المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

بسم الله الرحمن الرحيم يوم الجمعة (1) الحادي عشر من شهر محرَّم - البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج - جـ ٣٥

[محمد بن علي بن آدم الأثيوبي]

فهرس الكتاب

بسم الله الرحمن الرحيم

يوم الجمعة

(1)

الحادي عشر من شهر محرَّم 11/ 1/ 1432 هـ ابتدأت بكتابة أول الجزء الخامس والثلاثين من شرح "صحيح الإمام مسلم" المسمّى "البحر المحيط الثجّاج في شرح صحيح الإمام مسدم بن الحجّاج، رحمه الله تعالى.

(17) - (بَابُ مَا جَاءَ فِي الانْتِعَالِ، وَالاسْتِكْثَارِ مِنَ النِّعَالِ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5483]

(2096) - (حَدَّثَنِي سَلَمَةُ بْنُ شَبِيبٍ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَعْيَنَ، حَدَّثَنَا مَعْقِلٌ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْر، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ فِي غَزْوَةٍ غَزَوْنَاهَا: "اسْتكْثِرُوا مِنَ النِّعَال، فَإِنَّ الرَّجُلَ لَا يَزَالُ رَاكِبًا مَا انْتَعَلَ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(سَلَمَةُ بْنُ شَبِيبٍ) الْمِسْمَعيّ النيسابوريّ، نزيل مكة، ثقةٌ، من كبار [11] مات سنة بضع و (24)(م 4) تقدم في "المقدمة" 6/ 60.

2 -

(الْحَسَنُ بْنُ أَعْيَنَ) هو: الحسن بن محمد بن أعين، أبو عليّ الْحَرّانيّ، نُسب لجدّه، صدوقٌ [9](ت 210)(خ م س) تقدم في "الإيمان" 4/ 119.

3 -

(مَعْقِلُ) بن عبيد الله الْجَزَريّ، أبو عبد الله الْعَبْسيّ مولاهم، صدوقٌ يُخطئ [8](ت 166)(م د س) تقدم في "الإيمان" 4/ 119.

4 -

(أَبُو الزُّبَيْرِ) محمد بن مسلم بن تَدْرُس الأسديّ مولاهم المكيّ، صدوق يُدلّس [4](ت 126)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 119.

(1)

ذلك في الساعة العاشرة والنصف بالتوقيت الزواليّ.

ص: 5

5 -

(جَابِرُ) بن عبد الله بن عمرو بن حَرَام الأنصاريّ السَّلَميّ الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، مات بعد السبعين، وهو ابن (94) سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 117.

شرح الحديث:

(عَنْ جَابِرِ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ فِي غَزْوَةٍ غَزَوْنَاهَا) لم تسمّ تلك الغزوَة، ("اسْتَكْثِرُوا)؛ أي: أكثروا (مِنَ النِّعَالِ)؛ أي: من استعمال النعال، ولُبسها، (فَإِنَّ الرَّجُلَ) الفاء للتعليل؛ أي: لأن الرجل (لَا يَزَالُ رَاكِبًا مَا انْتَعَلَ")"ما" مصدريّة ظرفيّة؛ أي: مدّة انتعاله، قال النوويّ رحمه الله: معناه أنه شبيه بالراكب في خفة المشقّة عليه، وقلّة تَعَبه، وسلامة رِجْله مما يَعْرِض في الطريق، من خشونة، وشوك، وأذًى، ونحو ذلك، وفيه استحباب الاستظهار في السفر بالنعال، وغيرهما، مما يحتاج إليه المسافر، واستحباب وصية الأمير أصحابه بذلك. انتهى

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم: "استكثروا من النعال

إلخ" هذا كلام بليغ، ولفظ فصيح، بحيث لا يُنسج على منواله، ولا يؤتى بمثاله، وهو إرشاد إلى المصلحة، وتنبيه على ما يُخَفِّف المشقة، فإنَّ الحافي المديم للمشي يَلْقَى من الآلام، والمشقات بالعِثار، والوَجَى

(2)

، ما يقطعه عن المشي، ويمنعه من الوصول إلى مقصوده، بخلاف المنتعل؛ فإنَّه لا يحصل له ذلك، فيدوم مشيه، فيصل إلى مقصوده؛ كالرَّاكب، فلذلك شبّهه بالرَّاكب، حيث قال:"لا يزال راكبًا ما انتعل". انتهى

(3)

.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث جابر رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [17/ 5483](2096)، و (أبو داود) في "اللباس"

(1)

"شرح النوويّ" 14/ 73.

(2)

"المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" 5/ 414.

(3)

"المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" 5/ 414.

ص: 6

(4133)

، و (النسائيّ) في "الكبرى"(5/ 505)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5457 و 5458)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(5/ 363)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(5/ 202 و 8/ 262)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 337 و 360)، و (البيهقيّ) في "شُعب الإيمان"(5/ 177)، والله تعالى أعلم.

[تنبيه]: لم ينفرد معقل بن عبيد الله بروايته لهذا الحديث عن أبي الزبير، بل تابعه موسى بن عقبة، وهو ثقةٌ ثبتٌ، فرواه عنه، أخرجه الطبرانيّ في "الأوسط"

(1)

.

وتابعه أيضًا ابن لهيعة، عن أبي الزبير، أخرجه أحمد في "مسنده"

(2)

، وابن لهيعة وإن تُكُلِّم فيه إلا أنه صالح للمتابعة، ولا سيّما والراوي عنه قتيبة بن سعيد، وهو ممن قوى بعضهم روايته عن ابن لهيعة، والله تعالى أعلم.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(18) - (بَابٌ إِذَا انْتَعَلَ فَلْيَبْدَأْ بِالْيَمِينِ، وَإِذَا خَلَعَ فَلْيَبْدَأْ بِالشِّمَالِ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5484]

(2097) - (حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَلَّام الْجُمَحِي، حَدَّثَنَا الرَّبِيعُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ مُحَمَّدٍ - يَعْني: ابْنَ زِيَادٍ - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِذَا انْتَعَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَبْدَأْ بِالْيُمْنَى، وَإِذَا خَلَعَ فَلْيَبْدَأْ بِالشِّمَالِ، وَلْيُنْعِلْهُمَا جَمِيعًا، أَو لِيَخْلَعْهُمَا جَمِيعًا").

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَلَّام

(3)

الْجُمَحِيُّ) مولاهم، أبو حرب البصريّ، أخو محمد الأخباريّ، صدوقٌ [10](ت 231) أو بعدها (م) من أفراد المصنّف تقدم في "الإيمان" 100/ 526.

(1)

"المعجم الأوسط" 5/ 202.

(2)

"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 3/ 360.

(3)

بتشديد اللام.

ص: 7

2 -

(الرَّبِيعُ بْنُ مُسْلِم) الْجُمَحيّ، أبو بكر البصريّ، ثقةٌ [7](ت 167)(بخ م د ت س) تقدم في "الإيمان" 100/ 526.

3 -

(مُحَمَّدُ بْنُ زِيادٍ) الْجُمحيّ مولاهم، أبو الحارث المدنيّ، نزيل البصرة، ثقةٌ ثبتٌ ربما أرسل [3](ع) تقدم في "الإيمان" 92/ 500.

4 -

(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه تقدم في "المقدمة" 2/ 4.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (419) من رباعيّات الكتاب، وهو مسلسل بالبصريين، غير الصحابيّ، فمدنيّ رضي الله عنه.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِذَا انْتَعَلَ)؛ أي: لبس النعل، (أَحَدُكُمْ فَلْيَبْدَأْ بِالْيُمْنَى) وفي لفظ للبخاريّ:"باليمين"، (وإِذَا خَلَعَ فَلْيَبْدَأْ بِالشِّمَالِ)؛ أي: بخلع النعل التي على الرِّجل الشمال، زاد في رواية البخاريّ:"لتكن اليمنى أولهما تُنعل، وآخرهما تُنزع"، قال في "الفتح": زعم ابن وضاح فيما حكاه ابن التين أن هذا القَدْر - يعني قوله: "لتكن اليمنى

إلخ" - مدرجٌ، وأن المرفوع انتهى عند قوله: "بالشمال"، وضَبَط قوله: "أولهما"، و"آخرهما" بالنصب على أنه خبر "كان"، أو على الحال، والخبر: "تُنْعَل"، و"تُنْزَع"، وضُبطا بمثناتين فوقانيتين، وتحتانيتين، مذكَّرتين، باعتبار النَّعْل، والْخَلَع.

(وَلْيُنْعِلْهُمَا) بضمّ أوله، من الإنعال؛ أي: ليُلبس الرِّجلين نعلًا، (جَمِيعًا) قال ابن عبد البرّ رحمه الله: أراد القدمين - أي بقوله: "ينعلهما" - وإن لم يَجْر لهما ذِكْر، وهذا مشهور في لغة العرب، وورد في القرآن:{أَنْ يُؤْتَى} [آل عمران: 73] بضمير لم يتقدم له ذِكر؛ لدلالة السياق عليه.

وقوله: "ينعلهما" ضبطه النوويّ بضم أوله، من أنعل، وتعقبه العراقيّ في "شرح الترمذيّ" بأن أهل اللغة قالوا: نَعَلَ، بفتح العين، وحُكِي كسرها، وانتعل؛ أي: لبس النعل، لكن قد قال أهل اللغة أيضًا: أنعل رِجله: ألبسها نَعْلًا، ونَعَلَ دابته: جَعَل لها نعلًا، وقال صاحب:"المحكم": أنعل الدابةَ والبعيرَ، ونَعَّلهما، بالتشديد، وكذا ضبطه عياض في حديث عمر رضي الله عنه: أن

ص: 8

غسان تُنْعِل الخيل، بالضم؛ أي: تجعل لها نعالًا، والحاصل أن الضمير إن كان للقدمين جاز الضم والفتح، وإن كان للنعلين تعيَّن الفتح، قاله في "الفتح"

(1)

.

(أَو لِيَخْلَعْهُمَا جَمِيعًا") كذا في رواية مسلم، والضمير يعود على النعلين؛ لأن ذِكْر النعل قد تقدم، ووقع في رواية البخاريّ، وكذا هو في "الموطّأ":"أو لِيُحْفهما جميعًا"، قال النوويّ: وكلا الروايتين صحيح، والله أعلم.

وفي الرواية التالية: "لا يمش أحدكم في نعل واحدة، ليُنعلهما جميعًا، أو ليخلعهما جميعًا".

قال الخطابيّ رحمه الله: الحكمة في النهي أن النعل شُرعت لوقاية الرِّجل عما يكون في الأرض، من شوك، أو نحوه، فإذا انفردت إحدى الرجلين احتاج الماشي أن يتوقى لاحدى رجليه ما لا يتوقى للأخرى، فيخرج بذلك عن سجية مشيه، ولا يأمن مع ذلك من العثار، وقيل: لأنه لم يَعْدِل بين جوارحه، وربما نُسب فاعل ذلك إلى اختلال الرأي، أو ضَعفه.

وقال ابن العربيّ: قيل: العلة فيها أنها مِشية للشيطان، وقيل: لأنها خارجة عن الاعتدال.

وقال البيهقيّ: الكراهة فيه للشهرة، فتمتدّ الأبصار لمن يُرَى ذلك منه، وقد ورد النهي عن الشهرة في اللباس، فكل شيء صَيّر صاحبه ذا شهرة، فحقّه أن يُجتنب.

وأما ما أخرجه مسلم من طريق أبي رَزين، عن أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ:"إذا انقطع شِسْع أحدكم فلا يمش في نعل واحدة، حتى يصلحها"، وله من حديث جابر:"حتى يصلح نعله"، وله ولأحمد من طريق همام، عن أبي هريرة:"إذا انقطع شسع أحدكم، أو شراكه، فلا يمش في إحداهما بنعل، والأخرى حافية، ليُحفهما جميعًا، أو لينعلهما جميعًا"، فهذا لا مفهوم له حتى يدلّ على الإذن في غير هذه الصورة، وإنما هو تصويرٌ خرج مخرج الغالب، ويمكن أن يكون من مفهوم الموافقة، وهو التنبيه بالأدنى على الأعلى؛ لأنه إذا

(1)

"الفتح" 13/ 345، كتاب "اللباس" رقم (5855).

ص: 9

مُنع مع الاحتياج فمع عدم الاحتياج أَولى، وفي هذا التقرير استدراك على من أجاز ذلك حين الضرورة، وليس كذلك، وإنما المراد أن هذه الصورة قد يُظنّ أنها أخفّ لكونها للضرورة المذكورة، لكن لعلة موجودة فيها أيضًا، وهو دالّ على ضَعف ما أخرجه الترمذيّ عن عائشة رضي الله عنها، قالت:"ربما انقطع شسع نعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمشى في النعل الواحدة حتى يصلحها"، وقد رَجّح البخاريّ وغير واحد وَقْفه على عائشة.

وأخرج الترمذيّ بسند صحيح عن عائشة أنها كانت تقول: "لأخيفن أبا هريرة، فيمشي في نعل واحدة"، وكذا أخرجه ابن أبي شيبة موقوفًا، وكأنها لم يبلغها النهي، وقولها:"لأخيفن" معناه: لأفعلنّ فعلًا يخالفه، وقد اختُلِف في ضبطه، فرُوي "لأخالفن"، وهو أوضح في المراد، ورُوي:"لأُحَنّثنّ"، من الحِنث بالمهملة، والنون، والمثلثة، واستُبْعِد، لكن يمكن أن يكون بلغها أن أبا هريرة حَلَف على كراهية ذلك، فأرادت المبالغة في مخالفته، ورُوي:"لأخيفنّ" بكسر المعجمة، بعدها تحتانية ساكنة، ثم فاء، وهو تصحيف، وقد وُجِّهت بأن مرادها أنه إذا بلغه أنها خالفته أمسك عن ذلك؛ خوفًا منها، وهذا في غاية البُعد، وقد كان أبو هريرة يَعْلَم أن من الناس من يُنكر عليه هذا الحكم، ففي رواية مسلم الآتية من طريق أبي رَزِين: "خَرَج إلينا أبو هريرة، فضرب بيده على جبهته، فقال: أما إنكم تَحَدَّثون أني أكذب، لتهتدوا، وأضلّ، أشهد لسمعت

"، فذكر الحديث.

وقد وافق أبا هريرة جابر على رفع الحديث، فأخرج مسلم من طريق ابن جريج: أخبرني أبو الزبير، أنه سمع جابرًا يقول: "إن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: لا يمش في نعل واحدة

" الحديث، ومن طريق مالك، عن أبي الزبير، عن جابر: "نَهَى النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يأكل الرجل بشماله، أو يمشي في نعل واحدة"، ومن طريق أبي خيثمة، عن أبي الزبير، عن جابر، رفعه: "إذا انقطع شِسْع أحدكم، فلا يمش في نعل واحدة، حتى يُصلح شِسْعه، ولا يمشي في خُفّ واحد".

قال ابن عبد البرّ: لم يأخذ أهل العلم برأي عائشة في ذلك.

وقد ورد عن عليّ، وابن عمر أيضًا أنهما فعلا ذلك، وهو إما أن يكون بلغهما النهي، فحملاه على التنزيه، أو كان زمن فِعلهما يسيرًا بحيث يُؤمَن معه

ص: 10

المحذور، أو لم يبلغهما النهي، أشار إلى ذلك ابن عبد البرّ، ذَكَره في "الفتح"

(1)

، والله تعالى أعلم.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [18/ 5484 و 5485](2097)، و (البخاريّ) في "اللباس"(5856)، و (أبو داود) في "اللباس"(4139)، و (الترمذيّ) في "اللباس"(1779) و"الشمائل"(79)، و (ما لك) في "الموطّأ"(2/ 916)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 245)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5455)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(5/ 265)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(6/ 252)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 432) و"شُعَب الإيمان"(5/ 178)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(3155)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده

(2)

:

1 -

(منها): بيان مشروعيّة الابتداء باليمنى في الانتعال، قال ابن العربيّ: البداءة باليمين مشروعة في جميع الأعمال الصالحة، لفضل اليمين حِسًّا في القوّة، وشرعًا في الندب إلى تقديمها.

وقال النوويّ: يُستحبّ البداءة باليمنى في كل ما كان من باب التكريم، والزينة، والنظافة، ونحو ذلك؛ كلبس النعل، والخفّ، والمَداس، والسراويل، والكمّ، وحلق الرأس، وترجيله، وقصّ الشارب، ونتف الإبط، والسواك، والاكتحال، وتقليم الأظفار، والوضوء، والغسل، والتيمم، ودخول المسجد، والخروج من الخلاء، ودفع الصدقة، وغيرها، من أنواع الدفع الحسنة، وتناوُل الأشياء الحسنة، ونحو ذلك. انتهى

(3)

.

2 -

(ومنها): بيان مشروعيّة تقديم اليسرى على اليمنى في الخَلع، قال

(1)

"الفتح" 13/ 345، كتاب "اللباس" رقم (5855).

(2)

المراد فوائد أحاديث الأبواب الثلاثة المتعلّقة بالكلام في النعال، فتنبّه.

(3)

"شرح النوويّ" 14/ 74.

ص: 11

النوويّ رحمه الله: يُستحبّ البداءة باليسار في كل ما هو ضدّ السابق في المسألة الأُولى، فمن ذلك خلع النعل، والخفّ، والمداس، والسراويل، والكمّ، والخروج من المسجد، ودخول الخلاء، والاستنجاء، وتناول أحجار الاستنجاء، ومسّ الذكر، والامتخاط، والاستنثار، وتعاطي المستقذرات، وأشباهها. انتهى

(1)

.

وقال الْحَلِيميّ رحمه الله: وجه الابتداء بالشمال عند الخلع أن اللبس كرامة؛ لأنه وقاية للبدن، فلما كانت اليمنى أكرم من اليسرى بُدئ بها في اللبس، وأُخِّرت في الخلع؛ لتكون الكرامة لها أدوم وحظها منها أكثر.

وقال ابن عبد البرّ رحمه الله: من بدأ بالانتعال في اليسرى أساء؛ لمخالفة السُّنَّة، ولكن لا يحرم عليه لُبس نعله، وقال غيره: ينبغي له أن ينزع النعل من اليسرى، ثم يبدأ باليمنى، ويمكن أن يكون مراد ابن عبد البر ما إذا لبسهما معًا، فبدأ باليسرى، فإنه لا يشرع له أن ينزعهما، ثم يلبسهما على الترتيب المأمور به؛ إذ قد فات محله، ونقل عياض وغيره الإجماع على أن الأمر فيه للاستحباب، والله أعلم.

3 -

(ومنها): بيان النهي عن المشي في نعل واحدة، قال النوويّ رحمه الله: يُكره المشي في نعل واحدة، أو خفّ واحد، أو مداس واحد، لا لعذر، ودليله هذه الأحاديث التي ذكرها مسلم، قال العلماء: وسببه أن ذلك تشويه، ومُثلةٌ، ومخالف للوقار، ولأن المنتعَلة تصير أرفع من الأخرى، فيعسر مشيه، وربما كان سببًا للعِثَار، وهذه الآداب الثلاثة التي في المسائل الثلاث مُجْمَع على استحبابها، وأنها ليست واجبةً، وإذا انقطع شسعه، ونحوه، فليخلعهما، ولا يمشي في الأخرى وحدها، حتى يُصلحها، ويُنعلها، كما هو نصّ في الحديث. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: إن صحّ الإجماع الذي ادّعاه النوويّ في عدم وجوب هذه الثلاثة من الابتداء باليمنى في الانتعال، وباليسرى في الخلع، ومن النهي عن المشي بنعل واحدة، فذاك، وإلا فظاهر النصّ الوجوب والتحريم؛

(1)

"شرح النوويّ" 14/ 74 - 75.

ص: 12

لأنه بصيغة الأمر والنهي، وهما للوجوب، والتحريم ما لم يصرف عن ذلك صارف، فإن صحّ الإجماع فهو الصارف، وإلا فالأصل البقاء على الوجوب والتحريم، فتأمل بالإنصاف، ولا تكن أسير التقليد، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5485]

(

) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنْ أَبِي الزِّنَاد، عَنِ الأَعْرَج، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا يَمْشِ أَحَدُكُمْ فِي نَعْلٍ وَاحِدَةٍ، لِيُنْعِلْهُمَا جَمِيعًا، أَو لِيَخْلَعْهُمَا جَمِيعًا").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

وكلهم تقدّموا في السند الماضي، وقبل أبواب، وشرح الحديث يُعلم مما قبله.

وقوله: (لَا يَمْشِ أَحَدُكُمْ فِي نَعْلٍ وَاحِدَةٍ

إلخ) هذا خطاب لمن انقطع شِسْع أحد نعليه، فنهاه عن أن يمشي في نعل واحدة؛ لأنَّ ذلك من باب التشويه، والمُثلة، ولأنه مخالف لزيّ أهل الوقار، وقد يُخِلّ بالمشي، وهذا كما قد جاء في الحديث المفسَّر بعد هذا، ويجيء حديث أبي هريرة الذي قال فيه:"إذا انقطع شسع أحدكم، فلا يمشي في الأخرى حتى يصلحها"، وقد اختلف علماؤنا في ذلك، فقال مالك بظاهر هذا الحديث: إن من انقطع نعله لم يمش في الأخرى، ولا يقف فيها، وإن كان في أرضٍ حارَّة ليُحفها، ولا بدَّ حتى يصلح الأخرى إلا في الوقوف الخفيف، والمشي اليسير، وقد رخص بعض السلف في المشي في نعل واحدة، وهو قولٌ مردود بالنُّصوص المذكورة، ولا خلاف في أن أوامر هذا الباب ونواهيه إنما هي من الآداب المكملة، وليس منها شيء على الوجوب، ولا الحظر عند معتبَرٍ بقوله من العلماء، والله تعالى أعلم. انتهى

(1)

.

وقال عياض

(2)

: رُوي عن بعض السلف في المشي في نعل واحدة، أو خفّ واحد أثر لم يصحّ، أو له تأويل في المشي اليسير بقدر ما يُصلح

(1)

"المفهم" 5/ 415 - 416.

(2)

"إكمال المعلم" 6/ 616.

ص: 13

الأخرى، والتقييد بقوله:"لا يمش" قد يَتمسك به من أجاز الوقوف بنعل واحدة، إذا عَرَضَ للنعل ما يحتاج إلى إصلاحها، وقد اختُلِف في ذلك، فنقل عياض عن مالك أنه قال: يخلع الأخرى، ويقف، إذا كان في أرض حارّة، أو نحوها، مما يضر فيه المشي فيه حتى يصلحها، أو يمشي حافيًا إن لم يكن ذلك، قال ابن عبد البرّ: هذا هو الصحيح في الفتوى، وفي الأثر، وعليه العلماء، ولم يتعرض لصورة الجلوس، والذي يظهر جوازها؛ بناء على أن العلة في النهي ما تقدَّم ذِكره، إلا ما ذُكر من إرادة العدل بين الجوارح، فإنه يتناول هذه الصورة أيضًا، قاله في "الفتح"

(1)

.

وقال في "الفتح" أيضًا: قد يدخل في هذا كل لباس شَفْع؛ كالخفين، وإخراج اليد الواحدة من الكمّ دون الأخرى، وللتردي على أحد المنكبين دون الآخر، قاله الخطابيّ، قال: وقد أخرج ابن ماجه حديث الباب من رواية محمد بن عجلان، عن سعيد المقبريّ، عن أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ:"لا يمش أحدكم في نعل واحدة، ولا خُفّ واحد"، وهو عند مسلم أيضًا من حديث جابر، وعند أحمد من حديث أبي سعيد، وعند الطبرانيّ من حديث ابن عباس، وإلحاق إخراج اليد الواحدة من الكمّ، وترك الأخرى بلُبس النعل الواحدة، والخفّ الواحد بعيد، إلا إن أُخذ من الأمر بالعدل بين الجوارح، وترك الشهرة، وكذا وضْع طَرَف الرداء على أحد المنكبين، والله أعلم. انتهى

(2)

.

والحديث تقدّم تمام البحث فيه، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5486]

(2098) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْبٍ - وَاللَّفْظُ لأَبِي كُرَيْبٍ - قَالَا: حَدَّثَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ، عَنِ الأَعْمَش، عَنْ أَبِي رَزِينٍ، قَالَ: خَرَجَ إِلَيْنَا أَبُو هُرَيْرَةَ، فَضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى جَبْهَتِه، فَقَالَ: أَلَا إِنَّكُمْ تَحَدَّثُونَ أَنِّي أَكْذِبُ

(1)

"الفتح" 13/ 345، كتاب "اللباس" رقم (5855).

(2)

"الفتح" 13/ 345 - 346، كتاب "اللباس" رقم (5855).

ص: 14

عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، لِتَهْتَدُوا، وَأَضِلَّ، أَلَا، وَإِنِّي أَشْهَدُ لَسَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:"إِذَا انْقَطَعَ شِسْعُ أَحَدِكُمْ فَلَا يَمْشِ في الأُخْرَى، حَتَّى يُصْلِحَهَا").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(الأَعْمَشُ) سليمان بن مِهْران الأسديّ الكاهليّ مولاهم، أبو محمد الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ ورعٌ، لكنه يُدلّس [5](ت 147)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 297.

2 -

(أَبُو رَزِينٍ) مسعود بن مالك الأسديّ الكوفيّ، ثقةٌ فاضلٌ [2](ت 85)(بخ م 4) تقدم في "الطهارة" 26/ 650.

والباقون ذُكروا في الباب، وقبل أبواب، و"ابن إدريس" هو: عبد الله بن إدريس الأوديّ الكوفيّ.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي رَزِينٍ) بفتح أوله، وكسر ثانيه، مسعود بن مالك الأسديّ أنه (قَالَ: خَرَجَ إِليْنَا أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (فَضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى جَبْهَتِهِ) إنما ضَرب أبو هريرة رضي الله عنه بيده على جبهته - والله أعلم - تعجّبًا، واستغرابًا لاتهامهم له، والظاهر أنه سمع بإنكار عائشة رضي الله عنها عليه، فقد تقدّم أنها كانت تقول: لأخيفنّ أبا هريرة، فيمشي بنعل واحدة، وقد تقدّم الخلاف في ضَبْطه، والظاهر أنها لم يبلغها النهي عن ذلك، وقد حفظه أبو هريرة، وهو لم ينفرد به، بل رواه معه جابر بن عبد الله رضي الله عنهم، كما سيأتي عند مسلم في التالي، والله تعالى أعلم.

(فَقَالَ) أبو هريرة (أَلَا) أداة استفتاح وتنبيه، (إِنَّكُمْ تَحَدَّثُونَ) بحذف إحدى التائين تخفيفًا، كما قال في "الخلاصة":

وَمَا بتَاءَيْنِ ابْتُدِي قَدْ يُقْتَصَرْ

فِيهِ عَلَى تَا كَـ "تَبَيَّنُ الْعِبَرْ"

(أَنِّي أَكْذِبُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، لِتَهْتَدُوا) اللام لام الأمر؛ أي: لتكن الهداية لكم، (وَأَضِلَّ)؛ أي: ليكن الضلال لي، وفي رواية أحمد في "مسنده"، عن أبي رَزِين، عن أبي هريرة قال: رأيته يضرب جبهته بيده، ويقول: يا أهل العراق تزعمون أني أكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليكن لكم المهنأ، وعليّ الإثم، أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا انقطع شِسْع أحدكم

" الحديث.

ص: 15

(أَلَا، وَإِنِّي أَشْهَدُ لَسَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِذَا انْقَطَعَ شِسْعُ أَحَدِكُمْ) - بكسر الشين المعجمة، وسكون السين المهملة، بعدها عين مهملة -: السَّيْرُ الذي يُجعَل فيه إصبع الرِّجْل من النعل، والشِّرَاك - بكسر الشين المعجمة، وتخفيف الراء، وآخره كاف -: أحد سيور النعل التي تكون في وجهها، وكلاهما يَختلّ المشي بفقده. (فَلَا) ناهية، ولذا جُزم بها قوله:(يَمْشِ فِي الأُخْرَى، حَتى يُصْلِحَهَا")؛ أي: إلى أن يُصلح المنقطع شِسْعُها، والله تعالى أعلم.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا بهذا السياق من أفراد المصنف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [18/ 5486 و 15487](2098)، و (النسائيّ) في "الزينة"(8/ 217 و 218) و"الكبرى"(5/ 505)، و (ابن ماجه) في "اللباس"(3617)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(20216)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(5/ 175)، و (الحميديّ) في "مسنده"(2/ 480)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 424 و 443 و 477 و 480 و 528)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(98)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5459)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(5/ 266)، و (البيهقيّ) في "شُعَب الإيمان"(7/ 117)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(3158)، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5487]

(

) - (وَحَدَّثَنِيهِ عَليُّ بْنُ حُجْرٍ السَّعْدِيُّ، أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، أَخْبَرَنَا الأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي رَزِينٍ، وَأَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِهَذَا الْمَعْنَى).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ السَّعْدِيُّ) المروزيّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ) الكوفيّ، قاضي الموصل، تقدّم أيضًا قريبًا.

ص: 16

3 -

(أَبُو صَالِحٍ) ذكوان السمّان الزّيات المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ [3](101)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 4.

والباقون ذُكروا قبله.

[تنبيه]: رواية أبي رزين، وأبي صالح كلاهما عن أبي هريرة رضي الله عنه ساقها أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(10191)

- حدّثنا عبد الله، حدّثني أبي، ثنا وكيع، قال: ثنا الأعمش، عن أبي صالح، وأبي رَزِين، عن أبي هريرة يرفعه، قال:"إذا انقطع شسع أحدكم، فلا يمش في النعل الواحدة". انتهى

(1)

.

[تنبيه آخر]: قوله في هذه الرواية: "عن أبي رزين، وأبي صالح

إلخ" قال الحافظ أبو عليّ الجيّانيّ رحمه الله: هكذا وقع في جميع النسخ عندنا: الأعمش، عن أبي رزين، وأبي صالح مقرونين، عن أبي هريرة، وقال أبو مسعود الدمشقيّ: إنما يرويه أبو رزين عن أبي صالح، عن أبي هريرة، وكذلك خرّجه في كتابه عن مسلم، وذكر أن عليّ بن مسهر تفرّد بهذا. انتهى

(2)

.

قال النوويّ - بعد نقل ما ذُكر -: وهذا استدراك فاسدٌ؛ لأن أبا رزين قد صَرَّح في الرواية الأولى بسماعه من أبي هريرة بقوله: "خرج إلينا أبو هريرة

إلى آخره". انتهى

(3)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قوله: تفرّد عليّ بن مسهر بهذا غير صحيح، فقد تابعه وكيع كما أسلفته آنفًا في التنبيه الماضي عن رواية الإمام أحمد، وكذلك عنده أبو معاوية، ونصّه:

(7440)

- حدّثنا عبد الله، حدّثني أبي، ثنا أبو معاوية، ثنا الأعمش، عن أبي صالح، وأبي رَزِين، عن أبي هريرة، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم، فليغسله سبع مرات، وإذا انقطع شسع أحدكم، فلا يمشي في نعله الأخرى حتى يصلحها". انتهى

(4)

.

(1)

"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 2/ 477.

(2)

"تقييد المهمل" 3/ 901 - 902.

(3)

"شرح النوويّ" 14/ 75.

(4)

"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 2/ 253.

ص: 17

والحاصل أنه اتفق الثلاثة: عليّ بن مسهر، ووكيع، وأبو معاوية عن الأعمش، عن أبي صالح، وأبي رزين، فبطل بهذا دعوى تفرّد علي بن مسهر.

وخلاصة القول أن الحديث صحيح، كما هو صنيع مسلم رحمه الله هنا، والله تعالى أعلم.

(19) - (بَابُ النَّهْيِ عَنِ اشْتِمَالِ الصَّمَّاء، وَالاحْتِبَاءِ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5488]

(2099) - (وَحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ - فِيمَا قُرِئَ عَلَيْهِ - عَنْ أَبِي الزُّبَيْر، عَنْ جَابِرٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى أَنْ يَأْكُلَ الرَّجُلُ بِشِمَالِه، أَو يَمْشِيَ فِي نَعْلٍ وَاحِدَةٍ، وَأَنْ يَشْتَمِلَ الصَّمَّاءَ، وَأَنْ يَحْتَبِيَ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، كَاشِفًا عَنْ فَرْجِهِ).

رجال هذا الإسناد: أربعة:

- (قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) الثقفيّ، تقدّم قريبًا.

والباقون تقدّموا قبل باب.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله؛ كالأسانيد الثلاثة التالية، وهو (420) من رباعيّات الكتاب.

شرح الحديث:

(عَنْ جَابِرٍ) رضي الله عنه، وسيأتي في الباب التالي من طريق ابن جريج، قال:"أخبرني أبو الزبير، أنه سمع جابر بن عبد الله"، فصرّح أبو الزبير بالسماع. (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى أَنْ يَأْكُلَ الرَّجُلُ بِشِمَالِهِ) فيه تحريم الأكل بالشمال، وقد تقدّم البحث فيه مستوفًى في "الأطعمة" [1/ 5253] (2019) فما بعده. (أَو يَمْشِيَ فِي نَعْلٍ وَاحِدَةٍ) قال الفيّوميّ: النعل: الْحِذَاءُ، وهي مؤنّثةٌ، وتُطلق على التاسومة، والجمع أَنْعُلٌ، وبعَالٌ، مثلُ سَهْمٍ، وأَسْهُمٍ، وسِهَامٍ، ورجلٌ ناعلٌ

ص: 18

معه نَعْلٌ، فإذا لَبِسَ النعلَ قيل: نَعَلَ يَنْعَلُ بفتحتين، وتنعّل، وانتعلَ. انتهى

(1)

.

وقال المجد: النعل: ما وَقَيتَ به القدم من الأرض؛ كالنعلة مؤنّثةٌ، جمعه نِعَالٌ. انتهى

(2)

.

وقد سبق البحث مستوفًى في المشي بالنعل الواحدة في الباب الماضي، ولله الحمد والمنّة.

(وَأَنْ يَشْتَمِلَ) الرجل (الصَّمَّاءَ)؛ أي: أن يلتحف بالثوب من غير أن يجعل له موضعًا تخرج منه اليد، قاله الفيّوميّ

(3)

، وقال في موضع آخر: اشتمال الصمّاء أن يُجَلِّلَ جسده كلَّهُ بالكساء، أو بالإزار، وزاد بعضهم على ذلك: لم يَرفع شيئًا من جوانبه. انتهى

(4)

.

وقال النوويّ رحمه الله: وأما اشتمال الصماء بالمدّ، فقال الأصمعيّ: هو أن يشتمل بالثوب حتى يُجَلِّل به جسده، لا يرفع منه جانبًا، فلا يبقى ما يُخرج منه يده، وهذا يقوله أكثر أهل اللغة، قال ابن قتيبة: سُمِّيت صماء؛ لأنه سدّ المنافذ كلّها؛ كالصخرة الصماء التي ليس فيها خَرْقٌ، ولا صَدْعٌ، قال أبو عبيد: وأما الفقهاء فيقولون: هو أن يشتمل بثوب، ليس عليه غيره، ثم يرفعه من أحد جانبيه، فيضعه على أحد منكبيه، قال العلماء: فعلى تفسير أهل اللغة يُكره الاشتمال المذكور؛ لئلا تَعْرِض له حاجة من دفع بعض الهوام، ونحوها، أو غير ذلك، فيعسر عليه، أو يتعذر، فيلحقه الضرر، وعلى تفسير الفقهاء يَحْرم الاشتمال المذكور، إن انكشف به بعض العورة، وإلا فيُكره. انتهى

(5)

.

ووقع في رواية للبخاريّ في "كتاب اللباس" من طريق يونس، عن ابن شهاب تفسير اشتمال الصمّاء، ولفظه:"والصمّاء أن يجعل ثوبه على أحد عاتقيه، فيبدوَ أحد شِقّيه، ليس عليه ثوبٌ". قال في "الفتح" ما معناه: ظاهر هذا السياق أن التفسير المذكور في هذه الرواية مرفوع، وهو موافقٌ لِمَا قال الفقهاء، قال: وعلى تقدير أن يكون موقوفًا، فهو حجة على الصحيح؛ لأنه

(1)

"المصباح المنير" 2/ 613.

(2)

"القاموس المحيط"1298.

(3)

"المصباح المنير" 1/ 348.

(4)

"المصباح المنير" 1/ 323.

(5)

"شرح النوويّ" 14/ 76.

ص: 19

تفسير من الراوي، لا يُخالف ظاهر الخبر. انتهى

(1)

.

(وَأَنْ يَحْتَبِيَ) الرجل (فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ) حال كونه (كَاشِفًا عَنْ فَرْجِهِ) قال النوويّ رحمه الله: وأما الاحتباء بالمدّ، فهو أن يَقعُد الإنسان على أليتيه، وينصب ساقيه، وَيَحْتَوِي عليهما بثوب، أو نحوه، أو بيده، وهذه القِعْدة يقال لها: الْحُبْوة، بضم الحاء، وكسرها، وكان هذا الاحتباء عادةً للعرب في مجالسهم، فإن انكشف معه شيء من عورته، فهو حرام، والله أعلم. انتهى

(2)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: كانت عادة العرب أن يحتبي الرجل بردائه، فيشُدّ على ظهره، وعلى ركبتيه، كان عليه إزارٌ، أو لم يكن، فإن لم يكن انكشف فرجه مما يلي السماء لمن كان متطلّعًا عليه، متتبّعًا. انتهى

(3)

.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث جابر رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [19/ 5488 و 5489](2099)، و (أبو داود) في "اللباس"(4137 و 4865)، و (النسائيّ) في "الزينة"(8/ 210)، و (الترمذيّ) في "اللباس"(2766 و 2767) و"الشمائل"(78)، و (ابن ماجه) في "اللباس"(2767)، و (مالك) في "الموطّأ"(2/ 922)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(8/ 294)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 222 و 293 و 297 و 299 و 327 و 349 و 357 و 362 و 367)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5225)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(4/ 277)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(2031)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(5/ 267)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 224)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان النهي عن الأكل بالشمال، وهو للتحريم، وقد تقدّم البحث فيه مستوفى في بابه، ولله الحمد والمنّة.

(1)

"الفتح" 2/ 80 - 81، كتاب "الصلاة" رقم (367).

(2)

"شرح النوويّ" 14/ 76.

(3)

"المفهم" 5/ 416 - 417.

ص: 20

2 -

(ومنها): بيان النهي عن المشي بنعل واحدة، وقد سبق تمام البحث في الباب الماضي.

3 -

(ومنها): بيان النهي عن اشتمال الصمّاء، وقد تقدّم اختلاف الفقهاء، واللغويين في تفسيره، وعلى كلّ من التفسيرين فهي ممنوعة.

4 -

(ومنها): النهي عن الاحتباء، وسبب النهي عنه انكشاف عورته، فلو كان لابسًا للسراويل، ونحوه، بحيث لا تظهر عورته عند الاحتباء، جاز الاحتباء، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5489]

(

) - (حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثنَا زُهَيْرٌ، حَدَّثَنَا أَبُو الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ (ح) وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا أَبُو خَيْثَمَةَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، أَو سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:"إِذَا انْقَطَعَ شِسْعُ أَحَدِكُمْ - أَو مَنِ انْقَطَعَ شِسْعُ نَعْلِهِ - فَلَا يَمْشِي فِي نَعْلٍ وَاحِدَةٍ، حَتَّى يُصْلِحَ شِسْعَهُ، وَلَا يَمْشِي فِي خُفٍّ وَاحِدٍ، وَلَا يَأْكُلُ بِشِمَالِه، وَلَا يَحْتَبِي بِالثَّوْبِ الْوَاحِد، وَلَا يَلْتَحِفُ الصَّمَّاءَ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ) هو: أحمد بن عبد الله بن يونس التميميّ اليربوعيّ الكوفيّ، ثقةٌ حافظ، من كبار [10](ت 227) وهو ابن (94) سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 53.

2 -

(زُهَيْرُ) بن معاوية بن حُدَيج الْجُعفيّ، أبو خيثمة الكوفيّ، نزيل الجزيرة، ثقةٌ ثبتٌ [7](ت 2 أو 3 أو 174)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 62.

والباقون ذُكِروا في الباب، وقبل باب، والإسنادان من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهما (421 و 422).

والحديث من أفراد المصنّف، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله قبله.

وقوله: (فَلَا يَمْشِي

إلخ) هكذا النسخة الهندية: "يَمْشِي" بإثبات الياء، في "يمشي" في الموضعين، فتكون "لا" نافية، والفعل بعدها مرفوع، ووقع في النسخ الأخرى بإسقاط الياء، فـ "لا" ناهية، جزمت الأفعال، ووقع في بعض النسخ:"ولا يحتبي" بإثبات الياء فيه فقط، فيَحتَمِل أن يكون من إجراء المعتلّ

ص: 21

مُجرى الصحيح، وهو لغة على ما قاله في "همع الهوامع"، وعليه قراءة قُنبل:(إنه من يتقي ويصبر) بإثبات الياء في {يَتَّقِي] وجزم (يصبر)

(1)

، والله تعالى أعلم.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(20) - (بَابٌ فِي مَنْعِ الاسْتِلْقَاءِ عَلَى الظَّهْر، وَوَضْعِ إِحْدَى الرِّجْلَيْنِ عَلَى الأُخْرَى)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5490]

(

) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ (ح) وَحَدَّثَنَا ابْنُ رُمْحٍ، أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْر، عَنْ جَابِرٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنِ اشْتِمَالِ الصَّمَّاء، وَالاحْتِبَاءِ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، وَأَنْ يَرْفَعَ الرَّجُلُ إِحْدَى رِجْلَيْهِ عَلَى الأُخْرَى، وَهُوَ مُسْتَلْقٍ عَلَى ظَهْرِهِ).

رجال هذين الإسنادين: خمسة:

وكلّهم تقدّموا قريبًا، والإسنادان من رباعيّات المصنّف رحمه الله؛ كالإسنادين الماضيين، وهما (423 و 424).

شرح الحديث:

(عَنْ جَابِرٍ) رضي الله عنه (أنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنِ اشْتِمَالِ الصَّمَّاءِ) تقدّم شرحه في الباب الماضي، (وَالاحْتِبَاءِ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ) قال القرطبيّ رحمه الله: كانت عادة العرب أن يحتبي الرجل بردائه، فيشدّه على ظهره، وعلى ركبتيه، كان عليه إزارٌ، أو لم يكن، فإن لم يكن انكشف فرجه مما يلي السماء لمن كان متطلّعًا عليه، متتبّعًا، وقد تقدّم في "كتاب الصلاة". انتهى

(2)

.

(وَأَنْ يَرْفَعَ الرَّجُلُ إِحْدَى رِجْلَيْهِ عَلَى الأُخْرَى، وَهُوَ مُسْتَلْقٍ عَلَى ظَهْرِهِ) قال

(1)

راجع: "حاشية الخضري على شرح ابن عَقِيل" 1/ 90.

(2)

"المفهم" 5/ 416 - 417.

ص: 22

النوويّ رحمه الله: قال العلماء: أحاديث النهي عن الاستلقاء، رافعًا إحدى رجليه على الأخرى محمولة على حالة تظهر فيها العورة، أو شيء منها، وأما فِعْله صلى الله عليه وسلم فكان على وَجْه لا يظهر منها شيء، وهذا لا بأس به، ولا كراهة فيه على هذه الصفة، وفي هذا الحديث جواز الاتكاء في المسجد، والاستلقاء فيه، قال القاضي عياض: لعله صلى الله عليه وسلم فعل هذا لضرورة، أو حاجة، من تعب، أو طلب راحة، أو نحو ذلك، قال: وإلا فقد عُلم أن جلوسه صلى الله عليه وسلم في المجامع على خلاف هذا، بل كان يجلس متربعًا، أو محتبيًا، وهو كان أكثر جلوسه، أو القرفصاء، أو مُقعِيًا، وشِبْهها من جلسات الوقار، والتواضع.

قال النوويّ: ويَحْتَمِل أنه صلى الله عليه وسلم فَعَله لبيان الجواز، وأنكم إذا أردتم الاستلقاء فليكن هكذا، وأن النهي الذي نهيتكم عن الاستلقاء ليس هو على الإطلاق، بل المراد به من ينكشف شيء من عورته، أو يقارب انكشافها، والله أعلم. انتهى

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قد قال بكراهة هذه الحالة مطلقًا فقهاء الشام، وكأنهم لم يبلغهم فعل النبيّ صلى الله عليه وسلم لهذه الحالة، أو تأوّلوها، والأَوْلى الجمع بين الحديثين، فيُحمل النهي على ما إذا لم يكن على عورته شيء يسترها، ويُحمل فعل النبيّ صلى الله عليه وسلم لها على أنه كان مستور العورة، ولا شكّ أنها استلقاء استراحة إذا كان مستور العورة، وقد أجازها مالك وغيره لذلك. انتهى

(2)

.

والحديث من أفراد المصنّف رحمه الله، وقد سبق تمام البحث فيه في الحديث الماضي، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5491]

(

) - (وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، قَالَ إِسْحَاقُ: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ ابْنُ حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ، أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ الله، يُحَدِّثُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لا تَمْشِ فِي نَعْلٍ وَاحِدَةٍ، وَلَا تَحْتَبِ فِي إِزَارٍ وَاحِدٍ، وَلَا تَأْكُلْ بِشِمَالِكَ، وَلَا تَشْتَمِلِ الصَّمَّاءَ، وَلَا تَضَعْ إِحْدَى رِجْلَيْكَ عَلَى الأُخْرَى إِذَا اسْتَلْقَيْتَ").

(1)

"شرح النوويّ" 14/ 77 - 78.

(2)

"المفهم" 5/ 417.

ص: 23

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه، تقدّم قريبًا.

2 -

(مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمِ) بن ميمون البغداديّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

3 -

(مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرِ) بن عثمان الْبُرْسانيّ، أبو عثمان البصريّ، صدوقٌ [9](ت 204)(ع) تقدم في "الإيمان" 65/ 369.

4 -

(ابْنُ جُرَيْجٍ) عبد الملك بن عبد العزيز بن جُريج، تقدّم قريبًا.

والباقيان ذُكرا قبله.

وقوله: (لَا تَمْشِ فِي نَعْلٍ وَاحِدَةٍ) هكذا في النسخة الهنديّة بتأنيث "واحدة"، وقد تقدّم عن الفيّوميّ، والمجد أن النعل مؤنّثة، ووقع في بعض النسخ بلفظ:"واحد" بالتذكير، فهو إما تصحيفٌ من النسّاخ، وإما لعل تذكيره لكون تأنيثه غير حقيقيّ

(1)

، بل هو مجازيّ، قال ابن الأثير رحمه الله: النعل مؤنثة، وهي التي تُلبس في المشي، تُسَمّى الآن تاسومة، ووصفها بفرد، وهو مذكر، في قوله:

يَا خَيْرَ مَنْ يَمْشِي بِنَعْلٍ فَرْدٍ

لأن تأنيثها غير حقيقيّ، قال: والفرد هي التي لم تُخْصَفْ، ولم تُطَارَق، وإنما هي طاق واحد. انتهى

(2)

.

والحديث من أفراد المصنّف، وقد مضى تمام البحث فيه، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5492]

(

) - (وَحَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، أَخْبَرَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ، حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللهِ - يَعْنِي: ابْنَ الأَخْنَسِ - عَنْ أَبِي الزُّبَيْر، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ الله، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا يَسْتَلْقِيَنَّ أَحَدُكُمْ، ثُمَّ يَضَعُ إِحْدَى رِجْلَيْهِ عَلَى الأُخْرَى").

(1)

التأنيث الحقيقيّ هو ما كان له فرج؛ كالمرأة، والمجازيّ ما ليس له فرج؛ كالشمس.

(2)

راجع: "تاج العروس" 1/ 7559.

ص: 24

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ) الكَوَسج التميميّ، أبو يعقوب المروزيّ، ثقةٌ ثبتٌ [11](ت 251)(خ م ت س ق) تقدم في "الإيمان" 12/ 156.

2 -

(رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ) بن العلاء القيسيّ، تقدّم قريبًا.

3 -

(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ الأَخْنَسِ) النخعيّ، أبو مالك الْخَزّاز، ثقةٌ [7](ع) تقدم في "الصيام" 21/ 2646.

[تنبيه]: قوله: "يعني: ابن الأخنس" هكذا هو في النسخة الهنديّة، ووقع في معظم النسخ بلفظ:"يعني: ابن أبي الأخنس" بزيادة "أبي"، وهو غلط؛ إذ ليس في "التهذيبين"، ولا في "التقريب"، ولا في "الكاشف"، ولا في "تحفة الأشراف" إلا الأول، فليُتنبّه، والله تعالى أعلم.

والباقيان ذُكرا قبله.

وقوله: (لَا يَسْتَلْقِيَنَّ أَحَدُكُمْ)، وفي النسخة الهنديّة:"لا يستلق" بغير توكيد، والاستلقاء هو الاضطجاع على القفا، سواء كان معه نوم أم لا، قاله في "الفتح"

(1)

.

والحديث من أفراد المصنّف رحمه الله، وقد تقدّم البحث فيه.

(21) - (بَابٌ فِي إِبَاحَةِ الاسْتِلْقَاء، وَوَضْعِ إِحْدَى الرِّجْلَيْنِ عَلَى الأُخْرَى)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5493]

(2100) - (حَدَّثنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَبَادِ بْنِ تَمِيمٍ، عَنْ عَمِّه، أَنَّهُ رَأَى رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم مُسْتَلْقِيًا فِي الْمَسْجِد، وَاضِعًا إِحْدَى رِجْلَيْهِ عَلَى الأُخْرَى).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(ابْنُ شِهَابٍ) محمد بن مسلم الزهريّ، تقدّم قريبًا.

(1)

"الفتح" 14/ 253، كتاب "الاستئذان" رقم (6287).

ص: 25

2 -

(عَبَّادُ بْنُ تَمِيمِ) بن غَزيّة الأنصاريّ المازنيّ المدنيّ، ثقةٌ [3](ع) تقدم في "الحيض" 25/ 810.

3 -

(عَمُّهُ) عبد الله بن زيد بن عاصم بن كعب الأنصاريّ المازنيّ، أبو محمد الصحابيّ الشهير، استُشهد بالحرّة سنة (63)(ع) تقدم في "الطهارة" 7/ 561.

والباقيان ذُكرا قبل بابين.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسلٌ بالمدنيين، وشيخه، وإن كان نيسابوريًّا إلا أنه دخل المدينة، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، ورواية الراوي عن عمه.

شرح الحديث:

(عَنْ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ) الأنصاريّ المازنيّ، (عَنْ عَمِّهِ) عبد الله بن زيد بن عاصم الأنصاريّ المازنيّ رضي الله عنه، (أَنَّهُ رَأَى رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم) رأى هنا بمعنى أبصر، فلذلك اكتفى بمفعول واحد، وقوله:(مُسْتَلْقِيًا) حال، وكذلك "واضعًا"، كلاهما من "رسول الله"، وهما حالان مترادفتان، ويجوز أن يكون "واضعًا" حالًا من الضمير الذي في "مستلقيًا"، فعلى هذا يكون الحالان متداخلتين، قاله في "العمدة"

(1)

. (فِي الْمَسْجدِ) النبويّ، وفيه جواز الاستلقاء في المسجد، (وَاضِعًا إِحْدَى رِجْلَيْهِ عَلَى الأُخْرَى) زاد في رواية البخاريّ في "الصلاة" في آخر الحديث ما نصّه: "وعن ابن شهاب

(2)

، عن سعيد بن المسيِّب قال: كان عمر، وعثمان يفعلان ذلك". انتهى.

والحديث دليل على جواز استلقاء الرجل واضعًا إحدى رجليه على الأخرى.

[فإن قلت]: ما وجه الجمع بين هذا الحديث، وبين حديث جابر المذكور

(1)

"عمدة القاري" 4/ 254.

(2)

قال في "الفتح"(2/ 223): قوله: "وعن ابن شهاب

إلخ" معطوف على الإسناد المذكور، وقد صرّح بذلك أبو داود في روايته عن القعنبيّ، وهو كذلك في "الموطّأ"، وقد غفل عن ذلك من زعم أنه معلّق. انتهى.

ص: 26

في الباب الماضي، في النهي عن أن يرفع الرجل إحدى رجليه على الأخرى، وهو مُستلقٍ على ظهره؟.

[قلت]: وجه الجمع بينهما أن وضع إحدى الرجلين على الأخرى يكون على نوعين: أن تكون رجلاه ممدودتين، إحداهما فوق الأخرى، ولا بأس بهذا، فإنه لا تنكشف العورة بهذه الهيئة، وأن يكون ناصبًا ساق إحدى الرجلين، ويضع الرجل الأخرى على الركبة المنصوبة، وعلى هذا فإن لم يكن انكشاف العورة بأن يكون عليه سراويل، أو يكون إزاره، أو ذيله طويلين جاز، وإلا فلا.

وقال الخطابيّ رحمه الله: فيه أن النهي الوارد عن ذلك منسوخ، أو يُحمل النهي حيث يُخْشَى أن تبدو العورة، والجواز حيث يُؤْمَن ذلك.

قال الحافظ رحمه الله: الثاني أَولى من ادّعاء النسخ؛ لأنه لا يثبت بالاحتمال.

وممن جزم به البيهقيّ، والبغويّ، وغيرهما، من المحدِّثين، وجزم ابن بطال، ومن تبعه: بأنه منسوخ.

وقال المازريّ: إنما بَوَّب

(1)

على ذلك؛ لأنه وقع في كتاب أبي داود وغيره لا في الكتب الصحاح النهي عن أن يضع إحدى رجليه على الأخرى، لكنه عامّ؛ لأنه قولٌ يتناول الجميع، واستلقاؤه في المسجد فعل قد يُدَّعَى قَصْره عليه، فلا يؤخذ منه الجواز، لكن لَمّا صَحّ أن عمر، وعثمان كانا يفعلان ذلك دلّ على أنه ليس خاصًّا به صلى الله عليه وسلم، بل هو جائز مطلقًا، فإذا تقرر هذا صار بين الحديثين تعارضٌ، فيُجمع بينهما، فذكَر نحو ما ذكره الخطابيّ.

قال الحافظ: وفي قوله عن حديث النهي: "ليس في الكتب الصحاح" إغفالٌ، فإن الحديث عند مسلم في "اللباس"، من حديث جابر.

قال: وفي قوله: "فلا يؤخذ منه الجواز" نظرٌ؛ لأن الخصائص لا تثبت بالاحتمال، والظاهر أن فِعْله صلى الله عليه وسلم كان لبيان الجواز، وكان ذلك في وقت الاستراحة، لا عند مجتمَع الناس؛ لِمَا عُرِف من عادته من الجلوس بينهم بالوقار التامّ صلى الله عليه وسلم.

(1)

يعني: البخاريّ حيث قال: "باب الاستلقاء في المسجد، ومدّ الرجل".

ص: 27

قال الخطابيّ: وفيه جواز الاتكاء في المسجد، والاضطجاع، وأنواع الاستراحة، وقال الداوديّ: فيه أن الأجر الوارد للّابث في المسجد لا يختص بالجالس، بل يحصل للمستلقي أيضًا. انتهى

(1)

.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عبد الله بن زيد بن عاصم رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [21/ 5493 و 5494](2150)، و (البخاريّ) في "الصلاة"(475) و"الأدب"(5969) و"الاستئذان"(6487)، و (أبو داود) في "الأدب"(4866)، و (الترمذيّ) في "الأدب"(2765) و"الشمائل"(1/ 116)، و (النسائيّ) في "المساجد"(2/ 50)، و"الكبرى"(1/ 264)، و (مالك) في "الموطّأ"(1/ 172)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1/ 148)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(20221)، و (الحميديّ) في "مسنده"(414)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(5/ 227)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 38 و 39 و 40)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 282)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5552)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(5/ 270)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(2/ 363)، و (ابن الجعد) في "مسنده"(1/ 420)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(4/ 278)، و (عبد بن حُميد) في "مسنده"(1/ 184)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 224 و 225) و"شُعَب الإيمان"(4/ 176)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(486)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في اختلاف أهل العلم في حكم الاستلقاء واضعًا إحدى رجليه على الأخرى:

قال في "العمدة": اختَلَف جماعة من الصحابة والتابعين وغيرهم في هذا الباب، فذهب محمد بن سيرين، ومجاهد، وطاوس، وإبراهيم النخعيّ إلى أنه

(1)

"الفتح" 2/ 222 - 223، كتاب "الصلاة" رقم (475).

ص: 28

يُكْرَه وضع إحدى الرجلين على الأخرى، ورُوي ذلك عن ابن عباس، وكعب بن عجرة رضي الله عنهم.

وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: لا بأس بذلك، وهم: الحسن البصريّ، والشعبيّ، وسعيد بن المسيِّب، وأبو مِجْلَزٍ، ومحمدٌ ابنُ الحنفية، ويُرْوَى ذلك عن أسامة بن زيد، وعبد الله بن عمر، وأبيه عمر بن الخطاب، وعثمان، وعبد الله بن مسعود، وأنس بن مالك رضي الله عنهم.

قال ابن أبي شيبة في "مصنفه": حدّثنا وكيع، عن عبد العزيز بن الماجشون، عن الزهريّ، عن سعيد بن المسيِّب، أن عمر وعثمان كانا يفعلانه.

قال: حدّثنا يحيى بن سعيد، عن محمد بن عجلان، عن يحيى بن عبد الله بن مالك، عن أبيه قال: دخل على عمر، فرآه مستلقيًا واضعًا إحدى رجليه على الأخرى.

قال: حدّثنا مروان بن معاوية، عن سفيان بن الحسن، عن الزهريّ، عن عمر بن عبد العزيز، عن عبد الله بن عبد الله بن الحارث، أنه رأى ابن عمر يضطجع، فيضع إحدى رجليه على الأخرى.

قال: حدّثنا وكيع، عن أسامة، عن نافع، قال: كان ابن عمر يستلقي على قفاه، ويضع إحدى رجليه على الأخرى، لا يرى بذلك بأسًا، ويفعله، وهو جالس، لا يرى بذلك بأسًا.

حدثنا وكيع، عن سفيان، عن جابر بن عبد الرحمن بن الأسود، عن عمه، قال: رأيت ابن مسعود رضي الله عنه مستلقيًا واضعًا إحدى رجليه فوق الأخرى، وهو يقول:{رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [يونس: 85].

حدّثنا ابن مهديّ، عن سفيان، عن عمران - يعني: ابن مسلم - قال: رأيت أنسًا واضعًا إحدى رجليه على الأخرى.

حدّثنا يزيد بن هارون، عن العوّام، عن الْحَكَم، قال: سألت أبا مِجْلَز عن الرجل يجلس، ويضع إحدى رجليه على الأخرى، فقال: لا بأس به، إنما هو شيء كرهته اليهود، قالوا: إنه خلق السماوات والأرض في ستة أيام، ثم استوى يوم السبت، فجلس تلك الجلسة.

ص: 29

حدّثنا وكيع، عن أبي هلال، عن ابن سيرين، أن هارون بن رئاب قال له - وهو جالس على سريره، واضعًا إحدى رجليه على الأخرى -: يُكره هذا يا أبا بكر؟ قال: لا.

حدّثنا زيد بن حُباب، قال: حدّثني الربيع بن المنذر، قال: حدّثني أبي، قال: رأيت محمدًا ابن الحنفية واضعًا إحدى رجليه على الأخرى.

حَدّثنا حميد بن عبد الرحمن، عن إسرائيل، قال: قيل له: أرأيت الشعبيّ يضع إحدى رجليه على الأخرى؟ قال: نعم. انتهى ما ذكره ابن أبي شيبة في "مصنفه"

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن بما ذُكر أقوال العلماء أن الصحيح قول من قال بجواز الاستلقاء، ووضع إحدى الرجلين على الأخرى؛ لصحّة حديث عبد الله بن زيد رضي الله عنه المذكور في الباب، وقد أسلفنا وَجْه الجمع بينه وبين حديث جابر رضي الله عنه في النهي عن ذلك في الباب الماضي، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5494]

(

) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ نُمَيْرٍ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، كُلُّهُمْ عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ (ح) وَحَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِر، وَحَرْمَلَةُ، قَالَا: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ (ح) وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالَا: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاق، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، كُلُّهُمْ عَنِ الزُّهْرِيِّ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ مِثْلَهُ).

رجال هذه الأسانيد: أربعة عشر:

وكلّهم تقدّموا في الأبواب الماضية.

وقوله: (كُلُّهُمْ عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ)؛ يعني: شيوخه الخمسة.

وقوله: (كُلُّهُمْ عَنِ الزُّهْرِيِّ)؛ يعني: الثلاثة: ابن عيينة، ويونس بن يزيد الأيليّ، ومعمر بن راشد.

(1)

"مصنّف ابن أبي شيبة" 5/ 227 - 228.

ص: 30

[تنبيه]: قوله: (وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ

إلخ) قال النوويّ: هكذا هو في جميع نُسخ بلادنا، وكذا ذكره أبو عليّ الغسانيّ عن رواية الجلوديّ، قال: وكذا ذكره أبو مسعود الدمشقيّ عن مسلم، قال: وفي رواية ابن ماهان: "إسحاق بن منصور"، بدل "إسحاق بن إبراهيم"، قال الغسانيّ: الأول هو الذي أعتقد صوابه؛ لكثرة ما يجيء إسحاق بن إبراهيم وعبد بن حميد في رواية مسلم، مقرونين عن عبد الرزاق، وإن كان إسحاق بن منصور أيضًا يروي عن عبد الرزاق، قال النوويّ: وهذا الذي صوّبه الغسانيّ هو الصواب، وكذا ذكره الواسطيّ في "الأطراف" عن رواية مسلم. انتهى

(1)

.

[تنبيه آخر]: رواية ابن عيينة عن الزهريّ ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:

(5929)

- حدّثنا عليّ بن عبد الله، حدّثنا سفيان، حدّثنا الزهريّ، قال: أخبرني عباد بن تميم، عن عمه، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد مستلقيًا، واضعًا إحدى رجليه على الأخرى. انتهى

(2)

.

ورواية يونس بن يزيد، عن الزهريّ، ساقها أبو عوانة رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(8694)

- حدّثنا بحر بن نصر الخولانيّ، قال: ثنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، عن عباد بن تميم، عن عمه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يستلقي في المسجد، إحدى رجليه على الأخرى، وزعم عبّاد أن عمر بن الخطاب وعثمان رضي الله عنهما كانا يفعلان ذلك. انتهى

(3)

.

ورواية معمر عن الزهريّ ساقها عبد بن حُميد رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(517)

- أخبرنا عبد الرزاق، أنا معمر، عن الزهريّ، عن عباد بن تميم، عن عمه، قال: رأيت النبيّ صلى الله عليه وسلم مستلقيًا في المسجد، رافعًا إحدى رجليه على الأخرى. انتهى

(4)

، والله تعالى أعلم.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(1)

"شرح مسلم" 14/ 78.

(2)

"صحيح البخاريّ" 5/ 2318.

(3)

"مسند أبي عوانة" 5/ 270.

(4)

"مسند عبد بن حميد" 1/ 184.

ص: 31

(22) - (بَابُ النَّهْيِ عَنِ التَّزَعْفُرِ لِلرِّجَالِ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5495]

(2101) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَأَبُو الرَّبِيع، وَقُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ يَحْيَى: أَخْبَرَنَا حَمَّادُ بْنُ زيدٍ، وَقَالَ الآخَرَانِ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ، عَنْ أنسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنِ التَّزَعْفُر، قَالَ قُتَيْبَةُ: قَالَ حَمَّادٌ: يَعْني: لِلرِّجَالِ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

وكلّهم تقدّموا قريبًا، و"أَبُو الرَّبِيعِ" هو: سليمان بن داود الزهرانيّ العتكيّ"، تقدّم قريبًا.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله كلاحقيه، وهو (425) من رباعيّات الكتاب، وفيه أنس بن مالك رضي الله عنه من المكثرين السبعة، ومن المعمّرين، والخادم المشهور.

شرح الحديث:

(عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ) رضي الله عنه (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنِ التَّزَعْفُرِ)؛ أي: استعمال الزعفران في البَدَن. (قَالَ قُتَيْبَةُ) شيخه الثالث، (قَالَ حَمَّادٌ)؛ أي: ابن زيد، (يَعْنِي: لِلرِّجَالِ)؛ أي: النهي مختصّ بهم، لا يعمّ النساء، وهكذا هو عند النسائيّ، بكلمة "يعني"، ولعلّ حمادًا لم يتيقّن لفظة "للرجال"، فأدخل كلمة "يعني" تورّعًا، وإلا فقد ثبتت اللفظة من رواية إسماعيل ابن عليّة في الرواية التالية، ومن رواية عبد الوارث بن سعيد، عن عبد العزيز عند البخاريّ في "صحيحه"، ورواه الترمذيّ عن قتيبة عن حماد بن زيد، وعن إسحاق بن منصور، عن عبد الرحمن بن مهديّ عن حمّاد، وليس فيه كلمة "يعني"، ولفظه:"نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التزعفر للرجال".

قال البخاريّ رحمه الله في "صحيحه": "باب النهي عن التزعفر للرجال"، قال

ص: 32

في "الفتح"؛ أي: في الجسد؛ لأنه ترجم بعده: "بابُ الثوب المزعفر"، وقيّده بالرجل ليُخرِج المرأة. انتهى.

ثم أورد البخاريّ حديث أنس رضي الله عنه هذا بلفظ: "نهى النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يتزعفر الرجل"، قال في "الفتح": كذا رواه عبد الوارث، وهو ابن سعيد مقيَّدًا، ووافقه إسماعيل ابن عُليّة، وحماد بن زيد عند مسلم، وأصحاب "السنن"، ووقع في رواية حماد بن زيد:"نَهَى عن التزعفر للرجال"، ورواه شعبة عن ابن عُليّة عند النسائيّ مطلقًا، فقال:"نَهَى عن التزعفر"، وكأنه اختصره، وإلا فقد رواه عن إسماعيل فوق العشرة من الحفاظ، مقيّدًا بالرَّجل، ويَحْتَمِل أن يكون إسماعيل اختصره لَمّا حَدَّث به شعبة، والمطلق محمول على المقيّد، ورواية شعبة عن إسماعيل من رواية الأكابر عن الأصاغر، والله تعالى أعلم.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أنس بن مالك رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [22/ 5495 و 5496](2101)، و (البخاريّ) في "اللباس"(5846)، و (أبو داود) في "الترجّل"(4179)، و (الترمذيّ) في "الأدب"(2815)، و (النسائيّ) في "مناسك الحجّ"(2706 و 2707 و 2708) و"الزينة"(5256 و 5257) و"الكبرى"(3686 و 3687 و 3688) وفي "الزينة"(9414)، و (الشافعيّ) في "مسنده"(1/ 314)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(2063)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(4/ 50)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 101)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(4/ 194)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5464 و 5455)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(3925)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1/ 403 و 2/ 67 و 5/ 271 و 272)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(2/ 127 و 128)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 36) و"شُعَب الإيمان"(5/ 192)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(3160)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في اختلاف أهل العلم في النهي عن التزعفر للرجل:

ص: 33

ذهب الشافعيّ، وأبو حنيفة إلى منع الرجل عن التزعفر مطلقًا حلالًا كان، أو مُحْرمًا.

وذهب مالك، وجماعة إلى جواز لبس المزعفر للحلال، وقالوا: إنما وقع النهي عنه للمُحْرم فقط.

قال "الفتح": واختُلِف في النهي عن التزعفر، هل هو لرائحته؛ لكونه من طيب النساء، ولهذا جاء الزجر عن الْخَلُوق، أو للونه، فيَلتحق به كل صفرة؟ وقد نقل البيهقيّ عن الشافعيّ، أنه قال: أنهى الرجل الحلال بكلّ حال أن يتزعفر، وآمره إذا تزعفر أن يغسله. قال: وأُرَخِّصُ في المعصفر؛ لأنني لم أجد أحدًا يحكي عنه إلا ما قال عليّ: "نهاني، ولا أقول: نهاكم". قال البيهقيّ: قد ورد ذلك عن غير عليّ، وساق حديث عبد الله بن عمرو، قال: رأى عليّ النبيّ صلى الله عليه وسلم ثوبين معصفرين، فقال:"إن هذه من ثياب الكفّار، فلا تلبسهما". أخرجه مسلم، وفي لفظ له: فقلت: أغسلهما؟، قال:"لا، بل أحرقهما". قال البيهقيّ: فلو بلغ ذلك الشافعيّ لقال به، اتباعًا للسُّنَّة، كعادته. وقد كره المعصفر جماعة من السلف، وممن قال بكراهته من أصحابنا - يعني: الشافعيّة - الْحَلِيمِيُّ، ورخّص فيه جماعة، والسُّنَّة أولى بالاتباع. انتهى. والله أعلم.

وقال النوويّ في "شرح مسلم": أتقن البيهقيّ المسألة، والله أعلم.

ورخّص مالك في المعصفر، والمزعفر في البيوت، وكرهه في المحافل.

وقال ابن بطّال رحمه الله: أجاز مالك، وجماعة لباس الثوب المزعفر للحلال، وقالوا: إنما وقع النهي عنه للمحرم خاصّة. وحمله الشافعيّ، والكوفيّون على المحرم وغير المحرم.

وحديث ابن عمر رضي الله عنهما في الصبغ يدلّ على الجواز، فإن فيه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يصبغ بالصفرة. وأخرج الحاكم من حديث عبد الله بن جعفر، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعليه ثوبان مصبوغان بالزعفران. وفي سنده عبد الله بن مصعب الزبيريّ، وفيه ضعف.

وأخرج الطبرانيّ، من حديث أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صبغ إزاره، ورداءه بزعفران. وفيه راو مجهول.

قال الحافظ: ومن المستغرب قول ابن العربيّ: لم يَرِدْ في الثوب الأصفر

ص: 34

حديث، وقد ورد فيه عدّة أحاديث، كما ترى. قال المهلّب: الصفرة أبهج الألوان إلى النفس، وقد أشار إلى ذلك ابن عبّاس رضي الله عنهما في قوله تعالى:{صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ} [البقرة: 69]، قاله في "الفتح"

(1)

.

وقال العلّامة المباركفوريّ رحمه الله في "تحفة الأحوذيّ": والحديث دليل لأبي حنيفة، والشافعيّ، ومن تبعهما في تحريم استعمال الرجل الزعفران في ثوبه، وبدنه، ولهما أحاديث أخر صحيحة.

ومذهب المالكيّة أن الممنوع إنما هو استعماله في البدن، دون الثوب، ودليلهم ما أخرجه أبو داود، عن أبي موسى، مرفوعًا:"لا يقبل الله صلاة رجل في جسده شيء من خلوق"

(2)

، فإن مفهومه أن ما عدا الجسد لا يتناوله الوعيد.

وأجيب عن حديث أبي موسى هذا بأن في سنده أبا جعفر الرازيّ، وهو متكلَّم فيه، وأحاديث النهي عن التزعفر مطلقًا أصحّ، وأرجح.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: وأيضًا على تقدير صحّته، فاستدلالهم بالمفهوم، وأحاديث النهي منطوقة، فتقدّم عليه. والله أعلم.

قال: فإن قلت: قد ثبت في "الصحيحين" من حديث أنس رضي الله عنه أن عبد الرحمن بن عوف جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبه أثر صفرة، فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره أنه تزوّج امرأة

الحديث، وفي رواية:"وعليه رَدْع زعفران"، فهذا الحديث يدلّ على جواز التزعفر، فإنه صلى الله عليه وسلم لم يُنكر على عبد الرحمن بن عوف، فكيف التوفيق بين حديث أنس هذا، وبين حديثه المذكور في الباب، وما في معناه؟.

قلت: أشار البخاريّ إلى الجمع بأن حديث عبد الرحمن للمتزوّج، وأحاديث النهي لغير المتزوّج، حيث ترجم بقوله:"باب الصفرة للمتزوّج".

وقال الحافظ: إن أثر الصفرة التي كانت على عبد الرحمن تعلّقت به من جهة زوجته، فكان ذلك غير مقصود له، قال: ورجّحه النوويّ. وأجيب عن

(1)

"الفتح" 13/ 334 - 336، كتاب "اللباس" رقم (5846 و 5847).

(2)

حديث ضعيف.

ص: 35

حديث عبد الرحمن بوجوه أخرى ذكرها الحافظ في "الفتح" في "باب الوليمة ولو بشاة"، من "كتاب النكاح".

قال: فإن قلت: روى الشيخان عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن رجلًا قال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يلبس المحرم من الثياب؟، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يلبس القُمُص

الحديث، وفيه: ولا تلبسوا من الثياب شيئًا مسّه زعفران، أو ورس".

فيستفاد من ظاهر هذا الحديث جواز لبس المزعفر لغير الرجل المحرم؛ لأنه قال ذلك في جواب السؤال عما يلبس المحرم، فدلّ على جوازه لغيره.

قلت: قال العراقيّ: الجمع بين الحديثين أنه يَحْتَمِل أن يقال: إن جواب سؤالهم انتهى عند قوله: "أسفل من الكعبين"، ثم استأنف بهذا، ولا تعلّق له بالمسؤول عنه، فقال: "ولا تلبسوا شيئًا من الثياب

" إلى آخره. انتهى.

قال المباركفوريّ: والأولى في الجواب أن يقال: إن الجواز للحلال مستفاد من حديث ابن عمر بالمفهوم، والنهي ثابت من حديث أنس بالمنطوق، وقد تقرّر أن المنطوق مقدّم على المفهوم.

فإن قلت: روى النسائيّ من طريق عبد الله بن زيد، عن أبيه، عن ابن عمر رضي الله عنهما، كان يصبغ ثيابه بالزعفران، فقيل له؟ فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصبغ.

قلت: عبد الله بن زيد صدوق، فيه لِيْن. وأصله في "الصحيح"، وليس فيه ذِكر الصفرة. انتهى كلام المباركفوريّ رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن مما سبق أن الأرجح من أقوال العلماء في هذه المسألة هو القول بتحريم المزعفر للرجل، مُحرمًا، أو غير محرم؛ لحديث أنس رضي الله عنه المذكور في الباب، فإنه نصّ في ذلك، وكذلك حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما المتقدّم، فإنه ظاهر فيه، حيث أمره النبيّ صلى الله عليه وسلم بحرقه بالنار، ولم يسمح له في غسله، فلو جاز لبسه لَمَا شدّد عليه مثل هذا التشديد، وكذلك حديث عليّ رضي الله عنه: "نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم عن خاتم الذهب،

(1)

"تحفة الأحوذيّ" 8/ 100 - 101.

ص: 36

وعن لبوس القسيّ، والمعصفر

" الحديث. وغير ذلك من الأحاديث.

والحاصل أن أحاديث النهي أرجح، فتقدّم على أحاديث الإباحة، فتأمل بالإنصاف، والله تعالى أعلم بالصواب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5496]

(

) - (وَحَدَّثنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَمْرٌو النَّاقِدُ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَابْنُ نُمَيْرٍ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، قَالُوا: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ - وَهُوَ ابْنُ عُلَيَّةَ - عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ، عَنْ أنسٍ، قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَتَزَعْفَرَ الرَّجُلُ).

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

وكلهم تقدّموا قريبًا، والإسناد من رباعيّات المصنّف رحمه الله، كسابقه، ولاحقه، وهو (426) من رباعيّات الكتاب.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله فيما قبله، ولله الحمد والمنّة.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(23) - (بَابٌ فِي صِبْغِ الشَّعْر، وَتَغْيِيرِ الشَّيْبِ بِغَيْرِ سَوَادٍ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله، أوّل الكتاب قال:

[5497]

(2102) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا أَبُو خَيْثَمَةَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْر، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: أُتِيَ بِأَبِي قُحَافَةَ، أَو جَاءَ عَامَ الْفَتْح، أَو يَوْمَ الْفَتْح، وَرَأْسُهُ، وَلِحْيَتُهُ مِثْلُ الثَّغَام، أَوِ الثَّغَامَة، فَأَمَرَ، أَو فَأُمِرَ بِهِ إِلَى نِسَائِه، قَالَ: "غَيِّرُوا هَذَا بِشَيْءٍ").

رجال هذا الإسناد: أربعة:

وقد تقدّموا قبل ثلاثة أبواب، وهو من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (427) من رباعيّات الكتاب.

شرح الحديث:

(عَنْ جَابِرٍ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: أُتِيَ) بالبناء للمفعول، والذي أتى به هو

ص: 37

أبو بكر الصدّيق ولده، كما بُيّن ذلك في حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال:"جاء أبو بكر رضي الله عنه بأبيه أبي قحافة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم". (بِأَبِي قُحَافَةَ) - بضم القاف، وتخفيف الحاء المهملة -: هو والد أبي بكر الصدّيق رضي الله عنهما، واسمه: عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة، القرشيّ التيميّ، أمه آمنة بنت عبد الْعُزَّى العدوية، عديّ قريش، وقيل: اسمها قَيْلة، قال الفاكهيّ: حدثنا ابن أبي عمر، حدثنا سفيان، عن أبي حمزة الثُّمَاليّ، قال: قال عبد الله: لما خرج النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى الغار، ذهبت أستخبر، وأنظر هل أحد يخبرني عنه؟ فأتيت دار أبي بكر، فوجدت أبا قحافة، فخرج عليّ، ومعه هِرَاوة، فلما رآني اشتدّ نحوي، وهو يقول: هذا من الصُّبَاة الذي أفسدوا عليّ ابني. تأخر إسلامه إلى يوم الفتح، فروى ابن إسحاق في "المغازي" بإسناد صحيح، عن أسماء بنت أبي بكر، قالت: لما كان عام الفتح، ونزل النبيّ صلى الله عليه وسلم ذا طوى، قال أبو قحافة لابنة له، كانت من أصغر ولده: أي بنيةُ، أشرفي بي على أبي قُبيس، وكان قد كُفّ بصره، فأشرفت به عليه، فذكر الحديث بطوله، وفيه: فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد، خرج أبو بكر حتى جاء بأبيه يقوده، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:"هلا تركت الشيخ في بيته حتى آتيه"، فقال: يمشي هو إليك يا رسول الله أحقّ، من أن تمشي إليه، وأجلَسه بين يديه، ثم مسح على صدره، فقال: أسلم تَسْلَم، ثم قام أبو بكر

الحديث، أخرجه ابن حبان في "صحيحه"، من حديث ابن إسحاق.

وروى أحمد من طريق هشام، عن محمد بن سيرين، عن أنس رضي الله عنه، أنه سئل عن خضاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: لم يكن شابَ إلا يسيرًا، ولكن خضب أبو بكر، وعمر بالحناء والكتم، قال: وجاء أبو بكر بأبيه، أبي قحافة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، يوم فتح مكة، يحمله حتى وضعه بين يديه، فقال لأبي بكر: لو أقررت الشيخ في بيته، لأتيناه تكرمة لأبي بكر، فأسلم، ورأسه ولحيته كالثغامة بياضًا، فقال:"غيّروهما، وجنّبوه السواد"، صححه ابن حبان من هذا الوجه، قال قتادة: هو أول مخضوب في الإسلام، وهو أول من ورث خليفة في الإسلام، مات أبو قحافة سنة أربع عشرة، وله سبع وتسعون

ص: 38

سنة. ذكره في "الإصابة"

(1)

.

وقال القرطبيّ: مات في المحرّم سنة أربع عشرة من الهجرة، وهو ابن سبع وتسعين سنة، بعد وفاة ابنه أبي بكر رضي الله عنه بأشهر. انتهى

(2)

.

(أَو) للشكّ من الراوي، (جَماءَ عَامَ الْفَتْحِ) وفي رواية النسائيّ:"يوم فتح مكّة"، وهو ظرف لـ "جاء". (أَو) للشك من الراوي أيضًا، (يَوْمَ الْفَتْحِ) وقوله:(وَرَأْسُهُ، وَلحْيَتُهُ مِثْلُ الثَّغَامِ) جملة في محلّ نصب على الحال من الفاعل، - بمثلّثة مفتوحة، وغين معجمة - قال في "النهاية" 1/ 214: هو نبت أبيض الزَّهْر والثمر، يُشبّه به الشيب. وقيل: شجرة تبيضّ؛ كأنها الثلج. انتهى. وقال في "القاموس": الثَّغَام؛ كسحاب: نبت، واحدته ثغامة بالهاء. وقال في "المصباح":"الثَّغَام" مثلُ سَلام: نبتٌ يكون بالجبال غالبًا، إذا يبس ابيضَّ، ويُشبّه به الشيب. وقال ابن فارس: شجرة بيضاء الثمر والزَّهْر. انتهى.

وفي رواية النساسيّ: "وَرَأسُهُ وَلحْيَتُهُ كَالثَّغَامَةِ بَيَاضًا"، (أَوِ) للشكّ من الراوي أيضًا، (الثَّغَامَة، فَأَمَرَ) بالبناء للفاعل؛ أي: أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم، (أَو) للشكّ من الراوي أيضًا، (فَأُمِرَ) بالبناء للمفعول، (بِهِ)؛ أي: بأبي قُحافة، (إِلَى نِسَائِهِ) حتى يغيّرن شَيْبه. (قَالَ) صلى الله عليه وسلم:("غَيِّرُوا هَذَا بِشَيْءٍ) زاد في الرواية التالية: "واجتنبوا السواد"، قال أبو العبَّاس القرطبيّ رحمه الله: أمرٌ بتغيير الشيب، قال به جماعة من الخلفاء، والصحابة، لكن لم يَصِرْ أحدٌ إلى أنه على الوجوب، وإنما هو مستحبّ.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: فيه أنه نُقل عن الإمام أحمد: القول بالوجوب، وهو الظاهر؛ لظاهر الأمر، فتنبّه.

قال: وقد رأى بعضهم أنّ ترك الخضاب أفضل، وبقاء الشيب أَولى من تغييره، متمسّكين في ذلك بنهي النبيّ صلى الله عليه وسلم عن تغيير الشيب على ما ذكروه، وبأنه صلى الله عليه وسلم لم يُغيّر شيبه، ولا اختضب.

قال القرطبيّ: وهذا القول ليس بشيء، أما الحديث الذي ذكروه، فليس

(1)

"الإصابة في تمييز الصحابة" 6/ 389 - 390.

(2)

"المفهم" 5/ 418.

ص: 39

بمعروف، ولو كان معروفًا، فلا يبلغ في الصحّة إلى هذا الحديث، وأما قولهم: إن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يَخضِب، فليس بصحيح، بل قد صحّ عنه أنه خضب بالحنّاء، وبالصفرة. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: اختلفت الروايات في كونه صلى الله عليه وسلم خضب، فثبت عن أنس رضي الله عنه أنه سُئل: أخضب النبيّ صلى الله عليه وسلم؟ فقال: لم يبلغ الشيب إلا قليلًا، وفي رواية:"إنه لم يبلغ ما يَخضِب، لو شئت أن أعُدّ شمطاته في لحيته"؛ أي: لعددتها. وثبت في حديث ابن عمر رضي الله عنهما أنه صلى الله عليه وسلم خضب بالصفرة، وفي حديث أم سلمة رضي الله عنها أنها أخرجت شعرًا من شعر النبيّ صلى الله عليه وسلم، مخضوبًا.

والجمع بين هذه الروايات، أن يقال: إن من جزم بأنه صلى الله عليه وسلم خضب، كابن عمر رضي الله عنهما، حَكَى ما شاهده، وكان ذلك في بعض الأحيان، ومن نفى؛ كأنس رضي الله عنه، فهو محمول على الأكثر الأغلب من حاله صلى الله عليه وسلم. وقد أخرج مسلم، والترمذيّ، والنسائيّ من حديث جابر بن سمرة رضي الله عنهما، قال: ما كان في رأس النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولحيته من الشيب إلا شعرات، كان إذا دهن واراهُنّ الدهن. قال في "الفتح": فيَحْتَمِل أن يكون الذين أثبتوا الخضاب شاهدوا الشعر الأبيض، ثم لَمّا واراه الدهن ظنّوا أنه خضبه. انتهى.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الاحتمال بعيد؛ يُبعده ما رواه النسائيّ عن ابن عمر رضي الله عنهما: "لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصفّر بها - يعني: الخلوق - لحيته

" الحديث. فالصحيح من الجمع الاحتمال الأول. والله تعالى أعلم.

وقوله: "وَاجْتَنِبُوا السَّوَادَ": قال القرطبيّ رضي الله عنه: أمرٌ باجتناب السواد، وكرهه جماعة، منهم عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، ومالك، قال: وهو الظاهر من هذا الحديث، وقد عُلّل ذلك بأنه من باب التدليس على النساء، وبأنه سواد في الوجه، فيُكره لأنه تشبّه بسيما أهل النار. ثم ذكر حديث ابن عباس رضي الله عنهما المذكور قبل هذا، ثم قال: غير أنه لم يُسمع أن أحدًا من العلماء قال بتحريم ذلك.

(1)

"المفهم" 5/ 418.

ص: 40

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: إن هذا غير صحيح، بل الحقّ أنه حرام، كما يأتي تحقيقه في المسألة التالية - إن شاء الله تعالى -.

ثم ذكر القرطبيّ من كان يصبغ بالسواد، كما سيأتي ذكرهم، ثم قال: ولا أدري عذر هؤلاء عن حديث أبي قحافة ما هو؟، فأقلّ درجاته الكراهة، كما ذهب إليه مالك. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: سيأتي أنه يُعتذر لهم بأنه لم يبلغهم النهي. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث جابر رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

[تنبيه]: أشار بعضهم إلى الطعن في إسناد هذا الحديث بأن فيه عنعنة أبي الزبير، وهو مدلّس.

والجواب عن هذا أن أبا الزبير لم ينفرد به، بل تابعه عليه أبو رجاء العطارديّ - وهو مخضرم ثقةٌ - عن جابر رضي الله عنه، فقد أخرجه الطبراني في "الكبير"، قال:

(8328)

- حدّثنا خلف بن عمرو العكبريّ، ثنا الحسن بن الربيع الْبُورانيّ، ثنا عبد العزيز بن عبد الصمد العميّ، عن مَطَر بن طَهْمان الورّاق، يكنى بأبي رجاء، عن أبي رجاء الْعُطاريّ، عن جابر بن عبد الله قال: جيء بأبي قحافة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورأسه ولحيته كأنهما ثُغامة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"اذهبوا به إلى بعض نسائه يغيّرنه"، قال: فذهبوا به، فحَمَّروها. انتهى

(2)

.

وله شاهد من حديث أنس رضي الله عنه، أخرجه الضياء في "المختارة" بسند صحيح، قال:

(2585)

- أخبرنا أبو جعفر محمد بن أحمد بن نصر الصيدلانيّ بأصبهان، أن أبا عليّ الحسن بن أحمد الحداد أخبرهم، وهو حاضر، أنبأ أبو نعيم أحمد بن عبد الله، أنبأ عبد الله بن جعفر، ثنا إسماعيل بن عبد الله، ثنا

(1)

"المفهم" 5/ 418 - 419.

(2)

"المعجم الكبير" 9/ 41.

ص: 41

محمد بن القاسم الحرّانيّ، ثنا محمد بن سلمة الحرّانيّ، ثنا هشام بن حسان، عن ابن سيرين، عن أنس بن مالك، قال: جاء أبو بكر رضي الله عنه بأبيه أبي قحافة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر:"لو أقررت الشيخ في بيته لأتيته تكرمةً لأبي بكر"، فأسلم، ورأسه ولحيته؛ كالثُّغامة بياضًا، فقال:"غَيِّروا هذا، وجنِّبوها السواد"، قال: إسناده صحيح. انتهى

(1)

.

وله شاهد آخر من حديث أسماء بنت أبي بكر الصدّيق رضي الله عنهما، أخرجه أحمد في "مسنده" بسند صحيح، قال:

(27001)

- حدّثنا عبد الله، حدّثني أبي، ثنا يعقوب، قال: ثنا أبي، عن ابن إسحاق قال: حدّثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه، عن جدّته أسماء بنت أبي بكر، قالت: لَمّا وَقَف رسول الله صلى الله عليه وسلم بذي طوى قال أبو قحافة لابنة له من أصغر ولده: أي بُنَيّة أظهري بي على أبي قبيس، قالت: وقد كُفّ بصره، قالت: فأشرفت به عليه، فقال: يا بُنَيّة ماذا ترين؟ قالت: أرى سوادًا مجتمعًا، قال: تلك الخيل، قالت: وأرى رجلًا يسعى بين ذلك السواد مقبلًا ومدبرًا، قال: يا بنية ذلك الوازع - يعني: الذي يأمر الخيل، ويتقدم إليها - ثم قالت: قد والله انتشر السواد، فقال: قد والله إذًا دُفعت الخيل، فأسرعي بي إلى بيتي، فانحطت به، وتلقاه الخيل قبل أن يصل إلى بيته، وفي عنق الجارية طَوْق لها من وَرِق، فتلقاها رجل، فاقتلعه من عنقها، قالت: فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، ودخل المسجد أتاه أبو بكر بأبيه يقوده، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"هلا تركت الشيخ في بيته، حتى أكون أنا آتيه فيه؟ " قال أبو بكر: يا رسول الله هو أحقّ أن يمشي إليك من أن تمشي أنت إليه، قال: فأجْلَسه بين يديه، ثم مسح صدره، ثم قال له: أسلم، فأسلم، ودخل به أبو بكر رضي الله عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورأسه كأنه ثُغامة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"غَيِّروا هذا من شَعْره"، ثم قام أبو بكر، فأخذ بيد أخته، فقال: أَنْشُدُ بالله وبالإسلام طوق أختي، فلم يجبه أحد، فقال: يا أُخَيَّة احتسبي طوقك. انتهى

(2)

.

(1)

"الأحاديث المختارة" 7/ 157.

(2)

"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 6/ 349.

ص: 42

والحاصل أن حديث أبي الزبير عن جابر رضي الله عنه هذا صحيح دون ريب وشكّ، فتنبّه، والله تعالى وليّ التوفيق.

[تنبيه آخر]: روى الإمام أحمد هذا الحديث في موضعين من "مسنده"(3/ 316 و 322)، و (ابن ماجه)(3624) من طريق ليث، عن أبي الزبير، عن جابر، ولم يُنسب ليث في المواطن الثلاثة، فالتبس أمره على مخرّج أحاديث "الحلال والحرام"(ص 83) فظنّه ليث بن سعد، وصحّح السند بمقتضاه؛ لأن الليث بن سعد لا يروي عن أبي الزبير إلا ما سمع من جابر، مع أن الحافظ المزّيّ في "تحفة الأشراف"(2/ 342)، وكذلك الحافظ البوصيريّ في "مصباح الزجاجة" ورقة (225/ 2) نصّا على أنه ليث بن أبي سُليم، وهو ضعيف، كتبه بعض المحققين

(1)

، وهو بحث مهمّ جدًّا، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنف) هنا [23/ 5497 و 5498](2102)، و (أبو داود) في "الترجّل"(4204)، و (النسائيّ) في "الزينة"(8/ 138 و 185)، و"الكبرى"(5/ 416)، و (ابن ماجه) في "اللباس"(3624)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(20179)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 316 و 322 و 338)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5471)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(1819)، و (الحاكم) في "المستدرك"(3/ 244)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1/ 410 و 2/ 74 و 5/ 272)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(7/ 310) و"شُعَب الإيمان"(5/ 215)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(3179)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان الأمر بتغيير الشيب، قال الحافظ ابن حبّان رحمه الله بعد إخراجه الحديث: قوله صلى الله عليه وسلم: "وغيِّروهما

(2)

" لفظة أمر بشيء، والمأمور في وصفه مخيَّر أن يغيرهما بما شاء من الأشياء، ثم استثنى السواد من بينها، فنهى

(1)

راجع: هامش "الإحسان في تقريب صحيح ابن حبّان" 12/ 286.

(2)

أي: رأسه، ولحيته.

ص: 43

عنه، وبقي سائر الأشياء على حالتها. انتهى

(1)

.

2 -

(ومنها): بيان النهي عن الخضاب بالسواد، وهو ظاهر.

وسيأتي لمسلم في "الفضائل" من حديث أنس رضي الله عنه، قال:"اختضب أبو بكر بالحناء والكتم، واختضب عمر بالحناء بَحْتًا".

وقوله: "بَحْتًا" - بموحدة مفتوحة، ومهملة ساكنة، بعدها مثناة -؛ أي: صِرْفًا، وهذا يُشعر بأن أبا بكر كان يجمع بينهما دائمًا، والكتم نبات باليمن يُخرج الصبغ أسود يميل إلى الحمرة، وصبغ الحناء أحمر، فالصبغ بهما معًا يَخرج بين السواد والحمرة.

[تنبيه]: ومما ورد في الوعيد لمن يصبغ بالسواد ما أخرجه أحمد، وأبو داود، والنسائيّ، واللفظ لأبي داود قال:

(4212)

- حدّثنا أبو توبة، ثنا عبيد الله، عن عبد الكريم الجزريّ، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يكون قوم يخضبون في آخر الزمان بالسواد؛ كحواصل الحمام، لا يَريحون رائحة الجنة". انتهى

(2)

.

قال الحافظ رحمه الله في "النكت الظراف": أخرجه إسحاق في "مسنده" عن زكريّا بن عديّ، عن عبيد الله بن عمرو بلفظ:"يخضبون لحاهم بالسواد". انتهى

(3)

.

قال الحافظ المنذريّ رحمه الله في "مختصر سنن أبي داود" 6/ 108: في إسناده عبد الكريم، ولم ينسبه أبو داود

(4)

، ولا النسائيّ، فذكر بعضهم أنه عبد الكريم بن أبي الْمُخارق، أبو أميّة، وضعّف الحديث بسببه، وذكر بعضهم أنه عبد الكريم بن مالك الجزريّ، أبو سعيد، وهو من الثقات، لاتفاق

(1)

"الإحسان في تقريب صحيح ابن حبّان" 12/ 287.

(2)

"سنن أبي داود" 4/ 87.

(3)

"النكت الظراف على الأطراف" 4/ 424.

(4)

قد علمت أن أبا داود نسبه، فقال: الجزريّ، ولعل نسخة المنذريّ أسقطته، والله تعالى أعلم.

ص: 44

البخاريّ، ومسلم على الاحتجاج بحديثه. وقول من قال: إنه عبد الكريم بن مالك الجزريّ هو الصواب، فإنه قد نسبه بعض الرواة في هذا الحديث، فقال فيه:"عن عبد الكريم الجزريّ"، وعبد الكريم بن أبي المخارق من أهل البصرة، نزل مكّة، وأيضًا فإن الذي روى عن عبد الكريم هذا الحديث هو عبيد الله بن عمرو الرَّقّيّ، وهو مشهور بالرواية عن عبد الكريم الجزريّ، وهو أيضًا من أهل الجزيرة. انتهى كلام المنذريّ رحمه الله.

وقال السنديّ رحمه الله: قد صحح الحديث غير واحد، وحسّنه، وخطّؤوا ابن الجوزيّ في نسبته إلى الوضع. والله تعالى أعلم. انتهى.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: كون عبد الكريم هو الجزريّ هو الحقّ، كما هو في رواية أبي داود السابقة، وكذا صرّح الحافظ المزيّ في "تحفته"

(1)

بأنه الجزريّ، فالحديث صحيح دون شك، فهو حجة ظاهرة في النهي عن الصبغ بالسواد، فليُتنبّه، والله تعالى أعلم.

3 -

(ومنها): ما قاله القرطبيّ رحمه الله: للخضاب فائدتان:

[إحداهما]: تنظيف الشعر مما يتعلّق به من الغبار، والدخان.

[والأخرى]: مخالفة أهل الكتاب؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "خالفوا اليهود والنصارى، فإنهم لا يصبغون". انتهى

(2)

.

4 -

(ومنها): أنه استَنْبَط ابنُ أبي عاصم من قوله صلى الله عليه وسلم: "جنِّبوه السواد" أن الخضاب بالسواد كان من عادتهم، وذكر ابن الكلبيّ أن أول من اختضب بالسواد من العرب عبد المطلب، وأما مطلقًا ففرعون

(3)

، والله تعالى أعلم.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في خضب اللحية والرأس، وتركه:

قال في "الفتح": وقد اختُلف في الخضب، وتركه، فخضب أبو بكر، وعمر وغيرهما رضي الله عنهم، كما تقدم، وتَرَك الخضاب عليّ، وأُبي بن كعب، وسلمة بن الأكوع، وأنس، وجماعة رضي الله عنهم.

(1)

راجع: "تحفة الأشراف" 4/ 424.

(2)

"المفهم" 5/ 420.

(3)

هذا يحتاج إلى نقل صحيح، فأين هو؟!!!

ص: 45

وجمع الطبري بأن من صبغ منهم كان اللائقَ به، كمن يُستشنع شيبه، ومن ترك كان اللائقَ به، كمن لا يُستشنع شيبه، وعلى ذلك حُمل قوله صلى الله عليه وسلم في حديث جابر رضي الله عنه الذي أخرجه مسلم في قصة أبي قحافة رضي الله عنه، حيث قال صلى الله عليه وسلم لَمّا رأى رأسه كأنها الثُّغَامة بياضًا:"غَيِّروا هذا، وجنِّبوه السواد"، ومثله حديث أنس رضي الله عنه.

وزاد الطبري، وابن أبي عاصم من وجه آخر، عن جابر:"فذهبوا به، فحمّروه". و"الثغامة" - بضم المثلثة، وتخفيف المعجمة -: نبات شديد البياض زهره وثمره، قال: فمن كان في مثل حال أبي قحافة استُحِبّ له الخضاب؛ لأنه لا يحصل به الغرور لأحد، ومن كان بخلافه فلا يستحب في حقه، ولكن الخضاب مطلقًا أَولى؛ لأنه فيه امتثال الأمر في مخالفة أهل الكتاب، وفيه صيانة للشعر عن تعلق الغبار وغيره به، إلا إن كان من عادة أهل البلد تَرْك الصبغ، وأن الذي ينفرد بدونهم بذلك يصير في مقام الشهرة، فالترك في حقه أَولى.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قوله: فالترك أولى، هذا الكلام فيه خطر؛ لأنه يؤدّي إلى ترك السُّنَّة، متعلّلًا بعدم عمل الناس بها، والواجب على المسلم إذا ترك الناس العمل بها إحياؤها، وأي كتاب نطق، وأيّ سُنَّة أمرت بترك السُّنَّة؛ لأجل ترك الناس لها؛ خوفًا من الشهرة؟، إن هذا لهو العجب من مثل الحافظ المدافع عن السُّنَّة، والقائم بالذّبّ عنها أن يتكلّم به، أو ينقله من غيره، ويسكت عليه. والله المستعان.

وقال بعضهم: من كان في موضعٍ عادة أهله الصبغ، أو تَرْكه، فخروجه عن العادة شهرة، ومكروه. انتهى.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي قاله هذا البعض مما زلّ به القدم، وطغى فيه القلم، فهل إذا ترك أهل بلد سُنَّة من سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم يكون إحياء تلك السُّنَّة، والعمل بها شهرة ومكروهًا؟ إن هذا لهو الفساد العريض، إذ يترتب عليه أنه لا وجه في هذا الزمن الذي تَرَك فيه معظم الناس كثيرًا من السنن، وأحدثوا بدلها بدعًا أن يقوم أحد بإحياء تلك السنن، بل يهجرها، إن هذا لهو العجب العجاب! والله تعالى المستعان على مثل هذا الباطل.

ص: 46

ونقل الطبري بعد أن أورد حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده رفعه، بلفظ: "من شاب شيبة، فهي له نور، إلى أن ينتفها، أو يخضبها

(1)

"، وحديث ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم، كان يكره خصالًا، فذكر منها تغيير الشيب، إذ بعضهم ذهب إلى أن هذه الكراهة تُستحب بحديث الباب، ثم ذكر الجمع، وقال: دعوى النسخ لا دليل عليها.

قال الحافظ: "وجَنَح إلى النَّسخ الطحاويّ، وتمسَّك بحديث أنه كان صلى الله عليه وسلم يحب موافقة أهل الكتاب، فيما لم ينزل عليه، ثم صار يخالفهم، ويحث على مخالفتهم".

وحديث عمرو بن شعيب المشار إليه، أخرجه الترمذي، وحسَّنه، ولم أر في شيء من طرقه الاستثناء المذكور، فالئه أعلم.

قال ابن العربي: وإنما نُهي عن النتف، دون الخضب؛ لأن فيه تغيير الخلقة من أصلها، بخلاف الخضب، فإنه لا يغيّر الخلقة على الناظر إليه. والله أعلم.

وقد نُقل عن أحمد أنه يجب، وعنه: يجب ولو مرة، وعنه: لا أحب لأحد تَرْك الخضب، ويتشبه بأهل الكتاب، وفي السواد عنه كالشافعية روايتان: المشهورة يُكره، وقيل: يَحْرم، ويتأكد المنع لمن دَلَّس به. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: ما نُقل عن الإمام أحمد رحمه الله من القول بوجوب الخضب هو الظاهر؛ لظواهر النصوص، وأما الخضب بالسواد، فتحريمه أظهر؛ كما سيأتي في المسألة التالية - إن شاء الله تعالى -. والله تعالى أعلم بالصواب.

(المسألة الخامسة): في اختلاف أهل العلم في حكم خضاب الشيب بالسواد:

(1)

قوله: "أو يخضبها" هذا اللفظ لا يصحّ، بل الذي يصحّ النهي عن النتف فقط، ولفظ الحديث عند أبي داود: عن عمرو بن شُعيب، عن أبيه، عن جدّه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تنتفوا الشيب، ما من مسلم يشيب شيبةً في الإسلام إلا كانت له نورًا يوم القيامة"، وفي لفظ:"إلا كتب الله له بها حسنةً، وحطّ عنه بها خطيئة".

(2)

"الْفَتْح" 11/ 548.

ص: 47

قال النوويّ رحمه الله: ويحرم خضابه - يعني: الشيب - بالسواد على الأصح، وقيل: يكره كراهة تنزيه، والمختار التحريم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"واجتنبوا السواد"، هذا مذهبنا.

وقال في "الفتح" عند قوله: "إن اليهود، والنصارى لا يصبغون، فخالفوهم" ما نصّه: هكذا أطلق، ولأحمد بسند حسن عن أبي أمامة رضي الله عنه، قال:"خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على مشيخة من الأنصار، بِيضٍ لحاهُم، فقال: يا معشر الأنصار حمّروا، وصفّروا، وخالفوا أهل الكتاب"، وأخرج الطبرانيّ في "الأوسط" نحوه من حديث أنس رضي الله عنه، وفي "الكبير" من حديث عتبة بن عبد رضي الله عنه:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بتغيير الشيب، مخالفة للأعاجم".

وقد تمسَّك به من أجاز الخضاب بالسواد.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا عجيب، وكيف يصحّ الاحتجاج بهذا الحديث المطلق؟، وقد قُيّد في الحديث الذي قبله بقوله:"حمِّروا، وصفِّروا"، وثبت الأمر باجتناب الخضاب بالسواد حيث قال صلى الله عليه وسلم:"واجتنبوا السواد".

قال: من العلماء من رخَّص فيه - أي: الخضاب بالسواد - في الجهاد، ومنهم من رخص فيه مطلقًا، وأن الأَولى كراهته، وجنح النووي إلى أنه كراهة تحريم.

وقد رخص فيه طائفة من السلف، منهم سعد بن أبي وقاص، وعقبة بن عامر، والحسن، والحسين، وجرير، وغير واحد، واختاره ابن أبي عاصم في "كتاب الخضاب" له، وأجاب عن حديث ابن عباس رفعه:"يكون قوم يخضبون بالسواد، لا يجدون ريح الجنة"، بأنه لا دلالة فيه على كراهة الخضاب بالسواد، بل فيه الإخبار عن قوم، هذه صفتهم، وعن حديث جابر رضي الله عنه:"جنِّبوه السواد" بأنه في حق من صار شيب رأسه مستبشَعًا، ولا يطّرد ذلك في حقّ كل أحد. انتهى.

قال الحافظ: وما قاله خلاف ما يتبادر من سياق الحديثين، نعم يشهد له ما أخرجه هو، عن ابن شهاب قال: كنا نخضب بالسواد، إذ كان الوجه جديدًا، فلما نغض الوجه، والأسنان تركناه.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا عجيب من الحافظ، كيف يستشهد

ص: 48

بفعل ابن شهاب، وأصحابه من الصبغ بالسواد على معارضة ما صحّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله:"جنّبوه السواد"، هذا شيء عجيب.

قال: وقد أخرج الطبراني، وابن أبي عاصم، من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه، رفعه:"من خضب بالسواد، سوَّد الله وجهه يوم القيامة"، وسنده ليّن.

ومنهم من فرّق في ذلك بين الرجل والمرأة، فأجازه لها دون الرجل، واختاره الْحَلِيميّ. انتهى

(1)

.

وقال العلّامة ابن القيّم رحمه الله: والصواب أن الأحاديث في هذا الباب، لا اختلاف بينها بوجه، فإن الذي نهى عنه النبيّ صلى الله عليه وسلم من تغيير الشيب أمران:

[أحدهما]: نَتْفه.

[والثاني]: خضابه بالسواد، والذي أَذِن فيه هو صبغه، وتغييره بغير السواد؛ كالحنّاء، والصفرة، وهو الذي عَمِله الصحابة رضي الله عنهم، قال الحكم بن عمرو الغفاريّ رضي الله عنه: دخلت أنا، وأخي رافع على عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وأنا مخضوبٌ بالحنّاء، وأخي مخضوب بالصفرة، فقال عمر رضي الله عنه: هذا خضاب الإسلام، وقال لأخي: هذا خضاب الإيمان.

وأما الخضاب بالسواد، فكرهه جماعة من أهل العلم، وهو الصواب بلا ريب؛ لِمَا تقدّم، وقيل للإمام أحمد: تكره الخضاب بالسواد؟ قال: إي والله. وهذه المسألة من المسائل التي حَلَف عليها، وقد جمعها أبو الحسن، ولأنه يتضمّن التلبيس، بخلاف الصفرة.

ورخّص فيه آخرون، منهم أصحاب أبي حنيفة، وروي ذلك عن الحسن، والحسين، وسعد بن أبي وقّاص، وعبد الله بن جعفر، وعقبة بن عامر، وفي ثبوته عنهم نظر، ولو ثبت فلا قول لأحد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسُنَّته أحقّ بالاتّباع، ولو خالفها من خالفها.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: لقد أجاد ابن القيّم رحمه الله في هذا الكلام، فإن الله عز وجل أوجب اتّباع النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال عز وجل:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} الآية [الحشر: 7]، وقال:

(1)

"الْفَتْحُ" 11/ 547 - 548.

ص: 49

{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَو يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63]، فالواجب على المكلّف اتّباع سُنَّته، ولا يُنظر إلى خلاف من خالفها، وإن كان من الأكابر، بل يُعتذر عن هؤلاء الذين ذكر أنهم صبغوا بالسواد - إن ثبت عنهم - بأن النهي لم يَصِل إليهم، فتبصّر بالإنصاف، ولا تكن أسير التقليد، اللَّهم أرنا الحقّ حقًّا، وارزقنا اتّباعه، وأرنا الباطل باطلًا، وارزقنا اجتنابه، آمين.

ورخّص فيه آخرون للمرأة تتزيّن به لبعلها، دون الرجل، وهذا قول إسحاق بن راهويه، وكأنه رأى أن النهي إنما جاء في حقّ الرجال، وقد جوّز للمرأة من خضاب اليدين، والرجلين ما لم يُجوّز للرجل، والله تعالى أعلم. انتهى كلام ابن القيّم رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي وجّه به ابن القيّم مذهب إسحاق رحمهما الله تعالى بأن المرأة تخالف الرجل في هذا الباب، حيث إن الشارع نهى الرجال من خضاب اليد والرِّجل، وأباحه للمرأة، فَقَصَر النهي عن الخضاب بالسواد على الرجل فقط، دون المرأة توجيه صحيح.

والحاصل: أن الذي تدلّ عليه الأدلة الصحيحة الصريحة هو تحريمُ الخضاب بالسواد، والله تعالى أعلم بالصواب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5498]

(

) - (وَحَدَّثَني أَبُو الطَّاهِر، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْبٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْر، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ الله، قَالَ: أُتِيَ بِأَبِي قُحَافَةَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ، وَرَأْسُهُ، وَلِحْيَتُهُ كَالثَّغَامَةِ بَيَاضًا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "غَيِّرُوا هَذَا بِشَيْءٍ، وَاجْتَنِبُوا السَّوَادَ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

وكلّهم تقدّموا قريبًا، و"أبو الطاهر" هو: أحمد بن عمرو بن عبد الله بن السَّرْح المصريّ.

(1)

"تهذيب السنن" 11/ 172 - 173، من هامش "عون المعبود".

ص: 50

والحديث من أفراد المصنّف رحمه الله، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله في الحديث الذي قبله، ولله الحمد والمنّة.

[خاتمة]: زعم بعضهم أن قوله: "واجتنبوا السواد" مُدْرَج في الحديث؛ وحجتهم في ذلك ما في "مسند أحمد" من أن زهير بن معاوية سأل أبا الزبير لَمّا حدّثه بهذا الحديث قال: قلت لأبي الزبير: قال: "جنّبوه السواد"؟ قال: لا.

وهذا القول مردود؛ لأمور:

[الأول]: أن الأصل في ألفاظ الحديث عدم الإدراج؛ إذ لا دليل عليه إلا الحكاية المذكورة، وليست هي دليلًا عليه؛ إذ غايتها أن يقال: إن أبا الزبير قد نسي حين حدّث زهيرًا، وكم من محدّث قد نسي حديثه بعدما حدّث به، وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"رحم الله فلانًا لقد أذكرني آية، كنت أُنسيتها"، رواه مسلم، وقد صرّح الحافظ في "النخبة" أن الصحيح أنه لا يُردّ الحديث لنسيان الشيخ إلا أن يقول: كذب عليّ، لم أحدّث بهذا.

[الثاني]: أنه قد تابع ابن جُريج ليث بن أبي سُليم عند أحمد، وابن ماجه، وهو وإن كان مختلطًا، لكنه يصلح في المتابعة والشواهد، كما صرّح به مسلم في مقدّمة "صحيحه".

[الثالث]: أن للحديث شاهدًا صحيحًا، قال الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده":

(12656)

- ثنا محمد بن سلمة الحرّانيّ، عن هشام، عن محمد بن سيرين قال: سئل أنس بن مالك عن خِضاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن شابَ إلا يسيرًا، ولكن أبا بكر وعمر بعده خَضبا بالحنّاء والكتم، قال: وجاء أبو بكر بأبيه أبي قحافة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة يحمله، حتى وضعه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر:"لو أقررت الشيخ في بيته لأتيناه" تكرمةً لأبي بكر، فأسلم، ولحيته، ورأسه كالثَّغَامة بياضًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"غَيِّروهما، وجنِّبوه السواد"

(1)

. انتهى

(2)

.

(1)

قال الشيخ مقبل رحمه الله في رسالته ص 43: حديث صحيح على شرط مسلم.

(2)

"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 3/ 160.

ص: 51

قال الحافظ الهيثميّ في "المجمع" بعد ذكر هذا الحديث: رواه أحمد، وأبو يعلى، والبزّار باختصار، وفي "الصحيح" طرف منه، ورجال أحمد رجال الصحيح

(1)

.

وله أيضًا شاهد آخر صحيح أيضًا

(2)

، قال ابن سعد رحمه الله في "الطبقات": أخبرنا عبد الرحمن بن محمد المحاربيّ، عن محمد بن إسحاق قال: حدّثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه، عن أسماء بنت أبي بكر قالت: لَمّا دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، واطمأنّ، وجلس في المسجد أتاه أبو بكر بأبي قحافة، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"يا أبا بكر ألا تركت الشيخ حتى أكون أنا الذي أمشي إليه؟ " قال: يا رسول الله هو أحقّ أن يمشي إليك من أن تمشي إليه، فأجلسه رسول الله صلى الله عليه وسلم بين يديه، ووضع يده على قلبه، ثم قال: يا أبا قحافة أسلم تَسْلَم، قال: فأسلم، وشهد شهادة الحقّ، قال: وأُدخل عليه، ورأسه ولحيته كأنهما ثُغامة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"غَيِّروا هذا الشيب، وجَنِّبوه السواد". انتهى

(3)

.

وأخرجه أيضًا الإمام أحمد

(4)

، مطوّلًا، وابن حبّان في "صحيحه"

(5)

، والحاكم في "مستدركه"

(6)

.

ومن الشواهد أيضًا ما أخرجه أحمد في "مسنده"، قال:

(13613)

- حدّثنا قتيبة، قال: أنا ابن لهيعة، عن خالد بن أبي عمران، عن سعد بن إسحاق بن كعب بن عُجْرة، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "غَيِّروا الشَّيْب، ولا تُقَرِّبوه السواد". انتهى

(7)

.

(1)

"مجمع الزوائد" 5/ 160.

(2)

حسّنه الشيخ مقبل رحمه الله، ولعله من أجل الكلام في ابن إسحاق، لكنه تقوّى بالشواهد المذكورة، فالحقّ أنه صحيح، والله تعالى أعلم.

(3)

"الطبقات الكبرى" لابن سعد 5/ 451.

(4)

"المسند" 6/ 349.

(5)

"صحيح ابن حبّان" 12/ 286.

(6)

"المستدرك" 3/ 46.

(7)

"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 3/ 247.

ص: 52

وابن لهيعة متكلَّم فيه، لكنه يصلح للاستشهاد به، ولا سيّما وقد عدّ بعضهم قتيبة ممن روى عنه قبل اختلاطه.

ومن الشواهد أيضًا ما أخرجه البيهقيّ رحمه الله في "الكبرى"، قال:

(14600)

- أخبرنا أبو الحسن محمد بن الحسين بن داود العلويّ، أنا أحمد بن محمد بن الحسن الحافظ، نا الحسن بن هارون، ثنا مكيّ بن إبراهيم، أنا عبد العزيز بن أبي روّاد، عن محمد بن زياد، عن أبي هريرة رضي الله عنه ذكر النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"غَيِّروا الشيب، ولا تشبَّهوا باليهود، واجتنبوا السواد". انتهى

(1)

.

وعبد العزيز بن أبي روّاد فيه كلام، والحسن بن هارون قال أبو حاتم: لا أعرفه، كما في "لسان الميزان"

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن بما سبق بطلان دعوى الإدراج للفظ: "واجتنبوا السواد"، وأن الحديث صحيح، لا كلام فيه، وأن صبغ من يصبغ بالسواد متعلّلًا بالإدارج المذكور، باطل، فإياك وإياك أن تصبغ به، فتقع فيما نهى عنه النبيّ صلى الله عليه وسلم، فتدخل في الوعيد الشديد الذي ذكره الله عز وجل في قوله:{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَو يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63].

وقد ألّف بعض المعاصرين المحقّقين في هذه المسألة رسالة، منهم المحدّث الكبير الشيخ مقبل الوادعيّ اليمنيّ رحمه الله في رسالته القيّمة في الخضاب

(3)

، ومنهم الشيخ فريح بن صالح الهلال، فقد ألّف رسالة سمّاها:"إتحاف الأمجاد باجتناب تغيير الشيب بالسواد"، وقد قدّم لها سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله، وهي رسالة مفيدة كافية في الموضوع، فعليك بمراجعتهما، فراجعهما تستفد علمًا جمًّا، وبالله تعالى التوفيق.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(1)

"سنن البيهقي الكبرى" 7/ 311.

(2)

ذكره الشيخ مقبل رحمه الله في رسالته المذكورة ص 46.

(3)

هي مطبوعة ضمن مجموعة رسائل علميّة، وكلها له رحمه الله طبع دار الآثار، صنعاء.

ص: 53

(24) - (بَابٌ فِي الأَمْرِ بِمُخَالَفَةِ الْيَهُودِ فِي الصَّبْغِ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5499]

(2103) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَمْرٌو النَّاقِدُ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ - وَاللَّفْظُ لِيَحْيَى - قَالَ يَحْيَى: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ الآخَرُونَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى لَا يَصْبُغُونَ، فَخَالِفُوهُمْ").

رجال هذا الإسناد: تسعة:

1 -

(أَبُو سَلَمَةَ) بن عبد الرحمن بن عوف الزهريّ المدنيّ، قيل: اسمه عبد الله، وقيل: إسماعيل، ثقةٌ فقيهٌ مكثر [3](ت 94)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 423.

2 -

(سُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ) الهلاليّ مولى ميمونة المدنيّ، وقيل: أم سلمة، ثقةٌ فاضلٌ، من كبار [3] مات بعد المائة، أو قبلها (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 489.

والباقون ذُكروا في الأبواب السابقة القريبة.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وفيه رواية تابعيّ، عن تابعيين كلاهما من الفقهاء السبعة على خلاف في أبي سلمة، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه رأس المكثرين السبعة.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ) قال في "الفتح": كذا جمع بينهما، وتابعه الأوزاعيّ عن الزهريّ، أخرجه النسائيّ، ورواه صالح بن كيسان، ويونس، ومعمر، عن الزهريّ عن أبي سلمة وحده، ورواية صالح عند البخاريّ في "أحاديث الأنبياء"، ورواية الآخرين عند النسائيّ عن أبي هريرة، وفي رواية

ص: 54

إسحاق بن راهويه، عن سفيان بسنده، أنهما سمعا أبا هريرة، أخرجه النسائيّ. انتهى

(1)

.

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (إِنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى لَا يَصْبُغُونَ) قال في "الفتح": هكذا أطلق، ولأحمد بسند حسن عن أبي أمامة، قال:"خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على مشيخة من الأنصار، بِيضٍ لحاهم، فقال: يا معشر الأنصار حَمِّروا، وصفّروا، وخالفوا أهل الكتاب".

وأخرج الطبرانيّ في "الأوسط" نحوه، من حديث أنس، وفي "الكبير" من حديث عتبة بن عبد:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بتغيير الشعر مخالفةً للأعاجم"، وقد تمسَّك به من أجاز الخضاب بالسواد، قاله في "الفتح"

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا عجيب، كيف يحتجّ بالمفهوم مع وجود المنطوق الصريح الصحيح:"واجتنبوا السواد"؟ إن هذا لشيء عُجاب، والله تعالى المستعان.

(فَخَالِفُوهُمْ") وللنسائيّ من حديث ابن عمر رضي الله عنهما رفعه: "غَيِّروا الشيب، ولا تشبهوا باليهود"، ورجاله ثقات، لكن اختُلِف على هشام بن عروة فيه، كما بيَّنه النسائيّ، وقال: إنه غير محفوظ، وأخرجه الطبرانيّ في "الأوسط" من حديث عائشة، وزاد:"والنصارى"، ولأصحاب "السنن"، وصححه الترمذيّ من حديث أبي ذرّ رفعه:"إن أحسن ما غَيَّرتم به الشيب الحناء والكتم"، وهذا يَحْتَمِل أن يكون على التعاقب، ويَحْتَمِل الجمع، والله تعالى أعلم.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [24/ 5499](2103)، و (البخاريّ) في "أحاديث

(1)

"الفتح" 13/ 417، كتاب "اللباس" رقم (5899).

(2)

"الفتح" 13/ 417، كتاب "اللباس" رقم (5899).

ص: 55

الأنبياء" (3462) و"اللباس" (5899)، و (أبو داود) في "الترجّل" (4203)، و (الترمذيّ) في "اللباس" (1752)، و (النسائيّ) في "الزينة" (8/ 137 و 185) و"الكبرى" (5/ 414 و 415)، و (ابن ماجه) في "اللباس" (3621)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه" (20175)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه" (8/ 431)، و (الحميديّ) في "مسنده" (2/ 471)، و (أحمد) في "مسنده" (2/ 240 و 260 و 309 و 401)، و (ابن حبّان) في "صحيحه" (5470 و 5473)، و (أبو عوانة) في "مسنده" (5/ 273 و 274)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط" (8/ 196)، و (أبو يعلى) في "مسنده" (10/ 366 و 367 و 369)، و (ابن سعد) في "الطبقات" (1/ 439)، و (البيهقيّ) في "الكبرى" (7/ 309 و 310 و 311) و"شُعَب الإيمان" (5/ 211)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة" (3174)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان مشروعيّة الخضاب.

2 -

(ومنها): أن في الصبغ مخالفةَ اليهود والنصارى، وهو من الأمور المهمّة في الشرع، حيث إن فيه مباينة للأمة الخائنة لأنبيائها، ودينها، فلا ينبغي التشبّه بهم في أيّ نوع من أنواع سلوكهم الأخلاقية، والعادات؛ لكونها ضدّ الشريعة الإسلاميّة.

3 -

(ومنها): أن فيه الأمر بالصبغ، والأمر للوجوب عند جمهور الأصولين، إلا إذا كان له صارف يصرفه عن الوجوب إلى غيره، والقول بالوجوب منقول عن الإمام أحمد رحمه الله، كما سبق، وهو الحقّ؛ إذ لا صارف للأمر عن الوجوب. وقد سبق تمام البحث في هذا قريبًا، ولله الحمد والمنة.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(25) - (بَابُ لَا تَدْخُلُ الْمَلَائِكَةُ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ، وَلَا صُورَةٌ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5500]

(2104) - (حَدَّثَنِي سُويدُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدثنا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِيه، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَن، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّهَا قَالَتْ: وَاعَدَ

ص: 56

رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم جِبْرِيلُ عليه السلام فِي سَاعَةٍ يَأْتِيهِ فِيهَا، فَجَاءَتْ تِلْكَ السَّاعَةُ، وَلَمْ يَأْتِه، وَفي يَدِهِ عَصًا، فَأَلْقَاهَا مِنْ يَدِه، وَقَالَ:"مَا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ، وَلَا رُسُلُهُ"، ثُمَّ الْتَفَتَ، فَإِذَا جِرْوُ كَلْبٍ تَحْتَ سَرِيرِهِ

(1)

، فَقَالَ:"يَا عَائِشَةُ مَتَى دَخَلَ هَذَا الْكَلْبُ هَا هُنَا؟ "، فَقَالَتْ: وَاللهِ مَا دَرَيْتُ، فَأَمَرَ بِه، فَأُخْرِجَ، فَجَاءَ جِبْرِيلُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"وَاعَدْتَنِي، فَجَلَسْتُ لَكَ، فَلَمْ تَأْتِ"، فَقَالَ: مَنَعَنِي الْكَلْبُ الَّذِي كَانَ فِي بَيْتِكَ، إِنَّا لَا نَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ، وَلَا صُورَةٌ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(سُويدُ بْنُ سَعِيدِ) بن سهل الْهَرَويّ، ثم الْحَدَثانيّ، ويقال له: الأنباريّ، أبو محمد صدوقٌ في نفسه، إلا أنه عَمِي، فصار يتلقّن، من قدماء [10](ت 240) وله مائة سنة (م ق) تقدم في "المقدمة" 6/ 87.

2 -

(عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي حَازِمٍ) المدنيّ، ثقةٌ فقيهٌ [8](ت 184) أو قبله (ع) تقدم في "الإيمان" 45/ 290.

3 -

(أَبُوهُ) سلمة بن دينار التمّار الأعرج المدنيّ القاصّ، مولى الأسود بن سفيان، ثقةٌ عابدٌ [5](ت 140) أو قبلها، أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 50/ 313.

4 -

(عَائِشَةُ) أم المؤمنين رضي الله عنها، تقدّمت في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 315.

و"أبو سلمة" ذُكر في السند الماضي.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وهو مسلسل بالمدنيين، سوى شيخه، كما مرّ آنفًا، وفيه رواية الابن عن أبيه، ورواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه أحد الفقهاء السبعة على بعض الأقوال، وفيه عائشة رضي الله عنها من المكثرين السبعة، روت من الحديث (2210) أحاديث، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ عَائِشَةَ) رضي الله عنها (أَنَّهَا قَالَتْ: وَاعَدَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم جِبْرِيلُ عليه السلام بنصب

(1)

وفي نسخة: "تحت سرير".

ص: 57

"رسولَ" مفعولًا مقدّمًا، ورفع "جبريلُ" على الفاعليّة، (فِي سَاعَةٍ) متعلّق بـ "واعد"، و"في" بمعنى الباء، وقوله:(يَأْتِيهِ فِيهَا) في محلّ جرّ صفة لـ"ساعة"، (فَجَاءَتْ تِلْكَ السَّاعَةُ) التي واعده أن يأتيه فيها، (وَلَمْ يَأْتِهِ)؛ أي: لم يأت جبريلُ عليه السلام النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقوله:(وَفِي يَدِهِ عَصًا) جملة من مبتدأ مؤخّر، وخبر مقدّم، في محلّ نصب على الحال؛ أي: والحال أن في يده صلى الله عليه وسلم عصًا يتوكّأ عليها، والعصا مقصورٌ مؤنّثةٌ، والتثنية عَصَوَان، والجمع أَعْصٍ، وعِصِيٌّ على فُعُولٍ، مثلُ أَسَدٍ وأُسُود، والقياس أَعْصَاءٌ، مثلُ سبَبٍ وأَسْبَابٍ، لكنه لم يُنقَل، قاله ابن السِّكِّيت، ذكره في "المصباح"

(1)

.

وقال في "القاموس"، و"شرحه": العصا الْعُودُ، أصلها من الواو؛ لأن أصلها عَصَوَوٌ، على هذا تثنيته عَصَوَان، قيل: سُمِّيت بها؛ لأن الأصابع واليد تجتمع عليها، من قولهم: عَصَوت القوم أعصُوهم: إذا جمعتهم، رواه الأصمعيّ عن بعض البصريين، قال: ولا يجوز مدُّ العصا، ولا إدخال التاء معها، وقال الفراء: أوّلُ لحن سُمع بالعراق: هذه عصاتي، وهي: أنثى، جمعها: أَعْصٍ، مثلُ زَمَنٍ وأزمُنٍ، وأعصاء؛ كسَبَب وأسباب، وعُصِيّ؛ كعُتِيّ، وعِصِيّ بالكسر، قال الجوهريّ: وهو فُعُول، وإنما كُسرت العين إتباعًا لِمَا بعدها، من الكسرة، وقال سيبويه: جعلوا أَعْصِيًا بدل أعصاء، وأنكر أعصاءً. انتهى

(2)

.

والظاهر أنه صلى الله عليه وسلم أخذ العصا يتوكّأ عليها، أو ينكت بها في الأرض، فقد أخرج البخاريّ من حديث ابن مسعود رضي الله عنه: "قال: بينا أنا أمشي مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في خَرِب المدينة، وهو يتوكأ على عَسِيب معه

" الحديث، وأخرج أحمد، وأبو داود بإسناد صحيح، من حديث البراء رضي الله عنه: "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة رجل من الأنصار، فانتهينا إلى القبر، ولَمّا يُلْحَدْ، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجلسنا حوله، كأنما على رؤوسنا الطير، وفي يده عُودٌ يَنْكُت به في الأرض

" الحديث، وأخرج الشيخان من حديث عليّ رضي الله عنه نحوه.

(1)

"المصباح المنير" 2/ 414.

(2)

"تاج العروس" 1/ 8499.

ص: 58

(فَأَلْقَاهَا)؛ أي: العصا، (مِنْ يَدِهِ) صلى الله عليه وسلم، ولعله ألقاها تأسّفًا على تأخّر جبريل عليه السلام من وعده. (وَقَالَ) صلى الله عليه وسلم:("مَا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ، وَلَا رُسُلُهُ") ومنهم جبريل عليه السلام أي: إلا لسبب يوجب الخلف، (ثُمَّ الْتَفَتَ) صلى الله عليه وسلم (فَإِذَا جِرْوُ كَلْبٍ) "إذا" هي الفجائيّة؛ أي: ففاجأه وجود جرو كلب، و"الْجِرْو" بتثليث الجيم، وإسكان الراء، آخره واو، قال المجد رحمه الله: الْجُرْوُ مثلثةً: صغير كلّ شيء حتى الحنظل، والبطّيخ، ونحوه، ووَلَدُ الكلب، والأسد. انتهى

(1)

.

وقال الفيّوميّ رحمه الله: الْجرْوُ بالكسر: وَلَدُ الكلب، والسباع، والفتح، والضم لغةٌ، قال ابن السِّكِّيت: والكسر أفصح، وقال في "البارع": الجِرْو: الصغير من كل شيء، والجِرْوَة أيضًا: الصغيرة من القثاء، شُبِّهت بصغار أولاد الكلاب؛ لِلِينها، ونعومتها، والجمع: جِرَاءٌ، مثل كِتَاب، وأَجْرٍ، مثل أَفْلسٍ. انتهى

(2)

.

(تَحْتَ سَرِيرِهِ) هكذا في بعض النُّسخ بالضمير، وفي بعضها:"تحت سرير" بلا ضمير، (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("يَا عَائِشَةُ مَتَى دَخَلَ هَذَا الْكَلْبُ هَا هُنَا؟ ")؛ أي: تحت السرير، (فَقَالَتْ: وَاللهِ مَا دَريتُ) بفتح الدال، والراء، من باب ضرب؛ أي: ما علمت وقت دخوله، (فَأَمَرَ بِهِ) ببناء الفعل للفاعل؛ أي: أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بذلك الجرو أن يُخَرج، (فَأُخْرِجَ) بالبناء للمفعول، (فَجَاءَ جِبْرِيلُ) عليه السلام (فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) لجبريل ("وَاعَدْتَنِي)؛ أي: بأن تأتيني في الوقت الفلانيّ، (فَجَلَسْتُ لَكَ)؛ أي: لأجل لقائك، (فَلَمْ تَأْتِ")؛ أي: فما السبب في عدم إتيانك؟ (فَقَالَ) جبريل عليه السلام مبيّنًا سبب عدم إتيانه: (مَنَعَنِي الْكَلْبُ)؛ أي: الجرو (الَّذِي كَانَ فِي بَيْتِكَ) ثم بيّن له أن هذا ليس خاصًّا به، بل جميع الملائكة كذلك، فقال:(إِنَّا) معشر الملائكة (لَا نَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ كلْبٌ، وَلَا صُورَةٌ) قال الطيبيّ رحمه الله: من حقّ الظاهر أن تكرّر "لا"، فيقال: لا كلبٌ، ولا صورة، ولكن لَمّا وقع في سياق النفي جاز؛ كقوله تعالى:{وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ} [الأحقاف: 9]، وفيه من التأكيد أنه لو لم تُذكر "لا" لاحتمل أن المنفيّ الجمع بينهما، نحو قولك: ما كلّمتُ زيدًا ولا عمرًا، ولو حذفت "لا" جاز أن

(1)

"القاموس المحيط" ص 212.

(2)

"المصباح المنير" 1/ 98.

ص: 59

تُكلّم أحدهما؛ لأن الواو للجمع، وإعادة "لا"؛ كإعادة الفعل. انتهى

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: الملائكة هنا - وإن كان عمومًا - فالمراد به الخصوص، فإنَّ الحفظة ملازمة للإنسان، هكذا قاله بعض علمائنا، والظاهر العموم، والمخصص ليس نصًّا، وكذلك قوله: كلب، وصورة؛ كلاهما للعموم؛ لأنَّهما نكرتان في سياق النفي، وقد ذهب بعض العلماء إلى أن المراد به الكلاب التي لم يؤذَن في اتخاذها، فيُستثنى من ذلك كلب الصيد، والماشية والزرع.

وأما الصورة: فيُراد بها التماثيل من ذوات الأرواح، ويستثنى من ذلك الصورة المرقومة، كما نصَّ عليه في الحديث، على ما يأتي.

وإنما لم تدخل الملائكة البيت الذي فيه التمثال؛ لأن متَّخذها في بيته قد تشبَّه بالكفار الذين يتخذون الصور في بيوتهم، ويُعلّقونها، فكرهت الملائكة ذلك منه، فلم تدخل بيته هجرانًا له، وغضبًا عليه.

واختُلِف في المعنى الذي في الكلب المانع للملائكة من الدخول، فذهبت طائفة إلى أنَّه النجاسة، وهو من حجج من قال بنجاسة الكلب، ويتأيد ذلك بنضحه صلى الله عليه وسلم موضع الكلب.

قال القرطبيّ: وهذا ليس بواضح، وإنما هو تقدير احتمال يعارضه احتمالات أخر:

أحدها: أنها من الشياطين، كما قد جاء في بعض الحديث.

وثانيها: استخباث روائحها، واستقذارها.

وثالثها: النجاسة التي تتعلق بها؛ فإنَّها تأكلها وتتلطخ بها، فتكون نجسة بما يتعلق بها، لا لأعيانها، والمخالف يقول: هي نجسة الأعيان، وعلى ما قلناه: يصح أن يقال: أنَّه صلى الله عليه وسلم شك في طهارة موضعه؛ لإمكان أن يكون أصابه من النجاسة اللازمة لها غالبًا شيء، فنضحه؛ لأنَّ النضح طهارة للمشكوك فيه، فلو تحقق إصابة النجاسة الموضع لغسله؛ كما فعل ببول الأعرابي، ولو كان الكلب نجسًا لِعَيْنه، لا لِمَا يتعلق به لَمَا احتاج إلى غَسله، كما لا يحتاج إلى

(1)

"الكاشف عن حقائق السنن" 9/ 2944 - 2945.

ص: 60

غَسل الموضع أو الثوب الذي يكون عليه عَظْمْ ميتة، أو نجاسة لا رطوبة فيها، وعلى هذا فهذا الاحتمال أَولى أن يُعتبر، فإنْ لم يكن أَولى فالاحتمالات متعارضة، والدَّسْت

(1)

قائم، ولا نصّ حاكم. انتهى

(2)

، والله تعالى أعلم.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [25/ 5500 و 5501](2104)، و (ابن ماجه) في "اللباس"(3651)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 142)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(7/ 8)، و (أبو نعيم) في "الحلية"(3/ 257)، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5501]

(

) - (حَدَّثنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ، أَخْبَرَنَا الْمَخْزُومِيُّ، حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، بِهَذَا الإِسْنَاد، أَنَّ جِبْرِيلَ وَعَدَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم

(3)

أَنْ يَأْتِيَهُ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، وَلَمْ يُطَوِّلْهُ كَتَطْوِيلِ ابْنِ أَبِي حَازِمٍ).

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ) ابن راهويه، تقدّم قريبًا.

2 -

(الْمَخْزُومِيُّ) المغيرة بن سلمة، أبو هشام البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ، من صغار [9](ت 200)(خت م د س ق) تقدم في "الطهارة" 11/ 584.

3 -

(وُهَيْبُ) بن خالد بن عجلان الباهليّ مولاهم، أبو بكر البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ، تغيّر قليلًا بآخره [7](ت 165) أو بعدها (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 413.

و"أبو حازم" ذُكر قبله.

وقوله: (فَذَكَرَ الْحَدِيثَ

إلخ) فاعل "ذَكَرَ" ضمير وُهيب.

(1)

لم يظهر لي المراد منه، فليُنظر، والله تعالى أعلم.

(2)

"المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، 5/ 421 - 422.

(3)

وفي نسخة: "وعده رسول الله صلى الله عليه وسلم".

ص: 61

[تنبيه]: رواية وُهيب، عن أبي حازم هذه ساقها إسحاق بن راهويه رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(1069)

- أخبرنا المخزوميّ، نا وُهيب، عن أبي حازم، عن أبي سلمة، عن عائشة، أن جبريل وعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتيه، فاحتَبَس، ثم أتاه، فقال له:"ما حبسك؟ " فقال: كلبٌ كان في البيت، فنظروا، فإذا جُرْوٌ تحت السرير، فأَمَر به، فأُخْرِج. انتهى

(1)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5502]

(2105) - (حَدَّثَني حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنِ ابْنِ السَّبَّاق، أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَبَّاسٍ قَالَ. أَخْبَرَتْنِي مَيْمُونَةُ، أَن رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَصْبَحَ يَوْمًا وَاجِمًا، فَقَالَتْ مَيْمُونَةُ: يَا رَسُولَ الله، لَقَدِ اسْتَنْكَرْتُ هَيْئَتَكَ مُنْذُ الْيَوْم، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ جِبْرِيلَ كانَ وَعَدَنِي أَنْ يَلْقَانِي اللَّيْلَةَ، فَلَمْ يَلْقَنِي، أَمَ وَاللهِ مَا أَخْلَفَنِي"، قَالَ: فَظَلَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَهُ ذَلِكَ عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ وَقَعَ فِي نَفْسِهِ جِرْوُ كَلْبٍ تَحْتَ فُسْطَاطٍ لَنَا، فَأَمَرَ بِه، فَأُخْرِجَ، ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِهِ مَاءً، فَنَضَحَ مَكَانَهُ، فَلَمَّا أَمْسَى لَقِيَهُ جِبْرِيلُ، فَقَالَ لَهُ: "قَدْ كُنْتَ وَعَدْتَنِي أَنْ تَلْقَانِي الْبَارِحَةَ"، قَالَ: أَجَلْ، وَلَكِنَّا لَا نَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ، وَلَا صُورَةٌ، فَأَصْبَحَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَئِذٍ، فَأَمَرَ بِقَتْلِ الْكِلَاب، حَتَّى إِنَّهُ يَأْمُرُ بِقَتْلِ كَلْبِ الْحَائِطِ الصَّغِير، وَيَتْرُكُ كَلْبَ الْحَائِطِ الْكَبِيرِ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(ابْنُ السَّبَاقِ) هو: عُبيد بن السبّاق الثقفيّ، أبو سعيد المدنيّ، ثقةٌ [3](ع) تقدم في "الزكاة" 50/ 2483.

2 -

(مَيْمُونَةُ) بنت الحارث الهلاليّة، أم المؤمنين رضي الله عنها، تزوجها النبيّ صلى الله عليه وسلم بسرف سنة سبع، وماتت بها، ودُفنت سنة (51) على الصحيح (ع) تقدمت في "الحيض" 1/ 687.

والباقون تقدّموا قريبًا.

(1)

"مسند إسحاق بن راهويه" 2/ 487.

ص: 62

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من سُباعيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالمدنيين من ابن شهاب، والباقون مصريّون، وفيه رواية صحابيّ عن صحابيّة هي خالته، ورواية تابعيّ عن تابعيّ.

شرح الحديث:

(عَنْ) عبيد (ابْنِ السَّبَّاقِ) بفتح السين المهملة، وتشديد الموحّدة، (أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما (قَالَ: أَخْبَرَتْنِي مَيْمُونَةُ) بنت الحارث رضي الله عنها، وهي خالته (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَصْبَحَ يَوْمًا وَاجِمًا)؛ أي: ساكتًا مهتمًّا، والواجم الذي أسكته الهمّ، وغلبته الكآبة، وقيل: الوجوم: الحزن، قاله ابن الأثير

(1)

.

وقال النوويّ: هو بالجيم، قال أهل اللغة: هو الساكت الذي يظهر عليه الهمّ والكآبة، وقيل: هو الحزين، يقال: وَجَمَ يَجِمُ - من باب ضَرَبَ - وُجُومًا. انتهى

(2)

.

(فَقَالَتْ مَيْمُونَةُ) رضي الله عنها (يَا رَسُولَ الله، لَقَدِ اسْتَنْكَرْتُ)؛ أي: جَهِلنا، يقال: أنكره، واستنكره، وتناكره: إذا جهله

(3)

. (هَيْئَتَكَ) بفتح الهاء، وسكون التحتانيّة: الحالة الظاهرة، يقال: هاء يهوءُ، ويهيء هيئةً حسنةً: إذا صار إليها

(4)

. (مُنْذُ الْيَوْمِ)؛ أي: في هذا اليوم؛ لأن "منذ"، و"مُذْ" إذا جرّا حاضرًا كانا بمعنى "في"، نحو: ما رأيته منذ، أو مذ يومنا، وإن جرّا ماضيًا كانا بمعنى "من"، نحو: ما رأيته منذ، أو مذ يوم الجمعة، قال في "الخلاصة":

وَإِنْ يَجُرَّا فِي مُضِيٍّ فَكَـ "مِنْ"

هُمَا وَفِي الْحُضُورِ مَعْنَى "فِي" اسْتَبِنْ

فالمعنى هنا: لقد استنكرتُ؛ أي: جهِلت حالتك في هذا اليوم؛ أي: إنك تغيّرت عما كنّا نعهده منك فيما مضى من الزمن، من الانبساط والانشراح، وبشاشة الوجه، والله تعالى أعلم.

(1)

"النهاية في غريب الأثر" ص 961.

(2)

"شرح النوويّ" 14/ 82.

(3)

راجع: "القاموس المحيط" ص 1314.

(4)

"المصباح المنير" 2/ 645.

ص: 63

(قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ جِبْرِيلَ) عليه السلام (كَانَ وَعَدَنِي أَنْ يَلْقَانِي اللَّيْلَةَ) بالنصب على الظرفيّة، (فَلَمْ يَلْقَنِي، أَمَ) هكذا في معظم النُّسخ بحذف الألف، وهي "أما" التي للتنبيه، والاستفتاح كـ"ألا"، ووقع في بعض النُّسخ بلفظ "أما" بالألف، وهما لغتان، قال ابن هشام رحمه الله في "المغني":"أما" بالفتح والتخفيف حرف استفتاح بمنزلة "ألا"، وتكثر قبل القَسَم؛ كقوله [من الطويل]:

أَمَا وَالَّذِي أَبْكَى وَأَضْحَكَ وَالَّذِي

أَمَاتَ وَأَحْيَا وَالَّذِي أَمْرُهُ الأَمْرُ

وقد تُبدل همزتها هاءً، أو عينًا قبل القَسَم، وكلاهما مع ثبوت الألف، وحَذْفها، أو تُحذف الألف مع ترك الإبدال. انتهى

(1)

.

(وَاللهِ مَا أَخْلَفَنِي)؛ أي: ما ترك الوفاء بوعده قبل هذا، (قَالَ) هكذا النُّسخ، والظاهر أن الضمير لابن عبّاس آخذًا عن ميمونة رضي الله عنهم، (فَظَلَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَهُ ذَلِكَ عَلَى ذَلِكَ) الحال من كونه واجمًا، (ثُمَّ وَقَعَ فِي نَفْسِهِ جِرْوُ كَلْبٍ)؛ أي: وجود جرو كلب، وتقدّم أنه بكسر الجيم، وضمها، وفتحها، ثلاث لغات، مشهورات، وهو الصغير من أولاد الكلب، وسائر السباع، والجمع أَجْرٍ، وجِرَاءٌ، وجَمْع الْجِرَاء أَجْريَةٌ

(2)

. (تَحْتَ فُسْطَاطٍ لَنَا) فيه ستّ لغات: فُسطاطٌ، وفُستاطٌ بالتاء، وفُسّاظ، بتشديد السين، وضم الفاء فيهنّ، وتُكْسَر، وهو نحو الخباء، قال القاضي عياض: والمراد به هنا بعض حِجَال البيت، بدليل قولها في الحديث الآخر:"تحت سرير عائشة"، وأصل الفسطاط: عمود الأخبية التي يقام عليها، والله أعلم. انتهى

(3)

.

وفي رواية النسائيّ: "تَحْتَ نَضَدٍ لنَا"، والنَّضَد - بفتحتين -: السرير الذي يُنضّد عليه الثياب؛ أي: يُجعل بعضها فوق بعض. وقال الفيّوميّ: نَضَدته نَضْدًا، من باب ضرب: جعلت بعضه على بعض، والنَّضَد - بفتحتين -: المنضود، والنضيدُ فعيلٌ بمعنى مفعول، وسُمّي السرير نَضَدًا؛ لأن النضَدَ غالبًا يُجعل عليه. انتهى

(4)

.

(1)

راجع: "مغني اللبيب عن كتب الأعاريب" 1/ 117.

(2)

"شرح النوويّ" 14/ 83.

(3)

"إكمال المعلم" 6/ 630.

(4)

"المصباح المنير" 2/ 610.

ص: 64

(فَأَمَرَ) بالبناء للفاعل؛ أي: أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم (بِهِ)؛ أي: بإخراج ذلك الجرو، (فَأُخْرِجَ) بالبناء للمفعول، (ثُمَّ أَخَذَ) صلى الله عليه وسلم (بِيَدِهِ مَاءً، فَنَضَحَ مَكَانَهُ) قال النوويّ رحمه الله: قد احتَجّ بهذا جماعة في نجاسة الكلب، قالوا: والمراد بالنضح: الغسل، وتأوّلته المالكية على أنه غَسَلَه لخوف حصول بوله، أو روثه، والله أعلم. (فَلَمَّا أَمْسَى)؛ أي: دخل صلى الله عليه وسلم في وقت المساء، وهو خلاف الصباح، وقال ابن الْقُوطِيّة: المساء ما بين الظهر إلى المغرب، وأمسيت إمساء: دخلت في المساء

(1)

. (لَقِيَه جِبْرِيلُ)؛ أي: استقبله، يقال: لَقِيتُهُ أَلْقَاهُ، من باب تَعِبَ لُقيًّا، والأصل على فُعُول، ولُقىً بالضم مع القصر، ولِقَاءً بالكسر، مع المدّ، والقصر، وكلّ شيء استَقْبَل شيئًا، أو صادفه فقد لَقِيهُ، ومنه لِقَاءُ البيت، وهو استقباله

(2)

. (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم (لَهُ)؛ أي: لجبريل عليه السلام ("قَدْ كُنْتَ وَعَدْتَنِي أَنْ تَلْقَانِي الْبَارِحَةَ") قال المجد: هي أقرب ليلة مضت

(3)

، وقال الفيّوميّ: تقول العرب قبل الزوال: فعلنا الليلة كذا؛ لقربها من وقت الكلام، وتقول بعد الزوال: فعلنا البارحة. انتهى

(4)

. (قَالَ) جبريل (أَجَلْ) بفتحتين؛ كنَعَمْ وزنًا ومعنًى، (وَلَكِنَّا لَا نَدْخُلُ بَيْتًا، فِيهِ كَلْبٌ) المراد بالبيت: المكان الذي يستقرّ فيه الشخص، سواء كان بناءً، أو خيمةً، أم غير ذلك، والظاهر العموم في كلّ كلب؛ لأنه نكرة في سياق النفي. وذهب الخطّابيّ، وطائفة إِلَى اسْتِثْنَاء الْكِلَاب الَّتِي أُذِنَ فِي اتِّخَاذهَا، وَهِيَ كِلَاب الصَّيْد، وَالْمَاشِيَة، وَالزَّرْع، وَجَنَحَ الْقُرْطُبِيّ إِلَى تَرْجِيح الْعُمُوم، وَكَذَا قَالَ النَّوَوِيّ، وَاسْتَدَلَّ لِذَلِكَ بِقِصَّةِ الْجَرْو الَّتِي ستَأْتِي في الحديث التالي، قَالَ: فَامْتَنَعَ جِبْرِيل عليه السلام مِنْ دُخُول الْبَيْت، الَّذِي كَانَ فِيه، مَعَ ظُهُور الْعُذْر فِيه، قَالَ: فَلَوْ كَانَ الْعُذْر لا يَمْنَعهُمْ مِنَ الدُّخُول، لَمْ يَمْتَنِع جِبْرِيل عليه السلام مِنَ الدُّخُول. انتهى.

قال الحافظ: وَيَحْتمِل أَنْ يُقَال: لا يَلْزَم مِنَ التَّسْوِيَة، بَيْن مَا عُلِمَ بِه، أَو لَمْ يُعْلَم فِيمَا لَمْ يُؤمَر بِاتِّخَاذِه، أَنْ يَكُون الْحُكْم كَذَلِكَ، فِيمَا أُذِنَ فِي اتِّخَاذه. انتهى.

(1)

"المصباح المنير" 2/ 574.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 558.

(3)

"القاموس المحيط" ص 91.

(4)

"المصباح المنير" 1/ 42.

ص: 65

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الاحتمال الذي أبداه الحافظ هو الذي يظهر لي، وحاصله أن الكلاب التي أُذن في اقتنائها لا تدخل في حكم مَنْع دخول الملائكة، ويؤيّد ذلك أن من اقتناها لا يدخل في نقص القيراط، أو القيراطين، حيث استثناه الشارع من ذلك، فكذا هنا فيما يظهر. والله تعالى أعلم.

(وَلَا صُورَةٌ) بالْإفْرَاد، وَكَذَا هو فِي مُعْظَم الرِّوَايَات، كما قاله الحافظ، وفي رواية البخاريّ:"وَلَا تَصَاوِير" بالجمع. وَفَائِدَة إِعَادَة حَرْف النَّفْي، الاحْتِرَاز مِنْ تَوَهُّم الْقَصْر فِي عَدَم الدُّخُول، عَلَى اجْتِمَاع الصِّنْفَيْن، فَلَا يَمْتَنِع الدُّخُول مَعَ وُجُود أَحَدهمَا، فَلَمَّا أُعِيدَ حَرْف النَّفْي، صَارَ التَّقْدِير: وَلَا تَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ صُورَة.

قال أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله: إنما لم تدخل الملائكة البيت الذي فيه الصورة؛ لأن متّخذها قد تشبّه بالكفّار؛ لأنهم يتّخذون الصور في بيوتهم، ويُعظّمونها، فكَرِهَت الملائكة ذلك، فلم تدخل بيته؛ هَجْرًا له؛ لذلك. انتهى.

وقال النوويّ: قال العلماء: سبب امتناعهم من بيت فيه صورة كونها معصيةً فاحشةً، وفيها مضاهاةٌ لخلق الله تعالى، وبعضها في صورة ما يُعبد من دون الله تعالى، وسبب امتناعهم من بيت فيه كلب؛ لكثرة أكله النجاسات، ولأن بعضها يُسَمَّى شيطانًا، كما جاء به الحديث، والملائكة ضدّ الشياطين، ولقُبْح رائحة الكلب، والملائكة تَكره الرائحة القبيحة، ولأنها مَنْهِيّ عن اتخاذها، فعوقب متخذها بحرمانه دخول الملائكة بيته، وصلاتها فيه، واستغفارها له، وتبريكها عليه، وفي بيته، ودَفْعها أذى الشيطان، وأما هؤلاء الملائكة الذين لا يدخلون بيتًا فيه كلبٌ، أو صورةٌ، فهم ملائكة يطوفون بالرحمة، والتبريك، والاستغفار، وأما الحفظة فيدخلون في كل بيت، ولا يفارقون بني آدم في كل حال؛ لأنهم مأمورون بإحصاء أعمالهم، وكتابتها، قال الخطابيّ: وإنما لا تدخل الملائكة بيتًا فيه كلبٌ، أو صورةٌ، مما يحرم اقتناؤه من الكلاب، والصور، فأما ما ليس بحرام، من كلب الصيد، والزرع، والماشية، والصورة التي تُمْتَهَنُ في البساط، والوسادة، وغيرهما، فلا يمتنع دخول الملائكة بسببه، وأشار القاضي إلى نحو ما قاله الخطابيّ، قال النوويّ:

ص: 66

والأظهر أنه عامّ في كل كلب، وكلّ صورة، وأنهم يمتنعون من الجميع؛ لإطلاق الأحاديث، ولأن الجرو الذي كان في بيت النبيّ صلى الله عليه وسلم تحت السرير، كان له فيه عذر ظاهرٌ، فإنه لم يَعلم به، ومع هذا امتنع جبريل عليه السلام من دخول البيت، وعَلَّل بالجرو، فلو كان العذر في وجود الصورة والكلب لا يمنعهم لم يمتنع جبريل، والله أعلم. انتهى

(1)

.

تقدّم أن الأرجح عندي ما قاله الخطّابيّ، من استثناء ما أُذن في اقتنائه من الكلاب بدليل أنه استثناها الشارع من نقص قيراط أو قيراطين، فقد أخرج الشيخان عن ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعًا: "من اقتنى كلبًا نَقَص من أجره كلَّ يوم قيراطان، إلا ضاريًا

(2)

، أو صاحب ماشية"، وأخرجا أيضًا عن سفيان بن أبي زهير الشنائيّ رضي الله عنه مرفوعًا: "من اقتنى كلبًا لا يُغني زرعًا، ولا ضرعًا، نقص من عمله كلَّ يوم قيراط"، فقد استثنى من نَقْص الأجر كلب الماشية والزرع، فيستفاد منه استثناؤه أيضًا من امتناع دخول الملائكة، والله تعالى أعلم.

(فَأَصْبَحَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَئِذٍ، فَأَمَرَ بِقَتْلِ الْكِلَابِ) قال القرطبيّ: كذا رواه جميع الرواة: "فأصبح"، "فأمر"، مرتبًا بفاء التَّسبُّب، فيدل ذلك على أن أَمْره بقتل الكلاب في ذلك اليوم كان لأجل امتناع جبريل عليه السلام من دخول بيته، ويَحْتَمِل أن يكون ذلك لمعنى آخر غير ما ذكرنا؛ وهو أن ذلك إنما كان لينقطعوا عما كانوا أَلِفوه من الأُنس بالكلاب، والاعتناء بها، واتخاذها في البيوت، والمبالغة في إكرامها، وإذا كان كذلك كثرت، وكَثُر ضررها بالناس، من الترويع، والجرح، وكَثُر تنجيسها للديار، والأَزِقّة، فامتنع جبريل عليه السلام من الدخول لأجل ذلك، ثم أخبر به النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأمر بقتل الكلاب، فانزجر الناس عن اتخاذها، وعما كانوا اعتادوه منها، والله تعالى أعلم.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الاحتمال الثاني بعيد، فالأظهر أن الأمر إنما هو بسبب امتناع جبريل عليه السلام من الدخول؛ كما هو ظاهر سياق الحديث. والله تعالى أعلم.

قال: وفيه من الفقه أن الكلاب يجوز قتلها؛ لأنها من السِّباع، لكن لمّا

(1)

"شرح النوويّ" 14/ 84.

(2)

أي: إلا كلبًا معوَّدًا بالصيد.

ص: 67

كان في بعضها منفعة، وكانت من النوع المستأنس سومح فيما لا يضرّ منها. انتهى

(1)

.

(حَتَّى إِنَّهُ يَأْمُرُ بِقَتْلِ كَلْبِ الْحَائِطِ الصَّغِيرِ، وَيَتْرُكُ كَلْبَ الْحَائِطِ الْكَبِيرِ) قال القرطبيّ: هذا يدلّ على جواز اتخاذ ما يُنتفع به من الكلاب في حفظ الحوائط، وغيرها، ألا ترى أن الحائط الكبير لمّا كان يحتاج إلى حفظ جوانبه ترك له كلبه، ولم يقتله، بخلاف الحائط الصغير منها، فإنَّه أمر بقتل كلبه؛ لأنَّه لا يحتاج الحائط الصغير إلى كلب، فإنَّه ينحفظ بغير كلب لِقُرب جوانبه. انتهى

(2)

، والله تعالى أعلم.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث ميمونة رضي الله عنها من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [25/ 5502](2105)، و (أبو داود) في "اللباس"(4157)، و (النسائيّ) في "الصيد"(7/ 184 و 186)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 330)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(299)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5856)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(47/ 1023 و 24/ 32)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(1/ 242 و 243)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): أنه يستحبّ للإنسان إذا رأى صاحبه واجمًا أن يسأله عن سببه، ليساعده فيما يمكنه مساعدته، أو يتحزّن معه، أو يُذكّره بطريق يزول به ذلك العارض.

2 -

(ومنها): أن فيه التنبيهَ على الوثوق بوعد الله تعالى، ورُسُله - عليهم الصلاة والسلام - لكن قد يكون للشيء شَرْط، فيتوقّف على حصوله، أو يتخيّل توقيته بوقت، ويكون غير موقّت به، ونحو ذلك.

(1)

"المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" 5/ 422 - 423.

(2)

"المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" 5/ 422.

ص: 68

3 -

(ومنها): أنه ينبغي للإنسان إذا تكدّر عليه وقته، أو تنكّدت وظيفته، ونحو ذلك أن يفكّر في سببه، كما فعل النبيّ صلى الله عليه وسلم هنا، حتّى استخرج الكلب، وهو من نحو قول الله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201)} [الأعراف: 201].

4 -

(ومنها): بيان امتناع الملائكة من دخول البيت الذي فيه كلب، أو صورة.

[تنبيه]: قد استُشكل كون الملائكة لا تدخل المكان الذي فيه التصاوير، مع قوله سبحانه وتعالى عند ذِكْر سليمان عليه السلام:{يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ} [سبأ: 13]، وقد قال مجاهد: كانت صورًا من نحاس، أخرجه الطبريّ، وقال قتادة: كانت من خشب، ومن زجاج، أخرجه عبد الرزاق.

والجواب أن ذلك كان جائزًا في تلك الشريعة، وكانوا يعملون أشكال الأنبياء والصالحين منهم على هيئتهم في العبادة؛ ليتعبَّدوا كعبادتهم، وقد قال أبو العالية: لم يكن ذلك في شريعتهم حرامًا، ثم جاء شرَعْنا بالنهي عنه.

ويَحْتَمِل أن يقال: إن التماثيل كانت على صورة النقوش لغير ذوات الأرواح، وإذا كان اللفظ محتملًا لم يتعيّن الحمل على المعنى المُشْكِل.

وقد ثبت في "الصحيحين" حديث عائشة في قصة الكنيسة التي كانت بأرض الحبشة، وما فيها من التصاوير، وأنه صلى الله عليه وسلم قال:"كانوا إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدًا، وصوَّروا فيه تلك الصورة، أولئك شرار الخلق عند الله"، فإن ذلك يُشعر بأنه لو كان ذلك جائزًا في ذلك الشرع ما أَطلق عليه صلى الله عليه وسلم أن الذي فعله شر الخلق، فدلّ على أن فِعل صور الحيوان فعل مُحْدَث أحدثه عئاد الصُّوَر، والله أعلم، قاله في "الفتح"

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن الاحتمال الثاني هو الحقّ؛ لحديث عائشة رضي الله عنها المذكور، فتُحمَلُ التماثيل التي في قصّة سليمان عليه السلام على غير صُوَر ذوات الأرواح، فتأمّل. والله تعالى أعلم.

[تنبيه آخر]: أغرب ابن حبان، فادَّعَى أن هذا الحكم خاصّ بالنبيّ صلى الله عليه وسلم،

(1)

"الفتح" 13/ 462، كتاب "اللباس" رقم (5949).

ص: 69

قال: وهو نظير الحديث الآخر: "لا تصحب الملائكة رُفقة فيها جَرَسٌ"، قال: فإنه محمول على رُفقة فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إذ محال أن يخرج الحاجّ والمعتمر لقصد بيت الله عز وجل على رواحل، لا تصحبها الملائكة، وهم وَفْد الله. انتهى.

قال الحافظ: وهو تأويل بعيد جدًّا، لم أره لغيره، ويزيل شبهته أن كونهم وَفْد الله لا يَمنع أن يؤاخذوا بما يرتكبونه من خطيئة، فيجوز أن يُحْرَموا بركة الملائكة بعد مخالطتهم لهم، إذا ارتكبوا النهي، واستصحبوا الجرس، وكذا القول فيمن يقتني الصورة والكلب، والله أعلم. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: ما تعقّب به الحافظ قول ابن حبّان المذكور تعقّب حسنٌ جدًّا، والله تعالى أعلم.

5 -

(ومنها): أن الكلاب يجوز قتلها؛ لأنها من السباع، لكن لَمّا كان في بعضها منفعة، وكانت من النوع المتأنّس سُومح فيما لا يضرّ منها.

6 -

(ومنها): أن قوله: "يأمر بقتل كلب الحائط الصغير

إلخ" فيه دليلٌ على جواز اتخاذ ما يُنتفع به من الكلاب في حفظ الحوائط، وغيرها، ألا ترى أن الحائط الكبير لَمّا كان يحتاج إلى حفظ جوانبه ترك له كلبه، فلم يقتله، بخلاف الحائط الصغير منها، فإنه أمر بقتل كلبه؛ لأنه لا يَحتاج الحائط الصغير إلى كلب، فإنه ينحفظ من غير كلب؛ لِقُرب جوانبه. قاله القرطبيّ

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: مسألة قتل الكلاب قد مرّ البحث فيها مستوفًى في "كتاب البيوع"[32/ 4009](1570)، فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق.

7 -

(ومنها): أنه احتجّ جماعة بقولها: "فنضح مكانه" في نجاسة عين الكلب، قالوا: والمراد بالنضح الغسل، وتأوله من لا يقول بذلك؛ كالمالكيّة على أنه غَسَله لخوف حصول بوله، أو روثه، أو لإزالة الرائحة الكريهة، وهذا هو الراجح، والله تعالى أعلم.

(المسألة الرابعة): في ذكر اختلاف أهل العلم في حكم استعمال الصُّوَر:

(1)

"الفتح" 13/ 461 - 462، كتاب "اللباس" رقم (5949).

(2)

"المفهم" 5/ 423.

ص: 70

قال الحافظ أبو عمر بن عبد البرّ رحمه الله: وللعلماء في هذا الباب أقاويل، ومذاهب:

[منها]: أنه لا يجوز أن يمسك الثوب الذي فيه تصاوير وتماثيل، سواء كان منصوبًا، أو مبسوطًا، ولا يجوز دخول البيت الذي فيه التصاوير، والتماثيل في حيطانه، وذلك مكروه كله؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا تدخل الملائكة بيتًا فيه تصاوير"، فإن فعل ذلك فاعلٌ بعد عِلْمه بالنهي عن ذلك، كان عاصيًا عندهم، ولم يَحْرُم عليه بذلك مُلك الثوب، ولا البيت، ولكنه ينبغي له أن يتنزه عن ذلك كله، ويكرهه وينابذه؛ لِمَا ورد من النهي فيه.

وحجةُ من ذهب هذا المذهب في الثياب، وفي حيطان البيوت وغيرها، حديثُ ابن شهاب وغيره، عن القاسم بن محمد، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: دخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا مستترة بقِرام فيه صور، فتلوّن وجهه، وتناول الستر فهتكه، ثم قال:"إن من أشدّ الناس عذابًا يوم القيامة الذين يشبِّهون بخلق الله"، ورَوَى نافع هذا الخبر، عن القاسم، بهذا المعنى، وزاد: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال:"إن البيت الذي فيه الصور، لا تدخله الملائكة"، قال: وزيادة من زاد فيه من الثقات الحفاظ، إباحة ما يُتوسد من ذلك، ويُرتفق به، ويُمتهن يجب قبولها، وإن كان ظاهر حديث مالك في ذلك كراهية عموم الصور، على كل حال، وإلى ذلك ذهب ابن شهاب، وهو راوية الحديث.

قال: ذكر ابن أبي شيبة، عن عبد الأعلى، عن معمر، عن الزهري، أنه كان يكره التصاوير، ما نُصب منها، وما بُسط، وكان مالك لا يرى بذلك بأسًا في البسط، والوسائد، والثياب على حديث سهل بن حنيف رضي الله عنه:"إلا ما كان رقمًا في ثوب".

ثم أخرج بسنده، عن حماد بن سلمة، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: كان على بأبي دُرْنُوك

(1)

، فيه الخيل، ذوات الأجنحة، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"ألقوا هذا".

(1)

"الدُّرْنوك" سترٌ له خملٌ، قاله في "النهاية" 2/ 115، وقال في "القاموس": الدُّرْنوك بالضمّ: ضرب من الثياب، أو الْبُسُط. انتهى.

ص: 71

وقال آخرون: إنما يُكره من الصور ما كان في الحيطان، وصُوّر في البيوت، وأما ما كان رقمًا في ثوب فلا، واحتجوا بحديث سهل بن حُنيف، وأبي طلحة، وفيه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم:"إلا ما كان رقمًا في ثوب"

(1)

، فكل صورة مرقومة في ثوب، فلا بأس بها على كل حال؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم استثنى الرقم في الثوب، ولم يخصّ من ذلك شيئًا ولا نوعًا، وذكروا عن القاسم، وهو راوية حديث عائشة، ما رواه ابن أبي شيبة، عن أزهر، عن ابن عون، قال: دخلت على القاسم، وهو بأعلى مكة في بيته، فرأيت في بيته حَجَلة فيه تصاوير السندس، والعنقاء.

وقال آخرون: لا يجوز استعمال شيء من الصور، رقمًا كان في ثوب، أو غير ذلك، إلا أن يكون الثوب يوطأ، ويُمتهن، فأما أن يُنصب؛ كالسِّتر ونحوه فلا، قالوا: وفي حديث عائشة، من رواية ابن شهاب، ما يخصّ الثياب، ويعيّنها، وهو يعارض حديث سهل بن حنيف، وأبي طلحة، إلا أنّا قد روينا عن عائشة، أن ذلك من الثياب فيما يُنصب، دون ما يُبسط، فبان بذلك وجه الحديثين، وأنهما غير متعارضين، وعائشة قد علمت مخرج حديثها، ووقفت عليه، وذكروا من الأثر ما رواه وكيع وغيره، عن أسامة بن زيد، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها، قالت:"سترت سَهْوة لي بستر فيه تصاوير، فلمّا قَدِم النبيّ صلى الله عليه وسلم هَتَكه، فجعلت منه منبذتين، فرأيت النبيّ صلى الله عليه وسلم متكئًا على إحداهما"، قالوا: ألا ترى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كَرِه من ذلك، ما كان سترًا منصوبًا، ولم يكره ما اتكأ عليه من ذلك، وامتهنه.

قال أبو عمر: وقد يَحْتَمِل أن يكون الستر لمّا هتكه رسول الله صلى الله عليه وسلم تغيَّرت

(1)

أشار به إلى ما أخرجه الترمذيّ 4/ 230 بسند صحيح، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة أنه دخل على أبي طلحة الأنصاريّ يعوده، قال: فوجدت عنده سهل بن حنيف، قال: فدعا أبو طلحة إنسانًا ينزع نمطًا تحته، فقال له سهل: لم تنزعه، فقال: لأن فيه تصاوير، وقد قال فيه النبيّ صلى الله عليه وسلم ما قد علمت، قال سهل: أوَ لم يقل: "إلا ما كان رقمًا في ثوب"؟ فقال: بلى، ولكنه أطيب لنفسي. قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح. انتهى.

ص: 72

صورته، وتهتكت، فلمّا صنع منه ما يُتكأ عليه، لم تظهر فيه صورة بتمامها، وإذا احتَمَل هذا لم يكن في حديث عائشة هذا حجة على ابن شهاب، ومن ذهب مذهبه، إلا أن ممن سَلَف من العلماء جماعة ذهبوا إلى ما كان من رَقْم الصور، فيما يوطأ ويمتهن، ويُتكأ عليه من الثياب، لا بأس به، ذكر ابن أبي شيبة، عن حفص بن غياث، عن الجعد رجل من أهل المدينة، قال: حدثتني ابنة سعد، أن أباها جاء من فارس بوسائد، فيها تماثيل، فكنا نبسطها.

وعن ابن فضيل، عن ليث، قال: رأيت سالم بن عبد الله متكئًا على وسادة حمراء، فيها تماثيل، فقلت له في ذلك، فقال: إنما يُكره هذا لمن ينصبه، ويصنعه.

وعن ابن المبارك، عن هشام بن عروة، عن أبيه، أنه كان يتكئ على المرافق، فيها التماثيل، الطير، والرجال.

وعن ابن علية، عن سلمة بن علقمة، عن محمد بن سيرين، قال: كانوا لا يرون ما وُطئ، وبُسط من التصاوير مثل الذي نُصب.

وعن إسماعيل ابن علية أيضًا، عن أيوب، عن عكرمة أنه كان يقول في التصاوير، في الوسائد، والبسط التي توطأ: هو أذلّ لها.

وعن أبي معاوية، عن عاصم، عن عكرمة، قال: كانوا يكرهون ما نُصب من التماثيل نصبًا، ولا يرون بأسًا بما وطئته الأقدام.

وعن ابن إدريس، عن هشام بن حسان، عن ابن سيرين، أنه كان لا يرى بأسًا بما وُطئ من التصاوير.

وعن ابن يمان، عن عثمان بن الأسود، عن عكرمة بن خالد، قال: لا بأس بالصورة، إذا كانت توطأ.

وعن ابن يمان، عن الربيع بن المنذر، عن سعيد بن جبير، قال: لا بأس بالصورة، إذا كانت توطأ.

وعن عبد الرحيم بن سليمان، عن عبد الملك، عن عطاء في التماثيل، ما كان مبسوطًا يوطأ، أو يُبسط، فلا بأس به، وما كان منه يُنصب، فإني أكرهها.

وعن الحسن بن موسى الأشيب، عن حماد بن سلمة، عن عمرو بن

ص: 73

دينار، عن سالم بن عبد الله، قال: كانوا لا يرون بما يوطأ من التصاوير بأسًا.

قال أبو عمر: هذا أعدل المذاهب، وأوسطها في هذا الباب، وعليه أكثر العلماء، ومن حَمَلَ عليه الآثار، لم تتعارض على هذا التأويل، وهو أَولى ما اعتقد فيه، والله الموفق للصواب.

وقد ذهب قوم إلى أن ما قُطع رأسه فليس بصورة، رَوَى أبو داود الطيالسيّ، قال: حدّثنا ابن أبي ذئب، عن شعبة، مولى ابن عباس، قال: دخل المسور بن مخرمة، على ابن عباس، وهو مريض، وعليه ثوب إستبرق، وبين يديه ثوب، عليه تصاوير، فقال المسور: ما هذا يا ابن عباس؟ فقال ابن عباس: ما علمت به، وما أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن هذا، إلا للكِبْر والتجبر، ولسنا بحمد الله كذلك، فلما خرج المسور أمر ابن عباس بالثوب، فنُزع عنه، وقال: اقطعوا رؤوس هذه التصاوير.

وروى ابن المبارك، قال: أخبرنا يونس بن أبي إسحاق، قال: حدّثنا مجاهد، قال: حدثنا أبو هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن جبريل أتاني البارحة، فلم يمنعه أن يدخل إليّ، إلا أنه كان في البيت حجال وستر، فيه تماثيل، وكلب، فأمر برأس التمثال أن يُقطع، وبالستر أن يُثنَى، ويُجعل منه وسادتان توطآن، وبالكلب أن يُخرج"

(1)

.

وذكر ابن أبي شيبة، عن ابن علية، عن أيوب، عن عكرمة، قال: إنما الصورة الرأس، فإذا قُطع فلا بأس. وعن يحيى بن سعيد، عن سلمة أبي بشر، عن عكرمة، في قوله:{إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} الآية [الأحزاب: 57]، قال: أصحاب التصاوير.

وذهب جماعة من أهل العلم إلى أن الصورة المكروهة في صُنعتها واتخاذها، ما كان له روح، وحجتهم حديث القاسم، عن عائشة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال:"من أشدّ الناس عذابًا يوم القيامة المصوِّرون، يقال لهم: أحيوا ما خلقتم"، ففي هذا دليل على أن الحياة، إنما قُصد بذِكرها إلى الحيوان، ذوات الأرواح.

(1)

حديث صحيح أخرجه أحمد، والترمذيّ بإسناد صحيح، وقال الترمذي: حديث حسنٌ صحيح.

ص: 74

ثم أخرج بسنده عن عوف، عن سعيد بن أبي الحسن، قال: كنت عند ابن عباس، إذ جاءه رجل، فقال: إني أردت أن أنمّي معيشتي من صنعة يدي، وإني أصنع هذه التصاوير، فقال ابن عباس: لا أحدثك إلا ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول، سمعته يقول:"من صَوّر صورة، فإن الله معذبه يوم القيامة، حتى يَنفخ فيها الروح، وليس بنافخ فيها أبدًا"، قال: فكبا لها الرجل كبوة شديدة، واصفَرّ وجهه، ثم قال: ويحك، إن أَبَيْتَ إلا أن تصنع، فعليك بهذه الشجر، وكل شيء ليس فيه روح.

وقد كان مجاهد، يكره صورة الشجر، قال أبو عمر: وهذا لا أعلم أحدًا تابعه على ذلك. وذكر ابن أبي شيبة، عن عبد السلام، عن ليث، عن مجاهد، أنه كان يكره أن يصوّر الشجر المثمر.

ومما يدل على أن الاختلاف في هذا الباب قديم، ما ذكره ابن أبي شيبة، عن ابن علية، عن ابن عون، قال: كان في مجلس محمد بن سيرين وسائد، فيها تماثيل عصافير، فكان أناس يقولون في ذلك، فقال محمد: إن هؤلاء قد أكثروا علينا، فلو حوّلتموها، وهذا من ورع ابن سيرين رحمه الله. انتهى كلام ابن عبد البرّ رحمه الله في كتابه "التمهيد"

(1)

، وهو بحث مفيد جدًّا.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن مما سبق من الأقوال وأدلّتها أن أرجحها أن الصور المحرّمة هي ما كانت لذوات الأرواح، وكانت منصوبة، وأما إذا كانت توطأ، وتمتهن، فلا بأس بها، وكذلك ما كان رقمًا في ثوب، إلا أن يكون منصوبًا، وكذلك إذا قُطع رأسها، وأصرح دليل على ذلك ما أخرجه النسائيّ بإسناد صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال:"استأذن جبريل عليه السلام على النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: ادخل، فقال: كيف أدخل، وفي بيتك ستر فيه تصاوير؟ فإما أن تُقطَع رؤوسها، أو تُجعَل بساطًا يوطأ، فمانّا معشر الملائكة، لا ندخل بيتًا فيه تصاوير"، فإنه قد استثنى من الصور التي تمنع دخول الملائكة ما كانت مقطوعة الرأس، أو بساطًا يوطأ، وكذلك حديث أبي طلحة المذكور في الباب، فإنه نصّ في استثناء ما كان رقمًا في ثوب، وهذا كما سبق عن ابن عبد البرّ رحمه الله

(1)

"التمهيد" 21/ 195 - 201.

ص: 75

أعدل الأقوال، وأيسرها في الجمع بين أحاديث الباب

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب.

(المسألة الخامسة): في بيان حكم الصورة الشمسيّة:

قد اختَلَف العلماء المعاصرون في هذه المسألة، فمنهم من ألّف رسالة في إباحتها

(2)

، ذهب فيها إلى أن الصورة الفوتوغرافيا الذي هو عبارة عن حبس الظلّ بالوسائط المعلومة لأرباب هذه الصناعة ليس من التصوير المنهيّ عنه؛ لأن التصوير المنهيّ عنه هو إيجاد صورة وصُنع صورة لم تكن موجودة، ولا مصنوعة من قبل، يضاهي بها حيوانًا خلقه الله تعالى، وليس هذا المعنى موجودًا في أخذ الصورة بتلك الالة.

وذهب آخرون - وهو الذي يظهر لي - إلى أن حكم الصورة الشمسيّة حكم الصورة المرسومة، قال الشيخ مصطفى الحمامي في كتابه "النهضة الإصلاحيّة"

(3)

: وإني أحبّ أن تجزم الجزم كلّه أن التصوير بآلة التصوير (الفوتوغرافيّة) كالتصوير باليد تمامًا، فيحرم على المؤمن تسليطها للتصوير، ويحرم عليه تمكين مسلّطها لالتقاط صورته بها؛ لأن هذا التمكين يُعين على فعل محرّم غليظ، وليس من الصواب في شيء ما ذهب إليه أحد علماء عصرنا هذا من استباحة التصوير بتلك الآلة بحجّة أن التصوير لم يكن باليد، والتصوير بهذه الآلة لا دخل لليد فيه، فلا يكون حرامًا، وهذا عندي أشبه بمن يرسل أسدًا مفترسًا، فيقتل من يقتل، أو يفتح تيّارًا كهربائيًّا يُعدم كلّ من مرّ به، أو يضع سمًّا في طعام فيهلك كلّ من تناول من ذلك الطعام، فإذا وُجّه إليه لوم بالقتل قال: أنا لم أقتل، إنما قتل السمّ، والكهرباء، والأسد. انتهى.

(1)

قال الجامع عفا الله عنه: قد أطنبت الكلام في البحث عن مسألة الصور في "شرح النسائيّ"، فذكرته في ثلاثة مواضع: في "الطهارة"، وفي "الصيد"، وفي "الزينة"، وذلك لأهميّته، وكثرة ابتلاء الناس به، والله تعالى المستعان.

(2)

هو: الشيخ محمد بخيت المصريّ، سمَّى رسالته "الجواب الشافي في إباحة التصوير الفوتوغرافي".

(3)

"النهضة الإصلاحيّة" ص 264 و 565.

ص: 76

وقال الشيخ الألبانيّ رحمه الله في "آداب الزفاف" - خلال كلام له -: وقريبٌ من هذا تفريق بعضهم بين الرسم باليد، وبين التصوير الشمسيّ، يزعم أنه ليس من عمل الإنسان، وليس من عمله فيه إلا إمساك الظلّ فقط، كذا زعموا، أما ذلك الجهد الجبّار الذي صرفه المخترع لهذه الآلة حتى استطاع أن يصوِّر في لحظة ما لا يستطيعه بدونها في ساعات، فليس من عمل الإنسان عند هؤلاء، وكذلك توجيه المصوّر للآلة، وتسديدها نحو الهدف المراد تصويره، وقبيل ذلك تركيب ما يسمّونه بالفلم، ثم بعد ذلك تحميضه، وغير ذلك، مما لا أعرفه، فهذا أيضًا ليس من عمل الإنسان عند أولئك أيضًا.

قال: وثمرة التفريق عندهم أنه يجوز تعليق صورة رجل مثلًا في البيت إذا كانت مصوّرةً بالتصوير الشمسيّ، ولا يجوز ذلك إذا كانت مصوّرة باليد.

قال: أما أنا فلم أر له مثلًا إلا جمود بعض أهل الظاهر قديمًا، مثل قول أحدهم في حديث:"نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البول في الماء الراكد" قال: فالمنهي عنه هو البول في الماء مباشرةً، أما لو بال في إناء، ثمّ صبّه في الماء فهذا ليس منهيًّا عنه. انتهى

(1)

.

وسُئلت اللجنة الدائمة للإفتاء في المملكة العربيّة السعوديّة: ما حكم الصورة إجمالًا؛ أي: للضرورة وغير الضرورة؟.

فأجابت بأن تصوير ذوات الأرواح حرام، سواء كان فوتغرافيًّا، أو نقشًا بيد، أو آلة، ونحو ذلك، واقتناء الصور حرام، وإذا اضطرّ الإنسان إلى شيء من ذلك بدون اختياره؛ كأن يُطلب منه صورة لجواز سفر، أو لمنحه التابعيّة جاز له ذلك مع كراهة قلبه للتصوير. انتهى. "فتاوى إسلاميّة" 4/ 357

(2)

.

وسئل الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز رحمه الله عن حكم تعليق الصور الفوتغرافيّة على الجدران؟ فأجاب بأن تعليق صور ذوات الأرواح على الجدران أمر لا يجوز، سواء كان ذلك في بيت، أو مجلس، أو مكتب، أو شارع، أو

(1)

راجع: ما سبق في كتاب "تكملة فتح الملهم بشرح صحيح الإمام مسلم" 4/ 162 - 163.

(2)

منقول من فتاوى وأقوال كبار العلماء في التصوير، جَمْع عبد الرحمن بن سعد الشتري، تقديم الشيخ صالح الفوزان ص 25.

ص: 77

غير ذلك، كله منكر، وكلّه من عمل الجاهليّة. انتهى كلامه باختصار

(1)

.

وسئل الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله أيضًا عن حكم تعليق الصور على الجدران.

فأجاب بأن تعليق الصور على الجدران، ولا سيّما الكبير منها حرام حتى ولو لم يخرج إلا بعض الجسم والرأس، وقصد التعظيم فيها ظاهر، وأصل الشرك هو هذا الغلوّ، كما جاء ذلك عن ابن عبّاس رضي الله عنهما في أصنام قوم نوح التي يعبدونها قال:"إنها كانت أسماء رجال صالحين صوّروا صورهم ليتذكّروا عبادتهم، ثم طال عليهم الأمد، فعبدوهم". انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن مما سبق من أقوال أهل العلم، وأدلّتهم أنه لا فرق بين الصورة التي تُرسم باليد، وبين الصورة الفوتوغرافيّة؛ إذ المعنى الذي حُرّمت من أجله الصور موجود في كليهما، فالمفاسد التي تدخل في الصور موجودة فيهما، وأيضًا إن القول بأن هذا ليس من عمل اليد بطلانه ظاهر، كما سبق في كلام الحمّاميّ والألبانيّ.

وبالجملة فالمسألة خطيرة أيما خطر، فإن التساهل فيها كثير، ولا سيّما مع تشجيع بعض من ينتسب إلى العلم بفتواه بإباحتها، وهذا هو الداهية العظمى، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

[تنبيه]: يُستثنى مما سبق الحالة الضروريّة، لقوله عز وجل:{وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} الآية [الأنعام: 119]، فيباح اتخاذ الصورة الشمسيّة لضروة البطاقات الشخصيّة، وجواز السفر، أو نحو ذلك مما لا بدّ له في حياة الإنسان، وقد ذكر صاحب "التكملة" أن الفقهاء استثنوا مواضع الضرورة، وقال الإمام محمد في "السِّير الكبير": وإن تحقّقت الحاجة له إلى استعمال السلاح الذي فيه تمثال، فلا بأس باستعماله، قال: وأعقبه السرخسيّ في "شرحه"(2/ 278) بقوله: لأن مواضع الضرورة مستثناة من الحرمة، كما في تناول الميتة، وذكر السرخسيّ أيضًا: إن المسلمين يتبايعون بدراهم الأعاجم فيها التماثيل بالتيجان، ولا يمنع أحد عن المعاملة بذلك، وقال في موضع آخر

(1)

"فتاوى العقيدة" 1/ 303 - 305.

(2)

"مجموع فتاويه" 2/ 282.

ص: 78

من "شرحه"(3/ 212): لا بأس بأن يَحمل الرجل في حال الصلاة دراهم العجم، وإن كان فيها تمثال الملك على سريره، وعليه تاجه، وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أجاز لعائشة رضي الله عنها اللعب بالبنات، وأن الفقهاء أباحوا للمرأة أن تكشف وجهها عند الشهادة. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: الحالة الضروريّة قد استثنيت بنصّ الآية المذكورة، وأما حديث عائشة رضي الله عنها، وإن استدلّ به بعضهم، إلا أن الأَولى ما قاله بعضهم: إنه كان قبل تحريم الصورة، فلا إشكال فيه، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

[تنبيه آخر]: قال صاحب "التكملة" أيضًا: أما التلفزيون والفديو، فلا شكّ في حرمة استعمالهما بالنظر إلى ما يشتملان عليه من المنكرات الكثيرة، من الخلاعة، والمجون، والكشف عن النساء المتبرّجات، أو العاريات، وغير ذلك من أسباب الفسوق، ولكن هل يتأتى فيهما حكم التصوير بحيث إذا كان التلفزيون، والفديو خاليًا من هذه المنكرات بأسرها، هل يحرم بالنظر إلى كونه تصويرًا؟، ثم قال: لي فيه وقفة

إلى آخر ما كتبه، لكن ظاهر بحثه كأنه يميل إلى الجواز، وإن قال في آخر كلامه: ورحم الله امرءًا هداني إلى الصواب. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: الذي يظهر لي في المسألة، أنه لا يجوز التصوير بأي آلة من الأجهزة الحديثة، من التلفزيون، والفديو، وغيرهما، إلا للأمور الضروريّة التي تقدّم بيانها، وذلك لعموم النصوص الدالّة على تحريم الصور بأشكالها، والله تعالى أعلم بالصواب.

وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5503]

(2106) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَمْرٌو النَّاقِدُ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ يَحْيَى، وَإِسْحَاقُ: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ الآخَرَانِ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ الله، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ،

(1)

"تكملة فتح الملهم بشرح صحيح الإمام مسلم" 4/ 164.

(2)

"تكملة فتح الملهم بشرح صحيح الإمام مسلم" 4/ 164 - 165.

ص: 79

عَنْ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"لَا تَدْخُلُ الْمَلَائِكَةُ بَيْتًا فِيهِ كلْبٌ، وَلَا صُورَةٌ").

رجال هذا الإسناد: تسعة:

1 -

(عُبَيْدُ اللهِ) بن عبد الله بن عتبة بن مسعود الْهُذليّ، أبو عبد الله المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ [3](ت 94)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 14.

2 -

(أَبُو طَلْحَةَ) زيد بن سهل بن الأسود بن حرام الأنصاريّ النجّاريّ، مشهور بكنيته، من كبار الصحابة، شَهِد بدرًا، وما بعدها، ومات سنة (34) وقيل غير ذلك (ع) تقدم في "الحيض" 7/ 720.

والباقون ذُكروا في الباب، وفي الباب الماضي.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وفيه رواية صحابيّ، عن صحابيّ، وتابعيّ عن تابعيّ، وفيه ابن عبّاس أحد العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة، وفيه عبيد الله بن عبد الله أحد الفقهاء السبعة.

شرح الحديث:

(عَنْ عُبَيْدِ اللهِ) وفي رواية الإسماعيليّ من طريق أبي صالح كاتب الليث: "حدّثنا الليث، حدّثني يونس، عن ابن شهاب، أخبرني عبيد الله، سمع ابن عبّاس، سمعت أبا طلحة

"، فصرّح الزهريّ، فمن فوقه بالتحديث، والسماع. (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) هكذا في هذه الرواية، قال في "الفتح": ووقع في رواية الأوزاعيّ عن الزهريّ، عن عبيد الله، عن أبي طلحة، لم يذكر ابن عباس بينهما، ورجّح الدارقطنيّ رواية من أثبته، وقد أخرجه مالك في "الموطأ" عن أبي النضر، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، أنه دخل على أبي طلحة يعوده، فذكر قصة، وفيها المتن المذكور، وزاد فيه استثناء الرقم في الثوب، كما تقدّم البحث فيه، فلعل عبيد الله سمعه من ابن عباس، عن أبي طلحة، ثم لقي أبا طلحة لمّا دخل يعوده، فسمعه منه، ويؤيد ذلك زيادة القصة في رواية أبي النضر، لكن قال ابن عبد البر: الحديث لعبيد الله، عن ابن عباس، عن أبي طلحة، فإن عبيد الله لم يدرك أبا طلحة، ولا سهل بن حُنيف، كذا قال، وكأن

ص: 80

مستنده في ذلك أن سهل بن حنيف مات في خلافة عليّ، وعبيد الله لم يدرك عليًّا، بل قال عليّ بن المدينيّ: إنه لم يُدرِك زبد بن ثابت، ولا رآه، وزيد مات بعد سهل بن حنيف بمدّة، ولكن روى الحديث المذكور محمد بن إسحاق، عن أبي النضر، فذكر القصة لعثمان بن حُنيف، لا لسهل، أخرجه الطبرانيّ، وعثمان تأخر بعد سهل بمدّة، وكذلك أبو طلحة، فلا يبعد أن يكون عبيد الله أدركهما. انتهى كلام الحافظ رحمه الله

(1)

، وهو بحث مفيدٌ جدًّا، والله تعالى أعلم.

(عَنْ أَبِي طَلْحَةَ) زيد بن سهل الأنصاريّ رضي الله عنه (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) أنه (قَالَ: "لَا) نافية، ولذا رُفع الفعل بعدها، (تَدْخُلُ الْمَلَائِكَةُ) جمع مَلَك، وأصله ملأك، على وزن مَفْعَل، نُقلت حركة الهمزة إلى اللام، وحُذفت الهمزة، فصار مَلَكًا على وزن مَفَل، فلما جُمع رُدّ إلى الأصل، وقيل: أصله مَألَك فقُلب قلبًا مكانيًّا، فصار ملأكًا على وزن معفل، فنُقلت حركة الهمزة إلى ما قبلها، وحذفت فوزنه مَعَل، فلما جُمع ردّ إلى أصله، وهو مأخوذ من الأُلوكة، وهي الرسالة، وقيل: من المَلْك بفتح الميم وسكون اللام، وهو الأخذ بقوّة، والتاء إما للمبالغة، أو لتأنيث الجمع، فإذا حُذفت امتنع من الصرف لصيغة منتهى الجموع

(2)

.

وهم مخلوقون من النور، ففي "صحيح مسلم" عن عائشة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خُلقت الملائكة من نور، وخُلق الجان من نار، وخلق آدم مما وُصِفَ لكم"، وهم بالنسبة إلى ما هيأهم الله له أقسام: فمنهم حملة العرش، ومنهم الكروبيّون الذين هم حول العرش، وهم أشراف الملائكة مع حملة العرش، وهم الملائكة المقرَّبون، ومنهم جبريل، وميكائيل، ومنهم سكان السماوات السبع يَعْمُرونها عبادة ليلًا ونهارًا، فمنهم الراكع دائمًا، والقائم دائمًا، والساجد دائمًا، ومنهم المتعاقبون زمرة بعد زمرة إلى البيت المعمور، كل يوم سبعون ألفًا لا يعودون إليه آخرُ ما عليهم، ومنهم المُوْكَلون بالجِنان،

(1)

"الفتح" 13/ 459 - 460، كتاب "اللباس" رقم (5949).

(2)

"المنهل العذب المورود" 2/ 295.

ص: 81

ومنهم الموكلون بالنار، ومنهم الموكلون بحفظ بني آدم، ومنهم الموكلون بحفظ أعمال العباد.

وقد ذكر الحافظ ابن كثير رحمه الله في "البداية والنهاية" الآيات والأحاديث التي تدل على هؤلاء الأصناف، وبيّنها أتمّ تبيين، فارجع إليه تستفد علمًا جمًّا

(1)

.

[تنبيه]: قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: وقد اختَلَف الناس في تفضيل الملائكة على البشر على أقوال:

فأكثر ما توجد هذه المسألة في كتب المتكلمون، والخلاف فيها مع المعتزلة، ومن وافقهم، وأقدم كلام رأيته في هذه المسألة ما ذكره الحافظ ابن عساكر في "تاريخ ابن عساكر" في ترجمة أمية بن عمرو بن سعيد بن العاص أنه حضر مجلسًا لعمر بن عبد العزيز، وعنده جماعة، فقال عمر: ما أحد أكرم على الله من كريم بني آدم، واستدلّ بقوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7)} [البينة: 7] ووافقه على ذلك أمية بن عمرو بن سعيد، فقال عراك بن مالك: ما أحد أكرم على الله من ملائكته، هم خَدَمَةُ دارَيْه ورسلُهُ إلى أنبيائه، واستدلّ بقوله تعالى:{وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَو تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ} [الأعراف: 20]، فقال عمر بن عبد العزيز لمحمد بن كعب القرظيّ: ما تقول أنت يا أبا حمزة؟ فقال: قد أكرم الله آدم فخلقه بيده، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له الملائكة، وجعل من ذريته الأنبياء والرسل، ومن يزوره الملائكة، فوافق عمر بن عبد العزيز في الحكم واستدلّ بغير دليله، وأضعف دلالة ما صرّح به من الآية، وهو قوله:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7)} مضموته أنها ليست خاصّة بالبشر، فإن الله تعالى قد وصف الملائكة بالإيمان في قوله:{وَيُؤْمِنُونَ بِهِ} ، وكذلك الجن:{وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ} ، {وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ} [الجن: 13 - 14].

قال ابن كثير رحمه الله: وأحسن ما يستدلّ به في هذه المسألة ما رواه

(1)

"البداية والنهاية" 1/ 35 - 49.

ص: 82

عثمان بن سعيد الدارميّ، عن عبد الله بن عمرو مرفوعًا، وهو أصح

(1)

، قال:"لمّا خلق الله الجنة، قالت الملائكة: يا ربنا اجعل لنا هذه نأكل منها ونشرب، فإنك خلقت الدنيا لبني آدم، فقال الله تعالى: لن أجعل صالح ذريّة من خلقت بيدي كمن قلت له: كن فكان". انتهى كلام ابن كثير رحمه الله

(2)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: ما قاله الحافظ ابن كثير حسن جدًّا، إلا أن الأَولى والأحسن عندي أن لا نخوض في هذه المسألة وأمثالها التي ما كلّفنا الله بمعرفتها، فما أنزل بها آية، ولا فصّلها النبيّ صلى الله عليه وسلم تفصيلًا، فالخوض والمناقشة في مثل هذا من فُضول الكلام الذي لا يعني الإنسان، وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم:"من حُسن إسلام المرء تَرْكه ما لا يعنيه"، فلا ينبغي للإنسان أن يشتغل بمثل هذه المسائل، فيضيع وقته الذي هو رأس ماله، فيخسر، والله الهادي إلى سواء السبيل.

ثم إن المراد بالملائكة في حديث الباب غير الحفظة والكتبة، وهم الذين يطوفون بالرحمة، والتبريك، والاستغفار. وأما الحفظة، والكتبة، فيدخلون كل بيت، وكذا الموكلون بقبض الأرواح، وقيل: المراد عموم الملائكة لظاهر الحديث، لكن الأول أَولى للأدلة الأخرى، كما سبق تحقيقه قريبًا، والله تعالى أعلم.

(1)

قال عثمان الدارميّ رحمه الله في أثناء كلام له: حدّثناه عبد الله بن صالح، حدّثني الليث، حدّثني هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، أن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: "لقد قالت الملائكة: يا ربّنا

" الحديث، وصحّح الحديث الشيخ أحمد محمد شاكر، وضعّفه الشيخ الألباني بسبب عبد الله بن صالح. انظر ما كتبه على: "شرح العقيدة الطحاويّة" ص 305 - 308، لكن الذي يظهر لي أن الحديث حسنٌ، فإن عبد الله بن صالح أخرج له البخاريّ في "صحيحه"، كما صرّح به الحافظ في ترجمته من "تهذيب التهذيب"، فأعدل الأقوال فيه ما قاله الحافظ ابن القطّان رحمه الله: هو صدوق، ولم يثبت عليه ما يَسقط له حديثه، إلا أنه مختلَف فيه، فحديثه حسنٌ. انتهى. راجع: "تهذيب التهذيب" 2/ 356، فالظاهر أن الحديث حسن، والله تعالى أعلم.

(2)

"البداية والنهاية" 1/ 49.

ص: 83

(بَيْتًا)؛ أي: مسكنًا يستقر فيه الشخص سواء كان بناء، أم خيمة، أم غيرهما، (فِيهِ كَلْبٌ) جملة من مبتدإ وخبر، صفة لـ"بيت"، (وَلَا صُورَةٌ") قال الفيّوميّ: الصورة: التِّمْثَال، وجَمْعها صُوَر، مثل غُرفة وغرف. انتهى، وقد تقدّم البحث في هذا في الحديث الماضي، ولله الحمد والمنّة.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي طلحة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [25/ 5503 و 5504 و 5505 و 5506 و 5507](2106)، و (البخاريّ) في "بدء الخلق"(3225) و"المغازي"(4002) و"اللباس"(4959 و 5859)، و (أبو داود) في "اللباس"(4153 و 4155)، و (الترمذيّ) في "الأدب"(2804)، و (النسائيّ) في "الصيد"(7/ 185) و"الزينة"(8/ 212) و"الكبرى"(3/ 148)، و (ابن ماجه) في "اللباس"(3649)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(10/ 397)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(4/ 265 و 5/ 198)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 28 - 29)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(5/ 93)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(3/ 9 و 20)، و (ابن الجعد) في "مسنده"(1/ 422)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(1/ 251 و 7/ 288)، و"شُعَب الإيمان"(5/ 187)، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5504]

(

) - (حَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِر، وَحَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، قَالَا: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُتْبَةَ، أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا طَلْحَةَ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لَا تَدْخُلُ الْمَلَائِكَةُ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ، وَلَا صُورَةٌ").

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

وكلّهم ذُكروا في الباب، وقبل باب، والغرض منه بيان متابعة يونس لابن عيينة، والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله قبله، ولله الحمد والمنّة.

ص: 84

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5505]

(

) - (وَحَدَّثَنَاهُ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ قَالَا: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاق، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، بِهَذَا الْإِسْنَاد، مِثْلَ حَدِيثِ يُونُسَ، وَذِكْرِهِ الأَخْبَارَ في الْإِسْنَادِ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

وكلّهم ذُكروا في الباب، وقبل ثلاثة أبواب.

وقوله: (وَذِكْرِهِ الأَخْبَارَ فِي الْإِسْنَادِ) بجرّ "ذكره" عطفًا على "حديث"، والضمير ليونس، وهو من إضافة المصدر إلى فاعله، و"الأخبارَ" بالنصب على المفعوليّة لـ"ذكر"، وهو بفتح الهمزة، جمع خبر، ويَحْتَمل أن يكون بكسرها مصدرًا، والمراد أن مَعْمَرًا ذَكَر في الإسناد سماع عبيد الله عن ابن عبّاس، وهو عن أبي طلحة، وهو عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، كما ذكره يونس، والله تعالى أعلم.

[تنبيه]: رواية معمر عن الزهريّ هذه ساقها الترمذيّ رحمه الله في "جامعه"، فقال:

(2804)

- حدثنا سلمة بن شبيب، والحسن بن عليّ الخلال، وعبد بن حميد، وغير واحد، واللفظ للحسن بن عليّ، قالوا: حدّثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن الزهريّ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، أنه سمع ابن عباس يقول: سمعت أبا طلحة يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تدخل الملائكة بيتًا فيه كلب، ولا صورة تماثيل"، قال أبو عيسى: هذا حديث حسنٌ صحيحٌ. انتهى

(1)

.

وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5506]

(

) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ، عَنْ بُكَيْرٍ، عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ زيدِ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ أَبِي طَلْحَةَ، صَاحِبِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا تَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ صُورَةٌ"، قَالَ بُسْرٌ: ثُمَّ اشْتَكَى زيدٌ بَعْدُ

(2)

، فَعُدْنَاهُ، فَإِذَا عَلَى بَابِهِ سِتْرٌ فِيهِ صُورَةٌ، قَالَ: فَقُلْتُ

(1)

"جامع الترمذيّ" 5/ 114.

(2)

وفي نسخة: "زيد، فعُدناه".

ص: 85

لِعُبَيْدِ اللهِ الْخَوْلَانِيِّ، رَبِيبِ مَيْمُونَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: أَلَمْ يُخْبِرْنَا زَيْدٌ عَنِ الصُّوَرِ يَوْمَ الأَوَّلِ؟ فَقَالَ عُبَيْدُ اللهِ: أَلَمْ تَسْمَعْهُ حِينَ قَالَ: إِلَّا رَقْمًا

(1)

في ثَوْبٍ؟).

رجال هذا الإسناد: ستّةٌ:

1 -

(بُكَيْرُ) بن عبد الله بن الأشجّ المخزوميّ مولاهم، أبو عبد الله، أو أبو يوسف المدنيّ، نزيل مصر، ثقةٌ [5](ت 120)(ع) تقدم في "الطهارة" 4/ 554.

2 -

(بُسْرُ بْنُ سَعِيدٍ) المدنيّ العابد، مولى ابن الحضرميّ، ثقةٌ جليلٌ [2] مات سنة مائة (ع) تقدم في "الصلاة" 31/ 1001.

3 -

(زَيْدُ بْنُ خَالِدٍ) الصحابيّ المشهور، مات بالكوفة سنة (68) أو (70) وله (85) سنة (ع) تقدم في "الإيمان" 34/ 238.

والباقون ذُكروا في الباب، وقبل بابين.

شرح الحديث:

(عَنْ بُكَيْرٍ) بالموحّدة مصغّرًا، وفي الرواية التالية: "حدّثنا أبو الطاهر، أخبرنا ابن وهب، أخبرني عمرو بن الحارث، أن بُكير بن الأشجّ حدّثه، أن بُسر بن سعيد حدّثه، أن زيد بن خالد الجهنيّ حدّثه

" الحديث، (عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ) بضم الباء الموحّدة، وسكون السين المهملة، وفي رواية عمرو بن الحارث المذكورة: "أن بسر بن سعيد حدّثه"، (عَنْ زيدِ بْنِ خَالِدٍ) هو الجهنيّ الصحابيّ رضي الله عنه، وفي رواية عمرو المذكورة أيضًا: "أن زيد بن خالد الجهنيّ حدّثه، ومع بسر عبيد الله الْخَوْلانيّ، ولفظ البخاريّ:"ومع بُسر بن سعيد عبيدُ الله الْخَوْلانيّ الذي كان في حَجر ميمونة". (عَنْ أَبِي طَلْحَةَ) هو زيد بن سهل الأنصاريّ الصحابيّ المشهور رضي الله عنه، وفي الإسناد تابعيان في نسق، وصحابيان في نسق، وعلى رواية بُسر عن عبيد الله الْخَوْلانيّ للزيادة الآتي ذكرها يكون فيه ثلاثة من التابعين في نسق، وكلهم مدنيون، ووقع في رواية عمرو بن الحارث المذكورة:"أن أبا طلحة حدثه". (صَاحِبِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) بجرّ "صاحب" صفة لأبي طلحة، (أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّ

(1)

وفي نسخة: "إلا رقم".

ص: 86

الْمَلَائِكَةَ لَا تَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ صُورَةٌ") قال في "الفتح": كذا لكريمة، وغيرها: "صورة" بالإفراد، وفي رواية أبي ذرّ عن مشايخه، إلا المستملي: "صُوَرٌ" بصيغة الجمع، وكذا في قوله: "فإذا على بابه سترٌ فيه صورةٌ"، ووقع في رواية عمرو بن الحارث المذكورة: "فإذا نحن في بيته بستر فيه تصاوير"، وهي تقوي رواية أبي ذرّ. انتهى

(1)

.

(قَالَ بُسْرٌ: ثُمَّ اشْتَكَى زَيْدٌ)؛ أي: ابن خالدْ الْجُهنيّ، (بَعْدُ) بالبناء على الضمّ؛ لقطعه عن الإضافة، ونيّة معناها؛ أي: بعد ذلك الوقت، ووقع في بعض النُّسخ:"ثم اشتكى زيد، فعُدناه"، بإسقاط لفظ "بعدُ"، (فَعُدْنَاهُ) بضمّ العين المهملة؛ أي: زُرناه، يقال: عُدتُ المريض عِيادةً: زُرته، فالرجل عائد، وجَمْعه عُوّد، والمرأة عائدة، وجَمْعها عُوّاد، بغير ألف، قال الأزهريّ: هكذا كلام العرب. انتهى.

وإلى هذين الجمعين أشار في "الخلاصة" حيث قال:

وَفُعَّلٌ لِفَاعِلٍ وَفَاعِلَهْ

وَصْفَيْنِ نَحْوُ عَاذِلٍ وَعَاذِلَهْ

وَمِثْلُهُ الْفُعَّالُ فِيمَا ذُكِّرَا

وَذَانِ فِي الْمُعَلِّ لَامًا نَدَرَا

(فَإِذَا عَلَى بَابِهِ سِتْرٌ)"إذا" هي الفُجائيّة؛ أي: ففاجأنا وجود ستر على بابه، والسِّتر بالكسر: الساتر، وقوله:(فِيهِ صُورَةٌ) جملة في محلّ رفع صفة لـ"سترٌ". (قَالَ) بُسر: ("فَقُلْتُ لِعُبَيْدِ اللهِ الْخَوْلَانِيِّ)؛ أي: الذي كان معه، كما بيّنته رواية عمرو بن الحارث التالية، قال في "الفتح": وعبيد الله هو ابن الأسود، ويقال: ابن أسد، وليس له في البخاريّ سوى هذا الحديث، وآخر تقدم في "الصلاة" من روايته عن عثمان. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: عبيد الله الخولانيّ المذكور، ثقةٌ [3] تقدّمت ترجمته في "المساجد ومواضع الصلاة" 4/ 1194، وليس له عند مسلم إلا الحديثان اللذان عند البخاريّ، كما ذكره الحافظ، فتنبّه.

(رَبِيبِ مَيْمُونَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) لُقّب بذلك؛ لأنها كانت رَبَّتْه، وكان من مواليها، ولم يكن ابن زوجها. انتهى.

(1)

"الفتح" 13/ 475، كتاب "اللباس" رقم (5958).

ص: 87

(أَلَمْ يُخْبِرْنَا زيدٌ عَنِ الصُّوَرِ)؛ أي: حكمها، وهو التحريم (يَوْمَ الأَوَّلِ؟) بالإضافة، من إضافة الموصوف إلى الصفة؛ أي: في اليوم الأول الذي مضى قبل هذا؛ أي: فكيف يَجعل على بابه سترًا فيه صورة؟ (فَقَالَ عُبَيْدُ اللهِ: أَلَمْ تَسْمَعْهُ)؛ أي: ألم تسمع زيدًا (حِينَ قَالَ: إِلَّا رَقْمًا) هذا هو الصواب، ووقع في بعض النُّسخ:"إلا رقم"، بالرفع، والظاهر أنه غلطٌ. (فِي ثَوْبٍ) وفي رواية عمرو بن الحارث التالية:"قال: إنه قال: إلا رقمًا في ثوب، ألم تسمعه؟ قلت: لا، قال: بلى قد ذَكر ذلك".

قال القرطبيّ رحمه الله: (وقولُ بُسر لعبيد الله الخولانيّ: ألَمْ يُخْبِرْنَا زيدٌ عَنِ الصُّوَرِ)؛ يعني: زيد بن خالد، وذلك أنه لَمّا دخل منزل زيد، فرأى الستر فيه صورٌ ذكّر بسرٌ عبيدَ الله الخولانيّ بالحديث الذي حدّثهم به زيد، عن أبي طلحة، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله:"لا تدخل الملائكة بيتًا فيه صورة"، وكان أبو طلحة رضي الله عنه قد ذَكَرَ مع ذلك، متّصلًا به قوله صلى الله عليه وسلم:"إلا رقمًا في ثوب"، فاستثنى المرقوم من الصور، فحصل منه أن الملائكة لا تمتنع من دخول بيت فيه صورة مرقومة.

ومن هنا: فَهِم القاسم بن محمد جواز اتخاذها في البيوت مطلقًا، كما حكيناه عنه ترجيحًا لهذا الحديث على حديث عائشة، أو نَسخًا له، وفيه بُعْدٌ، والجمهور على المنع، فمنهم من مَنَعه تحريمًا، وهو مذهب ابن شهاب ترجيحًا لحديث عائشة على حديث زيد، والجمهور حملوه على الكراهة، وهو الأَولى إن شاء الله؛ إذ ليس نصّا في التحريم، فأقل ما يُحمل ما ظهر منه على الكراهة، وحديث زيد لا يقتضي الجواز، إنَّما مقتضاه: أن الملائكة تدخل البيت الذي فيه الصور المرقومة بخلاف الصور ذوات الظل؛ فإنَّها لا تدخل بيتًا هي فيه، وهذا وجه حسن؛ غير أنَّه تكدَّر بما رواه أبو داود من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتاني جبريل عليه السلام، فقال لي: أتيتك البارحة، فلم يمنعني أن أكون دخلت إلا أنه كان على الباب تماثيل، وكان في البيت قِرام فيه صور، وكان في البيت كلب"، وذكر الحديث، وهذا يدلّ دلالة واضحة أن الملائكة لا تدخل بيتًا فيه صورة مرقومة، وعند هذا يتحقق التعارض، والمخلِّص منه الترجيح، ولا شك في ترجيح حديث مسلم،

ص: 88

فالتمسك به على ما قررناه أَولى، والله تعالى أعلم. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(1)

.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام البحث فيه فيما قبله، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5507]

(

) - (حَدَّثنَا أَبُو الطَّاهِر، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، أَنَّ بُكَيْرَ بْنَ الأَشَجِّ حَدَّثَهُ، أَنَّ بُسْرَ بْنَ سَعِيدٍ حَدَّثَهُ، أَنَّ زيدَ بْنَ خَالِدٍ الْجُهَنِيَّ حَدَّثَهُ، وَمَعَ بُسْرٍ عُبَيْدُ اللهِ الْخَوْلَانِيُّ، أَنَّ أَبَا طلحَةَ حَدَّثَهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا تَدْخُلُ الْمَلَائِكَةُ بَيْتًا فِيهِ صُورَةٌ"، قَالَ بُسْرٌ: فَمَرِضَ زيدُ بْنُ خَالِدٍ، فَعُدْنَاهُ، فَإِذَا نَحْنُ فِي بَيْتِهِ بِسِتْرٍ فِيهِ تَصَاوِيرُ، فَقُلْتُ لِعُبَيْدِ اللهِ الْخَوْلَانِيِّ: أَلَمْ يُحَدِّثْنَا فِي التَّصَاوِيرِ؟ قَالَ: إِنَّهُ قَالَ: إِلَّا رَقْمًا فِي ثَوْبٍ، أَلَمْ تَسْمَعْهُ؟ قُلْتُ: لَا، قَالَ: بَلَى، قَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ) بن يعقوب الأنصاريّ مولاهم، أبو أيوب المدنيّ، ثقة ثبتٌ فقيهٌ [7] مات قبل (150)(ع) تقدم في "الإيمان" 16/ 169.

والباقون ذُكروا في الباب.

والحديث متّفقٌ عليه، ومضى البحث فيه مستوفًى، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5508]

(2107) - (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا جَرِيرٌ، عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ يَسَارٍ، أَبِي الْحُبَابِ، مَوْلَى بَنِي النَّجَّار، عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ، عَنْ أَبِي طَلْحَةَ الأَنْصَارِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لَا تَدْخُلُ الْمَلَائِكَةُ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ، وَلَا تَمَاثِيلُ"، قَالَ: فَأَتَيْتُ عَائِشَةَ، فَقُلْتُ: إِن هَذَا يُخْبِرُنِي أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا تَدْخُلُ الْمَلَائِكَةُ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ، وَلَا

(1)

"المفهم" 5/ 423 - 425.

ص: 89

تَمَاثِيلُ"، فَهَلْ سَمِعْتِ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم ذَكَرَ ذَلِكَ؟ فَقَالَتْ: لَا: وَلَكِنْ سَأُحَدِّثُكُمْ مَا رَأَيْتُهُ فَعَلَ، رَأَيْتُهُ خَرَجَ فِي غَزَاتِه، فَأَخَذْتُ نَمَطًا، فَسَتَرْتُهُ عَلَى الْبَاب، فَلَمَّا قَدِمَ، فَرَأَى النَّمَطَ عَرَفْتُ الْكَرَاهِيَةَ فِي وَجْهِه، فَجَذَبَهُ، حَتَّى هَتَكَهُ، أَو قَطَعَهُ، وَقَالَ: "إِنَّ اللهَ لَمْ يَأْمُرْنَا أَنْ نَكْسُوَ الْحِجَارَةَ، وَالطِّينَ"، قَالَتْ: فَقَطَعْنَا مِنْهُ وِسَادَتَيْن، وَحَشَوْتُهُمَا لِيفًا، فَلَمْ يَعِبْ ذَلِكَ عَلَيَّ).

رجال هذا الإسناد: ستّة:

1 -

(جَرِيرُ) بن عبد الحميد بن قُرط الضبيّ، أبو عبد الله الكوفيّ، نزيل الريّ وقاضيها، ثقةٌ، صحيح الكتاب [8](ت 188)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.

2 -

(سُهَيْلُ بْنُ أَبِي صَالِحٍ) ذكوان السمّان، أبو يزيد المدنيّ، صدوقٌ تغيّر بآخره، أخرج له البخاريّ مقرونًا، وتعليقًا [6](ت 138)(ع) تقدم في "الإيمان" 14/ 161.

3 -

(سَعِيدُ بْنُ يَسَارٍ، أَبُو الْحُبَاب، مَوْلَى بَنِي النَّجَّارِ) المدنيّ، ثقةٌ متقنٌ [6](ت 117) أو قبلها (ع) تقدم في "صلاة المسافرين وقصرها" 5/ 1614.

والباقون ذُكروا في الباب، ولطائفه تقدّمت في الإسناد الماضي.

شرح الحديث:

(عَنْ سَعِيدِ بْنِ يَسَارٍ، أَبِي الْحُبَابِ) بضمّ الحاء المهملة، وتخفيف الباء الموحّدة، (مَوْلَى بَنِي النَّجَّارِ) هكذا عند مسلم، وقال الحافظ: اختُلف في ولائه لمن هو؟ فقيل: مولى ميمونة، وقيل: مولى شُقران، أو مولى الحسن بن عليّ، وقيل: مولى بني النجّار، والصحيح أنه غير سعيد ابن مَرْجانة

(1)

. انتهى

(2)

.

(عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ) رضي الله عنه (عَنْ أَبِي طَلْحَةَ الأَنْصَارِيِّ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لَا تَدْخُلُ الْمَلَائِكَةُ بَيْتًا فِيهِ كلْبٌ، وَلَا تَمَاثِيلُ") بالفتح: جمع تمثال، بالكسر: هي الصورة المصوّرة، قاله الفيّوميّ

(3)

.

وقال في "القاموس"، و"شرحه": والتَّمْثال بالفَتْح: التَّمْثيل، وهو مصدرُ

(1)

هو: سعيد بن عبد الله القرشيّ العامريّ، ومَرْجانة أمه. اهـ. "تت" 2/ 41.

(2)

"تهذيب التهذيب" 2/ 51، و"التقريب" ص 127.

(3)

"المصباح المنير" 2/ 564.

ص: 90

مَثَّلْتُ تَمْثِيلًا، وتَمْثَالًا، وبالكَسْر الصُّورَةُ، وهي الشيءُ المَصنوعُ مُشَبَّهًا بخَلقٍ من خَلْقِ اللهِ عز وجل، وأصلُه من مَثَّلْتُ الشيءَ بالشيءِ: إذا قَدَّرْتَه على قَدْرِه، والجمعُ التَّماثيل، ومنه قَوْله تَعالى:{مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ} ؛ أي: الأصنام، وقَوْله تَعالى:{مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ} هي صُوَرُ الأنبياءِ عليهم السلام، وكانَ التَّمْثيلُ مُباحًا

(1)

في ذلك الوقت. انتهى

(2)

.

(قَالَ) سعيد بن يسار (فَأَتَيْتُ عَائِشَةَ) رضي الله عنها (فَقُلْتُ: إِنَّ هَذَا)؛ يعني: زيد بن خالد الْجُهنيّ رضي الله عنه (يُخْبِرُنِي)؛ أي: أخذًا عن أبي طلحة رضي الله عنه، (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"لَا تَدْخُلُ الْمَلَائِكَةُ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ، وَلَا تَمَاثِيلُ"، فَهَلْ سَمِعْتِ) بكسر التاء خطابًا لعائشة رضي الله عنها، (رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم ذَكَرَ ذَلِكَ؟) الذي حدّثنيه، (فَقَالَتْ: لَا)؛ أي: لم أسمع هذا النصّ منه صلى الله عليه وسلم، (وَلَكِنْ سَأُحُدِّثُكُمْ)؛ تعني: سعيدًا، ومن معه، (مَا) موصولة مفعول ثاني لـ"أُحَدّث"، (رَأَيْتُهُ) صلى الله عليه وسلم (فَعَلَ) صلة "ما" حُذف منه العائد؛ لكونه فضلة، كما قال في "الخلاصة":

.........................

وَالْحَذْفُ عِنْدَهُمْ كَثِيرٌ مُنْجَلِي

فِي عَائِدٍ مُتَّصِلٍ إِنِ انْتَصَبْ

بِفِعْلٍ أوْ وَصْفٍ كَـ "مَنْ نَرْجُو يَهَبْ"

وقولها: (رَأَيْتُهُ خَرَجَ) بيان لِمَا فعله، (فِي غَزَاتِهِ) بفتح الغين المعجمة، بمعنى الغَزْو، وهذه الغَزاة الظاهر أنها غزوة تبوك.

وفي رواية أبي داود: "ولكن سأحدثكم بما رأيته فَعَل، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض مغازيه، وكنت أتَحَيَّن قُفوله، فأخذت نمطًا كان لنا، فسترته على الْعَرْض، فلما جاء استقبلته، فقلت: السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته، الحمد لله الذي أعزك، وأكرمك، فنظر إلى البيت، فرأى النمط، فلم يَرُدّ عليّ شيئًا، ورأيت الكراهية في وجهه

" الحديث.

[تنبيه]: قال القرطبيّ رحمه الله: حديث عائشة رضي الله عنها كَثُرت رواياته، واختلفت ألفاظه، حتى يُتوهم أنه مضطرب، وليس كذلك؛ لأنَّه ليس فيه تناقض، وإنَّما كانت القضية مشتملة على كل ما نُقِل من الكلمات، والأحوال المختلقة، لكن

(1)

هذا يحتاج إلى نقل صحيح، فليُنظر، والله تعالى أعلم.

(2)

"تاج العروس" 1/ 7504.

ص: 91

نَقَل بعض الرواة ما سَكَت عنه غيرهم، وعبَّر كل منهم بما تيسَّر له من العبارة عن تلك القضية، ويجوز أن يَصْدُر مثل ذلك الاختلاف من راوٍ واحد في أوقات مختلفة، ولا يُعد تناقضًا، فإنَّه إذا جُمِعت تلك الروايات كلها انتظمت، وكملت الحكاية عن تلك القضية، وعلى هذا النحو وقع ذِكر اختلاف كلمات القصص المتحدة في القرآن، فإنَّه تعالى يذكرها في موضع وجيزة، وفي آخر مطوَّلة، ويأتي بالكلمات المختلفة الألفاظ مع اتفاقها على المعنى، فلا يُنْكَر مثل هذا في الأحاديث. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(1)

، وهو بحث مفيدٌ جدًّا، والله تعالى أعلم.

(فَأَخَذْتُ نَمَطًا) - بفتحتين - قال النوويّ: المراد بالنمط هنا بساط لطيف له خَمْلٌ، وفي "فتح الودود": ثوب من صُوف يُفرش، ويُجْعَل سِتْرًا، ويُطْرَح على الْهَوْدج. انتهى

(2)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: وقولها: "فأخذت نمطًا، فسترته على الباب"، هذا النمط هو الذي عبَّر عنه في الرواية الأخرى بـ "الدَّرنوك"، ويقال بضم الدَّال، وفتحها، وهو: الستر الذي كان فيه تماثيل الخيل ذوات الأجنحة، و"الباب" يراد به هنا باب السَّهْوة المذكورة في الرِّواية الأخرى، وهي بيت صغير يشبه الْمَخْدَع، وقال الأصمعيّ: هي شبه الطاق، يجعل فيه الشيء، وقيل: شبه الْخِزانة الصغيرة، وهذه الأقوال متقاربة. انتهى

(3)

.

(فَسَتَرْتُهُ)؛ أي: جعلته ساترًا (عَلَى الْبَابِ)؛ أي: سترت به الباب، أو جعلته سترًا على الباب، (فَلَمَّا قَدِمَ) بكسر الدال؛ أي: رجع صلى الله عليه وسلم من غزاته، ووصل المدينة (فَرَأَى النَّمَطَ عَرَفْتُ الْكَرَاهِيَةَ فِي وَجْهِهِ) إنما عَرَفت الكراهيةَ في وجهه؛ لأنَّه تلوَّن وجهه، ووَقَف، ولم يدخل، كما جاء في الطريق الآخر، ولما رأت تلك الحال خافت، فقدَّمت في اعتذارها التوبة، ثمَّ سألت عن الذنب، فإنَّها لم تعرفه، فعند ذلك جبذ النمط، فهتكه.

(1)

"المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" 5/ 425.

(2)

"عون المعبود" 11/ 139.

(3)

"المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" 5/ 425.

ص: 92

فحصل من مجموع هذه القرائن أن اتخاذ الثياب التي فيها التماثيل محرَّم، رقمًا كان فيها، أو صنعًا، وهو مذهب ابن شهاب، فإنَّه منع الصور على العموم، واستعمال ما هي فيه، ودخول البيت الذي هي فيه، رقمًا كانت، أو غيره، في ثوب، أو حائط، يُمْتَهَن، أو لا يمتهن؛ تمسُّكًا بعمومات هذا الباب، وبما ظهر من هذا الحديث.

وذهب آخرون: إلى جواز كل ما كان رقمًا في ثوب، يُمْتَهَن أو لا، معلَّقًا كان أو لا، وهو مذهب القاسم بن محمد تمسُّكًا بحديث زيد بن خالد حين قال:"إلا ما كان رقمًا في ثوب".

وذهب آخرون: إلى كراهة ما كان منها معلَّقًا، وغير ممتهَن؛ لأنَّ ذلك مضاهاة لمن يعظم الصور، ويعبدها كالنصارى، وكما كانت الجاهلية تفعل.

والحاصل من مذاهب العلماء في الصور: أن كل ما كان منها ذا ظل فصنعته، واتخاذه حرام، ومنكر يجب تغييره، ولا يُخْتَلَف في ذلك إلا ما ورد في لعب البنات لصغار البنات، وفيما لا يبقى من الصور؛ كصور الفخار، ففي كل ذلك منهما قولان، غير أن المشهور في لعب البنات، جواز اتخاذها للرخصة في ذلك، لكن كَرِه مالك شراء الرجل لها لأولاده؛ لأنَّه ليس من أخلاق أهل المروءات والفضل، غير أن المشهور فيما لا يبقى المنع، وأما ما كان رقمًا، أو صبغًا مما ليس له ظل: فالمشهور فيه الكراهة. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(1)

.

(فَجَذَبَهُ)؛ أي: مدّه صلى الله عليه وسلم بيده الشريفة (حَتَّى هَتَكَهُ)؛ أي: خرقه، يقال: هَتَكَ زيد الستر هَتْكًا، من باب ضرب: خَرَقه، فَانْتَهَكَ، وقال الزّمخشريّ: جَذَبه حتى نزعه من مكانه، أو شَقّه حتى يَظْهَر ما وراءه، وتَهَتَّكَ السِّترُ مثل انْهَتَكَ، وهَتَكْتُ الثوبَ: شَقَقْتُهُ طُولًا، وهَتَكَ الله ستر الفاجرة: فضحه، قاله الفيّوميّ

(2)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: وقولها: "فجذبه، حتى هتكه" يدلّ على أن ما صُنِع

(1)

"المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" 5/ 426 - 427.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 633.

ص: 93

على غير الوجه المشروع لا مالية له، ولا حرمة، وأن من كسر شيئًا منها، وأتلف تلك الصورة لم يلزمه ضمان. انتهى

(1)

.

وقوله: (أَو قَطَعَهُ)"أو" هنا للشكّ من الراوي، (وَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("إِنَّ اللهَ لَمْ يَأْمُرْنَا أَنْ نَكْسُوَ الْحِجَارَةَ، وَالطِّينَ")، وفي رواية أبي داود:"إن الله لم يأمرنا فيما رزقنا أن نكسو الطين والحجارة".

قال القرطبيّ رحمه الله: هذا يفهم منه كراهة ستر الحيطان بالستر؛ لأنَّ ذلك من السَّرف، وفضول زهرة الدنيا؛ التي نهى الله تعالى النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يمد عينه إليها بقوله تعالى:{وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} الآية [طه: 131]، ولذلك قال في الرواية الأخرى:"فإني كلما دخلت ذكرت الدنيا"، وهذا الستر هو الذي كان يصلِّي إليه، وكانت صوره تَعْرَض

(2)

في صلاته، كما قال البخاري:"فإنَّه لا تزال تصاويره تَعْرِض لي في صلاتي".

ويفيد مجموع هذه الروايات أن هتك هذا السِّتر إنما كان بعد تكرار دخول النبيّ صلى الله عليه وسلم، ورؤيته له، وصلاته إليه، فلما بُيِّن له حكمه امتنع مرَّة من دخول البيت حتى هتكه، وقد فعل سلمان الفارسيّ رضي الله عنه نحو هذا لما تزوَّج الكندية، جاء ليدخل بها، فوجد حيطان البيت قد سُترت، فلم يدخل، وقال منكرًا لذلك:"أمحموم بيتكم! أم تحوَّلت الكعبة في كندة"، فأزيل كل ذلك، ودعا ابنُ عمر أبا أيوب، فرأى سترًا على الجدار، فقال: ما هذا؟ فقال: غلبنا عليه النساء، فقال: من كنتُ أخشى عليه، فلم أكن أخشى عليك، والله لا أطعم لك طعامًا! فرجع. ذكره البخاريّ.

وقد أفاد حديث عائشة رضي الله عنها المنع من ستر حيطان البيوت، ومما يَجُرُّ إلى المَيْل إلى زينة الدنيا، ومن اتخاذ الصور المرقومة، ومن الصلاة إلى ما يشغل عنها. انتهى

(3)

.

وأفاد في "الفتح" أنه احتجّ بهذا من منع ستر البيوت والجدران، وجزم

(1)

"المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" 5/ 427.

(2)

من بابي ضرب، وفَهِم؛ أي: ظهر.

(3)

"المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" 5/ 427 - 428.

ص: 94

جمهور الشافعية بالكراهة، وصرح الشيخ أبو نصر المقدسيّ منهم بالتحريم، واحتَجّ بحديث عائشة رضي الله عنها هذا.

قال البيهقيّ رحمه الله: هذه اللفظة تدلّ على كراهة ستر الجدار، وإن كان في بعض ألفاظ الحديث أن المنع كان بسبب الصورة، وقال غيره: ليس في السياق ما يدلّ على التحريم، وإنما فيه نفي الأمر لذلك، ونفي الأمر لا يستلزم ثبوت النهي، لكن يمكن أن يُحتجّ بفعله صلى الله عليه وسلم في هتكه، وجاء النهي عن ستر الجدر صريحًا، منها في حديث ابن عباس رضي الله عنهما عند أبي داود وغيره:"ولا تستروا الجُدُر بالثياب"، وفي إسناده ضعف، وله شاهد مرسل عن عليّ بن الحسين، أخرجه ابن وهب، ثم البيهقيّ من طريقه، وعند سعيد بن منصور، من حديث سلمان موقوفًا أنه أنكر ستر البيت، وقال: أمحموم بيتكم؟ أو تحولت الكعبة عندكم؟ قال: لا أدخله حتى يُهتك، وأخرج الحاكم، والبيهقيّ من حديث محمد بن كعب، عن عبد الله بن يزيد الخطميّ، أنه رأى بيتًا مستورًا، فقعد، وبَكَى، وذكر حديثًا عن النبيّ صلى الله عليه وسلم فيه: "كيف بكم إذا سترتم بيوتكم

" الحديث، وأصله في النسائيّ

(1)

.

(قَالَتْ) عائشة رضي الله عنها (فَقَطَعْنَا) بتخفيف الطاء، (مِنْهُ)؛ أي: من ذلك الستر (وِسَادَتَيْنِ) بكسر الواو؛ أي: مِخدّتين، (وَحَشَوْتُهُمَا)؛ أي: ملأت جوفهما (لِيفًا) بكسر اللام؛ أي: لحاء شجر، (فَلَمْ يَعِبْ) بكسر العين المهملة، (ذَلِكَ) الفعل (عَلَيَّ) فيه جواز اتّخاذ الوسادة، واستعمالها، والله تعالى أعلم.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قول عائشة رضي الله عنها: "فقطعنا منه وسادتين حشوتهما ليفًا" يَحْتَمِل أن يكون هذا التقطيع أزال شكل تلك الصور، وأبطلها، فيزول الموجب للمنع، ويَحْتَمِل أن تكون تلك الصور، أو بعضها باقيًا، لكنها لما امْتُهِنت بالقعود عليها سامح فيها، وقد ذهب إلى كل احتمال منهما طائفة من العلماء. والحقّ أن كل ذلك مُحْتَمِلٌ، وليس أحد الاحتمالين بأوَلى من الآخر، ولا معيِّن لأحدهما، فلا حجَّة في الحديث على واحد منهما، وإنما الذي يفيده

(1)

"الفتح" 11/ 553، كتاب "النكاح" رقم (5181).

ص: 95

هذا الحديث: جواز اتخاذ النَّمارق، والوسائد في البيوت. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي طلحة رضي الله عنه هذا بقصّة عائشة رضي الله عنها من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [25/ 5508](2107)، و (أبو داود) في "اللباس"(4/ 73)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 30)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5468)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(11/ 361)، و (الطحاويّ) في "معاني الآثار"(4/ 282)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(7/ 271)، و"شُعَب الإيمان"(5/ 256 و 288)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): ما كان عليه السلف من تتبّع النصوص عند من يظنّون أنه أعلم، وأجمع لها من غيره.

2 -

(ومنها): ما كانت عليه عائشة رضي الله عنها من العلم، فقد كان الصحابة والتابعون رضي الله عنهم يأتونها ينهلون من علمها، وإذا اختلفوا في النصوص كانت المرجع لهم؛ لِمَا حفظته، من رسول الله صلى الله عليه وسلم من النصوص الكثيرة.

3 -

(ومنها): أنه يُستدلّ بهذا الحديث لتغيير المنكر باليد، وهَتْك الصور المحرمة، والغضب عند رؤية المنكر.

4 -

(ومنها): بيان جواز اتّخاذ الوسائد، والاتّكاء عليها.

5 -

(ومنها): ما قاله النوويّ: استدلوا بهذا الحديث على أنه يُمنع من ستر الحيطان، وتنجيد البيوت بالثياب، وهو منع كراهة تنزيه، لا تحريم، هذا هو الصحيح، وقال الشيخ أبو الفتح نصر المقدسيّ من أصحابنا - يعني: الشافعيّة -: هو حرام، وليس في هذا الحديث ما يقتضي تحريمه؛ لأن حقيقة

(1)

"المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" 5/ 428.

