم، فارسيّ، مُعَرّبٌ، وقد تفتح داله

(4)

، كما تقدّم البحث فيه مستوفى، ولله الحمد.

وقوله: (وَتُصِيبُ بِهَا حَاجَتَكَ)؛ أي: تقضي بثمنها ما تحتاج إليه.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام شرحه، وبيان مسائله قبل حديثين، ولله الحمد والمنّة.

(1)

"الفتح" 3/ 258، كتاب "العيدين" رقم (948).

(2)

"الفتح" 3/ 258، كتاب "العيدين" رقم (948).

(3)

راجع: "المعجم الوسيط" 1/ 104.

(4)

"عمدة القاري" 14/ 300.

ص: 568

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5394]

(

) - (وَحَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ مَعْرُوفٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ مِثْلَهُ).

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(هَارُونُ بْنُ مَعْرُوفٍ) الخزّاز الضرير، أبو عليّ المروزيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ [10](ت 231) وله (74) سنة (خ م د) تقدم في "الإيمان" 63/ 350.

2 -

(عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ) بن يعقوب الأنصاريّ مولاهم، أبو أيوب المصريّ، ثقةٌ حافظٌ فقيهٌ [7] مات قبل (150)(ع) تقدم في "الإيمان" 16/ 169.

والباقيان ذُكرا قبله.

[تنبيه]: رواية عمرو بن الحارث، عن ابن شهاب هذه ساقها النسائيّ في "سننه" مقرونًا بيونس بن يزيد، فقال:

(1760)

- أخبرنا أحمد بن عمرو بن السرح، وسليمان بن داود، عن ابن وهب، قال: أخبرني يونس بن يزيد، وعمرو بن الحارث، عن ابن شهاب، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه، قال: وَجَد عمر بن الخطاب حُلّة من إستبرق تباع بالسوق، فأخذها، فأتى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله ابتع هذه، فتجمّل بها للعيد، وللوفد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إنما هذه لباس من لا خلاق له - أو إنما يلبس هذه من لا خلاق له"، فَلِبث عمر ما شاء الله، ثم أرسل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بجبة ديباج، فأقبل بها حتى أتى بها على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله قلت: "إنما هذه لباس من لا خلاق له"، ثم أرسلت إليّ بهذه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"بعها، وتصيب بها حاجتك"، واللفظ لسليمان. انتهى

(1)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5395]

(

) - (حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ شُعْبَةَ، أَخْبَرَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ حَفْصٍ، عَنْ سَالِمٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ عُمَرَ رَأَى عَلَى رَجُلٍ مِنْ آلِ عُطَارِدٍ قَبَاءً مِنْ دِيبَاجٍ، أَو حَرِيرٍ، فَقَالَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: لَوِ اشْتَرَيْتَهُ،

(1)

"السنن الكبرى" للنسائيّ 1/ 543، و"المجتبى" 3/ 181.

ص: 569

فَقَالَ: "إِنَّمَا يَلْبَسُ هَذَا مَنْ لَا خَلَاقَ لَهُ"، فَأُهْدِيَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم حُلَّةٌ سِيَرَاءُ، فَأَرْسَلَ بِهَا إِلَيَّ، قَالَ: قُلْتُ: أَرْسَلْتَ بِهَا إِلَيَّ، وَقَدْ سَمِعْتُكَ قُلْتَ فِيهَا مَا قُلْتَ، قَالَ:"إِنَّمَا بَعَثْتُ بِهَا إِلَيْكَ لِتَسْتَمْتِعَ بِهَا").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) أبو خيثمة، تقدّم قبل باب.

2 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ حَفْصٍ) هو: عبد الله بن حفص بن عمر بن سعد بن أبي وقّاص الزهريّ المدنيّ، مشهورٌ بكنيته، ثقةٌ [5](ع) تقدم في "الحيض" 9/ 734.

والباقون ذُكروا في الباب.

وقوله: (رَأَى عَلَى رَجُلٌ مِنْ آلِ عُطَارِدٍ) المراد عطارد نفسه، كما قيل في قوله عز وجل:{اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا} [سبأ: 13] إنه داود نفسه، قاله صاحب "التنبيه"

(1)

.

وقوله: (قَبَاءً مِنْ دِيبَاجٍ)؛ أي: من خليط الحرير، (أَو حَرِيرٍ)، "أو" فيه للشكّ من الراوي.

و"القباء" بالفتح، والمدّ، قال الفيّوميّ رحمه الله: والقباء ممدود عربيّ، والجمع أقبية، وكأنه مشتقّ من: قبوتُ الحرفَ أقبوه قَبْوًا: إذا ضممته. انتهى

(2)

.

وقال المجد رحمه الله: "القَبْوُةُ": انضمام ما بين الشفتين، ومنه القَبَاءُ من الثياب، جمعه أقبية. انتهى

(3)

.

والحديث بهذا السياق من أفراد المصنّف رحمه الله، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5396]

(

) - (وَحَدَّثَني ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثنَا رَوْحٌ، حَدَّثنَا شُعْبَةُ، حَدَّثنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ حَفْصٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ أَبِيه، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَأَى عَلَى رَجُلٍ مِنْ آلِ عُطَارِدٍ. بِمِثْلِ حَدِيثِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: "إِنَّمَا بَعَثْتُ بِهَا إِلَيْكَ لِتَنْتَفِعَ بِهَا، وَلَمْ أَبْعَثْ بِهَا إِلَيْكَ لِتَلْبَسَهَا").

(1)

"تنبيه المعلم" ص 359.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 489.

(3)

"القاموس المحيط" ص 1027.

ص: 570

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(رَوْحُ) بن عبادة القيسيّ البصريّ، تقدّم قريبًا.

والباقون ذُكروا في الباب، و"ابن نُمير"، هو: محمد بن عبد الله بن نُمير.

وقوله: (غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ

إلخ) الضمير لروح بن عُبادة.

وقوله: (إِنَّمَا بَعَثْتُ بِهَا إِلَيْكَ لِتَنْتَفِعَ بِهَا)؛ أي: تبيعها، فتنتفع بثمنها، كما صُرّح به في الرواية التي قبلها، وفي حديث ابن المثنّى بعدها

(1)

.

[تنبيه]: رواية روح بن عُبادة، عن شعبة هذه لم أجد من ساقها بتمامها، فليُنظر، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5397]

(

) - (حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَد، قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي يُحَدِّثُ، قَالَ: حَدَّثَني يَحْيَى بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، قَالَ: قَالَ لِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللهِ فِي الإِسْتَبْرَق، قَالَ: قُلْتُ: مَا غَلُظَ مِنَ الدِّيبَاج، وَخَشُنَ مِنْهُ، فَقَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ يَقُولُ: رَأَى عُمَرُ عَلَى رَجُلٍ حُلَّةً مِنْ إِسْتَبْرَقٍ، فَأَتَى بِهَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِهِمْ، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: فَقَالَ: "إِنَّمَا بَعَثْتُ بِهَا إِلَيْكَ لِتُصِيبَ بِهَا مَالًا").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عَبْدُ الصَّمَدِ) بن عبد الوارث الْعَنْبَريّ مولاهم التّنُّوريّ، أبو سهل البصريّ، ثقةٌ ثبت في شعبة [9](ت 200)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 82.

2 -

(أَبُوهُ) عبد الوارث بن سعيد بن ذكوان العَنْبريّ مولاهم، أبو عبيدة البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 180)(ع) تقدم في "الإيمان" 18/ 176.

3 -

(يَحْيَى بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ) الحَضْرميّ مولاهم، البصريّ النحويّ، صدوقٌ ربّما أخطأ [5](136)(ع) تقدم في "صلاة المسافرين وقصرها" 2/ 1586.

والباقون ذُكروا في الباب.

(1)

"شرح النوويّ" 14/ 40.

ص: 571

وقوله: (حَدَّثَني يَحْيَى بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، قَالَ: قَالَ لِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللهِ فِي الإِسْتبْرَقِ، قَالَ: قُلْتُ: مَا غَلُظَ مِنَ الدِّيبَاج، وَخَشُنَ مِنْهُ، فَقَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ يَقُولُ، وذكر الحديث) قال النوويّ: هكذا هو في جميع نُسخ مسلم، وفي كتابَي البخاريّ، والنسائيّ:"قال لي سالم: ما الإستبرق؟ قلت: ما غَلُظ من الديباج"، وهذا معنى رواية مسلم، لكنها مختصرة، ومعناها: قال لي سالم في الإستبرق: ما هو؟ فقلت: هو ما غَلُظ، فرواية مسلم صحيحة، لا قَدْحَ فيها، وقد أشار القاضي إلى تغليطها، وأن الصواب رواية البخاريّ، وليست بغلط، بل صحيحة، كما أوضحناه. انتهى كلام النوويّ رحمه الله، وهو تعقّبٌ جيّد، والله تعالى أعلم.

وقوله: (مَا غَلُظَ مِنَ الدِّيبَاج، وَخَشُنَ مِنْهُ)"غَلُظ"، و"خَشُن" من باب كَرُم، وقال في "الفتح": قوله: "خَشُن" بفتح الخاء، وضمّ الشين المعجمتين، للأكثر، ولبعضهم بالمهملتين. انتهى

(1)

.

وقال في "القاموس": "الْغلْظة" مثلّثة الغين، والغِلاظة، بالكسر؛ ككتابة، والْغِلَظ؛ كعِنَبٍ: ضدّ الرّقّة، والفعل؛ ككرُم، وضَرَبَ، فهو غليظٌ، وغُلاظٌ؛ كغُراب. انتهى

(2)

.

وقال أيضًا: خَشُنَ؛ ككرُم، خَشْنًا، ومَخْشنةً، وخُشونةً، وخُشْنةً بضمّهما، وتخشّن: ضدّ لان. انتهى

(3)

.

وقوله: (رَأَى عُمَرُ عَلَى رَجُلٍ حُلَّةً) تقدّم أنه عطارد بن حاجب التميميّ.

وقوله: (فَذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِهِمْ) فاعل "ذَكَر" ضمير يحيى بن أبي إسحاق، وضمير "حديثهم" للرواة الذين رووا عن سالم فيما مضى، وهما: ابن شهاب، وأبو بكر بن حفص، وفيه إطلاق ضمير الجماعة على الاثنين، وهو فصيح، كما أسلفناه غير مرّة.

وأما إصلاح الشيخ الهرريّ بقوله: "نحو حديثهما"، ودعواه التحريف من النسّاخ فغير صحيح؛ لأنه لا توجد نسخة من نُسخ الكتاب على ما ادّعاه،

(1)

"الفتح" 13/ 657، كتاب "الأدب" رقم (6081).

(2)

"القاموس المحيط" ص 957.

(3)

"القاموس المحيط" ص 372.

ص: 572

وأيضًا فإن مسلمًا يستعمل هذا الاستعمال كثيرًا، كما أسلفته غير مرّة، وإطلاق العرب ضمير الجماعة على الاثنين فصيح صحيح، وقد حقّقت ذلك في "التحفة المرضيّة"، و"شرحها"، فارجع إليهما، تزدد علمًا، والله تعالى وليّ التوفيق.

[تنبيه]: رواية يحيى بن أبي إسحاق، عن سالم هذه ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:

(5731)

- حدّثنا عبد الله بن محمد، حدّثنا عبد الصمد، قال: حدّثني أبي، قال: حدّثني يحيى بن أبي إسحاق قال: قال لي سالم بن عبد الله: ما الإستبرق؟ قلت: ما غَلُظ من الديباج، وخَشُن منه، قال: سمعت عبد الله يقول: رأى عمر على رجل حُلّةً من استبرق، فأَتَى بها النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم اشترِ هذه، فَالْبَسها لوفد الناس، إذا قَدِموا عليك، فقال:"إنما يلبس الحرير من لا خلاق له"، فمضى في ذلك ما مضى، ثم إن النبيّ صلى الله عليه وسلم بَعَث إليه بحلة، فأَتَى بها النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: بعثتَ إليّ بهذه، وقد قلت في مثلها ما قلت، قال:"إنما بعثت إليك لتصيب بها مالًا"، فكان ابن عمر يَكْرَه العَلَم في الثوب لهذا الحديث. انتهى

(1)

.

[تنبيه آخر]: زاد في رواية البخاريّ رحمه الله في آخر هذا الحديث ما نصّه: "وكان ابن عمر يَكْرَه العَلَم في الثوب لهذا الحديث"، قال الخطابيّ: مذهب ابن عمر في هذا مذهب الوَرَع، وكان ابن عباس يقول في روايته:"إلا عَلَمًا في ثوب"، وذلك لأن مقدار العَلَم لا يقع عليه اسم اللبس، قال: ولو أن رجلًا حَلَف لا يلبس غَزْل فلانة، فأخذ ثوبًا، فنَسَج فيه مِنْ غَزْلها، ومِن غَزْل غيرها، وكان الذي مِنْ غَزْلها لو انفرد لم يبلغ إذا نُسِج أنه يحصل منه شيء مما يقع على مثله اسم اللبس لم يحنث. انتهى

(2)

.

وسيأتي في هذا الباب بعد ثلاثة أحاديث من رواية أبي عثمان النَّهْديّ عن عمر رضي الله عنه في النهي عن لبس الحرير إلا موضع إصبعين، أو ثلاث، أو أربع، وسيأتي البحث فيه مستوفى هناك - إن شاء الله تعالى -.

(1)

"صحيح البخاريّ" 5/ 2258.

(2)

"الأعلام" للخطّابيّ 3/ 219.

ص: 573

[تنبيه آخر]: اعترض بعض من شرح الكتاب

(1)

على هذا الحديث، فقال: وحديث ابن عمر هذا في رواية سالم عنه معارضة بين رواياته: بعضها قيّدت بإستبرق، وبعضها قيّدت بديباج، وهما ضدّان، فتساقطتا، وبقيت الرواية المطلقة، وهي رواية نافع، فرجحت. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الاعتراض عجيب من هذا القائل، والحديث متّفقٌ عليه، وقد أخرجه الشيخان في "صحيحيهما" بهذا اللفظ، فلا أدري من أين أتاه هذا الاعتراض؟، ولم يتكلّم أحد من شرّاح الكتابين بما قاله، لا الحافظ في "الفتح"، ولا غيره، وأيضًا فأين التعارض الذي ادّعاه؟ فإن معنى الإستبرق، والديباج واحدٌ، فقد فسّر المفسّرون قوله تعالى:{مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ} [الكهف: 31] بأن السندس ما رق من الديباج، والإستبرق: ما غلُظ منه أي من الديباج، فالديباج أعمّ، والإستبرق داخل في معناه؛ لأنه نوع منه، فلا تعارض بينهما، فتأمله بالإمعان، والله تعالى المستعان.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5398]

(2069) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِك، عَنْ عَبْدِ اللهِ مَوْلَى أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ، وَكَانَ خَالَ وَلَدِ عَطَاءٍ، قَالَ: أَرْسَلَتْنِي أَسْمَاءُ إِلَى عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، فَقَالَتْ: بَلَغَنِي أَنَّكَ تُحَرِّمُ أَشْيَاءَ ثَلَاَثَةً

(2)

: الْعَلَمَ فِي الثَّوْبِ، وَمِيثَرَةَ الأُرْجُوَان، وَصَوْمَ رَجَبٍ كُلِّه، فَقَالَ لِي عَبْدُ اللهِ: أَمَّا مَا ذَكَرْتَ مِنْ رَجَبٍ، فَكَيْفَ بِمَنْ يَصُومُ الأَبَدَ؟ وَأَمَّا مَا ذَكَرْتَ مِنَ الْعَلَمِ فِي الثَّوْب، فَإِنِّي سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِنَّمَا يَلْبَسُ الْحَرِيرَ مَنْ لَا خَلَاقَ لَهُ"، فَخِفْتُ أَنْ يَكُونَ الْعَلَمُ مِنْهُ، وَأَمَّا مِيثَرَةُ الأُرْجُوَان، فَهَذِهِ مِيثَرَةُ عَبْدِ الله، فَإِذَا هِيَ أُرْجُوَانٌ، فَرَجَعْتُ إِلَى أَسْمَاءَ، فَخَبَّرْتُهَا

(3)

، فَقَالَتْ: هَذِهِ جُبَّةُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَأخْرَجَتْ إِلَيَّ جُبَّةَ طَيَالَسَةٍ، كِسْرَوَانِيَّةً، لَهَا لِبْنَةُ دِيبَاجٍ، وَفَرْجَيْهَا مَكْفُوفَيْنِ بِالدِّيبَاج، فَقَالَتْ: هَذِهِ كَانَتْ عِنْدَ

(1)

هو: الشيخ الهرريّ، راجع:"شرحه" 21/ 329.

(2)

وفي نسخة: "ثلاثًا".

(3)

وفي نسخة: "فأخبرتها".

ص: 574

عَائِشَةَ حَتى قُبِضَتْ، فَلَمَا قُبِضَتْ قَبَضْتُهَا، وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَلْبَسُهَا، فَنَحْنُ نَغْسِلُهَا لِلْمَرْضَى، يُسْتَشْفَى بِهَا).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) بن عبد الرحمن بن يزيد الطحّان المزنيّ مولاهم، أبو الهيثم الواسطيّ، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 182)(ع) تقدم في "الإيمان" 78/ 407.

2 -

(عَبْدُ الْمَلِكِ) بن أبي سليمان ميسرة العَرْزَميّ الكوفيّ، صدوقٌ [5](ت 145)(خت م 4) تقدم في "الإيمان" 83/ 442.

3 -

(عَبْدُ اللهِ مَوْلَى أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ) هو: عبد الله بن كيسان التيميّ مولاهم، أبو عمر المدنيّ، ثقةٌ [3](ع) تقدم في "الحج" 26/ 3005.

والباقيان ذُكرا في الباب،

شرح الحديث:

(عَنْ عَبْدِ اللهِ مَوْلَى أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ) الصدّيق رضي الله عنها (وَكَانَ خَالَ وَلَدِ عَطَاءٍ) هو ابن أبي رباح، قال في "التهذيب" في ترجمته: روى عنه صهره عطاء بن أبي رَباح

(1)

. (قَالَ) عبد الله (أَرْسَلَتْنِي أَسْمَاءُ) بنت أبي بكر رضي الله عنهما (إِلَى عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ) بن الخطّاب رضي الله عنهما، (فَقَالَتْ: بَلَغَنِي أَنَّكَ تُحَرِّمُ) بتشديد الراء، من التحريم، (أَشْيَاءَ ثَلَاَثَةً) بدل من "أشياء"، وفي بعض النسخ:"أشياء ثلاثًا"، وهو أيضًا جائز؛ لأن قاعدة تأنيث العدد مع المذكّر، وتذكيره مع المؤنّث إنما يجب إذا وقع المعدود بعده تمييزًا، كثلاثة رجال، وثلاث نسوة، وأما إذا تقدّم، كما هنا، أو حُذف؛ كحديث:"وأتبعه ستًّا من شوّال" فيجوز فيه الأمران، وقد تقدّم بيان هذا في غير هذا المحلّ، وبالله تعالى التوفيق، وقوله:(العَلَمَ فِي الثَّوْبِ) وما عُطف عليه بدل من "أشياءَ"، أو من "ثلاثةً"، أو خبر لمحذوف؛ أي: هي، أو مفعول لفعل محذوف؛ أي: أعني.

و"الْعَلَم" محرّكةً: رَسْم الثوب، ورقمه، قاله المجد، وقال الفيّوميّ: أعلمت الثوبَ: جعلتُ له علَمًا من طراز وغيره، وهي العلامة، جمعه أعلامٌ،

(1)

راجع: "تهذيب التهذيب" 2/ 410.

ص: 575

مثل سَبَب وأسباب. انتهى

(1)

.

(وَمِيثَرَةَ الأُرْجُوَانِ) قال النوويّ رحمه الله: تقدّم تفسير "المِيثَرَة"، وضبطها، وأما "الأُرْجُوان" فهو بضم الهمزة والجيم، هذا هو الصواب المعروف في روايات الحديث، وفي كتب الغريب، وفي كتب اللغة وغيرها، وكذا صَرّح به القاضي في "المشارق"، وفي شرح القاضي عياض في موضعين منه أنه بفتح الهمزة، وضمّ الجيم، وهذا غلط ظاهر من النساخ، لا من القاضي، فإنه صرّح في "المشارق " بضمّ الهمزة، قال أهل اللغة وغيرهم: هو صبغ أحمر شديد الحمرة، هكذا قاله أبو عبيد، والجمهور، وقال الفراء: هو الحمرة، وقال ابن فارس: هو كل لون أحمر، وقيل: هو الصوف الأحمر، وقال الجوهريّ: هو شجر له نَوْرٌ أحمر أحسن ما يكون، قال: وهو معرَّب، وقال آخرون: هو عربيّ، قالوا: والذكر والأنثى فيه سواء، يقال: هذا ثوب أرجوان، وهذه قطيفة أرجوان، وقد يقولونه على الصفة، ولكن الأكثر في استعماله إضافة الأرجوان إلى ما بعده، ثم إن أهل اللغة ذكروه في باب الراء والجيم والواو، وهذا هو الصواب، ولا يُغْتَرّ بذكر القاضي له في "المشارق" في باب الهمزة والراء والجيم، ولا بذكر ابن الأثير له في الراء والجيم والنون، والله أعلم. انتهى كلام النوويّ رحمه الله

(2)

.

(وَصَوْمَ) شهر (رَجَبٍ كُلِّهِ) قال عبد الله بن كيسان: (فَقَالَ لِي عَبْدُ اللهِ) بن عمر رضي الله عنهما جوابًا عما استفتته أم سلمة رضي الله عنها من الأشياء الثلاثة: (أَمَّا مَا ذَكَرْتَ) بفتح التاء للمخاطب، (مِنْ رَجَبٍ)؛ أي: من تحريمي صوم شهر رجب (فَكَيْفَ بِمَنْ يَصُومُ الأَبَدَ؟) قال النوويّ رحمه الله: هذا من ابن عمر رضي الله عنهما إنكار لِمَا بلغها عنه من تحريمه، وإخبار بأنه يصوم رجبًا كله، وأنه يصوم الأبد، والمراد بالأبد ما سوى أيام العيدين، والتشريق، وهذا مذهبه، ومذهب أبيه عمر بن الخطاب، وعائشة، وأبي طلحة، وغيرهم من سلف الأمة، ومذهب الشافعيّ وغيره من العلماء أنه لا يكره صوم الدهر، وقد سبقت المسألة في "كتاب الصيام" مع شرح الأحاديث الواردة من الطرفين. انتهى.

(1)

"المصباح المنير" 2/ 427.

(2)

"شرح النوويّ" 14/ 42.

ص: 576

وقال القرطبيّ رحمه الله: معنى قول ابن عمر هذا: أنه إذا كان صوم الأبد جائزًا، فكيف لا يكون صوم رجب كلّه جائزًا؟ وهذا تكذيب لمن نقل عنه، وإبطال لقول من يقول بذلك، - وقد تقدّم في "كتاب الصيام" الاختلاف في صوم الأبد. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قد أسلفت في "كتاب الصيام"[37/ 2729](1159) ترجيح القول بتحريم صيام الدهر؛ لقوّة حججه، فراجعه تستفد علمًا جمًّا، وبالله تعالى التوفيق.

(وَأمَّا مَا ذَكَرْتَ) بفتح التاء للمخاطب أيضًا، (مِنَ الْعَلَمِ فِي الثَّوْبِ)؛ أي: من تحريمي العَلَم في الثوب، (فَإِنِّي سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطابِ) رضي الله عنه (يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِنَّمَا يَلْبَسُ الْحَرِيرَ مَنْ لَا خَلَاقَ لَهُ")؛ أي: لا نصيب، ولا حظّ له، (فَخِفْتُ) بكسر الخاء، من باب فَهِمَ، (أَنْ يَكُونَ الْعَلَمُ مِنْهُ)؛ أي: من جملة ما نُهي عنه في هذا الحديث، قال النوويّ: وأما ما ذَكَرَتْ عنه من كراهة العَلَم، فلم يعترف بأنه كان يُحَرِّمه، بل أخبر أنه تَوَرَّع عنه خوفًا من دخوله في عموم النهي عن الحرير. انتهى

(2)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: مَنْعُ عبد الله العَلَم الحرير في الثوب؛ إنما كان لأنَّه تمسّك بعموم النهي عن لبس الحرير، وكأنَّه لم يبلغه حديث عمر رضي الله عنه الذي رواه عنه سُويد بن غَفَلة الآتي في آخر الباب، والصواب إعمال ذلك المخَصِّص في النهي العام، ولأجل هذا المخَصِّص قال ابن حبيب: إنه يرخَّص في لبس العَلَم، والصلاة فيه، وإن عَظُم.

قال القرطبيّ: ويعني بقوله: وإن عَظُم، إذا بلغ أربع أصابع؛ الذي هو غاية الرخصة المذكورة في الحديث، ورُوي عن مالك اختلاف في قدر الأصبع من الحرير يكون في الثوب، فنهى عنه مرة، وأجازه أخرى. انتهى

(3)

.

(وَأَمَّا مِيثَرَةُ الأُرْجُوَان، فَهَذِهِ مِيثَرَةُ عَبْدِ اللهِ) هذا فيه التفات؛ لأن ظاهره أن يقول: فهذه مِيثرتي، والله تعالى أعلم.

(1)

"المفهم" 5/ 392.

(2)

"شرح النوويّ" 14/ 42.

(3)

"المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" 5/ 392.

ص: 577

(فَإِذَا هيَ أُرْجُوَانٌ) قال القرطبيّ: يعني أنه كان يستعمل مِيثرة الأُرجوان، فكيف يُحَرِّمها؟! وهذا يبطل قول من فسَّر الميثرة المنهيّ عنها بأنها من أرجوان. انتهى

(1)

.

وقال النوويّ: وأما الميثرة فأنكر ما بلغها عنه فيها، وقال: هذه مِيثرتي، وهي أرجوان، والمراد أنها حمراء، وليست من حرير، بل من صوف، أو غيره، وقد سبق أنها قد تكون من حرير، وقد تكون من صوف، وأن الأحاديث الواردة في النهي عنها مخصوصة بالتي هي من الحرير. انتهى

(2)

.

(فَرَجَعْتُ إِلَى أَسْمَاءَ، فَخَبَّرْتُهَا

(3)

، فَقَالَتْ: هَذِهِ جُبَّةُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) قال النوويّ رحمه الله: قَصَدَتْ أسماء رضي الله عنها بإخراجها جبة النبيّ صلى الله عليه وسلم المكفوفة بالحرير بيان أن هذا ليس محرمًا، وهكذا الحكم عند الشافعيّ وغيره أن الثوب، والجبة، والعمامة، ونحوها إذا كان مكفوف الطرف بالحرير جاز، ما لم يزد على أربع أصابع، فإن زاد فهو حرام؛ لحديث عمر رضي الله عنه المذكور بعد هذا. انتهى

(4)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: وقول أسماء: "هذه جبة رسول الله صلى الله عليه وسلم " تَحتجُّ بذلك على جواز العَلَم من الحرير، فإنَّ الجبَّة كان فيها لِبْنَةٌ من حرير، وكانت مكفوفة بالحرير، ووجه الاحتجاج بذلك أنه إذا كان القليل من الحرير الْمُصمت المخيط في الثوب جائزًا، كان العَلَم بالجواز أولى، ولا يلتفت إلى قول من قال: إن ذلك الحرير وُضع في الجُبَّة بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنَّه لو كان كذلك لَمَا احتجّت به أسماء رضي الله عنها، ولكان الواضع معروفًا عندهم، فإنَّ الاعتناء بتلك الجبَّة كان شديدًا، وتحفّظهم بها كان عظيمًا؛ لأنَّها من آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم المتداولة عندهم للتذكر، والتبرك، والاستشفاء، فيَبعد ذلك الاحتمال، بل يبطل، بدليل قولها:"هذه كانت عند عائشة رضي الله عنها "، إلى آخر الكلام، فتأمَّله، فإنَّه يدلّ على ذلك دلالة واضحة. انتهى

(5)

.

(1)

"المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" 5/ 392 - 393.

(2)

"شرح النوويّ" 14/ 42.

(3)

وفي نسخة: "فأخبرتها".

(4)

"شرح النوويّ" 14/ 42.

(5)

"المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" 5/ 393.

ص: 578

(فَأَخْرَجَتْ إِلَيَّ جُبَّةَ طَيَالَسَةٍ) بإضافة "جُبّة" إلى "طيالسة"، والطيالسة: جمع طَيلسان، بفتح اللام على المشهور، قال جماهير أهل اللغة: لا يجوز فيه غير فتح اللام، وعَدُّوا كسرها في تصحيف العوامّ، وذكر القاضي في "المشارق" في حرف السين والياء، في تفسير الساج أن الطيلسان يقال: بفتح اللام، وضمّها، وكسرها، وهذا غريبٌ ضعيفٌ، قاله النوويّ رحمه الله

(1)

.

وقال الطيبيّ رحمه الله: وفي "المغرب": الطيلسان: تعريب اللسان، وجَمْعه طيالسة، وهو من لباس العجم، مدوّرٌ أسود، وفي "جمع التفاريق": الطيالسة لُحمتها وسَدَاها صوفٌ، والطيلس لغة فيه. انتهى، فعلى هذا الإضافة للبيان؛ أي: جبّة صوف، ويُعلم منه أنها كانت سوداء، قال: ويَحْتَمل أن يكون منسوبًا إلى الأعاجم، قال صاحب "الأساس"، و"المغرب": تقول العرب: يا ابن الطيلسان، يريدون: يا أعجميّ، وينصره قوله:"كسروانيّة"، وهو منسوب إلى كسرى ملك الفرس، وبهذا تندفع جميع الإشكالات. انتهى

(2)

.

(كِسْرَوَانِيَّةً) - بكسر الكاف، وفتحها، والسين ساكنة، والراء مفتوحة - ونقل القاضي أن جمهور الرواة رووه بكسر الكاف، وهو نسبة إلى كِسْرَى، صاحب العراق، مَلِك الفُرْس، وفيه كسر الكاف، وفتحها، قال القاضي: ورواه الهرويّ في مسلم، فقال:"خسروانية".

وفي هذا الحديث دليل على استحباب التبرك بآثار النبيّ صلى الله عليه وسلم، من ثيابه، ونحوها، وفيه أن النهي عن الحرير المراد به الثوب المتمحِّض من الحرير، أو ما أكثره حرير، وأنه ليس المراد تحريم كل جزء منه، بخلاف الخمر، والذهب، فانه يحرم كلّ جزء منهما

(3)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: وقولها: "طيالسة"؛ أي: غليظة، كأنَّها من طيلسان، وهو الكساء الغليظ.

وقولها: "خسروانية" بالخاء المنقوطة، من فوقها، وهي رواية ابن ماهان،

(1)

"شرح النوويّ" 14/ 42.

(2)

"الكاشف عن حقائق السنن" 9/ 2895.

(3)

"شرح النوويّ" 14/ 42.

ص: 579

وبالكاف، رواية غيره، وهي في الحالتين منسوبة إلى اسم أعجميّ، كما قالوا: كسروانية، فنسبوها إلى كسرى، والله تعالى أعلم

(1)

.

(لَهَا لِبْنَةُ دِيبَاجٍ) - بكسر اللام، وإسكان الباء - هكذا ضبطها القاضي، وسائر الشُّرّاح، وكذا هي في كتب اللغة، والغريب، قالوا: وهي رُقعة في جيب القميص، هذه عبارتهم كلِّهم، والله أعلم

(2)

.

وقوله: (وَفَرْجَيْهَا) بفتح الفاء، وسكون الراء: تثنية فَرْج، وهو الْفَتْق، جمعه فُرُوجٌ، مثل فَلْس وفُلُوس، قاله الفيّوميّ رحمه الله

(3)

.

وقال الشوكانيّ رحمه الله: الفَرْجُ في الثوب: الشقّ الذي يكون أمام الثوب، وخلفه، في أسفلها، وهما المراد بقوله:"فرجيها". انتهى

(4)

.

وقوله: (وَفَرْجَيْهَا مَكْفُوفَيْنِ بِالدِّيبَاجِ) منصوبين على إضمار فعل؛ أي: ورأيت فرجيها مكفوفين، وعند الخشني، وغيره:"وفرجاها مكفوفان" مرفوعًا على الابتداء والخبر، والواو حالية، قاله القرطبيّ رحمه الله

(5)

.

وقال النوويّ رحمه الله: وأما قولها: "وفرجيها مكفوفين" فكذا وقع في جميع النُّسخ: "وفرجيها مكفوفين"، وهما منصوبان بفعل محذوف؛ أي: ورأيت فرجيها مكفوفين، ومعنى المكفوف: أنه جُعِل لها كُفة بضم الكاف، وهو ما يُكَفّ به جوانبها، ويعطف عليها، ويكون ذلك في الذيل، وفي الفَرْجين، وفي الكُفين. انتهى

(6)

.

(فَقَالَتْ) أسماء رضي الله عنها: (هَذِهِ) الجبّة (كَانَتْ عِنْدَ عَائِشَةَ) أم المؤمنين رضي الله عنها (حَتى قُبِضَتْ) بالبناء للمفعول؛ أي: إلى أن ماتت، (فَلَمَّا قُبِضَتْ قَبَضْتُهَا)؛ أي: أخذتها، (وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَلْبَسُهَا) فيه جواز لباس الجبة، ولباس ما له فرجان، وأنه لا كراهة فيه. (فَنَحْنُ نَغْسِلُهَا لِلْمَرْضَى) جَمْع مريض، (يُسْتَشْفَى

(1)

"المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" 5/ 393.

(2)

"شرح النوويّ" 14/ 42.

(3)

"المصباح المنير" 2/ 466.

(4)

"نيل الأوطار" 2/ 79.

(5)

"المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" 5/ 393.

(6)

"شرح النوويّ" 14/ 42.

ص: 580

بِهَا) بالبناء للمفعول؛ أي: يُطلب له الشفاء من مرضه بسببها؛ لأنها مسّت جسد النبيّ صلى الله عليه وسلم الشريف، فكانت لباسه، فتعدّت إليها بركته صلى الله عليه وسلم، والله تعالى أعلم.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عمر بن الخطاب، وأسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهم هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [1/ 5398](2569)، و (أبو داود) في "اللباس"(4054)، و"الترمذيّ" في "اللباس"(2817)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(9619)، و (ابن ماجه) في "الجهاد"(2819) و"اللباس"(3594)، و (البخاريّ) في "الأدب المفرد"(348)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(5/ 155)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 26 و 6/ 347 و 348 و 353 و 354 و 355)، و (عبد بن حميد) في "مسنده"(1576)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(5/ 231)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(24/ 98)، و (ابن راهويه) في "مسنده"(5/ 134)، و (البيهقيّ) في "شعب الإيمان"(5/ 141)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان ما كان عليه السلف من الحرص على تحقيق العلم، والمناظرة بينهم فيما يختلفون فيه من المسائل، وسؤال كلّ منهم عن حجج الآخرين.

2 -

(ومنها): بيان ورَع ابن عمر رضي الله عنهما حيث أخذ بالأحوط، فترك العَلَم في الثوب خوفًا من أن يدخل في النهي عن لبس الحرير، لكن الحقّ أنه يجوز؛ لحديث عمر رضي الله عنه الآتي، ولعله لم يبلغه حديثه، والله تعالى أعلم.

3 -

(ومنها): بيان جواز لبس ميثرة الأرجوان إذا لم تكن من الحرير، فإن الأرجوان يكون من الحرير وغيره.

4 -

(ومنها): استحباب التبرّك بآثار النبيّ صلى الله عليه وسلم، مثل ثوبه، ونحو ذلك.

5 -

(ومنها): بيان ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم من حبّ النبيّ صلى الله عليه وسلم، حيث يستشفون بآثاره، ويحتفظون بها حتى لا ينعدم خيرها، ولا تنقطع بركتها، والله تعالى أعلم.

ص: 581

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5399]

(

) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ خَلِيفَةَ بْنِ كَعْبِ أَبِي ذُبْيَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ الزُّبَيْرِ يَخْطُبُ، يَقُولُ: ألَا لَا تُلْبِسُوا نِسَاءَكُمُ الْحَرِيرَ، فَإِنِّي سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا تَلْبَسُوا الْحَرِيرَ، فَإِنَّهُ مَنْ لَبِسَهُ فِي الدُّنْيَا لَمْ يَلْبَسْهُ فِي الآخِرَةِ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(عُبَيْدُ بْنُ سَعِيدِ) بن أبان بن سعيد بن العاص الأمويّ مولاهم، أبو محمد الكوفيّ، ثقةٌ [9](ت 200)(م س ق) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 19/ 1281.

2 -

(خَلِيفَةُ بْنُ كَعْبٍ أَبُو ذُبْيَانَ) التميميّ، أبو ذبيان البصريّ، ثقةٌ [4].

رَوَى عن أبي الزبير، والأحنف بن قيس، وعنه حفصة بنت سيرين، وشعبة، وجعفر بن ميمون الأنماطيّ.

قال النسائيّ: ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات".

أخرج له البخاريّ، والمصنّف، والنسائيّ، وليس له عندهم إلا هذا الحديث.

3 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ الزُّبَيْرِ) بن العوّام القرشيّ الأسديّ، أبو بكر، أو أبو خُبيب الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، قُتل في ذي الحجة سنة (73)(ع) تقدم في "الطهارة" 16/ 610.

والباقيان ذُكرا في الباب.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف، وأن صحابيّه ذو مناقب جمّة، فهو ابن صحابيّ رضي الله عنهما، وأول مولود في الإسلام بالمدينة من المهاجرين، وولي الخلافة تسع سنين.

شرح الحديث:

(عَنْ خَلِيفَةَ بْنِ كَعْبٍ أَبِي ذْبْيَانَ) - بكسر المعجمة، ويجوز ضمها، بعدها موحّدة ساكنة، ثم تحتانية - هو التميميّ البصريّ، أخرج له الشيخان، والنسائيّ

ص: 582

هذا الحديث فقط، وقد وثقه النسائيّ، ووقع في رواية أبي عليّ بن السكن، عن الفربريّ:"عن أبي ظبيان" بظاء مشالة، بدل الذال، وهو خطأ، وأشدّ خطأ منه ما وقع في رواية أبي زيد المروزيّ، عن الفربريّ، عن أبي دينار - بمهملة مكسورة، بعدها تحتانية ساكنة، ونون، ثم راء - نبّه على ذلك أبو محمد الأصيليّ، قاله في "الفتح"

(1)

.

(قَالَ) خليفة (سَمِعْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ الزُّبَيْر) رضي الله عنهما، حال كونهِ (يَخْطُبُ، يَقُولُ: أَلَا) أداة استفتاح وتنبيه، (لَا) ناهية، ولذا جُزم الفعل بعدها، (تُلْبِسُوا) بضمّ أوله، من الإلباس، وهو متعدّ إلى مفعولين، الأول قوله:(نِسَاءَكُمُ) والثاني قوله: (الْحَرِيرَ) قال النوويّ رحمه الله: هذا مذهب ابن الزبير، وأجمعوا بعده على إباحة الحرير للنساء، كما سبق، وهذا الحديث الذي احتجّ به إنما ورد في لبس الرجال؛ لوجهين:

أحدهما: أنه خطاب للذكور، ومذهبنا، ومذهب محققي الأصوليين أن النساء لا يدخلن في خطاب الرجال عند الإطلاق.

والثاني: أن الأحاديث الصحيحة التي ذكرها مسلم قبل هذا وبعده صريحة في إباحته للنساء، وأمْره صلى الله عليه وسلم عليًّا وأسامة رضي الله عنهما بأن يكسواه نساءهما، مع الحديث المشهور أنه صلى الله عليه وسلم قال في الحرير، والذهب:"إن هذين حرام على ذكور أمتي، حِلّ لإناثها"، والله أعلم. انتهى

(2)

.

(فَإِنِّي) الفاء للتعليل؛ أي إنما نهيتكم عن إلباس نسائكم الحرير؛ لأني (سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ) رضي الله عنه.

[تنبيه]: وقع في رواية للنسائي من طريق جعفر بن ميمون، عن خليفة بن كعب، دون ذِكر عمر رضي الله عنه في إسناده، قال الحافظ: وشعبة أحفظ من جعفر بن ميمون. انتهى

(3)

.

(يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (لَا) ناهية أيضًا، (تَلْبَسُوا) بفتح أوله، من

(1)

"الفتح" 13/ 308، كتاب "اللباس" رقم (5834).

(2)

"شرح النوويّ" 14/ 44.

(3)

"الفتح" 13/ 308، كتاب "اللباس" رقم (5834).

ص: 583

اللُّبس، وهو متعدّ لمفعول واحد، وهو قوله:(الْحَرِيرَ، فَإِنَّهُ) الفاء للتعليل أيضًا، (مَنْ لَبِسَهُ فِي الدُّنْيَا لَمْ يَلْبَسْهُ فِي الآخِرَةِ") قال في "الفتح": في رواية الكشميهنيّ: "لن يلبسه"، والمحفوظ من هذا الوجه:"لم"، وكذا أخرجه مسلم، والنسائيّ، وزاد النسائيّ، في رواية جعفر بن ميمون في آخره:"ومن لم يلبسه في الآخرة لم يدخل الجنة، قال الله تعالى: {وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} [الحج: 23] "، وهذه الزيادة مدرجة في الخبر، وهي موقوفة على ابن الزبير، بَيَّن ذلك النسائيّ أيضًا من طريق شعبة، فذكر مثل سند حديث الباب، وفي آخره: قال ابن الزبير، فذكر الزيادة، وكذا أخرجه الإسماعيليّ من طريق عليّ بن الجعد، عن شعبة، ولفظه:"فقال ابن الزبير من رأيه: ومن لم يلبس الحرير في الآخرة لم يدخل الجنة، وذلك لقوله تعالى: {وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} ".

وقد جاء مثل ذلك عن ابن عمر رضي الله عنهما أيضًا، أخرجه النسائيّ من طريق حفصة بنت سيرين، عن خليفة بن كعب، قال: "خطبنا ابن الزبير

" فذكر الحديث المرفوع، وزاد: "فقال: قال ابن عمر: إذًا والله لا يدخل الجنة، قال الله:{وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} ".

وأخرج أحمد، والنسائيّ، وصححه الحاكم، من طريق داود السّرّاج، عن أبي سعيد، فذكر الحديث المرفوع، مثل حديث عمر هذا في الباب، وزاد:"وإن دخل الجنة لبسه أهل الجنة، ولم يلبسه هو".

وهذا يَحْتَمِل أن يكون أيضًا مدرجًا، وعلى تقدير أن يكون الرفع محفوظًا، فهو من العامّ المخصوص بالمكلَّفين من الرجال؛ للأدلة الأخرى بجوازه للنساء. انتهى

(1)

.

وقال السنديّ رحمه الله عند قوله: "لم يدخل الجنة، قال الله تعالى: {وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} ": وهذا منه رضي الله عنه استنباط لطيفٌ، لكن دلالة الكلام على الحصر غير لازم. انتهى

(2)

، والله تعالى أعلم.

(1)

"الفتح" 13/ 308، كتاب "اللباس" رقم (5834).

(2)

"حاشية السنديّ على النسائيّ" 8/ 201.

ص: 584

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عمر بن الخطّاب رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [1/ 5399]، و (البخاريّ) في "اللباس"(5833)، و (أبو داود) في "اللباس"(4042)، و (الترمذيّ) في "الأدب"(2817)، و (النسائيّ) في "الزينة"(5307) و"الكبرى"(9622)، و (ابن ماجه) في "الجهاد"(2820) و"اللباس"(3593)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 15 و 36 و 43 و 50)، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5400]

(

) - (حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ يُونُسَ، حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، حَدَّثَنَا عَاصِمٌ الأَحْوَلُ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ، قَالَ: كتَبَ إِلَيْنَا عُمَرُ، وَنَحْنُ بِأَذْرَبِيجَانَ: يَا عُتْبَةَ بْنَ فَرْقَدٍ، إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ كَدِّكَ، وَلَا مِنْ كَدِّ أَبِيكَ، وَلَا مِنْ كَدِّ أُمِّكَ، فَأَشْبعِ الْمُسْلِمِينَ فِي رِحَالِهِمْ مِمَّا تَشْبَعُ مِنْهُ فِي رَحْلِكَ، وَإِيَّاكُمْ وَالتَّنَغُّمَ، وَزِيَّ أَهْلِ الشِّرْك، وَلَبُوسَ الْحَرِير، فَإِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ لَبُوسِ الْحَرِير، قَالَ:"إلَّا هَكَذَا"، وَرَفَعَ لَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِصْبَعَيْهِ: الْوُسْطَى، وَالسَّبَّابَةَ، وَضَمَّهُمَا، قَالَ زُهَيْرٌ: قَالَ عَاصِمٌ: هَذَا في الْكِتَابِ

(1)

، قَالَ: وَرَفَعَ زُهَيْرٌ إِصْبَعَيْهِ).

رجال الإسناد: خمسة:

1 -

(عَاصِمٌ الأَحْوَلُ) هو: ابن سليمان البصريّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(أَبُو عُثْمَانَ) النَّهْديّ، عبد الرحمن بن ملّ بن عمرو الكوفيّ، ثمّ البصريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

والباقون ذُكروا في الباب، و"زُهير" هو: ابن معاوية بن حُديج.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ مخضرم، وأن صحابيّه أحد الخلفاء الأربعة، وأحد العشرة المبشّرين

(1)

وفي نسخة: "هو في الكتاب".

ص: 585

بالجنّة رضي الله عنهم، ذو مناقب جمّة، استُشهد في ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين، ووليَ الخلافة عشرين سنةً ونصفًا رضي الله عنه.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي عُثْمَانَ) النهديّ عبد الرحمن بن مُلّ مثلّث الميم، واللام مشدّدة أنه (قَالَ: كَتَبَ إِلَيْنَا عُمَرُ) بن الخطّاب رضي الله عنه، قال النوويّ رحمه الله: معنى: "كتب إلينا": كتب إلى أمير الجيش، وهو عتبة بن غزوان ليقرأه على الجيش، فقرأه علينا. انتهى

(1)

.

وقوله: (وَنَحْنُ بِأَذْرَبِيجَانَ) جملة حاليّة من"إلينا"، وفي الرواية الآتية:"جاءنا كتاب عمر، ونحن بأذربيجان"، وفي رواية البخاريّ:"أتانا كتاب عمر"، قال في "الفتح": قوله: "أتانا كتاب عمر" كذا قال أكثر أصحاب قتادة، وشذّ عمر بن عامر، فقال: عن قتادة، عن أبي عثمان، عن عثمان، فذكر المرفوع، وأخرجه البزّار، وأشار إلى تفرّده به، فلو كان ضابطًا لقلنا: سمعه أبو عثمان من كتاب عمر، ثم سمعه من عثمان بن عفان، لكن طُرُق الحديث تدلّ على أنه عن عمر، لا عن عثمان، وقد ذكره أصحاب الأطراف في ترجمة أبي عثمان، عن عمر، وفيه نظر؛ لأن المقصود بالكتابة إليه هو عتبة بن فَرْقد، وأبو عثمان سمع الكتاب يُقرأ، فإما أن تكون روايته له عن عمر بطريق الوجادة، وإما أن يكون بواسطة المكتوب إليه، وهو عتبة بن فرقد، ولم يذكروه في رواية أبي عثمان عن عتبة، وقد نَبَّه الدارقطنيّ على أن هذا الحديث أصل في جواز الرواية بالكتابة عند الشيخين، قال ذلك بعد أن استدركه عليهما، وفي ذلك رجوع منه عن الاستدراك عليه، والله أعلم. انتهى

(2)

.

وقوله أيضًا: (وَنَحْنُ بِأَذْرَبِيجَانَ) - بفتح الهمزة، والذال المعجمة، وسكون الراء، وقيل: بسكون الذال، وفتح الراء، وبكسر الموحدة، بعدها تحتانية ساكنة، ثم جيم خفيفة، وآخره نون - وحَكَى ابن مكيّ كسر أوله،

(1)

"شرح النوويّ" 14/ 46.

(2)

"الفتح" 13/ 302 - 303، كتاب "اللباس" رقم (5828).

ص: 586

وضبطها صاحب "المطالع"، ونقله عن ابن الأعرابيّ بسكون الذال، وفتح الراء: بلد كبير من نواحي جبال العراق، غربيّ أَرْمينية، وهي الآن تبريز، وقصباتها، قال الحافظ: والذي ذكرتُه الأشْهَرُ في ضبطها، وقد تُمَدّ الهمزة، وقد تُكسَر، وقد تُحذف، وقد تُفتح الموحّدة، وقد يزاد بعدها ألف، مع مدّ الأُولى، حكاه الجوهريّ، وأنكره الجواليقيّ، ويؤكده أنهم نسبوا إليها آذريّ بالمدّ اقتصارًا على الركن الأول، كما قالوا في النسبة إلى بَعْلَبَكّ: بَعْلِيّ. انتهى

(1)

.

وقال النوويّ رحمه الله: قوله: "أذربيجان": هو إقليم معروف، وراء العراق، وفي ضَبْطها وجهان مشهوران: أشهرهما، وأفصحهما، وقول الأكثرين: أَذْرَبيجان، بفتح الهمزة، بغير مدة، وإسكان الذال، وفتح الراء، وكسر الباء، قال صاحب "المطالع"، وآخرون: هذا هو المشهور، والثاني: مَدّ الهمزة، وفتح الذال، وفتح الراء، وكسر الباء، وحَكَى صاحب "المشارق"، و"المطالع" أن جماعة فتحوا الباء على هذا الثاني، والمشهور كسرها. انتهى

(2)

.

(يَا عُتْبَةَ بْنَ فَرْقَدٍ) هو: عتبة بن فَرقد بن يربوع بن حبيب بن مالك بن أسعد بن رفاعة بن ربيعة بن رفاعة بن الحارث بن بُهْثة بن سليم السُّلَميّ، أبو عبد الله، نزل الكوفة، روى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعن عمر، وروى عنه امرأته أم عاصم، وقيس بن أبي حازم، وعبد الله بن رُبَيِّعة السلميّ، وعَرْفَج بن عبد الله الثقفيّ، وعامر الشعبيّ، قال ابن عبد البرّ: وينسبونه عتبة بن يربوع بن حبيب بن مالك، وهو فرقد بن أسعد، وروى شعبة عن حصين، عن امرأة عتبة بن فرقد أنه غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوتين، وقال ابن سعد: هو عتبة بن يربوع، ويربوع هو فرقد، وذكر أبو زكريا صاحب "تاريخ الموصل" أنه هو الذي فتح الموصل زمن عمر سنة ثمان عشرة، مع عياض بن غنم، قال: وشَهِد خيبر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقَسَم له منها، وروى أحمد في "الزهد" عن هُشيم، عن حُصين قال: كان عتبة بن فرقد يعطي سهمه لبني عمه عامًا، ولأخواله عامًا،

(1)

"الفتح" 11/ 176، كتاب "فضائل القرآن" رقم (4987).

(2)

"شرح النوويّ" 14/ 45 - 46.

ص: 587

قال: وكان حصين من أقربائه، ذكره في "التهذيب"

(1)

.

وتعقّب في "الفتح" قوله: "وشهد خيبر"، فقال: وأما قوله: إنه شهد خيبر

إلخ، فلم يوافق على ذلك، وإنما أول مشاهده حُنين. انتهى.

وقال في "الفتح": صحابيّ مشهور، سُمّي أبوه باسم النجم، واسم جدّه يربوع بن حبيب بن مالك السلميّ، ويقال: إن يربوع هو فرقد، وإنه لقب له، وكان عتبة أميرًا لعمر في فتوح بلاد الجزيرة.

قال: ورَوَينا في "المعجم الصغير" للطبرانيّ من طريق أم عاصم امرأة عتبة، عن عتبة، قال: أخذني الشَّرَى

(2)

على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمرني، فتجرّدت، فوضع يده على بطني وظهري، فعَبَق بي الطيب من يومئذ، قالت أم عاصم: كنا عنده أربع نسوة، فكنا نجتهد في الطيب، وما كان هو يمسه، وإنه كان لأطيبنا ريحًا. انتهى

(3)

.

(إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ كَدِّكَ) قال القرطبيّ: يعني به مال المسلمين، وهو ضمير يفسّره الحال، والكدّ: السعي، والتعب. انتهى

(4)

. (وَلَا مِنْ كَدِّ أَبِيكَ، وَلَا مِنْ كَدِّ أُمِّكَ) قال النوويّ رحمه الله: الكدّ: التعب، والمشقة، والمراد هنا: أن هذا المال الذي عندك ليس هو من كسبك، ومما تَعِبت فيه، ولحقتك الشدّة، والمشقة في كسبه، وتحصيله، ولا هو من كدّ أبيك، وأمك، فَوَرِثْتَه منهما، بل هو مالُ المسلمين، فشارِكهم فيه، ولا تختصّ عنهم بشيء، بل أشْبِعهم منه. انتهى

(5)

.

(فَأَشْبعِ الْمُسْلِمِينَ فِي رِحَالِهِمْ)؛ أي: منازلهم، (مِمَّا تَشْبَعُ مِنْهُ فِي رَحْلِكَ) المعنى: أشبِعهم كما تشبع منه في الجنس، والقدر، والصفة، ولا تؤخر أرزاقهم عنهم، ولا تُحْوِجهم يطلبونها منك، بل أوْصِلها إليهم، وهم في منازلهم بلا طلب.

(1)

"تهذيب التهذيب" 7/ 93 بزيادة من"الإصابة في تمييز الصحابة" 4/ 439.

(2)

"الشَّرَى" بُثُورٌ صغارٌ حُمْرٌ حَكّاكةٌ مُكْربةٌ، تَحْدُثُ دفعةً غالبًا، وتشتدّ ليلًا لِبُخار يثور في البدن دَفْعةً، قاله في "القاموس" ص 683.

(3)

"الفتح" 13/ 353، كتاب "اللباس" رقم (5828).

(4)

"المفهم" 5/ 394.

(5)

"شرح النوويّ" 14/ 46.

ص: 588

وقال القرطبيّ رحمه الله: وقوله: "فأشبع المسلمين مما تشبع منه"؛ أي: لا تستأثر عليهم بشيء، ولا تختصّ به دونهم؛ أي أَمَره أن يسوي بين نفسه وبين الناس فيما يأخذه من مال المسلمين، ثمَّ نهاه، وحذّره عن التنعُّم، وهو الترفه، والتوسُّع، وعن زيّ أهل الشرك؛ يعني بهم: المجوس؛ إذ لا يَعني به: مشركي العرب، فإنَّ زيّ العرب كلُّه واحد؛ مشركهم ومسلمهم. والزِّيُّ: ما يتزيا الإنسان به؛ أي: يتزين، وذلك يرجع للهيئات، وكيفية اللباس، كما قال صلى الله عليه وسلم:"خالفوا المشركين، فإنَّهم لا يَفْرُقون"، وقال:"فإنهم لا يصبغون"، وقال:"خالفوا المجوس: جُزُّوا الشوارب، وأوفوا اللِّحَى"، ومن هنا كره مالك: رحمه الله ما خالف زِيَّ العرب جملةً واحدةً. انتهى

(1)

.

[تنبيه]: قال في "الفتح": بَيَّن أبو عوانة رحمه الله في "صحيحه" من وجه آخر سبب قول عمر رضي الله عنه ذلك، فعنده في أوله: "أن عتبة بن فرقد بعث إلى عمر مع غلام له بسلال

(2)

فيها خَبِيصٌ

(3)

، عليها اللبود، فلما رآه عمر، قال: أيَشْبَعُ المسلمون في رحالهم من هذا؟ قال: لا، فقال عمر: لا أريده، وكتب إلى عتبة أنه ليس من كدّك

" الحديث. انتهى

(4)

.

(وَإِيَّاكُمْ وَالتَّنَعُّمَ)؛ أي: باعدوا أنفسكم عن التنعّم (وَزِيَّ أَهْلِ الشِّرْكِ) بكسر الزاي (وَلَبُوسَ الْحَرِيرِ) بفتح اللام، وضمّ الباء: ما يُلبس منه، قال المجد رحمه الله: اللِّبَاسُ، واللَّبُوسُ، واللِّبْسُ بالكسر، والْمَلْبسُ، كمَقْعَد، ومِنْبَرٍ: ما يُلْبَس، وقال أيضًا: واللَّبُوسُ: الدِّرْع. انتهى

(5)

.

فإضافة "لَبُوس" إلى "الحرير" بمعنى "من"؛ أي: ما يُلْبس من الحرير، وقيل: الإضافة بيانيّة، والله تعالى أعلم.

وقال النوويّ رحمه الله: ومقصود عمر رضي الله عنه حَثّهم على خشونة العيش،

(1)

"المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" 17/ 89.

(2)

بالكسر: جمع سَلّة بالفتح: وعاء تُحمل فيه الفواكه.

(3)

هو الطعام المعروف، يُعمل من التمر والسمن.

(4)

"الفتح" 13/ 304، كتاب "اللباس" رقم (5828).

(5)

"القاموس المحيط" ص 1163.

ص: 589

وصلابتهم في ذلك، ومحافظتهم على طريقة العرب في ذلك، وقد جاء في هذا الحديث زيادة في "مسند أبي عوانة الإسفراينيّ"، وغيره بإسناد صحيح، قال: "أما بعد فاتّزروا، وارتدوا، وألقوا الخفاف، والسراويلات، وعليكم بلباس أبيكم إسماعيل، وإياكم والتنعم، وزيّ العجم، وعليكم بالشمس فإنها حَمّام العرب، وتمعددوا، واخشوشنوا، واخلولقوا، واقطعوا الرَّكْب، وانزوا نزوًا، وارموا الأغراض، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم

" الحديث. انتهى

(1)

.

(فَإِنَّ) الفاء للتعليل، كما سبق قريبًا؛ أي: لأن (رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ لَبُوسِ الْحَرِيرِ)؛ أي: عمّا يُلبس من الحرير. (قَالَ) صلى الله عليه وسلم (إِلَّا هَكَذَا")؛ أي: إلا ما كان قَدْر هذا مشيرًا إلى المستثنى بإصبعيه، (وَرَفَعَ لَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِصْبَعَيْهِ) بكسر الهمزة، وفتح الموحّدة، هذه هي اللغة الفصحى، فإن فيها عشر لغات، تثليث الهمزة، مع تثليث الموحّدة، والعاشرة أُصبوع، بوزن عُصفُور، وقوله:(الْوُسْطَى، وَالسَّبَّابَةَ) بدل تفصيل من"إصبعيه"، و"الْوُسْطى" تأنيث الأوسط، (وَضَمَّهُمَا)، أي: ضمّ صلى الله عليه وسلم إصبعيه: الوُسطى والسبّابة. (قَالَ زُهَيْرٌ)؛ أي: ابن معاوية، (قَالَ عَاصمٌ) الأحول:(هَذَا فِي الْكِتَابِ) وفي نسخة: "هو في الكتاب"، يعني: كتاب عمر إلى عتبة رضي الله عنهما. (قَالَ) أحمد بن عبد الله شيخ المصنّف: (وَرَفَعَ زُهَيْرٌ إِصْبَعَيْهِ)؛ أي: الوسطى والسبّابة، وليس هذا من المسلسل لانقطاعه، والله تعالى أعلم.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عمر بن الخطّاب رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في قوله: "جاءنا كتاب عمر رضي الله عنه" دلالة على أنهم كانوا يعملون بالمكاتَبة، وقد سبق أن الدارقطنيّ نبّه على أن هذا الحديث أصل في جواز الرواية بالكتابة عند الشيخين، قال ذلك بعد أن استدرك عليهما، وفي ذلك رجوع منه عن الاستدراك عليهما. أفاده في "الفتح"

(2)

.

وقال النوويّ رحمه الله: هذا الحديث مما استدركه الدارقطنيّ على البخاريّ

(1)

"شرح النوويّ" 14/ 46.

(2)

"الفتح" 13/ 311، كتاب "اللباس" رقم (5828).

ص: 590

ومسلم

(1)

، وقال: هذا الحديث لم يسمعه أبو عثمان من عمر، بل أخبر عن كتاب عمر، قال: وهذا الاستدراك باطلٌ، فإن الصحيح الذي عليه جماهير المحدثين، ومحققو الفقهاء، والأصوليين جواز العمل بالكتاب، وروايته عن الكاتب، سواءٌ قال في الكتاب: أَذِنت لك في رواية هذا عني، أو أجَزْتك روايته عني، أو لم يقل شيئًا، وقد أكثر البخاريّ ومسلم، وسائر المحدّثين، والمصنفين في تصانيفهم، من الاحتجاج بالمكاتبة، فيقول الراوي منهم، وممن قبلهم: كَتَب إليّ فلان كذا، أو كتب إليّ فلان، قال: حدّثنا فلان، أو أخبرني مكاتبةً، والمراد به هذا الذي نحن فيه، وذلك معمول به عندهم، معدود في المتّصل؛ لإشعاره بمعنى الإجازة، وزاد السمعانيّ، فقال: هي أقوى من الإجازة، ودليلهم في المسألة الأحاديث الصحيحة المشهورة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكتب إلى عُمّاله، ونُوّابه، وأمرائه، ويفعلون ما فيها، وكذلك الخلفاء، ومن ذلك كتاب عمر رضي الله عنه هذا، فإنه كَتَبه إلى جيشه، وفيه خلائق، من الصحابة، فدَلّ على حصول الاتفاق منه، وممن عنده في المدينة، ومَن في الجيش على العمل بالكتاب، والله أعلم.

وأما قول أبي عثمان: كَتَب إلينا عمرُ، فهكذا ينبغي للراوي بالمكاتبة أن يقول: كتب إليّ فلان، قال: حدّثنا فلان، أو أخبرنا فلان مكاتبةً، أو في كتابه، أو فيما كتب به إليّ، ونحو هذا، ولا يجوز أن يُطلق قوله: حدّثنا، ولا أخبرنا، هذا هو الصحيح، وجوّزه طائفة من متقدمي أهل الحديث، وكبارهم، منهم منصور، والليث، وغيرهما. انتهى كلام النوويّ رحمه الله

(2)

، وهو بحثٌ نفيسٌ جدًّا.

وإلى ما ذُكر من جواز الرواية بالمكاتبة أشار السيوطيّ رحمه الله في "ألفيّة الحديث"، حيث قال:

خَامِسُهَا كِتَابَةُ الشَّيْخِ لِمَنْ

يَغِيبُ أَو يَحْضُرُ أَو يَأْذَنُ أَنْ

يُكْتَبَ عَنْهُ فَمَتَى أَجَازَا

فَهْيَ كَمَنْ نَاوَلَ حَيْثُ امْتَازَا

(1)

ما سبق عن "الفتح" ظاهر أن الدارقطنيّ رجع عن استدراكه عليهما، فلعلّ النوويّ ما رأى ذلك، والله تعالى أعلم.

(2)

"شرح النوويّ" 14/ 45 - 46.

ص: 591

أَو لَا فَقِيلَ لَا تَصِحُّ وَالأَصَحّ

صِحَّتُهَا بَلْ وَإِجَازَةً رَجَحْ

ويكْتَفِي الْمَكْتُوبُ أَنْ يَعْرِفَ خَطّ

كَاتِبِهِ وَشَاهِدًا بَعْضٌ شَرَطْ

ثُمَّ لْيَقُلْ حَدَّثَنِي أَخْبَرَنِي

كِتَابَةً وَالْمُطْلِقِينَ وَهِّنِ

والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [1/ 5400 و 5401 و 5402 و 5403 و 5404 و 5405 و 5406 و 5407](2069)، و (البخاريّ) في "اللباس"(5828 و 5829 و 5930)، و (أبو داود) في "اللباس"(4042)، و (النسائيّ) في "الزينة"(8/ 202) و"الكبرى"(5/ 574)، و (ابن ماجه) في "الجهاد"(2820) و"اللباس"(3593)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 15 و 36 و 43 و 50)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5454)، و (أبو القاسم البغويّ) في "الجعديّات"(1030)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(5/ 231 و 232 و 233)، و (ابن الجعد) في "مسنده"(1/ 156)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(3/ 269 و 10/ 14)، و"شُعَب الإيمان"(5/ 137 و 159)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(1031)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الرابعة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان الرخصة في لبس الحرير قدر إصبَعَين.

2 -

(ومنها): أن في هذا الحديث، وأمثاله بيانًا واضحًا لمن قال: يحرم على الرجال لبس الحرير؛ للوعيد المذكور.

3 -

(ومنها): أن فيه حجةً لمن أجاز لبس العَلَم من الحرير، إذا كان في الثوب، وخصه بالقدر المذكور، وهو إصبعان، كما في هذا الحديث، أو أربع، كما في الحديث التالي، وهذا هو الأصح عند الشافعية.

