المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

بسم الله الرحمن الرحيم ليلة الخميس (1) الثانية عشرة من شهر ربيع - البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج - جـ ٣٦

[محمد بن علي بن آدم الأثيوبي]

فهرس الكتاب

بسم الله الرحمن الرحيم

ليلة الخميس

(1)

الثانية عشرة من شهر ربيع الثاني 12/ 4 / 1432 هـ بدأتُ كتابةَ أول الجزء السادس والثلاثين من شرح "صحيح الإمام مسلم" المسمَّى "البحر المحيط الثَّجاج في شرح صحيح الإمام مسدم بن الحجَّاج" رحمه الله تعالى.

(2) - (بَابُ السِّحْرِ)

مسائل تتعلَّق بهذه الترجمة:

(المسألة الأولى): في ضبط السحر، ومعناه:

قال في "القاموس"، و"شرحه":"السِّحْر" - أي: بكسر السين، وسكون الحاء المهملتين -: كُلُّ ما لَطُف مأْخَذُه، ودَقَّ، والجمْع أسْحارٌ وسُحُورٌ، والفِعْلُ كمَنعَ. وقوله:"إنَّ مِنَ البَيَانِ لَسِحْرًا". قال أبو عُبَيْد: كأنّ مَعْنَاهُ - والله أعلم - أنَّه يَبْلُغ من ثَنائِه أنه يَمْدَحُ الإنسانَ، فيَصْدُقُ فيه حتّى يَصْرِفَ قُلُوبَ السَّامِعين إليه؛ أَي: إلى قَوْله، ويَذُمُّه فيَصْدُقُ فيه حتَّى يَصْرِفَ قُلوبَهُم أيضًا عنه إلى قَولهِ الآخَرِ. فكأنه سَحَر السامعينَ بذلك. انتهى

(2)

.

وقال الفيّوميّ رحمه الله: قال ابن فارس: "السِّحْرُ": إخراج الباطل في صورة الحقّ، ويقال: هو الخديعة، وسَحَرَهُ بكلامه: استماله برقّته، وحُسْن تركيبه، قال الإمام فخر الدين في "التفسير": ولفظ السِّحْرِ في عُرف الشرع مختصّ بكل أمر يَخْفَى سببه، ويُتَخَيَّل على غير حقيقته، ويجري مجرى التمويه والخداع، قال تعالى:{يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} [طه: 66]. وإذا أُطلق ذُمّ فاعله، وقد يُستعمل مقيَّدًا فيما يُمدح ويُحمد، نحو قوله صلى الله عليه وسلم:"إِنَّ مِنَ البَيَانِ لَسِحْرًا"؛ أي:

(1)

وذلك مع الأذان لصلاة العشاء 12/ 4/ 1432 هـ.

(2)

"تاج العروس" 1/ 2928.

ص: 5

إن بعض البيان سِحْرٌ؛ لأنَّ صاحبه يوضح الشيء المشكل، ويكشف عن حقيقته بحسن بيانه، فيستميل القلوب كما تُستمال بِالسّحْر، وقال بعضهم: لَمّا كان في البيان من إبداع التركيب، وغرابة التأليف ما يجذب السامع، ويخرجه إلى حدّ يكاد يشغله عن غيره شُبِّه بِالسِّحْرِ الحقيقيّ، وقيل: هو السِّحْرُ الحلال. انتهى

(1)

.

(المسألة الثانية): في أنواع السحر:

قال الراغب الأصفهانيّ وغيره: السحر يُطلق على معانٍ:

[أحدهما]: ما لَطُف، ودَقّ، ومنه سَحَرت الصبيّ: خادعته، واستملته، وكلُّ من استمال شيئًا، فقد سحره، ومنه إطلاق الشعراء سِحْر العيون؛ لاستمالتها النفوس، ومنه قول الأطباء: الطبيعة ساحرة، ومنه قوله تعالى:{بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ} [الحجر: 15]؛ أي: مصروفون عن المعرفة، ومنه حديث:"إن من البيان لسحرًا"، رواه البخاريّ.

[الثاني]: ما يقع بخداع، وتخييلات، لا حقيقة لها، نحو ما يفعله المشعوِذ، من صرف الأبصار عما يتعاطاه بخفة يده، وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى:{يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} وقوله تعالى: {سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ} [الأعراف: 116]، ومن هناك سَمُّوا موسى ساحرًا، وقد يستعين في ذلك بما يكون فيه خاصيّة كالحَجَر الذي يجذب الحديد المسمى المغنطيس.

[الثالث]: ما يحصل بمعاونة الشياطين بضرب من التقرب إليهم، وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى:{وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} [البقرة: 102].

[الرابع]: ما يحصل بمخاطبة الكواكب، واستنزال روحانياتها بزعمهم، قال ابن حزم: ومنه ما يوجد من الطلسمات، كالطابَع المنقوش، فيه سورة عقرب، في وقت كون القمر في العقرب، فينفع إمساكه من لدغة العقرب، وكالْمُشاهَد ببعض بلاد الغرب، وهي سَرَقُسْطة، فإنها لا يدخلها ثعبان قط، إلَّا إن كان بغير إرادته، وقد يَجمع بعضهم بين الأمرين الأخيرين، كالاستعانة

(1)

"المصباح المنير" 1/ 267 - 268.

ص: 6

بالشياطين، ومخاطبة الكواكب، فيكون ذلك أقوى بزعمهم، قال أبو بكر الرازيّ في "الإحكام" له: كان أهل بابل قومًا صابئين، يعبدون الكواكب السبعة، ويسمونها آلهة، ويعتقدون أنَّها الفعالة لكل ما في العالم، وعملوا أوثانًا على أسمائها، ولكل واحد هيكل، فيه صنمه، يُتقرّب إليه بما يوافقه بزعمهم، من أدعية، وبَخور، وهم الذين بُعث إليهم إبراهيم عليه السلام، وكانت علومهم أحكام النجوم، ومع ذلك فكان السحرة منهم يستعملون سائر وجوه السحر، وينسبونها إلى فعل الكواكب؛ لئلا يُبْحَث عنها، وَينكشف تمويههم. انتهى.

[تنبيه]: السحر يُطلَق، ويراد به الآلة التي يُسحر بها، ويطلق ويراد به فعل الساحر، والآلة تارةً تكون معنى من المعاني فقط؛ كالرُّقَي، والنفث في العُقَد، وتارةً تكون بالمحسوسات؛ كتصوير الصورة على صورة المسحور، وتارة بجمع الأمرين الحسيّ والمعنويّ، وهو أبلغ، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في اختلاف أهل العلم في السحر:

(اعلم) أنه اختُلِف في السحر، فقيل: هو تخييل فقط، ولا حقيقة له، وهذا اختيار أبي جعفر الاسترباذيّ من الشافعية، وأبي بكر الرازيّ من الحنفية، وابن حزم الظاهريّ، وطائفة، قال النوويّ: والصحيح أن له حقيقة، وبه قطع الجمهور، وعليه عامة العلماء، ويدل عليه الكتاب والسُّنَّة الصحيحة المشهورة. انتهى.

لكن محل النزاع: هل يقع بالسحر انقلاب عين، أو لا؟ فمن قال: إنه تخييل فقط مَنَع ذلك، ومن قال: إن له حقيقةً، اختلفوا هل له تأثير فقط، بحيث يغير المزاج، فيكون نوعًا من الأمراض، أو ينتهي إلى الإحالة، بحيث يصير الجماد حيوانًا مثلًا، وعكسه؟ فالذي عليه الجمهور هو الأول، وذهبت طائفة قليلة إلى الثاني، فإن كان بالنظر إلى القدرة الإلهية فمسلَّم، وإن كان بالنظر إلى الواقع، فهو محل الخلاف، فإن كثيرًا ممن يَدَّعي ذلك لا يستطيع إقامة البرهان عليه.

ونقل الخطابيّ أن قومًا أنكروا السحر مطلقًا، وكأنه عني القائلين بأنه تخييل فقط، وإلا فهي مكابرة.

ص: 7

وقال المازريّ: جمهور العلماء على إثبات السحر، وأن له حقيقةً، ونَفَى بعضهم حقيقته، وأضاف ما يقع منه إلى خيالات باطلة، وهو مردود؛ لورود النقل بإثبات السحر، ولأن العقل لا يُنكر أن الله قد يخرق العادة عند نُطق الساحر بكلام ملفَّق، أو تركيب أجسام، أو مزج بين قُوًى على ترتيب مخصوص، ونظير ذلك ما يقع من حُذاق الأطباء من مزج بعض العقاقير ببعض، حتى ينقلب الضارّ منها بمفرده بالتركيب نافعًا، وقيل: لا يزيد تأثير السحر على ما ذكر الله تعالى في قوله: {يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} [البقرة: 102]؛ لكون المقام مقام تهويل، فلو جاز أن يقع به أكثر من ذلك لَذَكره.

قال المازريّ

(1)

: والصحيح من جهة العقل أنه يجوز أن يقع به أكثر من ذلك، قال: والآية ليست نصًّا في منع الزيادة، ولو قلنا: إنها ظاهرة في ذلك. انتهى، وهو تحقيقٌ حسنٌ، والله تعالى أعلم.

(المسألة الرابعة): في الفرق بين السحر، والمعجزة، والكرامة:

(اعلم): أن السحر - كما قال المازريّ - يكون بمعاناة أقوال، وأفعال، حتى يتمّ للساحر ما يريد، والكرامة لا تحتاج إلى ذلك، بل إنما تقع غالبًا اتّفاقًا، وأما المعجزة فتمتاز عن الكرامة بالتحدِّي، ونقل إمام الحرمين الإجماع على أنَّ السحر لا يظهر إلَّا من فاسق، وأن الكرامة لا تظهر على فاسق، ونقل النوويّ في زيادات "الروضة" عن المتوليّ نحو ذلك، وينبغي أن يعتبر بحال من يقع الخارق منه، فإن كان متمسِّكًا بالشريعة، متجنِّبًا للموبقات، فالذي يظهر على يده من الخوارق كرامة، وإلَّا فهو سحر؛ لأنه ينشأ عن أحد أنواعه؛ كإعانة الشياطين، ذكره في "الفتح"

(2)

، والله تعالى أعلم بالصواب.

(المسألة الخامسة): قال الإمام البخاريّ رحمه الله في "صحيحه": "باب السحر"، وقول الله تعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ

(1)

"المعلم" 3/ 94.

(2)

"الفتح" 13/ 198 - 200، كتاب "الطمث" رقم (5763).

ص: 8

مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102)} [البقرة: 102].

قال في "الفتح" في شرح هذا الموضع: قوله: "وقول الله تعالى: {وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} الآية": في هذه الآية بيان أصل السحر الذي يَعمل به اليهود، ثم هو مما وضعته الشياطين على سليمان بن داود عليه السلام ومما أُنزل على هاروت وماروت بأرض بابل، والثاني متقدم العهد على الأول؛ لأنَّ قصة هاروت وماروت كانت من قبل زمن نوح عليه السلام على ما ذكر ابن إسحاق وغيره، وكان السحر موجودًا في زمن نوح عليه السلام إذ أخبر الله عن قوم نوح أنهم زعموا أنه ساحر، وكان السحر أيضًا فاشيًا في قوم فرعون، وكل ذلك قبل سليمان، واختُلِف في المراد بالآية:

فقيل: إن سليمان كان جَمَعَ كُتُب السحر والكهانة، فدفنها تحت كرسيه، فلم يكن أحد من الشياطين يستطيع أن يدنو من الكرسيّ، فلما مات سليمان، وذهب العلماء الذين يعرفون الأمر جاءهم شيطان في صورة إنسان، فقال لليهود: هل أدلكم على كنز لا نظير له؟ قالوا: نعم، قال: فاحفروا تحت الكرسيّ، فحفروا، وهو متنحٍّ عنهم، فوجدوا تلك الكتب، فقال لهم: إن سليمان كان يضبط الأنس والجن بهذا، ففشا فيهم أن سليمان كان ساحرًا، فلما نزل القرآن بذكر سليمان في الأنبياء أنكرت اليهود ذلك، وقالوا: إنما كان ساحرًا، فنزلت هذه الآية.

أخرجه الطبريّ وغيره عن السديّ، ومن طريق سعيد بن جبير بسند صحيح نحوه، ومن طريق عمران بن الحارث عن ابن عباس موصولًا بمعناه.

وأخرج من طريق الربيع بن أنس نحوه، ولكن قال: إن الشياطين هي التي كتبت كُتُب السحر، ودفنتها تحت كرسيه، ثم لما مات سليمان استخرجته، وقالوا: هذا العلم الذي كان سليمان يكتمه الناس.

وأخرجه من طريق محمد بن إسحاق، وزاد: أنهم نقشوا خاتمًا على نقش خاتم سليمان، وختموا به الكتاب، وكتبوا عنوانه: هذا ما كتب آصف بن برخياء الصديق للملك سليمان بن داود، من ذخائر كنوز العلم، ثم دفنوه، فذكر نحو ما تقدم.

ص: 9

وأخرج من طريق العَوْفيّ عن ابن عباس نحو ما تقدم عن السديّ، ولكن قال: إنهم لمّا وجدوا الكتب قالوا: هذا مما أنزل الله على سليمان، فأخفاه منا.

وأخرج بسند صحيح عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: انطلقت الشياطين في الأيام التي ابتُلِيَ فيها سليمان، فكَتَبَتْ كتبًا فيها سحر، وكُفر، ثم دفنتها تحت كرسيه، ثم أخرجوها بعده، فقرؤوها على الناس.

ومُلَخَّص ما ذُكر في تفسير هذه الآية أن المحكيّ عنهم أنهم اتبعوا ما تتلوا الشياطين هم أهل الكتاب؛ إذ تقدم قبل ذلك في الآياتِ إيضاح ذلك، والجملة معطوفة على مجموع الجمل السابقة، من قوله تعالى:{وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ} إلى آخر الآية، و {مَا} في قوله:{مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ} موصولة على الصواب، وغَلِطَ من قال: إنها نافية، لأنَّ نَظْم الكلام يأباه، و {نَتْلُوا} لفظه مضارع، لكن هو واقع موقع الماضي، وهو استعمال شائع، ومعنى {تَتْلُو} تتقوّل، ولذلك عدَّاه بـ "على"، وقيل: معناه: تتّبع، أو تقرأ، ويحتاج إلى تقدير، قيل: هو تقرأ على زمان ملك سليمان.

وقوله: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ} : {مَا} نافية جزمًا.

وقوله: {وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا} هذه الواو عاطفة لجملة الاستدراك على ماقبلها.

وقوله: {يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} : {النَّاسَ} مفعول أول، و {السِّحْرَ} مفعول ثان، والجملة حال من فاعل {كَفَرُوا}؛ أي: كفروا معلِّمين، وقيل: هي بدل من {كَفَرُوا} ، وقيل: استئنافيّة، وهذا على إعادة ضمير {يُعَلِّمُونَ} على الشياطين، ويَحْتَمِل عوده على {الَّذِينَ اتَّبَعُوا} فيكون حالًا من فاعل {اتَّبَعُوا} ، أو استئنافًا.

وقوله: {وَمَا أُنْزِلَ} : {مَا} موصولة، ومحلها النصب عطفًا على {السِّحْرَ} ، والتقدير: يعلّمون الناس السحر، والْمُنْزَلَ على الملَكين، وقيل: الجرّ عطفًا على {مُلْكِ سُلَيْمَانَ} ؛ أي: تقوّلًا على ملك سليمان، وعلى ما أُنزل، وقيل: بل هي نافية عطفًا على {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ} ، والمعنى: ولم يَنزِل على الملكين إباحة السحر، وهذان الإعرابان ينبنيان على ما جاء في تفسير الآية عن البعض، والجمهور على خلافه، وأنها موصولة، ورَدّ الزجّاج

ص: 10

على الأخفش دعواه أنَّها نافية، وقال: الذي جاء في الحديث، والتفسير أَولى.

وقوله: {بِبَابِلَ} متعلق بـ {وَمَا أُنْزِلَ} ؛ أي: في بابل، والجمهور على فتح لام الملكين، وقُرئ بكسرها، وهاروت وماروت بدل من الملكين، وَجُرّا بالفتحة، أو عَطْف بيان، وقيل: بل هما بدل من الناس، وهو بعيد، وقيل: من الشياطين، على أنَّ هاروت وماروت اسمان لقبيلتين من الجنّ، وهو ضعيف.

وقوله: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ} بالتشديد من التعليم، وقرئ في الشاذّ بسكون العين، من الإعلام، بناءً على أنَّ التضعيف يتعاقب مع الهمزة، وذلك أن الملكين لا يُعَلِّمان الناسَ السحرَ، بل يُعْلمانهم به، وينهيانهم عنه، والأول أشهر.

وقد قال عليّ: الملكان يعلمان تعليم إنذار، لا تعليم طلب.

وفي إيراد البخاريّ هذه الآية إشارة إلى اختيار الحكم بكفر الساحر؛ لقوله فيها: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} ظاهرها أنهم كفروا بذلك، ولا يكفر بتعليم الشيء إلَّا وذلك الشيء كفر، وكذا قوله في الآية على لسان الملكين:{إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ} ، فإن فيه إشارةً إلى أن تعلّم السحر كفر، فيكون العمل به كفرًا، قال الحافظ: وهذا كله واضح على ما قررته من العمل ببعض أنواعه، وقد زعم بعضهم أن السحر لا يصح إلَّا بذلك، وعلى هذا فتسمية ما عدا ذلك سحرًا مجاز، كإطلاق السحر على القول البليغ.

وقصة هاروت وماروت جاءت بسند حسن من حديث ابن عمر، في "مسند أحمد"، وأطنب الطبريّ في إيراد طرقها، بحيث يقضي بمجموعها على أن للقصة أصلًا، خلافًا لمن زعم بطلانها؛ كعياض، ومن تبعه، ومُحَصّلها أن الله رَكَّب الشهوة في ملكين من الملائكة اختبارًا لهما، وأمرهما أن يحكما في الأرض، فنزلا على صورة البشر، وحكما بالعدل مدةً، ثم افتُتِنا بامرأة جميلة، فعوقبا بسبب ذلك، بأن حُبِسا في بئر ببابل منكسين، وابتليا بالنطق بعلم السحر، فصار يقصدهما من يطلب ذلك، فلا ينطقان بحضرة أحد، حتى يُحَذِّراه، وينهياه، فإذا أصرَّ تكلما بذلك ليتعلم منهما ذلك، وهما قد عرفا ذلك، فيتعلم منهما ما قصّ الله عنهما، والله أعلم. انتهى

(1)

.

(1)

"الفتح" 13/ 201 - 204، كتاب "الطبّ" رقم (5763).

ص: 11

وبالسند المتّصل إلى المؤلِّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5691]

(2189) - (حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيه، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: سَحَرَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَهُودِيٌّ، مِنْ يَهُودِ بَنِي زُريقٍ، يُقَالَ لَهُ: لَبِيدُ بْنُ الأَعْصَم، قَالَتْ: حَتَّى كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ يَفْعَلُ الشَّيْءَ، وَمَا يَفْعَلُهُ، حَتَّى إِذَا كَانَ ذَاتَ يَوْمٍ، أَو ذَاتَ لَيْلَةٍ، دَعَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ دَعَا، ثمَّ دَعَا، ثُمَّ قَالَ: "يَا عَائِشَةُ أَشَعَرْتِ أَنَّ اللهَ أَفْتَانِي فِيمَا اسْتَفْتَيْتُهُ فِيه، جَاءَنِي رَجُلَان، فَقَعَدَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ رَأْسِي، وَالآخَرُ عِنْدَ رِجْلَيَّ، فَقَالَ الَّذِي عِنْدَ رَأْسِي لِلَّذِي عِنْدَ رِجْلَيَّ، أَوِ الَّذِي عِنْدَ رِجْلَيَّ لِلَّذِي عِنْدَ رَأْسِي: مَا وَجَعُ الرَّجُلِ؟ قَالَ: مَطْبُوبٌ، قَالَ: مَنْ طَبَّهُ؟ قَالَ: لَبِيدُ بْنُ الأَعْصَم، قَالَ: في أَيِّ شَيْءٍ؟ قَالَ: في مُشْطٍ، وَمُشَاطَةٍ، قَالَ: وَجُبِّ

(1)

طَلْعَةِ ذَكَرٍ، قَالَ: فَأَيْنَ هُوَ؟ قَالَ: في بِئْرِ ذِي أَرْوَانَ"، قَالَتْ: فَأَتَاهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم في أُنَاسٍ مِنْ أَصْحَابِه، ثُمَّ قَالَ: "يَا عَائِشَةُ، وَاللهِ لَكَأَنَّ مَاءَهَا نُقَاعَةُ الْحِنَّاء، وَلَكَأَنَّ نَخْلَهَا رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ"، قَالَتْ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله، أَفَلَا أَحْرَقْتَهُ؟، قَالَ: "لَا، أَمَّا أَنَا فَقَدْ عَافَانِي اللهُ، وَكَرِهْتُ أنْ أُثِيرَ عَلَى النَّاسِ شَرًّا، فَأَمَرْتُ بِهَا، فَدُفِنَتْ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أبُو كُرَيْبٍ) محمد بن العلاء الهَمْداني الكوفي، ثقةٌ حافظ [10] تقدم في "الإيمان" 4/ 117.

2 -

(ابنُ نُمَيْرٍ) عبد الله بن نُمير الهمداني الكوفي، ثقةٌ حافظ، من كبار [9] تقدم في "المقدمة" 2/ 5.

3 -

(هِشَامُ) بن عروة، أبو المنذر المدني، ثقةٌ فقيه، ربما دلَّس [5] تقدم في "شرح المقدمة" ج 1 ص 350.

4 -

(أَبُوهُ) عروة بن الزبير بن العوّام الأسدي، أبو عبد الله المدني، ثقةٌ ثبت فقيه مشهور، [3] تقدم في "شرح المقدمة" ص 2 ص 407.

5 -

(عائشةُ) أم المؤمنين رضي الله عنها، تقدمت في "شرح المقدمة" ج 1 ص 315.

(1)

وفي نسخة: "وجفّ".

ص: 12

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأن شيخه أحد التسعة الذين روى عنهم الجماعة بلا واسطة، وقد تقدّموا غير مرّة، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، والابن عن أبيه، عن خالته، وفيه عروة أحد الفقهاء السبعة، وفيه عائشة أعلم نساء الأمة، ومن المكثرين السبعة رضي الله عنهم.

شرح الحديث:

(عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ) عروة بن الزبير، قال في "الفتح": قوله: "عن أبيه" وقع في رواية يحيى القطان عن هشام: حدّثني أبي، وسيأتي في رواية ابن عيينة، عن ابن جريجٍ:"حدَّثني آل عروة"، ووقع في رواية الحميديّ، عن سفيان، عن ابن جريجٍ:"حدَّثني بعض آل عروة، عن عروة"، وظاهره أن غير هشام أيضًا حدِّث به عن عروة، وقد رواه غير عروة عن عائشة، كما سأبيّنه، وجاء أيضًا من حديث ابن عباس، وزيد بن أرقم، وغيرهما. انتهى

(1)

.

(عَنْ عَائِشَةَ) رضي الله عنهما أنَّها (قَالَتْ: سَحَرَ) تقدَّم أنه من باب منع، (رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَهُوديٌّ) مرفوع على الفاعليّة، و"رسولَ" مفعول مقدَّم عليه؛ أي: رجل منسوب إلى يهود القبيلة المعروفة، يقال: هو يهودُ غير منصرف؛ للعَلَميّة وزن الفعل، ويجوز دخول الألف واللام، فيقال: اليهود، وعلى هذا فلا يمتنع التنوين؛ لأنه نُقل عن وزن الفعل إلى باب الأسماء، قاله الفيّوميّ

(2)

. (مِنْ يَهُودِ بَنِي زُريقٍ) بزاي قبل الراء، مصغرًا، قال في "القاموس"، و"شرحه": وبَنُو زُرَيْقٍ: خلقٌ من الأنصار، والنِّسْبَةُ إليهم زُرَقِيٌّ، كجُهَنِيٍّ، وهم: بَنُو زُريق بنِ عامِرِ بنِ زُريق بنِ عَبْد حارِثَةَ بن مالكٍ بن غَضْبِ الخَزْرَجِيِّ، إليه يَرْجعُ كلّ زُرَقِيٍّ، ما خلا زُريقَ ثَعْلَبَةِ طَيِّئٍ، وأَخُوه بَياضةُ بن عامِرِ بن زُريقٍ، وقد يُقال لهم: زُرَقِيُّونَ أيضًا، وهم بالبياضيِّينَ أَقْعَدُ في العَزْوَة، قالهُ الشَّرِيفُ الجَوَّانِيُّ في المُقَدّمةِ الفاضِلِيّة. انتهى

(3)

.

(1)

"الفتح" 13/ 205، كتاب "الطبّ" رقم (5763).

(2)

"المصباح المنير" 2/ 642

(3)

"تاج العروس" 1/ 6355.

ص: 13

(يُقَالُ لَهُ: لَبِيدُ) بفتح اللام، وكسر الموحّدة، بعدها تحتانية ساكنة، ثم مهملة، (ابْنُ الأَعْصَمِ) - بوزن أحمر، بمهملتين - ووقع في رواية ابن عيينة عند البخاريّ:"رجلٌ من بني زُريق، حليف اليهود، وكان منافقًا"، ويُجمع بينهما بأن من أطلق أنه يهوديّ نظر إلى ما في نفس الأمر، ومن أطلق عليه منافقًا نظر إلى ظاهر أمره.

وقال ابن الجوزيّ: هذا يدلُّ على أنَّه كان أسلم نفاقًا، وهو واضح، وقد حَكَى عياض في "الشفاء" أنه كان أسلم، ويَحْتَمِل أن يكون قيل له: يهوديّ؛ لكونه كان من حلفائهم، لا أنه كان على دينهم، وبنو زُريق بطن من الأنصار مشهور، من الخزرج، وكان بين كثير من الأنصار، وبين كثير من اليهود قبل الإسلام حِلْفٌ، وإخاء، ووُدّ، فلما جاء الإسلام، ودخل الأنصار فيه تبرؤوا منهم

(1)

.

[تنبيه]: قد بَيّن الواقديّ السَّنة التي وقع فيها السحر للنبيّ صلى الله عليه وسلم، أخرجه عنه ابن سعد بسند له إلى عمر بن الحكم مرسلًا، قال: لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية في ذي الحجة، ودخل المحرَّم من سنة سبع جاءت رؤساء اليهود إلى لَبيد بن الأعصم، وكان حليفًا في بني زُريق، وكان ساحرًا، فقالوا له: يا أبا الأَعصم أنت أسحرنا، وقد سحرنا محمدًا، فلم نصنع شيئًا، ونحن نجعل لك جُعْلًا على أنَّ تسحره لنا سحرًا ينكؤه، فجعلوا له ثلاثة دنانير.

ووقع في رواية أبي ضمرة، عند الإسماعيليّ: فأقام أربعين ليلةً، وفي رواية وهيب، عن هشام عند أحمد: ستة أشهر.

ويمكن الجمع بأن تكون الستة أشهر من ابتداء تغير مزاجه، والأربعين يومًا من استحكامه، وقال السهيليّ: لَمْ أقف في شيء من الأحاديث المشهورة على قدر المدة التي مكث النبيّ صلى الله عليه وسلم فيها في السحر، حتى ظَفِرت به في "جامع معمر" عن الزهريّ أنه لبث ستة أشهر، قال الحافظ: كذا قال، وقد وجدناه موصولًا بإسناد الصحيح، فهو المعتمد.

(قَالَتْ: حَتَّى كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ يَفْعَلُ الشَّيْءَ، وَمَا يَفْعَلُهُ) قال المازريّ رحمه الله

(2)

: أنكر بعض المبتدعة هذا الحديث، وزعموا أنه يَحُطّ

(1)

"الفتح" 13/ 205 - 206، كتاب "الطبّ" رقم (5763).

(2)

"المعلم" 3/ 93.

ص: 14

منصب النبوة، ويشكك فيها، قالوا: وكل ما أدَّى إلى ذلك فهو باطل، وزعموا أن تجويز هذا يُعْدِم الثقة بما شرعوه من الشرائع؛ إذ يَحْتَمِل على هذا أن يُخَيَّل إليه أنه يرى جبريل، وليس هو ثَمَّ، وأنه يوحَى إليه بشيء، ولم يوح إليه بشيء، قال المازريّ: وهذا كله مردود؛ لأنَّ الدليل قد قام على صدق النبيّ صلى الله عليه وسلم فيما يبلغه عن الله تعالى، وعلى عصمته في التبليغ، والمعجزات شاهدات بتصديقه، فتجويز ما قام الدليل على خلافه باطلٌ، وأما ما يتعلق ببعض أمور الدنيا التي لَمْ يُبعث لأجلها، ولا كانت الرسالة من أجلها، فهو في ذلك عُرْضة لِمَا يعترض البشر، كالأمراض، فغير بعيد أن يُخَيَّل إليه في أمر من أمور الدنيا ما لا حقيقة له، مع عصمته. عن مثل ذلك في أمور الدين، قال: وقد قال بعض الناس: إن المراد بالحديث أنه كان صلى الله عليه وسلم يخيل إليه أنه وطئ زوجاته، ولم يكن وطأهن، وهذا كثيرًا ما يقع تخيله للإنسان في المنام، فلا يبعد أن يُخَيَّل إليه في اليقظة.

قال الحافظ: وهذا قد ورد صريحًا في رواية ابن عيينة عند البخاريّ، ولفظه:"حتى كان يَرَى أنه يأتي النساء، ولا يأتيهن"، وفي رواية الحميديّ:"أنه يأتي أهله، ولا يأتيهم"، قال الداوديّ:"يُرَى" بضم أوله؛ أي: يَظُنّ، وقال ابن التين: ضبطت "يَرَى" بفتح أوله، قال الحافظ: وهو من الرأي، لا من الرؤية، فيرجع إلى معنى الظنّ.

وفي مرسل يحيى بن يعمر، عند عبد الرزاق:"سُحِر النبيّ صلى الله عليه وسلم عن عائشة، حتى أنكر بصره"، وعنده في مرسل سعيد بن المسيِّب:"حتى كاد يُنكر بصره"، قال عياض

(1)

: فظهر بهذا أن السحر إنما تسلَّط على جسده، وظواهر جوارحه، لا على تمييزه، ومعتقده.

ووقع في مرسل عبد الرَّحمن بن كعب، عند ابن سعد:"فقالت أخت لبيد بن الأعصم: إن يكن نبيًّا، فسيُخْبَر، وإلا فسيذهله هذا السحر. حتى يذهب عقله"، قال الحافظ: فوقع الشق الأول، كما في هذا الحديث الصحيح.

وقد قال بعض العلماء؛ لا يلزم من أنه كان يظنّ أنه فعل الشيء، ولم

(1)

"إكمال المعلم" 7/ 88.

ص: 15

يكن فعله أن يجزم بفعله ذلك، وإنما يكون ذلك من جنس الخاطر يخطر، ولا يثبت، فلا يبقى على هذا للملحد حجة.

وقال عياض رحمه الله

(1)

: يَحْتَمِل أن يكون المراد بالتخيل المذكور أنه يظهر له من نشاطه، ما أَلِفه من سابق عادته من الاقتدار على الوطء، فإذا دنا من المرأة فَتَرَ عن ذلك، كما هو شأن المعقود، ويكون قوله في الرواية الأخرى:"حتى كاد ينكر بصره"؛ أي: صار كالذي أنكر بصره بحيث أنه إذا رأى الشيء يُخَيَّل إليه أنه على غير صفته، فإذا تأمله عرف حقيقته، ويؤيد جميع ما تقدم أنه لَمْ يُنقل عنه في خبر من الأخبار أنه قال قولًا، فكان بخلاف ما أخبر به.

وقال المهلَّب رحمه الله

(2)

: صون النبيّ صلى الله عليه وسلم من الشياطين لا يمنع إرادتهم كيده، فقد مضى في "الصحيح" أن شيطانًا أراد أن يُفسد عليه صلاته، فأمكنه الله منه، فكذلك السحر ما ناله من ضرره ما يُدخل نقصًا على ما يتعلق بالتبليغ، بل هو من جنس ما كان يناله من ضرر سائر الأمراض، من ضعف عن الكلام، أو عجز عن بعض الفعل، أو حدوث تخيل لا يستمرّ، بل يزول، ويُبطل الله كيد الشياطين.

واستَدَلّ ابنُ القصار على أنَّ الذي أصابه كان من جنس المرض بقوله في آخر الحديث: "أما أنا، فقد شفاني الله"، وفي الاستدلال بذلك نظر، لكن يؤيد المدَّعَى أن في رواية عمرة عن عائشة، عند البيهقيّ في "الدلائل":"فكان يدور، ولا يدري ما وجعه؟ " وفي حديث ابن عباس عند ابن سعد: "مَرِض النبيّ صلى الله عليه وسلم "، وأخِذ عن النساء، والطعام، والشراب، فهبط عليه ملكان

" الحديث.

(حَتَّى إِذَا كَانَ ذَاتَ يَوْمٍ، أَو ذَاتَ لَيْلَةٍ) وذات بالنصب ويجوز الرفع، ثم قيل: إنها مقحمة، وقيل: بلً هي من إضافة الشيء لنفسه، على رأي من يُجيزه.

[تنبيه]: قوله: "أَو ذَاتَ لَيْلَةِ" شكّ من الراوي، قال الحافظ: وأظنه من البخاريّ؛ لأنه أخرجه في "صفة إبليس" من "بدء الخلق"، فقال: "حتى كان

(1)

"إكمال المعلم" 7/ 88.

(2)

راجع: "شرح البخاريّ" لابن بطَّال 5/ 359.

ص: 16

ذات يوم"، ولم يشكّ، ثم ظهر لي أن الشك فيه من عيسى بن يونس، وأن إسحاق بن راهويه أخرجه في "مسنده" عنه على الشكّ، ومن طريقه أخرجه أبو نعيم، فيُحمَل الجزم الماضي على أنَّ إبراهيم بن موسى شيخ البخاريّ حدثه به تارةً بالجزم، وتارةً بالشكّ، ويؤيده ما سأذكره من الاختلاف عنه، وهذا من نوادر ما وقع في البخاريّ أن يُخرج الحديث تامًّا بإسناد واحد بلفظين، ووقع في رواية أبي أسامة الآتية قريبًا: "ذات يوم" بغير شك. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي ذكره الحافظ من نسبة الشكّ إلى عيسى بن يونس، محلّ نظر، فقد أخرجه مسلم هنا عن عبد الله بن نمير بالشكّ أيضًا، فالذي يظهر أن الشكّ من هشام، لا من عيسى، والله تعالى أعلم.

(دَعَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ دَعَا، ثمَّ دَعَا) هذا هديه صلى الله عليه وسلم من أنه يكرّر الدعاء ثلاث مرّات، قال النوويّ رحمه الله: فيه استحباب الدعاء عند حصول الأمور المكروهات، وتكريره، والالتجاء إلى الله تعالى في دفع ذلك

(2)

.

وقال الحافظ: سلك النبيّ صلى الله عليه وسلم في هذه القصة مسلكي التفويض، وتعاطي الأسباب، ففي أول الأمر فَوَّض، وسَلَّم لأمر ربه، فاحتسب الأجر في حبره على بلائه، ثم لمّا تمادى ذلك، وخَشِي من تماديه أن يُضعفه عن فنون عبادته، جنح إلى التداوي، ثم إلى الدعاء، وكلّ من المقامين غاية في الكمال. انتهى

(3)

.

وفي رواية البخاريّ: "وهو عندي، لكنه دعا، ودعا"، قال الكرمانيّ رحمه الله: يَحْتَمِل أن يكون هذا الاستدراك من قولها: "عندي"؛ أي: لَمْ يكن مشتغلًا بي، بل اشتغل بالدعاء، ويَحْتَمِل أن يكون من التخيُّل؛ أي: كان السحر أضرَّه في بدنه، لا في عقله، وفَهْمه، بحيث إنه توجه إلى الله، ودعا على الوضع الصحيح، والقانون المستقيم. انتهى

(4)

.

(1)

"الفتح" 13/ 208، كتاب "الطبّ" رقم (5763).

(2)

"شرح النوويّ" 14/ 175 - 176.

(3)

"الفتح" 13/ 208، كتاب "الطبّ" رقم (5763).

(4)

"شرح البخاريّ" للكرمانيّ 21/ 37 - 38.

ص: 17

(ثُمَّ قَالَ) صلى الله عليه وسلم: ("يَا عَائِشَةُ أَشَعَرْتِ) بفتح العين المهملة، قال: شَعَرت بالشيء شُعورًا، من باب قَعَدَ، وشِعْرًا، وشِعْرَةً بكسرهما: عَلِمْت به، قاله الفيّوميّ

(1)

، وقال المجد: شَعَرَ به، كنصر، وكَرُم شِعْرًا وشَعْرًا، وشعرةً مثلَّثةً، وشِعْرَى: عَلِمَ به، وفَطِنَ لَهُ، وعَقَلَهُ. انتهى

(2)

، فدلّ على أنَّ فِعْله من بابي نصر، وكرُم، فتنبّه.

(أَنَّ اللهَ) بفتح همزة "أَنّ"؛ لوقوعها مفعولًا لـ "شَعَرتِ"، (أفتَانِي فِيمَا استَفْتَيْتُهُ فِيهِ) وفي رواية الحميديّ:"أفتاني في أمر استفتيته فيه"؛ أي: أجابني فيما دعوته، فأَطلق على الدعاء استفتاءً؛ لأنَّ الداعي طالب، والمجيب مُفْتٍ، أو المعنى: أجابني بما سألته عنه؛ لأنَّ دعاءه كان أن يُطْلِعه الله على حقيقة ما هو فيه؛ لِمَا اشْتَبَهَ عليه من الأمر، ووقع في رواية عمرة، عن عائشة:"أن الله أنبأني بمرضي"؛ أي: أخبرني، وقوله:(جَاءَنِي رَجُلَانِ) تفسير لِمَا أفتاه به، ووقع في رواية أبي أسامة:"قلت: وما ذاك؟ قال: أتاني رجلان"، ووقع في رواية معمر، عند أحمد، ومرجأ بن رجاء، عند الطبرانيّ كلاهما عن هشام:"أتاني ملكان"، وسمّاهما ابن سعد في رواية منقطعة:"جبريل، وميكائيل". (فَقَعَدَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ رَأسِي، وَالآخَرُ عِنْدَ رِجْلَيَّ) قال الحافظ رحمه الله: لَمْ يقع لي أيهما قعد عند رأسه، لكنني أظنه جبريل؛ لخصوصيته به عليه السلام. ثم وجدت في "السيرة" للدمياطي الجزم بأنه جبريل، قال: لأنه أفضل، ثم وجدت في حديث زيد بن أرقم عند النسائيّ، وابن سعد، وصححه الحاكم، وعبد بن حميد:"سَحَر النبيَّ صلى الله عليه وسلم رجلٌ من اليهود، فاشتكى لذلك أيامًا، فأتاه جبريل، فقال: إن رجلًا من اليهود سَحَرك، عَقَد لك عَقْدًا في بئر كذا"، فدَلّ مجموع الطرق على أن المسؤول هو جبريل، والسائل ميكائيل. انتهى

(3)

.

(فَقَالَ الَّذِي عِنْدَ رَأْسِي لِلَّذِي عِنْدَ رِجْلَيَّ، أَو) قال (الَّذِي عِنْدَ رِجْلَيَّ لِلَّذِي عِنْدَ رَأْسِي) فـ "أو" للشّكّ من الراوي، وفي رواية البخاريّ: "فقال أحدهما

(1)

"المصباح المنير" 1/ 315.

(2)

"القاموس المحيط" ص 689 - 690.

(3)

"الفتح في 13/ 209، كتاب "الطبّ" رقم (5763).

ص: 18

لصاحبه"، وفي رواية ابن عيينة عنده: "فقال الذي عند رأسي للآخر"، وفي رواية الحميديّ: "فقال الذي عند رجلي للذي عند رأسي"، قال الحافظ: وكأنها أصوب، وكذا هو في حديث ابن عباس، عند البيهقيّ. (مَا وَجَعُ الرَّجُلِ؟) قال في "الفتح": كذا للأكثر، وفي رواية ابن عيينة: "ما بال الرجل؟ "، وفي حديث ابن عباس عند البيهقيّ: "ما ترى؟ "، وفيه إشارة إلى أن ذلك وقع في المنام؛ إذ لو جاءا إليه في اليقظة لخاطباه، وسألاه، ويَحْتَمِل أن يكون كان بصفة النائم، وهو يقظان، فتخاطبا، وهو يسمع، وأطلق في رواية عمرة، عن عائشة أنه كان نائمًا، وكذا في رواية ابن عيينة عند الإسماعيليّ: "فانتبه من نومه ذات يوم"، قال الحافظ: وهو محمول على ما ذكرتُ، وعلى تقدير حَمْلها على الحقيقة، فرؤيا الأنبياء وحيٌّ، ووقع في حديث ابن عباس عند ابن سعد بسند ضعيف جدًّا: "فهبط عليه ملكان، وهو بين النائم واليقظان". (قَالَ) الملك المسؤول:(مَطْبُوبٌ)؛ أي: هو مسحورٌ

(1)

، يقال: طُبّ الرجلُ بالضم: إذا سُحِر، يقال: كَنَوْا عن السحر بالطبّ تفاؤلًا، كما قالوا للَّديغ: سَلِيم، وقال ابن الأنباريّ: الطبّ من الأضداد، يقال لعلاج الداء: طِبّ، والسحرُ من الداء، ويقال له: طِبّ، وأخرج أبو عبيد من مرسل عبد الرَّحمن بن أبي ليلى:"قال: احتجم النبيّ صلى الله عليه وسلم على رأسه بقرن حين طُبّ"، قال أبو عبيد رحمه الله: يعني سُحِرَ.

قال ابن القيم رحمه الله: بَنَى النبيُّ صلى الله عليه وسلم الأمر أَوّلًا على أنَّه مَرِضَ، وأنه عن مادّة مالت إلى الدماغ، وغلبت على البطن المقدَّم منه، فغيرت مزاجه، فرأى استعمال الحجامة لذلك مناسبًا، فلمّا أوحي إليه أنه سُحِر عدل إلى العلاج

(1)

قال الأصفهانيّ في "دلائله": المطبوب: المسحور، وجُفُّ طلعة؛ أي: وعاء ثمر النخلة، والمشاقة: ما يُفتل منه الخيوط، والرعوفة: حجر يَجلس عليه الذي يدخل البئر، فيغرف الماء منها في الدلو، واللغة المعروفة: راعوفة، بألف، ونقاعة الحناء: ما ينقع فيه الحناء، فيتغير لونه، وقول عائشة رضي الله عنها:"فهلا تنشّرتَ؟ " من النُّشرة: أي: هلا حللت السحر الذي سُحِرت بعلاج، أو مداواة. انتهى. "دلائل النبوة" للأصبهانيّ رحمه الله 1/ 170.

ص: 19

المناسب له، وهو استخراجه، قال: ويَحْتَمِل أن مادّة السحر انتهت إلى إحدى قوى الرأس، حتى صار يُخَيَّل إليه ما ذُكِر، فإن السحر قد يكون من تأثير الأرواح الخبيثة، وقد يكون من انفعال الطبيعة، وهو أشدّ السحر، واستعمال الحجامة لهذا الثاني نافع؛ لأنه إذا هَيَّجَ الأخلاط، وظهر أثره في عضو، كان استفراغ المادّة الخبيثة نافعًا في ذلك.

وقال القرطبيّ رحمه الله: إنما قيل للسحر طِبّ؛ لأنَّ أصل الطبّ الْحِذْق بالشيء، والتفطن له، فلما كان كلّ من علاج المرض والسحر، إنما يتأتى عن فِطْنة، وحِذْق أُطلق على كلّ منهما هذا الاسم. انتهى

(1)

.

(قَالَ) السائل: (مَنْ طَبَّهُ؟)؛ أي: من الذي سحره صلى الله عليه وسلم؟ (قَالَ) المسؤول (لَبِيدُ بْنُ الأَعْصَم، قَالَ) السائل: (فِي أَيِّ شَيْءٍ؟) طبّه (قَالَ) المسؤول: (فِي مُشْطٍ) بضم الميم، ويجوز كسرها، أثبته أبو عبيد، وأنكره أبو زيد، وبالسكون فيهما، وقد يضم ثانيه، مع ضم أوله فقط، وهو الآلة المعروفة التي يُسَرَّح بها شعر الرأس واللحية، وهذا هو المشهور، ويُطلق المشط بالاشتراك على أشياء أخرى، منها العظم العريض في الكتف، وسُلاميات ظهرِ القدم، ونبت صغير، يقال له: مشط الذَّنْب.

قال القرطبيّ رحمه الله: يَحْتَمِل أن يكون الذي سُحِر فيه النبيّ صلى الله عليه وسلم كما أحد هذه الأربع، قال الحافظ: وفاته آلةٌ لها أسنان، وفيها هِرَاوة يُقبض عليها، ويغطى بها الإناءة، قال ابن سيده في "المحكم": إنها تسمى المشط، والمشط أيضًا سمة من سمات البعير، تكون في العين، والفخذ، ومع ذلك فالمراد بالمشط هنا هو الأول، فقد وقع في رواية عمرة، عن عائشة:"فإذا فيها مشط رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن مراطة رأسه"، وفي حديث ابن عباس:"من شعر رأسه، ومن أسنان مشطه"، وفي مرسل عمر بن الحكم:"فعَمَد إلى مشط، وما مشط من الرأس، من شعر، فعقد بذلك عَقْدًا".

(وَمُشَاطَةٍ) بضم الميم: ما يخرج من الشعر إذا مُشِط، ولا اختلاف فيه بين أهل اللغة، قال ابن قتيبة: المشاطة ما يخرج من الشعر الذي سقط من

(1)

"المفهم" 5/ 571.

ص: 20

الرأس إذا سُرِّح بالمشط، وكذا من اللحية، ويقال أيضًا لمشاطة الكتان، فيكون اللفظ مشتركًا بين الشعر إذا مُشِط وبين الكتان إذا سُرّح، ووقع عند البخاريّ في رواية غير أبي ذر:"والمشاقة"، قال في "الفتح": وهو أشبه، وقيل المشاقة: هي المشاطة بعينها، والقاف تُبدل من الطاء؛ لِقُرب المخرج

(1)

، والله أعلم.

(قَالَ: وَجُبِّ) وفي بعض النسخ: "جُفّ"، (طَلْعَةِ ذَكَرٍ) قال القاضي عياض رحمه الله

(2)

: وقع للجرجاني - يعني: في البخاريّ - والعذري - يعني: في مسلم - بالفاء، ولغيرهما بالموحّدة، قال الحافظ: أما رواية عيسى بن يونس هنا، فوقع للكشميهني بالفاء، ولغيره بالموحّدة، وأما روايته في "بدء الخلق" فالجميع بالفاء، وكذا في رواية ابن عيينة للجميع، وللمستملي في رواية أبي أسامة بالموحّدة، وللكشميهني بالفاء، وللجميع في رواية أبي ضمرة في "الدعوات" بالفاء، قال القرطبيّ

(3)

: روايتنا - يعني: في مسلم - بالفاء، وقال النوويّ

(4)

: في أكثر نُسخ بلادنا بالباء - يعني: في مسلم - وفي بعضها بالفاء، وهما بمعنى واحد، وهو الغِشاء الذي يكون على الطلع، ويُطلق على الذكر والأنثى، فهذا قيَّده بالذَّكر في قوله:"طَلْعَةِ ذَكَرِ"، وهو بالإضافة. انتهى.

قال الحافظ: ووقع في روايتنا هنا - عند البخاريّ - بالتنوين فيهما، على أن لفظ "ذَكَر" صفة لـ "جُفّ".

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "جُفّ طلعة ذَكَر" روايتنا فيه بالفاء، وهي المشهورة، وقال أبو عمر: قد رُوي بالباء بواحدة تحتها، فبالفاء: هي وعاء الطلع، وهو الغشاء الذي يكون عليه، وبالباء قال شمر: أراد بالجب داخل الطلعة، إذا أخرج عنها الكُفُرَّى

(5)

، كما يقال لداخل الرَّكِيَّة

(6)

، من أسفلها إلى أعلاها: جبٌّ، وقيل فيه: إنه من القطع؛ يعني به: ما قُطِع من قشورها. انتهى

(7)

.

(1)

"الفتح" 13/ 215، كتاب "الطبّ" رقم (5763).

(2)

"مشارق الأنوار" 1/ 178.

(3)

"المفهم" 5/ 572.

(4)

"شرح النوويّ" 14/ 176.

(5)

"الكفرّى": وعاء طلع النخل، وفيها لغات.

(6)

"الركية": البئر.

(7)

"المفهم" 5/ 572.

ص: 21

وقال أبو عمرو الشيبانيّ: "الجفّ" بالفاء: شيء يُنقر من جذوع النخل. (قَالَ) السائل: (فَأَيْنَ هُوَ؟)؛ أي: السحر الذي سُحر به صلى الله عليه وسلم، (قَالَ) المسؤول:(فِي بِئْرِ ذِي أَرْوَانَ) قال القرطبيّ رحمه الله: كذا هو في الأصل، وخارج الحاشية:"في بئر ذروان"، ووقع في البخاري في "كتاب الدَّعوات":"في ذروان بئر في بني زريق"، وقال القتبيّ: الصواب: ذي أروان، كما في الأصل. انتهى

(1)

.

وقال في "الفتح": وذَرْوان بفتح المعجمة، وسكون الراء، وحَكَى ابن التين فتحها، وأنه قرأه كذلك، قال: ولكنه بالسكون أشبه، فقوله:"بئر ذروان" من إضافة الشيء لنفسه، ويُجمع بين الروايتين بأن الأصل:"بئر ذي أروان"، ثم لكثرة الاستعمال سُهِّلت الهمزة، فصارت ذروان، ويؤيده أن أبا عبيد البكريّ صَوّب أن اسم البئر "أروان" بالهمز، وأن من قال: ذروان أخطأ، قال الحافظ: وقد ظهر أنه ليس بخطأ على ما وجّهته، ووقع في رواية أحمد عن وهيب، وكذا في روايته عن ابن نُمير:"بئر أروان"، كما قال البكريّ، فكان رواية الأصيليّ كانت مثلها، فسقطت منها الراء، ووقع عند الأصيليّ فيما حكاه عياض

(2)

: "في بئر ذي أوان" بغير راء، قال عياض: وهو وَهَمٌ، فإن هذا موضع آخر على ساعة من المدينة، وهو الذي بُنِي فيه مسجد الضرار.

(قَالَتْ) عائشة رضي الله عنها: (فَأَتَاهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي أُنَاسٍ مِنْ أَصْحَابِهِ) ووقع في حديث ابن عباس، عند ابن سعد:"فبعث إلى عليّ، وعمار، فأمرهما أن يأتيا البئر"، وعنده في مرسل عمر بن الحكم:"فدعا جبير بن إياس الزُّرَقيّ، وهو ممن شَهِد بدرًا، فدلّه على موضعه في بئر ذروان، فاستخرجه - قال - ويقال: الذي استخرجه قيس بن مِحْصَن الزُّرَقيّ"، ويُجمع بأنه أعان جبيرًا على ذلك، وباشره بنفسه، فنُسب إليه، وعند ابن سعد أيضًا:"أن الحارث بن قيس قال: يا رسول الله، ألا يُهَوَّر البئرُ؟ "، فيمكن تفسير من أُبْهم بهؤلاء، أو بعضهم، وأن النبيّ صلى الله عليه وسلم وجّههم أوَّلًا، ثم توجّه، فشاهدها بنفسه

(3)

.

(1)

"المفهم" 5/ 572.

(2)

"مشارق الأنوار" 1/ 152 و 344.

(3)

"الفتح" 13/ 212، كتاب "الطبّ" رقم (5763).

ص: 22

(ثُمَّ قَالَ: يَا عَائِشَةُ) رضي الله عنها؛ أي: بعد رجوعه من البئر، وفي رواية البخاريّ:"فجاء، فقال: يا عائشة"، وفي رواية وهيب:"فلما رجع قال: يا عائشة"، ونحوه في رواية أبي أسامة، ولفظه:"فذهب النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى البئر، فنظر إليها، ثم رجع إلى عائشة، فقال"، وفي رواية عمرة، عن عائشة:"فنزل رجل، فاستخرجه"، وفيه من الزيادة:"أنه وجد في الطلعة تِمْثالًا من شَمَعٍ، تِمْثالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا فيه إبر مَغروزة، وإذا وَتَرٌ فيه إحدى عشرة عُقْدة، فنزل جبريل بالمعوذتين، فكلما قرأ آية انحلت عقدة، وكلما نزع إبرة وَجَدَ لها ألَمًا، ثم يجد بعدها راحةً"، وفي حديث ابن عباس نحوه، وفي حديث زيد بن أرقم عند عبد بن حميد وغيره:"فأتاه جبريل، فنزل عليه بالمعوذتين"، وفيه:"فأمره أن يَحُلّ العُقَد، ويقرأ آية، فجعل يقرأ، ويَحُلّ، حتى قام، كأنما نَشِط من عِقَال"، وعند ابن سعد من طريق عمر مولى غُفْرة مُعْضلًا:"فاستخرج السحر من الْجُفّ من تحت البئر، ثم نزعه، فحَلّه، فكُشِف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم".

(وَاللهِ لَكَأَنَّ مَاءَهَا)؛ أي: البئر، (نُقَاعَةُ الْحِنَّاءِ) - بضم النون، وتخفيف القاف - والحناء: معروف، وهو بالمدّ؛ أي: أن لون ماء البئر لونُ الماء الذي يُنقع فيه الحناء، قال ابن التين: يعني: أحمر، وقال الداوديّ: المراد: الماء الذي يكون من غُسالة الإناء الذي تُعجن فيه الحناء.

ووقع في حديث زيد بن أرقم عند ابن سعد، وصححه الحاكم:"فوَجَد الماء، وقد اخضَرّ"، وهذا يقوي قول الداوديّ.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "والله لكأن ماءها نقاعة الحناء، ولكأن نخلها رؤوس الشياطين": فيه دليل على جواز اليمين، وإن لَمْ يستحلف، ونقاعة الحنَّاء: الماء الذي يخرج فيه لونها إذا نُقِعت فيه، وتشبيهه نخلها برؤوس الشياطين؛ يعني: أنَّها مستكرهه، مستقبَحة المنظر، والمَخْبَر، وهذا على عادة العرب إذا استقبحوا شيئًا شبَّهوه بأنياب أغوال، ورؤوس الشياطين، وقد تقدَّم نحو هذا، ويعني - والله أعلم -: أن هذه الأرض التي فيها النخل والبئر خراب، لا تُعَمَّر؛ لرداءتها، فبئرها معطلة، ونخلها مشذَّبةٌ

(1)

، مهملة، وتغيُّر

(1)

أي: مقطوعة الأغصان، ومقشّرة اللحاء.

ص: 23

ماء البئر، إما لطول إقامته، وإما لِمَا خالطه مما أُلقي فيه. انتهى

(1)

.

وعند ابن سعد من مرسل عبد الرَّحمن بن كعب: أن الحارث بن قيس هَوَّر البئر المذكورة، وكان يستعذب منها، وحَفَر بئرًا أخرى، فأعانه رسول الله صلى الله عليه وسلم في حفرها

(2)

.

(وَلَكَأَنَّ نَخْلَهَا رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ) وفي رواية للبخاريّ: "وكأن رؤوس نخلها رؤوس الشياطين"، وفي رواية له:"نخلها كأنه رؤوس الشياطين"، قال في "الفتح": وفي رواية ابن عيينة، وأكثر الرواة عن هشام:"كأن نخلها"، بغير ذكر "رؤوس" أَوّلًا، والتشبيه إنما وقع على رؤوس النخل، فلذلك أفصح به في رواية الباب، وهو مقدَّر في غيرها، ووقع في رواية عمرة، عن عائشة:"فإذا نخلها الذي يَشرب من مائها، قد الْتَوَى سعفه، كأنه رؤوس الشياطين"، وقد وقع تشبيه طَلْع شجرة الزَّقُّومَ في القرآن برءوس الشياطين، قال الفراء وغيره: يَحْتَمِل أن يكون شبَّه طلعها في قبحه برؤوس الشياطين؛ لأنَّها موصوفة بالقبح، وقد تقرر في اللسان أن من قال: فلان شيطان أراد أنه خبيث، أو قبيح، وإذا قبحوا مذكَّرًا قالوا: شيطان، أو مؤنثًا قالوا: غُول، ويَحْتَمِل أن يكون المراد بالشياطين: الحيات، والعرب تسمي بعض الحيات شيطانًا، وهو ثعبان قبيح الوجه، ويَحْتَمِل أن يكون المراد: نبات قبيح، قيل: إنه يوجد باليمن. انتهى

(3)

.

(قَالَتْ) عائشة رضي الله عنها: (فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله، أَفَلَا أَحْرَقْتَهُ؟) وفي الرواية الثانية: "قلت: يا رسول الله فأَخْرِجْهُ"، قال النوويّ: كلاهما صحيح، فطلبت أن يخرجه، ثم يحرقه، والمراد إخراج السحر، فدفنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخبر أن الله تعالى قد عافاه، وأنه يخاف من إخراجه، وإحراقه، وإشاعته، ضررًا وشرًّا على المسلمين، من تذكّر السحر، أو تعلّمه، وشيوعه. انتهى

(4)

.

وفي رواية للبخاريّ: "قلت: يا رسول الله أفلا استخرجته؟ "، زاد في

(1)

"المفهم" 5/ 573.

(2)

"الفتح" 13/ 212، كتاب "الطبّ" رقم (5763).

(3)

"الفتح" 13/ 213، كتاب "الطبّ" رقم (5763).

(4)

"شرح النوويّ" 14/ 177.

ص: 24

رواية: "فقال: لا"، قال في "الفتح": ووقع في رواية ابن عيينة: "أنه استخرجه، وأن سؤال عائشة إنما وقع عن النُّشرة، فأجابها بلا". انتهى.

قَالَ صلى الله عليه وسلم ("لَا)؛ أي: لا أُحرقه، ثم ذكر سبب تركه، فقال:(أَمَّا أَنَا فَقَدْ عَافَانِي اللهُ)؛ أي: فلا حاجة لي إلى إحراقه، وقال القرطبيّ رحمه الله: وقولها: "أفلا أحرقته" كذا صحَّت الرواية، وتعني به: السِّحر، ورقع في بعض النُّسخ:"أخرجته" بدل "أحرقته"، وهي أصوب؛ لأنَّها هي التي تناسب قوله:"لا، أما أنا فقد عافاني الله، وكرهت أن أثير على الناس شرًّا"؛ أي: بإخراج السِّحر من البئر، فلعلَّه يُعمل به، أو يَضُرَّ أحدًا، انتهى

(1)

.

(وَكَرِهْتُ) بكسر الراء، (أَنْ أُثِيرَ) بضمِّ أوله، من الإثارة، (عَلَى النَّاسِ شَرًّا) وفي رواية الكشميهني عند البخاريّ:"سُوءًا"، قال في "الفتح": ووقع في رواية أبي أسامة: "أن أُثَوِّر" بفتح المثلثة، وتشديد الواو، وهما بمعني، والمراد بالناس التعميم في الموجودين، قال النووي: خَشِي من إخراجه، وإشاعته ضررًا على المسلمين، من تذكّر السحر، وتعلّمه، ونحو ذلك، وهو من باب ترك المصلحة خوف المفسدة.

ووقع في رواية ابن نُمير: "على أمتي"، وهو قابل أيضًا للتعميم؛ لأنَّ الأمة تُطلق على أمة الإجابة، وأمة الدعوة، وعلى ما هو أعمّ، وهو يَرُدّ على من زعم أن المراد بالناس هنا لبيد بن الأعصم؛ لأنه كان منافقًا، فأراد صلى الله عليه وسلم أن لا يثير عليه شرًّا؛ لأنه كان يُؤثِر الإغضاء عمن يظهر الإسلام، ولو صدر منه ما صدر.

وقد وقع أيضًا في رواية ابن عيينة: "وكرهت أن أثير على أحد من الناس شرًّا"، نعم وقع في حديث عمرة، عن عائشة:"فقيل: يا رسول الله لو قتلته؟ قال: ما وراءه من عذاب الله أشدّ"، وفي رواية عمرة:"فأخذه النبيّ صلى الله عليه وسلم، فاعترف، فعفا عنه".

وفي حديث زيد بن أرقم: "فما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك اليهوديّ شيئًا، مما صنع به، ولا رآه في وجهه".

(1)

"المفهم" 5/ 573.

ص: 25

وفي مرسل عمر بن الحكم: "فقال له: ما حملك على هذا؟ قال: حب الدنانير"، وقد تقدم في "كتاب الجزية" قول ابن شهاب:"إن النبيّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يقتله"، وأخرج ابن سعد من مرسل عكرمة أيضًا:"أنه لَمْ يقتله". ونَقَل عن الواقديّ أن ذلك أصحّ من رواية من قال: إنه قتله، ومن ثم حَكَى عياض في "الشفاء" قولين: هل قُتل، أم لَمْ يقتل؟

وقال القرطبيّ: لا حجة على مالك من هذه القصة؛ لأنَّ تَرْك قَتْل لبيد بن الأعصم كان لخشية أن يثير بسبب قتله فتنة، أو لئلا ينفر الناس عن الدخول في الإسلام، وهو من جنس ما راعاه النبيّ صلى الله عليه وسلم من منع قتل المنافقين، حيث قال:"لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه". انتهى

(1)

.

قال صلى الله عليه وسلم: (فَأَمَرْتُ بِهَا)؛ أي: بتلك البئر (فَدُفِنَتْ") هكذا رواية مسلم: "فأمرتُ" بتاء المتكلّم، وفي رواية البخاريّ:"فأمر بها، فدُفنت"، قال في "الفتح": وهكذا وقع في رواية ابن نُمير وغيره عن هشام، وأورده مسلم من طريق أبي أسامة، عن هشام عقب رواية ابن نمير - يعني: الرواية التالية - وقال: لَمْ يقل أبو أسامة في روايته: "فأمرت بها فدفنت". قال الحافظ: وكأن شيخه لَمْ يذكرها حين حدّثه، وإلا فقد أوردها البخاريّ عن عبيد بن إسماعيل، عن أبي أسامة، وقال في آخره:"فأمر بها فدُفنت"، وفي مرسل عبد الرَّحمن بن كعب:"أن الحارث بن قيس هَوَّرَها". انتهى

(2)

، والله تعالى أعلم.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [2/ 5691 و 5692](2189)، و (البخاريّ) في "الجزية"(3175) و"بدء الخلق"(3268) و"الطبّ"(5765 و 5766) و"الأدب"(6063) و"الدعوات"(6391)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(4/ 380)، و (ابن

(1)

"الفتح" 13/ 213 - 214، كتاب "الطبّ" رقم (5763).

(2)

"الفتح" 13/ 214، كتاب "الطبّ" رقم (5763).

ص: 26

ماجة) في "الطبّ"(3590)، و (الشافعيّ) في "مسنده"(1/ 382)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(8/ 30 و 31)، و (الحميديّ) في "مسنده"(1/ 126)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 57 و 63 و 96)، و (ابن راهويه) في "مسنده"(2/ 229)، و (ابن سعد) في "الطبقات"(2/ 196)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6583 و 6584)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(8/ 290)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(8/ 135)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان أن السحر حقّ، وأنه يؤثّر في المسحور تأثيرًا حقيقيًّا، ومن أنكر ذلك فإنما هو مكابر، ومعاند، فقد جاء النصّ، ولا يدفعه العقل.

2 -

(ومنها): بيان ما كان عليه اليهود من إيذاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمؤمنين، إلَّا أن الله عز وجل يدفع كيدهم في نحورهم، ويرجعون خائبين.

3 -

(ومنها): بيان استحباب علاج السحر بالدعاء، والرُّقى الشرعيّة، ولا ينافي ذلك التوكّل، فإنه صلى الله عليه وسلم سيّد المتوكّلين، وكان يرقي نفسه، ويسأل الله تعالى أن يشفيه من أمراضه، فهو الأسوة الحسنة.

4 -

(ومنها): بيان استحباب الدعاء عند حصول الأمور المكروهات، وتكريره، وحسن الالتجاء إلى الله تعالى.

5 -

(ومنها): أن في قوله صلى الله عليه وسلم: "لا" لَمّا سألته عائشة رضي الله عنها "أفلا أحرقته"، ترك المصلحة لدفع مفسدة أعظم، فقد ترك صلى الله عليه وسلم إخراجه، وإحراقه، وإشاعته، ورأى أن فيه ضررًا، وشرًّا على المسلمين، من تذكّر السحر، أو تعلّمه، وشيوعه، والحديث فيه، أو إيذاء فاعله، فيحمله ذلك، أو يحمل بعض أهله، ومحبيه، والمتعصبين له من المنافقين، وغيرهم على سحر الناس، وأذاهم، وانتصابهم لمناكدة المسلمين بذلك، فهذا من باب ترك مصلحةٍ لخوف مفسدة أعظم منها، وهو من أهم قواعد الإسلام، وقد سبقت المسألة مرات، قاله النوويّ رحمه الله

(1)

.

6 -

(ومنها): ما قال ابن القيّم رحمه الله: ومن أنفع علاجات السحر الأدويةُ

(1)

"شرح النوويّ" 14/ 178.

ص: 27

الإلهيةُ، بل هي أدويته النافعةٌ بالذات، فإنه من تأثيرات الأرواح الخبيثة السُّفْلية، ودَفْع تأثيرها يكون بما يعارضها، ويقاومها من الأذكار، والآيات، والدعوات التي تبطل فعلها وتأثيرها، وكلما كانت أقوى وأشدّ كانت أبلغ في النُّشْرة، وذلك بمنزلة التقاء جيشين، مع كلّ واحد منهما عُدَّته، وسلاحه، فأيهما غلب الآخر قَهَره، وكان الحكم له، فالقلب إذا كان ممتلئًا من الله، مغمورًا بذِكْره، وله من التوجهات، والدعوات، والأذكار، والتعوذات، وِرْدٌ لا يُخِل به، يطابق فيه قلبه لسانه، كان هذا من أعظم الأسباب التي تمنع إصابة السحر له، ومن أعظم العلاجات له بعد ما يصيبه.

وعند السحرة أن سحرهم إنما يتم تأثيره في القلوب الضعيفة المنفعلة، والنفوس الشهوانية التي هي معلقة بالسفليات، ولهذا فإن غالب ما يؤثر في النساء والصبيان، والجهال، وأهل البوادي، ومن ضَعُف حظه من الدين، والتوكل، والتوحيد، ومن لا نصيب له من الأوراد الإلهية، والدعوات، والتعوذات النبوية.

وبالجملة: فسلطان تأثيره في القلوب الضعيفة المنفعلة التي يكون ميلها إلى السفليات، قالوا: والمسحور هو الذي يُعِين على نفسه، فإنا نجد قلبه متعلقًا بشيء كثير الالتفات إليه، فيتسلط على قلبه بما فيه من الميل والالتفات، والأرواحُ الخبيثة، إنما تتسلط على أرواح تلقاها مستعدّة لتسلطها عليها، بميلها إلى ما يناسب تلك الأرواح الخبيثة، وبفراغها من القوّة الإلهية، وعدم أخدها للعُدّة التي تحاربها بها، فتجدها فارغة لا عدّة معها، وفيها ميل إلى ما يناسبها، فتتسلط عليها، ويتمكن تأثيرها فيها بالسحر وغيره، والله أعلم. انتهى

(1)

.

7 -

(ومنها): ما قاله ابن القيّم رحمه الله أيضًا: قد أنكر هذا طائفة من الناس - سحر اليهوديّ للنبيّ صلى الله عليه وسلم وقالوا: لا يجوز هذا عليه، وظنّوه نقصًا وعيبًا، وليس الأمر كما زعموا، بل هو من جنس ما كان يعتريه صلى الله عليه وسلم من الأسقام، والأوجاع، وهو مرض من الأمراض، وإصابته به كإصابته بالسمّ، لا فرق

(1)

"زاد المعاد" 4/ 116.

ص: 28

بينهما، وقد ثبت في "الصحيحين" عن عائشة رضي الله عنها أنَّها قالت: سُحِر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إن كان ليخيَّل إليه أنه يأتي نساءه، ولم يأتهنّ، وذلك أشدّ ما يكون من السحر.

قال القاضي عياض: والسحر مرض من الأمراض، وعارض من العلل، يجوز عليه صلى الله عليه وسلم كأنواع الأمراض، وهو مما لا يُنْكَر، ولا يَقدح في نبوته، وأما كونه يُخَيَّل إليه أنه فَعَل الشيء ولم يفعله، فليس في هذا ما يُدخل عليه داخلة في شيء من صدقه؛ لقيام الدليل، والإجماع على عصمته من هذا، وإنما هذا فيما يجوز طروّه عليه في أمر دنياه التي لَمْ يُبعث لسببها، ولا فُضِّل من أجلها، وهو فيها عُرْضة للآفات، كسائر البشر، فغير بعيد أنه يُخَيَّل إليه من أمورها ما لا حقيقة له، ثم ينجلي عنه كما كان.

والمقصود: ذِكْر هديه في علاج هذا المرض وقد روي عنه فيه نوعان:

أحدهما - وهو أبلغهما -: استخراجه وإبطاله كما صحّ عنه صلى الله عليه وسلم أنه سأل ربه سبحانه في ذلك، فدُلَّ عليه، فاستخرجه من بئر، فكان في مُشط ومُشاطة وجُفّ طلعةِ ذَكَرٍ، فلما استخرجه ذهب ما به، حتى كأنما أُنشط من عقال، فهذا مِن أبلغ ما يُعالج به المطبوب، وهذا بمنزلة إزالة المادة الخبيثة، وقلعها من الجسد بالاستفراغ.

والنوع الثاني: الاستفراغ في المحل الذي يصل إليه أذى السحر، فإن للسحر تأثيرًا في الطبيعة، وهيجان أخلاطها، وتشويش مزاجها، فإذا ظهر أثره في عضو، وأمكن استفراغ المادة الرديئة من ذلك العضو نفع جدًّا.

وقد ذكر أبو عبيد في "كتاب غريب الحديث" له بإسناده عن عبد الرَّحمن بن أبي ليلى أن النبيّ صلى الله عليه وسلم احتجم على رأسه بقرن حين طُبّ، قال أبو عبيد: معنى طُبّ؛ أي: سُحِر.

وقد أشكل هذا على من قلّ علمه، وقال: ما للحجامة والسحر؟ وما الرابطة بين هذا الداء وهذا الدواء؟ ولو وَجَد هذا القائل أبقراط، أو ابن سينا، أو غيرهما قد نصّ على هذا العلاج لتلقاه بالقبول والتسليم، وقال: قد نص عليه من لا يُشَكّ في معرفته، وفضله.

فاعلم أن مادة السحر الذي أصيب به صلى الله عليه وسلم انتهت إلى رأسه إلى إحدى

ص: 29

قواه التي فيه بحيث كان يُخيَّل إليه أنه يفعل الشيء، ولم يفعله، وهذا تصرف من الساحر في الطبيعة والمادة الدموية بحيث غلبت تلك المادة على البطن المقدَّم منه، فغيَّرت مزاجه عن طبيعته الأصلية.

والسحر: هو مركب من تأثيرات الأرواح الخبيثة، وانفعال القوى الطبيعية عنها، وهو أشدّ ما يكون من السحر، ولا سيما في الموضع الذي انتهى السحر إليه، واستعمال الحجامة على ذلك المكان الذي تضررت أفعاله بالسحر من أنفع المعالجة، إذا استُعملت على القانون الذي ينبغي.

قال أبقراط: الأشياء التي ينبغي أن تُستفرغ يجب أن تستفرغ من المواضع التي هي إليها أميل بالأشياء التي تصلح لاستفراغها.

وقالت طائفة من الناس: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لمّا أصيب بهذا الداء، وكان يخيل إليه أنه فعل الشي ولم يفعله، ظَنّ أن ذلك عن مادة دموية أو غيرها، مالت إلى جهة الدماغ، وغلبت على البطن المقدَّم منهن فأزالت مزاجه عن الحالة الطبيعية له، وكان استعمال الحجامة إذ ذاك من أبلغ الأدوية، وأنفع المعالجة، فاحتجم وكان ذلك قبل أن يوحى إليه أن ذلك من السحر، فلما جاءه الوحي من الله تعالى، وأخبره أنه قد سُحر عدل إلى العلاج الحقيقيّ، وهو استخراج السحر، وإبطاله، فسأل الله سبحانه، فدلّه على مكانه، فاستخرجه، فقام كأنما أنشط من عقال، وكان غاية هذا السحر فيه إنما هو في جسده، وظاهر جوارحه، لا على عقله وقلبه، ولذلك لم يكن يعتقد صحة ما يخيل إليه من إتيان النساء، بل يعلم أنه خيال لا حقيقة له، ومثل هذا قد يحدث من بعض الأمراض، والله أعلم. انتهى كلام ابن القيّم رحمه الله

(1)

، وهو بحث نفيسٌ، والله تعالى أعلم.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في حكم السحر:

قد استُدِل بقوله تعالى: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} الآية: على أن السحر كفر، ومتعلمه كافر، قال الحافظ: وهو واضح في بعض أنواعه التي قدّمتها، وهو التعبد للشياطين، أو للكواكب، وأما

(1)

"زاد المعاد" 4/ 113.

ص: 30

النوع الآخر الذي هو من باب الشعوذة، فلا يكفر به مَنْ تعلَّمه أصلًا.

وقال النوويّ: عمل السحر حرام، وهو من الكبائر بالإجماع، وقد عدّه النبيّ صلى الله عليه وسلم من السبع الموبقات، ومنه ما يكون كفرًا، ومنه ما لا يكون كفرًا، بل معصيةً كبيرةً، فإن كان فيه قول، أو فعل يقتضي الكفر فهو كفر، وإلا فلا، وأما تعلمه وتعليمه فحرام، فإن كان فيه ما يقتضي الكفر كَفَرَ، وإلا فلا، دماذا لم يكن فيه ما يقتضي الكفر عُزِّر، واستتيب منه، ولا يُقتل عندنا، فإن تاب قُبلت توبته.

وقال مالك: الساحر كافر يُقتل بالسحر، ولا يستتاب، ولا تُقبل توبته، بل يتحتم قتله، والمسألة مبنية على الخلاف في قبول توبة الزنديق؛ لأن الساحر عنده كافر، كما ذكرنا، وعندنا ليس بكافر، وعندنا تقبل توبة المنافق والزنديق.

قال القاضي عياض: وبقول مالك قال أحمد بن حنبل، وهو مروي عن جماعة من الصحابة والتابعين.

قال الشافعيّة: فإذا قَتَل الساحر بسحره إنسانًا، واعترف أنه مات بسحره، وأنه يَقتل غالبًا لزمه القصاص، وإن قال: مات به، ولكنه قد يَقتل، وقد لا، فلا قصاص، وتجب الدية والكفارة، وتكون الدية في ماله، لا على عاقلته؛ لأن العاقلة لا تحمل ما ثبت باعتراف الجاني، قالوا: ولا يُتصور القتل بالسحر بالبينة، وإنما يُتصور باعتراف الساحر، والله أعلم. انتهى

(1)

.

وقال في "الفتح": وقد أجاز بعض العلماء تعلّم السحر لأحد أمرين: إما لتمييز ما فيه كفر من غيره، وإما لإزالته عمن وقع فيه، فأما الأول: فلا محذور فيه، إلا من جهة الاعتقاد، فماذا سَلِم الاعتقاد، فمعرفة الشيء بمجرده لا تستلزم منعًا، كمن يعرف كيفية عبادة أهل الأوثان للأوثان؛ لأن كيفية ما يعمله الساحر إنما هي حكاية قول، أو فعل، بخلاف تعاطيه، والعمل به، وأما الثاني: فإن كان لا يتم كما زعم بعضهم إلا بنوع من أنواع الكفر، أو الفسق، فلا يحلّ أصلًا، وإلا جاز للمعنى المذكور، وهذا فَصْل الخطاب في هذه المسألة. انتهى

(1)

"شرح النوويّ" 14/ 176.

ص: 31

كلام الحافظ رحمه الله

(1)

، وهو بحث نفيسٌ، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5692]

(

) - (حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا أَبُو أسَامَةَ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيه، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: سُحِرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَسَاقَ أَبُو كُرَيْب الْحَدِيثَ بِقِصَّتِهِ نَحْوَ حَدِيثِ ابْنِ نُمَيْرٍ، وَقَالَ فِيهِ: فَذَهَبَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْبِئْر، فَنَظَرَ إِلَيْهَا، وَعَلَيْهَا نَخْلٌ، وَقَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله، أفَأَخْرَجْتَهُ؟

(2)

، وَلَمْ يَقُلْ: أفَلَا أَحْرَقْتَهُ؟، وَلَمْ يَذْكُرْ:(فَأَمَرْتُ بِهَا، فَدُفِنَتْ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

وكلهم ذُكروا في الباب، وقبل باب.

وقولها: (أفَأَخْرَجْتَهُ؟) بصيغة الماضي، والهمزة للاستفهام، ووقع في بعض النُّسخ:"فَأَخْرِجه" بصيغة الأمر.

[تنبيه]: رواية أبي أسامة عن هشام بن عروة ساقها أبو يعلى رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(4882)

- حدَثنا مجاهد بن موسى، حدّثنا أبو أسامة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت: سُحر النبيّ صلى الله عليه وسلم حتى إنه ليُخَيَّل إليه أنه فعل الشيء، وما فعله، حتى إذا كان ذات يوم، وهو عندي دعا الله، ودعا، ثم قال:"أشعرت يا عائشة أن الله قد أفتاني فيما استفتيته فيه"، قلت: وما ذاك يا رسول الله؟ قال: "أتاني ملكان، فجلس أحدهما عند رأسي، والآخر عند رجلي، ثم قال أحدهما لصاحبه: ما وجع الرجل؟ قال: مطبوب، قال: من طبه؟ قال: لبيد بن الأعصم اليهوديّ، من بني زُريق، قال: فيماذا؟ قال: في مُشط، ومُشاطة، قال: فأين هو؟ قال: في بئر ذي أروان"، قال: فذهب النبيّ صلى الله عليه وسلم وناس من أصحابه إلى البئر، فنظروا إليها، ونخلها، ثم رجع إلى عائشة، فقال:"والله كأن ماءها نُقاعة الحناء، وكأن نخلها رؤوس الشياطين"،

(1)

"الفتح" 13/ 202 - 203، كتاب "الطبّ" رقم (5763).

(2)

وفي نسخة: "فأخْرِجه؟ ".

ص: 32

قلت: يا رسول الله فأخرجته؟ قال: "لا، أما أنا فقد عافاني الله، وشفاني، وخشيت أن أُثَوِّر على الناس منه شرًّا". انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم.

(3) - (بَابُ السُّمِّ)

" السمّ": ما يَقْتُلُ بالفتح في الأكثر، وجمعه سُموم، مثلُ فلس وفُلُوس، وسِمامٌ، مثلُ سَهْم وسِهام، والضمّ لغة لأهل العالية، والكسر لغة لبني تميم، وسَمَمْتُ الطعامَ سَمًّا، من باب قَتَلَ: جعلتُ فيه السمّ، قاله الفيّوميّ رحمه الله

(2)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5693]

(2190) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حَبِيبٍ الْحَارِثيُّ، حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ هِشَامِ بْنِ زيدٍ، عَنْ أَنسٍ، أَن امْرَأَةً يَهُودِيَّةً أَتَتْ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِشَاةٍ مَسْمُومَةٍ، فَأَكَلَ مِنْهَا، فَجِيءَ بِهَا إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَسَأَلهَا عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَتْ: أَرَدْتُ لأقتُلَكَ، قَالَ: "مَا كَانَ اللهُ لِيُسَلِّطَكِ عَلَى ذَاكِ"، قَالَ: أَو قَالَ: "عَلَيَّ"، قَالَ: قَالُوا: ألَا نَقْتُلُهَا؟ قَالَ: "لَا"، قَالَ: فَمَا زِلْتُ أَعْرِفُهَا فِي لَهَوَاتِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ حَبِيبٍ الْحَارِثيُّ) البصريّ، ثقةٌ [10](ت 248) أو بعدها (م 4) تقدم في "الإيمان" 14/ 165.

2 -

(خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ) بن عُبيد بن سُليم الْهُجَيميّ، أبو عثمان البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 286)(ع) تقدم في "الإيمان" 35/ 243.

3 -

(شُعْبَةُ) بن الحجّاج تقدّم قبل بابين.

4 -

(هِشَامُ بْنُ زيدِ) بن أنس بن مالك الأنصاريّ البصريّ، ثقةٌ [5](ع) تقدم في "الحيض" 6/ 714.

5 -

(أنسُ) بن مالك الصحابيّ الشهير رضي الله عنه، تقدّم قريبًا.

(1)

"مسند أبي يعلى" 8/ 290 - 291.

(2)

"المصباح المنير" 1/ 289.

ص: 33

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالبصريين من أوله إلى آخره، وأن فيه الراوي عن جدّه، فأنس رضي الله عنه جدّ هشام الراوي عنه، وفيه أنس رضي الله عنه من المكثرين السبعة، وآخر من مات من الصحابة بالبصرة رضي الله عنهم.

شرح الحديث:

(عَنْ هِشَامِ بْنِ زيدٍ) الأنصاريّ (عَنْ) جدّه (أنس) بن مالك رضي الله عنه (أَنَّ امْرَأة يَهُودِيةً) اسمها زينب بنت الحارث، أخت مِرْحب اليهوديّ، كذا جاءت مسمّاةً في "مغازي موسى بن عُقبة"، وفي "الدلائل" للبيهقيّ، قاله صاحب "التنبيه"

(1)

، واختُلف في إسلامها. (أَتَتْ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِشَاةٍ مَسْمُومَةٍ) قال القرطبيّ رحمه الله: ظاهره: أنها أتته بها على وجه الهدية، فإنَّه كان يقبل الهديَّة، ويثيب عليها، ويحتمل أن تكون ضيافة، وأبعد ذلك أن تكون بيعًا، وفي غير كتاب مسلم: أنه صلى الله عليه وسلم أخذ من الشاة الذراع، فاكل منها هو وبشر بن البراء، وأنه قال عند ذلك:"إن هذه الذراع تخبرني: أنها مسمومةٌ"، فأُحضرت اليهوديَّة، فسُئلت عن ذلك، فاعترفت، وقالت: إنما فعلت ذلك؟ لأنَّك إن كنت نبيًّا لم تضرك، وإن كنت كاذبًا أَرَحْتَ منك، وفي كتاب مسلم قالت: أردت لأقتلك، فأجابها النبيّ صلى الله عليه وسلم بأن قال:"ما كان الله ليسلطك على ذلك"، فلم يضرَّ ذلك السُّم رسول الله صلى الله عليه وسلم طول حياته، غير ما أثّر بلهواته، وغير ما كان يعاوده منه في أوقات، فلما حضر وقت وفاته أحدث الله تعالى ضرر ذلك السُّم في النبيّ صلى الله عليه وسلم، فتوفي بسببه، كما قال صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي توفي فيه:"لم تزل أكلة خيبر تعاودني، فالآن أوان قطعت أبهري"، فجمع الله لنبيِّه فيه بين النبوَّة والشهادة؛ مبالغةً في الترفيع والكرامة.

وأمّا بشر بن البراء رضي الله عنه: فروي: أنه مات من حينه، وقيل: بل لزمه وجعه ذلك، ثم توفي منه بعد سنة. انتهى

(2)

.

[تنبيه]: أخرج البخاريّ رحمه الله هذه القصّة من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، مطوّلًا، فقال:

(1)

"تنبيه المعلم" ص 373.

(2)

"المفهم" 5/ 575 - 576.

ص: 34

(3169)

- حدّثنا عبد الله بن يوسف، حدَّثنا الليث، قال: حدّثني سعيد، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لمّا فُتحت خيبر أُهديت للنبيّ صلى الله عليه وسلم شاة فيها سمّ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"اجمعوا إلي من كان ها هنا من يهود"، فجُمعوا له، فقال: إني سائلكم عن شيء، فهل أنتم صادقيّ عنه؟ فقالوا: نعم، قال لهم النبيّ صلى الله عليه وسلم:"من أبوكم؟ " قالوا: فلان، فقال:"كذبتم، بل أبوكم فلان"، قالوا: صدقتَ، قال:"فهل أنتم صادقيّ عن شيء، إن سألت عنه؟ " فقالوا: نعم، يا أبا القاسم، وإن كذبنا عرفت كذبنا، كما عرفته في أبينا، فقال لهم:"مَن أهل النار؟ "، قالوا: نكون فيها يسيرًا، ثم تَخْلُفونا فيها، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"اخسئوا فيها، والله لا نخلفكم فيها أبدًا"، ثم قال:"هل أنتم صادقيّ عن شيء إن سألتكم عنه؟ "، فقالوا: نعم، يا أبا القاسم، قال:"هل جعلتم في هذه الشاة سمًّا؟ " قالوا: نعم، قال:"ما حملكم على ذلك؟ " قالوا: أردنا إن كنت كاذبًا نستريح، وإن كنت نبيًّا لم يضرك. انتهى.

قال ابن إسحاق رحمه الله: لما اطمأنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم بعد فتح خيبر أهدت له زينب بنت الحارث، امرأة سلّام بن مِشْكَم شاةً مشويةً، وكانت سألت: أيّ عضو من الشاة أحب إليه؟ قيل لها: الذراع، فأكثرت فيها من السمّ، فلما تناول الذراع لاك منها مُضْغة، ولم يسغها، وأكل معه بشر بن البراء، فأساغ لقمته، فذكر القصّة، وأنه صَفَح عنها، وأن بشر بن البراء مات منها.

وروى البيهقيّ من طريق سفيان بن حسين، عن الزهريّ، عن سعيد بن المسيِّب، وأبي سلمة، عن أبي هريرة: أن امرأة من اليهود أهدت لرسول الله صلى الله عليه وسلم شاة مسمومةً، فأكل، فقال لأصحابه:"أمسكوا، فإنها مسمومة"، وقال لها:"ما حملك على ذلك؟ " قالت: أردت إن كنت نبيّا، فيُطلعك الله، وإن كنت كاذبًا، فأريح الناس منك، قال: فما عرض لها.

ومن طريق أبي نضرة، عن جابر نحوه، فقال: فلم يعاقبها.

وروى عبد الرزاق في "مصنفه" عن معمر، عن الزهري، عن أُبَيّ بن كعب مثله، وزاد: فاحتجم على الكاهل، قال: قال الزهريّ: فأسلمت، فتركها، قال معمر: والناس يقولون: قتلها.

وأخرج ابن سعد عن شيخه الواقديّ بأسانيد متعددة له هذه القصة مطوّلة،

ص: 35

وفي آخره: قال: فدفعها إلى وُلاة بشر بن البراء، فقتلوها، قال الواقديّ: وهو الثبْتُ.

وأخرج أبو داود من طريق يونس، عن الزهريّ، عن جابر نحو رواية معمر عنه، وهذا منقطع؛ لأن الزهريّ لم يسمع من جابر، ومن طريق محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، نحوه مرسلًا، قال البيهقيّ: وصله حماد بن سلمة، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة.

قال البيهقيّ: يَحْتَمِل أن يكون تركها أوّلًا، ثم لمّا مات بشر بن البراء من الأكلة قتلها، وبذلك أجاب السهيليّ، وزاد: أنه كان تركها؛ لأنه كان لا ينتقم لنفسه، ثم قتلها ببشر قصاصًا.

قال الحافظ: ويَحْتَمِل أن يكون تركها؛ لكونها أسلمت، وإنما أخر قتلها حتى مات بشر؛ لأن بموته تحقق وجوب القصاص بشرطه.

ووافق موسى بن عقبة على تسميتها زبنب بنت الحارث، وأخرج الواقديّ بسند له عن الزهريّ: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال لها: "ما حملك على ما فعلتِ؟ " قالت: قتلت أبي، وعمي، وزوجي، وأخي، قال: فسألت إبراهيم بن جعفر، فقال: عمها يسار، وكان من أجبن الناس، وهو الذي أنزل من الرَّفّ، وأخوها زبير، وزوجها سلّام بن مِشْكم.

ووقع في "سنن أبي داود": أخت مرحب، وبه جزم السهيليّ، وعند البيهقيّ في "الدلائل": بنت أخي مرحب، ولم ينفرد الزهري بدعواه أنها أسلمت، فقد جزم بذلك سليمان التيميّ في "مغازيه"، ولفظه بعد قولها: وإن كنت كاذبًا أَرَحْتُ الناس منك، وقد استبان لي الآن أنك صادق، وأنا أُشهدك، ومن حضر أني على دينك، وأن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله، قال: فانصرف عنها حين أسلمت

(1)

.

(فَأَكَلَ) النبيّ صلى الله عليه وسلم (مِنْهَا)؛ أي: من تلك الشاة؛ أي: من لحمها، (فَجِيءَ بِهَا)؛ أي: بتلك المرأة (إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَسَأَلهَا عَنْ ذَلِكَ)؛ أي: عن جَعْلها السمّ في تلك الشاة، وتقدّم في حديث أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ: "ما حَمَلكِ على

(1)

"الفتح" 9/ 347 - 348، كتاب "المغازي" رقم (4249).

ص: 36

ذلك؟ " (فَقَالَتْ) المرأة (أَرَدْتُ لأَقتُلَكَ) وتقدّم في مرسل الزهريّ: "قال لها: ما حملك على ما فعلتِ؟، قالت: قتلت أبي، وعمي، وزوجي، وأخي". (قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("مَا) نافية، (كَانَ اللهُ لِيُسَلِّطَكِ عَلَى ذَاكِ")؛ أي: على قتلي؛ لأن الله تعالى يعصمني من ذلك، فقد قال الله عز وجل:{وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} الآية [المائدة: 67].

(قَالَ) الراوي (أَو) للشكّ من الراوي، (قَالَ صلى الله عليه وسلم: عَلَيَّ) بدل قوله: "على ذلك"، (قَالَ) أنس (قَالُوا)؛ أي: الصحابة الحاضرين للقصّة، (ألَا نَفْتُلُهَا؟) قال النوويّ رحمه الله: وقولهم: "ألا نقتلها" هي بالنون في أكثر النسخ، وفي بعضها بتاء الخطاب. انتهى؛ أي: ألا تستحقّ قتلها؛ لأنها نقضت العهد، وسمّت النبيّ صلى الله عليه وسلم؟ (قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("لَا") تقتلوها؛ وذلك لأنه صلى الله عليه وسلم لا ينتقم لنفسه، أو لأنها أسلمت، فعفا عنها تعظيمًا للإسلام، لكن لَمّا مات بعدُ، بشر بن البراء دفعها لأوليائه، فقتلوها قصاصًا.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "ألا تقتلها؟ قال: لا" هذه رواية أنس أنَّه لم يقتلها، وقد وافقه على ذلك أبو هريرة فيما رواه عنه ابن وهب، وقد رَوَى عنه أبو سلمة بن عبد الرحمن أنَّه قتلها، وفي رواية ابن عباس أنَّه دفعها إلى أولياء بشر فقتلوها، ويصح الجمع، بأن يقال: إنه لم يقتلها أوّلًا بما فعلت، من تقديم السُّم إليهم، بل حتى مات بشر، فدفعها إليهم فقتلوها. انتهى

(1)

.