ص: 96

اللفظ: "إن الله تعالى لم يأمرنا بذلك"، وهذا يقتضي أنه ليس بواجب، ولا مندوب، ولا يقتضي التحريم. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5509]

(

) - (حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ دَاوُدَ، عَنْ عَزْرَةَ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَن، عَنْ سَعْدِ بْنِ هِشَامٍ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: كَانَ لنَا سِتْرٌ فِيهِ تِمْثَالُ طَائِرٍ، وَكَانَ الدَّاخِلُ إِذَا دَخَلَ اسْتَقْبَلَهُ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "حَوِّلِي هَذَا، فَإِنِّي كُلَّمَا دَخَلْتُ، فَرَأَيْتُهُ ذَكَرْتُ الدُّنْيَا"، قَالَتْ: وَكَانَتْ لنَا قَطِيفَةٌ، كُنَّا نَقُولُ: عَلَمُهَا حَرِيرٌ، فكُنَّا نَلْبَسُهَا).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن عليّة، تقدّم قبل بابين.

2 -

(دَاوُدُ) بن أبي هند دينار القُشيريّ مولاهم، أبو بكر، أو أبو محمد البصريّ، ثقةٌ متقنٌ [5](ت 140) أو قبلها (خت م 4) تقدم في "الإيمان" 27/ 221.

3 -

(عَزْرَةُ) - بفتح العين المهملة، وسكون الزاي - ابن عبد الرحمن بن زُرارة الْخُزاعيّ الكوفيّ الأعور، ثقةٌ [6](م د ت س) تقدم في "اللعان" برقم (3746).

4 -

(حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) الْحِميريّ البصريّ، ثقةٌ فقيهٌ [3](ع) تقدم في "شرح المقدمة" جـ 2 ص 491.

5 -

(سَعْدُ بْنُ هِشَامِ) بن عامر الأنصاريّ المدنيّ، ثقةٌ [3] استُشهد بأرض الهند (ع) تقدم في "صلاة المسافرين وقصرها" 15/ 1688.

والباقيان ذُكرا في الباب وقبله.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من سباعيات المصنف رحمه الله، وأنه مسلسل بالبصريين غير شيخه، فبغداديّ، وعزرة، فكوفيّ، والباقيان مدنيان، وأن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وأن روايةَ داود بن أبي هند، عن عزرة من رواية الأكابر، عن الأصاغر؛ لأن داود من الطبقة الخامسة؛ لأنه رأى أنس بن مالك رضي الله عنه، وعزرة من السادسة، والله تعالى أعلم.

(1)

"شرح النوويّ" 14/ 86.

ص: 97

شرح الحديث:

(عَنْ عَائِشَةَ) أم المؤمنين رضي الله عنها أنها (قَالَتْ: كَانَ لَنَا سِتْرٌ) بكسر، فسكون؛ أي: ساتر (فِيهِ تِمْثَالُ طَائِرِ) بكسر التاء؛ أي: صورته، والجملة صفة لـ"ستر"، (وَكَانَ الدَّاخِلُ إِذَا دَخَلَ اسْتَقبَلَهُ)؛ أي: قابله، وواجهه، (فَقَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"حَوِّلِي هَذَا) أمرٌ من التحويل، وهو النقل؛ أي: انقليه إلى موضع آخر؛ أي: غيّري مكانه، واجعليه في مكان، لا أراه فيه، (فَإِنِّي) الفاء للتعليل؛ أي: إنما أمرتك بتحويله من مكانه لأني (كُلَّمَا دَخَلْتُ) البيت (فَرَأَيْتُهُ ذَكَرْتُ الدُّنْيَا")؛ أي: زخارفها، وزينتها، فأخشى أن يميل قلبي إليها، وتمتدّ عيني إليها، وقد نهاني الله عز وجل عن ذلك حيث قال:{وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (131)} [طه: 131].

وقال السنديّ رحمه الله في "حاشية النسائيّ": لا يلزم منه الميل إليها، بل يجوز أن يذكُرها مع الكراهة، ومع ذلك كرِه أن يحضر لديه صورة الدنيا بأيّ وجه كان، والله تعالى أعلم. انتهى.

وقال النوويّ رحمه الله: هذا محمول على أنه كان قبل تحريم اتخاذ ما فيه صورة، فلهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل، ويراه، ولا ينكره قبل هذه المرة الأخيرة. انتهى

(1)

.

(قَالَتْ) عائشة رضي الله عنها (وَكَانَتْ لَنَا قَطِيفَةٌ) بفتح القاف، وكسر الطاء: هي دِثارٌ له خَمْلٌ

(2)

، والجمع قطائفُ، وقُطُفٌ بضمّتين، قاله الفيّوميّ

(3)

، وقال في "النهاية": القطيفة: كساءٌ له خَمْلٌ. انتهى. (كُنَّا نَقُولُ: عَلَمُهَا حَرِيرٌ) يقال: أعلمتُ الثوبَ: إذا جعلت له عَلَمًا من طراز وغيره، وهي العلامة، وجَمْع العَلَم أعلام، وجَمْع العلامة علامات

(4)

. (فَكُنَّا نَلْبَسُهَا) زاد في رواية عبد الأعلى التالية: "فلم يأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقطعه"، وفي رواية النسائيّ:"فلم نقطعه"؛ أي: العَلَم؛ إذ العَلَم من الحرير مباح الاستعمال.

(1)

"شرح النوويّ" 14/ 87.

(2)

"الْخَمْلُ" بوزن فَلْس: الْهُدْبُ. اهـ. "المصباح" 1/ 182.

(3)

"المصباح المنير" 2/ 509.

(4)

"المصباح المنير" 2/ 427.

ص: 98

وقال القرطبيّ رحمه الله: وفيه دليل على جواز لباس الثوب فيه العَلَم من الحرير، وقد تقدم القول فيه، ولم يَرِد في شيء من الأحاديث أن هذا الثوب الذي كُنِّي عنه بالدَّرنوك، والقِرام، والنَّمَط أنه كان حريرًا، وكذلك النمرقة، فلا حجّة في شيء من ذلك لعبد الملك على قوله: إنه يجوز افتراش ثياب الحرير، ورأى ذلك ليس لباسًا لها، وهذا قولٌ شذَّ به عن جميع العلماء، فإنَّهم رأوا ذلك لباسًا منهيًّا عنه، ولباس كل شيء بحسب ما جرت العادة باستعماله، والله تعالى أعلم. انتهى

(1)

.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [25/ 5509 و 5510](2107)، و (النسائيّ) في "الزينة"(8/ 213)، و (الترمذيّ) في "اللباس"(2467)، و"الكبرى"(5/ 501)، و (ابن المبارك) في "الزهد"(1/ 135)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 49 و 53 و 241)، وفي "الورع"(1/ 142)، و (ابن راهويه) في "مسنده"(3/ 718)، و (البيهقيّ) في "شُعب الإيمان"(5/ 138)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): البعد عن زخارف الدنيا، والزهد فيها.

2 -

(ومنها): جواز استعمال الستر للحاجة.

3 -

(ومنها): جواز لبس القطيفة، وهي كساء له خَمْلٌ، كما تقدّم.

4 -

(ومنها): إباحة العَلَم من الحرير، وقد تقدّم حديث عمر رضي الله عنه في جوازه مقدار أربع أصابع، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5510]

(

) - (حَدَّثَنِيهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيِّ، وَعَبْدُ الأَعْلَى، بِهَذَا الْإِسْنَاد، قَالَ ابْنُ الْمُثَنَّى: وَزَادَ فِيهِ - يُرِيدُ عَبْدَ الأَعْلَى -: فَلَمْ يَأْمُرْنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِقَطْعِهِ).

(1)

"المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" 5/ 429 - 430.

ص: 99

رجال هذا الإسناد: ثلاثة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) أبو موسى الْعَنَزيّ، أحد مشايخ الجماعة بغير واسطة، تقدّم قريبًا.

2 -

(ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ) محمد بن إبراهيم بن أبي عديّ البصريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

3 -

(عَبْدُ الأَعْلَى) بن عبد الأعلى الساميّ، أبو محمد البصريّ، ثقةٌ [8](ت 189)(ع) تقدم في "الطهارة" 5/ 557.

وقوله: (حَدَّثَنِيهِ

إلخ)؛ أي: حديث عائشة المذكور قبله.

وقوله: (بِهَذَا الْإِسْنَادِ)؛ أي: بالإسناد الذي قبله، وهو: "عن داود، عن عزرة

إلخ"، فكلّ من ابن أبي عديّ، وعبد الأعلى يرويان عن داود بن أبي هند، عن عزرة، عن حميد بن عبد الرحمن الْحِمْيريّ، عن سعد بن هشام، عن عائشة رضي الله عنها.

[تنبيه]: رواية عبد الأعلى، عن داود بن أبي هند ساقها إسحاق بن راهويه رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(1321)

- أخبرنا عبد الأعلى، نا داود، وهو ابن أبي هند، عن عزرة، أو غيره، عن حميد بن عبد الرحمن، عن سعد بن هشام، عن عائشة، قالت: كانت قُبالة بابي ستر فيه تماثيل طير، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"يا عائشة حوّليه، فإني إذا رأيته ذكرت الدنيا"، قالت: وكانت لنا قطيفة نلبسها، نرى

(1)

رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يأمرنا بقطعه. انتهى

(2)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5511]

(

) - (حَدَّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيه، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قَدِمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ سَفَرٍ، وَقَدْ سَتَّرْتُ عَلَى بَابِي دُرْنُوكًا، فِيهِ الْخَيْلُ، ذَوَاتُ الأَجْنِحَة، فَأَمَرَنِي، فَنَزَعْتُهُ).

(1)

هكذا النسخة، ولعله "يراه رسول الله

إلخ"، أو نحو ذلك، فليُحرّر، والله تعالى أعلم.

(2)

"مسند إسحاق بن راهويه" 3/ 718.

ص: 100

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(أَبُو أُسَامَة) حمّاد بن أسامة بن زيد القرشيّ مولاهم الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ ربّما دلّس، من كبار [9](ت 201) وله (80) سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 51.

2 -

(هِشَامُ) بن عروة بن الزبير الأسديّ، أبو المنذر المدنيّ، ثقةٌ فقيه ربّما دلّس [5](ت 5 أو 146)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 350.

3 -

(أَبُوهُ) عروة بن الزبير بن العَوّام الأسديّ، أبو عبد الله المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ مشهور [3](ت 94)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 407.

والباقون ذُكروا في الباب، وقبل بابين.

شرح الحديث:

(عَنْ عَائِشَةَ) رضي الله عنها أنها (قَالَتْ: قَدِمَ) بكسر الدال، (رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ سَفَرٍ)، وفي رواية البيهقي أنها غزوة تبوك، وفي أخرى لأبي داود، والنسائيّ: غزوة تبوك، أو خيبر على الشكّ، قاله في "الفتح"

(1)

. (وَقَدْ سَتَّرْتُ) قال النوويّ رحمه الله: بتشديد التاء الأولى، (عَلَى بَابِي دُرْنُوكًا) - بضم الدال المهملة، وسكون الراء، بعدها نون مضمومة، ثم كاف - ويقال فيه: دُرموك، بالميم بدل النون، قال الخطابيّ: هو ثوب غليظ، له خَمْل، إذا فُرِش فهو بساطٌ، وإذا عُلِّق فهو سِتْرٌ

(2)

.

قال النوويّ: وأما الدرنوك، فبضم الدال، وفتحها، حكاهما القاضي، وآخرون، والمشهور ضمها، والنون مضمومة لا غير، ويقال فيه: درموك بالميم، وهو سِترٌ له خَمْل، وجمعه دَرَانِك. انتهى

(3)

.

(فِيهِ الْخَيْلُ)؛ أي: صورة الخيل، (ذَوَاتُ الأَجْنِحَةِ) صفة لـ"الخيل"، وفي رواية البخاريّ:"فيه تماثيل"، (فَأَمَرَنِي)؛ أي: بنزعه، ولفظ البخاريّ:"فأمرني أن أنزعه"، (فَنَزَعْتُهُ) قال في "الفتح": استُدِلّ بهذا الحديث على جواز اتخاذ الصور، إذا كانت لا ظل لها، وهي مع ذلك مما يوطأ، ويداس، أو يُمتهن

(1)

"الفتح" 13/ 469، كتاب "اللباس" رقم (5955).

(2)

"الفتح" 13/ 469، كتاب "اللباس" رقم (5955).

(3)

"شرح النوويّ" 14/ 87.

ص: 101

بالاستعمال؛ كالمخادّ، والوسائد، قال النوويّ: وهو قول جمهور العلماء، من الصحابة، والتابعين، وهو قول الثوريّ، ومالك، وأبي حنيفة، والشافعيّ، ولا فرق في ذلك بين ما له ظلّ، وما لا ظلّ له، فإن كان معلّقًا على حائط، أو ملبوسًا، أو عمامة، أو نحو ذلك، مما لا يُعَدّ ممتهنًا، فهو حرام.

قال الحافظ بعد نقل كلام النوويّ المذكور ما نصّه: وفيما نقله مؤاخذات:

(منها): أن ابن العربيّ من المالكية، نَقَل أن الصورة إذا كان لها ظلّ حَرُم بالإجماع، سواء كانت مما يُمتهن، أم لا، وهذا الإجماع محله في غير لُعَب البنات، وحَكَى القرطبيّ في "المفهم" في الصور التي لا تتخذ للإبقاء؛ كالفخّار قولين: أظهرهما المنع، قال الحافظ: وهل يلتحق ما يُصنع من الحلوى بالفخّار، أو بلعب البنات؟ محلّ تأمل، وصحح ابن العربيّ أن الصورة التي لا ظلّ لها إذا بقيت على هيئتها حَرُمت، سواء كانت مما يُمتهن، أم لا، وإن قُطع رأسها، أو فُرِّقت هيئتها جاز، وهذا المذهب منقول عن الزهريّ، وقوّاه النوويّ، وقد يشهد له حديث النمرقة؛ يعني: الآتي بعدُ، وسيأتي ما فيه.

(ومنها): أن إمام الحرمين نقل وجهًا أن الذي يُرَخَّص فيه مما لا ظل له ما كان على ستر، أو وسادة، وأما ما على الجدار، والسقف، فيُمنع، والمعنى فيه أنه بذلك يصير مرتفعًا، فيخرج عن هيئة الامتهان، بخلاف الثوب، فإنه بصدد أن يُمتهن، وتساعده عبارة "مختصر المزنيّ": صورة ذات روح إن كانت منصوبةً، ونقل الرافعيّ عن الجمهور أن الصورة إذا قُطع رأسها ارتفع المانع، وقال المتولي في "التتمة": لا فرق.

(ومنها): أن مذهب الحنابلة جواز الصورة في الثوب، ولو كان معلَّقًا، على ما في خبر أبي طلحة، لكن إن مُشر به الجدار مُنِع عندهم.

قال النوويّ: وذهب بعض السلف إلى أن الممنوع ما كان له ظلّ، وأما ما لا ظلّ له فلا بأس باتخاذه مطلقًا، وهو مذهب باطل، فإن الستر الذي أنكره النبيّ صلى الله عليه وسلم كانت الصورة فيه بلا ظلّ بغير شك، ومع ذلك فأَمَر بنزعه.

قال الحافظ: المذهب المذكور نقله ابن أبي شيبة عن القاسم بن محمد، بسند صحيح، ولفظه: عن ابن عون قال: دخلت على القاسم، وهو بأعلى مكة

ص: 102

في بيته، فرأيت في بيته حَجَلةً فيها تصاوير القندس، والعنقاء، ففي إطلاق كونه مذهبًا باطلًا نظر؛ إذ يَحْتَمِل أنه تمسَّك في ذلك بعموم قوله:"إلا رقمًا في ثوب"، فإنه أعمّ من أن يكون معلقًا، أو مفروشًا، وكانه جَعَل إنكار النبيّ صلى الله عليه وسلم على عائشة تعليق الستر المذكور مركبًا من كونه مصورًا، ومن كونه ساترًا للجدار، ويؤيده ما ورد في بعض طرقه عند مسلم، فأخرج من طريق سعيد بن يسار، عن زيد بن خالد الجهنيّ، قال: دخلت على عائشة، فذكر نحو حديث الباب، لكن قال: "فجذبه حتى هتكه، وقال: إن الله لم يأمرنا أن نكسو الحجارة والطين، قالت: فقطعنا منه وسادتين

" الحديث، فهذا يدلّ على أنه كره ستر الجدار بالثوب المصوّر، فلا يساويه الثوب الممتهَن، ولو كانت فيه صورة، وكذلك الثوب الذي لا يُستر به الجدار، والقاسم بن محمد أحد فقهاء المدينة، وكان من أفضل أهل زمانه، وهو الذي روى حديث النمرقة، فلولا أنه فَهِم الرخصة في مثل الْحَجَلة ما استجاز استعمالها، لكن الجمع بين الأحاديث الواردة في ذلك يدلّ على أنه مذهب مرجوح، وأن الذي رُخّص فيه من ذلك ما يُمتهن، لا ما كان منصوبًا.

وقد أخرج ابن أبي شيبة، من طريق أيوب، عن عكرمة، قال: كانوا يقولون في التصاوير في البسط، والوسائد التي توطأ: ذلّ لها.

ومن طريق عاصم، عن عكرمة، قال: كانوا يكرهون ما نُصِب من التماثيل نَصْبًا، ولا يرون بأسًا بما وطئته الأقدام.

ومن طريق ابن سيرين، وسالم بن عبد الله، وعكرمة بن خالد، وسعيد بن جبير، فَرَّقهم أنهم قالوا: لا بأس بالصورة إذا كانت توطأ.

ومن طريق عروة، أنه كان يتكئ على المرافق فيها التماثيل، الطير، والرجال. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قد تقدّم تحقيق القول في المسألة، وترجيح جواز الصورة المرقّمة، الممتهَنة، لا المعلقة على الجدار ونحوه؛ لحديث أبي طلحة رضي الله عنه وغيره؛ إذ بهذا يُجمع بين الأدلة المختلفة في هذا الباب، فتبصّر بالإنصاف، والله تعالى وليّ التوفيق.

(1)

"الفتح" 13/ 471 - 472، كتاب "اللباس" رقم (5955).

ص: 103

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [25/ 5511 و 5512](2107)، و (البخاريّ) في "اللباس"(5955)، و (النسائيّ) في "الزينة"(8/ 213)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 208 و 229 و 281)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(8/ 107)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(7/ 267)، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5512]

(

) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدَةُ (ح) وَحَدَّثَنَاهُ أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، بِهَذَا الْإِسْنَاد، وَلَيْسَ فِي حَدِيثِ عَبْدَةَ: قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ).

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(عَبْدَةُ) بن سليمان الكلابيّ، أبو محمد الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ، من صغار [8](ت 187)(ع) تقدم في "الإيمان" 61/ 339.

2 -

(وَكِيعُ) بن الجرّاح بن ملِيح الرؤاسيّ، أبو سفيان الكوفيّ، تقدّم قريبًا.

والباقيان ذكرا قبله.

[تنبيه]: رواية وكيع، عن هشام بن عروة ساقها أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(25785)

- حدّثنا عبد الله، حدّثني أبي، ثنا وكيع، ثنا هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: قَدِمَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم من سفر، وقد عَلَّقتُ على بابي دُرْنُوكًا، فيه الخيل، أولات الأجنحة، قالت: فهتكه. انتهى

(1)

.

وأما رواية عبدة بن سليمان، عن هشام فلم أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم.

(1)

"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 6/ 208.

ص: 104

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5513]

(

) - (حَدَّثَنَا مَنْصُورُ بْنُ أَبِي مُزَاحِمٍ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَأنا مُتَسَتِّرَةٌ

(1)

بِقِرَامٍ فِيهِ صُورَةٌ، فَتَلَوَّنَ وَجْهُهُ، ثُمَّ تَنَاوَلَ السِّتْرَ، فَهَتَكَهُ، ثُمَّ قَالَ:"إِنَّ مِنْ أَشَدَّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ الَّذِينَ يُشَبَّهُونَ بِخَلْقِ اللهِ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(مَنْصُورُ بْنُ أَبِي مُزَاحِمٍ) بشير التركيّ، أبو نصر البغداديّ الكاتب، ثقةٌ [10](ت 235)، وهو ابن (80) سنةً (م د س) تقدم في "الإيمان" 38/ 255.

2 -

(إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدِ) بن إبراهيم الزهريّ، تقدّم قريبًا.

3 -

(الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدِ) بن أبي بكر الصدّيق، التيميّ، أحد الفقهاء، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار [3](ت 106) على الصحيح (ع) تقدم في "الحيض" 3/ 195.

والباقيان ذُكرا في الباب.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسلٌ بالمدنيين غير شيخه، فبغداديّ، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وأن القاسم أحد الفقهاء السبعة المشهورين بالمدينة، وقد تقدّموا غير مرّة، وفيه رواية الراوي عن عمّته، وأن أصحّ أسانيد عائشة رضي الله عنها: عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عنها، كما في الرواية الثالثة.

شرح الحديث:

(عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ) ابن أبي بكر الصدّيق (عَنْ عَائِشَةَ) رضي الله عنها أنها (قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) وفي رواية البخاريّ: "قَدِم رسول الله صلى الله عليه وسلم من سفر"، قال في "الفتح": في رواية البيهقيّ أنها غزوة تبوك، وفي أخرى لأبي داود، والنسائيّ: غزوة تبوك، أو خيبر، على الشك. (وَأَنَا مُتَسَتِّرَةٌ) قال النوويّ: هكذا هو في معظم النُّسخ: "متسترة" بتاءين مثناتين فوقُ، بينهما سين،

(1)

وفي نسخة: "مستترة".

ص: 105

وفي بعضها: "مستترة" بسين، ثم تاءين؛ أي: متّخذة سِترًا. انتهى

(1)

.

(بِقِرَامٍ) - بكسر القاف، وتخفيف الراء - هو سِتْر فيه رقم، ونقشٌ، وقيل: ثوب من صوف مُلَوَّن، يُفْرَش في الهودج، أو يغطى به، قاله في "الفتح"

(2)

.

وقال النوويّ: القرام بكسر القاف: سترٌ رقيق.

(فِيهِ صُورَةٌ، فَتَلَوَّنَ)؛ أي: تغيّر (وَجْهُهُ) صلى الله عليه وسلم إنكارًا عليها بفعلها ذلك، (ثُمَّ تتاوَلَ السِّتْرَ)؛ أي: أخذه بيده (فَهَتَكَهُ)؛ أي: خرقه، هذا ظاهر في كونه صلى الله عليه وسلم هو الذي هتكه، وقد سبق في الرواية الماضية:"فأمرني، فنزعته"، ويُجمع بأنه أمَرَها بنزعه، فلمّا نزعته تناوله من يدها، فهتكه بنفسه، والله تعالى أعلم. (ثُمَّ قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("إِنَّ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ الَّذِينَ يُشَبِّهُونَ بخَلْقِ اللهِ")؛ أي: يشبّهون ما يصنعونه بما يصنعه الله تعالى، وفي الرواية الآتية:"الذين يضاهون بخلق الله"، والله تعالى أعلم.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [25/ 5513 و 5514 و 5515 و 5516 و 5517 و 5518 و 5519 و 5520 و 5521 و 5522](2107)، و (البخاريّ) في "المظالم"(2479) و"اللباس"(5954) و"الأدب"(6109)، و (النسائيّ) في "القبلة"(2/ 67 و 8/ 214 و 216) و"الكبرى"(1/ 274 و 5/ 501 و 502)، و (ابن ماجه) في "اللباس"(3653)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1/ 202)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنفه"(5/ 257)، و (الحميديّ) في "مسنده"(1/ 122)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 36 و 83 و 85 و 86 و 102 و 116 و 172) وفي "كتاب الورع"(1/ 143)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(844)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1/ 407 و 2/ 72)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(8/ 170)،

(1)

"شرح النوويّ" 14/ 88.

(2)

"الفتح" 13/ 469 - 470، كتاب "اللباس" رقم (5954).

ص: 106

و (البيهقيّ) في "الكبرى"(7/ 269) و"شُعَب الإيمان"(5/ 188)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): تحريم تصوير صورة الحيوان، قال النوويّ: هو حرام شديد التحريم، وهو من الكبائر؛ لأنه متوعَّد عليه بهذا الوعيد الشديد، وسواء صنعه لِمَا يُمْتَهن أم لغيره، فصُنعه حرام بكل حال، وسواء كان في ثوب، أو بساط، أو درهم، أو دينار، أو فلس، أو إناء، أو حائط، أو غيرها، فأما تصوير ما ليس فيه صورة حيوان فليس بحرام.

قال في "الفتح": ويؤيد التعميم فيما له ظلّ، وفيما لا ظلّ له ما أخرجه أحمد، من حديث عليّ رضي الله عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"أيكم ينطلق إلى المدينة، فلا يدع بها وَثَنًا إلا كسره، ولا صورة إلا لطخها؟ "؛ أي: طمسها، الحديث، وفيه: من عاد إلى صنعة شيء من هذا فقد كفَر بما انزل على محمد صلى الله عليه وسلم.

2 -

(ومنها): ما قال الخطابيّ: إنما عَظُمَت عقوبة المصوِّر؛ لأن الصور كانت تُعبد من دون الله، ولأن النظر إليها يَفتن، وبعض النفوس إليها تميل، قال: والمراد بالصور هنا: التماثيل التي لها روح.

وقيل: يفرَّق بين العذاب والعقاب، فالعذاب يُطلق على ما يؤلم من قول، أو فعل؛ كالعتب، والإنكار، والعقاب يختص بالفعل، فلا يلزم من كون المصور أشدّ الناس عذابًا أن يكون أشدّ الناس عقوبة، هكذا ذكره الشريف المرتضى في "الغرر".

وتُعُقِّب بآية: {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر: 46]، وعليها انبنى الإشكال، ولم يكن هو عرّج عليها فلهذا ارتضى التفرقة، والله أعلم.

3 -

(ومنها): أن مما يُستغرب استدلال أبي عليّ الفارسيّ في "التذكرة" بالحديث على تكفير المشبِّهة، فحَمَل الحديث عليهم، وأنهم المراد بقوله:"المصورون"؛ أي: الذين يعتقدون أن لله صورة.

قال الجامع عفا الله عنه: حَمْل الحديث عليهم عجيب، فإن سياق الحديث بعيد منه كلّ البعد، قال الحافظ: وتُعُقِّب بحديث: "إن الذين يصنعون هذه الصور يعذبون"، وبحديث:"إن أصحاب هذه الصور يعذبون"، وغير

ص: 107

ذلك، ولو سُلِّم له استدلاله لم يَرِد عليه الإشكال الآتي ذِكره.

قال: وخَصّ بعضهم الوعيد الشديد بمن صوَّر قاصدًا أن يضاهي، فإنه يصير بذلك القصد كافرًا، وأما من عداه فيَحْرُم عليه، ويأثم، لكن إثمه دون إثم المضاهي، وهذا يؤيّد لفظ:"الذين يضاهون بخلق الله تعالى"، وأشد منه من يصوِّر ما يُعبد من دون الله، وذكر القرطبيّ أن أهل الجاهلية كانوا يعملون الأصنام من كل شيء، حتى إن بعضهم عَمِل صنمه من عَجْوة، ثم جاع فأكله. انتهى ما في "الفتح" بتصرّف

(1)

، والله تعالى أعلم.

(المسألة الرابعة): قال في "الفتح": قد استُشكل كون المصوِّر أشدّ الناس عذابًا مع قوله تعالى: {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} ، فإنه يقتضي أن يكون المصوّر أشد عذابًا من آل فرعون.

وأجاب الطبريّ بأن المراد هنا من يصوِّر ما يُعبد من دون الله، وهو عارف بذلك، قاصدًا له، فإنه يكفر بذلك، فلا يبعد أن يدخل مدخل آل فرعون، وأما من لا يقصد ذلك، فإنه يكون عاصيًا بتصويره فقط.

وأجاب غيره بأن الرواية بإثبات "مِنْ" ثابتة، وبحذفها محمولة عليها، وإذا كان من يفعل التصوير من أشدّ الناس عذابًا كان مشتركًا مع غيره، وليس في الآية ما يقتضي اختصاص آل فرعون بأشد العذاب، بل هم في العذاب الأشد، فكذلك غيرهم يجوز أن يكون في العذاب الأشدّ، وقَوَّى الطحاويّ ذلك بما أخرجه من وجه آخر عن ابن مسعود، رفعه:"إن أشدّ الناس عذابًا يوم القيامة رجل قَتَل نبيًّا، أو قتله نبيّ، وإمام ضلالة، وممثِّل من الممثِّلين"، وكذا أخرجه أحمد.

وقد وقع بعض هذه الزيادة في رواية ابن أبي عمر، فاقتصر على المصوّر، وعلى من قتله نبيّ.

وأخرج الطحاويّ أيضًا من حديث عائشة، مرفوعًا:"أشدّ الناس عذابًا يوم القيامة رجل هجا رجلًا، فهجا القبيلة بأسرها"، قال الطحاويّ: فكل واحد من هؤلاء يشترك مع الآخر في شدة العذاب.

(1)

"الفتح" ص 465 - 466، كتاب "اللباس" رقم (5950).

ص: 108

وقال أبو الوليد ابن رشد في مختصر مشكل الطحاويّ ما حاصله: إن الوعيد بهذه الصيغة إن ورد في حقّ كافر فلا إشكال فيه؛ لأنه يكون مشتركًا في ذلك مع آل فرعون، ويكون فيه دلالة على عِظَم كُفْر المذكور، وإن ورد في حقّ عاص، فيكون أشدّ عذابًا من غيره من العصاة، ويكون ذلك دالًّا على عِظَم المعصية المذكورة.

وأجاب القرطبيّ في "المفهم" بأن الناس الذين أضيف إليهم "أشدّ" لا يراد بهم كل الناس، بل بعضهم، وهم من يشارك في المعنى المتوعَّد عليه بالعذاب، ففرعون أشدّ الناس الذين ادَّعوا الإلهية عذابًا، ومن يقتدي به في ضلالة كفره أشدّ عذابًا ممن يقتدي به في ضلالة فسقه، ومن صَوَّر صورة ذات روح للعبادة أشدّ عذابًا ممن يصورها لا للعبادة.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا التوجيه الذي ذكره القرطبيّ رحمه الله عندي أقرب، وأرجح في رفع الإشكال المذكور، والله تعالى أعلم.

قال: واستُشكل ظاهر الحديث أيضًا لإبليس، وبابن آدم الذي سنّ القتل.

وأجيب بأنه في إبليس واضح، ويجاب بأن المراد بالناس من يُنسب إلى آدم، وأما في ابن آدم، فأجيب بأن الثابت في حقه أن عليه مثل أوزار من يقتل ظلمًا، ولا يمتنع أن يشاركه في مثل تعذيبه من ابتدأ الزنا مثلًا، فإن عليه مثل أوزار من يزني بعده؛ لأنه أول من سنّ ذلك، ولعل عدد الزناة أكثر من القاتلين. انتهى ما في "الفتح"

(1)

، وهو بحث نفيسٌ جدًّا، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5514]

(

) - (وَحَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، أَن عَائِشَةَ حَدَّثَتْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ عَلَيْهَا، بِمِثْلِ حَدِيثِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: ثُمَّ أَهْوَى إِلَى الْقِرَام، فَهَتَكَهُ بِيَدِهِ).

(1)

"الفتح" ص 464، كتاب "اللباس" رقم (5950).

ص: 109

رجال هذا الإسناد: ستة:

وكلّهم ذُكروا في الباب.

وقوله: (غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ

إلخ) الضمير ليونس بن يزيد الأيليّ.

وقوله: (ثُمَّ أَهْوَى إِلَى الْقِرَامِ)؛ أي: مال إلى الستر، قال الفيّوميّ رحمه الله: وأهوى إلى سيفه بالألف: تناوله بيده، وأهوى إلى الشيء بيده: مدّها ليأخذه إذا كان عن قُرب، فإن كان عن بُعْد قيل: هَوَى إليه بغير ألف، وأهويتُ بالشيء: أومأت إليه. انتهى

(1)

.

وقوله: (فَهَتَكَهُ بيَدِهِ)؛ أي: شقّه صلى الله عليه وسلم أو نزعه بيده الشريفة، قال الفيّوميّ: هَتَكَ زيد الستر هَتْكًا، من باب ضرب: خَرَقه، فَانْتَهَكَ، وقال الزّمخشريّ: جَذَبه حتى نَزَعه من مكانه، أو شَقّه حتى يَظْهَر ما وراءه، وتَهَتَّكَ السِّتر مثل انْهَتَكَ، وهَتَكْتُ الثوب: شققته طولًا، وهَتَكَ الله سِتْر الفاجرة فضحه. انتهى

(2)

.

[تنبيه]: رواية يونس عن ابن شهاب هذه لم أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5515]

(

) - (حَدَّثَنَاهُ يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ (ح) وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالَا: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاق، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، بِهَذَا الْإِسْنَاد، وَفِي حَدِيثِهِمَا:"إِنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَذَابًا"، لَمْ يَذْكُرَا:"مِنْ").

رجال هذا الإسناد: تسعة:

وكلّهم ذُكروا في الباب.

وقوله: (عَنِ الزُّهْرِيِّ، بِهَذَا الإسْنَادِ)؛ يعني: أن ابن عيينة، ومعمرًا رويا هذا الحديث عن الزهريّ بالإسناد المتقدّم، وهو عن القاسم بن محمد، عن عائشة رضي الله عنها.

(1)

"المصباح المنير" 2/ 643 - 644.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 633.

ص: 110

وقوله: (وَفِي حَدِيثِهِمَا) الضمير لابن عيينة، ومعمر.

[تنبيه]: رواية سفيان بن عيينة، عن الزهريّ ساقها ابن أبي شيبة رحمه الله في "مصنّفه"، فقال:

(25208)

- حدّثنا أبو بكر، قال: حدّثنا ابن عيينة، عن الزهريّ، عن القاسم، عن عائشة، قالت: دخل عليّ النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقد استترت بقرام، فيه تماثيل، فلما رآه تغيَّر لونه، وهتكه بيده، ثم قال:"إن أشدّ الناس عذابًا يوم القيامة الذين يشبِّهون بخلق الله". انتهى

(1)

.

ورواية معمر، عن الزهريّ ساقها ابن حبّان رحمه الله في "صحيحه"، فقال:

(5847)

- أخبرنا محمد بن الحسن بن قتيبة، قال: حدّثنا ابن أبي السريّ قال: حدَّثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الزهريّ، عن القاسم بن محمد، أن عائشة أخبرته، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليها، وهي مستترة بقرام، فيه تماثيل، فتلوَّن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأهوى إلى القِرام، فهتكه بيده، ثم قال:"إن أشدّ الناس عذابًا يوم القيامة الذين يُشَبِّهون بخلق الله". انتهى

(2)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5516]

(

) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ - وَاللَّفْظُ لِزُهَيْرٍ - حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِم، عَنْ أبِيه، أَنَّهُ سَمِعَ عَائِشَةَ تَقُولُ: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَقَدْ سَتَرْتُ سَهْوَةً لِي بِقِرَامٍ، فِيهِ تَمَاثِيلُ، فَلَمَّا رَآهَ هَتَكَهُ، وَتَلَوَّنَ وَجْهُهُ، وَقَالَ: "يَا عَائِشَةُ أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا عِنْدَ اللهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الَّذِينَ يُضَاهُونَ بِخَلْقِ اللهِ"، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَقَطَعْنَاهُ، فَجَعَلْنَا مِنْهُ وِسَادَةً، أَو وِسَادَتَيْنِ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْقَاسِمِ) بن محمد بن أبي بكر الصدّيق التيميّ، أبو محمد المدنيّ، ثقةٌ جليلٌ. قال ابن عيينة: كان أفضل أهل زمانه [6](ت 126) أو بعدها (ع) تقدم في "الحيض" 27/ 822.

(1)

"مصنف ابن أبي شيبة" 5/ 200.

(2)

"صحيح ابن حبان" 13/ 158.

ص: 111

والباقون ذُكروا قبله.

شرح الحديث:

(عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِم، عَنْ أَبِيهِ) القاسم بن محمد (أَنَّهُ سَمِعَ عَائِشَةَ) رضي الله عنها (تَقُولُ: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَقَدْ سَتَرْتُ) جملة في محلّ نَصْب على الحال، (سَهْوَةً لِي بِقِرَامٍ)، فقوله:(وَقَدْ سَتَرْتُ سَهْوَةً لِي) - بفتح المهملة، وسكون الهاء -: هي صُفَّةٌ من جانب البيت، وقيل: الْكُوَّة، وقيل: الرَّفّ، وقيل: أربعة أعواد، أو ثلاثة يُعارَض بعضها ببعض، يوضع عليها شيء من الأمتعة، وقيل: أن يبني من حائط البيت حائطٌ صغيرٌ، ويُجعل السقفُ على الجميع، فما كان وسط البيت فهو السَّهْوة، وما كان داخله فهو المخدع، وقيل: دَخْلة في ناحية البيت، وقيل: بيت صغير يُشبه المخدع، وقيل: بيت صغير مُنحَدِر في الأرض، وسَمْكُه مرتفع من الأرض؛ كالخزانة الصغيرة، يكون فيها المتاع، ورجَّح هذا الأخير أبو عبيد، ولا مخالفة بينه وبين الذي قبله.

وقد وقع في حديث عائشة أيضًا أنها علقته على بابها، وكذا في رواية زيد بن خالد الجهنيّ، عن عائشة، فتعيّن أن السهوة بيت صغيرٌ عَلّقت السِّتر على بابه، أفاده في "الفتح"

(1)

.

(بِقِرَامٍ) - بكسر القاف، وتخفيف الراء -: هو ستر رقيق من صوف، ذو ألوان، وقال أبو سعد: القرام صوف غليظ جدًّا يُفرش في الهودج، وفي "المحكم": هو ثوب من صوف مُلَوَّن، والجمع قُرُم، وعن ابن الأعرابي: هو ثوب من صوف فيه ألوان من عِهْن، فإذا خِيْطَ صار كأنه بيت، فهو كِلّة

(2)

، وقال القزاز، وابن دريد: هو الستر الرقيق وراء الستر الغليظ، على الهودج وغيره، وقال الخليل: يتخذ سترًا، أو يُغشى به هودج، أو كِلّة، وزعم الجوهريّ أنه ستر فيه رقم، ونقوش، وقال: وكذلك الْمِقْرَم، والْمِقْرَمة، قاله في "العمدة"

(3)

.

(1)

"الفتح" ص 470، كتاب "اللباس" رقم (5954).

(2)

الكِلّة بالكسر: ستر رقيق يُخاط شِبْه البيت. اهـ. "المصباح".

(3)

"عمدة القاري" 4/ 96.

ص: 112

(فيهِ تَمَاثِيلُ) بمثنّاة، ثمّ مثلّثة: جمع تِمثال، وهو الشيء المصوّر، أعمّ من أن يكون شاخصًا، أو يكون نقشًا، أو دهانًا، أو نسجًا في ثوب، وقال في "العمدة": التمثال، وإن كان في الأصل للصورة المطلقة، فالمراد منه هنا صورة الحيوان. انتهى.

وفي رواية بكير بن الأشجّ الآتية: "أنها نصبت سِترًا فيه تصاوير"، (فَلَمَّا رَآهُ)؛ أي: رأى النبيّ صلى الله عليه وسلم ذلك القِرَام (هَتَكَهُ)؛ أي: نزعه، وفي الرواية السابقة:"فأمرني أن أنزعه، فنزعته"، وتقدّم وجه الجمع بينهما. (وَتَلَوَّنَ)؛ أي: تغيّر (وَجْهُهُ) صلى الله عليه وسلم كراهية له، (وَقَالَ:"يَا عَائِشَةُ أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا عِنْدَ اللهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الَّذِينَ يُضَاهُونَ بِخَلْقِ اللهِ")؛ أي: يشبّهون بما يخلقه الله عز وجل، وأصل يضاهون: يضاهئون، قال الفيّوميّ رحمه الله: ضَاهَأَهُ مُضَاهَأةً، مهموزٌ: عارضه، وباراه، ويجوز التخفيف، فيقال: ضَاهَيْتُهُ مُضَاهَاةً، وقُرِئ بهما، وهي مشاكلة الشيء بالشيء، وفي الحديث:"أَشَدُّ النَاسِ عَذَابًا يَوْمَ القِيَامَةِ الَّذِينَ يُضَاهُونَ خَلْقَ اللهِ"؛ أي: يعارضون بما يَعملون، والمراد: المصورون. انتهى

(1)

.

وقال ابن الأثير: المضاهاة: المشابهة، وقد تُهمز، وقرئ بهما. انتهى

(2)

.

(قَالَتْ عَائِشَةُ) رضي الله عنها (فَقَطَعْنَاهُ، فَجَعَلْنَا مِنْهُ وِسَادَةً، أَو وِسَادَتَيْنِ) الظاهر أن "أو" للشكّ من الراوي، وسيأتي بلفظ:"فاتّخذت منه وسادتين" بالجزم، وفي رواية نافع عن القاسم الآتية:"فأخذته، فجعلته مرفقتين، فكان يرتفق بهما في البيت"، والله تعالى أعلم.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام البحث فيه، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5517]

(

) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِم، قَالَ: سَمِعْتُ الْقَاسِمَ يُحَدِّثُ عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّهُ

(1)

"المصباح المنير" 2/ 365.

(2)

"النهاية" ص 552.

ص: 113

كَانَ لَهَا ثَوْبٌ فِيهِ تَصَاوِيرُ، مَمْدُودٌ إِلَى سَهْوَةٍ، فَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي إِلَيْه، فَقَالَ:"أَخِّرِيهِ عَنِّي"، قَالَتْ: فَأَخَّرْتُهُ، فَجَعَلْتُهُ وَسَائِدَ)

(1)

.

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ) المعروف بغندر، تقدّم قريبًا.

2 -

(شُعْبَةُ) بن الحجّاج، تقدّم أيضًا قريبًا.

والباقون ذُكروا في الباب.

وقولها: (فَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي إِلَيْهِ) قال في "الفتح": قد استُشكِل الجمع بين هذا الحديث وبين حديث عائشة الآتي في النُّمْرقة؛ لأنه يدلّ على أنه صلى الله عليه وسلم لم يدخل البيت الذي كان فيه الستر المصوّر أصلًا، حتى نزعه، وهذا يدلّ على أنه أقرّه، وصلى، وهو منصوبٌ إلى أن أَمَر بنزعه، من أجل ما ذَكَر من رؤيته الصورة حالة الصلاة، ولم يتعرض لخصوص كونها صورة.

قال: ويمكن الجمع بأن الأول كانت تصاويره من ذوات الأرواح، وهذا كانت تصاويره من غير الحيوان، كما تقدم تقريره في حديث زيد بن خالد. انتهى.

وفي حديث أنس رضي الله عنه، قال: كان قرام لعائشة رضي الله عنها سترت به جانب بيتها، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"أميطي عنّا قِرَامك هذا، فإنه لا تزال تصاويره تَعْرِض في صلاتي"، رواه البخاريّ.

وفي الحديث من الفقه أنه ينبغي التزام الخشوع في الصلاة، وتفريغ البال لله تعالى، وتَرْك التعرض لِمَا يَشْغَل المصلي عن الخشوع، وفيه أيضًا أن ما يَعْرِض للشخص في صلاته من الفكرة في أمور الدنيا لا يقطع صلاته، قاله في "العمدة"

(2)

.

وقولها: (فَجَعَلْتُهُ وَسَائِدَ) جمع وِسادة بكسر الواو، وهي الْمِخَدّة.

(1)

وفي نسخة: "فأخذته وسائد".

(2)

"عمدة القاري" 22/ 74.

ص: 114

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5518]

(

) - (وَحَدَّثَنَاهُ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَعُقْبَةُ بْنُ مُكْرَمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَامِرٍ (ح) وَحَذَثَنَاهُ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبْرَنَا أَبُو عَامِرٍ الْعَقَدِيُّ، جَمِيعًا عَنْ شُعْبَةَ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(عُقْبَةُ بْنُ مُكْرَم) الْعَمّيّ، أبو عبد الملك البصريّ، ثقةٌ [11] مات في حدود (250) (م دت ق، تقدم في "الإيمان" 27/ 220.

2 -

(سَعِيدُ بْنُ عَامِرٍ) الضُّبعيّ، أبو محمد البصريّ، ثقةٌ ربّما وَهِم [9](ت 208) وله (86) سنة (ع) تقدم في "صلاة المسافرين وقصرها" 4/ 1608.

3 -

(أَبُو عَامِرٍ الْعَقَدِيُّ) عبد الملك بن عمرو القيسيّ البصريّ، ثقةٌ [9](ت 4 أو 205)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 21.

والباقيان ذُكرا في الباب.

[تنبيه]: رواية سعيد بن عامر عن شعبة ساقها الدارميّ رحمه الله في "سننه"، فقال:

(2662)

- أخبرنا سعيد بن عامر، عن شعبة، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، قال: قالت عائشة: كان لنا ثوب فيه تصاوير، فجعلته بين يدي النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو يصلي، فنهاني، أو قالت: فكرهه، قالت: فجعلته وسائد. انتهى

(1)

،

وأما رواية أبي عامر القعديّ عن شعبة فلم أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5519]

(

) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِم، عَنْ أَبِيه، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: دَخَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَيَّ، وَقَدْ سَتَرْتُ نَمَطًا، فِيهِ تَصَاوِيرُ، فَنَحَّاهُ، فَاتَّخَذْتُ مِنْهُ وِسَادَتَيْنِ).

(1)

"سنن الدارميّ" 2/ 369.

ص: 115

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(سُفْيَانُ) بن سعيد الثوريّ، تقدّم قريبًا.

والباقون ذُكروا في الباب.

وقولها: (وَقَدْ سَتَرْتُ نَمَطًا) النمط بفتح النون والميم: هو ظِهارة الفراش، وقيل: ظهر الفراش، ويُطلق أيضًا على بساط لطيف، له خَمْل، يُجعل على الهودج، وقد يُجعل سترًا، قاله النوويّ.

وقال الفيّوميّ: النَّمْط: بفتحتين: ثوب من صوفٍ، ذو لون من الألوان، ولا يكاد يقال للأبيض: نَمَط، والجمع أنماط، مثلُ سبب وأسباب. انتهى

(1)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5520]

(

) - (وَحَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ مَعْرُوفٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ الْحَارِث، أَنَّ بُكَيْرًا حَدَّثَهُ، أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْقَاسِمِ حَدَّثَهُ، أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ، عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهَا نَصَبَتْ سِتْرًا فِيهِ تَصَاوِيرُ، فَدَخَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَنَزَعَهُ، قَالَتْ: فَقَطَعْتُهُ وِسَادَتَيْن، فَقَالَ رَجُلٌ فِي الْمَجْلِسِ حِينَئِذٍ - يُقَالُ لَهُ رَبِيعَةُ بْنُ عَطَاءٍ، مَوْلَى بَنِي زُهْرَةَ -: أَفَمَا سَمِعْتَ أَبَا مُحَمَّدٍ يَذْكُرُ أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ: فَكَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَرْتَفِقُ عَلَيْهِمَا؟، قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: لَا، قَالَ: لَكِنِّي قَدْ سَمِعْتُهُ، يُرِيدُ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(هَارُونُ بْنُ مَعْرُوفٍ) المروزيّ، أبو عليّ الخزّاز الضرير، نزيل بغداد، ثقةٌ [10](ت 231)(خ م د) تقدم في "الإيمان" 63/ 350.

2 -

(رَبِيعَةُ بْنُ عَطَاءٍ، مَوْلَى بَنِي زُهْرَةَ) المدنيّ، ويقال: إنه ربيعة بن عطاء بن يعقوب، مولى ابن سِبَاع، قاله ابن حبان في "الثقات"، ثقةٌ [6].

رَوَى عن القاسم بن محمد، وعنه بُكير بن الأشجّ، قال الآجريّ عن أبي داود: ربيعة بن عطاء حَدّث عنه العُمَري الصغير معروف، وقال النسائيّ: ثقةٌ، وقال ابن حبان في "الثقات": روى عن عروة بن محمد، وعنه يحيى بن سعيد

(1)

"المصباح المنير" 2/ 626.

ص: 116

الأنصاريّ، وقال البخاري في "التاريخ الكبير"، وتبعه أبو حاتم الرازيّ في كونه مولى ابن سباع، قاله في "التهذيب"

(1)

.

تفرّد به المصنّف، والنسائيّ بهذا الحديث فقط.

والباقون كلّهم ذُكروا في الباب، و"بُكير" هو ابن عبد الله بن الأشجّ.

شرح الحديث:

(عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) رضي الله عنها (أَنَّهَا نَصَبَتْ سِتْرًا) بكسر السين؛ أي: ساترًا (فِيهِ تَصَاوِيرُ، فَدَخَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَنَزَعَهُ، قَالَتْ) عائشة رضي الله عنها (فَقَطَعْتُهُ وِسَادَتَيْنِ) قال بكير بن عبد الله (فَقَالَ رَجُلٌ فِي الْمَجْلِسِ)؛ أي: في المكان الذي حدّث فيه عبد الرحمن بن القاسم بهذا الحديث، (حِينَئِذٍ)؛ أي: وقت إذ حدّث عبد الرحمن بهذا الحديث، (يُقَالُ لَهُ رَبِيعَةُ بْنُ عَطَاءٍ، مَوْلَى بَنِي زُهْرَةَ) المدنيّ، (أَفَمَا سَمِعْتَ أَبَا مُحَمَّدٍ) كنية القاسم بن محمد بن أبي بكر، (يَذْكُر) بالبناء للفاعل، وفاعله ضمير أبي محمد، (أَن عَائِشَةَ) رضي الله عنها (قَالَتْ: فَكَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَرْتَفِقُ عَلَيْهِمَا؟)؛ أي: يتّكأ على الوسادتين، يقال: ارتفق على الشيء: إذا اتّكأ عليه، وارتفق بالشيء: إذا انتفع به

(2)

. (قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ) هو عبد الرحمن، (لَا)؛ أي: لم أسمعه يقول ذلك، (قَالَ) ذلك الرجل؛ أي: ربيعة بن عطاء، (لَكِنِّي قَدْ سَمِعْتُهُ)؛ أي: سمعت القاسم يقول ذلك، وقوله:(يُرِيدُ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ) يعني بضمير الغائب في "سمعته": القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، والله تعالى أعلم.

والحديث بهذا السياق تفرّد به المصنّف رحمه الله، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5521]

(

) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَائِشَةَ، أنَّهَا اشْتَرَتْ نُمْرَقَةً فِيهَا تَصَاوِيرُ، فَلَمَّا رَآهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَامَ عَلَى الْبَاب، فَلَمْ يَدْخُلْ، فَعَرَفْتُ، أَو فَعُرِفَتْ فِي وَجْهِهِ الْكَرَاهِيَةُ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ أَتُوبُ إِلَى الله، وَإِلَى رَسُولِه، فَمَاذَا أَذْنَبْتُ؟ فَقَالَ

(1)

"تهذيب التهذيب" 3/ 225.

(2)

راجع: "المصباح المنير" 1/ 234.

ص: 117

رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا بَالُ هَذ النُّمْرُقَةِ؟ "، فَقَالَت: اشْتَرَيْتُهَا لَكَ تَقْعُدُ عَلَيْهَا، وَتَوَسَّدُهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"إِن أَصْحَابَ هَذِهِ الصُّوَرِ يُعَذَّبُونَ، وَيُقَالُ لَهُمْ: أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ"، ثُمَّ قَالَ:"إِن الْبَيْتَ الَّذِي فِيهِ الصُّوَرُ، لَا تَدْخُلُهُ الْمَلَاِئكَةُ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(مَالِكُ) بن أنس إمام دار الهجرة، تقدّم قريبًا.

2 -

(نَافِعٌ) مولى ابن عمر المدنيّ المشهور، تقدّم أيضًا قريبًا.

والباقون ذُكروا في الباب.

شرح الحديث:

(عَنْ عَائِشَةَ) رضي الله عنها (أَنَّهَا اشْتَرَتْ نُمْرَقَةً) بضمّ النون والراء، وبكسرهما، وبضم النون، وفتح الراء، ثلاث لغات: الوسادة الصغيرة، وقال في "الفتح": النمرقة بفتح النون، وسكون الميم، وضمّ الراء، بعدها قاف، كذا ضبطها القزّاز وغيره، وضبطها ابن السِّكِّيت بضمّ النون أيضًا، وبكسرها، وكسر الراء، وقيل: في النون الحركات الثلاث، والراء مضمومة جزمًا، والجمع نمارق، وهي الوسائد التي يُصَفّ بعضها إلى بعض، وقيل: النمرقة الوسادة التي يُجلس عليها. انتهى

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قول عائشة: "اشترت نمرقة فيها تصاوير" يجوز أن تكون أرادت بالنمرقة هنا: الستر الذي تقدَّم ذكره، وسَمَّته نمرقة؛ لأنَّه آل أمره إلى النمرقة، كما يُسمى العنب خمرًا بمآله، والنَّمارق في أصل الوضع: الوسائد، والمرافق، ومنه قوله تعالى:{وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15)} [الغاشية: 15].

وقال الشاعر [من الطويل]:

كُهُولٌ وَشُبَّانٌ حِسَانٌ وُجُوهُهُمْ

عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَنَمَارِقِ

غير أن هذا التأويل يُبعده قولها في بقية الخبر، لمّا قال لها النبيّ صلى الله عليه وسلم:"ما بال هذه النَّمرقة؟ "، فقالت مجيبة:"اشريتها لك، تقعد عليها، وتوسدها"، فهذا يصرّح بأن هذه النَّمرقة غير السِّتر، وأن هذا حديث آخر غير ذلك، وحينئذ

(1)

"الفتح" 13/ 474، كتاب "اللباس" رقم (5957).

ص: 118

يستفاد منه: أن الصور لا يجوز اتخاذها في الثياب، وإن كانت ممتهَنة، وهو أحد القولين كما قدمناه. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: تقدّم أن القول بإباحة الصور الممتهنة هو الأرجح؛ لصحّة الحديث بذلك، وأبعدَ من أوّله بصور غير ذوات الأرواح؛ لأن سياق الحديث يُبطله، فتنبّه، ولا تكن أسير التقليد، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

(فِيهَا تَصَاوِيرُ)؛ أي: تماثيل حيوان، (فَلَمَّا رَآهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَامَ عَلَى الْبَاب، فَلَمْ يَدْخُلْ) الحجرة، زاد في رواية للبخاريّ:"وجعل يتغير وجهه"، (فَعَرَفْتُ) بالبناء للفاعل، (أَو) للشكّ من الراوي، (فَعُرِفَتْ) بالبناء للمفعول، (فِي وَجْهِهِ الْكَرَاهِيَةُ) بالنصب على الضبط الأول، وبالرفع على الضبط الثاني، وقال الزرقانيّ:"الكراهية" بكسر الهاء، وخفّة الياء، وفي رواية بفتح الهاء، وإسقاط الياء

(2)

. (فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ أتوبُ إِلَى اللهِ) عز وجل (وَإِلَى رَسُولِهِ) صلى الله عليه وسلم قال في "الفتح": يُستفاد منه جواز التوبة من الذنوب كلّها إجمالًا، وإن لم يستحضر التائب خصوص الذنب الذي حَصَلت به مؤاخذته. انتهى

(3)

.

وقال الطيبيّ رحمه الله: فيه حُسن أدبٍ من الصدّيقة رضي الله عنها، حيث قَدّمت التوبة على اطلاعها على الذنب، ونحوه قوله تعالى: عَفَا اللهُ {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} الآية [التوبة: 43] قدّم العفو تلطّفًا برسول الله صلى الله عليه وسلم، بدأ بالعفو قبل إبداء الذنب، كما قدّمَتِ التوبةَ على عرفان الذنب، ومن ثَمّة قالت:، فماذا أذنبت؟ "؛ أي: ما اطلعت على ذنب، ومن ثَمّ حَسُن قوله صلى الله عليه وسلم:"ما بال هذه النمرقة؟ ". انتهى

(4)

.

(فَمَاذَا أَذْنَبْتُ؟)؛ أي: حيث قمتَ على الباب، ولم تدخل البيت، وعرفت الكراهية في وجهك، (فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"مَا بَالُ هَذِهِ النُّمْرُقَةِ؟ ")؛ أي: ما حالها، وما شأنها، فيها تماثيل؟ (فَقَالَت: اشْتَرَيْتُهَا لَكَ)؛ أي: لأجل أن تنتفع بها، وذلك أنك (تَقْعُدُ عَلَيْهَا، وَتَوَسَّدُهَا) أصله: تتوسدها، فحُذفت

(1)

"المفهم" 5/ 428 - 429.

(2)

"شرح الزرقانيّ" 4/ 470.

(3)

"الفتح" 13/ 474، كتاب "اللباس" رقم (5957).

(4)

"الكاشف عن حقائق السنن" 9/ 2946.

ص: 119

إحدى التاءين، وقال الكرماني:"وتوسدها" من التوسيد، ويُروَى: من التوسد. انتهى

(1)

. (فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ أَصْحَابَ هَذ الصُّوَرِ) الحيوانية، الذين يصنعونها يضاهئون بها خلق الله (يُعَذَّبُونَ، وَيُقَالُ لَهُمْ: أَحْيُوا) بقطع الهمزة، وضمّ الياء، من الإحياء، (مَا خَلَقْتُمْ")؛ أي: صَوّرتم كصورة الحيوان، والأمر فيه للاستهزاء والتعجيز؛ لأنهم لا يقدرون على نفخ الروح في الصورة التي صَوَّروها، فيدوم تعذيبهم.

وقال النوويّ رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم: "ويقال لهم: أحيوا ما خلقتم" فهو الذي يسمِّيه الأصوليون أمر تعجيز؛ كقوله تعالى: {قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ} الآية [هود: 13]. انتهى

(2)

.

وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما الآتي في الباب: "مَن صَوّر صورة في الدنيا كُلِّف يوم القيامة أن ينفخ فيها الروح، وليس بنافخ"؛ أي: أبدًا فهو معذَّب دائمًا؛ لأنه جُعِل غاية عذابه إلى أن يَنفخ فيها الروح، وأخبر أنه ليس بنافخ، وهذا يقتضي تخليده في النار، لكنه في حقّ مَن كَفَر بالتصوير، أما غيره وهو العاصي الذي يفعل ذلك غير مستحلّ له، ولا قاصدًا أن يُعبد، فيعذَّب إن لم يُعْفَ عنه عذابًا يستحقّه، ثم يخلص منه، أو المراد به: الزجر الشديد بالوعيد بعقاب الكافر؛ ليكون أبلغ في الارتداع، وظاهره غير مراد، إلا أنّ حَمْله على الأول أَولى.

ثم إن أَمْره بالإحياء، وقوله:"كُلِّف" لا ينافي أن الآخرة ليست دار تكليف؛ لأن المنفي تكليف عمل يترتب عليه ثواب، أو عقاب، فأما مثل هذا التكليف فلا يمتنع؛ لأنه نفسه عذاب، ذكره الزرقانيّ

(3)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قوله: ليست دار تكليف فيه نظر، ذكرناه في غير هذا الموضع، فتنبّه.

(ثُمَّ قَالَ) صلى الله عليه وسلم (إِنَّ الْبَيْتَ الَّذِي فِيهِ الصُّوَرُ) الحيوانية؛ إذ لا بأس بصورة الأشجار، والجبال، ونحو ذلك لقول ابن عباس لرجل - كما سيأتي في

(1)

"عمدة القاري" 22/ 73.

(2)

"شرح النوويّ" 14/ 90.

(3)

"شرح الزرقانيّ على الموطأ" 4/ 475.

ص: 120

الباب -: "إن كنت ولا بُدّ فاعلًا، فاصنع الشجرة، وما لا نفس له". (لَا تَدْخُلُهُ الْمَلَائِكَةُ")؛ أي: الحفظة وغيرهم، على ظاهره، أو ملائكة الوحي؛ كجبريل، وإسرافيل، لكن يلزم منه قصر النفي على زمنه صلى الله عليه وسلم لانقطاع الوحي بعده، وبانقطاعه ينقطع نزولهم، وقيل: المراد بهم الذين ينزلون بالرحمة، والمستغفرين للمؤمنين، فيعاقب متخذها بحرمان دخولهم بيته، واستغفارهم له، أما الحفظة فلا يفارقون المكلَّف في كل حال، وبهذا جزم الخطابيّ وغيره، وقد تقدّم تمام البحث فيه قريبًا.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تخريجه، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5522]

(

) - (وَحَدَّثَنَاهُ قُتَيْبَةُ، وَابْنُ رُمْحٍ، عَنِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ (ح) وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا الثَّقَفِي، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ (ح) وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ عَبْدِ الصَّمَد، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ جَدِّي، عَنْ أَيُّوبَ (ح) وَحَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الأيَلِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي أُسَامَةُ بْنُ زيدٍ (ح) وَحَدَّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنَا أَبُو سَلَمَةَ الْخُزَاعِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ ابْنُ أَخِي الْمَاجِشُون، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، كُلُّهُمْ عَنْ نَافِعٍ، عَنِ الْقَاسِم، عَنْ عَائِشَةَ، بِهَذَا الْحَدِيث، وَبَعْضُهُمْ أَتَمُّ حَدِيثًا لَهُ مِنْ بَعْضٍ، وَزَادَ فِي حَدِيثِ ابْنِ أَخِي

(1)

الْمَاجِشُونِ: قَالَتْ: فَأَخَدْتُهُ، فَجَعَلْتُهُ مِرْفَقَتَيْن، فَكَانَ يَرْتَفِقُ بِهِمَا فِي الْبَيْتِ).

رجال هذه الأسانيد: ثمانية عشر:

1 -

(ابْنُ رُمْحٍ) هو: محمد بن رُمح بن المهاجر المصريّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(الثَّقَفِيُّ) عبد الوهاب بن عبد المجيد بن الصّلت، أبو محمد البصريّ، ثقةٌ [8](ت 194)(ع) تقدم في "الإيمان" 17/ 173.

3 -

(أَيُّوبُ) بن أبي تميمة كيسان السَّخْتيانيّ البصريّ، تقدّم قريبًا.

4 -

(عَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ) بن عبد الوارث البصريّ، صدوقٌ [11](ت 252)(م ت س ق) تقدم في "الإيمان" 49/ 311.

(1)

وفي نسخة: "وزاد في حديثه ابنُ أخي".

ص: 121

5 -

(أَبُوهُ) عبد الصمد بن عبد الوارث بن سعيد العنبريّ مولاهم، أبو سهل البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ في شعبة [9](ت 207)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 82.

6 -

(جَدُّهُ) عبد الوارث بن سعيد بن ذكوان الْعَنْبريّ مولاهم، أبو عبيدة التَّنُّوريّ البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 180)(ع) تقدم في "الإيمان" 18/ 176.

7 -

(هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الأَيلِيُّ) نزيل مصر، تقدّم قريبًا.

8 -

(أُسَامَةُ بْنُ زيدٍ) الليثيّ المدنيّ، تقدّم أيضًا.

9 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ إِسْحَاقَ) هو: محمد بن إسحاق الصغانيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ ثبتٌ [11](ت 270)(م 4) تقدم في "الإيمان" 4/ 116.

10 -

(أَبُو سَلَمَةَ الْخُزَاعِيُّ) منصور بن سلمة بن عبد العزيز البغداديّ، ثقةٌ ثبتٌ حافظ، من كبار [10](ت 210) على الصحيح (خ م مد س) تقدم في "البيوع" 27/ 3985.

11 -

(عَبْدُ الْعَزِيزِ ابْنُ أَخِي الْمَاجِشُونِ)

(1)

هو: عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة المدنيّ نزيل بغداد مولى آل الهُدير، ثقةٌ فقيه مصنّف [7](ت 164) تقدم في "الإيمان" 81/ 437.

12 -

(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ) العمريّ المدنيّ، تقدّم قريبًا.

والباقون ذُكروا في الباب.

وقوله: (كُلُّهُمْ عَنْ نَافِعٍ

إلخ)؛ يعني: الأربعة، وهم: الليث بن سعد، وأيوب السختيانيّ، وأسامة بن زيد الليثيّ، وعبيد الله بن عمر رووا هذا الحديث عن نافع، عن القاسم، عن عائشة رضي الله عنها.

وقوله: (وَزَادَ فِي حَدِيثِ ابْنِ أَخِي الْمَاجِشُونِ)، وفي بعض النُّسخ:"وزاد في حديثه ابنُ أخي الماشجون"، وعليه، فابن مرفوع على الفاعليّة لـ "زاد".

وقوله: (مِرْفَقَتَيْنِ) - بكسر الميم - أي: وسادتين، كما جاء في الحديث الآخر، وأما الْمِرفق من اليد، وهو طَرَف عَظْم الذراع، مما يلي العضد فبفتح الميم، وقيل: بكسرها، قاله في "المشارق"

(2)

.

(1)

بكسر الجيم، بعدها شين معجمة مضمومة.

(2)

"مشارق الأنوار" 1/ 297.

ص: 122

وقوله: (فَكَانَ يَرْتَفِقُ بِهِمَا فِي الْبَيْتِ) قال القاضي عياض: يَحْتَمِل أن يكون بمعنى يَتَّكئ، من المرفق، وأن يكون من الرفق؛ أي: ينتفع. انتهى

(1)

.

[تنبيه]: رواية قتيبة، عن الليث، عن نافع ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:

(7118)

- حدّثنا قتيبة بن سعيد، حدّثنا الليث، عن نافع، عن القاسم بن محمد، عن عائشة رضي الله عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إن أصحاب هذه الصور يعذبون يوم القيامة، ويقال لهم: أحيوا ما خلقتم". انتهى

(2)

.

ورواية ابن رُمح، عن الليث عن نافع ساقها ابن ماجه رحمه الله في "سننه"، فقال:

(2151)

- حدّثنا محمد بن رُمح، ثنا الليث بن سعد، عن نافع، عن القاسم بن محمد، عن عائشة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إن أصحاب الصور يعذَّبون يوم القيامة، يقال لهم: أحيوا ما خلقتم". انتهى

(3)

.

ورواية أيوب عن نافع ساقها النسائيّ رحمه الله، فقال:

(5361)

- أخبرنا قتيبة، قال: حدّثنا حماد، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"إن أصحاب هذه الصُّور الذين يصنعونها يعذَّبون يوم القيامة، يقال لهم: أحيوا ما خلقتم". انتهى

(4)

.

ورواية عبيد الله بن عمر عن نافع ساقها البيهقيّ في "الكبرى"، فقال:

(14352)

- أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، ثنا أبو الحسن عمر بن الحسين بن منصور، ثنا محمد بن الليث الجوهريّ، ثنا عباس الدُّوريّ، ثنا أبو سلمة الْخُزَاعيّ، نا عبد العزيز ابن أخي الماجشون، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن القاسم بن محمد، عن عائشة رضي الله عنها قالت: دخل النبيّ صلى الله عليه وسلم، فإذا سِتْر فيه صُوَر، قالت: فعرفت في وجهه الغضب، ثم جاء فهتكه، قالت: فأخذْتُه، فجعلته مرفقتين، قالت: فكان يرتفق بهما في البيت صلى الله عليه وسلم. انتهى

(5)

.

(1)

"مشارق الأنوار" 1/ 297.

(2)

"صحيح البخاري" 6/ 2747.

(3)

"سنن ابن ماجه" 2/ 728.

(4)

"سنن النسائي - المجتبى -" 8/ 215.

(5)

"سنن البيهقي الكبرى" 7/ 269.

ص: 123

وأما رواية أسامة بن زيد عن نافع، فلم أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5523]

(2108) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ (ح) وَحَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا يَحْيَى - وَهُوَ الْقَطَّانُ - جَمِيعًا عَنْ عُبَيْدِ اللهِ (ح) وَحَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ - وَاللَّفْظُ لَهُ - حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ الله، عَنْ نَافِعٍ، أَنَّ ابْنَ عُمَرَ، أَخْبَرَهُ أَن رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"الَّذِينَ يَصْنَعُونَ الصُّوَرَ، يُعَذَّبُونَ يَوْمَ الْقِيَامَة، يُقَالُ لَهُمْ: أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ").

رجاله هذه الأسانيد: تسعة:

1 -

(عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ) الكوفيّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(يَحْيَى الْقَطَّانُ) ابن سعيد البصريّ الناقد، تقدّم أيضًا قريبًا.

3 -

(ابْنُ نُمَيْرٍ) هو: محمد بن عبد الله بن نمير، الهمدنيّ الكوفيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

4 -

(أَبُوهُ) عبد الله بن نُمير الهمدانيّ الكوفيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

5 -

(ابْنُ عُمَرَ) عبد الله رضي الله عنهما، تقدّم أيضًا قريبًا.

والباقون ذُكروا في الباب.

شرح الحديث:

(عَنْ نَافِعٍ) مولى ابن عمر (أَنَّ ابْنَ عُمَرَ) رضي الله عنهما (أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "الَّذِينَ يَصْنَعُونَ الصُّوَرَ)، ولفظ البخاريّ:"إن الذين يصنعون هذه الصور"، (يُعَذَّبُونَ يَوْمَ الْقِيَامَة، يُقَالُ لَهُمْ: أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ")؛ أي: صوّرتم، فالخلق هنا بمعنى: التصوير، وأمَرَهم بذلك أمرَ تعجيز، ويستفاد منه صفة تعذيب المصوِّر، وهو أن يُكَلَّف نفخ الروح في الصورة التي صوّرها، وهو لا يقدر على ذلك، فيستمرّ تعذيبه، قاله في "الفتح"

(1)

، والله تعالى أعلم.

(1)

"الفتح" 13/ 466، كتاب "اللباس" رقم (5951).

ص: 124

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنف) هنا [25/ 5523 و 5524](2108)، و (البخاريّ) في "اللباس"(5951) و"التوحيد"(7558)، و (النسائيّ) في "الزينة"(8/ 215) و"الكبرى"(5/ 503)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(10/ 399)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(5/ 200)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 4 و 20 و 55 و 101 و 125 و 141)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(4/ 286)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(6/ 137) و"الصغير"(2/ 207)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(7/ 268)، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5524]

(

) - (حَدَّثَنَا أَبُو الرَّبِيع، وَأَبُو كَامِلٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ (ح) وَحَدَّثَني زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ - يَعْنِي: ابْنَ عُلَيَّةَ - (ح) وَحَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا الثَّقَفِيُّ، كُلُّهُمْ عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِ حَدِيثِ عُبَيْدِ الله، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم).

رجال هذه الأسانيد: عشرة:

1 -

(أَبُو كَامِلٍ) فضيل بن حسين الْجَحْدريّ البصريّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(ابْنُ أَبِي عُمَرَ) هو: محمد بن يحيى بن أبي عمر العدنيّ، ثمّ المكيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

والباقون ذُكروا في الباب، وقبل بابين، و "أبو الربيع" اسمه سليمان بن داود العتكيّ، و"الثقفيّ" هو: عبد الوهّاب بن عبد المجيد البصريّ.

وقوله: (كُلُّهُمْ عَنْ أَيُّوبَ

إلخ)؛ يعني: أن هؤلاء الثلاثة: حماد بن زيد، وإسماعيل ابن عُليّة، وعبد الوهّاب الثقفيّ رووا هذا الحديث عن أيوب السختيانيّ، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، مثل رواية عبيد الله بن عمر، عن نافع، إلخ.

ص: 125

[تنبيه]: رواية حماد بن زيد عن أيوب، عن نافع ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:

(7119)

- حدّثنا أبو النعمان، حدّثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "إن أصحاب هذه الصُّوَر يعذَّبون يوم القيامة، ويقال لهم: أحيوا ما خلقتم". انتهى

(1)

.

ورواية عبد الوهّاب بن عبد المجيد الثقفيّ، عن أيوب، عن نافع ساقها النسائيّ رحمه الله، فقال:

(9787)

- وأخبرنا إسحاق بن إبراهيم، قال: ثنا الثقفيّ، قال: ثنا أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"إن أصحاب هذه الصور الذين يصنعونها يعذبون يوم القيامة، يقال لهم: أحيوا ما خلقتم". انتهى

(2)

.

وأما رواية إسماعيل ابن علّية عن أيوب، عن نافع فلم أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5525]

(2109) - (حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الأَعْمَشِ (ح) وَحَدَّثَنِي أَبُو سَعِيدٍ الأَشَجُّ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي الضُّحَى، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبْدِ الله، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْمُصَوِّرُونَ"، وَلَمْ يَذْكُرِ الأَشَجُّ:"إِنَّ").

رجال هذين الإسنادين: ثمانية:

1 -

(عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) الكوفيّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(أَبُو سَعِيدٍ الأَشَجُّ) عبد الله بن سعيد بن حُصين الْكِنْديّ الكوفيّ، ثقةٌ، من صغار [10](ت 257)(ع) تقدم في "المقدمة" 17/ 4.

3 -

(الأَعْمَشُ) سليمان بن مهران، تقدّم قريبًا.

4 -

(أَبُو الضُّحَى) مسلم بن صُبيح الْهَمْدانيّ الكوفيّ العطّار، مشهور بكنيته، ثقةٌ فاضل [4](ت 100)(ع) تقدم في "الطهارة" 22/ 635.

(1)

"صحيح البخاريّ" 6/ 2747.

(2)

"السنن الكبرى" 5/ 503.

ص: 126

5 -

(مَسْرُوقُ) بن الأجدع بن مالك الْهَمْدانيّ الوادعيّ، أبو عائشة الكوفيّ، مخضرمٌ ثقةٌ فقيهٌ عابدٌ [2](ت 2 أو 63)(ع) تقدم في "الإيمان" 27/ 217.

6 -

(عَبْدُ اللهِ) بن مسعود بن غافل بن حبيب الْهُذلِيّ، أبو عبد الرحمن، من السابقين الأولين، ومن كبار علماء الصحابة رضي الله عنهم، أمّره عمر على الكوفة، ومات بالمدينة سنة (2 أو 33)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 11.

والباقيان ذُكرا في الباب، و"جرير" هو: ابن عبد الحميد.

[تنبيه]: من لطائف هذين الإسنادين:

أنهما من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وقد كُتب بينهما (ح) إشارة إلى التحويل، وأنهما مسلسلان بالكوفيين، وأن فيهما ثلاثةً من التابعين روى بعضهم عن بعض، وفيه عبد الله بالإهمال، والمراد به ابن مسعود؛ لأن الإسناد كوفيّ، كما تقدّم غير مرّة، وأن صحابيّه من أفاضل الصحابة رضي الله عنهم، ذو مناقب جمّة، أسلفناها غير مرّة.

شرح الحديث:

(عَنْ عَبْدِ اللهِ) بن مسعود رضي الله عنه، وفي الرواية الآتية:"أما إني سمعت عبد الله بن مسعود"، (قَالَ) عبد الله (قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"إِنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ)، ولفظ البخاريّ بدل "يوم القيامة": "عند الله"؛ أي: في حكم الله. (الْمُصَوِّرُونَ") قال القرطبيّ رحمه الله: مقتضى هذا: ألا يكون في النار أحدٌ يزيد عذابه على المصوِّرين، وهذا يعارضه مواضع أخر، منها قوله تعالى:{أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر: 46]، وقوله صلى الله عليه وسلم:"أشدّ الناس عذابًا يوم القيامة عالم لم ينفعه الله بعلمه"

(1)

، وقوله:"أشدّ الناس عذابًا يوم القيامة إمام ضلالة"

(2)

، ومثله كثير.

(1)

راوه الطبرابيّ في "المعجم الصغير" 1/ 182 - 183، والبيهقيّ في "الشُّعب"(1778)، وهو حديث ضعيف في إسناده عثمان بن مقسم البُرّيّ، وهو ضعيف، معتزليّ أحاديثه مناكير.

(2)

حسّنه الشيخ الألباني في "صحيح الترغيب والترهيب"، وصححه في "الصحيحة" 1/ 569.

ص: 127

ووجه التوفيق: أن الناس الذين أضيف إليهم: "أشدّ" لا يراد بهم كل نوع الناس، بل بعضهم المشاركون في ذلك المعنى المتوعَّد عليه بالعذاب، ففرعون أشدّ الناس المدَّعين للإلهية عذابًا، ومن يقتدي به في ضلالة كفره أشدّ ممن يقتدي به في ضلالة بدعة، ومن صوَّر صُوَر ذات الأرواح أشدّ عذابًا ممن يصوِّر ما ليس بذي روح، إن تنزَّلنا على قول من رأى تحريم تصوير ما ليس بذي روح، وهو مجاهد، وإن لم نتنزل عليه، فيجوز أن يعني بالمصورين: الذين يصوِّرون الأصنام للعبادة، كما كانت الجاهلية تفعل، وكما تفعل النصارى، فإنَّ عذابهم يكون أشدّ ممن يصوِّرها لا للعبادة، وهكذا يُعتبر هذا الباب، والله تعالى أعلم. انتهى

(1)

.

وقال في "الفتح": قد استُشكل كون المصور أشدّ الناس عذابًا مع قوله تعالى: {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} ، فإنه يقتضي أن يكون المصور أشدّ عذابًا من آل فرعون، وأجاب الطبريّ بأن المراد هنا من يُصَوِّر ما يُعْبَد من دون الله، وهو عارف بذلك، قاصدًا له، فإنه يكفر بذلك، فلا يبعد أن يدخل مَدخل آل فرعون، وأما من لا يقصد ذلك فإنه يكون عاصيًا بتصويره فقط، وأجاب غيره بأن الرواية بإثبات "مِنْ" ثابتة، وبحذفها محمولة عليها

(2)

، وقد تقدّم البحث في هذا مستوفًى، فلا تغفل، والله تعالى وليّ التوفيق.

وقوله: (وَلَمْ يَذْكُرِ الأَشَجُّ)؛ يعني: أن شيخه الثاني لم يذكر في سياق حديثه لفظة ("إِنَّ") بل قال: "أشدّ الناس

إلخ"، والله تعالى أعلم.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [25/ 5525 و 5526 و 5527](2109)، و (البخاريّ) في "اللباس"(5950)، و (النسائيّ) في "الزينة"(8/ 216) و"الكبرى"(5/ 504)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(5/ 200)، و (الحميديّ)

(1)

"المفهم" 5/ 430 - 431.

(2)

"الفتح" 10/ 373.

ص: 128

في "مسنده"(1/ 64)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 375 و 426)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(9/ 43 و 134)، و (البزّار) في "مسنده"(5/ 338 و 342 و 351)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(7/ 266)، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5526]

(

) - (وَحَدَّثَنَاهُ يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْب، كُلُّهُمْ عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ (ح) وَحَدَّثَنَاهُ ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، كِلَاهُمَا عَنِ الأَعْمَش، بِهَذَا الْإِسْنَاد، وَفِي رِوَايَةِ يَحْيَى، وَأَبِي كُرَيْبٍ، عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ:"إِنَّ مِنْ أَشَدِّ أَهْلِ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابًا الْمُصَوِّرُونَ"، وَحَدِيثُ سُفْيَانَ كَحَدِيثِ وَكِيعٍ).

رجال هذين الإسنادين: سبعة:

وكلّهم ذُكروا في الباب، غير أبي معاوية، وهو محمد بن خازم، فتقدّم قريبًا، و"سفيان" هو ابن عيينة.

وقوله: ("إِنَّ مِنْ أَشَدِّ أَهْلِ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابًا الْمُصَوِّرُونَ") اختلفت النُّسخ هنا، فوقع في معظمها:"المصوّرون"، ووقع في بعضها:"المصوّرين"، وهذا هو الموافق لغالب الاستعمال؛ لأن "المصوّرين" اسم "إنّ" مؤخّرًا، وخبر الجارّ والمجرور قبله - أعني:"من أشدّ أهل النار - وللأول أيضًا وجه، وهو أن اسم "إنّ" ضمير شأن محذوف، والمصوّرون مبتدأ مؤخّر، والجارّ والمجرور قبله خبره، والجملة خبر "إنّ"، والتقدير: إنه من أشدّ أهل النار المصوّرون.

وقال في "الفتح": ووقع عند مسلم من طريق أبي معاوية، عن الأعمش:"إنّ من أشد أهل النار"، واختَلَفت نُسخه، ففي بعضها:"المصورين"، وهي للأكثر، وفي بعضها:"المصورون"، وهي لأحمد عن أبي معاوية أيضًا

(1)

، ووُجِّهت بأن "مِنْ" زائدة، واسم "إنّ":"أشدّ"، ووجّهها ابن مالك على حذف ضمير الشأن، والتقدير: إنه من أشد أهل النار

إلخ. انتهى

(2)

.

(1)

هكذا قال في "الفتح"، ولعله وقع في نسخته من "المسند" هكذا، وإلا فالواقع في "المسند" عندنا بلفظ:"المصوّرين"، راجعه 1/ 426، والله تعالى أعلم.

(2)

"الفتح" 13/ 463، كتاب "اللباس" رقم (5950).

ص: 129

[تنبيه]: رواية أبي معاوية، عن الأعمش ساقها أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(4050)

- حدثنا أبو معاوية، ووكيع قالا: ثنا الأعمش، عن مسلم بن صُبيح، عن مسروق، عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن من أشدّ أهل النار عذابًا يوم القيامة المصوِّرين"، وقال وكيع:"أشدُّ الناس". انتهى

(1)

.

ورواية سفيان بن عيينة، عن الأعمش ساقها الحميديّ: رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(117)

- حدّثنا سفيان، قال: ثنا الأعمش، عن مسلم بن صُبيح، قال: كنا مع مسروق في دار يسار بن نُمير، فرأى مسروق في صُفّته تماثيل، فقال: سمعت عبد الله بن مسعود يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن أشدّ الناس عذابًا يوم القيامة المصورون". انتهى

(2)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5527]

(

) - (وَحَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ الْجَهْضَمِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ، حَدَّثَنَا مَنْصُورٌ، عَنْ مُسْلِمِ بْنِ صُبَيْحٍ، قَالَ: كُنْتُ مَعَ مَسْرُوقٍ فِي بَيْتٍ فِيهِ تَمَاثِيلُ مَرْيَمَ، فَقَالَ مَسْرُوقٌ: هَذَا تَمَاثِيلُ كِسْرَى؟ فَقُلْتُ: لَا، هَذَا تَمَاثِيلُ مَرْيَمَ، فَقَالَ مَسْرُوقٌ: أَمَا إِنِّي سَمِعْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ مَسْعُودٍ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْمُصَوِّرُونَ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ الْجَهْضَمِيُّ) البصريّ، أحد مشايخ الجماعة بلا واسطة، تقدّم قريبًا.

2 -

(عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ) الْعَمّيّ، أبو عبد الصمد البصريّ، ثقةٌ حافظ، من كبار [9](ت 187)، أو بعد ذلك (ع) تقدم في "الإيمان" 86/ 455.

3 -

(مَنْصُورُ) بن المعتمر بن عبد الله السلميّ، أبو عتّاب الكوفيّ، ثقةٌ

(1)

"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 1/ 426.

(2)

"مسند الحميديّ" 1/ 64.

ص: 130

ثبتٌ فاضلٌ [6](ت 132)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 296.

والباقون ذُكروا قبله.

وقول مسلم بن صُبيح: (كُنْتُ مَعَ مَسْرُوقٍ فِي بَيْتٍ فِيهِ تَمَاثِيلُ مَرْيَمَ)؛ أي: أمّ عيسى عليه السلام، وفي رواية البخاريّ:"قال: كنّا مع مسروق في دار يسار بن نُمير، فرأى في صُفّته تماثيل".

قال في "الفتح": قوله: "في دار يسار بن نُمير" هو بتحتانية، ومهملة خفيفة، وأبوه بنون مصغرٌ، ويسار مدنيّ، سكن الكوفة، وكان مولى عمر، وخازنه، وله رواية عن عمر، وعن غيره، وروى عنه أبو وائل، وهو من أقرانه، وأبو بردة بن أبي موسى، وأبو إسحاق السبيعيّ، وهو موثقٌ، ولم أر له في البخاريّ إلا هذا الموضع. انتهى

(1)

.

[فإن قلت]: إذا كان يسار هذا عامل عمر رضي الله عنه، فكيف ترك في بيته الصورة المذكورة؟.

[قلت]: أجاب بعضهم باحتمال أنه اشترى البيت من نصرانيّ صنع هذه التماثيل، ويمكن أن يكون قد محا وجوهها، وبقي سائر الجسد، فرآه أبو الضحى ومسروق، ويمكن أيضًا أن تكون هذه التماثيل في موضع ممتهَن، فإنها كانت في الصفّة، أو تكون منقوشة على الصفّة غير متجسّدة، وكان يسار بن نمير يرى جوازها كما يراه القاسم بن محمد، والله تعالى أعلم

(2)

.

وقوله: "فرأى في صُفّته" بضم الصاد المهملة، وتشديد الفاء، وفي رواية منصور، عن أبي الضحى عند مسلم:"كنت مع مسروق في بيت فيه تماثيل، فقال لي مسروق: هذه تماثيل كسرى، فقلت: لا، هذه تماثيل مريم"، كأن مسروقًا ظَنّ أن التصوير كان من مجوسيّ، وكانوا يصوّرون صورة ملوكهم، حتى في الأواني، فظهر أن التصوير كان من نصرانيّ؛ لأنهم يصوّرون صورة مريم، والمسيح، وغيرهما، ويعبدونها. انتهى

(3)

.

(1)

"الفتح" 13/ 463، كتاب "اللباس" رقم (5950).

(2)

راجع: "تكملة فتح الملهم" 4/ 175.

(3)

"الفتح" 13/ 463، كتاب "اللباس" رقم (5950).

ص: 131

وقوله: (هَذَا تَمَاثِيلُ كِسْرَى

إلخ) هكذا جميع النُّسخ التي بأيدينا بتذكير اسم الإشارة، وفيه إشكال، وهو أن هذا مفرد مذكّر، و"تماثيل" جمع، فكان حقّه أن يقول: هذه، وقد نقله الحافظ في "الفتح" عن صحيح مسلم بلفظ:"هذه تماثيل كسرى"، وهو واضحٌ، وقد أوَّل بعضهم

(1)

الوجه الأول بأن المعنى: هذا الذي نراه تماثيل كسرى، وعندي الأَولى أن يقدَّر مضاف في الخبر؛ أي: هذا مجموع تماثيل كسرى، والله تعالى أعلم.

وقوله أيضًا: (هَذَا تَمَاثِيلُ كِسْرَى)"التماثيل" جمع تِمثال بكسر التاء، وسكون الميم، وهو الصورة، و"كسرى" بكسر الكاف، لقبٌ لكل مَنْ مَلَك الفرس.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى البحث فيه مستوفًى قبل حديث، ودئه الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5528]

(2110) - (قَالَ مُسْلِمٌ: قَرَأتُ عَلَى نَصْرِ بْنِ عَلِيٍّ الْجَهْضَمِيّ، عَنْ عَبْدِ الأَعْلَى بْنِ عَبْدِ الأَعْلَى، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي الْحَسَن، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، فَقَالَ: إِنِّي رَجُلٌ أُصَوِّرُ هَذِهِ الصُّوَرَ، فَأَفْتِنِي فِيهَا، فَقَالَ لَهُ: ادْنُ مِنِّي، فَدَنَا مِنْهُ، ثُمَّ قَالَ: ادْنُ مِنَي، فَدَنَا حَتَّى وَضَعَ يَدَهُ عَلَى رَأْسِه، قَالَ: أُنَبِّئُكَ بِمَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "كُلُّ مُصَوِّرٍ في النَّار، يَجْعَلُ لَهُ بِكُلِّ صُورَةٍ صَوَّرَهَا نَفْسًا، فَتُعَذِّبُهُ فِي جَهَنَّمَ"، وَقَالَ: إِنْ كُنْتَ لَا بُدَّ فَاعِلًا، فَاصْنَعِ الشَّجَرَ، وَمَا لَا نَفْسَ لَهُ، فَأَقَرَّ بِهِ نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ) الحضرميّ مولاهم البصريّ النحويّ، صدوقٌ ربّما أخطأ [5](ت 136)(ع) تقدم في "صلاة المسافرين وقصرها" 2/ 1586.

2 -

(سَعِيدُ بْنُ أَبِي الْحَسَنِ) يسار الأنصاريّ مولاهم البصريّ، أخو الحسن، ثقةٌ [3].

(1)

هو صاحب "تكملة فتح الملهم"، راجع: شرحه 4/ 175.

ص: 132

رَوَى عن عليّ، وابن عباس، وعبد الرحمن بن سمرة، وأبي بكرة الثقفيّ، وأبي هريرة، وعسعس بن سلامة، وأبي يحيى المعَرْقَب، وأمه خَيْرة.

وعنه أخوه الحسن، وابنه يحيى بن سعيد، وقتادة، وسليمان التيميّ، ومحمد بن واسع، وابن عون، وخالد الحذاء، وأيوب، والأعمش، وعوف الأعرابيّ، وغيرهم.

قال أبو زرعة، والنسائيّ: ثقةٌ، وقال العجليّ: بصريّ تابعيّ ثقةٌ، وذكره خليفة في الطبقة الثانية من قرّاء أهل البصرة، وقال ابن سعد: مات قبل الحسن سنة مائة، وقال غيره: مات قبل الحسن بسنة، وقال ابن حبان في "الثقات": مات بفارس سنة (108).

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا برقم (2110) وحديث (2916): قوله صلى الله عليه وسلم لعمّار رضي الله عنه: "تقتلك الفئة الباغية"، وله عند البخاريّ حديث الباب فقط.

والباقون ذُكروا في الباب.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالبصريين من أوله إلى آخره، وأن شيخه أحد التسعة الذين روى عنهم الجماعة بلا واسطة، وأن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وأن صحابيّه أحد العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة، وحبر الأمة وبحرها، والله تعالى أعلم.

[تنبيه آخر]: قوله في أوله: "قَالَ مُسْلِمٌ: قَرَأتُ عَلَى نَصْرِ

إلخ"، وفي آخره: "فَأَقَرَّ بِهِ نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ"، قائل "قال مسلم" هو تلميذه أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن سفيان النيسابوريّ المتوفّى في رجب سنة (308 هـ)، وتقدّمت ترجمته في "المقدّمة" 6/ 73.

وهذا ما يُسمّى بالقراءة والعرض على المحدّث، وهو القسم الثاني من أقسام التحمّل الثمانية، التي هي السماع من لفظ الشيخ، ثم القراءة، ثم الإجازة، ثمّ المناولة، ثمّ الكتابة، ثمّ الإعلام، ثمّ الوصيّة، ثم الوجادة.

ولنذكر ما ذكره السيّوطيّ رحمه الله في "ألفيّته" في هذا القسم، قال:

وَبَعْدَ ذَا قِرَاءَ عَرْضًا دَعَوْا

قَرَأتَهَا مِنْ حِفْظٍ أوْ كِتَابٍ أوْ

ص: 133

سَمِعْتَ مِنْ قَارِ لَهُ وَالْمُسْمَعُ

يَحْفَظُهُ أَو ثِقَةٌ مُسْتَمِعُ

أَو أَمْسَكَ الْمُسْمَعُ أَصْلًا أَو جَرَى

عَلَى الصَّحِيح ثِقَةٌ أَو مَنْ قَرَا

وَالأَكْثَرُونَ حَكَوُا الإِجْمَاعَا

أَخْذًا بِهَا وَأَلغَوُا النِّزَاعَا

وَكَوْنُهَا أَرْجَحَ مِمَّا قَبْلُ أَو

سَاوَتْهُ أَو تَأخَّرَتْ خُلْفٌ حَكَوْا

وَفِي الأَدَا قِيلَ قَرَأْتُ أَو قُرِي

ثُمَّ الَّذِي فِي أَوَّلٍ إِنْ تَذْكُرِ

مُقَيَّدًا قِرَاءَةً لَا مُطْلَقَا

وَلَا سَمِعْتُ أَبَدًا فِي الْمُنْتَقَى

وَالْمُرْتَضَى الثَّالِثُ فِي الإِخْبَارِ

يُطْلَقُ لَا التَّحْدِيثُ فِي الأَعْصَارِ

وراجع شرحي "إسعاف ذوي الوطر" على هذه الأبيات، تزدد علمًا، والله تعالى وليّ التوفيق.

شرح الحديث:

(عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي الْحَسَنِ) يسار البصريّ أنه (قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ) لا يُعرف

(1)

. (إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما (فَقَالَ: إِنِّي رَجُلٌ أُصَوِّرُ هَذِهِ الصُّوَرَ)، وفي رواية البخاريّ:"كنت عند ابن عبّاس رضي الله عنهما، إذ أتاه رجلٌ، فقال: يا أبا عبّاس إني إنسان إنما معيشتي من صنعة يدي، وإني أصنع هذه التصاوير"، (فَأَفْتِنِي فِيهَا)؛ أي: بيّن لي حكم الشرع في هذه الصور، (فَقَالَ) ابن عبّاس (لَهُ)؛ أي: لهذا الرجل المستفتي، (ادْنُ مِنِّي) بضمّ النون أمر بالدنوّ، وإنما أمَره به ليسمع فتواه، ويحفظه، ويعيه، (فَدَنَا مِنْهُ)؛ أي: قَرُب الرجل من ابن عبّاس كما أمره به، (ثُمَّ قَالَ) ابن عبّاس:(ادْنُ مِنِّي)؛ أي: زد قربًا على قربك حتى يتمّ سماعك، ووعيك.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قول ابن عباس لمستفتيه عن الصور: "ادن مني" ثلاثًا، ووضْعه يده على رأسه؛ مبالغة في استحضار ذهنه، وفهمه، وفي تسميعه، وتعظيمه لأمرٍ ما يُلقيه إليه. انتهى

(2)

.

(فَدَنَا)؛ أي: زاد قربًا، (حَتَّى وَضَعَ) ابن عبّاس رضي الله عنهما (يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ)؛ أي: على رأس ذلك الرجل حتى يكون أقرب من أذنه. (قَالَ) ابن عبّاس:

(1)

"تنبيه المعلم" ص 363.

(2)

"المفهم" 5/ 431.

ص: 134

(أُنَبِّئُكَ) بضمّ أوله، وتشديد الموحّدة، من التنبيء، أو بتخفيفها من الإنباء، وهو الإخبار، (بِمَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) ثم شَرَح له ذلك المسموع، فقال:(سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "كُلُّ مُصَوِّرٍ) بكسر الواو المشدّدة، (فِي النَّارِ) قال القرطبيّ رحمه الله: مَحْمَلُه على مصوِّري ذوات الأرواح، بدليل قوله:"يقال لهم: أحيوا ما خلقتم". انتهى

(1)

.

وقال الخظابيّ رحمه الله: المصوّر هو الذي يصوّر أشكال الحيوان، فيَحكيها بتخطيط لها، وتشكيل، فأما النقّاش الذي ينقش أشكال الشجر، ويعمل التداوير، والخواتيم، ونحوها، فإني أرجو أن لا يدخل في هذا الوعيد، وإن كان جملة هذا الباب مكروهًا، وداخلًا فيما يُلهي، ويَشغل بما لا يَعني، وإنما عظُمت العقوبة في الصورة؛ لأنها تُعبد من دون الله، فالنظر إليها يَفتن، وبعض النفوس نحوها تَنْزِع. انتهى

(2)

.

(يَجْعَلُ لَهُ) بالبناء للفاعل، قال النوويّ رحمه الله:"يَجعل له" بفتح الياء، من "يَجْعَل"، والفاعل هو الله تعالى، أُضمر للعِلم به، (بِكُلِّ صُورَةٍ صَوَّرَهَا نَفْسًا) منصوب على أنه مفعول به لـ "يَجْعَلُ".

واستشكل الطيبيّ نَصْب "نفسًا"، وعبارته: قوله: "نفسًا" كذا في "جامع الأصول"، وأكثر نُسخ "المصابيح"، وهو مشكلٌ؛ لاستناد الفعل إلى الجارّ مع مجروره مع وجود المفعول به، وفي بعضها "نفسٌ" بالرفع، وهو الظاهر. انتهى

(3)

.

قال الجامع عفا الله عنه: منشأ استشكال الطيبيّ جعل "يَجعل" مبنيًّا للمفعول، والأَولى ما تقدّم عن النوويّ من جَعْله مبنيًّا للفاعل، والفاعل ضمير الله تعالى، ولا سيّما أن الظاهر أن الرواية عليه، فيكون نَصْب "نفسًا" على المفعوليّة، فلا إشكال، والله تعالى أعلم.

(فَتُعَذِّبُهُ) تلك النفس (فِي جَهَنَّمَ") قال القاضي عياض رحمه الله: يَحْتَمِل أن

(1)

"المفهم" 5/ 432.

(2)

"الكاشف عن حقائق السنن" 9/ 2948.

(3)

"الكاشف عن حقائق السنن" 9/ 2948.

ص: 135

يكون معناه: أن الصورة التي صَوَّرها هي تعذّبه بعد أن يُجعل فيها رُوحٌ، وتكون الباء في "بكل" بمعنى "في"، ويَحْتَمِل أن يُجعَل له بعدد كلّ صورة، ومكانِها شخص يُعذّبه، وتكون الباء بمعنى لام السبب، أو من أجل. انتهى

(1)

.

زاد في رواية البخاريّ في "البيوع" من طريق عوف عن سعيد بن أبي الحسن: "فربا الرجل ربوةً شديدةً، واصفرّ وجهه"، وقوله:"فربا الرجل" بالراء، والموحّدة؛ أي: انتفخ، قال الخليل: ربا الرجل أصابه نَفَسٌ في جوفه، وهو الرَّبْوُ، والرَّبْوَةُ، وقيل: معناه ذُعِرَ، وامتلأ خوفًا، وقوله:"رُبْوَةً" بضم الراء، وبفتحها، قاله في "الفتح"

(2)

.

(وَقَالَ) ابن عبّاس رضي الله عنهما (إِنْ كُنْتَ لَا بُدَّ فَاعِلًا)؛ أي: لا غنى لك من صنع الصور، (فَاصْنَعِ)؛ أي: صوّر (الشَّجَرَ، وَمَا لَا نَفْسَ لَهُ)؛ أي: لا روح له.

وفي رواية البخاريّ: "فقال: ويحك، إن أَبَيْت إلا أن تصنع، فعليك بهذا الشجر، كلّ شيء ليس فيه روح".

قال في "الفتح": قوله: "فعليك بهذا الشجر، كُلّ شيء ليس فيه روح" كذا في الأصل بخفض "كُلِّ" على أنه بدل كلّ من بعض، وقد جَوَّزه بعض النحاة، ويَحْتَمِل أن يكون على حذف مضاف؛ أي: عليك بمثل الشجر، أو على حذف واو العطف؛ أي: وكلّ شيء، ومثله قولهم في:"التحيات، الصلوات"، إذ المعنى: والصلوات، وبهذا الأخير جزم الحميديّ في "جمعه"، وكذا ثبتٌ في رواية مسلم، والإسماعيليّ بلفظ:"فاصنع الشجر، وما لا نفس له"، ولأبي نعيم من طريق هَوْذة، عن عوف:"فعليك بهذا الشجر، وكلِّ شيء ليس فيه روح"، بإثبات واو العطف

(3)

.

وقال الطيبيّ: قوله: "كلِّ شيء" يجوز فيه الجرّ على أنه بيان للشجر؛ لأنه لَمّا منعه عن التصوير، وأرشده إلى جنس الشجر، رأى ذلك غير وافٍ

(1)

"إكمال المعلم" 6/ 637.

(2)

"الفتح" 5/ 703، كتاب "البيوع"(2225).

(3)

"الفتح" 5/ 703، كتاب "البيوع"(2225).

ص: 136

بالقصد، فأوضحه به، وهو قريب من البدل، ويجوز النصب على التفسير. انتهى

(1)

.

وقوله: (فَأَقرَّ بِهِ نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ)؛ أي: اعترف بهذا الحديث شيخه نصر لَمّا قرأه عليه، وهذا الذي صنعه مسلم من قوله: "فأقرّ به

إلخ" هو الأحوط، ولو لم يقل جازت القراءة على الأصحّ، وإلى هذا أشار السيوطيّ رحمه الله في "ألفيّة الأثر" حيث قال:

إِذَا قُرِي وَلَمْ يُقِرَّ الْمُسْمَعُ

لَفْظًا كَفَى وَقِيلَ لَيْسَ يَنْفَعُ

ثَالِثُهَا يَعْمَلُ أوْ يَرْوِيهِ

بِقَدْ قَرَأْتُ أَو قُرِي عَلَيْهِ

وحاصل ما أشار إليه أنه إذا قرأ القارئ على الشيخ، وسكت الشيخ على ذلك، غير منكِر له مع إصغائه، وفَهْمه، ولم يقرّ باللفظ، ففيه ثلاثة مذاهب:

الأول: مذهب الجمهور، وهو الصحيح صحة السماع، وجواز الرواية بنحو أخبرنا؛ لأن سكوته في مثل هذا يُنزّل منزلة الإقرار.

والثاني: اشتراط صريح النطق به، وهو قول لبعض الشافعيّة، والظاهريّة.

والثالث: مذهب ابن الصبّاغ من المشترطين للنطق، قال: يعمل، ويرويه بقرأت عليه، ونحوه، راجع تحقيق المسألة في شرحي على الألفية المذكورة

(2)

، والله وليّ التوفيق.

والحديث متّفقٌ عليه، ومسائله تأتي في الحديث التالي - إن شاء الله تعالى -.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5529]

(

) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنِ النَّضْرِ بْنِ أنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَجَعَلَ يُفْتِي، وَلَا يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَتى سَأَلَهُ رَجُلٌ، فَقَالَ:

(1)

"الكاشف عن حقائق السنن" 9/ 2951.

(2)

راجع: "إسعاف ذوي الوطر بشرح ألفية الأثر" 1/ 464 - 465.

ص: 137

إنِّي رَجُلٌ أُصَوِّرُ هَذِهِ الصُّوَرَ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: ادْنُهْ، فَدَنَا الرَّجُلُ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَنْ صَوَّرَ صُورَةً فِي الدُّنْيَا كُلِّفَ أَنْ يَنْفُخَ فِيهَا الرُّوحَ يَوْمَ الْقِيَامَة، وَلَيْسَ بِنَافِخٍ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ) مهْران، اليشكريّ مولاهم، أبو النضر البصريّ، ثقةٌ حافظ، كثير التدليس، واختلط [6](ت 6 أو 157)(ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 126.

2 -

(النَّضْرُ بْنُ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ) الأنصاريّ، ولد الصحابيّ الشهير، أبو مالك البصريّ، ثقةٌ [3](ع) تقدم في "العتق" 2/ 3767.

والباقون ذُكروا في الباب.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسلٌ بالبصريين، سوى شيخه، وابن مسهر فكوفيّان، وفيه ابن عبّاس رضي الله عنهما، تقدّم القول فيه فيما قبله.

شرح الحديث:

(عَنِ النَّضْرِ بْنِ أنسِ بْنِ مَالِكٍ)، ولد الصحابيّ الشهير رضي الله عنه، أنه (قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما، وفي رواية البخاريّ من طريق عبد الأعلى، عن سعيد بن أبي عروبة، قال: سمعت النضر بن أنس بن مالك، يحدّث قتادة، قال في "الفتح": كان سعيد بن أبي عروبة كثير الملازمة لقتادة، فاتَّفَق أن قتادة والنضر بن أنس اجتمعا، فحدَّث النضرُ قتادةَ، فسمعه سعيد، وهو معه.

ووقع في رواية المستملي وغيره: "يحدثه قتادةَ"، والضمير للحديث، و"قتادةَ" بالنصب على المفعولية، والفاعل النضر، وضَبَطه بعضهم بالرفع، على أن الضمير للنضر، وفاعل "يحدث" قتادة، وهو خطأ؛ لأنه لا يلائم قوله:"سمعتُ النضر"، ولأن قتادة لم يسمع من ابن عباس، ولا حضر عنده، وقد وقع التصريح عند البخاريّ بأن سعيدًا سمع من النضر هذا الحديث الواحد.

ووقع في رواية خالد بن الحارث، عن سعيد، عن قتادة، عن النضر بن أنس، أخرجها الإسماعيليّ، وقوله:"عن قتادة" من المزيد في متصل الأسانيد، فإن كان خالد حفظه، احتَمَلَ أن يكون سعيد كان سمعه من قتادة، عن النضر،

ص: 138

ثم لقي النضر، فسمعه منه، فكان يحدّثه به على الوجهين، وقد حَدّث به قتادة، عن النضر، من غير طريق سعيد، أخرجها الإسماعيليّ، من رواية هشام الدستوائيّ، عن قتادة.

(فَجَعَلَ)؛ أي: شرع ابن عبّاس رضي الله عنهما (يُفْتي)؛ أي: يذكر للناس الأحكام، ويُبيّنها لهم، (وَلَا يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) وفي رواية البخاريّ: "قال: كنت عند ابن عبّاس، وهم يسألونه، ولا يذكر النبيّ صلى الله عليه وسلم، حتّى سُئل"، وقوله:"وهم يسألونه، ولا يذكر النبيّ صلى الله عليه وسلم "؛ أي: يُجيبهم عما يسألونه بالفتوى، من غير أن يذكر الدليل من السُّنَّة، وقد وقع بيان ذلك عند الإسماعيليّ، من رواية ابن أبي عديّ، عن سعيد، ولفظه:"فجعلوا يستفتونه، ويُفتيهم، ولم يذكر فيما يفتيهم النبيّ صلى الله عليه وسلم "، قاله في "الفتح".

(حَتَّى سَأَلَهُ رَجُلٌ) لم يُعرَف اسمه، وفي رواية ابن أبي عديّ عن سعيد:"حتى أتاه رجل من أهل العراق، أُراه نجّارًا"، (فَقَالَ: إِنِّي رَجُلٌ أُصَوِّرُ هَذِهِ الصُّوَرَ)، وفي رواية النسائيّ:"فَقَالَ: إِنِّي أُصَوِّرُ هَذِهِ التَّصَاوِيرَ، فَمَا تَقُولُ فِيهَا؟ "، وفي رواية:"فقال: إني أُصَوِّر هذه التصاوير، فما تأمرني؟ "، وفي رواية البخاريّ:"قال: كنت عند ابن عباس، إذ أتاه رجل، فقال: يا أبا عباس، إني إنسان، إنما معيشتي من صنعة يدي"، (فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاس) رضي الله عنهما (ادْنُهْ)، وفي رواية النسائيّ:"ادنه ادنه"، وهو أمر بالدّنُوّ، من دنا يدنو دُنُوًّا من باب قعد، وإنما أمَره بالدنوّ؛ ليكون أوقع في زجره، والتكرار للتأكيد، والهاء للسكت، وهي ساكنة، قال في "الخلاصة":

وَقِفْ بِهَا السَّكْتِ عَلَى الْفِعْلِ الْمُعَلْ

بِحَذْفِ آخِرٍ كـ "أَعْطِ مَنْ سَأَلْ"

وَلَيْسَ حَتْمًا فِي سِوَى مَا كَـ "ع" أَو

كَـ "يَع" مَجْزُومًا فَرَاعِ مَا رَعَوْا

وقال القرطبيّ رحمه الله: وقول ابن عباس رضي الله عنهما لمستفتيه عن الصور: "ادن مني، ثلاثًا، ووضْعه يده على رأسه؛ مبالغة في استحضار ذهنه، وفَهْمه، وفي تسميعه، وتعظيمه لأمْر ما يلقيه إليه. انتهى

(1)

.

(فَدَنَا الرَّجُلُ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما (سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم) وفي رواية

(1)

"المفهم" 5/ 431.

ص: 139

النسائيّ: "سمعت محمدًا صلى الله عليه وسلم "(يَقُولُ: "مَنْ صَوَّرَ صُورَةً فِي الدُّنْيَا) قال في "الفتح": كذا أطلقه، وظاهره التعميم، فيتناول صورة ما لا روح فيه، لكن الذي فَهِم ابنُ عباس من بقية الحديث التخصيص بصورة ذوات الأرواح من قوله:"كُلّف أن ينفخ فيها الروح"، فاستثنى ما لا روح فيه؛ كالشجر. (كُلِّفَ) بالبناء للمفعول؛ أي: كلّفه الله عز وجل (أَنْ يَنْفُخَ) بالبناء للفاعل، والفاعل ضمير "مَنْ صوَّر"، (فِيهَا الرُّوحَ) منصوب على المفعوليّة، (يَرْمَ الْقِيَامَةِ) ظرف لـ "كُلّف"، أو لـ "يَنفخ"، وفي رواية سعيد بن أبي الحسن عند البخاريّ:"فإن الله يعذبه، حتى ينفخ فيها الروحَ، وليس بنافخ فيها أبدًا"، واستعمال "حتى" هنا نظير استعمالها في قوله تعالى:{حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} الآية [الأعراف: 40]، وكذا قولهم: لا أفعل كذا حتى يشيب الغراب.

قال الكرماني رحمه الله: ظاهره أنه من تكليف ما لا يطاق، وليس كذلك، وإنما القصد طول تعذيبه، وإظهار عجزه عما كان تعاطاه، ومبالغة في توبيخه، وبيان قبح فعله.

(وَلَيْسَ بِنَافِخٍ")؛ أي: لا يمكنه ذلك، فيكون معذّبًا دائمًا، وفي حديث ابن عمر رضي الله عنهما:"أنه يقال للمصوّرين: أحيوا ما خلقتم"، وأنه أمر تعجيز.

[وقد استُشكل]: هذا الوعيد في حقّ المسلم، فإن وعيد القاتل عمدًا ينقطع عند أهل السُّنَّة مع ورود تخليده، بحمل التخليد على مدة مديدة، وهذا الوعيد أشدّ منه؛ لأنه مُغَيّا بما لا يمكن، وهو نفخ الروح، فلا يصح أن يُحمل على أن المراد أنه يعذب زمانًا طويلًا، ثم يتخلص.

[والجواب]: أنه يتعيَّن تأويل الحديث على أن المراد به الزجر الشديد، بالوعيد بعقاب الكافر؛ ليكون أبلغ في الارتداع، وظاهره غير مراد، وهذا في حقّ العاصي بذلك، وأما من فعله مُسْتَحِلًّا، فلا إشكال فيه، قاله في "الفتح"

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "كُلِّف أن ينفخ فيها الروح، وليس بنافخ"؛ أي: أُلْزم ذلك وطُوِّقه، ولا يقدر على الامتثال، فيعذَّب على كل حال،

(1)

"الفتح" 13/ 481، كتاب "اللباس" رقم (5963).

ص: 140

ويستفاد منه جواز التكليف بالمحال في الدنيا، كما جاز ذلك في الآخرة.

لكن: ليس مقصود هذا التكليف طلب الامتثال، وإنَّما مقصوده تعذيب المكلف، وإظهار عجزه عمَّا تعاطاه مبالغة في توبيخه، وإظهار قبيح فعله. انتهى

(1)

. والله تعالى أعلم.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [25/ 5528 و 5529 و 5530](2110)، و (البخاريّ) في "البيوع"(2225) و"اللباس"(5963) و"التعبير"(7042)، و (أبو داود) في "الأدب) (5024)، و (الترمذيّ) في "اللباس" (1751)، و (النسائيّ) في "الزينة" (5360 و 5361) و "الكبرى" (9782 و 9783)، و (الحميديّ) في "مسنده" (531)، و (أحمد) في "مسنده" (1/ 216 و 241 و 308 و 350 و 359 و 360)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه" (8/ 484 - 485)، و (الطبرانيّ) في "الكبير" (12/ 12772 و 12773)، و (ابن حبّان) في "صحيحه" (5685 و 5686 و 5846 و 5848)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار" (4/ 286)، و (أبو يعلى) في "مسنده" (4/ 451)، و (البيهقيّ) في "الكبرى" (7/ 270) و "شُعب الإيمان" (5/ 189) و"الآداب" (988)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة" (3219 و 3818)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان ما يُعذَّب به أصحاب الصُّوَر من نفخ الروح يوم القيامة.

2 -

(ومنها): أنه استُدِلّ به على أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى؛ لِلُحوق الوعيد بمن تشبَّه بالخالق، فدلّ على أن غير الله ليس بخالق حقيقةً.

وقد أجاب بعضهم بأن الوعيد وقع على خلق الجواهر.

(1)

"المفهم" 5/ 433.

ص: 141

ورُدّ بأن الوعيد لاحقٌ باعتبار الشكل والهيئة، وليس ذلك بجوهر، وأما استثناء غير ذي الروح، فورد مورد الرخصة.

3 -

(ومنها): أن في قوله: "كُلِّف يوم القيامة" رَدٌّ على من زعم أن الآخرة ليست بدار تكليف.

[وأجيب]: بأن المراد بالنفي أنها ليست بدار تكليف، بعمل يترتب عليه ثواب، أو عقاب، وأما مثل هذا التكليف، فليس بممتنع؛ لأنه نفسه عذاب، وهو نظير الحديث الآخر:"من قَتَل نفسه بحديدة، فحديدته في يده، يَجَأ بها نفسه يوم القيامة"، فالتكليف بالعمل في الدنيا حسن، على مصطلح أهل علم الكلام، بخلاف هذا التكليف الذي هو عذاب.

4 -

(ومنها): أنه استُدِلّ به على جواز التكليف بما لا يطاق.

والجواب ما تقدم، وأيضًا فنفخُ الروح في الجماد، قد ورد معجزة للنبيّ صلى الله عليه وسلم، فهو يمكن، وإن كان في وقوعه خرق عادة.

والحقّ أنه خطاب تعجيز، لا تكليف، كما تقدم، قاله في "الفتح"

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قد كتب بعض المحقّقين

(2)

في الاستدلال المذكور، فقال: في هذا الاستدلال نظر، فإن الأمر بنفخ الروح المذكور في الحديث أمر تعجيز لا تكليف، كما ذكر الحافظ رحمه الله، وهو كما قال، قال: وما لا يطاق قد يُراد به الممتنع لذاته؛ كالجمع بين النقيضين والضدّين، فهذا لا يجوز التكليف به؛ لأنه لا يُتصوّر، وقد يراد الممتنع لغيره، وإن كان في ذاته ممكنًا؛ كإيمان الكافر الذي علم الله أنه لا يؤمن، واعتبار هذا مما لا يطاق هو مذهب الجبريّة، وقد يراد به ما يشقّ مشقّة عظيمة فوق الوسع، فالتكليف بهذين جائزٌ وواقع، كما قال الله تعالى:{رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَو أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} [البقرة: 286]، وقد يراد بما لا يطاق ما لا قدرة للعبد عليه أصلًا؛ كالمشي من المُقْعَد، والكتابة مِنْ مَنْ هو أقطع اليد، وهذا

(1)

"الفتح" 13/ 482.

(2)

هو: الشيخ البراك فيما كتبه في هامش "الفتح".

ص: 142

جائزٌ عقلًا، غير واقع شرعًا. انتهى كلامه

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قد حقّقت البحث في هذه المسألة في "التحفة المرضيّة"، حيث قلت عند ذكر شروط التكليف ما نصّه:

أُولَى الشُرُوطِ كَوْنُ ذَا الْفِعْلِ عُدِمْ

وَثَانِهَا كَوْنُهُ أَيْضًا قَدْ عُلِمْ

ثَالِثُها كَوْنُهُ مَقْدُورًا عَلَيْهْ

حَتَّى يُحَصَّلَ بِسَعْيِهِ إِلَيْهْ

لِذَلِكَ التكْلِيفُ بِالْمُحَالِ

لِذَاتِهِ كَانَ مَنَ الْمُحَالِ

شَرْعًا وَأَمَّا الْمُسْتَحِيلُ لَا لِذِي

فَجَائِزٌ وَوَاقِعٌ فَلْتَحْتَذِ

فَأَوَّلٌ كَالْجَمْعِ بَيْنَ الْمُتَضَادّْ

وَالثَّانِ إِيمَانٌ لأَصْحَابِ الْعِنَادْ

وَمِنْ هُنَا لَا يُطْلَقُ التَّكْلِيفُ

بِغَيْرِ مَا يُطَاقُ يَا حَصِيفُ

بَلْ يَجِبُ التَّفْصِيلُ مِثْلُ مَا سَبَقْ

وَاعْنَ بَألْفَاظٍ بِدَرْسِهَا أَحَقّْ

فإن أردت تحقيق معنى الأبيات فارجع إلى شرحها "المنحة الرضيّة"، وبالله تعالى التوفيق.

5 -

(ومنها): أنه استُدِلّ به على جواز تصوير ما لا روح له، من شجر، أو شمس، أو قمر، ونقل الشيخ أبو محمد الجوينيّ وجهًا بالمنع؛ لأن من الكفار من عَبَدها.

قال الحافظ: ولا يلزم من تعذيب من يُصَوّر ما فيه روح بما ذُكر، تجويز تصوير ما لا روح فيه، فإن عموم قوله:"الذين يضاهون بخلق الله"، وقوله:"ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي"، يتناول ما فيه روح، وما لا روح فيه، فإن خُصَّ ما فيه روح بالمعنى، من جهة أنه مما لم تَجْر عادة الآدميين بصنعته، وجرت عادتهم بغرس الأشجار مثلًا، امتنع ذلك في مثل تصوير الشمس والقمر، ويتأكد المنع بما عُبد من دون الله، فإنه يضاهي صورة الأصنام التي هي الأصل، في منع التصوير، وقد قيّد مجاهد صاحب ابن عباس جواز تصوير الشجر بما لا يثمر، وأما ما يثمر فألحقه بما له روح.

قال القاضي عياض: لم يقله أحد غير مجاهد، وردّه الطحاويّ بأن

(1)

الشيخ البراك فيما كتبه في هامش "الفتح" 13/ 482.

ص: 143

الصورة لمّا أبيحت بعد قطع رأسها، التي لو قُطعت من ذي الروح لَمَا عاش، دلّ ذلك على إباحة ما لا روح له أصلًا.

قال الحافظ: وقضيته أن تجويز تصوير ما له روح بجميع أعضائه إلا الرأس فيه نظر لا يخفى، وأظن مجاهدًا سمع حديث أبي هريرة رضي الله عنه، ففيه:"فليخلقوا ذَرَّةً، وليخلقوا شعيرةً"، فإنّ في ذِكر الذَّرة إشارة إلى ما له روح، وفي ذكر الشعيرة إشارة إلى ما يَنبُت مما يؤكل، وأما ما لا روح فيه، ولا يثمر فلا تقع الإشارة إليه، ويقابل هذا التشديد ما حكاه أبو محمد الجوينيّ، أن نسج الصورة في الثوب لا يمتنع؛ لأنه قد يُلبَس، وطرده المتولي في التصوير على الأرض، ونحوها، وصحح النوويّ تحريم جميع ذلك، قال النوويّ: ويُستثنى من جواز تصوير ما له ظلّ، ومن اتخاذه لُعَب البنات؛ لِمَا ورد من الرخصة في ذلك. ذكره في "الفتح"

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: استثناء اتّخاذ لُعَب البنات محلّ نظر، فإن النصّ جاء بترخيص استعمالها، لا باتّخاذها، فتأمّل الفرق بينهما، والله تعالى أعلم.

وقال القرطبيّ رحمه الله: وقوله: "كُلِّف أن ينفخ فيها الرُّوح" من هنا رأى ابن عباس رضي الله عنهما: أن تصوير ما ليس له روح يجوز هو، والاكتساب به. وهو مذهب جمهور السَّلف، والخلف، وخالفهم في ذلك مجاهد، فقال: لا يجوز تصوير شيء من ذلك كله، سواء كان له روح، أو لم يكن؛ متمسِّكًا في ذلك بقول الله تعالى

(2)

: "ومن أظلم ممن ذهب يخلق خلقًا كخلقي، فليخلقوا ذرَّة، وليخلقوا حبَّة، وليخلقوا شعيرة"، متّفقٌ عليه، فعمَّ بالذمّ، والتهديد، والتقبيح كل من تعاطى تصوير شيء مما خلقه الله تعالى. وقد دلَّ هذا الحديث: على أن الذمَّ والوعيد إنما علِّق بالمصوِّرين من حيث تشبَّهوا بالله تعالى في خلقه، وتعاطوا مشاركة فيما انفرد الله تعالى به من الخلق والاختراع. وهذا يوضح حجَّة مجاهد. وقد استثنى الجمهور من الصور لعب البنات كما تقدَّم. وشذَّ بعض

(1)

"الفتح" 13/ 481 - 483، كتاب "اللباس" رقم (5963).

(2)

أي: في الحديث القدسيّ.

ص: 144

الناس فمنعها، ورأى أن إباحة ذلك منسوخة بهذا النهي. وهو ممنوع من ذلك، مطالَب بتحقيق التعارض والتاريخ، واستثنى بعض أصحابنا من ذلك النهي ما لا يبقى؛ كصور الفَخّار، والشمع، وما شاكل ذلك، وهو مطالَب بدليل التخصيص، وليس له عليه نصٌّ، بل ولا ظاهر، وإنَّما هو نظرٌ قاصر يردّه المعنى الذي قررناه، والظواهر. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: استثناء اتخاذ لُعَب البنات قد علمت ما فيه آنفًا، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5530]

(

) - (حَدَّثَنَا أَبُو غَسَّانَ الْمِسْمَعِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَا: حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ النَّضْرِ بْنِ أَنَسٍ، أَن رَجُلًا أَتَى ابْنَ عَبَّاسٍ، فَذَكَرَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِهِ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(أَبُو غَسَّانَ الْمِسْمَعِيُّ) مالك بن عبد الواحد البصريّ، ثقةٌ [10](ت 230)(م د) تقدم في "الإيمان" 8/ 137.

2 -

(مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ) الدستوائيّ البصريّ، تقدّم قريبًا.

3 -

(أَبُوهُ) هشام بن أبي عبد الله سَنْبَر الدستوائيّ البصريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

والباقون ذُكروا في الباب.

وقوله: (فَذَكَرَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِهِ) فاعل "ذَكَرَ" ضمير قتادة، وضمير "بمثله" لسعيد بن أبي عروبة؛ أي: ذكر قتادة عن النضر بن أنس مثل ما ذكر سعيد عنه، والله تعالى أعلم.

[تنبيه]: رواية قتادة عن النضر بن أنس هذه ساقها الطبرانيّ من رواية ابن إبي عروبة عن قتادة في "المعجم الكبير"، فقال:

(12900)

- حدّثنا إبراهيم بن نائلة الأصبهانيّ، ثنا محمد بن أبي بكر

(1)

"المفهم" 5/ 432.

ص: 145

المقدَّميّ، ثنا محمد بن أبي عديّ، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن النضر بن أنس، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "مَن صَوَّر صورة في الدنيا، كُلِّف يوم القيامة أن ينفخ فيها، وليس بنافخ". انتهى.

[تنبيه آخر]: انتقد الحافظ أبو عليّ الجيّاني رواية الطبرانيّ هذه، من طريق سعيد بن أبي عروبة عن قتادة، فقال بعد ذكر إسناد مسلم الماضي؛ أي: من رواية سعيد بن أبي عروبة، عن النضر بن أنس ما نصّه: هكذا إسناد هذا الحديث، رواه سعيد بن أبي عروبة، عن النضر بن أنس، ووهِمَ بعضهم، فأدخل بينهما قتادة، وليس بشيء، فإنه قد سمع سعيد من النضر بن أنس هذا الحديث وحده، ذكره البخاريّ في "الجامع": حدّثنا عيّاش، نا عبد الأعلى، نا سعيد بن أبي عروبة، قال: سمعت النضر بن أنس يُحدّث قتادة، قال: كنت عند ابن عبّاس، وذكر الحديث، قال البخاريّ

(1)

: سمع سعيد بن أبي عروبة من النضر هذا الحديث الواحد، وخرّج مسلم الحديث بعد ذلك من رواية معاذ بن هشام، عن أبيه، عن قتادة، عن النضر بن أنس، وثبوت قتادة في هذا الإسناد صواب. انتهى كلام الجيّانيّ رحمه الله

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: تقدّم عن الحافظ أن هذه الرواية أخرجها الإسماعيليّ، من رواية خالد بن الحارث، عن سعيد، عن قتادة، عن النضر بن أنس، قال: وقوله: "عن قتادة" من المزيد في متصل الأسانيد، فإن كان خالد حفظه، احتَمَلَ أن يكون سعيد كان سمعه من قتادة، عن النضر، ثم لقي النضر، فسمعه منه، فكان يحدّثه به على الوجهين. انتهى

(3)

.

قال الجامع عفا الله عنه: يُبعد الاحتمال الثاني قول سعيد في رواية البخاريّ: سمعت النضر بن أنس يُحدّث قتادة

إلخ، فقد سمعه، وهو جالس مع قتادة، وليس بَعده، والظاهر أن ما قاله الجيّانيّ من توهيم هذه الرواية هو الصواب، والله تعالى أعلم.

(1)

"التاريخ الكبير" 3/ 504 - 505.

(2)

"تقييد المهمل" 3/ 904 - 905.

(3)

"الفتح" 13/ 480، كتاب "اللباس" رقم (5963).

ص: 146

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5531]

(2111) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، وَأَلْفَاظُهُمْ مُتَقَارِبَةٌ، قَالُوا: حَدَّثَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ، قَالَ: دَخَلْتُ مَعَ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي دَارِ مَرْوَانَ، فَرَأَى فِيهَا تَصَاوِيرَ، فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "قَالَ اللهُ عز وجل: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذَهَبَ يَخْلُقُ خَلْقًا كخَلْقِي، فَلْيَخْلُقُوا ذَرَّةً، أَو لِيَخْلُقُوا حَبَّةً، أَو لِيَخْلُقُوا شَعِيرَةً").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(ابْنُ فُضَيْلٍ) هو: محمد بن فُضَيل بن غَزْوان الضبّيّ مولاهم، أبو عبد الرحمن الكوفيّ، ثقةٌ رُمي بالتشيّع [9](ت 195)(ع) تقدم في "الإيمان" 63/ 358.

2 -

(عُمَارَةُ) بن القعقاع بن شُبْرُمة الضبّيّ الكوفيّ، ثقةٌ [6](ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 108.

3 -

(أَبُو زُرْعَةَ) بن عمرو بن جرير بن عبد الله البَجَليّ الكوفيّ، قيل: اسمه هَرِم، وقيل: عمرو، وقيل: عبد الله، وقيل: عبد الرحمن، وقيل: جرير، ثقةٌ [3](ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 106.

والباقون ذُكروا في الباب، وقبله.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالكوفيين غير الصحابيّ، فمدنيّ، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه رأس المكثرين السبعة، روى (5374) حديثًا.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي زُرْعَةَ) بن عمرو بن جرير البجليّ أنه (قَالَ: دَخَلْتُ مَعَ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه، جاء عن أبي زرعة المذكور حديث آخر بسند آخر، أخرجه أبو داود، والنسائيّ، وصححه ابن حبان، والحاكم، من طريق عليّ بن مُدرِك، عن عبد الله بن نُجَيٍّ - بنون، وجيم، مصغرًا - عن أبيه، عن عليّ رضي الله عنه رفعه:"لا تدخل الملائكة بيتًا فيه كلب، ولا صورةٌ". (فِي دَارِ مَرْوَانَ) بن الحكم، وفي رواية البخاريّ:"دخلت مع أبي هريرة دارًا بالمدينة"، فرواية مسلم هذه تفسّر ما أُبهم في رواية البخاريّ، وفي الرواية التالية من طريق جرير، عن عمارة:"دخلت أنا وأبو هريرة دارًا تُبنى لسعيد، أو لمروان"، بالشكّ، وسعيد هو ابن

ص: 147

العاص بن سعيد الأمويّ، وكان هو، ومروان بن الحكم يتعاقبان إِمْرة المدينة لمعاوية رضي الله عنه، والرواية الجازمة أَولى، قاله في "الفتح"

(1)

.

(فَرَأَى) أبو هريرة رضي الله عنه (فِيهَا)؛ أي: في تلك الدار (تَصَاوِيرَ)؛ أي: تماثيل، وفي الرواية التالية:"فرأى مصوّرًا يُصوّر في الدار"، وفي رواية البخاريّ:"فرأى أعلاها مصوِّرًا يُصوِّر"، قال الحافظ: لم أقف على اسم هذا المصوّر. (فَقَالَ) أبو هريرة رضي الله عنه (سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "قَالَ اللهُ عز وجل هذا يُسمّى الحديث القدسيّ، (وَمَنْ) استفهاميّة، والاستفهام للإنكار؛ أي: لا أَحَدَ (أَظْلَمُ مِمَّنْ ذَهَبَ)؛ أي: قصَدَ (يَخْلُقُ خَلْقًا كَخَلْقِي) قال في "العمدة"؛ أي: لا أحد أظلم ممن قَصَد حال كونه يخلق؛ أي: يصنع، ويُقَدِّر كخلقي.

[فإن قلت]: كيف التشبيه في قوله: "كخلقي؟ ".

[قلت]: التشبيه لا عموم له؛ يعني: كخلقي في فعل الصورة، لا من كل الوجوه.

قيل: الكافر أظلم منه، وأجيب بأن الذي يُصَوِّر الصنم للعبادة هو كافر، فهو هو، أو يزيد عذابه على سائر الكفار؛ لزيادة قبح كفره. انتهى

(2)

.

وقال في "الفتح": التشبيه في فعل الصورة وحدها، لا من كل الوجوه، قال ابن بطال: فَهِمَ أبو هريرة رضي الله عنه أن التصوير يتناول ما له ظلّ، وما ليس له ظلّ، فلهذا أنكر ما يُنْقَش في الحيطان، قال الحافظ: هو ظاهر من عموم اللفظ، ويَحْتَمِل أن يُقْصَر على ما له ظلّ من جهة قوله:"كخلقي"، فإن خَلْقَه الذي اخترعه ليس صورة في حائط، بل هو خلق تامّ، لكن بقية الحديث تقتضي تعميم الزجر عن تصوير كل شيء، وهي قوله:"فليخلقوا حبة، وليخلقوا ذَرّةً"، ويجاب عن ذلك بأن المواد إيجاد حبة على الحقيقة، لا تصويرها. انتهى

(3)

.

(فَلْيَخْلُقُوا ذَرَّةً) - بفتح الذال المعجمة، وتشديد الراء -: النَّملة الصغيرة، (أَو لِيَخْلُقُوا حَبَّةً) المراد: حبة القَمْح، بقرينة قوله:(أَو لِيَخْلُقُوا شَعِيرَةً")

(1)

"الفتح" 13/ 468، كتاب "اللباس" رقم (5952).

(2)

"عمدة القاري" 22/ 71.

(3)

"الفتح" 13/ 468، كتاب "اللباس" رقم (5952).

ص: 148

أو الحبة أعمّ، والغرض تعجيزهم تارة بتكليفهم خلق حيوان، وهو أشدّ، وأخرى بتكليفهم خلق جماد، وهو أهون، ومع ذلك لا قدرة لهم على ذلك، قاله في "الفتح"

(1)

.

وقال النوويّ رحمه الله: وأما قوله تعالى: "فليخلقوا ذَرّةً، أو حبةً، أو شعيرة" فالذرّة - بفتح الذال، وتشديد الراء - ومعناه: فليخلقوا ذَرّةً فيها رُوح تتصرف بنفسها كهذه الذرّة التي هي خلق الله تعالى، وكذلك فليخلقوا حَبَّةَ حنطة، أو شعير؛ أي: ليخلقوا حبة فيها طَعْمٌ تؤكل، وتُزرع، وتَنبت، ويوجد فيها ما يوجد في حبة الحنطة والشعير، ونحوهما من الحبّ الذي يخلقه الله تعالى، وهذا أمر تعجيز، كما سبق، والله أعلم. انتهى

(2)

.

وقال ابن حبّان رحمه الله في "صحيحه": قوله صلى الله عليه وسلم: "فليخلقوا حبّة، أو ليخلقوا ذَرَّةً" من ألفاظ الأوامر التي مرادها التعجيز. انتهى

(3)

.

وقال في "الفتح" في موضع آخر

(4)

: قوله: "يخلق كخلقي" نَسب الخلق إليهم على سبيل الاستهزاء، أو التشبيه في الصورة فقط، وقوله:"فليخلقوا ذَرّةً، أو شعيرةً" أمْر بمعنى التعجيز، وهو على سبيل الترقي في الحقارة، أو التنزل في الإلزام، والمراد بالذرَّة إن كان النملة فهو من تعذيبهم، وتعجيزهم بِخَلق الحيوان تارةً، وبخلق الجماد أخرى، وإن كان بمعنى الهباء، فهو بخلق ما ليس له جرم محسوس تارة، وبما له جرم أخرى، ويَحْتَمِل أن يكون "أو" شكًّا من الراوي. انتهى

(5)

.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

(1)

"الفتح" 13/ 468، كتاب "اللباس" رقم (5952).

(2)

"شرح النوويّ" 14/ 91.

(3)

"الإحسان في تقريب صحيح ابن حبّان" 13/ 170.

(4)

هو في "كتاب التوحيد".

(5)

"الفتح" 13/ 534، كتاب "التوحيد" رقم (7559).

ص: 149

أخرجه (المصنّف) هنا [5531 و 5532](2111)، و (البخاريّ) في "اللباس"(5953) و"التوحيد"(7559)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(8/ 484)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 259 و 391 و 451 و 527)، و (إسحاق بن راهويه) في "مسنده"(1/ 207)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5859)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(15/ 473)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(7/ 268)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(3217)، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5532]

(

) - (وَحَدَّثَنِيهِ زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ، قَالَ: دَخَلْتُ أَنَا وَأَبُو هُرَيْرَةَ دَارًا تُبْنَى بِالْمَدِينَةِ لِسَعِيدٍ، أَو لِمَرْوَانَ، قَالَ: فَرَأَى مُصَوِّرًا يُصَوِّرُ فِي الدَّار، فَقَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، بِمِثْلِه، وَلَمْ يَذْكُرْ: "أَو لِيَخْلُقُوا شَعِيرَةً").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

كلّهم ذُكروا في الباب، و"جرير" هو ابن عبد الحميد.

وقوله: (لِسَعِيدٍ، أَو لِمَرْوَانَ) أما سعيد فهو: ابن العاص بن أميّة الأمويّ، قُتل أبوه ببدر، وكان لسعيد عند موت النبيّ صلى الله عليه وسلم تسع سنين، وذُكر في الصحابة، وولي إمرة الكوفة لعثمان، وإمرة المدينة لمعاوية، مات سنة ثمان وخمسين، وقيل غير ذلك، وله حديث واحد يأتي في "كتاب فضائل الصحابة" برقم (2402)، وستأتي ترجمته هناك - إن شاء الله تعالى -.

وأما مروان فهو ابن الحكم بن أبي العاص بن أميّة، أبو عبد الملك الأمويّ المدنيّ، وَليَ الخلافة في آخر سنة أربع وستّين، ومات سنة خمس في رمضان، وله إحدى، أو ثلاث وستّون سنة، ولا تثبت له صحبة، من الطبقة الثانية، وله في "صحيح مسلم" ذِكْر فقط، وتقدّمت ترجمته في "الصيام" 13/ 2589.

وقوله: (فَرَأَى مُصَوِّرًا يُصَوِّرُ فِي الدَّار) وفي رواية البخاريّ: "فرأى أعلاها مصوّرًا يصوّر"، وقوله:"يُصوّر" بصيغة المضارعة للجميع، وضَبَطه الكرمانيّ بوجهين: أحدهما هذا، والآخر بكسر الموحدة، وضمّ الصاد

ص: 150

المهملة، وفتح الواو، ثم راء منوّنة، وهو بعيد، قاله في "الفتح"

(1)

.

وقال في "العمدة": قوله: "مُصَوِّرًا"؛ أي: شخصًا مصوِّرًا، وهو اسم فاعل من التصوير، وانتصابه على أنه مفعول "رأى".

وقوله: "أعلاها"؛ أي: أعلى الدار، أراد سقفها.

وقوله: "يُصَوِّر" على صيغة المعلوم من المضارع، في محل النصب على الحال، ومعناه: يصنع الصور، وقال الكرمانيّ مصوّرًا بلفظ المفعول، و"بِصُوَرٍ" بلفظ الجار والمجرور، وقال بعضهم

(2)

: هو بعيد، قلت: لم يبيِّن وَجْه بُعده، فلا بُعد أصلًا، بل هو أقرب، على ما لا يخفى. انتهى

(3)

.

[تنبيه]: رواية جرير عن عمارة هذه ساقها أبو يعلى في "مسنده"، فقال:

(6086)

- حدّثنا أبو خيثمة، حدّثنا جرير، عن عمارة بن القعقاع، عن أبي زرعة، قال: دخلت أنا وأبو هريرة دارًا تُبْنَى بالمدينة لسعيد، أو لمروان، قال: فتوضأ أبو هريرة، وغسل يديه حتى بلغ إبطيه، وغسل رجليه حتى بلغ ركبتيه، فقلت: ما هذا يا أبا هريرة؟ قال: إنه منتهى الحلية، قال: ورأى مُصَوِّرًا يُصَوِّر في الدار، فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال الله تعالى: ومن أظلم ممن ذهب يَخلُق كخلقي، فليخلقوا حبةً، وليخلقوا ذَرَّةً". انتهى

(4)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5533]

(2112) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ، عَنْ سُهَيْلٍ، عَنْ أَبِيه، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا تَدْخُلُ الْمَلَاِئكَةُ بَيْتًا فِيهِ تَمَاثِيلُ، أَو تَصَاوِيرُ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ) الْقَطَوانيّ، أبو الهيثم البجليّ مولاهم الكوفيّ، صدوقٌ يتشيّع، وله أفراد، من كبار [10](ت 213) أو بعدها (خ م كد ت س ق) تقدم في "الإيمان" 65/ 372.

(1)

"الفتح" 13/ 534، كتاب "التوحيد" رقم (7559).

(2)

يريد الحافظ ابن حجر، كما سبق كلامه قبله.

(3)

"عمدة القاري" 22/ 71.

(4)

"مسند أبي يعلى" 10/ 473.

ص: 151

2 -

(سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ) المدنيّ، تقدّم قريبًا.

3 -

(أَبُو سُهَيل) هو: أبو صالح ذكوان السمّان الزيّات المدنيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

والباقون ذُكروا في الباب.

وقوله: (فِيهِ تَمَاثِيلُ، أَو تَصَاوِيرُ) الظاهر أن "أو" للشك من الراوي، وتمام شرح الحديث تقدّم، فلا حاجة إلى إعادته، ولله الحمد والمنّة.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [25/ 5533](2112)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(8/ 480)، والله تعالى أعلم.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}

(26) - (بَابُ كَرَاهَةِ الْكَلْب، وَالْجَرَسِ فِي السَّفَرِ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5534]

(2113) - (حَدَّثنَا أَبُو كَامِلٍ فُضَيْلُ بْنُ حُسَيْنٍ الْجَحْدَرِيُّ، حَدَّثنَا بِشْرٌ - يَعْنِي: ابْنَ مُفَضلٍ - حَدَّثَنَا سُهَيْلٌ، عَنْ أَبِيه، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا تَصْحَبُ الْمَلَائِكَةُ رُفْقَةً فِيهَا كَلْب، وَلَا جَرَسٌ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(بِشْرُ بْنُ مُفَضَّلِ) بن لاحق الرَّقَاشيّ، أبو إسماعيل البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ عابدٌ [8](ت 6 أو 187)(ع) تقدم في "الإيمان" 10/ 145.

والباقون ذُكروا في الباب الماضي.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالمدنيين من سهيل، والباقيان بصريّان.

ص: 152

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (أَن رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا تَصْحَبُ الْمَلَائِكَةُ"؛ أي: ملائكة الرحمة، لا الحفظة، فإنها لا تفارق الإنسان في أحواله، وقال الشيخ وليّ الدين رحمه الله: يَحْتَمِل أن يكون المراد أنها لا تصحبهم أصلًا، ويَحْتَمِل أنها لا تصحبهم بالكلأ، والحفظ، والاستغفار، من قوله:"اللهم أنت الصاحب في السفر"؛ أي: الحافظ، والكالئ، وإن كان هو مع العبد حيث كان في كل حال.

قال صاحب "العون": الظاهر أن المراد بهم غير الحفظة، فإن الحفظة لا يفارقون بني آدم. انتهى

(1)

.

(رُفْقَةً) بضم أوله؛ أي: جماعةً ترافقوا، قال المجد رحمه الله: الرّفقة: مثلّثةً، وكثُمامة: جماعة تُرافقهم، جَمْعه ككتاب، وأصحاب، وصُرَد، والرفيق: المرافق، جَمْعه رُفقاء، فإذا تفرّقوا ذهب اسم الرفقة، لا اسم الرفيق. انتهى

(2)

.

وقال الفيّوميّ رحمه الله: الرّفْقَةُ: الجماعة تُرَافِقُهُمْ في سفرك، فإذا تفرقتم زال اسم الرُّفْقَةُ، وهي بضم الراء في لغة بني تميم، والجمع: رِفَاق، مثل بُرْمَة وبِرَام، وبكسرها في لغة قيس، والجمع: رِفَقٌ، مثل سِدْرة وسِدَر، والرَّفِيقُ: الذي يُرَافِقُكَ، قال الخليل: ولا يذهب اسم الرَّفِيقِ بالتفرق. انتهى

(3)

.

(فِيهَا كلْبٌ)؛ أي: غير مأذون في اقتنائه؛ ككلب الصيد، والغنم، والحراسة، قال القرطبيّ رحمه الله: يُفهم من هذا الحديث، ومما تقدَّم أن مقصود الشرع مباعدة الكلاب، وألا تُتَّخَذ في حَضَر، ولا سفر، وذلك للعلل التي تقدَّم ذكرها. وهو حجَّة لمن منع اتخاذ الكلب لحراسة الدواب، والأمتعة من السُّرَّاق في الأسفار. وهو قول أصحاب مالك، وأجاز هشام بن عروة اتخاذها لحراسة البقر من السرّاق.

قال القرطبيّ: والظاهر: أن المراد بالكلب هنا غير المأذون في اتخاذه،

(1)

راجع: "عون المعبود في شرح سنن أبي داود" 7/ 162.

(2)

"القاموس المحيط" ص 522.

(3)

"المصباح المنير" 1/ 234.

ص: 153

كما تقدَّم؛ لأن المسافر قد يحتاج إلى حفظ ماشية دوابه، وإبله، وغير ذلك، فيضطر إلى اتخاذها كما يضطر إليها في الحضر لزرعه وضرعه. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(1)

، وهو بحث نفيسٌ، والله تعالى أعلم.

(وَلَا جَرَسٌ") بزيادة "لا" للتأكيد، قال الطيبيّ رحمه الله: جاز عطفه على قوله: "فيها كلب" وإن كان مثبَتًا؛ لأنه في سياق النفي، وفي "المغرب": الجرس بفتحتين: ما يُعَلَّق بعنق الدابة، وغيرها، فيُصَوِّت.

وقال الجزريّ في "النهاية": هو الْجُلْجُل الذي يُعَلَّق على الدواب، قيل: إنما كرهه؛ لأنه يدلّ على أصحابه بصوته، وكان صلى الله عليه وسلم يُحِبّ أن لا يعلم العدوّ به حتى يأتيهم فَجْأة، وقيل غير ذلك. انتهى

(2)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: "الْجَرَس": ما يُعلَّق في أعناق الإبل مما له صلصلة، والذي يُضرب به، وهو بفتح الراء، وجمعه: أجراس. فأمَّا: الْجَرْس - بفتح، فسكون - فهو: الصوت الخفيّ، يقال: بفتح الجيم وكسرها

(3)

.

وقال في "الفتح": الجرس بفتح الجيم والراء، ثم مهملة معروف، وحَكَى عياض إسكان الراء، والتحقيق أن الذي بالفتح اسم الآلة، وبالإسكان اسم الصوت، ورَوَى مسلم من حديث العلاء بن عبد الرحمن عن أبي هريرة رفعه:"الجرس مزمار الشيطان"، وهو دالّ على أن الكراهية فيه لصوته؛ لأن فيها شَبَهًا بصوت الناقوس، وشكله، قال النووي وغيره: الجمهور على أن النهي للكراهة، وأنها كراهة تنزيه، وقيل: للتحريم، وقيل: يُمنع منه قبل الحاجة، ويجوز إذا وقعت الحاجة، وعن مالك: تختص الكراهة من القلائد بالوتر، ويجوز بغيرها إذا لم يقصد دفع العين، هذا كله في تعليق التمائم وغيرها، مما ليس فيه قراَن ونحوه، فأما ما فيه ذِكر الله فلا نهي فيه، فإنه إنما يجعل للتبرك به، والتعوذ بأسمائه وذِكره

(4)

، وكذلك لا نهي عما يُعَلَّق لأجل الزينة ما لم

(1)

"المفهم" 5/ 434.

(2)

"النهاية في غريب الأثر" ص 148.

(3)

"المفهم" 5/ 434 - 435.

(4)

اختلف السلف في تعليق التمائم من القرآن، فرخّص فيه بعضهم، منهم عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، ومنهم من لم يرخّص فيه، كعبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال إبراهيم =

ص: 154

يبلغ الخيلاء، أو السَّرَف، واختلفوا في تعليق الجرس أيضًا، ثالثها يجوز بقدر الحاجة، ومنهم من أجاز الصغير منها دون الكبير، وأغرب ابن حبان، فزعم أن الملائكة لا تصحب الرفقة التي يكون فيها الجرس إذا كان رسول الله - صلي الله عليه وسلم - فيها. انتهى

(1)

.

وقال النوويّ: وسبب الحكمة في عدم مصاحبة الملائكة مع الجرس أنه شبيه بالنواقيس، أو لأنه من المعاليق المنهيّ عنها لكراهة صوتها، ويؤيده قوله:"الجرس مزامير الشيطان"، وهو مذهبنا، ومذهب مالك، وهي كراهة تنزيه، وقال جماعة من متقدمي علماء الشام: يكره الجرس الكبير، دون الصغير. انتهى

(2)

.

قال المباركفوريّ رحمه الله: لفظ الحديث مطلق، فيدخل فيه كلّ جرس كبيرًا كان، أو صغيرًا، فالتقييد بالجرس الكبير يحتاج إلى الدليل.

وروى أبو داود في "سننه": قال: حدّثنا عليّ بن سهل، وإبراهيم بن الحسن قالا: أنبأنا حجاج، عن ابن جريج قال: أخبرني عمر بن حفص، أن عامر بن عبد الله - قال علي بن سهل: - ابن الزبير أخبره أن مولاةً لهم ذهبت بابنه الزبير إلى عمر بن الخطاب، وفي رجلها أجراس، فقطعها عمر، ثم قال: سمعت رسول الله - صلي الله عليه وسلم - يقول: "إن مع كلّ جرس شيطانًا".

قال المنذريّ: مولاة لهم مجهولة، وعامر بن عبد الله بن الزبير لم يُدرك عمره انتهى.

ورَوَى أيضًا عن بُنانة مولاة عبد الرحمن بن حيان الأنصاريّ، عن عائشة

= النخعيّ رحمه الله: كانوا يكرهون التمائم من القرآن، وغير القرآن، يريد أصحاب عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، راجع ما كتبه البرّاك على هامش:"الفتح" 7/ 258.

قال الجامع: هذا عندي أَولى؛ لعدم ما يؤيّده من النصوص؛ إذ الرقية بالقرآن والتداوي به بالقراءة ثَبَت في نصوص، ولم يصحّ لدينا أنه صلى الله عليه وسلم علّقه تميمة، ولا أمر به، فالأولى الوقوف عند ما صحّ عنه، والله تعالى أعلم.

(1)

"الفتح" 7/ 258، كتاب "الجهاد" رقم (3005).

(2)

"شرح النوويّ" 14/ 95 - 96.

ص: 155

قالت: بينما هي عندها إذ دخل عليها بجارية، وعليها جلاجل يصوِّتن، فقالت: لا تُدخلنها عليّ إلا أن تقطعوا جلاجلها، وقالت: سمعت رسول الله - صلي الله عليه وسلم - يقول: "لا تدخل الملائكة بيتًا فيه جرس"، والحديث سكت عنه أبو داود، والمنذريّ

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: بل الحديث ضعيف؛ لأن في سنده بُنانة مولاة عبد الرحمن بن حيّان، تفرّد ابن جُريج بالرواية عنها، فهي مجهولة، ولذا قال في "التقريب": لا تُعرف، وابن جريج مدلّس، وقد عنعنه عنها، فالحديث ضعيف؛ كالذي قبله، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [26/ 5534 و 5535](2113)، و (أبو داود) في "الجهاد"(2555)، و (الترمذيّ) في "الجهاد"(1703)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(6/ 424)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 385 و 414)، و (ابن راهويه) في "مسنده"(1/ 302)، و (ابن الجعد) في "مسنده"(1/ 391)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 374)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4703)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 254)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(2678)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): قال القرطبيّ رحمه الله: في هذا الحديث ما يدلّ على كراهة اتخاذ الأجراس في الأسفار، وهو قول مالك وغيره.

قال: وينبغي ألا تُقصر الكراهة على الأسفار، بل هي مكروهة في الحضر أيضًا، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم:"الجرس مزامير الشيطان"، ومزامير الشيطان مكروهة سفرًا وحضرًا، ثمَّ: هذا يعمّ الكبير، والصغير منها، وقد فرَّق بعض الشاميين، فأجازوا الصغير، ومنعوا الكبير. ووجه الفرق: أن الكبير به يقع التشويش على

(1)

راجع: "تحفة الأحوذيّ" 5/ 292.

ص: 156

الناس، وبه تحصل المشابهة بالنصارى، فإنَّهم يستعملون النواقيس في سفرهم، وحضرهم. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قوله: بل هي مكروهة في الحضر أيضًا فيه نظر؛ لأن كونه في السفر واضح، وعلّته واضحة كما سبق، وأما استعماله في الحضر للحاجة فالظاهر أنه جائز، وليس الاستدلال بحديث:"الجرس مزامير الشيطان" واضحًا؛ لأن ذلك ثبت عن أبي بكر رضي الله عنه عندما دخل في بيت عائشة رضي الله عنها يوم العيد وفيه النبيّ صلى الله عليه وسلم وجاريتان تُدفّفان، وتغنيان، وفي لفظ: تغنّيان بدفّ، فقال:"أمزامير الشيطان في بيت رسول الله - صلي الله عليه وسلم -؟، فأنكر عليهما، فردّ عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: "يا أبا بكر: إن لكل قوم عيدًا، وهذا عيدنا"، متّفقٌ عليه، والشاهد أنه صلى الله عليه وسلم أقرّ أبا بكر في قوله: "مزامير الشيطان"، إلا أنه بيّن له أن استعماله للحاجة جائز، وإنما يُمنع إذا كان لمجرّد اللهو واللعب، فليُتنبّه.

قال صاحب "التكملة" رحمه الله: قال محمد - يعني: ابن الحسن رحمه الله في كتابه "السّيَر الكبير": إنما يُكره اتخاذ الجرس للغزاة في دار الحرب، وهو المذهب عند علمائنا؛ لأن تعليق الجرس للغزاة على الدوابّ إنما يُكره في دار الحرب؛ لأن العدوّ يشعر بمكان المسلمين، فعلى هذا قالوا: إذا كان الركب في المفازة في دار الإسلام يخافون من اللصوص يُكره لهم تعليق الجرس على الدوابّ أيضًا حتى لا يشعر بهم اللصوص، قال محمد رحمه الله: فأما ما كان في دار الإسلام فيه منفعة لصاحب الراحلة، فلا بأس به. انتهى باختصار

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: إن المنع في السفر مطلقًا هو الحقّ؛ عملًا بظاهر النصّ المذكور في الباب، وأما في الحضر، فإن كان لمجرّد اللهو واللعب، فيُمنع؛ لِمَا أخرجه أحمد، والأربعة

(3)

، وصححه ابن خزيمة، والحاكم، من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه رفعه:"كُلُّ ما يلهو به المرء المسلم باطلٌ، إلا رميه بقوسه، وتأديبه فرسه، وملاعبته أهله، فإنهنّ من الحقّ"، وأما

(1)

"المفهم" 5/ 434 - 435.

(2)

راجع: "تكملة فتح الملهم" 4/ 179.

(3)

قال الترمذيّ: حديث حسنٌ صحيح.

ص: 157

إذا كان للحاجة، كما يُستعمل الآن في البيوت، والحوانيت، والسيّارات وغيرها من الحوائج الضرورية فلا أرى فيه المنع - إن شاء الله تعالى -.

والحاصل أن استعمال الجرس في الحضر للحاجة جائزٌ؛ لأمور:

(الأول): أن حديث النهي مقيّد بالرفقة في السفر.

(الثاني): أن حديث: "لا تدخل الملائكة بيتًا فيه جرسٌ"، ضعيف، فلا يصلح للاحتجاج به، كما أسلفته قريبًا.

(الثالث): أن الذين قالوا بالنهي في الحضر، كما تقدّم عن القرطبي احتجّوا بحديث مسلم:"الجرس مزامير الشيطان"، وقد علمت أن تسميته بهذا الاسم لا ينافي جواز استعماله للحاجة في الحضر؛ لِمَا ذكرته في قصّة أبي بكر في العيد، فقد أباح النبيّ صلى الله عليه وسلم استعمال الدفّ مع الغناء لأجل العيد؛ لحاجة الناس إلى الفرح والسرور في ذلك اليوم، مع أن أبا بكر رضي الله عنه سمّاه مزامير الشيطان، ولم يُنكر ذلك عليه، وإنما بيّن له أن حاجة المسلمين اليوم لمثله يبيحه، هذا ما عندي، والله تعالى أعلم بالصواب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5535]

(

) - (وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ (ح) وَحَدَّثَنَا قتيْبَةُ، حَدَّثنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ - يَعْني: الدَّرَاوَرْدِيَّ - كِلَاهَمَا عَنْ سُهَيْلٍ، بِهَذَا الإِسْنَادِ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(عَبْدُ الْعَزِيزِ) بن محمد بن عُبيد الدَّرَاوَرْدِيُّ الجهنيّ مولاهم، أبو محمد المدنيّ، صدوقٌ كان يُحدّث من كتب غيره، فيُخطئ [8](ت 6 أو 187)(ع) تقدم في "الإيمان" 8/ 135.

والباقون ذُكروا في الباب الماضي.

وقوله: (كِلَاهُمَا عَنْ سُهَيْلٍ) ضمير التثنية لجرير بن عبد الحميد، وعبد العزيز الدراورديّ؛ يعني: أنهما رويا هذا الحديث عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه.

[تنبيه]: رواية جرير عن سُهيل ساقها ابن خزيمة رضي الله عنه في "صحيحه"، فقال:

ص: 158

(2553)

- ثنا يوسف بن موسى، ثنا جرير، عن سهيلٍ، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "إن الملائكة لا تصحب رُفْقة فيها جَرَس، أو فيها كلب". انتهى

(1)

.

ورواية عبد العزيز الدراورديّ عن سُهيل ساقها الترمذيّ رحمه الله في "جامعه"، فقال:

(1703)

- حدّثنا قتيبة، حدّثنا عبد العزيز بن محمد، عن سهيل بن أبي صالحٍ، عن أبيه، عن أبي هريرة، أن رسول الله - صلي الله عليه وسلم - قال:"لا تصحب الملائكة رُفْقة فيها كلب، ولا جَرَسٌ"، قال أبو عيسى: وهذا حديث حسنٌ صحيحٌ. انتهى

(2)

.

وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5536]

(2114) - (وَحَدَّثنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، وَقتيْبَةُ، وَابْنُ حُجْرٍ، قَالُوا: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ - يَعْنُونَ ابْنَ جَعْفَرٍ - عَنِ الْعَلَاء، عَنْ أَبِيه، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَن رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "الْجَرَسُ مَزَامِيرُ الشَّيْطَانِ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ أيُّوبَ) أبو زكريّاء المقابريّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(ابْنُ حُجْر) هو عليّ السعديّ المروزيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

3 -

(إِسْمَاعِيل بْنُ جَعْفَرِ) بن أبي كثير الأنصاريّ الزُّرَقيّ، أبو إسحاق القارئ المدنيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ ثبت [8](180)(ع) تقدم في "الإيمان" 2/ 110.

" 4 - (الْعَلَاءُ) بن عبد الرحمن الْحُرقيّ مولاهم، أبو شِبْل المدنيّ، صدوقٌ ربّما وَهِمَ [5] مات سنة بضع و (200) (ز م 4) تقدم في "الإيمان" 8/ 135.

5 -

(أَبُوهُ) عبد الرحمن بن يعقوب الجهنيّ الْحُرَقيّ مولاهم المدنيّ، ثقةٌ [3](ز م 4) تقدم في "الإيمان" 8/ 135.

والباقيان ذُكرا قبله.

(1)

"صحيح ابن خزيمة" 4/ 146.

(2)

"جامع الترمذيّ" 4/ 207.

ص: 159

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلي الله عليه وسلم - قَالَ: "الْجَرَسُ مَزَامِيرُ الشَّيْطَانِ") وفي رواية أبي داود: "قال: في الجرس مزمار الشيطان"؛ أي: قال في شأن الجرس: مزمار الشيطان، قال في "المرقاة": وأضافه إلى الشيطان؛ لأن صوته لم يزل يَشغَل الإنسان من الذِّكر والفكر. انتهى

(1)

.

والمزامير: جمع مزمار، قال في "القاموس"، و"شرحه": زَمَرَ يَزْمُر بالضَّمّ لُغَة، وَيزْمِرُ بالكسر زَمْرًا بالفَتْح، وزَمِيرًا؛ كأَمِير، وزَمَرَانًا مُحَرَّكة، وَزمَّرَ تَزْمِيرًا: غَنَّى في القَصَب، ونَفَخَ فيه، وهي زامِرَةٌ، ولا يقال: زَمَّارةٌ، وهو زَمَّارٌ، ولا يُقَالُ: زامِرٌ، وقد جاءَ عن الأَصْمَعِيّ، لكِنَّه قَلِيل. ومن المَجَاز في حديث أبِي مُوسَى الأشْعَرِيّ رضي الله عنه، سَمِعه النبيّ يقرأ، فقال:"لقد أُعطِيتَ مِزْمارًا من مَزامِيرِ آلِ دَاوودَ" - متّفقٌ عليه - شَبَّهَ حُسْنَ صَوْتِه، وحَلاوةَ نَغْمته بصَوْتِ المِزْمَار. ومَزامِيرُ دَاوودَ عليه السلام: ما كان يَتَغَنَّى به من الزَّبُور، وإليه المُنْتَهَى في حُسْنِ الصَّوْتِ بالقراءَة. والآلُ في قوله:"آل داوود" مُقْحَمة، قيل: مَعْنَاه ها هنا الشَّخْص. وقيل: مَزامِيرُ داَوودَ: ضُرُوبُ الدُّعَاء، جمْعُ مِزْمارٍ، ومَزْمُورٍ. انتهى باختصار

(2)

، والله تعالى أعلم.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [26/ 5536](2114)، و (أبو داود) في "الجهاد"(2556)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(8812)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 366 و 372)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(11/ 398)، و (الحاكم) في "مستدركه"(1/ 613)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(4/ 147)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4704)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 253)، والله تعالى أعلم.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(1)

"عون المعبود" 7/ 163.

(2)

" تاج العروس" 1/ 2893.

ص: 160

(27) - (بَابُ كَرَاهَةِ قِلَادَةِ الْوَتَرِ فِي رَقَبَةِ الْبَعِيرِ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5537]

(2115) - (حَدَّثنَا يَحْيىَ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ، أَنَّ أَبَا بَشِيرٍ الأَنْصَارِيَّ أَخْبَرَهُ، ألهُ كَانَ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَعْضِ أَسْفَارِه، قَالَ: فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَسُولًا - قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ: حَسِبْتُ أنَّهُ قَالَ: وَالنَّاسُ فِي مَبِيتِهِمْ -: "لَا يَبْقَيَنَّ في رَقَبَةِ بَعِيرٍ قِلَادَةٌ، مِنْ وَتَرٍ، أَو قِلَادَة إِلَّا قُطِعَتْ"، قَالَ مَالِكٌ

(1)

: أرَى ذَلِكَ مِنَ الْعَيْنِ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي بَكْرِ) بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاريّ المدنيّ القاضي، ثقة [5](ت 135) وهو ابن (70) سنةً (ع) تقدم في "الصلاة" 17/ 916.

2 -

(عَبَّادُ بْنُ تميمِ) بن غَزِيّة الأنصاريّ المازنيّ المدنيّ، ثقة [3] وقيل: له رؤية (ع) تقدم في "الحيض" 25/ 810.

3 -

(أَبُو بَشِيرٍ

(2)

الأنصَارِيُّ) الساعديّ، ويقال: المازنيّ، ويقال: الحارثيّ المدنيّ، قال ابن سعد: اسمه قيس بن عُبيد بن الْحُرير بن عَمْرو بن الْجَعْد بن عَوف بن مَبذول بن عمرو بن عوف بن غَنْم بن مازن بن النجار.

رَوَى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعنه عباد بن تميم، وضَمْرة بن سعيد، وسعيد بن نافع، وعمارة بن غَزِيّة إن كان محفوظًا، قال الواقديّ: مات بعد الحرّة، وكان قد عُمِّر طويلًا، وقال غيره: مات سنة أربعين، والصحيح الأول، وروى الواقديّ بإسناد له أنه حضر أُحُدًا، وهو غلام في طبقة الخندقيين، وقال ابن عبد البرّ: لا يوقف له على اسم صحيح، وقيل: اسمه قيس بن عبيد، ولا يصحّ، وذكره ابن أبي خيثمة، وأبو أحمد الحاكم، وغير واحد ممن لا يُعْرَف اسمه، وفي الصحابة ممن يُكنى أبا بشير الحارث بن خَزمة، ذكره ابن عبد البرّ

(1)

"الموطّأ" رواية الليثيّ 2/ 937، عقب حديث (39).

(2)

بفتح الباء، وكسر الشين، مكبّرًا.

ص: 161

عن الواقديّ، وأبو بشير من موالي النبيّ صلى الله عليه وسلم، ذكره أبو موسى في "الذيل"، وأبو بشير كانت كنيةَ كعب بن مالك، فكناه النبيّ صلى الله عليه وسلم أبا عبد الله. ذكره ابن ماكولا.

أخرج له البخاريّ، والمصنّف، وأبو داود، والنسائيّ، وليس له عندهم إلا هذا الحديث.

والباقيان ذُكرا قبل باب.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالمدنيين، غير شيخه، فنيسابوريّ، غير أنه دخل المدينة للأخذ عن مالك، وعبد الله وعبّاد تابعيّان، وهما وأبو بشير أنصاريّون، والصحابيّ من المقلّين من الرواية، فليس له في الكتب الستّة إلا هذا الحديث الواحد

(1)

.

شرح الحديث:

(عَنْ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ) المازنيّ (أَنَّ أَبَا بَشِيرٍ الأنصَارِيَّ أَخْبَرَهُ، أَنَّهُ كَانَ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَعْضِ أَسْفَارهِ) قال الحافظ: لم أقف على تعيينها، (قَالَ: فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَسُولًا) قال ابن عبد البرّ: في رواية رَوْح بن عُبادة، عن مالك:"أرسل مولاه زيدًا"، قال ابن عبد البرّ: وهو زيد بن حارثة فيما يظهر لي. انتهى

(2)

. (قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ) الراوي عن عبّاد بن تميم، (حَسِبْتُ أنَّهُ)؛ أي: عبّادًا، (قَالَ)، وكأنه شكّ في هذه الجملة، قال الحافظ: ولم أرها من طريقه إلا هكذا، وقوله:(وَالنَّاسُ فِي مَبِيتِهِمْ) مقول "قال" قبله، ("لَا يَبْقَيَنَّ فِي رَقَبَةِ بَعِيرٍ قِلَادَةٌ، مِنْ وَتَرٍ) قال في "الفتح": بالمثناة في جميع الروايات، قال ابن الجوزيّ: ربّما صَحَّف من لا علم له بالحديث، فقال: وَبَر، بالموحدة، قال الحافظ: حَكَى ابن التين أن الداوديّ جزم بذلك، وقال: هو ما يُنتزع عن الجِمال، يُشبه الصوف، قال ابن التين: فصَحَفّ. انتهى

(3)

.

وقال القرطبيّ: يعني بالوتر: وتر القوس، ولا معنى لقول من قال: إنَّه

(1)

راجع: "تحفة الأشراف" 9/ 129.

(2)

نقله في "الفتح" 7/ 256، كتاب "الجهاد" رقم (3005).

(3)

"الفتح" 7/ 256 - 257، كتاب "الجهاد" رقم (3005).

ص: 162

يعني بذلك: الوتر الذي هو الدَّحل، وهو طلب الثَّأر؛ لبُعده لفظًا. انتهى

(1)

.

وقال في "القاموس"، و"شرحه": الوَتَرُ محرَّكة: واحدُ أوتارِ القوس، وقال ابنُ سِيدَه: هو شِرْعَةُ القَوس، ومُعَلَّقُها، جَمْعه: أَوْتَارٌ. انتهى

(2)

.

(أَو قِلَادَةٌ) بالكسر: ما جُعل في العنق، قاله المجد

(3)

.

وقال النوويّ: كذا هنا بلفظ "أو"، وهي للشكّ، أو للتنويع، ووقع في رواية أبي داود عن القعنبيّ بلفظ:"ولا قلادة"، وهو من عطف العامّ على الخاصّ، وبهذا جزم المهلَّب

(4)

، ويؤيد الأول ما رُوي عن مالك أنه سئل عن القلادة، فقال: ما سمعت بكراهتها إلا في الوتر، ذكره في "الفتح".

وقال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في جميع النُّسخ: "قلادة من وتر، أو قلادة"، فـ "قلادة" الثانية مرفوعة معطوفة على "قلادة" الأولى، ومعناه أن الراوي شك: هل قال: قلادة من وتر، أو قال: قلادة فقط، ولم يقيِّدها بالوتر؟ انتهى

(5)

.

وقال القرطبيّ: قوله: "من وتر، أو قلادة" هو شكٌّ من بعض الرواة، فكأنَّه لم يتحقق قوله:"من وتر"، هذا ظاهر كلامه، ويَحْتَمِل أن تكون "أو" تنويعًا، فيكون المنهيّ عنه قلادة الأوتار، وغيرها، والأَولى ما صار إليه مالك، والله تعالى أعلم. انتهى

(6)

.

(إِلَّا قُطِعَتْ") بالبناء للمفعول، فيه الأمر بقطع القلادة المذكورة عن الدوابّ، وسيأتي تحقيق القول في ذلك في المسألة الثالثة - إن شاء الله تعالى -.

(قَالَ مَالِكٌ)؛ أي: ابن أنس المذكور في السند، (أُرَى) بالبناء للمفعول؛ أي: أظنّ (ذَلِكَ مِنَ الْعَيْنِ)؛ أي: أنهم كانوا يقلدون الإبل أوتارًا؛ لئلا تصيبها العين بزعمهم، فأُمروا بقطعها إعلامًا بأن الأوتار لا تردّ من أمر الله شيئًا

(7)

.

(1)

"المفهم" 5/ 435.

(2)

"تاج العروس" 1/ 3598.

(3)

"القاموس المحيط" ص 1083.

(4)

ذكره ابن بطّال في "شرحه" 5/ 160.

(5)

"شرح النوويّ" 14/ 95.

(6)

"المفهم" 5/ 436.

(7)

"شرح الزرقانيّ على الموطّأ" 4/ 405.

ص: 163

وقال النوويّ: قول مالك: "أُرى ذلك من العين" هو بضم همزة "أُرَى"؛ أي: أظن أن النهي مختصّ بمن فعل ذلك بسبب رفع ضرر العين، وأما من فعله لغير ذلك، من زينة، أو غيرها فلا بأس، قال القاضي عياض: الظاهر من مذهب مالك أن النهي مختصّ بالوتر دون غيره من القلائد. انتهى

(1)

.

وقال القرطبيّ: قول مالك: "أُرى ذلك من العين"؛ يعني: أنهم كانوا يتعوَّذون بتعليق أوتار قسيِّهم في أعناق إبلهم من العين، فأمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بقطعها؛ لأَجل توقّع ذلك، وظاهر قول مالك خصوصية ذلك بالوتر، ولذلك أجازه ابن القاسم بغير الوتر، وقال بعض أصحابنا فيمن قلَّد بعيره شيئًا ملونًا فيه خَرَز، إن كان للجَمَال؛ فلا بأس به. انتهى

(2)

.

وقال: قال أبو عمر بن عبد البرّ: قد فسَّر مالك هذا الحديث أنه من أجل العين، وهو عند جماعة من أهل العلم كما قال مالك، لا يجوز عندهم أن يُعَلَّق على الصحيح من البهائم، أو بني آدم شيء من العلائق خوف نزول العين؛ لهذا الحديث، ومَحْمَل ذلك عندهم فيما عُلِّق قبل نزول البلاء؛ خشيةَ نزوله، فهذا هو المكروه من التمائم، وكل ما يُعَلَّق بعد نزول البلاء من أسماء الله، وكاتبه رجاءَ الفرج والبرء من الله فهو كالرُّقَى المباح الذي وردت السُّنَّة بإباحته من العين، وغيرها، وقد قال مالك رحمه الله: لا بأس بتعليق الكتب التي فيها أسماء الله على أعناق المرضى على وجه التبرك بها، إذا لم يُرِدْ معلِّقها بتعليقها مدافعةَ العين، وهذا معناه قبل أن ينزل به شيء من العين، ولو نزل به شيء من العين جاز الرُّقى عند مالك، وتعليق الكتب، ولو عُلِم العائن لكان الوجه في ذلك اغتسال العائن للمَعِين.

قال: وأما تخصيص الأوتار بالقطع، وأن لا تقلَّد الدواب شيئًا من ذلك قبل البلاء، ولا بعده، فقيل: إن ذلك لئلا تَختنق بالوتر في خشبة، أو شجرة، فتقتلها، فإذا كان خيطًا انقطع سريعًا، وقد قيل في معنى الأوتار غير هذا. انتهى

(3)

.

(1)

"شرح النوويّ" 14/ 95.

(2)

"المفهم" 5/ 436.

(3)

"التمهيد لابن عبد البرّ" 17/ 160 - 161.

ص: 164

قال الجامع عفا الله عنه: التفريق في تعليق الوتر بين نزول البلاء، وعدم نزوله - كما نُقل عن مالك - عندي محلّ نظر؛ إذ النصّ لم يفرّق، فتأمل، والله تعالى أعلم.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي بشير الأنصاريّ رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [27/ 5537](2115)، و (البخاريّ) في "الجهاد"(3005)، و (أبو داود) في "الجهاد"(2552)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(5/ 251)، و (مالك) في "الموطّأ"(2/ 937)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(6/ 521)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 216)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(22/ 750)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4698)، و (البيهقي) في "الكبرى"(5/ 254)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(2679)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): قال القرطبي رحمه الله: اختَلَف العلماء في تقليد البعير وغيره من الحيوان، والإنسان ما ليس بتعاويذ قرآنية مخافة العين، فمنهم من نَهَى عنه، ومَنَعه قبل الحاجة، وأجازه عند الحاجة إليه، ومنهم من أجازه قبل الحاجة، كما يجوز الاستظهار بالتداوي قبل حلول المرض.

وقال غير مالك: إن الأمر بقطع الأوتار إنما كان مخافة أن يَختنق به البعير عند الرَّعي، أو يحتبس بغصن من أغصان الشجرة، كما اتفق لناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم في فَقْدها، ثم وجدها قد حبستها شجرة، والله تعالى أعلم. انتهى

(1)

.

وقال في "الفتح": قاله ابن الجوزيّ: وفي المراد بالأوتار ثلاثة أقوال:

[أحدها]: أنهم كانوا يقلِّدون الإبل أوتار القسيّ لئلا تصيبها العين بزعمهم، فأمروا بقطعها إعلامًا بأن الأوتار لا تردّ من أمر الله شيئًا، وهذا قول مالك، وقع ذلك متصلًا بالحديث من كلامه في "الموطأ"، وعند مسلم، وأبي

(1)

"المفهم" 5/ 436.

ص: 165

داود، وغيرهما. قال مالك: أرى أن ذلك من أجل العين، ويؤيده حديث عقبة بن عامر رفعه:"مَن عَلَّق تميمةً فلا أتمَّ الله له"، أخرجه أبو داود أيضًا، والتميمة: ما عُلِّق من القلائد خشية العين، ونحو ذلك، قال ابن عبد البرّ: إذا اعتقد الذي قلدها أنها تردّ العين، فقد ظن أنها تردّ القدر، وذلك لا يجوز اعتقاده.

[ثانيها]: النهي عن ذلك لئلا تختنق الدابة بها عند شدّة الركض، ويُحكى ذلك عن محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة، وكلام أبي عبيد يرجحه، فإنه قال: نُهي عن ذلك؛ لأن الدواب تتأذى بذلك، ويضيق عليها نفسها، ورعيها، وربما تعلقت بشجرة فاختنقت، أو تعوَّقت عن السَّيْر.

[ثالثها]: أنهم كانوا يعلِّقون فيها الأجراس، حكاه الخطابيّ، وعليه يدل تبويب البخاريّ

(1)

، وقد رَوى أبو داود، والنسائيّ من حديث أم حبيبة أم المؤمنين رضي الله عنهما مرفوعًا:"لا تصحب الملائكة رُفقة فيها جرس"، وأخرجه النسائيّ من حديث أم سلمة أيضًا.

قال الحافظ: والذي يظهر أن البخاري أشار إلى ما ورد في بعض طرقه، فقد أخرجه الدارقطنيّ من طريق عثمان بن عمر عن مالك بلفظ:"لا تبقينّ قلادة من وتر، ولا جرس في عنق بعير إلا قُطع".

قال الحافظ: ولا فرق بين الإبل وغيرها في ذلك، إلا على القول الثالث، فلم تجر العادة بتعليق الأجراس في رقاب الخيل.

وقد روى أبو داود، والنسائيّ من حديث أبي وهب الْجُشَميّ، رفعه:"اربطوا الخيل، وقلِّدوها، ولا تقلدوها الأوتار"، فدلّ على أن لا اختصاص للإبل، فلعل التقييد بها في الترجمة

(2)

للغالب.

وقد حَمَل النضر بن شُميل الأوتار في هذا الحديث على معنى الثأر، فقال: معناه: لا تطلبوا بها ذُحول الجاهلية، قال القرطبيّ، وهو تأويل بعيد، وقال النوويّ: ضعيف، وإلى نحو قول النضر جَنَح وكيع، فقال: المعنى: لا تركبوا الخيل في الفتن، فإن من ركبها لم يَسلَم أن يتعلق به وَتْرٌ يُطلب به.

(1)

أي: حيث قال: "باب ما قيل في الجرس ونحوه في أعناق الإبل".

(2)

أي: ترجمة البخاريّ السابقة.

ص: 166

والدليل على أن المراد بالأوتار جمع الوَتَر بالتحريك، لا الوتر بالإسكان، ما رواه أبو داود أيضًا، من حديث رُويفع بن ثابت رضي الله عنه رفعه:"مَن عَقَد لحيته، أو تقلَّد وَتَرًا، فإن محمدًا صلى الله عليه وسلم بريء منه"، فإنه عند الرواة أجمع بفتح المثناة. انتهى

(1)

، وهو بحث نفيسٌ، والله تعالى أعلم.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}

(28) - (بَابُ النَّهْيِ عَنْ ضَرْبِ الْحَيَوَانِ فِي وَجْهِه، وَوَسْمِهِ فِيهِ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5538]

(2116) - (حَدَّثنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثنَا عَليُّ بْنُ مُسْهِرٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْر، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الضَّرْبِ في الْوَجْه، وَعَنِ الْوَسْمِ فِي الْوَجْهِ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

وكلهم تقدّموا قريبًا.

(عَنْ جَابِرٍ) رضي الله عنه، وفي الرواية التالية تصريح أبي الزبير عن جابر رضي الله عنه، فزالت عنه تهمة التدليس، فتنبّه. (قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الضَّرْبِ فِي الْوَجْهِ)؛ أي: عن ضرب الإنسان، وغيره في وجهه، قال القرطبي رحمه الله: نهيه صلى الله عليه وسلم عن الضرب في الوجه، وعن الوسم فيه يدلّ على احترام هذا العضو، وتشريفه على سائر الأعضاء الظاهرة، وذلك لأنه الأصل في خلقة الإنسان، وغيره من الأعضاء خادم له؛ لأنَّه الجامع للحواس التي يحصل بها الإدراكات المشتركة بين الأنواع المختلفة، ولأنَّه أول الأعضاء في الشخوص، والمقابلة، والتحدُّث، والقصد، ولأنَّه مدخل الروح ومخرجه، ولأنه مقرّ الجمال والحسن، ولأن به قوام الحيوان كله: ناطقه، وغير ناطقه، ولمّا كان بهذه المثابة احترمه الشرع، ونهى عن أن يُتعرَّض له بإهانة، ولا تقبيح، ولا تشويه، وقد مرَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم برجل يضرب عبده، فقال: "اتَّقِ الوجه، فإنَّ الله تعالى خلق

(1)

"الفتح" 7/ 256 - 257، كتاب "الجهاد" رقم (3005).

ص: 167

آدم على صورته"؛ أي: على صورة المضروب، ومعنى ذلك - والله أعلم -: أن المضروب من ولد آدم، ووجهه كوجهه في أصل الخلقة، ووجه آدم صلى الله عليه وسلم مكرمٌ، ومشرف؛ إذ قد شرفه الله تعالى بأن خلقه بيده، ونفخ فيه من روحه، وأقبل عليه بكلامه، وأسجد له ملائكته، وإذا كان هذا الوجه يشبه هذا الوجه، فينبغي أن يُحترم كاحترامه.

ولمّا سمع ذلك الصحابي النهي عن الوسم، وفَهِم في لك المعنى قال: والله لا أسِمُه، مبالغةً في الامتثال والاحترام. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(1)

، وهو بحث نفيسٌ جدًّا، والله تعالى أعلم.

وقال النوويّ رحمه الله: وأما الضرب في الوجه فمنهيٌّ عنه في كل الحيوان المحترم، من الآدميّ، والحمير، والخيل، والإبل، والبغال، والغنم، وغيرها، لكنه في الآدميّ أشدّ؛ لأنه مَجْمَع المحاسن، مع أنه لطيف؛ لأنه يظهر فيه أثر الضرب، وربما شَانَهُ، وربما آذى بعض الحواسّ. انتهى

(2)

.

(وَعَنِ الْوَسْمِ فِي الْوَجْهِ) قال القرطبيّ رحمه الله: "الوسم": الكيّ بالنار، وأصله: العلامة، يقال: وَسَمَ الشيءَ يَسِمه: إذا علّمه بعلامة يُعرَف بها، ومنه: السيماء: العلامة، ومنه قوله تعالى:{سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} الآية [الفتح: 29].

قال: ومعروف الرواية: "الوسم" بالسين المهملة، وقد رواه بعضهم بالشين المثلثة، وهو وَهَمٌ؛ لأنَّ الوشم إنما هو غرز الشفاه، والأذرُع بالإبرة، وتسويدها بالنَّؤُور

(3)

، وهو الكحل، أو ما شابهه، والوسم: هو الكيٌّ، فكيف يجعل أحدهما مكان الآخر؟!. انتهى

(4)

.

وقال النوويّ رحمه الله: أما الوسم فبالسين المهملة، هذا هو الصحيح المعروف في الروايات، وكُتُب الحديث، قال القاضي: ضبطناه بالمهملة،

(1)

"المفهم" 5/ 437.

(2)

"شرح النوويّ" 14/ 97.

(3)

قال في "القاموس": النَّؤُور كصَبُور: النَّيْلَجُ، ودخان الشَحْم، وحصاة كالإثمد تُدَقّ، فَتسَفُّها اللِّثَةُ. انتهى.

(4)

"المفهم" 5/ 437 - 438.

ص: 168

قال: وبعضهم يقوله بالمهملة، وبالمعجمة، وبعضهم فرَّق، فقال: بالمهملة في الوجه، وبالمعجمة في سائر الجسد.

قال أهل اللغة: الوسم أثر كَيّة، يقال: بعير موسوم، وقد وَسَمَه يَسِمه وَسْمًا، وسِمَة، والْمِيسم الشيء الذي يُوسم به، وهو بكسر الميم، وفتح السين، وجمعه مياسم، ومواسم، وأصله كله من السِّمَة، وهي العلامة، ومنه مَوْسم الحجّ؛ أي: مَعْلَم جَمْع الناس، وفلان موسوم بالخير، وعليه سمة الخير؛ أي: علامته، وتوسمت فيه كذا؛ أي: رأيت فيه علامته، والله أعلم. انتهى

(1)

.

وقال النوويّ أيضًا: وأما الوسم في الوجه فمنهيّ عنه بالإجماع؛ لحديث الباب، ولمَا ذكرناه، فأما الآدميّ فوَسْمه حرام؛ لكرامته، ولأنه لا حاجة إليه، فلا يجوز تعذيبه، وأما غير الآدميّ، فقال جماعة من أصحابنا - يعني: الشافعيّة -: يكره، وقال البغويّ من أصحابنا: لا يجوز، فأشار إلى تحريمه، وهو الأظهر؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم لَعَن فاعله، واللعن يقتضى التحريم، وأما وسم غير الوجه من غير الآدميّ فجائز، بلا خلاف عندنا، لكن يستحب في نَعَم الزكاة، والجزية، ولا يستحب في غيرها، ولا يُنهى عنه. انتهى كلام النوويّ رحمه الله

(2)

، وهو بحث قيّم، ويستفاد منه ترجيح القول بتحريم الوسم في الوجه؛ لظهور حجته، والله تعالى أعلم.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [28/ 5538 و 5539](2116)، و (أبو داود) في "الجهاد"(2564)، و (الترمذيّ) في "الجهاد"(1710)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(4/ 263)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 318 و 378)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(2551)، و (البيهقي) في "الكبرى"(5/ 255)، والله تعالى أعلم.

(1)

"شرح النوويّ" 14/ 97.

(2)

"شرح النوويّ" 14/ 97.

ص: 169

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5539]

(

) - (وَحَدَّثَنِي هَارُونُ بْنُ عَبْدِ الله، حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ (ح) وَحَدَّثنا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ، كِلَاهُمَا عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْر، أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ يَقُولُ: نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِهِ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) بن مروان الحمّال، أبو موسى البغداديّ، ثقةٌ [10](ت 243)، وقد ناهز الثمانين (م 4) تقدم في "الإيمان" 64/ 361.

2 -

(حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ) الأعور البغداديّ، ثمّ المصيصيّ، ثقةٌ ثبت اختلط في آخره [9](ت 206)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 94.

3 -

(عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ) الكسيّ، تقدّم قبل بابين.

4 -

(مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ) البُرْسانيّ، تقدّم قريبًا.

والباقون تقدّموا قريبًا.

[تنبيه]: رواية حجاج بن محمد عن ابن جريج، ساقها البيهقيّ رحمه الله في "الكبرى"، فقال:

(10114)

- أخبرنا أبو طاهر الفقيه، أنا أبو حامد بن بلال البزاز، ثنا إبراهيم بن الحارث البغداديّ، ثنا حجاج بن محمد الأعور المصيصيّ، قال: قال ابن جريج: أخبرني أبو الزبير، أنه سمع جابر بن عبد الله يقول:"نهى رسول الله - صلي الله عليه وسلم - عن الوسم في الوجه، والضرب في الوجه". انتهى

(1)

.

وأما رواية محمد بن بكر عن ابن جريج، فلم أر من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5540]

(2117) - (وَحَدَّثَني سَلَمَةُ بْنُ شَبِيب، حَدَّثنا الْحَسَنُ بْنُ أَعْيَنَ، حَدثنا مَعْقِلٌ، عَنْ أَبِي الزبَيْر، عَنْ جَابِرٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مَرَّ عَلَيْهِ حِمَارٌ قَدْ وُسِمَ فِي وَجْهِه، فَقَالَ: "لَعَنَ اللهُ الَّذِي وَسَمَهُ").

(1)

"سنن البيهقيّ الكبرى" 5/ 255.

ص: 170

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(سَلَمَةُ بْنُ شَبِيب) الْمِسْمعيّ النيسابوريّ، نزيل مكة، ثقةٌ، من كبار [11] مات سنة بضع و (240)(م 4) تقدم في "المقدمة" 6/ 60.

2 -

(الْحَسَنُ بْنُ أَعْيَنَ) هو: الحسن بن محمد بن أعين الْحَرّاني، أبو عليّ، نُسب لجدّه، صدوقٌ [9](ت 210)(خ م س) تقدم في "الإيمان" 4/ 119.

3 -

(مَعْقِلُ) بن عُبيد الله الْعَبْسيّ مولاهم، أبو عبد الله الْجَزَريّ، صدوقٌ يُخطئ [8](ت 166)(م د س) تقدم في "الإيمان" 4/ 119.

والباقيان ذُكرا قبله.

شرح الحديث:

(عَنْ جَابِرٍ) رضي الله عنه، وقد صرّح أبو الزبير بالسماع من جابر رضي الله عنه، كما سنذكره من رواية ابن حبّان في "صحيحه"، فتنبّه. (أَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم مَرَّ) بالبناء للفاعل، (عَلَيْهِ) صلى الله عليه وسلم (حِمَارٌ) مرفوع على الفاعليّة لـ"مَرَّ"، وقوله:(قَدْ وُسِمَ فِي وَجْهِهِ) ببناء الفعل للمفعول، جملة في محلّ رفع نعت لـ "حمار"، (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("لَعَنَ اللهُ الَّذِي وَسَمَهُ")؛ أي: كواه في وجهه بالنار، فإنه تغيير لخلق الله، والوسم الكيّ للعلامة، واللعن يقتضي التحريم، فأما وسم وجه الآدميّ فحرام مطلقًا؛ لكرامته، ولأنه تعذيب بلا فائدة، وأما غيره فيحرم في وجهه، لا في غيره؛ للحاجة إليه، قاله المناويّ رحمه الله

(1)

.

وقال في "العمدة": وإنما كرهوا الوسم في الوجه؛ لشرفه؛ وحصول الشَّيْن فيه، وتغيير خلق الله، وأما الوسم في غير الوجه للعلامة والمنفعة بذلك فلا بأس، إذا كان يسيرًا، غير شائن، ألا ترى أنه يجوز في الضحايا وغيرها، والدليل على أنه لا يجوز الشائن من ذلك أنه صلى الله عليه وسلم حَكَم على أن من شَانَ عبده، أو مثَّل به باستئصال أنف، أو أُذن، أو جارحة بعتقه عليه، وقد وسم النبيّ صلى الله عليه وسلم إبل الصدقة. انتهى

(2)

، والله تعالى أعلم.

(1)

"فيض القدير" 5/ 275.

(2)

"عمدة القاري" 21/ 139.

ص: 171

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث جابر رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

[فإن قلت]: كيف أخرج مسلم هذا الحديث، وفي إسناده معقل بن عُبيد الله، وهو متكلّم فيه، وفيه عنعنة أبي الزبير، وهو مدلّس إلا إذا روى عنه الليث؟.

[قلت]: أما الكلام في معقل، فلا يضرّ؛ لأنه لم ينفرد به، بل تابعه عليه سفيان الثوريّ، كما عند أحمد، وأبي داود، وغيرهما، قال أبو داود رحمه الله:

(2564)

- حدّثنا محمد بن كثير، أخبرنا سفيان، عن أبي الزبير، عن جابر، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم مُرّ عليه بحمار، قد وُسِم في وجهه، فقال:"أما بلغكم أني قد لعنت مَن وَسَمَ البهيمة في وجهها، أو ضربها في وجهها؟ "، فنَهَى عن ذلك. انتهى

(1)

، وهذا إسناد صحيح.

وتابعه أيضًا حماد بن سلمة، فقد أخرجه ابن حبّان في "صحيحه"، من طريقه، فقال:

(5627)

- أخبرنا أحمد بن علي بن المثنى، قال: حدّثنا غسان بن الربيع، عن حماد بن سلمة، عن أبي الزبير، عن جابر، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم رأى حمارًا، قد وُسم في وجهه، فقال:"ألم أَنْهَ عن هذا؟ لعن الله من فعله". انتهى

(2)

، وهذا الإسناد حسنٌ.

وأما عنعنة أبي الزبير، فلا تضرّ أيضًا؛ لأنه لم ينفرد به، بل تابعه محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، فقد أخرجه عبد الرزّاق في "مصنّفه"، من روايته عن جابر رضي الله عنه، فقال:

(8450)

- أخبرنا معمر، عن يحيى بن أبي كثير، عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، عن جابر بن عبد الله، قال: رأى النبيّ صلى الله عليه وسلم حمارًا قد وُسِم في وجهه، فقال:"لَعَن الله مَن فَعَل هذا". انتهى

(3)

، وهذا إسناد صحيح، ومحمد بن عبد الرحمن لم يوصف بالتدليس.

(1)

"سنن أبي داود" 3/ 26.

(2)

"صحيح ابن حبان" 12/ 443.

(3)

"مصنف عبد الرزاق" 4/ 458.

ص: 172

وللحديث شاهد من حديث أنس رضي الله عنه، أخرجه الطبرانيّ في "الأوسط"، فقال:

(4292)

- حدّثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، قال: حدّثني إبراهيم بن الحجاج الساميّ، قال: نا عبد الله بن المثنى، قال: نا ثُمامة بن عبد الله بن أنس، عن أنس بن مالك، أن رسول الله - صلي الله عليه وسلم - رأى حمارًا قد وُسِم في وجهه، فقال:"لعن الله مَن فعل هذا". انتهى

(1)

، قال في "المختارة": إسناده صحيح.

وشاهد آخر:

ثم وجدت أبا الزبير قد صرّح بالسماع - فزال الإشكال من أصله، والحمد لله - فقد أخرجه ابن حبّان في "صحيحه"، فقال:

(5626)

- أخبرنا محمد بن إسحاق بن إبراهيم مولى ثقيف، قال: حدثنا محمد بن عبد الرحيم صاعقة، قال: حدثنا رَوح بن عُبادة، قال: حدّثنا زكريا بن إسحاق، قال: حدّثنا أبو الزبير، أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: مَرّ حمار برسول الله - صلي الله عليه وسلم - قد كُوِيَ في وجهه تفور منخراه من دم، فقال رسول الله - صلي الله عليه وسلم -:"لَعَن الله مَن فَعَل هذا، ثم نَهَى عن الكيّ في الوجه، والضرب في الوجه". انتهى

(2)

، وهذا الإسناد صحيح، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [28/ 5540](2117)، و (أبو داود) في "الجهاد"(2564)، و (الترمذيّ) في "الجهاد"(1710)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(8451)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 323)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(2551)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(2235)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5626 و 5627)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 255 و 7/ 35)، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5541]

(2118) - (حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عِيسَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِث، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، أَنَّ نَاعِمًا؛ أَبَا عَبْدِ اللهِ مَوْلَى أُمِّ

(1)

"المعجم الأوسط" 4/ 311.

(2)

"صحيح ابن حبان" 12/ 442.

ص: 173

سَلَمَةَ، حَدَّثَهُ، أنهُ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: وَرَأَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حِمَارًا مَوْسُومَ الْوَجْه، فَأَنكَرَ ذَلِكَ، قَالَ: فَوَاللهِ لَا أَسِمُهُ إِلَّا فِي أَقْصَى شَيْءٍ مِنَ الْوَجْه، فَأَمَرَ بِحِمَارٍ لَهُ، فَكُوِيَ فِي جَاعِرَتَيْه، فَهُوَ أَوَّلُ مَنْ كَوَى الْجَاعِرَتَيْنِ).

رجال هذا الإسناد: ستّة:

1 -

(أَحْمَدُ بْنُ عِيسَى) بن حسّان المصريّ المعروف بالتستريّ، صدوقٌ تكلّم في بعض سماعاته، قال الخطيب: بلا حجة [10](ت 243)(خ م س ق) تقدم في "الإيمان" 8/ 134.

2 -

(يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ) سُويد، أبو رجاء المصريّ، ثقةٌ فقيهٌ، يرسل [5](ت 128)، وقد قارب الثمانين (ع) تقدم في "الإيمان" 16/ 168.

3 -

(نَاعِمٌ أَبُو عَبْدِ اللهِ مَوْلَى أُمِّ سَلَمَةَ) هو: ناعم بن أُجَيْل - بجيم مصغّرًا - الْهَمْدانيّ، أبو عبد الله المصريّ، ثقةٌ فقيهٌ [3](80).

رَوى عن أم سلمة، وعثمان، وعليّ، وأبي هريرة، وابن عباس، وابن عمرو بن العاص، وابن عمر، وغيرهم.

وروى عنه يزيد بن أبي حبيب، والأعرج، وكعب بن علقمة التنوخيّ، والحارث بن يزيد، وعبيد الله بن المغيرة.

قال النسائيّ: ثقةٌ، وقال ابن يونس: كان أحد الفقهاء الذين أدركهم يزيد، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال ابن سعد: كان ثقةً، وذَكَره يعقوب بن سفيان في ثقات المصريين.

قال أبو الأسود النضر بن عبد الجبار: بلغني أنه تُوُفّي سنة ثمانين.

أخرج له المصنّف، والأربعة، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا برقم (2118)، وحديث (2549): "فهل من والديك أَحَدٌ حيّ؟

" الحديث.

والباقون تقدّموا قبل بابين.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالمصريين، سوى الصحابيّ، فبصريّ، ثم مكيّ، ثم طائفيّ، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه ابن عبّاس رضي الله عنهما، وقد تقدّم القول فيه قريبًا.

ص: 174

شرح الحديث:

(عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ)، واسم أبيه سُويد، (أَن نَاعِمًا أَبَا عَبْدِ اللهِ مَوْلَى أمِّ سَلَمَةَ) رضي الله عنهما (حَدَّثَهُ، أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما (يَقُولُ: رَأَى) هكذا في بعض النُّسخ، ووقع في معظمها:"ورأى" بالواو، والأول أولى، وهو الذي في "صحيح ابن حبّان"، و"معجم الطبرانيّ"، فتنبّه. (رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حِمَارًا مَوْسُومَ الْوَجْهِ)؛ أي: مكويّ وجهه للعلامة، وفي رواية ابن حبّان من طريق عبيد الله بن عبد الله عن ابن عبّاس:"أن العبّاس وسَمَ بعيرًا، أو دابّةً في وجهه، فرآه النبيّ صلى الله عليه وسلم، فغضب، فقال عبّاس: لا أسمه إلا في آخره، فوسمه في جاعرتيه". (فَأَنكَرَ ذَلِكَ، قَالَ) ظاهره أن القائل هو النبيّ صلى الله عليه وسلم، وليس كذلك، بل القائل هو العبّاس، أو عبد الله ابنه، قال النوويّ رحمه الله: وأما القائل: "فوالله لا أسمه إلا أقصى شيء من الوجه"، فقد قال القاضي عياض: هو العباس بن عبد المطلب، كذا ذكره في "سنن أبي داود"، وكذا صرَّح به في رواية البخاريّ في "تاريخه"، قال القاضي: وهو في كتاب مسلم مشكلٌ، يوهم أنه من قول النبيّ صلى الله عليه وسلم، والصواب أنه من قول العباس رضي الله عنه كما ذكرنا. انتهى كلام القاضي رحمه الله.

قال النوويّ: وقوله: يوهم أنه من كلام النبيّ صلى الله عليه وسلم ليس هو بظاهر فيه، بل ظاهره أنه من كلام ابن عباس، وحينئذ يجوز أن تكون القضية جرت للعباس، ولابنه. انتهى.

وقال القرطبي رحمه الله: قوله: "قال: والله لا أسمه إلا أقصى شيء من الوجه" ظاهر مساق هذا الحديث في كتاب مسلم أن القائل هو ابن عباس، راوي الخبر، وليس كذلك؛ لِمَا صحَّ من رواية البخاريّ في "التاريخ"، وفي رواية أبي داود في "سننه" أن القائل هو العبّاس والد عبد الله، وهو أوَّل من كَوَى في الجاعرتين، لا ابنه. انتهى.

(فَوَاللهِ لَا أَسِمُهُ إِلَّا فِي أقصَى شَيءٍ)؛ أي: أبْعَدَه (مِنَ الْوَجْه، فَأَمَرَ) العبّاس، أو ابنه رضي الله عنهما (بِحِمَارٍ لَهُ، فَكُوِيَ) بالبناء للمفعول، (فِي جَاعِرَتَيْهِ) الجاعرتان هما حرفا الوَرِك المشرفان مما يلي الدُّبُر، قاله النوويّ، وقال ابن

ص: 175

الأثير رحمه الله: الجاعرتين هما لحمتان، يكتنفان أصل الذَّنَب، وهما من الإنسان في موضع رقمتي الحمار. انتهى

(1)

.

وقال ابن الجوزيّ رحمه الله: الجاعرتان موضع الرقمتين من عَجُز الحمار، وهما مضربه بذنبه على فخذيه، وقال أبو زيد: الجاعرتان من البعير: العظمات المكتنفات أصل الذَّنَب، والذَّنَب منهما. انتهى

(2)

.

(فَهُوَ)؛ أي: العبّاس، أو ابنه رضي الله عنهما (أَوَّلُ مَنْ كَوَى الْجَاعِرَتَيْنِ) قال القرطبيّ رحمه الله: هذه الأحاديث كلها تدلُّ على جواز كَيّ الحيوان لمصلحة العلامة في كل الأعضاء، إلا في الوجه، وهو مستثنى من تعذيب الحيوان بالنار؛ لأجل المصلحة الرَّاجحة، وإذا كان كذلك، فينبغي أن يُقْتَصر منه على الخفيف الذي يحصل به المقصود، ولا يبالغ في التعذيب، ولا التشويه، وهذا لا يختلف فيه الفقهاء إن شاء الله تعالى. انتهى

(3)

، والله تعالى أعلم.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [28/ 5541](2118)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(8449)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5623 و 5624 و 5625)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(10/ 332)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(7/ 35 - 35)، والله تعالى أعلم.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(1)

"النهاية في غريب الأثر" 1/ 275.

(2)

"غريب الحديث لابن الجوزيّ" 1/ 158.

(3)

"المفهم" 5/ 438.

ص: 176

(29) - (بَابُ جَوَازِ وَسْمِ الْحَيَوَانِ غَيْرِ الآدَمِيِّ فِي غَيْرِ الْوَجْه، وَنَدْبِهِ في نَعَمِ الزَّكَاة، وَالْجِزْيَةِ)

وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أول الكتاب قال:

[5542]

(2119) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: لَمَّا وَلَدَتْ أمُّ سُلَيْم قَالَتْ لِي: يَا أنسُ انْظُرْ هَذَا الْغُلَامَ، فَلَا يُصِيبَن شَيْئًا حَتَّى تَغْدُوَ بِهِ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يُحَنِّكُهُ، قَالَ: فَغَدَوْتُ، فَإذَا هُوَ فِي الْحَائِط، وَعَلَيْهِ خَمِيصَةٌ جَوْنِيَّةٌ، وَهُوَ يَسِمُ الظَّهْرَ الَّذِي قَدِمَ عَلَيْهِ فِي الْفَتْحِ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) أبو موسى الْعَنَزيّ البصريّ، المعروف بالزَّمِن، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 252)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.

2 -

(مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَدِيٍّ) هو: محمد بن إبراهيم بن أبي عديّ، نُسب لجدّه، أبو عمرو البصريّ، ثقة [9](ت 194) على الصحيح (ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 128.

3 -

(ابْنُ عَوْنٍ) هو: عبد الله بن عون بن أرطبان، أبو عون البصريّ، ثقة ثبتٌ فاضلٌ [5](ت 150) على الصحيح (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 303.

4 -

(مُحَمَّدُ) بن سيرين الأنصاريّ مولاهم، أبو بكر بن أبي عمرة البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ عابد كبير القدر [3](ت 110)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 308.

5 -

(أنَسُ) بن مالك بن النضر الأنصاريّ الخزرجيّ، خادم رسول الله - صلي الله عليه وسلم -، خدمه عشر سنين، ومات سنة (2 أو 93) وقد جاوز المائة (ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالبصريين من أوله إلى آخره، وأن شيخه أحد التسعة الذين روى عنهم الجماعة بلا واسطة، وقد تقدّموا غير مرّة، وفيه أنس رضي الله عنه أحد المكثرين السبعة، روى (2286) حديثًا، وهو آخر من مات من الصحابة بالبصرة.

ص: 177

شرح الحديث:

(عَنْ أنسٍ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: لَمَّا وَلَدَتْ أُمُّ سُلَيْم) بنت مِلْحان الأنصاريّة، وهي والدة أنس رضي الله عنهما، يقال: اسمها سهلة، أو رُميلةً، أو رُميثة، أو مليكة، أو أُنيثة، وهي الغُميصاء، أو الرُّميصاء، اشتهرت بكنيتها، وكانت من الصحابيّات الفاضلات، وماتت في خلافة عثمان رضي الله عنه. (قَالَتْ لِي: يَا أنَسُ انْظُرْ هَذَا الْغُلَامَ) هو ولدها عبد الله بن أبي طلحة، أخو أنس من أمه، (فَلَا يُصِيبَنَّ شَيْئًا)؛ أي: من المأكولات والمشروبات، (حَتى تَغْدُوَ بِهِ)؛ أي: تذهب به، يقال: غَدَا غُدُوًّا، من باب قعد: ذهب غُدْوُةً، وهي ما بين صلاة الصبح وطلوع الشمس، وجَمْع الغُدْوَةِ غُدًى، مثلُ مُديةٍ ومُدَىً، هذا أصله، ثم كثُر حتى استُعْمِل في الذهاب، والانطلاق أيَّ وقت كان، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم:"وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ"؛ أي: وانطلق، قاله الفيّوميّ رحمه الله

(1)

.

(إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يُحَنِّكُهُ)؛ أي: يَدْلُكُ حَنَكَه بتمر ونحوه، يقال: حنّكتُ الصبيَّ تحنيكًا: إذا مضغت تمرًا، أو نحوه، ودلكت به حَنَكه، وحَنَكتهُ حَنْكًا، من بابي ضرب، وقتل كذلك، فهو محنّك من المشدّد، ومحثوك من المخفّف، والْحَنَكُ من الإنسان وغيره مذكّرٌ، وهو باطن أعلى الفم من داخل، أو الأسفلُ من طرف مُقَدَّم اللَّحْيَين، وجمعه أحناكٌ، مثلُ سبب وأسباب

(2)

، (قَالَ) أنس رضي الله عنه:(فَغَدَوْتُ)؛ أي: ذهبت بالغلام إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، (فَإذَا هُوَ فِي الْحَائِطِ) "إذا" هنا هي الفُجَائيّة؛ أي: ففاجأني كونه في الحائط؛ أي: البستان، وقوله:(وَعَلَيْهِ خَمِيصَةٌ) جملة في محلّ نصب على الحال، والخميصة: كساء أسود مربّعٌ له عَلَمان

(3)

، وقال النوويّ رحمه الله:: الخميصة هي كساء من صوف، أو خَزّ، ونحوهما، مُرَبَّعٌ، له أعلام. انتهى

(4)

.

وقوله: (جَوْنِيَّةٌ) قال النوويّ رحمه الله: اختَلَف رواة "صحيح مسلم" في ضَبْطه، فالأشهر أنه بحاء مهملة مضمومة، ثم واو مفتوحة، ثم ياء مثناة تحت

(1)

"المصباح المنير" 2/ 443.

(2)

راجع: "المصباح المنير" 1/ 154، و"القاموس المحيط" ص 330.

(3)

"القاموس المحيط" ص 395.

(4)

"شرح النوويّ" 14/ 98.

ص: 178

ساكنة، ثم مثناة فوقُ مكسورةٍ، ثم مثناة تحت مشددة، وفي بعضها:"حوتنية" بإسكان الواو، وبعدها مثناة فوقُ مفتوحة، ثم نون مكسورة، وقد ذكرها القاضي، وفي بعضها:"حونية" بإسكان الواو، وبعدها نون مكسورة، وفي بعضها:"حُريثية" بحاء مهملة مضمومة، وراء مفتوحة، ثم مثناة تحتُ ساكنة، ثم مثلثة مكسورة، منسوبة إلى بني حُريث، وكذا وقع في رواية البخاريّ لجمهور رواة "صحيحه"، وفي بعضها:"حونبية" بفتح الحاء المهملة، وإسكان الواو، ثم نون مفتوحة، ثم باء موحدة، ذكره القاضي، وفي بعضها:"خُويثية" بضم الخاء المعجمة، وفتح الواو، وإسكان المثناة تحتُ، وبعدها مثلثة، حكاه القاضي، وفي بعضها:"جوينية" بجيم مضمومة، ثم واو، ثم مثناة تحتُ، ثم نون مكسورة، ثم مثناة تحت مشدّدة، وفي بعضها:"جَونية" بفتح الجيم، وإسكان الواو، وبعدها نون، قال القاضي في "المشارق": ووقع لبعض رواة البخاريّ "خيبرية" منسوبة إلى خيبر، ووقع في "الصحيحين":"حوتكية" بفتح الحاء، وبالكاف؛ أي: صغيرة، ومنه رجل حَوْتكيّ؛ أي: صغير، قال صاحب "التحرير" في "شرح مسلم" في الرواية الأولى: هي منسوبة إلى الحويت، وهو قبيلة، أو موضع، وقال القاضي في "المشارق": هذه الروايات كلها تصحيف، إلا روايتي جَونية، بالجيم، وحُريثية بالراء والمثلثة، فأما الْجَوْنية بالجيم فمنسوبة إلى بني الجون، قبيلة من الأزد، أو إلى لونها من السواد، أو البياض، أو الحمرة؛ لأن العرب تسمِّي كل لون من هذه جَوْنًا انتهى كلام القاضي

(1)

.

وقال ابن الأثير في "النهاية" بعد أن ذكر الرواية الأولى: هكذا جاء في بعض نُسخ مسلم، ثم قال: والمحفوظ المشهور خميصة جَوْنية؛ أي: سوداء، قال: وأما حُوَيتية فلا أعرفها، وطالما بحثت عنها، فلم أقف لها على معنى، وجاء في رواية أخرى: خميصة حَوْتكيّة، لعلها منسوبة إلى القِصَر، فإن الْحَوْتكيّ الرجل القصير الخَطْوٍ، أو هي منسوبة إلى رجل يُسمّى حوتكًا، والله أعلم. انتهى

(2)

.

(1)

"إكمال المعلم" 6/ 647.

(2)

"النهاية في غريب الأثر" ص 240.

ص: 179

وقوله: (وَهُوَ يَسِمُ الظَّهْرَ) جملة في محلّ نصب على الحال، و"يسم" من باب وعد؛ أي: يَكْوي، و"الظهر": بفتح، فسكون: الإبل التي يُحْمَل عليها، ويُرْكَب، يقال: عند فلان ظهر؛ أي: إبل، ويُجمع على ظُهران بالضمّ

(1)

.

وقال النوويّ رحمه الله: قوله: "يَسِمُ الظهر" المراد به الإبل، سُمّيت بذلك؛ لأنها تَحمل الأثقال على ظهورها. انتهى

(2)

.

(الَّذِي قَدِمَ) بكسر الدال، (عَلَيْهِ فِي الْفَتْحِ)؛ أي: في فتح مكة، وفي رواية للبخاريّ:"وهو يسم الظهر الذي قَدِم عليه"، قال في "الفتح": وفيه ما يدلّ على أن ذلك بعد رجوعهم من غزوة الفتح، وحُنين، والمراد بالظهر: الإبل، وكأنه كان يَسِم الإبل والغنم، فصادف أول دخول أنس، وهو يسم شاةً، ورآه يَسِمُ غير ذلك. انتهى

(3)

، والله تعالى أعلم.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أنس رضي الله عنه هذا متّفق عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [29/ 5542 و 5543 و 5544 و 5545 و 5546](2119)، و"الآداب"[5/ 5600](2144)، وسيأتي في "فضائل الصحابة رضي الله تعالى عنهم" برقم (2144)، و (البخاريّ) في "الزكاة"(1502) و"العقيقة"(5470) و"الذبائح"(5542) و"اللباس"(5824)، و (أبو داود) في "الجهاد"(2563)، و (ابن ماجه) في "اللباس"(3565)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(8452)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(5/ 408)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 65 و 105 - 106 و 171 و 181 و 254 و 284 و 2591 و 5629)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(2283)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4532 و 4533)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(7/ 34 - 35)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(2791)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(1)

"لسان العرب" 4/ 522.

(2)

"شرح النوويّ" 14/ 100.

(3)

"الفتح" 12/ 535، كتاب "الذبائح" رقم (5542).

ص: 180

1 -

(منها): بيان جواز الوسم في غير الآدميّ، واستحبابه في نَعَم الزكاة، والجزية، وأنه ليس في فعله دناءة، ولا ترك مروءة، فقد فعله النبيّ صلى الله عليه وسلم.

قال في "الفتح": والحكمة في الوسم تمييزها، وليردّها من أخذها، ومن التقطها، وليعرفها صاحبها فلا يشتريها إذا تَصَدَّق بها مثلًا؛ لئلا يعود في صدقته. انتهى

(1)

.

2 -

(ومنها): بيان ما كان عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم من التواضع، وفعل الأشغال بيده، ونَظَره في مصالح المسلمين، والاحتياط في حفظ مواشيهم بالوسم، وغيره، قاله النوويّ رحمه الله

(2)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: كونه صلى الله عليه وسلم يَسِم الإبل والغنم بيده؛ يدلُّ على تواضعه صلى الله عليه وسلم، وعلى أن الفضلَ في امتهان الرجل نفسه في الأعمال لا تزري بالإنسان شرعًا، وخصوصًا إذا كان ذلك في مصلحة عامة، كما وسم إبل الصدقة بيده، ويَحْتَمِل أن تكون مباشرته للكل بيده ليرفق بالبهائم في الوسم، ولا يبالغ في ألمها، والله تعالى أعلم. انتهى

(3)

.

3 -

(ومنها): استحباب تحنيك المولود، وسنبسطه في بابه - إن شاء الله تعالى -.

4 -

(ومنها): حمل المولود عند ولادته إلى واحد من أهل الصلاح والفضل، يُحَنِّكه بتمرة؛ ليكون أول ما يدخل في جوفه ريق الصالحين، فيتبرك به، قاله النوويّ.

قال الجامع عفا الله عنه: هكذا الشرّاح يتوسّعون في إثبات التبرّك بالصالحين غير النبيّ صلى الله عليه وسلم، لكن الذي يظهر أنه خاصّ به صلى الله عليه وسلم؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم والتابعين ما كانوا يفعلونه مع أبي بكر، ولا غيره من الخلفاء الراشدين وغيرهم من أفاضل الصحابة رضي الله عنهم، ولو كان مشروعًا لَمَا تركوه، فليُتأمل، والله تعالى أعلم.

5 -

(ومنها): أن فيه حجة على من كَرِه الوسم من الحنفية بالميسم؛

(1)

"الفتح" 4/ 366، كتاب "الزكاة" رقم (1502).

(2)

"شرح النوويّ" 14/ 100.

(3)

"المفهم" 5/ 440.

ص: 181

لدخوله في عموم النهي عن المُثلة، وقد ثبت ذلك من فعل النبيّ صلى الله عليه وسلم، فدلّ على أنه مخصوص من العموم المذكور؛ للحاجة؛ كالختان للآدميّ، قاله في "الفتح"

(1)

.

6 -

(ومنها): ما قاله المهلب وغيره: في هذا الحديث أن للإمام أن يتخذ مِيسمًا، وليس للناس أن يتخذوا نظيره، وهو كالخاتم.

7 -

(ومنها): أن فيه اعتناءَ الإمام بأموال الصدقة، وتوليها بنفسه، ويلتحق به جميع أمور المسلمين.

8 -

(ومنها): جواز إيلام الحيوان للحاجة.

9 -

(ومنها): جواز تأخير قسمة الصدقة؛ لأنها لو عُجِّلت لاستُغني عن الوسم.

10 -

(ومنها)؛ أن فيه مباشرةَ أعمال المهنة، وترك الاستنابة فيها؛ للرغبة في زيادة الأجر، ونفي الكِبْر، والله أعلم.

11 -

(ومنها): ما قاله النوويّ رحمه الله: إن وسم الآدميّ حرام، وأما غير الآدميّ فالوسم في وجهه منهيّ عنه، وأما غير الوجه فمستحب في نَعَم الزكاة، والجزية، وجائز في غيرها، وإذا وَسَم فيستحب أن يَسِم الغنم في آذانها، والإبل، والبقر في أصول أفخاذها؛ لأنه موضعٌ صَلْبٌ، فيقلّ الألم فيه، ويخِفّ شعره، ويظهر الوسم، وفائدة الوسم تمييز الحيوان بعضه من بعض، ويستحب أن يكتب في ماشية الجزية: جزية، أو صَغار، وفي ماشية الزكاة: زكاة، أو صدقة، قال الشافعيّ وأصحابه: يستحب كون مِيسم الغنم ألطف من ميسم البقر، وميسم البقر ألطف من ميسم الإبل.

قال النوويّ: وهذا الذي قدمناه من استحباب وَسْم نَعَم الزكاة والجزية هو مذهبنا، ومذهب الصحابة كلهم رضي الله عنه، وجماهير العلماء بعدهم، ونقل ابن الصباغ، وغيره إجماع الصحابة عليه، وقال أبو حنيفة: هو مكروه؛ لأنه تعذيب ومُثْلةٌ، وقد نُهِي عن المثلة، وحجة الجمهور هذه الأحاديث الصحيحة الصريحة التي ذكرها مسلم، وآثار كثيرة عن عُمر وغيره من الصحابة رضي الله عنهم، ولأنها ربما

(1)

"الفتح" 4/ 366، كتاب "الزكاة" رقم (1502).

ص: 182

شَرَدت، فيعرفها واجدها بعلامتها، فيردّها، والجواب عن النهي عن المثلة والتعذيب، أنه عامّ، وحديث الوسم خاصّ، فوجب تقديمه. انتهى كلام النوويّ رحمه الله

(1)

، وهو تحقيق نفيسٌ جدًّا، والله تعالى أعلم.

ويالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5543]

(

) - (حَدَّثنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثنَا شُعْبَةُ، عَنْ هِشَامِ بْنِ زيدٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَنسًا يُحَدِّثُ أَنَّ أمّهُ حِينَ وَلَدَتِ انْطَلَقُوا

(2)

بِالصَّبِيِّ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يحَنِّكُهُ، قَالَ: فَإذَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي مِرْبَدٍ يَسِمُ غَنَمًا، قَالَ شُعْبَةُ: وَأكثَرُ عِلْمِي أنهُ قَالَ: فِي آذَانِهَا).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ) الْهُذليّ، أبو عبد الله البصريّ، المعروف بغُندر، ثقة صحيح الكتاب [9](ت 3 أو 194)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.

2 -

(شُعْبَةُ) بن الحجّاج بن الورد الْعَتكيّ مولاهم، أبو بسطام الواسطيّ، ثمّ البصريّ، ثقةٌ حافظٌ متقنٌ عابد، أمير المؤمنين في الحديث، أول من فتّش بالعراق عن الرجال، وذبّ عن السُّنَّة [7](ت 160)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 381.

3 -

(هِشَامُ بْنُ زيدِ) بن أنس بن مالك الأنصاريّ البصريّ، ثقة [5](ع) تقدم في "الحيض" 6/ 714.

والباقيان ذُكرا قبله.

وقوله: (أَنَّ أمَّهُ حِينَ وَلَدَتِ)؛ أي: عبدَ الله بن أبي طلحة.

وقوله: (انْطَلَقُوا بِالصَّبِيِّ) وفي بعض النسخ: "انطلقتُ بالصبيّ، ولا تنافي بينهما؛ لأن معنى انطلقوا: انطلق أنس، ومن معه.

وقوله: (فِي مِرْبَدٍ) قال النوويّ رحمه الله: المربد بكسر الميم، وإسكان الراء، وفتح الموحدة، وهو الموضع الذي تُحبس فيه الإبل، وهو مثلُ الْحَظِيرة للغنم، فقوله هنا:"في مِربد" يَحْتَمِل أنه أراد الحظيرة التي للغنم، فأَطلق عليها اسم

(1)

"شرح النوويّ" 14/ 99 - 100.

(2)

وفي نسخة: "انطلقت".

ص: 183

المربد مجازًا؛ لمقاربتها، ويَحْتَمِل أنه على ظاهره، وأنه أَدخل الغنم مِربد الإبل؛ لِيَسِمَها فيه. انتهى

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: "المربد": أصله للإبل، فيَحْتَمِل أن كان مربدًا للإبل، وأُدخلت فيه الغنم، ويَحْتَمِل أن يكون استعاره لحظيرة الغنم. انتهى

(2)

.

وقوله: (قَالَ شُعْبَةُ: وَأكثَرُ عِلْمِي) قال النوويّ رحمه الله: رُوي بالثاء المثلثة، وبالباء الموحَّدة، وهما صحيحان. انتهى

(3)

.

(قَالَ شُعْبَةُ: وَأكثَرُ عِلْمِي أنَّهُ قَالَ: في آذَانِهَا) هذا فيه بيان أن شعبة: شكّ هل في الحديث بعد قوله: "يسم غنمًا" زيادة: "في آذانها" أم لا؟، ولكن أكثر ظنّه أنه فيه، وفي رواية يحيى القطّان التالية:"قال: وأحسبه قال: في آذانها".

قال في "الفتح": قوله: "في آذانها" يستفاد منه أن الأُذُن ليست من الوجه، وفيه حجة للجمهور في جواز وسم البهائم بالكيّ، وخالف فيه الحنفية؛ تمسكًا بعموم النهي عن التعذيب بالنار، ومنهم من ادَّعَى نسخه بنهي وَسْم البهائم، وجعله الجمهور مخصوصًا من عموم النهي، والله أعلم. انتهى

(4)

.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام البحث فيه في الحديث الماضي، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5544]

(

) - (وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ شُعْبَةَ، حَدَّثَني هِشَامُ بْنُ زيدٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أنَسًا يَقُولُ: دَخَلْنَا عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِرْبَدًا، وَهُوَ يَسِمُ غَنَمًا، قَالَ: أَحْسِبُهُ قَالَ: في آذَانِهَا).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبِ) بن شدّاد، أبو خيثمة النسائيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 234)، وهو ابن (74) سنةً (خ م د س ق) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.

(1)

"شرح النوويّ" 14/ 100.

(2)

"المفهم" 5/ 440.

(3)

"شرح النوويّ" 14/ 99.

(4)

"الفتح" 12/ 536، كتاب "الذبائح" رقم (5542).

ص: 184

2 -

(يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ) بن فرّوخ التميميّ، أبو سعيد القطّان البصريّ، ثقة متقنٌ حافظ، إمام قُدوة، من كبار [9](ت 198) وله (78) سنةً، تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 385.

والباقون ذُكروا قبله.

وقوله: (قَالَ: أَحْسِبُهُ قَالَ: فِي آذَانِهَا) ظاهر ما سبق في الرواية الماضية أن فاعل "قال" الأول ضمير شعبة، وفاعل "قال" الثاني ضمير هشام، لكن وقع في "مسنده أحمد" التصريح بأن فاعل "قال" الأول ضمير هشام، والثاني ضمير أنس، قال رحمه الله في "مسنده":

(12748)

- حدّثنا حجاج، قال شعبة: أنبأناه عن هشام بن زيد بن أنس، عن جدّه أنس بن مالك، قال: دخلت على رسول الله - صلي الله عليه وسلم -، وهو يَسِم غنمًا، قال هشام: أحسبه قال: في آذانها، قال: ثم قال بعدُ: في آذانها، ولم يشكّ. انتهى

(1)

.

والحديث سبق القول فيه قبله.

وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أول الكتاب قال:

[5545]

(

) - (وَحَدَّثَنِيهِ يَحْيَى بْنُ حَبِيبٍ، حَدَّثنَا خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ (ح) وَحَدَّثنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثنَا مُحَمَّدٌ، وَيَحْيَى، وَعَبْدُ الرَّحْمَن، كُلُّهُمْ عَنْ شُعْبَةَ، بِهَذَا الإِسْنَادِ مِثْلَهُ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ حَبِيبِ) بن عربيّ البصريّ، ثقةٌ [10](ت 248) أو بعدها (م 4) تقدم في "الإيمان" 14/ 165.

2 -

(خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ) بن عُبيد بن سُليم الْهُجيميّ، أبو عثمان البصريّ، ثقةٌ ثبت [8](ت 186)(ع) تقدم في "الإيمان" 35/ 243.

3 -

(مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارِ) بن عثمان العبديّ، أبو بكر البصريّ المعروف ببندار، ثقةٌ [10](ت 252)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.

(1)

"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 3/ 169.

ص: 185

4 -

(عَبْدُ الرَّحْمَنِ) بن مهديّ بن حسّان العنبريّ مولاهم، أبو سعيد البصريّ، ثقة ثبتٌ حافظٌ عارف بالرجال والحديث [9](ت 198)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 388.

والباقون ذُكروا قبله.

وقوله: (كُلُّهُمْ عَنْ شُعْبَةَ

إلخ)؛ يعني: أن هؤلاء الأربعة: خالد بن الحارث، ومحمد بن جعفر غندر، ويحيى القطّان، وعبد الرحمن بن مهديّ رووا هذا الحديث عن شعبة، عن هشام بن زيد، عن أنس رضي الله عنه.

[تنبيه]: رواية يحيى القطّان، ومحمد بن جعفر غندر، وعبد الرحمن بن مهدي كلّهم عن شعبة ساقها ابن خزيمة رحمه الله في "صحيحه"، فقال:

(2283)

- حدّثنا بُندار، حدّثنا يحيى، ومحمد بن جعفر، وعبد الرحمن بن مهديّ، قالوا: حدّثنا شعبة، عن هشام بن زيد، قال: سمعت أنس بن مالك يقول: حين ولدت أمي انطلقتُ بالصبيّ إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ليحنكه، فإذا النبيّ صلى الله عليه وسلم في مِرْبد له يَسِم غنمًا، قال شعبة: أكثر علمي أنه قال: في آذانها. انتهى

(1)

.

وأما رواية خالد بن الحارث عن شعبة، فلم أر من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5546]

(

) - (حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ مَعْرُوفٍ، حَدَّثَنَا الْوَليدُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنِ الأَوْزَاعِيِّ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ أنس بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: رَأَيْتُ في يَدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْمِيسَمَ، وَهُوَ يَسِمُ إِبِلَ الصَّدَقَةِ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(هَارُونُ بْنُ مَعْرُوفٍ) المروزيّ، أبو عليّ الخزّاز الضرير، نزيل بغداد، ثقة [10](ت 231)، وله (74) سنةً (خ م د) تقدم في "الإيمان" 63/ 350.

2 -

(الْوَليدُ بْنُ مُسْلِمٍ) القرشيّ مولاهم، أبو العبّاس الدمشقيّ، ثقة لكنه كثير التدليس والتسوية [8](ت 4 أو 195)(ع) تقدم في "الإيمان" 10/ 148.

(1)

صحيح ابن خزيمة 4/ 28.

ص: 186

3 -

(الأَوْزَاعِيُّ) عبد الرحمن بن عمرو بن أبي عمرو، أبو عمرو الفقيه، ثقةٌ جليلٌ [7](ت 157)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 28.

4 -

(إِسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ) الأنصاريّ، أبو يحيى المدنيّ، ثقةٌ حجةٌ [4](ت 132) أو بعدها (ع) تقدم في "الطهارة" 30/ 667.

و"أنس رضي الله عنه" ذُكر قبله.

وقوله: (رَأَيْتُ فِي يَدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْمِيسَمَ) بوزن منبر، مكسور الأول، وأصله مِوْسم؛ لأن فاءه واو، لكنها لمّا سكنت، وكسر ما قبلها قُلبت ياء، وهي الحديدة التي يُوسم بها؛ أي: يُعَلَّم، وهو نظير الخاتم، أفاده في "الفتح".

وقال في "العمدة": قوله: "الميسم" بكسر الميم، وفتح السين المهملة، وهو الْمِكْوَى، وهي الآلة التي يُكوَى بها، وقيل: بالشين المعجمة، والمهملة، وقيل: بينهما فرق، فبالمهملة يكون الكيّ في الوجه، وبالمعجمة في سائر الجسد. انتهى

(1)

.

وقال الحافظ رحمه الله: ولم أقف على تصريحٍ بما كان مكتوبًا على مِيسم النبيّ صلى الله عليه وسلم إلا أن ابن الصباغ من الشافعية نقل إجماع الصحابة على أنه يُكتب في ميسم الزكاة: زكاة، أو صدقة. انتهى.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى البحث فيه مستوفًى، ولله الحمد والمنّة.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(30) - (بَابُ النَّهْيِ عَنِ الْقَزَعِ)

وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5547]

(2120) - (حَدَّثَني زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنِي يَحْيَى - يَعْني: ابْنَ سَعِيدٍ - عَنْ عُبَيْدِ الله، أَخْبَرَنِي عُمَرُ بْنُ نَافِعٍ، عَنْ أَبِيه، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلي الله عليه وسلم - نَهَى عَنِ الْقَزَع، قَالَ: قُلْتُ لِنَافِعٍ: وَمَا الْقَزَعُ؟ قَالَ: يُحْلَقُ بَعْضُ رَأْسِ الصَّبِيِّ، وَيُتْرَكُ بَعْضٌ).

(1)

"عمدة القاري" 9/ 106.

ص: 187

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عُبَيْدُ اللهِ) بن عمر الْعُمريّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(عُمَرُ بْنُ نَافِعٍ) الْعَدويّ مولى ابن عمر المدنيّ، ثقةٌ [6].

رَوَى عن أبيه، والقاسم بن محمد بن أبي بكر، وروى عنه مالك، وزيد بن أبي أنيسة، وعبيد الله بن عمر، وعثمان بن عثمان الغطفاني، وروح بن القاسم، ويحيى بن سعيد الأنصاريّ، وعبد الرحمن بن أبي الرجال، وغيرهم.

قال عبد الله بن أحمد عن أبيه: هو من أوثق ولد نافع، وقال ابن معين، وأبو حاتم: ليس به بأس، وقال ابن سعد: كان ثبتًا قليل الحديث، ولا يحتجون بحديثه

(1)

، وقال النسائيّ: ثقة، وقال ابن المدينيّ عن ابن عيينة: قال لي زياد بن سعد حين أتينا عمر: هذا أحفظ ولد نافع، وحديثه عن نافع صحيح، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال أبو داود: قال أحمد بن حنبل: هو عندي مثل الْعُمريّ، قال أبو داود: هو عندي فوق العُمَريّ.

وقال الواقديّ: مات بالمدينة في خلافة أبي جعفر المنصور.

أخرج له البخاريّ، والمصنّف، وأبو داود، والنسائيّ، وابن ماجه، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا برقم (2120)، وحديث (2233): "نهي عن قتل الجنّان التي تكون في البيوت

" الحديث.

3 -

(أَبُوهُ) نافع مولى ابن عمر الفقيه المدنيّ، تقدّم قريبًا.

4 -

(ابْنُ عُمَرَ) عبد الله رضي الله عنه، تقدّم أيضًا قريبًا.

والباقيان ذُكرا قبل حديثين.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه ابن عمر رضي الله عنه أحد العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة، روى (2630) حديثًا.

(1)

كلام ابن سعد هذا متناقض، كيف يكون ثبتًا في الحديث، ولا يُحتجّ بحديثه، هيهات؟ راجع: ما كتبه الحافظ في "هدي الساري" ص 431.

ص: 188

شرح الحديث:

(عَنْ عُبَيْدِ اللهِ) بن عمر العمريّ أنه قال: (أَخْبَرَني عُمَرُ بْنُ نَافِع، عَنْ أَبِيهِ) نافع مولى ابن عمر، (عَنِ ابْنِ عُمَرَ) بن الخطّاب رضي الله عنهما (أَن رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنِ الْقَزَعِ) - بفتح القاف، والزاي، ثم العين المهملة - جمع قَزَعة، وهي القطعة من السحاب، وسُمّي شعر الرأس إذا حُلِق بعضه، وترك بعضه قَزَعًا؛ تشبيهًا بالسحاب المتفرق، قاله في "الفتح"

(1)

.