[تنبيه]: قال في "الفتح": لم يقع في رواية أبي عثمان النَّهْديّ في "الصحيحين" في استثناء ما يجوز من لبس الحرير إلا ذكر الإصبعين، لكن وقع عند أبي داود من طريق حماد بن سلمة، عن عاصم الأحول، في هذا الحديث:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عن الحرير، إلا ما كان هكذا، وهكذا إصبعين، وثلاثةً، وأربعةً"، ولمسلم من طريق سُوَيد بن غَفَلة - بفتح المعجمة والفاء واللام الخفيفتين - أن عمر خَطَب، فقال: "نَهَى رسول الله صلى الله عليه وسلم لبس الحرير

ص: 592

إلا موضع إصبعين، أو ثلاث، أو أربع"، و"أو" هنا للتنويع والتخيير، وقد أخرجه ابن أبي شيبة من هذا الوجه بلفظ: "إن الحرير لا يصلح منه إلا هكذا، وهكذا، وهكذا - يعني: إصبعين، وثلاثًا، وأربعًا".

وجَنَح الْحَلِيميّ إلى أن المراد بما وقع في رواية مسلم أن يكون في كل كُمّ قدرُ إصبعين، وهو تأويل بعيد من سياق الحديث، وقد وقع عند النسائيّ في رواية سُويد:"لم يُرَخّص في الديباج إلا في موضع أربعة أصابع". انتهى

(1)

.

4 -

(ومنها): أن فيه حجة على من أجاز العَلَم في الثوب مطلقًا، ولو زاد على أربعة أصابع، وهو منقول عن بعض المالكية.

5 -

(ومنها): أن فيه حجةً على من منع العَلَم في الثوب مطلقًا، وهو ثابت عن الحسن، وابن سيرين، وغيرهما، لكن يَحْتَمِل أن يكونوا منعوه ورعًا، وإلا فالحديث حجة عليهم، فلعلهم لم يبلغهم، قال النووي: وقد نُقل مثلُ ذلك عن مالك، وهو مذهب مردودٌ، وكذا مذهب من أجاز بغير تقدير. والله أعلم.

6 -

(ومنها): أنه استُدِلّ به على جواز لبس الثوب الْمُطَرَّز بالحرير، وهو ما جُعل عليه طراز حرير مركب، وكذلك الْمُطْرَف، وهو ما سُجفت أطرافه بسَجْف من حرير بالتقدير المذكور، وقد يكون التطريز في نفس الثوب، بعد النسج.

7 -

(ومنها): أنه استُدِلّ به أيضًا على جواز لبس الثوب الذي يخالطه من الحرير مقدار العَلَم، سواء كان ذلك القدر مجموعًا، أو مفرَّقًا، وهو قويّ. ذكره في "الفتح"

(2)

، والله تعالى أعلم.

(المسألة الخامسة): في اختلاف أهل العلم في لبس الحرير:

قال ابن بطال رحمه الله: اختُلف في الحرير، فقال قوم: يحرُم لُبسه في كل الأحوال، حتى على النساء، نُقل ذلك عن عليّ، وابن عمر، وحذيفة، وأبي موسى، وابن الزبير رضي الله عنهم، ومن التابعين عن الحسن، وابن سيرين. وقال قوم:

(1)

"الفتح" 13/ 306، كتاب "اللباس" رقم (5828).

(2)

"الفتح" 13/ 311، كتاب "اللباس" رقم (5828).

ص: 593

يجوز لبسه مطلقًا، وحملوا الأحاديث الواردة في النهي عن لبسه، على من لبسه خُيلاء، أو على التنزيه.

قال الحافظ: وهذا الثاني ساقط؛ لثبوت الوعيد على لبسه، وأما قول عياض: حمل بعضهم النهي العام في ذلك على الكراهة، لا على التحريم، فقد تعقبه ابن دقيق العيد، فقال: قد قال القاضي عياض: إن الإجماع انعقد بعد ابن الزبير، ومن وافقه على تحريم الحرير على الرجال، وإباحته للنساء، ذكر ذلك في الكلام على قول ابن الزبير، في الطريق التي أخرجها مسلم: "ألا لا تُلبسوا نساءكم الحرير، فإني سمعت عمر

" فذكر الحديث الآتي في الباب بعد هذا الحديث، قال: فإثبات قول بالكراهة دون التحريم، إما أن يَنقض ما نقله من الإجماع، وإما أن يُثبت أن الحكم العام قبل التحريم على الرجال، كان هو الكراهة، ثم انعقد الإجماع على التحريم على الرجال، والإباحة للنساء، ومقتضاه نسخ الكراهة السابقة، وهو بعيد جدًّا. وأما ما أخرجه عبد الرزاق، عن معمر، عن ثابت، عن أنس رضي الله عنه قال: "لقي عمر عبد الرحمن بن عوف، فنهاه عن لبس الحرير، فقال: لو أطعتنا للبسته معنا، وهو يضحك"، فهو محمول على أن عبد الرحمن، فَهِم من إذن رسول الله صلى الله عليه وسلم له، في لبس الحرير نسخ التحريم، ولم ير تقييد الإباحة بالحاجة، كما سيأتي. قاله في "الفتح".

وقال القرطبيّ رحمه الله: واختلف الناس في لباس الحرير، فمن مانع، ومن مجوّز على الإطلاق، وجمهور العلماء على منعه للرجال، وإباحته للنساء، وهو الصحيح لهذا الحديث - يعني: حديث عمر رضي الله عنه المتقدّم - وما في بابه، وهي كثيرة، وأما إباحته للنساء، فيدلّ عليها قوله في هذا الحديث:"إنما بعثت بها إليك لتشقّقها خُمُرًا بين نسائك"، ولمَا خرّجه النسائيّ من حديث عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه قال: إن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم أخذ حريرًا في يمينه، وذهبًا في شماله، ثم قال:"إن هذين حرام على ذكر أمتي، حلّ لإناثها"، قال عليّ بن المدينيّ: حديث حسنٌ، ورجاله معروفون.

وهذا كلّه في الحرير الخالص المصمت، فأما الذي سَداه حرير، ولُحمته غيره، فكرهه مالك، وإليه ذهب ابن عمر، وأجازه ابن عبّاس. والْخَزّ، فاختُلف فيه على ثلاثة أقوال: الحظر، والإباحة، والكراهة، وجُلّ المذهب

ص: 594

على الكراهة. واختُلف فيه ما هو؟ فقيل: ما سَداه حرير، قال ابن حبيب: ليس بين الخزّ وما سداه حرير، ولحمته قطن، أو غيره فرقٌ إلا الاتّباع، فإنه حُكي إباحة الخزّ عن خمسة وعشرين من الصحابة، منهم: عثمان بن عفّان، وسعيد بن زيد، وعبد الله بن عبّاس، وخمسة عشر تابعيًّا، وكان عبد الله بن عمر يكسو بنيه الخزّ. وقيل في الخزّ: إنه يُشبه الحرير، وليس به، ويكره لِشَبَهه بالحرير، وللسرف. قال: واختُلف في علّة تحريم الحرير للرجال، فقال الأبهريّ: هي التشبّه بالنساء. وقيل: ما يجرّه من الخيلاء. وقيل: التشبّه بالكفّار الذين لا حظّ لهم في الآخرة، وهذا هو الذي دلّ عليه الحديث. انتهى

(1)

.

وقال في "الفتح": واختُلف في علة تحريم الحرير على رأيين مشهورين:

[أحدهما]: الفخر والخيلاء.

[والثاني]: لكونه ثوب رفاهية وزينة، فيليق بزي النساء، دون شهامة الرجال. ويحتمل علةً ثالثة، وهي التشبه بالمشركين، قال ابن دقيق العيد: وهذا قد يرجع إلى الأول؛ لأنه من سمة المشركين، وقد يكون المعنيان معتبَرَين، إلا أن المعنى الثاني، لا يقتضي التحريم؛ لأن الشافعي قال في "الأم": ولا أكره لباس اللؤلؤ، إلا للأدب، فإنه زيّ النساء.

واستُشكِل بثبوت اللعن للمتشبِّهين من الرجال بالنساء، فإنه يقتضي منع ما كان مخصوصًا بالنساء في جنسه، وهيئته، وذكر بعضهم علة أخرى، وهي السرف، والله أعلم، ذكره في "الفتح"

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن بما سبق من ذِكر أقوال أهل العلم، وأدلّتهم في مسألة لبس الحرير والديباج أن ما ذهب إليه الجمهور من تحريمه على الرجال مطلقًا، إلا ما استثني، كما سيأتي، وإباحته للنساء هو الحقّ؛ لوضوح أدلّته، وقوّة حججه.

وأما تَمَسّك من منع استعمال النساء للحرير والديباج؛ بأن حذيفة رضي الله عنه استَدَلّ به على تحريم الشرب في إناء الفضة، وهو حرام على النساء والرجال

(1)

"المفهم" 5/ 386 - 387.

(2)

"الفتح" 13/ 301 - 302، كتاب "اللباس" رقم (5828).

ص: 595

جميعًا، فيكون الحرير كذلك. فقد أجيب عنه بأن الخطاب بلفظ "لكم" للذكور ودخولُ الإناث فيه قد اختُلِف فيه، والراجح عند الأصوليين عدم دخولهنّ، وأيضًا فقد ثبت إباحة الحرير والذهب للنساء، فقد أخرج أحمد، وأصحاب "السنن"، وصححه ابن حبّان، والحاكم، من حديث عليّ رضي الله عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أخذ حريرًا، وذهبًا، فقال:"هذان حرامان على ذكور أمتي، حِلٌّ لإناثهم". وأخرج أحمد، والطحاويّ، وصححه، من حديث مَسْلَمَة بن مُخَلَّد أنه قال لعقبة بن عامر: قُمْ، فحدِّث بما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: سمعته يقول: "الذهب، والحرير حرام على ذكور أمتي، حِلٌّ لإناثهم".

وأخرج أبو داود، والنسائيّ، وصححه الترمذيّ، والحاكم، من حديث أبي موسى، وأعلّه ابن حبان وغيره بالانقطاع، وأن راويه سعيد بن أبي هند لم يسمع من أبي موسى. قال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة رحمه الله: إن قلنا: إن تخصيص النهي للرجال لحكمة، فالذي يظهر أنه سبحانه وتعالى عَلِم قلة صبرهنّ عن التزين، فلَطَف بهنّ في إباحته، ولأن تزيينهن غالبًا إنما هو للأزواج، وقد ورد أن "حسن التبعل من الإيمان"، قال: ويُستنبط من هذا أن الفحل لا يصلح له أن يبالغ في استعمال الملذوذات؛ لكون ذلك من صفات الإناث، ذكره في "الفتح"

(1)

، وهو بحث نفيسٌ، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5401]

(

) - (حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ عَبْدُ الْحَمِيدِ (ح) وَحَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا حَفصُ بْنُ غِيَاثٍ، كِلَاهُمَا عَنْ عَاصِمٍ، بِهَذَا الْإِسْنَاد، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم في الْحَرِيرِ بِمِثْلِهِ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ) النخعيّ القاضي الكوفيّ، تقدّم قريبًا.

والباقون ذُكروا في الباب، و"ابن نمير" هو: محمد بن عبد الله بن نُمير، و"عاصم" هو: الأحول.

(1)

"الفتح" 12/ 321، كتاب "اللباس" رقم (5840).

ص: 596

وقوله: (كِلَاهُمَا عَنْ عَاصِمٍ) الضمير لجرير، وحفص.

[تنبيه]: رواية جرير بن عبد الحميد، عن عاصم الأحول، ساقها النسائيّ رحمه الله في "سننه"، فقال:

(9626)

- أخبرنا إسحاق بن إبراهيم، قال: أنا جرير، عن عاصم، عن أبي عثمان، عن عمر، قال: إياكم ولباس الحرير، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم "نَهَى عن لباس الحرير إلا هكذا"، ورفع إصبعيه السبابة، والوسطى. انتهى

(1)

.

وأخرجه أبو يعلى في "مسنده"، بسند مسلم، فقال:

(214)

- حدّثنا أبو خيثمة، حدّثنا جرير، عن عاصم الأحول، عن أبي عثمان، عن عمر، قال: إياكم ولباس الحرير، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم "نَهَى عن لباس الحرير، إلا هكذا، ورفع أصابعه السبابة والوسطى". انتهى

(2)

.

وأما رواية حفص بن غياث، عن عاصم فلم أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5402]

(

) - (وَحَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ - وَهُوَ عُثْمَانُ - وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ، كِلَاهُمَا عَنْ جَرِيرٍ - وَاللَّفْظُ لإِسْحَاقَ - أخْبَرَنَا جَرِيرٌ، عَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ

(3)

، قَالَ: كُنَّا مَعَ عُتْبَةَ بْنِ فَرْقَدٍ، فَجَاءَنَا كِتَابُ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"لَا يَلْبَسُ الْحَرِيرَ إِلَّا مَنْ لَيْسَ لَهُ مِنْهُ شَيْءٌ فِي الآخِرَة، إِلَّا هَكَذَا"، وَقَالَ أَبُو عُثْمَانَ بِإِصْبَعَيْهِ اللَّتَيْنِ تَلِيَانِ الإبْهَامَ، فَرُئِيتُهُمَا أَزْرَارَ الطَّيَالِسَةِ حِينَ رَأَيْتُ

(4)

الطَّيَالِسَةَ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ) هو ابن طرخان البصريّ، تقدّم قريبًا.

والباقون ذُكروا في الباب.

(1)

"السنن الكبرى" للنسائيّ 5/ 474.

(2)

"مسند أبي يعلى" 1/ 190.

(3)

ووقع في نسخة: "عن ابن أبي عثمان".

(4)

وفي نسخة: "حتى رأيت".

ص: 597

وقوله: (إِلَّا هَكَذَا)، أي: مشيرًا بإصبعيه السبّابة والوُسطى.

وقوله: (وَقَالَ أَبُو عُثْمَانَ بِإِصْبَعَيْهِ

إلخ)، يعني: أشار بهما، عبّر عن الفعل بالقول، وهو شائع، وهذه الإشارة للتفهيم بمقدار المستثنى.

وهذه الرواية لا تخالف ما سبق في رواية عاصم الأحول، حيث قال فيها: "ورفع لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إصبعيه

إلخ"، لأنه يُجمع بأن النبيّ صلى الله عليه وسلم أشار أوّلًا، ثم نقله عنه عمر، فبيّن بعد ذلك بعض رواته صفة الإشارة، أفاده في "الفتح"

(1)

.

وقوله: (فَرُئِيتُهُمَا) بضمّ الراء، وكسر الهمزة، وضبطه بعضهم بفتح الراء

(2)

.

وقوله: (أَزْرَارَ الطَّيَالِسَةِ

إلخ) بفتح الهمزة: جمع زِرّ بالكسر، وهو ما يُزرَّر به الثوب بعضه على بعض، ومنه: وزرّرت عليّ قميصي، ويعني به أطراف الطيالسة، وهو جمع طيلسان، وهو الكساء، أو الثوب الذي له علَمٌ، وكأنها كانت لها أعلام من حرير، قاله القرطبيّ رحمه الله

(3)

.

وقوله: (حِينَ رَأَيْتُ الطَّيَالِسَةَ) ووقع في نسخة: "حتى رأيت"، والظاهر الأول، والله تعالى أعلم.

والحديث متّفق عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5403]

(

) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ، عَنْ أَبِيه، حَدَّثَنَا أَبُو عُثْمَانَ، قَالَ: كُنَّا مَعَ عُتْبَةَ بْنِ فَرْقَدٍ، بِمِثْلِ حَدِيثِ جَرِيرٍ).

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى) الصنعانيّ البصريّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(الْمُعْتَمِرُ) بن سليمان التيميّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

(1)

"الفتح" 13/ 305.

(2)

"شرح النوويّ" 14/ 47.

(3)

"المفهم" 5/ 395.

ص: 598

والباقيان ذُكرا قبله.

[تنبيه]: رواية المعتمر بن سليمان، عن أبيه لم أجد من ساقها، لكن ساقها الإمام أحمد في "مسنده"، من رواية يحيى القطّان، عن سليمان، فقال:

(243)

- حدّثنا عبد الله، حدّثني أبي، ثنا يحيى بن سعيد، ثنا التيميّ، عن أبي عثمان رضي الله عنه قال: كنا مع عتبة بن فرقد، فكتب إليه عمر رضي الله عنه بأشياء، يحدثه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، فكان فيما كتب إليه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لا يلبس الحرير في الدنيا إلا من ليس له في الآخرة منه شيء، إلا هكذا"، وقال بإصبعيه السبابة والوسطى، قال أبو عثمان: فرأيت أنها أزرار الطيالسة، حين رأينا الطيالسة. انتهى

(1)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5404]

(

) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ - وَاللَّفْظُ لِابْنِ الْمُثَنَّى - قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عُثْمَانَ النَّهْدِيَّ قَالَ: جَاءَنَا كِتَابُ عُمَرَ، وَنَحْنُ بِأَذْرَبِيجَانَ، مَعَ عُتْبَةَ بْنِ فَرْقَدٍ، أَو بِالشَّامِ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنِ الْحَرِير، إِلَّا هَكَذَا، إِصْبَعَيْن، قَالَ أَبُو عُثْمَانَ: فَمَا عَتَّمْنَا أَنَّهُ يَعْني الأَعْلَامَ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(قَتَادَةُ) بن دِعامة السَّدُوسيّ، أبو الخطّاب البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ، يدلّس، من كبار [4](ت 117)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 70.

والباقون ذُكروا في الباب.

وقوله: (أَو بِالشَّامِ) شكٌّ من الراوي، وتقدّم من رواية عاصم الأحول عن أبي عثمان بلفظ:"ونحن بأذربيجان"، بدون شكّ، وهو الذي في رواية البخاريّ، فإنه رواه عن آدم بن أبي إياس، عن شعبة، عن قتادة، بسند مسلم.

وقوله: (نَهَى عَنِ الْحَرِيرِ)؛ أي: عن لُبس الحرير، لا عن تملّكه، ولا عن التصرّف فيه بغير اللبس.

(1)

"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 1/ 36.

ص: 599

وقوله: (إِصْبَعَيْنِ) بدل من"هكذا"، وفي رواية البخاريّ المذكورة:"إلا هكذا، وأشار لإصبعيه اللتين تليان الإبهام"، والمراد: الوسطى والسبّابة.

وقوله: (فَمَا عَتَّمْنَا

إلخ) بفتح الفاء، بعدها "ما" النافية، و"عتّمنا" بمثنّاة فوقيّة؛ أي: ما أبطأنا في معرفة ذلك لَمّا سَمِعناه، قال أبو عبيد: العاتم: البطيء، يقال: عَتَم الرجل الْقِرَى: إذا أخّره.

وقال النوويّ رحمه الله: قوله: "فما عَتّمنا أنه يعني الأعلام"، هكذا ضبطناه "عَتَّمنا" بعين مهملة مفتوحة، ثم تاء مثناة فوقُ مشدّدة مفتوحة، ثم ميم ساكنة، ثم نون، ومعناه: ما أبطأنا في معرفة أنه أراد الأعلامَ، يقال: عَتَمَ الشيءُ: إذا أبطأ، وتأخر، وعَتَمْتُهُ: إذا أخّرته، ومنه حديث سلمان الفارسيّ رضي الله عنه أنه غَرَس كذا وكذا أوديةً، والنبيّ صلى الله عليه وسلم يناوله، وهو يغرس، فما عَتَمَت منها واحدة؛ أي: ما أبطأت أن عَلَّقت، فهذا الذي ذكرناه، من ضبط اللفظة وشرحها، هو الصواب المعروف الذي صرَّح به جمهور الشارحين، وأهل غريب الحديث، وذكر القاضي فيه عن بعضهم تغييرًا، واعتراضًا لا حاجة إلى ذكره؛ لفساده. انتهى كلام النوويّ رحمه الله

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "فما عتّمنا أنه يعني الأعلام"، كذا رواية الصدفيّ، والأسديّ، ومعنى ذلك: أنا لم نتردّد، ولم نُبطئ، ورواه الطبريّ وغيره:"فما علمنا إلا أنه يريد الأعلام"، وهو واضحٌ، وكذا رواه قاسم بن أصبغ. انتهى

(2)

.

ووقع في رواية البخاريّ بلفظ: "فيما علمنا" بدل "فما عتّمنا"، فـ "ما" موصولة، و"عَلِمنا"، بفتح، فكسر، من العِلم.

وقوله: (أَنَّهُ يَعْني الأَعْلَامَ)؛ أي: يقصد بقوله: "إلا هكذا" مشيرًا بإصبعيه الأعلام، بفتح الهمزة، جمع عَلَم بالتحريك: ومعناه؛ أي: الذي حصل في عِلمنا أن المراد بالمستثنى الأعلامُ، وهي ما يكون في الثياب، من تطريف، وتطريز، ونحوهما، قاله في "الفتح"

(3)

.

(1)

"شرح النوويّ" 14/ 47 - 48.

(2)

"المفهم" 5/ 396.

(3)

"الفتح" 13/ 303 - 304، كتاب "اللباس" رقم (5828).

ص: 600

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5404]

(

) - (وَحَدَّثنا أَبُو غَسَّانَ الْمِسْمَعِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَا: حَدَّثَنَا مُعَاذٌ - وَهُوَ ابْنُ هِشَامٍ - حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ قَتَادَةَ، بِهَذَا الإِسْنَادِ مِثْلَهُ، وَلَمْ يَذْكُرْ قَوْلَ أَبِي عُثْمَانَ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أَبُو غَسَّانَ الْمِسْمَعِيُّ) مالك بن عبد الواحد البصريّ، ثقةٌ [10](ت 230)(م د) تقدم في "الإيمان" 8/ 137.

2 -

(مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ) الدستوايّ البصريّ، سكن اليمن، صدوقٌ ربّما وَهِمَ [9](ت 200)(ع) تقدم في "الإيمان" 12/ 156.

3 -

(أَبُوهُ) هشام بن أبي عبد الله سَنْبَر الدستوائيّ، أبو بكر البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ رُمي بالقدر، من كبار [7](ت 154)(ع) تقدم في "الإيمان" 12/ 156.

والباقيان ذُكرا في الباب.

[تنبيه]: رواية هشام الدستوائيّ، عن قتادة هذه ساقها أبو عوانة رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(8518)

- حدّثنا يزيد بن سنان البصريّ، وعبد الرحمن بن محمد بن منصور أبو سعيد البصريّ، قالا: ثنا معاذ بن هشام، قال: ثنا أبي، عن قتادة، عن أبي عثمان، عن عمر، قال:"نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم لبس الحرير، إلا موضع إصبعين". انتهى

(1)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5406]

(

) - (حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ الْقَوَارِيرِيُّ، وَأَبُو غَسَّانَ الْمِسْمَعِيُّ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ - قَالَ إِسْحَاقُ: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ الآخَرُونَ: حَدَّثَنَا - مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ عَامِرٍ الشَّعْبِيِّ، عَنْ سُويدِ بْنِ غَفَلَةَ، أَن عُمَرَ بْنَ الْخَطَابَ

(1)

"مسند أبي عوانة" 5/ 232.

ص: 601

خَطَبَ بِالْجَابِيَةِ، فَقَالَ: نَهَى نَبِيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم لُبْسِ الْحَرِير، إِلَّا مَوْضِعَ إِصْبَعَيْن، أَو ثَلَاثٍ، أَو أَرْبَعٍ).

رجال هذا الإسناد: اثنا عشر:

1 -

(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ الْقَوَارِيرِيُّ) أبو سعيد البصريّ، نزيل بغداد، ثقةٌ ثبت [10](ت 235) على الأصحّ، وله (85) سنةً (خ م د س) تقدم في "المقدمة" 6/ 75.

2 -

(عَامِرٌ الشَّعْبِيُّ) ابن شَرَاحيل، أبو عمرو الكوفيّ، ثقةٌ ثبت فقيهٌ إمام مشهور [3] مات بعد المائة، وله نحوٌ من ثمانين سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.

3 -

(سُويدُ بْنُ غَفَلَةَ) - بفتح الغين المعجمة، والفاء، واللام الخفيفتين - أبو أُميّة الْجُعْفيّ الكوفيّ، من كبار التابعين، مخضرم، ثقةٌ [2] قَدِم المدينة يوم دُفن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وكان مسلمًا في حياته، ثم نزل الكوفة، ومات سنة (80) وله (130) سنةً (ع) تقدّم في "المقدّمة" 6/ 84.

والباقون كلّهم ذُكروا في الباب.

وقوله: (خَطَبَ بِالْجَابِيَةِ) مدينة بالشام، قاله الجوهريّ

(1)

.

وقال ياقوت في "معجمه": هي قرية من أعمال دمشق، ثم من عمل الجيدُور، من ناحية الْجُولان قرب مرج الصفر، في شمالي حُوران، إذا وقف الإنسان في الصنمين، واستقبل الشمال ظهرت له، وتظهر من نوى أيضًا، وفيها خطب عمر بن الخطاب رضي الله عنه خطبته المشهورة، وباب الجابية بدمشق منسوب إلى هذا الموضع، ويقال لها: جابية الجولان أيضًا. انتهى

(2)

.

وقوله: (إِلَّا مَوْضِعَ إِصْبَعَيْن، أَو ثَلَاثٍ، أَو أَرْبَعٍ) قال في "الفتح": و"أو" هنا للتنويع، والتخيير، وقد أخرجه ابن أبي شيبة من هذا الوجه بلفظ:"إن الحرير لا يصلح منه إلا هكذا، وهكذا، وهكذا"؛ يعني: إصبعين، وثلاثًا، وأربعًا، وجنح الْحَلِيميّ إلى أن المراد بما وقع في رواية مسلم أن يكون في كل

(1)

"الصحاح" ص 150.

(2)

"معجم البلدان" 1/ 459.

ص: 602

كُئم قدر إصبعين، وهو تأويل بعيد من سياق الحديث، وقد وقع عند النسائيّ في رواية سويد:"لم يرخص في الديباج إلا في موضع أربعة أصابع".

قال: ولم يقع في رواية أبي عثمان في "الصحيحين" في استثناء ما يجوز من لبس الحرير إلا ذكر الإصبعين، لكن وقع عند أبي داود من طريق حماد بن سلمة، عن عاصم الأحول في هذا الحديث:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عن الحرير إلا ما كان هكذا، وهكذا، إصبعين، وثلاثةً، وأربعةً"، ولمسلم من طريق سُويد بن غَفَلة أن عمر خَطَب، فقال:"نَهَى رسول الله عن لبس الحرير، إلا موضع إصبعين، أو ثلاث، أو أربع". انتهى

(1)

.

قال النوويّ رحمه الله: وفي هذه الرواية إباحة العَلَم من الحرير في الثوب إذا لم يَزد على أربع أصابع، وهذا مذهبنا، ومذهب الجمهور، وعن مالك رواية بمنعه، وعن بعض أصحابه رواية بإباحة العَلَم بلا تقدير بأربع أصابع، بل قال: يجوز وإن عَظُم، وهذان القولان مردودان بهذا الحديث الصريح، والله أعلم. انتهى

(2)

.

والحديث بهذا السياق من أفراد المصنّف رحمه الله.

[تنبيه]: هذا الحديث مما استدركه الدارقطنيّ على مسلم، وقال: لم يرفعه عن الشعبيّ إلا قتادة، وهو مدَلِّس، ورواه شعبة عن أبي السَّفَر، عن الشعبيّ، من قول عمر موقوفًا، ورواه بيان، وداود بن أبي هند، عن الشعبيّ، عن سُويد، عن عمر، موقوفًا عليه، وكذا قال شعبة عن الحكم، عن خيثمة، عن سُويد، وقاله ابن عبد الأعلى، عن سُويد، وأبو حَصِين، عن إبراهيم، عن سُويد. انتهى كلام الدارقطنيّ رحمه الله.

قال النوويّ رحمه الله بعد نقل كلام الدارقطنيّ المذكور ما نصّه: وهذه الزيادة في هذه الرواية انفرد بها مسلم، لم يذكرها البخاريّ، وقد قدّمنا أن الثقة إذا انفرد برفع ما وقفه الأكثرون، كان الحكم لروايته، وحُكِم بأنه مرفوع على الصحيح الذي عليه الفقهاء، والأصوليون، ومحققو المحدثين، وهذا من ذاك، والله أعلم. انتهى كلام النوويّ رحمه الله

(3)

.

(1)

"الفتح" 13/ 306.

(2)

"شرح النوويّ" 14/ 48 - 49.

(3)

"شرح النوويّ" 14/ 48.

ص: 603

قال الجامع عفا الله عنه: جواب النوويّ هذا هو الذي يسلكه دائمًا في الكتاب كلّه، وهو أن زيادة الثقة مقبولة، ولكن هذا ليس على إطلاقه، كما قدّمنا البحث عنه مستوفًى في غير هذا المحلّ، بل ذلك دائر مع القرائن، فإن دلّت قرينة لترجيح الزيادة رُجّحت، وإلا فلا، وهنا أن انتقاد الدارقطنيّ ليس بمجرّد مخالفة الثقة، بل مع أمر آخر، وهو كون ذلك الثقة، وهو قتادة مدلّسًا، فربّما أخذه من ضعيف، ودلّسه، فلا يمكن مع هذا ترجيح زيادة الثقة.

هذا حاصل انتقاد الدارقطنيّ، لكن دعواه تفرّد قتادة برفعه غير مسلَّم، فقد رفعه مع قتادة، ثلاثة من أصحاب الشعبيّ، وهم: داود بن أبي هند، وزكريّا بن أبي زائدة، وسعيد بن مسروق، كلّهم عن الشعبيّ، عن سويد بن غَفَلَة، عن عمر رضي الله عنه مرفوعًا، ويؤيّد هذا الرفع رواية إبراهيم بن عبد الأعلى، عن سُويد بن غَفَلة، عن عمر مرفوعًا، وكذا رواية أبي عثمان النهديّ المتّفق عليه، وقد تقدّم حيث قال: "كنا مع عتبة بن فرقد، فجاءنا كتاب عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن لبوس الحرير إلا هكذا

" الحديث.

وقد ذكر الشيخ ربيع المدخليّ حفظه الله في دراسته "بين الإمامين: مسلم والدارقطنيّ"

(1)

كلام الدارقطنيّ هذا، وأطال البحث فيه، فأجاد، وأفاد، فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5407]

(

) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ الرُّزِّيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عَطَاءٍ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ مِثْلَهُ).

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ الرُّزِّيُّ) أبو جعفر البغداديّ، ثقةٌ يَهِمُ [10](ت 231)(م د) تقدم في "الجهاد والسِّيَر" 27/ 4601.

[تنبيه]: قوله: "الرُّزِّيّ" بضمّ الراء، وتشديد الزاي: نسبة إلى الرزّ المعروف، ويقال له: الأرزيّ، قاله في "اللباب"

(2)

.

(1)

"بين الإمامين: مسلم، والدارقطنيّ" ص 341 - 347.

(2)

"اللباب في تهذيب الأنساب" 2/ 24.

ص: 604

2 -

(عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عَطَاءٍ) الخفّاف، أبو نصر الْعِجليّ مولاهم البصريّ، نزيل بغداد، صدوقٌ ربّما أخطأ [9](ت 4 أو 206)(عخ م 4) تقدم في "الجهاد والسِّيَر" 27/ 4601.

3 -

(سَعِيدُ) بن أبي عَروبة مِهْرَان اليشكريّ مولاهم، أبو النضر البصريّ، ثقةٌ حافط، له تصانيف، لكنه كثير التدليس، واختلط، وكان من أثبت الناس في قتادة [6](ت 6 أو 157)(ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 127.

و"قتادة" ذُكر قبله.

[تنبيه]: رواية سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة هذه ساقها أبو عوانة رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(8524)

- حدّثنا يحيى بن أبي طالب، قثنا عبد الوهاب بن عطاء، قال: أنبا سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن عامر الشعبيّ، عن سُويد بن غَفَلة، أن عمر بن الخطاب خَطَب بالجابية، قال:"نَهَى نبيّ الله صلى الله عليه وسلم عن لبس الحرير، إلا موضع إصبع، أو إصبعين، أو ثلاث، أو أربع، وأشار بكفّيه، وعَقَد خمسين". انتهى

(1)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5408]

(2070) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ، وَيَحْيَى بْنُ حَبِيبٍ، وَحَجَّاجُ بْنُ الشَّاعِرِ - وَاللَّفْظُ لِابْنِ حَبِيبٍ - قَالَ إِسْحَاقُ: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ الآخَرُونَ: حَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ، حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْر، أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ يَقُولُ: لَبِسَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَوْمًا قَبَاءً مِنْ دِيبَاجٍ، أهْدِيَ لَهُ، ثُمَّ أَوْشَكَ أَنْ نَزَعَهُ

(2)

، فَأَرْسَلَ بِهِ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَقِيلَ لَهُ: قَدْ أَوْشَكَ مَا نَزَعْتَهُ يَا رَسُولَ الله، فَفَالَ:"نَهَانِي عَنْهُ جِبْرِيلُ"، فَجَاءَهُ عُمَرُ يَبْكِي، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ كَرِهْتَ أَمْرًا، وَأَعْطَيْتَنِيه، فَمَا لِي؟ قَالَ: "إِنِّي لَمْ أُعْطِكَهُ لِتَلْبَسَهُ، إِنَّمَا أَعْطَيْتُكَهُ

(3)

تَبِيعُهُ"، فَبَاعَهُ بِأَلْفيْ دِرْهَمٍ).

(1)

"مسند أبي عوانة" 5/ 234.

(2)

وفي نسخة: "أن ينزعه".

(3)

وفي نسخة: "أعطيتك".

ص: 605

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(يَحْيَى بْنُ حَبِيبِ) بن عربيّ البصريّ، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

2 -

(حَجَّاجُ بْنُ الشَّاعِرِ) هو: ابن أبي يعقوب يوسف بن حجّاج البغداديّ، تقدّم قريبًا.

3 -

(ابْنُ جُرَيْجٍ) عبد الملك بن عبد العزيز بن جُريج، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

4 -

(أَبُو الزُّبَيْرِ) محمد بن مسلم بن تَدْرُس المكيّ، تقدّم أيضًا قبل بابين.

5 -

(جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) رضي الله عنهما، تقدّم أيضًا قبل بابين.

والباقون ذُكروا في الباب.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيات المصنف رحمه الله، وله فيه أربعة من الشيوخ قرن بينهم؛ لاتّحاد أخذه عنهم، حيث أخذ سماعًا، ولذا قال:"حدّثنا"، ثم فرَّق بينهم؛ لاختلافهم في التحمّل والأداء، كما هو واضح لمن تأمّله، وفيه تصريح ابن جريج بالإخبار، وأبي الزبير بالسماع، فإنهما مدلّسان، فزال ذلك عنهما، وأن فيه جابرًا رضي الله عنه من المكثرين السبعة، روى (1540) حديثًا. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَن) عبد الملك بن عبد العزيز (بْنِ جُرَيْجٍ) أنه (قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْر، أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ) رضي الله عنهما (يَقُولُ: لَبِسَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَوْمًا قَبَاءً) بالفتح، قال الفيّوميّ: الْقَبْوُ: معروفٌ، والجمع أَقْباءٌ، والْقَبَاءُ ممدودٌ عربيّ، والجمع أَقْبية، وكأنه مشتقّ من قَبَوتُ الحرفَ أَقبُوه: إذا ضممتَه. انتهى

(1)

.

وقال في "اللسان": والْقَبْوَةُ: انضمام ما بين الشفتين، والقَباء - ممدود - من الثياب: الذي يُلبس، مشتقّ من ذلك؛ لاجتماع أطرافه، والجمع أقبية. انتهى

(2)

.

(1)

"المصباح المنير" 2/ 489.

(2)

"لسان العرب" 15/ 168.

ص: 606

(مِنْ دِيبَاجٍ) بالكسر؛ أي: حرير، (أُهْدِيَ لَهُ) بالبناء للمفعول، والجملة في محلّ نصب على الحال، أو صفة بعد صفة لـ "قباءً"، ولم أعرف المُهدي، والله تعالى أعلم.

قال القرطبيّ رحمه الله: كان هذا اللُّبس منه صلى الله عليه وسلم قبل أن يُحرّم الحرير، ثم لَمّا لَبِسه أُعلم بالتحريم، فخلعه مُسرعًا، وقد دلّ على هذا قوله:"فنهاني عنه جبريل". انتهى

(1)

.

(ثُمَّ أَوْشَكَ) قال القرطبيّ رحمه الله: معناه: أسرع، وقارب، وقد وقع هنا بلفظ الماضي، وقد أنكر الأصمعيّ أن يقال من هذه اللفظة غير المستقبَل خاصّه، كقولك: يوشك - بكسر الشين - وقد قال الخليل: إنها تقال، وهذا الحديث يُصحّح قول الخليل. انتهى

(2)

.

وقال الفيّوميّ رحمه الله: يُوشِكُ أن يكون كذا، من أفعال المقاربة، والمعنى: الدُّنُوُّ من الشيء، قال الفارابيُّ: الإِيْشَاكُ: الإسراع، وفي "التهذيب" في باب الحاء: وقال قتادة: كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُونَ: إِنَّ لنَا يَوْمًا أَوْشَكَ أَنْ نَسْتَرِيحَ فِيه، ونَنْعَمَ، لكن قال النحاة: استعمال المضارع أكثر من الماضي، واستعمال اسم الفاعل منها قليل، وقال بعضهم: وقد استعملوا ماضيًا ثلاثيًّا، فقالوا: وَشُكَ، مثل قَرُب وُشْكًا. انتهى

(3)

.

(أَنْ نَزَعَهُ) وفي بعض النسخ: "أن ينزعه"، فـ "أن" مصدريّة؛ أي: قارب نَزْعه لُبسَهُ؛ يعني: أنه لم يلبث بعدَ لُبسه، بل نَزَعه فورًا.

(فَأَرْسَلَ بِهِ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ) رضي الله عنه (فَقِيلَ لَهُ)؛ أي: قال له الصحابة الحاضرون لديه، ولم يُسمَّ أحد منهم، (قَدْ أَوْشَكَ مَا نَزَعْتَهُ يَا رَسُولَ اللهِ) "ما" مصدريّة؛ أي: قارب نزعك إياه اللبس.

وقال القرطبيّ: وقع في بعض روايات مسلم: "أوشك ما نزعته"، وعند بعضهم:"قد أوشك"، وهو كلام غير مستقيم، وصوابه - والله أعلم -:

(1)

"المفهم" 5/ 397.

(2)

"المفهم" 5/ 398.

(3)

"المصباح المنير" 2/ 661.

ص: 607

"ما أوشك ما نزعته" على جهة التعجّب، فسقطت "ما" عند بعضهم، وتصحّفت بـ "قد" عند آخرين. انتهى

(1)

.

(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("نَهَانِي عَنْهُ جِبْرِيلُ") عليه السلام، وهذا صريح في أن لبس الحرير كان جائزًا، ثم نُسخ، حيث إنه صلى الله عليه وسلم لبس ما أُهدي إليه من قباء الديباج؛ لكونه مما يجوز له لبسه، ثم أُوحي إليه بالنهي عنه، وهذا هو معنى النسخ؛ إذ هو رفعُ حُكْم شرعيّ بخطاب شرعيّ متأخّر عنه، فتنبّه.

(فَجَاءَهُ عُمَرُ) رضي الله عنه (يَبْكِي) جملة حاليّة من الفاعل، (فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ كَرِهْتَ) بكسر الراء، من باب فِهِمَ، (أَمْرًا) هو ذلك القباء، (وَأَعْطَيْتَنِيه، فَمَا لِي؟)؛ أي: فأيّ شيء ثبت لي حيث أهديت لي ما كرهته؟ (قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("إِنِّي لَمْ أُعْطِكَهُ لِتَلْبَسَهُ، إِنَّمَا أَعْطَيْتُكَهُ) وفي نسخة: "إنما أعطيتك"، (تَبِيعُهُ") هكذا النُّسخ، وعند النسائيّ:"لِتَبِيعَه" باللام، وهو الظاهر. (فَبَاعَهُ)؛ أي: باع عمر ذلك القباء (بِأَلْفَيْ دِرْهَمٍ) الظاهر أن هذه الواقعة غير الواقعة التي كانت في حلة عطارد بن الحاجب المتقدّمة؛ لأن فيها أن عمر رضي الله عنه لم يبع الحلّة، بل أهداها إلى أخ له مشرك بمكة. والله تعالى أعلم.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [1/ 5408](2070)، و (النسائيّ) في "الزينة"(5305)، و"الكبرى"(9618)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 49)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5428)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1/ 404 و 2/ 68)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان نَسخ جواز لُبس الديباج، والحرير.

(1)

"المفهم" 5/ 397.

ص: 608

2 -

(ومنها): جواز النسخ في الشرع، ووقوعه، وهو أمر مجمع عليه بين المسلمين.

3 -

(ومنها): أن من لبس ثوب حرير غلطًا، أو سهوًا، وجب عليه نزعه أولَ أوقات إمكانه.

4 -

(ومنها): جواز تملّك الرجل الحرير، وتصرّفه بالبيع، والهبة، ونحوهما، دون اللبس، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5409]

(2071) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ - يَعْني: ابْنَ مَهْدِيٍّ - حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي عَوْنٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا صَالِحٍ، يُحَدِّثُ عَنْ عَلِيٍّ، قَالَ: أُهْدِيَتْ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم حُلَّةُ سِيَرَاءَ، فَبَعَثَ بِهَا إِلَيَّ، فَلَبِسْتُهَا، فَعَرَفْتُ الْغَضَبَ فِي وَجْهِه، فَقَالَ: "إِنِّي لَمْ أَبْعَثْ بِهَا إِلَيْكَ لِتَلْبَسَهَا، إِنَّمَا بَعَثْتُ بِهَا إِلَيْكَ لِتُشَقِّقَهَا خُمُرًا بَيْنَ النِّسَاءِ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ) تقدّم قبل بابين.

2 -

(أَبُو عَوْنٍ) محمد بن عُبيد الله بن سعيد الثقفيّ الكوفيّ الأعور، ثقةٌ [4](خ م د ت س) تقدم في "الصلاة" 35/ 1023.

3 -

(أَبُو صَالِحٍ) عبد الرحمن بن قيس الحنفيّ الكوفيّ، ثقةٌ [3].

روى عن أبيه قيس، وأخيه طليق بن قيس، وعن عليّ، وحذيفة، وابن مسعود، وسعد بن أبي وقاص، وأبي مسعود البدريّ، وأبي سعيد الخدريّ، وأبي هريرة، وعائشة، وابن عباس رضي الله عنهم، وغيرهم.

وروى عنه ابن عون محمد بن عبيد الله الثقفيّ، وسعيد بن مسروق الثوريّ، وضِرار بن مُرّة الشيبانيّ، وعمرو بن مُرّة، وإسماعيل بن أبي خالد، وبيان بن بشر، وجماعة.

قال إسحاق بن منصور، عن ابن معين: أبو صالح الحنفيّ ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وروى النسائيّ عن إسحاق بن راهويه، عن النضر بن شُميل، وأبي عامر، عن شعبة، عن أبي عون الثقفيّ، عن أبي صالح الحنفيّ،

ص: 609

واسمه ماهان، عن عليّ حديث الحلّة السِّيَراء، وقال: كذا قال إسحاق: ماهان، والصواب عبد الرحمن بن قيس.

وقال البخاريّ: قال عليّ: ماهان أبو سالم، فقلت له: إن أحمد يقول: ماهان أبو صالح، فقال: أنا أخبرت أحمد، وكان عندنا كذلك، حتى وجدناه ماهان أبو سالم، وقال العجليّ: عبد الرحمن، وقيل: ماهان، أبو صالح الحنفيّ، كوفيّ ثقةٌ، من خيار التابعين، من أصحاب عليّ، وذكر ابن أبي حاتم أن روايته عن حذيفة، وابن مسعود مرسلة.

أخرج له المصنّف، وأبو داود، والنسائيّ، له عندهم حديث عليّ هذا، وعند النسائيّ حديث في الذكر.

40 -

(عَلِيُّ) بن أبي طالب بن عبد المطّلب بن هاشم الهاشميّ، أبو الحسنين مات سنة (40) في رمضان، وله (63) سنةً على الأصحّ (ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.

والباقيان ذُكرا في الباب.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وشيخه أحد التسعة الذين يروي عنهم الجماعة بلا واسطة، وفيه رواية تابعيّ عن تابعي، وأن صحابيّه ذو مناقب جمّة، فهو ابن عمّ المصطفى صلى الله عليه وسلم، وزوج ابنته فاطمة، وأول من أسلم من الصبيان، وأحد الخلفاء الراشدين الأربعة، وأحد العشرة المبشّرين بالجنّة رضي الله عنهم، ومات يوم مات وهو أفضل أهل الأرض بالإجماع رضي الله عنه، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ) محمد بن عُبيد الله (أَبِي عَوْنٍ) الثَّقَفِيِّ، أنه (قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا صَالِحٍ) عبد الرحمن بن قيس الْحَنَفِيَّ، نسبة إلى بني حنيفة القبيلة المشهورة، (يُحَدَثُ عَنْ عَلِيِّ) بن أبي طالب رضي الله عنه، وفي رواية النسائيّ:"يَقُولُ: سَمِعْتُ عليًّا"، (قَالَ: أُهْدِيَتْ) بالبناء للمفعول، (لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) وفي الرواية الآتية:"أن أُكيدِر دُومة أهدى إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ثوب حرير، فأعطاه عليًّا"، وفي رواية للطحاويّ:"أَهْدَى أمير أذربيجان إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم حلة مُسَيَّرَة بحرير"، وسنده

ص: 610

ضعيف، قاله في "الفتح"

(1)

.

(حُلَّةُ سِيَرَاء) قال أبو عبيد: "الحُلَل" بُرود اليمن، و "الحلة" إزار ورداء، ونقله ابن الأثير، وزاد: إذا كان من جنس واحد. وقال ابن سيده في "المحكم": الحلة بُرْد أو غيره. وحكى عياض أن أصل تسمية الثوبين حلة أنهما يكونان جديدين، كما حُلَّ طيّهما. وقيل: لا يكون الثوبان حلة، حتى يلبس أحدهما فوق الآخر، فإذا كان فوقه فقد حَلَّ عليه، والأول أشعليه السلام.

و"السِّيَراءُ" - بكسر المهملة، وفتح التحتانية والراء، مع المد - قال الخليل: ليس في الكلام فِعَلاء - بكسر أوله مع المد - سوى سِيَراء، وحِوَلاء، وهو الماء الذي يخرج على رأس الولد، وعِنَباء لغة في العنب. قال مالك: هو الْوَشْيُ من الحرير، كذا قال، و"الوشي" - بفتح الواو، وسكون المعجمة، بعدها تحتانية. وقال الأصمعي: ثياب فيها خطوط من حرير، أو قَزّ، وإنما قيل لها: سيراء، لتسيير الخطوط فيها. وقال الخليل: ثوب مُضَلَّع بالحرير. وقيل: مختلف الألوان، فيه خطوط ممتدة، كأنها السيور.

ووقع عند أبي داود، في حديث أنس رضي الله عنه، أنه رأى على أم كلثوم، حلّة سيراء، والسيراء: المضلع بالقزّ. وقد جزم ابن بطال أنه من تفسير الزهريّ. وقال ابن سيده: هو ضرب من البرود، وقيل: ثوب مُسَيَّر فيه خطوط، يُعمل من القزّ، وقيل: ثياب من اليمن. وقال الجوهريّ: بُرْد فيه خطوط صُفْر. ونقل عياض عن سيبويه قال: لم يأت فِعَلاء صفة، لكن اسمًا، وهو الحرير الصافي.

واختلف في قوله: "حلة سيراء" هل هو بالإضافة، أو لا؟ فوقع عند الأكثر بتنوين "حلة" على أن "سيراء" عطف بيان، أو نعت، وجزم القرطبي بأنه الرواية، وقال الخطابي: قالوا: "حلة سيراء"، كما قالوا:"ناقة عَشَراء. ونقل عياض عن أبي مروان ابن السراج، أنه بالإضافة، قال عياض: وكذا ضبطناه عن متقني شيوخنا، وقال النووي: إنه قول المحققين، ومتقني العربية، وأنه من إضافة الشيء لصفته، كما قالوا: ثوبُ خَزّ. قاله في "الفتح"

(2)

.

(1)

"الفتح" 13/ 322، كتاب "اللباس" رقم (5840).

(2)

"الفتح" 13/ 322، كتاب "اللباس" رقم (5840).

ص: 611

(فَبَعَثَ بِهَا إِلَيَّ، فَلَبِسْتُهَا) وفي رواية زيد بن وهب عن عليٍّ رضي الله عنه عند البخاريّ: "فخرجت بها"، (فَعَرَفْتُ) وفي رواية زيد المذكورة:"فرأيت"(الْغَضَبَ فِي وَجْهِهِ) صلى الله عليه وسلم؛ أي: لكونه ارتكب إثمًا، (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("إِنِّي لَمْ أَبْعَثْ بِهَا إِلَيْكَ لِتَلْبَسَهَا) وفي رواية النسائيّ:"أَمَا إِنِّي لَمْ أُعْطِكَهَا لِتَلْبَسَهَا"، (إِنَّمَا بَعَثْتُ بِهَا إِلَيْكَ لِتُشَقِّقَهَا خُمُرًا بَيْنَ النِّسَاءِ") وفي الرواية الآتية:"فأمرني، فأطرتها بين نسائي"، وفي رواية:"فقال: شقّقه خُمُرًا بين الفواطم".

ومعنى قوله: "فَأَطَرْتُهَا بَيْنَ نِسَائِي"؛ أي: فرّقتها بينهنّ، وقسّمتها فيهنّ، وقيل: الهمزة أصليّة. قاله في "النهاية" في باب الطاء (3/ 152)، وقال في باب الهمزة (1/ 54):"فأطرتها بين نسائي"؛ أي: شققتها، وقسمتها بينهنّ. وقيل: هو من قولهم: طار له في القسمة كذا؛ أي: وقع في حصّته، فيكون من باب الطاء، لا من الهمزة. انتهى.

وفي رواية البخاريّ: "فشققتها بين نسائي"؛ أي: قطعتها، ففرّقتها عليهنّ خُمُرًا، والخُمُر - بضم المعجمة، والميم -: جمع خمار - بكسر أوله، والتخفيف -: ما تغطي به المرأة رأسها، والمراد بقوله:"نسائي": ما فسَّره في الرواية الآتية، حيث قال:"بين الفواطم"، ووقع في رواية النسائيّ:"فرجعت إلى فاطمة، فشققتها، فقالت: ماذا جئت به؟ قلت: نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لُبسها، فالْبسيها، واكْسِي نساءك". وفي هذه الرواية أن عليًّا إنما شققها بإذن النبيّ صلى الله عليه وسلم.

قال أبو محمد بن قتيبة: المراد بالفواطم: فاطمة بنت النبيّ صلى الله عليه وسلم، وفاطمة بنت أسد بن هاشم، والدة عليّ، ولا أعرف الثالثة. وذكر أبو منصور الأزهريّ: أنها فاطمة بنت حمزة بن عبد المطلب.

وقد أخرج الطحاوي، وبن أبي الدنيا، في كتاب "الهدايا"، وعبد الغنيّ بن سعيد في "المبهمات"، وابن عبد البرّ كلهم من طريق يزيد بن أبي زياد، عن أبي فاختة، عن هُبيرة بن يَرِيم - بتحتانية أوله، ثم راء، وزن عظيم - عن عليّ في نحو هذه القصة، قال:"فشققت منها أربعة أخمرة"، فذكر الثلاث المذكورات، قال: ونسي يزيد الرابعة.

وفي رواية الطحاويّ: "خمارًا لفاطمة بنت أسد بن هاشم، أم علي،

ص: 612

وخمارًا لفاطمة بنت النبيّ صلى الله عليه وسلم، وخمارًا لفاطمة بنت حمزة بن عبد المطلب، وخمارًا لفاطمة أخرى، قد نسيتها"، فقال عياض: لعلها فاطمة امرأة عَقِيل بن أبي طالب، وهي بنت شيبة بن ربيعة، وقيل: بنت عتبة بن ربيعة، وقيل: بنت الوليد بن عتبة، وامرأة عَقِيل هذه، هي التي لَمّا تخاصمت مع عَقيل، بعث عثمانُ معاويةَ، وابنَ عباس حكمين بينهما، ذكره مالك في "المدونة" وغيره.

قاله في "الفتح"

(1)

، والله تعالى أعلم.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [1/ 5409 و 5410 و 5411 و 5412](2071)، و (البخاريّ) في "الهبة"(2614) و"النفقات"(5366) و"اللباس"(5840)، و (أبو داود) في "اللباس"(4043)، و (النسائيّ) في "الزينة"(8/ 197) و"الكبرى"(5/ 461)، و (ابن ماجه) في "اللباس"(3596)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 130 و 139)، و (ابن الجعد) في "مسنده"(1/ 83 و 100)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 425) و"شُعَب الإيمان"(5/ 134)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان الترخيص للنساء في لبس حلّة السيراء. قال النوويّ رحمه الله: فيه دليلٌ على جواز لبس النساء الحرير، وهو مجمع عليه اليوم، وقد كان فيه خلاف لبعض السلف، وزال. انتهى

(2)

.

2 -

(ومنها): جواز إهداء ثياب الحرير إلى الرجال؛ لأنها لا تتعيّن للُبسهم لها، بل ينتفعون بأثمانها، أو إلباسها النساء.

3 -

(ومنها): ما قاله في "الفتح": استُدِلَّ بهذا الحديث على جواز تأخير

(1)

"الفتح" 13/ 322، كتاب "اللباس" رقم (5840).

(2)

"شرح النووي" 14/ 50.

ص: 613

البيان، عن وقت الخطاب؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم، أرسل الحلة إلى عليّ رضي الله عنه، فبنى عليّ على ظاهر الإرسال، فانتفع بها في أَشْهَر ما صُنعت له، وهو اللبس، فبيّن له النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه لم يُبح له لُبسها، وإنما بعث بها إليه ليكسوها غيره، ممن تباح له، وهذا كله إن كانت القصة وقعت بعد النهي عن لبس الرجال الحرير. انتهى

(1)

. والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5410]

(

) - (حَدَّثَنَاهُ عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ، حَدَّثَنَا أَبِي (ح) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ - يَعْنِي: ابْنَ جَعْفَرٍ - قَالَا: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي عَوْنٍ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ فِي حَدِيثِ مُعَاذٍ رحمه الله:"فَأَمَرَنِي، فَأَطَرْتُهَا بَيْنَ نِسَائِي"، وَفِي حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ:"فَأَطَرْتُهَا بَيْنَ نِسَائي"، وَلَمْ يَذْكُرْ:"فَأَمَرَني").

رجال هذا الإسناد: ستة:

وكلّهم ذُكروا في الباب.

وقوله: (فَأَطَرْتُهَا بَيْنَ نِسَائِي)؛ أي: شققتها، وقَسَمتها.

[تنبيه]: رواية معاذ بن معاذ، عن شعبة ساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(1171)

- حدّثنا عبد الله، حدّثني أبي، ثنا محمد بن جعفر، ثنا شعبة، عن أبي عون، عن أبي صالح، قال: سمعت عليًّا رضي الله عنه قال: أهديت لرسول الله صلى الله عليه وسلم حلّة سيراء، فبعث بها إليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرجت فيها، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى رأيت الغضب في وجهه، فقال:"إني لم أعطكها لتلبسها"، قال: فأمرني، فأطرتها بين نسائي. انتهى

(2)

.

وأما رواية معاذ بن معاذ، عن شعبة، فلم أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم.

(1)

"الفتح" 13/ 322، كتاب "اللباس" رقم (5840).

(2)

"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 1/ 139.

ص: 614

وبالسند الممصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5411]

(

) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ - وَاللَّفْظُ لِزُهَيْرٍ - قَالَ أَبُو كُرَيْبٍ: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ الآخَرَانِ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ مِسْعَرٍ، عَنْ أَبِي عَوْنٍ الثَّقَفِيِّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ الْحَنَفِيِّ، عَنْ عَلِيٍّ، أَنَّ أُكَيْدِرَ دُومَةَ أَهْدَى إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثَوْبَ حَرِيرٍ، فَأَعْطَاهُ عليًّا، فَقَالَ: "شَقِّقْهُ خُمُرًا بَيْنَ الْفَوَاطِمِ"، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ، وَأَبُو كُرَيْبٍ: "بَيْنَ النِّسْوَةِ").

رجال هذا الإسناد: ثمانيةٌ:

1 -

(مِسْعَرُ) بن كِدام بن ظُهير الهلاليّ، أبو سلمة الكوفيّ، ثقةٌ ثبت فاضل [7](ت 3 أو 155)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 31.

والباقون ذُكروا في الباب.

وقوله: (عَنْ أَبِي عَوْنٍ الثَّقَفِيِّ) بفتحتين: نسبة إلى ثَقِيف، بفتح، فكسر، وهو ثقيف بن منبّه بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصَفَة بن قيس بن عيلان، نزلوا الطائف، وانتشروا في البلاد في الإسلام، قاله في "اللباب"

(1)

.

وقوله: (عَنْ أَبِي صَالِحٍ الْحَنَفِيِّ) بفتح الحاء، والنون: نسبة إلى بني حنيفة، وهم قبيلة كبيرة من ربيعة بن نِزار، نزلوا اليمامة، قاله في "اللباب"

(2)

.

وقوله: (عَنْ عَلِيٍّ، أَن أُكَيْدِرَ دُومَةَ

إلخ) قال النوويّ رحمه الله: هي بضمّ الدال، وفتحها لغتان مشهورتان، وزعم ابن دُرَيد أنه لا يجوز إلا الضم، وأن المحدثين يفتحونها، وأنهم غالطون في ذلك، وليس كما قال، بل هما لغتان مشهورتان، قال الجوهريّ: أهل الحديث يقولونها بالضم، وأهل اللغة يفتحونها، ويقال لها أيضًا: دُوما، وهي مدينة لها حِصْنٌ عاديّ، وهي في برّيّة في أرض نخل وزرع يسقون بالنواضح، وحولها عيون قليلة، وغالب زرعهم الشعير، وهي عن المدينة على نحو ثلاث عشرة مرحلة، وعن دِمَشق على نحو عشر مراحل، وعن الكوفة على قدر عشر مراحل أيضًا، والله أعلم.

(1)

"اللباب في تهذيب الأنساب" 1/ 240.

(2)

"اللباب في تهذيب الأنساب" 1/ 396 - 397.

ص: 615

قال: وأما أُكيدر فهو بضم الهمزة، وفتح الكاف، وهو أكيدر بن عبد الملك الكِنْديّ، قال الخطيب البغداديّ في كتابه "المبهمات": كان نصرانيًّا، ثم أسلم، قال: وقيل: بل مات نصرانيًّا، وقال ابن منده، وأبو نعيم الأصبهانيّ في كتابيهما في معرفة الصحابة: إن أُكيدرًا هذا أسلم، وأهدى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حُلّة سيراء، قال ابن الأثير في كتابه "معرفة الصحابة": أما الهديّة، والمصالحة، فصحيحان، وأما الإسلام فغلطٌ، قال: لأنه لم يُسْلم بلا خلاف بين أهل السِّيَر، ومن قال: أسلم فقد أخطأ خطأً فاحشًا، قال: وكان أكيدر نصرانيًّا، فلما صالحه النبيّ صلى الله عليه وسلم عاد إلى حصنه، وبقي فيه، ثم حاصره خالد بن الوليد في زمان أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فقتله مشركًا نصرانيًّا؛ يعني: لنقضه العهد، قال: وذكر البلاذريّ أنه قَدِم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعاد إلى دُومة، فلما تُوُفّي رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتدّ أكيدر، فلما سار خالد من العراق إلى الشام قتله، وعلى هذا القول لا ينبغي أيضًا عَدّه في الصحابة، هذا كلام ابن الأثير. انتهى

(1)

.

وقال في "الفتح": وأكيدر دُومة هو أكيدر تصغير أكدر، ودُومة بضم المهملة، وسكون الواو، بلد بين الحجاز والشام، وهي دُومة الجندل، مدينة بقرب تبوك، بها نخل، وزرع، وحصن، على عشر مراحل من المدينة، وثمان من دمشق، وكان أُكيدر ملكها، وهو أكيدر بن عبد الملك بن عبد الجنّ - بالجيم والنون - ابن أعباء بن الحارث بن معاوية، ينسب إلى كِنْدة، وكان نصرانيًّا، وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم أرسل إليه خالد بن الوليد في سريّة، فأسره، وقَتَل أخاه حسان، وقَدِم به المدينة، فصالحه النبيّ صلى الله عليه وسلم الجزية، وأطلقه، ذَكَر ابن إسحاق قصته مطوَّلةً في "المغازي".

وروى أبو يعلى بإسناد قويّ من حديث قيس بن النعمان أنه لَمّا قَدِم أخرج قَباء من ديباج منسوجًا بالذهب، فردّه النبيّ صلى الله عليه وسلم عليه، ثم إنه وَجَد في نفسه من ردّ هديته، فرجع به، فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم: "ادفعه إلى عمر

"

(1)

"شرح النوويّ" 14/ 49 - 5.

ص: 616

الحديث. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5412]

(

) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَيْسَرَةَ، عَنْ زيدِ بْنِ وَهْبٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، قَالَ: كَسَانِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حُلَّةَ سِيَرَاءَ، فَخَرَجْتُ فِيهَا، فَرَأَيْتُ الْغَضَبَ فِي وَجْهِه، قَالَ: فَشَقَقْتُهَا بَيْنَ نِسَائِي).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَيْسَرَةَ)

(2)

الهلاليّ، أبو زيد العامريّ الكوفيّ الزّرّاد

(3)

، ثقةٌ [4](ع) تقدم في "البيوع" 22/ 3954.

2 -

(زيدُ بْنُ وَهْبٍ) الجُهنيّ، أبو سليمان الكوفيّ مخضرمٌ ثقةٌ جليلٌ، لم يُصب من قال: في حديثه خللٌ [2] مات بعد (80)، وقيل:(96)(ع) تقدم في "الإيمان" 67/ 374.

والباقون ذُكروا في الباب.

وقوله: (عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ) قال في "الفتح": كذا للأكثر، ووقع في رواية عليّ بن السكن هنا وحده:"عن النَّزّال بن سَبْرة"، بدل زيد بن وهب، وهو وَهَمٌ، كأنه انتقل من حديث إلى حديث؛ لأن رواية عبد الملك عن النزّال عن عليّ إنما هي في الشرب قائمًا، كما تقدم في "الأشربة"، وقد وافق الجماعة في الموضعين الآخرين. انتهى

(4)

، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5413]

(2072) - (وَحَدَّثَنَا شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ، وَأَبُو كَامِلٍ - وَاللَّفْظُ لأَبِي كَامِلٍ - قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الأَصَمِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى عُمَرَ بِجُبَّةِ سُنْدُسٍ، فَقَالَ عُمَرُ: بَعَثْتَ بِهَا إِلَيَّ،

(1)

"الفتح" 6/ 468، كتاب "الهبة" رقم (2616).

(2)

بفتح الميم، وتحتانيّة ساكنة، ثم مهملة.

(3)

بزاي، ثمّ راء ثقيلة.

(4)

"الفتح" 13/ 323 - 324، كتاب "اللباس" رقم (5840).

ص: 617

وَقَدْ قُلْتَ فِيهَا مَا قُلْتَ، قَالَ:"إِنِّي لَمْ أَبْعَثْ بِهَا إِلَيْكَ لِتَلْبَسَهَا، وَإِنَّمَا بَعَثْتُ بِهَا إِلَيْكَ لِتَنتفِعَ بِثَمَنِهَا").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أَبُو كَامِلٍ) فضيل بن حُسين بن طلحة الْجَحْدريّ البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 237)(خت م د ت س) تقدم في "المقدمة" 6/ 57.

2 -

(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الأَصَمِّ) ويقال: اسم الأصمّ عبد الله، وقيل: عمرو، أبو بكر الْعَبْديّ، ويقال: الثقفيّ المداشيّ، مؤذّن الحجّاج، وأصله من البصرة، صدوقٌ [3].

رَوَى عن أبي هريرة، وأنس، وعنه خَلَف أبو الربيع، والثوريّ، وليث بن أبي سُليم، وأبو عوانة، وغيرهم.

قال ابن معين: ثقةٌ، كان يرى القدر، وقال أبو حاتم: صدوقٌ، ما بحديثه بأسٌ، وقال يعقوب بن سفيان: ثنا أبو نعيم، ثنا سفيان، عن عبد الرحمن بن الأصم، وكان ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات".

انفرد به المصنّف، والنسائيّ، وليس له عند المصنّف إلا هذا الحديث، وله عند النسائي حديث آخر في التكبير في الركوع والسجود.

3 -

(أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ) رضي الله عنه، تقدّم قريبًا.

والباقيان ذُكرا في الباب.

[تنبيه]: من لطائف هدا الإسناد:

أنه من رباعيّات المصنّف، كلاحقه، وهو (409) من رباعيّات الكتاب، وفيه أنس رضي الله عنه أحد المكثرين السبعة، روى (2286) حديثًا، وشرح الحديث واضحٌ، يُعلم مما سبق.

وقوله: (بِجُبَّةِ سُنْدُسٍ) قال ابن منظور رضي الله عنه: قال المفسرون في السندس: إنه رقيق الديباج، ورفيعه، وفي تفسير الإستبرق: إنه غليظ الديباج، ولم يختلفوا فيه، وقال الليث: السندس ضرب من الْبُزْيَوْن

(1)

يُتَّخَذ من

(1)

الْبُزْيَوْنُ، كجِرْدَحْلٍ، وعُصفُورٍ: السُّنْدُس. "القاموس" ص 105.