وقال النوويّ رحمه الله: واختَلَف الآثار، والعلماء، هل قتلها النبيّ صلى الله عليه وسلم أم لا؟ فوقع في "صحيح مسلم" أنهم:"قالوا: ألا نقتلها؟ قال: لا"، ومثله عن أبي هريرة، وجابر، وعن جابر من رواية أبي سلمة، أنه صلى الله عليه وسلم قتلها، وفي رواية ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم دفعها إلى أولياء بشر بن البراء بن معرور رضي الله عنه، وكان أكل منها، فمات بها، فقتلوها، وقال ابن سحنون: أجمع أهل الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قتلها، قال القاضي عياض: وجه الجمع بين هذه الروايات، والأقاويل، أنه صلى الله عليه وسلم لم يقتلها أوّلًا حين اطَّلع على سمّها، وقيل له: ألا نقتلها؟ فقال: لا، فلما مات بشر بن البراء من ذلك سلّمها لأوليائه، فقتلوها قصاصًا،

(1)

"المفهم" 5/ 586.

ص: 37

فيصح قولهم: لم يقتلها؛ أي: في الحال، ويصح قولهم: قتلها؛ أي: بعد ذلك، والله أعلم. انتهى

(1)

.

(قَالَ) أنس (فَمَا زِلْتُ أَعْرِفُهَا)؛ أي: أعرف علامة ذلك السمّ، وأثره، كأنه بقي للسم علامة، وأثر من سواد أو غيره، (فِي لَهَوَاتِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) جمع لَهَات بفتح اللام، قال الجوهريّ: اللهاة: الْهَنَة المطَبَّقة في أقصى سقف الحلق، والجمع اللَّها، واللَّهَوات، واللَّهَيات، وقال عياض: هي اللحمة التي بأعلى الحنجرة، من أقصى الفم، وقال الداوديّ: لهواته ما يبدو مِنْ فيه عند التبسم، وفي "المُغرب": اللهاة لحمة مُشْرفة على الحلق. انتهى

(2)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "فما زلت أعرفها في لهوات رسول الله صلى الله عليه وسلم "؟ أي: أعرف أثرها، فإِمَّا بتغيّر لون اللَّهوات، وإمَّا بنتوءٍ، أو تحفير فيها، واللهوات: جمع لهاة، وهي اللحمة الحمراء المعلقة في أصل الحنك، قاله الأصمعيّ، وقيل: هي ما بين منقطع اللِّسان إلى منقطع أصل الفم من أعلاه. انتهى

(3)

.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أنس رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [3/ 5693 و 5694](2190)، و (البخاريّ) في "الهبة"(2617) و"الجهاد"(3175) و"بدء الخلق"(3268) و"الطبّ"(5763) و"الأدب"(6063) و"الدعوات"(6391) وفي "الأدب المفرد"(1/ 122)، و (أبو داود) في "الديات"(4508)، و (ابن ماجه) في "الطبّ"(3590)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 218)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(3/ 43)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(8/ 46 و 10/ 11)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(1)

"شرح النوويّ" 14/ 179.

(2)

"عمدة القاري" 13/ 171.

(3)

"المفهم" 5/ 576.

ص: 38

1 -

(منها): بيان ما أظهر الله تعالى من معجزات النبيّ صلى الله عليه وسلم حيث كلَّمه الجماد، ولم يؤثر فيه السُّم، وعلم ما غُيِّب عنه من السُّم.

2 -

(ومنها): بيان أن السُّموم لا تؤثر بذواتها، بل بإذن الله تعالى ومشيئته، ألا ترى أن السُّم أثّر في بِشْر رضي الله عنه، ولم يؤثر في النبيّ صلى الله عليه وسلم، فلو كان يؤثر بذاته لأثّر فيهما في الحال؟!.

3 -

(ومنها): أن القتل بالسُّم كالقتل بالسِّلاح الذي يوجب القصاص، وهو قول مالك إذا استكرهه على شربه، فيُقتل بمثل ذلك، وقال الكوفيون: لا قصاص في ذلك، وفيه الدِّية على عاقلته، قالوا: ولو دسَّه له في طعام، أو شراب لم يكن عليه شيء، ولا عاقلته، وقال الشافعيّ: إذا فَعَل ذلك به وهو مكره، ففيه قولان: أحدهما: عليه القود، وهو أشبهها.

والثاني: لا قود عليه، وإن وضعه له، فأخبره، فأخذه الرَّجل، فأكله، فلا عقل، ولا قود، ولا كفارة، ذكره القرطبيّ رحمه الله

(1)

.

4 -

(ومنها): بيان جواز أكل طعام من يَحِلّ أكل طعامه دون أن يسأل عن أصله، وفيه حَمْل الأمور على السلامة حتى يقوم دليل على غيرها، وكذلك حكم ما بيع في سوق المسلمين، وهو محمول على السلامة حتى يتبيّن خلافها

(2)

.

5 -

(ومنها): بيان عصمته صلى الله عليه وسلم من الناس كلهم، كما قال الله:{وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} ، وهي معجزة رسول الله صلى الله عليه وسلم في سلامته من السم المهلك لغيره، وفي إعلام الله تعالى له بأنها مسمومة، وكلام عضو من تلك الشاة له صلى الله عليه وسلم، فقد جاء في غير "صحيح مسلم" أنه صلى الله عليه وسلم قال:"إن الذراع تخبرني أنها مسمومة"، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5694]

(

) - (وَحَدَّثنَا هَارُونُ بْنُ عَبْدِ الله، حَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، سَمِعْتُ هِشَامَ بْنَ زَيْدٍ، سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ، يُحَدِّثُ أَنَّ يَهُودِيَّةً جَعَلَتْ سَمًّا في لَحْمٍ، ثُمَّ أَتَتْ بِهِ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِنَحْوِ حَدِيثِ خَالِدٍ).

(1)

"المفهم" 5/ 576 - 577.

(2)

"عمدة القاري" 13/ 171.

ص: 39

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) أبو موسى الحمّال البغداديّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ) القيسيّ البصريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

3 -

(شُعْبَةُ) بن الحجّاج الإمام المشهور، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

والباقيان ذُكرا قبله.

وقوله: (أَنَّ يَهُودِيَّةً) تقدّم أن اسمها زينب بنت الحارث، أخت مرحب اليهوديّ.

وقوله: (جَعَلَتْ سَمًّا فِي لَحْمٍ) تقدّم أنه بفتح السين، وضمها، وكسرها، ثلاث لغات، الفتح أفصح، وجمعه سِمَام، وسُمُوم.

[تنبيه]: رواية شعبة عن هشام بن زيد هذه ساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(13309)

- حدثنا رَوْحُ، ثنا شعبة، قال: سمعت هشام بن زيد، قال: سمعت أنس بن مالك يحدّث، أن يهوديّة جَعَلت سمًا في لحم، ثم أتت به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأكل منه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:"إنها جعلت فيه سُمًّا"، قالوا: يا رسول الله، ألا نقتلها؟ قال:"لا"، قال: فجعلت أعرف ذلك في لهوات رسول الله صلى الله عليه وسلم. انتهى

(1)

.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}

(4) - (بَابُ اسْتِحْبَابِ رُقْيَةِ الْمَرِيضِ)

" الرُّقية" بضمّ الراء، وسكون القاف، جمعه رُقًى، بضم، ففتح، مقصورًا، يقال: رَقَى بالفتح في الماضي، يَرْقِي بالكسر في المستقبل، ورَقِيت فلانًا بكسر القاف، أَرْقِيه، واسترقى: طلب الرُّقية، والجمع بغير همز، وهو بمعنى التعويذ، بالذال المعجمة، قاله في "الفتح"

(2)

.

(1)

"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 3/ 218.

(2)

"الفتح" 13/ 154، كتاب "الطبّ" رقم (5735).

ص: 40

وقال ابن الأثير رحمه الله: قد تكرر ذكر الرُّقية، والرُّقى، والرَّقْي، والاسترقاء في الحديث، والرقيةُ: الْعَوْذة التي يُرْقَى بها صاحب الآفة، كالْحُمَّى، والصَّرْع، وغير ذلك من الآفات، وقد جاء في بعض الأحاديث جوازها، وفي بعضها النهي عنها، فمن الجواز قوله صلى الله عليه وسلم:"استرقوا لها، فإن بها النظرة"، متّفقٌ عليه؛ أي: اطلبوا لها من يرقيها، ومن النهي قوله:"لا يسترقون، ولا يكتوون"، متّفقٌ عليه، والأحاديث في القسمين كثيرة.

ووجه الجمع بينهما: أن الرُّقَى يُكره منها ما كان بغير اللسان العربيّ، وبغير أسماء الله تعالى، وصفاته، وكلامه، في كُتبه المنزلة، وأن يعتقد أن الرقيا نافعة لا محالة، فيتكل عليها، وإياها أراد صلى الله عليه وسلم بقوله:"ما توكل من استرقى"، ولا يُكره منها ما كان في خلاف ذلك، كالتعوذ بالقرآن، وأسماء الله تعالى، والرُّقَى المروية، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم للذي رَقَى بالقرآن، وأخذ عليه أجرًا:"من أخذ برقية باطل، فقد أخذت برقية حقّ"

(1)

.

وكقوله في حديث جابر رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: "اعْرِضوها عليّ، فعرضناها، فقال: لا بأس بها، إنما هي مواثيق"، كأنه خاف أن يقع فيها شيء مما كانوا يتلفظون به، ويعتقدونه من الشرك في الجاهلية، وما كان بغير اللسان العربيّ، مما لا يُعرف له ترجمة، ولا يمكن الوقوف عليه، فلا يجوز استعماله.

وأما قوله: "لا رُقية إلا من عين، أو حُمَة": فمعناه: لا رقية أَولى وأنفع، وهذا كما قيل: لا فتى إلا عليّ، وقد أمر صلى الله عليه وسلم غير واحد من أصحابه بالرقية، وسمع بجماعة يَرْقون فلم يُنكِر عليهم.

وأما الحديث الآخر في صفة أهل الجنة الذين يدخلونها بغير حساب: "هم الذين لا يسترقون، ولا يكتوون، وعلى ربهم يتوكلون"، فهذا من صفة الأولياء المعرضين عن أسباب الدنيا الذين لا يلتفتون إلى شيء من علائقها، وتلك درجة الخواصّ لا يبلغها غيرهم، فأما العامّ فمرخص لهم في التداوي، والمعالجات، ومن صبر على البلاء، وانتظر الفرج من الله بالدعاء، كان من جملة الخواصّ والأولياء، ومن لم يصبر رُخّص له في الرقية، والعلاج،

(1)

صحيح، أخرجه أبو داود، وغيره.

ص: 41

والدواء، ألا ترى أن الصدّيق لمّا تصدّق بجميع ما له لم يُنكر عليه عِلْمًا منه بيقينه وصبره، ولمّا أتاه الرجل بمثل بيضة الحمام من الذهب، وقال: لا أملك غيره، ضربه به، بحيث لو أصابه عَقَره، وقال فيه ما قال. انتهى كلام ابن الأثير رحمه الله

(1)

.

[تنبيه]: استُشْكِل الدعاءُ للمريض بالشفاء، مع ما في المرض من كفارة الذنوب، والثواب، كما تضافرت الأحاديث بذلك.

والجواب: أن الدعاء عبادةٌ، ولا ينافي الثواب، والكفارة؛ لأنهما يحصلان بأول مرض، وبالصبر عليه، والداعي بين حَسَنتين: إما أن يحصل له مقصوده، أو يُعَوَّض عنه بجلب نفع، أو دفع ضرّ، وكلٌّ من فضل الله تعالى، ذكره في "الفتح"

(2)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5695]

(2191) - (حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ إِسْحَاقُ: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ زُهَيْرٌ - وَاللَّفْظُ لَهُ -: حَدَّثنَا جَرِيرٌ، عَنِ الأَعْمَش، عَنْ أَبِي الضُّحَى، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا اشْتَكَى مِنَّا إِنْسَانٌ مَسَحَهُ بِيَمِينِه، ثُمَّ قَالَ: "أَذْهِبِ الْبَاسَ، رَبَّ النَّاس، وَاشْفِ أنتَ الشَّافِي، لَا شِفَاءَ إِلَّا شِفَاؤُكَ شِفَاءً، لَا يُغَادِرُ سَقَمًا"، فَلَمَّا مَرِضَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَثَقُلَ أَخَذْتُ بِيَدِهِ لأَصْنَعَ بِهِ نَحْوَ مَا كَانَ يَصْنَعُ، فَانْتَزَعَ يَدَهُ مِنْ يَدِي، ثُمَّ قَالَ: "اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي، وَاجْعَلْنِي مَعَ الرَّفِيقِ الأَعْلَى"، قَالَتْ: فَذَهَبْتُ أَنْظُرُ، فَإِذَا هُوَ قَدْ قَضَى).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(أَبُو الضُّحَى) مسلم بن صُبيح الْهَمْداني الكوفيّ العطّار، ثقةٌ فاضلٌ 41، (ت 100)(ع) تقدم في "الطهارة" 22/ 635.

2 -

(مَسْرُوقُ) بن الأجدع بن مالك الْهَمْدانيّ الوادعيّ، أبو عائشة الكوفيّ، ثقةٌ فقيهٌ عابدٌ مخضرم [2](ت 2 أو 63)(ع) تقدم في "الإيمان" 27/ 217.

(1)

"النهاية في غريب الأثر" 2/ 254 - 255.

(2)

"الفتح"13/ 52، كتاب "المرضى" رقم (5675).

ص: 42

والباقون ذُكروا في الباب الماضي، وقبل بابين، و"جرير" هو: ابن عبد الحميد.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالكوفيين، غير عائشة رضي الله عنهما فمدنيّة، وغير شيخيه، فالأول مروزيّ، والثاني بغداديّ، وفيه ثلاثة من التابعين، روى بعضهم عن بعض: الأعمش، عن أبي الضحى، عن مسروق، وفيه عائشة رضي الله عنهما من المكثرين السبعة.

شرح الحديث:

(عَنْ عَائِشَةَ) أمّ المؤمنين رضي الله عنهما أنها (قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا اشْتَكَى)؛ أي: مرِضَ، (مِنَّا)؛ أي: من أهل بيته صلى الله عليه وسلم، وفي رواية البخاريّ:"كان يُعَوِّذ بعض أهله"، قال الحافظ رضي الله عنه: لم أقف على تعيينه

(1)

. (إِنْسَانٌ مَسَحَهُ)؛ أي: مسح محلّ وجعه، قال الطبريّ رحمه الله: هو على طريقة التفاؤل لزوال ذلك الوجع. (بِيَمِينِه، ثُمَّ قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("أَذْهِبِ) بفتح الهمزة، وهي همزة قطع؛ لأنه فعل أمْر من أذهب رباعيًّا، يقال: ذهب الأثرُ يذهب ذَهَابًا، ويُعدّى بالحرف، وبالهمزة، فيقال: ذهبتُ به، وأذهبته، قاله الفيّوميّ

(2)

، وقوله:(الْبَاسَ) منصوب على المفعوليّة، وأصله البأس، بالهمز، خُفّف للمؤاخاة، قال قيس بن الخطيم [من الطويل]:

يَقُولُ لِيَ الْحَدَّادُ وَهْوَ يَقُودُنِي

إِلَى السَّجْنِ لَا تَجْزَعْ فَمَا بِكَ مِنْ بَاسِ

أراد: فما بك من بأس، فخفّف

(3)

.

والمراد به المرض، قال الفيّوميّ رحمه الله: البُؤسُ بالضم، وسكون الهمزة: الضرّ، ويجوز التخفيف، ويقال: بَئِسَ بالكسر: إذا نزل به الضرّ، فهو بَائِسٌ، وبُؤْسٌ، مثلُ قَرُبَ بَأْسًا: شَجُجَ، فهو بَئِيسٌ، على فَعِيل، وهو ذو بَأْسٍ؛ أي: شدّة وقُوّة، قال الشاعر [من الوافر]:

(1)

"الفتح" 13/ 175، كتاب "الطب" رقم (5743).

(2)

"المصباح المنير" 1/ 210.

(3)

"لسان العرب" 6/ 20.

ص: 43

فَخَيْرٌ نَحْنُ عِنْدَ البَأسِ مِنْكُمْ

إِذَا الدَّاعِي المَثُوبُ قَالَ يَالَا

أي: نحن عند الحرب إذا نادى بنا المنادي، ورجّع نداءه: ألا لا تفرّوا، فإنّا نكرّ راجعين؛ لِمَا عندنا من الشجاعة، وأنتم تجعلون الفَرَّ فرارًا، فلا تستطيعون الكرّ، وجَمْع البَأْسِ: أَبْؤُسٌ، مثلُ: فَلْس وأَفْلُس. انتهى

(1)

.

وقال في "العمدة": البأسَ بالنصب مفعول "أذهب"، وهو بالباء الموحّدة: الشدّة، والعذاب، والحزن

(2)

.

(رَبَّ النَّاسِ)؟ أي: يا ربّ الناس، فهو منادى بحذف حرف النداء، وهو جائز، قال الحريريّ رحمه الله في "ملحته":

وَحَذْفُ "يَا" يَجُوزُ فِي النِّدَاءِ

كَقَوْلِهِمْ "رَبِّ اسْتَجِبْ دُعَائِي"

(وَاشْفِ) أمْرٌ من شفى يشفي، ثلاثيًّا، يقال: شفى الله المريض يشفيه، من باب رمى شِفَاء: عافاه

(3)

.

(أَنْتَ الشَّافِي) قال في "الفتح": يؤخذ منه جواز تسمية الله تعالى بما ليس في القرآن بشرطين: أحدهما: أن لا يكون في ذلك ما يوهم نقصًا، والثاني: أن يكون له أصل في القرآن، وهذا من ذاك، فإن في القرآن:{وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80)} [الشعراء: 80]. انتهى

(4)

.

قال الجامع عفا الله عنه: الحقّ أنه إذا ورد تسمية الله تعالى في الحديث الصحيح جاز لنا أن نسميه به، ولو لم يرد في القرآن، وذلك كالجميل، والرفيق، والشافي، ونحو ذلك، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

وأما ما قاله القرطبيّ رحمه الله من أن الشافي اسم فاعل من اشْف، والألف واللام فيه بمعنى الذي، وليس باسم عَلَم لله تعالى؛ إذ لم يكثر ذلك، ولم يتكرّر، فإن أراد أن تسميته به لا يجوز ففيه نظر لا يخفى، فإنه صلى الله عليه وسلم سمّاه به، فلنا أن نسمّيه به، وإن أراد أنه ليس بعَلَم كلفظ الجلالة، والرحمن، فمسلّم، ولكن ماذا يترتّب عليه؟ فتأمل، والله تعالى أعلم.

(1)

"المصباح المنير" 1/ 65 - 66.

(2)

"عمدة القاري" 21/ 228.

(3)

"المصباح المنير" 1/ 319.

(4)

"الفتح" 13/ 174، كتاب "الطبّ" رقم (5743).

ص: 44

(لَا شِفَاءَ إلَّا شِفَاؤُكَ) وفي لفظ للبخاريّ: "لا شافي إلا أنت"، وفيه إشارة إلى أن كل ما يقع من الدواء، والتداوي، إن لم يصادف تقدير الله تعالى، وإلا فلا ينجع.

وقال في "العمدة": قوله: "لا شفاء إلا شفاؤك" حَصْرٌ لتاكيد قوله: "أنت الشافي"؛ لأن خبر المبتدأ إذا كان معرَّفًا باللام أفاد الحصر؛ لأن الدواء لا ينفع إذا لم يخلق الله فيه الشفاء، وقوله:"شفاء لا يغادر سقمًا" مُكَمِّلٌ لقوله: "اشف"، والجملتان معترضتان بين الفعل والمفعول المطلق. انتهى

(1)

.

(شِفَاءً) منصوب بقوله: "اشف"، ويجوز الرفع على أنه خبر مبتدأ؛ أي هو، والتنكير فيه للتقليل. (لَا يُغَادِرُ) بِالْغَيْن المعجمة؛ أي: لا يَتْرك، من المغادرة، وهو الترك، (سَقَمًا") بفتحتين، أو بضمّ، فسكون.

(فَلَمَّا مَرِضَ) من باب تَعِبَ، (رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَثَقُلَ)؛ أي: اشتدّ مرضه، (أَخَذْتُ بِيَدِهِ) صلى الله عليه وسلم (لأَصْنَعَ بِهِ نَحْوَ مَا كَانَ يَصْنَعُ)؛ أي: من الرقية، (فَانْتَزَعَ يَدَهُ مِنْ يَدِي) وفي رواية لابن حبّان:"فقال صلى الله عليه وسلم: ارفعي يدك، فإنها كانت تنفعني في المدّة". (ثُمَّ قَالَ) صلى الله عليه وسلم: "اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي، وَاجْعَلْني مَعَ الرَّفِيقِ الأَعْلَى") وفي رواية عند أحمد: "فقال: مع الرفيق الأعلى، مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين، والصديقين، والشهداء" إلى قوله: "رفيقًا"، وفي رواية أبي بردة، عن أبي موسى، عن أبيه، عند النسائيّ، وصححه ابن حبان:"فقال: أسأل ألله الرفيق الأعلى الأسعد، مع جبريل، وميكائيل، وإسرافيل"، قال الحافظ: وظاهره أن الرفيق المكان الذي تحصل المرافقة فيه مع المذكورين.

وفي رواية الزهريّ: "في الرفيق الأعلى"، وفي رواية عباد، عن عائشة بعد هذا:"قال: اللهم اغفر لي، وارحمني، وألحقني بالرفيق"، وفي رواية ذكوان، عن عائشة:"فجعل يقول: في الرفيق الأعلى، حتى قبض"، وفي رواية ابن أبي مليكة، عن عائشة:"وقال: في الرفيق الأعلى، في الرفيق الأعلى".

قال في "الفتح": وهذه الأحاديث تردّ على من زعم أن الرفيق تغيير من الراوي، وأن الصواب الرّقِيع، بالقاف، والعين المهملة، وهو من أسماء

(1)

"عمدة القاري" 21/ 228.

ص: 45

السماء، وقال الجوهريّ: الرفيق الأعلى الجنة، ويؤيده ما وقع عند أبي إسحاق: الرفيق الأعلى الجنة.

وقيل: بل الرفيق هنا اسم جنس يشمل الواحد، وما فوقه، والمراد: الأنبياء، ومن ذُكر في الآية، وقد خُتمت بقوله:{وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} ، ونكتة الإتيان بهذه الكلمة بالإفراد الإشارةُ إلى أن أهل الجنة يدخلونها على قلب رجل واحد، نبَّه عليه السهيليّ.

وزعم بعض المغاربة أنه يَحْتَمِل أن يراد بالرفيق الأعلى: الله عز وجل؛ لأنه من أسمائه، كما أخرج مسلم، وأبو داود من حديث عبد الله بن مُغَفَّل رضي الله عنه، رفعه:"إن الله رفيق، يحبّ الرفق". انتهى بتصرّف

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: ما قاله بعض المغاربة ليس ببعيد، ولكن الظاهر هنا هو القول الذي قبله، وهو أن المراد بالرفيق هنا هم الذين ذُكروا في الآية، فالمراد بالرفيق هنا معنى الجمع؛ أي: الرفقاء؛ لأنه يُطلق على الواحد، وعلى الجماعة، قال في "القاموس"، و"شرحه": الرفيق: للواحِد، والجَمِيع، مثل الصَّدِيق، والخَلِيط، ومنه قولُه تعالى:{وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} ، والحديث:"بل الرَّفِيقَ الأَعْلَى من الجَنَّةِ"؛ أَي: جَماعةَ الأَنْبياءَ. انتهى

(2)

.

فتبيّن بهذا أن المراد بالرفيق هم الرفقاء، وهم الذين قال تعالى فيهم:{فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69]، فتبصّر بالإمعان، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

(قَالَتْ) عائشة رضي الله عنهما (فَذَهَبْتُ أنظُرُ) إليه صلى الله عليه وسلم، (فَإِذَا هُوَ قَدْ قَضَى)؛ أي: مات، يقال: قضى فلان؛ أي: مات

(3)

.

قال السهيليّ رحمه الله: الحكمة في اختتام كلام المصطفى صلى الله عليه وسلم بهذه الكلمة، كونُها تتضمن التوحيد، والذكر بالقلب، حتى يُستفاد منه الرخصة لغيره أنه لا يُشتَرَط أن يكون الذكر باللسان؛ لأن بعض الناس قد يمنعه من النطق مانع، فلا

(1)

"الفتح" 13/ 174، كتاب "الطب" رقم (5743).

(2)

"تاج العروس" 1/ 6332.

(3)

"القاموس المحيط" ص 1067.

ص: 46

يضره إذا كان قلبه عامرًا بالذِّكر

(1)

، والله تعالى أعلم.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنهما هذا متفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنف) هنا [4/ 5695 و 5696 و 5697 و 5698 و 5699 و 5700 و 5701](2191)، و (البخاريّ) في "الطب"(5743 و 5750)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(4/ 358 و 367)، و (ابن ماجه) في "الطبّ"(3520)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(19783)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(5/ 46)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 44 و 45 و 109 و 126 و 127 و 131 و 114 و 278)، و (ابن راهويه) في "مسنده"(3/ 817)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(7/ 436)، و (ابن حبّان) في "صحيح"(2962 و 2970 و 2971 و 2972)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(3/ 381)، وفوائد الحديث تأتي في الباب التالي - إن شاء الله تعالى -.

وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5696]

(

) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا هُشَيْمٌ (ح) حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيةَ (ح) حَدَّثَنِي بِشْرُ بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ (ح) وَحَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، كِلَاهُمَا عَنْ شُعْبَةَ (ح) وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ خَلَّادٍ، قَالَا: حَدَّثنا يَحْيَى - وَهُوَ الْقَطَّانُ - عَنْ سُفْيَانَ، كُلُّ هَؤُلَاءِ عَنِ الأَعْمَش، بِإِسْنَادِ جَرِيرٍ، فِي حَدِيثِ هُشَيْمٍ، وَشُعْبَةَ:"مَسَحَهُ بِيَدِهِ"، قَالَ: وَفِي حَدِيثِ الثَّوْرِيِّ: "مَسَحَهُ بِيَمِينِهِ"، وَقَالَ فِي عَقِبِ حَدِيثِ يَحْيَى، عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ الأَعْمَش، قَالَ: فَحَدَّثْتُ بِهِ مَنْصُورًا، فَحَدَّثَنِي عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ، بِنَحْوِه).

رجال هذه الأسانيد: أربعة عشر:

1 -

(هُشَيْمُ) بن بشير الواسطيّ، تقدّم قريبًا.

(1)

"الفتح" 8/ 137.

ص: 47

2 -

(بِشْرُ بْنُ خَالِدٍ) الْعَسْكريّ، أبو محمد الفرائضيّ، نزيل البصرة، ثقةٌ يُغرب [10](ت 3 أو 255)(خ م د س) تقدم في "الإيمان" 23/ 200.

3 -

(ابْنُ بَشَّارٍ) محمد المعروف ببُندار، تقدّم قريبًا.

4 -

(ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ) هو: محمد بن إبراهيم بن أبي عديّ، أبو عمرو البصريّ، ثقةٌ [9](ت 194) على الصحيح (ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 128.

5 -

(أبُو بَكْرِ بْنُ خَلَّادٍ) هو: محمد بن خلّاد بن كثير الباهليّ البصريّ، ثقةٌ [10](ت 240) على الصحيح (م د س ق) تقدم في "المقدمة" 5/ 31.

6 -

(سُفْيَانُ) بن سعيد الثوريّ، تقدّم قريبًا.

والباقون ذُكروا في الباب وفي الأبواب الأربعة الماضية.

وقوله: (كُلُّ هَؤُلَاءِ عَنِ الأَعْمَشِ)؛ يعني: أن هؤلاء الأربعة، وهم: هشيم، وأبو معاوية، وشعبة، وسفيان الثوريّ رووا هذا الحديث عن الأعمش، عن أبي الضحى، عن مسروق، عن عائشة رضي الله عنهما.

وقوله: (فِي حَدِيثِ هُشَيْمٍ، وَشُعْبَةَ:"مَسَحَهُ بِيَدِهِ"

إلخ) الجارّ والمجرور خبر مقدّم، وقوله:"مَسَحَهُ بِيَدِهِ" مبتدأ مؤخّر محكيّ؛ لِقَصْد لَفْظه، والمعنى: أن هشيمًا وشعبة روياه بلفظ: "مسحه بيده"، بدل رواية الآخرين، ومنهم سفيان بلفظ:"مسحه بيمينه".

وقوله: (قَالَ: وَفي حَدِيثِ الثوْرِيِّ

إلخ) الظاهر أن فاعل "قال" ضمير المصنّف، وَيحْتَمل أن يكون لشيخه أبي بكر بن أبي شيبة؛ أي: كائن في حديث سفيان الثوريّ لفظ: "مَسَحَهُ بِيَمِينِهِ" بدل قوله في رواية هشيم وشعبة: "مسحه بيده"، والله تعالى أعلم.

وقوله: (وَقَالَ فِي عَقِبِ حَدِيثِ يَحْيَى، عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ الأَعْمَشِ) فاعل "قال" يَحْتَمل الوجهين المذكورين قبله.

وقوله: (قال: فحدَّثتُ به منصورًا

إلخ) فاعل "قال" ضمير سفيان الثوريّ، وقد غلط فيه بعض الشرّاح

(1)

، فجعله للأعمش، وليس كذلك، فقد صرّح ابن أبي شيبة بأنه سفيان، ودونك نصّه:

(1)

هو الشيخ الهرريّ، راجع:"شرحه" 22/ 198.

ص: 48

(29490)

- حدّثنا يحيى بن سعيد

(1)

، عن سفيان، عن الأعمش، عن أبي الضحى، عن مسروق، عن عائشة، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول للمريض:"أَذْهِب الباس، ربَّ الناس، واشْف، أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاءً لَا يغادر سقمًا"، قال سفيان: فذكرته لمنصور، فحدّثني عن إبراهيم، عن مسروق، عن عائشة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، بمثله. انتهى

(2)

.

وكذلك نصّ النسائيّ رحمه الله في "سننه"، فقال:

(10848)

- أخبرنا عمرو بن عليّ، قال: حدّثنا يحيى، قال: حدّثنا سفيان، قال: حدّثنا سليمان، عن مسلم، عن مسروق، عن عائشة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يُعَوِّذ بعض أهله، يمسح بيده، ويقول:"اللهم ربَّ الناس، أَذْهَب الباس، واشْفِ أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاءك، شفاءً لا يغادر سقَمًا"، قال سفيان: حدّثته منصورًا، فحدّثني عن إبراهيم، عن مسروق، عن عائشة، بنحوه. انتهى

(3)

.

وقوله: (فَحَدَّثْتُ بِهِ مَنْصُورًا، فَحَدَّثَني عَنْ إِبْرَاهِيمَ

إلخ) هذه الرواية هي التي أخرجها مسلم بعد هذه الرواية، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

[تنبيه]: رواية هشيم، عن الأعمش ساقها النسائيّ رحمه الله في "عمل اليوم والليلة"، فقال:

(551)

- أخبرنا أبو يعلى، حدّثنا زكريا بن يحيى، ثنا هشيم، عن الأعمش، عن أبي الضُّحَى، عن مسروق، عن عائشة رضي الله عنهما قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عاد مريضًا، يضع يده على المكان الذي يشتكي المريض، ثم يقول:"بسم الله، أَذْهِب الباس، ربَّ الناس، واشْفِ أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاءك، شفاءً لا يغادر سقمًا"، قالت عائشة: فلما مرض النبيّ صلى الله عليه وسلم وضعت يدي عليه؛ لأقول هؤلاء الكلمات، فنزع يدي عنه، وقال:"اللهم الرفيقَ الأعلى". انتهى

(4)

.

(1)

هو القطّان.

(2)

"مصنف ابن أبي شيبة" 6/ 62.

(3)

"السُّنن الكبرى" 6/ 250.

(4)

"عمل اليوم والليلة" 1/ 503.

ص: 49

وأما رواية أبي معاوية عن الأعمش، فساقها ابن ماجه رحمه الله في "سننه"، فقال:

(1619)

- حدّثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن مسلم، عن مسروق، عن عائشة، قالت: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يتعوَّذ بهؤلاء الكلمات: "أَذْهِبِ الباس، ربَّ الناس، واشْف، أنت الشافي، لا شفاءَ إلا شفاؤك، شفاءً لا يغادر سَقَمًا"، فلما ثَقُل النبيّ صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه، أخذت بيده، فجعلت أمسحه، وأقولها، فنزع يده من يدي، ثم قال:"اللهم اغفر لي، وألحقني بالرفيق الأعلى"، قالت: فكان هذا آخر ما سمعت من كلامه صلى الله عليه وسلم. انتهى

(1)

.

وأما رواية شعبة، عن الأعمش، فساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(24990)

- حدّثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن سليمان، عن أبي الضُّحى، عن مسروق، عن عائشة، أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا عاد مريضًا مسحه بيده، وقال:"أَذْهِب البأس، ربَّ الناس، واشفِ أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاءً لا يَغادر سقَمًا"، فلما مَرِض مرضه الذي مات فيه، قالت عائشة: أخذت بيده، فذهبتُ لأقول، فانتزع يده، وقال:"اللهم اغفر لي، واجعلني في الرفيق الأعلى". انتهى

(2)

.

وأما رواية سفيان الثوريّ عن الأعمش، فساقها ابن حبّان رحمه الله في "صحيحه"، فقال:

(2970)

- أخبرنا عمران بن موسى بن مُجاشع، قال: حدّثنا أبو بكر بن خَلّاد الباهليّ، قال: حدّثنا يحيى القطان، قال: أخبرنا سفيان، عن سليمان، عن مسلم، عن مسروق، عن عائشة، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا عاد المريض، مسحه بيمينه، وقال:"أَذْهِب الباس، ربَّ الناس، واشف، أنت الشافي، اشف شفاءً لا يغادر سقمًا"، قالَ: فحدثت به منصورًا، فحدّثني، عن إبراهيم، عن

(1)

"سنن ابن ماجه" 1/ 517.

(2)

"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 6/ 126.

ص: 50

مسروق، عن عائشة، بنحوه. انتهى

(1)

.

وقد تقدّمت رواية أبي بكر بن أبي شيبة، عن يحيى القظان قبل التنبيه، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5697]

(

) - (وَحَدَّثنَا شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا عَادَ مَرِيضًا يَقُولُ: "أَذْهِبِ الْبَاسَ، رَبَّ النَّاس، اشْفِهِ أَنْتَ الشَّافِي

(2)

لَا شِفَاءَ إِلَّا شِفَاؤُكَ، شِفَاءً لَا يُغَادِرُ سَقَمًا").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ) أبو محمد الأبُلّيّ، صدوقٌ يَهِمُ، ورُمي بالقدر، من صغار [9](ت 5 أو 236) وله بضع وتسعون سنةً (م د س) تقدم في "الإيمان" 12/ 157.

2 -

(أَبُو عَوَانَةَ) وضّاح بن عبد الله اليشكريّ الواسطيّ، تقدّم قريبًا.

3 -

(مَنْصُورُ) بن المعتمر، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

4 -

(إِبْرَاهِيمُ) بن يزيد بن قيس بن الأسود النخعيّ، أبو عمران الكوفيّ، ثقةٌ فقيهٌ، إلا أنه يرسل كثيرًا [5](ت 96)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 52.

والباقيان ذُكرا قبله، وشرح الحديث، وما يتعلّق به من المسائل تقدّمت في الحديث الماضي، ولله الحمد والمنة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5698]

(

) - (وَحَدَّثَنَاهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي الضُّحَى، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَتَى الْمَرِيضَ يَدْعُو لَهُ، قَالَ: "أَذْهِبِ الْبَاسَ، رَبَّ النَّاس، وَاشْفِ أَنْتَ الشَّافِي، لَا شِفَاءَ إِلَّا شِفَاؤُكَ، شِفَاءً لَا يُغَادِرُ سَقَمًا"، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ: فَدَعَا لَهُ، وَقَالَ: "وَأَنْتَ الشَّافِي").

(1)

"صحيح ابن حبان" 7/ 235.

(2)

وفي نسخة: "وأنت الشافي".

ص: 51

رجال هذا الإسناد: سبعة:

وكلّهم ذُكروا في الباب، وكذلك شرح الحديث، وما يتعلّق به، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5699]

(

) - (وَحَدَّثَنِي الْقَاسِمُ بْنُ زَكَرِيَّاءَ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُوسَى، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، وَمُسْلِمُ بْنُ صُبَيْحٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، بِمِثْلِ حَدِيثِ أَبِي عَوَانَةَ، وَجَرِيرٍ).

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(الْقَاسِمُ بْنُ زَكَرِيَّاءَ) بن دينار القرشيّ، أبو محمد الكوفيّ الطحّان، ثقةٌ [11] مات في حدود (250)(م ت س ق) تقدم في "الإيمان" 4/ 118.

2 -

(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُوسَى) بن أبي المختار باذام الْعَبْسيّ، أبو محمد الكوفيّ، ثقةٌ يتشيّع [9](ت 213) على الصحيح (ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 118.

3 -

(إِسْرَائِيلُ) بن يونس بن أبي إسحاق السَّبِيعيّ الْهَمْدانيّ، أبو يوسف الكوفيّ، ثقةٌ، تُكُلّم فيه بلا حجة [7](ت 160) أو بعدها (ع) تقدم في "الطهارة" 2/ 542.

والباقون ذُكروا قبله.

[تنبيه]: رواية إسرائيل عن منصور هذه ساقها النسائيّ رحمه الله في "سننه"، فقال:

(10853)

- وأخبرنا أحمد بن سليمان، والقاسم بن زكريا بن دينار، قالا: حدّثنا عبيد الله بن موسى، عن إسرائيل، عن منصور، عن إبراهيم، ومسلم بن صُبيح، عن مسروق، عن عائشة رضي الله عنهما قالت: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا عَوَّذَ أحدًا - وقال عبدة: مريضًا - قال: "أَذْهِبِ البأس، ربَّ الناس، واشْف، أنت الشافي، لا شفاءَ إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سَقَمًا". انتهى

(1)

.

(1)

"السُّنن الكبرى" 6/ 251.

ص: 52

وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5700]

(

) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْبٍ - وَاللَّفْظُ لأَبِي كُرَيْبٍ - قَالَا: حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا هِشَامٍ، عَنْ أَبِيه، عَنْ عَائِشَةَ، أَن رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَرْقِي بِهَذ الرُّقْيَةِ: "أَذْهِبِ الْبَاسَ، رَبَّ النَّاس، بِيَدِكَ الشفَاءُ، لَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا أَنْتَ").

رجال هذا الإسناد: ستّةٌ:

وكلّهم تقدّموا في الباب، وقبل باب، وكذلك شرح الحديث ومسائله تقدّمت، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5701]

(

) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدُّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ (ح) وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، كلَاهُمَا عَنْ هِشَام، بِهَذَا الإِسْنَادِ مِثْلَهُ).

رجال هذين الإسنادين: خمسة:

وكلّهم تقدّموا في الباب، وقبل باب، إلا عيسى بن يونس، فتقدّم قبل أربعة أبوب.

[تنبيه]: رواية عيسى بن يونس عن هشام بن عروة ساقها إسحاق بن راهويه رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(1744)

- أخبرنا عيسى بن يونس، نا هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرقي، يقول:"امسح الباس، ربَّ الناس، بيدك الشفاء، لا كاشف له إلا أنت". انتهى

(1)

.

وأما رواية أبي أسامة عن هشام، فلم أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(1)

"مسند إسحاق بن راهويه" 3/ 1005.

ص: 53

(5) - (بَابُ رُقْيَةِ المَرِيضِ بِالمُعَوِّذَاتِ، وَالنَّفْثِ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5702]

(2192) - (حَدَّثَنِي سُرَيْجُ بْنُ يُونُسَ، ويحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، قَالَا: حَدَّثَنَا عَبَّادُ بْنُ عَبَّادٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيه، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا مَرِضَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِه، نَفَثَ عَلَيْهِ بِالْمُعَوِّذَات، فَلَمَّا مَرِضَ مَرَضَهُ الَّذِي مَاتَ فِيه، جَعَلْتُ أَنفْثُ عَلَيْه، وَأَمْسَحُهُ بِيَدِ نَفْسِهِ؛ لأنَّهَا كَانَتْ أَعْظَمَ بَرَكَةً مِنْ يَدِي، وَفي رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ أيُّوبَ: بِمُعَوِّذَاتٍ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(سُرَيْجُ بْنُ يُونُسَ) بن إبراهيم، أبو الحارث البغداديّ، مروزيّ الأصل، ثقةٌ عابدٌ [10](ت 235)(خ م س) تقدم في "الإيمان" 25/ 209.

2 -

(يَحْيَى بْنُ أيُّوبَ) المقابريّ، أبو زكريّا البغداديّ، تقدّم قريبًا.

3 -

(عَبَّادُ بْنُ عَبَّادِ) بن حبيب بن الْمُهَلَّب بن أبي صُفْرة الأزديّ الْمُهلّبيّ، أبو معاوية البصريّ، ثقةٌ ربّما وَهِمَ [7](ت 179) أو بعدها بسنة (ع) تقدم في "الإيمان " 6/ 124.

والباقون ذُكروا في السند الماضي.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان قرن بينهما؛ لاتّحادهما تحمّلًا، وأداءًا، كما سبق غير مرّة، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، والابن عن أبيه، عن خالته، وفيه عروة أحد الفقهاء السبعة، وفيه عائشة رضي الله عنها أفقه نساء الأمة، ومن المكثرين السبعة.

شرح الحديث:

(عَنْ عَائِشَةَ) أمّ المؤمنين رضي الله عنها أنها (قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا مَرِضَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِه، نَفَثَ عَلَيْهِ) قال الفيّوميّ رحمه الله: نَفَثُه من فيه نَفْثًا، من باب ضرب

(1)

:

(1)

سيأتي عن "القاموس" أنه من بابي ضرب، ونصر، فتنبّه.

ص: 54

رَمَى به، ونَفَثَ: إذا بَزَقَ، ومنهم من يقول: إذا بَزَق، ولا ريقَ معه، ونَفَثَ في الْعُقْدة عند الرُّقَى، وهو البصاق اليسير، ونَفَثَهُ نَفْثًا أيضًا: سَحَرَهُ، والفاعل نَافِثٌ، ونَفَّاثٌ مبالغةٌ، والمرأة نَافِثَةٌ، ونَفَّاثَةٌ، ونَفَثَ الله الشيءَ في القلب: ألقاه. انتهى

(1)

.

وفي "القاموس"، و"شرحه":"نَفَثَ يَنْفُثُ" بالضَّمّ، و"يَنفِثُ" بالكسر نَفْثًا، ونَفَثَانًا، محرّكة، وهو كالنَّفْخِ مع رِيقٍ، كذا في "الكَشّاف"، وفي "النَّشْرِ": النَّفْث: شِبْهُ النَّفْخ، يكون في الرُّقْيَة، ولا رِيقَ معه، فإن كان معه رِيقٌ فهو التَّفْل، وهو الأصحّ، كذا في "العِناية"، وفي "الأذكار": قال أَهلُ اللّغةِ: النَّفْثُ: نَفْخٌ لَطِيفٌ بلا رِيقٍ، والنَّفْث "أَقَلُّ من التَّفْلِ"؛ لأنّ التَّفْلَ لا يكون إِلّا ومعه شَيْءٌ من الرِّيق، وقيل: هو التَّفْل بِعَيْنِه، وعن بعضهم: النَّفْثُ فوقَ النَّفْخِ، أَو شِبْهُه، ودُونَ التَّفْل، وقد يكون بلا رِيقٍ، بخلاف التَّفْل، وقد يكون بِريقٍ خفِيفٍ، بخلافِ النَّفْخ، وقيل: النَّفْثُ إِخْرَاجُ الرِّيحِ من الفَمِ بقليلٍ من الرِّيق، وفي الأَساس: النَّفْث: الرَّمْيُ، والنَّفْث: الإِلْهَامُ، والإِلْقَاءُ. انتهى

(2)

.

(بِالْمُعَوِّذَاتِ) بضمّ الميم، وكسر الواو المشدّدة، جمع مُعوّذ: اسم فاعل، من التعويذ، وهو التحصين والعصمة، سُمّيت بذلك؛ لأنها تحصّن من يتعوّذ بها من كلّ سوء.

وقال في "القاموس، و"شرحه": والمُعَوِّذَتانِ: سُورَتَانِ: سُورَة الفَلَق، وتاليَتُهَا بِكَسْرِ الوَاو، صَرَّح به السيوطيّ في "الإِتقان"، وجَزم به، وصَرَّح الشمسُ التتائيُّ في "شَرْحِ الرسالة" أَنّ الفتح خَطَأ، وإِن ذَهَبَ إِليه ابنُ علَّان في "شَرْحِ الأَذْكار"، وأَنّ الكسْرَ هو الصوابُ؛ لأَن مَبْدَأَ كُلِّ واحِدَةٍ منهما: قُلْ أَعُوذُ، ويُقَال: عَوَّذْتُ فُلانًا بالله، وأَسمائِه، وبالمُعَوِّذَتَيْن، إِذا قلتَ: أعِيذُك بالله، وأَسمائِه مِنْ كُلِّ ذي شَرٍّ، ورُبَّما قيل: المُعَوِّذَاتُ بِالجَمع، بإِضافةِ الإِخْلاص لهما على جهَةِ التَّغْلِيب؛ لأَنها مِمَّا يُتَحَصَّنُ بها؛ لاشْتِمَالِها على صِفةِ اللهِ تعَالَى. انتهى

(3)

.

(1)

"المصباح المنير" 2/ 615 - 616.

(2)

"تاج العروس" 1/ 1315.

(3)

"تاج العروس" 1/ 2409.

ص: 55

وقال في "الفتح": المراد بالمعوّذات: سورة الفلق، والناس، والإخلاص، فيكون من باب التغليب، أو المراد: الفلق، والناس، وكلُّ ما ورد من التعويذ في القرآن، كقوله تعالى:{وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97)} [المؤمنون: 97]، وقوله:{فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل: 98]، وغير ذلك، والأول أَولى؛ فقد أخرج أحمد، وأبو داود، والنسائيّ، وصححه ابن حبان، والحاكم، من رواية عبد الرحمن بن حرملة، عن ابن مسعود رضي الله عنه: "أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يكره عشر خصال

"، فذكر فيها الرُّقَى إلا بالمعوذات، وعبد الرحمن بن حرملة قال البخاريّ: لا يصح حديثه، وقال الطبريّ: لا يُحتج بهذا الخبر؛ لجهالة راويه، وعلى تقدير صحته فهو منسوخ بالإذن في الرقية بفاتحة الكتاب.

وأشار المهلَّب إلى الجواب عن ذلك بأن في الفاتحة معنى الاستعاذة، وهو الاستعانة، فعلى هذا يختص الجواز بما يشتمل على هذا المعنى.

وقد أخرج الترمذيّ، وحسّنه، والنسائيّ، من حديث أبي سعيد:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعوذ من الجان، وعين الإنسان، حتى نزلت المعوذات، فأخذ بها، وترك ما سواها"، وهذا لا يدل على المنع من التعوذ بغير هاتين السورتين، بل يدلّ على الأولوية، ولا سيما مع ثبوت التعوذ بغيرهما، وإنما اجتزأ بهما؛ لِمَا اشتملتا عليه من جوامع الاستعاذة، من كل مكروه جملةً، وتفصيلًا. انتهى ما قاله في "الفتح"

(1)

.

وقال في "موضع آخر: المراد بالمعوذات السور الثلاث، وذَكَرَ سورة الإخلاص معهما تغليبًا؛ لِمَا اشتملت عليه من صفة الربّ، وإن لم يُصَرَّح فيها بلفظ التعويذ، وقد أخرج أصحاب "السنن" الثلاثة، وأحمد، وابن خزيمة، وابن حبان، من حديث عقبة بن عامر قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قل هو الله أحد، وقل أعوذ برب الفلق، وقل أعوذ برب الناس، تَعَوَّذ بهنّ، فإنه لم يُتَعَوَّذ بمثلهنّ"، وفي لفظ: "اقرأ المعوّذات دبرَ كلِّ صلاة"، فذكرهنّ. انتهى

(2)

.

(1)

"الفتح" 13/ 154 - 155 رقم (5735).

(2)

"الفتح" 13/ 247 - 248، كتاب "الطبّ" رقم (5017).

ص: 56

(فَلَمَّا مَرِضَ) بكسر الراء، كما سبق، (مَرَضَهُ الَّذِي مَاتَ فِيه، جَعَلْتُ)؛ أي: شرعت، وأخذت (أنفُثُ) تقدّم آنفًا أنه بضمّ الفاء، وكسرها، (عَلَيْهِ) صلى الله عليه وسلم (وَأَمْسَحُهُ بِيَدِ نَفْسِهِ) صلى الله عليه وسلم (لأنهَا كَانَتْ أَعْظَمَ بَرَكَةً مِنْ يَدِي)؛ أي: فيكون الشفاء عاجلًا، (وَفِي رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ أَيُّوبَ: بِمُعَوِّذَاتٍ)؛ أي: بالتنكير، والله تعالى أعلم.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [2/ 5702 و 5703 و 5704](2192)، و (البخاريّ) في "فضائل القرآن"(5016)، و (أبو داود) في "الطبّ"(3902)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(4/ 255 و 364 و 367 و 368)، و (ابن ماجه) في "سننه"(3529)، و (مالك) في "الموطّأ"(2/ 942)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(11/ 20)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 106 و 114 و 412 و 166 و 181 و 256 و 263)، و (إسحاق بن راهويه) في "مسنده"(2/ 282)، (وابن حبّان) في "صحيحه"(2963)، و (عبد بن حميد) في "مسنده"(1/ 429)، و (أبو يعلى) في "معجمه"(1/ 82)، و (البيهقيّ) في "شُعب الإيمان"(2/ 514)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان مشروعيّة الرُّقَى، واستحبابها، قال الإمام أبو عمر رحمه الله: وفيه إثبات الرُّقَى، والردّ على من أنكره من أهل الإسلام، وفيه الرُّقَى بالقرآن، وفي معناه كل ذِكر لله جائز الرقية به، وفيه إباحة النَّفْث في الرُّقَى، والتبرك به، والنفث شبه الْبَصْق، ولا يُلْقِي النافث شيئًا من البصاق، وقيل: كما ينفث آكل الزبيب، وفيه المسح باليد عند الرقية، وفي معناه المسح باليد على كل ما تُرْجَى بركته، وشفاؤه، وخيره مثل المسح على رأس اليتيم، وشِبْهه، وفيه التبرك بإيمان الصالحين قياسًا على ما صنعت عائشة رضي الله عنها بيد النبيّ صلى الله عليه وسلم، وفيه

ص: 57

التبرك باليمنى دون الشمال، وتفضيلها عليها، وفي ذلك معنى الفأل. انتهى

(1)

.

2 -

(ومنها): استحباب النفث في الرقية، قال النوويّ رحمه الله: وقد أجمعوا على جوازه، واستحبه الجمهور، من الصحابة، والتابعين، ومن بعدهم، قال القاضي عياض: وأنكر جماعة النفث، والتفل في الزُّقَى، وأجازوا فيها النفخ بلا ريق، وهذا المذهب والفرق إنما يجيء على قول ضعيف، قيل: إن النفث معه ريق، قال: وقد اختَلَف العلماء في النفث، والتفل، فقيل: هما بمعنى، ولا يكونان إلا بِريق، قال أبو عبيد: يشترط في التفل ريق يسير، ولا يكون في النفث، وقيل عكسه، قال: وسئلت عائشة رضي الله عنها عن نفث النبيّ صلى الله عليه وسلم في الرقية، فقالت: كما ينفث آكل الزبيب، لا ريق معه، قال: ولا اعتبار بما يخرج عليه من بِلَّة، ولا يقصد ذلك، وقد جاء في حديث الذي رَقَى بفاتحة الكتاب:"فجَعَل يجمع بُزاقه، ويتفل"، والله أعلم. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: عندي الأَولى أن يكون مع الريق؛ لقصّة الذي رقى بالفاتحة، فإنه صريح في ذلك، والله تعالى أعلم.

3 -

(ومنها): بيان استحباب الدعاء للمريض، ومَسْحه باليد اليمنى عند الرقية، قال الطبريّ: ومعنى ذلك التفاؤل بذهاب الوجع لمسحه بالرقى والدعاء له

(2)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: فيه دليل على جواز مسح المريض باليمين، وحكمته التبرُّك باليمين، وأن ذلك غاية تمكُّن الرَّاقي، فكأنَّه مَدّ يده لأخذ المرض، وإزالته.

ومن حكمته إظهار عجز الرَّاقي عن الشفاء، وصحة تفويضه ذلك إلى الله تعالى، ولذلك قال عند ذلك:"لا شفاء إلا شفاؤك". انتهى

(3)

.

4 -

(ومنها): بيان ما كان يصيب النبيّ صلى الله عليه وسلم من الأسقام، والأمراض؛ ليرفع الله عز وجل بذلك درجاته.

5 -

(ومنها): أن في قوله: "أذهب الباس، ربَّ الناس

إلخ " دليلًا

(1)

"التمهيد" لابن عبد البرّ 8/ 129.

(2)

"إكمال المعلم" 7/ 101.

(3)

"المفهم" 5/ 578.

ص: 58

على جواز السَّجع في الدعاء، والرُّقَى إذا لم يكن مقصودًا، ولا متكلَّفًا، قاله القرطبيّ رحمه الله

(1)

.

6 -

(ومنها): ما قاله القاضي عياض رحمه الله: فائدة التفل التبرك بتلك الرطوبة، والهواء، والنَّفَس المباشرة للرقية، والذكر الحسن، والكلام الطيّب، كما يُتبرك بغُسالة ما يُكتب من الذِّكر، والأسماء الحسنى، وقد يكون على وجه التفاؤل بزوال ذلك الألم عن المريض، وانفصاله عنه، كانفصال ذلك النفث عن في الراقي، وكان مالك ينفث إذا رَقَى نفسه، وكان يكره الرقية بالحديدة، والملح، والذي يَعْقِد، أو الذي يَكتب خاتم سليمان، وكان العقد عنده أشدّ كراهةً؛ لِمَا في ذلك من مشابهة السحر، كأنه تأوّل قوله تعالى:{وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4)} . انتهى

(2)

.

7 -

(ومنها): استحباب الرقية بالقرآن الكريم، وبالمعوّذات، وبالأذكار، ودعاء الله تعالى بالشفاء.

8 -

(ومنها): ما قاله عياض رحمه الله: إنما خصّ النبيّ صلى الله عليه وسلم الرُّقَى بالمعوذات؛ لأنهن جامعات للاستعاذة من كل المكروهات جملةً وتفصيلًا، ففيها الاستعاذة من شر ما خلق، فيدخل فيه كل شيء، {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4)} ، ومن السواحر، ومن شر الحاسدين، ومن شر الوسواس الخناس

(3)

، والله تعالى أعلم.

(المسألة الرابعة): في حكم الرُّقَى، والتعويذات، وأقوال أهل العلم فيه: قال في "الفتح": قد أجمع العلماء على جواز الرُّقَى عند اجتماع ثلاثة شروط:

1 -

أن يكون بكلام الله تعالى، أو بأسمائه، وصفاته، وباللسان العربيّ، أو بما يُعْرَف معناه، من غيره.

2 -

وأن يعتقد أن الرقية لا تؤثّر بذاتها، بل بإذن الله تعالى.

واختلفوا في كونها شرطًا، والراجح أنه لا بدّ من اعتبار الشروط

(1)

"المفهم" 5/ 577.

(2)

"إكمال المعلم" 7/ 100 - 101.

(3)

"إكمال المعلم" 7/ 101.

ص: 59

المذكورة، ففي "صحيح مسلم" من حديث عوف بن مالك رضي الله عنه قال: كنا نَرْقِي في الجاهلية، فقلنا: يا رسول الله كيف ترى في ذلك؟ فقال: "اعْرِضُوا عليّ رُقاكم، لا بأس بالرُّقَى ما لم يكن فيه شرك".

وله من حديث جابر رضي الله عنه: نَهَى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرُّقَى، فجاء آل عمرو بن حزم، فقالوا: يا رسول الله، إنه كانت عندنا رقية نَرْقي بها من العقرب، قال: فَعَرَضُوا عليه، فقال:"ما أرى بأسًا، مَن استطاع أن ينفع أخاه فلينفعه".

وقد تمسَّك قوم بهذا العموم، فأجازوا كل رقية جُرِّبت منفعتها، ولو لم يُعْقَل معناها، لكن دلّ حديث عوف أنه مهما كان من الرُّقَى يؤدي إلى الشرك يُمْنَع، وما لا يُعقل معناه لا يؤمَن أن يؤدي إلى الشرك، فيمتنع احتياطًا، والشرط الآخر لا بُدّ منه.

وقال قوم: لا تجوز الرقية إلا من العين، واللدغة، كما تقدّم في "كتاب الإيمان" من حديث عمران بن حصين رضي الله عنهما:"لا رُقية إلا من عين، أو حُمَة".

وأجيب بأن معنى الحصر فيه أنهما أصل كل ما يَحتاج إلى الرقية، فيلتحق بالعين جواز رقية مَن به خَبَلٌ، أو مَسّ، ونحو ذلك؛ لاشتراكها في كونها تنشأ عن أحوال شيطانية، من إنسيّ، أو جنيّ، ويلتحق بالسمّ كل ما عَرَض للبدن، من قَرْح، ونحوه، من الموادّ السُّمّيّة.

وقد وقع عند أبي داود في حديث أنس مثل حديث عمران، وزاد:"أو دم"، وفي مسلم من طريق يوسف بن عبد الله بن الحارث، عن أنس، قال:"رَخَّص رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرُّقَى من العين، والحمة، والنَّمْلة"، وفي حديث آخر:"والأُذُن"، ولأبي داود من حديث الشفاء بنت عبد الله:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال لها: ألا تُعَلِّمين هذه - يعني: حفصة - رقية النَّمْلة"، والنملة قُرُوح تخرج في الجَنْب، وغيره من الجسد.

وقيل: المراد بالحصر معنى الأفضل؛ أي: لا رقية أنفع، كما قيل: لا سيف إلا ذو الفقار.

وقال قوم: المنهيّ عنه من الرُّقَى ما يكون قبل وقوع البلاء، والمأذون فيه ما كان بعد وقوعه، ذكره ابن عبد البرّ، والبيهقيّ، وغيرهما.

ص: 60

وفيه نظر، وكأنه مأخوذ من الخبر الذي قُرنت فيه التمائم بالرقَى، فأخرج أبو داود، وابن ماجه، وصححه الحاكم، من طريق ابن أخي زينب امرأة ابن مسعود، عنها، عن ابن مسعود، رفعه:"إن الرُّقَى، والتمائم، والتِّوَلَة شركٌ"، وفي الحديث قصّة.

و"التمائم": جمع تميمة، وهي خَرَز، أو قِلادةٌ تُعَلَّق في الرأس، كانوا في الجاهلية يعتقدون أن ذلك يدفع الآفات.

و"التِّوَلَة": بكسر المثناة، وفتح الواو، واللام، مخففًا: شيءٌ كانت المرأة تَجْلِب به محبة زوجها، وهو ضرب من السحر، وإنما كان ذلك من الشرك؛ لأنهم أرادوا دفع المضارّ، وجلب المنافع من عند غير الله، ولا يدخل في ذلك ما كان بأسماء الله تعالى، وكلامه، فقد ثبت في الأحاديث استعمال ذلك قبل وقوعه، كما سيأتي قريبًا من حديث عائشة رضي الله عنهما "كان إذا أوى إلى فراشه، ينفث بالمعوِّذات، ويمسح بهما وجهه

" الحديث.

وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما أنه صلى الله عليه وسلم "كان يُعَوِّذ الحسن والحسين، ويقول: إن أباكما كان يعوّذ بها إسماعيل، وإسحاق، أعوذ بكلمات الله التامّة، من كل شيطان وهامّة"، رواه البخاريّ.

وصَحَّح الترمذيّ من حديث خولة بنت حكيم، مرفوعًا:"من نزل منزلًا، فقال: أعوذ بكلمات الله التامّات من شر ما خلق، لم يضرّه شيء، حتى يتحول".

وعند أبي داود، والنسائي بسند صحيح، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، قال: سمعت رجلًا من أسلم، قال: كنت جالسًا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء رجل من أصحابه، فقال: يا رسول الله لُدِغتُ الليلةَ، فلم أَنَم حتى أصبحتُ، قال:"ماذا؟ "، قال: عقربٌ، قال:"أما إنك لو قلت حين أمسيت: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، لم تضرك إن شاء الله".

والأحاديث في هذا المعنى موجودة، لكن يَحتمل أن يقال: إن الرُّقَى أخصّ من التعوّذ، وإلا فالخلاف في الرُّقَى مشهور، ولا خلاف في مشروعية الفزع إلى الله تعالى، والالتجاء إليه في كل ما وقع، وما يُتَوَقَّع.

وقال ابن التين رحمه الله: الرُّقَى بالمعوِّذات وغيرها من أسماء الله تعالى هو

ص: 61

الطبّ الروحانيّ، إذا كان على لسان الأبرار من الخلق، حصل الشفاء بإذن الله تعالى، فلما عَزَّ هذا النوع فَزع الناس إلى الطب الجسمانيّ، وتلك الرُّقَى المنهيِّ عنها التي يستعملها الْمُعزم وغيره، ممن يَدَّعِي تسخير الجنّ له، فيأتي بأمور مشتبهة مركبة من حقّ وباطل، يَجمع إلى ذِكر الله وأسمائه ما يشوبه من ذِكر الشياطين، والاستعانة بهم، والتعوّذ بِمَرَدتهم.

ويقال: إن الحية لعداوتها للإنسان بالطبع، تصادق الشياطين؛ لكونهم أعداء بني آدم، فإذا عزم على الحية بأسماء الشياطين أجابت، وخرجت من مكانها، وكذا اللديغ إذا رُقِي بتلك الأسماء سالت سمومها من بدن الإنسان، فلذلك كُرِه من الرُّقَى ما لم يكن بذكر الله تعالى، وأسمائه خاصّةً، وباللسان العربيّ الذي يُعرف معناه؛ ليكون بريئًا من الشرك، وعلى كراهة الرُّقَى بغير كتاب الله علماءُ الأمة.

وقال القرطبيّ رحمه الله: الرُّقَى ثلاثة أقسام:

أحدها: ما كان يُرْقَى به في الجاهلية، مما لا يُعقل معناه، فيجب اجتنابه؛ لئلا يكون فيه شرك، أو يؤدي إلى الشرك.

الثاني: ما كان بكلام الله، أو بأسمائه، فيجوز، فإن كان مأثورًا، فيستحب.

الثالث: ما كان بأسماء غير الله، من ملك، أو صالح، أو مُعَظَّم من المخلوقات، كالعرش، قال: فهذا فليس من الواجب اجتنابه، ولا من المشروع الذي يتضمن الالتجاء إلى الله، والتبرك بأسمائه، فيكون تركه أَولى، إلا أن يتضمن تعظيم المرقِيّ به، فينبغي أن يُجتنب، كالحلف بغير الله تعالى.

قال الجامع عفا الله عنه: قوله: "فليس من الواجب اجتنابه

إلخ" لا يخفى ما فيه، بل هو مما يجب اجتنابه، وكيف لا، وفيه الالتجاء إلى ذلك الملك، أو الصالح، أو المعظّم، بنداء اسمه، والاستغاثة به، وهذا هو عين الشرك الذي شرط النبيّ صلى الله عليه وسلم في ترخيصه في الرقى أن يكون خاليًا من الشرك، فقال: "لا بأس بالرقى ما لم يكن فيه شرك"، رواه مسلم، فتبصّر، ولا تكن أسير التقليد، والله تعالى أعلم.

وقال للربيع: سألت الشافعيّ عن الرقية، فقال: لا بأس أن يُرْقَى

ص: 62

بكتاب الله، وما يُعرف من ذكر الله، قلت: أَيَرْقِي أهلُ الكتاب المسلمين؟ قال: نعم، إذا رَقَوْا بما يُعرف من كتاب الله، وبذكر الله. انتهى.

وفي "الموطأ" أن أبا بكر رضي الله عنه قال لليهودية التي كانت تَرْقِي عائشة رضي الله عنهما: ارقيها بكتاب الله.

وروى ابن وهب عن مالك كراهة الرقية بالحديدة، والملح، وعقد الخيط، والذي يَكتب خاتم سليمان، وقال: لم يكن ذلك من أمر الناس القديم.

وقال المازريّ

(1)

: اختُلِف في استرقاء أهل الكتاب، فأجازها قوم، وكرهها مالك؛ لئلا يكون مما بدّلوه.

وأجاب من أجاز بأن مثل هذا يبعد أن يقولوه، وهو كالطبّ، سواءً، فإن غير الحاذق لا يُحسن أن يقول، والحاذق يأنَفُ أن يبدل حرصًا على استمرار وصفه بالْحِذق؛ لترويج صناعته، والحقّ أنه يختلف باختلاف الأشخاص، والأحوال.

وسئل ابن عبد السلام عن الحروف المقطعة، فمَنَع منها ما لا يُعرف؛ لئلا يكون فيها كفر. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن مما ذُكر من أقوال أهل العلم، وأدلّتهم أن الصحيح جواز الرُّقية، والتعويذ مما وقع، ومما يُتوقّع، إذا كان الكلام خاليًا من الشرك، بأن يكون بكلام الله عز وجل، أو بأسماء الله تعالى المعروفة في اللسان العربيّ، أو بغير اللسان العربيّ إذا كان معلوم المعنى، خاليًا من الشركيّات، فقد أباح النبيّ صلى الله عليه وسلم ذلك كلّه حيث قال:"لا بأس بالرُّقَى ما لم يكن فيه شرك".

وأما يفعله الجهلة من أهل عصرنا وقبله من كتابة الرقى، والتعويذات، والطلاسيم الموجودة في كتب بعض المتأخرين فمما لا شكّ في تحريم كثير منه؛ لاشتماله على الشركيّات والضلالات، أو ما لا يُعرف من الأسماء،

(1)

"المعلم" 3/ 95.

(2)

"الفتح" 13/ 155 - 157، كتاب "الطب" رقم (5735).

ص: 63

واللغات؛ كأسماء الملائكة، والجانّ، وغير ذلك، فهولاء يأكلون أموال الناس بالباطل، فالواجب على ولاة الأمور أن يأخذوا بأيديهم، ويعاقبوهم، وينكّلوا بهم، حتى يكونوا عبرة للمعتبرين، والله تعالى أعلم بالصواب.

(المسألة الخامسة): في حكم كتابة التعويذات، وأقوال أهل العلم فيه:

(اعلم): أنه ثبت عن عدّة من الصحابة، والتابعين رضي الله عنهم كتابة التعويذات، وتعليقها في عُنق الصبيان والمرضى، أو كتابتها وسقي مدادها للمريض.

عقد الإمام أبو بكر بن أبي شيبة رحمه الله بابًا في الترخيص في تعليق التعاويذ، في "مصنّفه"، فقال:

(21)

- من رَخَّص في تعليق التعاويذ.

قال: حدّثنا عقبة بن خالد، عن شعبة، عن أبي عصمة، قال: سألت سعيد بن المسيِّب عن التعويذ، فقال: لا بأس إذا كان في أَدِيم.

حدّثنا ابن نُمير، عن عبد الملك، عن عطاء، في الحائض يكون عليها التعويذ، قال: إن كان في أديم فلتنزعه، وإن كان في قصبة فضة، فإن شاءت وضعته، وإن شاءت لم تضعه.

حدّثنا وكيع، عن إسرائيل، عن ثُوير، قال: كان مجاهد يكتب الناس التعويذ، فيعلّقه عليهم.

حدّثنا عبيد الله، عن حسن، عن جعفر، عن أبيه، أنه كان لا يرى بأسًا أن يَكتب القرآن في أديم، ثم يعلقه.

حدّثنا عبدة، عن محمد بن إسحاق، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدّه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا فَزع أحدكم في نومه، فليقل: بسم الله، أعوذ بكلمات الله التامات، من غضبه، وسوء عقابه، ومن شر عباده، ومن شر الشياطين، وأن يحضرون"، فكان عبد الله يعلّمها ولده، من أدرك منهم، ومن لم يُدرك كتبها، وعلّقها عليه.

حدّثنا عبد الرحيم بن سليمان، عن إسماعيل بن مسلم، عن ابن سيرين، أنه كان لا يرى بأسًا بالشيء من القرآن.

حدّثنا عفّان، قال: حدّثنا وهيب، قال: حدّثنا أيوب، أنه رأى في عضد عبيد الله بن عبد الله بن عمر خيطًا.

ص: 64

حدّثنا يحيى بن آدم، قال: حدّثنا حسن، عن ليث، عن عطاء، قال: لا بأس أن يعلّق القرآن.

حدّثنا يحيى بن آدم، عن أبان بن تغلب، عن يونس بن خباب، قال: سألت أبا جعفر عن التعويذ يُعَلَّق على الصبيان، فرَخَّص فيه.

حدّثنا إسحاق الأزرق، عن جويبر، عن الضحاك: لم يكن يرى بأسًا أن يُعَلِّق الرجل الشيء من كتاب الله، إذا وضعه عند الغسل، وعند الغائط. انتهى

(1)

.

وقال شيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه الله: يجوز أن يَكْتُب للمصاب وغيره من المرضى شيئًا من كتاب الله، وذِكْره بالمداد المباح، ويُغسل، ويُسقى، كما نصّ على ذلك أحمد وغيره، قال عبد الله بن أحمد: قرأت على أبي: ثنا يعلى بن عبيد، ثنا سفيان، عن محمد بن أبي ليلى، عن الحكم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إذا عَسُر على المرأة ولادتها، فليكتب: بسم الله، لا إله إلا الله الحليم الكريم، سبحان الله رب العرش العظيم، الحمد لله رب العالمين، {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَو ضُحَاهَا (46)} [النازعات: 46]، {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ} [الأحقاف: 35]، قال أبي: ثنا أسود بن عامر بإسناده بمعناه، وقال: يُكتب في إناء نظيف، فيُسْقَى، قال أبي: وزاد فيه وكيع: فتُسقى، وينضح ما دون سرّتها، قال عبد الله: رأيت أبي يكتب للمرأة في جام، أو شيء نظيف.

وقال أبو عمرو محمد بن أحمد بن حمدان الحيريّ: أنا الحسن بن سفيان النسويّ، حدّثني عبد الله بن أحمد بن شبويه، ثنا عليّ بن الحسن بن شقيق، ثنا عبد الله بن المبارك، عن سفيان، عن ابن أبي ليلى، عن الحكم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: إذا عَسُر على المرأة ولادتها، فليكتب: بسم الله، لا إله إلا الله العليّ العظيم، لا إله إلا الله الحليم الكريم، سبحان الله وتعالى رب العرش العظيم، والحمد لله رب العالمين، {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَو ضُحَاهَا} ، {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ

(1)

"مصنف ابن أبي شيبة" 5/ 43 - 44.

ص: 65

نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ}، قال عليّ: يُكتب في كاغدة، فيعلق على عضد المرأة، قال عليّ: وقد جربناه، فلم نر شيئًا أعجب منه، فإذا وضعت تحُلُّه سريعًا، ثم تجعله في خرقة، أو تحرقه. انتهى كلام شيخ الإسلام رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: كتابة التعويذات، وتعليقها، أو غسلها، وشرب المريض منها، لم يَرِدْ مرفُوعًا، وإنما جاءت به آثار عن بعض الصحابة والتابعين، وهو من باب التجريبات، فالظاهر أنه لا بأس به؛ إذ لم يَرِد المنع منه، بل يشمله عموم قوله صلى الله عليه وسلم الآتي عند مسلم:"من استطاع منكم أن ينفع أخاه، فلينفعه"، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5703]

(

) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا اشْتَكَى يَقْرَأُ عَلَى نَفْسِهِ بِالْمُعَوِّذَات، وَيَنْفُثُ، فَلَمَّا اشْتَدَّ وَجَعُهُ، كُنْتُ أَقْرَأُ عَلَيْه، وَأَمْسَحُ عَنْهُ بِيَدِه، رَجَاءَ بَرَكَتِهَا).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

وكلهم تقدّموا قريبًا، والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5704]

(

) - (وَحَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِر، وَحَرْمَلَةُ، قَالَا: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ (ح) وَحَدثنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاق، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ (ح) وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا رَوْحٌ (ح) وَحَدَّثَنَا عُقْبَةُ بْنُ مُكْرَمٍ، وَأَحْمَدُ بْنُ عُثْمَانَ النَّوْفَلِيُّ، قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، كِلَاهُمَا عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي زِيادٌ، كُلُّهُمْ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، بِإِسْنَادِ مَالِكٍ، نَحْوَ حَدِيثِه، وَلَيْسَ فِي حَدِيثِ أَحَدٍ مِنْهُمْ:"رَجَاءَ بَرَكَتِهَا"، إِلَّا في حَدِيثِ مَالِكٍ، وَفِي حَدِيثِ يُونُسَ، وَزِيادٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا اشْتَكَى نَفَثَ عَلَى نَفْسِهِ بَالْمُعَوِّذَات، وَمَسَحَ عَنْهُ بِيَدِهِ).

(1)

"مجموع الفتاوى" 19/ 64 - 65.

ص: 66

رجال هذا الإسناد: خمسة عشر:

1 -

(أَبُو الطَّاهِرِ) أحمد بن عمرو بن عبد الله بن السَّرح المصريّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(حَرْمَلَةُ) بن يحيى التُّجيبيّ المصريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

3 -

(ابْنُ وَهْبٍ) عبد الله المصريّ الحافظ، تقدّم أيضًا قريبًا.

4 -

(يُونُسُ) بن يزيد الأيليّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

5 -

(عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ) الكسيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

6 -

(عَبْدُ الرَّزَاقِ) بن همّام الصنعانيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

7 -

(مَعْمَرُ) بن راشد اليمنيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

8 -

(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ) الْهَمْدانيّ الكوفيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

9 -

(رَوْحُ) بن عُبادة القيسيّ البصريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

10 -

(عُقْبَةُ بْنُ مُكْرَمٍ) الْعَمِّيُّ، أبو عبد الملك البصريّ، ثقةٌ [11] مات في حدود (250)(م د ت ق) تقدم في "الإيمان" 27/ 220.

11 -

(أَحْمَدُ بْنُ عُثْمَانَ النَّوْفَلِيُّ) أبو عثمان البصريّ، الملقّب أبا الْجَوْزاء، ثقةٌ [11](ت 246)(م ت س) تقدم في "الإيمان" 65/ 369.

12 -

(أَبُو عَاصِمٍ) الضحّاك بن مخلد الشيبانيّ، النبيل البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [9](ت 212)(ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 129.

13 -

(ابْنُ جُرَيْجٍ) عبد الملك بن عبد العزيز بن جُريج المكيّ، تقدّم قريبًا.

14 -

(زِيادُ) بن سعد بن عبد الرحمن الخراسانيّ، ثم المكيّ، ثم اليمنيّ، ثقةٌ ثبتٌ [6](ع) تقدم في "الطهارة" 26/ 653.

15 -

(ابنُ شِهَابٍ) هو محمد بن مسلم الزهري، تقدم في "شرح المقدمة" جـ 1 ص 348.

وقوله: (كِلَاهُمَا عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ)؛ يعني: روح بن عبادة، وأبا عاصم رويا عن ابن جريج.

وقوله: (كُلُّهُمْ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ)؛ يعني: أن هؤلاء الثلاثة، وهم: يونس بن يزيد، ومعمر بن راشد، وزياد بن سعد رووا هذا الحديث عن ابن شهاب، بإسناد مالك الماضي؛ أي: عن عروة، عن عائشة رضي الله عنهما.

[تنبيه]: رواية يونس بن يزيد عن ابن شهاب ساقها ابن حبّان رحمه الله في "صحيحه"، فقال:

ص: 67

(6590)

- أخبرنا ابن قتيبة، حدّثنا حرملة بن يحيى، حدّثنا ابن وهب، أخبرنا يونس، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا اشتكى نَفَث على نفسه بالمعوّذات، ويمسح عنه بيده، قالت: فلما اشتكى النبيّ صلى الله عليه وسلم وجعه الذي تُوُفّي فيه، طَفِقت أنفث عليه بالمعوذات التي كان ينفث بها على نفسه، وأمسح بيد النبيّ صلى الله عليه وسلم عنه. انتهى

(1)

.

وساقها أيضًا البخاريّ عن حِبّان بن موسى، عن عبد الله بن المبارك، عن يونس به

(2)

.

وأما رواية معمر عن ابن شهاب، فساقها إسحاق بن راهويه في "مسنده"، فقال:

(795)

- أخبرنا عبد الرزاق، نا معمر، عن الزهريّ، عن عروة، عن عائشة، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينفث على نفسه بالمعوذات، في مرضه، قلت لابن شهاب: كيف كان يصنع؟ قال: كان ينفث في يديه، ثم يمسح بهما وجهه، قالت: فلما ثَقُل جعلت أقرأ بالمعوذات في يديه، ثم أمسح بيديّ نفسه. انتهى

(3)

.

وأما رواية زياد بن سعد عن ابن شهاب، فلم أر من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(6) - (بَابُ اسْتِحْبَابِ الرُّقْيَةِ مِنَ الْعَيْنِ، وَالنَّمْلَةِ، وَالْحُمَةِ، وَالنَّظْرَةِ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5705]

(2193) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، عَنِ الشَّيْبَانِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الأَسْوَد، عَنْ أَبِيه، قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ عَنِ

(1)

"صحيح ابن حبان" 14/ 555.

(2)

راجع: "صحيح البخاريّ"، كتاب "المغازي" رقم (4439).

(3)

"مسند إسحاق بن راهويه" 2/ 282.

ص: 68

الرُّقْيَةِ، فَقَالَتْ: رَخَّصَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لأَهْلِ بَيْتٍ مِنَ الأنصَارِ فِي الرُّقْيَةِ مِنْ كُلِّ ذِي حُمَةٍ).

رجال هذا الإسناد: ستّةٌ:

1 -

(عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ) القرشيّ الكوفيّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(الشَّيْبَانِيُّ) سليمان بن أبي سليمان فيروز، أبو إسحاق الكوفيّ، ثقةٌ [5] مات في حدود (140)(ع) تقدم في "الإيمان" 38/ 259.

3 -

(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الأَسْوَدِ) بن يزيد بن قيس النخعيّ الكوفيّ، ثقةٌ [3](ت 99)(ع) تقدم في "الحيض" 1/ 686.

4 -

(أَبُوهُ) الأسود بن يزيد بن قيس النخعيّ، أبو عمرو، أو أبو عبد الرحمن الكوفيّ، مخضرم ثقةٌ فقية مكثر [2](ت 4 أو 75)(ع) تقدم في "الطهارة" 32/ 674.

والباقيان ذُكرا في البابين الماضيين.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالكوفيين، إلا عائشة رضي الله عنها فمدنيّة، وفيه ثلاثة من التابعين روى بعضهم عن بعض، وفيه رواية الابن عن أبيه، وفيه عائشة رضي الله عنها تقدّم القول فيها قريبًا.

شرح الحديث:

(عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الأَسْوَدِ) النخعيّ (عَنْ أَبِيهِ) الأسود بن يزيد النخعيّ أنه (قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ عَنِ الرُّقْيَةِ) وفي رواية البخاريّ: "عن الرقية من الْحُمة"، والرُّقية - بضمّ الراء، وسكون القاف -: هي الْعَوْذة التي يُرْقَى بها صاحب الآفة، كالْحُمَّى، والصَّرْع، وغير ذلك من الآفات، قاله في "العمدة"

(1)

.

(فَقَالَتْ: رَخَّصَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) فيه إشارة إلى أن النهي عن الرُّقَى كان متقدّمًا، قاله في "الفتح"

(2)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قولها: "رَخَّصَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فيه" دليلٌ على أن

(1)

"عمدة القاري" 21/ 244.

(2)

"الفتح" 13/ 172.

ص: 69

الأصل في الرُّقى كان ممنوعًا، كما قد صُرِّح به في حديث جابر رضي الله عنه الآتي في الباب، حيث قال: "نَهَى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرُّقى

" الحديث. انتهى

(1)

.

(لأَهْلِ بَيْتٍ مِنَ الأنصَارِ) سيأتي في حديث جابر رضي الله عنه: "رخّص النبيّ صلى الله عليه وسلم لآل حزم في رقية الحيّة"، وفي رواية:"أرخص النبيّ صلى الله عليه وسلم في رقية الحيّة لبني عمرو". (في الرُّقْيَةِ مِنْ كُلِّ ذِي حُمَةٍ) - بحاء مهملة مضمومة، ثمّ ميم مخفّفة -، وهي السمّ، ومعناه: أَذِنَ في الرقية من كلّ ذات سُمّ، قاله النوويّ

(2)

.

وقال في "الفتح": "الْحُمة" - بضمّ الحاء المهملة، وتخفيف الميم

(3)

: المراد بها ذوات السموم، ووقع في رواية أبي الأحوص، عن الشيبانيّ بسنده:"رَخَّص في الرقية من الحية، والعقرب". انتهى

(4)

.

وقال في موضع آخر: الْحُمة - بضم المهملة، وتخفيف الميم - قال ثعلب وغيره: هي سمّ العقرب، وقال القزاز: قيل: هي شوكة العقرب، وكذا قال ابن سيده: إنها الإبرة التي تَضْرِب بها العقرب، والزنبور، وقال الخطابيّ: الحمة: كلّ هامّة ذات سمّ، من حية، أو عقرب، وقد أخرج أبو داود من حديث سهل بن حُنيف رضي الله عنه مرفوعًا:"لا رُقية إلا من نفس، أو حمة، أو لَدْغَة"، فغاير بينهما، فيَحْتَمِل أن يُخرَّج على أن الحمة خاصّة بالعقرب، فيكون ذِكر اللدغة بعدها من العامّ بعد الخاصّ. انتهى

(5)

.

وقال في "العمدة": الْحُمَة - بضم الحاء المهملة، وفتح الميم المخففة -: هي السمّ، وقال الجوهريّ: حمة العقرب سُمّها، وضرّها، وقال ابن سيده: هي الإبرة التي تضرب بها العقرب، والزنبور، وأصل حمة: حُمَوٌ، أو حُمَيٌ، والهاء عوض عن الواو، أو الياء، وجَمْعها حُمُون، وحُمَات، كما قالوا: بُرَةٌ وبُرُون، وبُرَات، قاله كراع، وقال: كأنها مأخوذة من حَمِيت النارُ تَحْمَى: إذا

(1)

"المفهم" 5/ 580.

(2)

"شرح النوويّ" 14/ 183.

(3)

قال في "الفتح" في موضع آخر (13/ 119): "الحمة" بضمّ الحاء المهملة، وتخفيف الميم، وقد تُشدّد، وأنكره الأزهريّ: هي السمّ. انتهى.

(4)

"الفتح" 13/ 172، كتاب "الطبّ" رقم (5741).

(5)

"الفتح" 13/ 92، كتاب "الطبّ" رقم (5705).

ص: 70

اشتدّت حرارتها، وفي "كتاب اليواقيت" للمطَرِّزيّ: حُمَّة بالتشديد، وقال الجاحظ: من سَمَّى إبرة العقرب حُمَةً فقد أخطأ، وإنما الحمة سموم ذوات الشعر، كالدَّبْر

(1)

، وذوات الأنياب، والأسنان، كالأفاعي، وسائر الحيّات، وكسموم ذوات الإبر، من العقارب. انتهى

(2)

، والله تعالى أعلم.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنهما هذا متّفق عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [6/ 5705 و 5706](2193)، و (البخاريّ) في "الطبّ"(5741)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(4/ 366)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(5/ 42)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 30 و 61 و 190 و 208 و 254)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(8/ 355)، و (ابن راهويه) في "مسنده"(3/ 876)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(4/ 328)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(9/ 347)، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5706]

(

) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ مُغِيرَةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الأَسْوَد، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: رَخَّصَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لأَهْلِ بَيْتٍ مِنَ الأنصَارِ في الرُّقْيَةِ مِنَ الْحُمَةِ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(مُغِيرَةُ) بن مِقْسَم الضبيّ مولاهم، أبو هشام الكوفيّ الأعمى، ثقةٌ متقن، إلا أنه يدلّس، ولا سيّما عن إبراهيم [6](ت 136) على الأصحّ (ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 25.

والباقون ذُكروا في الباب، والبابين الماضيين.

والحديث متّفق عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله، ولله الحمد والمنّة.

(1)

بفتح، فسكون: الزنبور.

(2)

"عمدة القاري" 21/ 244 - 245.

ص: 71

وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5707]

(2194) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَابْنُ أَبِي عُمَرَ - وَاللَّفْظُ لِابْنِ أَبِي عُمَرَ - قَالُوا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَبْدِ رَبِّهِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عَمْرَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا اشْتَكَى الإِنْسَانُ الشَّيْءَ مِنْهُ، أَو كَانَتْ بِهِ قَرْحَةٌ، أَو جَرْحٌ، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِإِصْبَعِهِ هَكَذَا، وَوَضَعَ سُفْيَانُ سَبَّابَتَهُ بِالأَرْض، ثُمَّ رَفَعَهَا: "بِاسْمِ الله، تُرْبَةُ أَرْضِنَا، بِرِيقَةِ بَعْضِنَا؛ لِيُشْفَى بِهِ سَقِيمُنَا، بِإِذْنِ رَبِّنَا"، قَالَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ: "يُشْفَى"، وَقَالَ زُهَيْر: "لِيُشْفَى سَقِيمُنَا").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(ابْنُ أَبِي عُمَرَ) هو: محمد بن يحيى بن أبي عمر الْعَدَنيّ، نزيل مكة، تقدّم قريبًا.

2 -

(سُفْيَانُ) بن عيينة، تقدّم أيضًا قريبًا.

3 -

(عَبْدُ رَبِّهِ بْنُ سَعِيدِ) بن قيس الأنصاريّ، أخو يحيى المدنيّ، ثقةٌ [5](ت 139) أو بعد ذلك (ع) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 19/ 1281.

4 -

(عَمْرَةُ) بنت عبد الرحمن بن سعد بن زُرارة الأنصاريّة المدنيّة، ثقةٌ [3] ماتت قبل المائة، ويقال: بعدها (ع) تقدمت في "شرح المقدمة" جـ 2 ص 417.

والباقون ذُكروا في الباب، وقبل باب.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وهو مسلسلٌ بالمدنيين من عبد ربّه، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّة، وفيه عائشة رضي الله عنها، وقد مرّ القول فيها قريبًا.

شرح الحديث:

(عَنْ عَبْدِ رَبِّهِ بْنِ سَعِيدٍ) الأنصاريّ، هو أخو يحيى بن سعيد، ويحيى أشهر منه، وأكثر حديثًا، وفي رواية البخاريّ:"حدّثني عبد ربه بن سعيد". (عَنْ عَمْرَةَ) بنت عبد الرحمن الأنصاريّة (عَنْ عَائِشَةَ) بنت الصديق رضي الله عنهما (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا اشْتَكَى الإِنْسَانُ الشَّىْءَ مِنْهُ)؛ أي: بعض جزء من أجزائه، وعضو منِ أعضائه، (أَو كَانَتْ بِهِ قَرْحَةٌ) واحدة القرح، يقال: قَرَحْتُهُ قَرْحًا، من باب نَفعَ: جرحته، والاسم: القُرْحُ بالضم، وقيل: المضموم،

ص: 72

والمفتوح لغتان، كالْجَهْد والْجُهْد، والمفتوح لغة الحجاز، قاله الفيّوميّ

(1)

.

وقال في "التاج": القَرْحُ بالفتح، ويضمّ لغتان: عَضُّ السِّلاح، ونَحوِه، مما يَجْرَحُ البَدَنَ، وممّا يَخْرُجُ بالبَدَن، أَو القَرْح بالفَتْح: الآثَارُ، وبالضّم: الأَلَمُ، يقال: به قُرْح من قَرْح؛ أَي: أَلَمٌ من جِراحَةٍ، وقالَ يعقوب: كأنّ القَرْح الجِرَاحَاتُ بأَعْيَانها، وكأَنّ القُرْحَ أَلَمُها، وقال الفرَّاءُ في قوله تعالى:{إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ} [آل عمران: 140] قال: وأَكثَرُ القرّاءِ على فَتْح القاف، قال: وهو مِثْل الجَهْد والجُهْد، والوَجْد والوُجْد، وفي حديثِ أُحُدٍ:{مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ} [آل عمران: 172]، وهو بالفَتْح، والضم: الجرْحُ، وقيل: هو بالضمّ الاسمُ، وبالفَتْح المصدَر، أَرادَ ما نَالهُم من القَتْل، والهَزيمةِ يومئذٍ، انتهى

(2)

. (أَو) للشكّ من الراوي، (جَرْحٌ) بفتح، فسكون: مصدر حرج، من باب نَفَعَ، والاسم: الْجُرْح بالضمّ. (قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم)؛ أي: أشار، ففيه إطلاق القول على الفعل، وهو شائع ذائع. (بِإِصْبَعِهِ) تقدّم فيها عشر لغات، تثليث الهمزة، مع تثليث الباء الموحّدة، والعاشرة أُصْبُوع بالضمّ، كعُصفور، وأفصحها كسر الهمزة، وفتح الموحّدة، وقوله:(هَكَدَا) فسّره بقوله: (وَوَضَعَ سُفْيَانُ) بن عيينة (سَبَّابَتَهُ) بفتح السين المهملة، وتشديد الموحّدة: هي الإصبع التي تلي الإبهام، سُمّيت بذلك؛ لأنه يشار بها عند السبّ

(3)

. (بِالأَرْضِ)؛ أي: على الأرض، فالباء بمعنى على، (ثُمَّ رَفَعَهَا)؛ أي: السبّابة، قائلًا:("بِاسْم اللهِ) وقوله: (تُرْبَةُ أَرْضِنَا) خبر مبتدأ محذوف؛ أي: هذه تربة أرضنا، وقوله:(بِرِيقَةِ بَعْضِنَا) يدلّ على أنه كان يَتْفُل عند الرقية، قال النوويّ رحمه الله: قال جمهور العلماء: المراد بأرضنا هنا: جملة الأرض، وقيل: أرض المدينة خاصّةً؛ لبركتها، والريقة أقلّ من الريق، ومعنى الحديث: أنه يأخذ من ريق نفسه على أصبعه السبابة، ثم يضعها على التراب، فيعلق بها منه شيء، فيمسح به على الموضع الجريح، أو العليل، ويقول هذا الكلام في حال المسح، والله أعلم. انتهى

(4)

.