(قَالَ) عمر بن نافع (قُلْتُ لِنَافِع) أبيه، (وَمَا الْفَزَعُ؟ قَالَ) نافع:(يُحْلَقُ) بالبناء للمفعول، وهكذا الرواية بدون "أن" المصدريّة، ولا بدّ من تقديرها، ورفع الفعل إذا حُذفت قياس على الأصحّ، كما في قوله تعالى:{وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ} [الروم: 24] الآية، وإليه يشير ابن مالك رحمه الله في "الخلاصة" حيث قال:

وَشَذَّ حَذْفُ "أَنْ" ونَصْبٌ فِي سِوَى

مَا مَرَّ فَاقْبَلْ مِنْهُ مَا عَدْلٌ رَوَى

فإن مقتضاه أن حذفها مع رفع الفعل ليس شاذًّا، كما في الآية المذكورة، والفعل في تأويل المصدر خبر لحذوف؛ أي: هو حلقُ بعض الرأس، وترك بعضه. (بَعْضُ رَأسِ الصَّبِيِّ، وَيُتْرَكُ بَعْضٌ) هذه الرواية صريحة في أن التفسير المذكور لنافع، وفي رواية أبي لأسامة التالية أنه لعبيد الله، قال النوويّ رحمه الله: وفي رواية أن هذا التفسير من كلام عبيد الله، قال: وهذا الذي فسّره به نافع، أو عبيد الله هو الأصح، وهو أن القزع حَلْق بعض الرأس مطلقًا، ومنهم من قال: هو حَلْق مواضع متفرقة منه، والصحيح الأول؛ لأنه تفسير الراوي، وهو غير مخالف للظاهر، فوجب العمل به. انتهى.

وقال القرطبيّ رحمه الله في "الصحاح": القزع أن يُحْلَق رأس الصبي في مواضع، ويترك الشعر متفرقًا، وقد نُهي عنه، وقَزَّع رأسه تقزيعًا: إذا حلق شعره، وبقيت منه بقايا في نواحي رأسه، ورجل مُقَزَّع: رقيقُ شعر الرأس، متفرَّقه، قال: والقزع: قِطَعٌ من السحاب رقيقًا، الواحدة: قزعة.

قال القرطبي رحمه الله: لا خلاف أنه إذا حُلق من الرأس مواضع، وأبقيت مواضع أنه القَزَع المنهي عنه، لِمَا عُرِف من اللغة كما نقلناه، ولتقسير نافع له بذلك.

(1)

"الفتح" 13/ 432، كتاب "اللباس" رقم (5920).

ص: 189

قال: واختُلِف فيما إذا حُلق جميع الرأس، وترك منه موضع؛ كشعر الناصية، أو فيما إذا حُلق موضع وحده، وبقي أكثر الرأس، فمنع ذلك مالك، ورآه من القَزَع المنهيّ عنه، وقال ابن نافع: أما القُصَّة، والقفا للغلام فلا بأس به.

قال: واختُلف في المعنى الذي لأجله كُره، فقيل: لأنه من زيّ أهل الزعارة

(1)

والفساد، وفي كتاب أبي داود: أنه زِيّ اليهود، وقيل: لأنَّه تشويه، وكأن هذه العلة أشبه؛ بدليل ما رواه النسائيّ من حديث ابن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله - صلي الله عليه وسلم - رأى صبيًّا حُلق بعض شعره، وتُرك بعضه، فنهى عن ذلك، وقال:"اتركوه كله، أو احلقوه كله". انتهى

(2)

.

وقال النوويّ: وأجمع العلماء على كراهة القزع، إذا كان في مواضع متفرقة، إلا أن يكون لمداواة ونحوها، وهي كراهة تنزيه، وكَرِهه مالك في الجارية والغلام مطلقًا، وقال بعض أصحابه: لا بأس به في القصة والقفا للغلام، ومذهبنا

(3)

كراهته مطلقًا للرجل والمرأة لعموم الحديث.

قال العلماء: والحكمة في كراهته أنه تشويه للخَلْق، وقيل: لأنه زيّ أهل الشرّ والشطارة، وقيل: لأنه زِيّ اليهود، وقد جاء هذا في رواية لأبي داود

(4)

، والله أعلم. انتهى

(5)

، والله تعالى أعلم.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [30/ 5547 و 5548 و 5549 و 5550](2120)، و (البخاريّ) في "اللباس"(5920 و 5921)، و (أبو داود) في "الترجّل"(4193 و 4194)، و (النسائيّ) في "الزينة"(8/ 130 - 131 و 182 - 283) و"الكبرى"

(1)

في "القاموس": الزّعَارَّةُ، وتخفّف الراء: الشَّرَاسَة.

(2)

"المفهم" 5/ 441 - 442.

(3)

قال الحافظ رحمه الله: حجته ظاهرة؛ لأنه تفسير الراوي.

(4)

حديث أبي داود ضعيف، فتنبّه.

(5)

"شرح النوويّ" 14/ 101.

ص: 190

(5/ 407 و 408 و 409)، و (ابن ماجه) في "اللباس"(3637 و 3638)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(5/ 206)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 4 و 39 و 55 و 88 و 101 و 137 و 143 و 156)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(2/ 74)، و (ابن الجعد) في "مسنده"(1/ 393)، و (أبو حنيفة) في "مسنده"(1/ 177)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5506 و 5507 و 5508)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(1/ 209)، و (أبو القاسم البغويّ) في "الجعديّات"(2777)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(9/ 305) و"شُعب الإيمان"(5/ 231)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(3185)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): أخرج الإمام البخاريّ رحمه الله حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا في "صحيحه"، فقال:

(5920)

- حدثني محمد، قال: أخبرني مخلد، قال: أخبرني ابن جريج، قال: أخبرني عبيد الله بن حفص، أن عمر بن نافع، أخبره عن نافع، مولى عبد الله، أنه سمع ابن عمر رضي الله عنهما، يقول: سمعت رسول الله - صلي الله عليه وسلم - ينهى عن القزع؟ قال عبيد الله: قلت: وما القزع؟ فأشار لنا عبيد الله، قال: إذا حَلَقَ الصبيَّ، وترك ههنا شعرة، وههنا وههنا، فأشار لنا عبيد الله إلى ناصيته، وجانبي رأسه، قيل لعبيد الله: فالجارية والغلام؟ قال: لا أدري، هكذا قال: الصبيّ، قال عبيد الله: وعاودته، فقال: أما القصة، والقفا للغلام فلا بأس بهما، ولكن القزع أن يُترَك بناصيته شعر، وليس في رأسه غيره وكذلك شق رأسه، هذا وهذا. انتهى.

قال في "الفتح": قوله: "أخبرني عبيد الله بن حفص": هو عبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب، وهو العمري المشهور، نسبه ابن جريج في هذه الرواية إلى جده، وقد أخرجه أبو قُرَّة في "السنن" عن ابن جريج، وأبو عوانة من طريقه، فقال:"عن عبيد الله بن عمر بن حفص"، وعبيد الله بن عمر، وشيخه هنا عمر بن نافع، والراوي عنه هو ابن جريج أقرانٌ متقاربون في السن، واللقاء، والوفاة، واشترك الثلاثة في الرواية عن نافع، فقد نزل ابن جريج في هذا الإسناد درجتين، وفيه دلالة على قلة تدليسه، وقد وافق مخلد بن يزيد على هذه الرواية أبو قرة، موسى بن طارق، في "السنن" عن ابن

ص: 191

جريج، وأخرجه أبو عوانة، وابن حبان في "صحيحهما" من طريقه، وأخرجه أبو عوانة أيضًا من طريق هشام بن سليمان، عن ابن جريج، وكذلك قال حجاج بن محمد، عن ابن جريج، وأخرجه النسائيّ، والإسماعيليّ، وأبو عوانة، وأبو نعيم، في "المستخرج" من طريقه، لكن سقط ذِكر عمر بن نافع، من رواية النسائيّ ومن رواية لأبي عوانة أيضًا، وقد صَرّح الدارقطني في "العلل" بأن حجاج بن محمد وافق مخلد بن يزيد على ذكر عمر بن نافع، وأخرجه النسائيّ، من رواية سفيان الثوريّ، على الاختلاف عليه، في إسقاط عمر بن نافع، وإثباته، وقال: إثباته أَولى بالصواب، وأخرجه الترمذيّ من رواية حماد بن زيد، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، لم يذكر عمر بن نافع، وهو مقلوب، وإنما هو عند حماد بن زيد، عن عبد الرحمن السرّاج، عن نافع، أخرجه مسلم، وقد أخرجه مسلم، والنسائيّ، وابن ماجه، وابن حبان، وغيرهم، من طرق متعدّدة، عن عبيد الله بن عمر بإثبات عمر بن نافع، ورواه سفيان بن عيينة، ومعتمر بن سليمان، ومحمد بن عبيد، عن عبيد الله بن عمر بإسقاطه، وكأنهم سلكوا الجادّة؛ لأن عبيد الله بن عمر، معروف بالرواية عن نافع، مكثر عنه، والعمدة على من زاد عمر بن نافع بينهما؛ لأنهم حفاظ، ولا سيّما فيهم من سمع عن نافع نفسه؛ كابن جريج. والله أعلم.

وقوله: "قال عبيد الله: قلت: وما القزع؟ " هو موصول بالإسناد المذكور، وظاهره أن المسؤول هو عمر بن نافع، لكن بَيَّن مسلم أن عبيد الله، إنما سأل نافعًا

(1)

، وذلك أنه أخرجه من طريق يحيى القطان، عن عبيد الله بن عمر، أخبرني عمر بن نافع، عن أبيه، فذكر الحديث، قال: قلت لنافع: وما القزع؟ فذكر الجواب، وأشار لنا عبيد الله قال: إذا حلق الصبيّ، وترك ههنا شعرة، وههنا وههنا، فأشار لنا عبيد الله إلى ناصيته، وجانبي رأسه، المُجيب بقوله:"قال: إذا حلق" هو نافع، وهو ظاهر سياق مسلم، من طريق يحيى القطان المذكور لفظه، قال: يحلق بعض رأس الصبي، ويترك بعضًا.

(1)

قال الجامع عفا الله عنه: رواية مسلم هذه لا تدلّ على أن عبيد الله سأل نافعًا، بل هي ظاهرة في كون السائل هو عمر بن نافع سال نافعًا، فتأمل، والله تعالى أعلم.

ص: 192

وقوله: "فالجارية والغلام": كان السائل فَهِم التخصيص بالصبي الصغير، فسأل عن الجارية الأنثى وعن الغلام، والمراد به غالبًا المراهق.

وقوله: "قال عبيد الله: وعاودته"، هو موصول بالسند المذكور؛ كأن عبيد الله لَمّا أجاب السائل بقوله: لا أدري، أعاد سؤال شيخه عنه، وهذا يُشعر بأنه حدّث عنه به في حال حياته، وقد أخرج مسلم الحديث من طريق أبي أسامة، عن عبيد الله بن عمر، قال: وجعل التفسير من قول عبيد الله بن عمر، ثم أخرجه من طريق عثمان الغَطَفانيّ، ورَوْح بن القاسم، كلاهما عن عمر بن نافع، قال: وألحقا التفسير في الحديث - يعني: أدرجاه - ولم يَسُقْ مسلم لفظه، وقد أخرجه أحمد عن عثمان الغَطَفاني، ولفظه: نَهَى عن القَزَع، والقَزَع أن يُحْلَق، فذكر التفسير مدرجًا، وأخرجه أبو داود، عن أحمد، وأما رواية رَوْح بن القاسم، فأخرجها مسلم، وأبو نعيم في "المستخرج"، وقد أخرجه مسلم، من طريق عبد الرحمن السّرّاج، عن نافع، ولم يَسُق لفظه، وأخرجه أبو نعيم في "المستخرج"، من هذا الوجه، فحذف التفسير، وأخرجه مسلم أيضًا، من طريق معمر، عن أيوب، عن نافع، ولم يسق لفظه، وهو عند عبد الرزاق في "مصنفه"، عن معمر، وأخرجه أبو داود، والنسائيّ، وفي سياقه ما يدلّ على مستند مَنْ رفع تفسير القزع، ولفظه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم رأى صبيًّا قد حُلِق بعض رأسه، وتُرِك بعضه، فنهاهم عن ذلك، فقال:"احلقوا كلّه، أو ذَرُوا كلّه".

وقوله: "أما القصة، والقفا للغلام، فلا بأس بهما": القصة - بضم القاف، ثم المهملة - والمراد بها هنا: شعر الصُّدْغين، والمراد بالقفا: شعر القفا، والحاصل منه أن القزع، مخصوص بشعر الرأس، وليس شعر الصدغين، والقفا من الرأس، وأخرج ابن أبي شيبة، من طريق إبراهيم النخعيّ قال: لا بأس بالقصة، وسنده صحيح، وقد تُطلق القصة على الشعر المجتمع الذي يوضع على الأذن من غير أن يوصَل شعر الرأس، وليس هو المراد هنا.

قال الحافظ رحمه الله: وأما ما أخرجه أبو داود، من طريق حماد بن سلمة، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، قال: نهى النبيّ صلى الله عليه وسلم عن القزع، وهو أن يُحلق رأس الصبي، ويُتخذ له ذؤابة، فما أعرف الذي فَسّر القزع بذلك، فقد أخرج أبو داود عقب هذا، من حديث أنس رضي الله عنه: كانت لي ذؤابة، فقالت

ص: 193

أمي: لا أَجُزُّها، فإن رسول الله - صلي الله عليه وسلم - كان يَمُدُّها، ويأخذ بها، وأخرج النسائيّ بسند صحيح عن زياد بن حصين، عن أبيه، أنه أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فوضع يده على ذؤابته، وسَمَت عليه، ودعا له، ومن حديث ابن مسعود رضي الله عنه وأصله في "الصحيحين" قال: قرأت من في رسول الله - صلي الله عليه وسلم - سبعين سورة، وإن زيد بن ثابت لَمَعَ الغلمان، له ذؤابتان.

ويمكن الجمع بأن الذؤابة الجائز اتخاذها، ما يُفرد من الشعر، فيُرْسَل، ويُجمع ما عداها بالضّفر، وغيره، والتي تُمنع أن يُحلق الرأس كله، ويترك ما في وسطه، فيُتخذ ذؤابة، وقد صرّح الخطابي بأن هذا مما يدخل في معنى القزع، والله أعلم. انتهى ما في "الفتح"

(1)

، وهو تحقيقٌ نفيسٌ جدًّا.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: وإنما نقلت رواية البخاريّ مع شرحهما؛ لكثرة فوائدها الإسناديّة والمتنيّة، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5548]

(

) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ (ح) وَحَدَّثنَا ابْنُ نُمَيْر، حَدثنَا أَبي، قَالَا: حَدَّثنَا عُبَيْدُ الله، بهَذَا الإِسْنَاد، وَجَعَلَ التَّفْسِيرَ في حَدِيثِ أبي أُسَامَةَ مِنْ قَوْل عُبَيْدِ اللهِ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) هو: عبد الله بن محمد بن أبي شيبة، تقدّم قبل باب.

2 -

(أَبُو أُسَامَةَ) حمّاد بن أسامة بن زيد الكوفيّ، تقدّم قريبًا.

3 -

(ابْنُ نُمَيْرٍ) هو: محمد بن عبد الله بن نُمير الهمدانيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

4 -

(أَبُوهُ) عبد الله بن نمير الْهَمْدانيّ الكوفيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

و"عبيد الله" بن عمر ذُكر قبله.

وقوله: (قَالَا: حَدَّثنَا عُبَيْدُ اللهِ) ضمير التثنية لأبي أسامة، وعبد الله بن نُمير.

(1)

"الفتح" 13/ 433 - 435، كتاب "اللباس" رقم (5920).

ص: 194

وقوله: (وَجَعَلَ التَّفْسِيرَ

إلخ) الظاهر أن فاعل "جَعَلَ" ضمير ابن أبي شيبة، وَيحتمل أن يكون ضمير أبي أسامة، والله تعالى أعلم.

قال الجامع عفا الله عنه: هذه الرواية التي جعل فيها التفسير لعبيد الله لم أجدها، كما سيأتي في التنبيه التالي، والله تعالى أعلم.

[تنبيه]: رواية أبي أسامة عن عبيد الله بن عمر ساقها ابن ماجه رحمه الله في "سننه"، ولكنه لم يصرّح بكون التفسير لعبيد الله، قال:

(3637)

- حدّثنا أبو بكر بن أبي شيبة، وعليّ بن محمد، قالا: ثنا أبو أسامة، عن عبيد الله بن عمر، عن عمر بن نافع، عن نافع، عن ابن عمر، قال: نَهَى رسول الله - صلي الله عليه وسلم - عن الْقَزَع، قال: وما القَزَع؟ قال: أن يُحلق من رأس الصبيّ مكانٌ، ويتْرَك مكانٌ. انتهى

(1)

.

ورواية عبد الله بن نمير عن عبيد الله ساقها أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(6294)

- حدّثنا ابن نُمير، ثنا عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر أن رسول الله - صلي الله عليه وسلم - نَهَى عن الْقَزَع. انتهى

(2)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أول الكتاب قال:

[5549]

(

) - (وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عُثْمَانَ الْغَطَفَانِيُّ، حَدَّثنَا عُمَرُ بْنُ نَافِعٍ (ح) وَحَدَّثَني أُمَيَّةُ بْنُ بِسْطَامٍ، حَدَّثنَا يَزِيدُ - يَعْنى: ابْنَ زُريعٍ - حَدَّثنَا رَوْحٌ، عَنْ عُمَرَ بْنِ نَافِعٍ، بِإسنادِ عُبَيْدِ اللهِ مِثْلَهُ، وَألحَقَا التَّفْسِيرَ في الْحَدِيثِ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(عُثْمَانُ بْنُ عُثْمَانَ الْغَطَفَانِيُّ) ويقال: الْكَلاعيّ، أبو عمرو القاضي البصريّ، صدوقٌ ربّما وَهِم [8].

رَوَى عن زيد بن أسلم، وهشام بن عروة، ومحمد بن عمرو بن علقمة، وعمر بن نافع مولى ابن عمر، وابن أبي ذئب، وغيرهم.

(1)

"سنن ابن ماجه" 2/ 1201.

(2)

"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 2/ 143.

ص: 195

وروى عنه أحمد، وعليّ بن المدينيّ، ومحمد بن المثنى، وهلال بن بشر، ومحمد بن إسماعيل بن أبي سُمينة، وزيد بن أخزم الطائيّ، وغيرهم.

قال عبد الله بن أحمد عن أبيه: رجل صالحٌ خيّرٌ، من الثقات، وقال أبو داود عن أحمد: شيخ صالحٌ، وقال أبو زرعة: لا بأس به، وقال ابن معين: ثقةٌ، وقال أبو حاتم: شيخ يُكتب حديثه، وقال البخاريّ: مضطرب الحديث، وقال النسائيّ: ليس بالقويّ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: كان ممن يخطئ، وقال الدارقطنيّ: عثمان بن عثمان أحد الثقات الصالحين، وهو خال أبي عبيدة معمر بن المثنى، وقال العقيليّ: في حديثه نظرٌ، وقال ابن عديّ: لم أر له حديثًا منكرًا، وأورد له حديث القزع وغيره، وقال: مقدارُ ما يرويه يُرْوَى من حديث غيره، وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل: حدّثنا أبي، ثنا عثمان بن عثمان الغَطَفَانيّ ثقةٌ، هكذا قال أبو عوانة في "صحيحه": عن عبد الله بن أحمد.

أخرج له المصنّف، وأبو داود، والنسائيّ، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث، ذكره متابعة.

[تنبيه]: قوله: (الْغَطَفَانِيُّ) بفتح الغين المعجمة، والطاء المهملة: نسبة إلى قبيلة كبيرة من قيس عيلان، وهو غطفان بن سعد بن قيس عيلان، أفاده في "اللباب"

(1)

.

2 -

(أُمَيَّةُ بْنُ بِسْطَامِ) الْعَيشيّ، أبو بكر البصريّ، صدوقٌ [10](ت 231)(خ م س) تقدم في "الإيمان" 7/ 132.

[تنبيه]: قال الجوهريّ رحمه الله: بسطام ليس من أسماء العرب، وإنما سَمَّى قيسُ بن مسعود ابنَهُ بسطامًا باسم ملك من ملوك فارس، كما سَمَّوا قَابُوس، ودَخْتَنُوس، فعرّبوه بكسر الباء

(2)

.

قال ابن بَرّيّ: إذا ثبت أن بسطام اسم رجل منقول من اسم بسطام الذي هو اسم ملك من ملوك فارس، فالواجب ترك صرفه؛ للعجمة والتعريف، قال:

(1)

"اللباب في تهذيب الأنساب" 2/ 386.

(2)

"الصحاح" ص 92.

ص: 196

وكذلك قال ابن خالويه: لا ينبغي أن يُصْرَف. انتهى

(1)

.

3 -

(يَزيدُ بْنُ زُريعٍ) الْعَيشيّ، أبو معاوية البصريّ، ثقةٌ ثبت [8](ت 182) تقدم في "الإيمان" 7/ 132.

4 -

(رَوْحُ) بن القاسم التميميّ الْعَنْبريّ، أبو غياث البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [6](ت 141)(خ م د س ق) تقدم في "الإيمان" 7/ 132.

والباقون ذُكروا في الباب، وقبله.

وقوله: (وَألحَقَا التَّفْسِيرَ فِي الْحَدِيثِ) ضمير التثنية لعثمان بن عثمان، ورَوْح بن القاسم؛ يعني: أنهما أدرجا في روايتهما التفسير في المرفوع.

[تنبيه]: رواية عثمان بن عثمان الغَطفاني، عن عمر بن نافع ساقها أبو داود رحمه الله في "سُننه"، فقال:

(4193)

- حدّثنا أحمد بن حنبل، ثنا عثمان بن عثمان، قال أحمد: كان رجلًا صالِحًا، قال: أخبرنا عمر بن نافع، عن أبيه، عن ابن عمر قال: نَهَى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن الْقَزَع، والقزع أن يُحلَق رأسُ الصبيّ، فيُترك بعض شعره. انتهى

(2)

.

ورواية روح بن القاسم. عن عمر بن نافع ساقها ابن حبّان رحمه الله في "صحيحه"، فقال:

(5507)

- أخبرنا الحسن بن سفيان، قال: حدّثنا محمد بن المنهال الضرير، قال: حدّثنا يزيد بن زريع، قال: حدّثنا رَوْحِ بن القاسم، عن عُمر بن نافع، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه نهَى عن القزع، أن يُحلَق رأسُ الصبيّ، ويترك بعض شعره. انتهى

(3)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5550]

(

) - (وَحَدَّثَني مُحَمَّدُ بْنُ رَافِع، وَحَجَّاجُ بْنُ الشَّاعِر، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاق، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ أيُّوبَ (ح) وَحَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ الدَّارِمِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَان، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ السَّرَّاج، كُلُّهُمْ عَن نَافِع، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ).

(1)

"تاج العروس" 1/ 7622.

(2)

"سنن أبي داود" 4/ 83.

(3)

"صحيح ابن حبان" 12/ 318.

ص: 197

رجال هذا الإسناد: اثنا عشر:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ) النيسابوريّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(حَجَّاجُ بْنُ الشَّاعِرِ) تقدّم أيضًا قريبًا.

3 -

(عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ) تقدّم قبل باب.

4 -

(عَبْدُ الرَّزاقِ) بن همّام تقدّم أيضًا قريبًا.

5 -

(مَعْمَرُ) بن راشد، تقدّم أيضًا قريبًا.

6 -

(أيُّوبُ) بن أبي تميمة السّختيانيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

7 -

(أَبُو جَعْفَرٍ الدَّارِمِيُّ) أحمد بن سعيد بن صخر

(1)

السرخسيّ، ثقة حافظ [11](ت 253)(خ م د ت ق) تقدم في "المقدمة" 6/ 93.

8 -

(أَبُو النُّعْمَانِ) محمد بن الفضل السَّدُوسيّ الملقّب بعارم البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ تغيّر بآخره، من صغار [9](ت 3 أو 224)(ع) تقدم في "الحج" 28/ 3013.

9 -

(حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ) تقدّم قريبًا.

10 -

(عَبْدُ الرَّحْمَنِ السَّرَّاجُ) هو: عبد الرحمن بن عبد الله البصريّ، ثقةٌ [6](م س) تقدم في "النكاح" 7/ 3467.

والباقيان ذُكرا قبله.

وقوله: (كُلُّهُمْ عَنْ نَافِعٍ) هكذا في كلّ النسخ التي بين أيدينا بضمير الجماعة، مع أن مرجعه اثنان، وهو أيوب، وعبد الرحمن السرّاج، وله وجه صحيح، وهو أنه على مذهب من يرى أن أقلّ الجمع اثنان، وهو المذهب الصحيح، كما حقّقته في "التحفة المرضيّة" وشرحها في الأصول، فتنبّه.

[تنبيه]: رواية أيوب عن نافع هذه ساقها عبد الرزاق في "مصنّفه"، فقال:

(19564)

- أخبرنا عبد الرزاق، عن معمر، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، أن رسول الله - صلي الله عليه وسلم - رأى غلامًا، قد حُلق بعض رأسه، وتُرك بعضه،

(1)

وقع في شرح الشيخ الهرري هنا غلط، حيث ترجم لعبد الله بن عبد الرحمن الدارميّ صاحب السنن، فليُتنبّه.

ص: 198

فنهاهم عن ذلك، وقال:"احلقوا كله، أو ذَرُوا كله". انتهى

(1)

.

وأما رواية عبد الرحمن السرّاج عن نافع، فلم أجد من ساقها، إلا في "الفتح" ذكر أن أبا نعيم أخرجها في "المستخرج"، ولكن الكتاب ليس عندي، فليُبحث، وليُلحق هنا، والله تعالى وليّ التوفيق.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}

(31) - (بَابُ النَّهْيِ عَنِ الْجُلُوسِ في الطُّرُقَات، وَإِعْطَاءِ الطَرِيقِ حَقَّهُ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5551]

(2121) - (حَدَّثَنِي سُوَيْدُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنِي حَفْصُ بْنُ مَيْسَرَةَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"إيَّاكُمْ وَالْجُلُوسَ فِي الطرُقَاتِ"، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ مَا لَنَا بُدٌّ مِنْ مَجَالِسِنَا، نَتَحَدَّثُ فِيهَا، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "فَإذَا أَبَيْتُمْ

(2)

إِلَّا الْمَجْلِسَ فَأَعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهُ"، قَالُوا: وَمَا حَقُّهُ؟ قَالَ: "غضُّ الْبَصَر، وَكَفُّ الأَذَى، وَرَدُّ السَّلَام، وَالأَمْرُ بِالْمَعْرُوف، وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(سُوَيْدُ بْنُ سَعِيدٍ) الحدثانيّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(حَفْصُ بْنُ مَيْسَرَةَ) الْعُقيليّ، أبو عمر الصنعانيّ، نزيل عسقلان، ثقةٌ ربّما وَهِمَ [8](ت 181)(خ م مد س ق) تقدم في "الإيمان" 87/ 461.

3 -

(زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ) العدويّ مولاهم، أبو عبد الله، أو أسامة المدنيّ، ثقةٌ فقيهٌ [3](ت 136)(ع) تقدم في "الإيمان" 36/ 250.

4 -

(عَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ) الهلاليّ، أبو محمد المدنيّ، مولى ميمونة، ثقةٌ فاضلٌ، صاحب مواعظ وعبادة، من صغار [2](ت 94) أو بعد ذلك (ع) تقدم في "الإيمان" 26/ 213.

(1)

"مصنف عبد الرزاق" 10/ 421.

(2)

وفي نسخة: "فإن أبيتم".

ص: 199

5 -

(أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ) سعد بن مالك بن سنان بن عبيد الأنصاريّ الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، مات سنة (3 أو 4 أو 65) وقيل:(74)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 485.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه أبو سعيد رضي الله عنه أحد المكثرين السبعة، روى (1170) حديثًا.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ) رضي الله عنه (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) أنه (قَالَ: "إِيَّاكُمْ وَالْجُلُوسَ) هذا ما يسميه النحاة بالتحذير، منصوب على التحذير بفعل محذوف وجوبًا؛ أي: إياكم أحذّر، قال ابن مالك رحمه الله في "الخلاصة":

إِيَّاكَ وَالشَّرَّ وَنَحْوَهُ نَصَبْ

مُحَذِّرٌ بِمَا اسْتِتَارُهُ وَجَبْ

(فِي الطُّرُقَاتِ") وفي رواية للبخاريّ: "بالطرقات"، وفي رواية له:"على الطرقات"، وهي جمع الطُّرق بضمتين، وطُرُق جمع طريق، وفي حديث أبي طلحة الآتي عند مسلم:"كنا قُعودًا بالأفنية"، جمع فناء، بكسر الفاء، ونون، ومدّ، وهو المكان المتسع أمام الدار، فجاء رسول الله - صلي الله عليه وسلم -، فقال:"ما لكم ولمجالس الصعدات" بضم الصاد، والعين المهملتين، جمع صعيد، وهو المكان الواسع، ومثله لابن حبان من حديث أبي هريرة، زاد سعيد بن منصور من مرسل يحيى بن يعمر:"فإنها سبيل من سبيل الشيطان، أو النار"

(1)

. (قَالُوا)؛ أي: الصحابة الحاضرون عنده صلى الله عليه وسلم، وأما ما قاله في "الفتح" من أن القائل هو أبو طلحة، وعزا ذلك إلى مسلم، فليس كما قال؛ فإن حديث أبي طلحة يأتي عند مسلم في "كتاب السلام"، ولفظه كما هنا: "فقلنا: إنما قعدنا

إلخ"، فتنبّه. (يَا رَسُولَ اللهِ مَا لَنَا بُدٌّ) بضمّ الموحّدة، وتشديد الدال المهملة؛ أي: ليس لنا غِنًى، قال الفيّوميّ رحمه الله: لا بُدّ من كذا؛ أي: لا مَحِيد عنه، ولا يُعرف استعماله إلا مقرونًا بالنفي. انتهى

(2)

.

(1)

"الفتح" 14/ 141، كتاب "الاستئذان" رقم (6229).

(2)

"المصباح المنير" 1/ 38.

ص: 200

وفي "شرح القاموس": قولهم: لا بُدَّ اليومَ من قَضَاءِ حاجَتي؛ أي: لا فِرَاقَ منه، وقِيلَ: لا بدَّ منه: لا مَحَالَةَ منه، وقال الزّمخشريّ؛ أي: لا عِوَضَ، ومعناه: أَمرٌ لازمٌ، لا تمكِن مُفارقتُه، ولا يُوجَد بَدلٌ منه، ولا عِوَضٌ يقوم مَقامَه، وقالوا: ولا يُستعمَل إِلَّا في النَّفْي، واستعمالُه في الإِثبات مُوَلَّد. انتهى باختصار

(1)

.

(مِنْ مَجَالِسِنَا، نَتَحَدَّثُ فِيهَا) قال القاضي عياض: فيه دليل على أن أَمْره لهم لم يكن للوجوب، وإنما كان على طريق الترغيب والأوْلى؛ إذ لو فَهِموا الوجوب لم يراجعوه هذه المراجعة، وقد يَحتجّ به من لا يرى الأوامر على الوجوب، قال الحافظ: ويَحْتَمِل أن يكونوا رَجَوْا وقوع النَّسخ تخفيفًا لِمَا شَكَوْا من الحاجة إلى ذلك، ويؤيده أن في مرسل يحيى بن يعمر:"فظنّ القوم أنها عزمة"، ووقع في حديث أبي طلحة:"فقالوا: إنما قعدنا لغير ما بأسٍ، قعدنا نتحدث، ونتذاكر"

(2)

. (قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "فإذَا أبيْتُمْ) وفي بعض النسخ: "فإن أبيتم"(إِلَّا الْمَجْلِسَ)؛ أي: الجلوس، فهو مصدر ميميّ من الجلوس، قال في "الفتح": قوله: "إلا المجلس" كذا للجميع هنا بلفظ "إلا" بالتشديد، وتقدم في أواخر "المظالم" بلفظ:"فإذا أتيتم إلى المجالس" بالمثناة بدل الموحدة، في "أتيتم" وبتخفيف اللام من "إلى"، وذكر عياض أنه للجميع هناك هكذا، وقد بيّنت هناك أنه للكشميهنيّ هناك كالذي هنا، ووقع في حديث أبي طلحة:"إِمَّا لا" بكسر الهمزة، و"لا" نافية، وهي ممالة في الرواية، ويجوز ترك الإمالة، ومعناه: إلا تتركوا ذلك، فافعلوا كذا، وقال ابن الأنباريّ: افعل كذا، إن كنت لا تفعل كذا، ودخلت "ما" صلة، وفي حديث عائشة عند الطبرانيّ في "الأوسط":"فإن أبيتم إلا أن تفعلوا"، وفي مرسل يحيى بن يعمر:"فإن كنتم لا بُدّ فاعلين"

(3)

.

وكتب في هامش النسخة التركيّة على قوله: "إلا المجلس" ما نصّه:

(1)

"تاج العروس" 1/ 1881.

(2)

"الفتح" 14/ 141، كتاب "الاستئذان" رقم (6229).

(3)

"الفتح" 14/ 141، كتاب "الاستئذان" رقم (6229).

ص: 201

الظاهر بفتح اللام، وإن ضُبط بكسرها في النسخ المعتمدة بأيدينا، ثم رأيت القسطلاني قال: بفتح اللام مصدر ميميّ؛ أي: إلا الجلوس في مجالسكم، وفي اليونينيّة بكسر اللام. انتهى

(1)

.

(فَأَعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهُ") هكذا في هذه الرواية بتذكير الضمير، وفي رواية "حقّها" بالتأنيث، وكلاهما صحيح؛ لأن الطريق يذكّر، ويؤنّث، وفي حديث أبي شُريح عند أحمد:"فمن جلس منكم على الصعيد فليعطه حقه". (قَالُوا: وَمَا حَقُّهُ؟) وفي لفظ البخاريّ: "وما حقّ الطريق؟ "، وفي حديث أبي شُريح:"قلنا: يا رسول الله، وما حقّه؟ "، (قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("غَضُّ الْبَصَر، وَكَفُّ الأَذَى، وَرَدُّ السَّلَام، وَالأَمْرُ بالْمَعْرُوف، وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ") قال في "الفتح": قد تبيّن من سياق الحديث أن النهي عن ذلك للتنزيه؛ لئلا يَضْعف الجالس عن أداء الحقّ الذي عليه.

قال الجامع عفا الله عنه: كون السياق يدلّ على أن النهي للتنزيه لا يخفى ما فيه، فتأمله، والله تعالى أعلم.

وفي حديث أبي طلحة رضي الله عنه الآتي في "السلام" الأولى، والثانية، وزاد "وحسن الكلام"، وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه الأولى، والثالثة، وزاد:"وإرشاد ابن السبيل، وتشميت العاطس إذا حَمِد"، وفي حديث عمر رضي الله عنه عند أبي داود، وكذا في مرسل يحيى بن يعمر من الزيادة:"وتُغيثوا الملهوف، وتَهدوا الضالّ"، وهو عند البزار بلفظ:"وإرشاد الضالّ"، وفي حديث البراء رضي الله عنه عند أحمد، والترمذيّ:"اهْدُوا السبيل، وأعينوا المظلوم، وأفشوا السلام"، وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما عند البزار من الزيادة:"وأعينوا على الْحَمُولة"، وفي حديث سهل بن حنيف رضي الله عنه عند الطبرانيّ من الزيادة:"ذكر الله كثيرًا"، وفي حديث وحشيّ بن حرب رضي الله عنه عند الطبرانيّ من الزيادة:"واهدُوا الأغبياء، وأعينوا المظلوم".

ومجموع ما في هذه الأحاديث أربعة عشر أدبًا، قال الحافظ رحمه الله: وقد نظمتها في ثلاثة أبيات، وهي [من البسيط]:

(1)

راجع: هامش النسخة التركيّة 6/ 165.

ص: 202

جَمَعْتُ آدَابَ مَنْ رَامَ الْجُلُوسَ عَلَى الطَّـ

رِ يقِ مِنْ قَوْلِ خَيْرِ الْخَلْقِ إِنْسَانَا

أَفْشِ السَّلَامَ وَأَحْسِنْ فِي الْكَلَامِ وَشَمْـ

مِتْ عَاطِسًا وَسَلَامًا رُدَّ إِحْسَانَا

فِي الْحَمْلِ عَاوِنْ وَمَظْلُومًا أَعِنْ وَأَغِثْ

لَهْفَانَ أَهْدِ سَبِيلًا وَأَهْدِ حَيْرَانَا

بِالْعُرْفِ مُرْ وَانْهَ عَنْ نُكْرٍ وَكُفَّ أَذى

وَغُضَّ طَرْفًا وَأَكْثِرْ ذِكْرَ مَوْلَانَا

(1)

والله تعالى أعلم.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه هذا متفق عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [31/ 5551 و 5552](2121)، و (البخاريّ) في "المظالم"(2465) و"الاستئذان"(6229) وفي "الأدب المفرد"(1150)، و (أبو داود) في "الأدب"(4815)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(19786)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 36)، و (عبد بن حُميد) في "مسنده"(1/ 297)، و (ابن حبّان) في "صحيحه، (595)، و (أبو يعلى) في "مسنده" (2/ 442)، و (البيهقيّ) في "الكبرى" (10/ 94) و"شُعَب الإيمان" (4/ 364)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة" (3338)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فيما اشتمل عليه الحديث من الفوائد:

قال النوويّ رحمه الله: هذا الحديث كثير الفوائد، وهو من الأحاديث الجامعة، وأحكامُهُ ظاهرةٌ، وينبغي أن يُجتنب الجلوس في الطرقات؛ لهذا الحديث، ويدخل في كفّ الأذى اجتناب الغيبة، وظنّ السوء، وإحقار بعض المارّين، وتضييق الطريق، وكذا إذا كان القاعدون ممن يهابهم المارّون، أو يخافون منهم، ويمتنعون من المرور في أشغالهم بسبب ذلك؛ لكونهم لا يجدون طريقًا إلا ذلك الموضع. انتهى

(2)

.

وقال في "الفتح": أشار بغضّ البصر إلى السلامة من التعرض للفتنة بمن

(1)

"الفتح" 14/ 141، كتاب "الاستئذان" رقم (6229).

(2)

"شرح النوويّ" 14/ 102.

ص: 203

يمرّ من النساء وغيرهنّ، وبكفّ الأذى إلى السلامة من الاحتقار والغيبة ونحوها، وبردّ السلام إلى إكرام المارّ، وبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى استعمال جميع ما يُشْرَع، وترك جميع ما لا يشرع، وفيه حجة لمن يقول بأن سدّ الذرائع بطريق الأَولى لا على الحتم؛ لأنه نَهَى أوّلًا عن الجلوس حسمًا للمادة، فلما قالوا: ما لنا منها بُدّ ذكر لهم المقاصد الأصلية للمنع، فعُرف أن النهي الأول للإرشاد إلى الأصلح، ويؤخذ منه أن دفع المفسدة أَولى من جلب المصلحة؛ لِنَدْبه أولًا إلى ترك الجلوس مع ما فيه من الأجر لمن عَمِل بحقّ الطريق، وذلك أن الاحتياط لطلب السلامة آكد من الطمع في الزيادة.

وقال في "الفتح" أيضًا ما حاصله: قد اشتمل هذا الحديث على معنى علة النهي عن الجلوس في الطرق، من التعرض للفتن بخطور النساء الشوابّ، وخوف ما يَلحق من النظر إليهنّ من ذلك؛ إذ لم يُمنع النساء من المرور في الشوارع لحوائجهنّ، ومن التعرض لحقوق الله، وللمسلمين مما لا يلزم الإنسان إذا كان في بيته، وحيث ينفرد

(1)

، أو يشتغل بما يلزمه، ومن رؤية المناكير، وتعطيل المعارف، فيجب على المسلم الأمر والنهي عند ذلك، فإنْ تَرَك ذلك فقد تعرّض للمعصية، وكذا يتعرض لمن يمرّ عليه، ويسلّم عليه، فإنه ربما كثُر ذلك، فيعجز عن الردّ على كل مارّ، وردّه فرض، فيأثم، والمرء مأمور بأن لا يتعرض للفتن، وإلزام نفسه ما لعله لا يَقْوَى عليه، فندبهم الشارع إلى ترك الجلوس حسمًا للمادّة، فلمّا ذكروا له ضرورتهم إلى ذلك؛ لِمَا فيه من المصالح، من تَعَاهُد بعضهم بعضًا، ومذاكرتهم في أمور الدين، ومصالح الدنيا، وترويح النفوس بالمحادثة في المباح، دلّهم على ما يُزيل المفسدة، من الأمور المذكورة.

قال: ولكلّ من الَاداب المذكورة شواهد في أحاديث أخرى:

فأما إفشاء السلام فسيأتي في باب مفرد.

وأما إحسان الكلام، فقال عياض: فيه ندب إلى حسن معاملة المسلمين

(1)

وقع في "الفتح": "وحيث لا ينفرد" بزيادة "لا"، والظاهر أنه غلط، فليُتأمّل، والله تعالى أعلم.

ص: 204

بعضهم لبعض، فإن الجالس على الطريق يمرّ به العدد الكثير من الناس، فربما سألوه عن بعض شأنهم، ووَجْه طُرُقهم، فيجب أن يتلقاهم بالجميل من الكلام، ولا يتلقاهم بالضجر، وخشونة اللفظ، وهو من جملة كفّ الأذى.

قال الحافظ: وله شواهد من حديث أبي شُريح هانئ، رَفَعه:"من موجبات الجنة إطعام الطعام، وإفشاء السلام، وحسن الكلام"، ومن حديث أبي مالك الأشعريّ، رفعه: "في الجنة غُرَف لمن أطاب الكلام

" الحديث، وفي "الصحيحين" من حديث عديّ بن حاتم، رفعه: "اتقوا النار، ولو بشقّ تمرة، فمن لم يجد فبكلمة طيبة".

وأما تشميت العاطس فسيأتي - إن شاء الله تعالى -.

وأما ردّ السلام فسيأتي أيضًا قريبًا.

وأما المعاونة على الحمل فله شاهد في "الصحيحين" من حديث أبي هريرة، رفعه: "كل سُلامَى من الناس عليه صدقة

" الحديث، وفيه: "ويعين الرجلَ على دابته، فيحمله عليها، ويرفع له عليها متاعه صدقة".

وأما إعانة المظلوم فتقدم في حديث البراء رضي الله عنه قريبًا، وله شاهد آخر من حديث أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه مرفوعًا:"المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدّ بعضه بعضًا، وشبّك بين أصابعه"، متّفقٌ عليه

(1)

.

وأما إغاثة الملهوف فله شاهد في "الصحيحين" من حديث أبي موسى رضي الله عنه، وفيه:"ويعين ذا الحاجة الملهوف"، وفي حديث أبي ذرّ رضي الله عنه عند ابن حبان:"وتسعى بشدة ساقيك مع اللهفان المستغيث"، وأخرج المرهبيّ في "العلم" من حديث أنس رضي الله عنه، رفعه، في حديث:"واللهُ يُحب إغاثة اللهفان"، وسنده ضعيف جدًّا، لكن له شاهد من حديث ابن عباس رضي الله عنهما:"أصلح منه، والله يحب إغاثة اللهفان".

وأما إرشاد السبيل فرَوَى الترمذيّ، وصححه ابن حبان، من حديث أبي ذرّ رضي الله عنه مرفوعًا:"وإرشادك الرجل في أرض الضلال صدقة"، وللبخاريّ في "الأدب المفرد"، والترمذيّ، وصححه، من حديث البراء رضي الله عنه، رفعه: "مَنْ

(1)

سيأتي لمسلم في "كتاب البرّ والصلة" برقم (2585).

ص: 205

مَنَح مَنِيحة، أو هَدَّى زُقَاقًا، كان له عِدل عتق نسمة"، و"هَدَّى" بفتح الهاء، وتشديد المهملة، و"الزقاق" بضم الزاي، وتخفيف القاف، وآخره قاف، معروف، والمراد مَن دَلّ الذي لا يعرفه عليه إذا احتاج إلى دخوله، وفي حديث أبي ذرّ رضي الله عنه عند ابن حبان: "ويُسمع الأصمّ، وَيهدي الأعمى، ويدل المستدلّ على حاجته"، وأما هداية الحيران فله شاهد في الذي قبله.

قال الجامع عفا الله عنه: هكذا قال في "الفتح"، والظاهر أنه أراد حديث قصّة الخثعميّة حين سألت النبيّ صلى الله عليه وسلم، ونظر الفضل إليها، فصرف النبي صلى الله عليه وسلم وجهه عن النظر إليها، الحديث.

وأما الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر ففيهما أحاديث كثيرة، منها في حديث أبي ذرّ رضي الله عنه المذكور قريبًا:"وأمْر بالمعروف، ونهي عن المنكر صدقة".

وأما كفّ الأذى فالمراد به كفّ الأذى عن المارّة، بأن لا يجلس حيث يضيق عليهم الطريق، أو على باب منزل مَن يتأذى بجلوسه عليه، أو حيث يكشف عياله، أو ما يريد التستر به من حاله، قاله عياض، قال الحافظ: ويَحْتَمِل أن يكون المراد كفّ أذى الناس بعضهم عن بعض. انتهى.

وقد وقع في "الصحيح" من حديث أبي ذرّ رضي الله عنه رفعه: "فكُفّ عن الشرّ، فإنها لك صدقة"، وهو يؤيد الأول.

وأما غضّ البصر فهو المقصود من حديث الباب

(1)

.

وأما كثرة ذكر الله ففيه عدّة أحاديث يأتي بعضها في "الدعوات". انتهى ما في "الفتح"

(2)

وهو بحث نفيسٌ جدًّا، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5552]

(

) - (وَحَدَّثناهُ يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَدَنِيُّ

(3)

(ح) وَحَدَّثَنَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ، أَخْبَرَنَا هِشَامٌ

(1)

يعني: الباب الذي عقده البخاريّ بقوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ} [الأحزاب: 53] الآيات.

(2)

"الفتح" 14/ 141، كتاب "الاستئذان" رقم (6229).

(3)

وفي نسخة: "المدينيّ".

ص: 206

- يَعْني: ابْنَ سَعْدٍ - كلَاهُمَا عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ مِثْلَهُ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ النيسابوريّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَدَنِيُّ) وفي نسخة: "المدينيّ"، الدراورديّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

3 -

(ابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ) محمد بن إسماعيل بن مسلم بن أبي فُديك الديليّ مولاهم، أبو إسماعيل المدنيّ، صدوقٌ من صغار [8](ت 200) على الصحيح (ع) تقدم في "الحيض" 16/ 775.

4 -

(هِشَامُ بْنُ سَعْدٍ) أبو عبّاد، أو أبو سعد المدنيّ، صدوق له أوهام، ورمي بالتشيّع، من كبار [7](ت 160) أو قبلها (خت م 4) تقدم في "الإيمان" 87/ 463.

والباقيان ذُكرا في الباب وقبله.

وقوله: (كِلَاهُمَا عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ

إلخ) الضمير يرجع إلى عبد العزيز بن محمد، وهشام بن سعد.

[تنبيه]: ذكر الحافظ أبو عليّ الجيّانيّ رحمه الله في "التقييد" بعد أن ساق الإسنادين المذكورين في هذا الباب ما نصّه: هكذا روي هذان الإسنادان عن أبي أحمد من رواية الرازيّ؛ لأن السجزيّ لم يتكرّر عنه، ولا عند أبي العلاء، وغيرهما، ثم تكرّر في موضع آخر من "كتاب الأدب " عند أبي أحمد، والكسائيّ، فذكرا حديث سُويد بن سعيد، ثم عَقّبا بعده، فقالا: حدثنا يحيى بن يحيى، قال: نا عبد الله بن يزيد المقرئ، عن زيد بن أسلم، جعلا مكان عبد العزيز بن محمد عبدَ الله بن يزيد المقرئ، والصواب ما تقدّم، وكذلك خرّجه أبو مسعود الدمشقيّ في "الأطراف" عن يحيى بن يحيى، عن عبد العزيز الدراورديّ، وكذلك رواه ابن ماهان في الموضعين جميعًا، لم يكن عنده خلاف. انتهى كلام الجيّانيّ رحمه الله

(1)

، وهو بحث نفيسٌ، والله تعالى أعلم.

(1)

"تقييد المهمل" 3/ 910 - 911.

ص: 207

[تنبيه آخر]: رواية عبد العزيز بن محمد، عن زيد بن أسلم ساقها أبو داود في "سننه"، فقال:

(4815)

- حدّثنا عبد الله بن مسلمة، ثنا عبد العزيز - يعني: ابن محمد - عن زيد - يعني: ابن أسلم - عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدريّ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إياكم والجلوس بالطرقات، قالوا: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بُدّ لنا من مجالسنا، نتحدّث فيها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أبيتم، فأعطوا الطريق حقَّه"، قالوا: وما حقّ الطريق يا رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: "غَضّ البصر، وكَفّ الأذى، ورَدّ السلام، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر". انتهى

(1)

.

وأما رواية هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، فساقها البيهقيّ رحمه الله في "شُعب الإيمان"، فقال:

(9088)

- أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، نا أبو بكر أحمد بن سلمان الفقيه، نا أحمد بن محمد بن عيسى القاضي، نا أبو همام الدلال، نا هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدريّ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تجلسوا بالطريق"، قال: قلنا: يا رسول الله ما لنا بُدّ من مجالسنا، نتحدث فيها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إذا أبيتم إلا المجالس، فأعطوا الطريق حقّه"، قلنا: وما حقّ الطريق يا رسول الله؟ قال: "غَضّ البصر، وكَفّ الأذى، وردّ السلام، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر". انتهى

(2)

، والله تعالى أعلم.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(32) - (بَابُ تَحْرِيمِ فِعْلِ الْوَاصِلَة، وَالْمُسْتَوْصِلَة، وَالْوَاشِمَة، وَالْمُسْتَوْشِمَة، وَالنَّامِصَة، وَالْمُتَنَمِّصَة، وَالْمُتَفَلِّجَات، وَالْمُغَيِّرَاتِ خَلْقَ اللهِ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5553]

(2122) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ الْمُنْذِر، عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ، قَالَتْ: جَاءَتِ

(1)

"سنن أبي داود" 4/ 256.

(2)

"شعب الإيمان" للبيهقي 6/ 508.

ص: 208

امْرَأَةٌ إلى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ لِي ابْنَةً عُرَيِّسًا، أَصَابَتْهَا حَصْبَةٌ، فتَمَرَّقَ شَعْرُهَا، أَفَأَصِلُهُ، فَقَالَ:"لَعَنَ اللهُ الْوَاصِلَةَ، وَالْمُسْتَوْصِلَةَ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أَبُو مُعَاوِيَةَ) محمد بن خازم الضرير، تقدّم قريبًا.

2 -

(هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ) بن الزبير، تقدّم أيضًا قريبًا.

3 -

(فَاطِمَةُ بِنْتُ الْمُنْذِرِ) بن الزبير بن العوّام، زوج هشام الراوي عنها، ثقةٌ [3](ع) تقدم في "الطهارة" 33/ 681.

4 -

(أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ) الصدّيق، زوج الزبير بن العوّام رضي الله عنهم، من كبار الصحابيّات، عاشت مائة سنة، وماتت سنة (3 أو 74)(ع) تقدمت في "الطهارة" 33/ 681.

و"يحيى بن يحيى" ذُكر في السند الماضي.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالمدنيين، غير شيخه، فنيسابوريّ، وأبي معاوية، فكوفيّ، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّة هي زوجته، وهي عن جدّتهما، والصحابيّة ذات مناقب جمّة، تلقّب ذات النطاقين؛ لأنها لَمّا فقدت حبلًا تربط به زاد النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر رضي الله عنه حينما هاجرا قسمت نطاقها فصفين، انتطقت بأحدهما، وربطت بالآخر رضي الله عنها.

شرح الحديث:

(عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ الْمُنْذِرِ) بن الزبير بن العوّام، وهي بنت عمّ هشام بن عروة الراوي عنها، وزوجته، وأسماء بنت أبي بكر، هي جدتهما معًا؛ لأنها أم المنذر، وأم عروة. (عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ) الصدّيق رضي الله عنهما أنها (قَالَتْ: جَاءَتِ امْرَأَةٌ) لم يُعرف اسمها، (إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ لِي ابْنَةً عُرَيِّسًا) بضم أوله، وتشديد الياء: تصغير عَرُوس، وهو وصف يستوي فيه المذكّر والمؤنّث ما داما في إعراسهما، وجمع الرجل عُرُسٌ بضمّتين، مثل رَسُول ورُسُل، وجمع المرأة عَرائس، قاله الفيّوميّ

(1)

.

(1)

"المصباح المنير" 2/ 401.

ص: 209

وقال النوويّ رحمه الله: قوله: (عُرَيسًا) بضم العين، وفتح الراء، وتشديد الياء المكسورة، تصغير عَرُوس، والعروس يقع على المرأة والرجل عند الدخول بها. انتهى

(1)

.

(أَصَابَتْهَا حَصْبَةٌ) - بفتح الحاء، وإسكان الصاد المهملتين - ويقال أيضًا بفتح الصاد، وكسرها، ثلاث لغات، حكاهن جماعة، والإسكان أشهر، وهي بَثْرٌ تخرج في الجلد يقال منه: حَصِبَ جلدُهُ، بكسر الصاد، يَحْصَبُ، قاله النوويّ رحمه الله

(2)

.

وقال الفيّومي رحمه الله: الْحَصِبَةُ: وزانُ كَلِمَةٍ، وإسكان الصاد لغةٌ، بَثْرٌ يَخرُجُ بالجسد، ويقال: هي الْجُدريّ. انتهى

(3)

.

وقال المجد رحمه الله: الْحَصْبةُ، ويُحرّك، وكفَرِحةِ: بَثْرٌ يَخْرُج بالجسد، وقد حُصِبَ بالضمّ، فهو محصوبٌ، وحَصِبَ؛ كسَمِعَ. انتهى

(4)

.

(فَتَمَرَّقَ شَعْرُهَا) - بالراء المهملة - وهو بمعنى تساقط، وتَمَرّط كما ذُكر في باقي الروايات، ولم يذكر القاضي عياض في "الشرح" إلا الراء المهملة، كما ذكرنا، وحكاه في "المشارق" عن جمهور الرواة، ثم حَكَى عن جماعة من رواة "صحيح مسلم" أنه بالزاي المعجمة، قال: وهذا وإن كان قريبًا من معنى الأول، ولكنه لا يُستعمل في الشعر في حال المرض. انتهى

(5)

.

وفي رواية البخاريّ: "فتمزّق رأسها"، قال في "الفتح": بالزاي؛ أي: تقطّع، كذا للكشميهنيّ، والحمويّ، وهي رواية مسلم

(6)

، وبالراء للباقين؛ أي: تَمَرّق من أصله، وهو أبلغ، ويَحْتَمِل أن يكون من الْمَرْق، وهو نتف الصوف، وللطبراني من طريق محمد بن إسحاق، عن فاطمة بنت المنذر: "فأصابتها الْحَصْبة، أو الْجُدَريّ، فسقط شعرها، وقد صَحّت، وزوجها يستحثّنا، وليس على رأسها شعر، أفنجعل على رأسها شيئًا، نُجَمِّلها به

" الحديث

(7)

.

(1)

"شرح النوويّ" 14/ 103.

(2)

"شرح النوويّ" 14/ 103.

(3)

"المصباح المنير" 1/ 138.

(4)

"القاموس المحيط" ص 293.

(5)

شرح النووي" 14/ 103.

(6)

هكذا قال في "الفتح"، لكن نُسخ مسلم عندنا بالراء، فليُتأمل، والله تعالى أعلم.

(7)

"الفتح" 13/ 452، كتاب "اللباس" رقم (5935).

ص: 210

(أَفَأَصِلُهُ)؛ أي: أصل شعرها بشعر آخر، (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("لَعَنَ اللهُ)؛ أي: أبعدها، (الْوَاصِلَةَ) هي التي تَصِل شعر المرأة بشعر آخر، (وَالْمُسْتَوْصِلَةَ") التي تَطْلُب من يَفْعَل بها ذلك، ويقال لها: موصولة.

قال القرطبيّ رحمه الله: هذا الحديث نصّ في تحريم وصل الشعر بالشعر، وبه قال مالك، وجماعة العلماء، ومنعوا الوصل بكل شيء، من الصوف، والخرق، وغيرها؛ لأن ذلك كلّه في معنى وَصله بالشعر، ولعموم نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تصل المرأة شعرها، وقد شذّ الليث بن سعد، فأجاز وَصْله بالصوف، والخِرَق، وما ليس بشعبر، وهو محجوج بما تقدّم. وأباح آخرون وضع الشعر على الرأس، وقالوا: إنما نُهي عن الوصل خاضة، وهذه ظاهريّة محضة، وإعراضٌ عن المعنى. وقد شذّ قومٌ، فأجازوا الوصل مطلقًا، وتأوّلوا الحديث على غير وصل الشعر، وهو قولٌ باطلٌ. وقد روي عن عائشة رضي الله عنها، ولم يصحّ عنها.

ولا يدخل في هذا النهي ما رُبط من الشعر بخيوط الحرير الملوّنة، وما لا يُشبه الشعر، ولا يكثّره، وإنما يُفعل ذلك للتجمّل، والزينة. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قوله: "ولا يدخل

إلخ" فيه نظر لا يخفى؛ إذ النصّ يشمله، فبأيّ حجة يباح؟ فتبصّر، والله تعالى أعلم.

[تنبيه]: قال الحافظ رحمه الله: قوله: "الواصلة، والمستوصلة" هذا القَدْر الذي وجدته من حديث أسماء، فكأنها ما سمعت الزيادة التي في حديث أبي هريرة، وفي حديث ابن عمر رضي الله عنهما في الواشمة، والمستوشمة، فأخرج الطبريّ بسند صحيح، عن قيس بن أبي حازم قال: دخلت مع أبي على أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فرأيت يد أسماء موشومة، قال الطبريّ: كأنها كانت صَنَعته قبل النهي، فاستمر في يدها، قال: ولا يُظَنّ بها أنها فعلته بعد النهي؛ لثبوت النهي عن ذلك، قال الحافظ: ويَحْتَمِل أنها لم تسمعه، أو كانت بيدها جراحة فداوتها، فبقي الأثر مثل الوشم في يدها. انتهى كلام الحافظ رحمه الله

(2)

، وهو تحقيقٌ نفيس، والله تعالى أعلم.

(1)

"المفهم" 5/ 443.

(2)

"الفتح" 13/ 452، كتاب "اللباس" رقم (5935).

ص: 211

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أسماء بنت أبي بكر الصدّيق رضي الله عنها هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [32/ 5553 و 5554 و 5555](2122)، و (البخاريّ) في "اللباس"(5935 و 5936 و 5941)، و (النسائيّ) في "الزينة"(8/ 145 و 187) و"الكبرى"(5/ 421)، و (ابن ماجه) في "النكاح"(1988)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 111 و 345 و 346 و 353)، و (ابن الجعد) في "مسنده"(1/ 242)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 426)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان تحريم وصل الشعر بالشعر، سواء كان لمعذورة، أو عَرُوس، أو غيرهما.

2 -

(ومنها): أن الوصل من كبائر المعاصي؛ لِلَعن فاعله، والمفعول به، واللعن لا يكون إلا على الكبائر.

3 -

(ومنها): أن المُعِين على الحرام يشارك فاعله في الإثم، كما أن المعاون في الطاعة يشارك في ثوابها.

4 -

(ومنها): أنه يدلّ على تحريم الغشّ، وأنوع الخِداع، والتدليس.

5 -

(ومنها): أن فيه جوازَ إبقاء الشعر، وعدم وجوب دفنه.

6 -

(ومنها): ما قيل: إن فيه طهارةَ شعر الآدميّ؛ لعدم الاستفصال، وإيقاع المنع على فعل الوصل، لا على كون الشعر نجسًا، قال في "الفتح": وفيه نظر.

7 -

(ومنها): ما قاله في "الفتح": في هذه الأحاديث - أي: أحاديث النهي عن الوصل، والوشم - حجة لمن قال: يحرم الوصل في الشعر، والوشم، والنمص على الفاعل، والمفعول به، وهي حجة على من حَمَل النهي فيه على التنزيه؛ لأن دلالة اللعن علي التحريم، من أقوى الدلالات، بل عند بعضهم أنه من علامات الكبيرة، وفي حديث عائشة رضي الله عنها يعني: الآتي بعد

حديث أسماء رضي الله عنها هذا - دلالة على بطلان ما رُوي عنها أنها رخّصت في وصل

ص: 212

الشعر بالشعر، وقالت: إن المراد بالواصل المرأة تفجُر في شبابها، ثم تَصِل ذلك بالقيادة، وقد رَدّ ذلك الطبريّ، وأبطله بما جاء عن عائشة رضي الله عنها في قصة المرأة المذكورة في حديثها الآتي، والله تعالى أعلم.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في وصل الشعر:

ذهب الجمهور إلى تحريم الوصل مطلقًا، قال في "الفتح": وهذا الحديث حجة للجمهور في منع وَصْل الشعر بشيء آخر، سواء كان شعرًا أم لا، ويؤيده حديث جابر: رضي الله عنه زجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن تصل المرأة بشعرها شيئًا، أخرجه مسلم.

وذهب الليث، ونقله أبو عبيدة عن كثير من الفقهاء، أن الممتنع من ذلك وصل الشعر بالشعر، وأما إذا وصلت شعرها بغير الشعر، من خرقة وغيرها، فلا يدخل في النهي، وأخرج أبو داود بسند صحيح، عن سعيد بن جبير، قال: لا بأس بالقرامل، وبه قال أحمد، و"القرامل": جمع قَرْمل - بفتح القاف، وسكون الراء -: نبات طويل الفروع، ليّن، والمراد به هنا خيوط من حرير، أو صوف يُعمل ضفائر تصل به المرأة شعرها.

وفصل بعضهم بين ما إذا كان ما وُصل به الشعر، من غير الشعر مستورًا، بعد عَقْده مع الشعر، بحيث يُظَنّ أنه من الشعر، وبين ما إذا كان ظاهرًا، فمَنَع الأول قوم فقط؛ لِمَا فيه من التدليس، وهو قويّ.

ومنهم من أجاز الوصل مطلقًا، سواء كان بشعر آخر، أو بغير شعر، إذا كان بعلم الزوج، ولمجاذنه، وأحاديث الباب حجة عليه. انتهى

(1)

.

وقال النوويّ رحمه الله: هذه الأحاديث صريحة في تحريم الوصل، ولعن الواصلة، والمستوصلة مطلقًا، وهذا هو الظاهر المختار، وقد فصّله أصحابنا - يعني: الشافعيّةَ - فقالوا: إن وصلت شعرها بشعر آدميّ فهو حرام، بلا خلاف، سواء كان شعر رجل، أو امرأة، وسواء شعر المَحْرم والزوج وغيرهما، بلا خلاف؛ لعموم الأحاديث، ولأنه يَحْرُم الانتفاع بشعر الآدميّ، وسائر أجزائه؛ لكرامته، بل يُدْفَن شعره، وظفره، وسائر أجزائه، وإن وَصَلَتْه بشعر غير آدميّ،

(1)

"الفتح" 13/ 450، كتاب "اللباس" رقم (5935).

ص: 213

فإن كان شعرًا نجسًا، وهو شعر الميتة

(1)

، وشعر ما لا يؤكل إذا انفصل في حياته، فهو حرام أيضًا؛ للحديث، ولأنه حَمَل نجاسة في صلاته، وغيرها، عمدًا، وسواء في هذين النوعين المزوَّجة وغيرها من النساء، والرجال، وأما الشعر الطاهر من غير الآدميّ، فإن لم يكن لها زوج، ولا سيّد فهو حرام أيضًا، وإن كان فثلاثة أوجه: أحدها: لا يجوز؛ لظاهر الأحاديث، والثاني: لا يحرم، وأصحها عندهم إن فعلته بإذن الزوج، أو السيد جاز، وإلا فهو حرام.

قال الجامع عفا الله عنه: بل الأصح هو القول الأول؛ لقوّة حجته، فتأمل بالإنصاف، ولا تكن أسير التقليد، والله تعالى وليّ التوفيق.

قالوا: وأما تحمير الوجه، والخضاب بالسواد، وتطريف الأصابع، فإن لم يكن لها زوج، ولا سيد، أو كان وفعلته بغير إذنه فحرام، وإن أَذِن جاز على الصحيح، قال النوويّ رحمه الله: هذا تلخيص كلام أصحابنا في المسألة.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي الصواب ما ذهب إليه الجمهور من تحريم الوصل مطلقًا، سواء كان بشعر، أم بغيره، إلا للضرورة؛ للأحاديث الصحيحة بذلك، كما سبق بيانها، ومنها حديث معاوية رضي الله عنه الآتي في قصّة الخرقة، ومنها حديث جابر رضي الله عنه الآتي في الباب:"زجر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تصل المرأة بشعرها شيئًا"، فـ "شيئًا" نكرة يعمّ الشعر، وغيره. فتأمّل بالإمعان، والله تعالى أعلم.

[تنبيه]: كما يَحْرُم على المرأة الزيادة في شعر رأسها يحرم عليها حلق شعر رأسها بغير ضرورة، وقد أخرج الطبريّ من طريق أم عثمان بنت سفيان، عن ابن عباس قال:"نَهَى النبيّ صلى الله عليه وسلم أن تحلق المرأة رأسها"، وهو عند أبي داود من هذا الوجه، بلفظ:"ليس على النساء حلق، إنما على النساء التقصير"، قاله في "الفتح"

(2)

.

(1)

كون شعر الميتة نجسًا هو مذهب النوويّ، وقد قدّمنا في "كتاب الطهارة" أن الصحيح من أقوال العلماء طهارة شعر الميتة، فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق.

(2)

"الفتح" 13/ 450، كتاب "اللباس" رقم (5935).

ص: 214

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5554]

(

) - (حَدَّثناهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدَةُ (ح) وَحَدثَنَاهُ ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، وَعَبْدَةُ (ح) وَحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ (ح) وَحَدَّثَنَا عَمْرٌو النَّاقِدُ، أَخْبَرَنَا أَسْوَدُ بْنُ عَامِرٍ، أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ، كُلُّهُمْ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، بِهَذَا الْإِسْنَاد، نَحْوَ حَدِيثِ أَبِي مُعَاوَيةَ، غَيْرَ أَنَّ وَكِيعًا وَشُعْبَةَ فِي حَدِيثِهِمَا: فَتَمَرَّطَ شَعْرُهَا).

رجال هذه الأسانيد: تسعة:

1 -

(أَسْوَدُ بْنُ عَامِرٍ) أبو عبد الرحمن الشاميّ، نزيل بغداد، ويلقّب شاذان، ثقةٌ [9](ت 208)(ع) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 56/ 1552.

والباقون كلّهم تقدّموا قريبًا، و"عبدة" هو: ابن سليمان الكلابيّ الكوفيّ.

وقوله: (كُلُّهُمْ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ)؛ يعني الأربعة: عبدة بن سليمان، وعبد الله بن نمير، ووكيع، وشعبة رووا هذا الحديث عن هشام بن عروة، عن فاطمة بنت المنذر، عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما.

وقوله: (فَتَمَرَّطَ شَعْرُهَما) قال المجد رحمه الله: تمرّط الشعرُ، وامّرط؛ كافتَعَلَ: تساقط، وتحاتّ. انتهى

(1)

.

[تنبيه]: رواية عبدة بن سليمان عن هشام ساقها ابن ماجه في "سننه" بسند المصنّف، فقال:

(1988)

- حدّثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا عبدة بن سليمان، عن هشام بن عروة، عن فاطمة، عن أسماء، قالت: جاءت امرأة إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقالت: إن ابنتي عُرَيِّسٌ، وقد أصابتها الْحَصْبة، فتَمَرّق شعرها، فَأَصِلُ لها فيه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لَعَن الله الواصلة، والمستوصلة". انتهى

(2)

.

ورواية شعبة عن هشام ساقها النسائيّ في "الكبرى"، فقال:

(9374)

- أخبرني محمد بن إسماعيل بن إبراهيم، قال: حدّثنا أبو النضر، قال: حدّثنا شعبة، عن هشام بن عروة، عن امرأته فاطمة، عن أسماء

(1)

"القاموس المحيط" ص 1218.

(2)

"سنن ابن ماجه" 1/ 639.

ص: 215

ابنة أبي بكر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لَعَنَ الواصلةَ، والمستوصلة. انتهى

(1)

.

[تنبيه]: رواية شعبة عن هشام هذه لم أجدها بلفظ: "فتمرّط شعرها"، كما قال مسلم رحمه الله، وإنما هذا اللفظ عند شعبة بسند آخر من حديث عائشة رضي الله عنها، كما يأتي لمسلم بعد هذا، فليُنظر، والله تعالى أعلم.

وأما رواية عبد الله بن نمير، ووكيع، فلم أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5555]

(

) - (وَحَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ الدَّارِمِيّ، أَخْبَرَنَا حَبَّانُ، حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، حَدَّثَنَا مَنْصُورٌ، عَنْ أُمِّه، عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ، أَنَّ امْرَأَةً أَتَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ: إِنِّي زَوَّجْتُ ابْنَتِي، فَتَمَرَّقَ شَعْرُ رَأْسِهَا، وَزَوْجُهَا يَسْتَحْسِنُهَا، أَفَأَصِلُ

(2)

يَا رَسُولَ اللهِ؟ فَنَهَاهَا).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(حَبَّانُ) بن هلال، أبو حبيب البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [9](ت 216)(ع) تقدم في "الإيمان" 55/ 322.

2 -

(وُهَيْبُ) بن خالد بن عجلان، تقدّم قريبًا.

3 -

(مَنْصُورُ) بن عبد الرحمن بن طلحة بن الحارث العبدريّ الحَجَبيّ المكيّ، ثقةٌ [5](ت 7 أو 138)(خ م د س ق) تقدم في "الحيض" 3/ 699.

4 -

(أُمُّهُ) صفيّة بنت شيبة بن عثمان بن طلحة العبدريّة، لها رؤية، وفي "صحيح البخاريّ" التصريح بسماعها من النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأنكر الدارقطنيّ إدراكها (ع) تقدمت في "الحيض" 3/ 699.

والباقيان ذُكرا في الباب، وقبل باب، فشيخه أحمد بن سعيد هو أبو جعفر الدارميّ المذكور قبل باب.

وقولها: (فَتَمَرَّقَ شَعْرُ رَأْسِهَا) تقدّم أن النُّسخ بالراء، ومعناه: تساقط، وروي:"فتمزّق" بالزاي، وهو بمعناه.

(1)

"السنن الكبرى" للنسائيّ 5/ 421.

(2)

وفي نسخة: "أفأصل شعر رأسها".

ص: 216

وقولها: (وَزَوْجُهَا يَسْتَحْسِنُهَا) قال النوويّ رحمه الله: هكذا وقع في جماعة من النُّسخ، بإسكان الحاء، وبعدها سين مكسورة، ثم نون، من الاستحسان؛ أي: يستحسنها، فلا يصبر عنها، ويطلب تعجيلها إليه، ووقع في كثير منها:"يستحثنيها"، بكسر الحاء، وبعدها ثاء مثلثة، ثم نون، ثم ياء مثناة تحتُ، من الْحَثّ، وهو سرعة الشيء، وفي بعضها:"يستحثُّها" بعد الحاء ثاء مثلثة فقط، والله أعلم. انتهى

(1)

.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام البحث فيه، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5556]

(2123) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا أبُو دَاوُدَ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ (ح) وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ - وَاللَّفْظُ لَهُ - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي بُكَيْرٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، قَالَ: سَمِعْتُ الْحَسَنَ بْنَ مُسْلِم، يُحَدِّثُ عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ جَارِيةً مِنَ الأَنْصَارِ تَزَوَّجَتْ، وَأَنَّهَا مَرِضَتْ، فَتَمَرَّطَ شَعْرُهَا، فَأَرَادُوا أَنْ يَصِلُوهُ، فَسَأَلُوا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ، فَلَعَنَ الْوَاصِلَةَ، وَالْمُسْتَوْصِلَةَ).

رجال هذين الإسنادين: عشرة:

1 -

(أَبُو دَاوُدَ) سليمان بن داود الطيالسي البصري، ثقةٌ حافظ [9] تقدّم في "المقدمة" 6/ 73.

2 -

(يَحْيَى بْنُ أَبِي بُكَيْرٍ) اسم أبيه نَسْر الكرمانيّ، كوفيّ الأصل، نزل بغداد، ثقةٌ [9](ت 8 أو 209)(ع) تقدم في "الإيمان" 90/ 471.

3 -

(عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ) بن عبد الله بن طارق الْجَمَليّ المراديّ، أبو عبد الله الكوفيّ الأعمى، ثقةٌ عابد، رُمي بالإرجاء [5](118) أو قبلها (ع) تقدم في "الإيمان" 85/ 452.

4 -

(الْحَسَنُ بْنُ مُسْلِم) بن يَنّاق المكيّ، ثقةٌ [5] مات بعد المائة بقليل (خ م د س ق) تقدم في "العَيدين" 1/ 2044.

والباقون تقدّموا قريبًا.

وقولها: (أَنَّ جَارِيَةً مِنَ الأَنْصَارِ) لم يُعرف اسمها.

(1)

"شرح النوويّ" 14/ 105.

ص: 217

وقولها: (فَتَمَرَّطَ شَعْرُهَا)؛ أي: تمزّق، وتساقط، ولفظ البخاريّ:"فتمعّط" بالعين والطاء المهملتين؛ أي: خرج من أصله، وأصل المعط: المدّ، كأنه مُدّ إلى أن تقطّع، ويُطلق أيضًا على من سقط شعره، قاله في "الفتح"

(1)

.

وقوله: (فَأَرَادُوا أَنْ يَصِلُوهُ) ولفظ البخاريّ: "أن يصلوها"؛ أي: يصلوا شعرها.

وقوله: (فَسَأَلُوا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ) السائلة هي أمها، وتمام شرح الحديث تقدّم في حديث أسماء رضي الله عنها، ولله الحمد والمنّة.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [32/ 5556 و 5557 و 5558](2123)، و (البخاريّ) في "النكاح"(5205) و"اللباس"(5934)، و (النسائيّ) في "الزينة"(8/ 146)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1564)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(5/ 202)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 111 و 228 و 234)، و (ابن راهويه) في "مسنده"(3/ 686)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5514)، و (الطحاويّ) في "مشكل الآثار"(2/ 41)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 426)، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5557]

(

) - (حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا زيدُ بْنُ الْحُبَاب، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ نَافِعٍ، أَخْبَرَنِي الْحَسَنُ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ يَنَّاقَ، عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ امْرَأَةً مِنَ الأَنْصَارِ زَوَّجَتِ ابْنَةً لَهَا، فَاشْتَكَتْ، فَتَسَاقَطَ شَعْرُهَا، فَأَتَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ: إِن زَوْجَهَا يُرِيدُهَا، أَفَأَصِلُ شَعَرَهَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ("لُعِنَ الْوَاصِلَاتُ").

(1)

"الفتح" 13/ 451، كتاب "اللباس" رقم (5935).

ص: 218

رجال هذا الإسناد: ستّةٌ:

1 -

(زيدُ بْنُ الْحُبَابِ) أبو الحسين الْعُكْليّ الكوفيّ، خراسانيّ الأصل، صدوقٌ يُخطئ في حديث الثوريّ [9](ت 203)(م 4) تقدم في "الطهارة" 6/ 560.

2 -

(إِبْرَاهِيمُ بْنُ نَافِعٍ) المخزوميّ المكيّ، ثقةٌ حافظٌ [7](ع) تقدم في "الزكاة" 24/ 2360.

والباقون ذُكروا في الباب، وقبل باب.

وقولها: (فَتَسَاقَطَ شَعْرُهَا)؛ أي: تناثر، ولفظ البخاريّ:"فتمعط" بتشديد العين المهملة؛ أي: تساقط، وتمزّق، ويقال: مَعَطَ الشعرُ، وأمعط: إذا تناثر، ومعطته أنا إذا نتفته، والأمعط من الرجال السَّنُوط، بفتح السين المهملة، وضمّ النون، وهو الذي لا لحية له، يقال: رجل سنوط، وسناط، وقال أبو حاتم: والذئب يكنى أبا معيط، قاله في "العمدة"

(1)

.

والحديث متّفّقٌ عليه، وقد مضى تمام شرحه، وبيان مسائله، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5558]

(

) - (وَحَدَّثَنِيهِ مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، حَدَثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ نَافِعٍ، بِهَذَا الإِسْنَاد، وَقَالَ: "لَعِنَ الْمُوصِلَاتُ").

رجال هذا الإسناد: ثلاثة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمِ) بن ميمون تقدّم قريبًا.

2 -

(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ) تقدّم قبل بابين.

و"إبراهيم بن نافع" ذُكر قبله.

وقوله: (لُعِنَ الْمُوصِلَاتُ) كذا بالبناء للمجهول، و"الموصلات" بضمّ الميم، وكسر الصاد المهملة، ويَحْتَمل أن يكون بتشديد الصاد مكسورةً، أو مفتوحةً، أفاده في "الفتح".

وقال في "العمدة": قوله: "الموصلات" بضم الميم، وفتح الواو، وبالصاد المهملة بالفتح، والكسر، وفي رواية الكشميهنيّ:"الموصولات"، ثم

(1)

"عمدة القاري" 20/ 193.

ص: 219

العلة في تحريمه إما لكونه شعار الفاجرات، أو تدليسًا، وتغيير خلق الله عز وجل، ولا يُمنع من الأدوية التي تزيل الكَلَف، وتُحَسِّن الوجه للزوج، وكذا أخْذ الشعر منه، وسئلت عائشة رضي الله عنها عن قشر الوجه، فقالت: إن كان شيء وُلدت وهو بها فلا يحل لها إخراجه، وإن كان شيء حَدَث، فلا بأس بقشره، وفي لفظ:"إن كان للزوج فافعلي"، ونقل أبو عبيد عن الفقهاء الرخصة في كل شيء وُصِل به الشعر ما لم يكن الوصل شعرًا، وفي "مسند أحمد" من حديث ابن مسعود:"نَهى منه إلا من داء"، وفي الحديث حجة على من جَوَّزه من الشافعية بإذن الزوج. انتهى

(1)

.

[تنبيه]: رواية إبراهيم بن نافع عن الحسن بن ينّاق هذه ساقها البخاريّ في "صحيحه"، فقال:

(4909)

- حدّثنا خلاد بن يحيى، حدّثنا إبراهيم بن نافع، عن الحسن، هو ابن مسلم، عن صفية، عن عائشة، أن امرأة من الأنصار زَوَّجَت ابنتها، فتمَعّط شعر رأسها، فجاءت إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فذكرت ذلك له، فقالت: إن زوجها أمرني أن أصل في شعرها، فقال:"لا، إنه قد لُعِنَ الموصلات". انتهى

(2)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5559]

(2124) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي (ح) وَحَدَّثنا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى - وَاللَّفْظُ لِزُهَيْرٍ - قَالَا: حَدَّثَنَا يَحْيَى - وَهُوَ الْقَطَّانُ - عَنْ عُبَيْدِ الله، أَخْبَرَنِي نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَعَنَ الْوَاصِلَةَ، وَالْمُسْتَوْصِلَةَ، وَالْوَاشِمَةَ، وَالْمُسْتَوْشِمَةَ).

رجال هذين الإسنادين: ثمانية:

وكلهم تقدّموا قبل باب.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيات المصنف رحمه الله، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه ابن عمر رضي الله عنهما من العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة، روى (2630) حديثًا، والله تعالى أعلم.

(1)

"عمدة القاري" 20/ 193.

(2)

"صحيح البخاريّ" 5/ 1997.

ص: 220

شرح الحديث:

(عَنِ ابْنِ عُمَرَ) رضي الله عنهما (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَعَنَ الْوَاصِلَةَ) ذكر السنديّ رحمه الله في "شرحه" 8/ 145 - 146 ما حاصله: أن هذا اللعن، وأمثاله إخبار بأن الله تعالى لعن هؤلاء، لا دعاءٌ منه صلى الله عليه وسلم؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يُبعث لعّانًا، وقد قال:"المؤمن لا يكون لعّانًا". قال: وورد لعن الشيطان وغيره، فالظاهر أن اللعن على من يستحقّه على قلّة لا يضرّ، فلذلك قيل: لم يُبعث لعّانًا، بصيغة المبالغة، ووجه اللعن: ما فيه من تغيير الخلق بتكلّف، ومثله قد حرّم الشارع، فيمكن توجيه اللعن إلى فاعله، بخلاف التغيير بالخضاب، ونحوه، مما لم يحرّمه الشارع؛ لعدم التكلّف فيه. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: استدلاله بكونه صلى الله عليه وسلم لم يبعث لعانًا، وكون المؤمن لا يكون لعانًا على ما ذَكره فيه نظر؛ لأن هذا فيمن لا يستحقّ، وأما المستحقّ؛ كالكافر، والظالم، ومرتكب بعض الكبائر، فإنه صلى الله عليه وسلم كان كثيرًا ما يلعنهم، قال الله عز وجل:{أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود: 18] كما كان صلى الله عليه وسلم يدعو في قنوته كثيرًا: "اللَّهم العن فلانًا، وفلانًا"، وغير ذلك، فتبصّر، والله تعالى أعلم.

وقوله: (لَعَنَ الْوَاصِلَةَ) وَصْل الشعر هو أن يضاف إليه شعر آخر يُكثَّر به، و"الواصلة" هي التي تفعل ذلك، (وَالْمُسْتَوْصِلَةَ) هي التي تستدعي مَن يفعل بها ذلك، (وَالْوَاشِمَةَ) بالشين المعجمة: هي التي تَشِمُ، (وَالْمُستَوشِمَةَ) هي التي تَطْلُب الوشم، ونقل ابن التين، عن الداودي، أنه قال: الواشمة التي يُفعل بها الوشم، والمستوشمة: التي تفعله، ورُدّ عليه ذلك، ووقع في الروايات الآتية بلفظ:"المستوشمات": وهو بكسر الشين: التي تَفعل ذلك، وبفتحها التي تطلب ذلك، وبلفظ:"والموشومات": وهي من يُفعل بها الوشم.

قال أهل اللغة: "الوشم " - بفتح، ثم سكون -: أن يُغْرَز في العضو إبرة، أو نحوها، حتى يسيل الدم، ثم يُحشَى بنُورة، أو غيرها، فيخضر. وقال أبو داود في "السنن":"الواشمة": التي تجعل الْخِيلان في وجهها بكحل، أو مداد، و"المستوشمة": المعمول بها. انتهى. وذِكرُ الوجه للغالب، وأكثر ما

(1)

"حاشية السندي على النسائي" 8/ 145 - 146.

ص: 221

يكون في الشفة. وعن نافع: أنه يكون في اللِّثَة، فذِكرُ الوجه، ليس قيدًا، وقد يكون في اليد وغيرها من الجسد، وقد يُفعل ذلك نَقْشًا، وقد يُجعل دوائر، وقد يُكتب اسم المحبوب، وتعاطيه حرام؛ بدلالة اللعن، كما في حديث الباب، ويصير الموضع الموشوم نجسًا؛ لأن الدم انحبس فيه، فتجب إزالته إن أمكنت، ولو بالجَرح، إلا إن خاف منه تلفًا، أو شينًا، أو فوات منفعة عضو، فيجوز إبقاؤه، وتكفي التوبة في سقوط الإثم، ويستوي في ذلك الرجل والمرأة. قاله في "الفتح"

(1)

.

وقال النوويّ رحمه الله: أما الواشمة - بالشين المعجمة - ففاعلة الوشم، وهي أن تَغْرِز إبرة، أو مَسَلَّة، أو نحوهما، في ظهر الكف، أو الْمِعصَم، أو الشفة، أو غير ذلك، من بَدَن المرأة، حتى يسيل الدم، ثم تحشو ذلك الموضع بالكحل، أو النورة، فيخضرّ، وقد يُفعل ذلك بدارات، ونقوش، وقد تُكَثِّره، وقد تقلِّله، وفاعلة هذا واشمة، وقد وَشَمَت تَشِمُ وَشْمًا - أي: من باب وعد - والمفعول بها موشومة، فإن طلبت فِعل ذلك بها، فهي مستوشمة، وهو حرام على الفاعلة، والمفعول بها باختيارها، والطالبة له، وقد يُفعل بالبنت، وهي طفلة، فتأثم الفاعلة، ولا تأثم البنت؛ لعدم تكليفها حينئذ، قال أصحابنا: هذا الموضع الذي وُشِم يصير نجسًا، فإن أمكن إزالته بالعلاج وجبت إزالته، وإن لم يمكن إلا بالجَرح، فإن خاف منه التلف، أو فوات عضو، أو منفعة عضو، أو شينًا فاحشًا في عضو ظاهر، لم تجب إزالته، فإذا بأن لم يبق عليه إثم، وإن لم يَخَف شيئًا من ذلك ونحوه، لزمه إزالته، ويعصي بتأخيره، وسواء في هذا كله الرجل والمرأة. والله أعلم. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: القول بنجاسة الدم الخارج من الجسد غير الحيض ونحوه محل نظر، وقد تقدم تحقيقه في "كتاب الطهارة"، فراجعه تستفد. وبالله تعالى التوفيق.

(1)

"الفتح" 13/ 445 - 446، كتاب "اللباس" رقم (5931).

(2)

"شرح النووي" 14/ 106.

ص: 222

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [5559 و 5560](2124)، و (البخاريّ) في "اللباس"(5937 و 5940 و 5942)، و (أبو داود) في "الترجّل"(4168)، و (الترمذيّ) في "الأدب"(2784)، و (النسائيّ) في "الزينة"(8/ 145 و 188) و"الكبرى"(5/ 421)، و (ابن ماجه) في "النكاح"(1987)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(8/ 487)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 21)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5513)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1/ 409 و 2/ 74)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 421)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(3189)، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5560]

(

) - (وَحَدَّثَنِيهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ بَزِيعٍ، حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّل، حَدَّثنَا صَخْرُ بْنُ جُويرِيَةَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ الله، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِهِ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ بَزِيعٍ) البصريّ، ثقةٌ [10](ت 247)(م ت س) تقدم في "الطهارة" 23/ 639.

2 -

(بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ) بن لاحق البصريّ، تقدّم قريبًا.

3 -

(صَخْرُ بْنُ جُويرِيَةَ) أبو نافع مولى بني تميم، أو بني هلال، ثقةٌ [7](خ م دت س) تقدم في "الحج" 56/ 3169.

والباقيان ذُكرا قبله.

[تنبيه]: رواية صخر بن جويرية عن نافع هذه ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:

(5598)

- حدّثني يوسف بن موسى، حدّثنا الفضل بن دُكين، حدّثنا صخر بن جويرية، عن نافع، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم أو

ص: 223

قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: لَعَنَ اللهُ الواشمةَ، والمستوشمة، والواصلة، والمستوصلة - يعني: لَعَنَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم انتهى

(1)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5561]

(2125) - (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَعُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ - وَاللَّفْظُ لإسْحَاقَ - أَخْبَرَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ الله، قَالَ: لَعَنَ اللهُ الْوَاشِمَات، وَالْمُسْتَوْشِمَات، وَالنَّامِصَات، وَالْمُتَنَمِّصَات، وَالْمُتَفَلِّجَاتِ لِلْحُسْن، الْمُغَيِّرَاتِ خَلْقَ الله، قَالَ: فَبَلَغَ ذَلِكَ امْرَأَةً مِنْ بَنِي أَسَدٍ يُقَالُ لَهَا: أُمُّ يَعْقُوبَ، وَكَانَتْ تَقْرَأُ الْقُرْآنَ، فَأَتَتْهُ، فَقَالَتْ: مَا حَدِيث بَلَغَنِي عَنْكَ، أَنَّكَ لَعَنْتَ الْوَاشِمَات، وَالْمُسْتَوْشِمَات، وَالْمُتَنَمِّصَات، وَالْمُتَفَلِّجَاتِ لِلْحُسْن، الْمُغَيِّرَاتِ خَلْقَ اللهِ؟ فَقَالَ عَبْدُ اللهِ: وَمَا لِيَ لَا أَلْعَنُ مَنْ لَعَنَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ فِي كِتَابِ الله، فَقَالَتِ الْمَرْأَةُ: لَقَدْ قَرَأْتُ مَا بَيْنَ لَوْحَي الْمُصْحَف، فَمَا وَجَدْتُهُ، فَقَالَ: لَئِنْ كُنْتِ قَرَأْتِيهِ لَقَدْ وَجَدْتِيه، قَالَ اللهُ عز وجل: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}، فَقَالَتِ الْمَرْأَةُ: فَإِنِّي أَرَى شَيْئًا مِنْ هَذَا عَلَى امْرَأَتِكَ الآنَ، قَالَ: اذْهَبِي فَانْظُرِي، قَالَ: فَدَخَلَتْ عَلَى امْرَأَةِ عَبْدِ الله، فَلَمْ تَرَ شَيْئًا، فَجَاءَتْ إِلَيْه، فَقَالَتْ: مَا رَأَيْتُ شَيْئًا، فَقَالَ: أَمَا لَوْ كَانَ ذَلِكِ لَمْ نُجَامِعْهَا).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه الحنظليّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) الكوفيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

3 -

(جَرِيرُ) بن عبد الحميد، تقدّم أيضًا قريبًا.

4 -

(مَنْصُورُ) بن المعتمر، تقدّم أيضًا قريبًا.

5 -

(إِبْرَاهِيمُ) بن يزيد النخعيّ الكوفيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

6 -

(عَلْقَمَةُ) بن قيس بن عبد الله النخعيّ الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ عابدٌ [2] مات بعد الستّين، وقيل: بعد السبعين (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 52.

(1)

"صحيح البخاريّ" 5/ 2218.

ص: 224

7 -

(عَبْدُ اللهِ) بن مسعود الصحابيّ الشهير رضي الله عنه، تقدّم قريبًا.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالكوفيين من أوله إلى آخره، سوى شيخه إسحاق، فمروزيّ، وقد دخل الكوفة للأخذ عن أهلها، وأن فيه ثلاثة من التابعين روى بعضهم عن بعض عند من يجعل منصورًا من صغار التابعين، وإلا ففيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ، وأن هذا من أصحّ أسانيد ابن مسعود رضي الله عنه، قال الحافظ الذهبيّ رحمه الله: وقيل: أصحّ الأسانيد مطلقًا: سفيان، عن منصور، عن إبراهيم، عن علقمة، عن ابن مسعود رضي الله عنه. انتهى

(1)

، وأن فيه "عبد الله" مهملًا، وقد ثبت في كتب "المصطلح" أنه إذا أُطلق "عبد الله" في الصحابة يُنظر إلى الراوي عنه، فإن كان كوفيًّا، كهذا السند، فهو ابن مسعود رضي الله عنه، وإن كان مدنيًّا، فهو ابن عمر رضي الله عنهما، وإن كان مكيًّا، فهو ابن الزبير رضي الله عنهما، وإن كان بصريًّا، فهو ابن عباس رضي الله عنهما، وإن كان مصريًّا، أو شاميًّا، فهو ابن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، وقد أوضح ذلك الحافظ السيوطيّ رحمه الله، في "ألفية الحديث"، حيث قال:

وَحَيْثُما أُطْلِقَ "عَبْدُ اللهِ "فِي

طَيْبَةَ فَابْنُ عُمَرٍ وَإِنْ يَفِي

بِمَكَّةٍ فَابْنُ الزُّبَيْرِ أَو جَرَى

بِكُوفَةٍ فَهْوَ ابْنُ مَسْعُودٍ يُرَى

وَالْبَصْرَةِ الْبَحْرُ وَعِنْدَ مِصْرِ

وَالشَّامِ مَهْمَا أُطْلِقَ ابْنُ عَمْرِو

والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ مَنْصُورٍ) قال الدارقطنيّ رحمه الله: تابع منصورًا الأعمشُ، ومن أصحاب الأعمش من لم يذكر عنه علقمة في السند، وقال إبراهيم بن مهاجر، عن إبراهيم النخعيّ، عن أم يعقوب، عن ابن مسعود، والمحفوظ قول منصور. انتهى

(2)

. (عَنْ إِبْرَاهِيمَ) النخعيّ (عَنْ عَلْقَمَةَ) النخعيّ، وهو عمّ لأمّ إبراهيم

(1)

"سير أعلام النبلاء" 5/ 402.

(2)

"الفتح" 13/ 445، كتاب "اللباس" رقم (5931).

ص: 225

الراوي عنه، (عَنْ عَبْدِ اللهِ) بن مسعود رضي الله عنه أنه (قَالَ: لَعَنَ اللهُ)؛ أي: أبعدهم، وطردهم عن رحمته، قال ابن الأثير رحمه الله: أصل اللعن: الطرد، والإبعاد من الله، ومن الخَلْق: السبّ، والدعاء. انتهى

(1)

، وفي "المصباح": لعنه لَعْنًا، من باب نفع: طرده، وأبعده، أو سبّه، فهو لعينٌ، وملعون. انتهى

(2)

. وفي "اللسان": اللعنُ: الإبعاد، والطرد من الخير، وقيل: الطرد، والإبعاد من الله، ومن الخلق السبّ، والدعاء، واللعنةُ الاسم. انتهى

(3)

.

(الْوَاشِمَاتِ) جمع واشمة، بالشين المعجمة، هي التي تفعل الوشم - بفتح، فسكون -: وهو غرز الإبرة، أو نحوها في العضو حتى يسيل الدم، ثم يُحشى بنُورة، أو غيرها، حتى يخضرّ. (وَالْمُسْتَوْشِمَاتِ) - بضم الميم، وفتح المثنّاة الفوقية، بينهما واو ساكنة - والظاهر أنه مشتقّ من الايتشام، افتعالٌ من الوشم، وأصله ايتشم، ياتشم، ايتشامًا، فهو مُوتَشِم، ويقال أيضًا: اتّشم يتّشم اتّشامًا، فهو متّشم، بإبدال الواو تاء، وإدغامها في تاء الافتعال، ونظيره: ايتصل ياتصل ايتصالا، فهو موتصل، واتصل يتّصل اتِّصالًا، فهو متّصلٌ، قال ابن مالك في "خلاصته":

ذُو اللِّينِ فَاتَا فِي افْتِعَالٍ أُبْدِلَا

وَشَذَّ فِي ذِي الْهَمْزِ نَحْوُ ائْتَكَلَا

و"المستوشماتُ": هي التي تطلب أن يُفعَل بها ذلك.

(وَالنَّامِصَاتِ)؛ أي: التي تزيل الشعر من الوجه، قال المجد رحمه الله: النَّمْصُ نَتْف الشعر، والنامصة: هي مزيِّنة النساء بالنَّمْص، والمتنمِّصة: هي المتزيِّنة به. انتهى

(4)

.

وقال ابن الأثير رحمه الله: النَّامِصة: التي تَنْتِف الشَّعَر من وجْهِها. والمُتَنَمِّصة: التي تأمُر مَن يَفْعل بها ذلك، وبعضُهم يَرْويه:"المُنْتَمِصَة" بتقديم النون على التاء، ومنه قيل للمِنْقاش: مِنْماص. انتهى

(5)

.

وقال النوويّ رحمه الله: وأما النامصة - بالصاد المهملة - فهي التي تزيل

(1)

"النهاية في غريب الأثر" 4/ 255.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 554.

(3)

"لسان العرب" 13/ 387.

(4)

"القاموس المحيط" 2/ 554.

(5)

"النهاية في غريب الأثر" 5/ 253.

ص: 226

الشعر من الوجه، والمتنمصة التي تطلب فِعْل ذلك بها، وهذا الفعل حرام، إلا إذا نبتت للمرأة لحية، أو شوارب، فلا تحرم إزالتها، بل يستحب عندنا، وقال ابن جرير: لا يجوز حلق لحيتها، ولا عَنْفَقتها، ولا شاربها، ولا تغيير شيء من خلقتها، بزيادة، ولا نقص، ومذهبنا ما قدمناه من استحباب إزالة اللحية، والشارب، والعنفقة، وأن النهي إنما هو في الحواجب، وما في أطراف الوجه. انتهى

(1)

.

(وَالْمُتَنَمِّصَاتِ) جمع متنمصة، وحَكَى ابن الجوزيّ:"منتمصة" بتقديم الميم على النون، وهو مقلوب، والمتنمصة التي تطلب النماص، والنامصة التي تفعله، والنماص إزالة شعر الوجه بالمنقاش، ويسمى المنقاش مِنماصًا لذلك، ويقال: إن النماص يختص بإزالة شعر الحاجبين لترفيعهما، أو تسويتهما، قال أبو داود في "السنن": النامصة التي تنقش الحاجب حتى تُرِقَّه

(2)

.

(وَالْمُتَفَلِّجَاتِ) جمع مُتَفَلِّجَةٍ، وهي التي تطلب الفَلَجَ، أو تصنعه، والفلج بفتح الفاء، واللام، آخره جيم: انفراج ما بين الثنيتين، والتفلج أن يفرج بين المتلاصقين بالْمِبْرَد ونحوه، وهو مختصّ عادةً بالثنايا، والرَّبَاعيات، ويُستحسَن من المرأة، فربما صنعته المرأة التي تكون أسنانها متلاصقة؛ لتصير متفلجة، وقد تفعله الكبيرة تُوهِم أنها صغيرة؛ لأن الصغيرة غالبًا تكون مفلجة، جديدة السنّ، ويذهب ذلك في الكِبَر، وتحديد الأسنان يُسَمَّى الوَشْرَ، بالراء، وقد ثبت النهي عنه أيضًا في بعض طرق حديث ابن مسعود، ومن حديث غيره في "السنن"، وغيرها، قاله في "الفتح"

(3)

.

وقال النوويّ رحمه الله: وأما المتفلجات - بالفاء، والجيم - والمراد مُفَلِّجات الأسنان، بأن تبرد ما بين أسنانها الثنايا والرَّباعِيَات، وهو من الفَلَج بفتح الفاء واللام، وهي فُرْجة بين الثنايا والرَّبَاعِيَات وتفعل ذلك العجوز، ومَنْ قارَبَتها في السن إظهارًا للصِّغَر، وحُسْن الأسنان؛ لأن هذه الفرجة اللطيفة بين الأسنان

(1)

"شرح النوويّ" 14/ 106.

(2)

"الفتح" 13/ 454، كتاب "اللباس" رقم (5939).

(3)

"الفتح" 13/ 445، كتاب"اللباس" رقم (5931).

ص: 227

تكون للبنات الصغار، فإذا عجزت المرأة، وكبرت سنها، وتوحشت، فتبردها بالمبرد؛ لتصير لطيفةً حسنة المنظر، وتوهمَ كونها صغيرةً، ويقال له أيضًا: الوشر، ومنه:"لعن الواشرة، والمستوشرة"، وهذا الفعل حرام على الفاعلة، والمفعول بها؛ لهذه الأحاديث، ولأنه تغيير لخلق الله تعالى، ولأنه تزوير، ولأنه تدليس. انتهى

(1)

.

وقوله: (لِلْحُسْنِ)؛ أي: لأجل الحُسْن، قال السنديّ رحمه الله: متعلّق بـ "المتفلّجات" فقط، أو بالكلّ. انتهى.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي الاحتمال الثانيّ أَولى كما لا يخفى، والله تعالى أعلم.

وقال في "الفتح": قوله: للحسن " يُفْهَم منه أن المذمومة مَن فعلت ذلك لأجل الحسن، فلو احتاجت إلى ذلك لمداواة مثلًا جاز. انتهى

(2)

.

وقوله: (الْمُغَيِّرَاتِ خَلْقَ اللهِ) صفة لازمة لمن يصنع الوشم، والنَّمْصَ، والفَلَج، وكذا الوصل على إحدى الروايات، وفي هذا إشارة إلى أن سبب النهي عن هذه الأشياء ما فيها من تغيير خلق الله تعالى.

(قَالَ) علقمة: (فَبَلَغَ ذَلِكَ)؛ أي: حديث ابن مسعود رضي الله عنه هذا: "لَعَنَ اللهُ الواشمات

إلخ" (امْرَأَةً) مفعول ثان لـ"بلغ"، (مِنْ بَني أَسَدٍ، يُقَالُ لَهَا)؛ أي: تُكنى (أُمُّ يَعْقُوبَ) لا يُعْرَف اسمها، وهي من بني أسد بن خزيمة، ولم أقف لها على ترجمة، ومراجعتها ابن مسعود تدلّ على أن لها إدراكًا، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب. انتهى

(3)

.

(وَكَانَتْ تَقْرَأُ الْقُرْآنَ، فَأَتَتْهُ)؛ أي: جاءت أم يعقوب إلى ابن مسعود رضي الله عنه (فَقَالَتْ: مَا) استفهاميّة، مبتدأ خبره قولها:(حَدِيث بَلَغَنِي عَنْكَ) ثم بيّنت ما أجملته بقولها: (أَنَّكَ) يَحْتَمل فتح همزة "أن" خبرًا لمحذوف؛ أي: هو أنك

إلخ، ويَحْتَمل كسرها، فتكون الجملة مستأنفة، (لَعَنْتَ الْوَاشِمَات،

(1)

"شرح النوويّ" 14/ 106 - 107.

(2)

"الفتح" 13/ 445، كتاب "اللباس" رقم (5931).

(3)

"الفتح" 13/ 447، كتاب "اللباس" رقم (5931).

ص: 228

وَالْمُسْتَوْشِمَاتِ، وَالْمُتَنَمِّصَات، وَالْمُتَفَلِّجَاتِ لِلْحُسْن، الْمُغَيِّرَاتِ خَلْقَ الله، فَقَالَ عَبْدُ اللهِ) بن مسعود رضي الله عنه مجيبًا عن سؤالها:(وَمَا لِيَ)"ما" استفهاميّة، والاستفهام للإنكار، وجوّز الكرمانيّ

(1)

أن تكون نافيةً، قال الحافظ: وهو بعيد

(2)

. (لَا أَلْعَنُ مَنْ لَعَنَ) بحذف العائد، وهو جائز في سعة الكلام، كما قال في "الخلاصة":

................................

وَالْحَذْفُ عِنْدَهُمْ كَثِيرٌ مُنْجَلِي

فِي عَائِدٍ مُتَّصِل إِذا انْتَصَبْ

بِفِعْل أوْ وَصْفٍ كَـ "مَنْ نَرْجُو يَهَبْ"

(رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ في كتَابِ اللهِ) عز وجل، فَهِمت المرأة من هذا القول أن لعن المذكورات في الحديث منصوص عليه في القرآن، فلذلك قالت: لقد قرأت

إلخ، (فَقَالَتِ الْمَرْأَةُ: لَقَدْ قَرَأْتُ مَا بَيْنَ لَوْحَيِ الْمُصْحَفِ) المراد باللوحين ما يُجعل المصحف فيه، وكانوا يكتبون المصحف في الرَّقّ، ويجعلون له دَفَّتين من خشب، وقد يُطلق على الكرسيّ الذي يوضع عليه المصحف اسم لوحين، قاله في "الفتح"

(3)

.

(فَمَا وَجَدْتُهُ، فَقَالَ) ابن مسعود رضي الله عنه: (لَئِنْ كُنْتِ قَرَأْتِيهِ لَقَدْ وَجَدْتِيهِ) هكذا النُّسخ بإثبات الياء في الموضعين، وهي لغة، والأفصح حذفها في خطاب المؤنث في الماضي، قاله النوويّ رحمه الله.

وقال القرطبيّ: وقوله لها: "لئن كنت قرأتيه، لقد وجدتيه" بزيادة ياء هي الرواية، وهي لغة معروفة، فيما إذا اتصل بياء خطاب الواحدة المؤنثة ضمير غائب؛ ويعني بـ "قرأتيه": تدبّرتيه، ووجه استدلاله على ذلك بالآية: أنَّه فهم منها تحريم مخالفة النبيّ صلى الله عليه وسلم فيما يأمر به، وينهى عنه، وأن مخالفه مستحق للعنة، وهؤلاء المذكورات في الحديث مستحقات للَّعنة. انتهى

(4)

.

(قَالَ اللهُ عز وجل: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7])

(1)

"شرح الكرمانيّ على البخاريّ" 21/ 126، ونصّه:"استفهام، أو نفي".

(2)

"الفتح" 13/ 447، كتاب "اللباس" رقم (5931).

(3)

"الفتح" 13/ 447، كتاب "اللباس" رقم (5931).

(4)

"المفهم" 5/ 446.

ص: 229

وأخرج الحديث الطبرانيّ من طريق مسروق، عن عبد الله، وزاد في آخره:"فقال عبد الله: ما حَفِظت وصية شعيب إذًا"؛ يعني قوله تعالى حكايةً عن شعيب عليه السلام: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} [هود: 88]. (فَقَالَتِ الْمَرْأَةُ: فَإِنِّي أَرَى شَيْئًا مِنْ هَذَا عَلَى امْرَأَتِكَ الآنَ) قال القرطبيّ رحمه الله: تعني: أنها رأت على امرأته عن وقت قريب من وقت كلامها معه، حتى كأنه في حكم الوقت الحاضر المعبَّر عنه بـ "الآن" شيئًا من تلك الأمور المذكورات في الحديث، وأقرب ما يكون ذلك الشيء التنميص، وهو الذي يزول بنبات الشعر عن قريب، ولو كان ذلك وشمًا، أو تفليجًا، لما زال. انتهى

(1)

.

وقولها: (فَإِنِّي أَرَى شَيْئًا مِنْ هَذَا عَلَى امْرَأَتِكَ) امرأة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، هي زينب بنت عبد الله الثقفيّة، ويقال: زينب بنت معاوية، أو أبي معاوية، وقيل: زينب بنت عبد الله بن معاوية، قاله الذهبيّ في "التجريد"

(2)

.

(قَالَ: اذْهَبِي فَانْظُرِي) قال القرطبيّ رحمه الله: يعني: أنَّه لما رأى على امرأته شيئًا من ذلك نهاها، فانتهت عنه، وَسَعَتْ في إزالته حتى زال، فدخلت المرأة، فلم تر عليها شيئًا من ذلك، فصدَّق قوله فعله. انتهى. (قَالَ) علقمة (فَدَخَلَتْ) المرأة (عَلَى امْرَأَةِ عَبْدِ اللهِ) بن مسعود رضي الله عنه (فَلَمْ تَرَ شَيْئًا، فَجَاءَتْ إِلَيْه، فَقَالَتْ: مَا رَأَيْتُ شَيْئًا، فَقَالَ: أَمَا لَوْ كَانَ ذَلِكِ لَمْ نُجَامِعْهَا) وفي بعض النسخ: "لم أجامعها"، قال جماهير العلماء: معناه: لم نصاحبها، ولم نجتمع نحن وهي، بل كنا نطلقها، ونفارقها، قال القاضي عياض: ويَحْتَمِل أن معناه: لم أطأها، وهذا ضعيف، والصحيح ما سبق، فيُحْتَجّ به في أن مَن عنده امرأة مرتكبة معصية؛ كالوصل، أو ترك الصلاة، أو غيرهما ينبغي له أن يطلقها، والله أعلم.

وقال القرطبيّ رحمه الله: وهكذا يتعيّن على الرجل أن يُنكر على زوجته مهما رأى عليها شيئًا محرَّمًا، ويمتنع من وطئها كما قال عبد الله:"أما إنه لو كان ذلك لم يجامعها"، هذا ظاهر هذا اللفظ، ويَحْتَمِل: لم يجتمع معها في دار،

(1)

"المفهم" 5/ 446 - 447.

(2)

"تنبيه المعلم" 364 - 365، و"تجريد الذهبيّ" 2/ 273.

ص: 230

ولا بيت، فإما بهجران، أو بطلاق، كما قال تعالى:{وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ} [النساء: 34]، وإذا كان هذا لأجل حقّ الزوج، فلأن يكون لحقّ الله تعالى أحرى وأَولى. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [32/ 5561 و 5562 و 5563 و 5564](2125)، و (البخاريّ) في "التفسير"(4886 و 4887) و"اللباس"(5931 و 5939 و 5943 و 5948)، و (أبو داود) في "الترجّل"(4169)، و (الترمذيّ) في "الأدب"(2782)، و (النسائيّ) في "الطلاق"(6/ 149) و"الزينة"(8/ 146 و 188) و"الكبرى"(5/ 422 و 423 و 425)، و (ابن ماجه) في "النكاح"(1989)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(3/ 145)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 433 - 434 و 443 و 448 و 454 و 462)، و (الحميديّ) في "مسنده"(97)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 279)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5504 و 5505)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(9/ 128)، و (أبو يعلى) في "مسنده"9/ 73)، و (ابن الجعد) في "مسنده"(1/ 138)، و (البزّار) في "مسنده"(4/ 293 و 295 و 329)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(7/ 208 و 312) و"شُعَب الإيمان"(6/ 170)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان تحريم الوشم، والنَّمَص، والفَلَج.

2 -

(ومنها): أنه يُفهم من قوله: "للحُسن": أن المذمومة هي التي تفعل ذلك لطلب الحسن، أما لو احتاجت إليه لعلاج، أو عيب في السنّ، ونحوه فلا بأس به. قاله النوويّ رحمه الله

(2)

.

(1)

"المفهم" 5/ 447.

(2)

"شرح النووي" 14/ 107.

ص: 231

3 -

(ومنها): أن في قوله: "المغيّرات خلق الله"، بيان سبب النهي عن هذه الأمور، وهو تغيير خلق الله تعالى، وأيضًا ففيه تزويرٌ، وتدليس.

قال الطبري رحمه الله: لا يجوز للمرأة تغيير شيء من خلقتها، التي خلقها الله عليها، بزيادة أو نقص؛ التماسَ الحُسن، لا للزوج، ولا لغيره؛ كمن تكون مقرونة الحاجبين، فتزيل ما بينهما، تُوهِم البَلَج، أو عكسه، ومن تكون لها سن زائدة، فتقلعها، أو طويلة فتقطع منها، أو لحية، أو شارب، أو عَنفَقَة، فتزيلها بالنتف، ومن يكون شعرها قصيرًا، أو حقيرًا، فتطوّله، أو تغزره بشعر غيرها، فكل ذلك داخل في النهي، وهو من تغيير خلق الله تعالى، قال: ويستثنى من ذلك ما يحصل به الضرر، والأذية؛ كمن يكون لها سن زائدة، أو طويلة، تعيقها في الأكل، أو إصبع زائدة تؤذيها، أو تؤلمها، فيجوز ذلك، والرجل في هذا الأخير كالمرأة.

وقال النووي: يُستثنَى من النماص ما إذا نبت للمرأة لحية، أو شارب، أو عنفقة، فلا يحرم عليها إزالتها، بل يستحب. قال الحافظ: وإطلاقه مقيَّد بإذن الزوج وعِلْمه، وإلا فمتى خلا عن ذلك مُنع؛ للتدليس.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: إن ما قاله النوويّ، ووافقه عليه الحافظ مقيّدًا بإذن الزوج يحتاج إلى دليل، فإن وُجد، وإلا فما قاله الطبريّ هو الحقّ، فتنبّه. والله تعالى أعلم.

وقال بعض الحنابلة: إن كان النمص أشهرَ شِعار للفواجر امتنع، وإلا فيُكره تنزيهًا، وفي رواية: يجوز بإذن الزوج، إلا إن وقع به تدليس فيَحْرُم، قالوا: ويجوز الْحَفّ والتحمير، والنقش، والتطريف، إذا كان بإذن الزوج؛ لأنه من الزينة. وقد أخرج الطبري من طريق أبي إسحاق، عن امرأته، أنها دخلت على عائشة، وكانت شابة يعجبها الجمال، فقالت: المرأة تَحُفّ جبينها لزوجها؟ فقالت: أميطي عنك الأذى ما استطعت. وقال النووي: يجوز التزين بما ذُكر إلا الحَفّ، فإنه من جملة النماص. ذكره في "الفتح"

(1)

.

4 -

(ومنها): ما قاله القرطبيّ رحمه الله: وقول ابن مسعود رضي الله عنه للمرأة: "وما

(1)

"الفتح" 13/ 447، كتاب "اللباس" رقم (5931).

ص: 232

لي لا ألعن من لعنه رسول الله صلى الله عليه وسلم " دليل: على جواز الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم في إطلاق اللعن علي من لعنه النبيّ صلى الله عليه وسلم معيَّنًا كان أو غير معيَّن؛ لأنَّ الأصل أن النبيّ صلى الله عليه وسلم ما كان يلعن إلا من يستحق ذلك. غير أن هذا يعارضه قوله صلى الله عليه وسلم: "اللهم ما من مسلم سببته، أو جلدته، أو لعنته، وليس لذلك بأهل، فاجعل ذلك له كفارة، وطهورًا" رواه مسلم، وهذا يقتضي أنه قد يلعن من ليس بأهل لعنة، وقد أشكل هذا على كثير من العلماء، وراموا الانفصال عن ذلك بأجوبة متعددة ذكرها القاضي عياض في كتاب "الشفاء"، وأشبه ما ينفصل به عن ذلك: أن قوله: "ليس لذلك بأهل" في علم الله، وأعني بذلك: أن هذا الذي لعنه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إنما لعنه لسبب صدر منه يقتضي إباحة لعنه، لكنَّه قد يكون منهم من يعلم الله تعالى من مآل حاله: أنه يقلع عن ذلك السبب، ويتوب منه، بحيث لا يضره، فهذا هو الذي يعود عليه سب رسول الله صلى الله عليه وسلم إياه، ولعنه له بالرحمة، والطهور، والكفارة، ومن لا يعلم الله منه ذلك، فإنَّ دعاءه صلى الله عليه وسلم زيادة في شقوته، وتكثير للعنته، والله تعالى أعلم. انتهى

(1)

.

5 -

(ومنها): ما قاله في "الفتح": وفي إطلاق ابن مسعود نسبة لعن مَن فعل ذلك إلى كتاب الله، وفهم أم يعقوب منه أنه أراد بكتاب الله القرآن، وتقريره لها على هذا الفهم، ومعارضتها له بأنه ليس في القرآن، وجوابه بما أجاب دلالةٌ على جواز نسبة ما يدلّ عليه الاستنباط إلى كتاب الله تعالى، وإلى سُنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم نسبةً قوليةً، فكما جاز نسبة لعن الواشمة إلى كونه في القرآن؛ لعموم قوله تعالى:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]، مع ثبوت لعنه صلى الله عليه وسلم مَن فعل ذلك يجوز نسبة مَن فعل أمرًا يندرج في عموم خبر نبويّ ما يدلّ على منعه إلى القرآن، فيقول القائل مثلًا: لعن الله مَن غَيّر منار الأرض في القرآن، ويستند في ذلك إلى أنه صلى الله عليه وسلم لَعَن مَن فعل ذلك. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي قاله في "الفتح" استدلال قويّ

(1)

"المفهم" 5/ 445 - 446.

(2)

"الفتح" 13/ 447، كتاب "اللباس" رقم (5931).

ص: 233

جدًّا، لكنه مقيّدٌ بما إذا كان ذلك الأمر منصوصًا عليه في السنّة، أما نسبة الأمور المستنَبطة بالاجتهاد؛ كالمسائل القياسيّة، فلا يجوز نسبتها إلى الكتاب، والسنّة، إلا مع بيان كونها مستنبطة منهما، كما يُعْزَى ذلك إلى بعض فقهاء أهل الرأي في مسألة يستنبطها بالاجتهاد، فقد أجاز أن يقال فيها: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا. قال أبو العبّاس القرطبيّ، صاحب "المفهم": استجاز بعض فقهاء أهل الرأي نسبة الحكم الذي دلّ عليه القياس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم نسبةً قوليّةً، فيقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا، ولذا ترى كتبهم مشحونةً بأحاديث تشهد متونها بأنها موضوعة؛ لأنها تُشبه فتاوى الفقهاء، ولأنهم لا يقيمون لها سندًا. انتهى.

فهذا يعدّ من أقسام الوضع على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك قلت في منظومتي "الجليس الأمين في بيان الموضوع، وأصناف الوضّاعين":

وَبَعْضُ أَهْلِ الرَّأيِ قَالَ يُنْسَبُ

إِلَى النَّبِي مَا بِالْقِيَاسِ يُجْلَبُ

لِذَا تُرَى كُتُبُهُمْ تَشْتَمِلُ

مَا لَا يُرَى بِسَنَدٍ يَتَّصِلُ

وَهْوَ حَرَامٌ دَاخِل فِي الْكَذِبِ

قَدِ افْتَرَاهُ مُجْرِمًا هَذَا الْغَبِي

والله تعالى أعلم بالصواب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5562]

(

) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَن، وَهُوَ ابْنُ مَهْدِيٍّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ (ح) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ، حَدَّثَنَا مُفَضَّل - وَهُوَ ابْنُ مُهَلْهَلٍ - كِلَاهُمَا عَنْ مَنْصُورٍ، فِي هَذَا الْإِسْنَاد، بِمَعْنَى حَدِيثِ جَرِيرٍ، غَيْرَ أَنَّ فِي حَدِيثِ سُفْيَانَ: الْوَاشِمَاتِ، وَالْمُسْتَوْشِمَات، وفي حَدِيثِ مُفَضَّلٍ: الْوَاشِمَات، وَالْمَوْشُومَاتِ).

رجال هذين الإسنادين: ثمانية:

1 -

(يَحْيَى بْنُ آدَمَ) بن سليمان الأمويّ مولاهم، أبو زكريّاء الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ فاضلٌ، من كبار [9](ت 203)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 24.

2 -

(مُفَضَّلُ بْنُ مُهَلْهَلٍ) السَّعْديّ، أبو عبد الرحمن الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ نَبِيلٌ عابدٌ [7](ت 167)(م س ق) تقدم في "المقدمة" 6/ 51.

والباقون تقدّموا قريبًا.

ص: 234

وقوله: (فِي هَذَا الْإِسْنَادِ) وفي بعض النسخ: "بهذا الإسناد".

وقوله: (وَالْمُسْتَوْشِمَاتِ) وفي بعض النسخ: "والمتوشمات".

[تنبيه]: رواية سفيان الثوريّ، عن منصور ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:

(4604)

- حدّثنا محمد بن يوسف، حدّثنا سفيان، عن منصور، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله قال:"لعن الله الواشمات، والموتشمات، والمتنمصات، والمتفلجات للحُسن، المغيرات خلقَ الله"، فبلغ ذلك امرأة من بني أسد، يقال لها: أم يعقوب، فجاءت، فقالت: إنه بلغني أنك لعنت كيت وكيت، فقال: وما لي لا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن هو في كتاب الله؛ فقالت: لقد قرأت ما بين اللوحين، فما وجدت فيه ما تقول، قال: لئن كنت قرأتيه لقد وجدتيه، أما قرأت:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} ؟، قالت: بلى، قال: فإنه قد نَهَى عنه، قالت: فإني أرى أهلك يفعلونه، قال: فاذهبي، فانظري، فذهبت، فنظرت، فلم تر من حاجتها شيئًا، فقال: لو كانت كذلك ما جامعتنا. انتهى

(1)

.

ورواية مفضّل بن مُهَلْهل ساقها النسائيّ رحمه الله في "سننه"، فقال:

(11579)

- أخبرنا محمد بن رافع، ومحمد بن عبد الله بن المبارك، عن يحيى بن آدم، قال: حدّثنا المفَضل بن مُهَلْهَل، عن منصور، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله، قال:"لعن الله الواشمات، والموشمات، والمتنمصات، والمتفلجات للحسن، المغيرات خلقَ الله"، فقامت امرأة من بني أسد، يقال لها: أم يعقوب، فأتته، فقالت: بلغني أنك لعنت كيت وكيت، قال: ألا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو في كتاب الله؟ قالت: لقد قرأت ما بين لوحتي المصحف، فما وجدته، قال: لئن كنت قرأتيه لقد وجدتيه، أما وجدت:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} ؟ قالت: بلى، وإني أظن أهلك يفعلون بعض ذلك، فقال: ادخلي، فانظري، فدخلت، ثم خرجت، قالت: ما رأيت شيئًا، قال: لو فعلته لم تجامعنا. انتهى

(2)

.

(1)

"صحيح البخاريّ" 4/ 1853.

(2)

"السنن الكبرى" للنسائيّ 6/ 484، و"المجتبى" 8/ 188.

ص: 235

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5563]

(

) - (وَحَدَّثَنَاهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ، قَالُوا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مَنْصُورٍ، بِهَذَا الْإِسْنَاد، الْحَدِيثَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مُجَرَّدًا عَنْ سَائِرِ الْقِصَّة، مِنْ ذِكْرِ أُمِّ يَعْقُوبَ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

وكلّهم ذُكروا في الباب.

[تنبيه]: رواية محمد بن جعفر غندر عن شعبة مجرّدة عن القصّة ساقها النسائيّ رحمه الله في "سننه"، فقال:

(9381)

- أخبرني محمد بن بشار، قال: ثنا محمد، قال: ثنا شعبة، عن منصور، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله، قال: لَعَنَ اللهُ المتنمصات، والمتفلجات، ألا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5564]

(

) - (وَحَدثنَا شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ - يَعْنِي: ابْنَ حَازِمٍ - حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ الله، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِنَحْوِ حَدِيثِهِمْ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ) الْحَبَطيّ، أبو محمد الأُبُلّيّ، صدوقٌ يَهِم، ورُمي بالقدر، من صغار [9](ت 5 أو 236) وله بضع وتسعون سنة (م د س) تقدم في "الإيمان" 12/ 157.

2 -

(جَرِيرُ بْنُ حَازِمِ) بن زيد بن عبد الله الأزديّ، أبو النضر البصريّ، ثقةٌ إلا في قتادة [6](ت 170) تقدم في "المقدمة" 6/ 81.

3 -

(الأَعْمَشُ) سليمان بن مِهران، تقدّم قريبًا.

والباقون ذُكروا قبله.

[تنبيه]: قال النوويّ رحمه الله: هذا الإسناد فيه أربعة تابعيون، بعضهم عن

(1)

"السنن الكبرى" للنسائيّ 6/ 484، و"المجتبى" 8/ 188.

ص: 236

بعض، وهم: جرير، والأعمش، وإبراهيم، وعلقمة، وقد رأى جرير رجلًا من الصحابة، وسمع أبا الطفيل، وهو صحابيّ، والله أعلم. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: هكذا جعل النوويّ جرير بن حازم تابعيًّا، وأنه رأى رجلًا صحابيًّا، وسمع أبا الطفيل، وجعله في "التقريب" من الطبقة السادسة، وهي لم تلق أحدًا من الصحابة، وهو الذي يظهر لي، فإن من طالع ترجمته، ورأى شيوخه يظهر له أنه لم ير صحابيًّا أصلًا، وقوله في "التهذيب": روى عن أبي الطفيل لا يفيد اتّصاله؛ لأنه يُدلّس، كما في "التهذيب"

(2)

، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

[تنبيه آخر]: هذا الإسناد مما استدركه الدارقطنيّ على مسلم، وقال: الصحيح عن الأعمش إرساله، قال: ولم يُسنده عنه غير جرير، وخالفه أبو معاوية وغيره، فرووه عن الأعمش، عن إبراهيم مرسلًا، قال: والمتن صحيحٌ من رواية منصور، عن إبراهيم - يعني: كما ذكره في الطرق السابقة - قاله النوويّ رحمه الله

(3)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قوله: "ولم يُسنده عنه غير جرير" فيه نظر؛ لأنه تابعه سفيان الثوريّ، فقد أخرجه الدارقطنيّ نفسه، فقال: حدّثنا أبو طالب عليّ بن محمد بن أحمد بن الجهم الكاتب، قال: حدّثنا جعفر بن محمد بن الفضيل، قال: ثنا محمد بن يوسف الفريابيّ، قال: حدّثنا سفيان، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله قال: "لَعَن الله الواشمات

" الحديث، ثم قال الدارقطنيّ: حديث الأعمش لم نسمعه إلا من أبي طالب الكاتب. انتهى.

فقد تابع سفيان جريرًا في وَصْل هذا الحديث، لكن لَمّا كان الراوي عن سفيان هو الفريابيّ لم يعتدّ الدارقطنيّ بهذه المتابعة؛ إذ هو يخطئ في حديث الثوريّ، بل قيل: إنه أخطأ في مائة وخمسين من حديثه، فلعلّ هذا منها.

والحاصل أن ما قاله الدارقطنيّ من أن الصواب أن رواية الأعمش هذه مرسلة، وجيه، إلا أن الحديث متّصل صحيح من الطرق السابقة التي

(1)

"شرح النوويّ" 14/ 108.

(2)

راجع: "تهذيب التهذيب" 1/ 296.

(3)

"شرح النوويّ" 14/ 108.

ص: 237

أوردها مسلم في الباب، ولعله إنما أخره لإدراكه العلّة المذكورة، والله تعالى أعلم.

[تنبيه آخر]: رواية الأعمش، عن إبراهيم النخعيّ ساقها ابن الجعد رحمه الله في "مسنده"، بسند مسلم، فقال:

(883)

- حدّثنا شيبان بن فَرُّوخ، نا جرير بن حازم، نا الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله، قال:"لَعَنَ الواشمات، والمتفلجات، والمتنمصات، والمغيرات خلقَ الله"، قال: فقالت امرأة، يقال لها: أم يعقوب، من بني أسد: إني لأظنها في أهلك، فقال لها: اذهبي، فانظري، فذهبت، فلم تر شيئًا، فقالت: ما وجدت ما تقول في المصحف، فقال: بلى، والله قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم. انتهى

(1)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5565]

(2126) - (وَحَدَّثَنِي الْحَسَنُ بْنُ عَلِي الْحُلْوَانِي، وَمُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، قَالَا: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاق، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْر، أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ يَقُولُ: زَجَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ تَصِلَ الْمَرْأَةُ بِرَأْسِهَا شَيْئًا).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْحُلْوَانِيُّ) الْهُذليّ، أبو محمد الخلّال الْحُلْوانيّ، نزيل مكة، ثقةٌ حافظٌ له تصانيف [11](ت 242)(خ م دت ق) تقدم في "المقدمة" 4/ 24.

والباقون ذُكروا في الباب، وقبل ثلاثة أبواب.

وقوله: (زَجَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ تَصِلَ الْمَرْأةُ بِرَأْسِهَا شَيْئًا) فيه النهي عن وصل الشعر بشيء ما، سواء كان شعرًا، أو غيره، من الصوف، والْخِرَق، وغيرها؛ لعموم هذا النصّ، فإن "شيئًا" نكرة في سياق النهي، فيعمّ، ولأن ذلك كله في معنى وَصْله بالشعر، وخالف في هذا الليث بن سعد، فأباح الوصل بالصوف، والخِرَق، وما ليس بشعر، وهو محجوج بهذا النصّ

(2)

، وقد تقدّم تمام البحث في هذا، فلا تغفل، والله تعالى وليّ التوفيق.

(1)

"مسند ابن الجعد" 1/ 138.

(2)

"المفهم" 5/ 443.

ص: 238

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنف رحمه الله.

(المسألة الثانية) في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [32/ 5565](2126)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(3/ 138)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 296 و 387)، و (الحارث بن أبي أسامة) في "مسنده"

(1)

(2/ 618)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 426)، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5566]

(2127) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، أَنَّهُ سَمِعَ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ، عَامَ حَجَّ، وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَر، وَتَنَاوَلَ قُصَّةً مِنْ شَعَرٍ، كَانَتْ فِي يَدِ حَرَسِيٍّ، يَقُولُ: يَا أَهْلَ الْمَدِينَةِ أَيْنَ عُلَمَاؤُكُمْ؟ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَنْهَى عَنْ مِثْلِ هَذِه، وَيَقُولُ: "إِنَّمَا هَلَكَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ حِينَ اتَّخَذَ هَذِهِ نِسَاؤُهُمْ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ) الزهريّ المدنيّ، ثقةٌ [3](ت 105)(ع) تقدم في "الإيمان" 26/ 213.

2 -

(مُعَاوِيَة بْنُ أَبِي سُفْيَانَ) صخر بن حرب الأمويّ الخليفة، أبو عبد الرحمن الصحابيّ الشهير، مات رضي الله عنه في رجب سنة ستين، وقد قارب الثمانين (ع) تقدم في "الصلاة" 8/ 858.

والباقون تقدّموا قريبًا.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسلٌ بالمدنيين، غير شيخه، فنيسابوريّ، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وصحابيّه أحد الخلفاء رضي الله عنهم.

(1)

راجع: "زوائد الهيثميّ" 2/ 618.

ص: 239

شرح الحديث:

(عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ) في رواية معمر، عن الزهريّ:"حدّثني حميد بن عبد الرحمن"، أخرجه أحمد، وفي رواية يونس، عن الزهريّ:"أنبأنا حميد"، أخرجه الترمذيّ، وقد أخرج مسلم بعد هذا روايتي معمر ويونس، لكن أحال بهما على رواية مالك، وأخرجه الطبراني من طريق النعمان بن راشد، عن الزهريّ، فقال:"عن السائب بن يزيد"، بدل "حميد بن عبد الرحمن"، وحميد هو المحفوظ، أفاده في "الفتح"

(1)

.

(أَنَّهُ سَمِعَ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ) رضي الله عنهما (عَامَ حَجَّ) منصوب على الظرفيّة متعلّق بـ "سَمِع"، وكان ذلك في آخر قدْمة قَدِمها، سنة إحدى وخمسين من الهجرة، وهي آخر حَخة حجها في خلافته رضي الله عنه

(2)

، وقوله:(وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ) النبويّ، جملة في محلّ نصب على الحال، وكذا قوله:(وَتَنَاوَلَ قُصَّةً مِنْ شَعَرٍ) القصة - بضم القاف، وتشديد الصاد المهملة -: الْخُصْلة

(3)

من الشعر، وقال الأصمعيّ وغيره: هي شعر مقدَّم الرأس المقبل على الجبهة، وقيل: شعر الناصية، وفي رواية سعيد بن المسيِّب الآتية:"كُبّةً من شعر". (كَانَتْ) الْقُصّة (فِي يَدِ حَرَسِيٍّ) لم يُعرف اسمه، وهو - بفتح الحاء، والراء، وبالسين المهملات -: نسبة إلى الْحَرَس، وهم خَدَم الأمير الذين يحرسونه، ويقال للواحد: حَرَسيّ؛ لأنه اسم جنس.

وعند الطبرانيّ من طريق عروة، عن معاوية من الزيادة:"قال: وجدت هذه عند أهلي، وزعموا أن النساء يزدنه في شعورهن"، وهذا يدلّ على أنه لم يكن يُعرف ذلك في النساء قبل ذلك، وفي رواية سعيد بن المسيِّب الآتية:"ما كنت أرى يَفعل ذلك إلا اليهود". (يَقُولُ) معاوية رضي الله عنه: (يَا أَهْلَ الْمَدِينَةِ أَيْنَ عُلَمَاؤُكُمْ؟) قال النوويّ رحمه الله: هذا السؤال للإنكار عليهم بإهمالهم إنكار هذا المنكر، وغفلتهم عن تغييره، وفي حديث معاوية هذا اعتناء الخلفاء، وسائر

(1)

"الفتح" 13/ 449، كتاب "اللباس" رقم (5932).

(2)

"الفتح" 8/ 125، كتاب "أحاديث الأنبياء" رقم (3488).

(3)

"الْخُصْلة" بالضمّ: الشعر المجتمِع، قاله في "القاموس".

ص: 240

ولاة الأمور بإنكار المنكر، وإشاعة إزالته، وتوبيخ من أهمل إنكاره، ممن توجه ذلك عليه. انتهى

(1)

.

وقال القاضي عياض رحمه الله: قوله: "أين علماؤكم؟ " قيل: استعانة بهم على التعريف بهذا المنكر وتغييره، والإنكار عليهم إن كانوا لم ينكروه، وهذا أظهرُ بقصده على مساق كلامه. انتهى

(2)

.

وقال في "الفتح": قوله: "أَيْنَ عُلَمَاؤُكُمْ؟ " فيه إشارة إلى قلة العلماء يومئذ بالمدينة، ويَحْتَمِل أنه أراد بذلك: إحضارهم ليستعين بهم على ما أراد من إنكار ذلك، أو لينكِر عليهم سكوتهم عن إنكارهم هذا الفعل قبل ذلك. انتهى

(3)

.

وقال في "الفتح" في موضع آخر: قوله: "أين علماؤكم؟ " فيه إشارة إلى أن العلماء إذ ذاك فيهم كانوا قد قَلُّوا، وهو كذلك؛ لأن غالب الصحابة كانوا يومئذ قد ماتوا، وكأنه رأى جهال عوامهم صنعوا ذلك، فأراد أن يذكّر علماءهم، وينبههم بما تركوه من إنكار ذلك، ويَحْتَمِل أن يكون ترك من بقي من الصحابة، ومن أكابر التابعين إذ ذاك الإنكار، إما لاعتقاد عدم التحريم، ممن بلغه الخبر، فحَمَله على كراهة التنزيه، أو كان يخشى من سطوة الأمراء في ذلك الزمان على من يستبد بالإنكار؛ لئلا يُنسب إلى الإعتراض على أولي الأمر، أو كانوا ممن لم يبلغهم الخبر أصلًا، أو بلغ بعضهم لكن لم يتذكروه حتى ذكَّرهم به معاوية، فكل هذه أعذار ممكنة لمن كان موجودًا إذ ذاك من العلماء، وأما من حضر خطبة معاوية، وخاطبهم بقوله:"أين علماؤكم؟ " فلعل ذلك كان في خطبة غير الجمعة، ولم يتفق أن يحضره إلا من ليس من أهل العلم، فقال:"أين علماؤكم؟ "؛ لأن الخطاب بالإنكار لا يتوجه إلا على من عَلِم الحكم، وأقرّه. انتهى

(4)

.

وتعقّب العينيّ قول الحافظ: "فيه إشارة إلى قلة العلماء

إلخ"، فقال:

(1)

"شرح النوويّ" 14/ 108.

(2)

"إكمال المعلم" 6/ 658.

(3)

"الفتح" 13/ 449 - 450، كتاب "اللباس" رقم (5932).

(4)

"الفتح" 8/ 126 - 127، كتاب "أحاديث الأنبياء" رقم (3468).

ص: 241

فيه بُعد يستبعده من له اطلاع في التاريخ، وكانت المدينة دار العلم، ومعدن الشريعة، وإليها يهرع الناس في أمر دينهم.

[فإن قلت]: إذا كان الأمر كذلك كيف لم يغيّر أهلها هذا المنكر؟.

[قلت]: لا يخلو زمان من ارتكاب المعاصي، وقد كان في وقت رسول الله صلى الله عليه وسلم مَن شرب الخمر، وسَرَق، وزنى، إلا أنه كان شاذًّا نادرًا، فلا يحل لمسلم أن يقول: إنه صلى الله عليه وسلم لم يغيِّر المنكر، فكذلك أمرُ القُصّة بالمدينة كان شاذًّا، ولا يجوز أن يقال: إن أهلها جَهِلوا النهي عنها؛ لأن حديث لعن الواصلة حديث مدنيّ معروف عندهم، مستفيض. انتهى كلام العينيّ رحمه الله

(1)

، وهو بحثٌ مفيدٌ، والله تعالى أعلم.

وقال القرطبيّ رحمه الله: وقول معاوية رضي الله عنه: "يا أهل المدينة" أين علماؤكم؟ " هذا من معاوية رضي الله عنه علي جهة التذكير لأهل المدينة بما يعلمونه، واستعانة على ما رام تغييره من ذلك، لا على جهة أن يُعْلِمهم بما لم يعلموا، فإنَّهم أعلم الناس بأحاديث النبيّ صلى الله عليه وسلم، لا سيما في ذلك العصر. ويَحْتَمِل أن يكون ذلك فيه؛ لأنَّ عوام أهل المدينة أول من أحدث الزور، كما قال في الرواية الأخرى: "إنكم قد أحدثتم زِيَّ سَوْء"؛ يعني: الزور، فنادى أهل العلم ليوافقوه على ما سمعه من النبيّ صلى الله عليه وسلم من النهي عن ذلك، فينزجر من أحْدَث ذلك من العوام. وقد فسَّر معاوية الزور المنهي عنه في هذا الحديث بالخِرَق التي يُكْثِر النساء بها شعورهن بقوله: "ألا وهذا الزور"، وزاده قتادة وضوحًا.

و"الزور" في غير هذا الحديث: قول الباطل، والشهادة بالكذب. وأصل التزوير: التمويه بما ليس بصحيح.

وهذا الحديث حجَّة واضحة على إبطال قول من قصر التحريم على وصل الشعر، كما تقدَّم. وهذا يدلّ: على اعتبار أقوال أهل المدينة عندهم، وأنها مرجع يُعتمد عليه في الأحكام. وهو من حجج مالك على أن إجماع أهل المدينة حجَّة، وقد حققنا ذلك في الأصول. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(2)

.

(سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَنْهَى عَنْ مِثْلِ هَذِهِ)؛ أي: ينهى النساء عن

(1)

"عمدة القاري" 22/ 63.

(2)

"المفهم" 5/ 448.

ص: 242

استعمال مثل هذه القُصّة في وَصْل شعورهنّ بها، وقال في "العمدة": وأشار به إلى قُصّة الشعر التي تناولها من يد حَرَسيّ، وبمثلها كانت النساء يوصلن شعورهن. انتهى

(1)

.

(وَيَقُولُ) صلى الله عليه وسلم ("إِنَّمَا هَلَكَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ حِينَ اتَّخَذَ هَذِهِ نِسَاؤُهُمْ") فيه إشارة إلى أن الوصل كان محرَّمًا على بني إسرائيل، فعوقبوا باستعماله، وهلكوا بسببه، وقوله:"حين اتخذ هذه" إشارة أيضًا إلى القُصّة المذكورة، وأراد به الوصل، قاله في "العمدة"

(2)

.

وقال عياض رحمه الله: قوله: "إنما هلكت بنو إسرائيل

إلخ" قيل: يَحْتَمِل أنه كان محرَّمًا عليهم، فعوقبوا باستعماله، وهلكوا بسببه، وقيل: يَحْتَمِل أن الهلاك كان به وبغيره، مما ارتكبوه من المعاصي، فعند ظهور ذلك فيهم هلكوا، وفيه معاقبة العامّة بظهور المنكر. انتهى

(3)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "إنما هلكت بنو إسرائيل

إلخ" يظهر منه: أن ذلك كان محرَّمًا عليهم، وأن نساءهم ارتكبوا ذلك المحرَّم، فأقرَّهن على ذلك رجالهم، فاستوجب الكل العقوبة بذلك، وبما ارتكبوه من العظائم. انتهى

(4)

.

وفي رواية معمر الآتية: لا إنما عُذّب بنو إسرائيل"، ووقع في رواية سعيد بن المسيِّب الآتية: "إن رسول الله بلغه، فسماه الزور" وفي رواية قتادة، عن سعيد الآتية أيضًا: "نَهَى عن الزور - وفي آخره - ألا وهذا الزور"، قال قتادة: يعني ما تُكْثر به النساء أشعارهنّ من الْخِرَق.

وهذا الحديث حجة للجمهور في مَنْع وَصْل الشعر بشيء آخر، سواء كان شعرًا، أم لا، ويؤيده حديث جابر الماضي بلفظ:"زَجَرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تصل المرأة بشعرها شيئًا"، وقد تقدّم تمام البحث في هذا في المسألة الرابعة في شرح حديث أسماء رضي الله عنها، فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق.

(1)

"عمدة القاري" 22/ 64.

(2)

"عمدة القاري" 22/ 64.

(3)

"إكمال المعلم" 6/ 658.

(4)

"المفهم" 5/ 448.

ص: 243

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [32/ 5566 و 5567 و 5568 و 5569](2127)، و (البخاريّ) في "الأنبياء"(3468 و 3488) و"اللباس"(5932 و 5938)، و (أبو داود) في "الترجّل"(4167)، و (الترمذيّ) في "الأدب"(2781)، و (النسائيّ) في "الزينة"(8/ 186 - 187) و"الكبرى"(5/ 420)، و (مالك) في "الموطّأ"(2/ 947)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(3/ 142)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 87 - 88 و 91 و 101)، و (الحميديّ) في "مسنده"(600)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(3/ 286)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5510 و 5511 و 5512)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(19/ 740 و 741 و 743 و 744 و 746 و 747)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 426)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(3192)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): أن فيه قيام الأئمة بالنهي عن المنكر، والتعريف به على المنبر، ولا سيّما إذا رآه مشتهرًا.

2 -

(ومنها): بيان تحريم وصل الشعر بغيره.

3 -

(ومنها): معاقبة العامّة بفشوّ المنكر بين أظهرهم.

4 -

(ومنها): ما قاله عياض: فيه حجة على من ذهب إلى جواز إلقاء الشعر والجمّة على الرأس، وخصّ النهي بالوصل، وقد تقدّم؛ لأن الْقُصّة مما توضع، وليست موصولةً

(1)

.

5 -

(ومنها): ما قاله أبو عمر بن عبد البرّ رحمه الله: فيه الاعتبار، والحكم بالقياس؛ لخوف معاوية على هذه الأمة الهلاك؛ كبني إسرائيل، فإن مَن فعل

(1)

"إكمال المعلم" 6/ 658.

ص: 244

مثله استحقه، أو يعفو الله، ووجوب اجتناب عَمَل هلك به قوم، قال: ويَحْتَمِل أن القُصّة لم تَفْشُ فيهم حتى أعلنوا بالكبائر، فكأن القُصّة علامة لا تكاد تظهر إلا في أهل الفسق، لا أنها فِعلة يستحق فاعلها الهلاك بها، دون أن يجامعها غيرها.

ويَحْتَمِل أن بني إسرائيل نُهُوا تحريمًا عن ذلك، فاتخذوه استخفافًا، فهلكوا.

قال: والذي منعوا منه جاء عن نبيّنا صلى الله عليه وسلم مثله، كما في "الصحيحين، عن أبي هريرة وغيره، مرفوعًا: "لَعَن اللهُ الواصلة، والمستوصلة، والواشمة، والمستوشمة". انتهى ملخصًا.

6 -

(ومنها): ما في هذا الحديث دليل على أن شعر بني آدم طاهر، ألا ترى إلى تناول معاوية، وهو في الخطبة قُصّة الشعر، وعلى هذا أكثر العلماء، وقد كان الشافعيّ رضي الله عنه يقول: إن شعر بني آدم نجس؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "ما قُطِع من حيّ فهو ميت"، ثم رجع عن ذلك لهذا الحديث، وأشباهه، ولإجماعهم على الصوف من الحيّ أنه طاهر، وأما الصوف من الميتة فمختلَف فيه، قاله ابن عبد البرّ رحمه الله

(1)

.

7 -

(ومنها): إباحة الكلام في الخطبة بالمواعظ، والسنن، وما أشبه ذلك، ولا خلاف بين العلماء في ذلك، واختلفوا في سائر الكلام في الخطبة للمأموم والإمام، نحو تشميت العاطس، وردّ السلام، وقد تقدّم تحقيق ذلك في محلّه، ولله والحمد والمنّة.

8 -

(ومنها): ما قاله عياض أيضًا: احتجّ به من قال بإبطال الحجة بإجماع أهل المدينة وعملهم على المالكيّة، قال: ولا حجة له في هذا؛ إذ لم يثبت أن هذا كان شائعًا بالمدينة، وغير منكَر بها، وإنما تناوله معاوية رضي الله عنه من يد حَرَسيّ وجدها على امرأة، ولم تَسْلَم المدينة، ولا غيرها في وقت من مذنب، ولا مرتكب للمعاصي بمشيئة الله تعالى في زمن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وبعده،

(1)

"التمهيد لابن عبد البر" 7/ 220.

ص: 245

وليس في قوله: "أين علماؤكم؟ " ما يدلّ أنهم جَهِلوه، أو رأوه ولم ينكروه، والحجة بعمل أهل المدينة أشهر على التحقيق فيما نقلوه النقل المستفيض، وتداوله عملهم خلفًا عن سلف إلى زمان النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ كالأذان، والصاع، ونحو ذلك، وهذا مما وافق عليه المخالِف حين بُيِّن له، ورجع أبو يوسف حين مناظرته لمالك في المسألة، واختلفوا فيما أجمعوا عليه من جهة الاجتهاد، واختَلَف فيه تأويل شيوخنا على مذهب مالك، فذهب قدماء أصحابه العراقيين أنه ليس بحجة، ولا هو مراد مالك، ومذهب بعض المدنيين والمتأخّرين من العراقيين والمغاربة من أصحابه أنه حجة، وذهب الكثير من أئفة الأصوليين إلى أنه ترجيح للآثار التي اختَلَفت، وكلّ هذا غير موجود في مسألتنا. انتهى، كلام القاضي عياض رحمه الله

(1)

.

وقال ابن عبد البرّ رحمه الله: احتج بهذا الحديث مَن زعم أن عمل أهل المدينة لا حجة فيه، وقال: ألا ترى أن معاوية رضي الله عنه يقول: "أين علماؤكم؟ " يريد: أين علماؤكم عن تغيير مثل هذا، والحفظ له، والعمل به، ونَشْره؟ يريد أن المدينة قد يظهر فيها، ويُعمل بين ظهراني أهلها بما ليس بسُنَّة، وإنما هو بدعة، واحتجّ قائل هذا القول برواية مالك، عن عمه أبي سهيل بن مالك، عن أبيه، وكان من كبار التابعين، أنه قال: ما أعرف شيئًا مما أدركت الناس عليه إلا النداء بالصلاة.

وقد حَكَى إسماعيل بن أبي أويس، عن مالك أنه سئل عما يصنع أهل المدينة ومكة من إخراج إمائهم عُراة، مُتَّزرات، وأبدانهن ظاهرة، وصدورهنّ، وعما يَصنعِ تجارهم من عَرْض جواريهم للبيع على تلك الحال، فكرهه كراهية شديدة، ونهَى عنه، وقال: ليس ذلك من أَمْر من مضى، من أهل الفقه، والخير، ولا أمْر من يُفتي من أهل الفقه والخير، وإنما هو مِنْ عَمَلِ من لا وَرَع له من الناس.

وقال أنس بن عياض: سمعت هشام بن عروة يقول: لمّا اتخذ عروة قصره بالعقيق عُوتب في ذلك، وقيل له: جفوت عن مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم،

(1)

"إكمال المعلم" 6/ 658.

ص: 246

فقال: إني رأيت مساجدكم لاهية، وأسواقكم لاغية، والفاحشة في فِجاجكم عالية، فكان فيما هنالك عما أنتم فيه عافية، ثم قال: ومن بقي إنما بقي شامتٌ بنكبة، أو حاسد على نعمة، قالوا: فهذا عروة يخبر عن المدينة بما ذكرنا، فكيف يُحتج بشيء من عمل أهلها، لا دليل عليه؟

قال ابن عبد البرّ: والذي أقول به أن مالكًا رحمه الله إنما يحتج في "الموطأ" وغيره بعمل أهل المدينة، يريد بذلك عمل العلماء، والخيار، والفضلاء، لا عمل العامة السوداء. انتهى كلام ابن عبد البرّ رحمه الله

(1)

، وهو تحقيقٌ نفيسٌ جدًّا، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصّل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5567]

(

) - (حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ (ح) وَحَدَّثَني حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْب، أَخْبَرَنِي يُونُسُ (ح) وَحَدَّثنا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاق، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، كُلُّهُمْ عَنِ الزُّهْرِيِّ بِمِثْلِ حَدِيثِ مَالِكٍ، غَيْرَ أَنَّ فِي حَدِيثِ مَعْمَرٍ:"إِنَّمَا عُذِّبَ بَنُو إِسْرَائِيلَ").

رجال هذا الإسناد: تسعة:

وكلهم تقدّموا قريبًا.

[تنبيه]: رواية سفيان بن عيينة عن الزهري ساقها النسائيّ رحمه الله في "سننه"، فقال:

(9367)

- أخبرنا قتيبة بن سعيد، قال: ثنا سفيان، عن الزهريّ، عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف، قال: سمعت معاوية، وهو على المنبر بالمدينة، وأخرج من كُمّه قُصّة من شعر، فقال: يا أهل المدينة أين علماؤكم؟ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن مثل هذه، وقال:"إنما هلكت بنو إسرائيل حين اتخذ نساؤهم مثل هذا". انتهى

(2)

.

ورواية يونس عن الزهريّ ساقها الترمذيّ رحمه الله في "جامعه"، فقال:

(1)

"التمهيد لابن عبد البرّ" 7/ 221 - 222.

(2)

"السنن الكبرى" للنسائيّ 5/ 420.

ص: 247

(2781)

- حدّثنا سُويد، أخبرنا عبد الله، أخبرنا يونس، عن الزهريّ، أخبرنا حميد بن عبد الرحمن، أنه سمع معاوية بالمدينة يخطب، يقول: أين علماؤكم يا أهل المدينة؟ إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن هذه القُصّة، ويقول:"إنما هلكت بنو إسرائيل حين اتخذها نساؤهم"، قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح، وقد روي من غير وجه عن معاوية. انتهى

(1)

.

ورواية معمر عن الزهريّ ساقها أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(16911)

- حدّثنا عبد الرزاق، ثنا معمر، عن الزهريّ، عن حميد بن عبد الرحمن أنه رأى معاوية، يخطب على المنبر، وفي يده قُصّة من شعر، قال: سمعته يقول: أين علماؤكم يا أهل المدينة؛ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن مثل هذا، وقال:"إنما عُذِّب بنو إسرائيل حين اتخذت هذه نساؤهم". انتهى

(2)

، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5568]

(

) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، عَنْ شُعْبَةَ (ح) وَحَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ، قَالَا: حَدَّثنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ: قَدِمَ مُعَاوِيةُ الْمَدِينَةَ، فَخَطَبَنَا، وَأَخْرَجَ كُبَّةً مِنْ شَعَرٍ، فَقَالَ: مَا كُنْتُ أُرَى أَنَّ أَحَدًا يَفْعَلُهُ إِلَّا الْيَهُودَ، إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَلَغَهُ، فَسَمَّاهُ الزُّورَ).

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ) بن حَزْن بن أبي وهب القرشيّ المخزوميّ، أبو محمد المدنيّ، أحد العلماء الأثبات الفقهاء الكبار، من كبار [3](ت 94)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 71.

والباقون كلّهم ذُكروا في الباب.

وقوله: (وَأَخْرَجَ كُبَّةً مِنْ شَعَرٍ) - بضم الكاف، وتشديد الباء - هي شعر مكفوف بعضه على بعض، قاله النوويّ رحمه الله

(3)

.

(1)

"جامع الترمذيّ" 5/ 104.

(2)

"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 4/ 95.

(3)

"شرح النوويّ" 14/ 108.

ص: 248

وقوله: (فَسَمَّاهُ الزورَ)؛ أي: الكذب، والتزيين بالباطل، ولا شك أن وَصْل الشعر منه، وفيه طهارة شعر الآدمي، وقال ابن الأثير رحمه الله: الزور الكذب، والباطل، والتهمة، ومنه سُمّي شاهد الزور، وسَمَّى النبيّ صلى الله عليه وسلم الوصل زورًا؛ لأنه كذب، وتغيير خلق الله تعالى، ذكره في "العمدة"

(1)

.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام البحث فيه، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5569]

(

) - (وَحَدَّثَنِي أَبُو غَسَّانَ الْمِسْمَعِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَا: أَخْبَرَنَا مُعَاذٌ - وَهُوَ ابْنُ هِشَام - حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّب، أَنَّ مُعَاوِيَةَ قَالَ ذَاتَ يَوْمٍ: إنَّكُمْ قَدْ أَحْدَثْتُمْ زِيَّ سَوْءٍ، وَإِنَّ نَبِيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنِ الزُّور، قَالَ: وَجَاءَ رَجُلٌ بِعَصًا عَلَى رَأْسِهَا خِرْقَةٌ، قَالَ مُعَاوَيةُ: ألَا وَهَذَا الزُّورُ، قَالَ قتَادَةُ: يَعْني مَا يُكَثِّرُ بِهِ النِّسَاءُ أَشْعَارَهُنَّ مِنَ الْخِرَقِ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

وكلّهم تقدّموا قريبًا.

وقوله: (أَنَّ مُعَاوِيَةَ قَالَ ذَاتَ يَوْمٍ: إِنَّكُمْ قَدْ أَحْدَثْتُمْ زِيَّ سَوْءٍ)؛ أي: زيًّا قبيحًا، وإضافة "زيّ" إلى "سَوْء" - بفتح السين - من إضافة الموصوف إلى الصفة، وقال المرتضى في "شرح القاموس":"الزيّ " بالكسر: الهيئة، واللباس، وأصله زِوْيٌ، قاله الجوهريّ، وقال الفراء: الزيُّ: الهيئة والمنظر، وقُرئ:{هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا} [مريم: 74] بالراء، والزاي، وجمعه: أزياء، وقال الليث: تَزَيَّى الرجل بزيّ حسنٍ، ومنه قول المتنبي [من الطويل]:

وَقَدْ يَتَزَيَّى بِالْهَوَى غَيْرُ أَهْلِهِ

وَيَسْتَصْحِبُ الإِنْسَانُ مَنْ لَا يُلَائِمُهْ

وقد اعترض تلميذه ابن جني عليه، وقال له: هل تعرفه في شعر، أو كتاب في اللغة؟ فقال: لا، فقال: كيف أقدمت عليه؟ قال: لأنه جرى عليه الاستعمال، فقال: أرى الصواب: يتزوَّى، من زُوِيت لي الأرض. انتهى

(2)

.

(1)

"عمدة القاري" 22/ 66.

(2)

"تاج العروس" 1/ 8422 - 8423.

ص: 249

[فائدة]: قال في "القاموس"، و"شرحه": يقال: لا خيرَ في قولِ السَّوءِ بالفتح، والضمّ، إِذا فتحتَ السين فمعناه: لا خَيْرَ في قولٍ قَبيح، وإذا ضممتَ السِّين فمعناه: لا خَيْرَ في أن تقولَ سُوءًا؛ أي: لا تقل سُوءًا، وقرئ قوله تعالى:{عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ} [التوبة: 98] بالوجهين: الفتح، والضمّ، قال الفرَّاء: هو مثل قولك: رجلُ السَّوْء، والسَّوْءُ بالفتح في القراءة أَكثرُ، وقلَّما تقولُ العربُ: دائرة السُّوءِ بالضَّمِّ، وقال الزجَّاج في قوله تعالى:{الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ} [الفتح: 6] كانوا ظنُّوا أَنْ لن يعودَ الرسولُ، والمؤمنون إلى أَهليهم، فجعلَ اللهُ دائرة السَّوْءِ عليهم، قال: ومن قرأَ ظنَّ السُّوءِ فهو جائزٌ، قال: ولا أعلم أَحدًا قرأَ بها، إِلَّا أَنَّها قد رُوِيتْ، قال الأَزهريُّ: قولُه: لا أَعلم أحدًا إلى آخره وَهَمٌ، قرأَ ابنُ كثيرٍ، وأَبو عمرٍو:{دَائِرَةُ السَّوْءِ} بضم السِّين، ممدودًا في "سورة بَراءة"، و"سورة الفتح"، وقرأَ سائرُ القُرَّاء: السَّوْءِ بفتح السين في السُّورتين، قال: وتعجَّبتُ أَن يذهَبَ على مِثْلِ الزجَّاج قِراءةُ القارِئَيْنِ الجليلين: ابنِ كثيرٍ، وأبي عمرٍو، وقال أَبو منصور: أَمَّا قوله: {وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ} [الفتح: 12] فلم يُقرا إِلّا بالفتح، قال: ولا يجوز فيه ضمّ السين، وقد قرأَ ابنُ كثير، وأبو عمرو:{دَائِرَةُ السَّوْءِ} بضم السِّين ممدودًا في السُّورتين، وقرأَ سائر القُرَّاء بالفتح فيهما، وقال الفرَّاء رحمه الله في "سورة براءة" في قوله تعالى:{وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ} [التوبة: 98] قال: قراءة القُرَّاءِ بنصب السَّوْء، وأَراد بالسَّوْء المصدَرَ، ومن رفع السِّين جعله اسمًا، قال: ولا يجوز ضمُّ السِّين في قوله: {مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ} [مريم: 28]، ولا في قوله:{وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ} ؛ لأنَّه ضدّ لقولهم: هذا رجلُ صدقٍ، وثوبُ صدقٍ، وليس للسَّوْءِ هنا معنًى في بلاءٍ، ولا عذابٍ، فيُضَمّ، وقرئ قوله تعالى:{عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ} ؛ أَي: الهزيمَة، والشَّرّ، والبلاء، والعذاب، والرَّدى، والفَساد، وكذا في قوله تعالى:{أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ} [الفرقان: 40] بالوجهين، أَو أَنَّ المضموم هو الضَّرَرُ، وسوءُ الحال، والسَّوْءُ المفتوح من المَسَاءة مثل الفَساد، والرَّدى، والنَّار، ومنه قوله تعالى:{ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى} [الروم: 10] قيل: هي جهنم - أَعاذنا الله منها - في قراءةٍ؛ أَي: عند بعض القُرَّاء، والمشهور: السُّوأَى كما يأتي، ورجلٌ سَوْءٍ

ص: 250

بالفتح؛ أَي: يعملُ عملَ سَوْءٍ، وإذا عرَّفته وصفتَ به تقول: هذا رجلُ سَوْءٍ - بالإضافة - وتُدخل عليه الألف واللام فتقول: هذا رجلُ السَّوْءِ. قال الفرزدق [من الطويل]:

وَكُنْتَ كذِئْبِ السَّوْءِ لَمَّا رَأَى دَمًا

بِصَاحِبِهِ يَوْمًا أَحَالَ عَلَى الدَّمِ

بالفتح، والإضافة، لفٌّ ونشرٌ مرتَّب، قال الأَخفش: ولا يقال: الرَّجلُ السَّوْءُ، ويقال: الحقُّ اليَقينُ، وحقُّ اليقين، جميعًا؛ لأَنَّ السَّوْءَ ليس بالرجل، واليقينُ هو الحقُّ، قال: ولا يقال: هذا رجلُ السُّوءِ بالضَّمِّ، قال ابن بَرِّيّ: وقد أَجاز الأَخفشُ أن يُقال: رجلُ السَّوْء، ورجلُ سَوْءٍ بفتح السين فيهما، ولم يُجِز رجلُ السُّوءِ بضم السِّين؛ لأَنَّ السُّوءَ اسمٌ للضُّرِّ، وسُوءِ الحال، وإِنَّما يُضاف إلى المصدر الذي هو فعله، كما يقال: رجلُ الضَّرب، والطَّعن، فيقومُ مقامَ قولك: رجلٌ ضرَّابٌ، وطعَّانٌ، فلهذا جاز أَن يقال: رَجلُ السَّوْءِ بالفتح، ولم يَجُزْ أَنَّ يقال: هذا رجلُ السُّوءِ بالضَّمِّ، وتقول في النَّكرة: رجلُ سَوْءٍ، وإذا عرَّفت قلت: هذا الرجلُ السَّوْءُ، ولم تُضِف، وتقول: هذا عملُ سَوْءٍ، ولا تقل: السَّوْءِ؛ لأنَّ السَّوْءَ يكون نعتًا للرجل، ولا يكون السَّوْءُ نعتًا للعمل؛ لأنَّ الفعل من الرجل، وليس الفعل من السَّوْء، كما تقول: قوْلُ صدقٍ، والقولُ الصِّدقُ، ورجلُ صدق، ولا تقول: رجلُ الصِّدق؛ لأنَّ الرجل ليس من الصِّدقِ. انتهى

(1)

.

وقوله: (وَجَاءَ رَجُلٌ بِعَصًا عَلَى رَأْسِهَا خِرْقَةٌ) لم يُعرف الرجل.

وقوله: (قَالَ قَتَادَةُ: يَعْنِي مَا يُكَثرُ بِهِ النِّسَاءُ أَشْعَارَهُنَّ مِنَ الْخِرَقِ) - بكسر الخاء المعجمة، وفتح الراء -: جمع خِرْقة - بكسر، ففتح -، مثل سِدْرَةٍ وسِدَرٍ، وهي القطعة من الثوب، قال في "الفتح": يستفاد من هذه الزيادة في رواية قتادة مَنْع تكثير شعر الرأس بالْخِرَق، كما لو كانت المرأة مثلًا قد تمزق شعرها، فتضع عِوَضه خِرَقًا تُوهم أنها شعر. انتهى، والله تعالى أعلم.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(1)

"تاج العروس من جواهر القاموس" 1/ 139 - 140.

ص: 251

(33) - (بَابُ النِّسَاءِ الْكَاسِيَات، الْعَارِيَات، الْمَائِلَات، الْمُمِيلَاتِ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5570]

(2128) - (حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ سُهَيْلٍ، عَنْ أَبِيه، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "صِنْفَانِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ لَمْ أَرَهُمَا: قَوْمٌ مَعَهُمْ سِيَاطٌ؛ كَأَذْنَابِ الْبَقَر، يَضْرِبُونَ بِهَا النَّاسَ، وَنِسَاءٌ كَاسِيَاتٌ، عَارِيَاتٌ، مُمِيلَاتٌ، مَائِلَاتٌ، رُءُوسُهُنَّ كَأَسْنِمَةِ الْبُخْتِ الْمَائِلَة، لَا يَدْخُلْنَ الْجَنَّةَ، وَلَا يَجِدْنَ رِيحَهَا، وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ كَذَا وَكَذَا").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

وكلهم تقدّموا قريبًا.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وهو مسلسلٌ بالمدنيين من سُهيل، وفيه رواية الابن عن أبيه، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه أحفظ من روى الحديث في دهره.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "صِنْفَانِ)؛ أي: نوعان (مِنْ أَهْلِ النَّارِ لَمْ أَرَهُمَا) قال القرطبيّ رحمه الله: أي: لَمْ يوجد في عصره صلى الله عليه وسلم منهما أحدٌ؛ لطهارة أهل ذلك العصر الكريم، ويتضمن ذلك أن ذينك الصنفين سيوجدان، وكذلك كان، فإنَّه خَلَف بعد تلك الأعصار قوم يلازمون السياط المؤلمة التي لا يجوز أن يُضرب بها في الحدود قصدًا لتعذيب الناس، فإنْ أمروا بإقامة حدّ، أو تعزير، تعدَّوا المشروع في ذلك في الصفة والمقدار، وربما أفضى بهم الهوي، وما جُبلوا عليه من الظلم إلى هلاك المضروب، أو تعظيم عذابه، وهذه أحوال الشُّرَط بالمغرب، والعوانية في هذه البلاد، وعلى الجملة، فهم سَخَط الله في الجملة عاقب الله بهم شرار خلقه غالبًا، نعوذ بالله من سخطه في الدنيا والآخرة. انتهى

(1)

.

(1)

"المفهم" 5/ 449.

ص: 252

(قَوْمٌ مَعَهُمْ سِيَاطٌ) بكسر السين المهملة: جمع سوط، قال الفيّوميّ رحمه الله: السوط معروفٌ، والجمع أسواطٌ، وسِيَاطٌ، مثلُ ثوب وأثواب، وثِياب، وضربه سوطًا؛ أي: ضربه بسوط، وقوله تعالى:{سَوْطَ عَذَابٍ} [الفجر: 13]؛ أي: ألمَ سوط عذاب، والمراد: الشدّة؛ لِمَا عُلِم أن الضرب بالسوط أعظم أَلَمًا من غيره. انتهى

(1)

.

وقال في "القاموس"، و"شرحه": السَّوْطُ: المِقْرَعَةُ، قالَ ابن دُريدٍ: لأنَّها تَسُوطُ؛ أَي: تَخْلِطُ اللَّحْمَ بالدَّم، إِذا سيطَ بها إنْسانٌ، أو دابَّة، وقالَ الجَوْهَرِيّ: السَّوْطُ: مَا يُضْرَبُ به، جمعه: سِياطٌ بالكَسْر، وأَصْلُه: سِواطٌ، بالواو، قُلِبَت ياءً؛ لكَسْرِ مَا قَبْلَها، قالَ المُتَنَخِّل يَصِفُ مَوْرِدًا [من الوافر]:

كأَنَّ مَزاحِفَ الحَيَّاتِ فيهِ

قُبَيْلَ الصُّبْحِ آثارُ السِّياطِ

ويُجْمَعْ أَيْضًا عَلَى أَسْواط عَلَى الأَصْل، قالَ ابن الأثير: أَسْياطٌ شاذٌّ، كما يُقَالُ في جمع ريحٍ: أَرْياحٌ شاذًّا، والقِياسُ: أَسْواطٌ، وأَرْواحٌ، وهو المُطَّرِدُ المُسْتَعْمَلُ. انتهى

(2)

.

(كَأَذْنَابِ الْبَقَرِ، يَضْرِبُونَ بِهَا النَّاسَ، وَنِسَاءٌ) مبتدأ سوّغه الوصف بقوله: كاسيات

إلخ، قال ابن عبد البرّ رحمه الله: أراد: اللواتي يلبسن من الثياب الشيء الخفيف الذي يَصِفُ، ولا يَسْتُرهنّ. (كَاسِيَاتٌ) بالاسم، (عَارَياتٌ) في الحقيقة، قال القرطبيّ رحمه الله: قيل في هذا قولان:

أحدهما: أنهن كاسيات بلباس الأثواب الرِّقاق الرفيعة التي لا تَستُر منهنّ حجم عورة، أو تُبدي من محاسنها، مع وجود الأثواب الساترة عليها ما لا يحل لها أن تبديه، كما تفعل البغايا المشتهرات بالفسق.

وثانيهما: أنهنَّ كاسيات من الثياب، عاريات من لباس التقوى؛ الذي قال الله تعالى فيه:{وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} [الأعراف: 26].

(1)

"المصباح المنير" 1/ 295.

(2)

"تاج العروس" 1/ 4885.

ص: 253

قال القرطبيّ: ولا بُعد في إرادة القَدْر المشتَرك بين هذين النوعين؛ إذ كلّ واحد منهما عُرُوٌّ؛ إنَّما يختلفان بالإضافة. انتهى

(1)

.

وقال المازريّ رحمه الله: فيه ثلاث أوجه: كاسيات من نعم الله، عاريات من الشكر، أو كاسيات لبعض أجسادهنّ، عاريات لبعضه؛ إظهارًا للجمال، أو لابسات ثيابًا رِقاقًا تَصِف ما تحتها

(2)

.

(مُمِيلَاتٌ) لغيرهنّ، (مَائِلَاتٌ) قال القرطبيّ رحمه الله: كذا جاءت الرواية في هاتين الكلمتين بتقديم: "مميلات" على "مائلات"، وكلاهما من المَيْل، بالياء باثنتين من تحتها، ومعنى ذلك: أنهن يَمِلْن في أنفسهنّ تثنيًا، ونعمة، وتصنعًا؛ ليُمِلن إليهن قلوب الرجال، فيميلوا إليهنّ، ويفتنَّهم، وعلى هذا فكان حقّ "مائلات" أن يتقدم على "مميلات"؛ لأنَّ ميلهنّ في أنفسهن مقدَّم في الوجود على إمالتهن، وصحَّ ذلك؛ لأنَّ الصفات المجتمعة لا يلزم ترتيبها، ألا ترى أنَّها تُعْطَف بالواو، والواو جامعة، غير مترتبة، إلَّا أن الأحسن تقديم "مائلات" على "مميلات"؛ لأنَّه سببه، كما سبق.

وقد أبعد أبو الوليد الوقشيّ حيث قال: إن صوابه: "الماثلة" بالثاء المثلثة؛ يعني: الظاهرة، وقال: لا معنى للمائلة هنا، قال القرطبيّ: وتَرْك هذا الصواب هو الصواب. انتهى

(3)

.

وقال المازريّ رحمه الله: مائلات عن طاعة الله، وما يلزمهنّ من حفظ فروجهنّ، مميلات غيرهنّ إلى مثل فعلهنّ، وقيل: مائلات متبخترات في مشيهنّ، مميلات أكتافهنّ، وأعطافهنّ، وقيل: مائلات يَمشُطن المشطة الميلاء، وهي مشطة النعايا، مميلات غيرهنّ إلى تلك المشطة، قال عياض: استشهد ابن الإنباريّ على المشطة الميلاء بقول امرئ القيس [من الطويل]:

غَدَائِرُهُ مُسْتَشْزِرَاتٌ إِلَى الْعُلَى

يَضِلُّ الْعِقَاصُ فِي مُثنًّى وَمُرْسَلِ

يدلّ على أنَّ المشطة ضفر الغدائر، وشدّها فوق الرأس، فتأتي كأسنمة البُخْت، وهذا يدلّ على أنَّ التشبيه بأسنمة البخت إنما هو بارتفاع الغدائر فوق

(1)

"المفهم" 5/ 449 - 450.

(2)

"شرح الزرقانيّ" 4/ 341.

(3)

"المفهم" 5/ 450.

ص: 254

رؤوسهن، وجَمْعِ العقائص هناك، وتكثيرها بما تضفر به، حتى تميل إلى ناحية من جانب الرأس، كما يميل السنام.

قال ابن دريد: ناقة ميلاء إذا مال سنامها إلى أحد شقيها، وقد يكون معنى مائلات: منحطّات للرجال، مميلات لهم بما يبدين من زينتهن، والصواب الموافق للغة ما جاءت به الرواية: مائلات، خلافًا لقول الكنانيّ: صوابه: ماثلات، بمثلثة؛ أي: قائمات. انتهى ملخصًا

(1)

.

(رُءُوسُهُنَّ كَأَسْنِمَةِ الْبُخْتِ

(2)

الْمَائِلَةِ)؛ أي: اللاتي يجعلن على رؤوسهنّ ما يكبّرها، ويعظّمها، من الْخِرَق، والعصائب، والْخُمُر، حتى تصير تشبه العمائم، وأسنمة الإبل، وهي جمع سنام، قال ابن العربيّ: وهذا كناية عن تكبير رأسها بالخرق حتى يَظُنّ الرائي أنه كله شعر، وهو حرام، ولذلك قال:"فأعلموهنّ - أي: أخبروهن - أنه لا تقبل لهنّ - ما دام ذلك - صلاة"

(3)

، وإن حُكم لها بالصحة، كمن صلى في ثوب مغصوب

(4)

، بل أَولى؛ لأنَّ فاعل ذلك ارتكب حرامًا واحدًا، وهو الغصب، وهنّ ارتكبن عدّةَ محرّمات: التشبه بالرجال، والإسراف، والإعجاب، وغيرها، وهذا من علامات نبوته صلى الله عليه وسلم؛ إذ هو إخبار عن غيب وقع، ودام، وفي رواية:"لا يدخلن الجَنَّة" قال القاضي: ومعناه: أنهن لا يدخلنها، ولا يجدن ريحها حين يدخلها، ويجد ريحها العفائف المتورعات، لا أنهن لا يدخلن أبدًا؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في الخبر المارّ:"وإن زنى وإن سرق".

(1)

"شرح الزرقانيّ " 4/ 341.

(2)

قال القاضي في "مشارق الأنوار" 1/ 79: قوله: "كأسنمة البخت" هي إبلٌ غِلاظٌ، ذات سنامين. انتهى.

(3)

حديث ضعيف، أخرجه الطبرانيّ في "المعجم الكبير" 22/ 370 عن أبي شَقْرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا رأيتم اللاتي ألقين على رؤوسهن مثل أسنمة البقر، فأعلموهن أنه لا يقبل لهن صلاة". انتهى، قال في "مجمع الزوائد" 5/ 137: وفيه حماد بن يزيد، عن مخلد بن عقبة، ولم أعرفهما. انتهى.

(4)

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي قاله ابن العربيّ: من صحّة صلاة الغاصب محلّ نظر، فقد حقّقنا في "التحفة المرضيّة" في الأصول أن الصحيح عدم صحة الصلاة، فلتراجع التفاصيل هناك، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

ص: 255

قال ابن العربي: فعلى النساء أن يُصَغِّرن رؤوسهن، سيما عند الخروج، فإن كان شعرها كثيرًا أرسلته، ولا تعظمه، فإن كان بها أَلَمٌ في رأسها، فأكثرت لأجله من الْخُمُر لَمْ تدخل في أيّ وعيد، ولم يكن عليها حرج، وإنما الحرج على من نظر إليها. انتهى

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: الأسنمة: جمع سنام، وسنام كلّ شيء: أعلاه، والبُخْت: جمع بُخْتية، وهي ضرب من الإبل، عظام الأجسام، عظام الأسنمة، شبَّه رؤوسهن بها لِمَا رَفعْن من ضفائر شعورهن أعلى أوساط رؤوسهن تزيّنًا، وتصنعًا، وقد يفعلن ذلك بما يُكَثِّرن به شعورهن.

قال: والمائلة: الرواية بالياء، من الميل. يعني: أن أعلى السَّنام يميل لكثرة شحمه، شبَّه أعالي ما يرفعن من الشعر بذلك. انتهى

(2)

.

(لَا يَدْخُلْنَ الْجَنَّةَ)؛ أي: مع السابقين، أو بغير عذاب، قال ابن عبد البرّ رحمه الله: هذا عندي محمول على المشيئة، وإن هذا جزاؤهنّ، فإن عفا الله عنهنّ، فهو أهل العفو والمغفرة:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} الآية [النساء: 48]

(3)

.

وقال النوويّ رحمه الله: هذا يتأول التأويلين السابقين في نظائره:

أحدهما: أنه محمول على من استحلَّت حرامًا من ذلك، مع علمها بتحريمه، فتكون كافرةً مخلَّدةً في النار، لا تدخل الجَنَّة أبدًا.

والثاني: يُحْمَل على أنَّها لا تدخلها أوّلَ الأمر مع الفائزين، والله تعالى أعلم

(4)

.

(وَلَا يَجِدْنَ رِيحَهَا، وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ كَذَا وَكَذَا") هو كناية عن خمسمائة عام، كما قد جاء مُفسَّرًا، ففي رواية "الموطّأ":"وريحها يوجد من مسيرة خمسمائة سنة"، والله تعالى أعلم.

(1)

"فيض القدير على الجمع الصغير" للمناويّ 1/ 361.

(2)

"المفهم" 5/ 45 - 451.

(3)

"شرح الزرقانيّ" 4/ 341.

(4)

"شرح النوويّ" 14/ 17/ 190.

ص: 256

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [33/ 5570](2128)، ويأتي في "كتاب الجنّة وصفة نعيمها"(2856)، و (مالك) في "الموطّأ"(2/ 913)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 355 - 356 و 440)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(7/ 530)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(7461)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(2/ 224)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(12/ 46)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 234) و"شُعَب الإيمان"(4/ 349)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(2578)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): هذا الحديث من معجزات النبوة، فقد وقع هذان الصنفان، وهما موجودان.

2 -

(ومنها): وفيه ذم هذين الصنفين، وأنهما من أصحاب الكبائر؛ لتوعّدهما بعدم دخول الجَنَّة.

قال النوويّ رحمه الله قيل: معناه كاسيات من نعمة الله، عاريات من شكرها، وقيل: معناه: تستر بعض بدنها، وتكشف بعضه إظهارًا بحالها ونحوه، وقيل: معناه تلبس ثوبًا رقيقًا يصف لون بدنها.

وأما مائلات: فقيل: معناه عن طاعة الله، وما يلزمهن حفظه، مميلات؛ أي: يُعَلِّمن غيرهنّ، فِعْلهنّ المذموم، وقيل: مائلات يمشين متبخترات، مميلات لأكتافهنّ، وقيل: مائلات يَمْشُطن الْمِشْطة المائلة، وهي مِشطة البغايا، مميلات يَمشطن غيرهنّ تلك المشطة.

ومعنى رؤوسهنّ كأسنمة البخت: أن يكبّرنها، ويعظّمنها بلفّ عمامة، أو عصابة، أو نحوها. انتهى

(1)

.

3 -

(ومنها): بيان تحريم ما ذُكر في هذا الحديث، من اتّخاذ الرجال

(1)

"شرح النوويّ" 14/ 110.

ص: 257

السياط لضرب الناس، واتّخاذ النساء زيًّا لا يسترهنّ، وتكبير رؤوسهنّ حتى تصير مثل أسنمة البُخت، وأنهم يستحقّون بذلك النار، والمنع من دخول الجنّة، بل وعن وجدان ريحها، مع أنه يوجد من مسير خمسمائة سنة، وهذا وعيد شديد - أعاذنا الله من ذلك - والله تعالى أعلم.

(34) - (بَابُ النَّهْي عَنِ التَّزْوِيرِ فِي اللِّبَاس، وَغَيْرِه، وَالتَّشَبُّعِ بِمَا لَمْ يُعْطَ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أَوَّل الكتاب قال:

[5571]

(2129) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، وَعَبْدَةُ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيه، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ أَقُولُ: إِنَّ زَوْجِي أَعْطَانِي مَا لَمْ يُعْطِنِي، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "الْمُتَشَبِّعُ بِمَا لَمْ يُعْطَ كَلَابِسِ ثَوْبَيْ زُورٍ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

وكلهم تقدّموا قبل باب.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وهو مسلسلٌ بالمدنيين من هشام، والباقون كوفيّون، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، والابن عن أبيه، عن خالته، وفيه عائشة رضي الله عنها من المكثرين السبعة.

(عَنْ عَائِشَةَ) رضي الله عنها (أَنَّ امْرَأَةً) لا تُعرف، وقال صاحب "التنبيه": هي أسماء بنت الصدّيق، وزوجها الزبير، وضرّتها في حفظي: أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، قاله شيخنا. انتهى

(1)

، وفيما قاله نظر؛ لأنه يريد بشيخه الحافظ ابن حجر، وهو قال في "الفتح": لَمْ أقف على تعيين هذه المرأة وزوجها. انتهى

(2)

، فمن أين له هذا التعيين؟ فتنبّه، والله تعالى أعلم،

(1)

"تنبيه المعلم" ص 365.

(2)

"الفتح" 11/ 665، كتاب "النِّكَاح" رقم (5219).

ص: 258

(قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ أَقُولُ)؛ أي: لضرّتي، ففي حديث أسماء رضي الله عنها الآتي بعدُ:"أن امرأة قالت: يا رسول الله، إن لي ضرّة، فهل عليّ جُناح إن تشبّعتُ من زوجي غير الذي يُعطيني؟ "، وقولها:(إِنَّ زَوْجِي أَعْطَانِي مَا لَمْ يُعْطِنِي) مقول "أقول"، و"ما" هي المفعول الثاني لـ "أعطاني"، والعائد محذوف، كما قال في "الخلاصة":

........................

وَالْحَذْفُ عِنْدَهُمْ كَثِيرٌ مُنْجَلِي

فِي عَائِدٍ مُتَّصِل إِنِ انْتَصَبْ

بِفِعْلٍ أوْ وَصْفٍ كَـ "مَنْ نَرْجُو يَهَبْ"

(فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "الْمُتَشَبِّعُ بِمَا لَمْ يُعْطَ) بالبناء للمفعول، قال أبو عبيد رحمه الله: أي: المتزيِّن بما ليس عنده، يتكثّر بذلك، ويتزيّن بالباطل؛ كالمرأة تكون عند الرجل، ولها ضَرّة، فتَدَّعي من الحظوة عند زوجها أكثر مما عنده، تريد بذلك غيظ ضرّتها، وكذلك هذا في الرجال، وقوله:(كَلَابِسِ ثَوْبَيْ زُورٍ") قال العلماء: معناه المتكثر بما ليس عنده، بأن يُظهر أن عنده ما ليس عنده يتكثر بذلك عند الناس، ويتزين بالباطل فهو مذموم، كما يُذَمّ من لبس ثوبي زور.

قال أبو عبيد وآخرون: هو الذي يلبس ثياب أهل الزهد، والعبادة، والورع، ومقصوده أن يُظهر للناس أنه متصف بتلك الصفة، ويظهر من التخشع، والزهد أكثر مما في قلبه، فهذه ثياب زور ورياء، وقيل: هو كمن لبس ثوبين لغيره، وأَوْهَم أنهما له، وقيل: هو من يلبس قميصًا واحدًا، ويَصِل بكمّيه كمّين آخرين، فيُظهر أن عليه قميصين.

وحَكَى الخطابيّ قولا آخر: أن المراد هنا بالثوب: الحالة، والمذهب، والعرب تَكْني بالثوب عن حال لابسه، ومعناه أنه كالكاذب القائل ما لَمْ يكن، وقولًا آخر: أن المراد: الرجل الذي تُطلب منه شهادة زور، فيلبس ثوبين يتجمّل بهما، فلا تردّ شهادته؛ لِحُسْن هيئته، والله أعلم، ذكره النوويّ رحمه الله

(1)

.

وقال في "الفتح": قال أبو عبيد: وفيه وجه آخر أن يكون المراد بالثياب: الأنفس؛ كقولهم: فلان نَقِيّ الثوب، إذا كان بريئًا من الدنس، وفلان دَنِس الثوب، إذا كان مَغْموصًا عليه في دِينه.

(1)

"شرح النوويّ" 14/ 110 - 111.

ص: 259

وقال الخطابيّ رحمه الله: الثوب مَثَلٌ، ومعناه: أنه صاحب زُور، وكَذِب، كما يقال لمن وُصِف بالبراءة من الأدناس: طاهر الثوب، والمراد به نَفْس الرجل.

وقال أبو سعيد الضرير رحمه الله: المراد به: أن شاهد الزور قد يستعير ثوبين، يتجمّل بهما؛ ليوهم أنه مقبول الشهادة. انتهى.

وهذا نقله الخطابيّ عن نعيم بن حماد، قال: كان يكون في الحيّ الرجل له هيئة، وشارةٌ فإذا احتيج إلى شهادة زُور لبس ثوبيه، وأقبل، فشَهِد، فقُبِل، لنُبْل هيئته، وحُسْن ثوبيه، فيقال: أمضاها بثوبيه؛ يعني: الشهادة، فأضيف الزور إليهما، فقيل:"كلابس ثوبي زُور".

وأما حكم التثنية في قوله: "ثوبي زور" فللإشارة إلى أن كذب المتحلِّي مُثَنّى؛ لأنه كَذَب على نفسه بما لَمْ يأخذ، وعلى غيره بما لَمْ يُعْط، وكذلك شاهد الزور يَظلم نفسه، ويظلم المشهود عليه.

وقال الداوديّ: في التثنية إشارة إلى أنه كالذي قال الزور مرتين؛ مبالغة في التحذير من ذلك.

وقيل: إن بعضهم كان يجعل في الكُمّ كُمًّا آخر، يوهم أن الثوب ثوبان، قاله ابن الْمُنيِّر.

قال الحافظ: ونحو ذلك ما في زماننا هذا فيما يُعْمَل في الأطواق، والمعنى الأول أَلْيق.

وقال ابن التين: هو أن يلبس ثوبَي وديعة، أو عارية، يظن الناس إنهما له، ولباسهما لا يدوم، وَيفْتَضِح بكذبه، وأراد بذلك تنفير المرأة عما ذَكَرت؛ خوفًا من الإفساد بين زوجها وضرّتها، ويورث بينهما البغضاء، فيصير كالسحر الذي يُفَرِّق بين المرء وزوجه.

وقال الزمخشريّ في "الفائق": المتشبع؛ أي: المتشبه بالشبعان، وليس به، واستعير للتحلي بفضيلة لَمْ يُرزقها، وشُبِّه بلابس ثوبي زور؛ أي: ذِي زور، وهو الذي يتزيّا بزيّ أهل الصلاح رياءً، وأضاف الثوبين إليه؛ لأنهما كالملبوسين، وأراد بالتثنية أن المتحلي بما ليس فيه كمن لبس ثوبي الزور، ارتدى بأحدهما، واتَّزر بالآخر، كما قيل:

ص: 260

إِذَا هُوَ بِالْمَجْدِ ارْتَدَى وَتَأَزَّرَا

فالإشارة بالإزار والرداء إلى أنه متصف بالزور من رأسه إلى قدمه.

ويَحْتَمِل أن تكون التثنية إشارة إلى أنه حَصَل بالتشبع حالتان مذمومتان: فِقْدان ما يُتَشَبَّع به وإظهار الباطل.

وقال المطرزيّ: هو الذي يُري أنه شبعان، وليس كذلك. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم.

وقال القرطبيّ رحمه الله ما حاصله: هذه المرأة سألت النبيّ صلى الله عليه وسلم: هل يجوز لها أن تُظهر لضرتها أن زوجها قد مكَّنها، أو أعطاها من ماله أكثر مما تستحقه، أو أكثر مما أعطى ضرتها؛ افتخارًا عليها، وإيهامًا لها أنَّها عنده أحظى منها، فأجابها صلى الله عليه وسلم بما يقتضي المنع من ذلك، فقال:"المتشبِّع بما لَمْ يُعط كلابس ثوبي زور"، وأصل التشبُّع: تفعُّل من الشبع، وهو الذي يُظهر الشِّبع، وليس بشبعان، وكثيرًا ما تأتي هذه الصيغة بمعنى التعاطي؛ كالتكبُّر، والتصنُّع، ويُفهم من هذا الكلام: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم نهى المرأة عن أن تتظاهر، وتتكاثر بما لَمْ يعطها زوجها؛ لأنَّه شَبَّه فعلها ذلك بما يُنهى عنه، وهو: أن يلبس الإنسان ثوبين زورًا.

واختلف المتأولون؛ هل الثوبان محمولان على الحقيقة، أو على المجاز؛ على قولين: فعلى الأول يكون معناه: أنه شبّهها بمن أخذ ثوبين لغيره بغير إذنه، فَلَبسهما، مُظهرًا أن له ثيابًا ليس مثلها للمُظْهَر له، وقيل: بل شبَّهها بمن يلبس ثياب الزُّهّاد، وليس بزاهد، وعلى الوجه الثاني: قال الخطابيّ: إن ذِكْر الثوبين هنا كناية عن حاله ومذهبه، والعرب تكني بالثوب عن حال لابسه، والمعنى: أنه بمنزلة الكاذب القائل ما لَمْ يكن، وقيل: هو الرجل في الحيِّ تكون له هيئة، فإذا احتيج إليه في شهادة زور شَهِد بها، فلا يُرَدّ لأجل هيئته، وحُسْن ثوبه، فأضيفت شهادة الزور إلى ثوبه؛ إذ كان سببها.

قال القرطبيّ رحمه الله: وأيُّ شيء من هذه الوجوه كان المقصود، فيحصل منه: أن تشبّع المرأة على ضرَّتها بما لَمْ يعطها زوجها محرَّم؛ لأنَّه شُبه بمحرَّم،

(1)

"الفتح" 11/ 664، كتاب "النِّكَاح" رقم (5219).

ص: 261

وإنما كان ذلك محرَّمًا؛ لأنَّه تصرّف في ملك الغير بغير إذنه، ورياءً، وأذًى للضرة من نسبة الزوج إلى أنَّه آثرها عليها، وهو لَمْ يفعل، وكل ذلك محرَّم. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [34/ 5571](2129)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(5/ 292)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(11/ 248)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 167)، و (ابن راهويه) في "مسنده"(2/ 227)، و (الطبرانيّ) في "الصغير"(2/ 222)، و (البيهقيّ) في "شُعب الإيمان"(4/ 211)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): اختُلف في إسناد هذا الحديث، قال النوويّ رحمه الله: قوله في إسناد الباب: "حدّثنا محمد بن عبد الله بن نُمير، حدّثنا وكيع، وعبدة، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها .... " وذكر الحديث، وبَعْده عن ابن نُمير أيضًا، عن عبدة، عن هشام، عن فاطمة، عن أسماء

الحديث، وبَعْده عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن أبي أسامة، وعن إسحاق، عن أبي معاوية، كلاهما عن هشام، بهذا الإسناد، هكذا وقعت هذه الأسانيد في جميع نُسخ بلادنا، على هذا الترتيب، ووقع في نسخة ابن ماهان روايةُ ابن أبي شيبة، وإسحاق عقيب رواية ابن نمير، عن وكيع، مقدمةً على رواية ابن نمير، عن عبدة وحده، واتَّفَقَ الحفاظ على أنَّ هذا الذي في نسخة ابن ماهان خطأ، قال عبد الغنيّ بن سعيد: هذا خطأ قبيح، قال: وليس يُعرف حديث هشام عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها إلَّا من رواية مسلم، عن ابن نمير، ومن رواية معمر بن راشد.

وقال الدارقطنيّ في "كتاب العلل": حديث هشام، عن أبيه، عن عائشة إنما يرويه هكذا معمر، والمبارك بن فَضَالة، ويرويه غيرهما عن فاطمة، عن أسماء، وهو الصحيح، قال: وإخراج مسلم حديث هشام، عن أبيه، عن عائشة

(1)

"المفهم" 5/ 451 - 452.

ص: 262

لا يصحّ، والصواب حديث عبدة، ووكيع، وغيرهما عن هشام، عن فاطمة، عن أسماء، والله أعلم. انتهى

(1)

.

وقال الحافظ رحمه الله في "الفتح": وقد اتَّفَق الأكثر من أصحاب هشام على هذا الإسناد - يعني: إسناد حديث أسماء الآتي - وانفرد معمر، والمبارك بن فَضَالة بروايته عن هشام بن عروة، فقالا: عن أبيه، عن عائشة، وأخرجه النسائيّ من طريق معمر، وقال: إنه أخطأ، والصواب حديث أسماء، وذكر الدارقطنيّ في "التتبع" أن مسلمًا أخرجه من رواية عبدة بن سليمان، ووكيع، كلاهما عن هشام بن عروة، مثل رواية معمر، قال: وهذا لا يصحّ، وأحتاج أن انظر في كتاب مسلم، فإني وجدته في رُقعة، والصواب عن عبدة، ووكيع، عن فاطمة، عن أسماء، لا عن عروة، عن عائشة، وكذا قال سائر أصحاب هشام.

قال الحافظ: هو ثابت في النُّسخ الصحيحة من مسلم في "كتاب اللباس"، أورده عن ابن نمير، عن عبدة، ووكيع، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة، ثم أورده عن ابن نمير، عن عبدة وحده، عن هشام، عن فاطمة، عن أسماء، فاقتضى أنه عند عبدة على الوجهين، وعند وكيع بطريق عائشة فقط، ثم أورده مسلم من طريق أبي معاوية، ومن طريق أبي أسامة، كلاهما عن هشام، عن فاطمة، وكذا أورده النسائيّ عن محمد بن آدم، وأبو عوانة في "صحيحه" من طريق أبي بكر بن أبي شيبة، كلاهما عن عبدة، عن هشام، وكذا هو في "مسند ابن أبي شيبة"، وأخرجه أبو عوانة أيضًا من طريق أبي ضمرة، ومن طريق عليّ بن مسهر، وأخرجه ابن حبان من طريق محمد بن عبد الرَّحمن الطُّفاوي، وأبو نعيم في "المستخرج" من طريق مُرَجَّى بن رجاء، كلهم عن هشام، عن فاطمة.

فالظاهر أن المحفوظ عن عبدة، عن هشام، عن فاطمة، وأما وكيع فقد أخرج روايته الْجَوْزقيّ من طريق عبد الله بن هاشم الطُّوسيّ عنه، مثل ما وقع عند مسلم، فليضمّ إلى معمر، ومبارك بن فَضالة، ويُستدرك على الدارقطنيّ. انتهى

(2)

.

(1)

"شرح النوويّ" 14/ 111.

(2)

"الفتح" 11/ 664 - 665، كتاب "النِّكَاح" رقم (5219).

ص: 263

قال الجامع عفا الله عنه: قوله: "ويُستدرك

إلخ"؛ يعني: أن دعوى الدارقطنيّ تفرّد معمر، ومبارك بن فضالة غير صحيحة، فقد تابعهما وكيع، كما هو عند مسلم من رواية ابن نمير عنه، وعند الجوزقيّ من رواية عبد الله بن هاشم الطوسيّ عنه.

وخلاصة البحث المذكور أن الأكثرين من أصحاب هشام بن عروة أنه عن فاطمة، عن أسماء رضي الله عنهما، لا عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها، وذلك أنه قد اتفق تسعة

(1)

من الرواة، وهم: أبو معاوية، وأبو أسامة، وعبدة بن سليمان، وحماد بن زيد، ويحيى بن سعيد القطّان، وعليّ بن مسهر، ومحمد بن عبد الرَّحمن الطُّفاويّ، وأبو ضمرة أنس بن عياض، ومرجّى بن رجاء، فكلهم رووه عن هشام، عن فاطمة، عن أسماء رضي الله عنهما.

وأما الذين رووه عن هشام عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها فهم ثلاثة: وكيع، ومعمر، ومبارك بن فضالة، ومعمر بن راشد

(2)

.

والحاصل أن ترجيح رواية الأكثرين، وهو أنه من حديث أسماء رضي الله عنها هو الظاهر، كما هو رأي الدارقطنيّ رحمه الله، والحديث محفوظ من حديثها، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلِّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5572]

(2135) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدَةُ، حَدَّثنا هِشَامٌ، عَنْ فَاطِمَةَ، عَنْ أَسْمَاءَ جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ: إِنَّ لي ضَرَّةً، فَهَلْ عَلَيَّ جُنَاحٌ أَنْ أَتَشَبَّعَ مِنْ مَالِ زَوْجِي بِمَا لَمْ يُعْطِنِي

(3)

؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "الْمُتَشَبِّعُ بِمَا لَمْ يُعْطَ كَلَابِسِ ثَوْبَيْ زُورٍ").

(1)

زاد الشيخ ربيع شريكًا، فجعلهم عشرة، وعزا تخريجه إلى "جامع المسانيد"، فليُنظر.

(2)

راجع: ما كتبه الشيخ ربيع المدخلي في دراسته "بين الإمامين: مسلم، والدارقطنيّ" ص 360 - 364.

(3)

وفي نسخة: "ما لَمْ يعطني".

ص: 264

رجال هذا الإسناد: خمسة:

وكلّهم ذُكروا في الباب، وقبل باب، و"هشام" هو ابن عروة بن الزبير، وفاطمة: هي بنت المنذر بن الزبير، وهي بنت عم هشام، وزوجته، وأسماء هي بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما، وهي جدّتهما معًا.

وقوله: (جَاءَتِ امْرَأَةٌ) قال الحافظ: لَمْ أقف على تعيين هذه المرأة، ولا على تعيين زوجها.

وقولها: (إِنَّ لِي ضَرَّةً) في رواية الإسماعيليّ: "إن لي جارَةً"، وهي الضرة.

وقولها: (أَنْ أَتَشَبَّعَ مِنْ مَالِ زَوْجِي بِمَا لَمْ يُعْطِنِي) وفي بعض النسخ: "ما لَمْ يُعطني"، ولفظ البخاريّ:"إن تشبعت من زوجي غير الذي يعطيني".

وقوله: (الْمُتَشَبِّعُ بِمَا لَمْ يُعْطَ) وفي رواية معمر: "بما لَمْ يُعْطَه"، وتمام شرح الحديث قد مضى في حديث عائشة رضي الله عنها المذكور قبله، ولله تعالى الحمد والمنّة.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أسماء بنت أبي بكر الصدّيق رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [34/ 5572 و 5573](2130)، و (البخاريّ) في "النِّكَاح"(5219)، و (أبو داود) في "الأدب"(4997)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(5/ 292)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 345 و 346 و 353)، و (الحميديّ) في "مسنده"(319)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5738 و 5739)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(24/ 322 و 323 و 324 و 325 و 326 و 327 و 328)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(7/ 307) و"الآداب"(522)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(2331)، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5537]

(

) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ (ح) وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، كِلَاهُمَا عَنْ هِشَام، بِهَذَا الإِسْنَادِ).

ص: 265

رجال هذين الإسنادين: خمسة:

وكلهم تقدّموا قريبًا.

[تنبيه]: رواية أبي أسامة عن هشام ساقها الطبرانيّ رحمه الله في "المعجم الكبير"، فقال:

(326)

- حدّثنا عبيد بن غَنّام، ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا أبو أسامة، عن هشام بن عروة، عن فاطمة بنت المنذر، عن أسماء بنت أبي بكر، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المتشبع بما لَمْ يُعْطَ كلابس ثوبي زور". انتهى

(1)

.

ورواية أبي معاوية عن هشام ساقها إسحاق بن راهويه رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(28 - 2246) - أخبرنا أبو معاوية، نا هشام بن عروة، عن فاطمة بنت المنذر، عن أسماء بنت أبو بكر، أن امرأة جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: إن لي ضَرَّة، فهل عليّ من جناح أن أتشبع من زوجي ما لَمْ يعطني؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"المتشبع بما لَمْ يُعْطَه كلابس ثوبي زور". انتهى

(2)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

* * *

(1)

"المعجم الكبير" للطبرانيّ 24/ 121.

(2)

"مسند إسحاق بن راهويه" 5/ 132.

ص: 266

‌38 - (كِتَابُ الآدَابِ)

وقال في "الفتح": الأدب استعمال ما يُحمد قولًا وفعلًا، وعَبَّر بعضهم عنه بأنه الأخذ بمكارم الأخلاق، وقيل: الوقوف مع المستحسنات، وقيل: هو تعظيم مَن فوقك، والرفق بمن دونك، وقيل: إنه مأخوذ من المأدبة، وهي الدعوة إلى الطعام، سُمّي بذلك؛ لأنه يدعى إليه. انتهى

(1)

.

وقال الفيّوميّ رحمه الله: أَدَّبْتُه أَدْبًا، من باب ضرب: عَلمتُه رياضةَ النفس، ومحاسن الأخلاق، قال أبو زيد الأنصاريّ: الأَدَبُ يقع على كلِّ رياضة محمودة، يَتَخَرَّجُ بها الإنسان في فضيلة من الفضائل، وقال الأزهريّ نحوه، فَالأَدَبُ اسم لذلك، والجمع آدَابٌ، مثل سَبَبٍ وأسباب، وأَدَّبْتُه تَأْدِيبًا مبالغةٌ، وتكثيرٌ، ومنه قيل: أَدَّبْتُهُ تَأْدِيبًا: إذا عاقبته على إساءته؛ لأنه سبب يدعو إلى حقيقة الأدب، وأَدَبَ أَدْبًا، من باب ضرب أيضًا: صنع صنيعًا، ودعا الناس إليه، فهو آدِبٌ على فاعل، قال الشاعر، وهو طَرَفَةُ [من الرمل]:

نَحْنُ فِي الْمُشْتَاةِ نَدْعُو الْجَفَلَى

لَا ترَى الآدِبَ فِينَا يَنْتَقِرُ

أي: لا ترى الداعي يدعو بعضًا دون بعض، بل يُعَمِّمُ بدعواه في زمان القلّة، وذلك غاية الكرم، واسم الصنيع: المَأْدُبَة بضمّ الدال، وفتحها

(2)

. انتهى

(3)

.

(1)

"الفتح" 13/ 491، كتاب "الأدب" رقم (5970).

(2)

وجعلها في "التاج" مثلّثة، فقال: والمَأْدُبَةُ بضم الدال المهملة، كما هو المشهور، وصَرَّح بأَفْصَحيَّته ابنُ الأَثِير وغيرُه، وأَجَازَ بعضُهم المَأْدَبَة، بفتحها، وحَكَى ابن جني كَسْرَها أيضًا، فهي مُثَلَّثَةُ الدال، ونصُّوا على أَنَّ الفَتْحَ أَشْهَرُ من الكَسْرِ: كلُّ طَعَام صُنِعَ لِدُعْوَة بالضم، والفتح، أَو عُرْس. انتهى. "تاج العروس" 1/ 277.

(3)

"المصباح المنير" 1/ 9.

ص: 267

وقال المرتضى رحمه الله في "التاج": الأَدَبُ - مُحَرَّكَة - الذي يَتَأَدَّبُ به الأَديبُ من الناس، سُمِّيَ به لأَنَّه يَأْدِبُ الناسَ إلى المَحَامد، وَيَنْهَاهُم عن المَقَابِحِ، وأَصلُ الأَدَبِ: الدُّعَاءُ، قال: وقال شيخنا ناقلًا عن تقريراتِ شيوخه: الأَدَبُ مَلَكَةٌ تَعْصِمُ مَنْ قامت به عمَّا يَشِينُه، ثم نقل ما تقدّم للفيّوميّ، ثم قال: وفي "التوشيح": هو استعمالُ ما يُحْمَدُ قَوْلًا، وفِعْلًا، أَو الأَخْذُ، أَو الوُقُوفُ مع المُسْتَحْسَنَات، أَو تَعْظِيمُ مَنْ فوقَك، والرِّفْق بمَنْ دُونَكَ، ونَقَل الخَفَاجِيُّ في "العِنَايَة" عن الجْوَالِيقيّ في "شرحِ أَدَب الكَاتِبِ": الأَدَبُ في اللغة: حُسْنُ الأَخلاق، وفِعْلُ المَكَارِم، وإِطلاقُه عَلى عُلُومِ العَرَبِيَّة مُوَلَّدٌ، حَدَثَ في الإِسلام، وقال ابنُ السِّيدِ البَطَلْيَوْسِيُّ: الأَدَبُ أَدَبُ النَّفْسِ والدَّرْس، والأَدَبُ: الظَرْفُ بالْفَتْح، وحسْنُ التَّنَاوُل، وهذا القَوْلُ شَاملٌ لغَالبِ الأَقْوَالِ المذكورة، وقال أَبو زيد: أَدْبَ الرَّجُلُ؛ كَحسُنَ يَأْدُبُ أَدَبًا، فهو أَديبٌ، جَمْعه أُدباءُ، وقال ابنُ بُزُرْج: لَقَدْ أَدُبْتُ آدُبُ أَدَبًا حسَنًا، وأَنْت أَدِيبٌ، وأَدَّبَه؛ أَي: عَلّمه، فتأَدَّب: تعلّم، واستَعْمَلَهُ الزجَّاجُ في الله عز وجل، فقال: والحَقُّ في هذا ما أَدَّبَ اللهُ تعالى به نَبِيَّه صلى الله عليه وسلم. انتهى

(1)

.

(1) - (بَابُ النَّهْيِ عَنِ التَّكَنِّي بأَبِي الْقَاسِم، وَبَيَانِ مَا يُسْتَحَبُّ مِنَ الأَسمَاءِ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5574]

(2131) - (حَدَّثَنِي أَبُو كُرَيْبٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاء، وَابْنُ أَبِي عُمَرَ - قَالَ أَبُو كُرَيْبٍ: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ ابْنُ أَبِي عُمَرَ: حَدَّثَنَا، وَاللَّفْظُ لَهُ - قَالَا: حَدَّثَنَا مَرْوَانُ - يَعْنِيَانِ الْفَزَارِيَّ - عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: نَادَى رَجُلٌ رَجُلًا بِالْبَقِيعِ: يَا أَبَا الْقَاسِمِ، فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي لَمْ أَعْنِكَ، إِنَّمَا دَعَوْتُ فُلَانًا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "تَسَمَّوْا بِاسْمِي، وَلَا تَكَنَّوْا

(2)

بِكُنْيَتِي").

(1)

تاج العروس 1/ 276.

(2)

وفي نسخة: "ولا تكتنوا".

ص: 268

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(مَرْوَانُ الْفَزَارِيُّ) ابن معاوية بن الحارث بن أسماء، أبو عبد الله الكوفيّ، نزيل مكة، ثم دمشق، ثقةٌ حافظٌ، كان يدلّس أسماء الشيوخ [8](ت 193)(ع) تقدم في "الإيمان" 8/ 138.

2 -

(حُمَيْدُ) بن أبي حميد الطويل، أبو عبيدة البصريّ، اختُلف في اسم أبيه على نحو عشرة أقوال، ثقةٌ عابدٌ [5] مات وهو قائم يصلي سنة (2 أو 143)(ع) تقدم في "الطهارة" 23/ 639.

والباقون تقدّموا قريبًا.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (428) من رباعيّات الكتاب، وفيه أنس رضي الله عنه أحد المكثرين السبعة، روى (2286) حديثًا.

شرح الحديث:

(عَنْ أَنَسٍ) رضي الله عنه أنَّه (قَالَ: نَادَى رَجُلٌ رَجُلًا) لَمْ يُعرف الرجلان، (بِالْبَقِيعِ: يَا أَبَا الْقَاسِم، فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ)؛ أي: إلى الرجل المنادي، (رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) ظنًّا منه أنه المنادَى، (فَقَالَ) الرجل (يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي لَمْ أَعْنِكَ) بفتح الهمزة، وسكون العين، وكسر النون، مضارع عناه، من باب رَمَى: إذا قصده؛ أي: لَمْ أقصدك بالنداء، (إِنَّمَا دَعَوْتُ فُلَانًا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "تَسَمَّوْا بِاسْمِي) أمرٌ بصيغة الجمع من باب التفعُّل، تقول: سَمّيت فلانًا زيدًا، وسمّيته بزيد، بمعنًى، وأسميته مثله، فتسمّى به، والاسم مشتقّ عند البصريين من سَمَوت؛ لأنه تنويهٌ، ورِفْعةٌ، ووزنه افع، والذاهب منه الواو؛ لأنَّ جَمْعه أسماء، وتصغيره سُمَيّ

(1)

، وعند الكوفيين مشتقّ من السّمة، وهي العلامة؛ لأنه علامة على مسمّاه، وإلى هذا أشار بعضهم بقوله:

اشْتَقَّ الاسْمَ مِنْ سَمَا الْبَصْرِيُّ

وَاشْتَقَّهُ مِنْ وَسَمَ الْكُوفِيُّ

وَالْمَذْهَبُ الْمُقَدَّمُ الْجَلِيُّ

دَلِيلُهُ الأَسْمَاءُ وَالسُّمَيُّ

(1)

"عمدة القاري" 2/ 154.

ص: 269

وفيه ثماني عشرة لغةً جَمَعها بعضهم بقوله:

سِمُ سِمَةٌ وَاسْمٌ سَمَاةٌ كَذَا سَمَا

سَمَاءٌ بِتَثْلِيثٍ لأَوَّلِ كُلِّهَا

وقال المناويّ رحمه الله: قوله: "تسمَّوا باسمي"؛ أي: محمد، وأحمد، وحقيقة التسمية تعريف الشيء بالشيء؛ لأنه إذا وُجد وهو مجهول الاسم لَمْ يكن له ما يقع تعريفه به، فجاز تعريفه يوم وجوده، أو إلى ثلاثة الأيام، أو سبعة، أو فوقها، والأمر واسع، وهذا نصّ صريح في الردّ على من منع التسمي باسمه صلى الله عليه وسلم؛ كالتكني. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: أصل "تسمَّوا" تسمّيُوا بوزن تعلّمُوا، فقُلبت الياء ألفًا؛ لتحرّكها، وانفتاح ما قبلها، ثمّ حُذفت الألف؛ لالتقاء الساكنين، فصار تَسَمَّوا بفتح الميم المشدّدة، فلام الفعل محذوفة، وهكذا تصريف "تَكَنَّوْا"، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

(وَلَا تَكَنَّوْا)

(2)

بفتح التاء، والكاف، وشد النون، وحذف إحدى التاءين، أو بسكون الكاف، وضمّ النون، وفي بعض النسخ:"ولا تكتنوا"، (بِكُنْيَتِي") هو أبو القاسم؛ إعظامًا لحرمتي، فيحرم التكني به لمن اسمه محمد وغيره في زمنه وغيره، على الأصح عند الشافعية، وجوّز مالك التكني بعده به، حتى لمن اسمه محمد

(3)

.

وقال في "العمدة": قوله: "ولا تكنوا" فيه ثلاثة أوجه:

[الأول]: أنه من باب التفعيل، من كَنَّى يُكَنِّي تَكْنِيةً، فعلى هذا فهو بضمّ التاء، وفتح الكاف، وضمّ النون مع التشديد.

[والثاني]: أنه من باب التّفَعُّل مِن تَكَنَّى يَتَكَنَّى تَكَنِّيًا، فعلى هذا فهو بفتح الكاف والنون أيضًا، مع التشديد، وأصله لا تتكنّوا بالتائين، فحُذفت إحداهما، كما في {نَارًا تَلَظَّى} [الليل: 14]، أصله تتلظى.

[الثالث]: أنه من باب الافتعال، من اكتَنَى يَكتني اكتناءً، فعلى هذا فهو بفتح التاء، وسكون الكاف، وفتح التاء، وضم النون، والكل من الكناية، وهي

(1)

"فيض القدير" 3/ 245.

(2)

وفي نسخة: "ولا تكتنوا".

(3)

"فيض القدير" 3/ 245.

ص: 270

في الأصل أن يتكلم بشيء، ويريد به غيره، وقد كَنَيت بكذا وكذا، وكنوت به، والكُنية بالضم، والكِنية أيضًا بالكسر، واحدة الكُنَي، وهو اسم مُصَدَّرٌ بأب، أو أمّ، واكتنى فلان بكذا، وكَنّيته تكنيةً.

(واعلم): أن الاسم العَلَمَ إما أن يكون مُشعِرًا بمدح، أو ذمّ، وهو اللقب، وإما أن لا يكون كذلك، فإما أن يُصَدَّر بنحو الأب، أو الأم، وهو الكنية، أو لا، وهو الاسم، فاسم النبيّ صلى الله عليه وسلم محمد، وكنيته أبو القاسم، ولقبه رسول الله، أو نبيّ الله، أفاده في "العمدة"

(1)

.

وقال في "الفتح": الكنية بضم الكاف، وسكون النون، مأخوذة من الكناية، تقول: كنيت عن الأمر بكذا: إذا ذكرته بغير ما يُستدلّ به عليه صريحًا، وقد اشتَهَرت الكنى للعرب، حتى ربما غلبت على الأسماء؛ كأبي طالب، وأبي لهب، وغيرهما، وقد يكون للواحد كنية واحدة، فأكثر، وقد يشتهر باسمه، وكنيته جميعًا، فالاسم، والكنية، واللقب، يجمعها الْعَلَمُ - بفتحتين - وتتغاير بأن اللقب ما أشعر بمدح، أو ذمّ، والكنية ما صُدِّرت باب، أو أمّ، وما عدا ذلك فهو اسم.

وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم يُكْنَى أبا القاسم بولده القاسم، وكان أكبر أولاده، واختُلِف هل مات قبل البعثة، أو بعدها؟ وقد وُلد له إبراهيم في المدينة، من مارية، وفي حديث أنس رضي الله عنه أن جبريل عليه السلام قال للنبيّ صلى الله عليه وسلم:"السلام عليك يا أبا إبراهيم". انتهى

(2)

، والله تعالى أعلم.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أنس بن مالك رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [1/ 5574](2131)، و (البخاريّ) في "البيوع"(2120 و 2121) و"المناقب"(3537)، وفي "الأدب المفرد"(837 و 845)،

(1)

"عمدة القاري" 2/ 154.

(2)

"الفتح" 8/ 194، كتاب "المناقب" رقم (3537).

ص: 271

و (الترمذيّ) في "الأدب"(2844)، و (ابن ماجة) في "الأدب"(2/ 1231)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 113 - 121 و 189)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(8/ 671)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(3787 و 3811)، و (عبد بن حميد) في "مسنده"(1/ 413)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5813)، و (أبو القاسم البغويّ) في "الجعديّات"(1511)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(9/ 308 و 309)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(3364)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في اختلاف أهل العلم في حكم التكنّي بكنيته صلى الله عليه وسلم:

قد عقد الطحاويّ رحمه الله في هذا بابًا، وطوّل فيه من الأحاديث، والمباحث الكثيرة، فأول ما رَوَى حديث عليّ رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، إن وُلد لي ولد أسميه باسمك، وأكنيه بكنيتك؟ قال:"نعم"، قال: وكانت رخصة من رسول الله صلى الله عليه وسلم لعليّ رضي الله عنه، ثم قال: فذهب قوم إلى أنه لا بأس بأن يكتني الرجل بأبي القاسم، وأن يتسمى مع ذلك بمحمد، واحتجوا بالحديث المذكور، قال العينيّ رحمه الله: أراد بالقوم هؤلاء: محمد ابن الحنفية، ومالكًا، وأحمد في رواية، ثم افترق هؤلاء فرقتين: فقالت فرقة - وَهُمْ محمد بن سيرين، وإبراهيم النخعيّ، والشافعيّ -: لا ينبغي لأحد أن يتكنى بأبي القاسم، كان اسمه محمدًا، أو لَمْ يكن.

وقالت فرقة أخرى، وهم الظاهرية، وأحمد في رواية: لا ينبغي لمن تسمى بمحمد أن يتكنى بأبي القاسم، ولا بأس لمن لَمْ يتسم بمحمد أن يتكنى بأبي القاسم، وفي حديث الباب عن جابر رضي الله عنه على ما يأتي النهي عن الجمع بينهما، أعني بين الاسم والكنية، وقيل: المنع في حياته صلى الله عليه وسلم؛ للإيذاء، وأبعدَ بعضهم، فمَنَع التسمية بمحمد، ورَوَى سالم بن أبي الجعد: كتب عمر رضي الله عنه إلى أهل الكوفة: لا تُسَمُّوا باسم نبيّ، وروى أبو داود، عن الحكم بن عطية، عن ثابت، عن أنس، رفعه:"تُسَمُّون أولادكم محمدًا، ثم تلعنوه".

وقال الطبريّ: يُحملِ النهي على الكراهة، دون التحريم، وصحح الأخبار كلّها، ولا تعارض، ولا نسْخَ، وكان إطلاقه لعليّ رضي الله عنه في ذلك إعلامًا منه أُمّته ليفيد جوازه مع الكراهة، وتَرْك الإنكار عليه دليل الكراهة. انتهى

(1)

.

(1)

"عمدة القاري" 22/ 206 - 207.

ص: 272

وقال النوويّ رحمه الله: اختُلِف في التكني بأبي القاسم على ثلاثة مذاهب:

[الأول]: المنع مطلقًا، سواءٌ كان اسمه محمدًا أم لا، ثبت ذلك عن الشافعيّ.

[والثاني]: الجواز مطلقًا، ويختص النهي بحياته رضي الله عنه.

[والثالث]: لا يجوز لمن اسمه محمد، ويجوز لغيره، قال الرافعيّ: يشبه أن يكون هذا هو الأصح؛ لأنَّ الناس لَمْ يزالوا يفعلونه في جميع الأعصار، من غير إنكار، قال النوويّ رحمه الله: هذا مخالف لظاهر الحديث، وأما إطباق الناس عليه، ففيه تقوية للمذهب الثاني، وكأن مستندهم ما وقع في حديث أنس رضي الله عنه المشار إليه قبلُ أنه صلى الله عليه وسلم كان في السوق، فسمع رجلًا يقول: يا أبا القاسم، فالتفت إليه، فقال: لَمْ أَعْنِكَ، فقال:"سَمُّوا باسمي، ولا تكنوا بكنيتي"، قال: ففهموا من النهي الاختصاص بحياته؛ للسبب المذكور، وقد زال بَعده صلى الله عليه وسلم. انتهى ملخصًا.

قال الحافظ: وهذا السبب ثابت في "الصحيح"، فما خرج صاحب القول المذكور عن الظاهر إلَّا بدليل، ومما ننبّه عليه أن النوويّ أورد المذهب الثالث مقلوبًا، فقال: يجوز لمن اسمه محمد دون غيره، وهذا لا يُعرف به قائل، وإنما هو سبق قلم، وقد حَكَى المذاهب الثلاثة في "الأذكار" على الصواب، وكذا هي في الرافعيّ.

ومما تعقبه السبكيّ عليه أنه رجّح مَنْع التكنية بأبي القاسم مطلقًا، ولمّا ذَكَر الرافعيّ في خطبة "المنهاج" كناه، فقال:"الْمُحَرَّر" للإمام أبي القاسم الرافعيّ، وكان يمكنه أن يقول: للإمام الرافعيّ فقط، أو يسميه باسمه، ولا يكنيه بالكنية التي يعتقد المصنّف رحمه الله مَنْعها.

وأجيب باحتمال أن يكون أشار بذلك إلى اختيار الرافعيّ الجواز، أو إلى أنه مشتهِر بذلك، ومن شُهِر بشيء لَمْ يمتنع تعريفه به، ولو كان بغير هذا القصد، فإنه لا يسوغ، والله أعلم.

وبالمذهب الأول قال الظاهرية، وبالغ بعضهم، فقال: لا يجوز لأحد أن يُسَمِّي ابنه القاسم؛ لئلا يكنى أبا القاسم.

وحَكَى الطبريّ مذهبًا رابعًا، وهو المنع من التسمية بمحمد مطلقًا، وكذا

ص: 273

التكني بأبي القاسم مطلقًا، ثم ساق من طريق سالم بن أبي الجعد:"كتب عمر: لا تُسَمُّوا أحدًا باسم نبيّ"، واحتُجّ لصاحب هذا القول بما أخرجه من طريق الحكم بن عطية، عن ثابت، عن أنس، رفعه:"يُسَمُّونهم محمدًا، ثم يلعنونهم"، وهو حديث أخرجه البزار، وأبو يعلى أيضًا، وسنده لَيِّن، قال عياض: والأشبه أن عمر إنما فعل ذلك إعظامًا لاسم النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ لئلا يُنتهك، وقد كان سمع رجلًا يقول لمحمد بن زيد بن الخطاب: يا محمد فعل الله بك، وفعل، فدعاه، وقال: لا أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم يُسَبّ بك، فغيّر اسمه، أخرجه أحمد، والطبرانيّ من طريق عبد الرَّحمن بن أبي ليلى:"نَظَرَ عمر إلى ابن عبد الحميد، وكان اسمه محمدًا، ورجل يقول له: فعل الله بك يا محمد، فأرسل إلى ابن زيد بن الخطاب، فقال: لا أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم يُسَبّ بك، فسمّاه عبد الرَّحمن، وأرسل إلى بني طلحة، وهم سبعة ليغيّر أسماءهم، فقال له محمد - وهو كبيرهم -: والله لقد سماني النبيّ صلى الله عليه وسلم محمدًا، فقال: قوموا، فلا سبيل إليكم"، فهذا يدلّ على رجوعه عن ذلك.

وحَكَى غيره مذهبًا خامسًا، وهو المنع مطلقًا في حياته صلى الله عليه وسلم، والتفصيل بعده بين من اسمه محمد وأحمد فيمتنع، وإلا فيجوز.

وقد ورد ما يؤيد المذهب الثالث الذي ارتضاه الرافعيّ، ووَهّاه النوويّ، وذلك فيما أخرجه أحمد، وأبو داود، وحسنه الترمذيّ، وصححه ابن حبان، من طريق أبي الزبير، عن جابر، رفعه:"من تسمى باسمي، فلا يَكتني بكنيتي، ومن اكتنى بكنيتي، فلا يتسمى باسمي"، لفظ أبي داود، وأحمد، من طريق هشام الدّستوائيّ، عن أبي الزبير، ولفظ الترمذيّ، وابن حبان، من طريق حسين بن واقد، عن أبي الزبير:"إذا سمّيتم بي، فلا تكنوا بي، وإذا كنيتم بي، فلا تسمّوا بي"، قال أبو داود: ورواه الثوريّ، عن ابن جريجٍ، مثل رواية هشام، ورواه مَعْقِل، عن أبي الزبير، مثل رواية ابن سيرين، عن أبي هريرة، قال: ورواه محمد بن عجلان، عن أبيه، عن أبي هريرة، مثل رواية أبي الزبير.

قال الحافظ: ووَصَله البخاريّ في "الأدب المفرد"، وأبو يعلى، ولفظه:"لا تجمعوا بين اسمي وكنيتي"، والترمذيّ من طريق الليث عنه، ولفظه: "أن

ص: 274

النبيّ صلى الله عليه وسلم نهى أن يُجْمَع بين اسمه وكنيته، وقال: أنا أبو القاسم، الله يعطي، وأنا أقسم"، قال أبو داود: واختُلِف على عبد الرَّحمن بن أبي عمرة، وعلى أبي زرعة بن عمرو، وموسى بن يسار، عن أبي هريرة، على الوجهين.

قال الحافظ: وحديث ابن أبي عمرة أخرجه أحمد، وابن أبي شيبة، من طريقه، عن عمه، رفعه:"لا تجمعوا بين اسمي وكنيتي".

وأخرج الطبرانيّ من حديث محمد بن فَضالة، قال:"قَدِم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وأنا ابن أسبوعين، فأتي بي إليه، فمسح على رأسي، وقال: سمّوه باسمي، ولا تكنوه بكنيتي".

ورواية أبي زرعة عند أبي يعلى، بلفظ:"من تسمى باسمي، فلا يكتنى بكنيتي".

واحتُجّ للمذهب الثاني بما أخرجه البخاريّ في "الأدب المفرد"، وأبو داود، وابن ماجة، وصححه الحاكم، من حديث عليّ، قال: قلت: يا رسول الله، إن وُلد لي من بعدك ولد أسميه باسمك، وأكنيه بكنيتك؟ قال:"نعم"، وفي بعض طرقه:"فسمّاني محمدًا، وكناني أبا القاسم"، وكان رخصةً من النبيّ صلى الله عليه وسلم لعليّ بن أبي طالب، قال الحافظ: روينا هذه الرخصة في "أمالي الجوهري"، وأخرجها ابن عساكر في الترجمة النبوية من طريقه، وسندها قويّ، قال الطبريّ: في إباحة ذلك لعليّ، ثم تكنيه على ولده أبا القاسم إشارة إلى أن النهي عن ذلك كان على الكراهة، لا على التحريم، قال: ويؤيد ذلك أنه لو كان على التحريم لأنكره الصحابة، ولَمَا مَكَّنُوه أن يَكْني ولده أبا القاسم أصلًا، فدلَّ على أنَّهم إنما فَهِموا من النهي التنزيه.

وتُعُقِّب بأنه لَمْ ينحصر الأمر فيما قال، فلعلهم علموا الرخصة له دون غيره، كما في بعض طرقه، أو فهموا تخصيص النهي بزمانه صلى الله عليه وسلم، وهذا أقوى؛ لأنَّ بعض الصحابة سَمَّى ابنه محمدًا، وكناه أبا القاسم، وهو طلحة بن عبيد الله، وقد جزم الطبرانيّ أن النبيّ صلى الله عليه وسلم هو الذي كناه، وأخرج ذلك من طريق عيسى بن طلحة، عن ظئر محمد بن طلحة، وكذا يقال لكنية كلّ من المحمدين: ابن أبي بكر، وابن سعد، وابن جعفر بن أبي طالب، وابن عبد الرَّحمن بن عوف، وابن حاطب بن أبي بلتعة، وابن الأشعث بن قيس، أبو

ص: 275

القاسم، وأن آباءهم كنوهم بذلك، قال عياض: وبه قال جمهور السلف والخلف، وفقهاء الأمصار.

وأما ما أخرجه أبو داود من حديث عائشة رضي الله عنها: "أن امرأة قالت: يا رسول الله إني سميت ابني محمدًا، وكنيته أبا القاسم، فذُكر لي أنك تكره ذلك، قال: ما الذي أحلّ اسمي، وحَرّم كنيتي؟ "، فقد ذكر الطبرانيّ في "الأوسط" أن محمد بن عمران الحجبيّ تفرد به، عن صفية بنت شيبة، عنها، ومحمد المذكور مجهول، وعلى تقدير أن يكون محفوظًا، فلا دلالة فيه على الجواز مطلقًا؛ لاحتمال أن يكون قبل النهي.

وفي الجملة أعدل المذاهب المذهب المفَصِّل المحكيّ أخيرًا مع غرابته. وقال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة بعد أن أشار إلى ترجيح المذهب الثالث من حيث الجواز: لكن الأَولى الأخذ بالمذهب الأول، فإنه أبرأ للذمة، وأعظم للحرمة، والله أعلم. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: عندي أن ما مال إليه الحافظ رحمه الله من التفصيل، وهو أن النهي مخصوص بحياته صلى الله عليه وسلم، وأما بعد وفاته، فيختصّ المنع بمن جمع بين الاسم والكنية، وهذا أعدل الأقوال، لكن الأَولى والأحوط منه ما قاله الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة: أن المنع مطلقًا أبرأ للذمّة.

والحاصل أنه لا يجوز التكنّي بعده صلى الله عليه وسلم بأبي القاسم لمن اسمه محمد، ويجوز لغيره؛ لصحّة الحديث بذلك، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال:"لا تجمعوا بين اسمي وكنيتي"، صححه ابن حبّان، وفي لفظ:"أنه نهى أن يَجمَع أحدٌ اسمه وكنيته"، وعن جابر رضي الله عنه مرفوعًا:"إذا كنيتم فلا تسمَّوا باسمي، وإذا سمّيتم فلا تكنوا بكنيتي"، صححه ابن حبّان أيضًا.

لكن الأَولى، والألْيق ببراءة الذمّة تَرْكه مطلقًا، والله تعالى أعلم.

(المسألة الرابعة): يستحبّ التسمية بأسماء الأنبياء عليهم السلام، وفيه حديثان صريحان، أحدهما: ما يأتي لمسلم من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"إنهم كانوا يسمّون بأسماء أنبيائهم والصالحين قبلهم"، وثانيهما: ما أخرجه أبو داود، والنسائيّ، والبخاريّ في "الأدب المفرد" من حديث أبي وهب الْجُشَمِيّ - بضم الجيم، وفتح المعجمة - رفعه: "تَسَمُّوا

ص: 276

بأسماء الأنبياء، وأحب الأسماء إلى الله: عبد الله، وعبد الرَّحمن، وأصدقها: حارث، وهمام، وأقبحها: حَرْب، ومُرَّة"، قال بعضهم: أما الأولان فَلِمَا يأتي قريبًا، وأما الآخران فلأن العبد في حرث الدنيا، أو حرث الآخرة، ولأنه لا يزال يَهُمّ بالشيء بعد الشيء، وأما الأخيران فلِمَا في الحرب من المكاره، ولما في مُرَّة من المرارة.

وأخرج البخاريّ في "الأدب المفرد" حديث يوسف بن عبد الله بن سلام، قال: "سمّاني النبيّ صلى الله عليه وسلم يوسف

" الحديث، وسنده صحيح، وأخرجه الترمذي في "الشمائل"، وأخرج ابن أبي شيبة بسند صحيح، عن سعيد بن المسيِّب، قال: "أحب الأسماء إليه أسماء الأنبياء، تَسَمَّوا بأسماء الأنبياء"، لفظه أَمْر، ومعناه الإباحة؛ لأنه خرج على سبب، وهو: "تَسَمَّوا باسمي"، وإنما طلب التسمي بالأنبياء؛ لأنهم سادة بني آدم، وأخلاقهم أشرف الأخلاق، وأعمالهم أصلح الأعمال، فأسماؤهم أشرف الأسماء، فالتسمي بها شرف للمسمي، ولو لَمْ يكن فيها من المصالح إلَّا أن الاسم يُذَكِّر بمسمّاه، ويقتضي التعلق بمعناه، لكفى به مصلحةً، مع ما فيه من حفظ أسماء الأنبياء عليهم السلام وذِكْرها، وأن لا تُنْسَى، فلا يكره التسمي بأسماء الأنبياء، بل يستحب، مع المحافظة على الأدب، قال العلّامة ابن القيِّم: وهو الصواب، وكان مذهب عمر كراهته، ثم رجع كما يأتي، وكان لطلحة عشرة أولاد، كلّ منهم اسمه اسم نبيٍّ، وللزبير عشرة، كلّ منهم مسمى باسم شهيد، فقال له طلحة: أنا أسميهم بأسماء الأنبياء، وأنت بأسماء الشهداء، فقال: أنا أطمع في كونهم شهداء، وأنت لا تطمع في كونهم أنبياء.

وإنما كان أحب الأسماء إلى الله تعالى عبد الله وعبد الرَّحمن؛ لأنَّ التعلق الذي بين العبد وبين الله إنما هو العبودية المحضة، والتعلق الذي بين الله وعبده بالرحمة المحضة، فبرحمته كان وجوده، وكمال وجوده، والغاية التي أوجده لأجلها أن يتألهه وحده، محبةً، وخوفًا، ورجاءً، وإجلالًا، وتعظيمًا، ولمّا غلبت رحمته غضبه، وكانت الرحمة أحب إليه من الغضب، كان عبد الرَّحمن أحب إليه من عبد القاهر، وأصدقها حارث، وهمام؛ إذ لا ينفك مسمّاهما عن حقيقة معناهما، وأقبحها حرب ومُرَّة؛ لِمَا في حرب من البشاعة،

ص: 277

وفي مُرَّة من المرارة، وقْيْسَ به ما أشبهه؛ كحنظلة، وحَزْن، ونحو ذلك، ذكره المناويِّ رحمه الله

(1)

، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلِّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5575]

(2132) - (حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ زِيَادٍ - وَهُوَ الْمُلَقَّبُ بِسَبَلَانَ - أَخْبَرَنَا عَبَّادُ بْنُ عَبَّادٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، وَأَخِيهِ عَبْدِ الله، سَمِعَهُ مِنْهُمَا سَنَةَ أَرْبَعٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَةٍ، يُحَدِّثَانِ عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ أَحَبَّ أَسْمَائِكُمْ إِلَى اللهِ عَبْدُ الله، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(إِبْرَاهِيمُ بْنُ زِيَادٍ) أبو إسحاق البغداديّ، الْمُلَقَّبُ بِسَبَلَانَ - بفتح السين المهملة، والموحَّدة - ثقةٌ [10].