ص: 618

الْمِرعِزّى

(1)

، ولم يَختلف أهل اللغة فيهما أنهما مُعَرَّبان، وقيل: السندس ضرب من الْبُرُود. انتهى

(2)

.

مسألتان تتعلّقان بهدا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أنس بن مالك رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنف) هنا [1/ 5413](2072)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 141 و 147 و 157)، و (أبو عوانة) في "مسنده" (4/ 401 و 2/ 68 و 5/ 1228، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5414]

(2073) - (حَدَّثَنَا أبُو بَكْرِ بْنُ أبِي شَيْبَةَ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ - وَهُوَ: ابْنُ عُلَيَّةَ - عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ لَبِسَ الْحَرِيرَ فِي الدُّنْيَا، لَمْ يَلْبَسْهُ في الآخِرَةَ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(إِسْمَاعِيلُ ابْنُ عُلَيَّةَ) تقدّم في الباب الماضي

2 -

(عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ صُهَيْبٍ) البُنانيّ البصريّ، ثقةٌ [4](ت 130)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.

والباقون ذُكروا في الباب.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من رُباعيَّات المصنّف رحمه الله، كسابقه، وهو (410) من رباعيَّات الكتاب، وشرح الحديث واضح، يُعلم مما سبق.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أنس رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(1)

"الْمِرْعِزُ"، و "الْمِرْعِزَّى" ويُمدّ إذا خُفّف، وقد تُفتح الميم في الكلّ: الزَّغَبُ - أي: الشعر - الذي تحت شعر العنز، قاله في "القاموس" ص 515.

(2)

"لسان العرب" 6/ 107.

ص: 619

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [1/ 5414](2574)، و (البخاريّ) في "اللباس"(5832)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(5/ 465)، و (ابن ماجه) في "اللباس"(3588)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(8/ 345)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 101 و 281)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(3930)، و (الطحاويّ) في "شرح الآثار"(4/ 247)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5429 و 5435)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1/ 402 و 2/ 66)، و (ابن الجعد) في "مسنده"(1/ 215)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 422)، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5415]

(2074) - (وَحَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى الرَّازِيُّ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبُ بْنُ إِسْحَاقَ الدِّمَشْقِيُّ، عَنِ الأَوْزَاعِيِّ، حَدَّثَنِي شَدَّاد أَبُو عَمَّارٍ، حَدَّثَني أَبُو أمَامَةَ، أنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ لَبِسَ الْحَرِيرَ فِي الدُّنْيَا، لَمْ يَلْبَسْهُ فِي الآخِرَةِ").

رجال هذا الاسنادة خمسة:

1 -

(إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى الرَّازِيُّ) أبو إسحاق التميميّ الفرّاء يلقّب بالصغير، ثقةٌ حافظ [10] مات بعد (220)(ع) تقدم في "الحيض" 7/ 721.

2 -

(شُعَيْبُ بْنُ إِسْحَاقَ الدِّمَشْقِيُّ) الأمويّ مولاهم البصريّ، ثمّ الدمشقيّ، ثقةٌ رُمي بالإرجاء، من كبار [9](ت 189)(خ م د س ق) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 34/ 1418.

3 -

(الأَوْزَاعِيُّ) عبد الرحمن بن عمرو بن أبي عمرو، أبو عمرو الإمام، ثقةٌ فقيهٌ جليلٌ [7](157)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 28.

4 -

(شَدَّادٌ أَبُو عَمَّارٍ) هو ابن عبد الله القرشيّ الدمشقيّ، ثقةٌ يُرسل [4](بخ م 4) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 26/ 1337.

5 -

(أَبُو أُمَامَةَ) صُدَيّ بن عَجْلان الباهليّ الصحابيّ المشهور، سكن الشام، ومات بها سنة (86)(ع) تقدم في "صلاة المسافرين وقصرها" 43/ 1874، وشرح الحديث تقدّم غير مرّة.

ص: 620

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي أُمامة الباهليّ رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [1/ 5415](2074)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(5/ 227)، و (الطحاويّ) مي "شرح معاني الآثار"(4/ 247)، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5416]

(2575) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ أَبِي الْخَيْرِ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، أَنَّهُ قَالَ: أُهْدِيَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَرُّوجُ حَرِيرٍ، فَلَبِسَهُ، ثُمَّ صَلَّى فِيه، ثُمَّ انْصَرَفَ، فَنَزَعَهُ نَزْعًا شَدِيدًا؛ كالكَارِهِ لَهُ، ثُمَّ قَالَ: "لَا يَنبغِي هَدَا لِلْمُتَّقِينَ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ) سويد، أبو رجاء المصريّ، ثقةٌ فقيهٌ، يرسل [5](ت 128) وقد قارب الثمانين (ع) تقدم في "الإيمان" 16/ 168.

2 -

(أَبُو الْخَيْرِ) مرْثَد بن عبد الله الْيَزَنيّ المصريّ، ثقةٌ فقيهٌ [3](ت 90)(ع) تقدم في "الإيمان" 16/ 168.

3 -

(عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ) الجُهَنيّ الصحابيّ المشهور، وَلي إمرة مصر لمعاوية رضي الله عنهما ثلاث سنين، وكان فقيهًا فاضلًا، مات في قرب الستّين (ع) تقدم في "الطهارة" 6/ 559.

والباقيان ذُكرا في الباب الماضي.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسلٌ بالمصريين، وقتيبة، وإن كان بَغْلانيًّا، إلا أنه دخل مصر، وأنه مسلسل بالفقهاء، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ.

ص: 621

شرح الحديث:

(عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ) في رواية أحمد، عن حجاج هو: ابن محمد، وهاشم هو: ابن القاسم، عن الليث:"حدّثني يزيد بن أبي حبيب". (عَنْ أَبِي الْخَيْرِ) هو: مَرْثد بن عبد الله الْيَزَنيّ، وثبت كذلك في رواية أحمد المذكورة، (عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ) هو الْجُهَنيّ، وصُرِّح به في رواية عبد الحميد بن جعفر، ومحمد بن إسحاق، كلاهما عن يزيد بن أبي حبيب، عند أحمد، (أنَّهُ قَالَ: أُهْدِيَ) بضمِّ الهمزة مبنيًّا للمفعول، (لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) متعلّق بما قبله، قال الفَيّوميّ رحمه الله: يقال: أهديتُ للرجل كذا - بالألف -: بعثتُ به إليه إكرامًا، فهو هديّة بالتثقيل، لا غير. انتهى

(1)

.

وقال في "الفتح" في "كتاب الصلاة": والذي أهداه هو أُكيدر. انتهى

(2)

.

(فَرُّوجُ حَرِيرٍ) وفي رواية ابن إسحاق عند أحمد: "فَرُّوجٌ من حرير"، والفَرّوج: بفتح الفاء، وتشديد الراء المضمومة، وآخره جيم: هو القباء المفرج من خلف، وحكى أبو زكريّا التبريزيّ، عن أبي العلاء المعرّيّ جواز ضمّ أوله، وتخفيف الراء، قاله في "الفتح"

(3)

.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الضبط الذي ذكره التبريزيّ عن أبي العلاء ما أظنّه يصحّ، فإن أهل اللغة، كأصحاب "الصحاح"

(4)

، و"القاموس"، و "اللسان"

(5)

لم يذكروه، قال في "القاموس": الْفَرّوج، كتَنّور: قميصُ الصغير، وقَبَاءٌ شُقّ من خلفه. انتهى

(6)

، ولم يزد في "شرحه" ضبطًا غيره

(7)

، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

وقال النوويّ رحمه الله في "شرحه": "الْفَرُّوج " - بفتح الفاء، وضم الراء المشدّدة - هذا هو الصحيح المشهور في ضبطه، ولم يذكر الجمهور غيره،

(1)

"المصباح المنير" 2/ 636.

(2)

"الفتح" 2/ 94، كتاب "الصلاة" رقم (375).

(3)

"الفتح" 2/ 93، كتاب "الصلاة" رقم (375).

(4)

راجع: "الصحاح" ص 802.

(5)

راجع: "لسان العرب" 2/ 344.

(6)

"القاموس المحيط" ص 982.

(7)

"تاج العروس" 1/ 1477.

ص: 622

وحُكي ضم الفاء، وحَكَى القاضي في "الشرح"، وفي "المشارق" تخفيف الراء، وتشديدها، والتخفيف غريبٌ ضعيفٌ، قالوا: وهو قَباء له شُقّ من خلفه. انتهى

(1)

.

[تنبيه]: ذكر ابن حبّان رحمه الله في "صحيحه" في آخر هذا الحديث ما نصّه: قال أبو حاتم: فَرّوج الحرير هو الثوب الذي يكون على دُرُوزه حرير دون أن يكون الكلّ من الحرير، ولو كان الكلّ حريرًا ما لبِسه، ولا صلّى فيه، وهذا معنى خبر عمر بن الخطّاب رضي الله عنه: إلا موضع إصبعين، أو ثلاث، أو أربع. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي ذكره ابن حبّان في معنى الفرّوج المذكور في هذا الحديث لم أر غيره وافقه فيه، ولا يوافقه أيضًا ظاهر الحديث؛ إذ يقتضي أن نَزْعه لكونه لا يجوز لُبسه، وأن ذلك الوقت هو وقت ابتداء تحريمه، كما يأتي ذلك عن النوويّ، والحافظ، وأما الذي ذكره، وعضده بأثر عمر رضي الله عنه فإنه جائز لُبسه دائمًا، غير محرّم، فتأمله بالإمعان، والله تعالى أعلم.

(فَلَبِسَهُ، ثُمَّ صَلَّى فِيهِ) زاد في رواية ابن إسحاق، وعبد الحميد، عند أحمد:"ثم صلى فيه المغرب"، (ثُمَّ انْصَرَفَ) وفي رواية ابن إسحاق:"فلما قضى صلاته"، وفي رواية عبد الحميد:"فلما سلِم من صلاته"، وهو المراد بالانصراف في رواية الليث، قاله في "الفتح"

(3)

. (فنَزَعَهُ)؛ أي: ذلك الْفَرّوج، (نَزْعًا شَدِيدًا) زاد أحمد في روايته، عن حجاج وهاشم:"عَنِيفًا"؛ أي: بقوّة، ومبادرة لذلك على خلاف عادته في الرفق والتأني، قال الحافظ رحمه الله: وهو مما يؤكد أن التحريم وقع حينئذ. انتهى.

وقال النوويّ رحمه الله: وهذا اللبس المذكور في هذا الحديث كان قبل تحريم الحرير على الرجال، ولعل أول النهي والتحريم كان حين نزعه، ولهذا

(1)

"شرح النوويّ" 14/ 52.

(2)

"الإحسان في تقريب صحيح ابن حبّان" 12/ 249.

(3)

"الفتح" 13/ 278، كتاب "اللباس" رقم (5801).

ص: 623

قال صلى الله عليه وسلم حديث جابر الذي ذكره مسلم قبل هذا بأسطر حين صلى في قَباء ديباج، ثم نزعه، وقال:"نهاني عنه جبريل"، فيكون هذا أول التحريم، والله أعلم. اننهى

(1)

.

(كَالْكَارِهِ لَهُ) زاد أحمد في رواية عبد الحميد بن جعفر: "ثم ألقاه، فقلنا: يا رسول الله قد لبسته، وصليت فيه"، (ثُمَّ قَالَ:"لَا يَنْبَغِي هَذَا) يَحْتَمِل أن تكون الإشارة للُّبس، ويَحْتَمِل أن تكون للحرير، فيتناول غير اللبس، من الاستعمال؛ كالافتراش، قاله في "الفتح"

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: الاحتمال الأخير هو الأقرب، والأشمل، فتأمل، والله تعالى أعلم.

[تنبيه]: قال الفيّوميّ رحمه الله: قولهم: "وينبغي أن يكون كذا": معناه نُدب ندبًا مؤكدًا، لا يَحْسُن تركه، واستعمال ماضيه مهجور، وقد عَدُّوا "ينبغي" من الأفعال التي لا تتصرف، فلا يقال: انبغي، وقيل في توجيهه: إن انبغى مطاوع بَغَى، فلا يستعمل انفعل في المطاوعة إلا إذا كان فيه علاج وانفعال، مثل كسرته فانكسر، وكما لا يقال: طلبته فانطلب، وقصدته فانقصد، لا يقال: بغيته فانبغى؛ لأنه لا علاج فيه. وأجازه بعضهم، وحُكي عن الكسائيّ أنه سمعه من العرب.

وما ينبغي أن يكون كذا؛ أي: ما يستقيم، أو ما يحسن. انتهى

(3)

.

قال الجامع عفا الله عنه: المناسب هنا المعنى الأول؛ أي: ما يستقيم هذا؛ لأنه محرَّم. والله تعالى أعلم.

(لِلْمُتَّقِينَ")؛ أي: المتّقين الكفرَ، أو المعاصي كلّها، وقال القرطبيّ رحمه الله: المراد بالمتقين هم المؤمنون؛ لأنهم الذين خافوا الله تعالى، واتقوه بإيمانهم وطاعتهم له. انتهى

(4)

.

وقال غيره: لعل هذا من باب التهييج للمكلف على الأخذ بذلك؛ لأن

(1)

"شرح النوويّ" 14/ 52.

(2)

"الفتح" 13/ 278، كتاب "اللباس" رقم (5801).

(3)

"المصباح المنير" 1/ 57.

(4)

"المفهم" 5/ 398.

ص: 624

من سمع أن من فعل ذلك كان غير مُتَّقٍ فَهِمَ منه أنه لا يفعله إلا المستخفّ، فيأنف من فعل ذلك؛ لئلا يوصف بأنه غير مُتّقٍ

(1)

.

وقال ابن بطال رحمه الله: يمكن أن يكون نَزَعه لكونه كان حريرًا صِرْفًا، ويمكن أن يكون نَزَعه لأنه من جنس لباس الأعاجم، وقد ورد حديث ابن عمر رضي الله عنه، رفعه:"مَن تَشَبّه بقوم فهو منهم"

(2)

، أخرجه أبو داود بسند حسن.

قال الحافظ رحمه الله: وهذا التردد مبنيّ على تفسير المراد بالمتقين، فإن كان المراد به مطلق المؤمن حُمل على الأول، وإن كان المراد به قدرًا زائدًا على ذلك حُمل على الثاني، والله أعلم.

وقال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة رحمه الله: اسم التقوى يعمّ جميع المؤمنين، لكن الناس فيه على درجات، قال الله تعالى:{لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} الآية [المائدة: 93]، فكل من دخل في الإسلام فقد اتقى؛ أي: وَقَى نفسه من الخلود في النار، وهذا مقام العموم، وأما مقام الخصوص فهو مقام الإحسان، كما قال صلى الله عليه وسلم:"أن تعبد الله كأنك تراه". انتهى

(3)

.

وقد رَجّح عياض أن المنع فيه لكونه حريرًا، واستَدَلّ لذلك بحديث جابر الذي تقدّم عند مسلم قبل ستّة أحاديث، وهذه القصّة - كما قال الحافظ - كانت مبتدأ تحريم لبس الحرير، والله تعالى أعلم.

[تنبيه]: زاد البخاريّ رحمه الله بعد إخراجه هذا الحديث بسند مسلم ما نصّه: "تابعه عبد الله بن يوسف، عن الليث، وقال غيره - يعني: بسنده -: فروج حرير".

قال في "الفتح": أما رواية عبد الله بن يوسف فوصلها البخاريّ: في أوائل "الصلاة"، وأما رواية غيره فوصلها أحمد عن حجاج بن محمد، وهاشم، وهو أبو النضر، ومسلم، والنسائيّ، عن قتيبة، والحارث، عن يونس بن محمد المؤدّب، كلهم عن الليث.

(1)

"الفتح" 13/ 279، كتاب "اللباس" رقم (5801).

(2)

"شرح صحيح البخاريّ" لابن بطّال 9/ 88.

(3)

"بهجة النفوس" 4/ 136.

ص: 625

قال: وقد اختُلِف في المغايرة بين الروايتين على خمسة أوجه:

[أحدها]: التنوين، والإضافة، كما يقال: ثوبُ خَزٍّ بالإضافة، وثوبٌ خَزٌّ، بتنوين "ثوب"، قاله ابن التين احتمالًا.

[ثانيها]: ضم أوله، وفتحه، حكاه ابن التين رواية، قال: والفتح أوجَهُ؛ لأن فُعُّولًا لم يَرِد إلا في سُبُّوح، وقُدُّوس، وفُرُّوخ - يعني: الفَرْخَ من الدجاج. انتهى.

قال الحافظ: وقد قدمت حكاية جواز الضمّ عن أبي العلاء المعريّ، وقال القرطبيّ في "المفهم": حُكِيَ الضمُّ والفتحُ، والضم هو المعروف.

[ثالثها]: تشديد الراء، وتخفيفها، حكاه عياض، ومن تبعه.

[رابعها]: هل هو بجيم آخره، أو خاء معجمة، حكاه عياض أيضًا.

قال الجامع عفا الله عنه: قد أسلفتُ أنه لم يذكر في "الصحاح"، ولا في "القاموس"، ولا في "شرحه"، ولا في "اللسان" إلا فتح الفاء، وتشديد الراء، آخره جيم، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

[خامسها]: حكاه الكرمانيّ، قال: الأول فروج من حرير بزيادة "مِنْ"، والثاني بحذفها، قال الحافظ: زيادة "مِنْ" ليست في "الصحيحين"، وقد ذكرناها عن رواية لأحمد. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [1/ 5416 و 5417](2075)، و (البخاريّ) في "الصلاة"(375) و"اللباس"(5801)، و (النسائيّ) في "المجتبى"(2/ 72)، و"الكبرى"(846)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(8/ 348)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 143 و 149 و 150)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(774)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5433)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار" (4/ 247

(1)

"الفتح" 13/ 279 - 280، كتاب "اللباس" رقم (5801).

ص: 626

- 248)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(17/ 759 و 760)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1/ 404 و 2/ 67 و 5/ 229)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 422 - 423)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(525)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): أنه يدل على تحريم الحرير على الرجال دون النساء؛ لأن اللفظ لا يتناولهن على الراجح، ودخولهن بطريق التغليب مجاز يمنع منه ورود الأدلة الصريحة على إباحته لهن، قاله في "الفتح"

(1)

.

قال في "العمدة": فإن قلت: النساء يدخلن فيهم مع أن الحرير حلال لهن.

قلت: هذه مسألة مختلَف فيها، والأصح أن جمع المذكر السالم لا يدخل فيه النساء، فلا يقتضي الاشتراك، ولئن سلّمنا دخولهنّ فالحِل لهنّ عُلِم بدليل آخر. انتهى

(2)

.

[تنبيه]: قال العلامة أبو بكر بن العربيّ رحمه الله: اختلف العلماء في لباس الحرير على عشرة أقوال:

الأول: محرّم بكل حال، والثاني: محرَّم إلا في الحرب، والثالث: يَحْرُم إلا في السفر، والرابع: يحرم إلا في المرض، والخامس: يحرم إلا في الغزو، والسادس: يحرم إلا في العَلَم، والسابع: يحرم على الرجال والنساء، والثامن: يحرم لبسه من فوق، دون لبسه من أسفل، وهو الفُرُش. قاله أبو حنيفة، وابن الماجشون، والتاسع: مباح بكل حال، والعاشر: يحرم، وإن خُلط مع غيره؛ كالخزّ. انتهى

(3)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي الأرجح هو الذي عليه الجمهور من تحريم الحرير على الرجال دون النساء، إلا فيما استُثْنِي؛ كالمرض، ونحوه، كما سيأتي تحقيق ذلك في الباب التالي - إن شاء الله تعالى -.

2 -

(ومنها): جواز الصلاة في ثوب الحرير، ووجه الاستدلال به أنه صلى الله عليه وسلم

(1)

"الفتح" 13/ 279، كتاب "اللباس" رقم (5801).

(2)

"عمدة القاري" 4/ 98.

(3)

"عمدة القاري" 4/ 98.

ص: 627

لم يُعِد تلك الصلاة، فدل على جوازها في الحرير، لكن هذا إنما يتمّ إن قلنا بأن تلك الصلاة وقعت بعد تحريم الحرير على الرجال، وقد تقدم ترجيح كون نَزْعه للفَرُّوج ابتداء التحريم، فالصلاة وقعت قبله، والله تعالى أعلم.

3 -

(ومنها): أن الصبيان لا يحرم عليهم لُبسه؛ لأنهم لا يوصفون بالتقوى. وقد قال الجمهور بجواز إلباسهم ذلك في نحو العيد، وأما في غيره فكذلك في الأصح عند الشافعية، وعَكْسه عند الحنابلة، وفي وجه ثالث: يُمنع بعد التمييز

(1)

.

4 -

(ومنها): أنه لا كراهة في لُبس الثياب الضيّقة والمُفَرّجة لمن اعتادها، أو احتاج إليها.

5 -

(ومنها): أن فيه جواز قبول هديّة المشرك للإمام لمصلحة يراها، والله تعالى أعلم بالصواب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلِّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5417]

(

) - (وَحَدَّثنَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا الضَّحَّاكُ - يَعْنِي: أَبَا عَاصِمٍ - حَدَّثَنَا عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ، بِهَذَا الإِسْنَادِ).

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرِ) بن عبد الله بن الْحَكَم بن رافع الأنصاريّ المدنيّ، صدوقٌ رُمي بالقدر، وربّما وَهِمَ [6](ت 153)(خت م 4) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 4/ 1195.

والباقون ذُكروا في الباب، وقبله.

[تنبيه]: رواية عبد الحميد بن جعفر، عن يزيد بن أبي حبيب هذه ساقها أبو عوانة رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(8510)

- حدّثنا أبو يوسف الفارسيّ، والصغانيّ، وأبو أمية، قالوا: ثنا أبو عاصم، عن عبد الحميد بن جعفر، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي

(1)

"الفتح" 13/ 279، كتاب "اللباس" رقم (5801).

ص: 628

الخير، عن عقبة بن عامر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى في فَرُّوج من حرير، ثم نزعه، فألقاه، فقيل: يا رسول الله صليت فيه، ثم نزعته؟ قال:"إنه لا ينبغي للمتقين". انتهى

(1)

.

وساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"، مقرونةً برواية محمد بن إسحاق، فقال:

(17390)

- حدّثنا عبد الله

(2)

، حدّثني أبي، ثنا يزيد بن هارون، ثنا محمد بن إسحاق، عن يزيد بن أبي حبيب

وثنا أبي، عن الضحّاك بن مَخْلَد، عن عبد الحميد بن جعفر، ثنا يزيد بن أبي حبيب، عن مَرْثَد بن عبد الله الْيَزَنيّ، عن عُقبة بن عامر الْجُهَنِيّ، قال: أُهدي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فَرُّوج حرير، فلبسه، فصلى فيه بالناس المغرب، فلما سَلَّم من صلاته نزعه نزعًا عَنِيفًا، ثم ألقاه، فقلنا: يا رسول الله قد لبسته، وصليت فيه؟، قال:"إن هذا لا ينبغي للمتقين". انتهى

(3)

، والله تعالى أعلم.

(2) - (بَابُ إِبَاحَةِ لُبْسِ الْحَرِيرِ لِلرَّجُلِ إِذَا كَانَ بِهِ حِكَّةٌ أَو نَحْوُهَا)

وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5418]

(2076) - (حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاء، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، أَن أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ أنبَأَهُمْ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَخَّصَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَالزُّبَيْرِ

(4)

بْنِ الْعَوَّامِ فِي الْقُمُصِ الْحَرِير، فِي السَّفَر، مِنْ حِكَّةٍ كَانَتْ بِهِمَا، أَو وَجَعٍ كَانَ بِهِمَا).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

وكلهم تقدّموا في الباب الماضي.

(1)

"مسند أبي عوانة" 5/ 229.

(2)

هو: ولد الإمام أحمد راوي "المسند" عنه.

(3)

"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 4/ 150.

(4)

وفي نسخة: "وللزبير".

ص: 629

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وشيخه أحد التسعة الذين روى عنهم الجماعة بلا واسطة، وقد تقدّموا غير مرّة، وفيه أنس رضي الله عنه من المكثرين السبعة، ومن المعمَّرين من الصحابة رضي الله عنهم، عاش فوق مائة، وهو آخر من مات منهم بالبصرة. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ) اسمه مِهْران، أنه قال:(حَدَّثَنَا قَتَادَةُ) بن دِعامة السّدوسيّ (أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ) رضي الله عنه (أنبَأَهُمْ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَخَّصَ) بتشديد الخاء المعجمة، من الترخيص، وهو التسهيل، يقال: رخّص الشرعُ لنا في كذا ترخيصًا، وأرخص إرخاصًا: إذا يسّره، وسهّله. قاله الفيّوميّ. (لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ) القرشيّ الزهريّ، أحد العشرة المبشّرين بالجنّة، ومن السابقين الأولين في الإسلام، توفّي سنة (32)، وتقدّمت ترجمته في "الصلاة" 23/ 957. (وَالزُّبَيْرِ) وفي بعض النسخ:"وللزبير" باللام، (ابْنِ الْعَوَّامِ) بن خُويلد القرشيّ الأسديّ، أحد العشرة المبشّرين بالجنّة، وأحد السابقين إلى الإسلام، توفّي سنة (36) بعد مُنصرفه من وقعة الْجَمَل. (فِي) لُبس (الْقُمُصِ) بضمّتين: جمع قَميص، قال الفيّوميّ: القميص: جمعه قُمْصان، وقُمُصٌ بضمّتين، وقَمّصته قَمِيصًا بالتشديد: ألبسته، فتقمّصه. انتهى، وقال المجد: والْقَميص، وقد يؤنّث: معروفٌ، أو لا يكون إلا من قُطنٍ، وأما من الصوف، فلا، وجَمْعه: قُمُصٌ، وأقمصةٌ، وقُمصان. انتهى.

وقال المرتضى في "شرحه": "والقَمِيص": الَّذي يُلْبَس، مُذَكَّر، وقَدْ يُؤَنَّث إِذا عُنِيَ به الدِّرْعٌ. وقد أَنَّثَهُ جَرِيرٌ حينَ أَرادَ به الدِّرْعَ [من الكامل]:

تَدْعُو هَوَازِنَ والقَميصُ مُفَاضَةٌ

تَحْتَ النِّطَاق تُشَدُّ بالأَزْرار

فإِنَّهُ أَراد: وقَميصُه درْعٌ مُفَاضَةٌ. قال: وذَكَرَ الشَّيْخُ ابنُ الجَزَريّ وغَيْرُه أَنَّ القَمِيصَ ثَوْبٌ مَخيطٌ بكُمَّيْنِ، غَيْرُ مُفرجٍ، يُلْبَسُ تَحْتَ الثِّيَاب، قيل: ولَعَلَّه مَأْخُوذٌ من الجِلْدَة الَّتي هيَ غِلَافُ القَلْبِ، وقِيلَ: مَأْخُوذٌ من التَّقَمُّص، وهو

ص: 630

التَّقَلُّب". انتهى باختصار

(1)

.

وقوله: (الْحَرِيرِ) بالجرّ عطف بيان لـ "القُمُص"، وفي الرواية الآتية:"في قُمُص الحرير" بالإضافة، وفي أخرى:"في لُبس الحرير" بلا ذكر "القُمص"، وهي رواية البخاريّ في "اللباس"، وفي لفظ له في "الجهاد":"في قميص من حرير". (فِي السَّفَرِ) متعلّق بـ "رخص"، وهل هو خاصّ بالسفر أم لا؟ يأتي البحث عنه. (مِنْ حِكَّةٍ كَانَتْ بِهِمَا)"من" تعليليّةٌ؛ لأجل حكة كانت بهما.

و" الحكّة" - بالكسر: الْجَرَبُ. قاله في "القاموس". وفي "المصباح": داء يكون بالجسد، وفي كتب الطبِّ: هي خِلْطٌ رَقيقٌ، بُرَقِيٌّ، يحدُث تحت الجلد، ولا يحدُث منه مِدَةٌ، بل شيء كالنخالة، وهو سريع الزوال. وفي رواية همّام الآتية:"أن عبد الرحمن بن عوف، والزبير بن العوّام شَكَوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم القَمْل، فرخّص لهما في قميص الحرير، في غَزاة لهما".

وقوله: (أَو) للشكّ من الراوي، (وَجَعٍ) بفتحتين؛ أي: مرض، والمراد به الحكّة، (كَانَ بِهِمَا).

قال السنديّ رحمه الله: والظاهر أن الحكّة هي علّة الرخصة، وقد جاء أن الواقعة كانت في السفر، لكن السفر اتفاقيّ، لا دخل له في العلة، ويَحْتَمِل أن العلّة مجموعهما، أو كلّ واحد منهما، وكأن من جوّز للحرب رأى أن العلَّة كلّ منهما. والله تعالى أعلم. انتهى.

وقال في "الفتح": ذكر البخاريّ حديث أنس رضي الله عنه في الرخصة للزبير وعبد الرحمن بن عوف، في قميص الحرير من خمسة طُرُق، ففي رواية سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة:"من حكة كانت بهما"، وكذا قال شعبة في أحد الطريقين، وفي رواية همام، عن قتادة في أحد الطريقين:"يعني: القمل"، ورجح ابن التين الروايةَ التي فيها "الحكة"، وقال: لعل أحد الرواة تأولها فأخطأ.

وجمع الداوديّ باحتمال أن يكون إحدى العلتين بأحد الرجلين.

وقال ابن العربيّ: قد ورد أنه أرخص لكل منهما، فالإفراد يقتضي أن لكل حكّة.

(1)

"تاج العروس من جواهر القاموس" 1/ 4520 - 4521.

ص: 631

قال الحافظ: ويمكن الجمع بأن الحكة حصلت من القَمْل، فنُسبت العلة تارة إلى السبب، وتارة إلى سبب السبب.

ووقع في رواية محمد بن بشار، عن غندر:"رخص، أو أرخص"، كذا بالشك، وقد أخرجه أحمد عن غندر بلفظ:"رخّص رسول الله صلى الله عليه وسلم"، وكذا قال وكيع عن شعبة.

قال: وجعل الطبريّ جوازه في الغزو، مستنبَطًا من جوازه للحكة، فقال: دلّت الرخصة في لبسه بسبب الحكة، أن من قَصَد بلبسه ما هو أعظم، من أذى الحكّة، كدفع سلاح العدوّ، ونحو ذلك، فإنه يجوز.

قال: ثم المشهور عن القائلين بالجواز، أنه لا يختص بالسفر، وعن بعض الشافعية يختص. وقال القرطبيّ: الحديث حجة على من منع، إلا أن يدّعي الخصوصية بالزبير وعبد الرحمن، ولا تصح تلك الدعوى.

وقد جنح إلى ذلك عمر رضي الله عنه، فروى ابن عساكر من طريق ابن عوف، عن ابن سيرين، أن عمر رأى على خالد بن الوليد، قميص حرير، فقال: ما هذا؟ فذكر له خالد قصة عبد الرحمن بن عوف، فقال: وأنت مثل عبد الرحمن؟، أوَ لك مثل ما لعبد الرحمن؟ ثم أمر من حضره فمزقوه. رجاله ثقات، إلا أن فيه انقطاعًا. انتهى ما في "الفتح"

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: تبيّن بهذا أن الأثر لا يكون مؤيّدًا لمن ادّعى الخصوصيّة؛ لانقطاعه، فتنبّه.

وقال في موضع آخر: قال الطبريّ: فيه دلالة على أن النهي عن لُبس الحرير لا يدخل فيه من كانت به علّة، يخففها لبس الحرير. انتهى، ويَلتحق بذلك ما يقي من الحرّ، أو البرد، حيث لا يوجد غيره.

قال: وقد خصّ بعض الشافعية الجواز بالسفر دون الحضر، واختاره ابن الصلاح، وخصّه النوويّ في "الروضة" مع ذلك بالحكّة، ونقله الرافعيّ في القمل أيضًا. انتهى

(2)

، والله تعالى أعلم بالصواب.

(1)

"الفتح" 7/ 193 - 194، كتاب "الجهاد" رقم (2919).

(2)

"الفتح" 13/ 320، كتاب "اللباس" رقم (5839).

ص: 632

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أنس رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [2/ 5418 و 5419 و 5420 و 5421 و 5422](2076)، و (البخاريّ) في "الجهاد والسير"(2919 و 2920 و 2922) و"اللباس"(5839)، و (أبو داود) في "اللباس"(4056)، و (الترمذيّ) في "اللباس"(1722)، و (النسائيّ) في "الزينة"(5312 و 5313) و"الكبرى"(9635 و 9636)، و (ابن ماجه) في "اللباس"(3592)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1972)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(8/ 355)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 122 و 127 و 180 و 192 و 215 و 252 و 255 و 273)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(3148 و 3250)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5430 و 5431 و 5432)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(5/ 234 و 235)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(3/ 268 - 269)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(3105 و 3106)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان الرخصة في لُبس الحرير للضرورة، وسيأتي اختلاف العلماء في ذلك في المسألة التالية - إن شاء الله تعالى -.

2 -

(ومنها): سماحة الشريعة، وسهولتها، حيث تراعي حاجات المكلّفين، فحيثما يلحقهم ضرر يُلجؤهم إلى ارتكاب المحظور تُوَسّع عليهم، وتُبيح ذلك المحظور؛ رفقًا بهم، قال الله تعالى:{وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} الآية [الأنعام: 119].

3 -

(ومنها): أن فيه بيانَ خاصيّة الحرير، حيث إنه يدفع أذى القمل، وضرر الحكّة.

وقال في "الفتح": ووقع في كلام النوويّ تبعًا لغيره، أن الحكمة في لبس الحرير للحكة؛ لِمَا فيه من البرودة.

وتُعُقّب بأن الحرير حارّ، فالصواب أن الحكمة فيه لخاصة فيه؛ لِدَفْع ما تنشأ عنه الحكة كالقمل. والله تعالى أعلم.

ص: 633

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في لبس الحرير للضرورة:

(اعلم): أنه قد اختلف السلف في لباسه، فمنعه مالك، وأبو حنيفة مطلقًا، وقال الشافعيّ، وأبو يوسف: بالجواز للضرورة، وحَكَى ابن حبيب، عن ابن الماجشون، أنه يستحب في الحرب، وقال المهلَّب: لباسه في الحرب؛ لإرهاب العدوّ، وهو مثل الرخصة في الاختيال في الحرب. انتهى

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: ترخيص النبيّ صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن، والزبير رضي الله عنهما في لباس الحرير للحكّة، أو للقمل يدلّ على جواز ذلك للضرورة، وبه قال جماعة من أهل العلم، وبعض أصحاب مالك، وأما مالك: فمَنَعه في الوجهين، والحديث واضح الحجة عليه، إلا أن يدّعي الخصوصيّة بهما، ولا يصحّ، أو لعلّ الحديث لم يبلغه. انتهى

(2)

.

وقال النوويّ رحمه الله: هذا الحديث صريحٌ في الدلالة لمذهب الشافعيّ، وموافقيه أنه يجوز لُبس الحرير للرجل، إذا كانت به حكّة؛ لِمَا فيه من البرودة، وكذلك للقمل، وما في معنى ذلك. وقال مالك: لا يجوز، وهذا الحديث دليلٌ لجواز لبس الحرير عند الضرورة، كمن فاجأته الحرب، ولم يجد غيره. قال: والصحيح عند أصحابنا، والذي قطع به جماهيرهم أنه يجوز لبس الحرير للحكّة، ونحوها في السفر، والحضر جميعًا. وقال بعض أصحابنا: يختصّ بالسفر، وهو ضعيف. انتهى

(3)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الذي يظهر لي أن ما ذهب إليه الجمهور من جواز لبس الحرير للضرورة هو الحقّ؛ لقوّة دليله، ولعلّ الذين منعوا منه على الإطلاق لم يبلغهم حديث الباب، والله تعالى أعلم بالصواب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5419]

(

) - (وَحَدَّثَنَاهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ، حَدَّثنَا سَعِيدٌ، بِهَذَا الإِسْنَاد، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي السَّفَرِ).

(1)

"الْفَتْح" 7/ 194، كتاب "الجهاد" رقم (2919).

(2)

"المفهم" 5/ 398.

(3)

"شرح النووي" 14/ 52 - 53.

ص: 634

رجال هذا الإسناد: ثلاثة:

وكلّهم سبقوا في البابين الماضيين.

[تنبيه]: رواية محمد بن بشر، عن سعيد بن أبي عروبة هذه لم أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5420]

(

) - (وَحَدثنَاهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثنَا وَكِيعٌ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أنسٍ، قَالَ: رَخَّصَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم - أَو رُخِّص - لِلزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّام، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ في لُبْسِ الْحَرِيرِ؛ لِحِكَّةٍ كَانَتْ بِهِمَا).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

وكلّهم ذُكروا في الباب، والباب الماضي.

وقوله: (رَخّصَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَو رُخِّصَ)"أو" فيه للشكّ من الراوي، و"رخّص" بالتشديد، و"أرخص"، بالهمزة لغتان، بمعنى سَهّل.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله قبل حديث، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5421]

(

) - (وَحَدَّثَنَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثنَا شُعْبَةُ بِهَذَا الإسْنَادِ مِثْلَهُ).

رجال هذا الإسناد: أربعة:

وكلّهم ذُكروا في الباب وقبله.

[تنبيه]: رواية محمد بن جعفر، عن شعبة هذه ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، بعد إخراجه الحديث من رواية يحيى القطّان، عن شعبة، فقال:

(2921)

- حدّثنا مسدّد، حدّثنا يحيى، عن شعبة، أخبرني قتادة، أن أنسًا حدّثهم، قال: رَخَّص النبيّ صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن عوف، والزبير بن العوام في حرير.

(2922)

- حدّثني محمد بن بشار، حدّثنا غُندر، حدّثنا شعبة، سمعت قتادة، عن أنس، رَخَّصَ، أو رُخِّص لحكة بهما. انتهى.

ص: 635

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5422]

(

) - (وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، حَدَّثنَا قَتَادَةُ، أَنَّ أنَسًا أَخْبَرَهُ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ، وَالزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّام، شَكَوَا إِلَى رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم الْقَمْلَ، فَرَخَّصَ لَهُمَا فِي قُمُصِ الْحَرِير، فِي غَزَاةٍ لَهُمَا).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(عَفَّانُ) بن مسلم بن عبد الله الصفّار، أبو عثمان البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ ربما وَهِم، من كبار [10](ت 220)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 44.

2 -

(هَمَّامُ) بن يحيى بن دينار الْعَوْذيّ، أبو عبد الله، أو أبو بكر البصريّ، ثقةٌ [7](ت 4 أو 165)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 70.

والباقون ذُكروا في الباب الماضي.

وقوله: (شَكَوَا إِلَى رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم) شكوت بالواو، وشكيت بالياء لغتان، أفاده في "القاموس"

(1)

.

وقوله: (الْقَمْلَ) بفتح، فسكون، وفِعله كفَرِح، يقال: قَمِلَ رأسه: إذا كثُر قمله.

وقوله: (في غزَاةٍ لَهُمَا) بفتح الغين المعجمة، لغة في الْغَزْو.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى البحث عنه مستوفًى، ولله الحمد والمنّة.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(3) - (بَابُ النَّهْيِ عَنْ لُبْسِ الرَّجُلِ الثَّوْبَ الْمُعَصْفَرَ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5423]

(2077) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ يَحْيَى، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِث، أَنَّ ابْنَ مَعْدَانَ أَخْبَرَهُ، أَنَّ جُبَيْرَ بْنَ نُفَيْرٍ أَخْبَرَهُ، أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَخْبَرَهُ، قَالَ:

(1)

"القاموس المحيط" ص 702.

ص: 636

رَأَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَيَّ ثَوْبَيْنِ مُعَصْفَرَيْن، فَقَالَ:"إِنَّ هَذ مِنْ ثِيَابِ الْكفَّار، فَلَا تَلْبَسْهَا").

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(يَحْيَى) بن أبي كثير صالح بن المتوكّل الطائيّ مولاهم، أبو نصر اليماميّ، ثقةٌ ثبتٌ يُدلّس ويرسل [5](ت 132)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 424.

2 -

(مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ) التيميّ، أبو عبد الله المدنيّ، ثقةٌ [4](ت 120) على الصحيح (ع) تقدم في "الإيمان" 13/ 159.

3 -

(ابْنَ مَعْدَانَ) هو: خالد بن معدان بن أبي كُريب الْكَلاعيّ، أبو عبد الله الشاميّ الحمصيّ، ثقةٌ عابدٌ، يُرسل كثيرًا [3].

روى عن ثوبان، وابن عمرو، وابن عمر، وعتبة بن عبد السّلميّ، ومعاوية بن أبي سفيان، والمقدام بن معد يكرب، وأبي أمامة، وغيرهم.

وروى عنه بَحِير بن سَعْد، ومحمد بن إبراهيم بن الحارث التيميّ، وثور بن يزيد، وحَرِيز بن عثمان، وحسان بن عطية، وفُضيل بن فَضَالة، وجماعة.

قال يعقوب بن شيبة: لم يلق أبا عبيدة، وهو كَلاعيّ، يُعدّ من الطبقة الثالثة من فقهاء الشام بعد الصحابة، وقال العجليّ: شاميّ تابعيّ ثقة، وقال يعقوب بن شيبة، ومحمد بن سعد، وابن خِراش، والنسائيّ: ثقة، وقال أبو مسهر، عن إسماعيل بن عياش: حدّثتنا عبدة بنت خالد بن معدان، وأم الضحاك بنت راشد، أن خالد بن معدان قال: أدركت سبعين رجلًا من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقال بقية عن بَحير بن سعد: ما رأيت أحدًا ألزم للعلم منه، كان عِلْمه في مصحف له أزرار، وعُرى، قال بقية: وكان الأوزاعيّ يُعَظّم خالدًا، فقال لنا: أله عقب؟ فقلنا: له ابنة، فقال: ائتوها، فسلوها عن هدي أبيها، قال: فكان ذلك سبب إتياننا عبدة، وقال إسماعيل بن عياش، عن صفوان بن عمرو: رأيت خالد بن معدان إذا كبُرت حلقته قام مخافة الشهرة، وقال يزيد بن هارون: مات، وهو صائم، وقال ابن سعد: أجمعوا على أنه تُوُفّي سنة (103)، وقال دُحيم وغيره: مات سنة (104)، وقال يحيى بن صالح، عن

ص: 637

إسماعيل بن عياش: مات سنة (105)، وقيل عن إسماعيل: سنة ست، وقال أبو عبيد، وخليفة: سنة (108)، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: كان من خيار عباد الله، مات سنة (104)، وقيل: سنة (108)، وقيل: سنة (103).

أخرج له الستة، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.

4 -

(جُبَيْرُ بْنُ نُفَيْرِ) بن مالك بن عامر الحضرميّ الحمصيّ، مخضرمٌ ثقةٌ جليل [2](ت 80) أو بعدها (ع) تقدم في "الطهارة" 6/ 559.

5 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ) بن وائل بن هاشم بن سُعيد السهميّ، أبو محمد، أو أبو عبد الرحمن الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، مات في ذي الحجة ليالي الحرّة سنة (63) على الأصحّ، بالطائف على الراجح (ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.

والباقون تقدّموا في البابين الماضيين.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من ثمانيّات المصنّف، وأن شيخه أحد مشايخ الجماعة بلا واسطة، وأن فيه أربعة من التابعين روى بعضهم عن بعض، يحيى فمن بعده، وأن صحابيّه ابن صحابيّ رضي الله عنهما، وهو أحد العبادلة الأربعة رضي الله عنهم.

شرح الحديث:

(عَنْ يَحْيَى) بن أبي كثير، أنه قال:(حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ) التيميّ (أَنَّ) خالد (ابْنَ مَعْدَانَ) بفتح الميم، وسكون العين المهملة، الكلاعيّ الحمصيّ، (أَخْبَرَهُ)؛ أي: أخبر محمد بن إبراهيم (أَنَّ جُبَيْرَ بْنَ نُفَيْرٍ) بتصغير الاسمين، (أَخْبَرَهُ)؛ أي: أخبر ابن مَعْدان (أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ) رضي الله عنهما (أَخْبَرَهُ)؛ أي: أخبر جبيرًا، وقوله:(قَالَ) تفسير وبيان للإخبار، (رَأَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَيَّ ثَوْبَيْنِ مُعَصْفَرَيْنِ) "المُعَصْفر": اسم مفعول، من عَصْفَرتُ الثوب: إذا صبغته بالْعُصْفُر، وهو نبتٌ معروف. أفاده في "المصباح"

(1)

، وفي "اللسان": الْعُصفر هذا الذي يُصبغ به منه رِيفيّ، ومنه

(1)

"المصباح المنير" 2/ 414.

ص: 638

برّيّ، وكلاهما نبتٌ بأرض العرب. انتهى

(1)

.

(فَقَالَ: "إِنَّ هَذِهِ مِنْ ثِيَابِ الْكُفَّار، فَلَا تَلْبَسْهَا") قال القرطبيّ رحمه الله: هذا يدلّ على أن علّة النهي من لباسهما التشبّه بالكفّار. انتهى

(2)

. والله تعالى أعلم بالصواب

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [3/ 5423 و 5424 و 5425](2077)، و (النسائيّ) في "الزينة"(8/ 203) و"الكبرى"(9647 و 9648)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1/ 301)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(11/ 79)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 162 و 164 و 193 و 207)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(5/ 236 و 237)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(4/ 249)، و (الحاكم) في "المستدرك"(4/ 211)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(2/ 219)، و (ابن سعد) في "الطبقات"(4/ 265)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 60)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان النهي عن لبس المعصفر. قال الشوكانيّ رحمه الله: وقد استَدَلّ بهذا الحديث من قال بتحريم لبس الثوب المصبوغ بعصفر، وذهب جمهور العلماء من الصحابة، والتابعين، ومن بعدهم، وبه قال الشافعيّ، وأبو حنيفة، ومالك إلى الإباحة، كذا قال ابن رسلان في "شرح السنن"، قال: وقال جماعة من العلماء بالكراهة للتنزيه، وحملوا النهي على هذا؛ لِمَا في "الصحيحين" من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، قال:"رأيت رسول الله يصبغ بالصفرة"، زاد في رواية أبي داود، والنسائيّ:"وقد كان يصبغ بها ثيابه كلها".

وقال الخطابيّ: النهي منصرف إلى ما صُبغ من الثياب، وكأنه نظر إلى ما في "الصحيحين" من ذِكر مطلق الصبغ بالصفرة، فقَصَره على صبغ اللحية، دون

(1)

"لسان العرب" 4/ 581.

(2)

"المفهم" 5/ 399.

ص: 639

الثياب، وجعل النهي متوجهًا إلى الثياب، ولم يلتفت إلى تلك الزيادة المصرِّحة بأنه كان يصبغ ثيابه بالصفرة.

ويمكن الجمع بأن الصفرة التي كان يصبغ بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، غير صفرة العصفر المنهيّ عنه، ويؤيد ذلك حديث ابن عمر رضي الله عنهما:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يصبغ بالزعفران".

وقد أجاب من لم يقل بالتحريم، عن حديث ابن عمرو المذكور في الباب، وحديثه الذي بعده، بأنه لا يلزم من نهيه له نهي سائر الأمة، وكذلك أجاب عن حديث عليّ الآتي بأن ظاهر قوله:"نهاني" أن ذلك مختصّ به، ولهذا ثبت في رواية عنه أنه قال:"ولا أقول: نهاكم".

وهذا الجواب ينبني على الخلاف المشهور بين أهل الأصول في حُكمه صلى الله عليه وسلم على الواحد من الأمة، هل يكون حكمًا على بقيتهم أو لا؟ والحقّ الأول، فيكون نهيه لعليّ وعبد الله رضي الله عنهما نهيًا لجميع الأمة.

ولا يعارضه صبغه بالصفرة، على تسليم أنها من العصفر؛ لِمَا تقرر في الأصول من أن فِعْله صلى الله عليه وسلم الخالي عن دليل التأسي الخاص، لا يعارض قوله الخاصّ بأمته

(1)

، فالراجح تحريم الثياب المعصفرة. والعصفرُ، وإن كان يصبغ صبغًا أحمر، كما قال ابن القيم، فلا معارضة بينه وبين ما ثبت في "الصحيحين" من أنه كان يلبس حلة حمراء؛ لأن النهي في هذه الأحاديث يتوجه إلى نوع خاص من الحمرة، وهي الحمرة الحاصلة عن صباغ العصفر، وسيأتي ما حكاه الترمذي عن أهل الحديث بمعنى هذا. انتهى كلام الشوكانيّ رحمه الله

(2)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن الأرجح القول بتحريم لبس المعصفر على الرجال، كما يأتي في المسألة التالية، ولا يستلزم ذلك تحريم

(1)

هذه القاعدة قد نبهت عليها كثيرًا، وهو أن الأرجح خلاف ما قاله الشوكانيّ رحمه الله، وهو أن فِعله صلى الله عليه وسلم كقوله، فيعامَل معاملته، إلا إذا كان خاصًّا به، ولا تثبت الخصوصيّة إلا بدليل خاصّ، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

(2)

"نيل الأوطار" 2/ 181 - 182.

ص: 640

المصبوغ بالصفرة؛ لِمَا ذُكر من أن ذلك جائز بحديث ابن عمر رضي الله عنهما المتّفق عليه، فتبصّر.

2 -

(ومنها): أن في حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عند أحمد، وأبي داود الآتي

(1)

دليلًا على جواز لبس المعصفر للنساء.

3 -

(ومنها): أنه احتَجّ به من يرى جواز المعاقبة بالمال، ولكن الراجح عدم جوازه إلا فيما ورد به النصّ، وقد تقدّم تمام البحث فيه في "كتاب الزكاة"، فارجع إليه تستفد. والله تعالى وليّ التوفيق.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في لبس المعصفر:

قال أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله: وقد اختَلف العلماء في جواز لبس المعصفر، فرُوي كراهته عن ابن عمر، وأجازه جماعة من الصحابة، والتابعين، والفقهاء، وهو قول مالك، والشافعيّ، وكره ما اشتدّت حمرته: عطاء، وطاوس، وأباحا ما خفّ منها، وفرّق بعضهم بين أن يُمتهن، فيجوز، أو يُلبس، فيُكره، وهو قول ابن عبّاس، والطبريّ، وكره بعض أهل العلم جميع ألوان الحمرة، وقد صحّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه لبس حلّة حمراء، وقد لبس النبيّ صلى الله عليه وسلم ما صُبغ بالصفرة على ما جاء عن ابن عمر رضي الله عنهما، فلا وجه لكراهة الحمرة مطلقًا، وإنما المكروه للرجال المعصفر، والمزعفر؛ لنهي النبيّ صلى الله عليه وسلم عن ذلك للرجال. وكره المعصفر بعض أهل العلم مطلقًا، وأجازه مالكٌ تمسّكًا بحديث ابن عمر المتقدّم. وقد حمل بعضهم النهي على الْمُحْرِم. قال القرطبيّ: وهذا فيه بُعدٌ؛ لأن النساء والرجال ممنوعون من التطيّب في الإحرام، فلا معنى لتخصيصه بالرجال، وإنما علّة الكراهة في ذلك أنه صِبغ النساء، وطِيب النساء، وقد قال صلى الله عليه وسلم:"طيب الرجال ما ظهر ريحه، وخَفي لونه، وطيب النساء ما ظهر لونه، وخفي ريحه"

(2)

. والله تعالى أعلم. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(3)

.

(1)

وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "ألا كسوتها بعض أهلك، فإنه لا بأس به للنساء"، وسيأتي في شرح الحديث الثالث - إن شاء الله تعالى -.

(2)

حديث صحيحٌ، أخرجه النسائيّ (5119)، والترمذيّ (2788).

(3)

"المفهم" 6/ 399 - 400.

ص: 641

وقال النوويّ رحمه الله: اختَلَف العلماء في الثياب المعصفرة، وهي المصبوغة بعُصفُر، فأباحها جمهور العلماء، من الصحابة والتابعين، ومَن بعدهم، وبه قال الشافعيّ، وأبو حنيفة، ومالك، لكنه قال: غيرها أفضل منها، وفي رواية عنه: أنه أجاز لبسها في البيوت، وأفنية الدور، وكرهه في المحافل، والأسواق، ونحوها. وقال جماعة من العلماء: هو مكروه كراهة تنزيه، وحملوا النهي على هذا؛ لأنه ثبت أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لبس حلة حمراء، وفي "الصحيحين" عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: رأيت النبيّ صلى الله عليه وسلم يصبغ بالصفرة. وقال الخطابيّ: النهي منصرف إلى ما صُبغ من الثياب بعد النسج، فأما ما صُبغ غزله ثم نُسج، فليس بداخل في النهي، وحمل بعض العلماء النهي هنا على الْمُحرِم بالحج أو العمرة؛ ليكون موافقًا لحديث ابن عمر رضي الله عنهما:"نُهي المحرم أن يلبس ثوبًا مسه وَرْس، أو زعفران"، وأما البيهقيّ رحمه الله، فأتقن المسألة، فقال في كتابه "معرفة السنن": نهى الشافعيّ الرجل عن المزعفر، وأباح المعصفر، قال الشافعيّ: وإنما رَخَّصْتُ في المعصفر؛ لأني لم أجد أحدًا يحكي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم النهي عنه، إلا ما قال عليّ رضي الله عنه:"نهاني، ولا أقول: نهاكم"، قال البيهقيّ: وقد جاءت أحاديث تدل على النهي على العموم، ثم ذكر حديث عبد الله بن عمرو بن العاص هذا الذي ذكره مسلم، ثم أحاديث أُخَر، ثم قال: لو بلغت هذه الأحاديث الشافعيّ، لقال بها - إن شاء الله - ثم ذكر بإسناده ما صح عن الشافعيّ، أنه قال: إذا كان حديث النبيّ صلى الله عليه وسلم خلاف قولي، فاعملوا بالحديث، ودعوا قولي، وفي رواية: فهو مذهبي، قال البيهقيّ: قال الشافعيّ: وأنهى الرجل الحلال بكل حال أن يتزعفر، قال: وآمره إذا تزعفر أن يغسله، قال البيهقيّ: فتبع السُّنَّة في المزعفر، فمتابعتها في المعصفر أولى، قال: وقد كره المعصفر بعض السلف، وبه قال أبو عبد الله الْحَليِميّ من أصحابنا، ورخص فيه جماعة، والسُّنَّة أَولى بالاتباع. والله أعلم. انتهى كلام النوويّ رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الذي يظهر لي أن القول بتحريم لبس المعصفر للرجال هو الصواب؛ لصحة الأحاديث بذلك، وأما حديث ابن

(1)

"شرح النوويّ" 14/ 54 - 55.

ص: 642

عمر رضي الله عنهما أنه صلى الله عليه وسلم كان يحبّ الصفرة، ويصبغ بالصفرة، فلا يستلزم أن يكون معصفرًا. والله تعالى أعلم بالصواب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5424]

(

) - (وَحَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثنا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، أَخْبَرَنَا هِشَامٌ (ح) وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ عَلِي بْنِ الْمُبَارَك، كِلَاهُمَا عَنْ يَحْيَى بْنِ أبِي كَثِيرٍ، بِهَذَا الإسْنَاد، وَقَالَا: عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ) الواسطيّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(عَلِيُّ بْنُ الْمُبَارَكِ) الهُنائيّ البصريّ، ثقة، كان له عن يحيى بن أبي كثير كتابان، أحدهما: سماع، والآخر: إرسال، فحديث الكوفيين عنه فيه شيء، من كبار [7](ع) تقدم في "الإيمان" 79/ 417.

والباقون ذُكروا في الباب وقبله، و"هشام" هو: الدستوائيّ.

[تنبيه]: رواية يزيد بن هارون، عن هشام الدستوائيّ، عن يحيى بن أبي كثير ساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده" مقرونةً برواية عبد الصمد بن عبد الوارث، فقال:

(6931)

- حدّثنا عبد الله، حدّثني أبي، ثنا يزيد بن هارون، أنا هشام، وعبد الصمد، قال: ثنا هشام، عن يحيى، عن محمد بن إبراهيم بن الحرث، أن خالد بن معدان حدّثه، أن جُبير بن نُفير حدّثه، أن عبد الله بن عمرو أخبره - قال عبد الصمد: ابن العاص - حدّثه، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم رأى عليه ثوبين معصفرين، فقال:"إن هذه ثياب الكفار، فلا تلبسها". انتهى

(1)

.

ورواية عليّ بن المبارك، عن يحيى ساقها أبو عوانة رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(8534)

- حدّثنا محمد بن عبد الملك الدقيقيّ، وسليمان بن سيف، قالا: ثنا هارون بن إسماعيل (ح) وحدّثنا إدريس بن بكر، قال: ثنا أبو بكر بن

(1)

"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 2/ 207.

ص: 643

أبي شيبة، قال: ثنا وكيع، قالا: ثنا عليّ بن المبارك، عن يحيى، عن محمد بن إبراهيم، عن خالد بن معدان، عن جُبير بن نُفير، عن عبد الله بن عمرو، قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعليّ ثوبان معصفران، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا تلبسها، فإنها ثياب الكفار". انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5425]

(

) - (حَدَّثنَا دَاوُدُ بْنُ رُشَيْدٍ، حَدَّثنا عُمَرُ بْنُ يُّلوبَ الْمَوْصِلِيُّ، حَدَّثنا إِبْرَاهِيمُ بْنُ نَافِعٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ الأَحْوَل، عَنْ طَاوُسٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: رَأَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَيَّ ثَوْبَيْنِ مُعَصْفَرَيْن، فَقَالَ:"أَأُمُّكَ أَمَرَتْكَ بِهَذَا؟ "

(2)

، قُلْتُ: أَغْسِلُهُمَا؟ قَالَ: "بَلْ أَحْرِقْهُمَا").

رجال هذا الإسناد: ستّة:

1 -

(دَاوُدُ بْنُ رُشَيْدٍ) الهاشميّ مولاهم، الْخُوَارَزْميّ، نزيل بغداد، ثقةٌ [10](ت 239)(خ م د س ق) تقدم في "الإيمان" 10/ 148.

2 -

(عُمَرُ بْنُ أيُّوبَ الْمَوْصِليُّ) أبو حفص الْعَبْديّ، ثقةٌ

(3)

[9].

روى عن جعفر بن بُرقان، وأفلح بن حميد، وإبراهيم بن نافع المكيّ، وغيرهم.

وروى عنه أحمد، وابن معين، وداود بن رشيد، وأبو بكر بن أبي شيبة، وغيرهم.

قال أحمد: ليس به بأس، وقال ابن أبي خيثمة، عن ابن معين: ثقةٌ مأمون، وقال أبو داود: ثقة، كان أحمد يمدحه، وقال أبو حاتم: صالحٌ، وقال ابن عمار: ما رأيته يذكر الدنيا، وكان من أشدّ الناس حياء، والناس يضعونه منه كأنه على الكِبْر، وقال الخطيب: كان من ذوي الهيئات، كثير الكتابة، حسن العناية بالطلب، رحل فيه إلى الشام، والعراق، قال ابن عمار:

(1)

"مسند أبي عوانة" 5/ 236 - 237.

(2)

وفي نسخة: "أُمّك أمرتك بهذا؟ ".

(3)

هذا هو الحقّ، وأما في ما قاله في "التقريب": صدوق له أوهام، ففيه نظر؛ فتأمل أقوال العلماء فيه فيما يلي من ترجمته، فلم يطعن فيه أحد منهم، فتنبّه.

ص: 644

مات سنة ثمان وثمانين ومائة، وكذا ذكره ابن حبان في "الثقات"، وذكر الأزديّ في "تاريخ الموصل"، قال: وحدّثني ابن أبي حُريث، عن ابن أبي نافع، قال: كان عمر بن أيوب فقيهًا، وكان يفتي بالموصل، وصَنّف في الفقه من الحديث كتبًا، وقال ابن وضّاح: ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا عمر بن أيوب الموصليّ، وكان عنده ثقة، ولمّا ذكره ابن حبان قال: يُعتبر حديثه من روايته عن الثقات، ومن رواية الثقات عنه.

أخرج له المصنّف، وأبو داود، والنسائيّ، وابن ماجه، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.

3 -

(إِبْرَاهِيمُ بْنُ نَافِعٍ) المخزوميّ المكيّ، ثقةٌ حافظٌ [7](ع) تقدم في "الزكاة" 24/ 2360.

4 -

(سُلَيْمَانُ الأَحْوَلُ) ابن أبي مسلم المكيّ، خال ابن أبي نَجِيح، قيل: اسم أبيه عبد الله، ثقةٌ ثقةٌ

(1)

[5](ع) تقدم في "الإيمان" 65/ 368.

5 -

(طَاوُسُ) بن كيسان الْحِميريّ مولاهم الفارسيّ، أبو عبد الرحمن اليمانيّ، يقال: اسمه ذكوان، وطاوس لقبٌ، ثقةٌ فقيهٌ فاضلٌ [3](ت 106) أو بعد ذلك (ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.

والصحابيّ ذُكر قبله.

وقوله: (فَقَالَ: "أَأُمُّكَ أَمَرَتْكَ بهَذَا؟ ")"أأُمّك؟ " بهمزتين، أُولاهما للاستفهام، وفي بعض النسخ:"أمّك أمَرتك بهذا؟ " بهمزة واحدة، فتقدّر همزة الاستفهام.

قال النوويّ: رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم: "أأمك أمرتك بهذا؟ ": معناه أن هذا من لباس النساء، وزِيِّهن، وأخلاقهن. انتهى

(2)

.

وقال القرطبي رحمه الله: قوله: "أمك أمرتك بهذا؟ " يُشعر بأنَّه إنما كرهها؛ لأنَّها من لباس النساء، وظاهرهما أنهما علّتان في المنع، ويَحْتَمِل أن تكون العلّة مجموعهما. انتهى

(3)

.

(1)

كذا مكرَّرًا قاله الإمام أحمد رحمه الله.

(2)

"شرح النووي" 14/ 55 - 56.

(3)

"المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" 17/ 91.

ص: 645

وقوله: (قُلْتُ: أَغْسِلُهُمَا؟ قَالَ: "بَلْ أَحْرِقْهُمَا") قال القرطبيّ رحمه الله: هذا مبالغة في الرَّدع، والزَّجر، ومن باب جواز العقوبة في الأموال، ولم يُسمع عن أحد القول بذلك، والله تعالى أعلم. انتهى

(1)

.

وقال النوويّ رحمه الله: وأما الأمر بإحراقهما، فقيل: هو عقوبة، وتغليظ لزجره، وزَجْر غيره عن مثل هذا الفعل، وهذا نظير أمر تلك المرأة التي لعنت الناقة بإرسالها، وأمر أصحاب بريرة ببيعها، وأنكر عليهم اشتراط الولاء، ونحو ذلك، والله أعلم. انتهى

(2)

.

وقال السنوسيّ رحمه الله: وقيل: إنما أراد بالإحراق إفناءهما ببيع، أو هبة، واستعار لذلك لفظ الإحراق مبالغةً في الإنكار، ويدلّ على هذا أن عبد الله لَمّا أحرقهما، ثم أتى، قال:"يا عبد الله ما فعلت الرَّيْطة"؟، فأخبره، قال:"أفلا كسوتها بعض أهلك، فإنه لا بأس بها للنساء"، وإنما أحرقهما عبد الله لِمَا رأى من شدّة كراهيته لذلك. انتهى

(3)

.

[تنبيه]: أخرج أحمد، وأبو داود بإسناد صحيح، من طريق عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: هبطنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من ثنية، فالتفت إليّ، وعلي رَيْطَة

(4)

مُضَرَّجة

(5)

بالعُصفُر، فقال:"ما هذه الريطة عليك؟ "، فعرفت ما كره، فأتيت أهلي، وهم يسجُرون

(6)

تنورًا لهم، فقذفتها فيه، ثم أتيته من الغد، فقال:"يا عبد الله، ما فعلت الريطة؟ " فأخبرته، فقال:"ألا كسوتها بعض أهلك، فإنه لا بأس به للنساء".

وفيه الإنكار على إحراق الثوب المنتفَع به لبعض الناس، دون بعض؛ لأنه من إضاعة المال المنهيّ عنها، ولكنه يعارض هذا الحديث المذكور في الباب، فقد أَمَره النبيّ صلى الله عليه وسلم بالإحراق. وقد جمع بعضهم بين الروايتين، بأنه أمَر

(1)

"المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" 17/ 91.

(2)

"شرح النووي" 14/ 55 - 56.

(3)

"شرح السنوسيّ" 5/ 382.

(4)

"الرَّيْطة" بفتح الراء، وسكون الياء المثنّاة تحتُ، ثم طاء مهملة، ويقال: رائطة، قال المنذريّ: جاءت الرواية بهما، وهي كلُّ مُلاءة منسوجة بنسج واحد، وقيل: كل ثوب رقيق ليّن، والجمع: ريطٌ، ورِياطٌ.