وقال البيضاويّ رحمه الله: قد شَهِدت المباحث الطبية على أن للريق مدخلًا

(1)

"المصباح المنير" 2/ 496.

(2)

"تاج العروس" 1/ 1710.

(3)

"المصباح المنير" 1/ 262.

(4)

"شرح النوويّ" 14/ 184.

ص: 73

في النضج، وتعديل المزاج، وتراب الوطن له تأثير في حفظ المزاج، ودفع الضرر، فقد ذكروا أنه ينبغي للمسافر أن يستصحب تراب أرضه إن عجز عن استصحاب مائها، حتى إذا ورد المياه المختلفة جعل شيئًا منه في سقائه؛ ليأمن مضرّة ذلك.

قال الجامع عفا الله عنه: قوله: أن يستصحب تراب الأرض

إلخ هذا محلّ نظر؛ إذ لم يثبت ذلك في النصوص الشرعيّة، فتأملّ، والله تعالى أعلم.

قال: ثم إن الرُّقَى، والعزائم لها آثار عجيبة، تتقاعد العقول عن الوصول إلى كنهها.

وقال التوربشتيّ رحمه الله: كأن المراد بالتربة الإشارة إلى فطرة آدم، والريقة الإشارة إلى النطفة، كأنه تضرع بلسان الحال: إنك اخترعت الأصل الأول من التراب، ثم أبدعته منه من ماء مهين، فَهَيِّن عليك أن تَشفي من كانت هذه نشأته.

وقال النوويّ رحمه الله: قيل: المراد بأرضنا: أرض المدينة خاصّة؛ لبركتها، وبعضنا: رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لشرف ريقه، فيكون ذلك مخصوصًا، وفيه نظر

(1)

.

(لِيُشْفَى بِهِ) بصيغة المجهول علة للممزوج، قاله السنديّ، وفي رواية ابن أبي شيبة الآتية، وهي لفظ البخاريّ:"يشفى به" بإسقاط اللام، فقوله:"يشفى" ضُبط بوجهين، بضم أوله، على البناء للمجهول، و (سَقِيمُنَا) بالرفع، على أنه نائب الفاعل، وبفتح أوله، على أن الفاعل مقدّر؛ أي: هذا الممزوج، و"سقيمنا" بالنصب على المفعولية، وقوله:(بِإِذْنِ رَبِّنَا") متعلق بـ"يُشْفَى".

وقوله: (قَالَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ)؛ يعني: شيخه الأول، (يُشْفَى)؛ أي: بحذف اللام، كما هو رواية البخاريّ التي أشرنا إليها آنفًا، وقوله:(وَقَالَ زُهَيْرٌ)؛ يعني: ابن حرب، شيخه الثاني:(لِيُشْفَى سَقِيمُنَا)؛ أي: باللام، مع حذف الصلة، وهو "به".

وحاصل ما أشار إليه أن شيوخه الثلاثة اختلفوا في هذا اللفظ، فرواه ابن أبي عمر بلفظ:"ليشفى به"، باللام، وذكر الصلة، ورواه ابن أبي شيبة بلفظ:

(1)

"الفتح" 13/ 176 - 177، كتاب "الطبّ" رقم (5745).

ص: 74

"يُشفى به" بحذف اللام، ورواه زهير بن حرب بلفظ:"ليُشفى" فأثبت اللام، وحَذَف الصلة، وتوجيهها كلّها يُعلم مما أسلفته، فلا اختلاف في المعنى، وإنما هذا من تدقيقات مسلم رحمه الله، وورعه، واحتياطه في أداء الأمانة العلميّة، والله تعالى أعلم.

[تنبيه]: أخرج أبو داود، والنسائيّ، ما يُفَسَّر به الشخص الْمَرْقيّ، وذلك في حديث عائشة رضي الله عنهما: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم دَخَل على ثابت بن قيس بن شماس، وهو مريض، فقال:"اكشف الباس، رب الناس"، ثم أخذ تُرابًا من بُطحان، فجعله في قَدَحَ، ثم نَفَث عليه، ثم صبّه عليه. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: هكذا قال في "الفتح" بأن الشخص المرقيّ في هذا الحديث يُفسّر بثابت بن قيس المذكور في الحديث المذكور، وفيه نظر لا يخفى، فإن سياق الحديثين مختلفان، كما لا يخفى، فحديث الباب فيه وَضْع السبّابة على الأرض، لا وَضْع التراب في القدح، فتاملّ بالإمعان، والله تعالى أعلم.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا متفق عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [6/ 5707](2194)، و (البخاريّ) في "الطبّ"(5745 و 5746)، و (أبو داود) في "الطبّ"(3895)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(4/ 368 و 6/ 235)، و (ابن ماجه) في "الطبّ"(3521)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(5/ 46 و 6/ 62)، و (الحميديّ) في "مسنده"(1/ 123)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 93)، و (الحاكم) في "المستدرك"(4/ 457)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(2973)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(8/ 22 و 40)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(1414)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(1)

"الفتح" 13/ 177، كتاب "الطبّ" رقم (5745).

ص: 75

1 -

(منها): أن فيه دليلًا على جواز الرُّقَى من كل الآلام، وأن ذلك كان أمرًا فاشيًا معلومًا بينهم.

2 -

(ومنها): أن فيه دليلًا على استحباب وضع السبّابة بالأرض عند الرقية، قال القرطبيّ رحمه الله: وزعم بعض علمائنا أن السر فيه أن تراب الأرض لبرودته، ويبسه، يبرئ الموضع الذي به الألم، ويمنع انصباب الموادّ إليه؛ لِيُبسه، مع منفعته في تجفيف الجراح، واندمالها، قال: وقال في الريق: إنه يختصّ بالتحليل، والإنضاج، وإبراء الجرح والورم، لا سيما من الصائم الجائع.

ثم تعقبه القرطبيّ، فقال: إن ذلك إنما يتم إذا وقعت المعالجة على قوانينها، من مراعاة مقدار التراب، والريق، وملازمة ذلك في أوقاته.

قال: وأمَّا النفث، ووضع السَّبابة على الأرض، فلا يتعلَّق منها بالمرقِيّ شيء له بالٌ، ولا أثرٌ، وإنما هذا من باب التبرك بأسماء الله تعالى، وآثار رسوله صلى الله عليه وسلم، وأما الرِّيق ووضع الإصبع، وما أشبه ذلك، فإمَّا أن يكون ذلك لخاصية فيه، وإمَّا أن يكون ذلك لحكمة إخفاء آثار القدرة بمباشرة الأسباب المعتادة، والله تعالى أعلم. انتهى

(1)

.

3 -

(ومنها): ما قال العلّامة ابن القيّم رحمه الله بعد إيراد حديث الباب -: هذا من العلاج الميسَّر النافع المركَّب، وهي معالجة لطيفة يعالج بها القروح، والجراحات الطرية، لا سيما عند عدم غيرها من الأدوية؛ إذ كانت موجودة بكل أرض، وقد عُلم أن طبيعة التراب الخالص باردة يابسة، مجفِّفة لرطوبات القروح، والجراحات التي تمنع الطبيعة من جودة فعلها، وسرعة اندمالها، لا سيما في البلاد الحارّة، وأصحاب الأمزجة الحارة، فإن القروح والجراحات يتبعها في أكثر الأمر سوء مزاج حارّ، فيجتمع حرارة البلد، والمزاج، والجراح، وطبيعة التراب الخالص باردة يابسة، أشدّ من برودة جميع الأدوية المفردة الباردة، فتقابل برودة التراب حرارة المرض، لا سيما إن كان التراب قد غُسل وجُفِّف، ويتبعها أيضًا كثرة الرطوبات الرديئة، والسيلان، والتراب

(1)

"المفهم" 5/ 580.

ص: 76

مجفّف لها، مزيل لشدة يبسه، وتجفيفه للرطوبة الرديئة المانعة من برئها، ويحصل به مع ذلك تعديل مزاج العضو العليل، ومتى اعتدل مزاج العضو، قويت قواه المدبرة، ودفعت عنه الألم بإذن الله تعالى.

قال: ومعنى الحديث أنه يأخذ من ريق نفسه، على إصبعه السبابة، ثم يضعها على التراب، فيعلَق بها منه شيء، فيمسح به على الجرح، ويقول هذا الكلام؛ لِمَا فيه من بركة ذِكر اسم الله تعالى، وتفويض الأمر إليه، والتوكل عليه، فينضم أحد العلاجين إلى الآخر، فيقوى التأثير.

وهل المراد بقوله: "تُربة أرضنا" جميع الأرض، أو أرض المدينة خاصّة؟ فيه قولان، ولا ريب أن من التربة ما تكون فيه خاصية ينفع بخاصيته من أدواء كثيرة، ويشفي به أسقامًا رديئةً، قال جالينوس: رأيت بالإسكندرية مطحولين، ومستسقَين كثيرًا، يستعملون طين مصر، ويطلون به على سوقهم، وأفخاذهم، وسواعدهم، وظهورهم، وأضلاعهم، فينتفعون به منفعة بيّنة، قال: وعلى هذا النحو فقد ينفع هذا الطلاء للأورام العَفِنة، والمتَرَهِّلة الرخوة، قال: وإني لأعرف قومًا تَرَهَّلَتْ

(1)

أبدانهم كلها من كثرة استفراغ الدم، من أسفل انتفعوا بهذا الطين نفعًا بيّنًا، وقومًا آخرين شُفُوا به أوجاعًا مُزْمِنَةً، كانت متمكنة في بعض الأعضاء، تمكّنًا شديدًا، فبرأت، وذهبت أصلًا.

وقال صاحب الكتاب المسيحيّ: قُوّة الطين المجلوب من كنوس - وهي جزيرة المصطكى - قُوّة تجلو، وتغسل، وتُنبت اللحم في القروح، وتختم القروح. انتهى.

وإذا كان هذا في هذه التربات، فما الظنّ بأطيب تربة على وجه الأرض، وأبركها، وقد خالطت ريق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقارنت رقيته باسم ربه، وتفويض الأمر إليه، وقد تقدّم أن قوى الرقية، وتأثيرها بحسب الراقي، وانفعال المرقيّ عن رقيته، وهذا أمر لا ينكره طبيب فاضل عاقل مسلم، فإن انتفى أحد

(1)

يقال: رَهِلَ لحمه بالكسر: اضطرب، واسترخى، وانتفخ، أو وَرِمَ من غير داء. انتهى. "القاموس" ص 538.

ص: 77

الأوصاف، فليقل ما شاء. انتهى كلام ابن القيّم رحمه الله

(1)

، وهو بحث مفيدٌ، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5708]

(2195) - (حَدثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كرَيْبٍ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ إِسْحَاقُ: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ، وَأَبُو كُرَيْبٍ - وَاللَّفظُ لَهُمَا -: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ، عَنْ مِسْعَرٍ، حَدَّثنَا مَعْبَدُ بْنُ خَالِدٍ، عَنِ ابْنِ شَدَّادٍ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَأْمُرُهَا أَنْ تَسْتَرْقِيَ مِنَ الْعَيْنِ).

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرِ) الْعَبديّ، أبو عبد الله الكوفيّ الحافظ، تقدّم قريبًا.

2 -

(مِسْعَرُ) بن كِدام بن ظُهير الْهِلاليّ، أبو سلمة الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ فاضلٌ [7](ت 3 أو 155)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 31.

3 -

(مَعْبَدُ بْنُ خَالِدِ) بن مُرَير الْجَدَليّ الكوفيّ، ثقةٌ عابدٌ [3](ت 118)(ع) تقدم في الزكاة" 18/ 2337.

4 -

(ابْنُ شَدَّادٍ) هو: عبد الله بن شدّاد بن الهاد الليثيّ، أبو الوليد المدنيّ، وُلد على عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم، وذكره العجليّ من كبار التابعين الثقات، وكان معدودًا في الفقهاء، مات بالكوفة مقتولًا سنة (81)، وقيل: بعدها (ع) تقدم في "الحيض" 1/ 687.

والباقون ذُكروا في الباب، وقبل باب.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالكوفيين إلى ابن شدّاد، وهو وعائشة رضي الله عنها مدنيّان، وشيخه إسحاق مروزيّ، وله فيه ثلاثة من الشيوخ قرن بينهم؛ لاتحاد كيفيّة أخذه عنهم، وهو السماع من لفظهم مع جماعة، ثم فرّق بينهم بالتفصيل؛ لاختلاف كيفيّة أَخْذهم، وأدائهم، فإسحاق أخذ بقراءة غيره، ولذا قال: أخبرنا، والآخران أخذ بالسماع، ولذا قالا: حدّثنا، وشيخه

(1)

"زاد المعاد" 4/ 170.

ص: 78

أبو كريب أحد مشايخ الجماعة بلا واسطة، وقد تقدّموا غير مرّة، وقوله:"محمد بن بشر" تنازعه كلّ من "أخبرنا"، وحدّثنا، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنِ ابْنِ شَدَّادٍ) هو عبد الله بن شدّاد بن الهاد، له رؤية، وأبوه صحابيّ، (عَنْ عَائِشَةَ) قال في "الفتح": كذا للأكثر - أي: من رواة البخاريّ - ووقع عند الإسماعيليّ من طريق عبد الرحمن بن مهديّ مثله، لكن شكّ فيه، فقال:"أو قال: عن عبد الله بن شداد، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أمر عائشة"

(1)

. (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَأْمُرُهَا أَنْ تَسْتَرْقِيَ مِنَ الْعَيْنِ)؛ أي: تطلُب الرقية ممن يَعْرِف الرُّقَى بسبب العين، وفي رواية عبد الله بن نُمير، عن سفيان الآتية:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرني أن أسترقي من العين"، وفي رواية البخاريّ:"قالت: أمرني النبيّ صلى الله عليه وسلم، أو أَمَرَ أن يُسترقَى من العين"، قال في "الفتح" رحمه الله: كذا وقع بالشكّ، هل قالت:"أَمَرَ" بغير إضافة، أو "أمرني"؟ وقد أخرجه أبو نعيم في "مستخرجه" عن الطبرانيّ، عن معاذ بن المثنى، عن محمد بن كثير، شيخ البخاري فيه، فقال:"أمرني" جزمًا، وكذا أخرجه النسائيّ، والإسماعيليّ، من طريق أبي نعيم، عن سفيان الثوريّ، وفي رواية ابن ماجه، من طريق وكيع، عن سفيان:"أمرها أن تسترقي"، وهو للإسماعيليّ في رواية عبد الرحمن بن مهديّ.

وفي هذا الحديث مشروعية الرقية لمن أصابه العين، وقد أخرج الترمذيّ، وصححه، والنسائيّ، من طريق عبيد بن رفاعة، عن أسماء بنت عُميس، أنها قالت: يا رسول الله، إن وَلَد جعفر تُسرع إليهم العين، أفأسترقي لهم؟ قال: "نعم

" الحديث.

وله شاهد من حديث جابر رضي الله عنه الآتي عند مسلم: "قال: رَخَّص رسول الله صلى الله عليه وسلم لآل حزم في الرقية"، وقال لأسماء:"ما لي أرى أجسام بني أخي ضارعة، أتصيبهم الحاجة؟ "، قالت: لا، ولكن العين تُسرع إليهم، قال:"ارقيهم"، فعَرَضت عليه، فقال:"ارقيهم".

(1)

"الفتح" 13/ 164، كتاب "الطبّ" رقم (5738).

ص: 79

وقوله: "ضارعةً" بمعجمة أوله؛ أي: نحيفةً.

وورد في مداواة المعيون أيضًا ما أخرجه أبو داود، من رواية الأسود، عن عائشة أيضًا، قالت: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يأمر العائن أن يتوضأ، ثم يغتسل منه المَعِين، وقد تقدّم البحث في اغتسال العائن مستوفًى في شرح حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما[1/ 5690] (2188):"وإذا استُغسلتم فاغسلوا"، فراجعه تستفد، والله تعالى وليّ التوفيق.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [6/ 5758 و 5709 و 5710](2190)، و (البخاريّ) في "الطبّ"(5738)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(4/ 365)، و (ابن ماجة) في "الطبّ"(3512)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 63 و 138)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6104)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(4/ 328)، و (الحاكم) في "المستدرك"(4/ 457)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(9/ 347)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(3242)، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5709]

(

) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا مِسْعَرٌ، بِهَذَا الإِسْنَادِ مِثْلَهُ).

رجال هذا الإسناد: ثلاثة:

وكلّهم ذُكروا في الباب، والبابين قبله.

[تنبيه]: رواية عبد الله بن نُمير، عن مِسعر لَمْ أجد من ساقها، فليُنظر.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أَوَّل الكتاب قال:

[5710]

(

) - (وَحَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مَعْبَدِ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ شَدَّادٍ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُنِي أَنْ أَسْتَرْقِيَ مِنَ الْعَيْنِ".

ص: 80

رجال هذا الإسناد: ستة:

وكلهم ذُكروا في الباب، وقبل باب، و"ابن نُمير" هو: محمد بن عبد الله بن نُمير، و"سفيان" هو: الثوريّ.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أَوَّل الكتاب قال:

[5711]

(2196) - (وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أخْبَرَنَا أَبُو خَيْثَمَةَ، عَنْ عَاصِمٍ الأَحْوَلِ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ عَبْدِ الله، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، فِي الرُّقَى، قَالَ: رُخِّصَ في الْحُمَة، وَالنَّمْلَة، وَالْعَيْنِ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ، أبو زكريّاء النيسابوريّ الإمام، ذُكر في الباب.

2 -

(أَبُو خَيْثَمَةَ) زهير بن معاوية بن حُديج الجعفيّ الكوفيّ، نزيل الجزيرة، ثقةٌ ثبتٌ [7](ت 2 أو 3 أو 174)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 62.

3 -

(عَاصِمٌ الأَحْوَلُ) ابن سليمان، أبو عبد الرَّحمن البصريّ، ثقةٌ [4] مات بعد (140)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 27.

4 -

(يُوسُفُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) بن الحارث الأنصاريّ مولاهم، أبو الوليد البصريّ، ثقةٌ [5](م د ت س ق) تقدم في "البيوع" 52/ 4132.

5 -

(أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ) رضي الله عنه، تقدّم قبل بابين.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالبصريين من عاصم، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وهو من رواية الأكابر عن الأصاغر، وفيه أنس رضي الله عنه من المكثرين السبعة.

شرح الحديث:

(عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ) رضي الله عنه (فِي الرُّقَى) بضمّ الراء، وفتح القاف مقصورًا: جمع رُقية بضمّ، فسكون، وهي العوذة التي يُرْقَى بها صاحبُ آلافة، كالْحُمَّى،

ص: 81

والصَّرْع، وغير ذلك، من الآفات

(1)

، وهو متعلّق بـ (قَالَ)؛ أي: قال في شأن الرُّقَى، وفي بيان حكمه. (رُخِّصَ) بالبناء للمفعول، والمرخّص هو النبيّ صلى الله عليه وسلم، كما بيّنه في الرواية التالية، فقال:"رَخّص رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرقية .... "، وفيه إشارة إلى أنه كان منهيًّا عنه، ثم رُخّص بعده، وقد جاء مصرّحًا في حديث جابر رضي الله عنه الآتي:"قال: كان لي خالٌ يَرقِي من العقرب، فنَهَى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرُّقَى، قال: فأتاه، فقال: يا رسول الله، إنك نهيت عن الرُّقَى، وأنا أرقي من العقرب، فقال: من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل".

وقال التوربشتيّ رحمه الله: الرخصة إنما تكون بعد النهي، وكان صلى الله عليه وسلم قد نَهَى عن الرُّقَى لِمَا عَسَى أن يكون فيها من الألفاظ الجاهلية، فانتهى الناس عن الرُّقَى، فرَخَّص لهم فيها، إذا عَرِيت عن الألفاظ الجاهلية. انتهى

(2)

.

وقال النوويّ رحمه الله: قوله: "رُخِّص في الرقية من العين، والْحُمَة، والنملة": ليس معناه تخصيص جوازها بهذه الثلاثة، وإنما معناه: سئل عن هذه الثلاثة، فأَذِن فيها، ولو سئل عن غيرها لَأَذِن فيه، وقد أَذِن لغير هؤلاء، وقد رَقَى هو صلى الله عليه وسلم في غير هذه الثلاثة، والله أعلم. انتهى

(3)

.

(فِي الْحُمَةِ) قال ابن منظور رحمه الله: الْحُمَة: السّمّ، قاله اللِّحيانيّ، وقال بعضهم: هي الإبرة التي تَضرب بها الحية، والعقرب، والزُّنبور، ونحو ذلك، أو تَلْدَغ بها، وأصله حُمَوٌ، أو حُمَيٌ، والهاء عوض، والجمع حُمَاتٌ، وحُمًى، وقال الليث: الْحُمَة في أفواه العامّة إبرة العقرب، والزُّنبور، ونحوه، وإنما الْحُمَة سُمّ كلّ شيء يَلْدَغ، أو يَلْسَع، وقال ابن الأعرابيّ: يقال لسم العقرب: الْحُمَة، والْحُمْة، وقال الأزهريّ: لَمْ يُسمع التشديد في الْحُمَّة إلَّا لابن الأعرابيّ، قال: وأحسبه لَمْ يذكره إلَّا وقد حفظه، وقال الجوهريّ: حُمَة العقرب: سُمّها؛ وضُرّها، وحُمَة البرد: شدّته. انتهى

(4)

.

(وَالنَّمْلَةِ) - بفتح النون، وإسكان الميم -: هي قُروحٌ تخرُج في الجنب، قال ابن قتيبة وغيره: كانت المجوس تزعم أن ولد الرجل من أخته إذا خَطَّ

(1)

"عمدة القاري" 21/ 244.

(2)

"تحفة الأحوذيّ " 6/ 180.

(3)

"شرح النوويّ" 14/ 185.

(4)

"لسان العرب" 14/ 201.

ص: 82

على النملة يُشفى صاحبها. انتهى

(1)

، وكأنها سُمِّيت نَملةً؛ لتفشيها، وانتشارها

(2)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قال ابن قتيبة: "النملة": قُروح تكون في الجنب، وغير الجنب، تزعم المجوس أن ولد الرَّجل إذا كان من أخته، فخَطَّ على النملة شُفي حاحبها، وأنشد [من الطويل]:

وَلَا عَيْبَ فِينَا غير عِرْقٍ لِمَعْشَرٍ

كِرَامٍ وأنَّا لا نَخُطُّ عَلَى النَّمْلِ

أي: لسنا بمجوسٍ ننكح الأخوات، قال غيره: تكون في الجنب، وغير الجنب، والمشهور فيها فتح النون، وحَكَى الهرويّ فيها الضم، فأمَّا النَّملة - بكسر النون -: فهي الْمِشْية المتقاربة، حكاها الفرَّاء. انتهى

(3)

.

وقال في "القاموس"، و"شرحه":"النَّمْلة": قروح في الجنب، وغيره، كالنَّمْل؛ أي: النمل، والنملة في ذلك سواء، وأيضًا: بَثْرَةٌ تخرج بالتهاب، واحتراق، وَيرِمُ مكانُها يسيرًا، ويَدِبّ إلى موضع آخر، كالنَّمْلة، قال الجوهريّ: ويسمّيها الأطباء الذُّبَابُ، وقال الأطباء: سببها صفراءُ حادّةٌ، تخرج من أفواه العروق الدِّقَاق، ولا تحتبس فيما هو داخل من ظاهر الجلد؛ لشدّة لطافتها، وحِدَّتِها.

وفي الحديث: "لا رُقية، إلَّا في ثلاث: النملة، والْحُمَة، والنفس".

وقال أبو عبيد في حديث النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال للشفاء: "عَلِّمي حفصة رُقية النملة"، قال ابن الأثير: شيء كانت تستعمله النساء، يَعْلَم كلُّ من سمعه أنه كلام لا يضرّ، ولا ينفع، وهي: هذه العروس تَحتفل، وتختضب، وتكتحل، وكلَّ شيء تفتعل، غير أن لا تَعْصِيَ الرجل. فأراد النبيّ صلى الله عليه وسلم بذلك تأنيب حفصة؛ لأنه ألقَى إليها سرًّا، فأفشته.

وفي "الصحاح": وتقول المجوس: إن ولد الرجل إذا كان من أخته، ثم خَطَّ على النملة شُفي صاحبها، وقال [من الطويل]:

وَلَا عَيْبَ فِينَا غَيْرَ عِرْقٍ لِمَعْشَرٍ

كِرَامٍ وَأَنَّا لَا نَخُطُّ عَلَى النَّمْلِ

(1)

"شرح النوويّ"14/ 184 - 185.

(2)

"شرح سنن ابن ماجة" 1/ 251.

(3)

"المفهم" 5/ 581 - 582.

ص: 83

يريد: لسنا بمجوسٍ ننكح الأخوات، وقال ثعلب: أنشدنا ابن الأعرابيّ هذا البيت: "لَا نَحُطُّ عَلَى النَّمْلِ" بالحاء المهملة، وفسّره: أنّا كرام، ولا نأتي بيوت النمل في الجدب؛ لنحفر على ما جمع لنأكله، وفي "العُباب": أي: لا نحط رحلنا على قرية النمل، فنفسدها عليها، وقال أبو أحمد العسكريّ: إن الحاء المهملة تصحيف من ابن الأعرابيّ، ذكره في "كتاب التصحيف" من كتابه. انتهى

(1)

.

(وَالْعَيْنِ)؛ أي: وإصابة العين بالأذى والضرر، وقد تقدّم البحث فيه مستوفى في أول "كتاب الطبّ"، فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أنس بن مالك رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [6/ 5711 و 5712](2196)، و (الترمذيّ) في "الطبّ"(2056)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(4/ 366)، و (ابن ماجة) في "الطبّ"(3516)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(8/ 36 و 37 و 38)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 118 و 119 و 127)، (ابن حبّان) في "صحيحه"(6104)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(9/ 348)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(3244)، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5712]

(

) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ، عَنْ سُفْيَانَ (ح) وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَن، حَدَّثَنَا حَسَنٌ - وَهُوَ ابْنُ صَالِحٍ - كِلَاهُمَا عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ عَبْدِ الله، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: رَخَّصَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الرُّقْيَةِ مِنَ العَيْن، وَالْحُمَة، وَالنَّمْلَة، وَفِي حَدِيثِ سُفْيَانَ: يُوسُفُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ الْحَارِثِ).

(1)

"تاج العروس" 1/ 7566.

ص: 84

رجال هذا الإسناد: تسعة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ آدَمَ) بن سليمان، أبو زكريّاء الأمويّ مولاهم، الكوفيّ، ثقةٌ حافظ فاضلٌ، من كبار [9](ت 203)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 24.

2 -

(حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بن حُميد بن عبد الرَّحمن الرُّؤاسيّ، أبو عوف الكوفيّ، ثقةٌ [8] (ت 189 أو 190) وقيل: بعدها (ع) تقدم في "الصلاة" 20/ 934.

3 -

(حَسَنُ بْنُ صَالِحِ) بن صالح بن حيّ، وهو حيّان بن شفيّ الْهَمْدانيّ الثوريّ الكوفيّ، ثقةٌ فقية عابد، رُمي بالتشيّع [7](ت 199)(بخ م 4) تقدم في "صلاة المسافربن وقصرها" 17/ 1714.

والباقون ذكروا في الباب، والحديث تقدّم شرحه، ومسائله في الحديث الماضي، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أَوَّل الكتاب قال:

[5713]

(2197) - (حَدَّثَنِي أَبُو الرَّبِيعِ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْوَلِيدِ الزُّبَيْدِيُّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْر، عَنْ زينَبَ بِنْتِ أُمِّ سَلَمَةَ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِجَارِيةٍ فِي بَيْتِ أُمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، رَأَى بِوَجْهِهَا سَفْعَةً، فَقَالَ: "بِهَا نَظْرَةٌ، فَاسْتَرْقُوا لَهَا"؛ يَعْني: بِوَجْهِهَا صُفْرَةً).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(أَبُو الرَّبِيعِ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ) الْعَتكيّ الزهرانيّ البصريّ، نزيل بغداد، ثقةٌ [10](ت 234)(خ م د س) تقدم في "الإيمان" 23/ 190.

2 -

(مُحَمَّدُ بْنُ حَرْب) الْخَولانيّ الْحِمْصيّ الأبرش، ثقةٌ [9](ت 194)(ع) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 10/ 1174.

3 -

(مُحَمَّدُ بْنُ الْوَليدِ الزُّبَيْدِيُّ) أبو الْهُذيل الحمصيّ القاضي، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار أصحاب الزهريّ [7](ت 6 أو 7 أو 149)(ع) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 5/ 1174.

4 -

(زينَبُ بِنْتُ أُمِّ سَلَمَةَ) وهي بنت أبي سلمة عبد الله بن عبد الأسد المخزوميّة، ربيبة النبيّ صلى الله عليه وسلم، ماتت سنة (73)(ع) تقدّمت في "الحيض" 2/ 689.

5 -

(أُمُّ سَلَمَةَ) هند بنت أبي أميّة حذيفة بن المغيرة بن عبد الله بن عُمر المخزوميّة أم المؤمنين، تزوجها النبيِّ صلى الله عليه وسلم بعد أبي سلمة سنة أربع، وقيل:

ص: 85

ثلاث، وعاشت بعد ذلك ستّين سنةً، وماتت سنة (62) على الأصحّ (ع) تقدمت في "شرح المقدمة" ج 2 ص 473.

والباقيان ذُكرا في الباب الماضي.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من سُباعيّات المصنّف رحمه الله، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وصحابيّة عن صحابيّة، هي أمها رضي الله عنها.

[تنبيه آخر]: أخرج البخاريّ هذا الحديث في "صحيحه"، عن محمد بن خالد

(1)

، عن محمد بن وهب بن عطية الدمشقيّ، عن محمد بن حرب، عن محمد بن الوليد الزُّبيديّ، عن الزهريّ

إلخ، فقال في "الفتح": اجتَمَع في هذا السند من البخاريّ إلى الزهريّ ستة أنفس في نسَق، كلّ منهم اسمه محمد، وإذا روينا الصحيح من طريق الفُراويّ، عن الحفصيّ، عن الكشميهنيّ، عن الفِربريّ كانوا عشرةً. انتهى

(2)

.

وقال في "العمدة": وهذا السند مما نزل فيه البخاريّ في حديث عروة ثلاث درجات، فإنه أخرجه في "صحيحه" حديثًا، عن عبيد الله بن موسى، عن هشام بن عروة، عن أبيه، وهو في "العتق"، فكان بينه وبين عروة رجلان، وها هنا بينه وبينه خمسة أنفس.

وأخرجه مسلم عاليًا بالنسبة لرواية البخاري هذه، فقال: حدّثنا أبو الربيع، حدّثنا محمد بن حرب، فذكره. انتهى

(3)

.

قال الجامع عفا الله عنه: أي: فكان بين مسلم وبين محمد بن حرب واسطة واحدة، بخلاف البخاريّ، فبينه وبين محمد بن حرب واسطتان، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ) رضي الله عنها (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِجَارِيةٍ)؛ أي: في شأنها، قال الحافظ: لَمْ أقف على اسمها. (فِي بَيْتِ أُمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ

(1)

هو محمد بن يحيى الذهليِّ نُسب لجده.

(2)

"الفتح" 13/ 165، كتاب "الطبّ" رقم (5739).

(3)

"عمدة القاري" 21/ 265 - 266.

ص: 86

النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) الجارّ والمجرور متعلّق بصفة "جارية"، (رَأَى بِوَجْهِهَا سَفْعَةً) - بفتح السين المهملة، ويجوز ضمها، وسكون الفاء، بعدها عين مهملة - وحَكَى عياض ضم أوله، قال إبراهيم الحربيّ: هو سواد في الوجه، ومنه سَفْعة الفرس سواد ناصيته، وعن الأصمعيّ: حُمرة يعلوها سواد، وقيل: صفرة، وقيل: سواد مع لون آخر، وقال ابن قتيبة: لون يخالف لون الوجه، وكلها متقاربة، وحاصلها أن بوجهها موضعًا على غير لونه الأصليّ، وكان الاختلاف بحسب اللون الأصليّ، فإن كان أحمر فالسفعة سواد صِرْفٌ، وإن كان أبيض فالسفعة صُفرة، وإن كان أسمر فالسفعة حُمرة يعلوها سواد.

وذَكَر صاحب "البارع" في اللغة أن السفع سواد الخدين من المرأة الشاحبة، والشحوب بمعجمة، ثم مهملة: تغيّر اللون بِهُزَال أو غيره، ومنه: سَفْعاء الخدين، وتُطلق السفعة على العلامة، ومنه: بوجهها سفعة غضب، وهو راجع إلى تغيّر اللون، وأصل السفع: الأخذ بقهر، ومنه قوله تعالى:{لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ} [العلق: 15]، ويقال: إن أصل السفع الأخذ بالناصية، ثم استُعمل في غيرها، وقيل في تفسيرها: لَنُعْلمنَّه بعلامة أهل النار، من سواد الوجه، ونحوه، وقيل: معناه لَنُذِلَّنَّه.

ويمكن رَدّ الجميع إلى معنى واحد، فإنه إذا أَخذ بناصيته بطريق القهر أذَلّه، وأحدث له تغيّرَ لونه، فظهرت فيه تلك العلامة، ومنه قوله في حديث الشفاعة:"قوم أصابهم سَفْع من النار"

(1)

.

(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم: ("بِهَا نَظْرَةٌ) بسكون الظاء المعجمة، واختلف في المراد بالنظرة، فقيل: عينٌ من نظر الجنّ، وقيل: من الإنس، وبه جزم أبو عبيد الهرويّ، والأَوْلى أنه أعمّ من ذلك، وأنها أصيبت بالعين، فلذلك أَذِن صلى الله عليه وسلم في الاسترقاء لها، وهو دال على مشروعية الرقية من العين، قاله في "الفتح"

(2)

.

(فَاسْتَرْقُوا) بسكون الراء؛ أي: اطلبوا (لَهَا") من يرقيها، وقوله:(يَعْنِي: بِوَجْهِهَا صُفْرَةً) قال الحافظ رحمه الله: هذا التفسير ما عرفت قائله، إلَّا أنه يغلب

(1)

"الفتح" 13/ 165، كتاب "الطبّ" رقم (5739).

(2)

"الفتح" 13/ 165، كتاب "الطب" رقم (5739).

ص: 87

على ظني أنه الزهريّ، وقد أنكره عياض من حيث اللغة، وتوجيهه ما قدمته، والله تعالى أعلم.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أم سلمة رضي الله عنها هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [6/ 5713](2197)، و (البخاريّ) في "الطبّ"(5739)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(6918) وفي "معجمه"(1/ 162)، و (النسائيّ) في "عمل اليوم والليلة"(1/ 524)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(23/ 344)، و (الحاكم) في "مستدركه"(4/ 212)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(9/ 347، 348)، و (الخطيب البغداديّ) في "تاريخه"(9/ 37)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): قال النوويّ رحمه الله: وهذا الحديث مما استدركه الدارقطنيّ على البخاريّ ومسلم؛ لعلة فيه، قال: رواه عُقيل عن الزهريّ، عن عروة مرسلًا، وأرسله مالك وغيره، من أصحاب يحيى بن سعيد، عن سليمان بن يسار، عن عروة، قال الدارقطنيّ: وأسنده أبو معاوية، ولا يصحّ، قال: وقال عبد الرَّحمن بن إسحاق عن الزهريّ، عن سعيد: ولم يصنع شيئًا. انتهى كلام الدارقطنيّ

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: هكذا ذكر النوويّ كلام الدارقطنيّ، وسكت عليه، وقد أشار البخاريّ رحمه الله في "صحيحه" إلى الاختلاف في سند هذا الحديث، فقال بعد إخراجه عن محمد بن خالد، عن محمد بن وهب بن عطيّة الدمشقيّ، عن محمد بن حرب، عن محمد بن الوليد الزبيديّ، عن الزهري بسنده المذكور ما نصّه:

وقال عقيل عن الزهريّ: أخبرني عروة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، تابعه عبد الله بن سالم، عن الزبيديّ. انتهى.

فقال في "الفتح": قوله: "تابعه عبد الله بن سالم"؛ يعني: الحمصيّ،

(1)

"شرح النوويّ" 14/ 185.

ص: 88

وكنيته أبو يوسف، عن الزبيديّ؛ أي: على وصل الحديث، وقال عُقيل، عن الزهريّ: أخبرني عروة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم يعني: لَمْ يذكر في إسناده زينب، ولا أم سلمة.

فأما رواية عبد الله بن سالم، فوصلها الذُّهليّ في "الزهريات"، والطبرانيّ في "مسند الشاميين" من طريق إسحاق بن إبراهيم بن العلاء الحمصيّ، عن عمرو بن الحارث الحمصيّ، عن عبد الله بن سالم به سندًا ومتنًا.

وأما رواية عُقيل، فرواها ابن وهب عن ابن لهيعة، عن عُقيل، ولفظه:"إن جاريةً دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو في بيت أم سلمة، فقال: كأن بها سَفْعةً، أو خُطرت بنار"، قال الحافظ: هكذا وقع لنا مسموعًا في جزء من فوائد أبي الفضل بن طاهر بسنده إلى ابن وهب، ورواه الليث عن عُقيل أيضًا، ووجدته في "مستدرك الحاكم" من حديثه، لكن زاد فيه عائشة بعد عروة، وهو وَهمٌ فيما أحسب، ووجدته في "جامع ابن وهب" عن يونس، عن الزهريّ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجارية

فذكر الحديث.

قال: واعتمد الشيخان في هذا الحديث على رواية الزبيديّ؛ لسلامتها من الاضطراب، ولم يلتفتا إلى تقصير يونس فيه، وقد رَوَى الترمذيّ من طريق الوليد بن مسلم، أنه سمع الأوزاعيّ يفضل الزبيديَّ على جميع أصحاب الزهريّ؛ يعني: في الضبط، وذلك أنه كان يلازمه كثيرًا حضرًا وسفرًا.

وقد تمسك بهذا من زعم أن العمدة لمن وصل على من أرسل لاتّفاق الشيخين على تصحيح الموصول هنا على المرسل، والتحقيق أنهما ليس لهما في تقديم الوصل عمل مطّرد، بل هو دائر مع القرينة، فمهما ترجح بها اعتمداه، وإلَّا فكم حديث أعرضا عن تصحيحه؛ للاختلاف في وصله وإرساله.

وقد جاء حديث عروة هذا من غير رواية الزهريّ، أخرجه البزار من رواية أبي معاوية، عن يحيى بن سعيد، عن سليمان بن يسار، عن عروة، عن أم سلمة، فسقط من روايته ذِكر زينب بنت أم سلمة.

وقال الدارقطنيُّ: رواه مالك، وابن عيينة، وسَمَّى جماعةً كلهم عن يحيى بن سعيد، فلم يجاوزا به عروة، وتفرد أبو معاوية بذكر أم سلمة فيه، ولا يصحّ، قال الحافظ: وإنما قال: ذلك بالنسبة لهذه الطريق؛ لانفراد الواحد عن

ص: 89

العدد الجمّ، وإذا انضمت هذه الطريق إلى رواية الزبيديّ قويت جدًّا، والله أعلم. انتهى كلام الحافظ رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: لقد أجاد الحافظ رحمه الله في هذا البحث، وخلاصته أن حديث أم سلمة رضي الله عنها من رواية الزبيديّ عن الزهريّ صحيحة، كما اعتمد الشيخان عليها، فأخرجاها، ولم يلتفتا إلى مخالفة غيره له بالإرسال؛ لأنَّ الزّبيديّ حافظ متقنٌ، أثبت أصحاب الزهري، فقد فضّله الأوزاعيّ على جميع أصحابه، ثم إنه لَمْ ينفرد به، بل تابعه عبد الله بن سالم، كما أشار إليه البخاريّ في التعليق الماضي.

والحاصل أن الحديث صحيح، ولا التفات إلى إرجاف بعض من كتب

(2)

في هامش "صحيح مسلم"، فضعّف الحديث بالإرسال تبعًا للدارقطنيّ، ومرجّحًا رأيه على رأي الشيخين، مع أنه قرأ ما كتبه الحافظ في "الفتح" من التحقيقات الماضية، فلم يلتفت إليها، وهذا من أغرب ما يرى، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5714]

(2198) - (حَدَّثَنِي عُقْبَةُ بْنُ مُكْرَمٍ الْعَمِّيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: وَأَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْر، أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ يَقُولُ: رَخَّصَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لآلِ حَزْمٍ فِي رُقْيَةِ الْحَيَّة، وَقَالَ لأَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ: "مَا لِي أَرَى أَجْسَامَ بَني أَخِي ضَارِعَةً، تُصِيبُهُمُ الْحَاجَةُ؟ "، قَالَتْ: لَا، وَلَكِنِ الْعَيْنُ تُسْرعُ إِلَيْهِمْ، قَالَ: "ارْقِيهِمْ"، قَالَتْ: فَعَرَضْتُ عَلَيْه، فَقَالَ: "ارْقِيهِمْ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أَبُو الزُّبَيْرِ) محمد بن مسلم بن تَدْرُس المكيّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) بن عمرو بن حرام رضي الله عنهما، تقدّم أيضًا قريبًا.

والباقون ذُكروا في الباب الماضي، و"أبو عاصم" هو: الضحّاك بن مخلد النبيل.

(1)

"الفتح" 13/ 167، كتاب "الطبّ" رقم (5739).

(2)

هو الشيخ مسلم بن محمود عثمان. راجع تحقيقه لمسلم 4/ 33 - 34.

ص: 90

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وفيه جابر بن عبد الله رضي الله عنهما من المكثرين السبعة، روى (1540) حديثًا.

شرح الحديث:

(عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ) عبد الملك بن عبد العزيز بن جريجٍ الأمويّ مولاهم المكيّ، أنه (قَالَ: وَأخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ) هكذا النسخ: "وأخبرني" بالواو، وهو معطوف على "أخبرني" محذوفًا، ومعناه أن أبا الزبير أخبره بأكثر من حديث، فَعَطف هذا على حديث آخر؛ (أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ) رضي الله عنهما (يَقُولُ: رَخَّصَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لآلِ حَزْمٍ) وفي رواية البيهقيُّ: "قال: رَخَّص رسول الله صلى الله عليه وسلم لبني عمرو بن حزم في رقية الحية"، وقال ابن عبد البرّ رحمه الله: قال أبو واقد: وذكر ابن وهب، عن يونس، عن ابن شهاب، قال: بلغني عن رجال من أهل العلم، أنهم كانوا يقولون: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نَهَى عن الرُّقَى حين قَدِم المدينة، وكانت الرُّقَى في ذلك الزمان فيها كثير من كلام الشرك، فلما قَدِم المدينة لُدِغ رجل من أصحابه، فقالوا: يا رسول الله قد كان آل حزم يَرقون من الْحُمَة، فلما نَهَيت عن الرُّقَى تركوها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ادعوا لي عُمارة بن حزم"، ولم يكن له ولد، وكان قد شَهِد بدرًا، فدعي له، فقال:"اعْرِضْ عليّ رقيتك"، فعرضها عليه، فلم ير بها بأسًا، وأَذِن لهم بها.

قال ابن وهب: وأخبرني أسامة بن زيد الليثيّ قال: حدّثني أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، قال: عَرَضَ آل عمرو بن حزم رُقيتهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمرهم أن يرقوا بها. انتهى

(1)

.

(فِي رُقْيَةِ الْحَيَّةِ) الرُّقْية بضمّ الراء، وسكون القاف: هي الْعُوذة، بضم العين، وهي ما يُرقَى به من الدعاء لطلب الشفاء

(2)

.

(وَقَالَ) صلى الله عليه وسلم (لأَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ) الخثعميّة، زوج جعفر بن أبي طالب، ثم أبي بكر، ثم عليّ، وولدت لهم، وهي أخت ميمونة أم المؤمنين لأمها،

(1)

"التمهيد" لابن عبد البرّ 23/ 155.

(2)

"شرح الزرقانيّ" 4/ 411.

ص: 91

ماتت بعد عليّ رضي الله عنهم. ("مَا لِي)"ما" استفهاميّة؛ أي: أيّ شيء ثبت، وقوله:(أَرَى) جملة حاليّة، (أَجْسَامَ بَني أَخِي)؛ يعني: جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه، أراد الأخوّة الإسلاميّة، لا أخوّة النسب، فهو صحابيّ مشهور، وابن عمه أبي طالب، حال كونها (ضَارِعَةً) بالضاد المعجمة؛ أي: ضعيفةً نحيفة، وأصل الضراعة الخضوع، والتذلّل، قاله القرطبيّ رحمه الله، وقال ابن الأثير رحمه الله: الضارع: النحيف الضاوي الجسم، يقال: ضَرَعَ يَضْرَعُ، فهو ضارعٌ، وضَرَعُ بالتحريك. انتهى

(1)

.

وقال في "القاموس"، و"شرحه": وضَرَعَ إليه، ويُثَلَّثُ ضَرَعًا محركةً، وضَرَاعَةً: خَضَعَ، وذَلَّ، واسْتَكَانَ، أو كفرحَ، ومَنَعَ: تَذَلَّلَ، فهو ضارعٌ، وضَرِعٌ، ككتِفٍ، وضَرُوعٌ، وضَرَعَةٌ، محركةً، وككَرُمَ: ضَعُفَ، فهو ضَرَعٌ، محركةً، من قومٍ ضَرَعٍ محركةً أيضًا، ومُهْرٌ ضَرَعٌ محركةً: لَمْ يَقْوَ على العَدْو، والضَّارعُ، والضَّرَعُ مُحَرَّكَةً: الصَّغير من كلِّ شيءٍ، أَو الصَّغير السِّنّ، وقِيلَ: هو الضَّعيفُ النَّحيفُ الضَّاوي الجِسم، ومنهُ الحَديثُ: أَنَّ النَبِيَّ صلى الله عليه وسلم رأَى ولَدَي جَعفَرٍ الطَّيَّارِ رضي الله عنه، فقال:"مَا لِي أَراهُما ضارِعَيْن؟ " قال: والضَّرعُ ككَتِفٍ: الضَّعيفُ الجِسمِ النَّحيف، وقد ضَرعَ، كفَرِحَ. انتهى

(2)

.

وقوله: (تُصِيبُهُمُ الْحَاجَةُ؟ ") بتقدير همزة الاستفهام؛ أي: أتصيبهم الحاجة؟؛ أي: الجوع ونحوه. (قَالَتْ) أسماء (لَا)؛ أي: ليست بهم حاجة، (وَلَكِنِ الْعَيْنُ)؛ أي: إصابة عين الناس بالأذى (تُسْرعُ إِلَيْهِمْ) فضَرعت أجسامهم بسبب هذا. (قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("ارْقِيهِمْ")؛ أي: عوّذيهم (قَالَتْ) أسماء رضي الله عنها (فَعَرَضْتُ) بفتح الراء، من ضرب، يقال: عَرَضْتُ الشيءَ عَرْضًا، من باب ضَرَبَ، فَأَعْرَضَ هو، بالألف؛ أي: أظهرته، وأبرزته، فظهر هو، وبَرَزَ، والمطاوع من النوادر التي تَعَدَّى ثلاثيُّها، وقَصَرَ رباعيها، عكسُ المتعارف، قاله الفيّوميّ رحمه الله

(3)

. (عَلَيْهِ)؛ أي: على النبيّ صلى الله عليه وسلم، وفي رواية أحمد: قالت: لا،

(1)

"النهاية في غريب الحديث والأثر" ص 543.

(2)

"القاموس المحيط" 1/ 958، و "تاج العروس" 1/ 5402 - 5403.

(3)

"المصباح المنير" 2/ 402.

ص: 92

ولكن تسرع إليهم العين، أفنرقيهم؟ قال:"وبماذا؟ "، فعَرَضت عليه، فقال:"ارقيهم"

(1)

، وفي رواية البيهقيّ:"ولكن العين تُسرع إليهم، أفأرقيهم" قال: "وبماذا؟ "، فعرضت عليه كلامًا لا بأس به، فقال:"نعم ارقيهم"

(2)

.

(فقَالَ: "ارْقيهِمْ")؛ أي لأنه رُقية شرعيّة، وليس من رُقَى الجاهليّة المشتملة على الشركيّات.

وفي رواية ابن عبد البرّ في "التمهيد": "أن أسماء بنت عميس قالت: يا رسول الله إن بني جعفر تصيبهم العين، أفأسترقي لهم؟ قال: "نعم، لو كان شيء سابق القدر لسبقته العين". انتهى

(3)

، والله تعالى أعلم.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [6/ 5714](2198)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 333)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(24/ 142)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(9/ 348)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان أن العين حقّ، يُتأذى بها، وأن الرقي تنفع منها، إذا قدَّر الله ذلك، فالشفاء بيده سبحانه وتعالى، لا شريك له، وسبيل الرُّقَى سبيل سائر العلاج والطبّ.

2 -

(ومنها): بيان أن الرُّقَى مما يُستدفع به أنواع من البلاء، إذا أَذِن الله في ذلك، وقَضَى به.

3 -

(ومنها): بيان أن العين تُسرع إلى قوم فوق إسراعها إلى آخرين، وأنها تؤثّر في الإنسان بقضاء الله تعالى وقدره، وتَضرّ به في أشياء كثيرة قد

(1)

"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 3/ 333.

(2)

"سنن البيهقي الكبرى" 9/ 348.

(3)

"التمهيد" لابن عبد البرّ 23/ 154.

ص: 93

فهمته العامّة والخاصّة، فأغنى ذلك عن الكلام فيه، وإنما يُسترقَى من العين إذا لَمْ يُعْرف العائن، وأما إذا عُرف الذي أصابه بعينه، فإنه يؤمر بالاغتسال، ثم يصبّ ذلك الماء على المَعين، على حسب ما فسّره الزهريّ كما قد سبق بيانه، فإن لَمْ يُعرف العائن استُرْقي حينئذ للمَعين، فإن الرُّقَى مما يُستشفى به من العين، وغيرها، وأسعد الناس من ذلك مَن صَحِبه اليقين، وما التوفيق إلَّا بالله، أفاده ابن عبد البرّ رحمه الله

(1)

.

4 -

(ومنها): ما قاله ابن عبد البرّ رحمه الله أيضًا: وفي إباحة الرُّقَى إجازة أخذ العِوَض عليه؛ لأنَّ كلّ ما انتُفِع به جاز أخذ البدل منه، ومن احتَسَب، ولم يأخذ على ذلك شيئًا كان له الفضل.

5 -

(ومنها): ما قاله رحمه الله أيضًا: وفي قوله: "لو سبق شيء القدر لسبقته العين" دليل على أنَّ الصحة والسقم قد علمهما الله تعالى، وما عَلِم فلا بدّ من كونه على ما عَلِمه، لا يتجاوز وقته، ولكن النفس تطيب بالتداوي، وتأنس بالعلاج، ولعله يوافق قَدَرًا، وكما أنه من أُعطي الدعاء، وفُتح عليه، فلم يَكَد يُحْرَم الإجابة، كذلك الرُّقَى، والتداوي مَنْ أُلْهِم شيئًا من ذلك، وفعله ربما كان ذلك سببًا لِفَرَجه، ومنزلة الذين لا يكتبون، ولا يسترقون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون أرفع، وأسني، ولا حرج على من استَرْقَي، وتداوى. انتهى كلام ابن عبد البرّ رحمه الله

(2)

، وهو بحث نفيسٌ جدًّا، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5715]

(2199) - (وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ، حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْج، أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْر، أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ يَقُولُ: أَرْخَصَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي رُقْيَةِ الْحَيَّةِ لِبَني عَمْرٍو، قَالَ أَبُو الزُّبَيْرِ: وَسَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ يَقُولُ: لَدَغَتْ رَجُلًا مِنَّا عَقْرَبٌ، وَنَحْنُ جُلُوسٌ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ أَرْقي؟ قَالَ: "مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَنْفَعَ أَخَاهُ فَلْيَفْعَلْ").

(1)

"التمهيد" لابن عبد البر 2/ 269.

(2)

"التمهيد" لابن عبد البر 2/ 269 - 270.

ص: 94

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِم) بن ميمون البغداديّ، مروزيّ الأصل المعروف بالسمين، صدوقٌ فاضلٌ، ربّما وَهِمَ [10](ت 5 أو 236)(م د) تقدم في "الإيمان" 1/ 104.

والباقون ذُكروا في الباب وقبله، و "روح" هو: ابن عُبادة القيسيّ.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسلٌ بالتحديث، والإخبار، والسماع من أوله إلى آخره، وفيه جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، سبق القول فيه في الحديث الماضي.

شرح الحديث:

عن ابْنِ جُرَيْجٍ، أنه قال:(أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ) محمد بن مسلم بن تَدْرُس المكيّ، (أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ) في (يَقُولُ: أَرْخَصَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم)؛ أي: سهّل، ويسّر، قال الفيّوميّ رحمه الله: الرُّخصة: التسهيل في الأمر، والتيسير، يقال: رَخّص الشرع لنا في كذا ترخيصًا، وأرخص إرخاصًا: إذا يسّره، وسهّله. انتهى

(1)

. (فِي رُقْيَةِ الْحَيَّةِ)؛ أي: في تعويذ لسعتها، (لِبَنِي عَمْرٍو) ابن حزم الأنصاريّ.

(قَالَ أَبُو الزُّبَيْرِ: وَسَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ) رضي الله عنهما (يَقُولُ: لَدَغَتْ) قال في "القاموس" و"شرحه": لدَغَتْهُ العَقْرَبُ، والحَيَّةُ، كمَنَعَ، تَلْدَغُ لَدْغًا، وقيلَ: اللَّدْغُ بالفَمِ واللَّسْعُ بالذَّنَب، وقالَ الليثُ: اللَّدْغُ بالنّاب، وقالَ أبو وَجْزَةَ: اللَّدْغةُ جامِعَة لِكُلِّ هامَّةٍ تَلْدَغُ لَدْغًا، وتَلْدَاغًا بفَتْحِهِمَا، فهُوَ مَلْدُوغٌ، ولَدِيغٌ. انتهى

(2)

.

وقال الفيّوميّ رحمه الله: لَدَغَتْهُ العقرب بِالْغَين المعجمة لَدْغًا، من باب نفع: لسعته، ولَدَغَتْهُ الحية لَدْغًا: عضته، فهو لَدِيغٌ، والمرأة لَدِيغٌ أيضًا، والجمع لَدْغَي، مثل جَرِيح وجَرْحَي، ويتعدى بالهمزة إلى مفعولٍ ثانٍ، فيقال: أَلدَغْتُهُ العقربَ: إذا أرسلتها عليه، فَلَدَغَتْهُ، وقال الأزهريّ: اللَّدْغُ بالناب، وفي بعض

(1)

"المصباح المنير" 1/ 223 - 224.

(2)

"تاج العروس" 1/ 5692.

ص: 95

اللغات: تَلْدَغُ العقرب، ويقال: اللَّدْغُةُ جامعة لكلّ هامة تَلْدَغُ لَدْغًا. انتهى

(1)

.

(رَجُلًا) لا يُعرف اسمه

(2)

. (مِنَّا)؛ أي: من الأنصار، (عَقْرَبٌ) هي دويّبة من العنكبات، ذات سُمّ تسلع

(3)

.

وقال في "التاج": العَقْرَبُ: واحِدة العَقَارِب، من الهَوامِّ معروف، يذكّر، ويُؤَنّثُ بلفظٍ وَاحِدٍ، والغَالب عليه التَّأنِيثُ. انتهى

(4)

.

وقال الفيّوميّ رحمه الله: والعَقْرَبُ تُطلَق على الذكر والأنثى، فإذا أريد تأكيد التذكير قيل: عُقْرُبَانُ، بضم العين والراء، وقيل: لا يقال: إلَّا عَقْرَبٌ للذكر والأنثى، وقال الأزهريّ: العَقْرَبُ يقال للذكر والأنثى، والغالب عليها التأنيث، ويقال للذكر: عُقْرُبَانُ، وربما قيل: عَقْرَبَةٌ بالهاء للأنثي، وأرضٌ مُعَقْرِبَةٌ: اسم فاعل، ذات عَقَارِبَ، كما يقال: مُثَعْلَبَة، ومُضَفْدعة، ونحو ذلك. انتهى

(5)

.

وقوله: (وَنَحْنُ جُلُوسٌ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) جملة في محل نصب على الحال، (فَقَالَ رَجُلٌ) لا يعرف اسمه

(6)

. (يَا رَسُولَ اللهِ أَرْقِي؟)؛ أي: أأعالجه بالرقية؟ (قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("مَنِ) شرطيّة، جوابها "فليفعل"، (اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَنْفَعَ أَخَاهُ)؛ أي: في النسب، أو في الدِّين (فَلْيَفْعَلْ") وفي الرواية التالية:"فلينفعه"، قال المناويّ رحمه الله: أي: على جهة الندب المؤكدة، وقد تجب في بعض الصور. انتهى.

وقال ابن عبد البرّ رحمه الله: لا أعلم خلافًا بين أهل العلم في جواز الاسترقاء من العين، والْحُمَة، وقد ثبت ذلك عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، والآثار في الرُّقَى أكثر من أن تحصي، وقال جماعة من أهل العلم: الرقى جائز من كلّ وجع، ومن كلّ ألم، ومن العين، وغير العين. انتهى

(7)

.

قال المناويّ رحمه الله: قد تمسّك ناس بهذا العموم، فأجازوا كلّ رقية جُرِّبت منفعتها، وإن لَمْ يُعْقَل معناها، لكن دلّ حديث عوف بن مالك الآتي في الباب

(1)

"المصباح المنير" 2/ 551 - 552.

(2)

"تنبيه المعلم" ص 374.

(3)

"المعجم الوسيط" 2/ 615.

(4)

"تاج العروس" 1/ 791.

(5)

"المصباح المنير" 2/ 421 - 422.

(6)

"تنبيه المعلم" ص 375.

(7)

"التمهيد" لابن عبد البر 23/ 156.

ص: 96

التالي أن ما يؤدي إلى شرك يُمنع، وما لا يعرف معناه لا يؤمَن أن يؤدي إليه، فيمنع احتياطًا.

وحَذَفَ المنتفَع به؛ لإرادة التعميم، فيشمل كلَّ ما يُنتفع به، نحو رُقية، أو علم، أو مال، أو جاه، أو نحوها. انتهى

(1)

.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [6/ 5715 و 5716 و 5717 و 5718 و 5719](2199)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(8/ 34 - 35)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 334 و 384 و 393)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(532)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(2299)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(4/ 328)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(9/ 348)، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5716]

(

) - (وَحَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ يَحْيَى الأُمَوِيُّ، حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، بِهَذَا الْإِسْنَاد، مِثْلَهُ، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: أَرْقيهِ يَا رَسُولَ اللهِ؟، وَلَمْ يَقُلْ: أَرْقي؟).

رجال هذا الإسناد: ثلاثة:

1 -

(سَعِيدُ بْنُ يَحْيَى الأُمُوِيُّ) أبو عثمان البغداديّ، ثقةٌ ربّما أخطأ [10](ت 249)(خ م د ت س) تقدم في "الإيمان" 16/ 171.

2 -

(أَبُوهُ) يحيى بن سعيد بن أبان بن سعيد بن العاص الأمويّ، أبو أيوب الكوفيّ، نزيل بغداد، لقبه الجمل، صدوقٌ يُغرب، من كبار [9](ت 194) وله (80) سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 16/ 171.

و"ابن جُريج" ذُكر قبله.

(1)

"فيض القدير" 6/ 54.

ص: 97

[تنبيه]: رواية يحيى بن سعيد الأمويّ عن ابن جريجٍ هذه لَمْ أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلِّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5717]

(

) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو سَعِيدٍ الأَشَجُّ، قَالَا: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنِ الأَعْمَش، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: كَانَ لِي خَالٌ يَرْقِي مِنَ الْعَقْرَب، فَنَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الرُّقَى، قَالَ: فَأَتَاهُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله، إِنَّكَ نَهَيْتَ عَنِ الرُّقَى، وَأَنَا أَرْقِي مِنَ الْعَقْرَب، فَقَالَ: "مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَنْفَعَ أَخَاهُ فَلْيَفْعَلْ").

رجال هذا الإسناد: ستّة:

1 -

(أَبُو سَعِيدٍ الأَشَجُّ) عبد الله بن سعيد بن حُصين الْكِنْديّ الكوفيّ، ثقةٌ، من صغار [10](ت 257)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 17.

2 -

(وَكِيعُ) بن الجرّاح الرؤاسيّ، تقدّم قريبًا.

3 -

(الأَعْمَشُ) سليمان بن مهران، تقدّم أيضًا قريبًا.

4 -

(أَبُو سُفْيَانَ) طلحة بن نافع الإسكاف الواسطيّ، نزيل مكة صدوق [4](ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 117.

والباقيان ذُكرا في الباب.

شرح الحديث:

(عَنْ جَابِرٍ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: كَانَ لِي خَالٌ) وفي "صحيح البخاريّ" عن جابر رضي الله عنه قال: شهد بي خالاي العقبة، قال ابن عيينة: أحدهما: البراء بن معرور. انتهى

(1)

، وذكر في "الفتح" بحثًا طويلًا على قوله:"خالاي"، وقال في آخر بحثه: فالخال الآخر لجابر إما ثعلبة، وإما عمرو. انتهى

(2)

.

(يَرْقِي)؛ أي: يعوّذ بدعاء (مِنَ الْعَقْرَبِ)؛ أي: لَدْغتها، (فَنَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الرُّقَى)؛ أي: لكونها تشتمل على الشركيّات، وقال

(1)

"صحيح البخاريّ" 3/ 1413.

(2)

8/ 658، كتاب "مناقب الأنصار" رقم (3890).

ص: 98

القرطبيّ رحمه الله: "وإنَّما نَهَى صلى الله عليه وسلم عن الرُّقى مطلقًا؛ لأنَّهم كانوا يرقون في الجاهلية بِرُقًى هو شركٌ، وبما لا يُفهم، وكانوا يعتقدون أن ذلك الرُّقى يؤثّر بنفسه، ثم إنهم لمّا أسلموا، وزال ذلك عنهم نهاهم النبيّ صلى الله عليه وسلم عن ذلك عمومًا؛ ليكون أبلغ في المنع، وأسدُّ للذريعة، ثم إنهم لما سألوه، وأخبروه أنهم ينتفعون بذلك؛ رخَّص لهم في بعض ذلك، وقال: "اعْرِضوا عليّ رقاكم، لا بأس بالرُّقى ما لَمْ يكن فيه شرك"، فجازت الرقية من كلّ الآفات من الأمراض، والجراح، والقروح، والْحُمَة، والعين، وغير ذلك؛ إذا كان الرُّقى بما يُفْهَم، ولم يكن فيه شرك، ولا شيء ممنوع، وأفضل ذلك، وأنفعه ما كان بأسماء الله تعالى وكلامه، وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(1)

، وهو تحقيقٌ نفيس، والله تعالى أعلم.

(قَالَ) جابر (فَأَتَاهُ)؛ أي: أتى خاله النبيّ صلى الله عليه وسلم، (فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله، إِنَّكَ نَهَيْتَ عَنِ الرُّقَى، وَأَنَا أَرْقِي مِنَ الْعَقْرَبِ)؛ أي: فهل أترك ذلك؟ (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَنْفَعَ أَخَاهُ) بأي نفع كان، (فَلْيَفْعَلْ")؛ أي: فلينفعه.

والحديث من أفراد المصنّف: رحمه الله، وقد تقدم بيان مسائله في الحديث الماضي، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلِّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5718]

(

) - (وَحَدَّثَنَاهُ عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الأَعْمَش، بِهَذَا الْإِسْنَادِ مِثْلَهُ).

رجال هذا الإسناد: ثلاثة:

1 -

(عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم قريبًا.

2 -

(جَرِيرُ) بن عبد الحميد، تقدّم أيضًا قريبًا.

و"الأعمش" ذُكر قبله.

[تنبيه]: رواية جرير عن الأعمش هذه ساقها أبو يعلى رحمه الله في "مسنده"، لكن بلفظ:"كان رجل من الأنصار"، ولم يقل:"كان لي خال"، فقال:

(1)

"المفهم" 5/ 580 - 581.

ص: 99

(1914)

- حدّثنا أبو خيثمة، حدّثنا جرير، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر، قال: كان رجل من الأنصار يَرْقي من العقرب، فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرُّقَى، قال: فقال: يا رسول الله، إنك نهيت عن الرُّقَى، وإني كنت أرقي من العقرب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من استطاع منكم أن ينفع أخاه، فليفعل". انتهى

(1)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أَوَّل الكتاب قال:

[5719]

(

) - (حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيةَ، حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ

(2)

، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الرُّقَى، فَجَاءَ آلُ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ الله، إِنَّهُ كَانَتْ عِنْدَنَا رُقْيَة نَرْقِي بهَا مِنَ الْعَقْرَب، وَإِنَّكَ نَهَيْتَ عَنِ الرُّقَى، قَالَ: فَعَرَضُوهَا عَلَيْه، فَقَالَ:"مَا أَرَى بَأْسًا، مَنِ اسْتَطَاعَ مِنكُمْ أَنْ يَنْفَعَ أَخَاهُ فَلْيَنْفَعْهُ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

وكلهم ذُكروا في الباب، وقبل باب.

والحديث من أفراد المصنّف رحمه الله، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله في الباب، ولله الحمد والمنّة.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(7) - (بَابٌ لَا بَأْسَ بِالرُّقَى، مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ شِرْكٌ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلِّف رحمه الله أَوَّل الكتاب قال:

[5720]

(2200) - (حَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِر، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي مُعَاوِيةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ أَبِيه، عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الأَشْجَعِيِّ، قَالَ: كُنَّا نَرْقِي فِي الْجَاهِلِية، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ الله، كَيْفَ تَرَى فِي ذَلِكَ؟ فَقَالَ: "اعْرِضُوا عَلَيَّ رُقَاكُمْ، لَا بَأْسَ بِالرُّقَي، مَا لم لَمْ يَكُنْ فِيهِ شِرْكٌ).

(1)

"مسند أبي يعلى" 3/ 424.

(2)

وفي نسخة: "عن الأعمش".

ص: 100

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(مُعَاوِيةُ بْنُ صالِحِ) بن حُدير الْحَضْرميّ، أبو عمرو، أو أبو عبد الرَّحمن الحمصيّ، قاضي الأندلس، ثقةٌ له أفراد

(1)

[7](ت 158) وقيل: بعد (170)(ز م 4) تقدم في "الطهارة" 6/ 559.

2 -

(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ جُبَيْرِ) بن نُفير الْحَضْرميّ الْحِمْصيّ، ثقةٌ [4](ت 118)(بخ م 4) تقدم في "الجنائز" 25/ 2232.

3 -

(أَبُوهُ) جبير بن نُفير بن مالك بن عامر الْحَضْرميّ الحمصيّ، مخضرم، ثقةٌ، جليلٌ [2](ت 80) أو بعدها (بخ م 4) تقدم في "الطهارة" 6/ 559.

4 -

(عَوْفُ بْنُ مَالِكٍ الأَشْجَعِيُّ) أبو عبد الرَّحمن، أو أبو حمّاد، ويقال غير ذلك، صحابيٌّ مشهورٌ، من مسلمة الفتح، وسكن دمشق

(2)

، ومات رضي الله عنه سنة (73)(ع) تقدم في "الجنائز" 25/ 2232.

(1)

هذا أولى من قول "التقريب": صدوقٌ، له أوهام. راجع ترجمته في:"تهذيب التهذيب".

(2)

روى أبو عبيد في كتاب الأموال (1/ 236) من طريق مجالد، عن الشعبيّ، عن سُويد بن غَفَلة قال: لَمّا قدم عمر الشام، قام إليه رجل من أهل الكتاب، فقال: إن رجلًا من المسلمين صنع بي ما تري، وهو مشجوج، مضروب، فغضب عمر غضبًا شديدًا، وقال لصهيب: انطلق، فانظر من صاحبه؟ فائتني به، فانطلق، فإذا هو عوف بن مالك، فقال: إن أمير المؤمنين قد غَضِب عليك غضبًا شديدًا، فَاتِ معاذ بن جبل، فكلمه، فإني أخاف أن يعجل عليك، فلما قضى عمر الصلاة، قال: أجئت بالرجل؟ قال: نعم، فقام معاذ، فقال: يا أمير المؤمنين، إنه عوف بن مالك، فاسمع منه، ولا تَعْجَل عليه، فقال له عمر: ما لك ولهذا؟ قال: رأيته يسوق بامرأة مسلمة، على حمار، فنَخَس بها لتصرع، فلم تُصْرَع، فدفعها، فصُرعت، فغشيها، أو أكب عليها، قال: فلتأتني المرأة، فلتصدق ما قلت، فأتاها عوف، فقال له أبوها، وزوجها: ما أردت إلى هذا؟ فضحتنا، فقالت المرأة: والله لأذهبن معه، فقالا: فنحن نذهب عنك، فأتيا عمر، فأخبراه بمثل قول عوف، فأمر عمر باليهوديّ، فُصِلب، وقال: ما على هذا صالحناكم، قال سويد: فذلك اليهوديّ أول مصلوب رأيته في الإسلام. انتهى.

وأخرج الطبرانيُّ في "المعجم الكبير" 18/ 37: عن عوف بن مالك، أنه أبصر =

ص: 101

والباقيان تقدّما قبل باب.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وفيه رواية الابن عن أبيه، وتابعيّ عن تابعيّ مخضرم.

شرح الحديث:

(عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الأَشْجَعِيِّ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: كُنَّا نَرْقِي)؛ أي: نعوّذ (فِي الْجَاهِلِيَّةِ)؛ أي: في الأيام التي قبل دخوله في الإسلام، قال في "الفتح" عند قول البخاريّ رحمه الله:"بابُ أيام الجاهلية": أي: مما كان بين المولد النبويّ والمبعث، هذا هو المراد به هما، ويُطلق غالبًا على ما قبل البعثة، ومنه:{يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ} [آل عمران: 154]، وقوله:{وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} [الأحزاب: 33]، ومنه أكثر أحاديث الباب، وأما جزم النوويّ في عدة مواضع من "شرح مسلم" أن هذا هو المراد حيث أتى ففيه نظر، فإن هذا اللفظ، وهو الجاهلية يُطلق على ما مضي، والمراد: ما قبل إسلامه، وضابطُ آخره غالبًا فتح مكة، ومنه قول مسلم في "مقدمة صحيحه":"إن أبا عثمان، وأبا رافع أدركا الجاهلية"، وقول أبي رَجاء العطارديّ:"رأيت في الجاهلية قِرْدةً زَنَت"، وقول ابن عباس:"سمعت أبي يقول في الجاهلية: اسقنا كاسًا دهاقًا"، وابن عباس إنما وُلد بعد البعثة، وأما قول عمر:"نذرت في الجاهلية"، فَمُحْتَمِل، وقد نبَّه على ذلك الحافظ العراقيّ في الكلام على المخضرمين، من علوم الحديث. انتهى

(1)

.

= نصرانيًّا يسوق بامرأة، فنخس بها، فصُرعت، فتحللها، فضربتُه بخشبة معي، فشججته، فانطلقت إلى معاذ بن جبل، فقلت: أَجِرني من عمر، وخشيت عجلته، فأتى عمر، فأخبره، فجمع بيننا، فلم يزل بالنصرانيّ حتى اعترف، فأمر له بخشبة، فنُحتت، ثم قال: لهؤلاء عهد، ففُوا لهم بعهد ما وفوا لكم، فإذا بدّلوا، فلا عهد لهم، وأمر به، فصُلب. قال الحافظ أبو بكر الهيثميّ رحمه الله في "مجمع الزائد" 6/ 13: رواه الطبرانيّ، ورجاله رجال الصحيح.

(1)

"الفتح" 8/ 543 - 544 رقم (3831).

ص: 102

(فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ الله، كيْفَ تَرَى فِي ذَلِكَ؟)؛ أي: في الرقى الذي نستعمله في الجاهليّة، (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("اعْرِضُوا) بكسر الراء، من باب ضرب، (عَلَيَّ رُقَاكُمْ) بضمّ الراء: جمع رُقية. (لَا بَأْسَ)؛ أي: لا حرج، وأصل البأس الشدَّة، والعذاب، (بِالرُّقَي، مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ شِرْكٌ) فيه إباحة الرقي، قال القرطبيّ رحمه الله: فيه دليل على جواز الرُّقي، والتطبُّب بما لا ضرر فيه، ولا مَنْع شرعيًّا مطلقًا، وإن كان بغير أسماء الله تعالى وكلامه، لكن إذا كان مفهومًا، وفيه: الحضُّ على السعي في إزالة الأمراض والأضرار عن المسلمين بكل ممكن جائز. انتهى

(1)

.

وقال في "الفتح": وقد تمسك قوم بهذا العموم، فأجازوا كلَّ رقية جُزبت منفعتها، ولو لَمْ يُعقل معناها، لكن دلّ حديث عوف هذا أنه مهما كان من الرقى يؤدي إلى الشرك يُمْنَع، وما لا يُعقل معناه لا يؤمَن أن يؤدي إلى الشرك، فيمتنع احتياطًا. انتهى

(2)

.

وقال ابن عبد البرّ: لا أعلم خلافًا بين أهل العلم في جواز الاسترقاء من العين، والْحُمَة، وقد ثبت ذلك عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، والآثار في الرُّقَى أكثر من أن تحصى.

وقال جماعة من أهل العلم: الرُّقَى جائزة من كلّ وجع، ومن كلّ ألم، ومن العين، وغير العين.

قال: قال ابن وهب: وأخبرني ابن سمعان قال: سمعت رجالًا من أهل العلم يقولون: إذا لُدِغ الإنسان، فنهشته حية، أو لسعته عقرب، فليقرأ الملدوغ بهذه الآية:{نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [النمل: 8]، فإنه يعافى بإذن الله. انتهى

(3)

، والله تعالى أعلم.

مسألتان تتعلَّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عوف بن مالك الأشجعيّ رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(1)

"المفهم" 5/ 584.

(2)

"الفتح" 13/ 155.

(3)

"التمهيد" لابن عبد البرّ 23/ 156.

ص: 103

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [7/ 5720](2200)، و (أبو داود) في "الطبّ"(3886)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6094)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(4/ 328)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(18/ 88)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(9/ 349)، والله تعالى أعلم.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(8) - (بَابُ جَوَازِ أَخْذِ الأُجْرَةِ عَلَى الرُّقْيَةِ بِالْقُرْآنِ، وَالأَذْكَارِ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5721]

(2201) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى التَّمِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ أَبِي الْمُتَوَكِّلِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، أَنَّ نَاسًا مِنْ أَصَحَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانُوا في سَفَرٍ، فَمَرُّوا بِحَيٍّ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَب، فَاسْتَضَافُوهُمْ، فَلَمْ يُضِيفُوهُمْ، فَقَالُوا لَهُمْ: هَلْ فِيكُمْ رَاقٍ؟ فَإِنَّ سَيّدَ الْحَيِّ لَدِيغٌ، أَو مُصَابٌ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ: نَعَمْ، فَأَتَاهُ، فَرَقَاهُ بِفَاتِحَةِ الْكِتَاب، فَبَرَأَ الرَّجُلُ، فَأُعْطِيَ قَطِيعًا مِنْ غَنَمٍ

(1)

، فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَهَا، وَقَالَ: حَتَّى أَذْكُرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله، وَاللهِ مَا رَقَيْتُ إِلَّا بِفَاتِحَةِ الْكِتَاب، فَتَبَسَّمَ، وَقَالَ:"وَمَا أَدْرَاكَ أَنَّهَا رُقْيَةٌ؟ "، ثُمَّ قَالَ:"خُذُوا مِنْهُمْ، وَاضْرِبُوا لِي بِسَهْمٍ مَعَكُمْ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى التَّمِيمِيُّ) النيسابوريّ الإمام، تقدّم قبل باب.

2 -

(هُشَيْمُ) بن بشير الواسطيّ، تقدّم أيضًا قبل باب.

3 -

(أَبُو بِشْرٍ) بن أبي وحشيّة جعفر بن إياس الواسطيّ، بصريّ الأصل، ثقةٌ من أثبت الناس في سعيد بن جبير، وضعّفه شعبة في حبيب بن سالم، ومجاهد [5](ت 5 أو 126)(ع) تقدم في "الطهارة" 9/ 578.

(1)

وفي نسخة: "من الغنم".

ص: 104

4 -

(أَبُو الْمُتَوَكِّلِ) عليّ بن داود، ويقال: دؤاد الناجيّ البصريّ، ثقةٌ [3](ت 108) أو قبل ذلك (ع) تقدم في "الطهارة" 15/ 602.

5 -

(أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ) سعد بن مالك بن سِنان رضي الله عنهما، تقدّم قريبًا.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه أبو سعيد رضي الله عنه صحابيّ ابن صحابيّ، من المكثرين السبعة، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي بِشْرٍ) هو جعفر بن أبي وحشيّة، مشهور بكنيته أكثر من اسمه، كأبيه، واسمه إياس، وهو مشهور بكنيته. (عَنْ أَبِي الْمُتَوَكِّلِ) عليّ بن داود الناجيّ، وقد ذكر البخاريّ في "صحيحه" تصريح أبي بشر بالسماع منه، ولفظه:"قال أبو عبد الله: وقال شعبة: حدّثنا أبو بشر، سمعت أبا المتوكّل". انتهى.

قال في "الفتح": وتابع أبا عوانة على هذا الإسناد شعبة، كما في آخر الباب، وهشيم كما أخرجه مسلم، والنسائيّ، وخالفهم الأعمش، فرواه عن جعفر بن أبي وحشية، عن أبي نَضْرة، عن أبي سعيد، جعل بدل أبي المتوكل أبا نضرة، أخرجه الترمذيّ، والنسائيّ، وابن ماجة، من طريقه، فأما الترمذيّ، فقال: طريق شعبة أصحِّ من طريق الأعمش، وقال ابن ماجة: إنها الصواب، ورجَّحها الدارقطنيّ في "العلل"، ولم يرجح في "السنن" شيئًا، وكذا النسائيّ، قال الحافظ: والذي يترجح في نقدي أن الطريقين محفوظان؛ لاشتمال طريق الأعمش على زيادات في المتن، ليست في رواية شعبة، ومن تابعه، فكأنه كان عند أبي بشر عن شيخين، فحدّث به تارةً عن هذا، وتارةً عن هذا، ولم يُصِبْ ابن العربيّ في دعواه أن هذا الحديث مضطرب، فقد رواه عن أبي سعيد أيضًا معبد بن سيرين، عند البخاريّ في "فضائل القرآن"، وسليمان بن قَتَّةَ - هو بفتح القاف، وتشديد المثناة - كما أخرجه أحمد، والدارقطنيّ، قال الحافظ رحمه الله: وسأذكر ما في رواياتهم من الفوائد. انتهى

(1)

.

(1)

"الفتح" 6/ 49، كتاب "الإجارة" رقم (2276).

ص: 105

قال الجامع عفا الله عنه: وسأذكر أنا أيضًا الفوائد التي ذكرها الحافظ رحمه الله إن شاء الله تعالى -.

(عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ) رضي الله عنه (أَن نَاسًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانُوا في سَفَرٍ) قال الحافظ رحمه الله: لَمْ أقف على اسم أحد منهم، سوى أبي سعيد، وليس في سياق هذه الطريق ما يُشعر بأن السفر كان في جهاد، لكن في رواية الأعمش:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم بعثهم"، وفي رواية سليمان بن قَتَّة عند أحمد:"بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثًا"، زاد الدارقطنيّ فيه:"بَعَث سريّةً، عليها أبو سعيد"، ولم أقف على تعيين هذه السريّة في شيء من كتب المغازي، بل لَمْ يتعرض لِذِكْرها أحد منهم، وهي واردة عليهم، ولم أقف على تعيين الحيّ الذين نزلوا بهم من أي القبائل هم. انتهى

(1)

.

(فَمَرُّوا بِحَيٍّ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ) الأحياء بفتح الهمزة: جمع حيّ، والمراد به: طائفة من العرب مخصوصة، قال الْهَمْداني في "الأنساب": الشَّعْب، والحيّ بمعني، وسُمّي الشعبَ؛ لأنَّ القبيلة تتشعب منه

(2)

. (فَاسْتَضَافُوهْمْ)؛ أي: طلبوا منهم الضيافة، وفي رواية الأعمش، عند غير الترمذيّ:"بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثين رجلًا، فنزلنا بقوم ليلًا، فسألناهم القِرَى"، فأفادت عدد السريّة، ووقت النزول، كما أفادت رواية الدارقطنيّ تعيين أمير السرية، والقِرَى بكسر القاف مقصورًا: الضيافة. (فَلَمْ يُضِيفُوهُمْ) قال في "الفتح": بالتشديد للأكثر، وبكسر الضاد المعجمة مخفّفًا. انتهى

(3)

.

وقال الفيّوميّ رحمه الله: الضَّيْفُ: معروفٌ، ويُطلق بلفظ واحد على الواحد، وغيره؛ لأنه مصدر في الأصل، مِنْ ضَافَهُ ضَيْفًا، من باب باع: إذا نزل عنده، وتجوز المطابقة، فيقال: ضَيْفٌ، وضَيْفَةٌ، وأَضْيَافٌ، وضِيفَانٌ، وأَضَفْتُهُ، وَضَيَّفْتُهُ: إذا أنزلته، وقَرَيْتَهُ، والاسم: الضِّيَافَةُ، قال ثعلب: ضِفْتَهُ: إذا نزلت به، وأنت ضيف عنده، وأَضَفْتَهُ، بالألف: إذا أنزلته عندك ضَيْفًا. انتهى

(4)

.

(1)

"الفتح" 6/ 49، كتاب "الإجارة" رقم (2276).

(2)

"الفتح" 6/ 46، كتاب "الإجارة" رقم (2276).

(3)

"الفتح" 6/ 49، كتاب "الإجارة" رقم (2276).

(4)

"المصباح المنير" 2/ 366.

ص: 106

(فَقَالُوا لَهُمْ)؛ أي: قال الحيّ لهؤلاء الصحابة رضي الله عنهم: (هَلْ فِيكُمْ رَاقٍ؟ فَإِنَّ) الفاء للتعليل؛ أي: لأنَّ (سَيِّدَ الْحَيِّ)؛ أي: رئيس القبيلة (لَدِيغٌ) قال القرطبيّ رحمه الله: "اللَّديغ": الذي لدغته الحيَّة، أو العقرب، وقد يُسمَّى بالسَّلِيم تفاؤلًا، كما قد جاء في الرواية الأخرى. انتهى

(1)

.

وقال في "الفتح": "اللَّدْغ " - بالدال المهملة، والغين المعجمة - وهو اللَّسْع وزنًا ومعنى، وأما اللَّذْع بالذال المعجمة، والعين المهملة، فهو الإحراق الخفيف، واللاع المذكور في الحديث هو ضرب ذات الْحُمَة، من حيّة، أو عقرب، أو غيرهما، وأكثر ما يُستعمل في العقرب، وقد أفادت رواية الأعمش تعيين العقرب.

وأما ما وقع في رواية هشيم عند النسائيّ أنه مصاب في عقله، أو لديغ، فشكّ من هشيم، وقد رواه الباقون، فلم يَشُكُّوا في أنه لديغ، ولا سيما تصريح الأعمش بالعقرب، وكذلك ما في الرواية الآتية من طريق مَعْبد بن سيرين، عن أبي سعيد، بلفظ:"إن سيد الحي سَلِيم"، وكذا في "الطب" عند البخاريّ من حديث ابن عباس:"إن سيد الحي سَلِيم"، والسَّليم: هو "اللديغ".

نعم وقعت للصحابة قصة أخرى في رجل مصاب بعقله، فقرأ عليه بعضهم فاتحة الكتاب، فبرأ، أخرجه أبو داود، والترمذيّ، والنسائيّ، من طريق خارجة بن الصَّلْت، عن عمه، أنه "مَرّ بقوم، وعندهم رجل مجنون، موثق في الحديد، فقالوا: إنك جئت من عند هذا الرجل بخير، فارْقِ لنا هذا الرجل

" الحديث، فالذي يظهر أنهما قصتان، لكن الواقع في قصة أبي سعيد أنه لديغ، قاله في "الفتح"

(2)

.

(أَو مُصَابٌ)"أو" للشكّ من الراوي، هل قال:"لديغ"، أو قال:"مصابٌ"، والمراد أصابه اللاع، زاد في رواية البخاريّ: "فلُدِغ سيد ذلك الحيّ، فسَعَوا له بكل شيء، لا ينفعه شيء، فقال بعضهم: لو أتيتم هؤلاء الرهط الذين قد نزلوا بكم، لعله أن يكون عند بعضهم شيء، فَأَتَوْهم، فقالوا:

(1)

"المفهم" 5/ 585.

(2)

"الفتح" 6/ 49 - 50، كتاب "الإجارة" رقم (2276).

ص: 107

يا أيها الرهط إن سيدنا لُدِغ، فسعينا له بكل شيء، لا ينفعه شيء، فهل عند أحد منكم شيء؟ فقال بعضهم: نعم، والله إني لراقي، ولكن والله لقد استضفناكم، فلم تضيفونا، فما أنا براقٍ لكم حتى تجعلوا لنا جُعْلًا، فصالحوهم على قطيع من الغنم".

قال في "الفتح": قوله: "فسعوا له بكل شيء"؛ أي: مما جرت به العادة، أن يُتداوى به، من لدغة العقرب، كذا للأكثر، من السعي؛ أي: طلبوا له ما يداويه، وللكشميهنيّ:"فشَفَوا" بالمعجمة، والفاء، وعليه شرح الخطابيّ، فقال: معناه طلبوا الشفاء، تقول: شَفَى الله مريضي؛ أي: أبرأه، وشفى له الطبيب؛ أي: عالجه بما يشفيه، أو وَصَف له ما فيه الشفاء، لكن ادَّعَى ابن التين أنَّها تصحيف.

قوله: "لو أتيتم هؤلاء الرهط" قال ابن التين: قال تارةً: نفرًا، وتارة: رهطًا، والنفر ما بين العشرة والثلاثة، والرهط ما دون العشرة، وقيل: يصل إلى الأربعين، قال الحافظ: وهذا الحديث يدلّ له.

قوله: "فأتوهم"، وفي رواية معبد بن سيرين الآتية أن الذي جاء في هذه الرسالة امرأة، وعند البخاريّ: جارية منهم، فيُحْمَل على أنَّه كان معها غيرها، زاد البزار في حديث جابر:"فقالوا لهم: قد بلغنا أن صاحبكم جاء بالنور، والشفاء، قالوا: نعم".

قوله: "وسعينا" في رواية الكشميهنيّ: "وشفينا" بالمعجمة، والفاء، وقد تقدّم ما فيها.

قوله: "فهل عند أحد منكم من شيء"، زاد أبو داود في روايته:"ينفع صاحبنا".

قوله: "فقال بعضهم"، في رواية أبي داود:"فقال رجل من القوم: نعم والله، إني لأرقِي" بكسر القاف، وبيَّن الأعمش أن الذي قال ذلك هو أبو سعيد، راوي الخبر، ولفظه:"قلت: نعم، أنا، ولكن لا أرقيه حتى تعطونا غنمًا"، فأفاد بيان جنس الْجُعْل، وهو بضم الجيم، وسكون المهملة: ما يُعْطَى على عمل.

وقد استُشكل كون الراقي هو أبا سعيد، راوي الخبر، مع ما وقع في

ص: 108

رواية معبد بن سيرين الآتية من قوله: "فقام معها رجل، ما كنا نظنه يحسن رقية".

وعند البخاريّ في "فضائل القرآن" بلفظ آخر، وفيه:"فلما رَجَع قلنا له: أكنت تحسن رقيةً؟ "، ففي ذلك إشعار بأنه غيره.

والجواب أنه لا مانع من أن يَكْنِي الرجل عن نفسه، فلعل أبا سعيد صرّح تارةً، وكَنَى أخرى، ولم ينفرد الأعمش بتعيينه، فقد وقع أيضًا في رواية سليمان بن قَتَّة، بلفظ:"فأتيته، فرَقَيته بفاتحة الكتاب"، وفي حديث جابر عند البزار:"فقال رجل من الأنصار: أنا أرقيه"، قال الحافظ: وهو مما يُقَوِّي رواية الأعمش، فإن أبا سعيد أنصاريّ، وأما حَمْل بعض الشارحين ذلك على تعدد القصة، وأن أبا سعيد روى قصتين، كان في إحداهما راقيًا، وفي الأخرى كان الراقي غيره، فبعيد جدًّا، ولا سيما مع اتحاد المخرج، والسياق، والسبب، ويكفي في ردّ ذلك أن الأصل عدم التعدد، ولا حامل عليه، فإن الجمع بين الروايتين ممكن بدونه، وهذا بخلاف ما تقدّم من حديث خارجة بن الصَّلْت، عن عمه، فإن السياقين مختلفان، وكذا السبب، فكان الحمل على التعدد فيه قريبًا.

قوله: "فصالحوهم"؛ أي: وافقوهم.

قوله: "على قطيع من الغنم" قال ابن التين: القطيع هو الطائفة من الغنم، وتُعُقب بأن القطيع هو الشيء المقتطع من غنم كان، أو غيرها، وقد صَرَّح بذلك ابن قرقول وغيره، وزاد بعضهم: أن الغالب استعماله فيما بين العشرة والأربعين.

ووقع في رواية الأعمش: "فقالوا: إنا نعطيكم ثلاثين شاةً"، وكذا ثبت ذِكْر عدد الشياه في رواية معبد بن سيرين، عند البخاريّ، وهو مناسب لعدد السريّة كما تقدم في أول الحديث، وكأنهم اعتبروا عددهم، فجعلوا الْجُعْل بإزائه. انتهى

(1)

.

(فَقَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ) تقدّم أنه أبو سعيد الخدريّ رضي الله عنه، (نَعَمْ) عندنا راقٍ

(1)

"الفتح" 6/ 50 - 51، كتاب "الإجارة" رقم (2276).