رَوَى عن عباد بن عباد المهلّبيّ، والفرج بن فَضالة، ويحيى القطان، وهشيم، وحماد بن زيد، وغيرهم.

ورَوَى عنه مسلم، وأبو داود، وروى عنه النسائيّ بواسطة، وعلي بن المدينيّ، وأبو زرعة، وأبو حاتم، وعبد الله بن أحمد، والذُّهْليّ، ومعاذ بن المثنى، وعِدّة.

قال أحمد: إذا مات سَبَلان ذهب علم عبّاد بن عبّاد، وقال أيضًا: لا بأس به، كان معنا عند هشيم، وقال ابن معين، وأبو زرعة، وصالح جزرة: ثقةٌ، وقال أحمد بن محمد بن مُحرِز، عن يحيى بن معين: ما كان به بأس، وقال النسائي: ليس به بأس، وقال ابن أبي حاتم: سألت أبي عنه، فقال: صالح الحديث، ثقةٌ، كتبت عنه، وقال: كان حجاج بن الشاعر يُحسن القول فيه، والثناء عليه، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: مات سنة (232)، وقال مُطَيَّن، وموسى الحمال: مات سنة (228)، زاد موسى: في ذي الحجة، وكان قد ضَبَّب أسنانه بالذهب.

انفرد به المصنّف، وأبو داود، والنسائيّ، وليس له في هذا الكتاب إلَّا هذا الحديث.

(1)

"فيض القدير على الجامع الصغير" للمناويّ رحمه الله 3/ 246.

ص: 278

2 -

(عَبَادُ بْنُ عَبَّادِ) بن حبيب بن الْمُهلّب بن أبي صُفْرة الأزديّ المهلّبيّ، أبو معاوية البصريّ، ثقةٌ ربّما وَهِمَ [7](ت 179) أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 124.

3 -

(عَبْدُ اللهِ) بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطّاب، أبو عبد الرَّحمن العدويّ الْعُمريّ المدنيّ، ضعيف [7].

روى عن نافع، وزيد بن أسلم، وسعيد المقبريّ، وغيرهم.

وروى عنه ابنه عبد الرَّحمن، وعبد الرَّحمن بن مهديّ، والليث بن سعد، وابن وهب، وعبد الرزاق، وعبّاد بن عبّاد الْمُهَلّبيّ، وغيرهم.

قال أبو طلحة عن أحمد: لا بأس به، قد رُوي عنه، ولكن ليس مثل أخيه عبيد الله، وقال أبو زرعة الدمشقيّ عن أحمد: كان يزيد في الأسانيد، ويخالف، وكان رجلًا صالِحًا، وقال أبو حاتم: رأيت أحمد بن حنبل يُحْسن الثناء عليه، وقال أحمد: يروي عبد الله عن أخيه عبيد الله، ولم يرو عبيد الله عن أخيه عبد الله شيئًا، كان عبد الله يُسأل عن الحديث في حياة أخيه، فيقول: أما وأبو عثمان حيّ فلا، وقال عثمان الدارميّ، عن ابن معين: صويلح، وقال ابن أبي مريم عن ابن معين: ليس به بأس، يُكتب حديثه، وقال عبد الله بن علي بن المدينيّ عن أبيه: ضعيف، وقال عمرو بن عليّ: كان يحيى بن سعيد لا يحدث عنه، وكان عبد الرَّحمن يحدث عنه، وقال يعقوب بن شيبة: ثقةٌ، صدوق، في حديثه اضطراب، وقال صالح جَزَرة: لَيِّن مختلط الحديث، وقال النسائيّ: ضعيف الحديث، وقال أبو حاتم: هو أحبّ إليّ من عبد الله بن نافع، يُكتب حديثه، ولا يُحتج به، وقال العجليّ: لا بأس به، وقال الترمذيّ في "العلل الكبير" عن البخاريّ: ذاهبٌ، لا أروي عنه شيئًا، وقال البخاريّ في "التاريخ": كان يحيى بن سعيد يضعّفه، وقال أبو أحمد الحاكم: ليس بالقويّ عندهم، وقال يعقوب بن سفيان، عن أحمد بن يونس: لو رأيت هيئته لعرفت أنه ثقةٌ، وقال المرُّوذيّ: ذَكَره أحمد، فلم يَرْضَه، وقال ابن عمار الموصليّ: لَمْ يتركه أحد إلَّا يحيى بن سعيد، وزعموا أنه أخذ كُتُب عبيد الله، فرواها، وأورد له يعقوب بن شيبة في "مسنده" حديثًا، فقال: هذا حديث حسن الإسناد، مدنيّ، وقال في موضع آخر: هو رجل صالحٌ، مذكور بالعلم والصلاح، وفي حديثه بعض الضعف والاضطراب، ويزيد في الأسانيد كثيرًا،

ص: 279

وقال الخليليّ: ثقةٌ غير أن الحفاظ لم يرضوا حفظه، وقول ابن معين فيه: إنه صويلح، إنما حكاه عنه إسحاق الكوسج، وأما عثمان الدارميّ فقال عن ابن معين: صالح ثقةٌ، وقال ابن عديّ: لا بأس به في رواياته، صدوق، وقال ابن سعد: خرج مع محمد بن عبد الله بن حسن، فحبسه المنصور، ثم خلّاه، وتُوُفِّي بالمدينة سنة إحدى أو اثنتين وسبعين ومائة في خلافة هارون، وكان كثير الحديث يُستضعف، وقال خليفة: مات سنة (171)، وقال ابن حبان: كان ممن غَلَب عليه الصلاح، حتى غفل عن الضبط، فاستحقّ الترك، مات سنة (173)، وقال ابن أبي الدنيا: كان يكنى أبا القاسم، فتركها، واكتنى أبا عبد الرَّحمن، وأرَّخ وفاته مثل ابن سعد.

أخرج له المصنّف، والأربعة، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، أحدهما هذا برقم [1/ 5575](2132) والثاني تقدّم في "كتاب الحدود" برقم [1/ 4399](1686).

والباقون تقدّموا قريبًا.

شرح الحديث:

(عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ) الْعُمَريّ (وَأَخِيهِ) الأصغر منه (عَبْدِ اللهِ) بن عمر (سَمِعَهُ)؛ أي: سمع عبّاد بن عبّاد هذا الحديث (مِنْهُمَا)؛ أي: من الأخوين: عبيد الله، وعبد الله، (سَنَةَ أَرْبَعٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَةٍ) حال كونهما (يُحَدِّثَانِ) به، قال النوويّ رحمه الله: هذا صحيح لأنَّ عبيد الله ثقةٌ حافظ ضابطٌ مُجْمَع على الاحتجاج به، وأما أخوه عبد الله فضعيف، لا يجوز الاحتجاج به، فإذا جمع بينهما الراوي جاز، ووجب العمل بالحديث؛ اعتمادًا على عبيد الله. انتهى

(1)

.

(عَنْ نَافِعٍ) مولى ابن عمر (عَنِ ابْنِ عُمَرَ) بن الخطّاب رضي الله عنهما أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ أَحَبَّ أَسْمَائِكُمْ إِلَى اللهِ عَبْدُ الله، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ") قال النوويّ رحمه الله: فيه التسمية بهذين الاسمين، وتفضيلهما على سائر ما يُسمّى به. انتهى

(2)

.

(1)

"شرح النوويّ" 14/ 113.

(2)

"شرح النوويّ" 14/ 113.

ص: 280

وإنما فُضّلا على سائر الأسماء لأنَّ الله سبحانه وتعالى له الأسماء الحسني، وهذان الاسمان يشتملان على معاني الأسماء كلها، ولذلك لَمْ يتسمَّ بأحدهما أحد غير الله، وما ورد من: رحمان اليمامة؛ فذاك مضاف إلى اليمامة، والمطلق منه عن الإضافة منزَّه عن القول بالاشتراك، وأما هذيان شاعر بني حنيفة بقوله [من الطويل]:

سَمَوْتَ بِالْمَجْدِ يَا ابْنَ الأَكْرَمَيْنِ أَبًا

وَأَنْتَ غَيْثُ الْوَرَى لَا زِلْتَ رَحْمَانَا

فمِنْ تعنَّتهم وغلوّهم في الكفر، وقد هجاه بعضهم بقوله:

سَمَوْتَ بِالْخُبْثِ يَا ابْنَ الأَخْبَثَيْنِ أَبًا

وَأَنْتَ شَرّ الْوَرَى لَا زِلْتَ شَيْطَانًا

وقال القرطبيّ رحمه الله: يلتحق بهذين الاسمين ما كان مثلهما؛ كعبد الرحيم، وعبد الملك، وعبد الصمد، وإنما كانت أحب إلى الله؛ لأنَّها تضمنت ما هو وصف واجب لله، وما هو وصف للإنسان، وواجب له، وهو العبودية، ثم أضيف العبد إلى الرب إضافةً حقيقيةً، فصدقت أفراد هذه الأسماء، وشَرُفت بهذا التركيب، فحصلت لها هذه الفضيلة.

وقال غيره: الحكمة في الاقتصار على الاسمين أنه لَمْ يقع في القرآن إضافة عبد إلى اسم من أسماء الله تعالى غيرهما، قال الله تعالى:{وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ} [الجن: 19]، وقال في آية أخرى:{وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ} [الفرقان: 63]، ويؤيده قوله تعالى:{قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ} [الإسراء: 110] وقد أخرج الطبراني من حديث أبي زهير الثقفيّ، رفعه:"إذا سمّيتم فعَبِّدوا"، ومن حديث ابن مسعود، رفعه:"أحب الأسماء إلى الله ما تُعُبِّد به"، وفي إسناد كلّ منهما ضَعف، قاله في "الفتح"

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: أما حديث: "أحب الأسماء إلى الله ما تُعُبِّد له، وأصدق الأسماء همام، وحارث"، رواه الطبرانيّ عن ابن مسعود رضي الله عنه، فحديث واه، قال الهيثميّ في "المجمع": فيه محمد بن محصن العكاشيّ متروك. انتهى

(2)

، وقال في "التقريب": كذّبوه، وقال الشيخ الألبانيّ: حديث موضوع

(3)

.

(1)

"الفتح" 14/ 60، كتاب "الأدب" رقم (6186).

(2)

"فيض القدير" 1/ 169.

(3)

"السلسلة الضعيفة" 1/ 586.

ص: 281

وأما حديث: "إذا سميتم فعَبِّدوا"، رواه الطبرانيّ، فقال الهيثميّ: فيه أبو أمية بن يعلي، وهو ضعيف جدًّا. انتهى

(1)

، وقال الشيخ الألبانيّ: ضعيف جدًّا، وقال السخاويّ: وأما ما يُذكر على الالسنة: خير الأسماء ما حُمِّد، أو عُبِّد فباطل

(2)

، والله تعالى أعلم.

وقال المناويّ: تفضيل التسمية بهذين محمول على من أراد التسمي بالعبودية، فتقديره: أحب أسمائكم إلى الله إذا تسمّيتم بالعبودية: عبد الله وعبد الرَّحمن؛ لأنهم كانوا يسمُّون عبد شمس، وعبد الدار، ولا ينافي أن اسم أحمد ومحمد أحب إلى الله من جميع الأسماء، فإنه لَمْ يختر لنبيّه صلى الله عليه وسلم إلَّا ما هو الأحب إليه، هذا هو الصواب، ولا يجوز حَمْله على الإطلاق. انتهى

(3)

.

قال الجامع عفا الله عنه: في كلام المناويّ هذا نَظَر لا يخفي، فالنصّ الصحيح الصريح جَعَلَ هذين الاسمين أحبّ إلى الله مطلقًا، فتفضيل التسمية بهما بالنسبة للأمة هو الظاهر، ولا ينافي هذا كون أحمد ومحمد أحبّ إلى الله بالنسبة إليه صلى الله عليه وسلم، فتأمله بالإمعان، والله تعالى المستعان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [1/ 5575](2132)، و (أبو داود) في "الأدب"(4949)، و (الترمذيّ) في "الأدب"(2833)، و (ابن ماجة) في "الآداب"(3773)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(5/ 263)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 24 و 128)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 294)، و (الحاكم) في "المستدرك"(4/ 304 و 305)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(9/ 306)، والله تعالى أعلم.

(1)

"مجمع الزوائد" 8/ 50.

(2)

"كشف الخفاء" 1/ 95.

(3)

"فيض القدير على الجامع الصغير" 2/ 412.

ص: 282

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5576]

(2133) - (حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ عُثْمَانُ: حَدَّثَنَا، وَقَالَ إِسْحَاقُ: أَخْبَرَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْد، عَنْ جَابِرِ بنِ عَبْدِ الله، قَالَ: وُلِدَ لِرَجُلٍ مِنَّا غُلَامٌ، فَسَمَّاهُ مُحَمَّدًا، فَقَالَ لَهُ قَوْمُهُ

(1)

: لَا نَدَعُكَ تُسَمِّي بِاسْمِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَانْطَلَقَ بِابْنِهِ حَامِلَهُ عَلَى ظَهْرِه، فَأتَى بِهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله، وُلِدَ لِي غُلَامٌ، فَسَمَّيْتُهُ مُحَمَّدًا، فَقَالَ لِي قَوْمِي: لَا نَدَعُكَ تُسَمِّي بِاسْمِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"تَسمَّوْا بِاسْمِي، وَلَا تَكْتَنُوا بِكُنْيَتي، فَإِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ، أَقْسِمُ بَيْنكُمْ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) هو: عثمان بن محمد بن إبراهيم بن عثمان الْعَبْسيّ، أبو الحسن الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ شهير [10](ت 239) وله (83) سنة (خ م د س ق) تقدم في "الإيمان" 35/ 246.

2 -

(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه، تقدّم في الباب الماضي.

3 -

(جَرِيرُ) بن عبد الحميد بن قُرْط الضبيّ، أبو عبد الله الكوفيّ، نزيل الريّ وقاضيها، ثقةٌ صحيح الكتاب [8](ت 188)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.

4 -

(مَنْصُورُ) بن المعتمر بن عبد الله السّلميّ، أبو عتّاب الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ [6](ت 123)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" ج 1 ص 296.

5 -

(سَالِمُ بْنُ أَبِي الْجَعْدِ) رافع الْغَطَفانيّ الأشجعيّ مولاهم الكوفيّ، ثقةٌ يرسل كثيرًا [3](ت 7 أو 98)(ع) تقدم في "الحيض" 8/ 728.

6 -

(جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) بن عمرو بن حرام الأنصاريّ السَّلَميّ الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، مات بعد السبعين، وهو ابن (94) سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 117.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وهو مسلسل بالكوفيين غير الصحابيّ،

(1)

وقع في بعض النُّسخ: "فقال لي قومي"، وهو غلط، كما لا يخفى، فليُتنبّه، والله تعالى أعلم.

ص: 283

فمدنيّ، وإسحاق فمروزيّ، وفيه جابر رضي الله عنه أحد المكثرين السبعة، روى (1540) حديثًا.

شرح الحديث:

(عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ) رضي الله عنهما (قَالَ: وُلدَ) بالبناء للمفعول، (لِرَجُلٍ مِنَّا غُلَامٌ) لَمْ يُعرف اسم الرجل، (فَسَمَّاهُ مُحَمَّدًا) هكذا في هذه الرواية، أنه سمّاه محمدًا، وقد اختلفت الروايات: هل أراد أن يسمّيه محمدًا، أو القاسم؟ قال في "الفتح" ما حاصله: بيّن البخاريّ الاختلاف على شعبة، هل أراد الأنصاريّ أن يسمّي ابنه محمدًا، أو القاسم؟، وأشار إلى ترجيح أنه أراد أن يسمّيه القاسم برواية سفيان الثوريّ له عن الأعمش:"فسمّاه القاسم"، قال: ويترجّح هذا أيضًا من حيث المعنى؛ لأنه لَمْ يقع الإنكار من الأنصار عليه إلَّا حيث لزم من تسمية ولده القاسم أن يصير يُكنى أبا القاسم

(1)

.

وقال في "الفتح" أيضًا في موضع آخر - بعد أن أشار إلى ما سبق -: ويؤيّده - أي: ترجيح رواية أن يسميّه القاسم - أنه لَمْ يُختلف على محمد بن المنكدر عن جابر في ذلك، كما أخرجه البخاريّ في آخر الباب الذي يليه. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: رواية محمد بن المنكدر عن جابر هي الرواية التالية لرواية جابر هذه، فتبيَّن بهذا أن الأرجح كون ذلك الرجل أراد أن يسمّي ابنه القاسم، لا محمدًا، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

(فَقَالَ لَهُ قَوْمُهُ)

(3)

؛ أي: الأنصار، وأشار في هامش بعض النُّسخ أنه وقع بلفظ:"فقال لي قومي"، وهو غلط، فتنبّه.

(لَا) نافية، ولذا رُفع قوله:(نَدَعُكَ)؛ أي: لا نتركك، قال الفيّوميّ رحمه الله: وَدَعْتُهُ أَدَعُهُ وَدْعًا: تركته، وأصل المضارع الكسر، ومن ثَمَّ حُذفت الواو، ثم

(1)

"الفتح" 7/ 377، كتاب "فرض الخمس" رقم (3114).

(2)

"الفتح" 14/ 61، كتاب "الأدب" رقم (6186).

(3)

وقع في بعض النُّسخ: "فقال لي قومي"، وهو غلط، كما لا يخفي، فليُتنبّه، والله تعالى أعلم.

ص: 284

فُتح لمكان حرف الحلق، قال بعض المتقدّمين: وزعمت النحاة أن العرب أماتت ماضي يَدَع، ومصدره، واسم الفاعل؛ وقد قرأ مجاهد، وعروة، ومقاتل، وابن أبي عَبْلة، ويزيد النَّحويُّ:{مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ} [الضحى: 3] بالتَّخفيف، وفي الحديث:"لَيَنْتَهِيَنَّ قَوْمٌ عَنْ وَدْعِهِمُ الجُمُعَاتِ"، رواه مسلم؛ أي: عن تركهم، فقد رُويت هذه الكلمة عن أفصح العرب، ونُقلت من طريق القرَّاء، فكيف يكون إماتةً؟ وقد جاء الماضي في بعض الأشعار، وما هذه سبيله فيجوز القول بقلّة الاستعمال، ولا يجوز القول بالإماتة. انتهى

(1)

، وهو بحث مفيدٌ، والله تعالى أعلم.

وقوله: (تُسَمِّي) جملة حاليّة، (بِاسْمِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَانْطَلَقَ) الرجل (بِابْنِهِ)، وقوله:(حَامِلَهُ عَلَى ظَهْرِهِ) بنصب "حامله" على الحال، وهو مذهب بعض النحاة، وجمهورهم يمنع وقوع المعرفة حالًا، وما ورد من ذلك يؤوّلونه بالنكرة، كما أشار إليه في "الخلاصة" بقوله:

وَالْحَالُ إِنْ عُرِّفَ لَفْظًا فَاعْتَقِدْ

تَنْكِيرَهُ مَعْنًى كَـ "وَحْدَكَ اجْتَهِدْ"

ويَحْتَمِل أن يكون"حامِلُه" مرفوعًا خبرًا لمحذوف؛ أي: وهو حامِلُه، والجملة حال بلا خلاف، والله تعالى أعلم.

(فَأَتَى بِهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله، وُلِدَ لِي غُلَامٌ) فعل ونائب فاعله؛ أي: ولدٌ، قال الفيّوميّ رحمه الله: الغُلامُ: الابن الصغير، وجمع القلة: غِلْمَةٌ، بالكسر، وجمع الكثرة: غِلْمَانٌ، ويُطلق الغُلامُ على الرجل مجازًا، باسم ما كان عليه، كما يقال للصغير: شيخٌ مجازًا، باسم ما يؤول إليه، وجاء في الشعر غلامة بالهاء للجارية، قال الشاعر:

يُهَانُ لَهَا الغُلامَةُ والغُلامُ

قال الأزهريّ: وسمعت العربَ تقول للمولود حين يولد ذكرًا: غُلامٌ، وسمعتهم يقولون للكهل: غُلامٌ، وهو فَاشٍ في كلامهم. انتهى

(2)

.

(فسَمَّيْتُهُ مُحَمَّدًا) تقدّم ترجيح رواية تسميته بالقاسم، فلا تغفل. (فَقَالَ لي قَوْمِي: لَا نَدَعُكَ تُسَمِّي بِاسْمِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "تَسَمَّوْا)

(1)

"المصباح المنير" 2/ 653.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 452.

ص: 285

بفتح الميم المشدّدة، (بِاسْمِي، وَلَا تَكْتَنُوا) تقدّم أنه رُوي: "لا تكتنوا"، من الاكتناء وبلفظ:"لا تكنَّوا"، من التكنّي، وبلفظ:"لا تَكْنُوا" من الكُنية. (بِكُنْيَتِي) فيه النهي عن التكنّي بكنيته صلى الله عليه وسلم، وقد تقدّم البحث فيه مستوفًى في شرح حديث ابن عمر رضي الله عنهما الماضي، ثمّ علّل صلى الله عليه وسلم نهيه عن التكنّي بكنيته بالفاء التعليليّة، فقال:(فَإنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ أقسِمُ بَيْنَكُمْ") المعنى: أن العلّة الموجبة للتكنية لا توجد في غيرهَ صلى الله عليه وسلم؛ لأنَّ معنى كونه قاسمًا أنه الذي يقسم المواريث، والغنائم، والزكاة، والفيء، وغير ذلك من المقادير بالتبليغ عن الله عز وجل، وليس ذلك لأحد غيره صلى الله عليه وسلم، فلا يُطلق هذا الاسم في الحقيقة إلَّا عليه.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم: "تسمَّوا باسمي، ولا تكتنُوا بكنيتي"؛ صدر هذا القول عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مرّات؛ فعلى حديث أنس رضي الله عنه إنما قاله حين نادى رجل: يا أبا القاسم! فالتفت النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال الرجل: لَمْ أَعْنِك، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم ذلك القول، وهذه حالةٌ تنافي الاحترام، والتعزير المأمور به، فلمَّا كانت الكناية بأبي القاسم تؤدي إلى ذلك نَهَى عنها، ويتأبَّد هذا المعنى بما نُقِل أنَّ اليهود كانت تناديه بهذه الكناية إزراءً، ثم تقول: لَمْ أعْنك، فَحَسم الذريعة بالنَّهي.

[فإنَّ قيل]: فيلزم على هذا أن تُمنع التَّسمية بمحمد، وقد فَرَّق بينهما، فأجازه في الاسم، ومنعه في الكناية.

[فالجواب]: أنَّه لَمْ يكن أحدٌ من الصحابة رضي الله عنهم يجترئ أن يناديه باسمه؛ إذ الاسم لا توقير في النداء به، بخلاف الكناية، فإنَّ في النداء بها احترامًا وتوقيرًا، وإنما كان يناديه باسمه أجلاف العرب، ممن لَمْ يؤمن، أو آمن، ولم يرسخ الإيمان في قلبه؛ كالذين نادوه من وراء الحجرات: يا محمد اخرج لنا، فأنزل الله تعالى فيهم:{إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (4)} [الحجرات: 4]، فمُنِعت الذريعةُ فيما كانوا ينادونه به، وأبيح ما لَمْ يكونوا ينادونه به، وعلى هذا المعنى فيكون النهي عن ذلك مخصوصًا بحياته صلى الله عليه وسلم، وقد ذهب إلى ذلك بعض أهل العلم، وقد رُوي: أن عليًّا رضي الله عنه قال: يا رسول الله! إن وُلد لي بعدك غلامٌ أَأُسَمِّيه باسمك، وأكنِّيه بكنيتك؟ قال:"نعم"

(1)

.

(1)

حديث صحيح رواه أبو داود (4967)، والترمذيّ (2846).

ص: 286

وأما حديث جابر رضي الله عنه فيقتضي: أن النهي عن ذلك إنما كان؛ لأنَّ ذلك الاسم لا يصدق على غيره صِدْقه عليه، ولذلك قال متصلًا بقوله:"تسمَّوا باسمي، ولا تكتنوا بكنيي، فإني أنا أبو القاسم أقسم بينكم"، وفي الأخرى:"فإنما بعثت إليكم قاسِمًا"؛ يعني: أنه هو الذي يبيّن قَسْم الأموال في المواريث، والغنائم، والزكوات، والفيء، وغير ذلك من المقادير، فيُبلغ عن الله حُكْمه، ويبيِّن قَسْمه. وليس ذلك لأحدٍ، إلَّا له، فلا يُطلق هذا الاسم في الحقيقة إلَّا عليه، وعلى هذا التأويل الثاني: فلا يكتني أحدٌ بأبي القاسم، لا في حياته، ولا بعد موته، وإلى هذا ذهب بعض السَّلف، وأهل الظاهر، وزادت طائفة أخرى من السَّلف مَنْع التسمية بالقاسم؛ لئلا يكنى أبوه بأبي القاسم.

وذهبت طائفة ثالثة من السلف أيضًا إلى أن الممنوع إنما هو الجمع بين اسمه وكنيته، واستدلوا على ذلك بما رواه الترمذيّ عن أبي هريرة رضي الله عنه:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يجمع أحدٌ بين اسمه وكنيته، ويسمِّي محمدًا أبا القاسم"، قال: حديث حسن صحيح، وعلى هذا فيجوز أن يكتني بأبي القاسم من لَمْ يكن اسمه محمدًا.

وذهب الجمهور من السلف والخلف، وفقهاء الأمصار: إلى جواز كلّ ذلك، فله أن يجمع بين اسمه وكنيته، وله أن يسمي بما شاء من الاسم والكنية بناءً على أنَّ كلّ ما تقدَّم إما منسوخ، وإما مخصوص به صلى الله عليه وسلم، واحتجوا على ذلك بما رواه الترمذيّ، وصححه، من حديث عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه المتقدم، وبما رواه أبو داود عن عائشة رضي الله عنها قالت: جاءت امرأة إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله! إني ولدتُ غلامًا فسمّيته: محمدًا، وكَنَيته بأبي القاسم، فذكر لي أنك تكره ذلك، فقال:"ما الذي أَحل اسمي، وحرَّم كُنيتي؟ "، أو:"ما الذي حرّم كُنيتي، وأحلّ اسمي؟! "، ويتأيَّد النَّسخ بما ثبت: أن جماعة كثيرة من السَّلف وغيرهم سمُّوا أولادهم باسمه، وكنوهم بكنيته جمعًا وتفريقًا، وكان هذا أمرًا معروفًا معمولًا به في المدينة وغيرها، فقد صارت أحاديث الإباحة أَولى؛ لأنَّها: إما ناسخة لأحاديث المنع، وإما مرجحة بالعمل المذكور، والله تعالى أعلم.

ص: 287

وقد شذَّت طائفة فمنعوا التسمية بمحمد جملة متمسكين في ذلك بما يروى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: "تسمُّون أولادكم محمدًا، ثم تلعنونهم"، وبما كتب عمر رضي الله عنه إلى الكوفة من قوله:"لا تسمُّوا أحدًا باسم نبيّ"، وبأمره جماعة بالمدينة بتغيير أسماء أبنائهم محمدًا، ولا حجَّة في شيء من ذلك، أما الحديث: فغير معروف عند أهل النقل، وعلى تسليمه، فمقتضاه النهي عن لعن من اسمه محمد، لا عن التسمية به، وقد قدَّمنا النصوص الدالة على إباحة التسمية بذلك. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قد تقدّم تحقيق هذه المسألة في المسألة الثالثة المذكورة في شرح حديث أنس رضي الله عنه الماضي، وأن الراجح أن النهي مخصوص بحياته صلى الله عليه وسلم، وأما بَعده فيُمنع الجمع بين الاسم والكنية فقط، ويجوز التكنّي بأبي القاسم لمن لَمْ يكن اسمه محمدًا، لكن الأَولى والأحوط تَرْكه مطلقًا؛ طلبًا لبراءة الذمّة، والله تعالى أعلم.

[تنبيه]: الأصل في الكناية: أن يكون للرجل ابن فيُكنى باسم ابنه ذلك، ولذلك كُني النبيّ صلى الله عليه وسلم بأبي القاسم، فإنَّه كان له ولدٌ يسمى القاسم من خديجة رضي الله عنها، وكأنه كان أوَّل ذكور أولاده. وعلى هذا: فينبغي أن لا يكنى أحدٌ حتى يكون له ولدٌ يُكنى باسمه، لكن: قد أجاز العلماء خلاف هذا الأصل، فكنَّوا من ليس له ولدٌ، لحديث عائشة رضي الله عنها أنَّها قالت للنبيّ صلى الله عليه وسلم: كلُّ صواحبي لهنّ كني، وليس لي كنية، فقال:"اكتني بابن أختك عبد الله"

(2)

، فكانت تكنى بأمِّ عبد الله، وقد كنَّى النبيَّ صلى الله عليه وسلم الصغير، فقال:"يا أبا عمير! ما فعل النُّغير؟ "

(3)

، وقد قال عمر رضي الله عنه:"عجِّلوا بكنى أبنائكم؛ لا تُسرع إليهم ألقاب السَّوء"، ذكره القرطبيّ رحمه الله

(4)

.

(1)

"المفهم" 5/ 456 - 459.

(2)

حديث صحيح، رواه البخاريّ في "الأدب المفرد" ص 850 و 851، وابن سعد 8/ 63 - 64، والطبرانيّ 23/ 36 - 37.

(3)

متّفقٌ عليه.

(4)

"المفهم" 5/ 460.

ص: 288

مسألتان تتعلقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما هذا متَّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [1/ 5576 و 5577 و 5578 و 5579 و 5580 و 5581 و 5582 و 5583 و 5584](2133)، و (البخاري) في "صحيحه"(3114 و 3115 و 3538 و 6187 و 6196)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 298 و 301 و 313 و 369 و 370 و 385)، و (الترمذي) في "جامعه"(2250)، و (ابن ماجة) في "سننه"(3736)، و (أبو داود) في "سننه"(4966).

وأما فوائد الحديث فقد تقدمت في شرح الأحاديث الماضية.

وبالسند المتّصل إلى المؤلِّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5577]

(

) - (حَدَّثَنَا هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ، حَدَّثَنَا عَبْثَرٌ، عَنْ حُصَيْنٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْد، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ الله، قَالَ: وُلِدَ لِرَجُلٍ مِنَّا غُلَامٌ، فَسَمَّاهُ مُحَمَّدًا، فَقُلْنَا: لَا نُكْنِيكَ بِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى تَسْتَأْمِرَهُ

(1)

، قَالَ: فَأَتَاهُ، فَقَالَ: إِنَّهُ وُلِدَ لِي غُلَامٌ، فَسَمَّيتُهُ بِرَسُولِ الله، وَإِنَّ قَوْمِي أَبَوْا أَنْ يَكْنُونِي بِه، حَتَّى تَسْتَأْذِنَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:"سَمُّوا بِاسْمِي، وَلَا تَكَنَّوْا بِكُنْيَتي، فَإِنَّمَا بُعِثْتُ قَاسِمًا، أَقْسِمُ بَيْنكُمْ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ) بن مصعب التميميّ، أبو السّريّ الكوفيّ، ثقةٌ [10](243) وله (91) سنة (عخ م 4) تقدم في "الإيمان" 64/ 365.

2 -

(عَبْثَرُ) بن القاسم الزُّبيديّ، أبو زُبيد الكوفيّ، ثقةٌ [8](ت 179)(ع) تقدم في "الإيمان" 48/ 305.

3 -

(حُصَيْنُ) بن عبد الرَّحمن السّلميّ، أبو الْهُذيل الكوفيّ، ثقةٌ تغيّر حفظه في الآخر [5](ت 136) وله (93) سنة (ع) تقدم في "الإيمان" 43/ 285.

والباقيان ذُكرا قبله.

(1)

قوله: "حتى تستأمره"، وقوله:"حتى تستأذنه"، كلاهما بالتاء في جميع المتون التي بأيدينا، وفي المطبوعات المصريّة متونًا وشروحًا الأول بالتاء، والثاني بالنون، والله أعلم. انتهى منقولًا من هامش النسخة التركيّة.

ص: 289

وقوله: (وُلِدَ لِرَجُلٍ مِنَّا غُلَامٌ) تقدّم أنه لا يُعرف الرجل.

وقوله: (فَسَمَّاهُ مُحَمَّدًا) وفي رواية البخاريّ من طريق خالد عن حصين: "فسمّاه القاسم"، تقدّم أن الأرجح رواية:"فسمّاه القاسم"، فتنبّه.

وقوله: (لَا نُكْنِيكَ بِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم)؛ أي: بكنية رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقوله: (حَتَّى تَسْتَأْمِرَهُ)؛ أي: تستأذنه.

وقوله: (فَسَمَّيْتُهُ بِرَسُولِ اللهِ)؛ أي: باسم رسول الله، وهو محمد، على ما في بعض الروايات، أو باسم ولده القاسم، وهو الأرجح.

وقوله: (حَتَّى تَسْتَأذِنَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم) بالتاء، وفي بعض النسخ:"حتى يستأذن"، وعليه فهو مبنيّ.

وقوله: (فَإنَّمَا بُعِثْتُ قَاسِمًا، أَقْسِمُ بَيْنَكُمْ) قال النوويّ رحمه الله: وفي رواية للبخاريّ في أولَ الكتاب في "بابٌ مَن يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين": "وإنما أنا قاسم، والله يعطي"، قال القاضي عياض: هذا يُشعر بأن الكنية إنما تكون بسبب وصف صحيح في المكنّى، أو لسبب اسم ابنه، وقال ابن بطال في شرح رواية البخاريّ: معناه: إني لَمْ أستأثر من مال الله تعالى بشيء دونكم، وقاله تطييبًا لقلوبهم حين فاضل في العطاء، فقال: الله هو الذي يعطيكم، لا أنا، وإنما أنا قاسم، فمن قسمت له شيئًا فذلك نصيبه قليلًا كان، أو كثِيرًا، وأما غير أبي القاسم من الكني، فأجمع المسلمون على جوازه، سواء كان له ابن، أو بنت، فكُنِي به، أو بها، أو لَمْ يكن له ولد أو صغير، أو كُنِي بغير ولده، ويجوز أن يكنى الرجل أبا فلان، وأبا فلانة، وأن تكنى المرأة أم فلانة، وأم فلان، وصحّ أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يقول للصغير أخي أنس:"يا أبا عُمير، ما فعل النُّغَير؟ "، والله أعلم

(1)

.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5578]

(

) - (حَدَّثَنَا رِفَاعَةُ بْنُ الْهَيْثَمِ الْوَاسِطِيُّ، حَدَّثَنَا خَالِدٌ - يَعْنِي: الطَّحَّانَ - عَنْ حُصَيْنٍ، بِهَذَا الإِسْنَاد، وَلَمْ يَذْكُرْ: "فَإِنَّمَا بُعِثْتُ قَاسِمًا، أَقْسِمُ بَيْنكُمْ").

(1)

"شرح النوويّ" 14/ 114 - 115.

ص: 290

رجال هذا الإسناد: ثلاثة:

1 -

(رِفَاعَةُ بْنُ الْهَيْثَمِ الْوَاسِطِيُّ) أبو سعيد، مقبول [10](م) تقدم في "الجمعة" 13/ 1999.

2 -

(خَالِدٌ الطَّحَّانُ) ابن عبد الله، أبو الهيثم الواسطيّ، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 182)(ع) تقدم في "الإيمان" 78/ 407.

و"حصين" ذُكر قبله.

[تنبيه]: رواية خالد الطحّان عن حُصين ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:

(5833)

- حدّثنا مسدّد، حدّثنا خالد، حدّثنا حصين، عن سالم، عن جابر رضي الله عنه قال: وُلد لرجل منا غلام، فسمّاه القاسم، فقالوا: لا نكنيه حتى نسأل النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال:"سَمُّوا باسمي، ولا تكتنوا بكنيتي". انتهى

(1)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5579]

(

) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنِ الأَعْمَشِ (ح) وَحَدَّثَنِي أَبُو سَعِيدٍ الأَشَجُّ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ الله، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "تَسَمَّوْا بِاسْمِي، وَلَا تَكَنَّوْا بِكُنْيَتِي، فَإِنِّي أَنَا أَبُو الْقَاسِم، أَقْسِمُ بَيْنكُمْ"، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ:("وَلَا تَكْتَنَّوْا").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(أَبُو سَعِيدٍ الأَشَجُّ) عبد الله بن سعيد بن حُصين الْكِنديّ الكوفيّ، ثقةٌ، من صغار [10](257)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 17.

2 -

(الأَعْمَشُ) سليمان بن مِهران، تقدّم قبل بابين.

والباقون ذُكروا في الباب، والباب الماضي.

وقوله: (وَلَا تَكَنَّوْا) أصله تكنّيوا بوزن تَعَلَّموا، فقُلبت الياء ألفًا؛ لتحرّكها، وانفتاح ما قبلها، ثمّ حُذفت الألف؛ لالتقاء الساكنين.

وقوله: (أَقْسِمُ بَيْنكُمْ) حُذف المفعول؛ ليفيد التعميم؛ أي: أَقْسِم الوحي، أو أقسم الفيء والغنائم، أو أقسم المواريث، أو نحو ذلك.

(1)

"صحيح البخاريّ " 5/ 2288.

ص: 291

وقوله: (وَفِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ)؛ يعني: ابن أبي شيبة، شيخه الأول:(وَلَا تَكْتَنُوا)؛ أي: بزيادة تاء بعد الكاف، وضمّ النون، وأصله تكتنيوا، بوزن تقتتلوا، فنُقلت ضمة الياء إلى النون بعد سلب حركتها استثقالًا، ثم حُذفت الياء؛ لالتقاء الساكنين.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام البحث فيه، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلِّف رحمه الله أَوَّل الكتاب قال:

[5580]

(

) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوَيةَ، عَنِ الأَعْمَش، بِهَذَا الْإِسْنَاد، وَقَالَ: "إِنَّمَا جُعِلْتُ قَاسِمًا، أَقْسِمُ بَيْنكُمْ").

رجال هذا الإسناد: ثلاثة:

وقد ذُكروا في الباب، والباب الماضي.

[تنبيه]: رواية أبي معاوية محمد بن خازم الضرير، عن الأعمش ساقها أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(14403)

- حدثنا أبو معاوية، ثنا الأعمش، عن سالم، عن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "تَسَمَّوا باسمي، ولا تكنوا بكنيتي، فإني جُعِلتُ قاسِمًا أَقْسِم بينكم". انتهى

(1)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أَوَّل الكتاب قال:

[5581]

(

) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَمُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، سَمِعْتُ قَتَادَةَ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ جَابرِ بْنِ عَبْدِ الله، أَنَّ رَجُلًا مِنَ الأَنْصَار، وُلِدَ لَهُ غُلَامٌ، فَأَرَادَ أَنْ يُسَمِّيَهُ محَمَّدًا، فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَسَأَلهُ، فَقَالَ: "أَحْسَنَتِ الأَنْصَارُ، سَمُّوا بِاسْمِي

(2)

، وَلَا تَكْتَنُوا بِكُنْيَتِي").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

وكلهم ذُكروا في الباب، وقبل بابين.

وقوله: (فَأَرَادَ أَنْ يُسَمِّيَهُ مُحَمَّدًا) تقدّم أن المحفوظ بلفظ: "أنْ يسمّيه القاسم"، وهذا هو الذي يؤيِّده سياق هذه الرواية، فإنه صلى الله عليه وسلم استحسن إنكار

(1)

"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 3/ 313.

(2)

وفي نسخة: "تسمَّوا باسمي".

ص: 292

الأنصار عليه تسميته بالقاسم؛ لكونه منكَرًا، ولو كان ما أنكروا عليه تسميته محمدًا لَمَا استحسنه، بل أنكره عليهم؛ لأنه جائز، فليُتنبّه.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5582]

(

) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، كِلَاهُمَا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ مَنْصُورٍ (ح) وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ جَبَلَةَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّد - يَعْنِي: ابْنَ جَعْفَرٍ - (ح) وَحَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، كِلَاهُمَا عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ حُصَيْنٍ (ح) وَحَدَّثَنِي بِشْرُ بْنُ خَالِدٍ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدٌ - يَعْنِي: ابْنَ جَعْفَرٍ - حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سُلَيْمَانَ، كُلُّهُمْ عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْد، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ الله، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (ح) وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ، وَإِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَا: أَخْبَرَنَا النَّضْرُ بْنُ شمَيْلٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، وَمَنْصُورٍ، وَسُلَيْمَانَ، وَحُصَيْنِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَن، قَالُوا: سَمِعْنَا سَالِمَ بْنَ أَيِ الْجَعْد، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ الله، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، بِنَحْوِ حَدِيثِ مَنْ ذَكَرْنَا حَدِيثَهُمْ مِنْ قَبْلُ، وَفِي حَدِيثِ النَّضْرِ عَنْ شُعْبَةَ قَالَ: وَزَادَ فِيهِ حُصَيْن، وَسُلَيْمَانُ، قَالَ حُصَيْنٌ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّمَا بُعِثْتُ قَاسِمًا، أَقْسِمُ بَيْنكُمْ"، وَقَالَ سُلَيْمَانُ:"فَإِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ، أَقْسِمُ بَيْنُكُمْ").

رجال هذه الأسانيد: ستة عشر:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ جَبَلَةَ) هو: محمد بن عمرو بن عبّاد بن جَبَلَةَ بن أبي رَوّاد الْعَتَكيّ، أبو جعفر البصريّ، صدوقٌ [11](ت 234)(م د) تقدم في "الإيمان" 63/ 348.

2 -

(ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ) محمد بن إبراهيم بن أبي عديّ البصريّ، تقدَّم قريبًا.

3 -

(بِشْرُ بْنُ خَالِدٍ) الْعَسكريّ، أبو محمد الفرائضيّ، نزيل البصرة، ثقةٌ يُغْرِبُ [10](ت 3 أو 255)(خ م د س) تقدم في "الإيمان" 23/ 200.

4 -

(إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورِ) بن بَهْرام الكوسج، أبو يعقوب التميميّ المروزيّ، ثقةٌ ثبتٌ [11](ت 251)(خ م ت س ق) تقدم في "الإيمان" 12/ 156.

5 -

(النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ) المازنيّ، أبو الحسن النحويّ البصريّ، نزيل مرو، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار [9](ت 204) وله (82) سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 39.

ص: 293

والباقون ذُكروا في الباب.

وقوله الأول: (كِلَاهُمَا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ) الضمير لابن أبي شيبة، وابن المثنّى.

وقوله الثاني: (كِلَاهُمَا عَنْ شُعْبَةَ) الضمير لمحمد بن جعفر، وابن أبي عديّ.

وقوله: (كُلُّهُمْ عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ) الضمير لمنصور، وحُصين بن عبد الرَّحمن، وسليمان الأعمش.

وقوله: (قَالُوا: سَمِعْنَا سَالِمَ بْنَ أَبِي الْجَعْدِ) الضمير لقَتَادَةَ، وَمَنْصُورِ بن المعتمر، وَسُلَيْمَانَ الأعمش، وَحُصَيْنِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ.

[تنبيه]: كُتب في هامش النسخة التركيّة ما نصّه: (عَنْ قَتَادَةَ) في هذا السند - يعني: سند الإسحاقين - (وَمَنْصُورٍ) كما في سند أبي بكر، (وَسُلَيْمَانَ) كما في سند بِشر، (وَحُصَيْنٍ) كما في سند ابن المثنّى. انتهى

(1)

.

وقوله: (بِنَحْوِ حَدِيثِ مَنْ ذَكَرْنَا حَدِيثَهُمْ مِنْ قَبْلُ)؛ أي: قبل هذه الأسانيد، أراد جريرًا، وعبثرًا، وخالدًا الطحّان، ووكيعًا، وأبا معاوية في الأسانيد الماضية.

وقوله: (وَفي حَدِيثِ النَّضْرِ

إلخ) كُتب في الهامش المذكور؛ يعني: المؤلّف رحمه الله أن في حديثه عن شعبة زيادة حيث قال النضر: وزاد في الحديث حصين

إلخ، ولم يروِ غير النضر من الرواة عن شعبة هذه الزيادة، أو قال شعبة: وزاد فيه حصين

إلخ؛ لأنه يروي؛ يعني: ولم يذكر هذه الزيادة من شيوخي غيرهما، وهما زادا على قتادة ومنصور هذه الزيادة، وهذا أحسن كما يُفهم من عبارة العينيّ، والله أعلم

(2)

.

وقوله: (وَزَادَ فِيهِ حُصَيْنٌ) هو ابن عبد الرَّحمن، (وَسُلَيْمَانُ) هو الأعمش.

وقوله: (قَالَ حُصَيْنٌ) وكذا: (وَقَالَ سُلَيْمَانُ) بيان لصيغ تلك الزيادة،

(1)

من هامش النسخة التركية 6/ 171 من تحقيق: محمد شكري بن حسن الأنقروي رحمه الله.

(2)

من هامش النسخة التركية 6/ 171 من تحقيق: محمد شكري بن حسن الأنقروي رحمه الله.

ص: 294

فصيغة حصين: (قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّمَا بُعِثْتُ قَاسِمًا، أَقْسِمُ بَيْنكُمْ") وصيغة سليمان الأعمش: ("فَإِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ، أَقْسِمُ بَيْنَكُمْ")، والله تعالى أعلم.

[تنبيه]: رواية شعبة عن سليمان ومنصور وقتادة ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:

(2946)

- حدّثنا أبو الوليد، حدّثنا شعبة، عن سليمان، ومنصور، وقتادة، سمعوا سالم بن أبي الجعد، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: وُلد لرجل منّا من الأنصار غلام، فارأد أن يسميه محمدًا. قال شعبة: في حديث منصور: إن الأنصاريّ قال: حملته على عنقي، فأتيت به النبيّ صلى الله عليه وسلم، وفي حديث سليمان: وُلد له غلام، فأراد أن يسميه محمدًا، قال:"سَمُّوا باسمي، ولا تكنوا بكنيتي، فإني إنما جُعلت قاسمًا أقسم بينكم - وقال حُصين -: بُعثت قاسمًا أقسم بينكم"، قال عمرو: أخبرنا شعبة، عن قتادة، قال: سمعت سالِمًا عن جابر أراد أن يسميه القاسم، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:"سَمُّوا باسمي، ولا تكتنوا بكنيتي". انتهى

(1)

.

وقال أبو عبد الله الحاكم رحمه الله في "المستدرك":

(7735)

- أخبرنا أبو العباس محمد بن أحمد المحبوبيّ، ثنا سعيد بن مسعود، ثنا النضر بن شُميل، ثنا شعبة، عن قتادة، ومنصور، وسليمان، وحُصين بن عبد الرَّحمن، قالوا: سمعنا سالم بن أبي الجعد يحدّث عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال: وُلد للأنصار ولد، فأرادوا أن يسموه محمدًا، فأتوا به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:"أحسنت الأنصار، تسمَّوا باسمي، ولا تكتنوا بكنيتي، فإنما بُعثت قاسمًا أقسم بينكم"، هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، وقد اتفقا فيه على حديث جرير، عن منصور بغير هذه السياقة. انتهى

(2)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5583]

(

) - (حَدَّثَنَا عَمْرٌو النَّاقِدُ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ، جَمِيعًا عَنْ سُفْيَانَ، قَالَ عَمْرٌو: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُنْكَدِر، أَنَّهُ

(1)

"صحيح البخاريّ" 3/ 1133.

(2)

"المستدرك على الصحيحين" 4/ 308.

ص: 295

سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ يَقُولُ: وُلِدَ لِرَجُلٍ مِنَّا غُلَامٌ، فَسَمَّاهُ الْقَاسِمَ، فَقُلْنَا: لَا نَكْنِيكَ أَبَا الْقَاسِم، وَلَا نُنْعِمُكَ عَيْنًا، فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ:"أَسْمِ ابْنَكَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ")

(1)

.

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(عَمْرٌو النَّاقِدُ) ابن محمد بن بُكير الناقد، تقدّم قريبًا.

2 -

(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ) تقدّم في الباب الماضي.

3 -

(سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ) تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

4 -

(ابْنُ الْمُنْكَدِرِ) هو: محمد بن المنكدر بن عبد الله بن الْهُدير التيميّ المدنيّ، ثقةٌ فاضلٌ [3](ت 130) أو بعدها (ع) تقدم في "الطهارة" 11/ 584.

5 -

(جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) بن عمرو بن حرام رضي الله عنهما، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (429) من رباعيّات الكتاب، وهو مسلسلٌ بالتحديث والسماع، وأن صحابيّه ذو مناقب جمّة، فهو ابن صحابيّ رضي الله عنهما، وقد غزا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم تسع عشرة غزوةً، وهو من المكثرين السبعة، ومن المعمّرين، فقد عاش أربعًا وتسعين سنةً، ومات بالمدينة بعد السبعين من الهجرة رضي الله عنه.

شرح الحديث:

(عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ) أنه قال: (حَدَّثَنَا) محمد (بْنُ الْمُنْكَدِر، أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ) رضي الله عنهما (يَقُولُ: وُلدَ) بضمّ أوله مبنيًّا للمفعول، (لِرَجُلٍ) لَمْ يُعرف اسمه، (مِنَّا)؛ أي: من الأنصار، (غُلَامٌ، فَسَمَّاهُ الْقَاسِمَ) تقدّم أنه سمَاه محمدًا، وتقدّم أن الأول هو الأرجح، قال في "الفتح": بيّن البخاريّ الاختلاف على شعبة: هل أراد الأنصاريّ أن يسمّي ابنه محمدًا، أو القاسم؟ وأشار إلى ترجيح أنه أراد أن يسمّيه القاسم برواية سفيان الثوريّ له عن الأعمش:"فسمّاه القاسم"، قال: ويترجّح أيضًا من حيث المعنى؛ لأنه لَمْ يقع الإنكار من

(1)

وفي نسخة: "اسْمُ ابْنِكَ عبدُ الرَّحمن".

ص: 296

الأنصار عليه إلَّا حيث لزم من تسمية ولده القاسمَ أن يصير يُكنى أبا القاسم. انتهى

(1)

.

وقال في "الفتح": ويؤيّده أنه لَمْ يُختلف على محمد بن المنكدر عن جابر في ذلك

(2)

- أي في تسميته بالقاسم. (فَقُلْنَا: لَا نَكْنِيكَ) بفتح أوله، وسكون ثانيه، من الكُنية ثلاثيًّا، وَيحْتَمل أن يكون بضمّ أوله، من الإكناء رباعيًّا، أو من التكنية، قال المجد رحمه الله: كنيت زيدًا أبا عمرو، وبه، كُنية بالكسر، والضمّ: سمّاه به، كأكناه، وكنّاه. انتهى

(3)

. (أَبَا الْقَاسِم، وَلَا نُنْعِمُكَ عَيْنًا) بضمّ أوله، وكسر ثالثه، من الإنعام؛ أي: لا نُنْعم عليك بذلك، فتقَرّ به عينك، ويؤخذ منه مشروعيّة تكنية المرء بمن يولد له، ولا يختصّ بأول أولاده، قاله في "الفتح"

(4)

.

وقال القاضي عياض رحمه الله: أي: لا تَقَرّ عينك بذلك، والنَّعْمَة، والنُّعْمة بالفتح، والضم: الْمَسَرّة، يقال: نَعِمَ الله بك عينًا، ونَعِمَ بك عينًا، بالكسر، وأنعم بك عينًا، ونَعّمك عينًا؛ أي: أقرّ بك عين من يحبك، وأنكر بعضهم: نَعِم الله بك عينًا؛ لأنَّ الله لا يَنْعَم، يريد نعمة المخلوقين، وإذا تُؤُوِّل على موافقة مراد الله صحّ لفظًا ومعنًى، والنَّعمة بالفتح: التنعم، والنِّعمة بالكسر: اسمُ ما أنعم الله به على عباده، ومَوْلَى النعمة: الْمُعْتِق. انتهى

(5)

.

وقال المجد رحمه الله: ونَعِمَ اللهُ تعالى بِكَ؛ كَسَمِعَ، ونَعِمَكَ، وأنْعَمَ بِكَ عَيْنًا: أقَرَّ بِكَ عَيْنَ من تُحِبُّهُ، أو أقَرَّ عَيْنَكَ بمَنْ تُحِبُّهُ، ونَعْمُ عَيْني، ونَعْمَةُ، ونَعامُ، ونَعيمُ، بفَتْحِهِنَّ، ونُعْمَى، ونُعَامَي، ونُعامُ، ونُعْمُ، ونُعْمَةُ، بضمِهِنَّ، ونِعْمَةُ، ونِعَامُ، بكسرهما، ويُنْصبُ الكُلُّ بإضمار الفِعْلِ؛ أي: أفْعَلُ ذلك إنْعَامًا لعَيْنِكَ، وإكْرامًا. انتهى

(6)

.

(1)

"الفتح" 7/ 377، كتاب "فرض الخمس" رقم (3115).

(2)

"الفتح" 14/ 61، كتاب "الأدب" رقم (6186).

(3)

"القاموس المحيط" ص 1152.

(4)

"الفتح" 14/ 61، كتاب "الأدب" رقم (6186).

(5)

"مشارق الأنوار" 2/ 18.

(6)

"القاموس المحيط" ص 1298.

ص: 297

(فأَتَى) الرجل (النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ)؛ أي: ما قلت له: "لا نكنيك أبا القاسم

إلخ"، (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("أَسْمِ) بقطع الهمزة، من الإسماء، ولفظ البخاريّ:"سَمِّ ابنك"، وكلاهما لغتان، يقال: سمّيته، وأسميته محمدًا، وبمحمّد. (ابْنَكَ عَبْدَ الرَّحْمَن") ووقع في بعض النُّسخ:"اسمُ ابنك عبدُ الرَّحمن"، على أنَّه مبتدأ وخبره، ولا تَخَالُف بين هذا، وبين ما تقدّم من قوله صلى الله عليه وسلم في الجواب:"سمّوا باسمي، ولا تكنوا بكنيتي"؛ لإمكان الجمع بينهما بأن كِلا الراويين ذَكر ما لَمْ يذكره الآخر، قاله في "الفتح"، وقال أيضًا: قال بعض شراح "المشارق": لله الأسماء الحسني، وفيها أصول وفروع؛ أي: من حيث الاشتقاق، قال: وللأصول أصول؛ أي: من حيث المعنى، فأصول الأصول اسمان: الله، والرحمن؛ لأنَّ كلًّا منهما مشتمل على الأسماء كلِّها، قال الله تعالى:{قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ} الآية [الإسراء: 110]، ولذلك لَمْ يتسمّ بهما أحدٌ، وما ورد من رحمن اليمامة غير وارد؛ لأنه مضاف، وقول شاعرهم:

وأنت غيثُ الورى لا زلت رحمانا

تغالٍ في الكفر، وليس بوارد؛ لأنَّ الكلام في أنه لَمْ يتسمّ به أحدٌ، ولا يَرِدُ إطلاق من أطلقه وصفًا؛ لأنه لا يستلزم التسمية بذلك، وقد لُقِّب غير واحد: الملك الرحيم، ولم يقع مثل ذلك في الرَّحمن، وإذا تقرّر ذلك كانت إضافة العبودية إلى كلّ منهما حقيقيةً محضةً، فظهر وجه الأحبية. انتهى

(1)

.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام شرحه، وبيان مسائله في شرح الحديث الثالث من أحاديث الباب، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلِّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5584]

(

) - (وَحَدَّثَنِي أُمَيَّةُ بْنُ بِسْطَامٍ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ - يَعْنِي: ابْنَ زُرَيْعٍ - (ح) وَحَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ - يَعْنِي: ابْنَ عُلَيَّةَ - كِلَاهُمَا عَنْ رَوْحِ بْنِ الْقَاسِم، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِر، عَنْ جَابِرٍ، بِمِثْلِ حَدِيثِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ: وَلَا نُنْعِمُكَ عَيْنًا).

(1)

"الفتح" 14/ 61، كتاب "الأدب" رقم (6186).

ص: 298

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(أُمَيَّةُ بْنُ بِسْطَامٍ) الْعَيشيّ، أبو بكر البصريّ، صدوقٌ [10](ت 231)(خ م س) تقدم في "الإيمان" 7/ 132.

2 -

(يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ) الْعَيشيّ، أبو معاوية البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 182)(ع) تقدم في "الإيمان" 7/ 132.

3 -

(عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ) السعديّ المروزيّ، تقدّم قريبًا.

4 -

(إِسْمَاعِيلُ ابْنُ عُلَيَّةَ) تقدّم أيضًا قريبًا.

5 -

(رَوْحُ بْنُ الْقَاسِمِ) التميميّ الْعَنبريّ البصريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

والباقيان ذُكرا قبله.

وقوله: (كِلَاهُمَا عَنْ رَوْحِ بْنِ الْقَاسِم) ضمير التثنية ليزيد بن زُريع، وابن عليّة.

وقوله: (غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ) الضمير لروح بن القاسم.

[تنبيه]: رواية يزيد بن زريع، وإسماعيل ابن عُليّة كلاهما عن روح بن القاسم لَمْ أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلِّف رحمه الله أَوَّل الكتاب قال:

[5585]

(2134) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَمْرٌو النَّاقِدُ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَابْنُ نُمَيْرٍ، قَالُوا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ صلى الله عليه وسلم: "تَسَمَّوْا بِاسْمِي، وَلَا تَكَنُّوْا

(1)

بِكُنْيَتِي"، قَالَ عَمْرٌو: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَلَمَ يَقُلْ: سَمِعْتُ).

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(أَيُّوبُ) بن أبي تميمة السَّختيانيّ البصريّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ) الأنصاريّ البصريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

والباقون ذُكروا في الباب، وقبل بابين، وشرح الحديث واضح يُعلم مما سبق، فلا حاجة إلى إعادته.

(1)

وفي نسخة: "ولا تكتنوا".

ص: 299

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [1/ 5585](2134)، و (البخاريّ) في "العلم"(110) و"المناقب"(3539) و"الأدب"(6188 و 6197)، وفي "الأدب المفرد"(836)، و (أبو داود) في "الأدب"(4965)، و (ابن ماجة) في "الأدب"(3735)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(19866)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(8/ 671)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 312 و 455 و 457 و 461 و 470 و 477 و 478 و 519)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(2419)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5812)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(9/ 307 - 308) وفي "الأدب (613)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة" (3363)، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5586]

(2135) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ، وَأَبُو سَعِيدٍ الأَشَجُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى الْعَنَزِيُّ - وَاللَّفْظُ لِابْنِ نُمَيْرٍ - قَالُوا: حَدَّثَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ، عَنْ أَبِيه، عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ وَائِلٍ، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، قَالَ: لَمَّا قَدِمْتُ نَجْرَانَ سَأَلُوني، فَقَالُوا: إِنَّكُمْ تَقْرَءُونَ: {يَاأُخْتَ هَارُونَ}، وَمُوسَى قَبْلَ عِيسَى بِكَذَا وَكَذَا، فَلَمَّا قَدِمْتُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم سأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: "إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَمُّونَ بِأَنْبِيَائِهِمْ، وَالصَّالِحِينَ قَبْلَهُمْ").

رجال هذا الإسناد: تسعة:

1 -

(ابْنُ إِدْرِيسَ) هو: عبد الله بن إدريس بن يزيد الأوديّ، أبو محمد الكوفيّ، ثقةٌ فقيهٌ عابدٌ [8](ت 192)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 24.

2 -

(أَبُوهُ) إدريس بن يزيد بن عبد الرَّحمن الأوديّ الكوفيّ، ثقةٌ [7](ع) تقدم في "الإيمان" 59/ 335.

3 -

(سِمَاكُ بْنُ حَرْبِ) بن أوس الذُّهليّ، أبو المغيرة الكوفيّ، صدوق، مضطرب في عكرمة، وتغيّر بآخره، فربما تلقّن [4](ت 123)(خت م 4) تقدم في "الإيمان" 64/ 365.

ص: 300

4 -

(عَلْقَمَةُ بْنُ وَائِلِ) بن حُجْر الْحَضرميّ الكوفيّ، صدوقٌ [3](ي م 4) تقدم في "الإيمان" 64/ 365.

5 -

(الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ) بن مسعود بن معتّب الثقفيّ الصحابيّ الشهير، أسلم قبل الحديبية، وولي إمرة البصرة، ثمّ الكوفة، ومات سنة خمسين على الصحيح (ع) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.

والباقون ذُكروا في الباب، و"أَبُو سَعِيدٍ الأَشَجُّ" هو: عبد الله بن سعيد الكوفيّ.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه أربعة قرن بينهم، وهو مسلسل بالكوفيين، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ.

شرح الحديث:

(عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: لَمَا قَدِمْتُ) بكسر الدال، (نَجْرَانَ) بفتح النون، وإسكان الجيم، بعدها راء، ثمّ ألف، ثم نون، غير منصرف للعَلَميّة وزيادة الألف والنون، كما قال في "الخلاصة":

وَالْعَلَمَ امْنَعْ صَرْفَهُ مُرَكَّبًا

تَرْكِيبَ مَزْجٍ نَحْوُ "مَعْدِي كَرِبَا"

كَذَاكَ حَاوِي زَائِدَيْ فَعْلَانَا

كَـ "غَطَفَانَ" وكَـ"أَصْبَهَانَا"

قال الفيّوميّ رحمه الله: ونَجْرَانُ: بلدة من بلاد هَمْدانَ، من اليمن، قال البكريُّ: سُمِّيت باسم بانيها نَجْرَانُ بْنُ زيدِ بْنِ يَشْجُبَ بْنِ يَعْرُبَ بْنِ قَحْطَانَ. انتهى

(1)

.

وقال في "النهاية": هو موضع معروف بين الحجاز، والشام، واليمن. انتهى

(2)

.

وقال في "القاموس": نجران موضع باليمن، فُتح سنة عشر، سُمِّي بنجران بن زيدان بن سبأ، وموضع بالبحرين، وموضع بِحَوْران قرب دمشق، وموضع بين الكوفة وواسط. انتهى

(3)

.

(1)

"المصباح المنير" 2/ 594.

(2)

"النهاية في غريب الأثر" ص 902.

(3)

"القاموس المحيط" ص 1264.

ص: 301

(سَأَلُونِي)؛ أي: أهل نجران، وفي رواية الترمذيّ: عن المغيرة بن شعبة قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى نجران، فقالوا لي: ألستم تقرؤون: {يَاأُخْتَ هَارُونَ} ، وقد كان بين عيسى وموسى ما كان؟ فلم أَدْرِ ما أُجيبهم، فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبرته، فقال:"ألا أخبرتهم أنهم كانوا يسمّون بأنبيائهم، والصالحين قبلهم"، قال أبو عيسى: هذا حديث صحيحٌ، غريبٌ، لا نعرفه إلا من حديث ابن إدريس. انتهى

(1)

.

(فَقَالُوا: إِنَّكُمْ) معاشر المسلمين (تَقْرَءُونَ: {يَاأُخْتَ هَارُونَ} [مريم: 28]، وَمُوسَى قَبْلَ عِيسَى بِكَذَا وَكَذَا) يعنون بذلك أن مريم عليه السلام ليست بأخت لهارون أخي موسى عليه السلام إذ بينهما زمن بعيد. (فَلَمَّا قَدِمْتُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم سَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ)؛ أي: سأله أهل نجران، (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("إِنَّهُمْ)؛ أي: بني إسرائيل، (كَانُوا يُسَمُّونَ بِأَنْبِيَائِهِمْ)؛ أي: بأسماء أنبيائهم (وَ) بأسماء (الصَّالِحِينَ قَبْلَهُمْ")؛ أي: الذين تقدَّم زمنهم قبل زمانهم، كما وقع في هذه الآية الكريمة.

قال القرطبيّ رحمه الله: حديث المغيرة رضي الله عنه هذا يدلُّ على أن مريم - صلوات الله عليها - إنما سُميت أخت هارون بأخ لها، كان اسمه ذلك، ويُبطل قول من قال من المفسرين: إنها إنما قيل لها ذلك؛ لأنها شُبِّهت بهارون أخي موسى في عبادته، ونُسكه، وفيه: ما يدلّ على جواز التسمية بأسماء الأنبياء، والله تعالى أعلم. انتهى

(2)

.

وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله: أي: يا شبيهةَ هارون في العبادة، أنت من بيت طيِّبٍ طاهرٍ، معروف بالصلاح، والعبادة، والزهادة، فكيف صدر هذا منكِ؟ قال عليّ بن أبي طلحة، والسُّدّيّ: قيل لها: أخت هارون؛ أي: أخي موسى، وكانت من نسله، كما يقال للتميميّ: يا أخا تميم، والمضريّ: يا أخا مضر، وقيل: نُسبت إلى رجل صالح، كان فيهم، اسمه هارون، فكانت تتأسى به في الزهادة، والعبادة. انتهى

(3)

.

وقال الإمام ابن جرير رحمه الله: اختَلَف أهل التأويل في السبب الذي قيل

(1)

"جامع الترمذيّ" 5/ 315.

(2)

"المفهم" 5/ 460 - 461.

(3)

"تفسير ابن كثير" 9/ 239.

ص: 302

لها: {يَاأُخْتَ هَارُونَ} ، ومن كان هارون هذا الذي ذكره الله، وأخبر أنهم نَسبوا مريم إلى أنها أخته؟ فقال بعضهم: قيل لها: {يَاأُخْتَ هَارُونَ} نسبة منهم لها إلى الصلاح؛ لأن أهل الصلاح فيهم كانوا يُسَمَّون هارون، وليس بهارون أخي موسى، ثم ذكر من قال بهذا القول.

ثم قال: وقال بعضهم: عُنِي به هارونُ أخو موسى، ونُسبت مريم إلى أنها أخته؛ لأنها من ولده، يقال للتميميّ: يا أخا تميم، وللمضريّ: يا أخا مضر، ثم ذكر من قال بهذا القول.

ثم قال: وقال آخرون: بل كان ذلك رجلًا منهم فاسقًا مُعلن الفسق، فنسبوها إليه.

ثم قال: والصواب من القول في ذلك ما جاء به الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني: حديث المغيرة بن شعبة هذا - وأنها نُسبت إلى رجل من قومها. انتهى ملخصًا

(1)

.

وقال النوويّ رحمه الله: استَدَلَّ به جماعة على جواز التسمية بأسماء الأنبياء عليهم السلام، وأجمع عليه العلماء إلا ما قدّمناه عن عمر رضي الله عنه، وسبق تأويله، وقد سَمَّى النبيّ صلى الله عليه وسلم ابنه إبراهيم، وكان في أصحابه خلائق مُسَمَّون بأسماء الأنبياء، قال القاضي عياض: وقد كَرِه بعض العلماء التسمي بأسماء الملائكة، وهو قول الحارث بن مسكين، قال: وكَرِه مالك التسمّي بجبريل، وياسين. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: التسمية بأسماء الملائكة عليهم السلام لم يرد فيه نهي، فالظاهر أنه لا كراهة فيه، والله تعالى أعلم.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

(1)

"تفسير ابن جرير" 15/ 522 - 525.

(2)

"شرح النوويّ" 14/ 117.

ص: 303

أخرجه (المصنّف) هنا [1/ 5586](2135)، و (الترمذيّ) في "التفسير"(3155)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(6/ 393)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(7/ 427)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 252)، و (ابن جرير) في "التفسير"(16/ 77 - 78)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6250)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(20/ 986)، و (البيهقيّ) في "الدلائل"(5/ 392)، و (البغويّ) في "التفسير"(3/ 194)، والله تعالى أعلم.

(2) - (بَابُ كَرَاهِيَةِ التَّسْمِيَةِ بِالأَسْمَاءِ الْقَبِيحَة، وَبِنَافِعٍ، وَنَحْوِهِ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5587]

(2136) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: حَدَّثَنَا مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنِ الرُّكَيْن، عَنْ أَبِيه، عَنْ سَمُرَةَ، وَقَالَ يَحْيَى: أَخْبَرَنَا الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ الرُّكَيْنَ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِيه، عَنْ سَمُرَةَ بْنِ 4 جُنْدَبٍ، قَالَ: نَهَانَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم أَنْ نُسَمِّيَ رَقِيقَنَا بِأَرْبَعَةِ أَسْمَاءٍ

(1)

: أَفْلَحَ، وَرَبَاحٍ، وَيَسَارٍ، وَنَافِعٍ).

رجال هذا الإسناد: ستّة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ النيسابوريّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم في السند الماضي.

3 -

(مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ) التيميّ، أبو محمد البصريّ، يلقّب بالطُّفيل، ثقةٌ من كبار [9](ت 187) وقد جاوز الثمانين (ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 105.

4 -

(الرُّكَيْنُ) بن الربيع بن عَمِيلة - بفتح العين - الفزاريّ، أبو الربيع الكوفيّ، ثقةٌ [4].

رَوَى عن أبيه، وابن عمر، وابن الزبير، وأبي الطُّفيل، وغيرهم.

وروى عنه حفيده الرَّبيع بن سهل بن الركين، وإسرائيل، وزائدة، وشعبة، والثوريّ، ومسعر، وجرير بن عبد الحميد،، ومعتمر بن سليمان، وعدة.

(1)

وفي نسخة: "أربعة أسماء: أفلح، ورباحًا، ويسارًا، ونافعًا".

ص: 304

قال أحمد، وابن معين، والنسائيّ: ثقةٌ، وقال أبو حاتم: صالحٌ، وقال يعقوب بن سفيان: كوفيّ ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: مات سنة (131)، وكذا أرّخه الهيثم، وابن قانع.

أخرج له البخاريّ في "الأدب المفرد"، والمصنّف، والأربعة، وليس له في هذا الكتاب إلا حديث الباب، كرّره مرّتين.

5 -

(أَبُوهُ) الرَّبِيع بن عَمِيلة - بمهملة، ولام مصغّرًا - الكوفيّ، ثقةٌ [2].

رَوَى عن ابن مسعود، وسمرة بن جندب، وعمار بن ياسر، وأبيه عميلة، وأخيه يُسير.

وروى عنه ابنه الرُّكين، وعُمارة بن عُمير، وهلال بن يساف، وعبد الملك بن عمير.

قال عثمان الدارميّ عن ابن معين: ثقةٌ، وقال ابن سعد: كان ثقةً، وله أحاديث، وقال العجليّ: كوفيّ تابعيّ ثقةٌ، وقال البخاريّ: كان في أهل الردّة زمن خالد بن الوليد، وذكره ابن حبان في "الثقات".

أخرج له المصنّف، والأربعةُ، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث، أعاده ثلاث مرّات.

[تنبيه]: قوله: "عميلة" ضَبَطه الحافظ في "التقريب" في ترجمة الربيع بالتصغير، وكذا ضبطه القاضي عياض في "المشارق"، وضبطه الحافظ في ترجمة الركين بفتح أوله، وكذا في ترجمة ابنه يُسير بن عميلة، وليُحرّر، والله تعالى أعلم.

6 -

(سَمُرَةُ بْنُ جُنْدَبِ) بن هلال الفزاريّ، حليف الأنصار الصحابيّ المشهور، مات رضي الله عنه بالبصرة سنة (58)(ع) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.

[تنبيه]: من لطائف هدا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وفيه رواية الابن عن أبيه، وتابعيّ عن تابعيّ.

شرح الحديث:

(عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: نَهَانَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ نُسَمِّيَ رَقِيقَنَا)؛ أي: عبيدنا، (بِأَرْبَعَةِ أَسْمَاءِ) بإضافة أربعة إلى أسماء، وهو منوّن

ص: 305

بالكسر؛ لأنه منصرف؛ لكونه بوزن أفعال، لا فعلاء، وليس مثل "أشياءَ"، فتنبّه.

وفي بعض النُّسخ: "أربعة أسماء: أفلح، ورباحًا، ويسارًا، ونافعًا"، (أَفْلَحَ) من الفلاح، وهو الفوز، (وَرَبَاحٍ) من الربح، وهو ضدّ الخسارة، (وَيَسَارٍ) من اليسر ضدّ العسر، (وَنَافِعٍ) من النفع، وسيأتي سبب النهي عن هذه التسمية في الحديث الثالث:"فإن تقول: أثَمّ هو؟، فلا يكون، فيقول: لا".

وقال الإمام ابن حبّان رحمه الله: يشبه أن تكون العلة في الزجر عن تسمية الغلمان بالأسامي الأربع التي ذُكرت في الخبر، هي أن القوم كان عهدهم بالشرك قريبًا، وكانوا يُسَمُّون الرقيق بهذه الأسامي، ويرون الربح من رباح، والنجح من نجاح، واليسر من يسار، وفلاحًا من أفلح، لا من الله تعالى جل وعلا، فمن أجل هذا نَهَى عما نَهَى عنه. انتهى

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: هذا نهي صحيح عن تسمية العبد بهذه الأسماء، لكنه على جهة التنزيه، بدليل قول جابر في الحديث الآتي: أراد النبيّ صلى الله عليه وسلم أن ينهى أن يُسمُّى بمقبل، وببركة، وبأفلح، وبيسار، وبنافع، ونحو ذلك، ثم سكت؛ يعني: أراد أن ينهى عن ذلك نهي تحريم، وإلا فقد صدر النهي عنه على ما تقدَّم، لكنه على وجه الكراهة التي معناها أن ترك المنهي عنه أَولى من فِعله؛ لأنَّ التَّسمية بتلك الأسماء تؤدي إلى أن يَسمع الإنسان ما يكرهه، كما نَصَّ عليه بقوله:"فإنك تقول: أثمَّ هو؟، فلا يكون؛ فتقول: لا"، وبالنظر إلى هذا المعنى، فلا تكون هذه الكراهة خاصة بالعبيد، بل: تتعدى إلى الأحرار، ولا مقصورة على هذه الأربعة الأسماء، بل: تتعدى إلى ما في معناها، وإلى هذا أشار جابر في حديثه بقوله:"وبنحو ذلك"، وحينئذ يقال: فما فائدة تخصيص الغلام بالذِّكر؟ وكيف يعدَّى إلى زيادة على الأربع، وقد قال في بقيَّة الحديث:"إنما هي أربع، فلا تزيدن عليّ"؟.

فالجواب عن الأوَّل من وجهين:

أحدهما: أنَّا لا نسلِّم أن المراد بالغلام العبد، بل: الصغير؛ فإنه يقال عليه: غلام إلى أن يبلغ، والأنثى: جارية، كما تقدَّم.

(1)

"صحيح ابن حبان" 13/ 150.

ص: 306

والثاني: أنَّا وإن سلَّمنا ذلك لكن إنما خَصَّص العبد بالذِّكر؛ لأن هذه الأسماء إنما كانت في غالب الأمر أسماء لعبيدهم، فخرج النهي على الغالب.

والجواب عن الثاني: أن قوله: "فلا تزيدن عليّ"، إنما هو من قول سمرة بن جندب رضي الله عنه، وإنما قال ذلك ليحقق أن الذي سمعه من النبيّ صلى الله عليه وسلم إنما هي الأربع، لا زيادة عليها؛ تحقيقًا لِمَا سمع، ونفيًا لأن يقول ما لم يقل.

ولئن سُلِّم أن ذلك من قول النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ فليس معناه المنع من القياس، بل عن أن يقول اسمًا لم يقله، فإنَّ الفرع ملحق بأصله في الحكم، لا في القول.

وبيانه: إنَّا وإن ألحقنا الزبيب بالتمر في تحريم الربا، فلا نقول: إن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: إن الربا في الزبيب حرام، فإنَّه قول كاذب، ولو كان ذلك صادقًا لكان الزبيب منطوقًا به، فحينئذ لا يكون فرعًا، بل أصلًا.

وقد اجترأت طائفة عراقية على إطلاق ذلك، ونعوذ بالله مما أُطلق هنالك.

وعلى ما قررناه فلا يكون بين حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه، ولا بين حديث جابر رضي الله عنه معارضة، فلا يكون بينهما نَسخ، خلافًا لمن زعمه، وقال: إن حديث جابر ناسخ لحديث سمرة، وما ذكرناه أوَلى، والله تعالى أعلم.

فإن قيل: بل المصير إلى النَّسخ أَولى؛ لأنَّ حديث سمرة - وإن حُمل على الكراهة - فحديث جابر يقتضي الإباحة المطلقة؛ لأنَّه لمّا سكت النبيّ صلى الله عليه وسلم عن النهي عن ذلك إلى حين موته، وكذلك عمر رضي الله عنه مع حصول ذلك في الوجود كثيرًا، فقد كان للنبيّ صلى الله عليه وسلم غلام اسمه رَبَاح، ومولى اسمه: يسار، وقد سَمَّى ابن عمر مولاه: نافعًا، ومثله كثير، فقد استمرّ العمل على حديث جابر، فإذًا هو متأخر، فيكون ناسخًا.

فالجواب: إن هذا التقدير يلزم منه أن لا يَصْدُق قول جابر رضي الله عنه: إن النبيّ صلى الله عليه وسلم أراد أن ينهى عن ذلك، فإنَّه قد وُجد النهي، ولا بدَّ، وهو صادق، فلا بدَّ من تأويل لفظه، وما ذكرناه أَولى.

وما ذُكر من تسمية موالي النبيّ صلى الله عليه وسلم وغيرهِ بتلك الأسماء فصحيح؛ لأنَّ ذلك جائز، وغايته أن فيه ترك الأوْلَى، فكم من أَولى قد سَوَّغت الشريعة تَرْكه،

ص: 307

وإن فات بفَوْته أجر كثير، وخير جزيل؛ عملًا بالمسامحة والتيسير، وتركًا للتشديد والتعسير. انتهى

(1)

.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [2/ 587 و 5588](2136)، و (أبو داود) في "الأدب"(4958)، و (الترمذيّ) في "الأدب"(2836)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(893)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 7 و 21)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5838)، و (الطحاويّ) في "مشكل الآثار"(2/ 303)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(6793)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(9/ 306)، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5588]

(

) - (وَحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الرُّكَيْنِ بْنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا تُسَمِّ غُلَامَكَ رَبَاحًا، وَلَا يَسَارًا، وَلَا أَفْلَحَ، وَلَا نَافِعًا").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) الثقفيّ البغلانيّ، تقدّم قريبًا.

والباقون ذُكروا في الباب الماضي، و"جَرِيرٌ" هو: ابن عبد الحميد، وشرح الحديث، ومسألتاه تقدّما في الحديث الماضي.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5589]

(2137) - (حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ يُونُسَ، حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، حَدَّثَنَا مَنْصُورٌ، عَنِ هِلَالِ بْنِ يَسَافٍ، عَنْ رَبِيعِ بْنِ عُمِيْلَةَ، عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَحَبُّ الْكَلَامِ إِلَى اللهِ أَرْبَعٌ: سُبْحَانَ الله، وَالْحَمْدُ لِلَّه، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَاللهُ أَكْبَرُ، لَا يَضُرُّكَ بَأَيِّهِنَّ بَدَأْتَ، وَلَا تُسَمِّيَنَّ غُلَامَكَ

(1)

"المفهم" 5/ 461 - 463.

ص: 308

يَسَارًا، وَلَا رَبَاحًا، وَلَا نَجيحًا، وَلَا أَفْلَحَ، فَإِنَّكَ تَقُولُ: أَثَمَّ هُوَ؟ فَلَا يَكُونُ، فَيَقُولُ: لَا"، إِنَّمَا هُنَّ أَرْبَعٌ

(1)

، فَلَا تَزِيدُنَّ عَلَيَ).

رجال هذا الإسناد: ستّةٌ:

1 -

(أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ يُونُسَ) التميميّ اليربوعيّ، أبو عبد الله الكوفيّ، ثقةٌ حافظ، من كبار [10](ت 227) وله (94) سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 53.

2 -

(زُهَيْرُ) بن معاوية الْجُعفيّ، تقدّم قريبًا.

3 -

(مَنْصُورُ) بن المعتمر، تقدّم في الباب الماضي.

4 -

(هِلَالُ بْنُ يِسَافٍ) بكسر التحتانيّة وفتحها، ثم مهملة، ويقال: ابن إساف الأشجعيّ مولاهم الكوفيّ، ثقةٌ [3](خت م 4) تقدم في "الطهارة" 9/ 576.

والباقيان ذُكرا قبله.

وقوله: ("أَحَبُّ الْكَلَامِ إِلَى اللهِ أَرْبَعٌ) إنما كانت أحبه إليه تعالى؛ لاشتمالها على تنزيهه، وإثبات الحمد له، والوحدانية، والأكبرية

(2)

.

وقيل: إنما كانت أحبّ إليه تعالى؛ لاشتمالها على جملة أنواع الذِّكر، من التنزيه، والتحميد، والتوحيد، والتمجيد.

وفي رواية لمسلم: "أحب الكلام إلى الله: سبحان الله وبحمده"، قال النوويّ رحمه الله: هذا محمول على كلام الآدميّ، وإلا فالقرآن أفضل، وكذا قراءة القران أفضل من التسبيح، والتهليل المطلق، فأما المأثور في وقت، أو حال، ونحو ذلك فالاشتغال به أفضل. انتهى.

ثم إن ظاهر الحديث يعارض حديث: "أفضل الذِّكر لا إله إلا الله"، وقد جمع القرطبيّ بما حاصله أن هذه الأذكار إذا أُطلق على بعضها أنه أفضل الكلام، أو أحبه إلى الله، فالمراد إذا انضمت إلى أخواتها، بدليل حديث سمرة رضي الله عنه: "أحب الكلام إلى الله أربع

" الحديث. ويَحْتَمِل أن يُكتفى في ذلك بالمعنى، فيكون من اقتصر على بعضها كفى؛ لأن حاصلها التعظيم، والتنزيه، ومن نزّهه فقد عظّمه، ومن عظمه فقد نزهه. انتهى.

(1)

وفي نسخة: "إنما هو أربع".

(2)

"سبل السلام" 4/ 217.

ص: 309

وقال الحافظ ويَحتمل أن يُجمع بأن تكون "مِنْ" مضمرةً في قوله: "أفضل الذكر لا إله إلا الله"، وفي قوله:"أحب الكلام إلى الله" بناءً على أن لفظ "أفضل"، و"أحب" متساويان في المعنى، لكن يظهر مع ذلك تفضيل لا إله إلا الله؛ لأنها ذُكرت بالتنصيص عليها بالأفضلية الصريحة، وذُكرت مع أخواتها بالأحبية، فحصل لها التفضيل تنصيصًا، وانضمامًا. انتهى

(1)

.

(سُبْحَانَ الله، وَالْحَمْدُ لِلَّه، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَاللهُ أَكْبَرُ، لَا يَضُرُّكَ بَأَيِّهِنَّ بَدَأْتَ)؛ أي: لأن المعنى المقصود لا يتوقّف على هذا النظم؛ لاستقلال كلّ واحدة من الجُمل، لكن قال بعضهم: ينبغي أن يُرَاعَى هذا النظم المتدرّج في المعارف، فيعرف الله أوّلًا بتنزيه ذاته عما يوجب نقصًا، ثم بالصفات الثبوتيّة التي يستحقّ بها الحمدَ، ثم يعلم أن مَنْ هذا شأنه لا يستحقّ الإلهيّة غيره، فينكشف من ذلك أنه تعالى أكبر، وأعظم. انتهى

(2)

.

وقال الصنعانيّ رحمه الله: قوله: "لا يضرّك

إلخ" يدلّ على أنه لا ترتيب بينها، ولكن تقديم التنزيه أَولى؛ لأنه من تقديم التخلية - بالخاء المعجمة - على التحلية - بالحاء المهملة - والتنزيه تخلية عن كل قبيح، وإثبات الحمد، والوحدانية، والأكبرية تحليةٌ بكل صفات الكمال، لكنه لمّا كان تعالى منزهة ذاته عن كل قبيح، لم تضرّ البداءة بالتحلية، وتقديمها على التخلية.

والأحاديث في فضل هذه الكلمات مجموعةً ومتفرقةً بَحْرٌ لا تُنزفه الدلاء، ولا ينقصه الإملاء، وكفى بما في الحديث من أنها الباقيات الصالحات، وأنها أحب الكلام إلى الله تعالى

(3)

، والله تعالى أعلم.

وقوله: (وَلَا تُسَمِّيَنَّ غُلَامَكَ يَسَارًا، وَلَا رَبَاحًا

إلخ) قال النوويّ رحمه الله: قال أصحابنا: يُكره التسمّي بالأسماء المذكورة في الحديث، وما في معناها، وهي كراهة تنزيه، لا تحريم، والعلّة فيها ما نبّه عليه صلى الله عليه وسلم بقوله:"أثمّ هو؟ فيقول: لا"، فكُره لبشاعة الجواب. انتهى

(4)

.

(1)

"تحفة الأحوذيّ" 10/ 38.

(2)

منقولًا من هامش النسخة التركيّة 6/ 172، وعزاه إلى "مبارق".

(3)

"سبل السلام" 4/ 217.

(4)

"شرح النوويّ" 14/ 119.

ص: 310

وقال في "شرح السُّنَّة": معنى هذا أن الناس يقصدون بهذه الأسماء التفاؤل لحسن ألفاظها، ومعانيها، وربّما ينقلب عليهم ما قصدوه إلى الضدّ إذا سألوا، فقالوا: أثَمّ يسار، أو نجيح؟ فيقال: لا، فيتطيّرون بنفيه، وأضمروا اليأس من اليسر وغيره، فنهاهم عن السبب الذي يجلب سوء الظنّ والإياس من الخير. قال حميد بن زنجويه: فإذا ابتلي رجلٌ في نفسه، أو أهله ببعض هذه الأسماء فليُحوّله إلى غيره، فإن لم يفعل، وقيل: أثَمّ يسار، أو بركة؟ فإن من الأدب أن يقال: كلّ ما هنا يسر، وبركة، والحمد لله، ويوشك أن يأتي الذي تريده، ولا يقال: ليس هنا، ولا خرج، الله أعلم. انتهى

(1)

.

(فَإِنَّكَ تَقُولُ) هذا بيان لسبب النهي عن تسمية الغلام بما ذُكر؛ لأنك يقول: (أَثَمَّ) بهمزة الاستفهام، و"ثَمّ" بالثاء المثلّثة المفتوحة، وتشديد الميم اسم إشارة للمكان البعيد؛ أي: أفي ذلك المكان (هُوَ؟)؛ أي: يسار، وما عُطف عليه، (فَلَا يَكُونُ)؛ أي: فلا يوجد في ذلك المكان، (فَيَقُولُ) المسؤول (لَا")؛ أي: ليس موجودًا هناك، فيُستبشع الجواب، بل ربما وقع في قلب بعضهم التشاؤم من ذلك.

وقوله: (إِنَّمَا هُنَّ أَرْبَعٌ) وفي بعض النسخ: "إنما هو أربع".

وقوله: (فَلَا تَزِيدُنَّ عَلَيَّ) بضم الدال؛ أي: الذي سمعته، ورويته لكم أربع كلمات، فلا تزيدوا عليّ في الرواية

(2)

.

وقال النوويّ رحمه الله: وأما قوله: "فلا تزيدُنّ عليّ" هو بضم الدال، ومعناه: الذي سمعته أربع كلمات، وكذا رويتهن لكم، فلا تزيدوا عليّ في الرواية، ولا تنقلوا عني غير الأربع، وليس فيه منع القياس على الأربع، وأن يُلحق بها ما في معناها.

قال الجامع عفا الله عنه: ومما يؤيّد جواز الإلحاق قوله صلى الله عليه وسلم الآتي في حديث جابر رضي الله عنه بعد أن ذكر خمسة ألفاظ قال: "وبنحو ذلك"، فدلّ على أن ما لم يُذكر إذا كان في معنى المذكور فهو في حكم المذكور، والله تعالى أعلم.

(1)

"الكاشف عن حقائق السنن" 10/ 3084.

(2)

"الديباج على مسلم" 5/ 170.

ص: 311

قال: قال أصحابنا: يُكره التسمية بهذه الأسماء المذكورة في الحديث، وما في معناها، ولا تختصّ الكراهة بها وحدها، وهي كراهة تنزيه، لا تحريم، والعلة في الكراهة ما بيَّنه صلى الله عليه وسلم في قوله:"فإنك تقول: أَثَمّ هو؟ فيقول: لا"، فكُرِه لبشاعة الجواب، وربما أوقع بعض الناس في شيء من الطِّيَرة. انتهى

(1)

.

والحديث من أفراد المصنّف، وقد تقدّم تمام البحث فيه، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5590]

(

) - (وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنِي جَرِيرٌ (ح) وَحَدَّثَنِي أُمَيَّةُ بْنُ بِسْطَام، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْع، حَدَّثَنَا رَوْحٌ - وَهْوَ ابْنُ الْقَاسِمِ - (ح) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنَ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ، قَالَا: حَدَّثنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، كُلُّهُمْ عَنْ مَنْصُورٍ، بِإِسْنَادِ زُهَيْرٍ، فَأَمَّا حَدِيثُ جَرِيرٍ، وَرَوْح، فَكَمِثْلِ حَدِيثِ زُهَيْرٍ بِقِصَّتِه، وَأمَّا حَدِيثُ شُعْبَةَ، فَلَيْسَ فِيهِ إِلَّا ذِكْرُ تَسْمِيَةِ الْغُلَام، وَلَمْ يَذْكُرِ الْكَلَامَ الأَرْبَعَ).

رجال هذه الأسانيد: عشرة:

وكلّهم ذُكروا في الباب، والباب الماضي، و"جرير" هو: ابن عبد الحميد.

وقوله: (كُلُّهُمْ عَنْ مَنْصُورٍ)؛ أي: كلّ هؤلاء الثلاثة: جرير بن عبد الحميد، وروح بن القاسم، وشعبة بن الحجّاج رووا هذا الحديث بإسناد زهير بن معاوية الذي ذُكر قبل هذا، وهو عن منصور بن المعتمر، عن هلال بن يساف، عن ربيع بن عميلة، عن سمرة بن جندب رضي الله عنه.

[تنبيه]: رواية جرير بن عبد الحميد عن منصور ساقها النسائيّ رحمه الله في "سننه"، فقال:

(10682)

- أخبرني محمد بن قُدامة، عن جرير، عن منصور، عن هلال، عن رَبيع، عن سمرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أحب الكلام إلى الله

(1)

"شرح النوويّ" 14/ 119.

ص: 312

أربع: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا يضرّك بأيهنّ بدأت". انتهى

(1)

.

ورواية شعبة، عن منصور ساقها الإمام أحمد رحمه الله في: مسنده"، فقال:

(20090)

- حدّثنا محمد بن جعفر، ثنا شعبة، عن منصور، عن هلال بن يساف، عن رَبيع بن عُمِّيلة، عن سمرة بن جندب، أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"لا تُسّمِّ غلامك أفلح، ولا نَجيحًا، ولا يَسارًا، ولا رَباحًا، فإنك إذا قلت: أَثَمَّ هو؟ أو أَثَمّ فلان؟ قالوا: لا". انتهى

(2)

.

وأما رواية رَوْح بن القاسم عن منصور فلم أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5591]

(2138) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي خَلَفٍ، حَدَّثنا رَوْحٌ، حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي أبُو الزُّبَيْر، أَنَّهُ سَمِعَ جَابرَ بْنَ عَبْدِ الله، يَقُولُ: أَرَادَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أنْ يَنْهَى عَنْ أَنْ يُسَمَّى بِيَعْلَى، وَبِبَرَكَةَ، وَبِأَفْلَحَ، وَبِيَسَارٍ، وَبِنَافِعٍ، وَبِنَحْوِ ذَلِكَ، ثُمَّ رَأَيْتُهُ سَكَتَ بَعْدُ عَنْهَا، فَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا، ثُمَّ قُبِضَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَمْ يَنْهَ عَنْ ذَلِكَ، ثُمَّ أَرَادَ عُمَرُ أَنْ يَنْهَى عَنْ ذَلِكَ، ثُمَّ تَرَكَهُ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي خَلَفٍ) السلميّ، أبو عبد الله القَطِيعيّ البغداديّ، ثقةٌ [10](ت 237)(م د) تقدم في "الإيمان" 92/ 502.

2 -

(رَوْحُ) بن عُبادة بن العلاء بن حسّان القيسيّ، أبو محمد البصريّ، ثقةٌ فاضلٌ له تصانيف [9](ت 5 أو 207)(ع) تقدم في "الإيمان" 90/ 476.

3 -

(ابْنُ جُرَيْجٍ) عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

4 -

(أَبُو الزُّبَيْرِ) محمد بن مسلم بن تَدْرُس المكيّ، تقدّم أيضًا قبل ثلاثة أبواب.

(1)

"السنن الكبرى" للنسائيّ 6/ 212.

(2)

"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 5/ 7.

ص: 313

5 -

(جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) رضي الله عنهما تقدّم في الباب الماضي.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسلٌ بالتحديث، والإخبار، والسماع، وقد صرّح أبو الزبير بالسماع، فزالت عنه تهمة التدليس، وفيه جابر رضي الله عنه أحد المكثرين السبعة.

شرح الحديث:

عن أبي الزبير محمد بن مسلم (أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ) رضي الله عنهما (يَقُولُ: أَرَادَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَنْهَى) قال الطيبيّ رحمه الله: كأنه لَمّا رأى أمارات، وسمع ما يُشعر بالنهي، ولم يقف على النهي صريحًا قال ذلك، وقد نهى عنه النبيّ صلى الله عليه وسلم في الحديث السابق لسمرة رضي الله عنه، وشهادة الأثبات أثبت. انتهى

(1)

.

(عَنْ أَنْ يُسَمَّى) بالبناء للمفعول، (بِيَعْلَى) قال النوويّ رحمه الله: هكذا وقع هذا اللفظ في معظم نُسخ "صحيح مسلم" التي ببلادنا: "أن يُسَمَّى بيعلى"، وفي بعضها:"بِمُقْبِل" بدل "يعلى"، وفي "الجمع بين الصحيحين" للحميديّ:"بيعلى"، وذكر القاضي عياض أنه في أكثر النُّسخ:"بمقبل"، وفي بعضها:"بيعلى"، قال: والأشبه أنه تصحيف، قال: والمعروف: "بمقبل".

قال النوويّ: وهذا الذي أنكره القاضي ليس بمنكَر، بل هو المشهور، وهو صحيح في الرواية، وفي المعنى، ورَوَى أبو داود في "سننه" هذا الحديث عن أبي سفيان، عن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن عشت إن شاء الله أنهى أمتي أن يسموا نافعًا، وأفلح، وبركة"، والله أعلم. انتهى

(2)

.

ووقع في نسخة شرح القرطبيّ بلفظ: "أراد النبيّ صلى الله عليه وسلم أن ينهى أن يُسمَّى بمقبل"، فقال القرطبيّ: هكذا صحيح الرواية، وهو في بعض النسخ:"بيعلى"، وكأنه تصحيفٌ، والأوَّل أَولى رواية ومعنى. انتهى

(3)

.

قال الجامع عفا الله عنه: دعوى التصحيف غير صحيحة، فقد وقع عند

(1)

"الكاشف عن حقائق السنن" 10/ 3085.

(2)

"شرح النوويّ" 14/ 118.

(3)

"المفهم" 5/ 463.

ص: 314

غير مسلم بلفظ "بيعلى"، راجع:"الأدب المفرد" للبخاريّ (1/ 290)، و"السنن الكبرى" للبيهقيّ (9/ 306) فهو صحيح رواية، وكذا معنًى، فتأمله بالإمعان، والله تعالى وفي التوفيق.

(وَبِبَرَكَةَ، وَبِأَفْلَحَ، وَبِيَسَارٍ، وَبِنَافِعٍ) قال الطيبيّ رحمه الله: أراد أن ينهى نهي تحريم، ثم سكت بعد ذلك رحمةً على الأمة؛ لعموم البلوى، وإيقاع الحرج، قال: فما رُوي أنه نَهَى فمحمول على الإرادة، أو لم يُرد به النهي التحريميّ. انتهى

(1)

.

وقال النوويّ رحمه الله: أراد النبيّ صلى الله عليه وسلم أن ينهى عن هذه الأسماء نَهْيَ تحريم، فلم يَنْهَ، وأما النهي الذي هو لكراهة التنزيه فقد نَهَى عنه في الأحاديث الباقية. انتهى.

وقوله: (وَبِنَحْوِ ذَلِكَ)؛ أي: مما هو في معنى هذه الأسماء؛ كنجاح، ونجيح، وسالم، وغانم، وهذا يؤيّد ما سبق من قول سمرة رضي الله عنه:"فلا تزيدنّ عليّ"؛ أي: في النقل عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، لا في الزيادة من حيث المعنى، فنسبة ما زاد على الأربعة المذكورة في حديثه كذبٌ عليه، وأما زيادة النهي في غيرها مما هو في معناها، فلا يُمنع، خلافًا لابن حزم من نُفاة القياس، لقوله هنا:"وبنحو ذلك"، ومما يردّ على ابن حزم صريحًا هذا الحديث، حيث إنه صلى الله عليه وسلم أدخل بنحو ذلك كلّ ما كان في معنى الأربعة المذكورة في حديث سمرة رضي الله عنه، والخمسة المذكورة في حديث جابر رضي الله عنه هذا، فتبصّر بالإنصاف، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

(ثُمَّ رَأَيْتُهُ) صلى الله عليه وسلم (سَكَتَ بَعْدُ) بالبناء على الضمّ؛ لقطعها عن الإضافة، ونيّة معناها، ولو نُصب، فقيل: بعدًا، أو جرّ بالكسرة، مضافًا إلى مقدّر؛ أي: بعد هذا القول لجاز، كما أشار إلى ذلك في "الخلاصة":

وَاضْمُمْ بِنَاءً غَيْرًا انْ عَدِمْتَ مَا

لَهُ أُضِيفَ نَاوِيًا مَا عُدِمَا

قَبْلُ كَغَيْرُ بَعْدُ حَسْبُ أَوَّلُ

وَدُونُ وَالْجِهَاتُ أَيْضًا وَعَلُ

وَأَعْرَبُوا نَصْبًا إِذَا مَا ذُكِّرَا

قَبْلًا وَمَا مِنْ بَعْدِهِ قَدْ ذُكِرَا

(1)

"شرح سنن ابن ماجه" 1/ 265.

ص: 315

(عَنْهَا) متعلّق بـ "سَكَتَ"؛ أي: عن التسمية بهذه الأسماء، (فَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا)؛ أي: من النهي الصريح، وهذا محمول على أن جابرًا لم يسمع النهي الصريح في حديث سمرة رضي الله عنه، أو على أنه أراد نهي التحريم، والله تعالى أعلم.

وقال المباركفوريّ رحمه الله: [فإن قلت]: حديث جابر رضي الله عنه هذا يدل على أنه صلى الله عليه وسلم أراد أن ينهى عن التسمية بهذه الأسماء، ولم ينه عنه وحديث سمرة الماضي يدلّ على أنه صلى الله عليه وسلم قد نهى عن ذلك، فما وجه الجمع بينهما؟.

[قلت]: وجه الجمع أنه صلى الله عليه وسلم أراد أن ينهى نهي تحريم، ثم سكت بعد ذلك رحمةً على الأمة؛ لعموم البلوى، وإيقاع الحرج، لا سيما وأكثر الناس ما يفرّقون بين الأسماء، من القبح، والحسن، فالنهي المنفيّ محمول على التحريم، والمثبَت على التنزيه. انتهى

(1)

.

(ثُمَّ قُبِضَ) بالبناء للمفعول؛ أي: مات (رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَمْ يَنْهَ عَنْ ذَلِكَ، ثُمَّ أَرَادَ عُمَرُ) بن الخطّاب رضي الله عنه (أَنْ يَنْهَى عَنْ ذَلِكَ) اقتداءً به صلى الله عليه وسلم، (ثُمَّ تَرَكَهُ) اقتداءً به أيضًا، والله تعالى أعلم.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [2/ 5591](2138)، و (أبو داود) في "الأدب"(4960)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 336 و 388)، و (البخاريّ) في "الأدب المفرد"(833 و 834)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(5/ 262)، و (عبد بن حُميد) في "مسنده"(1/ 313)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(4/ 172)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(9/ 306)، والله تعالى أعلم.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(1)

"تحفة الأحوذيّ" 8/ 101.

ص: 316

(3) - (بَابُ اسْتِحْبَابِ تَغْيِيرِ الاسْمِ الْقَبِيحِ إِلَى حَسَنٍ، وَتَغْيِيرِ اسْمِ بَرَّةَ إِلَى زَيْنَبَ، وَجُويرِيَةَ وَنَحْوِهِمَا)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5592]

(2139) - (حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَعُبَيْدُ اللهِ بْنُ سَعِيدٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالُوا: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ عُبَيْدِ الله، أَخْبَرَنِي نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم غَيَّرَ اسْمَ عَاصِيَةَ، وَقَالَ: "أَنْتِ جَمِيلَةُ"، قَالَ أَحْمَدُ مَكَانَ أَخْبَرَنِي: عَنْ).

رجال هذا الإسناد: تسعة:

1 -

(أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ) هو: أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد الشيبانيّ المروزيّ، نزيل بغداد، أبو عبد الله، أحد الأئمة، ثقةٌ حافظٌ فقيهٌ حجةٌ، وهو رأس الطبقة [10](ت 241) وله (77) سنة (ع) تقدم في "الإيمان" 80/ 427.

2 -

(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ سَعِيدِ) بن يحيى اليشكريّ، أبو قُدامة السرخسيّ، نزيل نيسابور، ثقةٌ ثبتٌ سنّيّ [10](ت 241)(خ م س) تقدم في "المقدمة" 6/ 39.

3 -

(يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ) القطّان، تقدّم قريبًا.

والباقون ذُكروا في البابين الماضيين.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه خمسة من الشيوخ قَرَن بينهم، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه ابن عمر رضي الله عنهما أحد العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة.

شرح الحديث:

(عَنِ ابْنِ عُمَرَ) رضي الله عنهما (أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم غَيَّرَ اسْمَ عَاصِيَةَ) وهي بنت عمر بن الخطّاب رضي الله عنه، ففي الرواية التالية:"أن ابنة لعمر كانت يقال لها: عاصية، فسمّاها رسول الله صلى الله عليه وسلم جميلة".

قيل: كانوا يُسَمُّون بالعاصي، والعاصيةِ ذهابًا إلى معنى الإباء عن قبول

ص: 317

النقائص، والرضا بالضيم - يعني: العيب والنقص - فلما جاء الإسلام نُهوا عنه، ولعله لم يسمِّها مطيعةً مع أنها ضدّ العاصية مخافة التزكية.

وقال في "النهاية": إنما غيّره؛ لأن شعار المؤمن الطاعة، والعصيان ضدّها. انتهى

(1)

.

وقال النوويّ رحمه الله: معنى هذه الأحاديث تغيير الاسم القبيح، أو المكروه إلى حسن، وقد ثبت أحاديث بتغييره صلى الله عليه وسلم أسماء جماعة كثيرين من الصحابة، وقد بَيَّنَ صلى الله عليه وسلم العلة في النوعين، وما في معناهما، وهي التزكية، أو خوف التطيّر. انتهى

(2)

.

(وَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("أَنْتِ جَمِيلَةُ")؛ أي: اسمك اللائق بك جميلة بدل عاصية.

وقوله: (قَالَ أَحْمَدُ)؛ يعني: ابن حنبل شيخه الثاني في روايته، (مَكَانَ) لفظ (أَخْبَرَنِي: عَنْ) فـ "مكان" منصوب على الظرفيّة، متعلّق بـ "قال"، و"عن" مقول "القول".

وقال القرطبيّ رحمه الله: تبديل النبيّ صلى الله عليه وسلم اسم عاصيةَ بجميلةَ، والعاصي بن الأسود بمطيع، ونحو ذلك سُنَّة ينبغي أن يُقتدى به فيها؛ فإنَّه كان يَكره قبيح الأسماء، ولا يتطيَّر به، ويحبُّ حَسَن الأسماء، ويتفاءل به، وفي كتاب أبي داود عن بُريدة رضي الله عنه: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان لا يتطيَّر من شيء، وكان إذا بَعَث عاملًا سأل عن اسمه، فإذا أعجبه اسمه فَرِحَ به، ورُئي بِشْرُ ذلك في وجهه، وإن كَرِه اسمه رُئي كراهة ذلك في وجهه

(3)

.

وفي الترمذيّ عن أنس رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج لحاجته يعجبه أن يسمع: يا راشد، يا نجيح

(4)

.

وقال ابن حبّان رحمه الله في "صحيحه" بعد إخراجه الحديث: استعمال المصطفى صلى الله عليه وسلم هذا الفعل لم يكن تطيّرًا بعاصية، ولكن تفاؤلًا بجميلة، وكذلك ما يُشبه هذا الجنس من الأسماء؛ صلى الله عليه وسلم نَهَى عن الطِّيَرة في غير خبر. انتهى

(5)

، والله تعالى أعلم.

(1)

"عون المعبود" 13/ 201.

(2)

"شرح النوويّ" 14/ 120 - 121.

(3)

حديث صحيح، أخرجه أحمد 1/ 257 و 304 و 319، وأبو داود (3920).

(4)

حديث صحيح، رواه الترمذيّ (1616).

(5)

"صحيح ابن حبان" 13/ 136.

ص: 318

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [3/ 5592 و 5593](2139)، و (أبو داود) في "الأدب"(4952)، و (الترمذيّ) في "الأدب"(2840)، و (ابن ماجه) في "الأدب"(3733)، و (البخاريّ) في "الأدب المفرد"(820)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(8/ 663)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 18)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 292 - 293)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5819 و 5820)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): قال النوويّ رحمه الله في "تهذيب الأسماء واللغات": ويستحب تغيير الاسم القبيح إلى حسن، ففي "الصحيحين" عن أبي هريرة رضي الله عنه أن زينب كان اسمها بَرّة، فقيل: تزكي نفسها، فسمّاها رسول الله صلى الله عليه وسلم: زينب، وفي "صحيح مسلم" عن زينب بنت أبي سلمة رضي الله عنها قالت: سُمّيتُ بَرّة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سَمُّوها زينب، قالت: ودخلت عليه زينب بنت جحش، واسمها بَرّة، فسمّاها رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب، وفي "صحيح مسلم" عن ابن عمر رضي الله عنهما أن ابنة لعمر كان اسمها عاصية، فسمّاها رسول الله صلى الله عليه وسلم جميلة.

قال: ويحرم تلقيب الإنسان بما يَكرهه، سواء كان صفةً له؛ كالأعمش، والأجلح، والأعمى، والأصمّ، والأقرع، والأعرج، والأبرص، والأحول، والأثبج، والأصفر، والأحدب، والأزرق، والأفطس، والأشتر، والأثرم، والأقطع، والزَّمِن، والْمُقْعَد، والأشلّ، وسواء كان صفة لأبيه، أو أمه، أو غير ذلك، مما يكرهه.

قال: واتفقت العلماء على جواز ذِكره بذلك على سبيل التعريف لمن لا يعرفه إلا بذلك، كهؤلاء المذكورين في المثال، فإنهم أئمة، وعلماء مشهورون بهذه الألقاب، في كتب الحديث، وغيرها، ولا يعرفهم أكثر الناس إلا بالألقاب.

قال: واتفقوا على جواز تلقيبه باللقب الحَسَن، وما لا يكرهه؛ كعتيق، لقب أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وأبي تراب لقب عليّ بن أبي طالب، وذي اليدين

ص: 319

لقب الْخِرْباق بن عمرو، وسُرَّق لقب الحباب بن أسد الجهنيّ، فهؤلاء صحابيون رضي الله عنهم لقّبهم النبيّ صلى الله عليه وسلم بهذه الألقاب، وكانوا يحبونها.

قال: وتجوز الكنية لكل مسلم، ويستحب لنا أن نكني أهل الفضل من العلماء، وغيرهم، ويستحب أن يكنى بأكبر أولاده، وفي حديث في "سنن أبي داود" وغيره: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم سأل رجلًا عن أكبر أولاده، فكناه به، ويجوز تكنيته بغير أولاده، ويجوز تكنية من لا ولد له، ويجوز تكنية من لم يولد له، وتكنية الطفل، كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"يا أبا عُمير ما فعل النُّغَير؟ "، ويجوز تكنية الرجل بأبي فلانة، والمرأة بأم فلان، وأم فلانة، ويكنى الكافر الذي اشتهر بكنيته؛ كأبي لهب، وأبي طالب، وأبي رِغَال وغيرهم. انتهى كلام النوويّ رحمه الله

(1)

، وهو بحث مفيدٌ، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5593]

(

) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ عُبَيْدِ الله، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ ابْنَةً لِعُمَرَ كَانَتْ يُقَالُ لَهَا: عَاصِيَةُ، فَسَمَّاهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم جَمِيلَةَ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(الْحَسَنُ بْنُ مُوسَى) الأشيب، أبو عليّ البغداديّ، قاضي الموصل وغيرها، ثقةٌ [9](ت 9 أو 210)(ع) تقدم في "الإيمان" 55/ 321.

2 -

(حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ) بن دينار، أبو سلمة البصريّ، ثقةٌ عابدٌ، تغير بآخره، من كبار [8](ت 167)(خت م 4) تقدم في "المقدمة" 6/ 80.

والباقون ذُكروا قبله، وفي الباب الماضي، والحديث من أفراد المصنّف، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5594]

(2140) - (حَدَّثَنَا عَمْرٌو النَّاقِدُ، وَابْنُ أَبِي عُمَرَ - وَاللَّفْظُ لِعَمْرٍو - قَالَا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ مَوْلَى آلِ طَلْحَةَ، عَنْ

(1)

"تهذيب الأسماء واللغات" 1/ 41.

ص: 320

كُرَيْبٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانَتْ جُوَيْرِيَةُ اسْمُهَا بَرَّةَ، فَحَوَّلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم اسْمَهَا جُويرِيَةَ، وَكَانَ يَكْرَهُ أَنْ يُقَالَ: خَرَجَ مِنْ عِنْدِ بَرَّةَ، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ أَبِي عُمَرَ، عَنْ كُرَيْبٍ: قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ مَوْلَى آلِ طَلْحَةَ) القرشيّ مولاهم الكوفيّ، ثقةٌ [6](بخ م 4) تقدم في "الطلاق" 1/ 3659.

2 -

(كُرَيْبُ) بن أبي مسلم مولى ابن عبّاس، أبو رشدين المدنيّ، ثقةٌ [3](ت 98)(ع) تقدم في "الحيض" 2/ 688.

3 -

(ابْنُ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما تقدّم قريبًا.

والباقون ذُكروا في البابين الماضيين.

شرح الحديث:

(عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما، وفي رواية ابن أبي عمر:"قال: سمعت ابن عبّاس"، (قَالَ: كَانَتْ جُوَيْرِيَةُ) بنت الحارث بن أبي ضِرَار الْخُزاعيّة، من بني الْمُصْطَلِق، أم المؤمنين، سباها النبيّ صلى الله عليه وسلم في غزوة الْمُرَيسع، ثمّ تزوّجها، وماتت سنة خمسين على الصحيح، وتقدّمت ترجمتها في "الزكاة" 50/ 2483. (اسْمُهَا بَرَّةَ) بفتح الموحّدة، وتشديد الراء، آخره تاء مربوطة، (فَحَوَّلَ)؛ أي: غيّر (رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم اسْمَهَا جُوَيْرِيَةَ) بضمّ أوله، تصغير جارية، وهي الشابّة من الإماء، مأخوذة من الجارية التي هي السفينة، سُمّيت بذلك لجريها في البحر، فسمّيت الأمة بها؛ لجريها مسخّرةً في أشغال مواليها

(1)

.

[تنبيه]: إنما غيّر النبيّ صلى الله عليه وسلم اسم برّة؛ لأن فيه تزكية، قال القرطبيّ رحمه الله: إنما كان هذا الاسم يدلّ على التزكية؛ لأنَّه في أصله اسم عَلَمٌ لجميع خصال البِرّ، كما أن:"فَجَارِ" اسم عَلَمٌ للفجور، ولذلك قال النابغة الذبيانيّ [من الكامل]:

إنَّا اقتَسَمْنَا خُطَّتَيْنَا بَيْنَنَا

فَحَمَلْتُ بَرَّةَ وَاحْتَمَلْتَ فَجَارِ

(2)

(1)

راجع: "المصباح المنير" 1/ 98.

(2)

"المفهم" 5/ 466.

ص: 321

قال الجامع عفا الله عنه: "برّةُ"، و"فَجَارِ" علمان من أعلام الأجناس، فبرّة بمعنى البرّ، وفَجَار بمعنى الفجور، وعَلَم الجنس كعلم الشخص في اللفظ، وكالنكرة في المعنى، وقد ذَكر ابن مالك هذا في "الخلاصة" بقوله:

وَوَضَعُوا لِبَعْضِ الأجْنَاسِ عَلَمْ

كَعَلَمِ الأَشْخَاصِ لَفْظًا وَهْوَ عَمّْ

مِنْ ذَاكَ أُمُّ عِرْيَطٍ لِلْعَقْرَبِ

وَهَكَذَا ثُعَالَةٌ لِلثَّعْلَبِ

وَمِثْلُهُ بَرَّةُ لِلْمَبَرَّهْ

كَذَا فَجَارِ عَلَمٌ لِلْفَجَرَهْ

(وَكَانَ) صلى الله عليه وسلم (يَكْرَهُ) بفتح أوله، وثالثه، من باب تَعِبَ كُرْهًا بضمّ الكاف، وفتحها: ضدّ أحبّ، (أَنْ يُقَالَ: خَرَجَ مِنْ عِنْدِ بَرَّةَ) قال القرطبيّ رحمه الله: وأما تغييره صلى الله عليه وسلم بَرَّة فلوجهين:

أحدهما: أنه كان يَكره أن يقال: خرج من عند برَّة؛ إذ كانت المسمَّاة بهذا الاسم زوجته، وهي التي سمَّاها جويرية.

والثاني: لِمَا فيه من تزكية الإنسان نفسه، فهو مخالف لقوله تعالى:{فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم: 32]، ويجري هذا المجرى في المنع، ما قد كثر في هذه الدِّيار من نعتهم أنفسهم بالنعوت التي تقتضي التزكية؛ كزكيّ الدِّين، ومحيي الدِّين، وما أشبه ذلك من الأسماء الجارية في هذه الأزمان التي يُقْصَد بها المدح، والتزكية، لكن لمّا كثُرت قبائح المسمَّين بهذه الأسماء في هذا الزمان ظهر تخلف هذه النعوت عن أصلها، فصارت لا تفيد شيئًا من أصل موضوعاتها، بل ربما يسبق منها في بعض المواضع، أو في بعض الأشخاص نقيض موضوعها، فيصير الحال فيها كالحال في تسمية العرب: المهلكة بالمفازة، والحقير بالجليل، تجمُّلًا بإطلاق الاسم مع القطع باستقباح المسمَّى.

ومن الأسماء ما غيَّره النبيّ صلى الله عليه وسلم مع حُسن معناه وصِدقه على مسمَّاه، لكن مَنَع منه الشرع حمايةً واحترامًا لأسماء الله تعالى وصِفاته عز وجل عن أن يتسمَّى أحد بها، ففي كتاب أبي داود عن هانئ بن يزيد: أنه لمّا وَفَد على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة مع قومه سمعهم يَكنُونه بأبي الْحَكَم، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:"إن الله عز وجل هو الْحَكَم، وإليه الْحُكْم، فلمَ تكنَّى أبا الحكم؟ "، قال: إن قومي إذا اختلفوا في شيء أتوني، فحكمت بينهم، فرضي كلا الفريقين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ما أحسن هذا"، قال:"ما لك من الولد؟ "، قال: لي شُريح،

ص: 322

ومسلم، وعبد الله، قال:"فمن أكبرهم؟ " قلت: شُريح، قال:"فأنت أبو شريح"

(1)

.

وقد غيَّر اسم حكيم، وعزيز؛ لِمَا فيهما من التشبيه بأسماء الله تعالى. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(2)

، وهو بحث مفيدٌ، والله تعالى أعلم.

وقوله: (وَفِي حَدِيثِ ابْنِ أَبِي عُمَرَ، عَنْ كُرَيْبٍ: قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ) بيّن فيه تصريح كريب بسماعه من ابن عبّاس رضي الله عنهما، والله تعالى أعلم.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

[تنبيه]: حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما هذا أخرجه ابن خزيمة في "صحيحه" مطوّلًا، فقال:

(753)

- أنا أبو طاهر، نا أبو بكر، نا يحيى بن حكيم، نا سفيان بن عيينة (ح) وحدّثنا عبد الجبار بن العلاء، نا سفيان، عن محمد بن عبد الرحمن، وهو مولى آل طلحة، عن كريب، عن ابن عباس قال: قالت جويرية بنت الحارث - وكان اسمها بَرَّة، فحوّل النبيّ صلى الله عليه وسلم اسمها، وسمّاها جُويرية، وكَرِه أن يقال: خرج من عند بَرّة - قالت: خرج النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأنا في مصلاي، فرجع حين تعالى النهار، وأنا فيه، فقال:"لم تزالي في مصلاك منذ خرجتُ؟ " قلت: نعم، قال:"قد قلت أربع كلمات، ثلاث مرّات، لو وُزِنَّ بما قلتِ لوزنتهنّ: سبحان الله، وبحمده، عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته"، هذا حديث يحيى بن حكيم، وقال عبد الجبار، عن ابن عباس: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم حين خرج إلى صلاة الصبح، وجويرية جالسة في المسجد، فذكر الحديث، ولم يذكر ما قبل هذا من الكلام. انتهى

(3)

.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [3/ 5594](2140)، و (البخاريّ) في "الأدب

(1)

حديث صحيح، رواه أبو داود في "سننه"(4955).

(2)

"المفهم" 5/ 465 - 466.

(3)

"صحيح ابن خزيمة" 1/ 370.

ص: 323

المفرد" (647)، و (أبو داود) في "الأدب" (1503)، و (النسائيّ) في "عمل اليوم والليلة" (161 و 163)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه" (1/ 370)، و (الحميديّ) في "مسنده" (1/ 232)، و (أحمد) في "مسنده" (1/ 258)، و (البيهقيّ) في "شُعَب الإيمان" (1/ 424)، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5595]

(2141) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَمُحَمَّدُ بْنُ بَشَارٍ، قَالُوا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي مَيْمُونَةَ، سَمِعْتُ أَبَا رَافِعٍ يُحَدِّثُ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (ح) وَحَدَّثنا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي مَيْمُونَةَ، عَنْ أَبِي رَافِعٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ زَيْنَبَ كَانَ

(1)

اسْمُهَا بَرَّةَ، فَقِيلَ: تُزَكِّي نَفْسَهَا، فَسَمَّاهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم زَيْنَبَ، وَلَفْظُ الْحَدِيثِ لِهَؤُلَاءِ دُونَ ابْنِ بَشَّارٍ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ).

رجال هذه الأسانيد: عشرة:

1 -

(عَطَاءُ بْنُ أَبِي مَيْمُونَةَ) اسم أبيه مَنِيع، أبو معاذ البصريّ، ثقةٌ رُمي بالقدر [4](ت 131)(خ م د س ق) تقدم في "الطهارة" 21/ 625.

2 -

(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ) العَنبريّ البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 237)(خ م د س) تقدم في "المقدمة" 3/ 7.

3 -

(أَبُوهُ) معاذ بن معاذ بن نصر بن حسّان الْعَنبريّ، أبو المثنّى البصريّ القاضي، ثقةٌ متقنٌ، من كبار [9](ت 196)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 7.

4 -

(أَبُو رَافِعٍ) نُفيعٍ الصائغ المدنيّ، نزيل البصرة، ثقةٌ ثبتٌ مشهور [2](ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 462.

5 -

(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه تقدّم قريبًا.

والباقون ذُكروا في الباب، وقبله.

(1)

وفي نسخة: "كانت".

ص: 324

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (أَنَّ زَيْنَبَ كَانَ) ووقع في بعض النسخ: "كانت" بالتاء، والأول أَولى. (اسْمُهَا بَرَّةَ) - بفتح الموحدة، وتشديد الراء - قال في "الفتح": كذا في رواية محمد بن جعفر، وهو غندر، عن شعبة، ووافقه جماعة، وقال عمرو بن مرزوق، عن شعبة بهذا السند، عن أبي هريرة:"كان اسم ميمونة بَرّةَ"، أخرجه البخاريّ في "الأدب المفرد" عنه، والأول أكثر

(1)

، وزينب هي بنت جَحْش، أو بنت أبي سلمة، والأولى زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم، والثانية ربيبته، وكل منهما كان اسمها أوّلًا بَرّة، فغيّره النبيّ صلى الله عليه وسلم، كذا قال ابن عبد البرّ، وقصة زينب بنت جحش أخرجها مسلم، وأبو داود، في أثناء حديث عن زينب بنت أم سلمة، قالت: سُمِّيت برةَ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"لا تزكوا أنفسكم، فإن الله أعلم بأهل البرّ منكم"، قالوا: ما نسمّيها؟ قال: "سَمّوها زينب"، وفي بعض روايات مسلم:"وكان اسم زينب بنت جحش: برّة"، وقد أخرج الدارقطنيّ في "المؤتلف" بسند فيه ضعف أن زينب بنت جحش قالت: يا رسول الله اسمي برّة، فلو غيّرته، فإن البرّة صغيرة، فقال:"لو كان مسلمًا لسمّيته باسم من أسمائها، ولكن هو جحش، فالجحش أكبر من البرّة"، وقد وقع مثل ذلك لجويرية بنت الحارث أم المؤمنين، فأخرج مسلم، وأبو داود، والبخاريّ في "الأدب المفرد" عن ابن عباس، قال:"كان اسم جويرية بنت الحارث برّة، فحوّل النبيّ صلى الله عليه وسلم اسمها، فسمّاها جويرية، كَرِه أن يقال: خرج من عند برة". انتهى

(2)

.

(فَقِيلَ: تُزَكِّي نَفْسَهَا) يقال: زَكَّى الرجلُ نفسَه: إذا وصفها، وأثنى عليها

(3)

، وذلك لأن لفظة "برّة" مشتقة من البرّ، وكذلك وقع في قصة جُويرية السابقة:"كَرِه أن يقال: خرج من عند بَرّة"، وقال في قصّة زينب:"الله أعلم بأهل البرّ منكم". (فَسَمَّاهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم زَيْنَبَ) قال في "القاموس"،

(1)

وقع في نسخة "الفتح" بلفظ: "أكبر"، والظاهر أنه تصحيف، والله تعالى أعلم.

(2)

"الفتح" 14/ 69 - 70، كتاب "الأدب" رقم (6192).

(3)

"لسان العرب" 14/ 358.

ص: 325

و"شرحه": زَنِبَ كفَرِح يَزْنَب زَنَبًا؛ أَي: سَمِن. والزَّنَبُ: السِّمَنُ. والأَزْنَبُ: السَّمِين، وبه سُمِّيَت المَرْأَة زَيْنَب، قال سِيبَوَيْه: هو فَيْعَل، واليَاءُ زَائِدَةٌ، أَو مِنْ زُنَابَى العَقْرَب، وزُنَابَتُها كِلْتَاهُما، لزُبَانَاهَا: إِبْرَتها التي تَلْدَغ بِهَا فَيْعَل، أَو مِنَ الزَّينَبِ لشَجَرٍ حَسَنِ المَنْظَر، طَيِّب الرَّائِحَة، وَاحدتُه زَيْنَبَة، قاله ابْنُ الأَعْرَابِيّ، أَو أَصْلُهَا زْينُ أَب حُذِفَتِ الأَلِفُ؛ لكَثْرَةِ الاسْتِعمَال، وَزَيْنَبُ بِنْتُ أُمِّ سَلَمَة كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَدْعُوهَا زُنَابَ بالضَّمِّ. انتهى

(1)

.

وقوله: (وَلَفْظُ الْحَدِيثِ لِهَؤُلَاءِ دُونَ ابْنِ بَشَّارٍ)؛ يعني: أن اللفظ المذكور لشيوخه الثلاثة: ابن أبي شيبة، وابن المثنّى، وعبيد الله بن معاذ، وليس لمحمد بن بشّار، هكذا قال مسلم رحمه الله، لكن الحديث وقع من رواية ابن بشّار عند البيهقيّ بلفظهم، فقال في "السنن الكبرى":

(19099)

- أخبرنا أبو بكر بن فُورك، أنبأ عبد الله بن جعفر، ثنا يونس بن حبيب، ثنا أبو داود، ثنا شعبة (ح) وأخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أنبأ أبو الفضل بن إبراهيم، ثنا أحمد بن سلمة، ثنا محمد بن بشار، ثنا محمد بن جعفر، ثنا شعبة، عن عطاء بن أبي ميمونة، قال: سمعت أبا رافع، يحدّث عن أبي هريرة رضي الله عنه:"أن زينب كان اسمها برّة، فقيل: تزكّي نفسها، فسمّاها رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب".

قال: لفظ حديث محمد بن جعفر، رواه البخاريّ في "الصحيح" عن صدقة بن الفضل، عن محمد، ورواه مسلم عن ابن بشار وغيره. انتهى.

فقد صرّح البيهقيّ رحمه الله أن هذا السياق هو لابن بشّار عن محمد بن جعفر، وهو نفس سياق المشايخ الآخرين، ولعلّ مسلمًا رحمه الله رواه بما يخالف ألفاظهم، فإنه إمام محقّق له اطّلاع واسع على اختلاف ألفاظ الشيوخ، والله تعالى أعلم.

وقوله: (وَقَالَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ) غرض مسلم بهذا بيان أن رواية ابن المثنّى، وابن بشّار بلفظ:"حدّثنا محمد بن جعفر، حدّثنا شعبة"، فصرّحا بتحديث شعبة لهما، وأما ابن أبي شيبة، فقال:

(1)

"تاج العروس" 1/ 564 - 565.

ص: 326

"حدّثنا محمد بن جعفر، عن شعبة"، فقال:"عن" بدل "حدّثنا"، وهذا من تدقيق مسلم رحمه الله، وشدّة عنايته ببيان اخلاف ألفاظ الشيوخ، وهو الذي امتاز به، وقُدّم على كثير من المحدثين، ولذا اعتمده كثير من العلماء في نقل سياق الحديث؛ لِمَا ذُكر، والله تعالى أعلم.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [3/ 5595](2141)، و (البخاريّ) في "الأدب"(6192)، و (ابن ماجه) في "الأدب"(3732)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 430 و 459)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(9/ 307)، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5596]

(2142) - (حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ (ح) وَحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، قَالَا: حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ كَثِيرٍ، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَطَاءٍ، حَدَّثَتْنِي زَيْنَبُ بِنْتُ أُمِّ سَلَمَةَ، قَالَتْ: كَانَ اسْمِي بَرَّةَ، فَسَمَّانِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم زَيْنَبَ، قَالَتْ: وَدَخَلَتْ عَلَيْهِ زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ، وَاسْمُهَا بَرَّةُ، فَسَمَّاهَا زَيْنَبَ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(عِيسَى بْنُ يُونُسَ) بن أبي إسحاق السَّبيعيّ الكوفيّ، نزل الشام مرابطًا، ثقةٌ مأمونٌ [8](ت 187)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 28.

2 -

(الْوَلِيدُ بْنُ كَثِيرٍ) المخزوميّ، أبو محمد المدنيّ، ثمّ الكوفيّ، صدوقٌ عارف بالمغازي، ورُمي برأي الخوارج [6](ت 151)(ع) تقدم في "الإيمان" 64/ 361.

3 -

(مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَطَاءٍ) القرشيّ العامريّ المدنيّ، ثقةٌ [3] مات في حدود (120)(ع) تقدم في "الحيض" 23/ 797.

4 -

(زَيْنَبُ بِنْتُ أمِّ سَلَمَةَ) بنت أبي سلمة عبد الله بن عبد الأسد، ربيبة النبيّ صلى الله عليه وسلم، ماتت سنة (73)(ع) تقدمت في "الحيض" 2/ 689.

ص: 327

والباقون ذُكروا في الأبواب الثلاثة الماضية، وشرح الحديث يأتي بعده، أخّرته إليه؛ لكونه أتمّ، والله تعالى أعلم.

[5597]

(

) - (حَدَّثَنَا عَمْرٌو النَّاقِدُ، حَدَّثَنَا هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِم، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَطَاءٍ، قَالَ: سَمَّيْتُ ابْنَتِي بَرَّةَ، فَقَالَتْ لِي زَيْنَبُ بِنْتُ أَبِي سَلَمَةَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ هَذَا الاسْم، وَسُمِّيتُ بَرَّةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمُ، اللهُ أَعْلَمُ بِأَهْلِ الْبِرِّ مِنْكُمْ"، فَقَالُوا: بِمَ نُسَمِّيهَا؟ قَالَ: (سَمُّوهَا زَيْنَبَ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ) بن مسلم الليثيّ مولاهم، أبو النضر البغداديّ، لقبه قيصر، ثقةٌ ثبتٌ [9](ت 207)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 36.

2 -

(اللَّيْثُ) بن سعد بن عبد الرحمن الْفَهْميّ، أبو الحارث المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ إمامٌ مشهور [7](ت 175)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 412.

3 -

(يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ) سُويد، أبو رجاء المصريّ، ثقةٌ فقيهٌ، يرسل [5](ت 128) وقد قارب الثمانين (ع) تقدم في "الإيمان" 16/ 168.

والباقون ذُكروا في الباب.

شرح الحديث:

(عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَطَاءٍ) أنه (قَالَ: سَمَّيْتُ ابْنَتِي بَرَّةَ، فَقَالَتْ لِي زَيْنَبُ بِنْتُ أَبِي سَلَمَةَ) عبد الله بن عبد الأسد: (إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ هَذَا الاسْمِ)؛ أي: عن التسمّي ببرّة، (وَسُمِّيتُ) بضمّ أوله، وتشديد الميم، وتُخفّف، قال في "القاموس"، و"شرحه": وقد سَمّاه فلانًا، وسَمّاه به بمعنًى؛ أي: جعله اسمًا له، وعَلَمًا عليه، قال سيبويه: والأصل الباء؛ لأنه كقولك: عَرّفته بهذه العلامة، وأوضحته بها، ويقال: أسماه إياه، وأنشد عن بعضهم:

وَاللَّهُ أَسْمَاكَ سُمًا مَبَارَكًا

وأسمى به كذلك، نقله ابن سِيدَهْ، وسَمَاه إيّاه يَسْمُوهُ، وسما به يَسْمُو،

ص: 328

الأول - يعني: سَمَاه إيّاه بالتخفيف - عن ثعلب، لم يَحكه غيره. انتهى

(1)

.

وهو هنا مبنيّ للمفعول، ونائب فاعله التاء، وهو المفعول الأول، وقولها:(بَرَّةَ) هو المفعول الثاني، (فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) مبيّنًا سبب نهيه عن التسمّي ببرّة:("لَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمُ)؛ أي: لا تمدحوها، وتشكروها، وتَمُنُّوا بأعمالكم

(2)

.

وقوله: (اللهُ أَعْلَمُ بِأَهْلِ الْبِرِّ)؛ أي: الطاعة، (مِنْكُمْ") تعليل للنهي عن تزكية النفس.

(فَقَالُوا)؛ أي: أهلها، (بِمَ نُسَمِّيهَا؟)؛ أي: بأيّ اسم غير هذا نسمّيها؟ (قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("سَمُّوهَا زَيْنَبَ") تقدّم قريبًا معنى زينب، فلا تغفل، والله تعالى وليّ التوفيق.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث زينب بنت أم سلمة رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

[تنبيه]: انتقد الحافظ أبو الفضل بن عمّار الشهيد رحمه الله هذا الإسناد في رسالة له كتب فيها العلل التي في "صحيح مسلم"، فقال:(26) - ووجدت فيه - يعني: "صحيح مسلم" - لأبي النضر هاشم بن القاسم، عن الليث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن محمد بن عمرو بن عطاء، قال: سميت ابنتي بَرّة، فقالت لي زينب ابنة أبي سلمة: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن هذا.

قال أبو الفضل: وهذا الحديث بين يزيد بن أبي حبيب، ومحمد بن عمرو بن عطاء في إسناده محمد بن إسحاق، كذلك رواه المصريّون. أخبرنا أحمد بن إبراهيم بن مِلْحان، عن يحيى بن بُكير، عن الليث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن محمد بن إسحاق. انتهى كلام أبي الفضل رحمه الله

(3)

.

وقد ذكر الحافظ رشيد الدين العطّار كلام أبي الفضل المذكور، فقال:

(1)

"تاج العروس" 1/ 8439.

(2)

"تفسير ابن كثير" 4/ 258.

(3)

تقدّم هذا في مقدّمة "شرح المقدّمة" 1/ 151، وإنما أعدته لطول العهد به، فتنبّه.

ص: 329

وذكر بعض الحفاظ

(1)

أنه قد سقط من هذا الإسناد رجل بين يزيد ومحمد بن عمرو، وهو محمد بن إسحاق بن يسار المطلبيّ، قال: كذلك رواه المصريون - يعني: عن الليث -.

قلت

(2)

: وقد وجدته كما قال من حديث غير واحد من أهل مصر، منهم يحيى بن بكير، وعيسى بن حماد زُغْبة، وأخرجه أبو داود في "سننه" عن عيسى بن حماد، عن الليث كذلك، وأثبت في إسناده محمد بن إسحاق.

وذكر بعض العلماء أن غسان بن الربيع الكوفيّ رواه عن الليث كذلك أيضًا.

وهذا إنما أورده مسلم بهذا الإسناد استشهادًا، وإلا فقد أورده قبل هذا بإسناد متّصل، فرواه من غير وجه عن الوليد بن كثير المخزوميّ المدنيّ، قال: حدثنا محمد بن عمرو بن عطاء، عن زينب بنت أبي سلمة رضي الله عنها، وهذا متصل، لا شك فيه، فإن ثبت انقطاعه من حديث يزيد بن أبي حبيب، عن محمد بن عمرو، فقد بيّنا أنه متصل في الكتاب من حديث الوليد بن كثير، عن محمد بن عمرو، وبالله التوفيق.

قال: وقد رأيت في بعض النُّسخ من "كتاب الأطراف"

(3)

لأبي مسعود الدمشقيّ أن مسلمًا أخرج هذا الحديث عن عمرو الناقد، عن هاشم بن القاسم، عن الليث، عن يزيد، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن عمرو،

(1)

يعني به: الحافظ أبا الفضل المذكور.

(2)

القائل هو: الرشيد العطّار، فتنبّه.

(3)

وكذا هو عند الحافظ المزّيّ رحمه الله تعالى في "تحفة الأشراف" 11/ 324، نَسَبه لمسلم في "صحيحه"، حيث أورد فيها: "

عن يزيد بن أبي حبيب، عن محمد بن إسحاق بن يسار بن خيار

" الحديث. وقد علّق عليه المحقّق بقوله: "كذا وقع هذا الإسناد في أصل (س) وليس في شيء مما في النُّسخ الحاضرة عندنا من "صحيح مسلم" ما ذكره، وإنما فيه:"عن يزيد بن أبي حبيب، عن محمد بن عمرو بن عطاء" بدون واسطة محمد بن إسحاق بن يسار بن خيار بينهما. والله أعلم. انتهى.

وهذا يرجّح ما قاله الحافظ الرشيد العطار هنا من أنه لعله كان في أصل مسلم، وسقط من بعض النسخ ذكر ابن إسحاق. والله تعالى أعلم.

ص: 330

كما رواه المصريون عن الليث، فلعله كذلك في أصل مسلم، وسقط من بعض النُّسخ ذكر ابن إسحاق، والله عز وجل أعلم. انتهى كلام الحافظ رشيد الدين العطّار رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن بما سبق أن الراجح ذِكر محمد بن إسحاق في هذا السند بين يزيد بن أبي حبيب، وبين محمد بن عمرو بن عطاء، والظاهر أن هذا هو صنيع مسلم، وإنما سقط من بعض النسّاخ، كما أشار إليه العطّار؛ لأن أبا مسعود الدمشقيّ عزاه في "أطرافه" كذلك لمسلم، وكذا الحافظ أبو الحجّاج المزّي في "تحفته" 11/ 324، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [3/ 5596 و 5597](2142)، و (البخاريّ) في "الأدب المفرد"(821)، و (أبو داود) في "الأدب"(4953)، و (ابن راهويه) في "مسنده"(4/ 93)، و (ابن أبي عاصم) في "الآحاد والمثاني"(6/ 22)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(9/ 307)، والله تعالى أعلم.

(4) - (بَابُ تَحْرِيمِ التَّسَمِّي بِمَلِكِ الأَمْلَاكِ، وَبِمَلِكِ الْمُلُوكِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5598]

(2143) - (حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عَمْرٍو الأَشْعَثِيُّ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ - وَاللَّفْظُ لأَحْمَدَ - قَالَ الأَشْعَثِيُّ: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ الآخَرَانِ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ أَبِي الزِّنَاد، عَنِ الأَعْرَج، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّ أَخْنَعَ اسْمٍ عِنْدَ اللهِ رَجُلٌ تَسَمَّى مَلِكَ الأَمْلَاكِ"، زَادَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي رِوَايَتِهِ: "لَا مَالِكَ إِلَّا اللهُ عز وجل"، قَالَ الأَشْعَثِيُّ: قَالَ سُفْيَانُ: مِثْلُ شَاهَانْ شَاهْ، وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: سَأَلْتُ أَبَا عَمْرٍو عَنْ أَخْنَعَ، فَقَالَ: أَوْضَعَ).

(1)

تقدّم هذا البحث في مقدّمة "شرح المقدّمة" 1/ 122 - 123، وإنما أعدته هنا؛ لطول العهد به، فتنبّه.

ص: 331

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(سَعِيدُ بْنُ عَمْرٍو الأَشْعَثِيُّ) الْكِنديّ، أبو عثمان الكوفيّ، ثقةٌ [10](ت 230)(م س) تقدم في "المقدمة" 4/ 19.

2 -

(أَبُو الزِّنَادِ) عبد الله بن ذكوان القُرشيّ مولاهم، أبو عبد الرحمن المدنيّ، ثقةٌ فقيهٌ [5](ت 130) أو بعدها (ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 30.

3 -

(الأَعْرَجُ) عبد الرحمن بن هُرْمُز القرشيّ مولاهم، أبو داود المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيه [3](ت 117)(ع) تقدم في "الإيمان" 23/ 192.

والباقون ذُكروا في الباب الماضي.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه ثلاثة من الشيوخ قرن بينهم، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وأنه من أصحّ أسانيد أبي هريرة رضي الله عنه، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه أحفظ من روى الحديث في دهره، وهو رأس المكثرين السبعة.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي الزِّنَادِ) عبد الله ذكوان، وفي رواية الحميديّ في "مسنده" عن سفيان:"حدّثنا أبو الزناد"، وهي عند أبي عوانة في "صحيحه" أيضًا من طريقه، (عَنِ الأَعْرَجِ) عبد الرحمن بن هُرْمُزَ (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه ووقع في رواية البخاريّ عن علي بن المدينيّ، عن سفيان بلفظ:"عن أبي هريرة روايةً"، قال في "الفتح": قوله: "روايةً" كذا في رواية عليّ هنا، وفي رواية أحمد، عن سفيان:"يبلغ به"، أخرجها مسلم

(1)

، وأبو داود، وعند الترمذيّ، عن محمد بن ميمون، عن سفيان مثله، وكلاهما كناية عن الرفع، بمعنى: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووقع التصريح بذلك في رواية الحميديّ. انتهى

(2)

. (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) وفي رواية همّام التالية: "وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم"، (قَالَ:"إِنَّ أَخْنَعَ اسْمٍ عِنْدَ اللهِ) "أخنع" - بعين مهملة - وهذا هو المشهور في رواية سفيان بن عيينة، وهو من الخنوع،

(1)

كذا عزا في "الفتح" لمسلم، ولم أره فيه، فليُحرّر، والله تعالى أعلم.

(2)

"الفتح" 14/ 89، كتاب "الأدب" رقم (6205).

ص: 332

وهو الذلّ، وقد فسّره بذلك الحميديّ شيخ البخاريّ عقب روايته له عن سفيان قال: أخنع أذلّ، وذكر مسلم بعد هذا عن أحمد بن حنبل قال: سألت أبا عمرو الشيبانيّ - يعني: إسحاق اللغويّ - عن أخنع، فقال: أوضع، قال القاضي عياض: معناه أنه أشدّ الأسماء صَغارًا، وبنحو ذلك فسّره أبو عبيد، والخانع: الذليل، وخَنَعَ

(1)

الرجلُ ذَلّ.

وقال المجد رحمه الله: الخانع: المريب الفاجر، وقد خَنَعَ؛ كمنَعَ، والْخَنْعةُ: الْفَجْرة، والرِّيبة، والْخَنُوع؛ كصبور: الغادر الذي يحيد عنك، وبالضمّ: الْخُضُوع والذُّلّ، قال: وأخنع الأسماء عند الله تعالى ملِك الأملاك؛ أي: أذلّها، وأقهرها، ويُروَى: أنخع، وأبخع، وأخنى. انتهى

(2)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: وقوله: "إن أخنع اسم عند الله": أي: أذلَّ، والخنوع: الخضوع، والذلُّ، يقال: أخنعتني إليك الحاجة، ومنه في دعاء القنوت:"ونخنع لك"؛ أي: نَذِلّ لك، ونخضع، وقد يقال على الفجور، والرِّيبة، يقال: رجل خانع؛ أي: مُريب فاجر، ومنه قول الأعشى [من البسيط]:

هُمُ الْخَضَارِمُ

(3)

إِنْ غَابُوا وَإِنْ شَهِدُوا

وَلَا يُرَوْنَ إِلَى جَارَاتِهِمْ خُنُعًا

قال القرطبيّ: وهذا راجعٌ للمعنى الأول؛ لأنَّ الفاجر المريب خانع ذليل، ولذلك فسَّر أبو عمرو: أخنع بأوضع؛ أي: أذل وأخس، وأراد بالاسم هنا: المسمَّى، بدليل ما قال في الرواية الأخرى:"أغيظ رجل، وأخبثه". انتهى

(4)

.

قال ابن بطال رحمه الله: وإذا كان الاسم أذلّ الأسماء كان من تسمَّى به أشدّ ذُلًّا، وقد فسَّر الخليل أخنع بأفجر، فقال: الْخَنْعُ: الفجور، يقال: أخنع الرجل إلى المرأة إذا دعاها للفجور.

وهو قريب من معنى الخنا، وهو الفحش.

(1)

خَنَعَ من باب مَنَع، كما في "القاموس".

(2)

"القاموس المحيط" ص 400.

(3)

جمع خِضْرِم، وهو الجواد الكثير العطيّة، وقيل: السيّد الْحَمُول. اهـ. "لسان" 12/ 184.

(4)

"المفهم" 5/ 454.

ص: 333

ووقع عند البخاريّ بلفظ: "أخنى"، قال في "الفتح": قوله: "أخنى" كذا في رواية شعيب بن أبي حمزة للأكثر، من الخنا - بفتح المعجمة، وتخفيف النون، مقصورًا - وهو الفحش في القول، ويَحْتَمِل أن يكون من قولهم: أخنى عليه الدهر؛ أي: أهلكه.

ووقع عند الترمذيّ في آخر الحديث: "أخنع: أقبح"، وذكر أبو عبيد أنه ورد بلفظ:"أنخع"، بتقديم النون على المعجمة، وهو بمعنى أَهْلَك؛ لأن النَّخْع الذبح، والقتل الشديد، ووقع في رواية همام:"أغيظ " بغين، وظاء معجمتين، ويؤيده:"اشتدّ غضب الله على من زعم أنه مَلِك الأملاك"، أخرجه الطبرانيّ.

قال الحافظ: ووقع في شرح شيخنا ابن الملقِّن أن في بعض الروايات: "أفحشُ الأسماء"، ولم أرها، وإنما ذكر ذلك بعض الشراح في تفسير "أخنى". انتهى

(1)

.

(اسْمٍ عِنْدَ اللهِ) زاد أبو داود، والترمذيّ في روايتهما:"يوم القيامة"، وهذه الزيادة ثابتة عند البخاريّ في رواية شعيب بن أبي حمزة، عن أبي الزناد، وفي رواية همّام بن منبّه التالية عند مسلم:"أَغْيَظُ رَجُلٍ عَلَى اللهِ يَوْمَ الْقِيَامَة، وَأَخْبَثُهُ، وَأَغْيَظُهُ عَلَيْهِ". (رَجُلٌ تَسَمَّى)؛ أي: سَمَّى نفسه، أو سُمّي بذلك، فرضي به، واستمرّ عليه، (مَلِكَ الأَمْلَاكِ)" بكسر اللام من "مَلِك"، و"الأملاكُ" جمع مِلْك بالكسر، وبالفتح، وجمعُ مليك.

وقال القرطبيّ رحمه الله: "الْمَلِك": من له الْمُلْكُ، و"المالك": من له الْمِلْكُ، والْمُلكُ أمدحُ، والمالك أخصُّ، وكلاهما واجب لله تعالى، والأملاك: هنا جمع مَلِك، قال في "الصحاح": الملِك - مقصور - من مالك، أو مليك، والجمع: الملوك، والأملاك، والاسم: الْمُلْك. انتهى

(2)

.

(زَادَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي رِوَايَتِهِ) على رواية الأشعثيّ، وأحمد:("لَا مَالِكَ إِلَّا اللهُ عز وجل")؛ أي: لا يحقّ لأحد أن يسمّى بهذا الاسم؛ لأنه مالك للملوك وغيرهم حقيقة إلا الله عز وجل. (قَالَ الأَشْعَثِيُّ) سعيد بن عمرو، منسوب إلى جدّه

(1)

"الفتح" 14/ 89، كتاب "الأدب" رقم (6205).

(2)

"المفهم" 5/ 455.

ص: 334

الأعلى (قَالَ سُفْيَانُ) بن عيينة (مِثْلُ شَاهَانْ شَاهْ) هو بالفارسيّة مَلِكُ الأملاك، ثم إن ظاهر هذه الرواية أن هذا التفسير من سفيان نفسه، ووقع عند البخاريّ بلفظ:"قال سفيان: يقول غيره: تفسيره شاهان شاه"، ومعنى يقول غيره: أي: غير أبي الزناد، قال في "الفتح": فلعل سفيان قاله مرّة نقلًا، ومرة من قِبَل نفسه، وقد أخرجه الإسماعيليّ من رواية محمد بن الصباح، عن سفيان مثله، وزاد مثل ذلك: الصين وشاهان شاه، بسكون النون، وبهاء في آخره، وقد تُنوّن، وليست هاء تأنيث، فلا يقال بالمثناة أصلًا.

وقد تعجب بعض الشراح من تفسير سفيان بن عيينة اللفظة العربية باللفظة العجمية، وأنكر ذلك آخرون، وهو غفلة منهم عن مراده، وذلك أن لفظ شاهان شاه كان قد كُثُر التسمية به في ذلك العصر، فنَبَّه سفيان على أن الاسم الذي ورد الخبر بذمّه لا ينحصر في ملك الأملاك، بل كل ما أدَّى معناه بأيّ لسان كان فهو مرادٌ بالذمّ، ويؤيد ذلك أنه وقع عند الترمذيّ:"مثل شاهان شاه".

وقوله: "شاهان شاه" هو المشهور في روايات هذا الحديث، وحَكَى عياض عن بعض الروايات:"شاه شاه" بالتنوين بغير إشباع في الأُولى، والأصل هو الأولى، وهذه الرواية تخفيف منها، وزعم بعضهم أن الصواب: شاه شاهان، وليس كذلك؛ لأن قاعدة العجم تقديم المضاف إليه على المضاف، فإذا أرادوا قاضي القضاة بلسانهم قالوا: موبذان موبذ، فموبذ هو القاضي، وموبذان جَمْعه، فكذا شاه هو الملِك، وشاهان هم الملوك.

وقال القاضي عياض: استَدَلّ به بعضهم على أن الاسم غير المسمى، ولا حجة فيه، بل المراد مِنْ الاسم صاحب الاسم، وتدلّ عليه رواية همام:"أغيظ رجل"، فكأنه مِنْ حذف المضاف، وإقامة المضاف إليه مُقامه، ويؤيده قوله:"تَسَمَّى"، فالتقدير: إن أخنع اسمٍ اسمُ رجل تسمى، بدليل الرواية الأخرى:"وإن أخنع الأسماء". انتهى

(1)

.

وقال النوويّ رحمه الله: وأما قوله: "قال سفيان: مثل شاهان شاه" فكذا هو في جميع النُّسخ، قال القاضي: وقع في رواية: شاه شاه، قال: وزعم بعضهم

(1)

"الفتح" 14/ 90 - 91، كتاب "الأدب" رقم (6205).

ص: 335

أن الأصوب شاه شاهان، وكذا جاء في بعض الأخبار في كسرى، قالوا: وشاه الملك، وشاهان الملوك، وكذا يقولون لقاضي القضاة: موبذ موبذان، قال القاضي: ولا يُنكَر صحة ما جاءت به الرواية؛ لأن كلام العجم مبني على التقديم والتأخير في المضاف والمضاف إليه، فيقولون في غلام زيد: زيدُ غلام، فهكذا أكثر كلامهم، فرواية مسلم صحيحة. انتهى

(1)

.

(وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: سَأَلْتُ أَبَا عَمْرٍو) الشيبانيّ إسحاق بن مِرار - بكسر أوله، وتخفيف الراء - النحويّ اللغويّ الكوفيّ، نزيل بغداد من الطبقة التاسعة

(2)

، له ذِكر في "صحيح مسلم" هنا فقط.

وقال النوويّ رحمه الله: أبو عمرو هذا هو إسحاق بن مِرَار - بكسر الميم - على وزن قِتَال، وقيل: مَرَّار بفتحها، وتشديد الراء؛ كعَمّار، وقيل: بفتحها، وتخفيف الراء؛ كغَزَال، وهو أبو عمرو اللغويّ النحويّ المشهور، وليس بأبي عمرو الشيبانيّ، ذاك تابعيّ، تُوُفّي قبل ولادة أحمد بن حنبل، والله أعلم. انتهى

(3)

.

وقال في "تهذيب التهذيب": رَوَى عن أبي عمرو بن العلاء، وركن الشاميّ، وروى عنه ابنه عمرو، وأحمد بن حنبل، وأبو عبيد القاسم بن سلام، وأحمد بن إبراهيم الدَّوْرقيّ، وغيرهم.

قال أبو بكر بن الأنباريّ: كان أبو عمرو الشيبانيّ يقال له: أبو عمرو صاحب ديوان اللغة، والشعر، وكان خَيِّرًا فاضلًا صدوقًا، قال عبد الله بن أحمد: كان أبي يلزم مجالس أبي عمرو، ويكتب أماليه، وكان أبو عمرو الشيباني نبيلًا فاضلًا عالِمًا بكلام العرب، حافظًا للغاتها، عمل "الشعراء"، وكان سمع من الحديث سماعًا واسعًا وعُمِّر عُمُرًا حتى أناف على التسعين، وهو عند الخاصة من أهل العلم والرواية، مشهور معروف، والذي قَصّر به عند العامة أنه كان مشتهرًا بالنبيذ، والشرب له.

(1)

"شرح النوويّ" 14/ 122.

(2)

هكذا في نسخة أبي الأشبال من "التقريب"، ووقع في غيرها: من الثامنة، وهو غلط.

(3)

"شرح النوويّ" 14/ 122.

ص: 336

ويُحكَى عن عمرو بن أبي عمرو قال: لمّا جمع أبي أشعار العرب، كانت نيفًا وثمانين قبيلة، فكان كلما عَمِل منها قبيلة، وأخرجها إلى الناس كتب مصحفًا، وجعله في مسجد الكوفة. وقال ثعلب: كان مع أبي عمرو الشيباني من العلم، والسماع أضعاف ما كان مع أبي عبيدة، وقال حنبل بن إسحاق: مات سنة عشر ومائتين، وقد كتب عنه أبو عبد الله، وقال أبو منصور الأزهريّ: روى عنه أبو عبيد القاسم بن سلام، ووثقه، وقال محمد بن إسحاق النديم: كان راويةً واسع العلم، بصيرًا باللغة، ثقةً في الحديث، قال: وبلغ أبو عمرو مائة سنة وعشرين، ومات سنة ست ومائتين، وقال أحمد بن كامل: مات سنة (192)، وقال يعقوب بن السِّكِّيت: عاش مائة وثماني عشرة سنة، وكان يكتب بيده إلى أن مات

(1)

.

(عَنْ أَخْنَعَ)؛ أي: عن معناه، (فَقَالَ) أبو عمرو (أَوْضَعَ) بالنصب على حكاية المفسّر - أعني قوله:"إن أخنع اسم" - قال النوويّ رحمه الله: وهذا التفسير الذي فسّره أبو عمرو مشهور عنه، وعن غيره، قالوا: معناه: أشدّ ذُلًّا وصَغَارًا يوم القيامة، والمراد: صاحب الاسم، وتدلّ عليه الرواية الثانية بلفظ:"أغيظ رجل"

(2)

، والله تعالى أعلم.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [4/ 5598 و 5599](2143)، و (البخاريّ) في "الأدب"(6205 و 6206)، وفي "الأدب المفرد"(817)، و (أبو داود) في "الأدب"(4961)، و (الترمذيّ) في "الأدب"(2837)، و (الحميديّ) في "مسنده"(2/ 478)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 244 و 392)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5835)، و (أبو نعيم) في "الحلية"(7/ 312)، و (الحاكم) في "المستدرك"(4/ 306)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(9/ 307)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(3369)، والله تعالى أعلم.

(1)

"تهذيب التهذيب" 4/ 563 - 564.

(2)

"شرح النوويّ" 14/ 121.

ص: 337

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان أن التسمي بملك الأملاك حَرَام، قال النوويّ رحمه الله: وكذلك التسمي بأسماء الله تعالى المختصّة به؛ كالرحمن، والقدّوس، والمهيمن، وخالق الخلق، ونحوها

(1)

.

2 -

(ومنها): ما قاله في "الفتح": استُدِلّ بهذا الحديث على تحريم التسمي بهذا الاسم؛ لورود الوعيد الشديد، ويَلتحق به ما في معناه مثل: خالق الخلق، وأحكم الحاكمين، وسلطان السلاطين، وأمير الأمراء، وقيل: يلتحق به أيضًا من تسمى بشيء من أسماء الله الخاصّة به؛ كالرحمن، والقدّوس، والجبار، وهل يلتحق به من تسمى قاضي القضاة، أو حاكم الحكام؟ اختَلَف العلماء في ذلك، فقال الزمخشريّ في قوله تعالى:{أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ} [هود: 45]؛ أي: أعدل الحكام، وأعلمهم؛ إذ لا فضل لحاكم على غيره إلا بالعلم، والعدل، قال: ورُبّ غريق في الجهل، والجَوْر من مقلدي زماننا قد لُقِّب أقضى القضاة، ومعناه أحكم الحاكمين، فاعتَبِر، واستَعبِرْ.

وتعقبه ابن الْمُنَيِّر بحديث: "أقضاكم عليٌّ"، قال: فيستفاد منه أن لا حرج على من أَطلق على قاض يكون أعدل القضاة، أو أعلمهم في زمانه: أقضى القضاة، أو يريد إقليمه، أو بلده، ثم تكلم في الفرق بين قاضي القضاة، وأقضى القضاة، وفي اصطلاحهم على أن الأول فوق الثاني، وليس من غرضنا هنا.

وقد تَعَقَّب كلام ابن المنَيِّر علمُ الدين العراقيّ، فصوَّب ما ذكره الزمخشريّ من المنع، ورَدَّ ما احتجّ به، من قضية عليّ رضي الله عنه بأن التفضيل في ذلك وقع في حقّ من خوطب به، ومن يلتحق بهم، فليس مساويًا لإطلاق التفضيل بالألف واللام، قال: ولا يخفى ما في إطلاق ذلك من الجراءة، وسوء الأدب، ولا عبرة بقول مَن ولي القضاء، فنُعِت بذلك، فلَذَّ في سمعه، فاحتال في الجواز، فإن الحقّ أحقّ أن يُتَّبَع. انتهى كلامه.

ومن النوادر أن القاضي عزّ الدين ابن جماعة قال: إنه رأى أباه في

(1)

"شرح النوويّ" 14/ 122.

ص: 338

المنام، فسأله عن حاله، فقال: ما كان عليّ أضرّ من هذا الاسم، فأمر الموقِّعين أن لا يكتبوا له في السجلات: قاضي القضاة، بل: قاضي المسلمين، وفَهِم من قول أبيه أنه أشار إلى هذه التسمية، مع احتمال أنه أشار إلى الوظيفة، قال الحافظ: بل هو الذي يترجح عندي، فإن التسمية بقاضي القضاة وُجدت في العصر القديم من عهد أبي يوسف، صاحب أبي حنيفة.

قال الجامع عفا الله عنه: في ترجيح الحافظ إرادة الوظيفة بما ذَكَره نَظَرٌ لا يخفى؛ إذ الوظيفة نفسها وُجدت من العصر القديم، فما الفرق بينهما؟ فتأمل بالإمعان، والله تعالى أعلم.

قال: وقد منع الماورديّ من جواز تلقيب المَلِك الذي كان في عصره بملك الملوك، مع أن الماورديّ كان يقال له: أقضى القضاة، وكأن وجه التفرقة بينهما الوقوف مع الخبر، وظهور إرادة العهد الزمانيّ في القضاة.

وقال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة: يَلتحق بملِك الأملاك: قاضي القضاة، وإن كان اشتهر في بلاد الشرق من قديم الزمان إطلاق ذلك على كبير القضاة، وقد سَلِم أهل المغرب من ذلك، فاسم كبير القضاة عندهم: قاضي الجماعة. انتهى

(1)

.

3 -

(ومنها): ما قاله ابن أبي جمرة رحمه الله: وفي الحديث مشروعية الأدب في كل شيء؛ لأن الزجر عن ملِك الأملاك، والوعيد عليه يقتضي المنع منه مطلقًا، سواء أراد من تسمى بذلك أنه ملِك على ملوك الأرض، أم على بعضها، سواء كان مُحِقًّا في ذلك أم مبطلًا، مع أنه لا يخفى الفرق بين من قَصَد ذلك، وكان فيه صادقًا، ومن قَصَده، وكان فيه كاذبًا. انتهى، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5599]

(

) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاق، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ، قَالَ: هَذَا مَا حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم،

(1)

"الفتح" 14/ 91 - 92، كتاب "الأدب" رقم (6205).

ص: 339

فَذَكَرَ أَحَادِيثَ، مِنْهَا: وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَغْيَظُ رَجُلٍ عَلَى اللهِ يَوْمَ الْقِيَامَة، وَأَخْبَثُهُ، وَأَغْيَظُهُ عَلَيْهِ رَجُلٌ كَانَ يُسَمَّى مَلِكَ الأَمْلَاك، لَا مَلِكَ إِلَّا الله").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ) النيسابوريّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(عَبْدُ الرَّزَّاقِ) بن همّام الصنعانيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

3 -

(مَعْمَرُ) بن راشد الصنعانيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

4 -

(هَمَّامُ بْنُ مُنَبِّهِ) بن كامل، أبو عقبة الصنعانيّ، ثقةٌ [4](ت 132) على الصحيح (ع) تقدم في "الإيمان" 26/ 213.

و"أبو هريرة رضي الله عنه" ذُكر قبله.

وقوله: (فَذَكَرَ أَحَادِيثَ) فاعل "ذَكَر" ضمير همّام بن منبّه.

وقوله: (مِنْهَا: وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم)"منها" جارّ ومجرور متعلّق بمحذوف؛ لوقوعه خبرًا مقدّمًا؛ أي: كائن منها، وقوله:"وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم" مبتدأ مؤخّر محكيّ؛ لِقَصْد لفظه.

(أَغْيَظُ رَجُلٍ)؛ أي: الرجل الذي يشتدّ عليه غضب الله تعالى، قال القرطبيّ: والغيظ المضاف إلى الله تعالى هو عبارة عن غضبه، وقد تقدَّم أن غضب الله تعالى عبارة عن عقوبته الْمُنَزَّلة بمن يستحقها. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: تأويل القرطبيّ للغضب بما ذكره، وكذا ما نقله النوويّ في "شرحه" عن الماورديّ أنه قال: أغيظ هنا مصروف عن ظاهره، والله سبحانه وتعالى لا يوصف بالغيظ، فيُتأول هنا الغيظ على الغضب، وسبق شرح معنى الغضب، والرحمة في حق الله سبحانه وتعالى. انتهى

(2)

.

كلّ ذلك مخالف لِمَا عليه السلف من إثبات صفات الغضب، والمقت، والغيظ، ونحوها مما جاء في النصوص الصحيحة، على ما يليق بجلاله سبحانه وتعالى وعدم تأويلها، ومما يؤيّد بطلان تأويلها أن المعنى الذي أُوّلت إليه يلزم من إثباته التشبيه الذي فرّوا منه، فهم يفرون من ورطة، ويقعون في أخرى، فليَتنبّه

(1)

"المفهم" 5/ 454.

(2)

"شرح النوويّ" 14/ 121.

ص: 340

العاقل، ولا يغترّ بكثرة القائلين من المتأخرين، فإن الحقّ ليس بالكثرة، وإنما هو بدليله، وحجته، فقد قال الله تعالى:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} الآية [النساء: 59]، فإذا رددناه إلى الكتاب فقد أثبته، ولم يأمر بتأويله، وكذا إذا رددناه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن سننه الصحيحة مملوءة بإثبات هذه الصفات، ولم يُنقل عنه صلى الله عليه وسلم حرف واحد في التأويل، مع أن مجالسه صلى الله عليه وسلم حينما حدّث بهذه الأحاديث مشتملة على الأعراب وغيرهم من الجهلة، فلو كان التأويل صحيحًا لَمَا سكت النبيّ صلى الله عليه وسلم عن بيانه لهؤلاء الأعراب، ونحوهم، فتبصّر بالإنصاف، ولا تكن أسير التقليد، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

وقوله: (عَلَى اللهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) قال القسطلّانيّ رحمه الله: التقييد بيوم القيامة مع أن حُكمه في الدنيا كذلك؛ للإشعار بترتّب ما هو مسبَّب عنه، من إنزال الهوان، وحلول العقاب. انتهى

(1)

.

وقوله: (وَأَخْبَثُهُ)؛ أي: أشدّه خُبثًا، والخبث: هو الاسترذال، والخِسَّة، والرَّداءة.

(وَأَغْيَظُهُ عَلَيْهِ) قال القاري رحمه الله: هو اسم تفضيل بُني للمفعول؛ أي: أكثر من يُغضب عليه، ويُعاقب. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: لا يجوز بناء اسم التفضيل من الفعل المبنيّ للمفعول، هكذا نصّوا في كتب النحو، ولكن قيّده في "حاشية الخضريّ" بما فيه خوف اللَّبس، فيُمنع، وأَمْنه بأن كان مجهولًا لزومًا، فيجوز، كأنت أزهى من ديك، وأعنى بحاجتك، وكذا مع القرينة، كهو أشغل من ذات النحيين؛ أي: أكثر مشغوليّةً، وليس هذا من المجهول لزومًا، خلافًا لبدر الدين بن مالك، بدليل قوله تعالى:{شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا} [الفتح: 11]. انتهى

(3)

.

(1)

راجع: "هامش النسخة التركيّة" 6/ 174.

(2)

"المرقاة" 8/ 515.

(3)

"حاشية الخضريّ على شرح ابن عقيل على الخلاصة" 2/ 73.

ص: 341

فيكون "أغيظ" هنا مما دلّت عليه القرينة؛ لأن المقام يدلّ على المقصود كونه مَغِيظًا عليه، لا غائظًا على غيره، فصحّ بناء اسم التفضيل من المبنيّ للمفعول؛ لِمَا ذُكر، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

وقال القرطبيّ: قد وقع في هذه الرواية: "وأغيظه" معطوفًا على "أخبثه"، من الغيظ، فجاء مكررًا، فذهب بعض العلماء إلى أن ذلك وَهَمٌ، والصواب: أغنط - بالنون، والطاء المهملة؛ أي: أشدُّ، والغَنَط: شدة الكرب.

قال القرطبيّ: والصواب التمسك بالرِّواية، وتطريق الوهم إلى الأئمة الحفاظ وَهَمٌ لا ينبغي المبادرة إليه، ما وُجد للكلام وجه، ويمكن أن يُحْمَل على إفادة تكرار العقوبة على المسمى بهذا الاسم، وتعظيمها، كما قال تعالى في حق اليهود:{فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ} [البقرة: 90]؛ أي: بما يوجب العقوبة بعد العقوبة، وكذلك فَعَل الله تعالى بهم، عاقبهم في الدنيا بأنواعٍ من العقوبات، ولَعذاب الآخرة أشقُّ.

وحاصل هذا الحديث: أن المسمى بهذا الاسم قد انتهى من الكِبْر إلى الغاية التي لا تنبغي لمخلوق، وأنه قد تعاطى ما هو خاصّ بالإله الحقّ؛ إذ لا يَصْدُق هذا الاسم بالحقيقة إلا على الله تعالى، فعوقب على ذلك من الإذلال، والإخساس، والاسترذال بما لم يعاقَب به أحدٌ من المخلوقين. انتهى

(1)

.

وقال النوويّ رحمه الله: وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "أغيظ رجل على الله، وأغيظه عليه"، فهكذا وقع في جميع النُّسخ بتكرير "أغيظ"، قال القاضي: ليس تكريره وجهَ الكلام، قال: وفيه وَهَمٌ من بعض الرواة بتكريره، أو تغييره، قال: وقال بعض الشيوخ: لعل أحدهما أغنط - بالنون، والطاء المهملة - أي: أشدّه عليه، والغنط: شدة الكرب، والله أعلم. انتهى

(2)

.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، ولله الحمد والمنّة.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(1)

"المفهم" 5/ 454 - 455.

(2)

"شرح النوويّ" 14/ 121.

ص: 342

(5) - (بَابُ تَسْمِيَةِ الصَّغِيرِ، وَتَحْنِيكِهِ، وَالدُّعَاءِ لَهُ)

(1)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5600]

(2144) - (حَدَّثنَا عَبْدُ الأَعْلَى بْنُ حَمَّادٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: ذَهَبْتُ بِعَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ الأَنْصَارِيِّ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ وُلِدَ وَرَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم فِي عَبَاءَةٍ يَهْنَأُ بَعِيرًا لَهُ، فَقَالَ: "هَلْ مَعَكَ تَمْرٌ؟ "، فَقُلْتُ: نَعَمْ، فَنَاوَلْتُهُ تَمَرَاتٍ، فَأَلْقَاهُنَّ فِي فِيه، فَلَاكَهُنَّ، ثُمَّ فَغَرَ فَاه الصَّبِيِّ، فَمَجَّهُ فِي فِيه، فَجَعَلَ الصَّبِيُّ يَتَلَمَّظُهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "حُبُّ الأَنْصَارِ التَّمْرَ"، وَسَمَّاهُ عَبْدَ اللهِ).

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(عَبْدُ الأَعْلَى بْنُ حَمَّادِ) بن نصر الباهليّ مولاهم، أبو يحيى البصريّ المعروف بالنَّرْسيّ، ثقةٌ، من كبار [10](ت 6 أو 237)(خ م د) تقدم في "الإيمان" 27/ 221.

2 -

(حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ) بن دينار، أبو سلمة البصريّ، ثقةٌ عابدٌ، أثبت الناس في ثابت، وتغيّر حفظه بآخره، من كبار [8](ت 167) تقدم في "المقدمة" 6/ 80.

3 -

(ثَابتٌ الْبُنَانِيُّ) ابن أسلم، أبو محمد البصريّ، ثقةٌ عابدٌ [4] مات سنة بضع و (120) وله (86) سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 80.

4 -

(أَنَسُ بْنُ مَالِكِ) بن النضر الأنصاريّ الخزرجيّ الصحابيّ الخادم الشهير، مات سنة (2 أو 39) وقد جاوز المائة (ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (430) من رباعيّات الكتاب، وأنه مسلسل بالبصريين، وفيه حماد بن سلمة أثبت الناس في ثابت، وثابت ألزم أصحاب أنس رضي الله عنه له، صحبه أربعين سنة، وأنس هو الخادم المشهور خدم النبيّ صلى الله عليه وسلم عشر سنين، ونال دعوته المباركة، وهو أحد المكثرين السبعة، كما سبق غير مرّة.

(1)

هكذا ترجم القرطبيّ رحمه الله، وهي أَولى من ترجمة النوويّ وغيره؛ لكونها مختصرةً شاملةً، فتنبّه.

ص: 343

شرح الحديث:

(عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: ذَهَبْتُ بِعَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ) زيد بن سهل (الأَنْصَارِيِّ) المدنيّ، وُلد في عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم، ووثقه ابن سعد، مات سنة (84) بالمدينة، وقيل: استُشهد بفارس، تقدّمت ترجمته في "الجهاد والسِّير" 24/ 4593. (إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ وُلدَ) بالبناء للمفعول؛ أي: وقت ولادته، (وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي عَبَاءَةٍ) جملة في محلّ نصب على الحال، و"العباءة" معروفة، وهي ممدودة، يقال فيها: عباية بالياء، وجمع العباءة العباء. انتهى

(1)

.

وقال في "التاج": العَباءُ كسحاب: كِساءٌ معروف، وهو ضَربٌ من الأكْسِيَة، كذا في "لسان العرب"، زاد الجوهريّ: فيه خُطوط، وقيل: هو الجُبة من الصُّوف؛ كالعَباءة، قال الصرفيون: همزته عن ياء، وإنه يقال: عَباءة، وعَبايَة، ولذلك ذكره الجوهريّ، والزُّبيديُّ في المعتلّ. انتهى

(2)

.

(يَهْنَأُ بَعِيرًا لَهُ) بهمز آخره؛ أي: يَطْليه بالقَطِران، وهو الْهِنَاءُ بكسر الهاء، والمدّ، يقال: هنأت البعير أهنأه، قاله النوويّ.

وقال في "اللسان": هَنَأَ الإِبِلَ يَهْنَؤُها - من باب فتح - ويَهْنِئُها - من باب ضرب - وَيهْنُؤُها - من باب نصر - هَنْأً، وهِنَاءً: طلاها بالْهِنَاء، وهو الْقَطِران، وقال الزجّاج: ولم نجد فيما لامه همزة فَعَلْتُ أَفْعُلُ إلا هَنَأْتُ أَهْنُؤُ، وقرأتُ أقْرُؤُ. انتهى

(3)

.

(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("هَلْ مَعَكَ تَمْرٌ؟ "، فَقُلْتُ: نَعَمْ، فَنَاوَلْتُهُ تَمَرَاتٍ، فَأَلْقَاهُنَّ)؛ أي: رمى النبيّ صلى الله عليه وسلم تلك التمرات (فِي فِيهِ) هو الفم لَمّا حُذفت منه الميم، أُعرب بالحروف، كما قال في "الخلاصة":

وَارْفَعْ بِوَاوٍ وَانْصِبَنَّ بِالأَلِفْ

وَاجْرُرْ بِيَاءٍ مَا مِنَ الأَسْمَا أَصِفْ

مِنْ ذَاكَ "ذُو" إِنْ صُحْبَةً أَبَانَا

و"الْفَمُ" حَيْثُ الْمِيمُ مِنْهُ بَانَا

(فَلَاكَهُنَّ)؛ أي: مَضَغَهنّ، قال أهل اللغة: اللَّوْك: مُختصّ بمضغ الشيء

(1)

"شرح النوويّ" 14/ 123.

(2)

"تاج العروس" 1/ 173.

(3)

"لسان العرب" 1/ 186.

ص: 344

الصَّلْب، يقال: لاك اللُّقمة يلوكها لَوْكًا - من باب قال -: مضغها، ولاك الفرسُ اللِّجَامَ: عَضَّ عليه

(1)

.

(ثُمَّ فَغَرَ) بفتح الفاء، والغين المعجمة؛ أي: فتح صلى الله عليه وسلم (فَا الصَّبِيِّ)؛ أي: فمه (فَمَجَّهُ)؛ أي: رماه، وطرحه، يقال: مجّ الرجل الماء مِنْ فيه مجًّا، من باب نصر: رمى به. (فِي فِيهِ)؛ أي: في فم الصبيّ، (فَجَعَلَ)؛ أي: أخذ، وشرع (الصَّبِيُّ يَتَلَمَّظُهُ)؛ أي: يُحَرِّك لسانه؛ ليتتبع ما في فيه من آثار التمر، والتلمظُ، واللَّمْظُ فِعل ذلك باللسان، يقصد به فاعله تنقيةَ الفم من بقايا الطعام، وكذلك ما على الشفتين، وأكثر ما يَفعل ذلك في شيء يستطيبه، ويقال: تَلَمَّظ يَتَلَمّظ تلمُّظًا، ولَمَظَ يَلْمُظُ، بضم الميم، لَمْظًا بإسكانها - من باب نصر - ويقال لذلك الشيء الباقي في الفم: لُمَاظةٌ، بضم اللام، قاله النوويّ رحمه الله

(2)

.

(فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "حُبُّ الأَنْصَارِ التَّمْرَ") قال النوويّ رحمه الله: رُوي بضم الحاء، وكسرها، فالكسر بمعنى المحبوب؛ كالذِّبْح بمعنى المذبوح، وعلى هذا فالباء مرفوعة؛ أي: محبوبُ الأنصار التمرُ، وأما من ضم الحاء، فهو مصدرٌ، وفي الباء على هذا وجهان: النصب، وهو الأشهر، والرفع، فمَن نَصَب فتقديره: انظروا حُبَّ الأنصارِ التمرَ، فينصب التمر أيضًا، ومن رفع قال: هو مبتدأ حُذف خبره؛ أي: حبُّ الأنصار التمرَ لازم، أو هكذا، أو عادةٌ من صِغَرهم، والله أعلم. انتهى

(3)

.

(وَسَمَّاهُ)؛ أي: سمّى النبيّ صلى الله عليه وسلم ذلك الصبيّ (عَبْدَ الله) فيه استحباب التسمية بهذا الاسم، وقد تقدّم قوله صلى الله عليه وسلم:"أحبّ الأسماء إلى الله عبد الله، وعبد الرحمن"، والله تعالى أعلم.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أنس بن مالك رضي الله عنه هذا من أفراد

المصنّف رحمه الله.

(1)

"شرح النوويّ" 14/ 123، و"المصباح المنير" 2/ 560.

(2)

"شرح النوويّ" 14/ 123.

(3)

"شرح النوويّ" 14/ 123.

ص: 345

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [5/ 5600 و 5601 و 5602](2144)، ويأتي مطوّلًا في "كتاب فضائل الصحابة" برقم (2144)، و (البخاريّ) في "الأدب المفرد"(1254)، و (أبو داود) في "الأدب"(4951)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 175 و 212 و 287 - 288)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(2056)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4531)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(9/ 305)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان استحباب تحنيك المولود عند ولادته، قال النوويّ رحمه الله: وهو سُنَّة بالإجماع، كما سبق.

2 -

(ومنها): أن يحنّكه صالحٌ من رجل، أو امرأة، وأما قول النوويّ: ومنها: التبرك بآثار الصالحين، وريقهم، وكلِّ شيء منهم، فمحلّ نظر، فإن ذلك لم يُنقل عن الصحابة رضي الله عنهم، والتابعين، مع أنهم يرون فضل أبي بكر رضي الله عنه، وسائر الصحابة، فلم يثبت التبرّك بآثارهم، وريقهم، وكلّ شيء منهم، فالظاهر أنه خاصّ بالنبيّ صلى الله عليه وسلم، فتأمله حقّ التأمل، والله تعالى أعلم.

3 -

(ومنها): كون التحنيك بتمر، وهو مستحبّ، ولو حُنِّك بغيره حصل التحنيك، ولكن التمر أفضل.

4 -

(ومنها): جواز لبس العباءة.

5 -

(ومنها): التواضع، وتعاطي الكبير أشغاله، وأنه لا ينقص ذلك مروءته.

6 -

(ومنها): استحباب التسمية بعبد الله.

7 -

(ومنها): استحباب تفويض تسميته إلى صالح، فيَختار له اسمًا يرتضيه.

8 -

(ومنها): جواز تسميته يوم ولادته، والله أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5601]

(

) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ عَوْنٍ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: كَانَ ابْنٌ لأَبِي طَلْحَةَ

ص: 346

يَشْتَكِي، فَخَرَجَ أَبُو طَلْحَةَ، فَقُبِضَ الصَّبِيُّ، فَلَمَّا رَجَعَ أَبُو طَلْحَةَ قَالَ: مَا فَعَلَ ابْنِي؟، قَالَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ: هُوَ أَسْكَنُ مِمَّا كَانَ، فَقَرَّبَتْ إِلَيْهِ الْعَشَاءَ، فَتَعَشَّى، ثُمَّ أَصَابَ مِنْهَا، فَلَمَّا فَرَغَ قَالَتْ: وَارُوا الصَّبِيَّ، فَلَمَّا أَصْبَحَ أَبُو طَلْحَةَ أَتَى رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ:"أَعْرَسْتُمُ اللَّيْلَةَ؟ "، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ:"اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمَا"، فَوَلَدَتْ غُلَامًا، فَقَالَ لِي أَبُو طَلْحَةَ: احْمِلْهُ حَتَّى تَأْتِيَ بِهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَأَتَى بِهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، وَبَعَثَتْ مَعَهُ بِتَمَرَاتٍ، فَأَخَذَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:"أَمَعَهُ شَيْءٌ؟ "، قَالُوا: نَعَمْ، تَمَرَاتٌ، فَأَخَذَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَمَضَغَهَا، ثُمَّ أَخَذَهَا مِنْ فِيه، فَجَعَلَهَا فِي فِي الصَّبِيِّ، ثُمَّ حَنَّكَهُ، وَسَمَّاهُ عَبْدَ اللهِ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ) السلميّ مولاهم، أبو خالد الواسطيّ، ثقةٌ متقنٌ عابدٌ [9](ت 206) وقد قارب التسعين (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 45.

2 -

(ابْنُ عَوْنٍ) هو: عبد الله بن عون بن أرطبان، أبو عون البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فاضلٌ [5](ت 150) على الصحيح (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 303.

3 -

(ابْنُ سِيرِينَ) هو: أنس بن سيرين الأنصاريّ، أبو موسى، وقيل: أبو حمزة، وقيل: أبو عبد الله البصريّ، أبو محمد، ثقةٌ [3] (ت 118) وقيل:(120)(ع) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 47/ 1494.

وقيل: (ابن سيرين) هنا هو: محمد بن سيرين، والصواب الأول، كما يأتي قريبًا.

والباقيان ذُكرا في الباب، وقبله.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه أنس رضي الله عنه، تقدّم القول فيه في الحديث الماضي.

شرح الحديث:

(عَنِ ابْنِ سِيرِينَ) تقدّم أن الصواب هنا هو أنس بن سيرين، لا محمد بن

ص: 347

سيرين كما ذهب إليه بعض الشرّاح

(1)

، قال النوويّ في "شرحه": قوله: "عن ابن سيرين" هكذا وقع في مسلم: "ابن سيرين" مهملًا، وفي رواية البخاريّ هذا الحديث:"عن أنس بن سيرين". انتهى

(2)

.

والحاصل أن المهمل هنا هو أنس لا محمد، كما بيّنه الحافظ المزّيّ رحمه الله في "تحفته"، فإنه أورد هذا الحديث من رواية يزيد بن هارون عن ابن عون في ترجمة أنس بن سيرين، ولم يتعقّبه الحافظ في "نكته"، بل كتب ما يؤيّده

(3)

، وأما رواية ابن أبي عديّ التي سبقت عند مسلم [29/ 5542](2119)، وكذا رواية حمّاد بن مسعدة، كما في السند الآتي بعد هذا الحديث - كلاهما عن ابن عون - فهي عن محمد بن سيرين، كما صرّح به مسلم في الموضعين، وكذا صرّح به المزيّ حيث أورد هاتين الروايتين في ترجمة محمد بن سيرين.

والحاصل أن الصحيح أن رواية يزيد بن هارون عن ابن عون، هي عن أنس بن سيرين، وأما رواية ابن أبي عديّ، وحمّاد بن مسعدة كلاهما عن ابن عون فهي عن محمد بن سيرين، والله تعالى أعلم.

(عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: كَانَ ابْنٌ لأَبِي طَلْحَةَ) زيد بن سهل بن الأسود بن حرام الأنصاريّ النجّاريّ، مشهور بكنيته، من كبار الصحابة رضي الله عنهم، شهِد بدرًا، وما بعدها، ومات سنة (34)، وقيل غير ذلك، تقدّمت ترجمته في تقدم في "الحيض" 7/ 720.

[تنبيه]: الابن المذكور هو أبو عُمير الذي كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يمازحه، ويقول

(1)

هو: الشيخ الهرريّ. راجع: "شرحه" 22/ 43.

(2)

"شرح النوويّ" 14/ 125.

(3)

وأما قول الحافظ في "النكت": لم يقع ابن سيرين في رواية حمّاد بن مسعدة مسمّى، بخلاف رواية ابن أبي عديّ، فسمّاه فيها محمدًا. انتهى. ففيه نظر لا يخفى، فإن النُّسخ التي بين أيدينا من "صحيح مسلم" كلها متّفقة على تسميته محمدًا في روايتي ابن أبي عديّ، وحماد بن مسعدة، وإنما لم يُسمَّ في رواية يزيد بن هارون هذه، ولعله التبست عليه هذه الرواية بروايتيهما.

والحاصل: أن نُسخ مسلم فيها تسميته محمدًا في روايتي ابن أبي عديّ، وحماد بن مسعدة، بخلاف رواية يزيد بن هارون، فليُتنبّه، والله تعالى أعلم.

ص: 348

له: "يا أبا عُمير ما فَعَلَ النُّغَير"، بَيَّن ذلك ابن حبان في روايته من طريق عُمارة بن زاذان، عن ثابت، وزاد من طريق جعفر بن سليمان، عن ثابت في أوله قِصَّةَ تزويج أم سليم بأبي طلحة بشرط أن يُسلم، وقال فيه: فحَمَلت، فولدت غلامًا صبيحًا، فكان أبو طلحة يحبه حبًّا شديدًا، فعاش حتى تحرّك، فمَرِض، فحَزِن أبو طلحة عليه حزنًا شديدًا، حتى تضعضع، وأبو طلحة يغدو، ويروح على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فراح روحةً، فمات الصبيّ. فأفادت هذه الرواية تسمية امرأة أبي طلحة، قاله في "الفتح"

(1)

.

[تنبيه آخر]: أخرج هذا الحديث مسلم هنا من رواية محمد بن سيرين، عن أنس، وسيأتي له في "كتاب الفضائل" من رواية سليمان بن المغيرة، عن ثابت، عن أنس، وأخرجه البخاريّ من رواية ابن عيينة، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن أنس، وأخرجه الإسماعيليّ من طريق عبد الله بن عبد الله بن أبي طلحة، وهو أخو إسحاق المذكور، عن أنس، وأخرجه محمد بن سعد من طريق حميد الطويل عن أنس، وفي رواية بعضهم ما ليس في رواية بعض، وسيأتي ما في كلٍّ من فائدة زائدة، كما حقّقه الحافظ رحمه الله في "الفتح" - إن شاء الله تعالى. (يَشْتَكِي) قال القرطبيّ رحمه الله: أي: أصابه ما يُشتكَى منه، وهو المرض، لا أنه صَدَرت عنه شكوى، هذا أصله، لكنَّه قد كَثُر تسمية المرض بذلك. انتهى

(2)

.

ولفظ البخاريّ: "اشتكى ابن لأبي طلحة"؛ أي: مَرِض، وليس المراد أنه صدرت منه شكوى، لكن لَمّا كان الأصل أن المريض يحصل منه ذلك استُعْمِل في كل مرض لكل مريض

(3)

. (فَخَرَجَ أَبُو طَلْحَةَ)؛ أي: من البيت إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولفظ البخاريّ:"وأبو طلحة خارجٌ"؛ أي: خارج البيت عند النبيّ صلى الله عليه وسلم في أواخر النهار، وفي رواية الإسماعيليّ:"كان لأبي طلحة ولد، فتُوُفّي، فأرسلت أم سليم أنسًا يدعو أبا طلحة، وأمرته أن لا يخبره بوفاة ابنه، وكان أبو طلحة صائمًا".

(1)

"الفتح" 4/ 57، كتاب "الجنائز" رقم (1301).

(2)

"المفهم" 5/ 467.

(3)

"الفتح" 4/ 57، كتاب "الجنائز" رقم (1301).

ص: 349

(فَقُبضَ) بالبناء للمفعول؛ أي: مات (الصَّبِيُّ) وفي رواية للبخاريّ: "فلمّا رأت امرأَته أنه قد مات هيّأت شيئًا، ونَحّته في جانب البيت"، قال الكرمانيّ رحمه الله: قوله: "هيّأت شيئًا"؛ أي: أعدّت طعامًا لأبي طلحة، وأصلحته، وقيل: هيأت حالها، وتزينت، قال الحافظ: بل الصواب أن المراد أنها هيأت أمر الصبيّ، بأن غسلته، وكفّنته، كما ورد في بعض طرقه صريحًا، ففي رواية أبو داود الطيالسيّ عن مشايخه، عن ثابت:"فهيأت الصبيّ"، وفي رواية حُميد، عند ابن سعد:"فتُوُفّي الغلام، فهيأت أم سليم أمره"، وفي رواية عُمارة بن زاذان، عن ثابت:"فهلك الصبيّ، فقامت أم سليم، فغسلته، وكفنته، وحنّطته، وسَجَّت عليه ثوبًا".

وقوله: "ونحّته في جانب البيت"؛ أي: جعلته في جانب البيت، وفي رواية جعفر، عن ثابت:"فجعلته في مِخْدَعها"

(1)

.

(فَلَمَّا رَجَعَ أَبُو طَلْحَةَ قَالَ: مَا فَعَلَ ابْنِي؟) وفي رواية البخاريّ: "كيف الغلام؟ "(قَالَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ: هُوَ أَسْكَنُ مِمَّا كَانَ) قال القرطبيّ رحمه الله: هذا من المعاريض المغنية عن الكذب؛ فإنَّها أوهمته أن الصبيّ سكن ما كان به، بلفظٍ يصلح إطلاقه لِمَا عندها من موته، ولمَا فهمه أبو طلحة، من سكون مرضه، وهذا كله لئلا تفاجئه بالإعلام بالمصيبة، فيتنغَّص عليه عيشه، ويتكدَّر عليه وقته، فلما حصلت راحته من تعبه، وطاب عيشه بإصابة لذَّته التي ارتجت بسببها أن يكون لهما عِوَض، وخَلَفٌ مما فاته عرَّفته بذلك، فبلَّغها الله أمنيَّتها، وأصلح ذريَّتها. انتهى

(2)

.

وفي رواية البخاريّ: "قال: قد هدأت نفسه، وأرجو أن يكون قد استراح، وظنّ أبو طلحة أنها صادقةٌ"، وقولها:"وأرجو".

وقولها: "هدأت" بالهمز؛ أي: سكنت، و"نفسه" بسكون الفاء، والمعنى: أن النفس كانت قَلِقَةً مُنزعجةً بعارض المرض، فسكنت بالموت، وظن أبو طلحة أن مرادها أنها سكنت بالنوم؛ لوجود العافية، وفي رواية أبي

(1)

"الفتح" 4/ 57 - 58، كتاب "الجنائز" رقم (1301).

(2)

"المفهم" 5/ 467.

ص: 350

ذرّ: "هَدَأ نَفَسُهُ"، بفتح الفاء؛ أي: سكن؛ لأن المريض يكون نَفَسه عاليًا، فإذا زال مرضه سكن، وكذا إذا مات، ووقع في رواية أنس بن سيرين:"هو أسكن ما كان"، ونحوه في رواية جعفر، عن ثابت، وفي رواية معمر، عن ثابت:"أمسى هادئًا"، وفي رواية حميد:"بخيرِ ما كان"، ومعانيها متقاربة.

وقولها: "وأرجو أن يكون قد استراح" لم تجزم بذلك على سبيل الأدب، ويَحْتَمِل أنها لم تكن علمت أن الطفل لا عذاب عليه، ففوَّضت الأمر إلى الله تعالى، مع وجود رجائها بأنه أستراح من نكد الدنيا.

وقوله: وظنّ أبو طلحة أنها صادقة"؛ أي: بالنسبة إلى ما فهمه من كلامها، وإلا فهي صادقة بالنسبة إلى ما أرادت، قاله في "الفتح"

(1)

.

(فَقَرَّبَتْ إِلَيْهِ الْعَشَاءَ، فَتَعَشَّى، ثُمَّ أَصَابَ مِنْهَا)؛ أي: جامعها، وفي رواية عبد الله:"ثم تعرّضت له، فأصاب منها"، وفي رواية حماد، عن ثابت:"ثم تطيَّبت"، زاد جعفر، عن ثابت:"فتعرّضت له، حتى وقع بها"، وفي رواية سليمان، عن ثابت:"ثم تصنّعت له أحسن ما كانت تصنع قبل ذلك، فوقع بها"، وفي رواية ابن عيينة، عن إسحاق:"فبات، فلما أصبح اغتسل"، وهو كناية عن الجماع؛ لأن الغُسل إنما يكون في الغالب منه.

(فَلَمَّا فَرَغَ)؛ أي: من حاجته، (قَالَتْ: وَارُوا الصَّبِيَّ)؛ أي: ادفنوه، وهو أمرٌ من مواراة الشيء، مسندٌ لواو الجماعة، يقال: واراه يواريه مواراةً: إذا ستره، وغطّاه

(2)

.

وفي رواية للبخاريّ: "فلما أراد أن يخرج أعلمته أنه قد مات"، وسيأتي لمسلم في "كتاب الفضائل" من رواية سليمان بن المغيرة، عن ثابت، عن أنس:"فقالت: يا أبا طلحة، أرأيت لو أن قومًا أعاروا أهل بيت عاريةً، فطلبوا عاريتهم، ألهم أن يمنعوهم؟ قال: لا، قالت: فاحتسب ابنك، فغضب، وقال: تركتني حتى تلطخت، ثم أخبرتني بابني"، وفي رواية عبد الله بن أبي طلحة: "فقالت: يا أبا طلحة أرأيت قومًا أعاروا متاعًا، ثم بدا لهم فيه،

(1)

"الفتح" 4/ 58، كتاب "الجنائز" رقم (1301).

(2)

"المصباح المنير" 2/ 656.

ص: 351

فأخذوه، فكأنهم وَجَدوا في أنفسهم"، زاد حماد في روايته، عن ثابت: "فأبوا أن يردّوها، فقال أبو طلحة: ليس لهم ذلك، إن العارية مؤداةٌ إلى أهلها -ثم اتفقا- فقالت: إن الله أعارنا فلانًا، ثم أخذه منا -زاد حماد- فاسترجع".

(فَلَمَّا أَصْبَحَ)؛ أي: دخل في الصباح، (أَبُو طَلْحَةَ) رضي الله عنه (أَتَى رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَخْبَرَهُ) وفي رواية البخاريّ: "فصلّى مع النبيّ صلى الله عليه وسلم، ثم أخبره بما كان منهما"، (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("أَعْرَسْتُمُ اللَّيْلَةَ؟ ") استفهام محذوف الأداة، والعين ساكنة، من الإعراس، وهو الوطء، يقال: أعرس بأهله: إذا غشيها، ووقع في رواية الأصيليّ:"أَعَرَّستم" بفتح العين، وتشديد الراء، وقال عياض: هو غلط؛ لأن التعريس النزول في آخر الليل، ورُدّ عليه بأنه لغة يقال: أعرس، وعَرَّس: إذا دخل بأهله، والأفصح أعرس، قال ابن التيميّ في "كتاب التحرير" في شرح مسلم له: وهذا السؤال للتعجب من صُنعهما، وصبرهما، وسروره بحسن رضائها بقضاء الله تعالى، قاله في "العمدة"، والفتح"

(1)

.

(قَالَ) أبو طلحة (نَعَمْ) أعرسنا، (قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("اللهُمَّ بَارِكْ لَهُمَا) وفي الرواية الآتية في "الفضائل":"بارك الله لكما في غابر ليلتكما"؛ أي: في ليلتكما الماضية، وفي رواية البخاريّ:"لعلّ الله أن يبارك لكما في ليلتكما"، قال في "الفتح": ولا تعارض بينهما، فيُجمع بأنه دعا بذلك، ورجا إجابة دعائه، ولم تختلف الرواة عن ثابت، وكذا عن حميد في أنه قال:"بارك الله لكما في ليلتكما"، وتبيّن من الرواية الأُولى أن المراد بهذا الدعاءُ، وإن كان لفظه لفظ الخبر.

[تنبيه]: زاد في رواية ابن عيينة عند البخاريّ: "قال سفيان: فقال رجل من الأنصار: فرأيت لهما تسعة أولاد كلّهم قد قرأ القرآن".

وقوله: "فقال رجل من الأنصار

إلخ" هو عَبَاية بن رفاعة؛ لِمَا أخرجه سعيد بن منصور، ومسدَّد، وابن سعد، والبيهقىّ في "الدلائل" كلهم من طريق سعيد بن مسروق، عن عَبَاية بن رفاعة، قال: كانت أم أنس تحت أبي طلحة، فذكر القصّة شبيهة بسياق ثابت، عن أنس، وقال في آخره: فولدت له

(1)

"عمدة القاري" 21/ 85، و"الفتح" 12/ 402، كتاب "العقيقة" رقم (5470).

ص: 352

غلامًا، قال عباية: فلقد رأيت لذلك الغلام سبع بنين كلهم قد خَتَم القرآن.

وأفادت هذه الرواية أن في رواية سفيان تجوّزًا في قوله: "لهما"؛ لأن ظاهره أنه مِنْ ولدهما بغير واسطة، وإنما المراد: من أولاد ولدهما المدعوّ له بالبركة، وهو عبد الله بن أبي طلحة.

ووقع في رواية سفيان: "تسعة"، وفي هذه سبعة، فلعل في أحدهما تصحيفًا، أو المراد بالسبعة: مَن خَتَم القرآن كله، وبالتسعة: من قرأ معظمه.

وله من الولد فيما ذكر ابن سعد وغيره من أهل العلم بالأنساب: إسحاق، وإسماعيل، وعبد الله، ويعقوب، وعُمر، والقاسم، وعُمارة، وإبراهيم، وعُمير، وزيد، ومحمد، وأربع من البنات، قاله في "الفتح"

(1)

.

(فوَلَدَتْ غُلَامًا) هو عبد الله، (فَقَالَ لِي أَبُو طَلْحَةَ) وتقدّم في "باب جواز وسم الحيوان" أن الآمرة لأنس هي أمه، ولفظه:"لَمّا وَلَدت أم سليم قالت لي: يا أنس انظر هذا الغلام، فلا يُصيبنّ شيئًا، حتى تغدو به إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم يحنكه، قال: فغدوت، فإذا هو في الحائط، وعليه خميصة جَوْنيّة، وهو يَسِم الظهر الذي قَدِمَ عليه في الفتح".

ويُجمع بأن كلًّا منهما أَمَره بذلك، والله تعالى أعلم.

(احْمِلْهُ)؛ أي: الغلام، (حَتَّى تَأْتِيَ بِهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم)؛ أي: ليحنّكه، (فَأَتَى بِهِ) بالبناء للفاعل؛ أي: جاء أنس بذلك الغلام (النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم، وَبَعَثَتْ) أم سليم، وهذا يدلّ على أنها أيضًا أمرته بالذهاب إليه صلى الله عليه وسلم، (مَعَهُ)؛ أي: مع الغلام، أو مع أنس، (بِتَمَرَاتٍ) وفي الرواية الآتية في "الفضائل":"ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعجوة من عجوة المدينة، فلاكها في فيه حتى ذابت، ثمّ قذفها في في الصبيّ، فجعل الصبيّ يتلمّظها"(فَأَخَذَهُ)؛ أي: الغلام (النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("أَمَعَهُ شَىْءٌ؟ ")؛ أي: مما يُحنّك به، (قَالُوا)؛ أي: أنس ومن حضر الواقعة، (نَعَمْ، تَمَرَاتٌ)؛ أي: معه تمرات، (فَأَخَدَهَا)؛ أي: التمرات، (النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم، فَمَضَغَهَا، ثُمَّ أَخَذَهَا مِنْ فِيهِ) صلى الله عليه وسلم (فَجَعَلَهَا فِي فِي الصَّبِىِّ، ثُمَّ حَنَّكَهُ) والتحنيك: مضْغ الشيء، ووضْعه في فم الصبيّ، ودلك حَنَكه به، يُصْنَع ذلك بالصبيّ؛ لِيَتَمَرَّن على الأكل، ويَقْوَى

(1)

"الفتح" 4/ 59، كتاب "الجنائز" رقم (1301).

ص: 353

عليه، وينبغي عند التحنيك أن يَفتح فاه، حتى ينزل جِوفَهُ، وأَولاه التمر، فإن لم يتيسّر تمر فرُطَبٌ، وإلا فشيء حُلْوٌ، وعسل النحل أَولى من غيره، ثم ما لم تمسّه نار، كما في نظيره مما يُفْطِر الصائم عليه، قاله في "الفتح"

(1)

.

(وَسَمَّاهُ عَبْدَ اللهِ)؛ أي: سمّى النبيّ صلى الله عليه وسلم ذلك الغلام عبد الله، والله تعالى أعلم.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أنس بن مالك رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [5/ 5601 و 5602](2144)، و (البخاريّ) في "العقيقة"(5470) و"اللباس"(5824)، و (أبو داود) في "الأدب"(4951)، و (النسائيّ) في "النكاح"(6/ 114)، و (الطيالسيّ) في"مسنده"(2056)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(10417)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 105 - 106)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4532 و 7187)، و (الطبرانىّ) في "الكبير"(25/ 272)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(3283) و (ابن سعد) في "الطبقات"(8/ 431 - 432)، و (البيهقىّ) في "الكبرى"(4/ 65 - 66 و 9/ 305)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): استحباب تحنيك المولود عند ولادته، وحَمْله إلى صالحٍ يحنكه.

قال القرطبيّ رحمه الله: وأحاديث هذا الباب كلها متواردة على أن إخراج الصغار عند ولادتهم للنبيّ صلى الله عليه وسلم، وتحنيكهم بالتمر كان سُنَّةً معروفةً معمولًا بها، فلا ينبغي أن يُعْدَل عن ذلك؛ اقتداءً بالنبيّ صلى الله عليه وسلم، واغتنامًا لبركة الصالحين، ودعائهم. انتهى

(2)

.

(1)

"الفتح" 12/ 400، كتاب "العقيقة" رقم (5470).

(2)

"المفهم" 5/ 468.

ص: 354

قال الجامع عفا الله عنه: لكن قياس غيره صلى الله عليه وسلم عليه في هذا محلّ نظر؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم لم يفعلوه مع أكابرهم؛ كالصدّيق، والفاروق، وغيرهما رضي الله عنهم، فتبصّر، والله تعالى أعلم.

2 -

(ومنها): استحباب التسمية يوم ولادته.

3 -

(ومنها): تفويض التسمية إلى الصالحين.

4 -

(ومنها): منقبة أم سليم رضي الله عنها، من عظيم صبرها، وحسن رضائها بالقضاء، وجزالة عقلها في إخفائها موته عن أبيه في أول الليل؛ ليبيت مستريحًا.

وقال القرطبيّ رحمه الله: هذا الحديث يدل على فضل أم سُليم رضي الله عنها وتثبُّتها، وصبرها عند الصدمة الأولى، وكمال عقلها، وحسن تبعّلها لزوجها.

5 -

(ومنها): جواز الأخذ بالشدّة، وترك الرخصة، مع القدرة عليها، والتسلية عن المصائب.

6 -

(ومنها): تزيّن المرأة لزوجها، وتعرّضها لطلب الجماع منه، واجتهادها في عمل مصالحه.

7 -

(ومنها): مشروعية المعاريض الموهمة، إذا دعت الضرورة إليها، وشَرْط جوازها أن لا تُبطل حقًّا لمسلم، وكان الحامل لأم سليم على ذلك المبالغة في الصبر، والتسليم لأمر الله تعالى، ورجاء إخلافه عليها ما فات منها؛ إذ لو أعلمت أبا طلحة بالأمر في أول الحال تنكد عليه وقته، ولم تبلغ الغرض الذي أرادته، فلمّا عَلِم الله صدق نيّتها بلّغها مُناها، وأصلح لها ذريتها.

8 -

(ومنها): إجابة دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في حقهما، حيث حملت بعبد الله بن أبي طلحة، وجاء من عبد الله عشرة صالحون، علماء رضي الله عنهم.

قال القرطبيّ رحمه الله: وفي هذا الحديث ما يدل على إجابة دعوة النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعلى عِظَم مكانته، وكرامته عند الله تعالى، وكم له منها، وكم! حتى قد حصل بذلك العلم القطعي، واليقين الضروريّ، وذلك أنه لمّا دعا لأم سليم، وزوجها ولدت له من ذلك الغشيان عبد الله، وكان من أفاضل الصحابة رضي الله عنهم، ثمَّ وُلد له عدَّة من الفضلاء، الفقهاء العلماء: إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، وإخوته

ص: 355

العشرة، كما هو مذكور في "الاستيعاب". انتهى

(1)

.

9 -

(ومنها): أن من ترك لله شيئًا عوّضه الله خيرًا منه، وبيان حال أم سليم من التجلّد، وجودة الرأي، وقوة العزم وقد صحّ أنها كانت تشهد القتال، وتقوم بخدمة المجاهدين، إلى غير ذلك مما انفردت به عن معظم النسوة، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5602]

(. . .) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدثَنَا حَمَّادُ بْنُ مَسْعَدَةَ، حَدَّثَنَا ابْنُ عَوْنٍ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَنَسٍ، بِهَذِهِ الْقِصَّةِ، نَحْوَ حَدِيثِ يَزِيدَ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ) بُندار، تقدّم قبل باب.

2 -

(حَمَّادُ بْنُ مَسْعَدَةَ) التيميّ، أبو سعيد البصريّ، ثقةٌ [9](ت 202)(ع) تقدم في "الصلاة" 51/ 1140.

3 -

(مُحَمَّدُ) بن سيرين الأنصاريّ، أبو بكر بن أبي عمرة البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ عابدٌ، كبير القَدْر [3](110)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 308.

والباقيان ذُكرا قبله.

وقوله: (نَحْوَ حَدِيثِ يَزِيدَ)؛ يعني: أن حديث حمّاد بن مسعد عن ابن عون نحوُ حديث يزيد بن هارون عنه.

[تنبيه]: رواية حماد بن مسعد عن ابن عون هذه لم أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكلتاب قال:

[5603]

(2145) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ بَرَّادٍ الأَشْعَرِيُّ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، قَالُوا: حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ بُرَيْدٍ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى، قَالَ: وُلِدَ لِي غُلَامٌ، فَأَتَيْتُ بِهِ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم، فَسَمَّاهُ إِبْرَاهِيمَ، وَحَنَّكَهُ بِتَمْرَةٍ).

(1)

"المفهم" 5/ 467 - 468.

ص: 356

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ بَرَّادٍ الأَشْعَرِيُّ) أبو عامر الكوفي، صدوق [10] تقدم في "المقدمة" 6/ 51.

2 -

(بُرَيْدُ) بن عبد الله بن أبي بُردة الأشعريّ الكوفيّ، ثقةٌ [6](ع) تقدم في "الإيمان" 16/ 171.

3 -

(أَبُو بُرْدَةَ) بن أبي موسى الأشعريّ، اسمه عامر، أو الحارث، ثقةٌ [3](ت 104) وقيل غير ذلك (ع) تقدم في "الإيمان" 16/ 171.

4 -

(أَبُو مُوسَى) عبد الله بن قيس بن سُليم بن حضّار الأشعريّ الصحابيّ الشهير، مات سنة (50)(ع) تقدم في "الإيمان" 16/ 171.

والباقون ذُكروا في الباب، وقبل باب.

[تنبيه]: من لطائف هدا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه ثلاثة من الشيوخ قرن بينهم، وأنه مسلسل بالكوفيين من أوله إلى آخره، وفيه رواية الراوي عن جدّه، عن أبيه، وأن صحابيّه من مشاهير الصحابة رضي الله عنهم ذو مناقب جمّة.

شرح الحديث:

(عَنْ بُرَيْدِ) -بالموحّدة، والراء، مصغّرًا- ابن عبد الله بن أبي بُردة، يروي عن جدّه أبي بُردة، عن أبي موسى الأشعريّ نسخة. (عَنْ أَبِي بُرْدَةَ) عامر، أو الحارث، وقيل: اسمه كنيته. (عَنْ أَبِي مُوسَى) عبد الله بن قيس الأشعريّ رضي الله عنه أنه (قَالَ: وُلِدَ) بالبناء للمفعول، (لِي غُلَامٌ، فَأَتَيْتُ بِهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَسَمَّاهُ اِبْرَاهِيمَ) قال في "الفتح": إبراهيم هذا ذكره جماعة في الصحابة؛ لِمَا وقع في هذا الحديث، وذلك يقتضي أن تكون له رواية، وقد ذكره ابن حبان في الصحابة، وقال: لم يسمع من النبيّ صلى الله عليه وسلم شيئًا، ثم ذكره في ثقات التابعين، وليس ذلك تناقضًا منه، بل هو بالاعتبارين. انتهى

(1)

.

(وَحَنَّكَهُ بِتَمْرَةٍ) قال في "الفتح": فيه إشعار بأنه أسرع بإحضاره إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأن تحنيكه كان بعد تسميته.

(1)

"الفتح" 12/ 400 - 401، رقم (4567).

ص: 357

[تنبيه]: زاد في رواية البخاريّ في آخر هذا الحديث ما نصّه: "ودعا له بالبركة، ودفعه إليّ، وكان أكبر ولد أبي موسى". انتهى.

وقوله: "وكان أكبر ولد أبي موسى" هذا يُشعر بأن أبا موسى كُنِي قبل أن يولد له، وإلا فلو كان الأمر على غير ذلك لَكُنِّي بابنه إبراهيم المذكور، ولم يُنقل أنه كان يكنى أبا إبراهيم، قاله في "الفتح"

(1)

، والله تعالى أعلم.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [5/ 5603](2145)، و (البخاريّ) في "العقيقة"(5467) و"الأدب"(6198)، وفي "الأدب المفرد"(1/ 292)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 399)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(5/ 37)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(13/ 302)، و (ابن سعد) في "الطبقات"(4/ 107)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(9/ 305) و"شُعَب الإيمان"(6/ 390)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): استحباب التحنيك وغيره مما سبق في حديث أنس رضي الله عنه.

2 -

(ومنها): جواز التسمية بأسماء الأنبياء عليهم السلام وقد سبقت المسألة، وذكرنا أن الجماهير على ذلك.

3 -

(ومنها): أن قوله صلى الله عليه وسلم: "أحب الأسماء إلى الله تعالى عبد الله، وعبد الرحمن" ليس بمانع من التسمية بغيرهما، ولذا سَمَّى النبيّ صلى الله عليه وسلم ابنَ أبي أسيد المذكور بعد هذا المنذرَ، قاله النوويّ رحمه الله

(2)

.

4 -

(ومنها): جواز التسمية يوم الولادة، قال في "الفتح": فيه تعجيل تسمية المولود، ولا يُنتظر بها إلى السابع، وأما ما رواه أصحاب "السنن" الثلاثة من حديث الحسن، عن سَمُرة في حديث العقيقة: "تُذبح عنه يوم

(1)

"الفتح" 14/ 74، كتاب "الأدب" رقم (6198).

(2)

"شرح النوويّ" 14/ 125 - 126.

ص: 358

السابع، ويُسَمَّى"، فقد اختُلف في هذه اللفظة، هل هي يُسَمَّى، أو يُدَمَّى بالدال بدل السين؟

قال: ويدلّ على أن التسمية لا تختص بالسابع ما ثبت في حديث أبي أسيد، أنه أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم بابنه حين وُلد، فسمّاه المنذر، وما أخرجه مسلم من حديث ثابت، عن أنس، رفعه: "قال: وُلد لي الليلة غلامٌ، فسمّيته باسم أبي إبراهيم، ثم دفعه إلى أم سيف

" الحديث.

قال البيهقيّ: تسمية المولود حين يولد أصحّ من الأحاديث في تسميته يوم السابع.

قال الحافظ: وقد ورد فيه غير ما ذُكر، ففي البزار، وصحيحي ابن حبان والحاكم، بسند صحيح، عن عائشة رضي الله عنها قالت:"عَقَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحسن، والحسين، يوم السابع، وسمّاهما". وللترمذيّ من طريق عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدّه: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم بتسمية المولود لسابعه، وهذا من الأحاديث التي يتعيَّن فيها أن الجدّ هو الصحابيّ، لا جدّ عمرو الحقيقيّ محمد بن عبد الله بن عمرو.

وفي الباب عن ابن عباس: "قال: سبعة من السُّنَّة في الصبيّ يوم السابع، يُسَمَّى، ويُخْتَن، ويماط عنه الأذى، وتُثقَب أُذُنه، ويُعَقّ عنه، ويُحلق رأسه، ويلطَّخ من عقيقته، ويُتصدَّق بوزن شعر رأسه ذهبًا، أو فضّةً"، أخرجه الطبرانيّ في "الأوسط"، وفي سنده ضعف.

وفيه أيضًا عن ابن عمر، رفعه:"إذا كان يوم السابع للمولود، فأهريقوا عنه دمًا، وأميطوا عنه الأذى، وسَمُّوه"، وسنده حسن. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5604]

(2146) - (حَدَّثَنَا الْحَكَمُ بْنُ مُوسَى أَبُو صَالِحٍ، حَدَّثَنَا شُعَيْبٌ -يَعْنِي: ابْنَ إِسْحَاقَ- أَخْبَرَنِي هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، حَدَّثَنِى عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَفَاطِمَةُ

(1)

"الفتح" 12/ 401، كتاب "العقيقة" رقم (5467).

ص: 359

بِنْتُ الْمُنْذِرِ بْنِ الزُّبَيْرِ، أنَّهُمَا قَالَا: خَرَجَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ، حِينَ هَاجَرَتْ، وَهِىَ حُبْلَى بِعَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، فَقَدِمَتْ قُبَاءً، فَنُفِسَتْ بِعَبْدِ اللهِ بِقُبَاءٍ، ثُمَّ خَرَجَتْ حِينَ نُفِسَتْ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِيُحَنِّكَهُ، فَأَخَذَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْهَا، فَوَضَعَهُ فِي حَجْرِهِ، ثُمَّ دَعَا بِتَمْرَةٍ، قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ: فَمَكَثْنَا سَاعَةً، نَلْتَمِسُهَا قَبْلَ أَنْ نَجِدَهَا، فَمَضَغَهَا، ثُمَّ بَصَقَهَا فِي فِيهِ، فَإِنَّ أَوَّلَ شَيءٍ دَخَلَ بَطْنَهُ لَرِيقُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ قَالَتْ أَسْمَاءُ: ثُمَّ مَسَحَهُ، وَصَلَّى عَلَيْهِ، وَسَمَّاهُ عَبْدَ اللهِ، ثُمَّ جَاءَ، وَهُوَ ابْنُ سَبْعِ سِنِينَ، أوْ ثَمَانٍ؛ لِيُبَايِعَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَمَرَهُ بِذَلِكَ الزُّبَيْرُ، فَتبسَّمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ رَآهُ مُقْبِلًا إِلَيْهِ، ثُمَّ بَايَعَهُ).

رجال هذا الإِسناد: ستّةٌ:

1 -

(الْحَكَمُ بْنُ مُوسَى أَبُو صَالِحٍ) البغداديّ الْقَنْطَريّ، ثقةٌ [10](ت 232)(خت م مد س ق) تقدم في "الإيمان" 46/ 294.

2 -

(شُعَيْبُ بْنُ إِسْحَاقَ) بن عبد الرحمن الأمويّ مولاهم البصريّ، ثمّ الدمشقيّ، ثقةٌ رُمي بالإرجاء، من كبار [9](ت 189)(خ م د س ق) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 34/ 1418.

3 -

(هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ) المدنيّ، تقدّم قريبًا.

4 -

(عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ) المدنيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

5 -

(فَاطِمَةُ بِنْتُ الْمُنْذِرِ بْنِ الزُّبَيْرِ) زوجة هشام الراوي عنها، تقدّمت أيضًا قريبًا.

6 -

(أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ) الصدّيق رضي الله عنهما، تقدّمت أيضًا قريبًا.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالمدنيين من هشام، وأنه مسلسلٌ بالتحديث والإخبار، وأن فيه رواية تابعيّ عن تابعيين، والراوي عن أبيه، وزوجته، كلاهما عن أسماء، وهي جدّة هشام، وفاطمة، وأم عروة.

شرح الحديث:

عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ أنه قال: (حَدَّثَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ) هو أبوه، (وَفَاطِمَةُ

ص: 360

بِنْتُ الْمُنْذِرِ بْنِ الزُّبَيْرِ) هي زوجته، وبنت عمّه، (أنَّهُمَا قَالَا: خَرَجَتْ)؛ أي: من مكة، (أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِى بَكْرٍ) الصدّيق رضي الله عنهما.

[تنبيه]: قولهما: "خرجت

إلخ" ظاهره يوهم أنه من باب الإرسال؛ لأنهما لم يشهدا القصّة، وليس كذلك؛ لأن الرواية التالية بيّنت أنهما روياه عن أسماء نفسها، ولفظها: "قالت: فخرجتُ، وأنا متمّ

" الحديث.

وقد أجاد الحافظ رحمه الله في "الفتح" البحث فيه، حيث قال عند الكلام على حديث عائشة رضي الله عنها: هو محمول على أنه عن عروة عن أمه أسماء، وعن خالته عائشة، فقد أخرجه البخاريّ من رواية أبي أسامة، عن هشام على الوجهين، كما ترى، وفي رواية أسماء زيادة تختصّ بها، وقد ذكر البخاريّ لحديث أسماء متابعًا، وهي الرواية المعلَّقة التي فرغنا منها

(1)

.

وذكر أبو نعيم لحديث عائشة رضي الله عنها متابِعًا، من رواية عبد الله بن محمد بن يحيى، عن هشام.

وأخرج مسلم من طريق أبي خالد الأحمر، عن هشام، مختصرًا نحوه.

وأخرج مسلم من طريق شعيب بن إسحاق، عن هشام ما يقتضي أنه عند عروة عن أمه، وخالته، ولفظه: "عن هشام، حدّثني عروة، وفاطمة بنت المنذر، قالا: خرجت أسماء حين هاجرت، وهي حبلى بعبد الله بن الزبير، قالت

(2)

:

(1)

هي قوله بعد رواية حديث أسماء عن زكريّا بن يحيى، عن أبي أسامة عن هشام

إلخ ما نصّه: تابعه خالد بن مخلد عن عليّ بن مسهر، عن هشام، عن أبيه، عن أسماء رضي الله عنها أنها هاجرت إلى النبىّ صلى الله عليه وسلم، وهي حبلى. انتهى.

قال في"الفتح": قوله: "تابعه خالد بن مخلد" وصله الإسماعيليّ من طريق عثمان بن أبي شيبة، عن خالد بن مخلد، بهذا السند، ولفظه:"أنها هاجرت، وهي حبلى بعبد الله، فوضعته بقباء، فلم تُرضعه حتى أتت به النبىّ صلى الله عليه وسلم "نحوه، وزاد في آخره:"ثم صلى عليه -أي: دعا له- وسمّاه عبد الله". انتهى.

(2)

ظاهر قوله: قالت: فقدمت، ونفست، ثم خرجت، كلها بتاء المتكلّم، من قول أسماء، لكن جميع النُّسخ عندنا ليس فيها "قالت"، وكلها بتاء التأنيث، والفعل مسندَ إلى ضمير الغائبة، فهو من قول عروة وفاطمة، والظاهر أن لفظة "قالت" غلط وقع في "الفتح"، فليُتنبّه.

ص: 361

فقدمت قباء، فنفست به، ثم خرجت، فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحنكه ثم دعا بتمرة، قالت عائشة: فمكثنا ساعةً نلتمسها، قبل أن نجدها، فمضغها

" الحديث، فهذا الحديث فيه البيان أنه عند عروة عنهما جميعًا، وزاد في آخر هذا الطريق: "وسمّاه عبد الله، ثم جاء وهو ابن سبع سنين، أو ثمان ليبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمره بذلك الزبير، فتبسَّم، وبايعه".

وقد ذكر ابن إسحاق أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لَمّا قَدِم المدينة بَعَثَ زيد بن حارثة، فأَحضر زوجته سودة بنت زمعة، وبنتيه فاطمة، وأم كلثوم، وأم أيمن زوج زيد بن حارثة، وابنها أسامة، وخرج معهم عبد الله بن أبي بكر، ومعه أمه أمّ رُومان، وأختاه عائشة وأسماء، فقدموا، والنبيّ صلى الله عليه وسلم يبني مسجده، ومجموع هذا مع قولها:"فولدته بقباء" يدلّ على أن عبد الله بن الزبير وُلد في السنة الأولى من الهجرة. انتهى

(1)

.

(حِينَ هَاجَرَتْ) إلى المدينة (وَهِيَ حُبْلَى) جملة حاليّة من "أسماء"؛ أي: والحال أنها حُبلى (بِعَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ) رضي الله عنهما متعلّق بـ "حُبلى"، (فَقَدِمَتْ) بكسر الدال، (قُبَاءً) بضمّ القاف، وتخفيف الموحّدة، ممدودًا، ومقصورًا، منصرفًا، وغير منصرف، ففيه أربع لغات، قال الفيّوميّ رحمه الله: قُباء: موضع بقرب مدينة النبيّ صلى الله عليه وسلم من جهة الجنوب، نحو ميلين، وهو بضمّ القاف، يُقصر، ويُمدّ، ويُصرف، ولا يُصرف. انتهى

(2)

.

(فَنُفِسَتْ) بضمّ النون، وكسر الفاء؛ أي: وَلَدت، قال المجد رحمه الله: النّفاسُ بالكسر: وِلَادَةُ المرأةِ، فإذا وَضَعَتْ فهي نُفَساءُ؛ كالثُّؤَباءِ، ونَفْساءُ، بالفتح، ويُحَرَّكُ، جَمْعه: نُفَاسٌ، ونُفُسٌ، ونُفْسٌ؛ كجِيادٍ، ورُخالٍ، نادرًا، وكُتُبٍ، وكُتْبٍ، ونَوافِسُ، ونُفَساواتٌ، وليس فُعَلاءُ يُجْمَعُ على فِعَالٍ غَيْرَ نُفَساءَ، وعُشَراءَ، وعلى فُعالٍ غيرَها، وقد نَفِسَتْ؛ كسمعَ، وعُنِيَ، والوَلَدُ مَنْفُوسٌ، وحاضَتْ، والكسرُ فيه أكثَرُ. انتهى

(3)

.

وقال الفيّوميّ رحمه الله: نُفِسَتِ المرأة بالبناء للمفعول، فهي نُفَسَاءُ، والجمع

(1)

"الفتح" 8/ 700 - 701 رقم (3909).

(2)

"المصباح المنير" 2/ 489.

(3)

"القاموس المحيط" 1/ 745 - 746.

ص: 362

نِفَاسٌ بالكسر، ومثله عُشَراء وعِشَار، وبعض العرب يقول: نَفِسَتْ تَنْفَسُ، من باب تَعِبَ، فهي نَافِسٌ، مثل حائض، والولد مَنْفُوسٌ، والنِّفَاسُ بالكسر أيضًا اسم من ذلك، ونَفِسَتْ تَنْفَسُ، من باب تَعِبَ: حاضت، ونقل عن الأصمعيّ: نُفِسَتْ بالبناء للمفعول أيضًا، وليس بمشهور في الكتب في الحيض، ولا يقال في الحيض: نُفِسَتْ بالبناء للمفعول، وهو من النَّفْسِ، وهو الدم، ومنه قولهم: لا نَفْسَ له سائلة؛ أي: لا دم له يجري، وسُمِّي الدم نَفْسًا؛ لأن النفس التي هي اسم لجملة الحيوان قِوَامُها بالدم، والنُّفَسَاءُ من هذا. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قد تلخّص مما سبق أن نُفست المرأة بمعنى وَلَدت، كما في هذا الحديث المشهور فيه أنه بصيغة المبنيّ للمفعول، ويقلّ بناؤه للفاعل، وأما نَفِسَتْ بمعنى حاضت، فإن المشهور فيه بناؤه للفاعل، من باب تَعِبَ، ويقلّ بناؤه للمفعول، والله تعالى أعلم.

(بِعَبْدِ اللهِ) بن الزبير رضي الله عنهما، متعلّق بـ "نُفست"، (بِقُبَاءٍ) متعلّق أيضًا بـ "نُفست"، والباء فيه بمعنى "في"؛ لئلا يتعلّق حرفا جرّ، وهما متّحدان لفظًا ومعنى بفعل واحد، فتنبّه.

(ثُمَّ خَرَجَتْ)؛ أي: من قباء إلى المدينة، (حِينَ نُفِسَتْ)؛ أي: حين ولدت، والمراد بعد ولادتها، (إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) لأنه كان بالمدينة، (لِيُحَنِّكَهُ)؛ أي: ليضع في فيه التمرة، ويدلك بها حنكه، (فَأَخَذَهُ)؛ أي: عبدَ الله، (رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْهَا)؛ أي: من يد أسماء رضي الله عنها، (فَوَضَعَهُ) صلى الله عليه وسلم (فِى حَجْرِهِ) قال المجد رحمه الله: الْحِجْر بالكسر: ما بين يديك من ثوبك. انتهى

(2)

، وقال الفيّوميّ: حجر الإنسان بالفتح، وقد يُكسر: حِضْنُهُ، وهو ما دون إبطه إلى الْكَشْح، وهو في حَجْره؛ أي: كَنَفه، وحمايته، والجمع حُجُور. انتهى

(3)

.

وقال ابن الأثير رحمه الله: الْحجر بالفتح، والكسر: الثوب، والْحِضْن، والمصدر بالفتح لا غير، وقال أيضًا: حجر الثوب طرفه المقدّم. انتهى

(4)

.

(ثُمَّ دَعَا)؛ أي: طلب صلى الله عليه وسلم (بِتَمْرَةٍ، قَالَ) عروة (قَالَتْ عَائِشَةُ) رضي الله عنها، وهذا

(1)

"المصباح المنير" 2/ 617.

(2)

"القاموس المحيط" ص 265.

(3)

"المصباح المنير" 1/ 122.

(4)

"النهاية في غريب الأثر" ص 188.

ص: 363

فيه أن عروة روى هذا الحديث عن عائشة رضي الله عنها، كما رواه عن أمه أسماء رضي الله عنها، ويوضّح ذلك أن المصنّف أفرد روايته عن عائشة بعد هذا من طريق علىّ بن مسهر عن هشام، لكن لم يَسُق المتن تمامًا، بل أحاله على ما قبله، وساقه البخاريّ، من طريق أبي أسامة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها قالت: أولُ مولود ولد في الإسلام عبد الله بن الزبير، أتوا به النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأخذ النبيّ صلى الله عليه وسلم تمرةً، فلاكها، ثم أدخلها في فيه، فأول ما دخل بطنه ريقُ النبيّ صلى الله عليه وسلم. انتهى

(1)

.

(فَمَكَثْنَا) بفتح الكاف، وتُضمّ؛ أي: لبِثنا، يقال: مَكَثَ مَكْثًا، من باب نصر: أقام، وتَلَبّث، فهو مَاكِثٌ، ومَكُثَ مُكْثًا، فهو مَكِيثٌ، مثلُ قَرُب قُرْبًا، فهو قريب لغةٌ، وقرأ السبعة:(فَمَكُثَ غَيْرَ بَعِيدٍ) باللغتين، ويتعدى بالهمزة، فيقال: أَمْكَثَهُ، وتَمَكَّثَ في أمره: إذا لم يَعْجَل فيه، قاله الفيّوميّ رحمه الله

(2)

.

(سَاعَةً) ظرف لِمَا قبله، (نَلْتَمِسُهَا)؛ أي: نطلب التمرة (قَبْلَ أَنْ نَجِدَهَا) وفي حديث عائشة الآتي: "فطلبنا تمرةً، فعزّ علينا طلبها"، وذلك إما لقلّة اليد، أو لكونهم في زمن لا يتوافر فيه التمر. (فَمَضَغَهَا)؛ أي: ثمّ وجدناها، فمضغها؛ أي: لاكها بسنّه، يقال: مضغتُ الطعامَ مضغًا، من بابي نفع، ونصر: عَلَكْتُهُ؛ أي: لُكته بسنّي، (ثُمَّ بَصَقَهَا)؛ أي: تفلها (فِي فِيهِ)؛ أي: في فم عبد الله رضي الله عنه، (فَإِنَّ أَوَّلَ شَيْءٍ دَخَلَ بَطْنَهُ)؛ أي: بطن عبد الله، (لَرِيقُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) وهذا الكلام يَحْتَمل أن يكون من تمام كلام عائشة رضي الله عنها، وهو الظاهر، كما يدلّ تعبيره بعده بـ "ثُمّ"، ويَحتمل أن يكون من كلام أسماء رضي الله عنها.

(ثُمَّ قَالَتْ أَسْمَاءُ) رضي الله عنها: (ثُمَّ مَسَحَهُ) النبيّ صلى الله عليه وسلم تبريكًا، (وَصَلَّى عَلَيْهِ)؛ أي: دعا له (وَسَمَّاهُ عَبْدَ اللهِ، ثُمَّ جَاءَ) عبد الله رضي الله عنه (وَهُوَ ابْنُ سَبْعِ سِنِينَ، أَوْ ثَمَانٍ)"أو" للشكّ من الراوي، (لِيُبَايعَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم) تبرّكًا بمبايعته صلى الله عليه وسلم، (وَأَمَرَهُ بِذَلِكَ الزُّبَيْرُ)؛ يعني: أن عبد الله إنما أتى للبيعة لِأَمْر أبيه له بها، (فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم)؛ أي: فرَحًا بمجيئه للبيعة، وقال الأبيّ: وقد يكون تعجّبًا مما يقع به في المستقبل، فإنه بعد ثمان سنين من خلافته حصره الحَجَّاج

(1)

"صحيح البخاريّ" 3/ 1423.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 577.

ص: 364

بمكة، وقتله، وصلبه، ومرّ به ابن عمر، وهو كذلك، فقال: لقد كنت أنهاك. انتهى

(1)

. (حِينَ رَآهُ مُقْبِلًا إِلَيْهِ، ثُمَّ بَايَعَهُ) صلى الله عليه وسلم، قال النوويّ رحمه الله: هذه بيعة تبريك، وتشريف، لا بيعة تكليف؛ لأنه غير بالغ. انتهى

(2)

. والله تعالى أعلم.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "ثمَّ مسحه، وصلَّى عليه"؛ يعني: مسحه النبيّ صلى الله عليه وسلم بيده عند الدعاء له، كما كان صلى الله عليه وسلم يمسحُ بيده عند الرُّقَى، وفيه دليل على استحباب ذلك، وفِعْله على جهة التبريك رجاء الاستشفاء، وقبول الدعاء. ومعنى:"صلَّى عليه" دعا له بالخير، والبركة، كما جاء في الرواية الأخرى مفسَّرًا، وقد ظهرت بركة ذلك كلِّه على عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما، فإنه كان من أفضل الناس، وأشجعهم، وأعدلهم في خلافته صلى الله عليه وسلم، وقَتَلَ قاتله

(3)

، وتبسُّم رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبد الله، ومبايعته له فَرَحٌ به، وإنهاض له؛ حيث ألحقه بنمط الكبار الحاصلين على تلك البيعة الشريفة، والمنزلة المنيفة، ففيه جواز مبايعة من يعقل من الصِّغار، وتمرينهم على ما يخاطَب به الكبار. انتهى

(4)

، والله تعالى أعلم.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانيه): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [5/ 5604 و 5605 و 5606](2146)، و (البخاريّ) في "الفضائل"(3909) و"العقيقة"(5469)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 347)، و (ابن أبي عاصم) في "الآحاد والمثاني"(1/ 413)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(6/ 204) و"شُعب الإيمان"(6/ 393)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(1)

"شرح الأبىّ" 5/ 423.

(2)

"شرح النوويّ" 14/ 126.

(3)

هذا دعاء من القرطبىّ على الحجاج بن يوسف قاتل عبد الله بن الزبير، وهذا مما لا ينبغي؛ لأن القتل معناه اللعن، والدعاء باللعن على مثله محلّ نظر؛ فالأولى واللائق في الحجاج تفويض أمره إلى الله عز وجل، فليُتنبّه، والله تعالى أعلم.

(4)

"المفهم" 5/ 468 - 469.

ص: 365

1 -

(منها): بيان استحباب تحنيك الصبيّ.

2 -

(ومنها): بيان كون التحنيك بالتمر.