(5)

بفتح الراء المشدّدة؛ أي: ملطّخة.

(6)

أي: يوقدون.

ص: 646

أولًا بإحراقهما ندبًا، ثم لمّا أحرقهما قال له النبيّ صلى الله عليه وسلم:"لو كسوتهما بعض أهلك"، إعلامًا له بأن هذا كان كافيًا لو فعله، وأن الأمر للندب.

قال الشوكانيّ رحمه الله: ولا يخفى ما في هذا من التكلف الذي عنه مندوحة؛ لأن القضية لم تكن واحدة، حتى يُجمع بين الروايتين بمثل هذا، بل هما قضيتان مختلفتان، وغايته أنه في إحدى القضيتين غَلّظ عليه، وعاقبه، فأَمَره بإحراقهما، ولعل هذه المرة التي أمره فيها بالإحراق، كانت بعد تلك المرة التي أخبره فيها بأن ذلك غير واجب، وهذا وإن كان بعيدًا من جهة أن صاحب القصة يبعد أن يقع منه اللبس للمعصفر مرة أخرى، بعد أن سمع فيه ما سمع في المرة الأُولى، ولكنه دون البعد الذي في الجمع الأول؛ لأن احتمال النسيان، وكذا احتمال عُروض شبهة، توجب الظنّ بعدم التحريم، ولا سيما وقد وقعت منه المعاتبة على الإحراق. قال القاضي عياض: أَمرُه بإحراقهما من باب التغليظ والعقوبة. انتهى كلام الشوكانيّ رحمه الله

(1)

، وهو تحقيقٌ جيّدٌ، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5426]

(2078) - (حَدَّثنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ حُنَيْنٍ، عَنْ أَبِيه، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أبِي طَالِبٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ لُبْسِ الْقَسِّيّ، وَالْمُعَصْفَر، وَعَنْ تَخَتُّمِ الذَّهَب، وَعَنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِي الرُّكُوعِ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ حُنَيْنٍ) الهاشميّ مولاهم، أبو إسحاق المدنيّ، ثقةٌ [3] مات بعد المائة (ع) تقدم في "الصلاة" 42/ 1081.

2 -

(أَبُوهُ) عبد الله بن حُنين الهاشميّ مولاهم المدنيّ، ثقةٌ [3] مات في أول خلافة يزيد بن عبد الملك في أول المائة الثانية (ع) تقدم في "الصلاة" 42/ 1081.

والباقون ذُكروا قبل باب.

(1)

"نيل الأوطار" 2/ 182 - 183.

ص: 647

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وهو مسلسل بالمدنيين، وشيخه، وإن كان نيسابوريًّا، إلا أنه دخل المدينة، وأخذ عن مالك، وفيه رواية الابن عن أبيه، وتابعيّ عن تابعيّ، وصحابيه رضي الله عنه تقدّمت مناقبه قبل باب.

شرح الحديث:

(عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِب) رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ لُبْسِ الْقَسِّيِّ) بفتح القاف، وكسر السين المهملة المشدّدة، قال النوويّ رحمه الله: وهذا الذي ذكرناه من فتح القاف هو الصحيح المشهور، وبعض أهل الحديث يكسرها، قال أبو عبيد: أهل الحديث يكسرونها، وأهل مصر يفتحونها.

واختلفوا في تفسيره، فالصواب ما ذكره مسلم بعد هذا قريبًا في حديث النهي عن التختم في الوسطى والتي تليها، عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم نهاه عن لبس القسيّ، وعن جلوس على المياثر، قال: فأما القسيّ، فثياب مُضَلَّعة يؤتى بها من مصر والشام، فيها شِبْه"، كذا هو لفظ رواية مسلم، وفي رواية البخاريّ: فيها حرير أمثال الأُتْرُجّ، قال أهل اللغة، وغريب الحديث: هي ثياب مضلعة بالحرير، تُعْمَل بالقَسّ بفتح القاف، وهو موضع من بلاد مصر، وهو قرية على ساحل البحر قريبة من تِنِّيس، وقيل: هي ثياب كتان مخلوط بحرير، وقيل: هي ثياب من القَزّ، وأصله القزيّ بالزاي، منسوب إلى القزّ، وهو رديء الحرير، فأُبدل من الزاي سين. انتهى.

(وَالْمُعَصْفَرِ) تقدّم شرحه في الحديث الماضي، (وَعَنْ تَخَتُّم الذَّهَبِ)؛ أي: اتّخاذ الذهب خاتمًا، وسيأتي البحث فيه مستوفًى بعد خمسة أَبواب - إن شاء الله تعالى - (وَعَنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِي الرُّكُوعِ) زاد في رواية معمر الآتية:"والسجود"، وقد تقدّم البحث في النهي عن قراءة القرآن في الركوع والسجود في "كتاب الصلاة"[42/ 1079](479) مستوفًى، فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق.

والحديث من أفراد المصنّف رحمه الله، وقد تقدّم تخريجه بالرقم المذكور، ولله الحمد والمنّة.

ص: 648

وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5427]

(

) - (وَحَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، أخْبَرَنَا ابْنُ وَهْب، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، حَدَّثَني إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ حُنَيْنٍ، أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ، أَنَّهُ سَمِعَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِب يَقُولُ: نَهَانِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْقِرَاءَة، وَأنا رَاكِعٌ، وَعَنْ لُبْسِ الذَّهَب، وَالْمُعَصْفَرِ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

وكلّهم ذُكروا في الباب، وقبل باب، وشرح الحديث واضح، وهو من أفراد المصنّف رحمه الله أيضًا.

وبالسند المتصل إلى المؤلّف: رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5428]

(

) - (حَدَّثنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، حَدَّثنَا عَبْدُ الرَّزَّاق، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ حُنَيْنٍ، عَنْ أَبِيه، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، قَالَ: نَهَانِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ التَّخَتُّم بِالذَّهَبِ، وَعَنْ لِبَاسِ الْقَسِّيّ، وَعَنِ الْقِرَاءةِ: فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُود، وَعَنْ لِبَاسِ المُعَصْفَرِ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

وكلّهم ذُكروا في الباب، وقبل باب، وشيخه ذُكر قبل ثلاثة أبواب، وشرح الحديث واضح، وهو من أفرإد المصنّف رحمه الله أيضًا.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(4) - (بَابُ فَضْلِ لِبَاسِ ثِيَابِ الْحِبَرَةِ)

" الحِبَرَة" - بكسر الحاء المهملة، وفتح الموحّدة، بوزن عِنَبَة -: ثوبٌ يمانيّ، من قطن، أو كتّان، مُخطّطٌ، يقال: بُرْدٌ حِبَرٌ، على الوصف، وبُرْدُ حِبَرٍ على الإضافة، والجمع حِبَرٌ، وحِبَرَاتٌ، مئلُ عِنَبٍ، وعِنَبات، قال الأزهريّ: ليس حِبَرةٌ موضعًا، أو شيئًا معلومًا، إنما هو وَشْيٌ معلومٌ، أُضيف الثوب إليه، كما قيل: ثوبُ قِرْمِزٍ بالإضافة، والقِرْمِزُ صبغُهُ، فأُضيف الثوب إلى الوَشْي،

ص: 649

والصِّبْغِ للتوضيح. قاله الفيّوميّ

(1)

.

وفي "اللسان" ما يفيد: أن الحبرة بكسر، ففتح، أو بفتحات، وهي ضَرْب من بُرْد اليمن، مُنَمَّر. انتهى

(2)

. والله تعالى أعلم بالصواب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5429]

(2079) - (حَدَّثَنَا هَدَّابُ بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، قالَ: قُلْنَا لأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: أَيُّ اللَّبَاسِ كَانَ أَحَبَّ إِلَى رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم، أَو أَعْجَبَ إِلَى رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: الْحِبَرَةُ).

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(هَدَّابُ بْنُ خَالِدِ) بن الأسود الْقَيْسيّ، ويقال له: هُدْبة، أبو خالد البصريّ، ثقةٌ عابدٌ، تفرّد النسائيّ بتليينه، من صغار [9] مات سنة بضع و (23)(خ م د) تقدم في "الإيمان" 11/ 151.

والباقون تقدّموا قبل باب.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (411) من رباعيّات الكتاب، وأنه مسلسلٌ بالبصريين من أوله إلى آخره، ومسلسلٌ أيضًا بالتحديث، وتقدّم الكلام في الصحابيّ رضي الله عنه قريبًا.

شرح الحديث:

عن قَتَادَةَ أنه (قَالَ: قُلْنَا لأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ) رضي الله عنه، هذه الرواية تضمّنت السلامة من تدليس قتادة، حيث شافه أنسًا رضي الله عنه بالسؤال مع من معه، (أَيُّ اللِّبَاسِ كَانَ أَحَبَّ إِلَى رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم، أَو) للشكّ من الراوي، (أَعْجَبَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ) أنس رضي الله عنه (الْحِبَرَةُ) بكسر، ففتح، أو بفتحات: قال القرطبيّ رحمه الله: هي ثياب مُخطّطةٌ، يؤتى بها من اليمن، وسُمّيت بالحِبَرة؛ لأنها محبّرةٌ؛ أي: مزيّنةٌ، والتحبير: التزيين. انتهى

(3)

.

وقال النوويّ رحمه الله: "الْحِبَرَة" بكسر الحاء، وفتح الباء، وهي ثياب من

(1)

"المصباح المنير" 1/ 118.

(2)

"لسان العرب" 4/ 159.

(3)

"المفهم" 5/ 401 - 402.

ص: 650

كَتّان، أو قطنٍ مُحَبَّرة؛ أي: مزيَّنة، والتحبير: التزيين والتحسين، ويقال: ثوبٌ حِبَرةٌ على الوصف، وثوبُ حِبرةٍ على الإضافة، وهو أكثر استعمالًا، والحبرة مفرد، والجمع: حِبَرٌ، وحِبَراتٌ، كعِنَبَةِ وعِنَبٍ، وعِنَبَات، ويقال: ثوبٌ حَبِيرٌ على الوصف. انتهى

(1)

.

وقال في "الفتح": قال الجوهريّ: الْحِبَرَة بوزن عِنَبة بُرْدٌ يمان. وقال الهرويّ: مَوْشيّة مخطّطة. وقال الداوديّ: لونها أخضر؛ لأنها لباس أهل الجنّة. كذا قال. وقال ابن بطّال: هي من بُرود اليمن تُصنع من قطن، وكانت أشرف الثياب عندهم. انتهى.

وقال في "المرقاة": ثم الحبرة نوع من برود اليمن بخطوط حُمْر، وربما تكون بخُضْر، أو زُرْق، فقيل: هي أشرف الثياب عندهم تُصْنَع من القطن، فلذا كانت أحبّ، وقيل: لكونها خضراء، وهي من ثياب أهل الجنة، وقد ورد أنه لزكان أحب الألوان إليه الخضرة"

(2)

، على ما رواه الطبرانيّ في "الأوسط"، وابن السنيّ، وأبو نعيم في "الطب".

قال القرطبيّ: سميت حِبَرةً؛ لأنها تُحَبَّر؛ أي: تزيَّن، والتحبير: التحسين، قيل: ومنه قوله تعالى: {فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ} [الروم: 15].

وقيل: إنما كانت هي أحب الثياب إليه؛ لأنه ليس فيها كثير زينة، ولأنها أكثر احتمالًا للوسخ.

قال الجزريّ: وفيه دليل على استحباب لُبس الحِبَرة، وعلى جواز لبس المخطط، فقال ميرك: وهو مجمع عليه. انتهى.

ثم الجمع بين هذا الحديث وبين حديث أم سلمة رضي الله عنها: "كان أحبُّ الثياب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم القميصَ"

(3)

: إما بما اشتهر في مثله من أن المراد أنه من جملة الأحبّ، كما قيل فيما ورد في الأشياء أنه أفضل العبادات والأعمال، وإما بأن التفضيل راجع إلى الصفة، فالقميص أحبّ الأنواع باعتبار

(1)

"شرح النوويّ" 14/ 56.

(2)

حسّنه الشيخ الألبانيّ رحمه الله في "الصحيحة" 5/ 86.

(3)

حديث صحيح، أخرجه أبو داود، والترمذيّ.

ص: 651

الصنع، والحبرة أحبها باعتبار اللون، أو الجنس، والله أعلم. انتهى

(1)

. والله تعالى أعلم بالصواب.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أنس رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [4/ 5429 و 5430](2079)، و (البخاريّ) في "اللباس"(5812 و 5813)، و (أبو داود) في "اللباس"(4060)، و (الترمذيّ) في "اللباس"(1787) و"الشمائل"(60)، و (النسائيّ) في "الزينة"(8/ 203) و"الكبرى"(5/ 478)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 134 و 184 و 251 و 291)، و (عبد بن حُميد) في "مسنده"(1/ 355)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(2873)، و (ابن سعد) في "الطبقات"(1/ 456)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6396)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(5/ 239)، و (ابن الجعد) في "مسنده"(1/ 454)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(3/ 245)، و"شُعَب الإيمان"(5/ 170)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(3066)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان استحباب لبس الحِبَرة.

2 -

(ومنها): جواز لبس المخطّط، قال النوويّ رحمه الله: وهو مُجْمَع عليه.

انتهى. وأخرج الإمام أحمد رحمه الله من طريق الحسن البصريّ: أن عمر بن الخطّاب رضي الله عنه أراد أن ينهى عن حُلَل الحبرة؛ لأنها تُصبغ بالبول، فقال له أُبيّ رضي الله عنه: ليس ذلك لك، فقد لبسهنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولبسناهنّ في عهده. وفيه انقطاع؛ لأن الحسن لم يسمع من عمر رضي الله عنه. قاله في "الفتح"

(2)

. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1)

"مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" 13/ 57.

(2)

"الفتح" 13/ 288، كتاب "اللباس" رقم (5813).

ص: 652

وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5430]

(

) - (حَدَّثنا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثنا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ، حَدّثَني أَبِي، عَنْ قتَادَةَ، عَنْ أنسٍ، قَالَ: كَانَ أَحَبَّ الثِّيابِ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْحِبَرَةُ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

وكلّهم تقدّموا في الباب، والباب الماضي.

وقوله: (كَانَ أَحَبَّ الثِّيابِ إِلَى رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم الْحِبَرَةُ) بنصب "أحبُّ" ورفعه، قال في "المرقاة": بالرفع، أَو النصب، قال ميرك: والرواية على ما صحّحه الجزريّ في "تصحيح المصابيح" رَفْع "الحبرة" على أنها اسم "كان"، و"أحبّ" خبره، ويجوز أن يكون بالعكس، وهو الذي صحّحوه في أكثر نُسَخ "الشمائل"، قال القاري: وهو الظاهر المتبادر، وإلا يقال: كان الحبرةُ أحبَّ، ورُجّح الأول بأن "أحبّ" وصفٌ، فهو أَولى بكونه محكومًا به. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(5) - (بَابُ التَّوَاضُعِ فِي اللِّبَاس، وَالاقْتِصَارِ عَلَى الْغَلِيظِ مِنْهُ، وَالْيَسِيرِ فِي اللِّبَاس، وَالفِرَاش، وَغَيْرهِمَا، وَجَوَازِ لُبْسِ الثَّوْبِ الشَّعَر، وَمَا فِيهِ أَعلَامٌ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5431]

(2080) - (حَدَّثَنَا شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ، حَدَّثنا سُلَيْمَانُ بْنُ الْمُغِيرَة، حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ، فَأَخْرَجَتْ إِلَيْنَا إِزَارًا غَلِيظًا، مِمَّا يُصْنَعُ بِالْيَمَنِ، وَكِسَاءً مِنَ الَّتي يُسَمُّونَهَا الْمُلَبَّدَةَ، قَالَ: فَأقسَمَتْ بِاللهِ إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قُبِضَ: في هَذَيْنِ الثَّوْبَيْنِ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(سُلَيْمَانُ بْنُ الْمُغِيرَةِ) القيسيّ البصريّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(حَدَّثنَا حُمَيْدُ) بن هلال العدويّ البصريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

(1)

"مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" 13/ 57.

ص: 653

3 -

(أَبُو بُرْدَة) بن أبي موسى الأشعريّ، قيل: اسمه عامر، وقيل غيره، تقدّم أيضًا قريبًا.

والباقيان تقدّما قبل ثلاثة أبواب.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف، وأنه مسلسل بالبصريين غير عائشة رضي الله عنها، فمدنيّة، وأبو بردة كوفيّ، وُلد بالبصرة لَمّا كان أبوه أميرها في خلافة عمر رضي الله عنها، وفيه عائشة رضي الله عنها من المكثرين السبعة.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي بُرْدَةَ) بن أبي موسى الأشعريّ، أنه (قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ) أم المؤمنين رضي الله عنها، (فَأخْرَجَتْ إِلَيْنَا إِزَارًا غلِيظًا، مِمَّا يُصْنَعُ بِالْيَمَنِ) ببناء الفعل للمفعول، (وَكِسَاءً مِنَ الَّتِي يُسَمُّونَهَا الْمُلَبَّدَةَ) اسم مفعول من التلبيد، وقال ثعلبٌ: يقال للرقعة التي يُرقع بها القميص: لِبْدة، وقال غيره: هي التي ضُرب بعضها في بعض حتى تتراكب، وتتجمّع، وقال الداوديّ: هو الثوب ضيّق، ولم يُوفَق، قاله في "الفتح"

(1)

.

وقال النوويّ رحمه الله: قال العلماء: "الْمُلَبَّد" بفتح الباء، وهو الْمُرَقَّع، يقال: لَبَدتُ القميصَ أَلْبِدُه، بالتخفيف فيهما، ولَبّدته أُلَبِّده، بالتشديد، وقيل: هو الذي ثَخُن وسطه، حتى صار كاللِّبْد. انتهى

(2)

.

(قَالَ) أبو بردة (فَأَقسَمَتْ) عائشة رضي الله عنها (بِاللهِ إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم) بكسر همزة "إنّ"؛ لوقوعها في جواب القسم، كما في "الخلاصة":

فَاكْسِرْ فِي الابْتِدَا وَفِي بَدْءِ صِلَهْ

وَحَيْثُ "إِنّ" لِيَمِينٍ مُكْمِلَهْ

(قُبِضَ) بالبناء للمفعول؛ أي: مات (فِي هَذَيْنِ الثوْبَيْنِ) متعلّق بـ "قُبض"، أو بحال مقدّر؛ أي: حال كونه كائنًا فيهما، قال القاري رحمه الله: وكأنه إجابة لدعائه صلى الله عليه وسلم: "اللهم أحيني مسكينًا، وأمتني مسكينًا، واحشرني في زمرة

(1)

"الفتح" 13/ 289 - 290، كتاب "اللباس" رقم (5818).

(2)

"شرح النوويّ" 14/ 57.

ص: 654

المساكين"

(1)

، والله تعالى أعلم.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنف) هنا [5/ 5431 و 5432 و 5433](2080)، و (البخاريّ) في "فرض الخمس"(3108) و"اللباس"(5818)، و (أبو داود) في "اللباس"(4036)، و (الترمذيّ) في "اللباس"(1733)، و (ابن ماجه) في "اللباس"(3551)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(20624)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(5/ 174 و 7/ 78)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 32 و 131)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6623)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(5/ 239)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(7/ 407 و 8/ 357)، و (ابن راهويه) في "مسنده"(3/ 750 و 3751)، و (الطبريّ) في "تهذيب الآثار"(1/ 254)، و (ابن الجعد) في "مسنده"(1/ 452)، و (البيهقيّ) في "شُعَب الإيمان"(2/ 170)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان ما كان عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم من الزَّهادة في الدنيا، والإعراض عن متاعها، وملاذّها، وشهواتها، وفاخر لباسها ونحوه، واجتزائه بما يحصل به أدنى التجزية في ذلك كله.

2 -

(ومنها): الحثّ على الاقتداء به صلى الله عليه وسلم في هذا الزهد وغيره، قال رضي الله عنه:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21)} [الأحزاب: 21].

3 -

(ومنها): بيان ما كانت عليه عائشة رضي الله عنها من الحرص على حثّ الأمة في الزهد، والاقتداء به صلى الله عليه وسلم فيه، فإنها ما أخرجت لأبي بُردة ومن معه

(1)

رواه الترمذيّ، وإسناده ضعيف، وصححه الشيخ الألبانيّ، ولعله لشواهده، فليُتأمّل.

ص: 655

إزاره صلى الله عليه وسلم، وكساءه المذكورين إلا لتحثّهم على الاقتداء به صلى الله عليه وسلم في ذلك، والاجتزاء بمثله، وهذا من باب النُّصح لعامّة الناس، الذي ذكره النبيّ صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه مسلم عن تميم الداريّ رضي الله عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"الدين النصيحة"، قلنا: لمن؟ قال: "لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم"، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5432]

(

) - (حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ السَّعْدِيُّ، وَمُحَمّدُ بْنُ حَاتِمٍ، وَيَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ عُلَيَّةَ، قَالَ ابْنُ حُجْرٍ: حَدَّثنَا إِسْمَاعِيلُ، عَنْ أيُّوبَ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ هِلَالٍ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، قَالَ: أَخْرَجَتْ إِلَيْنَا عَائِشَةُ إِزَارًا، وَكِسَاءً مُلَبَّدًا، فَقَالَتْ: فِي هَذَا قُبِضَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ ابْنُ حَاتِمٍ فِي حَدِيثِهِ: إِزَارًا غَلِيظًا).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ السَّعْدِيُّ) المروزيّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمِ) بن ميمون البغداديّ، تقدّم قريبًا.

3 -

(يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) الدَّورقيّ البغداديّ، أحد مشايخ الجماعة بلا واسطة، تقدّم أيضًا قريبًا.

4 -

(إِسْمَاعِيلُ) ابن عُليّة، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

5 -

(أيُّوبُ) بن أبي تميمة السَّخْتيانيّ، تقدّم قبل أربعة أبواب.

والباقيان ذُكرا قبله.

وقوله: (وَكِسَاءً مُلَبَّدًا)؛ أي: ثَخُن وسطه، وصفق حتى صار يُشبه اللِّبْد، ويقال: المراد هنا المرقّع، قاله في "الفتح"

(1)

.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام البحث فيه فيما قبله، ولله الحمد والمنّة.

(1)

"الفتح" 7/ 370، كتاب "فرض الخمس" رقم (3108).

ص: 656

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5433]

(

) - (وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ رَافِع، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاق، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ أيُّوبَ، بِهَذَا الإسْنَادِ مِثْلَهُ، وَقَالَ: إِزَارًا غلِيظًا).

رجال هذا الإسناد: أربعة:

وكلهم ذُكروا في الباب، وقبل باب، إلا شيخه، فتقدّم قريبًا.

[تنبيه]: رواية معمر، عن أيوب السختيانيّ هذه ساقها إسحاق بن راهويه رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(1364)

- أخبرنا عبد الرزاق، نا معمر، عن أيوب، عن حميد، عن أبي بُرْدة، قال: دخلنا على عائشة، فأخرجت إلينا إزارًا غليظًا، وكساءًا مُلَبَّدًا، فقالت: في هذا قُبض رسول الله صلى الله عليه وسلم. انتهى

(1)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5434]

(2081) - (وَحَدَّثَنِي سُرَيْجُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّاءَ بْنِ أَبِي زَائِدَةَ، عَنْ أَبِيهِ (ح) وَحَدَّثَني إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي زَائِدَةَ (ح) وَحَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّاءَ، أَخْبَرَنِي أبِي، عَنْ مُصْعَبِ بنِ شَيْبَةَ، عَنْ صَفِيةَ بِنْتِ شَيْبَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: خَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ غَدَاةٍ، وَعَلَيْهِ مِرْطٌ مُرَحَّلٌ، مِنْ شَعَرٍ أَسْوَدَ).

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(سُرَيْجُ بْنُ يُونُسَ) بن إبراهيم البغداديّ، أبو الحارث مروزيّ الأصل، ثقةٌ عابدٌ [10](ت 235)(خ م س) تقدم في "الإيمان" 25/ 209.

2 -

(يَحْيَى بْنُ زَكَريَّاءَ بْنِ أَبِي زَائِدَةَ) الهَمْدانيّ، أبو سعيد الكوفيّ، ثقةٌ متقنٌ، من كبار [9](ت 3 أو 184) وله (93) سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 5/ 121.

3 -

(أَبُوهُ) زكريّاء بن أبي زائدة خالد، أو هُبيرة بن ميمون بن فيروز الْهَمْدانيّ الوادعيّ، أبو يحيى الكوفيّ، ثقةٌ يُدلّس [6](ت 7 أو 8 أو 149)(ع) تقدم في "الإيمان" 83/ 449.

(1)

"مسند إسحاق بن راهويه" 3/ 751.

ص: 657

4 -

(إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى) الرازيّ الحافظ المعروف بالصغير، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

5 -

(أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ) هو أحمد بن محمد بن حنبل الشيبانيّ، أبو عبد الله البغداديّ مروزيّ الأصل الإمام الحافظ الحجة الثبت الفقيه المجتهد، رأس [10](ت 241)(ع) تقدم في "الإيمان" 80/ 427.

6 -

(مُصْعَبُ بْنُ شَيْبَةَ) بن جُبير بن شيبة بن عثمان العَبْدريّ الْحَجَبيّ المكيّ، ليّن الحديث [5](م 4) تقدم في "الطهارة" 16/ 610.

7 -

(صَفِيَّةُ بِنْتُ شَيْبَةَ) بن عثمان بن صلحة الْعَبدريّة، لها رؤبة، وحدّثت عن عائشة وغيرها من الصحابة، وفي البخاريّ التصريح بسماعها من النبيّ صلى الله عليه وسلم،

وأنكر الدارقطنيّ إدراكها (ع) تقدّمت في "الحيض" 3/ 699.

و"عائشة رضي الله عنها" ذُكرت قبله.

شرح الحديث:

(عَنْ عَائِشَةَ) رضي الله عنها أنها (قَالَتْ: خَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ غَدَاةٍ)؛ أي: غداةً من الغداة، والغداة: أول النهار، قال الفيّوميّ: الغداة: الضحوة، وهي مؤنّثةٌ، قال ابن الأنباريّ: ولم يُسمَع تذكيرها، ولو حَمَلها حاملٌ على معنى أول النهار جاز له التذكير، والجمع غَدَواتٌ. انتهى

(1)

.

(وَعَلَيْهِ مِرْطٌ) - بكسر الميم، وإسكان الراء -: كساء يكون تارةً من صوف، وتارةً من شعر، أو كتان، أو خَزّ، قال الخطابيّ: هو كساء يؤتزر به، وقال النضر: لا يكون الْمِرْط إلا دِرْعًا، ولا يلبسه إلا النساء، ولا يكون إلا أخضر، قال النوويّ: وهذا الحديث يَرُدّ عليه

(2)

. (مُرَحَّلٌ) - بفتح الراء، وفتح الحاء المهملة المشدّدة - هذا هو الصواب الذي رواه الجمهور، وضبطه المتقنون، وحَكَى القاضي عياضٌ أن بعضهم رواه بالجيم؛ أي: عليه صُوَر الرجال، والصواب الأول، ومعناه: عليه صُوَر رحال الإبل، ولا بأس بهذه الصور، وإنما يحرم تصوير الحيوان، وقال الخطابيّ: المرحل الذي فيه

(1)

"المصباح المنير" 2/ 443.

(2)

شرح النوويّ" 14/ 57.

ص: 658

خطوط، ويقال: إنما سمي مُرَحّلًا لأن عليه تصاوير رَحْلٍ، أو ما يشبهه. انتهى.

وقال القرطبيّ رحمه الله: يروى بالحاء المهملة، وبالجيم، فبالحاء فيه صُور الرحال، وبالجيم فيه صور الرجال، وقيل: صور المراجل، وهي القدور، ومنه قالوا: مِرط مراجل على الإضافة. انتهى

(1)

.

(مِنْ شَعَرٍ أَسْوَدَ) إنما قيّده بالأسود؛ لأن الشعر قد يكون أبيض، وفيه أنه صلى الله عليه وسلم لا رغبة له في فاخر الثياب في الدنيا، بل يَقْنَع بما يحصل به المقصود من سترة العورة، ونحوه، والله تعالى أعلم.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

[تنبيه]: مما يُستغرب على المصنّف رحمه الله إخراج هذا الحديث؛ لأنه من رواية مصعب بن شيبة، وهو وإن رُوي عن ابن معين، والعجليّ توثيقه، فالأكثرون على تليينه، فقال أحمد: روى أحاديث مناكير، وقال أبو حاتم: لا يحمدونه، وليس بقويّ، وقال النسائيّ: منكَر الحديث، وقال أيضًا: في حديثه شيء، وقال الدارقطنيّ: ليس بالقويّ، ولا بالحافظ، وقال ابن عديّ: تكلّموا في حفظه

(2)

.

لكنّ مسلمًا إمام مطّلع

(3)

ولعله قوي عنده شأنه، بمتابع، أو شاهِد، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه المصنّف هنا [5/ 5434](2081)، وسيأتي في "كتاب الفضائل"(2424)، و (أبو داود) في "اللباس"(4032)، و (الترمذيّ) في "اللباس"(2813)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 162)، و (ابن راهويه) في "مسنده" (3/

(1)

"المفهم" 5/ 403.

(2)

راجع: "تهذيب التهذيب" 4/ 85.

(3)

وقد ذكر بعض المعلقين على هذا الكتاب ما نصّه: وإسناده ضعيف

إلخ، ولا يخفى ما في هذه العبارة من الجراءة على مسلم الإمام الحافظ الناقد المطلع على علل الأحاديث، فليُتنبّه.

ص: 659

678)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 419)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(5/ 239)، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5435]

(2082) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيه، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: كَانَ وِسَادَةُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم الَّتى يَتَّكِئُ عَلَيْهَا

(1)

مِنْ أَدَمٍ، حَشْوُهَا لِيفٌ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(عَبْدَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ) الكلابيّ، أبو محمد الكوفيّ، يقال: اسمه عبد الرحمن، ثقةٌ ثبتٌ، من صغار [8](ت 187) أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 61/ 339.

2 -

(هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ) بن الزبير الأسديّ، أبو المنذر المدنيّ، ثقةٌ فقيهٌ، ربّما دلّس [5](ت 5 أو 146) وله (87) سنةً (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 350.

3 -

(أَبُوهُ) عروة بن الزبير بن العوّام الأسديّ، أبو عبد الله المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ مشهور [3](ت 94)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 407.

و"عائشة" ذُكرت قبله، و"شيخه" تقدّم قبل باب.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالمدنيين، غير شيخه، وعبدة، فكوفيّان، وفيه رواية الابن عن أبيه، عن خالته، وتابعيّ عن تابعيّ، وفيه عروة أحد الفقهاء السبعة، وفيه عائشة من المكثرين السبعة.

شرح الحديث:

(عَنْ عَائِشَةَ) رضي الله عنها أنها (قَالَتْ: كَانَ وِسَادَةُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) بكسر الواو: ما يُتوسّد عليه؛ أي: يُتّكأ عليه، ويُجعل تحت الرأس، قاله القرطبيّ

(2)

، وقال الفيّومي: الوِسادة بالكسر: الْمِخَدّة، والجمع: وِساداتٌ، ووَسائدُ، والوساد

(1)

وفي نسخة: "كان وساد رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يتّكئ عليه من أدم حشوه ليف".

(2)

"المفهم" 5/ 403.

ص: 660

بغير هاء: كلُّ ما يُتوسّد به من قُماش، وتُراب، وغير ذلك، والجمع: وُسُدٌ، مثلُ كتاب وكُتُب، ويقال: الوساد لغة في الوِسادة. انتهى.

وفي بعض النسخ: "كان وِسادُ رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان يتّكئ عليه من أدم حشوه ليفٌ".

وفي الرواية التالية: "إنما كان فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي ينام عليه أدمًا حشوه ليف"، وفي الرواية الثالثة:"كان ضِجاع رسول الله صلى الله عليه وسلم"، والضجاع بكسر الضاد المعجمة، بعدها جيم: ما يُرقد عليه.

وفي حديث عمر رضي الله عنه الطويل في قصة المرأتين اللتين تظاهرتا على النبيّ صلى الله عليه وسلم: "فإذا النبيّ صلى الله عليه وسلم على حَصِير قد أثَّر في جنبه، وتحت رأسه مرفقة من أَدَم حشوها ليف"، متّفق عليه، وقد تقدّم لمسلم في "كتاب الطلاق"، وأخرجه البيهقيّ في "الدلائل" من حديث أنس رضي الله عنه بنحوه، وفيه:"وِسادة"، بدل "مرفقة"

(1)

.

(الَّتِي يَتَّكِئُ) بالبناء للفاعل؛ أي: يتوسّد (عَلَيْهَا) صلى الله عليه وسلم (مِنْ أَدَم) بفتح الهمزة، والموحدة، (حَشْوُهَا) بفتح الحاء المهملة، وإسكان الشين المعجمة، بعدها واو؛ أي: مِلؤها، يقال: حَشَوتُ الوسادةَ وغيرها بالقطن أحشو حَشْوًا، فهو مَحْشوّ، قاله الفيّوميّ

(2)

، وقال المجد:"الْحَشْو" - أي: بفتح، فسكون -: مَلْءُ الوِسَادة وغيرها بشيء، وما يُجعل فيها حَشْوٌ أيضًا. انتهى

(3)

.

(لِيفٌ) بكسر اللام، بعدها تحتانيّة ساكنة، بعدها فاء: قشر النخل الذي يُجاور السَّعَفَ، الواحدة لِيفة

(4)

، وقال المجد: لِيف النخل بالكسر معروفٌ، القِطعة بِهاء. انتهى

(5)

.

ونقل المرتضى عن شيخه أن ما كانَ من غيرِ النَّخْلِ لا يُسَمَّى لِيفًا

(6)

،

(1)

"الفتح" 14/ 592، كتاب "الرقاق" رقم (6456).

(2)

"المصباح المنير" 1/ 138.

(3)

"القاموس المحيط" ص 293.

(4)

"المعجم الوسيط" 2/ 850.

(5)

"القاموس المحيط" ص 1198.

(6)

وكتب بعض الشرّاح ما نصّه: وقيل: الليف شجر يُشبه ثمره ثمر الخيار إذا يبس يخرج منه خيوط تُجعل حشو مِخدّة، أو غطاء إناء؛ أي: إبريق يصمت منه ماء =

ص: 661

خِلافًا لِمَا يُفْهِمُه شُرَّاحُ "الشَّمائِلِ" في فِراشِه صلى الله عليه وسلم. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [5/ 5435 و 5436 و 5437](2082)، و (البخاريّ) في "الرقاق"(6456)، و (أبو داود) في "اللباس"(4146 و 4147)، و (الترمذيّ) في "اللباس"(1761 و 2469)، و (ابن ماجه) في "الزهد"(4151)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(20825)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(13/ 218 - 219)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 48 و 50 و 56 و 73 و 108 و 207 و 212) وفي "الزهد"(ص 5)، و (هنّاد) في "الزهد"(730)، و (وكيع) في "الزهد"(112)، و (ابن راهويه) في "مسنده"(2/ 319)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(8/ 366)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6361)، و (البيهقيّ) في "شُعب الإيمان"(5/ 183)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(3122 و 3123 و 4074)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان ما كان عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم من الزهادة، والإعراض عن ملاذّ الدنيا، مع أن الله سبحانه وتعالى مكّنه من ذلك لو شاء أن يستمتع بها، فقد أخرج البيهقيّ في "الدلائل" من طريق الشعبيّ، عن مسروق، عن عائشة رضي الله عنها قالت:"دَخَلَت عليّ امرأةٌ، فرأت فراش النبيّ صلى الله عليه وسلم عَبَاءةً مَثْنِيَّةً، فبعثت إليّ بفراش حَشْوُه صوفٌ، فدخل النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فرآه، فقال: رُدِّيه يا عائشة، والله لو شئت أجرى الله معي جبال الذهب والفضة".

وأخرج أحمد، وأبو داود الطيالسيّ من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال:

= الشرب؛ كإبريق اليمانيين الذين يبيعون ماء زمزم في الحرمين في العصر الأول. انتهى ما كتبه، وهذا الذي ذكره في معنى الليف لم أره لغيره من الشرّاح، ولا اللغويين، فهو محلّ توقّف ونظر، والله تعالى أعلم.

(1)

"تاج العروس" 1/ 6128.

ص: 662

"اضطجع رسول الله صلى الله عليه وسلم على حصير، فأثّر في جنبه، فقيل له: ألا نأتيك بشيء يقيك منه؟ فقال: "ما لي وللدنيا، إنما أنا والدنيا كراكب، استظَلَّ تحت شجرة، ثم راح، وتركها"

(1)

.

2 -

(ومنها): بيان جواز اتخاذ الفُرُش، والوسائد، والنوم عليها، والارتفاق بها، وجواز المحشوّ، وجواز اتخاذ ذلك من الجلود، وهي الأَدَمُ.

3 -

(ومنها): أنه ينبغي للأمة الإسلاميّة أن تعتبر حالها، ومعيشتها بحال نبيّها صلى الله عليه وسلم، فإنه الأسوة الحسنة، وأن من اقتفى آثاره اهتدى، وأفلح في الدنيا والآخرة، قال الله عز وجل:{وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف: 158]، وقال تعالى:{فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف: 157]، وقال تعالى:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21)} [الأحزاب: 21].

اللهم ارزقنا اتباع هذا النبيّ الكريم صلى الله عليه وسلم في أقوالنا، وأفعالنا، وأحوالنا، وجميع شؤوننا، إنك رؤوف رحيم جواد كريم آمين.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5436]

(

) - (وَحَدَّثَني عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ السَّعْدِيُّ، أَخْبَرَنَا عَليُّ بْنُ مُسْهِرٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيه، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: إنَّمَا كَانَ فِرَاشُ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم الَّذِي يَنَامُ عَلَيْهِ أَدَمًا، حَشْوُهُ لِيفٌ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

وكلّهم ذُكروا في الباب، غير عليّ بن مسهر، فتقدّم قبل ثلاثة أبواب.

وقوله: (إنَّمَا كَانَ

الخ) بأداة الحصر؛ للمبالغة.

والحديث سبق البحث فيه مستوفًى فيما قبله، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5437]

(

) - (وَحَدَّثَنَاهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ (ح)

(1)

"الفتح" 14/ 592، كتاب "الرقاق" رقم (6456).

ص: 663

وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، كِلَاهُمَا عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، بِهَذَا الإسْنَاد، وَقَالَا

(1)

: ضِجَاعُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم. في حَدِيثِ أَبِي مُعَاوِيَةَ: يَنَامُ عَلَيْهِ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(ابْنُ نُمَيْرٍ) هو: عبد الله بن نُمير الْهَمْدانيّ الكوفيّ، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

2 -

(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه، تقدّم أيضًا قبل ثلاثة أبواب.

3 -

(أَبُو مُعَاوِيةَ) محمد بن خازم الضرير الكوفيّ، تقدّم قبل أربعة أبواب.

والباقيان ذُكرا في الباب.

وقوله: (كِلَاهُمَا عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ

إلخ) الضمير لعبد الله بن نُمير، وأبي معاوية؛ أي: رويا هذا الحديث عن هشام بن عروة، بهذا الإسناد المذكور، وهو:"عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها".

وقوله: (وَقَالَا)؛ أي: ابن نُمير، وأبو معاوية، ووقع في بعض النُّسخ:"قال" بالإفراد، والظاهر أنه غلطٌ، فليُتنبّه، والله تعالى أعلم.

وقوله: (ضِجَاعُ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم) بكسر الضاد المعجمة، وتخفيف الجيم: ما يُضطجع عليه، وهو الفراش، قال القرطبيّ: وقول ابن عبّاس: "فاضطجعت في عرض الوسادة، واضطجع رسول الله صلى الله عليه وسلم في طولها" معناه: أنهم وضعوا رؤوسهم على الوسادة على تلك الصفة، وعبّر عن ذلك بالاضطجاع. انتهى

(2)

.

وقوله: (فِي حَدِيثِ أَبِي مُعَاوِيةَ: يَنَامُ عَلَيْهِ)؛ يعني: أن أبا معاوية زاد في الحديث بعد: كان ضجاع رسول الله صلى الله عليه وسلم لفظ: "ينام عليه".

[تنبيه]: رواية عبد الله بن نُمير، عن هشام بن عروة ساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(24338)

- حدّثنا عبد الله، حدّثني أبي، ثنا ابن نُمير، ثنا هشام، عن

(1)

وفي نسخة: "قال" بالإفراد، وفيه نظر.

(2)

"المفهم" 5/ 403.

ص: 664

أبيه، عن عائشة، قالت:"كان ضِجاع رسول الله صلى الله عليه وسلم من أدم، حشوه من ليف". انتهى

(1)

.

ورواية أبي معاوية، عن هشام ساقها إسحاق بن راهويه رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(882)

- أخبرنا أبو معاوية، نا هشام، عن أبيه، عن عائشة، قالت: كان ضجاع رسول الله صلى الله عليه وسلم من أدم

(2)

، ينام عليه، حشوه من ليف". انتهى

(3)

، والله تعالى أعلم.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(6) - (بَابُ جوَازِ انِّخَاذِ الأنمَاطِ)

ترجم الإمام البخاريّ رحمه الله بقوله: "باب الأنماط، ونحوها للنساء"، قال في "الفتح": أي من الكلل، والأستار، والفُرُش، وما في معناه، قال: ولعلّ المصنّف أشار به إلى ما أخرجه مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها، قالت:"خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزواته، فأْخذتُ نمطًا، فنشرته على الباب، فلما قدم، فرأى النمط عرفتُ الكراهة في وجهه، فجذبه، حتى هتكه، فقال: إن الله لم يأمرنا أن نكسو الحجارة والطين، قال: فقطعت منه وسادتين، فلم يَعِب ذلك عليّ"، فيؤخذ منه أن الأنماط لا يكره اتخاذها لذاتها، بل لِمَا يُصنع بها. انتهى

(4)

. والله تعالى أعلم بالصواب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5438]

(2083) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَعَمْرٌو النَّاقِدُ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ - وَاللَّفْظُ لِعَمْرٍو - قَالَ عَمْرٌو، وَقُتَيْبَةُ: حَدَّثَنَا، وَقَالَ إسْحَاقُ: أَخْبَرَنَا

(1)

"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 6/ 56.

(2)

هكذا النسخة بتقديم لفظ: "من أدم" على ما بعده، والظاهر أن فيه تقديمًا وتأخيرًا من النسّاخ، فليُنظر، والله تعالى أعلم.

(3)

"مسند إسحاق بن راهويه" 2/ 351.

(4)

"الفتح"11/ 510، كتاب "النكاح" رقم (5161).

ص: 665

سُفْيَانُ، عَنِ ابْنِ الْمُنْكَدِر، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَمّا تَزَوَّجْتُ: "أتَّخَذْتَ أَنْمَاطًا؟ "، قُلْتُ: وَأنَّى لنَا أَنْمَاطٌ؟ قَالَ: "أَمَا إِنَّهَا سَتكُونُ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(قُتيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) الثقفيّ، أبو رجاء البغلانيّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(عَمْرٌو النَّاقِدُ) بن محمد بن بُكير البغداديّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

3 -

(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه، تقدّم في السند الماضي.

4 -

(سُفْيَانُ) بن عيينة الإمام المشهور، تقدّم قريبًا.

5 -

(ابْنُ الْمُنْكَدِرِ) هو: محمد بن المنكدر بن عبد الله بن الْهُدَير التيميّ المدنيّ، ثقةٌ فاضلٌ [3](ت 130) أو بعدها (ع) تقدم في "الطهارة" 11/ 584.

6 -

(جَابِرُ) بن عبد الله رضي الله عنهما، تقدّم قريبًا.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من رباعيات المصنّف رحمه الله، وهو (412) من رباعيات الكتاب، وأن صحابيّه ابن صحابيّ رضي الله عنهما، وهو من المكثرين السبعة، روى (1540) حديثًا. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ جَابرٍ) بن عبد الله رضي الله عنهما أنه (قَالَ: قَالَ لي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا تَزَوَّجْتُ: "أَتَّخذتَ أنمَاطًا؟ ") بفتح همزة الاستفهام الاستخباريّ، وحذف همزة الوصل، كما قوله تعالى:{أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا} [ص: 63].

و"الأنماط": جمع نَمَط - بفتح النون والميم: وهو ظهارة الفراش.

وقيل: ظهر الفراش، ويُطلق أيضًا على بساط لطيف، له خَملٌ، يُجعل على الْهَوْدج، وقد يُجعل سترًا، ومنه حديث عائشة رضي الله عنها الآتي عند مسلم: "فأخذت نَمَطًا، فسترته على الباب

" الحديث، والمراد في حديث جابر رضي الله عنه هو النوع الأول. قاله النوويّ رحمه الله

(1)

.

وقال أبو العبَّاس القرطبيّ رحمه الله: "الأنماط" جمع نَمَطٍ، قال الخليل: هو

(1)

"شرح النوويّ" 14/ 58 - 59.

ص: 666

ظِهَارة الفرش. وقال ابن دُريد: هو ما يُستر به الْهَوْدج، وهو في حديث عائشة ثوبٌ سترت به سَهْوتها، وهو القِرَام أيضًا، كما جاء في حديث عائشة، وقد يكون من حرير وغيره، وقد يُسمّى نُمرقة في بعض طرق حديث عائشة، وقد عبّر عنه بالستر في حديثها، وهذا كلّه على أنها أسماء لمسمّى واحد. انتهى

(1)

.

قال جابر رضي الله عنه: (قُلْتُ) في جواب استخباره صلى الله عليه وسلم، (وَأنَّى لَنَا أنْمَاطٌ؟) بفتح همزة "أَنّى"، وتشديد النون: استفهام عن الجهة، تقول: أَنّى يكون هذا؟ أي: من أيّ وجه وطريق يوجد لنا أنماط؟. وقال القرطبيّ: قوله: "أنى لنا أنماطٌ؟ " استبعادٌ لذلك، ومعناه: من أين يكون لنا أنماطٌ؟! انتهى

(2)

.

(قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("أَمَا) بفتح الهمزة: أدة استفتاح وتنبيه، كـ"ألا"، (إِنَّهَا سَتَكُونُ") "تكون" هنا تامّة؛ أي: ستحصُل، وتوجد الأنماط فيما يأتي من الزمان. زاد في رواية سفيان الثوريّ التالية:"قال جابرٌ: وعند امرأتي نَمَطٌ، فأنا أقول: نَحِّيه عنّي، وتقول: قد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنها ستكون، فأَدَعُها". ومعنى "نحّيه"؛ أي: أخرجيه من بيتي.

قال القرطبيّ: وقول جابر رضي الله عنه لامرأته: "نحّيه عنّي" فإنما كان ذلك كراهةً له، مخافة التّرفّه في الدنيا، والميل إليها، لا لأنه حريرٌ؛ إذ ليس في الحديث ما يدلّ عليه، واستدلالها عليه بقوله صلى الله عليه وسلم:"أما إنها ستكون" هو استدلالٌ بتقرير النبيّ صلى الله عليه وسلم على اتخاذ الأنماط؛ لأنه لَمّا أخبر بأنها ستكون، ولم يَنْهَ عن اتخاذها، دلّ ذلك على جواز الاتخاذ. انتهى. والله تعالى أعلم.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث جابر رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنف) هنا [6/ 5438 و 5439 و 5440](2083)، و (البخاريّ) في "المناقب"(3631) و"النكاح"(5161)، و (أبو داود) في "اللباس"(4145)، و (الترمذيّ) في "الأدب"(2774)، و (النسائيّ) في

(1)

"المفهم" 5/ 403.

(2)

"المفهم" 5/ 403.

ص: 667

"النكاح"(6/ 136) و" الكبرى"(3/ 334)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 294 و 301)، و (الحميديّ) في "مسنده"(2/ 514)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(4/ 14)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6683)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(5/ 241)، و (أبو علي) في "مسنده"(3/ 468 و 4/ 14)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان جواز استعمال الأنماط، ومحلّ الاستدلال قوله صلى الله عليه وسلم:"إنها ستكون" حيث أخبر بأن الأنماط ستكون لهم؛ لأنه لو لم يحلّ اتخاذها لبيّن لهم ذلك.

وتعقّب هذا الاستدلال في "الفتح" بأن الإخبار بأن الشيء سيكون لا يقتضي إباحته، إلا إن استَدلّ المستدلّ به على التقرير، فيقول: أخبر الشارع بأنه سيكون، ولم يَنْهَ عنه، فكأنه أقرّه، وقد وقع قريبٌ من هذا في حديث عديّ بن حاتم رضي الله عنه في خروج الظعينة من الْحِيرَة إلى مكة بغير خَفِير، فاستدلّ به بعض الناس على جواز سفر المرأة بغير محرم. وفيه من البحث ما ذُكِر. انتهى.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي بين القضيّتين فرقٌ، فإن قضية الظعينة قد قامت أدلّة كثيرة بعدم جواز سفر المرأة بغير محرم، نصّا صريحًا، لا يرتاب فيه أحد، فيجب تقديمها على المفهوم، وأما قضيّة الأنماط، فليس هناك نصّ يدلّ صريحًا على تحريم اتخاذها، فتبصّر.

والحاصل أن الاستدلال بتقريره صلى الله عليه وسلم لجابر رضي الله عنه حينما قال له: "إنها ستكون" دليل واضح على جواز اتخاذها، فتبصّر، والله تعالى أعلم.

2 -

(ومنها): أن فيه معجزةً ظاهرةً للنبيّ صلى الله عليه وسلم حيث أخبر بما سيقع بعده من الفتوحات التي نالتها أمته، وقد وقعت على طبق إخباره صلى الله عليه وسلم، {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)} [النجم: 3، 4].

3 -

(ومنها): التورّع عن الترفّه بملاذّ الدنيا، حيث كان جابر رضي الله عنه يأمر امرأته بإبعاده عنه.

4 -

(ومنها): بيان فضل جابر رضي الله عنه، حيث كان يتورّع بإبعاد الأنماط من بيته؛ خوفًا أن يدخل تحت قوله تعالى: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ

ص: 668

بِهَا} [الأحقاف: 20]، فإن الآية، وإن سيقت لبيان حال الكفّار، إلا أن من صفات المؤمن الخوفَ من الله تعالى.

5 -

(ومنها): ما قال ابن بطال رحمه الله: يؤخذ من الحديث أن المشورة للمرأة دون الرجل؛ لقول جابر لامرأته: "أخِّري عني أنماطك"، قال الحافظ: كذا قال، ولا دلالة في ذلك؛ لأنها كانت لامرأة جابر حقيقة، فلذلك أضافها لها، وإلا ففي نفس الحديث:"أنها ستكون لكم أنماط"، فأضافها إلى أعمّ من ذلك، وهو الذي استدلّت به امرأة جابر على الجواز.

6 -

(ومنها): ما قال ابن بطَّال أيضًا: وفيه أن مشورة النساء للبيوت من الأمر القديم المتعارف، قال الحافظ: كذا قال، ويعكر عليه حديث عائشة

(1)

، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5439]

(

) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِر، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ الله، قَالَ: لَمَّا تَزَوَّجْتُ قَالَ لي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أتَّخَدْتَ أَنْمَاطًا؟ "، قُلْتُ: وَأَنَّى لَنَا أَنْمَاطٌ؟ قَالَ: "أَمَا إِنَّهَا سَتَكُونُ"، قَالَ جَابرٌ: وَعِنْدَ امْرَأَتِي نَمَطٌ، فَأنا أقولُ: نَحِّيهِ عَنِّي، وَتَقُولُ: قَدْ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّهَا سَتكُونُ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(مُحَمَّدٌ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ) تقدّم قريبًا.

2 -

(وَكِيعُ) بن الْجرّاح، تقدّم قبل بابين.

3 -

(سُفْيَانُ) بن سعيد الثوريّ، تقدّم قريبًا.

(1)

أراد به ما أخرجه مسلم (3/ 1666)، عن عائشة رضي الله عنها قالت:"رأيته - تعني: النبيّ صلى الله عليه وسلم خرج في غَزاته، فأخذت نَمَطًا، فسترته على الباب، فلما قَدِم، فرأى النمط، عرفت الكراهية في وجهه، فجذبه حتى هتكه، أو قطعه، وقال: ان الله لم يأمرنا أن نكسو الحجارة والطين، قالت: فقطعنا منه وسادتين، وحشوتهما ليفًا، فلم يَعِب ذلك عليّ". انتهى.

ص: 669

والباقيان ذُكرا قبله.

وقوله: (وَعِنْدَ امْرَأَتي نَمَطٌ) قال صاحب "التنبيه": امرأة جابر سُهيمةُ بنت مسعود بن أوس الظّفَريّة، بايعت، وولدت لجابر بن عبد الله عبدَ الرحمن فيما وَرَد، وذكر ابن الأثير، فقال: إنها بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ذكره ابن حبيب. انتهى

(1)

.

وقوله: (نَحِّيهِ عَنِّي)؛ أي: أبعديه.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى البحث فيه قبله، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5440]

(

) - (وَحَدَّثَنِيهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَن، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، بِهَذَا الإسْنَاد، وَزَادَ: فَأَدَعُهَا).

رجال هذا الإسناد: ثلاثة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) تقدّم قبل باب.

2 -

(عَبْدُ الرَّحْمَنِ) بن مهديّ، تقدّم قريبًا.

و"سفيان الثوريّ" ذُكر قبله.

وقوله: (وَزَادَ: فَأَدَعُهَا) فاعل "زاد" ضمير عبد الرحمن بن مهديّ.

[تنبيه]: رواية عبد الرحمن بن مهديّ، عن سفيان الثوريّ هذه ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:

(3432)

- حدّثني عمرو بن عباس، حدّثنا ابن مهديّ، حدّثنا سفيان، عن محمد بن المنكدر، عن جابر رضي الله عنه قال: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "هل لكم من أنماط؟ " قلت: وأَنَّى يكون لنا الأنماط؟ قال: "أما إنه سيكون لكم الأنماط"، فأنا أقول لها - يعني: امرأته -: أَخِّري عني أنماطك، فتقول: ألم يقل النبيّ صلى الله عليه وسلم: "إنها ستكون لكم الأنماط؟ "، فأَدَعُهَا. انتهى

(2)

، والله تعالى أعلم.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(1)

"تنبيه المعلم" ص 351.

(2)

"صحيح البخاريّ" 3/ 1328.

ص: 670

(7) - (بَابُ كرَاهَةِ مَا زَادَ عَلَى الْحَاجَةِ مِنَ الْفِرَاشِ وَاللِّبَاسِ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5441]

(2084) - (حَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ سَرْحٍ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، حَدَّثَني أبُو هَانِئ، أنَّهُ سَمِعَ أبا عَبْدِ الرَّحْمَن، يَقُولُ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ الله، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ: "فِرَاشٌ لِلرَّجُلِ، وَفِرَاشٌ لِامْرَأَتِه، وَالثالِثُ لِلضَّيْف، وَالرَّابعُ لِلشَّيْطَانِ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أَبُو الطَّاهِرِ أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ سَرْحٍ) المصريّ، ثقةٌ [10](ت 250)(م د س ق) تقدم في "المقدمة" 3/ 10.

2 -

(ابْنُ وَهْبٍ) عبد الله المصريّ الحافظ العابد، ثقةٌ ثبتٌ فقيه [9](ت 197)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 10.

3 -

(أَبُو هَانِئٍ) حُميد بن هانئ الخولانيّ المصريّ، لا بأس به، وهو أكبر شيخ لابن وهب [5](ت 142)(بخ م 4) تقدم في "المقدمة" 4/ 15.

4 -

(أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ) عبد الله بن يزيد المعافريّ الْحُبُليّ

(1)

المصريّ، ثقةٌ [3](ت 100)(بخ م 4) تقدم في "الزكاة" 42/ 2426.

والصحابيّ رضي الله عنه ذُكر في السند الماضي.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالمصريين، غير الصحابيّ، فمدنيّ.

شرح الحديث:

(عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ) الأنصاريّ السَّلَميّ رضي الله عنهما (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ)؛ أي: لجابر رضي الله عنه ("فِرَاشٌ لِلرَّجُلِ) مبتدأ وخبر، وسوّغ الابتداء بالنكرة

(1)

بضمّ المهملة، والموحّدة.

ص: 671

التقسيم، أو "فراش" فاعل لفعل محذوف، أي: يجوز فراش؛ يعني: أنه يجوز أن يَتَّخِذ الرجل لنفسه فراشًا ينام عليه وحده، إذا احتاج إليه.

وقال الطيبيّ رحمه الله: قوله: "فراش

إلخ" مبتدأ مخصّصه محذوفٌ، يدلّ عليه قوله: "والثالث للضيف"؛ أي: فراشٌ واحدٌ كافٍ للرجل. انتهى

(1)

.

(وَفِرَاشٌ لِامْرَأَتِهِ) ولفظ النسائيّ: "وفراش لِأَهْلِهِ"، إعرابه كسابقه أنه يجوز أن يتخذ الإنسان فراشًا لأهله تنام عليه وحدها، إن احتاجت إليه. (وَالثَّالِثُ لِلضَّيْفِ) مبتدأ وخبر، و"الضيف" بفتح، فسكون: معروف، يطلق بلفظ واحد على الواحد وغيره؛ لأنه مصدر في الأصل، مِن ضافه ضَيْفًا، من باب باع: إذا نزل عنده، وتجوز المطابقة، فيقال: ضَيْفَةٌ، وأضيافٌ، وضِيفَانٌ، وأضفته، وضَيَّفته: إذا أنزلته، وقَرَيْتُهُ، والاسم الضِّيَافة. قال ثعلب: ضِفْتُهُ: إذا نزلتَ به، وأنت ضَيْف عنده، وأضفته بالألف: إذا أنزلته عندك ضيفًا، وأضفته إضافةً: إذا لجأ إليك من خوف، فأجرتَهُ، واستضافني، فأضفته: استجارني، فأجرته، وتضيّفني، فضيّفتُهُ: إذا طلب الْقِرَى، فقرَيْتَهُ، أو استجارَك، فمنعته ممن يطلبه، وأضافه إلى الشيء إضافةً: ضمّهُ إليه، وأماله. قاله الفيّوميّ

(2)

.

(وَالرَّابعُ لِلشَّيْطَانِ) مبتدأ وخبرٌ أيضًا؛ يعني: أن الفراش الرابع للشيطان، يبيت عليه حيث لا ينتفع به أحدٌ، ولأنه لا يُتّخذ للحاجة، وإنما هو للافتخار الذي هو مما يَحمِل عليه الشيطان، ويرضى به.

والظاهر أن المراد منه: اتخاذ ما لا حاجة إليه، لا بخصوص كونه رابعًا، وإنما خصّه بالذكر نظرًا للغالب، حيث إنه أقلّ ما يكون زائدًا على الحاجة. والله تعالى أعلم.

قال أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله: فيه دليلٌ على جواز اتخاذ الإنسان من الفُرُش، والآلة ما يَحتاج إليه، ويترفّه به.

وهذا الحديث إنما جاء مبيِّنًا ما يجوز للإنسان أن يتوسّع فيه، ويترفّه من الفراش؛ لأن الأفضل أن يكون له فراش يختصّ به، ولامرأته فراشٌ، فقد

(1)

"الكاشف عن حقائق السنن" 9/ 2891.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 366.

ص: 672

كان صلى الله عليه وسلم لم يكن له إلا فراشٌ واحد في بيت عائشة، وكان فراشها ينامان عليه في الليل، ويجلسان عليه بالنهار. وأما فراش الضيف، فيتعيّن للمُضيف إعداده له؛ لأنه من باب إكرامه، والقيام بحقّه؛ ولأنه لا يتأتّى له شرعًا الاضطجاع، ولا النوم مع المضيف، وأهله على فراش واحدٍ.

ومقصود هذا الحديث أن الرجل إذا أراد أن يتوسّع في الفرش، فغايته ثلاثٌ، والرابع لا يحتاج إليه، فهو من باب السَّرَف. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله ببعض تَصَرُّف

(1)

.

وقال النوويّ رحمه الله: قال العلماء: معناه أن ما زاد على الحاجة، فاتخاذه إنما للمباهاة، والاختيال، والالتهاء بزينة الدنيا، وما كان بهذه الصفة فهو مذمومٌ، وكلّ مذموم يُضاف إلى الشيطان؛ لأنه يرتضيه، ويوسوس به، ويُحسّنه، ويُساعد عليه. وقيل: إنه على ظاهره، وأنه إذا كان لغير حاجة كان للشيطان عليه مَبِيتٌ، ومَقِيلٌ، كما أنه يحصل له المبيت بالبيت الذي لا يَذكُر الله تعالى صاحبه عند دخوله عِشَاءً.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا القول الثاني هو الأرجح عندي؛ لأنه إذا أمكن حمل النصّ على ظاهره، فهو الأَولى، ولا حاجة إلى العدول عنه، على أنه لا تنافي بين المعنيين؛ لأن الشيطان كما أنه يبيت عليه، فهو الذي حمله على اتخاذه. والله تعالى أعلم.

قال: وأما تعديد الفراش للزوج والزوجة، فلا بأس به؛ لأنه قد يحتاج كلّ واحد منهما إلى فراش عند المرض، ونحوه، وغير ذلك.

واستدلّ بعضهم بهذا على أنه لا يلزمه النوم مع امرأته، وأن له الانفراد عنها بفراش. والاستدلال به في هذا ضعيف؛ لأن المراد بهذا وقت الحاجة كالمرض، وغيره كما ذكرنا، صكلان كان النوم مع الزوجة ليس واجبًا، لكنه بدليل آخر، والصواب في النوم مع الزوجة أنه إذا لم يكن لواحد منهما عذرٌ في الانفراد، فاجتماعهما في فراش واحد أفضل، وهو ظاهر فِعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي واظب عليه مع مواظبته صلى الله عليه وسلم على قيام الليل، فينام معها، فإذا أراد القيام

(1)

"المفهم" 5/ 404.

ص: 673

لوظيفته قام، وتركها، فيجمع بين وظيفته، وقضاء حقّها المندوب، وعِشْرتها بالمعروف، لا سيّما إن عُرف من حالها حرصها على هذا، ثم إنه لا يلزم من النوم معها الجماع. انتهى كلام النوويّ رحمه الله.

وقال الطيبيّ رحمه الله بعد نقل كلام النوويّ المذكور معلّقًا على قوله: "وهو ظاهر فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم" ما نصّه: أقول: ولأن في قيامه من فراشها مع ميل النفس إليها، متوجّهًا إلى التهجّد أصعب، وأشقّ، ومن ثمّة ورد: "عجب ربنا من رجلين: رجلٍ ثار عن وطائه ولحافه من بين حِبّه وأهله إلى صلاته، فيقول الله لملائكته: انظروا إلى عبدي ثار عن فراشه ووطائه من بين حِبّه وأهله إلى صلاته رغبة فيما عندي، وشَفَقًا مما عندي

" الحديث. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: أشار الطيبيّ بالحديث إلى حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عَجِب ربنا من رجلين: رجلٍ ثار عن وطائه ولحافه، من بين حِبِّه وأهله إلى صلاته، فيقول الله جَلّ وعلا لملائكته: انظروا إلى عبدي ثار عن فراشه ووطائه، من بين حِبّه وأهله إلى صلاته؛ رغبةً فيما عندي، وشفقةً مما عندي، ورجلٍ غزا في سبيل الله، فانهزم أصحابه، وعَلِمَ ما عليه في الانهزام، وما له في الرجوع، فرجع حتى هُريق دمه، فيقول الله لملائكته: انظروا إلى عبدي رجع؛ رجاءً فيما عندي، وشفقًا مما عندي، حتى هُريق دمه".

رواه أحمد، وأبو يعلى، والطبرانيّ، وابن حبان في "صحيحه"

(2)

، قال المنذريّ: ورواه الطبرانيّ موقوفًا بإسناد حسن، ولفظه: "إن الله ليضحك إلى رجلين: رجلٍ قام في ليلة باردة من فراشه، ولحافه، ودثاره، فتوضأ، ثم قام إلى الصلاة، فيقول الله عز وجل لملائكته: ما حمل عبدي هذا على ما صنع؟

(1)

"الكاشف عن حقائق السنن" 9/ 2892.

(2)

في سنده عطاء بن السائب، وقد رواه عنه حماد بن سلمة، وهو ممن روى عنه بعد اختلاطه، لكن تابعه حماد بن زيد عند الطبرانيّ في "الكبير"، وإن خالفه في وقفه، لكنه في حكم المرفوع، وقد صححه الشيخ الألبانيّ فيما كتبه على "المشكاة"، وحسّنه في "الترغيب والترهيب".

ص: 674

فيقولون: ربنا رجاءُ ما عندك، وشفقةٌ مما عندك، فيقول: فإني قد أعطيته ما رجا، وآمنته مما يخاف

" وذكر بقيته

(1)

. انتهى

(2)

.