ص: 109

(فَأَتَاهُ)؛ أي: اللديغ، وفي رواية البخاريّ:"فانطلق يتفل" بضم الفاء، وبكسرها، وهو نفخ معه قليل بزاق، قال ابن أبي جمرة: محل التفل في الرقية يكون بعد القراءة؛ لتحصيل بركة القراءة في الجوارح التي يُمَرّ عليها الريق، فتحصل البركة في الريق الذي يتفله. (فَرَقَاهُ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ)؛ أي: بقراءتها، وفي رواية البخاريّ:"ويقرأ الحمد لله رب العالمين"، وفي رواية شعبة:"فجعل يقرأ عليها بفاتحة الكتاب"، وكذا في حديث جابر، وفي رواية الأعمش:"فقرأت عليه الحمد لله"، وششفاد منه تسمية الفاتحة:"الحمد"، و"الحمد لله رب العالمين"، ولم يذكر في هذه الطريق عدد ما قرأ الفاتحة، لكنه بيَّنه في رواية الأعمش، وأنه سبع مرات، ووقع في حديث جابر: ثلاث مرات، والحُكم للزائد

(1)

.

(فَبَرَأ الرَّجُلُ) بفتح الراء، وكسرها، وضمّها، يقال: برأ من المرض يبرأ، من بابي نفع، وتَعِبَ، وبرُؤَ بُرْءًا، من باب قَرُب لغة

(2)

، قاله الفيّوميّ.

وقال في "التاج": وبَرأَ المَريض مُثَلَّثًا، والفتحُ أَفصحُ، وهي لغة أهلِ الحجاز، والكَسْرُ لغة بني تميم، يَبْرَأُ بالفتح أيضًا على القياس، وبَرَأَ كنَصَرَ يَبْرُؤُ، كينْصُر، قالوا: ولم يجئْ فيما لامه همزة فَعَلْتُ أَفْعَل، إِلَّا في هذا الحرف، بُرْءًا بالضم، في لُغة الحجاز، وتميم، وبُرُوءًا، كقُعود، وبَرُؤ، ككَرُم يَبْرُؤُ بالضمِّ فيهما، وهذه اللغةُ الثالثةُ غيرُ فصيحةٍ، وبَرِئَ مثل فَرِحَ يَبْرَأُ، كيفْرَحُ، وهما - أَي: بَرَأَ كمنَعَ، وبَرِئَ كفرِح - لُغتان فَصيحتان، بَرْءًا بفتح فسكون، وبُرُؤًا بضمَّتين، وبُرُوءًا كقُعود: نَقِهَ، وفيه مَرَضٌ، ونَقِهَ كفرِحَ، من النَّقاهة، وهي الصِّحَّة الخفيفةُ التي تكون عَقِيب مرضٍ. انتهى ما في "التاج" باختصار

(3)

.

وفي رواية البخاريّ: "فكأنما نُشِط من عقال، فانطلق يمشي، وما به قَلَبة"، قال في "الفتح": قوله: "فكأنما نُشط" كذا للجميع بضم النون، وكسر المعجمة، من الثلاثيّ، قال الخطابيّ: وهو لغة، والمشهور نَشَطَ

(4)

: إذا عَقَدَ،

(1)

"الفتح" 6/ 51، كتاب "الإجارة" رقم (2276).

(2)

"المصباح المنير" 1/ 47.

(3)

"تاج العروس" 1/ 77.

(4)

من باب ضرب.

ص: 110

وأَنشط: إذا حَلّ، وأصله الأُنشوطة بضم الهمزة، والمعجمة، بينهما نون ساكنة، وهي الحبل، وقال ابن التين: حَكَى بعضهم أن معنى أُنشط: حُلّ، ومعنى نَشِطَ: قام بسرعة، ومنه قولهم: رجل نشيط، ويَحْتَمِل أن يكون معنى نَشَط: فَزعَ

(1)

، ولو قرئ بالتشديد لكان له وجه؛ أي: حُلّ شيئًا فشيئًا.

قوله: "من عقال" بكسر المهملة بعدها قاف: هو الحبل الذي يُشَدّ به ذراع البهيمة.

قوله: "وما به قَلَبة" بحركات؛ أي: عِلَّة، وقيل للعلة: قلبةٌ؛ لأنَّ الذي تصيبه يقلب من جنب إلى جنب؛ ليُعْلَم موضع الداء، قاله ابن الأعرابيّ، ومنه قول الشاعر [من البسيط]:

أَوْدَى الشَّبَابُ وَحُبُّ الْخَالَةِ الْخَلِبَهْ

وَقَدْ بَرِئْتُ فَمَا فِي الصَّدْرِ

(2)

مِنْ قَلَبَهْ

أي: برئت من داء الحبّ، وقال ابن الأعرابيّ: معناه: ليست به علّة، يُقلّب لها، فينظر إليه. انتهى

(3)

.

وفي نسخة الدمياطيّ بخطه: قال ابن الأعرابيّ: القَلَبة داء، مأخوذ من القُلاب، يأخذ البعير، فيألم قلبه، فيموت من يومه. انتهى

(4)

.

(فَأُعْطِيَ) بالبناء للمفعول، والنائب عن الفاعل ضمير الرجل الراقي، والمعطي هو الرجل المرقيّ، ويَحْتَمِل أن يكون بالبناء للفاعل، والفاعل ضمير الرجل المرقيّ. (قَطِيعًا) قال القرطبيّ رحمه الله:"القطيع": هو الجزء المقتطع، فَعِيل، بمعنى: مفعول. انتهى

(5)

، وقال غيره: القطيع: هو الطائفة من الغنم، وغيرها، قال أهل اللغة: الغالب استعماله في بين العشرة والأربعين، وقيل: ما بين خمس عشرة إلى خمس وعشرين، وجمعه أقطاعٌ، وأَقطِعةٌ، وقُطعانٌ، وقِطاعٌ، وأقاطيع، والله تعالى أعلم.

(1)

لعله نَزَعَ، كما في "القاموس"، فإنه قال: نشَطَ الدلوَ: نزعها بلا بَكْرة، والله تعالى أعلم.

(2)

وفي "اللسان": "فما في القلب".

(3)

"اللسان العرب" 1/ 686 - 687.

(4)

"الفتح" 6/ 51 - 52، كتاب "الإجارة" رقم (2276).

(5)

"المفهم" 5/ 585.

ص: 111

وقوله: (مِنْ غَنَمٍ) بيان لقطيع، وفي بعض النسخ:"من الغنم"، وتقدّم أنَّها ثلاثون شاةً. (فَأَبَى) الرجل الراقي (أَنْ يَقْبَلَهَا)؛ أي: تلك الغنم؛ لعدم علمه بحكمها، (وَفَالَ) لا أقبلها، ولا أقسمها بين أصحابي (حَتَّى أَذْكُرَ ذَلِكَ لِلنَّبِبيِّ صلى الله عليه وسلم) قال القرطبيّ رحمه الله: وإيقاف الصحابيّ قبول الغنم على سؤال النبيّ صلى الله عليه وسلم عملٌ بما يجب من التوقف عند الإشكال إلى البيان، وهو أمرٌ لا يُختَلَف فيه. انتهى

(1)

.

وفي رواية البخاريّ: "قال: فأَوْفَوْهم جُعْلهم الذي صالحوهم عليه، فقال بعضهم: أقسموا، فقال الذي رَقَى: لا تفعلوا، حتى نأتي النبيّ صلى الله عليه وسلم، فنذكر له الذي كان، فننظر ما يأمرنا".

قوله: فقال بعضهم: "أقسموا"، قال الحافظ: لَمْ أقف على اسمه.

قوله: "فقال الذي رَقَى" بفتح القاف، وفي رواية الأعمش:"فلما قبضنا الغنم عَرَض في أنفسنا منها شيء"، وفي رواية معبد بن سيرين:"فأمَر لنا بثلاثين شاةً، وسقانا لبنًا"، وفي رواية سليمان بن قَتَّة:"فبَعَث إلينا بالشياه، والنُّزُل، فأكلنا الطعام، وأبوا أن يأكلوا الغنم، حتى أتينا المدينة"، وبَيَّن في هذه الرواية أن الذي منعهم من تناولها هو الراقي، وأما في باقي الروايات فأبهمه.

قوله: "فننطر ما يأمرنا"؛ أي: فنتبعه، ولم يريدوا أنهم يُخَيَّرون في ذلك

(2)

.

(فَأَتَى) الراقي (النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ)؛ أي: ذَكَر للنبيّ صلى الله عليه وسلم ما جرى له من الرقية، وأمْر القطيع، (فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله، وَاللهِ مَا رَقَيْتُ) بفتح القاف، من باب ضرب، (إِلَّا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ)؛ أي: بقراءتها، وجَمْع بزاقي، والتفل عليه. (فَتَبَسَّمَ) صلى الله عليه وسلم تعجّبًا مما صنع، وافق الحقّ دون أن يسبق له علم بذلك (وَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("وَمَا أَدْرَاكَ)؛ أي: أيّ شي جعلك تعلم؟ (أَنَّهَا)؛ أي: الفاتحة (رُقْيَةٌ؟)؛ أي: شفاء، قال النوويّ رحمه الله: فيه التصريح بأنها رقية، فيستحب أن يقرأ بها على

(1)

"المفهم" 5/ 587.

(2)

"الفتح" 6/ 51 - 52، كتاب "الإجارة" رقم (2276).

ص: 112

اللديغ، والمريض، وسائر أصحاب الأسقام، والعاهات. انتهى

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "وما أدراك أنَّها رقية؟! "؛ أي: أيُّ شيء أعلمك: أنَّها رقية؟! قاله تعجبًا من وقوعه على الرُّقى بها، ولذلك تبسَّم النبيّ صلى الله عليه وسلم عند قوله:"وما أدراك أنَّها رقية؟! "، وكأنّ هذا الرجل عَلِم أن هذه السورة قد خصَّت بأمور: منها: أنَّها فاتحة الكتاب، ومبدؤه، وأنها متضمنة لجميع علوم القرآن؛ من حيث إنها تشتمل على الثناء على الله عز وجل بأوصاف كماله، وجلاله، وعلى الأمر بالعبادات، والإخلاص فيها، والاعتراف بالعجز عن القيام بشيء منها إلَّا بإعانته تعالى، وعلى الابتهال إلى الله تعالى في الهداية إلى الصراط المستقيم، وكفاية أحوال الناكثين، وعلى بيان عاقبة الجاحدين، وقد رَوَى الدارقطنيّ من حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه مرفوعًا، وفيه: فقال: "وما يدريك أنَّها رقية؟!، فقلت: يا رسول الله! شيء أُلْقِي في رُوعي، قال: فكلوا، وأطعمونا من الغنم"

(2)

.

وقيل: إن موضع الرُّقية منها إنما هو: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)} ، قال القرطبيّ: ويظهر لي أن السُّورة كلها موضع الرُّقية؛ لِمَا ذكرناه، ولقوله صلى الله عليه وسلم:"وما أدراك أنَّها رقية؟ "، ولم يقل: أن فيها رقية. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(3)

، وهو بحث نفيسٌ جدًّا، والله تعالى أعلم.

ووقع في البخاريّ بلفظ: "وما يدريك أنَّها رُقية؟ " بصيغة المضارع، قال في "الفتح": قال الداوديّ: معناه: وما أدراك، وقد رُوي كذلك، ولعله هو المحفوظ؛ لأنَّ ابن عيينة قال: إذا قال: وما يدريك، فلم يُعْلِم، وإذا قال: وما أدراك، فقد أَعْلَم.

وتعقبه ابن التين بأن ابن عيينة إنما قال ذلك فيما وقع في القرآن، وإلَّا فلا فرق بينهما في اللغة؛ أي: في نفي الدراية.

وقد وقع في رواية هشيم: "وما أدراك"، ونحوه في رواية الأعمش.

وفي رواية معبد بن سيرين الآتية: "وما كان يدريه"، وهي كلمة تقال عند

(1)

"شرح النوويّ" 14/ 188.

(2)

"سنن الدارقطنيّ" 3/ 63 - 64.

(3)

"المفهم" 5/ 585 - 586.

ص: 113

التعجب من الشيء، وتُستعمل في تعظيم الشيء أيضًا، وهو لائق هنا، زاد شعبة في روايته:"ولم يذكر منه نهيًا"؛ أي: من النبيّ صلى الله عليه وسلم عن ذلك.

وزاد سليمان بن قَتّة في روايته بعد قوله: "وما يدريك أنَّها رقية؟ ": قلت: أُلْقِيَ في رُوعِي".

وللدارقطنيّ من هذا الوجه: "فقلت: يا رسول الله شيءٌ أُلْقِي في رُوعي"، وهو ظاهر في أنه لَمْ يكن عنده علم متقدم بمشروعية الرُّقَى بالفاتحة، ولهذا قال له أصحابه لَمّا رَجَع:"أكنت تحسن رقية؟ "، كما وقع في رواية معبد بن سيرين الآتية، وفي لفظ:"ما كنت تحسن رُقية".

زاد في رواية البخاريّ: "ثم قال: قد أصبتم"، وقوله:"قد أصبتم" يَحْتَمِل أن يكون صَوَّب فِعْلهم في الرقية، ويَحْتَمِل أن ذلك في توقفهم عن التصرف في الجعل، حتى استأذنوه، ويَحْتَمِل أعمّ من ذلك، قاله في "الفتح"

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: كونه أعمّ هو الأقرب، والأوضح، فتأمل بالإمعان، والله تعالى أعلم.

(ثُمَّ قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("خُذُوا مِنْهُمْ)؛ أي: خذوا القطيع من الغنم من القوم الذين رَقَيتم لهم لديغهم، والمراد: تثبيتهم على ما هم عليه، من استلام القطيع، واستحسان صنيعهم ذلك.

وقال ابن حبّان رحمه الله في "صحيحه": قوله صلى الله عليه وسلم: "خذوا" أراد به جواز ذلك الشيء المأخوذ، مع جواز استعماله في المستقبل؛ لأنَّ الشاء أخذها الراقي قبل أن يأتي النبيّ صلى الله عليه وسلم، ثم سأل بعد ذلك، فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم:"خذوا" أراد به جواز فعل الماضي، والمستقبل معًا. انتهى

(2)

.

وقال النوويّ رحمه الله: قوله: "خذوا منهم

إلخ" هذا تصريح بجواز أخذ الأجرة على الرقية بالفاتحة، والذِّكر، وأنها حلال، لا كراهة فيها، وكذا الأجرة على تعليم القرآن، وهذا مذهب الشافعيّ، ومالك، وأحمد، وإسحاق،

(1)

"الفتح" 6/ 53، كتاب "الإجارة" رقم (2276).

(2)

"صحيح ابن حبان" 13/ 475.

ص: 114

وأبي ثور، وآخرين، من السلف، ومن بعدهم، ومنعها أبو حنيفة في تعليم القرآن، وأجازها في الرقية. انتهى

(1)

.

(وَاضْرِبُوا لِي بِسَهْمٍ مَعَكُمْ")؛ أي: اجعلوا لي منه نصيبًا، وكأنه أراد المبالغة في تأنيسهم، كما وقع له في قصة الحمار الوحشيّ، وغير ذلك، قاله في "الفتح"

(2)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "خذوا منهم، واضربوا لي معكم بسهم": بيان للحكم بالقول، وتمكين له بالعمل؛ إذ لَمْ تكن له حاجة لذلك السَّهم إلَّا ليبالغ في بيان أن ذلك من الحلال المحض الذي لا شبهة فيه، فكان ذلك أعظم دليل لمن يقول بجواز الأجرة على الرُّقى، والطبّ، وهو قول مالك، والشافعيّ، وأبي حنيفة، وأصحابه، وأحمد، وإسحاق، وأبي ثور، وجماعة من السَّلف، والخلف. انتهى

(3)

.

وقال النوويّ رحمه الله: قوله: وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "واضربوا لي بسهم معكم"، وفي الرواية الأخرى:"اقسموا، واضربوا لي بسهم معكم"، فهذه القسمة من باب المروءات، والتبرعات، ومواساة الأصحاب، والرفاق، وإلا فجميع الشياه ملك للراقي، مختصة به، لا حقّ للباقين فيها عند التنازع، فقاسَمَهُم تبرّعًا، وجُودًا، ومروءةً.

قال: وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "واضربوا لي بسهم"، فإنما قاله تطييبًا لقلوبهم، ومبالغة في تعريفهم أنه حلال، لا شبهة فيه، وقد فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث العنبر، وفي حديث أبي قتادة في حمار الوحش مثله. انتهى

(4)

.

[تنبيه]: ذكر أبو داودء رحمه الله في "سننه" قصّة مشابهة لقضة أبي سعيد رضي الله عنه، عن خارجة بن الصَّلت، عن عمّه، فقال:

(3420)

- حدّثنا عبيد الله بن معاذ، ثنا أبي، ثنا شعبة، عن عبد الله بن أبي السفر، عن الشعبيّ، عن خارجة بن الصَّلْت، عن عمه، أنه مَرّ بقوم،

(1)

"شرح النوويّ" 14/ 188.

(2)

"الفتح" 6/ 53، كتاب "الإجارة" رقم (2276).

(3)

"المفهم" 5/ 588.

(4)

"شرح النوويّ" 14/ 188.

ص: 115

فأتوه، فقالوا: إنك جئت من عند هذا الرجل بخير، فارْقِ لنا هذا الرجل، فأتوه برجل معتوه في القيود، فرقاه بأم القرآن ثلاثة أيام، غُدْوةً، وعشيّةً، كلما ختمها جمع بزاقه، ثم تَفَل، فكأنما أُنشط من عِقَال، فأعطوه شيئًا، فأتى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فذكره له، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"كُلْ، فلعمري لَمَن أكل برقية باطل، لقد أكلت برقية حقّ". انتهى

(1)

، وهو حديث صحيح.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [8/ 5721 و 5722 و 5723 و 5724](2201)، و (البخاريّ) في "الإجارة"(2276) و"فضائل القرآن"(5007) و"الطبّ"(5736 و 5749)، و (أبو داود) في "الإجارة"(3418) و"الطبّ"(3900)، و (الترمذيّ) في "الطبّ"(2063 و 2064 و 2065)، و (ابن ماجة) في "التجارات"(2172)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(4/ 364 و 6/ 254)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(8/ 53، 54)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 2 و 10 و 44)، و (الطحاويّ) في "معاني الآثار"(4/ 126، 127)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6112)، و (ابن السُّنّيّ) في "عمل اليوم والليلة"(641)، و (عبد بن حميد) في "مسنده"(1/ 274)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(6/ 124) و"شُعَب الإيمان"(2/ 449)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان جواز الرقية بكتاب الله تعالى، وَيلتحق به ما كان بالذكر، والدعاء المأثور، وكذا غير المأثور، مما لا يخالف ما في المأثور، وأما الرُّقَى بما سوى ذلك، فقد تقدّم في الباب حديث عوف بن مالك رضي الله عنه، وفيه قوله صلى الله عليه وسلم:"لا بأس بالرقى ما لَمْ يكن فيه شرك"، فدلّ على أنَّ ما يشتمل على الشركيّات حرام، والله تعالى أعلم.

(1)

"سنن أبي داود" 3/ 266.

ص: 116

2 -

(ومنها): بيان مشروعية الضيافة على أهل البوادي، والنزول على مياه العرب، وطلب ما عندهم على سبيل القِرَى، أو الشراء.

3 -

(ومنها): أن فيه مقابلةَ مَن امتنع من المكرُمة بنظير صنيعه؛ لِمَا صنعه هذا الصحابيّ رضي الله عنه من الامتناع من الرقية في مقابلة امتناع أولئك من ضيافتهم، وهذه طريق موسى عليه السلام في قوله تعالى:{لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا} [الكهف: 77]، ولم يعتذر الخضر عليه السلام عن ذلك إلَّا بأمر خارجيّ.

4 -

(ومنها): أن فيه إمضاء ما يلتزمه المرء على نفسه؛ لأنَّ أبا سعيد رضي الله عنه التزم أن يَرْقِي، وأن يكون الْجُعْل له، ولأصحابه، وأمره النبيّ صلى الله عليه وسلم بالوفاء بذلك.

5 -

(ومنها): أن فيه الاشتراكَ في الموهوب، إذا كان أصله معلومًا.

6 -

(ومنها): ما قال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "اقسموا

إلخ" هذه القسمة إنَّما هي قسمة برضا الرَّاقي؛ لأنَّ الغنم ملكه؛ إذ هو الذي فَعَل العوض الذي به استحقها، لكن طابت نفسه بالتشريك، فأحاله النبيّ صلى الله عليه وسلم على ما يقع به رضا المشتركين عند القسمة، وهي القرعة، فكان فيه دليلٌ على صحة العمل بالقرعة في الأموال المشتركة، وقد تقدَّم ذكر الخلاف فيها في "النِّكَاح". انتهى

(1)

.

7 -

(ومنها): جواز طلب الهدية ممن يُعْلَم رغبته في ذلك، وإجابته إليه، فإنه صلى الله عليه وسلم قال لهم:"واضربوا لي بسهم معكم".

8 -

(ومنها): جواز قبض الشيء الذي ظاهره الحلّ، وترك التصرّف فيه، إذا عَرَضت فيه شبهة.

9 -

(ومنها): بيان جواز الاجتهاد عند فقد النصّ.

10 -

(ومنها): بيان عظمة القرآن في صدور الصحابة رضي الله عنهم خصوصًا الفاتحة.

11 -

(ومنها): بيان أن الرزق المقسوم لا يستطيع من هو في يده منعه ممن قُسم له؛ لأنَّ أولئك القوم منعوا الضيافة، وكان الله قسم للصحابة رضي الله عنهم في مالهم نصيبًا، فمنعوهم، فسَبَّب لهم لَدْغَ العقرب، حتى سيق لهم ما قُسم لهم.

(1)

"المفهم" 5/ 586.

ص: 117

12 -

(ومنها): أن فيه الحكمةَ البالغةَ حيث اختَصَّ بالعقاب مَن كان رأسًا في المنع؛ لأنَّ من عادة الناس الائتمار بأمر كبيرهم، فلما كان رأسهم في المنع اختصّ بالعقوبة دونهم، جزاءً وِفَاقًا، وكأن الحكمة فيه أيضًا إرادة الإجابة إلى ما يلتمسه المطلوب منه الشفاء، ولو كثُر؛ لأنَّ الملدوغ لو كان من آحاد الناس لعله لَمْ يكن يقدر على القدر المطلوب منهم، ذَكَر هذا كلّه في "الفتح"

(1)

، وهو بحثٌ نفيسٌ، وتحقيقٌ أنيس، والله تعالى أعلم.

(المسألة الرابعة): قال الإمام ابن القيّم رحمه الله: ومن المعلوم أن بعض الكلام له خواصّ، ومنافع مجربةٌ، فما الظنّ بكلام رب العالمين، الذي فضّله على كلّ كلام كفضل الله على خلقه، الذي هو الشفاء التامّ، والعصمة النافعة، والنور الهادي، والرحمة العامة، الذي لو أُنزل على جبل لتصدّع من عظمته، وجلالته، قال تعالى:{وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء: 82]، و"مِنْ " ها هنا لبيان الجنس، لا للتبعيض، هذا أصح القولين، كقوله تعالى:{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح: 29]، وكلهم من الذين آمنوا وعملوا الصالحات فما الظنّ بفاتحة الكتاب التي لَمْ يُنزل في القرآن، ولا في التوراة، ولا في الإنجيل، ولا في الزبور مثلها، المتضمنة لجميع معاني كُتُب الله، المشتملة على ذكر أصول أسماء الرب - تعالى - ومجا معها، وهي الله، والربّ، والرحمن، وإثبات المعاد، وذِكر التوحيدين: توحيد الربوبية، وتوحيد الإلهية، وذِكر الافتقار إلى الربّ سبحانه وتعالى في طلب الإعانة، وطلب الهداية، وتخصيصه بذلك، وذِكر أفضل الدعاء على الإطلاق، وأنفعه، وأفرضه، وما العباد أحوج شيء إليه، وهو الهداية إلى صراطه المستقيم، المتضمن كمال معرفته، وتوحيده، وعبادته بفعل ما أَمَر به، واجتناب ما نَهَى عنه، والاستقامة عليه إلى الممات، ويتضمن ذكر أصناف الخلائق، وانقسامهم إلى مُنْعَم عليه بمعرفة الحقّ، والعمل به، ومحبته، وإيثاره، ومغضوب عليه بعدوله عن الحقّ بعد معرفته له، وضالّ بعدم معرفته له، وهؤلاء أقسام الخليقة، مع تضمنها لإثبات القَدَر، والشرع، والأسماء

(1)

"الفتح" 6/ 53، كتاب "الإجارة" رقم (2276).

ص: 118

والصفات، والمعاد، والنبوات، وتزكية النفوس، وإصلاح القلوب، وذِكر عدل الله، وإحسانه، والردّ على جميع أهل البدع، والباطل، كما ذكرنا ذلك في كتابنا الكبير "شرح مدارج السالكين"، وحقيق بسورة هذا بعض شأنها أن يُستشفى بها من الأدواء، ويرْقَى بها اللديغ.

وبالجملة فما تضمنته الفاتحة من إخلاص العبودية، والثناء على الله، وتفويض الأمر كله إليه، والاستعانة به، والتوكل عليه، وسؤاله مجامع النعم كلها، وهي الهداية التي تجلب

(1)

النِّعم، وتدفع النِّقَم، من أعظم الأدوية الشافية الكافية.

وقد قيل: إن موضع الرقية منها: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)} ولا ريب أن هاتين الكلمتين من أقوى أجزاء هذا الدواء، فإن فيهما من عموم التفويض، والتوكل، والالتجاء، والاستعانة، والافتقار، والطلب، والجمع بين أعلى الغايات، وهي عبادة الربّ وحده، وأشرف الوسائل، وهي الاستعانة به على عبادته، ما ليس في غيرها، ولقد مَرَّ بي وقتٌ بمكة سَقِمت فيه، وفقدت الطبيب، والدواء، فكنت أتعالج بها، آخُذ شربة من ماء زمزم، وأقرؤها عليها مرارًا، ثم أشربه، فوجدت بذلك البرء التامّ، ثم صرت أعتمد ذلك عند كثير من الأوجاع، فأنتفع بها غاية الانتفاع. انتهى كلام ابن القيِّم رحمه الله

(2)

، وهو بحث نفيسٌ، وتحقيقٌ أنيسٌ، والله تعالى أعلم.

(المسألة الخامسة): قال الإمام ابن القيّم رحمه الله أيضًا: وفي تأثير الرُّقَى بالفاتحة، وغيرها في علاج ذوات السموم سرّ بديعٌ، فإن ذوات السموم أثّرت بكيفيات نفوسها الخبيثة، كما تقدم، وسلاحُها حُماتُها التي تلدغ بها، وهي لا تلدغ حتى تغضب، فإذا غَضِبت ثار فيها السمّ، فتقذفه بآلتها، وقد جعل الله سبحانه وتعالى لكل داء دواءُ، ولكل شيء ضدًّا، ونفس الراقي تفعل في نفس الْمَرْقِيّ، فيقع بين نفسيهما فعلٌ وانفعال، كما يقع بين الداء والدواء، فتقوى نفس الراقي، وقوته بالرقية على ذلك الداء، فيدفعه بإذن الله تعالى، ومدار تأثير الأدوية والأدواء على الفعل والانفعال، وهو كما يقع بين الداء والدواء الطبيعيين، يقع

(1)

من بابي ضرب، ونصر.

(2)

"زاد المعاد" 4/ 162.

ص: 119

بين الداء والدواء الروحانيين، والروحانيّ والطبيعيّ، وفي النَّفْث، والتَّفْل استعانة بتلك الرطوبة، والهواء، والنَّفَس المباشر للرقية، والذِّكر، والدعاء، فإن الرقية تخرج من قلب الراقي وفمه، فإذا صاحبها شيء من أجزاء باطنه، من الريق، والهواء، والنَّفَس، كانت أتمّ تأثيرًا، وأقوى فعلًا، ونفوذًا، ويحصل بالازدواج بينهما كيفية موثرةٌ شبيهة بالكيفية الحادثة عند تركيب الأدوية.

وبالجملة: فنفس الراقي تقابل تلك النفوس الخبيثة، وتزيد بكيفية نفسه، وتستعين بالرقية، وبالنَّفْث على إزالة ذلك الأثر، وكلما كانت كيفية نفس الراقي أقوى، كانت الرقية أتمّ، واستعانته بنفثه كاستعانة تلك النفوس الرديئة بلسعها، وفي النفث سرّ آخر، فإنه مما تستعين به الأرواح الطيبة والخبيثة، ولهذا تفعله السَّحَرَة، كما يفعله أهل الإيمان، قال تعالى:{وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4)} ، وذلك لأنَّ النفس تتكيف بكيفية الغضب، والمحاربة، وترسل أنفاسها سهامًا لها، وتُمِدّها بالنفث، والتفل الذي معه شيء من الريق، مصاحب لكيفية مؤثرة، والسواحر تستعين بالنفث استعانة بينةً، وإن لَمْ تتصل بجسم المسحور، بل تنفث على العقدة، وتعقدها، وتتكلم بالسحر، فيعمل ذلك في المسحور بتوسط الأرواح السفلية الخبيثة، فتقابلها الروح الزكية الطيبة بكيفية الدفع، والتكلم بالرقية، وتستعين بالنفث، فأيهما قوي كان الحكم له، ومقابلة الأرواح بعضها لبعض، ومحاربتها وىلتها، من جنس مقابلة الأجسام، ومحاربتها، وآلتها سواءً، بل الأصل في المحاربة، والتقابل للأرواح، والأجسام آلتها، وجندها، ولكن من غلب عليه الحسّ لا يشعر بتأثيرات الأرواح، وأفعالها، وانفعالاتها؛ لاستيلاء سلطان الحسّ عليه، وبعده من عالم الأرواح، وأحكامها، وأفعالها.

والمقصود: أن الروح إذا كانت قويّة، وتكيفت بمعاني الفاتحة، واستعانت بالنفث والتفل، قابلت ذلك الأثرَ الذي حصل من النفوس الخبيثة، فأزالته، والله أعلم. انتهى كلام ابن القيّم رحمه الله

(1)

، وهو بحثٌ مفيدٌ جدًّا، والله تعالى أعلم.

(1)

"زاد المعاد" 4/ 164.

ص: 120

(المسألة السادسة): في اختلاف أهل العلم في جواز أخذ الأجرة على الرُّقَى، وتعليم القرآن:

قال القرطبيّ رحمه الله: في الحديث أعظم دليل لمن يقول بجواز الأجرة على الرُّقى، والطب، وهو قول مالك، والشافعيّ، وأبي حنيفة، وأصحابه، وأحمد، وإسحاق، وأبي ثور، وجماعة من السَّلف، والخلف.

وأمَّا الأجرة على تعليم القرآن: فأجازها الجمهور من السلف والخلف، متمسِّكين بهذا الحديث، وما زاد فيه البخاريّ من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "إن أحق ما أخذتم عليه أجرًا كتاب الله"، وهذا يُلحق بالنُّصوص، وقد حرّم أبو حنيفة أخذ الأجرة على تعليم القرآن، وكذلك أصحابه، تمسُّكًا بأمرين:

أحدهما: أن تعلم القرآن وتعليمه واجبٌ من الواجبات التي تحتاج إلى نيَّة التقرُّب، والإخلاص، فلا يؤخذ عليها أجرة كالصلاة، والصيام.

وثانيهما: ما رواه أبو داود من حديث عُبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: علَّمت ناسًا من أهل الصُّفة الكتاب والقرآن، وأهدى إليَّ رجل منهم قوسًا، فقلت: ليست بمال، وأرمي عليها في سبيل الله، فلآتينَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلأسالنَّه، فأتيته، فسألته، فقال:"إن كنت تحب أن تطوَّق قوسًا من نار فاقبلها".

وللجمهور أن يقولوا: لا نسلِّم صحة ذلك القياس؛ لأنَّه فاسد الوضع؛ لأنَّه في مقابلة قوله صلى الله عليه وسلم: "إن أحق ما أخذتم عليه أجرًا كتاب الله"، وهو عمومٌ قويّ، وظاهرٌ جليّ.

والجواب عن القياس أنه لا يصح للفرق الذي بين الفرع والأصل، سلَّمنا لكن بينهما فرق وهو أن الصوم والصلاة عبادات خاصَّة بالفاعل، وتعليم القرآن عبادة متعدية لغير المعلم، فتجوز الأجرة على محاولة النقل، كتعليم كتابة القرآن.

وأمَّا الجواب عن الحديث بعد تسليم صحته، فالقول بموجَبِه؛ لأنَّ تعليم عُبادة لَمْ تكن بإجارةٍ، ولا جُعْل، وإنما علَّم لله تعالى تطوعًا، لا لغيره، ومن كان كذلك حَرُم عليه أخذ العِوَض على ما فعله لله تعالى؛ لأنَّه ربما يفسد

ص: 121

عمله، ويأكل مالًا بالباطل. انتهى

(1)

.

وقال في "الفتح": استَدَلّ به للجمهور على جواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن، وخالف الحنفية، فمنعوه في التعليم، وأجازوه في الرُّقَى، كالدواء، قالوا: لأنَّ تعليم القرآن عبادة، والأجر فيه على الله، وهو القياس في الرُّقَى إلَّا أنهم أجازوه فيها؛ لهذا الخبر، وحَمَل بعضهم الأجر في هذا الحديث على الثواب، وسياق القصّة التي في الحديث يأبى هذا التأويل.

وادَّعَى بعضهم نَسْخه بالأحاديث الواردة في الوعيد على أخذ الأجرة على تعليم القرآن، وقد رواها أبو داود، وغيره.

وتُعُقّب بأنه إثبات للنسخ بالاحتمال، وهو مردود، وبأن الأحاديث ليس فيها تصريح بالمنع على الإطلاق، بل هي وقائع أحوال، محتملةٌ للتأويل؛ لِتُوافق الأحاديث الصحيحة، كحديث الباب، وبأن الأحاديث المذكورة أيضًا ليس فيها ما تقوم به الحجة، فلا تعارض الأحاديث الصحيحة. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن بما سبق من بيان أقوال أهل العلم، وأدلّتهم في مسألة أخذ الأجرة على الرُّقَى، وعلى تعليم القرآن أن الحق هو قول الجمهور، وهو الجواز؛ للأحاديث الصحيحة الكثيرة، وأصرحها، وأصحّها حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما مرفوعًا:"إن أحقّ ما أخذتم عليه أجرًا كتاب الله"، فهو عامّ صريحٌ في الموضوع، وأما ما استدلّ به المانعون من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه المتقدّم، فلا يصلح معارضًا لهذا الصحيح الصريح؛ لأنَّ في سنده الأسود بن ثعلبة، وهو مجهول، وكذلك الأحاديث الأخرى، وقد ذكرها صاحب "التكملة"

(3)

، فكلّها فيها مقال؛ وعلى تقدير صحّتها فهي قابلة للتأويل، كما سبق عن الحافظ رحمه الله.

والحاصل أن أخذ الأجرة على التعليم جائز، وإن كان الأَولى للمسلم أن يحتسب في ذلك؛ لِمَا فيه من الفضل العظيم؛ فإنه ينال به الخيريّة عند الله عز وجل،

(1)

"المفهم" 5/ 588 - 589.

(2)

"الفتح" 6/ 46 - 47، كتاب "الإجارة" رقم (2276).

(3)

راجع: "تكملة فتح الملهم" 4/ 329 - 330.

ص: 122

فقد قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "خيركم من تعلّم القرآن، وعلّمه"، رواه البخاريّ، فتأمّل بالإمعان، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلِّف رحمه الله أَوَّل الكتاب قال:

[5722]

(

) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ نَافِعٍ، كِلَاهُمَا عَنْ غُنْدَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَر، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، بِهَذَا الْإِسْنَاد، وَقَالَ فِي الْحَدِيثِ: فَجَعَلَ يَقْرَأُ أُمَّ الْقُرْآن، وَيَجْمَعُ بُزَاقَهُ، وَيَتْفُلُ، فَبَرَأَ الرَّجُلُ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ نَافِعٍ) محمد بن أحمد بن نافع الْعَبْديّ البصريّ، صدوقٌ، من صغار [10] مات بعد (240)(م ت س) تقدم في "الإيمان" 12/ 158.

والباقون ذُكروا في الباب، وقبل ثلاثة أبواب، "وأَبُو بِشْرٍ" جعفر بن إياس.

[تنبيه]: رواية شعبة عن أبي بشر هذه ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه" بسند المصنّف، فقال:

(5736)

- حدّثني محمد بن بشار، حدّثنا غندر، حدّثنا شعبة، عن أبي بشر، عن أبي المتوكل، عن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه أن ناسًا من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم أتوا على حَيٍّ من أحياء العرب، فلم يَقْرُوهم

(1)

، فبينما هم كذلك إذ لُدِغ سيد أولئك، فقالوا: هل معكم من دواء، أو رَاقٍ؟ فقالوا: إنكم لَمْ تَقرونا، ولا نفعل حتى تجعلوا لنا جُعْلًا، فجعلوا لهم قطيعًا من الشاء، فجعل يقرأ بأم القرآن، ويجمع بزاقه، وَيتْفل

(2)

، فبرأ، فأتوا بالشاء، فقالوا: لا نأخذه حتى نسأل النبيّ صلى الله عليه وسلم، فسألوه، فضحك، وقال:"وما أدراك أنَّها رُقية؟ خذوها، واضربوا لي بسهم". انتهى

(3)

.

(1)

بفتح حرف المضارعة، من باب رمى يرمي.

(2)

بضمّ الفاء، وكسرها، من بابي نصر، وضرب.

(3)

"صحيح البخاريّ" 5/ 2166.

ص: 123

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5723]

(

) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ حَسَّانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَخِيهِ مَعْبَدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِيِ سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: نَزَلْنَا مَنْزِلًا، فَأَتَتْنَا امْرَأَةٌ، فَقَالَتْ: إِنَّ سَيِّدَ الْحَيٍّ سَلِيمٌ، لُدِغَ، فَهَلْ فِيكُمْ مِنْ رَاقٍ؟ فَقَامَ مَعَهَا رَجُلٌ مِنَّا، مَا كُنَّا نَظُنُّهُ يُحْسِنُ رُقْيَةً، فَرَقَاهُ بِفَاتِحَةِ الْكِتَاب، فَبَرَأَ، فَأَعْطَوْهُ غَنَمًا، وَسَقَوْنَا لَبَنًا، فَقُلْنَا: أَكُنْتَ تُحْسِنُ رُقْيَةً؟ فَقَالَ: مَا رَقَيْتُهُ إِلَّا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ

(1)

، قَالَ: فَقُلْتُ: لَا تُحَرِّكُوهَا، حَتَّى نَأْتِيَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَأَتَيْنَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرْنَا ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: "مَا كَانَ يُدْرِيهِ أَنَّهَا رُقْيَةٌ؟ اقْسِمُوا، وَاضْرِبُوا لِي بِسَهْمٍ مَعَكُم

(2)

").

رجال هذا الإسناد: ستّةٌ:

1 -

(يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ) السلميّ مولاهم، أبو خالد الواسطيّ، ثقةٌ متقنٌ عابدٌ [9](ت 206) وقد قارب التسعين (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 45.

2 -

(هِشَامُ بْنُ حَسَّانَ) الأزديّ الْقُردوسيّ، أبو عبد الله البصريّ، ثقةٌ من أثبت الناس في ابن سيرين، وفي روايته عن الحسن، وعطاء مقال؛ لأنه قيل: كان يُرسل عنهما [6](ت 7 أو 148)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 26.

3 -

(مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ) الأنصاريّ مولاهم، أبو بكر بن أبي عمرة البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ عابدٌ كبير القدر [3](ت 110)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" ج 1 ص 308.

4 -

(مَعْبَدُ بْنُ سِيرِينَ) الأنصاريّ مولاهم البصريّ، أكبر إخوته، ثقةٌ [3] مات على رأس المائة (خ م د س) تقدم في "النِّكَاح" 23/ 3547.

والباقيان ذُكرا في الباب، وقبل باب.

وقوله: (عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ .... الخ) ذكر البخاريّ رحمه الله بعد إخراجه عن محمد بن المثنّي، حدّثنا وهبٌ، حدّثنا هشام، عن محمد، عن معبد، عن أبي

(1)

وفي نسخة: "إلَّا بأم القرآن".

(2)

وفي نسخة: "واضربوا سهمي معكم".

ص: 124

سعيد الخدريّ

إلخ ما نصّه: وقال أبو معمر: حدّثنا عبد الوارث، حدّثنا هشامَ، حدّثنا محمد بن سيرين، حدّثني مَعْبَد بن سيرين، عن أبي سعيد الخدريّ بهذا. انتهى.

وقوله: (فَأَتَتْنَا امْرَأَةٌ) ولفظ البخاريّ: "فأتتنا جارية"، وقد تقدّم بلفظ:"فأتوهم"، ويُجمع بينهما بأنه كان مع المرأة غيرها، والله تعالى أعلم.

وقوله: (إِنَّ سَيِّدَ الْحَيِّ سَلِيمٌ)؛ أي: لديغ، قيل: سُمّي بذلك تفاؤلًا بالسلامة، وقيل: لأنه مستسلم لِمَا به

(1)

.

وقال في "الفتح": السليم: هو اللديغ، سُمّي بذلك تفاؤلًا من السلامة؛ لكون غالب من يُلدَغ يَعْطَب، وقيل: سَلِيم فَعِيل بمعنى مفعول؛ لأنه أسلم للعطب، واستعمال اللدغ في ضرب العقرب مجازَ، والأصل أنه الذي يضرب بفيه، والذي يضرب بمؤخره يقال: لَسْعٌ، وبأسنانه: نَهْس - بالمهملة، والمعجمة - وبأنفه: نَكْز - بنون، وكاف، وزاي - وبنابه: نَشْط، هذا هو الأصل، وقد يُستعمل بعضها مكان بعض تجوّزًا. انتهى

(2)

.

وقوله: (فَقَامَ مَعَهَا رَجُلٌ مِنَّا) تقدّم أنه أبو سعيد الخدريّ رضي الله عنه.

وقوله: (فَبَرَأَ) تقدّم أنه من باب نفع، وتعب، وكرُم.

وقوله: (فَأَعْطَوْهُ غَنَمًا) تقدّم أنَّها ثلاثون شاةً.

وقوله: (مَا رَقَيْتُهُ إِلَّا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ) وفي بعض النُّسخ: "إلَّا بأمّ القرآن". وقوله: (قَالَ: فَقُلْتُ: لَا تُحَرِّكُوهَا)؛ أي: قال أبو سعيد رضي الله عنه لأصحابه: لا تحرّكوا هذه الأغنام، وهو كناية عن التصرّف بالقسمة، ونحوها.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام شرحه، وبيان مسائله قبل حديث، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5724]

(

) - (وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، بِهَذَا الْإِسْنَاد، نَحْوَهُ، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: فَقَامَ مَعَهَا رَجُلٌ مِنَّا، مَا كُنَّا نَأْبِنُهُ بِرُقْيَةٍ).

(1)

"شرح النوويّ" 14/ 188 - 189.

(2)

"الفتح" 13/ 161، كتاب "الطبّ" رقم (5737).

ص: 125

رجال هذا الإسناد: ثلاثة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) أبو موسى العمريّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(وَهْبُ بْنُ جَرِيرِ) بن حازم بن زيد الأزديّ، أبو عبد الله البصريّ، ثقةٌ [9](ت 206)(ع) تقدم في "الإيمان" 50/ 315.

و"هشام" بن حسّان ذُكر قبله.

وقوله: (مَا كُنَّا نَأْبِنُهُ بِرُقْيَةٍ) قال النوويّ رحمه الله: هو بكسر الباء، وضمها؛ أي: نظنه، كما سبق في الرواية التي قبلها، وأكثر ما يُستعمل هذا اللفظ بمعنى نتهمه، ولكن المراد هنا: نظنه، كما ذكرناه، والله أعلم. انتهى

(1)

.

وقال في "العمدة": أي ما كنا نعلمه أنه يرقي، فنُعِيْنُه، ومادته همزة، وباء موحّدة، ونون، من أبنت الرجل آبُنُه، من باب نصر، وآبِنُهُ من باب ضرب: إذا رميته بخلّة سَوْء، وهو مأبون، والأَبْنُ بفتح الهمزة، وسكون الباء: التهمة. انتهى

(2)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "ما كنا نأبُنُه برقية"؛ أي: نتهمه بها، يقال: أَبَنْتُ الرَّجل آبنُهُ، وآبِنُهُ: إذا رميته بخلَّة سوء، ومنه رجل مأبون؛ أي: مَعِيبٌ، والأبْنَةُ: العيب، ومنه: عُودٌ مأبون: إذا كان فيه أُبْنَةٌ تعيبه؛ أي: عُقْدة، قاله القتبي وغيره، وقد روي هذا الحرف:"ما كنَّا نظنه" بدل: "نأبنه"؛ أي: نتهمه. انتهى

(3)

.

قال الجامع عفا الله عنه: الأَولى في تفسير "نأبنه" ما تقدّم عن النوويّ أنه بمعنى: نظنّه، لا بمعنى: نتّهمه، فهو بمعنى الرواية الأخرى بلفظ:"نظنّه"، فتنته، والله تعالى أعلم.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام شرحه، وبيان مسائله، ولله الحمد والمنّة.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(1)

"شرح النوويّ" 14/ 189.

(2)

"عمدة القاري" 20/ 29.

(3)

"المفهم" 5/ 586.

ص: 126

(9) - (بَابُ اسْتِحْبَابِ وَضْعِ يَدِهِ عَلَى مَوْضِعِ الأَلَمِ مَعَ الدُّعَاءِ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5725]

(2202) - (حَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِر، وَحَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، قَالَا: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَخْبَرَنِي نَافِعُ بْنُ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ الثَّقَفِيِّ، أَنَّهُ شَكَا إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَجَعًا، يَجِدُهُ فِي جَسَدِهِ مُنْذُ أَسْلَمَ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "ضَعْ يَدَكَ عَلَى الَّذِي تَأَلَّمَ مِنْ جَسَدِكَ، وَقُلْ: بِاسْمِ الله، ثَلَاثًا، وَقُلْ سَبْعَ مَرَّاتٍ: أَعُوذُ بِالله، وَقُدْرَتِه، مِنْ شَرِّ مَا أَجِدُ، وَأُحَاذِرُ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(نَافِعُ بْنُ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ) النوفليّ، أبو عبد الله، أو أبو محمد المدنيّ، ثقةٌ فاضلٌ [3](ت 99)(ع) تقدم في "شرح المقدمة" ج 2 ص 482.

2 -

(عُثْمَانُ بْنُ أَبِي الْعَاصِ الثقَفِيُّ) الطائفيّ، أبو عبد الله الصحابيّ الشهير، استعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم على الطائف، ومات في خلافة معاوية رضي الله عنهما بالبصرة (م 4) تقدم في "الصلاة" 38/ 1055.

والباقون ذُكروا قبل باب، وقبل ثلاثة أبواب.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وأن نصفه الأول مسلسلٌ بالمصريين، والثاني بالمدنيين، سوى الصحابيّ، فطائفيّ، وأنه من المقلّين من الرواية، فليس له في الكتب الستّة إلَّا نحو ثلاثة عشر حديثًا فقط، راجع ترجمته في "تحفة الأشراف"

(1)

.

شرح الحديث:

(عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ الثَّقَفِيِّ) رضي الله عنه (أَنَّهُ شَكَا إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَجَعًا) بفتحتين: أي: مرضًا، وهو مصدر وَجِعَ، كتَعِبَ، قال الفيّوميّ رحمه الله:

(1)

راجع: "تحفة الأشراف" 7/ 237 - 242.

ص: 127

وَجِعَ فلانًا رأسُهُ، أو بطنه - يُجْعَل الإنسان مفعولًا، والعضو فاعلًا، وقد يجوز العكس، وكأنه على القلب؛ لِفَهْم المعنى - يَوْجَعُ وَجَعًا، من باب تَعِبَ، فهو وَجِعٌ: أي مريضٌ، مُتَأَلِّمٌ، ويقع الوَجَعُ على كلّ مرض، وجمعه: أَوْجَاعٌ، مثل سبَب وأسباب، ووِجَاعٌ أيضًا، بالكسر، مثلُ جَبَلٍ وجِبَال، وقوم وَجِعُونَ، ووَجْعَى، مثلُ مَرْضَى، ونساء وَجِعَاتٌ، ووَجَاعَى، وربما قيل: أَوْجَعَهُ رأسه، بالألف، والأصل: وَجَعَهُ ألم رأسه، وأَوْجَعَهُ ألم رأسه، لكنه حُذف للعلم به، وعلى هذا فيقال: فلان مَوْجُوعٌ، والأجود: مَوْجُوعُ الرأس، وإذا قيل: زيد يَوْجَعُ رَأْسَهُ بحذف المفعول، انتَصَب الرأس، وفي نصْبه قولان، قال الفراء: وَجِعْتَ بَطْنَكَ، مثلُ رَشِدتَ أَمْرَكَ، فالمعرفة هنا في معنى النكرة، وقال غير الفرَّاءِ: نُصِبَ البطنُ بنزع الخافض، والأصل: وَجِعْتَ من بطنك، ورَشِدتَ في أمرك؛ لأن المفسِّرَات عند البصريّين لا تكون إلَّا نكرات، وهذا على القول بجعل الشخص مفعولًا واضحٌ، أما إذا جُعِل الشخص فاعلًا، والعضو مفعولًا، فلا يَحتاج إلى هذا التّأويل، وتَوَجَّعَ: تَشَكَّى، وتَوَجَّعْتُ له مِن كذا: رَثَيْتُ له. انتهى

(1)

.

وقوله: (يَجِدُهُ فِي جَسَدِهِ) جملة في محلّ نصب صفة لـ "وجعًا"، قال المجد رحمه الله: الجسد محرّكةً: جسم الإنسان، والجنّ، والملائكة. انتهى

(2)

.

وقال الفيّوميّ رحمه الله: الجَسَدُ جمعه: أَجْسَادٌ، ولا يقال لشيء من خَلْق الأرض: جَسَدٌ، وقال في "البارع": لا يقال: الجَسَدُ إلَّا للحيوان العاقل، وهو الإنسان، والملائكة، والجنّ، ولا يقال لغيره: جَسَدٌ إلَّا للزعفران، وللدم إذا يَبِس أيضًا. انتهى

(3)

.

(مُنْذُ أَسْلَمَ)؛ أي: من وقت إسلامه، وفي رواية "الموطّأ":"أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال عثمان: وبي وَجَعٌ، قد كاد يُهلكني".

[فائدة]: قال المجد رحمه الله في "القاموس": "مُنْذُ" بَسيطٌ، مَبْنيٌّ على الضم، و"مُذْ" محذوفٌ منه، مَبْنِيٌّ على السكون، وتكسرُ مِيمُهُما، ويَليهما اسمٌ مجرورٌ،

(1)

"المصباح المنير" 2/ 648 - 649.

(2)

"القاموس المحيط" ص 215.

(3)

"المصباح المنير" 1/ 101.

ص: 128

وحينئذ: حَرْفا جَرّ، بمعنى "مِنْ" في الماضي، و"في" في الحاضِر، و"منْ"، و"إلى" جميعًا في المَعْدود، كـ: ما رأيتُهُ مُنْذُ يومِ الخميس، واسمٌ مرفوعٌ، كمُنْذُ يومان، وحينئذٍ مُبْتدآن، ما بعدَهما خَبرٌ، ومعناهُما: الأَمَدُ في الحاضِر، والمَعدود، وأوَّلُ المُدَّةِ في الماضِي، أو ظَرْفانِ مُخْبَرٌ بِهِما عَمَّا بعدَهما، ومعناهُما: بينَ وبينَ، كَلَقِيتُه مُنْذُ يومانِ؛ أي: بينِي وبينَ لقائِهِ يومان، وتَليهما الجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ، نحوُ قوله [من الكامل]:

مَا زَالَ مُذْ عَقَدَتْ يَداهُ إزارَهُ

فَسَمَا فَأَدْرَكَ خَمْسَةَ الأشْبَارِ

أو الاسْمِيَّةُ، كقوله [من الطويل]:

وَمَا زِلْتُ أبْغِي الْمَالَ مُذْ أَنَا يَافِعُ

وَلِيدًا وَكَهْلًا حَيْثُ شِبْتُ وَأَمْرَدَا

وحينئذٍ ظَرْفانِ مُضافانِ إلى الجُمْلَة، أو إلى زمانٍ مُضافٍ إليها، وقيلَ: مُبْتَدَآنِ.

وأصلُ مُذْ: مُنْذُ؛ لِرُجوعِهِم إلى ضم ذالِ مُذْ، عندَ مُلاقاةِ الساكنين، كمُذُ اليوم، ولولا أن الأَصلَ الضمُّ لكَسَرُوا، ولتَصْغِيرِهِم إيَّاهُ مُنَيْذٌ، أو إذا كانتْ مُذْ اسمًا فأَصْلُها: مُنْذُ، أو حَرْفًا فهي أصلٌ، ويقالُ: ما لقِيتُه مُنْذَ اليوم، ومُذَ اليوم، بفتح ذالِهِما، أو أصْلُها:"مِنِ" الجارَّةُ، و"ذُو" بمعنى الذي، أو "منْ إذْ" حُذِفَت الهمزةُ، فالْتَقَى ساكنان، فضمَّ الذالُ، أو أصْلُها:"مِنْ ذَا" اسمَ إشارةٍ، فالتقديرُ في ما رَأيْتُهُ مُذ يومانِ: من ذَا الوَقْتِ يومان، وفي كُلٍّ تَعَسُّفٌ. انتهى

(1)

.

وإلى بعض ما ذُكر أشار ابن مالك رحمه الله في "الخلاصة" حيث قال:

وَ"مُذْ" وَ"مُنْذُ" اسْمَانِ حَيْثُ رَفَعَا

أَو أُوليَا الْفِعْلَ كـ "جِئْتُ مُذْ دَعَا"

وَإِنْ يَجُرَّا فِي مُضِيٍّ فَكَـ "مِنْ"

هُمَا وَفِي الْحُضُورِ مَعْنَى "فِي" اسْتَبِنْ

(فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "ضَعْ يَدَكَ) وللطبرانيّ، والحاكم:"ضع يمينك على المكان الذي تشتكي، فامسح بها سبع مرات"

(2)

. (عَلَى الَّذِي يَأْلَمُ) مضارع أَلِمَ، من باب تَعِبَ: أي: وَجعَ، ومَرَض.

ووقع في بعض النُّسخ: "تَأَلَّمَ" بالتاء بدل الياء، فيكون مضارع تَأَلّم،

(1)

"القاموس المحيط" 1/ 431 - 432.

(2)

"شرح الزرقانيّ على الموطّأ" 4/ 415.

ص: 129

بفتح أوله، وبتشديد اللام، وفيه حَذْف إحدى التاءين؛ إذ أصله: تتألّم، كما في قوله تعالى:{نَارًا تَلَظَّى} [الليل: 14]، وقوله:{تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ} [القدر: 4]، وقوله:{فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6)} [عبس: 6]، قال في "الخلاصة":

وَمَا بِتَاءَيْنِ ابْتُدِي قَدْ يُقْتَصَرْ

فِيهِ عَلَى تَا كَـ "تَبَيَّنُ الْعِبَرْ"

ويَحْتَمِل أن يكون بتخفيف اللام، مضارع أَلِمَ، كفَرِح، يقال: أَلَمَ يَأْلَمُ: إذا وَجِعَ؛ أي: على العضو الذي تمرضه، والله تعالى أعلم.

وقوله: (مِنْ جَسَدِكَ) بيان للموصول، (وَقُلْ: بِاسْمِ اللهِ)؛ أي: هذا اللفظ، فلا ينبغي أن يزيد، فيقول: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وإن قال به بعضهم؛ لأن التعليم النبويّ له سرّ، فإذا زيد عليه شيء فُقد ذلك السرّ، فليُتنبّه، والله تعالى أعلم. (ثَلَاثًا)؛ أي: ثلاث مرّات، (وَقُلْ سَبْعَ مَرَّاتٍ: أَعُوذُ)؛ أي: أعتصم، وأتحصّن (بِاللهِ) تعالى (وَقُدْرَتهِ، مِنْ شَرِّ مَا أَجِدُ)؛ أي: في الوقت الحاضر من الألم، (وَأُحَاذِرُ")؛ أي: أخافه في المستقبل، يقال: حَذِرَ الشيءَ: من باب تَعِبَ: إذا خافه، والظاهر أنه إنما عبّر بالمفاعلة؛ لأن الشيء المحذور يطلب الإنسان ليقع عليه، وهو يدفعه عن نفسه، فصار من باب المفاعلة، والله تعالى أعلم.

قال الطيبيّ رحمه الله: يُتعوَّذ من وجع، ومكروه هو فيه، أو مما يُتوقع حصوله في المستقبل، من الحزن، والخوف، فإن الحذر الاحتراز عن المخوف

(1)

.

وللطبرانيّ، والحاكم: أنه يقول ذلك في كل مسحة من السبع.

وللترمذيّ، وحسّنه، والحاكم، وصحّحه، عن محمد بن سالم، قال: قال لي ثابت البنانيّ: يا محمد، إذا اشتكيت، فضع يدك حيث تشتكي، ثم قل: بسم الله، أعوذ بعزة الله، وقدرته، من شرّ ما أجد، من وجعي هذا، ثم ارفع يدك، ثم أعد ذلك وترًا، قال: فإن أنس بن مالك حدّثني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدّثه بذلك. انتهى

(2)

.

زاد في رواية "الموطّأ": "قال: فقلت ذلك، فأذهب الله ما كان بي، فلم أزل آمر بها أهلي، وغيرهم"؛ أي: لأنه من الأدوية الإلهية، والطبّ النبويّ؛

(1)

"شرح سنن ابن ماجه" 1/ 252، و"فيض القدير" 1/ 284.

(2)

راجع: "سنن الترمذيّ" 5/ 574، و"المستدرك على الصحيحين" للحاكم 4/ 244.

ص: 130

لِمَا فيه من ذكر الله تعالى، والتفويض إليه، والاستعاذة بعزته، وقدرته، وتكرارُه يكون أنجع، وأبلغ، كتكرار الدواء الطبيعيّ؛ لاستقصاء إخراج المادة، وفي السبع خاصيّة لا توجد في غيرها، وقد خَصّ صلى الله عليه وسلم السبع في غير ما موضع، بشرط قوّة اليقين، وصدق النية، قال بعضهم: ويظهر أنه إذا كان المريض نحو طفل أن يقول من يعوّذه: من شرّ ما يجد، ويحاذر. انتهى

(1)

.

[تنبيه]: أخرج الطبرانيّ رحمه الله هذا الحديث في "المعجم الكبير" مطوّلًا، فقال:

(8356)

- حدّثنا يحيى بن أيوب العلاف المصريّ، ثنا سعيد بن أبي مريم، ثنا محمد بن جعفر، عن سهيل بن أبي صالح، عن حكيم بن حكيم بن عَبّاد بن حُنيف، عن عثمان بن أبي العاص، قال: قَدِمت في وفد ثَقِيف، حين وَفَدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَلَبِسنا حُلَلَنا بباب النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقالوا: من يمسك لنا رواحلنا، وكلُّ القوم أحبّ الدخول على النبيّ صلى الله عليه وسلم، وكَرِه التخلف عنه، قال عثمان: وكنت أصغر القوم، فقلت: إن شئتم أمسكت لكم، على أنّ عليكم عهدَ الله لتمسكنّ لي إذا خرجتم، قالوا: فذلك لك، فدخلوا عليه، ثم خرجوا، فقالوا: انطلق بنا، قلت: أين؟ فقالوا: إلى أهلك، فقلت: ضربت من أهلي حتى إذا حللت بباب النبيّ صلى الله عليه وسلم أرجع، ولا أدخل عليه، وقد أعطيتموني من العهد ما قد علمتم، قالوا: فاعجل، فإنا قد كفيناك المسألة، لم ندع شيئًا إلا سألناه عنه، فدخلت، فقلت: يا رسول الله ادع الله أن يُفَقِّهني في الدين، ويعلِّمني، قال:"ماذا قلت؟ " فأعدت عليه القول، فقال:"لقد سألتني شيئًا ما سألني عنه أحد من أصحابك، اذهب، فأنت أمير عليهم، وعلى من تقدّم عليه من قومك، وأُمّ الناسَ بأضعفهم"، فخرجت، حتى قَدِمت عليه مرة أخرى، فقلت: يا رسول الله، اشتكيت بعدك، فقال:"ضَعْ يدك اليمنى على المكان الذي تشتكي، وقل: أعوذ بعزة الله، وقدرته، من شرّ ما أجد، سبع مرات"، ففعلت، فشفاني الله. انتهى

(2)

.

والله تعالى أعلم.

(1)

"شرح الزرقانيّ على الموطّأ" 4/ 415 - 416.

(2)

"المعجم الكبير" للطبرانيّ 9/ 50.

ص: 131

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

[تنبيه]: قال الدارقطنيّ رحمه الله: أخرج مسلم حديث ابن وهب، عن يونس، عن الزهريّ، عن نافع بن جبير، عن عثمان بن أبي العاص:"شكوت إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم وجعًا أجده. . ."، قال: رواه عثمان بن الحكم، عن يونس، عن الزهريّ، عن نافع بن جبير، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال لعثمان. . . مرسلًا. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: هكذا ذكر الدارقطنيّ، ولم يذكر إعلال الحديث، والظاهر أنه لا يرى ذلك، وإنما أراد بيان الاختلاف، وعلى تقدير إرادته الإعلال، فلا وجه له؛ لأن ابن وهب حافظ متقنٌ، فلا يضرّه مخالفة عثمان بن الحكم، فإنه دونه، قال في "التقريب": صدوقٌ له أوهام. انتهى

(1)

، فظهر وهمه هنا بمخالفته ابن وهب

(2)

.

ومن العجيب الغريب أن بعض من كتب

(3)

على "صحيح مسلم" جرى على عادته المستمرّة في تضعيف أحاديث كثيرة من "صحيح مسلم"، فضعّف حديث عثمان هذا، وحديثه الآتي في الباب التالي بالانقطاع، والإرسال، وهذه جراءة منه لم يسبقه أحد إلى ذلك، حتى إن الدراقطنيّ لم يدّع الانقطاع في سند مسلم، وإنما ذكر مخالفة عثمان بن الحكم لابن وهب في الإرسال، فتبصّر بالإنصاف، والله تعالى المستعان.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [9/ 5725](2202)، و (أبو داود) في "الطبّ"(3891)، و (الترمذيّ) في "الطبّ"(2080)، و (ابن ماجه) في "الطبّ"(3522)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(4/ 367 و 410 و 6/ 248)، و (مالك) في "الموطّأ"(2/ 942)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(5/ 48 و 6/ 63)،

(1)

"تقريب التهذيب" ص 233.

(2)

راجع ما كتبه الشيخ ربيع المدخليّ في دراسته على مسلم ص 365 - 366.

(3)

هو الشيخ مسلم بن محمود عثمان، راجع ما كتبه في هامش "صحيح مسلم" 4/ 38 - 39.

ص: 132

و (أحمد) في "مسنده"(4/ 21 و 217)، و (عبد بن حُميد) في "مسنده"(382)، و (الطبرانيّ) في "الكبرى"(9/ 8341 و 8342 و 8343)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(2964 و 2965 و 2967)، و (الحاكم) في "المستدرك"(1/ 494)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان مشروعيّة الرقية، وأنها من الأسباب التي جعلها الله تعالى لإزالة الأمراض الواقعة، ودفع المتوقّعة.

2 -

(ومنها): بيان استحباب وضع اليد على الجسد المتألّم حال الرقية بالذِّكر المذكور.

3 -

(ومنها): استحباب تكرار التسمية ثلاث مرّات، وتكرار التعويذ سبع مرّات.

4 -

(ومنها): ما قاله الإمام ابن عبد البرّ رحمه الله: في هذا الحديث دليلٌ واضحٌ على أن صفات الله غير مخلوقة؛ لأن الاستعاذة لا تكون بمخلوق. انتهى

(1)

.

5 -

(ومنها): ما قال أيضًا: وفيه أن الرُّقَى يدفع البلاء، ويكشفه الله به، وهو من أقوى معالجة الأوجاع لمن صحبه اليقين الصحيح، والتوفيق الصريح، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وهو رب العرش العظيم. انتهى

(2)

.

6 -

(ومنها): ما قال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "ضع يدك على الذي يألم من جسدك" هذا الأمر على جهة التعليم، والإرشاد إلى ما ينفع من وضع يد الرَّاقي على المريض، ومَسْحه به، وأن ذلك لم يكن مخصوصًا بالنبيّ صلى الله عليه وسلم، بل ينبغي أن يفعل ذلك كل راقٍ، وقد تأكد أمر ذلك بفعل النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأصحابه رضي الله عنهم ذلك بأنفسهم، وبغيرهم، كما قد ذكر في الأحاديث المتقدِّمة، فلا ينبغي للرَّاقي أن يَعْدِل عنه للمسح بحديد، ولا بغيره، فإنَّ ذلك لم يفعله أحدٌ ممن سبق ذِكره، ففعلُه تمويهٌ، لا أصل له.

قال: ومما ينبغي للرَّاقي أن يفعله: النّفْث، والتَّفْل، وقد قلنا: إنَّهما نفخ

(1)

"التمهيد" لابن عبد البرّ 23/ 29.

(2)

"التمهيد" لابن عبد البرّ 23/ 29.

ص: 133

مع ريق، وإن ريق التفل أكثر، وقد قيل: إن ريق النفث أكثر، وقيل: هما متساويان، والأول أصحّ عند أهل اللغة، وقد كثر ذلك في الأحاديث المتقدِّمة وغيرها، فلا يعدل عنه، وكذلك تكرار التسمية ثلاثًا، وتكرار العُوذة

(1)

سبعًا، كما جاء في هذا الحديث، فينبغي للرَّاقي أن يحافظ عليه؛ إذ قد علَّمه النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأمر به، فكل ذلك فيه أسرار، يدفع الله تعالى بها الأضرار.

فأما ما يفعله الْمُعَزِّمون من الآلات، والصَّلاصل، فذلك كله من باب التمويه، والتطرُّق لأكل المال بالباطل.

قال: واختَلَف العلماء في النُّشْرة، وهي أن يكتب شيئًا من أسماء الله، أو من القرآن، ثم يغسله بالماء، ثمَّ يمسح به المريض، أو يسقيه إياه، فأجازها سعيد بن المسيِّب، قيل له: الرَّجل يؤخذ عن امرأته؛ أيُحَلُّ عنه، وينشر؟ قال: لا بأس به، وما ينفع لم يُنْهَ عنه، وقال المازريّ: النُشْرة أمر معروف عند أهل التعزيم، وسُمِّيت بذلك؛ لأنها تُنْشَر عن صاحبها؛ أي: تُحَلّ.

ومَنَعها الحسن، وقال: هي من السحر، وقد رَوَى أبو داود من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال: سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النَّشرة، فقال:"هي من عمل الشيطان"، قال بعض علمائنا: هذا محمول على أنها خارجة عمَّا في كتاب الله تعالى، وسُنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم، وعن المداواة المعروفة، والنُّشرة من جنس الطبّ.

قال القرطبيّ رحمه الله: ويتأيد هذا بقوله صلى الله عليه وسلم: "لا بأس بالرُّقَى ما لم يكن فيه

شرك"، و"من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل".

قال القاضي عياض رحمه الله في النفث: وفائدة ذلك -والله أعلم- التبرُّك ببلل الرُّطوبة، أو الهواء، والنَّفَس المباشر للرُّقية الحسنة، كما يُتبرَّك بغسالة ما يُكتب من أسماء الله الحسنى في النُّشُر، قال: وقد يكون ذلك على وجه التفاؤل، من زوال ذلك الألم، وانفصاله عن المريض، كانفصال ذلك النفث، وقد كان مالك ينفث إذا رَقَى نفسه، وكان يكره الحديدة، والملح الذي يُعْقَد، والذي يكتب خاتم سليمان، وكان العَقْدُ عنده أشدّ كراهة؛ لِمَا في ذلك من

(1)

"الْعُوذة" بالضمّ: الرقية، كالْمَعَاذة، والتعويذ، قاله في "القاموس" ص 925.

ص: 134

مشابهة السِّحر. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(1)

، وهو بحث مفيدٌ، والله تعالى أعلم.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(10) - (بَابُ التَّعَوُّذِ مِنْ شَيْطَانِ الْوَسْوَسَةِ فِي الصَّلَاةِ)

وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5726]

(2203) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ خَلَفٍ الْبَاهِلِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَى، عَنْ سَعِيدٍ الْجُرَيْرِيِّ، عَنْ أَبِي الْعَلَاءِ، أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ أَبِي الْعَاصِ أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ حَالَ بَيْنِي وَبَيْنَ صَلَاتِي، وَقِرَاءَتِي، يَلْبِسُهَا عَلَيَّ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "ذَاكَ شَيْطَانٌ، يُقَالُ لَهُ: خِنْزِبٌ، فَإِذَا أَحْسَسْتَهُ، فَتَعَوَّذْ بِاللهِ مِنْهُ، وَاتْفُلْ عَلَى يَسَارِكَ ثَلَاثًا"، قَالَ: فَفَعَلْتُ ذَلِكَ، فَأَذْهَبَهُ اللهُ عَنِّي).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ خَلَفٍ الْبَاهِلِيُّ) أبو سلمة البصريّ المعروف بالْجُوباريّ، ثقةٌ [10](ت 242)(م د ت ق) تقدم في "الإيمان" 100/ 530.

2 -

(عَبْدُ الأَعْلَى) بن عبد الأعلى الساميّ، أبو محمد البصريّ، ثقةٌ [8](ت 189)(ع) تقدم في "الطهارة" 5/ 557.

3 -

(سَعِيدٌ الْجُرَيْرِيُّ) ابن إياس، أبو مسعود البصريّ، ثقةٌ اختَلَط قبل موته بثلاث سنين [5](ت 144)(ع) تقدم في "الإيمان" 40/ 266.

4 -

(أَبُو الْعَلَاءِ) يزيد بن عبد الله بن الشِّخِّير العامريّ البصريّ، ثقةٌ [2](ت 111) أو قبلها (ع) تقدم في "المحيض" 20/ 783.

والصحابيّ رضي الله عنه ذُكر في السند الماضي.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسلٌ بالبصريين، حتى الصحابيّ، فقد مات بالبصرة، كما قدّمناه، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ.

(1)

"المفهم" 5/ 589 - 591.

ص: 135

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي الْعَلَاءِ) يزيد بن عبد الله بن الشِّخِّير (أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ أَبِي الْعَاصِ) الثقفيّ رضي الله عنه (أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ الشَّيْطَانَ) قال الفيّوميّ رحمه الله: في الشيطان قولان:

أحدهما: أنه من شَطَنَ: إذا بَعُدَ عن الحقّ، أو عن رحمة الله تعالى، فتكون النون أصليةً، ووزنه فَيْعَالٌ، وكلّ عَاتٍ مُتَمَرِّدٌ، من الجنّ، والإنس، والدوابّ، فهو شَيْطَانٌ، ووصف أعرابيّ فرسَهُ، فقال: كأنه شَيْطَانٌ في أَشْطَانٍ

(1)

.

والقول الثاني: أن الياء أصليةٌ، والنون زائدة، عكسُ الأول، وهو من شَاطَ يَشِيطُ: إذا بَطَلَ، أو احترق، فوزنه: فَعْلانٌ. انتهى

(2)

.

(قَدْ حَالَ)؛ أي: حجز (بَيْنِي وَبَيْنَ صَلَاتِي، وَقِرَاءَتِي) قال النوويّ رحمه الله: معنى "حال بيني وبينها"؛ أي: نَكَّدَ عليّ فيها، ومنعني لَذّتها، والفراغ للخشوع فيها

(3)

. (يَلْبِسُهَا عَلَيَّ) بفتح أوله، وكسر ثالثه؛ أي: يَخلطها عليّ، ويُشكِّكني فيها

(4)

، وقال القرطبيّ رحمه الله: هو بكسر الباء؛ لأنَّ ماضيه: لَبَس بفتحها، كما قال الله تعالى:{وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} [الأنعام: 9]، وهو بمعنى: الخلط، فأمَّا لُبس الثوب، فهو على العكس من ذلك. انتهى

(5)

.

(فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "ذَاكَ) الذي يفعل بك هذا (شَيْطَانٌ، يُقَالُ لَهُ: خِنْزِبٌ) بخاء معجمة مكسورة، ثم نون ساكنة، ثم زاي مكسورة، ومفتوحة، ويقال أيضًا: بفتح الخاء، والزاي، حكاه القاضي، ويقال أيضًا: بضم الخاء، وفتح الزاي، حكاه ابن الأثير في "النهاية"، وهو غريب، ذكره النوويّ رحمه الله

(6)

.

وقال القاضي عياض رحمه الله في "المشارق": خِنْزِبٌ -بالخاء المعجمة، والنون، والزاي-: اسم الشيطان الذي يَلْبس في الصلاة، واختُلِف في ضبط

(1)

جمع شَطَن بفتحتين، وهو الحَبْل. انتهى. "المصباح".

(2)

"المصباح المنير" 1/ 313.

(3)

"شرح النوويّ" 14/ 190.

(4)

"شرح النوويّ" 14/ 190.

(5)

"المفهم" 5/ 591.

(6)

"شرح النوويّ" 14/ 190.

ص: 136

الخاء، فضبطناها على القاضي الشهيد بكسرها، وضبطناها على أبي بحر بفتحها، وكذا قيّدها الجيّانيّ. انتهى

(1)

.

وقال ابن الأثير رحمه الله: في حديث الصلاة: "ذاك شيطان، يقال له: خنزب"، قال أبو عمرو: وهو لقبٌ له، والْخِنزب: قطعة لحم مُنْتِنةٌ، ويُرْوَى بالكسر، والضم. انتهى

(2)

.

[تنبيه]: ضبط القرطبيّ خنزبًا بالحاء المهملة بدل الخاء المعجمة، ولا أظنّه صحيحًا؛ لأنه مخالف للروايات، ولم يذكره أحد من الشرّاح، فليُتأمل، والله تعالى أعلم.

(فَإِذَا أَحْسَسْتَهُ)؛ أي: علمته ووجدته، قال في "القاموس"، و"شرحه": حَسَسْتُ الشيءَ أَحُسُّه حَسًّا، وحِسًّا، وحَسيسًا: بمعنى: عَلِمْتُه، وعَرَفْتُه، وشَعَرْتُ به، وقال أيضًا: وحَسِسْتُ به بالكَسْر، وحَسِيتُ به، وأَحْسَيتُ تُبدَلُ السينُ ياءً؛ أي: أيْقَنتُ به، وقال أيضًا: وأَحْسَسْتُ، وأحْسَيْتُ، وأَحَسْتُ بسين واحدة، وهو من شواذّ التخفيف: ظننتُ، ووجدتُ، وأبصرتُ، وعَلِمْتُ. انتهى

(3)

.

وقال الفيّوميّ رحمه الله: وأَحَسَّ الرجلُ الشيءَ إِحْسَاسًا: عَلِمَ به، يتعدَّى بنفسه، مع الأَلِف، قال تعالى:{فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ} [آل عمران: 52]، وربما زيدت الباء، فقيل: أَحَسَّ بهِ، على معنى شَعَرَ به، وحَسَسْتُ به، من باب قتل لغة فيه، والمصدر: الحِسُّ بالكسر، وتتعدى بالباء على معنى: شعرت أيضًا، ومنهم من يُخَفِّف الفعلين بالحذف، فيقول: أحَسْتُهُ، وحَسْتُ به، ومنهم من يُخَفِّف فيهما بإبدال السين ياء، فيقول: حَسَيْتُ، وأَحْسَيْتُ. انتهى

(4)

.

(فَتَعَوَّذْ)؛ أي: تحصّن، واعتصم (بِاللهِ) تعالى (مِنْهُ)؛ أي: من ذلك الشيطان؛ أي: من وسوسته، (وَاتْفُلْ) بضمّ الفاء، وكسرها، من بابي ضرب، ونصر؛ أي: ابْصُق (عَلَى يَسَارِكَ)؛ أي: في جهة يسارك؛ لأنه مقام الشيطان،

(1)

"مشارق الأنوار" 1/ 171.

(2)

"النهاية في غريب الأثر" 2/ 83.

(3)

"تاج العروس" 1/ 3895.

(4)

"المصباح المنير" 1/ 135.

ص: 137

فقد روى الطبرانيّ في "المعجم الكبير" بسند ضعيف عن أبي أمامة رضي الله عنه مرفوعًا، وفيه:"وإن أحدكم إذا قام في الصلاة، فإنه يقوم بين يدي الله، مستقبِل ربه، ومَلَكه عن يمينه، وقرينه عن يساره، فلا يتفلنّ أحدكم بين يديه، ولا عن يمينه، ولكن عن يساره، تحت قدمه اليسرى. . ." الحديث

(1)

.

(ثَلَاثًا")؛ أي: ثلاث مرّات. (قَالَ) عثمان رضي الله عنه: (فَفَعَلْتُ ذَلِكَ)؛ أي: ما أمرني به النبيّ صلى الله عليه وسلم، (فَأَذْهَبَهُ اللهُ عَنِّي)، والله تعالى أعلم.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [10/ 5726 و 5727 و 5728](2203)، و (عبد الرزاق) في "مصنّفه"(2582 و 4220)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(10/ 353)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 216)، و (عبد بن حميد) في "مسنده"(380)، و (الطحاويّ) في "مشكل الآثار"(1/ 160)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(8366 و 8367)، و (الحاكم) في "المستدرك"(4/ 244)، و (البيهقىُّ) في "الدلائل"(5/ 307)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان أن الشيطان يتسلّط على الإنسان في صلاته، فيَلْبس عليه صلاته.

2 -

(ومنها): استحباب التعوّذ من الشيطان عند وسوسته، مع التَّفْل عن اليسار ثلاثًا.

3 -

(ومنها): بيان ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم من رجوعهم إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فيما يعتريهم من المشكلات، حتى يحلّها لهم، بل ولأمته كلّها، والله تعالى أعلم.

(1)

"المعجم الكبير" للطبرانيّ 8/ 199.

ص: 138

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5727]

(. . .) - (حَدَّثَنَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا سَالِمُ بْنُ نُوحٍ (ح) وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، كِلَاهُمَا عَنِ الْجُرَيْرِيِّ، عَنْ أَبِي الْعَلَاءِ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ، أَنَّهُ أتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَ بِمِثْلِهِ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي حَدِيثِ سَالِمِ بْنِ نُوحٍ:(ثَلَاثًا").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(سَالِمُ بْنُ نُوحِ) بن أبي عطاء البصريّ أبو سعيد العطّار، صدوقٌ له أوهامٌ [9] مات بعد المائتين (بخ م د ت س) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 55/ 1532.

2 -

(أَبُو أُسَامَةَ) حمّاد بن أُسامة الكوفيّ، تقدّم قريبًا.

والباقون ذُكروا في الباب، وقبل باب.

وقوله: (كِلَاهُمَا عَنِ الْجُرَيْرِيِّ) ضمير التثنية لسالم بن نوح، وأبي أسامة.

وقوله: (فَدَكَرَ بِمِثْلِهِ) هكذا النُّسخ بالإفراد، وكان الأَولى أن يقول:"فذكرا" لأن الضمير لسالم، وأبي أسامة، لكني لم أر نسخة بهذا، وأشار في النسخة الهنديّة إلى أن ضمير "ذَكَر" يعود على الْجُريريّ، وكذا فاعل "لم يَذْكُر" بعده، ولكنه ليس بواضح، فتأمّله بالإمعان، والله تعالى أعلم.

وقوله: (وَلَمْ يَدْكُرْ فِي حَدِيثِ سَالِم بْنِ نُوحٍ: "ثَلَاثًا")؛ أي: لم يذكر الراوي في حديث سالم. . . إلخ.

[تنبيه]: رواية سالم بن نوح عن الْجُرَيريّ ساقها النسائيّ رحمه الله في "عمل اليوم والليلة" غير أنه ذكر "ثلاثًا"، فقال:

(577)

- أخبرني محمد بن سعيد البروذيّ، حدّثنا عمرو بن شيبة، ثنا سالم بن نوح، عن الجريريّ، عن أبي العلاء بن الشِّخِّير، عن عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، إن الشيطان قد حال بيني وبين صلاتي، وقراءتي، قال:"ذلك شيطان، يقال له: خِنْزِب، فإذا أحسسته فتعوذ بالله منه، واتْفُلْ عن يسارك ثلاثًا"، فأذهب الله عني. انتهى

(1)

.

(1)

"عمل اليوم والليلة" 1/ 527.

ص: 139

ورواية أبي أسامة عن الْجُريريّ ساقها ابن أبي شيبة رحمه الله في "مصنّفه"، فقال:

(29591)

- حدّثنا أبو أسامة، عن الجريريّ، عن أبي العلاء، عن عثمان بن أبي العاص، أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إن الشيطان حال بين صلاتي وقراءتي، فقال:"ذاك شيطانٌ، يقال له: خِنْزَب، فإذا حسست به، فاتْفُلْ عن يسارك ثلاثًا، وتعوّذ بالله من شرّه". انتهى.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5728]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنْ سَعِيدٍ الْجُرَيْرِيِّ، حَدَّثنَا يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ الشِّخِّيرِ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ الثَّقَفِيِّ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، ثُمَّ ذَكَرَ بِمِثْلِ حَدِيثِهِمْ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ) النيسابوريّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(عَبْدُ الرَّزَّاقِ) بن همّام الصنعانيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

3 -

(سُفْيَانُ) بن سعيد الثوريّ، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

والباقون ذُكروا قبله.

وقوله: (ثُمَّ ذَكَرَ بِمِثْلِ حَدِيثِهِمْ) فاعل "ذَكَرَ" ضمير سفيان، وضمير "حديثهم" يعود إلى الثلاثة الذين رووا عن الجريريّ في الأسانيد الماضية، وهم: عبد الأعلى، وسالم بن نوح، وأبو أسامة.

[تنبيه]: رواية سفيان الثوريّ، عن الجريريّ ساقها عبد الرّزّاق في "مصنّفه"، فقال:

(2582)

- عبد الرزاق، عن الثوريّ، عن سعيد الجريريّ، قال: حدّثنا يزيد بن عبد الله بن الشِّخِّير، عن عثمان بن أبي العاص، قال: قلت يا رسول الله، حال الشيطان بيني وبين قراءتي، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"ذاك الشيطان، يقال له: خِنْزِب، فإذا أحسسته، فتعوّذ، واتْفُلْ عن يسارك ثلاثًا". انتهى

(1)

.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(1)

"مصنف عبد الرزاق" 2/ 85.

ص: 140

(11) - (بَابُ قَوْلهِ صلى الله عليه وسلم: "لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءٌ"، وَاسْتِحْبَابِ التَّدَاوِي)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5729]

(2204) - (حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ مَعْرُوفٍ، وَأَبُو الطَّاهِرِ، وَأَحْمَدُ بْنُ عِيسَى، قَالُوا: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي عَمْرٌو -وَهُوَ ابْنُ الْحَارِثِ- عَنْ عَبْدِ رَبِّهِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءٌ، فَإِذَا أُصِيبَ دَوَاءُ الدَّاءِ، بَرَأَ بِإِذْنِ اللهِ عز وجل").

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(هَارُونُ بْنُ مَعْرُوفٍ) الخزّاز الضرير، أبو عليّ المروزيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ [10](ت 231)(خ م د) تقدم في "الإيمان" 63/ 350.

2 -

(أَحْمَدُ بْنُ عِيسَى) بن حسّان المصريّ المعروف بابن التستريّ، صدوق تكلموا فيه بلا حجة [10](ت 243)(خ م س ق) تقدم في "الإيمان" 8/ 134.

3 -

(عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ) بن يعقوب الأنصاريّ مولاهم، أبو أيوب المصريّ، ثقةٌ حافظٌ فقيهٌ [7] مات قبل (150)(ع) تقدم في "الإيمان" 16/ 169.

والباقون ذُكروا قبل باب، وقيل: أربعة أبواب، و"عَبْدُ رَبِّهِ بْنُ سَعِيدٍ" هو: الأنصاريّ المدنيّ، أخو يحيى بن سعيد.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه ثلاث من الشيوخ قرن بينهم؛ لاتّحاد كيفيّة التحمّل، وصيغة الأداء، وأن نصفه الأول مصريّون، والثاني مدنيّون، غير أبي الزبير، فمكيّ، وفيه جابر رضي الله عنه من المكثرين السبعة.

شرح الحديث:

(عَنْ جَابِرٍ) رضي الله عنه (عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءٌ) مبتدأ وخبره، قال في "المشارق": الداء ممدودًا: العيب، والمرض، وقوله:"لكل داء دواء" ممدودان، ويقال: دواء بفتح الدال، وكسرها، صحيحان.

ص: 141

انتهى

(1)

، وقال المناويّ رحمه الله:"لكل داء" بفتح الدال ممدودةً، وقد تُقصر، "دواء" يعني شيء مخلوقٌ مُقَدّرٌ له. انتهى

(2)

.

وقال النوويّ رحمه الله: الدواء بفتح الدال، ممدودٌ، وحَكَى جماعات -منهم الجوهريّ- فيه لغةً بكسر الدال، قال القاضي: هي لغة الكلابيين، وهو شاذّ. انتهى

(3)

.

وقال في "القاموس"، و"شرحه": الدواء مثلثةً، والفتح هو المشهور فيه، وقال الجوهريّ: الكسر لغة فيه، وهذا البيت يُنشَد على هذه اللغة [من الطويل]:

يَقُولُونَ مَخْمُورٌ وَهَذَا دِوَاؤُهُ

عَلَىَّ إِذَنْ مَشْيٌ إِلَى الْبَيْتِ وَاجِبُ

أي قالوا: إن الْجَلْد، والتعزير دِواؤه، قال: وعليّ حجة ماشيًا، إن كنت شربتها، ويقال: الدِّواءُ بالكسر، إنما هو مصدر داويته مُداواةً، ودِوَاءً. انتهى.

والدُّواء بالضم عن الْهَجَرِيّ، وهو اسم ما داويت به. انتهى

(4)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "لكل داء دواء": الدَّاء: بفتح الدَّال لا غير، والدَّواء تُفتح داله، وتكسر، والفتح أفصح، وهذه الكلمة صادقة العموم؛ لأنها خبر من الصادق البشير، عن الخالق القدير:{أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14)} [الملك: 14]، فالدَّاء، والدَّواء خَلْقه، والشِّفاء والهلاك فِعْله، ورَبْط الأسباب بالمسبَّبات حِكمته، وحُكمه، على ما سبق به علمه، فكل ذلك بقدر، لا مَعْدِل عنه، ولا وزر، وما أحسن قول النبيّ صلى الله عليه وسلم، فيما خرَّجه الترمذيّ، عن أبي خزامة بن يعمر، قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله! أرأيت رُقًى نسترقيها، ودواء نتداوى به؛ هل تردُّ من قدر الله شيئًا؟ قال:"هي من قدر الله"

(5)

، قال: هذا حديث حسن صحيح، وكفى بهذا بيانًا، لكن للبصراء، لا للعميان. انتهى

(6)

.

(1)

"مشارق الأنوار" 1/ 263.

(2)

"فيض القدير على الجامع الصغير" للمناويّ رحمه الله 5/ 283.

(3)

"شرح النوويّ" 14/ 191.

(4)

"تاج العروس" 1/ 8388.

(5)

رواه الترمذيّ (2065 و 2148) وقال: حديث حسن صحيح، وحسّنه الشيخ الألبانيّ.

(6)

"المفهم" 5/ 592.

ص: 142

(فَإِذَا أُصِيبَ دَوَاءُ الدَّاءِ) بإضافة "دواء" إلى الداء، وهي بمعنى اللام، (بَرَأَ) تقدَّم أنه من باب ضرب، وتعب، وكرُم، بمعنى تعافى، وحصل له الشفاء (بِإِذْنِ اللهِ عز وجل") قال القرطبيّ رحمه الله: معناه: أن الله تعالى إذا شاء الشِّفاء يسَّر دواء ذلك الدَّاء، ونبَّه عليه مستعمله، فيستعمله على وجهه، وفي وقته، فيُشْفَى ذلك المرض، وإذا أراد إهلاك صاحب المرض، أذهل عن دوائه، أو حجبه بمانع يمنعه، فهلك صاحبه، وكلُّ ذلك بمشيئته، وحُكمه، كما سبق في علمه، ولقد أحسن من الشعراء من قال في شرح الحال:

وَالنَّاسُ يَلْحَوْنَ الطَّبِيبَ

(1)

وَإنَّمَا

غَلَطُ الطَّبيبِ إِصَابَةُ الْمَقْدُورِ

وقد خرَّج أبو داود هذا الحديث، وحديث أسامة بن شريك، وقال فيه: إنَّه صلى الله عليه وسلم قال: "يا عباد الله! تداووا، فإنَّ الله لم يضع داءً إلا وضع له شِفَاءً، غير داءٍ واحد: الهرم"

(2)

، فاستثنى الهرم من جملة الأدواء، وإن لم يكن داء بنفسه، لكن تلازمه الأدواء، وهو مُفْضٍ بصاحبه إلى الهلاك، وهذا نحو من قوله في الحديث الآخر:"كفى بالسَّلامة داء"

(3)

؛ أي: مصير السلامة إلى الدَّاء، وكما قال حميد بن ثور [من الطويل]:

أَرَى بَصَرِي قد رابَنِي بَعْد صِحَّةٍ

وَحَسْبُكَ داءً أَنْ تَصِحَّ وتَسْلمَا

(4)

مسائل تتعلّق بهدا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث جابر رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [11/ 5729](2204)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(4/ 369)، و (أحمد) في "مسنده" 3/ 335)، و (ابن حبّان) في، صحيحه" (6064)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار" (4/ 323)، و (أبو يعلى) في

(1)

أي: يشتمونه، ويسبّونه.

(2)

حديث صحيح، رواه أبو داود (3855).

(3)

رواه القضاعي في "مسند الشهاب" رقم (861) وضعّفه الشيخ الألبانيّ.

(4)

"المفهم" 5/ 593.

ص: 143

"مسنده"(4/ 32)، و (الحا كم) في "المستدرك"(4/ 401)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(9/ 343)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان إباحة التعالج؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يُنكر ذلك عليهم.

2 -

(ومنها): بيان جواز إتيان المتطبب إلى صاحب العلة.

3 -

(ومنها): بيان أن الله عز وجل هو الممرض والشافي، وأنه لا يكون في ملكه إلا ما شاء، وأنه أنزل الداء والدواء، وقدّره، وقضى به، وكذلك ثبت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه كان يَرْقِي، ويقول:"اشف أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، اشف شفاءً لا يغادر سَقَمًا"، وهذا يصحح لك أن المعالجة إنما هي لتطيب نفس العليل، ويأنس بالعلاج، ورجاء أن يكون من أسباب الشفا، كالتسبب لطلب الرزق الذي قد فُرغ منه.