3 -

(ومنها): أن فيه منقبةً عظيمة لعبد الله بن الزبير حيث كان أول ما دخل جوفه ريق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفرح بولادته المسلمون حيث كانوا على حزن من أن اليهود سحرتهم حتى لا يولد لهم، فزال هذا الحزن بسبب ولادته رضي الله عنه.

4 -

(ومنها): استحباب التسمية بعد التحنيك.

5 -

(ومنها): استحباب التسمية بعبد الله، وقد سبق حديث:"أحب الأسماء إلى الله عبد الله، وعبد الرحمن".

6 -

(ومنها): استحباب التسمية يوم الولادة، فأكثر الأحاديث الصحيحة عليه، وقد صحّ أيضًا التسمية يوم السابع، فكلٌّ سُنَّة.

7 -

(ومنها): ما قاله في "الفتح": وفي الحديث أن مولد عبد الله بن الزبير كان في السنة الأُولى، وهو المعتمَد، بخلاف ما جزم به الواقديّ، ومن تَبِعه، بأنه وُلد في السنة الثانية بعد عشرين شهرًا من الهجرة، قال: ويردّه أن هجرة أسماء، وعائشة، وغيرهما من آل الصديق كانت بعد استقرار النبيّ صلى الله عليه وسلم بالمدينة، فالمسافة قريبة جدًّا، لا تحتمل تأخر عشرين شهرًا، بل ولا عشرة أشهر. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5605]

(. . .) - (حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَسْمَاءَ، أنَّهَا حَمَلَتْ بِعَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ بِمَكَّةَ، قَالَتْ: فَخَرَجْتُ وَأَنَا مُتِمٌّ، فَأَتَيْتُ الْمَدِينَةَ، فَنَزَلْتُ بِقُبَاءٍ، فَوَلَدْتُهُ بِقُبَاءٍ، ثُمَّ أَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَوَضَعَهُ فِي حَجْرِهِ، ثُمَّ دَعَا بِتَمْرَةٍ، فَمَضَغَهَا، ثُمَّ تَفَلَ فِي فِيهِ، فَكَانَ أَوَّلَ شَيْءٍ دَخَلَ جَوْفَهُ رِيقُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ حَنَّكَهُ بِالتَّمْرَةِ، ثُمَّ دَعَا لَهُ، وَبَرَّكَ عَلَيْهِ، وَكَانَ أَوَّلَ مَوْلُودٍ وُلِدَ فِي الإِسْلَامِ).

(1)

"الفتح" 8/ 700، كتاب "مناقب الأنصار" رقم (3909).

ص: 366

رجال هذا الإسناد: خمسة:

وكلّهم تقدّموا في الباب، وقبل باب.

وقولها: (فَخَرَجْتُ)؛ أي: من مكة مهاجرة إلى المدينة.

وقولها: (وَأَنَا مُتِمٌّ) الواو فيه للحال، ومعنى متمّ: أتممت مدة الحمل الغالب، وهي تسعة أشهر، قاله في "العمدة"

(1)

.

وقال القاضي عياض رحمه الله: أي: أكملت مدة حملي، وحان وضعي، وكلُّ شيء يقال فيه: تمام بالفتح، إلا ليل التمام، فهو بالكسر، لا غير، قيل: هو أطول الليالي، وقيل: عند كمال القمر. انتهى

(2)

.

وقال ابن الأثير رحمه الله: يقال: امرأة مُتِمّ للحامل، إذا شارفت الوضع، والتِّمام فيها وفي البدر بالكسر، وقد تُفتح في البدر. انتهى

(3)

.

[تنبيه]: قال القاضي عياض رحمه الله: قوله: "وأنا مُتم" قيّدناه عن الأسديّ بسكون التاء، وكسر الهمزة بعدها، وعند أبي عليّ وغيره، وفي سائر النُّسخ بكسر التاء، وهو أصوب؛ لأن المتِمّ هي التي حان وضعها، وهي قد وضعت بقباء قبل وصولها المدينة، وأما الْمُتْئِم بسكون التاء، وكسر الهمزة فهي التي تلد توأمين من بطن، وهذا ليس منه، والله أعلم ممن جاء الوهم. انتهى

(4)

.

وقولها: (فَوَلَدْتُهُ بِقُبَاءٍ، ثُمَّ أَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم) ظاهره يدلّ على أن هذا قبل أن يتحوّل النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وليس كذلك، بل إنها ولدته بقباء بعد تحوّله صلى الله عليه وسلم، ثم أتته به في المدينة، فتنبّه.

وقولها: (وَكَانَ أَوَّلَ مَوْلُودٍ وُلِدَ في الإِسْلَامِ) قال في "الفتح": أي: بالمدينة من المهاجرين، فأما من وُلد بغير المدينة من المهاجرين، فقيل: عبد الله بن جعفر بالحبشة، وأما من الأنصار بالمدينة فكان أول مولود وُلد لهم بعد الهجرة: مَسْلَمَةُ بن مُخَلَّد، كما رواه ابن أبي شيبة، وقيل: النعمان بن بشير.

زاد في رواية البخاريّ في "كتاب العقيقة" بعد قوله: "فكان أول مولود

(1)

"عمدة القاري" 17/ 51.

(2)

"مشارق الأنوار" 1/ 122.

(3)

"النهاية في غريب الأثر" 1/ 197.

(4)

"شرح الأبيّ" 5/ 423.

ص: 367

في الإسلام" ما نصّه: "ففرِحوا به فرحًا شديدًا؛ لأنهم قيل لهم: إن اليهود قد سحرتكم، فلا يولد لكم". انتهى

(1)

.

قال في "الفتح": وهذا يدلّ على أن ولادة عبد الله بن الزبير كانت بعد استقرارهم بالمدينة، وما وقع في أول الحديث أنها ولدته بقباء، ثم أتت به النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يُرَد أنها أحضرته له بقباء، وإنما حملته من قباء إلى المدينة.

وقد أخرج ابن سعد في "الطبقات" من رواية أبي الأسود محمد بن عبد الرحمن قال: "لَمّا قَدِم المهاجرون المدينة أقاموا لا يولد لهم، فقالوا: سحرتنا يهود حتى كرت في ذلك القالة، فكان أول مولود بعد الهجرة عبد الله بن الزبير، فكَبَّر المسلمون تكبيرةً واحدةً، حتى ارتَجَّت المدينة تكبيرًا". انتهى

(2)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: وقوله: "وكان أوَّل مولود وُلد في الإسلام"؛ يعني: من المهاجرين بالمدينة، وذلك أن أمه أسماء ابنة أبي بكر رضي الله عنهما هاجرت من مكة إلى المدينة، وهي حامل به، فولدته في سنة ثنتين من الهجرة لعشرين شهرًا من التاريخ، وقيل: في السنة الأولى من الهجرة، هكذا حكاه أبو عمر.

قال الجامع عفا الله عنه: القول الثاني هو الصواب، كما سبق تحقيقه عن الحافظ، فتفطّن، والله تعالى وليّ التوفيق.

قال: ورُوي عن ابن أبي مليكة، عن عبد الله بن الزبير قال: سُمِّيت باسم جدِّي أبي بكر وكنيت بكنيته، قال أبو عمر: كان شهمًا، ذَكَرًا

(3)

، شريفًا، ذا أَنَفَة، وكانت له لَسَانة، وفصاحة، وكان أطلسَ لا لحية له، ولا شعر في وجهه، وحكى أبو عمر عن مالك أنه قال: كان ابن الزبير أفضل من مروان، وأَولى بالأمر من مروان وابنه. انتهى

(4)

.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام البحث فيه، ولله الحمد والمنّة.

(1)

"صحيح البخاريّ" 5/ 2081.

(2)

"الفتح" 12/ 402، كتاب "العقيقة" رقم (5469).

(3)

قال في "اللسان": رجلٌ ذَكَرٌ: إذا كان قويًّا، شُجاعًا، أَنِفًا، أَبِيًّا. انتهى.

(4)

"المفهم" 5/ 469.

ص: 368

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5606]

(. . .) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُسْهِرٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ، أنَّهَا هَاجَرَتْ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَهِيَ حُبْلَى بِعَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، فَذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ أَبِى أُسَامَةَ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ) الْقَطَوَانيّ، أبو الهيثم الْبَجلىّ مولاهم، صدوقٌ يتشيّع، وله أفراد، من كبار [10](ت 213) أو بعدها (خ م كد ت س ق) تقدم في "الإيمان" 65/ 367.

2 -

(عَلِىُّ بْنُ مُسْهِرٍ) القرشيّ الكوفىّ، قاضي الموصل ثقةٌ [8](ت 189)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 6.

والباقون ذُكروا في الباب.

وقوله: (فَذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ أَبِى أُسَامَةَ) فاعل "ذَكَر" ضمير عليّ بن مسهر.

[تنبيه]: رواية عليّ بن مسهر عن هشام هذه لم أجد من ساقها، لكن ذكر في "الفتح" أن الإسماعيليّ ساقها، وذلك عند قول البخاريّ بعد حديث أبي أسامة:"تابعه خالد بن مخلد، عن عليّ بن مُسهر، عن هشام، عن أبيه، عن أسماء رضي الله عنها أنها هاجرت إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهي حبلى". انتهى

(1)

.

فقال في "الفتح": قوله: "تابعه خالد بن مخلد"، وصله الأسماعيليّ من طريق عثمان بن أبي شيبة، عن خالد بن مخلد، بهذا السند، ولفظه: إنها هاجرت، وهي حبلى بعبد الله، فوضعته بقباء، فلم تُرضعه، حتى أتت به النبيّ صلى الله عليه وسلم نحوه، وزاد في آخره:"ثم صلى عليه -أي: دعا له- وسمّاه عبد الله". انتهى

(2)

.

(1)

"صحيح البخاريّ" 3/ 1422.

(2)

"الفتح" 8/ 700، كتاب "مناقب الأنصار" رقم (3909).

ص: 369

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5607]

(2147) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ -يَعْنِي: ابْنَ عُرْوَةَ- عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُؤْتَى بِالصِّبْيَانِ، فَيُبَرِّكُ عَلَيْهِمْ، وَيُحَنِّكُهُمْ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ نُمَيْرٍ) الْهَمْدانيّ الكوفيّ، تقدّم قريبًا.

والباقون ذُكروا قبله.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وهو مسلسل بالمدنيين من هشام، والباقيان كوفيّان، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، والراوي عن أبيه عن خالته، وفيه عائشة رضي الله عنها، تقدّم القول فيها قريبًا.

شرح الحديث:

(عَنْ عَائِشَةَ) أمّ المؤمنين رضي الله عنها (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُؤْتَى) بالبناء للمفعول، (بِالصِّبْيَانِ) بكسر الصاد، وتضمّ: جمع صبيّ، وأصل صبيان: صبوان، قلبوا الواو ياءً؛ للكسرة التي قبلها، ولم يعتدّوا بالساكن حاجزًا حصينًا؛ لضعفه بالسكون، وقد يجوز أن يكونوا آثروا الياء؛ لخفتها، وأنهم لم يُرَاعُوا قرب الكسرة، والأول أحسن

(1)

.

وقال في "القاموس"، و"شرحه": والصبيّ: من لم يُفْطَم بَعْدُ، وفي "المحكم": من لدن يولدُ إلى الفطام، جمعه: أَصْبيَةٌ، وأَصْبٍ، وصِبْوَةٌ، بالكسر، وصَبْيَةٌ بالفتح، وَصِبْيَة، وصِبْوانٌ، وصِبيانٌ، بكسر الثلاثة، ويجوز ضمّها. انتهى باختصار، وبعض تصرّف

(2)

.

(فَيُبَرِّكُ عَلَيْهِمْ)؛ أي: يدعو لهم بالبركة، ويقرأ عليهم الدعاء بالبركة، ذكره القاضي.

وقيل: يقول: بارك الله عليكم، وقال الزمخشريّ: بارك الله فيه، وبارك

(1)

"تاج العروس" 1/ 8461.

(2)

"تاج العروس" 1/ 8461.

ص: 370

له، وعليه، وباركه، وبَرَّك على الطعام، وبَرّك فيه: إذا دعا له بالبركة، قال الطيبيّ: وبارك عليه أبلغ، فإن فيه تصويب البركات، وإفاضتها من السماء. انتهى

(1)

.

(وَيُحَنِّكُهُمْ) بنحو تمرٍ من تمرِ المدينة المشهود له بالبركة، ومزيد الفضل، ويدعو لهم بالإمداد، والإسعاد، والهداية إلى طرق الرشاد، وفيه ندب التحنيك، وكون المحنِّك ممن يُتَبَرّك به، والله تعالى أعلم.

قال الجامع عفا الله عنه: حديث عائشة رضي الله عنها هذا متّفقٌ عليه، وقد تقدّم في "كتاب الطهارة" برقم [31/ 668 و 669 و 670](286)، وقد تقدّم تخريجه هناك، ولكني نسيت ذكر حديث الباب هناك، فليُتنبّه، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5608]

(2148) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو خَالِدٍ الأَحْمَرُ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: جِئْنَا بِعَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يُحَنِّكُهُ، فَطَلَبْنَا تَمْرَةً، فَعَزَّ عَلَيْنَا طَلَبُهَا).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أَبُو خَالِدٍ الأَحْمَرُ) سليمان بن حيّان الأزديّ الكوفيّ، صدوقٌ يُخطئ [8](ت 190) أو قبلها، وله بضع وسبعون سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 5/ 120.

والباقون ذُكروا قبله.

(عَنْ عَائِشَةَ) رضي الله عنها أنها (قَالَتْ: جِئْنَا بِعَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ) رضي الله عنهما (إِلَى النِّبِيِّ صلى الله عليه وسلم)، وقولها:(يُحَنِّكُهُ) جملة حاليّة من فاعل "جاء"؛ أي: مقدّرين، ومريدين تحنيك النبيّ صلى الله عليه وسلم له، (فَطَلَبْنَا تَمْرَةً) ليحنّكه بها، (فَعَزَّ عَلَيْنَا طَلَبُهَا)؛ أي: شقّ، وتعذّر علينا وجود تلك التمرة؛ لقلّة معيشتهم الدنيويّة، أو لكون الوقت ليس زمن حصول التمر، وقال السنوسيّ في "شرحه": قيل: إنه إشارة إلى تعسّر أمره، كما اتّفق في خلافته لمن نظرها. انتهى

(2)

، والله تعالى أعلم.

(1)

"فيض القدير على الجامع الصغير" للمناويّ 5/ 192.

(2)

"شرح السنوسيّ" 5/ 423.

ص: 371

قال الجامع عفا الله عنه: حديث عائشة رضي الله عنها هذا من أفراد المصنّف رحمه الله، ولم أجد من أخرجه بهذا اللفظ غيره، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5609]

(2149) - (حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَهْلٍ التَّمِيمِىُّ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَا: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ -وَهُوَ ابْنُ مُطَرِّفٍ أَبُو غَسَّانَ- حَدَّثَنِي أَبُو حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ: أُتِيَ بِالْمُنْذِرِ بْنِ أَبِي أُسَيْدٍ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ وُلِدَ، فَوَضَعَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى فَخِذِهِ، وَأَبُو أُسَيْدٍ جَالِسٌ، فَلَهِيَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم بِشَيْءٍ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَأَمَرَ أَبُو أُسَيْدٍ بِابْنِهِ، فَاحْتُمِلَ مِنْ عَلَى فَخِذِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَقْلَبُوهُ، فَاسْتَفَاقَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: "أَيْنَ الصَّبِىُّ؟ "، فَقَالَ أَبُو أُسَيْدٍ: أقْلَبْنَاهُ يَا رَسُولَ اللهِ، فَقَالَ: "مَا اسْمُهُ؟ "، قَالَ: فُلَانٌ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: "لَا، وَلَكِنِ اسْمُهُ الْمُنْذِرُ"، فَسَمَّاهُ يَوْمَئِذٍ الْمُنْذِرَ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ سَهْلٍ التَّمِيمِىُّ) مولاهم، أبو بكر البخاريّ، نزيل بغداد، ثقةٌ [11](ت 251)(م ت س) تقدم في "الصيام" 8/ 2535.

2 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ إِسْحَاقَ) هو: محمد بن إسحاق بن جعفر، أبو بكر الصاغانيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ ثبتٌ [11](ت 270)(م 4) تقدم في "الإيمان" 4/ 116.

3 -

(ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ) سعيد بن الحكم بن محمد بن سالم المعروف بابن أبي مريم الْجُمحيّ مولاهم، أبو محمد المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ، من كبار [10](ت 224) وله (80) سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 22/ 188.

4 -

(مُحَمَّدُ بْنُ مُطَرِّفٍ أَبُو غَسَّانَ) الليثيّ المدنيّ، نزيل عَسْقلان، ثقةٌ [7] مات بعد (160)(ع) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 52/ 1525.

5 -

(أَبُو حَازِمٍ) سلمة بن دينار الأعرج التمّار المدنيّ القاصّ، مولى الأسود بن سفيان، ثقةٌ عابدٌ [5](ت 140) أو قبلها، أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 50/ 313.

6 -

(سَهْلُ بْنُ سَعْدِ) بن مالك بن خالد الأنصاريّ الخزرجيّ الساعديّ، أبو العبّاس، الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، مات سنة (88) أو بعدها، وقد جاوز المائة (ع) تقدم في "الإيمان " 50/ 313.

ص: 372

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسلٌ بالمدنيين من ابن مطرّف، ومسلسلٌ أيضًا بالتحديث سوى موضع، وأن صحابيّه ابن صحابيّ، وهو آخر من مات بالمدينة من الصحابة عند بعضهم.

شرح الحديث:

(عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ) رضي الله عنهما أنه (قَالَ: أُتِيَ) بالبناء للمفعول، (بِالْمُنْذِرِ بْنِ أَبِي أُسَيْدٍ) واسم أبي أسيد -وهو بالتصغير- مالك بن ربيعة، قال ابن حبان: يقال: وُلد في عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم عام الفتح. انتهى. وقد وقع ذكره في "الصحيحين" في هذا الحديث، وله رواية عن أبيه في "صحيح البخاريّ" أيضًا، وعَلّق البخاري في "الصلاة"، قاله في "الإصابة"

(1)

.

وقال النوويّ رحمه الله: المشهور في أبي أسيد ضم الهمزة، وفتح السين، ولم يذكر الجماهير غيره، قال القاضي: وحَكَى عبد الرحمن بن مهديّ عن سفيان أنه بفتح الهمزة، قال أحمد بن حنبل: وبالضم قال عبد الرزاق، ووكيع، وهو الصواب، واسمه مالك بن أبي ربيعة، قالوا: وسبب تسمية النبيّ صلى الله عليه وسلم هذا المولود المنذر؛ لأن ابن عمّ أبيه المنذر بن عمرو كان قد استُشْهِد ببئر معونة، وكان أميرهم، فيقال بكونه خلفًا منه. انتهى

(2)

.

وكان الصحابة رضي الله عنهم إذا وُلد لأحدهم الولد أتَى به النبيّ صلى الله عليه وسلم ليحنكه، ويبارك عليه، وقد تكرر ذلك في الأحاديث.

(إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ وُلِدَ) بالبناء للمفعول؛ أي: وقت ولادته، والجارّ والمجرور، والظرف كلاهما متعلّقان بـ "أُتي"، (فَوَضَعَهُ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى فَخِذِهِ)؛ يعني: إكرامًا له، وقوله:(وَأَبُو أُسَيْدٍ جَالِسٌ) جملة حاليّة، وهو مالك بن ربيعة بن الْبَدَن الساعديّ، مشهور بكنيته، شَهِدَ بدرًا، وغيرها، ومات سنة ثلاثين، وقيل: بعد ذلك، حتى قال المدائنيّ: مات سنة ستّين، قال: هو

(1)

"الإصابة في تمييز الصحابة" 6/ 264.

(2)

"شرح النوويّ" 14/ 127 - 128.

ص: 373

آخر من مات من البدريين، تقدّمت ترجمته في "صلاة المسافرين وقصرها" 11/ 1652.

(فَلَهِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم) بكسر الهاء؛ أي: اشتغل، قال المجد رحمه الله: لَهِيَ عنه؛

كرَضِي: سَلَا، وغَفَل، وترك ذكره، كَلَهَا؛ كَدَعَا، لُهِيًّا، ولهْيَانًا، وتلهَّى. انتهى

(1)

.

وقال الفيّوميّ رحمه الله: اللَّهْوُ: معروفٌ، يقول أهل نجد: لَهوْتُ عنه أَلْهُو لُهِيًّا، والأصل على فُعُولٍ، من باب قعد، وأهل العالية: لَهِيْت عنه أَلْهَى، من باب تَعِبَ

(2)

، ومعناه: السُّلْوَانُ، والترك. انتهى. انتهى

(3)

.

ولفظ البخاريّ: "فلَهَا النبيّ صلى الله عليه وسلم بشيء بين يديه": قال في "الفتح": أي: اشتَغَل، وكلُّ ما شَغَلك عن شيء فقد ألهاك عن غيره، قال ابن التين: رُوي "لَهِي" بوزن عَلِمَ، وهي اللغة المشهورة، وبالفتح لغة طىّء. انتهى

(4)

.

وقال النوويّ رحمه الله: هذه اللفظة رُويت على وجهين: أحدها: "فلها" بفتح الهاء، والثانية:"فَلَهِيَ" بكسرها، وبالياء، والأولى لغة طيّء، والثانية لغة الأكثرين، ومعناه: اشتغل بشيء بين يديه، وأما من اللهو فلها بالفتح لا غير يلهو، والأشهر في الرواية هنا كسر الهاء، وهي لغة أكثر العرب، كما ذكرنا، واتَّفَق أهل الغريب، والشرّاح على أن معناه اشتغل. انتهى

(5)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "فلها عنه" الرواية فيه بفتح الهاء؛ أي: اشتغل عنه، وهي لغة طيّء، وفصيحتها:"لَهِيَ" بكسر الهاء يَلْهَى بفتحها، لَهْيًا، ولَهَيانًا. وهو في اللغتين ثلاثيّ، فأمَّا: أَلْهَاني كذا: فمعناه شُغِلت، ومنه قوله تعالى:{أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1)} [التكاثر: 1]. انتهى

(6)

.

(1)

"القاموس المحيط" ص 1192.

(2)

قال الجامع: قد تبيّن بما سبق أن "لهي" فيه لغتان كرضي يرضى، وهي اللغة المشهورة، وكدعا يدعو، وأما كونه من باب رمى يرمي كما قال الشيخ الهرريّ في "شرحه" 22/ 54، فلم أر له سلفًا، فتنبّه.

(3)

"المصباح المنير" 2/ 559.

(4)

"الفتح" 14/ 69، كتاب "الأدب" رقم (6191).

(5)

"شرح النوويّ" 14/ 127.

(6)

"المفهم" 5/ 470.

ص: 374

(بِشَىْءٍ) متعلّق بـ "لَهِيَ"، (بَيْنَ يَدَيْهِ) ظرف متعلّق بصفة لـ "شيء"؛ أي: بشيء كائن بين يديه صلى الله عليه وسلم، (فَأَمَرَ أَبُو أُسَيْدٍ بِابْنِهِ)؛ أي: بحمل ابنه إلى بيته، (فَاحْتُمِلَ) بالبناء للمفعول؛ أي: حُمل (مِنْ عَلَى فَخِذِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم)"على" هنا اسم بمعنى فوق، وليست حرف جرّ؛ لدخول حرف الجرّ عليها؛ إذ لا يدخل الجارّ على مثله، فهو كقول الشاعر [من الطويل]:

غَدَتْ مِنْ عَلَيْهِ بَعْدَمَا تَمَّ ظِمْؤُها

تَصِلُّ وَعَنْ قَيْضٍ بِزَيْزَاءَ مَجْهَلِ

فـ "من عليه" بمعنى: من فوقه.

والمعنى هنا: حُمِل وأُخذ ذلك الابن من فوق فخذه صلى الله عليه وسلم.

(فَأَقْلَبُوهُ)؛ أي: رَدُّوه، وصرفوه، وهكذا في جميع نسخ "صحيح مسلم":"فأقلبوه" بالألف، وأنكره جمهور أهل اللغة، والغريب، وشراح الحديث، وقالوا: صوابه: "قَلَبُوه" بحذف الألف، قالوا: يقال: قَلَبت الصبيَّ، والشيءَ: صَرَفته، ورَدَدته، ولا يقال: أقلبته، وذكر صاحب "التحرير" أن أقلبوه بالألف لغة قليلة، فأثبتها لغة، قاله النوويّ

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: وقوله: "فاقلبُوه" كذا جاءت الرواية في هذا الحرف رباعيًّا، وصوابه ثلاثيّ، يقال: قلبت الشيءَ: رددته، والصَّبىَّ: صرفته، قال الأصمعيّ: ولا يُقال: أقلبته. انتهى

(2)

.

(فَاسْتَفَاقَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم)؛ أي: انتبه من شغله، وفكره الذي كان فيه، قاله النوويّ، وقال في "الفتح": أي: انقضى ما كان مشتغلًا به، فأفاق من ذلك، فلم يَرَ الصبيّ، فسأل عنه، يقال: أفاق من نومه، ومن مرضه، واستفاق بمعنى. انتهى

(3)

.

(فَقَالَ: "أَيْنَ الصَّبِىُّ؟ "، فَقَالَ أَبُو أُسَيْدٍ: أقْلَبْنَاهُ يَا رَسُولَ اللهِ)؛ أي: رددناه إلى بيته، ولفظ البخاريّ:"فقلبناه"، قال في "الفتح": بفتح القاف، وتشديد اللام بعدها، موحّدة ساكنة؛ أي: صرفناه إلى منزله، وذكر ابن التين أنه وقع

(1)

"شرح النوويّ" 14/ 128.

(2)

"المفهم" 5/ 470.

(3)

"الفتح" 14/ 69، كتاب "الأدب" رقم (6191).

ص: 375

في روايته: "أقلبناه" بزيادة همزة أوله، قال: والصواب حذفها، وأثبتها غيره لغةً. انتهى

(1)

.

(فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: "مَا اسْمُهُ؟ "، قَالَ) أبو أسيد: (فُلَانٌ يَا رَسُولَ اللهِ)؛ أي: اسمه فلان، قال الحافظ: لم أقف على تعيينه، فكأنه كان سمّاه اسمًا ليس مستحسنًا، فسكت عن تعيينه، أو سمّاه، فنسيه بعض الرواة. انتهى

(2)

.

(قَالَ) صلى الله عليه وسلم (لَا)؛ أي: ليس اسمه الذي ينبغي أن يُسمّى به فلانًا، (وَلَكِنِ اسْمُهُ الْمُنْذِرُ") قال في "العمدة": قوله: "ولكن" قد عُلِم أنه للاستدراك، فأين المستدرك منه؟ وأجيب بأن تقديره: ليس ذلك الذي عُبِّر عنه بفلان اسْمَهُ، بل هو المنذر. انتهى

(3)

.

(فَسَمَّاهُ)؛ أي: سمّى النبيّ صلى الله عليه وسلم ذلك الصبىَّ (يَوْمَئِذٍ الْمُنْذِرَ) قال القرطبيّ رحمه الله: وإنما سَمَّى النبىّ صلى الله عليه وسلم ابن أبي أُسيد المنذرَ، باسم ابن عم أبيه المنذر بن عمرو، والمسمَّى بالْمُعْنِق ليموتَ، وكان أمير أصحاب بئر معونة، واستُشْهِد يوم بئر معونة، فسمَّاه النبيّ صلى الله عليه وسلم بالمنذر؛ ليكون خَلَفًا منه. انتهى

(4)

.

وقال في "الفتح": قوله: "ولكن اسمه المنذر"؛ أي: ليس هذا الاسم الذي سمّيته به اسمه الذي يليق به، بل هو المنذر، قال الداوديّ: سمّاه المنذر؛ تفاؤلًا أن يكون له عِلْمٌ يُنْذِر به. قال: وتقدم في "المغازي" أنه سُمِّي المنذرَ بالمنذر بن عمرو الساعديّ الخزرجيّ، وهو صحابيّ مشهور، من رهط أبي أُسيد. انتهى

(5)

.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث سهل بن سعد رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنف) هنا [5/ 5609](2149)، و (البخاريّ) في "الأدب"

(1)

"الفتح" 14/ 69، كتاب "الأدب" رقم (6191).

(2)

"الفتح" 14/ 69، كتاب "الأدب" رقم (6191).

(3)

"عمدة القاري" 22/ 209.

(4)

"المفهم" 5/ 470.

(5)

"الفتح" 14/ 69، كتاب "الأدب" رقم (6191).

ص: 376

(6191)

، وفي "الأدب المفرد"(1/ 284)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(6/ 146)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(9/ 307)، وفوائده تقدّمت في الأحاديث الماضية، والله تعالى أعلم.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(6) - (بَابُ جَوازِ تَكْنِيَةِ مَنْ لَمْ يُولَدْ لَهُ، وتَكْنِيَةِ الصَّغِيرِ)

(اعلم): أن في هذه الترجمة إشارةً إلى الردّ على من منع تكنية من لم يولد له؛ مستندًا إلى أنه خلاف الواقع، فقد أخرج ابن ماجه، وأحمد، والطحاويّ، وصححه الحاكم، من حديث صهيب، أن عمر قال له: ما لك تُكنى أبا يحيى، وليس لك ولد؟ قال:"إن النبيّ صلى الله عليه وسلم كناني".

وأخرج سعيد بن منصور، من طريق فضيل بن عمرو، قلت لإبراهيم: إني أُكنى أبا النضر، وليس لي ولد، وأسمع الناس يقولون: من اكتنى، وليس له ولد، فهو أبو جَعْر، فقال إبراهيم: كان علقمة يُكنى أبا شِبْل، وكان عقيمًا لا يولد له، وقوله: جَعْر -بفتح الجيم، وسكون المهملة- وشِبْل -بكسر المعجمة، وسكون الموحدة-.

وأخرج البخاريّ في "الأدب المفرد" عن علقمة قال: كناني عبد الله بن مسعود قبل أن يولد لي، وقد كان ذلك مستعملًا عند العرب، قال الشاعر:

لَهَا كُنْيَةُ عَمْروٍ وَلَيْسَ لَهَا عَمْرٌو

وأخرج ابن أبي شيبة عن الزهريّ قال: كان رجال من الصحابة يكتنون قبل أن يولد لهم.

وأخرج البخاريّ عن هلال الوزان قال: كناني عروة قبل أن يولد لي

(1)

.

وأخرج الطبرانيّ عن علقمة، عن ابن مسعود، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كناه أبا عبد الرحمن قبل أن يولد له، وسنده صحيح.

قال العلماء: كانوا يكنون الصبي تفاؤلًا بأنه سيعيش حتى يولد له،

(1)

قال الحافظ: وكنية هلال المذكور أبو عمرو، ويقال: أبو أمية، ويقال غير ذلك.

ص: 377

وللأمن من التلقيب؛ لأن الغالب أن من يذكر شخصًا، فيعظّمه أن لا يذكره باسمه الخاصّ به، فإذا كانت له كنية أَمِن من تلقيبه، ولهذا قال قائلهم: بادروا أبناءكم بالكنى قبل أن تغلب عليها الألقاب، وقالوا: الكنية للعرب كاللقب للعجم، ومن ثَمّ كُرِه للشخص أن يَكْنِي نفسه إلا إن قصد التعريف، ذكره في "الفتح"

(1)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5610]

(2150) - (حَدَّثَنَا أَبُو الرَّبِيعِ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ الْعَتَكِىُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الوَارِثِ، حَدَّثَنَا أَبُو التَّيَّاحِ، حَدَّثَنَا أنَسُ بْنُ مَالِكٍ (ح) وَحَدَّثنَا شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ -وَاللَّفْظُ لَهُ- حَدَّثَنَا عَبْدُ الوَارِثِ، عَنْ أَبِي التَّيَّاح، عَنْ أنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَحْسَنَ النَّاسِ خُلُقًا، وَكَانَ لِي أَخٌ يُقَالُ لَهُ: أَبُو عُمَيْرٍ -قَالَ: أَحْسِبُهُ قَالَ-: كَانَ فَطِيمًا، قَالَ: فَكَانَ إِذَا جَاءَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَرَآهُ، قَالَ:"أَبَا عُمَيْرٍ مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ؟ "، قَالَ: فَكَانَ يَلْعَبُ بِهِ).

رجال هذين الإسنادين: خمسة:

1 -

(أَبُو الرَّبِيعِ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ الْعَتَكِىُّ) الزهرانيّ البصريّ، نزيل بغداد، ثقةٌ [10](ت 234)(خ م د س) تقدم في "الإيمان" 23/ 190.

2 -

(عَبْدُ الوَارِثِ) بن سعيد بن ذكوان الْعَنْبريّ مولاهم، أبو عبيدة التَّنُّوريّ البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 180)(ع) تقدم في "الإيمان" 18/ 176.

3 -

(أَبُو التَّيَّاحِ) يزيد بن حُميد الضُّبَعيّ البصريّ، مشهور بكنيته، ثقةٌ ثبتٌ [5](ت 128)(ع) تقدم في "الطهارة" 27/ 659.

4 -

(شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ) الْحَبَطيّ، أبو محمد الأُبُليّ، صدوقٌ يَهِم، ورُمي بالقدر، من صغار [9](ت 5 أو 236) وله بضع وتسعون سنة (م د س) تقدم في "الإيمان" 12/ 157.

5 -

(أنَسُ بْنُ مَالِكٍ) رضي الله عنه، ذكر في الباب الماضي.

[تنبيه]: من لطائف هذين الإسنادين:

أنهما من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهما (431) من رباعيّات الكتاب،

(1)

"الفتح" 14/ 79، كتاب "الأدب" رقم (6203).

ص: 378

وأنه مسلسلٌ بالبصريين من أوله إلى آخره، وفيه أنس بن مالك رضي الله عنه، تقدّم القول فيه قريبًا.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي التَّيَّاحِ) يزيد بن حُميد، وأخرجه البخاريّ أيضًا من رواية شعبة، عن أبي التياح، وقد أخرجه النسائيّ من طريق شعبة هكذا، ومن وجه آخر عن شعبة، عن قتادة، عن أنس، ومن وجه ثالث عن شعبة، عن محمد بن قيس، عن حميد، عن أنس، والمشهور الأول، ويَحْتَمِل أن يكون لشعبة فيه طُرُق، قاله في "الفتح"

(1)

. (عَنْ أنسِ بْنِ مَالِكٍ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَحْسَنَ النَّاسِ خُلُقًا) هذا قاله أنس رضي الله عنه توطئةً لِمَا يريد أن يذكره من قصة الصبيّ، وأول حديث شعبة المذكور عن أنس:"قال: إن كان النبيّ صلى الله عليه وسلم ليخالطنا"، ولأحمد من طريق المثنى بن سعيد، عن أبي التياح، عن أنس:"كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يزور أم سليم"، وفي رواية محمد بن قيس المذكور:"كان النبيّ صلى الله عليه وسلم قد اختلط بنا، أهلَ البيت" -يعني: بيت أبي طلحة، وأم سليم- ولأبي يعلى من طريق محمد بن سيرين، عن أنس:"كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يغشانا، ويخالطنا"، وللنسائيّ من طريق إسماعيل بن جعفر، عن حميد، عن أنس:"كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يأتي أبا طلحة كثيرًا"، ولأبي يعلى من طريق خالد بن عبد الله، عن حميد:"كان يأتي أم سليم، وينام على فراشها، وكان إذا مشى يتوكأ"، ولابن سعد، وسعيد بن منصور، عن ربعي بن عبد الله بن الجارود، عن أنس:"كان يزور أم سليم، فتتحفه بالشيء تصنعه له"

(2)

.

(وَكَانَ لِي أَخٌ يُقَالُ لَهُ: أَبُو عُمَيْرٍ) بالتصغير، وهو تصغير، عُمَر، أو عَمْرو

(3)

،

(1)

"الفتح" 14/ 79، كتاب "الأدب" رقم (6203).

(2)

"الفتح" 14/ 80، كتاب "الأدب" رقم (6203).

(3)

وأما قول بعضهم: إنه تصغير عُمْر بضم، فسكون إشارة إلى قلّة عمر الصبيّ، وأنه لا يعيش كثيرًا، فقد ردّ القاري في شرح "جمع الوسائل شرح الشمائل" 2/ 25: بأنه ليس من دأبه صلى الله عليه وسلم، وأخلاقه الحسنة أن يقول لولد صغير عبارة مشعرة بأن عمره قصير.

ص: 379

قيل: اسمه حفص

(1)

، ومات في حياة النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو صاحب القصّة التي جرت بين أبي طلحة وأم سُليم المذكورة في ثاني حديث الباب.

وفي رواية حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس، عند أحمد:"كان لي أخٌ صغيرٌ"، وهو أخو أنس بن مالك من أمه، وفي رواية المثنى بن سعيد المذكورة:"وكان لها -أي: أم سليم- ابن صغير"، وفي رواية حميد، عند أحمد:"وكان لها من أبي طلحة ابن يكنى أبا عمير"، وفي رواية مروان بن معاوية، عن حميد، عند ابن أبي عمر:"كان بُنَيّ لأبي طلحة"، وفي رواية عُمارة بن زاذان، عن ثابت، عند ابن سعد:"أن أبا طلحة كان له ابن - قال: أحسبه فَطِيمًا"، وفي بعض النسخ:"فطيمَ"، بغير ألف، وهو محمول على طريقة من يكتب المنصوب المنوّن بلا ألف، والأصل: فطيمٌ؛ لأنه صفة أخٌ، وهو مرفوعٌ، لكن تخلل بين الصفة والموصوف:"أحسبه"، وقد وقع عند أحمد من طريق المثنى بن سعيد مثل ما في الأصل: فطيمٌ بمعنى مفطوم؛ أي: انتهى إرضاعه.

(قَالَ) أبو التيّاح: (أَحْسِبُهُ)؛ أي: أظنّ أنسًا (قَالَ: كَانَ) ذلك الأخ (فَطِيمًا) فعيل بمعنى مفعول؛ أي: مفطومًا؛ أي: انتهى إرضاعه، والمراد أنه ليس صغيرًا رضيعًا. (قَالَ) أنس:(فَكَانَ إِذَا جَاءَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم)"كان" هنا شأنيّة، واسمها ضمير شأن مقدّر؛ أي: هو، وخبرها جملة: "إذا جاء

إلخ"، وفي رواية البخاريّ: "فكان إذا جاء"، فاسم "كان" على هذا ضمير النبيّ صلى الله عليه وسلم، زاد مروان بن معاوية في روايته: "إذا جاء لأم سليم يمازحه"، ولأحمد في روايته، عن حميد مثله، وفي أخرى: "يضاحكه"، وفي رواية محمد بن قيس: "يهازله"، وفي رواية المثنى بن سعيد، عن أبي عوانة: "يفاكهه". (فَرَآهُ)؛ أي: رأى صلى الله عليه وسلم ذلك الصبيّ، (قَالَ: "أَبَا عُمَيْرٍ) وفي رواية ربعي بن عبد الله: "فزارنا ذات يوم، فقال: يا أم سليم ما شأني أرى أبا عمير ابنك خاثر النفس؟ "، بمعجمة، ومثلثة؛ أي: ثقيل النفس، غير نشيط، وفي

(1)

وأما ما كتبه الشيخ الهرريّ من أن اسمه كبشة، فقد تبع فيه القاري في "شرح الشمائل"، والظاهر أنه تصحّف عليه من قول بعضهم:"اسمه كنيته"، والله تعالى أعلم.

ص: 380

رواية مروان بن معاوية، وإسماعيل بن جعفر كلاهما عن حميد:"فجاء يومًا، وقد مات نُغيره"، زاد مروان:"الذي كان يلعب به"، وزاد إسماعيل:(فوجده حزينًا، فسأل عنه، فأخبرته، فقال: يا أبا عمير"، وساقه أحمد عن يزيد بن هارون، عن حميد بتمامه، وفي رواية حماد بن سلمة المشار إليها: "فقال: ما شأن أبي عمير حزينًا؟ "، وفي رواية ربعي بن عبد الله: "فجعل يمسح رأسه، ويقول"، وفي رواية عُمارة بن زاذان: "فكان يستقبله، ويقول". (مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ؟ ") بنون، ومعجمة، وراء، مصغرًا، وكَرَّر ذلك في رواية حماد بن سلمة. (قَالَ) أنس (فَكَانَ) ذلك الصبيّ

(1)

(يَلْعَبُ به)؛ أي: بذلك النُّغَير، وفي رواية البخاريّ:"نُغَير كان يَلْعب به"، وهو طير صغير، واحدته نُغْرة، وجَمْعه نِغْران، قاله في "الفتح"، وقال الفيّوميّ: النُّغَرُ وزانُ رُطَبٍ، قيل: فرخُ العصفور، وقيل: ضرب من العصافير، أحمر المنقار، وقيل: يسمى البلبل، ويقال: إن أهل المدينة يُسَمُّون البلبل النُّغَرَةَ، والْحُمِّرَةَ، وقيل: يُشبه العصفور، ويصغَّر على نُغَير، والأنثى نُغَرَةٌ، والجمع نِغْرَانٌ، مثل صُرَدٍ وصِرْدَانٍ. انتهى

(2)

.

وقال في "القاموس"، و"شرحه": والنُّغَر كصُرَد: البُلْبُل عند أهل المدينة، أو فِراخُ العصافير، واحدتُه نُغَرَةٌ كهُمَزَة، قيل: النُّغَر: ضَرْبٌ من الحُمَّر حُمْرُ المَناقيرِ، وأصولِ الأَحْناكِ، أو ذُكورُها، وقال شَمِرٌ: النُّغَر: فَرْخُ العُصْفورِ، تراه أبدًا ضاوِيًا، وقيل: هو من صغار العصافير، جَمْعه: نِغْرانٌ؛ كصُرَدٍ وصِرْدان، قال الشاعر يَصِفُ كَرْمًا:

يَحْمِلْنَ أزْقَاقَ المُدامِ كأنَّما

يَحْمِلْنَها بأظافِرِ النِّغْرانِ

وبتصغيرِها جاءَ الحديثُ: "أنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم قال لبُنَىٍّ كان لأبي طَلْحَة

(1)

وأما قول بعضهم كما في شرح الأبىّ: إن هذا الكلام - أي: قوله: "وكان يلعب به" يرجع إلى النبىّ صلى الله عليه وسلم؛ أي: يمازحه، ويسمى المزاح لعبًا، كما جاء في الآخر:"يمازحه"، فقول باطل لا شك في بطلانه، بل الصواب أن الكلام للصبىّ؛ أي: كان ذلك الصبىّ يلعب بذلك النغير، ومما يُبطل الأول رواية البخاريّ:"نغير كان يلعب به"، فتنبّه، والله تعالى وليّ التوفيق.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 615.

ص: 381

الأنصاريّ، وكان له نُغَرٌ، فماتَ: يا أبا عُمَيْر ما فَعَلَ النُّغَيْر؟ ". انتهى

(1)

.

وقال الخطابيّ: النُّغَيرُ: طُوير له صوت، قال الحافظ: وفيه نظر؛ فإنه ورد في بعض طرقه أنه الصَّعْوُ بمهملتين، بوزن العفو، كما في رواية ربعي:"فقالت أم سليم: ماتت صعوته التي كان يلعب بها، فقال: أي أبا عمير مات النغير"، فدَلّ على أنهما شيء واحد، والصعو لا يوصف بحسن الصوت، قال الشاعر [من البسيط]:

كَالصَّعْوِ يَرْتَعُ فِي الرِّيَاضِ وَإِنَّمَا

حَبَسَ الْهِزَارَ لأَنَّهُ يَتَرَنَّمُ

قال عياض: النغير طائر معروف، يُشبه العصفور، وقيل: هي فراخ العصافير، وقيل: هي نوع من الْحُمَّر، بضم المهملة، وتشديد الميم، ثم راء، قال: والراجح أن النُّغَير طائر أحمر المنقار. انتهى.

وهذا هو الذي جزم به الجوهريّ، وقال صاحب "العين"، و"المحكم": الصعو صغير المنقار، أحمر الرأس، قاله في "الفتح"

(2)

، والله تعالى أعلم.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أنس بن مالك رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [6/ 5610](2150)، و (البخاريّ) في "الأدب"(6129 و 6203)، وفي "الأدب المفرد"(269)، و (أبو داود) في "الأدب"(4969)، و (الترمذيّ) في "الصلاة"(333) و"البرّ والصلة"(1989)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(6/ 90 و 91)، وفي "عمل اليوم والليلة"(334 - 335)، و (ابن ماجه) في "الأدب"(3720)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1/ 280)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(1/ 315 و 5/ 300)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 119 و 212)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(2308 و 2506)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(4/ 194 و 195)، و (أبو عوانة) في

(1)

"تاج العروس" 1/ 3558.

(2)

"الفتح" 14/ 81، كتاب "الأدب" رقم (6203).

ص: 382

"مسنده"(1/ 407 و 2/ 72)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(3/ 75)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(5/ 222 و 6/ 91)، و (ابن الجعد) في "مسنده"(1/ 213)، و (عبد بن حميد) في "مسنده"(1/ 382 و 395 و 414)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 203 و 10/ 248)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

قال في "الفتح": في هذا الحديث عدّة فوائد، جمعها أبو العباس أحمد بن أبي أحمد الطبريّ المعروف بابن القاصّ الفقيه الشافعىّ

(1)

، صاحب التصانيف، في جزء مفرد بعد أن أخرجه من وجهين عن شعبة، عن أبي التياح، ومن وجهين عن حميد، عن أنس، ومن طريق محمد بن سيرين، وقد جمعتُ في هذا الموضع طرقه، وتتبعت ما في رواية كل منهم من فائدة زائدة، وذكر ابن القاصّ في أول كتابه أن بعض الناس عاب على أهل الحديث أنهم يروون أشياء لا فائدة فيها، ومَثَّل ذلك بحديث أبي عمير هذا، قال: وما درى أن في هذا الحديث من وجوه الفقه، وفنون الأدب، والفائدة ستين وجهًا، ثم ساقها مبسوطة، فلخّصتها مستوفيًا مقاصده، ثم أتبعته بما تيسَّر من الزوائد عليه، فقال:

1 -

(منها): استحباب التأني في المشي، وزيارة الإخوان، وجواز زيارة الرجل للمرأة الأجنبية، إذا لم تكن شابّة، وأُمنت الفتنة، وتخصيص الإمام بعض الرعية بالزيارة، ومخالطة بعض الرعية دون بعض، ومشيُ الحاكم وحده، وأن كثرة الزيارة لا تنقص المودة، وأن قوله:"زُرْ غِبًّا تزدد حُبًّا"

(2)

مخصوص بمن يزور لطمع، وأن النهي عن كثرة مخالطة الناس مخصوص بمن يَخشى الفتنة، أو الضرر.

2 -

(ومنها): مشروعية المصافحة؛ لقول أنس رضي الله عنه فيه: "ما مسست كفًّا أَلْيَن من كفِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم"، وتخصيص ذلك بالرجل دون المرأة، وأن الذي

(1)

هو الإمام الفقيه أبو العبّاس أحمد بن أبي أحمد الطبريّ الشافعىّ المعروف بابن القاصّ، المتوفّى سنة (335 هـ) رحمه الله.

(2)

حديث حسن أخرجه الطبرانىّ.

ص: 383

جاء في صفته صلى الله عليه وسلم أنه كان شَثْن الكفين خاصّ بعَبَالة الجسم، لا بخشونة اللمس.

3 -

(ومنها): استحباب صلاة الزائر في بيت المزور، ولا سيما إن كان الزائر ممن يُتبرك به، وجواز الصلاة على الحصير، وترك التقزّز؛ لأنه عَلِم أن في البيت صغيرًا، وصلى مع ذلك في البيت، وجلس فيه.

4 -

(ومنها): أن الأشياء على يقين الطهارة؛ لأن نضحهم البساط إنما كان للتنظيف.

5 -

(ومنها): أن الاختيار للمصلي أن يقوم على أروح الأحوال، وأمكنها، خلافًا لمن استحبّ من المشدِّدين في العبادة أن يقوم على أجهدها.

6 -

(ومنها): جواز حَمْل العالم عِلْمه إلى من يستفيده منه، وفضيلة لآل أبي طلحة، ولبيته؛ إذ صار في بيتهم قِبلة يُقطع بصحتها.

7 -

(ومنها): جواز الممازحة، وتكرير المزح، وأنها إباحة سنّة، لا رخصة، وأن ممازحة الصبيّ الذي لم يميِّز جائزة، وتكرير زيارة الممزوح معه، هذا كلام ابن القاصّ رحمه الله.

وقال القرطبيّ رحمه الله: وفيه ما يدل على جواز المزاح مع الصغير، لكن إذا قال حقًّا، وفيه ما يدلّ على حسن خلق النبيّ صلى الله عليه وسلم ولطافة معاشرته، وألفاظه، ومنها: قوله لابن عمر: "يا بُنَيّ"، وكذلك قوله للمغيرة:"أي بُنَيّ"، فإنَّه نزّله منزلة ابنه الصغير في الرحمة، والرفق، والشفقة. انتهى

(1)

.

8 -

(ومنها): ترك التكبر، والترفع، والفرق بين كون الكبير في الطريق، فيتواقر، أو في البيت فيمزح، وأن الذي ورد في صفة المنافق أن سِرّه يخالف علانيته ليس على عمومه.

9 -

(ومنها): الحكم على ما يظهر من الأمارات في الوجه، من حُزنه، أو غيره.

10 -

(ومنها): جواز الاستدلال بالعين على حال صاحبها؛ إذ استدل صلى الله عليه وسلم بالحزن الظاهر على الحزن الكامن، حتى حَكَم بأنه حزين، فسأل أمه عن حزنه.

(1)

"المفهم" 5/ 472.

ص: 384

11 -

(ومنها): التلطف بالصَّدِيق صغيرًا كان، أو كبيرًا، والسؤال عن حاله، وأن الخبر الوارد في الزجر عن بكاء الصبيّ محمول على ما إذا بكى عن سبب عامدًا، ومن أذى بغير حقّ.

12 -

(ومنها): قبول خبر الواحد؛ لأن الذي أجاب عن سبب حزن أبي عمير كان كذلك.

13 -

(ومنها): جواز تكنية من لم يولد له، وجواز لعب الصغير بالطير، وجواز ترك الأبوين ولدهما الصغير يلعب بما أبيح اللعب به، وجواز إنفاق المال فيما يَتَلَهَّى به الصغير من المباحات، وجواز إمساك الطير في القفص ونحوه، وقصّ جناح الطير؛ إذ لا يخلو حال طير أبي عمير من واحد منهما، وأيهما كان الواقع التحق به الآخر في الحكم.

14 -

(ومنها): جواز إدخال الصيد من الحلّ إلى الحرم، وإمساكه بعد إدخاله خلافًا لمن منع من إمساكه، وقاسه على من صاد، ثم أحرم، فإنه يجب عليه الإرسال، هذا كلام ابن القاصّ رحمه الله.

وقال القرطبيّ رحمه الله: وقد يَستدلُّ الحنفي بهذا الحديث على جواز صيد المدينة، وهو قول خالف فيه الجمهور، ونصّ النبيّ صلى الله عليه وسلم بالنهي عن صيد المدينة، كما نهى عن صيد مكة، كما قدَّمناه، ولا حجَّة فيه؛ إذ ليس فيه ما يدلُّ على أن ذلك الطير صِيْدَ في حرم المدينة، بل نقول: إنه صِيْدَ في الحلّ، وأُدخل في الحرم، ويجوز للحلال أن يصيد في الحل، ويدخله في الحرم، ولا يجوز له أن يصيده في الحرم، فيُفَرَّق بين ابتداء صيده، وبين استصحاب إمساكه، كما ذكرناه في الحج.

وقال أيضًا: وفيه جواز لعب الصَّبيّ بالطير الصغير، لكن الذي أجاز العلماء من ذلك أن يُمْسَك له، وأن يلهو بحسنه، وأما تعذيبه، والعبث به فلا يجوز؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عن تعذيب الحيوان، إلا لمأكلة. انتهى

(1)

.

15 -

(ومنها): جواز تصغير الاسم، ولو كان لحيوان، وجواز مواجهة الصغير بالخطاب خلافًا لمن قال: الحكيم لا يواجه بالخطاب إلا من يعقل

(1)

"المفهم" 5/ 471 - 472.

ص: 385

ويفهم، قال: والصواب الجواز حيث لا يكون هناك طلب جواب، ومن ثَمّ لم يخاطبه في السؤال عن حاله، بل سأل غيره.

16 -

(ومنها): معاشرة الناس على قَدْر عقولهم.

17 -

(ومنها): جواز قيلولة الشخص في بيتٍ غير بيت زوجته، ولو لم تكن فيه زوجته، ومشروعية القيلولة، وجواز قيلولة الحاكم في بيت بعض رعيته، ولو كانت امرأة، وجواز دخول الرجل بيت المرأة، وزوجها غائب، ولو لم يكن مَحْرَمًا، إذا انتفت الفتنة.

قال الجامع عفا الله عنه: قوله: "وجواز دخول الرجل بيت المرأة

إلخ" هذا إذا كان معها مَحْرَم، كما هو الواقع في الحديث، فإن أنسًا رضي الله عنه كان حاضرًا عند أمه وقت دخوله صلى الله عليه وسلم، على أن بعضهم حمل ذلك بأن أم سليم ذات محرم له صلى الله عليه وسلم، وبعضهم قال: إنه خصوصيّة له صلى الله عليه وسلم، وإلا فقد قال صلى الله عليه وسلم: "لا يخلوَنّ رجل بامرأة إلا مع ذي محرم"، متّفقٌ عليه، وفي "صحيح ابن حبّان": "ألا لا يخلونَّ رجل بامرأة، فإن ثالثهما الشيطان"، فهذا النهي الصريح يقدَّم على الاستنباط المذكور، فتنبّه، ولا تكن من الغافلين.

18 -

(ومنها): إكرام الزائر، وأن التنعّم الخفيف لا ينافي السُّنَّة، وأن تشييع المزور الزائر ليس على الوجوب.

19 -

(ومنها): أن الكبير إذا زار قومًا واسى بينهم، فإنه صافح أنسًا، ومازح أبا عمير، ونام على فراش أم سليم، وصلى بهم في بيتهم، حتى نالوا كلهم من بركته. انتهى ملخّص كلام ابن القاصّ رحمه الله فيما استنبط من فوائد حديث أنس في قصة أبي عمير.

قال الحافظ: ثم ذكر -يعني: ابن القاصّ- فصلًا في فائدة تتبّع طرق

الحديث، فمن ذلك الخروج من خلافِ مَنْ شَرَط في قبول الخبر أن تتعدد

طرقه، فقيل: لاثنين، وقيل: لثلاثة، وقيل: لأربعة، وقيل: حتى يستحق اسم

الشهرة، فكان في جَمْع الطرق ما يحصل المقصود لكل أحد غالبًا، وفي جمع

الطرق أيضًا، ومعرفة من رواها، وكميتها، العلمُ بمراتب الرواة في الكثرة

والقلة، وفيها الاطلاع على علة الخبر، بانكشاف غلط الغالط، وبيان تدليس

المدلِّس، وتوصيل المعنعن، ثم قال: وفيما يسّره الله تعالى من جَمْع طرق هذا

ص: 386

الحديث، واستنباط فوائده ما يَحْصُل به التمييز بين أهل الفهم في النقل، وغيرهم، ممن لا يهتدي لتحصيل ذلك، مع أن العين المستنبَط منها واحدة، ولكن من عجائب اللطيف الخبير أنها تُسْقَى بماء واحد، ونفضّل بعضها على بعض في الأكل. هذا آخر كلامه ملخصًا.

قال: وقد سبق إلى التنبيه على فوائد قصة أبي عمير بخصوصها من القدماء أبو حاتم الرازيّ، أحد أئمة الحديث، وشيوخ أصحاب "السنن"، ثم تلاه الترمذيّ في "الشمائل"، ثم تلاه الخطابيّ، وجميع ما ذكروه يقرُب من عشرة فوائد فقط.

قال: وقد ساق شيخنا -يعني: الحافظ العراقيّ- في "شرح الترمذيّ" ما ذكره ابن القاصّ بتمامه، ثم قال: ومن هذه الأوجه ما هو واضح، ومنها الخفيّ، ومنها المتعسَّف، قال: والفوائد التي ذكرها آخرًا، وأكمل بها الستين هي من فائدة جَمْع طرق الحديث، لا من خصوص هذا الحديث.

20 -

(ومنها): أنه قد بقي من فوائد هذا الحديث أن بعض المالكية، والخطابيّ من الشافعية استدلُّوا به على أن صيد المدينة لا يحرم.

وتُعُقّب باحتمال ما قاله ابن القاصّ: أنه صِيد في الحلّ، ثم أُدخل الحرم، فلذلك أبيح إمساكه، وبهذا أجاب مالك في "المدونة"، ونقله ابن المنذر عن أحمد، والكوفيين، ولا يلزم منه أن حرم المدينة لا يحرم صيده، وأجاب ابن التين بأن ذلك كان قبل تحريم صيد حرم المدينة، وعَكَسه بعض الحنفية، فقال: قصة أبي عمير تدلّ على نَسخ الخبر الدال على تحريم صيد المدينة، وكلا القولين متعَقَّب.

وما أجاب به ابن القاصّ من مخاطبة من لا يميِّز: التحقيقُ فيه جواز مواجهته بالخطاب، إذا فَهِمَ الخطاب، وكان في ذلك فائدة، ولو بالتأنيس له، وكذا في تعليمه الحكم الشرعيّ عند قَصْد تمرينه عليه من الصِّغر، كما في قصّة الحسن بن عليّ لَمّا وَضَع التمرة في فيه، قال له صلى الله عليه وسلم:"كِخْ كِخْ، أما علمت أنا لا نأكل الصدقة؟ "، كما تقدَّم بَسْطُه في موضعه، ويجوز أيضًا مطلقًا، إذا كان القصد بذلك خطاب من حضر، أو استفهامه ممن يعقل، وكثيرًا ما يقال للصغير الذي لا يفهم أصلًا، إذا كان ظاهر الْوَعْك: كيف أنت؟ والمراد سؤال كافله، أو حامله.

ص: 387

21 -

(ومنها): أن ابن بطّال ذكر من فوائد هذا الحديث أيضًا استحبابَ النضح فيما لم يتيقن طهارته.

22 -

(ومنها): أن أسماء الأعلام لا يُقصَد معانيها، وأن إطلاقها على المسمى لا يستلزم الكذب؛ لأن الصبيّ لم يكن أبًا، وقد دُعي أبا عمير.

23 -

(ومنها): جواز السجع في الكلام، إذا لم يكن متكلَّفًا، وأن ذلك لا يمتنع من النبىّ صلى الله عليه وسلم امتنع منه إنشاء الشعر.

24 -

(ومنها): إتحاف الزائر بصنيع ما يعرف أنه يعجبه، من مأكول، أو غيره.

25 -

(ومنها): جواز الرواية بالمعنى؛ لأن القصّة واحدة، وقد جاءت بألفاظ مختلفة.

26 -

(ومنها): جواز الاقتصار على بعض الحديث، وجواز الإتيان به تارةً مطولًا، وتارةً ملخّصًا، وجميع ذلك يَحْتَمِل أن يكون من أنس، ويَحْتَمِل أن يكون ممن بعده، والذي يظهر أن بعض ذلك منه، والكثير منه ممن بعده، وذلك يظهر من اتّحاد المخارج، واختلافها.

27 -

(ومنها): مسح رأس الصغير للملاطفة.

28 -

(ومنها): دعاء الشخص بتصغير اسمه عند عدم الإيذاء.

29 -

(ومنها): جواز السؤال عما السائل به عالم؛ لقوله: ما فَعَل النُّغَير؟ بعد علمه بأنه مات.

30 -

(ومنها): إكرام أقارب الخادم، وإظهار المحبة لهم؛ لأن جميع ما ذُكر من صنيع النبيّ صلى الله عليه وسلم مع أم سليم، وذويها، كان غالبه بواسطة خدمة أنس رضي الله عنه له.

وقد نوزع ابن القاصّ في الاستدلال به على إطلاق جواز لعب الصغير بالطير، فقال أبو عبد الملك: يجوز أن يكون ذلك منسوخًا بالنهي عن تعذيب الحيوان.

وقال القرطبيّ: الحقّ أن لا نَسْخ، بل الذي رُخِّص فيه للصبىّ إمساك الطير؛ ليلتهي به، وأما تمكينه من تعذيبه، ولا سيما حتى يموت، فلم يُبَح قط. انتهى.

ص: 388

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي قاله القرطبىّ رحمه الله هو الحقّ، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

ومن الفوائد التي لم يذكرها ابن القاصّ، ولا غيره في قصة أبي عمير، أن عند أحمد في آخر رواية عُمارة بن زاذان، عن ثابت، عن أنس: "فمَرِض الصبىّ، فهلك

"، فذكر الحديث في قصة موته، وما وقع لأم سليم من كتمان ذلك عن أبي طلحة، حتى نام معها، ثم أخبرته لمّا أصبح، فأخبر النبىّ صلى الله عليه وسلم بذلك فدعا لهما، فحَمَلت، ثم وضعت غلامًا، فأحضره أنس إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فحنّكه، وسمّاه عبد الله، وقد تقدم شرح ذلك مستوفًى في الباب الماضي، ولله الحمد والمنّة.

[تنبيه]: وقد جزم الدمياطيّ في أنساب الخزرج بأن أبا عمير مات صغيرًا، وقال ابن الأثير في ترجمته في "الصحابة": لعله الغلام الذي جرى لأم سليم، وأبي طلحة في أمره ما جرى، وكأنه لم يستحضر رواية عمارة بن زاذان المصرِّحة بذلك، فذكره احتمالًا، قال الحافظ: ولم أر عند من ذُكر أبا عمير في الصحابة له غير قصة النغير، ولا ذكروا له اسمًا، بل جزم بعض الشرّاح بأن اسمه كنيته، فعلى هذا يكون ذلك من فوائد هذا الحديث، وهو جعل الاسم المصدَّر بأب، أو أم اسمًا عَلَمًا من غير أن يكون له اسم غيره، لكن قد يؤخذ من قول أنس في رواية رِبْعىّ بن عبد الله يكنى: أبا عمير؛ أن له اسْمًا غير كنيته.

وأخرج أبو داود، والنسائىّ، وابن ماجه، من رواية هُشيم عن أبي عمير بن أنس بن مالك، عن عمومة له حديثًا، وأبو عمير هذا ذكروا أنه كان أكبر ولد أنس، وذكروا أن اسمه عبد الله، كما جزم به الحاكم أبو أحمد وغيره، فلعلّ أنسًا سمّاه باسم أخيه لأمه، وكناه بكنيته، ويكون أبو طلحة سمّى ابنه الذي رزقه خَلَفًا من أبي عمير باسم أبي عمير، لكنه لم يكنه بكنيته، والله أعلم.

قال الحافظ: ثم وجدت في كتاب النساء لأبي الفرج ابن الجوزيّ قد أخرج في أواخره في ترجمة أم سليم، من طريق محمد بن عمرو، وهو أبو سهل البصريّ، وفيه مقال، عن حفص بن عبيد الله، عن أنس، أن أبا طلحة زوج أم سليم، كان له منها ابن يقال له: حفص غلامٌ قد ترعرع، فأصبح أبو

ص: 389

طلحة، وهو صائم في بعض شغله، فذكر قصة نحو القصة التي في "الصحيح" بطولها في موت الغلام، ونومها مع أبي طلحة، وقولها له: أرأيت أَبُو أن رجلًا أعارك عارية .. إلخ، وإعلامهما النبيّ صلى الله عليه وسلم بذلك، ودعائه لهما، وولادتها، وإرسالها الولد إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ليحنكه، وفي القصة مخالفة لِمَا في "الصحيح": منها أن الغلام كان صحيحًا، فمات بغتةً، ومنها أنه ترعرع، والباقي بمعناه، فعُرف بهذا أن اسم أبي عمير حفص، وهو وارد على من صَنَّف في الصحابة، وفي المبهَمات، والله أعلم.

[فائدة]: ومن النوادر التي تتعلق بقصة أبي عمير ما أخرجه الحاكم في "علوم الحديث" عن أبي حاتم الرازيّ أنه قال: حفظ الله أخانا صالح بن محمد -يعني: الحافظ الملَقَّب جَزَرَة-، فإنه لا يزال يبسطنا غائبًا وحاضرًا، كتب إليّ أنه لمّا مات الذُّهْليّ -يعني: بنيسابور- أجلسوا شيخًا لهم يقال له: محمش، فأملى عليهم حديث أنس هذا، فقال: يا أبا عَمِير ما فَعَل البَعِير، قاله بفتح عين عَمير بوزن عظيم، وقال: بموحدة مفتوحة بدل النون، وأهمل العين، بوزن الأول، فصحّف الاسمين معًا.

قال الحافظ: ومَحْمِش هذا لقب، وهو بفتح الميم الأولى، وكسر الثانية، بينهما حاء مهملة ساكنة، وآخره معجمة، واسمه محمد بن يزيد بن عبد الله النيسابوريّ السلميّ، ذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: روى عن يزيد بن هارون وغيره، وكانت فيه دُعَابة. انتهى ما في "الفتح"

(1)

، وهو بحث وإن كان فيه طول، إلا أنه مِفيدٌ جدًّا، والله تعالى وليّ التوفيق.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(7) - (بَابُ جَوَازِ قَوْلِهِ لِغَيْرِ ابْنِهِ: يَا بُنَىَّ، وَاسْتِحْبَابِهِ لِلْمُلَاطَفَةِ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5611]

(2151) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ الْغُبَرِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "يَا بُنَيَّ").

(1)

"الفتح" 14/ 81 - 86، كتاب "الأدب" رقم (6203).

ص: 390

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ الْغُبَرِيُّ))

(1)

البصريّ، ثقةٌ [10](ت 238)(م د س) تقدم في "المقدمة" 2/ 4.

2 -

(أَبُو عَوَانَةَ) وضّاح بن عبد الله اليشكريّ الواسطيّ البزّاز، ثقةٌ ثبتٌ [7](ت 5 أو 177)(ع) تقدم في"المقدمة" 2/ 4.

3 -

(أَبُو عُثْمَانَ) جعد بن دينار اليشكريّ الصيرفيّ، صاحب الحُلى

(2)

، ثقةٌ [4](خ م د ت س) تقدم في "الإيمان" 62/ 345.

[تنبيه]: وقع لبعض الشرّاح

(3)

هنا غلط، حيث ترجم لأبي عثمان النهدي، والصواب الجعد بن دينار، فقد صرّح باسمه في نفس السند ابنُ أبي شيبة في "مصنّفه"(5/ 326)، وأحمد في "مسنده"(3/ 285)، وقال الترمذيّ بعد إخراجه: وأبو عثمان هذا شيخٌ ثقةٌ، وهو الجعد بن عثمان، ويقال: ابن دينار، وهو بصريّ، وقد رَوَى عنه يونس بن عبيد، وغير واحد من الأئمة. انتهى، وكذا به الحافظ المزيّ رحمه الله في "تحفة الأشراف"(1/ 162).

و"أنس رضي الله عنه" ذُكر في السند الماضي.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (432) من رباعيّات الكتاب، وفيه أنس رضي الله عنه، وقد سبق القول فيه قريبًا.

شرح الحديث:

(عَنْ أنسِ بْنِ مَالِكٍ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "يَا بُنَىَّ") تصغير ابن، قال النوويّ رحمه الله: هو بفتح الياء المشددة، وكسرها، وقرئ بهما في السبع، والأكثرون بالكسر، وبعضهم بإسكانها، وفيه جواز قول الإنسان لغير ابنه ممن هو أصغر سنًّا منه: يا ابني، ويا بُنَيّ مصغرًا، ويا ولدي، ومعناه

(1)

بضمّ الغين المعجمة، وفتح الموحّدة المخفّفة: نسبة إلى غُبَر بن غَنْم، بطن مِنْ يَشْكُر، قاله في "اللباب" 2/ 374.

(2)

بضمّ الحاء المهملة.

(3)

هو: الشيخ الهرريّ. راجع: "شرحه" 22/ 58.

ص: 391

تلطف، وإنك عندي بمنزلة ولدي في الشفقة، وكذا يقال له ولمن هو في مثل سنّ المتكلم: يا أخي؛ للمعنى الذي ذكرناه، وإذا قَصَد التلطف كان مستحبًّا، كما فعله النبيّ صلى الله عليه وسلم. انتهى، والله تعالى أعلم.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أنس بن مالك رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [7/ 5611](2151)، و (أبو داود) في "الأدب"(4964)، و (الترمذيّ) في "الأدب"(2831)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(5/ 326)، و (ابن سعد) في "الطبقات"(7/ 20)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 199 و 285)، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5612]

(2152) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ أَبِي عُمَرَ -وَاللَّفْظُ لِابْنِ أَبِي عُمَرَ- قَالَا: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، قَالَ: مَا سَأَل رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَحَدٌ عَنِ الدَّجَّالِ أَكْثَرَ مِمَّا سَأَلْتُهُ عَنْهُ، فَقَالَ لِي: "أَيْ بُنَيَّ، وَمَا يُنْصِبُكَ مِنْهُ؟، إِنَّهُ لَنْ يَضُرَّكَ"، قَالَ: قُلْتُ: إِنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ مَعَهُ أَنْهَارَ الْمَاءِ، وَجِبَالَ الْخُبْزِ، قَالَ: "هُوَ أَهْوَنُ عَلَى اللهِ مِنْ ذَلِكَ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) هو: عبد الله بن محمد بن أبي شيبة إبراهيم بن عثمان الكوفىّ، واسطيّ الأصل، ثقةٌ حافظٌ، صاحب تصانيف [10](ت 235)(خ م د س ق) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.

2 -

(ابْنُ أَبِي عُمَرَ) محمد بن يحيى بن أبي عمر الْعَدَنيّ، ثمّ المكّيّ، صدوق، صنّف "المسند"، ولازم ابن عيينة [10](ت 243)(م ت س ق) تقدم في "المقدمة" 5/ 31.

3 -

(يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ) بن زاذان السلميّ مولاهم، أبو خالد الواسطيّ، ثقةٌ متقنٌ عابدٌ [9](ت 206)، وقد قارب التسعين (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 45.

ص: 392

4 -

(إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ) الْبَجلىّ الأحمسيّ مولاهم، أبو عبد الله الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ [4](ت 146)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 299.

5 -

(قَيْسُ بْنُ أَبِي حَازِمٍ) البجليّ، أبو عبد الملك الكوفيّ مخضرم ثقةٌ [2] مات بعد التسعين، أو قبلها، وقد جاوز المائة، وتغيّر (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 475.

6 -

(الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ) بن مسعود بن معتّب الثقفيّ الصحابيّ الشهير، أسلم قبل الحديبية، وولي إمرة البصرة، ثم الكوفة، ومات سنة خمسين على الصحيح (ع) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان قرن بينهما؛ لاتحادهما في كيفيّة التحمّل والأداء، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ مخضرم، وفيه أن قيسًا هو التابعيّ الوحيد الذي اجتمع له الرواية عن العشرة المبشّرين بالجنّة، على خلاف في بعضهم، والصحيح أنه روى عنهم جميعًا، وإليه أشار السيوطيّ رحمه الله في "ألفيّة الحديث"، حيث قال:

وَذَاكَ قَيْسٌ مَا لَهُ نَظِيرُ

وَعُدَّ عِنْدَ حَاكِمٍ كَثِيرُ

وأشار بقوله: "وعُدّ

إلخ" إلى أن الحاكم أبا عبد الله، صاحب

"المستدرك" عدّ كثيرًا من التابعين أنهم رووا عن العشرة كلهم، وهذا غلط منه، فلم يوجد منهم إلا قيس المذكور، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ) وفي رواية البخاريّ: "حدّثني قيس، قال: قال لي المغيرة بن شعبة"، (قَالَ: مَا سَأَلَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَحَدٌ) بالرفع على الفاعليّة، و"رسولَ الله" مفعول مقدّم، (عَنِ الدَّجَّالِ)؛ أي: عن شأنه، والدّجّال: فَعّال، بفتح أوله، وتشديد ثانيه، من الدجل، وهو التغطية، وسُمّي الكذّاب دَجّالًا؛ لأنه يُغَطِّي الحقّ بباطله، ويقال: دَجَلَ البعيرَ بالقطران: إذا غطّاه، والإناءَ بالذهب: إذا طلاه، وقال ثعلب: الدجّال المموّه، سيف مُدَجَّل: إذا طُلي، وقال ابن دُريد: سُمِّي دجّالًا؛ لأنه يغطي الحقّ بالكذب،

ص: 393

وقيل: لضربه نواحيَ الأرض، يقال: دَجَلَ مخفّفًا، ومشدّدًا: إذا فَعَل ذلك، وقيل غير ذلك

(1)

، وسيأتي تمام البحث فيه في موضعه من "كتاب الفتن" -إن شاء الله تعالى-.

(أكْثَرَ مِمَّا سَأَلْتُهُ عَنْهُ) ولفظ البخاريّ: "ما سأل أحد النبيّ صلى الله عليه وسلم عن الدّجال ما سألته"، قال القرطبيّ رحمه الله: وسؤال المغيرة رضي الله عنه عن الدجال إنما كان لِمَا سمع من عظيم فتنته، وشدَّة محنته، فأجابه صلى الله عليه وسلم بقوله:"وما يُصيبك منه؟ إنه لن يضرَّك"؛ أي: ما يصيبك منه من النَّصَب والمشقَّة. انتهى

(2)

.

(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم (لِي: "أَيْ بُنَيَّ) فيه جواز قول الإنسان لغير ابنه: يا بُنيّ تلطّفًا، وشفقةً، (وَمَا يُنْصِبُكَ مِنْهُ؟)"ما" استفهاميّة إنكاريّة، ويُنصب بضمّ أوله، وفتحه، من الإنصاب، أو النَّصَب، وهو التعب والمشقّة؛ أي: ما يشقّ عليك، ويُتعبك منه؟.

قال في "القاموس"، و"شرحه": نَصِبَ؛ كفَرِحَ: أَعْيا، وتَعِبَ، وأَنْصَبَه هو، وأَنْصَبَني هذا الأَمْرُ، وهَمٌّ ناصِبٌ: مُنْصِبٌ، وهو الصَّحِيح فهو فاعِلٌ بمعنى مُفْعِل؛ كمكانٍ باقِلٍ، بمعنى مُقْبِل، قال ابْنُ بَرِّيّ: وقيل: ناصِبٌ بمعَنى المنصوب، وقيلَ بمعنَى ذو نَصَبٍ، مثل تامِرٍ، ولابِنٍ، وهو فاعِلٌ بمعنى مفعول؛ لَأَنَّه يُنْصَب فيه، ويُتْعَب، وفي الحديث:"فاطِمَةُ بَضْعَةٌ مِنِّي يُنْصِبنِي ما أَنْصَبَهَا"

(3)

؛ أَي: يُتْعبني ما أَتْعَبَها، والنَّصَبُ: التَّعَب، وقيلَ: المَشَقَّةُ؛ قال النّابغة [من الطويل]:

كِلِينِي لِهَمٍّ يا أُمَيْمَةَ ناصِبٍ

أَي: ذِي نَصَبٍ، مثلُ: لَيْلٌ نائمٌ: ذُو نَوْمٍ ينام فيه، قال: أو سُمِعَ: نَصَبَه

الهَمُّ ثُلاثِيًّا متعديًا: بمعنى أتْعَبَهُ، حكاه أَبو عليّ في "التَّذْكِرة"، والنَّصِبُ

كَكَتِف: المرِيضُ الوَجِعُ، قد نَصَبَه المَرَضُ يَنْصِبُهُ بالكَسر: أَوْجَعَهُ، كَأَنْصَبَهُ

(1)

"الفتح" 16/ 574، كتاب "الفتن" رقم (7122).

(2)

"المفهم" 5/ 472.

(3)

متّفقٌ عليه بلفظ: "يُريبني ما أرابها، ويؤذيني ما آذاها"، وأما بهذا اللفظ ففي رواية الترمذيّ برقم (3869).

ص: 394

إِنْصابًا. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن بما سبق من "القاموس"، و"شرحه" أن "يُنصب" هنا يجوز ضمّ أوله من الإنصاب رباعيًّا، ويجوز فتحه، من النَّصْب ثلاثيًّا، من باب ضرب، وكلاهما معناه: أتعبه، والمعنى: أيّ شيء يُتعبك منه؟ أي: لا ينال منه مكروه؛ لأنه لا يخرج في حياتك، بل إنما يخرج في آخر الزمان، فلا تَخَفْ شرّه، والله تعالى أعلم.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "وما يُصيبك منه؟ إنه لن يضرَّك"؛ أي: ما يصيبك منه من النَّصَب والمشقَّة، وهكذا رواية الكافة، وعند الهوزنيّ:"ما يُنضيك": بالضاد المعجمة، والياء باثنتين من تحتها، وكأنه من جهة قولهم: جمل نِضْوٌ؛ أي: هَزِيل، وأنضاه السَّير؛ أي: أهزله، والأول أصح رواية ومعنى. انتهى

(2)

.

وقال في "الفتح": قوله: "وما ينصبك منه" بنون، وصاد مهملة، ثم موحّدة، من النَّصَب، بمعنى التعب، وفي الرواية الآتية لمسلم في "الفتن" من طريق هشيم، عن إسماعيل:"وما سؤالك عنه؟ "؛ أي: وما سبب سؤالك عنه؟ وقال أبو نعيم في "المستخرج": معنى قوله: "ما ينصبك؟ "؛ أي: ما الذي يَغُمّك منه، من الغمّ حتى يهولك أمره؟ قال الحافظ: وهو تفسير باللازم، وإلا فالنصب: التعب وزنه ومعناه، ويُطلق على المرض؛ لأن فيه تعبًا، قال ابن دريد: يقال: نصبه المرض، وأنصبه، وهو تَغَيّر الحال، من تعب، أو وجع. انتهى

(3)

.

(إِنَّهُ)؛ أي: الدجّال (لَنْ يَضُرَّكَ")، وفي الرواية في "الفتن" من طريق إبراهيم بن حميد، عن إسماعيل:"إنه لا يضرّك"، وفي رواية البخاريّ:"وأنه قال لي: ما يضرّك منه؟ ".

قال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "إنه لن يضرّك" يَحْتَمِل أن يريد: لأنك لا تدرك زمان خروجه، ويَحْتَمِل أن يكون إخبارًا منه بأنه يُعْصَم من فتنته، ولو أدرك

(1)

"تاج العروس" 1/ 971.

(2)

"المفهم" 5/ 472،

(3)

"الفتح" 16/ 574، كتاب "الفتن" رقم (7122).

ص: 395

زمانه، والله تعالى ورسوله أعلم. انتهى

(1)

.

(قَالَ) المغيرة (قُلْتُ: إِنَّهُمْ)؛ أي: الناس، أو أهل الكتاب؛ أي: إنما خشيت منه لأنهم (يَزْعُمُونَ) وفي رواية إبراهيم، وهشيم:"إنهم يقولون"(أَنَّ مَعَهُ أَنْهَارَ الْمَاءِ، وَجِبَالَ الْخُبْزِ)، وفي رواية إبراهيم:"إن معه الطعام، والأنهار"، وفي رواية هشيم: "معه جبال من خبز، ولحم، ونهر

(2)

من ماء"، وفي رواية يزيد بن هارون: "إن معه الطعامَ، والشرابَ"، وقوله: "جبال من خبز" بضم الخاء المعجمة، وسكون الموحدة، بعدها زاي، والمراد: أن معه من الخبز قَدْر الجبل، وأَطلق الخبز وأراد به أصله، وهو الْقَمْح مثلًا

(3)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: وقول المغيرة: "إنهم يزعمون أن معه أنهار الماء، وجبال الخبز" هذا يدلّ على أن المغيرة كان قد سمع هذا الأمر عن الدَّجال من غير النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولم يحققه، فعرض ذلك على النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأجابه بقوله:"هو أهون على الله من ذلك"، وظاهر هذا الكلام: أن الدَّجال لا يُمَكَّن من ذلك؛ لهوانه على الله، وخسة قدره، غير أن هذا المعنى قد جاء ما يناقضه في أحاديث الدجال الآتية، فَيَحْتَمِل أن يكون هذا القول صدر عنه صلى الله عليه وسلم قبل أن يوحى إليه بما في تلك الأحاديث، ويَحْتَمِل أن يعود الضمير إلى تمكين الدجال من أنهار الماء، وجبال الخبز؛ أي: فِعْلُ ذلك على الله هيِّن، والأوَّل أسبق، والثاني لا يمتنع، والله تعالى أعلم. انتهى

(4)

.

(قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("هُوَ)؛ أي: الدجّال (أَهْوَنُ عَلَى اللهِ مِنْ ذَلِكَ") قال القاضي عياض رحمه الله

(5)

: معناه: هو أهون من أن يَجعل ما يَخلقه على يديه مضلًّا للمؤمنين، ومشكّكًا لقلوب الموقنين، بل ليزداد الذين آمنوا إيمانًا، ويرتاب الذين في قلوبهم مرض، فهو مثل قول الذي يقتله: ما كنت أشدّ بصيرةً مني فيك، لا أن قوله:"هو أهون على الله من ذلك" إنه ليس شيء من ذلك معه، بل المراد: أهون من أن يجعل شيئًا من ذلك آيةً على صدقه، ولا سيما، وقد

(1)

"المفهم" 5/ 472.

(2)

بسكون الهاء، وفتحها.

(3)

"الفتح" 16/ 574، كتاب "الفتن" رقم (7122).

(4)

"المفهم" 5/ 472.

(5)

"إكمال المعلم" 7/ 27.

ص: 396

جُعل فيه آية ظاهرة في كذبه، وكفره، يقرأها من قرأ، ومن لا يقرأ، زائدة على شواهد كذبه، مِنْ حَدَثه، ونَقْصه.

قال الحافظ: الحامل على هذا التأويل أنه ورد في حديث آخر مرفوع: "ومعه جبل من خبز، ونهر من ماء"، أخرجه أحمد، والبيهقيّ في "البعث" من طريق جُنادة بن أبي أمية، عن مجاهد، قال: انطلقنا إلى رجل من الأنصار، فقلنا: حدّثنا بما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدجال، ولا تحدّثنا عن غيره، فذكر حديثًا فيه: "تُمْطَرُ الأرضُ، ولا يَنبُتُ الشجر، ومعه جنة، ونار، فناره جنة، وجنته نار، ومعه جبل خبز

" الحديث بطوله، ورجاله ثقات، ولأحمد من وجه آخر عن جنادة، عن رجل من الأنصار: "معه جبال الخبز، وأنهار الماء"، ولأحمد من حديث جابر: "معه جبال من خبز، والناس في جهد إلا من تبعه، ومعه نهران

" الحديث.

فدلّ ما ثبت من ذلك على أن قوله: "هو أهون على الله من ذلك" ليس المراد به ظاهره، وأنه لا يَجعل على يديه شيئًا من ذلك، بل هو على التأويل المذكور.

قال ابن العربيّ: أخذ بظاهر قوله: "هو أهون على الله من ذلك" مَن رَدّ من المبتدعة الأحاديث الثابتة أن معه جنة ونارًا، وغير ذلك، قال: وكيف يُرَدّ بحديث مُحْتَمِلٍ ما ثبت في غيره من الأحاديث الصحيحة؟ فلعل الذي جاء في حديث المغيرة جاء قبل أن يبيّن النبيّ صلى الله عليه وسلم أمره، ويَحْتَمِل أن يكون قوله:"أهو أهون"؛ أي: لا يجعل له ذلك حقيقة، وإنما هو تخييل، وتشبيه على الأبصار، فيثبت المؤمن، ويَزِلّ الكافر.

ومال ابن حبان في "صحيحه"

(1)

إلى الأخير، فقال: هذا لا يضادّ خبر أبي مسعود، بل معناه: أنه أهون على الله من أن يكون نهر ماء يجري، فإن الذي معه يُرَى أنه ماء، وليس بماء. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: الذي مال إليه ابن حبّان رحمه الله هو الذي يترجّح

(1)

راجع: "الإحسان في تقريب صحيح ابن حبّان" 15/ 211.

(2)

"الفتح" 16/ 576 - 578، كتاب "الفتن" رقم (7122).

ص: 397

عندي، ففي حديث حذيفة رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال في الدجّال:"إن معه ماءً، ونارًا، فناره ماءٌ باردٌ، وماؤه نارٌ"، قال أبو مسعود: سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، متّفقٌ عليه، زاد في رواية مسلم:"فلا تهلكوا"، فقد أوضح صلى الله عليه وسلم أنه تخييل، لا حقيقةٌ، وسيأتي تمام البحث في الدجّال في أواخر الكتاب حينما يذكر مسلم أحاديثه في "كتاب الفتن" -إن شاء الله تعالى- وأسأل الله تعالى أن يبلغني إلى ذلك الكتاب، إنه سميع قريبٌ مجيب الدعوات.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [7/ 5612 و 5613](2152)، وسيأتي في "الفتن"(2939)، و (البخاريّ) في "الفتن"(7122)، و (ابن ماجه) في "الفتن"(4073)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 246 و 248 و 252)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(7/ 489)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6782 و 6800)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(20/ 950 و 951 و 952 و 954 و 955 و 956 و 957)، و (ابن منده) في "الإيمان"(1530 و 1031)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(4260)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان جواز قول الإنسان لغير ابنه: يا بُنىّ، من باب الملاطفة، والشفقة.

2 -

(ومنها): بيان حرص الصحابيّ الجليل المغيرة بن شعبة رضي الله عنه، وشدّة اهتمامه بالسؤال عن شأن الدجّال حتى لا تصيبه فتنته.

3 -

(ومنها): بيان هوان الدّجّال على الله، وأن تمويهاته كلّها لا تؤثّر إلا على من أغواه الشيطان، وأما المؤمن فهو أكرم الله تعالى من أن ينخدع له، ولذا قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الآتي في "الفتن" لمّا اشتدّ خوف الصحابة رضي الله عنهم منه:"غير الدجال أخوفني عليكم، إن يخرج وأنا فيكم، فأنا حجيجه دونكم، وإن يخرج ولست فيكم، فامرؤٌ حجيج نفسه، والله خليفتي على كل مسلم"، فهذه

ص: 398

بشرى عظيمة، حيث إن الله يتولّى عباده المؤمنين، ويعصمهم من فتنه، اللهم أعذنا من فتنة المسيح الدجّال آمين.

4 -

(ومنها): بيان أن كلّ ما يموّه به الدجّال لا حقيقة له، وإنما هو مجرّد تغرير لمن ينخدع له، فيأتي بجنة ونار، لا حقيقة لهما، وإنما الجنّة نار، والنار جنّة، فلذا أمر صلى الله عليه وسلم أمته أن يقعوا في النار؛ لأنها لا تضرّهم، عصمنا الله تعالى بفضله من جميع الفتن ما ظهر منها، وما بطن، إنه جواد، كريمٌ، رؤوفٌ، رحيمٌ، آمين.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5613]

(. . .) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ نُمَيْرٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ (ح) وَحَدَّثَنَا سُرَيْجُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا هُشيْمٌ (ح) وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا جَرِيرٌ (ح) وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، كُلُّهُمْ عَنْ إِسْمَاعِيلَ، بِهَذَا الإِسْنَادِ، وَلَيْسَ فِي حَدِيثِ أَحَدٍ مِنْهُمْ قَوْلُ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم لِلْمُغِيرَةِ:"أَيْ بُنَيَّ"، إِلَّا في حَدِيثِ يَزِيدَ وَحْدَهُ).

رجال هذه الأسانيد: عشرة:

1 -

(ابْنُ نُمَيْرٍ) هو: محمد بن عبد الله بن نمير، تقدّم قريبًا.

2 -

(وَكِيعُ) بن الجرّاح، تقدّم أيضًا قريبًا.

3 -

(سُرَيْجُ بْنُ يُونُسَ) بن إبراهيم، أبو الحارث البغداديّ، مروزيّ الأصل، ثقةٌ عابدٌ [10](ت 235)(خ م س) تقدم في "الإيمان" 25/ 202.

4 -

(هُشَيْمُ) بن بشير بن القاسم بن دينار السلميّ، أبو معاوية بن أبي خازم الواسطيّ، ثقةٌ ثبتٌ، كثير التدليس والإرسال الخفيّ [7](ت 183) وقد قارب الثمانين (ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 9.

5 -

(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه، تقدّم قريبًا.

6 -

(جَرِيرُ) بن عبد الحميد، تقدّم أيضًا قريبًا.

7 -

(مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ) النيسابوريّ، تقدّم قبل بابين.

8 -

(أَبُو أُسَامَةَ) حمَّاد بن أسامة، تقدّم قريبًا.

والباقون ذُكروا قبله.

ص: 399

وقوله: (كُلُّهُمْ عَنْ إِسْمَاعِيلَ

إلخ)؛ يعني: أن هؤلاء الأربعة: وكيعًا، وهشيمًا، وجريرًا، وأبا أسامة رووا هذا الحديث عن إسماعيل بن أبي خالد بسنده المذكور؛ أي: عن قيس بن أبي حازم، عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه.

وقوله: (إِلَّا فِي حَدِيثِ يَزِيدَ وَحْدَهُ)؛ يعني: ابن هارون المذكور في الحديث الماضي.

[تنبيه]: رواية وكيع، عن إسماعيل ساقها ابن ماجه رحمه الله في "سننه"، فقال:

(4073)

- حدّثنا محمد بن عبد الله بن نمير، وعليّ بن محمد، قالا: ثنا وكيع، ثنا إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم، عن المغيرة بن شعبة، قال: ما سأل أحدٌ النبيَّ صلى الله عليه وسلم عن الدجال أكثر مما سألته -وقال ابن نمير: أشدّ سؤالًا مني- فقال لي: "ما تسأل عنه؟ " قلت: إنهم يقولون: إن معه الطعامَ، والشرابَ، قال:"هو أهون على الله من ذلك". انتهى

(1)

.

ورواية هشيم، عن إسماعيل، ساقها مسلم رحمه الله في "كتاب الفتن"، فقال:

(2939)

- حدّثنا سُريج بن يونس، حدّثنا هشيم، عن إسماعيل، عن قيس، عن المغيرة بن شعبة، قال: ما سأل أحدٌ النبيَّ صلى الله عليه وسلم عن الدجال أكثر مما سألته، قال:"وما سؤالك؟ " قال: قلت: إنهم يقولون: معه جبال من خبز، ولحم، ونهرٌ من ماء، قال:"هو أهون على الله من ذلك". انتهى

(2)

.

ورواية جرير بن عبد الحميد، عن إسماعيل، ساقها ابن حبّان رحمه الله في "صحيحه"، فقال:

(6800)

- أخبرنا عبد الله بن محمد الأزديّ، قال: حدّثنا إسحاق بن إبراهيم الحنظليّ، قال: أخبرنا جرير، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم، عن المغيرة بن شعبة، قال: قلت: يا رسول الله بلغني أن مع الدجال جبالَ الخبز، وأنهارَ الماء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"هو أهون على الله من ذلك"، قال المغيرة: فكنت من أكثر الناس سؤالًا عنه، فقال لي

(1)

"سنن ابن ماجه" 2/ 1354.

(2)

"صحيح مسلم" 4/ 2258.

ص: 400

رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس بالذي يضرّك". انتهى

(1)

.

وأما رواية أبي أسامة عن إسماعيل، فلم أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(8) - (بَابُ الِاسْتِئْذَانِ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5614]

(2153) - (حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ بُكَيْرٍ النَّاقِدُ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، حَدَّثَنَا -وَاللهِ- يَزِيدُ بْنُ خُصَيْفَةَ، عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ يَقُولُ: كُنْتُ جَالِسًا بِالْمَدِينَةِ فِي مَجْلِسِ الأَنْصَارِ، فَأَتَانَا أَبُو مُوسَى فَزِعًا، أَوْ مَذْعُورًا، قُلْنَا: مَا شَأْنُكَ؟ قَالَ: إِنَّ عُمَرَ أَرْسَلَ إِلَىَّ أَنْ آتِيَهُ، فَأَتَيْتُ بَابَهُ، فَسَلَّمْتُ ثَلَاثًا، فَلَمْ يَرُدَّ عَلَىَّ، فَرَجَعْتُ، فَقَالَ: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَأْتِيَنَا، فَقُلْتُ: إِنِّي أَتَيْتُكَ، فَسَلَّمْتُ عَلَى بَابِكَ ثَلَاثًا، فَلَمْ يَرُدُّوا عَلَىَّ، فَرَجَعْتُ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا اسْتَأْذَنَ أَحَدُكُمْ ثَلَاثًا، فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ، فَلْيَرْجِعْ"، فَقَالَ عُمَرُ: أَقِمْ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةَ، وَإِلَّا أَوْجَعْتُكَ، فَقَالَ أُبَىُّ بْنُ كَعْبٍ: لَا يَقُومُ مَعَهُ إِلَّا أَصْغَرُ الْقَوْمِ، قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: قُلْتُ: أَنَا أَصْغَرُ الْقَوْمِ، قَالَ: فَاذْهَبْ بِهِ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ بُكَيْرٍ النَّاقِدُ) أبو عثمان البغداديّ، نزيل الرّقّة، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 232)(خ م د س) تقدم في "المقدمة" 4/ 23.

2 -

(سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ) الهلاليّ، أبو محمد الكوفىّ، نزيل مكة، ثقةٌ حافظٌ فقيهٌ إمامٌ حجةٌ، من رؤوس [8](ت 198)، وله (91) سنةً (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 383.

3 -

(يَزِيدُ بْنُ خُصَيْفَةَ) -بخاء معجمة، وصاد مهملة، وفاء، مصغّرًا-

(1)

"صحيح ابن حبان" 15/ 211.

ص: 401

هو: يزيد بن عبد الله بن خُصَيفة الكنديّ المدنيّ، نُسب لجدّه، ثقةٌ [5](ع) تقدم في "الصلاة" 31/ 1003.

4 -

(بُسْرُ بْنُ سَعِيدٍ) مولى ابن الحضرميّ المدنيّ، ثقةٌ عابد جليل [2](ت 100)(ع) تقدم في "الصلاة" 31/ 1001.

5 -

(أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ) سعد بن مالك بن سنان بن عُبيد الأنصاريّ الصحابيّ ابن الصحابيّ، مات سنة (3 أو 4 أو 65) وقيل:(74)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 485.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسلٌ بالمدنيين من يزيد، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه أبو سعيد رضي الله عنه من المكثرين السبعة.

شرح الحديث:

(عَنْ بُسْرِ) بضمّ الموحّدة، وسكون السين المهملة، (ابْنِ سَعِيدٍ) أنه (قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ) رضي الله عنه (يَقُولُ: كُنْتُ جَالِسًا بِالْمَدِينَةِ فِي مَجْلِسِ الأَنْصَارِ) وفي رواية البخاريّ: "كنت في مجلس من مجالس الأنصار"، وفي رواية الحميديّ عن سفيان:"إني لفي حلقة فيها أُبَيّ بن كعب"، أخرجه الإسماعيليّ. (فَأَتَانَا أَبُو مُوسَى) الأشعريّ عبد الله قيس رضي الله عنه، (فَزِعًا) منصوب على الحال، (أَوْ مَذْعُورًا)"أو" هنا للشكّ من الراوي، (قُلْنَا)؛ أي: الأنصار الجالسون في المجلس، (مَا شَأْنُكَ؟)؛ أي: أيّ شي حصل لك حتى جئتنا فَزِعًا؟ (قَالَ) أبو موسى: (إِنَّ عُمَرَ) بن الخطّاب رضي الله عنه (أَرْسَلَ إِلَيَّ أَنْ آتِيَهُ، فَأَتَيْتُ بَابَهُ، فَسَلَّمْتُ ثَلَاثًا) قال القرطبيّ رحمه الله: هذا ليس مناقضًا لقوله في الأخرى: "إنه استأذن ثلاثًا"؛ لأنَّ أبا موسى رضي الله عنه كان قد جمع بين السلام والاستئذان ثلاثًا ثلاثًا، كما قد جاء منصوصًا عليه في الرواية الثالثة.

قال: وحاصل هذه الأحاديث أن دخول منزل الغير ممنوع؛ كان ذلك الغير فيها، أو لَمْ يكن، إلَّا بعد الإذن، وهذا الذي نصَّ الله تعالى عليه بقوله:{لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} [النور: 27]، ثم قال بعد هذا: {فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ

ص: 402

ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ} [النور: 28]، وهذا لا بدَّ منه؛ لأنَّ دخول منزل الغير تصرُّف في ملكه، ولا يجوز بغير إذنه؛ لأنَّه يَطَّلِع منه على ما لا يجوز الاطلاع عليه من عورات البيوت، فكانت هذه المصلحة في أعلى رتبة المصالح الحاجيَّة.

ولمّا تقرَّر هذا شرعًا عند أبي موسى استأذن أبو موسى على عمر رضي الله عنهما، ولمّا كان عنده علم بكيفية الاستئذان وعدده عَمِل على ما كان عنده من ذلك، فلمّا لَمْ يُؤذن له رجع، وأما عمر رضي الله عنه فكان عنده العلم بالاستئذان، ولم يكن عنده علم من العدد، فلذلك أنكره على أبي موسى إنكار مُستبعِدٍ من نفسه أن يخفى عليه ذلك من النبيّ صلى الله عليه وسلم مع ملازمته النبيّ صلى الله عليه وسلم حضرًا، وسفرًا، ملازمةً لَمْ تكن لأبي موسي، ولا لغيره، وإنكارَ مَن سَدَّ باب الذريعة في التقوُّل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك أغلظ على أبي موسى بقوله: أقم عليه البينة، وإلا أوجعتك، ولأجعلنك عظة، فلما أتاه بالبينة قال: إنما أحببت أن أتثبت. انتهى

(1)

.

(فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيَّ، فَرَجَعْتُ) وعند البخاريّ في "البيوع" من طريق عُبيد بن عُمير أن أبا موسى الأشعريّ استأذن على عمر بن الخطاب، فلم يؤذن له، وكأنه كان مشغولًا فرجع أبو موسي، ففَزِع عمر، فقال:"ألم أسمع صوت عبد الله بن قيس؟ ائذنوا له، قيل: إنه رجع".

وفي رواية بكير بن الأشجّ، عن بسر الآتية في الباب:"استأذنت على عمر أمس ثلاث مرّات، فلم يؤذن لي، فرجعت، ثم جئت اليوم، فدخلت عليه، فأخبرته أني جئت أمس، فسلّمت ثلاثًا، ثم انصرفت، قال: قد سمعناك، ونحن حينئذ على شغل، فلو ما استأذنت حتى يؤذَن لك، قال: استأذنت كما سَمِعتُ"، ومن طريق أبي نضرة، عن أبي سعيد:"أن أبا موسى أتى باب عمر، فاستأذن، فقال عمر: واحدةٌ، ثم استأذن، فقال عمر: اثنتان، ثم استأذن، فقال عمر: ثلاثٌ، ثم انصرف، فاتبعه، فردّه"، ومن طريق طلحة بن يحيي، عن أبي بُردة: جاء أبو موسى إلى عمر، فقال: السلام عليكم، هذا

(1)

"المفهم" 5/ 473 - 474.

ص: 403

عبد الله بن قيس، فلم يأذن له، فقال: السلام عليكم، هذا أبو موسي، السلام عليكم، هذا الأشعريّ، ثم انصرف، فقال:"رُدُّوه عليّ".

وظاهر هذين السياقين التغاير، فإن الأول يقتضي أنه لَمْ يرجع إلى عمر إلَّا في اليوم الثاني، وفي الثاني أنه أرسل إليه في الحال، وقد وقع في رواية لمالك في "الموطأ":"فأرسل في إثره"، ويُجمع بينهما بأن عمر لَمّا فرغ من الشغل الذي كان فيه تذكّره، فسأل عنه، فأُخبر برجوعه، فأرسل إليه، فلم يجده الرسول في ذلك الوقت، وجاء هو إلى عمر في اليوم الثاني، قاله في "الفتح"

(1)

.

(فَقَالَ) عمر رضي الله عنه (مَا مَنَعَكَ)؛ أي: أيُّ شيء منعك (أَنْ تَأْتِيَنَا) وفي رواية البخاريّ: "فقال: ما منعك؟ قلت: استأذنت ثلاثًا، فلم يؤذن لي"، وفي رواية عُبيد بن حُنين، عن أبي موسى عند البخاريّ في "الأدب المفرد": "فقال: يا عبد الله اشتدّ عليك أن تحتبس على بابي، اعلم أن الناس كذلك يشتدّ عليهم أن يحتبسوا على بابك، فقلت: بل استأذنت

إلخ"، وفي هذه الزيادة دلالة على أنَّ عمر أراد تأديبه لَمّا بلغه أنه قد يحتبس على الناس في حال إمرته، وقد كان عمر استخلفه على الكوفة، مع ما كان عمر فيه من الشغل

(2)

.

(فَقُلْتُ: إِنِّي أَتَيْتُكَ، فَسَلَّمْتُ عَلَى بَابِكَ ثَلَاثًا، فَلَمْ يَرُدُّوا)؛ أي: أهل البيت، (عَلَيَّ، فَرَجَعْتُ) ثم ذكر أبو موسى رضي الله عنه حجته على الرجوع بعد الثلاث بقوله: (وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا اسْتَأْذَنَ أَحَدُكُمْ ثَلَاثًا، فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ، فَلْيَرْجِعْ") وقع في رواية عبيد بن عمير: "كنا نؤمر بذلك"، وفي رواية عبيد بن حنين، عن أبي موسى:"فقال عمر: ممن سمعت هذا؟ قلت: سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم"، وفي رواية أبي نضرة:"إن هذا شيء حفظته من رسول الله صلى الله عليه وسلم".

[فائدة]: مما نبّه عليه بعض المعاصرين

(3)

أن فتح الهاتف على رجل في وقت يعرف أنه في شغل، أو راحة يلتحق بحكم الدخول بغير استئذان إلَّا في

(1)

"الفتح" 14/ 168 - 169، كتاب "الاستئذان" رقم (6245).

(2)

"الفتح" 14/ 168 - 169، كتاب "الاستئذان" رقم (6245).

(3)

هو صاحب "تكملة فتح الملهم" نقله عن والده. راجع: "التكملة" 4/ 230 - 231.

ص: 404

حالة الضرورة، وينبغي لمن يفتح الهاتف على غيره، ويريد أن يطيل كلامه أن يستأذن قبل الشروع في كلامه؛ لأن المخاطَب ربّما يكون في شغل، وإنما يرفع السماع أثناء شغله، فلو أطال الآخر كلامه تأذّى بذلك، وتشوّش ذهنه، وإن الأصل في مشروعيّة الاستئذان أن يجتنب الشخص إيذاء الآخر، والدخول في خلوته، وهذه الآداب التي أكدها الشرع صارت الآن مهملة عند كثير من الناس، فلا يعتبرونها من الدِّين، مع أنَّها من الأمور المهمة فيه، والله تعالى أعلم.

(فَقَالَ عُمَرُ) رضي الله عنه: (أَقِمْ عَلَيْهِ)؛ أي: على ما ادعيت أنه سمعته منه صلى الله عليه وسلم، (الْبَيِّنَةَ، وَإِلَّا أَوْجَعْتُكَ)؛ أي: ضربًا، وفي رواية بكير بن الأشجّ:"فوالله لأُوجعنّ ظهرك، وبطنك، أو لتأتيني بمن يشهد لك على هذا"، وفي رواية عبيد بن عمير:"لتأتيني على ذلك بالبينة"، وفي رواية أبي نضرة:"وإلَّا جعلتك عِظَةً".

(فَقَالَ أُبَيُّ بْنُ كعْبٍ) رضي الله عنه؛ أي: بعد أن سأل أبو موسى من يشهد له، ففي رواية البخاريّ:"أمنكم أحد سمعه من النبيِّ صلى الله عليه وسلم؟ فقال أُبيّ بن كعب: والله لا يقوم معك إلَّا أصغر القوم"، وفي رواية عبيد بن عمير:"فانطلق إلى مجلس الأنصار، فسألهم"، وفي رواية أبي نضرة الآتية:"فقال: ألم تعلموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الاستئذان ثلاث"؟، قال: فجعلوا يضحكون، فقلت: أتاكم أخوكم، وقد أُفزع، فتضحكون؟ ". (لَا يَقُومُ مَعَهُ)؛ أي: مع أبي موسي، (إِلَّا أَصْغَرُ الْقَوْمِ) وفي رواية بكير بن الأشج:"فوالله لا يقوم معك إلَّا أحدثنا سنًّا، قم يا أبا سعيد"، قال النوويّ رحمه الله: معنى كلام أُبيّ رضي الله عنه هذا أن هذا الحديث مشهورٌ بيننا، معروف لكبارنا وصغارنا، حتى إن أصغرنا يحفظه، وسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم

(1)

.

(قَالَ أَبُو سَعِيدٍ) الخدريّ: (قُلْتُ: أَنَا أَصْغَرُ الْقَوْمِ) وفي رواية البخاريّ: "فكنت أصغر القوم، فقمت معه، فأخبرت عمر أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قاله. (قَالَ) أُبيّ (فَاذْهَبْ بِهِ) حتى تشهد له، وفي رواية البخاريّ: "فأخبرت عمر أن النبيّ صلى الله عليه وسلم

(1)

"شرح النوويّ" 14/ 131.

ص: 405

قال ذلك"، في رواية ابن أبي عمر، عن سفيان التالية عند مسلم: "قال أبو سعيد: فقمت معه، فذهبت إلى عمر، فشهدت"، وفي رواية أبي نضرة الآتية: "فقال أبو سعيد: انطلق، وأنا شريكك في هذه العقوبة"، وفي رواية بكير بن الأشجّ: "فقمت، حتى أتيت عمر، فقلت: قد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول هذا".

قال القرطبيّ رحمه الله: لا تعارض بين هذه، وبين ما يأتي أن أُبي بن كعب أخبر عمر بذلك، فإنَّه يُحمل على أنَّ كلًّا منهما أخبره بذلك، أبو سعيد أوّلًا حين أتاه إلى منزله، وأُبَيّ ثانيًا لمّا اجتمع به عمر في المسجد، وهذا كله يدلُّ على شهرة الحديث عندهم، ومع ذلك فلم يعرفه عمر، ولا يُستنكر هذا، فإنَّه من ضرورة أخبار الآحاد. انتهى

(1)

.

وقال في "الفتح": واتَّفَقَ الرواة على أن الذي شَهِد لأبي موسى عند عمر أبو سعيد، إلَّا ما عند البخاريّ في "الأدب المفرد" من طريق عُبيد بن حُنين، فإن فيه:"فقام معي أبو سعيد الخدريّ، أو أبو مسعود إلى عمر"، هكذا بالشكّ، وفي رواية لمسلم من طريق طلحة بن يحيي، عن أبي بُردة في هذه القصّة:"فقال عمر: إن وَجَد بينةً تجدوه عند المنبر عشيةً، وإن لَمْ يجد بينةً، فلن تجدوه، فلما أن جاء بالعشيّ وجده، قال: يا أبا موسى ما تقول؟ أقد وجدت؟ قال: نعم، أُبَيّ بن كعب، قال: عَدْلٌ، قال: يا أبا الطفيل - وفي لفظ له: يا أبا المنذر، ما يقول هذا؟ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك، يا ابن الخطاب، فلا تكونَنَّ عذابًا على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: سبحان الله، أنا سمعت شيئًا، فأحببت أن أتثبّت"، قال الحافظ: هكذا وقع في هذه الطريق، وطلحة بن يحيى فيه ضعف، ورواية الأكثر أَولى أن تكون محفوظةً.

ويمكن الجمع بأن أُبَيَّ بن كعب جاء بعد أن شَهِد أبو سعيد، وفي رواية عبيد بن حنين في "الأدب المفرد" زيادة مفيدة، وهي: أن أبا سعيد، أو أبا مسعود قال لعمر: "خرجنا مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم يومًا، وهو يريد سعد بن عُبادة، حتى أتاه، فسلَّم، فلم يؤذن له، ثم سلَّم الثانية، فلم يؤذَن له، ثم سلَّم الثالثة، فلم

(1)

"المفهم" 5/ 475 - 476.

ص: 406

يؤذن له، فقال: قضينا ما علينا، ثم رجع، فأَذنَ له سعد .. " الحديث.

فثبت ذلك من قوله صلى الله عليه وسلم، ومن فعله، وقصّة سعد بن عُبادة، هذه أخرجها أبو داود من حديث قيس بن سعد بن عبادة مطوّلةً بمعناه، وأحمد من طريق ثابت، عن أنس، أو غيره، كذا فيه، وأخرجه البزّار عن أنس، بغير تردّد، وأخرجه الطبرانيّ من حديث أم طارق مولاة سعد.

واتَّفَق الرواة على أنَّ أبا سعيد حدّث بهذا الحديث عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وحَكَى قصة أبي موسى عنه إلَّا ما أخرجه مالك في "الموطأ" عن الثقة، عن بكير بن الأشجّ، عن بسر، عن أبي سعيد، عن أبي موسى بالحديث مختصرًا دون القصّة.

وقد أخرجه مسلم من طريق عمرو بن الحارث، عن بكير بطوله، وصَرَّح في روايته بسماع أبي سعيد له من النبيّ صلى الله عليه وسلم، وكذا وقع في رواية أخرى عنده:"فقال أبو موسى: إن كان سمع ذلك منكم أحد فليقم معي، فقالوا لأبي سعيد: قم معه".

وأغرب الداوديّ، فقال: رَوَى أبو سعيد حديث الاستئذان عن أبي موسي، وهو يشهد له عند عمر، فأدَّى إلى عمر ما قال أهل المجلس، وكأنه نسي أسماءهم بعد ذلك، فحدّث به عن أبي موسى وحده؛ لكونه صاحب القصّة.

وتعقبه ابن التين بأنه مخالف لِمَا في رواية "الصحيح" لأنه قال: "فأخبرتُ عمر بأن النبيّ صلى الله عليه وسلم قاله".

قال الحافظ: وليس ذلك صريحًا في ردّ ما قال الداوديّ، وإنما المعتَمد في التصريح بذلك رواية عمرو بن الحارث، وهي من الوجه الذي أخرجه منه مالك.

والتحقيق أن أبا سعيد حَكَى قصّة أبي موسى عنه بعدَ وقوعها بدهر طويل؛ لأن الذين رووها عنه لَمْ يدركوها، ومن جملة قصة أبي موسى الحديث المذكور، فكأن الراوي لمّا اختصرها، واقتصر على المرفوع خرج منها أن أبا سعيد ذكر الحديث المذكور عن أبي موسي، وغفل عما في آخرها من رواية أبي سعيد المرفوع عن النبيّ بغير واسطة، وهذا من آفات الاختصار، فينبغي

ص: 407

لمن اقتصر على بعض الحديث أن يتفقد مثل هذا، وإلا وقع في الخطأ، وهو كحذف ما للمتن به تعلّق، وتختلف الدلالة بحذفه.

وقد اشتَدّ إنكار ابن عبد البرّ على من زعم أن هذا الحديث إنما رواه أبو سعيد عن أبي موسي، وقال: إن الذي وقع في "الموطأ" إنما هو من النَّقَلة لاختلاط الحديث عليهم.

وقال في موضع آخر: ليس المراد أن أبا سعيد رَوَى هذا الحديث عن أبي موسي، وإنما المراد عن أبي سعيد عن قصّة أبي موسي، والله أعلم.

وممن وافق أبا موسى على رواية الحديث المرفوع جندب بن عبد الله، أخرجه الطبرانيّ عنه بلفظ:"إذا استأذن أحدكم ثلاثًا، فلم يؤذن له فليرجع". انتهى

(1)

.

[تنبيه]: قال في "الفتح": وقد استشكل ابن العربيّ إنكار عمر على أبي موسى رضي الله عنهما حديثه المذكور، مع كونه وقع له مثل ذلك مع النبيّ صلى الله عليه وسلم، وذلك في حديث ابن عباس رضي الله عنهما الطويل في هَجْر النبيّ صلى الله عليه وسلم نساءه في المشرُبة، فإن فيه أن عمر استأذن مرّةً بعد مرّةً، فلمّا لَمْ يؤذَن له في الثالثة رجع، حتى جاءه الإذن، وذلك بَيِّنٌ في سياق البخاريّ.

قال: والجواب عن ذلك أنه لَمْ يقض فيه بعلمه، أو لعله نسي ما كان وقع له، ويؤيده قوله:"شغلني الصفق بالأسواق".

قال الحافظ: والصورة التي وقعت لعمر ليست مطابقةً لِمَا رواه أبو موسي، بل استأذن في كلّ مرّة، فلم يؤذن له، فرجع، فلما رجع في الثالثة استُدْعِي، فأُذن له، ولفظ البخاريّ الذي أحال عليه ظاهر فيما قلته. انتهى

(2)

.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

[تنبيه]: قال أبو عمر بن عبد البرّ - بعد إخراج هذا الحديث مختصرًا،

(1)

"الفتح" 14/ 168 - 169، كتاب "الاستئذان" رقم (6245).

(2)

"الفتح" 14/ 172، كتاب "الاستئذان" رقم (6245).

ص: 408

من طريق سعيد الجريريّ، عن أبي سعيد الخدريّ قال: سَلَّم عبد الله بن قيس أبو موسى الأشعريّ على عمر بن الخطاب ثلاث مرّات، فلم يؤذن له، فرجع، فأرسل عمر في إثْره لِمَ رجعت؟ قال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا سلَّم أحدكم ثلاثًا، فلم يُجَبْ، فليرجع".

قال أبو عمر: مثل هذا الحديث المختصر أوهم مَن جعله عن أبي سعيد، عن أبي موسي، وقد بان بما روينا أنه ليس كذلك، إنما هو لأبي سعيد، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم شَهِد به لأبي موسي، ورواه كما رواه أبو موسي، وهذا هو الصحيح -إن شاء الله تعالى- وبالله تعالى التوفيق. انتهى

(1)

.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [8/ 5614 و 5615 و 5616 و 5617 و 5618 و 5619 و 5620](2153)، و (البخاريّ) في "البيوع"(2063) و"الاستئذان"(6245) و "الاعتصام بالكتاب والسنّة"(7353) وفي "الأدب المفرد"(1065)، و (أبو داود) في "الأدب"(2181 و 2182 و 5180 و 5184)، و (الترمذيّ) في "الاستئذان"(2690)، و (ابن ماجة) في "الأدب"(3706)، و (مالك) في "الموطّأ"(2/ 6245)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(2164)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(19423)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 6 و 19 و 4/ 393 - 394 و 403 و 410 و 418)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 274)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5806 و 5807 و 5810)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(8/ 339) وفي "الأدب"(275)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(3318)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان مشروعيّة الاستئذان، قال أبو عمر بن عبد البرّ رحمه الله: في هذا الحديث من الفقه إيجاب الاستئذان، وهو يُخَرَّج في تفسير قول الله عز وجل:{لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} ، والاستيئناس في هذا الموضع هو الاستئذان، كذلك قال أهل التفسير، وكذلك في قراءة

(1)

"الاستذكار" 8/ 476.

ص: 409

أُبَيّ، وابن عباس:"تستأذنوا، وتسلِّموا على أهلها". انتهى

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: الاستئذان لا بد أن يكون ثلاثًا، فإذا لَمْ يؤذن له بعد الثلاث، فهل يزيد عليها أو لا؟ قولان لأصحابنا، الأَولى أن لا يزيد؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"الاستئذان ثلاث، فإن أذن لك، وإلا فارجع"، وهذا نصٌّ.

قال: إنَّما خَصَّ الثلاث بالذكر؛ لأنَّ الغالب أن الكلام إذا كُرر ثلاثًا سُمِعَ وفُهِم، ولذلك كان النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا تكلَّم بكلمة أعادها ثلاثًا حتى تُفْهَم عنه، وإذا سلَّم على قومٍ سلَّم عليهم ثلاثًا، وإذا كان الغالبُ هذا، فإذا لَمْ يؤذَن له بعد ثلاث ظهر أن ربَّ المنزل لا يريد الإذن، أو لعله يمنعه من الجواب عذر لا يمكنه قطعه، فينبغي للمستأذِن أن ينصرف؛ لأنَّ الزيادة على ذلك قد تُقْلِق ربَّ المنزل، وربما يضرُّه الإلحاح حتى ينقطع عما كان مشتغلًا به، كما قال النبيّ صلى الله عليه وسلم لأبي أيوب رضي الله عنه

(2)

حين استأذن عليه، فخرج مستعجلًا، فقال:"لعلنا أعجلناك". انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(3)

، وهو بحث نفيسٌ جدًّا، والله تعالى أعلم.

وقال النوويّ رحمه الله: أجمع العلماء أن الاستئذان مشروعٌ، وتظاهرت به دلائل القرآن، والسُّنَّة، وإجماع الأمة، والسُّنَّة أن يُسَلِّم، ويستأذن ثلاثًا، فيجمع بين السلام والاستئذان، كما صُرِّح به في القرآن، واختلفوا في أنه هل يستحب تقديم السلام، ثم الاستئذان، أو تقديم الاستئذان، ثم السلام؟ والصحيح الذي جاءت به السُّنَّة، وقاله المحققون أنه يُقَدِّم السلامَ، فيقول: السلام عليكم، أأدخل؟ والثاني يُقَدِّم الاستئذان، والثالث -وهو اختيار الماورديّ من الشافعيّة- إن وقعت عين المستأذن على صاحب المنزل قبل دخوله قَدَّم السلام، وإلا قَدَّم الاستئذان، وصحّ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم حديثان في تقديم السلام. أما إذا أستأذن ثلاثًا، فلم يؤذن له، وظَنَّ أنه لَمْ يسمعه، ففيه ثلاثة مذاهب: أشهرها أنه ينصرف، ولا يعيد الاستئذان، والثاني: يزيد فيه، والثالث: إن كان بلفظ

(1)

"التمهيد لابن عبد البرّ" 3/ 196.

(2)

كذا وقع في "المفهم" أن أبا أيوب، والمشهور أنه عتبان بن مالك، وقيل: غيره.

(3)

"المفهم" 5/ 474 - 475.

ص: 410

الاستئذان المتقدِّم لَمْ يُعِدْه، وإن كان بغيره أعاده، فمن قال بالأظهر فحجته قوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث:"فلم يؤذن له فليرجع"، ومن قال بالثاني حمل الحديث على من عَلِم، أو ظَنَّ أنه سمعه فلم يأذن. انتهى كلام النوويّ رحمه الله

(1)

، وهو بحث مفيدٌ، والله تعالى أعلم.

وقال ابن عبد البرّ رحمه الله: وظاهر هذا الحديث يوجب أن لا يستأذن الإنسان أكثر من ثلاث، فإن أُذِن له، وإلا رجع، وهو قول أكثر العلماء، وإلى هذا ذهب ابن نافع، وقال غيره: إن لَمْ يُسْمَع فلا بأس أن يزيد، والاستئذان أن يقول: السلام عليكم، آدخل؟ وقال بعضهم: المرة الأولى من الاستئذان استئذان، والمرة الثانية مشورة، هل يؤذن له في الدخول أم لا؟ والثالثة علامة الرجوع، ولا يزيد على الثلاث. انتهى

(2)

.

2 -

(ومنها): قبول أخبار الآحاد، ووجوب التثبُّت فيها، والبحث عن عدالة ناقليها؛ لأنَّ أبا موسى لمّا أخبر عمر رضي الله عنهما بأن أُبي بن كعب يشهد له قال: عَدْلٌ.

3 -

(ومنها): حماية الأئمة حوزة الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والإنكار على من تعاطاها إلَّا بعد ثبوت الأهليَّة وتحققها.

4 -

(ومنها): أن المستأذن حقَّه أن يبدأ بالسلام، ثم يذكر اسمه، وإن كانت له كنية يُعرف بها ذكرها، كما فعل أبو موسى رضي الله عنه، وكل ذلك ينبغي في تحصيل التعريف التام للمستأذَن عليه؛ فإنَّه إن أَشْكَل عليه اسم عرف آخر، قال القرطبيّ: قال بعض أصحابنا: هو بالخيار بين أن يُسمي نفسه أو لا، والأَولى ما فَعَله أبو موسي، فإنَّ فِعْله ذلك إن كان توقيفًا؛ فهو المطلوب، وإن لَمْ يكن توقيفًا؛ فبه يحصل التعريف الذي لأجله شُرع الاستئذان، ثم رأي الصحابيّ راوي الحديث أَولى من هذا القول الحديث. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(3)

، وهو تعقّب وجيهٌ، والله تعالى أعلم.

5 -

(ومنها): ما قاله ابن عبد البرّ رحمه الله: فيه أن الرجل العالم الحبر قد

(1)

"شرح النوويّ" 14/ 130 - 131.

(2)

"التمهيد لابن عبد البرّ" 24/ 204.

(3)

"المفهم" 5/ 475.

ص: 411

يوجد عند من هو دونه في العلم ما ليس عنده من العلم، إذا كان طريق ذلك العلم السمع، وإذا جاز مثل هذا على عمر على موضعه في العلم، فما ظنك بغيره بعده؟ ورَوَى وكيع عن الأعمش، عن أبي وائل، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: لو أن علم عمر وُضع في كفّة، ووُضع علم أحياء الأرض في كفة أخرى لرجح علم عمر بعلمهم، قال الأعمش: فذكرت ذلك لإبراهيم، فقال: لا تعجب من هذا، فقد قال عبد الله: إني لأحسب تسعة أعشار العلم ذهب يوم ذهب عمر، وجاء عن حذيفة مثل قول عبد الله. انتهى

(1)

.

6 -

(ومنها): أن في قول عمر رضي الله عنه الآتي: في رواية عُبيد بن عُمير: "خَفِي عليَّ هذا من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ألهاني عنه الصفق في الأسواق" اعترافٌ منه بجهل ما لَمْ يَعْلَم، وإنصافٌ صحيحٌ، وهكذا يجب على كلّ مؤمن أن يكون في هذا مثل عمر رضي الله عنه في التواضع، والاعتراف بحقيقة الأمر. انتهى

(2)

.

7 -

(ومنها): ما قاله النوويّ رحمه الله: وقد تعلق بهذا الحديث من يقول: لا يُحتَجّ بخبر الواحد، وزعم أن عمر رضي الله عنه رَدَّ حديث أبي موسى هذا؛ لكونه خبر واحد، وهذا مذهب باطل، وقد أَجْمع من يُعْتَدّ به على الاحتجاج بخبر الواحد، ووجوب العمل به، ودلائله من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، والخلفاء الراشدين، وسائر الصحابة، ومَن بعدهم أكثر من أن يُحْصَر، وأما قول عمر لأبي موسى:"أقم عليه البينة"، فليس معناه ردّ خبر الواحد من حيث هو خبر واحد، ولكن خاف عمر مسارعة الناس إلى القول على النبيّ صلى الله عليه وسلم حتى يقول عليه بعض المبتدعين، أو الكاذبين، أو المنافقين، ونحوهم ما لَمْ يقل، وأن كل من وقعت له قضيّة وضع فيها حديثًا على النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأراد سدّ الباب خوفًا من غير أبي موسي، لا شكًّا في رواية أبي موسي، فإنه عند عمر أجلّ من أن يَظُنّ به أن يُحَدِّث عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ما لَمْ يقل، بل أراد زجر غيره بطريقه، فإن من دون أبي موسى إذا رأى هذه القضيّة، أو بلغته، وكان في قلبه مرض، أو أراد

(1)

"التمهيد لابن عبد البرّ" 3/ 198.

(2)

"التمهيد لابن عبد البرّ" 3/ 198 و 201.

ص: 412

وضع حديث خاف من مثل قضيّة أبي موسي، فامتنع من وضع الحديث، والمسارعة إلى الرواية بغير يقين.

ومما يدلّ على أنَّ عمر لَمْ يَرُدّ خبر أبى موسى لكونه خبر واحد، أنه طلب منه إخبار رجل آخر، حتى يعمل بالحديث، ومعلوم أن خبر الاثنين خبر واحد، وكذا ما زاد حتى يبلغ التواتر، فما لَمْ يبلغ التواتر فهو خبر واحد.

ومما يؤيده أيضًا ما ذكره مسلم في الرواية الأخيرة من قضيّة أبي موسى هذه أن أُبَيًّا رضي الله عنه قال: "يا ابن الخطاب فلا تكوننّ عذابًا على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: سبحان الله إنما سمعت شيئًا، فأحببت أن أتثبت"، والله أعلم. انتهى

(1)

.

وقال أبو عمر رحمه الله في "التمهيد": زعم قوم أن في هذا الحديث دليلًا على أنَّ مذهب عمر أن لا يقبل خبر الواحد، وليس كما زعموا؛ لأنَّ عمر رضي الله عنه قد ثبت عنه استعمال خبر الواحد، وقبوله، وإيجاب الحكم به، أليس هو الذي ناشد الناس بمنى: مَن كان عنده علم رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدية، فليخبرنا، وكان رأيه أن المرأة لا ترث من دية زوجها؛ لأنَّها ليست من عصبته الذين يعقلون عنه، فقام الضحاك بن سفيان الكلابيّ، فقال: كتب إليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أُوَرِّث امرأة أشيم الضبابيّ من دية زوجها، وكذلك ناشد الناس في دية الجنين، مَن عنده فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره حَمَلُ بن مالك بن النابغة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى فيه بغرةٍ عبدٍ، أو أمةٍ، فقضى به عمر؟ ولا يشك ذو لُبّ ومن له أقلّ منزلة في العلم أن موضع أبي موسى من الإسلام، ومكانه من الفقه، والدِّين أجلّ من أن يَرُدّ خبره، ويقبل خبر الضحاك بن سفيان الكلابيّ، وحَمَلِ بن مالك الأعرابيّ، وكلاهما لا يقاس به في حال، وقد قال له عمر في حديث ربيعة هذا: أَمَا إني لَمْ أَتَّهِمك، ولكني خَشِيت أن يتقوَّل الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدَلّ على اجتهاد كان من عمر رضي الله عنه في ذلك الوقت لمعنى الله أعلم به.

وقد يَحْتَمِل أن يكون عمر رضي الله عنه كان عنده في ذلك الحين من لَمْ يصحب

(1)

"شرح النوويّ" 14/ 131 - 132.

ص: 413

رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل العراق، وأهل الشام؛ لأنَّ الله فتح عليه أرض فارس والروم، ودخل في الإسلام كثير ممن يجوز عليهم الكذب؛ لأنَّ الإيمان لَمْ يستحكم في قلوب جماعة منهم، وليس هذه صفة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنَّ الله قد أخبر أنهم خير أمة أخرجت للناس، وأنهم أشدّاء على الكفار، رحماء بينهم، وأثنى عليهم في غير موضع من كتابه، وإذا جاز الكذب، وأمكن في الداخلين إلى الإسلام، فيمكن أن يكون عمر مع احتياطه في الدين يخشى أن يختلقوا الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الرهبة، والرغبة، أو طلبًا للحجة، وفرارًا إلى الملجأ والمخرج مما دخلوا فيه؛ لقلة علمهم بما في ذلك عليهم، فأراد عمر رضي الله عنه أن يُريهم أن مَن فعل شيئًا يُنْكَر عليه، ففزع إلى الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليثبت له بذلك فعله، وجب التثبت فيما جاء به، إذا لَمْ تُعْرَف حاله، حتى يصح قوله، فأراهم ذلك، ووافق أبا موسي، وإن كان عنده معروفًا بالعدالة، غير مُتَّهَمٍ؛ ليكون ذلك أصلًا عندهم، وللحاكم أن يجتهد بما أمكنه، إذا أراد به الخير، ولم يخرج عما أبيح له، والله أعلم بما أراد عمر بقوله ذلك لأبي موسي، وعلى هذا قول طاوس قال: كان الرجل إذا حَدَّث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أُخِذ حتى يجيء ببينة، وإلا عوقب؛ يعني: ممن ليس بمعروف بالعدالة، ولا مشهور بالعلم والثقة، ألا ترى إلى إجماع المسلمين أن العالم إذا حَدَّث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان مشهورًا بالعلم أُخِذ ذلك عنه، ولم يُنْكَر عليه، ولم يُحْتَجْ إلى بينة؟ ومن نحو قول طاوس هذا قول سعد بن إبراهيم رحمه الله: لا يحدّث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلَّا الثقات؛ أي: كلّ من إذا وُقِّف أحال على مخرج صحيح، وعِلْم ثابت، وكان مستورًا لَمْ تظهر منه كبيرة، وأما قول من قال: إن عمر لَمْ يَعْرف أبا موسي، فقولٌ خرج عن غير رَوِيَّة، ولا تدبّر، ومنزلةُ أبي موسى عند عمر مشهورة، وقد عَمِل له، وبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم عاملًا، وساعيًا على بعض الصدقات، وهذه منزلة رفيعة في الثقة، والأمانة. انتهى كلام أبي عمر رحمه الله

(1)

، وهو بحث نفيسٌ جدًّا، والله تعالى أعلم.

وقال في "الفتح": وليس في هذا الحديث ما ادّعاه، وتعلّق به من زعم

(1)

"التمهيد لابن عبد البرّ" 3/ 198 - 201.

ص: 414

أن عمر كان لا يقبل خبر الواحد، ولا حجة فيه؛ لأنه قَبِل خبر أبي سعيد المطابق لحديث أبي موسي، ولا يخرج بذلك عن كونه خبر واحد.

قال: واستَدَلّ به مَن ادَّعَى أن خبر العدل بمفرده لا يُقبل حتى ينضم إليه غيره، كما في الشهادة، قال ابن بطال

(1)

: وهو خطأ من قائله، وجهل بمذهب عمر، فقد جاء في بعض طرقه أن عمر قال لأبي موسى:"أما إني لَمْ أتهمك، ولكني أردت أن لا يتجرأ الناس على الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم"، وهذه الزيادة في "الموطأ" عن ربيعة، عن غير واحد من علمائهم، أن أبا موسي، فذكر القصّة، وفي آخره:"فقال عمر لأبي موسى: أما إني لَمْ أتهمك، ولكني خشيت أن يتقول الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم "، وفي رواية عبيد بن حنين:"فقال عمر لأبي موسى: والله إن كنت لأمينًا على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن أحببت أن أستثبت"، ونحوه في رواية أبي بُردة حين قال أُبَيّ بن كعب لعمر:"لا تكن عذابًا على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: سبحان الله، إنما سمعت شيئًا، فأحببت أن أتثبت".

قال ابن بطال: فيؤخذ منه التثبت في خبر الواحد لِمَا يجوز عليه من السهو وغيره، وقد قَبِل عمر خبر العدل الواحد بمفرده في توريث المرأة من دية زوجها، وأَخْذ الجزية من المجوس، إلى غير ذلك، لكنه كان يستثبت إذا وقع له ما يقتضي ذلك.

وقال ابن عبد البرّ: يَحْتَمِل أن يكون حضر عنده مَن قَرُب عهده بالإسلام، فخشي أن أحدهم يختلق الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الرغبة والرهبة طلبًا للمخرج مما يدخل فيه، فأراد أن يُعلمهم أن من فعل شيئًا من ذلك يُنكر عليه حتى يأتي بالمخرج.

وادّعَى بعضهم أن عمر لَمْ يعرف أبا موسي، قال ابن عبد البرّ: وهو قول خرج بغير رويّة من قائله، ولا تدبر، فإن منزلة أبي موسى عند عمر مشهورة، وقال ابن العربيّ رحمه الله: اختُلِف في طلب عمر من أبي موسى رضي الله عنهما البينة على عشرة أقوال، فذكرها، قال الحافظ: وغالبها متداخل، ولا تزيد على ما قدمته.

(1)

"شرح صحيح البخاريّ" لابن بطال 9/ 25.

ص: 415

8 -

(ومنها): أنه استُدِلّ بالخبر المرفوع على أنَّه لا تجوز الزيادة في الاستئذان على الثلاث، قال ابن عبد البرّ: فذهب أكثر أهل العلم إلى ذلك، وقال بعضهم: إذا لَمْ يُسْمَع فلا بأس أن يزيد، وروى سحنون عن ابن وهب، عن مالك: لا أحب أن يزيد على الثلاث، إلَّا من عَلِم أنه لَمْ يُسمَع، وهذا هو الأصح عند الشافعية، قال ابن عبد البرّ: وقيل: تجوز الزيادة مطلقًا بناءً على أن الأمر بالرجوع بعد الثلاث للإباحة، والتخفيف عن المستأذن، فمن استأذن أكثر فلا حرج عليه.

قال الجامع عفا الله عنه: لا يخفى بطلان هذا القول؛ لكونه معارضًا للنصّ الصريح الصحيح: "إذا استأذن أحدكم ثلاثًا، فلم يؤذن له، فليرجع"، فتبصّر، والله تعالى أعلم.

قال: الاستئذان أن يقول: السلام عليكم، أأدخل؟ كذا قال، ولا يتعيّن هذا اللفظ، وحَكَى ابن العربيّ: إن كان بلفظ الاستئذان لا يعيد، وإن كان بلفظ آخر أعاد، قال: والأصح لا يعيد، وقد تقدم ما حكاه المازريّ

(1)

في ذلك.

وأخرج البخاريّ في "الأدب المفرد" عن أبي العالية قال: أتيت أبا سعيد، فسلّمت، فلم يؤذن لي، ثم سلمت، فلم يؤذن لي، فتنحيت ناحيةً، فخرج عليّ غلامٌ، فقال: ادخل، فدخلت، فقال لي أبو سعيد: أما إنك لو زدت؛ يعني: على الثلاث، لَمْ يؤذن لك.

واختُلِف في حكمة الثلاث، فروى ابن أبي شيبة من قول عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه: الأولى إعلام، والثانية مؤامرة، والثالثة عزمة، إما أن يؤذن له، وإما أن يُرَدّ.

9 -

(ومنها): ما قاله الحافظ رحمه الله: يؤخذ من صنيع أبي موسى رضي الله عنه حيث ذكر اسمه أَوّلًا، وكنيته ثانيًا، ونِسبته ثالثًا أن الأُولى هي الأصل، والثانية إذا جَوَّز أن يكون التبس على من استأذن عليه، والثالثة إذا غلب على ظنه أنه عرفه، قال ابن عبد البرّ رحمه الله: وذهب بعضهم إلى أن أصل الثلاث في الاستئذان قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ

(1)

"المعلم" 3/ 86.

ص: 416

يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ} [النور: 58] قال: وهذا غير معروف في تفسيرها، وإنما أطبق الجمهور على أنَّ المراد بالمرات: الثلاث الأوقات.

قال الحافظ: وأخرج ابن أبي حاتم من طريق مقاتل بن حيّان قال: بلغنا أن رجلًا من الأنصار، وامرأته أسماء بنت مرثد صنعا طعامًا، فجعل الناس يدخلون بغير إذن، فقالت أسماء: يا رسول الله ما أقبح هذا، إنه لَيَدْخُل على المرأة وزوجِها غلامهما، وهما في ثوب واحد بغير إذن، فنزلت.

وأخرج أبو داود، وابن أبي حاتم بسند قويّ، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أنه سئل عن الاستئذان في العورات الثلاث، فقال: إن الله سَتِيرٌ يحب الستر، وكان الناس ليس لهم ستور على أبوابهم، فربما فاجأ الرجل خادمه، أو ولده، وهو على أهله، فأُمروا أن يستأذنوا في العورات الثلاث، ثم بسط الله الرزق، فاتخذوا الستور، والحجال، فرأى الناس أن ذلك قد كفاهم الله به مما أمروا به.

ومن وجه آخر صحيح، عن ابن عباس: لَمْ يعمل بها أكثر الناس، وإني لآمر جاريتي أن تستأذن عليّ.

10 -

(ومنها): أن لصاحب المنزل إذا سَمِع الاستئذان أن لا يأذن، سواءٌ سَلَّم مرةً، أم مرتين، أم ثلاثًا، إذا كان في شغل له دينيّ، أو دنيويّ يتعذر بترك الإذن معه للمستأذن.

11 -

(ومنها): أن لمن تحقق براءة الشخص مما يَخشى منه، وأنه لا يناله بسبب ذلك مكروه أن يمازحه، ولو كان قبل إعلامه بما يَطْمَئنّ به خاطره مما هو فيه، لكن بشرط أن لا يطول الفصل؛ لئلا يكون سببًا في إدامة تأذي المسلم بالهمّ الذي وقع له، كما وقع للأنصار مع أبي موسي، وأما إنكار أبي سعيد عليهم، فإنه اختار الأَولي، وهو المبادرة إلى إزالة ما وقع فيه قبل التشاغل بالممازحة

(1)

، والله تعالى أعلم.

(1)

"الفتح" 14/ 172 - 174، كتاب "الاستئذان" رقم (6245).

ص: 417

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5615]

(. . .) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَابْنُ أَبِي عُمَرَ، قَالَا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ خُصَيْفَةَ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَزَادَ ابْنُ أَبِي عُمَرَ فِي حَدِيثِهِ: قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: فَقُمْتُ مَعَهُ، فَذَهَبْتُ إِلَى عُمَرَ، فَشَهِدْتُ).

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) تقدّم قريبًا.

2 -

(ابْنُ أَبِي عُمَرَ) هو: محمد بن يحيى بن أبي عمر العدنيّ، ثمّ المكيّ، تقدّم في الباب الماضي.

والباقيان ذُكرا قبله.

[تنبيه]: رواية قتيبة، وابن أبي عمر كلاهما عن سفيان بن عيينة ساقها البيهقيّ رحمه الله في "سننه"، فقال:

(17442)

- أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أنبأ محمد بن يعقوب، هو الشيبانيّ، ثنا محمد بن شاذان، ثنا قتيبة بن سعيد (ح) قال: وحدثنا عليّ بن عيسي، ثنا إبراهيم بن أبي طالب، ثنا ابن أبي عمر، قالا: ثنا سفيان، حدّثني يزيد بن خُصيفة، عن بُسْر بن سعيد، عن أبي سعيد الخدريّ قال: استأذن أبو موسى على عمر رضي الله عنهما، فلم يؤذَن له، فانصرف، فقال له عمر: ما لك لَمْ تأتني؟ قال: قد جئت، فاستأذنت ثلاثًا، فلم يؤذن لي، فرجعت، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من استأذن ثلاثًا، فلم يؤذن له، فليرجع"، فقال له عمر رضي الله عنه: أقم على ذا بينةً، وإلا أوجعتك، فقال أبو سعيد: فأتانا أبو موسى مذعورًا، أو فَزِعًا، قال: جئت أستشهدكم، قال أُبَيّ بن كعب رضي الله عنه: اجلس لا يقوم معك إلَّا أصغر القوم، قال أبو سعيد: فكنت أصغرهم، فقمت، فشهدت له عند عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من استأذن ثلاثًا، فلم يؤذن له، فليرجع". انتهى

(1)

.

(1)

"سنن البيهقيّ الكبرى" 8/ 339.

ص: 418

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5616]

(. . .) - (حَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ، أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْبٍ، حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ بُكَيْرِ بْنِ الأَشَجِّ، أَنَّ بُسْرَ بْنَ سَعِيدٍ حَدَّثَهُ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ يَقُولُ: كُنَّا فِي مَجْلِسٍ عِنْدَ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، فَأَتَى أَبُو مُوسَى الأَشْعَرِيُّ مُغْضَبًا، حَتَّى وَقَفَ، فَقَالَ: أَنْشُدُكُمُ اللهَ

(1)

، هَلْ سَمِعَ أَحَدٌ مِنْكُمْ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "الِاسْتِئْذَانُ ثَلَاثٌ، فَإِنْ أُذِنَ لَكَ، وَإِلَّا فَارْجِعْ،؟ قَالَ أُبَيُّ: وَمَا ذَاكَ؟ قَالَ: اسْتَأْذَنْتُ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَمْسِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَلَمْ يُؤْذَنْ لِي، فَرَجَعْتُ، ثُمَّ جِئْتُهُ الْيَوْمَ، فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ، فَأَخْبَرْتُهُ أَنِّي جِئْتُ أَمْسِ، فَسَلَّمْتُ ثَلَاثًا، ثُمَّ انْصَرَفْتُ، قَالَ: قَدْ سَمِعْنَاكَ، وَنَحْنُ حِينَئِذٍ عَلَى شُغْلٍ، فَلَوْ مَا اسْتَأْذَنْتَ حَتَّى يُؤْذَنَ لَكَ؟ قَالَ: اسْتَأْذَنْتُ كَمَا سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: فَوَاللهِ لأُوجِعَنَّ ظَهْرَكَ وَبَطْنَكَ، أَوْ لَتَأْتِيَنَّ بِمَنْ يَشْهَدُ لَكَ عَلَى هَذَا، فَقَالَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ: فَوَاللهِ لَا يَقُومُ مَعَكَ إِلَّا أَحْدَثْنَا سِنًّا، قُمْ يَا أَبَا سَعِيدٍ، فَقُمْتُ حَتَّى أَتَيْتُ عُمَرَ، فَقُلْتُ: قَدْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ هَذَا).

رجال هذا الإسناد: ستّةٌ:

1 -

(أَبُو الطَّاهِرِ) أحمد بن عمرو بن عبد الله بن السرح المصريّ، ثقةٌ [10](ت 250)(م د د س ق) تقدم في "المقدمة" 3/ 10.

2 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْبِ) بن مسلم القرشيّ مولاهم، أبو محمد المصريّ، ثقةٌ حافظٌ عابدٌ [9](ت 197)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 10.

3 -

(عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ) بن يعقوب الأنصاريّ مولاهم، أبو أيوب المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ [7] مات قبل (150)(ع) تقدم في "الإيمان" 16/ 169.

4 -

(بُكَيْرُ بْنُ الأَشَجِّ) هو: بُكير بن عبد الله بن الأشجّ المخزوميّ مولاهم، أبو عبد الله، أو أبو يوسف المدنيّ، نزيل مصر، ثقةٌ [5](ت 120)(ع) تقدم في "الطهارة" 4/ 554.

(1)

وفي نسخة: "أنشدكم بالله".

ص: 419

والباقيان ذُكرا قبله.

شرح الحديث:

عن بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ أنه (حَدَّثَهُ)؛ أي: حدّث بُكير بن الأشجّ، (أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ) رضي الله عنه (يَقُولُ: كُنَّا فِي مَجْلِسٍ عِنْدَ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ) رضي الله عنه (فَأَتَى أَبُو مُوسَى الأَشْعَرِيُّ) عبد الله بن قيس رضي الله عنه حال كونه (مُغْضَبًا، حَتَّى وَقَفَ) على مجلس الأنصار، (فَقَالَ) أبو موسى (أَنْشُدُكُمُ اللهَ) وفي بعض النسخ:"أنشدكم بالله"، يقال: نشدتك الله، وبالله أنشدُك، من باب نصر: ذكّرتك به، واستعطفتك، أو سألتك به مُقسمًا عليك

(1)

. (هَلْ سَمِعَ أَحَدٌ مِنكُمْ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "الِاسْتِئْذَانُ" للدخول، وهو استدعاء الإذن، وهو طلبه، (ثَلَاثٌ)؛ أي: ثلاث مرّات، (فَإِنْ أُذِنَ لَكَ)؛ أي: في الدخول، وجوابه لَمْ يُذكر في هذه الرواية، وذُكر في غيره بلفظ:"فادخل"، وقوله:(وَإِلَّا) هي"إن" الشرطيّة، أُدغمت في "لا" النافية، وفِعْل الشرط محذوف؛ لدلالة ما قبله عليه أي: وإن لَمْ يؤذن لك (فَارْجِعْ"؟) لأنه عز وجل قال: {فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ} [النور: 28]. (قَالَ أُبَيٌّ)؛ أي: ابن كعب رضي الله عنه (وَمَا ذَاكَ؟)؛ أي: ما سبب مناشدتك في هذا الأمر؟ (قَالَ) أبو موسى (اسْتَأْذَنْتُ)؛ أي: طلبت الإذن في الدخول (عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ) رضي الله عنه (أَمْسِ) بالبناء على الكسر، قال الفيّوميّ رحمه الله: أَمْسِ: اسم عَلَمٌ على اليوم الذي قبل يومك، ويُستعمل فيما قبله مجازًا، وهو مبنيّ على الكسر، وبنو تميم تُعربه إعراب ما لا ينصرف، فتقول: ذهب أمْسُ بما فيه، بالرفع، قال الشاعر [من الرجز]:

لَقَدْ رَأَيْتُ عَجَبًا مُذْ أَمْسَا

عجَائِزًا مِثْلَ السَّعَالِي خَمْسًا

(2)

(ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَلَمْ يُؤْذَنْ لِي، فَرَجَعْتُ) هذا يقتضي أن أبا موسى لَمْ يرجع إلى عمر رضي الله عنهما إلَّا في اليوم الثاني، وقد تقدّم ما يقتضي أن عمر أرسل إليه في الحال، حيث قال لمّا أُخبر برجوعه:"رُدُّوه عليّ"، ويُجمع بينهما بأن عمر رضي الله عنه لَمَّا فرغ من شغله تذكّره، فسأل عنه، فأُخبر بأنه رجع، فأرسل من يردّه إليه،

(1)

"المصباح المنير" 2/ 605.

(2)

"المصباح المنير" 1/ 22.

ص: 420

فلم يوجد في ذلك الوقت، وجاء هو إلى عمر بنفسه في اليوم الثاني، والله تعالى أعلم.

(فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ، فَأَخْبَرْتُهُ أَنِّي جِئْثُ أَمْسِ، فَسَلَّمْتُ ثَلَاثًا، ثُمَّ انْصَرَفْتُ، قَالَ: قَدْ سَمِعْنَاكَ)، وقوله:(وَنَحْنُ حِينَئِذٍ عَلَى شُغْلٍ) جملة حاليّة؛ أي: على عمل يَشغَلنا عن إجابتك، قال المجدّ رحمه الله: الشغل، بالضّمّ، وبضمّتين، وبالفتح، وبفتحتين: ضدّ الفراغ، جمعه أشغالٌ، وشُغُولٌ. انتهى.

وقال الفيّوميّ رحمه الله شَغَلَهُ الأمر شَغْلًا، من باب نَفَعَ، فالأمر شَاغِلٌ، وهو مَشْغُولٌ، والاسم الشُّغُلُ، بضم الشين، وتضم الغين، وتسكن للتخفيف، وشُغِلْتُ به، بالبناء للمفعول: تَلَهَّيتُ به، قال الأزهريّ: واشْتَغَلَ بأمره، فهو مُشْتَغِلٌ؛ أي: بالبناء للفاعل، وقال ابن فارس: ولا يكادون يقولون: اشْتَغَلَ، وهو جائز؛ يعني: بالبناء للفاعل، ومن هنا قال بعضهم: اشْتَغَلَ بالبناء للمفعول، ولا يجوز بناؤه للفاعل؛ لأنَّ الافتعال إن كان مطاوعًا فهو لازمٌ لا غيرُ، وإِن كان غير مطاوع فلا بدّ أن يكون فيه معنى التعدي، نحو اكتسبتُ المالَ، واكتحلتُ، واختضبت: أي: كحلت عيني، وخضبت يدي، واشتغلتُ ليس بمطاوع، وليس فيه معنى التعدي.

وأجيب بأنه في الأصل مطاوع لفعل هُجِر استعماله في فصيح الكلام، والأصل أَشْغَلْتُهُ، بالألف، فَاشْتَغَلَ، مثل: أحرقته، فاحترق، وأكملته، فاكتمل، وفيه معنى التعدي، فإنك تقول: اشْتَغَلْتُ بكذا، فالجارّ والمجرور في معنى المفعول، وقد نصَّ الأزهريّ على استعمال مُشتَغِلٍ ومُشْتَغَلٌ. انتهى

(1)

.

وقد تقدّم أنه لا يقال: أشغله رباعيًّا، وادّعى ذلك المجد، فقد ردّوا عليه، وإنما يقال: شَغَلَه ثلاثيًّا، فتنبّه.

(فَلَوْ مَا اسْتَأْذَنْتَ)"لوما" هنا أداة تحضيض، بمعنى "هَلَّا"، كما قال في "الخلاصة":

"لَوْلَا" و"لَوْمَا" يَلْزَمَانِ الابْتِدَا

إِذَا امْتِنَاعًا بِوُجُودٍ عَقَدَا

وَبِهِمَا التَّحْضِيضَ مِزْ و"هَلَّا"

"أَلَّا""أَلَا" وَأَوْلِنْهَا الْفِعْلَا

(1)

"المصباح المنير" 1/ 316.

ص: 421

وَقَدْ يَلِيهَا اسْمٌ بِفِعْلٍ مُضْمَرِ

عُلِّقَ أَوْ بِظَاهِرٍ مُؤَخَّرِ

(حَتَّى يُؤْذَنَ لَكَ؟ قَالَ) أبو موسى (اسْتَأْذَنْتُ كَمَا سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم)؛ أي: إن هذا الذي فعلته امتثال لِمَا سمعته من النبيِّ صلى الله عليه وسلم، حيث قال:"إذا استأذن أحدكم، فإن أُذن، وإلا فليرجع". (قَالَ) رضي الله عنه لَمّا ذكر له حديثه صلى الله عليه وسلم (فَوَاللهِ لأُوجِعَنَّ ظَهْرَكَ، وَبَطْنَكَ)؛ أي: بالضرب تعزيرًا، (أَوْ لَتَأْتِيَنَّ) "أو" هنا بمعنى "إلّا"؛ أي: إلَّا أن تأتينّ، و"أن" مضمرة بعدها وجوبًا، والفعل منصوب محلًّا بها، مبنيّ لفظًا؛ لاتصاله بنون التوكيد، والله تعالى أعلم.

(بمَنْ يَشْهَدُ لَكَ عَلَى هَذَا) الذي نسبته إليه صلى الله عليه وسلم، ثم إن ظاهر كلام عمر رضي الله عنه هذا تهديد لأبي موسى رضي الله عنه، وحقيقته زجر غيره؛ لأنَّ مَن دون أبي موسى إذا رأى هذه القضيّة، أو سمعها، إن كان في قلبه مرض، وأراد أن يضع حديثًا لترويج مرامه الفاسد ينزجر، ويخاف، ولا يجترئ على وضع حديث، وإلا فكيف يُظنّ في حقّ عمر أنه ظنّ في حقّ أبي موسى أنه وضع لمرامه حديثًا؟ بل هو أجلّ وأعلى عند عمر من ذلك، والله تعالى أعلم.

(فَقَالَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ)؛ أي: بعدما جاء أبو موسى إلى مجلسه يطلب من يشهد له، (فَوَاللهِ لَا يَقُومُ مَعَكَ إِلَّا أَحْدَثُنَا سِنًّا)؛ أي: أصغرنا، وإنما قال أُبيّ رضي الله عنه ذلك إشارةً إلى شهرة الحديث، حتى إن أصغرهم سمعه منه صلى الله عليه وسلم، وكأنه إنكار على عمر رضي الله عنه

(1)

. (قُمْ يَا أَبَا سَعِيدٍ)؛ يعني: الخدريّ، وإنما عيّنه؛ لكونه أصغرهم، (فَقُمْتُ حَتَّى أَتَيْتُ عُمَرَ، فَقُلْتُ: قَدْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ هَذَا).

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام شرحه، وبيان مسائله قبل حديث، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5617]

(

) - (حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ الْجَهْضَمِيُّ، حَدَّثَنَا بِشْرٌ -يَعْنِي: ابْنَ مُفَضَّلٍ- حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، أَنَّ أَبَا مُوسَى أَتَى بَابَ عُمَرَ، فَاسْتَأْذَنَ، فَقَالَ عُمَرُ: وَاحِدَةٌ، ثُمَّ اسْتَأْذَنَ الثَّانِيَةَ، فَقَالَ عُمَرُ: ثِنْتَانِ،

(1)

"شرح السنوسيّ" 5/ 426.

ص: 422

ثُمَّ اسْتَأْذَنَ الثَّالِثَةَ، فَقَالَ: عُمَرُ: ثَلَاثٌ، ثُمَّ انْصَرَفَ، فَأَتْبَعَهُ، فَرَدَّهُ، فَقَالَ: إِنْ كَانَ هَذَا شَيْئًا حَفِظْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَهَا، وَإِلَّا فَلَأَجْعَلَنَّكَ عِظَةً، قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: فَأَتَانَا، فَقَالَ: أَلَمْ تَعْلَمُوأ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "الِاسْتِئْذَانُ ثَلَاثٌ

(1)

"، قَالَ: فَجَعَلُوا يَضْحَكُونَ -قَالَ- فَقُلْتُ: أَتَاكُمْ أَخُوكُمُ الْمُسْلِمُ، قَدْ أفْزِعَ

(2)

تَضْحَكُونَ، انْطَلِقْ، فَأَنَا شَرِيكُكَ في هَذِهِ الْعُقُوبَةِ، فَأَتَاهُ، فَقَالَ: هَذَا أَبُو سَعِيدٍ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ الْجَهْضَمِيُّ) البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 250) أو بعدها (ع) أحد مشايخ الجماعة بلا واسطة تقدم في "المقدمة" 5/ 30.

2 -

(بِشْرُ بْنُ مُفَضَّلِ) بن لاحق الرَّقَاشيّ، أبو إسماعيل البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ عابدٌ [8](ت 6 أو 187)(ع) تقدم في "الإيمان" 10/ 145.

3 -

(سَعِيدُ بْنُ يَزِيدَ) بن مَسْلمة الأزديّ، ثمّ الطاحيّ، أبو مسلمة البصريّ القصير، ثقةٌ [4](ع) تقدم في "الإيمان" 88/ 466.

4 -

(أَبُو نَضْرَةَ) المنذر بن مالك بن قُطَعة الْعَبْديّ الْعَوفيّ البصريّ، ثقةٌ [3](ت 8 أو 109)(خت م 4) تقدم في "الإيمان" 6/ 127.

و"أبو سعيد رضي الله عنه " ذُكر قبله.

وقوله: (فَقَالَ عُمَرُ: وَاحِدَةٌ

إلخ) خبر لمحذوف؛ أي: هذه مرّةٌ واحدة

إلخ، قال ابن عبد البرّ رحمه الله: في هذا الحديث من قول عمر: "واحدة، اثنتان، ثلاث" دليل على أنَّ عمر رضي الله عنه كان يعلم أن الاستئذان ثلاث، وقد رُوي في ذلك أيضًا عن عمر، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم:"الاستئذان ثلاث"، فدلّ ذلك على أنَّ الذي جَهِله عمر من دعوى أبي موسى قوله:"فإن أُذِن لك، وإلا فارجع" هذا لا غير، والله أعلم. انتهى

(3)

.

وقوله: (فَأَتْبَعَهُ

إلخ) بقطع الهمزة؛ أي: أرسل وراءه من يردّه إليه، يقال: أتبعت زيدًا عَمْرًا بالألف: إذا جعلته تابعًا له

(4)

.

(1)

وفي نسخة: "ثلاثًا".

(2)

وفي نسخة: "فَزِعَ".

(3)

"الاستذكار" 8/ 475.

(4)

"المصباح المنير" 1/ 72.

ص: 423

وقوله: (فَهَا)؛ أي: فأحضر البيّنة، قال الفيّوميّ رحمه الله: وفي الحديث: "إِلّا هَاءْ، وَهَاءْ" بهمزة ساكنة على إرادة الوقف، ممدودٌ ومقصورٌ، والمولدون ينوّنون بغير همز، وإذا كان لمفرد مذكر قيل: هَاءَ بهمزة ممدودةٍ مفتوحةٍ، على معنى خُذْ، قال الشاعر [من الرجز]:

تَمْزُجُ لِي مِنْ بُغْضِهَا السِّقَاءَ

ثُمَّ تَقُولُ مِنْ بَعِيدٍ هَاءَ

ومكسورةٍ على معنى هاتِ، قال الشّاعر [من الخفيف]:

مُولَعَاتٌ بِهَاءٍ هَاءٍ فَإِنْ شَفْ

فَرَ

(1)

مَالٌ طَلَبْنَ مِنْكَ الخِلَاعَا

وللاثنين هَاءَا، وللجمع هَاءُوا، بألف التثنية، وواو الجمع، وللمؤنثة هَاءِ، بهمزة مكسورة، وفي لغة أخرى للمؤنثة: هَائِي بياء بعد الهمزة، بمعنى هَاتِي، وهَاءَ، بهمزة، بمعنى هاك وزنًا ومعنًى، وإذا كانت بمعنى الكاف دخلت الميم، فتقول للاثنين: هَاؤُمَا، ولجمع المذكّر: هَاؤُمْ، وللمؤنث هَأْنَ بهمزة ساكنة، وإذا دخلت التاء، والكاف تعيَّن القصر، فيقال للمذكر: هَاتِ، وللمؤنثة: هَاتِي، وهَاتِيَا، وهَاتُوا، وهَاتِينَ، وهَاكَ، بفتح الكاف للمذكر، وبكسرها للمؤنثة، وهَاكُمَا، وهَاكُمْ، وهَاكُنَّ، فمعنى التاء: أعطني، ومعنى الكاف: خُذْ، ومعنى الحديث: يَقُولُ كُلُّ وَاحِدٍ لِصَاحِبِهِ: هَاءِ؛ أي: هات ما في يدك، فيقول له: هَاءَ؛ أي: خذه، ويعطيه في وقته؛ لأنّه وُضِع للمناولة. انتهى

(2)

.

وقوله: (وَإِلَّا فَلَأَجْعَلَنَّكَ) هي "إن" الشرطيّة أُدغمت في "لا" النافية؛ أي: وإن لَمْ تأت بالبيّنة

إلخ. وقوله: (عِظَةً)؛ أي: عِبْرة لغيرك، وقال ابن الأثير رحمه الله: أي موعظةً وعبرةً لغيرك، من الوعظ، والهاء فيه عِوَضٌ من الواو المحذوفة. انتهى

(3)

.

قال في "العمدة": كيف قال عمر لأبي موسى رضي الله عنهما: "أقم البينة، وإلا أوجعتك"، وفي رواية:"فوالله لأُوجعنّ ظهرك وبطنك"، وفي رواية:"لأجعلنك نكالًا"؟، مع أن أبا موسى كان عنده أمينًا، ولهذا استعمله، وبعثه النبيّ صلى الله عليه وسلم

(1)

يقال: شَفَرَ المالُ تشفيرًا: قَلّ، وذهب. اهـ. "القاموس" ص 694.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 644.

(3)

"النهاية في غريب الأثر" ص 625.

ص: 424

أيضًا، ساعيًا، وعاملًا على بعض الصدقات، وهذه منزلة رفيعة في الثقة، والأمانة.

وأجيب بأن هذا كله محمول على أنَّ تقديره: لأفعلنّ بك هذا الوعيد إن بان أنك تعمَّدت كذبًا. انتهى

(1)

.

وقوله: ("الِاسْتِئْذَانُ ثَلَاثٌ") مبتدأ وخبره، ووقع في بعض النسخ بلفظ:"ثلاثًا" بالنصب، فيكون خبرًا بـ "يكون" محذوفًا، وحذف "كان" مع اسمها لا يختصّ بالماضي، بل يجوز في المضارع أيضًا، كقولهم: ألا طعامَ، ولو تمرٌ؛ أي: ولو يكون عندكم تمرٌ، كما قدّره سيبويه، ذكره الخضريّ في "حاشيته"

(2)

.

وقوله: (فَجَعَلُوا يَضْحَكُونَ) قال القرطبيّ رحمه الله: إنما ضَحِكوا من جَزَع أبي موسى من تهديد عمر رضي الله عنه، مع علمهم بأن ذلك لا يتمُّ منه؛ لأنَّ ما طلبه من البينة موجودة، ولأن عمر لَمْ يكذِّبه، ولا مقصوده جَلْده، ولا إهانته، بل التغليظ، والحماية. انتهى

(3)

.

وقال النوويّ رحمه الله: سبب ضَحِكهم التعجّب من فزع أبي موسى رضي الله عنه، وذُعْره، وخوفه من العقوبة، مع أنهم قد أَمِنوا أن يناله عقوبة، أو غيرها؛ لقوة حجته، وسماعهم ما أُنكر عليه من النبيِّ صلى الله عليه وسلم. انتهى

(4)

.

وقوله: (قَدْ أُفْزِعَ) بضمّ الهمزة من الإفزاع رباعيًّا، وهو التخويف، ووقع في بعض النُّسخ:"وقد فَزَع" ثلاثيًّا، يقال: فَزِعَ منه فَزَعًا، فهو فَزِعٌ، من باب تَعِبَ: خاف، وأفزعته، وفزّعته، ففزِعَ

(5)

.

وقوله: (فَأَنَا شَرِيكُكَ فِي هَذِهِ الْعُقُوبَةِ) هو كناية عن كونه لا تناله العقوبة بوجه من الوجوه؛ لكونه صادقًا محقًّا فيما قاله، حيث سمعه الأنصار من النبيّ صلى الله عليه وسلم، حتى صار أصغرهم يشهد له، فكأنه يؤكّد له أن لا يناله شيء من العقوبة، والله تعالى أعلم.

(1)

"عمدة القاري" 11/ 177.

(2)

"حاشية الخضريّ على شرح ابن عقيل على الخلاصة" 1/ 167.

(3)

"المفهم" 5/ 476.

(4)

"شرح النوويّ" 14/ 133 - 134.

(5)

"المصباح المنير" 2/ 472.

ص: 425

وقوله: (فَأَتَاهُ)؛ أي: أتى أبو موسى عمر رضي الله عنهما (فَقَالَ: هَذَا)؛ أي: الذي جاء معي، (أَبُو سَعِيدٍ) الخدريّ يشهد لي بما رويته لك؛ لأنه سمع الحديث من النبيّ صلى الله عليه وسلم، كما سمعت منه.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام البحث فيه، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5618]

(. . .) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّي، وَابْنُ بَشَّارٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي مَسْلَمَةَ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ (ح) وَحَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ خِرَاشٍ، حَدَّثَنَا شَبَابَةُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنِ الْجُرَيْرِيِّ، وَسَعِيدِ بْنِ يَزِيدَ، كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، قَالَا: سَمِعْنَاهُ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، بِمَعْنَى حَدِيثِ بِشْرِ بْنِ مُفَضَّلٍ، عَنْ أَبِي مَسْلَمَةَ).

رجال هذا الإسناد: عشرة:

1 -

(أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ خِرَاشٍ) أبو جعفر البغداديّ، صدوقٌ [11](ت 242)(م ت) تقدم في "الإيمان" 42/ 280.

2 -

(شَبَابَةُ) بن سَوّار المدائنيّ، خراسانيّ الأصل، الفزاريّ مولاهم، يقال: كان اسمه مروان، ثقةٌ حافظٌ، رُمي بالإرجاء [9](ت 4 أو 5 أو 206)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 40.

3 -

(الْجُرَيْرِيُّ) سعيد بن إياس، أبو مسعود البصريّ، ثقةٌ اختلط قبل موته بثلاث سنين [5](ت 144)(ع) تقدم في "الإيمان" 40/ 266.

والباقون ذُكروا في الباب، وقبل أربعة أبواب.

وقوله: (كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، قَالَا

إلخ) ضمير التثنية في الموضعين للجريريّ، وسعيد بن يزيد، وأبو مسلمة في السند الأول هو سعيد بن يزيد في السند الثاني.

[تنبيه]: رواية شعبة عن الجريريّ، وسعيد بن يزيد كلاهما عن أبي نضرة ساقها ابن الجعد رحمه الله لهُ في "مسنده"، فقال:

(1447)

- حدّثنا عليّ، أنا شعبة، عن سعيد الجريريّ، سمع أبا نضرة يحدِّث عن أبي سعيد الخدريّ قال: جاء أبو موسى يستأذن على عمر ثلاثًا،

ص: 426

فلم يؤذن له، فرجع، فقال له عمر: لتأتينّ على ما قلت، أو لأفعلنّ بك، فأتى الأنصار، فقال: ألستم تعلمون أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "إذا استأذن أحدكم ثلاثًا، فلم يؤذن له، فليرجع"؟ قال: فقالوا: لا يشهد لك إلَّا أصغرنا، قال أبو سعيد: فأتيته، فشهدت له.

(1448)

- حدّثنا عليّ، أنا شعبة، عن سعيد بن يزيد، سمع أبا نضرة يحدِّث عن أبي سعيد، مثل ذلك. انتهى

(1)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5619]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، حَدَّثَنَا عَطَاءٌ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، أَنَّ أَبَا مُوسَى استَأْذَنَ عَلَى عُمَرَ ثَلَاثًا، فَكَأَنَّهُ وَجَدَهُ مَشْغُولًا، فَرَجَعَ، فَقَالَ عُمَرُ: أَلَمْ نَسْمَعْ صَوْتَ عَبْدِ اللهِ بْنِ قَيْسٍ؟ ائْذَنُوا لَهُ، فَدُعِيَ لَهُ

(2)

، فَقَالَ: مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ؟ قَالَ: إِنَّا كُنَّا نُؤْمَرُ بِهَذَا، قَالَ: لَتُقِيمَنَّ عَلَى هَذَا بَيِّنَةً، أَوْ لأَفعَلَنَّ، فَخَرَجَ، فَانْطَلَقَ إِلَى مَجْلِسٍ مِنَ الأَنْصَارِ، فَقَالُوا: لَا يَشْهَدُ لَكَ عَلَى هَذَا إِلَّا أَصْغَرُنَا، فَقَامَ أَبُو سَعِيدٍ، فَقَالَ: كُنَّا نُؤْمَرُ بِهَذَا، فَقَالَ عُمَرُ: خَفِيَ عَلَيَّ هَذَا مِنْ أَمْرِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ألْهَانِي عَنْهُ الصَّفْقُ بِالأَسْوَاقِ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمِ) بن ميمون البغداديّ المعروف بالسمين، مروزيّ الأصل، صدوق فاضل ربّما وَهِم [10](ت 5 أو 236)(م د) تقدم في "الإيمان" 1/ 104.

2 -

(يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ) تقدّم قريبًا.

3 -

(ابْنُ جُرَيْجٍ) عبد الملك بن عبد العزيز بن جُريج الأمويّ مولاهم المكيّ، ثقةٌ فقيهٌ فاضلٌ، يدلّس ويرسل [6](ت 150) أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 129.

4 -

(عَطَاءُ) بن أبي رَبَاح أسلم القرشيّ مولاهم، أبو محمد المكيّ، ثقةٌ فقيهٌ فاضلٌ، كثير الإرسال [3](ت 114)(ع) تقدم في "الإيمان" 83/ 442.

(1)

"مسند ابن الجعد" 1/ 218.

(2)

وفي نسخة: "فدُعي به".

ص: 427

5 -

(عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرِ) بن قتادة الليثيّ، أبو عاصم المكيّ، قاصّ أهل مكة، وُلد في عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم[2](ت 68)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 473.

و"أبو موسى الأشعريّ رضي الله عنه" ذُكر قبله.

وقوله: (اسْتَأْذَنَ عَلَى عُمَرَ ثَلَاثًا)؛ أي: طلب الإذن في الدخول عليه.

وقوله: (فَكَأَنَّهُ وَجَدَهُ مَشْغُولًا)؛ أي: وكأن عمر رضي الله عنه كان مشغولًا بأمر من أمور المسلمين.

وقوله: (أَلَمْ نَسْمَعْ) بنون المتكلّم، هكذا في النسخة الهنديّة، ووقع في غيرها بلفظ:"ألم تسمع" بتاء الخطاب، ولعلّ الخطاب لشخص كان عند عمر رضي الله عنه في ذلك الوقت، ولفظ البخاريّ:"ألم أسمع صوت عبد الله بن قيس؟ "، بهمزة المتكلّم، والله تعالى أعلم.

وقوله: (ائْذَنُوا لَهُ) هكذا النُّسخ بهمزة ساكنة قبل الذال، ويُروَى:"إيذنوا له" بياء بدل الهمزة، قال في "العمدة": أصله ائذنوا له بهمزتين، فلما ثقلتا، قُلبت الثانية ياءً؛ لكسرة ما قبلها. انتهى

(1)

.

وقوله: (فَدُعِيَ لَهُ) بالبناء للمفعول؛ أي: طُلب عبد الله بن قيس أن يرجع لأجل عمر حيث أمَر بردّه عليه، وفي بعض النُّسخ:"فدُعي به"، والأول أوضح.

وقوله: (قَالَ: إِنَّا كُنَّا نُؤْمَرُ بِهَذَا) فيه حَذف تقديره: فبعث عمر وراءه، فحضر، فقال له: لِمَ رجعت؟ فقال: كنا نؤمر بذلك؛ أي: بالرجوع حين لَمْ يؤذن للمستأذن.

وقوله أيضًا: (إِنَّا كُنَّا نُؤْمَرُ بِهَذَا)؛ أي: بالرجوع إذا لَمْ يؤذن لنا بعد الاستئذان ثلاثًا، قال في "الفتح": وفيه الدلالة على أنَّ قول الصحابيّ: كنا نؤمر بكذا محمول على الرفع، ويَقْوَى ذلك إذا ساقه مساق الاستدلال، وفيه أن الصحابيّ الكبير القدر الشديد اللزوم لرسول الله صلى الله عليه وسلم قد يخفى عليه بعض أمره، ويسمعه من هو دونه، وادَّعَى بعضهم أنه يستفاد منه أن عمر كان لا يقبل الخبر من شخص واحد، وليس كذلك؛ لأنَّ في بعض طرقه أن عمر قال: إني أحببت

(1)

"عمدة القاري" 11/ 176.

ص: 428

أن أتثبت، وقد قَبِل عمر خبر الضحاك بن سفيان وحده في الدية، وغير ذلك. انتهى

(1)

.

وقوله: (فَقَالُوا

إلخ)؛ أي: قال الأنصار، قال النوويّ رحمه الله: إنما قال ذلك الأنصار إنكارًا على عمر رضي الله عنه فيما قاله، إنه حديث مشهور بيننا، معروف عندنا، حتى إن أصغرنا يحفظه، وسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقوله: (فَقَالَ عُمَرُ: خَفِيَ عَلَيَّ هَذَا

إلخ)؛ أي: أَمْر الاستئذان ثلاثًا، وهذا اعتراف من عمر رضي الله عنه، واعتذار مما وقع منه في حقّ أبي موسى رضي الله عنه، وبيان لسبب كون الحديث المعروف بينهم خفيَ عليه.

وقال القرطبيّ رحمه الله: إنما قال عمر رضي الله عنه هذا عاتبًا على نفسه، وناسبًا لها إلى التقصير، ثم بيَّن عذره بقوله:

(أَلْهَانِي عَنْهُ الصَّفْقُ بِالأَسْوَاقِ) زاد البخاري: ("يعني: الخروج إلى التجارة"؛ أي: شغلني عن هذا الحديث أمر التجارة والمعاملة في الأسواق، كما قال الله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [المنافقون: 9] قال البيضاويّ: لا يشغلكم تدبيرها، والاهتمام بها.

وقال القرطبيّ رحمه الله: وألهاني: شَغَلني، والصَّفق: البيع، وسُمِّي بذلك؛ لأنهم كانوا يتواجبون البيع بالأيدي، فيُصَفِّق كلّ واحد منهم بيد صاحبه، ومنه قيل للبيعة: صفقة. انتهى

(2)

.

وقال أبو عمر رحمه الله في "التمهيد": وفي قوله: "ألهاني الصفق بالأسواق" دليل على أنَّ طلب الدنيا يمنع من استفادة العلم، وأنه كلما ازداد المرء طلبًا لها ازداد جهلًا، وقَلّ عمله، والله أعلم، ومن هذا قول أبي هريرة رضي الله عنه:"أما إخواننا المهاجرون، فكان يَشْغَلهم الصفق بالأسواق، وأما إخواننا من الأنصار، فشَغَلتهم حوائطهم، ولَزِمت رسول الله صلى الله عليه وسلم على شِبَعِ بطني"، هذا وكان القوم عربًا في طبعهم الحفظ، وقلة النسيان، فكيف اليوم؟ وإذا كان القرآن الميَسَّر للذكر كالإبل المعَقَّلة، مَن تعاهدها أمسكها، فكيف بسائر

(1)

"الفتح" 5/ 517، كتاب "البيوع" رقم (2062).

(2)

"المفهم" 5/ 476 - 477.

ص: 429

العلوم؟ والله أساله علمًا نافعًا، وعملًا متقبلًا، ورزقًا واسعًا، لا شريك له. انتهى كلام أبي عمر رحمه الله

(1)

.

وقال في "الفتح": وأطلق عمر رضي الله عنه على الاشتغال بالتجارة لَهْوًا؛ لأنَّها ألهته عن طول ملازمته النبيّ صلى الله عليه وسلم حتى سمع غيره منه ما لَمْ يسمعه، ولم يقصد عمر تَرْك أصل الملازمة، وهي أمر نسبيّ، وكان احتياج عمر إلى الخروج للسوق من أجل الكسب لعياله، والتعفف عن الناس، وأما أبو هريرة رضي الله عنه فكان وحده، فلذلك أكثر ملازمته، وملازمةُ عمر للنبيّ صلى الله عليه وسلم لا تخفي، واللهو مطلقًا: ما يُلْهِي، سواءٌ كان حرامًا، أو حلالًا، وفي الشرع ما يَحْرُم فقط. انتهى

(2)

.

وقد عقد البخاريّ رحمه الله في "كتاب الاعتصام بالكتاب والسنّة" من "صحيحه": "باب الحجة على من قال: إن أحكام النبيّ صلى الله عليه وسلم كانت ظاهرة، وما كان يغيب بعضهم عن مشاهد النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأمور الإسلام".

قال في "الفتح": هذه الترجمة معقودة لبيان أن كثيرًا من الأكابر، من الصحابة، كان يغيب عن بعض ما يقوله النبيّ صلى الله عليه وسلم، أو يفعله من الأعمال التكليفية، فيستمرّ على ما كان اطّلَع عليه هو، إما على المنسوخ؛ لعدم اطلاعه على ناسخه، وإما على البراءة الأصلية، وإذا تقرر ذلك قامت الحجة على من قَدَّم عَمَلَ الصحابيّ الكبير، ولا سيما إذا كان قد وَلِي الحكم على رواية غيره متمسكًا بأن ذلك الكبير لولا أن عنده ما هو أقوى من تلك الرواية لَمَا خالفها، ويَرُدّه أن في اعتماد ذلك تَرْك المحقَّق للمظنون.

وقال ابن بطال: أراد الردّ على الرافضة، والخوارج الذين يزعمون أن أحكام النبيّ صلى الله عليه وسلم وسُننه منقولة عنه نقلَ تواتر، وأنه لا يجوز العمل بما لَمْ يُنْقَل متواترًا، قال: وقولهم مردود بما صحّ أن الصحابة كان يأخذ بعضهم عن بعض، ورجع بعضهم إلى ما رواه غيره، وانعقد الإجماع على القول بالعمل بأخبار الآحاد.

(1)

"التمهيد لابن عبد البرّ" 3/ 202.

(2)

"الفتح" 5/ 517، كتاب "البيوع" رقم (2062).

ص: 430

وقد عقد البيهقيّ في "المدخل": "بابُ الدليل على أنَّه قد يَعْزُب على المتقدّم الصحبة الواسع العلم الذي يعلمه غيره"، ثم ذكر حديث أبي بكر في الجدّة، وهو في "الموطأ"، وحديث عمر في الاستئذان، وهو المذكور في هذا الباب، وحديث ابن مسعود في الرجل الذي عَقَد على امرأة، ثم طلقها، فأراد أن يتزوج أمها، فقال: لا بأس، وإجازته بيع الفضة المكسَّرَة بالصحيحة متفاضلًا، ثم رجوعه عن الأمرين معًا لَمّا سمع من غيره من الصحابة النهي عنهما، وأشياء غير ذلك، وذكر فيه حديث البراء:"ليس كلُّنا كان يسمع الحديث من النبيّ صلى الله عليه وسلم، كانت لنا صنعةٌ، وأشغالٌ، ولكن كان الناس لا يكذبون، فيحدِّث الشاهد الغائب"، وسنده ضعيف، وكذا حديث أنس:"ما كلّ ما نحدثكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمعناه، ولكن لَمْ يكذب بعضنا بعضًا"، ثم سَرَد ما رواه صحابيّ عن صحابيّ، مما وقع في "الصحيحين"، وقال: في هذا دلالة على إتقانهم في الرواية، وفيه أبين الحجة، وأوضح الدلالة على تثبيت خبر الواحد، وأن بعض السنن كان يخفى عن بعضهم، وأن الشاهد منهم كان يُبَلِّغ الغائب ما شَهِد، وأن الغائب كان يقبله ممن حدَّثه، ويعتمده، ويعمل به.

قال الحافظ: خبر الواحد في الاصطلاح خلاف المتواتر، سواء كان من رواية شخص واحد، أو أكثر، وهو المراد بما وقع فيه الاختلاف، ويدخل فيه خبر الشخص الواحد دخولًا أوَّليًّا، ولا يَرِد على من عَمِل به ما وقع في حديث الباب من طلب عمر من أبي موسى رضي الله عنهما البينة على حديث الاستئذان، فإنه لَمْ يَخْرُج مع شهادة أبي سعيد له وغيره عن كونه خبر واحد، وإنما طلب عمر من أبي موسى البينة؛ للاحتياط، وإلا فقد قَبِل عُمر حديث عبد الرَّحمن بن عوف في أخذ الجزية من المجوس، وحديثه في الطاعون، وحديث عمرو بن حزم في التسوية بين الأصابع في الدية، وحديث الضحاك بن سفيان في توريث المرأة من دية زوجها، وحديث سعد بن أبي وقاص في المسح على الخفين، إلى غير ذلك، وفي "صحيح البخاريّ" من حديث عمر رضي الله عنه أنه كان يتناوب النزول على النبيّ صلى الله عليه وسلم هو ورجل من الأنصار، فينزل هذا يومًا، وهذا يومًا، ويخبر كلّ منهما الآخر بما غاب عنه، وكان غرضه بذلك تحصيل ما يقوم بحاله، وحال عياله؛ ليستغني عن الاحتياج لغيره، وليتقوى على ما هو بصدده من الجهاد.

ص: 431

وفيه أنه لا يشترط على من أمكنته المشافهة أن يعتمدها، ولا يكتفي بالواسطة؛ لثبوت ذلك من فعل الصحابة رضي الله عنهم في عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم بغير نكير. انتهى ما ذكره في "الفتح"

(1)

، وهو بحث نفيسٌ ومفيد جدًّا، والله تعالى أعلم.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام البحث فيه، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلِّف رحمه الله أَوَّل الكتاب قال:

[5620]

(. . .) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ (ح) وَحَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ حُرَيْثٍ، حَدَّثَنَا النَّضْرُ -يَعْنِي: ابْنَ شُمَيْلٍ- قَالَا جَمِيعًا: حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ نَحْوَهُ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي حَدِيثِ النَّضْرِ: أَلْهَانِي عَنْهُ الصَّفْقُ بِالأَسْوَاقِ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ) بُندار البصريّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(أَبُو عَاصِمٍ) الضحّاك بن مخلد النبيل البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [9](ت 212) أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 129.

3 -

(حُسَيْنُ بْنُ حُرَيْثٍ) الْخُزاعيّ مولاهم، أبو عمّار المروزيّ، ثقةٌ [10](ت 244)(خ م د ت س) تقدم في "الصيام" 17/ 2619.

4 -

(النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ) أبو الحسن النحويّ البصريّ، ثم المروزيّ، تقدّم قريبًا.

و"ابن جريج" ذكر قبله.

[تنبيه]: رواية أبي عاصم، عن ابن جُريج ساقها البزّار رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(3024)

- حدّثنا عمرو بن عليّ قال: أخبرنا أبو عاصم قال: أخبرنا ابن جريج قال: أخبرني عطاء قال: أخبرني عُبيد بن عُمير، أن أبا موسى استأذن على عمر ثلاثًا، فلم يؤذن له، وكان مشغولًا، فلما فرغ قال: ألم أسمع عبد الله بن قيس؟، ائذنوا له، قيل: رجع، قال: ادعوه، فقال: كنا نؤمر

(1)

"الفتح" 17/ 244 - 247، كتاب "الاعتصام بالكتاب والسُّنَّة" رقم (7353).

ص: 432

بذلك، قال: لنأتينّ على ذلك بالبينة، قال: فانطلق إلى مجلس من مجالس الأنصار، فقالوا: لا يشهد لك إلَّا أصغرنا أبو سعيد الخدريّ، فشهد له، فقال عمر: أَخَفِيَ عليّ هذا من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ألهاني الصفق بالأسواق، ولكني سَلْني ما شئت، ولا تستأذن.

قال البزّار: ولا نعلم رَوَى عُبيد بن عُمير عن أبي موسى إلَّا هذا الحديث. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قوله: "ولكني سلني ما شئت

إلخ" هذه الزيادة ليست في الروايات المشهورة، والظاهر أنَّها شاذّة، والله تعالى أعلم.

وأما رواية النضر بن شميل عن ابن جريج، فلم أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أَوَّل الكتاب قال:

[5621]

(2154) - (حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ حُرَيْثٍ أَبُو عَمَّارٍ، حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ مُوسَي، أَخْبَرَنَا طَلْحَةُ بْنُ يَحْيَي، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ، قَالَ: جَاءَ أَبُو مُوسَى إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، هَذَا عَبْدُ اللهِ بْنُ قَيْسٍ، فَلَمْ يَأْذَنْ لَهُ، فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، هَذَا أَبُو مُوسَي، السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، هَذَا الأَشْعَرِيُّ، ثُمَّ انْصَرَفَ، فَقَالَ: رُدُّوا عَلَيَّ، رُدُّوا عَلَيَّ، فَجَاءَ، فَقَالَ: يَا أَبَا مُوسَى مَا رَدَّكَ؟ كُنَّا فِي شُغْلٍ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "الِاسْتِئْذَانُ ثَلَاثٌ، فَإِنْ أُذِنَ لَكَ، وَإِلَّا فَارْجِعْ"، قَالَ: لَتَأْتِيَنِّي عَلَى هَذَا بِبَيِّنَةٍ، وَإِلَّا فَعَلْتُ وَفَعَلْتُ، فَذَهَبَ أَبُو مُوسَي، قَالَ عُمَرُ: إِنْ وَجَدَ بَيِّنَةً تَجِدُوهُ عِنْدَ الْمِنْبَرِ عَشِيَّةً، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ بَيِّنَةً فَلَمْ تَجِدُوهُ، فَلَمَّا أَنْ جَاءَ بِالْعَشِيِّ وَجَدُوهُ، قَالَ: يَا أَبَا مُوسَى مَا تَقُولُ؟ أَقَدْ وَجَدْتَ؟ قَالَ: نَعَمْ، أُبَيُّ بْنَ كَعْبٍ، قَالَ: عَدْلٌ، قَالَ: يَا أَبَا الطُّفَيْلِ مَا يَقُولُ هَذَا؟ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ ذَلِكَ، يَا ابْنَ الْخَطَّابِ فَلَا تَكُونَنَّ عَذَابًا عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: سُبْحَانَ اللهِ، إِنَّمَا سَمِعْتُ شَيْئًا، فَأَحْبَبْتُ أَنْ أَتَثَبَّتَ).

(1)

"مسند البزار" 8/ 41 - 42.

ص: 433

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(الْفَضْلُ بْنُ مُوسَى) السِّينانيّ، أبو عبد الله المروزيّ، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار [9](ت 192) في ربيع الأول (ع) تقدم في "الجنائز" 26/ 2236.

2 -

(طَلْحَةُ بْنُ يَحْيَى) بن طلحة بن عبيد الله التيميّ المدنيّ، نزيل الكوفة، صدوقٌ يُخطئ [6](ت 148)(م 4) تقدم في "الصلاة" 8/ 858.

3 -

(أَبُو بُرْدَةَ) عامر، وقيل: الحارث بن عبد الله بن قيس الأشعريّ الكوفيّ، تقدّم قريبًا.

والباقيان ذُكرا قبله.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ) عبد الله بن قيس رضي الله عنه، أنه (قَالَ: جَاءَ أَبُو مُوسَى) هذا فيه التفات؛ إذ الأصل أن يقول: جئت، ويَحْتَمل أن يكون فاعل "قال" ضمير أبي بردة؛ أي: قال أبو بردة: جاء أبو موسى

إلخ، والأول أوضح، والله تعالى أعلم. (إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ) رضي الله عنه (فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، هَذَا عَبْدُ اللهِ بْنُ قَيْسٍ) صرّح باسمه حتى يَعلم المستأذَن عليه، ففيه أنه ينبغي في الاستئذان أن يصرّح بما يُعرف به، من اسم، أو غيره، ولا يكتفي بالسلام فقط؛ لأنَّ صوت المستأذِن يمكن أن لا يكون معروفًا عند صاحب البيت، والله تعالى أعلم. (فَلَمْ يَأْذَنْ لَهُ) بالبناء للفاعل؛ أي: لَمْ يأذن عمر لأبي موسى رضي الله عنهما، وفي بعض النسخ:"فلم يُؤذن له"، بالبناء للمفعول (فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، هَذَا أَبُو مُوسَى)، أي: مصرّحًا بكنيته، ثم قال:(السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، هَذَا الأَشْعَرِيُّ) مصرّحًا بنسبه، قال القاضي عياض رحمه الله: خالف بين ألفاظ الإخبار عن نفسه طلبًا للتعريف؛ لئلا يكون جُهل الأول، فيعرف الثاني، وكنى نفسه لعله ظنّ أن به يُعرف. انتهى

(1)

.

(ثُمَّ) لَمّا لَمْ يؤذن له بعد هذه التصريحات (انْصَرَفَ)؛ أي: رجع إلى حاجته، (فَقَالَ) عمر رضي الله عنه بعد أن قال: ألم أسمع صوت عبد الله بن قيس؟

(1)

"إكمال المعلم" 7/ 30.

ص: 434

فقيل له: رجع، فقال:(رُدُّوا عَلَيَّ)؛ أي: أبا موسي، (رُدُّوا عَلَيَّ) كرّره للتأكيد، (فَجَاءَ) أبو موسي، وتقدّم أنه إنما جاء في اليوم الثاني، (فَقَالَ) عمر رضي الله عنه (يَا أَبَا مُوسَى مَا رَدَّكَ؟) "ما" استفهاميّة للإنكار؛ أي: أيّ شيء حمل على الرجوع دون أن تدخل عليّ؟ ثم ذكر له عذره في عدم تنبّهه لاستئذانه، فقال:(كُنَّا فِي شُغْلٍ)؛ أي: عَمَلٍ يَشْغَلنا عن التفرّغ لإجابتك. (قَالَ) أبو موسى رضي الله عنه (سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "الِاسْتِئْذَانُ ثَلَاثٌ)؛ أي: ثلاث من المرَّات، (فَإِنْ أُذِنَ لَكَ) بالبناء للمفعول؛ أي: أذِن لك المستأذَن عليه، فادخل (وَإِلَّا)؛ أي: وإن لَمْ يؤذن لك (فَارْجِعْ") ففيه وجوب الرجوع بعد الثلاث، وعدم الزيادة عليها. (قَالَ) عمر رضي الله عنه (لَتَأْتِيَنِّي عَلَى هَذَا) الذي ادّعيت سماعه من النبيِّ صلى الله عليه وسلم (بِبَيِّنَةٍ، وَإِلَّا)؛ أي: وإن لَمْ تأت بالبيّنة (فَعَلْتُ وَفَعَلْتُ)؛ أي: فعلت بك ما يكون نكالًا، وهذا في معنى قوله في الرواية الأخرى:"أقم البيّنة، وإلا أوجعتك"، وفي الرواية الأخرى:"والله لأوجعنّ ظهرك وبطنك، أو لتأتينّ بمن يشهد"، وفي رواية:"لأجعلنك نكالًا"، وقد تقدّم أن هذا كلّه محمولٌ على تقدير: لأفعلنّ بك هذا الوعيد إن ظهر منك تعمّد الكذب، ولم يظهر، ولله الحمد.

(فَذَهَبَ أَبُو مُوسَى) رضي الله عنه إلى مجلس الأنصار يطلب من يشهد له. (قَالَ عُمَرُ) رضي الله عنه (إِنْ وَجَدَ بَيِّنَةً تَجِدُوهُ عِنْدَ الْمِنْبَرِ عَشِيَّةً) قال الفيّوميّ رحمه الله: العَشِيُّ، قيل: ما بين الزوال إلى الغروب، ومنه يقال للظهر والعصر: صَلاتَا العَشِيِّ، وقيل: هو آخر النهار، وقيل: العَشِيُّ من الزوال إلى الصباح، وقيل: العَشِيُّ، والعِشَاءُ من صلاة المغرب إلى العتمة، وعليه قول ابن فارس: العِشَاءَانِ: المغرب والعتمة، قال ابن الأنباريّ: العَشِيَّةُ مؤنثةٌ، وربما ذَكَّرتها العربُ على معنى العشيّ، وقال بعضهم: العَشِيَّةُ واحدة، جَمْعها عَشِيٌّ، والعِشَاءُ بالكسر والمدّ: أول ظلام الليل. انتهى

(1)

.

(وَإِنْ لَمْ يَجِدْ بَيِّنَةً فَلَمْ تَجِدُوهُ، فَلَمَّا أَنْ جَاءَ بِالْعَشِيِّ)"أَنْ" بعد "لَمّا" زائدة

(2)

، كما في قوله تعالى:{وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ} الآية [العنكبوت: 33].

(1)

"المصباح المنير" 2/ 412.

(2)

راجع: "مغني اللبيب" 1/ 75.

ص: 435

وقوله: (جَاءَ بِالْعَشِيِّ) الظاهر أن الباء زائدة؛ أي: جاء وقت العشيّ، ويَحتمل أن تكون بمعنى "في"؛ أي: لما جاء عمر رضي الله عنه إلى المسجد في وقت العشيّ، (وَجَدُوهُ)؛ أي: وجدوا أبا موسى في المسجد. (قَالَ) عمر (يَا أَبَا مُوسَى مَا تَقُولُ؟، أَقَدْ وَجَدْتَ؟)؛ أي: من يشهد لك على ما قلت؟ (قَالَ) أبو موسى (نَعَمْ) وجدت (أُبَيُّ بْنَ كعْبٍ) رضي الله عنه، فإنه يشهد لي. (قَالَ) عمر رضي الله عنه (عَدْلٌ) خبر لمحذوف؛ أي: هو عدلٌ مقبول الشهادة. (قَالَ) عمر (يَا أَبَا الطُّفَيْلِ) كنية أُبَيّ رضي الله عنه (مَا يقُولُ هَذَا؟)؛ أي: أبو موسي، (قَالَ) أُبيّ (سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ ذَلِكَ)؛ أي: ما قال لك أبو موسى من قوله صلى الله عليه وسلم: "الاستئذان ثلاث".

قال الجامع عفا الله عنه: هذه الرواية تخالف ما سبق من أن الذي شهد لأبي موسى هو أبو سعيد، لا أُبيّ بن كعب، قال في "الفتح" بعد أن ذكر رواية مسلم هذه ما نصّه: هكذا وقع في هذه الطريق، وطلحة بن يحيى فيه ضعف، ورواية الأكثر أولى أن تكون محفوظة، ويمكن الجمع بأن أُبيّ بن كعب جاء بعد أن شهد أبو سعيد. انتهى

(1)

.

قال الجامع: والجمع المذكور أَولى من تضعيف الرواية، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

(يَا ابْنَ الْخَطَّابِ فَلَا تَكُونَنَّ عَذَابًا عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) قال النوويّ رحمه الله: معنى كلام أُبَيّ بن كعب رضي الله عنه هذا الإنكار على عمر رضي الله عنه في إنكاره الحديث المشهور.

وقال القرطبيّ رحمه الله: وقول أُبيّ لعمر بن الخطاب رضي الله عنهما: "إلا تكوننّ عذابًا على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم" يدلُّ على ما كانوا عليه من القوَّة في دين الله، وعلى قول الحقّ، ومن قبوله، والعمل به، فإنَّ أُبيًّا أنكر على عمر تهديده لأبي موسى رضي الله عنهم، فقام بما عليه من الحقّ، ولمّا تحقق عمر الحقَّ قَبِلَه، واعتذر عما صدر عنه، رضي الله عنهم أجمعين

(2)

.

(1)

"الفتح" 14/ 170، كتاب "الاستئذان" رقم (6245).

(2)

"المفهم" 5/ 477.

ص: 436

(قَالَ) عمر رضي الله عنه متعجّبًا لإنكارهم عليه ذلك: (سُبْحَانَ اللهِ، إِنَّمَا سَمِعْتُ شَيْئًا، فَأَحْبَبْتُ أَنْ أَتَثَبَّتَ) معنى كلامه رضي الله عنه أنه ما طلب البيّنة من أبي موسى إلَّا للتثبّت فقط، لا لردّ حديثه، فربّما ينسى الإنسان، أو يُخطيء، فيزيد، وينقص مع كونه صادقًا في حديثه، فاستثبت لذلك.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى البحث فيه مستوفًى، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أَوَّل الكتاب قال:

[5622]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَاهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبَانٍ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ هَاشِمٍ، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ يَحْيَي، بِهَذَا الْإِسْنَادِ، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: فَقَالَ: يَا أَبَا الْمُنْذِرِ آنْتَ سَمِعْتَ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ فَقَالَ: نَعَمْ، فَلَا تَكُنْ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ عَذَابًا عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَمْ يَذْكُرْ مِنْ قَوْلِ عُمَرَ: سُبْحَانَ اللهِ، وَمَا بَعْدَهُ).

رجال هذا الإسناد: ثلاثة:

1 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبْانِ) بن صالح بن عُمير الأمويّ مولاهم، ويقال له: الجعفيّ نسبة إلى خاله حسين بن عليّ، أبو عبد الرَّحمن الكوفيّ، مُشْكُدانة -بضمّ الميم، والكاف، بينهما شين معجمة ساكنة، وبعد الألف نون- وهو بالفارسيّة وِعَاء المسك، صدوقٌ فيه تشيّع [10](ت 239)(م د ت) تقدم في "الاستسقاء" 5/ 2088.

2 -

(عَلِيُّ بْنُ هَاشِمِ) بن الْبَرِيد الكوفيّ، صدوقٌ يتشيّع، من صغار [8](ت 180) أو بعدها (بخ م 4) تقدم في "الرضاع" 1/ 3569.

و"طلحة بن يحيى" ذُكر قبله.

[تنبيه]: رواية عليّ بن هاشم عن طلحة بن يحيى هذه لَمْ أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

ص: 437

(9) - (بَابُ كَرَاهَةِ قَوْلِ الْمُسْتَأْذِنِ: أَنَا، إِذَا قِيلَ: مَنْ هَذَا؟)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5623]

(2155) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ إِدْرِيسَ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَدَعَوْتُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ هَذَا؟ "، قُلْتُ: أَنَا، قَالَ: فَخَرَجَ، وَهُوَ يَقُولُ: "أَنَا أَنَا").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

وكلّهم تقدّموا قريبًا.

شرح الحديث:

(عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ) وفي رواية الإسماعيليّ عن أحمد بن محمد بن منصور وغيره عن عليّ بن الجعد، عن شعبة:"أخبرني محمد بن المنكدر، عن جابر"

(1)

. (عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ) رضي الله عنهما أنه (قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم) وفي الرواية التالية: "استأذنت على النبيِّ صلى الله عليه وسلم"، وزاد في رواية البخاريّ:"في دَين كان على أبي"، (فَدَعَوْتُ) هكذا النُّسخ بحذف المفعول؛ أي: دعوته صلى الله عليه وسلم"، أو دعوت من في البيت، وفي رواية البخاريّ: "فدققت الباب"، قال في "الفتح": قوله: "فدققت" بقافين للأكثر، وللمستملي، والسرخسيّ: "فدفعت" بفاء، وعين مهملة، وفي رواية الإسماعيليّ: "فضربت الباب"، وهي تؤيد رواية: "فدققت" بالقافين، وله من وجه آخر، وهي عند مسلم: "استأذنت على النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم"، ولمسلم في أخرى: "دعوت النبيّ صلى الله عليه وسلم"

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: هكذا عزا في "الفتح" إلى مسلم بلفظ: "فدعوت النبيّ صلى الله عليه وسلم"، لكن النُّسخ التي عندنا كلها ليس فيها "النبيّ صلى الله عليه وسلم"، بل هي بحذف المفعول، فتنبّه.

(1)

"الفتح" 14/ 180، كتاب "الاستئذان" رقم (6250).

(2)

"الفتح" 14/ 180، كتاب "الاستئذان" رقم (6250).

ص: 438

(فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ هَذَا؟)؛ أي: الذي يدعو، أو يدقّ الباب، (قُلْتُ: أَنَا) مبتدأ حُذف خبره لدلالة السؤال عليه؛ أي: أنا الداعي، قال في "الخلاصة":

وَحَذْفُ مَا يُعْلَمُ جَائِزٌ كَمَا

تَقُولُ "زَيْدٌ" بَعْدَ "مَنْ عِنْدَكُمَا"

(قَالَ) جابر رضي الله عنه: (فَخَرَجَ) صلى الله عليه وسلم" (وَهُوَ يَقُولُ) جملة حاليّة من الفاعل، ("أَنَا أَنَا") مكرّرًا لتأكيد الإنكار، زاد في الرواية الآتية: "كأنه كره ذلك"، وفي رواية البخاريّ: "كأنه كرهها"، ولأبي داود الطيالسيّ في "مسنده" عن شعبة: "كَرِه ذلك" بالجزم.

قال المهلّب: إنما كره قول أنا؛ لأنه ليس فيه بيان إلَّا إن كان المستأذِن ممن يَعْرِف المستأذَنُ عليه صوته، ولا يلتبس بغيره، والغالب الالتباس، وقيل: إنما كَرِه ذلك؛ لأنَّ جابرًا لَمْ يستأذن بلفظ السلام، وفيه نظر؛ لأنه ليس في سياق حديث جابر أنه طلب الدخول، وإنما جاء في حاجته، فدقّ الباب؛ ليَعْلَم النبيّ صلى الله عليه وسلم بمجيئه، فلذلك خرج له.

وقال الداوديّ: إنما كرهه؛ لأنه أجابه بغير ما سأله عنه؛ لأنه لمّا ضَرَب الباب عَرَف أنّ ثَمّ ضاربًا، فلما قال: أنا، كأنه أعلمه أنّ ثَمّ ضاربًا، فلم يزده على ما عَرَف من ضرب الباب، قال: وكان هذا قبل نزول آية الاستئذان.

قال الحافظ: وفيه نظر؛ لأنه لا تنافي بين القصّة وبين ما دلت عليه الآية، ولعله رأى أن الاستئذان ينوب عن ضرب الباب، وفيه نظر؛ لأنَّ الداخل قد يكون لا يسمع الصوت بمجرده، فيحتاج إلى ضرب الباب؛ ليبلغه صوت الدَّقّ، فيقرب، أو يخرج، فيستأذن عليه حينئذ، وكلامه الأول سبقه إليه الخطابيّ، فقال: قوله: أنا، لا يتضمن الجواب، ولا يفيد العلم بما استعلمه، وكان حقّ الجواب أن يقول: أنا جابر؛ ليقع تعريف الاسم الذي وقعت المسألة عنه.

وقد أخرج البخاريّ في "الأدب المفرد"، وصححه الحاكم، من حديث بُريدة رضي الله عنه:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أَتَى المسجد، وأبو موسى يقرأ، قال: فجئت، فقال: من هذا؟ قلت: أنا بُريدة".

وتقدم حديث أم هانئ رضي الله عنها: "جئت إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقلت: أنا أم هانئ

" الحديث في صلاة الضحى.

ص: 439

قال النوويّ رحمه الله: إذا لَمْ يقع التعريف إلَّا بأن يَكْني المرء نفسه لَمْ يُكره ذلك، وكذا لا بأس أن يقول: أنا الشيخ فلان، أو القارئ فلان، أو القاضي فلان، إذا لَمْ يحصل التمييز إلَّا بذلك.

وذكر ابن الجوزيّ أن السبب في كراهة قول: أنا، أن فيها نوعًا من الكِبْر، كأن قائلها يقول: أنا الذي لا أحتاج أذكر اسمي، ولا نسبي.

وتعقبه مغلطاي بأن هذا لا يتأتى في حقّ جابر في مثل هذا المقام.

وأجيب بأنه ولو كان كذلك فلا يمنع من تعليمه ذلك؛ لئلا يستمرّ عليه، ويعتاده، والله أعلم

(1)

.

[فائدة]: ومن طريف ما يُحكَى في هذا الباب أن الزمخشريّ استأذن عليه نحويّ، فسأله عن اسمه، فقال: عمر، وكان هذا الجواب المختصر غير مفيد للتعريف، فقال الزمخشريّ: انصرف، فقال المستأذن: إن عمر لا ينصرف، فأجاب الزمخشريّ: إذا نُكّر صُرف

(2)

، والله تعالى أعلم.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [9/ 5623 و 5624 و 5625](2155)، و (البخاريّ) في "الاستئذان"(6250) وفي "الأدب المفرد"(1086)، و (أبو داود) في "الأدب"(5187)، و (الترمذيّ) في "الاستئذان"(2711)، و (النسائيّ) في "عمل اليوم والليلة"(326)، و (ابن ماجة) في "الآداب"(3709)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1710)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 298 و 320 و 363)، و (ابن الجعد) في "مسنده"(1/ 251)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5808)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(8/ 340)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(3323 و 3324)، والله تعالى أعلم.

(1)

"الفتح" 14/ 180، كتاب "الاستئذان" رقم (6250).

(2)

"الفتح" 14/ 180، كتاب "الاستئذان" رقم (6250). راجع:"تكملة فتح الملهم" 4/ 236.

ص: 440

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان مشروعيّة الاستئذان لمن أتى بيوت الناس، ولا يفاجئهم بالدخول عليهم.

2 -

(ومنها): بيان أدب المستأذن عند استئذانه، وهو أن يذكر اسمه، لا أن يقول: أنا، قال النوويّ: قال العلماء: إذا استأذن، فقيل له: من أنت؟ أو من هذا؟ كُرِه أن يقول: أنا؛ لهذا الحديث، ولأنه لَمْ يحصل بقوله:"أنا" فائدة، ولا زيادة، بل الإبهام باق، بل ينبغي أن يقول: فلان، باسمه، وإن قال:"أنا فلان" فلا بأس، كما قالت أم هانئ رضي الله عنها حين استأذنت، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"من هذه؟ " فقالت: أنا أم هانئ، ولا بأس بقوله: أنا أبو فلان، أو القاضي فلان، أو الشيخ فلان، إذا لَمْ يحصل التعريف بالاسم؛ لخفائه، وعليه يُحْمَل حديث أم فلان، ومثله لأبي قتادة، وأبي هريرة، والأحسن في هذا أن يقول: أنا فلان المعروف بكذا، والله أعلم. انتهى

(1)

.

3 -

(ومنها): ما قال القرطبيّ رحمه الله: قول جابر رضي الله عنه: استأذنت على النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال:"من هذا؟ " دليلٌ على جواز الاستئذان من غير ذِكر اسم المستأذن، إلَّا أن الأحسن أن يذكر اسمه كما تقدَّم في حديث أبي موسى رضي الله عنه، ولأن في ذِكر اسمه إسقاط كلفة السؤال والجواب. وكراهة النبيّ صلى الله عليه وسلم قول جابر في جوابه:"أنا" يَحْتَمِل أن يكون لذلك المعني، ويَحْتَمِل أن يكون، لأن "أنا" لا يحصل بها تعريف، وهو الأَولي، وقيل: إنما كَرِه ذلك لأنَّه دَقّ عليه الباب على ما رُوي في غير كتاب مسلم، وفي هذا التأويل بُعْدٌ؛ لأنَّه إنما فُهِمت الكراهة عنه من قوله:"أنا، أنا"، ولم يذكر الدَّق، ولا نبَّهه عليه، فكيف يُعْدَل عما نَطَق به، وكرَّره مُنكِرًا له، ويصار إلى ما لَمْ يَجْرِ له ذكره؟! انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(2)

، وهو بحث مفيدٌ، والله تعالى أعلم.

4 -

(ومنها): ما قاله ابن العربيّ رحمه الله: في حديث جابر رضي الله عنه مشروعية دَقّ الباب، ولم يقع في الحديث بيانٌ هل كان بآلة، أو بغير آلة؟، قال الحافظ: وقد أخرج البخاريّ في "الأدب المفرد" من حديث أنس رضي الله عنه: "أن

(1)

"شرح النوويّ" 14/ 135 - 136.

(2)

"المفهم" 5/ 478.

ص: 441

أبواب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت تُقْرَع بالأظافير"، وأخرجه الحاكم في "علوم الحديث" من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه، وهذا محمول منهم على المبالغة في الأدب، وهو حَسَنٌ لمن قَرُب محلّه من بابه، أما مَن بَعُدَ عن الباب بحيث لا يبلغه صوت القرع بالظفر، فيستحبّ أن يقرع بما فوق ذلك بحَسَبه، وذكر السهيليّ أن السبب في قرعهم بابه بالأظافير أن بابه لَمْ يكن فيه حِلَقٌ، فلأجل ذلك فعلوه، والذي يظهر أنهم إنما كانوا يفعلون ذلك توقيرًا، وإجلالًا، وأدبًا، قاله في "الفتح"

(1)

، وهو بحثٌ نفيسٌ مفيدٌ، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أَوَّل الكتاب قال:

[5624]

(. . .) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَي، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ -وَاللَّفْظُ لأَبِي بَكْرٍ- قَالَ يَحْيَى: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: اسْتَأْذَنْتُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: "مَنْ هَذَا؟ "، فَقُلْتُ: أَنَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "أَنَا أَنَا").

رجال هذا الإسناد: ستة:

وقد ذُكروا في السند الماضي، وقبل باب، ويحيى بن يحيى التميميّ النيسابوريّ تقدّم قريبًا.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5625]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ، وَأَبُو عَامِرٍ الْعَقَدِيُّ (ح) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّي، حَدَّثَنِي وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ (ح) وَحَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ بِشْرٍ، حَدَّثَنَا بَهْزٌ، كُلُّهُمْ عَنْ شُعْبَةَ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَفِي حَدِيثِهِمْ: كَأَنَّهُ كَرِهَ ذَلِكَ).

(1)

"الفتح" 14/ 182، كتاب "الاستئذان" رقم (6250).

ص: 442

رجال هذه الأسانيد: ثمانية:

1 -

(أَبُو عَامِرٍ الْعَقَدِيُّ) عبد الملك بن عمرو القيسيّ البصريّ، ثقةٌ [9](ت 4 أو 205)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 21.

2 -

(وَهْبُ بْنُ جَرِيرِ) بن حازم الأزديّ، أبو عبد الله البصريّ، ثقةٌ [9](ت 206)(ع) تقدم في "الإيمان" 50/ 315.

3 -

(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ بِشْرِ) بن الحكم الْعَبْديّ، أبو محمد النيسابوريّ، ثقةٌ، من صغار [10](ت 260) أو بعدها (خ م د ق) تقدم في "المقدمة" 6/ 99.

4 -

(بَهْزُ) بن أسد الْعَمّيّ، أبو الأسود البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [9] مات بعد المائتين، وقيل: قبلها (ع) تقدم في "الإيمان" 3/ 112.

والباقون ذُكروا في الباب، والبابين الماضيين.

وقوله: (كُلُّهُمْ عَنْ شُعْبَةَ)؛ يعني: الثلاثة، وهم: أبو عامر العقديّ، ووهب بن جرير، وبهز بن أسد رووا هذا الحديث عن شعبة بسنده الماضي، أعني عن محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.

[تنبيه]: رواية هؤلاء الثلاثة: أبي عامر الْعَقَديّ، ووهب بن جرير، وبهز بن أسد عن شعبة لَمْ أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(10) - (بَابُ تَحْرِيمِ النَّظَرِ فِي بَيْتِ غَيْرِهِ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5626]

(2156) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَي، وَمُحَمَّدُ بْنُ رُمْحٍ، قَالَا: أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ -وَاللَّفْظُ لِيَحْيَى- (ح) وَحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَنَّ سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ السَّاعِدِيَّ أَخْبَرَهُ، أَنَّ رَجُلًا اطَّلَعَ فِي جُحْرٍ فِي بَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَمَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِدْرًى، يَحُكُّ بِهِ رَأْسَهُ، فَلَمَّا رَآهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَوْ أَعْلَمُ أَنَّكَ تَنْظُرُنِي

(1)

لَطَعَنْتُ بِهِ فِي عَيْنِكَ"، وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّمَا جُعِلَ الإِذْنُ مِنْ أَجْلِ الْبَصَرِ").

(1)

وفي نسخة: "تنتظرني".

ص: 443

رجال هذين الإسنادين: ستة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ النيسابوريّ، تقدّم قبل حديث.

2 -

(مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحِ) بن مهاجر التجيبيّ مولاهم المصريّ، ثقةٌ ثبت [10](ت 242)(م ق) تقدم في "الإيمان" 16/ 168.

3 -

(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) الثقفيّ مولاهم، أبو رجاء البغلانيّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 240) عن (90) سنة (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.

4 -

(اللَّيْثُ) بن سعد بن عبد الرَّحمن الفهميّ، أبو الحارث المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ إمام مشهور [7](ت 175)(ع) تقدَّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 412.

5 -

(ابْنُ شِهَابٍ) محمد بن مسلم الزهريّ، أبو بكر المدنيّ الإمام الحجة الفقيه الحافظ المجمع على ثقته وجلالته [4](ت 125)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 348.

6 -

(سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ السَّاعِدِيُّ) الأنصاريّ الخزرجيّ الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، مات سنة (88) وقيل: بعدها، وقد جاوز المائة (ع) تقدم في "الإيمان" 50/ 313.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (433) من رباعيّات الكتاب.

شرح الحديث:

(عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) محمد بن مسلم الزهريّ (أَنَّ سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ السَّاعِدِيَّ) رضي الله عنهما (أَخْبَرَهُ، أَنَّ رَجُلًا) قيل: هو الحكم بن أبي العاص بن أمية، والد مروان، وقيل: سعد غير منسوب، قاله في "الفتح" في "كتاب اللباس"

(1)

، وقال في "كتاب الديات": وهذا الرجل لَمْ أعرف اسمه صريحًا، لكن نَقَل ابن بشكوال عن أبي الحسن بن الغيث أنه الحكم بن أبي العاص بن أمية، والد مروان، ولم يذكر مستندًا لذلك.

ووجدت في "كتاب مكة" للفاكهيّ من طريق أبي سفيان، عن الزهريّ، وعطاء الْخُرَسانيّ: "أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم دخلوا عليه، وهو يلعن

(1)

"الفتح" 14/ 437 رقم (5924).

ص: 444

الحكم بن أبي العاص، وهو يقول: اطَّلَع عليّ، وأنا مع زوجتي فلانة، فكلح في وجهي"، وهذا ليس صريحًا في المقصود هنا.

ووقع في "سنن أبي داود" من طريق هُزيل بن شُرَحبيل: "قال: جاء سعد، فوقف على باب النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقام يستأذن على الباب، فقال: هكذا عنك، فإنما الاستئذان من أجل البصر"، وهذا أقرب إلى أن يُفَسَّر به المبهم الذي في حديث الباب، ولم يُنْسَب سعد هذا في رواية أبي داود، ووقع في رواية الطبرانيّ أنه سعد بن عُبادة، والله أعلم. انتهى

(1)

.

(اطَّلَعَ)؛ أي: نظر من عُلْو (فِي جُحْرٍ) -بضم الجيم، وسكون الحاء المهملة-: هي الخرق، وقال القرطبيّ رحمه الله: الْجُحْرُ: واحد الْجِحَرة، وهي مكامن الوحش، ولَمّا كانت نقبًا في الأرض سُمّي بذلك النقب في الباب، وفي الحائط، وغير ذلك. انتهى

(2)

.

وقوله: (فِي بَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) متعلّق بصفة لـ "جُحْرٍ"؛ أي: كائنٍ في جُحْر، وقوله:(وَمَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِدْرًى) جملة حاليّة من الفاعل، و "المدرى" -بكسر الميم، وسكون الدال المهملة، وبالقصر- هي حديدة يُسَوَّى بها شعر الرأس، وقيل: هو شبه الْمُشط، وقيل: هي أعواد تُحَدَّد تُجعل شبه الْمُشط، وقيل: هو عُود تُسَوِّي به المرأة شعرها، وجَمْعه المَدَارِي، ويقال في الواحد: مِدراة أيضًا، ومِدراية أيضًا، ويقال: تَدَرّيتُ بالْمِدرَي، قاله النوويّ رحمه الله

(3)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: الْمِدرَى بالدال المهملة: واحد الْمَدارِي، قال ثابت: هي الأمشاط، وفي هذا التفسير تسامح، وأوضح منه، وأصحّ، قول النضر بن شُميل، وابن كيسان: إنَّه عُودٌ، أو عاجٌ تَنْشُر به المرأة شعرها، وتُجعِّده، قال امرؤ القيس [من الطويل]:

غَدائِرُه مُسْتَشْزِرات إلى العُلا

تَضِلُّ الْمَدَارِي فِي مُثَنًّى وَمُرْسَلِ

ومؤنثه: مدراة، وقد عبّر عنه في الرواية الأخرى: بِمِشْقَص، وبمشاقص، وقد قلنا: إن المشقص نَصْلٌ عريض، وقيل: هو السِّكين، فَيَحْتَمِل أن يكون

(1)

"الفتح" 16/ 99 - 100، كتاب "الديات" رقم (6901).

(2)

"المفهم" 5/ 479.

(3)

"شرح النوويّ" 14/ 127 - 136.

ص: 445

هذا الْمِدَرى من حديد، فكما يُعْمَل من عاج، وعُود، يجوز أن يُعْمَل من حديد، أو يكون شبَّهه بالسِّكين. انتهى

(1)

.

وقال في "الفتح": والمدرى بكسر الميم، وسكون المهملة: عُودٌ تُدخله المرأة في رأسها؛ لتَضُمّ بعض شعرها إلى بعض، وهو يشبه الْمِسَلَّة

(2)

، يقال: مَدَرَت المرأةُ: سَرَّحَتْ شعرها، وقيل: مُشْطٌ له أسنان يَسيرةٌ، وقال الأصمعيّ، وأبو عبيد: هو الْمُشط، وقال الجوهريّ: أصل الْمِدرَى: القرن، وكذلك الْمِدراة، وقيل: هو عُود، أو حديدة كالْخِلال، لها رأس محدَّد، وقيل: خشبة على شكل شيء من أسنان المشط، ولها ساعدٌ، جَرَت عادة الكبير أن يَحُكّ بها ما لا تصل إليه يده من جسده، ويُسَرِّح بها الشعر الملبَّد من لا يحضره المشط، وقد ورد في حديث لعائشة لِمَا يدلّ على أنَّ الْمِدْرَى غير المشط، أخرجه الخطيب في "الكفاية" عنها، قالت:"خمسٌ لَمْ يكن النبيّ صلى الله عليه وسلم يَدَعُهُنَّ في سفر، ولا حضر: المرآة، والْمُكْحُلة، والْمُشْطُ، والْمِدْرَي، والسواك"، وفي إسناده أبو أمية بن يعلي، وهو ضعيف، وأخرجه ابن عديّ من وجه آخر ضعيف أيضًا، وأخرجه الطبرانيّ في "مسند الشاميين" من وجه آخر، عن عائشة رضي الله عنهما أقوى من هذا، لكن فيه:"قارورة دُهْن" بدل المدرى.

وأخرج الطبرانيّ في "الأوسط" من وجه آخر عن عائشة: "كان لا يفارق رسول الله صلى الله عليه وسلم سواكه، ومشطه، وكان ينظر في المرآة إذا سَرَّح لحيته"، وفيه سليمان بن أرقم، وهو ضعيف.

وله شاهد من مرسل خالد بن معدان، أخرجه ابن سعد.

قال الحافظ: وقرأت بخط الحافظ اليعمريّ عن علماء الحجاز: "الْمِدرَى تُطلق على نوعين: أحدهما صغير، يُتَّخَذ من آبنوس، أو عاج، أو حديد، يكون طول الْمِسَلّة يُتَّخَذ لِفَرْق الشعر فقط، وهو مستدير الرأس، على هيئة نَصْل السيف بقبضة، وهذه صفته

(3)

، ثانيهما: كبيرٌ، وهو عُودٌ مخروط من آبنوس،

(1)

"المفهم" 5/ 479.

(2)

الْمِسلّة بكسر الميم: مِخيط كبيرٌ، جمعه الْمَسَالّ.

(3)

كتب هنا هيئته ولم أستطع كتابتها!.

ص: 446

أو غيره، وفي رأسه قطعة منحوتة في قدر الكفّ، ولها مثل الأصابع، أولاهنّ معوجَّةٌ، مثل حلقة الإبهام المستعمل للتسريح، وَيحُكّ الرأس، والجسد، وهذه صفته. انتهى ملخصًا.

وقوله: (يَحُكُّ بِهِ رَأسَهُ) جملة في محلّ رفع صفة لـ "مِدْرَى"، يقال: حكّ الشيءَ حكًّا، من باب نصر: إذا قشره

(1)

، وفي الرواية التالية:"يُرجّل به رأسه"، قال النوويّ رحمه الله: لا تنافي بين الروايتين، فكان يحكّ به، ويُرجّل به، وترجيل الشعر: تسريحه، ومَشْطه

(2)

.

(فَلَمَّا رَآه رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَوْ أَعْلَمُ أَنَّكَ تَنْظُرُنِي) قال النوويّ رحمه الله: وقع في أكثر النُّسخ، أو كثير منها، بلفظ:"تنتظرني"، وفي بعضها:"تنظرني" بحذف التاء الثانية، قال القاضي: الأول رواية الجمهور، قال: والصواب الثاني، ويُحْمَل الأول عليه. انتهى

(3)

.

قال الجامع عفا الله عنه: الذي في معظم نُسخ البخاريّ بلفظ: "تنتظر"، قال في "الفتح": قوله: "تنتظر" كذا لهم، وللكشميهنيّ:"تنظر"، وهي أَولي، والأخرى بمعناها، وللإسماعيليّ:"لو عَلِمت أنك تَطَّلع عليّ". (لَطَعَنْتُ بِهِ)؛ أي: بذلك الْمِدرَى (فِي عَيْنِكَ") هكذا بالإفراد، وهو كذلك عند البخاريّ في رواية الأكثرين، وفي رواية المستملي، والسرخسيّ:"في عينيك" بالتثنية.

قال الحافظ رحمه الله: وهذا مما يُقَوِّي تعدد القصّة؛ لأنه في حديث أنس جزم بأنه اطَّلَع، وأراد أن يطعنه، وفي حديث سهل عَلَّق طعنه على نظره. انتهى

(4)

.

(وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّمَا جُعِلَ الإِذْنُ) ببناء الفعل للمفعول؛ أي: إنما شرع الله الاستئذان (مِنْ أَجْلِ الْبَصَرِ") بفتحتين: أي: الرؤية، وفي رواية البخاريّ:"من قِبَل الأبصار"، و"قِبَلِ" بكسر القاف، وفتح الموحّدة: أي: من جهة، و"الأبصار" بفتح أوله، جمع بَصَر، وبكسره مصدر أبصر، قاله في "الفتح"

(5)

.

(1)

"المصباح المنير" 1/ 145.

(2)

"شرح النوويّ" 14/ 137.

(3)

"شرح النوويّ" 14/ 137.

(4)

"الفتح" 16/ 100 - 101، كتاب "الديات" رقم (6900).

(5)

"الفتح" 16/ 99 - 100، كتاب "الديات" رقم (6901).

ص: 447

فمعنى: "إنما جُعل الإذن من أجل البصر": أي: إنما شُرع الاستئذان من أجل رؤية البصر؛ لأنَّ المستأذِنَ لو دخل بغير إذنٍ لرأى بعض ما يَكرَه من يدخل إليه أن يطّلع عليه، وقد ورد التصريح بذلك فيما أخرجه البخاريّ في "الأدب المفرد"، وأبو داود، والترمذيّ، وحسّنه من حديث ثوبان رضي الله عنه رفعه:"لا يَحِلّ لامرئ مسلم أن ينظر إلى جوف بيتٍ حتى يستأذن، فإن فَعَل فقد دخل"؛ أي: صار في حكم الداخل، وللَأوَّلَين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بسند حسن، رفعه:"إذا دخل البصر، فلا إذن"، وأخرج البخاريّ أيضًا، عن عمر رضي الله عنه من قوله:"مَن ملأ عينه من قاع بيتٍ قبل أن يؤذن له، فقد فَسَقَ"، ذكره في "الفتح"

(1)

.

وذكر أيضًا: أنه وقع عند أبي داود سبب آخرُ من حديث سعد -كذا عنده مبهمٌ- وهو عند الطبرانيّ عن سعد بن عُبادة: جاء رجل، فقام على باب النبيِّ صلى الله عليه وسلم يستأذن مستقبل الباب، فقال له:"هكذا عنك، فإنما الاستئذان من أجل النظر"، وأخرج أبو داود بسند قويّ من حديث ابن عباس رضي الله عنهما:"كان الناس ليس لبيوتهم ستورٌ، فأمرهم الله بالاستئذان، ثم جاء الله بالخير، فلم أر أحدًا يعمل بذلك"، قال ابن عبد البرّ: أظنهم اكتَفَوا بقرع الباب.

وله من حديث عبد الله بن بُسْر رضي الله عنه: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتى باب قوم لَمْ يستقبل الباب، من تلقاء وجهه، ولكن من ركنه الأيمن، أو الأيسر، وذلك أن الدُّور لَمْ يكن عليها ستور". انتهى

(2)

، والله تعالى أعلم.

مسائل تتعلَّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث سهل بن سعد الساعديّ رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [10/ 5626 و 5627 و 5628](2156)، و (البخاريّ) في "اللباس"(5924) و"الاستئذان"(6241 و 6901) وفي

(1)

"الفتح" 14/ 163، كتاب "الاستئذان" رقم (6241).

(2)

"الفتح" 14/ 164، كتاب "الاستئذان" رقم (6241).

ص: 448

"الأدب المفرد"(1070)، و (الترمذيّ) في "الاستئذان"(2709)، و (النسائيّ) في "القسامة"(8/ 60 - 61)، و"الكبرى"(7064)، و (الشافعيّ) في "مسنده"(2/ 101)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(19431)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(8/ 756)، و (الحميديّ) في "مسنده"(2/ 412)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 330 و 5334 و 5335)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 198 - 199)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(5660 و 5661 و 5662 و 5664 و 5665 و 5666 و 5667 و 5669 و 5670 و 5671 و 5672 و 5673)، و (ابن حبان) في "صحيحه"(5809 و 6001)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(13/ 500)، و (الطحاويّ) في "مشكل الآثار"(1/ 404)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(8/ 338)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(2567)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده

(1)

:

1 -

(منها): بيان استحباب إبقاء شعر الرأس، وتربيته، واتخاذ آلة يزيل بها عنه الهوامّ، وَيحُكُّ بها؛ لدفع الوسخ، أو القمل.

2 -

(ومنها): بيان استحباب إصلاح الشعر، وإكرامه، كما قال صلى الله عليه وسلم:"من كانت له جُمَّةٌ، فليُكرمها"

(2)

، ولكن لا ينتهي بذلك إلى أن يخرُج إلى الترفّه، والسرَف المنهيّ عنه بقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه عنه فَضَالة بن عُبيد رضي الله عنه، حيث قال:"نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كثير من الإرفاه، وأمرنا أن نحتفي أحيانًا"

(3)

، قاله القرطبيّ رحمه الله

(4)

.

3 -

(ومنها): أن فيه مشروعيةَ الاستئذان على من يكون في بيتٍ مُغلَق الباب.

4 -

(ومنها): تحريم التطلّع على من كان داخل بيت مغلَق من خلل الباب.

(1)

المراد فوائد أحاديث الباب، لا خصوص السياق المذكور في هذه الرواية، فتنبّه.

(2)

حديث صحيح، أخرجه أبو داود وغيره، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ:"من كان له شعر، فليُكرمه".

(3)

حديث صحيح، أخرجه النسائيّ (5060).

(4)

"المفهم" 5/ 485.

ص: 449

5 -

(ومنها): استحباب الامتشاط، وجواز استعمال الْمِدَري، قال النوويّ: قال العلماء: الترجيل مستحبّ للنساء مطلقًا، وللرجل بشرط أن لا يفعله كلّ يوم، أو كلّ يومين، ونحو ذلك، بل بحيث يخفّ الأول. انتهى

(1)

.

6 -

(ومنها): أنه استُدِلّ به على جواز رمي من يتجسس، ولو لَمْ يندفع بالشيء الخفيف جاز بالثقيل، وأنه إن أصيبت نفسه، أو بعضه فهو هَدَرٌ، وبهذا قال الجمهور، وخالف المالكيّة، فقالوا: لا يجوز ذلك، وما قاله الجمهور هو الحق؛ لصحّة الأحاديث بذلك، وسيأتي تمام البحث فيه في المسألة التالية -إن شاء الله تعالى-.

7 -

(ومنها): ما قاله القرطبيّ رحمه الله: قوله: "إنما جُعل الاستئذان من أجل البصر": فيه دليل على صحة التعليل القياسيّ، فهو حجة للجمهور على نفاة القياس. انتهى

(2)

.

وقال في "الفتح": واستُدِلّ بقوله: "من أجل البصر" على مشروعية القياس، والعلل، فإنه دلّ على أنَّ التحريم والتحليل يتعلق بأشياء، متى وُجدت في شيء وجب الحكم عليه، فمن أوجب الاستئذان بهذا الحديث، وأعرض عن المعنى الذي لأجله شُرع لَمْ يعمل بمقتضى الحديث. انتهى

(3)

.

8 -

(ومنها): أنه استُدِلّ به على أنَّ المرء لا يَحتاج في دخول منزله إلى الاستئذان؛ لِفَقْد العلة التي شُرع لأجلها الاستئذان، نعم لو احتَمَلَ أن يتجدد فيه ما يَحتاج معه إليه شُرع له.

9 -

(ومنها): أنه يؤخذ منه أنه يُشْرَع الاستئذان على كلّ أحد حتى المحارم؛ لئلا تكون منكشفة العورة، وقد أخرج البخاريّ في "الأدب المفرد" عن نافع: (كان ابن عمر إذا بلغ بعض ولده الحُلُم لَمْ يدخل عليه إلَّا بإذن"، ومن طريق علقمة: (جاء رجل إلى ابن مسعود، فقال: أستاذن على أمي؟

(1)

"شرح النوويّ" 14/ 137.

(2)

"المفهم" 5/ 480.

(3)

"الفتح" 14/ 165، كتاب "الاستئذان" رقم (6241).

ص: 450

فقال: ما على كل أحيانها تريد أن تراها"، ومن طريق مسلم بن نُذير -بالنون، مصغرًا-: "سأل رجل حذيفة رضي الله عنه: أستأذن على أمي؟ قال: إن لَمْ تستأذن عليها رأيت ما تكره"، ومن طريق موسى بن طلحة: "دخلت مع أبي على أمي، فدخل، واتّبعته، فدفع في صدري، وقال: تدخل بغير إذنٍ؟ "، ومن طريق عطاء: "سألت ابن عباس: أستأذن على أختي؟ قال: نعم، قلت: إنها في حجري، قال: أتحب أن تراها عريانة"، وأسانيد هذه الآثار كلها صحيحة، وذَكَر الأصوليون هذا الحديث مثالًا للتنصيص على العلة التي هي أحد أركان القياس، قاله في "الفتح"

(1)

.

10 -

(ومنها): أن النسائي رحمه الله احتجّ بهذا الحديث على جواز أخذ الإنسان حقّه ممن ظلمه، دون أن يسألَ الإمام؛ وذلك لأنَّ الشارع أَذِن في فقأ عين من اطّلع في بيت قوم بغير إذنهم، ولم يشرط في ذلك أن يأذن له الإمام، وهو المذهب الحقّ، وسيأتي تمام البحث فيه في المسائل المذكورة في شرح حديث أبي هريرة رضي الله عنه الآتي آخر الباب -إن شاء الله تعالى-.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5627]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَي، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَنَّ سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ الأَنْصَارِيَّ أَخْبَرَهُ، أَنَّ رَجُلًا اطَّلَعَ مِنْ جُحْرٍ فِي بَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَمَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِدْرًى، يُرَجِّلُ بِهِ رَأْسَهُ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَوْ أَعْلَمُ أَنَّكَ تَنْظُرُ طَعَنْتُ بِهِ فِي عَيْنِكَ، إِنَّمَا جَعَلَ اللهُ الإِذْنَ مِنْ أَجْلِ الْبَصَرِ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى) التجيبيّ، أبو حفص المصريّ، صاحب الشافعيّ، صدوقٌ [11](ت 3 أو 244)(م س ق) تقدم في "المقدمة" 3/ 14.