والله تعالى أعلم بالصواب.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

[تنبيه]: مما يُستغرب أن بعض من علّق

(3)

على "صحيح مسلم" كَتَب في

(1)

قال الطبرانيّ رحمه الله في "المعجم الكبير"(9/ 101):

(853)

- حدّثنا عليّ بن عبد العزيز، ثنا عارم أبو النعمان، ثنا حماد بن زيد، عن عطاء بن السائب، عن مُرّة، عن عبد الله، قال:"أيها الناس عليكم بالصدق، فإنه يُقرِّب إلى البرّ، وان البرّ يقرّب إلى الجنة، وإياكم والكذبَ، فإنه يقرّب إلى الفجور، وإن الفجور يقرّب إلى النار، إنه يقال للصادق: صَدَقَ، وبَرّ، وللكاذب كَذَبَ، وفَجَرَ، ألا وإن لِلْمَلَك لِمَّةً، وللشيطان لِمّةً، فلمة الملك إيعاد للخير، ولمة الشيطان إيعاد بالشرّ، فمن وجد لمة الملك فليحمد الله، ومن وجد لمة الشيطان فليتعوذ من ذلك، فإن الله يقول: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ} إلى آخر الآية [البقرة: 268]، قال: ألا إن الله يضحك إلى رجلين: رجل قام في ليلة باردة من فراشه، ولحافه، ودثاره، فتوضأ، ثم قام إلى صلاة، فيقول الله لملائكته: ما حمل عبدي هذا على ما صنع؟ فيقولون: ربنا رجاءُ ما عندك، وشفقةٌ مما عندك، فيقول: فإني قد أعطيته ما رجا، وأمّنته مما خاف، ورجلِ كان في فئة، فعَلِم ما له في الفرار، وعَلِم ما له عند الله، فقاتل حتى قُتِل، فيقول للملائكة: ما حَمَل عبدي هذا على ما صنع؟ فيقولون: ربنا رجاءُ ما عندك، وشفقةٌ مما عندك، فيقول: فإني أشهدكم أني قد أعطيته ما رجا، وأمّنته مما خاف"، أو كلمة شبيهة بها. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الإسناد صحيح، فإن حماد بن زيد ممن روى عن عطاء قبل اختلاطه، ولا يضرّه وقفه؛ لأنه مما له حكم الرفع؛ إذ لا يقال بالرأي، وليس ابن مسعود رضي الله عنه ممن يروي الإسرائيليات، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

(2)

"الترغيب والترهيب" 1/ 246.

(3)

هو: الشيخ مسلم بن محمود عثمان، وكم له من مطاعن علي مسلم في "صحيحه"؟، وقد نبهت على كثير منها، فليُتنبّه.

ص: 675

هذا المحلّ ما نصّه: وهذا إسناد منقطع، أبو عبد الرحمن لم يسمع جابرًا

إلى آخر كلامه، وهذا من العجب العُجاب، فكيف يجزم بالانقطاع، وينصّ بعد سماع أبي الرحمن من جابر؟ ومن أين له ذلك؟ ولم أر من صرّح بذلك، ألا يكفيه إخراج مسلم له في "كتابه" هنا؟.

على أن هذا الحديث قد وقع تصريح سماعه من جابر، وإليك ما أخرجه أبو عوانة في "مسنده"، قال رحمه الله:

(8558)

- حدّثنا يونس بن عبد الأعلى، قال: أنبا ابن وهب، وأخبرني أبو هانئ، أنه سمع أبا عبد الرحمن الْحُبُليّ، يقول: سمعت جابر بن عبد الله يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: "فراش للرجل، وفراش لامرأته، والثالث للضيف، والرابع للشيطان". انتهى

(1)

.

أليس هذا هو السماع، وقد صرّح أبو عبد الرحمن أيضًا بسماعه من أبي أيوب الأنصاريّ، وقد تقدّم لمسلم في "كتاب الإمارة"[30/ 4869](1883)، وصرّح أيضًا بسماعه من عبد الله بن عمرو بن العاص، وسيأتي في "كتاب القدر" مرّةً (2654)، وفي "كتاب الزهد" مرّتين (2972)، و (2979)

(2)

.

والحاصل أن سماع أبي عبد الرحمن لهذا الحديث ثابتٌ، فلا تغترّ بما كتبه بعض من قصّر في البحث والتحقيق، والله تعالى المستعان.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [7/ 5441](2084)، و (أبو داود) في "اللباس"(4142)، و (النسائيّ) في "النكاح"(6/ 135) و"الكبرى"(3/ 334)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 324 و 3/ 293)، و (ابن المبارك) في "الزهد"(762)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(673)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(5/ 242)، و (البيهقيّ) في "شُعب الإيمان"(5/ 184)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(3127)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(1)

"مسند أبي عوانة" 5/ 242.

(2)

هذه أرقام الأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي رحمه الله.

ص: 676

1 -

(منها): بيان مشروعيّة اتخاذ الإنسان الفُرُشَ بقدر حاجته.

2 -

(ومنها): أن ما زاد على الحاجة فإنه للشيطان، فلا ينبغي اتخاذه.

3 -

(ومنها): ما قال القرطبيّ رحمه الله: فقه الحديث: ترك الإكثار من الآلات والأمور المباحة، والترفّه بها، وأن يقتصر على حاجته، ونسبة الرابع إلى الشيطان، لكن لا يدلّ على تحريم اتخاذه، وإنما هذا من باب قوله صلى الله عليه وسلم:"إن الشيطان يستحلّ الطعام الذي لا يُذكر اسم الله عليه، والبيت الذي لا يُذكر الله فيه"، ولا يدلّ ذلك على التحريم لذلك الطعام. انتهى.

4 -

(ومنها): بيان تسلّط الشيطان علي بني آدم، بحيث إنه لا يترك عملًا من أعماله إلا ويشاركه فيه، حتى يوقعه في المخالفة، فينبغي التنبّه لذلك، والحذر منه، والبعد عما يؤدّي إلى إرضائه، وقد قال الله تعالى:{إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ (6)} [فاطر: 6].

والله تعالى أعلم بالصواب.

(8) - (بَابُ تَحْرِيمِ جَرِّ الثَّوْبِ خُيَلَاءَ، وَبَيَانِ حَدِّ مَا يَجُوزُ إِرْخَاؤُهُ إِلَيْه، وَمَا يُسْتَحبُّ)

وبالسند المثّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5442]

(2085) - (حَدَّثنَا يَحْيى بْنُ يَحْيى، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، مَنْ نَافِعٍ، وَعَبْدِ اللهِ بْنِ دِينَارٍ، وَزيدِ بْنِ أَسْلَمَ، كُلُّهُمْ يُخْبِرُهُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا يَنْظُرُ الله إِلَى مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ خُيَلَاءَ").

رجال هذا الإسناد: ستّة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ النيسابوريّ الإمام، تقدّم قريبًا.

2 -

(مَالِكُ) بن أنس، إمام دار الهجرة، تقدّم أيضًا قريبًا.

3 -

(نَافِعٌ) مولى ابن عمر، أبو عبد الله المدنيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

4 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ دِينَارٍ) العَدنيّ مولى ابن عمر، أبو عبد الرحمن المدنيّ، ثقة [4](ت 127)(ع) تقدم في "الإيمان" 14/ 160.

ص: 677

5 -

(زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ) العدويّ مولى عمر بن الخطاب، أبو عبد الله، أو أبو أسامة المدنيّ، ثقةٌ فقيهٌ يُرسل [3](ت 136)(ع) تقدم في "الإيمان" 36/ 250.

6 -

(ابْنُ عُمَرَ) عبد الله رضي الله عنهما، تقدّم قريبًا.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من رباعيّات المصنف رحمه الله، وهو (413) من رباعيّات الكتاب، وأنه مسلسل بالمدنيين، وشيخه قد دخل المدينة للأخذ عن مالك، وفيه ابن عمر رضي الله عنهما أحد العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة، روى (2630) حديثًا.

شرح الحديث:

(عَنْ نَافِع) مولى ابن عمر، (وَعَبْدِ اللهِ بْنِ دِينَارٍ) مولى ابن عمر أيضًا، (وَزَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ) مولى عمر، (كُلُّهُمْ)؛ أي: كل هؤلاء الثلاثة، (يُخْبِرُهُ)؛ أي: يُخبر مالكًا.

[تنبيه]: قال في "الفتح": قوله: "عن نافع، وعبد الله بن دينار، وزيد بن أسلم": في "الموطأ": "عن نافع، وعن عبد الله بن دينار، وعن زيد بن أسلم"، بتكرير "عن"، وعند الترمذيّ من رواية مَعْن، عن مالك: سمع كلَّهم يُحَدِّث، هكذا جمع مالك رواية الثلاثة، وقد روى داود بن قيس رواية زيد بن أسلم عنه، بزيادة قصّة قال: "أرسلني أبي إلى ابن عمر، قلت: أدخل؟ فعرف صوتي، فقال: أي بُنَيّ إذا جئت إلى قوم، فقل: السلام عليكم، فإن ردُّوا عليك، فقل: أدخل؟ قال: ثم رأى ابنه، وقد انجرّ إزاره، فقال: ارفع إزارك، فقد سمعتُ

"، فذكر الحديث، وأخرجه أحمد، والحميديّ جميعًا عن سفيان بن عيينة، عن زيد نحوه، ساقه الحميديّ، واختصره أحمد، وسَمّيا الابنَ عبد الله بن واقد بن عبد الله بن عمر. وأخرجه أحمد أيضًا من طريق معمر، عن زيد بن أسلم: سمعت ابن عمر، فذكره بدون هذه القصّة، وزاد قصّة أبي بكر

(1)

، وقصة أخرى لابن عمر.

(1)

أشار بقصّة أبي بكر رضي الله عنه إلى ما أخرجه البخاريّ من طريق موسى بن عقبة، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"مَن جَرَّ ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة"، قال أبو بكر: يا رسول الله إن أحد شقّي إزاري=

ص: 678

قال: وحديث نافع أخرجه مسلم من رواية أيوب، والليث، وأسامة بن زيد، كلهم عن نافع، قال مثل حديث مالك، وزادوا فيه:"يوم القيامة"، قال: وهذه الزيادة ثابتة عند رواة "الموطأ" عن مالك أيضًا، وأخرجها أبو نعيم في "المستخرج" من طريق القعنبيّ، وأخرج الترمذيّ، والنسائيّ الحديث من طريق أيوب، عن نافع، وفيه زيادة تتعلق بذيول النساء.

قال: وحديث عبد الله بن دينار أخرجه أحمد، من طريق عبد العزيز بن مسلم عنه، وفيه:"يوم القيامة"، وكذا في رواية سالم، وغير واحد عن ابن عمر. انتهى ما في "الفتح" بتصرّف يسير

(1)

.

(عَنِ ابْنِ عُمَرَ) رضي الله عنهما (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (لَا يَنْظُرُ اللهُ)؛ أي: ومن نظر الله تعالى إليه يرحمه، ففيه إثبات صفة النظر لله تعالى على ما يليق بجلاله سبحانه وتعالى، وقال في "الفتح": قوله: "لا ينظر الله"؛ أي: لا يرحمه، فالنظر إذا أضيف إلى الله كان مجازًا، وإذا أضيف إلى المخلوق، كان كناية، ويَحْتَمِل أن يكون المراد: لا ينظر الله إليه نظر رحمة، وقال شيخنا - يعني: الحافظ العراقيّ - في "شرح الترمذيّ": عَبَّر عن المعنى الكائن عند النظر بالنظر؛ لأن من نظر إلى متواضع رحمه، ومن نظر إلى متكبر مقته، فالرحمة والمقت متسببان عن النظر، وقال الكرماني: نسبة النظر لمن يجوز عليه النظر كناية؛ لأن من اعتدّ بالشخص التفت إليه، ثم كثُر حتى صار عبارة عن الإحسان، وإن لم يكن هناك نظر، ولمن لا يجوز عليه حقيقة النظر، وهو تقليب الحدقة، والله منزه عن ذلك، فهو بمعنى الإحسان، مَجاز عما وقع في حق غيره كناية. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي ذكره الكرمانيّ، والعراقيّ والحافظ من تفسير النظر بالرحمة تفسير باللازم، وهو مخالف لِمَا أطبق عليه

= يسترخي، إلا أن أتعاهد ذلك منه، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"لست ممن يصنعه خيلاء". انتهى.

(1)

"الفتح" 13/ 251 - 252، كتاب "اللباس" رقم (5783).

(2)

"الفتح" 13/ 258 - 259، كتاب "اللباس" رقم (5783).

ص: 679

المحدِّثون من السلف الصالحين، من إثبات الصفات لله سبحانه وتعالى على ظواهرها، من غير تشبيه، ولا تمثيل، ومن غير تأويل، ولا تعطيل، لكن هؤلاء هكذا عادتهم في أحاديث الصفات، مع أنهم من أكابر المحدّثين، يرغبون عن مذهب المحدّثين، ويسلكون فيها مسلك المتكلّمين، وما أدّاهم إلى هذا التأويل المتكلّف به إلا تشبيه الغائب بالشاهد، فإنهم لمّا اعتقدوا أن النظر في المخلوق لا يحصل إلا بتقليب الحدقة، قالوا: هذا محال على الله تعالى، نعم هو محالٌ، ولكن من الذي قال لكم: إنه لا يحصل النظر إلا بهذا؟ أليس الله تعالى مباينًا لخلقه في ذاته وصفاته؟، فهو سبحانه وتعالى له الأسماء الحسنى، والصفات العُلَى، فالواجب علينا أن نعتقد أنه سبحانه وتعالى ينظر إلى عباده نظرًا حقيقيًّا كما يليق بجلاله، ولا يلزمنا أن نعرف حقيقة نظره، إذ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]، فكما أننا نثبت له ذاتًا، لا تشبه ذوات مخلوقه، كذلك نثبت له ما أثبت لنفسه من الصفات حقيقةً، لا مجازًا؛ لأن المجاز لا يصار إليه إلا عند تعذّر الحقيقة، ولم تتعذّر هنا، وأيضًا المعنى المجازيّ الذي أوَّلوا به يلزم منه التشبيه، فإن الرحمة هي رقة القلب، التي تقتضي العطف على المرحوم، وهذا فيه من التشبيه نظير ما وقع في معنى النظر بلا فرق، فتأمّل بالإنصاف، ولا تكن أسير التقليد، فإنه حجة البليد، وملجأ العنيد.

وقال في "الفتح" أيضًا: ويؤيد ما ذُكر من حمل النظر على الرحمة، أو المقت ما أخرجه الطبراني، وأصله في أبي داود، من حديث أبي جُرَيّ: "أن رجلًا ممن كان قبلكم، لبس بردة، فتبختر فيها، فنظر الله إليه، فمقته، فأمر الأرض فأخذته

" الحديث. انتهى.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي ادّعاه من تأييد الحمل المذكور فيه نظرٌ لا يخفى، فإنه أثبت لله سبحانه وتعالى النظر، ثم بيّن ما ترتّب على ذلك، وهو المقت، وما بعده، ولا تعرّض فيه للحمل المذكور، فتأمل بإنصاف، ولا تتحيّر بالاعتساف، والله عز وجل الهادي إلى سواء السبيل.

{رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران: 8]، اللَّهم أرنا الحقّ حقًّا، وارزقنا اتّباعه، وأرنا الباطل باطلًا، وارزقنا اجتنابه، آمين.

ص: 680

(إلَى مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ خُيَلَاءَ") وفي رواية: "إن الله لا ينظر إلى من يجر إزاره بَطَرًا"، وفي رواية عن ابن عمر:"مررت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي إزاري استرخاء، فقال: يا عبد الله ارفع إزارك، فرفعته، ثم قال: زِدْ، فزدت، فما زلت أتحراها بعدُ، فقال بعض القوم: أين؟ فقال: أنصاف الساقين".

قال العلماء: الخيلاء بالمد، والمخيلة، والبَطَرُ، والكبر، والزهو، والتبختر، كلها بمعنى واحد، وهو حرام، ويقال: خال الرجل خالًا، واختال اختيالًا: إذا تكبَّر، وهو رجل خالٍ؛ أي: متكبر، وصاحب خال؛ أي: صاحب كِبْر، قاله النوويّ رحمه الله

(1)

.

وقال في "العمدة": الخيلاء بضم الخاء، وكسرها: الكبر، والعجب، يقال: فيه خيلاء، ومَخِيلة؛ أي: كبر، ومنه اختال فهو مختالٌ. انتهى

(2)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: الخيلاء، والْمَخِيلة: التكبّر، والمشهور في الخيلاء ضمّ الخاء، وقد قِيلت بكسرها، قال: والثوب يعمّ الإزار، والرداء، والقميص، فلا يجوز جرّ شيء منها. انتهى

(3)

.

[تنبيه]: زاد في الروايات الآتية: "يَوْمَ الْقِيَامَةِ"، وإنما خصّ يوم القيامة إشارة إلى أنه محل تمام النعم، بخلاف الدنيا، فإنّ نِعَمها مهما كثُرت تنقطع بما يتجدد من الحوادث. والله تعالى أعلم بالصواب.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [8/ 5442 و 5443 و 5444 و 5445 و 5446 و 5447 و 5448 و 5449 و 5450](2085)، و (البخاريّ) في "المناقب"(2665) و"اللباس"(5783 و 5784 و 5791)، و (أبو داود) في "اللباس"(4085 و 4094)، و (الترمذيّ) في "اللباس"(1730 و 1731)، و (النسائيّ) في

(1)

"شرح النوويّ" 14/ 60 - 61.

(2)

"عمدة القاري" 16/ 71.

(3)

"المفهم" 5/ 405.

ص: 681

"الزينة"(8/ 206 و 209) و" الكبرى"(5/ 483 و 490 و 491 و 492 و 493 و 494)، و (ابن ماجه) في "اللباس"(3569)، و (مالك) في "الموطّأ"(2/ 914) و"عبد الرزّاق" في "مصنّفه"(19980)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(8/ 387)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 5 و 9 و 33 و 55 و 56 و 74 و 101 و 141 و 147)، و (ابن راهويه) في "مسنده"(4/ 177)، و (الحميديّ) في "مسنده"(636)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5443 و 5444)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(5/ 245 و 246 و 247 و 249)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(2/ 130 و 3/ 159) و"الكبير"(12/ 301)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 243) و"شُعَب الإيمان"(5/ 143 و 147 و 283)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(3074 و 3075)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان تغليظ الوعيد في جرّ الإزار.

2 -

(ومنها): تحريم جرّ الإزار تحت الكعبين، ولو لم يكن بقصد الخيلاء؛ للأحاديث الدالة عليه، كحديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا:"ما تحت الكعبين ففي النار"

(1)

.

3 -

(ومنها): تحريم الخيلاء؛ لأنه من صفات أهل النار، لِمَا أخرجه الشيخان في "صحيحيهما" من حديث حارثة بن وهب الخزاعي رضي الله عنه، قال: سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: ألا أخبركم بأهل الجنة؟ كل ضعيف، مُتَضَعِّف، لو أقسم على الله لأبرّه، ألا أخبركم بأهل النار؟ كل عُتُلّ

(2)

، جَوّاظ

(3)

، مستكبر".

4 -

(ومنها): أن فيه دلالة واضحة على عدم اختصاص الإسبال بالإزار،

(1)

حديث صحيح، أخرجه النسائيّ.

(2)

"العُتُلّ": الجافي الغليظ، وقيل: الجافي الشديد الخصومة اللئيم، وقيل: الأكول، وقيل: العتلّ: الشديد من كل شيء، قاله في "مشارق الأنوار" 2/ 65.

(3)

"الجوّاظ" بفتح الجيم، وتشديد الواو، وبالظاء المعجمة: الْمَنُوع، أو المختال في مشيته، قاله في "عمدة القاري" 22/ 140.

ص: 682

بل يكون في القميص، والعمامة، والطيلسان، والرداء، والشّمْلة؛ لأن لفظ الثوب يشمل الكلّ، وقد جاء من حديث ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعًا:"الإسبال في الإزار، والقميص، والعمامة، من جز منها شيئًا خيلاء لا ينظر الله إليه يوم القيامة"، وهو حديث حسنٌ رواه النسائيّ.

وقال ابن بطّال: وإسبال العمامة: المراد به: إرسال العذبة زائدًا على ما جرت به العادة. انتهى. وتطويل أكمام القميص تطويلًا زائدًا على المعتاد: من الإسبال. وقد نقل القاضي عياض عن العلماء كراهة كلّ ما زاد على المعتاد في اللباس في الطول، والسعة. كذا في "نيل الأوطار"

(1)

.

وقال السنديّ: الإسبال في العمامة: بإرسال العذبات زيادةً على العادة عددًا وطولًا، وغايتها إلى نصف الظَّهر، والزيادة عليه بدعة، كذا ذكروا انتهى.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: تحديد الغاية في تطويل العذبة بنصف الظَّهر يحتاج إلى دليل، والله تعالى أعلم.

5 -

(ومنها): ما قاله في "الفتح": يُستنبط من سياق الأحاديث، أن التقييد بالجرّ خرج للغالب، وأن البطر، والتبختر مذموم، ولو لمن شَمَّر ثوبه، والذي يجتمع من الأدلة أن من قصد بالملبوس الحَسَن إظهار نعمة الله عليه، مستحضرًا لها، شاكرًا عليها، غير محتقِر لمن ليس له مثله، لا يضرّه ما لبس من المباحات، ولو كان في غاية النفاسة، ففي "صحيح مسلم" عن ابن مسعود رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كِبْر"، فقال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنًا، ونعله حسنة؟، فقال:"إن الله جميل يحب الجمال، الكِبْر بَطَر الحقّ، وغَمْطُ الناس". وقوله: "وغمط" - بفتح المعجمة، وسكون الميم، ثم مهملة -: الاحتقار.

وأما ما أخرجه الطبريّ، من حديث عليّ رضي الله عنه: إن الرجل يعجبه أن يكون شراك نعله أجود، من شراك صاحبه، فيدخل في قوله تعالى: {تِلْكَ الدَّارُ

(1)

"نيل الأوطار" 2/ 210.

ص: 683

الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83)} الآية [القصص: 83]، فقد جمع الطبريّ بينه، وبين حديث ابن مسعود رضي الله عنه بأن حديث عليّ رضي الله عنه محمول على من أحب ذلك؛ ليتعظم به على صاحبه، لا من أحب ذلك؛ ابتهاجًا بنعمة الله عليه، فقد أخرج الترمذيّ، وحسّنه، من رواية عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، رفعه:"إن الله يحب أن يَرَى أثر نعمته على عبده"، وله شاهد عند أبي يعلى، من حديث أبي سعيد رضي الله عنه.

وأخرج النسائيّ، وأبو داود، وصححه ابن حبان، والحاكم، من حديث أبي الأحوص، عوف بن مالك الجشميّ، عن أبيه، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال له - ورآه رَثّ الثياب -:"إذا آتاك الله مالًا، فلْيُرَ أثره عليك"؛ أي: بأن يلبس ثيابًا تليق بحاله، من النفاسة والنظافة؛ ليعرفه المحتاجون للطلب منه، مع مراعاة القصد، وترك الإسراف؛ جمعًا بين الأدلة. انتهى ما في "الفتح"

(1)

، وهو بحث نفيسٌ جدًّا، والله تعالى أعلم.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في حكم الإسبال تحت الكعبين:

قال في "الفتح": في هذه الأحاديث أن إسبال الإزار للخيلاء كبيرة، وأما الإسبال لغير الخيلاء، فظاهر الأحاديث تحريمه أيضًا، ولكن استُدلّ بالتقييد في هذه الأحاديث بالخيلاء، على أن الإطلاق في الزجر الوارد في ذم الإسبال، محمول على المقيَّد هنا، فلا يحرم الجر والإسبال، إذا سَلِم من الخيلاء، قال ابن عبد البرّ: مفهومه أن الجرّ لغير الخيلاء لا يلحقه الوعيد، إلا أنّ جرَّ القميص وغيره من الثياب مذموم، على كل حال. وقال النووي: لا يجوز الإسبال تحت الكعبين للخيلاء، فإن كان لغيرها فهو مكروه، وهكذا نصّ الشافعيّ على الفرق بين الجر للخيلاء، ولغير الخيلاء، قال: والمستحب أن يكون الإزار إلى نصف الساق، والجائز بلا كراهية ما تحته إلى الكعبين، وما نزل عن الكعبين ممنوع، منع تحريم إن كان للخيلاء، وإلا فمَنْع تنزيه؛ لأن الأحاديث الواردة في الزجر عن الإسبال مطلقة، فيجب تقييدها بالإسبال

(1)

"الفتح" 13/ 260 - 261، كتاب "اللباس" رقم (5788).

ص: 684

للخيلاء. انتهى

(1)

.

والنص الذي أشار إليه ذكره البويطيّ في "مختصره" عن الشافعيّ، قال: لا يجوز السدل في الصلاة، ولا في غيرها للخيلاء، ولغيرها خفيف؛ لقول النبيّ صلى الله عليه وسلم لأبي بكر. انتهى.

وقوله: "خفيف" ليس صريحًا في نفي التحريم، بل هو محمول على أن ذلك بالنسبة للجر خيلاء، فأما لغير الخيلاء فيختلف الحال، فإن كان الثوب على قَدْر لابسه، لكنه يُسدله فهذا لا يظهر فيه تحريم، ولا سيما إن كان عن غير قصد؛ كالذي وقع لأبي بكر رضي الله عنه، وإن كان الثوب زائدًا على قدر لابسه، فهذا قد يتجه المنع فيه، من جهة الإسراف، فينتهي إلى التحريم، وقد يتجه المنع فيه من جهة التشبه بالنساء، وهو أمكن فيه من الأول. وقد صحح الحاكم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لعن الرجل يلبس لِبْسة المرأة". وقد يتجه المنع فيه من جهة أن لابسه لا يأمن من تعلق النجاسة به، وإلى ذلك يشير الحديث الذي أخرجه الترمذيّ في "الشمائل"، والنسائيّ، من طريق أشعث بن أبي الشعثاء - واسم أبيه سُليم المحاربيّ - عن عمته - واسمها رُهْم بضم الراء، وسكون الهاء، وهي بنت الأسود بن حنظلة - عن عمها - واسمه عُبيد بن خالد - قال: كنت أمشي، وعلي بُرد أجرّه، فقال لي رجل:"ارفع ثوبك، فإنه أنقى، وأبقى"، فنظرت، فإذا هو النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقلت: إنما هي بردة ملحاء، فقال:"أما لك فيّ أسوة؟ " قال: فنظرت، فإذا إزاره إلى أنصاف ساقيه"، وسنده قبلها جيد.

وقوله: "ملحاء" - بفتح الميم، وبمهملة قبلها سكون، ممدودة -؛ أي: فيها خطوط سُود، وبيض.

وفي قصة قتل عمر رضي الله عنه أنه قال للشاب الذي دخل عليه: "ارفع ثوبك، فإنه أنقى لثوبك، وأتقى لربك".

ويتجه المنع أيضًا في الإسبال من جهة أخرى، وهي كونه مظنة الخيلاء. قال ابن العربي رحمه الله: لا يجوز للرجل أن يجاوز بثوبه كعبه، ويقول: لا

(1)

"شرح النوويّ" 2/ 146.

ص: 685

أجرّه خيلاء؛ لأن النهي قد تناوله لفظًا، ولا يجوز لمن تناوله اللفظ حُكمًا، أن يقول: لا أمتثله؛ لأن تلك العلة ليست فيّ؛ فإنها دعوى غير مسلَّمة، بل إطالته ذيله دالة على تكبره. انتهى ملخصًا.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي قاله ابن العربيّ رحمه الله هو عين التحقيق، الذي لا يستقيم غيره مع هذه النصوص الظاهرة في التحريم، وحاصله أن الإسبال يستلزم جرّ الثوب، وجرّ الثوب يستلزم الخيلاء، ولو لم يقصد اللابس الخيلاء، فيحرم عليه؛ كما دلّت على ذلك ظواهر النصوص الواردة في النهي عن الإسبال، إلا ما كان كحال أبي بكر رضي الله عنه؛ لنحافة جسمه، ونحوه.

ويؤيده ما أخرجه أحمد بن منيع، من وجه آخر، عن ابن عمر رضي الله عنهما في أثناء حديث رفعه:"وإياك وجرَّ الإزار، فإن جرَّ الإزار من المخيلة"، وأخرج الطبراني من حديث أبي أمامة رضي الله عنه:"بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ لحقنا عمرو بن زُرارة الأنصاريّ، في حلة إزار ورداء، قد أسبل، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذ بناحية ثوبه، ويتواضع لله، ويقول: عبدك وابن عبدك وأمتك، حتى سمعها عمرو، فقال: يا رسول الله، إني حَمْشُ الساقين، فقال: يا عمرو، إن الله قد أحسن كل شيء خلقه، يا عمرو، إن الله لا يحب المسبل. . ." الحديث، وأخرجه أحمد من حديث عمرو نفسه، لكن قال في روايته، عن عمرو بن فلان، وأخرجه الطبراني أيضًا، فقال: عن عمرو بن زرارة، وفيه:"وضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربع أصابع تحت ركبة عمرو، فقال: يا عمرو هذا موضع الإزار، ثم ضرب بأربع أصابع، تحت الأربع، فقال: يا عمرو هذا موضع الإزار. . ." الحديث، ورجاله ثقات، وظاهره أن عمرًا المذكور، لم يقصد بإسباله الخيلاء، وقد منعه من ذلك؛ لكونه مظنة.

وأخرج الطبراني، من حديث الشَّرِيد الثقفيّ، قال: أبصرَ النبيّ صلى الله عليه وسلم رجلًا قد أسبل إزاره، فقال:"ارفع إزارك"، فقال: إني أحنف تَصطكّ ركبتاي، فقال:"ارفع إزارك، فكلُّ خَلْق الله حسن"، أخرجه مسدّد، وأبو بكر بن أبي شيبة، من طُرُق عن رجل من ثقيف، لم يُسمَّ، وفي آخره:"ذاك أقبح مما بساقك".

وأما ما أخرجه ابن أبي شيبة، عن ابن مسعود رضي الله عنه بسند جيد أنه كان

ص: 686

يُسبل إزاره، فقيل له في ذلك؟ فقال: إني حَمْشُ الساقين، فهو محمول على أنه أسبله زيادة على المستحب، وهو أن يكون إلى نصف الساق، ولا يظن به أنه جاوز به الكعبين، والتعليل يرشد إليه، ومع ذلك فلعله لم تبلغه قصة عمرو بن زرارة. والله أعلم.

وأخرج النسائي في "الكبرى"، وابن ماجه، وصححه ابن حبان، من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، أخذ برداء سفيان بن سهيل، وهو يقول:"يا سفيان لا تُسبل، فإن الله لا يحب المسبلين". قاله في "الفتح"

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تلخّص مما ذُكر من الأدلة أن جرّ الإزار تحت الكعبين حرام، ولو لم يكن بقصد الخيلاء؛ لأنه صلى الله عليه وسلم جعله من الْمَخِيلة، وأما إذا كان بقصد الخيلاء، فهو أشدّ تحريمًا، وله الوعيد المذكور في حديث الباب، وأما ما تقدّم من قول النوويّ: إنه مكروه تنزيهًا، فلا يخفى ضعفه، فتبصّر.

ومما يؤيّد أن الجرّ المذكور محرّم مطلقًا فَهُمْ أم سلمة رضي الله عنها، حينما سمعت من النبيّ صلى الله عليه وسلم قوله:"من جرّ ثوبه من الخيلاء لم ينظر الله إليه" قالت: فكيف تصنع النساء بذيولهنّ؟، قال:"يرخينه شبرًا. . ." الحديث.

قال في "الفتح": يستفاد من هذا الفهم - يعني: فهم أم سلمة هذا - التعقبُ على من قال: إن الأحاديث المطلقة في الزجر عن الإسبال، مقيدة بالأحاديث الأخرى المصرحة بمن فعله خيلاء، قال النووي: ظواهر الأحاديث في تقييدها بالجر خيلاء، يقتضي أن التحريم مختص بالخيلاء.

ووجه التعقب أنه لو كان كذلك، لَمَا كان في استفسار أم سلمة، عن حكم النساء في جرّ ذيولهن معنى، بل فهمت الزجر عن الإسبال مطلقًا، سواء كان عن مَخِيلة أم لا، فسألت عن حُكم النساء في ذلك؛ لاحتياجهنّ إلى الإسبال، من أجل ستر العورة؛ لأن جميع قدمها عورة، فبَيَّن لها أن حكمهن في ذلك خارج عن حكم الرجال في هذا المعنى فقط، وقد نقل عياض

(1)

"الفتح" 13/ 266 - 268، كتاب "اللباس" رقم (5788).

ص: 687

الإجماع على أن المنع في حق الرجال دون النساء، ومراده مَنْع الإسبال؛ لتقريره صلى الله عليه وسلم أم سلمة على فَهْمها، إلا أنه بَيَّن لها أنه عام مخصوص؛ لتفرقته في الجواب بين الرجال والنساء في الإسبال، وتبيينه القدر الذي يمنع ما بعده في حقهن، كما بَيَّن ذلك في حق الرجال. انتهى.

وخلاصة القول في هذه المسألة أن الإسبال محرّم مطلقًا، سواء كان خيلاء، وهو أشد تحريمًا، أم لا. والله تعالى أعلم بالصواب.

[تنبيه]: أخرج البخاريّ في "صحيحه" عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"مَن جَرّ ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة"، قال أبو بكر: يا رسول الله إن أحد شقّي إزاري يسترخي، إلا أن أتعاهد ذلك منه، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"لست ممن يصنعه خيلاء". انتهى.

وهذا الحديث يدلّ على أنه لا حرج على من جرّ إزاره بغير قصد مطلقًا، وأما ما أخرجه ابن أبي شيبة، عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يكره جرّ الإزار على كلّ حال، فقال ابن بطّال: هو من تشديداته، وإلا فقد روى هو حديث الباب، فلم يَخْفَ عليه الحكم، قال الحافظ: بل كراهة ابن عمر محمولة على من قصد ذلك، سواء كان عن مَخِيلة، أم لا، وهو المطابق لروايته المذكورة، ولا يُظنّ بابن عمر أنه يؤاخِذ من لم يقصد شيئًا، وإنما يُريد بالكراهة: من انجرّ إزاره بغير اختياره، ثم تمادى على ذلك، ولم يتداركه، وهذا متّفقٌ عليه، وإن اختلفوا هل الكراهة فيه للتحريم، أو للتنزيه؟

وفيه أيضًا اعتبار أحوال الأشخاص في الأحكام باختلافها، وهو أصلٌ مطّردٌ غالبًا. قاله في "الفتح"

(1)

.

وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5443]

(. . .) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ نُمَيْرٍ، وَأَبُو أُسَامَةَ (ح) وَحَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي (ح) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَعُبَيْدُ اللهِ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَا: حَدَّثنا يَحْيَى - وَهُوَ الْقَطَّانُ - كُلُّهُمْ عَنْ عُبَيْدِ الله (ح)

(1)

"الْفَتْحُ" 11/ 426.

ص: 688

وَحَدَّثَنَا أَبُو الرَّبِيع، وَأَبُو كَامِلٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا حَمَّاد (ح) وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، كِلَاهُمَا عَنْ أَيُّوبَ (ح) وَحَدَّثنَا قتيْبَةُ، وَابْنُ رُمْحٍ، عَنِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ (ح) وَحَدَّثنَا هَارُونُ الأَيْلِيُّ، حَدَّثنَا ابْنُ وَهْبٍ، حَدَّثَنِي أُسَامَةُ، كُلُّ هَؤُلَاءِ عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِ حَدِيثِ مَالِكٍ، وَزَادُوا

(1)

فِيهِ: "يَوْمَ الْقِيَامَةِ").

رجال هذه الأسانيد: اثنان وعشرون:

1 -

(أَبُو أُسَامَةَ) حمّاد أسامة، تقدّم قريبًا.

2 -

(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ سَعِيدٍ) أبو قُدامة السرخسيّ، نزيل نيسابور، ثقةٌ ثبتٌ سُنّيّ [10](ت 241)(خ م س) تقدم في "المقدمة" 6/ 39.

3 -

(يَحْيَى الْقَطَّانُ) ابن سعيد، تقدّم قريبًا.

4 -

(عُبَيْدُ اللهِ) بن عمر العمريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

5 -

(أَبُو الرَّبِيعِ) سليمان بن داود، تقدّم أيضًا قريبًا.

6 -

(أبُو كَامِلٍ) فُضيل بن حسين الجحدريّ البصريّ، تقدّم قريبًا.

7 -

(حَمَّادٌ) ابن زيد، تقدّم أيضًا قريبًا.

8 -

(ابْنُ رُمْحٍ) هو: محمد بن رُمح بن مهاجر التجيبيّ مولاهم المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 242)(م ق) تقدم في "الإيمان" 16/ 168.

9 -

(اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ) الإمام المصريّ المشهور، تقدّم قريبًا.

10 -

(هَارُونُ الأَيْلِيُّ) ابن سعيد السعديّ مولاهم، أبو جعفر نزيل مصر، ثقةٌ فاضلٌ [10](ت 253) م دس ق) تقدم في "الإيمان" 29/ 225.

11 -

(أُسَامَةُ) بن زيد الليميّ مولاهم، أبو زيد المدنيّ، صدوقٌ يَهِم [7](ت 153)(خت م 4) تقدم في "الصلاة" 42/ 1085.

والباقون ذُكروا في الأبواب الخمسة الماضية، و"إسماعيل" هو: ابن عليّة، و"أيوب" هو: السختيانيّ.

(1)

وفي نسخة: "وزاد" بالإفراد، وهو محلّ نظر.

ص: 689

وقوله: (كلُّهُمْ عَنْ عُبَيْدِ اللهِ)؛ يعني: أن عبد الله بن نُمير، وأبا أسامة، ويحيى القطّان رووا عن عبيد الله العُمريّ.

وقوله: (كِلَاهُمَا عَنْ أَيُّوبَ)؛ يعني: أن حماد بن زيد، وإسماعيل ابن عُليّة، روياه عن أيوب السختيانيّ.

وقوله: (كُلُّ هَؤُلَاءِ عَنْ نَافِعٍ)؛ يعني: أن هؤلاء الأربعة: عبيد الله العمريّ، وأيوب السختيانيّ، والليث بن سعد، وأسامة بن زيد الليثيّ رووه عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما.

[تنبيه]: هذه الأسانيد كلها من خماسيّات المصنّف، غير سند الليث، فإنه من رباعيّاته، وهو (414) من رباعيّات الكتاب، فتنبّه.

وقوله: (وَزَادُوا

(1)

فِيهِ: "يَوْمَ الْقِيَامَةِ")؛ يعني: أن هؤلاء الأربعة الذين رووا بموافقة مالك زادوا على روايته لفظ: "يوم القيامة".

[تنبيه]: رواية عبد الله بن نُمير، وأبي أسامة كلاهما عن عبيد الله العمريّ، عن نافع، ساقها ابن ماجه رحمه الله في "سننه"، فقال:

(3569)

- حدّثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا أبو أسامة (ح) وحدّثنا عليّ بن محمد، ثنا عبد الله بن نُمير جميعًا عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إن الذي يجر ثوبه من الخيلاء، لا ينظر الله إليه يوم القيامة". انتهى

(2)

.

ورواية يحيى القطّان عن عبيد الله، عن نافع، ساقها أبو عوانة رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(8578)

- وحدّثنا قربزان

(3)

، قثنا يحيى بن سعيد، قال: ثنا عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إن الذي يجر ثوبه من الخيلاء، لا ينظر الله إليه يوم القيامة". انتهى

(4)

.

(1)

وفي نسخة: "وزاد" بالإفراد، وهو محلّ نظر.

(2)

"سنن ابن ماجه" 2/ 1181.

(3)

ليُنظر؟.

(4)

"مسند أبي عوانة" 5/ 246.

ص: 690

ورواية حمّاد بن زيد، عن أيوب، عن نافع ساقها أيضًا أبو عوانة رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(8580)

- حدّثنا أبو جعفر الدارميّ، وأبو أمية قالا: ثنا أبو النعمان (ح) وحدّثنا الصومعيّ، قثنا سليمان بن حرب، وعارم قالوا

(1)

: ثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الذي يجر ثوبه من الخيلاء، لا ينظر الله إليه يوم القيامة"، اللفظ للصومعيّ. انتهى

(2)

.

ورواية إسماعيل ابن عليّة، عن أيوب، عن نافع ساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"، وزاد فيها قصّة أم سلمة رضي الله عنها، فقال:

(4489)

- حدّثنا عبد الله، حدّثني أبي، ثنا إسماعيل، أنا أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الذي يجر ثوبه من الخيلاء، لا ينظر الله إليه يوم القيامة"، قال نافع: فأنبئت أن أم سلمة قالت: فكيف بنا؟ قال: "شبرًا"، قالت: إذًا تبدو أقدامنا، قال:"ذراعًا، لا تزدنّ عليه". انتهى

(3)

.

ورواية الليث بن سعد، وأسامة بن زيد كلاهما عن نافع ساقها أبو عوانة رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(8574)

- حدّثنا بحر بن نصر، ثنا ابن وهب، أخبرني الليث بن سعد، وأسامة بن زيد الليثيّ، عن نافع، عن ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إن الذي يجر ثوبه من الخيلاء، لا ينظر الله إليه يوم القيامة". انتهى

(4)

.

[تنبيه آخر]: رواية نافع المذكورة آنفًا من رواية أحمد، وفيه قصّة أم سلمة رضي الله عنها أخرجها الشيخان، وليس فيها عندهما القصّة المذكورة، قال الحافظ رحمه الله في شرح حديث أبي هريرة رضي الله عنه، مرفوعًا:"لا ينظر الله يوم القيامة إلى من جرّ إزاره بَطَرًا" ما حاصله: قوله: "من": يتناول الرجال والنساء

(1)

هكذا النسخة، والظاهر "قالا"؛ لأن أبا النعمان وعارم واحد، إلا على القول بأن أقل الجمع اثنان، فليُتأمّل.

(2)

"مسند أبي عوانة" 5/ 246.

(3)

"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 2/ 5.

(4)

"مسند أبي عوانة" 5/ 245.

ص: 691

في الوعيد المذكور، على هذا الفعل المخصوص، وقد فَهِمَت ذلك أم سلمة رضي الله عنها، فأخرج النسائي، والترمذي، وصححه، من طريق أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، متصلًا بحديثه المذكور في الباب الأول:"فقالت أم سلمة: فكيف تصنع النساء بذيولهن؟ فقال: يرخين شبرًا، فقالت: إذًا تنكشف أقدامهن، قال: فيرخينه ذراعًا، لا يزدن عليه" لفظ الترمذي، وقد عزا بعضهم هذه الزيادة لمسلم، فَوَهِمَ، فإنها ليست عنده، وكأن مسلمًا أعرض عن هذه الزيادة؛ للاختلاف فيها على نافع، فقد أخرجه أبو داود، والنسائي، وغيرهما، من طريق عبيد الله بن عمر، عن سليمان بن يسار، عن أم سلمة، وأخرجه أبو داود، من طريق أبي بكر بن نافع، والنسائي من طريق أيوب بن موسى، ومحمد بن إسحاق، ثلاثتهم عن نافع، عن صفية بنت أبي عبيد، عن أم سلمة. وأخرجه النسائيّ، من رواية يحيى بن أبي كثير، عن نافع، عن أم سلمة نفسها، وفيه اختلافات أخرى، ومع ذلك فله شاهد من حديث ابن عمر، أخرجه أبو داود، من رواية أبي الصديق، عن ابن عمر، قال:"رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمهات المؤمنين شبرًا، ثم استزدنه، فزادهن شبرًا، فكن يُرسلن إلينا، فنذرع لهن ذراعًا"، وأفادت هذه الرواية قَدْر الذراع المأذون فيه، وأنه شبران بشبر اليد المعتدلة.

ويستفاد من هذا الفهم التعقبُ على من قال: إن الأحاديث المطلقة في الزجر عن الإسبال، مقيَّدة بالأحاديث الأخرى المصرِّحة بمن فعله خيلاء، قال النووي: ظواهر الأحاديث في تقييدها بالجر خيلاء، يقتضي أن التحريم مختص بالخيلاء.

ووجه التعقب أنه لو كان كذلك، لَمَا كان في استفسار أم سلمة، عن حُكم النساء في جرّ ذيولهن معنى، بل فَهِمَت الزجر عن الإسبال مطلقًا، سواء كان عن مَخِيلة أم لا، فسألت عن حُكم النساء في ذلك؛ لاحتياجهن إلى الإسبال، من أجل ستر العورة؛ لأن جميع قدمها عورة، فبَيَّن لها أن حكمهن في ذلك خارج عن حكم الرجال في هذا المعنى فقط، وقد نقل عياض الإجماع على أن المنع في حق الرجال دون النساء، ومراده مَنْع الإسبال؛ لتقريره صلى الله عليه وسلم أم سلمة على فَهْمها، إلا أنه بيَّن لها أنه عام مخصوص؛ لتفرقته في

ص: 692

الجواب بين الرجال والنساء في الإسبال، وتبيينه القدر الذي يمنع ما بعده في حقهن، كما بَيَّن ذلك في حق الرجال.

والحاصل أن للرجال حالين: حال استحباب، وهو أن يقتصر بالإزار على نصف الساق، وحال جواز، وهو إلى الكعبين، وكذلك للنساء حالان: حال استحباب، وهو ما يزيد على ما هو جائز للرجال بقدر الشبر، وحال جواز بقدر ذراع، ويؤيد هذا التفصيل في حق النساء، ما أخرجه الطبراني في "الأوسط" من طريق معتمر، عن حميد، عن أنس:"أن النبي صلى الله عليه وسلم شَبَرَ لفاطمة من عَقِبها شبرًا، وقال: هذا ذيل المرأة"، وأخرجه أبو يعلى بلفظ:"شَبَر من ذيلها شبرًا، أو شبرين، وقال: لا تزدن على هذا"، ولم يسمِّ فاطمة، قال الطبراني: تفرَّد به معتمر، عن حميد، قال الحافظ: و"أو" شكٌّ من الراوي، والذي جزم بالشبر هو المعتمَد، ويؤيده ما أخرجه الترمذي، من حديث أم سلمة:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم شَبَرَ لفاطمة شبرًا". انتهى ما في "الفتح"

(1)

، وهو بحثٌ نفيس جدًّا. والله تعالى أعلم.

وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5444]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِر، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيه، وَسَالِمِ بْنِ عَبْدِ الله، وَنَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، أَنّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّ الَّذِي يَجُرُّ ثِيَابَهُ مِنَ الْخُيَلَاءِ لَا يَنْظُرُ اللهُ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدِ) بن زيد بن عبد الله بن عمر بن الخطّاب المدنيّ، نزيل عَسْقلان، ثقةٌ [6] مات قبل (150)(خ م دس) تقدم في "الإيمان" 31/ 233.

2 -

(أَبُوهُ) محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر بن الخطّاب المدنيّ، ثقةٌ [3](ع) تقدم في "الإيمان" 5/ 122.

3 -

(سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) بن عمر بن الخطّاب الفقيه المدنيّ، تقدّم قريبًا.

(1)

"الْفَتْحُ" 11/ 430 - 432.

ص: 693

والباقون ذُكروا قبله.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله في حديث نافع، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5445]

(. . .) وَحَدَّثنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، عَنِ الشَّيْبَانِيِّ (ح) وَحَدَّثنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثنَا شُعْبَةُ، كِلَاهُمَا عَنْ مُحَارِبِ بْنِ دِثَارٍ، وَجَبَلَةَ بْنِ سُحَيْمٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِ حَدِيثِهِمْ).

رجال هذين الإسنادين: تسعة:

1 -

(مُحَارِبُ بْنُ دِثَارٍ) السَّدُوسيّ الكوفيّ القاضي، ثقةٌ إمامٌ زاهدٌ [4](ت 116)(ع) تقدم في "الصلاة" 40/ 1069.

2 -

(جَبَلَةُ بْنُ سُحَيْمٍ) مصغّرًا الكوفيّ، ثقةٌ [3](ت 125)(ع) تقدم في "الصيام" 2/ 2509.

والباقون تقدّموا قريبًا، و"الشيبانيّ" هو: سليمان بن أبي سليمان فيروز.

وقوله: (كِلَاهُمَا عَنْ مُحَارِبِ بْنِ دِثَارٍ) الضمير للشيبانيّ، وشعبة.

[تنبيه]: رواية الشيبانيّ، عن مُحارب بن دثار وجَبَلة بن سُحيم ساقها أبو بكر بن أبي شيبة رحمه الله في "مصنّفه"، فقال:

(24807)

- حدَّثنا أبو بكر، قال: حدّثنا عليّ بن مُسهر، عن الشيبانيّ، عن جَبَلة، ومحارب بن دثار، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من جَرّ ثوبه من الخيلاء، لم ينظر الله إليه يوم القيامة". انتهى

(1)

.

ورواية شعبة، عن محارب بن دثار، وجَبَلة بن سُحيم ساقها النسائيّ في "سننه" مفرّقًا، فقال:

(9730)

- أخبرنا محمد بن المثنى، قال: ثنا محمد، قال: ثنا شعبة، قال: سمعت مُحارب بن دثار، قال: سمعت ابن عمر، يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَن جَرّ ثوبه خيلاء، فإن الله لا ينظر إليه يوم القيامة".

(1)

"مصنف ابن أبي شيبة" 5/ 165.

ص: 694

(9731)

- أخبرنا محمد بن المثنى، قال: ثنا محمد، قال: ثنا شعبة، عن جَبَلة، قال: سمعت ابن عمر يقول: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "مَن جَرَّ ثوبًا من ثيابه من مخيلة

(1)

، لم ينظر الله إليه يوم القيامة". انتهى

(2)

.

[تنبيه آخر]: ساق البخاريّ رضي الله عنه في "صحيحه" رواية شعبة من طريق شَبابة بن سَوّار، قال: حدثنا شعبة، قال: لقيت محارب بن دثار، على فرس، وهو يأتي مكانه الذي يقضي فيه، فسألته عن هذا الحديث، فحدثني، فقال: سمعت عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من جر ثوبه مخيلة، لم ينظر الله إليه يوم القيامة"، فقلت لمحارب: أَذَكر إزاره؟ قال: ما خصّ إزارًا، ولا قميصًا.

وسبب سؤال شعبة عن الإزار، أن أكثر الطرق جاءت بلفظ "الإزار"، وجواب محارب حاصله أن التعبير بالثوب، يشمل الإزار وغيره، وقد جاء التصريح بما اقتضاه ذلك، فقد أخرج أصحاب السنن، إلا الترمذيّ، واستغربه ابن أبي شيبة، من طريق عبد العزيز بن أبي رَوّاد، عن سالم بن عبد الله بن عمر، عن أبيه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال:"الإسبال في الإزار، والقميص، والعمامة، من جرَّ منها شيئًا خيلاء لا ينظر الله إليه يوم القيامة".

قال الحافظ: وعبدُ العزيز فيه مقال، وقد أخرج أبو داود، من رواية يزيد بن أبي سمية، عن ابن عمر، قال: ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإزار، فهو في القميص.

وقال الطبريّ: إنما ورد الخبر بلفظ "الإزار"؛ لأن أكثر الناس في عهده كانوا يلبسون الإزار، والأردية، فلمّا لبس الناس القميص، والدراريع، كان حُكمها حُكم الإزار في النهي.

قال ابن بطال: هذا قياس صحيح، لو لم يأت النص بالثوب، فإنه يشمل جميع ذلك، وفي تصوير جرّ العمامة نَظَر، إلا أن يكون المراد ما جَرَت به

(1)

قوله: "من مخيلة": "من" فيه للتعليل، و"المخيلة" - بفتح الميم، وكسر الخاء المعجمة -: الكِبْر؛ كالخيلاء.

(2)

"السنن الكبرى" 5/ 493.

ص: 695

عادة العرب، من إرخاء العذبات فمهما زاد على العادة في ذلك، كان من الإسبال.

وقد أخرج النسائيّ من حديث جعفر بن عمرو بن أمية، عن أبيه، قال:"كأني أنظر الساعةَ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر، وعليه عمامة، قد أرخى طرفها بين كتفيه".

وهل يدخل في الزجر عن جرّ الثوب تطويل أكمام القميص ونحوه؟ محل نَظَر، والذي يظهر أن من أطالها حتى خرج عن العادة، كما يفعله بعض الحجازيين، دخل في ذلك، قال شيخنا - يعني: الحافظ العراقيّ - في "شرح الترمذي": ما مسَّ الأرض منها خيلاء، لا شك في تحريمه، قال: ولو قيل بتحريم ما زاد على المعتاد، لم يكن بعيدًا، ولكن حَدَث للناس اصطلاح بتطويلها، وصار لكل نوع من الناس شِعار يُعرفون به، ومهما كان من ذلك على سبيل الخيلاء، فلا شك في تحريمه، وما كان على طريق العادة فلا تحريم فيه، ما لم يصل إلى جرّ الذيل الممنوع. ونقل عياض عن العلماء كراهة: كل ما زاد على العادة، وعلى المعتاد في اللباس من الطول والسعة. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: التفصيل الذي ذكره الحافظ العراقيّ رحمه الله في كلامه المذكور آنفًا، حسنٌ جدًّا. والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5446]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا حَنْظَلَةُ، قَالَ: سَمِعْتُ سَالِمًا عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ مِنَ الْخُيَلَاءِ لَمْ يَنْظُرِ اللهُ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(حَنْظَلَةُ) بن أبي سُفيان الأسود بن عبد الرحمن بن صفوان بن أُميّة الْحَجَبيّ المكيّ، ثقةٌ حجةٌ [6](ت 151)(ع) تقدم في "الإيمان" 5/ 123.

(1)

"الْفَتْح" 11/ 434 - 435.

ص: 696

والباقون ذُكروا في الباب، و"ابن نُمير" هو: محمد بن عبد الله، و"أبوه" هو: عبد الله بن نمير.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى البحث فيه مستوفًى، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5447]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنَا حَنْظَلَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ سَالِمًا قَالَ: سَمِعْثُ ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ. مِثْلَهُ، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ" "ثِيَابَه").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(إِسْحَاقُ بْنُ سُلَيْمَانَ) الرازيّ، أبو يحيى كوفيّ الأصل، ثقةٌ فاضلٌ [9](ت 200) أو قبلها (ع) تقدم في "الزكاة" 43/ 2429.

والباقون ذُكروا قبله، و"ابن نُمير" هو: محمد بن عبد الله.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى البحث فيه مستوفًى، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5448]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْن جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: سَمِعْتُ مُسْلِمَ بْنَ يَنَّاقَ، يُحَدِّثُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ رَأَى رَجُلًا يَجُرُّ إِزَارَهُ، فَقَالَ: مِمَّنْ أَنْتَ؟ فَانْتَسَبَ لَهُ، فَإِذَا رَجُلٌ مِنْ بَنِي لَيْثٍ، فَعَرَفَهُ ابْنُ عُمَرَ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِأُذُنَيَّ هَاتَيْنِ، يَقُولُ: "مَنْ جَرَّ إِزَارَهُ لَا يُرِيدُ بِذَلِكَ إِلا الْمَخِيلَةَ، فَإِنَّ اللهَ لَا يَنْظُرُ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(مُسْلِمُ بْنُ يَنَّاقَ) بفتح أوله، وتشديد النون، آخره قاف، الْخُزاعيّ، أبو الحسن المكيّ، ثقةٌ [4].

رَوَى عن ابن عباس، وغيره، وعنه إبراهيم بن نافع، وإسماعيل بن أمية، وحاتم بن أبي صَغِيرة، وعبد الملك بن أبي سليمان، وشعبة، وغيرهم.

قال إسحاق بن منصور، عن ابن معين: مشهورٌ، وقال أبو زرعة،

ص: 697

والنسائيّ: ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وذكره ابن سعد في الطبقة الثانية من أهل مكة، وقال: قليل الحديث.

تفرّد به المصنّف، والنسائيّ، وليس له عندهما إلا هذا الحديث.

[تنبيه]: قال النوويّ في "شرحه": قوله: "مسلم بن يَنّاق" هو بياء مثنّاة تحتُ، مفتوحة، ثم نون مشدّدة، وبالقاف، غير مصروف. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قوله: "غير مصروف" لم أره لغيره، بل ظاهر عبارة "القاموس" صرفه، ودونك عبارته:"ويَنّاق كشدّادٍ، صحابيّ، جدّ الحسن بن مسلم بن يَنّاقٍ". انتهى

(2)

.

وعبارة المرتضى في "شرحه": وَينّاقٌ كشَدّادٍ، ويُخَفَّفُ أيضًا، كما نَقَله الصّاغانيّ: جَدُّ الحَسَنِ بن مُسلِم بنِ يَنّاق المَكيّ، وَفَدَ يومَ حجَّةِ الوَداع، قاله الذَّهَبِيُّ، وابنُ فَهْد في "معْجَمَيهما"، وأَمّا الحَسن بن مُسلِمِ حفيدُه، فإِنّه من أَتْباع التّابِعِينَ، وقال ابنُ حِبّان: ثِقَةٌ يروي عن مجاهِد، وطاوُوس، ورَوَى عنهُ ابنُ أَبي نُجَيح، وابنُ جُرَيْجٍ، يُقال: إِنَّه مات قَبل طَاوُوس، وقد سَمِعَ شُعْبَةُ من مُسلمِ بنِ يَنّاقٍ، ولم يَسمَع من ابنِه الحَسن؛ لأَنَّ الحَسَنَ ماتَ قبلَ أَبِيه، وقالَ في تَرجَمَةِ مُسلم: هو ابنُ يَنّاق، والِدُ الحَسَن من أَهْلِ مكَّةَ، يَروي عن ابن عمَر، وعَنْهُ شُعْبَة بن الحَجّاجِ. انتهى

(3)

.

والحاصل أن عبارة "القاموس"، و"شرحه" ظاهرة في كونه منصرفًا، حيث قالا: كشدّادٍ، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

والباقون ذُكروا قبله.

وقوله: (رَأَى رَجُلًا يَجُرُّ إِزَارَهُ) لمِ يُعرف الرجل

(4)

.

وقوله: (فَانْتَسَبَ لَهُ)؛ أي: ذَكَر نسَبه لابن عمر رضي الله عنهما.

وقوله: (فَإِذَا رَجُلٌ مِنْ بَنِي لَيْثٍ)"إذا" هنا هي الْفُجائيّة؛ أي: ففاجأه كونه من بني ليث.

وقوله: (قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم. . . إلخ) القائل هو ابن عمر رضي الله عنهما.

(1)

"شرح النوويّ" 14/ 63.

(2)

"القاموس المحيط" ص 1433.

(3)

"تاج العروس" 1/ 6634.

(4)

راجع: "تنبيه المعلم" ص 361.

ص: 698

وقوله: (بِأُذُنَيَّ هَاتَيْنِ) تثنية هات اسم إشارة للمؤنّثة، وهو بدل من "أُذنيّ".

وقوله: (إِلَّا الْمَخِيلَةَ) بفتح الميم، وكسر الخاء المعجمة: بمعنى التكبّر.

والحديث بهذه القصّة من أفراد المصنّف، وقد مضى تمام شرحه، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5449]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثنَا أَى، حَدَّثنَا عَبْدُ الْمَلِكِ - يَعْني: ابْنَ أَبِي سُلَيْمَانَ - (ح) وَحَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا أَبُو يُونُسَ (ح) وَحَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي خَلَفٍ، حَدَّثنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي بُكَيْرٍ، حَدَّثَني إِبْرَاهِيمُ - يَعْني: ابْنَ نَافِعٍ - كُلُّهُمْ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ يَنَّاقَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِه، غَيْرَ أَنَّ فِي حَدِيثِ أَبِي يُونُسَ

(1)

: عَنْ مُسْلِمٍ أَبِي الْحَسَن، وَفِي رِوَايَتِهِمْ جَمِيعًا:"مَنْ جَرَّ إِزَارَهُ"، وَلَمْ يَقُولُوا:"ثَوْبَه").

رجال هذه الأسانيد: أحد عشر:

1 -

(عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ) ميسرة الْعَرْزميّ الكوفيّ، صدوقٌ [5](ت 145)(خت م 4) تقدم في "الإيمان" 83/ 442.

2 -

(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ) العَنبريّ البصريّ، تقدّم قريبًا.

3 -

(أَبُوهُ) معاذ بن معاذ العنبريّ البصريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

4 -

(أَبُو يُونُسَ) حاتم بن أبي صغيرة البصريّ، واسم أبي صغيرة مسلم، وهو جدّه لأمه، وقيل: زوج أمه، ثقةٌ [6](ع) تقدم في "الحج" 67/ 3249.

5 -

(ابْنُ أَبِي خَلَفٍ) هو: محمد بن أحمد بن أبي خلف السلميّ، أبو عبد الله البغداديّ القَطِيعيّ، ثقةٌ [10](ت 237)(م د) تقدم في "الإيمان" 92/ 502.

(1)

هذه الرواية لم أجد من ساقها، وأما قوله:"عن مسلم أبي الحسن"، ففي رواية إبراهيم بن نافع أيضًا، ولعل المصنّف لم يقع له إلا في رواية أبي يونس، والله تعالى أعلم.

ص: 699

6 -

(يَحْيَى بْنُ أَبِي بُكَيْرٍ) واسمه نَسْر الكرمانيّ، كوفيّ الأصل، نزيل بغداد، ثقةٌ [9](ت 8 أو 209)(ع) تقدم في "الإيمان" 90/ 471.

7 -

(إِبْرَاهِيمُ بْنُ نَافِعٍ) المخزوميّ المكيّ، ثقةٌ حافظٌ [7](ع) تقدم في "الزكاة" 24/ 2360.

والباقون ذُكروا قبله.

وقوله: (كُلُّهُمْ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ يَنَّاقَ)؛ يعني: كلّ هؤلاء الثلاثة: عبد الملك بن أبي سليمان، وأبو يونس، وإبراهيم بن نافع رووا هذا الحديث عن مسلم بن يَنّاق، عن ابن عمر رضي الله عنهما.

[تنبيه]: رواية عبد الملك بن أبي سليمان، عن مسلم بن ينّاق ساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(6152)

- حدّثنا عبد الله

(1)

، حدّثني أبي، ثنا يزيد بن هارون، أنا عبد الملك، عن مسلم بن يَنّاق، قال: كنت مع عبد الله بن عمر في مجلس بني عبد الله بمكة، فمرّ علينا فتى مُسبل إزاره، فقال: هَلُمّ يا فتى، فأتاه، فقال: من أنت؟ قال: أنا أحد بني بكر بن سعد، قال: أتحب أن ينظر الله إليك يوم القيامة؟ قال: نعم، قال: فارفع إزارك إذًا، فإني سمعت أبا القاسم صلى الله عليه وسلم يقول بأذنيّ هاتين - وأهوى بإصبعيه إلى أذنيه - يقول:"من جَرّ إزاره لا يريد به إلا الخيلاء، لم ينظر الله إليه يوم القيامة". انتهى

(2)

.

ورواية إبراهيم بن نافع، عن مسلم بن ينّاق ساقها أبو نعيم رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(8588)

- حدّثنا محمد بن إسماعيل بن سالم، وسعيد بن مسعود المروزيّ، قالا: ثنا يحيى بن أبي بكير، قال: أنبا إبراهيم بن نافع، عن مسلم بن يَنّاق أبي الحسن، قال: كنا مع ابن عمر جلوسًا، فمَرّ عليه إنسان من بني بكر يجرّ إزاره، فدعاه ابن عمر، فسأله ممن هو؟ فانتسب له، ثم قال عبد الله: سمعت أبا القاسم صلى الله عليه وسلم يقول: "مَن جَرّ إزاره من الخيلاء لم ينظر الله

(1)

ولد الإمام أحمد راوي "المسند" عنه.

(2)

"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 2/ 131.

ص: 700

إليه يوم القيامة". انتهى

(1)

.

وأما رواية أبي يونس، عن مسلم، فلم أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5450]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، وَهَارُونُ بْنُ عَبْدِ الله، وَابْنُ أَبِي خَلَفٍ، وَأَلْفَاظُهُمْ مُتَقَارِبَةٌ، قَالُوا: حَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ، حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، قَالَ: سَمِعْتُ محَمَّدَ بْنَ عَبَّادِ بْنِ جَعْفَرٍ، يَقُولُ: أَمَرْتُ مُسْلِمَ بْنَ يَسَارٍ مَوْلَى نَافِعِ بْنِ عَبْدِ الْحَارِثِ أَنْ يَسْأَلَ ابْنَ عُمَرَ - قَالَ: وَأَنَا جَالِسٌ بَيْنَهُمَا - أَسَمِعْتَ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الَّذِي يَجُرُّ إِزَارَهُ مِنَ الْخُيَلَاءِ شَيْئًا؟ قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: "لَا يَنْظُرُ اللهُ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمِ) بن ميمون، تقدّم قبل بابين.

2 -

(هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) بن مروان الْحَمّال، أبو موسى البغداديّ البزّاز، ثقةٌ [10](ت 243) وقد ناهز الثمانين (م 4) تقدم في "الإيمان" 64/ 361.

3 -

(رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ) القيسيّ البصريّ، تقدّم قريبًا.

4 -

(ابْنُ جُرَيْجٍ) عبد الملك بن عبد العزيز بن جُريج، تقدّم أيضًا قريبًا.