4 -

(ومنها): ما قال ابن عبد البرّ رحمه الله: في قوله صلى الله عليه وسلم: "أنزل الدواء الذي أنزل الأدواء" دليل على أن البرء ليس في وسع مخلوق أن يعجّله قبل أن ينزل، ويقدّر وقته، وحينه، وقد رأينا المنتسبين إلى علم الطبّ يعالج أحدهم رجلين، وهو يزعم أن علتهما واحدة، في زمن واحد، وسنّ واحد، وبلد واحد، وربما كانا أخوين توأمين، غذاؤهما واحد، فعالجهما بعلاج واحد، فيُفيق أحدهما، ويموت الآخر، أو تطول علته، ثم يفيق عند الأمد المقدور له. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم.

(المسألة الرابعة): قال النوويّ رحمه الله: في هذا الحديث إشارة إلى استحباب الدواء، وهو مذهب أصحابنا، وجمهور السلف، وعامة الخلف، قال القاضي: في هذه الأحاديث جُمَلٌ من علوم الدين والدنيا، وصحة علم الطبّ، وجواز التطبيب في الجملة، واستحبابه بالأمور المذكورة في هذه الأحاديث التي ذكرها مسلم، وفيها ردّ على من أنكر التداوي من غُلاة الصوفيّة، وقال: كل شيء بقضاء وقدر، فلا حاجة إلى التداوي، وحجة العلماء هذه الأحاديث، ويعتقدون أن الله تعالى هو الفاعل، وأن التداوي هو أيضًا مِن قَدَر الله، وهذا

(1)

"التمهيد" لابن عبد البرّ 5/ 264.

ص: 144

كالأمر بالدعاء، وكالأمر بقتال الكفار، وبالتحصن، ومجانبة الإلقاء باليد إلى التهلكة، مع أن الأجل لا يتغير، والمقادير لا تتأخر، ولا تتقدم عن أوقاتها، ولا بدّ من وقوع المقدرات، والله أعلم.

قال الإمام أبو عبد الله المازريّ: ذكر مسلم هذه الأحاديث الكثيرة في الطب والعلاج، وقد اعتَرَضَ في بعضها من في قلبه مرض، فقال: الأطباء مجمعون على أن العسل مُسْهِل، فكيف يوصف لمن به الإسهال؟ ومجمعون أيضًا أن استعمال المحموم الماء البارد مخاطرة، قريب من الهلاك؛ لأنه يجمع المسامّ، ويحقن البخار، ويعكس الحرارة إلى داخل الجسم، فيكون سببًا للتلف، وينكرون أيضًا مداواة ذات الجنب بالقُسْط، مع ما فيه من الحرارة الشديدة، ويرون ذلك خطرًا.

قال المازريّ: وهذا الذي قاله هذا المعترض جهالة بينة، وهو فيها كما قال الله تعالى:{بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ} [يونس: 39].

ونحن نشرح الأحاديث المذكورة في هذا الموضع، فنقول: قوله صلى الله عليه وسلم: "لكل داء دواء، فإذا أصيب دواء الداء برئ بإذن الله"، فهذا فيه بيانٌ واضحٌ لأنه قد عُلِم أن الأطباء يقولون: المرض هو خروج الجسم عن المجرى الطبيعيّ، والمداواة ردّه إليه، وحفظ الصحة بقاؤه عليه، فحِفْظها يكون بإصلاح الأغذية، وغيرها، وردّه يكون بالموافق من الأدوية المضادّة للمرض، وبقراط يقول: الأشياء تداوى بأضدادها، ولكن قد يَدِقّ، ويغمض حقيقة المرض، وحقيقة طبع الدواء، فيقلّ الثقة بالمضادّة، ومن ها هنا يقع الخطأ من الطبيب فقط، فقد يظنّ العلة عن مادّة حارّة، فيكون عن غير مادّة، أو عن مادة باردة، أو عن مادة حارة دون الحرارة التي ظنها، فلا يحصل الشفاء، فكأنه صلى الله عليه وسلم نبَّه بآخر كلامه على ما قد يعارض به أوله، فيقال: قلتَ: "لكل داء دواءٌ"، ونحن نجد كثيرين من المرضى يداوون، فلا يبرءون، فقال: إنما ذلك لِفَقْد العلم بحقيقة المداواة، لا لفقد الدواء، وهذا واضح، والله أعلم. انتهى

(1)

.

وقال ابن عبد البرّ رحمه الله: واختَلَف العلماء في هذا الباب، فذهبت منهم

(1)

"شرح النوويّ" 14/ 191 - 192.

ص: 145

طائفة إلى كراهية الرُّقَى والمعالجة، قالوا: الواجب على المؤمن أن يترك ذلك؛ اعتصامًا بالله تعالى، وتوكلًا عليه، وثقةً به، وانقطاعًا إليه، وعلمًا بأن الرقية لا تنفعه، وأن تركها لا يضرّه؛ إذ قد علم الله أيام المرض، وأيام الصحة، فلا تزيد هذه بالرُّقَى، والعلاجات، ولا تنقص تلك بترك السعي والاحتيالات، لكل صنف من ذلك زمنٌ، قد علمه الله، ووقت قد قدّره قبل أن يخلق الخلق، فلو حَرَص الخلق على تقليل أيام المرض، وزمن الداء، أو على تكثير أيام الصحة، ما قدروا على ذلك، قال الله عز وجل:{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} [الحديد: 22]، واحتجوا بحديث ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعًا:"عُرِضت عليّ الأمم"، فذكر حديث السبعين الذين يدخلون الجنّة بغير حساب، وفيه:"فقال: هم الذين لا يسترقون، ولا يتطيرون، ولا يكتوون، وعلى ربهم يتوكلون".

قال ابن عبد البرّ: فلهذه الفضيلة ذهب بعض أهل العلم إلى كراهية الرُّقَى، والاكتواء.

والآثار بهذا كثيرة ثابتة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وممن ذهب إلى هذا داود بن عليّ، وجماعة من أهل الفقه والأثر.

وذهب آخرون من العلماء إلى إباحة الاسترقاء، والمعالجة، والتداوي، وقالوا: إن من سُنَّة المسلمين التي يجب عليهم لزومها لروايتهم لها عن نبيّهم صلى الله عليه وسلم الفَزَعَ إلى الله عند الأمر، يَعْرِض لهم، وعند نزول البلاء بهم، في التعوّذ بالله من كل شر، والى الاسترقاء، وقراءة القرآن، والذِّكر، والدعاء، واحتجوا بالآثار المروية عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في إباحة التداوي، والاسترقاء، منها قوله:"تداووا عبادَ الله، ولا تداووا بحرام، فإن الله لم يُنزل داء، إلا أنزل له دواء"، وبقوله صلى الله عليه وسلم:"الشفاء في ثلاثة: في شَرْبة عسل، أو شُرْطة مِحْجَم، أو كَيّة نار، وما أحب أن أَكْتَوِيَ"، وبحديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال:"إن كان في شيء مما تداووا به خير فالحجامة"، وبحديث سمرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"خير ما يُتداوى به الحجامة"، وبحديث ابن عباس رضي الله عنهما "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم احتجم، واسْتَعَطَ، وأعطى الحجام أجره"، ورُوي عنه أنه قال:"إن كان دواء يبلغ الداء، فالحجامة تبلغه"، وقال صلى الله عليه وسلم: "ما خلق الله داء،

ص: 146

إلا خلق له دواء، إلا الموت، والهرَم"، وقال صلى الله عليه وسلم: "في الحبة السوداء شفاءٌ من كل داء، إلا السام"؛ يعني: الموت، رواه ابن شهاب عن سعيد، عن أبي هريرة رضي الله عنه، وقال:"الكمأة من المنّ، وماؤها شفاء للعين"، ورَقَى رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه، ورَقَى أصحابه، وأمرهم بالرقية، وأباح الأكل بالرقية، وكان يُعَوِّذ الحسن والحسين، ويسترقي لهما، وكذلك جاء عنه في ابني جعفر، وأمر عامر بن ربيعة بالاغتسال لسهيل بن حُنيف من العين، وكان يقول:"من قال أعوذ بعزة الله وقدرته، كُشف عنه كذا، ومن قال: أعوذ بكلمات الله التامات لم يضرّه شيء"، ونحو هذا من الحديث، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأسماء بنت عميس:"بم كنت تستمشين؟ " قالت: بالشبرم؟ قال: "حارّ جارّ"، قالت: ثم استَمْشَيْتُ بالسَّنَا، فقال صلى الله عليه وسلم:"لو كان شيء يشفي من الموت كان السنا"، وأجاز صلى الله عليه وسلم اللَّدُود، والسَّعُوط، والمَشْي، والحجامة، والعَلَق.

وقال إبراهيم النخعيّ: كانوا لا يرون بالاستشفاء بأسًا، وإنما كرهوا منه ما كرهوا مخافة أن يُضعفهم، وقال عطاء: لا بأس أن يَستشفي المجذوم، وغير المجذوم، وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقيل له: أرأيت أدوية نتداوى بها، ورُقًى نسترقي بها، أتردّ من قدر الله؟ فقال:"هي من قدر الله"، وذكر آثارًا كثيرًا من هذا النوع.

قال: واكتوى ابن عمر وغيره من السلف، فمن زعم أنه لا معنى للرقى، والاستعاذة، ومنع من التداوي، والمعالجة، ونحو ذلك، مما يُلتمس به العافية من الله، فقد خرج من عُرف المسلمين، وخالف طريقهم.

قالوا: ولو كان الأمر كما ذهب إليه من كَرِه التداوي والرقَى، ما قَطَع الناس أيديهم، وأرجلهم، وغير ذلك من أعضائهم للعلاج، وما افتصدوا، ولا احتجموا، وهذا عروة بن الزبير قد قطع ساقه.

قالوا: وقد يَحْتَمِل أن يكون قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يسترقون، ولا يكتوون"، أن يكون قَصَدَ إلى نوع من الكيّ، مكروه منهيّ عنه، أو يكون قصد إلى الرُّقَى بما ليس في كتاب الله، ولا مِن ذِكْره، وقد جاء عن أبي بكر الصديق كراهية الرقية بغير كتاب الله، وعلى ذلك العلماء، وأباح لليهودية أن تَرْقِيَ عائشة بكتاب الله.

ص: 147

قال ابن عبد البرّ: هذا كله قد نزع به، أو ببعضه من قصد إلى الردّ على القول الأول، والذي أقول به: إنه قد كان من خيار هذه الأمة، وسلفها، وعلمائها، قوم يصبرون على الأمراض، حتى يكشفها الله، ومعهم الأطباء، فلم يعابوا بترك المعالجة، ولو كانت المعالجة سُنَّة من السنن الواجبة، لكان الذمّ قد لَحِقَ مَن تَرَك الاسترقاء، والتداوي، وهذا لا نعلم أحدًا قاله، ولكان أهل البادية، والمواضع النائية عن الأطباء، قد دخل عليهم النقص في دينهم؛ لتركهم ذلك، وإنما التداوي -والله أعلم- مباح على ما قدمنا؛ لميل النفوس إليه، وسكونها نحوه:{لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} [الرعد: 38]، لا أنه سُنّة، ولا أنه واجب، ولا أن العلم بذلك علم موثوق به، لا يخالف، بل هو خطر، وتجربة، موقوفة على القدر، والله نسأله العصمة والتوفيق.

وعلى إباحة التداوي، والاسترقاء، جمهور العلماء، وقد رخصوا أن يداوي الرجال عند الاضطرار النساءَ على سبيل السترة والاحتياط. انتهى كلام ابن عبد البرّ رحمه الله

(1)

، وهو بحث مفيدٌ، والله تعالى أعلم.

(المسألة الخامسة): قال الإمام المحقّق ابن القيّم رحمه الله بعد أن أورد حديث مسلم هذا، وذَكَر حديث "الصحيحين" عن عطاء، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أنزل الله من داء، إلا أنزل له شفاء"، وفي "مسند الإمام أحمد" بإسناد صحيح: من حديث زياد بن عِلاقة، عن أسامة بن شريك، قال: كنت عند النبيّ صلى الله عليه وسلم، وجاءت الأعراب، فقالوا: يا رسول الله! أنتداوى؟ فقال: "نعم يا عباد الله تداووا، فإن الله لم يضع داءً، إلا وضع له شفاءً، غير داء واحد"، قالوا: ما هو؟ قال: "الهرم".

وفي لفظ: "إن الله لم ينزل داء إلا أنزل له شفاء، عَلِمه من عَلِمه، وجَهِله من جهله".

وفي "المسند" بإسناد صحيح: من حديث ابن مسعود رضي الله عنه يرفعه: "إن الله عز وجل لم ينزل داء، إلا أنزل له شفاء، علمه من علمه، وجهله من جهله"، وفي "المسند" أيضًا و"السنن": عن أبي خِزامة قال: قلت: يا

(1)

"التمهيد" لابن عبد البرّ 5/ 280.

ص: 148

رسول الله! أرأيت رُقًى نسترقيها، ودواء نتداوى به، وتقاة نتقيها، هل ترُدّ من قدر الله شيئا؟ فقال:"هي من قدر الله"

(1)

.

قال: فقد تضمنت هذه الأحاديث إثبات الأسباب والمسببات، وابطال قول من أنكرها، ويجوز أن يكون قوله:"لكل داء دواء" على عمومه، حتى يتناول الأدواء القاتلة، والأدواء التي لا يمكن لطبيب أن يبرئها، ويكون الله عز وجل قد جعل لها أدوية تبرئها، ولكن طَوَى علمها عن البشر، ولم يجعل لهم إليه سبيلًا؛ لأنه لا علم للخلق إلا ما علّمهم الله، ولهذا عَلَّق النبيّ صلى الله عليه وسلم الشفاء على مصادفة الدواء للداء، فإنه لا شيء من المخلوقات إلا له ضدّ، وكل داء له ضدّ من الدواء، يعالج بضدّه، فعلّق النبيّ صلى الله عليه وسلم البرء بموافقة الداء للدواء، وهذا قدر زائد على مجرد وجوده، فإن الدواء متى جاوز درجة الداء في الكيفية، أو زاد في الكمية على ما ينبغي، نَقَلَهُ إلى داء آخر، ومتى قصر عنها لم يف بمقاومته، وكان العلاج قاصرًا، ومتى لم يقع المداوي على الدواء، أو لم يقع الدواء على الداء لم يحصل الشفاء، ومتى لم يكن الزمان صالِحًا لذلك الدواء لم ينفع، ومتى كان البدن غير قابل له، أو القوّة عاجزة عن حمله، أو ثَمّ مانع يمنع من تأثيره لم يحصل البرء؛ لعدم المصادفة، ومتى تمَّت المصادفة حصل البرء بإذن الله تعالى، ولا بدّ، وهذا أحسن المَحْمَلَين في الحديث.

والثاني: أن يكون من العامّ المراد به الخاصّ، لا سيما والداخل في اللفظ أضعاف أضعاف الخارج منه، وهذا يستعمل في كل لسان، ويكون المراد: أن الله لم يضع داء يقبل الدواء إلا وضع له دواء، فلا يدخل في هذا الأدواءُ التي لا تقبل الدواء، وهذا كقوله تعالى في الريح التي سلطها على قوم عاد:{تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} [الأحقاف: 25]؛ أي: كل شيء يقبل التدمير، ومن شأن الريح أن تدمّره، ونظائره كثيرة.

ومن تأمل خلق الأضداد في هذا العالم، ومقاومة بعضها لبعض، ودَفْع بعضها ببعض، وتسليط بعضها على بعض، تبيَّن له كمال قدرة الرب تعالى،

(1)

أخرجه أحمد، والترمذيّ، والحاكم، وابن ماجه، وفي سنده مجهول، وفي الباب عن حكيم بن حزام عند الحاكم 4/ 199، وصححه، ووافقه الذهبيّ.

ص: 149

وحكمته، وإتقانه ما صنعه، وتفرده بالربوبية، والوحدانية، والقهر، وأن كل ما سواه فله ما يضادّه، ويمانعه، كما أنه الغنيّ بذاته، وكل ما سواه محتاج بذاته. وفي الأحاديث الصحيحة الأمر بالتداوي، وأنه لا ينافي التوكل، كما لا ينافيه دفع داء الجوع، والعطش، والحرّ، والبرد، بأضدادها، بل لا تتم حقيقة التوحيد إلا بمباشرة الأسباب التي نصبها الله مقتضيات لمسبَّباتها قدرًا وشرعًا، وأن تعطيلها يقدح في نفس التوكل، كما يقدح في الأمر، والحكمة، ويُضْعفه من حيث يظنّ معطِّلها أن تركها أقوى في التوكل، فإنَّ تَرْكَها عجزًا ينافي التوكل الذي حقيقته اعتماد القلب على الله في حصول ما ينفع العبد في دينه، ودنياه، ودَفْع ما يضرّه في دينه، ودنياه، ولا بدّ مع هذا الاعتمادِ من مباشرة الأسباب، وإلا كان معطّلًا للحكمة، والشرع، فلا يجعل العبد عجزه توكلًا، ولا توكله عجزًا.

وفيها رَدٌّ على من أنكر التداوي، وقال: إن كان الشفاء قد قُدِّر فالتداوي لا يفيد، وإن لم يكن قد قُدِّر فكذلك، وأيضًا فإن المرض حصل بقدر الله، وقدر الله لا يُدفع، ولا يُرَدّ، وهذا السؤال هو الذي أورده الأعراب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما أفاضل الصحابة رضي الله عنهم فأعلمُ بالله، وحكمته، وصفاته، من أن يوردوا مثل هذا، وقد أجابهم النبيّ صلى الله عليه وسلم بما شفى، وكفى، فقال: هذه الأدوية، والرُّقَى، والتُّقَى، هي من قدر الله، فما خرج شيء عن قدره، بل يُرَدُّ قدره بقدره، وهذا الردّ من قدره فلا سبيل إلى الخروج عن قدره بوجه ما، وهذا كردّ قَدَر الجوع، والعطش، والحرّ، والبرد، بأضدادها، وكردّ قدر العدوّ بالجهاد، وكل من قدر الله: الدافع، والمدفوع، والدفع.

ويقال لمورد هذا السؤال: هذا يوجب عليك أن لا تباشر سببًا من الأسباب التي تَجْلُب

(1)

بها منفعة، أو تدفع بها مضرّة؛ لأن المنفعة، والمضرة، إن قُدِّرتا لم يكن بُدّ من وقوعهما، وإن لم تُقَدَّرا لم يكن سبيل إلى وقوعهما، وفي ذلك خراب الدين والدنيا، وفساد العالم، وهذا لا يقوله إلا دافعٌ للحقّ، معاند له، فيذكر القدر؛ ليدفع حجة المحقّ عليه، كالمشركين الذين قالوا: {لَوْ

(1)

من بابي ضرب، وقتل.

ص: 150

شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا} [الأنعام: 148]، و {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا} [النحل: 35]، فهذا قالوه دفعًا لحجة الله عليهم بالرسل.

وجواب هذا السائل أن يقال: بقي قسم ثالث لم تذكره، هو أن الله قدّر كذا وكذا بهذا السبب، فإن أتيت بالسبب حصل المسبَّب، وإلا فلا، فإن قال: إن كان قُدِّر لي السبب فعلته، وإن لم يقدّره لي لم أتمكن من فعله، قيل: فهل تقبل هذا الاحتجاج من عبدك، وولدك، وأجيرك، إذا احتَجّ به عليك فيما أمرته به، ونهيته عنه، فخالفك؟ فإن قبلته فلا تَلُم من عصاك، وأخذ مالك، وقذف عرضك، وضيَّع حقوقك، وإن لم تقبله فكيف يكون مقبولًا منك في دفع حقوق الله عليك؟.

وقد رُوي في أثر إسرائيلي: أن إبراهيم الخليل عليه السلام قال: يا رب ممن الداء؟ قال: مني، قال: فممن الدواء؟ قال: مني، قال: فما بال الطبيب؟ قال: رجل أُرسلُ الدواء على يديه.

وفي قوله صلى الله عليه وسلم: "لكل داء دواءٌ" تقوية لنفس المريض، والطبيب، وحَثّ على طلب ذلك الدواء، والتفتيش عليه، فإن المريض إذا استشعرت نفسه أن لدائه دواء يزيله تعلَّق قلبه بروح الرجاء، وبردت عنده حرارة اليأس، وانفتح له باب الرجاء، ومتى قويت نفسه انبعثت حرارته الغريزية، وكان ذلك سببها لقوة الأرواح الحيوانية، والنفسانية، والطبيعية، ومتى قويت هذه الأرواح قويت القوى التي هي حاملة لها، فقهرت المرض، ودفعته.

وكذلك الطبيب إذا علم أن لهذا الداء دواء، أمكنه طلبه، والتفتيش عليه، وأمراض الأبدان على وزان أمراض القلوب، وما جعل الله للقلب مرضًا إلا جعل له شفاء بضدّه، فإن علمه صاحب الداء، واستعمله، وصادف داء قلبه أبرأه بإذن الله تعالى. انتهى كلام ابن القيّم رحمه الله

(1)

، وهو بحثٌ نفيسٌ، وتحقيقٌ أنيسٌ، والله تعالى أعلم.

(1)

"زاد المعاد" 4/ 13 - 17.

ص: 151

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5730]

(2205) - (حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ مَعْرُوفٍ، وَأَبُو الطَّاهِرِ، قَالَا: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي عَمْرٌو، أَنَّ بُكَيْرًا حَدَّثَهُ، أَنَّ عَاصِمَ بْنَ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ حَدَّثَهُ، أَنَّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ عَادَ الْمُقَنَّعَ، ثُمَّ قَالَ: لَا أبْرَحُ حَتَّى تَحْتَجِمَ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِنَّ فِيهِ شِفَاءً").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ) بن النعمان الأنصاري الأوسيّ، أبو عُمَر المدنيّ، ثقةٌ عالم بالمغازي [4] مات بعد (120)(ع) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 4/ 1194.

والباقون ذُكروا قبله.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وأن نصفه الأول مسلسلٌ بالمصريين، والثاني بالمدنيين، وأنه مسلسلٌ أيضًا بالتحديث، والإخبار، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه جابر رضي الله عنه من المكثرين السبعة.

شرح الحديث:

عن بُكير بن الأشجّ (أَنَّ عَاصِمَ بْنَ عُمَرَ) بن قتادة الأنصاريّ الأوسيّ، يكنى أبا عُمَر، قال في "الفتح": ما له في البخاريّ سوى هذا الحديث، وآخر تقدم في "باب من بني مسجدًا" في أوائل "الصلاة"، وهو تابعيٌّ ثقةٌ عندهم، وأغرب عبد الحقّ، فقال في "الأحكام": وثقه ابن معين، وأبو زرعة، وضعّفه غيرهما، وردّ ذلك أبو الحسن ابن القطان على عبد الحقّ، فقال: لا أعرف أحدًا ضعّفه، ولا ذَكَره في الضعفاء. انتهى، قال الحافظ: وهو كما قال. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قوله: وما له في البخاريّ. . . إلخ، وكذا ليس له عند مسلم إلا الحديثان المذكوران عند البخاريّ فتنبّه، والله تعالى أعلم.

(حَدَّثَهُ)؛ أي: حدّث بُكيرًا (أَنَّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ) رضي الله عنهما (عَادَ الْمُقَنَّعَ)؛

(1)

"الفتح" 13/ 65 - 66، كتاب "الطبّ" رقم (5683).

ص: 152

أي: زاره، وهو مريضٌ، -وهو بضمّ الميم، وفتح النون المشدّدة- هو ابن سنان التابعيّ، قال الحافظ: لا أعرفه إلا في هذا الحديث. (ثُمَّ قَالَ) جابر رضي الله عنه (لَا أَبْرَحُ)؛ أي: لا أخرُج من مكاني هذا (حَتَّى تَحْتَجِمَ)؛ أي: حتى تعمل الحجامة على خُراجك، (فَإِنِّي) الفاء تعليليّة؛ أي: إنما أمرتك بالاحتجام؛ لأني (سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِنَّ فِيهِ شِفَاءً") قال في "العمدة": الضمير يرجع إلى الْحَجْم الذي يدلّ عليه قوله: "حتى تحتجم". انتهى

(1)

.

وقال المناويّ: "إن فيه شفاءً"؛ أي: من غالب الأمراض، لغالب الناس، في قطر مخصوص، في زمن مخصوص، هكذا فافهم كلام الرسول، ولا عليك من ضعفاء العقول، فإن هذا وأشباهه يخرج جوابًا لسؤال معيَّن، يكون الحجم له من أنفع الأدوية، ولا يلزم من ذلك الاطراد. انتهى

(2)

.

وقال في "الفتح": قال الموفّق البغداديّ: الحجامة تُنَقِّي سطح البدن أكثر من الفصد، والفصد لأعماق البدن، والحجامة للصبيان، وفي البلاد الحارّة أَولى من الفصد، وآمن غائلة، وقد تغني عن كثير من الأدوية، ولهذا وردت الأحاديث بذكرها دون الفصد، ولأن العرب غالبًا ما كانت تعرف إلا الحجامة، وقال صاحب "الهدى": التحقيق في أمر الفصد، والحجامة، أنهما يختلفان باختلاف الزمان، والمكان، والمزاج، فالحجامة في الأزمان الحارّة، والأمكنة الحارّة، والأبدان الحارّة التي دم أصحابها في غاية النُّضْج أنفع، والفصد بالعكس، ولهذا كانت الحجامة أنفع للصبيان، ولمن لا يقوى على الفصد. انتهى

(3)

.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [11/ 5730 و 5731](2205)، و (البخاريّ) في

(1)

"عمدة القاري" 21/ 242.

(2)

"فيض القدير على الجامع الصغير" للمناويّ 2/ 471.

(3)

"الفتح" 13/ 83، كتاب "الطبّ" رقم (5696).

ص: 153

"الطبّ"(5683 و 5697 و 5704)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(4/ 376)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(8/ 84)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 335 و 343)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6076)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(2037)، و (الطبريّ) في "تهذيب الآثار"(1/ 501)، و (الحاكم) في "مستدركه"(4/ 409)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(4/ 322)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(9/ 339 و 341)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(3229)، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5731]

(. . .) - (حَدَّثَنِي نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ الْجَهْضَمِيُّ، حَدَّثَنِي أَبِي، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، قَالَ: جَاءَنَا جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ فِي أَهْلِنَا، وَرَجُلٌ يَشْتَكِي خُرَاجًا بِهِ، أَوْ جِرَاحًا، فَقَالَ: مَا تَشْتَكِي؟ قَالَ: خُرَاجٌ بِي، قَدْ شَقَّ عَلَيَّ، فَقَالَ: يَا غُلَامُ ائْتِنِي بِحَجَّامٍ

(1)

، فَقَالَ لَهُ: مَا تَصْنَعُ بِالْحَجَّامِ يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ؟ قَالَ: أُرِيدُ أَنْ أُعَلِّقَ فِيهِ مِحْجَمًا، قَالَ: وَاللهِ إِنَّ الذُّبَابَ لَيُصِيبُنِي، أَوْ يُصِيبُنِي الثَّوْبُ، فَيُؤْذِينِي، وَيَشُقُّ عَلَىَّ، فَلَمَّا رَأَى تَبَرُّمَهُ مِنْ ذَلِكَ قَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِنْ كَانَ فِي شَيْءٍ مِنْ أَدْوِيَتِكُمْ خَيْرٌ، فَفِي شَرْطَةِ مَحْجَمٍ، أَوْ شَرْبَةٍ مِنْ عَسَلٍ، أَوْ لَذْعَةٍ بِنَارٍ"، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"وَمَا أُحِبُّ أَنْ أَكْتَوِيَ"، قَالَ: فَجَاءَ بِحَجَّامٍ

(2)

، فَشَرَطَهُ، فَذَهَبَ عَنْهُ مَا يَجِدُ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ الْجَهْضَمِيُّ) البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ، طُلب للقضاء، فامتنع [10](ت 250) أو بعدها (ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 30.

2 -

(أَبُوهُ) عليّ بن نصر بن عليّ الْجَهْضميّ البصريّ، ثقةٌ من كبار [10](ت 187)(ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 126.

3 -

(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سُلَيْمَانَ) بن عبد الله بن حنظلة الأنصاريّ الأوسيّ، أبو سليمان المدنيّ، المعروف بابن الغسيل، والغسيل جدّ أبيه حنظلة بن أبي

(1)

وفي نسخة: "بالحجّام".

(2)

وفي نسخة: "بالحجّام".

ص: 154

عامر، غسلته الملائكة يوم أحد رضي الله عنه؛ لأنه استُشْهِد، وهو جُنُبٌ، صدوقٌ فيه لين [6].

رَوَى عن حمزة، والمنذر، والزبير، وسعد ابني أبي أُسيد الساعديّ، وعن مالك بن حمزة بن أبي أسيد، وأسيد بن عليّ بن عبيد مولى أبي أسيد، وعباس بن سهل بن سعد، وعاصم بن عمر بن قتادة، وغيرهم، ورأى أنس بن مالك، وسهل بن سعد.

وروى عنه عبد الله بن إدريس، والحسين بن الوليد النيسابوريّ، وزيد بن الحباب، وعليّ بن نصر الجهضميّ الكبير، ووكيع بن الجراح، وأبو أحمد الزبيريّ، أبو عامر العَقَديّ، ويحيى بن زكريا بن أبي زائدة، وإبراهيم بن الوزير، وغيرهم.

قال الدُّوريّ عن ابن معين: ثقةٌ ليس به بأس، وقال الدارميّ عن ابن معين صُويلح، وقال أبو زرعة، والنسائيّ، والدارقطنيّ: ثقةٌ، وقال النسائي في موضع آخر: ليس به بأس، وقال مرّة: ليس بقويّ، وقال ابن عديّ: وهو ممن يُعتبر حديثه، ويُكتب، وقال ابن حبان: كان ممن يُخطئ، ويَهِم كثيرًا، مَرَّض القول فيه أحمد، ويحيى، وقالا: صالحٌ، وقال الأزديّ: ليس بالقويّ عندهم.

قال البخاريّ: ويقال: مات سنة إحدى، وقال أبو حسان الزياديّ: مات سنة اثنتين وسبعين ومائة، وقال إسماعيل بن أبان: ثنا عبد الرحمن بن الغسيل، وقد أتى عليه مائة وستون سنة، أخرجه ابن عديّ، قال الحافظ: مقتضاه أن يكون وُلد في خلافة أبي بكر، وهو باطل، فإن أباه لم يكن وُلد بعدُ، فلعله كان مائةً وسنة، أو سنتين، فتصحّف.

أخرج له البخاريّ، والمصنّف، وأبو داود، والترمذيّ في "الشمائل"، وابن ماجه، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.

والباقيان ذُكرا قبله.

شرح الحديث:

عن (عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سُلَيْمَانَ) بن الغَسِيل، واسم الغَسِيل حنظلة بن أبي عامر الأوسيّ الأنصاريّ، استُشْهِد بأحد، وهو جُنُب، فغسلته الملائكة، فقيل

ص: 155

له: الغسيل، وهو فَعِيل بمعنى مفعول، وهو جدّ جدّ عبد الرحمن، فهو ابن سليمان بن عبد الرحمن بن عبد الله بن حنظلة، وعبد الرحمن معدود في صغار التابعين؛ لأنه رأى أنسًا، وسهل بن سعد، وجُلّ روايته عن التابعين، وهو ثقة عند الأكثرين، واختَلَفَ فيه قول النسائيّ، وقال ابن حبان: كان يُخطئ كثيرًا. انتهى، وكان قد عُمِّر، فجاز المائة، فلعله تغيّر حِفظه في الآخر، وقد احتجّ به الشيخان، قاله في "الفتح"

(1)

.

(عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ) الأنصاريّ (قَالَ: جَاءَنَا جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) رضي الله عنهما (فِي أَهْلِنَا)، وقوله:(وَرَجُلٌ) لا يُعرف اسمه

(2)

. (يَشْتَكِي) جملة حاليّة، (خُرَاجًا بِهِ) بضم الخاء، وتخفيف الراء، قال الفيّوميّ: الْخُرَاج وزانُ غُرَاب: بَثْرٌ، الواحدة خُرَاجةٌ. انتهى

(3)

. (أَوْ جِرَاحًا)"أو" للشكّ من الراوي، هل قال:"خراجًا"، أو قال:"جِرَاحًا"، والْجِراح بالكسر: جمع جراحة، وقال في "التاج": الجِرَاحُ بالكسر: جَمْع جِرَاحَةٍ، وهو من الجَمْع الّذي لا يُفارِق واحِدَه إِلا بالهاءِ، وفي "التّهذيب": قال اللّيث

(4)

: الجِراحةُ: الواحِدَةُ من طَعْنَةٍ، أَو ضَرْبةٍ. انتهى

(5)

.

(فَقَالَ) جابر رضي الله عنه (مَا تَشْتَكِي؟)"ما" استفهاميّة؛ أي: أيَّ شيء تشتكي؟ (قَالَ) الرجلُ (خُرَاجٌ بِي) مبتدأ خبره قوله: (قَدْ شَقَّ عَلَيَّ) والمراد أنه يشتكي خُراجًا ببدنه، قد أضرّ به، ويَحتَمِل أن يكون قوله:"خُراج بي" خبرًا لمحذوف؛ أي: هو، أي المشتَكَى خُراج، وقوله:"قد شقّ عليّ" جملة حاليّة من "خُرَاجٌ". (فَقَالَ) جابر رضي الله عنه: (يا غُلَامُ) لم يُعرف اسمه، (ائْتِنِي بِحَجَّامٍ) وفي نسخة:"بالحجّام" بالتعريف، (فَقَالَ لَهُ)؛ أي: قال الرجل المشتكي لجابر رضي الله عنه. (مَا) استفهاميّة؛ أي: أيَّ شيء (تَصْنَعُ بِالْحَجَّامِ، يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ؟) كنية جابر رضي الله عنه. (قَالَ) جابر (أُرِيدُ أَنْ أُعَلِّقَ فِيهِ)؛ أي: في محلّ شكواك

(1)

"الفتح" 13/ 65 - 66، كتاب "الطبّ" رقم (5683).

(2)

راجع: "تنبيه المعلم" ص 376.

(3)

"المصباح المنير" 1/ 166.

(4)

تعقّب الأزهريّ قول الليث هذا، راجع:"التاج" 1/ 1564.

(5)

"تاج العروس" 1/ 1564.

ص: 156

(مِحْجَمًا) بكسر الميم، وفتح الجيم: هي الآلة التي تُمَصّ، ويُجمع بها موضع الحجامة، قاله النوويّ رحمه الله

(1)

.

وقال الفيّوميّ رحمه الله: حجمه الحاجم حَجْمًا، من باب قَتَلَ: شَرَطَهُ، وهو حجّام أيضًا مبالغة، واسم الصناعة حِجَامةٌ بالكسر، والقارورة مِحْجَمةٌ بكسر الأول، والهاء تثبُتُ، وتُحذف، والْمَحْجَمُ، مثلُ جَعْفر: موضع الحجامة. انتهى

(2)

.

وذكر المجد رحمه الله للحجم معاني، ومنها: الْمَصُّ، قال: حجم يَحْجِم، ويحجُم، من بابي ضرب، ونصر، والْحجّام الْمَصّاص، قال: والْمِحْجَم، والْمِحْجَمَة بكسرهما: ما يُحتجم به، وحِرفته: الْحِجامة، ككتابة، واحتَجَم: طَلَبها. انتهى

(3)

.

(قَالَ) الرجل (وَاللهِ إِنَّ الذُّبَابَ لَيُصِيبُنِي، أَوْ يُصِيبُنِي الثَّوْبُ، فَيُؤْذِينِي، وَيَشُقُّ عَلَيَّ) أراد أنه لا يتحمّل عضّ الذباب على موضع المرض، أو إصابة الثوب، فكيف يتحمّل تعليق المحجم عليه؟ (فَلَمَّا رَأَى) جابر رضي الله عنه (تَبَرُّمَهُ)؛ أي: تضجّره، ومَلاله، يقال: بَرِمَ بالشيء -بكسر الراء- بَرَمًا، فهو بَرِمٌ، مثلُ ضَجِرَ ضَجَرًا، فهو ضَجِرٌ، وزنًا ومعنًى، ويتعدّى بالهمزة، فيقال: أبرمته به، وتبرّم مثلُ بَرِم

(4)

. (مِنْ ذَلِكَ قَالَ) جابر رضي الله عنه (إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِنْ كَانَ)"إن" هنا شرطيّة، جيء بها للتهييج، لا للشكّ، كما يقول الرجل لولده: إن كنت ولدي فافعل كذا، فالمعنى هنا أن هذه الأدوية الثلاثة فيها خير عظيم، فعليكم بالتداوي بها، والله تعالى أعلم. (فِي شَيْءٍ مِنْ أَدْوِيَتِكُمْ خَيْرٌ)؛ أي: شفاء، قال القرطبيّ رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم: "إن كان في أدويتكم خيرٌ، ففي شَرْطة مِحْجَم" يعني بالخير: الشِّفاء، والْمِحْجم: هو الوعاء الذي تُجمع فيها موضع الحجامة، ويجتمع فيه الدَّم، وهو جمعٌ واحده: محجمة، وهي بكسر الميم، وقد يقال على الحديدة التي يُشْرَط بها، وهي المعنيّة هنا، وجاء هذا الحديث هنا بصيغة الاشتراط من غير تحقيق الأخبار، وقد جاء في البخاريّ من

(1)

"شرح النوويّ" 14/ 197.

(2)

"المصباح المنير" 1/ 123.

(3)

"القاموس المحيط" ص 268.

(4)

"المصباح المنير" 1/ 45.

ص: 157

حديث ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعًا: "الشِّفاء في ثلاث"، وذكرها، فحقَّق الخبر.

قال الجامع عفا الله عنه: قد أسلفت أن "إن" هنا للتهييج، فلا تغفل، والله تعالى أعلم.

قال: قال بعض علمائنا: أشار النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى جميع ضروب المعاناة القياسيَّة، وذلك: أن العلل منها ما يكون مفهوم السبب، ومنها ما لا يكون كذلك، فالأول كغلبة أحد الأخلاط التي هي: الدم، والبلغم، والصفراء، والسَّوداء، فمعالجة ذلك باستفراغ ذلك الامتلاء بما يليق به من تلك الأمور المذكورات في الحديث، فمنها ما يُستفرغ بإخراج الدَّم بالشَّرط، وفي معناه: الفصد، والبطُّ، والعَلَقُ، ومنها ما يُستفرغ بالعسل وما في معناه من الأدوية المسهِّلة، ومنها ما يستفرغ بالكيّ؛ فإنه يجفف رطوبات موضع المرض، وهو آخر الطبِّ.

وأما ما كان من العلل عن ضعف قوة من القوى، فعلاجه بما يقوي تلك القوة من الأشربة، ومن أنفعها في ذلك: العسل إذا استُعمل على وجهه، وأما ما كان من العلل غير مفهوم السبب، فكالسِّحر، والعين، ونظرة الجنّ، فعلاجه بالرُّقَى، والكلامِ الحسن، وأنواع من الخواص مغيبة السِّرِّ، ولهذا القسم أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رُوي عنه: أنه زاد في هذا الحديث: "أو آية من كتاب الله" زيادة على ما ذَكر فيما تقدَّم منه.

قال القرطبيّ: هذا معنى ما قاله علماؤنا، ويمكن أن يقال: إن هذه المذكورات في هذا الحديث إنما خُصَّت بالذكر؛ لأنَّها كانت أغلب أدويتهم، وأنفع لهم من غيرها بحكم اعتيادهم لها، ومناسبتها لغالب أمراضهم، ولا يلزم أن تكون كذلك في حقّ غيرهم ممن يخالفهم في بلادهم، وعاداتهم، وأهويتهم، ومن المعلوم بالمشاهدة اختلاف العلاجات والأدوية حسب اختلاف البلاد، والعادات، وإن اتحدت أسباب الأمراض. والله تعالى أعلم. انتهى

(1)

.

(فَفِي شَرْطَةِ مَحْجَمٍ)؛ أي: فهو في شرطة محجم؛ أي: استفراغ الدم، وهو بفتح الشين: ضَرْبة مِشراط على مَحَل الْحَجْم؛ ليخرج الدم، والْمِحْجم

(1)

"المفهم" 5/ 594 - 595.

ص: 158

بالكسر: قارورة الحجام التي يجتمع فيها الدم، وبالفتح موضع الحجامة، وهو المراد هنا، ذَكره بعضهم، قال في "الفتح": وإنما خصه بالذكر؛ لأن غالب إخراجهم الدم بالحجامة، وفي معناه إخراجه بالفصد. انتهى

(1)

.

وقال الطيبيّ رحمه الله: قوله: "شرطة مِحْجم": "المِحْجم" بكسر الميم، هي الآلة التي يجتمع فيها دم الحجامة عند المصّ، ويُراد بها هنا الحديدة التي يُشْرط بها موضع الحجامة، والشرْطة فَعْلَةٌ، من شَرَطَ الحاجم يَشْرُطُ، من بابي ضرب، وقَتَلَ: إذا بَزَغَ، وهو الضرب على موضع الحجامة؛ ليخرج الدم منه. انتهى

(2)

.

(أَوْ) للتنويع، لا للشكّ، (شَرْبَةٍ) بفتح الشين المعجمة، وإسكان الراء، قال الجوهريّ: الشَّرْبةُ بالفتح من الماء: ما يُشرب مرّةً، والشَّرْبةُ أيضًا: المرّة الواحدة من الشرب. انتهى

(3)

. (مِنْ عَسَلٍ) بفتحتين، يُذكّر، ويؤنّث، وهو الأكثر، ومن التأنيث قول الشاعر:

بِهَا عَسَلٌ طَابَتْ يَدَا مَنْ يَشُورُهَا

ويُصغّر على عُسَيلة على لغة التأنيث ذَهَابًا إلى أنها قطعةٌ من الجنس، وطائفة منه، قاله الفيّوميّ رحمه الله

(4)

.

(أَوْ) للتنويع كسابقه، (لَذْعَةٍ بِنَارٍ") -بفتح اللام، وسكون الذال المعجمة، وبالعين المهملة- واللَّذْع: الخفيف من حرق النار، وأما اللَّدْغ -بالدال المهملة، وبِالْغَين المعجمة- فهو عَضّ ذات السمّ، قاله في "العمدة"

(5)

.

وفي رواية البخاريّ: "أو لذعة بنار توافق الدواء"، قال في "الفتح": فيه إشارة إلى أن الكيّ إنما يُشْرَع منه ما يتعيَّن طريقًا إلى إزالة ذلك الداء، وأنه لا ينبغي التجربة لذلك، ولا استعماله إلا بعد التحقّق، ويَحْتَمِل أن يكون المراد بالموافقة موافقة القَدَر. انتهى

(6)

.

(1)

"فيض القدير على الجامع الصغير" للمناويّ 3/ 31.

(2)

"الكاشف عن حقائق السُّنن" 9/ 2954 بزيادة من "المصباح" 1/ 309.

(3)

"الصحاح" ص 538.

(4)

"المصباح المنير" 2/ 409.

(5)

"عمدة القاري" 21/ 233.

(6)

"الفتح" 66، كتاب "الطبّ" رقم (5683).

ص: 159

(قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (وَمَا) نافية، (أُحِبُّ أَنْ أَكْتَوِيَ") قال في "الفتح": هو من جنس تَرْكه صلى الله عليه وسلم أكل الضبّ، مع تقريره أكله على مائدته، واعتذاره بأنه يعافه. انتهى

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "وما أحبُّ أن أكتوي"، وفي حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما عند البخاريّ بلفظ:"وأنا أنهى أمتي عن الكيّ"، إنما كان ذلك لشدَّة ألم الكيّ، فإنَّه يُرْبِي على ألم المرض، ولذلك لا يُرجع إليه إلا عند العجز عن الشفاء بغيره من الأدوية، وأيضًا: فلأنَّه يشبه التعذيب بعذاب الله تعالى الذي نُهي عنه، وقد تقدَّم القول في هذا في الإيمان. انتهى

(2)

.

وقال ابن عبد البرّ رحمه الله: الكيّ باب من أبواب التداوي، والمعالجة، ومعلوم أن طلب العافية بالعلاج، والدعاء مباح، فلا يجب أن يُمتنع من التداوي بالكيّ وغيره إلا بدليل، لا معارض له، وقد عارض النهي عن الكي من الإباحة بما هو أقوى وعليه جمهور العلماء، ما أعلم بينهم خلافًا، أنهم لا يرون بأسًا بالكيّ عند الحاجة إليه، قال: فمن ترك الكيّ ثقةً بالله، وتوكلًا عليه، كان أفضل؛ لأن هذه منزلة يقينٍ صحيحٍ وتلك منزلة رخصةٍ وإباحة.

ثم أخرج بسنده حديث: "لم يتوكل مَن استرقَى، أو اكتوى"، ثم قال: معناه -والله أعلم- ما توكل حقَّ التوكل من استرقى، أو اكتوى؛ لأن من ترك ذلك توكلًا على الله، وعلمًا بأن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن أيام الصحة لا سقم فيها، كان أفضل منزلةً، وأعلى درجةً، وأكمل يقينٍ، وتوكلٍ والله أعلم، وقد قيل: إن الذي نُهي عنه من الكيّ هو ما يكون منه قبل نزول البلاء؛ حفظًا للصحة، وأما بعد نزول ما يحتاج فيه إلى الكيّ فلا.

(قَالَ) عاصم بن عمر (فَجَاءَ) ذلك الغلام (بِحَجَّامٍ) وفي بعض النسخ: "بالحجّام"(فَشَرَطَهُ)؛ أي: بزغه، يقال: شرط الحاجم يشرِط، ويشرُط، من بابي ضرب، ونصر: إذا بزغ، قاله الجوهريّ

(3)

. (فَذَهَبَ عَنْهُ)؛ أي: عن الرجل المشتكي (مَا يَجِدُ)؛ أي: من الألم، وفيه أن الحجامة من أنفع الأدوية، والله تعالى أعلم.

(1)

"الفتح" 63، كتاب "الطبّ" رقم (5680).

(2)

"المفهم" 5/ 595.

(3)

"الصحاح" ص 543.

ص: 160

قال الجامع عفا الله عنه: حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه، وقد تقدّم تخريجه في الحديث الماضي، فلنذكر بقيّة المسائل:

(المسألة الأولى): في فوائده:

1 -

(منها): بيان استحباب التداوي بالحجامة، وأنها من أنفع الأدوية.

2 -

(ومنها): أن الْخُراج يعالج بالحجامة، فإنها من أنفع الأدوية فيه.

3 -

(ومنها): ما قال القاضي عياض رحمه الله: وفي جملة هذه الأحاديث ما حَوَاه من علوم الدين والدنيا، وصحة علم الطبّ، وجواز التطبب في الجملة، واستحبابه بالأمور المذكورة، من الحجامة، وشرب الأدوية، والسَّعُوط، واللَّدُود، وقطع العروق، والرُّقَى، قال: قوله صلى الله عليه وسلم: "أَنزل الدواء الذي أنزل الداء" هذا إعلام لهم، وإذن فيه، وقد يكون المراد بإنزاله إنزال الملائكة الموكلين بمباشرة مخلوقات الأرض، من داء، ودواء، قال: وذكر بعض الأطباء في قوله صلى الله عليه وسلم: "شَرْطة مِحْجَم، أو شَرْبة عسل، أو لَذْعَةٌ بنار"، أنه إشارة إلى جميع ضروب المعافاة، والله أعلم. انتهى.

(المسألة الثانية): قال النوويّ رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم: "إن كان في شيء من أدويتكم خير، ففي شَرْطة مِحجم. . . إلخ": هذا من بديع الطبّ عند أهله؛ لأن الأمراض الامتلائية دموية، أو صفراوية، أو سوداوية، أو بلغمية، فإن كانت دموية، فشفاؤها إخراج الدم، وإن كانت من الثلاثة الباقية فشفاؤها بالإسهال بالمسهل اللائق لكل خلط منها، فكأنه نبَّه صلى الله عليه وسلم بالعسل على المسهلات، وبالحجامة على إخراج الدم بها، وبالفصد، ووضع العَلَق وغيرها مما في معناها، وذَكَر الكيّ؛ لأنه يُستعمل عند عدم نفع الأدوية المشروبة، ونحوها، فآخر الطبّ الكيّ.

وقوله: "وما أحب أن أكتوي" إشارة إلى تأخير العلاج بالكيّ حتى يُضْطَرَّ إليه؛ لِمَا فيه من استعمال الألم الشديد في دفع ألم، قد يكون أضعف من ألم الكيّ.

وأما ما اعتَرَضَ به الملحد المتقدّم ذكره، فنقول في إبطاله: إن علم الطبّ من أكثر العلوم احتياجًا إلى التفصيل، حتى إن المريض يكون الشيء دواءه في ساعة، ثم يصير داء له في الساعة التي تليها بعارض يَعْرِض، من

ص: 161

غضب يُحَمِّي مزاجه، فيغيّر علاجه، أو هواء يتغير، أو غير ذلك، مما لا تحصى كثرته، فإذا وُجد الشفاء في شيء في حالة بالشخص لم يلزم منه الشفاء به في سائر الأحوال، وجميع الأشخاص، والأطباء مجمعون على أن المرض الواحد يختلف علاجه، باختلاف السنّ، والزمان، والعادة، والغذاء المتقدمة، والتدبير المألوف، وقوّة الطباع.

فإذا عرفت ما ذكرناه، فاعلم أن الإسهال يحصل من أنواع كثيرة، منها الإسهال الحادث من التخم، والهيضات

(1)

، وقد أجمع الأطباء في مثل هذا على علاجه بأن يترك الطبيعة وفعلها، وإن احتاجت إلى مُعِين على الإسهال أُعينت ما دامت القوّة باقيةً، فأما حبسها فضرر عندهم، واستعجال مرض، فيَحْتَمِل أن يكون هذا الإسهال للشخص المذكور في الحديث أصابه من امتلاء، أو هيضة، فدواؤه تَرْك إسهاله على ما هو، أو تقويته، فأَمَره صلى الله عليه وسلم بشرب العسل، فرآه إسهالًا، فزاده عسلًا، إلى أن فنيت المادّة، فوقف الإسهال، ويكون الخلط الذي كان يوافقه شرب العسل، فثبت بما ذكرناه أن العسل جارٍ على صناعة الطبّ، وأن المعترِض عليه جاهل لها، ولسنا نقصد الاستظهار لتصديق الحديث بقول الأطباء، بل لو كذّبوه كذبناهم، وكفّرناهم، فلو أوجدوا المشاهدة بصحة دعواهم تأولنا كلامه صلى الله عليه وسلم حينئذٍ، وخرّجناه على ما يصح، فذكرنا هذا الجواب، وما بعده عُدّةً للحاجة إليه، إن اعتضدوا بمشاهدة، وليظهر به جهلُ المعترض، وأنه لا يُحسن الصناعة التي اعتُرض بها، وانتسب إليها، وكذلك القول في الماء البارد للمحموم، فإن المعترض يقول على النبيّ صلى الله عليه وسلم ما لم يقل، فإنه صلى الله عليه وسلم لم يقل أكثر من قوله:"أبردوها بالماء"، ولم يُبيّن صفته، وحالته، والأطبّاء يسلّمون أن الْحُمّى الصفراويّ يُبرّد صاحبها بسقي الماء البارد الشديد البرودة، ويسقونه الثلج، ويغسلون أطرافه بالماء البارد، فلا يبعد أنه صلى الله عليه وسلم أراد هذا النوع من الحمّى والغسل على نحو ما قالوه، وقد ذكر مسلم هنا في "صحيحه" عن أسماء رضي الله عنها أنها كانت تُؤْتَى بالمرأة الموعوكة،

(1)

قال في "القاموس": الْهَيْضة: معاودة الهمّ والحزن، والمرضَةُ بعد الْمَرْضة. انتهى.

ص: 162

فتصب الماء في جيبها، وتقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أبردوها بالماء"، فهذه أسماء راوية الحديث، وقربها من النبيّ صلى الله عليه وسلم معلوم تأولت الحديث على نحو ما قلناه، فلم يبق للملحد المعترض إلا اختراعه الكذب، واعتراضه به، فلا يُلتفت إليه.

وأما إنكارهم الشفاء من ذات الجَنْب بالقُسط فباطل، فقد قال بعض قدماء الأطباء: إن ذات الجنب إذا حدثت من البلغم، كان القُسط من علاجها، وقد ذكر جالينوس وغيره أنه ينفع من وجع الصدر، وقال بعض قدماء الأطباء: ويستعمل حيث يحتاج إلى إسخان عضو من الأعضاء، وحيث يحتاج إلى أن يجذب الخلط من باطن البدن إلى ظاهره، وهكذا قاله ابن سينا وغيره، وهذا يبطل ما زعمه هذا المعترض الملحد.

وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "فيه سبعة أشفية": فقد أطبق الأطباء في كتبهم على أنه يُدِرّ الطمث، والبول، وينفع من السموم، ويُحَرِّك شهوة الجماع، ويقتل الدود، وحبّ القرع في الأمعاء، إذا شُرب بعسل، ويُذهب الكَلَف، إذا طُلِي عليه، وينفع من ضعف المعدة، والكبد، وبردهما، ومن حُمّى الورد، والربع، وغير ذلك، وهو صنفان: بحريّ، وهنديّ، والبحريّ: هو القسط الأبيض، وهو أكثر من صنفين، ونصّ بعضهم أن البحريّ أفضل من الهنديّ، وهو أقل حرارة منه، وقيل: هما حارّان يابسان في الدرجة الثالثة، والهنديّ أشد حرًّا في الجزء الثالث من الحرارة، وقال ابن سينا: القسط حارّ في الثالثة، يابس في الثانية، فقد اتَّفَقَ العلماء على هذه المنافع التي ذكرناها في القسط، فصار ممدوحًا شرعًا، وطِبًّا، وإنما عدّدنا منافع القسط من كتب الأطباء؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم ذَكَر منها عددًا مجملًا.

وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "إن في الحبة السوداء شفاءً من كل داء، إلا السام"، فيُحْمَل أيضًا على العلل الباردة، على نحو ما سبق في القسط، وهو صلى الله عليه وسلم قد يصف بحسب ما شاهده من غالب أحوال أصحابه رضي الله عنهم.

وذكر القاضي عياض كلام المازري الذي قدمناه، ثم قال: وذَكَر الأطباء في منفعة الحبة السوداء التي هي الشونيز أشياء كثيرة، وخوَاصّ عجيبة، يُصَدِّقها قوله صلى الله عليه وسلم فيها، فذكر جالينوس أنها تحل النفخ، وتقتل ديدان البطن، إذا أكل،

ص: 163

أو وضع على البطن، وتشفي الزكام، إذا قُلِي، وصُرَّ في خرقة، وشُمَّ، وتزيل العلة التي يتقشر منها الجلد، وتقلع الثآليل المتعلقة، والمنكسة، والخيلان، وتُدرّ الطمث المنحبس، إذا كان انحباسه من أخلاط غليظة لزجة، وتنفع الصداع إذا طُلِيَ بها الجبين، وتقلع البثور، والجرَب، وتحلل الأورام البلغمية، إذا تضمد بها مع الخلّ، وتنفع من الماء العارض في العين، إذا استُعِط بها مسحوقًا بدهن الأريا، وتنفع من انتصاب النفس، ويتمضمض بها من وجع الأسنان، وتدرّ البول، واللبن، وتنفع من نهشة الرتيلا، وإذا بُخِّر به طرد الهوام.

قال القاضي: وقال غير جالينوس: خاصيته إذهاب حمى البلغم، والسوداء، وتقتل حب القرع، وإذا عُلِّق في عنق المزكوم نفعه، وينفع من حمى الربع، قال: ولا يبعد منفعة الحارّ من أدواء حارّة بخواص فيها، فقد نجد ذلك في أدوية كثيرة، فيكون الشونيز منها؛ لعموم الحديث، ويكون استعماله أحيانًا منفردًا، وأحيانًا مركبًا، والله تعالى أعلم

(1)

.

(المسألة الثالثة): قال الخطابيّ رحمه الله: انتظم هذا الحديث على جملة ما يَتَدَاوَى به الناس، وذلك أن الحجم يَستفرغ الدم، وهو أعظم الأخلاط، والحجم أنجحها شفاءً عند هيجان الدم، وأما العسل فهو مُسهِل للأخلاط البلغمية، ويدخل في المعجونات؛ ليحفظ على تلك الأدوية قواها، ويخرجها من البدن، وأما الكيّ، فإنما يُستعمل في الخلط الباغي الذي لا تنحسم مادته إلا به، ولهذا وصفه النبيّ صلى الله عليه وسلم، ثم نَهَى عنه، وإنما كَرِهه لِمَا فيه من الألم الشديد، والخطر العظيم، ولهذا كانت العرب تقول في أمثالها: آخرُ الدواء الكيّ، وقد كَوَى النبيّ صلى الله عليه وسلم سعد بن معاذ وغيره، واكتوى غير واحد من الصحابة.

قال الحافظ رحمه الله: ولم يُرِد النبيّ صلى الله عليه وسلم الحصر في الثلاثة، فإن الشفاء قد يكون في غيرها، وإنما نبَّه بها على أصول العلاج، وذلك أن الأمراض الامتلائية تكون دموية، وصفراوية، وبلغمية، وسوداوية، وشفاء الدموية بإخراج

(1)

"شرح النوويّ" 14/ 192 - 197.

ص: 164

الدم، وإنما خَصّ الحجمَ بالذِّكر؛ لكثرة استعمال العرب، وإِلْفِهم له، بخلاف الفَصْد، فإنه وإن كان في معنى الحجم، لكنه لم يكن معهودًا لها غالبًا، على أن في التعبير بقوله:"شَرْطَةُ مِحْجَم" ما قد يتناول الفصد، وأيضًا فالحجم في البلاد الحارّة أنجح من الفصد، والفصد في البلاد التي ليست بحارّة أنجح من الحجم.

وأما الامتلاء الصفراويّ، وما ذُكر معه، فدواؤه بالْمُسْهل، وقد نَبَّه عليه بذكر العسل، وسيأتي توجيه ذلك قريبًا.

وأما الكيّ، فإنه يقع آخرًا لإخراج ما يتعسر إخراجه من الفضلات، وإنما نَهَى عنه مع إثباته الشفاء فيه، إما لكونهم كانوا يرون أنه يَحسم المادّة بطبعه، فكرهه لذلك، ولذلك كانوا يبادرون إليه قبل حصول الداء؛ لظنهم أنه يَحسِم الداء، فيتعجل الذي يكتوي التعذيب بالنار؛ لأمر مظنون، وقد لا يتفق أن يقع له ذلك المرض الذي يقطعه الكيّ.

ويؤخذ من الجمع بين كراهته صلى الله عليه وسلم للكيّ، وبين استعماله له، أنه لا يُترك مطلقًا، ولا يُستعمل مطلقًا، بل يُستعمل عند تعيّنه طريقًا إلى الشفاء، مع مصاحبة اعتقاد أن الشفاء بإذن الله تعالى، وعلى هذا التفسير يُحْمَل حديث المغيرة رضي الله عنه، رفعه:"مَنِ اكتوى، أو استرقى فقد برئ من التوكل"، أخرجه الترمذيّ، والنسائيّ، وصححه ابن حبان، والحاكم.

وقال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة رحمه الله: عُلِم من مجموع كلامه صلى الله عليه وسلم في الكيّ أن فيه نفعًا، وأن فيه مضرّةً، فلمّا نَهَى عنه عُلِم أن جانب المضرة فيه أغلب، وقريب منه إخبار الله تعالى أن في الخمر منافع، ثم حرّمها؛ لأن المضار التي فيها أعظم من المنافع. انتهى مُلَخَّصًا.

وقد قيل: إن المراد بالشفاء في هذا الحديث الشفاء من أحد قسمي المرض؛ لأن الأمراض كلها إما ماديّة، أو غيرها، والمادية كما تقدم حارّة، وباردة، وكل منهما -وإن انقسم إلى رطبة، ويابسة، ومركبة- فالأصل الحرارة، والبرودة، وما عداهما ينفعل من إحداهما، فنبَّه بالخبر على أصل المعالجة بضرب من المثال، فالحارّة تعالج بإخراج الدم؛ لِمَا فيه من استفراغ المادّة، وتبريد المزاج، والباردة بتناول العسل؛ لِمَا فيه من التسخين،

ص: 165

والإنضاج، والتقطيع، والتلطيف، والجلاء، والتليين، فيحصل بذلك استفراغ المادّة برفق.

وأما الكيّ فخاص بالمرض المزمن؛ لأنه يكون عن مادّة باردة، فقد تفسد مزاج العضو، فإذا كُوِي خرجت منه.

وأما الأمراض التي ليست بماديّة، فقد أشير إلى علاجها بحديث:"الْحُمَّى من فَيْحِ جهنم، فأبردوها بالماء". انتهى ما في "الفتح"

(1)

، وهو بحثٌ نفيسٌ جدًّا، والله تعالى أعلم.

(المسألة الرابعة): كتب الإمام ابن القيّم رحمه الله بحثًا طويلًا في الحجامة، أحببت إيراده هنا، وإن كان كثير منه تقدّم إلا أن فيه زوائد مهمةً، قال رحمه الله:

فصل: في هديه صلى الله عليه وسلم في العلاج بشرب العسل، والحجامة، والكيّ:

في "صحيح البخاريّ": عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"الشفاء في ثلاث: شَربة عسل، وشَرطة محجم، وكيّة نار، وأنا أنهى أمتي عن الكيّ".

قال أبو عبد الله المازريّ: الأمراض الامتلائية: إما أن تكون دموية، أو صفراوية، أو بلغمية، أو سوداوية، فإن كانت دموية فشفاؤها إخراج الدم، وإن كانت من الأقسام الثلاثة الباقية، فشفاؤها بالإسهال الذي يليق بكل خلط منها، وكأنه صلى الله عليه وسلم نبّه بالعسل على المسهلات، وبالحجامة على الفصد، وقد قال بعض الناس: إن الفصد يدخل في قوله: "شَرطة محجم"، فإذا أعيا الدواء فآخر الطبّ الكيّ، فذَكَره صلى الله عليه وسلم في الأدوية؛ لأنه يُستعمل عند غلبة الطباع لقوى الأدوية، وحيث لا ينفع الدواء المشروب، وقوله:"وأنا أنهى أمتي عن الكيّ"، وفي الحديث الآخر:"وما أحب أن أكتوي" إشارة إلى أن يؤخر العلاج به، حتى تدفع الضرورة إليه، ولا يعجل التداوي به؛ لِمَا فيه من استعجال الألم الشديد في دَفْع ألم قد يكون أضعف من ألم الكيّ. انتهى كلامه.

وقال بعض الأطباء: الأمراض المزاجية: إما أن تكون بمادة، أو بغير مادة، والمادية منها: إما حارّة، أو باردة، أو رطبة، أو يابسة، أو ما تركَّب

(1)

"الفتح" 13/ 62 - 63، كتاب "الطبّ" رقم (5680).

ص: 166

منها، وهذه الكيفيات الأربع منها كيفيتان فاعلتان: وهما الحرارة، والبرودة، وكيفيتان منفعلتان، وهما الرطوبة، واليبوسة، ويلزم من غلبة إحدى الكيفيتين الفاعلتين استصحاب كيفية منفعلة معها، وكذلك كان لكل واحد من الأخلاط الموجودة في البدن، وسائر المركبات كيفيتان: فاعلة، ومنفعلة، فحصل من ذلك أن أصل الأمراض المزاجية هي التابعة لأقوى كيفيات الأخلاط التي هي الحرارة والبرودة، فجاء كلام النبوة في أصل معالجة الأمراض التي هي الحارّة والباردة على طريق التمثيل، فإن كان المرض حارًّا عالجناه بإخراج الدم بالفصد كان، أو بالحجامة؛ لأن في ذلك استفراغًا للمادة، وتبريدًا للمزاج، وإن كان باردًا عالجناه بالتسخين، وذلك موجود في العسل، فإن كان يحتاج مع ذلك إلى استفراغ المادّة الباردة، فالعسل أيضًا يفعل في ذلك؛ لِمَا فيه من الإنضاج، والتقطيع، والتلطيف، والجلاء، والتليين، فيحصل بذلك استفراغ تلك المادّة برفق، وأَمْن، من نكاية المسهلات القوية.

وأما الكيّ: فلأن كل واحد من الأمراض الماديّة، إما أن يكون حادًّا، فيكون سريع الإفضاء لأحد الطرفين، فلا يحتاج إليه فيه، وإما أن يكون مُزمنًا، وأفضل علاجه بعد الاستفراغ الكيّ في الأعضاء التي يجوز فيها الكيّ؛ لأنه لا يكون مُزمنًا إلا عن مادّة باردة غليظة، قد رسخت في العضو، وأفسدت مزاجه، وأحالت جميع ما يصل إليه إلى مشابهة جوهرها، فيشتعل في ذلك العضو، فيستخرج بالكيّ تلك المادّة من ذلك المكان الذي هو فيه بإفناء الجزء الناريّ الموجود بالكيّ لتلك المادّة.

فتعلَّمنا بهذا الحديث الشريف أَخْذَ معالجة الأمراض الماديّة جميعها، كما استنبطنا معالجة الأمراض الساذجة من قوله صلى الله عليه وسلم:"إن شدة الْحُمَّى من فيح جهنم، فأبردوها بالماء".

فصل: وأما الحجامة ففي "سنن ابن ماجه" من حديث جُبَارة بن الْمُغَلِّس -وهو ضعيف

(1)

- عن كَثير بن سُليم، قال: سمعت أنس بن مالك رضي الله عنه يقول:

(1)

وشيخه كثير أيضًا ضعيف.

ص: 167

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما مررت ليلة أُسري بني بملإ إلا قالوا: يا محمد! مر أمتك بالحجامة"

(1)

.

وروى الترمذي في "جامعه" من حديث ابن عباس رضي الله عنهما هذا الحديث: وقال فيه: "عليك بالحجامة يا محمد"

(2)

.

وفي "الصحيحين": من حديث طاوس، عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبيّ صلى الله عليه وسلم:"احتجم، وأعطى الحجام أجره".

وفي "الصحيحين" أيضًا عن حميد الطويل، عن أنس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حجمه أبو طيبة، فأمر له بصاعين من طعام، وكَلَّم مواليه، فخففوا عنه من ضريبته، وقال:"خير ما تداويتم به الحجامة".

وفي جامع الترمذيّ عن عباد بن منصور، قال: سمعت عكرمة يقول: "كان لابن عباس غِلْمة ثلاثةٌ حجامون، فكان اثنان يُغِلّان عليه، وعلى أهله، وواحد لِحَجْمه، وحَجْم أهله"، قال: وقال ابن عباس رضي الله عنهما: قال نبي الله صلى الله عليه وسلم: "نِعْم العبد الحجّام يذهب بالدم، ويخف الصلب، ويجلو البصر"، وقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث عُرج به ما مَرّ على ملأٍ من الملائكة، إلا قالوا:"عليك بالحجامة"، وقال:"إن خير ما تحتجمون فيه يوم سبع عشرة، ويوم تسع عشرة، ويوم إحدى وعشرين"، وقال:"إن خير ما تداويتم به السَّعُوط، واللَّدُود، والحجامة، والمشي"، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لُدّ، فقال:"من لدّني؟ فكلهم أمسكوا، فقال: لا يبقى أحد في البيت إلا لُدّ إلا العباس"، قال: هذا حديث غريب، ورواه ابن ماجه

(3)

.

فصل: وأما منافع الحجامة: فإنها تُنَقِّي سطح البدن أكثر من الفصد،

(1)

حديث صحيح بشواهده، أخرجه ابن ماجه (3479) وسنده ضعيف، لكن في الباب عن ابن عبّاس عند الترمذيّ (2054)، وعن ابن مسعود عند الترمذيّ أيضًا (2053).

(2)

رواه الترمذيّ (2054) وفي سنده عبّاد بن منصور ضعيف؛ لسوء حفظه وتغيّره، لكن أسلفنا أن الحديث صحيح بشواهده، فلا تغفل.

(3)

رواه الترمذيّ (2054)، وابن ماجه (3478) وفي سنده عباد بن منصور ضعيف، كما تقدّم.

ص: 168

والفصد لأعماق البدن أفضل، والحجامة تستخرج الدم من نواحي الجلد. قال ابن القيّم: والتحقيق في أمرها، وأمر الفصد أنهما يختلفان باختلاف الزمان، والمكان، والأسنان، والأمزجة، فالبلاد الحارّة، والأزمنة الحارّة، والأمزجة الحارّة التي دم أصحابها في غاية النضج الحجامة فيها أنفع من الفصد بكثير، فإن الدم يَنضِج، ويَرِقّ، ويخرج إلى سطح الجسد الداخل، فتُخرج الحجامة ما لا يخرجه الفصد، ولذلك كانت أنفع للصبيان من الفصد، ولمن لا يقوى على الفصد، وقد نَصّ الأطباء على أن البلاد الحارّة الحجامة فيها أنفع وأفضل من الفصد، وتستحب في وسط الشهر، وبعد وسطه، وبالجملة في الربع الثالث من أرباع الشهر؛ لأن الدم في أول الشهر لم يكن يعد قد هاج وتبيّغ، وفي آخره يكون قد سكن، وأما في وسطه وبُعَيده، فيكون في نهاية التزيد.

قال صاحب "القانون": ويؤمر باستعمال الحجامة لا في أول الشهر؛ لأن الأخلاط لا تكون قد تحركت، وهاجت، ولا في آخره؛ لأنها تكون قد نقصت، بل في وسط الشهر، حين تكون الأخلاط هائجة بالغة، في تزايدها؛ لتزيد النور في جرم القمر، وقد رُوي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال:"خير ما تداويتم به الحجامة، والفصد"

(1)

، وفي حديث:"خير الدواء الحجامة، والفصد". انتهى.

وقوله صلى الله عليه وسلم: "خير ما تداويتم به الحجامة" إشارة إلى أهل الحجاز، والبلاد الحارّة؛ لأن دماءهم رقيقة، وهي أميل إلى ظاهر أبدانهم؛ لجذب الحرارة الخارجة لها إلى سطح الجسد، واجتماعها في نواحي الجلد، ولأن مسام أبدانهم واسعة، وقواهم متخلخلة، ففي الفصد لهم خطر، والحجامة

(1)

أخرجه الشيخان وغيرهما بدون لفظ الفصد، قال محقق "زاد المعاد" 4/ 54: لفظ "والفصد" لم نقف عليه في شيء من كتب الحديث التي بأيدينا. انتهى.

قال الجامع: ذكر الزرقاني في "شرح الموطأ" 4/ 490 لفظ الرواية الثانية، فقال: ولأبي نعيم عن عليّ رفعه: "خير الدواء الحجامة، والفصد"، لكن في سنده حسين بن عبد الله بن ضُميرة كذبه مالك، وغيره. انتهى.

ص: 169

تَفَرُّق اتصاليّ إراديّ يتبعه استفراغ كليّ من العروق، وخاصة العروق التي لا تُفصد كثيرًا، ولفصد كل واحد منها نفع خاصّ، ففصد الباسليق: ينفع من حرارة الكبد، والطحال، والأورام الكائنة فيهما من الدم، وينفع من أورام الرئة، وينفع من الشَّوْصة

(1)

وذات الجنب، وجميع الأمراض الدموية العارضة من أسفل الركبة إلى الورك.

وفصد الأكحل: ينفع من الامتلاء العارض في جميع البدن، إذا كان دمويًّا، وكذلك إذا كان الدم قد فسد في جميع البدن.

وفصد القيفال

(2)

: ينفع من العلل العارضة في الرأس، والرقبة، من كثرة الدم، أو فساده.

وفصد الودجين: ينفع من وجع الطحال، والرَّبْو، والبَهَر، ووجع الجبين.

والحجامة على الكاهل: تنفع من وجع المنكب، والحلق.

والحجامة على الأخدعين تنفع من أمراض الرأس، وأجزائه، كالوجه، والأسنان، والأذنين، والعينين، والأنف، والحلق، إذا كان حدوث ذلك عن كثرة الدم، أو فساده، أو عنهما جميعًا، قال أنس رضي الله عنه:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحتجم في الأخدعين، والكاهل"

(3)

.

وعن أنس رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحتجم ثلاثًا: واحدة على

كاهله، واثنتين على الأخدعين"

(4)

.

وفي "الصحيح" عنه: "أنه احتجم، وهو محرم في رأسه، لصداع كان به".

(5)

.

(1)

الشَّوْصة: وَجَع في البطن بسبب ريح تأخذ الإنسان مرّة هنا، ومرّةً هناك.

(2)

"القيفال": عرق في الذراع.

(3)

رواه الترمذيّ في "جامعه"(2052)، وفي "الشمائل" 2/ 223، وأبو داود (3860)، وابن ماجه (3483)، وأحمد 3/ 119 و 192، وإسناده صحيح، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبيّ.

(4)

عزاه ابن القيّم رحمه الله إلى "الصحيحين"، فوهّمه المحقّق، وقال: لم يخرجاه، ولا أحدهما، وإنما أخرجه أحمد، وأصحاب السُّنن، كما سبق في التعليق الماضي، فتنبّه.

(5)

رواه البخاريّ في "الطبّ" 1/ 128.

ص: 170

وفي "سنن ابن ماجه" عن عليّ رضي الله عنه: "نزل جبريل على النبيّ صلى الله عليه وسلم بحجامة الأخدعين، والكاهل"

(1)

.

وفي "سنن أبي داود" من حديث جابر رضي الله عنه: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم: "احتجم في وركه، من وَثْءٍ كان به"

(2)

.

فصل: واختَلَف الأطباء في الحجامة على نُقرة القفا، وهي القَمَحْدُوة

(3)

:

وذكر أبو نعيم في "كتاب الطب النبويّ" حديثًا مرفوعًا: "عليكم بالحجامة في جَوْزَة الْقَمَحْدوة، فإنها تشفي من خمسة أدواء"، ذكر منها الجذام

(4)

.

وفي حديث آخر: "عليكم بالحجامة في جَوْزة القَمَحْدُوة، فإنها شفاء من اثنين وسبعين داء".

فطائفة منهم استحسنته، وقالت: إنها تنفع من جحظ العين، والنتوء العارض فيها، وكثير من أمراضها، ومن ثقل الحاجبين، والجفن، وتنفع من جَرَبه.

ورُوي أن أحمد بن حنبل احتاج إليها، فاحتجم في جانبي قفاه، ولم يحتجم في النقرة، وممن كرهها صاحب "القانون"، وقال: إنها تورث النسيان حقًّا، كما قال سيدنا، ومولانا، وصاحب شريعتنا محمد صلى الله عليه وسلم، فإن مُؤَخَّر الدماغ موضع الحفظ، والحجامة تذهبه. انتهى كلامه.

ورَدّ عليه آخرون، وقالوا: الحديث لا يثبت، وإن ثبت فالحجامة إنما تضعف مؤخر الدماغ، إذا استُعملت لغير ضرورة، فأما إذا استعملت لغلبة الدم عليه، فإنها نافعة له طبًّا وشرعًا، فقد ثبت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه احتجم في عِدّة أماكن، من قفاه، بحسب ما اقتضاه الحال في ذلك، واحتجم في غير القفا، بحسب ما دعت إليه حاجته.

(1)

رواه ابن ماجه (3482) وفيه أصبغ بن نُباتة، وهو ضعيف.

(2)

حديث صحيح، رواه أبو داود (3864). والوَثْءُ: وجع يصيب العضو من غير كسر.

(3)

قال في "القاموس": الْقَمَحْدُوة: الْهَنَة الناشزة فوق القفا، وأعلى الْقَذَال خلف الأذنين، ومؤخّر القذال، جمعه قَماحد. انتهى.

(4)

ضعيف، راجع:"الضعيفة" للشيخ الألبانيّ رحمه الله.

ص: 171

فصل: والحجامة تحت الذَّقَن تنفع من وجع الأسنان، والوجه، والحلقوم، إذا استُعملت في وقتها، وتنقي الرأس، والفكين، والحجامة على ظهر القدم تنوب عن فصد الصافن، وهو عرق عظيم عند الكعب، وتنفع من قروح الفخذين، والساقين، وانقطاع الطمث، والحكة العارضة في الأنثيين، والحجامة في أسفل الصدر نافعة من دماميل الفخذ، وجَرَبه، وبثوره، ومن النَّقْرِس، والبواسير، والفيل، وحكة الظهر.

فصل: في هديه صلى الله عليه وسلم في أوقات الحجامة:

روى الترمذي في "جامعه": من حديث ابن عباس رضي الله عنهما يرفعه: "إن خير ما تحتجمون في يوم سابع عشرة، أو تاسع عشرة، ويوم إحدى وعشرين"

(1)

، وفيه عن أنس:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحتجم في الأخدعين، والكاهل، وكان يحتجم لسبعة عشر، وتسعة عشر، وفي إحدى وعشرين"

(2)

، وفي "سنن ابن ماجه" عن أنس، مرفوعًا:"من أراد الحجامة فليتحرَّ سبعة عشر، أو تسعة عشر، أو إحدى وعشرين، لا يتبيّغ بأحدكم الدم، فيقتله"

(3)

، وفي "سنن أبي داود" من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا:"من احتجم لسبع عشرة، أو تسع عشرة، أو إحدى وعشرين، كانت شفاء من كل داء"

(4)

، وهذا معناه: من كل داء سببه غلبة الدم.

وهذه الأحاديث موافقة لِمَا أجمع عليه الأطباء أن الحجامة في النصف الثاني، وما يليه من الربع الثالث من أرباعه، أنفع من أوله وآخره، وإذا استعملت عند الحاجة إليها نفعت، أي وقت كان من أول الشهر وآخره.

قال الخلال: أخبرني عصمة بن عصام قال: حدثنا حنبل قال: كان أبو

(1)

رواه الترمذيّ (2054) وفي سنده عبّاد بن منصور ضعّفوه، لكن الحديث حسن بشواهده، فتنبّه.

(2)

رواه الترمذيّ (2051) ورجاله ثقات، وقال الترمذيّ: حديث حسن غريب.

(3)

رواه ابن ماجه (3486) وفي سنده النهاس بن قهم، ضعيف، لكن يشهد له حديث أبي هريرة الذي بعده، وحديث ابن عباس المتقدّم.

(4)

رواه أبو داود (3861) وسنده حسن.

ص: 172

عبد الله أحمد بن حنبل يحتجم، أيّ وقت هاج به الدم، وأي ساعة كانت.

وقال صاحب "القانون": أوقاتها في النهار: الساعة الثانية، أو الثالثة، ويجب توقّيها بعد الحمّام إلا فيمن دمه غليظ، فيجب أن يستحمّ، ثم يستجمّ ساعة، ثم يحتجم. انتهى.

وتكره عندهم الحجامة على الشبع، فإنها ربما أورثت سددًا، وأمراضًا رديئةً، لا سيما إذا كان الغذاء رديئًا غليظًا، وفي أثر:"الحجامة على الريق دواء، وعلى الشبع داء، وفي سبعة عشر من الشهر شفاء"

(1)

.

واختيار هذه الأوقات للحجامة فيما إذا كانت على سبيل الاحتياط، والتحرز من الأذى، وحفظًا للصحة، وأما في مداواة الأمراض فحيثما وُجد الاحتياح إليها وجب استعمالها، وفي قوله:"لا يتبيغ بأحدكم الدم، فيقتله"، دلالة على ذلك؛ يعني: لئلا يتبيغ، فحذف حرف الجر مع "أن"، ثم حُذفت

(1)

هذا الأثر بهذا اللفظ لم أجد من رواه، لكن الحديث رواه ابن ماجه في "سننه" 2/ 1153 بسنده عن ابن عمر رضي الله عنهما قال:"يا نافع قد تبيّغ بني الدم، فالتمس لي حجامًا، واجعله رفيقًا، إن استطعت، ولا تجعله شيخًا كبيرًا، ولا صبيًّا صغيرًا"، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم:"يقول الحجامة على الريق أمثل، وفيه شفاء، وبركة، وتزيد في العقل، وفي الحفظ، فاحتجموا على بركة الله يوم الخميس، واجتنبوا الحجامة يوم الأربعاء، والجمعة، والسبت، ويوم الأحد، تحريًا، واحتجموا يوم الاثنين، والثلاثاء، فإنه اليوم الذي عافى الله فيه أيوب من البلاء، وضربه بالبلاء يوم الأربعاء، فإنه لا يبدو جذام، ولا برص، إلا يوم الأربعاء، أو ليلة الأربعاء". انتهى، وسنده ضعيف، وحسّنه الشيخ الألبانيّ رحمه الله، راجع:"الصحيحة" 2/ 392. ثم أخرجه بسند آخر، ولفظه: قال ابن عمر: يا نافع تبيّغ بني الدم، فأتني بحجام، واجعله شابًّا، ولا تجعله شيخًا، ولا صبيًّا، قال: وقال ابن عمر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الحجامة على الريق أمثل، وهي تزيد في العقل، وتزيد في الحفظ، وتزيد الحافظ حفظًا، فمن كان محتجمًا، فيوم الخميس، على اسم الله، واجتنبوا الحجامة يوم الجمعة، ويوم السبت، ويوم الأحد، واحتجموا يوم الاثنين، والثلاثاء، واجتنبوا الحجامة يوم الأربعاء، فإنه اليوم الذي أصيب فيه أيوب بالبلاء، وما يبدو جذام، ولا برص، إلا في يوم الأربعاء، أو ليلة الأربعاء". انتهى، وسنده ضعيف أيضًا، وحسّنه الشيخ الألبانيّ رحمه الله أيضًا.

ص: 173

"أن"، والتبيغ: الهيج، وهو مقلوب البغي، وهو بمعناه، فإنه بغي الدم، وهيجانه، وقد تقدم أن الإمام أحمد كان يحتجم أيّ وقت احتاج من الشهر.

فصل: وأما اختيار أيام الأسبوع للحجامة، فقال الخلال في "جامعه": أخبرنا حرب بن إسماعيل، قال: قلت لأحمد: تكره الحجامة في شيء من الأيام؟ قال: قد جاء في الأربعاء، والسبت، وفيه: عن الحسين بن حسان أنه سأل أبا عبد الله عن الحجامة، أيّ يوم تُكره؟ فقال: في يوم السبت، ويوم الأربعاء، ويقولون: يوم الجمعة، وروى الخلال عن أبي سلمة، وأبي سعيد المقبريّ، عن أبي هريرة مرفوعًا:"من احتجم يوم الأربعاء، أو يوم السبت، فأصابه بياض، أو برص، فلا يلومنّ إلا نفسه"

(1)

.

وقال الخلال: أخبرنا محمد بن عليّ بن جعفر، أن يعقوب بن بختان حدثهم، قال: سئل أحمد عن النورة، والحجامة يوم السبت، ويوم الأربعاء؟ فكرهها، وقال: بلغني عن رجل أنه تنوّر، واحتجم؛ يعني: يوم الأربعاء، فأصابه البرص، قلت له: كأنه تهاون بالحديث؟ قال: نعم.

وفي "كتاب الأفراد" للدارقطنيّ من حديث نافع قال: قال لي عبد الله بن عمر: تبيّغ بي الدم، فابغ لي حجّامًا، ولا يكن صبيًّا، ولا شيخًا كبيرًا فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"الحجامة تزيد الحافظ حفظًا، والعاقل عقلًا، فاحتجموا على اسم الله تعالى، ولا تحتجموا الخميس، والجمعة، والسبت، والأحد، واحتجموا الاثنين، وما كان من جذام، ولا برص، إلا نزل يوم الأربعاء"، قال الدارقطني: تفرد به زياد بن يحيى، وقد رواه أيوب، عن نافع، وقال فيه:"واحتجموا يوم الاثنين، والثلاثاء، ولا تحتجموا يوم الأربعاء".

وقد روى أبو داود في "سننه" من حديث أبي بكرة رضي الله عنه أنه كان يكره الحجامة يوم الثلاثاء، وقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يوم الثلاثاء يوم الدم، وفيه ساعة لا يرقأ فيها الدم"

(2)

. انتهى ما كتبه ابن القيّم رحمه الله

(3)

، وهو بحث نفيسٌ مفيد، والله تعالى أعلم.

(1)

رواه الحاكم، 4/ 409، والبيهقيّ 9/ 340، وفي سنده سليمان بن الأرقم، وهو متروك.

(2)

رواه أبو داود، وفي سنده مجهولة.

(3)

"زاد المعاد" 4/ 53.

ص: 174

(المسألة الخامسة): قال الإمام البخاريّ: في "صحيحه": "بابُ الدواء بالعسل"، وقول الله تعالى:{فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} [النحل: 69]، قال في "الفتح": كأنه أشار بذكر الآية إلى أن الضمير فيها للعسل، وهو قول الجمهور، وزعم بعض أهل التفسير أنه للقرآن، وذكر ابن بطال أن بعضهم قال: إن قوله تعالى: {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} ؛ أي: لبعضهم، وحَمَله على ذلك أن تناول العسل قد يَضُرّ ببعض الناس، كمن يكون حارّ المزاج، لكن لا يُحتاج إلى ذلك؛ لأنه ليس في حَمْله على العموم ما يمنع أنه قد يَضُرّ ببعض الأبدان بطريق العَرَض.

قال: و"الْعَسَل" يذكَّر، ويؤنث، وأسماؤه تزيد على المائة، وفيه من المنافع ما لخّصه الموفَّق البغداديّ، وغيره، فقالوا: يُجَلِّي الأوساخ التي في العروق، والأمعاء، ويدفع الفضلات، ويغسل المعدة، ويُسَخِّنها تسخينًا معتدلًا، ويفتح أفواه العروق، ويشدّ المعدة، والكبد، والكُلَى، والمثانة، وفيه تحليل للرطوبات أكلًا، وطِلاءً، وتغذيةً، وفيه حفظ للمعجونات، وإذهاب لكيفية الأدوية المستكرهة، وتنقية للكبد، والصدر، وإدرار البول، والطمث، وينفع للسعال الكائن من البلغم، والأمزجة الباردة، وإذا أضيف إليه الخلّ نفَعَ أصحاب الصفراء، ثم هو غذاء من الأغذية، ودواء من الأدوية، وشراب من الأشربة، وحلوى من الحلاوات، وطلاء من الأطلية، ومفرح من المفرحات.

ومن منافعه أنه إذا شُرِب حارًّا بدهن الورد نفع من نهش الحيوان، وإذا شُرب وحده بماء نفع من عَضَّة الكَلْب الكَلِبِ، وإذا جُعل فيه اللحم الطريّ حُفِظ طراوته ثلاثة أشهر، وكذا الخيار، والقرع، والباذنجان، والليمون ونحو ذلك، وإذا لُطِخ به البدن للقمل قَتَل القمل، والصئبان، وطَوَّل الشعر، وحَسَّنه، ونعّمَه، وإن اكْتُحِل به جلا ظلمة البصر، وإن استُنَّ به صَقَّل الأسنان، وحَفِظ صحتها، وهو عجيب في حفظ جثة الموتى، فلا يُسرع إليها البِلا، وهو مع ذلك مأمون الغائلة، قليل المضرّة، ولم يكن يُعَوِّل قدماء الأطباء في الأدوية المركبة إلا عليه، ولا ذِكْر للسكّر في أكثر كتبهم أصلًا.

وقد أخرج أبو نعيم في "الطب النبوي" بسند ضعيف من حديث أبي هريرة رضي الله عنه رفعه، وابن ماجه بسند ضعيف، من حديث جابر رضي الله عنه رفعه: "مَنْ

ص: 175

لَعِق العسل ثلاث غدوات، من كل شهر لم يصبه عظيم من البلاء". انتهى ما في "الفتح"

(1)

، وهو بحثٌ مفيدٌ جدًّا، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5732]

(2206) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ (ح) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحٍ، أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ اسْتَأْذَنَتْ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْحِجَامَةِ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَبَا طَيْبَةَ أَنْ يَحْجُمَهَا، قَالَ: حَسِبْتُ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ أَخَاهَا مِنَ الرَّضَاعَةِ، أَوْ غُلَامًا لَمْ يَحْتَلِمْ).

رجال هذين الإسنادين: خمسة:

1 -

(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) الثقفيّ، أبو رجاء البغلانيّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 240) وهو ابن (90) سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.

2 -

(مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحِ) بن مهاجر التجيبيّ مولاهم المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 242)(م ق) تقدم في "الإيمان" 16/ 168.

3 -

(اللَّيْثُ) بن سعد بن عبد الرحمن الفَهْميّ، أبو الحارث المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيه، إمام مشهور [7](ت 175)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 412.

والباقيان ذُكرا في الباب.

[تنبيه]: من لطائف هذين الإسنادين:

أنهما من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهما (442) من رباعيّات الكتاب، وأنهم مصريّون، سوى أبي الزبير، فمكيّ، وجابر رضي الله عنه، فمدنيّ، وفيه جابر رضي الله عنه من المكثرين السبعة.

شرح الحديث:

(عَنْ جَابرِ) بن عبد الله رضي الله عنهما (أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ) هند بنت أبي أميّة المخزوميّة، أم المؤمنين رضي الله عنها، تقدّمت ترجمتها في "شرح المقدمة" جـ 2 ص 473. (اسْتَأْذَنَتْ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْحِجَامَةِ) قال القرطبيّ رحمه الله: واستئذان أم سلمة رضي الله عنها النبيّ صلى الله عليه وسلم في الحجامة دليلٌ على أن المرأة لا ينبغي لها أن تفعل في نفسها شيئًا

(1)

"الفتح" 13/ 64 - 65، كتاب "الطبّ" رقم (5682).

ص: 176

من التداوي، أو ما يشبهه إلا بإذن زوجها؛ لإمكان أن يكون ذلك الشيء مانعًا له من حقه، أو منقصًا لغرضه منها، وإذا كانت لا تَشرع في شيء من التطوّعات التي تتقرَّب بها إلى الله تعالى إلا بإذنٍ منه؛ كان أحرى وأَولى ألا تتعرَّض لغير القُرَب إلا بإذنه؛ اللهم إلا أن تدعو لذلك ضرورة من خوف موت، أو مرض شديد، فهذا لا تحتاج فيه إلى إذن؛ لأنَّه قد التحق بقسم الواجبات المتعيَّنة، وأيضًا: فإنَّ الحجامة وما يتنزّل منزلتها مما يُحتاج فيها إلى محاولة الغير، ولا بدَّ فيها من استئذان الزوج لنظره فيمن يَصلح، وفيما يحلُّ من ذلك، ألا ترى أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أمر أبا طيبة أن يحجمها؛ لِمَا عَلِم أن بينهما من السبب المبيح، كما قال الرَّاوي: حسبت: أنه كان أخاها من الرَّضاعة، أو غلامًا لم يحتلم، ولا شكَّ في أن مراعاة هذا هي الواجبة متى وُجد ذلك، فإنْ لم يوجد من يكون كذلك، ودعت الضرورة إلى معالجة الكبير الأجنبيّ جاز دفعًا لأعظم الضررين، وترجيحًا لأخف الممنوعين. انتهى

(1)

.

(فَأَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَبَا طَيْبَةَ) اسمه: نافع على الصحيح، فقد رَوَى أحمد، وابن السكن، والطبرانيّ، من حديث مُحَيِّصة بن مسعود، أنه كان له غلام حجّام، يقال له: نافع أبو طيبة، فانطلق إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم يسأله عن خراجه. . . الحديث، وحَكَى ابن عبد البرّ في اسم أبي طيبة أنه دينار، ووَهَّموه في ذلك؛ لأن دينارًا الحجام تابعيّ، رَوَى عن أبي طيبة، لا أنه اسم أبي طيبة، أخرج حديثه ابن منده من طريق بسام الحجّام، عن دينار الحجّام، عن أبي طيبة الحجّام، قال: حجمت النبيّ صلى الله عليه وسلم. . . الحديث، وبذلك جزم أبو أحمد الحاكم، في "الكُنَى" أن دينارًا الحجام يَروي عن أبي طيبة، لا أنه أبو طيبة نفسه، وذكر البغويّ في "الصحابة" بإسناد ضعيف، أن اسم أبي طيبة: ميسرة، وأما العسكريّ، فقال: الصحيح أنه لا يُعرف اسمه، وذكر ابن الحذاء في رجال "الموطأ" أنه عاش مائة وثلاثًا وأربعين سنةً. انتهى

(2)

.

(أَنْ يَحْجُمَهَا) بفتح أوله، وكسر ثالثه، وضمّه، من بابي ضرب، ونصر.

(1)

"المفهم" 5/ 595 - 596.

(2)

"الفتح" 6/ 56 - 57، كتاب "الإجارة" رقم (2281).

ص: 177

(قَالَ) أبو الزبير (حَسِبْتُ)؛ أي: ظننت (أَنَّهُ)؛ أي: جابرًا رضي الله عنه، (قَالَ: كَانَ) أبو طيبة (أَخَاهَا)؛ أي: أخا أم سلمة رضي الله عنها.

وقد اعترض ابن حزم رحمه الله هذا الحسبان، فقال: وأما قول الراوي: حسبت أنه كان أخاها من الرضاعة، أو غلامًا لم يحتلم، فإنما هو ظنّ من بعض رواة الخبر، ممن دون جابر رضي الله عنه، ثم هو أيضًا ظنّ غير صادق؛ لأن أم سلمة رضي الله عنها وُلدت بمكة، وبها وَلَدت أكثر أولادها، وأبو طيبة غلام لبعض الأنصار بالمدينة، فمحال أن يكون أخاها من الرضاعة، وكان عبدًا مضروبًا عليه الخراج، كما رَوَينا من طريق مالك، عن حميد الطويل، عن أنس بن مالك، قال:"حَجَمَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أبو طيبة، فأمر له بصاع من تمر، وأمر أهله أن يخففوا من خراجه"، ولا يمكن أن يحجمها إلا حتى يرى عنُقها، وأعلى ظهرها مما يوازي أعلى كتفيها. انتهى

(1)

.

(مِنَ الرَّضَاعَةِ) بفتح الراء، وكسرها، قال المجد رحمه الله: رَضِعَ أُمَّه، كسَمِع، وضَرَب، رَضْعًا، ويُحَرَّكُ، ورَضاعًا، ورَضاعةً، ويُكْسَرانِ، ورَضِعًا، ككتفٍ، فهو راضِعٌ، جمعه: كرُكَّعٍ، ورَضِعٌ، ككتِفٍ، جمعه: كعُنُقٍ: امْتَصَّ ثَدْيَها. انتهى

(2)

.

(أَوْ) للشكّ من الراوي؛ أي: قال: كان (غُلَامًا لَمْ يَحْتَلِمْ)، أي: صغيرًا يجوز له أن ينظر إلى الأجنبيّة، قال القرطبيّ رحمه الله: وفيه من الفقه ما يدلّ على أن ذا المحرم يجوز أن يطَّلع من ذات محرمه على بعض ما يحرم على الأجنبيّ، وكذلك الصبيّ، فإن الحجامة غالبًا إنما تكون من بدن المرأة فيما لا يجوز للأجنبيّ الاطلاع عليه، كالقفا، والرَّأس، والساقين. انتهى

(3)

.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث جابر رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

[تنبيه]: قال أبو محمد بن حزم رحمه الله-بعد أن أورد حديث جابر هذا- ما نصّه: هذا خبر في غاية الصحة؛ لأنه من رواية الليث، عن أبي الزبير، عن

(1)

"المحلي" لابن حزم رحمه الله 10/ 33.

(2)

"القاموس المحيط" 1/ 932.

(3)

"المفهم" 5/ 595 - 596.

ص: 178

جابر، وقد روينا بأصح طريق أن كل ما رواه الليث، عن أبي الزبير، عن جابر، فإن أبا الزبير أخبره أنه سمعه عن جابر رضي الله عنه. انتهى

(1)

.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنف) هنا [11/ 5732](2206)، و (أبو داود) في "اللباس"(4105)، و (ابن ماجه) في "الطبّ"(3480)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 350)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5602)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(4/ 183)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(7/ 96)، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5733]

(2207) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ يَحْيَى -وَاللَّفْظُ لَهُ-: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ الآخَرَانِ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ طَبِيبًا، فَقَطَعَ مِنْهُ عِرْقًا، ثُمَّ كَوَاهُ عَلَيْهِ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

وقد تقدّموا قبل أربعة أبواب، و"أبو سفيان" هو: طلحة بن نافع.

شرح الحديث:

(عَنْ جَابِرٍ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى أُبيِّ بْنِ كَعْبِ) بن قيس بن عبيد بن زيد الأنصاريّ الخزرجيّ، أبي المنذر، سيّد القرّاء، ويُكنى أبا الطفيل أيضًا، من فضلاء الصحابة رضي الله عنهم، اختُلف في سنة وفاته اختلافًا كثيرًا، قيل: سنة تسع عشرة، وقيل: اثنتين وثلاثين، وقيل غير ذلك، تقدّمت ترجمته في "شرح المقدمة" جـ 2 ص 466. (طَبِيبًا) لا يعرف اسمه

(2)

، (فَقَطَعَ) الطبيب (مِنْهُ)؛ أي: من أُبيّ رضي الله عنه (عِرْقًا) بكسر العين المهملة، وسكون الراء: مجرى الدم في الجسد

(3)

، (ثُمَّ كَوَاهُ عَلَيْهِ)؛ أي: على موضع القطع، والكيّ: هو أن يُحْمَى حديدٌ، ويوضع على عضو معلول؛ ليُحرق، ويُحبس دمه، ولا يخرج،

(1)

"المحلي" لابن حزم رحمه الله 10/ 33.

(2)

"تنبيه المعلم" ص 377.

(3)

"المعجم الوسيط" 2/ 596.

ص: 179

أو لينقطع العِرْق الذي خرج منه الدم، وإنما كواه بعد القطع؛ لينقطع الدم الخارج من العرق المقطوع.

قال القرطبيّ رحمه الله: وكونه صلى الله عليه وسلم بعث إلى أُبِي طبيبًا فكواه، دليلٌ على أن الواجب في عمل العلاج أن لا يباشره إلا من كان معروفًا به، خبيرًا بمباشرته، ولذلك أحال النبيّ صلى الله عليه وسلم على الحارث بن كَلَدَة، ووصف له النبيّ صلى الله عليه وسلم الدَّواء وكيفية العمل، على ما يأتي. انتهى

(1)

.

وقال الشوكانيّ رحمه الله: وقد جاء النهي عن الكيّ وجاءت الرخصة فيه؛ لبيان جوازه، حيث لا يقدر الرجل أن يداوي العلة بدواء آخر، وإنما ورد النهي حيث يقدر الرجل على أن يداوي العلة بدواء آخر؛ لأن الكيّ فيه تعذيب بالنار، ولا يجوز أن يعذّب بالنار إلا ربُّ النار، وهو الله تعالى، ولأن الكيّ يبقى منه أثر فاحش، وهذان نوعان من أنواع الكي الأربعة، وهما النهي عن الفعل، وجوازه، والثالث الثناء على من تركه، كحديث السبعين ألفًا الذين يدخلون الجنة بغير حساب، والرابع عدم محبته، كحديث "الصحيحين":"وما أُحبّ أن أَكْتَوِيَ"، فعدم محبته يدلّ على أن الأَولى عدم فعله، والثناء على تركه يدلّ على أن تركه أَولى، فتبيّن أنه لا تعارُض بين الأربعة.

وقال الشيخ أبو محمد بن جمرة رحمه الله: عُلم من مجموع كلامه صلى الله عليه وسلم في الكي أن فيه نفعًا، وأن فيه مضرّةً، فلمّا نَهَى عنه عُلم أن جانب المضرّة فيه أغلب، وقريب منه إخبار الله تعالى أن في الخمر منافع، ثم حرّمها؛ لأن المضار التي فيها أعظم من المنافع. انتهى ملخصًا

(2)

، والله تعالى أعلم.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث جابر رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [11/ 5733 و 5734 و 5735](2207)، و (أبو داود) في "الطبّ"(3864)، و (ابن ماجه) في "الطبّ"(3493)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(5/ 54)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 303 و 304 و 315)،

(1)

"المفهم" 5/ 597.

(2)

"نيل الأوطار" 9/ 96.

ص: 180

و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(4/ 321)، و (الحاكم) في "المستدرك"(4/ 238)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(9/ 342) و"شُعب الإيمان"(2/ 59)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): قال الإمام البخاريّ رحمه الله في "صحيحه": "باب من اكتوى، أو كَوَى غيره، وفضل من لم يكتو". انتهى.

قال في "الفتح" في شرح هذه الترجمة: كأنه أراد أن الكيّ جائز للحاجة، وأن الأَولى تَرْكه، إذا لم يتعيّن، وأنه إذا جاز كان أعمّ من أن يباشر الشخص ذلك بنفسه، أو بغيره لنفسه، أو لغيره، وعموم الجواز مأخوذ من نسبة الشفاء إليه في حديث:"أو لذعة بنار"، وفَضْل تَرْكه من قوله صلى الله عليه وسلم:"وما أحب أن أكتوي"، وقد أخرج مسلم من طريق أبي الزبير، عن جابر، قال:"رُمِي سعد بن معاذ على أكحله، فحسمه رسول الله صلى الله عليه وسلم"، ومن طريق أبي سفيان، عن جابر:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم بعث إلى أُبيّ بن كعب طبيبًا، فقطع منه عِرْقًا، ثم كواه"، وروى الطحاويّ، وصححه الحاكم عن أنس، قال:"كواني أبو طلحة في زمن النبيّ صلى الله عليه وسلم"، وأصله في البخاريّ، وأنه كُوِيَ من ذات الجُنُب، وعند الترمذيّ عن أنس:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كَوَى أسعد بن زُرارة من الشوكة"، ولمسلم عن عمران بن حصين:"كان يسلّم عليّ حتى أكتويت، فتُركتُ، ثم تَرَكت الكيّ، فعاد"، وله عنه من وجه آخر:"إن الذي كان انقطع عني، رجع إليّ، يعني تسليم الملائكة" كذا في الأصل، وفي لفظ:"أنه كان يسلَّم عليّ، فلما اكتويت أُمسك عني، فلما تركته عاد إليّ"، وأخرج أحمد، وأبو داود، والترمذيّ عن عمران:"نَهَى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكيّ، فاكتوينا، فما أفلحنا، ولا أنجحنا"، وفي لفظ:"فلم يُفلحن، ولم يَنجحن"، وسنده قويّ.

والنهي فيه محمول على الكراهة، أو على خلاف الأَولى؛ لِمَا يقتضيه مجموع الأحاديث، وقيل: إنه خاصّ بعمران؛ لأنه كان به الباسور، وكان موضعه خطرًا، فنهاه عن كيّه، فلما اشتدّ عليه كواه، فلم ينجح.

وقال ابن قتيبة: الكيّ نوعان:

كَيّ الصحيح؛ لئلا يَعتلّ، فهذا الذي قيل فيه:"لم يتوكل من اكتوى"؛ لأنه يريد أن يدفع القدر، والقدر لا يدافع.

ص: 181

والثاني: كَيّ الجرح إذا نَغَل؛ أي: فسد، والعضو إذا قُطع فهو الذي يُشرع التداوي به، فإن كان الكيّ لأمر محْتَمِلٍ فهو خلاف الأَولى؛ لِمَا فيه من تعجيل التعذيب بالنار لأمر غير محقَّق.

وحاصل الجمع أن الفعل يدلّ على الجواز، وعدم الفعل لا يدلّ على المنع، بل يدلّ على أن تَرْكه أرجح من فعله، وكذا الثناء على تاركه، وأما النهي عنه فإما على سبيل الاختيار، والتنزيه، وإما عما لا يتعيَّن طريقًا إلى الشفاء، والله أعلم.

قال الحافظ رحمه الله: ولم أر في أثر صحيح أن النبيّ صلى الله عليه وسلم اكتوى، إلا أن القرطبي نسب إلى "كتاب أدب النفوس" للطبريّ أن النبيّ صلى الله عليه وسلم اكتوى، وذكره الْحَلِيميّ بلفظ: رُوي أنه اكتَوَى للجرح الذي أصابه بأُحد.

قال الحافظ: والثابت في "الصحيح" كما تقدم في "غزوة أُحد" أن فاطمة رضي الله عنها أحرقت حصيرًا، فحشت به جرحه، وليس هذا الكيّ المعهود، وجزم ابن التين بأنه اكتوى، وعَكَسه ابن القيم في "الهدي". انتهى ما في "الفتح"

(1)

، وهو بحث نفيسٌ جدًّا، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5734]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ (ح) وَحَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، كِلَاهُمَا عَنِ الأَعْمَشِ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَلَمْ يَذْكُرَا

(2)

: فَقَطَعَ مِنْهُ عِرْقًا).

رجال هذين الإسنادين: ستة:

1 -

(عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) الكوفيّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(جَرِيرُ) بن عبد الحميد، تقدّم أيضًا قريبًا.

3 -

(إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورِ) بن بَهْرام الكوسج، أبو يعقوب التميميّ المروزيّ، ثقةٌ ثبتٌ [11](ت 251)(خ م ت س ق) تقدم في "الإيمان" 12/ 156.

(1)

"الفتح" 13/ 90 - 91، كتاب "الطبّ" رقم (5704).

(2)

وفي نسخة: "لم يذكر".

ص: 182

4 -

(عَبْدُ الرَّحْمَنِ) بن مهديّ بن حسّان الْعَنْبريّ مولاهم، أبو سعيد البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ حافظ، عارف بالرجال والحديث [9](ت 198)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 388.

5 -

(سُفْيَانُ) بن سعيد الثوريّ، تقدّم في الباب الماضي.

و"الأعمش" ذُكر قبله.

وقوله: (كِلَاهُمَا عَنِ الأَعْمَشِ) الضمير لجرير بن عبد الحميد، وسفيان الثوريّ.

وقوله: (وَلَمْ يَذْكُرَا) بألف التثنية، وهو ضمير جرير، وسفيان، ووقع في بعض النسخ:"ولم يذكر"، أي كلّ منهما.

وقوله: (فَقَطَعَ مِنْهُ عِرْقًا) مفعول "يذكرا" محكيّ لِقَصْد لفظه، والله تعالى أعلم.

[تنبيه]: رواية جرير، وسفيان كلاهما عن الأعمش لم أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5735]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِي بِشْرُ بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ -يَعْنِي: ابْنَ جَعْفَرٍ- عَنْ شُعْبَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا سُفْيَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ قَالَ: رُمِيَ أُبَيٌّ يَوْمَ الأَحْزَابِ عَلَى أَكْحَلِهِ، فَكَوَاهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(بِشْرُ بْنُ خَالِدٍ) أبو محمد العسكريّ الفرائضيّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ) المعروف بغندر، تقدّم قبل بابين.

3 -

(شُعْبَةُ) بن الحجّاج، تقدّم أيضًا قبل بابين.

والباقون ذُكروا قبل حديث.

شرح الحديث:

(عَنْ شُعْبَةَ) بن الحجّاج أنه (قَالَ: سَمِعْتُ سُلَيْمَانَ) بن مِهْران الأعمشَ (قَالَ: سَمِعْتُ أَبا سُفْيَانَ) طلحة بن نافع الإسكاف الواسطيّ، نزيل مكة، (قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ) رضي الله عنهما (قَالَ: رُمِيَ أُبَيٌّ) ببناء الفعل للمفعول، و"أُبيّ"

ص: 183

مصغّرًا هو ابن كعب المذكور في الحديث الماضي، ولا يُعرف اسم من رماه

(1)

.

[تنبيه]: قال النوويّ رحمه الله: قوله: "أُبَيٌّ" بضم الهمزة، وفتح الباء، وبتشديد الياء، وهكذا صوابه، وكذا هو في الروايات، والنُّسخ، وهو أُبَيّ بن كعب المذكور في الرواية التي قبل هذه، وصَحّفه بعضهم، فقال:"أَبي" بفتح الهمزة، وكسر الباء، وتخفيف الياء، وهو غلط فاحشٌ؛ لأن أبا جابر استُشْهِد يوم أُحُد قبل الأحزاب بأكثر من سنة. انتهى

(2)

.

وقال القاضي عياض رحمه الله: قوله: "رُمِي أُبَيّ" كذا للسجزيّ بضم الهمزة، وفتح الباء، وعند العذريّ، والسمرقنديّ:"أَبِي" بفتح الهمزة، وكسر الباء، وهو وَهَمٌ، والصواب الأول، بدليل الحديث الذي قبله:"بَعَثَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى أُبَيّ بن كعب طبيبًا، فقَطَع منه عِرْقًا، ثم كواه"، ولأن والد جابر لم يُدرِك يوم الأحزاب، استُشهِد بأُحُدِ، في خبر مشهور. انتهى

(3)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قول جابر رضي الله عنه: "رُمي أُبَيٌّ" صحيح رواية هذه اللفظة بضم الهمزة، وفتح الباء، وياء التصغير، ورواها العذريّ، والسَّمرقنديّ:"أَبِي" بفتح الهمزة، وكسر الباء، على إضافته لياء المتكلم، والأول هو الصحيح، بدليل الرواية التي نُصَّ فيها على أنه أُبَي بن كعب؛ ولأن أبا جابر لم يدرك يوم الأحزاب، وإنَّما استشهد يوم أُحد. انتهى

(4)

.

(يَوْمَ الأَحْزَابِ)؛ أي: يوم غزوة الأحزاب، والأحزاب بفتح الهمزة: جمع حِزْب، بكسر، فسكون، وهو الطائفة من الناس، ويوم الأحزاب هو يوم الخندق

(5)

، فتُسمّى باسمين، فأما تسميتها بالخندق، فلأجل الخندق الذي حُفِر

(1)

"تنبيه المعلم" ص 377.

(2)

"شرح النوويّ" 14/ 197.

(3)

"مشارق الأنوار" 1/ 60.

(4)

"المفهم" 5/ 597.

(5)

قال في "تاج العروس" 1/ 6295: الخنْدَقُ كجَعْفَر: حَفِيرٌ حوْل أسْوار المُدُنِ، قالَ ابنُ دُرَيد: فارسي مُعَرَّبَ كَنْدَه، وقد تَكلَّمَتْ به العَرَبُ، قالَ الشاعر [من الرجز]:

لا تَحْسَبَنَّ الخنْدَق المَحْفُورا

يَدْفَعُ عنكَ القَدَرَ المقْدُوَرا

والجمْعُ: الخَنادِقُ، قالَ عُمارَةُ بن طارِق [من الرجز]:

يَحُطُّ بالعَبْدِ الشَّدِيدِ العاتِقِ

مِثْلُ حِطاطِ البَغْل في الخَنادِقِ

ص: 184

حول المدينة بأمر النبيّ صلى الله عليه وسلم، وكان الذي أشار بذلك سلمان الفارسيّ رضي الله عنه، حيث قال للنبيّ صلى الله عليه وسلم: إنا كنا بفارس إذا حوصرنا خندقنا علينا، فأمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بحفر الخندق حول المدينة، وعَمِل فيه بنفسه؛ ترغيبًا للمسلمين، فسارعوا إلى عمله، حتى فرغوا منه، وجاء المشركون فحاصروهم.

وأما تسميتها بالأحزاب فلاجتماع طوائف من المشركين على حرب المسلمين، وهم قريش، وغطفان، واليهود، ومن تبعهم، وقد أنزل الله تعالى في هذه القصة صدر سورة الأحزاب

(1)

، وقد تقدّمت القصّة مستوفاةً في "باب غزوة الأحزاب"[34/ 4631](1788) من كتاب "الجهاد"، فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق.

(عَلَى أَكْحَلِهِ) -بفتح الهمزة، والحاء المهملة، بينهما كاف ساكنة- وهو عِرْق في وسط الذراع، قال الخليل: هو عرق الحياة، ويقال: إن في كل عضو منه شُعْبة، فهو في اليد الأكحل، وفي الظهر الأبهر، وفي الفخذ النَّسَا، إذا قُطع لم يرقأ الدم، قاله في "الفتح"

(2)

، وقد نظمت ذلك مع الزيادة بقولي:

يُقَالُ فِي الْجَسَدِ عِرْقٌ حَيْثُمَا

قُطِعَ صَاحِبُهُ مَاتَ أَلَمَا

لَهُ تَشَعُّبٌ بِأَعْضَاءِ الْجَسَدْ

فِي كُلِّ عُضْوٍ خُصَّ بِاسْمٍ انْفَرَدْ

فَخُصَّ فِي الْعُنُقِ بِالْوَرِيدِ

كَذَلِكَ الْوَدَجُ ذُو تَسْدِيدِ

فِي الظَّهْرِ بِالنِّيَاطِ يُدْعَى وَالَّذِي

اسْتَبْطَنَ الصُّلْبَ بِأَبْهَرٍ خُذِ

وَذَا بِهِ الْقَلْبُ غَدَا يَتَّصِلُ

فِي الْبَطْنِ بِالْوَتِينِ صَارَ يُعْقَلُ

وَبِالنَّسَا فِي الْفَخْذِ وَالأَبْجَلُ فِي

رِجْلٍ وَبِالأَكْحَلِ فِي الْيَدِ يَفِي

فِي السَّاقِ بالصَّافِنِ يُدْعَى وَانْتَهَى

نَظْمِي لِمَنْ يَرْغَبُ مِنْ ذَوِي النُّهَى

(فَكَوَاهُ)؛ أي: أمر بكيّه (رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) كما فُسّر في الرواية الماضية: "بَعَثَ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أُبَيّ بن كعب طبيبًا، فقَطَع منه عِرْقًا، ثم كواه عليه"، والله تعالى أعلم.

والحديث من أفراد المصنّف رحمه الله، وقد تقدّم تخريجه في الحديث الماضي، ولله الحمد والمنّة.

(1)

راجع: "الفتح" 9/ 182 - 183، كتاب "المغازي" رقم (4097).

(2)

راجع: "الفتح" 9/ 215، كتاب "المغازي" رقم (4097).

ص: 185

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5736]

(2208) - (حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، حَدَّثَنَا أَبُو الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ (ح) وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا أَبُو خَيْثَمَةَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: رُمِيَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ فِي أَكْحَلِهِ. قَالَ: فَحَسَمَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِيَدِهِ، بِمِشْقَصٍ، ثُمَّ وَرِمَتْ، فَحَسَمَهُ الثَّانِيَةَ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ) هو: أحمد بن عبد الله بن يونس التميميّ اليربوعيّ، أبو عبد الله الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ، من كبار [10](ت 227) عن (94) سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 53.

2 -

(زُهَيْرُ) بن معاوية بن حُديج الجعفيّ، تقدّم قريبًا.

والباقون ذُكروا في الباب، و"أبو خيثمة" هو زهير بن معاولة المذكور في السند الأول.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (443) من رباعيّات الكتاب.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ) محمد بن مسلم بن تَدْرس المكيّ (عَنْ جَابِرٍ) رضي الله عنه.

[فإن قلت]: كيف أخرج مسلم رواية أبي الزبير هذه، وهي معنعنة، وهو مدلّس؟.

[قلت]: لا تضرّ عنعنة أبي الزبير هنا؛ لأن الليث بن سعد تابع زهير بن

معاوية فيها، عند الترمذيّ، وغيره، كما يأتي في التنبيه الآتي، وقد صحّ عن الليث

أنه لا يروي عن أبي الزبير إلا ما سمعه من جابر رضي الله عنه، كما أشرت إليه بقولي:

إِنْ يَرْوِ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ اللَّيْثُ لَا

تَخْشَ لَهُ التَّدْلِيسَ بَلْ خُذْ مُوصَلَا

فَإِنَّهُ لَمْ يَرْوِ عَنْهُ غَيْرَ مَا

سَمِعَهُ مِنْ جَابِرٍ فَاغْتَنِمَا

ولا تلتفت إلى ما أشار إليه بعض من كَتَب على مسلم من الطعن في هذه الرواية بأنها من رواية أبي الزبير، وهو مدلّس، فإنه غفلة عن القاعدة المذكورة، فتنبّه، والله الهادي إلى سواء السبيل.

ص: 186

(قَالَ: رُمِيَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذِ) بن النعمان الأنصاريّ الأشهليّ، أبو عمرو، سيّد الأوس، شَهِد بدرًا، واستُشهِد من سهم أصابه بالخندق، ومناقبه كثيرة، وله في مسلم ذِكر، دون رواية، وله عند البخاريّ حديث واحد موقوف، رواه عنه ابن مسعود.

وأخرج ابن سعد في "الطبقات"، قال: كان سعد بن معاذ رجلًا أبيض، طُوالًا، جميلًا، حسن الوجه، أعين، حسن اللحية، فرُمي يوم الخندق، سنة خمس من الهجرة، فمات من رَمْيته تلك، وهو يومئذٍ ابن سبع وثلاثين سنةً، فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودُفن بالبقيع. انتهى

(1)

.

[تنبيه]: الذي رَمَى سعد بن معاذ رضي الله عنه رجل من قريش، يقال له: حِبّان ابن الْعَرِقة، وهو حبّان بن قيس، ويقال: ابن أبي قيس بن علقمة بن عبد مناف، والْعَرِقة -بفتح العين المهملة، وكسر الراء، ثم قاف- أمه، وهي بنت سعيد بن سعد بن سِهْم

(2)

، وقد تقدّمت القصّة مستوفاة في "الجهاد":"باب جواز قتال من نقض العهد"[22/ 4588](1769) فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق.

(فِي أَكْحَلِهِ) هو عِرق في الذراع يقال له: عِرْق الحياة؛ لأنه إذا قُطع مات صاحبه، وقد تقدّم تمام البحث فيه في الحديث الماضي. (قَالَ) جابر رضي الله عنه (فَحَسَمَهُ)؛ أي: كواه (النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِيَدِهِ) الشريفة؛ ليقطع دمه، وأصل الحسم: القطع، (بِمِشْقَصٍ) -بكسر الميم، وسكون الشين المعجمة، وفتح القاف، وبصاد مهملة-: وهو نصل السهم إذا كان طويلًا غير عريض

(3)

. (ثُمَّ وَرِمَتْ) بكسر الراء، يقال: وَرِمَ يَرِم -بكسرهما- وَرَمًا، وتورّم، وهو تغلّظه من مرض، وجمع الورم أورام، قاله الفيّوميّ

(4)

، وقال المجد: الورم محرّكةً: النتوء، والانتفاخ. انتهى. (فَحَسَمَهُ الثَّانِيَةَ)؛ أي: كواه النبيّ صلى الله عليه وسلم مرّة ثانية.

قال القرطبيّ رحمه الله: وكيّ النبيّ صلى الله عليه وسلم لأُبيّ، وسعد دليلٌ على جواز الكيّ،

والعمل به، إذا ظن الإنسان منفعته، ودعت الحاجة إليه، فيُحْمَل نهيه صلى الله عليه وسلم عن

(1)

"الطبقات الكبرى" لابن سعد 3/ 433.

(2)

راجع: "الفتح" 9/ 215، كتاب "المغازي" رقم (4097).

(3)

"عمدة القاري" 22/ 239.

(4)

"المصباح المنير" 2/ 656.

ص: 187

الكيّ على ما إذا أمكن أن يُستَغنَى عنه بغيره من الأدوية، فمن فعله في محله، وعلى شرطه لم يكن ذلك مكروهًا في حقّه، ولا مُنقصًا له من فضله، ويجوز أن يكون من السَّبعين ألفًا الذين يدخلون الجنة بغير حساب، كيف لا؟ وقد كوى النبيّ صلى الله عليه وسلم سعد بن معاذ الذي اهتز له عرش الرَّحمن، وأُبي بن كعب المخصوص بأنه أقرأ الأمَّة للقرآن، وقد اكتوى عمران بن حصين، فمن اعتقد أن هؤلاء لا يصلحون أن يكونوا من السبعين ألفًا؛ ففساد كلامه لا يخفى، وعلى هذا البحث فيكون قوله في السبعين ألفًا:"أنهم هم الذين لا يكتوون" إنما يعني به: الذي يكتوي وهو يجد عنه غنى. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: هكذا قرّر القرطبيّ رحمه الله، وفي بعض ما قاله نظر، والله تعالى أعلم.

[تنبيه]: ساق الترمذيّ رحمه الله قصة سعد بن معاذ رضي الله عنه هذه مطوّلةً في "جامعه"، فقال:

(1582)

- حدّثنا قتيبة، حدّثنا الليث، عن أبي الزبير، عن جابر، أنه قال: رُمي يوم الأحزاب سعد بن معاذ، فقطعوا أكحله، أو أبجله، فحسمه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنار، فانتفخت يده، فتركه، فنزفه الدم، فحسمه أخرى، فانتفخت يده، فلما رأى ذلك قال: اللهم لا تُخرج نفسي، حتى تُقِرّ عيني من بني قريظة، فاستمسك عِرْقُه، فما قطر قطرة، حتى نزلوا على حكم سعد بن معاذ، فأرسل إليه، فحَكَم أن يُقتل رجالهم، ويُستحيى نساؤهم، يستعين بهنّ المسلمون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أصبت حكم الله فيهم"، وكانوا أربعمائة، فلمّا فرغ من قتلهم انفتق عِرْقه فمات، قال أبو عيسى: هذا حديث حسنٌ صحيحٌ. انتهى

(2)

.

وساقها الطبرانيّ في "المعجم الكبير" بأطول من هذا، فقال:

(5327)

- حدّثنا محمد بن عمرو بن خالد الحرانيّ، حدّثني أبي، ثنا ابن لَهِيعة، عن أبي الأسود، عن عروة، أن سعد بن معاذ رضي الله عنه رُمِي يوم الخندق رَمْيةً، فقُطعت الأكحل من عضده، فزعموا أنه رماه حِبّان بن قيس، أحد بني

(1)

"المفهم" 5/ 597 - 598.

(2)

"جامع الترمذيّ" 4/ 144.

ص: 188

عامر بن لؤيّ، ثم أخو بني الْعَرِقة، ويقول آخرون: رماه أبو أسامة الْجُشَميّ، فقال سعد بن معاذ رضي الله عنه: رب اشفني من بني قريظة قبل الممات، فرقأ الكَلْم بعدما قد انفجر، قال: وأقام النبيّ صلى الله عليه وسلم على بني قريظة، حتى سألوه أن يجعل بينه وبينهم حَكَمًا، ينزلون على حُكْمه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"اختاروا من أصحابي من أردتم، فلنستمع لقوله"، فاختاروا سعد بن معاذ، فرَضِي به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسلّموا، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأسلحتهم، فجُعلت في بيت، وأَمر بهم، فكُتِّفوا، وأُوثقوا، فجُعلوا في دار أسامة بن زيد، وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سعد بن معاذ، فأقبل على حمار أعرابيّ، يزعمون أن وطأة برذعه من ليف، واتبعه رجل من بني عبد الأشهل، فجعل يمشي معه، يُعَظِّم حق بني قريظة، وَيذكُر حلفهم، والذي أبلوهم يوم بُعاث، وأنهم اختاروك على من سواك رجاء عطفك، وتحنّنك عليهم، فاستبْقهم، فإنهم لك جَمَالٌ وعُدَدٌ، قال: فأكثر ذلك الرجل، ولم يُحِرْ إليه سعد شيئًا، حتى دَنَوا، فقال له الرجل: ألا ترجع إليّ شيئًا، فقال سعد: والله لا أبالي في الله لومة لائم، ففارقه الرجل، فأتى إلى قومه، قد يئس من أن يستبقيهم، وأخبرهم بالذي كلّمه به، والذي رجع إليه، ونَفَذَ سعد حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا سعد احكم بيننا وبينهم، فقال سعد رضي الله عنه: أحكم فيهم بأن تُقْتَل مقاتلتُهم، ويُغتنم سبيهم، وتؤخذ أموالهم، وتسبى ذراريهم، ونساؤهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: حَكَم فيهم سعد بن معاذ بحكم الله، ويزعم ناس أنهم نزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرَدّ رسول الله صلى الله عليه وسلم الحكم فيهم إلى سعد بن معاذ، فأُخرجوا رسلًا رسلًا، فضُربت أعناقهم، وأُخرج حُيَيّ بن أخطب، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:"هل أخزاك الله؟ " فقال: قد ظهرت عليّ، وما ألوم نفسي فيك، فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأُخرج إلى أحجار الزيت التي بالسوق، فضُربت عنقه، كل ذلك بعين سعد بن معاذ، وزعموا أنه كان برئ كَلْم سعد، وتحجر بالبرء، ثم إنه دعا، فقال: اللهم رب السماوات والأرض، فإنه لم يكن في الأرض قوم أبغض إليّ من قوم كذبوا رسولك، وأخرجوه، وإني أظن أن قد وضعت الحرب بيننا وبينهم، فإن كان بقي بيننا وبينهم قتال، فأبقني، أقاتلهم فيك، وإن كنت قد وضعت الحرب بيننا وبينهم، فافجر هذا المكان، واجعل موتي فيه، ففجره الله تبارك وتعالى، وإنه

ص: 189

لراقد بين ظهري الليل، فما دَرَوا به، حتى مات، وما رقأ الكلم حتى مات رحمه الله. انتهى

(1)

.

قال الحافظ أبو بكر الهيثميّ رحمه الله في "المجمع": رواه الطبرانيّ مرسلًا، وفيه ابن لَهيعة، وحديثه حسنٌ، وفيه ضَعف، وفي "الصحيح" بعضه عن عائشه رضي الله عنها متصل الإسناد. انتهى

(2)

.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث جابر رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [11/ 5736](2208)، و (أبو داود) في "الطبّ"(3866)، و (الترمذيّ) في "السير"(1582)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(5/ 206)، و (ابن ماجه) في "الطبّ"(3494)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 312 و 350 و 386)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1745)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 238)، و (ابن الجعد) في "مسنده"(1/ 388)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4784)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(6/ 7)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(4/ 321)، و (الحاكم) في "المستدرك"(4/ 417)، و (ابن سعد) في "الطبقات"(3/ 429)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(9/ 342)، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5737]

(1202)

(3)

- (حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ صَخْرٍ الدَّارِمِيُّ، حَدَّثَنَا حَبَّانُ بْنُ هِلَالٍ، حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم احْتَجَمَ، وَأَعْطَى الْحَجَّامَ أَجْرَهُ، وَاسْتَعَطَ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ صَخْرٍ الدَّارِمِيُّ) أبو جعفر السَّرَخْسيّ، ثقةٌ حافظٌ [11](ت 253)(خ م د ت ق) تقدم في "المقدمة" 6/ 93.

(1)

"المعجم الكبير" للطبرانيّ 6/ 7 - 8.

(2)

"مجمع الزوائد" 6/ 139.

(3)

هذا الرقم مكرّر.

ص: 190

2 -

(حَبَّانُ بْنُ هِلَالٍ) أبو حبيب البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [9](ت 216) تقدم في "الإيمان" 55/ 322.

3 -

(وُهَيْبُ) بن خالد البصريّ، تقدّم قريبًا.

4 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ طَاوُسٍ) اليمنيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

5 -

(أَبُوهُ) طاوس بن كيسان اليمنيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

6 -

(ابْنُ عَبَّاسٍ) عبد الله البحر الحبر رضي الله عنهما، تقدّم أيضًا قريبًا.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وفيه رواية الابن عن أبيه، وفيه ابن عبّاس رضي الله عنهما حبر الأمة، وبحرها، وأحد العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة.

شرح الحديث:

(عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم احْتَجَمَ) بالبناء للفاعل؛ أي: طلب من يَحْجُمُهُ، يقال: حجمه يحجمه، من بابي ضرب، ونصر: إذا امتصّ دمه بالْمِحَجَم. (وَأَعْطَى الْحَجَّامَ أَجْرَهُ) وفي رواية تقدّمت للمصنّف في "البيوع" من رواية الشعبيّ، عن ابن عبّاس رضي الله عنهما:"حَجَمَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم عبدٌ لبني بياضة، فأعطاه النبيّ صلى الله عليه وسلم أجره، وكَلَّم سيّده، فخفّف عنه من ضريبته"، ولو كان سُحتًا لم يُعطه النبيّ. قيل: العبد المذكور هو أبو طيبة المذكور في حديث أنس رضي الله عنه المتقدّم هناك، فراجع ما تقدّم، والله تعالى أعلم.

(وَاسْتَعَطَ)؛ أي: استَعمل السَّعُوط، وهو أن يَستلقي على ظهره، ويَجعل بين كتفيه ما يرفعهما لينحدر رأسه، ويقطر في أنفه ماء، أو دهنٌ، فيه دواءٌ مفرد، أو مركبٌ؛ ليتمكن بذلك من الوصول إلى دماغه؛ لاستخراج ما فيه من الداء بالعطاس، وأخرج الترمذيّ عن ابن عبّاس رضي الله عنهما رفعه:"إن خير ما تداويتم به السَّعُوط"

(1)

، ذكره في "الفتح"

(2)

، والله تعالى أعلم.

قال الجامع عفا الله عنه: حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه، وقد مضى تخريجه في "البيوع"[33/ 4034 و 4035](1202)، فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق.

(1)

حديث ضعيف.

(2)

"الفتح" 13/ 78.

ص: 191

[تنبيه]: ذكر الإمام ابن القيّم رحمه الله في هذا الباب بحثًا مهمًّا، أحببت إيراده هنا؛ لنفاسته، وكثرة فوائده، قال رحمه الله:

وفي ضمن هذه الأحاديث المتقدمة استحباب التداوي، واستحباب الحجامة، وأنها تكون في الموضع الذي يقتضيه الحال، وجواز احتجام المُحْرِم، وإن آل إلى قطع شيء من الشعر، فإن ذلك جائز، وفي وجوب الفدية عليه نظر، ولا يقوى الوجوب، وجواز احتجام الصائم، فإن في "صحيح البخاريّ" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم:"احتَجَم، وهو صائم"، ولكن هل يُفطر بذلك أم لا؟ مسألة أخرى، الصواب: الفطر بالحجامة؛ لصحته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير معارض، وأصح ما يعارَض به حديث حجامته، وهو صائم، ولكن لا يدلّ على عدم الفطر، إلا بعد أربعة أمور:

أحدها: أن الصوم كان فرضًا.

الثاني: أنه كان مقيمًا.

الثالث: أنه لم يكن به مرض، احتاج معه إلى الحجامة.

الرابع: أن هذا الحديث متأخر عن قوله: "أفطر الحاجم، والمحجوم".

فإذا ثبتت هذه المقدمات الأربع أمكن الاستدلال بفعله صلى الله عليه وسلم على بقاء الصوم مع الحجامة، وإلا فما المانع أن يكون الصوم نفلًا يجوز الخروج منه بالحجامة وغيرها، أو من رمضان، لكنه في السفر، أو من رمضان في الحضر، لكن دعت الحاجة إليها، كما تدعو حاجة من به مرض إلى الفطر، أو يكون فرضًا من رمضان في الحضر، من غير حاجة إليها، لكنه مُبَقًّى على الأصل؟ وقوله:"أفطر الحاجم، والمحجوم" ناقل، ومتأخر، فيتعيّن المصير إليه، ولا سبيل إلى إثبات واحدة من هذه المقدّمات الأربع، فكيف بإثباتها كلها؟.

وفيها دليل على استئجار الطبيب، وغيره، من غير عقد إجارة، بل يعطيه أجرة المِثل، أو ما يُرضيه.

وفيها دليل على جواز التكسب بصناعة الحجامة، وإن كان لا يطيب للحرّ أَكْل أجرته من غير تحريم عليه، فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم أعطاه أجره، ولم يمنعه من أكله، وتسميته إياه خبيثًا كتسميته للثوم والبصل خبيثين، ولم يلزم من ذلك تحريمهما.

ص: 192

وفيها دليل على جواز ضرب الرجل الخراج على عبده، كلَّ يوم شيئًا معلومًا بقدر طاقته، وأن للعبد أن يتصرف فيما زاد على خراجه، ولو مُنِع من التصرف لكان كسبه كله خراجًا، ولم يكن لتقديره فائدة، بل ما زاد على خراجه فهو تمليك من سيده له، يتصرف فيه كما أراد، والله أعلم. انتهى

(1)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوَّل الكتاب قال:

[5738]

(1577)

(2)

- (وَحَدَّثَنَاهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، وَقَالَ أَبُو كُرَيْبٍ -وَاللَّفْظُ لَهُ-: أَخْبَرَنَا وَكِيعٌ، عَنْ مِسْعَرٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ الأَنْصَارِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: احْتَجَمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَكَانَ لَا يَظْلِمُ أَحَدًا أَجْرَهُ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عَمْرُو بْنُ عَامِرٍ الأَنْصَارِيُّ) الكوفيّ، ثقةٌ [5].

رَوَى عن أنس بن مالك، وعنه أبو الزناد، وشعبة، والثوريّ، ومِسعر، وشريك، وغيرهم.

قال أبو حاتم: ثقةٌ، صالح الحديث، وقال النسائيّ: ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات".

أخرج له الجماعة، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث

(3)

.

والباقون تقدّموا قبل أربعة أبواب.

شرح الحديث:

(عَنْ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ الأَنْصَارِيِّ) الكوفيّ، أنه (قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ) رضي الله عنه (يَقُولُ: احْتَجَمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) وفي الرواية المتقدّمة للمصنّف في "البيوع" من رواية حميد، قال: سئل أنس بن مالك عن كسب الحجّام، فقال: احتَجَمَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، حَجَمه أبو طيبة، فأمر له بصاعين من طعام، وكَلَّم

(1)

"زاد المعاد" 4/ 56.

(2)

هذا الرقم مكرّر.

(3)

وقال في "الفتح": ليس له في البخاريّ إلا ثلاثة أحاديث، حديث الباب، وحديث في الطهارة، وحديث في الصلاة.

ص: 193

أهله، فوضعوا عنه من خراجه، وقال:"إن أفضل ما تداويتم به الحجامة، أو هو من أمثل دوائكم". (وَكَانَ) صلى الله عليه وسلم (لَا يَظْلِمُ أَحَدًا أَجْرَهُ) بل يُعطيه فوق ما تمنّاه، كما فعل بأبي طيبة المذكور، حيث أعطاه صاعين، وأمر أهله فخفّفوا عنه ضريبته، وهذا من كمال شفقته صلى الله عليه وسلم.

وفي رواية البخاريّ رحمه الله: "كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يحتجم، ولم يكن يظلم أحدًا أجره"، قال في "الفتح": فيه إشعار بالمواظبة، وفيه إثبات إعطائه أجرة الحجّام بطريق الاستنباط، بخلاف رواية ابن عبّاس بلفظ:"وأعطى الحجام أجره"، ففيها الجزم بذلك على سبيل التنصيص. انتهى

(1)

.

وقال في "العمدة": قوله: "ولم يكن يظلم أحدًا أجره" أعمّ من أجر الحجام وغيره، ممن يُستَعْمَلُ في عمل، والمراد أنه يوفي أجر كل أجير، ولم يكن يظلم؛ أي: ينقص من أجر أحد، ولا يردّه بغير أجر. انتهى

(2)

، والله تعالى أعلم.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أنس بن مالك رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [11/ 5738](1577)

(3)

، و (البخاريّ) في "الإجارة"(2280)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 120 و 177 و 215 و 261)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(6/ 375)، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5739]

(2209) - (حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَا: حَدَّثَنَا يَحْيَى -وَهُوَ ابْنُ سَعِيدٍ - عَنْ عُبَيْدِ اللهِ، أَخْبَرَنِي نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "الْحُمَّى مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ، فَابْرُدُوهَا بِالْمَاءِ").

(1)

"الفتح" 6/ 56، كتاب "الإجارة" رقم (2280).

(2)

"عمدة القاري" 12/ 102.

(3)

هذا الرقم مكرّر، فتنبّه.

ص: 194

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عُبَيْدُ اللهِ) بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطّاب العمريّ، أبو عثمان المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ [5] مات سنة بضع و (140)(ع) تقدم في "الإيمان" 28/ 222.

2 -

(نَافِعٌ) مولى ابن عمر، أبو عبد الله المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ مشهور [3](ت 117)(ع) تقدم في "الإيمان" 28/ 222.

3 -

(ابْنُ عُمَرَ) هو: عبد الله بن عمر بن الخطّاب العدويّ، أبو عبد الرحمن المدنيّ الصحابيّ ابن الصحابيّ، مات رضي الله عنه سنة (73) أو أول التي تليها (ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 102.

والباقون تقدّموا قريبًا.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه ابن عمر رضي الله عنهما أحد العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة، وأشدّ الناس اتّباعًا للأثر.

شرح الحديث:

(عَنْ عُبَيْدِ اللهِ) بن عمر الْعُمَريّ، أنه قال:(أَخْبَرَنِي نَافِعٌ) مولى ابن عمر (عَنِ ابْنِ عُمَرَ) رضي الله عنهما.

[تنبيه]: هكذا أخرج الحديث مسلم من طريق يحيى القطّان عن عبيد الله العمري، عن نافع، وأخرجه البخاريّ من طريق عبد الله بن وهب عن مالك، عن نافع، وهو أيضًا عند مسلم، قال في "الفتح" بعد ذِكر هذا: وأخرجه النسائيّ من طريق عبد الرحمن بن القاسم، عن مالك، قال الدارقطنيّ في "الموطآت": لم يروه من أصحاب مالك في "الموطأ": إلا ابن وهب، وابن القاسم، وتابعهما الشافعيّ، وسعيد بن عُفير، وسعيد بن داود، قال: ولم يأت به مَعْن، ولا القعنبيّ، ولا أبو مصعب، ولا ابن بكير. انتهى، وكذا قال ابن عبد البرّ في "التقصي"، قال الحافظ: وقد أخرجه شيخنا -يعني: الحافظ العراقيّ- في "تقريبه" من رواية أبي مصعب، عن مالك، وهو ذهول منه؛ لأنه اعتَمَد فيه على "الملخّص" للقابسيّ، والقابسيّ إنما أخرج "الملخص" من طريق

ص: 195

ابن القاسم، عن مالك، وهذا ثاني حديث عَثَرت عليه في "تقريب الأسانيد" لشيخنا -عفا الله تعالى عنه- من هذا الجنس، وقد نبهت عليه نصيحةً لله تعالى، والله أعلم.

وقد أخرجه الدارقطنيّ، والإسماعيليّ من رواية حرملة، عن الشافعيّ، وأخرجه الدارقطنيّ من طريق سعيد بن عُفير، ومن طريق سعيد بن داود، ولم يخرجه ابن عبد البرّ في "التمهيد"؛ لأنه ليس في رواية يحيى بن يحيى الليثيّ، والله أعلم. انتهى

(1)

.

(عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) أنه (قَالَ: "الْحُمَّى مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ) -بفتح الفاء، وسكون التحتانية، بعدها مهملة- في حديث رافع:"من فوح" بالواو، وفي حديث له بلفظ:"فور" بالراء بدل الحاء، وكلها بمعنى، والمراد: سُطوع حَرّها، ووَهَجُهُ، والحمّى أنواع، كما سيأتي تحقيقه.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "من فيح جهنَّم"؛ أي: شدَّة حرارتها، وأصله من فاحت القِدْر: إذا غَلَت، وقد يعبَّر عنه بالفور؛ كما جاء في الرواية الأخرى، ولفحُ النَّار: إصابة شدَّة حرارتها، وجهنم: اسم عَلَمٌ من أسماء نار الآخرة؛ مؤنث، ولذلك لم ينصرف، وقد تقدم اشتقاقه. انتهى

(2)

.

وقال ابن القيّم رحمه الله: قوله: "من فيح جهنم" هو شدّة لَهَبها، وانتشارها، ونظيره قوله:"شدة الحر من فيح جهنم"، وفيه وجهان:

أحدهما: أن ذلك أنموذج، ورقيقة اشتُقّت من جهنم؛ ليستدل بها العباد عليها، ويعتبروا بها، ثم إن الله سبحانه قدّر ظهورها بأسباب تقتضيها، كما أن الرَّوْح، والفرح، والسرور، واللذة من نعيم الجنة أظهرها الله في هذه الدار عبرةً، ودلالةً، وقدّر ظهورها بأسباب توجبها.

والثاني: أن يكون المراد التشبيه، فشبّه شدة الحمى، ولهبها بفيح جهنم، وشبه شدة الحرّ به أيضًا؛ تنبيهًا للنفوس على شدة عذاب النار، وأن هذه

(1)

"الفتح" 13/ 122 - 123، كتاب "الطبّ" رقم (5723).

(2)

"المفهم" 5/ 599.

ص: 196

الحرارة العظيمة مشبهة بفيحها، وهو ما يصيب من قَرُب منها من حرّها. انتهى

(1)

.

وقال في "الفتح": واختُلِف في نسبة الحمّى إلى جهنم، فقيل: حقيقةٌ، واللهب الحاصل في جسم المحموم قطعة من جهنم، وقَدّر الله ظهورها بأسباب تقتضيها؛ ليعتبر العباد بذلك، كما أن أنواع الفَرَح واللذة من نعيم الجنة، أظهَرَها في هذه الدار عبرةً، ودلالةً، وقد جاء في حديث أخرجه البزار، من حديث عائشة رضي الله عنها، بسند حسنٍ وفيه: عن أبي أمامة، عند أحمد، وعن أبي رَيحانة، عند الطبرانيّ، وعن ابن مسعود، في "مسند الشهاب":"الحمى حَظّ المؤمن من النار"، وهذا كما تقدم في حديث الأمر بالإبراد:"إن شدة الحر من فيح جهنم، وأن الله أَذِن لها بنَفَسين".

وقيل: بل الخبر ورد مورد التشبيه، والمعنى: أن حَرّ الحمّى شبيه بحرّ جهنم؛ تنبيهًا للنفوس على شدة حر النار، وأن هذه الحرارة الشديدة شبيهة بفيحها، وهو ما يصيب مَن قَرُب منها من حرّها، كما قيل بذلك في حديث الإبراد، والأول أَولى، والله أعلم، ويؤيده ما في آخر الحديث عند البخاريّ:"قال نافع: وكان عبد الله يقول: اكشف عنّا الرجز"، أفاده في "الفتح"

(2)

، وهو تحقيقٌ نفيسٌ جدًّا، والله تعالى أعلم.

(فَابْرُدُوهَا) قال في "الفتح": المشهور في ضَبْطها بهمزة وصل، والراء مضمومة، وحُكِيَ كسرها، يقال: بَرَدتُ الحمَّى أَبرُدُها بَرْدًا، بوزن قَتَلتها أقتُلُها قَتْلًا؛ أي: أسكنت حرارتها، قال شاعر الحماسة [من الطويل]:

إِذَا وَجَدتُ لَهِيبَ الْحُبِّ فِي كَبِدِي

أَقْبَلْتُ نَحْوَ سِقَاءِ الْقَوْمِ أَبْتَرِدُ

هَبْنِي بَرَدْتُ بِبَرْدِ الْمَاءِ ظَاهِرَهُ

فَمَنْ لِنَارٍ عَلَى الأَحْشَاءِ تَتَّقِدُ

وحَكَى عياض روايةً بهمزة قطع مفتوحة، وكسر الراء، من أبرد الشيءَ: إذا عالجه، فصَيَّره باردًا، مثل أسخنه: إذا صيّره سُخْنًا، وقد أشار إليها الخطابيّ، وقال الجوهريّ: إنها لغة رديئة. انتهى

(3)

.

(1)

"زاد المعاد" 4/ 23.

(2)

"الفتح" 13/ 121، كتاب "الطبّ" رقم (5723).

(3)

"الفتح" 13/ 122 - 123، كتاب "الطبّ" رقم (5723).

ص: 197

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "فابْرُدوها بالماء" صوابه بوصل الألف؛ لأنَّه من بَرَّد الماءُ حرارةَ جوفي، وهو ثلاثيّ معدَّى؛ كما قال [من الطويل]:

وَعَطِّلْ قَلُوصِي فِي الرِّكاب فإنَّها

ستَبْرُدُ أكبادًا وتُبْكِي بَوَاكِيَا

وقد أخطأ من قال: أَبردوها، بقطع الألف، وفي الرواية الأخرى:"فأطفئوها"، بالهمزة رباعيًّا، من أطفأ. انتهى

(1)

.

وقال النوويّ رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم: "الحمى من فيح جهنم فابرُدوها بالماء"، وفي رواية:"من فَوْر جهنم" هو بفتح الفاء فيهما، وهو شدّة حرّها، ولهبها، وانتشارها، وأما "فابرُدوها" فبهمزة وصل، وبضم الراء، يقال: بَرَدتُ الحمَّى أبرُدها بَرْدًا، على وزن قتَلتها أقتُلها قَتْلًا؛ أي: أسكنت حرارتها، وأطفأت لهبها، كما قال في الرواية الأخرى:"فأطفئوها بالماء"، وهذا الذي ذكرناه من كونه بهمزة وصل، وضم الراء، هو الصحيح الفصيح المشهور في الروايات، وكُتُب اللغة، وغيرها، وحَكَى القاضي عياض في "المشارق" أنه يقال: بهمزة قطع، وكَسْر الراء في لغة، قد حكاه الجوهريّ، وقال: هي لغة رديئة. انتهى

(2)

.

وقوله: (بِالْمَاءِ) قال ابن القيّم رحمه الله: فيه قولان: أحدهما: أنه كل ماء، وهو الصحيح، والثاني: أنه ماء زمزم، واحتَجّ أصحاب هذا القول بما رواه البخاريّ في "صحيحه" عن أبي جمرة نصر بن عمران الضُّبَعيّ قال: كنت أجالس ابن عباس بمكة، فأخذتني الحمى، فقال: أبردها عنك بماء زمزم، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إن الحمى من فيح جهنم، فابْرُدُوها بالماء، أو قال: بماء زمزم"، وراوي هذا قد شكّ فيه، ولو جزم به لكان أمرًا لأهل مكة بماء زمزم؛ إذ هو متيسِّر عندهم، ولغيرهم بما عندهم من الماء.

قال: ثم اختَلَفَ من قال: إنه على عمومه، هل المراد به الصدقة بالماء، أو استعماله؟ على قولين، والصحيح أنه استعماله، وأظن أن الذي حَمَل من قال: المراد الصدقة به أنه أشكل عليه استعمال الماء البارد في الحمى، ولم يفهم وجهه، مع أن لقوله وجهًا حسنًا، وهو أن الجزاء من جنس العمل، فكما

(1)

"المفهم" 5/ 599.

(2)

"شرح النوويّ" 14/ 198.

ص: 198

أَخمد لهيب العطش عن الظمآن بالماء البارد، أخمد الله لهيب الحمى عنه جزاءً وفاقًا، ولكن هذا يؤخذ من فقه الحديث، وإشارته، وأما المراد به فاستعماله. انتهى

(1)

.

وقال في "الفتح": وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند ابن ماجه: "بالماء البارد"، ومثله في حديث سمرة رضي الله عنه عند أحمد، ووقع في حديث ابن عباس رضي الله عنهما:"بماء زمزم"، فقد أخرج البخاريّ من رواية أبي جمرة -بالجيم- قال:"كنت أجالس ابن عباس بمكة، فأخذتني الحمّى"، -وفي رواية أحمد-: كنت أدفع الناس عن ابن عباس، فاحتبست أيّامًا، فقال: ما حبسك؟ قلت: الحمَّى، قال: أبْرِدها بماء زمزم، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"الحمى من فيح جهنم، فأبردوها بالماء، أو بماء زمزم" شك همام، كذا في رواية البخاريّ من طريق أبي عامر العَقَديّ، عن همام.

وقد تعلّق به من قال بأن ذِكْر ماء زمزم ليس قيدًا؛ لشكِّ راويه فيه، وممن ذهب إلى ذلك ابن القيّم.

قال الجامع عفا الله عنه: ليس ابن القيّم ممن قال بهذا، بل هو قائل بأن المراد به العموم، ولكنه تأول قول من قال بهذا، على تقدير ثبوته، كما أسلفت لك نصّه، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

قال: وتُعُقِّب بأنه وقع في رواية أحمد، عن عفّان، عن همام:"فأبردوها بماء زمزم"، ولم يشكّ، وكذا أخرجه النسائيّ، وابن حبان، والحاكم، من رواية عفان، وإن كان الحاكم وَهِمَ في استدراكه، وترجم له ابن حبان بعد إيراده حديث ابن عمر، فقال:"ذِكْر الخبر المفسِّر للماء المجمل في الحديث الذي قبله، وهو أن شدّة الحمى تُبَرَّد بماء زمزم دون غيره من المياه"، وساق حديث ابن عباس.

وقد تُعُقّب على تقدير أن لا شك في ذِكر ماء زمزم فيه، بأن الخطاب لأهل مكة خاصّة؛ لتيسُّر ماء زمزم عندهم، كما خصّ الخطاب بأصل الأمر بأهل البلاد الحارّة، وخفي ذلك على بعض الناس. انتهى

(2)

.

(1)

"زاد المعاد" 4/ 23.

(2)

"الفتح" 13/ 123 - 124، كتاب "الطبّ" رقم (5723).

ص: 199

قال الجامع عفا الله عنه: عندي أن حمله على العموم هو الصواب، كما أشار إليه ابن القيّم رحمه الله في كلامه السابق؛ لأن التنصيص على بعض أفراد العامّ لا يُخصّص، فالحقّ أن الحديث على عمومه، فمن تيسّر له ماء زمزم كأهل مكة برّدها به، ومن لا؛ كغيرهم برّدها بما لديه من الماء، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

وقال ابن عبد البرّ رحمه الله: وأما معنى الحديث فقد فسرته فاطمة بنت المنذر في روايتها له عن أسماء، بأنها كانت تَصُبّ الماء بين المرأة المحمومة وبين جيبها؛ كأنها كانت تصبه بين طوق قميصها، وعنقها، حتى يصل إلى جسدها، وذكر ابن وهب في صفة الغسل للحمى حديثًا في "جامعه" مرفوعًا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال لرجل شكى إليه الحمى:"اغتسل ثلاثة أيام قبل طلوع الشمس، كل يوم، وقل: بسم الله، وبالله، اذهبي يا أم مِلْدَم فإن لم تذهب، فاغتسل سبعًا".

قال أبو عمر: مَن فعل شيئًا مما في هذين الحديثين، أو غيرهما مع اليقين الثابت، لم تلبث الحمى أن تُقلع إن شاء الله تعالى.

قال: وقد رَوَى ابن عباس رضي الله عنهما عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الحمى من فيح جهنم، فابْرُدوها بماء زمزم"، رواه أبو جمرة عنه، ورَوَى مِقْسم عن ابن عباس أنه كان إذا حُمّ بَلّ ثوبه، ثم لبسه، ثم قال:"إنها من فيح جهنم، فابْرُدوها بالماء"، قال أبو عمر: تأويل ابن عباس حسن أيضًا إن شاء الله عز وجل. انتهى

(1)

.

[تنبيه]: زاد في رواية البخاريّ من طريق مالك عن نافع في آخر الحديث ما نصّه: قال نافع: وكان عبد الله يقول: "اكشف عنّا الرجز". انتهى.

قال في "الفتح": قوله: "قال نافع: وكان عبد الله"؛ أي: ابن عمر يقول: اكشف عنا الرجز؛ أي: العذاب، وهذا موصول بالسند الذي قبله، وكأن ابن عمر فَهِم من كون أصل الحمى من جهنم أن من أصابته عُذِّب بها، وهذا التعذيب يختلف باختلاف محله، فيكون للمؤمن تكفيرًا لذنوبه، وزيادةً في

(1)

"الاستذكار" لابن عبد البرّ 8/ 419.

ص: 200

أجوره، كما سبق، وللكافر عقوبةً، وانتقامًا، وإنما طَلَب ابن عمر كشفه مع ما فيه من الثواب؛ لمشروعية طلب العافية من الله سبحانه؛ إذ هو قادر على أن يُكَفِّر سيئات عبده، ويُعظم ثوابه من غير أن يصيبه شيء يَشُقّ عليه، والله تعالى أعلم

(1)

.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [11/ 5739 و 5740 و 5741 و 5742](2209)، و (البخاريّ) في "بدء الخلق"(3264)، و"الطبّ"(5723)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(4/ 279)، و (ابن ماجه) في "الطبّ"(3472)، و (مالك) في "الموطّأ"(2/ 945)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(8/ 81)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 21 و 85)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(13342)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6066 و 6067)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): قال الخطابيّ، ومن تبعه: اعتَرَض بعض سُخفاء الأطباء على هذا الحديث بأن قال: اغتسال المحموم بالماء خطر يقربه من الهلاك؛ لأنه يجمع المسامّ، ويحقن الْبُخار، ويعكس الحرارة إلى داخل الجسم، فيكون ذلك سببًا للتلف.

قال القرطبيّ رحمه الله: وجوابه أن هذا إن صدر عمَّن ارتاب في صدق النبيّ صلى الله عليه وسلم، فجوابه بالمعجزات الدَّالة على صدقه صلى الله عليه وسلم التي تدل قطعًا على صحة قوله، وصواب فعله، فإنْ حصل له التصديق والإيمان، وإلا فقد يفعل الله بالسيف والسِّنان ما لا يُفعل بالبرهان، وإن صدر عن مصدِّقٍ له، ومؤمن برسالته -وما أقله فيمن يتعاطى صنعة الأطباء! - قيل له: تفهَّم مراده من هذا الكلام؛ فإنَّه لم ينصَّ على كيفية تبريد الحمى بالماء، وإنَّما أرشد إلى تبريدها بالماء مطلقًا، فإنْ أظهر الوجودُ، أو صناعة الطبّ أن غمس المحموم في

(1)

"الفتح" 13/ 127، كتاب "الطبّ" رقم (5723).

ص: 201

الماء، أو صبَّه على جميع بدنه يضرُّه، فليس هو الذي قصد النبيّ صلى الله عليه وسلم إليه، وإنما قصد استعمال الماء على وجه ينفع، فيُبْحث عن ذلك الوجه، وتُجرَّب الوجوه التي لا ضرر فيها، فإنَّه سيظهر نفعه قطعًا، وقد ظهر هذا المعنى في أمره للعائن بالغسل، فإنَّه وإن كان قد أمره بأن يغتسل مطلقًا، فلم يكن مقصوده أن يغسل جميع جسده، بل بعض ذلك، كما تقدَّم.

وإذا تقرَّر هذا، فلا يبعُد أن يكون مقصوده أن يُرشَّ بعض جسد المحموم، أو يفعل كما كانت أسماء تفعل، فإنَّها كانت تأخذ ماءً يسيرًا ترش به في جيب المحموم، أو يُنضح به وجهه، ويداه، ورجلاه، ويذكر اسم الله تعالى، فيكون ذلك من باب النُّشْرة الجائزة، كما تقدَّم.

وقد يجوز أن يكون ذلك من باب الطبّ، فقد ينفع ذلك في بعض الحميات، فإنَّ الأطباء قد سلّموا أن الحمى الصفراوية يُبَرّد

(1)

صاحبها بسقي الماء الشديد البرودة، حتى يسقوه الثلج، وتغسل أطرافه بالماء البارد، وعلى هذا فلا بُعد في أن يكون هذا المقصودَ بالحديث، والله أعلم.

ولئن سلَّمنا: أنه أراد جميع جسد المحموم؛ فجوابه: أنه يَحْتَمِل أن يريد بذلك استعماله بعد أن تُقلع الحمَّى، وتسكن حرارتها، ويكون ذلك في وقت مخصوص، وبعدد مخصوص، فيكون ذلك من باب الخواص التي قد اطلع عليها النبيّ صلى الله عليه وسلم، كما قد رَوَى قاسم بن ثابت: أن رجلًا شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الحمى، فقال له: "اغتسل ثلاثًا قبل طلوع الشمس، وقل: باسم الله، اذهبي يا أم مِلْدَم

(2)

، فإنْ لم تذهب، فاغتسل سبعًا". انتهى

(3)

.

وقال الخطابيّ: غَلِط بعض من يُنسب إلى العلم، فانغمس في الماء لمّا أصابته الحمى، فاحتقنت الحرارة في باطن بدنه، فأصابته علة صعبة، كادت تُهلكه، فلما خرج من علته قال قولًا سيّئًا، لا يَحْسُن ذكره، وإنما أوقعه في ذلك جهله بمعنى الحديث.

(1)

وقع في النسخة: "يُدبّر"، والظاهر أنه تصحيف، فليُحرّر.

(2)

بكسر الميم، وسكون اللام: هي الحمّى.

(3)

"المفهم" 5/ 600 - 601.

ص: 202

والجواب: أن هذا الإشكال صَدَر عن صَدْر مرتاب في صدق الخبر، فيقال له: أوّلًا من أين حَمَلت الأمر على الاغتسال، وليس في الحديث الصحيح بيان الكيفية، فضلًا عن اختصاصها بالغسل، وإنما في الحديث الإرشاد إلى تبريد الحمى بالماء؟ فإن أظهر الوجودُ، أو اقتضت صناعةُ الطبّ أن انغماس كل محموم في الماء أو صبه إياه على جميع بدنه يضرّه، فليس هو المراد، وإنما قَصَد صلى الله عليه وسلم استعمال الماء على وجه ينفع، فليُبحث عن ذلك الوجه؛ ليحصل الانتفاع به، وهو كما وقع في أمره العائن بالاغتسال، وأطلق، وقد ظهر من الحديث الآخر أنه لم يُرِد مطلق الاغتسال، وإنما أراد الاغتسال على كيفية مخصوصة.

وأَولى ما يُحْمَل عليه كيفية تبريد الحمى ما صنعته أسماء بنت الصديق رضي الله عنهما، فإنها كانت تَرُشّ على بدن المحموم شيئًا من الماء بين يديه، وثوبه، فيكون ذلك من باب النُّشْرة المأذون فيها، والصحابيّ، ولا سيما مثلُ أسماء التي هي ممن كان يلازم بيت النبيّ صلى الله عليه وسلم أعلم بالمراد من غيرها، ولعل هذا هو السرّ في إيراد البخاري لحديثها عقب حديث ابن عمر المذكور، وهذا من بديع ترتيبه.

وقال المازريّ: ولا شك أن علم الطب من أكثر العلوم احتياجًا إلى التفصيل، حتى إن المريض يكون الشيء دواءه في ساعة، ثم يصير داء له في الساعة التي تليها؛ لعارض يَعْرِض له من غضب يُحْمِي مزاجه مثلًا، فيتغير علاجه، ومثل ذلك كثير، فإذا فُرِض وجود الشفاء لشخص بشيء في حالةٍ مّا لم يلزم منه وجود الشفاء به له أو لغيره في سائر الأحوال، والأطباء مجمعون على أن المرض الواحد يختلف علاجه باختلاف السنّ، والزمان، والعادة، والغذاء المتقدم، والتأثير المألوف، وقوّة الطباع، ثم ذكر نحو ما تقدم.

قالوا: وعلى تقدير أن يَرِدَ التصريح بالاغتسال في جميع الجسد، فيجاب بأنه يَحْتَمِل أن يكون أراد أنه يقع بعد إقلاع الحمى، وهو بعيد، ويَحْتَمِل أن يكون في وقت مخصوص بعدد مخصوص، فيكون من الخواص التي اطَّلَع صلى الله عليه وسلم عليها بالوحي، ويضمحلّ عند ذلك جميع كلام أهل الطبّ. وقد أخرج الترمذيّ من حديث ثوبان مرفوعًا: "إذا أصاب أحدكم

ص: 203

الحمى، وهي قطعة من النار، فليطفئها عنه بالماء، يستنقع في نهر جارٍ، ويستقبل جَرْيَته، وليقل: بسم الله، اللهم اشف عبدك، وصَدِّق رسولك، بعد صلاة الصبح، قبل طلوع الشمس، ولينغمس فيه ثلاث غمسات، ثلاثة أيام، فإن لم يبرأ فخمس، وإلا فسبع، وإلا فتسع، فإنها لا تكاد تجاوز تسعًا، بإذن الله"، قال الترمذيّ: غريبٌ، قال الحافظ: وفي سنده سعيد بن زُرعة، مختلفٌ فيه.

قال: ويَحْتَمِل أن يكون لبعض الحميات دون بعض، في بعض الأماكن دون بعض، لبعض الأشخاص دون بعض، وهذا أوجه، فإن خطابه صلى الله عليه وسلم قد يكون عامًّا، وهو الأكثر، وقد يكون خاصًّا، كما قال:"لا تستقبلوا القبلة بغائط، ولا بول، ولكن شرِّقوا، أو غرِّبوا"، فقوله:"شرِّقوا، أو غرِّبوا" ليس عامًّا لجميع أهل الأرض، بل هو خاصّ لمن كان بالمدينة النبوية، وعلى سَمْتها، كما تقدم تقريره في "كتاب الطهارة"، فكذلك هذا يَحْتَمِل أن يكون مخصوصًا بأهل الحجاز، وما والاهم؛ إذ كان أكثر الحميات التي تَعْرض لهم من العرضية الحادثة عن شدّة الحرارة، وهذه ينفعها الماء البارد شربًا، واغتسالًا؛ لأن الحمى حرارة غريبة، تشتعل في القلب، وتنتشر منه بتوسط الروح والدم في العروق، إلى جميع البدن، وهي قسمان: عَرَضية، وهي الحادثة عن وَرَم، أو حركة، أو إصابة حرارة الشمس، أو القيظ الشديد، ونحو ذلك، ومَرَضية، وهي ثلاثة أنواع، وتكون عن مادّة، ثم منها ما يُسَخِّن جميع البدن، فإن كان مبدأ تعلقها بالروح، فهي حمى يوم؛ لأنها تقع غالبًا في يوم، ونهايتها إلى ثلاثة، وإن كان تعلقها بالأعضاء الأصلية، فهي حمى دقّ، وهي أخطرها، وإن كان تعلقها بالأخلاط، سميت عفنية، وهي بعدد الأخلاط الأربعة، وتحت هذه الأنواع المذكورة أصناف كثيرة، بسبب الإفراد، والتركيب.

وإذا تقرر هذا فيجوز أن يكون المراد النوع الأول، فإنها تسكن بالانغماس في الماء البارد، وشرب الماء المبرد بالثلج، وبغيره، ولا يحتاج صاحبها إلى علاج آخر، وقد قال جالينوس في كتاب "حيلة البرء": لو أن شابًّا حسن اللحم، خَصْبَ البدن ليس في أحشائه وَرَمٌ، استَحَمّ بماء بارد، أو سَبَحَ فيه وقت القيظ عند منتهى الحمى، لانتفع بذلك.

ص: 204

وقال أبو بكر الرازيّ: إذا كانت القُوَى قويّة، والحمى حادّة، والنُّضْجُ بَيِّن، ولا وَرَمَ في الجوف، ولا فَتْقَ، فإن الماء البارد ينفع شربه، فإن كان العليل خِصْب البدن، والزمانُ حارًّا، وكان معتادًا باستعمال الماء البارد اغتسالًا، فليُؤْذَن له فيه، وقد نَزَّل ابن القيّم حديث ثوبان على هذه القيود، فقال: هذه الصفة تنفع في فصل الصيف، في البلاد الحارّة، في الحمى العرضية، أو الغِبّ الخالصة التي لا وَرَم معها، ولا شيء من الأعراض الرديئة، والمواد الفاسدة، فيطفئها بإذن الله، فإن الماء في ذلك الوقت أبرد ما يكون لِبُعده عن ملاقاة الشمس، ووفور القُوَى في ذلك الوقت؛ لكونه عقب النوم والسكون، وبرد الهواء، قال: والأيام التي أشار إليها هي التي يقع فيها بحرارة الأمراض الحادّة غالبًا، ولا سيما في البلاد الحارّة، والله أعلم.

قالوا: وقد تكرر في الحديث استعماله صلى الله عليه وسلم الماء البارد في علته، كما قال:"صُبُّوا عليّ من سبع قِرَب، لم تُحْلَل أوكيتهن".

وقال سمرة: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حُمّ دعا بقِربة من ماء، فأفرغها على قَرْنه، فاغتسل"، أخرجه البزّار، وصححه الحاكم، ولكن في سنده راو ضعيف.

وقال أنس: "إذا حُمّ أحدكم، فلْيَشُنّ عليه من الماء البارد، من السَّحَر، ثلاثَ ليال"، أخرجه الطحاويّ، وأبو نعيم في "الطب"، والطبرانيّ في "الأوسط"، وصححه الحاكم، وسنده قويّ، وله شاهد من حديث أم خالد بنت سعيد، أخرجه الحسن بن سفيان في "مسنده"، وأبو نعيم في "الطب"، من طريقه.

وقال عبد الرحمن بن المرقع، رفعه:"الحمى رائد الموت، وهي سجن الله في الأرض، فبرّدوا لها الماء في الشنان، وصبوه عليكم، فيما بين الأذانين المغرب والعشاء، قال: ففعلوا، فذهب عنهم"، أخرجه الطبرانيّ.

وهذه الأحاديث كلها تَرُدّ التأويل الذي نقله الخطابيّ عن ابن الأنباريّ أنه قال: المراد بقوله: "فأبردوها" الصدقة به، قال ابن القيّم: أظن الذي حَمَل قائلَ هذا أنه أشكل عليه استعمال الماء في الحمى، فعدل إلى هذا، وله وجه حسنٌ؛ لأن الجزاء من جنس العمل، فكأنه لمّا أخمد لهيب العطشان بالماء، أخمد الله لهيب الحمى عنه، ولكن هذا يؤخذ من فقه الحديث، وإشارته، وأما

ص: 205

المراد به بالأصل فهو استعماله في البدن حقيقةً، كما تقدم، والله أعلم. انتهى.

(المسألة الرابعة): قال الإمام ابن القيّم رحمه الله: ذكر أبو نعيم وغيره من حديث أنس رضي الله عنه يرفعه: "إذا حُمّ أحدكم، فليرشّ عليه الماء البارد ثلاث ليال، من السَّحَر"

(1)

.

وفي "سنن ابن ماجه" عن أبي هريرة رضي الله عنه يرفعه: "الحمى كير من كير جهنم، فنحّوها عنكم بالماء البارد"

(2)

.

وعن الحسن، عن سمرة رضي الله عنه يرفعه:"الحمى قطعة من النار، فأبردوها عنكم بالماء البارد، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حُمَّ دعا بقربة من ماء، فأفرغها على رأسه، فاغتسل". انتهى"

(3)

.

وأخرج مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على أم السائب، أو أم المسيّب، فقال:"ما لك يا أم السائب، أو يا أم المسيّب تُزفزفين؟ " قالت: الحمى لا بارك الله فيها، فقال:"لا تسبي الحمى، فإنها تُذهب خطايا بني آدم، كما يُذهب الكير خَبَث الحديد".

وفي "سنن ابن ماجه": من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: ذُكرت الحمى عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسبّها رجل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا تسبّها، فإنها تنفي الذنوب، كما تنفي النار خبث الحديد"

(4)

.

قال: لَمّا كانت الحمّى يتبعها حمية عن الأغذية الرديئة، وتناول الأغذية، والأدوية النافعة، وفي ذلك إعانة على تنقية البدن، ونفي أخباثه، وفضوله،

(1)

أخرجه الحاكم في "المستدرك" 4/ 200 وصححه، ووافقه الذهبيّ، وقال في "الفتح": سنده قويّ.

(2)

رواه ابن ماجه (3475) وقال البوصيريّ: إسناده صحيح.

(3)

قال الهيثميّ في "مجمع الزائد" 5/ 94: رواه الطبرانيّ، والبزّار، وفيه إسماعيل بن مسلم: متروك. انتهى.

(4)

رواه ابن ماجه (3469) وفي سنده موسى بن عُبيدة، وهو ضعيف، لكن يقوّيه حديث مسلم المذكور قبله، فتنبّه.

ص: 206

وتصفيته من مواده الرديئة، وتفعل فيه كما تفعل النار في الحديد، في نفي خبثه، وتصفية جوهره، كانت أشبه الأشياء بنار الكير التي تُصَفِّي جوهر الحديد، وهذا القَدْر هو المعلوم عند أطباء الأبدان.

وأما تصفيتها القلب من وسخه، ودَرَنه، وإخراجها خبائثه، فأمْرٌ يعلمه أطباء القلوب، ويجدونه، كما أخبرهم به نبيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن مرض القلب إذا صار ميؤوسًا من برئه لم ينفع فيه هذا العلاج، فالحمى تنفع البدن والقلب، وما كان بهذه المثابة فسبّه ظلم، وعدوان.

قال: وذكرت مرةً وأنا محموم قول بعض الشعراء يسبّها [من الكامل]:

زَارَتْ مُكَفِّرَةُ الذُّنُوبِ وَوَدَّعَتْ

تَبًّا لَهَا مِنْ زَائِرٍ وَمُوَدِّعِ

قَالَتْ وَقَدْ عَزَمْت عَلَى تَرْحَالِهَا

مَاذَا تُرِيدُ فَقُلْتُ أَنْ لَا تَرْجِعِي

فقلت: تبًّا له؛ إذ سبّ ما نَهَى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سبّه، ولو قال:

زَارَتْ مُكَفِّرَةُ الذُّنُوبِ لِصَبِّهَا

أَهْلًا بِهَا مِنْ زَائِرٍ وَمُوَدِّعِ

قَالَتْ وَقَدْ عَزَمَتْ عَلَى تَرْحَالِهَا

مَاذَا تُرِيدُ فَقُلْتُ أَنْ لَا تُقْلِعِي

لكان أَولى به، ولأقلعت عنه، فأقلعت عني سريعًا.

قال: وقد رُوي في أثر لا أعرف حاله: "حُمَّى يوم كفارةُ سنة"، وفيه قولان:

أحدهما: أن الحمى تدخل في كل الأعضاء، والمفاصل، وعدّتها ثلاثمائة وستون مَفْصِلًا، فتكفّر عنه -بعدد كل مَفْصِل- ذنوب يوم.

والثاني: أنها تؤثّر في البدن تأثيرًا لا يزول بالكلية إلى سنة، كما قيل في قوله صلى الله عليه وسلم:"من شَرِب الخمر لم تُقبل له صلاة أربعين يومًا": إن أثر الخمر يبقى في جوف العبد، وعروقه، وأعضائه، أربعين يومًا، والله أعلم.

قال أبو هريرة رضي الله عنه: ما من مرض يصيبني أحبّ إلي من الحمى؛ لأنها تدخل في كل عضو مني، وإن الله سبحانه يعطي كل عضو حظه من الأجر.

وقد روى الترمذيّ في "جامعه" من حديث ثوبان رضي الله عنه

(1)

، يرفعه: "إذا

(1)

وقول ابن القيّم من حديث رافع بن خديج لعله غلط، فإن الحديث عن الترمذيّ، وأحمد عن ثوبان، فتنبّه.

ص: 207

أصابت أحدكم الحمى -وإن الحمى قطعة من النار- فليطفئها بالماء البارد، ويستقبل نَهْرًا جاريًا، فليستقبل جرية الماء بعد الفجر، وقبل طلوع الشمس، وليقل: بسم الله، اللهم اشف عبدك، وصَدِّق رسولك، وينغمس فيه ثلاث غمسات، ثلاثة أيام، فإن برئ، وإلا ففي خمس، فإن لم يبرأ في خمس، فسبع، فإن لم يبرأ في سبع فتسع، فإنها لا تكاد تجاوز تسعًا بإذن الله"

(1)

.

قال ابن القيّم: وهو ينفع فعله في فصل الصيف في البلاد الحارّة على الشرائط التي تقدمت، فإن الماء في ذلك الوقت أبرد ما يكون لبعده عن ملاقاة الشمس، ووفور القوى في ذلك الوقت؛ لِمَا أفادها النوم والسكون، وبرد الهواء، فتجتمع فيه قوة القوى، وقوة الدواء، وهو الماء البارد على حرارة الحمى العرضية، أو الغِبّ الخالصة؛ أعني: التي لا وَرَمَ معها، ولا شيء من الأعراض الرديئة، والمواد الفاسدة، فيطفئها بإذن الله، لا سيما في أحد الأيام المذكورة في الحديث، وهي الأيام التي يقع فيها بحران الأمراض الحادّة كثيرًا، سيما في البلاد المذكورة؛ لرقة أخلاط سكانها، وسرعة انفعالهم عن الدواء النافع. انتهى كلام ابن القيّم رحمه الله

(2)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5740]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، وَمُحَمَّدُ بْن بِشْرٍ (ح) وحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ نُمَيْرٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"إِنَّ شِدَّةَ الْحُمَّى مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ، فَابْرُدُوهَا بِالْمَاءِ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

وكلّهم ذُكروا في الباب، وقبل أربعة أبواب.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد تقدّم شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، ولله الحمد والمنّة.

(1)

راوه الترمذيّ (2085)، وأحمد 5/ 281، وفي سنده رجل مجهول.

(2)

"زاد المعاد" 4/ 23.

ص: 208

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوَّل الكتاب قال:

[5741]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِي هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الأَيْلِيُّ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، حَدَّثَنِي مَالِكٌ (ح) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ، أَخْبَرَنَا الضَّحَّاكُ -يَعْنِي: ابْنَ عُثْمَانَ- كِلَاهُمَا عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "الْحُمَّى مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ، فَأَطْفِئُوهَا بِالْمَاءِ").

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الأَيْلِيُّ) أبو جعفر، نزيل مصر، ثقةٌ فاضلٌ [10](ت 253)، وله (83) سنةً (م د س ق) تقدم في "الإيمان" 29/ 225.

2 -

(مَالِكُ) بن أنس إمام دار الهجرة، تقدّم قريبًا.

3 -

(مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ) النيسابوريّ، تقدّم في الباب الماضي.

4 -

(ابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ) محمد بن إسماعيل بن مسلم بن أبي فُديك الدِّيليّ مولاهم، أبو إسماعيل المدنيّ، صدوقٌ، من صغار [8](ت 200) على الصحيح (ع) تقدم في "الحيض" 16/ 775.

5 -

(الضَّحَّاكُ بْنُ عُثْمَانَ) بن عبد الله بن خالد بن حِزَام الأسديّ الحِزاميّ، أبو عثمان المدنيّ، صدوقٌ يَهِمُ [7](م 4) تقدم في "الحيض" 16/ 774.

والباقون ذُكروا قبله.

وقوله: (فأطفئوها بالماء) هو بهمزة قطع، ثم طاء مهملة، وفاء مكسورة، ثم همزة: أمْر بالإطفاء.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله قبلُ، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوَّل الكتاب قال:

[5742]

(. . .) - (حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ الْحَكَمِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ (ح) وَحَدَّثَنِي هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللهِ -وَاللَّفْظُ لَهُ- حَدَّثَنَا رَوْحٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عُمَرَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "الْحُمَّى مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ، فَأَطْفِئُوهَا بِالْمَاءِ").

ص: 209

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ الْحَكَمِ) بن أبي فَرْوة الهاشميّ، يُعرف بابن الْكُرْديّ، أبو الحسين البصريّ، ثقةٌ [10](ت 247)(م ت س) تقدم في "صلاة المسافرين وقصرها" 15/ 1678.

2 -

(هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) أبو موسى الحمّال، تقدّم قريبًا.

3 -

(رَوْحُ) بنُ عُبادة القيسيّ، تقدّم قبل أربعة أبواب.

4 -

(عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زيدِ) بن عبد الله بن عمر بن الخطّاب المدنيّ، نزيل عسقلان، ثقةٌ [6] مات قبل (150)(خ م د س) تقدم في "الإيمان" 31/ 233.

5 -

(أَبُوهُ) محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر بن الخطّاب المدنيّ، ثقةٌ [3](ع) تقدم في "الإيمان" 5/ 122.

والباقون ذُكروا في الباب.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، ومسائله، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5743]

(2210) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "الْحُمَّى مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ، فَابْرُدُوهَا بِالْمَاءِ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

وكلهم تقدّموا في الباب، وقبل خمسة أبواب، و"ابن نُمير" هو: عبد الله بن نمير الهمدانيّ، وشرح الحديث واضح، يُعلم مما سبق.

وفيه مسألتان تتعلّقان به:

(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [11/ 5743 و 5744](2210)، و (البخاريّ) في "بدء الخلق"(3263) و"الطبّ"(5725)، و (الترمذيّ) في "الطبّ"(2074)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(4/ 379)، و (ابن ماجه) في "الطبّ"(3471)، و (مالك) في "الموطّأ"(2/ 945)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 50 و 90)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(8/ 97)، و (ابن راهويه) في "مسنده"(2/ 351)، و (ابن

ص: 210

الجعد) في "مسنده"(1/ 392)، و (عبد بن حميد) في "مسنده"(1/ 434)، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5744]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ، وَعَبْدَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ، جَمِيعًا عَنْ هِشَامٍ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ مِثْلَهُ).

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه، تقدّم قبل أربعة أبواب.

2 -

(خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ) الْهُجيميّ، تقدّم قريبًا.

3 -

(عَبْدَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ) الكلابيّ، أبو محمد الكوفيّ، يقال: اسمه عبد الرحمن، ثقةٌ ثبتٌ، من صغار [8](ت 187) أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 61/ 339.

وقوله: (جَمِيعًا عَنْ هِشَامٍ)؛ يعني: أن كلًّا من خالد بن الحارث، وعبدة بن سليمان روى عن هشام بن عروة.

[تنبيه]: رواية خالد بن الحارث عن هشام بن عروة هذه ساقها إسحاق بن راهويه رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(883)

- أخبرنا خالد بن الحارث الْهُجَيميّ، قال: سمعت هشام بن عروة يحدّث عن أبيه، عن عائشة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الحمى من فيح جهنم، فابْرُدوها بالماء". انتهى

(1)

.

وأما رواية عبدة بن سليمان عن هشام، فلم أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5745]

(2211) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ فَاطِمَةَ، عَنْ أَسْمَاءَ، أَنَّهَا كَانَتْ تُؤْتَى بِالْمَرْأَةِ الْمَوْعُوكَةِ، فَتَدْعُو بِالْمَاءِ، فَتَصُبُّهُ فِي جَيْبِهَا، وَتَقُولُ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "ابْرُدُوهَا بِالْمَاءِ"، وَقَالَ: "إِنَّهَا مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ").

(1)

"مسند إسحاق بن راهويه" 2/ 351.

ص: 211

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(فَاطِمَةُ) بنت المنذر بن الزبير بن العوّام، زوج هشام بن عروة، ثقةٌ [3](ع) تقدمت في "الطهارة" 33/ 681.

2 -

(أَسْمَاءُ) بنت أبي بكر الصدّيق، زوج الزبير بن العوّام رضي الله عنهم، من كبار الصحابيّات، عاشت مائة سنة، وماتت سنة (3 أو 74)(ع) تقدمت في "الطهارة" 33/ 681.

والباقون ذُكروا قبله.

شرح الحديث:

(عَنْ هِشَامِ) بن عروة (عَنْ) بنت عمّه، وزوجته (فَاطِمَةَ) بنت المنذر (عَنْ) جدّتهما لأبويهما معًا (أَسْمَاءَ) بنت أبي بكر رضي الله عنهما (أَنَّهَا كَانَتْ تُؤْتَى) بالبناء للمفعول، (بِالْمَرْأَةِ الْمَوْعُوكَةِ)؛ أي: التي أصابها الوَعْك، قال ابن الأثير رحمه الله: قد تكرّر ذِكر الوعك في الحديث، وهو الْحُمَّى، وقيل: ألمها، وقد وعكَه المرضُ وَعْكًا، ووُعِك، فهو معوك. انتهى

(1)

.

وقال في "التاج": الوَعْكُ -بالفَتْحِ، وأَجازَ بعضُهم فَتْحَ العين، قِيلَ: لمَكانِ حَرفِ الحَلْقِ، وهي لُغَةٌ مَشْهورة-: سُكُونُ الريحِ، وشِدَّةُ الحرّ، هذا هو الأَصْلُ في الوَعْكِ، كما قالَهُ ابنُ دُريد، والرّاغِبُ؛ كالْوَعْكَةِ، وقد سُمّيَ أَذَى الحُمَّى، وقِيل: وَجَعُها، وقِيلَ: مَغْثُها في البَدَنِ وَعْكًا بهذا الاعْتِبارِ، وقد وَعَكَتْهُ الحُمَّى وَعْكًا، وقِيلَ: الوَعك: أَلَمٌ مِنْ شِدَّةِ التَّعَبِ، وقد يُرادُ بهِ المَرَضُ الخَفِيفُ مُطْلَقًا، وقالَ الحافظ أَبو عَمْرِو بْنُ عبد البر: الوَعْكُ لا يَكُونُ إِلا من الحُمَّى، دُونَ سائِرِ الأمْراضِ، ورَجُلٌ وَعْكٌ، تَسمِيَة بالمَصْدَرِ، ووَعِك ككَتِف، وهذه الصِّيغَةُ على تَوَهُّمِ فَعِلَ؛ كأَلِمَ، أَو على النَّسَب؛ كطَعِمٍ، ووُعِكَ فهو مَوْعوكٌ: مَحْمُومٌ، ووَعَكَهُ؛ كوَعَدهُ وَعْكًا: دكَّه دَكًّا، وهو مَجازٌ. انتهى

(2)

.

(فَتَدْعُو بِالْمَاءِ)؛ أي: تطلب الماء (فَتَصُبُّهُ فِي جَيْبِهَا) -بفتح الجيم، وسكون التحتانية، بعدها موحّدة- هو ما يكون مُفَرّجًا من الثوب؛ كالكم، والطوق

(3)

،

(1)

"النهاية في غريب الأثر" ص 981.

(2)

"تاج العروس" 1/ 6811.

(3)

"الفتح" 13/ 127، كتاب "الطبّ" رقم (5724).