2 -

(ابْنُ وَهْبٍ) عبد الله الحافظ المصريّ، تقدّم قبل باب.

(1)

"الفتح" 14/ 165، كتاب "الاستئذان" رقم (6241).

ص: 451

3 -

(يُونُسُ) بن يزيد بن أبي النِّجاد الأمويّ مولاهم، أبو يزيد الأيليّ، ثقة ثبتٌ من كبار [7](ت 159)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 14.

والباقيان ذُكرا قبله.

وقوله: (يُرَجِّلُ بِهِ رَأْسَهُ)؛ أي: يسرّحه به، والترجيل تسريح الشعر، ومَشْطه.

وقوله: (لَوْ أَعْلَمُ أَنَّكَ تَنْظُرُ طَعَنْتُ بِهِ فِي عَيْنِكَ) هكذا بالإفراد، وفي رواية عند البخاريّ:"في عينيك" بالتثنية، قال في "الفتح": وهذا مما يقوّي تعدد القصّة؛ لأنه في حديث أنس رضي الله عنه جزم بأنه اطّلع، وأراد أن يطعنه، وفي حديث سهل رضي الله عنه علّق طعنه على نَظَره. انتهى.

قال أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله: يمكن أن يُحْمَل حديث سهل، وأنس رضي الله عنهما على أن الذي همّ به النبيّ صلى الله عليه وسلم من طعن الْمُطَّلع على الخصوص ببيت النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ لعِظَم حرمته، وحرمة أهل بيته، غير أن حديث أبي هريرة رضي الله عنه يقتضي إباحة ذلك عامّة في بيته، وبيت غيره، فإنه قال فيه:"من اطّلَعَ في بيت قوم بغير إذنهم، فقد حلّ لهم أن يفقؤوا عينه"، فإذًا هذا الحكم ليس مخصوصًا به. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي قرره القرطبيّ رحمه الله أخيرًا من عدم كونه مخصوصًا بالنبيّ صلى الله عليه وسلم هو الحقّ؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه المذكور، فإنه نصّ في ذلك، فتبصّر، والله تعالى أعلم.

وقوله: (إِنَّمَا جَعَلَ اللهُ الإِذْنَ مِنْ أَجْلِ الْبَصَرِ)؛ أي: إنما شَرع الله تعالى الاستئذان من أجل رؤية البصر، قال النوويّ رحمه الله: معناه: أن الاستئذان مشروعٌ، ومأمور به، وإنما جُعل لئلا يقع البصر على الحرام، فلا يحل لأحد أن ينظر في جُحْر باب، ولا غيره، مما هو مُتَعَرِّض فيه لوقوع بصره على امرأة أجنبية. انتهى

(2)

.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، ولله الحمد والمنّة.

(1)

"المفهم" 5/ 481.

(2)

"شرح النوويّ" 14/ 137.

ص: 452

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5628]

(

) - (وَحَدَّثنَا أبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَمْرٌو النَّاقِدُ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَابْنُ أبِي عُمَرَ، قَالُوا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ (ح) وَحَدَّثَنَا أَبُو كَامِلٍ الْجَحْدَرِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زِيَادٍ، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، كِلَاهُمَا عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، عَنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم نَحْوَ حَدِيثِ اللَّيْثِ، وَيُونُسَ).

رجال هذه الأسانيد: عشرة:

1 -

(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبِ) بن شدّاد، أبو خيثمة النسائيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 234)(خ م د س ق) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.

2 -

(أبُو كَامِلٍ الْجَحْدَرِيُّ) فضيل بن حسين البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 247)(خت م د ت س) تقدم في "المقدمة" 6/ 57.

3 -

(عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زِيَادٍ) الْعَبْديّ مولاهم البصريّ، ثقةٌ [8](ت 176)(ع) تقدم في "الطهارة" 11/ 584.

4 -

(مَعْمَرُ) بن راشد الأزديّ مولاهم، أبو عروة البصريّ، نزيل اليمن، ثقةٌ ثبتٌ فاضلٌ، من كبار [7](ع)(154) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.

والباقون ذُكروا في الباب، والبابين قبله.

[تنبيه]: رواية سفيان بن عيينة، عن الزهريّ ساقها البخاريُّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:(5887) - حدَّثنا على بن عبد الله، حدَّثنا سفيان، قال الزهريّ: حفظته كما أنك ها هنا، عن سهل بن سعد، قال:"اطَّلَع رجل من جُحْر في حُجَر النبيّ صلى الله عليه وسلم، ومع النبيّ صلى الله عليه وسلم مِدْرًى يَحُكّ به رأسه، فقال: لو أعلم أنك تنظر، لطعنت به في عينك، إنما جُعِل الاستئذان من أجل البصر". انتهى

(1)

.

ورواية معمر عن الزهريّ ساقها البيهقيّ رحمه الله في "الكبرى"، فقال:

(17430)

- أخبرنا أبو الحسين بن بشران ببغداد، أنبأ إسماعيل بن محمد الصفّار، ثنا أحمد بن منصور، ثنا عبد الرزاق، أنبأ معمر، عن الزهريّ، عن

(1)

"صحيح البخاريّ" 5/ 2304.

ص: 453

سهل بن سعد الساعديّ: "أن رجلًا اطَّلَع على النبيّ صلى الله عليه وسلم من سِتْر الْحُجْرة، وفي يد النبيّ صلى الله عليه وسلم مِدْرًى، فقال له: لو أعلم أن هذا ينظرني حتى آتيه، لطعنت بالمدرَى في عينه، وهل جُعل الاستئذان إلا من أجل البصر؟ ". انتهى

(1)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5629]

(2157) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَأَبُو كَامِلٍ فُضَيْلُ بْنُ حُسَيْنٍ، وَقتيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ - وَاللَّفْظُ لِيَحْيَى، وَأَبِي كَامِلٍ - قَالَ يَحْيَى: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ الآخَرَانِ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زيدٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ رَجُلًا اطَّلعَ مِنْ بَعْضِ حُجَرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَامَ إِلَيْهِ بِمِشْقَصٍ، أَوْ مَشَاقِصَ، فَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَخْتِلُهُ لِيَطْعُنَهُ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(حَمَّادُ بْنُ زيدِ) بن درهم الأزديّ الْجَهْضميّ، أبو إسماعيل البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيه، من كبار [8](ت 179)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 26.

2 -

(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ أَبِي بَكْرِ) بن أنس بن مالك، أبو معاذ الأنصاريّ البصريّ، ثقةٌ [4](ع) تقدم في "الإيمان" 40/ 267.

3 -

(أنَسُ بْنُ مَالِكٍ) رضي الله عنه، تقدّم قبل بابين.

والباقون ذُكروا في الباب.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (434) من رباعيّات الكتاب، وأنه مسلسلٌ بالبصريين، سوى يحيى، فنيسابوريّ، وقتيبة، فبغلانيّ، وفيه رواية الراوي عن جدّه، فأنس رضي الله عنه جدّ لعبيد الله، وفيه أنس رضي الله عنه من المكثرين السبعة، ومن المعمّرين، وآخر من مات من الصحابة بالبصرة.

شرح الحديث:

(عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ) بن أنس (عَنْ) جدّه (أنَسِ بْنِ مَالِكٍ) رضي الله عنه (أَنَّ رَجُلًا) لا يُعرف، وقد تقدّم بيان البحث في ذلك في شرح حديث سهل رضي الله عنه

(1)

"سنن البيهقيّ الكبرى" 8/ 338.

ص: 454

الماضي. (اطَّلَعَ مِنْ بَعْضِ حُجَرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) - بضم المهملة، وفتح الجيم-: جَمْع حُجْرة -بضمّ، فسكون- وهي ناحية البيت، وأما الْجُحْرة المذكورة في حديث سهل الماضي، فهي -بضم الجيم، وسكون الحاء المهملة- وهو: كلُّ ثُقْبٍ مستديرٍ في أرض، أو حائط، وأصلها مكامن الوحش

(1)

.

وقوله: (فَقَامَ إِلَيْهِ بِمِشْقَصٍ، أَوْ مَشَاقِصَ) شكّ من الراوي، هل قال شيخه بالإفراد، أو بالجمع؟ و"الْمِشْقَصُ" -بكسر الميم، وسكون الشين المعجمة، فقاف، فصاد مهملة- هو: سهم فيه نَصْلٌ عريضٌ

(2)

، وقال في "الفتح": نَصْلُ السهم إذا كان طويلًا، غير عريض، وقال أيضًا: وقوله في الخبر الآخر: "مِدْرًى" قد يخالفه، فيُحمل على تعدّد القصّة، ويَحْتَمِل أن رأس الْمِدْرَة كان محدّدًا، فأشبه النصل. انتهى

(3)

.

قال أنس رضي الله عنه (فَكَأَنِّي أَنْظُرُ) الآن (إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَخْتِلُهُ) - بفتح أوله، وسكون الخاء المعجمة، وضمّ التاء المثناة، وكسرها-: أي: يُغفّله، قال المجد رحمه الله: خَتَله يَخْتِله -من باب ضرب- ويَخْتُله -من باب نصر- خَتلًا، وخَتَلانًا: خَدَعه. انتهى

(4)

.

وقال في "الفتح": قوله: "يختله" -بفتح أوله، وسكون الخاء المعجمة، بعدها مثناة مكسورة

(5)

، ثم لام- من الْخَتْل، بفتح أوله، وسكون ثانية، وهو الإصابة على غفلة. انتهى

(6)

.

(لِيَطْعُنَهُ) بفتح أوله، وفتح ثالثه، وضمّها، من بأبي مَنَعَ ونَصَرَ

(7)

؛ أي: ليضربه، أفاده المجد رحمه الله، قال في "الفتح": قوله: "ليطعنه" بضم العين

(1)

راجع: "الفتح" 14/ 164، كتاب "الاستئذان" رقم (6241).

(2)

"المصباح المنير" 1/ 319.

(3)

"الفتح" 16/ 100، كتاب "الديات" رقم (6900).

(4)

"القاموس المحيط" ص 349.

(5)

تقدّم عن "القاموس" أنه بكسر التاء، وضمّها، من بأبي ضرب، ونصر، فتنبّه.

(6)

"الفتح" 16/ 100، كتاب "الديات" رقم (6900).

(7)

"القاموس المحيط" ص 803.

ص: 455

المهملة، بناءً على المشهور أن الطعن بالفعل بضم العين، وبالقول بفتحها، وقد قيل: هما سواءٌ، زاد أبو الربيع الزهرانيّ عن حماد عند مسلم

(1)

: "فذهب، أو لحقه، فأخطأ"، وفي رواية عاصم بن عليّ عن حماد، عند أبي نعيم:"فما أدري، أَذَهب، أو كيف صنع؟ "

(2)

.

وفيه جواز طعن عين الإنسان الذي يطّلع في بيوت الناس بغير إذنهم، وسيأتي تمام البحث فيه في الحديث التالي -إن شاء الله تعالى- وهو مخصوص بمن تعمّد النظر، وأما من وقع ذلك منه عن غير قصد، فلا حرج عليه، ففي حديث جرير رضي الله عنه الآتي في الباب التالي:"أنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظر الفُجاءة، فأمرني أن أصرف بصري"، وقال لعليّ رضي الله عنه:"لا تتبع النظرة النظرة، فإن لك الأُولى، وليست لك الثانية"، والله تعالى أعلم.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أنس بن مالك رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [10/ 5629](2157)، و (البخاريّ) في "الاستئذان"(6242) و"الديات"(6889 و 6900)، و (أبو داود) في "الأدب"(5171)، و (الترمذيّ) في "الاستئذان"(2708)، و (النسائيّ) في "القسامة"(4860) و"الكبرى"(7063)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 108 و 125 و 178 و 239 و 242)، وفوائد الحديث تقدّمت في شرح حديث سهل رضي الله عنه، وسيأتي اختلاف العلماء في الحديث التالي -إن شاء الله تعالى-.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5630]

(2158) - (حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ سُهَيْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنِ اطَّلَعَ فِي بَيْتِ قَوْمٍ بِغَيْرِ إِذْنِهِمْ، فَقَدْ حَلَّ لَهُمْ أَنْ يَفْقَئُوا عَيْنَهُ").

(1)

هكذا عزا في "الفتح" إلى مسلم بهذا اللفظ، وليُنظر أين أخرجه مسلم؟؟؟!!!.

(2)

"الفتح" 16/ 100، كتاب "الديات" رقم (6900).

ص: 456

قال الجامع عفا الله عنه: قد تقدّم هذا الإسناد نفسه قريبًا برقم [33/ 5570](2128) فلا حاجة إلى إعادته، و"جرير" هو: ابن عبد الحميد، و"سُهيل" هو: ابن أبي صالح ذكوان السمّان.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) أنه (قَالَ: (مَن) -بفتح الميم- شرطيّة مبتدأ، وقد اختلف النحاة في خبرها، فقيل: فعلُ شرطها، وقيل: جوابها، وقيل: هما معًا، وقيل: لا خبر لها؛ استغناء بجوابها. (اطَّلعَ) بالبناء للفاعل، (فِي بَيْتِ قَوْم بغَيْرِ إِذْنِهِمْ) احترز به عما لو أُذن له بالاطلاع فلا جناح عليه، (فَقَدْ حَلَّ لَهُمْ) لَأهل البيت، (أَنْ يَفْقَئُوا عَيْنَهُ")؛ أي: يقلعوها، قال المجد رحمه الله: فقأ العين، والْبَثْرةَ، ونحوهما، كمَنَعَ: كسَرَها، أو قَلَعها، أو بَخَقَها، كفقّأها، فانفقأت، وتفقأت. انتهى

(1)

.

وفي الرواية التالية: "لَوْ أن رَجُلًا اطَّلَعَ عَلَيْكَ بِغَيْرِ إِذْنٍ، فَخَذَفْتَهُ بِحَصَاةٍ، فَفَقَأْتَ عَيْنَهُ، مَا كَانَ عَلَيْكَ مِنْ جُنَاحٍ"، ولفظ البخاريّ:"لم يكن عليك جُناح"، والمراد بالجناح هنا: الحرج، وقد أخرجه ابن أبي عاصم من وجه آخر، عن ابن عيينة، بلفظ:"ما كان عليك من حرج"، ومن طريق ابن عجلان، عن أبيه، عن الزهريّ، عن أبي هريرة:"ما كان عليك من ذلك من شيء".

وفي قوله في هذه الرواية: "فقد حلّ لهم أن يفقؤا عينه" رَدٌّ على من حمل الجُناح في الرواية الثانية على الإثم، ورَتَّب على ذلك وجوب الدية؛ إذ لا يلزم من رفع الإثم رفعها؛ لأن وجوب الدية من خطاب الوضع، ووجه الدلالة أن إثبات الحلّ يمنع ثبوت القصاص والدية.

وورد من وجه آخر عن أبي هريرة، أصرح من هذا، عند أحمد، وابن أبي عاصم، والنسائيّ، وصححه ابن حبان، والبيهقيّ، كلهم من رواية بَشِير بن نَهِيك، عنه، بلفظ: "من اطَّلَع في بيت قوم بغير إذنهم، ففقؤا عينه، فلا دية،

(1)

"القاموس المحيط" ص 1004.

ص: 457

ولا قصاص"، وفي رواية من هذا الوجه: "فهو هَدَرٌ"، قاله في "الفتح"

(1)

، والله تعالى أعلم.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [10/ 5630 و 5631](2158)، و (البخاريّ) في "الديات"(6888 و 6902) وفي "الأدب المفرد"(1068)، و (أبو داود) في "الأدب"(5172)، و (النسائيّ) في "القسامة"(8/ 61) و"الكبرى"(4/ 247)، و (الشافعيّ) في "مسنده"(2/ 101)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(19433)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(8/ 758)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 243 و 266 و 414 و 527)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(789 و 791)، و (ابن حبّان في "صحيحه" (6002 و 6003 و 6004)، و (الطبرانيّ) في "الصغير"(169) و"الأوسط"(2037)، و (الطحاويّ) في "مشكل الآثار"(1/ 403 - 404)، و (الدارقطنيّ) في "سننه"(3/ 199)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(8/ 338)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(2568)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في اختلاف أهل العلم فيمن رمى إنسانًا يتجسس على بيته، فقتله:

استدلّ الجمهور بهذا الحديث على جواز رمي من يتجسّس، ولو لم يندفع بالشيء الخفيف جاز بالثقيل، وأنه إذا أصيبت نفسه، أو بعضه فهو هَدَرٌ.

وذهبت المالكية إلى وجوب القصاص، وأنه لا يجوز قَصْد العين، ولا غيرها، واعتلوا بأن المعصية، لا تُدفع بالمعصية.

وأجاب الجمهور بأن المأذون فيه؛ إذا ثبت الإذن، لا يسمى معصية، وإن كان الفعل، لو تجرد عن هذا السبب يُعَدُّ معصية، وقد اتفقوا على جواز

(1)

"الفتح" 16/ 101، كتاب "الديات" رقم (6902).

ص: 458

دفع الصائل، ولو أتى على نفس المدفوع، وهو بغير السبب المذكور معصية، فهذا ملحَق به، مع ثبوت النص فيه.

وأجابوا عن الحديث بأنه ورد على سبيل التغليظ، والإرهاب، ووافق الجمهورَ منهم ابنُ نافع، وقال يحيى بن عمر منهم: لعل مالكًا لم يبلغه الخبر. وقال القرطبي في "المفهم": ما كان صلى الله عليه وسلم بالذي يَهُمُّ أن يفعل ما لا يجوز، أو يؤدي إلى ما لا يجوز، والحمل على رفع الإثم، لا يتم مع وجود النص، برفع الحرَج، وليس مع النص قياس.

واعتَلَّ بعضُ المالكية أيضًا بالإجماع على أن من قصد النظر إلى عورة الآخر ظاهرًا أن ذلك لا يبيح فقء عينه، ولا سقوط ضمانها عمن فقأها، فكذا إذا كان المنظورد في بيته، وتجسس الناظر إلى ذلك. ونازع القرطبيّ في ثبوت هذا الإجماع، وقال: إن الخبر يتناول كل مُطَّلِع، قال: وإذا تناول المطلعَ في البيت مع المظنة، فتناوُله المحقَّق أَولى.

قال الحافظ: وفيه نظر؛ لأن التطلع إلى ما في داخل البيت لم ينحصر في النظر إلى شيء معيَّن كعورة الرجل مثلًا، بل يشمل استكشاف الحريم وما يقصد صاحب البيت سَتْره من الأمور التي لا يحبّ اطلاع كل أحد عليها، ومن ثم ثبت النهي عن التجسُّس، والوعيدُ عليه؛ حسمًا لمواد ذلك، فلو ثبت الإجماع الْمُدَّعَى لم يستلزم رَدّ هذا الحكمَ الخاصَّ، ومن المعلوم أن العاقل يشتدّ عليه أن الأجنبي يرى وجه زوجته، وابنته، ونحو ذلك، وكذا في حالة ملاعبته أهله أشدّ مما لو رأى الأجنبي ذَكَرَه منكشفًا، والذي ألزمه القرطبيّ صحيح في حق من يروم النظر، فيدفعه المنظور إليه، وفي وجه للشافعية لا يُشرَع في هذه الصورة.

وهل يشترط الإنذار قبل الرمي؟ وجهان: قيل: يشترط كدفع الصائل، وأصحهما لا؛ لقوله في الحديث:"يَخْتِلُهُ بذلك"، وفي حكم المتطلعِ من خَلَل بابٍ الناظرُ من كوّة من الدار، وكذا من وقف في الشارع، فنظر إلى حريم غيره، أو إلى شيء في دار غيره، وقيل: المنع مختص بمن كان في مُلك المنظور إليه.

وهل يلحق الاستماع بالنظر؟ وجهان: الأصح لا؛ لأن النظر إلى العورة

ص: 459

أشدّ من استماع ذِكْرِها، وشرط القياس المساواة، أو أولوية المقيس، وهنا بالعكس. انتهى كلام الحافظ رحمه الله

(1)

.

وقال الشوكانيّ رحمه الله: قد استَدَلّ بأحاديث الباب مَن قال: إن من قصد النظر إلى مكان لا يجوز له الدخول إليه بغير إذن جاز للمنظور إلى مكانه أن يفقأ عينه، ولا قصاص عليه، ولا دية؛ للتصريح بذلك في الحديث الآخر حيث قال:"فلا دية، ولا قصاص"، وقال أيضًا:"فقد حَلّ لهم أن يفقؤوا عينه"، ومقتضى الحلّ أنه لا يَضْمَن، ولا يُقْتَصّ منه، وقال أيضًا:"ما كان عليك من جناح"، وإيجاب القصاص، أو الدية جناح، ولأن قوله صلى الله عليه وسلم الماضي:"لو أعلم أنك تنظر طعنت به في عينك" يدُلّ على الجواز، وقد ذهب إلى مقتضى هذه الأحاديث جماعة من العلماء، منهم الشافعيّ رحمه الله.

وخالفت المالكية هذه الأحاديث، فقالت: إذا فعل صاحب المكان بمن اطَّلَع عليه ما أَذِن به النبيّ صلى الله عليه وسلم وجب عليه القصاص، أو الدية، وساعدهم على ذلك جماعة من العلماء، وغاية ما عَوَّلوا عليه قولهم: إن المعاصي لا تُدْفَع بمثلها، وهذا من الغرائب التي يَتعجب المصنف من الإقدام على التمسك بمثلها في مقابلة تلك الأحاديث الصحيحة، فإن كل عالم يَعلم أن ما أَذِن فيه الشارع ليس بمعصية، فكيف يُجعل فقء عين المطَّلِع من باب مقابلة المعاصي بمثلها؟

ومن جملة ما عَوَّلوا عليه قولهم: إن الحديث وارد على سبيل التغليظ والإرهاب.

ويجاب عنه بالمنع، والسندُ أن ظاهر ما بلغنا عنه صلى الله عليه وسلم محمول على التشريع إلا لقرينة تدلّ على إرادة المبالغة.

وقد تخلّص بعضهم عن الحديث بأنه مؤوَّل بالإجماع على أن من قصد النظر إلى عورة غيره لم يكن ذلك مبيحًا لفقء عينه، ولا سقوط ضمانها.

ويجاب أوّلًا بمنع الإجماع، وقد نازع القرطبيّ في ثبوته، وقال: إن الحديث يتناول كل مطّلع، قال: لأن الحديث المذكور إنما هو لمظنة الاطلاع

(1)

"الفتح" 16/ 102، كتاب "الديات" رقم (6902).

ص: 460

على العورة، فبالأَولى نظرها المحقَّق، ولو سُلِّم الإجماع المذكور لم يكن معارِضًا لِمَا ورد به الدليل؛ لأنه في أمر آخر، فإن النظر إلى البيت ربما كان مفضيًا إلى النظر إلى الْحُرَم، وسائر ما يَقصد صاحب البيت سَتْره عن أعين الناس.

وفَرّق بعض الفقهاء بين من كان من الناظرين في الشارع، وفي خالص مُلك المنظور إليه، وبعضهم فَرّق بين من رَمَى الناظرَ قبل الإنذار وبعده، وظاهر أحاديث الباب عدم الفرق.

والحاصل أن لأهل العلم في هذه الأحاديث تفاصيلَ وشروطًا، واعتبارات يطول استيفاؤها، وغالبها مخالف لظاهر الحديث، وعاطل عن دليل خارج عنه، وما كان هذا سبيله فليس في الاشتغال ببسطه وردِّه كثير فائدة، وبعضها مأخوذ من فَهْم المعنى المقصود بالأحاديث المذكورة، ولا بد أن يكون ظاهر الإرادة واضح الاستفادة، وبعضها مأخوذ من القياس، وشرط تقييد الدليل به أن يكون صحيحًا معتبَرًا على سَنَن القواعد المعتبرة في الأصول. انتهى كلام الشوكانيّ رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد أجاد الشوكانيّ رحمه الله في هذا البحث النبيل، وأفاد.

وخلاصته أن ما ذهب إليه الجمهور من جواز رمي من تجسس في بيت غيره، وأنه لو هلك من ذلك، أو بعض أعضائه يكون هدرًا هو الحقّ؛ لظهور حجّته واستنارة محجّته، فإن قوله صلى الله عليه وسلم:"من اطّلع في بيت قوم بغير إذنهم، ففقؤوا عينه، فلا دية له، ولا قصاص"

(2)

نصّ صريح لا يقبل شيئًا من التأويلات التي ذكروها، فتبصّر بالإنصاف، ولا تكن أسير التقليد، والله الهادي إلى سواء السبيل.

وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5631]

(

) - (حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ

(1)

"نيل الأوطار" 7/ 171 - 174.

(2)

حديث صحيح رواه أحمد، والنسائيّ، وصححه ابن حبّان، وغيره.

ص: 461

الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"لَوْ أَنَّ رَجُلًا اطَّلَعَ عَلَيْكَ بِغَيْرِ إِذْنٍ، فَخَذَفْتَهُ بِحَصَاةٍ، فَفَقَأْتَ عَيْنَهُ، مَا كَانَ عَلَيْكَ مِنْ جُنَاحٍ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أَبُو الزِّنَادِ) عبد الله بن ذكوان القرشيّ مولاهم، أبو عبد الرحمن المدنيّ، ثقةٌ فقيهٌ [5](ت 130) أو بعدها (ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 30.

2 -

(الأَعْرَجُ) عبد الرحمن بن هُرْمُز القرشيّ مولاهم، أبو داود المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ [3](117)(ع) تقدم في "الإيمان" 32/ 192.

والباقون ذُكروا في الباب.

وقوله: (فَخَذَفْتَهُ بِحَصَاةٍ)؛ أي: رميته بحصاة من بين إصبعيك، قاله النوويّ رحمه الله

(1)

، قال الفيّوميّ رحمه الله: خذفت الحصاة، ونحوها خذْفًا، من باب ضرب: رميتها بطرفي الإبهام والسبّابة، وقولهم: يأخذ حصى الْخَذْف معناه: حصى الرمي، والمراد: الحصى الصغار مجازًا. انتهى

(2)

.

و"الحصاة": واحدة الحصى، وهي صغار الحجارة، وجمعه حَصَيَاتٌ، وحُصيّ، أفاده المجد رحمه الله

(3)

.

[تنبيه]: قوله: "فخذفته": بالخاء، والذال المعجمتين، هكذا هو في "نُسخ مسلم"، وفي رواية البخاريّ:"فحذفته" -بالحاء المهملة- قال في "الفتح": وقوله: "فحذفته" بالحاء المهملة، عند أبي ذرّ، والقابسي، وعند غيرهما بالخاء المعجمة، وهو أوجه؛ لأنه

(4)

الرمي بحصاة، أو نواة، ونحوهما، إما بين الإبهام والسبابة، وإما بين السبابتين. وجزم النوويّ بأنه في مسلم بالمعجمة. وقال القرطبيّ: الرواية بالمهملة خطأ؛ لأن في نفس الخبر أنه الرمي بالحصى، وهو بالمعجمة جزمًا.

قال الحافظ: ولا مانع من استعمال المهملة في ذلك مجازًا. انتهى

(5)

.

(1)

"شرح النوويّ" 14/ 138.

(2)

"المصباح المنير" 1/ 165.

(3)

"القاموس المحيط" ص 296.

(4)

وقع في نسخ "الفتح": "لأن الرمي"، والظاهر أن الضمير سقط غلطًا، فتأمل.

(5)

"الفتح" 16/ 56، كتاب "الديات" رقم (6888).

ص: 462

وقوله: (فَفَقَأْتَ عَيْنَهُ) بقاف، ثم همزة ساكنة؛ أي: شققت عينه. قال ابن القطّاع: ففقأ عينه: أطفأ ضوءها.

وقوله: (مَا كَانَ عَلَيْكَ مِنْ جُنَاحٍ) بضمّ الجيم، وتخفيف النون؛ أي: من إثم، أو مؤاخذة، ولفظ البخاريّ:"لم يكن عليك جُناح"، ولفظ النسائيّ:"ما كان عليك حرجٌ"، وقال مرّةً أخرى:"جُناحٌ". والمراد بالجناح هنا الحرج.

قال في "الفتح": وفيه ردّ على من حمل الجناح هنا على الإثم، ورَتَّب على ذلك وجوب الدية؛ إذ لا يلزم من رفع الإثم رفعها؛ لأن وجوب الدية من خطاب الوضع، ووجه الدلالة أن إثبات الحِلّ، يمنع ثبوت القصاص والدية.

وورد من وجه آخر عن أبي هريرة أصرح من هذا، عند أحمد، وابن أبي عاصم، والنسائي، وصححه ابن حبان، والبيهقي، كلهم من رواية بشير بن نَهِيك عنه بلفظ:"من اطلع من بيت قوم بغير إذنهم، ففقؤا عينه، فلا دية ولا قصاص"، وفي رواية من هذا الوجه:"فهو هدر". انتهى.

وقال في "الفتح" أيضًا: واستُدلّ به على اعتبار قَدْر ما يُرْمى به، بحصى الخذف المقدَّم بيانها في "كتاب الحجّ"؛ لقوله في حديث الباب:"فخذفته"، فلو رماه بحجر يقتل، أو سهم تعلَّق به القصاص، وفي وجه لا ضمان مطلقًا، ولو لم يندفع إلا بذلك جاز، ويستثنى من ذلك من له في تلك الدار زوج، أو مَحْرم، أو متاع، فأراد الاطلاع عليه، فيمتنع رميه للشبهة. وقيل: لا فرق. وقيل: يجوز إن لم يكن في الدار غير حريمه، فإن كان فيها غيرهم أنذر، فإن انتهى، وإلا جاز، ولو لم يكن في الدار إلا رجل واحد، هو مالكها، أو ساكنها لم يجز الرمي قبل الإنذار، إلا إن كان مكشوف العورة. وقيل: يجوز مطلقًا؛ لأن من الأحوال ما يُكره الاطلاع عليه كما تقدم، ولو قَصَّر صاحب الدار بأن ترك الباب مفتوحًا، وكان الناظر مجتازًا، فنَظَر غير قاصد، لم يجز، فإن تعمّد النظر فوجهان: أصحهما لا، ويلتحق بهذا من نظر من سطح بيته، ففيه الخلاف، وقد توسع أصحاب الفروع في نظائر ذلك، قال ابن دقيق العيد: وبعض تصرفاتهم مأخوذة من إطلاق الخبر الوارد في ذلك، وبعضها من مقتضى

ص: 463

فهم المقصود، وبعضها بالقياس على ذلك. والله أعلم. انتهى

(1)

.

والحديث متّفقٌ عليه وقد تمام البحث فيه في الحديث الماضي، ولله الحمد والمنّة.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(11) - (بَابُ نَظَرِ الْفَجْأَةِ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5632]

(2159) - (حَدَّثَنِي قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُريعٍ (ح) وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْر بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثنَا إِسْمَاعِيلُ ابْنُ عُلَيَّةَ، كِلَاهُمَا عَنْ يُونُسَ (ح) وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، أَخْبَرَنَا يُونُسُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ، عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ نَظَرِ الْفُجَاءَةِ

(2)

، فَأَمَرَني أنْ أَصْرِفَ بَصَرِي).

رجال هذه الأسانيد: عشرة:

1 -

(يَزِيدُ بْنُ زُريعٍ) العيشيّ البصريّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(إِسْمَاعِيلُ ابْنُ عُلَيَّةَ) تقدّم أيضًا قريبًا.

3 -

(هُشَيْمُ) بن بشير الواسطيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

4 -

(يُونُسُ) بن عُبيد بن دينار الْعَبْديّ، أبو عبيد البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فاضلٌ ورعٌ [5](ت 139)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 73.

5 -

(عَمْرُو بْنُ سَعِيدٍ) القرشيّ، أو الثقفيّ مولاهم، أبو سعيد البصريّ، ثقةٌ [5](بخ م 4) تقدم في "الجمعة" 15/ 2008.

6 -

(أَبُو زُرْعَةَ) بن عمرو بن جرير البجليّ الكوفيّ، اسمه هَرِم، أو عمرو، أو عبد الله، أو غيره، ثقةٌ [3](ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 106.

(1)

"الفتح" 16/ 56، كتاب "الديات" رقم (6888).

(2)

وفي نسخة: "عن نظرة الْفَجْأَة".

ص: 464

7 -

(جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) بن جابر البجليّ الصحابيّ المشهور، مات رضي الله عنه (51)، أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 25/ 207.

والباقون ذُكروا في الباب الماضي.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وفيه ثلاثة من التابعين روى بعضهم عن بعض: يونس، وعمرو، وأبو زرعة، ورواية الأولين من رواية الأقران.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبي زُرْعَةَ) بن عمرو (عَنْ) جدّه (جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ) البجليّ رضي الله عنه، أنه (قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ نَظَرِ الْفُجَأَءَةِ)؛ أي: عن حكمه، و"الْفُجاءة" بضم الفاء، وفتح الجيم، وبالمدّ، ويقال: بفتح الفاء، وإسكان الجيم، والقصر، لغتان، هي البغتة، ومعنى نظر الفجأة: أن يقع بصره على الأجنبية من غير قصد، فلا إثم عليه في أول ذلك، ويجب عليه أن يصرف بصره في الحال، قاله النوويّ رحمه الله

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: "الْفُجاءة" بضم الفاء، والمدِّ، والهمز: مصدر فَجَأني الأمر يفجؤني فُجاءَة: إذا صادفك بغتة، من غير قصد، ومنه: قَطَرِيُّ بن الْفُجاءة؛ اسم رجل، ويقال: فاجأني يفاجئني مفاجأةً، وفُجَاء. انتهى

(2)

.

وقال الفيّوميّ رحمه الله: فَجِئْتُ الرجلَ أَفْجَأُهُ مهموزٌ، من باب تَعِبَ، وفي لغة بفتحتين: جئته بغتةً، والاسم الْفُجَاءة بالضم، والمدّ، وفي لغة وزانُ تَمْرَةٍ، وفَجِئَهُ الأمرُ، من باب تَعِبَ ونَفَعَ أيضًا، وفَاجَأَهُ مفاجأة؛ أي: عاجله. انتهى

(3)

.

قال جرير رضي الله عنه (فَأَمَرَنِي) صلى الله عليه وسلم (أَنْ أصْرِفَ) بكسر الراء، من باب ضرب؛ أي: أردّ (بَصَرِي) إلى جهة أخرى غير الجهة المُحَرَّمة، قال القرطبيّ رحمه الله: وإنما أمره أن يصرف بصره عن استدامة النظر إلى ما وقعت عينه عليه أوّل مرّة؛

(1)

"شرح النوويّ " 14/ 139.

(2)

"المفهم" 5/ 482.

(3)

"المصباح المنير" 2/ 463.

ص: 465

وإنما لم يتعرض لذكر الأُولى؛ لأنَّها لا تدخل تحت خطاب تكليف؛ إذ وقوعها لا يتأتى أن يكون مقصودًا، فلا تكون مكتسبة، فلا يكون مكلفًا بها، فأعرض عما ليس مكلَّفًا به، ونهاه عما يُكلَّف به؛ لأنَّ استدامة النظر مكتسبة للإنسان؛ إذ قد يستحسن ما وافقه بصره، فيتابع النظر، فيحصل المحذور -وهو النظر إلى ما لا يحل-. ولذلك قال النبيّ صلى الله عليه وسلم لعليّ بن أبي طالب رضي الله عنه:"لا تتبع النظرة النظرة، فإنما لك الأُولى، وليست لك الثانية"

(1)

. انتهى

(2)

.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث جرير بن عبد الله رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [11/ 5632 و 5633](2159)، و (أبو داود) في "النكاح"(2148)، و (الترمذيّ) في "الاستئذان"(2776)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(9233)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(672)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(4/ 6)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 358 و 361)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 278)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5571)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(2404)، و"الطحاويّ" في "مشكل الآثار"(2/ 352 - 353) و"شرح معاني الآثار"(3/ 15)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 444)، و (الحاكم) في "المستدرك"(2/ 396)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(7/ 89 - 90) وفي "الآداب"(887) و"شُعَب الإيمان"(4/ 364)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثانية): في فوائده:

1 -

(منها): بيان تحريم النظر إلى الأجنبيّة قصدًا، قال ابن حبّان رحمه الله: الأمر بصرف البصر أمر حتم عما لا يحلّ، وهو مقرون بالزجر عن ضدّه، وهو النظر إلى المحرّم. انتهى

(3)

.

(1)

حديث حسن، رواه أحمد، وأبو داود، والترمذيّ، وحسّنه، وكذا حسّنه الشيخ الألبانيّ، وصححه ابن حبّان.

(2)

"المفهم" 5/ 482 - 483.

(3)

"الإحسان في تقريب صحيح ابن حبّان" 12/ 384.

ص: 466

وقال المناويّ رحمه الله: وقد سئل المصطفى صلى الله عليه وسلم عن نظر الفجأة، فأمر السائل أن يصرف بصره، فأرشده إلى ما ينفعه، ويدفع ضرره، وقال لابن عمه عليّ رضي الله عنه تحذيرًا مما يوقع في الفتنة، ويورث الحسرة:"لا تتبع النظرة النظرة"، أما سمعت

(1)

قول العقلاء: من سَرّح ناظره، أتعب خاطره، ومن كَثُرت لحظاته، دامت حسراته، وضاعت أوقاته، نظر العيون إلى العيون هو الذي جعل الهلاك إلى الفؤاد سبيلًا؟ انتهى

(2)

.

2 -

(ومنها): وجوب صرف البصر إذا وقع على الأجنبيّة بغتةً، فإذا صرف في الحال، فلا إثم عليه، وإن استدام النظر أَثِمَ؛ لهذا الحديث، فإنه صلى الله عليه وسلم أمره بأن يصرف بصره، مع قوله تعالى:{قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ}

(3)

.

3 -

(ومنها): ما قال القاضي عياض: قال العلماء: وفي هذا حجة أنه لا يجب على المرأة أن تستر وجهها في طريقها، وإنما ذلك سُنَّة مستحبة لها، ويجب على الرجال غَضّ البصر عنها في جميع الأحوال، إلا لغرض صحيحٍ شرعيّ، وهو حالة الشهادة، والمداواة، وإرادة خطبتها، أو شراء الجارية، أو المعاملة بالبيع والشراء، وغيرهما، ونحو ذلك، وإنما يباح في جميع هذا قَدْر الحاجة، دون ما زاد، والله أعلم. انتهى

(4)

.

4 -

(ومنها): ما قال ابن عبد البرّ رحمه الله بعد أن ذكر الأحاديث الواردة في هذا الباب- ما حاصله: وهذه الآثار، وما كان مثلها في معناها يدلّك على أن قوله صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت قيس عند ابن أم مكتوم:"تضعين ثيابك، ولا يراك"، أراد به الإعلان بأن نظر الرجل إلى المرأة، وتأمله لها، وتكرار بصره في ذلك لا يجوز له؛ لِمَا فيه من داعية الفتنة.

وفي حديث محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن فاطمة رضي الله عنها: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال لها: انتقلي إلى بيت ابن أم مكتوم، فإنه رجل، قد ذهب بصره، فإن وضعت شيئًا من ثيابك لم ير شيئًا.

(1)

هذا ليس من تمام الحديث، وإنما كلام بعض الناس.

(2)

"فيض القدير" 4/ 398.

(3)

"شرح النوويّ" 14/ 139.

(4)

"إكمال المعلم" 7/ 37.

ص: 467

وفي هذا الحديث دليل على جواز نظر المرأة الرجل الأعمى، وكونها معه، وإن لم تكن ذات محرم منه، في دار واحدة، وبيت واحد، وفي ذلك ما يَرُدّ حديث نبهان- مولى أم سلمة- عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: كنت أنا وميمونة جالستين عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستأذن عليه ابن أم مكتوم الأعمى، فقال:"احتجبا منه"، فقلنا: يا رسول الله أليس بأعمى، ولا يبصرنا؟ قال:"أَفَعَمْيَاوَانِ أنتما".

ففي هذا الحديث نهيه عن نظرهما إلى ابن أم مكتوم، وفي حديث فاطمة إباحة نظرها إليه، ويشهد لحديث نبهان هذا ظاهر قول الله تعالى:{وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} [النور: 31]، كما قال:{قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور: 30]، ويشهد لذلك من طريق الغَيْرة أن نظرها إليه كنظره إليها، وقد قال بعض الأعراب: لأن ينظر إلى وليّتي عشرة رجال خير من أن تنظر هي إلى رجل واحد.

ومن قال بحديث فاطمة احتَجَّ بصحة إسناده، وأنه لا مطعن لأحد من أهل العلم بالحديث فيه، وقال: إن نبهان -مولى أم سلمة- ليس ممن يُحتجّ بحديثه، وزعم أنه لم يرو إلا حديثين منكرين: أحدهما هذا، والآخر عن أم سلمة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في المكاتَب:"إذا كان عنده ما يؤدي به كتابته احتجبت منه سيدته". انتهى كلام ابن عبد البرّ رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: حديث مولى أم سلمة رضي الله عنها المذكور ضعيف، فلا يعارض خديث فاطمة بنت قيس المذكور المتّفق عليه، وعلى تقدير صحّته فأمهات المؤمنين لسن كسائر النساء، يشدّد في حقِّهن ما يشدّد في غيرهنّ، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5633]

(

) - (وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الأَعْلَى، وَقَالَ إِسْحَاقُ: أَخْبَرَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثنَا سُفْيَانُ، كِلَاهُمَا عَنْ يُونُسَ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ مِثْلَهُ).

(1)

"الاستذكار" 6/ 169 - 168.

ص: 468

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(عَبْدُ الأَعْلَى) بن عبد الأعلى الساميّ، أبو محمد البصريّ، ثقةٌ [8](ت 189)(ع) تقدم في "الطهارة" 5/ 557.

2 -

(سُفْيَانُ) بن سعيد الثوريّ، تقدّم قريبًا.

والباقون ذُكروا في الباب، وقبل باب، و"إسحاق" هو: ابن راهويه.

[تنبيه]: رواية سفيان الثوريّ عن يونس ساقها هناد بن السريّ في "الزهد"، فقال:

(1417)

- حدّثنا وكيع، عن سفيان، عن يونس بن عبيد، عن عمرو بن سعيد، عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير، عن جدّه، قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظر الفجأة، فقال:"اصْرِفْ بصرك". انتهى

(1)

.

وأما رواية عبد الأعلى عن يونس بن عبيد فلم أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(1)

"الزهد لابن السريّ" 2/ 649.

ص: 469

‌39 - (كِتَابُ السَّلَامِ)

مسألةٌ تتعلّق بهذه الترجمة:

(اعلم): أن السّلام بفتح السين المهملة، وتخفيف اللام، بوزن الكلام: اسمٌ من سلّم يسلّم تسليمًا، وهو اسم من أسماء الله تعالى، قال الإمام البخاريّ رحمه الله في "صحيحه":"بابٌ السلام اسم من أسماء الله تعالى"، ثم أورد حديث ابن مسعود رضي الله عنه في التشهّد، وفيه قوله:"إن الله هو السلام"، قال الحافظ رحمه الله: هذه الترجمة لفظ بعض حديث مرفوع له طرُق ليس منها شيء على شرط البخاريّ في "الصحيح"، فاستعمله في الترجمة، وأورد ما يؤدي معناه على شرطه، وهو حديث التشهد، لقوله فيه:"إن الله هو السلام"، وكذا ثبت في القرآن في أسماء الله:{السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ} [الحشر: 23]، ومعنى السلام: السالم من النقائص، وقيل: المسلِّم لعباده، وقيل: المسلِّم على أوليائه، وأما لفظ الترجمة، فأخرجه البخاريّ في "الأدب المفرد" من حديث أنس، رضي الله عنه، بسند حسن، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال:"إن السلام اسم من أسماء الله، وضعه الله في الأرض، فأفشوه بينكم، إن الرجل إذا سلّم على القوم، فرَدُّوا عليه كانت له عليهم فضل درجة؛ لأنه ذَكَّرهم السلام، وإن لم يَرُدُّوا عليه رَدَّ عليه من هو خير منه، وأطيب"

(1)

.

وأخرجه البزار، والطبرانيّ من حديث ابن مسعود موقوفًا، ومرفوعًا، وطريق الموقوف أقوى، وأخرجه البيهقيّ في "الشعب" من حديث أبي هريرة مرفوعًا بسند ضعيف، وألفاظهم سواء، وأخرج البيهقيّ في "الشُّعب" عن ابن عباس موقوفًا:"السلام اسم الله، وهو تحية أهل الجنة"، وشاهِدُه حديث

(1)

"الأدب المفرد" 1/ 358.

ص: 470

المهاجر بن قُنْفُذ أنه سَلَّم على النبيّ صلى الله عليه وسلم، فلم يردّ عليه حتى توضأ، وقال:"إني كَرِهت أن أذكر الله إلا على طهر"، أخرجه أبو داود، والنسائيّ، وصححه ابن خزيمة، وغيره.

وَيحْتَمِل أن يكون أراد ما في ردّ السلام من ذِكْر اسم الله صريحًا في قوله: "ورحمة الله".

وقد اختُلِف في معنى السلام، فنَقَل عياض: أن معناه اسم الله؛ أي: كلاءة الله عليك، وحِفظه، كما يقال: الله معك، ومصاحبك، وقيل معناه: أن الله مُطَّلِع عليك فيما تفعل، وقيل معناه: أن اسم الله يُذْكَر على الأعمال توقعًا لاجتماع معاني الخيرات فيها، وانتفاء عوارض الفساد عنها، وقيل معناه: السلامة، كما قال تعالى:{فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91)} [الواقعة: 91]، وكما قال الشاعر [من الوافر]:

تُحَيِّي بِالسَّلَامَةِ أُمُّ عَمْرٍو

وَهَلْ لِي بَعْدَ قَوْمِي مِنْ سَلَامِ

فكان المسلِّم أعلمَ من سَلَّم عليه أنه سالم منه، وأن لا خوف عليه منه. وقال ابن دقيق العيد في "شرح الإلمام": السلام يُطلق بإزاء معان: منها: السلامة، ومنها: التحية، ومنها: أنه اسم من أسماء الله، قال: وقد يأتي بمعنى التحية محضًا، وقد يأتي بمعنى السلامة محضًا، وقد يأتي متردِّدًا بين المعنيين، كقوله تعالى:{وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا} [النساء: 94]، فإنه يَحتمل التحية والسلامة، وقوله تعالى:{وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ (57) سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [يس: 57 - 58].

ثم أورد البخاريّ رحمه الله تحت الترجمة المذكورة قوله تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء: 86]، قال في "الفتح": ومناسبة ذِكر هذه الآية في هذه الترجمة للإشارة إلى أن عموم الأمر بالتحية مخصوص بلفظ السلام، كما دلت عليه الأحاديث المشار إليها في الباب الأول، واتفق العلماء على ذلك، إلا ما حكاه ابن التين عن ابن خويز منداد عن مالك أن المراد بالتحية في الآية: الهدية، لكن حَكَى القرطبي عن ابن خويز منداد أنه ذكره احتمالًا، وادَّعَى أنه قول الحنفية، فإنهم احتجوا بذلك بأن السلام لا يمكن ردّه بعينه، بخلاف الهدية، فإن الذي يُهدَى له إن أمكنه أن يُهدي أحسن منها فَعَلَ، وإلا ردَّها بعينها.

ص: 471

وتُعُقِّب بأن المراد بالردّ ردّ المثل، لا رد العين، وذلك سائغ كثير، ونقل القرطبيّ أيضًا عن ابن القاسم، وابن وهب عن مالك، أن المراد بالتحية في الآية تشميت العاطس، والردُّ على المشُمِّت، قال: وليس في السياق دلالة على ذلك، ولكن حكم التشميت والردّ مأخوذ من حكم السلام والردّ عند الجمهور، ولعل هذا هو الذي نحا إليه مالك. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم.

(1) - (بَاب يُسَلِّمُ الرَّاكِبُ عَلَى الْمَاشِي، وَالْقَلِيلُ عَلَى الْكَثِيرِ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5634]

(2160) - (حَدَّثَنِي عُقْبَةُ بْنُ مُكْرَمٍ، حَدثنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْج (ح) وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مَرْزُوقٍ، حَدَّثَنَا رَوْحٌ، حَدثنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي زِيَادٌ، أَن ثَابِتًا مَوْلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زيدٍ أَخْبَرَهُ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "يُسَلِّمُ الرَّاكِبُ عَلَى الْمَاشِي، وَالْمَاشِي عَلَى الْقَاعِدِ، وَالْقَلِيلُ عَلَى الْكَثِيرِ").

رجال هذين الإِسنادين: ثمانية:

1 -

(عُقْبَةُ بْنُ مُكْرَمٍ) الْعَمّيّ، أبو عبد الملك البصريّ، ثقةٌ [11] مات في حدود (250)(م دت ق) تقدم في "الإيمان" 27/ 220.

2 -

(أَبُو عَاصِمٍ) الضحّاك بن مخلد النبيل، تقدّم قريبًا.

3 -

(مُحَمَّدُ بْنُ مَرْزُوقٍ) هو: محمد بن محمد بن مرزوق الباهليّ البصريّ، ابن بنت مهديّ بن ميمون، نُسب لجدّه، صدوقٌ له أوهامٌ [11](ت 248)(م ت ق) تقدم في "الحج" 59/ 3184.

4 -

(رَوْحُ) بن عُبادة بن العلاء، تقدّم قريبًا.

5 -

(ابْنُ جُرَيْجِ) عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج، تقدّم أيضًا قريبًا.

6 -

(زِيَادُ) بنَ سعد بن عبد الرحمن الْخُراسانيّ، نزيل مكة، ثمّ اليمن، ثقةٌ ثبت، قال ابن عيينة: كان أثبت أصحاب الزهريّ [6](ع) تقدم في "الطهارة" 26/ 653.

(1)

"الفتح" 14/ 144 - 146، كتاب "الاستئذان" رقم (6230).

ص: 472

7 -

(ثَابِث مَوْلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زيدِ) هو: ثابت بن عياض الأحنف الأعرج العدويّ مولاهم [3](خ م دس) تقدم في "الإيمان" 65/ 368.

و"أبو هريرة" رضي الله عنه ذُكر قبل باب.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه إسنادان فصل بينهما بالتحويل، وأنه مسلسلٌ بالتحديث، والإخبار، والسماع، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه أحفظ من روى الحديث في دهره.

شرح الحديث:

(عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ) عبد الملك بن عبد العزيز بن جُريج أنه قال: (أَخْبَرَنِي زِيَادٌ) هو ابن سعد الخراسانيّ، (أنَّ ثَابِتًا مَوْلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زيدِ) بن الخطاب، أخي عمر بن الخطاب، ولذلك نسبوا ثابتًا عدويّا، قال في "الفتح": وحَكَى أبو عليّ الجيّانيّ أن في رواية الأصيليّ عن الجرجانيّ: عبد الرحمن بن يزيد، بزيادة ياء في أوله، وهو وَهَمٌ، وثابت هو ابن الأحنف، وقيل: ابن عياض بن الأحنف، وقيل: إن الأحنف لقبُ عياضٍ، وليس لثابت في البخاريّ سوى هذا الحديث، وآخر تقدم في الْمُصَرَّاة من "كتاب البيوع". انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: ليس لثابت هذا عند مسلم إلا أربعة أحاديث فقط، في "الإيمان"، و"الطهارة"، و"النكاح"، والرابع حديث الباب، فتنبّه.

(أَخْبَرَهُ)؛ أي: أخبر زيادًا (أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "يُسَلِّمُ) كذا هو بصيغة الخبر، وهو بمعنى الأمر، وقد ورد صريحًا في رواية عبد الرزاق، عن معمر، عند أحمد، بلفظ:"ليسلم"(الرَّاكِبُ عَلَى الْمَاشِي) كذا في رواية ثابت، وفي رواية همام بن منبّه، عند البخاريّ:"يسلّم الصغير على الكبير"، ولم يذكر:"يسلّم الراكب على الماشي"، قال في "الفتح": فكأن كلًّا منهما حَفِظ ما لم يحفظ الآخر، وقد وافق همّامًا عطاء بن يسار، عند البخاريّ، واجتمع من ذلك أربعة أشياء، وقد اجتمعت في رواية الحسن، عن

(1)

"الفتح" 14/ 148، كتاب "الاستئذان" رقم (6232).

ص: 473

أبي هريرة، عند الترمذيّ، وقال: رُوي من غير وجه عن أبي هريرة، ثم حَكَى قول أيوب وغيره: إن الحسن لم يسمع من أبي هريرة. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: سماع الحسن من أبي هريرة رضي الله عنه قد استوفيت بحثه في "شرح النسائيّ"، في "باب ما جاء في الخلع" من "كتاب الطلاق" ورجّحت قول من قال بسماعه، فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق.

وأخرج عبد الرزاق، وأحمد بسند صحيح من حديث عبد الرحمن بن شِبْل- بكسر المعجمة، وسكون الموحّدة، بعدها لام -بلفظ:"يسلم الراكب على الراجل، والراجل على الجالس، والأقل على الأكثر، فمن أجاب كان له، ومن لم يجب فلا شيء له".

(وَالْمَاشِي عَلَى الْقَاعِدِ) وفي لفظ للبخاريّ: "والمارّ على القاعد". قال في "الفتح": قوله: "والمارّ على القاعد" هو كذا في رواية هَمّام، وهو أشمل من رواية ثابت التي قبلها بلفظ:"والماشي"؛ لأنه أعمّ من أن يكون المارّ ماشيًا، أو راكبًا، وقد اجتمعاني حديث فَضَالة بن عُبيد عند البخاريّ في "الأدب المفرد"، والترمذيّ، وصححه، والنسائيّ، وصحيح ابن حبان بلفظ:"يسلّم الفارس على الماشي، والماشي على القائم"، وإذا حُمِل القائم على المستقرّ كان أعمّ من أن يكون جالسًا، أو واقفًا، أو متكئًا، أو مضطجعًا، وإذا أضيفت هذه الصورة إلى الراكب تعددت الصور، وتبقى صورة لم تقع منصوصةً، وهي ما إذا تلاقى مارّان راكبان، أو ماشيان، وقد تكلم عليها المازريّ

(2)

، فقال: يبدأ الأدنى منهما الأعلى قَدْرًا في الدين إجلالًا لفضله؛ لأن فضيلة الدين مُرَغَّبٌ فيها في الشرع، وعلى هذا لو التقى راكبان، ومركوب أحدهما أعلى في الحسّ من مركوب الآخر كالجمل والفرس، فيبدأ راكب الفرس، أو يُكتفَى بالنظر إلى أعلاهما قَدْرًا في الدين، فيبتدؤه الذي دونه. هذا الثاني أظهر، كما لا نَظَر إلى من يكون أعلاهما قَدْرًا من جهة الدنيا، إلا أن يكون سلطانًا يُخشى منه، وإذا تساوى المتلاقيان من كل جهة، فكل منهما

(1)

"الفتح" 14/ 148، كتاب "الاستئذان" رقم (6232).

(2)

"المعلم" 3/ 87.

ص: 474

مأمور بالابتداء، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام، كما في حديث المتهاجرين.

وأخرج البخاريّ في "الأدب المفرد" بسند صحيح من حديث جابر رضي الله عنه قال: "الماشيان إذا اجتمعا فأيهما بدأ بالسلام فهو أفضل"، ذَكَره عقب رواية ابن جريج، عن زياد بن سعد، عن ثابت، عن أبي هريرة بسنده المذكور، وعن ابن جريج، عن أبي الزبير، عن جابر وصرَّح فيه بالسماع.

وأخرج أبو عوانة، وابن حبان في "صحيحيهما"، والبزار من وجه آخر، عن ابن جريج الحديث بتمامه، مرفوعًا بالزيادة.

وأخرج الطبرانيّ بسند صحيح، عن الأغرّ المزنيّ:"قال لي أبو بكر: لا يسبقك أحد إلى السلام".

وأخرج الترمذيّ من حديث أبي أمامة رضي الله عنه، رفعه:"إن أَولى الناس بالله من بدأ بالسلام"، وقال: حسن.

وأخرج الطبرانيّ من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه: "قلنا: يا رسول الله، إنا نلتقي، فأينا يبدأ بالسلام؟ قال: أطوعكم لله"

(1)

.

(وَالْقَلِيلُ عَلَى الْكَثِيرِ) هو أمر نسبيّ يَشمل الواحد بالنسبة للاثنين فصاعدًا، والاثنين بالنسبة للثلاثة فصاعدًا، وما فوق ذلك.

قال الماورديّ رحمه الله: لو دخل شخص مجلسًا، فإن كان الجمع قليلًا يعمّهم سلام واحد، فسلّم كفاه، فإن زاد، فخصص بعضهم فلا بأس، ويكفي أن يردّ منهم واحد، فإن زاد فلا بأس، وإن كانوا كثيرًا بحيث لا ينتشر فيهم، فيبتدئ أول دخوله إذا شاهدهم، وتتأدى سُنَّة السلام في حق جميع من يسمعه، ويجب على من سمعه الردّ على الكفاية، وإذا جلس سقط عنه سُنَّة السلام فيمن لم يسمعه من الباقين، وهل يستحب أن يسلّم على من جلس عندهم ممن لم يسمعه وجهان:

أحدهما: إن عاد فلا بأس، وإلا فقد سقطت عنه سُنَّة السلام؛ لأنهم جَمْع واحد، وعلى هذا يسقط فرض الردّ بفعل بعضهم.

والثاني: أن سُنَّة السلام باقية في حقّ من لم يبلغهم سلامه المتقدم، فلا يسقط فرض الردّ من الأوائل عن الأواخر. انتهى.

(1)

"الفتح" 14/ 150، كتاب "الاستئذان" رقم (6232).

ص: 475

وقال الحافظ رحمه الله: لكن لو عُكِس الأمرُ، فمرّ جَمْع كثير على جمع قليل، وكذا لو مر الصغير على الكبير، لم أر فيهما نصًّا، واعتبر النوويّ المرور، فقال: الوارد يبدأ، سواء كان صغيرًا أم كبيرًا، قليلًا أم كثيرًا، ويوافقه قول المهلَّب: إن المار في حكم الداخل، وذكر الماورديّ أن من مشى في الشوارع المطروقة كالسوق أنه لا يسلِّم إلا على البعض؛ لأنه لو سلَّم على كل من لقي لَتَشاغَل به عن المهمّ الذي خرج لأجله، ولخرج به عن العُرَف.

قال الحافظ: ولا يعكر على هذا ما أخرجه البخاريّ في "الأدب المفرد" عن الطُّفيل بن أبي بن كعب: "قال: كنت أغدو مع ابن عمر إلى السوق، فلا يمرّ على بياع، ولا أحد إلا سلّم عليه، فقلت: ما تصنع بالسوق؟ وأنت لا تقف على البيع، ولا تسأل عن السِّلَع؟ قال: إنما نغدو من أجل السلام على من لقينا"؛ لأن مراد الماورديّ: من خرج في حاجة له، فتشاغل عنها بما ذُكِر، والأثر المذكور ظاهر في أنه خرج لِقَصْد تحصيل ثواب السلام.

وقد تكلم العلماء على الحكمة فيمن شُرع لهم الابتداء، فقال ابن بطال

(1)

، عن المهلَّب: تسليم الصغير لأجل حقّ الكبير؛ لأنه أُمر بتوقيره، والتواضع له، وتسليم القليل لأجل حقّ الكثير؛ لأن حقهم أعظم، وتسليم المارّ؛ لِشَبَهه بالداخل على أهل المنزل، وتسليم الراكب؛ لئلا يتكبَّر بركوبه، فيرجع إلى التواضع.

وقال ابن العربيّ: حاصل ما في هذا الحديث أن المفضول بنوعٍ مَا يبدأ الفاضل.

وقال المازريّ

(2)

: أما أمر الراكب؛ فلأن له مزيةً على الماشي، فعُوِّض الماشي بأن يبدأه الراكب بالسلام؛ احتياطًا على الراكب من الزهو، أن لو حاز الفضيلتين، وأما الماشي فلِمَا يَتَوَقَّع القاعد منه من الشرّ، ولا سيما إذا كان راكبًا، فإذا ابتدأه بالسلام أَمِن منه ذلك، وأَنِس إليه، أو لأن في التصرف في الحاجات امتهانًا، فصار للقاعد مزيةٌ، فأُمر بالابتداء، أو لأن القاعد يشُقّ عليه مراعاة المارّين مع كثرتهم، فسقطت البداءة عنه؛ للمشقة، بخلاف المارّ فلا

(1)

"شرح البخاري" لابن بطّال 9/ 15.

(2)

"المعلم" 3/ 87.

ص: 476

مشقة عليه، وأما القليل فلفضيلة الجماعة، أو لأن الجماعة لو ابتدءوا لخيف على الواحد الزهو، فاحتيط له.

ولم يقع تسليم الصغير على الكبير في "صحيح مسلم"، وكأنه لمراعاة السنّ، فإنه معتبَر في أمور كثيرة في الشرع، فلو تعارض الصِّغَر المعنويّ والحسيّ، كان يكون الأصغر أعلم مثلًا فيه نظرٌ، قال الحافظ: ولم أر فيه نقلًا، والذي يظهر اعتبار السنّ؛ لأنه الظاهر، كما تُقَدَّم الحقيقة على المجاز.

ونقل ابن دقيق العيد عن ابن رشد أن محل الأمر في تسليم الصغير على الكبير إذا التقيا، فإن كان أحدهما راكبًا، والآخر ماشيًا بدأ الراكب، وإن كانا راكبين، أو ماشيين بدأ الصغير.

وقال المازريّ

(1)

وغيره: هذه المناسبات لا يُعترض عليها بجزئيات تُخالِفها؛ لأنها لم تُنصب نَصْبَ العلل الواجبة الاعتبار، حتى لا يجوز أن يعدل عنها، حتى لو ابتدأ الماشي فسلَّم على الراكب لم يُمنع؛ لأنه ممتثل للأمر بإظهار السلام، وإفشائه، غير أن مراعاة ما ثبت في الحديث أَولى، وهو خبر بمعنى الأمر على سبيل الاستحباب، ولا يلزم من ترك المستحب الكراهة، بل يكون خلاف الأَولى، فلو ترك المأمور بالابتداء، فبدأه الآخر كان المأمور تاركًا للمستحب، والآخر فاعلًا للسُّنَّة، إلا إن بادر، فيكون تاركًا للمستحب أيضًا.

وقال المتولي: لو خالف الراكب، أو الماشي ما دلّ عليه الخبر كُرِهَ، قال: والوارد يبدأ بكل حال.

وقال الكرمانيّ

(2)

: لو جاء أن الكبير يبدأ الصغير، والكثير يبدأ القليل، لكان مناسبًا؛ لأن الغالب أن الصغير يخاف من الكبير، والقليل من الكثير، فإذا بدأ الكبير والكثير أمِن منه الصغير والقليل، لكن لمّا كان من شأن المسلمين أن يأمن بعضهم بعضًا اعتُبِر جانب التواضع، كما تقدم، وحيث لا يظهر رجحان أحد الطرفين باستحقاقه التواضع له اعتُبِر الإعلام بالسلامة، والدعاء له؛ رجوعًا إلى ما هو الأصل، فلو كان المشاة كثيرًا والقعود قليلًا

(1)

"المعلم" 3/ 88.

(2)

"شرح البخاريّ" للكرمانيّ 22/ 78.

ص: 477

تعارضا، ويكون الحكم حكم اثنين تلاقيا معًا، فأيهما بدأ فهو أفضل، ويَحْتَمِل ترجيح جانب الماشي، كما تقدم. انتهى

(1)

، والله أعلم.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [1/ 5634](2160)، و (البخاريّ) في "الاستئذان"(6231 و 6232 و 6233 و 6234) وفي "الأدب المفرد"(993 و 995)، و (أبو داود) في "الأدب"(5198 و 5199)، و (الترمذيّ) في "الاستئذان"(2703 و 2704)، و (النسائيّ) في "عمل اليوم والليلة"(1/ 181)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(19445)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 304)، و (ابن راهويه) في "مسنده"(1/ 418)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(11/ 107)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(9/ 203) و"شُعب الإيمان"(6/ 451)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(3303)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): هذا الحديث فيه بيان آداب السلام، وترتيب من يستحقّ أن يسلّم أوّلًا، قال القرطبيّ رحمه الله: ثمَّ إن الناس في الابتداء بالسَّلام إما أن تتساوى أحوالهم، أو تتفاوت، فإن تساوت فخيرهم الذي يبدأ صاحبه بالسلام؛ كالماشي على الماشي، والراكب على الراكب، غير أن الأَولى مبادرة ذوي المراتب الدينية؛ كأهل العلم، والفضل احترامًا لهم، وتوقيرًا، وأما ذوو المراتب الدنيوية المحضة، فإنْ سلَّموا رُدَّ عليهم، وإن ظهر عليهم إعجاب، أو كِبْر فلا يُسلَّم عليهم؛ لأنَّ ذلك معونة لهم على المعصية، وإن لم يظهر ذلك عليهم جاز أن يُبدؤوا بالسَّلام، وابتداؤهم هم بالسلام أَولى بهم؛ لأنَّ ذلك يدلّ على تواضعهم، وإن تفاوتت فالحكم فيها على ما يقتضيه هذا الحديث، فيبدأ الراكب بالسَّلام على الماشي؛ لعلوِّ مرتبته؛ ولأنَّ ذلك أبعد له من الزهو، وأمَّا الماشي فقد قيل فيه مثل ذلك، وفيه بُعد؛ إذ الماشي لا يزهو بمشيه

(1)

"الفتح" 14/ 150، كتاب "الاستئذان" رقم (6232).

ص: 478

غالبًا، وقيل: هو معلَّل بأن القاعد قد يقع له خوف من الماشي؛ فإذا بدأه بالسَّلام أَمِن ذلك، وهذأ أيضًا بعيد؛ إذ لا خصوصية للخوف بالقاعد، فقد يخاف الماشي من القاعد، وأشبه من هذا أن يقال: إن القاعد على حال وقار، وثبوت، وسكون، فله مزيَّة بذلك على الماشي؛ لأنَّ حاله على العكس من ذلك، وأما ابتداء القليل بالسَّلام على الكثير فمراعاة لشرفية جمع المسلمين، وأكثريتهم، وقد زاد البخاريّ في هذا الحديث:"ويسلِّم الصغير على الكبير"، وهذه المعاني التي تَكَلَّف العلماء إبرازها هي حِكَمٌ تُناسب المصالح المحسِّنة، والمكمِّلة، ولا نقول: إنها نُصِبت نَصْب العلل الواجبة الاعتبار، حتى لا يجوز أن يُعْدَل عنها، فنقول: إن ابتداء القاعد للماشي غير جائز، وكذلك ابتداء الماشي الراكب، بل يجوز ذلك؛ لأنَّه مُظهر للسَّلام، ومفشٍ له، كما أمر به النبيّ صلى الله عليه وسلم بقوله:"أفشوا السَّلام بينكم"، وبقوله:"إذا لقيت أخاك فسلِّم عليه".

وإذا تقرر هذا فكل واحد من الماشي والقاعد مأمور بأن يسلِّيم على أخيه إذا لقيه، غير أن مراعاة تلك المراتب أَولى. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(1)

، وهو حسنٌ جدًّا، والله أعلم.

(المسألة الرابعة): قال القرطبيّ رحمه الله أيضًا: ثم هذا السَّلام المأمور به، وهو أن يقول: السَّلام عليكم، أو: سلامٌ عليكم؛ إذ قد جاء اللفظان في الكتاب والسُّنَّة، والسلام في الأصل بمعنى السلامة؛ كاللَّذَاذِ واللَّذَاذة، كما قال تعالى:{فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91)} [الواقعة: 91]؛ أي: سلامةٌ لك مني، وأمان، والسَّلام أيضًا: اسم من أسماء الله تعالى، كما قال تعالى:{السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ} [الحشر: 23]، ومعناه في حق الله تعالى: أنه المنزَّه عن النقائص والآفات التي تجوز على خَلْقه، وعلى هذا فيكون معنى قول المسلم: السلام عليك؛ أي: الله مُطَّلع عليك، وناظر إليك، فكأنَّه يُذَكِّره باطلاع الله تعالى، ويُخَوِّفه به ليأمَنَ منه، ويُسلِّمُه من شرِّه، فإذا أُدخلت الألف واللام على المعنى الأول كان معناه السلامة كلها لك مني، وإذا أُدخلت على اسم الله تعالى كانت تفخيمًا وتعظيمًا؛ أي: الله العظيم السليم من النقائص، والآفات،

(1)

"المفهم" 5/ 483 - 484.

ص: 479

المسلِّم لمن استجار به من جميع المخلوقات، ويقال في السَّلام: سِلْمٌ -بكسر السين- قال الشاعر [من الطويل]:

وَقَفْنَا فقُلنا إيهِ سِلْمًا فسلَّمَت

كَمَا انْكَلَّ بالبَرْقِ الغَمَامُ اللَّوائِحُ

(1)

(المسألة الخامسة): لا ينبغي أن يقول المبتدئ: عليك السَّلام، لِنَهْي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فيما رواه النَّسائيّ، وأبو داود، من حديث جابر بن سُليم: قال: لقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: عليك السَّلام يا رسول الله! فقال: "عليك السلام تحية الميت، السلام عليكم ثلاثًا"؛ أي: هكذا فقل، وقوله:"عليك السَّلام تحيَّة الْمَيِّت"؛ يعني: أنه الأكثر في عادة الشعراء، كما قال [من الطويل]:

عَلَيْكَ سَلَامُ اللهِ قَيْسَ بْنَ عَاصِمٍ

وَرَحْمَتُه مَا شَاءَ أن يَتَرحَّمَا

لا أن ذلك اللفظ هو المشروع في حقّ الموتى؛ لأنَّه صلى الله عليه وسلم قد سلَّم على الموتى، كما سلَّم على الأحياء، فقال:"السَّلام عليكم دار قومٍ مؤمنين"، رواه مسلم، ويتأكد تقديم لفظ السَّلام إذا تنزّلنا على أن السَّلام اسم من أسماء الله تعالى، فإنَّ أسماءه تعالى أحقُّ بالتقديم. وأما الرادُّ: فالواجب عليه أن يردَّ ما سمعه، والمندوب أن يزيد إن بقَّى له المبتدئ ما يزيد، فلو انتهى المبتدئ بالسلام إلى غايته؛ التي هي: السَّلام عليك ورحمة الله وبركاته لم يزد الرادُّ على ذلك شيئًا؛ لأنَّ السلام انتهى إلى البركة

(2)

، كما قاله عبد الله بن عباس، وقد أنكر عبد الله بن عمر على من زاد على ذلك شيئًا.

وهذا كلُّه مستفادٌ من قوله تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء: 86]؛ أي: يحاسب على الأقوال كما يحاسب على الأفعال. انتهى

(3)

.

(المسألة السادسة): قال النوويّ رحمه الله: (اعلم): أن ابتداء السلام سُنَّة،

(1)

"المفهم" 5/ 484 - 485.

(2)

صحح الشيخ الألبانيّ رحمه الله زيادة: "ومغفرته". راجع: "السلسلة الصحيحة"(3/ 433).

(3)

"المفهم" 5/ 485 - 486.

ص: 480

وردّه واجب، فإن كان المسلِّم جماعة فهو سُنَّة كفاية في حقهم؛ إذا سلّم بعضهم حصلت سُنَّة السلام في حق جميعهم، فإن كان المسلَّم عليه واحدًا تعيَّن عليه الردّ، وإن كانوا جماعة كان الردّ فرض كفاية في حقهم، فإذا ردّ واحد منهم سقط الحرج عن الباقين، والأفضل أن يبتدئ الجميع بالسلام، وأن يردّ الجميع.

وعن أبي يوسف أنه لا بدّ أن يرد الجميع، ونقل ابن عبد البرّ وغيره إجماع المسلمين على أن ابتداء السلام سُنَّة، وأن ردّه فرض.

وقال في "الأذكار": (اعلم): أن ابتداء السلام سُنَّة مستحبة، ليس بواجب، وهو سُنَّة على الكفاية، فإن كان المسلِّم جماعة، كفى عنهم تسليم واحد منهم، ولو سلَّموا كلهم كان أفضل.

قال الإمام القاضي حسين من أئمة أصحابنا في "كتاب السِّيَر" من تعليقه: ليس لنا سُنَّة على الكفاية إلا هذا.

قال النوويّ: وهذا الذي قاله القاضي من الحصر يُنكَر عليه، فإن أصحابنا رحمهم الله قالوا: تشميت العاطس سُنَّة على الكفاية.

قال الجامع عفا الله عنه: كون تشميت العاطس سُنَّة غير صحيح من الدليل؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قال: "فعلى كلّ من سمعه أن يشمّته"، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم:"إن الله يحب العطاس، ويكره التثاؤب، فإذا عطس فحمد الله، فحقّ على كل مسلم سمعه أن يشمّته".

فقوله صلى الله عليه وسلم: "حقّ على كلّ أحد

إلخ" ظاهر في الوجوب لا يقبل التأويل، فتأملّ، والله تعالى أعلم.

قال: وقال جماعة من أصحابنا بل كلهم: الأضحية سُنَّة على الكفاية في حق كل أهل بيت، فإذا ضحّى واحد منهم حصل الشِّعار والسُّنَّة لجميعهم.

وأما ردّ السلام، فإن كان المسلَّم عليه واحدًا تعيَّن عليه الردّ، وإن كانوا جماعة، كان ردّ السلام فرض كفاية عليهم، فإن ردّ واحد منهم سقط الحرج عن الباقين، وإن تركوه كلهم، أثموا كلهم، وإن ردّوا كلهم، فهو النهاية في الكمال والفضيلة، كذا قاله أصحابنا، وهو ظاهر حسن.

ص: 481

واتفق أصحابنا على أنه لو ردّ غيرهم، لم يسقط الرد، بل يجب عليهم أن يردّوا، فإن اقتصروا على ردّ ذلك الأجنبي أثموا.

وفي "سنن أبي داود" عن علي رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"يجزئ عن الجماعة إذا مَرّوا أن يسلّم أحدهم، ويجزئ عن الجلوس أن يردّ أحدهم"

(1)

.

وفي "الموطأ" عن زيد بن أسلم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا سلّم واحد من القوم أجزأ عنهم"، وهذا مرسل صحيح الإسناد، قاله النوويّ رحمه الله

(2)

.

[تنبيه]: من السنّة أن يكرّر السلام ثلاثًا إذا لم يُسمع، ففي "الصحيحين" عن أنس رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم:"أنه كان إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثًا، حتى تُفْهَم عنه، وإذا أتى على قوم، فسلّم عليهم سلَّم عليهم ثلاثًا"، قال النوويّ رحمه الله: وهذا الحديث محمول على ما إذا كان الجمع كثيرًا. انتهى

(3)

.

قال الجامع عفا الله عنه: عندي أن ظاهر الحديث يدلّ على استحباب التكرار؛ إذا لم يُسمع، ولو كان المسلَّم عليه واحدًا، والله تعالى أعلم.

(المسألة السابعة): أقلّ السلام أن يقول: "السلام عليكم"، فإن كان المسلَّم عليه واحدًا، فأقلّه:"السلام عليك"، والأفضل أن يقول:"السلام عليكم"؛ ليتناوله ومَلَكيه، وأكمل منه أن يزيد:"ورحمة الله"، وأيضًا:"وبركاته"، ولو قال: سلامٌ عليكم أجزأه.

واستدل العلماء لزيادة: "ورحمة الله، وبركاته" بقوله تعالى إخبارًا عن سلام الملائكة بعد ذِكر السلام: {رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ} [هود: 73]، وبقول المسلمين كلهم في التشهد:"السلام عليك أيها النبيّ ورحمة الله وبركاته".

وقال في "الأذكار": (اعلم): أن الأفضل أن يقول المسلم: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فيأتي بضمير الجمع، وإن كان المسلَّم عليه واحدًا، ويقول المجيب: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، ويأتي بواو العطف في قوله:"وعليكم".

(1)

حديث حسن.

(2)

"الأذكار" ص 210 - 211.

(3)

"الأذكار" ص 210.

ص: 482

قال: ودليله ما رويناه في مسند الدارميّ، وسنن أبي داود، والترمذيّ عن عمران بن الحصين رضي الله عنهما قال:"جاء رجل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: السلام عليكم، فردّ عليه، ثم جلس، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: عشر، ثم جاء آخر، فقال: السلام عليكم ورحمة الله، فردّ عليه، ثم جلس، فقال: عشرون، ثم جاء آخر، فقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فردّ عليه، فجلس، فقال: ثلاثون"، قال الترمذي: حديث حسن.

وفي رواية لأبي داود، من رواية معاذ بن أنس رضي الله عنه، زيادة على هذا، قال:"ثم أتى آخر فقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ومغفرته، فقال: أربعون، وقال: هكذا تكون الفضائل".

قال: وروينا في "كتاب ابن السنيّ"، بإسناد ضعيف عن أنس رضي الله عنه قال:"كان رجل يمرّ بالنبيّ صلى الله عليه وسلم يرعى دواب أصحابه، فيقول: السلام عليك يا رسول الله، فيقول له النبيّ صلى الله عليه وسلم وعليك السلام ورحمة الله وبركاته ومغفرته ورضوانه، فقيل: يا رسول الله: تسلِّم على هذا سلامًا ما تسلّمه على أحد من أصحابك؟ قال: وما يمنعني من ذلك وهو ينصرف بأجر بضعة عشر رجلًا؟ "

(1)

.

ويكره أن يقول المبتدي: عليكم السلام، فإن قاله استحقّ الجواب على الصحيح المشهور، وقيل: لا يستحقه، وقد صحّ أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"لا تقل: عليك السلام، فإن عليك السلام تحية الموتى"، والله أعلم.

وأما صفة الرد فالأفضل، والأكمل أن يقول:"وعليكم السلام، ورحمة الله، وبركاته" فيأتي بالواو، فلو حَذَفها جاز، وكان تاركًا للأفضل، ولو اقتصر على "وعليكم السلام"، أو على "عليكم السلام" أجزأه، ولو اقتصر على "عليكم" لم يُجْزه بلا خلاف، ولو قال:"وعليكم" بالواو ففي إجزائه وجهان للشافعيّة.

قالوا: وإذا قال المبتدي: سلام عليكم، أو السلام عليكم، فقال المجيب مثله: سلام عليك، أو السلام عليكم، كان جوابًا، وأجزأه، قال الله تعالى:{قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ} [هود: 69]، ولكن بالألف واللام أفضل.

(1)

"الأذكار النوويّة" ص 208 - 209.

ص: 483

وأقل السلام ابتداءً وردًّا أن يُسمع صاحبه، ولا يجزئه دون ذلك، ويشترط كون الردّ على الفور، ولو أتاه سلام من غائب مع رسول، أو في ورقة وجب الردّ على الفور.

قال: وهذا الذي جاء به الحديث من تسليم الراكب على الماشي، والقائم على القاعد، والقليل على الكثير، وفي كتاب البخاريّ: والصغير على الكبير كله للاستحباب، فلو عكسوا جاز، وكان خلاف الأفضل.

وأما معنى السلام: فقيل: هو اسم الله تعالى، فقوله: السلام عليك؛ أي: اسم السلام عليك، ومعناه: اسم الله عليك؛ أي: أنت في حفظه، كما يقال: الله معك، والله يصحبك، وقيل: السلام بمعنى السلامة؛ أي: السلامة ملازمةٌ لك. انتهى كلام النوويّ رحمه الله

(1)

، وهو بحثٌ جيّد مفيدٌ، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثامنة): قال في "الفتح": واتفقوا على أن مَن سَلَّم لم يجزئ في جوابه إلا السلام، ولا يجزئ في جوابه: صُبِّحْتَ بالخير، أو بالسعادة، ونحو ذلك، واختُلِف فيمن أتى في التحية بغير لفظ السلام، هل يجب جوابه أم لا؟ وأقلّ ما يحصل به وجوب الردّ أن يُسْمِع المبتدئ، وحينئذ يستحقّ الجواب، ولا يكفي الرد بالإشارة، بل ورد الزجر عنه، وذلك فيما أخرجه الترمذيّ من طريق عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدّه، رفعه:"لا تشبَّهوا باليهود والنصارى، فإن تسليم اليهود الإشارة بالإصبع، وتسليم النصارى بالأكفّ"، قال الترمذيّ: غريب، قال الحافظ: وفي سنده ضعف، لكن أخرج النسائيّ بسند جيِّد، عن جابر رضي الله عنه، رفعه:"لا تسلّموا تسليم اليهود، فإن تسليمهم بالرؤوس والأكفّ والإشارة".

قال النوويّ رحمه الله: لا يَرِد على هذا حديثُ أسماء بنت يزيد: "مَرّ النبيّ صلى الله عليه وسلم في المسجد، وعُصبة من النساء قُعود، فألوى بيده بالتسليم"، فإنه محمول على أنه جمع بين اللفظ والإشارة، وقد أخرجه أبو داود من حديثها بلفظ:"فسلَّم علينا". انتهى

(2)

.

(1)

"شرح النوويّ" 14/ 140 - 141.

(2)

"الأذكار" للنوويّ ص 210.

ص: 484

والنهي عن السلام بالإشارة مخصوص بمن قَدَر على اللفظ حِسًّا وشرعًا، وإلا فهي مشروعة لمن يكون في شغل يمنعه من التلفظ بجواب السلام؛ كالمصلي، والبعيد، والأخرس، وكذا السلام على الأصمّ.

ولو أتى بالسلام بغير اللفظ العربيّ، هل يستحق الجواب؟ فيه ثلاثة أقوال للعلماء، ثالثها: يجب لمن يُحسن بالعربية، وقال ابن دقيق العيد: الذي يظهر أن التحية بغير لفظ السلام من باب ترك المستحبّ، وليس بمكروه، إلا إن قصد به العدول عن السلام إلى ما هو أظهر في التعظيم، من أجل أكابر أهل الدنيا. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: جواز السلام بغير اللفظ العربيّ لمن يحسن العربيّة محلّ نظر؛ لأن اللفظ العربيّ متعبَّد به في ألفاظ الأذكار، والأذان، ونحوها، فلا يُعدل عنه، فليُتنبّه، والله تعالى أعلم.

(المسألة التاسعة): يجب الردّ على الفور، فلو أخّر، ثم استدرك فردّ لم يُعَدّ جوابًا، وكان آثمًا بترك الردّ

(2)

، قاله القاضي حسين، وجماعة، وكأن محله إذا لم يكن عذر.

ويجب أيضًا ردّ جواب السلام في الكتاب، ومع الرسول، ولو سلم الصبيّ على بالغ وجب عليه الردّ، ولو سلَّم على جماعة فيهم صبيّ، فأجاب أجزأ عنهم في وجه، قاله في "الفتح"

(3)

، والله تعالى أعلم.

(المسألة العاشرة): قال النوويّ رحمه الله في "الأذكار": وأقل السَّلام الذي يصير به مؤذّيًا سنّة السلام أن يرفع صوته بحيث يُسمع المسلَّم عليه، فإن لم يُسْمعه لم يكن آتيًا بالسلام، فلا يجب الردّ عليه، وأقل ما يسقط به فرضُ ردّ السلام أن يرفع صوتَه بحيث يسمعه المسلِّم، فإن لم يسمعه لم يسقط عنه فرض الردّ، ذكرهما المتولي وغيره.

قال النوويّ رحمه الله: والمستحبّ أن يرفع صوته رفعًا يسمعه به المسلَّم

(1)

"الفتح" 14/ 144 - 146، كتاب "الاستئذان" رقم (6230).

(2)

راجع: "الأذكار" للنوويّ ص 210.

(3)

"الفتح" 14/ 144 - 146، كتاب "الاستئذان" رقم (6230).

ص: 485

عليه، أو عليهم سماعًا محققًا، وإذا تشكك في أنه يُسمعهم زاد في رفعه، واحتاط واستظهر، أما إذا سلَّم على أيقاظ عندهم نيام، فالسنّة أن يخفضَ صوتَه بحيث يَحصل سماعُ الأيقاظ، ولا يستيقظ النيام.

ففي "صحيح مسلم"، في حديث المقداد رضي الله عنه الطويل، قال: كنّا نرفع للنبيّ صلى الله عليه وسلم نَصيبه من اللبن، فيجيء من الليل فيسلّم تسليمًا لا يُوقظ نائمًا، ويُسمِع اليقظانَ، وجعل لا يجيئني النوم، وأما صاحباي فناما، فجاء النبيّ صلى الله عليه وسلم، فسلَّم كما كان يُسلِّم، والله أعلم

(1)

.

(المسألة الحادية عشرة): وَرَدَ في فضل السلام، وإفشائه أحاديث كثيرة، فمنها: ما أخرجه الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"خَلَقَ اللهُ عز وجل آدَمَ على صُورَتِهِ طُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا، فَلَمَّا خَلَقَهُ قال: اذْهَبْ فَسَلِّمْ على أُولَئِكَ، نَفَرٍ مِنَ المَلائِكَةِ جُلُوسٍ، فاسْتَمِعْ ما يُحَيُّونَكَ، فإنَّهَا تَحِيَّتُكَ وَتَحِيَّةُ ذُرّيَّتِكَ، فقال: السَّلامُ عَلَيْكُمْ، فَقالُوا: السَّلامُ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللهُ، فَزَادُوهُ: وَرَحْمَةُ اللهِ".

وأخرجا أيضًا عن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: أمرنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بسبع: بعيادةِ المريض، واتِّباعِ الجنائز، وتشميتِ العاطسِ، ونصرِ الضعيفِ، وعوْنِ المظلومِ، وإفشاءِ السَّلامِ، وإبرارِ القَسَم. هذا لفظ إحدى روايات البخاريّ.

وأخرج مسلم، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تَدْخُلُوا الجَنَّةَ حتَّى تُؤْمِنُوا، وَلا تُؤْمِنُوا حتَّى تحابُّوا، أوْلا أدُلُّكُمْ على شَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحابَبْتُمْ؟ أفْشُوا السَّلامَ بَيْنَكُمْ".

وأخرج الدارميّ، والترمذيّ، وابن ماجه، وغيرهم بالأسانيد الجيدة، عن عبد الله بن سلام رضي الله عنه قال: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يا أيُّهَا النَّاسُ أفْشُوا السَّلامَ، وأطْعِمُوا الطَّعامَ، وَصِلُوا الأرْحامَ، وَصَلُّوا وَالنَّاسُ نِيامٌ، تَدْخُلُوا الجَنَّةَ بِسَلامٍ"، قال الترمذيّ: حديث صحيح، وقال الحافظ: حديث حسن.

وأخرج ابن ماجه، وابن السنيّ بإسناد جيّد، عن أبي أُمامةَ رضي الله عنه قال: أمَرَنَا نبيُّنا صلى الله عليه وسلم أن نُفشيَ السَّلامَ.

(1)

"الأذْكَارُ النَّوَويَّة" للإِمام النَّوَويّ 1/ 312.

ص: 486

وفي "موطأ الإِمام مالك" رضي الله عنه، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، أن الطُّفيلَ بن أُبيّ بن كعب أخبرَه، أنه كان يأتي عبدَ الله بن عمر، فيغدو معه إلى السوق، قال: فإذَا غدوْنا إلى السوق لم يمرّ بنا عبدُ الله على سَقَّاطٍ، ولا صاحب بَيْعَةٍ، ولا مِسكين، ولا أحدٍ إلَّا سلَّم عليه؛ قال الطُّفيلُ: فجئتُ عبدَ اللهَ بن عمر يومًا، فاستتبعني إلى السوق، فقلتُ له: ما تصنعُ بالسوق، وأنتَ لا تقفُ على البيْع، ولا تسألُ عن السِّلعِ، ولا تسومُ، ولا تجلسُ في مجالس السوق؟ قال: وأَقولُ: اجلسْ بنا ها هنا نتحدّثْ، فقال لي ابن عمر: يا أبا بطن -وكان الطفيلُ ذا بطن- إنما نغدو من أجل السلام، نُسَلِّم على مَن لقيناه

(1)

.

وقال البخاريّ في "صحيحه": وقال عمّار رضي الله عنه: ثلاثٌ من جَمعهنّ، فقد جمعَ الإِيمانَ؛ الإِنصافُ من نفسك، وبذلُ السَّلام للعالم، والإِنفاقُ من الإِقتار، وهو موقوف صحيحٌ، وروي مرفوعًا، لكنه ضعيف.

قال النوويّ رحمه الله: قد جمعَ في هذه الكلمات الثلاث خيراتِ الآخرة والدنيا، فإنَّ الإِنصافَ يقتضي أن يؤدّي إلى الله تعالى جميع حقوقه، وما أَمَره به، ويجتنب جميع ما نهاه عنه، وأن يؤدّي إلى الناس حقوقهم، ولا يطلب ما ليس له، وأن يُنصف أيضًا نفسه، فلا يوقعها في قبيح أصلًا.

وأما بذلُ السلام للعالِم فمعناه لجميع الناس، فيتضمن أن لا يتكبر على أحد، وأن لا يكون بينه وبين أحد جفاء يمتنع من السلام عليه بسببه.

وأما الإِنفاق من الإقتار فيقتضي كمال الوثوق بالله تعالى، والتوكل عليه، والشفقة على المسلمين، إلى غير ذلك، نسأل الله تعالى الكريم التوفيق لجميعه. انتهى

(2)

، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثانية عشرة): قال النوويّ: قال الإمام أبو سعد المتولي وغيره: إذا نادى إنسان إنسانًا من خلف سِتْر، أو حائط، فقال: السلام عليك يا فلان، أو كتب كتابًا فيه: السلام عليك يا فلان، أو السلام على فلان، أو

(1)

قال الحافظ: موقوف صحيح.

(2)

"الأذْكَارُ النَّوَويَّة" للإِمام النَّوَويّ 1/ 310.

ص: 487

أرسل رسولًا، وقال: سلِّم على فلان، فبَلَغه الكتاب أو الرسول، وجب عليه أن يردّ السلام، وكذا ذكر الواحديّ، وغيره أيضًا: إنه يجب على المكتوب إليه ردّ السلام إذا بَلَغه السلام.

وفي "الصحيحين" عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هذا جبريل يقرأ عليك السلام" قالت: قلت: وعليه السلام ورحمة الله وبركاته، هكذا وقع في بعض روايات "الصحيحين""وبركاته"، ولم يقع في بعضها، وزيادة الثقة مقبولة.

ووقع في كتاب الترمذيّ: "وبركاته"، وقال: حديث حسن صحيح، ويستحب أن يرسل بالسلام إلى من غاب عنه. انتهى

(1)

، وهو بحث مفيد، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة عشرة): قال النوويّ رحمه الله

(2)

: إذا سلَّم عليه إنسان، ثم لقيه على قرب، يُسَنُّ له أن يسلِّم عليه ثانيًا وثالثًا، وأكثر، قال النوويّ: اتفق عليه أصحابنا، ويدل عليه في "الصحيحين" عن أبي هريرة رضي الله عنه في حديث المسيء صلاته:"إنه جاء فصلى، ثم جاء إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فسلَّم عليه، فردَّ عليه السلام، وقال: ارجع، فصل، فإنك لم تصلِّ، فرجع، فصلى، ثم جاء، فسلَّم على النبيّ صلى الله عليه وسلم " حتى فعل ذلك ثلاث مرات.

وفي "سنن أبي داود" عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إذا لَقِي أحدكم أخاه فليسلِّم عليه، فإن حالت بينهما شجرة، أو جدار، أو حجر، ثم لقيه، فليسلِّم عليه"

(3)

.

وفي "كتاب ابن السنيّ" عن أنس رضي الله عنه قال: "كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتماشون، فإذا استقبلتهم شجرة، أو أكمة، فتفرقوا يمينًا وشمالًا، ثم التقوا من ورائها، سلَّم بعضهم على بعض"

(4)

، والله تعالى أعلم.

(المسألة الرابعة عشرة): السُّنَّة أن يبدأ المسلم بالسلام قبل كل كلام، والأحاديث الصحيحة، وعمل سلف الأمة وخلفها على وفق ذلك مشهورة، فهذا هو المعتمَد.

(1)

"الأذكار" ص 212.

(2)

"الأذكار" ص 213.

(3)

حديث صحيح.

(4)

حديث حسن.

ص: 488

وأما الحديث الذي رواه الترمذيّ عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "السلام قبل الكلام " فهو حديث ضعيف، قال الترمذي: هذا حديث منكر، قاله النوويّ

(1)

.

(المسألة الخامسة عشرة): الابتداء بالسلام أفضل؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "وخيرهما الذي يبدأ بالسلام"، فينبغي لكل واحد من المتلاقين أن يَحْرِص على أن يبتدئ بالسلام.

وأخرج أبو داود بإسناد جيد، عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أولى الناس بالله من بدأهم بالسلام"، وفي رواية الترمذيّ عن أبي أمامة: قيل: يا رسول الله، الرجلان يلتقيان؛ أيهما يبدأ بالسلام؟ قال:"أَولاهما بالله تعالى"، قال الترمذيّ: حديث حسن.

(المسألة السادسة عشرة): يشمل مشروعيّة السلام السلامَ على الأحياء والأموات، فأما السلام على الأحياء، فقد ذكرنا صيغه، وأما السلام على الأموات، فقد جاءت فيه صيغ كثيرة.

فقد أخرج مسلم في "صحيحه" عن عائشة رضي الله عنهما، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كلما كان ليلتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج من آخر الليل إلى البقيع فيقول: "السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وأتاكم ما توعدون، غدًا مؤجلون، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد".

وأخرج أيضًا عن عائشة رضي الله عنها، أنها قالت: كيف أقول يا رسول الله؟ -تعني في زبارة القبور- قال: "قولي: السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، ويرحم الله المستقدمين منكم ومنا والمستأخرين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون".

وأخرج أيضًا، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى المقبرة، فقال:"السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون".

وأخرج الترمذيّ، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: مَرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بقبور

(1)

"الأذكار" ص 214.

ص: 489

المدينة، فأقبل عليهم بوجهه، فقال:"السلام عليكم يا أهل القبور، يغفر الله لنا ولكم، أنتم سلفنا ونحن بالأثر"، قال الترمذيّ: حديث حسن.

وفي "صحيح مسلم" عن بريدة رضي الله عنه، قال: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يعلِّمهم إذا خرجوا إلى المقابر أن يقول قائلهم: "السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم للاحقون، أسأل الله لنا ولكم العافية".

وأخرجه النسائيّ، وابن ماجه هكذا، وزاد بعد قوله:"للاحقون": "أنتم لنا فرط، ونحن لكم تبع".

وأخرج ابن السنيّ، عن عائشة رضي الله عنهما، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أتى البقيع، فقال:"السلام عليكم دار قوم مؤمنين، أنتم لنا فرط، وإنا بكم لاحقون، اللهم لا تحرمنا أجرهم، ولا تضلّنا بعدهم"

(1)

، حديث حسن، والله تعالى أعلم.

(المسألة السابعة عشرة): قال النوويّ رحمه الله: من الأحوال التي يُكره فيها السلام أن يكون المسلم عليه مشتغلًا بالبول، أو الجماع، أو نحوهما، فيكره أن يسلَّم عليه، ولو سُلِّم لا يستحق جوابًا، ومن ذلك من كان نائمًا أو ناعسًا، ومن ذلك من كان مصليًا، أو مؤذنًا في حال أذانه، أو إقامته للصلاة، أو كان في حمام، أو نحو ذلك من الأمور التي لا يُؤثَر السلام عليه فيها، ومن ذلك إذا كان يأكل، واللقمة في فمه، فإن سلَّم عليه في هذه الأحوال لم يستحق جوابًا، أما إذا كان على الأكل، وليست اللقمة في فمه، فلا بأس بالسلام، ويجب الجواب، وكذلك في حال المبايعة، وسائر المعاملات يسلِّم، ويجب الجواب.

قال الجامع عفا الله عنه: يدلّ لكراهة السلام في حال البول، ونحوه ما أخرجه ابن ماجه، وغيره عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رجلًا مَرّ على النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو يبول، فسلَّم عليه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إذا رأيتني على مثل هذه الحالة فلا تسلم عليّ، فإنك إن فعلت ذلك لم أردَّ عليك"، وهو حديث صحيح

(2)

.

(1)

"الأذكار" ص 143.

(2)

راجع: "السلسلة الصحيحة" للشيخ الألبانيّ رحمه الله 1/ 380.

ص: 490

قال: وأما السلام في حال خطبة الجمعة، فقال أصحابنا -الشافعية-: يُكره الابتداء به؛ لأنهم مأمورون بالإنصات للخطبة، فإن خالف وسلَّم، فهل يُرَدّ عليه؟ فيه خلاف لأصحابنا، منهم من قال: لا يرد عليه؛ لتقصيره، ومنهم من قال: إن قلنا: إن الإنصات واجب لا يردّ عليه؛ وإن قلنا: إن الإنصات سُنَّة رَدَّ عليه واحد من الحاضرين، ولا يرد عليه أكثر من واحد على كل وجه.

قال: وأما السلام على المشتغل بقراءة القرآن، فقال الإمام أبو الحسن الواحديّ: الأولى ترك السلام عليه؛ لاشتغاله بالتلاوة، فإن سلم عليه كفاه الرد بالإشارة، وإن ردّ باللفظ استأنف الاستعاذة، ثم عاد إلى التلاوة، قال النوويّ: هذا كلام الواحديّ، وفيه نظر، والظاهر أن يسلم عليه، ويجب الرد باللفظ. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: قد أجاد النوويّ في تعقّبه على الواحديّ، فتنبّه.

قال: أما إذا كان مشتغلًا بالدعاء مستغرقًا فيه، مُجْمِع القلب عليه، فيَحْتَمِل أن يقال: هو كالمشتغل بالقراءة على ما ذكرناه، والأظهر عندي في هذا أنه يكره السلام عليه؛ لأنه يتنكد به، ويشقّ عليه أكثر من مشقة الأكل. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي قاله النوويّ عجيب منه، فأين دليل الكراهة؟ بل هو مأمور بالردّ عليه كسائر الناس غير المستثنى؛ كمن يبول، ونحوه، فتبصّر، ولا تكن أسير التقليد، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

قال: وأما الملبِّي في الإحرام فيكره أن يُسَلَّم عليه؛ لأنه يُكره له قطع التلبية، فإن سُلِّم عليه ردَّ السلام باللفظ، نصّ عليه الشافعيّ وأصحابنا رحمهم الله.

قال الجامع عفا الله عنه: القول بكراهة السلام على الملبي مما لا دليل عليه، فتبصّر، وبالله تعالى التوفيق.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

ص: 491

(2) - (بَابٌ مِنْ حَقِّ الْجُلُوسِ عَلَى الطَّرِيقِ رَدُّ السَّلَامِ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5653]

(2161) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زِيادٍ، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ حَكِيمٍ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ أَبُو طَلْحَةَ: كُنَّا قُعُودًا بِالأَفْنِيَةِ نَتَحَدَّثُ، فَجَاءَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَامَ عَلَيْنَا، فَقَالَ: "مَا لَكُمْ وَلِمَجَالِسِ الصُّعُدَاتِ؟ اجْتَنِبُوا مَجَالِسَ الصُّعُدَاتِ"، فَقُلْنَا: إِنَّمَا قَعَدْنَا لِغَيْرِ مَا بَأْسٍ، قَعَدْنَا نَتَذَاكَرُ، وَنتَحَدَّثُ، قَالَ: "إِمَّا لَا فَأَدُّوا حَقَّهَا: غَضُّ الْبَصَرِ، وَرَدُّ السَّلَامِ، وَحُسْنُ الْكَلَامِ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(عَفَّانُ) بن مسلم بن عبد الله الباهليّ، أبو عثمان الصفّار البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ، وربّما وَهِمَ، من كبار [10](ت 220)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 44.

2 -

(عُثْمَانُ بْنُ حَكِيمِ) بن عبّاد بن حُنيف الأنصاريّ الأوسيّ، أبو سهل المدنيّ، ثم الكوفيّ، ثقةٌ [5] مات قبل الأربعين ومائة (خت م 4) تقدم في "الطهارة" 11/ 584.

3 -

(إِسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ) الأنصاريّ، أبو يحيى المدنيّ، ثقةٌ حجةٌ [4](ت 132) أو بعدها (ع) تقدم في "الطهارة" 30/ 667.

4 -

(أَبُوه) عبد الله بن أبي طلحة الأنصاريّ المدنيّ، وُلد على عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم، ووثّقه ابن سعد، ومات سنة (84) بالمدينة، وقيل: استُشهد بفارس (م س) تقدم في "الجهاد والسِّير" 24/ 4593.

5 -

(أَبُو طَلْحَةَ) زيد بن سهل بن الأسود بن حرام الأنصاريّ النجّاريّ، مشهور بكنيته، من كبار الصحابة، شَهِدَ بدرًا، وما بعدها، ومات سنة (34) وقيل غير ذلك (ع) تقدم في "الحيض" 7/ 720.

والباقيان ذُكرا قبل باب.

ص: 492

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من سباعيّات المصنّف رحمه الله، وفيه ثلاثة من التابعين روى بعضهم عن بعض، وفيه رواية الراوي عن أبيه، عن جدّه.

شرح الحديث:

(عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ أَبِيهِ) عبد الله بن أبي طلحة، أنه (قَالَ: قَالَ أَبُو طَلْحَةَ) زيد بن سهل رضي الله عنه، (كُنَّا قُعُودًا) بالضمّ جمع قاعد، كراكع ورُكوع، وساجد وسجود، (بِالأَفْنِيَةِ) جمع فِنَاء، قال النوويّ رحمه الله: بكسر الفاء، والمدّ، وهو حريم الدار، ونحوها، وما كان في جوانبها، وقريبًا منها. انتهى

(1)

، وقال الفيّومي رحمه الله:"الفناء" بالكسر، مثلُ كِتَاب: الْوَصِيدُ، وهو سعةٌ أَمامَ البيتِ، وقيل: ما امتدّ من جوانبه. انتهى

(2)

. (نَتَحَدَّثُ) جملة حاليّة من اسم "كان"، (فَجَاءَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَامَ عَلَيْنَا، فَقَالَ: "مَا لَكُمْ وَلِمَجَالِسِ الصُّعُدَاتِ؟) بضم الصاد، والعين المهملتين، وهي الطرقات، واحدها صَعِيد، كطَرِيق، يقال: سعيد، وصُعُدٌ، وصِعْدان، كطَرِيق، وطُرُق، وطُرُقات، على وزنه ومعناه، وقد صَرَّح به في الرواية الثانية، قاله النوويّ رحمه الله

(3)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: الصُّعدات: جمع صعيد، وهو الطريق مطلقًا، وقيل: الطريق الذي لا نبات فيه؛ مأخوذ من الصعيد، وهو: التراب على قول الفرَّاء، أو وجه الأرض على قول ثعلب، ويُجمع: صُعُدًا، وصعدات، كطُرُق وطرقات، وقد جاء الصعيد في الرواية الأخرى مفسَّرًا بالطريق. انتهى

(4)

.

(اجْتَنِبُوا مَجَالِسَ الصُّعُدَاتِ)؛ أي: ابتعدوا عن الجلوس فيها، (فَقُلْنَا: إِنَّمَا قَعَدْنَا لِغَيْرِ مَا بَأْسٍ) "ما" زائدة؛ أي: لغير بأس؛ أي: شدّة.

قال في "التاج": البَأْس: العَذابُ الشديد؛ كالبَئِس، كَكَتِف، وعن ابْن الأَعْرابِيّ: البَأْس: الشِّدَّةُ في الحرب، ومنه الحديث:"كُنّا إذا اشتدَّ البَأْسُ اتَّقَيْنا برسولِ الله صلى الله عليه وسلم " يريدُ الخَوف، ولا يكونُ إلَّا مع الشِّدَّة، وقال ابنُ سِيدَه:

(1)

"شرح النوويّ" 14/ 141.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 482.

(3)

"شرح النوويّ" 14/ 142.

(4)

"المفهم" 5/ 486.

ص: 493

البَأْس: الحَرب، ثم كَثُرَ، حتى قيل: لا بَأْسَ عليك؛ أي: لا خَوْفَ، قال قَيْسُ ابنُ الخَطِيم [من الطويل]:

يقولُ لي الحَدّادُ وَهْوَ يَقودُني

إِلَى السِّجْنِ لا تَجْزَعْ فما بكَ من باسِ

أراد: فما بك من بَأْسِ فخَفَّفَ. انتهى

(1)

.

والمراد هنا: الأمر المكروه؛ أي: جلسنا لغير أمر مكروه، بل هو مطلوب؛ لكونه من مصالحنا العامّة، حيث نجتمع، ونتحدّث في الأمور الجارية بين مجتمعنا؛ إذ لا يمكن ذلك إلا في مثل هذا الموضع، وهي الصُّعُدات؛ لكونه مشتركًا بين الجميع، والله تعالى أعلم.

(قَعَدْنَا نَتَذَاكَرُ)؛ أي: نتذاكر العلم والدين، (وَنَتَحَدَّثُ) بالمصالح، والخير. (قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("إِمَّا لَا فَأَدُّوا حَقَّهَا) قال النوويّ رحمه الله:"إمّا لا" بكسر الهمزة، وبالإمالة، ومعناه: إن لم تتركوها، فأدوا حقها.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "إمَّا لا" هي: "إن" الشرطية المكسورة زيدت عليها "ما" تأكيدًا للنَّفي، و"لا" عبارة عن الامتناع، والإباية، فكأنَّه قال: إن كان، ولا بُدَّ من إبايتكم، ولا غنى لكم عن قعودكم فيها؛ فأعطوا الطريق حقَّها

(2)

.

ثمّ بينّ صلى الله عليه وسلم لهم حقّ الطريق، فقال:(غَضُّ الْبَصَرِ) عما لا يحلّ النظر إليه، (وَرَدُّ السَّلَامِ) على كلّ من سلّم رجالًا، أو نساءً (وَحُسْنُ الْكَلَامِ")؛ أي: تكليم الناس بالكلام الحسن، قال النوويّ رحمه الله: يدخل فيه حُسن كلامهم في حديثهم بعضهم لبعض، فلا يكون فيه غيبة، ولا نميمةٌ ولا كذب، ولا كلام ينقص المروءة، ونحو ذلك من الكلام المذموم، ويدخل فيه كلامهم للمارّ، مِن ردّ السلام، ولُطف جوابهم له، وهدايته للطريق، وإرشاده لمصلحتهم، ونحو ذلك. انتهى

(3)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "وحسن الكلام": يريد أن من جلس على الطريق، فقد تعرَّض لكلام الناس، فليحسِّن لهم كلامه، ويصلح شأنه. انتهى.

(1)

" تاج العروس" 1/ 3849.

(2)

"المفهم" 5/ 487.

(3)

"شرح النوويّ" 14/ 142 - 143.

ص: 494

وقال النوويّ رحمه الله: المقصود منه أنه يُكره الجلوس على الطرقات للحديث ونحوه، وقد أشار النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى علة النهي، من التعرض للفتن، والإثم بمرور النساء، وغيرهنّ، وقد يمتد النظر إليهنّ، أو الفكر فيهنّ، أو ظنّ السوء فيهنّ، أو في غيرهنّ من المارّين، ومِن أذى الناس باحتقار مَن يمر، أو غيبة، أو غيرها، أو إهمال ردّ السلام في بعض الأوقات، أو إهمال الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ونحو ذلك من الأسباب التي لو خلا في بيته سَلِم منها، ويدخل في الأذى أن يضيّق الطريق على المارين، أو يمتنع النساءُ ونحوهنّ من الخروج في أشغالهنّ بسبب قعود القاعدين في الطريق، أو يجلس بقرب باب دار إنسان يتأذى بذلك، أو حيث يَكشف من أحوال الناس شيئًا يكرهونه. انتهى

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: هذا الحديث إنكارٌ للجلوس على الطرقات، وزجرٌ عنه، لكن محمله على ما إذا لم ترُهق إلى ذلك حاجة، كما قالوا: ما لنا من ذلك بُدٌّ؛ نتحدَّث فيها، لكن العلماء فَهِموا أن ذلك المنع ليس على جهة التحريم، وإنَّما هو من باب سدِّ الذرائع، والإرشاد إلى الأصلح، ولذلك قالوا: إنما قعدنا لغير ما بأس، قعدنا نتذاكر ونتحدَّث؛ أي: نتذاكر العلم والدين، ونتحدَّث بالمصالح والخير، ولمّا علم النبيّ صلى الله عليه وسلم منهم ذلك، وتحقَّق حاجتهم إليه؛ أباح لهم ذلك، ثم نبَّههم على ما يتعيَّن عليهم في مجالسهم تلك من الأحكام، فقال:"إما لا فأدّوا حقها"، فكأنَّه قال: إن كان ولا بُدَّ من إبايتكم، ولا غنى لكم عن قعودكم فيها؛ فأعطوا الطريق حقَّها، فلمَّا سمعوا لفظ الحقّ- وهو مجمَل- سألوا عن تفصيله، ففضَله لهم- كما سبق في حديث أبي سعيد رضي الله عنه بقوله:"غضُّ البصر، وكفُّ الأذى، وردُّ السَّلام، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر"، وهذه الحقوق كلها واجبة على من قعد على طريق، ولمّا كان القعود على الطريق يُفضي إلى أن يتعلق بها هذه الحقوق، ولعلَّه لا يقوم ببعضها فيتعرَّض لذمِّ الله تعالى ولعقوبته كره القعود فيها، وغلَّظ بالزجر المتقدِّم، والإنكار، فإنْ دعت إلى ذلك حاجة؛ كالاجتماع في مصالح

(1)

"شرح النوويّ" 14/ 142.

ص: 495

الجيران، وقضاء حوائجهم، وتفقد أمورهم، إلى غير ذلك، قعد على قدر حاجتهم، فإنْ عرض له شيء من تلك الحقوق وجب القيام به عليه.

و"كف الأذى"؛ يعني به: أن لا يؤذي بجلوسه أحدًا من جلسائه بإقامته من مجلسه، ولا بالقعود فوقه، ولا بالتضييق عليه، ولا يجلس قبالة دار جاره، فيتأذى بذلك، وقد يكون كفُّ الأذى بأن يكف بعضهم عن بعض، إلا أن هذا يدخل في قسم الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، فحَمْله على المعنى الأول أَولى. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله، وهو بحث جيّد، والله تعالى أعلم.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي طلحة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [2/ 5635](2161)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(6/ 418)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 30)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(5/ 326)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(5/ 102)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(3/ 13)، و (الرويانيّ) في "مسنده"(2/ 161)، و (البيهقيّ) في "شُعب الإيمان"(6/ 509).

وأما فوائد الحديث فقد تقدّمت في شرح حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه برقم [31/ 5551](2121) فراجعها تستفد، وبالله تعالى التوفيق.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5636]

(2121)

(1)

- (حَدَّثَنَا سُوَيْدُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ مَيْسَرَةَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِيَّاكُمْ وَالْجُلُوسَ بِالطُّرُقَاتِ

(2)

"، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا لَنَا بُدٌّ مِنْ مَجَالِسِنَا، نَتَحَدَّثُ فِيهَا، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا أَبَيْتُمْ

(3)

إِلَّا الْمَجْلِسَ، فَأَعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهُ"، قَالُوا: وَمَا حَقُّهُ؟ قَالَ: "غَضُّ الْبَصَرِ، وَكَفُّ الأَذَى، وَرَدُّ السَّلَامِ، وَالأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ").

(1)

هذا الرقم مكرر، فقد تقدّم.

(2)

وفي نسخة: "في الطرقات".

(3)

وفي نسخة: "فإذا أبيتم".

ص: 496

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الحديث متّفقٌ عليه، وقد تقدّم سندًا ومتنًا قبل خمسة عشر بابًا برقم [31/ 5551](2121)، وقد استوفيت شرحه، وبيان مسائله هناك، فلا حاجة إلى إعادة ذلك، والله تعالى وليّ التوفيق.

[5637]

(. . .) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَدَنِيُّ (ح) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ، عَنْ هِشَامٍ - يَعْنِي: ابْنَ سَعْدٍ - كِلَاهُمَا عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ).

قال الجامع عفا الله عنه: قد سبق أن تكلّمت على هاتين الروايتين، وبيّنت أن رواية عبد العزيز بن محمد، وهو الدراورديّ ساقها أبو داود، ورواية هشام بن سعد عن زيد ساقها البيهقيّ في "شُعب الإيمان"، وبالله تعالى التوفيق.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(3) - (بَابُ مِنْ حَقِّ الْمُسْلِمِ لِلْمُسْلِمِ رَدُّ السَّلَامِ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5638]

(2162) - (حَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ خَمْسٌ" (ح) وَحَدَّثنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "خَمْسٌ تَجِبُ لِلْمُسْلِمِ عَلَى أَخِيهِ: رَدُّ السَّلَامِ، وَتَشْمِيتُ الْعَاطِسِ، وَإِجَابَةُ الدَّعْوَةِ

(1)

، وَعِيَادَةُ الْمَرِيضِ، وَاتِّبَاعُ الْجَنَائِزِ"، قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: كَانَ مَعْمَرٌ يُرْسِلُ هَذَا الْحَدِيثَ عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَأَسْنَدَهُ

(2)

مَرَّةً عَنِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ).

(1)

وفي نسخة: "وإجابة الداعي".

(2)

وفي نسخة: "فأسنده".

ص: 497

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(ابْنُ الْمُسَيِّبِ) هو سعيد القرشيّ المخزوميّ، أبو محمد المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ، أحد كبار الفقهاء الأعلام، من كبار [3] مات بعد التسعين، وقد ناهز الثمانين (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 71.

والباقون ذُكروا قبل باب، وقبل ثلاثة أبواب.

من لطائف هذا الإسناد:

أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه أحدُ ما قيل فيه: إنه أصحّ أسانيد أبي هريرة رضي الله عنه، كما أشار إليه السيوطيّ رحمه الله في "ألفيّة الأثر" بقوله:

وَلأَبِي هُرَيْرَةَ الزُّهْرِيُّ عَنْ

سَعِيدٍ أَوْ أَبُو الزِّنَادِ حَيْثُ عَن

عَنْ أَعْرَج وَقِيلَ حَمَّادٌ بِمَا

أَيُّوبُ عَنْ مُحَمَّدٍ لَهُ نَمَا

وأن نصفه الأول مسلسلٌ بالمصريين، والثاني بالمدنيين، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه ابن المسيِّب أحد الفقهاء السبعة، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه أحفظ من روى الحديث في عصره، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَن) سعيد (ابْنِ الْمُسَيِّبِ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ) قال الكرمانيّ هذا اللفظ أعمّ من الواجب على الكفاية، وعلى العين، ومن المندوب، وقال ابن بطّال: أي؛ حقُّ الحرمة والصحبة، وفي "التوضيح": الحقّ فيه بمعنى: حقّ حُرمته عليه، وجميل صحبته له، لا أنه من الواجب، ونظيره حقّ المسلم أن يغتسل كل جمعة، وقال الطيبيّ: هذه كلها من حقّ الإسلام، يستوي فيها جميع المسلمين، بَرّهم، وفاجرهم، غير أنه يخص البَرّ بالبشاشة، والمصافحة، دون الفاجر المظهر للفجور. انتهى

(1)

.

(خَمْسٌ") وفي رواية العلاء الآتية: "حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتٌّ"، وزاد:"وَإِذَا اسْتَنْصَحَكَ فَانْصَحْ لَهُ"، قال الحافظ: وقد تبيَّن أن معنى الحقّ هنا

(1)

راجع: "عمدة القاري" 8/ 13.

ص: 498

الوجوب، خلافًا لقول ابن بطال: المراد حقّ الحرمة، والصحبة، والظاهر أن المراد به هنا وجوب الكفاية. انتهى

(1)

.

وفي الرواية الثانية: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (خَمْسٌ تَجِبُ لِلْمُسْلِمِ عَلَى أَخِيهِ: رَدُّ السَّلَامِ) وهو فرض بالإجماع، فإن كان السلام على واحد كان الردّ فرض عَيْن عليه، وإن كان على جماعة كان فرض كفاية في حقهم؛ إذا ردّ أحدهم سقط الحرج عن الباقين، قاله النوويّ رحمه الله

(2)

.

(وَتَشْمِيتُ الْعَاطِسِ) التشميت بالسين المهملة، والشين المعجمة، لغتان مشهورتان، قال ابن منظور رحمه الله: والتسميت ذِكْر الله على الشيء، وقيل: التسميتُ ذكر الله عز وجل على كلّ حال، والتسميت الدعاء للعاطس، وهو قولك له: يرحمك الله. وقيل معناه: هداك الله إلى السمت، وذلك لِمَا في العاطس من الانزعاج، والْقَلَق، هذا قول الفارسيّ، وقد تقدّم البحث في هذا مطوّلًا في شرح حديث البراء رضي الله عنه في "اللباس والزينة" برقم [1/ 5377](2066).

وقال في "الفتح": وقد أخذ بظاهرها -أي: بظاهر الراويات التي تدلّ على الوجوب، كقوله:"خمس تجب للمسلم"- ابن مزين من المالكية، وقال به جمهور أهل الظاهر، وقال ابن أبي جمرة

(3)

: قال جماعة من علمائنا: إنه فرض عين، وقوّاه ابن القيم في "حواشي السنن"، فقال: جاء بلفظ الوجوب الصريح، وبلفظ الحقّ الدال عليه، وبلفظ "على" الظاهرة فيه، وبصيغة الأمر التي هي حقيقة فيه، وبقول الصحابيّ: أَمَرنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، قال: ولا ريب أن الفقهاء أثبتوا وجوب أشياء كثيرة بدون مجموع هذه الأشياء.

وذهب آخرون إلى أنه فرض كفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقين، ورجّحه أبو الوليد ابن رشد، وأبو بكر ابن العربيّ، وقال به الحنفية، وجمهور الحنابلة، وذهب عبد الوهاب، وجماعة من المالكية إلى أنه مستحبّ، ويجزئ الواحد عن الجماعة، وهو قول الشافعية، قال الحافظ: والراجح من حيث الدليل القول الثاني، والأحاديث الصحيحة الدالة على الوجوب لا تنافي كونه

(1)

"الفتح" 3/ 681 - 682، كتاب "الجنائز" رقم (1240).

(2)

"شرح النوويّ" 14/ 32.

(3)

"بهجة النفوس" 4/ 187.

ص: 499

على الكفاية، فإن الأمر بتشميت العاطس، وإن وَرَد في عموم المكلَّفين، ففرض الكفاية يخاطَب به الجميع على الأصح، ويسقط بفعل البعض، وأما من قال: إنه فرض على مبهم، فإنه ينافي كونه فرض عين. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: ترجيح القول الثاني القائل: إنه فرض كفاية لا يخفى ما فيه، فإنه ورد بصريح كونه فرض عين، فقد أخرجه البخاريّ في "صحيحه" بلفظ:"فإذا عطس، فحَمِد الله، فحقٌّ على كل مسلم سمعه أن يشمِّته"، فهل بعد هذا النصّ الصريح يقال: إنه فرض كفاية؟ إن هذا لغريبٌ.

وبالجملة فقد استوفيت البحث فيه في شرح حديث البراء رضي الله عنه الماضي، فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق.

(وَإِجَابَةُ الدَّعْوَةِ) وفي بعض النسخ: "وإجابة الداعي"؛ أي: إجابة دعوة الداعي إذا دعا، وظاهره عموم وجوب الإجابة لكلّ دعوة، عُرْسًا كان أو غيره، وبه يقول ابن عمر رضي الله عنهما، وهو الحقّ، وقد تقدّم البحث فيه مستوفًى، في "كتاب النكاح"، فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق.

(وَعِيَادَةُ الْمَرِيضِ) -بكسر العين المهملة، وتخفيف التحتانيّة-: مصدر عاده، يقال: عُدتُ المريضَ عِيَادةً: إذا زُرتُهُ، فالرجل عائد، وجمعه عُوّاد، والمرأة عائدةٌ، وجمعها عُوَّد بغير ألف، قال الأزهريّ: هكذا كلام العرب، قاله في "المصباح".

(وَاتِّبَاعُ الْجَنَائِزِ") قال ابن دقيق العيد رحمه الله: "اتباع الجنائز يَحْتَمِل أن يراد به اتّباعها للصلاة، فإن عبّر به عن الصلاة، فذلك فَرْضٌ من فروض الكفاية عند الجمهور، ويكون التعبير بالاتّباع عن الصلاة من باب مجاز الملازمة في الغالب؛ لأنه ليس من الغالب أن يصلى على الميت، ويدفن في محلّ موته.

وَيحْتَمِل أن يراد بالاتّباع: الرواح إلى محلّ الدفن لمواراته، والمواراة أيضًا من فروض الكفايات، لا تسقط إلا بمن تتأدى به. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الاحتمال الثاني هو الأقرب؛ لأنه حقيقة، فالحمل عليه أَولى، كما أشار إلى ذلك الصنعانيّ رحمه الله في "حاشيته".

(1)

"إحكام الأحكام" 4/ 491 بنسخة "حاشية العدّة".

ص: 500

(قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ) بن همّام: (كَانَ مَعْمَرٌ)؛ أي: ابن راشد شيخه، (يُرْسِلُ هَذَا الْحَدِيثَ عَنِ الزُّهْرِيِّ)؛ أي: يرويه مرسلًا عن الزهريّ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، (وَأَسْنَدَهُ) وفي نسخة:"فأسنده"، (مَرَّةً)؛ أي: رواه متّصلًا (عَنِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ أَبِي هُريْرَةَ) رضي الله عنه، وأشار بهذا إلى أن هذا الحديث مما رواه معمر كثيرًا عن الزهريّ مرسلًا بحذف ابن المسيّب، وأبي هريرة، ورواه مرّةً متّصلًا بذكرهما، وهو من مسلم رحمه الله إشارة إلى أن مذهبه أن الإرسال لا يؤثّر في صحّة الحديث، وإن كان هو الأكثر؛ لأن الحكم للوصل، وإن كان قليلًا، وهو المذهب الصحيح، وقد حقّقت هذا الموضع في شرح "ألفيّة الحديث" للسيوطيّ رحمه الله عند قوله:

وَقَدِّمِ الرَّفْعَ كَالاتِّصَالِ

مِنْ ثِقَةٍ لِلْوَقْفِ وَالإِرْسَالِ

وَقِيلَ عَكْسُهُ وَقِيلَ الأَكْثَرُ

وَقِيلَ قَدِّمْ أَحْفَظًا وَالأَشْهَرُ

عَلَيْهِ لَا يَقْدَحُ هَذَا مِنْهُ فِي

أَهْلِيَّةِ الْوَاصِلِ وَالَّذِي يَفِي

وَإِنْ يَكُنْ مِنْ وَاحِدٍ تَعَارَضَا

فَاحْكُمْ لَهُ بِالْمُرْتَضَى بِمَا مَضَى

وحاصل المسألة أنه إذا اختلف الرواة في حديث واحد من طريق واحد، فرواه بعضهم مرسلًا، وبعضهم موصولًا، أو رواه بعضهم مرفوعًا، وبعضهم موقوفًا، فالقول الراجح، وهو الصحيح عند المحدّثين، والفقهاء، والأصوليين أن تُقَدَّم الرواية التي فيها الزيادة، من الوصل، والرفع؛ لأن الزيادة من الثقة واجب قبولها؛ لأنه حفظ ما غاب عن غيره، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ، وهذا إذا لم يدلّ دليل على كونها وَهَمًا من الراوي، فتردّ.

وذهب بعضهم إلى تقديم الوقف والإرسال، وبعضهم إلى تقديم رواية الأكثر، وقيل: يقدّم الأحفظ، والصحيح ما قدّمناه.

ومثل هذا ما إذا اختلف الراوي الواحد على نفسه -كما في رواية معمر هذه- فرواه مرّة مصولًا، ومرّة، أو مرّات مرسلًا، أو اختلف في الرفع والوقف، فالصحيح تقديم الرواية الزائدة؛ إذ قد يَنشط الشيخ، فيأتي بالحديث على وجهه، وقد يعرض له ما يدعوه إلى وقفه، أو إرساله؛ لمناسبة خاصّة،

ص: 501

فلا يقدح النقص في الزيادة

(1)

، والله تعالى أعلم.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [3/ 5638 و 5639](2162)، و (البخاريّ) في "الجنائز"(1245) وفي "الأدب المفرد"(925 و 991)، و (أبو داود) في "السنّة"(5031)، و (الترمذيّ) في "الأدب"(2737)، و (النسائيّ) في "عمل اليوم والليلة"(221)، و (ابن ماجه) في "الجنائز"(1/ 461)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(2299)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(19679)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(2/ 445)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 321 و 372 و 412 و 540)، و (ابن راهويه) في "مسنده"(1/ 337)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(241 و 242)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(4/ 260)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(10/ 340)، و (الطحاويّ) في "شرح مشكل الآثار"(1/ 222 و 4/ 150)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(3/ 386 و 7/ 347 و 10/ 108) و"شُعَب الإيمان"(6/ 529)، و (البغويّ) في "شرح السّنَّة"(1404 و 1405)، والله تعالى أعلم.

وأما فوائد الحديث، فقد تقدّمت في شرح حديث البراء رضي الله عنه في "كتاب اللباس والزينة" برقم [1/ 5377](2066) فراجعها تستفد، وبالله تعالى التوفيق.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5639]

(

) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، وَقُتَيْبَةُ، وَابْنُ حُجْرٍ، قَالُوا: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ -وَهُوَ ابْنُ جَعْفَرٍ- عَنِ الْعَلَاءِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتٌّ"، قِيلَ: مَا هُنَّ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: "إِذَا لَقِيتَهُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، وَإِذَا دَعَاكَ فَأَجِبْهُ، وَإِذَا اسْتَنْصَحَكَ فَانْصَحْ لَهُ، وَإِذَا عَطَسَ فَحَمِدَ اللهَ فَسَمِّتْهُ

(2)

، وَإِذَا مَرِضَ فَعُدْهُ، وَإِذَا مَاتَ فَاتَّبِعْهُ").

(1)

راجع: تفاصيل المسألة فيما كتبته في شرح الأبيات المذكورة "إسعاف ذي الوطر" 1/ 162 - 167.

(2)

وفي نسخة: "فشمّته" بالشين المعجمة.

ص: 502

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ) المقابريّ، أبو زكريّا البغداديّ، ثقةٌ عابد [10](ت 234)(عخ م د عس) تقدم في "الإيمان" 2/ 115.

2 -

قتيْبَة) بن سعيد، تقدّم قبل بابين.

3 -

(ابْنُ حُجْرٍ) هو: عليّ السعديّ المروزيّ، ثقةٌ حافظ، من صغار [9](ت 244) وقد قارب المائة، أو جاوزها (خ م ت س) تقدم في "المقدمة" 2/ 6.

4 -

(إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرِ) بن أبي كثير الأنصاريّ الزرقيّ، أبو إسحاق القارئ المدنيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 180)(ع) تقدم في "الإيمان" 2/ 110.

5 -

(الْعَلَاءُ) بن عبد الرحمن الْحُرقيّ، أبو شِبْل المدنيّ، صدوقٌ ربّما وَهِمَ [5] مات سنة بضع و (130)(زم 4) تقدم في "الإيمان" 8/ 135.

6 -

(أَبُوهُ) عبد الرحمن بن يعقوب الْجُهنيّ الْحُرَقيّ مولاهم المدنيّ، ثقةٌ [3](زم 4) تقدم في "الإيمان" 8/ 135.

و"أَبُو هُرَيْرَةَ" رضي الله عنه ذُكر قبله.

وقوله: (حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِم سِتٌّ) لا تعارض بينه وبين ما سبق أنها خمس؛ لأن العدد لا مفهوم له على الأصحّ، أو لأنه يُحمل على أنه أوحي إليه بالخمس، فأخبر بها، ثم بالستّ، فأخبر بها، والله تعالى أعلم.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "حقّ المسلم على المسلم ستّ": أي: الحقوق المشتركة بين المسلمين عند ملابسة بعضهم لبعض، والحق لغة هو: الثابت، ونقيضه هو: الباطل، والحق في الشريعة يقال على الواجب، وعلى المندوب المؤكد، كما قال:"الوتر حقّ"؛ لأن كل واحدٍ منهما ثابت في الشرع، فإنَّه مطلوب مقصود قصدًا مؤكدًا، غير أن إطلاقه على الواجب أوَّلُ، وأَولى، وقد أطلق في هذا الحديث الحقّ على القدر المشترك بين الواجب والندب، فإنَّه جمع فيه بين واجبات ومندوبات، وقد تقدَّم أن الابتداء بالسَّلام سُنَّة، وأما إجابة الدعوة: فواجبة في الوليمة كما تقدَّم، وفي غيرها مندوب إليها، وأما النَّصيحة: فواجبة عند الاستنصاح، وفي غيره تفصيل على ما لْقدَّم في كتاب الإيمان، وأما تشميت العاطس: فاختُلف فيه على ما يأتي، وأما عيادة المريض: فمندوب إليها إلا أن يخاف ضياعه فيكون تفقّده، وتمريضه

ص: 503

واجبًا على الكفاية. وقد تقدَّم الكلام على اتباع الجنائز. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: في بعض ما قاله القرطبيّ نظر لا يخفى، وقد تقدّم تحقيقه في شرح حديث البراء رضي الله عنه، فلا تغفل.

وقوله: (وَإِذَا اسْتَنْصَحَكَ فَانْصَحْ لَهُ)؛ أي: إذا طلب منك النصح، فابذله له، والنصح: إرادة الخير للمنصوح له، وذلك أن تريد له الخير في حضوره، وغَيبته، فلا تتملّق في حضوره، وتغتابه في غيبته، فإن هذا صفة المنافقين.

وقوله: (وَإِذَا عَطَسَ) من بابي ضرب، ونصر.

وقوله: (فَحَمِدَ اللهَ) هذا يدلّ على أنه لا يستحقّ التشميت إلا إذا حمد.

وقوله: (فَسَمِّتْهُ) وفي بعض النسخ: "فشمّته"، والتسميت، بالشين المهملة، والشين المعجمة: الدعاء بالخير والبركة، والمعجمة أعلاهما، يقال: شمّتُّ فلانًا، وشمّتُّ عليه تشميتًا، فهو مُشَمَّتٌ، واشتقاقه من الشوامت، وهي القوائم، كأنه دعاءٌ للعاطس بالثبات على طاعة الله، وقيل معناه: أبعدك الله عن الشماتة، وجنّبك ما يشمت به عدوّك، ذكره الطيبيّ رحمه الله

(2)

.

وقال الفيّوميّ رحمه الله: التَّسْمِيتُ: ذكر الله تعالى على الشيء، وتَسْمِيتُ العاطس: الدعاء له، والشين المعجمة مثله، وقال في "التهذيب": سَمّتهُ بالسين، والشين: إذا دعا له، وقال أبو عبيد: الشين المعجمة أعلى، وأفشى، وقال ثعلب: المهملة هي الأصل؛ أخذًا من السَّمْتِ، وهو القصد، والْهَدْيُ، والاستقامة، وكلّ داعٍ بخير فهو مُسَمِّتٌ؛ أي: داع بالعَوْد، والبقاء إلى سَمْتِهِ، مأخوذ من ذلك. انتهى

(3)

.

وقوله: (وَإِذَا مَرِضَ فَعُدْهُ) بضمّ العين؛ أي: زُره.

وقوله: (وَإِذَا مَماتَ فَاتَّبِعْهُ)؛ أي: اتّبع جنازته؛ لتصلّي عليها، وتحملها إلى القبر، وتدفنها، وقد تقدّم تمام البحث في الحديث الماضي، ولله الحمد والمنّة.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(1)

"المفهم" 5/ 488 - 489.

(2)

"الكاشف عن حقائق السنن" 10/ 3037.

(3)

"المصباح المنير" 1/ 287.

ص: 504

(4) - (بَابُ النَّهْيِ عَنِ ابْتِدَاءِ أَهْلِ الْكِتَابِ بِالسَّلَامِ، وَكَيْفَ يُرَدُّ عَلَيْهِمْ؟)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5645]

(2163) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أنَسًا يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم (ح) وَحَدَّثَنِي إِسْمَاعِيلُ بْنُ سَالِمٍ، حَدَّثنا هُشَيْمٌ، أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ جَدّهِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"إِذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ، فَقُولُوا: وَعَلَيْكُمْ").

رجال هذين الإسنادين: ستة:

1 -

(إِسْمَاعِيلُ بْنُ سَالِمٍ) الصائغ، أبو محمد البغداديّ، نزيل مكة، ثقةٌ [10] من أفراد المصنّف تقدم في "الحيض" 10/ 748.

والباقون تقدّموا في الباب الماضي، وقبل ثلاثة أبواب.

[تنبيه]: من لطائف هذين الإسنادين:

أنهما من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (435) من رباعيّات الكتاب، وفيه أنس رضي الله عنه، وقد سبق القول فيه قريبًا.

شرح الحديث:

(عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ) أنه (قَالَ: سَمِعْتُ أنَسًا)؛ أي: ابن مالك رضي الله عنه، وهو جدّه، كما في الرواية الثانية. (يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) وفي الرواية الثانية: (حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ جَدّهِ أنسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ) ففيها تصريح هُشيم بن بشير بالإخبار، وهو مدلّس، فزالت عنه تهمة التدليس. "اِذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ)؛ أي: اليهود، والنصارى، (فَقُولُوا: وَعَلَيْكُمْ")؛ أي: دون ذِكر السلام، وفي رواية: " إن أهل الكتاب يسلمون علينا، فكيف نردّ عليهم؟ قال: قولوا: وعليكم"، وفي رواية: "إن اليهود إذا سلّموا عليكم يقول أحدهم: السام عليكم،

ص: 505

فقل: عليك"، وفي رواية: "فقل: وعليك"، وفي رواية: "إن رهطًا من اليهود استأذنوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: السام عليكم، فقالت عائشة: بل عليكم السام واللعنة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عائشة، إن الله يحب الرفق في الأمر كله، قالت: ألم تسمع ما قالوا؟ قال: قد قلت: وعليكم"، وفي رواية: "قد قلت: عليكم" بحذف الواو، وفي الحديث الآخر: "لا تبدأوا اليهود، ولا النصارى بالسلام، وإذا لقيتم أحدهم في طريق، فاضطَرُّوه إلى أضيقه".

قال النوويّ رحمه الله: اتَّفَقَ العلماء على الردّ على أهل الكتاب إذا سلَّموا، لكن لا يقال لهم: وعليكم السلام، بل يقال:"عليكم" فقط، أو "وعليكم"، وقد جاءت الأحاديث التي ذكرها مسلم بلفظ:"عليكم"، "وعليكم" بإثبات الواو، وحذفها، وأكثر الروايات بإثباتها، وعلى هذا في معناه وجهان:

أحدهما: أنه على ظاهره، فقالوا: عليكم الموت، فقال: وعليكم أيضًا؛ أي: نحن وأنتم فيه سواء، وكلنا نموت.

والثاني: أن الواو هنا للاستئناف، لا للعطف والتشريك، وتقديره: وعليكم ما تستحقونه من الذّم، وأما حذف الواو فتقديره: بل عليكم السام.

قال القاضي: اختار بعض العلماء، منهم أبن حبيب المالكيّ حذف الواو؛ لئلا يقتضي التشريك، وقال غيره: بإثباتها، كما هو في أكثر الروايات، قال: وقال بعضهم يقول: عليكم السِّلام، بكسر السين: أي: الحجارة، وهذا ضعيف.

وقال الخطابيّ: عامة المحدثين يروون هذا الحرف "وعليكم" بالواو، وكان ابن عيينة يرويه بغير واو، قال الخطابيّ: وهذا هو الصواب؛ لأنه إذا حذف الواو صار كلامهم بعينه مردودًا عليهم خاصّة، وإذا ثبت الواو اقتضى المشاركة معهم فيما قالوه، قال النوويّ -بعد ذكر كلام الخطابيّ-: والصواب أن إثبات الواو وحذفها جائزان، كما صحت به الروايات، وأن الواو أجود، كما هو في أكثر الروايات، ولا مفسدة فيه؛ لأن السام الموت، وهو علينا وعليهم، ولا ضرر في قوله بالواو. انتهى

(1)

.

(1)

"شرح النوويّ" 14/ 144 - 145.

ص: 506

وقال القرطبيّ رحمه الله: "عليك" بغير واو هي الرواية الواضحة المعنى، وأما مع إثبات الواو ففيها إشكال؛ لأنَّ الواو العاطفة تقتضي التشريك بين المعطوف والمعطوف عليه، فيلزم منه أن تدخل معهم فيما دعوا به علينا من الموت، أو من سآمة ديننا، فاختلف المتأولون في ذلك، فقال بعضهم: الواو زائدة، كما زيدت في قول الشاعر:

فلمَّا أجَزْنا ساحة الحيِّ وانتحى

أي: لمّا أجزنا انتحى، فزاد الواو، وقيل: إن الواو في الحديث للاستئناف، فكأنه قال: والسَّام عليكم، وهذا كله فيه بُعد، وأوَّلى من هذا كُلّه أن يقال: إن الواو على بابها من العطف، غير أنا نجاب عليهم، ولا يجابون علينا، كما قاله النبي صلى الله عليه وسلم، ورواية حذف الواوأحسن معنى، وإثباتها أصحّ روايةً، وأشهر. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي قرّره القرطبيّ رحمه الله حسنٌ جدًّا، وأَولى مما سبق ترجيح النوويّ له، فتأمله بالإمعان.

والحاصل أنه؛ لا إشكال في ثبوت الواو؛ لأن التشريك فيها منتف معنى؛ إذ لا يجاب لهم علينا، ونحن نجاب عليهم، كما قال النبيّ صلى الله عليه وسلم، فلا تشريك، فلا إشكال، فتأملّه حقّ التأمل، والله تعالى أعلم.

وقد أطال الحافظ رحمه الله البحث في هذا الحديث، وسيأتي ذكره في المسألة الثالثة- إن شاء الله تعالى-.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أنس بن مالك رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [4/ 5640 و 5641](2163)، و (البخاريّ) في "الاستئذان"(6258) و"استتابة المرتدّين"(2926)، وفي "الأدب المفرد"(1105)، و (أبو داود) في "الأدب"(5207)، و (الترمذيّ) في "التفسير"

(1)

"المفهم" 5/ 491.

ص: 507

(3296)

، و (ابن ماجه) في "الآداب"(3742)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(6/ 102 - 103)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(2069)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(8/ 630)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 192 و 210 و 214 و 218 و 234 و 241 و 289)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(503)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(5/ 410 و 425)، و (الضياء) في "المختارة"(5/ 51 - 52)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان كفيّة ردّ سلام أهل الكتاب، وهو أنه يقال:"وعليكم" فقط.

2 -

(ومنها): بيان مشروعيّة الردّ على أهل الكتاب، قال البخاريّ رحمه الله في "صحيحه":"بابٌ كيف الردّ على أهل الذمة بالسلام؟ "، قال في "الفتح": في هذه الترجمة إشارة إلى أنه لا منع من ردّ السلام على أهل الذمة، فلذلك ترجم بالكيفية، ويؤيده قوله تعالى:{فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء: 86] فإنه يدلّ على أن الرد يكون وفق الابتداء، إن لم يكن أحسن منه، قال: ودلّ الحديث على التفرقة في الردّ على المسلم والكافر، قال ابن بطال: قال قوم: رَدّ السلام على أهل الذمة فرض؛ لعموم الآية، وثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: مَن سَلَّم عليك فرُدّ عليه، ولو كان مجوسيًّا، وبه قال الشعبيّ، وقتادة، وَمَنَع من ذلك مالكٌ والجمهورٌ، وقال عطاء: الآية مخصوصة بالمسلمين، فلا يُرَدُّ السلام على الكافر مطلقًا، قال الحافظ: فإن أراد منع الردّ بالسلام، وإلا فأحاديث الباب تردّ عليه. انتهى

(1)

.

3 -

(ومنها): أنه استُدِلّ بقوله: "إذا سَلَّم عليكم أهل الكتاب" بأنه لا يشرع للمسلم ابتداء الكافر بالسلام، حكاه الباجيّ، عن عبد الوهاب، قال الباجيّ: لأنه بَيَّن حكم الردّ، ولم يذكر حكم الابتداء، كذا قال.

ونَقَل ابن العربيّ عن مالك: لو ابتدأ شخصًا بالسلام، وهو يظنه مسلمًا، فبان كافرًا كان ابن عمر يستردّ منه سلامه، وقال مالك: لا، قال ابن العربيّ:

(1)

"الفتح" 14/ 191 - 192، كتاب "الاستئذان" رقم (6256).

ص: 508

لأن الاسترداد حينئذ لا فائدة له؛ لأنه لم يحصل له منه شيء؛ لكونه قصد السلام على المسلم، وقال غيره: له فائدةٌ، وهي إعلام الكافر بأنه ليس أهلًا للابتداء بالسلام، قال الحافظ: ويتأكد إذا كان هناك من يُخْشَى إنكاره لذلك، أو اقتدأوه به؛ إذا كان الذي سَلَّم ممن يُقْتَدى به.

وقال النوويّ رحمه الله: واختَلَف العلماء في ردّ السلام على الكفار، وابتدائهم به، فمذهبنا تحريم ابتدائهم به، ووجوب ردّه عليهم، بأن يقول: وعليكم، أو عليكم فقط، ودليلنا في الابتداء قوله صلى الله عليه وسلم:"لا تبدأوا اليهود، ولا النصارى بالسلام،، وفي الردّ قوله صلى الله عليه وسلم: "فقولوا: وعليكم"، وبهذا الذي ذكرناه عن مذهبنا قال أكثر العلماء، وعامة السلف.

وذهبت طائفة إلى جواز ابتدائنا لهم بالسلام، رُوي ذلك عن ابن عباس، وأبي أمامة، وابن أبي محيريز، وهو وجه لبعض أصحابنا، حكاه الماورديّ، لكنه قال: يقول: السلام عليك، ولا يقول: عليكم، بالجمع، واحتجّ هؤلاء بعموم الأحاديث، وبإفشاء السلام، وهي حجة باطلة؛ لأنه عامّ مخصوص بحديث:"لا تبدأوا اليهود، ولا النصارى بالسلام".

وقال بعضُ أصحابنا: يكره ابتداؤهم بالسلام، ولا يحرُم، وهذا ضعيف أيضًا؛ لأن النهي للتحريم، فالصواب تحريم ابتدائهم.

وحَكَى القاضي عن جماعة أنه يجوز ابتداؤهم به للضرورة والحاجة، أو سبب، وهو قول علقمة، والنخعيّ، وعن الأوزاعيّ أنه قال: إن سلّمتَ فقد سلّم الصالحون، وإن تركت فقد ترك الصالحون.

وقالت طائفة من العلماء: لايردّ عليهم السلام، ورواه ابن وهب، وأشهب عن مالك.

وقال بعض أصحابنا: يجوز أن يقول في الردّ عليهم: وعليكم السلام، ولكن لا يقول: ورحمة الله، حكاه الماورديّ، وهو ضعيفٌ مخالف للأحاديث، والله أعلم

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي حقّقه النوويّ رحمه الله من ترجيح القول

(1)

"شرح النووي" 14/ 145.

ص: 509

بعدم جواز ابتداء الكافر بالسلام، ومشروعيّة الردّ عليه إذا سلّم، وتضعيفه الأقوال المخالفة لهذا هو الصواب الذي تؤيّده الأدلة الواضحة، فتبصّر بالإنصاف، والله تعالى أعلم.

قال: ويجوز الابتداء بالسلام على جَمْع فيهم مسلمون وكفار، أو مسلم وكفار، ويقصد المسلمين؛ للحديث السابق أنه صلى الله عليه وسلم سَلَّم على مجلس فيه أخلاط من المسلمين والمشركين

(1)

. انتهى

(2)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: وقد اختُلِف في ردِّ السَّلام على أهل الذّمَّة؛ هل هو واجبٌ كالردّ على المسلمين؟ وإليه ذهب ابن عبَّاس، والشعبيّ، وقتادة؛ تمسُّكًا بعموم الآية، وبالأمر بالردِّ عليهم بالذي في هذه الأحاديث.

وذهب مالك فيما رَوَى عنه أشهب، وابن وهب إلى أن ذلك ليس بواجب، فإنْ رددت؛ فقل: عليك، والاعتذار عن ذلك بأن ذلك بيان أحكام المسلمين؛ لأن سلام أهل الذمة علينا ليس تحية لنا؛ وإنما هو دعاء علينا، كما قد بيَّنه النبيّ صلى الله عليه وسلم بقوله:"إنما يقولون: السَّام"، فلا هم يحيوننا، ولا نحن نردّ عليهم تحيَّة، بل دعاءً عليهم ولعنةً، كما فعلته عائشة رضي الله عنها، وأمْره لنا بالردّ، إنما هو لبيان الردّ لِمَا قالوه خاصة، فإنْ تحققنا من أحدهم أنه تلفظ بالسَّلام رددنا عليه ب "عليك" فقط، لإمكان أن يريد بقلبه غير ما نطق بلسانه، وقد اختار ابن طاووس أن يقول في الرد عليهم: عَلاكَ السَّلامُ؛ أي: ارتفع عنك، واختار بعض أصحابنا: السِّلام -بكسر السين-؛ يعني: به الحجارة، وهذا كلّه تكلُّف، بل: ما قاله مالك كافٍ شافٍ. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(3)

، وهو بحث جيّدٌ، والله تعالى أعلم.

4 -

(ومنها): أنه استُدِلّ به على أن هذا الردّ خاص بالكفار، فلا يجزئ في الردّ على المسلم، وقيل: إن أجاب بالواو أجزأ، وإلا فلا، وقال ابن دقيق العيد: التحقيق أنه كافٍ في حصول معنى السلام، لا في امتثال الأمر في قوله:{فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء: 86].

(1)

متّفقٌ عليه.

(2)

"شرح النوويّ" 14/ 145.

(3)

"المفهم" 5/ 492.

ص: 510

قال الحافظ: وكأنه أراد الذي بغير واو، وأما الذي بالواو فقد ورد في عدّة أحاديث، منها في الطبرانيّ عن ابن عباس رضي الله عنهما: جاء رجل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال:"سلام عليكم، فقال: وعليك، ورحمة الله"، وله في "الأوسط" عن سلمان رضي الله عنه:"أتى رجلٌ، فقال: السلام عليك يا رسول الله، فقال: وعليك"، لكن لمّا اشتهرت هذه الصيغة للردّ على غير المسلم ينبغي ترك جواب المسلم بها، وإن كانت مجزئة في أصل الردّ، والله أعلم. انتهى

(1)

.

5 -

(ومنها): بيان ما عليه اليهود من العداوة للمسلمين، وبذلك كانوا يضعون موضع السلام على المسلمين الدعاء عليهم بالموت

(2)

، والله تعالى أعلم.

(المسألة الرابعة): قد أجاد الحافظ رحمه الله البحث في هذا الحديث، وأحببت إيراده هنا؛ لأهميّته، حيث إنه بيّن طرق الحديث، وتكلّم عليها، وحقّق اختلاف العلماء فيها، حيث قال:

الحديث الثالث

(3)

أورده من طريق عبيد الله بن أبي بكر بن أنس، حدّثنا أنس بن مالك -يعني: جدّه- بلفظ: "إذا سلَّم عليكم أهل الكتاب، فقولوا: وعليكم"، كذا رواه مختصرًا، ورواه قتادة، عن أنس أتمّ منه، أخرجه مسلم

(4)

، وأبو داود، والنسائيّ من طريق شعبة عنه، بلفظ:"أن أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم قالوا: إن أهل الكتاب يسلّمون علينا، فكيف نردّ عليهم؟ قال: قولوا: وعليكم"، وأخرجه البخاريّ في "الأدب المفرد" من طريق همام، عن قتادة، بلفظ: "مَرّ يهوديّ، فقال: السام عليكم، فردّ أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم عليه

(1)

"الفتح" 14/ 191 - 192، كتاب "الاستئذان" رقم (6256).

(2)

"التمهيد" لابن عبد البرّ 17/ 94.

(3)

أي: من الأحاديث التي أوردها البخاري رحمه الله في "بابٌ كيف الردُّ على أهل الذمّة بالسلام "، فذكر حديث عائشة رضي الله عنها: "دخل رهط من اليهود

"، ثم حديث ابن عمر رضي الله عنهما: "إذا سلَّم عليكم أهل الكتاب.

"، ثم حديث أنس رضي الله عنه هذا، بلفظ: "إذا سلَّم عليكم أهل الكتاب، فقولوا: وعليكم".

(4)

هو الحديث التالي لهذا الحديث.

ص: 511

السلام، فقال: قال: السام عليكم، فأُخِذ اليهوديّ، فاعترف، فقال: رُدُّوا عليه"، وأخرجه أبو عوانة في "صحيحه" من طريق شيبان نحو رواية همام، وقال في آخره: "رُدُّوه، فردُّوه، فقال: أقلت: السام عليكم؟ قال: نعم، فقال عند ذلك: إذا سلَّم عليكم أهل الكتاب، فقولوا: وعليكم".

قال: وأخرجه البخاريّ في "استتابة المرتدين" من طريق هشام بن زيد بن أنس، سمعت أنس بن مالك يقول:"مَرَّ يهوديّ بالنبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: السام عليك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وعليك، ثم قال: أتدرون ماذا يقول؟ قال: السام عليك، قالوا: يا رسول الله ألا نقتله؟ قال: إذا سلَّم عليكم أهل الكتاب فقولوا: وعليكم"، وفي رواية الطيالسي أن القائل:"ألا نقتله" عمر رضي الله عنه.

قال: والجمع بين هذه الروايات أن بعض الرواة حَفِظ ما لم يحفظ الآخر، وأَتَمُّها سياقًا رواية هشام بن زيد هذه، وكأن بعض الصحابة لمّا أخبرهم النبيّ رحمه الله أن اليهود تقول ذلك سألوا حينئذ عن كيفية الردّ عليهم، كما رواه شعبة، عن قتادة، ولم يقع هذا السؤال في رواية هشام بن زيد، ولم تختلف الرواة عن أنس في لفظ الجواب، وهو:"وعليكم" بالواو، وبصيغة الجمع، قال أبو داود في "السنن": وكذا رواية عائشة، وأبي عبد الرحمن الْجُهَنِيِّ، وأبي بصرة.

قال المنذريّ: أما حديث عائشة فمتفق عليه، وأما حديث أبي عبد الرحمن فأخرجه ابن ماجه، وأما حديث أبي بصرة فأخرجه النسائيّ، قال الحافظ: هما حديث واحد اختُلِف فيه على يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الخير، فقال عبد الحميد بن جعفر:"عن أبي بصرة"، أخرجه النسائيّ، والطحاويّ، وقال ابن إسحاق:"عن أبي عبد الرحمن"، أخرجه أحمد، وابن ماجه، والطحاويّ أيضًا، وقد قال بعض أصحاب ابن إسحاق عنه مثل ما قال عبد الحميد، أخرجه الطحاويّ، والمحفوظ قول الجماعة، ولفظ النسائيّ:"فإن سلّموا عليكم فقولوا: وعليكم".

وقد اختَلَف العلماء في إثبات الواو، وإسقاطها في الردّ على أهل الكتاب؛ لاختلافهم في أيّ الروايتين أرجح، فذكر ابن عبد البرّ عن ابن حبيب: لا يقولها بالواو؛ لأن فيها تشريكًا، وبَسْطُ ذلك أن الواو في مثل هذا

ص: 512

التركيب يقتضي تقرير الجملة الأولى، وزيادة الثانية عليها، كمن قال: زيد كاتب، فقلت: وشاعر، فإنه يقتضي ثبوت الوصفين لزيد، قال: وخالفه جمهور المالكية، وقال بعض شيوخهم: يقول: عليكم السلام -بكسر السين- يعني: الحجارة، ووَهّاه ابنُ عبد البرّ بأنه لم يُشْرَع لنا سبّ أهل الذمة، ويؤيده إنكار النبيّ صلى الله عليه وسلم على عائشة لَمّا سبتهم.

وذكر ابن عبد البرّ عن ابن طاوس قال: يقول: علاكم السلام، بالألف؛ أي: ارتفع، وتعقّبه.

وذهب جماعة من السلف إلى أنه يجوز أن يقال في الردّ عليهم: عليكم السلام، كما يردّ على المسلم، واحتجّ بعضهم بقوله تعالى:{فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ} [الزخرف: 89]، وحكاه الماورديّ وجهًا عن بعض الشافعية، لكن لا يقول: ورحمة الله، وقيل: يجوز مطلقًا، وعن ابن عباس، وعلقمة: يجوز ذلك عند الضرورة.

وعن الأوزاعيّ: إن سَلَّمت فقد سلّم الصالحون، وإن تركت فقد تركوا.

وعن طائفة من العلماء: لا يردّ عليهم السلام أصلًا، وعن بعضهم: التفرقة بين أهل الذمة، وأهل الحرب.

والراجح من هذه الأقوال كلّها ما دل عليه الحديث، ولكنه مختصّ بأهل الكتاب.

وقد أخرج أحمد بسند جيّد عن حميد بن زادويه، وهو غير حميد الطويل، في الأصحّ، عن أنس:"أُمرنا أن لا نزيد على أهل الكتاب على: وعليكم".

ونقل ابن بطال

(1)

عن الخطابيّ نحو ما قال ابن حبيب، فقال: رواية مَن رَوَى "عليكم" بغير واو أحسن من الرواية بالواو؛ لأن معناه: رددت ما قلتموه عليكم، وبالواو يصير المعنى: عليَّ وعليكم؛ لأن الواو حرف التشريك. انتهى.

وكأنه نقله من "معالم السنن" للخطابيّ

(2)

فإنه قال فيه: هكذا يرويه عامة المحدثين: "وعليكم" بالواو، وكان ابن عيينة يرويه بحذف الواو، وهو

(1)

"شرح البخاريّ" لابن بطّال 9/ 38.

(2)

"معالم السنن" 4/ 143.

ص: 513

الصواب، وذلك أنه بحذفها يصير قولهم بعينه مردودًا عليهم، وبالواو يقع الاشتراك والدخول فيما قالوه. انتهى.

وقد رجع الخطابيّ عن ذلك، فقال في "الأعلام"

(1)

من شرح البخاريّ لمّا تكلم على حديث عائشة المذكور في "كتاب الأدب" من طريق ابن أبي مليكة عنها، نحو حديث الباب، وزاد في آخره:"أَوَلم تسمعي ما قلت؟ رددت عليهم، فيستجاب لي فيهم، ولا يستجاب لهم فيّ"، قال الخطابيّ: ما مُلَخّصه: إن الداعي إذا دعا بشيء ظلمًا، فإن الله لا يستجيب له، ولا يجد دعاؤه محلًّا في المدعوّ عليه. انتهى.

وله شاهد من حديث جابر، قال:"سَلَّم ناس من اليهود على النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقالوا: السام عليكم، قال: وعليكم، قالت عائشة -وَغَضِبَتْ-: ألم تسمع ما قالوا؟ قال: بلى، قد رددت عليهم، فنُجاب عليهم، ولا يجابون فينا"، أخرجه مسلم، والبخاريّ في "الأدب المفرد" من طريق ابن جريج قال: أخبرني أبو الزبير، أنه سمع جابرًا.

قال الحافظ: وقد غَفَل عن هذه المراجعة من عائشة، وجواب النبيّ صلى الله عليه وسلم لها مَن أنكر الرواية بالواو، وقد تجاسر بعض من أدركناه، فقال في الكلام على حديث أنس في هذا الباب: الرواية الصحيحة عن مالك بغير واو، وكذا رواه ابن عيينة، وهي أصوب من التي بالواو؛ لأنه بحذفها يرجع الكلام عليهم، وبإثباتها يقع الاشتراك. انتهى.

قال: وما أفهمه من تضعيف الرواية بالواو، وتخطئتها من حيث المعنى مردود عليه بما تقدم.

وقال النوويّ: الصواب أن حذف الواو وإثباتها ثابتان جائزان، وبإثباتها أجْوَد، ولا مفسدة فيه، وعليه أكثر الروايات، وفي معناها وجهان: أحدهما:

أنهم قالوا: عليكم الموت، فقال: وعليكم أيضًا؛ أي: نحن وأنتم فيه سواءٌ، كلنا نموت.

(1)

"الأعلام" 3/ 2177.

ص: 514

والثاني: أن الواو للاستئناف، لا للعطف والتشريك، والتقدير: وعليكم ما تستحقونه من الذّمّ.

وقال البيضاويّ: في العطف شيء مقدَّر، والتقدير: وأقول: عليكم ما تريدون بنا، أو ما تستحقون، وليس هو عطفًا على "عليكم" في كلامهم.

وقال القرطبيّ: قيل: الواو للاستئناف، وقيل: زائدة، وأَولى الأجوبة: أنّا نجاب عليهم، ولا يجابون علينا.

وحَكَى ابن دقيق العيد عن ابن رشد تفصيلًا يجمع الروايتين: إثبات الواو، وحذفها، فقال: من تُحُقق أنه قال: السام، أو السِّلام، بكسر السين، فَلْيُرَدّ عليه بحذف الواو، ومن لم يُتَحَقَّق منه فليردّ بإثبات الواو، فيجتمع من مجموع كلام العلماء في ذلك ستة أقوال.

وقال النوويّ تبعًا لعياض: من فَسَّر السام بالموت فلا يُبْعِد ثبوت الواو، ومن غيرها بالسآمة فإسقاطها هو الوجه.

قال الحافظ: بل الرواية بإثبات الواو ثابتة، وهي تُرَجِّح التفسير بالموت، وهوأَولى من تغليط الثقة. انتهى ما كتبه الحافظ رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: لقد أجاد الحافظ رحمه الله في هذا البحث الطويل، وأفاد، ثم إن تفسير السام بالموت هنا هو المتعيّن؛ لأنه تفسير مأثور، قال الحافظ ابن عبد البرّ رحمه الله: والسام: الموت في هذا الموضع، وهو معروف في لسان العرب، ثم أخرج بسنده عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه بريدة الأسلميّ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عليكم بهذه الحبة السوداء، فإن فيها شفاءً من كل داء إلا السام، والسام: الموت"

(2)

، والحبة السوداء: الشونيز. انتهى

(3)

، والحديث أخرجه الشيخان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، والله تعالى أعلم.

(1)

"الفتح" 14/ 195 - 198، كتاب "الاستئذان" رقم (6256).

(2)

هذا التفسير وإن كان مدرجًا من كلام الزهريّ، إلا أن تفسير الراوي مقدّم على غيره، فتنبّه.

(3)

"التمهيد لابن عبد البرّ" 17/ 88 - 89.

ص: 515

وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5641]

(

) - (حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ، حَدَّثَنَا أَبِي (ح) وَحَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ حَبِيبٍ، حَدَّثَنَا خَالِدٌ -يَعْنِي: ابْنَ الْحَارِثِ- قَالَا: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ (ح) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ -وَاللَّفْظُ لَهُمَا- قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثنا شُعْبَةُ، قَالَ: سَمِعْتُ قَتَادَةَ يُحَدِّثُ عَنْ أنسٍ، أَن أَصْحَابَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالُوا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ يُسَلِّمُونَ عَلَيْنَا، فَكَيْفَ نَرُدُّ عَلَيْهِمْ؟ قَالَ:"قُولُوا: وَعَلَيْكُمْ").

رجال هذه الأسانيد: عشرة:

1 -

(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ) الْعَنبريّ، أبو عمرو البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 237)(خ م د س) تقدم في "المقدمة" 3/ 7.

2 -

(أَبُوهُ) معاذ بن معاذ بن نصر بن حسّان الْعَنبريّ، أبو المثنّى البصريّ القاضي، ثقةٌ متقنٌ، من كبار [9](ت 196)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 7.

3 -

(يَحْيَى بْنُ حَبِيبِ) بن عربيّ البصريّ، ثقةٌ [10](ت 248) أو بعدها (م 4) تقدم في "الإيمان" 14/ 165.

4 -

(خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ) بن عُبيد بن سُليم الْهُجيميّ، أبو عثمان البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 186)(ع) تقدم في "الإيمان" 35/ 243.

5 -

(قَتَادَةُ) بن دِعامة السَّدُوسيّ، أبو الخطّاب البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ يُدلّس، رأس [4](ت 7 أو 118)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 70.

والباقون تقدّموا قبل ستّة أبواب.

وقوله: (قَالَا: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ) ضمير التثنية لمعاذ بن معاذ، وخالد بن الحارث.

وقوله: (قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ) ضمير التثنية لابن المثنى، وابن بشار.

وشرح الحديث واضحٌ، يُعلم مما سبق.

[تنبيه]: رواية محمد بن جعفر عن شعبة ساقها أبو يعلى رحمه الله في "مسنده"، فقال:

ص: 516

(3179)

- حدّثنا أبو موسى

(1)

، حدَّثنا محمد بن جعفر، حدّثنا شعبة، قال: سمعت قتادة يحدّث عن أنس، أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا للنبيّ صلى الله عليه وسلم: إنّ أهل الكتاب يسلّمون علينا، فكيف نردّ عليهم؟ قال:"قولوا: وعليكم". انتهى

(2)

.

ورواية خالد بن الحارث عن شعبة ساقها النسائيّ رحمه الله في "الكبرى"، فقال:

(10219)

- أخبرنا محمد بن عبد الأعلى، قال: حدّثنا خالد، قال: حدّثنا شعبة، عن قتادة، عن أنس، قال: قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أهل الكتاب يسلّمون علينا، فكيف نقول؟ قال:"قولوا: وعليكم". انتهى

(3)

.

وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5642]

(2164) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَيَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، وَقُتَيْبَةُ، وَابْنُ حُجْرٍ -وَاللَّفْظُ لِيَحْيَى بْنِ يَحْيَى- قَالَ يَحْيَى بْنُ يَحْيَى: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ الآخَرُونَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ -وَهُوَ ابْنُ جَعْفَرٍ- عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ دِينَارٍ، أنهُ سَمِعَ ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِن الْيَهُودَ إِذَا سَلَّمُوا عَلَيْكُمْ يَقُولُ أَحَدُهُم: السَّامُ عَلَيْكُمْ، فَقُلْ

(4)

: عَلَيْكَ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ دِينَارٍ) الْعَدويّ مولاهم، أبو عبد الرحمن المدنيّ، ثقةٌ [4](ت 217)(ع) تقدم في "الإيمان" 14/ 160.

2 -

(ابْنُ عُمَرَ) عبد الله صلى الله عليه وسلم، تقدّم قريبًا.

والباقون ذُكروا في الباب الماضي.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من رباعيّات المصنف: رحمه الله، وهو (436) من رباعيّات الكتاب، وفيه ابن عمر رضي الله عنهما أحد العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة، ورأس المتّبعين للأثر.

(1)

هو: محمد بن المثّنى.

(2)

"مسند أبي يعلى" 5/ 457.

(3)

"السنن الكبرى" للنسائيّ 6/ 154.

(4)

وفي نسخة: "فقولوا".

ص: 517

شرح الحديث:

(عَنْ عَبْدِ اللهِ بْن دِينَارٍ) العدويّ المدنيّ، وفي رواية للبخاريّ:"حدّثني عبد الله بن دينار"(أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عُمَرَ) رضي الله عنهما (يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ الْيَهُودَ إِذَا سَلَّمَّوا عَلَيْكُمْ يَقُولُ أَحَدُهُم: السَّامُ عَلَيْكُمْ) وفي رواية للبخاريّ: "إذا سلّم عليكم اليهود، فإنما يقول أحدهم: السام عليك". (فَقُلْ: عَلَيْكَ") وفي الرواية التالية: "فقولوا: وعليك"، وفي رواية البخاريّ من طريق مالك عن عبد الله بن دينار:"فقل: وعليك"، قال في "الفتح": هكذا هو في جميع نُسخ البخاريّ، وكذا أخرجه في "الأدب المفرد" عن إسماعيل بن أبي أويس، عن مالك، والذي عند جميع رواة "الموطأ" بلفظ:"فقل: عليك" ليس فيه الواو، وأخرجه أبو نعيم في "المستخرج" من طريق يحيى بن بكير، ومن طريق عبد الله بن نافع، كلاهما عن مالك، بإثبات الواو، وفيه نظر، فإنه في "الموطأ "عن يحيى بن بكير بغير واو، ومقتضى كلام ابن عبد البرّ أن رواية عبد الله بن نافع بغير واو؛ لأنه قال: لم يُدخِل أحد من رواة "الموطأ" عن مالك الواو، قال الحافظ: لكن وقع عند الدارقطنيّ في "الموطآت" من طريق رَوْح بن عُبادة عن مالك بلفظ: "فقل: وعليكم" بالواو، وبصيغة الجمع، قال الدارقطنيّ: القول الأول أصحّ -يعني: عن مالك- قال الحافظ: أخرجه الإسماعيليّ من طريق رَوْح، ومَعْن، وقتيبة، ثلاثتهم عن مالك بغير واو، وبالإفراد، كرواية الجماعة، وأخرجه البخاريّ في "استتابة المرتدين" من طريق يحيى القطان، عن مالك، والثوريّ جميعًا عن عبد الله بن دينار، بلفظ:"قل: عليك"، بغير واو لكن وقع في رواية السرخسيّ وحده:"فقل: عليكم" بصيغة الجمع، بغير واو أيضًا، وأخرجه مسلم، والنسائيّ من طريق عبد الرحمن بن مهديّ، عن الثوريّ وحده، بلفظ:"فقولوا: وعليكم" بإثبات الواو، وبصيغة الجمع، وأخرجه مسلم، والنسائيّ من طريق إسماعيل بن جعفر، عن عبد الله بن دينار، بغير واو، وفي نسخة صحيحة من مسلم، بإثبات الواو

(1)

، وأخرجه

(1)

هذه النسخة ليست عندنا، فكلّ النسخ التي بأيدينا إنما هي بدون واو، فليُحرّر، والله تعالى أعلم.

ص: 518

النسائيّ من طريق ابن عيينة، عن ابن دينار، بلفظ:"إذا سلّم عليكم اليهوديّ، والنصرانيّ، فإنما يقول: السام عليكم، فقل: عليكم"، بغير واو، وبصيغة الجمع، وأخرجه أبو داود من رواية عبد العزيز بن مسلم، عن عبد الله بن دينار، مثل ابن مهديّ عن الثوريّ، وقال بعده: وكذا رواه مالكٌ، والثوريّ عن عبد الله بن دينار، قال فيه:"وعليكم"، قال المنذريّ

(1)

في "الحاشية": حديث مالك أخرجه البخاريّ، وحديث الثوريّ أخرجه البخاريّ ومسلم، وهذا يدل على أن رواية مالك عندهما بالواو، فأما أبو داود فلعله حَمَل رواية مالك على رواية الثوريّ، أو اعتَمَد رواية رَوْح بن عُبادة عن مالك، وأما المنذريّ فتجوز في عزوه للبخاريّ؛ لأنه عنده بصيغة الإفراد، ولحديث ابن عمر هذا سبب تقدّم. في الكلام على حديث أنس رضي الله عنه

(2)

.

وقال التوربشتيّ رحمه الله: إثبات الواو في الردّ عليهم إنما يُحمل على معنى الدعاء لهم بالإسلام إذا لم يُعلم منه تعريض بالدعاء علينا، وأما إذا عُلم ذلك فالوجه فيه أن يكون التقدير: وأقول عليكم ما تستحقّونه.

قال الجامع عفا الله عنه: كونهم يُعَرّضون بالدعاء علينا هو الظاهر، فلا يتوهّم غيره؛ إذ عدولهم عن "السلامُ عليكم" إلى "السام عليكم، ليس إلا لهذا الغرض، فلا للدعاء لهم، بل ظاهر تعليم النبيّ صلى الله عليه وسلم أن نقول: عليكم؛ دالّ على أن ندعو عليهم، لا لهم، فتنبّه.

قال: وإنما اختار هذه الصيغة -يعني: "وعليكم"- ليكون أبعد عن الإيحاش، وأقرب إلى الرفق، فإن ردّ التحيّة يكون إما بأحسن منها، أو بقولنا: وعليك السلام، والردّ عليهم بأحسن مما حيّونا به لا يجوز لنا، ولا ردّ باقلّ من قولنا: وعليك، وأما الردّ بغير الواو فظاهرٌ؛ أي: عليكم ما تستحقونه.

وقال البيضاويّ رحمه الله: إذا عُلم التعريض بالدعاء علينا، فالوجه أن يقدّر:

(1)

كذا وقع في نسخة "الفتح"، ولعل الصواب:"قال ابن المنذر"، فليُحرّر.

(2)

هو: أن يهوديًّا عز بالنبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال:"السلام عليكم، فأخذ اليهوديّ، فاعترف"، وفي رواية: فقال: "رُدّوه، فردّوه، فقال: أقلت: السلام عليكم؟ قال: نعم، فقال عند ذلك: إذا سلّم عليكم أهل الكتاب، فقولوا: وعليكم".

ص: 519

وأقول: عليكم ما تريدون بنا، أو تستحقّونه، ولا يكون "وعليكم" عطفًا على "عليكم" في كلامهم، وإلا لتضمّن ذلك تقرير دعائهم، ولذلك قال في الحديث الآخر:"فقل: عليك" بغير واو، وقد رُوي ذلك بالواو أيضًا.

قال الطيبيّ رحمه الله: سواء عُطف على "عليكم"، أو على الجملة من حيث هي؛ لأن المعنى يدور مع إرادة المتكلّم، فإذا أردت الاشتراك كان ذلك، وإن لم تُرِدْ حَمَلت ذلك على معنى الحصول والوجود، كأنه قيل: حصل منهم ذاك، ومنّي هذا. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [4/ 5642 و 5643](2164)، و (البخاريّ) في "الاستئذان"(6257) و"استتابة المرتدّين"(6928)، وفي "الأدب المفرد"(1106)، و (أبو داود) في "الأدب"(5206)، و (الترمذيّ) في "السير"(1603)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(6/ 102)، و (مالك) في "الموطّأ"(3/ 132)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(8/ 630 - 631)، و (أحمد) في "مسنده"(9/ 2 و 58 و 113)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(502)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(9/ 203)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(3112)، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5643]

(

) - (وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِهِ، غَيْرَ أنهُ قَالَ: "فَقُولُوا: وَعَلَيْكُمْ

(2)

").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

(1)

"الكاشف عن حقائق السنن" 10/ 3040.

(2)

وفي نسخة: "وعليك".

ص: 520

2 -

(عَبْدُ الرَّحْمَنِ) بن مهديّ، تقدّم قريبًا.

3 -

(سُفْيَانُ) بن سعيد الثوريّ، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

والباقيان تقدّما في السند الماضي.

[تنبيه]: رواية سفيان الثوريّ عن عبد الله بن دينار هذه ساقها النسائيّ رحمه الله في "الكبرى" فقال:

(10212)

- أخبرنا عمرو بن عليّ، قال: حدّثنا عبد الرحمن، قال: حدّثنا سفيان، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"إن اليهود إذا سلّموا قالوا: السام عليكم، فقولوا: وعليكم". انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5644]

(2165) - (وَحَدَّثَنِي عَمْرُو النَّاقِدُ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ -وَاللَّفْظُ لِزُهَيْرٍ - قَالَا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَت: اسْتَأْذَنَ رَهْطٌ مِنَ الْيَهُودِ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالُوا: السَّامُ عَلَيْكُمْ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: بَلْ عَلَيْكُمُ السَّامُ، وَاللَّعْنَةُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "يَا عَائِشَةُ، إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الأَمْرِ كُلِّهِ"، قَالَتْ: ألَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا؟ قَالَ: "قَدْ قُلْتُ: وَعَلَيْكُمْ ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عُرْوَةُ) بن الزبير، تقدّم قريبًا.

2 -

(عَائِشَةُ) أمّ المؤمنين رضي الله عنها تقدّمت أيضًا قريبًا.

والباقون تقدّموا قبل أربعة أبواب، و "عمرو الناقد" هو عمرو بن محمد بن بُكير.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان قرن بينهما؛ لاتّحاد كيفيّة التحمّل والأداء، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، والراوي عن خالته، وفيه عروة أحد الفقهاء السبعة، وفيه عائشة رضي الله عنها من المكثرين السبعة.

شرح الحديث:

(عَنْ عَائِشَةَ) أمّ المؤمنين رضي الله عنها أنها (قَالَت: اسْتَأْذَنَ رَهْطٌ مِنَ الْيَهُودِ)

(1)

"السنن الكبرى" للنسائيّ 6/ 102.

ص: 521

"الرهط" بفتح الراء، وإسكان الهاء، وتُفتح: قال الفيّوميّ: الرَّهْطُ ما دون عشرة من الرجال، ليس فيهم امرأة، وسكون الهاء أفصح مِنْ فَتْحها، وهو جَمْع لا واحد له من لفظه، وقيل: الرَّهْطُ من سبعة إلى عشرة، وما دون السبعة إلى الثلاثة نفر، وقال أبو زيد: الرَّهْطُ، والنَّفَرُ: ما دون العشرة من الرجال، وقال ثعلب أيضًا: الرَّهْطُ، وَالنَّفَرُ، وَالقَوْمُ، وَالمَعْشَرُ، وَالعَشِيرَةُ، معناهم: الجمع، لا واحد لهم من لفظهم، وهو للرجال دون النساء، وقال ابن السكيت: الرَّهْطُ، وَالْعَشِيرَةُ، بمعنى، ويقال: الرَّهْطُ: ما فوق العشرة إلى الأربعين، قاله الأصمعيّ في "كتاب الضاد والظاء"، ونقله ابن فارس أيضًا، ورَهْطُ الرجل: قومه، وقبيلته الْأقربونَ. انتهى

(1)

.

قال الحافظ رحمه الله: لم أعرف أسماء هؤلاء الرهط، لكن أخرج الطبرانيّ بسند ضعيف، عن زيد بن أرقم، قال:"بينما أنا عند النبيّ صلى الله عليه وسلم إذ أقبل رجل من اليهود، يقال له: ثعلبة بن الحارث، فقال: السام عليك يا محمد، فقال: وعليكم"، فإن كان محفوظًا احتَمَلَ أن يكون أحد الرهط المذكورين، وكان هو الذي باشر الكلام عنهم، كما جَرَت العادة من نسبة القول إلى جماعة، والمباشر له واحد منهم؛ لأن اجتماعهم، ورضاهم به في قوّة من شاركه في النطق. انتهى

(2)

.

(عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالُوا: السَّامُ عَلَيْكُمْ)"السام " بالسين المهملة، وتخفيف الميم: الموت، وألِفُه منقلبة عن الواو، ورواه قتادة مهموزًا، وقال: معناه تسأمون دينكم، يقال: سَئِمَهُ، ورواه غيره: السام، وهو الموت، فإن كان عربيًّا فهو من سَامَ يسوم: إذا مضى؛ لأن الموت مضى، قاله الطيبيّ رحمه الله

(3)

.

وقال ابن بطال رحمه الله

(4)

: فسَّر أبو عبيد السام بالموت، وذكر الخطابيّ أن قتادة تأوّله على خلاف ذلك، ففي رواية عبد الوارث بن سعيد، عن سعيد بن

(1)

"المصباح المنير" 1/ 241.

(2)

"الفتح" 14/ 192، كتاب "الاستئذان" رقم (6256).

(3)

"الكاشف عن حقائق السنن" 15/ 3041.

(4)

"الأعلام" 3/ 2176 - 2177.

ص: 522

أبي عروبة، قال: كان قتادة يقول: تفسير السامُ عليكم: تسأمون دينكم، وهو يعني: السَّاَم مصدر سَئِمه سَآمَةً، وسَأَمًا، مثل رَضِعَه رَضَاعَةً، ورَضَاعًا، قال ابن بطال: ووجدت هذا الذي فسَّره قتادة مرويًّا عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، أخرجه بَقِيّ بن مَخْلَد في "تفسيره" من طريق سعيد، عن قتادة، عن أنس:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم بينا هو جالس مع أصحابه؛ إذ أتى يهوديّ، فسلَّم عليه، فرَدُّوا عليه، فقال: هل تدرون ما قال؟ قالوا: سَلَّم يا رسول الله، قال: قال: سام عليكم؛ أي: تسأمون دينكم".

قال الحافظ: يَحْتَمِل أن يكون قوله: "أي تسأمون دينكم" تفسير قتادة، كما بيّنته رواية عبد الوارث التي ذكرها الخطابيّ.

وقد أخرج البزّار، وابن حبان في "صحيحه" من طريق سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن أنس:"مَرّ يهوديّ بالنبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فسلّم عليهم، فردّ عليه أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: هل تدرون ما قال؟ قالوا: نعم، سلّم علينا، قال: فإنه قال: السام عليكم؛ أي: تسأمون دينكم، رُدُّوه عليّ، فرَدُّوه، فقال: كيف قلت؟ قال: قلت: السام عليكم، فقال: إذا سلّم عليكم أهل الكتاب، فقولوا: عليكم ما قلتم"، لفظ البزار، وفي رواية ابن حبان: "أن يهوديًّا سَلَّم، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: أتدرون؟

" والباقي نحوه، ولم يذكر قوله: "ردوه

إلخ"، وقال في آخره: "فإذا سلّم عليكم رجل من أهل الكتاب، فقولوا: وعليك". انتهى

(1)

.

(فَقَالَتْ عَائِشَةُ) رضي الله عنه (بَلْ عَلَيْكُمُ السَّامُ)؛ أي: عليكم مفهوم ما تريدون من هذا اللفظ، وتحرّفونه إلى المعنى الفاسد، (وَاللَّعْنَةُ)؛ أي: عليكم اللعنة زيادة على ذلك.

وقال في "الفتح": قوله: هو اللعنة" يَحْتَمِل أن تكون عائشة رضي الله عنها فَهِمت كلامهم بفطنتها، فأنكرت عليهم، وظَنَّت أن النبيّ صلى الله عليه وسلم ظنّ أنهم تلفظوا بلفظ السلام، فبالغت في الإنكار عليهم.

وَيحْتَمِل أن يكون سبق لها سماع ذلك من النبيّ صلى الله عليه وسلم، كما في حديثَي ابن

(1)

"الفتح" 14/ 192، كتاب "الاستئذان" رقم 62561).

ص: 523

عمر، وأنس رضي الله عنهما في الباب، وإنما أَطلقت عليهم اللعنة، إما لأنها كانت ترى جواز لعن الكافر المعيَّن باعتبار الحالة الراهنة، لا سيما إذا صدر منه ما يقتضي التأديب، وإما لأنها تقدّم لها علمٌ بأن المذكورين يموتون على الكفر، فأَطلقت اللعن، ولم تقيّده بالموت، والذي يظهر أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أراد أن لا يتعود لسانها الفحش، أوأنكر عليها الإفراط في السبّ.

(فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "يَا عَائِشَةُ) وفي الرواية الآتية: "مه يا عائشة"، و"مه" بفتح، فسكون: كلمة زجر عن الشيء، وفي رواية البخاريّ:"مهلًا يا عائشة"، وقوله:"مهلًا" معناه: تَأَنَّي، وارفُقِي، وانتصابه على المصدرية، وقال الجوهريّ: الْمَهَل، بالتحريك: التُّؤَدة، والتباطؤ، والاسم: الْمُهْلة بالضمّ، قال: وقولهم: مَهْلًا يا رجلُ، وكذلك للاثنين، والجمع، والمؤنّث، وهي موحّدةٌ بمعنى أَمْهِلْ. انتهى

(1)

.

(إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الرِّفْقَ) قال المناويّ رحمه الله: "الرفق " -بكسر الراء، وسكون الفاء-: لِيْنُ الجانب بالقول، والفعل، والأخذُ بالأسهل، والدفع بالأخفّ، قال: عرَّف في "شرح الرسالة العَضُدية" الرفقَ بأنه حسن الانقياد إلى ما يؤدي إلى الجميل. انتهى

(2)

. (فِي الأَمْرِ كُلِّهِ")؛ أي: في أمر الدِّين، وأمر الدنيا، حتى في معاملة المرء نفسه، ويتأكد ذلك في معاشرة مَن لا بُدّ للإنسان من معاشرته، كزوجته، وخادمه، وولده، فالرفق محبوبٌ مطلوبٌ مرغوب، وكلُّ ما في الرفق من الخير ففي العنف مثله من الشر. انتهى

(3)

.

(قَالَتْ: أَلمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا؟) تعني قولهم: السام عليكم، (قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("قَدْ قُلْتُ: وَعَلَيْكُمْ") هكذا في رواية سفيان، عن الزهريّ لإثبات الواو، وفي الرواية التالية من طريق معمر، وصالح بن كيسان، كلاهما عن الزهريّ: "عليكم" بحذف الواو، والله تعالى أعلم.

(1)

"الصحاح" 1007، و"عمدة القاري" 22/ 113.

(2)

"فيض القدير على الجامع الصغير" للمناويّ 2/ 287.

(3)

"فيض القدير على الجامع الصغير" للمناويّ 2/ 287.

ص: 524

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [4/ 5644 و 5645 و 5646 و 5647](2165)، و (البخاريّ) في "الجهاد"(2935) و"الأدب"(6024 و 6030) و"الاستئذان "(6256) و"الدعوات"(6395 و 6401) وفي "الأدب المفرد"(311 و 412)، و (الترمذيّ) في "الاستئذان"(2701)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(6/ 103)، و (ابن ماجه) في "الآداب"(3688)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(19460)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 37 و 85 و 199)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 323)، و (عبد بن حميد) في "مسنده"(1/ 428)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6441)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(9/ 203) وفي "الآداب"(286)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(3313 و 3314)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثانية): في فوائده:

1 -

(منها): بيان ما عليه اليهود من شدّة بغضهم للإسلام، وأهله، وقد أخبرنا الله سبحانه وتعالى بذلك، فقال:{لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} الآية [المائدة: 82].

2 -

(ومنها): ما قال المهلَّب رحمه الله: في هذا الحديث جواز انخداع الكبير للمكايد، ومعارضته من حيث لا يشعر؛ إذا رُجي رجوعه، قال الحافظ: في تقييده بذلك نظرٌ؛ لأن اليهود حينئذ كانوا أهل عهد، فالذي يظهر أن ذلك كان لمصلحة التأليف. انتهى

(1)

.

3 -

(ومنها): ما قاله النوويّ رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم: "يا عائشة إن الله يحبّ الرفق في الأمر كلِّه" هذا من عظيم خُلُقه صلى الله عليه وسلم، وكمال حِلْمه، وفيه حثّ على الرفق، والصبر، والحلم، وملاطفة الناس، ما لم تَدْع حاجة إلى المخاشنة. انتهى

(2)

.

(1)

"الفتح" 14/ 194، كتاب "الاستئذان" رقم (6256).

(2)

"شرح النوويّ" 14/ 145.

ص: 525

4 -

(ومنها): ما قيل: فيه جواز لعن الكافر المعيّن، وفيه خلاف قد حقّقناه في غير هذا المحلّ.

5 -

(ومنها): إثبات صفة المحبّة لله عز وجل من غير تأويل، ولا تمثيل، ولا تعطيل، بل على ما يليق بجلاله سبحانه وتعالى، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5645]

(

) - (حَدَّثَنَاهُ حَسَنُ بْنُ عَلِق الْحُلْوَانِيُّ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، جَمِيعًا عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ صَالِحٍ (ح) وَحَدَّثَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، كِلَاهُمَا عَنِ الزُّهْرِيِّ، بِهَذَا الإِسْنَادِ، وَفي حَدِيثِهِمَا جَمِيعًا: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "قَدْ قُلْتُ: عَلَيْكُمْ"، وَلَمْ يَذْكُرَا

(1)

الْوَاوَ).

رجال هذين الإسنادين: ثمانية:

1 -

(حَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْحُلْوَانِيُ) نزيل مكة، أبو محمد الْهُذليّ، ثقةٌ حافظ، له تصانيف [11](ت 242)(خ م دت ق) تقدم في "المقدمة" 4/ 24.

2 -

(يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ) الزهريّ، أبو يوسف المدنيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ فاضلٌ، من صغار [9](ت 258)(ع) تقدم في "الإيمان" 9/ 141.

3 -

(أَبُوهُ) إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهريّ، أبو إسحاق المدنيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ حجةٌ [8](ت 185)(ع) تقدم في "الإيمان" 9/ 141.

4 -

(صَالِحُ) بن كيسان الغفاريّ مولاهم، أبو محمد المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ [4] مات بعد (130) أو بعد (140)(ع) تقدم في "الإيمان" 9/ 141.

والباقون ذُكروا في الباب الماضي.

وقوله: (كِلَاهُمَا عَنِ الزُّهْرِيِّ، بِهَذَا الإِسْنَادِ) ضمير التثنية لإبراهيم بن سعد وصالح بن كيسان.

[تنبيه]: رواية صالح بن كيسان عن الزهريّ ساقها النسائيّ رحمه الله في "الكبرى"، فقال:

(1)

وفي نسخة: "ولم يذكروا".

ص: 526

(10214)

- أخبرنا عبيد الله بن سعد بن إبراهيم بن سعد، حدّثنا عَمِّي، قال: أخبرني أَبِي

(1)

، عن صالح، عن ابن شهاب، أخبرني عروة، أن عائشة قالت: دخل رهط من اليهود على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: السام عليك، ففهمتها، فقلت: السام عليكم، واللعنة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"مَهْلًا يا عائشة، إن الله يُحِبّ الرفق في الأمر كله"، قلت: يا رسول الله، ألم تسمع ما قالوا؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"قد قلت: عليكم". انتهى

(2)

.

ورواية معمر عن الزهريّ ساقها عبد بن حميد رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(1471)

- أنا عبد الرزاق، أنا معمر، عن الزهريّ، عن عروة، عن عائشة قالت: دخل رهط من اليهود على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: السام عليكم، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"وعليكم"، فقالت عائشة: ففهمتها، فقلت: عليكم السام، واللعنة، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"مَهْلًا يا عائشة، إن الله يحبّ الرفق في الأمر كله"، قالت: قلت: يا رسول الله، ألم تسمع ما قالوا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أليس قد قلت: عليكم؟ ". انتهى

(3)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5646]

(

) - (حَدَّثنا أَبُو كُرَيْب، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ مُسْلِم، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: أتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أناسٌ

(4)

مِنَ الْيَهُودِ، فَقَالُوا: السَّامُ عَلَيْكَ يَا أَبَا الْقَاسِمِ، قَالَ:"وَعَلَيْكُمْ"، قَالَتْ عَائِشَةُ: قُلْتُ: بَلْ عَلَيْكُمُ السَّامُ، وَالذَّامُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"يَا عَائِشَةُ، لَا تَكُونِي فَاحِشَةً"، فَقَالَتْ: مَا سَمِعْتَ مَا قَالُوا؟ فَقَالَ: "أَوَلَيْسَ قَدْ رَدَدْتُ عَلَيْهِمُ الَّذِي قَالُوا؟، قُلْتُ: وَعَلَيْكُمْ").

(1)

سقط لفظ "أبي" من نسخة "الكبرى"، ولا بدّ منه، والإصلاح من رواية مسلم هذه، ومن "تحفة الأشراف" 12/ 49، فتنبّه.

(2)

"السنن الكبرى" للنسائيّ 6/ 103.

(3)

"مسند عبد بن حميد" 1/ 428.

(4)

وفي نسخة: "ناسٌ".

ص: 527

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(مُسْلِمُ) بن صُبيح الْهَمْدانيّ، أبو الضُّحى الكوفيّ العطّار، ثقةٌ فاضل، من صغار [4](ت 100)(ع) تقدم في "الطهارة" 22/ 635.

2 -

(مَسْرُوقُ) بن الأجدع بن مالك الْهَمْدانيّ الوادعيّ، أبو عائشة الكوفيّ، مخضرمٌ ثقةٌ فقيهٌ عابدٌ [2](ت 2 أو 63)(ع) تقدم في "الإيمان" 27/ 217.

و"عائشة" رضي الله عنها ذُكرت قبله، والباقون تقدّموا قريبًا، و"أبو كُريب" هو: محمد بن العلاء، و"أبو معاوية" هو: محمد بن خازم الضرير، و"الأعمش" هو: سليمان بن مِهْران.

وقولها: (أتى النَّبِي صلى الله عليه وسلم أُنَاسٌ) ببناء الفعل للفاعل، و"أناس" مرفوع على الفاعليّة له، و"النبيَّ" مفعوله مقدّمًا، ووقع في بعض النُّسخ:"ناسٌ" بحذف الهمزة، قال الفيّوميّ رحمه الله:"الأُنَاسُ" قيل: فُعالٌّ بِضَمّ الفَاءِ، مُشْتَقُ مِنَ الإنِس، لكن يجوزُ حذف الهمزة تخفيفًا على غير قياس، فيبقى النَّاسَ، وعنِ الكسائيّ: أن الأُنَاسَ، والنَّاسَ لُغَتانِ بمِعَنْىً واحد، وليس أحدهما مشتقًّا من الآخر، وهو الوجهُ؛ لأنهما مادَّتَانِ مُخْتلِفَتانِ في الاشْتِقَاق، والحذف تَغْيِيرٌ، وهو خِلافُ الأَصْل. انتهى

(1)

.

وقولها: (بَلْ عَلَيْكُمُ السَّامُ، وَالذَّامُ) قال النوويّ رحمه الله: "الذام" بالذال المعجمة، وتخفيف الميم، وهو الذّمّ، ويقال: بالهمزة أيضًا، والأشهر ترك الهمز، وألفه منقلبة عن واو، والذامُ، والذِّيمُ، والذّمّ بمعنى العيب، ورُوِي الدّامُ بالدال المهملة، ومعناه الدائم، وممن ذكر أنه رُوي بالمهملة ابن الأثير، ونقل القاضي عياض الاتفاق على أنه بالمعجمة، قال: ولو رُوي بالمهملة لكان له وجه، والله أعلم. انتهى.

وقال في "الفتح": "والذام" بالذال المعجمة، وهو لغة في الذّمّ ضِدِّ المدح، يقال: ذَمَّ بالتشديد، وذام بالتخفيف، وذَيْم بتحتانية ساكنة، وقال عياض: لم يختلف الرواة أن الذام في هذا الحديث بالمعجمة، ولو رُوي بالمهملة من الدوام، لكان له وجه، ولكن كان يحتاج لحذف الواو؛ ليصير

(1)

"المصباح المنير" 1/ 26.

ص: 528

صفة للسام، وقد حَكَى ابن الأعرابيّ:"الدام" لغة في الدائم. انتهى

(1)

.

وقال القاضي عياض رحمه الله في "المشارق": وقول عائشة رضي الله عنها: "عليكم السام والذام" الرواية بغير همز عند الكافة، وذال معجمة، وعند العذريّ: والهام بالهاء، فعلى رواية الكافة، إما أن يقال: إن الألف منقلبة من همزة، والذأم بالهمز العيب، يقال: ذامه يَذامه ذامًا، قال الله تعالى:{اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا} [الأعراف: 18]؛ أي: مَعِيبًا، أو تكون أيضًا منقلبة من ياء بمعناه، يقال منه: ذامه يَذيمه ذامًا، بغير همز، وكذلك ذمَّه يَذُمّه ذمًّا، وذماه يَذميه كله بمعنى، وقد ذكر الهرويّ هذا الحديث، فقال:"عليكم السام، والدام" بدال مهملة غير مهموز، وفسَّره: عليكم الموت الدائم، قال ابن الأعرابيّ: الدام: الموت الدائم، وقال ابن عرفة: ذامَتُه بالمعجمة مهموز: حَقَرته، وأما رواية من رواه: الهام، فإن صحت فمحملها على معنى الطيرة، والشؤم؛ لأن العرب تتشاءم بالهام، وهو ذَكَر الْبُوم، أو يراد بالهام هنا الموت، والهلاك، كما فُسِّر به السام في الرواية الأخرى، على أحد التفسيرين؛ لقولهم: هو هامة اليوم، أو غَدٍ؛ أي: ميت، وأصله أيضًا من قول الجاهلية: إن الميت إذا مات خرج من رأسه طائر يُسَمَّى الهام. انتهى

(2)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قول عائشة رضي الله عنها: "بل عليكم السَّام، والذَّام": الذَّام بتخفيف الميم؛ الرواية المشهورة فيه بالذال المعجمة، وهو العيب، ومنه: المثل: لا تَعْدَمُ الْحَسْنَاءُ ذَامًا؛ أي: عيبًا، ويهمز، ولا يهمز، ويقال: ذأمه يذأمه، مثل: دأب عليه يدأب، والمفعول: مذؤوم -مهموزًا- ومنه: {مَذْءُومًا مَدْحُورًا} [الأعراف: 18] ويقال: ذامه يذومه -مخففًا- كرامه، يرومه، قال الأخفش: الذَّام أشدُّ العيب، وقد وقع للعذريّ هذا الحرف "الهام" بالهاء؛ يعني: هامة القتيل، وصداه التي كانت العرب تتحدَّث بها، وهي من أكاذيبها، كما تقدَّم، وتعني بذلك عائشة رضي الله عنها على هذا القتلَ؛ دعت عليه بالموت والقتل، وقاله ابن الأعرابيّ بالدال المهملة، وفسَّره بالدائم، والصواب الأول

(1)

"الفتح" 14/ 192، كتاب "الاستئذان" رقم (6256).

(2)

"مشارق الأنوار"1/ 274.

ص: 529

-إن شاء الله تعالى- انتهى

(1)

.

وقوله: (لَا تَكُونِي فَاحِشَةً)؛ أي: مُعتديةً في الجواب، وقال القرطبيّ رحمه الله: أي: لا يصدر عنك كلام فيه جفاء، والفحش: ما يُستفحش من الأقوال، والافعال، غير أنَّه قد كَثُر إطلاقه على الزنى، وهو غير مراد هنا قطعًا، وهذا منه صلى الله عليه وسلم أمر لعائشة رضي الله عنها بالتثبت، والرفق، وترك الاستعجال، وتأديبٌ لها لِمَا نَطَقت به من اللَّعنة، وغيرها، والله تعالى أعلم. انتهى

(2)

.

وقال المجد رحمه الله: الفاحشة الزنى، وما يشتدّ قبحه من الذنوب، وكل ما نهى الله عنه، والفحشاء البخل في أداء الزكاة، والفاحش البخيل جدًّا، والكثير الغالب، وقد فَحُش، كَكَرُم فُحْشًا، والفحش عدوان الجواب، ومنه: قوله صلى الله عليه وسلم لعائشة: "لا تكوني فاحشةً"، ورجل فاحشٌ، وفَحّاش، وأفحش، قال الفحشَ، وتفاحش: أتى به، وأظهره. انتهى

(3)

.

وقال ابن الأثير رحمه الله: الفاحش: ذو الفحش في كلامه، وفِعاله، والمتفحّش الذي يتكلّف ذلك، ويتعمّده، قال: وقد تكرّر ذِكر الفحش، والفاحشة، والفواحش في الحديث، وهو كل ما يشتدّ قبحه من الذنوب والمعاصي، وكثيرًا ما تَرِدُ الفاحشة بمعنى الزنى، وكلّ خَصلة قبيحة من الأقوال، والأفعال، ومنه الحديث: قال لعائشة رضي الله عنها: لا تقولي ذلك، فإن الله لا يحبّ الْفُحش ولا التفاحُش، أراد بالفُحش التعدّي في القول والجواب، لا الفُحش الذي هو من قَذَعِ الكلام، ورديئه، والتفاحش: تفاعُلٌ منه. انتهى

(4)

.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى البحث فيه مستوفًى قبل حديث، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5647]

(-) حَدَّثَنَاهُ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا يَعْلَى بْنُ عُبَيْدٍ، حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ، بِهَذَا الإِسْنَادِ، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: فَفَطِنَتْ بِهِمْ عَائِشَةُ، فَسَبَّتْهُمْ، فَقَالَ

(1)

"المفهم" 5/ 493.

(2)

"المفهم" 5/ 494.

(3)

"القاموس المحيط" 1/ 774.

(4)

"النهاية في غريب الحديث والأثر" ص 693.

ص: 530

رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَهْ يَا عَائِشَةُ، فَإِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْفُحْشَ، وَالتفَحُّشَ"، وَزَادَ: فَأْنزَلَ اللهُ عز وجل: {وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ} إِلَى آخِرِ الآيةِ [المجادلة: 8]).

رجال هذا الإسناد: ثلاثة:

1 -

(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه، تقدّم قريبًا.

2 -

(يَعْلَى بْنُ عُبَيْدِ) بن أُميّة الإياديّ، ويقال: الحنفيّ مولاهم الطنافسيّ، أبو يوسف الكوفيّ، ثقةٌ، إلا في حديثه عن الثوريّ، ففيه لينٌ، من كبار [9] مات سنة بضع و (200) وله تسعون سنةً.

رَوَى عن إسماعيل بن أبي خالد، ويحيى بن سعيد الأنصاريّ، والأعمش، وعبد العزيز بن سياه، ويزيد بن كيسان، ومحمد بن إسحاق، وغيرهم.

وروى عنه ابن أخته علي بن محمد الطنافسيّ، وأخوه محمد بن عبيد، ومحمد بن مقاتل المروزيّ، وإسحاق بن راهويه، وابنا أبي شيبة، وعبد بن حميد، وغيرهم.

قال صالح بن أحمد عن أبيه: كان صحيح الحديث، وكان صالِحًا في نفسه، وقال عليّ بن الحسن الهسنجانيّ عن أحمد: يعلى أصحّ حديثًا من محمد بن عبيد، وأحفظ، وقال إسحاق بن منصور عن ابن معين: ثقةٌ، وقال عثمان الدارميّ عن ابن معين: ضعيف في سفيان، ثقةٌ في غيره، وقال أبو حاتم: صدوق، وهو أثبت أولاد أبيه في الحديث، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال أحمد بن يونس: ما رأيت أحدًا يريد بعلمه الله تعالى إلا يعلى بن عبيد، ما رأيت أفضل منه، وقال أبو مسعود الرازيّ: كان يعلى ومحمد ابنا عبيد من أهل بيت بركة، ما رأيت يعلى ضاحكًا قط، وكان يعلى أكثر مجلسًا، وأحسن خُلُقًا، وقال ابن سعد: كان ثقةٌ كثير الحديث، وقال الدارقطنيّ: بنو عُبيد كلهم ثقات، وقال ابن عمار الموصليّ: أولاد عُبيد كلهم ثبت، وأحفظهم يعلى، وأبصرهم بالحديث محمد، وقال سعيد بن أيوب البخاريّ: كان يعلى يحفظ عامة حديثه، أو جميعه.

ص: 531

قال ابن نمير، وجماعة: مات في شوال سنة تسع ومائتين، وقال ابن حبان: مات في رمضان سنة سبع، وقيل: سنة تسع ومائتين، وقال غيره: كان مولده سنة سبع عشرة ومائة.

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا برقم (2165)، وحديث (2447): "إن جبريل يقرأ عليكِ السلام

" الحديث.

وقوله: (فَفَطِنَتْ بِهِمْ عَائِشَةُ) بفتح الفاء، وكسر الطاء المهملة، قال الفيّوميّ رحمه الله: فَطِنَ للأمر يَفْطُنُ، من بابي تَعِبَ، وقَتَل فِطْنًا، وفِطْنَةً، وفِطَانَةً بالكسر في الكلّ، فهو فَطِنُ، والجمع فُطُنُ بضمتين، وفَطُنَ بالضم: إذا صارت الفِطَانَةُ له سجية، فهو فَطِنُ أيضًا، ورجل فَطِن بخصومته: عالم بوجوهها، حاذق، ويتعدى بالتضعيف، فيقال: فَظَنتُهُ للأمر. انتهى

(1)

.

وقال النوويّ رحمه الله: هو بالفاء، وبالنون بعد الطاء من الفطنة، هكذا هو في جميع النُّسخ، وكذا نقله القاضي عن الجمهور، قال: ورواه بعضهم: "فَقَطَّبَت" بالقاف، وتشديد الطاء، وبالباء الموحّدة، وقد تُخفَّف الطاء في هذا اللفظ، وهو بمعنى قوله في الرواية الأخرى:"غَضِبَتْ"، ولكن الصحيح الأول. انتهى

(2)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "ففطنت بهم عائشة" صحيح الرواية بفاء، وطاء مهملة، ونون، من الْفِطنة، والفهم؛ أي: فَهِمت عنهم ما قالوه، ولابن الحذَّاء: فقَطَّبت، بقاف وجاء موحّدة، من التقطيب في الوجه، وهو العَبْسَة، والغضب، وقد جاء مفسَّرًا في الرواية الأخرى، انتهى

(3)

.

وقوله: (فَسَبَّتْهُمْ)؛ أي: شتمتهم، وبابه نصر، قال النوويّ رحمه الله: وأما سَبّها لهم ففيه الانتصار من الظالم، وفيه الانتصار لأهل الفضل ممن يؤذيهم.

انتهى.

وقوله: (مَهْ يَا عَائِشَةُ) بفتح الميم، وإسكان الهاء: اسم فعل بمعنى كفّي، وانزجري، وقال في "التاج": قال الجوهريّ: مَهْ كَلِمةٌ بُنِيت على السكون،

(1)

"المصباح المنير" 2/ 477.

(2)

"شرح النوويّ" 14/ 147.

(3)

"المفهم" 5/ 493.

ص: 532

وهي اسمٌ سُمِّي به الفعل، ومعناه: اكْفُفْ؛ لأنّه زجر، فإن وَصَلتَ نَوَّنتَ، فقلتَ: مَهٍ مَهْ، ويقال: مَهْمَهْتُ به: أي: زجرته. انتهى، وقال بعض النحويين: أما قولهم: مَهْ إذا نَوَّنتَ فكأنك قلت: ازدجارًا، وإذا لم تنوّن فكأنك قلت: الازدجار، فصار التنوين عَلَمَ التنكير، وتَرْكَه عَلمَ التعريف. انتهى

(1)

.

وقال ابن الأثير رحمه الله: مَهْ اسم مبنيّ على السكون، بمعنى اسكت، قال: وفي حديث طلاق ابن عمر: "قلت: فيه"؛ أي: فماذا للاستفهام، فأبدلت الألف هاءً للوقف والسكت. انتهى

(2)

.

وقوله: (فَإِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْفُحْشَ، وَالتَفَحُّشَ) قال النوويّ رحمه الله: أما الفُحْش فهو القبيح من القول والفعل، وقيل: الفحش مجاوزة الحدّ، قال: وفي هذا الحديث استحباب تغافل أهل الفضل عن سَفَه المبطلين إذا لم تترتب عليه مفسدة، قال الشافعيّ رحمه الله: الكيِّس العاقل هو الفَطِنُ المتغافل. انتهى

(3)

.

وقال القاضي عياض رحمه الله: قال ابن عوفة: الفاحش ذو الفحش في كلامه، والمتَفَحِّش الذي يتكلَّف ذلك، ويتعمَّده، وقال الطبريّ: الفاحش البذيّ، قيل: ويكون المتفحش الذي يأتي الفاحشة المنهيّ عنها، وقوله لعائشة رضي الله عنها حين رَدّت على اليهود:"عليكم السام واللعنة": "لا تكوني فاحشة"، و"إن الله لا يحب الفُحش، ولا التفحش"، هو مما تقدم في القول، ألا تراه في الرواية الأخرى:"إن الله يحب الرفق في الأمر كله"؛ وقيل: هو هنا عدوان الجواب؛ لأنه لم يكن منها إليهم فُحْش، قاله الهرويّ.

قال القاضي: لا أدري ما قال؟ وأيُّ شيء أفحش من اللعنة، وما قالته لهم مما يستحقونه، وقوله:"من أجل ذلك حَرَّم الفواحش" قال ابن عرفة: كلُّ ما نهى الله عنه فهو فاحشة، وقيل: الفاحشة ما يشتدّ قبحه من الذنوب، والفحش زيادة الشيء على ما عُهِد من مقداره. انتهى

(4)

.

(1)

"تاج العروس" 1/ 8243.

(2)

"النهاية في غريب الحديث والأثر" ص 889.

(3)

"شرح النوويّ" 14/ 147.

(4)

"مشارق الأنوار"2/ 148.

ص: 533

وقوله: (وَزَادَ) الفاعل ضمير يعلى بن عُبيد؛ أي: زاد في الحديث قوله: "فأنزل الله عز وجل

إلخ".

وقوله: (فَأَنزَلَ اللهُ عز وجل: {وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ} إِلَى آخِرِ الآيةِ [المجادلة: 8]) فيه بيان سبب نزول الآية الكريمة، فإنها نزلت بسبب قول اليهود للنبيّ صلى الله عليه وسلم: السام عليكم.

وقال الإمام ابن جرير الطبريّ رحمه الله: قوله تعالى: {وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ} [المجادلة: 8] يقول تعالى ذِكره لنبيّه محمد صلى الله عليه وسلم: وإذا جاءك يا محمد هؤلاء الذين نُهُوا عن النجوى الذين وصف الله جَلّ ثناؤه صفتهم حَيَّوك بغير التحية التي جعلها الله لك تحيّةً، وكانت تحيتهم التي كانوا يحيّونه بها التي أخبر الله أنه لم يحيّه بها فيما جاءت به الأخبار أنهم كانوا يقولون: السام عليك.

قال: وقوله جل ثناؤه: {وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ} [المجادلة: 8] يقول جل ثناؤه: ويقول محيّوك بهذه التحية من اليهود: هَلّا يعاقبنا الله بما نقول لمحمد صلى الله عليه وسلم، فَيُعَجِّل عقوبته لنا على ذلك، يقول الله: حسب قائلي ذلك يا محمد جهنم، وكفاهم بها، يصلونها يوم القيامة، فبئس المصير جهنم. انتهى

(1)

.

وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله: وقوله تعالى: {وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ} ؛ أي: يفعلون هذا، ويقولون ما يحرّفون من الكلام، وإيهام السلام، وإنما هو شَتْم في الباطن، ومع هذا يقولون في أنفسهم: لو كان هذا نبيًّا لعذّبنا الله بما نقول له في الباطن؛ لأن الله يعلم ما نُسِرّه، فلو كان هذا نبيًّا حقًّا لأوشك أن يعاجلنا الله بالعقوبة في الدنيا، فقال الله تعالى:{حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ} [المجادلة: 8]: أي: جهنم كفايتهم في الدار الآخرة. انتهى

(2)

.

[تنبيه]: رواية يعلى بن عُبيد عن الأعمش ساقها ابن راهويه رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(1)

"تفسير الطبريّ" 15/ 28.

(2)

"تفسير ابن كثير" 4/ 324.

ص: 534

(1455)

- أخبرنا يعلى بن عُبيد، نا الأعمش، عن أبي الضُّحَى، عن مسروق، عن عائشة قالت: كان ناس يأتون رسول الله صلى الله عليه وسلم من اليهود، فيقولون: السام عليك، فيقول:"وعليكم"، ففَطِنت بهم عائشة، فسبّتهم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"مَهْ يا عائشة، فإن الله لا يحب الفُحْش، ولا التفحش، قالت: فقلت: يا رسول الله، إنهم يقولون كذا وكذا، فقال: "أليس قد رددت عليهم؟ "، فأنزل الله عز وجل:{وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ} إلى آخر الآية. انتهى

(1)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5648]

(2166) - (حَدَّثَنِي هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، وَحَجَّاجُ بْنُ الشَّاعِرِ، قَالَا: حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ، أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ يَقُولُ: سَلَّمَ نَاسٌ مِنْ يَهُودَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالُوا: السَّامُ عَلَيْكَ يَا أَبَا الْقَاسِمِ، فَقَالَ: "وَعَلَيْكُمْ"، فَقَالَتْ عَائِشَةُ -وَغَضِبَتْ-: أَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا؟ قَالَ: "بَلَى، قَدْ سَمِعْتُ، فَرَدَدْتُ عَلَيْهِمْ، وَإِنَّا نُجَابُ عَلَيْهِمْ، وَلَا يُجَابُونَ عَلَيْنَا").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) الحمّال، أبو موسى البغداديّ، ثقةٌ [10](ت 243) وقد ناهز الثمانين (م 4) تقدم في "الإيمان" 64/ 361.

2 -

(حَجَّاجُ بْنُ الشَّاعِرِ) هو حجّاج بن أبي يعقوب يوسف بن حجّاج الثقفيّ البغداديّ، ثقةٌ حافظٌ [11](ت 259)(م د) تقدم في "المقدمة" 6/ 40.

3 -

(حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ) الأعور المصّيصيّ، أبو محمد ترمذيّ الأصل، نزيل بغداد، ثمّ الْمَصِّيصة، ثقةٌ ثبت، اختلط أخيرًا [9](ت 206)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 94.

4 -

(ابْنُ جُرَيْجٍ) عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج، تقدّم قبل بابين.

5 -

(أَبُو الزُّبَيْرِ) محمد بن مسلم بن تدرس الأسديّ مولاهم المكيّ، صدوقٌ يُدلّس [4](126)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 119.

(1)

"مسند إسحاق بن راهويه" 3/ 815.

ص: 535

6 -

(جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) رضي الله عنها، تقدّم قريبًا.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسلٌ بالتحديث، والإخبار، والسماع، وقد زالت منه تهمة تدليس ابن جريج، وشيخه أبي الزبير، وفيه جابر بن عبد الله رضي الله عنهما من المكثرين السبعة.

شرح الحديث:

(عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ) أنه قال: (أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ) محمد بن مسلم (أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ) رضي الله عنهما (يَقُولُ: سَلَّمَ نَاسٌ) قال الفيّوميّ رحمه الله: الناسُ: اسم وُضع للجمع؛ كالقوم، والرهط، وواحده إِنْسَانٌ، من غير لفظه، مشتقّ من نَاسَ يَنُوسُ: إذا تَدَلَّى، وتَحَرَّك، فيُطلق على الجنّ والإنس، قال تعالى:{الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ} ، ثم فَسّر النّاس بالجنّ والإنس، فقال:{مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6)} ، وسُمِّي الجنّ نَاسًا كما سُمُّوا رجالًا، قال تعالى:{وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ} [الجن: 16] وكانت العرب تقول: رأيت نَاسًا من الجنّ، ويُصَغَّر النَّاسُ على نُوَيْسٍ، لكن غَلَب استعماله في الإنس. انتهى

(1)

.

(مِنْ يَهُودَ) بمنع الصرف؛ للعلميّة ووزن الفعل، قال في "التاج": اليَهُودُ اسمُ قَبِيلَةٍ، وقيل: إِنما اسمُ هذه القبيلةِ يَهُوذ، فعُرِّب بقلب الذالِ دالًا، قال ابنُ سِيدَه: وليس هذا بِقَوِيٍّ، وقالوا: اليَهود، فأَدخلوا الأَلف واللامَ فيها على إِرادَةِ النَّسَب، قال الله تعالى:{وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى} [البقرة: 111] قال الفَرَّاءُ: يريد يَهُودًا فحذف الياءَ الزائدةَ، ورجَع إِلى الفِعْلِ مِن اليَهُودِيّة، وفي قراءَة أُبَيٍّ:"إِلَّا مَنْ كَانَ يَهُودِيًّا، أَو نَصْرَانِيًّا"، قال: وقد يجوز أَن يَجعل هُودًا جَمْعًا، واحِدُه هائدٌ، مثل حائلٍ

(2)

، وعائطٍ

(3)

، من النُّوقِ، والجمع: حُولٌ، وعُوطٌ، وجمْع اليَهُودِيّ: يَهودٌ، كما يقال في المَجوسِيّ:

(1)

"المصباح المنبر" 2/ 630.

(2)

الحائل: المرأة، أو الناقة، أو نحوهما غير الحامل.

(3)

إذا لم تحمل الناقة أولَ سنة يُحمل عليها، فهي عائط، وحائل. اهـ. "ق".

ص: 536

مَجُوسٌ، وفي العَجَمِيّ، والعَرَبِيّ: عَجَمٌ، وعَرَبٌ، وسُمِّيَت اليَهود اشتقاقًا مِن هَادُوا؛ أَي: تابُوا، وأَرادوا باليَهُودِ اليَهُودِيِّينَ، ولكنهم حَذَفُوا ياءَ الإِضافَة، كما قالوا: زِنْجِيّ، وزِنْج. انتهى

(1)

.

وقال الفيّوميّ رحمه الله: هُودٌ: اسم نَبِيّ عليه السلام عربيُّ، ولهذا ينصرف، وهَادَ الرَّجل هَوْدًا: إذا رَجَع، فهو هَائِدٌ، والجمع هُودٌ، مثلُ بَازِل وبُزْلٍ، وسُمِّي بالجمع، وبالمضارع، وفي التّنزيل:{وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى} [البقرة: 135] ويقال: هم يهودُ غير منصرف؛ للعلميّة، ووزن الفعل، ويجوز دخول الألف واللام، فيقال: اليهود، وعلى هذا فلا يمتنع التّنوين؛ لأنه نُقِل عن وزن الفعل إلى باب الأسماء، والنسبة إليه يَهُودِيٌّ، وقيل: اليهوديُّ نسبة إلى يهودا بن يعقوب عليه السلام، هكذا أورد الصغانيّ يَهُودَا في باب المهملة. انتهى

(2)

.

(عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالُوا: السَّامُ عَلَيْكَ يَا أَبَا الْقَاسِمِ، فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("وَعَلَيْكُمْ") كذا بالواو، وتقدّم البحث في هذا مستوفًى قريبًا. (فَقَالَتْ عَائِشَة) رضي الله عنها، وقوله:(وَغَضِبَتْ) جملة حاليّة من الفاعل، (ألمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا؟ قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("بَلَى، قَدْ سَمِعْتُ) ما قالوه، (فَرَدَدْتُ عَلَيْهِمْ) بقوفي:"وعليكم"(وَإِنَّا) معاشر المسلمين (نُجَابُ عَلَيْهِمْ)؟ أي: تستجاب دعوتنا عليهم، (وَلَا يُجَابُونَ عَلَيْنَا")؛ أي: لا تستجاب دعوتهم علينا، فلا حاجة إلى إغلاظ القول عليهم.

وفي رواية أحمد من طريق محمد بن الأشعث، عن عائشة رضي الله عنه في نحو هذا الحديث:"فقال: مَهْ إن الله لا يحب الفحش، ولا التفحش، قالوا قولًا، فرددناه عليهم، فلم يَضُرّنا شيء، ولزمهم إلى يوم القيامة".

ويستفاد منه أن الداعي إذا كان ظالِمًا على من دعا عليه لا يستجاب دعاؤه، ويؤيده قوله تعالى:{وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ} [الرعد: 14]

(3)

.

وقال الخطابيّ ما ملخّصه: إن الداعي إذا دعا بشيء ظلمًا، فإن الله لا يستجيب له، ولا يجد دعاؤه محلًّا في المدعوّ عليه. انتهى، والله تعالى أعلم.

(1)

"تاج العروس" 1/ 2366.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 642.

(3)

"الفتح" 11/ 200.

ص: 537

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [4/ 5648](2166)، و (البخاريّ) في "الأدب المفرد"(1110)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 383)، و (البيهقيّ) في "شُعب الإيمان"(6/ 512)، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5649]

(2167) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ- يَعْنِي: الدَّرَاوَرْدِيَّ- عَنْ سُهَيْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا تَبْدَءُوا الْيَهُودَ، وَلَا النَّصَارَى

(1)

بِالسَّلَامِ، فَإِذَا لَقِيتُمْ أَحَدَهُمْ فِي طَرِيقٍ، فَاضْطَرُّوهُ إِلَى أَضْيَقِهِ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

وكلّهم تقدّموا قريبًا.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا) ناهية، ولذا جُزم بها قوله:(تَبْدَءُوا الْيَهُودَ، وَلَا النَّصَارَى) وفي بعض النُّسخ: "والنصارى" بحذف "لا"، (بِالسَّلَامِ) قال القرطبي رحمه الله: إنما نَهَى عن ذلك؛ لأن الابتداء بالسلام إكرام، والكافر ليس أهلًا لذلك، فالذي يناسبهم الإعراض عنهم، وتَرْك الالتفات إليهم؛ تصغيرًا لهم، وتحقيرًا لشأنهم، حتى كأنهم غير موجودين

(2)

.

(فَإِذَا لَقِيتُمْ أَحَدَهُمْ فِي طَرِيقٍ، فَاضْطَرُّوهُ أِلَى أَضْيَقِهِ") يقال: ضَرَّه إلى كذا، وأضطرّه: بمعثى ألجأه إليه، وليس له منه بُدّ

(3)

.

والمعنى: أَلْجِئُوه إلى أضيق الطريق، بحيث لو كان في الطريق جدار

(1)

وفي نسخة: "لا تبدءوا اليهود والنصارى".

(2)

"المفهم" 5/ 490.

(3)

"المصباح المنير" 2/ 360.

ص: 538

يلتصق بالجدار، وإلا فيأمره لِيَعْدِل عن وسط الطريق إلى أحد طرفيه، قاله القاري

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: أي: لا تتنَحَّوْا لهم عن الطريق الضيق؛ إكرامًا لهم، واحترامًا، وعلى هذا فتكون هذه الجملة مناسبة للجملة الأُولى في المعنى والعطف، وليس معنى ذلك أنا إذا لَقِيناهم في طريق واسع أنَّا نُلجئهم إلى حَرْفِه حتى نضيِّق عليهم؛ لأنَّ ذلك أَذًى مِنّا لهم من غير سبب، وقد نُهينا عن أذاهم. انتهى

(2)

.

وقال النوويّ رحمه الله: قال أصحابنا: لا يُترَك للذميّ صدر الطريق، بل يُضْطَرّ إلى أضيقه إذا كان المسلمون يَطْرُقون، فإن خلت الطريق عن الزحمة فلا حرج، قالوا: وليكن التضييق بحيث لا يقع في وَهْدة، ولا يَصْدِمه جدار، ونحوه، والله أعلم. انتهى

(3)

.

وقال الطيبيّ: قال بعض أصحابنا: يُكره ابتداؤهم بالسلام، ولا يحرم، وهذا ضعيفٌ؛ لأن النهي للتحريم، فالصواب تحريم ابتدائهم، وحَكَى القاضي عياض عن جماعة أنه يجوز ابتداؤهم للضرورة والحاجة، وهو قول علقمة والنخعيّ، وقال الأوزاعيّ: إن سلّمت فقد سلّم الصالحون، وإن تركت فقد ترك الصالحون

(4)

.

قال الجامع عفا الله عنه: لا يخفى مخالفة قول الأوزاعيّ هذا لهذا الحديث الصحيح، فلا ينبغي الإصغاء إليه، وأما الصالحون الذين سلّموا، فيُعتذر عنهم بعدم وصول الخبر إليهم، والله تعالى أعلم.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث

: (المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [4/ 5649 و 5650، (2167)، و (البخاريّ) في

(1)

"عون المعبود" 14/ 75.

(2)

"المفهم" 5/ 490.

(3)

"شرح النوويّ" 14/ 147.

(4)

"الكاشف عن حقائق السنن" 10/ 3039.

ص: 539

"الأدب المفرد"(111 و 1103)، و (أبو داود) في "الأدب"(5205)، و (الترمذيّ) في "السير"(1602) وفي "الاستئذان"(2700)، و (النسائيّ) في "عمل اليوم والليلة"(1/ 212)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(19457)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(2424)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 263 و 266 و 346 و 444 و 459 و 525)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(4/ 341)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(500 و 5019)، و (أبو نعيم) في "الحلية"(7/ 140 و 142)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(9/ 203) و"شُعَب الإيمان"(6/ 461)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(3310)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان تحريم ابتداء المسلم لليهوديّ والنصراني بالسلام؛ لأن ذلك أصل النهي، وحَمْله على الكراهة خلاف أصله، وعليه حَمَله الأقل، وإلى التحريم ذهب الجمهور من السلف والخلف، وسيأتي تحقيقه في المسألة التالية -إن شاء الله تعالى-.

2 -

(ومنها): أن مفهوم قوله: "لا تبدءوا" أنه لا يُنْهَى عن الجواب عليهم إن سلَّموا، ويدلّ له عموم قوله تعالى:{وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء: 86] وأحاديث: "إذا سَلَّم عليكم أهل الكتاب فقولوا: وعليكم"، وفي رواية:"إن اليهود إذا سلّموا عليكم يقول أحدهم: السام عليكم، فقولوا: وعليك" وفي رواية: "قل: وعليك"، أخرجها مسلم.

3 -

(ومنها): بيان الأمر بإلجائهم إلى مضايق الطرُق؛ إذا اشتركوا هم والمسلمون في الطريق، فيكون واسعه للمسلمين، فإن خلت الطريق عن المسلمين فلا حرج عليهم.

قال الصنعانيّ رحمه الله: وأما ما يفعله اليهود في هذه الأزمنة مِنْ تعمّد جعل المسلم على يسارهم إذا لاقاهم في الطريق، فشيء ابتدعوه، لم يُرْوَ فيه شيء، وكأنهم يريدون التفاؤل بأنهم من أصحاب اليمين، فينبغي مَنْعهم مما يتعمّدونه من ذلك؛ لشدة محافظتهم عليه، ومضادّة المسلم. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم.

(1)

"سبل السلام" 4/ 68.

ص: 540

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في ابتداء الكفّار بالسلام:

ذهب الجمهور من السلف والخلف إلى تحريم ابتدائهم به، وذهب طائفة منهم ابن عباس إلى جواز الابتداء لهم بالسلام، وهو وجه لبعض الشافعية، إلا أنه قال المازريّ: إنه يقال: السلام عليك بالأفراد، ولا يقال: السلام عليكم.

واحتُجّ لهم بعموم قوله تعالى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة: 83] وأحاديث الأمر بإفشاء السلام.

والجواب أن هذه العمومات مخصوصة بحديث الباب.

وهذا إذا كان الذميّ منفردًا، وأما إذا كان معه مسلم جاز الابتداء بالسلام، ينوي به المسلم؛ لأنه قد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم سَلَّم على مجلس فيه أخلاط من المشركين والمسلمين، قاله الصنعانيّ رحمه الله

(1)

.

وقال الإمام أبو عمر بن عبد البرّ رحمه الله: وأما ابتداء أهل الذمة بالسلام، فقد اختَلَف فيه السلف ومَنْ بعدهم، فكرهت طائفة أن يُبتدأ أحد منهم بالسلام؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه المذكور في الباب، وقال أحمد بن حنبل: المصير إلى هذا الحديث أَولى مما خالفه. وذكر أبو بكر بن أبي شيبة، عن إسماعيل بن عياش، عن محمد بن زياد الألهانيّ، وشَرَحبيل بن مسلم، عن أبي أمامة الباهليّ رضي الله عنه أنه كان لا يمرّ بمسلم، ولا يهوديّ، ولا نصرانيّ إلا بدأه بالسلام، ورُوي عن ابن مسعود، وأبي الدرداء، وفَضَالة بن عُبيد أنهم كانوا يبدأون أهل الذمة بالسلام، وعن ابن مسعود أنه كتب إلى رجل من أهل الكتاب: السلام عليك، وعنه أيضًا أنه قال: لو قال لي فرعون خيرًا لرددت عليه مثله، وروى الوليد بن مسلم، عن عروة بن رُويم قال: رأيت أبا أمامة الباهلي يسلّم على كل من لقي من مسلم، وذميّ، ويقول: هي تحية لأهل ملتنا، وأمان لأهل ذمتنا، واسم من أسماء الله، نُفْشيه بيننا، وقيل لمحمد بن كعب القرظيّ: إن عمر بن عبد العزيز سئل عن ابتداء أهل الذمة، فقال: نَرُدّ عليهم، ولا نبدأهم، فقال: أما أنا فلا أرى بأسًا أن نبدأهم بالسلام، قيل له:

(1)

"سبل السلام" 4/ 67 - 68.

ص: 541

لم؟ قال: لقول الله عز وجل: {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (89)} [الزخرف: 89] ومذهب مالك في ذلك كمذهب عمر بن عبد العزيز، وأجاز ذلك ابن وهب.

قال ابن عبد البرّ: وقد يَحْتَمِل عندي حديث سهيل أن يكون معنى قوله: "لا تبدؤوهم"؟ أي: ليس عليكم أن تبدؤهم كما تصنعون بالمسلمين، وإذا حُمِل على هذا ارتفع الاختلاف.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الاحتمال الذي ذكره ابن عبد البرّ رحمه الله بعيد عن ظاهر الحديث، فالحقّ أن النهي محمول على التحريم، كما هو مذهب الجمهور، فتبصّر بالإنصاف، والله تعالى أعلم.

ثم أخرج بسنده عن سهيل بن أبي صالح قال: خرجت مع أبي إلى الشام، قال: فجعلوا يمرُّون بصوامع فيها نصارى، فيسلِّمون عليهم، فقال أبي: لا تبدؤوهم بالسلام، فإن أبا هريرة حدّثنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لا تبدؤوهم بالسلام، وإذ لقيتموهم في طريق فاضطروهم إلى أضيق الطريق".

ثم أخرج بسنده عن مَرْثَد بن عبد الله اليزني، عن أبي عبد الرحمن الجهنيّ قال: سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: "إني راكب غدًا إلى يهود، فلا تبدؤوهم بالسلام، فإذا سلَّموا عليكم فقولوا: وعليكم".

قال ابن عبد البرّ: فهذا الوجه المعمول به في السلام على أهل الذمة، والرد عليهم، ولا أعلم في ذلك خلافًا، والله المستعان.

قال: وقد رَوَى سفيان بن عيينة عن زَمْعَة بن صالح قال: سمعت ابن طاوس يقول: إذا سلَّم عليك اليهوديّ، أو النصرانيّ فقل: عَلاك السلامُ؛ أي: ارتفع عنك السلام، قال ابن عبد البرّ: هذا لا وجه له، مع ما ثبت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولو جاز مخالفة الحديث إلى الرأي في مثل هذا لاتسع في ذلك القول، وكثرت المعاني.

قال: ومثل قول ابن طاوس في هذا الباب قول من قال: يردّ على أهل الكتاب: عليك السلام بكسر السين؛ يعني: الحجارة، وهذا غاية في ضعف المعنى، ولم يُبَحْ لنا أن نَشتمهم ابتداءً وحسبنا أن نردّ عليهم بمثل ما يقولون في قول: وعليك، مع امتثال السُّنَّة التي فيها النجاة لمن تبعها، وبالله التوفيق.

ص: 542

انتهى كلام ابن عبد البرّ رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قد أجاد ابن عبد البرّ رحمه الله في هذا البحث، وأفاد، وخلاصته أن الحقّ هو ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم، وهو أن لا نبدأ الكفّار بالسلام، وإن سلّموا علينا، رَدَدْنا عليهم بقولنا: وعليكم، ولا نزيد عليه، وأما القول: علاك السلام، وكذا عليك السِّلام بالكسر فمخالفة للسنّة الصحيحة الصريحه، فلا يُلتفت إليه، فإن النجاة كلَّ النجاة في اتباع السنّة، والهلاك في تركها، قال الله عز وجل:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21)} [الأحزاب: 21] وقال: {وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف: 158] وقال: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} الآية [النور: 54] وقال: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36)} [الأحزاب: 36] اللهم أرنا الحقّ حقًّا، وارزقنا أتّباعه، وأرنا الباطل باطلًا، وأرزقنا اجتنابه، آمين.

(المسألة الخامسة): في اختلاف أهل العلم في السلام على من اقترف ذنبًا: قال الإمام البخاريّ رحمه الله في "صحيحه": "باب من لم يُسَلِّم على من اقتَرَفَ ذنبًا، ومن لم يُرَدّ سلامه حتى تتبيّن توبته، وإلى متى تتبيّن توبة العاصي؟ ".

قال في "الفتح": أما الحُكم الأول فأشار إلى الخلاف فيه، وقد ذهب الجمهور إلى أنه لا يُسَلَّم على الفاسق، ولا المبتاع، قال النوويّ: فإن اضطَرَّ إلى السلام، بأن خاف ترتب مفسدة في دين، أو دنيا إن لم يسلِّم سَلَّمَ، وكذا قال ابن العربيّ، وزاد: وينوي أن السلام اسم من أسماء الله تعالى، فكأنه قال: الله رقيبٌ عليكم.

وقال المهلَّب: تركُ السلام على أهل المعاصي سُنَة ماضية، وبه قال كثير من أهل العلم في أهل البدع، وخالف في ذلك جماعة.

وقال ابن وهب: يجوز ابتداء السلام على كل أحد، ولو كان كافرًا، واحتَجَّ بقوله تعالى:{وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة: 83].

(1)

"التمهيد لابن عبد البرّ" 17/ 94.

ص: 543

وتُعُقِّب بأن الدليل أعمّ من الدعوى، وألحق بعض الحنفية بأهل المعاصي من يتعاطى خوارم المروءة، ككثرة المزاح، واللهو، وفُحْش القول، والجلوس في الأسواق لرؤية من يَمُرّ من النساء، ونحو ذلك.

وحَكَى ابن رُشْد قال: قال مالك: لا يسلّم على أهل الأهواء، قال ابن دقيق العيد: ويكون ذلك على سبيل التأديب لهم، والتبرّي منهم.