5 -

(مُحَمَّدُ بْنُ عَبَادِ بْنِ جَعْفَرِ) بن رفاعة بن أميّة بن عائذ بن عبد الله بن عمر بن مخزوم المخزوميّ المكيّ، ثقةٌ [3](ع) تقدم في "الصلاة" 36/ 1027.

والباقيان ذُكرا قبله، و"ابن أبي خلف" هو: محمد بن أحمد بن أبي خلف البغداديّ.

[تنبيه]: قوله: (أَمَرْتُ مُسْلِمَ بْنَ يَسَارٍ مَوْلَى نَافِعِ بْنِ عَبْدِ الْحَارِثِ) هو

(1)

"مسند أبي عوانة" 5/ 248.

ص: 701

مسلم بن يسار البصريّ الأمويّ المكيّ، أبو عبد الله الفقيه، ثقة عابد [4](ت 100 أو 101)(د س ق) تقدم في "البيوع" 36/ 4054.

[تنبيه آخر]: وقع لبعض شرّاح الكتاب

(1)

هنا غلطٌ، وذلك أنه ترجم هنا لمسلم بن يسار المصريّ، أبي عثمالن الطَّنْبُذيّ، رضيع عبد الملك بن مروان، وهو غلط واضح، فقد صرّح الحافظان: المزّيّ، وابن حجر بأنه هو البصريّ الأمويّ المكيّ، راجع:"تهذيب الكمال"(27/ 554)، و"تهذيب التهذيب"(10/ 127)، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5451]

(2086) - (حَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِر، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ وَاقِدٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: مَرَرْتُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَفِي إِزَارِي اسْتِرْخَاءٌ، فَقَالَ: "يَا عَبْدَ اللهِ ارْفَعْ إِزَارَكَ"، فَرَفَعْتُهُ، ثمَّ قَالَ: "زِدْ"، فَزِدْتُ، فَمَا زِلْتُ أَتَحَرَّاهَا بَعْدُ، فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ: إِلَى أَيْنَ؟ فَقَالَ: أَنْصَافِ السَّاقَيْنِ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ وَاقِدِ) بن عبد الله بن عمر المدنيّ، ثقةٌ [4](ت 119)(م د ق) تقدم في "الأضاحي" 5/ 5095.

[تنبيه]: قولي: ثقةٌ هو الحقّ، وأما قوله في "التقريب": مقبول، فغير مقبول؛ لأنه قد روى عنه جماعة، وأخرج له مسلم، ووثّقه ابن عبد البرّ، والذهبيّ، ولم يتكلّم فيه أحد بجرح، قال في "التمهيد" (17/ 208): عبد الله بن واقد بن عبد الله بن عمر، تابعيٌّ ثقةٌ شريفٌ جليلٌ. انتهى. وقال الذهبيّ في "الكاشف" (2/ 140): ثقة، توفي سنة (109).

فما كتبه بعض المعلّقين

(2)

على هذا الكتاب من قوله: وثقه ابن حبّان،

(1)

هو: الشيخ الهرري. راجع: "شرحه" 21/ 380.

(2)

هو: الشيخ مسلم بن محمود السلفيّ الأثريّ.

ص: 702

مشيرًا بذلك إلى الطعن في السند فمن قصوره، وتقصيره، فلا تغترّ به، فإن لهذا الكاتب عادة سيّئة فيما يُعلّقه على بعض أسانيد مسلم، كما أوضحت هذا قريبًا، فلا تغفل، والله تعالى وليّ التوفيق.

والباقون ذُكروا في الباب قبل ستّة أحاديث.

شرح الحديث:

(عَنِ ابْنِ عُمَرَ) رضي الله عنهما أنه (قَالَ: مَرَرْتُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم)، وقوله:(وَفِي إزَارِي اسْتِرْخَاء) جملة حالئة من الفاعل، والاسترخاء: الطول والإسبال، والمراد: أنه جاوز الحدّ المطلوب، ولذلك أمَره صلى الله عليه وسلم برفعه، فَقَالَ:("يَا عَبْدَ اللهِ ارْفَعْ إِزَارَكَ")؛ أي: شمّره عن الإسبال، قال القرطبيّ رحمه الله: هذا يدل على أن هذا لا يُقَرّ، بل يُنْكَرُ، وإن أمكن أن يكون من فاعله غلطًا وسهوًا، وقوله له:"زد" حملٌ له على الأحسن، والأَولى. وهذا كما بيّنه في الحديث الآخر؛ إذ قال:"إزرة المؤمن إلى أنصاف ساقيه، لا جُناح عليه فيما بينه وبين الكعب، وما أسفل من ذلك ففي النار". انتهى

(1)

.

قال عبد الله: (فَرَفَعْتُهُ، ثُمَّ قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("زِدْ")؛ أي: في رَفْعه على هذا، (فَزِدْتُ). قال عبد الله (فَمَا زِلْتُ أَتَحَرَّاهَا) قال القرطبيّ رحمه الله؛ أي: أقصد الهيئة التي أمر بها النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأُحافظ عليها، ويعني بها: إزرته إلى نصف ساقيه، كما قال في بقية الحديث. انتهى

(2)

.

(بَعْدُ) من الظروف المبنيّة على الضمّ؛ لِقَطْعه عن الإضافة، ونيّة معناها؛ أي: بعد ذلك الوقت، وهو متعلّق بـ "أتحرّى". (فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْم) الحاضرين مجلس ابن عمر رضي الله عنهما هذه الواقعة، ولم يُعرف أسماؤهم

(3)

. (إلَى أَيْنَ؟) من الظروف المكانيّة المبنيّة على الفتح؛ أي: إلى أيّ موضع يكون منتهى الإزار؟ (فَقَالَ) عبد الله رضي الله عنه (أَنْصَافِ السَّاقَيْنِ) خبر لمحذوف؛

(1)

"المفهم" 5/ 406 - 407.

(2)

"المفهم" 5/ 407.

(3)

راجع: "تنبيه المعلم" ص 361.

ص: 703

أي: منتهاه أنصاف الساقين، وإنما جَمَع النصف مع كودن الرِّجلين لهما نصفان فقط؛ فرارًا من كراهية إضافة التثنية إلى التثنية فيما هو كالكلمة الواحدة، فهو كقوله تعالى:{فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4]، وقال السنوسيّ رحمه الله: إنما قال في الحديث: "أنصاف الساقين"؛ ليُشعر بالتوسعة، لا التضييق، فجعل النصف الحقيقيّ، وما يقرب منه كلّ واحد منهما نصفًا من كلّ واحد من الساقين، فيُجمع بحسب ذلك لِيُؤْذِن بأن فضيلة المستحبّ تحصل بالنصف، وما يقرُب منه.

ويَحْتَمل أن يكون جُمِع باعتبار جَعْل كلّ جزء من أجزاء النصف الحقيقيّ نصفًا؛ تسميةً للجزء باسم الكلّ، وتكون نكتة العدول عن الحقيقة التي هي التثنية على هذا الوجه إلى الجمع الذي هو مجاز تضمّنَ المضاف إليه المضافَ، فكُره الجمع بين التثنيتين فيما هو كالشيء الواحد، والوجه الأول أظهر. انتهى

(1)

.

ثم إن كونه إلى أنصاف الساقين بيان للقَدْر المستحبّ، وإلا فيجوز إلى الكعبين؛ لِمَا أخرجه النسائيّ، وابن ماجه، وصححه ابن حبّان عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، قال: قلت لأبي سعيد - الخدريّ -: هل سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا في الإزار؟ قال: نعم، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إِزْرة المؤمن إلى أنصاف ساقيه، لا جُناح عليه ما بينه وبين الكعبين، وما أسفل من الكعبين في النار

(2)

- يقول ثلاثًا - لا ينظر الله إلى من جر إزاره بَطَرًا".

(1)

"شرح السنوسيّ على مسلم" 5/ 385.

(2)

قوله: "إزرة المؤمن. . . إلخ" قال بعضهم: هو بكسرة الهمزة بمعنى الحالة والهيئة؛ كالْجِلْسة؛ أي: الحالة التي يُرتَضَى منها في الائتزار هي أن تكون على هذه الصفة، يقال: ائتزر إِزْرةً حسنةً، والضمير في قوله:"فيما بينه" راجع إلى ذلك الحدّ الذي تنتهي إليه الإزرة، و"ما" في قوله:"وما أسفل. . . إلخ" موصولة، صلتها محذوفة، وهي "كان"، و"أسفل" منصوب خبرًا لـ "كان"، ويجوز رفع "أسفلُ"؛ أي: الذي هو أسفل، ذكره السنوسيّ في "شرحه" 5/ 385 - 386.

ص: 704

وقال النوويّ رحمه الله: وأما القدر المستحبّ فيما ينزل إليه طرف القميص، والإزار، فنصف الساقين، كما في حديث ابن عمر المذكور، وفي حديث أبي سعيد:"إزارة المؤمن إلى أنصاف ساقيه، لا جناح عليه فيما بينه وبين الكعبين، وما أسفل من ذلك فهو في النار"، فالمستحب نصف الساقين، والجائز بلا كراهة ما تحته إلى الكعبين، فما نزل عن الكعبين فهو ممنوع، فإن كان للخيلاء فهو ممنوع مَنْع تحريم، وإلا فمَنْع تنزيه، وأما الأحاديث المطلقة بأن ما تحت الكعبين في النار فالمراد بها ما كان للخيلاء؛ لأنه مطلق، فوجب حمله على المقيَّد. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قوله: "فمنع تنزيه" فيه نَظَر لا يخفى، بل هو منع تحريم؛ لظواهر النصوص، والفرق بينه وبين ما كان للخيلاء، أن هذا يكون أشدّ تحريمًا؛ لشدّة وعيده، وأما من حيث الحُكم فسيّان، فليُتنبّه، والله تعالى أعلم.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [8/ 5451](2086)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(5/ 250)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 243)، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5452]

(2087) - (حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ، حَدَّثَنَا أبِي، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مُحَمَّدٍ - وَهُوَ: ابْنُ زِيادٍ - قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ، وَرَأَى رَجُلًا يَجُرُّ إِزَارَهُ، فَجَعَلَ يَضْرِبُ الأَرْضَ بِرِجْلِه، وَهُوَ أَمِيرٌ عَلَى الْبَحْرَيْن، وَهُوَ يَقُولُ: جَاءَ الأَمِيرُ، جَاءَ الأَمِيرُ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى مَنْ يَجُرُّ إِزَارَهُ بَطَرًا").

(1)

"شرح النوويّ" 14/ 62 - 63.

ص: 705

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ زِيادٍ) الجُمحيّ مولاهم، أبو الحارث المدنيّ، نزيل البصرة، ثقةٌ ثبتٌ، ربّما أرسل [3](ع) تقدم في "الإيمان" 92/ 500.

2 -

(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه تقدم في "المقدمة" 2/ 4.

والباقون ذُكروا في الباب.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالبصريين، غير الصحابيّ، فمدنيّ، وفيه رواية الابن عن أبيه، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه رأس المكثرين من الرواية.

شرح الحديث:

(عَنْ مُحَمَّدٍ، وَهُوَ ابْنُ زَيادٍ) إنما زاد "وهو"، ولم يقل:"محمد بن زياد" محافظة على أداء ما سمعه من شيخه، كما سمعه، ولكن لمّا احتاج إلى ذِكر أبيه؛ توضيحًا لمن يسمع منه زاد كلمة "وهو" للفرق بين ما سمعه، وبين ما زاده على شيخه، وإلى هذا أشار السيوطيّ رحمه الله في "ألفيّة الحديث"، حيث قال:

وَلَا تَزِدْ فِي نَسَبٍ أَو وَصْفِ مَنْ

فَوْقَ شُيُوخٍ عَنْهُمُ مَا لَمْ يُبَنْ

بِنَحْوِ "يَعْنِي" أَو بـ "أَنَّ" أَو بِـ "هُو"

أَمَّا إِذَا أتَمَّهُ أَوَّلَه

أَجِزْهُ فِي الْبَاقِي لَدَى الْجُمْهُورِ

وَالْفَصْلُ أَوْلَى قَاصِرَ الْمَذْكُورِ

(قَالَ) محمد بن زياد (سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه، وقوله:(وَرَأَى رَجُلًا) جملة حاليّة من المفعول؛ أي: والحال أن أبا هريرة رضي الله عنه رأى رجلًا (يَجُرُّ) بفتح أوله، وضمّ ثالثه، مبنيًّا للفاعل، من الجرّ، وهو السحب. (إِزَارَهُ، فَجَعَلَ) أبو هريرة رضي الله عنه (يَضْرِبُ الأَرْضَ بِرِجْلِهِ) يَحْتَمِل أن يكون غضبًا على الرجل المُسْبِل، وقوله:(وَهُوَ أَمِيرٌ عَلَى الْبَحْرَيْنِ) جملة حاليّة من الفاعل، و"البحرين": هو البلد المعروف، قال الفيّوميّ رحمه الله:"البَحْرَانِ" على لفظ التثنية موضع بين البصرة وعُمَان، وهو من بلاد نجد، ويعرَب إعراب المثنى، ويجوز

ص: 706

أن تُجعل النون محل الإعراب، مع لزوم الياء مطلقًا، وهي لغة مشهورة، واقتصر عليها الأزهريّ؛ لأنه صار عَلَمًا مفرد الدلالة، فأشبه المفردات، والنسبة إليه بَحْرَانِيٌّ. انتهى

(1)

.

وكان أبو هريرة رضي الله عنه أميرًا على البحرين من قِبَل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ففي "مصنف عبد الرزّاق"، قال:

(20659)

- أخبرنا عبد الرزاق، عن معمر، عن أيوب، عن ابن سيرين، أن عمر بن الخطاب استَعْمَل أبا هريرة على البحرين، فقَدِمَ بعشرة آلاف، فقال له عمر: استأثرت بهذه الأموال يا عدوّ الله، وعدوّ كتابه، قال أبو هريرة: لست عدوّ الله، ولا عدوّ كتابه، ولكني عدوّ من عاداهما، قال: فمن أين هي لك؟ قال: خَيْلٌ لي تناتجت، وغَلّةُ رقيق لي، وأُعطية تتابعت عليّ، فنظروه، فوجدوه كما قال، قال: فلما كان بعد ذلك دعاه عمر ليستعمله، فأبى أن يعمل له، فقال: أتكره العمل، وقد طَلَب العمل من كان خيرًا منك: يوسف؟ قال: إن يوسف نبي ابن نبي ابن نبي، وأنا أبو هريرة ابن أُميمة، أخشى ثلاثًا واثنين، قال له عمر: أفلا قلت: خمسًا؟ قال: لا، أخشى أن أقول بغير علم، وأقضي بغير حُكم، ويُضْرَب ظهري، ويُنتزَع مالي، ويُشْتَم عرضي. انتهى

(2)

.

[تنبيه]: قوله: "وهو أمير على البحرين" لا يعارضه ما يأتي بعد من أنه كان يُستخلف على المدينة؛ لأنه باشر الأمرين، فيُحمل على أنه اتّفق له الواقعتان في البلدتين، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

وقوله: (وَهُوَ يَقُولُ: جَاءَ الأَمِيرُ) جملة حاليّة أيضًا، (جَاءَ الأَمِيرُ) كرّره للتأكيد، وهذا الكلام يَحْتَمِل أن يكون موجّهًا للرجل المذكور، كأن أبا هريرة لَمّا رآه على تلك الحالة شبّهه بالأمير الذي يتبختر، وَيعْجب بنفسه مسبلًا إزاره؛ لأن هذه عادة كثير من أصحاب السلطة.

(1)

"المصباح المنير" 1/ 36.

(2)

"مصنف عبد الرزاق" 11/ 323.

ص: 707

ويؤيّد هذا ما سيأتي من رواية شعبة، ولفظه:"كان مروان يستخلف أبا هريرة على المدينة، فكان إذا رأى إنسانًا يجرّ إزاره ضرب برجله، ويقول: قد جاء الأمير، قد جاء الأمير، ثم يقول: قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم. . .".

وَيَحْتَمل أن يكون الأمير هو أبا هريرة، وإنما قاله معرّفًا بنفسه؛ كي يوسّعوا له الطريق، والوجه الأول أقرب، هذا ما ظهر لي، ولبعض الشرّاح

(1)

توجيه آخر، والله تعالى أعلم.

قال أبو هريرة رضي الله عنه: (قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِن اللهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى مَنْ يَجُرُّ إِزَارَهُ بَطَرًا") منصوب على أنه مفعول لأجله، وهو بموحّدة، وطاء مهملتين مفتوحتين؛ أي: كفرًا لنعمته واستكبارًا، وَيحْتمل أن يكون بكسر الطاء منصوبًا على الحال، وقد تقدّم شرح هذه الجملة غير مرّة، لله الحمد والمنّة.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [8/ 5452 و 5453](2087)، و (البخاريّ) في "اللباس"(5788) مختصرًا على المرفوع منه، دون القصّة، و (ابن ماجه) في "اللباس"(3571)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(9723)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 386 و 397 و 410 و 414 و 467 و 469 و 479)، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5453]

(. . .) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ - يَعْنِي: ابْنَ جَعْفَرٍ - (ح) وَحَدَّثناهُ ابْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثنا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، كِلَاهُمَا عَنْ شُعْبَةَ، بِهَذَا الإِسْنَاد، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ جَعْفَرٍ: كَانَ مَرْوَانُ يَسْتَخْلِفُ أَبَا هُرَيْرَةَ، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ الْمُثَنَّى: كَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يُسْتَخْلَفُ عَلَى الْمَدِينَةِ).

(1)

هو: الشيخ الهرري، راجع:"شرحه" 21/ 383.

ص: 708

رجال هذا الإسناد خمسة:

كلهم ذُكروا في الباب، غير محمد بن إبراهيم بن أبي عديّ، وقد تقدّم هو أيضًا قريبًا.

[تنبيه]: رواية محمد بن جعفر، عن شعبة ساقها النسائيّ رحمه الله في "الكبرى"، فقال:

(9723)

- أخبرنا محمد بن بشار، قال: ثنا محمد، قال: ثنا شعبة، عن محمد بن زياد، قال: كان مروان يَستخلف أبا هريرة على المدينة، فكان إذا رأى إنسانًا يَجُرّ إزاره ضرب برجله، ويقول: قد جاء الأمير، قد جاء الأمير، ثم يقول: قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: "لا ينظر الله إلى من جرّ إزاره بَطَرًا". انتهى.

ورواية محمد بن إبراهيم بن أبي عديّ، عن شعبة لم أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(9) - (بَابُ تَحْرِيمِ التَّبَخْتُرِ فِي الْمَشْي، مَعَ إِعْجَابِهِ بِثِيَابِهِ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5454]

(2088) - (حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَلَّامٍ الْجُمَحِيُّ، حَدَّثَنَا الرَّبِيعُ - يَعْنِي: ابْنَ مُسْلِمٍ - عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي قَدْ أَعْجَبَتْهُ جُمَّتُهُ، وَبُرْدَاهُ، إِذْ خُسِفَ بِهِ الأَرْضُ، فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ: فِي الأَرْض، حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ").

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَلَّامٍ

(1)

الْجُمَحِيُّ) مولاهم، أبو حرب البصريّ، صدوق [10](ت 231) أو بعدها (م) من أفراد المصنّف، تقدم في "الإيمان" 100/ 526.

(1)

بتشديد اللام.

ص: 709

2 -

(الرَّبِيعُ بْنُ مُسْلِمٍ) الجُمَحيّ، أبو بكر البصريّ، ثقةٌ [7](ت 167)(بخ م دت س) تقدم في "الإيمان" 100/ 526.

والباقيان ذُكرا في الحديث الماضي.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (415) من رباعيّات الكتاب، وأن شيخه من أفراده، لم يَرْوِ عنه من أصحاب الكتب الستّة غيره.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) أنه (قَالَ: "بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي) وفي رواية أبي رافع، عن أبي هريرة الآتية:"إن رجلًا ممن كان قبلكم يتبختر في حُلّة"، وقد أخرجه أحمد من حديث أبي سعيد، وأبو يعلى من حديث أنس، وفي روايتهما أيضًا:"ممن كان قبلكم"، وبذلك جزم النووي، وعبارته في "شرحه": قيل: يَحْتَمِل أن هذا الرجل من هذه الأمة، فأخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم بأنه سيقع هذا، وقيل: بل هو إخبار عمن قبل هذه الأمة، وهذا هو الصحيح، وهو معنى إدخال البخاريّ له في "باب ذِكر بني إسرائيل"، والله أعلم. انتهى

(1)

.

وأما ما أخرجه أبو يعلى من طريق كريب، قال: كنت أقود ابن عباس، فقال: حدّثني العباس، قال:"بينا أنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أقبل رجل يتبختر بين ثوبين. . ." الحديث، فهو ظاهر في أنه وقع في زمن النبيّ صلى الله عليه وسلم، لكن سنده ضعيف، والأول صحيح.

قال الحافظ: ويَحْتَمِل التعدد، أو الجمع بأن المراد: مَن كان قبل المخاطَبين بذلك، كأبي هريرة، فقد أخرج أبو بكر بن أبي شيبة، وأبو يعلى، وأصله عند أحمد، ومسلم: "أن رجلًا من قريش أتى أبا هريرة في حُلّة يتبختر فيها، فقال: يا أبا هريرة إنك تكثر الحديث، فهل سمعته يقول في حلتي هذه شيئًا؟ فقال: والله إنكم لتؤذوننا، ولولا ما أخذ الله على أهل الكتاب: {لَتُبَيِّنُنَّهُ

(1)

"شرح النوويّ" 14/ 64.

ص: 710

لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران: 187] ما حدثتكم بشيء، سمعت. . ."، فذكر الحديث، وقال في آخره: فوالله ما أدري لعله كان من قومك.

وذكر السهيليّ في "مبهمات القرآن" في سورة {وَالصَّافَّاتِ} عن الطبريّ أن اسم الرجل المذكور: الهَيْزَن، وأنه من أعراب فارس، وهذا أخرجه الطبريّ في "التاريخ" من طريق ابن جريج، عن شعيب الجيانيّ.

وجزم الكلاباذيّ في "معاني الأخبار" بأنه قارون، وكذا ذكر الجوهريّ في "الصحاح"، وكان المستنَد في ذلك ما أخرجه الحارث بن أبي أسامة، من حديث أبي هريرة، وابن عباس بسند ضعيف جدًّا، قالا: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر الحديث الطويل، وفيه:"ومن لبس ثوبًا فاختال فيه خُسف به من شفير جهنم، فيتجلجل فيها؛ لأن قارون لبس حُلّة، فاختال فيها فخُسف به الأرض، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة".

وروى الطبريّ في "التاريخ" من طريق سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، قال:"ذُكر لنا أنه يُخسف بقارون كلَّ يوم قامةٌ، وأنه يتجلجل فيها، لا يبلغ قعرها إلى يوم القيامة". انتهى

(1)

.

(قَدْ أَعْجَبَتْهُ) قال القرطبيّ رحمه الله: إعجاب المرء بنفسه هو ملاحظته لها بعين الكمال والاستحسان، مع نسيان منّة الله تعالى، فإنْ رَفَعها على الغير، واحتقر، فهو الكِبْر المذموم. انتهى

(2)

.

(جُمَّتُهُ) بضمّ الجيم، وتشديد الميم: هي من شعر الرأس ما سقط على المنكبين، قاله ابن الأثير

(3)

، وقال الفيوميّ: الْجُمّة من الإنسان: مُجْتَمع شعر ناصيته، يقال: هي التي تبلغ المنكبين، والجع جُمَمٌ، مثلُ غُرْفَةٍ وغُرَفٍ. انتهى

(4)

.

(1)

"الفتح" 13/ 261 - 262، كتاب "اللباس" رقم (5788).

(2)

"المفهم" 5/ 406.

(3)

"النهاية" ص 166.

(4)

"المصباح المنير" 1/ 110.

ص: 711

وقال في "الفتح": "الْجُمّة": بضم الجيم، وتشديد الميم: هي مُجْتَمَع الشعر، إذا تَدَلَّى من الرأس إلى المنكبين، وإلى أكثر من ذلك، وأما الذي لا يتجاوز الأذنين فهو الْوَفْرة. انتهى

(1)

.

(وَبُرْدَاهُ) تثنية بُرْد بضم، فسكون، قال المجد رحمه الله: الْبُرْدُ بالضمّ: ثوبٌ مخطّطٌ، جَمْعه أبراد، وأَبْرُدٌ، وبُرُودٌ، والْبُرْد أيضًا: أكسيةٌ يُلْتَحَفُ بها، الواحدة بِهاء. انتهى بتصرّف يسير

(2)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: المراد بالبردين: الرداء والإزار، وهذا على طريقة تثنية العُمَرين، والقمرين. انتهى

(3)

.

(إِذْ خُسِفَ بهِ الأَرْضُ) ببناء الفعل للمفعول، وفي الرواية التالية:"فخسف الله به الأَرضَ"، ولفظ "إذ" أظهر في سرعة وقوع ذلك به، أفاده في "الفتح".

والمعنى: غارت الأرض بذلك الرجل، يقال: خَسَفَ المكانُ خَسْفًا، من باب ضَرَبَ، وخُسُوفًا أيضًا: غار في الأرض، وخسفه الله يتعدّى، ولا يتعدّى، قاله الفيّوميّ

(4)

.

(فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ) بالجيم؛ أي: يتحرك، وينزل مُضطربًا، وقال القرطبيّ:"يتجلجل": يُخسف به مع تحرّك واضطراب، قاله الخليل وغيره.

(فِي الأَرْضِ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ") وفي الرواية التالية: "فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة".

وقال في "الفتح": و"التجلجل" بجيمين: التحرك، وقيل: الجلجلة: الحركة مع صوت، وقال ابن دريد: كلُّ شيء خلطت بعضه ببعض، فقد جلجلته، وقال ابن فارس: التجلجل: أن يسوخ في الأرض مع اضطراب شديد، ويندفع من شقّ إلى شقّ، فمعنى "يتجلجل في الأرض"؛ أي: ينزل فيها مضطربًا متدافعًا.

(1)

"الفتح" 13/ 261 - 262، كتاب "اللباس" رقم (5788).

(2)

"القاموس المحيط" ص 92.

(3)

"المفهم" 5/ 406.

(4)

"المصباح المنير" 1/ 169.

ص: 712

وحَكَى عياض أنه رُوي "يتجلّل" بجيم واحدة، ولام ثقيلة، وهو بمعنى يتغطى؛ أي: تغطيه الأرضُ، وحَكَى عن بعض الروايات أيضًا:"يتخلخل" بخاءين معجمتين، واستبعدها، إلا أن يكون من قولهم: خلخلت العظم: إذا أخذت ما عليه من اللحم، وجاء في غير "الصحيحين":"يتحلحل" بحاءين مهملتين، قال الحافظ: والكل تصحيف إلا الأول. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثمانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [9/ 5454 و 5455 و 5456 و 5457 و 5458](2088)، (والبخاريّ) في "اللباس"(5789)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(11/ 82)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 267 و 315 و 390 و 456 و 467 و 492 و 531)، و (ابن راهويه) في "مسنده"(1/ 145)، و (ابن الجعد) في "مسنده"(1/ 176)، و (الدارميّ) في "سننه"(1/ 127)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5684)، و (أبو عوانة) في "مسنده"((5/ 242)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(9/ 77)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(11/ 219)، و (البيهقيّ) في "شُعَب الإيمان"(5/ 144)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(3355)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان الوعيد الشديد في الإعجاب بالنفس، والخيلاء في البُردين ونحوهما.

2 -

(ومنها): بيان تحريم الخيلاء، والتكبّر؛ لأنه من صفات أهل النار، فقد أخرج الشيخان في "صحيحيهما" من حديث حارثة بن وهب الخزاعيّ رضي الله عنه، قال: سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: "ألا أخبركم بأهل الجنة؟، كل ضعيف، مُتَضَعِّف، لو أقسم على الله لأبرَّه، ألا أخبركم بأهل النار؟ كل عُتُلّ، جَوَّاظ، مستكبر".

(1)

"الفتح" 13/ 261 - 262، كتاب "اللباس" رقم (5788).

ص: 713

قال الغزاليّ: من التكبّر: الترفّع في المجالس، والتقدّم في الطرق، والغضب إذا لم يُبدأ بالسلام، وجَحْد الحقّ إذا ناظر، والنظر إلى العامّة كأنه ينظر إلى البهائم، وغير ذلك، فكلّه يشمله الوعيد

(1)

.

3 -

(ومنها): بيان أن الله سبحانه وتعالى يعاقب المختال بخسف الأرض به، فهو ينزل إلى قعرها إلى يوم القيامة، وهذا وعيد شديد.

4 -

(ومنها): جواز الخسف في هذه الأمة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم ما ذَكَر ذلك إلا لتحذير أمته أن يصيبها ما أصاب الأمم السابقة.

5 -

(ومنها): ما قاله في "الفتح": مقتضى هذا الحديث أن الأرض لا تأكل جسد هذا الرجل، فيمكن أن يُلْغَزَ به، فيقال: كافر لا يبلى جسده بعد الموت. انتهى

(2)

.

6 -

(ومنها): ما قاله القرطبيّ رحمه الله: يفيد هذا الحديث تركَ الأمن من تعجيل المؤاخذة على الذنوب، وأن عُجب المرء بنفسه، وثوبه، وهيئته حرام، وكبيرة. انتهى

(3)

، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5455]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ، حَدَّثَنَا أَبِي (ح) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ (ح) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، قَالُوا جَمِيعًا: حَدَّثنَا شُعْبَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِنَحْوِ هَذَا).

رجال هذه الأسانيد: تسعة:

وكلّهم ذُكروا في الباب، والباب الماضي.

وقوله: (قَالُوا جَمِيعًا)؛ أي: قال الثلاثة: معاذ بن معاذ، ومحمد بن جعفر غندر، ومحمد بن إبراهيم بن أبي عديّ: حدثنا شعبة. . . إلخ.

(1)

من هامش النسخة التركيّة 6/ 148.

(2)

"الفتح" 13/ 261 - 262، كتاب "اللباس" رقم (5788).

(3)

"المفهم" 5/ 406.

ص: 714

[تنبيه]: رواية محمد بن جعفر، عن شعبة ساقها الإمام أحمد رحمه الله مقرونًا بحجّاج الأعور في "مسنده"، فقال:

(9887)

- حدَّثنا عبد الله، حدّثني أبي، ثنا محمد بن جعفر، وحجاج، قالا: ثنا شعبة، عن محمد بن زياد، عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم. قال حجاج في حديثه: قال: سمعت أبا هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو قال أبو القاسم أنه قال:"بينما رجل يمشي، وعليه حُلّة مُرَجِّلًا جُمّته تُعجبه نفسه، إذ خُسِف به، فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة - وقال حجاج -: إذ خسف الله به". انتهى.

وأما روايتا معاذ بن معاذ، وابن أبي عديّ كلاهما عن شعبة فلم أجد من ساقهما، فليُنظر، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5456]

(. . .) - (حَدَّثَنَا قتيبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثنَا الْمُغِيرَةُ - يَعْني: الْحِزَامِيَّ - عَنْ أَبِي الزِّنَاد، عَنِ الأَعْرَج، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "بَيْنَمَا رَجُلٌ يَتَبَخْتَرُ يَمْشِي فِي بُرْدَيْه، قَدْ أعْجَبَتهُ نَفْسُهُ، فَخَسَفَ اللهُ بِهِ الأَرْضَ، فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ فِيهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(الْمُغِيرَةُ الْحِزَامِيُّ) - بكسر الحاء المهملة، بعدها زاي - ابن عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد بن حِزَام المدنيّ، ونزل عسقلان، لقبه قُصيّ، ثقةٌ له غرائب [7](ع) تقدم في "الطهارة" 26/ 653.

2 -

(أَبُو الزِّنَادِ) عبد الله بن ذكوان المدنيّ، تقدّم قريبًا.

3 -

(الأَعْرَجُ) عبد الرحمن بن هُرْمُز المدنيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

والباقيان ذُكرا في الباب.

وقوله: (رَجُلٌ يَتَبَخْتَرُ) قال في "التاج": البخْتَرةُ، والتَّبختُرُ: مِشْيَةٌ حَسَنةٌ، وهي مِشْيَةُ المُتَكَبِّرِ المُعجَبِ بنفسِه، وقد بَخْتَرَ، وَتبَخْتَرَ. انتهى

(1)

.

(1)

"تاج العروس" 1/ 2491.

ص: 715

وقوله: (قَدْ أَعْجَبَتْهُ نَفْسُهُ)؛ أي: قد أعظمته نفسه من غير علم بسببه؛ لأن الإنسان إنما يتعجّب من الشيء إذا عَظُم موقعه عنده، وخَفِي عليه سببه

(1)

.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله قبله، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5457]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاق، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ، قَالَ: هَذَا مَا حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَ أَحَادِيثَ، مِنْهَا: وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "بَيْنَمَا رَجُلٌ يَتَبَخْتَرُ فِي بُرْدَيْنِ"، ثُمَّ ذَكَرَ بِمِثْلِهِ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(هَمَّامُ بْنُ مُنبِّهِ) بن كامل، أبو عقبة الصنعانيّ، أخو وهب، ثقةٌ [4](ت 132) على الصحيح (ع) تقدم في "الإيمان" 26/ 213.

والباقون ذُكروا في الباب، وقبل بابين.

وقوله: (قَالَ: هَذَا مَا حَدَّثنَا أَبُو هُرَيْرَةَ) فاعل "قال" ضمير همّام.

وقوله: (فَذَكَرَ أَحَادِيثَ) فاعل "ذَكَرَ" ضمير همّام، ويَحْتَمِل أن يكون ضمير أبي هريرة رضي الله عنه.

وقوله: (مِنْهَا: وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) الجارّ والمجرور خبر مقدّم، وقوله:"وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم" مبتدأ مؤخّر محكيّ؛ لِقَصْد لفظه.

[تنبيه]: رواية همّام عن أبي هريرة رضي الله عنه هذه ساقها أبو عوانة رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(8566)

- حدّثنا السلميّ، قال: ثنا عبد الرزاق بن همام، قال: ثنا معمر، عن همام بن منبه، قال: هذا ما ثنا أبو هريرة عن محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر أحاديث وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بينا رجل يتبختر في بردين، وقد أعجبته نفسه، خُسف به الأرض، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة". انتهى

(2)

.

(1)

من هامش النسخة التركيّة 6/ 149.

(2)

"مسند أبي عوانة" 5/ 243.

ص: 716

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5458]

(. . .) - (حَدَّثنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِيِ شَيْبَةَ، حَدَّثنَا عَفَّانُ، حَدَّثنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَبِي رَافِعٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِنَّ رَجُلًا مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ يَتَبَخْتَرُ في حُلَّةٍ"، ثُمَّ ذَكَرَ مِثْلَ حَدِيثِهِمْ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عَفَّانُ) بن مسلم الصفّار، تقدّم قريبًا.

2 -

(حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ) بن دينار، أبو سلمة البصريّ، ثقةٌ عابد، أثبت الناس في ثابت، وتغيّر حفظه بآخره، من كبار [8](ت 167)(خت م 4) تقدم في "المقدمة" 6/ 80.

3 -

(ثَابِتُ) بن أسلم البنانيّ، أبو محمد البصريّ، ثقة عابد [4] مات سنة بضع و (120) وله (86) سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 80.

4 -

(أَبُو رَافِعٍ) نفيع الصائغ المدنيّ، نزيل البصرة، ثقةٌ ثبتٌ مشهور بكنيته 21، (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 462.

والباقيان ذُكرا في الباب.

وقوله: (ثُمَّ ذَكَرَ مِثْلَ حَدِيثِهِمْ) فاعل "ذَكَر" ضمير أبي رافع، وضمير "حديثهم" يرجع إلى أصحاب أبي هريرة الماضين، وهم: محمد بن زياد، والأعرج، وهمّام بن منبّه.

[تنبيه]: رواية أبي رافع عن أبي هريرة رضي الله عنه هذه ساقها الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(9335)

- حدّثنا عبد الله، حدّثني أبي، ثنا عفان، قال: ثنا حماد بن سلمة، قال: ثنا ثابت، عن أبي رافع، أن فَتًى من قريش أتى أبا هريرة، يتبختر في حُلّة، له فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن رجلًا ممن كان قبلكم، كان يتبختر في حُلّة له، قد أعجبته جُمّته، وبرداه، إذ خُسف به الأرض، فهو يتجلجل فيها حتى تقوم الساعة". انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(1)

"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 2/ 413.

ص: 717

(10) - (بَابُ تَحْرِيمِ خَاتَمِ الذَّهَب عَلَى الرِّجَال، وَنَسْخِ مَا كَانَ مِنْ إِبَاحَتِهِ في أَوَّلِ الإِسْلَامِ)

وبالسند المتّصل إِلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5459]

(2089) - (حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قتَادَةَ، عَنِ النَّضْرِ بْنِ أنسٍ، عَنْ بَشِيرِ بْنِ نَهِيكٍ، عَنْ أَىِ هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ نَهَى عَنْ خَاتَمِ الذَّهَبِ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(قَتَادَةُ) بن دِعامة السدوسيّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(النَّضْرُ بْنُ أنسِ) بن مالك

(1)

الأنصاريّ، أبو مالك البصريّ، ثقةٌ [3] مات سنة بضع ومائة (ع) تقدم في "العتق" 2/ 3767.

3 -

(بَشِيرُ بْنُ نَهِيكٍ) - بفتح النون، وكسر الهاء - السَّدوسيّ، ويقال: السَّلُوليّ، أبو الشعثاء البصريّ، ثقةٌ [3](ع) تقدم في "العتق" 2/ 3767.

والباقون ذُكروا في البابين السابقين.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من سُباعيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسلٌ بالبصريين، غير الصحابيّ، فمدنيّ، وفيه ثلاثة من التابعين روى بعضهم عن بعض: قتادة، فمن بعده، ورواية الآخرين من رواية الأقران؛ إذ هما من طبقة واحدة، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه، تقدّم القول فيه.

وقوله: (نَهَى عَنْ خَاتَمِ الذَّهَب) في الكلام حذفٌ، تقديره: نهى عن لُبس خاتم الذهب، وشرح الحديث تقدَّم مستوفًى في شرح حديث البراء رضي الله عنه[1/ 5377](2066)، فراجعه تستفد، وبالله تعالى الوفيق.

(1)

ولدُ الصحابيّ الجليل أنس بن مالك الخادم الشهير رضي الله عنه.

ص: 718

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا مُتفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [10/ 5459 و 5460](2089)، و (البخاريّ) في "اللباس"(5864)، و (النسائيّ) في "الزينة"(8/ 170 و 192) و"الكبرى"(5/ 447)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1/ 322)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 468)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(5/ 251)، و (ابن الجعد) في "مسنده"(1/ 152)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 145)، و"شُعَب الإيمان"(5/ 194)، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5460]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، بِهَذا الإِسْنَاد، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ الْمُثَنَّى: قَالَ: سَمِعْتُ النَّضْرَ بْنَ أَنَسٍ).

رجال هذا الإسناد: أربعة:

وكلّهم ذُكروا في الباب الماضي.

[تنبيه]: رواية محمد بن المثنى، عن محمد بن جعفر، عن شعبة ساقها النسائيّ رحمه الله في "الكبرى"، فقال:

(9499)

- أخبرنا محمد بن المثنى، قال: ثنا محمد، قال: ثنا شعبة، عن قتادة، قال: سمعت النضر بن أنس، عن بَشِير بن نَهِيك، عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه "نَهَى عن خاتم الذهب". انتهى.

ورواية ابن بشّار، عن محمد بن جعفر، عن شعبة ساقها البخاريّ رحمه الله في"صحيحه"، فقال:

(5526)

- حدّثني محمد بن بشار، حدَّثنا غندر، حدَّثنا شعبة، عن قتادة، عن النضر بن أنس، عن بَشِير بن نَهِيك، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه "نَهَى عن خاتم الذهب". انتهى

(1)

.

(1)

"صحيح البخاريّ" 5/ 2202.

ص: 719

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5461]

(2090) - (حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَهْلٍ التَّمِيمِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ، أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، أَخْبَرَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ عُقْبَةَ، عَنْ كُرَيْبٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَأَى خَاتَمًا مِنْ ذَهَب فِي يَدِ رَجُلٍ، فَنَزَعَهُ، فَطَرَحَهُ، وَقَالَ: "يَعْمِدُ أَحَدُكُمْ إِلَى جَمْرَةٍ مِنْ نَارٍ، فَيَجعَلُهَا فِي يَدِهِ"، فَقِيلَ لِلرَّجُلِ بَعْدَمَا ذَهَبَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: خُذْ خَاتَمَكَ، انْتَفِعْ بِه، قَالَ: لَا وَالله، لَا آخُذُهُ أَبَدًا، وَقَدْ طَرَحَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ سَهْلٍ التَّمِيمِيُّ) مولاهم، أبو بكر البخاريّ، نزيل بغداد، ثقةٌ [11](ت 251)(م ت س) تقدم في "الصيام" 8/ 2535.

2 -

(ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ) هو: سعيد بن الحكم بن محمد بن سالم بن أبي مريم الْجُمَحيّ مولاهم، أبو محمد المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ، من كبار [10](ت 224) وله (80) سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 22/ 188.

3 -

(مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ) بن أبي كثير الأنصاريّ مولاهم المدنيّ، أخو إسماعيل، أكبر منه، ثقةٌ [7](ع) تقدم في "الإيمان" 27/ 219.

4 -

(إِبْرَاهِيمُ بْنُ عُقْبَةَ) بن أبي عيّاش الأسديّ مولاهم المدنيّ، أخو موسى، ثقةٌ [6](م دس ق) تقدم في "الحج" 44/ 3102.

5 -

(كُرَيْبٌ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ) ابن أبي مسلم الهاشميّ مولاهم، أبو رِشْدين المدنيّ، ثقةٌ [3](ت 98)(ع) تقدم في "الحيض" 2/ 688.

6 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبَّاسِ) بن عبد المطّلب بن هاشم الهاشميّ، وُلد قبل الهجرة بثلاث سنين، ومات بالطائف سنة (68)(ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 124.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالمدنيين، سوى شيخه، فبغداديّ، وشيخ شيخه، فمصريّ، وفيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ، وأن صحابيّه من أفاضل الصحابيّ، ذو مناقب جمّة، فهو ابن عمّ المصطفى صلى الله عليه وسلم، ودعا له بالفهم في القرآن، فكان يسمّى البحر، والحبر لِسَعة علمه، وقال عمر رضي الله عنه: لو

ص: 720

أدرك ابن عبّاس أسناننا ما عاشره منّا أحد، وهو أحد العبادلة الأربعة، والمكثرين السبع رضي الله عنه.

شرح الحديث:

(عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَأَى خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ فِي يَدِ رَجُلٍ) قال في "التنبيه" نقلًا عن الدمياطيّ: إنه طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه. انتهى

(1)

. (فَنَزَعَهُ)؛ أي: نزع صلى الله عليه وسلم ذلك الخاتم من يد ذلك الرجل، (فَطَرَحَهُ) لكونه محرّمًا، ولعلّ الرجل لم يبلغه التحريم.

قال القاري: هذا أبلغ في بيان الإنكار، ولذا قدّمه صلى الله عليه وسلم في قوله:"من رأى منكم منكرًا فليُغيّره بيده. ." الحديث

(2)

.

(وَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("يَعْمِدُ) بفتح أوله، وكسر ثالثه، يقال: عَمَدتُ للشيء عَمْدًا، من باب ضَرَبَ، وعَمَدتُ إليه: قَصَدتُ، وتعمّدته قَصَدت إليه أيضًا

(3)

.

وقال القاري: قوله: "يعمد" بكسر الميم، وتُفتح، وهمزة الاستفهام الإنكاريّ مقدّرة. انتهى

(4)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قوله: وتُفتح فيه نظر، فإني لم أره في كتب اللغة عَمَد بمعنى قصد إلا بكسر عين مضارعه، من باب ضرب يضرِب، فليُتنبّه، والله تعالى أعلم.

وقال الطيبيّ رحمه الله: قوله: "يَعْمِد أحدكم" فيه من التأكيد أنه أخرج الإنكاريّ مخرج الإخباريّ، وعَمّم الخطاب بعد نزع الخاتم من يده، وطرحه، فدلّ على غضب عظيم، وتهديد شديد، ومن ثَمّ لَمّا قيل لصاحبه: خذ خاتمك، وانتفع به، قال: لا، والله. انتهى

(5)

.

(أَحَدُكُمْ إِلَى جَمْرَةٍ مِنْ نَارٍ، فَيَجْعَلُهَا فِي يَدِهِ") قال القرطبيّ رحمه الله: هذا

(1)

"تنبيه المعلم" ص 362.

(2)

"المرقاة في شرح المشكاة" 8/ 180.

(3)

"المصباح المنير" 2/ 428.

(4)

"المرقاة في شرح المشكاة" 8/ 179 - 180.

(5)

"الكاشف عن حقائق السنن" 9/ 2913.

ص: 721

يدلّ على تغليظ التحريم، وأن لباس خاتم الذهب من المنكر الذي يجب تغييره. انتهى

(1)

.

(فَقِيلَ لِلرَّجُلِ بَعْدَمَا ذَهَبَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: خُذْ خَاتَمَكَ)؛ أي: الذي طرحه النبيّ صلى الله عليه وسلم، (انْتَفِعْ بِهِ)؛ أي: بغير اللبس، من البيع، وإلباسه للنساء، وغير ذلك، قال القرطبيّ رحمه الله: قولهم هذا للرجل يدلّ على أنهم عَلِموا أن المحرَّم إنما هو لُبسه، لا اتّخاذه، ولا الانتفاع به، وهذا لا يُختَلَف فيه في الخاتم، فإن لُبسه للنساء جائزٌ، بخلاف سائر أواني الذهب والفضّة، فإن اتّخاذها غير جائز؛ لأنه لا يجوز استعمالها لأحد، وقد تقدّم الخلاف في ذلك. انتهى

(2)

.

(قَالَ) الرجل (لَا وَالله، لَا آخُذُهُ)"لا" الثانية مؤكّدة للأولى، (أَبدًا)؛ أي: فيما يُستقبل من الزمان، وقوله:(وَقَدْ طَرَحَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) جملة حاليّة من الفاعل، قال القرطبيّ رحمه الله: قول الرجل هذا مبالغة في طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيكون الرجل قد نوى أن يُدْفَع لمن يستحقّه من المساكين، لا أنه أضاعه، فإنه صلى الله عليه وسلم قد نهى عن إضاعة المال. انتهى

(3)

.

وقال النوويّ رحمه الله: وإنما ترك الرجل الخاتم على سبيل الإباحة لمن أراد أخذه من الفقراء، وغيرهم، وحينئذ يجوز أخْذه لمن شاء، فإذا أخَذه جاز تصرفه فيه، ولو كان صاحبه أخَذه لم يحرم عليه الأخذ، والتصرف فيه بالبيع وغيره، ولكن تَوَرَّع عن أخْذه، وأراد الصدقة به على من يحتاج إليه؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم ينهه عن التصرف فيه بكل وجه، وإنما نهاه عن لبسه، وبَقِيَ ما سواه من تصرفه على الإباحة. انتهى

(4)

، والله تعالى أعلم.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عبد الله بن عبّاس رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

(1)

"المفهم" 5/ 409.

(2)

"المفهم" 5/ 409.

(3)

"المفهم" 5/ 409.

(4)

"شرح النوويّ" 14/ 65 - 66.

ص: 722

أخرجه (المصنّف) هنا [10/ 5461](2090)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(5/ 252)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(15)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(11/ 414)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 424) و"شُعَب الإيمان"(5/ 195)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان تحريم خاتم الذهب، قال ابن عبد البرّ رحمه الله: وهذا إنما هو للرجال دون النساء، في اللباس، دون التملك، وهو أمر لا خلاف فيه، والله أعلم. انتهى

(1)

.

وقال النوويّ: أجمع المسلمون على إباحة خاتم الذهب للنساء، وأجمعوا على تحريمه على الرجال، إلا ما حُكي عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أنه أباحه، وعن بعضهم: أنه مكروه، لا حرام، وهذان النقلان باطلان، فقائلهما محجوج بهذه الأحاديث التي ذكرها مسلم، مع إجماع مَن قَبْله على تحريمه له، مع قوله صلى الله عليه وسلم في الذهب والحرير:"إن هذين حرام على ذكور أمتي، حِلٌّ لإناثها"

(2)

.

قال: قال أصحابنا: ويحرم سنّ الخاتم إذا كان ذهبًا، وإن كان باقيه فضة، وكذا لو مَوَّه خاتم الفضة بالذهب، فهو حرام. انتهى

(3)

.

2 -

(ومنها): أن فيه إزالةَ المنكر باليد لمن قدر عليها.

3 -

(ومنها): أن قوله صلى الله عليه وسلم حين نزعه من يد الرجل -: في يَعْمِد أحدكم إلى جمرة من نار، فيجعلها في يده" تصريح بأن النهي عن خاتم الذهب للتحريم، كما سبق.

4 -

(ومنها): أن في قول صاحب هذا الخاتم - حين قالوا له: خذه -: "لا آخذه، وقد طرحه رسول الله صلى الله عليه وسلم " المبالغةَ في امتثال أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، واجتناب نهيه، وعدم الترخص فيه بالتأويلات الضعيفة، قاله النوويّ رحمه الله

(4)

، والله تعالى أعلم.

(1)

"التمهيد" لابن عبد البرّ 24/ 337.

(2)

حديث صحيح، وقد حسّنه الشيخ الألبانيّ رحمه الله في "الصحيحة" 1/ 90.

(3)

"شرح النوويّ" 14/ 65.

(4)

"شرح النوويّ" 14/ 65.

ص: 723

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5462]

(2091) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى التَّمِيمِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ رُمْحٍ، قَالَا: أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ (ح) وَحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ الله، أنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم اصْطنَعَ خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ، فَكَانَ يَجْعَلُ فَصَّهُ فِي بَاطِنِ كَفِّهِ إِذَا لَبِسَهُ، فَصَنَعَ النَّاسُ، ثُمَّ إِنَّهُ جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَر، فَنَزَعَهُ، فَقَالَ:"إِنِّي كُنْتُ ألْبَسُ هَذَا الْخَاتِمَ، وَأَجْعَلُ فَصَّهُ مِنْ دَاخِلٍ"، فَرَمَى بِه، ثُمَّ قَالَ:"وَاللهِ لَا أَلْبَسُهُ أَبَدًا"، فَنَبَذَ النَّاسُ خَوَاتِيمَهُمْ، وَلَفْظُ الْحَدِيثِ لِيَحْيَى).

رجال هذا الإسناد: ستة:

وكلّهم تقدّموا قبل باب.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (416) من رباعيّات الكتاب، وفيه عبد الله مهملًا، وهو ابن عمر؛ للقاعدة المشهورة أنه إذا أطلق عبد الله في الصحابة فإن كان الإسناد مدنيًّا، فهو ابن عمر، وإن كان مكيًّا، فابن الزبير، وإن كان كوفيًّا، فابن مسعود، وإن كان بصريًّا، فابن عبّاس، وإن مصريًّا، أو شاميًّا فابن عمرو بن العاص رضي الله عنهم، وإلى هذا أشار السيوطيّ في "ألفيّة الحديث"، حيث قال:

وَحَيْثُمَا أُطْلِقَ عَبْدُ اللهِ فِي

طَيْبَةَ فَابْنُ عُمَرٍ وَإِنْ يَفِ

بِمَكَّةٍ فَابْنُ الزُّبَيْرِ أَو جَرَى

بِكُوفَةٍ فَهْوَ ابْنُ مَسْعُودٍ يُرَى

وَالْبَصْرَةِ الْبَحْرُ وَعِنْدَ مِصْرِ

وَالشَّامِ مَهْمَا أُطْلِقَ ابْنُ عَمْرِو

وفيه ابن عمر رضي الله عنهما أحد العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة، والمعروف بشدّة اتّباعه للأثر رضي الله عنه.

شرح الحديث:

(عَنْ عَبْدِ اللهِ) بن عمر رضي الله عنهما (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم اصْطَنَعَ)؛ أي: أمر بصياغته، فصيغ له، فلبسه، أو وجده مصوغًا، فاتّخذه. (خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ) وقال القرطبيّ رحمه الله: الحامل له صلى الله عليه وسلم على اتّخاذ الخاتم هو السبب الذي ذكره أنس رضي الله عنه، من أنه لَمّا أراد أن يكتُب إلى كسرى، وقيصر، والنجاشيّ، وقيل

ص: 724

له: إنهم لا يقرؤون كتابًا إلا مختومًا، اتّخذ الخاتم ليختم به، هذا هو المقصود الأول فيه، ثم إنه جعله في يده، مستصحبًا له، حفظًا، وصيانةً من أن يتوصّل إليه غيره، ولذلك منع من أن يَنقُش أحدٌ على نقشه، فإنه إذا نَقَش غيرُه مثله، اختلطت الخواتم، وارتفعت الخصوصيّة، وحصلت المفسدة العامّة، وقد بالغ أهل الشام، فمنعوا الخواتم لغير ذي سلطان، وقد أجمع العلماء على جواز التختّم بالوَرِق على الجملة للرجال، قال الخطّابيّ: وكُره للنساء التختّم بالفضّة؛ لأنه من زيّ الرجال، فإن لم يجدن ذهبًا، فليُصفِّرنه بزعفران، أو شِبْهه. انتهى

(1)

.

(فَكَانَ يَجْعَلُ فَصَّهُ) بتثليث الفاء، وتشديد الصاد المهملة، قال المجد رحمه الله: الْفُصّ للخاتم مثلّثةً، ذَكَرَه ابنُ مَالِكٍ في مَثَلَّثِه، وغَيْرُ وَاحِد، ولكن صَرَّحُوا بِأَنَّ الفَتْحَ هو الأَفْصَحُ الأَشْهَرُ، والكَسْرُ غَيْرُ لَحْنٍ، جَمْعه فُصُوصٌ. انتهى

(2)

.

وقال النوويّ رحمه الله: الفصّ بفتح الفاء، وكسرها، وفي الخاتم أربع لغات: فتح التاء، وكسرها، وخيتام، وخاتام. انتهى

(3)

، وتقدّم لغات الخاتم العشر في شرح حديث البراء رضي الله عنه الماضي، وبالله تعالى التوفيق.

(فِي بَاطِنِ كَفِّهِ إِذَا لَبِسَهُ) إنما جعله في الباطن؛ لأنه أصْوَن للفصّ، وأبعد من الزهو والإعجاب، وقيل: السرّ في ذلك أنه أبعد من أن يُظنّ أنه فعله للتزيّن به، وفيه نظر؛ إذ لا مَنْع في التزيّن، ولُبس الجميل، فالوجه الأول هو الأولى، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

قال النوويّ رحمه الله: قال العلماء: لم يأمر النبيّ صلى الله عليه وسلم ذلك بشيء، فيجوز جعل فصّه في باطن كفه، وفي ظاهرها، وقد عَمِل السلف بالوجهين، وممن اتخذه في ظاهرها ابن عباس رضي الله عنهما قالوا: ولكن الباطن أفضل؛ اقتداءً به صلى الله عليه وسلم. انتهى

(4)

.

(1)

"المفهم" 5/ 410 - 411.

(2)

"القاموس المحيط" ص 998، بزيادة من "تاج العروس" 1/ 4494.

(3)

"شرح النوويّ" 14/ 66.

(4)

"شرح النوويّ" 14/ 66.

ص: 725

وقال القارئ: لعل وجه بعض السلف في المخالفة عدم بلوغهم الحديث المقتضي للمتابعة. انتهى

(1)

.

(فَصَنَعَ النَّاسُ)؛ أي: خواتم الذهب؛ اقتداء به صلى الله عليه وسلم، وفي رواية البخاريّ:"فاتخذ الناس مثله"، قال في "الفتح": يَحْتَمِل أن يكون المراد بالمثلية كونه من فضة، وكونه على صورة النقش المذكورة، ويَحْتَمِل أن يكون لمطلق الاتخاذ. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قد تعقّب العينيّ تفسير الحافظ لمعنى المثليّة المذكور، ودونك عبارته: قوله: "مثله"؛ أي: مثل ما اتخذ النبيّ صلى الله عليه وسلم من ذهب، ويوضحه ما في رواية أبي داود، حيث قال في روايته: عن نصير بن الفَرَج، عن أبي أسامة، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر:"اتّخذ النبيّ صلى الله عليه وسلم خاتَمًا من ذهب، وجعل فصه مما يلي بطن كفه، ونَقَش: محمد رسول الله، فاتخذ الناس خواتيم الذهب، فلما رآهم قد اتخذوها، رمى به. . ." الحديث، وقال بعضهم - يعني: الحافظ ابن حجر -: يَحْتَمِل أن يكون المراد بالمثلية: كونه من فضة، وكونه على صورة النقش المذكورة، ويَحْتَمِل أن يكون لمطلق الاتخاذ. انتهى.

قال العينيّ: هذا كله لا يُجدي شيئًا، فقوله: كونه من فضة غير مستقيم، على ما لا يخفى، وكذا قوله: ويَحْتَمِل أن يكون لمطلق الاتخاذ؛ لأن النهي اتخاذ من ذهب، لا مطلق الاتخاذ، والمعنى الصحيح ما ذكرناه، كما بيّنه ما رواه أبو داود. انتهى

(3)

، وهو تعقّب جيّد، والله تعالى أعلم.

(ثُمَّ إِنَّهُ جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ) وفي رواية جويرية، عن نافع عند البخاريّ:"فرَقِي المنبر، فحمد الله، وأثنى عليه، فقال: إني كنت اصطنعته، وإني لا ألبسه". (فَنَزَعَهُ)؛ أي: أخرج ذلك الخاتم من إصبعه (فَقَالَ: "إِنِّي كُنْتُ أَلْبَسُ هَذَا الْخَاتِمَ)؛ أي: لكونه مباحًا، (وَأَجْعَلُ فَصَّهُ مِنْ دَاخِلٍ"، فَرَمَى بِه، ثُمَّ قَالَ:

(1)

"عون المعبود" 11/ 184.

(2)

"الفتح" 13/ 358، كتاب "اللباس" رقم (5867).

(3)

"عمدة القاري" 22/ 31.

ص: 726

"وَاللهِ لَا أَلْبَسُهُ أَبَدًا")؛ أي: لأنه جاءه الوحي بالنهي عن لُبسه، وهذا بداية تحريمه، وفي رواية المغيرة بن زياد:"فرمى به، فلا ندري ما فَعَل"، قال في "الفتح": وهذا يَحْتَمِل أن يكون كَرِهه من أجل المشاركة، أو لِمَا رأى من زهوهم بلبسه، ويَحْتَمِل أن يكون لكونه من ذهب، وصادف وقت تحريم لُبس الذهب على الرجال، ويؤيد هذا رواية عبد الله بن دينار، عن ابن عمر المختصرة بلفظ:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبس خاتَمًا من ذهب، فنبذه، فقال: لا ألبسه أبدًا". انتهى

(1)

.

(فَنَبَذَ النَّاس خَوَاتِيمَهُمْ) بالياء: جمع خاتم، ويقال أيضًا: خواتم، بلا ياء، قال المجد رحمه الله: الخاتَم - بفتح التاء -: ما يوضع على الطينة، وحَلْيٌ للإصبع؛ كالخاتِم - بكسرها - والخاتام، والْخَيْتام - بالفتح - والْخِيتام - بالكسر - والْخَتَم محرّكةً، والخاتيام: جمعه خَوَاتم، وخواتيم. انتهى

(2)

.

وإنما نبذوا الخواتيم اقتداءً بالنبيّ صلى الله عليه وسلم، وفيه بيان ما كانت الصحابة رضي الله عنهم عليه من المبادرة إلى امتثال أمْره، ونهيه صلى الله عليه وسلم، والاقتداء بأفعاله. انتهى

(3)

.

وقوله: (وَلَفْظُ الْحَدِيثِ لِيَحْيَى)؛ يعني: أن سياق الحديث المذكور هو لفظ شيخه يحيى بن يحيى، وأما محمد بن رُمح، وقتيبة، فروياه بالمعنى، والله تعالى أعلم.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [10/ 5462 و 5463 و 5464](2091)، و (البخاريّ) في "اللباس"(5865 و 5866 و 5867 و 5873) و"الأيمان والنذور"(6651) و"كتاب الاعتصام بالكتاب والسُّنَّة"(7298)، و (مالك) في "الموطّأ"(2/ 936)، و (أبو داود) في "الخاتم"(4218 و 4219 و 4220)، و (الترمذيّ)

(1)

"الفتح" 13/ 358 - 359، كتاب "اللباس" رقم (5867).

(2)

"القاموس المحيط" ص 349.

(3)

"شرح النوويّ" 14/ 66.

ص: 727

في "اللباس"(1741) و"الشمائل"(95 و 98)، و (النسائيّ) في "الزينة"(8/ 178 و 194 و 195) و"الكبرى"(5/ 465 و 567)، و (ابن ماجه) في "اللباس"(3645)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 18 و 34 و 39 و 60 و 68 و 86 و 94 و 96 و 119 و 127 و 128 و 141 و 146 و 153)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5491 و 5494 و 5495 و 5499 و 5500)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(5/ 252 و 253 و 254)، و (الطحاويّ) في شرح معاني الآثار" (4/ 262)، و (أبو يعلى) في "مسنده" (10/ 205)، و (الطبريّ) في "مسند الشاميين" (1/ 80)، و (البيهقيُّ) في "الكبرى" (4/ 142) و"شُعَب الإيمان" (5/ 198 و 202)، و (البغويّ) في شرح السُّنَّة"(3129)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان جواز لبس الخاتم، والتزيّن به بشرط أن لا يكون من ذهب.

2 -

(ومنها): بيان النهي عن لبس خاتم الذهب.

3 -

(ومنها): بيان ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم من الحرص على متابعته صلى الله عليه وسلم في جميع ما يصدر منه، قولًا، أو فعلًا، أو نحوهما، إلا ما كان خصوصيّةً له صلى الله عليه وسلم.

4 -

(ومنها): أن فيه جواز خاتم الفضّة، قال النوويّ رحمه الله: وقد أجمع المسلمون على جواز خاتم الفضّة للرجال، وكره بعض علماء الشام المتقدّمين لُبسه لغير ذي سلطان، ورووا فيه أثرًا، وهذا شاذّ مردود. وقال الخطابيّ: ويكره للنساء خاتم الفضّة؛ لأنه من شعار الرجال، قال: فإن لم تجد خاتم ذهب، فلتُصفّره بزعفران، وشِبهه. قال النوويّ: وهذا الذي قاله ضعيفٌ، أو باطلٌ، لا أصل له، والصواب أنه لا كراهة في لبسها خاتم الفضّة. انتهى

(1)

.

5 -

(ومنها): أن فيه الردّ على من زعم من الأصوليين أن أفعاله صلى الله عليه وسلم تنقسم إلى عبادة، وعادة، فيَقْصُرون الاتّباع على القسم الأول، دون الثانيّ، وهي قسمة ضيزى، ما أنزل الله بها من سلطان، فقد كان الصحابة رضي الله عنهم

(1)

"شرح مسلم" 14/ 67.

ص: 728

حريصين على اتّباعه صلى الله عليه وسلم في جميع ما يصدر عنه من العبادة، والعادة، فهذا أنس بن مالك رضي الله عنه يقول: إن خياطًا دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم، لطعام صنعه، قال: فذهبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ذلك الطعام، فقرّب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم خبزًا، ومرقًا فيه دُبّاء وقديدًا، فرأيت النبيّ صلى الله عليه وسلم، يتتبع الدباء من حوالي القصعة، قال: فلم أزل أحب الدباء من يومئذ. متّفقٌ عليه.

وهذا جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يقول: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي، ذات يوم، إلى منزله، فأخرج إليه فلقًا من خبز، فقال:"ما من أدم؟ " فقالوا: لا إلا شيء من خَلّ، قال:"فإن الخل نعم الأدم"، قال جابر: فما زلت أحب الخل، منذ سمعتها من نبي الله صلى الله عليه وسلم، وقال طلحة - الراوي عن جابر -: ما زلت أحب الخل منذ سمعتها من جابر. رواه مسلم. وهؤلاء أصحابه الكرام لَمّا اتخذ صلى الله عليه وسلم خاتمًا من ذهب، اتخذوا كلهم خواتم من ذهب، ولَمّا رماه، رموه، ثم لَمّا اتخذ خاتمًا من فضّة، اتخذوا كلهم خواتم من فضّة، ولقد أجاد الإمام البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، حيث ترجم بقوله:"باب الاقتداء بأفعال النبيّ صلى الله عليه وسلم "، ثم أورد فيه حديث ابن عمر رضي الله عنهما في قصّة الخاتم، المذكور في هذا الباب.

وقال في "الفتح": والأصل في ذلك قوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21)} [الأحزاب: 21].

وقد ذهب جَمْع إلى وجوبه؛ لدخوله في عموم الأمر بقوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [الحشر: 7]، وبقوله:{فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31]، وبقوله تعالى:{وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف: 158]، فيجب اتباعه في فعله، كما يجب في قوله، حتى يقوم دليل على الندب، أو الخصوصية.