ص: 212

وفي رواية البخاريّ: "كانت إذا أُتيت بالمرأة قد حُمّت تدعو لها، أخذت الماء، فصبّته بينها وبين جيبها". (وَتَقُولُ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "ابْرُدُوهَا بِالْمَاءِ") تقدّم أن الصحيح بوصل الهمزة، وضمّ الراء، من برد يبرُد، من باب نصر، ويجوز أن يكون بقطع الهمزة، وكسر الراء، من الإبراد، وفي رواية البخاريّ:"وقالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا أن نَبْرُدها بالماء"، قال في "الفتح": بفتح أوله، وضم الراء الخفيفة، وفي رواية لأبي ذرّ بضم أوله، وفتح الموحّدة، وتشديد الراء، من التبريد، وهو بمعنى رواية: أَبْرَدَ، بهمزة مقطوعة. انتهى

(1)

.

وقال في "العمدة": قال الكرمانيّ: "نبردها" من التبريد، والإبراد؛ يعني: إما من باء التفعيل نُبَرِّدها بالتشديد، وإما من باب الإفعال نُبْرِدها بضم النون، وسكون الباء، وقال الجوهريّ: لا يقال: أبردته؛ يعني: من باب الإفعال، إلا في لغة رديئة، واللغة الفصيحة هي التي ضبطناها أوّلًا، وقال الجوهريّ: بَرَدَ الشيءُ بالضم، وبَرَدته أنا فهو مبرود، وبَرّدته تبريدًا. انتهى

(2)

.

(وَقَالَ) صلى الله عليه وسلم: ("إِنَّهَا)؛ أي: الحمّى (مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ") -بفتح الفاء، وسكون الياء آخر الحروف، وبحاء مهملة، وفي حديث آخر:"من فوح" بالواو، وفي آخر:"فور" بالراء بدل الحاء، والكل بمعنى واحد، وقال الجوهريّ: الفيح، والفوح لغتان، يقال: فاحت رائحة المسك تفيح، وتفوح، فَيْحًا، وفَوْحًا، وفُوُوحًا، ولا يقال: فاحت ريح خبيثة، ويجوز أن يكون قوله:"من فيح جهنم" حقيقةً، وهو الصواب، ويكون اللهب الحاصل في جسم المحموم قطعة من جهنم، وقدّر الله ظهورها بأسباب تقتضيها؛ ليعتبر العباد بذلك، كما أن أنواع الفرح واللذة، من نعيم الجنة، أظهرها الله في هذه الدار عبرةً، ودلالةً، ويجوز أن يكون من باب التشبيه، على معنى أن حرّ الحمى شبيه بحرّ جهنم؛ تنبيهًا للنفوس على شدّة حر النار.

وقال الطيبيّ: "مِنْ" ليست بيانية، حتى يكون تشبيهًا، وإنما هي إما ابتدائية؛ أي: الحمى نشأت، وحصلت من فيح جهنم، أو تبعيضية؛ أي: بعض

(1)

"الفتح" 13/ 127، كتاب "الطبّ" رقم (5724).

(2)

"عمدة القاري" 21/ 255.

ص: 213

منها، ويدل على هذا ما ورد في "الصحيحين": "اشتكت النار إلى ربها، فقالت: ربِّ أكل بعضي بعضًا، فأَذِن لها بنَفَسين: نفسٍ في الشتاء، ونفس في الصيف

" الحديث، فكما أن حرارة الصيف أثر من فيحها، كذلك الحمى. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أسماء رضي الله عنها هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [11/ 5745 و 5746](2211)، و (البخاريّ) في "الطبّ"(5724)، و (الترمذيّ) في "الطبّ"(2074)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(4/ 379)، و (ابن ماجه) في "الطبّ"(3474)، و (مالك) في "الموطّأ"(2/ 945)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(5/ 57)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 346)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(24/ 123 و 124)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان أن شدّة الحمّى من فيح جهنّم، وهو شدّة فورانها.

2 -

(ومنها): أن فيه التبركَ بدعاء الإنسان الصالح رجاءَ الشفاء في دعائه.

3 -

(ومنها): أن فيه دليلًا على أن الدعاء يَصرف البلاء، وهذا مما لا يشك فيه مسلم.

4 -

(ومنها): أن فيه تفسيرًا لقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الحمى من فيح جهنم، فأبردوها بالماء"؛ لأن أسماء رضي الله عنها حَكَت في فعلها ذلك ما يدلّ على أن التبريد بالماء -والله أعلم- هو الصبّ بين المحموم وبين جيبه، وذلك أن يُصَبّ الماء بين طوقه وعنقه حتى يصل إلى جسده، فمن فَعَل كذلك، وكان معه يقين صحيحٌ رجونا له الشفاء من الحمى -إن شاء الله-. قاله ابن عبد البرّ رحمه الله

(2)

.

5 -

(ومنها): ما قال القاضي عياضٌ رحمه الله: هذا يردّ قول الأطباء،

(1)

"عمدة القاري" 21/ 254.

(2)

"التمهيد" لابن عبد البرّ 22/ 227.

ص: 214

ويصحح حصول البرء باستعمال المحموم الماء، وأنه على ظاهره، لا على ما سبق من تأويل المازريّ، قال: ولولا تجربة أسماء، والمسلمين لمنفعته لَمَا استعملوه. انتهى

(1)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5746]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَاهُ أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، وَأَبُو أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامٍ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ نُمَيْرٍ: صَبَّتِ الْمَاءَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ جَيْبِهَا، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي حَدِيثِ أَبِي أُسَامَةَ: "أَنَّهَا مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ"، قَالَ أَبُو أحْمَدَ: قَالَ إِبْرَاهِيمُ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ بِشْرٍ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ).

رجال هذا الإسناد: أربعة:

وكلهم ذُكروا في الباب، وفي الباب الماضي، و"ابن نُمير" هو: عبد الله بن نُمير، و"أبو أسامة" هو: حماد بن أسامة.

وقوله: (قَالَ أَبُو أَحْمَدَ) هو: محمد بن عيسى بن محمد الزاهد النيسابوريّ الْجُلُوديّ المتوفّى في ذي الحجة سنة (368 هـ) تقدّمت ترجمته في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 63.

وقوله: (قَالَ إِبْرَاهِيمُ) هو: أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن سُفيان الفقيه الزاهد النيسابوريّ راوية مسلم المتوفّى في رجب سنة (308 هـ) تقدّمت ترجمته في "المقدّمة" 6/ 73.

وقوله: (حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ بِشْرٍ) السلميّ قاضي نيسابور، صدوقٌ، لم يصحّ أن مسلمًا روى عنه، وإنما روى عنه أبو إسحاق إبراهيم بن سفيان الراوي عن مسلم في مواضع علا فيها إسناده، في "الوصايا"، و"الإمارة"، وغيرهما [11](ت 244) تقدم في "الطلاق" 3/ 3679.

وقوله: (حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ) حماد بن أسامة، (بِهَذَا الإِسْنَادِ)؛ أي: بالإسناد الماضي، وهو عن هشام بن عروة، عن فاطمة، عن أسماء رضي الله عنها.

قال الجامع عفا الله عنه: الغرض من إيراد هذا الإسناد بيان علوّ إسناد

(1)

"شرح النوويّ" 14/ 198 - 199.

ص: 215

أبي إسحاق إبراهيم بن سفيان، تلميذ مسلم في هذا على إسناده الماضي عن مسلم؛ إذ كان بينه وبين أبي أسامة هنا واسطة واحدة، وهو الحسن بن بشر، بخلاف سند مسلم، فإن بينه وبين أبي أسامة واسطتين: مسلم، وأبي كُريب، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

[تنبيه]: رواية عبد الله بن نُمير عن هشام بن عروة ساقها أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(26971)

- حدّثنا ابن نُمير، عن هشام، عن فاطمة بنت المنذر، عن أسماء، أنها كانت إذا أُتيت بالمرأة؛ لتدعو لها، صَبّت الماء بينها وبين جيبها، وقالت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا أن نَبْرُدها بالماء، وقال:"إنها من فيح جهنم". انتهى

(1)

.

وأما رواية أبي أسامة عن هشام، فلم أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5747]

(2212) - (حَدَّثَنَا هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ، حَدَّثَنَا أَبُو الأَحْوَصِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبَايَةَ بْنِ رِفَاعَةَ، عَنْ جَدِّهِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِنَّ الْحُمَّى فَوْرٌ مِنْ جَهَنَّمَ، فَابْرُدُوهَا بِالْمَاءِ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ) أبو السريّ الكوفيّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(أَبُو الأَحْوَصِ) سلام بن سُليم الحنفيّ الكوفيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

3 -

(سَعِيدُ بْنُ مَسْرُوقٍ) الثوريّ، والد سفيان، ثقةٌ [6](ت 126) أو بعدها (ع) تقدّم في "صلاة المسافرين وقصرها" 19/ 1738.

4 -

(عَبَايَةُ بْنُ رِفَاعَةَ) بن رافع بن خَدِيج الأنصاريّ الزُّرَقيّ، أبو رفاعة المدنيّ، ثقةٌ [3](ع) تقدم في "الزكاة" 44/ 2443.

5 -

(رَافِعُ بْنُ خَدِيجِ) بن عديّ الحارثيّ الأوسيّ الأنصاريّ الصحابيّ

(1)

"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 6/ 346.

ص: 216

الجليل، أول مشاهده أُحُدٌ، ثم الخندق، مات سنة (3 أو 74)، وقيل: بعد ذلك (ع) تقدم في "شرح المقدمة" جـ 2 ص 489، وشرح الحديث يُعلم مما سبق.

وقوله: (إِنَّ الْحُمَّى فَوْرٌ مِنْ جَهَنَّمَ)، وفي رواية للبخاريّ:"من فيح جهنّم"، وفي لفظ له:"من فور"، وكلّها بمعنى واحد، وقد تقدّم بيانه قريبًا.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث رافع بن خديج رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [11/ 5747 و 5748](2212)، و (البخاريّ) في "بدء الخلق"(3262) و"الطبّ"(5726)، و (الترمذيّ) في "الطبّ"(2073)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(4/ 378)، و (ابن ماجه) في "الطبّ"(3473)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(5/ 58)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 463 و 4/ 141)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(4/ 274)، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوَّل الكتاب قال:

[5748]

(. . .) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَمُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ نَافِعٍ، قَالُوا: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبَايَةَ بْنِ رِفَاعَةَ، حَدَّثَنِي رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "الْحُمَّى مِنْ فَوْرِ جَهَنَّمَ، فَابْرُدُوهَا عَنْكُمْ بِالْمَاءِ"، وَلَمْ يَذْكُرْ أَبُو بَكْرٍ: "عَنْكُمْ"، وَقَالَ: قَالَ: أَخْبَرَنِي رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ).

رجال هذا الإسناد: تسعة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ) بن ميمون البغداديّ المعروف بالسمين، تقدّم قريبًا.

2 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ نَافِعٍ) هو: محمد بن أحمد بن نافع البصريّ، تقدّم قبل بابين.

والباقون ذُكروا في الباب، و"سفيان" هو:"الثوريّ".

وقوله: (وَلَمْ يَذْكُرْ أَبُو بَكْرٍ: "عَنْكُمْ") هو: ابن أبي شيبة، والله تعالى أعلم.

ص: 217

[تنبيه]: رواية سفيان عن أبيه ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:

(3089)

- حدّثني عمرو بن عباس، حدّثنا عبد الرحمن، حدثنا سفيان، عن أبيه، عن عَباية بن رِفاعة، قال: أخبرني رافع بن خَدِيج، قال: سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: "الحمى من فور جهنم، فابْرُدُوها عنكم بالماء". انتهى

(1)

.

ورواية أبي بكر بن أبي شيبة التي أشار إليها المصنّف ساقها هو في "مصنّفه"، فقال:

(23670)

- حدّثنا ابن مهديّ، عن سفيان، عن أبيه، عن عَباية بن رِفاعة، قال: أخبرني رافع بن خَدِيج، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"الحمى من فور جهنم، فابْرُدُوها بالماء". انتهى

(2)

.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(12) - (بَابُ كَرَاهِيَةِ التَّدَاوِي بِاللَّدُودِ)

" اللَّدود" بفتح اللام، وبمهملتين: هو الدواء الذي يُصبّ في أحد جانبي فم المريض، واللُّدُود بضمّ اللام الفعل، ولَدَدتُ المريضَ: فعلتُ ذلك به

(3)

.

وقال النوويّ: قال أهل اللغة: اللَّدُود بفتح اللام: هو الدواء الذي يُصبّ في أحد جانبي فم المريض، ويُسقاه، أو يُدْخَل هناك بأصبع، وغيرها، ويُحَنَّك به، ويقال منه: لددته أَلُدّه، وحَكَى الجوهريّ أيضًا: ألددته رُبَاعيًّا، والتددتّ أنا، قال الجوهريّ: ويقال للَّدُود: لَدِيد أيضًا. انتهى

(4)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5749]

(2213) - (حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ سُفْيَانَ، حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ أَبِي عَائِشَةَ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: لَدَدْنَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي مَرَضِهِ، فَأَشَارَ أَنْ لَا تَلُدُّونِي، فَقُلْنَا: كَرَاهِيَةُ

(1)

"صحيح البخاريّ" 3/ 1190.

(2)

"مصنف ابن أبي شيبة" 5/ 58.

(3)

"الفتح" 13/ 109، كتاب "الطبّ" رقم (5709).

(4)

"شرح النوويّ" 14/ 199.

ص: 218

الْمَرِيضِ لِلدَّوَاءِ، فَلَمَّا أفَاقَ قَالَ:"لَا يَبْقَى أَحَدٌ مِنْكُمْ إِلَّا لُدَّ، غَيْرُ الْعَبَّاسِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَشْهَدْكُمْ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(مُوسَى بْنُ أَبِي عَائِشَةَ) الْهَمْدانيّ مولاهم، أبو الحسن الكوفيّ، ثقةٌ عابدٌ، وكان يرسل [5](ع) تقدم في "الصلاة" 22/ 941.

2 -

(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ اللهِ) بن عتبة بن مسعود الْهُذليّ، أبو عبد الله المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ [3](ت 94)، وقيل غير ذلك (ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 14.

والباقون ذُكروا في الباب الماضي، و"محمد بن حاتم" هو: ابن ميمون، و"يحيى بن سعيد" هو: القطّان، و"سفيان" هو: الثوريّ، و"عائشة" هي: أم المؤمنين رضي الله عنها.

[تنبيه]: من لطائف هدا الإسناد:

أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه عائشة رضي الله عنها من المكثرين السبعة.

شرح الحديث:

(عَنْ عَائِشَةَ) رضي الله عنها أنها (قَالَتْ: لَدَدْنَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم)؛ أي: جعلنا في جانب فمه دواءً بغير اختياره، وهذا هو اللَّدود، فأما ما يُصب في الحلق، فيقال له: الْوَجور، والذي يُصَبّ في الأنف يسمى السَّعُوط

(1)

، وقد وقع عند الطبرانيّ من حديث العباس رضي الله عنه أنهم أذابوا قُسْطًا؛ أي: بِزَيْتٍ، فلدُّوه به (فِي مَرَضِهِ) الذي مات فيه.

أخرج محمد بن سعد، من طريق عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: كانت تأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الخاصرة، فاشتدّت به، فأُغمي عليه، فلددناه، فلما أفاق قال:"هذا مِن فِعْل نساء جئن من هنا"، وأشار إلى الحبشة، "وإن كنتم ترون أن الله يسلط عليّ ذات الجنب، ما كان الله ليجعل لها عليّ سلطانًا، والله لا يبقى أحد في البيت إلا لُدّ"، فما

(1)

"عمدة القاري" 18/ 73.

ص: 219

بقي أحد في البيت إلا لُدّ، ولددنا ميمونة، وهي صائمة.

ومن طريق أبي بكر بن عبد الرحمن، أن أم سلمة، وأسماء بنت عُميس أشارتا بأن يَلُدُّوه.

ورواه عبد الرزاق بإسناد صحيح، عن أسماء بنت عُميس، قالت:"إن أول ما اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت ميمونة، فاشتدّ مرضه، حتى أُغمي عليه، فتشاورن في لَدّه، فلَدّوه، فلما أفاق قال: هذا فعل نساء جئن من هنا، وأشار إلى الحبشة، وكانت أسماء منهنّ، فقالوا: كنا نَتّهِم بك ذات الجنب، فقال: ما كان الله ليعذبني به، لا يبقى أحد في البيت إلا التدّ، إلا عمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ يعني: عبّاسًا، قال: فلقد التدّت ميمونة يومئذ، وهي صائمة".

قال الحافظ: وفي رواية ابن أبي الزناد هذه بيان ضعف ما رواه أبو يعلى، بسند فيه ابن لَهِيعة من وجه آخر، عن عائشة، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم مات من ذات الجنب، قال: ثم ظهر لي أنه يمكن الجمع بينهما، بأن ذات الجنب تُطلق بإزاء مرضين: أحدهما: وَرَمٌ حارّ يَعْرِض في الغِشَاء المستبطن، والآخر: ريح مُحتقِن بين الأضلاع، فالأول هو المنفيّ هنا.

وقد وقع في رواية الحاكم في "المستدرك": "ذات الجنب من الشيطان"، والثاني هو الذي أُثبت هنا، وليس فيه محذور كالأول. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا التفريق الذي ذكره الحافظ فيه نظر لا يخفى، فإنه صلى الله عليه وسلم نفى بنصّه الصريح أن لا يسلط الله تعالى عليه ذات الجنب دون تفريق بين نوع ونوع، وهذا ثبت بسند صحيح، وأما حديث موته بذات الجنب، فسنده ضعيف، فلا داعي إلى التكلّف بالجمع بينهما، فتبصّر، والله تعالى أعلم.

(فَأَشَارَ) صلى الله عليه وسلم (أَنْ لَا تَلُدُّونِي) بضمّ اللام، وكسرها. (فَقُلْنَا: كَرَاهِيَةُ الْمَرِيضِ لِلدَّوَاءِ) قال القاضي عياض: ضبطناه بالرفع؛ أي: هذا منه كراهيةُ المريض، وقال أبو البقاء: هو خبر مبتدأ محذوف؛ أي: هذا الامتناع كراهية المريض، وهو معنى ما قاله عياض، ويجوز نصبه على أنه مفعول لأجله؛ أي:

(1)

"الفتح" 9/ 615 - 616.

ص: 220

لأجل كراهية المريض، ويجوز انتصابه على المصدرية؛ أي: كَرِهه كراهيةَ المريض الدواء، أفاده في "العمدة"

(1)

، قال عياض: الرفع أوجه من النصب على المصدر. انتهى

(2)

.

(فَلَمَّا أَفَاقَ)؛ أي: رجع إليه صلى الله عليه وسلم وعيه، يقال: أفاق المريض إفاقةً: إذا رجع إليه عقله، وأفاق السكران إفاقة، والأصل أفاق من سُكْره، كما استيقظ من نومه

(3)

. (قَالَ: "لَا يَبْقَى أَحَدٌ مِنْكُمْ إِلَّا لُدَّ) بضم اللام، وتشديد الدال المهملة مبنيًّا للمجهول، زاد في رواية البخاريّ:"وأنا أنظر"، وهي جملة حالية؛ أي: لا يبقى أحد في البيت إلا يُلَدّ في حضوري، وحال نظري إليهم؛ مكافأةً لفعلهم، أو عقوبةً لهم، حيث خالفوا إشارته في عدم اللَّدّ بنحو ما فعلوه به

(4)

.

قال النوويّ رحمه الله: وإنما أمر صلى الله عليه وسلم بِلَدّهم عقوبةً لهم، حين خالفوه في إشارته إليهم:"لا تلدُّوني"، ففيه أن الاشارة الْمُفْهِمة كصريح العبارة في نحو هذه المسألة، وفيه تعزير المتعدي بنحو من فعله الذي تعدى به، إلا أن يكون فعلًا محرّمًا. انتهى

(5)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "لا تلدّوني" نهيٌ ظاهر في المنع، فكان ينبغي لهم أن ينتهوا عن ذلك، غير أنَّهم تأوَّلوا أن ذلك من باب ما عُلِم من أحوال المرضى، من كراهتهم الدَّواء، فخالفوه، فعاقبهم بأن اقتَصّ منهم، ففَعَل بهم مثل ما فعلوا به، فكان فيه دليل على مشروعية القصاص في كل شيء، يتأتى فيه القصاص، كما قال تعالى:{فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} الآية [البقرة: 194].

قال: وقال بعض أصحابنا -يعني: المالكيّة-: فيه ما يدلّ على قتل الجماعة بالواحد؛ لأنَّهم لمّا تمالؤوا، وتعاونوا على لَدّه اقتصَّ من جميعهم، وفيه بُعدٌ؛ لإمكان مراعاة الفرق، فإنَّه يمكن أن يقال: جاز ذلك فيما لا إراقة

(1)

"عمدة القاري" 18/ 73.

(2)

"الفتح" 9/ 614.

(3)

راجع: "المصباح المنير" 2/ 484.

(4)

"عمدة القاري" 21/ 249.

(5)

"شرح النوويّ" 14/ 199.

ص: 221

دم فيه؛ لخفّته في مقصود الشرع، ولا يجوز ذلك في الدِّماء؛ لِحُرمتها، وعِظَم أمرها في مقصود الشرع، فلا يصح حمل أحدهما على الآخر.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الاستبعاد فيه نظر لا يخفى، بل الاستدلال على مشروعيّة قتل الجماعة بالواحد منه ظاهر، فتأمله بالإمعان، والله تعالى أعلم.

قال: وإنَّما الذي يُستنبط منه أن الحاضر في الجناية الْمُعِين عليها كالناظور الذي هو الطليعة كالمباشر لها، فيُقْتَصّ من الكل، لكن فيما لا دم فيه على ما قررناه، وقد نبَّه النبيّ صلى الله عليه وسلم على هذا المعنى بقوله:"إلا العباس، فإنَّه لم يشهدكم". انتهى

(1)

.

(غَيْرُ الْعَبَّاسِ) بن عبد المطّلب عمّ النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو استثناء من "أحدٌ"، ثم بيّن سبب استثناء العبّاس رضي الله عنه بقوله:(فَإِنَّه لَمْ يَشْهَدْكُمْ")؛ أي: لم يحضركم حالة الأمر.

قيل: قال ابن إسحاق في "المغازي": إن العباس هو الآمر باللَّدّ، وقال: والله لأَلُدّنّه، ولمّا أفاق قال:"من صنع هذا بي؟ " قالوا: يا رسول الله عمك.

وأجيب بأنه يمكن التلفيق بينهما بأن يقال: لا منافاة بين الأمر وعدم الحضور وقت اللَّدّ، قاله في "العمدة"

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: لا حاجة إلى التلفيق، فما في "الصحيحين" نصّ صريح في استثناء العبّاس رضي الله عنه من اللدّ لعدم مشاركته لهم فيه، فلا يمكن أن يكون هو الآمر به، ففي صحة ما في "المغازي" نظر لا يخفى، فتأمّل، والله تعالى أعلم.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [12/ 5749](2213)، و (البخاريّ) في

(1)

"المفهم" 5/ 601 - 602.

(2)

"عمدة القاري" 18/ 73.

ص: 222

"المغازي"(4458) و"الطبّ"(5712) و"الديات"(6886 و 6897)، و (الترمذيّ) في "الجمعة"(4/ 391)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(7586)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(9754)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 53 و 438)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(24/ 372)، و (الحاكم) في "مستدركه"(4/ 202)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6587 و 6588)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(8/ 353)، و (ابن سعد) في "الطبقات"(2/ 235)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان منع إكراه المريض على الطعام، والشراب، والدواء، كما قد رُوي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال:"لا تُكرهوا مرضاكم على الطعام، والشراب، فإنَّ الله تعالى يغذيهم"

(1)

.

2 -

(ومنها): بيان مشروعية الاقتصاص من المرأة بما جنته على الرجل؛ لأن الذين لَدُّوه كانوا رجالًا ونساءً، وقد ورد التصريح في بعض طرقه بأنهم لَدُّوا ميمونة، وهي صائمة، من أجل عموم الأمر.

3 -

(ومنها): أن في قوله صلى الله عليه وسلم: "إلا العباس فإنه لم يشهدكم" أن صاحب الحق أن يستثني من غرمائه من شاء، فيعفو عنه، ويقتصّ من الباقين، هكذا قيل، وفيه نظر؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"لم يشهدكم".

4 -

(ومنها): أن فيه بيانَ أخذ الجماعة بالواحد.

5 -

(ومنها): ما قيل: فيه مشروعية القصاص في جميع ما يصاب به الإنسان عمدًا، وفيه نظرٌ؛ لأن الجميع لم يتعاطوا ذلك، وإنما فعل بهم ذلك عقوبة لهم لتركهم امتثال نهيه عن ذلك، أما من باشره فظاهر، وأما من لم يباشره فلكونهم تركوا نهيهم عما نهاهم هو عنه.

6 -

(ومنها): أنه يستفاد منه أن التأويل البعيد لا يعذر به صاحبه، وفيه نظر أيضًا؛ لأن الذي وقع في معارضة النهي، قال ابن العربيّ: أراد أن لا يأتوا يوم القيامة، وعليهم حقه، فيقعوا في خطب عظيم.

(1)

رواه الترمذيّ (2040)، وابن ماجه (3444) وحسّنه الترمذيّ، والألبانيّ، وفيه نظر، فقد قال أبو حاتم: هذا الحديث باطل، راجع:"تهذيب التهذيب" 1/ 247.

ص: 223

وتُعقِّب بأنه كان يمكن العفو؛ لأنه كان لا ينتقم لنفسه، قال الحافظ: والذي يظهر أنه أراد بذلك تأديبهم؛ لئلا يعودوا، فكان ذلك تأديبًا، لا قصاصًا، ولا انتقامًا.

قال الجامح عفا الله عنه: بل الظاهر أنه قصاص، ولذلك أورده البخاريّ رحمه الله، وأجاد في ذلك تحت ترجمة:"بابُ القصاص بين الرجال، والنساء في الجراحات"، وأورده أيضًا تحت:"بابٌ إذا أصاب قومٌ من رجل، هل يُعاقِب، أو يَقتصّ منهم كلّهم؟ "، فتبصّر، والله تعالى أعلم.

7 -

(ومنها): ما قيل: وإنما كَرِهَ صلى الله عليه وسلم اللَّدَّ، مع أنه كان يتداوى؛ لأنه تحقق أنه يموت في مرضه، ومن حَقَّق ذلك كُرِه له التداوي، قال الحافظ: وفيه نظر، والذي يظهر أن ذلك كان قبل التخيير، والتحقّق، وإنما أنكر التداوي؛ لأنه كان غير ملائم لدائه؛ لأنهم ظنّوا أن به ذات الجنب، فداووه بما يلائمها، ولم يكن به ذلك، كما هو ظاهر من سياق الخبر كما ترى، والله أعلم. انتهى

(1)

.

8 -

(ومنها): أن فيه حجةً لمن رأى القصاص في اللَّطْمة ونحوها، وهو الحقّ، واعتلّ من لم ير ذلك بأن اللطم يتعذر ضبطه وتقديره، بحيث لا يزيد، ولا ينقص، وأما اللَّدُود فاحتَمَل أن يكون قصاصًا، واحتَمَل أن يكون معاقبةً على مخالفة أمره، فعوقبوا من جنس جنايتهم، وسيأتي تمام البحث في ذلك في المسألة التالية -إن شاء الله تعالى-.

9 -

(ومنها): أن الشركاء في الجناية يقتص من كل واحد منهم، إذا كانت أفعالهم لا تتميز، بخلاف الجناية في المال؛ لأنها تتبعّض؛ إذ لو اشترك جماعة في سرقة ربع دينار لم يُقطعوا اتفاقًا، والله تعالى أعلم.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في القصاص من الطعنة،

ونحوها:

قد حقّق هذه المسألة الإمام ابن قيّم الجوزيّة رحمه الله في "تهذيب السنن"، بما لا تجده عند غيره من المحقّقين، أحببت إيراده بطوله؛ تتميمًا للفائدة، وتكميلًا للعائدة، قال رحمه الله:

(1)

"الفتح" 9/ 615، كتاب "المغازي" رقم (4458).

ص: 224

قد اختلف الناس في هذه المسألة، وهي القصاص في اللطمة، والضربة، ونحوهما، مما لا يمكن المقتصّ أن يفعل بخصمه مثل ما فعله به من كلّ وجه، هل يسوغ القصاص في ذلك، أو يُعدل إلى عقوبته بجنس آخر، وهو التعزير؟ على قولين:

[أصحّهما]: أنه يُشْرع فيه القصاص، وهو مذهب الخلفاء الراشدين، ثبت ذلك عنهم، حكاه عنهم أحمد، وأبو إسحاق الْجُوزجانيّ، ونصّ عليه الإمام أحمد في رواية الشالنجيّ، وغيره، قال شيخنا -يعني: ابن تيميّة-: وهو قول جمهور السلف.

[القول الثاني]: أنه لا يُشرع فيه القصاص، وهو المنقول عن الشافعيّ، ومالك، وأبي حنيفة، وقولُ المتأخّرين من أصحاب أحمد، حتى حَكَى بعضهم الإجماع على أنه لا قصاص فيه، وليس كما زَعَم، بل حكاية إجماع الصحابة على القصاص أقرب من حكاية الإجماع على منعه، فإنه ثبت عن الخلفاء الراشدين، ولا يُعلم لهم مخالف فيه.

ومأخذ القولين أن الله تعالى أمر بالعدل في ذلك، فبقي النظر في أَيّ الأمرين أقرب إلى العدل؟.

فقال المانعون: المماثلة لا تمكن هنا، فكان العدل يقتضي العدول إلى جنس آخر، وهو التعزير، فإن القصاص لا يكون إلا مع المماثلة، ولهذا لا يجب في الجرح حتى ينتهي إلى حدّ، ولا في القطع إلا من مفصل؛ لتمكن الماثلة، فإذا تعذّرت في القطع، والجرح صرنا إلى الدية، فكذا في اللطمة، ونحوها لَمّا تعذّرت صرنا إلى التعزير.

قال المجوّزون: القصاص في ذلك أقرب إلى الكتاب، والسُّنَّة، والقياس، والعدل من التعزير.

وأما الكتاب: فإن الله سبحانه وتعالى قال: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} الآية [الشورى: 40]، وقال:{فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} الآية [البقرة: 194]، ومعلوم أن المماثلة مطلوبةٌ بحسب الإمكان، واللطمة أشدّ مماثلة للّطمة، والضربة للضربة من التعزير لها، فإنه ضرب في غير الموضع، غير مماثل، لا في الصورة، ولا في المحلّ، ولا في القدر، فأنتم فررتم من تفاوت

ص: 225

لا يمكن الاحتراز منه بين اللطمتين، فصرتم إلى أعظم تفاوتًا منه، بلا نصّ، ولا قياس.

قالوا: وأما السُّنَّة، فما ذُكِر من الأحاديث في هذا الباب، ولو لم يكن في الباب إلا سنّة الخلفاء الراشدين، لكفى بها دليلًا، وحجةً. قالوا: فالتعزير لا يُعتبر فيه جنس الجناية، ولا قَدْرها، بل قد يُعزّر بالسوط والعصا، ويكون إنما ضَرَبه بيده، أو رجله، فكانت العقوبة بحسب الإمكان في ذلك أقرب إلى العدل الذي أنزل الله به كُتُبه، وأرسل به رُسُله. قالوا: وقد دلّ الكتاب والسُّنَّة في أكثر من مائة موضع على أن الجزاء من جنس العمل في الخير والشرّ، كما قال تعالى:{جَزَاءً وِفَاقًا (26)} [النبأ: 26]؛ أي: وِفْق أعمالهم، وهذا ثابتٌ شرعًا، وقَدْرًا، أما الشرع، فلقوله تعالى:{وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} الآية [المائدة: 45]، فأخبر سبحانه وتعالى أن الجروح قصاص، مع أن الجارح قد يشتدّ عذابه إذا فُعل به كما فَعَل، حتى يُستوفَى منه. وقد ثبت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم:"أنه رضخ رأس اليهوديّ"، كما رضخ رأس الجارية، وهذا القتل قصاص؛ لأنه لو كان لنقض العهد، أو للحرابة لكان بالسيف، ولا يُرضخ الرأس. ولهذا كان أصحّ الأقوال أنه يُفعل بالجاني مثلُ ما فعل بالمجنيّ عليه، ما لم يكن محرّمًا لحقّ الله؛ كالقتل باللواطة، وتجريع الخمر، ونحوه، فيُحَرَّق كما حرّق، ويُلقى من شاهق كما فَعَل، ويُخنق كما خَنَق؛ لأن هذا أقرب إلى العدل، وحصولِ مُسمّى القصاص، وإدراك الثأر، والزجر المطلوب من القصاص، وهذا مذهب مالك، والشافعيّ، وإحدى الروايتين عن أحمد.

قالوا: وأما كون القصاص لا يجب في الجرح حتى ينتهي إلى حدّ، ولا في الطرَف حتى ينتهي إلى مَفصل؛ لتحقّق المماثلة، فهذا إنما اشتُرط؛ لئلا يزيد المقتصّ على مقدار الجناية، فيصير المجنيّ عليه مظلومًا بذهاب ذلك الجزء، فتعذّرت المماثلة، فصرنا إلى الدية، وهذا بخلاف اللطمة، والضربة، فإنه لو قدّر تعدّي المقتصّ فيها لم يكن ذلك بذهاب جزء، بل بزيادة ألم، وهذا لا يمكن الاحتراز منه، ولهذا توجبون التعزير، مع أن ألمه يكون أضعاف ألم اللطمة، والبَرْد من سنّ الجاني مقدار ما كسر من سنّ المجنيّ عليه، مع شدّة

ص: 226

الألم، وكذلك قلع سنّه، وعينه، أو نحو ذلك، لا بدّ فيه من زيادة ألم ليصل المجنيّ عليه إلى استيفاء حقّه، فهلّا اعتبرتم هذا الألم المقدّرة زيادته في اللطمة، والضربة، كما اعتبرتموه فيما ذكرنا من الصور، وغيرها؟.

قال المانعون: كما عَدَلْنا في الإتلاف الماليّ إلى القيمة، عند تعذّر المماثلة، فكذلك ههنا، بل أَولى لحرمة البشرة، وتأكّدها على حرمة المال.

قال المجوّزون: هذا قياس فاسدٌ من وجهين:

[أحدهما]: أنكم لا تقولون بالمماثلة في إتلاف المال، فإنه إذا أتلف عليه ثوبًا لم تجوّزوا أن يُتلف عليه مثله من كلّ وجه، ولو قطع يده، وقتله لقطعت يده، وقُتل به، فعُلم الفرق بين الأموال والأبشار، ودلّ على أن الجناية على النفوس والأطراف يُطلب فيها الْمُقاصّة بما لا يُطلب في الأموال.

[والثاني]: من هو الذي سلّم لكم أن غير المكيل والموزون يُضمن بالقيمة، لا بالنظير، ولا إجماع في المسألة، ولا نصّ؟ بل الصحيح أنه يجب المِثل في الحيوان وغيره بحسب الإمكان، كما ثبت عن الصحابة رضي الله عنهم في جزاء الصيد أنهم قضوا فيه بمِثله من النَّعم، بحسب الإمكان، فقضوا في النعامة بَبَدنة، وفي بقرة الوحش ببقرة، وفي الظبي بشاة، إلى غير ذلك.

قال المانعون: هذا على خلاف القياس، فيصار إليه؛ اتّباعًا للصحابة، ولهذا منعه أبو حنيفة، وقدّم القياس عليه، وأوجب القيمة.

قال المجوّزون: قولكم: إن هذا على خلاف القياس، فرع على صحّة الدليل الدّالّ على أن المعتَبر في ذلك هو القيمة، دون النظير، وأنتم لم تذكروا على ذلك دليلًا، من كتاب، ولا سنّة، ولا إجماع، حتّى يكون قضاء الصحابة بخلافه، على خلاف القياس، فأين الدليل؟.

قال المانعون: الدليل على اعتبار القيمة في إتلاف الحيوان، دون المِثل، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم ضمّن معتق الشِّقص إذا كان موسرًا بقيمته، ولم يضمّنه نصيب الشريك بمثله، فدلّ على أن الأصل هو القيمة في غير المكيل والموزون.

قال المجوّزون: هذا أصل ما بنيتم عليه اعتبار القيمة في هذه المسائل وغيرها، ولكنه بناء على غير أساس، فإن هذا ليس مما نحن فيه في شيء، فإن هذا ليس من باب ضمان المتلَفات بالقيمة، بل هو من باب تملّك مال الغير

ص: 227

بالقيمة؛ كتملّك الشقص المشفوع بثمنه، فإن نصيب الشريك يقدّر دخوله في ملك المعتِقِ، ثم يَعتِق عليه بعد ذلك، والقائلون بالسراية متّفقون على أنه يَعتِق كله على ملك المعتِقِ، والولاء له، دون الشريك. واختلفوا، هل يسري العتق عقب إعتاقه، أو لا يَعتق حتى يؤدّي الثمن؟ على قولين للشافعيّ، وهما في مذهب أحمد، قال شيخنا -يعني: ابن تيميّة-: والصحيح أنه لا يَعتق إلا بالأداء.

وعلى هذا ينبني ما إذا أعتق الشريك نصيبه بعد عتق الأول، وقبل وزن القيمة، فعلى الأول لا يعتق عليه، وعلى الثاني يعتق عليه، ويكون الولاء بينهما.

وعلى هذا أيضًا ينبني ما إذا قال أحدهما: إذا أعتقت نصيبك، فنصيبي حرّ، فعلى القول الأول لا يصحّ هذا التعليق، ويَعتق كله في مال المعتِقِ، وعلى القول الثاني يصحّ التعليق، ويَعتق نصيب الشريك من ماله.

فظهر بهذا أن استدلالكم بالعتق استدلالٌ باطلٌ، بل إنما يكون إتلافًا إذا قتله، فلو ثبت لكم بالنصّ أنه ضمّن قاتل العبد بالقيمة دون المِثل، كان حجةً، وأنَّى لكم بذلك؟.

قالوا: وأيضًا فالفرق واضحٌ بين أن يكون الْمُتْلَفُ عينًا كاملةً، أو بعضَ عين، فلو سلّمنا أن التضمين كان تضمين إتلافٍ لم يجب مثله في العين الكاملة، والفرق بينهما أن حقّ الشريك في العين التي لا يمكن قسمتها في نصف القيمة مثلًا، أو ثلثها، فالواجب له من القيمة بنسبة مُلكه، ولهذا يُجبر شريكه على البيع إذا طلبه ليتوصّل إلى حقّه من القيمة، والنبيّ صلى الله عليه وسلم راعى ذلك، وقوّم عليه العبد قيمةً كاملةً، ثم أعطاه حقّه من القيمة، ولم يقوّم عليه الشقص وحده، فيعطيه قيمته، فدلّ على أن حقّ الشريك في نصف قيمته، فإذا كان كذلك، فلو ضمّنّا المعتق نصيب الشريك بمثله من عبد آخر لم نُجبره على البيع إذا طلبه شريكه؛ لأنه إذا لم يكن له حقّ في القيمة، بل حقّه في نفس العين، فحقّه باقٍ منها.

قالوا: فظهر أنه ليس معكم أصلٌ تقيسون عليه، لا من كتاب، ولا سنّة، ولا إجماع. وقد ثبت في "الصحيح": أن النبيّ صلى الله عليه وسلم اقترض بَكْرًا، وقضى خيرًا

ص: 228

منه، واحتجّ به من يُجوّز قرض الحيوان، مع أن الواجب في القرض ردّ المثل، وهذا يدلّ على أن الحيوان مثليّ.

ومن العجب أن يقال: إذا اقترض حيوانًا ردّ قيمته، ويقال: ذلك على الإتلاف، والغصب، فيُترك موجَب النصّ الصحيح؛ لقياس لم يثبت أصله بنصّ، ولا إجماع، ونصوص أحمد: أن الحيوان في القرض يُضمن بمثله. وقال بعض أصحابه: بل بالقيمة؛ طردًا للقياس على الغصب. واختلف أصحابه في موجَب الضمان في الغصب، والإتلاف على ثلاثة أوجه:

[أحدها]: أن الواجب القيمة في غير المكيل والموزون.

[والثاني]: الواجب المثل في الجميع.

[والثالث]: الواجب المثل في غير الحيوان، ونصّ عليه أحمد في الثوب، والقصعة، ونحوهما، ونصّ عليه الشافعيّ في الجدار المهدوم ظلمًا يُعاد مثله، وأقْوَلُ الناس بالقيمة أبو حنيفة، ومع هذا فعنده إذا أتلف ثوبًا ثبت في ذمّته مثله، لا قيمته، ولهذا يجوز الصلح عنه بأكثر من قيمته، ولو كان الثابت في الذّمّة القيمة لَمَا جاز الصلح عنها بأكثر منها.

فظهر أن من لم يعتبر المِثل، فلا بدّ من تناقضه، أو مناقضته للنّصّ الصريح، وهذا ما لا مَخْلَص منه.

وأصل هذا كلّه هو الحكومة التي حكم فيها داود وسليمان عليه السلام، وقصّها الله تعالى علينا في كتابه، وكانت في الحرث، وهو البستان، وقيل: إنها كانت أشجار عنب، فنفشت فيها الغنم -والنفش إنما يكون ليلًا- فقضى داود عليه السلام لأصحاب البستان بالغنم؛ لأنه اعتبر قيمة ما أفسدته، فوجده يساوي الغنم، فأعطاهم إياها، وأما سليمان عليه السلام فقضى على أصحاب الغنم بالمثل، وهو أن يعمّروا البستان كما كان، ثم رأى أن مغلّه إلى حين عَوْده يفوت عليهم، ورأى أن مغلّ الغنم يساويه، فأعطاهم الغنم يستغلّونها حتى يعود بستانهم كما كان، فإذا عاد ردّوا إليهم غنمهم.

فاختلف العلماء في مثل هذه القضيّة على أربعة أقوال:

[أحدها]: القول بالحكم السليمانيّ في أصل الضمان، وكيفيّته، وهو أصحّ الأقوال، وأشدّها مطابقة لأصول الشرع، والقياس، كما قد بيّنّا ذلك في

ص: 229

كتاب مفرد في الاجتهاد، وهذا أحد القولين في مذهب أحمد، نصّ عليه في غير موضع، ويُذكر وجهًا في مذهب مالك، والشافعيّ.

[والثاني]: موافقته في النفش، دون المثل، وهذا هو المشهور من مذهب الشافعيّ، ومالك، وأحمد.

[والثالث]: عكسه، وهو موافقته في المثل، دون النفش، وهو قول داود، وغيره، فإنهم يقولون: إذا أتلف البستان بتفريطه ضمنه بمثله، وأما إذا انفلتت الغنم ليلًا لم يَضْمَن صاحبها ما أتلفته.

[والرابع]: أن النفش لا يوجب الضمان، ولو أوجبه لم يكن بالمثل، بل بالقيمة، فلم يوافقه لا في النفش، ولا في المثل، وهو مذهب أبي حنيفة، وهذا من اجتهادهم في القياس، والعدل هو الذي أوجبه الله.

فكلّ طائفة رأت العدل هو قولَها، وإن كانت النصوص، والقياس، وأصول الشرع تشهد بحكم سليمان عليه السلام، كما أن الله سبحانه وتعالى أثنى عليه به، وأخبر أنه فهّمه إياه.

وذِكرُ مأخذ هذه الأقوال، وأدلّتها، وترجيح الراجح منها، له موضعٌ غير هذا، أليق به من هذا.

والمقصود أن القياس، والنصّ يدلّان على أنه يُفْعَل به كما فَعَل، وقد تقدّم أن النبيّ صلى الله عليه وسلم: رضّ رأس اليهوديّ، كما رضّ رأس الجارية، وأن ذلك لم يكن لنقض العهد، ولا للحرابة؛ لأن الواجب في ذلك القتلُ بالسيف، وعن أحمد في ذلك أربع روايات:

[إحداهنّ]: أنه لا يُستوفى القود إلا بالسيف في العنق، وهذا مذهب أبي حنيفة.

[والثانية]: أنه يُفعَلُ به كما فَعَلَ، إذا لم يكن محرّمًا لحقّ الله تعالى، وهذا مذهب مالك، والشافعيّ.

[والثالثة]: إن كان الفعلُ، أو الجرح مُرهقًا فُعِل به نظيرُهُ، وإلا فلا.

[والرابعة]: إن كان الجرح، أو القطع موجبًا للقود لو انفرد فُعِل به نظيره، وإلا فلا. وعلى الأقوال كلّها إن لم يمت بذلك قُتل. وقد أباح الله تعالى للمسلمين أن يَمثُلُوا بالكفّار إذا مَثَلُوا بهم، وإن كانت المُثْلة منهيًّا عنها،

ص: 230

فقال تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} الآية [النحل: 126]، وهذا دليلٌ على أن العقوبة بجدع الأنف، وقطع الأذن، وبَقْرِ البطن، ونحو ذلك هي عقوبةٌ بالمثل، ليست بعُدوان، والمثلُ هو العدل.

وأما كون المثلة منهيًّا عنها؛ فلِمَا روى أحمد في "مسنده" من حديث سمرة بن جندب، وعمران بن حصين رضي الله عنهم، قالا:"ما خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبةً، إلا أمرنا بالصدقة، ونهانا عن المثلة".

[فإن قيل]: لو لم يمُت إذا فُعل به نظير ما فعل، فأنتم تقتلونه، وذلك زيادة على ما فعل، فأين المماثلة؟.

[قيل]: هذا يُنتقض بالقتل بالسيف، فإنه لو ضربه في العنق، ولم يوجبه، كان لنا أن نضربه ثانيةً، وثالثةً، حتى يوجبه اتفاقًا، وإن كان الأَولى إنما ضَرْبه ضربة واحدة، واعتبار المماثلة له طريقان:

[إحداهما]: اعتبار الشيء بنظيره ومثله، وهو قياس العلّة الذي يُلحق فيه الشيء بنظيره.

[والثاني]: قياس الدلالة الذي يكون الجمع فيه بين الأصل والفرع بدليل العلّة، ولازمها، فإن انضاف إلى واحد من هذين عموم لفظىّ كان من أقوى الأدلّة؛ لاجتماع العمومين: اللفظيّ، والمعنويّ، وتضافر الدليلين: السمعيّ، والاعتباريّ.

فيكون موجَبُ الكتاب، والميزان، والقصاص في مسألتنا هو من هذا الباب، كما تقدّم تقريره، وهذا واضحٌ، لا خفاء به، ولله الحمد، والمنّة. انتهى كلام الإمام ابن القيّم رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: لقد أعطى الإمام ابن القيّم رحمه الله هذه المسألة حقّها من التحقيق، والاستقصاء في الاستدلال، فأجاد، وأفاد، وأسهب، وأعاد، فجزاه الله تعالى خيرًا.

وخلاصة البحث أن الصواب وجوب القصاص في الطعنة، واللطمة، والجبذة، ونحوها؛ لعموم الأدلّة، والأحاديث الواردة في هذا الباب، وإن كان

(1)

"تهذيب السُّنن" 12/ 175 - 180. من هامش "عون المعبود".

ص: 231

فيها مقال، إلا أن عموم الأدلّة يشهد لها، فيصحّ الاستدلال بها، فتبصّر لذلك، والله تعالى أعلم بالصواب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(13) - (بَابُ التَّدَاوِي بِالْعُودِ الْهِنْدِيِّ، وَهُوَ الْكُسْتُ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلِّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5750]

(2214) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى التَّمِيمِيُّ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَمْرٌو النَّاقِدُ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَابْنُ أَبِي عُمَرَ -وَاللَّفْظُ لِزُهَيْرٍ- قَالَ يَحْيَى: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ الآخَرُونَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنْ أُمِّ قَيْسٍ بِنْتِ مِحْصَنٍ، أُخْتِ عُكَّاشَةَ بْنِ مِحْصَنٍ، قَالَتْ: دَخَلْتُ بِابْنٍ لِي عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَأْكُلِ الطَّعَامَ، فَبَالَ عَلَيْهِ، فَدَعَا بِمَاءٍ، فَرَشَّهُ

(1)

، قَالَتْ: وَدَخَلْتُ عَلَيْهِ بِابْنٍ لِى، قَدْ أَعْلَقْتُ عَلَيْهِ مِنَ الْعُذْرَةِ، فَقَالَ:"عَلَامَهْ تَدْغَرْنَ أَوْلَادَكُنَّ بِهَذَا الْعِلَاقِ؟ عَلَيْكُنَّ بِهَذَا الْعُودِ الْهِنْدِيِّ، فَإنَّ فِيهِ سَبْعَةَ أَشْفِيَةٍ، مِنْهَا ذَاتُ الْجَنْبِ، يُسْعَطُ مِنَ الْعُذْرَةِ، وَيُلَدُّ مِنْ ذَاتِ الْجَنْبِ").

رجال هذا الإسناد: تسعة:

1 -

(عَمْرٌو النَّاقِدُ) ابن محمد بن بكير، أبو عثمان البغداديّ، نزيل الرقّة، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 232)(خ م د س) تقدم في "المقدمة" 4/ 23.

2 -

(ابْنُ أَبِي عُمَرَ) محمد بن يحيى بن أبي عمر العدنيّ، ثم المكّي، تقدّم قريبًا.

3 -

(سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ) تقدّم أيضًا قريبًا.

4 -

(الزُّهْرِيُّ) محمد بن مسلم، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

5 -

(أُمُّ قَيْسٍ بِنْتُ مِحْصَنٍ) الأسديّة، يقال: اسمها آمنة، صحابيّة مشهورة، لها أحاديث (ع) تقدمت في "الطهارة" 31/ 671.

(1)

وفي نسخة: "فرشّه عليه".

ص: 232

والباقون ذُكروا في البابين الماضيين.

[تنبيه]: من لطائف هدا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه خمسة من الشيوخ قَرَن بينهم؛ لاتحاد كيفيّة أَخْذه عنهم، حيث سمع من لفظهم مع جماعة، ولذا قال:"حدّثنا"، ثم فصّل بينهم؛ لاختلاف كيفيّة أَخْذهم عن شيخهم، حيث أخذ يحيى بقراءة غيره على سفيان، ولذا قال: أخبرنا، والباقون سمعوا من لفظه، ولذا قالوا: حدّثنا سفيان، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ.

شرح الحديث:

(عَنْ أُمِّ قَيْسٍ بِنْتِ مِحْصَنٍ) بكسر الميم، وسكون الحاء، وفتح الصاد المهملتين، آخره نون، قيل: اسمها آمنة، وقد صرّح عبيد الله في الرواية التالية بأن أم قيس أخبرته.

قال ابن عبد البرّ: اسم أمّ قيس جُذامة -يعني: بالجيم، والذال المعجمة- وقال السهيليّ: اسمها آمنة، وليس لها في "الصحيحين" غير هذا الحديث، وهو مشتمل على قصّتين: قصّة بول ابنها في حِجر النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقصّة إعلاقها له من العذرة، فأما قصّة البول فتقدّمت في "كتاب الطهارة"، وأعادها هنا مع الثانية، ومات ابنها هذا في عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو صغير، كما رواه النسائيّ، قال الحافظ: ولم أقف على تسميته. انتهى

(1)

.

(أُخْتِ عُكَّاشَةَ) بجرّ "أخت" بدلًا عن "أمّ قيس"، و"عُكاشة" -بتشديد الكاف، وتخفيفها- ابْنِ مِحْصَنٍ بن حُرْثان -بضم المهملة، وسكون الراء، بعدها مثلثة- ابن قيس بن مُرّة بن بُكير -بضم الموحدة- ابن غَنْم بن دودان بن أسد بن خزيمة الأسديّ، حليف بني عبد شمس، من السابقين الأولين، وشهد بدرًا، وقع ذِكْره في "الصحيحين" في حديث ابن عباس في السبعين ألفًا الذين يدخلون الجنة بغير حساب: "فقال عكاشة: ادع الله أن يجعلني منهم، قال:

(1)

"الفتح" 1/ 557، كتاب "الوضوء" رقم (223).

ص: 233

أنت منهم، فقام آخر: فقال: سبقك بها عكاشة"، وقد ضُرِب بها المثل، يقال للسابق في الأمر: "سبقك بها عكاشة".

قيل: استُشهد عكاشة في قتال أهل الردّة، قتله طليحة بن خويلد الذي تنبأ، ثم عاد إلى الإسلام، أفاده في "الإصابة"

(1)

.

وفي الرواية التالية من طريق يونس بن يزيد أن ابن شهاب أخبره، قال: أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، أن أم قيس بنت محصن، وكانت من المهاجرات الأُوَل اللاتي بايعن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي أخت عكاشة بن مِحصن أحدِ بني أسد بن خزيمة، قال: "أخبرتني أنها أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم بابن لها لم يبلغ أن يأكل الطعام

" الحديث.

(قَالَتْ) أم قيس (دَخَلْتُ بِابْنٍ لِي) تقدّم آنفًا أنه لا يُعرف اسمه، (عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَأْكُلِ الطَّعَامَ) قالَ في "الفتح": المراد بالطعام ما عدا اللبن الذي يرتضعه، والتمر الذي يُحَنّك به، والعسل الذي يُلْعَقه للمداواة، وغيرها، فكأن المراد أنه لم يحصل له الاغتذاء بغير اللبن على الاستقلال، هذا مقتضى كلام النوويّ في "شرح مسلم"، و"شرح المهذب"، وأطلق في "الروضة" تبعًا لأصلها أنه لم يَطْعَم، ولم يشرب غير اللبن، وقال في "نكت التنبيه": المراد: أنه لم يأكل غير اللبن، وغير ما يُحَنّك به، وما أشبهه، وحَمَل الموفق الحمويّ في "شرح التنبيه" قوله:"لم يأكل" على ظاهره، فقال: معناه: لم يستقلّ بجعل الطعام في فيه، والأول أظهر، وبه جزم الموفق ابن قُدامة، وغيره، وقال ابن التين: يَحْتَمِل أنها أرادت أنه لم يتقوَّت بالطعام، ولم يستغن به عن الرضاع، ويَحْتَمِل أنها إنما جاءت به عند ولادته؛ ليحنّكه صلى الله عليه وسلم، فيُحْمَل النفي على عمومه. انتهى

(2)

.

(فَبَالَ عَلَيْهِ)؛ أي: بال ذلك الصبيّ على النبيّ صلى الله عليه وسلم، وفي الرواية التالية:"بال في حِجر رسول الله صلى الله عليه وسلم "، وفي رواية للبخاريّ:"فأجلسه رسول الله صلى الله عليه وسلم في حِجره، فبال على ثوبه". (فَدَعَا بِمَاءٍ)؛ أي: طلب النبيّ صلى الله عليه وسلم ماءً (فَرَشَّهُ)،

(1)

"الإصابة في تمييز الصحابة" 4/ 533.

(2)

"الفتح" 1/ 557، كتاب "الوضوء" رقم (223).

ص: 234

وفي بعض النُّسخ: "فرشّه عليه". (قَالَتْ) أم قيس (وَدَخَلْتُ عَلَيْهِ) صلى الله عليه وسلم (بِابْنٍ لِي) هو ابن الذي بال في حجره صلى الله عليه وسلم، وقولها:(قَدْ أَعْلَقْتُ عَلَيْهِ) قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في جميع نُسخ "صحيح مسلم": "عليه"، ووقع في "صحيح البخاريّ" من رواية معمر وغيره:"فأعلقت عليه"، كما هنا، ومن رواية سفيان بن عيينة:"فأعلقت عنه" بالنون، وهذا هو المعروف عند أهل اللغة، قال الخطابيّ: المحدثون يروونه: "أعلقت عليه"، والصواب:"عنه"، وكذا قال غيره، وحكاهما بعضهم لغتين:"أعلقت عنه"، و"عليه"، ومعناه: عالجتُ وَجَعَ لَهاته بإصبعي. انتهى

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: كذا وقع هذا اللفظ في كتاب مسلم: "أعلقت عليه" بلا خلاف فيه، ووقع في البخاريّ باختلاف، ففي رواية معمر وغيره كما في كتاب مسلم، وفي رواية سفيان بن عيينة:"أعلقت عنه"، قال الخطابي: وهو الصواب، وإلى ذلك أشار ابن الأعرابيّ. انتهى

(2)

.

(مِنَ الْعُذْرَةِ)؛ أي: من أجلها، قال في "العمدة":"الْعُذْرة" -بضم العين المهملة، وسكون الذال المعجمة، وبالراء-: وَجَعَ الحلق، وهو الذي يُسَمَّى سقوط اللَّهاة، بفتح اللام، وهي اللحمة التي تكون في أقصى الحلق. انتهى

(3)

.

وقال النوويّ رحمه الله: العذرة: وجع في الحلق، يَهِيج من الدم، يقال في علاجها: عَذَرته، فهو معذور، وقيل: هي قُرْحة تخرج في الْخَرْم الذي بين الحلق والأنف، تَعْرِض للصبيان غالبًا عند طلوع الْعُذْرة، وهي خمسة كواكب، تحت الشِّعْرَى الْعَبُور، وتسمى الْعَذَارى، وتطلع في وسط الحرّ، وعادة النساء في معالجة الْعُذرة أن تأخذ المرأة خرقةً، فتفتلها فتلًا شديدًا، وتدخلها في أنف الصبىّ، فتطعُنُ ذلك الموضعِ، فينفجر منه دم أسود، وربما أقرحته، وذلك الطعْنُ يسمى دَغْرًا، يقال: عَذرت المرأة الصبيّ: إذا غَمَزت حلقه من الْعُذرة، أو فعلت به ذلك، وكانوا بعد ذلك يُعلّقون عليه عِلاقًا؛ كالْعُوذة، قاله في "النهاية"

(4)

.

(1)

"شرح النوويّ" 14/ 200.

(2)

"المفهم" 5/ 602.

(3)

"عمدة القاري" 21/ 250.

(4)

"النهاية في غريب الأثر" ص 600.

ص: 235

وقال القرطبيّ: "العذرة": وجع الحلق، فخافت أن يكون به ذلك، فرفعت لَهاته بإصبعها، وقال الأصمعيّ: العذرة قريبٌ من اللهاة، وفي "البارع": العذرة: اللهاة، وقد تقدَّم أن اللَّهاة: اللحمة الحمراء التي في آخر الفم، وأول الحلق، والنِّساء ترفعها بأصابعهن، فنهاهنَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم عن ذلك؛ لِمَا فيه من تعذيب الصبيّ، ولعل ذلك يزيد في وجع اللهاة. انتهى

(1)

.

(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم: ("عَلَامَهْ) قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في جميع النُّسخ "علامه"، وهي هاء السكت، ثبتت هنا في الدَّرج

(2)

. (تَدْغَرْنَ أَوْلَادَكُنَّ) قال المجد رحمه الله: الدّغْر -بفتح الدال، وسكون الغين-: الدفع، وغَمْزُ الْحَلْق، ورَفْع المرأة لَهاةَ الصبيّ بإصبَعها، قال: والفعل كمنع. انتهى

(3)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم: "علام تدغرن أولادكنَّ بهذا العِلاق؟! " تدغرن: الرواية الصحيحة فيه: بالدال المهملة، والغين المعجمة، لا يجوز غيره، ومعناه هنا: رفع اللهاة، وأصله: الرفع، ومنه قول العرب: دَغْرَى، لا صَفَّى، ودَغْرًا لا صفًّا -منونًا، وغير منوَّن- يقولون هذا في الحرب؛ أي: ادفعوا عليهم، ولا تصطفُّوا لهم. انتهى

(4)

.

وقال النوويّ: معنى "تدغرن أولادكنّ": أنها تَغْمِز حَلْق الولد بإصبَعها، فترفع ذلك الموضع، وتكبسه. انتهى

(5)

.

وفي رواية البخاريّ: "علام تدغرن"؛ أي: لأيّ شيء، و"تدغرن" خطاب للنسوة، وهو بِالْغَين المعجمة، والدال المهملة، والدَّغْر: غَمْزُ الحلق، قاله في "الفتح".

وقال في "العمدة": الدغر: غمز الحلق بالإصبع، وذلك أن الصبي تأخذه العُذْرة، وهي وجع يَهِيج في الحلق من الدم، فتُدخل المرأة إصبعها، فتدفع بها ذلك الموضع، وتكبسه، وأصل الدغر: الدفع. انتهى. قال القاري: والمعنى: على أيّ شيء تعالجن أولادكنّ، وتَغْمِزن حلوقهم. انتهى

(6)

.

(1)

"المفهم" 5/ 602 - 603.

(2)

"شرح النوويّ" 14/ 201.

(3)

"القاموس المحيط" ص 434 - 435.

(4)

"المفهم" 5/ 603.

(5)

"شرح النوويّ" 14/ 200.

(6)

"عون المعبود" 10/ 258.

ص: 236

(بِهَذَا الْعِلَاقِ؟)؛ أي: بهذا العصر، والغمز، قال الطيبىّ: وتوجيهه أن في الكلام معنى الإنكار؛ أي: على أيّ شيء تعالجن هذا الداء بهذه الداهية، والمداواة الشنيعة

(1)

.

وقال في "العمدة": "العلاق" -بكسر العين، وفتحها- ويروى:"بهذا الإعلاق"، مصدرًا، ومعناه: إزالة العُلُوق، وهي الداهية، والآفة

(2)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: "العلاق": الرواية فيه بكسر العين، ووقع في بعض النسخ:"الإعلاق"، وهو الصواب قياسًا؛ لأنَّه مصدر: أعلقت، وهو المعروف لغة، ومقصود هذا الاستفهام الإنكار على النساء في فِعْل ذلك بأولادهنّ. انتهى

(3)

.

وقال النوويّ رحمه الله: "العَلاق" -بفتح العين المهملة- وفي الرواية الأخرى: "الإعلاق"، وهو الأشهر عند أهل اللغة، حتى زعم بعضهم أنه الصواب، وأن العَلاق لا يجوز، قالوا: والعلاق مصدر أعلقت عنه، ومعناه: أزلت عنه العُلُوق، وهي الآفة، والداهية، والإعلاق: هو معالجة عُذرة الصبيّ، وهي وَجَعُ حلقه، كما سبق، قال ابن الأثير: ويجوز أن يكون العلاق، هو الاسم منه. انتهى.

(عَلَيْكُنَّ بِهَذَا الْعُودِ الْهِنْدِيِّ)؛ أي: بل الْزَمْنَ في هذا الزمان باستعمال العُود الهنديّ في عُذرة أولادكنّ، والإشارة بهذا إلى الجنس المستحضر في الذهن، والعود الهنديّ يقال له: القُسْط، والْكُسْت، لغتان مشهورتان.

وقال العينيّ: القسط نوعان: هنديّ، وهو أسود، وبحريّ، وهو أبيض، والهنديّ أشدّهما حرارة. انتهى

(4)

.

وأخرج أحمد، وأصحاب "السنن" من حديث جابر رضي الله عنه مرفوعًا:"أيّما امرأة أصاب ولدها عُذْرة، أو وجع في رأسه، فلتأخذ قُسطًا هنديًّا، فتحكّه بماء، ثم تسعطه إياه"، وفي حديث أنس رضي الله عنه عند البخاريّ: "إن أمثل ما

(1)

"الكاشف عن حقائق السُّنن" 9/ 2958.

(2)

"عمدة القاري" 21/ 249.

(3)

"المفهم" 5/ 603.

(4)

"عون المعبود" 10/ 258.

ص: 237

تداويتم به الحجامة، والقسط البحريّ"، قال في "الفتح": وهو محمول على أنه وصف لكلِّ ما يلائمه، فحيث وصف الهنديّ كان لاحتياج في المعالجة إلى دواء شديد الحرارة، وحيث وصف البحريّ كان دون ذلك في الحرارة؛ لأن الهندي كما تقدم أشدّ حرارة من البحريّ، وقال ابن سينا: القسط حارّ في الثالثة، يابس في الثانية. انتهى

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "عليكنّ بهذا العود الهنديّ" هذه إحالة منه صلى الله عليه وسلم لهنّ على استعمال العود الهنديّ الطيب الرائحة في مرض الحلق المسمَّى بالعذرة، ثم بيَّن لهم كيفية العلاج به بقوله:"يسعط من العذرة"؛ أي: يُدَقُّ ناعمًا، ويُسعط في الأنف، وهذا يفيد أنَّه يُستعمل وحده، ولا يضاف إلى غيره، ثمَّ زاد، فقال:"ويلدُّ من ذات الجنب"، ويعني به: الوجع الذي يكون في الجنب؛ المسمَّى: بالشَّوصة، وقال الترمذيّ: يعني به: السِّلَّ، وفيه بُعدٌ، والأول أعرف، وهل يلدّ به منفردًا مدقوقًا، أو مع غيره؟ يُسأل عن الأنفع من ذلك أهل الْخِبْرة من المسلمين، ممن جرَّب ذلك، أو تُبَاشَرُ تجربته؛ إذ لا بدَّ من نفعه في ذلك المرض؛ لأنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقول إلا حقًّا. انتهى

(2)

.

(فَإِنَّ فِيهِ)؛ أي: في هذا العود (سَبْعَةَ أَشْفِيَةٍ) بفتح الهمزة: جَمْع شفاء، (مِنْهَا ذَاتُ الْجَنْبِ)؛ أي: من تلك الأشفية: شفاءُ ذات الجنب، أو التقدير: فيه سبعة أشفية من سبعة أدواء، منها ذات الجنب، وخصّه بالذِّكر؛ لأنه أصعب الأدواء، وقلّما يَسْلَم منه من ابتُلي به، قاله الطيبيّ رحمه الله

(3)

.

قال في "العمدة": ذكر صلى الله عليه وسلم سبعة أشفية في القسط، فسمى منها اثنين، ووكل باقيها إلى طلب المعرفة، أو الشهرة فيها. انتهى.

وقوله: (يُسْعَطُ) كلام مستأنَف لبيان كيفيّة التداوي في الداءين المذكورين، وهو بصيغة المجهول، مُخَفّفًا، ورُوي مشدّدًا، وهو مأخوذ من السَّعُوط، وهو ما يُصَبّ في الأنف، وكيفية التداوي به أن يُدَقّ العُود ناعمًا،

(1)

"الفتح" 13/ 79، كتاب "الطبّ" رقم (5692).

(2)

"المفهم" 5/ 603.

(3)

"الكاشف عن حقائق السُّنن" 9/ 2958.

ص: 238

ويُدْخَل في الأنف، وقيل: يُبَلّ، ويقطر فيه، قاله القاري

(1)

. (مِنَ الْعُذْرَةِ) تقدّم معناها آنفًا، (وَيُلَدُّ) بصيغة المجهول أيضًا، وتشديد الدال المهملة، من لَدَّ الرجلَ: إذا صَبّ الدواء في أحد شِقّي الفم. (مِنْ ذَاتِ الْجَنْبِ)؛ أي: من أجلها، وسكت صلى الله عليه وسلم عن الخمسة منها؛ لعدم الاحتياج إلى تفصيلها في ذلك الوقت، فاقتصر على المهم، والمناسب للمقام.

و"ذات الجنب": هو وَرَمٌ حارّ يَعْرِض في الغشاء المستبطن للأضلاع، وقد يُطْلَق على ما يَعْرِض في نواحي الجنب، من رياح غليظة، تحتقن بين الصفاقات، والعَضَل التي في الصدر، والأضلاع، فتحدث وجعًا، فالأول هو ذات الجنب الحقيقيّ الذي تكلم عليه الأطباء، قالوا: ويَحْدُث بسببه خمسة أعراض: الحمى، والسعال، والنخس، وضيق النفس، والنبض المنشاريّ، ويقال لذات الجنب أيضًا: وجع الخاصرة، وهي من الأمراض المخوفة؛ لأنها تَحدث بين القلب والكبد، وهي من سيئ الأسقام، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم:"ما كان الله ليسلّطها عليّ".

والمراد بذات الجنب في هذا الحديث هو الثاني؛ لأن القسط، وهو العود الهنديّ هو الذي تداوى به الريح الغليظة، قال المسبحيّ: العود حارّ، يابس، قابض، يَحبس البطن، ويقوي الأعضاء الباطنة، ويطرد الريح، ويفتح السدد، ويُذهب فضل الرطوبة، قال: ويجوز أن ينفع القسط من ذات الجنب الحقيقيّ أيضًا، إذا كانت ناشئة عن مادة بلغمية، ولا سيما في وقت انحطاط العلة، قاله في "الفتح"

(2)

.

وقال في "الفتح" أيضًا: قوله: "يسعط به من العُذرة، ويُلدّ به من ذات الجنب" كذا وقع الاقتصار في الحديث من السبعة على اثنين، فإما أن يكون ذَكَر السبعة، فاختصره الراوي، أو اقتصر على الاثنين؛ لوجودهما حينئذ دون غيرهما، وهذا أقوى الاحتمالين، وقد ذكر الأطباء من منافع القسط أنه يُدِرّ الطمث، والبول، ويقتل ديدان الأمعاء، ويدفع السم، وحمى الربع، والورد،

(1)

"عون المعبود" 10/ 258.

(2)

"الفتح" 13/ 79، كتاب "الطبّ" رقم (5692).

ص: 239

ويُسَخِّن المعدة، ويحرك شهوة الجماع، ويُذهِب الكَلَف طِلاءً، فذكروا أكثر من سبعة، وأجاب بعض الشراح بأن السبعة عُلمت بالوحي، وما زاد عليها بالتجربة، فاقتصر على ما هو بالوحي؛ لتحققه، وقيل: ذَكر ما يُحتاج إليه دون غيره؛ لأنه لم يُبعث بتفاصيل ذلك.

قال الحافظ: ويَحْتَمِل أن تكون السبعة أصول صفة التداوي بها؛ لأنها إما طِلاءٌ، أو شربٌ، أو تكميد، أو تنطيل، أو تبخير، أو سعوط، أو لدود، فالطلاء يدخل في المراهم، ويحلى بالزيت، ويلطخ، وكذا التكميد، والشرب، يُسحَق، ويُجعل في عسل، أو ماء، أو غيرهما، وكذا التنطيل، والسَّعوط، يسحق في زيت، ويقطر في الأنف، وكذا الدهن، والتبخير واضح، وتحت كل واحدة من السبعة منافع لأدواء مختلفة، ولا يُستغرب ذلك ممن أوتي جوامع الكلم.

قال: وقد استُشْكل معالجتها العذرة بالقسط، مع كونه حارًّا، والعذرة إنما تَعْرِض في زمن الحرّ بالصبيان، وأمزجتهم حارّة، ولا سيما وقُطْر الحجاز حارّ.

وأجيب بأن مادة العذرة دم يغلب عليه البلغم، وفي القسط تخفيف للرطوبة، وقد يكون نفعه في هذا الدواء بالخاصية، وأيضًا فالأدوية الحارّة قد تنفع في الأمراض الحارّة بالعرض كثيرًا، بل وبالذات أيضًا، وقد ذكر ابن سينا في معالجة سعوط اللهاة القسط، مع الشَّبّ اليمانيّ، وغيره، على أننا لو لم نجد شيئًا من التوجيهات لكان أمر المعجزة خارجًا عن القواعد الطبية. انتهى

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "فإنَّ فيه سبعة أشفية": بيَّن منها في الحديث اثنين، وسكت عن الخمسة، وقد ذكر الأطبَّاء في كتبهم أن فيه من الأشفية أكثر مما في هذا الحديث، قال أبو عبد الله المازريّ: رأيت في كتبهم -يعني: الأطباء- أنه يُدِرّ البولَ، والطَّمْثَ، وينفع من السُّموم، ويحرك شهوة الجماع، ويقتل الدود، وحبَّ القرع في الأمعاء، إذا شُرِب بالعسل، ويذهب بالكَلَف،

(1)

"الفتح" 13/ 79 - 80، كتاب "الطبّ" رقم (5692).

ص: 240

إذا طُلِي عليه، وينفع من ضعف الكبد، والمعدة، وبردهما، ومن حمَّى الوِرْد، والرِّبع، وينفع من النَّافض لُطُوخًا بالزيت قبل نفض الحمَّى، ولمن به فالج، واسترخاء، قال: وهو صنفان: بحريّ، وهنديّ، فالبحريّ: هو القسط الأبيض، يؤتى به من بلاد المغرب، ونصّ بعضهم: على أن البحريّ أفضل من الهنديّ، وهو أقل حرارة منه، قال إسحاق بن عمران: هما حارَّان، يابسان في الدرجة الثالثة، والهنديّ أشدّ حرًّا في الجزء الثالث، وقال ابن سينا: القُسط حارٌّ في الثالثة، يابس في الثانية.

قال القرطبيّ: ويُسمى: الكُسْت، كما قال الراوي، وحينئذ يشكل هذا بما ذُكر من قول الأطبَّاء: إن البحريّ من العود يُسمى القسط، يؤتى به من بلاد المغرب، فكيف يكون هنديًّا، ويؤتى به من المغرب؟! إلا أن يريدوا مغرب الهند.

فإنْ قيل: فإذا كان في العود الهنديّ هذه الأدوية الكثيرة، فما وجه تخصيص منافعه بسبع، مع أنها أكثر من ذلك، ولأيّ شيء لم يُفصلها؟.

فالجواب عن الأول بعد تسليم أن لأسماء الأعداد مفهومَ مخالفةٍ: إن هذه السَّبع المنافع هي التي عَلِمها بالوحي، وتحقَّقها، وغيرها من المنافع عُلمت بالتجربة، فتعرَّض لِمَا علمه بالوحي دون غيره، وعن الثاني: أنَّه إنما فصّل منها ما دعته الحاجة إليه، وسكت عن غيره؛ لأنَّه لم يُبعث لبيان تفاصيل الطبِّ، ولا لتعليم صنعته، وإنما تكلم بما تكلم به منه ليُرشد إلى الأخذ فيه، والعمل به، وأن في الوجود عقاقير، وأدوية يُنتفع بها، وعيَّن منها ما دعت حاجتهم إليها في ذلك الوقت، وبحسب أولئك الأشخاص، والله تعالى أعلم. انتهى

(1)

.

مسائل تتعلَّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أم قيس بنت مِحصَن رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [13/ 5750 و 5751](2214)، و (البخاريّ) في

(1)

"المفهم" 5/ 603.

ص: 241

"الطبّ"(5692 و 5713 و 5715 و 5718)، و (أبو داود) في "الطبّ"(3877)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(4/ 374 و 4375)، و (ابن ماجه) في "الطبّ"(3462)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(20168)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(8/ 8 - 9)، و (الحميديّ) في "مسنده"(344)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 355 و 356)، و (ابن راهويه) في "مسنده"(5/ 70 و 72)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(4/ 324)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6070)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(25/ 435 و 440 و 442)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(9/ 346)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(3238)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان الندب إلى حسن المعاشرة، والتواضع، والرفق بالصغار.

2 -

(ومنها): استحباب تحنيك المولود.

3 -

(ومنها): بيان ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم من شدّة حبّهم للنبيّ صلى الله عليه وسلم، حيث كانوا يتبرّكون به، ويحملون أطفالهم إليه حال الولادة، وبعدها.

4 -

(ومنها): بيان حكم بول الغلام والجارية، قبل أن يَطعما، وقد اختلف العلماء في ذلك على ثلاثة مذاهب: أصحّها الاكتفاء بالنضح في بول الصبيّ، لا الجارية؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"ينضح من بول الغلام، ويغسل من بول الجارية"، وقد استوفيت البحث في المسألة في "كتاب الطهارة"[31/ 668](286)، فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق.

5 -

(ومنها): كون العود الهندي من الأدوية التي ثبتت بالوحي، فينبغي استعماله، ولا سيّما من العُذرة.

6 -

(ومنها): أنه لا ينبغي أن يداوى المريض بالأدوية الشاقّة استعمالها مع وجود الأدوية السهلة الاستعمال، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5751]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ، أَنَّ ابْنَ شِهَابٍ أَخْبَرَهُ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ

ص: 242

عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّ أُمَّ قَيْسٍ بِنْتَ مِحْصَنٍ -وَكَانَتْ مِنَ الْمُهَاجِرَاتِ الأُوَلِ اللَّاتِي بَايَعْنَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَهِيَ أُخْتُ عُكَّاشَةَ بْنِ مِحْصَنٍ، أَحَدِ بَنى أَسَدِ بْنِ خُزَيْمَةَ- قَالَ: أَخْبَرَتْنِي أنَّهَا أتَتْ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِابْنٍ لَهَا، لَمْ يَبْلُغْ أَنْ يَأْكُلَ الطَّعَامَ، وَقَدْ أَعْلَقَتْ عَلَيْهِ مِنَ الْعُذْرَةِ -قَالَ يُونُسُ: أَعْلَقَتْ: غَمَزَتْ، فَهِيَ تَخَافُ أَنْ يَكُونَ بِهِ عُذْرَةٌ- قَالَتْ: فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "عَلَامَهْ تَدْغَرْنَ أَوْلَادَكُنَّ بِهَذَا الإعْلَاقِ؟ عَلَيْكُمْ بِهَذَا الْعُودِ الْهِنْدِيِّ -يَعْني: بِهِ الْكُسْتَ- فَإنَّ فِيهِ سَبْعَةَ أَشْفِيَةٍ، مِنْهَا ذَاتُ الْجَنْبِ"، قَالَ عُبَيْدُ اللهِ: وَأَخْبَرَتْنِي أَنَّ ابْنَهَا ذَاكَ بَالَ فِي حِجْرِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَدَعَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِمَاءٍ، فنضَحَهُ عَلَى بَوْلِهِ، وَلَمْ يَغْسِلْهُ غَسْلًا).

رجال هذا الإسناد: ستّة:

1 -

(حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى) التُّجيبيّ، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

2 -

(ابْنُ وَهْبٍ) عبد الله المصريّ الحافظ، تقدّم أيضًا قبل ثلاثة أبواب.

3 -

(يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ) الأيلىّ، تقدّم أيضًا قبل ثلاثة أبواب.

والباقون ذُكروا قبله.

وقوله: (وَكَانَتْ مِنَ الْمُهَاجِرَاتِ الأُوَلِ) بضمّ الهمزة، وفتح الواو: جمع الأُولى، قال في "الفتح": يُشبه أن يكون الوصف من كلام الزهريّ، فيكون مُدرجًا، ويَحْتمل أن يكون من كلام شيخه، فيكون موصولًا، وهو الظاهر. انتهى

(1)

.

وقوله: (أَحَدِ بَني أَسَدِ بْنِ خُزَيْمَةَ) إنما أضافه إلى خزيمة؛ لأنه يوجد في القبائل العربيّة عدة قبائل يقال لها: بنو أسد، فمنهم: هذا، أسد بن خُزيمة بن مُدركة بن إلياس بن مُضر، وأسد بن عبد العُزّى بن قُصيّ من قريش، وأسد بن ربيعة بن نِزَار، وأسد بن دودان، وأسد بن شُرَيك بن مالك بن عمرو بن مالك بن فهم، راجع:"اللباب في تهذيب الأنساب"

(2)

.

(1)

"الفتح" 13/ 111، كتاب "الطبّ" رقم (5715).

(2)

"اللباب في تهذيب الأنساب" 1/ 52 - 53.

ص: 243

وقوله: (قَالَ يُونُسُ

إلخ)؛ يعني: أن يونس بن يزيد الأيليّ فسّر قولها: "أعْلَقَتْ" بـ "غَمَزَتْ".

وقوله: (عَلَامَهْ) تقدّم أن هذه الهاء هي هاء السكت ثبتت وصلًا.

وقوله: (تَدْغَرْنَ أَوْلَادَكُنَّ) خطاب للنسوة، وهو بِالْغَين المعجمة، والدال المهملة، والدغر: غمز الحلق.

وقوله: (يَعْني بِهِ: الْكُسْتَ) بالكاف، ويقال له: القسط أيضًا.

وقوله: (قَالَ عُبَيْدُ اللهِ)؛ أي: ابن عبد الله بن عتبة بن مسعود شيخ الزهريّ في السند.

وقوله: (وَأَخْبَرَتْني)؛ أي: أم قيس.

وقولها: (أَنَّ ابْنَهَا ذَاكَ)؛ أي: الذي أعلقت عليه من العذرة.

وقولها: (فِي حِجْرِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) قال الفيّوميّ رحمه الله: وحجر الإنسان بالفتح، وقد يُكسر: حِضْنه، وهو ما دون إبطه إلى الكشح، وهو في حَجْره؛ أي: كَنَفه، وحمايته، والجمع حُجُور. انتهى

(1)

.

وقولها: (فَنَضَحَهُ عَلَى بَوْلهِ)، وفي الرواية المتقدّمة في "الطهارة" من طريق الليث، عن ابن شهاب:"فلم يَزِد على أن نضح بالماء"، ومن طريق ابن عيينة، عن ابن شهاب:"فَرَشّه"، زاد أبو عوانة في "صحيحه":"عليه"، ولا تَخَالُف بين الروايتين؛ أي: بين نَضَحَ، ورَشّ؛ لأن المراد به أن الابتداء كان بالرشّ، وهو تنقيط الماء، وانتهى إلى النضح، وهو صب الماء، ويؤيده رواية مسلم في حديث عائشة، من طريق جرير، عن هشام:"فدعا بماء، فصبّه عليه"، ولأبي عوانة:"فصبّه على البول، يُتبعه إياه"

(2)

، وتقدّم تمام البحث فيه في "الطهارة"[31/ 668](286)، فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق.

وقولها: (وَلَمْ يَغْسِلْهُ غَسْلًا) قال في "الفتح": ادَّعَى الأصيليّ أن هذه الجملة من كلام ابن شهاب، راوي الحديث، وأن المرفوع انتهى عند قوله:

(1)

"المصباح المنير" 1/ 121 - 122.

(2)

"الفتح" 1/ 557 - 558، كتاب "الوضوء" رقم (223).

ص: 244

"فنضحه"، قال: وكذلك رَوَى معمر عن ابن شهاب، وكذا أخرجه ابن أبي شيبة، قال:"فرشّه"، لم يَزِد على ذلك. انتهى.

قال الحافظ: وليس في سياق معمر ما يدلّ على ما ادعاه من الإدراج، وقد أخرجه عبد الرزاق عنه بنحو سياق مالك، لكنه لم يقل:"ولم يغسله"، وقد قالها مع مالك: الليث، وعمرو بن الحارث، ويونس بن يزيد، كلهم عن ابن شهاب، أخرجه ابن خزيمة، والإسماعيليّ، وغيرهما، من طريق ابن وهب عنهم، وهو لمسلم عن يونس وحده، نعم زاد معمر في روايته:"قال: قال ابن شهاب: فمضت السُّنَّة أن يُرَشَّ بول الصبيّ، ويُغْسَل بول الجارية"، فلو كانت هذه الزيادة هي التي زادها مالك، ومن تبعه لأمكن دعوى الإدراج، لكنها غيرها، فلا إدراج، وأما ما ذكره عن ابن أبي شيبة، فلا اختصاص له بذلك، فإن ذلك لفظ رواية ابن عيينة، عن ابن شهاب، وقد ذكرناها عن مسلم، وغيره، وبينّا أنها غير مخالفة لرواية مالك، والله أعلم. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قد تقدّم هذا البحث مستوفًى في "كتاب الطهارة" بالرقم المذكور، فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(14) - (بَابُ التَّدَاوِي بِالْحَبَّةِ السَّوْدَاءِ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5752]

(2215) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحِ بْنِ الْمُهَاجِرِ، أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَخْبَرَنِي أبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، أَنَّ أبَا هُرَيْرَةَ أَخْبَرَهُمَا، أنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِنَّ فِي الْحَبَّةِ السَّوْدَاءِ شِفَاءً مِنْ كُلِّ دَاءٍ، إِلا السَّامَ"، وَالسَّامُ: الْمَوْتُ، وَالْحَبَّةُ السَّوْدَاءُ: الشُّونيزُ).

(1)

"الفتح" 1/ 557 - 558، كتاب "الوضوء" رقم (223).

ص: 245

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(عُقَيْلُ) بن خالد الأيليّ، أبو خالد الأمويّ مولاهم، سكن المدينة، ثم الشام، ثم مصر [6](ت 144) على الصحيح (ع) تقدم في "الإيمان" 8/ 133.

2 -

(أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحمَنِ) بن عوف الزهريّ، قيل: اسمه عبد الله، وقيل: إسماعيل المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ [3](ت 94)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 423.

3 -

(سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ) بن حَزْن بن أبي وهب المخزوميّ، أبو محمد المدنيّ، أحد العلماء الأثبات الفقهاء الكبار، من كبار [3] مات بعد (90)، وقد ناهز (80)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 71.

4 -

(أَبُو هُرَيْرَةَ) الصحابيّ الجليل، مات رضي الله عنه (7 أو 8 أو 59) تقدم في "المقدمة" 2/ 4.

والباقون ذُكروا في الباب، وقبل باب.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وأن نصفه الأول مسلسلٌ بالمصريين، والثاني بالمدنيين، وفيه رواية تابعيّ عن تابعييّن، كلاهما من الفقهاء السبعة، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه رأس المكثرين السبعة.

شرح الحديث:

(عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) محمد بن مسلم الزهريّ، أنه قال:(أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بن عوف (وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّب، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (أَخْبَرَهُمَا)؛ أي: أبا سلمة، وسعيد بن المسيِّب، (أنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِنَّ فِي الْحَبَّةِ السَّوْدَاءِ) بفتح الحاء المهملة، وتشديد الموحّدة، قال الفيّوميّ رحمه الله الحبّ -بالفتح-: اسم جنس للحنطة وغيرها، مما يكونه في السُّنبل والأكمام، والجمع حُبُوبٌ، مثلُ فَلْسٍ وفُلُوس، الواحدة حبّةٌ، وتُجمع حبّات، على لفظها، وعلى حِبَاب، مثلُ كَلَبة وكلاب، والْحِبّ بالكسر: بِزْرُ ما لا يُقتات، مثلُ بُزُور الرياحين، الواحدة حِبّةٌ. انتهى

(1)

. (شِفَاءً) بكسر الشين

(1)

"المصباح المنير" 1/ 117.

ص: 246

المعجمة، (مِنْ كُلِّ دَاءٍ) الحقّ إجراؤه على العموم، فهي شفاء من كلّ داء، كما هو النصّ الصريح، ولذا استثنى السام منه، وأصرح في هذا اللفظ الآتي:"ما من داء إلا في الحبّة السوداء منه شفاء، إلا السام".

وذهب قوم إلى عدم العموم، فقال الخطابيّ: قوله: "من كل داء" هو من العام الذي يراد به الخاصّ؛ لأنه ليس في طبع شيء من النبات ما يَجمع جميع الأمور التي تقابل الطبائع في معالجة الأدواء بمقابلها، وإنما المراد أنها شفاء من كل داء يَحدُث من الرطوبة.

وقال أبو بكر ابن العربيّ: العسل عند الأطباء أقرب إلى أن يكون دواء من كل داء من الحبة السوداء، ومع ذلك، فإن من الأمراض ما لو شَرِب صاحبه العسل لتأذى به، فإن كان المراد بقوله في العسل:{فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} [النحل: 69] الأكثر الأغلب، فحَمْل الحبة السوداء على ذلك أَولى.

وقال غيره: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يصف الدواء بحسب ما يشاهده من حال المريض، فلعل قوله:"في الحبة السوداء" وافق مرض مَن مزاجه باردٌ، فيكون معنى قوله:"شفاء من كل داء"؛ أي: من هذا الجنس الذي وقع القول فيه، والتخصيص بالحيثية كثير شائع، والله أعلم.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا التخصيص ينافيه قوله صلى الله عليه وسلم: "إلا السام"، فإنه ما استثنى من كلّ داء غير الموت، فلا ينبغي أن يستثنى غيره، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

وقال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة: تكلم الناس في هذا الحديث، وخَصّوا عمومه، وردّوه إلى قول أهل الطبّ والتجربة، ولا خفاء بغلط قائل ذلك؛ لأنا إذا صدّقنا أهل الطبّ، ومدار علمهم غالبًا إنما هو على التجربة التي بناؤها على ظن غالب، فتصديق من لا ينطق عن الهوى أَولى بالقبول من كلامهم. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: لقد أجاد الشيخ أبو جمرة رحمه الله في ردّه هذا، فهذا واجب كلّ مسلم تجاه الرسول صلى الله عليه وسلم، فإنه لا يقول:"من كلّ داء"، ثم يستثني السام من كلّ إلا ويدلّ التعميم دون استثناء شيء.

والحاصل أن الحبة السوداء فيها شفاء من كلّ داء إلا الذي استُثني في

ص: 247

النصّ، وهو السام، فتبصّر، ولا تكن أسير التقليد، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

وقال الحافظ رحمه الله: قد تقدم توجيه حَمْله على عمومه، بأن يكون المراد بذلك ما هو أعمّ من الإفراد، والتركيب، ولا محذور في ذلك، ولا خروج عن ظاهر الحديث. انتهى، وهو تحقيقٌ نفيسٌ جدًّا، والله تعالى أعلم.

(إِلَّا السَّامَ") بالسين المهملة، بغير همز، وفي الرواية الآتية:"ما من داء إلا وفي الحبّة السوداء منه شفاء"، وفي رواية ابن ماجه:"إلا أن يكون الموت"، وفي هذا أن الموت داء من جملة الأدواء، قال الشاعر:

وَدَاءُ الْمَوْتِ لَيْسَ لَهُ دَوَاءُ

(1)

وقوله: (وَالسَّامُ: الْمَوْتُ) هذا التفسير لابن شهاب، صرّح به في رواية البخاريّ، ولفظه:"قال ابن شهاب: والسام الموت"، وأخرج العسكريّ، عن الأصمعيّ قال: عَنَى المصطفى صلى الله عليه وسلم به -أي: السام- الموت، ولم يُسمَع قبله، ولا سمعته في شعر، ولا في كلام جاهليّ. انتهى.

وقوله: (وَالْحَبَّةُ السَّوْدَاءُ: الشُّونِيزُ) قال في "الفتح": كذا عَطَفَه على تفسير ابن شهاب للسام، فاقتضى ذلك أن تفسير الحبة السوداء أيضًا له، و"الشُّونِيز" -بضم الشين المعجمة، وسكون الواو، وكسر النون، وسكون التحتانية، بعدها زاي- وقال القرطبيّ: قَيَّد بعض مشايخنا الشين بالفتح، وحَكَى عياض عن ابن الأعرابيّ أنه كسرها، فأبدل الواو ياء، فقال: الشينيز، وتفسير الحبة السوداء بالشونيز لشهرة الشونيز عندهم إذ ذاك، وأما الآن فالأمر بالعكس، والحبة السوداء أشهر عند أهل هذا العصر من الشونيز بكثير، وتفسيرها بالشونيز هو الأكثر الأشهر، وهي الكَمُّون الأسود، ويقال له أيضًا: الكمون الهنديّ، ونقل إبراهيم الحربيّ في غريب الحديث، عن الحسن البصريّ أنها الْخَرْدَلُ، وحَكَى أبو عبيد الهرويّ في "الغريبين" أنها ثمرة البُطْم -بضم الموحدة، وسكون المهملة- واسم شجرتها الضِّرْوُ -بكسر المعجمة، وسكون الراء- وقال الجوهريّ: هو صمغ شجرة تُدعى الكمكام، تُجلب من اليمن،

(1)

"الفتح" 13/ 72، كتاب "الطبّ" رقم (5687).