وأما الحُكم الثاني فاختُلِف فيه أيضًا، فقيل: يُستبرأ حاله سنةً، وقيل: ستة أشهر، وقيل: خمسين يومًا، كما في قصة كعب، وقيل: ليس لذلك حدّ محدود، بل المدار على وجود القرائن الدالة على صدق مُدّعاه في توبته، ولكن لا يكفي ذلك في ساعة، ولا يوم، وَيختلف ذلك باختلاف الجناية، والجاني.

وقد اعتَرَض الداوديّ على من حدَّه بخمسين ليلةً أخذًا من قصة كعب، فقال: لم يحدّه النبيّ صلى الله عليه وسلم بخمسين، وإنما أخَّر كلامهم إلى أن أَذِن الله فيه؛ يعني: فتكون واقعة حال لا عموم فيها.

وقال النوويّ: وأما المبتدع، ومن اقترف ذنباً عظيمًا، ولم يَتُب منه، فلا يُسَلَّم عليهم، ولا يُرَدّ عليهم السلام، كما قال جماعة من أهل العلم، واحتَجَّ البخاريّ لذلك بقصة كعب بن مالك رضي الله عنه انتهى.

قال الحافظ: والتقييد بمن لم يتب جيّد، لكن في الاستدلال لذلك بقصة كعب نظرٌ، فينه نَدِم على ما صدر منه، وتاب، ولكن أُخّر الكلام معه حتى قَبِل الله توبته، وقضيّته أن لا يُكَلَّم حتى تُقبل توبته.

ويمكن الجواب بأن الاطلاع على القبول في قصة كعب كان ممكنًا، وأما بعده فيكفي ظهور علامة الندم، والإقلاع، وأمارة صدق ذلك. انتهى ما في "الفتح"

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: التي يترجّح عندي من هذه الأقوال أنه لا يسلّم على الفاسق، والمبتدع، ولا يردّ سلامهما إلى أن يتوبا، ولا سيّما إذا كان ذلك يدعوهما إلى التوبة، وليس لذلك حدّ محدود، بل المدار على وجود القرائن الدالة على صدق توبته، لكن هذا إذا لم يترتب عليه ضرر، أما إذا كانا

(1)

"الفتح" 14/ 188 - 189، كتاب "الاستئذان" رقم (6255).

ص: 544

ممن يُخشى بطشه، وحصول الضرر لمن ترك ذلك فيسلّم عليهما؛ للضرورة، والله تعالى أعلم.

(المسألة السادسة): في اختلاف أهل العلم في السلام على أهل مجلس، فيه أخلاط من المسلمين، وغيرهم:

قال النوويّ رحمه الله: السُّنَّة إذا مَرّ بمجلس فيه مسلم وكافر أن يسلّم بلفظ التعميم، ويقصد به المسلمَ، قال ابن العربيّ رحمه الله: ومثله إذا مَرّ بمجلس يجمع أهل السُّنَّة والبدعة، وبمجلس فيه عدول وظَلمة، وبمجلس فيه محب ومبغض.

واستَدَلّ النوويّ على ذلك بحديث أسامة بن زيد: "أن النبيّ صلى الله عليه وسلم ركب حمارًا

الحديث، وفيه: "حتى مرّ في مجلس فيه أخلاط من المسلمين، والمشركين

إلى أن قال: فسلّم عليهم النبيّ صلى الله عليه وسلم

" الحديث، متّفقٌ عليه.

قال في "الفتح": وهو مفرعّ على منع ابتداء الكافر بالسلام، وقد ورد النهي عنه صريحًا في حديث أبي هريرة المذكور في الباب: "لا تبدءوا اليهود والنصارى بالسلام

" الحديث، وبحديث أبي بَصْرة -بفتح الموحدة، وسكون المهملة- الغفاريّ رضي الله عنه عند البخاريّ في "الأدب المفرد"، والنسائيّ: "أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: إني راكب غدًا إلى اليهود، فلا تبدءوهم بالسلام".

وقالت طائفة: يجوز ابتداؤهم بالسلام، فأخرج الطبريّ من طريق ابن عيينة قال: يجوز ابتداء الكافر بالسلام، لقوله تعالى:{لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ} [الممتحنة: 8] وقول إبراهيم لأبيه: {سَلَامٌ عَلَيْكَ} [مريم: 47] وأخرج ابن أبي شيبة من طريق عون بن عبد الله، عن محمد بن كعب، أنه سأل عمر بن عبد العزيز عن ابتداء أهل الذمة بالسلام، فقال: نَرُدّ عليهم، ولا نبدؤهم، قال عون: فقلت له: فكيف تقول أنت؟ قال: ما أرى بأسًا أن نبدؤهم، قلت: لم؟ قال: لقوله تعالى: {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ} [الزخرف: 89]، وقال البيهقيّ -بعد أن ساق حديث أبي أمامة: أنه كان يسلّم على كل من لقيه، فسئل عن ذلك، فقال: إن الله جعل السلام تحيةً لأمتنا، وأمانًا لأهل ذمتنا-: هذا رأي أبي أمامة، وحديث أبي هريرة في النهي عن ابتدائهم أَولى.

قال الجامع عفا الله عنه: لقد أجاد البيهقيّ رحمه الله في هذا التعقّب، فما

ص: 545

صحّ عن نبيّنا صلى الله عليه وسلم هو الحقّ، والحقّ أحَقّ أن يتبّع من رأي أبي أمامة وغيره من الناس، والله تعالى أعلم.

وأجاب عياض عن الآية، وكذا عن قول إبراهيم عليه السلام لأبيه بأن القصد بذلك المتاركة والمباعدة، وليس القصد فيهما التحية.

وقد صَرّح بعض السلف بأن قوله تعالى: {وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (89)} [الزخرف: 89] نُسخت بآية القتال.

وقال الطبريّ: لا مخالفة بين حديث أسامة في سلام النبيّ صلى الله عليه وسلم على الكفار، حيث كانوا مع المسلمين، وبين حديث أبي هريرة رضي الله عنه في النهي عن السلام على الكفار؛ لأن حديث أبي هريرة عامّ، وحديث أسامة خاصّ، فيختصّ من حديث أبي هريرة ما إذا كان الابتداء لغير سبب، ولا حاجة، من حقّ صحبة، أو مجاورة، أو مكافأة، أو نحو ذلك، والمراد: منعُ ابتدائهم بالسلام المشروع، فأما لو سلّم عليهم بلفظ يقتضي خروجهم عنه، كأن يقول: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، فهو جائز، كما كتب النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى هرقل وغيره:"سلام على من اتبع الهدى".

وأخرج عبد الرزاق عن معمر، عن قتادة قال:"السلام على أهل الكتاب إذا دخلت عليهم بيوتهم: السلام على من اتبع الهدى".

وأخرج ابن أبي شيبة، عن محمد بن سيرين مثله، ومن طريق أبي مالك:"إذا سلَّمت على المشركين، فقل: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، فيحسبون أنك سلّمت عليهم، وقد صرفت السلام عنهم". انتهى ما في "الفتح"، وهو بحثّ مفيدٌ، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5650]

(

) (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدثنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثنَا شُعْبَةُ (ح) وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ (ح) وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدثنَا جَرِيرٌ، كُلُّهُمْ عَنْ سُهَيْلٍ، بِهَذَا الإِسْنَادِ، وَفِي حَدِيثِ وَكِيعٍ:"إِذَا لَقِيتُمُ الْيَهُودَ"، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ قَالَ: فِي أَهْلِ الْكِتَابِ، فَي حَدِيثِ جَرِيرٍ:"إِذَا لَقِيتُمُوهُمْ"، وَلَمْ يُسَمِّ أَحَدًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ).

ص: 546

رجال هذه الأسانيد: عشرة:

ومعظمهم ذُكر في الباب، وباقيهم تقدّم قريبًا، و"سفيان " هو: الثوريّ، و"جرير" هو: ابن عبد الحميد.

[تنبيه]: رواية شعبة، عن سهيل بن أبي صالح ساقها ابن حبّان رحمه الله في "صحيحه"، فقال:

(501)

- أخبرنا محمد بن يعقوب الخطيب بالأهواز، قال: حدّثنا عبد الوارث بن عبد الصمد بن عبد الوارث، قال: حدّثنا أبي، قال: حدّثنا شعبة، عن سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تبدؤوا أهل الكتاب بالسلام، وإذا رأيتموهم في طريق، فاضطروهم إلى أضيقه". انتهى

(1)

.

ورواية سفيان الثوريّ عن سُهيل ساقها أحمد رحمه الله في "مسنده" مقرونًا بأبي نُعيم، فقال:

(9724)

- حدّثنا وكيعٌ، وأبو نعيم -وهو الفضل بن دُكين- قالا: ثنا سفيان، عن سُهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا لقيتم اليهود في الطريق، فاضطرّوهم إلى أضيقها، ولا تبدؤوهم بالسلام"، قال أبو نعيم:"المشركين بالطريق". انتهى

(2)

.

ورواية جرير بن عبد الحميد عن سُهيل ساقها البيهقيّ رحمه الله في "الكبرى"، فقال:

(18506)

- وأخبرنا أبو طاهر الزياديّ، أنبا حاجب بن أحمد الطوسيّ، ثنا عبد الرحيم بن منيب، ثنا جرير بن عبد الحميد، أنبا سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا لقيتموهم فلا تبدؤوهم بالسلام، واضطرّوهم إلى أضيق الطريق"، قال هذا للنصارى في النعت، ونحن نراه للمشركين. انتهى

(3)

.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}

(1)

"صحيح ابن حبان" 2/ 253.

(2)

"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 2/ 444.

(3)

"سنن البيهقيّ الكبرى" 9/ 203.

ص: 547

(5) - (بَابُ اسْتِحْبَابِ السَّلَامِ عَلَى الصِّبْيَانِ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5651]

(2168) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ سَيَّارٍ، عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَائِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَرَّ عَلَى غِلْمَانٍ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(سَيَّارُ) بن أبي سيّار وَرْدان، وقيل: ورد، وقيل: غيره، أبو الحكم الْعَنَزيّ الواسطيّ، ويقال: البصريّ، وهوأخو مساور الورّاق لأمه، ثقةٌ [6](ت 122)(ع) تقدم في "الإيمان" 25/ 209.

2 -

(ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ) بن أسلم، أبو محمد البصريّ، تقدّم قريبًا.

والباقون ذُكروا في الباب الماضي.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه أنسًا رضي الله عنه أحد المكثرين السبعة، وآخر من مات من الصحابة رضي الله عنهم بالبصرة، وأشهر من خدم النبيّ صلى الله عليه وسلم، ونال دعوته المباركة.

شرح الحديث:

(عَنْ سَيَّارٍ) قال في "الفتح": هو بفتح السين المهملة، وتشديد التحتانية، هوأبو الْحَكَم، مشهور باسمه، وكنيته معًا، فيجيء غالبًا هكذا:"عن سيار أبي الحكم"، وهو عَنَزِيّ بفتح العين المهملة، والنون، بعدها زاي، واسطيّ، من طبقة الأعمش، وتقدمت وفاته على وفاة شيخه ثابت البنانيّ بسنة، وقيل: أكثر، وليس له في، الصحيحين "عن ثابت إلا هذا الحديث، وقال البزار: لم يُسند سيّار عن ثابت غيره.

قال الحافظ: ورواية شعبة عنه من رواية الأقران، وقد حدَّث شعبة عن ثابت نفسِهِ بعدّة أحاديث، وكأنه لم يسمع هذا منه، فأدخل بينهما واسطةً، وقد

ص: 548

روى شعبة أيضًا عن آخر اسمه سيّار، وهو ابن سَلَامة أبو المنهال، وليس هو المرادَ هنا، ولم نقف له على رواية عن ثابت. انتهى

(1)

.

(عَنْ ثَابِتِ) بن أسلم (الْبُنَانِيِّ) بضمّ الموحّدة، وتخفيف النون: نسبة إلى بُنانة بن سعد بن لُؤيّ بن غالب، هكذا قال أبو حاتم بن حِبَان البستيّ، قال السمعانيّ: وصارت بُنانة محلة بالبصرة؛ لنزول هذه القبيلة بها، وقال أبو بكر الخطيب: إن بنانة الذين منهم ثابت هم بنو سعد بن لؤيّ بن غالب، وأم سعد بنُانة، وقيل: بل هم بنو سعد بن ضُبيعة بن نزار، والله أعلم، فقال الزبير بن بكار: أما بنانة فقبيلة منهم ثابت البنانيّ وغيره، وبنانة كانت أَمَةً لسعد بن لؤيّ حَضَنت بنيه عمارًا، وعُمارة، ومخزومًا بعد أمهم، فغلبت عليهم، فسُمُّوا بها، ومنها أبو محمد ثابت بن أسلم البنانيّ من تابعي أهل البصرة، يروي عن ابن عمر، وابن الزبير، وصَحِب أنسًا أربعين سنة، وكان من أعبد أهل البصرة، روى عنه الناس، مات سنة سبع وعشرين ومائة، وهو ابن ست وثمانين سنة، وقد قيل: إنه مات سنة ثلاث وعشرين ومائة، ويقال: سنة ست وعشرين. انتهى

(2)

.

(عَنْ أنسِ بْنِ مَالِكٍ) رضي الله عنه (أَن رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَرَّ عَلَى غِلْمَانٍ) بكسر الغين المعجمة، وسكون اللام: جمع غلام، قال الفيّوميّ رحمه الله: الغُلامُ: الابن الصغير، وجمع القلة: غِلْمَة، بالكسر، وجمع الكثرة: غِلْمَان، ويُطلق الغُلامُ على الرجل مجازًا بِاسْم ما كان عليه، كما يقال للصغير: شيخ مجازًا بِاسْم ما يؤول إليه، وجاء في الشعر غلامة بالهاء للجارية، قال الشاعر [من الوافر]:

وَمُرْكِضَةٌ صَرِيحِيٌّ أَبُوهَا

يُهَانُ لَهَا الغُلامَةُ والغُلامُ

قال الأزهريّ: وسمعت العرب تقول للمولود حين يولد ذكرًا: غُلامٌ، وسمعتهم يقولون للكهل: غُلامٌ، وهو فاشٍ في كلامهم. انتهى

(3)

.

(فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ) وفي الرواية التالية: "فمرَّ بصبيان، فسلّم عليهم"، وقد أخرج النسائيّ هذا الحديث من طريق جعفر بن سليمان، عن ثابت، باتمّ من

(1)

"الفتح" 14/ 176، كتاب "الاستئذان" رقم (6247).

(2)

"الأنساب للسمعانيّ"1/ 399.

(3)

"المصباح المنير"2/ 452.

ص: 549

سياقه هنا، ولفظه:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزور الأنصار، فيسلم على صبيانهم، ويمسح على رؤوسهم، ويدعو لهم"، وهو مشعر بوقوع ذلك منه غير مرّة، بخلاف سياق الباب حيث قال:"مّرّ على غلمان، فسلّم عليهم"، فإنها تدلّ على أنها واقعة حال.

قال الحافظ رحمه الله: ولم أقف على أسماء الصبيان المذكورين.

قال: ووقع لابن السنيّ، وأبي نعيم في "عمل يوم وليلة" من طريق عثمان بن مطر، عن ثابت، بلفظ:"فقال: السلام عليكم يا صبيان"، وعثمان وَاهٍ.

ولأبي داود من طريق حميد، عن أنس: "انتهى إلينا النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأنا غلام في الغلمان، فسلَّم علينا، فأرسلني برسالة

" الحديث.

وللبخاريّ في "الأدب المفرد" نحوه من هذا الوجه، ولفظه: "ونحن صبيان، فسلَّم علينا، وأرسلني في حاجة، وجلس في الطريق ينتظرني حتى رجعت

(1)

"، والله تعالى أعلم.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث

: (المسألة الأولى): حديث أنس بن مالك رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [5/ 5651 و 5652 و 5653](2168)، و (البخاريّ) في "الاستئذان"(6247) وفي "الأدب المفرد"(1/ 359)، و (أبو داود) في "الأدب"(5202)، و (الترمذيّ) في "الاستئذان"(2697)، و (النسائيّ) في "عمل اليوم والليلة"(330)، و (ابن ماجه) في "الآداب"(3744)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 131 و 169 و 183)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(4/ 204 و 8/ 25)، و (ابن الجعد) في "مسنده"(1/ 260)، و (تمام) في "فوائده"(1/ 83 و 2/ 135)، و (أبو نعيم) في "الحلية"(8/ 316)، و (البيهقيّ) في "شعب الإيمان"(6/ 459)، والله تعالى أعلم.

(1)

"الفتح" 14/ 176، كتاب "الاستئذان" رقم (6247).

ص: 550

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان استحباب السلام على الصبيان، قال النوويّ رحمه الله: اتفق العلماء على استحباب السلام على الصبيان، ولو سلَّم على رجال، وصبيان، فردّ السلامَ صبيّ منهم، هل يسقط فرض الردّ عن الرجال؟ ففيه وجهان لأصحابنا: أصحهما يسقط، ومثله الخلاف في صلاة الجنازة، هل يسقط فرضها بصلاة الصبيّ؟ الأصح سقوطه، ونَصّ عليه الشافعيّ، ولو سلّم الصبيّ على رجل لزم الرجل ردّ السلام، هذا هو الصواب الذي أطبق عليه الجمهور، وقال بعض أصحابنا: لا يجب، وهو ضعيف، أو غلط. انتهى كلام النوويّ رحمه الله، وهو بحثٌ نفيسٌ، والله تعالى أعلم.

2 -

(ومنها): الندب إلى التواضع، وبذل السلام للناس كلهم.

3 -

(ومنها): بيان تواضعه صلى الله عليه وسلم، وكمال شفقته على العالمين.

4 -

(ومنها): ما قال ابن بطال رحمه الله

(1)

: في السلام على الصبيان تدريبهم على آداب الشريعة، وفيه طرح الأكابر رداء الكِبْر، وسلوك التواضع، وليْن الجانب، قال أبو سعيد المتولي في "التتمة": من سَلَّم على صبيّ لم يجب عليه الردّ؛ لأن الصبيّ ليس من أهل الفرض، وينبغي لوليّه أن يأمره بالردّ؛ ليتمرّن على ذلك، ولو سَلَّم على جَمْع فيهم صبيّ، فردّ الصبيّ دونهم لم يسقط عنهم الفرض، وكذا قال شيخه القاضي حسين، وردّه المستظهريّ، وقال النوويّ: الأصح لا يجزئ

(2)

، ولو ابتدأ الصبي بالسلام وجب على البالغ الردّ على الصحيح.

قال الحافظ: ويستثنى من السلام على الصبيّ ما لو كان وضيئًا، وخُشي من السلام عليه الافتتان، فلا يُشرع، ولا سيما إن كان مراهقًا منفردًا. انتهى

(3)

.

(1)

"شرح البخاري" لابن بطال رحمه الله 9/ 27.

(2)

هكذا عزا في "الفتح" هذا القول للنوويّ، والذي قاله في"شرح مسلم": إن الأصحّ إجزاؤه، كما أسلفته قبل قليل، فليُحرّر، والله تعالى أعلم.

(3)

"الفتح" 14/ 176، كتاب "الاستئذان" رقم (6247).

ص: 551

قال الجامع عفا الله عنه: هذا من الحافظ عجيب، فأين النصّ، أو الإجماع الذي يستني هذا الاستثناء؟، فهل النبيّ صلى الله عليه وسلم حينما يُسلّم على الصبيان خصّ وضيئًا بعدم سلامه عليه؟ وهل أنس حينما فعل مثله خصّ أحدًا؟ وقد كان في أولاد الصحابة رضي الله عنهم وضيئون، كما هو مشهور في "الصحيحين" من جمال الفضل بن عبّاس رضي الله عنهما، فهل ثبت عنه صلى الله عليه وسلم، أو عن أصحابه رضي الله عنهم، التحذير من السلام عليهم؟ هيهات هيهات.

وبالجملة فهذه المسألة قد تداولها المتأخّرون في كتبهم، وأكثروا التشغيب فيها، وهي كما ترى لا مستند لها، وأما التعلّل بالافتتان، فإنه ليس لازمًا للسلام، فإن الفاسق المجرم الذي يجري وراء شهوته سيفعل ما تهواه نفسه إذا خلا بالصبيان، ولو لم يسلّم عليهم، ولا كلّمهم، وهذا الإجرام لا يكون معيارًا لِتَرْك السنّة الصحيحة، التي استمرّ عليها النبيّ صلى الله عليه وسلم، والصحابة، ومن بعدهم من دون نكير، ففي الرواية الآتية من طريق شعبة، عن سيار قال: كنت أمشي مع ثابت البنانيّ، فمرّ بصبيان، فسلّم عليهم، وحدّث ثابت أنه كان يمشي مع أنس، فمرّ بصبيان، فسلّم عليهم، وحدّث أنس أنه كان يمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمرّ بصبيان، فسلّم عليهم.

وأخرج البخاريّ في "الأدب المفرد" عن عنبسة قال: رأيت ابن عمر يسلّم على الصبيان في الكتّاب، وغير ذلك من الأحاديث الصحيحة الدالّة على استمرار هذه السُّنَّة من غير استثناء، فتبصّر بالإنصاف، ولا تكن أسير التقليد، والله تعالى وليّ التوفيق.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في مشروعيّة سلام الرجال على النساء، وعكسه:

قال الإمام البخاريّ رحمه الله في "صحيحه": "باب تسليم الرجال على النساء، والنساء على الرجال"، ثم أخرج عن سهل رضي الله عنه قال: كنا نفرح يوم الجمعة، فذكر الحديث، وفيه: "فإذا صلّينا الجمعة انصرفنا، ونسلّم عليها

" الحديث.

ثم أخرج عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا عائشة هذا

ص: 552

جبريل يَقرأ عليك السلام"، قالت: قلت: وعليه السلام ورحمة الله، ترى ما لا نرى، تريد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فقد استدلّ البخاريّ رحمه الله بهذين الحديثين على مشروعيّة سلام الرجال على النساء، والنساء على الرجال، وهو استدلال واضح.

وقال في "الفتح": أشار البخاريّ بالترجمة المذكورة إلى ردّ ما أخرجه عبد الرزاق، عن معمر، عن يحيى بن أبي كثير: بلغني أنه يُكْرَه أن يسلّم الرجال على النساء، والنساء على الرجال، وهو مقطوع، أو معضل، قال: والمراد بجوازه أن يكون عند أَمْن الفتنة.

قال: وذكر في الباب حديثين يؤخذ الجواز منهما، وورد فيه حديث ليس على شرطه، وهو حديث أسماء بنت يزيد:"مَرَّ علينا النبيّ صلى الله عليه وسلم في نسوة، فسلّم علينا"، حسّنه الترمذيّ، وليس على شرط البخاريّ، فاكتفى بما هو على شَرْطه، وله شاهد من حديث جابر، عند أحمد.

وقال الحليميّ: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم للعصمة مأمونًا من الفتنة، فمن وَثِق من نفسه بالسلامة، فليسلّم، وإلا فالصمت أسلم.

وأخرج أبو نعيم في "عمل يوم وليلة" من حديث واثلة مرفوعًا: "يسلّم الرجال على النساء، ولا يسلّم النساء على الرجال"، وسنده وَاهٍ.

ومن حديث عمرو بن حريث مثله، موقوفًا عليه، وسنده جيّد.

وثبت في "الصحيحين" حديث أم هانئ: أتيت النبيَّ صلى الله عليه وسلم، وهو يغتسل، فسلّمت عليه. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قد اتّضح بما ذُكر من الأدلّة أن ما ذهب إليه البخاريّ رحمه الله من جواز تسليم الرجال على النساء، والنساء على الرجال مطلقًا هو الحقّ؛ لوضوح حجته، واستنارة محجّته، والله تعالى أعلم.

وقال النوويّ: وأما النساء فإن كنّ جميعًا سَلّم عليهنّ، وإن كانت واحدة سلّم عليها النساء، وزوجها، وسيدها، ومَحْرمها، سواء كانت جميلة، أو غيرها، وأما الأجنبيّ، فإن كانت عجوزًا لا تشتهى، استُحِبّ له السلام عليها،

(1)

"الفتح" 14/ 178، كتاب "الاستئذان" رقم (6248).

ص: 553

واستُحب لها السلام عليه، ومن سلّم منهما لزم الآخر ردّ السلام عليه، وإن كانت شابة، أو عجوزًا تشتهى، لم يسلّم عليها الأجنبيّ، ولم تسلّم عليه، ومن سلّم منهما لم يستحق جوابًا، ويكره ردّ جوابه، هذا مذهبنا، ومذهب الجمهور، وقال ربيعة: لا يسلّم الرجال على النساء، ولا النساء على الرجال، وهذا غلطٌ، وقال الكوفيون: لا يسلّم الرجال على النساء، إذا لم يكن فيهنّ مَحْرم، والله أعلم. انتهى كلام النوويّ

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي ذكره النوويّ من قَصْر جواز التسليم على نوع معيّن من النساء مما لا دليل عليه، فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم حينما سلّم على النساء ما خصّ نوعًا منهنّ، ولا أمر أمّته بأن تخصّ منهنّ بعضًا وتترك بعضًا.

والحاصل أن سلام الرجال على النساء، والعكس مشروع مطلقًا، كما هو رأي طائفة من العلماء؛ كالبخاريّ، كما مرّ قريبًا، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5652]

(

) - (وَحَدَّثَنِيهِ إِسْمَاعِيلُ بْنُ سَالِمٍ، أَخْبَرَنَا هُشَيْمٌ، أَخْبَرَنَا سَيَّارٌ، بِهَذَا الإِسْنَادِ).

رجال هذا الإسناد: ثلاثة:

وكلهم ذُكروا في الباب وقبله.

[تنبيه]: رواية إسماعيل بن سالم، عن هشيم هذه لم أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5653]

(

) - (وَحَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْوَلِيد، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدُّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سَيَّارٍ، قَالَ: كُنْتُ أَمْشِي مَعَ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ، فَمَرَّ بِصِبْيَانٍ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ، وَحَدَّثَ ثَابِتٌ أَنَّهُ كَانَ يَمْشِي مَعَ أَنَسٍ، فَمَرَّ بِصِبْيَانٍ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ، وَحَدَّثَ أَنَسٌ أَنَّهُ كَانَ يَمْشِي مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَمَرَّ بِصِبْيَانٍ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ).

(1)

"شرح النوويّ" 14/ 149.

ص: 554

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(عَمْرُو بْنُ عَلِيِّ) بن بحر بن كَنِيز الباهليّ، أبو حفص الفلّاس الصيرفيّ البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 249)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 38.

2 -

(مُحَمَّدُ بْنُ الْوَليدِ) بن عبد المجيد القرشيّ الْبُسْريّ البصريّ، يُلقّب حمدان، ثقةٌ [10](ت 250) أو بعدها (خ م س ق) تقدم في "الإيمان" 40/ 268.

والباقون ذُكروا في الباب وقبله.

وقوله: (فَمَرَّ بِصِبْيَانٍ) بكسر الصاد على المشهور، ويجوز ضمّها: جَمْع صبيّ.

وقوله: (وَحَدَّثَ ثَابِثٌ

إلخ) هذا يسمّى بالمسلسل، قال السيوطيّ رحمه الله في "ألفيّة الأثر":

هُوَ الَّذِي إِسْنَادُهُ رِجَالَهْ

قَدْ تَابَعُوا فِي صِفَةٍ أَو حَالَهْ

قَوْلِيَّةٍ فِعْلِيَّةٍ كِلَيْهِمَا

لَهُمْ أَو لِلْحَدِيثِ فِيمَا قُسِّمَا

وَخَيْرُهُ الدَّالُ

(1)

عَلَى الْوَصْفِ وَمِنْ

مُفَادِهِ زِيَادَةُ الضَّبْطِ زُكِنْ

وَقَلَّمَا يَسْلَمُ فِي التَّسَلْسُلِ

مِنْ خَلَل وَرُبَّمَا لَمْ يُوصَلِ

كَأَوَّليَّةٍ لِسُفْيَانَ انْتَهَى

وَخَيْرُهُ مُسَلْسَلٌ بِالْفُقَهَا

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله قبل حديث، ولله الحمد والمنّة.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(6) - (بَابُ جَوَازِ جَعْلِ الإِذْنِ رَفْعَ حِجَابٍ، أَو نَحْوَهُ، مِنَ الْعَلَامَاتِ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5654]

(2169) - (حَدَّثَنَا أَبُو كَامِلٍ الْجَحْدَرِيُّ، وَقُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، كِلَاهُمَا عَنْ عَبْدِ الْوَاحِدِ - وَاللَّفْظُ لِقُتَيْبَةَ - حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زِيَادٍ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عُبَيْدِ الله، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سُويدٍ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ

(1)

بتخفيف اللام للوزن.

ص: 555

يَزِيدَ، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ مَسْعُودٍ يَقُولُ: قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذْنُكَ عَلَى أَنْ يُرْفَعَ الْحِجَابُ، وَأَنْ تَسْتَمِعَ سِوَادِي، حَتَّى أَنْهَاكَ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(أَبُو كَامِلٍ الْجَحْدَرِيُّ) فُضيل بن حسين البصريّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(قتيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) تقدّم قبل باب.

3 -

(عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زِيادٍ) الْعَبْديّ مولاهم البصريّ، ثقةٌ [8](ت 176)(ع) تقدم في "الطهارة" 11/ 584.

4 -

(الْحَسَنُ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ) بن عروة النخعيّ، أبو عروة الكوفيّ، ثقةٌ فاضلٌ [6](ت 139)(م 4) تقدم في "الإيمان" 38/ 263.

5 -

(إِبْرَاهِيمُ بْنُ سُوَيْدٍ) النخعيّ الكوفيّ، ثقةٌ [6](م 4) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 19/ 1286.

6 -

(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَزِيدَ) بن قيس النخعيّ، أبو بكر الكوفيّ، ثقةٌ، من كبار [3](ت 83)(ع) تقدم في "الإيمان" 46/ 295.

7 -

(ابْنُ مَسْعُودٍ) عبد الله الصحابيّ الشهير رضي الله عنه، مات سنة (32)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 11.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وهو مسلسلٌ بالكوفيين من الحسن، وهو أيضًا مسلسل بالتحديث، والسماع من أوله إلى آخره، ورواية الحسن بن عبيد الله عن إبراهيم بن سُويد من رواية الأقران؛ لأنهما من الطبقة السادسة، وفيه ابن مسعود رضي الله عنه الصحابيّ الشهير.

شرح الحديث:

(عَن عَبْد الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ) أنه (قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ مَسْعُودٍ) رضي الله عنه (يَقُولُ: قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذنُكَ عَلَيَّ" برفع "إذنُك" خبرًا مقدَّمًا لـ"أن يُرفع"، ويجوز أن يكون مبتدأ خبره "أن يرفع"، والأول أَولى؛ لأن ما سُبك من "أن" و"أنّ" بمنزلة الضمير؛ أي: إذني لك في الدخول عليّ في بيتي (أَنْ يُرْفَعَ الْحِجَابُ) ببناء الفعل للمجهول، ولا يجوز فيه غيره، قاله القرطبيّ.

ووقع في بعض النُّسخ، كما أشار إليه في هامش النسخة الهنديّة بلفظ:

ص: 556

"أن تَرْفَعَ الحجابَ"، وهو الذي في "سنن ابن ماجه"، وغيرها، وعليه فالفعل مبني للفاعل، والفاعل ضمير ابن مسعود رضي الله عنه، و"الحجابَ" منصوب على المفعوليّة.

وعلى هذا يكون معنى: "إذنك عليّ"؛ أي: استئذانك عليّ، من إطلاق المسبَّب، وإرادة السبب؛ يعني: أن استئذانك في حال الدخول عليّ أن تَرْفَع الحجاب؛ أي: أَذِنت لك في رفع الحجاب، وسَمَاعِ السِّرَار.

وقال في "المجمع": أي إذنك الجمع بين رفع الحجاب ومعرفتك أني في الدار، ولو كنت مُسارًّا لغيري، فهذا شأنك مستمرًّا إلى أن أنهاك، وفيه دلالة على شرفه، وليس فيه أنه يدخل في كلّ حال حتى على نسائه ومحارمه.

وقال في "المفاتيح": أي: أذنت لك أن تدخل عليّ، وأن ترفع حجابي بلا استئذان، وأن تسمع سِرَاري حتى أنهاك عن الدخول والسماع. انتهى

(1)

.

ويريد الضبط الثاني ما في رواية أبي يعلى، والطبرانيّ بلفظ:"إذنك عليّ أن تَكْشِف السترَ"

(2)

.

ويؤيّده ما وقع في رواية أبي يعلى، والطبرانيّ بلفظ:"إذنك علي تكشف الستر".

(وَأَنْ تَسْتَمِعَ) من الاستماع، وفي بعض النسخ:"وأن تسمع" من السماع، (سِوَادِي) قال القرطبيّ رحمه الله:"السِّواد" بكسر السين: هو السِّرار، تقول: ساودته مساودةً، وسِوادًا؛ أي: ساررته، وأصله إدناء سَوَادك من سَوَاده - بفتح السين - وهو: الشخص. انتهى

(3)

.

وقال النوويّ رحمه الله: السِّوَاد بكسر السين المهملة، وبالدال، واتَّفَق العلماء على أن المراد به السِّرار، بكسر السين، وبالراء المكررة، وهو السِّرّ، والمسارّة، ويقال: ساودت الرجل مساودةً: إذا ساررته، قالوا: وهو مأخوذ من إدناء سَوَادك من سَوَاده عند المسارّة؛ أي: شخصك من شخصه، والسَّوَاد:

(1)

"مجمع بحار الأنوار" 3/ 143 - 144.

(2)

"المعجم الكبير" 9/ 77، و"مسند أبي يعلى" 9/ 241.

(3)

"المفهم" 5/ 499.

ص: 557

اسم لكل شخص. انتهى

(1)

.

وقوله: (حَتَّى أنهَاكَ") الظاهر أنه غاية للأمرين؛ أي: لكون رفع الحجاب علامة الإذن في الدخول عليه، ولجواز استماع السّواد؛ أي: السّرّ، فكلاهما مغيًّا بالنهي؛ أي: فإذا نهيتك عن الدخول، وعن استماع السرّ، فأنت كسائر الناس، لا بدّ أن تستأذن بالقول.

وقال القرطبيّ رحمه الله ما حاصله: جعل النبيّ صلى الله عليه وسلم لعبد الله إذنًا خاصًّا به، وهو أنه إذا جاء بيت النبيّ صلى الله عليه وسلم، فوجد الستر قد رُفع دخل من غير إذن بالقول، ولم يَجعل ذلك لغيره إلا بالقول، كما قال الله تعالى:{لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} الآية [النور: 27]، وقال تعالى:{لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ} الآية [الأحزاب: 53]، ولذلك كانت الصحابة رضي الله عنهم تذكر ذلك في فضائل ابن مسعود رضي الله عنه، فتقول: كان ابن مسعود يؤذن له إذا حُجِبنا، وكأنّ ابن مسعود كان له من التبسّط في بيت النبيّ صلى الله عليه وسلم والانبساط ما لم يكن لغيره؛ لِمَا علمه النبيّ صلى الله عليه وسلم من حاله، ومن خُلُقه، ومن إِلْفِه لبيته. انتهى

(2)

، والله تعالى أعلم.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث ابن مسعود رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [6/ 5654 و 5655](2169)، و (النسائيّ) في "فضائل الصحابة"(157 و 158)، و (ابن ماجه) في "المقدّمة"(139)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(12/ 112)، و (أحمد) في "مسنده"(388/ أو 394 و 404)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(4989 و 5265 و 5373)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(8449 و 8450)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(7068)، و (أبو نعيم) في "الحلية"(1/ 126)، و (ابن سعد) في "الطبقات"(153/ 3 و 154)، و (الطحاويّ) في "مشكل الآثار"(1585)، و (الفسويّ) في "المعرفة"(2/ 536)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(3322)، والله تعالى أعلم.

(1)

"شرح النوويّ" 14/ 150.

(2)

"المفهم" 5/ 499.

ص: 558

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان فضل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، حيث إنه صلى الله عليه وسلم جعله يرفع الحجاب بلا استئذان، ويسمع مسارّته لغيره، ولهذا كان الصحابة رضي الله عنهم يعدّون هذا له منقبة عظيمة، فقد أخرج الشيخان من حديث أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه، قال:"قدِمتُ أنا وأخي من اليمن، فكنّا حِيْنًا، وما نرى ابن مسعود وأمّه إلا من أهل بيت النبيّ صلى الله عليه وسلم من كثرة دخولهم، ولزومهم له".

وأخرج مسلم من طريق أبي إسحاق، قال: سمعت أبا الأحوص، قال: شهدت أبا موسى وأبا مسعود، حين مات ابن مسعود، فقال أحدهما لصاحبه: أتُرَاه تَرَك بعده مثله؟ فقال: إن قلت ذاك، إن كان لَيُؤْذَن له إذا حُجِبنا، وَيشهد إذا غِبْنَا.

وأخرج أيضًا من طريق مالك بن الحارث، عن أبي الأحوص قال: كنا في دار أبي موسى، مع نفر من أصحاب عبد الله، وهم ينظرون في مصحف، فقام عبد الله، فقال أبو مسعود: ما أعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم تَرَك بعده أعلم بما أنزل الله من هذا القائم، فقال أبو موسى: أَمَا لئن قلت ذاك، لقد كان يشهد إذا غِبْنَا، ويؤذن له إذا حُجِبْنَا.

2 -

(ومنها): جواز الاعتماد على العلامة في الإذن في الدخول، فإذا جعل الأمير، أو القاضي، أو غيرهم رفع الستر الذي على بابه علامةً في الإذن في الدخول عليه للناس عامّة، أو لطائفة خاصّة، أو لشخص، أو جعل علامة غير ذلك جاز اعتمادها، والدخول إذا وُجدت بغير استئذان، وكذا إذا جعل الرجل ذلك علامة بينه وبين خَدَمه ومماليكه، وكبار أولاده وأهله، فمتى أرخى حجابه فلا دخول عليه إلا باستئذانه، فإذا رَفَعه جاز بلا استئذان. قاله النوويّ

(1)

رحمه الله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5655]

(

) - (وَحَدَّثناهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ، قَالَ إسْحَاقُ: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ الآخَرَانِ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ إِدْرِيسَ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عُبَيْدِ الله، بِهَذَا الْإِسْنَادِ مِثْلَهُ).

(1)

"شرح مسلم" 14/ 150، كتاب "السلام".

ص: 559

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ) الهمدانيّ الكوفيّ، تقدّم قريبًا.

والباقون ذُكروا في الباب، وقبل باب.

[تنبيه]: رواية أبي بكر بن أبي شيبة، عن عبد الله بن إدريس ساقها ابن أبي شيبة رحمه الله في "مصنّفه"، فقال:

(32225)

- حدّثنا عبد الله بن إدريس، عن الحسن بن عبيد الله، عن إبراهيم بن سويد، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن عبد الله، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذنك عليّ أن تَرْفَع الحجابَ، وأن تسمع سِوَادي، حتى أنهاك". انتهى

(1)

.

ورواية محمد بن عبد الله بن نُمير، عن عبد الله بن إدريس، ساقها يعقوب بن سفيان في "المعرفة"، مقرونًا بعثمان بن أبي شيبة، فقال: حدّثني ابن نمير، وعثمان بن أبي شيبة، قال: حدّثنا ابن إدريس، عن الحسن بن عبيد الله، عن إبراهيم بن سُويد، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن عبد الله، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذنك عليّ أن يُرْفَع الحجاب، وأن تسمع سِوَادي، حتى أنهاك". انتهى

(2)

.

وأما رواية إسحاق بن راهويه، عن عبد الله بن إدريس، فلم أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(7) - (بَابُ إِبَاحَةِ الْخُرُوجِ لِلنِّسَاءِ لِقَضَاءِ حَاجَةِ الإِنْسَانِ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5656]

(2170) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيه، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: خَرَجَتْ سَوْدَةُ بَعْدَمَا

(1)

"مصنف ابن أبي شيبة" 6/ 383.

(2)

"المعرفة والتاريخ" 2/ 311 - 312.

ص: 560

ضُرِبَ عَلَيْهَا الْحِجَابُ؛ لِتَقْضِيَ حَاجَتَهَا

(1)

، وَكَانَتِ امْرَأَةً جَسِيمَةً، تَفْرَعُ النِّسَاءَ جِسْمًا، لَا تَخْفَى عَلَى مَنْ يَعْرِفُهَا، فَرَآهَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّاب، فَقَالَ: يَا سَوْدَةُ وَاللهِ مَا تَخْفَيْنَ عَلَيْنَا، فَانْظُرِي كَيْفَ تَخْرُجِينَ؟، قَالَتْ

(2)

: فَانْكَفَأَتْ رَاجِعَةً، وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَيْتِي، وَإِنَّهُ لَيَتَعَشَّى، وَفي يَدِهِ عَرْقٌ، فَدَخَلَتْ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي خَرَجْتُ، فَقَالَ لِي عُمَرُ: كَذَا وَكَذَا، قَالَتْ: فَأُوُحِيَ اِلَيْه، ثمَّ رُفِعَ عَنْهُ، وَإِنَّ الْعَرْقَ فِي يَدِه، مَا وَضَعَهُ، فَقَالَ:"إِنَّهُ قَدْ أُذِنَ لَكُنَّ أَنْ تَخْرُجْنَ لِحَاجَتِكُنَّ"، وَفي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ: يَفْرَعُ النِّسَاء جِسْمُهَا، زَادَ أَبُو بَكْرٍ فِي حَدِيثِهِ: فَقَالَ هِشَامٌ: يَعْني: الْبَرَازَ).

رجال هذا الإسناد: ستّة:

1 -

(أَبُو أُسَامَةَ) حمّاد بن أسامة الكوفيّ، تقدّم قريبًا

2 -

(هِشَامُ) بن عروة المدنيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

والباقون ذُكروا في الأبواب الثلاثة الماضية.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان قرن بينهما؛ لاتّحاد كيفيّة التحمّل والأداء، وفيه أبو كريب أحد التسعة الذين روى عنهم الجماعة بلا واسطة، وقد تقدّموا غير مرّة، وفيه رواية الراوي عن أبيه، عن خالته، ورواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه عروة أحد الفقهاء السبعة، وفيه عائشة رضي الله عنها من المكثرين السبعة.

شرح الحديث:

(عَنْ عَائِشَةَ) أم المؤمنين رضي الله عنها أنها (قَالَتْ: خَرَجَتْ سَوْدَةُ) بنت زمعة بن قيس بن عبد شمس القرشيّة العامريّة، أمّ المؤمنين تزوّجها النبيّ صلى الله عليه وسلم بعد خديجة رضي الله عنها، وهو بمكة، وماتت سنة (55) على الصحيح، تقدّمت ترجمتها في "الرضاع" 14/ 3629، وليس لها عند مسلم رواية، بل ذكرٌ فقط.

(1)

وفي نسخة: "لبعض حاجتها".

(2)

وفي نسخة: "قال".

ص: 561

وقال في "العمدة": سودة بنت زمعة - بالزاي، والميم، والعين المهملة المفتوحتين، وقال ابن الأثير: وأكثر ما سمعنا من أهل الحديث، والفقهاء، يقولونه بسكون الميم - ابن قيس القريشية العامرية، أسلمت قَدِيمًا، وبايعت، وكانت تحت ابن عمّ لها، يقال له: السكران بن عمرو، أسلم معها، وهاجرا جميعًا إلى الحبشة، فلما قَدِما مكة مات زوجها، فتزوجها النبيّ صلى الله عليه وسلم، ودخل بها بمكة، وذلك بعد موت خديجة قبل عائشة رضي الله عنها، وهاجرت إلى المدينة، فلما كَبُرت أراد طلاقها، فسألته أن لا يفعل، وجعلت يومها لعائشة، فأمسكها.

رُوي لها خمسة أحاديث، أخرج البخاري منها حديثين، تُوُفّيت آخر خلافة عمر رضي الله عنه، وقيل: زمن معاوية رضي الله عنه، سنة أربع وخمسين بالمدينة. انتهى

(1)

.

(بَعْدَمَا ضُرِبَ عَلَيْهَا الْحِجَابُ) ببناء الفعل للمفعول؛ أي: بعدما فرض الله تعالى عليها أن تحتجب عن الرجال الأجانب.

وقال الكرمانيّ: [فإن قلت]: وقع هنا أنه كان بعدما ضرب الحجاب، وتقدم في "الوضوء" أنه كان قبل الحجاب، فالجواب: لعله وقع مرتين.

قال الحافظ: بل المراد بالحجاب الأول غير الحجاب الثاني.

والحاصل أن عمر رضي الله عنه وقع في قلبه نَفْرة من اطّلاع الأجانب على الحريم النبويّ حتى صَرَّح بقوله له صلى الله عليه وسلم: "احْجُب نساءك"، وأَكَّد ذلك إلى أن نزلت آية الحجاب، ثم قَصَد بعد ذلك أن لا يُبدين أشخاصهنّ أصلًا، ولو كنّ مستترات، فبالغ في ذلك، فمنع منه، وأَذِن لهنّ في الخروج لحاجتهن؛ دفعًا للمشقّة، ورفعًا للحرج. انتهى

(2)

.

وقوله: (لِتَقْضِيَ حَاجَتَهَا) متعلّق بـ"خرجت"، وفي بعض النسخ:"لبعض حاجتها"؛ أي: لقضاء بعض حاجتها من البول والغائط، (وَكَانَت) سودة رضي الله عنها (امْرَأَةً جَسِيمَةً)؛ أي: عظيمة الجسم، (تَفْرَعُ النِّسَاءَ جِسْمًا) بفتح التاء، وإسكان

(1)

"عمدة القاري" 2/ 284.

(2)

"الفتح" 10/ 513 - 514، كتاب "التفسير" رقم (4795).

ص: 562

الفاء، وفتح الراء، وبالعين المهملة؛ أي: تطولهنّ، فتكون أطول منهنّ، والفارع المرتفع العالي

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "تفرع النساء جسمًا": يقال: فَرَعت القومَ؛ أي: طُلْتهم.

(لَا تَخْفَى عَلَى مَنْ يَعْرِفُهَا)؛ تعني: أنها لا تخفى إذا كانت مُتَلَفّفةً في ثيابها، ومِرْطها في ظلمة الليل، ونحوها، على من قد سبقت له معرفة طولها؛ لانفرادها بذلك

(2)

. (فَرَآهَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ) رضي الله عنه (فَقَالَ: يَا سَوْدَةُ وَاللهِ مَا تَخْفَيْنَ عَلَيْنَا) وفي الرواية الآتية: "فناداها عمر: ألا قد عرفناك يا سودة"، قال القرطبيّ رحمه الله: قول عمر رحمه الله: "ألا قد عرفناك يا سودة" يقتضي أن ذلك كان من عمر رحمه الله قبل نزول الحجاب؛ لأنَّ عائشة رضي الله عنها قالت فيه: "حِرْصًا على أن ينزل الحجاب، فأُنزل الحجاب"، والرواية الأخرى تقتضي أن ذلك كان بعد نزول الحجاب، فالأَولى أن يُحْمَل ذلك على أن عمر تكرر منه هذا القول قبل نزول الحجاب، وبعده، ولا بُعد فيه.

ويُحْتَمَل أن يُحْمَل ذلك على أن بعض الرواة ضمَّ قصّةً إلى أخرى، والأول أَولى؛ فإنَّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقع في قلبه نَفْرة عظيمة، وأَنَفَةٌ شديدة، من أن يَطَّلِع أحدٌ على حُرَم النبيّ صلى الله عليه وسلم حتى صَرّح له بقوله:"احجُبْ نساءك؛ فإنَّهن يراهنّ البرّ والفاجر"، ولم يزل ذلك عنده إلى أن نزل الحجاب، وبعده، فإنه كان قَصْده أن لا يخرجن أصلًا، فأفرط في ذلك، فإنَّه مفضٍ إلى الحرج والمشقة، والإضرار بهنّ، فإنَّهن محتاجات إلى الخروج، ولذلك قال النبيّ صلى الله عليه وسلم لَمّا تأذَّت بذلك سودة:"قد أُذِن لَكُنَّ أن تخرجن لحاجتكنَّ". انتهى

(3)

.

(فَانْظُرِي كيْفَ تَخْرُجِينَ؟، قَالَتْ: فَانْكَفَأَتْ) ووقع في بعض النسخ: "قال: فانكفأت"، والظاهر أنه غلط، والله تعالى أعلم؛ أي: قالت عائشة: فانكفأت؛ أي: انقلبت، وانصرفت سودة رضي الله عنها من الطريق الذي سلكته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

(1)

"شرح النوويّ" 14/ 150 - 151.

(2)

"شرح النوويّ" 14/ 151.

(3)

"المفهم" 5/ 495 - 496.

ص: 563

قال القرطبيّ رحمه الله: و"انكفأت" صوابه بالهمزة بمعنى انقلبت، وانصرفت، يقال: كفأتُ القومَ كَفئًا: إذا أرادوا وجهًا، فصرفتهم إلى غيره، فانكفؤوا، ووقع لبعض الرواة:"انكفت" - بحذف الهمزة والألف - وكأنه لمّا سُهِّلت الهمزة بقيت الألف ساكنة، فلقيها ساكن فحُذفت. انتهى

(1)

.

وقولها: (رَاجِعَةً) حال مؤكّدة لـ"انكفأت"، كما قال في "الخلاصة":

وَعَامِلُ الْحَالِ بِهَا قَدْ أُكِّدَا

فِي نَحْوِ"لَا تَعْثُ فِي الأَرْضِ مُفْسِدًا"

وقولها: (وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَيْتِي) جملة حاليّة، وكذا الجملتان بعده، (وَإِنَّهُ لَيَتَعَشَّى)؛ أي: يأكل العَشاء - بالفتح والمدّ - وهو الطعام الذي يؤكل وقت العِشاء - بالكسر -، وهو أول ظلام الليل، (وَفِي يَدِهِ) صلى الله عليه وسلم (عَرْقٌ) - بفتح العين المهملة، وسكون الراء -: العظم الذي عليه اللحم، يقال: اعتَرَقتُ العظم، وتعرَّقته: إذا تتبعت ما عليه من اللحم، والْعُرَاق بالضمّ: العظم الذي لا لحم عليه، أفاده القرطبيّ

(2)

.

وقال النوويّ رحمه الله: الْعَرْق - بفتح العين، وإسكان الراء - هو العظم الذي عليه بقية لحم، هذا هو المشهور، وقيل: هو القذرة من اللحم، وهو شاذّ ضعيف. انتهى

(3)

.

وقال ابن الأثير رحمه الله: الْعَرْقُ بالسكون: العظم إذا أُخِذ عنه مُعظم اللحم، وجمعه عُراقٌ - أي: بالضمّ - وهو جمع نادرٌ، يقال: عَرَقتُ العظمَ، واعترقته، وتعرّقته: إذا أخذت عنه اللحم بأسنانك. انتهى

(4)

.

وقال المجد رحمه الله: العَرْقُ بالفتح، والعُراقُ، كغُراب: العَظْم الذي أُكِل لحْمُه

(5)

، جَمْعه كتاب، وغُراب، وهو نادرٌ، أو العَرْق: العظْم بلَحْمِه، فإذا

(1)

"المفهم" 5/ 497.

(2)

"المفهم" 5/ 497.

(3)

"شرح النوويّ" 14/ 151.

(4)

"النهاية في غريب الحديث والأثر" ص 608.

(5)

زاد الشارح: وقيل: أُخِذَ معظمُ اللحم، وبَقِي عليها لُحومٌ رَقيقة، طيّبة، فتُكْسَر، وتُطْبَخ، وتؤخَذُ إهالتُها من طُفاحَتِها، ويُؤكَل ما علَى العِظام منْ لحْم رقيق، وتتَمَشَّشُ العِظامُ، ولحمُها من أطيب اللُّحْمانِ عنْدهم. انتهى. "تاج العروس" 1/ 6476.

ص: 564

أُكِل لحمُه فعُراقٌ، أو كِلاهُما لكِلَيْهِما. انتهى

(1)

.

(فَدَخَلَتْ)؛ أي: في بيت عائشة رضي الله عنها (فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي خَرَجْتُ)؛ أي: لقضاء حاجتي، (فَقَالَ لِي عُمَرُ) رضي الله عنه (كَذَا وَكَذَا) كناية عن قوله:"ألا عرفناك يا سودة"، وقوله:"يا سودة والله ما تخفين علينا، فانظري كيف تخرجين؟ "(قَالَتْ) عائشة رضي الله عنها (فَأُوحِيَ إِلَيْهِ) بالبناء للمفعول؛ أي: أوحى، الله عز وجل إليه صلى الله عليه وسلم (ثُمَّ رُفِعَ عَنْهُ) بالبناء للمفعول أيضًا؛ أي: أقلع عن النبيّ صلى الله عليه وسلم الوحي، (وَإِنَّ الْعَرْقَ فِي يَدِهِ) جملة حاليّة، وقولها:(مَما وَضَعَهُ) مؤكّد للجملة قبله؛ أي: ما وضع صلى الله عليه وسلم الْعَرْق من يده على الأرض، (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم مبيّنًا لِمَا أوحي إليه في ذلك الوقت ("إِنَّهُ) الضمير للشأن، وهو ضمير تفسّره الجملة بعده، كما قال ابن مالك رحمه الله في "الكافية الشافية":

وَمُضْمَرُ الشَّأْنِ ضَمِيرٌ فُسِّرَا

بِجُمْلَةٍ كَـ"إِنَّهُ زَيْدٌ قَرَا"

لِلابْتِدَا أَو نَاسِخَاتِهِ انْتَسَبْ

إِذَا أَتَى مُرْتَفِعًا أَوِ انْتَصَبْ

وَإِنْ يَكُنْ مَرْفُوعَ فِعْلٍ اسْتَتَرْ

حَتْمًا وَإِلا فَتَرَاهُ قَدْ ظَهَرْ

فِي بَابِ "إِنَّ" اسْمًا كَثِيرًا يُحْذَفُ

كَـ"إِنَّ مَنْ يَجْهَلْ يَسَلْ مَنْ يَعْرِفُ"

وَجَائِزٌ تَأْنِيثُهُ مَتْلُوَّ مَا

أُنِّثَ أَو شَبِيهَ أُنْثَى أَفْهَمَا

وَقَبْلَ مَا أُنِّثَ عُمْدَةً فَشَا

تَأْنِيثُهُ كَـ"إِنَّهَا هِنْدٌ رَشَا"

(قَدْ أُذِنَ) بالبناء للمفعول؛ أي: أذِنَ الله تعالى، وقال في "العمدة": قوله: "قد أُذِن" مقول القول، وهو على صيغة المجهول، والآذن هو الله تعالى، وبُني الفعل على صيغة المجهول؛ للعلم بالفاعل

(2)

. (لَكُنَّ) أيتها الأزواج الطاهرات (أَنْ تَخْرُجْنَ) بفتح أوله، وضمّ ثالثه؛ أي: في خروجكنّ من بيوتكنّ، قال في "العمدة": أصله: بأن تخرجن، و"أن" مصدرية، والتقدير: بخروجكنّ

(3)

. (لِحَاجَتِكُنَّ")؛ أي: لقضاء حاجتكنّ من البول، ونحوه، وهو متعلّق بـ"تخرُجن".

وقال الداوديّ: قوله: "قد أُذِن أن تخرجن" دالّ على أنه لم يُرَدْ هنا

(1)

"القاموس المحيط" ص 862.

(2)

"عمدة القاري" 2/ 285.

(3)

"عمدة القاري" 2/ 285.

ص: 565

حجاب البيوت، فإن ذلك وجه آخر، إنما أراد أن يستترن بالجلباب، حتى لا يبدوَ منهنّ إلا العين. انتهى

(1)

.

وقال في "الفتح" ما خلاصته: خرجت سودة رضي الله عنها بعدما ضُرِب الحجاب لحاجتها، وكانت عظيمة الجسم، فرآها عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال: يا سودة، أما والله ما تخفين علينا، فانظري كيف تخرجين، فرجعت، فشكت ذلك للنبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو يتعشى، فأوحي إليه، فقال:"إنه قد أُذِن لكنّ أن تخرجن لحاجتكن"

(2)

.

وقوله: (وَفِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ)؛ يعني: ابن أبي شيبة شيخه الأول، فالجارّ والمجرور خبر مقدّم، وقوله:(يَفْرَعُ النِّسَاءَ جِسْمُهَا) مبتدأ مؤخّر محكيّ؛ لِقَصْد لفظه: يعني: أن أبا بكر قال: "يفرع النساء جسمها"، بدل قول أبي كريب:"تفرع النساء جسمًا"، فعلى رواية أبي بكر:"النساءَ" منصوب على المفعوليّة، و"جسمُها" مرفوع على الفاعليّة، وعلى رواية أبي كريب:"النساءُ" مرفوع على الفاعليّة، و"جسمًا" منصوب على التمييز، والله تعالى أعلم.

وقوله: (زَادَ أَبُو بَكْرٍ)؛ أي: ابن أبي شيبة (فِي حَدِيثِهِ)؛ أي: في روايته لهذا الحديث، فقوله:"زاد أبو بكر" فعل وفاعل، وقوله:(فَقَالَ هِشَامٌ: يَعْني: الْبَرَازَ) منصوب على أنه مفعول به لـ"زاد"، محكيّ؛ لقصد لفظه، وقوله:"يَعْنِي: الْبَرَازَ" مقول "قال هشام"، وفاعل "يعني" ضمير النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ يعني: النبيّ صلى الله عليه وسلم بقوله: "لحاجتكنّ" البرازَ، وانتصاب "البراز" على المفعوليّة لـ"يعني".

ووقع عند البخاريّ بلفظ: "تعني: البراز"، فالضمير يرجع إلى عائشة رضي الله عنها؛ أي: تقصد عائشة رضي الله عنها بقولها: "تخرجن في حاجتكن" البرازَ؛ أي: الخروج إلى البراز، وانتصابه بقوله:"تعني"، أفاده في "العمدة"

(3)

.

وقال النوويّ رحمه الله: قوله: "قال هشام: يعني: البراز" هكذا المشهور في الرواية: "البراز" بفتح الباء، وهو الموضع الواسع البارز الظاهر، وقد قال

(1)

"عمدة القاري" 2/ 285.

(2)

"الفتح" 1/ 432، كتاب "الوضوء" رقم (147).

(3)

"عمدة القاري" 2/ 285.

ص: 566

الجوهريّ في "الصحاح": الْبِرَاز بكسر الباء: هو الغائط، وهذا أشبه أن يكون هو المرادَ هنا، فإن مراد هشام بقوله:"يعني: البراز" تفسير قوله صلى الله عليه وسلم: "قد أُذِن لكنّ أن تخرجن لحاجتكنّ"، فقال هشام: المراد بحاجتهنّ: الخروج للغائط، لا لكل حاجة، من أمور المعايش، والله أعلم. انتهى

(1)

.

وقال في "الفتح": "الْبَرَازُ": الفضاء، وهو بفتح الموحّدة، ثم راء، وبعد الألف زاي، قال الخطابيّ: أكثر الرواة يقولونه بكسر أوله، وهو غلط؛ لأن الْبِراز بالكسر هو المبارزة في الحرب.

وتعقّبه الحافظ، فقال: بل هو موجّهٌ؛ لأنه يطلق بالكسر على نفس الخارج، قال الجوهريّ: الْبِراز المبارزة في الحرب، والْبِزار أيضًا كناية عن ثُقْل الغذاء، وهو الغائط، والْبَرَاز بالفتح: الفضاء الواسع. انتهى.

فعلى هذا مَن فَتح أراد الفضاء، فإن أطلقه على الخارج، فهو من إطلاق اسم المحلّ على الحالّ، كما تقدم مثله في الغائط، ومَنْ كَسَر أراد نفس الخارج. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: وللعينيّ تعقّب لتوجيه الحافظ المذكور على عادته المستمرّة، وليس مصيبًا في ذلك، فتأمله بالإمعان، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا متّفق عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [7/ 5656 و 5657 و 5658 و 5659 و 5660](2170)، و (البخاريّ) في "الوضوء"(146 و 147) و"التفسير"(4795) و"النكاح"(5237) و"الاستئذان"(6240)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 56 و 223 و 271)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(54)، و (ابن حبّان) في

(1)

"شرح النوويّ" 14/ 151.

ص: 567

"صحيحه"(1409)، و (الطبريّ) في "تفسيره"(22/ 40)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(7/ 408)، و (ابن سعد) في "الطبقات"(8/ 175)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(7/ 88)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): أن فيه بيانَ منقبة ظاهرة لعمر بن الخطاب رضي الله عنه، حيث أنزل الله بموافقته آية الحجاب، وقال في "العمدة": هذه إحدى ما وافق فيها ربه.

والثانية: في قوله: {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ} [التحريم: 5].

والثالثة: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125]، وهذه الثلاثة ثابتة في "الصحيحين".

والرابعة: موافقته في أسرى بدر.

والخامسة: في منع الصلاة على المنافقين، وهاتان في "صحيح مسلم".

والسادسة: موافقته في آية المؤمنين، روى أبو داود الطيالسيّ في "مسنده" من حديث عليّ بن زيد: "وافقت ربي لمّا نزلت: {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَر} ، فقلت أنا:{فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون: 14]، فنزلت.

والسابعة: موافقته في تحريم الخمر.

والثامنة: موافقته في قوله: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ} الآية [البقرة: 98]، ذكره الزمخشريّ.

وقال ابن العربيّ: قدَّمنا في الكتاب الكبير أنه وافق ربه تعالى تلاوةً ومعنًى في أحد عشر موضعًا، وفي "جامع الترمذيّ" مصحّحًا عن ابن عمر رضي الله عنهما:"ما نزل بالناس أمر قطّ، فقالوا فيه، وقال عمر فيه، إلا نزل فيه القرآن على نحو ما قال عمر رضي الله عنه ". انتهى

(1)

.

وقد نَظَم السيوطيّ رحمه الله موافقات عمر رضي الله عنه المذكورة، وزاد عليها في كتابه "الحاوي للفتاوي"، فقال:

(1)

"عمدة القاري" 2/ 432 - 433.

ص: 568

بسم الله الرحمن الرحيم

الْحَمْدُ لِلَّهِ وَصَلَّى اللهُ

عَلَى نَبِيِّهِ الَّذِي اجْتَبَاهُ

يَا سَائِلِي وَالْحَادِثَاتُ تَكْثُرُ

عَنِ الَّذِي وَافَقَ فِيهِ عُمَرُ

وَمَا يُرَى أُنْزِلَ فِي الْكِتَابِ

مَوَافِقًا لِرَأْيِهِ الصَّوَابِ

خُذْ مَا سَأَلْتَ عَنْهُ فِي أَبْيَاتِ

مَنْظُومَةٍ تَأْمَنُ مِنْ شَتَاتِ

فَفِي الْمَقَامِ وَأُسَارَى بَدْرِ

وَآيَتَيْ تَظَاهُرٍ وَسَتْرِ

وَذِكْرِ جِبْرِيلَ لأَهْلِ الْغَدْرِ

وَآيَتَيْنِ أُنْزِلَا فِي الْخَمْرِ

وَآيَةُ الصِّيَامِ فِي حِلِّ الرَّفَثْ

وَقَوْلُهُ نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ يُبَثّ

وَقَوْلُهُ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى

يُحَكِّمُوكَ إِذْ بِقَتْلٍ أَفْتَى

وَآيَةٌ فِيهَا لِبَدْرٍ أَوْبَهْ

وَلَا تُصَلِّ آيَةٌ فِي التَّوْبَهْ

وَآيَةٌ فِي النُّورِ هَذَا بُهْتَانْ

وَآيَةٌ فِيهَا بِهَا الاسْتِئْذَانْ

وَفِي خِتَامِ آيَةٍ فِي الْمُؤْمِنِينْ

تَبَارَكَ اللهِ بحِفْظِ الْمُتَّقِينْ

وَثُلَّةٌ مِنْ فِي صِفَاتِ السَّابِقِينْ

وَفِي سَوَاءٌ آيَةُ الْمُنَافِقِينْ

وَعَدَّدُوا مِنْ ذَاكَ نَسْخَ الرَّسْمِ

لآيَةٍ قَدْ نَزَلَتْ فِي الرَّجْمِ

وَقَالَ قَوْلًا هُوَ فِي التَّوْرَاةِ قَدْ

نَبَّهَهُ كَعْبٌ عَلَيْهِ فَسَجَدْ

وَفِي الأَذَانِ الذِّكْرُ لِلرَّسُولِ

رَأَيْتُهُ فِي خَبَرٍ مَوْصُولِ

وَفِي الْقُرْآنِ جَاءَ بِالتَّحْقِيقِ

مَا هُوَ مِنْ مُوَافِقِ الصِّدِّيقِ

كَقَوْلِهِ هُوَ الَّذِي يُصَلِّي

عَلَيْكُمُ أَعْظِمْ بِهِ مِنْ فَضْلِ

وَقَوْلُهُ فِي آخِرِ الْمُجَادِلَهْ

لَا تَجِدُ الآيَةَ فِي الْمُخَالَلَهْ

نَظَمْتُ مَا رَأَيْتُهُ مَنْقُولَا

وَالْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى مَا أَوْلَى

(1)

2 -

(ومنها): تنبيه أهل الفضل، والكبار على مصالحهم، ونصيحتهم، وتكرار ذلك عليهم.

3 -

(ومنها): بيان جواز تَعَرُّق العظم، وهو أكل ما عليه من اللحم.

4 -

(ومنها): جواز خروج المرأة من بيت زوجها لقضاء حاجة الإنسان إلى الموضع المعتاد لذلك بغير استئذان الزوج؛ لأنه مما أَذِن فيه الشرع، قاله

(1)

"الحاوي للفتاوي" للسيوطيّ رحمه الله 1/ 377 - 378.

ص: 569

النوويّ رحمه الله، وقال ابن بطال رحمه الله: فقه هذا الحديث أنه يجوز للنساء التصرف فيما لهنّ الحاجة إليه، من مصالحهن.

وقال في "العمدة": فيه جواز تصرّف النساء فيما لهنّ حاجة إليه؛ لأن الله تعالى أَذِن لهنّ في الخروج إلى البراز بعد نزول الحجاب، فلما جاز ذلك لهنّ جاز لهنّ الخروج إلى غيره من مصالحهنّ، وقد أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بالخروج إلى العيدين، ولكن في هذا الزمان لمّا كَثُر الفساد، ولا يؤمَن عليهنّ من الفتنة، ينبغي أن يُمْنَعن من الخروج إلا عند الضرورة الشرعية. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: القول بمنعهنّ على الإطلاق محلّ نظر، بل يُمنعن عن التطيّب، والتجمّل عند إرادة الخروج، فإن أبين يُمنعن، وإلا فلا، فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم أمر بخروجهنّ في العيد ونحوه، وقال أيضًا:"لا تمنعوا إماء الله مساجد الله"، رواه مسلم، وقال:"إذا شهدت إحداكن العشاء، فلا تمس طيبًا"، رواه مسلم أيضًا، وقال:"لا تمنعوا إماء الله مساجد الله، وليخرجن تَفِلات"، صححه ابن خزيمة، وابن حبّان.

والحاصل: أنهنّ إذا التزمن شروط الخروج فلا مَنْع، وإلا مُنعن، والله تعالى أعلم.

5 -

(ومنها): أن فيه مراجعةَ الأدنى للأعلى فيما يتبيَّن له أنه الصواب، وحيث لا يقصد التعنت، فإنه قد يتبيّن فيها من العلم ما خَفِي، فإن نزول الآية، وهي قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ} الآية [الأحزاب: 59] كان سببه المراجعة.

6 -

(ومنها): جواز كلام الرجال مع النساء في الطرق للضرورة، قاله في "الفتح".

قال الجامع عفا الله عنه: قوله: "للضرورة" محلّ نظر، بل يجوز للحاجة، ولو لم تكن هناك ضرورة، فليس لاشتراط الضرورة دليلٌ، بل مهما دعت الحاجة إلى الكلام معهنّ جاز، كما دلّ عليه حديث الباب، وغيره، فتبصّر، والله تعالى أعلم.

(1)

"عمدة القاري" 2/ 432 - 433.

ص: 570

7 -

(ومنها): جواز الإغلاظ في القول والعتاب إذا كان قَصْده الخير، فإن عمر رضي الله عنه قال:"قد عرفناك يا سودة"، وكان شديد الغيرة، لا سيما في أمهات المؤمنين رضي الله عنهن.

8 -

(ومنها): جواز وعظ الرجل أمه في الدِّين؛ لأن سودة من أمهات المؤمنين.

قال الجامع عفا الله عنه: هكذا قيّد في "الفتح" بكون المرأة أمّه في الدين، ولا دليل على هذا التقييد، بل كلّ امرأة أخلّت بواجب الشريعة يجب أن يعظها رجل، سواء كانت مَحْرَمه، أم غير محرمه، فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس مقيّدًا بالمحارم فقط، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

9 -

(ومنها): بيان أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان ينتظر الوحي في الأمور الشرعية؛ لأنه لم يأمرهنّ بالحجاب، مع وضوح الحاجة إليه، حتى نزلت الآية، وكذا في إذنه لهنّ بالخروج

(1)

.

10 -

(ومنها): أن في قول عمر رضي الله عنه: "احجُب نساءك" التزام النصيحة لله عز وجل، ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وكان صلى الله عليه وسلم يعلم أن حَجْبهن خير من غيره، لكنه كان يترقب الوحي، بدليل أنه لم يوافق عمر حين أشار عليه بذلك، وكان ذلك من عادة العرب.

11 -

(ومنها): ما قال القاضي عياض رحمه الله: فَرْضُ الحجاب مما اختُصَّ به أزواجُ النبيّ صلى الله عليه وسلم، فهو فرض عليهنّ بلا خلاف في الوجه، والكفين، فلا يجوز لهنّ كشف ذلك لشهادة، ولا غيرها، ولا يجوز لهنّ إظهار شخوصهنّ، وإن كنّ مستترات، إلا ما دعت إليه الضرورة من الخروج للبراز، قال الله تعالى:{وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الأحزاب: 53]، وقد كنّ إذا قعدن للناس جلسن من وراء الحجاب، وإذا خرجن حَجَبن، وسَترن أشخاصهنّ، ثم استدَلّ بما في "الموطأ" أن حفصة لمّا توفي عمر رضي الله عنهما سترها النساء عن أن يُرَى شخصها، وأن زينب بنت جحش جُعلت لها القبة فوق

(1)

"الفتح" 1/ 432، كتاب "الوضوء" رقم (147).

ص: 571

نعشها ليستر شخصها. انتهى

(1)

.

وتعقّب في "الفتح" ما قاله عياض، فقال: وليس فيما ذكره دليل على ما ادّعاه من فرض ذلك عليهنّ، وقد كنّ بعد النبيّ صلى الله عليه وسلم يحججن، ويطفن، وكان الصحابة، ومن بعدهم يسمعون منهنّ الحديث، وهنّ مستترات الأبدان، لا الأشخاص، وقد تقدم في الحج قول ابن جريج لعطاء لَمّا ذَكَر له طواف عائشة رضي الله عنها: أقبل الحجاب، أو بعده؟، قال: قد أدركت ذلك بعد الحجاب. انتهى

(2)

.

وقال في "موضع آخر بعد ذكر كلام عياض المذكور ما نصّه: وفي دعوى وجوب حجب أشخاصهن مطلقًا إلا في حاجة البراز نظرٌ، فقد كُنّ يسافرن للحج وغيره، ومن ضرورة ذلك الطواف، والسعي، وفيه بروز أشخاصهنّ، بل وفي حالة الركوب، والنزول لا بُدّ من ذلك، وكذا في خروجهن إلى المسجد النبويّ وغيره. انتهى

(3)

.

قال الجامع عفا الله عنه: حاصل ما تعقّب به الحافظ كلام عياض أن ما استَدَلّ به على فرضيّة حجب أشخاصهن ليس فيه دلالة، بل غاية ما يدلّ عليه أنهنّ أخذن بالأحوط في بعض الأحيان، بدليل أنهنّ كن يحججن، فيرى الرجال أشخاصهنّ في الطواف، والسعي، وغير ذلك، وهنّ متحجّبات، ولم يُنكر ذلك أحد، فدلّ على أنّ حجب أشخاصهنّ ليس فرضًا عليهنّ، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

[تنبيه]: حَكَى ابن التين عن الداوديّ أن قصة سودة هذه لا تدخل في باب الحجاب، وإنما هي في لباس الجلابيب.

وتُعُقِّب بأن إرخاء الجلابيب هو الستر عن نظر الغير إليهن، وهو من جملة الحجاب، قاله في "الفتح".

12 -

(ومنها): ما قال القرطبيّ رحمه الله: لا خلاف في أن المرأة إن تخرج

(1)

"إكمال المعلم" 7/ 57.

(2)

"الفتح" 10/ 513، كتاب "التفسير" رقم (4795).

(3)

"الفتح" 14/ 163، كتاب "الاستئذان" رقم (6240).

ص: 572

لِمَا تحتاج إليه من أمورها الجائزة، لكنها تخرج على حال بَذَاذة، وتستُّر، وخشونة ملبس بحيث يَسْتُر حجم أعضائها، غير متطيِّبة، ولا متبرِّجة بزينة، ولا رافعة صوتها، وعلى الجملة فالحال التي يجوز لها الخروج عليها أن تكون بحيث لا تمتد لها عين، ولا تميل إليها نفس، وما أعدم هذه الحالة في هذه الأزمان؛ لِمَا يُظْهِرن من الزينة والطيب، والتبختر في الملابس الحسان، فمسامحتهن في الخروج على تلك الحال فُسوقٌ وعصيان.

فإنَّ قيل: فما الزينة التي استثنى الله تعالى لهن إظهارها في قوله: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور: 31].

فالجواب: أن ذلك اختُلِف فيه، فقال ابن مسعود رضي الله عنه: إنها الثياب؛ يعني بذلك: ثيابها التي تستتر بها، ولا تُسْتَر هي؛ كالملحفة، والخمار، وعلى هذا فلا يجوز أن تُبدي مما تحت ذلك شيئًا؛ لا كحلًا، ولا خاتمًا، ولا غير ذلك مما يُستَر بالملحفة والخمار.

وقال ابن عباس، والمسور: هي الكحل، والخاتم؛ يعني: أن العين لا يمكن سترها، وقد تتناول بيد الخاتم ما تحتاج إليه.

وقال الحسن، ومالك: هو الوجه، والكفان؛ لأنَّهما ليسا بعورة؛ إذ يجب كشفهما عليها في الإحرام عبادةً، ويظهر ذلك منها في الصلاة، وهما اللذان يبدوان منها عادة.

قال: والكلُّ مجوجون على أن المستثنى هو ما يتعذر ستره إما عادةً، وإما عبادةً، وقد دلَّ على أن المطلوب من المرأة ستر ما تتمكن من ستره قول الله تعالى:{وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور: 31]، وقال تعالى:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ} [الأحزاب: 59].

فالخمار ما يُلَفّ على الرأس، والحلق، والجلبابُ اختُلِف فيه، فقال الحسن: هو الرداء، وقال ابن جبير: الْمِقْنَعة، وقال قطرب: هو كل ثوب تلبسه المرأة فوق ثيابها، وقال أبو عبيدة: أدنى الجلباب أن تغطي وجهًا إلا قَدْر ما تُبْصر منه.

قال: إذا قلنا: إن الوجه والكفين ليسا بعورة، وإنه يجوز لها كشفهما؛

ص: 573

فإذا كانت بارعة الجمال، وجب عليها أن تستر وجهها؛ لئلا تفتن الناس، فتكون من المميلات اللاتي قد تُوُعِّدن بالنار، وللكلام في هذا متسع، وفيما ذكرناه مَقْنَعٌ. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(1)

، وهو بحث مفيد، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5657]

(

) - (وَحَدَّثنَاهُ أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثنَا هِشَامٌ، بِهَذَا الْإِسْنَاد، وَقَالَ: وَكَانَتِ امْرَأَةً يَفْرَعُ النَّاسَ جِسْمُهَا، قَالَ: وَإِنَّهُ لَيَتَعَشَّى).

رجال هذا الإسناد: ثلاثة:

1 -

(ابْنُ نُمَيْرٍ) هو: عبد الله بن نُمير الْهَمْدانيّ الكوفيّ، تقدّم قريبًا.

والباقيان ذُكرا قبله.

وقوله: (يَفْرَعُ النَّاسَ جِسْمُهَا) وفي بعض النسخ: "يَفرَع النساءَ جسمها".

وقوله: (قَالَ: وَإِنَّهُ لَيَتَعَشُّى) هذا مما لم يظهر لي وجهه، فإنه بهذا اللفظ في رواية أبي أسامة الماضية التي أحال عليها هذه الرواية، فما الفرق بينهما؟ اللهمّ إلا أن يكون مما وقع فيه التصحيف، فليُحزر، والله تعالى أعلم.

[تنبيه]: رواية عبد الله بن نُمير عن هشام بن عروة ساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"، مع بعض اختلاف، فقال:

(24335)

- حدثنا ابن نُمير، ثنا هشام، عن أبيه، عن عائشة، قالت: خرجت سودة لحاجتها ليلًا بعدما ضُرِب عليهنّ الحجاب، قالت: وكانت امرأة تَفْرَع النساءَ جسيمةً، فوافقها عمر، فأبصرها، فناداها: يا سودة إنك والله ما تخفين علينا إذا خرجت، فانظري كيف تخرجين؟ أو كيف تصنعين؛ فانكأفت، فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنه ليتعشى، فأخبرته بما قال لها عمر، وإن في يده لَعَرْقًا، فأُوحي إليه، ثم رُفِع عنه، وإن العرق لفي يده، فقال:"لقد أُذِن لكنّ أن تخرجن لحاجتكنّ". انتهى.

(1)

"المفهم" 5/ 497 - 499.

ص: 574

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5658]

(

) - (وَحَدَّثَنِيهِ سُويدُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا عَلِي بْنُ مُسْهِرٍ، عَنْ هِشَامٍ، بِهَذَا الإِسْنَادِ).

رجال هذا الإسناد: ثلاثة أيضًا:

1 -

(سُويدُ بْنُ سَعِيدٍ) الحدثانيّ، أبو محمد، صدوقٌ إلا أنه عَمِي، فصار يتلقّن، من قُدماء [10](ت 240) وله مائة سنة (م ت) تقدم في "المقدمة" 6/ 87.

2 -

(عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ) القرشيّ الكوفيّ، قاضي الموصل، تقدّم قريبًا.

و"هشام" ذُكر قبله.

[تنبيه]: رواية عليّ بن مسهر عن هشام بن عروة ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:

(4939)

- حدّثنا فَرْوَة بن أبي الْمَغْراء، حدّثنا عليّ بن مُسْهر، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة قالت: خرجت سودة بنت زمعة ليلًا، فرآها عمر، فعرفها، فقال: إنك والله يا سودة ما تخفين علينا، فرجعت إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فذكرت ذلك له، وهو في حُجْرتي يتعشى، وإن في يده لَعَرْقًا، فأُنزِل عليه، فرُفِع عنه، وهو يقول:"قد أَذِن اللهُ لكنّ أن تخرجن لحوائجكنّ". انتهى

(1)

.

وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5659]

( .... ) - (حَدَّثنا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ شُعَيْبِ بْنِ اللَّيْث، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ جَدِّي، حَدَّثَنِي عُقَيْلُ بْنُ خَالِدٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْر، عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ أَزْوَاجَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم كُنَّ يَخْرُجْنَ بِاللَّيْل، إِذَا تَبَرَّزْنَ إِلَى الْمَنَاصِع، وَهُوَ صَعِيدٌ أَفْيَحُ، وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَقُولُ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: احْجُبْ نِسَاءَكَ، فَلَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَفْعَلُ، فَخَرَجَتْ سَوْدَةُ بِنْتُ زَمْعَةَ زَوْجُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةً مِنَ اللَّيَالِي عِشَاءً، وَكَانَتِ امْرَأَةً طَوِيلَةً، فَنَادَاهَا عُمَرُ: أَلَا قَدْ عَرَفْنَاكِ يَا سَوْدَةُ؛ حِرْصًا عَلَى أَنْ يُنْزِلَ الْحِجَابَ، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَأَنْزَلَ اللهُ الْحِجَابَ)

(2)

.

(1)

"صحيح البخاريّ" 5/ 2006.

(2)

وفي نسخة: "فأُنزل الحجابُ".

ص: 575

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ شُعَيْبِ بْنِ اللَّيْثِ) الْفَهْميّ مولاهم، أبو عبد الله المصريّ، ثقةٌ [11](ت 248) تقدم في "الإيمان" 26/ 211.

2 -

(أَبُوهُ) شعيب بن الليث بن سعد الْفَهْميّ مولاهم، أبو عبد الملك المصريّ، ثقةٌ فقيهٌ نبيلٌ، من كبار [10](ت 199)(م د س) تقدم في "الإيمان" 26/ 211.

3 -

(جَدُّهُ) الليث بن سعد بن عبد الرحمن الْفَهميّ مولاهم، أبو الحارث المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ إمام مشهور [7](ت 175)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 412.

4 -

(عُقَيْلُ بْنُ خَالِدٍ) الأمويّ مولاهم، أبو خالد الأيليّ، سكن المدينة، ثم الشام، ثم مصر، ثقةٌ ثبتٌ [6](ت 144)(ع) تقدم في "الإيمان" 8/ 133.

5 -

(ابْنُ شِهَابٍ) محمد بن مسلم الزهريّ، تقدّم قبل بابين.

والباقيان ذُكرا قبله.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من سباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو مسلسل بالمدنيين من ابن شهاب، والباقون مصريّون، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وقال في "الفتح": وفيه تابعيّان: ابن شهاب، وعروة، وقرينان: الليث، وعُقيل. انتهى، وفيه عائشة رضي الله عنها، وقد سبق القول فيها.

شرح الحديث:

(عَنْ عَائِشَةَ) رضي الله عنها (أَنَّ أَزْوَاجَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم كُنَّ يَخْرُجْنَ بِاللَّيْل، إِذَا تَبَرَّزْنَ)؛ أي: إذا خرجن إلى البراز للبول، والغائط، فأصله من برز بفتح عين الفعل: إذا خرج إلى البراز للغائط، وهو الفضاء الواسع، قاله في "العمدة"

(1)

، وقال النوويّ: معنى تبرّزن: أردن الخروج لقضاء الحاجة

(2)

. (إِلَى الْمَنَاصِعِ) - بفتح الميم، وبالصاد المهملة المكسورة - وهو جمع مَنْصع، وهذه المناصع مواضع، قال الأزهريّ: أُراها مواضع خارج المدينة، وهو مقتضى قوله في

(1)

"عمدة القاري" 2/ 283.

(2)

"شرح النوويّ" 14/ 151.

ص: 576

الحديث: "وهو سعيد أفيح"؛ أي: أرض متسعةٌ، والأفيح بالفاء: المكان الواسع، قاله النوويّ

(1)

.

وقال في "الفتح": قوله: "المناصع" بالنون، وكسر الصاد المهملة، بعدها عين مهملة: جمع مَنْصَع، بوزن مَقْعَد، وهي أماكن معروفة، من ناحية البقيع، قال الداوديّ: سُمِّيت بذلك لأن الإنسان يَنْصَع فيها؛ أي: يخلص، والظاهر أن التفسير مقول عائشة، والأفيح بالحاء المهملة: المتسع. انتهى.

وقال في "العمدة": قوله إلى المناصع جمع مَنْصَع: مَفْعَل، من النصوع، وهو الخلوص، والناصع: الخالص من كل شيء، يقال: نَصَع يَنْصَع نَصَاعة، ونُصُوعًا: ويقال: أبيض ناصعٌ، وأصفر ناصعٌ، قال الأصمعي: كل ثور

(2)

خالص البياض، أو الصفرة، أو الحمرة فهو ناصع، وفي "العباب": المناصع: المجالس فيما يقال، وقال أبو سعيد: المناصع المواضع التي يُتَخَلَّى فيها لبول أو لغائط، الواحد مَنْصَع، بفتح الصاد، وقال الأزهريّ: أُراها مواضعَ خارجَ المدينة، وقال ابن الجوزيّ: هي المواضع التي يُتخلَّى فيها للحاجة، وكان صعيدًا أفيح خارج المدينة، يقال له: المناصع. انتهى

(3)

.

(وَهُوَ)؛ أي: المناصع، (صَعِيدٌ أَفْيَحُ) الصعيد: وجه الأرض، وقد فسَّره في الحديث بقوله:"وهو صعيد أفيح"، والأفيح بالفاء، وبالحاء المهملة: الواسع، وقال الصغانيّ: بحر أفيح: بَيِّن الفيح؛ أي: واسعٌ، وبحر فيّاح أيضًا بالتشديد، وقال الأصمعيّ: إنه لجواد فيّاح، وفيّاضٌ بمعنى واحد، وكأنه سُمِّي بالمناصع؛ لخلوصه عن الأبنية، والأماكن، أفاده في "العمدة"

(4)

.

وقوله أيضًا: (وَهُوَ صَعِيدٌ أَفْيَحُ) تفسير لقوله: "إلى المناصع"، والظاهر أنه من تفسير عائشة رضي الله عنها، كما قال الحافظ، وقال العينيّ: ويَحْتَمِل أن يكون من عروة، أو ممن دونه من الرواة. انتهى. وما قاله الحافظ هو الأقرب، والله تعالى أعلم.

(1)

"شرح النوويّ" 14/ 151.

(2)

كذا النسخة، والظاهر أنه تصحيف من كل بين، فليُحرّر.

(3)

"عمدة القاري" 2/ 283.

(4)

"عمدة القاري" 2/ 283.

ص: 577

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "كن يخرجن بالليل يتبرَّزن إلى المناصع": يتبرَّزن: يخرجن إلى البَرَاز - بفتح الباء - وهو الموضع الذي يُتبرَّز فيه؛ أي: يُظْهَر، والبروز: الظهور، ومنه:{وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً} [الكهف: 47]؛ أي: ظاهرة، مستوية، لا يحجبها شيء، كما قال تعالى:{لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا (107)} [طه: 107].

و"المناصع": موضع خارج المدينة.

وقوله: "وهو صعيد أفيح"؛ أي: أرض مستوية، متسعة، وذلك كناية عن خروجهن إلى الحدث؛ إذ لم يكن لهم كُنُف في البيوت، كانوا لا يتخذونها استقذارًا، فكانت النساء يخرجن بالليل إلى خارج البيوت، ويبعدن عنها إلى هذا الموضع، وقد نصَّت على هذا عائشة رمنها في حديث الإفك. انتهى

(1)

.

(وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَقُولُ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: احْجُبْ نِسَاءَكَ)؛ أي: امنعهنّ من الخروج من بيوتهنّ، بدليل أن عمر بعد نزول آية الحجاب قال لسودة ما قال، كما سبق في الحديث الماضي.

ويَحْتَمِل أن يكون أراد أوّلًا الأمر بستر وجوههن، فلمّا وقع الأمر بوفق ما أراد أحبّ أيضًا أن يحجب أشخاصهنّ مبالغة في التستر، فلم يُجَب لأجل الضرورة، قال الحافظ: وهذا أظهر الاحتمالين.

وقد كان عمر رضي الله عنه يَعُدّ نزول آية الحجاب من موافقاته كما سيأتي بيانها قريبًا.

وعلى هذا فقد كان لهنّ في التستر عند قضاء الحاجة حالات:

أولها بالظلمة؛ لأنهن كنّ يخرجن بالليل دون النهار، كما قالت عائشة رضي الله عنها في هذا الحديث:"كُنّ يخرجن بالليل"، وفي حديث عائشة رضي الله عنها في قصة الإفك:"فخَرَجت معي أم مِسْطَح قِبَل المناصع، وهو مُتَبَرَّزنا، وكنا لا نخرج إلا ليلًا إلى ليل". انتهى.

ثم نزل الحجاب، فتستّرن بالثياب، لكن كانت أشخاصهنّ ربما تتميز، ولهذا قال عمر لسودة في المرة الثانية، بعد نزول الحجاب:"أما والله ما تخفين علينا".

(1)

"المفهم" 5/ 494 - 495.

ص: 578

ثم اتُّخِذت الكُنُفُ في البيوت، فتسترن بها، كما في حديث عائشة رضي الله عنها في قصّة الإفك أيضًا، فإن فيها:"وذلك قبل أن تُتَّخَذ الكنفُ"، وكانت قصة الإفك قبل نزول آية الحجاب، قاله في "الفتح"

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: وقول عمر رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم: "احجُبْ نساءك" مصلحة ظهرت لعمر رضي الله عنه، فأشار بها، ولا يُظَنّ بالنبيّ صلى الله عليه وسلم أن تلك المصلحة خَفِيت عليه، لكنَّه كان ينتظر الوحي في ذلك، ولذلك لم يوافق عمر رضي الله عنه على ذلك حين أشار عليه به، لا سيما، وقد كانت عادة نساء العرب ألا يحتجبن؛ لكرم أخلاق رجالهم، وعفاف نسائهم غالبًا، ولذلك قال عنترة [من الكامل]:

وَأَغُضُّ طَرْفِي مَا بَدَتْ لِيَ جَارَتي

حَتَّى يُوَارِيَ جَارَتِي مَأْوَاهَا

فلمّا لم يكن هنالك ريبةٌ؛ تَرَكهم، ولم ينههم؛ استصحابًا للعادة، وكراهةً لابتداء أمرٍ، أو نهي؛ فإنَّه كان يحبُّ التخفيف عن أمته.

ففيه من الفقه: الإشارة على الإمام بالرأي، وإعادة ذلك إن احتاج إليها، وجواز إشارة المفضول على الفاضل، وجواز إعراض المشار عليه، وتأخير الجواب إلى أن يتبيَّن له وجهٌ يرتضيه. انتهى

(2)

.

(فَلَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَفْعَلُ)؛ أي: ما طلب منه عمر رضي الله عنه مِنْ حَجْب نسائه، (فَخَرَجَتْ سَوْدَةُ بِنْتُ زَمْعَةَ) تقدّم أن الأكثرين على سكون الميم، ويجوز فتحها، وقولها:(زَوْجُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) بدل من "سودة"، (لَيْلَةً) منصوب على الظرفيّة لـ"خرجت"، (مِنَ اللَّيَالِي) متعلّق بصفة لـ"ليلةً"، (عِشَاءً) بكسر العين، والمدّ بدل من "ليلةً"، (وَكَانَتِ امْرَأَةً طَوِيلَةً) تقدّم في الرواية الماضية:"وكانت امرأة جسيمةً، تَفْرَعُ النساءَ جسمًا". (فَنَادَاهَما عُمَرُ: أَلَا) - ألا بفتح الهمزة، وتخفيف اللام -: حرف استفتاح، يُنَبَّه به على تحقق ما بعده، (قَدْ عَرَفْنَاكِ يَا سَوْدَةُ) منادى مبنيّ على الضم؛ لأنه مفرد علم، وقوله:(حِرْصًا) منصوب على أنه مفعول لأجله، والعامل فيه قوله:"فناداها". (عَلَى أَنْ يُنْزَلَ الْحِجَابَ) يَحْتَمِل بناء الفعل للفاعل، و"الحجاب" مرفوع على الفاعليّة، ويَحْتَمِل بناؤه للمفعول،

(1)

"الفتح" 1/ 430 - 431، كتاب "الوضوء" رقم (146).

(2)

"المفهم" 5/ 495.

ص: 579

و"الحجابُ" نائب فاعله، ووقع في النسخة المطبوعة مضبوطًا بالقلم:"يُنْزِلَ الحجابَ" بضم أول "ينزل"، وكسر ثالثه، من الإنزال، ونصب الحجاب على المفعوليّة، فيكون الفاعل ضمير الله عز وجل، وإن لم يَجْر له ذِكْر قبله؛ للعلم به، والضبطان الأولان أظهر، والله تعالى أعلم.

(قَالَتْ عَائِشَةُ) رضي الله عنها (فَأَنْزَلَ اللهُ عز وجل الْحِجَابَ) وفي بعض النسخ: "فأُنزل الحجابُ"، وفي رواية للمستملي عند البخاريّ:"آية الحجاب"، زاد أبو عوانة في "صحيحه" من طريق الزُّبيديّ، عن ابن شهاب: فأنزل الله الحجاب: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ} الآية [الأحزاب: 53].

وقال في "الفتح": وسيأتي في "تفسير الأحزاب" أن سبب نزولها قصة زينب بنت جحش لَمّا أَوْلَم عليها، وتأخر النفر الثلاثة في البيت، واستحيا النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يأمرهم بالخروج، فنزلت آية الحجاب.

وسيأتي أيضًا حديث عمر: قلت: يا رسول الله إن نساءك يدخل عليهنّ البرّ والفاجر، فلو أمرتهنّ أن يحتجبن، فنزلت آية الحجاب.

ورَوَى ابن جرير في "تفسيره" من طريق مجاهد، قال: بينا النبيّ صلى الله عليه وسلم يأكل، ومعه بعض أصحابه، وعائشه تأكل معهم، إذ أصابت يدُ رجل منهم يدها، فكَرِه النبيّ صلى الله عليه وسلم ذلك، فنزلت آية الحجاب.

قال: وطريق الجمع بينها أن أسباب نزول الحجاب تعددت، وكانت قصة زينب آخرها؛ للنصّ على قصتها فيم الآية، والمراد بآية الحجاب في بعضها قوله تعالى:{يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ} [الأحزاب: 59]. انتهى

(1)

.

وقال في "الفتح" في موضع آخر: وقد وقع في رواية مجاهد، عن عائشة رضي الله عنها لنزول آية الحجاب سبب آخر، أخرجه النسائيّ، بلفظ:"كنت آكل مع النبيّ صلى الله عليه وسلم حَيْسًا في قَعْبٍ، فَمَرّ عمر، فدعاه، فأكل، فأصاب إصبعه إصبعي، فقال: حَسْ - أو: أَوَّه - لو أطاع فيكنّ ما رأتكنّ عين، فنزل الحجاب".

قال: ويُمكن الجمع بأن ذلك وقع قبل قصّة زينب، فلِقُرْبه منها أَطلقت نزول الحجاب بهذا السبب، ولا مانع من تعدد الأسباب.

(1)

"الفتح" 1/ 430 - 431، كتاب "الوضوء" رقم (146).

ص: 580

وقد أخرج ابن مردويه، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: دخل رجل على النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فأطال الجلوس، فخرج النبيُّ صلى الله عليه وسلم ثلاث مرّات ليخرج، فلم يفعل، فدخل عمر، فرأى الكراهية في وجهه، فقال للرجل: لعلك آذيت النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:"لقد قمت ثلاثًا، لكي يتبعني، فلم يفعل"، فقال له عمر: يا رسول الله، لو اتخذت حجابًا، فإن نساءك لسن كسائر النساء، وذلك أطهر لقلوبهنّ، فنزلت آية الحجاب. انتهى

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قولها: "فأُنزِل الحجابُ"؛ أي: آية الحجاب؛ وهي قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ} ، إلى قوله:{وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} الآية [الأحزاب: 53]، كذلك رُوي عن أنس، وابن مسعود رضي الله عنهما. غير أن هذا يتوجَّه عليه إشكال، وهو أن حديث أنس، وابن مسعود يقتضي أن سبب نزولها هو أن النبيّ صلى الله عليه وسلم حين أعرس بزينب اجتمع عنده رجال، فجلسوا في بيته، وزوجته مُوَلِّيَةٌ وجهها إلى الحائط، فأطالوا المجلس حتى ثقلوا عليه، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وحديث عائشة رضي الله عنها يقتضي أن الحجاب إنَّما نزل بسبب قول عمر رضي الله عنه:"احجُب نساءك"، ويزول ذلك الإشكال بأن يقال: إن الآية نزلت عند مجموع السَّببين، فيكون عمر قد تقدَّم قوله:"احجُب نساءك"، وكرر ذلك عليه إلى أن اتَّفَقَت قصّة بناء زينب، فصدقت نسبة نزول الآية لكل واحد من ذينك السَّببين. انتهى

(2)

.

وقال في "العمدة: قال الكرمانيّ: الحجاب؛ أي: حكم الحجاب؛ يعني: حجاب النساء عن الرجال، فأنزل الله آية الحجاب، ويَحْتَمِل أن يراد بآية الحجاب الجنس، فيتناول الآيات الثلاث: قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ} الآية [الأحزاب: 59]، وقوله تعالى:{وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الأحزاب: 53]، وقوله تعالى: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ

(1)

"الفتح" 10/ 514، كتاب "التفسير" رقم (4795).

(2)

"المفهم" 5/ 496.

ص: 581

زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} الآية [النور: 31]، وأن يراد به العهد من واحدة من هذه الثلاث.

قال العينيّ: رواية أبي عوانة المذكورة فسَّرت المراد من آية الحجاب صريحًا، كما ذكرنا.

قال: وقال التيميّ: الحجاب هنا استتارهنّ بالثياب، حتى لا يُرَى منهنّ شيء عند خروجهن، وأما الحجاب الثاني فهو إرخاؤهنّ الحجاب بينهنّ وبين الناس.

قال العينيّ: رواية أبي عوانة تخدش هذا الكلام على ما لا يخفى.

[تنبيه]: ثم اعلم أن الحجاب كان في السنة الخامسة، في قول قتادة، وقال أبو عبيد: في الثالثة، وقال ابن إسحق: بعد أم سلمة، وعند ابن سعيد: في الرابعة، في ذي القعدة. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى بيان مسائله في الحديث الماضي، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5660]

(

) - (حَدَّثنَا عَمْرٌو النَّاقِدُ، حَدَّثنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، حَدَّثنَا أَبِي، عَنْ صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ نَحْوَهُ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

وكلّهم تقدّموا قبل بابين، و"صالح" هو: ابن كيسان.

[تنبيه]: رواية صالح بن كيسان عن ابن شهاب ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:

(5886)

- حدّثنا إسحاق

(2)

، أخبرنا يعقوب بن إبراهيم، حدّثنا أبي، عن صالح، عن ابن شهاب، قال: أخبرني عروة بن الزبير، أن عائشة رضي الله عنها زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم قالت: "كان عمر بن الخطاب يقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم: احجُب نساءك،

(1)

"عمدة القاري" 2/ 284.

(2)

هو: ابن راهويه، كما في "الفتح" 14/ 162.

ص: 582

قالت: فلم يفعل، وكان أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم يَخرُجن ليلًا إلى ليل، قِبَل المناصع، فخرجت سودة بنت زمعة، وكانت امرأة طويلة، فرآها عمر بن الخطاب، وهو في المجلس، فقال: عرفتك يا سودةُ؛ حرصًا على أن يُنْزَل الحجابُ، قالت: فأنزل الله عز وجل آية الحجاب". انتهى.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(8) - (بَابُ تَحْرِيمِ الْخَلْوَةِ بِالأَجْنَبِيَّة، وَالدُّخُولِ عَلَيْهَا)

وبالسند المتّصل إلي المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5661]

(2171) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَعَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، قَالَ يَحْيَى: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ ابْنُ حُجْرٍ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْر، عَنْ جَابِرٍ (ح) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الصَبَّاح، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، أَخْبَرَنَا أَو الزُّبَيْر، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ: "أَلَا لَا يَبِيتَنَّ رَجُلٌ عِنْدَ امْرَأَةٍ ثَيِّبٍ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ نَاكِحًا، أَو ذَا مَحْرَمٍ").

رجال هذين الإسنادين: سبعة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ الصَّبَّاحِ) الدُّولابيّ، أبو جعفر البغداديّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 227)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 27.

والباقون ذُكروا قبل ثلاثة أبواب.

[تنبيه]: من لطائف هذين الإسنادين:

أنهما من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (437) من رباعيّات الكتاب، وفيه جابر رضي الله عنه أحد المكثرين السبعة، روى (1540) حديثًا.

شرح الحديث:

(عَنْ جَابِرٍ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَلَا) أداة استفتاح وتنبيه، (لَا) ناهية، قوله:(يَبِيتَنَّ) مجزوم المحلّ، مبني على الفتح؛ لاتّصاله بنون التوكيد.

قال الفيّوميّ رحمه الله: بَاتَ يَبِيتُ بَيْتُوتَةً، ومَبِيتًا، ومَبَاتًا، فهو بَائِتٌ، وتأتي

ص: 583

نادرًا بمعنى نام ليلًا، وفي الأعم الأغلب بمعنى فَعَلَ ذلك الفعل بالليل، كما اخْتَصّ الفعل في النهار بظلّ، فإذا قلت: بَاتَ يفعل كذا، فمعناه فعله بالليل، ولا يكون إلا مع سَهَر الليل، وعليه قوله تعالى:{وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (64)} [الفرقان: 64]، وقال الأزهريّ: قال الفراء: بَاتَ الرجلُ: إذا سَهِر الليل كلَّه في طاعة، أو معصية، وقال الليث: من قال: بَاتَ بمعنى نام، فقد أخطأ، ألا ترى أنك تقول: بَاتَ يرعى النجوم، ومعناه ينظر إليها، وكيف ينام من يراقب النجوم؟ وقال ابن الْقُوطِيّة أيضًا - وتبعه السَّرَقُسْطِيّ، وابن القَطّاع -: بَاتَ يَفْعَلُ كَذَا: إذا فعله ليلًا، ولا يقال: بمعنى نام، وقد تأتي بمعنى صار، يقال: بَاتَ بموضع كذا؛ أي: صار به، سواء كان في ليل، أو نهار، وعليه قوله صلى الله عليه وسلم:"فإنه لا يدري أين باتت يده؟ "، والمعنى: صارت، ووصلت، وعلى هذا المعنى قول الفقهاء: بَاتَ عند امرأته ليلةً؛ أي: صار عندها، سواء حصل معه نوم، أم لا، وبَاتَ يَباتُ، من باب تَعِبَ لغةٌ. انتهى كلام الفيّوميّ رحمه الله

(1)

، وهو بحثٌ مفيدٌ جدًّا، والله تعالى أعلم.

(رَجُلٌ عِنْدَ امْرَأَةٍ ثَيِّبٍ) قال العلماء: إنما خَصّ الثيب؛ لكونها التي يُدخل إليها غالبًا، وأما البكر فمصونة، متصوّنة في العادة، مجانبة للرجال أشدّ مجانبة، فلم يُحتج إلى ذكرها، ولأنه من باب التنبيه؛ لأنه إذا نُهي عن الثيب التي يَتساهل الناس في الدخول عليها في العادة، فالبكر أَولى

(2)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "لا يبيتن رجل عند امرأة ثيِّب": هذا الحديث لا دليلَ خطابٍ له بوجه؛ لأنَّ الخلوة بالأجنبية - بكرًا كانت، أو ثيبًا، ليلًا أو نهارًا - محرَّمةٌ بدليل قوله صلى الله عليه وسلم:"لا يخلون رجل بامرأة، إلا كان ثالثهما الشيطان"، وبقوله:"لا يدخلنّ رجلٌ على مغيَّبة، إلا ومعه رجل، أو رجلان"، وبقوله:"إياكم والدخول على المغيبات"، وبالجملة فالخلوة بالأجنبية حرام بالاتفاق في كل الأوقات، وعلى كل الحالات، وإنَّما غالبًا، فإنَّ الأبكار يتعذر الوصول إليهن غالبًا للمبالغة في التحرّز بهنّ، ولنَفْرتهنّ عن الرجال، ولأن

(1)

"المصباح المنير" 1/ 67.

(2)

"شرح النوويّ" 14/ 153.

ص: 584

الخلوة بالنهار تَنْدُر، فخرج النهي على المتيسَّر غالبًا. انتهى

(1)

.

(إِلَّا أَنْ يَكُونَ نَاكِحًا، أَو ذَا مَحْرَمٍ") قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في نُسخ بلادنا: "إلا أن يكون" بالياء المثناة من تحتُ؛ أي: يكون الداخل زوجًا، أو ذا محرم، وذكره القاضي، فقال:"إلا أن تكون ناكحًا، أو ذات محرم" بالتاء المثناة فوقُ، وقال:"ذات" بدل "ذا"، قال: والمراد بالناكح: المرأة المزوَّجة، وزوجها حاضر، فيكون مبيت الغريب في بيتها بحضرة زوجها، قال النوويّ: وهذه الرواية التي اقتصر عليها، والتفسير غريبان، مردودان، والصواب الرواية الأولى التي ذكرتها عن نُسخ بلادنا، ومعناه: لا يبيتنَّ رجل عند امرأة إلا زوجها، أو محرم لها. انتهى.

وقوله: (أَو ذَا مَحْرَمٍ) قال النوويّ رحمه الله: هو كلُّ من حَرُم عليه نكاحها على التأبيد؛ لسبب مباح؛ لحرمتها.

فقولنا: "على التأبيد" احتراز من أخت امرأته، وعمتها، وخالتها، ونحوهنّ، ومن بنتها قبل الدخول بالأم.

وقولنا: "لسبب مباح" احتراز من أم الموطوءة بشبهة، وبنتها، فإنه حرام على التأبيد، لكن لا لسبب مباح، فإن وطء الشبهة لا يوصف بأنه مباح، ولا محرَّم، ولا بغيرهما، من أحكام الشرع الخمسة؛ لأنه ليس فعلَ مكلف.

وقولنا: "لحرمتها" احتراز من الملاعِنة، فهي حرام على التأبيد، لا لحرمتها، بل تغليظًا عليهما.

وفي هذا الحديث، والأحاديث بعده تحريم الخلوة بالأجنبية، وإباحة الخلوة بمحارمها، وهذان الأمران مجمع عليهما. انتهى

(2)

.

وقال الصنعانيّ رحمه الله: مفهوم قوله: "لا يبيتن" أنه يجوز له البقاء عند الأجنبية في النهار خلوةً أو غيرها، لكن قوله: في حديث ابن عباس عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: "قال لا يخلونّ رجل بامرأة، إلا مع ذي محرم"، أخرجه البخاريّ دلّ على تحريم خلوته بها ليلًا، أو نهارًا، وهو دليل لِمَا دلّ عليه الحديث الذي

(1)

"المفهم" 5/ 500.

(2)

"شرح النوويّ" 14/ 153.

ص: 585

قبله وزيادة، وأفاد جواز خلوة الرجل بالأجنبية مع محرمها، وتسميتها خلوةً تسامح، فالاستثناء منقطع. انتهى

(1)

.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

[فإن قلت]: كيف أخرج المصنّف رحمه الله هذا الحديث، وفيه عنعنة أبي الزبير، وهو مدلّس، لا يقبل إلا إذا صرّح بالسماع، أو يكون من رواية الليث عنه؛ لأنه لم يرو عنه إلا ما سمعه من جابر رضي الله عنه؟.

[قلت]: يَحْتَمل أن يكون المصنّف اطّلع على رواية تصرّح بسماعه، وَيحْتَمل أن يكون أخرجه لشواهده، فإن أحاديث الباب تشهد له، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [8/ 5661](2171)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(5/ 386)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(4/ 48)، و (عبد بن حميد) في "مسنده"(5/ 321)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5587 و 5590)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(394 و 1848)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(7/ 98)، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5662]

(2172) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ (ح) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحٍ، أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ أَبِي الْخَيْر، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِيَّاكُمْ وَالدُّخُولَ عَلَى النِّسَاءِ"، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ: يَا رَسُولَ الله، أفَرَأَيْتَ الْحَمْوَ؟ قَالَ:"الْحَمْوُ الْمَوْتُ").

رجال هذين الإسنادين: ستة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحِ) بن مهاجر التجيبيّ المصريّ، تقدّم قريبًا.

(1)

"سبل السلام" 3/ 209.

ص: 586

2 -

(يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ) يسار، أبو رجاء المصريّ، ثقة فقيه، يرسل [5](ت 128) وقد قارب الثمانين (ع) تقدم في "الإيمان" 16/ 168.

3 -

(أَبُو الْخَيْرِ) مرثد بن عبد الله الْيَزَنيّ المصريّ، ثقةٌ فقيهٌ [3](ت 90)(ع) تقدم في "الإيمان" 16/ 168.

4 -

(عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ) الْجُهنيّ الصحابيّ الشهير، مات رضي الله عنه في قرب الستّين (ع) تقدم في "الطهارة" 6/ 559.

والباقيان ذُكرا في البابين الماضيين.

شرح الحديث:

(عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ) في الرواية التالية: من طريق ابن وهب عن الليث، وعمرو بن الحارث، وحيوه، وغيرهم:"أن يزيد بن أبي حبيب حدَّثهم"(عَنْ أَبِي الْخَيْرِ) مرثد بن عبد الله اليزنيّ، (عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ) الْجُهنيّ، اختُلف في كنيته على سبعة أقوال، أشهرها أبو حمّاد، وَليَ إمرة مصر لمعاوية رضي الله عنهما ثلاث سنين، وكان فقيهًا فاضلًا، وفي رواية ابن وهب عند أبي نعيم في "المستخرج":"سمعت عقبة بن عامر". (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِيَّاكُمْ وَالدُّخُولَ عَلَى النِّسَاءِ") بنصب "الدّخُولَ" على التحذير، وهو تنبيه المخاطب على محذور؛ ليحترز عنه، كما إذا قيل: إياك والأسد، فقوله:"إياكم" مفعول بفعل مضمر، تقديره: اتقوا، وتقدير الكلام: اتقوا أنفسكم أن تدخلوا على النساء، والنساء أن يدخلن عليكم، ووقع في رواية ابن وهب، بلفظ:"لا تدخلوا على النساء"، وتضمَّن منعُ الدخول منعَ الخلوة بها بطريق الأَولى، قاله في "الفتح"

(1)

.

(فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ) قال الحافظ رحمه الله: لم أقف على تسميته، (يَا رَسُولَ الله، أَفَرَأَيْتَ الْحَمْوَ؟)؛ أي: أقارب الزوج؛ أي: أخبرني عن حكم دخوله على النساء، واختُلِف في ضبط الحمو، فصَرَّح القرطبيّ بأن الذي وقع في هذا الحديث:"حمء" بالهمز، وأما الخطابيّ

(2)

فضَبَطه بواو بغير همز؛ لأنه

(1)

"الفتح" 11/ 685 - 686، كتاب "النكاح" رقم (5232).

(2)

"الأعلام" 3/ 2025.

ص: 587

قال: وزانُ دَلْو، وهو الذي اقتَصَر عليه أبو عبيد الهرويّ، وابن الأثير، وغيرهما، وهو الذي ثبت في روايات البخاريّ، وفيه لغتان أُخريان: إحداهما: حَمٌ، بوزن أَخٍ، والأخرى: حَمًى، بوزن عَصًا، وَيخرُج مِنْ ضَبْط المهموز بتحريك الميم لغة أخرى خامسة، حكاها صاحب "المحكم"

(1)

.

وقال النوويّ رحمه الله: وفي الحَم أربع لغات: إحداها: هذا حموك بضم الميم في الرفع، ورأيت حماك، ومررت بحميك، والثانية: هذا حَمْؤُك بإسكان الميم، وهمزة مرفوعة، ورأيت حمأك، ومررت بحمئك، والثالثة: هذا حماك، ورأيت حماك، ومررت بحماك، كقَفَا، وقفاك، والرابعة: حَمٌ كأَبٍ، وأصله حَمَوٌ، بفتح الحاء، والميم، وحماة المرأة أم زوجها، لا يقال فيها غير هَذا. انتهى

(2)

.

وزاد ابن وهب في روايته الآتية: "سمعت الليث يقول: الحمو أخو الزوج، وما أشبهه، من أقارب الزوج، ابن العمّ، ونحوه"، ووقع عند الترمذيّ بعد تخريج الحديث: قال الترمذيّ: يقال: هو أخو الزوج، كَرِه له أن يخلو بها، قال: ومعنى الحديث على نحو ما رُوي: "لا يخلونّ رجل بامرأة، فإن ثالثهما الشيطان". انتهى.

وهذا الحديث الذي أشار إليه أخرجه أحمد، من حديث عامر بن ربيعة.

وقال النوويّ

(3)

: اتفق أهل العلم باللغة على أن الأحماء أقارب زوج المرأة؛ كأبيه، وعمه، وأخيه، وابن أخيه، وابن عمه، ونحوهم، وأن الأختان أقارب زوجة الرجل، وأن الأصهار تقع على النوعين. انتهى.

وقد اقتَصَر أبو عبيد، وتبعه ابن فارس، والداوديّ على أن الحمو أبو الزوجة، زاد ابن فارس: وأبو الزوج؛ يعني: أن والد الزوج حمو المرأة، ووالد الزوجة حمو الرجل، وهذا الذي عليه عُرف الناس اليوم.

وقال الأصمعيّ، وتبعه الطبريّ، والخطابيّ ما نقله النوويّ، وكذا نُقِل عن الخليل، ويؤيده قول عائشة رضي الله عنها: ما كان بيني وبين عليّ إلا ما كان بين المرأة وأحمائها.

(1)

"الفتح" 11/ 685 - 686، كتاب "النكاح" رقم (5232).

(2)

"شرح النوويّ" 14/ 154.

(3)

"شرح النوويّ" 14/ 153.

ص: 588

وقد قال النوويّ: المراد في الحديث أقارب الزوج، غير آبائه، وأبنائه؛ لأنهم محارم للزوجة، يجوز لهم الخلوة بها، ولا يوصفون بالموت، قال: وإنما المراد: الأخ، وابن الأخ، والعمّ، وابن العمّ، وابن الأخت، ونحوهم، مما يحل لها تزويجه لو لم تكن متزوجةً، وجرت العادة بالتساهل فيه، فيخلو الأخ بامرأة أخيه، فشبّهه بالموت، وهو أَولى بالمنع من الأجنبيّ. انتهى

(1)

.

وقد جزم الترمذيّ، وغيره، كما تقدم، وتبعه المازريّ بأن الحمو أبو الزوج، وأشار المازريّ إلى أنه ذُكِر للتنبيه على مَنْع غيره بطريق الأَولى، وتبعه ابن الأثير في "النهاية"، وردّه النوويّ، فقال: هذا كلام فاسدٌ، مردودٌ، لا يجوز حمل الحديث عليه. انتهى.

قال الحافظ: وسيظهر في كلام الأئمة في تفسير المراد بقوله: "الحمو الموت" ما يتبيّن منه أن كلام المازريّ ليس بفاسد.

(قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("الْحَمْوُ الْمَوْتُ") مبتدأ وخبره، قيل: المراد أن الخلوة بالحمو قد تؤدي إلى هلاك الدِّين إن وقعت المعصية، أو إلى الموت إن وقعت المعصية، ووجب الرجم، أو إلى هلاك المرأة بفراق زوجها، إذا حملته الغيرة على تطليقها، أشار إلى ذلك كفه القرطبيّ.

وقال الطبريّ: المعنى أن خلوة الرجل بامرأة أخيه، أو ابن أخيه تُنَزَّل منزلة الموت، والعرب تَصِف الشيء المكروه بالموت، قال ابن الأعرابيّ: هي كلمة تقولها العرب مثلًا، كما تقول: الأسد الموت؛ أي: لقاؤه فيه الموت، والمعنى: احذروه كما تحذرون الموت.

وقال صاحب "مجمع الغرائب": يَحْتَمِل أن يكون المراد: أن المرأة إذا خلت، فهي محل الآفة، ولا يؤمَن عليها أحد، فليكن حموها الموت؛ أي: لا يجوز لأحد أن يخلو بها إلا الموت، كما قيل: نعم الصهر القبر، وهذا لائق بكمال الغيرة، والْحَمِيّة.

وقال أبو عبيد: معنى قوله: "الحمو الموت"؛ أي: فلْيَمُت، ولا يفعل هذا.

(1)

"شرح النوويّ" 14/ 153.

ص: 589

وتعقبه النوويّ، فقال: هذا كلام فاسد، وإنما المراد أن الخلوة بقريب الزوج أكثر من الخلوة بغيره، والشرّ يُتَوَقَّع منه أكثر من غيره، والفتنة به أمكن؛ لتمكّنه من الوصول إلى المرأة، والخلوة بها من غير نكير عليه، بخلاف الأجنبي.

وقال عياض

(1)

: معناه: أن الخلوة بالأحماء مؤدية إلى الفتنة، والهلاك في الدّين، فجعله كهلاك الموت، وأَوْرَدَ الكلامَ مورد التغليظ.

وقال القرطبيّ في "المفهم"

(2)

: المعنى أن دخول قريب الزوج على امرأة الزوج يشبه الموت في الاستقباح، والمفسدة؛ أي: فهو محرَّم معلوم التحريم، وإنما بالغ في الزجر عنه، وشبّهه بالموت؛ لتسامح الناس به من جهة الزوج والزوجة؛ لإلفهم بذلك، حتى كأنه ليس بأجنبيّ من المرأة، فخرج هذا مخرج قول العرب: الأسد الموت، والحرب الموت؛ أي: لقاؤه يُفضي إلى الموت، وكذلك دخوله على المرأة قد يفضي إلى موت الدِّين، أو إلى موتها بطلاقها عند غيرة الزوج، أو إلى الرجم إن وقعت الفاحشة.

وقال ابن الأثير في "النهاية"

(3)

: الحَمُ أحد الأحماء: أقارب الزوج، والمعنى فيه أنه إذا رأيه هذا في أبي الزوج، وهو مَحْرم، فكيف بالغريب؛ أي: فَلْتَمُت، ولا تفعلنّ ذلك، وهذه كلمة تقولها العرب، كما تقول: الأسد الموت، والسلطان النار؛ أي: لقاؤهما مثلُ الموت والنار؛ يعني: أن خلوة المَحْرَم معها أشدّ من خلوة غيره من الأجانب؛ لأنه ربما حَسَّن لها أشياءَ، وحَمَلها على أمور تَثْقُل على الزوج، من التماس ما ليس في وُسعه، فتسوء العشرة بين الزوجين بذلك، ولأن الزوج قد لا يُؤْثِر أن يَطَّلع والد زوجته، أو أخوها على باطن حاله، ولا على ما اشتمل عليه بيته. انتهى، فكأنه قال: الحمو الموت؛ أي: لا بُدّ منه، ولا يمكن حجبه عنها، كما أنه لا بدّ من الموت، وأشار إلى هذا الأخير الشيخ تقيّ الدين في "شرح العمدة"

(4)

.

(1)

"الإكمال" 7/ 61.

(2)

"المفهم" 5/ 500.

(3)

"النهاية في غريب الحديث والأثر" ص 236.

(4)

"الفتح" 11/ 687 - 688، كتاب "النكاح" رقم (5232).

ص: 590

قال الجامع عفا الله عنه: لا يخفى بُعد كثير من هذه الأقوال، ولا سيّما القول الأخير، وأقربها عندي القول الأول، وهو: أن الخلوة بالحمو قد تؤدي إلى هلاك الدِّين إن وقعت المعصية، أو إلى الموت إن وقعت المعصية، ووجب الرجم، أو إلى هلاك المرأة بفراق زوجها، إذا حملته الغيرة على تطليقها، فلا يحلّ دخوله على المرأة لذلك، والله تعالى أعلم.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [8/ 5662 و 5663 و 5664](2172)، و (البخاريّ) في "النكاح"(5232)، و (الترمذيّ) في "الرضاع"(1171)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(5/ 386)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(4/ 48)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 149 و 153)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 278)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(17/ 762 و 764 و 765)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5588)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(7/ 90)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(2252)، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5663]

(

) - (وَحَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِر، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْبٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِث، وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، وَحَيْوَةَ بْنِ شُرَيْحٍ، وَغَيْرِهِمْ، أَنَّ يَزِيدَ بْنَ أَبِي حَبِيبٍ حَدَّثَهُمْ بِهَذَا الْإِسْنَادِ مِثْلَهُ).

رجال هذا الإسناد: ستّة:

1 -

(أَبُو الطَّاهِرِ) أحمد بن عمرو بن عبد الله بن السرح المصريّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْبٍ) الحافظ المصريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

3 -

(عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ) بن يعقوب المصريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

4 -

(حَيْوَةُ بْنُ شُرَيْحِ) بن صفوان التُّجِيبيّ، أبو زرعة المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ زاهدٌ [7](ت 8 أو 159)(ع) تقدم في "الإيمان" 57/ 328.

ص: 591

والباقيان ذُكرا قبله.

وقوله: (وَغَيْرِهِمْ) لم أعرفه، ولعله يريد ابن لَهِيعة، فإنه روى الحديث عن يزيد بلفظ:"لا تتحدّثوا عند النساء"، قال الطبرانيّ رحمه الله في "الكبير":

(764)

- حدّثنا بكر بن سهل، ثنا عبد الله بن يوسف، ثنا ابن لَهِيعة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الخير، عن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تتحدّثوا عند النساء". انتهى

(1)

.

[تنبيه]: رواية عمرو بن الحارث عن يزيد بن أبي حبيب ساقها ابن حبّان رحمه الله في "صحيحه"، فقال:

(5588)

- أخبرنا عبد الله بن محمد بن سلم، قال: حدّثنا حرملة بن يحيى، قال: حدّثنا ابن وهب، قال: أخبرني عمرو بن الحارث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الخير، أنه سَمِع عقبة بن عامر يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تدخلوا على النساء"، فقال رجل من الأنصار: أفرأيت الحمو يا رسول الله؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الحمو الموت". انتهى

(2)

.

وأما رواية الليث، وحيوة، عن يزيد فلم أر من ساقها، فليُنظر، وقد تقدّمت رواية الليث عنه في الحديث الماضي، ولكنها ليس من رواية ابن وهب عنه، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5664]

(

) - (وَحَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِر، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: سَمِعْتُ اللَّيْثَ بْنَ سَعْدٍ يَقُولُ: الْحَمْوُ أَخُ الزَّوْجِ، وَمَا أَشْبَهَهُ، مِنْ أَقَارِبِ الزَّوْجِ: ابْنُ الْعَمِّ، وَنَحْوُهُ).

رجال هذا الإسناد:

هم المذكورون في السند السابق، وتفسير الليث للحمو هذا لم أره عند غير المصنّف، والله تعالى أعلم.

(1)

"المعجم الكبير" 17/ 277.

(2)

"صحيح ابن حبان" 12/ 401.

ص: 592

وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5665]

(2173) - (حَدَّثنا هَارُونُ بْنُ مَعْرُوفٍ، حَدَّثنا عَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي عَمْرٌو (ح) وَحَدَّثَني أَبُو الطَّاهِر، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْبٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِث، أَنَّ بَكْرَ بْنَ سَوَادَةَ حَدَّثَهُ، أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ جُبَيْرٍ حَدَّثَهُ، أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ حَدَّثَهُ، أَنَّ نَفَرًا مِنْ بَنِي هَاشِمٍ دَخَلُوا عَلَى أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ، فَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ، وَهِيَ تَحْتَهُ يَوْمَئِذٍ، فَرَآهُمْ، فَكَرِهَ ذَلِكَ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَقَالَ: لَمْ أَرَ إِلَّا خَيْرًا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"إِنَّ اللهَ قَدْ بَرَّأَهَا مِنْ ذَلِكَ"، ثُمَّ قَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْمِنْبَر، فَقَالَ:"لَا يَدْخُلَنَّ رَجُلٌ بَعْدَ يَوْمِي هَذَا عَلَى مُغِيبَةٍ، إِلَّا وَمَعَهُ رَجُلٌ، أَوِ اثنانِ").

رجال هذين الإسنادين: ستّةٌ:

1 -

(هَارُونُ بْنُ مَعْرُوفٍ) الخزّاز الضرير المروزيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ [10](ت 231)(خ م د) تقدم في "الإيمان" 63/ 350.

2 -

(بَكْرُ بْنُ سَوَادَةَ) بن ثُمامة الْجُذاميّ، أبو ثمامة المصريّ، ثقةٌ فقيهٌ [5] مات سنة بضع و (120)(خت م 4) تقدم في "الإيمان" 93/ 505.

3 -

(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ جُبَيْرِ) العامريّ المؤذّن المصريّ، ثقةٌ عارف بالفرائض [3](ت 19) أو بعدها (م د ت س) تقدم في "الإيمان" 93/ 505.

4 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ) بن وائل السَّهْميّ، أبو محمد، أو أبو عبد الرحمن، الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، مات سنة (63)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.

والباقون ذُكروا في الإسنادين الماضيين.

[تنبيه]: من لطائف هذين الإسنادين:

أنهما من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وأنهما مسلسلان بالمصريين، غير شيخه هارون، فبغداديّ، وأنه مسلسل بالتحديث، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ.

شرح الحديث:

(عن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُبَيْرٍ) العامريّ المؤذّن (أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ) رضي الله عنهما (حَدَّثَهُ، أَنَّ نَفَرًا مِنْ بَنِي هَاشِمٍ) قال صاحب "التنبيه": لا

ص: 593

أعرفهم

(1)

. (دَخَلُوا عَلَى أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ) الْخَثعميّة الصحابيّة، تزوّجها جعفر بن أبي طالب، ثم أبو بكر، ثم عليّ، وولدت لهم، وهي أخت ميمونة بنت الحارث أم المؤمنين لأمها، ماتت رضي الله عنهما بعد عليّ رضي الله عنه، تقدّمت ترجمتها في "كتاب الحج" في حديث جابر رضي الله عنه الطويل في صفة حجة النبيّ صلى الله عليه وسلم. (فَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ) عبد الله بن عثمان رضي الله عنهما المتوفّى في جمادى الأولى سنة (13) تقدّمت ترجمته في "الإيمان" 8/ 133. (وَهِيَ تَحْتَهُ يَوْمَئِذٍ)؛ يعني: أنها كانت زوجته في ذلك الوقت، تزوّجها بعد أن استُشهد زوجها جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه في غزوة مُؤْتة.

وفي رواية الطبرانيّ في "الأوسط": عن عبد الله بن عمرو: "أن أبا بكر تزوج أسماء بنت عُميس بعد جعفر بن أبي طالب، فأقبل داخلًا على أسماء، فإذا نفر جلوسٌ في بيته، فرجع إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم، وأخبره، فقال: يا أبا بكر، وما ذاك؟ قال: إني ما رأيت بأسًا"

(2)

.

(فَرَآهُمْ)؛ أي: فرأى أبو بكر رضي الله عنه النفر الداخلين على أسماء، (فَكَرِهَ ذَلِكَ)؛ أي: دخولهم عليها، (فَذَكَرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَقَالَ) أبو بكر (لَمْ أَرَ إِلَّا خَيْرًا)؛ يعني: أنه لم يظهر منهم ما يوجب الريبة، وإنما كره خوفًا أن يحدث ذلك. (فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"إِنَّ اللهَ قَدْ بَرَّأَهَا)؛ أي: أسماء رضي الله عنها (مِنْ ذَلِكَ")؛ أي: من أن يحصل منها محذور شرعيّ، وهذه منقبة عظيمة لها حيث أخبر صلى الله عليه وسلم بأن الله تعالى برّأها من ذلك. (ثُمَّ قَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْمِنْبَرِ) محذّرًا أمته أن تسلك مسلك الريب والفساد، وقطعًا للذرائع، (فقال: "لا) ناهية، كما سبق قريبًا، (يَدْخُلَنَّ رَجُلٌ بَعْدَ يَوْمِي هَذَا عَلَى مُغِيبَةٍ) - بضمّ الميم، وكسر الغين المعجمة، ثم تحتانية ساكنة، ثم موحدة -: هي التي غاب عنها زوجها، يقال: أغابت المرأة: إذا غاب زوجها، قال النوويّ: والمراد غاب زوجها عن منزلها، سواء غاب عن البلد، بأن سافر، أو غاب عن المنزل، وإن كان في البلد، هكذا ذكره القاضي، وغيره، وهذا ظاهر متعيَّن، قال القاضي: ودليله هذا الحديثُ، وأن القصة التي قيل الحديث بسببها، وأبو بكر رضي الله عنه

(1)

"تنبيه المعلم" ص 369.

(2)

"المعجم الأوسط" 8/ 339.

ص: 594

غائب عن منزله، لا عن البلد، والله أعلم. انتهى

(1)

.

(إِلَّا وَمَعَهُ رَجُلٌ، أَوِ اثْنَان،) قال في "المبارق": قوله: "أو اثنان" شكّ من الراوي. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: ويَحْتَمِل أن يكون للتنويع، فتأمله، والله تعالى أعلم.

قال النوويّ: ظاهر هذا الحديث جواز خلوة الرجلين، أو الثلاثة بالأجنبية، والمشهور عند أصحابنا تحريمه، فيتأول الحديث على جماعة يَبْعُد وقوع المواطأة منهم على الفاحشة؛ لصلاحهم، أو مروءتهم، أو غير ذلك، وقد أشار القاضي إلى نحو هذا التأويل. انتهى

(3)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: كان هذا الدخول في غيبة أبي بكر رضي الله عنه، لكنه كان في الحضر، لا في السفر، وكان على وجه ما يُعْرَف من أهل الصلاح والخير، مع ما كانوا عليه قبل الإسلام مما تقتضيه مكارم الأخلاق، من نفي التهمة، والريب، كما قدمناه، ولعل هذا كان قبل نزول الحجاب

(4)

، وقبل أن يُتقدَّم لهم في ذلك بأمر ولا نهي؛ غير أن أبا بكر رضي الله عنه أنكر ذلك بمقتضى الغيرة الجِبِلِّيَّة، والدِّينيَّة، كما وقع لعمر رضي الله عنه في الحجاب، ولمّا ذكر ذلك للنبيّ صلى الله عليه وسلم قال ما يعلمه من حال الدَّاخلين، والمدخول لها، قال:"لم أر إلا خيرًا"؛ يعني: على الفريقين، فإنَّه عَلِم أعيان الجميع؛ لأنَّهم كانوا من مسلمي بني هاشم، ثم خصَّ صلى الله عليه وسلم أسماء بالشهادة لها فقال:"إن الله قد برأها من ذلك"؛ أي: مما وقع في نفس أبي بكر، فكان ذلك فضيلة عظيمة من أعظم فضائلها،

(1)

"شرح النوويّ" 14/ 155.

(2)

من هامش النسخة التركيّة 7/ 8.

(3)

"شرح النوويّ" 14/ 155.

(4)

هذا غير صحيح؛ لأن أسماء بنت عُميس إنما تزوّجها أبو بكر رضي الله عنهما يوم حنين، كما صرّح به الحافظ في "الإصابة" 7/ 489، وذلك بعد نزول الحجاب بمدّة طويلة، فالظاهر أنهم دخلوا عليها بمراعاة أحكام الحجاب، ولكن أبا بكر رضي الله عنه إنما كره ذلك بمقتضى الغيرة الجبلّيّة مع التصريح بأنه لم ير إلا خيرًا. راجع:"شرح الشيخ الهرريّ حفظه الله تعالى" 22/ 130 - 131.

ص: 595

ومنقبة من أشرف مناقبها، ومع ذلك فلم يكتف بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جمع الناس، وصعد المنبر، فنهاهم عن ذلك، وعلّمهم ما يجوز منه، فقال:"ألا يدخلنّ رجل على مُغيبة، إلا ومعه رجل، أو اثنان" سادًّا لذريعة الخلوة، ودفعًا لِمَا يؤدِّي إلى التهمة، وإنَّما اقتصر على ذكر الرَّجل والرَّجلين لصلاحية أولئك القوم؛ لأنَّ التهمة كانت ترتفع بذلك القَدْر، فأما اليوم فلا يُكتفى بذلك القدر، بل بالجماعة الكثيرة؛ لعموم المفاسد، وخبث المقاصد، ورحم الله مالكًا، لقد بالغ في هذا الباب حتى منع فيه ما يجرّ إلى بعيد التُّهَم والارتياب؛ حتى منع خلوة المرأة بابن زوجها، والسفر معه، وإن كانت محرَّمة عليه؛ لأنَّه ليس كل أحد يمتنع بالمانع الشرعي؛ إذا لم يقارنه مانع عاديّ، فإنَّه من المعلوم الذي لا شك فيه أن موقع امتناع الرجل من النظر بالشهوة لامرأة أبيه ليس كموقعه منه لأمه، وأخته، هذا قد استحكمت عليه النفرة العادية، وذلك قد أَنِست به النفس الشهوانية، فلا بدَّ مع المانع الشرعيّ في هذا من مراعاة الذرائع الحاليَّة. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: ما قاله مالك رحمه الله في امرأة الأب محلّ نظر؛ لأنها داخلة في المحارم، وأما الفساد الذي ذَكَره فلا يخصّ ابن الزوج، بل بعض الفسّاق لا يتحاشا في الوقوع على بعض محارمه، وإن كانت قريبةً، ولكن الشرع نظر إلى الأغلب الكثير، فأباح لكل مَحْرَم أن يخلو بحَرَمِه، فإن العادة أن الشخص إذا اعتقد أن هذه المرأة مَحْرَمه يقطع أطماعه منها مطلقًا، والله تعالى أعلم.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [8/ 5665](2173)، و (النسائيّ) في "الكبرى"

(1)

"المفهم" 5/ 502 - 503.

ص: 596

(5/ 104 و 386)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 172 و 186 و 213)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5585)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(8/ 339)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(7/ 90)، و"شُعب الإيمان"(4/ 371)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان تحريم الدخول على المرأة الأجنبيّة التي غاب زوجها عن البيت.

2 -

(ومنها): بيان جواز الدخول على الْمُغيبة إذا كان عندها واحد، أو أكثر.

3 -

(ومنها): بيان منقبة أسماء بنت عُميس رضي الله عنها حيث أثنى عليها النبيّ صلى الله عليه وسلم بأن برّأها عن التُّهَمْ.

4 -

(ومنها): بيان أدب أبي بكر رضي الله عنه حيث لم يتكلّم بسوء للذين وجدهم في بيته، ومع زوجته بغير إذنه، بل ذهب إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فشكا ذلك إليه، فأخبره صلى الله عليه وسلم ببراءة أهله من السوء المخوف، والله تعالى أعلم.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(9) - (بَابُ بَيَانِ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِمَنْ رُئِيَ خَالِيًا بِامْرَأَةٍ، وَكَانَتْ زَوْجَةً، أَو مَحْرَمًا لَهُ، أَنْ يَقُولَ: هَذِهِ فُلَانَةُ؛ لِيَدْفَعَ ظَنَّ السَّوْءِ بِهِ)

وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5666]

(2174) - (حَدَّثنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ بْنِ قَعْنَبٍ، حَدَّثنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ مَعَ إِحْدَى نِسَائِه، فَمَرَّ بِهِ رَجُلٌ، فَدَعَاهُ، فَجَاءَ، فَقَالَ: "يَا فُلَانُ هَذِهِ زَوْجَتي فُلَانَةُ"، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ مَنْ كُنْتُ أَظُنُّ بِه، فَلَمْ أَكُنْ أَظُنُّ بِكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنَ الإِنْسَانِ مَجْرَى الدَّمِ").

ص: 597

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ بْنِ قَعْنَبٍ) الحارثيّ، أبو عبد الرحمن البصريّ، مدنيّ الأصل، وقد سكنها مدّةً، ثقةٌ عابد، كان ابن معين، وابن المدينيّ لا يقدّمان عليه في "الموطّأ" أحدًا، من صغار [9](ت 221) بمكة (خ م د ت س) تقدم في "الطهارة" 17/ 617.

2 -

(حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ) بن دينار، أبو سلمة البصريّ، ثقةٌ عابد، أثبت الناس في ثابت، وتغيّر في الآخر، من كبار [8](ت 167)(خت م 4) تقدم في "المقدمة" 6/ 80.

والباقيان تقدّما قبل ثلاثة أبواب.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (438) من رباعيّات الكتاب، وفيه أنس رضي الله عنه من المكثرين السبعة، روى (2286) حديثًا.

شرح الحديث:

(عَنْ ثَابتٍ الْبُنَانِيِّ) وفي رواية البخاريّ في "الأدب المفرد": "أخبرنا ثابت"(عَنْ أَنَسٍ) رضي الله عنه (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ مَعَ إِحْدَى نِسَائِهِ) قال صاحب "التنبيه": هي صفيّة رضي الله عنها، (فَمَرَّ بِهِ رَجُلٌ) لم يُعرف اسمه، (فَدَعَاهُ)؛ أي: دعا صلى الله عليه وسلم الرجلّ (فَجَاءَ)؛ أي: جاء الرجلُ إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("يَا فُلَانُ هَذِهِ زَوْجَتِي) قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في جميع النُّسخ بالتاء قبل الياء، وهي لغة صحيحة، وإن كان الأشهر حذفها، وبالحذف جاءت آيات القرآن، والإثبات كثير أيضًا. انتهى

(1)

.

وقال الفيّوميّ رحمه الله: الرجل زَوْجُ المرأة، وهي زَوْجُهُ أيضًا، هذه هي اللغة العالية، وبها جاء القرآن، نحو:{اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} [البقرة: 35]، والجمع فيهما: أَزْوَاجٌ، قاله أبو حاتم، وأهل نجد يقولون في المرأة: زَوْجَةٌ بالهاء، وأهل الحرم يتكلمون بها، وعكس ابن السِّكِّيت، فقال: وأهل الحجاز يقولون للمرأة: زَوْجٌ، بغير هاء، وسائر العرب: زَوْجَةٌ، بالهاء وجَمْعها:

(1)

"شرح النوويّ" 14/ 157.

ص: 598

زَوْجَاتٌ، والفقهاء يقتصرون في الاستعمال عليها؛ للإيضاح، وخَوْف لَبْس الذكر بالأنثى؛ إذ لو قيل: تركة فيها زَوْج، وابن لم يُعْلَم أذكر هو أم أنثى. انتهى

(1)

.

وقوله: (فُلَانَةُ") بدل من "زوجتي"، وإنما قال له ذلك؛ ليزيل عنه سوء الظنّ الذي يُلقيه الشيطان إليه. (فَقَالَ) الرجل (يَا رَسُولَ اللهِ مَنْ كُنْتُ أَظُنُّ بِهِ)؛ أي: السوء، (فَلَمْ أَكُنْ أَظُنُّ بِكَ) ذلك السوء، والمعنى: أنه إن كان لي ظنّ سوء في أيّ شخص رأيته في محلّ ريبة، فلن يكون ذلك الظّن بك يا رسول الله؛ لأنك معصوم من كلّ سوء. (فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"إِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنَ الإِنْسَانِ مَجْرَى الدَّمِ") قال القاضي وغيره: قيل: هو على ظاهره، وأن الله تعالى جعل له قُوّةً وقدرةً على الجري في باطن الإنسان مَجاري دمه، وقيل: هو على الاستعارة؛ لكثرة إغوائه، ووسوسته، فكأنه لا يفارق الإنسان، كما لا يفارقه دمه، وقيل: يُلقي وسوسته في مسامَّ لطيفةٍ من البدن، فتصل الوسوسة إلى القلب. انتهى

(2)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله وقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الشيطان يجري

إلخ" حمله بعض العلماء على ظاهره، فقال: إن الله تعالى جعل للشيطان قوَّة، وتمكُّنًا من أن يسري في باطن الإنسان، ومجاري دمه، والأكثر على أن معنى هذا الحديث: الإخبار عن ملازمة الشيطان للإنسان، واستيلائه عليه بوسوسته، وإغوائه، وحرصه على إضلاله، وإفساد أحواله، فيجب الحذر منه، والتحرُّز من حِيَله، وسدُّ طرق وسوسته، وإغوائه، وإن بَعُدت، وقد بيَّن ذلك في آخر الحديث بقوله: "إني خشيت أن يقذف في قلوبكما شرًّا"، وخصوصًا في مثل هذا الذي يفضي بالإنسان إلى الكفر، فإنَّ ظنَّ السَّوء والشر بالأنبياء كفرٌ.

قال القاضي عياض رحمه الله: في هذا الحديث من الفقه أن من قال في النبي صلى الله عليه وسلم شيئًا من هذا، أو جوَّزه عليه، فهو كافر، مستباح الدم. انتهى

(3)

.

قال الجامع عفا الله عنه: عندي الصواب حمل الحديث على ظاهره، وأن الشيطان له تمكّن من أن يجري في الإنسان مجرى دمه.

(1)

"المصباح المنير" 1/ 259.

(2)

"شرح النوويّ" 14/ 157.

(3)

"المفهم" 5/ 505.

ص: 599

وخلاصة الأمر أنه إذا أمكن إجراء النصوص على ظواهرها لا يُعدل عنها إلا بحجة، تصرفها عن ذلك، ولا حاجة، ولا دليل على ذلك هنا، فتأمّل بالإمعان، والله تعالى وليّ التوفيق.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أنس رضي الله عنه من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [9/ 5666](2174)، و (البخاريّ) في "الأدب المفرد"(1/ 438)، و (أبو داود) في "السنّة"(4719)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 125 و 156 و 285)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(6/ 186)، و (البيهقيّ) في "شُعب الإيمان"(5/ 322)، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5667]

(2175) - (وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ - وَتَقَارَبَا فِي اللَّفْظِ - قَالَا: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاق، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ، عَنْ صَفِيَّةَ بنْتِ حُيَيٍّ، قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُعْتَكِفًا، فَأَتَيْتُهُ أَزُورُهُ لَيْلًا، فَحَدَّثْتُهُ، ثُمَّ قُمْتُ لأَنْقَلِبَ، فَقَامَ مَعِي؛ لِيَقْلِبَنِي، وَكَانَ مَسْكَنُهَا فِي دَارِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، فَمَرَّ رَجُلَانِ مِنَ الأَنْصَار، فَلَمَّا رَأَيَا النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أَسْرَعَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "عَلَى رِسْلِكُمَا، إِنَّهَا صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ"، فَقَالَا: سُبْحَانَ اللهِ يَا رَسُولَ الله، قَالَ: "إِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنَ الإِنْسَانِ مَجْرَى الدَّم، وَإِنِّي خَشِيتُ أَنْ يَقْذِفَ فِي قُلُوبِكُمَا شَرًّا"، أَو قَالَ: "شَيْئًا").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(عَلِيُّ بْنُ حُسَيْنِ) بن عليّ بن أبي طالب زين العابدين المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ عابدٌ فقيهٌ فاضلٌ مشهورٌ، قال ابن عيينة عن الزهريّ: ما رأيت قرشيًّا أفضل منه [3](ت 93) وقيل غير ذلك (ع) تقدم في "صلاة المسافرين وقصرها" 30/ 1818.

2 -

(صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيِّ) بن أخطب الإسرائيليّة، أم المؤمنين، تزوّجها

ص: 600

النبيّ صلى الله عليه وسلم بعد خيبر، وماتت سنة (36)، وقيل: في ولاية معاوية، وهو الصحيح (ع) تقدمت في "الحج" 65/ 3223.

والباقون تقدّموا قريبًا.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وأن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ.

شرح الحديث:

(عَنْ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ) رضي الله عنهما (عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ حُيَيٍّ) رضي الله عنها، وفي الرواية التالية:"عن الزهريّ، أخبرنا عليّ بن حسين، أن صفيّة زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم أخبرته"، وفي رواية ابن حبان من طريق عبد الرحمن بن إسحاق، عن الزهريّ، عن علي بن الحسين:"حدّثتني صفية"، وهي صفية بنت حُييّ - بمهملة، وتحتانية، مصغّرًا - ابن أخطب، كان أبوها رئيس خيبر، وكانت تُكْنَى أم يحيى.

قال الحافظ رحمه الله: وفي تصريح عليّ بن الحسين بأنها حدثته ردٌّ على من زعم أنها ماتت سنة ست وثلاثين، أو قبل ذلك؛ لأن عليًّا إنما وُلد بعد ذلك سنة أربعين، أو نحوها، والصحيح أنها ماتت سنة خمسين، وقيل: بعدها، وكان عليّ بن الحسين حين سمع منها صغيرًا، وقد اختَلَفت الرواة عن الزهريّ في وَصْل هذا الحديث، قال: واعتمد البخاريّ الطريق الموصولة، وحمَل الطريق المرسَلة على أنها عند عليّ عن صفية، فلم يجعلها علّةً للموصول. انتهى

(1)

.

(قَالَتْ) صفيّة رضي الله عنها (كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُعْتَكِفًا) الاعتكاف لغةً: لزوم الشيء، وحَبْس النفس عليه، وشرعًا: الْمُقَام في المسجد من شخص مخصوص، على صفة مخصوصة، وليس بواجب إجماعًا إلا على مَن نَذَره، وكذا من شَرَع فيه، فقطعه عامدًا عند قوم

(2)

.

(فَأَتيْتُهُ أَزُورُهُ لَيْلًا) قال القرطبيّ رحمه الله: فيه دليل على جواز زيارة

(1)

"الفتح" 5/ 486، كتاب "الاعتكاف" رقم (2035).

(2)

"الفتح" 5/ 475، كتاب "الاعتكاف" رقم (2025).

ص: 601

المعتكف، والتحدُّث معه، غير أنه يُكره الإكثار من ذلك؛ لئلا يشتغل عما دخل إليه من التفرُّغ لعبادة الله تعالى، وعلى أنه: لا يكره له الخلوة مع أهله في المعتَكَف، ولا الحديث معها، وإنما الممنوع المباشرة، لكن هذا للأقوياء، وأما من يخاف على نفسه غلبة شهوة، فلا يجوز؛ لئلا يفسد اعتكافه، وقد كان كثير من الفضلاء يجتنبون دخول منازلهم في نهار رمضان مخافة الوقوع فيما يفسد الصوم، أو ينقص ثوابه. انتهى

(1)

.

(فَحَدَّثْتُهُ) وفي الرواية التالية: "جاءت إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم تزوره في اعتكافه في المسجد في العشر الأواخر من رمضان، فتحدَّثَتْ عنده ساعةً"، وفي رواية عند البخاريّ:"فتحدّثت عنده ساعةَ من العشاء"، (ثُمَّ قُمْتُ لأَنْقَلِبَ)؛ أي: لأرجع إلى بيتي (فَقَامَ) صلى الله عليه وسلم (مَعِي؛ لِيَقْلِبَنِي) بفتح حرف المضارعة، من باب ضرب؛ أي: لأجل أن يردّني إلى منزلي، فيه جواز تمشي المعتكف مع زوجته ما لم يخرج من المسجد، وليس في الحديث أنه خرج من المسجد، قاله النوويّ رحمه الله

(2)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: وقولها: "ثم قمت لأنقلب"؛ أي: لأنصرف، "فقام ليقلبني"؛ أي: يصرفني، وهو مفتوح الياء ثلاثيًّا، وهذا يدلّ على أن للمعتكف أن ينصرف في المسجد، وإلى بابه إذا دعته إلى ذلك حاجة؛ غير أنه لا يخرج من بابه إلا للأمور الضرورية التي تقدَّم ذكرها، وقد روي في هذا الحديث: أنه إنما خرج معها إلى باب المسجد، وعلى هذا تأوَّله البخاريّ، ولم يختلف العلماء: أنه لا يفسد خروجه إلى باب المسجد، وإن اختلفوا في كراهة تصرُّفه فيه لغير ضرورة؛ كزيارة مريض، أو صلاة على جنازة، أو صعود إلى المنار للأذان، أو الجلوس إلى قومٍ ليصلح بينهم، فكره مالك كل ذلك في المشهور عنه. انتهى

(3)

.

ثم بيّن سبب قيامه صلى الله عليه وسلم معها؛ ليقلبها بقوله: (وَكَانَ مَسْكَنُهَا فِي دَارِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ) رضي الله عنهما، والمعنى: أنه صلى الله عليه وسلم إنما قام معها؛ لِبُعد مسكنها من المسجد، وكان الوقت ليلًا، فخاف عليها أن تستوحش.

(1)

"المفهم" 5/ 503 - 504.

(2)

"شرح النوويّ" 14/ 157.

(3)

"المفهم" 5/ 504.

ص: 602

وفي رواية للبخاريّ من طريق هشام بن يوسف، عن معمر، عن الزهريّ:"كان النبيّ صلى الله عليه وسلم في المسجد، وعنده أزواجه، فَرُحْنَ، وقال لصفية: لا تَعْجَلي، حتى أنصرف معك".

قال الحافظ رحمه الله: والذي يظهر أن اختصاص صفية بذلك؛ لكون مجيئها تأخّر عن رُفقتها، فأمرها بتأخير التوجه ليحصل لها التساوي في مدّة جلوسهنّ عنده، أو أن بيوت رُفقتها كانت أقرب من منزلها، فخَشِي النبيّ صلى الله عليه وسلم عليها، أو كان مشغولًا، فأمرها بالتأخر ليفرغ من شغله، ويُشَيِّعها.

ورَوَى عبد الرزاق من طريق مروان بن سعيد بن المعلى: "أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان معتكفًا في المسجد، فاجتمع إليه نساؤه، ثم تفرّقن، فقال لصفية: أَقْلِبك إلى بيتك، فذهب معها حتى أدخلها بيتها".

وقوله أيضًا: (وَكَانَ مَسْكَنُهَا: فِي دَارِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدِ) بن حارثة حِبّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وابن حِبّه رضي الله عنهما المتوفّى سنة (54) تقدّمت ترجمته في "الإيمان" 43/ 284.

والمراد: الدار التي صارت بعد ذلك لأسامة بن زيد؛ لأن أسامة رضي الله عنه إذ ذاك لم يكن له دار مستقلّة، بحيث تسكن فيها صفية، وكانت بيوت أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم حوالي أبواب المسجد، قاله في "الفتح"

(1)

.

(فَمَرَّ رَجُلَانِ مِنَ الأَنْصَارِ) قال الحافظ رحمه الله: لم أقف على تسميتهما في شيء من كتب الحديث، إلا أن ابن العطار في "شرح العمدة" زعم أنهما أُسيد بن حُضير، وعباد بن بِشْر، ولم يذكو لذلك مستندًا.

قال: ووقع في رواية سفيان عند البخاريّ: "فأبصره رجل من الأنصار" بالإفراد، وقال ابن التين: إنه وَهَمٌ، ثم قال: يَحْتَمِل تعدد القصّة.

قال الحافظ: والأصل عدمه، بل هو محمول على أن أحدهما كان تبعًا للآخر، أو خص أحدهما بخطاب المشافهة، دون الآخر.

ويَحْتَمِل أن يكون الزهريّ كان يشك فيه، فيقول تارةً: رجلٌ، وتارةً: رجلان، فقد رواه سعيد بن منصور، عن هشيم، عن الزهريّ:"لقيه رجل، أو رجلان" بالشكّ، وليس لقوله "رجل" مفهومٌ، نعم رواه مسلم من وجه آخر من

(1)

"الفتح" 5/ 475، كتاب "الاعتكاف" رقم (2025).

ص: 603

حديث أنس - يعني: الحديث الذي قبل هذا - بالإفراد، ووَجْهه ما قدّمته من أن أحدهما كان تبعًا للآخر، فحيث أَفرد ذكر الأصل، وحيث ثَنَّى ذكر الصورة. انتهى.

وقال القرطبيّ: وذكر في الرواية الأخرى: أنه كان رجلًا واحدًا؛ فيَحْتَمِل أن يكون هذا في مرتين، ويَحْتَمِل أن يكون النبيّ صلى الله عليه وسلم أقبل على أحدهما بالقول بحضرة الآخر، فتصح نسبة القصَّة إليهما جمعًا وإفرادًا، والله تعالى أعلم. انتهى

(1)

.

وفي رواية البخاريّ من طريق شعيب، عن الزهريّ:"ثم قامت تنقلب، فقام النبيّ صلى الله عليه وسلم معها يقلبها، حتى إذا بلغت باب المسجد عند باب أم سلمة، مَرّ رجلان من الأنصار، فسلّما على رسول الله صلى الله عليه وسلم".

(فَلَمَّا رَأَيَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَسْرَعَا)؛ أي: في المشي، وفي رواية معمر:"فنظرا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، ثم أجازا"؛ أي: مضيا، يقال: جاز، وأجاز بمعنًى، ويقال: جاز الموضع: إذا سار فيه، وأجازه: إذا قطعه، وخَلَّفه، وفي رواية ابن أبي عتيق:"ثم نَفَذَا"، وهو بالفاء، والذال المعجمة؛ أي: خَلَّفاه، وفي رواية عبد الرحمن بن إسحاق، عن الزهريّ، عند ابن حبان:"فلما رأياه استحييا، فرجعا"، فأفاد سبب رجوعهما، وكأنهما لو استمرّا ذاهبين إلى مقصدهما ما ردّهما، بل لَمّا رأى أنهما تركا مقصدهما، ورجعا ردّهما. (فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "عَلَى رِسْلِكُمَا) - بكسر الراء، وفتحها لغتان

(2)

، والكسر أفصح وأشهر؛ أي: على هِينتكما في المشي، فليس هنا شيء تكرهانه، وفيه شيء محذوف، تقديره: امشيا على هينتكما، وفي رواية معمر:"فقال لهما النبيّ صلى الله عليه وسلم: تعاليا"، وهو بفتح اللام، قال الداوديّ: أي قِفَا، وأنكره ابن التين، وقد أخرجه عن معناه بغير دليل، وفي رواية سفيان:"فلما أبصره دعاه، فقال: تعال"، ذكره في "الفتح"

(3)

.

(1)

"المفهم" 5/ 506.

(2)

هكذا قال الشرّاح، ولم يذكر في "القاموس" إلا الكسر، فليُحرّر.

(3)

"الفتح" 5/ 475، كتاب "الاعتكاف" رقم (2025).

ص: 604

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "على رسلكما" الرِّسل - بكسر الراء -: الرفق واللين، وليس فتح الراء فيه معروفًا، والرِّسل بالكسر أيضًا: اللَّبن، وقد أرسل القوم؛ أي: صار لهم اللبن في مواشيهم، والرَّسَل بفتح الراء والسين: القطيع من الخيل، والإبل، والغنم، وجَمْعه: أرسال، يقال: جاءت الخيل أرسالًا؛ أي: قطيعًا قطيعًا. انتهى

(1)

.

(إِنَّهَا صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ") وفي رواية سفيان: "هذه صفيّة".

ووقع في مختصر القرطبيّ بلفظ: "إنما هي صفيّة"، فقال في "شرحه":"إنما" هنا لتحقيق المتصل بها، وتمحيق المنفصل عنها، كقوله تعالى:{إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [النساء: 171]؛ أي: الإلهية متحققة له، منفيَّة عن غيره، فكأنه قال: هذه صفيَّة لا غيرها؛ حَسْمًا لذريعة التُّهم، وردًا لتسويل الشيطان، ووسوسته، كما قد نصَّ عليه، وإذا كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يتَّقي مواقع التهم مع قيام الأدلة القاطعة على عصمته كان غيره بذلك أَولى. انتهى

(2)

.

(فَقَالَا: سُبْحَانَ اللهِ يَا رَسُولَ اللهِ) زاد في رواية البخاريّ: "وكَبُر عليهما"، وفي رواية له:"وكَبُر عليهما ما قال"، وفي رواية:"فكبُر عليهما ذلك"، وفي رواية:"فقال: يا رسول الله، هل نظنّ بك إلا خيرًا؟ ".

وقال القرطبيّ رحمه الله: وقول الرجلين: "سبحان الله" معنى هذه الكلمة في أصلها: البراءة لله من السُّوء، لكنها قد كَثُر إطلاقها عند التعجب، والتفخيم، أو الإنكار، كما قال تعالى:{سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} [النور: 16]، وكقوله صلى الله عليه وسلم:"سبحان الله، إن المؤمن لا ينجس"، ومثله كثير، وهذا الموضع منها، فكأنهما قالا: البراءة لله تعالى من أن يخلق في نفوسنا ظنَّ سَوْءٍ بنبيِّه صلى الله عليه وسلم، ولذلك قال في الرواية الأخرى:"ومن كنت أظن به، فلم أكن أظن بك". انتهى

(3)

.

(قَالَ) صلى الله عليه وسلم: ("إِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنَ الإِنْسَانِ مَجْرَى الدَّمِ) وفي رواية: "فقال: إني خِفْتُ أن تظنّا ظنًّا، إن الشيطان يجري

" إلى آخره، وفي رواية:

(1)

"المفهم" 5/ 504.

(2)

"المفهم" 5/ 504 - 505.

(3)

"المفهم" 5/ 505.

ص: 605

"ما أقول لكما هذا أن تكونا تظنان شرًّا، ولكن قد علمت أن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم".

وقوله: "ابن آدم" المراد جنس أولاد آدم، فيدخل فيه الرجال والنساء، كقوله تعالى:{يَابَنِي آدَمَ} ، وقوله:{يَابَنِي إِسْرَائِيلَ} بلفظ المذكر، إلا أن العرف عمَّمه، فأدخل فيه النساء.

(وَإِنِّي خَشِيتُ أَنْ يَقْذِفَ)؛ أي: يرمي، ومنه القذف؛ أي: الرمي، والقذّافة: الآلة التي تَرمي الحجارة، قاله القرطبيّ

(1)

. (فِي قُلُوبِكُمَا شَرًّا") بشين معجمة، وراء مشدّدة، قال القرطبيّ رحمه الله: والمراد بالشرُّ هنا هو الكفر الذي ذكرناه، وفي غير مسلم:"فتهلكا"؛ أي: بالكفر الذي يلزم عن ظنِّ السَّوء بالنبيّ صلى الله عليه وسلم. انتهى

(2)

.

(أَو) للشكّ من الراوي (قَالَ) النبيّ صلى الله عليه وسلم، أو أحد الرواة (شَيْئًا) بشين معجمة، ثم ياء تحتانيّة ساكنة،، وفي رواية:"سوءًا أو قال: شيئًا"، وفي رواية:"إني خِفت أن يُدخل عليكما شيئًا".

قال في "الفتح": والْمُحَصَّل من هذه الروايات أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم ينسبهما إلى أنهما يظنّان به سوءًا؛ لِمَا تقرر عنده من صِدْق إيمانهما، ولكن خَشِي عليهما أن يُوسوس لهما الشيطان ذلك؛ لأنهما غير معصومين، فقد يُفضي بهما ذلك إلى الهلاك، فبادر إلى إعلامهما؛ حَسْمًا للمادّة، وتعليمًا لمن بعدهما إذا وقع له مثل ذلك، كما قاله الشافعيّ رحمه الله، فقد رَوَى الحاكم أن الشافعيّ كان في مجلس ابن عيينة، فسأله عن هذا الحديث، فقال الشافعيّ: إنما قال لهما ذلك؛ لأنه خاف عليهما الكفر إن ظنّا به التهمة، فبادر إلى إعلامهما؛ نصيحةً لهما قبل أن يقذف الشيطان في نفوسهما شيئًا يهلكان به.

قال الحافظ: وغَفَل البزّار، فطَعَن في حديث صفية رضي الله عنها هذا، واستبعد وقوعه، ولم يأت بطائل

(3)

، والله وليّ التوفيق.

(1)

"المفهم" 5/ 506.

(2)

"المفهم" 5/ 506.

(3)

اعترض العينيّ على الحافظ في اعتراضه على البزّار، ولكنه اعتراض غير مقبول؛ =

ص: 606

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث صفيّة بنت حييّ رضي الله عنها هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [9/ 5667 و 5668](2175)، و (البخاريّ) في "الاعتكاف"(2035 و 2038 و 2039) و"فرض الخمس"(3101) و"بدء الخلق"(3281) و"الأدب"(6219) و"الأحكام"(7171)، و (أبو داود) في "الصوم"(2470 و 2471) و"الأدب"(4994)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(2/ 263)، و (ابن ماجه) في "الصيام"(1779)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(8065)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 337)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 27)، و (ابن راهويه) في "مسنده"(4/ 259)، و (عبد بن حُميد) في "مسنده"(1/ 449)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(2233 و 2234)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(3671)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(24/ 71)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(13/ 39)، و (الطحاويّ) في "مشكل الآثار"(106 و 107)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 321 و 324) و"شُعب الإيمان"(5/ 322)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(4208)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان استحباب التحرّز من التعرض لسوء ظن الناس في الإنسان، وطلب السلامة، والاعتذار بالأعذار الصحيحة، وأنه متى فعل ما قد يُنكَر ظاهره، مما هو حقّ، وقد يَخْفَى أن يُبَيِّن حاله؛ ليدفع ظن السوء، قال ابن دقيق العيد رحمه الله: وهذا متأكّد في حق العلماء، ومن يقتدي به، فلا يجوز لهم أن يفعلوا فعلًا يوجب سوء الظن بهم، وإن كان لهم فيه مَخْلَصٌ؛ لأن ذلك سبب إلى إبطال الانتفاع بعلمهم، ومن ثَمّ قال بعض العلماء: ينبغي للحاكم أن يبيِّن للمحكوم عليه وجه الحكم إذا كان خافيًا؛ نفيًا للتهمة، ومن هنا يظهر خطأ من يتظاهر بمظاهر السوء، ويعتذر بأنه يُجَرِّب

= لأنه يؤدي إلى تصويب البزّار في الطعن في الحديث المتّفق عليه، فتبصّر، ولا تكن أسير التقليد، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

ص: 607

بذلك على نفسه، وقد عظم البلاء بهذا الصنف، والله أعلم. انتهى

(1)

.

2 -

(ومنها): بيان كمال شفقته صلى الله عليه وسلم على أمته، ومراعاته لمصالحهم، وصيانة قلوبهم، وجوارحهم، كما قال الله عز وجل في حقّه:{وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب: 43]، فخاف صلى الله عليه وسلم أن يُلْقِي الشيطانُ في قلوبهما، فيهلكا، فإنّ ظنّ السوء بالأنبياء كفر بالإجماع، والكبائر غير جائزة عليهم، قاله النوويّ رحمه الله

(2)

.

3 -

(ومنها): أن من ظنّ شيئًا من نحو هذا بالنبيّ صلى الله عليه وسلم كفر.

4 -

(ومنها): الاستعداد للتحفظ من مكايد الشيطان، فإنه يجري من الإنسان مجرى الدم، فيتأهب الإنسان للاحتراز من وساوسه، وشرّه.

5 -

(ومنها): جواز زيارة المرأة لزوجها المعتكف في ليل، أو نهار، وأنه لا يضرّ اعتكافه، لكن يكره الإكثار من مجالستها، والاستلذاذ بحديثها؛ لئلا يكون ذريعةً إلى الوقاع، أو إلى القبلة، أو نحوها، مما يُفسد الاعتكاف.

6 -

(ومنها): جواز اشتغال المعتكف بالأمور المباحة، من تشييع زائره، والقيام معه، والحديث مع غيره، وإباحة خلوة المعتكف بالزوجة.

7 -

(ومنها): أن فيه إضافةَ بيوت أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم إليهنّ، حيث قال في هذه الرواية:"وكان مسكنها في دار أسامة"، وقال في رواية البخاريّ:"حتى إذا بَلَغَتْ باب المسجد عند باب أم سلمة".

8 -

(ومنها): جواز خروج المرأة ليلًا لحاجة.

9 -

(ومنها): مشروعيّة قول: "سبحان الله" عند التعجب، وقد وقعت في الحديث لتعظيم الأمر، وتهويله، وللحياء من ذِكْره، كما في حديث أم سليم رضي الله عنها.

وقال النوويّ رحمه الله: فيه جواز التسبيح تعظيمًا للشيء، وتعجبًا منه، وقد كثر في الأحاديث، وجاء به القرآن في قوله تعالى:{وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (16)} [النور: 16]

(3)

.

10 -

(ومنها): أنه استُدِلّ به لأبي يوسف ومحمد في جواز تمادي

(1)

"الفتح" 5/ 489، كتاب "الاعتكاف" رقم (2035).

(2)

"شرح النوويّ" 14/ 156.

(3)

"شرح النوويّ" 14/ 157.

ص: 608

المعتكف إذا خرج من مكان اعتكافه لحاجته، وأقام زمنًا يسيرًا زائدًا عن الحاجة، ما لم يستغرق أكثر اليوم.

قال الحافظ: ولا دلالة فيه

(1)

؛ لأنه لم يثبت أن منزل صفية كان بينه وبين المسجد فاصل زائد، وقد حَدّ بعضهم اليسير بنصف يوم، وليس في الخبر ما يدلّ عليه. انتهى

(2)

، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5668]

(

) - (وَحَدَّثَنِيهِ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّارِمِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْيَمَان، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ حُسَيْنٍ، أَنَّ صَفِيَّةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَخْبَرَتْهُ، أَنَّهَا جَاءَتْ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم تَزُورُهُ فِي اعْتِكَافِه، فِي الْمَسْجِد، فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِر، مِنْ رَمَضَانَ، فَتَحَدَّثَتْ عِنْدَهُ سَاعَةً، ثُمَّ قَامَتْ تَنْقَلِبُ، وَقَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقْلِبُهَا، ثُمَّ ذَكَرَ بِمَعْنَى حَدِيثِ مَعْمَرٍ، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ الشَّيْطَانَ يَبْلُغُ مِنَ الإِنْسَانِ مَبْلَغَ الدَّمِ"، وَلَمْ يَقُلْ: "يَجْرِي").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عَبْدُ اللهِ بْن عبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّارِمِيُّ) أبو محمد السمرقنديّ الحافظ، صاحب "المسند"، ثقةٌ متقنٌ فاضلٌ [11](ت 255) وله (74) سنةً (م د ت) تقدم في "المقدمة" 5/ 29.

2 -

(أَبُو الْيَمَانِ) الحكم بن نافع الْبَهْرانيّ الْحِمْصيّ، ثقةٌ ثبتٌ، يقال: إن أكثر حديثه عن شُعيب مناولةٌ [10](ت 222)(ع) تقدم في "الإيمان" 23/ 196.

3 -

(شُعَيْبُ) بن أبي حمزة دينار الأمويّ مولاهم، أبو بِشْر الْحِمصيّ، ثقةٌ عابدٌ، قال ابن معين: من أثبت الناس في الزهريّ [7](ت 162) أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 23/ 196.

والباقون ذُكروا قبله، والسند مسلسل بالتحديث والإخبار من أوله إلى آخره.

وقولها: (فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ) جمع آخرة، قال الفيّوميّ رحه الله: العَشَرَةُ

(1)

انتقد العينيّ على الحافظ فيما نقله عن أبي يوسف ومحمد. انظر: "العمدة" 11/ 151.

(2)

"الفتح" 5/ 489، كتاب "الاعتكاف" رقم (2035).

ص: 609

بالهاء عدد للمذكر، يقال: عَشَرَةُ رِجَالٍ، وعَشَرَةُ أَيَّامٍ، والعَشْرُ بغير هاء عدد للمؤنث، يقال: عَشْرُ نِسْوَةٍ، وعَشْرُ لَيَالٍ، وفي التنزيل:{وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2)} [الفجر: 1، 2]، والعامة تُذَكِّر العَشْرَ على معنى أنه جمع الأيام، فيقولون: العَشْرُ الأَوَّلُ، والعَشْرُ الأخير، وهو خطأ، فإنه تغيير المسموع، ولأن اللفظ العربيّ تناقلته الألسن اللُّكْنُ، وتلاعبت به أفواه النَّبَط، فحَرَّفوا بعضه، وبدّلوه، فلا يُتَمَسَّك بما خالف ما ضَبَطه الأئمة الثقات، ونطق به الكتاب العزيز، والسُّنَّة الصحيحة.

والشهر ثلاث عشرات، فَالعَشْرُ الأُوَلُ: جمع أُوْلَى، والعَشْرُ الوُسَطُ: جمع وُسْطَى، والعَشْرُ الأُخَرُ: جمع أُخْرَى، والعَشْرُ الأَوَاخِرُ أيضًا: جمع آخرة، وهذا في غير التاريخ، وأما في التّاريخ فقد قالت العرب: سِرْنا عَشْرًا، والمراد عَشْرُ ليالٍ بأيامها، فغلّبوا المؤنث هنا على المذكر؛ لكثرة دور العدد على ألسنتها، ومنه قوله تعالى:{يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234]، ويقال: أحد عَشَر، وثلاثة عَشَرَ، إلى تسعة عَشَرَ، بفتح الشين، وسُكُونُها لغة، وقرأ بها أبو جعفر، والعِشْرُونَ: اسم موضوع لعدد معيَّن، ويستعمل في المذكّر والمؤنث بلفظ واحد، ويعرب بالواو، والياء، ويجوز إضافتها لمالكها، فتسقط النون؛ تشبيهًا بنون الجمع، فيقال: عَشْرُو زَيْدٍ، وعِشْرُوكَ، هكذا حكاه الكسائيّ عن بعض العرب، ومنع الأكثر إضافة العقود، وأجاز بعضهم إضافة العدد إلى غير التمييز. انتهى

(1)

.

وقوله: (ثُمَّ ذَكَرَ بِمَعْنَى حَدِيثِ مَعْمَرٍ) فاعل "ذَكَر" ضمير شُعيب بن أبي حمزة.

وقوله: (غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ

إلخ) الضمير يعود على شعيب أيضًا.

وقوله: (إِنَّ الشَّيْطَانَ يَبْلُغُ مِنَ الإِنْسَانِ مَبْلَغَ الدَّمِ) تقدّم أن الصواب أنه على ظاهره، وأن الله تعالى أقدر الشيطان على ذلك، وقيل: هو على سبيل الاستعارة من كثرة إغوائه، وكأنه لا يفارقه كالدم، فاشتركا في شدّة الاتصال، وعدم المفارقة.

(1)

"المصباح المنير" 2/ 411.

ص: 610

[تنبيه]: رواية شعيب بن أبي حمزة عن الزهريّ هذه ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:

(1930)

- حدّثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب، عن الزهريّ قال: أخبرني عليّ بن الحسين رضي الله عنه، أن صفية زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم أخبرته، أنها جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوره في اعتكافه، في المسجد، في العشر الأواخر من رمضان، فتحدّثت عنده ساعةً، ثم قامت تنقلب، فقام النبيّ صلى الله عليه وسلم معها يَقلبها، حتى إذا بلغت باب المسجد، عند باب أم سلمة مَرّ رجلان من الأنصار، فسلّما على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لهما النبيّ صلى الله عليه وسلم:"على رِسْلكما، إنما هي صفية بنت حُيَيّ"، فقالا: سبحان الله، يا رسول الله، وكَبُر عليهما، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"إن الشيطان يبلغ من الإنسان مبلغ الدم، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شيئًا". انتهى

(1)

.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(10) - (بَابُ مَنْ أَتَى مَجْلِسًا، فَوَجَدَ فِيهِ فُرْجَةً جَلَسَ فِيهَا، وَإِلَّا وَرَاءَهُمْ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5669]

(2176) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، فِيمَا قُرِئَ عَلَيْه، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِيِ طَلْحَةَ، أَنَّ أَبَا مُرَّةَ مَوْلَى عَقِيلِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَخْبَرَهُ، عَنْ أَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَمَا هُوَ جَالِسٌ فِي الْمَسْجِد، وَالنَّاسُ مَعَهُ، إِذْ أَقْبَلَ نَفَرٌ ثَلَاثَةٌ، فَأَقْبَلَ اثْنَانِ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَذَهَبَ وَاحِدٌ، قَالَ: فَوَقَفَا عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَمَّا أَحَدُهُمَا فَرَأَى فُرْجَةً فِي الْحَلْقَة، فَجَلَسَ فِيهَا، وَأَمَّا الآخَرُ فَجَلَسَ خَلْفَهُمْ، وَأَمَّا الثَّالِثُ فَأَدْبَرَ ذَاهِبًا، فَلَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أَلَا أُخْبِرُكُمْ عَنِ النَّفَرِ الثَّلَاثَة، أَمَّا أَحَدُهُمْ فَأَوَى إِلَى الله،

(1)

"صحيح البخاريّ" 2/ 715.

ص: 611

فَآوَاهُ اللهُ، وَأَمَّا الآخَرُ فَاسْتَحْيَا، فَاسْتَحْيَا اللهُ مِنْهُ، وَأَمَّا الآخَرُ فَأَعْرَضَ، فَأَعْرَضَ اللهُ عَنْهُ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدِ) بن جَمِيل بن طَرِيف الثقفيّ، أبو رجاء البغلانيّ، يقال: اسمه يحيى، وقيل: عليّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 240) وله (90) سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.

2 -

(مَالِكُ بْنُ أَنَسِ) بن أبي عامر بن عمرو الأصبحيّ، أبو عبد الله المدني، إمام دار الهجرة، رأس الْمُتقنين، وكبير الْمُتثبّتين [7](ت 179)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 378.

3 -

(إِسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ) الأنصاريّ، أبو يحيى المدنيّ، ثقةٌ حجةٌ [4](ت 132) أو بعدها (ع) تقدم في "الطهارة" 30/ 667.

4 -

(أَبُو مُرَّةَ مَوْلَى عَقِيلِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ) اسمه يزيد، ويقال: هو مولى أم هانئ بنت أبي طالب، أخت عَقيل المدنيّ، ثقةٌ مشهور بكنيته [3](ع) تقدم في "الحيض" 15/ 770.

5 -

(أَبُو وَاقِدٍ اللَّيْثِيُّ) الصحابيّ رضي الله عنه، قيل: اسمه الحارث بن مالك، وقيل: ابن عوف، وقيل: اسمه عوف بن الحارث، مات سنة (68) وهو ابن (85) على الصحيح (ع) تقدم في "العيدين" 4/ 2059.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وهو مسلسلٌ بالمدنيين، سوى شيخه، فبغلانيّ، وقد دخل المدينة للأخذ عن مالك، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، إسحاق، عن أبي مرّة، وفيه راويان اشتهرا بكنيتهما، أبو واقد، وأبو مرّة، وأن صحابيّه رضي الله عنه من المقلّين من الرواية، فليس له في الكتب الستة إلا خمسة أحاديث، هذا الحديث عندهم إلا ابن ماجه، وحديث: كان يقرأ بـ {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1)} ، و {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ} عندهم إلا البخاريّ، وحديث:"ما قُطع من البهيمة، وهي حيّة، فهو ميتة"، عند أبي داود، والترمذيّ، وحديث ذات أنواط عند الترمذيّ، والنسائيّ، وحديث:"هذه ثم ظهور الْحُصُر" عند

ص: 612

أبي داود فقط، راجع:"تحفة الأشراف"

(1)

.

شرح الحديث:

(عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ) الأنصاريّ المدنيّ (أَنَّ أَبَا مُرَّةَ مَوْلَى عَقِيلِ) بفتح العين، مكبّرًا، (ابْنِ أَبِي طَالِبٍ) وقيل لأبي مُرّة: مولى عقيل بن أبي طالب؛ للزومه إيّاه، وإنما هو مولى أخته أم هانئ بنت أبي طالب. (أَخْبَرَهُ)؛ أي: أخبر إسحاق بنَ عبد الله (عَنْ أَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ) صَرّح بالتحديث في رواية النسائيّ، من طريق يحيى بن أبي كثير، عن إسحاق، فقال:"عن أبي مُرّة أن أبا واقد حدّثه"، وقد قدّمت الخلاف في اسم أبي وأقد آنفًا، قال في "الفتح": وليس له في البخاريّ غير هذا الحديث

(2)

، ورجال إسناده مدنيون، وهو في "الموطأ"، ولم يروه عن أبي واقد إلا أبو مُرّة، ولا عنه إلا إسحاق، وأبو مُرّة والراوي عنه تابعيّان، وله شاهد من حديث أنس، أخرجه البزار، والحاكم. انتهى

(3)

.

(أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَمَا) قد تقدّم غير مرّة أن "بينما" أصله "بين" زيدت فيه لفظة "ما"، وهو من الظروف التي لَزِمت إضافتها إلى الجملة، ومثلها "بينا" بغير لفظة "ما"، وأصلها أيضًا "بين"، فأُشَبعت فتحة النون بالألف، والعامل فيه معنى المفاجأة المستفادة من لفظة "إذ أقبل"، وقد سبق أيضًا أن الأصمعي لا يستفصح مجيء "إذا"، و"إذ" في جواب "بينما"، أفاده في "العمدة"

(4)

.

(هُوَ جَالِسٌ) مبتدأ وخبره، (فِي الْمَسْجِدِ) يتعلّق بـ "جالس"، (وَالنَّاسُ مَعَهُ) جملة حاليّة، وقوله:(إِذْ أَقْبَلَ نَفَرٌ) جواب "بينما"، وقوله:(ثَلَاثةٌ) بدلٌ من "نفر"، وفي رواية البخاريّ:"إذ أقبل ثلاثة نفر"، قال في "الفتح": النَّفَر بالتحريك للرجال، من ثلاثة إلى عشرة، والمعنى: ثلاثة هم نَفَرٌ، والنفر اسم جَمْع،

(1)

"تحفة الأشراف" 11/ 110 - 112.

(2)

وقد بيّنتُ في اللطائف أنه ليس له عند مسلم إلا حديثان فقط.

(3)

"الفتح" 1/ 277، كتاب "العلم" رقم (66).

(4)

"عمدة القاري" 2/ 33.

ص: 613

ولهذا وقع مميِّزًا للجمع، كقوله تعالى:{تِسْعَةُ رَهْطٍ} [النمل: 48]. انتهى

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "إذ أقبل نفر ثلاثة" يدلّ على أن أقل ما يقال عليه نفرٌ: ثلاثةٌ؛ إذ لا يقال: نفر اثنان، ولا: نفر واحد. انتهى

(2)

.

[تنبيه]: قال الحافظ رحمه الله: لم أقف في شيء من طرق هذا الحديث على تسمية واحد من الثلاثة المذكورين. انتهى.

وقوله: (فَأَقْبَلَ اثْنَانِ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) بعد قوله: "أقبل ثلاثة" هما إقبالان، كأنهم أقبلوا أوّلًا من الطريق، فدخلوا المسجد مارِّين، كما في حديث أنس:"فإذا ثلاثة نفر يمرّون"، فلما رأوا مجلس النبيّ صلى الله عليه وسلم أقبل إليه اثنان منهم، واستمرّ الثالث ذاهبًا.

وقال في "العمدة": قوله: "إذ أقبل ثلاثة نفر": اعلم أن ههنا إقبالين: أحدهما: إقبالهم أوّلًا من الطريق، أقبلوا، ودخلوا المسجد مارِّين، يدلّ عليه حديث أنس رضي الله عنه:"فإذا ثلاثةُ نفر يمرّون"، والآخر: إقبال الاثنين منهم، حين رأوا مجلس النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأما الثالث، فإنه استمرّ ذاهبًا، وبهذا التقدير سقط سؤال مَن قال: كيف قال أوّلًا: "أقبل ثلاثة"، ثم قال:"فأقبل اثنان"؟ والحال لا يخلو من أن يكون المقبل اثنين، أو ثلاثة. انتهى

(3)

.

(وَذَهَبَ وَاحِدٌ)؛ أي: استمرّ في ذهابه، ولم يقف على مجلسه صلى الله عليه وسلم، كما وقف صاحباه. (قَالَ) أبو واقد (فَوَقَفَا) زاد أكثر رواة "الموطأ":"فلما وقفا سلّما"، وكذا عند الترمذيّ، والنسائيّ، ولم يذكر السلام عند الشيخين، ويستفاد منه أن الداخل يبدأ بالسلام، وأن القائم يسلّم على القاعد، وإنما لم يذكر ردّ السلام عليهما؛ اكتفاءً بشهرته، أو يستفاد منه أن المستغرق في العبادة يسقط عنه الردّ

(4)

، ولم يُذكَر أنهما صلّيا تحية المسجد: إما لكون ذلك كان قبل أن تُشرَع، أو كانا على غير وضوء، أو وقع فلم يُنقل؛ للاهتمام بغير ذلك من القصّة، أو كان في غير وقت تنفّل، قاله القاضي عياض؛ بناءً على مذهبه

(1)

"الفتح" 1/ 277، كتاب "العلم" رقم (66).

(2)

"المفهم" 5/ 507.

(3)

"عمدة القاري" 2/ 33.

(4)

الاحتمال الأول أَولى، فتنبّه.

ص: 614

في أنها لا تصلَّى في الأوقات المكروهة، والحقّ أنها تُصلّى فيها، وقد قدّمنا تحقيقه في محلّه.

(عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم)؛ أي: على مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو "على" بمعنى "عند"، هكذا قال الحافظ، وتعقّبه العينيّ، ودونك عبارته، قال: ومعنى قوله: "فوقفا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ": وقفا على مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو معناه: أشرفا عليه، ومنه: وَقَفْته على ذنبه؛ أي: أطلعته عليه، قال: وقال بعضهم - يعني: الحافظ ابن حجر -: "على" بمعنى "عند"، قال العينيّ: لم تجئ "على" بمعنى "عند"، فمن ادَّعَى ذلك فعليه البيان من كلام العرب. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: تعقّب العينيّ رحمه الله هذا وجيه، فإنهم لم يذكروا هذا في معاني "على"، فقد ذكر ابن هشام رحمه الله في "مغنيه" لـ "على" تسعة معان، ولم يذكر هذا منها، فراجعه تستفد

(1)

، والله تعالى أعلم.

(فَأَمَّا أَحَدُهُمَا فَرَأَى فُرْجَةً) الفُرْجة بضم الفاء، وفتحها: هي الْخَلَل بين الشيئين، ويقال لها أيضًا: فَرْجٌ، ومنه قوله تعالى:{وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ} [قَ: 6] جمع فَرْج، وأما الفَرْجة بمعنى الراحة من الغمّ، فذكر الأزهريّ فيها فتح الفاء، وضمّها، وكسرها، وقد فَرَج له في الحلقة، والصفّ، ونحوهما، بتخفيف الراء، يَفْرُج بضمها، قاله النوويّ

(2)

.

(فِي الْحَلْقَةِ فَجَلَسَ فِيهَا) و"الْحَلْقة": بإسكان اللام: كلُّ شيء مستدير، خالي الوسط، والجمع حَلَقٌ، بفتحتين، وحُكِيَ فتحُ اللام في الواحد، وهو نادر، قاله في "الفتح"، وقال النوويّ: وأما الحلقة فبإسكان اللام على المشهور، وحَكَى الجوهريّ فتحها، وهي لغة رديئة. انتهى

(3)

.

وقال القرطبيّ: رحمه الله: و"الْحَلْقة" بفتح الحاء، وسكون اللام، وكذلك حلقة الباب، والحلقة: الدروع، والجمع: حلق بفتحتين، على غير قياس، وقال الأصمعيّ: الجَمْع حِلَق بالكسر، مثل: بَدْرَة وبِدَر، وقَصْعة وقِصَع، وحكى يونس عن أبي عمرو بن العلاء: حَلَقة - في الواحد بتحريك اللام - والجمع:

(1)

راجع: "مغني اللبيب عن كتب الأعاريب" 1/ 283 - 290.

(2)

"شرح النوويّ" 14/ 158.

(3)

"شرح النوويّ" 14/ 158.

ص: 615

حَلَقٌ، وحَلَقات، وقال أبو عمرو الشيبانيّ: ليس في الكلام حَلَقة - بتحريك اللام - إلا قولهم: هؤلاء قوم حَلَقةٌ: جمع حالق للشعر. انتهى

(1)

.

(وَأَمَّا الآخَرُ) بفتح الخاء المعجمة، وفيه ردٌّ على من زعم أنه يَختصّ بالأخير؛ لإطلاقه هنا على الثاني، قاله في "الفتح"

(2)

.

وقال النوويّ رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم في الثاني: "وأما الآخر فاستحيا" هذا دليل اللغة الفصيحة الصحيحة، أنه يجوز في الجماعة أن يقال في غير الأخير منهم: الآخر، فيقال: حضرني ثلاثة: أما أحدهم فقرشيّ، وأما الآخر فأنصاريّ، وأما الآخر فتيميّ، وقد زعم بعضهم أنه لا يستعمل الآخر إلا في الأخير خاصّةً، وهذا الحديث صريح في الرد عليه، والله تعالى أعلم. انتهى

(3)

.

وقال في "العمدة": قوله: "وأما الآخر" بفتح الخاء، بمعنى: وأما الثاني؛ لأن الآخَر بالفتح أحد الشيئين، وهو أفعل

(4)

، والأنثى أخرى، إلا أن فيه معنى الصفة؛ لأن أفعل من كذا لا يكون إلا في الصفة، وأما الآخِر بكسر الخاء فهو بعد الأول، وهو صفة، يقال: جاء آخرًا؛ أي: أخيرًا، وتقديره فاعل، والأنثى آخرة، والجمع أواخر. انتهى

(5)

.

(فَجَلَسَ خَلْفَهُمْ، وَأَمَّا الثَّالِثُ فَأَدْبَرَ ذَاهِبًا، فَلَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم)؛ أي: عما كان مشتغلًا به، من الخطبة، وتعليم العلم، أو الذكر، ونحوه، وقوله:(قَالَ) جواب "لَمّا". (أَلَا) أداة استفتاح، وتنبيه، (أُخْبِرُكُمْ عَنِ النَّفَرِ الثَّلَاثَةِ) زاد في رواية يحيى بن أبي كثير التي سيشير إليها:"قالوا: بلى"، (أَمَّا أَحَدُهُمْ) قال في "العمدة": كلمة "أمّا" للتفصيل، و"أحدهم" مرفوع بالابتداء، وخبره:"فرأى فرجة"، وإنما دخلت الفاء؛ لتضمّن "أما" معنى الشرط، وإنما أُخِّرت إلى الخبر كراهةَ أن يُوَالَى بين حرفي الشرط والجزاء لفظًا. انتهى

(6)

.

(1)

"المفهم" 5/ 508.

(2)

"الفتح" 1/ 277، كتاب "العلم" رقم (66).

(3)

"شرح النوويّ" 14/ 158.

(4)

أي: أفعل تفضيل.

(5)

"عمدة القاري" 2/ 33.

(6)

"عمدة القاري" 2/ 33.

ص: 616

(فَأَوَى إِلَى الله، فَآوَاهُ اللهُ) قال القرطبيّ

(1)

: الرواية الصحيحة بقصر الأول، وهو ثلاثيّ غير مُتعد، ومدّ الثاني، وهو متعدٍّ رباعيّ، وهو قول الأصمعي، وهي لغة القرآن، قال الله تعالى:{إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ} [الكهف: 10]؛ أي: انضمُّوا، ونزلوا، وقال في الثاني:{أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (6)} [الضحى: 6]؛ أي: فضمَّك إليه، وقال أبو زيد: آويته أنا إيواءً، وأويته: إذا أنزلته بك، فَعَلْتُ، وأفْعَلت بمعنًى.

قال القرطبيّ: فأما أويت لِمَفَاقِره

(2)

: فبالقصر، لا غير.

ومعنى ذلك: أن هذا الرجل لمّا انضمّ إلى الحلقة، ونزل فيها، جازاه الله تعالى على ذلك، بأن ضمّه إلى رحمته، وأنزله في جنته، وكرامته. انتهى

(3)

.

وقال في "الفتح": معنى "أوى إلى الله": لجأ إلى الله، أو على الحذف؛ أي: انضم إلى مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعنى "فآواه الله"؛ أي: جازاه بنظير فعله بأن ضمّه إلى رحمته، ورضوانه. انتهى

(4)

.

وقال النوويّ رحمه الله: قوله: "فأوى إلى الله، فآواه الله" لفظة "أوى" بالقصر، و"آواه" بالمدّ، هكذا الرواية، وهذه هي اللغة الفصيحة، وبها جاء القرآن أنه إذا كان لازمًا كان مقصورًا، وإن كان متعديًا كان ممدودًا، قال الله تعالى:{أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ} [الكهف: 63]، وقال تعالى:{إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ} ، وقال في المتعدي:{وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ} [المؤمنون: 50]، وقال تعالى:{أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (6)} ، قال القاضي: وحَكَى بعض أهل اللغة فيهما جميعًا لغتين: القصر، والمدّ، فيقال: أويت إلى الرجل بالقصر، والمدّ، وآويته بالمدّ، والقصر، والمشهور الفرق، كما سبق.

قال العلماء: معنى "أوى إلى الله"؛ أي: لجأ إليه، قال القاضي: وعندي أن معناه هنا: دخل مجلس ذِكر الله تعالى، أو دخل مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم،

(1)

"المفهم" 5/ 507.

(2)

"المفاقر": وجوه الفقر، لا واحد لها، كما في "اللسان".

(3)

"المفهم" 5/ 508.

(4)

"الفتح" 1/ 277، كتاب "العلم" رقم (66).

ص: 617

ومَجْمَع أوليائه، وانضم إليه، ومعنى "آواه الله"؟ أي: قَبِله، وقَرَّبه، وقيل معناه: رحمه، أو آواه إلى جنته؛ أي: كتبها له. انتهى كلام النوويّ رحمه الله

(1)

.

(وَأَمَّا الآخَرُ فَاسْتَحْيَا)؛ أي: ترك المزاحمة، والتخطّي، كما فعل رفيقه حياءً من الله تعالى، ومن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وممن حَضَر عنده، قاله القاضي عياض، وقد بَيَّن أنس في روايته سبب استحياء هذا الثاني، ولفظه عند الحاكم:"ومضى الثاني قليلًا، ثم جاء، فجلس"، فالمعنى أنه استحيا من الذهاب عن المجلس، كما فعل رفيقه الثالث.

وقال القرطبيّ رحمه الله: كأن هذا الثالث كان متمكِّنًا من المزاحمة؛ إذ لو شرع فيها لَفُسح له؛ لأنَّ التَّفسُّح في المجلس مأمورٌ به، مندوبٌ إليه، لكن مَنَعه من ذلك الحياء، فجلس خلف الصف الأول، ففاتته فضيلة التقدُّم، لكنه جازاه الله على إصغائه، واستحيائه بأن لا يعذبه، وبأن يكرمه. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: عندي أن استحياءه ليس في المزاحمة في المجلس، وإنما هو استحياؤه عن الذهاب كما ذهب الثالث، ويبيّن هذا المعنى ما في حديث أنس رضي الله عنه المذكور حيث قال:"ومضى الثاني قليلًا، ثم جاء، فجلس"، فهذا هو السبب في استحيائه، فتأملّ، والله تعالى أعلم.

(فَاسْتَحْيَا اللهُ مِنْهُ)؛ أي: رحمه، ولم يعاقبه، قاله في "الفتح"، وقال النوويّ: فاستحى الله منه؛ أي: رحمه، ولم يعذبه، بل غفر ذنوبه، وقيل: جازاه بالثواب، قالوا: ولم يُلحقه بدرجة صاحبه الأول في الفضيلة الذي آواه، وبسط له اللطف وقرّبه. انتهى

(3)

.

قال الجامع عفا الله عنه: هكذا أوَّلَ الحافظ، والنوويّ استحياء الله عز وجل بالرحمة، وعدم المعاقبة، وكذا الإعراض الآتي بالسخط، وهذا تفسير باللازم، ويستلزم نفي صفة الاستحياء، والإعراض عن الله تعالى، وهذا غير مقبول، بل الصواب أن صفتي الرحمة، والإعراض ثابتتان لله سبحانه وتعالى على الوجه اللائق به، دون تأويل.

(1)

"شرح النوويّ" 14/ 158 - 159.

(2)

"المفهم" 5/ 508.

(3)

"شرح النوويّ" 14/ 158 - 159.

ص: 618

وقد أجاد بعض المحقّقين حيث كتب في هامش "الفتح" تعقّبًا له ما حاصله: قوله: "فاستحيا الله منه"؛ أي: رحمه، وقوله:"فأعرض الله عنه"؛ أي: سَخِطَ عليه، في هذا التفسير للاستحياء، والإعراض من الله عدول عن ظاهر اللفظ من غير موجب، والحامل على ذلك عند من قال به هو اعتقاد أن الله تعالى لا يوصف بالحياء، ولا بالإعراض حقيقةً؛ لتوهّم أن إثبات ذلك يستلزم التشبيه، وليس كذلك، بل القول في الاستحياء، والإعراض كالقول في سائر ما أثبته الله عز وجل لنفسه، أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة من الصفات، والواجب في جميع ذلك هو الإثبات مع نفي مماثلة المخلوقات، وقد ورد في الحديث:"إن ربكم تبارك وتعالى حيي كريم، يستحي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردّهما صفرًا"، حديث صحيح، رواه أبو داود، والترمذيّ. انتهى

(1)

.

(وَأَمَّا الآخَرُ فَأَعْرَضَ، فَأَعْرَضَ اللهُ عَنْهُ") فيه إثبات الإعراض لله سبحانه وتعالى على ما يليق بجلاله، وفسّر في "الفتح" الإعراض هنا بالسخط، وقال: إطلاق الأعراض وغيره في حق الله تعالى على سبيل المقابلة، والمشاكلة، فيُحْمَلَ كل لفظ منها على ما يليق بجلاله سبحانه وتعالى، وفائدة إطلاق ذلك بيان الشيء بطريق واضح. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: قد علمت آنفًا أن تفسير الإعراض بالسخط غير مقبول، والحقّ أن الإعراض من الصفات الثابتة لله عز وجل على ما يليق بجلاله سبحانه وتعالى، فتبصّر بالإنصاف، ولا تكن أسير التقليد، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

وقال في "الفتح": هذا محمول على من ذهب مُعْرِضًا، لا لعذر، إن كان مسلمًا، ويَحْتَمِل أن يكون منافقًا، واطَّلَع النبيّ صلى الله عليه وسلم على أمره، كما يَحْتَمِل أن يكون قوله صلى الله عليه وسلم:"فأعرض الله عنه" إخبارًا، أو دعاءً.

ووقع في حديث أنس: "فاستغنى، فاستغنى الله عنه"، وهذا يُرَشِّح كونه خبرًا. انتهى

(2)

.

(1)

راجع: هامش "الفتح" 1/ 278.

(2)

"الفتح" 1/ 277، كتاب "العلم" رقم (66).

ص: 619

وقال القرطبيّ رحمه الله: إن كان هذا المُعْرِض منافقًا فإعراض الله تعالى عنه تعذيبه في نار جهنم، وتخليده فيها في الدرك الأسفل منها، وإن كان مسلمًا، وإنما انصرف عن الحلقة لعارض عَرَض له فآثره، فإعراض الله تعالى عنه مَنْعُ ثوابه عنه، وحرمانه مجالسة النبيّ صلى الله عليه وسلم، والاستفادة منه، والخير الذي حصل لصاحبيه. انتهى

(1)

.

وقال الإمام ابن عبد البرّ رحمه الله: قوله في الثالث: "فأعرض، فأعرض الله عنه" فإنه - والله أعلم - أراد: أعرض عن عمل البرّ، فأعرض الله عنه بالثواب، وقد يَحْتَمِل أن يكون المعرِض عن ذلك المجلس مَن في قلبه نفاق، ومرضٌ؛ لأنه لا يُعرِض في الأغلب عن مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا مَن هذه حاله، بل قد بان لنا بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:"فأعرض، فأعرض الله عنه" أنه منهم؛ لأنه لو أعرض لحاجة عَرَضت له ما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك القول فيه، ومن كانت هذه حاله كان إعراض الله عنه سُخْطًا عليه. ونسأل الله تعالى المعافاة، والنجاة من سخطه بمنّه، ورحمته. انتهى

(2)

، والله تعالى أعلم.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي واقد الليثيّ رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [10/ 5669 و 5670](2176)، و (البخاريّ) في "العلم"(66) و"الصلاة"(474)، و (الترمذيّ) في "الاستئذان"، و (النسائيّ) في "الكبرى"(3/ 453)، و (مالك) في "الموطّأ"(3/ 132)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 219)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(86)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(3/ 249)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(3/ 231)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(3334)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان استحباب الجلوس إلى العالم في المسجد.

(1)

"المفهم" 5/ 509.

(2)

"التمهيد لابن عبد البرّ" 1/ 317.

ص: 620

2 -

(ومنها): بيان أن الآتي يُسَلِّم على المقصود إليه، كما يسلّم الماشي على القاعد، والراكب على الماشي.

3 -

(ومنها): جواز التخطي إلى الفُرَج في حلقة العالم، وترك التخطي إلى غير الفُرَج، قال ابن عبد البرّ رحمه الله: وليس ما جاء من حمد التزاحم في مجلس العالم، والحضّ على ذلك بمبيحٍ تخطيَ الرقاب إليه، لِمَا في ذلك من الأذى، كما لا يجوز التخطي إلى سماع الخطبة في الجمعة، والعيدين، ونحو ذلك، فكذلك لا يجوز التخطي إلى العالم، إلا أن يكون رجلًا يفيد قُرْبه من العالم فائدةً، ويثير علمًا، فيجب حينئذ أن يُفْتَح له لئلا يؤذي أحدًا، حتى يصل إلى الشيخ، ومن شرط العالم أن يليه من يَفهم عنه؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ليلني منكم أولوا الأحلام والنهَى"؛ يعني: في الصلاة وغيرها؛ ليفهموا عنه، يؤدوا ما سمعوا كما سمعوا، من غير تبديل معنى، ولا تصحيف، وفي قول رسول الله صلى الله عليه وسلم للمتخطي يوم الجمعة:"آذيت، وآنيت" بيان أن التخطي أَذًى، ولا يحل أذى مسلم بحال في الجمعة، وغير الجمعة، ومعنى التزاحم بالركب في مجلس العالم: الانضمام، والالتصاق، ينضم القوم بعضهم إلى بعض على مراتبهم، ومَنْ تقدّم إلى موضع فهو أحقّ به، إلا أن يكون ما ذكرنا من قُرب أولي الفهم من الشيخ، فيُفسح له، ولا ينبغي له أن يتباطأ، ثم يتخطى إلى الشيخ؛ ليرى الناس موضعه منه، فهذا مذموم، ويجب لكل مَن عَلِم موضعه أن يتقدم إليه بالتبكير، والبكورُ إلى مجلس العالم كالبكور إلى الجمعة في الفضل - إن شاء الله تعالى - انتهى

(1)

.

4 -

(ومنها): استحباب جلوس العالم لأصحابه، وغيرهم في موضع بارز، ظاهر للناس، والمسجد أفضل، فيذاكرهم العلم والخير.

5 -

(ومنها): جواز حِلَق العلم والذكر في المسجد، واستحباب دخولها، ومجالسة أهلها، وكراهة الانصراف عنها من غير عذر، قال القرطبيّ رحمه الله: فيه الحضُّ على مجالسة العلماء، ومداخلتهم، والكون معهم؛ فإنَّهم القومُ الذين لا يشقى بهم جليسهم، وفيه التحلق لسماع العلم في المسجد حول العالم،

(1)

"التمهيد لابن عبد البرّ" 1/ 316.

ص: 621

والحضُّ على سدّ خلل الحلقة؛ لأنَّ القُرب من العالم أَولى؛ لِمَا يحصل من ذلك من حسن الاستماع، والحفظ، والحالُ في حِلَق الذكر كالحال في صفوف الصلاة، يُتَمُّ الصَّف الأول، فإنَّ كان نقص ففي المؤخر. انتهى

(1)

.

6 -

(ومنها): استحباب القُرب من كبير الحلقة؛ ليسمع كلامه سماعًا بيّنًا، ويتأدب بآدابه.

7 -

(ومنها): أن قاصد الحلقة إن رأى فُرجة دخل فيها، وإلا جلس وراءهم.

وقال في "الفتح": وفيه استحباب الأدب في مجالس العلم، وفضل سدّ خلل الحلقة، كما ورد الترغيب في سدّ خلل الصفوف في الصلاة، وجواز التخطي لسدّ الخلل، ما لم يؤذ، فإن خَشِي استُحِبّ الجلوس حيث ينتهي، كما فعل الثاني، وفيه الثناء على من زاحم في طلب الخير. انتهى

(2)

.

8 -

(ومنها): مشروعيّة الثناء على مَن فعل جميلًا، فإنه صلى الله عليه وسلم أثنى على الاثنين في هذا الحديث، وأن الإنسان إذا فعل قبيحًا ومذمومًا، وباح به، جاز أن يُنسب إليه، والله أعلم

(3)

.

9 -

(ومنها): جواز الإخبار عن أهل المعاصي، وأحوالهم للزجر عنها، وأن ذلك لا يُعَدّ من الغيبة.

10 -

(ومنها): بيان فضل ملازمة حِلَق العلم، والذِّكر، وجلوس العالم والمذكِّر في المسجد.

11 -

(ومنها): استحباب الثناء على المستحيي، والجلوس حيث ينتهي به المجلس، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5670]

(

) - (وَحَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُنْذِر، حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَد، حَدَّثَنَا حَرْبٌ - وَهُوَ ابْنُ شَدَّادٍ - (ح) وَحَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، أَخْبَرَنَا حَبَّانُ، حَدَّثَنَا

(1)

"المفهم" 5/ 508.

(2)

"الفتح" 1/ 277، كتاب "العلم" رقم (66).

(3)

"شرح النوويّ" 14/ 158.

ص: 622

أَبَانٌ، قَالَا جَمِيعًا: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ، أَنَّ إِسْحَاقَ بْنَ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ حَدَّثَهُ، فِي هَذَا الإِسْنَادِ بِمِثْلِه، فِي الْمَعْنَى).

رجال هذين الإسنادين: ثمانية:

1 -

(أَحْمَدُ بْنُ الْمُنْذِرِ) بن الجارود القزّاز، أبو بكر البصريّ، صدوقٌ [11] قديم الموت، مات سنة (235)(م) من أفراد المصنّف، تقدم في "الصيام" 21/ 2661.

[تنبيه]: أشار في هامش النسخة الهنديّة أنه وقع في بعض النسخ: "أحمد بن المنكدر" بدل "ابن المنذر"، وهذا غلط بلا شكّ، فتنبّه، والله تعالى وليّ التوفيق.

2 -

(عَبْدُ الصَّمَدِ) بن عبد الوارث بن سعيد الْعَنْبَريّ مولاهم التَّنُّوريّ، أبو سهل البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ في شعبة [9](ت 207)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 82.

3 -

(حَرْبُ بْنُ شَدَّادٍ) اليشكريّ، أبو الخطّاب البصريّ، ثقةٌ [7](ت 161)(خ م د ت س) تقدم في "الحج" 83/ 3339.

4 -

(إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورِ) بن بَهْرَام الكوسج، أبو يعقوب التميميّ المروزيّ، ثقةٌ ثبتٌ [11](ت 251)(خ م ت س ق) تقدم في "الإيمان" 12/ 156.

5 -

(حَبَّانُ) - بفتح الحاء - ابن هلال، أبو حبيب البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [9](ت 216)(ع) تقدم في "الإيمان" 55/ 322.

6 -

(أَبَانُ) بن يزيد العطّار، أبو يزيد البصريّ، ثقةٌ له أفراد [7] مات في حدود (160)(عخ م د ت ق) تقدم في "الطهارة" 1/ 540.

7 -

(يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ) صالح بن المتوكّل الطائيّ مولاهم، أبو نصر البصريّ، ثم اليماميّ، ثقةٌ ثبتٌ لكنه يدلّس ويُرسل [5](ت 132) أو قبل ذلك (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 424.

و"إسحاق بن عبد الله" ذُكر قبله.

وقوله: (قَالَا جَمِيعًا) ضمير التثنية لحرب بن شدّاد، وأبان بن يزيد العطّار.

وقوله: (أَنَّ إِسْحَاقَ بْنَ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ حَدَّثَهُ)؛ أي: حدّث يحيى بنَ أبي كثير.

وقوله: (فِي هَذَا الإِسْنَادِ)"في" بمعنى الباء؛ أي: بالإسناد السابق، وهو

ص: 623

عن أبي مُرّة مولى عَقِيل بن أبي طالب، عن أبي واقد الليثيّ رحمه الله.

وقوله: (بِمِثْلِهِ)؛ أي: بمثل الحديث الماضي.

وقوله: (فِي الْمَعْنَى)؛ أي: هو مثله من حيث المعنى، وإن كان اللفظ يختلف.

[تنبيه]: رواية حرب بن شدّاد عن يحيى بن أبي كثير ساقها النسائيّ رحمه الله في "الكبرى"، فقال:

(5901)

- أنبأ عليّ بن سعيد بن جرير، قال: ثنا عبد الصمد، قال: ثنا حرب بن شداد، قال: نا يحيى بن أبي كثير، قال: حدّثني إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن حديث أبي مُرّة، أن أبا واقد الليثيّ حدّثه، قال: بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ مَرّ به ثلاثة نفر، فجاء أحدهم، فوجد فُرجة في حلقة، فجلس، وجاء الآخر، فجلس من ورائهم، وانطلق الثالث، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ألا أخبركم بخبر هؤلاء؟ " قالوا: بلى، قال: أما الذي جاء، فجلس، فعبدٌ أَوَى، فآواه الله، وأما الذي جلس من ورائكم، فاستحيا، فاستحيا الله منه، وأما الذي انطلق، فرجل أعرض، فأعرض الله عنه". انتهى

(1)

.

ورواية أبان بن يزيد العطّار عن يحيى بن أبي كثير ساقها الطبرانيّ في كتابه "الدعاء"، فقال:

(1910)

- حدّثنا محمد بن يحيى بن المنذر القزاز، ثنا موسى بن إسماعيل، ثنا أبان بن يزيد العطار، عن يحيى بن أبي كثير، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن حديث أبي مُرّة، عن أبي واقد الليثيّ، قال: بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حلقة، إذ جاء ثلاثة نفر، فأما رجل فوَجَد فُرْجة في الحلقة، فقعد فيها، وأما الآخر فقعد خلف الحلقة، وأما رجل فمضى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ألا أخبركم عن الثلاثة: أما الذي جلس في الحلقة، فرجل أوى، فآواه الله، وأما الذي جلس خلف الحلقة، فرجل استحيا، فاستحيا الله منه، وأما الذي انطلَقَ، فأعرض، فأعرض الله عز وجل عنه". انتهى

(2)

.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(1)

"السنن الكبرى" للنسائيّ 3/ 453.

(2)

"الدعاء للطبرانيّ" 1/ 534.

ص: 624

(11) - (بَابُ تَحْرِيم إِقَامَةِ الإِنْسَانِ مِنْ مَوْضِعِهِ الْمُبَاحِ الَّذِي سَبَقَ إِلَيْهِ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5671]

(2177) - (وَحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ (ح) وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحِ بْنِ الْمُهَاجِر، أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"لَا يُقِيمَنَّ أَحَدُكُمُ الرَّجُلَ مِنْ مَجْلِسِه، ثُمَّ يَجْلِسُ فِيهِ").

رجال هذين الإسنادين: خمسة:

1 -

(نَافِعٌ) مولى ابن عمر، أبو عبد الله المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيه مشهورٌ [3](ت 117) أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 28/ 222.

2 -

(ابْنُ عُمَرَ) عبد الله بن الخطّاب رضي الله عنهما، تقدّم قريبًا.

والباقون ذُكروا قبل بابين.

[تنبيه]: من لطائف هذين الإسنادين:

أنهما من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (439) من رباعيّات الكتاب، وفيه ابن عمر رضي الله عنه أحد العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة.

شرح الحديث:

(عَنِ ابْنِ عُمَرَ) بن الخطّاب رضي الله عنهما (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) أنه (قَالَ: "لَا) ناهية، وقوله:(يُقِيمَنَّ) مجزوم المحلّ، مبنيّ على الفتح؛ لاتّصاله بنون التوكيد. (أَحَدُكُمُ) مرفوع على الفاعليّة، (الرَّجُلَ) منصوب على المفعوليّة، (مِنْ مَجْلِسِهِ) متعلّق بـ "يقيمنّ"، (ثُمَّ يَجْلِسُ فِيهِ") وفي الرواية التالية:"لَا يُقِيمُ الرَّجُلُ الرَّجُلَ مِنْ مَقْعَدِه، ثمَّ يَجْلِسُ فِيه، وَلَكِنْ تَفَسَّحُوا، وَتَوَسَّعُوا"، وقوله: "لا يقيم الرجل

إلخ"، وعليه فـ "لا" نافية، والفعل مرفوع، والنفي بمعنى النهي، ووقع في بعض النسخ: "لا يقم"، فـ "لا" ناهية، والفعل مجزوم.

[تنبيه]: قوله: "ثم يجلس فيه" الموجود في النُّسخ أنه بالرفع، فتكون الجملة خبرًا لمبتدأ محذوف؛ أي: ثم هو يجلس فيه، ولو ثبت جزمه، أو نصبه

ص: 625

روايةً لكان لذلك وجه، فالجزم بالعطف على محلّ "يقيمنّ"، فإنه مجزوم بـ "لا" الناهية، كما أسلفته، والنصب بـ "أن" مضمرةً بعد "ثم" إعطاء لها حكم الواو، فقد أجاز ذلك ابن مالك رحمه الله في كتابه "شواهد التوضيح" في حديث:"لا يبولنّ أحدكم في الماء الدائم، ثم يغتسل منه"، ودونك نصّه:

قال رحمه الله: يجوز في "ثم يغتسل" الجزم عطفًا على "يبولنّ"؛ لأنه مجزوم الموضع بـ "لا" التي للنهي، ولكنه بُني على الفتح؛ لتوكيد النون، ويجوز فيه الرفع على تقدير: ثم هو يغتسل فيه، ويجوز فيه النصب على إضمار "أن"، وإعطاء "ثُمّ" حكم واو الجمع، ونظير "ثم يغتسل" في جواز الأوجه الثلاثة قوله تعالى:{وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ} [النساء: 100]، فإنه قرئ بجزم {يُدْرِكْهُ} ، ورفعه، ونصبه، والجزم هو المشهور، والذي قرأ به السبعة، وأما الرفع والنصب فشاذّان. انتهى

(1)

.

والحاصل أن نظير حديث: "ثم يغتسل" قوله في هذا الحديث: "ثم يجلس فيه"، فتجوز فيه الأوجه الثلاثة، لكن الذي يظهر أن الرفع هو الرواية، والله تعالى أعلم.

وقال القرطبيّ رحمه الله: نهيه صلى الله عليه وسلم عن أن يقام الرجل من مجلسه، إنما كان ذلك لأجل أن السَّابق لمجلسٍ قد اخْتَصَّ به إلى أن يقوم باختياره عند فراغ غرضه؛ فكأنه قد ملك منفعة ما اخْتَصَّ به من ذلك، فلا يجوز أن يحال بينه وبين ما يملكه، وعلى هذا فيكون النهي على ظاهره من التَّحريم، وقيل: هو على الكراهة، والأول أَولى، ويستوي في هذا المعنى أن يجلس فيه بعد إقامته، أو لا يجلس، غير أن هذا الحديث خرج على أغلب ما يُفْعَل من ذلك، فإنَّ الإنسان في الغالب إنما يقيم الآخر من مجلسه ليجلس فيه، وكذلك يستوي فيه يوم الجمعة، وغيره من الأيام التي يجتمع الناس فيها، لكن جرى ذكر يوم الجمعة في الحديث الآتي؛ لأنَّه اليوم الذي يجتمع الناس فيه، ويتنافسون في المواضع القريبة من الإمام، وعلى هذا فيُلْحَق بذلك ما في معناه، ولذلك قال ابن جريج: في يوم الجمعة وغيرها.

(1)

"شواهد التوضيح والتصحيح لمشكلات الجامع الصحيح" ص 164 - 165.

ص: 626

قال: وقوله: "ولكن تفسَّحوا، وتوسَّعوا" هذا أمر للجالسين بما يفعلون مع الداخل، وذلك أنه لمّا نُهِي عن أن يقيم أحدًا من موضعه تعيَّن على الجالسين أن يوسِّعوا له، ولا يتركوه قائمًا، فإنَّ ذلك يؤذيه، وربما يخجله، وعلى هذا فمن وجد من الجالسين سعة تعيَّن عليه أن يوسع له، وظاهر ذلك أنه على الوجوب تمسُّكًا بظاهر الأمر، وكان القائم يتأذى بذلك، وهو مسلم، وأذى المسلم حرام، ويَحْتَمِل أن يقال: إن هذه آداب حسنة، ومن مكارم الأخلاق، فتُحْمَل على الندب.

قال الجامع عفا الله عنه: الاحتمال الأول، وهو الوجوب هو الظاهر؛ لأنه لا صارف للأمر عن الوجوب، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

قال: وقد اختَلَف العلماء في قوله تعالى: {إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ} الآية [المجادلة: 11]، فقيل: هو مجلس النبيّ صلى الله عليه وسلم، كانوا يزدحمون فيه تنافسًا في القُرب من النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقيل: هو مجلس الصَّف في القتال، وقيل: هو عامٌّ في كل مجلس، اجتَمَع المسلمون فيه للخير، والأجر، وهذا هو الأَولى؛ إذ المجلس للجنس على ما أصَّلْناه في الأصول. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(1)

، وهو بحثٌ نفيسٌ، والله تعالى أعلم.

وقال في "الفتح": وقوله: "ولكن تفسحوا، وتوسعوا" هو عطفٌ تفسيريّ، ووقع في رواية قبيصة، عن سفيان، عند ابن مردويه:"ولكن ليقل: افسحوا، وتوسعوا"، وقد أخرجه الإسماعيليّ من رواية قبيصة، وليس عنده:"ليقل"، وهذه الزيادة أشار مسلم في كلامه الآتي إلى أن عبيد الله بن عمر تفرد بها، عن نافع، وأن مالكًا، والليث، وأيوب، وابن جريج، رووه عن نافع بدونها، وأن ابن جريج زاد:"قلت لنافع: في الجمعة؟ قال: في الجمعة وفي غيرها".

ووقع في حديث جابر الآتي عند مسلم: "لا يقيمنّ أحدكم أخاه يوم الجمعة، ثم يخالف إلى مقعده، فيقعد فيه، ولكن يقول: افسحوا"، فجمع بين

(1)

"المفهم" 5/ 509 - 510.

ص: 627

الزيادتين، ورفعهما، وكأن

(1)

ذلك سبب سؤال ابن جريج لنافع. انتهى

(2)

، والله تعالى أعلم.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [11/ 5671 و 5672 و 5673 و 5674 و 5675](2177)، و (البخاريّ) في "الجمعة"(911) و"الاستئذان"(6269 و 6270) وفي "الأدب المفرد"(1153)، و (أبو داود) في "الاستئذان"(4828)، و (الترمذيّ) في "الأدب"(2749)، و (الشافعيّ) في "مسنده"(1/ 158)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(19807)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(8/ 584)، و (الحميديّ) في "مسنده"(664)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 17 و 22 و 45 و 89 و 102 و 126)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 281)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(586 و 587)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(3/ 232 و 233)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(3332)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان النهي عن أن يقيم الإنسان غيره من مجلسه، ثم يجلس فيه، وهو للتحريم على الصحيح.

2 -

(ومنها): أن مفهوم قوله: "لا يقيمنّ

إلخ" أنه لو قام الجالس باختياره له جاز أن يجلس فيه، وأما فِعل ابن عمر رضي الله عنها فيُحمل على أنه من باب الورع، قال النوويّ رحمه الله: تورعّ لوجهين: أحدهما: أنه ربما استحى منه إنسان فقام له من مجلسه، من غير طيب قلبه، فسدّ ابن عمر الباب؛ لِيَسْلَم من هذا، والثاني: أن الإيثار بالقُرَب مكروه، أو خلاف الأَولى، فكان ابن عمر يمتنع من ذلك؛ لئلا يرتكب أحد بسببه مكروهًا، أو خلاف الأَولى، بأن يتأخر

(1)

وقع في نسخة "الفتح" بلفظ: "وكان"، والظاهر أنه مصحّف من "كأَنّ"، فليُحرّر، والله تعالى أعلم.

(2)

"الفتح" 14/ 224 - 225، كتاب "الاستئذان" رقم (6270).

ص: 628

عن موضعه من الصفّ الأول، ويؤْثِره به، وشِبْه ذلك، قال أصحابنا: وإنما يُحْمَد الإيثار بحظوظ النفوس، وأمور الدنيا، دون الْقُرَب، والله أعلم.

3 -

(ومنها): ما قاله النوويّ رحمه الله: هذا النهي للتحريم، فمن سبق إلى موضع مباح في المسجد، وغيره يوم الجمعة، أو غيره، لصلاة، أو غيرها، فهو أحقّ به، ويحرم على غيره إقامته لهذا الحديث، ألا أن أصحابنا استثنَوْا منه ما إذا أَلِف من المسجد موضعًا يفتي فيه، أو يقرأ قرآنًا، أو غيره من العلوم الشرعية، فهو أحقّ به، وإذا حضر لم يكن لغيره أن يقعد فيه.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الاستثناء يحتاج إلى دليل، فإن النهي عامّ لم يخصّ نوعًا من نوع، فهو على عمومه، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

قال: وفي معناه من سبق إلى موضع من الشوارع، ومقاعد الأسواق؛ لمعاملة. انتهى

(1)

.

وقال ابن قُدامة رحمه الله في "المغني": وليس له أن يقيم إنسانًا، ويجلس في موضعه، سواء كان المكان راتبًا لشخص، يجلس فيه، أو موضع حلقة لمن يحدّث فيها، أو حلقة الفقهاء يتذاكرون فيها، أو لم يكن؛ لِمَا رَوَى ابن عمر رضي الله عنه قال:"نَهَى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقيم الرجل أخاه من مقعده، ويجلس فيه"، متّفقٌ عليه؛ ولأن المسجد بيت الله، والناس فيه سواء، قال الله تعالى:{سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} [الحج: 25]، فمن سبق إلى مكان فهو أحقّ به؛ لقول النبيّ صلى الله عليه وسلم:"مَن سَبَقَ إلى ما لم يَسبِق إليه مسلم، فهو أحق به"، رواه أبو داود

(2)

، وكمقاعد الأسواق، ومشاريع المياه، والمعادن، فإن قدَّم صاحبًا له، فجلس في موضع حتى إذا جاء قام النائب، وأجلسه جاز؛ لأن النائب يقوم باختياره، وقد روي أن محمد بن سيرين كان يرسل غلامًا له يوم الجمعة، فيجلس فيه، فإذا جاء محمد قام الغلام، وجلس محمد فيه، فإن لم يكن نائبًا فقام ليجلس آخر في مكانه، فله الجلوس فيه؛ لأنه قام باختيار نفسه، فأشبه النائب، وأما القائم فإن انتقل إلى مثل مكانه الذي آثر به في القُرَب، وسماع الخطبة، فلا بأس، وإن انتقل إلى ما دونه كُرِه له؛ لأنه يُؤْثِر على نفسه في

(1)

"شرح النوويّ" 14/ 160.

(2)

إسناد ضعيف.

ص: 629

الدين، ويَحْتَمِل أن لا يكره؛ لأن تقديم أهل الفضل إلى ما يلي الإمام مشروع، ولذلك قال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"لِيَلِيَنِّي منكم أولو الأحلام والنُّهَى"، ولو آثر شخصًا بمكانه، لم يَجُز لغيره أن يسبقه إليه؛ لأن الحقّ للجالس، آثر به غيره، فقام مقامه في استحقاقه، كما لو تحجَّر مواتًا، أو سَبَق إليه، ثم آثر غيره به، وقال ابن عَقيل: يجوز ذلك؛ لأن القائم أسقط حقه بالقيام، فبقي على الأصل، فكان السابق إليه أحقّ به، كمن وَسّمع لرجل في طريق، فمرّ غيره.

قال ابن قُدامة: وما قلنا أصحّ، ويفارق التوسعة في الطريق؛ لأنها إنما جُعلت للمرور فيها، فمن انتقل من مكانه فيها لم يبق له فيها حقّ يُؤْثِر به، وليس كذلك المسجد، فإنه للإقامة فيه، ولا يسقط حق المتنقل من مكانه، إذا انتقل لحاجة، وهذا إنما انتقل مُؤْثِرًا لغيره، فأشبه النائب الذي بعثه إنسان ليجلس في موضع يحفظه له، ولو كان الجالس مملوكًا لم يكن لسيده أن يقيمه؛ لعموم الخبر، ولأن هذا ليس بمال، وهو حقّ دينيّ، فاستوى هو وسيده فيه؛ كالحقوق الدينية كلها، والله أعلم. انتهى كلام ابن قُدامة رحمه الله

(1)

.

4 -

(ومنها): ما قال ابن أبي جمرة

(2)

رحمه الله: هذا اللفظ عامّ في المجالس، ولكنه مخصوص بالمجالس المباحة، إما على العموم؛ كالمساجد، ومجالس الحكام، والعلم، وإما على الخصوص، كمن يدعو قومًا بأعيانهم إلى منزله؛ لوليمة، ونحوها، وأما المجالس التي ليس للشخص فيها ملك، ولا إذنَ له فيها، فإنه يقام، ويُخرج منها، ثم هو في المجالس العامة ليس عامًّا في الناس، بل هو خاصّ بغير المجانين، ومن يحصل منه الأذى، كآكل الثُّوم النيء، إذا دخل المسجد، والسفيه إذا دخل مجلس العلم، أو الحكم.

قال: والحكمة في هذا النهي منع استنقاص حقّ المسلم المقتضي للضغائن، والحثُّ على التواضع المقتضي للموادَدَة، وأيضًا فالناس في المباح كلهم سواء، فمن سبق إلى شيء استحقّه، ومن استحقّ شيئًا، فأُخِذ منه بغير حقّ، فهو غصب، والغصب حرام، فعلى هذا قد يكون بعض ذلك على سبيل الكراهة، وبعضه على سبيل التحريم.

(1)

"المغني" 2/ 101 - 102.

(2)

"بهجة النفوس" 4/ 194.

ص: 630

قال الجامع عفا الله عنه: تقدّم أن النهي للتحريم مطلقًا، كما رجحه النوويّ رحمه الله، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

5 -

(ومنها): ما قال ابن بطال

(1)

: اختُلِف في النهي، فقيل: للأدب، وإلا فالذي يجب للعالم أن يليه أهل الفهم والنُّهَى، وقيل: هو على ظاهره، ولا يجوز لمن سبق إلى مجلس مباح أن يقام منه.

واحتجوا بالحديث؛ يعني: حديث أبي هريرة رضي الله عنه الآتي: "إذا قام أحدكم من مجلسه، ثم رجع إليه، فهو أحقّ به"، قالوا: فلما كان أحقّ به بعد رجوعه، ثبت أنه حقه قبل أن يقوم، ويتأيد ذلك بفعل ابن عمر المذكور، فإنه راوي الحديث، وهو أعلم بالمراد منه.

وأجاب من حَمَله على الأدب: أن الموضع في الأصل ليس مُلكه قبل الجلوس، ولا بعد المفارقة، فدلّ على أن المراد بالحقية في حالة الجلوس الأَولوية، فيكون من قام تاركًا له قد سقط حقه جملةً، ومن قام ليرجع يكون أَولى. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: تقدّم أن القول بالتحريم مطلقًا هو الأرجح، كما رجحه النوويّ رحمه الله، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5672]

(

) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ نُمَيْرٍ (ح) وَحَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي (ح) وَحَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى - وَهْوَ الْقَطَّانُ - (ح) وَحَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ - يَعْنِي: الثَّقَفِيَّ - كُلُّهُمْ عَنْ عُبَيْدِ اللهِ (ح) وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ - وَاللَّفْظُ لَهُ - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ، وَأَبُو أُسَامَةَ، وَابْنُ نُمَيْرٍ، قَالُوا: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ الله، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"لَا يُقِيمُ الرَّجُلُ الرَّجُلَ مِنْ مَقْعَدِه، ثُمَّ يَجْلِسُ فِيه، وَلَكِنْ تَفَسَّحُوا، وَتَوَسَّعُوا").

(1)

"شرح البخاريّ" لابن بطّال 9/ 52.

(2)

"الفتح" 14/ 224 - 225، كتاب "الاستئذان" رقم (6270).

ص: 631

رجال هذه الأسانيد: ثلاثة عشر:

1 -

(عَبْدُ الْوَهَّابِ) بن عبد المجيد الثقفيّ، أبو محمد البصريّ، ثقةٌ [8](ت 194)(ع) تقدم في "الإيمان" 17/ 173.

2 -

(مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ) العبديّ، أبو عبد الله الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ [9](ت 203)(ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 107.

3 -

(عُبَيْدُ اللهِ) بن عمر بن حفص بن عاصم العمريّ، أبو عثمان المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ [5] مات سنة بضع و (140)(ع) تقدم في "الإيمان" 28/ 222.

والباقون تقدّموا قريبًا.

وقوله: (كُلُّهُمْ عَنْ عُبَيْدِ اللهِ)؛ يعني: هؤلاء الثلاثة: عبد الله بن نمير، ويحيى القطّان، وعبد الوهّاب الثقفي رووا هذا الحديث عن عبيد الله بن عمر العمريّ.

وقوله: (قَالُوا: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ) ضمير الجماعة يعود على الثلاثة: محمد بن بشر، وأبي أسامة، وعبد الله بن نمير، فقد رووا هذا الحديث عن عبيد الله العمريّ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما.

وقوله: (لَا يُقِيمُ الرَّجُلُ الرَّجُلَ مِنْ مَقْعَدِهِ)"لا" نافيةٌ، ولذا رُفع الفعل بعدها، والمراد من النفي: النهي، وفي بعض النُّسخ:"لا يقم" بالجزم، فـ "لا" ناهية.

وقوله: (وَلَكِنْ تَفَسَّحُوا، وَتَوَسَّعُوا) قال ابن أبي جمرة رحمه الله: معنى الأول: أن يتوسعوا فيما بينهم، ومعنى الثاني: أن ينضم بعضهم إلى بعض، حتى يفضل من الجمع مجلس للداخل. انتهى

(1)

.

وهذا إشارة إلى قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ} الآية [المجادلة: 11]، قال في "الفتح": اختُلِف في معنى الآية، فقيل: إن ذلك خاصّ بمجلس النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال ابن بطال: قال بعضهم: هو مجلس النبيّ صلى الله عليه وسلم خاصّة، عن مجاهد، وقتادة، وذكر الطبريّ عن قتادة: كانوا يتنافسون في مجلس النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا رأوه مقبلًا ضيَّقوا مجلسهم، فأمرهم الله تعالى أن يوسِّع بعضهم لبعض.

(1)

"بهجة النفوس" 4/ 194.

ص: 632

قال الحافظ: ولا يلزم من كون الآية نزلت في ذلك الاختصاص.

وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حيّان - بفتح المهملة، والتحتانية الثقيلة - قال: نزلت يوم الجمعة، أقبل جماعة من المهاجرين والأنصار، من أهل بدر، فلم يجدوا مكانًا، فأقام النبيّ صلى الله عليه وسلم ناسًا ممن تأخر إسلامه، فأجلسهم في أماكنهم، فشقّ ذلك عليهم، وتكلم المنافقون في ذلك، فأنزل الله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا} ، وعن الحسن البصريّ: المراد بذلك: مجلس القتال، قال: ومعنى قوله: {انْشُزُوا} [المجادلة: 11]: انهضوا للقتال.

وذهب الجمهور إلى أنها عامّة في كل مجلس، من مجالس الخير.

وقوله: {فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ} ؛ أي: وسّعوا يوسّع الله عليكم في الدنيا والآخرة. انتهى

(1)

.

[تنبيه]: رواية عبد الله بن نُمير، عن عبيد الله العمريّ ساقها أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(4735)

- حدّثنا ابن نمير، ثنا عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لا يقيم الرجل الرجل عن مقعده يقعد فيه، ولكن تفسحوا، وتوسعوا". انتهى

(2)

.

ورواية يحيى القطّان عن عبيد الله ساقها أيضًا أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(4659)

- حدثنا يحيى، عن عبيد الله، أخبرني نافع، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يقيم الرجل الرجل من مجلسه، فيجلس فيه، ولكن تفسحوا، وتوسعوا". انتهى

(3)

.

ورواية عبد الوهّاب الثقفيّ عن عبيد الله ساقها ابن منده رحمه الله في "فوائده"، مقرونًا بيحيى القطّان، فقال:

(1)

"الفتح" 14/ 224.

(2)

"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 2/ 22.

(3)

"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 2/ 16.

ص: 633

(19)

- أخبرنا عبد الله بن يعقوب بن إسحاق، ثنا محمد بن إسحاق الكرمانيّ، ثنا يحيى بن سعيد القطان، وعبد الوهاب بن عبد المجيد، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "لا يقوم

(1)

الرجل للرجل من مجلسه، ثم يجلس فيه، ولكن تفسحوا، وتوسعوا". انتهى

(2)

.

ورواية أبي أسامة، وعبد الله بن نمير كلاهما عن عبيد الله ساقها ابن أبي شيبة رحمه الله في "مصنّفه"، فقال:

(25577)

حدّثنا ابن نمير، وأبو أسامة، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يُقيمنّ الرجل الرجل عن مقعده، ثم يقعد فيه، ولكن تفسحوا، وتوسعوا". انتهى

(3)

.

وأما رواية محمد بن بشر عن عبيد الله، فلم أر من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5673]

(

) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو الرَّبِيع، وَأَبُو كَامِلٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ (ح) وَحَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ حَبِيبٍ، حَدَّثَنَا رَوْحٌ (ح) وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاق، كِلَاهُمَا عَنِ ابْنَ جُرَيْجٍ (ح) وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ، أَخْبَرَنَا الضَّحَّاكُ - يَعْنِي: ابْنَ عُثْمَانَ - كُلُّهُمْ عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِ حَدِيثِ اللَّيْث، وَلَمْ يَذْكُرُوا فِي الْحَدِيثِ:"وَلَكِنْ تَفَسَّحُوا، وَتَوَسَّعُوا"، وَزَادَ فِي حَدِيثِ ابْنِ جُرَيْجٍ: قُلْتُ: فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ؟ قَالَ: فِي يَوْمِ الْجُمُعَة، وَغَيْرِهَا).