وقال آخرون: يَحْتَمِل الوجوب، والندب، والإباحة، فيحتاج إلى القرينة، والجمهور للندب إذا ظهر وجه القُربة، وقيل: ولو لم يظهر، وهو الحقّ، ومنهم من فصل بين التكرار وعدمه.

وقال آخرون: ما يفعله صلى الله عليه وسلم، إن كان بيانًا لمُجْمَل، فحُكمه حُكم ذلك المجمل، وجوبًا، أو ندبًا، أو إباحةً، فإن ظهر وجه القربة فللندب، وما لم

ص: 729

يظهر فيه وجه التقرب فللإباحة، وأما تقريره على ما يُفْعَل بحضرته، فيدل على الجواز.

والمسألة مبسوطة في أصول الفقه، ويتعلق بها تعارض قوله وفعله، ويتفرع من ذلك حكم الخصائص، وقد افردت بالتصنيف، قال: ولشيخ شيوخنا الحافظ صلاح الدين العلائيّ فيه مصنَّف جليل، وحاصل ما ذكر فيه ثلاثة أقوال:

[أحدها]: يُقَدَّم القول؛ لأن له صيغة تتضمن المعاني، بخلاف الفعل.

[ثانيها]: الفعل لأنه لا يطرقه من الاحتمال ما يطرق القول.

[ثالثها]: يُفْزَع إلى الترجيح، وكل ذلك محله ما لم تقم قرينة، تدل على الخصوصية.

وذهب الجمهور إلى الأول، والحجة له أن القول يعبَّر به عن المحسوس والمعقول، بخلاف الفعل، فيختص بالمحسوس، فكان القول أتمّ، وبأن القول مُتَّفَقٌ على أنه دليل، بخلاف الفعل، ولأن القول يدل بنفسه، بخلاف الفعل فيحتاج إلى واسطة، وبأن تقديم الفعل يفضي إلى ترك العمل بالقول، والعمل بالقول يمكن معه العمل بما دل عليه الفعل، فكان القول أرجح بهذه الاعتبارات.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي القول الثالث هو الأرجح؛ بدليل أن الصحابة رضي الله عنهم، وهم أعلم الناس بمقاصد الشريعة كانوا إذا احتجّ بعضهم بالقول عارضه الآخر بالفعل، وهذا دليلٌ على أن القول والفعل عندهم في درجة واحدة، لا ترجيح لأحدهما على الآخر إلا بمرجّح، فهذا ابن عبّاس رضي الله عنهما لمّا سمع أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن أجرة الحجّام، قال: احتجم النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأعطى الحجّام أجره، ولو كان حرامًا ما أعطاه، متّفق عليه، وعليّ رضي الله عنه لمّا سمع كراهية الشرب من قيام، توضأ، ثم شرب قائمًا، فقال: هكذا رأيته صلى الله عليه وسلم يفعل، إلى غير ذلك مما كانوا يحتجون به من أفعاله صلى الله عليه وسلم على من احتجّ عليهم بأقواله.

قال ابن بطال رحمه الله، بعد أن حكى الاختلاف في أفعاله صلى الله عليه وسلم، محتجًّا لمن قال بالوجوب بحديث الباب: لأنه خلع خاتمه، فخلعوا خواتمهم، ونزع نعله في الصلاة، فنزعوا، ولمّا أمرهم عام الحديبية بالتحلّل، وتأخّروا عن المبادرة، رجاء أن يأذن لهم في القتال، وأن ينصروا، فيكملوا عمرتهم، قالت له أم

ص: 730

سلمة رضي الله عنهما: أخرج إليهم، واحلِق، واذبح، ففعل، فتابعوه مسرعين، فدل ذلك على أن الفعل أبلغ من القول، ولمّا نهاهم عن الوصال، قالوا: إنك تواصل، فقال:"إني أُطعم وأُسقى"، فلولا أن لهم الاقتداء به لقال: وما في مواصلتي ما يبيح لكم الوصال، لكنه عَدَل عن ذلك، وبيّن لهم وجه اختصاصه بالمواصلة. انتهى.

قال الحافظ: وليس في جميع ما ذَكَره ما يدل على الْمُدَّعَى من الوجوب، بل على مطلق التأسي به، والعلم عند الله تعالى. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الأرجح عندي أن أفعاله صلى الله عليه وسلم إن كانت بيانًا لمجمل، فهي بحَسَب ذلك المجمل، وجوبًا، أو ندبًا، أو إباحةً، وإلا فهي للاستحباب، ما لم يقم دليل الوجوب، والله تعالى أعلم بالصواب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5463]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَاهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ (ح) وَحَدَّثَنِيهِ زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ (ح) وَحَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ (ح) وَحَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ عُثْمَانَ، حَدَّثَنَا عُقْبَةُ بْنُ خَالِدٍ، كُلُّهُمْ عَنْ عُبَيْدِ الله، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِهَذَا الْحَدِيث، فِي خَاتِمِ الذَّهَب، وَزَادَ في حَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ خَالِدٍ: وَجَعَلَهُ في يَدِهِ الْيُمْنَى).

رجال هذه الأسانيد: أحد عشر:

1 -

(خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ) الهُجيميّ، أبو عثمان البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 186)(ع) تقدم في "الإيمان" 35/ 243.

2 -

(سَهْلُ بْنُ عُثْمَانَ) بن فارس الكِنْديّ، أبو مسعود العسكريّ، نزيل الريّ، أحد الحفّاظ صدوقٌ له غرائب [10](ت 235)(م) من أفراد المصنّف، تقدم في "الإيمان" 5/ 121.

3 -

(عُقْبَةُ بْنُ خَالِدٍ) السَّكُونيّ، أبو مسعود الكوفيّ الْمُجَدَّر، صدوقٌ، صاحب حديث [8](ت 188)(ع) تقدم في "صلاة المسافرين وقصرها" 3/ 1593.

(1)

"الفتح" 15/ 204 - 205.

ص: 731

والباقون تقدّموا قريبًا.

وقوله: (كُلُّهُمْ عَنْ عُبَيْدِ اللهِ)؛ أي: الأربعة: محمد بن بشر العبديّ الكوفيّ، ويحيى بن سعيد القطّان، وخالد بن الحارث الْهُجيميّ، وعُقبة بن خالد السَّكونيّ رووا هذا الحديث عن عبيد الله العمريّ، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما.

[تنبيه]: رواية محمد بن بشر، عن عبيد الله العمريّ ساقها النسائيّ في "سننه"، فقال:

(9548)

- أخبرنا إسحاق بن إبراهيم، قال: أنا محمد بن بشر، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، قال: اتخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتَمًا من ذهب، وجَعَل فصّه مما يلي بطن كفه، فاتخذ الناس الخواتيم، فألقاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: لا ألبسه أبدًا، ثم اتخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتَمًا من وَرِق، فأدخله في يده، ثم كان في يد أبي بكر، ثم كان في يد عمر، ثم كان في يد عثمان، حتى هلك في بئر أَرِيس. انتهى

(1)

.

ورواية يحيى بن سعيد القطّان، عن عبيد الله ساقها البيهقيّ في "شُعب الإيمان"، فقال:

(6344)

- أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أنا أبو الفضل بن إبراهيم، ثنا أحمد بن سلمة، ثنا محمد بن بشار، ثنا يحيى، ثنا عبيد الله، أخبرني نافع، عن ابن عمر، "أن النبيّ صلى الله عليه وسلم اتخذ خاتَمًا من ذهب، وجعل فصه مما يلي كفه، فاتخذ الناس، فرمى به، واتخذ خاتما من وَرِقٍ". انتهى

(2)

.

ورواية خالد بن الحارث، عن عُبيد الله ساقها النسائيّ رحمه الله في "الكبرى"، فقال:

(9547)

- أخبرنا إسماعيل بن مسعود، قال: حدّثنا خالد، عن عبيد الله، عن نافع، عن عبد الله بن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اتَّخَذ خاتَمًا من ذهب، وجَعَل فصّه مما يلي كفه، فاتخذ الناس خواتيم، فطرحه النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقال:"لا ألبسه أبدًا". انتهى

(3)

.

(1)

"السنن الكبرى" للنسائيّ 5/ 457.

(2)

"شعب الإيمان" للبيهقيّ 5/ 197.

(3)

"المجتبى" 8/ 159، و"السنن الكبرى" 5/ 457.

ص: 732

ورواية عقبة بن خالد السَّكُونيّ، عن عبيد الله ساقها البيهقيّ رحمه الله في "الكبرى"، فقال:

(7353)

- أخبرنا عليّ بن أحمد بن عبدان، أنبأ أحمد بن عبيد، ثنا الحسن بن العباس الرازيّ، ثنا سهل بن عثمان، ثنا عُقبة بن خالد، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بخاتم من ذهب، فجعله في يده اليمنى، وجعل فصّه مما يلي كفه، فاتخذ الناس خواتيم من ذهب، فلما رأى ذلك نزعه، فقال:"لا ألبسه أبدًا"، فاتخذه من وَرِقٍ. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم.

[تنبيه آخر]: قوله: (وَزَادَ فِي حَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ خَالِدٍ: وَجَعَلَهُ فِي يَدِهِ الْيُمْنَى) كذا في رواية عقبة بن خالد، عن عبيد الله، عن نافع أنه نصّ على أنه صلى الله عليه وسلم جعل الخاتم في يده اليمنى، وكذلك وقع عند البخاريّ في رواية جويرية بن أسماء، عن نافع، ونصّه:"قال جويرية: ولا أحسبه إلا قال: في يده اليمنى".

قال في "الفتح": قوله: "قال جويرية: ولا أحسبه إلا قال: في يده اليمنى"، هو موصول بالإسناد المذكور، قال أبو ذرّ في روايته: لم يقع في البخاريّ موضع الخاتم من أيّ اليدين إلا في هذا.

وقال الداوديّ: لم يجزم به جويرية، وتواطؤ الروايات على خلافه يدلّ على أنه لم يحفظه، وعملُ الناس على لُبس الخاتم في اليسار يدلّ على أنه المحفوظ.

قال الحافظ: وكلامه متعَقَّب، فإن الظن فيه من موسى شيخ البخاريّ، وقد أخرجه ابن سعد عن مسلم بن إبراهيم، وأخرجه الأسماعيليّ، عن الحسن بن سفيان، عن عبد الله بن محمد بن أسماء، كلاهما عن جويرية، وجزما بأنه لَبِسه في يده اليمنى، وهكذا أخرج مسلم من طريق عقبة بن خالد، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر في قصّة اتخاذ الخاتم من ذهب، وفيه:"وجعله في يده اليمنى"، وأخرجه الترمذيّ، وابن سعد من طريق

(1)

"سنن البيهقيّ الكبرى" 4/ 142.

ص: 733

موسى بن عقبة، عن نافع، بلفظ: "صَنَع النبيُّ صلى الله عليه وسلم خاتَمًا من ذهب، فتختم به في يمينه، ثم جلس على المنبر فقال: إني كنت اتخذت هذا الخاتم في يميني، ثم نبذه

" الحديث، وهذا صريح من لفظه صلى الله عليه وسلم رافعٌ لِلَّبس، وموسى بن عقبة أحد الثقات الأثبات.

وأما ما أخرجه ابن عديّ من طريق محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، وأبو داود من طريق عبد العزيز بن أبي رَوّاد، كلاهما عن نافع، عن ابن عمر:"كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يتختم في يساره"، فقد قال أبو داود بعده: ورواه ابن إسحاق، وأسامة بن زيد، عن نافع:"في يمينه". انتهى.

ورواية ابن إسحاق قد أخرجها أبو الشيخ في "كتاب أخلاق النبيّ صلى الله عليه وسلم" من طريقه، وكذا رواية أسامة، وأخرجها محمد بن سعد أيضًا، فظهر أن رواية اليسار في حديث نافع شاذّة، ومن رواها أيضًا أقلّ عددًا، وألْيَن حفظًا ممن روى اليمين.

وقد أخرج الطبرانيّ في "الأوسط" بسند حسن، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، قال:"كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يتختم في يمينه".

وأخرج أبو الشيخ في "كتاب أخلاق النبيّ صلى الله عليه وسلم" من رواية خالد بن أبي بكر، عن سالم، عن ابن عمر نحوه، فرَجَحَت رواية اليمين في حديث ابن عمر أيضًا.

وقد ورد التختم في اليمين أيضًا في أحاديث أخرى، منها عند مسلم، من حديث أنس:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لبس خاتَمًا من فضة في يمينه، فصّه حبشيّ".

وأخرج أبو داود أيضًا من طريق ابن إسحاق، قال: رأيت على الصَّلْت بن عبد الله خاتَمًا في خنصره اليمين، فسألته، فقال: رأيت ابن عباس يلبس خاتمه هكذا، وجعل فصّه على ظهرها، ولا إخال ابن عباس إلا ذكره عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأورده الترمذيّ من هذا الوجه مختصرًا:"رأيت ابن عباس يتختم في يمينه، ولا إخاله إلا قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتختم في يمينه".

وللطبرانيّ من وجه آخر، عن ابن عباس:"كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يتختم في يمينه"، وفي سنده لِينٌ.

وأخرج الترمذيّ أيضًا من طريق حماد بن سلمة: رأيت ابن أبي رافع

ص: 734

يتختم في يمينه، وقال:"كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يتختم في يمينه"، ثم نَقَل عن البخاريّ أنه أصح شيء رُوي في هذا الباب.

وأخرج أبو داود، والنسائيّ والترمذيّ في "الشمائل"، وصححه ابن حبان، من طريق إبراهيم بن عبد الله بن حُنين، عن أبيه، عن عليّ:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يتختم في يمينه".

وفي الباب عن جابر في "الشمائل" بسند ليّن، وعائشة عند البزار بسند ليّن، وعند أبي الشيخ بسند حسن، وعن أبي أمامة عند الطبراني بسند ضعيف، وعن أبي هريرة عند الدارقطنيّ في غرائب مالك بسند ساقط.

وورد التختم في اليسار من حديث ابن عمر كما تقدم، ومن حديث أنس أيضًا، أخرجه مسلم من طريق حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس، قال:"كان خاتم النبيّ صلى الله عليه وسلم في هذه"، وأشار إلى الخنصر اليسرى.

وأخرجه أبو الشيخ، والبيهقيّ في "الشعب" من طريق قتادة، عن أنس، ولأبي الشيخ من حديث أبي سعيد، بلفظ:"كان يلبس خاتمه في يساره"، وفي سنده، وأخرجه ابن سعد أيضًا.

وأخرج البيهقيّ في "الأدب" من طريق أبي جعفر الباقر، قال:"كان النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر، وعمر، وعليّ، والحسن، والحسين، يتختمون في اليسار"، وأخرجه الترمذيّ موقوفًا على الحسن والحسين حسبُ.

وأما دعوى الداوديّ أن العمل على التختم في اليسار، فكأنه توهّمه من استحباب مالك للتختم، وهو يرجح عمل أهل المدينة، فظنّ أنه عمل أهل المدينة، وفيه نظر، فإنه جاء عن أبي بكر، وعمر، وجَمْع جَمّ من الصحابة، والتابعين بعدهم، من أهل المدينة، وغيرهم التختم في اليمنى.

وقال البيهقيّ في "الأدب": يُجمَع بين هذه الأحاديث بأن الذي لَبسه في يمينه هو خاتم الذهب، كما صُرِّح به في حديث ابن عمر، والذي لَبسه في يساره هو خاتم الفضة.

وأما رواية الزهريّ، عن أنس التي فيها التصريح بأنه كان فضة، ولَبسه في يمينه، فكانها خطأ، فقد تقدّم أن الزهري وقع له وَهَمٌ في الخاتم الذي طرحه النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأنه وقع في روايته أنه الذي كان من فضة، وأن الذي في

ص: 735

رواية غيره أنه الذي كان من ذهب، فعلى هذا فالذي كان لَبسه في يمينه هو الذهب. انتهى كلام البيهقيّ ملخصًا.

وجَمَع غيره بأنه لَبس الخاتم أوّلًا في يمينه، ثم حوّله إلى يساره، واستَدَلّ له بما أخرجه أبو الشيخ، وابن عدي من رواية عبد الله بن عطاء، عن نافع، عن ابن عمر:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم في يمينه، ثم إنه حوّله في يساره"، فلو صَحّ هذا لكان قاطعًا للنزاع، ولكن سنده ضعيف.

وأخرج ابن سعد من طريق جعفر بن محمد، عن أبيه، قال:"طَرَح رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتمه الذهب، ثم تختَّم خاتمًا من وَرِق، فجعله في يساره"، وهذا مرسلٌ، أو مُعْضَلٌ.

وقد جَمَع البغويّ في "شرح السُّنَّة" بذلك، وأنه تختم أوّلًا في يمينه، ثم تختم في يساره، وكان ذلك آخر الأمرين.

وقال ابن أبي حاتم: سألت أبا زرعة عن اختلاف الأحاديث في ذلك، فقال: لا يثبت هذا، ولا هذا، ولكن في يمينه أكثر، وقد تقدّم قول البخاريّ أن حديث عبد الله بن جعفر أصحّ شيء، وَرَدَ فيه، وصُرِّح فيه بالتختم في اليمين.

وفي المسألة عند الشافعية اختلاف، والأصح اليمين.

قال الحافظ رحمه الله: ويظهر لي أن ذلك يختلف باختلاف القصد، فإن كان اللُّبس للتزين به، فاليمين أفضل، وإن كان للتختم به فاليسار أَولى؛ لأنه كالمودَع فيها، ويحصل تناوله منها باليمين، وكذا وضْعه فيها، ويترجح التختم في اليمين مطلقًا؛ لأن اليسار آلة الاستنجاء، فيُصان الخاتم إذا كان في اليمين عن أن تصيبه النجاسة، ويترجح التختم في اليسار بما أشرت إليه من التناول.

وجنحت طائفة إلى استواء الأمرين، وجمعوا بذلك بين مختلف الأحاديث، وإلى ذلك أشار أبو داود حيث ترجم:"بابُ التختم في اليمين واليسار"، ثم أورد الأحاديث مع اختلافها في ذلك بغير ترجيح.

ونقل النوويّ وغيره الإجماع على الجواز، ثم قال: ولا كراهة فيه - يعني: عند الشافعية - وإنما الاختلاف في الأفضل.

وقال البغويّ: كان آخر الأمرين التختم في اليسار.

ص: 736

وتعقبه الطبريّ بأن ظاهره النَّسخ، وليس ذلك مراده، بل الإخبار بالواقع اتفاقًا، والذي يظهر أن الحكمة فيه ما تقدم. انتهى ما في "الفتح"

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: الذي يترجّح عندي في هذه المسألة هو ما أشار إليه أبو داود رحمه الله فيما سبق نقله عنه، وهو استواء الأمرين، فكلّ من التختّم في اليمين، وفي اليسار جائز، لا كراهة في أحدهما؛ لصحّة الأحاديث بكلٍّ منهما، كما سبق تحقيقه آنفًا، فتأمل بالإمعان، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5464]

(

) - (وَحَدَّثَنِيهِ أحْمَدُ بْنُ عَبْدَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ (ح) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ الْمُسَيَّبِيُّ، حَدَّثَنَا أنسٌ - يَعْني: ابْنَ عِيَاضٍ - عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ (ح) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادٍ، حَدَّثَنَا حَاتِمٍ (ح) وَحَدَّثَنَا هَارُونُ الأَيْلِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، كِلَاهُمَا عَنْ أُسَامَةَ، جَمَاعَتُهُمْ عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: في خَاتِمِ الذَّهَب، نَحْوَ حَدِيثِ اللَّيْثِ).

رجال هذه الأسانيد: ثلاثة عشر:

1 -

(أَحْمَدُ بْنُ عَبْدَةَ) الضّبّيّ، أبو عبد الله البصريّ، ثقةٌ رُمي بالنصب [10](ت 245)(م 4) تقدم في "الإيمان" 1/ 103.

2 -

(عَبْدُ الْوَارِثِ) بن سعيد بن ذكوان العنبريّ البصريّ، تقدّم قريبًا.

3 -

(أَيُّوبُ) بن أبي تميمة السختيانيّ، تقدّم قبل باب.

4 -

(مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ الْمُسَيَّبِيُّ) المخزوميّ المدنيّ، صدوقٌ [10](ت 236) تقدم في "الإيمان" 81/ 433.

[تنبيه]: قوله (الْمُسَيَّبِيُّ) بضمّ الميم، وفتح المثنّاة التحتيّة المشدّدة: نسبة إلى جدّه الأعلى المسيّب بن أبي السائب

(2)

.

5 -

(أنسُ بْنُ عِيَاضِ) بن ضَمْرة الليثيّ، أبو ضمرة المدنيّ، ثقةٌ [8](ت 200) وله (96) سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 81/ 433.

(1)

"الفتح" 13/ 370 - 373، كتاب "اللباس" رقم (5876).

(2)

راجع: "تهذيب التهذيب" 3/ 503، و"اللباب في تهذيب الأنساب" 3/ 214.

ص: 737

6 -

(مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ) بن أبي عيّاش المدنيّ، تقدّم قريبًا.

7 -

(مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادِ) بن الزِّبْرِقان المكيّ، نزيل بغداد، صدوقٌ يَهِم [10](ت 234)(خ م ت س ق) تقدم في "المقدمة" 4/ 19.

8 -

(حَاتِمُ) بن إسماعيل الحارثيّ، أبو إسماعيل المدنيّ، كوفيّ الأصل، صدوقٌ يَهِم [8](ت 6 أو 187)(ع) تقدم في "الصلاة" 42/ 1086.

9 -

(هَارُونُ الأَيْليُّ) ابن سعيد، تقدّم قبل باب.

10 -

(ابْنُ وَهْبٍ) عبد الله المصريّ، تقدّم أيضًا قبل باب.

11 -

(أُسَامَةُ) بن زيد الليثيّ المدنيّ، تقدّم أيضًا قبل باب.

والباقيان ذُكرا قبله.

وقوله: (كِلَاهُمَا عَنْ أُسَامَةَ) كذا في النسخة الهنديّة بضمير التثنية، وهو الموافق لغالب الاستعمال، والضمير يعود إلى حاتم بن إسماعيل، وابن وهب، فهما رويا الحديث عن أسامة بن زيد الليثيّ.

ووقع في معظم النُّسخ بلفظ: "كُلّهم عن أسامة"، وله وجه صحيح أيضًا، وهو أنه جرى على أن أقلّ الجمع اثنان، وهو المذهب الراجح كما حقّقته في "التحفة المرضيّة" في الأصول، وأما تغليط بعض الشرّاح

(1)

له فمردود، كما أسلفته غير مرّة، فتنبّه، والله تعالى وليّ التوفيق.

وقوله: (جَمَاعَتُهُمْ عَنْ نَافِعٍ)؛ يعني: الجماعة الثلاثة: أيوب السختيانيّ، وموسى بن عقبة، وأسامة بن زيد الليثيّ، فكلهم رووه نافع، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

[تنبيه]: رواية أيوب السختيانيّ، عن نافع ساقها أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(6331)

- حدّثنا عبد الله، حدّثني أبي، ثنا عبد الرزاق، أنا معمر، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، قال: اتخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتَمًا من ذهب، وصَنَع فَصّه من داخل، قال: فبينا هو يخطب ذات يوم قال: "إني كنت صنعت

(1)

هو: الشيخ الهرري. راجع: "شرحه" 21/ 394.

ص: 738

خاتَمًا، وكنت ألبسه، وأجعل فصّه من داخل، وإني والله لا ألبسه أبدًا"، فنبذه فنبذ الناس خواتيمهم. انتهى

(1)

.

ورواية موسى بن عُقبة، عن نافع ساقها الترمذيّ رحمه الله في "الشمائل"، فقال:

(105)

- حدّثنا محمد بن عبيد الله المحاربيّ، ثنا عبد العزيز بن أبي حازم، عن موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر، قال: اتخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتَمًا من ذهب، فكان يلبسه في يمينه، فاتخذ الناس خواتيم من ذهب، فطرحه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال:"لا ألبسه أبدًا، فطرح الناس خواتيمهم". انتهى

(2)

.

ورواية أسامة بن زيد الليثيّ، عن نافع ساقها أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(6412)

- حدّثنا عبد الله، حدّثني أبي، ثنا صفوان بن عيسى، أنا أسامة بن زيد، عن نافع، عن عبد الله، أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم اتَخَذَ خاتَمًا من ذهب، فجعله في يمينه، وجعل فصّه مما يلي باطن كفه، فاتخذ الناس خواتيم الذهب، قال: فصعد رسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر، فألقاه، ونَهَى عن التختم بالذهب. انتهى

(3)

.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(11) - (بَابُ لُبْسِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم خَاتَمًا مِنْ وَرِقٍ، نَقْشُهُ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله، وَلُبْسِ الْخُلَفَاءِ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ)

وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5456]

(

) - (حدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ نُمَيْرٍ، عَنْ عُبَيْدِ الله (ح) وَحَدَّثنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثنَا عُبَيْدُ الله، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: اتَّخَذَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَاتَمًا مِنْ وَرِقٍ، فَكَانَ فِي يَدِه، ثمَّ كَانَ فِي يَدِ

(1)

"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 2/ 146.

(2)

"الشمائل المحمدية" للترمذيّ 1/ 97.

(3)

"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 2/ 153.

ص: 739

أَبِي بَكْرٍ، ثُمَّ كَانَ فِي يَدِ عُمَرَ، ثُمَّ كَانَ في يَدِ عُثْمَانَ، حَتَّى وَقَعَ مِنْهُ فِي بِئْرِ أَرِيسٍ، نَقْشُهُ:"مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ"، قَالَ ابْنُ نُمَيْرٍ: حَتَّى وَقَعَ فِي بِئْر، وَلَمْ يَقُلْ: مِنْهُ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

وكلّهم تقدّموا في الباب الماضي، وقبله بباب.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وأنه مسلسلٌ بالمدنيين من عبيد الله، وفيه ابن عمر رضي الله عنهما تقدّم القول فيه قريبًا.

شرح الحديث:

(عَنِ ابْنِ عُمَرَ) رضي الله عنهما أنه (قَالَ: اتَّخَذَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَاتَمًا مِنْ وَرِقٍ) قال المجد رحمه الله: الْوَرق مثلّثةً، وكَكَتِفٍ، وجَبَل: الدرا هم المضروبة، جَمْعه: أوراقٌ، ووِرَاقٌ؛ كالرِّقَة، جمعه رَقُونَ. انتهى

(1)

.

وقال الشراح المرتضى: الوَرْقُ مُثلّثةً، وكَكَتِف، وجبَل، خمْسُ لُغاتٍ، حكَى الفَرّاءُ منها ورَقًا بالفتح، ووَرِقًا، ككَتِف، ووِرْقًا بالكسر، مثل كبِد، وكِبْد؛ لأنّ فيهم من ينقُل كسْرَة الرّاءِ إلى الواو، بعد التّخفيف، ومنهم منْ يترُكُها على حالِها، كما في الصِّحاح. وقرأ أبو عَمْرو، وأبو بكْر، وحمزةُ، وخلَف:(بِوَرْقِكُمْ) بالفَتْح. وعن أبي عمْرو أيضًا، وابن مُحَيْصِن:(بِوِرْقِكُمْ) بكسر الواو. وقرأ أبو عبيدَةَ بالتّحريك، وقرأ أبو بكر:(بوُرْقِكم) بالضمّ، وهي: الدّراهِم المضْروبَةُ، كما في الصِّحاح، وقال أبو عبيدَة: الوَرَق: الفِضّة كانت مضْروبة، كدَراهِم، أَو لا. انتهى

(2)

.

(فَكَانَ) ذلك الخاتم (في يَدِهِ) صلى الله عليه وسلم إلى أن توُفّي، (ثُمَّ كَانَ فِي يَدِ أَبِي بَكْرٍ) الصدّيق رضي الله عنه مدّة خلافته، (ثُمَّ كَانَ فِي يَدِ عُمَرَ) بن الخطّاب رضي الله عنه مدّة خلافته أيضًا، (ثُمَّ كَانَ فِي يَدِ عُثْمَانَ) بن عفّان رضي الله عنه، (حَتَّى وَقَعَ مِنْهُ)؛ أي: من عثمان؛ أي: من يده، (فِي بِئْرِ أَرِيسٍ) - بفتح الهمزة، وكسر الراء، وبالسين المهملة، وزن عظيم - وهي في حديقةِ بالقرب من مسجد قباء.

(1)

"القاموس المحيط" ص 1393.

(2)

"تاج العروس" 1/ 6610.

ص: 740

وفي حديث أنس: "فلما كان عثمان جلس على بئر أريس"، وزاد ابن سعد:"ثم كان في يد عثمان ستّ سنين"، ووقع في حديث ابن عمر عند أبي داود، والنسائيّ، من طريق المغيرة بن زياد، عن نافع، من الزيادة في آخره:"عن ابن عمر: فاتخذ عثمان خاتمًا، ونقش فيه: محمد رسول الله، فكان يختم به، أو يتختم به"، وله شاهد من مرسل عليّ بن الحسين، عند ابن سعد في "الطبقات"، وفي رواية أيوب بن موسى، عن نافع الآتية عند مسلم نحو حديث عبيد الله بن عمر، عن نافع إلى قوله:"فجعل فصه مما يلي كفه"، قال: وهو الذي سقط من معيقيب في بئر أريس.

وهذا يدلّ على أن نسبة سقوطه إلى عثمان نسبة مجازية، أو بالعكس، وأن عثمان طلبه من معيقيب، فختم به شيئًا، واستَمَرّ في يده، وهو مفكّر في شيء يعبث به، فسقط في البئر، أو ردّه إليه، فسقط منه، والأول هو الموافق لحديث أنس.

وقد أخرج النسائيّ من طريق المغيرة بن زياد، عن نافع هذا الحديث، وقال في آخره:"وفي يد عثمان ست سنين من عمله، فلما كثرت عليه الكتب دفعه إلى رجل من الأنصار، فكان يختم به، فخرج الأنصاريّ إلى قَليب لعثمان، فسقط، فالتُمِس فلم يوجد"

(1)

.

(نَقْشُه)؛ أي: نَقْش ذلك الخاتم؛ أي: الشيء المنقوش فيه، ("مُحَمَّد رَسُولُ اللهِ") زاد ابن سعد من مرسل ابن سيرين:"بسم الله، محمد رسول الله"، ولم يتابَع على هذه الزيادة، وقد أورده من مرسل طاوس، والحسن البصريّ، وإبراهيم النخعيّ، وسالم بن أبي الجعد، وغيرهم، ليس فيه الزيادة، وكذا وقع في الباب من حديث ابن عمر.

وأما ما أخرجه عبد الرزاق، عن معمر، عن عبد الله بن محمد بن عَقِيل، أنه أخرج لهم خاتَمًا، فزعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يلبسه، فيه تمثال أسد، قال معمر: فغسله بعض أصحابنا، فشربه، ففيه مع إرساله ضعف؛ لأن ابن عَقِيل

(1)

"الفتح" 13/ 359، كتاب "اللباس" رقم (5873).

ص: 741

مختلَف في الاحتجاج به إذا انفرد، فكيف إذا خالف؟ وعلى تقدير ثبوته، فلعله لبسه مرّةً قبل النهي، قاله في "الفتح"

(1)

.

وقوله: (قَالَ ابْنُ نُمَيْرٍ)؛ يعني: شيخه الثاني، وهو محمد بن عبد الله بن نُمير، قال في روايته عن أبيه:(حَتَّى وَقَعَ فِي بِئْرِ) بغير تنوين؛ للمضاف المحذوف تخفيفًا؛ أي: في بئر أريس، (وَلَمْ يَقُلْ: مِنْهُ)؛ أي: لم يزد لفظ: "منه"، وإنما ذَكَره يحيى بن يحيى، شيخه الأول، وظاهر هذا أن ابن نمير ذَكر لفظ:"في بئر أريس"، وإنما ترك ذِكر "أريس" هنا اختصارًا، والله تعالى أعلم.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [1/ 5465 و 5466] (

)، و (البخاريّ) في "اللباس"(5873)، و (الترمذيّ) في "الشمائل"(89 و 95)، و (النسائيّ) في "الزينة"(8/ 192) و"الكبرى"(5/ 450)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(8/ 463)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 22)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5495)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(5/ 262)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(6/ 371)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 142)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(3133 و 3134)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده

(2)

:

1 -

(منها): بيان جواز اتّخاذ الخاتم من الورق، قال النوويّ رحمه الله: وقد أجمع المسلمون على جواز خاتم الفضة للرجال، وكَرِه بعض علماء الشام المتقدِّمين لُبسه لغير ذي سلطان، ورووا فيه أثرًا، وهذا شاذّ مردود، قال الخطابيّ: ويُكره للنساء خاتم الفضة؛ لأنه من شعار الرجال، قال: فإن لم تجد خاتم ذهب فلتصفّره بزعفران وشِبهه، وهذا الذي قاله ضعيف، أو باطل،

(1)

"الفتح" 13/ 359، كتاب "اللباس" رقم (5873).

(2)

المراد فوائده على اختلاف ألفاظه، وطرقه، لا خصوص ما ساقه مسلم هنا، بل مع ما ذُكر في الشرح، فتنبّه.

ص: 742

لا أصل له، والصواب أنه لا كراهة في لُبسها خاتم الفضة. انتهى

(1)

.

2 -

(ومنها): التبرّك بآثار النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأما التبرّك بآثار غيره صلى الله عليه وسلم كما ادّعاه النوويّ ففيه نَظر لا يخفى؛ إذ ليسق هذا من هدي السلف؛ فإن الصحابة رضي الله عنهم كان أبو بكر أحبّ الناس إليهم بعده صلى الله عليه وسلم، فما كانوا يفعلوا ذلك معه، وكذا التابعون لم يتبرّكوا بآثار الصحابة رضي الله عنهم، حتى بالخلفاء الراشدين، فمن زعم ذلك فليأتنا بحجته، وهيهات، {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [النمل: 64].

3 -

(ومنها): بيان ما كان عليه الخلفاء الراشدون رضي الله عنهم من محبّته صلى الله عليه وسلم، واقتفاء آثاره، فقد تداولوا خاتمه صلى الله عليه وسلم مدّة خلافتهم حتى فُقد في عهد عثمان رضي الله عنه، قال القرطبيّ رحمه الله: وكون الخلفاء تداولوا خاتم النبيّ صلى الله عليه وسلم إنما كان ذلك تبركًا بآثاره صلى الله عليه وسلم، واقتداءً به، واستصحابًا لحاله؛ حتى كأنَّه حيٌّ معهم، ولم يزل أمرهم مستقيمًا متفقًا عليه في المدَّة التي كان ذلك الخاتم فيهم، فلما فُقِد اختلف الناس على عثمان رضي الله عنه، وطرأ من الفتن ما هو معروف، ولا يزال الْهَرْج إلى يوم القيامة. انتهى

(2)

.

وقال في "الفتح": قال بعض العلماء: كان في خاتمه صلى الله عليه وسلم، من السرّ شيء مما كان في خاتم سليمان عليه السلام؛ لأن سليمان لَمّا فقد خاتمه ذهب ملكه، وعثمان لَمّا فقد خاتم النبيّ صلى الله عليه وسلم انتقض عليه الأمر، وخرج عليه الخارجون، وكان ذلك مبدأ الفتنة، التي أفضت إلى قتله، واتصلت إلى آخر الزمان. انتهى.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي قاله البعض من أن انتظام مُلك سليمان عليه السلام كان على خاتمه يحتاج إلى ثبوت نقل صحيح، ولا أظنه يثبُت، فقد ذكر الإمام ابن كثير رحمه الله قضة خاتم سليمان في "تفسيره" عند قوله عز وجل:{وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ (34)} الآية [ص: 34]، مطوّلة، ومختصرة عن ابن عبّاس رضي الله عنهما، ثم قال: إسناده إلى اين عبّاس رضي الله عنهما قويّ، ولكن الظاهر أنه إنما تلقّاه ابن عبّاس رضي الله عنهما، إن صحّ عنه من أهل الكتاب، وفيهم طائفة لا يعتقدون نبوّة سليمان عليه السلام، فالظاهر أنهم يكذبون عليه. انتهى كلام ابن كثير باختصار.

(1)

"شرح النوويّ" 14/ 67.

(2)

"المفهم" 5/ 411.

ص: 743

والحاصل أن بُطلان ما يُحكى في قصّة خاتم سليمان عليه السلام ظاهر، فلا يُغترّ بما كتبه بعض المفسّرين الذين لا هَمّ لهم إلا جَمْع الغثّ والسمين، وتضخيم كتبهم بالقصص الباطلة، والترّهات العاطلة، {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة: 156].

4 -

(ومنها): أن فيه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يورَث؛ إذ لو وُرِث لدُفع خاتمه إلى ورثته، بل كان الخاتم، والقدح، والسلاح، ونحوها، من آثاره الضرورية صدقة للمسلمين، يصرفها والي الأمر حيث رأى من المصالح، فجَعَل القَدَح عند أنس؛ إكرامًا له لخدمته، ومن أراد التبرك به لم يمنعه، وجَعَل باقي الأثاث عند ناس معروفين، واتّخَذ الخاتم عنده للحاجة التي اتخذه النبيّ صلى الله عليه وسلم لها، فإنها موجودة في الخليفة بعده، ثم الخليفة الثاني، ثم الثالث. انتهى.

وتعقّبه الحافظ قول النوويّ: "وإلا لدُفع خاتمه

إلخ"، فقال: وفيه نظر؛ لجواز أن يكون الخاتم اتُّخِذ من مال المصالح، فانتقل للإمام؛ لينتفع به فيما صُنع له.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن ما قاله النوويّ رحمه الله هو الظاهر، فلا معنى لتعقّب صاحب "الفتح" عليه، فتبصّر. والله تعالى أعلم.

5 -

(ومنها): جواز نقش الخاتم، ونقش اسم صاحب الخاتم، وجواز نقش اسم الله تعالى، قال النوويّ رحمه الله: هذا مذهبنا، ومذهب سعيد بن المسيِّب، ومالك، والجمهور، وعن ابن سيرين، وبعضهم كراهة نقش اسم الله تعالى، وهذا ضعيف، قال العلماء: وله أن ينقش عليه اسم نفسه، أو ينقش عليه كلمة حكمة، وأن ينقش ذلك مع ذكر الله تعالى. انتهى

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: فيه دليل على جواز نقش اسم صاحب الخاتم على خاتمه، إلا أن يكون اسمه محمدًا فلا يجوز النقش عليه؛ للنهي عن ذلك، وعلى جواز نقش اسم الله تعالى عليه، أو كلمة حكمة، أو كلمات من القرآن، ثم إذا نقش عليه اسم الله تعالى، وجعله في شماله؛ فهل يدخل به الخلاء، ويستنجي بشماله؟ خفَّفه سعيد بن المسيب، ومالك، وبعض أصحابه، ورُوي

(1)

"شرح النوويّ" 14/ 68.

ص: 744

عنه الكراهة، وهي الأَولى. انتهى

(1)

6 -

(ومنها): ما قاله ابن بطال رحمه الله: يؤخذ من الحديث أن يسير المال إذا ضاع، يجب البحث في طلبه، والاجتهاد في تفتيشه، وقد فعل صلى الله عليه وسلم ذلك لَمّا ضاع عقد عائشة رضي الله عنهما، وحُبِس الجيشُ على طلبه، حتى وُجد.

واعترضه الحافظ رحمه الله فقال: كذا قال، وفيه نظر، فأما عقد عائشة، فقد ظهر أثر ذلك بالفائدة العظيمة، التي نشأت عنه، وهي رخصة التيمم، فكيف يقاس عليه غيره؟ وأما فعل عثمان فلا ينهض الاحتجاج به أصلًا؛ لِمَا ذُكر؛ لأن الذي يظهر أنه إنما بالغ في التفتيش عليه؛ لكونه أَثَر النبيّ صلى الله عليه وسلم، قد لَبِسه، واستعمله، وخَتَم به، ومثل ذلك يساوي في العادة قدرًا عظيمًا من المال، وإلا لو كان غير خاتم النبيّ صلى الله عليه وسلم، لاكتفى بطلبه بدون ذلك، وبالضرورة يُعلم أن قدر المؤنة التي حصلت في الأيام الثلاثة، تزيد على قيمة الخاتم، لكن اقتضت صفته عِظَمَ قَدْرِه، فلا يقاس عليه كل ما ضاع من يسير المال.

7 -

(ومنها): أنه يستفاد من قوله في حديث أنس رضي الله عنه: "فأخرج الخاتم، فجعل يعبث به" أن مِنْ فِعل الصالحين العبث بخواتيمهم، وما يكون بأيديهم، وليس ذلك بعائب لهم.

قال الحافظ: "وإنما كان كذلك؛ لأن ذلك من مِثْلهم، إنما ينشأ عن فِكر، وفكرتهم إنما هي في الخير.

8 -

(ومنها): أن العبث اليسير بالشيء حال التفكر لا عيب فيه.

9 -

(ومنها): أن من طلب شيئًا، ولم ينجح فيه بعد ثلاثة أيام، أن له أن يتركه، ولا يكون بعد الثلاث مضيِّعًا، وأن الثلاث حدٌّ يقع بها العذر في تعذّر المطلوبات. قاله ابن بطّال رحمه الله.

10 -

(ومنها): أن فيه حفظَ الخاتم الذي يُختَم به تحت يد أمين، إذا نزعه الكبير من إصبعه؛ لأن عثمان رضي الله عنه كان يدفعه إلى معيقيب رضي الله عنه.

11 -

(ومنها): أن يسير المال إذا ضاع لا يُهْمَل طلبه، ولا سيما إذا كان مِنْ أَثَره صلى الله عليه وسلم. والله تعالى أعلم بالصواب.

(1)

"المفهم" 5/ 411.

ص: 745

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5466]

(

) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَمْرٌو النَّاقِدُ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادٍ، وَابْنُ أَبِي عُمَرَ - وَاللَّفْظُ لأَبِي بَكْرٍ - قَالُوا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ أَيُّوبَ بْنِ مُوسَى، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: اتَّخَذَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ، ثُمَّ ألقَاهُ، ثُمَّ اتَّخَذَ خَاتَمًا مِنْ وَرِقٍ، وَنَقَشَ فِيهِ:"مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ"، وَقَالَ: "لَا يَنْقُشْ

(1)

أَحَدٌ عَلَى نَقْشِ خَاتَمِي هَذَا"، وَكَانَ إِذَا لَبِسَهُ جَعَلَ فَصَّهُ مِمَّا يَلِي بَطْنَ كَفِّه، وَهُوَ الَّذِي سَقَطَ مِنْ مُعَيْقِيبٍ في بِئْرِ أَرِيسٍ).

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(عَمْرٌو النَّاقِدُ) ابن محمد بن بُكير، تقدّم قريبًا.

2 -

(ابْنُ أبِي عُمَرَ) محمد بن يحيى بن أبي عمر العدني، ثم المكيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

3 -

(سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ) الإمام الشهير، تقدّم أيضًا قريبًا.

4 -

(أَيُّوبُ بْنُ مُوسَى) بن عمرو بن سعيد بن العاص الأمويّ، أبو موسى المكيّ، ثقةٌ [6](ت 132)(ع) تقدم في "الحيض" 11/ 750.

والباقون ذُكروا في الباب، وقبله.

شرح الحديث:

(عَنِ ابْنِ عُمَرَ) رضي الله عنهما أنه (قَالَ: اتَّخَذَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ، ثُمَّ ألقَاهُ)؛ أي: رماه لنزول الوحي عليه بتحريم لُبسه، (ثُمَّ اتَّخَذَ خَاتَمًا مِنْ وَرِقٍ، وَنَقَشَ فِيهِ: "مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ"، وقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("لَا يَنْقُشْ) وفي بعض النُّسخ: "لا ينقشنّ" بنون التوكيد. (أحَدٌ عَلَى نَقْشِ خَاتَمِي هَذَا") إنما نهاهم عن ذلك؛ لأنه إنما اتّخذ الخاتم، ونقش فيه ليختم به كُتُبه إلى ملوك العجم، وغيرهم، فلو نَقَش غيره مثله لدخلت المفسدة، وحصل الخلل، قاله النوويّ رحمه الله

(2)

. (وَكَانَ) صلى الله عليه وسلم (إِذَا لَبِسَهُ)؛ أي: ذلك الخاتم، (جَعَلَ فَصَّهُ مِمَّا يَلِي بَطْنَ كَفِّهِ)؛ لأنه أصون له، وأسلم، وأبعد من الزهو والإعجاب، (وَهُوَ)؛ أي: ذلك الخاتم (الَّذِي سَقَطَ

(1)

وفي نسخة: "لا ينقشنّ".

(2)

"شرح النوويّ" 14/ 68.

ص: 746

مِن مُعَيْقِيبٍ) بقاف، وآخره موحّدة، مصغرًا بن أبي فاطمة الدوسيّ، حليف بني عبد شمس، من السابقين الأولين، هاجر الهجرتين، وشهِد المشاهد، وولي بيت المال لعمر، ومات في خلافة عثمان، أو عليّ رضي الله عنهم، تقدّمت ترجمته في "المساجد ومواضع الصلاة" 12/ 1224.

(فِي بِئْرِ أَرِيسٍ) متعلّق بـ "سقط"، وهي بفتح الهمزة، وكسر الراء، وبالسين المهملة: بئر معروفة قريبة من قُباء، وهي مصروفة.

وفي حديث أنس رضي الله عنه عند البخاريّ من طريق ثمامة بن عبد الله، عن أنس، أن أبا بكر رضي الله عنه لمّا استُخلف كُتِب له، وكان نقش الخاتم ثلاثة أسطر:"محمد" سطر، و"رسول" سطر و"الله" سطر.

وفي رواية أخرى: قال: كان خاتم النبيّ صلى الله عليه وسلم في يده، وفي يد أبي بكر بعده، وفي يد عمر بعد أبي بكر، فلما كان عثمان جلس على بئر أريس، قال: فأخرج الخاتم، فجعل يعبث به، فسقط، قال: فاختلفنا ثلاثة أيام مع عثمان، فنزح البئر، فلم يجده.

وفي رواية النسائيّ من طريق المغيرة بن زياد، قال: حدّثنا نافع، عن ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لبس خاتَمًا من ذهب ثلاثة أيام، فلما رآه أصحابه فَشَت خواتيم الذهب، فرَمَى به، فلا ندري ما فَعَل، ثم أمر بخاتم من فضة، فأمر أن ينقش فيه محمد رسول الله، وكان في يد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى مات، وفي يد أبي بكر حتى مات، وفي يد عمر حتى مات، وفي يد عثمان ست سنين من عمله، فلما كَثُرت عليه الكُتُب دفعه إلى رجل من الأنصار، فكان يختم به، فخرج الأنصاريّ إلى قليب لعثمان، فسقط، فالتُمِس فلم يوجد، فأمر بخاتم مثله، ونَقَش فيه محمد رسول الله

(1)

.

فقد اختلفت الروايات، فرواية الشيخين تدلّ على أنه سقط من يد عثمان رضي الله عنه نفسه في بئر أريس، ورواية مسلم تدلّ على أنه سقط من يد مُعيقيب في بئر أريس، ورواية النسائيّ تدلّ على كونه سقط من يد الأنصاريّ في بئر عثمان.

(1)

"سنن النسائيّ - المجتبى" 8/ 178.

ص: 747

ويمكن أن يُجمع بينها بأن نسبة السقوط إلى عثمان مجازيّة، أو بالعكس، أو أن عثمان طلبه من معيقيب، فختم به شيئًا، واستمرّ في يده، وهو مفكّر في شيء، يعبث به، فسقط في البئر، أو ردّه إليه، فسقط منه، والأول هو الموافق لحديث أنس. أفاده في "الفتح".

وأما الذي وقع في رواية النسائيّ بأن عثمان رضي الله عنه دفعه إلى رجل من الأنصار، فسقط من يد الأنصاريّ في بئر عثمان رضي الله عنه فالظاهر أنها غير محفوظة؛ لمخالفة المغيرة بن زياد فيها لعبيد الله بن عمر، وهو من أثبت الناس في نافع، وأما المغيرة، فصدوقٌ له أوهام، كما قال في "التقريب"، فالظاهر أن هذا من أوهامه، وأيضًا إن رواية عبيد الله موافقة لحديث أنس رضي الله عنه، كما سبق.

[فإن قلت]: ألا يمكن الجمع بحمل الأنصاريّ على أنه معيقيب، وبئر عثمان على أنها بئر أريس؟.

[قلت]: هذا غير صحيح؛ لأن معيقيبًا مهاجريّ، من السابقين الأولين الذين هاجروا إلى الحبشة، وليس أنصاريًّا، وبئر أريس لم أر من قال: إنها لعثمان رضي الله عنه، بل هي بئر معروفة قريبة من قباء.

والحاصل أن المحفوظ في القصّه هو الذي في رواية عبيد الله بن عمر، فتبصّر. والله تعالى أعلم بالصواب.

والحديث تقدّم تمام البحث فيه فيما قبله، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5467]

(2092) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَخَلَفُ بْنُ هِشَامٍ، وَأَبُو الرَّبِيعِ الْعَتَكِيُّ، كُلُّهُمْ عَنْ حَمَّادٍ - قَالَ يَحْيَى: أَخْبَرَنَا حَمَّادُ بْنُ زيدٍ - عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ، عَنْ أنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ النَّبِيَّ رضي الله عنه اتخَذَ خَاتَمًا مِنْ فِضةٍ، وَنَقَشَ فِيهِ:"مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ"، وَقَالَ لِلنَّاسِ:"إِنِّي اتَخَذْتُ خَاتَمًا مِنْ فِضَّةٍ، وَنَقَشْتَ فِيهِ: "مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ"، فَلَا يَنْقُشْ

(1)

أَحَدٌ عَلَى نَقْشِهِ".

(1)

وفي نسخة: "فلا ينقشنّ".

ص: 748

رجال هذا الإسناد: ستّة:

1 -

(خَلَفُ بْنُ هِشَامِ) بن ثعلبة البزّار المقرئ البغداديّ، ثقةٌ [10](ت 229)(م د) تقدم في "الإيمان" 6/ 124.

2 -

(عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ صُهَيْبٍ) البُنانيّ البصريّ، تقدّم قريبًا.

3 -

(أنَسُ بْنُ مَالِكٍ) رضي الله عنه تقدّم أيضًا قريبًا.

والباقون ذُكروا في الباب، وقبل بابين، و"أبو الربيع" هو: سليمان بن داود الزهرانيّ.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من رباعيّات المصنّف: رحمه الله، وهو (417) من رباعيّات الكتاب، وأنه مسلسلٌ بالبصريين من حمّاد، وفيه أنس رضي الله عنه من المكثرين السبعة، روى (2286) حديثًا.

شرح الحديث:

(عَنْ أَنَسَ بْنِ مَالِكٍ) رضي الله عنه (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اتَّخَذَ خَاتَمًا مِنْ فِضَّةٍ، وَنَقَشَ فِيهِ) بالبناء للفاعل؛ أي: أمر بأن يُنقش فيه، ويَحْتَمِل أن يكون بالبناء للمفعول، وقوله:(مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ) مبتدأ وخبره، وهو هنا محكيّ؛ لِقَصْد لَفْظه، مفعول به على الأول، ونائب فاعل على الثاني. (وَقَالَ) صلى الله عليه وسلم (لِلنَّاسِ:"إِنِّي اتَّخَذْتُ) وفي لفظ للبخاريّ: "إنا اتّخذنا" بصيغة الجمع، وهي للتعظيم هنا، والمراد: اتّخذت، (خَاتَمًا مِنْ فِضةٍ) وفي رواية البخاريّ: "إني اتّخذت خاتمًا من وَرِقٍ" (وَنَقَشْتُ فِيهِ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله، فَلَا يَنْقُشْ) وفي بعض النُّسخ: "فلا ينقشنّ" بنون التوكيد، (أَحَدٌ عَلَى نَقْشِهِ")؛ أي: على مِثل نَقْشه، وأخرج الترمذيّ من طريق معمر، عن ثابت، عن أنس نحوه، وقال فيه:"ثم قال: لا تنقشوا عليه"، وأخرج الدارقطنيّ في "الأفراد" من طريق سلمة بن وَهْرَام، عن عكرمة، عن يعلى بن أمية، قال:"أنا صنعت للنبيّ صلى الله عليه وسلم خاتَمًا، لم يَشْرَكني فيه: أحد، نَقَش فيه: محمد رسول الله"، فيستفاد منه اسم الذي صاغ خاتم النبيّ صلى الله عليه وسلم ونَقَشه.

وقد أخرج ابن أبي شيبة في "المصنف" عن ابن عمر، أنه نقش على خاتمه: عبد الله بن عمر، وكذا أخرج عن سالم، عن عبد الله بن عمر، أنه

ص: 749

نقش اسمه على خاتمه، وكذا القاسم بن محمد، قال ابن بطال: وكان مالك يقول: من شأن الخلفاء، والقضاة نَقْش أسمائهم في خواتمهم.

وأخرج ابن أبي شيبة عن حذيفة، وأبي عبيدة، أنه كان نقش خاتم كل واحد منهما:"الحمد لله"، وعن عليّ:"الله الملك"، وعن إبراهيم النخعيّ:"بالله"، وعن مسروق:"بسم الله"، وعن أبي جعفر الباقر:"العزة لله"، وعن الحسن، والحسين: لا بأس بنقش ذِكر الله على الخاتم.

قال النوويّ: وهو قول الجمهور، ونقل عن ابن سيرين، وبعض أهل العلم كراهته. انتهى.

وقد أخرج ابن أبي شيبة بسند صحيح، عن ابن سيرين أنه لم يكن يرى بأسًا أن يَكْتُب الرجل في خاتمه: حسبي الله، ونحوها، فهذا يدلّ على أن الكراهة عنه لم تثبت.

ويمكن الجمع بأن الكراهة حيث يُخاف عليه حَمْله للجُنُب، والحائض، والاستنجاء بالكفّ التي هو فيها، والجواز حيث حصل الأمن من ذلك، فلا تكون الكراهة لذلك، بل من جهة ما يعرض لذلك. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أنس بن مالك رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [11/ 5467 و 5468](2092)، و (البخاريّ) في "اللباس"(5874 و 5877)، و (الترمذيّ) في "اللباس"(1745)، و (النسائيّ) في "الزينة"(8/ 176 و 193) و"الكبرى"(5/ 454)، و (ابن ماجه) في "اللباس"(3640)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(19465)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(8/ 456)، و (أحمد) في "مسنده"(161/ 3 و 187 و 290)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5497 و 5498)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(5/ 363)،

(1)

"الفتح" 13/ 373، كتاب "اللباس" رقم (5877).

ص: 750

و (البيهقيّ) في "الكبرى"(10/ 128) و"شُعب الإيمان"(5/ 201)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(3137)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): ذكر البخاريّ رحمه الله كيفيّة نقش "محمد رسول الله" في الخاتم، فقال في "صحيحه":

(5878)

- حدّثني محمد بن عبد الله الأنصاريّ، قال: حدّثني أبي، عن ثمامة، عن أنس، أن أبا بكر رضي الله عنه لَمّا استُخْلِف كَتَب له، وكان نقش الخاتم ثلاثة أسطر: محمد سطر، ورسولُ سطر، والله سطر. انتهى

(1)

.

قال في "الفتح": قوله: "وكان نقش الخاتم ثلاثة أسطر

إلخ" هذا ظاهره أنه لم يكن فيه زيادة على ذلك، لكن أخرج أبو الشيخ في "أخلاق النبيّ صلى الله عليه وسلم " من رواية عرعرة بن البرند - بكسر الموحدة، والراء، بعدها نون ساكنة، ثم دال - عن عزرة - بفتح المهملة، وسكون الزاي، بعدها راء - ابن ثابت، عن ثمامة، عن أنس، قال: كان فصّ خاتم النبيّ صلى الله عليه وسلم حبشيًّا مكتوبًا عليه: "لا إله إلا الله محمد رسول الله"، وعرعرة ضعّفه ابن المدينيّ، وزيادته هذه شاذّة، وظاهره أيضًا أنه كان على هذا الترتيب، لكن لم تكن كتابته على السياق العاديّ، فإن ضرورة الاحتياج إلى أن يُختم به يقتضي أن تكون الأحرف المنقوشة مقلوبة؛ ليخرج الختم مستويًا.

وأما قول بعض الشيوخ: إن كتابته كانت من أسفل إلى فوقُ؛ يعني: أن لفظ الجلالة في أعلى الأسطر الثلاثة، ومحمد في أسفلها، فلم أر التصريح بذلك في شيء من الأحاديث، بل رواية الإسماعيليّ يخالف ظاهرُها ذلك، فإنه قال فيها: محمد سطر، والسطر الثاني رسول، والسطر الثالث الله، ولك أن تقرأ محمد بالتنوين، ورسول بالتنوين وعدمه، والله بالرفع، وبالجر. انتهى

(2)

.

وقد ذكر الحافظ العراقيّ رحمه الله صفة خاتم النبيّ صلى الله عليه وسلم في "ألفيّة السيرة"، فقال:

(1)

"صحيح البخاريّ" 5/ 2205.

(2)

"الفتح" 13/ 375، كتاب "اللباس" رقم (5877).

ص: 751

خَاتَمُهُ مِنْ فِضَّةٍ وَفَصُّهُ

مِنْهُ وَنَقْشُهُ عَلَيْهِ نَصُّهُ

"مُحَمَّدٌ" سَطْرٌ وَ"رَسُولُ" سَطْرُ

"اللهِ" سَطْرٌ لَيْسَ فِيهِ كَسْرُ

وَفَصُّهُ لِبَاطِنٍ يَخْتِمُ بِهْ

وَقَالَ لَا يُنْقَشْ عَلَيْهِ يَشْتَبِهْ

يَلْبَسُهُ كَمَا رَوَى الْبُخَارِي

فِي خِنْصِرِ يَمِينٍ أوْ يَسَارِ

كِلَاهُمَا فِي مُسْلِمٍ ويُجْمَعُ

بِأَنَّ ذَا فِي حَالَتَيْنِ يَقَعُ

أَو خَاتَمَيْنِ كُلُّ وَاحِدٍ بِيَدْ

كَمَا بِفَصٍّ حَبَشِيٍّ قَدْ وَرَدْ

والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5468]

(

) - (وَحَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، قَالُوا: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ - يَعْنُونَ: ابْنَ عُلَيَّةَ - عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ، عَنْ أنسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِهَذَا، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْحَدِيثِ: "مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ رضي الله عنه").

رجال هذا الإسناد: ستّةٌ:

1 -

(أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ) الإمام الحجة المجتهد، تقدّم قريبًا.

2 -

(إِسْمَاعِيلُ ابْنُ عُلَيَّةَ) تقدّم قبل باب.

والباقون ذُكروا في الباب، وقبله.

[تنبيه]: رواية إسماعيل ابن عُليّة عن عبد العزيز بن صُهيب ساقها ابن ماجه رحمه الله في "سننه"، فقال:

(3640)

- حدّثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا إسماعيل ابن عُليّة، عن عبد العزيز بن صُهيب، عن أنس بن مالك، قال: اصطنع رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتَمًا، فقال:"إنا قد اصطنعنا خاتَمًا، ونقشنا فيه نقشًا، فلا ينقش عليه أحد". انتهى

(1)

.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(1)

"سنن ابن ماجه" 2/ 1201.

ص: 752

(12) - (بَابٌ فِي اتِّخَاذِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم خَاتَمًا لَمَّا أَرَادَ أَنْ يَكْتُبَ إِلَى الْعَجَمِ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5469]

(

) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ ابْنُ الْمُثَنَّى: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدُّثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: سَمِعْتُ قَتَادَةَ يُحَدِّثُ عَنْ أنسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: لَمَّا أرَادَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَكْتُبَ إِلَى الرُّوم، قَالَ: قَالُوا: إِنَّهُمْ لَا يَقْرَءُونَ كتَابًا إِلَّا مَخْتُومًا، قَالَ: فَاتَّخَذَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَاتَمًا مِنْ فِضةٍ، كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى بَيَاضِهِ في يَدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَقْشُهُ: مُحَمَّد رَسُولُ اللهِ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

وكلهم تقدّموا قريبًا.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنف رحمه الله، وأن شيخيه من التسعة الذين روى عنهم الجماعة بلا واسطة، وأنه مسلسل بثقات البصريين، وفيه قتادة، وهو مدلّس، وقد عنعنه، إلا أن الراوي عنه شعبة، وهو لا يروي عن المدلّسين إلا ما صرّحوا فيه بالتحديث، وفيه أنس رضي الله عنه أحد المكثرين السبعة، روى (2286) حديثًا، وهو آخر من مات من الصحابة بالبصرة، مات سنة (2) أو (93) وقد جاوز المائة. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ أنسِ بْنِ مَالِكٍ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: لَمَّا أَرَادَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَكْتُبَ) نسبة الكتابة إليه صلى الله عليه وسلم مجازيّة؛ أي: أراد أن يأمر الكاتب ليكتب له، نحو: كتب الأمير كتابًا؛ أي: كتبه الكاتب بأمره، والقرينة للمجاز: العُرف؛ لأن العرف أن الأمير لا يكتب الكتاب بنفسه

(1)

.

(إِلَى الرُّومِ) بالضمّ: جِيلٌ من ولد الرُّوم ابن عيصو. قاله في "القاموس".

(1)

"عمدة القاري" 2/ 29.

ص: 753

(قَالَ) أنس رضي الله عنه (قَالُوا) في مرسل طاوس عند ابن سعد أن قريشًا هم الذين قالوا ذلك للنبيّ صلى الله عليه وسلم. قاله في "الفتح". وفيه دليلٌ على أنه صلى الله عليه وسلم ما اتخذ خاتمًا إلا عند الحاجة إليه، فالأصل تَرْكه. وقال الخطّابيّ: وذلك لأن الخاتم ما كان من عادة العرب لُبسه. انتهى. (إِنَّهُمْ)؛ أي: الروم، (لَا يَقْرَءُونَ كتَابًا) مفعول يقرءون، وهو مفعول به؛ لأن الكتاب هنا اسمٌ غير مصدر، (إِلَّا مَخْتُومًا) منصوب على الاستثناء لأنه من كلام تامّ غير موجب، وهو مِن خَتَمْتُ الشيءَ ختمًا، فهو مختوم، ومُخَتَّم شُدِّد للمبالغة، وختم الله له بالخير، وختمت القرآن: بلغت آخره، واختتمت الشيء: نقيض افتتحت، قاله في "العمدة"

(1)

.

وقال الفيّوميّ رحمه الله: خَتَصْتُ الكتابَ، ونحوه خَتْمًا، وختمت عليه، من باب ضرب: طبعتُ، ومنه الخاتم حَلْقة ذات فصّ من غيرها، فإن يكن لها فصّ، فهي فَتَخَةٌ، بفاء، وتاء مثنّاة من فوقُ، وخاء معجمة، وزانُ قَصَبَة. وقال الأزهريّ: الخاتِم بالكسر الفاعل، وبالفتح ما يوضع على الطينة، والخِتام ككتاب: الطين الذي يُختم به على الكتاب. انتهى

(2)

بزيادة يسيرة.

وقال في "العمدة": قوله: "لا يقرأون الكتاب إلا مختومًا"، وكانوا لا يقرأون إلا مختومًا خوفًا من كشف أسرارهم، وإشعارًا بأن الأحوال المعروضة عليهم ينبغي أن يكون مما لا يطّلع عليها غيرهم، وعن أنس: إنّ ختم كتاب السلطان، والقضاة سُنَّة متبعة، وقد قال بعضهم: هو سُنَّةٌ؛ لفعل النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقد قيل في قوله تعالى:{إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ} [النمل: 29]: إنها إنما قالت ذلك لأنه كان مختومًا، وفي ذلك أيضًا مخالقة الناس بأخلاقهم، واستئلاف العدوّ بما لا يضرّ، وقد جاء في بعض طرقه عن أنس رضي الله عنه:"لمّا أراد النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يكتب إلى الروم"، وفي بعضها:"إلى الرهط، أو الناس من الأعاجم"، وفي مسلم: "أراد أن يكتب إلى كسرى، وقيصر، والنجاشيّ، فقيل له: إنهم لا يقبلون كتابًا إلا بخاتم

"، وذكر الحديث. انتهى

(3)

.

(قَالَ) أنس (فَاتَّخَذَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَاتَمًا مِنْ فِضَّةٍ)؛ أي: أمر بصياغة

(1)

"عمدة القاري" 2/ 29.

(2)

"المصباح المنير" 1/ 163.

(3)

"عمدة القاري" 2/ 30.

ص: 754

خاتمِ من فضّة، فلبسه، أو وجده مصوغًا، فاتّخذه، وقوله:"خاتمًا" مفعول "اتّخَذ"، وكلمة "مِنْ" في "من فضة" بيانية. (كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى بَيَاضِهِ) أصل "كأن" للتشبيه، لكنها ههنا للتحقيق، ذكره الكوفيون، والزجاج، ومع هذا لا يخلو عن معنى التشبيه، قاله في "العمدة"

(1)

، وفي رواية للبخاريّ:"إلى وبيص خاتمه"، وهو بفتح الواو، وكسر الموحّدة؛ كالبَريق وزنًا ومعنًى، وفي رواية له:"إلى بريقه". (فِي يَدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) قال في "العمدة": فإن قلت: الخاتم ليس في اليد، بل في الإصبع، قلت: هذا من قبيل إطلاق الكل وإرادة الجزء، فإن قلت: الإصبع في خاتم، لا الخاتم في الإصبع، قلت: هو من باب القلب، نحو: عَرَضت الناقةَ على الحوض. انتهى

(2)

.

(نَقْشُهُ) مبتدأ خبره قوله: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ) قال في "العمدة": قوله: "نقشه" كلام إضافيّ مرفوع بالابتداء، وقوله:"محمد رسول الله" جملة اسمية من المبتدأ والخبر خبر المبتدأ.

[فإن قلت]: الجملة إذا وقعت خبرًا لا بدّ لها من عائد.

[قلت]: إذا كان الخبر عَيْن المبتدأ لا حاجة إليه، قال الكرمانيّ: وهي وإن كانت جملة، ولكنها في تقدير المفرد، تقديره: نَقْشُه هذه الكلمات، وتعقّبه العينيّ بأن هذه الكلمات أيضًا جملة؛ لأنها مبتدأ وخبر. انتهى

(3)

.

قال الجامع عفا الله عنه: تعقّب العينيّ على الكرمانيّ هذا غير صحيح، وليس "هذه الكلمات" مبتدأ وخبرًا، بل لفظ "هذه" هو الخبر، و"الكلمات" نعتٌ، أو بدل، أو عطْفُ بيان، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

وفي الرواية الآتية: "ونقش فيه: محمد رسول الله"، وهو بالبناء للفاعل؛ أي: أمَر بنقشه، و"محمدٌ رسول الله" مبتدأ وخبر، محكيّ لقصد لفظه، مفعول به لـ"نَقَشَ"، ويَحْتَمِل أن يكون الفعل مبنيًّا للمفعول، و"محمدٌ رسول الله" نائب فاعله محكيّ أيضًا، والله تعالى أعلم.

(1)

"عمدة القاري" 2/ 29.

(2)

"عمدة القاري" 2/ 29 - 23.

(3)

"عمدة القاري" 2/ 29.

ص: 755

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أنس بن مالك رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [12/ 5469 و 5470 و 5471](2092)، و (البخاريّ) في "العلم"(65) و"اللباس"(5872 و 5875 و 58 و 7162)، و (أبو داود) في "اللباس"(4215 و 4224)، و (الترمذيّ) في "اللباس"(2718)، و (النسائيّ) في "الزينة"(8/ 174 و 193)، و"الكبرى"(3/ 436 و 5/ 266 و 451)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 168 و 170 و 180 و 198 و 223 و 275)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 275)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(6/ 30)، و (ابن الجعد) في "مسنده"(1/ 146)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(10/ 128) و"شُعب الإيمان"(5/ 195)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان جواز كتابة العالِم بالعلم إلى البلدان.

2 -

(ومنها): بيان جواز الكتابة إلى الكفار.

3 -

(ومنها): بيان وجوب العمل بما تضمّنه الكتاب، وقيام الحجة على المكتوب إليه.

4 -

(ومنها): بيان مشروعيّة خَتْم الكتاب للسلطان، والقضاة، والحكام.

5 -

(ومنها): بيان جواز استعمال الفضة للرجال عند التختم، وهو ما أُجمع عليه، كما قاله القاضي عياض رحمه الله.

6 -

(ومنها): بيان جواز نَقْش الخاتم، ونَقْش اسم صاحب الخاتم، وكذا نَقْش اسم الله تعالى فيه، بل فيه كونه مندوبًا، وهو قول مالك، وابن المسيب، وغيرهما، وكَرِهه ابن سيرين، وأما نهيه صلى الله عليه وسلم أن ينقش أحد على نقش خاتمه، فلأنه إنما نَقَش فيه ذلك ليختم به كُتُبه إلى الملوك، فلو نُقش على نقشه لدخلت المفسدة، وحصل الخلل.

7 -

(ومنها): ما قال الخطابيّ رحمه الله: لم يكن لباس الخاتم من عادة العرب، فلما أراد النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يكتب إلى الملوك اتخذ الخاتم، واتخذه من ذهب، ثم رجع عنه؛ لِمَا فيه من الزينة، ولمَا يُخشَى من الفتنة، وجَعَل فصّه

ص: 756

مما يلي باطن كفه؛ ليكون أبعد من التزين، قال الحافظ العراقيّ رحمه الله في "شرح الترمذيّ": دعواه أن العرب لا تَعرف الخاتم عجيبة، فإنه عربيّ، وكانت العرب تستعمله. انتهى، قال الحافظ: ويَحتاج إلى ثبوت لُبسه عن العرب، وإلا فكونه عربيًّا، واستعمالهم له في ختم الكتب لا يَرِد على عبارة الخطابيّ.

وقال الطحاويّ - بعد أن أخرج الحديث الذي أخرجه أحمد، وأبو داود، والنسائيّ عن أبي ريحانة قال:"نَهَى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لبس الخاتم إلا لذي سلطان" -: ذهب قوم إلى كراهة لبس الخاتم إلا لذي سلطان، وخالفهم آخرون، فأباحوه، ومن حجتهم حديث أنس المتقدّم:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لمّا ألقى خاتمه ألقى الناس خواتيمهم"، فإنه يدلّ على أنه كان يَلْبَس الخاتم في العهد النبويّ من ليس ذا سلطان.

[فإن قيل]: هو منسوخ.

[قلنا]: الذي نسخ منه لُبس خاتم الذهب، قال الحافظ: أو لُبس خاتم منقوش عليه نقش خاتم النبيّ صلى الله عليه وسلم كما تقدم تقريره.

ثم أورد عن جماعة من الصحابة، والتابعين، أنهم كانوا يلبسون الخواتم، ممن ليس له سلطان. انتهى.

ولم يُجِب عن حديث أبي ريحانة، قال الحافظ: والذي يظهر أن لبسه لغير ذي سلطان خلاف الأَولى؛ لأنه ضربٌ من التزين

(1)

، واللائق بالرجال خلافه، وتكون الأدلة الدالّة على الجواز هي الصارفة للنهي عن التحريم، ويؤيده أن في بعض طرقه: "نَهَى عن الزينة، والخاتم

" الحديث.

ويمكن أن يكون المراد بالسلطان: من له سلطنة على شيء ما يحتاج إلى الختم عليه، لا السلطان الأكبر خاصّة، والمراد بالخاتم: ما يُختم به، فيكون لُبسه عَبَثًا، وأما من لَبِس الخاتم الذي لا يُختم به، وكان من الفضة للزينة، فلا يدخل في النهي، وعلى ذلك يُحمل حال من لَبِسه، ويؤيده ما ورد من صفة نقش خواتم بعض من كان يلبس الخواتم مما يدلّ على أنها لم تكن بصفة ما يُختم به.

(1)

هذا فيه نظر، فإن التزيّن ليس ممنوعًا للرجال، فتنبّه.

ص: 757

وقد سئل مالك عن حديث أبي رَيحانة فضعّفه، وقال: سأل صدقةُ بن يسار سعيدَ بن المسيِّب، فقال: الْبَسِ الخاتمَ، وأخبر الناسَ أني قد أفتيتك، والله أعلم. انتهى

(1)

.

[تكملة]: جزم أبو الفتح اليعمريّ أن اتخاذ النبيّ صلى الله عليه وسلم للخاتم كان في السنة السابعة، وجزم غيره بأنه كان في السادسة، ويُجمَع بأنه كان في أواخر السادسة، وأوائل السابعة؛ لأنه إنما اتخذه عند إرادته مكاتبة الملوك، كما تقدم، وكان إرساله إلى الملوك في مدة الْهُدْنة، وكان في ذي القعدة سنة ستّ، ورجع إلى المدينة في ذي الحجة، ووَجَّه الرسل في المحرّم من السابعة، وكان اتخاذه الخاتم قبل إرساله الرسل إلى الملوك، قاله في "الفتح"

(2)

، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5470]

(

) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أنَسٍ، أَنَّ نَبِيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ أَرَادَ أَنْ يَكْتُبَ إِلَى الْعَجَمِ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ الْعَجَمَ لَا يَقْبَلُونَ إِلَّا كِتَابًا عَلَيْهِ خَاتَمٌ، فَاصْطَنَعَ خَاتَمًا مِنْ فِضَّةٍ، قَالَ: كَأَنِّي أنظُرُ إِلَى بَيَاضِهِ فِي يَدِهِ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ) الدستوائيّ البصريّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(أَبُوهُ) هشام بن أبي عبد الله سَنْبَر الدستوائيّ البصريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

والباقون ذُكروا قبله.

وقوله: (إِلَى الْعَجَمِ) بفتحتين، خلاف العرب، والْعُجْم وزانُ قُفل لغة فيه، والواحد عَجَميّ، مثل زِنجٍ وزِنجيّ، ورُوم ورُوميّ، فالياء للوحدة، ويُنسب إلى الْعَجَم بالياء، فيقال للعربيّ: هو أعجميّ؛ أي: منسوب إليهم، قاله الفيّوميّ

(3)

.

(1)

"الفتح" 13/ 368 - 369، كتاب "اللباس" رقم (5975).

(2)

"الفتح" 13/ 368 - 369، كتاب "اللباس" رقم (5975).

(3)

"المصباح المنير" 2/ 395.

ص: 758

والحديث متّفق عليه، وقد مضى تمام شرحه، وبيان مسائله فيما قبله، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5471]

(

) - (حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ الْجَهْضَمِيُّ، حَدَّثَنَا نُوحُ بْنُ قَيْسٍ، عَنْ أَخِيهِ خَالِدِ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَرَادَ أَنْ يَكْتُبَ إِلَى كسْرَى، وَقَيْصَرَ، وَالنَّجَاشِيِّ، فَقِيلَ: إِنَّهُمْ لَا يَقْبَلُونَ كِتَابًا إِلَّا بِخَاتَمٍ، فَصَاغَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَاتَمًا حَلَقَةً فِضَّةً، وَنَقَشَ فِيهِ: مُحَمَّد رَسُولُ اللهِ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ الْجَهْضَمِيُّ) البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ، طُلب للقضاء، فامتنع [10](ت 250) أو بعدها (ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 30 أحد مشايخ الجماعة بلا واسطة.

2 -

(نُوحُ بْنُ قَيْسِ) بن رِيَاح الأزديّ، أبو رَوْح البصريّ، صدوقٌ رُمي بالتشيّع [8](ت 3 أو 184)(م 4) تقدم في "الأشربة" 6/ 5160.

3 -

(أَخُوهُ خَالِدُ بْنُ قَيْسِ) بن رَبَاح الأزديّ الْحُدّانيّ

(1)

البصريّ، صدوقٌ يُغرب [7](م تم س ق) تقدم في "الجهاد والسِّيَر" 27/ 4602.

والباقيان ذُكرا قبله.

وقوله: (أَرَادَ أَنْ يَكْتُبَ إِلَى كِسْرَى) ملك الفرس، قال أبو عمرو بن العلاء: بكسر الكاف، لا غير، وقال ابن السّرّاج كما رواه عنه الفارسيّ، واختاره ثعلبٌ، وجماعة: الكسر أفصح، والنسبة إلى المكسور: كِسْريٌّ، وكِسْرويّ بحذف الألف، وبقلبها واوًا، والنسبة إلى المفتوح بالقلب لا غيرُ، والجمع أكاسرةٌ، قاله الفيّوميّ رحمه الله

(2)

.

وقال المجد رحمه الله: وكِسْرَى، ويُفتح: ملك الفرس، معرَّب خُسْرَوْ؛ أي: واسمع المُلك، جَمْعه أكاسرةٌ، وكساسرةٌ، وأكاسرُ، وكُسورٌ، والقياس كِسْرَوْن،

(1)

بضمِّ الحاء المهملة، وتشديد الدال المهملة.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 533.

ص: 759

كعِيسَوْنَ، والنسبة: كِسريٌّ، وكِسْرَويٌّ. انتهى

(1)

.

وقال في "الفتح": قوله: "كسرى" بكسر الكاف، ويجوز الفتح، وهو لقبٌ لكل من وَليَ مملكة الفرس، وقيصر لقب لكل من ولي مملكة الروم، قال ابن الأعرابيّ: الكسر أفصح في كسرى، وكان أبو حاتم يختاره، وأنكر الزجاج الكسر على ثعلب، واحتج بأن النسبة إليه كَسرويّ بالفتح، ورَدَّ عليه ابن فارس بأن النسبة قد يُفتح فيها ما هو في الأصل مكسور، أو مضموم، كما قالوا في بني تَغْلِب بكسر اللام: تغلَبيّ بفتحها، وفي سَلِمة كذلك، فليس فيه حجة على تخطئة الكسر. انتهى

(2)

.

وقوله: (وَقَيْصَرَ) بفتح القاف، وسكون التحتيّة، وفتح الصاد المهملة، آخره راء: لقبُ من مَلَك الروم.

وقوله: (وَالنَّجَاشِيِّ) بفتح النون، وتخفيف الجيم، وبعد الألف شين معجمة، ثم ياء ثقيلة، كياء النَّسب، وقيل: بالتخفيف، ورجّحه الصغانيّ، وحَكَى المطرزيّ تشديد الجيم عن بعضهم، وخطّاه، قال النوويّ: أما كسرى فبفتح الكاف، وكسرها، وهو لقب لكل من ملك من ملوك الفرس، وقيصر لقبُ من مَلَك الروم، والنجاشي لقب من ملك الحبشة، وخاقان لكل من ملك الترك، وفرعون لكل من ملك القبط، والعزيز لكل من ملك مصر، وتُبَّع لكل من ملك حِمْيَر. انتهى

(3)

.

وقوله: (فَصَاغَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَاتَمًا)؛ أي: أمر بصياغته.

وقوله: (حَلَقَةً فِضَّةً) قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في جميع النُّسخ: "حلقةً فضّةً" بنصب "حلقةً" على البدل من "خاتَمًا"، وليس فيها هاء الضمير، والحلقة ساكنة اللام على المشهور، وفيها لغة شاذّة ضعيفة، حكاها الجوهريّ وغيره بفتحها. انتهى

(4)

.

والحديث متّفق عليه، وقد مضى تمام شرحه، وبيان مسائله، ولله الحمد والمنّة، وله الفضل والنعمة.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(1)

"القاموس المحيط" ص 1131.

(2)

"الفتح" 6/ 625.

(3)

"تحفة الأحوذيّ" 7/ 414.

(4)

"شرح النوويّ" 14/ 69.

ص: 760

(13) - (بَابٌ في طَرْحِ الْخَوَاتِمِ)

وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5472]

(2093) - (حَدَّثَني أَبُو عِمْرَانَ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ زِيَادٍ، أخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ - يَعْنى: ابْنَ سَعْدٍ - عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أنسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّهُ أَبْصَرَ فِي يَدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَاتَمًا مِنْ وَرِقٍ يَوْمًا وَاحِدًا، قَالَ: فَصَنَعَ النَّاسُ الْخَوَاتِمَ مِنْ وَرِقٍ، فَلَبِسُوهُ، فَطَرَحَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم خَاتَمَهُ، فَطَرَحَ النَّاسُ خَوَاتِمَهُمْ

(1)

.

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(أَبُو عِمْرَانَ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ زِيَادٍ) الوَرَكانيّ - بفتحتين - الْخُرَاسانيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ [10](ت 228)(م د س) تقدم في "الإيمان" 38/ 255.

2 -

(إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدِ) بن إبراهيبم بن عبد الرحمن بن عوف الزهريّ، أبو إسحاق المدنيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ حجّة تُكُلّم فيه بلا قادح [8](ت 185)(ع) تقدم في "الإيمان" 9/ 141.

3 -

(ابْنُ شِهَابٍ) محمد بن مسلم الزهريّ، تقدّم قريبًا ..

و"أنس بن مالك" ذُكر قبله.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (419) من رباعيّات الكتاب، وفيه أنس رضي الله عنه تقدّم القول فيه.

شرح الحديث:

(عَنْ أَنَس بْنِ مَالِكٍ) رضي الله عنه (أَنَّهُ أَبْصَرَ فِي يَدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَاتَمًا مِنْ وَرِقٍ)؛ أي: فضّة، (يَوْمًا وَاحِدًا، قَالَ: فَصَنَعَ النَّاسُ الْخَوَاِتمَ مِنْ وَرِقٍ،

(1)

وفي نسخة: "خواتيمهم" في الموضعين.

ص: 761

فَلَبِسُوهُ)؛ أي: الخاتم، (فَطَرَحَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم خَاتَمَة، فَطَرَحَ النَّاسُ خَوَاتِمَهُمْ) وفي بعض النُّسخ: "خواتيمهم" بالياء بعد التاء في الموضعين، قال القاضي عياض رحمه الله: قال جميع أهل الحديث: هذا وَهَم من ابن شهاب، فوَهِم مِن خاتم الذهب إلى خاتم الورق، والمعروف من روايات أنس من غير طريق ابن شهاب اتخاذه صلى الله عليه وسلم خاتم فضّة، ولم يطرحه، وإنما طرح خاتم الذهب، كما ذكره مسلم في باقي الأحاديث.

ومنهم من تأول حديث ابن شهاب، وجَمَع بينه وبين الروايات، فقال: لمّا أراد النبيّ صلى الله عليه وسلم تحريم خاتم الذهب اتخذ خاتم فضة، فلما لبس خاتم الفضة أراه الناس في ذلك اليوم؛ ليُعلمهم إباحته، ثم طرح خاتم الذهب، وأعْلَمَهم تحريمه، فطرح الناس خواتيمهم من الذهب، فيكون قوله:"فطرح الناس خواتمهم"؛ أي: خواتم الذهب، قال النوويّ: وهذا التأويل هو الصحيح، وليس في الحديث ما يمنعه، وأما قوله:"فصنع الناس الخواتم من الورق، فلبسوه - ثم قال -: فطرح خاتمه، فطرحوا خواتمهم"، فيَحْتَمِل أنهم لمّا علموا أنه صلى الله عليه وسلم يصطنع لنفسه خاتم فضة اصطنعوا لأنفسهم خواتيم فضة، وبقيت معهم خواتيم الذهب كما بقي مع النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى أن طَرَح خاتم الذهب، واستبدلوا الفضة، والله أعلم. انتهى.

وقال في "الفتح": هكذا رَوَى الحديث الزهريُّ، عن أنس، واتفق الشيخان على تخريجه من طريقه، ونُسب فيه إلى الغلط؛ لأن المعروف أن الخاتم الذي طرحه النبيّ صلى الله عليه وسلم بسبب اتخاذ الناس مثله، إنما هو خاتم الذهب، كما صرّح به في حديث ابن عمر، قال النوويّ، تبعًا لعياض: قال جميع أهل الحديث: هذا وَهَمٌ من ابن شهاب؛ لأن المطروح ما كان إلا خاتم الذهب، ومنهم من تأوله كما سيأتي.

قال الحافظ: وحاصل الأجوبة ثلاثة:

[أحدها]: قاله الإسماعيليّ، فإنه قال - بعد أن ساقه -: إن كان هذا الخبر محفوظًا، فينبغي أن يكون تأويله: أنه اتخذ خاتمًا من ورق، على لون من الألوان، وكره أن يَتَّخذ غيره مثله، فلما اتخذوه رمى به، حتى رموا به، ثم اتخذ بعد ذلك ما اتخذه، ونقش عليه ما نقش؛ ليختم به.

ص: 762

[ثانيها]: أشار إليه الإسماعيليّ أيضًا، أنه اتخذه زينة، فلمّا تبعه الناس فيه، رمى به، فلمّا احتاج إلى الختم، اتخذه ليختم به، وبهذا جزم المحب الطبريّ، بعد أن حكى قول المهلَّب، وذكر أنه مُتكلّف، قال: والظاهر من حالهم أنهم اتخذوها للزينة، فطرح خاتمه ليطرحوا، ثم لبسه بعد ذلك، للحاجة إلى الختم به، واستمرّ ذلك.

[ثالثها]: قال ابن بطال: خالف ابن شهاب رواية قتادة، وثابت، وعبد العزيز بن صهيب، في كون الخاتم الفضة استقرّ في يد النبيّ صلى الله عليه وسلم، يختم به الخلفاء بعده، فوجب الحكم للجماعة، وأنه وَهِم الزهري فيه. لكن قال المهلب: قد يمكن أن يُتأول لابن شهاب، ما ينفي عنه الوهم، وإن كان الوهم أظهر، وذلك أنه يَحتمل أن يكون لَمّا عزم على اطراح خاتم الذهب، اصطنع خاتم الفضة، بدليل أنه كان لا يستغني عن الختم على الكتب، إلى الملوك وغيرهم، من أمراء السرايا والعمال، فلما لبس خاتم الفضة، أراد الناس أن يصطنعوا مثله، فطرح عند ذلك خاتم الذهب، فطرح الناس خواتيم الذهب.

وتعقّبه الحافظ، فقال: ولا يخفى وَهْيُ هذا الجواب، والذي قاله الإسماعيلي أقرب، مع أنه يخدش فيه، أنه يستلزم اتخاذ خاتم الورق مرتين، وقد نقل عياض نحوًا من قول ابن بطال، قائلًا: قال بعضهم: يمكن الجمع بأنه لمّا عَزَم على تحريم خاتم الذهب، اتخذ خاتم فضة، فلمّا لبسه أراه الناس في ذلك اليوم، ليعلموا إباحته، ثم طرح خاتم الذهب، وأعلمهم تحريمه، فطرح الناس خواتيمهم من الذهب، فيكون قوله:"فطرح خاتمه، وطرحوا خواتيمهم"؛ أي: التي من الذهب.

وحاصله أنه جعل الموصوف في قوله: "فطرح خاتمه، فطرحوا خواتيمهم" خاتم الذهب، وإن لم يَجْر له ذِكر، قال عياض: وهذا يَسُوغ أن لو جاءت الرواية مُجْمَلة، ثم أشار إلى أن رواية ابن شهاب، لا تحتمل هذا التأويل. فأما النووي، فارتضى هذا التأويل، وقال: هذا هو التأويل الصحيح، وليس في الحديث ما يمنعه، قال: وأما قوله: "فصنع الناس الخواتيم من الوَرِق، فلبسوها"، ثم قال:"فطرح خاتمه، فطرحوا خواتيمهم"، فيَحتمل أنهم لمّا علموا أنه صلى الله عليه وسلم، يريد أن يصطنع لنفسه خاتم فضة، اصطنعوا لأنفسهم

ص: 763

خواتيم الفضة، وبقيت معهم خواتيم الذهب، كما بقي معه خاتمه إلى أن استبدل خاتم الفضة، وطرح خاتم الذهب، فاستبدلوا، وطرحوا. انتهى.

وأيّده الكرمانيّ بأنه ليس في الحديث، أن الخاتم المطروح كان من ورق، بل هو مطلق، فيُحمل على خاتم الذهب، أو على ما نُقش عليه نقش خاتمه، قال: ومهما أمكن الجمع، لا يجوز توهيم الراوي.

قال الحافظ: وَيَحتمل وجها رابعًا، ليس فيه تغيير، ولا زيادة اتخاذ، وهو أنه اتخذ خاتم الذهب للزينة، فلمّا تتابَع الناس فيه، وافق وقوع تحريمه فطرحه، ولذلك قال:"لا ألبسه أبدًا"، وطرح الناس خواتيمهم، تبعًا له، وصرّح بالنهي عن لُبس خاتم الذهب، ثم احتاج إلى الخاتم؛ لأجل الختم به، فاتخذه من فضة، ونقش فيه اسمه الكريم، فتبعه الناس أيضًا في ذلك، فرمى به، حتى رمى الناس تلك الخواتيم المنقوشة على اسمه؛ لئلا تفوت مصلحة نَقْش اسمه، بوقوع الاشتراك، فلما عُدِمت خواتيمهم برميها، رجع إلى خاتمه الخاص به، فصار يختم به، ويشير إلى ذلك قوله في رواية عبد العزيز بن صهيب، عن أنس، كما سيأتي قريبًا في "باب الخاتم في الخنصر":"إنا اتخذنا خاتمًا، ونقشنا فيه نقشًا، فلا ينقُش عليه أحد"، فلعل بعض من لم يبلغه النهي، أو بعض من بلغه ممن لم يرسخ في قلبه الإيمان من منافق، ونحوه، اتخذوا، ونقشوا، فوقع ما وقع، ويكون طرحه له غضبًا، ممن تشبَّه به في ذلك النقش، وقد أشار إلى ذلك الكرمانيّ، مختصرًا جدًّا. والله أعلم.

وقول الزهري في روايته: "إنه رآه في يده يومًا" لا ينافي ذلك، ولا يعارضه قوله - في رواية حميد -: "سئل أنس هل اتخذ النبيّ صلى الله عليه وسلم خاتمًا؟ قال: أخَّر ليلةً صلاة العشاء

إلى أن قال: فكأني أنظر إلى وبيص خاتمه"، فإنه يُحمل على أنه رآه كذلك في تلك الليلة، واستمر في يده بقية يومها، ثم طرحه في آخر ذلك اليوم. والله أعلم.

وأما ما أخرجه النسائيّ من طريق المغيرة بن زياد، عن نافع، عن ابن عمر:"اتخذ النبيّ صلى الله عليه وسلم خاتمًا من ذهب، فلبسه ثلاثة أيام"، فيُجمع بينه وبين حديث أنس بأحد أمرين، إن قلنا: إن قول الزهريّ في حديث أنس: "خاتمًا من ورق" سهو، وأن الصواب:"خاتمًا من ذهب"، فقوله:"يومًا واحدًا" ظرف

ص: 764

لرؤية أنس، لا لمدة اللُّبس، وقول ابن عمر:"ثلاثة أيام" ظرف لمدة اللبس، وإن قلنا: أن لا وَهَم فيها، وجَمَعنا بما تقدم، فمدة لبس خاتم الذهب ثلاثة أيام، كما في حديث ابن عمر هذا، ومدة لبس خاتم الورق الأول كانت يومًا واحدًا، كما في حديث أنس، ثم لمَّا رمى الناس الخواتيم التي نقشوها على نَقْشه، ثم عاد، فلبس خاتم الفضة، واستمرّ إلى أن مات. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن التأويلات السابقة لرواية الزهري هذه كلّها لا يخفى ما فيها من التكلّف والتعسّف، وإنما الظاهر توهيم الزهريّ في ذلك، ولا استغراب فيه، فإن الغلط من طبيعة البشر، فقد سبق أن سعيد بن المسيِّب وغيره وهّموا ابن عباس رضي الله عنهما في قوله:"تزوج النبيّ صلى الله عليه وسلم ميمونة رضي الله عنهما، وهو مُحْرِم"، وأين الزهريّ من ابن عباس رضي الله عنهما؟ فليُتأَمَّل. والله تعالى أعلم بالصواب.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أنس رضي الله عنه هذا متفقٌ عليه.

(المسألة الثانيه): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [13/ 5472 و 5473 و 5474](2093)، و (البخاريّ) في "اللباس"(5868)، و (أبو داود) في "الخاتم"(4221)، و (النسائيّ) في "الزينة"(8/ 195) و" الكبرى"(9544)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 160 و 206 و 223 و 225)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(3565)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5490)، وفوائده تقدّمت، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5473]

(

) - (حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا رَوْحٌ، أخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي زِيَادٌ، أَن ابْنَ شِهَابٍ أَخْبَرَهُ، أَن أنسَ بْنَ مَالِكٍ أَخْبَرَهُ، أَنَّهُ رَأَى فِي يَدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَاتَمًا مِنْ وَرِقٍ يَوْمًا وَاحِدًا، ثُمَّ إِن النَّاسَ اضْطَرَبُوا

(2)

الْخَوَاِتمَ مِنْ وَرِقٍ، فَلَبِسُوهَا، فَطَرَحَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم خَاتَمَهُ، فَطَرَحَ النَّاسُ خَوَاتِمَهُم).

(1)

"الفتح" 13/ 360 - 362، كتاب "اللباس" رقم (5868).

(2)

وفي نسخة: "اصطنعوا".

ص: 765

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(رَوْحُ) بن عبادة القيسيّ البصريّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(ابْنُ جُرَيْجٍ) عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج، تقدّم أيضًا قريبًا.

3 -

(زَيادُ) بن سعد بن عبد الرحمن الْخُراسانيّ، نزيل مكة، ثم اليمن، ثقةٌ ثبتٌ [6](ع) تقدم في "الطهارة" 26/ 653.

والباقون ذُكروا قبله، وقبل باب.

وقوله: (اضْطَرَبُوا

(1)

الْخَوَاتِمَ)؛ أي: ضربوه، واتّخذوه، وفي بعض النُّسخ:"اصطنعوا".

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله فيما قبله، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5474]

(

) - (حَدَّثَنَا عُقْبَةُ بْنُ مُكْرَمٍ الْعَمِّيُّ، حَدَّثنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، بِهَذَا الإِسْنَادِ مِثْلَهُ).

رجال هذا الإسناد: ثلاثة:

1 -

(عُقْبَةُ بْنُ مُكْرَم الْعَمِّيِّ) أبو عبد الملك البصريّ، ثقةٌ [11] مات في حدود (250)(م د ت ق) تقدم في "الإيمان" 27/ 220.

2 -

(أَبُو عَاصِمٍ) الضّحاك بن مخلد النبيل، تقدّم قريبًا.

و"ابن جُريج" ذُكر قبله.

[تنبيه]: رواية أبي عاصم، عن ابن جريج ساقها أبو عوانة في "مسنده"، مقرونًا بحجاج الأعور، وروح بن عبادة، فقال:

(8627)

- حدّثنا يوسف بن سعيد المصيصيّ، قال: ثنا حجاج (ح) وحدّثنا أبو الأزهر، قال: ثنا روح بن عبادة (ح) وحدّثنا يعقوب بن سفيان الفارسيّ، قال: ثنا أبو عاصم، كلهم عن ابن جريج، قال: أخبرني زياد بن سعد، أن ابن شهاب أخبره، أن أنس بن مالك أخبره، أنه رأى في يد

(1)

وفي نسخة: "اصطنعوا".

ص: 766

رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتَمًا من وَرِق يومًا واحدًا، ثم إن الناس اصطنعوا الخواتيم من وَرِق، ولبسوها، فطرح النبيّ صلى الله عليه وسلم، فطرح الناس خواتيمهم. انتهى

(1)

.

(14) - (بَابٌ فِي خَاتَمِ الْوَرِقِ فَصُّهُ حَبَشِيٌّ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5475]

(2094) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْبٍ الْمِصْرِيُّ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، حَدَّثَنِي أنسُ بْنُ مَالِكٍ، قَالَ: كَانَ خَاتِمُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ وَرِقٍ، وَكَانَ فَصُّهُ حَبَشِيًّا).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ) المقابريّ، أبو زكريّاء البغداديّ، ثقةٌ [10](ت 234)(عخ م د عس) تقدم في "الإيمان" 2/ 110.

2 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْب الْمِصْرِيُّ) تقدّم قبل بابين.

3 -

(يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ) الأيليّ، تقدّم قريبًا.

والباقيان ذُكرا قبل حديث.

شرح الحديث:

(عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) الزهريّ أنه قال: (حَدَّثَنِي أنسُ بْنُ مَالِكٍ) رضي الله عنه (قَالَ: كَانَ خَاتِمُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ وَرِقٍ)؛ أي: فضّة، (وَكَانَ فَصُّهُ حَبَشِيًّا)؛ أي: حَجَرًا حبشيًّا، إما منسوب إلى الحبش، أو بلادهم وألوانهم، وهو بفتح الباء، يقال: الحبَش، والحبشة، قاله عياض

(2)

.

وقال السيوطيّ: قوله: "حبشيًّا" يَحْتَمِل أنه أراد من الْجَزْع

(3)

، أو

(1)

"مسند أبي عوانة" 5/ 255.

(2)

"مشارق الأنوار"1/ 176.

(3)

"الْجَزْع" بالفتح: خرزٌ فيه بياضٌ وسواغدٌ، الواحدة جَزْعة، مثلُ تَمْرٍ، وتَمْرة، قاله في "المصباح"1/ 99، وقال في "القاموس": الْجَزْعُ، ويُكسر: الْخَوَز اليمانيّ الصينيّ، فيه سوادٌ وبياضٌ تشبّه به الأعين. انتهى. ص 214.

ص: 767

العقيق؛ لأن معدنهما اليمن والحبشة، أو نوعًا آخر يُنسب إليهما. انتهى

(1)

.

وقال في "فتح الودود"؛ أي: على الوضع الحبشيّ، أو صانعه حبشيّ، وعلى هذا لا مخالفة بين هذا الحديث وبين الحديث الذي بلفظ:"فَصّه منه"، وإن قلنا إنه كان حجرًا، أو جَزْعًا، أو عقيقًا، أو نحوه يكون بالحبشة لظهرت المخالفة، ويندفع بتعدد الخاتم، كما نقل عن البيهقيّ. انتهى

(2)

.

وقال النوويّ: قوله: "وكان فصّه حبشيًّا" قال العلماء: يعني حَجَرًا حبشيًّا: أي: فَصًّا من جَزْع، أو عقيق، فإن معدنهما بالحبشة واليمن، وقيل: لونه حبشيّ؛ أي: أسود، وجاء في "صحيح البخاريّ" من رواية حميد، عن أنس أيضًا:"فَصّه منه"، قال ابن عبد البرّ: هذا أصحّ، وقال غيره: كلاهما صحيح، وكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم في وقت خاتمٌ فَصّه منه، وفي وقت خاتم فصّه حبشيّ، وفي حديث آخر فصّه من عقيق. انتهى

(3)

.

وقال في "الفتح": قوله: "وكان فصّه منه" لا يعارضه ما في مسلم: "وكان فصه حبشيًّا" لأنه إما أن يُحْمَل على التعدد، وحينئذ فمعنى قوله:"حبشيًّا"؛ أي: كان حجرًا من بلاد الحبشة، أو على لون الحبشة، أو كان جَزْعًا، أو عقيقًا؛ لأن ذلك قد يؤتى به من بلاد الحبشة، ويَحْتَمِل أن يكون هو الذي فصّه منه، ونُسب إلى الحبشة لصفة فيه، إما الصياغة، وإما النقش. انتهى

(4)

، والله تعالى أعلم.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أنس بن مالك رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [14/ 5475 و 5476 و 5477](2094)، و (أبو داود) في "الخاتم"(4/ 88)، و (الترمذيّ) في "جامعه"(4/ 227) و"الشمائل"(1/ 88)، و (النسائيّ) في "الزينة"(8/ 172 و 173) و"الكبرى"(5/ 450)،

(1)

"شرح السيوطي لسنن النسائيّ" 8/ 173.

(2)

"عون المعبود" 11/ 184.

(3)

"شرح النوويّ" 14/ 71.

(4)

"الفتح" 13/ 364 - 365.

ص: 768

و (ابن ماجه) في "اللباس"(193)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(5/ 193)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 209 و 225)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(6/ 243)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(5/ 257)، و (ابن سعد) في "الطبقات"(1/ 472)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 142) و"شُعب الإيمان"(5/ 200 و 203)، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5476]

(

) - (وَحَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَبَادُ بْنُ مُوسَى، قَالَا: حَدَّثَنَا طَلْحَةُ بْنُ يَحْيَى - وَهُوَ الأنصَارِيُّ، ثُمَّ الزُّرَقِيُّ - عَنْ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَنسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَبِسَ خَاتَمَ فِضَّةٍ فِي يَمِينِه، فِيهِ فَصٌّ حَبَشِيٌّ، كَانَ يَجْعَلُ فَصَّهُ مِمَّا يَلِي كَفَّهُ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) العبسيّ الكوفيّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(عَبَّادُ بْنُ مُوسَى) الخُتّليّ، أبو محمد الأنباريّ، نزيل بغداد، ثقةٌ [10].

رَوَى عن إبراهيم بن سعد، وإسماعيل بن جعفر، وابن علية، وطلحة بن يحيي الزرقي، وهشيم، ومروان بن معاوية، وغيرهم.

وروى عنه مسلم، وأبو داود، وروى له البخاريّ، والنسائيّ بواسطة محمد بن عبد الرحيم البزار، وعثمان بن خُرّزاذ، وأحمد بن عليّ المروزيّ، وأبو زرعة، وغيرهم.

قال ابن معين، وأبو زرعة، وصالح بن محمد: ثقةٌ، وقال ابن معين مرّة: ليس به بأسٌ، وقال أحمد بن عليّ الأبار: مات بطَرَسوس سنة تسع وعشرين ومائتين، وكذا أرّخه غيره، وقال ابن حبان في "الثقات": مات سنة (30)، وقال ابن قانع: مات سنة (29)، وقيل: سنة (30) وهو الأصح، وقال الدارقطنيّ: صدوقٌ، وقال ابن قانع: صالحّ، وقال ابن أبي حاتم عن أبي زرعة: ثقةٌ.

روى له البخاريّ، والمصنّف، وأبو داود، والنسائيّ، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط برقم (2094)، و (2349)، و (2386).

ص: 769

3 -

(طَلْحَةُ بْنُ يَحْيَى بن النعمان بن أبي عياش الأنصَارِيُّ، ثُمَّ الزُّرَقِيُّ)، الدّمشقيّ، نزيل بغداد، صدوقٌ يَهِم [7].

رَوَى عن عبد الله بن سعيد بن أبي هند، ويونس بن يزيد الأيليّ، والضحاك بن عثمان الحزاميّ، وعبد الواحد مولى عروة، ومحمد بن أبي بكر الثقفيّ.

وروى عنه ابن أبي فُديك، ويعقوب بن محمد الزهريّ، وعباد بن موسى الْخُتّليّ، وعثمان بن محمد بن أبي شيبة، ومحمد بن عباد المكيّ، وغيرهم.

قال أبو داود عن أحمد: مقارب الحديث، وقال ابن معين: ثقةٌ، وكذا قال حنبل بن إسحاق عن عثمان بن أبي شيبة، وقال الآجريّ عن أبي داود: لا بأس به، وقال أبو حاتم: ليس بقويّ، وقال يعقوب بن شيبة: شيخ ضعيف جدًّا، ومنهم من لا يَكتُب حديثه لِضَعفه، وذكره ابن حبالن في "الثقات"، وقال الخطيب: يقال إنه مات بالمدينة.

أخرج له البخاريّ، والمصنّف، وأبو داود، والنسائيّ، وابن ماجه، وله في هذا الكتاب حديثان فقط برقم (2594)، و (2349).

والباقون ذُكروا قبله.

وقوله: (لَبِسَ خَاتَمَ فِضَّةٍ فِي يَمِينِهِ) قال النوويّ رحمه الله: وفي حديث حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس:"كان خاتم النبيّ صلى الله عليه وسلم في هذه، وأشار إلى الخنصر من يده اليسرى"، وفي حديث عليّ:"نهاني صلى الله عليه وسلم أن أتختم في إصبعي هذه، أو هذه، فأومأ إلى الوسطى، والتي تليها"، ورُوي هذا الحديث في غير مسلم:"السبابة، والوسطى"، وأجمع المسلمون على أن السُّنَّة جَعْل خاتم الرَّجُل في الخنصر، وأما المرأة فإنها تتخذ خواتيم في أصابع، قالوا: والحكمة في كونه في الخنصر أنه أبعد من الامتهان فيما يتعاطى باليد؛ لكونه طرفًا، ولأنه لا يَشْغَل اليد عما تتناوله من أشغالها، بخلاف غير الخنصر، ويُكره للرجل جعله في الوسطى، والتي تليها؛ لهذا الحديث، وهي كراهة تنزيه.

قال الجامع عفا الله عنه: يُحتاج إلى صرف النهي عن التحريم إلى التنزيه، فأين هو؟، والله تعالى أعلم.

ص: 770

وأما التختم في اليد اليمنى، أو اليسرى، فقد جاء فيه هذان الحديثان، وهما صحيحان.

وقال الدارقطني: لم يتابَع سليمان بن بلال على هذه الزيادة، وهي قوله:"في يمينه"، قال: وخالفه الحفاظ عن يونس، مع أنه لم يذكرها أحد من أصحاب الزهريّ، مع تضعيف إسماعيل بن أبي أويس، راويها عن سليمان بن بلال، وقد ضعَّف إسماعيل بن أبي أيس أيضًا يحيى بن معين، والنسائيّ، ولكن وثقه الأكثرون، واحتجوا به، واحتج به البخاريّ، ومسلم في صحيحيهما، وقد ذكر مسلم أيضًا من رواية طلحة بن يحيى مثل رواية سليمان بن بلال، فلم ينفرد بها سليمان بن بلال، فقد اتَّفق طلحة وسليمان عليها، وكون الأكثرين لم يذكروها لا يمنع صحتها، فإن زيادة الثقة مقبولة، والله أعلم.

قال الجامع عفا الله عنه: ما أجاب به النوويّ رحمه الله عن انتقاد الدارقطنيّ لزيادة "في يمينه" مقبول؛ فإن هذه الزيادة تقدَّم لها من الشواهد من حديث ابن عمر رضي الله عنهما وغيره، وقد تقدّم عن الحافظ رحمه الله أنه قال بعد أن أورد الروايات في اليمين، وفي اليسار ما نصّه: فظهر أن رواية اليسار في حديث نافع شاذّة، ومن رواها أيضًا أقل عددًا، وألْيَن حفظًا ممن روى اليمين، وقد أخرج الطبراني في "الأوسط" بسند حسن عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر قال:"كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يتختم في يمينه"، وأخرج أبو الشيخ في "كتاب أخلاق النبيّ صلى الله عليه وسلم" من رواية خالد بن أبي بكر، عن سالم، عن ابن عمر نحوه، قال: فرَجَحَت رواية اليمين في حديث ابن عمر أيضًا.

قال: وقد ورد التختم في اليمين أيضًا في أحاديث أخرى، منها عند مسلم من حديث أنس:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لبس خاتَمًا من فضة، في يمينه، فصه حبشيّ"، وأخرج أبو داود أيضًا من طريق ابن إسحاق قال: رأيت على الصَّلْت بن عبد الله خاتَمًا في خنصره اليمين، فسألته، فقال: رأيت ابن عباس يلبس خاتمه هكذا، وجعل فصه على ظهرها، ولا إخال ابن عباس إلا ذكره عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأورده الترمذيّ من هذا الوجه مختصرًا:"رأيت ابن عباس يتختم في يمينه، ولا إخاله إلا قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتختم في يمينه"،

ص: 771

وللطبراني من وجه آخر، عن ابن عباس:"كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يتختم في يمينه"، وفي سنده لِيْن، وأخرج الترمذيّ أيضًا، من طريق حماد بن سلمة:"رأيت ابن أبي رافع يتختم في يمينه، وقال: "كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يتختم في يمينه"، ثم نقل عن البخاريّ أنه أصح شيء رُوي في هذا الباب.

وأخرج أبو داود، والنسائيّ، والترمذيّ في "الشمائل"، وصححه ابن حبان من طريق إبراهيم بن عبد الله بن حنين، عن أبيه، عن عليّ:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يتختم في يمينه". انتهى

(1)

.

فتبيّن بهذا أن زيادة "في يمينه " في هذا الحديث صحيحة؛ لِمَا سمعت من المتابعة، والشواهد الصحيحة لها، فلا تلتفت إلى ما كتبه بعضهم

(2)

مرجّحًا انتقاد الدارقطنيّ، ومضعّفًا هذه الزيادة، فإنه مبنيّ على عدم اعتبار الشواهد المذكورة، كيف، ومسلم إمام مطّلع، قد اطّلع على هذه الشواهد، ثم لم يذكر رواية إسماعيل بن أبي أويس بمفردها، كما ادّعاه الدارقطني، بل أورد روايته متابعة لرواية طلحة بن يحيى، فتبصّر بالإنصاف، ولا تكن أسير التقليد، والله تعالى أعلم.

قال النوويّ: وأما الحكم في المسألة عند الفقهاء، فأجمعوا على جواز التختم في اليمين، وعلى جوازه في اليسار، ولا كراهة في واحدة منهما، واختلفوا أيتهما أفضل؟ فتختّم كثيرون من السلف في اليمين، وكثيرون في اليسار، واستَحَبّ مالك اليسار، وكَرِه اليمين، قال: وفي مذهبنا - يعني: الشافعيّة - وجهان لأصحابنا: الصحيح أن اليمين أفضل؛ لأنه زينة، واليمين أشرف، وأحقّ بالزينة، والإكرام. انتهى.

وقوله: (كَانَ يَجْعَلُ فَصَّهُ مِمَّا يَلِي كَفَّهُ) ترجم البخاريّ رحمه الله على هذا في "صحيحه"، فقال:"باب من جعل فصّ الخاتم في بطن كفّه"، قال ابن بطال: قيل لمالك: يُجعَل الفصُّ في باطن الكفّ؟ قال: لا، قال ابن بطال: ليس في

(1)

"الفتح" 13/ 370 - 371، كتاب "اللباس" رقم (5876).

(2)

هو: الشيخ ربيع بن هادي المدخلي في دراسته لتتّبع الدارقطني، راجع ما كتبه ص 348 - 355.

ص: 772

كون فص الخاتم في بطن الكف، ولا ظهرها أمْر، ولا نهي، وقال غيره: السرّ في ذلك أنّ جَعْله في بطن الكف أبعد من أن يُظَنّ أنه فعله للتزين به، وقد أخرج أبو داود من حديث ابن عباس جعله في ظاهر الكفّ، قاله في "الفتح"

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قوله: "ليس في كون فصّ الخاتم

إلخ" إن أراد به لفظَ أمْر بنصّه، فمسلّم، وإلا فقد صحّ عنه صلى الله عليه وسلم أنه جعله في باطن كفّه، وقد أمر الله تعالى باتّباعه، قال {وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف: 158]، وقال:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} الآية [الحشر: 7]، فهذا الأمر نفسه، فتأملّ، والله تعالى أعلم.

والحديث من أفراد المصنّف، وقد مضى البحث فيه مستوفًى، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5477]

(

) - (وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنِي إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أوَيْسٍ، حَدَّثَني سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ، عَنْ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ، بِهَذَا الإِسْنَاد، مِثْلَ حَدِيثِ طلحَةَ بْنِ يَحْيَى).

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(إِسْمَاعِيلُ بْنُ أبِي أُوَيْسٍ) هو: إسماعيل بن عبد الله بن عبد الله بن أويس بن مالك بن أبي عامر الأصبحيّ، أبو عبد الله بن أبي أويس المدنيّ، صدوقٌ أخطأ في أحاديث من حفظه [10](ت 226)(خ م د ت ق) تقدم في "الحج" 17/ 2921.

2 -

(سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ) التيميّ مولاهم، أبو محمد، أو أبو أيوب المدنيّ، ثقةٌ [8](ت 177)(ع) تقدم في "الإيمان" 14/ 160.

والباقيان ذُكرا في الباب، وقبل بابين.

[تنبيه]: رواية سليمان بن بلال عن يونس ساقها أبو يعلى رحمه الله في "مسنده" بسند المصنّف، فقال:

(1)

"الفتح" 13/ 370، كتاب "اللباس" رقم (5876).

ص: 773

(3536)

- حدّثنا أبو خيثمة زهير بن حرب، حدثنا ابن أبي أويس، حدّثني سليمان بن بلال، عن يونس بن يزيد، عن ابن شهاب، عن أنس بن مالك:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لَبِس خاتَمًا من فضة، في يمينه، فيه فصّ حبشيّ، وكان يَجعل فصه في بطن كفّه". انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(15) - (بَابٌ فِي لُبْسِ الْخَاتَمِ فِي الْخِنْصَرِ مِنَ الْيَدِ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5478]

(2095) - (وَحَدَّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ خَلَّادٍ الْبَاهِلِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أنَسٍ، قَالَ: كَانَ خَاتِمُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم في هَذِه، وَأَشَارَ إِلَى الْخِنْصَرِ مِنْ يَدِهِ الْيُسْرَى).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ خَلَّادٍ الْبَاهِلِيُّ) محمد بن خلّاد بن كثير البصريّ، ثقةٌ [10](ت 240) على الصحيح (م د س ق) تقدم في "المقدمة" 5/ 31.

2 -

(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ) البصريّ، تقدّم قريبًا.

3 -

(حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ) البصريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

4 -

(ثَابِتُ) بن أسلم البنانيّ البصريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

5 -

(أنَسُ) بن مالك، ذُكر في السند الماضي.

شرح الحديث:

(عَنْ أنسِ) بن مالك رضي الله عنه أنه (قَالَ: كَانَ خَاتِمُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي هَذِهِ) الإصبع، (وَأَشَارَ) أنس (إِلَى الْخِنْصَرِ) بكسر الخاء المعجمة، والصاد المهملة، وتُفتح الصاد: الإصبع الصغرى، أو الوسطى، قاله المجد

(2)

، لكن المراد هنا

(1)

"مسند أبي يعلى" 6/ 242.

(2)

"القاموس" ص 400.

ص: 774

هي الصغرى، بدليل النهي الآتي عن التختّم في الوسطى، فتنبّه. (مِنْ يَدِهِ الْيُسْرَى) متعلّق بحال مقدّر من "الخنصر"؛ أي: حالة كونها كائنة من اليد اليسرى، ففيه التختّم في اليسرى، وقد تقدّم تمام البحث فيه قريبًا، والله تعالى أعلم بالصواب.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أنس رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [15/ 5478](2095)، و (النسائيّ) في "الزينة"(8/ 194)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 267)، و (عبد بن حُميد) في "مسنده"(1292 و 1358)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(5/ 259)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 142)، والله تعالى أعلم.

(16) - (بَابُ النَّهْيِ عَنِ التَّخَتُّمِ فِي الْوُسْطَى، وَالَّتي تَلِيهَا)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5479]

(2078)

(1)

- (حَدَّثَني مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ إِدْرِيسَ - وَاللَّفْظُ لأَبِي كُرَيْبٍ - حَدَّثَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ، قَالَ: سَمِعْتُ عَاصِمَ بْنَ كُلَيْبٍ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ عَلِي قَالَ: نَهَانِي - يَعْنِي: النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أَنْ أَجْعَلَ خَاتَمِي فِي هَذِهِ، أَوِ الَّتِي تَلِيهَا - لَمْ يَدْرِ عَاصِمٌ فِي أَيِّ الثِّنْتَيْنِ - وَنَهَانِي عَنْ لُبْسِ الْقَسِّيِّ، وَعَنْ جُلُوسٍ عَلَى الْمَيَاثِر، قَالَ: فَأَمَّا الْقَسِّيُّ فَثِيَابٌ، مُضَلَّعَةٌ، يُؤْتَى بِهَا مِنْ مِصْرَ وَالشَّام، فِيهَا شِبْهُ كَذَا، وَأمّا الْمَيَاثِرُ، فَشَىْءٌ كَانَتْ تَجْعَلُهُ النِّسَاءُ لِبُعُولَتِهِنَّ عَلَى الرَّحْلِ؛ كالقَطَائِفِ الأُرْجُوَانِ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ) تقدّم قبل بابين.

2 -

(أَبُو كُرَيْبٍ) محمد بن العلاء، تقدّم قريبًا.

3 -

(ابْنُ إِدْرِيسَ) عبد الله الأوديّ الكوفيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

(1)

هذا تقدّم، فالرقم مكرّر، فانتبه.

ص: 775

4 -

(عَاصِمُ بْنُ كُلَيْبِ) بن شهاب بن المجنون الجرميّ الكوفيّ، صدوقٌ رُمى بالإرجاء [5].

روى عن أبيه، وأبي بردة، وعلقمة بن وائل وغيرهم.

وروى عنه شعبة، وشريك، والسفيانان وغيرهم.

قال أحمد: لا بأس به، ووثّقه النسائي، وابن معين، وابن حبان، وغيرهم.

مات (137)(خت م 4).

5 -

(أَبُو بُرْدَةَ) بن أبي موسى اسمه عامر، وقيل: الحارث، وقيل: اسمه كنيته، تقدّم قريبًا.

6 -

(عَلِيُّ) بن أبي طالب رضي الله عنه، تقدّم قريبًا.

شرح الحديث:

(عَنْ عَلِيِّ) بن أبي طالب رضي الله عنه أنه (قَالَ: نَهَانِي - يَعْنِي: النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَنْ أَجْعَلَ خَاتَمِي فِي هَذِه، أَوِ الَّتِي تَلِيهَا) قال الطيبيّ "أو" هذه ليست لترديد الراوي، بل للتقسيم، كما في قوله تعالى:{وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَو كَفُورًا} [الإنسان: 24]. (لَمْ يَدْرِ عَاصِمٌ)؛ أي: ابن كليب، (فِي أَيِّ الثِّنْتَيْنِ) سيأتي في الرواية الثالثة:"فأومأ إلى الوسطى، والتي تليها"، ولعله نسي حين حدّث ابن إدريس، وتذكّر حين حدّث أبا الأحوص، والله تعالى أعلم.

(وَنَهَانِي عَنْ لُبْسِ الْقَسِّيِّ) قد فسّرها عليّ رضي الله عنه في كلامه الآتي بأنها ثياب مضلّعة يؤتى بها من مصر والشام، وقال ابن عبد البرّ: إنها ثياب مضلّعة بالحرير، يقال لها: القَسّيّة، تُنسب إلى موضع يقال له: قَسّ، ويقال: إنها قرية من قُرَى مصر، وهي ثياب يلبسها أشراف الناس النساء، قال النميريّ الشاعر:

وَلَمَّا رَأَتْ رَكْبَ النَّمَيْرِيِّ رَاعَه

وَكُنَّ مِنْ أَنْ يَلْقَيْنَهُ حَذِرَاتِ

فَأَدْنَيْنَ حَتَّى جَاوَزَ الرَّكْبُ دُونَهَا

حِجَابًا مِنَ الْقَسِّيِّ وَالْحَبَرَاتِ

(1)

(وَعَنْ جُلُوسٍ عَلَى الْمَيَاثِرِ) بالفتح" جمع ميثرة، قال ابن الأثير رحمه الله: هي وِطَاءٌ مَحْشُوٌّ، يُتْرَكُ على رَحْلِ البَعِير، تَحْتَ الرَّاكِب، وأصْلُه الواوُ، والميم زائدة

(2)

، وقال في موضع آخر:"نهى عن مِثيرة الأُرجوان": المِيثَرة بالكسرِ:

(1)

"التمهيد" لابن عبد البرّ 16/ 116.

(2)

"النهاية في غريب الأثر" 4/ 825.

ص: 776

مِفْعَلة، من الوَثَارة، يقال: وَثُرَ وَثارةً، فهو وَثِير؛ أي: وَطِيءٌ لَيِّن، وأصلُها: مِوْثَرة، فقُلبت الواو ياء؛ لكسرة الميم، وهي من مَراكِب العَجَم، تُعْمل من حرير، أو دِيباج.

والأُرْجُوانُ: صِبْغ أحْمَر، ويُتَّخَذ كالفِراش الصَّغير، ويُحْشَى بقُطْن، أو صوف، يَجْعَلها الرَّاكب تَحْتَه على الرِّحال، فَوقَ الجِمال، ويَدخُل فيه مَياثِر السُّروج؛ لأن النَّهْيَ يَشْمَل كلَّ مِيثَرة حَمْراء، سواء كانتْ على رَحْلٍ، أو سَرْج. انتهى

(1)

.

(قَالَ) عليّ رضي الله عنه مفسّرًا للقسِّيّ والمياثر لَمّا سأله أبو بُردة، ففي رواية أبي داود

(2)

: "قال أبو بردة: فقلنا لعليّ: ما القسية؟ قال: ثياب تأتينا من الشام، أو من مصر، مُضَلَّعةٌ، فيها أمثال الأُتْرُجّ"

(3)

. (فَأَمَّا الْقَسِّيُّ فَثِيَابٌ، مُضَلَّعَةُ)؛ أي: فيها خطوط عَريضة؛ كالأضلاع، وقال الكرمانيّ: وتضليع الثوب: جَعْلُ وَشْيِهِ على هيئة الأضلاع، غليظةً، مُعْوَجَّة. انتهى

(4)

.

وقال في "اللسان": وثياب مُضَلَّعة مُخَطّطة على شكل الضلع، قال اللحيانيّ: هو الْمُوَشَّى، وقيل: المضفَع من الثياب: الْمُسَيَّر، وقيل: هو المختلف النسج الرقيق، وقال ابن شميل: المضلع: الثوب الذي قد نُسج بعضه، وتُرك بعضه، وقيل: بُرْد مضلَّع: إذا كانت خطوطه عريضة؛ كالأضلاع، وتضليع الثوب: جَعْلُ وَشْيِهِ على هيئة الأضلاع. انتهى

(5)

.

(يُؤْتَى بِهَا) ببناء الفعل للمفعول، (مِنْ مِصْرَ وَالشَّام، فِيهَا شِبْهُ كَذَا) هكذا في رواية مسلم بالإبهام، وقد فُسّر في رواية أبي داود المذكورة بقوله:"فيها أمثال الأترجّ". (وَأَمَّا الْمَيَاثِرُ، فَشَيءٌ كَانَتْ تَجْعَلُهُ النِّسَاءُ لِبُعُولَتِهِنَّ) جمع بَعْل؛ أي: أزواجهنّ، (عَلَى الرَّحْلِ) بفتح الراء، وسكون الحاء المهملة، هو مَرْكبٌ للبعير؛ كالرَّاحُول، جَمْعه أَرْحُلٌ، ورِحالٌ، قاله المجد

(6)

.

(1)

"النهاية في غريب الأثر" 5/ 325.

(2)

"سنن أبي داود" 4/ 90.

(3)

قوله: "الأترجّ بتشديد الجيم، ويقال له: الأترنج أيضًا بتخفيف الجيم، قبلها نون ساكنة، قاله في "عمدة القاري" 15/ 22.

(4)

"عمدة القاري" 22/ 15.

(5)

"لسان العرب" 8/ 226 - 227.

(6)

"القاموس المحيط"497.

ص: 777

وقال في "العمدة": قال أبو عبيد: هي كانت من مراكب الأعاجم، من ديباج، أو حرير، وقال الهرويّ: الميثرة: مِرْفقة تُتَّخَذ لصفة السرج، وكانوا يُحَمِّرونها، وفي "المحكم": الميثرة: الثوب يُجَلَّل بها الثياب، فتَعْلُوها، وقيل: هي أغشية السروج، تُتَّخذ من الحرير، ويكون من الصوف، وغيره، وقيل: هي شيء كالفراش الصغير، يُتَّخذ من الحرير، ويُحْشَى بقطن، أو صوف، يجعلها الراكب على البعير تحته، فوق الرحل. انتهى

(1)

.

وقوله: (كَالْقَطَائِفِ) بالفتح: هي الكساء الْمُخَمَّلُ، وقيل: هي الدثار، قاله في "العمدة، وقال الفيّوميّ: جمع قَطيفة، وهي دثارٌ له خَمْلٌ، ويُجمع أيضًا على قُطف بضمّتين، قاله الفيّوميّ

(2)

.

وقوله: (الأُرْجُوَانِ) صفة لـ"القطائف"، وهو بضمّ الهمزة والجيم: اللون الأحمر، قاله الفيّوميّ

(3)

.

وقال المجد: الأُرجوان بالضمّ: الأحمر، وثيابٌ حُمْرٌ، وصِبْغٌ أحمر، والْحُمرة. انتهى

(4)

، والله تعالى أعلم.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عليّ رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [16/ 5479 و 5480 و 5481 و 5482](2078)، و (أبو داود) في "الخاتم"(4225)، و (الترمذيّ) في "اللباس"(1786)، و (النسائيّ) في "الزينة"(8/ 177 و 219)، و (ابن ماجه) في "اللباس"(3648)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 134)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(1/ 332 و 452)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(3/ 276)، وفوائد الحديث تقدّمت في شرح حديث البراء رضي الله عنه، فراجعها تستفد، والله تعالى وليّ التوفيق.

(1)

"عمدة القاري" 22/ 15.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 509.

(3)

"المصباح المنير" 1/ 222.

(4)

"القاموس المحيط" ص 496.

ص: 778

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5480]

(

) - (وَحَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ كُلَيْبٍ، عَنِ ابْنٍ لأَبِي مُوسَى، قَالَ: سَمِعْتُ عليًّا، فَذَكَرَ هَذَا الْحَدِيثَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِنَحْوِهِ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(ابْنُ أَبِي عُمَرَ) هو: محمد بن يحيى بن أبي عمر الْعَدَنيّ، ثم المكيّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(سُفْيَانُ) بن عيينة، تقدّم أيضًا قريبًا.

والباقون ذُكروا قبله، و"ابن أبي موسى" هو أبو بُردة بن أبي موسى الأشعريّ.

[تنبيه]: رواية سفيان بن عيينة عن عاصم بن كليب ساقها أبو عوانة في "مسنده"، فقال:

(8653)

- حدثنا حميد بن عياش قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا سفيان بن عيينة، عن عاصم بن كليب، عن ابن لأبي موسى، قال: سمعت عليًّا يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا علي قل اللهم إني أسألك السداد والهدى"، ونهاني عن لبس القسي وميثرة الحمراء.

وأخرجه قبل ذلك، وفيه قصّة، فقال:

(8652)

- حدّثنا أسيد بن عاصم الأصبهانيّ، قال: ثنا الحميديّ، قال: ثنا سفيان، عن عاصم، عن أبي بكر بن أبي موسى، عن عليّ بن أبي طالب قال: نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أتختم في السبابة والوسطى، قلنا له: يا أبا محمد خالفك الناس، قال: من خالفني؟ قلنا: سفيان الثوريّ وشعبة، قال: متقنين حافظين، ما قالا؟ قلنا: عن عاصم، عن أبي بردة، عن عليّ، قال: أما حفظي فأبو بكر، وهذان حافظان متقنان، وأبو بكر وأبو بردة هما ابنا أبي موسى، فحدّثنا عاصم، عن ابن أبي موسى، عن عليّ. انتهى

(1)

.

(1)

"مسند أبي عوانة" 5/ 261.

ص: 779

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5481]

(

) - (وَحَدَّثنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ، قَالَا: حَدَّثنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ كُلَيْبٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا بُرْدَةَ قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيَّ بْنَ أَبيِ طَالِبٍ قَالَ: نَهَى، أَو نَهَانِي؛ يَعْني: النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَ نَحْوَهُ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

وكلهم تقدّموا في الباب، وقيل ثلاثة أبواب.

[تنبيه]: رواية شعبة عن عاصم بن كُليب هذه لم أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5482]

(

) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا أَبُو الأَحْوَصِ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ كُلَيْبٍ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، قَالَ: قَالَ عَلِيٌّ: نَهَانِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ أَتَخَتَّمَ فِي إِصْبَعِي هَذه، أَو هَذِه، قَالَ: فَأَوْمَأَ إِلَى الْوُسْطَى، وَالَّتي تَلِيهَا).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ النيسابوريّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(أَبُو الأَحْوَصِ) سلّام بن سُليم الحنفيّ مولاهم الكوفيّ، ثقةٌ متقنٌ، صاحب حديث [7](ت 179)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 115.

والباقون ذُكروا قبله.

وقوله: (فَأَوْمَأَ إِلَى الْوُسْطَى، وَالَّتي تَلِيهَا) المراد بالتي تليها هي السبّابة، ففي رواية أبي عوانة من طريق موسى بن داود عن شعبة:"نهاني النبيّ صلى الله عليه وسلم أن أتختّم في هذه وهذه، وأشار إلى السبّابة والوسطى"، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والماب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

قال الجامع الفقير إلى مولاه الغنيّ القدير محمد ابن الشيخ العلامة عليّ بن آدم بن موسى خُويدم العلم بمكة المكرّمة:

قد انتهيتُ من كتابة الجزء الرابع والثلاثين من "شرح صحيح الإمام مسلم "المسمَّى"البحرَ المحيطَ الثّجّاج شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجّاج "

ص: 780

يوم الجمعة المبارك، وهو اليوم الحادي عشر من شهر محرَّم (11/ 1/ 1432 هـ الموافق 17 ديسمبر 2010 م).

أسأل الله العليّ العظيم ربّ العرش العظيم أن يجعله خالصًا لوجهه الكريم، وسببًا للفوز بجنات النعيم لي ولكل من تلقّاه بقلب سليم، إنه بعباده رءوف رحيم.

وآخر دعوانا: {أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس: 10].

{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} الآية [الأعراف: 43].

{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (182)} [الصافات: 180 - 182].

"اللهم صلّ على محمد، وعلى آل محمد، كما صلّيت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد، وعلى آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد".

"السلام عليك أيها النبيّ ورحمة الله وبركاته".

ويليه - إن شاء الله تعالى - الجزء الخامس والثلاثون مفتتحًا بـ (17) - (بَابُ مَا جَاءَ فِي الانْتِعَال، وَالاسْتِكْثَارِ مِنَ النِّعَالِ) رقم الحديث [5483](2096).

"سبحانك اللهمّ وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك".

* * *

ص: 781