رجال هذه الأسانيد: ثلاثة عشر:

1 -

(أَبُو الرَّبِيعِ) سليمان بن داود الْعَتَكيّ الزهرانيّ البصريّ، نزيل بغداد، ثقةٌ [10](ت 234)(خ م د س) تقدم في "الإيمان" 23/ 190.

(1)

هكذا في النسخة، ولعله "لا يقيم"، فليُحرّر، والله تعالى أعلم.

(2)

"الفوائد لابن منده" 1/ 37.

(3)

"مصنف ابن أبي شيبة" 5/ 233.

ص: 634

2 -

(أَبُو كَامِلٍ) فضيل بن حُسين الحجدريّ البصريّ، تقدّم قريبًا.

3 -

(حَمَّادُ) بن زيد البصريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

4 -

(أَيُّوبُ) بن أبي تميمة كيسان السَّخْتيانيّ، أبو بكر البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ حجة [5](ت 131)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 305.

5 -

(يَحْيَى بْنُ حَبِيبِ) بن عربيّ البصريّ، ثقة [10](ت 248)(م 4) تقدم في "الإيمان" 14/ 165.

6 -

(رَوْحُ) بن عُبادة البصريّ، تقدّم قريبًا.

7 -

(مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ) القشيريّ مولاهم، أبو عبد الله النيسابوريّ، ثقةٌ حافظٌ عابد [11](ت 245)(خ م د ت س) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.

8 -

(عَبْدُ الرَّزَّاقِ) بن همّام الصنعانيّ، تقدّم قبل باب.

9 -

(ابْنُ جُرَيْجٍ) عبد الملك بن عبد العزيز بن جُريج، تقدّم قريبًا.

10 -

(ابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ) محمد بن إسماعيل بن مسلم بن أبي فُديك الدِّيليّ مولاهم، أبو إسماعيل المدنيّ، صدوقٌ، من صغار [8] مات سنة مائتين على الصحيح (ع) تقدم في "الحيض" 16/ 775.

11 -

(الضَّحَّاكُ بْنُ عُثْمَانَ) بن عبد الله بن خالد الأسديّ الْحِزاميّ، أبو عثمان المدنيّ، صدوقٌ يَهِم [7](م 4) تقدم في "الحيض" 16/ 774.

والباقيان ذُكرا قبله.

وقوله: (كِلَاهُمَا عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ)؛ يعني: أن روحًا، وعبد الرزّاق رويا عن ابن جريج.

وقوله: (كُلُّهُمْ عَنْ نَافِعٍ)؛ يعني: أن هؤلاء الثلاثة، وهم: أيوب السختيانيّ، وابن جُريج، والضحَّاك بن عثمان رووا هذا الحديث عن نافع، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِ حَدِيثِ اللَّيْثِ بن سعد المتقدّم.

وقوله: (وَلَمْ يَذْكُرُوا فِي الحَدِيثِ

إلخ)؛ يعني: أن هؤلاء الثلاثة لم يذكروا في روايتهم قوله: "وَلَكِنْ تَفَسَّحُوا، وَتَوَسَّعُوا"، كما لم يذكره الليث في روايته المتقدّمة.

وقوله: (قُلْتُ: فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ؟) القائل هو ابن جريج سأل شيخه نافعًا عنه، كما صرّح به في رواية البخاريّ الآتية في التنبيه، وأما ما قاله بعض

ص: 635

الشرّاح

(1)

من أن السائل هو محمد بن رافع والمسؤول هو ابن جريج، فغلط، فتنبّه.

[تنبيه]: رواية ابن جريج عن نافع ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:

(869)

- حدّثنا محمد

(2)

، قال: أخبرنا مَخْلد بن يزيد، قال: أخبرنا ابن جريج، قال: سمعت نافعًا يقول: سمعت ابن عمر رضي الله عنهما يقول: "نَهَى النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يقيم الرجل أخاه من مقعده، ويجلس فيه"، قلت لنافع: الجمعةَ؟ قال: الجمعةَ وغيرَها. انتهى.

وأما روايتا أيوب السختيانيّ، والضحاك بن عثمان كلاهما عن نافع، فلم أر من ساقهما، فليُنظر، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5674]

(

) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَى، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا يُقِيمَنَّ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ، ثُمَّ يَجْلِسُ فِي مَجْلِسِهِ"، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ إِذَا قَامَ لَهُ رَجُلٌ عَنْ مَجْلِسِه، لَمْ يَجْلِسْ فِيهِ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) عبد الله بن محمد بن أبي شيبة الكوفي الحافظ تقدّم قريبًا.

2 -

(عَبْدُ الأَعْلَى) بن عبد الأعلى الساميّ البصريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

3 -

(سَالِمُ) بن عبد الله بن عمر بن الخطّاب المدنيّ الفقيه، ثقةٌ ثبتٌ فاضل، من كبار [3](ت 106) على الصحيح (ع) تقدم في "الإيمان" 14/ 162.

والباقون ذُكروا في الباب، وقبل باب.

وقوله: (وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ إِذَا قَامَ لَهُ رَجُلٌ

إلخ) هو موصول بالسند المذكور.

(1)

راجع: شرح الشيخ الهرريّ 22/ 144 - 145.

(2)

هو: محمد بن سلّام، كما في "الفتح" 3/ 182.

ص: 636

وقوله: (إِذَا قَامَ لَهُ رَجُلٌ عَنْ مَجْلِسِه، لَمْ يَجْلِسْ فِيهِ) وفي رواية البخاريّ: "وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَكْرَه أن يقوم الرجل من مجلسه، ثم يجلس مكانه"، قال في "الفتح": قوله: "يجلس" في روايتنا بفتح أوله، وضبطه أبو جعفر الغُرْناطيّ في نسخته بضم أوله، على وزن يقام، وقد ورد ذلك عن ابن عمر مرفوعًا، أخرجه أبو داود من طريق أبي الْخَصِيب - بفتح المعجمة، وكسر المهملة، آخره موحّدة، بوزن عَظِيم - واسمه زياد بن عبد الرحمن، عن ابن عمر:"جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام له رجل من مجلسه، فذهب ليجلس، فنهاه رسول الله صلى الله عليه وسلم"

(1)

، وله أيضًا من طريق سعيد بن أبي الحسن:"جاءنا أبو بكرة، فقام له رجل من مجلسه، فأبى أن يجلس فيه، وقال: إن النبيّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عن ذا"

(2)

، وأخرجه الحاكم، وصححه من هذا الوجه، لكن لفظه مثل لفظ ابن عمر الذي في "الصحيح"، فكأن أبا بكرة حَمَل النهي على المعنى الأعم.

وقد قال البزار: إنه لا يُعرف له طريق إلا هذه، وفي سنده أبو عبد الله مولى أبي بردة بن أبي موسى، وقيل: مولى قريش، وهو بصريّ لا يُعْرَف. انتهى.

وقال الشوكانيّ رحمه الله: ظاهر حديث جابر، وحديث ابن عمر رضي الله عنهم أنه يجوز للرجل أن يَقْعُد في مكان غيره إذا أقعده برضاه، ولعل امتناع ابن عمر رضي الله عنهما عن الجلوس في مجلس من قام له برضاه كان تورّعًا منه؛ لأنه ربما استحيا منه إنسان، فقام له بدون طيبة من نفسه، ولكن الظاهر أن مَن فعل ذلك قد أسقط حقّ نفسه، وتجويز عدم طيبة نفسه بذلك خلاف الظاهر، ويكره الإيثار بمحل الفضيلة؛ كالقيام من الصفّ الأول إلى الثاني؛ لأن الإيثار، وسلوك طرائق الآداب لا يليق أن يكون في العبادات، والفضائل، بل المعهود أنه في حظوظ النفس، وأمور الدنيا، فمن آثر بحظه في أمر من أمور الآخرة، فهو من الزاهدين في الثواب. انتهى

(3)

.

(1)

في سنده أبو الخصيب لم يرو عنه إلا عَقيل بن طلحة، ففي تحسين الشيخ الألبانيّ له نظر، والله تعالى أعلم.

(2)

ضعيف، في سنده مجهول، كما قال البزّار.

(3)

"نيل الأوطار" 3/ 307.

ص: 637

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5675]

(

) - (وَحَدَّثَنَاهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاق، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، بِهَذَا الإِسْنَادِ مِثْلَهُ).

رجال هذا الإسناد: ثلاثة:

وكلهم تقدّموا قريبًا.

[تنبيه]: رواية عبد الرزّاق عن معمر هذه ساقها عبد الرزّاق رحمه الله في "مصنّفه"، فقال:

(5593)

- أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الزهريّ، عن سالم، أن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يُقم أحدكم أخاه، فيجلسَ في مكانه، فكان الرجل يقوم لابن عمر من بيته، فلا يجلس في مجلسه". انتهى

(1)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5676]

(2178) - (وَحَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ شَبِيبٍ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَعْيَنَ، حَدَّثَنَا مَعْقِلٌ - وَهُوَ ابْنُ عُبَيْدِ اللهِ - عَنْ أَبِي الزُّبَيْر، عَنْ جَابِرٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا يُقِيمَنَّ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ يَوْمَ الْجُمُعَة، ثُمَّ لْيُخَالِفْ إِلَى مَقْعَدِه، فَيَقْعُدَ فِيه، وَلَكِنْ يَقُولُ: افْسَحُوا").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(سَلَمَةُ بْنُ شَبِيبٍ) الْمِسْمَعيّ النيسابوريّ، نزيل مكة، ثقةٌ، من كبار [11] مات سنة بضع و (240)(م 4) تقدم في "المقدمة" 6/ 60.

2 -

(الْحَسَنُ بْنُ أَعْيَنَ) هو: الحسن بن محمد بن أعين نُسب لجدّه، أبو عليّ الْحَرّانيّ، صدوقٌ [9](ت 210)(خ م س) تقدم في "الإيمان" 4/ 119.

3 -

(مَعْقِلُ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ) الْجَزَريّ، أبو عبد الله الْعَبْسيّ مولاهم، صدوقٌ يُخطئ [8](ت 166)(م د س) تقدم في "الإيمان" 4/ 119.

والباقيان تقدّما قبل بابين، و"أَبُو الزُّبَيْرِ" هو: محمد بن مسلم بن تَدْرُس المكيّ.

(1)

"مصنف عبد الرزاق" 3/ 268.

ص: 638

شرح الحديث:

(عَنْ جَابِرٍ) بن عبد الله رضي الله عنهما (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) أنه (قَالَ: "لَا يُقِيمَنَّ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ) المراد به أخوّة الدين، سواء كان معها قرابة أم لا، وإنما عبّر بذلك استعطافًا، واستلطافًا، فكأنه يقول: كيف يقيمه، ويُلحق ضررًا، وهو أخوه، ومن حقّ الأخ على أخيه أن يدفع عنه الضرر، لا أن يُلحقه به، والله تعالى أعلم.

وقوله: (يَوْمَ الْجُمُعَةِ) القيد به ليس معتبَرًا، كما بيّنته الروايات الأخرى، ولكن هذا الأمر يكثر يوم الجمعة بسبب ضيق المكان؛ لكثرة الناس فيه.

وقال الشوكانيّ رحمه الله: وذِكر يوم الجمعة في الحديث من باب التنصيص على بعض أفراد العامّ، لا من باب التقييد للأحاديث المطلقة، ولا من باب التخصيص للعمومات، فمن سبق إلى موضع مباح، سواء كان مسجدًا أو غيره في يوم جمعة أو غيرها، لصلاة أو لغيرها من الطاعات، فهو أحقّ به، ويحرم على غيره إقامته منه، والقعود فيه، إلا أنه استُثني من ذلك الموضع الذي قد سبق لغيره فيه حقّ، كأن يقعد رجل في موضع، ثم يقوم منه لقضاء حاجة من الحاجات، ثم يعود إليه، فإنه أحقّ به ممن قعد فيه بعد قيامه؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه الآتي، وظاهره عدم الفرق بين المسجد وغيره، ويجوز له إقامة من قعد فيه، ومثل ذلك الأماكن التي يقعد الناس فيها لتجارة، أو نحوها، فإن المعتاد للقعود في مكان يكون أحقّ به من غيره، إلا إذا طالت مفارقته له بحيث ينقطع معاملوه. انتهى كلام الشوكانيّ رحمه الله

(1)

.

وقوله: (ثُمَّ لِيُخَالِفَ) ضُبط في النُّسخ ضبطَ قلم بالجزم على أن اللام لام الأمر، والظاهر أنه غير صحيح، بل هي لام التعليل، والفعل منصوب بعدها بـ "أن" مضمرةً جوازًا؛ أي: ثمّ لأن يُخالفَ؛ أي: ليخلفه (إِلَى مَقْعَدِه، فَيَقْعُدَ فِيه، وَلَكِنْ يَقُولُ: افْسَحُوا") بوصل الهمزة أمرٌ من فَسَحَ يفسح، كفتح يفتح؛ أي: وسِّعوا المكان، وذلك بأن ينضمّ بعضكم إلى بعض حتى يسع الداخل الجلوس فيه معكم، والله تعالى أعلم.

(1)

"نيل الأوطار" 3/ 307.

ص: 639

مسألتان تتعلّقان يهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث جابر رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [11/ 5676](2178)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(3/ 268)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 295 و 342)، والله تعالى أعلم.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(12) - (بَابٌ إِذَا قَامَ الرَّجُلُ مِنْ مَجْلِسِه، ثُمَّ عَادَ، فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5677]

(2179) - (وَحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَوَانَةَ، وَقَالَ قُتَيْبَةُ أَيْضًا: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ - يَعْنِي: ابْنَ مُحَمَّدٍ - كِلَاهُمَا عَنْ سُهَيْلٍ، عَنْ أَبِيه، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ"، وَفِي حَدِيثِ أَبِي عَوَانَةَ: "مَنْ قَامَ مِنْ مَجْلِسِه، ثُمَّ رَجَعَ إِلَيْه، فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(أَبُو عَوَانَةَ) وضّاح بن عبد الله اليشكريّ البزّاز الواسطيّ، ثقةٌ ثبتٌ [7](5 أو 176)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 4.

والباقون تقدّموا قريبًا.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ"، وَفِي حَدِيثِ أَبِي عَوَانَةَ: "مَنْ قَامَ)"من" شرطيّة جوابها "فهو أحقّ"، (مِنْ مَجْلِسِهِ) متعلّق بقام، (ثُمَّ رَجَعَ إِلَيْهِ)؛ أي: إلى مجلسه، (فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ")؛ أي: بذلك المجلس، قال النوويّ رحمه الله: قال أصحابنا: هذا الحديث فيمن جلس في موضع من المسجد، أو غيره لصلاة مثلًا، ثم فارقه ليعود بأن فارقه ليتوضأ، أو يقضي شغلًا يسيرًا، ثم يعود، لم يبطل اختصاصه، بل إذا رجع فهو أحقّ به في

ص: 640

تلك الصلاة، فإن كان قد قعد فيه غيره، فله أن يُقيمه، وعلى القاعد أن يفارقه؛ لهذا الحديث، هذا هو الصحيح عند أصحابنا، وأنه يجب على من قعد فيه مفارقته إذا رجع الأول.

وقال بعض العلماء: هذا مستحبّ، ولا يجب، وهو مذهب مالك، والصواب الأول، قال أصحابنا: ولا فرق بين أن يقوم منه، ويترك فيه سجادة ونحوها، أم لا، فهذا أحقّ به في الحالين، قال أصحابنا: وإنما يكون أحق به في تلك الصلاة وحدها، دون غيرها، والله أعلم. انتهى

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "ثم رجع إليه فهو أحق به" هذا يدلّ على صحَّة القول بوجوب ما ذكرناه من اختصاص الجالس بموضعه إلى أن يقوم منه؛ لأنه إذا كان أَولى به بعد قيامه؛ فقَبْلَه أحرى وأَولى.

وذهب آخرون: إلى أن ذلك على الندب؛ لأنَّه موضع غير متملَّك لأحد، لا قبل الجلوس، ولا بعده، وهذا فيه نظر، وهو أن يقال: سلَّمنا أنه غير متملَّك له، لكنه يختص به إلى أن يفرغ غرضه منه، فصار كأنه يملك منفعته؛ إذ قد مَنَع غيره من أن يزاحمه عليه.

وحَمَله مالك على النَّدب إذا كانت رجعته قريبة، قال: وإن بَعُدَ ذلك حتى يذهب، وَيبْعُد فلا أرى ذلك، وأنه من محاسن الأخلاق، وعلى هذا فيكون هذا عامًّا في كل المجالس، وقال محمد بن مسلمة: الحديث محمول على مجلس العلم، هو أَولى به إذا قام لحاجة، فإذا قام تاركًا له، فليس هو بأولى.

وقد اختلف العلماء فيمن ترتَّب من العلماء، والقُرَّاء بموضع من المسجد للفتيا، وللتدريس، فحكي عن مالك أنه أحق به إذا عُرِف به، والذي عليه الجمهور أن هذا استحسان، وليس بواجب، ولعلَّه مراد مالك، وكذلك قالوا فيمن قعد من الباعة في موضع من أفنية الطُّرق، وأفضية البلاد غير المتملَّكة فهو أحق به ما دام جالسًا فيه، فإن قام منه، ونيَّته الرجوع إليه من غده؛ فقيل: هو أحقّ به حتى يتمَّ غرضه، حكاه الماوردي عن مالك؛ قطعًا للتنازع، وقيل:

(1)

"شرح النوويّ" 14/ 161 - 162.

ص: 641

هو وغيره سواء، والسَّابق إليه بعد ذلك أحقّ به. انتهى

(1)

.

وقال ابن قُدامة رحمه الله في "المغني": إذا جلس في مكان، ثم بدت له حاجة، أو احتاج الوضوء، فله الخروج، قال عقبة رضي الله عنه: صليت وراء النبيّ صلى الله عليه وسلم بالمدينة العصر، فسلّم، ثم قام مسرعًا، فتخطى رقاب الناس إلى حُجَر بعض نسائه، فقال:"ذكرت شيئًا من تِبْر عندنا، فكَرِهت أن يحبسني، فأمرت بقسمته"، رواه البخاريّ.

فإذا قام من مجلسه، ثم رجع إليه فهو أحقّ به؛ لقول النبيّ صلى الله عليه وسلم:"من قام من مجلسه، ثم رجع إليه، فهو أحقّ به"، وحكمه في التخطي إلى موضعه حكم من رأى بين يديه فرجة

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن بما سبق أن ما دلّ عليه ظاهر الحديث من أن من قام من مجلسه، ثم رجع إليه، فهو أحقّ به من غيره، فلا يجوز لأحد أن ينازعه فيه، والله تعالى أعلم.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [12/ 5677](2179)، و (البخاريّ) في "الأدب المفرد"(1138)، و (أبو داود) في "الأدب"(4853)، و (ابن ماجه) في "الأدب"(3717)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(19792)، و (الشافعيّ) في "مسنده"(1/ 68)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 263 و 283 و 389 و 446 و 447 و 483 و 527 و 537)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 282)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(1821)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(588)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(3/ 233)، والله تعالى أعلم.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(1)

"المفهم" 5/ 511 - 512.

(2)

"المغني" 2/ 101 - 102.

ص: 642

(13) - (بَابُ مَنْعِ الْمُخَنَّثِ مِنَ الدُّخُولِ عَلَى النِّسَاءِ الأَجَانِبِ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5678]

(2180) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا وَكيعٌ (ح) وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا جَرِيرٌ (ح) وَحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، كُلُّهُمْ عَنْ هِشَامٍ (ح) وَحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ أَيْضًا - وَاللَّفْظُ هَذَا - حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ أَبِيه، عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أُمِّ سَلَمَةَ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، أَنَّ مُخَنَّثًا كَانَ عِنْدَهَا، وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْبَيْت، فَقَالَ لأَخِي أُمِّ سَلَمَةَ: يَا عَبْدَ اللهِ بْنَ أَبِي أُمَيَّةَ، إِنْ فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمُ

(1)

الطَّائِفَ غَدًا، فَإِنِّي أَدُلُّكَ عَلَى بِنْتِ غَيْلَانَ، فَإِنَّهَا تُقْبِلُ بِأَرْبَعٍ، وَتُدْبِرُ بِثَمَانٍ، قَالَ: فَسَمِعَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:"لَا يَدْخُلْ هَؤُلَاءِ عَلَيْكُمْ").

رجال هذه الأسانيد: أحد عشر:

1 -

(زَيْنَبُ بِنْتُ أُمِّ سَلَمَةَ) هي: بنت أبي سلمة عبد الله بن عبد الأسد المخزوميّة ربيبة النبيّ صلى الله عليه وسلم، ماتت سنة (73)(ع) تقدمت في "الحيض" 2/ 689.

2 -

(أُمُّ سَلَمَةَ) هند بنت أبي أميّة حُذيفة أو سُهيل بن المغيرة بن عبد الله بن عُمَر بن مخزوم المخزوميّة أم المؤمنين، تزوجها النبيّ صلى الله عليه وسلم بعد أبي سلمة سنة ثلاث، أو أربع، وعاشت بعد ذلك ستين سنة، وماتت سنة (1 أو 62)(ع) تقدمت في "المقدمة" جـ 2 ص 473.

والباقون كلّهم تقدّموا قريبًا، و"جرير" هو: ابن عبد الحميد، و"أبو معاوية" هو: محمد بن خازم الضرير، و"ابن نمير" هو: عبد الله بن نُمير.

[تنبيه]: من لطائف هذه الأسانيد:

أنها من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وفيها رواية تابعي عن تابعيّ، وصحابيّة عن صحابيّة، والابن عن أبيه، والبنت عن أمها، وعبارة "الفتح":

(1)

وفي نسخة: "لكم".

ص: 643

وفي الإسناد لطيفة: رجل عن أبيه، وهما تابعيان، وامرأة عن أمها، وهما صحابيتان. انتهى

(1)

.

شرح الحديث:

(عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أُمِّ سَلَمَةَ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ) رضي الله عنهما، وفي رواية البخاريّ:"من طريق زهير بن معاوية، عن هشام: أن عروة أخبره، أن زينب بنت أم سلمة أخبرته، أن أم سلمة أخبرتها"، هكذا قال أصحاب هشام بن عروة، وهو المحفوظ، وخالفهم حماد بن سلمة، عن هشام، فقال:"عن أبيه، عن عُمَر بن أبي سلمة"، وقال معمر:"عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة"، ورواه معمر أيضًا عن الزهريّ، عن عروة، وأرسله مالك، فلم يذكر فوق عروة أحدًا، أخرجها النسائيّ، ورواية معمر عن الزهري هي التالية لهذا الحديث عند مسلم، وهي أيضًا عند أبي داود، أفاده في "الفتح"

(2)

.

(أَنَّ مُخَنَّثًا كَانَ عِنْدَهَا) قال القرطبيّ رحمه الله: التخنُّث: هو اللِّين والتكسُّر، والمخنث: هو الذي يلين في قوله، ويتكسَّر في مشيته، ويتثنى فيها كالنساء، وقد يكون خِلْقةً، وقد يكون تصنّعًا من الفَسَقة، ومن كان ذلك فيه خلقةً؛ فالغالب من حاله أنَّه لا أَرَب له في النساء، ولذلك كان أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم يعدُّون هذا المخنث من غير أولي الإربة، فكانوا لا يحجبونه إلى أن ظهر منه ما ظهر فحجبوه. انتهى

(3)

.

وقال في "الفتح": "المخنَّث" بكسر النون، وبفتحها: من يُشبه خَلْقه النساء، في حركاته، وكلامه، وغير ذلك، فإن كان من أصل الخلقة لم يكن عليه لَوْم، وعليه أن يتكلف إزالة ذلك، وإن كان بقصد منه، وتكلّف له فهو المذموم، ويطلق عليه اسم مُخَنّث سواء فعل الفاحشة، أو لم يفعل.

قال ابن حبيب: المخنث هو المؤنَّث من الرجال، وإن لم تُعرف منه الفاحشة، مأخوذ من التكسر في المشي وغيره.

(1)

"الفتح" 9/ 450، كتاب "المغازي" رقم (4324).

(2)

"الفتح" 11/ 690، كتاب "النكاح" رقم (5235).

(3)

"المفهم" 5/ 512.

ص: 644

[تنبيه]: قال القرطبيّ رحمه الله: اختُلِف في اسم هذا المخنث، والأشهر: أن اسمه هِيت - بياء ساكنة بعد الهاء باثنتين من تحتها، وآخرها تاء باثنتين من فوقها -، وقيل: صوابه هنب - بنون وباء بواحدة آخرًا - والهنب: الرجل الأحمق، قاله ابن درستويه. وقيل: إن هذا المخنث هو ماتع - باثنتين من فوقها - مولى أبي فاختة المخزومي. قيل: وكان هو وهيت يدخلان في بيوت النبيّ صلى الله عليه وسلم، فلما وقعت هذه القصَّة غرَّبهما النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى الحمى. وقيل: إن مخنَّثًا كان بالمدينة نفاه النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى حمراء الأسد. انتهى

(1)

.

وقال في "الفتح": اسم ذلك المخنّث: هيت - بكسر الهاء، وسكون التحتانية، بعدها مثناة -، وضَبَطه بعضهم بفتح أوله، وأما ابن درستويه، فضبطه بنون، ثم موحّدة، وزعم أن الأول تصحيف، قال: والْهنْب الأحمق

(2)

.

وفي رواية البخاريّ في "المغازي" بعد إخراج الحديث ما نصّه: قال ابن عُيينة: وقال ابن جريج: الْمُخَنّث هيت. انتهى

(3)

.

وقال في "الفتح" في "اللباس" ما حاصله: ذكره ابن عيينة عن ابن جريج بغير إسناد، وذكر ابن حبيب في "الواضحة" عن حبيب كاتب مالك، قال: قلت لمالك: إن سفيان بن عيينة زاد في حديث بنت غيلان: أن المخنث هيت، وليس في كتابك هيت، فقال: صدق، هو كذلك.

وأخرج الْجُوزجانيّ في "تاريخه" من طريق الزهريّ عن عليّ بن الحسين بن عليّ قال: كان مُخَنّث يدخل على أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم، يقال له: هيت.

وأخرج أبو يعلى، وأبو عوانة، وابن حبان كلهم من طريق يونس، عن الزهريّ، عن عروة، عن عائشة: "أن هِيتًا كان يدخل

" الحديث.

وروى المستغفريّ من مرسل محمد بن المنكدر: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم نَفَى هِيتًا في كلمتين تكلم بهما، مِنْ أَمْر النساء، قال لعبد الرحمن بن أبي بكر: إذا افتتحتم الطائف غدًا، فعليك بابنة غَيلان، فذكر نحو حديث الباب، وزاد:

(1)

"المفهم" 5/ 512.

(2)

"الفتح" 9/ 450، كتاب "المغازي" رقم (4324).

(3)

"الفتح" 9/ 450، كتاب "المغازي" رقم (4324).

ص: 645

"اشتدّ غضب الله على قوم رَغِبوا عن خلق الله، وتشبَّهوا بالنساء".

وروى ابن أبي شيبة، والدورقيّ، وأبو يعلى، والبزار، من طريق عامر بن سعد بن أبي وقاص، عن أبيه، أن اسم المخنث هِيت أيضًا، لكن ذَكَر فيه قصة أخرى.

وذكر ابن إسحاق في "المغازي" أن اسم المخنث في حديث الباب ماتع، وهو بمثناة، وقيل بِنُون، فروى عن محمد بن إبراهيم التيميّ قال: كان مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في غزوة الطائف مولى لخالته فاختة بنت عمرو بن عائد، مخنث، يقال له: ماتع، يدخل على نساء النبيّ صلى الله عليه وسلم، ويكون في بيته، لا يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يفطن لشئ من أمر النساء، مما يفطن له الرجال، ولا أن له إربة في ذلك، فسمعه يقول لخالد بن الوليد: يا خالد إن افتتحتم الطائف، فلا تنفلتنّ منك بادية بنت غيلان بن سلمة، فإنها تُقبل بأربع، وتُدْبر بثمان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سمع ذلك منه:"لا أرى هذا الخبيث يفطن لِمَا أسمع"، ثم قال لنسائه:"لا تُدْخِلنّ هذا عليكنّ"، فحُجب عن بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وحَكَى أبو موسى المدينيّ في كون ماتع لقب هيت، أو بالعكس، أو أنهما اثنان خلافًا.

وجزم الواقديّ بالتعدد، فإنه قال: كان هيت مولى عبد الله بن أبي أمية، وكان ماتع مولى فاختة، وذكر أن النبيّ صلى الله عليه وسلم نفاهما معًا إلى الحمى.

وذكر الباوردي في "الصحابة" من طريق إبراهيم بن مهاجر، عن أبي بكر بن حفص، أن عائشة قالت لمخنث كان بالمدينة، يقال له: أَنَّة - بفتح الهمزة، وتشديد النون -: ألا تدلّنا على امرأة نخطبها على عبد الرحمن بن أبي بكر؟ قال: بلى، فوصف امرأة تُقبل بأربع، وتُدْبِر بثمان، فسمعه النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال:"يا أنة اخرج من المدينة إلى حمراء الأسد، وليكن بها منزلك".

والراجح أن اسم المذكور في حديث الباب هِيت، ولا يمتنع أن يتواردوا في الوصف المذكور.

وقوله: (وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْبَيْتِ)؛ أي: في بيت أم سلمة رضي الله عنها، والجملة في محلّ نصب على الحال. (فَقَالَ) ذلك المخنّث (لأَخِي أُمِّ سَلَمَةَ) ووقع في مرسل ابن المنكدر أنه قال ذلك لعبد الرحمن بن أبي بكر، فيُحْمَل

ص: 646

على تعدد القول منه لكل منهما، لأخي عائشة، ولأخي أم سلمة، والعجب أنه لم يُقَدَّر أن المرأة الموصوفة حصلت لواحد منهما؛ لأن الطائف لم يُفتح حينئذٍ، وقُتل عبد الله بن أبي أمية في حال الْحِصار، ولمّا أسلم غَيلان بن سلمة، وأسلمت بنته بادية تزوجها عبد الرحمن بن عوف، فقُدِّر أنها استُحِيضت عنده، وسألت النبيّ صلى الله عليه وسلم عن المستحاضة، وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك في "كتاب الطهارة"، وتزوج عبد الرحمن بن أبي بكر ليلى بنت الْجُوديّ، وقصته معها مشهورة، وقد وقع في حديث سعد بن أبي وقاص أنه خطب امرأة بمكة، فقال: من يخبرني عنها؟ فقال مخنث، يقال له: هيت: أنا أصفها لك، فهذه قِصَصٌ وقعت لهيت

(1)

.

(يَا عَبْدَ اللهِ بْنَ أَبِي أُمَيَّةَ) هو أخو أم سلمة راوية الحديث، وكان إسلامه مع أبي سفيان بن الحارث، واستُشهد عبد الله هذا بالطائف، أصابه سهم، فقتله، قاله في "الفتح"

(2)

.

وقال في "الإصابة": عبد الله بن أبي أمية، واسمه حذيفة، وقيل: سهيل بن المغيرة بن عبد الله بن عُمر بن مخزوم المخزوميّ، صِهْر النبيّ صلى الله عليه وسلم، وابن عمته عاتكة، وأخو أم سلمة، قال البخاريّ: له صحبةٌ، وله ذِكر في "الصحيحين"، قال مصعب الزبيريّ: كان عبد الله بن أبي أمية شديدًا على المسلمين، وهو الذي قال للنبيّ صلى الله عليه وسلم:{لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا} [الإسراء: 90]، وكان شديد العداوة له، ثم هداه الله إلى الإسلام، وهاجر قبل الفتح، فلقي النبيّ صلى الله عليه وسلم بطرف

(3)

مكة هو وأبو سفيان بن الحارث، وبنحو ذلك ذكر ابن إسحاق، قال: فالتمسا الدخول عليه، فمنَعَهما، فكلمته أم سلمة، فقالت: يا رسول الله ابن عمك؛ تعني: أبا سفيان، وابن عمتك؛ تعني: عبد الله، فقال:"لا حاجة لي فيهما، أما ابن عمي فَهَتَك عرضي، وأما ابن عمتي، فقال لي بمكة ما قال"، ثم أَذِن لهما، فدخلا، وأسلما، وشهدا الفتح، وحنينًا، والطائف.

(1)

"الفتح" 11/ 692، كتاب "النكاح" رقم (5235).

(2)

"الفتح" 9/ 450، كتاب "المغازي" رقم (4324).

(3)

هكذا النسخة، ولعله "بطريق مكة"، فليُحرّر.

ص: 647

وقال الزبير بن بكار: كان أبو أمية بن المغيرة يُدْعَى زاد الركب، وكان ابنه عبد الله شديد الخلاف على المسلمين، ثم خرج مهاجرًا، فلقي النبيّ صلى الله عليه وسلم بين السُّقيا والعَرْج هو وأبو سفيان بن الحارث، فأعرض عنهما، فقالت أم سلمة: لا تجعل ابن عمك، وابن عمتك أشقى الناس بك، وقال عليّ لأبي سفيان: ائت رسول الله صلى الله عليه وسلم من قِبَل وجهه، فقل له ما قال إخوة يوسف ليوسف، ففعل، فقال:"لا تثريب عليكم اليوم"، وقَبِل منهما، وأسلما، وشهد عبد الله الفتح، وحنينًا، واستُشهد بالطائف. انتهى ما في "الإصابة" باختصار

(1)

.

(إِنْ فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمُ) وفي بعض النُّسخِ: "لكم"، وفي رواية للبخاريّ:"أرأيت إن فتح الله عليكم الطائف". (الطَّائِف) هو بلد كبيرٌ، مشهورٌ، كثير الأعناب، والنخيل، على ثلاث مراحل، أو اثنتين من مكة، من جهة المشرق، قيل: أصلها أن جبريل عليه السلام اقتلع الجنة التي كانت لأصحاب الصريم، فسار بها إلى مكة، فطاف بها حول البيت

(2)

، ثم أنزلها حيث الطائف، فسُمّي الموضع بها، وكانت أولًا بنواحي صنعاء، واسم الأرض: وَجّ، بتشديد الجيم، سُميت برَجُل، وهو ابن عبد الجنّ من العمالقة، وهو أول من نزل بها، وسار النبيّ صلى الله عليه وسلم إليها بعد منصرفه من حُنين، وحبس الغنائم بالجعرانة، وكان مالك بن عوف النَّصْريّ قائد هوازن، لمّا انهزم دخل الطائف، وكان له حصنُ بَلِيَةَ، وهي بكسر اللام، وتخفيف التحتانية، على أميال من الطائف، فمرّ به النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو سائر إلى الطائف، فأمر بهدمه.

وكانت غزوة الطائف في شوال سنة ثمان، ذكره موسى بن عقبة، في "مغازيه"، وهو قول جمهور أهل المغازي، وقيل: بل وصل إليها في أول ذي القعدة. انتهى

(3)

.

وقوله: (غَدًا) متعلّق بـ "فتح"، (فَإِنِّي أَدُلُّكَ عَلَى بِنْتِ غَيْلَانَ) وفي رواية

(1)

"الإصابة في تمييز الصحابة" 4/ 11 - 13.

(2)

هذا يحتاج إلى نقل صحيح، ولعله من الإسرائيليات، والله تعالى أعلم.

(3)

"الفتح" 9/ 449 - 450، كتاب "المغازي" رقم (4324).

ص: 648

للبخاريّ: "فعليك بابنة غيلان"، وهو إغراء، معناه: احرص على تحصيلها، ولزومها.

وفي رواية حماد بن سلمة: "لو قد فُتحت لكم الطائف، لقد أريتك بادية بنت غيلان".

واختُلِف في ضبط "بادية" فالأكثر بموحدة، ثم تحتانية، وقيل: بنون بدل التحتانية، حكاه أبو نعيم، ولبادية ذِكر في المغازي، ذكر ابن إسحاق أن خولة بنت حكيم قالت للنبيّ صلى الله عليه وسلم: "إن فتح الله عليك الطائف أعطني حُليّ بادية بنت غيلان، وكانت من أحلى نساء ثقيف، وغيلان هو ابن سلمة بن مُعَتِّب - بمهملة، ثم مثناة ثقيلة، ثم موحدة - ابن مالك الثقفيّ، وهو الذي أسلم، وتحته عشر نسوة، فأمره النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يختار أربعًا، وكان من رؤساء ثقيف، وعاش إلى أواخر خلافة عمر رضي الله عنهما.

(فَإِنَّهَا تُقْبِلُ بِأَرْبَعٍ، وَتُدْبِرُ بِثَمَانٍ) قال ابن حبيب عن مالك: معناه: أن أعكانها ينعطف بعضها على بعض، وهي في بطنها أربع طرائق، وتبلغ أطرافها إلى خاصرتها في كل جانب أربع، ولإرادة الْعُكَن

(1)

ذَكَّر الأربع، والثمان، فلو أراد الأطراف لقال بثمانية.

ووقع في روايات البخاريّ بعد إخراج الحديث ما نصّه: قال أبو عبد الله

(2)

: "تقبل بأربع"؛ يعني: بأربع عُكَن ببطنها، فهي تقبل بهنّ، وقوله:"وتدبر بثمان"؛ يعني: أطراف هذه العُكَن الأربع؛ لأنها محيطة بالجنب حين يتجعد، ثم قال: وإنما قال بثمان، ولم يقل: بثمانية، وواحد الأطراف مذكّر؛ لأنه لم يقل: ثمانية أطراف. انتهى.

قال الحافظ: وحاصله أن لقوله: ثمان بدون الهاء توجيهين: إما لكونه لم يُصَرِّح بلفظ الأطراف، وإما لأنه أراد العُكَن.

وقال النوويّ رحمه الله: وإنما ذَكَّر، فقال:"بثمان"، وكان أصله أن يقول:

(1)

قال في "المصباح": الْعُكْنة: الطيّ في البطن من السِّمَن، والجمع: عُكَن، مثلُ غُرْفة وغُرَف، وربما قيل: أعكان. انتهى.

(2)

هو: البخاريّ.

ص: 649

بثمانية، فإن المراد الأطراف، وهي مذكَّرة؛ لأنه لم يَذْكُر لفظ المذكَّر، ومتى لم يذكره جاز حذف الهاء؛ كقوله صلى الله عليه وسلم:"من صام رمضان، وأتبعه بست من شوال"، سبقت المسألة هناك واضحة. انتهى

(1)

.

وقال الحافظ: وتفسير مالك المذكور تبعه فيه الجمهور، قال الخطابيّ: يريد أن لها في بطنها أربع عُكَن، فإذا أقبلت رؤيت مواضعها بارزةً، متكسرًا بعضها على بعض، وإذا أدبرت كانت أطراف هذه العُكَن الأربع عند منقطع جنبيها ثمانيةً.

وحاصله أنه وصفها بأنها مملوءة البدن، بحيث يكون لبطنها عُكَن، وذلك لا يكون إلا للسمينة من النساء، وجرت عادة الرجال غالبًا في الرغبة فيمن تكون بتلك الصفة.

وعلى هذا فقوله في حديث سعد: "إن أقبلت قلت: تمشي بست، وإن أدبرت قلت: تمشي بأربع"؛ كأنه يعني: يديها، ورجليها، وطرفي ذاك منها مقبلةً، وَرِدْفَيْهَا مدبرةً، وإنما نقص إذا أدبرت؛ لأن الثديين يحتجبان حينئذٍ

(2)

.

وذكر ابن الكلبيّ في الصفة المذكورة زيادة بعد قوله: "وتدبر بثمان": "بثغر كالأُقْحُوان، إن قعدت تثنّت، وإن تكلمت تغنّت، وبين رجليها مثل الإناء المكفوء"، مع شِعْر آخر.

وزاد المدينيّ من طريق يزيد بن رُومان، عن عروة مرسلًا في هذه القصة:"أسفلها كثيب، وأعلاها عَسِيب"

(3)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "فإنَّها تُقْبل بأربع، وتُدْبر بثمان" قال أبو عبيد: يعني به: العُكَن، وهي أربع تقبل بهنّ، ولها أطراف أربعة من كل جانب فتصير ثمانية.

(1)

"شرح النوويّ" 14/ 163.

(2)

وقال في "لسان العرب" 2/ 41: وفي الحديث أن سعدًا خطب امرأة بمكة، فقيل له:"إنها تمشي على ست، إذا أقبلت، وعلى أربع إذا أدبرت"؛ يعني: بالست يديها، وثدييها، ورجليها؛ أي: إنها لعظم ثدييها، ويديها؛ كأنها تمشي مكبة، والأربع رجلاها، وأليتاها، وإنهما كادتا تمسان الأرض لعظمهما. انتهى.

(3)

"الفتح" 11/ 693، كتاب "النكاح" رقم (5235).

ص: 650

قال القرطبيّ: وإنَّما أنّث فقال: "بثمان"؛ وهو يريد الأطراف، وواحدها طرف، مذكّر؛ لأنَّ هذا على حدِّ قولهم: هذا الثوب سبع في ثمان، والثمان يراد بها الأشبار، ووجه ذلك أنه يعني به: العُكَن، وهي جمع عُكْنة، وهي الطيّ الذي يكون في جانبي البطن من السِّمن، ويجمع على عُكَن، وأعكان، وتعكَّن البطن: إذا صار ذلك فيه.

يريد المخنَّث: أنَّ هذه المرأة إذا أقبلت كان لها من كل جانب من جوانب بطنها عُكْنتان، وإذا أدبرت كان لها من خلفها ثمان، وأنّث العدد لتأنيث المعدود، وهو: العُكَن: جَمْع عكنة.

وقد روى هذا الحديث الواقديّ، والكلبيّ، وقالا: إن هيتًا المخنَّث، وكان مولى لعبد الله بن أبي أمية المخزوميّ، أخي أم سلمة لأبيها، وأم عبد الله عاتكةُ عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له في بيت أم سلمة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يسمع: إن افتتحتم الطائف فعليك ببادية ابنة غيلان بن سلمة الثقفيّ؛ فإنها تُقبل بأربع وتُدبر بثمان، مع ثغرٍ كالأقْحُوان، إن جلست تثنَّت، وإن تكلَّمت تغنَّت، بين رجليها كالإناء المكفوء، وهي كما قال قيس بن الخطيم:

تَغْتَرِقُ الطَّرْفَ وهِيَ لاهِيَةٌ

كأنَّما شَفَّ وَجْهَها نَزَفُ

بَيْنَ شُكُولِ النساء خِلْقَتُها

قَصْدًا فَلَا عَبْلَةٌ وَلَا نَصَفُ

(1)

تَنَامُ عن كِبْرِ شأنِها فإذا

قامت رُويدًا تكاد تنقصف

(2)

فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم: "لقد غلغلت النظر إليها يا عدوَّ الله"، ثم أجلاه عن المدينة إلى الْحِمَى، قال: فلما فُتحت الطائف تزوجها عبد الرحمن بن عوف، فولدت له في قول الكلبيّ، قال: ولم يزل هيت بذلك المكان حتى قُبض النبيّ صلى الله عليه وسلم، فلما وُلِّي أبو بكر رضي الله عنه كُلِّم فيه، فأبى أن يردَّه، فلما وُلِّي عمر رضي الله عنه كُلِّم فيه، فأبى أن يردَّه، ثم كُلِّم فيه بعدُ، وقيل: إنه قد كَبِر وضعُفَ، وضاع، فَأَذن له يدخل كل جمعة، فيسأل، ويرجع إلى مكانه، قال أبو عمر: يقال: بادية - بالياء - وبادنة - بالنون - والصواب بالياء، وهو قول أكثرهم.

(1)

وفي "اللسان" في مادّة "قضف": "قَصْدٌ فلا جَبْلة ولا قصف".

(2)

وفي "اللسان": في مادة "كبر": "تنغرف" بدل "تنقصف".

ص: 651

وقوله: "تغنّت" هو من الغنة، لا من الغناء؛ أي: أنها تتغنَّن في كلامها لِلِيْنها، ورخامة صوتها، يقال: تغنَّن الرجل، وتغنى، مثل: تضنَّن، وتضنَّى. انتهى

(1)

.

(قَالَ: فَسَمِعَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: "لَا يَدْخُلْ هَؤُلَاءِ عَلَيْكُمْ") وفي رواية البخاريّ: "لا يدخلنّ هذا عليكم"، وفي رواية الكشميهنيّ:"عليكن"، قال ابن عبد البرّ: إنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يدخلن عليكم هذا"، ولم يقل:"عليكنّ؛ لأنه خاطب الرجال أن لا يدخل بيوتهم على نسائهم، فحجبوه، قال: فهكذا رواية مالك وغيره: "عليكم"، وقد رُوي: "لا يدخلن هذا عليكنّ" مخاطبةً منه لنسائه، والله أعلم. انتهى

(2)

.

وزاد في آخر رواية الزهريّ عن عروة عن عائشة التالية: "فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: ألا أرى هذا يَعْرِف ما ها هنا، لا يدخلنّ عليكنّ، قالت: فحجبوه"، وزاد أبو يعلى في روايته، من طريق يونس، عن الزهريّ، في آخره:"وأخرجه، فكان بالبيداء يدخل كل يوم جمعة، يستطعم"، وزاد ابن الكلبيّ في حديثه:"فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: لقد غلغلت النظر إليها يا عدو الله، ثم أجلاه عن المدينة إلى الْحِمَى"، ووقع في حديث سعد بن أبي وقّاص:"أنه خطب امرأة بمكة، فقال هيت: أنا أنعتها لك، إذا أقبلت قلت: تمشي بستّ، وإذا أدبرت قلت: تمشي بأربع، وكان يدخل على سودة، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: ما أراه إلا منكرًا، فمنعه، ولمّا قَدِم المدينة نفاه".

وفي رواية يزيد بن رُومان المذكورة، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"ما لك قاتلك الله؟ إن كنتُ لأحسبك من غير أولي الإربة من الرجال"، وسيّره إلى خاخ - بمعجمتين -.

قال المهلَّب: إنما حجبه عن الدخول إلى النساء لَمّا سمعه يصف المرأة بهذه الصفة التي تُهَيِّج قلوب الرجال فمنعه، لئلا يَصِف الأزواج للناس، فيسقط معنى الحجاب. انتهى.

وفي سياق الحديث ما يُشعر بأنه حجبه لذاته أيضًا، لقوله: "ألا أرى هذا

(1)

"المفهم" 5/ 513 - 515.

(2)

"الاستذكار" 7/ 286.

ص: 652

يَعْرِف ما ها هنا"، ولقوله: "وكانوا يَعُدّونه من غير أولي الإربة"، فلما ذكر الوصف المذكور دلّ على أنه من أولي الإربة، فنفاه لذلك، قاله في "الفتح"

(1)

.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أم سلمة رضي الله عنها هذا متّفق عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [13/ 5678](2180)، و (البخاريّ) في "المغازي"(4324) و"اللباس"(5235 و 5882)، و (أبو داود، في "الأدب" (4929)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(5/ 395 و 396)، و (ابن ماجه) في "النكاح"(1909) و"الحدود"(2643)، و (مالك) في "الموطّأ"(2/ 767)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(5/ 319)، و (الحميديّ) في "مسنده"(1/ 142)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 290 و 318)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(12/ 394)، و (ابن راهويه) في "مسنده"(4/ 63)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(9/ 26 و 23/ 342 و 382)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(8/ 223 و 224) و"شعب الإيمان"(7/ 413)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان إباحة دخول المخنثين من الرجال على النساء، وإن لم يكونوا منهنّ بمحرم، قال أبو عمر رحمه الله: والمخنث الذي لا بأس بدخوله على النساء هو المعروف عندنا اليوم بالمؤنَّث، وهو الذي لا أَرَب له في النساء، ولا يهتدي إلى شيء من أمورهنّ فهذا هو المؤنث المخنث الذي لا بأس بدخوله على النساء، فأما إذا فهم معاني النساء والرجال، كما فَهِم هذا المخنث، وهو المذكور في هذا الحديث، لم يَجُز للنساء أن يدخل عليهنّ، ولا جاز له الدخول عليهن بوجه من الوجوه؛ لأنه حينئذ ليس من الذين قال الله فيهم:{غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ} [النور: 31]، وليس المخنث الذي تُعرف فيه

(1)

"الفتح" 11/ 694، كتاب "النكاح" رقم (5235).

ص: 653

الفاحشة خاصّة، وتُنسب إليه، وإنما المخنث شدة التأنيث في الخلقة، حتى يشبه المرأة في اللين، والكلام، والنظر، والنغمة، وفي العقل، والفعل، وسواء كانت فيه عاهة الفاحشة، أم لم تكن، وأصل التخنث: التكسر، واللين، فإذا كان كما وصفنا لك، ولم يكن له في النساء أرب، وكان ضعيف العقل، لا يفطن لأمور الناس، أَبْلَه، فحينئذ يكون من غير أولي الإربة الدين أبيح لهم الدخول على النساء، ألا ترى أن ذلك المخنث لمّا فَهِم من أمور النساء قصة بنت غيلان، نَهَى رسول الله صلى الله عليه وسلم حينئذٍ عن دخوله على النساء، ونفاه إلى الحمى فيما رُوي. انتهى كلام أبي عمر رحمه الله

(1)

.

وقال النوويّ حمه الله: وأما دخول هذا المخنث أوّلا على أمهات المؤمنين، فقد بُيِّن سببه في هذا الحديث بأنهم كانوا يعتقدونه من غير أولي الإربة، وأنه مباح دخوله عليهنّ، فلمّا سُمع منه هذا الكلام عُلم أنه من أولي الإربة، فمَنَعه صلى الله عليه وسلم الدخول، ففيه مَنْع المخنث من الدخول على النساء، ومنعهنّ من الظهور عليه، وبيان أن له حكم الرجال الفحول الراغبين في النساء في هذا المعنى، وكذا حكم الخصيّ، والمجبوب ذَكَرُه، والله أعلم. انتهى

(2)

.

2 -

(ومنها): بيان جواز العقوبة بالنفي عن الوطن لمن يُخاف منه الفساد، والفسق.

3 -

(ومنها): بيان تحريم ذِكر محاسن المرأة المعيَّنة؛ لأنَّ ذلك إِطْلاع الأسماع على عورتها، وتحريك النفوس إلى ما لا يحل منها، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم:"لا تصف المرأة المرأة لزوجها حتى كأنه ينظر إليها"، فأما ذكر محاسن من لا يُعرف من النساء، فمباحٌ إن لم يدع إلى مفسدةٍ؛ من تهييج النفوس إلى الوقوع في الحرام، أو في المكروه، قاله القرطبيّ رحمه الله

(3)

.

وقال النوويّ رحمه الله: قال العلماء: وإخراج هذا المخنّث، ونفيه كان لثلاثة معان:

(1)

"التمهيد لابن عبد البر" 22/ 272 - 273.

(2)

"شرح النووي" 14/ 163.

(3)

"المفهم" 5/ 515.

ص: 654

أحدها: المعنى المذكور في الحديث أنه كان يُظَنّ أنه من غير أولي الإربة، وكان منهم، ويتكتم بذلك.

والثاني: وصفُه النساء، ومحاسنهن، وعوراتهنّ بحضرة الرجال، وقد نُهِي أن تصف المرأة المرأة لزوجها، فكيف إذا وصفها الرجل للرجال.

والثالث: أنه ظهر له منه أنه كان يَطَّلع من النساء، وأجسامهنّ، وعوراتهنّ على ما لا يَطّلع عليه كثير من النساء، فكيف الرجال، لا سيما على ما جاء في غير مسلم أنه وصفها حتى وصف ما بين رجليها؛ أي: فرجها، وحَوَاليه، والله أعلم. انتهى

(1)

.

4 -

(ومنها): بيان حجب النساء عمن يَفْطَن لمحاسنهنّ.

5 -

(ومنها): أن هذا الحديث أصل في إبعاد من يُستراب به في أمر من الأمور.

6 -

(ومنها): ما قال المهلَّب: وفيه حجة لمن أجاز بيع العين الموصوفة بدون الرؤية؛ لقيام الصفة مقام الرؤية في هذا الحديث.

وتعقبه ابن الْمُنَيِّر بأن من اقتصر في بيع جارية على ما وقع في الحديث من الصفة لم يكف في صحة البيع اتفاقًا، فلا دلالة فيه.

قال الحافظ: إنما أراد المهلَّب أنه يستفاد منه أن الوصف يقوم مقام الرؤية، فإذا استوعب الوصف حتى قام مقام الرؤية المعتبرة أجزأ، هذا مراده، وانتزاعه من الحديث ظاهرٌ. انتهى.

7 -

(ومنها): أنه يدلّ على تعزير من يتشبه بالنساء بالإخراج من البيوت، والنفي إذا تعيّن ذلك طريقًا لردعه، وظاهر الأمر وجوب ذلك، وتشبّه النساء بالرجال، والرجال بالنساء من قاصدٍ مختارٍ حرامٌ اتفاقًا، وقد لُعِن من فعل ذلك، فقد أخرج البخاريّ عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:"لَعَن النبيّ صلى الله عليه وسلم المخنثين من الرجال، والمترجلات من النساء، وقال: أخرجوهم من بيوتكم".

وأخرج أبو داود من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أُتِي بمخنث قد خَضَب يديه ورجليه، فقيل: يا رسول الله إن هذا يتشبه بالنساء، فنفاه إلى

(1)

"شرح النوويّ" 14/ 163 - 164.

ص: 655

النقيع، فقيل: ألا تقتله؟ فقال: "إني نُهيت عن قتل المصلين"

(1)

، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5679]

(2181) - (وَحَدَّثَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاق، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزهْرِيّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: كَانَ يَدخُلُ عَلَى أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مُخَنَّثٌ، فَكَانُوا يَعُدُّونَهُ مِنْ غيرِ أُولي الإرْبَة، قَالَ: فَدَخَلَ النَّبي صلى الله عليه وسلم يَوْمًا، وَهُوَ عِنْدَ بَعْضِ نِسَائِه، وَهُوَ يَنْعَتُ امْرَأةً، قَالَ: إِذَا أقبَلَتْ أقبَلَتْ بِأَرْبَع، وإِذَا أَدْبَرَتْ أَدْبَرَتْ بِثَمَانٍ، فَقَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم: "ألا أَرَى هَذَا يَعْرِفُ مَا هَا هُنَا، لا يَدْخُلَنَّ عَلَيْكُنَّ"، قَالَتْ: فَحَجَبُوهُ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

وكلّهم تقدّموا قريبًا.

شرح الحديث:

(عَنْ عَائِشَةَ) أمّ المؤمنين رضي الله عنها أنها (قَالَتْ: كَانَ يدخلُ عَلَى أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مُخَنَّثٌ) تقدّم الخلاف في اسمه، والمشهور أنه هِيت. (فَكَانُوا يَعُدُّونَهُ)؛ أي: الصحابة، أو أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم، (مِنْ غيرِ أُولي الإرْبَةِ)؛ أي من غير ذوي الحاجة إلى النساء، قال أبو عمر رحمه الله: اختَلَف العلماء في معنى قوله: {أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ} [النور: 31] اختلافًا متقارب المعنى لمن تدبّر، ذَكَر ابن أبي شيبة قال: حدّثنا سهل بن يوسف، عن عمرو، عن الحسن:{أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ} قال: هم قوم طُبِعوا على التخنيث، فكان الرجل منهم يتبع الرجل يخدُمه ليطعمه، وينفق عليه، لا يستطيعون غشيان النساء، ولا يشتهونه، قال: وحدّثنا ابن إدريس، عن ليث، عن مجاهد في قوله:{غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ} قال: هو الأبله الذي لا يَعرف أمر النساء، قال: وأخبرنا جرير، عن مغيرة، عن الشعبيّ قال: هو الذي لم يبلغ أربه أن يَطَّلع على عورات النساء، وذَكَر محمد بن ثور،

(1)

راجع: "الفتح" 11/ 690، كتاب "النكاح" رقم (5235).

ص: 656

وعبد الرزاق جميعًا عن معمر، عن قتادة؛ {أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ} قال: هو التابع الذي يتبعك، فيصيب من طعامك، غير أولي الإربة، يقول: لا أرب له، ليس له في النساء حاجة، وعن علقمة قال: هو الأحمق الذي لا يريد النساء، ولا يُرِدْنه، وعن طاوس، وعكرمة مثله، وعن سعيد بن جبير: هو الأحمق الضعيف العقل، وعن عكرمة أيضًا هو العِنِّين، ووكيع عن سفيان، عن ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد قال: هو الذي يريد الطعام، ولا يريد النساء، ليس له هَمّ إلا بطنه، وعن الشعبي أيضًا، وعطاء مثله، وعن الضحاك: هو الأبله، وقال الزهريّ: هو الأحمق الذي لا هِمّة له في النساء، ولا أرب، وقيل: كلُّ من لا حاجة له في النساء، من الأتباع، نحو الشيخ، والْهَرِم، والمجبوب، والطفل، والمعتوه، والعَنِّين.

قال أبو عمر: هذه أقاويل متقاربة المعنى، وتجتمع في أنه لا فهم له، ولا همة ينتبه بها إلى أمر النساء، وبهذه الصفة كان ذلك المخنث عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما سَمِع منه ما سَمِع من وَصْف محاسن النساء أمر بالاحتجاب منه، وقال:"لا يدخلنّ هذا عليكم"، فحجبوه. انتهى كلام أبي عمر رحمه الله

(1)

.

(قَالَ) هكذا النسخ، والظاهر أنه "قالت"؛ لأنه لعائشة رضي الله عنها، ويمكن أن يؤوّل بـ "قال الراوي"، وهي عائشة رضي الله عنها. (فَدَخَلَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم البيت (يَوْمًا) وقوله:(وَهُوَ عِنْدَ بَعْضِ نِسَائِهِ) جملة حاليّة، أي: والحال أن ذلك المخنّث جالس عند بعض نساء النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهي أم سلمة ركانها، رضي الله عنها تقدّم، وقوله:(وَهُوَ يَنْعَتُ امْرَأةً) جملة حاليّة أيضًا، فيكون الأحوال المتداخلة، أو المترادفة؛ أي: والحال أنه يصف امرأة، وهي بادية بنت غيلان، كما تقدّم. (قَالَ) المخنّث في وصفها:(إِذَا أَقْبَلَتْ أَقْبَلَتْ بِأَرْبَع)؛ أي: أربع عُكَن، جمع عُكنة، وهي الطيّ في البطن من السمن، (وَإِذَا أدبرَتْ أَدْبَرَتْ بِثَمَانٍ)؛ أي: ثمان عُكَن، قال النوويّ حمه الله: معناه: بأربع عُكَن، وثمان عُكَن؛ أي: إن لها أربع عُكَن تُقْبل بهن من كل ناحية اثنتان، ولكل واحدة طرفان، فإذا أدبرت صارت الأطراف

(1)

"التمهيد لابن عبد البرّ" 22/ 274.

ص: 657

ثمانية. انتهى

(1)

. (فَقَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم: "ألَا) أداة استفتاح، وتنبيه، (أَرَى)؛ أي: أظنّ (هَذَا) المخنّثَ (يَعْرِفُ) بالبناء للفاعل، (مَا هَا هُنَا)؛ أي: الذي استقرّ ها هنا من عورات النساء، ومحاسنهنّ، فلذلك وصف هذه المرأة للرجل بهذا الوصف الدقيق. (لَا) ناهية، والفعل بعدها مجزوم المحلّ بها، مبنيّ اللفظ؛ لاتّصاله بنون التوكيد، (يَدْخُلَنَّ عَلَيْكُن") بضمير جماعة النساء، فالخطاب لهنّ، وتقدّم بلفظ:"عليكم" بخطاب المذكور، ولا تنافي؛ لأنه إذا نُهي أحد الجنسين دخل الآخر فيه. (قَالَتْ) عائشة رضي الله عنها (فحَجَبُوهُ)؛ أي: حجبه الصحابة رضي الله عنهم عن أن يدخل على النساء، وزاد يونس في روايته عن الزهريّ عند أبي داود:"وأخرجه، فكان بالبيداء، يدخل كلّ جمعة، يستطعم".

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم: "ألا أرى هذا يَعْرِف ما ها هنا" يدلّ على أنهم كانوا يظنون أنه لا يعرف شيئًا من أحوال النساء، ولا يخطرن له بالبال، وسببه أن التخنيث كان فيه خِلْقةً، وطبعًا، ولم يكن يُعرف منه إلا ذلك، ولذلك كانوا يعدُّونه من غير أولي الإربة؛ أي: ممن لا حاجة له في النساء، وقد قدَّمنا: أن الأَرَبَ، والإربة: الحاجة، فلما سَمِع النبيّ صلى الله عليه وسلم وَصْفه لتلك المرأة عَلِم أن عنده تشوُّفًا للنساء؛ فحُجب لذلك، ثم بولغ في تنكيله، وعقوبته، ونفيه لِمَا اطَّلَع عليه من محاسن تلك المرأة، وكَشَفَ من سترها، ولم تكن عقوبته لنفس التخنُّث؛ فإنَّ ذلك كان فيه خِلْقة، ولم يكن مكتسبًا له، ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها.

وأمَّا من تخانث، وتشبَّه بالنساء، فقد أتى كبيرة من أفحش الكبائر؛ لعنه الله عليها ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولا يُقَرُّ عليها، بل يؤدَّب بالضرب الوجيع، والسجن الطويل، والنفي حتى يَنْزع عن ذلك، ويكفي دليلًا على ذلك ما خرَّجه البخاريّ عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:"لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال، وقال: أخرجوهم من بيوتكم، وأخرج فلانًا، وفلانًا"؛ غير أنه لا يُقتل لِمَا رواه أبو هريرة رضي الله عنه: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أُتي برجل قد خَضَب يديه ورجليه بالحنّاء، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"ما بال هذا؟! "،

(1)

"شرح النوويّ" 14/ 163.

ص: 658

فقيل: يا رسول الله يتشبَّه بالنساء، فأمر به، فنُفي إلى النقيع، فقيل: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا نقتله؟ قال: "إني نهيت عن قتل المصلين"

(1)

.

قال أبو أسامة: والنقيع - بالنون - ناحية عن المدينة، وليس بالبقيع. انتهى

(2)

.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [13/ 5679](2181)، و (أبو داود) في "اللباس"(4107 و 4110)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(5/ 495)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 152)، والله تعالى أعلم.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(14) - (بَابُ جَوَازِ إِرْدَافِ الْمَرْأَةِ الأَجْنَبِيَّةِ إِذَا أَعْيَتْ في الطَّرِيقِ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5680]

(2182) - (حَدثنا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ أَبو كُرَيْبِ الْهَمْدَانِيُ، حَدَّثنا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ هِشَام، أَخْبَرَنِي أَبِي، عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرَ، قَالَتْ: تَزَوَّجَنِي الزُّبَيْرُ، وَمَا لَهُ في الأَرْضِ مِنْ مَالٍ، وَلَا مَمْلُوكٍ، وَلَا شَيْءٍ غير فَرَسِه، قَالَتْ: فَكُنْتُ أَعْلِفُ فَرَسَهُ، وَأكفِيهِ مَئُونَتَهُ، وَأَسُوسُهُ، وَأَدُقُّ النَّوَى لِنَاضِحِه، وَأَعْلِفُهُ، وَأَسْتَقِي الْمَاءَ، وَأَخْرِزُ غَرْبَهُ، وَأَعْجِنُ، وَلَمْ أكُنْ أحْسِنُ أَخْبِزُ، وَكَانَ يَخْبِزُ لِي جَارَاتٌ مِنَ الأنصَار، وَكُنَّ نِسْوَةَ صِدْقٍ، قَالَتْ: وَكُنْتُ أَنْقُلُ النَّوَى مِنْ أَرْضِ الزُّبَيْرِ الَّتِي أقطَعَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى رَأسِي، وَهِيَ عَلَى ثُلُثَي فَرْسَخٍ، قَالَتْ: فَجِئْتُ يَوْمًا، وَالنَّوَى عَلَى رَأسِي، فَلَقِيتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَمَعَهُ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِه،

(1)

"المفهم" 5/ 515 - 516.

(2)

حديث صحيح رواه أبو داود في "سننه" رقم (4928).

ص: 659

فَدَعَانِي، ثُمَّ قَالَ:"إخْ إخْ"؛ لِيَحْمِلَني خَلْفَهُ، قَالَتْ: فَاسْتَحْيَيْتُ، وَعَرَفْتُ غَيْرَتَكَ، فَقَالَ: وَاللهِ لَحَمْلُكِ النَّوَى عَلَى رَأسِكِ أَشَدُّ مِنْ رُكُوبِكِ مَعَهُ، قَالَتْ: حَتَّى أَرْسَلَ إِلَيَّ أَبُو بَكْرٍ بَعْدَ ذَلِكَ بِخَادِمٍ، فَكَفَتْني سِيَاسَةَ الْفَرَس، فَكَأنَّمَا أَعْتَقَتْني)

(1)

.

رجال هذا الإسناد: خمسة:

وكلهم تقدّموا في الباب الماضي، وقبله بباب.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأن شيخه أحد التسعة الذين روى عنهم الجماعة بلا واسطة، وقد تقدّموا غير مرّة، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، والابن عن أبيه، عن أمه.

شرح الحديث:

(عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ) الصدّيق رضي الله عنها أنها (قَالَتْ: تَزَوَّجَنِي)؛ أي: بمكة، كما تقدّم ذلك في حديثها في "الآداب"[5/ 5605] "أنها حملت بعبد الله بن الزبير بمكة

" الحديث. (الزُّبَيْرُ) بن العوّام بن خُويلد بن أسد بن عبد العُزّى بن قصيّ بن كلاب، أبو عبد الله القرشيّ الأسديّ، أحد العشرة المشهود لهم بالجنّة، قُتل سنة (36) بعد مُنصرفه من وقعة الجمل.

(وَمَا لَهُ في الأَرْضِ مِنْ مَالٍ)"ما" نافية، و"من" زائدة، تعني أنه ليس له حين تزوّجها مال؛ أي: مال كثير، وإلا فالفَرَس مال. (وَلَا مَمْلُوكٍ)؛ أي: رقيقٌ، وهو مِنْ عَطْف الخاصّ على العامّ، أو المراد بالمال الإبل، فيكون من عطف المغاير، وقولها:(وَلَا شَيءٍ) من عطف العامّ على الخاصّ، (غير فَرَسِهِ) برفع "غير" على البدليّة من "مال"، ونصبه على الاستثناء، والأول أَولى، كما قال في "الخلاصة":

مَا اسْتَثْنَتِ "إلَّا" مَعْ تَمَامٍ يَنْتَصِبْ

وَبَعْدَ نَفْيٍ أَو كَنَفْي انْتُخِبْ

إِتْبَاعُ مَا اتَصَلَ وَانْصِبْ مَا انْقَطَعْ

وَعَنْ تَمِيمٍ فِيهِ إِبدَالٌ وَقَعْ

وقال في "الفتح": قولها: "وما له في الأرض من مال، ولا مملوك، ولا

(1)

وفي نسخة: "أعتقني".

ص: 660

شيء، غير ناضح، وغير فرسه": أما عطف المملوك على المال، فعلى أن المراد بالمال الإبل، أو الأراضي التي تُزْرَع، وهو استعمال معروف للعرب، يُطلقون المال على كلٍّ من ذلك، والمراد بالمملوك على هذا: الرقيقُ من العبيد، والإماء، وقولها: بعد ذلك: "ولا شيء" من عطف العام على الخاصّ، يشمل كلّ ما يُتَمَلَّك، أو يُتَمَوَّل، لكن الظاهر أنها لم تُرِد إدخال ما لا بدّ له منه، من مسكن، وملبس، ومطعم، ورأس مال تجارة، ودلّ سياقها على أن الأرض التي يأتي ذكرها لم تكن مملوكةً للزبير، وإنما كانت إقطاعًا، فهو يملك منفعتها، لا رقبتها، ولذلك لم تستثنها، كما استثنت الفرس، والناضح، وفي استثنائها الناضح والفرس نظر استشكله الداوديّ؛ لأن تزويجها كان بمكة قبل الهجرة، وهاجرت، وهي حامل بعبد الله بن الزبير، والناضح، وهو الجمل الذي يُسقى عليه الماءُ إنما حصل له بسبب الأرض التي أُقْطِعها، قال الداوديّ: ولم يكن له بمكة فرس، ولا ناضح.

والجواب مَنْعُ هذا النفي، وأنه لا مانع أن يكون الفرس والجمل كانا له بمكة قبل أن يهاجر، فقد ثبت أنه كان في يوم بدر على فرس، ولم يكن قبل بدر غزوة حصلت لهم منها غنيمة، والجمل يَحْتَمِل أن يكون كان له بمكة، ولَمّا قَدِم به المدينة، وأُقطِع الأرضَ المذكورةَ أعدّه لسقيها، وكان ينتفع به قبل ذلك في غير السقي، فلا إشكال. انتهى ما في "الفتح"

(1)

، وهو تحقيقٌ نفيس جدًّا، والله تعالى أعلم.

(قَالَتْ) أسماء (فَكُنْتُ أَعْلِفُ فَرَسَهُ)؛ أي: أطعمه، يقال: عَلَفتُ الدابّة عَلْفًا، من باب ضَرَبَ: أطعمتُهُ الْعَلَفَ، واسم المعلوف عَلَفٌ بفتحتين، والجمع عِلافٌ، مثلُ جبَلٍ وجِبال، وأعلفته بالألف لغة، والْمِعْلف بكسر الميم موضع العلف، والْعَلُوبةُ مثالُ حَلَوبة، ورَكُوبة: ما يُلف من الغنم وغيرها، يُطلق بلفظ واحد على الواحد والجمع

(2)

. (وَأكفِيهِ مَئُونَتَهُ)؛ أي: قُوته، يقال: مان القومَ:

(1)

"الفتح" 11/ 672، كتاب "النكاح" رقم (5224).

(2)

"المصباح المنير" 2/ 425، و"المعجم الوسيط" 2/ 621.

ص: 661

احْتَمَل مؤونتهم، أي: قُوْتَهم

(1)

، فالجملة مؤكّدة لِمَا قبلها، وكذا قولها:(وَأَسُوسُهُ)؛ أي: أقوم بأموره، يقال: ساس زيدٌ الأمر يسوسه سِيَاسةً: إذا دبّره، وقام بأمره

(2)

، ويقال: سُسْتُ الرعيّة سِياسةً: إذا أمرتها ونهيتها

(3)

.

وفي رواية ابن أبي مليكة الآتية، عن أسماء:"كنت أخدُم الزبير خدمةَ البيت، وكان له فرس، وكنت أسوسه، فلم يكن من خدمته شيء أشدّ عليّ من سياسة الفرس، كنت أحُشّ له، وأقوم عليه".

(وَأَدُقّ) بضمّ الدال؛ أي: أكسره، يقال: دَقّ الشيءَ من باب نصر: كسره، أو ضربه، فهَشَمه، فاندقّ

(4)

. (النَّوَى) منصوب على المفعوليّة، وهو بفتح النون، والقصر: الْعَجَمُ

(5)

، الواحدة نواة، والجمع نويات، وأنواء، ونُوِيّ، وزانُ فلوس

(6)

. (لِنَاضِحِهِ)؛ أي: لبعيره الذي يَستقي عليه الماء، قال الفيّوميّ رحمه الله: نَضَحْتُ الثوبَ نَضْحًا، من باب ضَرَب، ونَفَعَ، وهو الْبَلُّ بالماء، والرشّ، ونَضَحَ البعيرُ الماءَ: حَمَله من نَهْر، أو بئر، لسقي الزرع، فهو نَاضِحٌ، والأنثى نَاضِحَةٌ بالهاء، سُمِّي نَاضِحًا لأنّه يَنْضَحُ العطشَ؛ أي: يَبُلُّه بالماء الذي يَحمله، هذا أصله، ثم استُعْمِل النَّاضِحُ في كلّ بعير، وإن لم يَحْمِلِ الماءَ، والجمع نَوَاضِحُ. انتهى

(7)

.

(وَأَعْلِفُهُ)، أي: الناضحَ، (وَأَسْتَقِي الْمَاءَ) وكذا هو عند البخاريّ بالتاء للأكثر، وللسرخسيّ:"وأسقي" بغير مثناة، وهو على حذف المفعول، أي: وأسقي الفرسَ، أوالناضحَ الماءَ، والأول أشمل معنى، وأكثر فائدة، قاله في "الفتح"

(8)

.

(وَأَخْرِزُ) بخاء معجمة، ثم راء مكسورة، أو مضمومة، من بابي ضرب، ونصر؛ أي: أخيط (غَرْبَهُ)"الغَرْبُ": بفتح الغين المعجمة، وسكون الراء،

(1)

"القاموس المحيط" ص 1202.

(2)

"المصباح المنير" 1/ 295.

(3)

"القاموس المحيط" ص 653.

(4)

"القاموس المحيط" ص 439.

(5)

"الْعَجَم" بفتحتين: النوى من التمر، والعِنَب، والنّبْقِ، قاله في "المصباح" 2/ 395.

(6)

"المصباح المنير" 1/ 632.

(7)

"المصباح المنير" 2/ 609 - 610.

(8)

"الفتح" 11/ 672، كتاب "النكاح" رقم (5224).

ص: 662

بعدها موحّدة، وزانُ فَلْس: الدلو العظيمة، يُستقى بها على السانية

(1)

. (وَأَعْجِنُ) بكسر الجيم، يقال: عَجَنه يعجنه، وَيعْجُنه، من بأبي ضرب، وقتل، فهو معجونٌ، وعَجِين: اعتَمَد عليه بجُمع كفّه يَغْمِزُهُ، كاعتجنه، قاله المجد

(2)

.

وفي "المعجم الوسيط": عَجَنَ الدقيق عَجْنا: خلطه بالماء، ولاكه بيد، أو آلة. انتهى

(3)

.

وقال في "الفتح": قوله: "وأعجِن"؛ أي: الدقيق، وهو يؤيد ما حملنا عليه المال؛ إذ لو كان المراد نفي أنواع المال لانتفى الدقيق الذي يُعْجَن، لكن ليس ذلك مرادها، وقد تقدم في حديث الهجرة أن الزبير لاقى النبيّ صلى الله عليه وسلم وأبا بكر راجعًا من الشام بتجارة، وأنه كساهما ثيابا. انتهى

(4)

.

(وَلَمْ أكُنْ أحْسِنُ) بضمّ أوله، من الإحسان، (أخْبِزُ) بكسر الباء، يقال: خبز الخبز: إذا صنعه، وكذا إذا أطعمه الخبزَ

(5)

.

وقال في "الفتح": قوله: "ولم أكن أحسن أخبز

إلخ": وهذا محمول على أن في كلامها شيئًا محذوفًا، تقديره: تزوجني الزبير بمكة، وهو بالصفة المذكورة، واستمرّ على ذلك، حتى قَدِمنا المدينة، وكنت أصنع كذا

إلخ؛ لأن النسوة من الأنصار إنما جاورنها بعد قدومها المدينة قطعًا، وكذلك ما سيأتي من حكايته نقلها النوى، من أرض الزبير. انتهى

(6)

.

(وَكَانَ يَخْبِزُ لِي جَارَاتٌ) جمع جارة، وهي المجاورة في المسكن، (مِنَ الأنصَار، وَكُنَّ نِسْوَةَ صِدْقٍ)؛ أي: صادقات في مراعاة حق الجوار، ومخلصات فيه، وأضافتهنّ إلى الصدق مبالغةً في تلبسهنّ به في حسن العِشْرة، والوفاء بالعهد.

(قَالَتْ) أسماء رضي الله عنها (وَكنْتُ أنقُلُ النَّوَى)؛ أي: نوى التمر، (مِنْ أَرْضِ

(1)

"المصباح المنير" 2/ 444.

(2)

"القاموس المحيط" ص 845.

(3)

"المعجم الوسيط" 2/ 586.

(4)

"الفتح" 11/ 673، كتاب "النكاح" رقم (5224).

(5)

"القاموس المحيط" ص 345.

(6)

"الفتح" 11/ 673، كتاب "النكاح" رقم (5224).

ص: 663

الزُّبَيْرِ) أشار القاضي عياض إلى أن معناه أنها تلتقطه من النوى الساقط فيها، مما أكله الناس، وألقوه. (الَّتِي أَقْطَعَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) قال أهل اللغة: يقال: أقطعه: إذا أعطاه قَطِيعة، وهي قِطْعة أرض، سُمِّيت قَطِيعةً؛ لأنها اقتطعها من جملة الأرض، قاله النوويّ رحمه الله

(1)

.

وقال الفيّوميّ: أقطع الإِمام الجندَ البلدَ إقطاعا: جعل لهم غَلّتها رزقًا، واستقطعته: سألته الإقطاعَ، واسم ذلك الشيء الذي يُقطَعُ: قَطِيعةٌ

(2)

. (عَلَى رَأْسِي) متعلّق بـ "أنقُل"، (وَهِيَ)؛ أي: تلك الأرض التي أقطعه صلى الله عليه وسلم إياها، (عَلَى ثُلُثَي فَرْسَخ)؛ أي: من مسكنها بالمدينة، قال النوويّ رحمه الله: وأما الفرسخ فهو ثلاثة أميالً، والميل ستة آلاف ذراع، والذراع أربع وعشرون إصبعًا معترضةً معتدلةً، والإصبع ست شَعِيرات معترضات، معتدلات. انتهى

(3)

.

وقال الفيّوميّ رحمه الله: الْفَرْسخة: السعة، ومنها اشتُقّ الْفَرْسخُ، وهو ثلاثة أميال بالهاشميّ، وقَدَّره في "البارع"، وكذا في "التهذيب" بخمس وعشرين غَلْوةً، وسيأتي أن اليونان قالوا: الفَرْسَخُ: ثلاثة أميال، وقَدّروا الأميال الهاشمية بالتقدير الثاني، إلا أنه مخالِف لِمَا في "التهذيب"، و"البارع"، والجمع: فَرَاسِخُ. انتهى

(4)

.

وقال في "التاج": الفَرْسَخ: الرَّاحَة، ومنه أُخِذَ فَرْسَخُ الطَّرِيق، كما قيل، وهو ثَلَاثَةُ أَمْيَالٍ هاشِمِيّة، أَو ستّة، أو اثنا عَشَرَ أَلفَ ذرَاعٍ، أَو عَشَرَةُ آلافِ ذِراع، سُمِّيَ بذلك؛ لأَنّ صاحِبَه إِذا مَشَى قعَدَ، واسْتَرَاح من ذلك، كأَنّه سكَنَ. انتهى

(5)

.

قال الجامع عفا الله عنه: كتب بعض المعاصرين بأن مقدار الفرسخ بالتقدير المعاصر (5544) مترًا، (5.544) كيلو مترا

(6)

، والله تعالى أعلم.

(1)

"شرح النوويّ" 14/ 165.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 509.

(3)

"شرح النوويّ" 14/ 165.

(4)

"المصباح المنير" 2/ 468.

(5)

" قال العروس" 1/ 1837.

(6)

راجع: "الإيضاحات العصريّة للمقاييس، والمكاييل، والأوزان، والنقود الشرعيّة" لصاحبها محمد صبحي بن حسن حلاق ص 64.

ص: 664

[تنبيه]: كانت تلك الأرض التي أقطع النبيّ صلى الله عليه وسلم الزبير من أموال بني النضير، ففي "صحيح البخاريّ":"وقال أبو ضمرة عن هشام، عن أبيه: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أقطع الزبير أرضًا من أموال بني النضير"، قال في "الفتح": أفادت رواية أبي ضمرة هذه تعيين الأرض المذكورة، وأنها كانت مما أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم، من أموال بني النضير، فأقطع الزبير منها، وبذلك يرتفع استشكال الخطابيّ، حيث قال: لا أدري كيف أقطع النبيّ صلى الله عليه وسلم أرض المدينة، وأهلها قد أسلموا راغبين في الدين، إلا أن يكون المراد ما وقع من الأنصار، أنهم جعلوا للنبيّ صلى الله عليه وسلم ما لا يبلغه المأمن من أرضهم، فاقطع النبيّ صلى الله عليه وسلم من شاء منه. انتهى

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قيل: إن هذه الأرض المقطّعة من موات البقيع، أقطعه من ذلك حُضْرَ فرسه، فأجراه، ثم رمى بسوطه رغبة في الزيادة، فأعطاه ذلك كله، وفي البخاريّ عن عروة أنه صلى الله عليه وسلم أقطع الزبير أرضًا من أموال بني النضير، وليست هذه الأرض التي كانت أسماء تنقل منها النوى على رأسها؛ لقولها: وهي على ثلثي فرسخ، فالأشبه أنها الأرض التي بالبقيع، كما تقدَّم في القول الأول. انتهى

(2)

.

(قَالَتْ) أسماء (فَجِئْتُ يَوْمًا، وَالنَّوَى عَلَى رَأسِي) جملة في محلّ نصب على الحال من الفاعل، (فَلَقِيتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم، وَمَعَهُ نَفَرٌ مِنْ أَصحَابِهِ) جملة حاليّة أيضًا، (فَدَعَانِي، ثُمَّ قَالَ: "إخْ إخْ") بكسر الهمزة، وسكون الخاء المعجمة: كلمة تقال للبعير لمن أراد أن ينيخه. (لِيَحْمِلَنِي خَلْفَهُ)؛ أي: ليجعلني راكبة وارءه صلى الله عليه وسلم، قال في "الفتح": كأنها فَهِمت ذلك من قرينة الحال، وإلا فيَحْتَمِل أن يكون صلى الله عليه وسلم أراد أن يُركبها، وما معها، وَيرْكَب هو شيئًا آخر غير ذلك. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: لا يخفى بعد هذا الاحتمال، فتأمل سياق الحديث بالإمعان، والله تعالى أعلم.

(1)

"الفتح" 7/ 434، كتاب "فرض الخمس" رقم (3151).

(2)

"المفهم" 5/ 518 - 519.

ص: 665

(قَالَتْ: فَاسْتَحْيَيْتُ) وفي رواية البخاريّ: "فاستحييتُ أن أسير مع الرجال"، قال في "الفتح": هذا بَنَتْهُ على ما فَهِمته من الارتداف، وإلا فعلى الاحتمال الآخر ما تتعيّن المرافقة. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: قد عرفت ما في الاحتمال الآخر من بُعد، فلا تغفل، والله تعالى أعلم.

وقال القرطبيّ رحمه الله: ظاهر هذا المساق يدلّ على أنه صلى الله عليه وسلم عرض عليها الركوب، فلم تركب؛ لأنَّها استحيت، كما قالت، وعلى هذا فلا يحتاج إلى اعتذار عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في ركوبها معه؛ فإنَّه يحتمل أنها لو اختارت الركوب تركها راكبة وحدها، ولا يكون فيه من حيث هذا اللفظ دليل على جواز ركوب اثنين على بعير، فتأمله. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي قاله القرطبيّ رحمه الله محلّ نظر، بل السياق ظاهر في جواز ركوب الاثنين، فتأمله بالإمعان، والله تعالى أعلم.

(وَعَرَفْتُ غَيْرَتَكَ) تقول هذا لزوجها الزبير رضي الله عنه، وفي رواية البخاريّ:"وذكرتُ الزبيرَ، وغَيْرتَهُ، وكان أغير الناس"، قال في "الفتح": هو بالنسبة إلى مَن عَلِمته؛ أي: أرادت تفضيله على أبناء جنسه في ذلك، أو "مِنْ" مرادة، قال: ثم رأيتها ثابتة في رواية الإسماعيليّ، ولفظه:"وكان من أغير الناس". انتهى

(2)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: وقولها: "وعرفت غيرتك" تعني ما جُبِل عليه من الغيرة، وإلا فالنبيّ صلى الله عليه وسلم لا يُغار لأجله، كما قال عمر رضي الله عنه للنبيّ صلى الله عليه وسلم:"وعليك أغار يا رسول الله؟! " حين أخبره أنه صلى الله عليه وسلم رأى قصرًا من قصور الجنَة، فيه امرأة من نساء الجنة، فقال:"لمن أنتِ؟ "، فقالتْ لعمر بن الخطاب، قال صلى الله عليه وسلم:"فذكرت غيرتك"، فتوقّع النبيُّ صلى الله عليه وسلم تحريك الغيرة بحكم الجبلَّة، وإن لم يَغَرْ

(3)

لأجله. انتهى

(4)

.

(1)

"المفهم" 5/ 519.

(2)

"الفتح" 11/ 673، كتاب "النكاح" رقم (5224).

(3)

من باب تَعِبَ.

(4)

"المفهم" 5/ 519.

ص: 666

(فَقَالَ) الزبير رضي الله عنه لَمّا أخبرته بذلك: (وَاللهِ لَحَمْلُكِ النَّوَى عَلَى رَأْسِكِ أَشَدُّ مِنْ رُكُوبِكِ مَعَهُ) وفي رواية البخاريّ: "والله لحملك النوى على رأسك، كان أشد عليّ من ركوبك معه"، قال في "الفتح": كذا للأكثر، وفي رواية السرخسيّ:"كان أشدّ عليك"، وسقطت هذه اللفظة من رواية مسلم.

قال: ووجه المفاضلة التي أشار إليها الزبير رضي الله عنه أن ركوبها مع النبيّ صلى الله عليه وسلم لا ينشأ منه كبير أمر من الغَيرة؛ لأنها أخت امرأته، فهي في تلك الحالة لا يحلّ له تزويجها أن لو كانت خَلِيّة من الزوج، وجواز أن يقع لها ما وقع لزينب بنت جحش بعيدٌ جدًّا؛ لأنه يزيد عليه لزوم فراقه لأختها، فما بقي إلا احتمال أن يقع لها من بعض الرجال مزاحمةٌ بغير قصد، وأن ينكشف منها حالة السير ما لا تريد انكشافه، ونحو ذلك، وهذا كله أخفّ مما تحقّق من تبذّلها يحمل النوى على رأسها من مكان بعيد؛ لأنه قد يُتَوَهَّم خسة النفس، ودناءة الهمة، وقلّة الغيرة، ولكن كان السبب الحامل على الصبر على ذلك شُغْل زوجها، وأبيها بالجهاد، وغيره مما يأمرهم به النبيّ صلى الله عليه وسلم، ويقيمهم فيه، وكانوا لا يتفرغون للقيام بأمور البيت، بأن يتعاطوا ذلك بأنفسهم، ولضيق ما بأيديهم على استخدام من يقوم بذلك عنهم، فانحصر الأمر في نسائهم، فكنّ يكفينهم مؤنة المنزل، ومن فيه؛ ليتوفروا هم على ما هم فيه، من نصر الإِسلام، مع ما ينضم إلى ذلك من العادة المانعة من تسمية ذلك عارًا محضًا. انتهى

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قول الزبير رضي الله عنه: "والله لحملك النوى

إلخ " يدلّ على أن الزبير لم يكلّفها شيئًا من ذلك، وإنما فعلت هي ذلك لحاجتها إلى ذلك، وتخفيفًا عن زوجها؛ على عادة أهل الدين والفضل الذين لا التفات عندهم لشيء من زينة الدنيا، ولا من أحوال أهلها، فإنَّهم كانوا لا يَعيبون على أنفسهم إلا ما عابه الشرع، فكانوا أبعد الناس منه، وأَخْرَج هذا القولُ من الزبير فَرْطَ الاستحياء المجبول عليه أهل الفضل، ويعني بذلك: أن الحياء الذي لحقه من تبذّلها يحمل النوى على رأسها أشدُّ عليه من الغيرة التي كانت تلحقه

(1)

"الفتح" 11/ 673 - 674، كتاب "النكاح" رقم (5224).

ص: 667

عليها لو ركبت مع النبيّ صلى الله عليه وسلم، فإنَّه صلى الله عليه وسلم ليس ممن يُغَار على الحريم لأجله، والله تعالى أعلم. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قوله: "على أن الزبير لم يكلّفها

إلخ" هذا لا يدلّ عليه قوله، فمن أين له أنه لم يكلّفها؛ وقد كلّفها الشرع بذلك، حيث قال:{وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 228] وسيأتي تحقيق القول في هذا في المسألة الرابعة - إن شاء الله تعالى -.

(قَالَتْ) أسماء رضي الله عنها (حَتَّى أرْسَلَ إِلَيَّ أَبُو بَكْرٍ) رضي الله عنه (بَعْدَ ذَلِكَ بِخَادِمٍ)؛ أي: جارية تخدمني، وإنما ذكّرت الخادم؛ لأنه يُطلق على الذكر والأنثى، قال الفيّوميُّ رحمه الله: خَدَمَهُ يَخْدِمُهُ ويَخْدُمُهُ - من بابي ضرب، وقَتَلَ - خِدْمَة، فهو خادم غلامًا كان، أو جاريةً، والخَادِمَةُ بالهاء في المؤنث قليل، والجمع: خَدَمٌ، وخُدَّامٌ، وقولهم: فُلانَةٌ خَادِمَةٌ غَداَ ليس بوصف حقيقيّ، والمعنى ستصير كذلك، كما يقال: حائضة غدًا، وأَخْدَمْتُهَا بالألف: أعطيتها خادمًا، وخَدَّمْتُهَا بالتثقيل للمبالغة والتكثير، واسْتَخْدَمْتُهُ: سألته أن يَخْدمني، أو جعلته كذلك. انتهى

(2)

.

(فَكَفَتْنِي سِيَاسَةَ الْفَرَسِ)؛ أي: القيام بعلفه، وما يحتاج إليه، (فَكَأنَّمَا أَعْتَقَتْنِي)؛ أي: حرّرتني من رقّ سياسة الفرس، ووقع في بعض النسخ بلفظ:"أعتقني" بالتذكير، نظرًا للفظ الخادم، وَيحتمل أن يكون الضمير لأبي بكر رضي الله عنه، قال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "أعتقتني" رُوي بتاء بعد القاف، ويكون فيه ضمير يعود على الخادمة، وبغير تاء، وضميره يعود إلى أبي بكر رضي الله عنه، وصحَّ ذلك؛ لأنها لما استراحت من خدمة الفرس، والقيام عليه بسبب الجارية التي بعث بها إليها أبو بكر رضي الله عنه صحَّ أن يُنسب العتق لكل واحد منهما.

قال: وفيه دليلٌ على مكارم أخلاق القوم، فإنَّ أبا بكر رضي الله عنه عَلِم ما كانت عليه ابنته من الضرر، والمشقة، ولم يطالب صِهْره بشيء من ذلك، وكان مترقبًا لإزالة ذلك، فلمّا تمكَّن منه أزاله مِن عنده. انتهى

(3)

.

(1)

"المفهم" 5/ 520.

(2)

"المصباح المنير" 1/ 165 بزيادة من "القاموس المحيط" ص 354.

(3)

"المفهم" 5/ 521.

ص: 668

ولفظ البخاريّ: "حتى أرسل إليّ أبو بكر بخادم تكفيني سياسة الفرس، فكأنما أعتقني"، وما ورد في رواية مسلم بلفظ:"فكفتني" أوجه؛ لأن "تكفيني" تقتضي أنه أرسلها لذلك خاصّة، بخلاف رواية مسلم.

ووقع في الرواية التالية: عن ابن أبي مليكة، عن أسماء رضي الله عنها:"جاء النبيَّ صلى الله عليه وسلم سبيٌ، فأعطاها خادمًا، قالت: كفتني سياسة الفرس، فألقت عني مَؤونته"، ويُجمع بين الروايتين بأن السبي لَمّا جاء إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم أعطى أبا بكر رضي الله عنه منه خادمًا، ليرسله إلى ابنته أسماء، فصَدَقَ أن النبيّ صلى الله عليه وسلم هو المعطي، ولكن وصل ذلك إليها بواسطة أبيها، ووقع في هذه الرواية أنها باعتها بعد ذلك، وتصدّقت بثمنها، وهو محمول على أنها استغنت عنها بغيرها، قاله في "الفتح"

(1)

.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أسماء بنت أبي بكر الصدّيق رضي الله عنهما هذا متّفق عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [14/ 5680 و 5681](2182)، و (البخاريّ) في "فرض الخمس"(3151) و"النكاح"(5224)، و (النسائيُّ) في "الكبرى"(5/ 372)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 347 و 352)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4500)، و (ابن سعد) في "الطبقات"(8/ 250)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(24/ 250)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(7/ 293)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان أنّ على المرأة القيامَ بجميع ما يحتاج إليه زوجها من الخدمة، وإليه ذهب أبو ثور، وحَمَله الباقون على أنها تطوعت بذلك، ولم يكن لازمًا. أشار إليه المهلّب وغيره.

قال الحافظ: والذي يظهر أن هذه الواقعة وأمثالها كانت في حال

(1)

"الفتح" 11/ 674، كتاب "النكاح" رقم (5224).

ص: 669

ضرورة، كما تقدم، فلا يَطّرِد الحكم في غيرها ممن لم يكن في مثل حالهم، وقد تقدم أن فاطمة سيدة نساء العالمين رضي الله عنها شكت ما تلقى يداها من الرحى، وسألت أباها خادمًا، فدلّها على خير من ذلك، وهو ذِكر الله تعالى، والذي يترجح حَمْل الأمر في ذلك على عوائد البلاد، فإنها مختلفة في هذا الباب.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي قاله الحافظ من حمل الأمر على عوائد البلاد فيه نظر لا يخفى، بل الصواب أنه يُحمل على الأمر مطلقًا؛ لأن هذا العمل من أسماء، وفاطمة رضي الله عنهما كان في وقت تشريع الأحكام، فهو تشريع مستمرّ، عام في العباد والبلاد، قال الله عز وجل:{وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} الآية [البقرة: 228] فأتى بلفظ "على" التي هي للوجوب، والمعروف هو الذي في ذلك العصر عصر نزول الوحي، فما كان عليه الصحابيّات يلزم نساء الأمة كلّهن، وسيأتي تمام البحث فيه في المسألة التالية - إن شاء الله تعالى -.

وقال المهلّب: وفيه أن المرأة الشريفة إذا تطوّعت بخدمة زوجها بشيء لا يلزمها لم يُنكِر عليها ذلك أبٌ، ولا سلطانٌ.

وتُعُقِّب بأنه بناه على ما أصّله من أن ذلك كان تطوّعًا، ولخصمه أن يَعكس، فيقول: لو لم يكن لازمًا ما سكت أبوها مثلًا على ذلك، مع ما فيه من المشقة عليه، وعليها، ولا أقرّ النبيّ صلى الله عليه وسلم ذلك، مع عظمة الصديق عنده.

قال الجامع عفا الله عنه: ما قاله الخصم هو الحقّ الذي لا محيد عنه، فالحقّ وجوب خدمة المرأة لزوجها؛ لهذه الأدلة الواضحة، والله تعالى أعلم.

2 -

(ومنها): أن فيه جوازَ إرداف المرأة التي ليست محرمًا إذا وُجدت في طريق قد أعيت، لا سيما مع جماعة رجال صالحين، ولا شك في جواز مثل هذا، وقال القاضي عياض: هذا خاص للنبيّ صلى الله عليه وسلم بخلاف غيره، فقد أُمرنا بالمباعدة بين أنفاس الرجال والنساء، وكانت عادته صلى الله عليه وسلم مباعدتهنّ لتقتدي به أمته، قال: وإنما كانت هذه خصوصية له، لكونها بنت أبي بكر، وأخت عائشة، وامرأة الزبير، فكانت كإحدى أهله، ونسائه، مع ما خُصّ به صلى الله عليه وسلم أنه أمُلَك لإربه، وأما إرداف المحارم فجائز، بلا خلاف بكل حال. انتهى

(1)

.

(1)

"إكمال المعلم" 7/ 77.

ص: 670

قال الجامع عفا الله عنه: في دعوى القاضي الخصوصيّة نظرٌ، فإن مثل هذا عامّ؛ إذ الراكب ليس وحده، بل معه جماعة، ومثل هذا: السيّارات في الشوارع، فإن ركوب المرأة الأجنبيّة لا بأس به، ولا سيّما إذا كانت في المقعد الخلفيّ، فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم أَمَر أسماء في هذا الحديث أن تركب خلفه، وقال الإِمام البخاري رحمه الله في "صحيحه":"باب ما يجوز أن يخلو الرجل بالمرأة عند الناس"، ثم أورد حديث أنس رضي الله عنه قال: جاءت امرأة من الأنصار إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فخلا بها، فقال:"والله إنكم لأحبّ الناس إليّ"، فدلّت ترجمة البخاريّ على أن الخلوة المحرمة بالأجنبيّة لم يكن بين الناس، أما إذا كان في وسط الطريق، والناس يمرّون من كلّ جانب، كما هو حال السيّارات، فيجوز أن تركب معه.

وأخرج حديث أنس الإِمام مسلم رحمه الله في "صحيحه"، ولفظه:"عن أنس أن امرأة كان في عقلها شيءٌ، فقالت: يا رسول الله إن لي إليك حاجةً، فقال: "يا أم فلان، انظري أيّ السكك شئت، حتى أقضي لكِ حاجتك؟ "، فخلا معها في بعض الطرق، حتى فرغت من حاجتها. انتهى، والله تعالى أعلم.

3 -

(ومنها): ما قال في "الفتح": فيه جواز ارتداف المرأة خلف الرجل في موكب الرجال، قيل: وليس في الحديث أنها استترت، ولا أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَها بذلك، فيؤخذ منه أن الحجاب إنما هو في حقّ أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم خاصّةً. انتهى.

قال الحافظ رحمه الله: والذي يظهر أن القصة كانت قبل نزول الحجاب، ومشروعيته، وقد قالت عائشة رضي الله عنها: لَمّا نزلت: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور: 31] أخذن أُزُرَهُنّ مِن قِبَل الحواشي، فشققنهنّ، فاختمرن بها، ولم تزل عادة النساء قديمًا وحديثًا يسترن وجوههنّ عن الأجانب، والذي ذكر عياض أن الذي اختَصَّ به أمهات المؤمنين ستر شخوصهنّ زيادةً على ستر أجسامهن.

4 -

(ومنها): أن فيه غيرةَ الرجل عند ابتذال أهله فيما يشقّ من الخدمة، وأنَفة نفسه من ذلك، لا سيما إذا كانت ذات حَسَب.

5 -

(ومنها): أن فيه منقبةً لأسماء، وللزبير، ولأبي بكر، ولنساء الأنصار رضي الله عنهم.

ص: 671

6 -

(ومنها): أن فيه دليلًا على جواز إقطاع الإِمام، فأما الأرض المملوكة لبيت المال فلا يملكها أحد إلا بإقطاع الإِمام، ثم تارةً يُقطع رقبتها، ويملِّكها الإنسانَ، يَرَى فيه مصلحةً، فيجوز، وَيَملكها كما يملك ما يعطيه من الدراهم والدنانير، وغيرها، إذا رأى فيه مصلحةً، وتارةً يُقطعه منفعتها، فيستحق الانتفاع بها مدةَ الإقطاع، وأما الموات فيجوز لكل أحد إحياؤه، ولا يفتقر إلى إذن الإِمام، هذا مذهب مالك، والشافعيّ، والجمهور، وقال أبو حنيفة: لا يُملك المواتُ بالإحياء إلا بإذن الإِمام

(1)

.

7 -

(ومنها): ما قال القاضي عياض رحمه الله: فيه جواز التقاط المطروحات رغبةً عنها؛ كالنوى، والسنابل، وخِرَق المزابل، وسقاطتها، وما يطرحه الناس من رديء المتاع، ورديء الخضر، وغيرها، مما يُعرَف أنهم تركوه رغبةً عنه، فكل هذا يَحلّ التقاطه، ويملكه الملتقط، وقد لَقَطه الصالحون، وأهل الورع، ورأوه من الحلال المحض، وارتضوه لأكلهم، ولباسهم. انتهى

(2)

.

8 -

(ومنها): جواز الإرداف على الدابة إذا كانت مطيقةً، وله نظائر كثيرة في "الصحيح"، سبق بيانها في مواضعها.

9 -

(ومنها): بيان ما كان عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم من كمال الشفقة على المؤمنين والمؤمنات، ورحمتهم، ومواساتهم فيما أمكنه.

10 -

(ومنها): ما قال القرطبيّ عند قولها: "تزوجني الزبير، وما له في الأرض من مال

إلخ": هذا يدلُّ على ما كانوا عليه من شدة الحال في أول الأمر، وعلى أن المعتبَر عندهم في الكفاءة إنَّما كان الدِّين، والفضل، لا المال، والغنى، كما قال صلى الله عليه وسلم: "فعليك بذات الدِّين تَرِبَتْ يداك"، وإنما كان ذلك؛ لأنَّ القوم كانت مقاصدهم في النكاح التعاون على الدِّين، وتكثير أمة محمد خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم، ولأنهم علموا أن المال ظِل زائل، وسحابٌ حائل، وأن الفضل باقٍ إلى يوم التلاق، فأما اليوم فقد انعكست الحال، وعدل الناس عن الواجب إلى المحال. انتهى

(3)

، والله تعالى أعلم.

(1)

"شرح النوويّ" 14/ 165.

(2)

"إكمال المعلم" 7/ 77.

(3)

"المفهم" 5/ 516 - 517.

ص: 672

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في وجوب خدمة المرأة لزوجها: تقدّم أن كثيرًا من العلماء قالوا: لا يجب عليها، ولم يأتوا على ذلك بحجة مقنعة، والحقّ أن ذلك واجب عليها؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال:{وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} الآية [البقرة: 228] فأوجب الله صلى الله عليه وسلم على النساء مثل ما أوجب لهنّ على الرجال مما جرى العرف به، وقد جرى العرف بأن الزوجة تخدم زوجها، وتقوم على بيته، وأولاده، فالحقّ أن خدمة الزوجة لزوجها، وقيامها بمهمات بيته مما أوجبه الشرع الشريف، وقد عقد الإِمام ابن القيّم رحمه الله في كتابه الممتع "زاد المعاد في هدي خير العباد" فصلًا مفيدًا جدًّا، أحببت إيراده لأهميّته، ونفاسته، قال رحمه الله:

[فصل]: في حكم النبيّ صلى الله عليه وسلم في خدمة المرأة لزوجها:

قال ابن حبيب في "الواضحة": حكم النبيّ صلى الله عليه وسلم بين عليّ بن أبي طالب، وبين زوجته فاطمة رضي الله عنهما حين اشتكيا إليه الخدمة، فحكم على فاطمة بالخدمة الباطنة، خدمةِ البيت، وحكم على عليّ بالخدمة الظاهرة، ثم قال ابن حبيب: والخدمة الباطنة: العَجْن، والطبخ، والفرش، وكنس البيت، واستقاء الماء، وعمل البيت كلّه.

وفي "الصحيحين": أن فاطمة رضي الله عنها أتت النبيّ صلى الله عليه وسلم، تشكو إليه ما تلقى في يديها من الرحى، وتسأله خادمًا، فلم تجده، فذكرت ذلك لعائشة رضي الله عنها، فلمّا جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرته، قال عليّ: فجاءنا، وقد أخذنا مضاجعنا، فذهبنا نقومُ، فقال:"مكانكما"، فجاء، فقعد بيننا، حتى وجدت برد قدميه على بطني، فقال:"ألا أدلّكما على ما هو خيرٌ لكما مما سألتما، إذا أخذتما مضاجعكما، فسبّحا الله ثلاثًا وثلاثين، واحمَدَا ثلاثًا وثلاثين، وكبّرا أربعًا وثلاثين، فهو خيرٌ لكما من خادم"، قال عليّ: فما تركتها بعدُ، قيل: ولا ليلة صفّين؛ قال: ولا ليلة صفّين.

وصحّ عن أسماء أنها قالت: كنت أخدُم الزبير خدمة البيت كلّه، وكان له فرَسٌ، وكنت أسوسه، وكنت أحتشّ له، وأقوم عليه، وصحّ عنها أنها كانت تعلف فرسه، وتسقي الماء، وتخرز الدلو، وتعجِن، وتنقُل النوى على رأسها من أرض له على ثُلثي فرسخ.

ص: 673

فاختلف الفقهاء في ذلك، فأوجب طائفة من السلف والخلف خِدْمتها له في مصالح البيت. وقال أبو ثور: عليها أن تخدُم زوجها في كلّ شيء. ومنعت طائفة وجوب خدمته عليها في شيء، وممن ذهب إلى ذلك مالكٌ، والشافعيّ، وأبو حنيفة، وأهل الظاهر، قالوا: لأن عَقْد النكاح إنما اقتضى الاستمتاع، لا الاستخدام، وبَذْل المنافع، قالوا: والأحاديث المذكورة إنما تدلّ على التطوّع، ومكارم الأخلاق، فأين الوجوب منها؟.

واحتجّ من أوجب الخدمة بأن هذا هو المعروف عند من خاطبهم الله سبحانه وتعالى بكلامه، وأما ترفيهُ المرأة، وخدمة الزوج، وكنسه، وطحنه، وعَجْنه، وغسيله، وفرشه، وقيامه بخدمة البيت، فمن المنكر، والله تعالى يقول:{وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 228]، وقال:{الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} الآية [النساء: 34]، وإذا لم تخدمه المرأة، بل يكون هو الخادم لها، فهي القوّامة عليه.

وأيضًا فإن المهر في مقابلة البضع، وكلّ من الزوجين يقضي وطره من صاحبه، فإنما أوجب الله سبحانه وتعالى نفقتها، وكسوتها، ومسكنها في مقابلة استمتاعه بها وخدمتها، وما جرت به عادة الأزواج.

وأيضًا فإن العقود المطلقة إنما تُنزّل على العرف، والعرف خدمة المرأة، وقيامها بمصالح البيت الداخلة.

وقولهم: إن خدمة فاطمة وأسماء كانت تبرّعًا وإحسانًا يردّه أن فاطمة كانت تشتكي ما تلقى من الخدمة، فلم يقل لعليّ: لا خدمة عليها، وإنما هي عليك، وهو صلى الله عليه وسلم لا يُحابي في الحُكم أحدًا؛ ولَمّا رأى أسماء، والعلَف على رأسها، والزبير معه، لم يقل له: لا خدمة عليها، وأن هذا ظلم لها، بل أقرّه على استخدامها، وأقرّ سائر أصحابه على استخدام أزواجهم، مع علمه بأنّ منهنّ الكارهةَ والراضيةَ، هذا أمر لا ريب فيه، ولا يصحّ التفريق بين شريفة، ودينئة، وفقيرة، وغنيّة، فهذه أشرف نساء العالمين كانت تخدم زوجها، وجاءته صلى الله عليه وسلم تشكو إليه الخدمة، فلم يُشكِها، وقد سمّى النبيّ صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح المرأة عانيةً، فقال:"اتقوا الله في النساء، فإنهن عَوَانٍ عندكم". والعاني: الأسير، ومرتبة الأسير خدمة من هو تحت يده، ولا ريب أن النكاح نوعٌ من الرقّ، كما قال بعض السلف: النكاح رقّ، فلينظر أحدكم عند من يُرق

ص: 674

كريمته. ولا يخفى على المنصف الراجحُ من المذهبين، والأقوى من الدليلين. انتهى كلام ابن القيّم رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا التحقيق الذي ذكره ابن القيم رحمه الله تحقيق نفيسٌ جدًّا، فقد ظهر لنا به، وتبيّن، واتضح أن المذهب الأول، وهو وجوب خدمة المرأة زوجها هو الراجح؛ لقوة دليله؛ لأنه المعروف في ذلك الوقت الذي نزل فيه قوله تعالى:{وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} الآية [البقرة: 228]، فأوجب الله عز وجل عليها أن تلتزم بما هو معروف عند الناس، وقد طبّق نساء العصر الأول من الصحابيات، وغيرهنّ على أنفسهنّ ما طُلب منهنّ في الآية الكريمة، كما تقدم آنفًا في قصّة فاطمة، وأسماء رضي الله عنهما، والله تعالى أعلم بالصواب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5681]

(

) - (حَدَّثنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ الْغُبَرِيُّ، حَدَّثنَا حَمادُ بْنُ زيدٍ، عَنْ أيُّوبَ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، أَنَّ أَسْمَاءَ قَالَتْ: كنْتُ أَخْدُمُ الزُّبَيْرَ خِدْمَةَ الْبَيْتِ، وَكَانَ لَهُ فَرَسٌ، وَكُنْتُ أَسُوسُهُ، فَلَمْ يَكُنْ مِنَ الْخِدْمَةِ شَيءٌ أَشَدَّ عَلَى مِنْ سِيَاسَةِ الْفَرَسِ، كُنْتُ أَحْتَشنُّ لَهُ، وَأقومُ عَلَيْه، وَأَسُوسُهُ، قَالَ

(2)

: ثُمَّ إِنَّهَا أَصَابَتْ خَادِمًا. جَاءَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم سَبْيٌ، فَأَعْطَاهَا خَادِمًا، قَالَتْ: كفَتْنِي سِيَاسَةَ الْفَرَس، فَألقَتْ عَنِّي مَئُونَتَهُ، فَجَاءَنِي رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا أمّ عَبْدِ الله، إِنِّي رَجُلٌ فَقِيرٌ، أَرَدْتُ أَنْ أَبِيعَ في ظِلِّ دَارِك، قَالَتْ: إِنِّي إِنْ رَخَّصْتُ لَكَ أبي ذَاكَ

(3)

الزُّبَيْرُ، فَتَعَالَ: فَاطْلُبْ إِلَيَّ، وَالزُّبَيْرُ شَاهِدٌ، فَجَاءَ، فَقَالَ: يَا أمَّ عَبْدِ اللهِ إِنَي رَجُلٌ فَقِيرٌ، أَرَدْتُ أَنْ أَبِيعَ في ظِلِّ دَارِك، فَقَالَتْ: مَا لَكَ بِالْمَدِينَةِ إِلَّا دَارِي؟ فَقَالَ لَهَا الزُّبَيْرُ: مَا لَكِ أَنْ تَمْنَعِي رَجُلًا فَقِيرًا يَبِيعُ، فَكَانَ يَبِيعُ إِلَى أَنْ كسَبَ، فَبِعْتُهُ الْجَارِيَةَ، فَدَخَلَ عَلَيَّ الزُّبَيْرُ، وَثَمَنُهَا في حَجْرِي، فَقَالَ: هَبِيهَا لي، قَالَتْ: إِنِّي قَدْ تَصَدَّقْتُ بِهَا).

(1)

"زاد المعاد" 5/ 170.

(2)

وفي نسخة: "قالت".

(3)

وفي نسخة: "ذلك".

ص: 675

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ الْغُبَرِيُّ) - بضمّ الغين المعجمة، وفتح الموحّدة - البصريّ، ثقةٌ (ت 238)(م د س) تقدم في "المقدمة" 2/ 4.

2 -

(ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ) هو: عبد الله بن عُبيد الله بن أبي مليكة زهير بن عبد الله التيميّ المكيّ، ثقةٌ فقيهٌ (ت 117)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 22.

والباقون ذُكروا في الباب، وقبل باب، و"أيوب" هو: السختيانيّ.

شرح الحديث:

(عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ) عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة، واسمه زهير بن عبد الله، (أَنَّ أَسْمَاءَ) بنت أبي بكر الصدّيق رضي الله عنهما (قَالَتْ: كُنْتُ أَخْدمُ) بضمّ الدال، وكسرها، من بابي نصر، وضرب. (الزبَيْرَ خِدْمَةَ الْبَيْتِ) الإضافة بمعنى "في"؛ أي: خدمة كائنة في البيت، من الطحن، والعَجْن، والخبز، ونحو ذلك. (وَكَانَ لَهُ فَرَسٌ، وَكُنْتُ أَسُوسُهُ)؛ أي: أقوم بما يحتاج إليه، من مأكول، ونحوه. (فَلَمْ يَكُنْ مِنَ الْخِدْمَةِ شَيءٌ أَشَدَّ عَلَى مِنْ سِيَاسَةِ الْفَرَسِ) وقد بينت تلك السياسة الشديدة بقولها:(كُنْتُ أَحْتَشنُ لَهُ)؛ أي: أجمعه له، يقال: احتشّ الحشيشَ: إذا طلبه، وجَمَعه، قاله المجد

(1)

، وقال الفيوميّ: الحَشِيشُ: اليابس من النبات، فَعِيل بمعنى فاعل، قال في "مختصر العين": الحَشِيشُ: اليابس من العُشْب، وقال الفارابيّ: الحَشِيشُ: اليابس من الْكَلإ، قالوا: ولا يقال للرَّطْب: حَشِيشٌ، وحَشَشْتُهُ حَشًا، من باب قتل: قطعته بعد جفافه، فهو فَعِيل بمعنى مفعول. انتهى

(2)

.

(وَأقومُ عَلَيْهِ)؛ أي: أقوم بتقديم ما يحتاج إليه، وقولها:(وَأَسُوسُهُ) مِنْ عَطْف المرادف؛ لأن السياسة هي القيام، يقال: ساس الأمرَ يسوسه: إذا دبّره، وقام به. (قَالَ) ابن أبي مليكة، راويًا عن أسماء، وفي بعض النسخ:"قالت"؛ أي: أسماء رضي الله عنها، (ثُمَّ إِنَّهَا أَصَابَتْ) هذا من الالتفات على نسخة "قالت"؛ لأن الظاهر أن تقول:"ثم إني أصبت"(خَادِمًا) ثم بيّنت كيفيّة إصابتها الخادم

(1)

"القاموس المحيط" ص 292.

(2)

"المصباح المنير" 1/ 137.

ص: 676

بقولها: (جَاءَ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم) بالنصب على أنه مفعول مقدّم، والفاعل قولها:(سَبْيٌ) بفتح السين المهملة، وسكون الموحّدة، آخره ياء، بوزن ظَبْي، بمعنى مسبيّ، قال المجد رحمه الله: سبى العدوّ سَبْيًا، وسِباءً: أسره، كاستباه، فهو سبيٌ، وهي سبيٌ أيضًا، جمعه سبايا. انتهى

(1)

. وقال الفيّوميّ رحمه الله: سَبَيْتُ العدوّ سَبْيًا، من باب رَمَى، والاسم: السبَاءُ، وزانُ كتاب، والقصر لغة، وأَسْبَيْتُهُ مثله، فالغلام: سَبِيٌّ، ومَسْبِيٌّ، والجارية: سَبِيةٌ، ومَسْبِيَّةٌ، وجَمْعها: سَبَايَا، مثلُ عَطِيّةٍ وعَطَايَا، وقوم سَبْيٌ وَصْفٌ بالمصدر، قال الأصمعي: لا يقال للقوم إلا كذلك. انتهى

(2)

.

(فَأَعْطَاهَا) صلى الله عليه وسلم (خَادِمًا) لا يُعرف اسمها، وقد تقدّم أنها جارية، وأن الخادم يُطلق على الذكر والأنثى. (قَالَتْ) أسماء رضي الله عنها (كفَتْنِي سِيَاسَةَ الْفَرَس، فَألقَتْ عَنِّي مَئُونَتَهُ)؛ أي: ثِقله

(3)

، قال الفيّوميّ رحمه الله: المَئُونَةُ: النقْلُ، وفيها لغات: إحداها: على فَعُولة، بفتح الفاء، وبهمزة مضمومة، والجمع مَئُونات، على لفظها، ومَأنْتُ القومَ أَمْأنُهُم، مهموز بفتحتين، واللغة الثانية: مُونَة بهمزة ساكنة، قال الشاعر:

أَمِيرُنَا مُؤنَتُهُ خَفِيفَةٌ

والجمع: مُؤَن، مثل غُرْفة وغُرَف، والثالثة: مُونَة بالواو، والجمع: مُوَن، مثلُ سُورة وسُوَر، يقال منها: مَانَهُ يَمُونُهُ، من باب قال. انتهى

(4)

.

(فَجَاءَني رَجُلٌ) لا يُعرف اسمه

(5)

، (فَقَالَ: يَا أمّ عَبْدِ الله) كنية أسماء رضي الله عنها (إِنَّي رَجُلٌ فَقِيرٌ، أرَدْتُ أَنْ أَبِيعَ في ظلِّ دَارِكِ)؛ أي: قصدت أن أتّجر، وأفتح محلّ بيع في الظلّ الذي يكون من دارك، فأذَنِي لي في ذلك.

وقال القرطبي رحمه الله: استئذان الفقير لأم عبد الله - وهي أسماء ابنة أبي بكر - في أن يبيع في ظل دارها يدل على أن المتقرَّر المعلوم من الشرع أن فناء الدار ليس لغير ربِّها القعودُ فيها للبيع إلا بإذنه، فإذا أذِن جاز ما لم يضرّ

(1)

"القاموس المحيط" ص 592.

(2)

"المصباح المنير" 1/ 265.

(3)

"الثّقَل"، وزانُ عنب، وتسكّن قافه للتخفيف.

(4)

"المصباح المنير" 2/ 586.

(5)

"تنبيه العلم" ص 372.

ص: 677

بغيره؛ من تضييق طريق، أو اطلاع على عورة منزل غيره، ولربِّ الدار أن يمنعه؛ لأنَّ الأفنية حقّ لأرباب المنازل؛ لأنَّ عمر رضي الله عنه قضى بالأفنية لأرباب الدور، قال ابن حبيب: وتفسير هذا يعني: بالانتفاع للمجالس، والمرابط، والمصاطب، وجلوس الباعة فيها للبياعات الخفيفة، وليس بأن ينحاز بالبنيان، والتحظير.

قال القرطبيّ: وعلى هذا فليس لربِّ الدار التصرف في فنائها ببناء دكان، أو غيره مما يثبت ويدوم؛ لأنَّه من المنافع المشتركة بينه وبين الناس؛ إذ للناس فيه حقّ العبور، والوقوف، والاستراحة، والاستظلال، وما أشبه هذه الأمور، لكنه أخصُّ به، فيجوز له من ذلك ما لا يجوز لغيره، من مرافقه الخاصّة به، كبناء مِصطبّة لجلوسه، ومربط فرسه، وحطّ أحماله، وكنس مرحاضه، وتراب بيته، وغير ذلك مما يكون من ضروراته.

وعلى هذا فلا يفعل فيها ما لا يكون من ضرورات حاجاته، كبناء دكان للباعة، أو تحظيره عن الناس، أو إجارته لمن يبيع فيه؛ لأنَّ ذلك كله مَنْع الناس من منافعهم التي لهم فيه، وليس كذلك الإذن في البيع الخفيف بغير أجر؛ لأنَّ ذلك من باب الرفق بالمحتاج، والفقير.

وأصل الطرق، والأفنية للمرافق، ولو جاز أن يحاز الفناء ببناء ونحوه للزم أن يكون لذلك البناء فناء، ويتسلسل إلى أن تذهب الطرق، وترتفع المرافق. انتهى

(1)

.

(قَالَتْ) أسماء (إِنِّي إِنْ رَخَّصْتُ لَكَ أَبَى ذَاكَ) وفي نسخة: "ذلك"، (الزُّبَيْرُ، فَتَعَالَ: فَاطْلُبْ إِلي، وَالزُّبَيْرُ شَاهِدٌ) جملة حاليّة من ياء المتكلّم، (فَجَاءَ) ذلك الفقير (فَقَالَ: يَا أمّ عَبْدِ الله، إِنِّي رَجُل فَقِيرٌ، أَرَدْتُ أَنْ أَبِيعَ في ظِلِّ دَارِكِ)؛ أي: فَأْذَنِي لي في ذلك. (فَقَالَتْ) أسماء (مَا لَكَ) بتقدير همزة الاستفهام؛ أي: أما لك (بِالْمَدِينَةِ إِلَّا دَارِي؛) وهذا قالته لتخفي الأمر على الزبير. (فَقَالَ لَهَا) فيه أن هذا من الالتفات، إذ الأصل أن تقول: فقال لي (الزُّبَيْرُ) رضي الله عنه (مَا) نافية (لَكِ أَنْ تَمْنَعِي رَجُلًا فَقِيرًا يَبِيعُ) في ظلّ دارك، وهذا يدلّ على شدّة شفقة الزبير رضي الله عنه، مع شدّة غيرته.

(1)

"المفهم" 5/ 521 - 522.

ص: 678

قال النوويّ رحمه الله: قولها في الفقير الذي استأذنها في أن يبيع في ظلّ دارها، وذكرت الحيلة في استرضاء الزبير هذا فيه حُسْن الملاطفة في تحصيل المصالح، ومداراة أخلاق الناس في تتميم ذلك، والله أعلم. انتهى

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: وتوقّف أسماء رضي الله عنها في الإذن للفقير إلى أن يأذن الزبير، إنما كان مخافة غيرة الزبير، أو يكون في ذلك شيء يتأذى به الزبير، وحسنُ أدب، وكَرَمُ خُلُق حتى لا تتصرَّف في شيء من مالها إلا بإذن زوجها، وأمْرها للفقير بأن يسألها ذلك بحضرة الزبير لتستخرج بذلك ما عند الزبير من كرم الخلق، والرغبة في فعل الخير، وليشاركها في الأجر، وذلك كلُّه منها حسنُ سياسة، وجميلُ ملاطفة، تدلُّ على انشراح الصدور، وصدق الرغبة في الخير. انتهى

(2)

.

(فَكَانَ يَبِيعُ إِلَى أَنْ كسَبَ) بفتح السين المهملة، من باب ضرب؛ أي: ربح مالًا، قال الفيّوميّ: كَسَبْتُ مالًا كَسْبًا، من باب ضَرَبَ: ربحته، واكْتَسَبْتُهُ كذلك، وكَسَبَ لأهله، واكْتَسَبَ: طلب المعيشة، وكَسَبَ الاثمَ، واكْتَسَبَهُ: تحمله، ويتعدى بنفسه إلى مفعول ثالث، فيقال: كَسَبْتُ زيدًا مالًا، وعلمًا؛ أي: أنلته، قال ثعلب: وكلهم يقول: كَسَبَكَ فلان خيرًا، إلا ابن الأعرابيّ، فإنه يقول: أَكْسَبَكَ - بالألِف. انتهى

(3)

.

(فَبِعْتهُ الْجَارِيَةَ)؛ أي: بعت تلك الجارية التي أعطاني النبيّ صلى الله عليه وسلم من النبي من ذلك الرجل، و"باع" يتعدّى بنفسه إلى مفعولين، قال الفيّوميّ رحمه الله: بَاعَهُ يَبِيعُهُ بَيْعًا، ومَبِيعًا، فهو بَائِعٌ، وبَيْعٌ، وأَبَاعَة بالألف لغة، قاله ابن القطاع، والبَيْعُ من الأضداد، مثل الشراء، ويُطلق على كلّ واحد من المتعاقدين أنه بَائِعٌ، ولكن إذا أطلق البَائِعُ فالمتبادر إلى الذهن باذل السلعة، ويطلق البَيْعُ على المبيع، فيقال: بَيْعٌ جَيِّدٌ، ويُجمع على بُيُوعٍ، وبِعْتُ زيدًا الدارَ يتعدى إلى مفعولين، وكَثُر الاقتصار على الثاني؛ لأنه المقصود بالإسناد، ولهذا تتمّ به الفائدة، نحو: بعتُ الدارَ، ويجوز الاقتصار على الأول، عند عدم اللَّبْس، نحو بعتُ الأميرَ؛ لأن الأمير لا يكون مملوكًا يباع، وقد تدخل "مِنْ" على

(1)

"شرح النووي" 14/ 167.

(2)

"المفهم" 5/ 522.

(3)

"المصباح المنير" 2/ 532.

ص: 679

المفعول الأول، على وجه التوكيد، فيقال: بعتُ من زيد الدارَ كما يقال: كتمته الحديثَ، وكتمت منه الحديثَ، وسرقتُ زيدًا المالَ، وسرقت منه المالَ، وربما دخلت اللام مكان "مِنْ"، يقال: بعتك الشيءَ، وبعته لك، فاللام زائدة، زيادتها في قوله تعالى:{وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ} [الحج: 26]، والأصل بوأنا إبراهيم. انتهى

(1)

.

قال القرطبيّ رحمه الله: وبيعها للجارية من غير إذن الزبير يدلّ على أن للمرأة التصرُفَ في مالها بالبيع، والابتياع، من غير إذن الزوج، وليس له مَنْعها من ذلك، إذا لم يضرُه ذلك في خروجها، ومشافهتها للرجال بالبيع، والابتياع، فله مَنْعها مما يؤدي إلى ذلك. انتهى

(2)

.

(فَدَخَلَ عَلَيَّ الزُّبَيْرُ، وَثَمَنُهَا في حَجْرِي) جملة حاليّة، وحَجْرُ الإنسان بالفتح، وقد يُكسر: حِضْنُهُ، وهو ما دون إبطه إلى الْكَشْح، ويقال: هو في حجْره؛ أي: كَنَفه، وحمايته، قاله الفيّوميّ.

قال الجامع عفا الله عنه: وما هنا من المعنى الثاني؛ أي: والحال أن ثمن تلك الجارية كان في حوزتي وحفظي، ورعايتي، والله تعالى أعلم.

(فَقَالَ) الزبير (هَبِيهَا لِي)؛ أي: هذه الدراهم التي هي ثمن تلك الجارية، و"هَبي" أمر مؤنّث، من وهب يهب، يقال: وهَبْتُ لزيد مالًا أهَبُهُ له هِبَة: أعطيته بلا عِوَضٍ، يتعدى إلى الأول باللام، وفي التنزيل:{يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ} [الشورى: 49] ووَهْبًا بفتح الهاء، وسكونها، ومَوْهِبًا، ومَوْهِبَةً، بكسرهما، قال ابن الْقُوْطِيَّة، والسَّرَقُسْطِيّ، والْمُطَرِّزِيّ، وجماعة: ولا يتعدى إلى الأول بنفسه، فلا يقال: وَهَبْتُكَ مالًا، والفقهاء يقولونه، وقد يُجعل له وجهٌ، وهو أن يُضَمَّن وَهَبَ معنى جَعَلَ

(3)

، فيتعدّى

(1)

"المصباح المنير" 1/ 69.

(2)

"المفهم" 5/ 522.

(3)

اعترض بعضهم هذا، فقال: جَعَل الناصبة مفعولين لا يُمكن تضمين معناها وهَبَ؛ إذ يُشترك أن يكون مفعولاها مبتدأ وخبرًا في الأصل، والمال لا يُخبر به عن زيد، فالأولى أن يقال: أن يُضمّن وَهَب معنى أعْطى كان صوابًا، والله تعالى أعلم.

انتهى بتصرّف من هامش "المصباح".

ص: 680

بنفسه إلى مفعولين، ومن كلامهم:"وَهَبَنِي الله فداك"؛ أي: جعلني، لكن لم يُسْمَع في كلام فصيح، وزيد مَوْهُوبٌ له، والمال مَوْهُوبٌ، واتّهَبْتُ الهِبةَ: قبلتها، واسْتَوهَبْتُها: سألتها، وتَواهَبُوا: وهب بعضُهم لبعض، قاله الفيّوميّ رحمه الله

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: وسؤال الزبير رضي الله عنه لها أن تهبه ثمن الجارية دليل على أن الزوج ليس له أن يتحكم عليها في مالها بأخذ، ولا غيره؛ إذ لا ملك له في ذلك، إنَّما له فيه حقّ التجمُّل، وكفاية بعض المؤن، ولذلك منعناها من إخراج كل مالها، أو جلَّه، كما تقدَّم في النكاح. انتهى

(2)

.

(قَالَتْ) أسماء رضي الله عنها (إِنِّي قَدْ تَصَدَّقْتُ بِهَا)؛ أي: بتلك الدراهم، قال القرطبيّ رحمه الله: وَهِبَتُها لثَمن الجارية من غير إذن الزبير دليل على جواز هبة المرأة بعض مالها بغير إذن الزوج، لكن إن أجازه الزوج جاز، وإن مَنَعَه، فإن كان الثلث فَدُوْن لم يكن له المنع، وإن كان أكثر كان له منع الزائد على الثلث على ما تقدَّم؛ هذا إذا وَهَبَتْه لأجنبي؛ فإنْ وهبته لزوجها، فلا يفرَّق بين ثلث ولا غيره؛ لأنَّها إذا طابت نفسها بذلك جاز، ولأن الفرق بين الثلث وغيره إنما كان لحقّ الزوج؛ لئلا تُفَوِّت عليه ما له فيه من حقّ التجمُّل، ولئلا يمنعها أيضًا من إعطاء ما طابت به نفسها، فينفذ عطاؤها في الثلث، ويردّ فيما زاد عليه، وقيل: يردُّ في الجميع، وهو المشهور. انتهى

(3)

.

قال الجامع عفا الله عنه: التقييد بالثلث مما لا دليل عليه، بل الأدلّة الكثيرة تدلّ على الجواز مطلقًا، ومنها حديث قصّة أسماء هذا، وحديث ابن عباس رضي الله عنهما "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج، ومعه بلال، فظنّ أنه لم يُسمع، فوعظهنّ، وأمرهنّ بالصدقة، فجعلت المرأة تُلقي القُرْط والخاتم، وبلال يأخذ في طرف ثوبه" متفقٌ عليه، فلم يستفصلهنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم هل هو ثلث مالهنّ أم لا؟ فدلّ على التقييد بالثلث غير معتبَر، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(1)

"المصباح المنير" 2/ 674.

(2)

"المفهم" 5/ 522.

(3)

"المفهم" 5/ 522.

ص: 681

(15) - (بَابُ تَحْرِيمِ مُنَاجَاةِ الاثْنَيْنِ دُونَ الثَّالِثِ بِغَيْرِ رِضَاهُ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5682]

(2183) - (حَدَّثنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَن رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِذَا كَانَ ثَلَاَثةٌ، فَلَا يَتَنَاجَى اثْنَانِ دُونَ وَاحِدٍ").

رجال هذا الإسناد: أربعة:

وكلهم تقدّموا قبل ثلاثة أبواب.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (440) من رباعيّات الكتاب، وأنه أصحّ أسانيد ابن عمر رضي الله عنهما، على ما نُقل عن البخاريّ رحمه الله، قال: أصحّ الأسانيد مالك، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما، روى الخطيب بسنده عن يحيى بن بُكير أنه قال لأبي زُرعة الرازيّ: يا أبا زرعة ليس ذا زَعْزَعة عن زَوْبَعة، إنما ترفع الستر، فتنظر إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، والصحابة: حدّثنا مالك، عن نافع، عن ابن عمرو رضي الله عنهما

(1)

.

شرح الحديث:

(عَنِ ابْنِ عُمَرَ) رضي الله عنهما (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِذَا كَانَ ثَلَاَثةٌ)"كان "تامّة، بمعنى وُجِدَ، ولذا اكتفت بمرفوعها، كما قال الحريريّ رحمه الله في "ملحة الإعراب":

وَإِنْ تَقُلْ يَا قَوْمِ قَدْ كَانَ الْمَطَرْ

فَلَسْتَ تَحْتَاجُ لَهَا إِلَى خَبَرْ

وقال في "الخلاصة":

وَذُو تَمَامٍ مَا بِرَفْعٍ يَكْتَفِي

(فَلَا يَتَنَاجَى اثْنانِ) وكذا هو عند البخاريّ في رواية الأكثرين: "يتناجى"

(1)

راجع: "تدريب الراوي" 1/ 78.

ص: 682

بألف مقصورة ثابتة في الخط صورة ياء، وتسقط في اللفظ؛ لالتقاء الساكنين، وهو بلفظ الخبر، ومعناه النهي، وفي بعض النسخ:"يَتَناجَ" بجيم فقط، بلفظ النهي، وبمعناه

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "فلا يتناجى اثنان" الرواية المشهورة فيه: "يتناجى" بألف مقصورة ثابتة في الخط، غير أنَّها تسقط في اللفظ؛ لالتقاء الساكنين، فهو خبر عن المشروعية، ويتضمن النهي عن ذلك، وقد وقع في بعض النسخ:"فلا يتناج" بغير ألف، على النهي، وهي واضحة. انتهى

(2)

.

والتناجي: تفاعلٌ من المناجاة، وهي الْمُسَارّة، والتحادُثُ سرًّا، وانتجى القومُ، وتناجوا؛ أي: سَارَّ بعضهم بعضًا.

وزاد أيوب، عن نافع في رواية للبخاريّ:"فإن ذلك يحزنه"، وهي عند مسلم في حديث ابن مسعود رضي الله عنه الآتي في الباب، ولفظه:"إذا كنتم ثلاثةً فلا يتناجى اثنان دون الآخر حتى تختلطوا بالناس من أجل أن يحزنه"، وفي رواية:"إذا كنتم ثلاثةً فلا يتناجى اثنان دون صاحبهما، فإن ذلك يحزنه"، قال أهل اللغة: يقال: حَزَنه، وأحزنه، وقُرئ بهما في السبع.

(دُونَ وَاحِدٍ) وفي حديث ابن مسعود: "دون الآخر"، وفي لفظ:"دون صاحبهما".

وقال القرطبيّ رحمه الله: وقد زاد في الرواية الأخرى زيادة حسنة، فقال:"حتى يختلطوا بالناس"، فبيَّن غاية المنع، وهو أن يجد الثالث من يتحدث معه، كما فعل ابن عمر رضي الله عنهما، وذلك أنه كان يتحدث مع رجل، فجاء آخر يريد أن يناجيه، فلم يناجه حتى دعا رابعًا، فقال له وللأول: تأخّرا، وناجى الرجل الطالب للمناجاة، وقد نبَّه في هذه الزيادة على التعليل بقوله:"فإنَّ ذلك يحزنه"؛ أي: يقع في نفسه ما يحزن لأجله، وذلك بأن يقدِّر في نفسه أن الحديث عنه بما يَكْرَه، أو أنهم لم يروه أهلا ليشركوه في حديثهم إلى غير ذلك من ألقيات الشيطان، وأحاديث النفس، وحصل ذلك كله من بقائه وحده، فإذا

(1)

راجع: "الفتح" 14/ 255، كتاب "الاستئذان" رقم (6288).

(2)

"المفهم" 5/ 524.

ص: 683

كان معه غيره أَمِن ذلك، وعلى هذا يستوي في ذلك كل الأعداد، فلا يتناجى أربعة دون واحد، ولا عشرة، ولا ألفٌ مثلًا؛ لوجود ذلك المعنى في حقه، بل وجوده في العدد الكثير أمكن، وأوقع، فيكون بالمنع أَولى، وإنما خصَّ الثلاثة بالذِّكر؛ لأنه أول عدد يتأتى فيه ذلك المعنى.

وظاهر هذا الحديث يعمّ جميع الأزمان والأحوال، وإليه ذهب ابن عمر، ومالك، والجمهور.

وقد ذهب بعض الناس إلى أن ذلك كان في أول الإِسلام؛ لأنَّ ذلك كان حال المنافقين، فيتناجى المنافقون دون المؤمنين، فلما فشا الإِسلام سقط ذلك، وقال بعضهم: ذلك خاصٌّ بالسفر، وفي المواضع التي لا يأمَن الرجل فيها صاحبه، فأمَّا في الحضر، وبين العمارة فلا.

قال القرطبيّ: وكل ذلك تحكُّم، وتخصيصٌ لا دليل عليه، والصحيح ما صار إليه الجمهور، والله تعالى أعلم بحقائق الأمور. انتهى

(1)

.

وقال النوويّ رحمه الله: وفي هذه الأحاديث النهي عن تناجي اثنين بحضرة ثالث، وكذا ثلاثة، وأكثر بحضرة واحد، وهو نهي تحريم، فيحرم على الجماعة المناجاة دون واحد منهم، إلا أن يأذن.

ومذهب ابن عمر رضي الله عنهما، ومالك، وأصحابنا، وجماهير العلماء، أن النهي عام في كل الأزمان، وفي الحضر، والسفر.

وقال بعض العلماء: إنما المنهيّ عنه المناجاة في السفر دون الحضر؛ لأن السفر مَظِنّة الخوف، وادَّعَى بعضهم أن هذا الحديث منسوخ، وكان هذا في أول الإِسلام، فلما فشا الإِسلام، وأَمِن الناسُ سقط النهيُ، وكان المنافقون يفعلون ذلك بحضرة المؤمنين؛ ليحزنوهم، أما إذا كانوا أربعة، فتناجى اثنان دون اثنين، فلا بأس بالإجماع. انتهى، والله تعالى أعلم.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا متّفق عليه.

(1)

"المفهم" 5/ 524 - 525.

ص: 684

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [15/ 5682 و 5683](2183)، و (البخاريّ) في "الاستئذان"(6288) وفي "الأدب المفرد"(1168)، و (أبو داود) في "الأدب"(4852)، و (ابن ماجه) في "الأدب"(3776)، و (مالك) في "الموطّأ"(2/ 988)، و (الحميديّ) في "مسنده"(645 و 646)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(8/ 581)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 45 و 121 و 123 و 126 و 141 و 146)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 367)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(580 و 581 و 582)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(1/ 152)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(9/ 474)، و (ابن الجعد) في "مسنده"(1/ 183)، و (البزّار) في "مسنده"(5/ 98)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(3/ 232) و"شعب الإيمان"(7/ 511)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(3508 و 3510)، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5683]

(

) - (وَحَدَّثَنَا أبو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ، وَابْن نُمَيْرٍ (ح) وَحَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدّثَنَا أَبِي (ح) وَحَدَّثَنَا محمدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَعُبَيْدُ الله بْنُ سَعِيدٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا يَحْيَى - وَهُوَ ابْنُ سَعِيدٍ - كلُّهُمْ عَنْ عُبَيْدِ الله (ح) وَحَدَّثنَا قُتَيْبَةُ، وَابْن رُمْحٍ، عَنِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ (ح) وَحَدَّثنَا أبو الرَّبِيع، وَأبو كَامِلٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا حَمَّاد عَنْ أيّوبَ (ح) وَحَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، حَدّثَنَا محمدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثنَا شُعْبَةُ، قَالَ: سَمِعْتُ أيُّوبَ بْنَ مُوسَى، كلُّ هَؤُلَاءِ عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمَعْنَى حَدِيثِ مَالِكٍ).

رجال هذه الأسانيد: واحد وعشرون:

1 -

(عبَيْدُ اللهِ بْنُ سَعِيدٍ) أبو قدامة السرخسيّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ) غُندر تقدّم أيضًا قريبًا.

3 -

(شُعْبَةُ) بن الحجّاج، تقدّم أيضًا قريبًا.

4 -

(أيوبُ بْنُ مُوسى) بن عمرو بن سعيد بن العاص، أبو موسى الأمويّ المكيّ، ثقةٌ [6](ت 132)(ع) تقدم في "الحيض" 11/ 750.

والباقون تقدّموا في الأبواب الأربعة الماضية.

ص: 685

وقوله: (كُلُّهُمْ عَنْ عُبَيْدِ اللهِ)، يعني: أن هؤلاء الثلاثة: محمد بن بشر، وعبد الله بن نمير، ويحيى القطّان رووا عن عبيد الله بن عمر الْعُمريّ

إلخ.

وقوله: (كُلُّ هَؤُلَاءِ عَنْ نَافِعٍ

إلخ)، يعني: أن هؤلاء الأربعة، وهم: عبيد الله بن عمر، والليث بن سعدَ، وأيوب السختيانيّ، وأيوب بن موسى رووا هذا الحديث عن نافع، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِي صلى الله عليه وسلم بِمَعْنَى حَدِيثِ مَالِكٍ، أي: لا بلفظه.

[تنبيه]: هذه الأسانيد مختلفة، فسند عبيد الله بن عمر من خماسيّات المصنّف، وكذا سند أيوب السختيانيّ، وأما سند الليث بن سعد، فمن رباعيّاته، وهو (441) من رباعيّات الكتاب، وأما سند أيوب بن موسى، فمن سُداسيّاته، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

[تنبيه آخر]: رواية عبيد الله بن عُمر عن نافع ساقها أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(6270)

- حدّثنا ابنُ نُمير، ثنا عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إذا كانوا ثلاثةً، فلا يتناجى اثنان، دون واحد". انتهى

(1)

.

وساقها ابن عبد البرّ رحمه الله في "التمهيد" بسند المصنّف، فقال:

حدّثنا سعيد بن نصر، وعبد الوارث بن سفيان، قالا: حدّثنا قاسم بن أصبغ، قال: حدّثنا محمد بن وضاح، قال: حدّثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: حدّثنا ابن نمير، ومحمد بن بشر، قالا: حدّثنا عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا كان ثلاثةٌ، فلا يتناجى اثنان دون الآخر". انتهى

(2)

.

ورواية الليث عن نافع ساقها ابن عبد البرّ رحمه الله في "التمهيد"، فقال:

وحدّثنا أحمد بن قاسم، قال: حدّثنا محمد بن معاوية، قال: حدثنا جعفر بن محمد العريانيّ، قال: حدّثنا قتيبة بن سعيد، قال: حدّثنا حماد بن

(1)

"مسند الإِمام أحمد بن حنبل" 2/ 141.

(2)

"التمهيد لابن عبد البرّ" 15/ 289.

ص: 686

زيد، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إذا كان ثلاثةَ نفرٍ، فلا يتناجى اثنان دون الثالث". انتهى

(1)

.

ورواية أيوب السختيانيّ، عن نافع ساقها البيهقيّ رحمه الله في "الكبرى"، فقال:

(5688)

- أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرني أبو النضر، حدّثني الحسن بن سفيان، ثنا أبو كامل، قال: وأخبرني أبو عمرو، أنبأ أبو يعلى، ثنا أبو الربيع، قالا: ثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا كانوا ثلاثةً فلا يتناجى اثنان، دون الثالث، ولا يقيم الرجل الرجل من مجلسه، ثم يجلس فيه". انتهى

(2)

.

وأما رواية أيوب بن موسى عن نافع، فلم أجد من ساقها، فليُنظَر، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5684]

(2184) - (حَدثنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَهَنَّادُ بْنُ السَّرِيّ، قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو الأَحْوَص، عَنْ مَنْصُورٍ (ح) وَحَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْب، وَعُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ - وَاللَّفْظُ لِزُهَيْرٍ - قَالَ إِسْحَاقُ: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ الآخَرَانِ: حَدثنَا - جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ الله، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا كُنْتُمْ ثَلَاَثةً فَلَا يَتَنَاجَى اثْنَانِ دُونَ الأخَر، حَتَّى تَخْتَلِطُوا بِالنَّاس، مِنْ أَجْلِ أَنْ يُحْزِنَهُ").

رجال هذه الأسانيد: عشرة:

1 -

(هَئادُ بْنُ السَّرِيِّ) بن مُصعب التميميّ، أبو السّري الكوفيّ، ثقةٌ وله (91) سنةً (عخ م 4) تقدم في "الإيمان" 64/ 365.

2 -

(أَبُو الأَحْوَصِ) سلّام بن سُليم الحنفيّ مولاهم الكوفيّ، ثقةٌ متقنٌ فاضلٌ (ت 179)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 115.

3 -

(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

(1)

"التمهيد لابن عبد البرّ" 15/ 289.

(2)

"سنن البيهقيّ الكبرى" 3/ 232.

ص: 687

4 -

(عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) هو: عثمان بن محمد أبي شيبة بن إبراهيم بن عثمان العبسيّ، أبو الحسن الكوفيّ، ثقةٌ حافظ [10](ت 239) وله (83) سنة (خ م د س ق) تقدم في "الإيمان" 35/ 246.

5 -

(مَنْصُورُ) بن المعتمر بن عبد الله السلميّ، أبو عتّاب الكوفيّ [6](ت 132)(ع) تقدم في "شرح المقدمة" جـ 1 ص 296.

6 -

(أَبُو وَائِلٍ) شقيق بن سلمة الأسديّ الكوفيّ، مخضرمٌ ثقةٌ [2](ت 82 (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 57.

7 -

(عَبْدُ اللهِ) بن مسعود رضي الله عنه تقدّم قريبًا.

والباقون ذُكروا في الباب، وقبل باب.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسلٌ بالكوفيين، غير زهير، فبغداديّ، وإسحاق فنيسابوريّ، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، على قول من جعل منصورًا تابعيّ.

شرح الحديث:

(عَنْ عَبْدِ اللهِ) بن مسعود رضي الله عنه أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا كُنْتُمْ ثَلَاَثةً) بالنصب على أنه خبر "كان"، (فَلَا يَتَنَاجَى) هكذا الرواية عند مسلم بألف بعد الجيم، فعلى هذا فـ "لا" نافية، والفعل مرفوع، والنفي بمعنى النهي، ووقع في رواية للبخاريّ من رواية الكشميهنيّ:"فلا يتناج" بجيم ليس بعدها ألف، وعليه فـ "لا" ناهية، والفعل مجزوم بها.

قال أبو عمر رحمه الله: التناجي التسارّ، وذلك مكالمة الرجل أخاه عند أذُنه بما يُسِرّه من غيره، والنهي إنما ورد كما ترى إذا كانوا ثلاثة، وأما إذا كانوا أربعة فما فوقهم فلا بأس به. انتهى

(1)

.

(اثْنَانِ دُونَ الآخَرِ) وفي الرواية التالية: "دون صاحبهما"، وفي رواية ابن عمر السابقة:"دون واحد"، وذلك لأن الواحد إذا بقي فردًا، وتناجى اثنان

(1)

"التمهيد لابن عبد البرّ" 15/ 287.

ص: 688

حَزِن لذلك إذا لم يُسَارّاه فيها، ولأنه قد يقع في نفسه أن سرّهما في مضرّته

(1)

.

(حَتَّى تَخْتَلِطُوا بِالنَّاسِ)؛ أي: يختلط الثلاثة بغيرهم، والغير أعم من أن يكون واحدًا أو أكثر، ويؤخذ منه أنهم إذا كانوا أربعةً لم يمتنع تناجي اثنين؛ لإمكان أن يتناجى الاثنان الآخران، وقد ورد ذلك صريحًا فيما أخرجه البخاريّ في "الأدب المفرد"، وأبو داود، وصححه ابن حبان، من طريق أبي صالح، عن ابن عمر رضي الله عنهما، رفعه:"قلت: فإن كانوا أربعة؟ قال: لا يضرُّه"، وفي رواية مالك، عن عبد الله بن دينار: "كان ابن عمر إذا أراد أن يُسَارِرَ رجلًا، وكانوا ثلاثة دعا رابعًا، ثم قال للاثنين: استريحا شيئًا، فإني سمعت

"، فذكر الحديث، وفي رواية سفيان في "جامعه" عن عبد الله بن دينار نحوه، ولفظه: "فكان ابن عمر إذا أراد أن يناجي رجلًا دعا آخر، ثم ناجى الذي أراد"، وله من طريق نافع: "إذا أراد أن يناجي، وهم ثلاثةٌ دعا رابعًا"، ويؤخذ من قوله: "حتى تختلطوا بالناس" أن الزائد على الثلاثة؛ يعني: سواء جاء اتفاقًا، أم عن طلب، كما فعل ابن عمر رضي الله عنهما، قاله في "الفتح".

(مِنْ أَجْلِ أَنْ يُحْزِنَهُ") وفي رواية للبخاريّ: "أجل أن ذلك يحزنه" بحذف "مِنْ"، قال في "الفتح": قوله: "أجلِ أن ذلك يحزنه"؛ أي: من أجل، وكذا هو في "الأدب المفرد" بالإسناد الذي في "الصحيح" بزيادة "مِنْ"، قال الخطابيّ

(2)

: قد نطقوا بهذا اللفظ بإسقاط "مِنْ"، وذكر لذلك شاهدًا، ويجوز كسر همزة "إنّ ذلك"، والمشهور فتحها، قال: وإنما قال: "يحزنه" لأنه قد يتوهم أن نجواهما إنما هي لسوء رأيهما فيه، أو لدسيسة غائلة له.

وقوله: (يُحْزِنَهُ) بضمّ أوله، وكسر ثالثه، من أحزنه كأخرجه، أو بفتح أوله، وضمّ ثالثه، من الْحَزْن، قال المجد رحمه الله: وحَزنه الأمرُ حُزْنًا بالضمّ، وأحزنه، أو أحزنه جعله حزينًا، وحَزَنه جعل فيه حُزنا. انتهى، وقال الفيّوميّ رحمه الله: حَزِنَ حَزَنًا، من باب تَعِبَ، والاسم: الحُزْنُ، بالضمّ، فهو حَزِين، ويتعدى في لغة قريش بالحركة، يقال: حَزَنَنِي الأمرُ يَحْزُنُنِي، من باب قَتَلَ، قاله ثعلب، والأزهريّ، وفي لغة تميم بالألف، ومَثلَ الأزهريّ باسم

(1)

"عمدة القاري" 22/ 269.

(2)

راجع: "الأعلام" 3/ 2235.

ص: 689

الفاعل، والمفعول، في اللغتين على بابهما، ومنع أبو زيد استعمال الماضي من الثلاثيّ، فقال: لا يقال: حَزَنَهُ، وإنما يُستعمل المضارع من الثلاثيّ، فيقال: يَحْزُنُهُ. انتهى

(1)

.

قال الحافظ: ويؤخذ من التعليل استثناء صورة مما تقدم عن ابن عمر، من إطلاق الجواز إذا كانوا أربعةً، وهي مما لو كان بين الواحد الباقي، وبين الاثنين مقاطعة بسبب يُعذران به، أو أحدهما، فإنه يصير في معنى المنفرد، وأرشد هذا التعليل إلى أن المناجي إذا كان ممن إذا خَصَّ أحدًا بمناجاته أحزن الباقين امتنعَ ذلك، إلا أن يكون في أمر مهمّ لا يقدح في الدين، وقد نقل ابن بطال

(2)

، عن أشهب، عن مالك قال: لا يتناجى ثلاثة دون واحد، ولا عشرة؛ لأنه قد نُهي أن يترك واحدًا، قال: وهذا مستنبط من حديث الباب؛ لأن المعنى في ترك الجماعة للواحد كترك الاثنين للواحد، قال: وهذا من حسن الأدب؛ لئلا يتباغضوا، ويتقاطعوا.

وقال المازريّ

(3)

، ومن تبعه: لا فرق في المعنى بين الاثنين، والجماعة، لوجود المعنى في حقّ الواحد، زاد القرطبيّ

(4)

: بل وجوده في العدد الكثير أمكن، وأشدّ، فليكن المنع أَولى، وإنما خصّ الثلاثة بالذِّكر؛ لأنه أول عدد يُتَصَوَّر فيه ذلك المعنى، فمهما وُجد المعنى فيه أُلحق به في الحكم، قال ابن بطال

(5)

: وكلما أكثر الجماعة مع الذي لا يناجَى كان أبعد لحصول الحزن، ووجود التهمة، فيكون أَولى.

واختُلِف فيما إذا انفرد جماعة بالتناجي دون جماعة، قال ابن التين: وحديث عائشة رضي الله عنها في قصة فاطمة دالّ على الجواز

(6)

، والله تعالى أعلم.

(1)

"المصباح المنير" 1/ 134.

(2)

راجع: "شرح البخاريّ" لابن بطّال 9/ 64.

(3)

راجع: "المعلم" 3/ 90.

(4)

راجع: "المفهم" 5/ 525.

(5)

"شرح البخاريّ" لابن بطّال 9/ 64.

(6)

"الفتح" 14/ 257 - 258، كتاب "الاستئذان" رقم (6290).

ص: 690

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه هذا متّفق عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [15/ 5684 و 5685 و 5686](2184)، و (البخاريّ) في "الاستئذان"(6290) وفي "الأدب المفرد"(1169 و 1171)، و (أبو داود) في "الأدب"(4851)، و (الترمذيّ) في "الأدب"(2825)، و (ابن ماجه) في "الأدب"(3775)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(8/ 581)، و (الحميديّ) في "مسنده"(109)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 375 و 425 و 431 و 460 و 462 و 464)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 282)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(583)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(9/ 65)، و (ابن الجعد) في "مسنده"(1/ 309)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان النهي عن تناجي الاثنين إذا كان معهما ثالث، إلا إذا كانوا أكثر من ثلاثة؛ لانتفاء العلة التي نُصّ عليها، وهي أنه يحزنه انفراده، وإيهام أنه ممن لا يؤهل للسرّ، أو يوهمه أن الخوض من أجله.

2 -

(ومنها): أنه دلّت العلة على أنهم إذا كانوا أربعةً فلا نهي عن انفراد اثنين بالمناجاة؛ لفقد العلة.

3 -

(ومنها): أن ظاهره عامّ لجميع الأحوال، في سفر، أو حضر، وإليه ذهب ابن عمر، ومالك، وجماهير العلماء، وادَّعَى بعضهم نَسْخه، ولا دليل عليه.

وأما الآيات في "سورة المجادلة" فهي في نهي اليهود عن التناجي، كما أخرجه عبد بن حميد، وابن المنذر، عن مجاهد، في قوله تعالى:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى} الآية [المجادلة: 8] قال: اليهود، وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حَيَّان، قال: كان بين اليهود وبين النبي صلى الله عليه وسلم موادعة، فكانوا إذا مرّ بهم رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم جلسوا يتناجون بينهم، حتى يظن المؤمن

ص: 691

أنهم يتناجون بقتله، أو بما يكره المؤمن، فإذا رأى المؤمن ذلك خَشِيهم، فَتَرَك طريقه عليهم، فنهاهم النبيّ صلى الله عليه وسلم عن النجوى، فلم ينتهوا فأنزل الله:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى} الآية

(1)

، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5685]

(

) - (وَحَدَّثنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَأبو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ نُمَيْرٍ، وَأَبُو كُرَيْبٍ - وَاللَّفْظُ لِيَحْيَى - قَالَ يَحْيَى: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ الآخَرُونَ: حَدَّثنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الأَعْمَش، عَنْ شَقِيقٍ، عَنْ عَبْدِ الله، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا كُنْتُمْ ثَلَاَثةً فَلَا يَتَنَاجَى اثْنَانِ دُونَ صَاحِبِهِمَا، فَإن ذَلِكَ يُحْزِنُهُ").

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

وكلهم تقدّموا قريبًا.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، ولله الحمد والمنّة.

[5686]

(

) - (وَحَدَّثَنَاهُ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ (ح) وَحَدَّثنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثنَا سُفْيَانُ، كِلَاهُمَا عَنِ الأَعْمَش، بِهَذَا الإسْنَادِ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

وكلهم تقدّموا قريبًا، و"ابن أبي عمر" هو: محمد بن يحيى بن أبي عمر الْعَدنيّ، نزيل مكة. و"سفيان" هو: ابن عيينة.

وقوله: (كِلَاهُمَا عَنِ الأَعْمَشِ)؛ أي: عيسى بن يونس، وسفيان بن عيينة.

[تنبيه]: أما رواية عيسى بن يونس، فقد ساقها أبو داود في "سننه"، فقال:

(4851)

- وحدّثنا مسدد، ثنا عيسى بن يونس، ثنا الأعمش، عن شقيق، عن عبد الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا ينتجي اثنان دون الثالث، فإن ذلك يحزنه"

(2)

.

(1)

"سبل السلام شرح بلوغ المرام" للصنعانيّ: رحمه الله 4/ 152.

(2)

"سنن أبي داود" 4/ 263.

ص: 692

وأما رواية سفيان بن عيينة، فقد ساقها الحميديّ في "مسنده"، فقال:

(109)

- ثنا سفيان، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن عبد الله بن مسعود، يبلغ به النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"لا يتناجى اثنان دون الثالث، فإن ذلك يحزنه"

(1)

. والله تعالى أعلم.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

* * *

(1)

"مسند الحميديّ" 1/ 61.

ص: 693

‌40 - (كِتَابُ الطِّبِّ، والْمَرْضَى، وَالرُّقَى)

قال الجامع عفا الله عنه: أما "الطبّ"، فهو بكسر الطاء، وحُكي تثليثها، وهو العلاج الذي يُداوى به الجسم، ونحوه.

قال المجد رحمه الله: "الطبّ": مثلثة الطاء: علاج الجسم، والنفس، يطُبّ، وَيطِب - من بابي نصر، وضرب - والرفق، والسحر، وبالكسر: الشهوة، والإرادة، والشأن، والعادة، وبالفتح: الماهر الحاذق بعمله؛ كالطبيب، والبعيرُ يتعاهد موضع خُفّه، والفحل الحاذق بالضِّراب، وتغطية الْخُرَزِ بالطِّبَابة

(1)

؛ كالتطبيب، وبالضم: اسم موضع. انتهى

(2)

.

وقال في "العمدة": "الطبّ": علم يُعرَف به أحوال بدن الإنسان، من جهة ما يصحّ، ويزول عنه الصحة؛ لتُحفَظ الصحة حاصِلُهُ، وتُسْتَرد زائلُه، والطب على قسمين: أحدهما: العلم، والثاني: العمل.

والعلم هو معرفة حقيقة الغرض المقصود، وهو موضوع في الفكر الذي يكون به التدبير، والعمل هو خروج ذلك الموضوع في الفكر إلى المباشرة بالحسّ، والعمل باليد.

والعلم ينقسم إلى ثلاثة أقسام: أحدها: العلم بالأمور الطبيعية، والثاني: العلم بالأمور التي ليست بطبيعية، والثالث: العلم بالأمور الخارجة عن الأمر الطبيعي.

والمرض: هو خروج الجسم عن المجرى الطبيعيّ، والمداواة ردّه إليه، وحفظ الصحة بقاؤه عليه.

(1)

الطِّبابة بالكسر: السَّيْرُ يكون في أسفل القِرْبة.

(2)

"القاموس المحيط" ص 139.

ص: 694

وذكر ابن السِّيد في "مثله": أن الطبّ مثلث الطاء اسم الفعل، وأما الطب بفتح الطاء فهو الرجل العالم بالأمور، وكذلك الطبيب، وامرأة طبّة، والطب بالكسر: السحر، والطِّب: الداء، منَ الأضداد، والطِّب: الشهوة، هذه كلها مكسورة.

وفي "المنتهى" لأبي المعالي: والطب: الْحِذْق بالشيء، والرفق، وكلّ حاذق عند العرب طبيب، وإنما خصوا به المعالج دون غيره من العلماء تخصيصًا وتشريفًا، وجَمْع القلة: أَطِبّة، والكثرة: أطباء، والطب: طرائق ترى في شعاع الشمس إذا طلعت، وأما الطب الذي كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يشير إليه ينقسم إلى ما عرفه من طريق الوحي، وإلى ما عرفه من عادات العرب، وإلى ما يراد به التبرك؛ كالاستشفاء بالقرآن. انتهى

(1)

.

وقال في "الفتح": "الطبّ": بكسر المهملة، وحكى ابن السيد تثليثها، والطبيب هو الحاذق بالطبّ، ويقال له أيضًا: طَبّ بالفتح، والكسر، ومستطبّ، وامرأة طَبّ بالفتح، يقال: استطب: تعانى الطبّ، واستطبّ: استوصفه. ونقل أهل اللغة أن الطب بالكسر يقال بالاشتراك للمداوي، وللتداوي، وللداء أيضًا، فهو من الأضداد، ويقال أيضًا للرفق، والسحر، ويقال: للشهوة، ولطرائق تُرى في شعاع الشمس، وللحِذْق بالشيء، والطبيب: الحاذق في كل شيء، وخُصّ به المعالج عرفًا، والجمع في القلة: أَطِبّة، وفي الكثرة: أَطِبّاء.

والطب نوعان: طب جسد، وهو المراد هنا، وطب قلب، ومعالجته خاصّة بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم عن ربه سبحانه وتعالى، وأما طب الجسد فمنه ما جاء في المنقول عنه صلى الله عليه وسلم، ومنه ما جاء عن غيره، وغالبه راجع إلى التجربة، ثم هو نوعان: نوع لا يحتاج إلى فكر ونظر، بل فطر الله على معرفته الحيوانات، مثل ما يَدفع الجوع، والعطش، ونوع يحتاج إلى الفكر والنظر؛ كدَفْع ما يحدُث في البَدَن، مما يُخرجه عن الاعتدال، وهو إما إلى حرارة، أو برودة، وكل منهما إما إلى رطوبة، أو يبوسة، أو إلى ما يتركب منهما، وغالب ما يقاوم الواحد

(1)

"عمدة القاري" 21/ 229.

ص: 695

منهما بضده، والدفع قد يقع من خارج البدن، وقد يقع من داخله، وهو أعسرهما، والطريق إلى معرفته بتحقق السبب، والعلامة، فالطبيب الحاذق هو الذي يسعى في تفريق ما يضرّ بالبدن جَمْعه، أو عكسه، وفي تنقيص ما يضرّ بالبدن زيادته، أو عكسه، ومدار ذلك على ثلاثة أشياء: حفظ الصحة، والاحتماء عن المؤذي، واستفراغ المادة الفاسدة، وقد أُشيرَ إلى الثلاثة في القرآن:

فالأول: من قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَو عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] وذلك أن السفر مظنة النصَب، وهو من مغيّرات الصحة، فإذا وقع فيه الصيام ازداد، فأبيح الفطر إبقاء على الجسد، وكذا القول في المرض.

الثاني: وهو الحمية من قوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29] فإنه استُنبط منه جواز التيمم عند خوف استعمال الماء البارد.

والثالث: من قوله تعالى: {أَو بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ} [البقرة: 196]، فإنه أُشيرَ بذلك إلى جواز حلق الرأس الذي مُنع منه المُحْرم؛ لاستفراغ الأذى الحاصل من البخار المحتقن في الرأس. وأخرَج مالك في "الموطأ" عن زيد بن أسلم مرسلًا: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال لرجلين: "أيكما أطبّ؟ " قالا: يا رسول الله: وفي الطب خير؟ قال: "أنزل الداء الذي أنزل الدواء". انتهى

(1)

.

وأما "المرضَى": فهو بالفتح، والقصر: جمع مريض، قال المجد رحمه الله: المرض: إظلام الطبيعة، واضطرابها بعد صفائها، واعتدالها، مَرِضَ؛ كفَرِحَ مَرَضًا، ومَرْضًا، فهو مَرِضٌ، ومَرِيضٌ، ومارضٌ، جَمْعه: مِراضٌ، ومَرْضَى، ومَرَاضَى، أو المرض بالفتح للقلب خاصّةً، وبالتحريك، أو كلاهما: الشكّ، والنفاق، والفتور، والظُّلمة، والنقصان. وأمرضه: جعله مريضًا، وقارب الإصابة في رأيه، وصار ذا مَرَض، ووجده مريضًا. والتمريض: التوهين، وحُسْن القيام على المريض، وتذرية الطعام، وريح، وشمس، وأرض مريضة: ضعيفة الحال. انتهى

(2)

.

وقال الفيّوميّ رحمه الله: مَرِضَ الحيوانُ مَرَضًا، من باب تَعِبَ، والمَرَضُ:

(1)

"الفتح" 10/ 134.

(2)

"القاموس المحيط" ص 843.

ص: 696

حَالَةٌ خارجة عن الطبع ضَارةٌ بالفعل، ويعْلَم من هذا أن الآلام، والأورام، أعراض عن المرض، وقال ابن فارس: المَرَضُ: كلُّ ما خرج به الإنسان عن حدّ الصحة، من علة، أو نفاق، أو تقصير في أمر، ومَرِضَ مَرْضًا لغة قليلة الاستعمال، قال الأصمعيّ: قرأت على أبي عمرو بن العلاء: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} [البقرة: 10] فقال في: مَرْضٌ يا غلام؛ أي: بالسكون، والفاعل من الأُولى مَرِيضٌ، وجَمْعه مَرْضَى، ومن الثانية مَارِضٌ، قال:

لَيْسَ بِمَهْزُولٍ وَلا بِمَارِضٍ

ويُعَدَّى بالهمزة، فيقال: أَمْرَضَهُ الله، ومَرَّضْتُهُ تَمْرِيضًا: تكفلت بمداواته. انتهى

(1)

.

وقال في "الفتح": المرضى: جمع مريض، والمراد بالمرض هنا: مرض البدن، وقد يُطلق المرض على مرض القلب، إما للشبهة؛ كقوله تعالى:{فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} ، وإما للشهوة؛ كقوله تعالى:{فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب: 32]، ووقع ذِكْر مرض البدن في القرآن في الوضوء، والصوم، والحج. انتهى

(2)

.

وأما "الرُّقَى": فهو بضمّ الراء، والقصر: جمع رُقية، قال الفيّوميّ رحمه الله: رَقَيْتُهُ أَرْقيه رَقْيًا، من باب رَمَى: عوّذته بالله تعالى، والاسم: الرُّقْيَا، على فُعْلَى، والمرة: رُقْيَةٌ، والجمع رُقَى، مثلُ مُدْيَةٍ ومُدًى. انتهى

(3)

.

وقال المرتضى رحمه الله: "الرقية": بالضم: الْعُوذَةُ التي يُرْقَى بها صاحب الآفة؛ كالْحُمّى، والصَّرْع، وغيرهما، قال عروة [من الطويل]:

فَمَا تَرَكَا مِنْ عُوذةٍ يَعْرِفَانِهَا

وَلَا رُقْيَةٍ إِلا بِهَا رَقَيَانِي

جَمْعه: رُقًى، بالضم، فالفتح، ورَقَاه رَقْيًا بالفتح، ورُقِيًّا، بالضمّ، والكسر، مع تشديد الياء، ورُقْية، بالضمّ، فهو رَقّاءٌ؛ ككَتّان: نَفَثَ في عُوذَتِه، فهو رَاقٍ، وذاك مَرْقِيٍّ، وقوله تعالى:{مَنْ رَاقٍ} [القيامة: 27]؛ أي: لا راقي يرقيه، فيحميه، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: معناه: من يَرْقَى بروحه، أملائكة الرحمة، أم ملائكة العذاب؟ انتهى

(4)

.

(1)

"المصباح المنير" 2/ 568.

(2)

"الفتح" 10/ 104.

(3)

"المصباح المنير" 1/ 236.

(4)

"تاج العروس" ص 8409.

ص: 697

وقال المجد رحمه الله: "الرُّقية" بالضمّ: الْعُوْذَة، جمعها: رُقى، وَرَقاه رَقْيًا، ورُقِيًّا، ورُقْيةً، فهو رَقّاءٌ: نَفَثَ في عُوذته. انتهى

(1)

.

(1) - (بَابُ رُقْيَةِ جِبْرِيلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، وَأَنَّ الْعَيْنَ حَقٌّ، وَإِذَا اسْتُغْسِلَ الْعَائِنُ اغتسلَ)

[5687]

(2185) - (حَدثنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عُمَرَ الْمَكِّيُّ، حَدَّثنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ الدَّرَاوَرْدِيُّ، عَنْ يَزِيدَ - وَهُوَ ابْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ أُسَامَةَ بْنِ الْهَادِ - عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبيِ سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَن، عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِي صلى الله عليه وسلم؛ أنَّهَا قَالَتْ، كَانَ إِذَا اشْتَكَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، رَقَاهُ جِبْرِيلُ، قَالَ: "بِاسْمِ اللهِ يُبْرِيكَ، وَمِنْ كُل دَاءٍ يَشْفِيكَ، وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ، وَشَرِّ كُل ذِي عَيْنٍ").

رجال هذا الإسناد: ستّة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عُمَرَ الْمَكِّيِّ) هو: محمد بن يحيى بن أبي عمر الْعَدَنيّ، نزيل مكة، ويقال: إن أبا عمر كنية يحيى، صدوقٌ، صنّف "المسند"، وكان لازم ابن عيينة، لكن قال أبو حاتم: كانت فيه غفلة [10](ت 243)(م ت س ق) تقدم في "المقدمة" 5/ 31.

2 -

(عَبْدُ الْعَزِيزِ الدَّرَاوَرْدِيُّ) ابن محمد بن عُبيد، أبو محمد الْجُهَنيّ مولاهم المدنيّ، صدوق، كان يحدّث من كتب غيره، فيخطئ، قال النسائيُّ: حديثه عن عبيد الله العُمَريّ منكر [8](ت 6 أو 187)(ع) تقدم في "الإيمان" 8/ 135.

3 -

(يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ أُسَامَةَ بْنِ الْهَادِ) الليثيّ، أبو عبد الله المدنيّ، ثقةٌ، مكثر [5](ت 139)(ع) تقدم في "الإيمان" 13/ 159.

4 -

(مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) بن الحارث بن خالد التيميّ، أبو عبد الله المدنيّ، ثقةٌ، له أفراد [4](ت 220) على الصحيح (ع) تقدم في "الإيمان" 13/ 159.

5 -

(أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بن عوف الزهريّ المدنيّ، قيل: اسمه

(1)

"القاموس المحيط" ص 526.

ص: 698

عبد الله، وقيل: إسماعيل، ثقةٌ، مكثر [3] مات سنة أربع وتسعين، أو أربع ومائة، وكان مولده سنة بضع وعشرين (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 423.

6 -

(عَائِشَةُ زَوْجُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) رضي الله عنها، تقدّمت في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 315.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد: أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسلٌ بالمدنيين، غير شيخه، فعدنيّ، ثمّ مكيّ، وأن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه أبو سلمة أحد الفقهاء السبعة على بعض الأقوال، وفيه عائشة رضي الله عنها من المكثرين السبعة.

شرح الحديث:

(عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) رضي الله عنها (أنَّهَا قَالَتْ: كَانَ إِذَا اشْتَكَى)؛ أي: مَرِض، والشّكاية - كما قال الزركشيّ - المرض. (رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، رَقَاهُ) تقدّم أنه من باب ضرب؛ أي: عوّذه بالله تعالى (جِبْرِيلُ)، وفيه لغات: كسر الجيم والراء، وبعدها ياء ساكنة، والثانية كذلك، إلا أن الجيم مفتوحة، والثالثة: فتح الجيم والراء، وبهمزة بعدها ياء، يقال: هو اسم مركب من "جبر"، وهو العبد، و"إِيل"، وهو الله تعالى، وفيه لغات غير ذلك

(1)

، وقد تقدّم مستوفًى، ولله الحمد.

(قَالَ) جبريل عليه السلام في رقيته ("بِاسْمِ اللهِ يُبْرِيكَ) بضمّ أوله، من الإبراء، لكن حُذِفت همزته، بقلبها ياءً، يقال: برئ من المرض من بأبي نفع، وتَعِب، وبرُؤَ بُرْءًا، من باب قَرُب لغةٌ.

والظاهر أن الباء هنا زائدة، قال القرطبيّ رحمه الله: الاسم هنا يراد به المسمى، كما قال الله تعالى:{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1)} [الأعلى: 1]، ولفظ الاسم عبارة عن الكلمة الدالة على المسمى، والمسمى هو مدلولها، غير أنه قد يُتَوَسَع، فيوضع الاسم موضع المسمى مسامحة. انتهى

(2)

.

(وَمِنْ كُلِّ دَاءٍ) الداء بالمدّ: المرض؛ أي: من كلّ مرض، قال الفيّوميّ رحمه الله: الدَّاءُ: المرض، وهو مصدر، من دَاءَ الرجلُ، والعضو يَدَاءُ،

(1)

"المصباحُ المنير" 1/ 90.

(2)

"المفهم" 5/ 564.

ص: 699

من باب تَعِبَ، والجمع: الأَدْوَاءُ، مثلُ باب وأبواب، وفي لغة: دَوِيَ يَدْوَى دَوًى، من باب تَعِبَ أيضًا: عَمِيَ، والدَّوَاءُ: ما يُتَدَاوى به ممدود، وتفتح داله، والجمع أَدْوِيةٌ، ودَاويتُهُ مُدَاوَاة، والاسم الدِّوَاءُ بالكسر، من باب قاتل. انتهى

(1)

.

وقوله: (يَشْفِيكَ) بفتح أوله، من شفاه، باب ضرب، أو بضمّه، من أشفاه رباعيًّا، قال المجد رحمه الله: شفاه يَشفيه: بَرَأه، وطلب له الشفاء؛ كأشفاه. انتهى

(2)

.

(وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ) خصّه بعد التعميم؛ لخفاء شرّه، (إِذَا حَسَدَ)؛ أي: إذا أظهر حَسَده، وعَمِل بمقضاه، من بغي غوائل الحسود؛ لأنه إذا لم يُظهر أثر ما أضمره فلا ضرر منه يعود على المحسود، بل هو الضارّ لنفسه؛ لاغتمامه بسرور غيره، وقد يراد بشرّ الحاسد إثمه، وسماجة حاله في وقت حسده، وإظهار أثره، والحسد: هو الأسف على الخير عند أهل الخير، أو تمني زوال نعمة الغير، وإنما ختم الشرور في الآية بالحسد؛ ليُعلَم أنه شرّها، وهو أول ذنب عُصِي الله به في السماء من إبليس، وفي الأرض من قابيل، أفاده في "العمدة"

(3)

.

والحسد أن يَرَى الرجل لأخيه نعمة، فيتمنى أن تزول عنه، وتكون له دونه.

وقوله: (وَشَرِّ كُلِّ ذِي عَيْنٍ") من عَطْف الخاص على العام؛ لأن كل عائنٍ حاسدٌ، ولا عكسَ، فلما كان الحاسد أعمّ كان تقديم الاستعاذة منه أهمّ، وهي سهام تخرج من نفس الحاسد والعائن نحوَ المحسود والمعيون، تصيبه تارةً، وتخطئه أخرى، فإن صادفته مكشوفًا، لا وقاية عليه، أَثَّرت فيه، ولا بدّ، وإن صادفته حَذِرًا، شاكي السلاح، لا منفذ فيه للسهام خابت، فهو بمنزلة الرمي الحسيّ، لكن هذا من النفوس والأرواح، وذلك من الأجسام والأشباح، ولهذا قال ابن القيم رحمه الله: استعاذ من الحاسد؛ لأن روحه مؤذية للمحسود، مؤثرة فيه أثرًا بيِّنًا، لا يُنكره إلا من هو خارج عن حقيقة الإنسانية، وهو أصل

(1)

"المصباح المنير" 1/ 205.

(2)

"القاموس" ص 696.

(3)

"فيض القدير شرح الجامع الصغير" للمناويّ 3/ 110.

ص: 700

الإصابة بالعين، فإن النفس الخبيثة الحاسدة تتكيّف بكيفية خبيثة، تقابل المحسود، فتؤثر فيه بتلك الخاصة والتأثير، وكما يكون بالاتصال قد يكون بالمقابلة، وبالرؤية، وبتوجّه الروح، وبالأدعية، والرقى، والتعوّذات، وبالوهم والتخييل، وغير ذلك. والله تعالى أعلم

(1)

.

مسائل تتعلّق بهذا الحدمث:

(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا من أفراد المصنف: رحمه الله.

(المسألة الثالثة): في تخريجه:

أخرجه (المصنف) هنا [1/ 5687](2185)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 160)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان جواز الرقية الشرعيّة، وهي ما كانت بكتاب الله، أو بالأذكار التي تكون باللغة العربيّة، ولا سيّما ما جاء في السُّنَّة، كما في هذه الأحاديث، وسيأتي في المسألة التالية ما قاله العلماء في الرقى - إن شاء الله تعالى -.

2 -

(ومنها): إثبات تأثير الحسد، وأنه من الشرور التي يُستعاذ منها، قال القرطبيّ: رحمه الله: فيه دليل على أن الحسد يؤثّر في المحسود ضررًا يقع به، إما في جسمه بمرض، أو في ماله، وما يختصّ به بضرر، وذلك بإذن الله تعالى ومشيئته، كما قد أجرى سُنَّته، وحقَّقَ إرادته، فربط الأسباب بالمسببات، وأجرى بذلك العادات، ثم أمرنا في دفع ذلك بالالتجاء إليه، والدعاء، وأحالنا على الاستعانة بالْعُوذ، والرُّقَى. انتهى

(2)

.

3 -

(ومنها): إثبات ضرر العين، وأنه حقّ، فينبغي الاسترقاء منه، وسيأتي بيان ما يتعلّق به في الباب التالي - إن شاء الله تعالى -.

4 -

(ومنها): جواز الرُّقى لِمَا وقع من الأمراض، ولمَا يُتوقّع وقوعه.

(1)

"فيض القدير" 5/ 102.

(2)

"المفهم" 5/ 564.

ص: 701

5 -

(ومنها): ما قاله القرطبيّ رحمه الله: هذا الحديث دليل على استحباب الرقية بأسماء الله تعالى، وبالْعُوذ الصحيحة المعنى، وأن ذلك لا يناقض التوكل على الله تعالى، ولا ينقصه، إذ لو كان شئ من ذلك لكان النبيّ صلى الله عليه وسلم أحقّ الناس بأن يجتنبه، فإنَّ الله تعالى لَمْ يزل يُرَقِّي نبيّه صلى الله عليه وسلم في المقامات الشريفة، والدرجات الرفيعة إلى أن قبضه الله تعالى على أرفع مقام، وأعلى حالٍ، وقد رُقِي صلى الله عليه وسلم في أمراضه، حتى في مرض موته، فقد رقته عائشة رضي الله عنها في مرض موته، ومسحته بيدها، ويَدِه، وهو مقرّ لذلك، غير منكر. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم.

6 -

(ومنها): ما قاله النوويّ رحمه الله: قوله: "إن جبرائيل رَقَى النبيّ صلى الله عليه وسلم"، وذكر الأحاديث بعده في الرُّقَى، وفي الحديث الآخر في الذين يدخلون الجَنَّة بغير حساب:"لا يرقون، ولا يسترقون، وعلى ربهم يتوكلون"، فقد يُظَنّ مخالفًا لهذه الأحاديث، ولا مخالفة، بل المدح في ترك الرُّقَى المراد بها الرُّقَى التي هي من كلام الكفار، والرُّقَى المجهولة، والتي بغير العربية، وما لا يُعرف معناها، فهذه مذمومة؛ لاحتمال أن معناها كفْر، أو قريب منه، أو مكروه، وأما الرُّقَى بآيات القرآن، وبالأذكار المعروفة، فلا نهي فيه، بل هو سُنَّة.

ومنهم من قال في الجمع بين الحديثين أن المدح في ترك الرقى للأفضلية، وبيان التوكل، والذي فَعَلَ الرُّقَى، وأَذِن فيها لبيان الجواز، مع أن تَرْكها أفضل، وبهذا قال ابن عبد البرّ، وحكاه عمن حكاه، والمختار الأول، وقد نقلوا الإجماع على جواز الرقى بالآيات، وأذكار الله تعالى.

قال المازريّ: جميع الرقى جائزة، إذا كانت بكتاب الله، أو بذكره، ومنهيّ عنها إذا كانت باللغة العجمية، أو بما لا يُدرَى معناه؛ لجواز أن يكون فيه كفر، قال: واختلفوا في رقية أهل الكتاب، فجوَّزها أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وكَرِهها مالك، خوفًا أن يكون مما بدّلوه، ومَن جَوَّزها قال: الظاهر أنهم لَمْ يبدّلوا الرقى، فإنهم لهم غرض في ذلك، بخلاف غيرها مما بدّلوه.

وقد ذكر مسلم رحمه الله بعد هذا أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "اعْرِضُوا عليّ رُقاكم، لا بأس بالرقى ما لَمْ يكن فيها شرك".

(1)

"المفهم" 5/ 563 - 564.

ص: 702

وأما قوله في الرواية الأخرى: "يا رسول الله إنك نهيت عن الرقى"، فأجاب العلماء عنه بأجوبة:

أحدها: كان نهى أوّلًا، ثم نَسَخ ذلك، وأَذِن فيها، وفَعَلها، واستقرّ الشرع على الإذن.

والثاني: أن النهي عن الرقى المجهولة، كما سبق.

والثالث: أن النهي لقوم كانوا يعتقدون منفعتها، وتأثيرها بطبعها، كما كانت الجاهلية تزعمه في أشياء كثيرة.

وأما قوله في الحديث الآخر: "لا رقية إلَّا من عين، أو حُمَةٍ"، فقال العلماء: لَمْ يُرِد به حصر الرقية الجائزة فيهما، ومَنْعها فيما عداهما، وإنما المراد: لا رقية أحقّ، وأَولى من رقية العين، والْحُمَة؛ لشدة الضرر فيهما.

قال القاضي: وجاء في حديث في غير مسلم: "سئل عن النُّشْرة، فقال: هو من عمل الشيطان"، قال: والنشرة معروفة مشهورة عند أهل التعزيم، وسُمِّيت بذلك؛ لأنَّها تنشر عن صاحبها؛ أي: تخلى عنه.

وقال الحسن: هي من السحر، قال القاضي: وهذا محمول على أنَّها أشياء خارجة عن كتاب الله تعالى، وأذكاره، وعن المداواة المعروفة التي هي من جنس المباح.

وقد اختار بعض المتقدمين هذا، فكره حَلّ المعقود عن امرأته.

وقد حَكَى البخاريّ في "صحيحه" عن سعيد بن المسيِّب؛ أنه سئل عن رجل به طِبّ؛ أي: ضرب من الجنون، أو يؤخذ عن امرأته، أيخلى عنه، أو يُنَشِّر؟، قال: لا بأس به، إنما يريدون به الصلاح، فلم ينه عما ينفع.

وممن أجاز النُّشرة: الطبريّ، وهو الصحيح، قال كثيرون، أو الأكثرون: يجوز الاسترقاء للصحيح لِمَا يخاف أن يغشاه من المكروهات، والهوام، ودليله أحاديث، ومنها حديث عائشة في "صحيح البخاريّ":"كان النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا أوى إلى فراشه تفل في كفِه، ويقرأ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}، والمعوذتين، ثم يمسح بها وجهه، وما بلغت يده من جسده"، والله أعلم. انتهى كلام النوويّ رحمه الله

(1)

.

(1)

"شرح النوويّ" 14/ 169 - 170.

ص: 703

قال الجامع عفا الله عنه: سيأتي تمام البحث في الرُّقَى، والتعاويذ في الباب الرابع:"باب استحباب رُقية المريض" - إن شاء الله تعالى -.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5688]

(2186) - (حَدَّثَنَّا بِشْرُ بْنُ هِلَالٍ الصَّوَّافُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِث، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ صُهَيْبٍ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ: "أَنَّ جِبْرِيلَ أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ اشْتَكَيْتَ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، قَالَ: بِاسْمِ اللهِ أَرْقِيكَ، مِنْ كُلِّ شَيْءٍ يُؤْذِيكَ، مِنْ شَرِّ كُلِّ نَفْسٍ، أَو عَيْنِ حَاسِدٍ، اللهُ يَشْفِيكَ، بِاسْمِ اللهِ أَرْقِيكَ").

رجال هذا الإسناد: خمسةٌ:

1 -

(بِشْرُ بْنُ هِلَالٍ الصَّوَّافُ) أبو محمد النُّمَيريّ - بضم النون - البصريّ، ثقةٌ [10](247)(م 4) تقدم في "الإيمان" 1/ 4250.

2 -

(عَبْدُ الْوَارِثِ) بن سعيد بن ذكوان الْعَنْبَريّ مولاهم، أبو عبيدة التَّنُّوريّ - بفتح المثناة، وتشديد النون - البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ، رُمي بالقدر، ولم يثبت عنه [8](ت 180)(ع) تقدم في "الإيمان" 18/ 176.

3 -

(عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ صُهَيْبٍ) الْبُنَانيّ - بموحدة، ونونين - البصريّ، ثقةٌ [4](130)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.

4 -

(أَبُو نَضْرَةَ) - بنون، وضاد معجمة ساكنة - المنذر بن مالك بن قُطَعة - بضم القاف، وفتح الطاء المهملة - العَبْديّ الْعَوَقيّ - بفتح العين المهملة، والواو، ثم قاف - البصريّ، مشهور بكنيته، ثقةٌ [3](ت 8 أو 109)(خت م 4) تقدم في "الإيمان" 6/ 127.

5 -

(أَبُو سَعِيدٍ) سعد بن مالك بن سِنَان بن عُبيد الأنصاريّ الخدريّ الصحابيّ ابن الصحابيّ، واستُصغِر بأُحُد، ثم شَهِد ما بعدها، مات بالمدينة سنة ثلاث، أو أربع، أو خمس وستين، وقيل: سنة أربع وسبعين (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 485.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد: أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسلٌ بالبصريين، سوى الصحابيّ، فمدنيّ، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وهو من رواية الأقران؛ لأنَّ كليهما من الطبقة الرابعة، وفيه أبو سعيد، صحابيّ ابن صحابيّ رضي الله عنهما، وهو أحد المكثرين السبعة، روى (1170) حديثًا.

ص: 704

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي سَعِيدٍ) الخدريّ رضي الله عنه ("أَنَّ جِبْرِيلَ) عليه السلام (أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ اشْتَكَيْتَ؟) بتقدير همزة الاستفهام؛ أي: أأشتكيت؛ أي: مرِضت، (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم (نَعَمْ) قال الفيّوميّ رحمه الله: قولهم في الجواب: نَعَمْ، معناها: التَّصْدِيقُ، إن وقعت بعد الماضي، نحو هل قام زيد؟ والوَعْدُ، إن وقعت بعد المستقبل، نحو هل تقوم؟ قال سيبويه: نَعَمْ عِدَةٌ، وتصديق، قال ابن بابشاذ: يريد أنَّها عِدَةٌ في الاستفهام، وتصديق للإخبار، ولا يريد اجتماع الأمرين فيها في كلّ حال

(1)

، وقد تقدّم الكلام فيها مستوفًى في غير هذا المحلّ، ولله الحمد.

(قَالَ) جبريل: (بِاسْمِ اللهِ) متعلّق بـ (أَرْقِيكَ) بفتح الهمزة، من باب ضرب، وقوله:(مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) متعلّق بـ"أرقيك" أيضًا، وقوله:(يُؤْذِيكَ) من الأيذاء، والجملة في محلّ جرّ صفة لـ"شيء"، وقوله:(مِنْ شَرِّ كُلِّ نَفْسٍ) بدل من الجارّ والمجرور قبله، (أَو عَيْنِ حَاسِدٍ) قال القرطبيّ رحمه الله: هذا شكّ من الراوي في أيّ اللفظين قال، مع أن معناهما واحدٌ، فإن النفس يقال على الإصابة بالعين، يقال: أصابت فلانًا نفس؛ أي: عين، والنافس العائن، قاله الْقَتَبيّ، وتُطلق النفس على أمور أُخَر، ليس شيء منها يراد بهذا الحديث. انتهى

(2)

.

وقال النوويّ رحمه الله: قيل: يَحْتَمِل أن المراد بالنفس نفس الآدميّ، وقيل: يَحْتَمِل أن المراد بها العين، فان النفس تُطلق على العين، ويقال: رجلٌ نَفُوسٌ إذا كان يصيب الناس بعينه، كما قال في الرواية الأخرى:"من شرّ كلّ ذي عين"، ويكون قوله:"أو عينِ حاسدٍ" من باب التوكيد بلفظ مختلف، أو شَكًّا من الراوي في لفظه، والله أعلم. انتهى

(3)

.

وقوله: (اللهُ يَشْفِيكَ) بفتح حرف المضارعة، ويجوز ضمّها، والجملة خبريّة لفظًا، إنشائيّة معنى؛ لأنَّ المراد بها الدعاء، وقوله:(بِاسْمِ اللهِ أَرْقِيكَ") كرّره للتأكيد.

(1)

"المصباح المنير" 2/ 614.

(2)

"المفهم" 5/ 565.

(3)

"شرح النوويّ" 14/ 170.

ص: 705

قال النوويّ رضي الله عنه: هذا تصريح بالرُّقَى بأسماء الله تعالى، وفيه توكيد الرقية والدعاء، وتكريره. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [1/ 5688](2186)، و (الترمذيّ) في "جامعه"(972)، و (ابن ماجة) في "سننه"(3523)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 28 و 56 و 58 و 75)، و (عبد بن حُميد) في "مسنده"(1/ 278)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(4/ 329)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(5/ 47)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(8/ 257)، وفوائده تقدّمت في الحديث الماضي، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5689]

(2187) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاق، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ، قَالَ: هَذَا مَا حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَ أَحَادِيثَ، مِنْهَا: وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "الْعَيْنُ حَقٌّ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ) القُشيريّ مولاهم، أبو عبد الله النيسابوريّ، ثقةٌ حافظٌ، عابدٌ [11](ت 245)(خ م د ت س) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.

2 -

(عَبْدُ الرَّزَّاقِ) بن هَمّام بن نافع الْحِمْيَريّ مولاهم، أبو بكر الصنعانيّ، ثقةٌ حافظٌ مصنّف، شَهِير، عَمِي في آخر عمره، فتغيّر، وكان يتشيع [9](ت 211) وله خمس وثمانون سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.

3 -

(مَعْمَرُ) بن راشد الأزديّ مولاهم، أبو عروة البصريّ، نزيل اليمن، ثقةٌ، ثبتٌ فاضلٌ، إلَّا أن في روايته عن ثابت، والأعمش، وهشام بن عروة

(1)

"شرح النوويّ" 14/ 170.

ص: 706

شيئًا، وكذا فيما حَدَّث به بالبصرة، من كبار [7](ت 154) وهو ابن ثمان وخمسين سنة (ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.

4 -

(هَمَّامُ بْنُ مُنَبِّهِ) بن كامل الصنعانيّ، أبو عُتبة، أخو وهب، ثقةٌ [4](ت 132) على الصحيح (ع) تقدم في "الإيمان" 26/ 213.

5 -

(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه، تقدّم في "المقدمة" 2/ 4.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد: أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسلٌ باليمنيين، سوى شيخه، فنيسابوريّ، وقد دخل اليمن للأخذ عن أهلها، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه أحفظ من روى الحديث في دهره، يقال: روى (5374) حديثًا.

شرح الحديث:

(عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ) بصيغة اسم الفاعل المضعّف، أنه (قَالَ: هَذَا) إشارة إلى ما في الصحيفة المشهورة، صحيفة همّام بن منبّه، فيها نحو (138) حديثًا، فاسم الإشارة مبتدأ، خبره قوله:(مَا) اسم موصول؛ أي: الذي (حَدَّثَنَا) صلة الموصول، والعائد محذوف؛ لكونه فضلة، وهذا الحذف كثير، كما قال ابن مالك رحمه الله في "الخلاصة":

..........................

وَالْحَذْفُ عِنْدَهُمْ كَثِيرٌ مُنْجَلِي

في عَائِدٍ مُتَّصِلٍ إِنْ انْتَصَبْ

بِفِعْل اوْ وَصْفٍ كـ"مَنْ نَرْجُو يَهَبْ"

(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَ) أبو هريرة رضي الله عنه، ويَحْتَمِل أن يكون الفاعل ضمير همّام؛ أي: ذكر همّام في تلك الصحيفة (أَحَادِيثَ) منصوب على المفعوليّة لـ"ذَكَرَ"، وقوله:(مِنْهَا) متعلّق بمقدّر، خبر لقوله:(وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) مبتدأ مؤخّر محكيّ؛ لِقَصْد لفظه، "الْعَيْنُ حَقٌّ") مبتدأ وخبره، مقول"قال"، ومعناه: أن الإصابة بالعين ثابتةٌ موجودةٌ، ولها تأثير في النفوس، وأنكر طائفة من الطبائعيين العين، وأنه لا شيء إلَّا ما تدركه الحواس الخمس، وما عداها فلا حقيقة له، والحديث يردّ عليهم، قاله في "العمدة"

(1)

.

(1)

"عمدة القاري" 21/ 266.

ص: 707

وقال المناويّ رحمه الله: "العين حقّ"؛ أي: الإصابة بالعين حقّ؛ أي: كائن يُقضَى به في الوضع الإلهيّ، لا شبهة في تأثيرها في النفوس فضلًا عن الأموال، وذلك لأنَّ بعض النفوس الإنسانية يثبت لها قوّة، هي مبدأ الأفعال الغريبة، ويكون ذلك إما حاصلًا بالكسب؛ كالرياضة، وتجريد الباطن عن العلائق، وتذكيته، فإنه إذا اشتدّ الصفاء، والذكاء، حصلت القوّة المذكورة، كما يحصل للأولياء، أو بالمزاج، والإصابةُ بالعين يكون من الأول والثاني، فالمبدأ فيها حالة نفسانية، مُعْجَبَةٌ، تُنهك المتعجَّب منه بخاصيّة خلق الله تعالى في ذلك المزاج على ذلك الوجه؛ ابتلاءً من الله تعالى للعباد؛ ليتميز المحقّ من غيره. انتهى

(1)

.

[تنبيه]: زاد في رواية البخاريّ: "ونهى عن الوشم"، قال في "الفتح": لَمْ تظهر المناسبة بين هاتين الجملتين، فكأنهما حديثان مستقلان، ولهذا حذف مسلم، وأبو داود الجملة الثانية من روايتهما، مع أنهما أخرجاه من رواية عبد الرزاق الذي أخرجه البخاريّ من جهته.

وَيحْتمِل أن يقال: المناسبة بينهما اشتراكهما في أن كلًّا منهما يُحدِث في العضو لونًا غير لونه الأصليّ.

و"الوشم": بفتح الواو، وسكون الشين المعجمة أن تُغْرَز إبرةٌ، أو نحوها في موضع من البدن، حتى يسيل الدم، ثم يُحْشَى ذلك الموضع بالكحل، أو نحوه، فيَخْضَرّ.

قال الحافظ رحمه الله: وقد ظهرت لي مناسبة بين هاتين الجملتين لَمْ أر من سبق إليها، وهي أن من جملة الباعث على عمل الوشم تغير صفة الموشوم؛ لئلا تصيبه العين، فنَهَى عن الوشم، مع إثبات العين، وأن التحيّل بالوشم وغيره مما لا يَستند إلى تعليم الشارع لا يفيد شيئًا، وأن الذي قدّره الله سيقع. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قد تقدّم حكم الوشم في "كتاب اللباس""باب تحريم فعل الواصلة، والمستوصلة، والواشمة، والمستوشمة" برقم [32/ 5559](2124)، ولله الحمد والمنّة.

(1)

"فيض القدير شرح الجامع الصغير" للمناويّ 1/ 351.

(2)

"الفتح" 10/ 203.

ص: 708

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [1/ 5689](2187)، و (البخاريّ) في "الطبّ"(5740) و"اللباس"(5944)، و (همام بن منبه) في "صحيفته"(131)، و (عبد الرزاق) في "مصنّفه"(19778)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 319)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5503)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(3190)، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5690]

(2188) - (وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّارِمِيُّ، وَحَجَّاجُ بْنُ الشَّاعِر، وَأَحْمَدُ بْنُ خِرَاشٍ، قَالَ عَبْدُ اللهِ: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ الآخَرَانِ: حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا وُهَيْبُّ، عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيه، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "الْعَيْنُ حَقٌّ، وَلَوْ كَانَ شَيْءٌ سَابَقَ الْقَدَرَ، سَبَقَتْهُ الْعَيْنُ، وَإِذَا اسْتُغْسِلْتُمْ فَاغْسِلُوا").

رجال هذا الإسناد: ثمانيةٌ:

1 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّارِمِيُّ) هو: عبد الله بن عبد الرَّحمن بن الفضل بن بَهْرَام السَّمَرْقَنديّ، أبو محمد الحافظ، صاحب "المسند"، ثقةٌ، فاضلٌ، متقنٌ [11](ت 255) وله أربع وسبعون سنةً (م د ت) تقدم في "المقدمة" 5/ 29.

2 -

(حَجَّاجُ بْنُ الشَّاعِرِ) هو: حجاج بن أبي يعقوب يوسف بن حجاج الثقفيّ البغداديّ، المعروف بابن الشاعر، ثقةٌ، حافظٌ [11](ت 259)(م د) تقدم في "المقدمة" 6/ 40.

3 -

(أَحْمَدُ بْنُ خِرَاشٍ) هو: أحمد بن الحسن بن خِرَاش، أبو جعفر البغداديّ، صدوقٌ [11](ت 242) وله ستون سنةً (م ت) تقدم في "الإيمان" 42/ 280.

[تنبيه]: قال النوويّ رحمه الله: قوله: "وأحمد بن خراش" هكذا هو في جميع النُّسخ: "أحمد بن خراش" بالخاء المعجمة المكسورة، وبالراء، وبالشين المعجمة، وهو الصواب، ولا خلاف فيه في شيء من النسخ، وهو أحمد بن

ص: 709

الحسن بن خراش، أبو جعفر البغداديّ، نُسِب إلى جدّه، وقال القاضي عياض: هكذا هو في الأصول، بالخاء المعجمة، قال: قيل: إنه وَهَمٌ، وصوابه أحمد بن جَوّاس، بفتح الجيم، وبواو مشدّدة، وسين مهملة، هذا كلام القاضي، وهو غلط فاحشٌ، ولا خلاف أن المذكور في مسلم إنما هو بالخاء المعجمة، والراء، والشين المعجمة، كما سبق، وهو الراوي عن مسلم بن إبراهيم المذكور في "صحيح مسلم" هنا، وأما ابن جَوّاس بالجيم، فهو أبو عاصم الحنفيّ الكوفيّ، روى عنه مسلم أيضًا في غير هذا الموضع، ولكنه لا يروي عن مسلم بن إبراهيم، ولا هو المراد هنا قطعًا، وكأنّ سببَ غَلَطِ مَن غَلِطَ كون أحمد بن خِرَاش وقع منسوبًا إلى جدّه، كما ذكرنا. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي صوّبه النوويّ رحمه الله هو الصواب، فقد صرّح به الترمذيّ في "الجامع"، ونصّه: "حدّثنا أحمد بن الحسن بن خِرَاش البغداديّ

إلخ"

(2)

، وكذا نصّ الحافظ المزيّ رحمه الله في "تحفته"

(3)

، والله تعالى أعلم.

4 -

(مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) الأَزْديّ الْفَرَاهيديّ - بالفاء - أبو عمرو البصريّ، ثقةٌ، مأمونٌ، مُكثِرٌ، عَمِي بأَخَرَةٍ، من صغار [9](ت 222) وهو أكبر شيخ لأبي داود (ع) تقدم في "البيوع" 24/ 3967.

5 -

(وُهَيْبُ) - بالتصغير - ابن خالد بن عَجْلان الباهليّ مولاهم، أبو بكر البصريّ، ثقةٌ، ثبتٌ، لكنه تغير قليلًا بأَخَرَة [7] (ت 165) وقيل: بعدها (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 413.

6 -

(ابْنُ طَاوُسٍ) هو: عبد الله بن طاوس بن كيسان اليمانيّ، أبو محمد، ثقةٌ، فاضلٌ، عابدٌ [6](ت 132)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.

7 -

(أَبُوهُ) طاوس بن كيسان اليمانيّ، أبو عبد الرَّحمن الْحِمْيَريّ مولاهم الفارسيّ، يقال: اسمه ذكوان، وطاوس لقبٌ، ثقةٌ، فقيهٌ، فاضلٌ [3] (ت 106) وقيل: بعد ذلك (ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.

(1)

"شرح النوويّ" 14/ 173 - 174.

(2)

"جامع الترمذيّ" 4/ 397.

(3)

راجع: "تحفة الأشراف" 5/ 14.

ص: 710

8 -

(ابْنُ عَبَّاسٍ) عبد الله الحبر البحر رضي الله عنهما تقدم في "الإيمان" 6/ 124.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد: أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه ثلاثة من الشيوخ، قَرَن بينهم؛ لاتفاق كيفيّة أخذه عنهم، وهو السماع من لفظهم مع غيره، ثم فرّق بينهم؛ لاختلاف كيفيّة أخذهم عن شيخهم مسلم بن إبراهيم، فالدارميّ أخذه سماعًا بقراءة غيره عليه، فلذا قال:"أخبرنا"، والآخران أخذاه سماعًا من لفظه، ولذا قالا:"حَدَّثَنَا"، وإلى هذه القاعدة أشار السيوطيّ في "ألفيّة الأثر"، حيث قال:

وَاسْتَحْسَنُوا لِمُفْرَدٍ "حَدَّثَنِي"

وَقَارِئٍ بِنَفْسِهِ "أَخْبَرَنِي"

وَإِنْ يُحَدِّثْ جُمْلَةً "حَدَّثَنَا"

وَإِنْ سَمِعْتَ قَارِئًا "أَخْبَرَنَا"

وفيه رواية الابن عن أبيه، وفيه ابن عبّاس رضي الله عنهما حبر الأمة، وبحرها، وترجمان القرآن، وأحد العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة، ومن المشهورين بالفتوى، وآخر من مات من الصحابة رضي الله عنهم بالطائف.

شرح الحديث:

(عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) أنه (قَالَ: "الْعَيْنُ حَقٌّ) قال في "الفتح" عند قوله: "بابُ رقية العين": أي: رقية الذي يصاب بالعين، تقول: عِنتُ الرجلَ: أصبته بعَيْنك، فهو مَعِين، ومعيون، ورجل عائن، ومعيان، وعَيُون، والعين: نَظَرٌ باستحسان مشوب بحسمد من خبيث الطبع، يحصل للمنظور منه ضرر.

وقد وقع عند أحمد من وجه آخر عن أبي هريرة رضي الله عنه، رفعه:"العينُ حقٌّ، ويحضرها الشيطان، وحسد ابن آدم".

وقد أشكل ذلك على بعض الناس، فقال: كيف تعمل العين من بُعْد، حتى يحصل الضرر للمعيون؟

والجواب: أن طبائع الناس تختلف، فقد يكون ذلك من سُمّ يَصِل من عين العائن في الهواء إلى بدن المعيون. وقد نُقل عن بعض من كان مِعيانًا أنه قال: إذا رأيت شيئًا يُعجبني وجدت حرارة تخرج من عيني.

ويقرب ذلك بالمرأة الحائض، تضع يدها في إناء اللبن، فيفسد، ولو

ص: 711

وضَعَتْها بعد طهرها لَمْ يفسد، وكذا تدخل البستان، فتضرّ بكثير من الغروس من غير أن تمسها يدها.

ومن ذلك أن الصحيح قد ينظر إلى العين الرمداء فَيَرْمد، ويتثاءب واحد بحضرته، فيتثاءب هو، أشار إلى ذلك ابن بطال. انتهى

(1)

.

(وَلَوْ كَانَ شَيْءٌ سَابَقَ الْقَدَرَ) يَحْتَمِل أن يكون "سابق" فعلًا ماضيًا، و"القدر" مفعوله، ويَحْتَمِل أن يكون اسم فاعل، مضافًا إلى "القدر"، والله تعالى أعلم.

وقوله: (سَبَقَتْهُ الْعَيْنُ) جواب "لو"، قال القرطبيّ رحمه الله: هذا إغياء في تحقيق إصابة العين، ومبالغة فيه، يجري مجرى المَثَل؛ لا أنه يمكن أن يرُدّ القدر شيءٌ، فإن القدر عبارة عن سابق علم الله تعالى، ونفوذ مشيئته، ولا رادّ لأمره، ولا مُعقّب لحكمه، وإنما هذا خرج مخرج قولهم: لأطلُبنّك، ولو تحت الثرى، أو: ولو صَعِدت إلى السماء، ونحوه، مما يجري هذا المجري، وهو كثير. انتهى

(2)

.

(وَإِذَا استُغْسِلْتُمْ) بالبناء للمفعول؛ أي: طُلب منكم غسل الأعضاء لأجل علاج من أصابته العين، (فَاغْسِلُوا") أعضاءكم، قال القرطبيّ رحمه الله: هذا خطاب لمن يُتَّهم بأنه عائن، فيجب عليه ذلك، ويُقضى عليه به إذا طُلب منه ذلك، لا سيّما إذا خيف على المعين الهلاك. انتهى

(3)

.

وقد نقل البيهقيّ وغيره كيفيّة الغسل عن الزهريّ، فقال البيهقيّ بعد إخراجه الحديث: قال ابن شهاب: الغسل الذي أدركنا علمائنا يصفونه، أن يُؤتَى الرجل الذي يَعِين صاحبه بالقدح، فيه الماء، فيُمسك له مرفوعًا من الأرض، فيُدخل الذي يَعين صاحبه يده اليمنى في الماء، فيصبّ على وجهه صبّةً واحدةً في القدح، ثم يدخل يده، فيمضمض، ثم يمجه، ثم يدخل يده اليسري، فيغترف من الماء، فيصبه في الماء، فيغسل يده اليمنى إلى المرفق بيده اليسرى صبّةً واحدةً في القدح، ثم يُدخل يديه جميعًا في الماء صبّةً واحدةً

(1)

"الفتح" 10/ 200.

(2)

"المفهم" 5/ 566.

(3)

"المفهم" 5/ 566.

ص: 712

في القدح، ثم يُدخل يده، فيُمضمض، ثم يَمُجّه في القدح، ثم يُدخل يده اليسرى، فيغترف من الماء، فيصبه على ظهر كلِّه اليمنى صبّةً واحدةً في القدح، ثم يُدخل يده اليسري، فيصبّ على مِرْفَق يده اليمنى صبّةً واحدةً في القدح، وهو ثاني يده إلى عنقه، ثم يفعل مثل ذلك في مرفق يده اليسري، ثم يفعل ذلك في ظهر قدمه اليمنى، من عند الأصابع، واليسرى كذلك، ثم يُدخل يده اليسرى، فيصب على ركبته اليمنى، ثم يفعل باليسرى مثل ذلك، ثم يَغمِس داخلة إزاره اليمنى في الماء، ثم يقوم الذي في يده القدح بالقدح، فيصبه على رأس المعيون من ورائه، ثم يَكفأ القدح على وجه الأرض من ورائه.

قال: ورواه ابن أبي ذئب عن الزهريّ، فقال: يؤتى الرجلُ العائن بقدح، فيُدخل كلِّه فيه، فيتمضمض، ثم يمجه في القدح، ثم يغسل وجهه في القدح، ثم يدخل يده اليسري، فيصب على كلِّه اليمني، ثم يدخل يده اليمني، فيصب على كلِّه اليسري، ثم يدخل يده اليسري، فيصب على مرفقه اليمني، ثم يدخل اليمني، فيصب على مرفقه اليسري، ثم يدخل يده اليسري، فيصب على قدمه اليمني، ثم يدخل يده اليمني، فيصب على قدمه اليسري، ثم يدخل يده اليسري، فيصب على ركبته اليمني، ثم يدخل يده اليمني، فيصب على ركبته اليمني، ثم يدخل يده اليمني، فيصب على ركبته اليسري، ثم يغسل داخلة إزاره، ولا يوضع القدح بالأرض، ثم يصب على رأس الرجل الذي أصيب بالعين من خلفه صبةً واحدةً.

قال أبو عبيد: إنما أراد بداخلة إزاره: طرف إزاره الداخل الذي يلي جسده.

ورواه يحيى بن سعيد عن الزهريّ، زاد فيه: ثم يعطي ذلك الرجل الذي أصابه القدح قبل أن يضعه في الأرض، فيحسو منه، ويتمضمض، ويُهريق على وجهه، ثم يصب على رأسه، ثم يكفئ القدح على ظهره. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم.

(1)

"سنن البيهقي الكبرى" 9/ 352.

ص: 713

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [1/ 5690](2188)، و (الترمذيّ) في "جامعه"(2062)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(19770)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(8/ 59)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(10905)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6107 و 6108)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(9/ 351)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(3246)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان أن العين حقّ، يُتأذَّى بها، ومشروعية الرقية لمن أصابته العين، وقد أخرج الترمذيّ، وصححه، والنسائيّ من طريق عُبيد بن رفاعة، عن أسماء بنت عميس؛ أنَّها قالت: يا رسول الله إنّ وَلَد جعفر تُسرع إليهم العين، أفأسترقي لهم؟ قال:"نعم"، الحديث، وله شاهد من حديث جابر رضي الله عنه، أخرجه مسلم، قال: رَخّص رسول الله صلى الله عليه وسلم لآل حزم في الرقية، وقال لأسماء:"ما لي أرى أجسام بني أخي ضارعة، أتصيبهم الحاجة؟ " قالت: لا، ولكن العين تُسرع إليهم، قال:"ارقيهم"، فعرضت عليه، فقال:"ارقيهم". وقوله: "ضارعة" بمعجمة أوله؛ أي: نحيفة.

وورد في مداواة المعيون أيضًا: ما أخرجه أبو داود من رواية الأسود، عن عائشة رضي الله عنها قالت:"كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يأمر العائن أن يتوضأ، ثم يغتسل منه المعين"

(1)

.

2 -

(ومنها): بيان أن الرُّقَى تنفع من العين، إذا قدّر الله تعالى ذلك، فالشفاء بيده عز وجل لا شريك له، وسبيلُ الرُّقَى سبيل سائر العلاج والطبّ، قاله ابن عبد البرّ رحمه الله

(2)

.

3 -

(ومنها): أن في قوله: "لو سبق شيء القدر لسبقته العين" دليلًا على أن الصحة والسقم قد علمهما الله تعالى، وما عَلِمه فلا بُدّ من كونه على ما

(1)

"الفتح" 10/ 201.

(2)

"الاستذكار" 8/ 403.

ص: 714

علمه، لا يتجاوز وقته، ولكن النفس تسكن إلى العلاج، والطبّ، والرُّقَى، وكلّ سبب من أسباب قدر الله تعالى، وعلمه، قاله ابن عبد البرّ رحمه الله

(1)

.

4 -

(ومنها): ما قاله النوويّ رحمه الله: فيه إثبات القَدَر، وهو حقّ بالنصوص، وإجماع أهل السُّنَّة، وسبقت المسألة في أول "كتاب الإيمان"، ومعناه: أن الأشياء كلها بقدر الله تعالى، ولا تقع إلَّا على حسب ما قدَّرها الله تعالى، وسَبَق بها عِلْمه، فلا يقع ضرر العين، ولا غيره، من الخير، والشرّ إلَّا بقدر الله تعالى، وفيه صحة أمر العين، وأنها قويّة الضرر، والله أعلم. انتهى

(2)

.

5 -

(ومنها): ما قاله الخطابيّ رحمه الله: في الحديث أن للعين تأثيرًا في النفوس، وإبطال قول الطبائعيين: إنه لا شيء إلَّا ما تُدركه الحواس الخمس، وما عدا ذلك لا حقيقة له.

6 -

(ومنها): ما قاله في "الفتح": وفي الحديث - حديث قصّة سهل بن حُنيف الآتي - من الفوائد أيضًا: أن العائن إذا عُرف يُقضَى عليه بالاغتسال، وأن الاغتسال من النشرة النافعة، وأن العين تكون مع الإعجاب، ولو بغير حسد، ولو من الرجل المحبّ، ومن الرجل المصالح، وأن الذي يُعجبه الشيء ينبغي أن يبادر إلى الدعاء للذي يُعجبه بالبركة، ويكون ذلك رقية منه، وأن الماء المستعمل طاهر، وفيه جواز الاغتسال بالفضاء،

(3)

وأن الإصابة بالعين قد تقتل.

وقد اختُلف في جريان القصاص بذلك، فقال القرطبيّ: لو أتلف العائن شيئًا ضَمِنه، ولو قتل فعليه القصاص، أو الدية إذا تكرر ذلك منه، بحيث يصير عادةً، وهو في ذلك كالساحر عند من لا يقتله كفرًا. انتهى.

ولم يتعرض الشافعية للقصاص في ذلك، بل منعوه، وقالوا: إنه لا يَقتُل غالبًا، ولا يُعَدّ مهلكًا.

وقال النوويّ رحمه الله في "الروضة": ولا دية فيه، ولا كفارة؛ لأنَّ الحكم إنما

(1)

"الاستذكار" 8/ 403.

(2)

"شرح النوويّ" 14/ 174.

(3)

أي: لأنَّ سهل بن حُنيف اغتسل في الفضاء، فأصيب بالعين، وأقرّه النبيّ صلى الله عليه وسلم على ذلك.

ص: 715

يترتب على منضبط عامّ دون ما يختص ببعض الناس في بعض الأحوال، مما لا انضباط له، كيف ولم يقع منه فعل أصلًا، وإنما غايته حسد، وتمنّ لزوال نعمة، وأيضًا فالذي ينشأ عن الإصابة بالعين حصول مكروه لذلك الشخص، ولا يتعين ذلك المكروه في زوال الحياة، فقد يحصل له مكروه بغير ذلك، من أثر العين. انتهى.

قال الحافظ: ولا يعكر على ذلك إلَّا الحكم بقتل الساحر، فإنه في معناه، والفرق بينهما فيه عسر.

ونَقَل ابن بطال عن بعض أهل العلم أنه ينبغي للإمام منع العائن إذا عُرف بذلك من مداخلة الناس، وأن يلزم بيته، فإن كان فقيرًا رَزَقه ما يقوم به، فإنّ ضرره أشدّ من ضرر المجذوم الذي أمر عمر رضي الله عنه بمنعه من مخالطة الناس، وأشد من ضرر الثوم الذي منع الشارع آكله من حضور الجماعة.

قال النوويّ رحمه الله: وهذا القول صحيحٌ، متعينٌ، لا يُعرف عن غيره تصريح بخلافه. انتهى

(1)

.

7 -

(ومنها): ما قاله المازريّ رحمه الله: زعم بعض الطبائعيين أن العائن ينبعث من عينه قوة سُمّيّة تتصل بالمَعِين، فيهلك، أو يفسد، وهو كإصابة السمّ من نظر الأفاعي، وأشار إلى منع الحصر في ذلك مع تجويزه، وأن الذي يتمشى على طريقة أهل السُّنَّة أن العين إنما تضرّ عند نظر العائن بعادة أجراها الله تعالى أن يحدث الضرر عند مقابلة شخص لآخر، وهل ثَمَّ جواهر خفية، أو لا؟ هو أمر مُحْتَمِل، لا يُقطع بإثباته، ولا نفيه، ومن قال ممن ينتمي إلى الإسلام من أصحاب الطبائع بالقطع بأن جواهر لطيفة غير مرئية تنبعث من العائن، فتتصل بالمعيون، وتتخلل مسام جسمه، فيخلق الباري الهلاك عندها، كما يخلق الهلاك عند شرب السموم، فقد أخطأ بدعوى القطع، ولكن جائز أن يكون عادة ليست ضرورة، ولا طبيعة. انتهى.

قال الحافظ: وهو كلام سديدٌ، وقد بالغ ابن العربيّ في إنكاره، قال: ذهبت الفلاسفة إلى أن الإصابة بالعين صادرة عن تأثير النفس بقوّتها فيه، فأول

(1)

"الفتح" 10/ 214 - 216.

ص: 716

ما تؤثر في نفسها، ثم تؤثر في غيرها، وقيل: إنما هو سمّ في عين العائن يصيب بلفحه عند التحديق إليه، كما يصيب لفح سمّ الأفعى من يتصل به، ثم ردّ الأول بأنه لو كان كذلك لَمَا تخلفت الإصابة في كلّ حال، والواقع خلافه، والثاني بأن سمّ الأفعى جزء منها، وكلها قاتل، والعائن ليعس يقتل منه شيء في قولهم إلَّا نَظَره، وهو - معنى خارج عن ذلك، قال: والحق أن الله يخلق عند نظر العائن إليه، وإعجابه به إذا شاء ما شاء، من ألم، أو هلكة، وقد يصرفه قبل وقوعه، إما بالاستعاذة، أو بغيرها، وقد يصرفه بعد وقوعه بالرقية، أو بالاغتسال، أو بغير ذلك. انتهى كلامه.

قال الحافظ: وفيه بعض ما يُتَعقَّب، فإن الذي مَثَّل بالأفعى لَمْ يُرد أنَّها تلامس المصاب حتى يتصل به من سمها، وإنما أراد أن جنسًا من الأفاعي اشتَهَر أنَّها إذا وقع بصرها على الإنسان هلك، فكذلك العائن، وقد أشار صلى الله عليه وسلم إلى ذلك في حديث أبي لبابة رضي الله عنه مرفوعًا عند ذكر الأبتر، وذي الطُّفْيتين قال:"فإنهما يطمسان البصر، ويُسقطان الْحَبَل"، وليعس مراد الخطابي بالتأثير المعنى الذي يذهب إليه الفلاسفة، بل ما أجرى الله به العادة، من حصول الضرر للمعيون.

وقد أخرج البزار بسند حسن عن جابر رضي الله عنه رفعه: "أكثر من يموت بعد قضاء الله وقَدَره بالنَّفس"، قال الراوي: يعني: بالعين، وقد أجرى الله تعالى العادة بوجود كثير من القوى والخواص في الأجسام، والأرواح، كما يحدث لمن ينظر إليه من يحتشمه من الخجل، فيُرَى في وجهه حُمْرةٌ شديدةٌ لَمْ تكن قبل ذلك، وكذا الاصفرار عند رؤية من يخافه، وكثير من الناس يَسقَم بمجرد النظر إليه، وتضعف قواه، وكل ذلك بواسطة ما خلق الله تعالى في الأرواح من التأثيرات، ولشدة ارتباطها بالعين نُسب الفعل إلى العين، وليست هي المؤثرة، وإنما التأثير للروح، والأرواح مختلفة في طبائعها، وقواها، وكيفياتها، وخواصّها. فمنها ما يؤثر في البدن بمجرد الرؤية من غير اتصال به؛ لشدة خبث تلك الروح، وكيفيتها الخبيثة.

والحاصل أن التأثير بإرادة الله تعالى وخَلْقه ليس مقصورًا على الاتصال الجسمانيّ، بل يكون تارة به، وتارة بالمقابلة، وأخرى بمجرد الرؤية، وأخرى

ص: 717

بتوجه الروح؛ كالذي يَحْدُث من الأدعية، والرُّقَى، والالتجاء إلى الله تعالى، وتارة يقع ذلك بالتوهم والتخيل، فالذي يخرج من عين العائن سهم معنويّ إن صادف البدن لا وقاية له أثّر فيه، وإلا لَمْ ينفذ السهم، بل ربما رُدّ على صاحبه؛ كالسهم الحسيّ سواء. انتهى

(1)

.

(المسألة الرابعة): قد أجاد الحافظ رحمه الله البحث في هذا الحديث، فقال:

وأخرج مسلم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما رفعه: "العين حقّ، ولو كان شيء سابق القدر لسبقته العين، وإذا استُغسلتم فاغسلوا".

قال: فأما الزيادة الأولى - يعني: قوله: "ولو كان شيء سابق القدر لسبقته العين" - ففيها تأكيد، وتنبيه على سرعة نفوذها، وتأثيره في الذات، وفيها إشارة إلى الردّ على من زعم من المتصوفة أن قوله:"العين حقّ" يريد به القَدَر؛ أي: العين التي تجري منها الإحكام، فإن عين الشيء حقيقته، والمعنى: أن الذي يصيب من الضرر بالعادة عند نظر الناظر، إنما هو بقدر الله السابق، لا بشيء يحدثه الناظر في المنظور.

ووجه الرد أن الحديث ظاهر في المغايرة بين القدر وبين العين، وإن كنا نعتقد أن العين من جملة المقدور، لكن ظاهره إثبات العين التي تصيب، إما بما جعل الله تعالى فيها من ذلك، وأودعه فيها، وإما باجراء العادة بحدوث الضرر عند تحديد النظر، وإنما جرى الحديث مجرى المبالغة في إثبات العين، لا أنه يمكن أن يَرُدّ القدرَ شيء؛ إذ القدر عبارة عن سابق علم الله تعالى، وهو لا رادّ لأمره، أشار إلى ذلك القرطبيّ.

وحاصله لو فُرِض أن شيئًا له قوة بحيث يسبق القدر، لكان العين، لكنها لا تسبق، فكيف غيرها.

وقد أخرج البزار من حديث جابر رضي الله عنه بسند حسن عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "أكثر من يموت من أمتي بعد قضاء الله وقدره بالأنفس"، قال الراوي: يعني: بالعين.

(1)

"الفتح" 10/ 200.

ص: 718

وقال النوويّ: في الحديث إثبات القدر، وصحة أمر العين، وأنها قوية الضرر.

قال: وأما الزيادة الثانية، وهي أَمْر العائن بالاغتسال عند طلب المعيون منه ذلك، ففيها إشارة إلى أن الاغتسال لذلك كان معلومًا بينهم، فأمَرَهم أن لا يمتنعوا منه إذا أُريدَ منهم، وأدنى ما في ذلك رَفْع الوهم الحاصل في ذلك، وظاهر الأمر الوجوب، وحَكَى المازريّ فيه خلافًا، وصحح الوجوب، وقال: متى خُشي الهلاك، وكان اغتسال العائن مما جرت العادة بالشفاء به، فإنه يتعين، وقد تقرر أنه يُجبر على بذل الطعام للمضطرّ، وهذا أَولى.

قال: ولم يبيّن في حديث ابن عباس صفة الاغتسال، وقد وقعت في حديث سهل بن حُنيف، عند أحمد، والنسائيّ، وصححه ابن حبان، من طريق الزهريّ عن أبي أمامة بن سهل بن حُنيف؛ أن أباه حدّثه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم خرج، وساروا معه نحو ماء، حتى إذا كانوا بشِّعب الخَرار من الجحفة، اغتسل سهل بن حنيف، وكان أبيض، حسن الجسم، والجلد، فنظر إليه عامر بن ربيعة، فقال: ما رأيت كاليوم، ولا جلد مخبأة، فلُبِط - أي: صُرع وزنًا ومعنى - سهلٌ، فأُتِي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:"هل تتهمون به من أحد؟ " قالوا: عامر بن ربيعة، فدعا عامرًا، فتغيّظ عليه، فقال:"علام يقتل أحدكم أخاه؟ هلّا إذا رأيت ما يُعجبك بَرَّكت - ثم قال -: اغتسل له"، فغسل وجهه، ويديه، ومرفقيه، وركبتيه، وأطراف رجليه، وداخلة إزاره في قَدَح، ثم يَصُبّ ذلك الماء عليه رجل من خلفه على رأسه وظهره، ثم يكفأ القدح، ففُعل به ذلك، فراح سهل مع الناس، ليس به بأس، لفظ أحمد من رواية أبي أويس، عن الزهريّ، ولفظ النسائيّ من رواية ابن أبي ذئب، عن الزهريّ بهذا السند: أنه يصب صبةً على وجهه بيده اليمني، وكذلك سائر أعضائه صبةً صبةً في القدح، وقال في آخره: ثم يكفأ القدح وراءه على الأرض.

ووقع في رواية ابن ماجة من طريق ابن عيينة، عن الزهريّ، عن أبي أمامة؛ أن عامر بن ربيعة مرّ بسهل بن حُنيف، وهو يغتسل، فذكر الحديث، وفيه: "فَلْيَدْع بالبركة، ثم دعا بماء، فأمر عامرًا أن يتوضأ، فيغسل وجهه،

ص: 719

ويديه إلى المرفقين، وركبتيه، وداخلة إزاره، وأمره أن يصب عليه - قال سفيان: قال معمر، عن الزهريّ - وأمر أن يكفأ الإناء من خلفه.

قال المازريّ: المراد بداخلة الإزار: الطرف المتدلي الذي يلي حقوه الأيمن، قال: فظن بعضهم أنه كناية عن الفرج. انتهى.

وزاد عياض: أن المراد: ما يلي جسده من الإزار، وقيل: أراد موضع الإزار من الجسد، وقيل: أراد وركه؛ لأنه معقد الإزار، والحديث في "الموطأ" وفيه عن مالك: حدّثني محمد بن أبي أمامة بن سهل؛ أنه سمع أباه يقول: اغتسل سهل، فذكر نحوه، وفيه: فنزع جبة كانت عليه، وعامر بن ربيعة ينظر، فقال: ما رأيت كاليوم، ولا جلد عذراء، فوُعك سهل مكانه، واشتَدّ وعكة، وفيه:"ألا بَرّكت؟ إن العين حقّ، توضأ له" فتوضأ له عامر، فراح سهل، ليس به بأس.

[تنبيهات]: الأول: قال المازريّ: هذا المعنى مما لا يمكن تعليله، ومعرفة وجهه من جهة العقل، فلا يُردّ لكونه لا يُعقل معناه.

وقال ابن العربيّ: إن توقّف فيه متشرع، قلنا له: قل: الله ورسوله أعلم، وقد عضدته التجربة، وصدّقته المعاينة، أو متفلسف فالردّ عليه أظهر؛ لأنَّ عنده أن الأدوية تفعل بقواها، وقد تفعل بمعنى لا يُدْرَك، ويسمُّون ما هذا سبيله: الخواصّ.

وقال ابن القيّم: هذه الكيفية لا ينتفع بها من أنكرها، ولا من سَخِر منها، ولا من شك فيها، أو فعلها مجرّبًا غير معتقد، وإذا كان في الطبيعة خواصّ لا يعرف الأطباء عللها، بل هي عندهم خارجة عن القياس، وإنما تفعل بالخاصية، فما الذي تنكر جهلتهم من الخواص الشرعية هذا؟ مع أن في المعالجة بالاغتسال مناسبة لا تأباها العقول الصحيحة، فهذا ترياق سمّ الحية يؤخذ من لحمها، وهذا علاج النفس الغضبية توضع اليد على بدن الغضبان، فيسكن، فكأن أثر تلك العين كشُعلة نار وقعت على جسد، ففي الاغتسال إطفاء لتلك الشعلة، ثم لمّا كانت هذه الكيفية الخبيثة تظهر في المواضع الرقيقة من الجسد؛ لشدة النفوذ فيها، ولا شيء أرقّ من المغابن، فكان في غسلها إبطال لعملها، ولا سيما أن للأرواح الشيطانية في تلك المواضع اختصاصًا،

ص: 720

وفيه أيضًا وصول أثر الغسل إلى القلب من أرقّ المواضع، وأسرعها نفاذًا، فتنطفئ تلك النار التي أثارتها العين بهذا الماء.

الثاني: هذا الغسل ينفع بعد استحكام النظرة، فأما عند الإصابة، وقبل الاستحكام، فقد أرشد الشارع إلى ما يدفعه بقوله في قصة سهل بن حنيف المذكورة كما مضى:"ألّا بَرَّكتَ عليه؟ "، وفي رواية ابن ماجة:"فلْيَدْع بالبركة"، ومثله عند ابن السنيّ من حديث عامر بن ربيعة.

وأخرج البزار، وابن السنيّ من حديث أنس، رفعه:"من رأى شيئًا، فأعجبه، فقال: ما شاء الله، لا قوة إلَّا بالله، لَمْ يضرّه". انتهى

(1)

.

الثالث: قال القرطبيّ رحمه الله: وفي حديث سهل رضي الله عنه من الفقه أبواب: فمنها: جَبْرُ العائن على الوضوء المذكور على الوجه المذكور، وقيل: لا يُجبر، وأن من اتُّهِم بأمر أُحضر للحاكم، وكُشف عن أمره، وأن العين قد تَقتُل؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"علام يقتل أحدكم أخاه"، وأن الدعاء بالبركة يُذْهب أثر العين بإذن الله تعالى، وأن أثر العين إنما هو عن حسد كامن في القلب، وأن من عُرف بالإصابة بالعين مُنع من مُداخلة الناس دفعًا لضرره، قال بعض العلماء: يأمره الإمام بلزوم بيته، وإن كان فقيرًا رزقه ما يقوم به، وكفّ أذاه عن الناس، وفيه جواز النُّشرة، والتطبّب بها.

قال: لو انتهت إصابة العين إلى أن يُعرف بذلك، ويُعلم من حاله أنه كلما تكلّم بشيء معظّما له، أو متعجّبًا منه أصيب ذلك الشيء، وتكرّر ذلك بحيث يصير ذلك عادة، فما أتلفه بِعَيْنه غَرِمه، وإن قتل أحدًا بعينه عامدًا لقتله قُتِل به؛ كالساحر القاتل بسحره عند من يقتله كفرًا، وأما عندنا - يعني: المالكيّة - فيُقتل على كلّ حال، قَتَل بسحره أو لا؛ لأنه كالزنديق. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله، وهو بحث مفيدٌ، والله تعالى أعلم.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(1)

"الفتح" 10/ 210 - 215.

ص: 721

قال الجامع الفقير إلى مولاه الغني القدير محمد ابن الشيخ العلَّامة علي بن آدم بن موسى خُويدم العلم بمكة المكرّمة - عفا الله عنه وعن والديه -:

قد انتهيت من كتابة الجزء الخامس والثلاثين من "شرح صحيح الإمام مسلم" المسمَّى "البحر المحيط الثجّاج شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجّاج" بعد صلاة المغرب ليلة الخميس المباركة، وهي الليلة الثانية عشرة من ربيع الثاني (12/ 4/ 1432 هـ الموافق 17 مارس 2011 م).

أسأل الله العليّ العظيم رب العرش العظيم أن يجعله خالصًا لوجهه الكريم، وسببًا للفوز بجنّات النعيم لي ولكلّ من تلقّاه بقلب سليم، إنه بعباده رؤوف رحيم.

وآخر دعوانا: {أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (10)} [يونس: 10].

{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف: 43].

{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (182)} [الصافات: 180 - 182].

"اللَّهُمَّ صلّ على محمد، وعلى آل محمد، كما صلّيت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، اللَّهُمَّ بارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد".

"السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته".

ويليه - إن شاء الله تعالى - الجزء السادس والثلاثون مفتتحًا بـ (2) - (بابُ السِّحْرِ) رقم الحديث [5691](2189).

"سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلَّا أنت، أستغفرك وأتوب إليك".

* * *

ص: 722