ص: 248

ورائحتها طيبة، وتُستعمل في البخور، قال الحافظ: وليست المرادَ هنا جزمًا.

وقال القرطبيّ: تفسيرها بالشونيز أَولى من وجهين:

أحدهما: أنه قول الأكثر.

والثاني: كثرة منافعها، بخلاف الْخَرْدل، والْبُطْم

(1)

، والله تعالى أعلم.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [14/ 5752 و 5753 و 5754](2215)، و (البخاريّ) في "الطبّ"(5688)، و (الترمذيّ) في "الطبّ"(2070)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(4/ 373)، و (ابن ماجه) في "الطبّ"(3447)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(20169)، و (الحميديّ) في "مسنده"(1107)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(8/ 10)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 241 و 261 و 268 و 343 و 429 و 504)، و (ابن راهويه) في "مسنده"(1/ 175)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(10/ 218 و 325 و 373 و 11/ 394)، و (ابن الجعد) في "مسنده"(1/ 155)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6071)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(9/ 345)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(3227 و 3228)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): قال في "الفتح": وقع في رواية الأعين عند الإسماعيليّ بعد قوله: "من كل داء، واقطروا عليها شيئًا من الزيت"، وفي رواية له أخرى: "وربما قال: واقطروا

إلخ"، وادَّعَى الإسماعيليّ أن هذه الزيادة مدرَجة في الخبر، وقد أوضحت ذلك رواية ابن أبي شيبة، قال: ثم وجدتها مرفوعة من حديث بريدة، فأخرج المستغفريّ في "كتاب الطبّ" من طريق حُسَام بن مِصَكّ، عن عبيد الله بن بُريدة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: "إن هذه الحبة السوداء فيها شفاء

" الحديث، قال: وفي لفظ: "قيل: وما الحبة السوداء؟

(1)

"الفتح" 13/ 72، كتاب "الطبّ" رقم (5687)، و"المفهم" 5/ 605.

ص: 249

قال: الشونيز، قال: وكيف أصنع بها؟ قال: تأخذ إحدى وعشرين حبةً، فتصُرّها في خرقة، ثم تضعها في ماء ليلةً، فإذا أصبحت قطرت في المنخر الأيمن واحدة، وفي الأيسر اثنتين، فإذا كان من الغد قطرت في المنخر الأيمن اثنتين، وفي الأيسر واحدة، فإذا كان اليوم الثالث قطرت في الأيمن واحدة، وفي الأيسر اثنتين".

ويؤخذ من ذلك أن معنى كون الحبة شفاء من كل داء أنها لا تُستعمل في كل داء صِرْفًا، بل ربما استُعملت مفردةً، وربما استعملت مركبة، وربما استعملت مسحوقة، وغير مسحوقة، وربما استعملت أكلًا، وشربًا، وسَعُوطًا، وضِمادًا، وغير ذلك.

وقيل: إن قوله: "كل داء" تقديره: يَقْبَل العلاج بها

(1)

، فإنها تنفع من الأمراض الباردة، وأما الحارّة فلا، نعم قد تدخل في بعض الأمراض الحارّة اليابسة بالعَرَض، فتوصل قوي الأدوية الرطبة الباردة إليها بسرعة تنفيذها، ويُستعمل الحارّ في بعض الأمراض الحارّة لخاصية فيه، لا يستنكر؛ كالعنزروت، فإنه حارّ، ويُستعمل في أدوية الرَّمَد المركبة، مع أن الرمَد وَرَمٌ حارّ، باتفاق الأطباء.

وقد قال أهل العلم بالطبّ: إن طبع الحبة السوداء حارّ يابس، وهي مُذهبة للنفخ، نافعة من حمى الربع، والبلغم، مفتحة للسدد، والريح، مجففة لبلّة المعدة، وإذا دُقّت، وعُجنت بالعسل، وشُربت بالماء الحارّ أذابت الحصاة، وأدرّت البول، والطمث، وفيها جلاء، وتقطيع، وإذا دُقّت، ورُبطت بخرقة من كتان، وأديم، وشمّها نَفَع من الزكام البارد، وإذا نُقِع منها سبع حبات في لبن امرأة، وسُعط به صاحب اليَرَقان أفاده، وإذا شُرب منها وزن مثقال بماء أفاد من ضيق النفس، والضمادُ بها ينفع من الصداع البارد، وإذا طُبخت بِخَلّ، وتمضمض بها نفعت من وجع الأسنان الكائن عن بَرْد.

(1)

قال الجامع عفا الله عنه: تقدّم أنه لا حاجة إلى هذا التقدير، بل الحديث على إطلاقه، وعمومه، فكن ممن يصدّق بقوله صلى الله عليه وسلم حقّ تصديق، والله تعالى الهادي إلى أقوم الطريق.

ص: 250

قال الحافظ: وقد ذكر ابن البيطار وغيره ممن صنَّف في المفردات في منافعها هذا الذي ذكرته، وأكثر منه. انتهى

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: وقد ذكر الأطباء للشونيز منافع كثيرة، وخواص عجيبة، قال القاضي أبو الفضل عياض: ذكر جالينوس: أنه يُحلِّل النَّفخ، ويقتل ديدان البطن، إذا أُكِل، أو وضع على البطن، ويشفي من الزكام، إذا قُلِي، وصُرَّ في خرقة، واشتُمَّ، وينفع من العلَّة التي يتقشَّر منها الجلد، ويقلع الثآليل والخِيلان، ويدر الطمث الكائن عن الأخلاط الغليظة اللَّزجة، وينفع من الصُّداع إذا طُلي به الجبين، ويقلع البثور، والجرب، ويحلل الأورام البلغمية، إذا شمَّه مع الخل، وينفع من الماء العارض في العين إذا استُعِط مسحوقًا مع دهن الأرِيسَا، وينفع من انصباب النفس، ويُتمضمض به من وجع الأسنان، ويدرّ البول، واللبن، وينفع من نهشة الدُّبيلة، وإذا بُخّر به طرد الهوامَّ.

وقال غيرُ جالينوس: من خاصيته: إذهابُ حمَّى البلغم والسَّوداء، ويقتل حبَّ القرع، وإذا عُلِّق من عنق المزكوم نفعه، وينفع من حمى الرِّبع، قال بعضهم: ولا يبعد منفعة الحارّ من أدواء حارَّةٍ لخواصَّ فيها؛ كوجودنا ذلك في أدوية كثيرة، فيكون الشونيز منها؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم، ويكون أحيانًا مفردًا، وأحيانًا مركَّبًا.

قال القرطبيّ: وعلى هذا القول الآخر تُحمل كليَّة الحديث على عمومها، وإحاطتها، ولا يستثنى من الأدواء شيء إلا الدَّاء الذي يكون عنه الموت في علم الله تعالى.

وعلى القول الأول: يكون ذلك العموم محمولًا على أكثر والأغلب. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: تقدّم أن الحقّ حَمْل الحديث على عمومه، ولا سيّما وقد أثبت بعض الأطبّاء أنها تنفع من أدواء حارّة على وفق عموم

(1)

"الفتح" 13/ 72 - 73، كتاب "الطبّ" رقم (5687).

(2)

"المفهم" 5/ 606 - 607.

ص: 251

الحديث، ولو لم يقل ذلك أحد من الأطبّاء، فنحن نصدّق بعموم ما قاله نبيّنا صلى الله عليه وسلم، دون شكّ، وارتياب، والله تعالى أعلم.

(المسألة الرابعة): أخرج البخاريّ رحمه الله في "صحيحه" من طريق منصور بن المعتمر، عن خالد بن سعد، قال: خرجنا، ومعنا غالب بن أبجر، فمَرِض في الطريق، فقَدِمنا المدينةَ، وهو مريض، فعاده ابن أبي عتيق، فقال لنا: عليكم بهذه الْحُبيبة السوداء، فخذوا منها خمسًا، أو سبعًا، فاسحقوها، ثم اقطروها في أنفه بقطرات زيت، في هذا الجانب، وفي هذا الجانب، فإن عائشة حدّثتني أنها سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول:"إن هذه الحبة السوداء شفاءٌ من كل داء، إلا من السام"، قلت: وما السام؟ قال: الموت. انتهى

(1)

، وهذا الحديث لم يخرجه مسلم، وإنما ذكرته مع شرحه؛ لفوائد المهمّة.

قال في "الفتح": قوله: "ومعنا غالب بن أبجر" بموحّدة، وجيم، وزن أحمد، يقال: إنه الصحابيّ الذي سأل النبيّ صلى الله عليه وسلم عن الحمر الأهلية، وحديثه عند أبي داود.

قوله: "فعاده ابن أبي عتيق"، في رواية أبي بكر الأعين:"فعاده أبو بكر بن أبي عتيق"، وكذا قال سائر أصحاب عبد الله بن أبي موسى، إلا المنجنيقيّ، فقال في روايته: عن خالد بن سعد، عن غالب بن أبجر، عن أبي بكر الصديق، عن عائشة، واختصر القصة، وبسياقها يتبيَّن الصواب، قال الخطيب: وقوله في السند: "عن غالب بن أبجر" وهَمٌ، فليس لغالب فيه رواية، وإنما سمعه خالد مع غالب من أبي بكر بن أبي عتيق، قال: وأبو بكر بن أبي عتيق هذا هو عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق، وأبو عتيق كنية أبيه، محمد بن عبد الرحمن، وهو معدود في الصحابة؛ لكونه وُلد في عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأبوه، وجدّه، وجدّ أبيه صحابة مشهورون.

قوله: "عليكم بهذه الحبيبة السويداء" كذا هنا بالتصغير فيهما، إلا الكشميهنيّ، فقال: السوداء، وهي رواية الأكثر ممن قدمت ذِكْره أنه أخرج الحديث.

(1)

"صحيح البخاريّ " 5/ 2153.

ص: 252

قوله: "فإن عائشة حدثتني أن هذه الحبة السوداء شفاءٌ"، وللكشميهنيّ:"أن في هذه الحبة شفاءً"، كذا للأكثر، وفي رواية الأعين:"هذه الحبة السوداء التي تكون في الملح"، قال الحافظ: وكان هذا قد أشكل عليّ، ثم ظهر لي أنه يريد الكَمُّون، وكانت عادتهم جرت أن يُخلط بالملح.

قوله: "قلت: وما السام؟ قال: الموت"، قال الحافظ: لم أعرف اسم السائل، ولا القائل، وأظن السائل خالد بن سعد، والمجيب ابن أبي عتيق، وهذا الذي أشار إليه ابن أبي عتيق ذَكَره الأطباء في علاج الزكام العارض، معه عطاس كثير، وقالوا: تقلى الحبة السوداء، ثم تُدَقّ ناعمًا، ثم تُنقع في زيت، ثم يقطر منه في الأنف ثلاث قطرات، فلعل غالب بن أبجر كان مزكومًا، فلذلك وصف له ابن أبي عتيق الصفة المذكورة، وظاهر سياقه أنها موقوفة عليه، ويَحْتَمِل أن تكون عنده مرفوعة أيضًا، فقد وقع في رواية الأعين عند الإسماعيلي بعد قوله:"من كل داء، واقطروا عليها شيئًا من الزيت"، وفي رواية له أخرى: "وربما قال: واقطروا

إلخ". انتهى مختصرًا من "الفتح"

(1)

، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5753]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِيهِ أَبُو الطَّاهِرِ، وَحَرْمَلَةُ، قَالَا: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (ح) وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَمْرٌو النَّاقِدُ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَابْنُ أَبِي عُمَرَ، قَالُوا: حَدَّثنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ (ح) وَحَدَّثنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ (ح) وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّارِمِىُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، كُلُّهُمْ عَنِ الزُّهْرِىِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِ حَدِيثِ عُقَيْلٍ، وَفي حَدِيثِ سُفْيَانَ، ويُونُسَ:"الْحَبَّةُ السَّوْدَاءُ"، وَلَمْ يَقُلِ: الشُّونِيزُ).

(1)

"الفتح" 13/ 71 - 72، كتاب "الطبّ" رقم (5687).

ص: 253

رجال هذه الأسانيد: تسعة:

1 -

(عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ) الكسيّ، قيل: اسمه عبد الحميد، تقدّم قريبًا.

2 -

(عَبْدُ الرَّزَّاقِ) بن همّام الصنعانيّ، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

3 -

(مَعْمَرُ) بن راشد اليمنيّ، تقدّم قريبًا.

4 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّارِمِيُّ) أبو محمد السمرقنديّ الحافظ، صاحب "المسند"، ثقةٌ فاضلٌ متقنٌ [11](ت 255)(م د ت) تقدم في "المقدمة" 5/ 29.

5 -

(أَبُو الْيَمَانِ) الحكم بن نافع الْبَهْرانيّ الحمصيّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 222)(ع) تقدم في "الإيمان" 23/ 196.

6 -

(شُعَيْبُ) بن أبي حمزة دينار الأمويّ مولاهم، أبو بشر الحمصيّ، ثقةٌ ثبتٌ عابدٌ، من أثبت الناس في الزهريّ [7](ت 162) أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 23/ 196.

والباقون ذُكروا في الأبواب الثلاثة الماضية.

[تنبيه]: إنما لم يضمّ مسلم رحمه الله يونس مع سفيان، ومعمر، وشُعيب في التحويل؛ لاختلاف صيغ أدائهم، فإنه قال: "عن ابن شهاب

إلخ"، وهم قالوا: "عن الزهريّ

إلخ"، وهذا، وإن لم يختلف به المعنى، إلا من تدقيقات مسلم رحمه الله التي امتاز بها على غيره من المحدّثين، حتى على البخاريّ، حيث يدقّق في بيان اختلاف ألفاظ الشيوخ، وإن لم يختلف به المعنى؛ لأنه يُعتبر من أفضل ما يُراعَى من الأمانة العلميّة، ولقد أجاد من قال، وأحسن في المقال [من الطويل]:

تَنَازَعَ قَوْمٌ فِي الْبُخَارِي وَمُسْلِمٍ

لَدَيَّ فَقَالُوا أَيُّ ذَيْنِ يُقَدَّمُ

فَقُلْتُ لَقَدْ فَاقَ الْبُخَارِيُّ صِحَّةً

كَمَا فَاقَ فِي حُسْنِ الصِّنَاعَةِ مُسْلِمُ

وقوله: (كُلُّهُمْ عَنِ الزُّهْرِيِّ)؛ يعني: الثلاثة، وهم: سفيان بن عيينة، ومعمر بن راشد، وشُعيب بن أبي حمزة رووا عن الزهريّ، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه.

[تنبيه]: رواية يونس عن ابن شهاب ساقها النسائيّ رحمه الله في "الكبرى"، فقال:

(7579)

- أخبرنا وهب بن بيان، قال: ثنا ابن وهب، قال: أخبرني

ص: 254

يونس، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيِّب، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"عليكم بالحبة السوداء، فإن فيها شفاءً من كل داء، إلا السام، والسام الموت". انتهى

(1)

.

وأما رواية سفيان بن عيينة، فساقها النسائيّ أيضًا في "الكبرى"، فقال:

(7578)

- أخبرنا قتيبة بن سعيد، قال: ثنا سفيان، عن الزهريّ، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عليكم بهذه الحبة السوداء، فإن فيها شفاءٌ من كل داء، إلا السام، والسام الموت". انتهى

(2)

.

وأما رواية معمر عن الزهريّ، فساقها عبد الرزّاق رحمه الله في "مصنّفه"، فقال:

(20169)

- أخبرنا عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهريّ، قال: أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول للشونيز: "عليكم بهذه الحبة السوداء، فإن فيها شفاءً من كل داء، إلا السام"، يريد الموت. انتهى

(3)

.

وأما رواية شعيب بن أبي حمزة، فساقها الطبرانيّ رحمه الله في "مسند الشاميين"، فقال:

(3042)

- حدّثنا موسى بن عيسى بن المنذر، ثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب بن أبي حمزة، عن الزهريّ، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في الشونيز:"عليكم بهذه الحبة السوداء، فإن فيها شفاءٌ من كل داء، إلا السام"؛ يعني: الموت. انتهى

(4)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5754]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أيُّوبَ، وَقُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَابْنُ حُجْرٍ، قَالُوا: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ -وَهُوَ ابْنُ جَعْفَرٍ- عَنِ الْعَلَاءِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَا مِنْ دَاءٍ إِلَّا فِي الْحَبَّةِ السَّوْدَاءِ مِنْهُ شِفَاءٌ، إِلَّا السَّامَ").

(1)

"السُّنن الكبرى" للنسائيّ 4/ 373.

(2)

"السُّنن الكبرى" للنسائيّ 4/ 373.

(3)

"مصنف عبد الرزاق" 11/ 152.

(4)

"مسند الشاميين" 4/ 174.

ص: 255

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ أيُّوبَ) المقابريّ، أبو زكريّاء البغداديّ، ثقةٌ عابدٌ [10](ت 234)(عخ م د عس) تقدم في "الحيض" 26/ 820.

2 -

(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) الثقفيّ، تقدّم قبل بابين.

3 -

(ابْنُ حُجْرٍ) عليّ السعديّ المروزيّ، ثقةٌ حافظٌ، من صغار [9](ت 244)، وقد قارب المائة، أو جاوزها، تقدم في "المقدمة" 2/ 6.

4 -

(إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرِ) بن أبي كثير الأنصاريّ الزُّرَقيّ، أبو إسحاق القارئ المدنيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ ثبتٌ [8](180)(ع) تقدم في "الإيمان" 2/ 110.

5 -

(الْعَلَاءُ) بن عبد الرحمن الْحُرقيّ، أبو شِبْل المدنيّ، ثقةٌ ربما وهم [5] مات سنة بضع و (230)(ز م 4) تقدم في "الإيمان" 8/ 135.

6 -

(أَبُوهُ) عبد الرحمن بن يعقوب الْجهنيّ الْحُرقيّ مولاهم المدنيّ، ثقةٌ [3](م 4) تقدم في "الإيمان" 8/ 135.

و"أبو هريرة رضي الله عنه " ذُكر قبله.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله قبل حديث، ولله الحمد والمنّة.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(15) - (بَابٌ التَّلْبِينَةُ مَجَمَّةٌ لِفُؤَادِ الْمَرِيضِ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5755]

(2216) - (وَحَدَّثنا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ شُعَيْبِ بْنِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، حَدَّثَنى أَبِي، عَنْ جَدِّي، حَدَّثَنِي عُقَيْلُ بْنُ خَالِدٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أنَّهَا كَانَتْ إِذَا مَاتَ الْمَيِّتُ مِنْ أَهْلِهَا، فَاجْتَمَعَ لِذَلِكَ النِّسَاءُ، ثُمَّ تَفَرَّقْنَ، إِلَّا أَهْلَهَا وَخَاصَّتَهَا، أَمَرَتْ بِبُرْمَةٍ مِنْ تَلْبِينَةٍ، فَطُبِخَتْ، ثُمَّ صُنِعَ ثَرِيدٌ، فَصُبَّتِ التَّلْبِينَةُ عَلَيْهَا

(1)

، ثُمَّ قَالَتْ: كُلْنَ مِنْهَا، فَإنِّي سَمِعْتُ

(1)

وفي نسخة: "عليه".

ص: 256

رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "التَّلْبِينَةُ مَجَمَّةٌ لِفُؤَادِ الْمَرِيضِ، تُذْهِبُ بَعْضَ الْحُزْنِ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ شُعَيْبِ بْنِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ) الْفَهمىّ مولاهم، أبو عبد الله المصريّ، ثقةٌ [11](ت 248)(م د س) تقدم في "الإيمان" 26/ 210.

2 -

(أَبُوهُ) شعيب بن الليث بن سعد الْفَهميّ مولاهم، أبو عبد الملك المصريّ، ثقةٌ نبيلٌ فقيهٌ، من كبار [10](ت 199)(م د س) تقدم في "الإيمان" 26/ 211.

والباقون ذُكروا في الأبواب الأربعة الماضية.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من سُباعيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسلٌ بالمصريين إلى عُقيل، وبعده بالمدنيين، وفيه رواية الراوي عن أبيه، عن جدّه، وتابعيّ عن تابعيّ، وفيه عائشة رضي الله عنها من المكثرين السبعة، وعروة أحد الفقهاء السبعة، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ عَائِشَةَ، زَوْجِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم) رضي الله عنها (أنَّهَا كَانَتْ إِذَا مَاتَ الْمَيِّتُ مِنْ أَهْلِهَا)؛ أي: أقاربها، (فَاجْتَمَعَ لِذَلِكَ النِّسَاءُ)؛ أي: نساء الجيران لأجل التعزية، (ثُمَّ تَفَرَّقْنَ)؛ أي: النساء المجتمعات للتعزية، (إِلَّا أَهْلَهَا وَخَاصَّتَهَا) هذا ظاهر في كون النساء المجتمعات لم يشاركن في الأكل، وأما ما قاله بعض الشرّاح

(1)

من أنهنّ شاركن في الأكل، فمخالف لِمَا دلّ عليه سياق الحديث، فتأمله بالإمعان، والله تعالى أعلم.

(أَمَرَتْ) عائشة رضي الله عنها (بِبُرْمَةٍ) بضمّ الباء الموحّدة، وسكون الراء: القِدْر من الحَجَر، والجمع: بُرَمٌ، مثلُ غُرْفة وغُرَف، قاله الفيّوميّ

(2)

، وقوله:(مِنْ تَلْبِينَةٍ) بيان لـ"بُرْمة"، وقال المجد رحمه الله: والبُرْمَةُ بالضم: قِدْرٌ من حِجارَةٍ، جَمْعه:

(1)

هو الشيخ الهرري، راجع:"شرحه" 22/ 266.

(2)

"المصباح المنير" 1/ 45.

ص: 257

بُرْمٌ، بالضم، وكصُرَدٍ، وجِبالٍ، وكمُحْسِنٍ: صانِعُهَا، أو مَن يَقْتَلِعُ حِجارَتَها من الجِبالِ. انتهى

(1)

. و"التلبينة": -بفتح المثناة، وسكون اللام، وكسر الموحّدة، بعدها تحتانية، ثم نون، ثم هاء، وقد يقال: بلا هاء- قال الأصمعيّ: هي حِسَاءٌ يُعْمَل من دقيق، أو نُخالة، ويُجعل فيه عسل، وقال غيره: أو لبنٌ، سُمّيت تلبينةً؛ تشبيهًا لها باللبن في بياضها، ورِقّتها، وقال ابن قتيبة: وعلى قول من قال: يُخلط فيها لبنٌ سُمّيت بذلك؛ لمخالطة اللبن لها، وقال أبو نعيم في "الطب": هي دقيق بَحْتٌ، وقال قوم: فيه شحمٌ، وقال الداوديّ: يؤخذ العجين، غير خمير، فيخرج ماؤه، فيجعل حَسْوًا، فيكون لا يخالطه شيء، فلذلك كثر نفعه، وقال الموفق البغداديّ: التلبينة: الْحِساء، ويكون في قوام اللبن، وهو الدقيق النضيج، لا الغليظ النيء. انتهى

(2)

.

(فَطُبِخَتْ) بالبناء للمفعول، وكذا الفعلان بعده، (ثُمَّ صُنِعَ ثَرِيدٌ) بفتح الثاء المثلّثة، وكسر الراء: فَعِلٌ بمعنى مفعولٍ، ويقال أيضًا: مَثْرُودٌ، يقال: ثَرَدتُ الخبزَ ثَرْدًا، من باب قَتَل، وهو أن تَفُتّه، ثمّ تَبُلّه بمرق، والاسم: الثُّرْدةُ، قاله الفيّوميّ

(3)

.

وقال في "التاج": ثرَدَ الخُبْزَ: فَتَّه، ثم بَلَّه بمَرَقٍ، ثمّ شَرَّفَه وَسْطَ القَصعةِ، وهو الثَّريدُ، والثَّريدةُ، والثُّرْدَةُ، كما في "الأَساس"؛ كاتَّرَدَه، واثَّردَه، بالتاءِ المثنّاة الفوقيّة، والثاءِ المثلّثَة، على افْتَعَله؛ أي: بتشديد التاءِ، والثَّاءِ؛ أي: اتّخذَه، كان في أَصْله اثْتَرده، على افتَعَل، فلما اجتمَعَ حَرفانِ مَخْرجاهما مُتقارِبانِ، في كلمةٍ واحدةٍ، وَجَبَ الإِدغام، إِلّا أَن الثّاءَ لمّا كانت مهموسةً، والتاء مجهورة، لم يَصِحَّ ذلك، فأَبدَلُوا من الأَول تاءً، فأَدغموه في مثله، وناسٌ من العرب يُبدِلُون من التاءِ ثاءً، فيُدغمون، فيقولون: اثَّرَدتُّ، فيكون الحرف الأَصليّ هو الظاهر، كما في "الصّحاح". انتهى

(4)

.

(1)

"القاموس المحيط" 1/ 1394.

(2)

"الفتح" 13/ 74، كتاب "الطبّ" رقم (5689).

(3)

"المصباح المنير" 1/ 81.

(4)

"تاج العروس من جواهر القاموس" 1/ 1909.

ص: 258

(فَصُبَّتِ التَّلْبِينَةُ عَلَيْهِ)؛ أي: على ذلك الثريد، ووقع في بعض النسخ بلفظ:"عليها"، والظاهر أنه غلطٌ، والله تعالى أعلم.

(ثُمَّ قَالَتْ) عائشة رضي الله عنها لأهلها المصابين بالحزن (كُلْنَ مِنْهَا)؛ أي: من التلبينة المصبوبة على الثريد، (فَإنِّي) الفاء تعليليّة؛ أي: لأني (سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "التَّلْبِينَةُ) -بفتح التاء- هي: حِسَاء من دقيق، أو نُخالة، قالوا: وربما جُعل فيها عسل، قال الهرويّ وغيره: سُمِّيت تلبينة تشبيهًا باللبن؛ لبياضها، ورِقّتها، وفيه استحباب التلبينة للمحزون، قاله النوويّ

(1)

.

وقال ابن الأثير: التلبينة، والتلبين: حِساء يُعمَل من دقيق، أو نُخالة، وربما جُعل فيها عسل، سُمِّيت به؛ تشبيهًا باللبن؛ لبياضها، ورقّتها، وهي تسمية بالمرة من التلبين، مصدر لَبَّن القومَ إذا سقاهم اللبن. انتهى

(2)

.

(مَجَمَّةٌ لِفُؤَادِ الْمَرِيضِ) -بفتح الميم، والجيم- ويقال: بضم الميم، وكسر الجيم؛ أي: تُريح فؤاده، وتزيل عنه الهمّ، وتُنَشِّطه، قاله النوويّ

(3)

، وقال القاضي عياض: معناه: تُريحه، وقيل: تفتحه، وقيل: تجمعه. انتهى

(4)

.

وقال في "العمدة": "مجمّة": -بفتح الميم، والجيم، وفتح الميم الأخرى المشدّدة- أي: مكان الاستراحة؛ أي: استراحة قلب المريض، ويُرْوَى: مُجِمّة -بضم الميم، وكسر الجيم- أي: مريحة، يقال: جَمّ الفرسُ: إذا ذهب إعياؤه، والجمام الراحة، وقال ابن فارس: الجمام: الراحة، وضَبَطه بضم الميم، على أنه اسم فاعل من أجَمّ، وقال الشيخ أبو الحسن: الذي أعرف بفتح الميم، فهي على هذا مَفْعَلة، من جَمّ يَجُمّ. انتهى

(5)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: التلبينة: حَسَاء من دقيق، و"مُجمَّةٌ": يروى بفتح الميم، والجيم، وبضم الميم، وكسر الجيم، فعلى الأول: هو مصدر؛ أي: جَمَامٌ، وعلى الثاني: يكون اسم فاعل من أجمَّ، ومعناه: أنَّها تقوِّيه، وتُنشطه، وذلك أنها غِذاء فيه لطافةٌ، سَهْل التناول على المريض؛ فإذا استعمله المريض

(1)

"شرح النوويّ" 14/ 202.

(2)

"النهاية في غريب الأثر" 4/ 229.

(3)

"شرح النوويّ" 14/ 202.

(4)

"مشارق الأنوار" 1/ 153.

(5)

"عمدة القاري" 21/ 54.

ص: 259

اندفع عنه الحرارة الجوعيَّة، وحصلت له القوّة الغذائية، من غير مشقَّة تَلْحقه، فيُسَرَّى عنه بعض ما كان فيه، ونَشِط، وذهب عنه الضيق، والحزن الذي كان يجده بسبب المرض، وإنما كانت عائشة رضي الله عنها تصنعها لأهل الميت، وتُثَرِّد فيها؛ لأن أهل الميت شغلهم الحزن عن الغذاء، فاشتدَّت حرارة أحشائهم من الجوع، والحزن، فلمّا أطعمتهم التلبينة انكسرت عنهم حرارة الجوع، فخفّ عنهم بعض ما كانوا فيه، ولا يلزم من فِعلها ذلك لهؤلاء أن يفعل بالمريض كذلك، فيثرد له فيها، وإنَّما ذلك بحسب الحال، فإن احتاج المريض إلى تقوية غذاء التلبينة بلُبَابٍ

(1)

يضاف إليها فَحَسن.

وعلى الجملة: فالتلبينة غذاء لطيفٌ، لا ضرر فيه غالبًا، فلذلك نبَّه عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم. انتهى

(2)

.

وقال في "الفتح" عند قوله: "إن التلبينة تُجمّ فؤاد المريض": قوله: "فإنها تجم" بفتح المثناة، وضم الجيم، وبضم أوله، وكسر ثانيه، وهما بمعنى، ووقع في رواية الليث:"فإنها مجمة" بفتح الميم، والجيم، وتشديد الميم الثانية، هذا هو المشهور، ورُوي بضم أوله، وكسر ثانيه، وهما بمعنى، يقال: جَمّ، وأَجَمّ، والمعنى: أنها تُرِيح فؤاده، وتزيل عنه الهمّ، وتُنَشّطه، والجامّ بالتشديد: المستريح، والمصدر: الْجَمَام

(3)

، والإجمام، ويقال: جَمّ الفرسُ، وأجَمّ: إذا أريح، فلم يُركب، فيكون أدعى لنشاطه، وحكى ابن بطال أنه رُوي تَخُمّ بخاء معجمة، قال: والْمَخَمّة: الْمِكنسة. انتهى

(4)

.

وقوله: (لِفُؤَادِ الْمَرِيضِ) قال في "العمدة": الفؤاد هنا رأس المعدة، وفؤاد الحزين يَضْعُف باستيلاء اليبس على أعضائه، وعلى معدته خاصّةً لتقليل الغذاء، وهذا الغذاء يرطبها، ويقوّيها، ويفعل مثل ذلك بفؤاد المريض. انتهى

(5)

.

(1)

"اللباب": طحين مُرقَّقٌ، واللباب أيضًا: الخالص من كلّ شيء.

(2)

"المفهم" 5/ 607.

(3)

"الجَمام" بالفتح: الراحة. اهـ. "لسان العرب" 12/ 105.

(4)

"الفتح" 13/ 76، كتاب "الطبّ" رقم (5689).

(5)

"عمدة القاري" 21/ 54.

ص: 260

(تُذْهِبُ) بضمّ أوله من الإهاب رباعيًّا؛ أي: تُزيل (بَعْضَ الْحُزْنِ") بضمّ، فسكون، أو بفتحتين: الهمّ، وجمعه أحزان.

وقال ابن القيّم رحمه الله: قوله: "تذهب ببعض الحزن" هذا -والله أعلم- لأن الغم والحزن يبردان المزاج، ويُضْعفان الحرارة الغريزية؛ لميل الروح الحامل لها إلى جهة القلب الذي هو منشؤها، وهذا الْحَساء يقوي الحرارة الغريزية بزيادته في مادتها، فتزيل أكثر ما عرض له من الغمّ والحزن.

قال: وقد يقال -وهو أقرب-: إنها تذهب ببعض الحزن بخاصية فيها، من جنس خواص الأغذية المفرِّحة، فإن من الأغذية ما يفرِّح بالخاصية، والله أعلم.

وقد يقال: إن قُوَى الحزين تَضعف باستيلاء اليبس على أعضائه، وعلى معدته خاصّة؛ لتقليل الغذاء، وهذا الْحَساء يرطبها، ويقويها، ويغذيها، ويفعل مثل ذلك بفؤاد المريض، لكن المريض كثيرًا ما يجتمع في معدته خلط مراريّ، أو بلغميّ، أو صديديّ، وهذا الحساء يجلو ذلك عن المعدة، ويَسْرُوه، ويَحْدُره، ويُميعه، ويُعَدِّل كيفيته، ويكسر سَوْرته، فيريحها، ولا سيما لمن عادَتُه الاغتذاء بخبز الشعير، وهي عادة أهل المدينة؛ إذ ذاك، وكان هو غالب قُوْتهم، وكانت الحنطة عزيزة عندهم، والله أعلم. انتهى

(1)

.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا متّفقُ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [15/ 5755](2216)، و (البخاريّ) في "الأطعمة"(4517) و"الطبّ"(5689)، و (الترمذيّ) في "الطبّ"(2042)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(4/ 161 و 372)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 80 و 155)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 61) و"شُعَب الإيمان"(5/ 94)، والله تعالى أعلم.

(1)

"زاد المعاد" 4/ 120 - 121.

ص: 261

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): جواز اجتماع الجيران عند أهل الميت؛ ليخفّفوا عنهم ألم الحزن، ويسلّوهم، ويحثّوهم على الصبر.

[فإن قلت]: يعارض هذا ما أخرجه ابن ماجه في "سننه"(1/ 514) عن جرير بن عبد الله البجليّ رضي الله عنه قال: "كنا نرى الاجتماع إلى أهل الميت، وصَنْعة الطعام من النياحة"، وهو حديث صحيح.

[قلت]: يجاب عن ذلك بأن ما في حديث جرير رضي الله عنه محمول على اجتماع غير الجيران، فلا ينبغي لغيرهم أن يجتمعوا عند أهل الميت، وأما هذا الحديث، فهو خاصّ بالجيران، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

2 -

(ومنها): بيان استحباب صنع التلبينة للمريض، والمحزون.

3 -

(ومنها): بيان فائدة التلبينة، وهي أنها مَجَمّةٌ للفؤاد، وتُذهب بعض الحزن، والله تعالى أعلم.

(المسألة الرابعة): قال البخاريّ رحمه الله في "صحيحه": حدّثنا فَرْوة بن أبي الْمَغْراء، حدّثنا عليّ بن مُسهر، حدّثنا هشام، عن أبيه، عن عائشة:"أنها كانت تأمر بالتلبينة، وتقول: هو الْبَغيض النافع".

قال في "الفتح": كذا فيه موقوفًا، وقد حذف الإسماعيليّ، هذه الطريق، وضاقت على أبي نعيم، فأخرجها من طريق البخاريّ هذه، عن فَرْوة، ووقع عند أحمد، وابن ماجه، من طريق كُلْثم، عن عائشة، مرفوعًا:"عليكم بالبغيض النافع: التلبينة"؛ يعني: الْحَساء

(1)

، وأخرجه النسائيّ من وجه آخر، عن عائشة، وزاد:"والذي نفس محمد بيده، إنها لتغسل بطن أحدكم، كما يغسل أحدكم الوسخ عن وجهه بالماء"، وله، وهو عند أحمد، والترمذيّ من طريق محمد بن السائب بن بركة، عن أمه، عن عائشة، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أخذ أهله الْوَعْك أمر بالْحَساء، فصُنِع، ثم أمرهم، فحَسَوا منه، ثم قال: إنه يَرْتُو فؤاد الحزين، ويَسْرُو عن فؤاد السقيم، كما تَسْرو إحداكنّ الوسخَ عن وجهها بالماء".

(1)

"الحَسَاءُ كسلام: الطبيخ الرقيق يُحسَى"، قاله في "المصباح".

ص: 262

و"يَرْتُو" بفتح أوله، وسكون الراء، وضم المثناة، و"يَسْرُو" وزْنَهُ بسين مهملة، ثم راء، ومعنى "يرتو": يُقَوِّي، ومعنى "يسرو": يكشف.

و"البغيض" بوزن عظيم، من البغض؛ أي: يبغضه المريضُ مع كونه ينفعه؛ كسائر الأدوية.

وحَكَى عياض أنه وقع في رواية أبي زيد المروزيّ بالنون بدل الموحّدة، قال: ولا معنى له هنا.

قال الموفق البغداديّ: إذا شئت معرفة منافع التلبينة، فاعرف منافع ماء الشعير، ولا سيما إذا كان نُخالة، فإنه يجلو، وينفذ بسرعة، ويُغَذِّي غذاءً لطيفًا، وإذا شُرِب حارًّا كان أجلى، وأقوى نُفُوذًا، وأنمى للحرارة الغريزية.

قال: والمراد بالفؤاد في الحديث: رأس المعدة، فإن فؤاد الحزين يَضْعُف باستيلاء اليبس على أعضائه، وعلى معدته خاصّة؛ لتقليل الغذاء، والْحَساء يرطبها، ويغذيها، ويقوّيها، ويفعل مثل ذلك بفؤاد المريض، لكن المريض كثيرًا ما يجتمع في معدته خلطٌ مراريّ، أو بلغميّ، أو صديديّ، وهذا الْحَساء يجلو ذلك عن المعدة، قال: وسمّاه البغيض النافع؛ لأن المريض يَعافه، وهو نافع له، قال: ولا شيء أنفع من الحساء لمن يغلب عليه في غذائه الشعير، وأما من يغلب على غذائه الحنطة فالأَولى به في مرضه حَسَاء الشعير، والله أعلم

(1)

.

وقال الإمام ابن القيّم رحمه الله: التلبين: هو الْحَساء الرقيق الذي هو في قوام اللبن، ومنه اشتُقّ اسمه، قال الهرويّ: سُمّيت تلبينةً؛ لِشَبَهها باللبن، لبياضها، ورقّتها، وهذا الغذاء هو النافع للعليل، وهو الرقيق النضيج، لا الغليظ النيء، وإذا شئت أن تعرف فضل التلبينة، فاعرف فضل ماء الشعير، بل هي ماء الشعير لهم، فإنها حَساءٌ متخذٌ من دقيق الشعير بنخالته، والفرق بينها وبين ماء الشعير أنه يطبخ صِحاحًا، والتلبينة تطبخ منه مطحونًا، وهي أنفع منه لخروج خاصية الشعير بالطحن، وقد تقدم أن للعادات تأثيرًا في الانتفاع بالأدوية، والأغذية، وكانت عادة القوم أن يتخذوا ماء الشعير منه مطحونًا لا

(1)

"الفتح" 13/ 76، كتاب "الطبّ" رقم (5689).

ص: 263

صحاحًا، وهو أكثر تغذيةً، وأقوى فعلًا، وأعظم جَلاءً، وإنما اتخذه أطباء المدن منه صحاحًا؛ ليكون أرقّ، وألطف، فلا يثقل على طبيعة المريض، وهذا بحسب طبائع أهل المدن، ورخاوتها، وثقل ماء الشعير المطحون عليها، والمقصود: أن ماء الشعير مطبوخًا صحاحًا ينفذ سريعًا، ويجلو جَلاءً ظاهرًا، ويُغَذِّي غذاء لطيفًا، وإذا شُرب حارًّا كان جلاؤه أقوى، ونفوذه أسرع، وإنماؤه للحرارة الغريزية أكثر، وتلميسه لسطوح المعدة أوفق. انتهى كلام ابن القيّم رحمه الله

(1)

، وهو بحث نافع جدًّا، والله تعالى أعلم.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(16) - (بَابُ التَّدَاوِي بِسَقْيِ الْعَسَلِ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5756]

(2217) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَمُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ -وَاللَّفْظُ لِابْنِ الْمُثَنَّى- قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي الْمُتَوَكِّلِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: إِنَّ أَخِي استَطْلَقَ بَطْنُهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "اسْقِهِ عَسَلًا"، فَسَقَاهُ، ثُمَّ جَاءَهُ، فَقَالَ: إِنِّي سَقَيْتُهُ عَسَلًا، فَلَمْ يَزِدْهُ إِلَّا استِطْلَاقًا، فَقَالَ لَهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ جَاءَ الرَّابِعَةَ، فَقَالَ: "اسْقِهِ عَسَلًا"، فَقَالَ: لَقَدْ سَقَيْتُهُ، فَلَمْ يَزِدْهُ إِلَّا اسْتِطْلَاقًا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "صَدَقَ اللهُ، وَكَذَبَ بَطْنُ أَخِيكَ"، فَسَقَاهُ، فَبَرَأَ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(قَتَادَةُ) بن دِعامة السَّدُوسيّ، أبو الخطّاب البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ يُدلّس، رأس [4](ت 7 أو 118)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 70.

2 -

(أَبُو الْمُتَوَكِّلِ) الناجيّ، عليّ بن داود، ويقال: دُؤاد البصريّ، ثقةٌ [3](ت 108) أو قبل ذلك (ع) تقدم في "الطهارة" 15/ 602.

(1)

"زاد المعاد" 4/ 120 - 121.

ص: 264

3 -

(أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ) سعد بن مالك بن سِنَان الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، مات سنة (3 أو 4 أو 56)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 485.

والباقون كلّهم تقدّموا قريبًا.

[تنبيه]: من لطائف هدا الإسناد:

أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وأن شيخيه من التسعة الذين روى عنهم الجماعة بلا واسطة، وفيه رواية تابعىّ عن تابعىّ، وأن صحابيّه ابن صحابيّ، وهو أحد المكثرين السبعة.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي الْمُتَوَكِّلِ) قال في "الفتح": كذا لشعبة، وسعيد بن أبي عروبة، وخالفهما شيبان، فقال عن قتادة، عن أبي الصدِّيق

(1)

، عن أبي سعيد، أخرجه النسائيّ، ولم يُرَجِّح، والذي يظهر ترجيح طريق أبي المتوكل؛ لاتفاق الشيخين عليها: شعبة، وسعيد أوّلًا، ثم البخاريّ ومسلم ثانيًا، ووقع في رواية أحمد:"عن حجاج، عن شعبة، عن قتادة، سمعت أبا المتوكل". انتهى

(2)

.

(عَنْ أبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ) لم يُعرف اسمه، ولا اسم أخيه المستطلق بطنه. (إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: إِنَّ أخِي اسْتَطْلَقَ بَطْنُهُ) ظاهر عبارة "اللسان"، و"المصباح" أنه بالبناء للفاعل، ونصّ الثاني: استَطْلَقَ بَطْنُهُ لازمًا، وأطلقه الدواءُ. انتهى

(3)

، وضَبَطه في "الفتح" بالبناء للمفعول، وعبارته:"استُطْلِق بطنُه" -بضم المثناة، وسكون الطاء المهملة، وكسر اللام، بعدها قاف-؛ أي: كَثُر خروج ما فيه، يريد الإسهال، ووقع في رواية سعيد بن أبي عروبة عند البخاريّ:"إن أخي يشتكي بطنه"، ولمسلم من طريقه:"قد عَرِبَ بطنه"، وهي بالعين المهملة، والراء المكسورة، ثم الموحّدة؛ أي: فسد هضمه؛ لاعتلال المعدة، ومثله ذَرِبَ بالذال المعجمة، بدل العين وزنًا ومعنًى. انتهى

(4)

.

(1)

هو أبو الصدّيق الناجيّ بكرو بن عمرو.

(2)

"الفتح" 13/ 112، كتاب "الطبّ" رقم (5716).

(3)

راجع: "المصباح المنير" 2/ 377، و"لسان العرب" 10/ 229.

(4)

"الفتح" 13/ 112، كتاب "الطبّ" رقم (5716).

ص: 265

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "استطلق بطنه": قيَّدناه بضم التاء، وكسر اللام، مبنيًّا للمفعول، و"بطنه" مرفوعٌ مفعولٌ لِمَا لم يُسَمَّ فاعله، ومعناه أصيب بالإسهال، وقد عبَّر عنه في الرواية الأخرى:"عَرِبَ بطنه"؛ أي: تغيَّر عن حال الصحة إلى هذا المرض. انتهى

(1)

.

(فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "اسْقِهِ) بوصل الهمزة، من سقاه ثلاثيًّا، كما في قوله تعالى:{وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا} [الإنسان: 21]، أو بقطع الهمزة، من أسقاه رباعيًّا، كما في قوله تعالى:{لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا} [الجن: 16]. (عَسَلًا") وعند الإسماعيليّ من طريق خالد بن الحارث، عن شعبة:"اسقه العسل"، واللام عهديّة، والمراد عسل النحل، وهو مشهور عندهم، وظاهره الأمر بسقيه صِرْفًا، ويَحْتَمِل أن يكون ممزوجًا

(2)

، (فَسَقَاهُ، ثمَّ جَاءَهُ، فَقَالَ: إِنِّي سَقَيْتُهُ عَسَلًا، فَلَمْ يَزِدْهُ إِلَّا اسْتِطْلَاقًا)، وفي رواية الترمذيّ:"ثم جاء، فقال: يا رسول الله، إني قد سقيته عسلًا، فلم يزده إلا استطلاقًا"، (فَقَالَ لَهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ)؛ أي: قال الرجل للنبيّ صلى الله عليه وسلم: "إِنِّي سَقَيْتُهُ عَسَلًا، فَلَمْ يَزِدْهُ إِلَّا اسْتِطْلَاقًا"، وعند أحمد عن يزيد بن هارون، عن شعبة:"فذهب، ثم جاء، فقال: قد سقيته، فلم يزده إلا استطلاقًا، فقال: اسقه عسلًا، فسقاه، كذلك ثلاثًا، وفيه: فقال في الرابعة: اسقه عسلًا"، وعند الإسماعيليّ من رواية خالد بن الحارث:"ثلاث مرات، يقول فيهنّ ما قال في الأُولى". (ثُمَّ جَاءَ الرَّابِعَةَ)؛ أي: جاء الرجل المرة الرابعة إليه صلى الله عليه وسلم، فأعاد عليه الكلام، (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("اسْقِهِ عَسَلًا"، فَقَالَ) الرجل (لَقَدْ سَقَيْتُهُ، فَلَمْ يَزِدْهُ إِلَّا اسْتِطْلَاقًا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "صَدَقَ الله)؛ أي: في قوله: {يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} [النحل: 69]، قال ابن القيّم رحمه الله بعد أن ذكر منافع العسل ما نصّه: إذا عُرِف هذا فهذا الذي وَصَف له النبيّ صلى الله عليه وسلم العسل كان استطلاق بطنه عن تُخَمة أصابته عن امتلاء، فأَمَره بشرب العسل؛ لدفع الفضول المجتمعة في نواحي المعدة، والأمعاء، فإن العسل فيه جلاء، ودفع للفضول،

(1)

"المفهم" 5/ 608.

(2)

"الفتح" 13/ 112، كتاب "الطبّ" رقم (5716).

ص: 266

وكان قد أصاب المعدة أخلاط لَزِجة، تمنع استقرار الغذاء فيها؛ للزوجتها، فإن المعدة لها خَمْل كخمل القطيفة، فإذا عَلِقت بها الأخلاط اللزجة أفسدتها، وأفسدت الغذاء، فدواؤها بما يجلوها من تلك الأخلاط، والعسل جِلاءٌ، والعسل من أحسن ما عولج به هذا الداء، لا سيما إن مُزج بالماء الحارّ.

قال: وفي تكرار سقيه العسل معنى طبيّ بديعٌ، وهو أن الدواء يجب أن يكون له مقدار، وكمية بحسب حال الداء، إن قصر عنه لم يزله بالكلية، وإن جاوزه أوهى القوى، فأحدث ضررًا آخر، فلما أمره صلى الله عليه وسلم أن يسقيه العسل سقاه مقدارًا لا يفي بمقاومة الداء، ولا يبلغ الغرض، فلما أخبره عَلِم أن الذي سقاه لا يبلغ مقدار الحاجة، فلما تكرر ترداده إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم أكد عليه المعاودة؛ ليصل إلى المقدار المقاوم للداء، فلما تكررت الشربات بحسب مادة الداء برأ بإذن الله، واعتبار مقادير الأدوية، وكيفياتها، ومقدار قوة المرض، والمريض من أكبر قواعد الطبّ. انتهى كلام ابن القيّم رحمه الله

(1)

، وهو بحث نفيسٌ جدًّا، والله تعالى أعلم.

(وَكَذَبَ بَطْنُ أَخِيكَ") إسناد الكذب إلى البطن مجازٌ؛ لأن الكذب يختص بالأقوال، فجَعَل بطن أخيه حيث لم ينجع فيه العسل كذبًا؛ لأن الله تعالى قال:{فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} ، ويقال: العرب تستعمل الكذب بمعنى الخطأ والفساد، فتقول: كذب سمعي؛ أي: زَلّ، ولم يُدرك ما سمعه، فكذب بطنه حيث ما صلح للشفاء، فزَلّ عن ذلك، قاله في "العمدة"

(2)

.

وقال في "الفتح": قال الخطابيّ وغيره: أهل الحجاز يُطلقون الكذب في موضع الخطأ، يقال: كذب سَمْعُك؛ أي: زَلّ، فلم يُدرِك حقيقة ما قيل له، فمعنى كذب بطنه؛ أي: لم يصلح لقبول الشفاء، بل زَلّ عنه. انتهى

(3)

.

وقال الإمام ابن القيّم رحمه الله: وفي قوله صلى الله عليه وسلم: "صدق الله وكذب بطن أخيك"، إشارة إلى تحقيق نفع هذا الدواء، وأن بقاء الداء ليس لقصور الدواء في نفسه، ولكن لكذب البطن، وكثرة المادة الفاسدة فيه، فأمره بتكرار الدواء؛

(1)

"زاد المعاد" 4/ 35.

(2)

"عمدة القاري" 21/ 234.

(3)

"الفتح" 13/ 112، كتاب "الطبّ" رقم (5716).

ص: 267

لكثرة المادة، وليس طبه صلى الله عليه وسلم كطب الأطباء، فإن طبّ النبيّ صلى الله عليه وسلم متيقنٌ، قطعيّ، إلهيّ، صادر عن الوحي، ومشكاة النبوة، وكمال العقل، وطبّ غيره أكثره حَدْسٌ، وظنون، وتجارب، ولا يُنْكَر عدم انتفاع كثير من المرضى بطب النبوة، فإنه إنما ينتفع به مَن تلقاه بالقبول، واعتقاد الشفاء به، وكمال التلقي له بالإيمان، والإذعان، فهذا القرآن الذي هو شفاء لِمَا في الصدور -إن لم يُتَلقّ هذا التلقي- لم يحصل به شفاء الصدور من أدوائها، بل لا يزيد المنافقين إلا رِجْسًا إلى رجسهم، ومرضًا إلى مرضهم، وأين يقع طب الأبدان منه؟ فطب النبوة لا يناسب إلا الأبدان الطيبة، كما أن شفاء القرآن لا يناسب إلا الأرواح الطيبة، والقلوب الحية، فإعراض الناس عن طب النبوة؛ كإعراضهم عن طب الاستشفاء بالقرآن الذي هو الشفاء النافع، وليس ذلك لقصور في الدواء، ولكن لخبث الطبيعة، وفساد المحلّ، وعدم قبوله، والله تعالى وليّ التوفيق. انتهى كلام ابن القيّم رحمه الله

(1)

، وهو تحقيق حسن جدًّا، والله تعالى أعلم.

(فَسَقَاهُ، فَبَرَأَ)، وفي رواية أحمد عن يزيد بن هارون:"فقال في الرابعة: اسقه عسلًا، قال: فأظنه قال: فسقاه، فبرأ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرابعة: صدق الله، وكذب بطن أخيك"، كذا وقع ليزيد بالشكّ، وفي رواية خالد بن الحارث:"فقال في الرابعة: صدق الله، وكذب بطن أخيك"، قال الحافظ رحمه الله: والذي اتَّفَق عليه محمد بن جعفر، ومن تابعه أرجح، وهو أن هذا القول وقع منه صلى الله عليه وسلم بعد الثالثة، وأمره أن يسقيه عسلًا، فسقاه في الرابعة، فَبَرَأَ، وقد وقع في رواية سعيد بن أبي عروبة:"ثم أتاه الثالثة، فقال: اسقه عسلًا، ثم أتاه، فقال: قد فعلت، فسقاه، فبرأ". انتهى

(2)

.

وقوله: (فَبَرَأَ) قال الفيّوميّ رحمه الله: بَرَأ من المرض يَبْرأُ، من بابي نَفَعَ، وتَعِبَ، وبَرُؤَ بُرْءًا، من باب قَرُبَ لغةٌ. انتهى.

وقال في "الفتح": "فبرأ" -بفتح الراء، والهمز، بوزن قرأ- وهي لغة أهل الحجاز، وغيرُهم يقولها بكسر الراء، بوزن عَلِم، وقد وقع في رواية أبي

(1)

"زاد المعاد" 5/ 35 - 36.

(2)

"الفتح" 13/ 113، كتاب "الطبّ" رقم (5716).

ص: 268

الصديق الناجيّ في آخره: "فسقاه، فعافاه الله"، قاله في "الفتح"

(1)

.

وقال في "العمدة": يقال: أَبْرَأُ من المرض بَرْءًا، بالفتح، فأنا بارئ، وأبرأني من المرض، وغير أهل الحجاز يقولون: بَرِئت بالكسر بُرْءًا بالضم، وقال الجوهريّ: يقول: برئت منك، ومن الديون، والعيوب، بَرَاءةً، وبَرِئت من المرض بُرْءًا بالضم، وأهل الحجاز يقولون: برأت من المرض بَرَءًا بالفتح، وأصبح فلان بارئًا من المرض، وأبرأه الله من المرض، وبرأ الله الخلق بَرْأً أيضًا؛ يعني: بالفتح

(2)

.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [16/ 5756 و 5757](2217)، و (البخاريّ) في "الطبّ"(5684 و 5716)، و (الترمذيّ) في "الطبّ"(2082)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(4/ 163 و 370)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(5/ 59)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 19 و 92)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(2/ 451)، و (عبد بن حُميد) في "مسنده"(1/ 292)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(9/ 344)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان كون العسل شفاء لمن استُطلق بطنه، بل لكثير من الأمراض المزمنة، ولقد أجاد الإمام ابن القيّم رحمه الله حيث ذكر منافع العسل، فقال: والعسل فيه منافع عظيمة، فإنه جلاء للأوساخ التي في العروق، والأمعاء، وغيرها، مُحَلِّل للرطوبات أكلًا، وطلاءً، نافع للمشايخ، وأصحاب البلغم، ومن كان مزاجه باردًا رطبًا، وهو مُغَذٍّ مليّن للطبيعة، حافظ لقوى المعاجين، ولِمَا استُودع فيه، مُذهِبٌ لكيفيات الأدوية الكريهة، مُنَقٍّ للكبد، والصدر، مُدِرّ للبول، موافق للسعال الكائن عن البلغم، وإذا شُرِب حارًّا بدهن

(1)

"الفتح" 13/ 113، كتاب "الطبّ" رقم (5716).

(2)

"عمدة القاري" 21/ 234.

ص: 269

الورد نفع من نهش الهوامّ، وشُرْب الأفيون، وإن شُرِب وحده ممزوجًا بماء نفع من عَضّة الكلب الكَلِب، وأَكْل الفُطُر

(1)

القتال، وإذا جُعل فيه اللحم الطريّ حَفِظ طراوته ثلاثة أشهر، وكذلك إن جُعل فيه القثاء، والخيار، والقرع، والباذنجان، ويَحفظ كثيرًا من الفاكهة ستة أشهر، ويحفظ جثة الموتى، ويسمى الحافظ الأمين، وإذا لُطِخ به البدن المقمل، والشعر قتل قمله، وصِئْبانه

(2)

، وطَوَّل الشعر، وحسَّنه، ونَعَّمه، وإن اكتُحِل به جلا ظلمة البصر، وإن استُنّ به بَيَّض الأسنان، وصَقَلها، وحَفِظ صحتها، وصحة اللِّثَة، ويَفتح أفواه العروق، ويُدِرّ الطمث، ولَعْقه على الريق يُذهب البلغم، ويغسل خمل المعدة، ويدفع الفضلات عنها، ويُسَخِّنها تسخينًا معتدلًا، ويفتح سددها، ويفعل ذلك بالكبد، والكلى، والمثانة، وهو أقل ضررًا لسدد الكبد، والطحال من كل حلو.

وهو مع هذا كله مأمون الغائلة، قليل المضارّ، مُضِرّ بالعرض للصفراويين، ودفعها بالخلّ ونحوه، فيعود حينئذ نافعًا له جدًّا.

وهو غذاء مع الأغذية، ودواء مع الأدوية، وشراب مع الأشربة، وحلو مع الحلوى، وطلاء مع الأطلية، ومُفْرِح مع المفرحات، فما خُلق لنا شيء في معناه أفضلَ منه، ولا مثلَهُ، ولا قريبًا منه، ولم يكن مُعَوّل القدماء إلا عليه، وأكثر كتب القدماء لا ذِكر فيها للسكر البتة، ولا يعرفونه، فإنه حديث العهد حَدَث قريبًا، وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم يشربه بالماء على الريق، وفي ذلك سر بديع في حفظ الصحة، لا يدركه إلا الفطن الفاضل.

وفي "سنن ابن ماجه" مرفوعًا من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: "مَن لَعِقَ العسل ثلاث غدوات، كل شهر لم يصبه عظيم من البلاء"

(3)

، وفي أثر آخر:"عليكم بالشفاءين: العسل، والقرآن"

(4)

، فجَمَع بين الطب البشريّ والإلهيّ،

(1)

الْفُطُر بضمّتين: نوع من الكمأة قتّال.

(2)

الصُّؤَابة، كغُرابة: بيضة القمل والبُرْغُوث، جمعه صُؤَابٌ، وصِئْبانٌ. اهـ. "ق".

(3)

ضعيف في سنده راو ليِّن الحديث، وآخر مجهول.

(4)

حديث صحيح، صححه الحاكم، ووافقه الذهبىّ، إلا أن البيهقىّ يصحح كونه موقوفًا على ابن مسعود رضي الله عنه.

ص: 270

وبين طب الأبدان، وطب الأرواح، وبين الدواء الأرضيّ، والدواء السمائيّ. انتهى كلام ابن القيِّم رحمه الله

(1)

، وهو بحث نفيسٌ جدًّا، والله تعالى أعلم.

2 -

(ومنها): أن قوله صلى الله عليه وسلم: "صدق الله

إلخ" فيه تنبيه: على أنه انتزع هذا العلاج بالعسل من قول الله تعالى: {يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} [النحل: 69]، قال القرطبيّ رحمه الله: والصحيح أن ضمير قوله: {فِيهِ} عائدٌ على العسل؛ بدليل هذا الحديث، ولأنه ليس في الآية ذكرٌ لغيره، وهو قول ابن عباس، وابن مسعود، والحسن، وقتادة، وقال مجاهد: هو عائد إلى القرآن، والأوَّل أَولى لِمَا ذكرناه.

قال: ومقتضى الآية أن العسل فيه شفاءٌ، لا كلُّ شفاءٍ؛ لأنَّ {شِفَاءٌ} نكرة في سياق الإثبات، ولا عموم فيها باتفاق أهل اللِّسان، ومحققي أهل الأصول، لكن قد حملتها طائفة من أهل الصدق والعزم على العموم، فكانوا يستشفون بالعسل من كل الأوجاع، والأمراض، وكانوا يستشفون من عللهم ببركة القرآن، وبصحة التصديق، والإيقان، وقد كان ابن عمر رضي الله عنهما لا يشكو قرحة، ولا شيئًا إلا جعل عليه عسلًا، حتى الدُّمَّلَ إذا خرج عليه طلاه عسلًا، فقيل له في ذلك؟ فقال: أليس الله سبحانه يقول: {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} . ورُوي: أن عوف بن مالك الأشجعيّ رضي الله عنه مَرِضَ، فقيل له: ألا نعالجك؟ فقال: ائتوني بماء، فإنَّ الله تعالى يقول:{وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا} [ق: 9]، ثم قال: ائتوني بعسل، فإنَّ الله تعالى يقول:{فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} ، ثم قال: ائتوني بزيت، فإنَّ الله تعالى يقول:{مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ} [النور: 35]، فجاؤوه بذلك كله، فخلطه جميعًا، ثم شربه، فبَرَأَ.

وحَكَى النقَّاش عن أبي وجرة أنه كان يكتحل بالعسل، ويستمشي بالعسل، ويتداوى بالعسل، فهذا كله عَمَلٌ بمطلق القرآن الكريم، وأصله صِدْق النية، وصحة الإيمان

(2)

.

وقال ابن القيّم رحمه الله: وقد اختَلَف الناس في قوله تعالى: {يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} [النحل: 69] هل الضمير في {فِيهِ}

(1)

"زاد المعاد" 5/ 33 - 335.

(2)

"المفهم" 5/ 609 - 610.

ص: 271

راجع إلى الشراب، أو راجع إلى القرآن؟ على قولين: الصحيح رجوعه إلى الشراب، وهو قول ابن مسعود، وابن عباس، والحسن، وقتادة، والأكثرين، فإنه هو المذكور، والكلام سيق لأجله، ولا ذِكر للقرآن في الآية، وهذا الحديث الصحيح، وهو قوله:"صدق الله" كالصريح فيه، والله تعالى أعلم. انتهى

(1)

.

3 -

(ومنها): أن القرآن الكريم حاوٍ لأنواع من الطبّ والأدوية، فهو جامع لمصالح العباد الدنيويّة والأخرويّة، قال تعالى:{وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل: 89]، وقال:{مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38]، والله تعالى أعلم.

4 -

(ومنها): أن في قوله صلى الله عليه وسلم: "وكذب بطن أخيك" إشارة إلى أن هذا الدواء نافع، وأن بقاء الداء ليس لقصور الدواء في نفسه، ولكن لكثرة المادة الفاسدة، فمن ثم أمَرَه بمعاودة شرب العسل؛ لاستفراغها، فكان كذلك، وبرأ بإذن الله تعالى.

قال الخطابيّ: والطب نوعان: طب اليونان، وهو قياسيّ، وطب العرب، والهند، وهو تجاربيّ، وكان أكثر ما يصفه النبيّ صلى الله عليه وسلم لمن يكون عليلًا على طريقة طبّ العرب، ومنه ما يكون مما اطَّلَع عليه بالوحي.

وقد قال صاحب "كتاب المائة في الطبّ": إن العسل تارةً يَجري سريعًا إلى العروق، وينفذ معه جل الغذاء، ويُدِرّ البول، فيكون قابضًا، وتارةً يبقى في المعدة، فيهيجها بلذعها حتى يدفع الطعام، ويسهل البطن، فيكون مُسهلًا، فإنكار وصفه للمسهل مطلقًا قصور من المنكِرِ.

وقال غيره: طبّ النبيّ صلى الله عليه وسلم متيقن البرء؛ لصدوره عن الوحي، وطبّ غيره أكثره حَدْسٌ، أو تجربة، وقد يتخلف الشفاء عن بعض من يستعمل طب النبوة، وذلك لمانع قام بالمستعمل، من ضَعْف اعتقاد الشفاء به، وتلقيه بالقبول، وأظهر الأمثلة في ذلك القرآن الذي هو شفاء لِمَا في الصدور، ومع ذلك فقد لا يحصل لبعض الناس شفاء صدره؛ لقصوره في الاعتقاد، والتلقي بالقبول،

(1)

"زاد المعاد" 5/ 36.

ص: 272

بل لا يزيد المنافق إلا رِجْسًا إلى رجسه، ومَرَضًا إلى مرضه، فطب النبوة لا يناسب إلا الأبدان الطيبة، كما أن شفاء القرآن لا يناسب إلا القلوب الطيبة، والله أعلم.

وقال ابن الجوزيّ رحمه الله

(1)

: في وصفه صلى الله عليه وسلم العسل لهذا المنسهل أربعة أقوال:

[أحدها]: أنه حَمْل الآية على عمومها في الشفاء، وإلى ذلك أشار بقوله:"صدق الله"؛ أي: في قوله: {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} ، فلمّا نبّهه على هذه الحكمة، تلقاها بالقبول، فشُفي بإذن الله تعالى.

[الثاني]: أن الوصف المذكور على المألوف من عادتهم، من التداوي بالعسل، في الأمراض كلها.

[الثالث]: أن الموصوف له ذلك كانت به هيضة

(2)

، كما تقدم تقريره.

[الرابع]: يَحْتَمِل أن يكون أمره بطبخ العسل قبل شربه، فإنه يعقد البلغم، فلعله شربه أوّلًا بغير طبخ. انتهى.

قال الحافظ: والثاني، والرابع ضعيفان.

قال: وفي كلام الخطابيّ احتمال آخر

(3)

، وهو أن يكون الشفاء يحصل للمذكور ببركة النبيّ صلى الله عليه وسلم، وبركة وصفه، ودعائه، فيكون خاصًّا بذلك الرجل دون غيره، وهو ضعيف أيضًا.

قال: ويؤيد الأول حديث ابن مسعود رضي الله عنه: "عليكم بالشفاءين: العسل، والقرآن"، أخرجه ابن ماجه، والحاكم، مرفوعًا، وأخرجه ابن أبي شيبة، والحاكم موقوفًا، ورجاله رجال الصحيح.

وأثر عليّ: "إذا اشتكى أحدكم، فليستوهب من امرأته من صداقها، فليشتر به عسلًا، ثم يأخذ ماء السماء، فيجمع هنيئًا، مريئًا، شفاءً مباركًا"، أخرجه ابن أبي حاتم في "التفسير" بسند حسن.

(1)

"كشف المشكل" 3/ 159.

(2)

"الهَيضة": مرض من أعراض القيء الشديد، والإسهال، والْهُزال (الكوليرا). انتهى. من هامش "المفهم" 5/ 609.

(3)

"الأعلام" 3/ 211.

ص: 273

5 -

(ومنها): ما قال ابن بطال رحمه الله

(1)

: يؤخذ من قوله: "صدق الله، وكذب بطن أخيك" أن الألفاظ لا تُحْمَل على ظاهرها؛ إذ لو كان كذلك لبرئ العليل من أول شربة، فلمّا لم يبرأ إلا بعد التكرار دَلّ على أن الألفاظ تُقتَصر على معانيها.

وتعقّبه الحافظ، فقال: ولا يخفى تكلف هذا الانتزاع

(2)

.

6 -

(ومنها): ما قال ابن بطال أيضًا: فيه أن الذي يَجعل الله فيه الشفاء قد يتخلف لتتمّ المدة التي قدّر الله تعالى فيها الداء. انتهى.

(المسألة الرابعة): قد اعترض بعض الملاحدة على هذا الحديث، فقال: العسل مسهل، فكيف يوصف لمن وقع به الإسهال؟

والجواب: أن ذلك جَهْل من قائله، بل هو كقوله تعالى:{بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ} [يونس: 39]، فقد اتَّفَق الأطباء على أن المرض الواحد يختلف علاجه باختلاف السنّ، والعادة، والزمان، والغذاء المألوف، والتدبير، وقوة الطبيعة، وعلى أن الإسهال يَحدُث من أنواع، منها الهيضة التي تنشأ عن تُخَمة، واتفقوا على أن علاجها بترك الطبيعة، وفعلها، فإن احتاجت إلى مُسهل مُعِيْن أعينت ما دام بالعليل قوّة، فكأن هذا الرجل كان استطلاق بطنه عن تُخَمة أصابته، فوَصَف له النبيّ صلى الله عليه وسلم العسل لدفع الفضول المجتمعة في نواحي المعدة، والأمعاء؛ لِمَا في العسل من الجلاء، ودَفْع الفضول التي تصيب المعدة من أخلاط لَزِجة تمنع استقرار الغذاء فيها، وللمعدة خَمْل كخمل المنشفة، فإذا علقت بها الأخلاط اللزجة أفسدتها، وأفسدت الغذاء الواصل إليها، فكان دواؤها باستعمال ما يجلو تلك الأخلاط، ولا شيء في ذلك مثل العسل، لا سيما إن مُزِج بالماء الحارّ، وإنما لم يُفِدْه في أول مرة؛ لأن الدواء يجب أن يكون له مقدار، وكمية، بحسب الداء، إن قصر عنه لم يدفعه بالكلية، وإن جاوزه أوهى القوّة، وأحدث ضررًا آخر، فكأنه شرب منه أوّلًا مقدارًا لا يفي

(1)

"شرح البخاريّ" لابن بطال 9/ 416.

(2)

"الفتح" 13/ 115، كتاب "الطبّ" رقم (5716).

ص: 274

بمقاومة الداء، فأمره بمعاودة سقيه، فلما تكررت الشربات بحسب مادة الداء، بَرَأ بإذن الله تعالى، قاله في "الفتح"

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم: "اسقه عسلًا" قد اعتَرَض بعضُ زنادقة الأطباء على هذا، فقال: قد أجمعت الأطباء على أن العسل يُسهل، فكيف يوصف لمن به الإسهال؟!.

فجوابه: أن يقال: إن هذا الطعن صدر عن جهل بأدلة صدق النبيّ صلى الله عليه وسلم، وبصناعة الطبّ.

أما الأول: فلو نظر في معجزاته صلى الله عليه وسلم نظرًا صحيحًا لعلم على القطع أنه يستحيل عليه الكذب، والخلف، ومن حصل له هذا العلم فحقّه شرعًا وعقلًا؛ إذا وجد من كلامه ما يقصر عن إدراكه أن يَعلَم أن ذلك القول حقّ في نفسه، وأن يضيف القصور إلى نفسه، فإنْ أرشده هذا الصادق إلى فعل ذلك الشيء على وجه، فيستعمله على الوجه الذي عيَّنه، وفي المحل الذي أمره بعقد نيَّة، وحسن طويَّة؛ فإنَّه يرى منفعته، ويدرك بركته، كما قد اتَّفَق لصاحب هذا العسل، وإن لم يعيَّن له كيفية، ولا وجهًا، فسبيل العاقل ألا يُقْدِم على استعمال شيء حتى يعرف كيفية العمل به، فليبحث عن وجه العمل اللائق بذلك الدواء، فإذا انكشف له ذلك فهو الذي أراده الصادق، وهذا البحث إنما يكون مع العلماء بالطبّ من المسلمين الموثوق بعلمهم، وصحَّة تجربتهم.

وأما جهل هذا الطاعن بصناعة الطبّ، فقد جازف في النقل حيث أطلق في موضع التقييد، وحَكَى إجماعًا لا يصح له، وبيان ذلك بما قاله الإمام أبو عبد الله، قال: ينبغي أن يُعْلَم أن الإسهال يَعْرِض من ضروب كثيرة؛ فمنها: الإسهال الحادث عن التُّخم، والهيضات، والأطباء مجمعون في مثل هذا على أن علاجه بأن تترك الطبيعة وفِعْلها، وإن احتاجت إلى مُعِين على الإسهال أعينت ما دامت القوة باقية، فأما حَبْسها: فضرر، فإذا وضح هذا؛ قلنا: فيمكن

(1)

"الفتح" 13/ 115، كتاب "الطبّ" رقم (5716).

ص: 275

أن يكون هذا الرجل أصابه الإسهال عن امتلاء وهيضة، فأمره النبيّ صلى الله عليه وسلم بشرب العسل، فزاده، فزاده، إلى أن فنيت تلك المادة، فوقف الإسهال، فوافقه شرب العسل، فإذا خرج هذا على صناعة الطب أَذِنَ ذلك بجهل المعترض بتلك الصناعة. قال: ولسنا نستظهر على قول نبيِّنا صلى الله عليه وسلم بأن يصدقه الأطبَّاء، بل لو كذّبوه لكذّبناهم، وكفّرناهم، وصدَّقناه صلى الله عليه وسلم، فإنْ أوجدونا بالمشاهدة صحة ما قالوه، فنفتقر حينئذ إلى تأويل كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتخريجه على ما يصح؛ إذ قامت الدلالة على أنه لا يكذب. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي قاله القرطبيّ رحمه الله بحث نفيسٌ، وتحقيق أنيسٌ.

وخلاصته أن اعتراض هذا المعترض مبنيّ على جهل فلا قيمة له، ولو فرضنا كونه عن علم إلا أن واجبنا أن نكذّبه، ونردّ عليه علمه القاصر، ونصدّق ما قاله نبيّنا صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لا ينطق عن الهوى {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)} [النجم: 4]، فلا يكون خلافَ الواقع، ولا يُعارَض بالحدس والتخمين، والظنون الكاسدة، فهذا هو الحقّ الذي يجب على المسلم تجاه الكتاب والسُّنَّة، ونسأل الله تعالي الثبات عليهما إلى الممات، {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8)} [آل عمران: 8]، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5757]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِيهِ عَمْرُو بْنُ زُرَارَةَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ -يَعْنى: ابْنَ عَطَاءٍ- عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي الْمُتَوَكِّلِ النَّاجِيِّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، أَنَّ رَجُلًا أتى النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: إِنَّ أَخِي عَرِبَ بَطْنُهُ، فَقَالَ لَهُ: "اسْقِهِ عَسَلًا"، بِمَعْنَى حَدِيثِ شُعْبَةَ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عَمْرُو بْنُ زُرَارَةَ) بن واقد الكلابيّ، أبو محمد النيسابوريّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 238)(خ م س) تقدم في "القسامة" 4/ 4365.

(1)

"المفهم" 5/ 608 - 609.

ص: 276

2 -

(عَبْدُ الْوَهَّاب بْنُ عَطَاء) الخفّاف، أبو نصر العجليّ مولاهم البصريّ، نزيل بغداد، صدوقٌ، أنكروا عليه حديثًا في فضل العبّاس رضي الله عنه، يقال: دلّسه عن ثور [9](ت 4 أو 206)(عخ م 4) تقدم في "الجهاد والسِّيَر" 27/ 4601.

3 -

(سَعِيدُ) بن أبي عروبة مهران اليشكريّ مولاهم، أبو النضر البصريّ، ثقةٌ حافظٌ، له تصانيف، لكنه كثير التدليس، واختلط، وكان من أثبت الناس في قتادة [6](ت 6 أو 157)(ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 127.

والباقون ذُكروا قبله.

[تنبيه]: رواية سعيد بن أبي عروبة عن قتادة هذه ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:(5360) - حدّثنا عيّاش بن الوليد، حدّثنا عبد الأعلى، حدّثنا سعيد، عن قتادة، عن أبي المتوكل، عن أبي سعيد، أن رجلًا أتى النبىّ صلى الله عليه وسلم، فقال: أخي يشتكي بطنه، فقال:"اسقه عسلًا"، ثم أتاه الثانية، فقال:"اسقه عسلًا"، ثم أتاه الثالثة، فقال:"اسقه عسلًا"، ثم أتاه، فقال: قد فعلت، فقال:"صدق اللهُ، وكَذَب بطن أخيك، اسقه عسلًا"، فسقاه، فَبَرَأَ. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(17) - (بَابُ الطَّاعُونِ والطِّيَرَةِ والكِهانةِ ونَحْوِها)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5758]

(2218) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، وَأَبِي النَّضْرِ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللهِ، عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، عَنْ أَبِيهِ، أنَّهُ سَمِعَهُ يَسْألُ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ: مَاذَا سَمِعْتَ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي الطَّاعُونِ؟ فَقَالَ أُسَامَةُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "الطَّاعُونُ رِجْزٌ، أَوْ عَذَابٌ، أُرْسِلَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، أَوْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَإذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضٍ، فَلَا تَقْدَمُوا عَلَيْهِ، وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ، وَأَنْتُمْ بِهَا، فَلَا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ"، وَقَالَ أَبُو النَّضْرِ: "لَا يُخْرِجُكُمْ إِلَّا فِرَارٌ

(2)

مِنْهُ").

(1)

"صحيح البخاريّ" 5/ 2152.

(2)

وفي نسخة: "إلا فرارًا منه".

ص: 277

رجال هذا الإسناد: ستّة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ النيسابوريّ، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

2 -

(مَالِكُ) بن أنس إمام دار الهجرة، تقدّم قريبًا.

3 -

(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ) بن عبد الله بن الْهُدير التيميّ المدنيّ، ثقةٌ فاضلٌ [3](ت 130) أو بعدها (ع) تقدم في "الطهارة" 11/ 584.

4 -

(أَبُو النَّضْرِ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللهِ) هو: سالم بن أبي أميّة التيميّ مولاهم، المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ يُرسل [5](ت 129)(ع) تقدم في "الطهارة" 4/ 551.

5 -

(عَامِرُ بْن سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ) الزهريّ المدنيّ، ثقةٌ [3](ت 104)(ع) تقدم في "الإيمان" 13/ 159.

6 -

(أُسَامَةُ بْنُ زَيْدِ) بن حارثة بن شَرَاحيل الكلبيّ الأمير، أبو محمد، وأبو زيد الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، مات بالمدينة سنة (54)، وهو ابن (75) سنة (ع) تقدم في "الإيمان" 43/ 284.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله

(1)

، وأنه مسلسل بالمدنيين، سوى شيخه، فنيسابوريّ، وقد دخل المدينة للأخذ عن مالك، وأن فيه رواية تابعيين عن تابعيّ، وأن أسامة صحابيّ ابن صحابيّ رضي الله عنهما، حِبّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وابن حبّه، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِيِ وَقَّاصٍ، عَنْ أَبِيهِ) سعد بن أبي وقّاص مالك بن وُهيب بن عبد مناف بن زُهرة بن كلاب الزهريّ، أبو إسحاق، الصحابيّ الشهير، مات رحمه الله بالعقيق، ثم نُقل إلى المدينة سنة (55) على المشهور، وهو أحد العشرة المبشّرين بالجنّة، وأول من رمى بسهم في سبيل الله، وآخر من مات من العشرة، ومناقبه جمّة رضي الله عنه، تقدّمت ترجمته في "المقدمة" 6/ 71.

(1)

وليس من سُداسيّاته؛ لأن عامر بن سعد سمعه من أسامة، فهو يرويه عنه، لا عن أبيه، وإنما أبوه هو السائل لأسامة، فتنبّه، فقول بعض الشرّاح: إنه من سُداسيّاته، وأن فيه رواية صحابيّ عن صحابي، غير صحيح، فتنبّه.

ص: 278

(أنَّهُ)؛ أي: أن عامرًا (سَمِعَهُ)؛ أي: سمع أباه سعدًا رضي الله عنه (يَسْألُ أُسَامَةَ بْنَ زيدٍ) رضي الله عنهما (مَاذَا سَمِعْتَ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي الطَّاعُونِ؟)؛ أي: في شأنه، هل يجوز الدخول إلى موضع وقع فيه، أم لا؟، وهل الخروج من موضع وقع فيه جائز أم لا؟ (فَقَالَ أُسَامَةُ) رضي الله عنه (قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "الطَّاعُونُ رِجْزٌ) قال ابن عبد البرّ رحمه الله: وأما الرجز، فالعذاب لا يختلف في ذلك أهل العلم باللسان، من ذلك قوله تعالى:{فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ} الآية [الأعراف: 135]ـ وهو كثير، وقد يكون الرجس والرجز سواءً، والرجز النجاسة، والرجز أيضًا عبادة الأوثان، ودليل ذلك قوله عز وجل:{وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5)} [المدثر: 5]، ولا وجه لذكر الرجز في هذا الحديث إلا العذاب، وكلُّ ما ابتُلِي به الإنسان، من الأوجاع، والْمِحَن، والشيب، وغير ذلك فهو من العذاب، والله أعلم. انتهى

(1)

.

(أَوْ) للشك من الراوي، (عَذَابٌ، أُرْسِلَ) بالبناء للمفعول، (عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، أَوْ) للشكّ من الراوي أيضًا، (عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ) قال ابن عبد البرّ رحمه الله: قوله: "أو على من كان قبلكم" الشك من المحدّث، هل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"على بني إسرائيل"، أو قال:"أرسل على من قبلكم"؟ والمعنى -والله أعلم- أن الطاعون أول ما نزل في الأرض، فعلى طائفة من بني إسرائيل قبلنا. انتهى

(2)

.

وقال في "الفتح": كذا وقع بالشكّ، ووقع بالجزم عند ابن خزيمة، من طريق عمرو بن دينار، عن عامر بن سعد، بلفظ:"فإنه رجزٌ سُلِّط على طائفة من بني إسرائيل"، وأصله عند مسلم، ووقع عند ابن خزيمة بالجزم أيضًا من رواية عكرمة بن خالد، عن ابن سعد، عن سعد، لكن قال:"رجزٌ أصيب به من كان قبلكم".

[تنبيه]: وقع الرجس بالسين المهملة موضع الرجز بالزاي، والذي بالزاي هو المعروف، وهو العذاب، والمشهور في الذي بالسين، أنه الخبيث، أو النجس، أو القذَر، وجزم الفارابيّ، والجوهريّ بأنه يُطلق على العذاب أيضًا،

(1)

"التمهيد" لابن عبد البرّ 12/ 258.

(2)

"التمهيد" لابن عبد البرّ 12/ 258.

ص: 279

ومنه قوله تعالى: {يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (125)} [الأنعام: 125]، وحكاه الراغب أيضًا، والتخصيص على بني إسرائيل أخصّ، فإن كان ذلك المراد، فكأنه أشار بذلك إلى ما جاء في قصة بلعام، فأخرج الطبريّ من طريق سليمان التيميّ، أحد صغار التابعين، عن سيّار أن رجلًا كان يقال له: بلعام كان مجاب الدعوة، وإن موسى أقبل في بني إسرائيل يريد الأرض التي فيها بلعام، فأتاه قومه، فقالوا: ادع الله عليهم، فقال: حتى أؤامر ربي، فمُنع، فأتوه بهدية، فقبلها، وسألوه ثانيًا، فقال: حتى أؤامر ربي، فلم يُرجع إليه بشيء، فقالوا: لو كره لنهاك، فدعا عليهم، فصار يجري على لسانه ما يدعو به على بني إسرائيل، فينقلب على قومه، فلاموه على ذلك، فقال: سأدلكم على ما فيه هلاكهم، أرسلوا النساء في عسكرهم، ومُرُوهنّ أن لا يمتنعن من أحد، فعسى أن يزنوا، فيهلكوا، فكان فيمن خرج بنت الملك، فأرادها رأس بعض الأسباط، وأخبرها بمكانه، فمكّنته من نفسها، فوقع في بني إسرائيل الطاعون، فمات منهم سبعون ألفًا في يوم، وجاء رجل من بني هارون، ومعه الرمح، فطعنهما، وأيده الله، فانتظمهما جميعًا. وهذا مرسل جيّد، وسيّار شاميّ موثَّقٌ، وقد ذكر الطبريّ هذه القصة من طريق محمد بن إسحاق، عن سالم أبي النضر، فذكر نحوه، وسمّي المرأة كَشْتًا -بفتح الكاف، وسكون المعجمة، بعدها مثناة- والرجل زِمْرِي -بكسر الزي، وسكون الميم، وكسر الراء- رأس سبط شمعون، وسمّي الذي طعنهما فِنْحَاص -بكسر الفاء، وسكون النون، بعدها مهملة، ثم مهملة- ابن هارون، وقال في آخره: فحُسِب مَن هلك من الطاعون سبعون ألفًا، والمقلِّل يقول: عشرون ألفًا، وهذه الطريق تعضد الأُولى.

وقد أشار إليها عياض، فقال: قوله: "أُرسل على بني إسرائيل" قيل: مات منهم في ساعة واحدة عشرون ألفًا، وقيل: سبعون ألفًا.

وذكر ابن إسحاق في "المبتدأ" أن الله أوحى إلى داود أن بني إسرائيل كثُر عصيانهم، فخيّرهم بين ثلاث: إما أن أبتليهم بالقحط، أو العدوّ شهرين، أو الطاعون ثلاثة أيام، فأخبرهم، فقالوا: اختر لنا، فاختار الطاعون، فمات منهم إلى أن زالت الشمس سبعون ألفًا، وقيل: مائة ألف، فتضرع داود إلى الله تعالى، فرفعه.

ص: 280

وورد وقوع الطاعون في غير بني إسرائيل، فَيَحْتَمِل أن يكون هو المراد بقوله:"من كان قبلكم"، فمن ذلك ما أخرجه الطبريّ، وابن أبي حاتم، من طريق سعيد بن جبير، قال: أَمَر موسى بني إسرائيل أن يذبح كل رجل منهم كبشًا، ثم ليخضب كفه في دمه، ثم ليضرب به على بابه، ففعلوا، فسألهم القبط عن ذلك، فقالوا: إن الله سيبعث عليكم عذابًا، وإنما ننجو منه بهذه العلامة، فأصبحوا وقد مات من قوم فرعون سبعون ألفًا، فقال فرعون عند ذلك لموسى:{ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ} الآية [الأعراف: 134]، فدعا، فكشفه عنهم. وهذا مرسل جيّد الإسناد.

وأخرج عبد الرزاق في "تفسيره"، والطبريّ من طريق الحسن في قوله تعالى:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ} [البقرة: 243]، قال: فَرُّوا من الطاعون، فقال لهم الله: موتوا، ثم أحياهم؛ ليكملوا بقية آجالهم.

وأخرج ابن أبي حاتم، من طريق السديّ، عن أبي مالك قصتهم مطولةً، فأقدمُ من وقفنا عليه في المنقول ممن وقع الطاعون به من بني إسرائيل في قصة بلعام، ومن غيرهم في قصة فرعون، وتكرر بعد ذلك لغيرهم، والله أعلم. انتهى ما في "الفتح"

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "الطاعون رجز أرسل على من كان قبلكم" قد جاء هذا اللفظ مفسَّرًا في الرواية الأخرى، حيث قال:"إن هذا الوجع، أو السُّقْمَ رجزٌ، عُذِّب به بعض الأمم قبلكم"، فقد فسَّر الطاعون بالمرض، والرجز بالعذاب.

والطاعون: وزنه فاعول، من الطعن؛ غير أنه لمّا عُدِل به عن أصله وُضِع دالًّا على الموت العام بالوباء، على ما قاله الجوهريّ، وقال غيره: أصل الطَّاعون: القروح الخارجة في الجسد، والوباء: عموم الأمراض، قال: وطاعون عَمْواس: إنما كان طاعونًا، وقروحًا.

قال: ويشهد لصحَّة هذا قوله صلى الله عليه وسلم-وقد سُئل عن الطاعون- فقال: "غُدَّة

(1)

"الفتح" 13/ 134 - 136، كتاب "الطبّ" رقم (5728).

ص: 281

كغدَّة البعير، تخرج في المراقّ، والآباط"، وقال غير واحد من العلماء: إنه يخرج في الأيدي، والأصابع، وحيث شاء الله من البدن.

قال: وحاصله: أن الطاعون مرضٌ عامٌّ، يكون عنه موت عام، وقد يسمَّى بالوباء، ويُرسله الله نقمةً، وعقوبةً لمن يشاء من عصاة عبيده، وكَفَرَتهم، وقد يرسله شهادة، ورحمةً للصالحين من عباده، كما قال معاذ في طاعون الشام: إنه شهادة ورحمة لكم، ودعوة نبيكم، قال أبو قلابة: يعني: بدعوة نبيكم: أنه صلى الله عليه وسلم دعا أن يجعل فناء أمته بالطَّعن والطَّاعون، كذا جاءت الرواية عن أبي قلابة بالواو، قال بعض علمائنا: والصحيح بالطَّعن، أو الطاعون، بأو التي هي لأحد الشيئين؛ أي: لا يجتمع ذلك عليهم.

قال القرطبيّ: ويظهر لي أن الروايتين صحيحتا المعنى، وبيانه: أن مراد النبيّ صلى الله عليه وسلم بأمته المذكورة في الحديث إنما هم أصحابه؛ لأنَّه صلى الله عليه وسلم قد دعا لجميع أمته ألا يهلكهم بِسَنَةٍ عامة، ولا بتسليط أعدائهم عليهم، فأجيب إلى ذلك، فلا تذهب بيضتهم، ولا معظمهم بموت عامّ، ولا بعدوٍّ على مقتضى هذا الدعاء، والدعاء المذكور في حديث أبي قلابة يقتضي أن يفنى جميعهم بالقتل والموت العام، فتعيَّن أن يُصْرَف الأول إلى أصحابه؛ لأنَّهم هم الذين اختار الله تعالى لمعظمهم الشهادة بالقتل في سبيل الله، وبالطاعون الذي وقع في زمانهم، فهلك به بقيتهم، فعلى هذا: قد جمع الله تعالى لهم كلا الأمرين، فتبقى الواو على أصلها من الجمع، أو تُحمل "أو" على التنويعية، والتقسيمية، والله تعالى أعلم. انتهى

(1)

.

وقال النوويّ رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم في الطاعون: "رجز أُرسل على بني اسرائيل، أو على من كان قبلكم، فإذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض، وأنتم بها، فلا تخرجوا فرارًا منه"، وفي رواية:"إن هذا الوجع، أو السقم رجز، عُذِّب به بعض الأمم قبلكم، ثم بقي بعد بالأرض، فيذهب المرّة، ويأتي الأخرى، فمن سمع به بأرض، فلا يَقْدَمَنّ عليه، ومن وقع بأرض، وهو بها فلا يخرجنه الفرار منه"، وفي حديث عمر رضي الله عنه:"أن الوباء وقع بالشام".

(1)

"المفهم" 5/ 611 - 612.

ص: 282

أما الوباء فمهموزٌ مقصورٌ وممدودٌ لغتان: القصر أفصح، وأشهر، وأما الطاعون فهو قُروح تخرج في الجسد، فتكون في المرافق، أو الآباط، أو الأيدي، أو الأصابع، وسائر البدن، ويكون معه وَرَمٌ، وألم شديد، وتخرج تلك القروح مع لهيب، ويَسْوَدّ ما حواليه، أو يَخْضَرّ، أو يَحْمَرّ حمرة بَنفسجية؛ كَدِرةً، ويَحصل معه خَفَقان القلب، والقيء، وأما الوباء فقال الخليل وغيره: هو الطاعون، وقال: هو كل مرض عامّ، والصحيح الذي قاله المحققون: أنه مرض الكثيرين من الناس في جهة من الأرض، دون سائر الجهات، ويكون مخالفًا للمعتاد من أمراض في الكثرة، وغيرها، ويكون مرضهم نوعًا واحدًا، بخلاف سائر الأوقات، فإن أمراضهم فيها مختلفة، قالوا: وكل طاعون وباء، وليس كل وباء طاعونًا، والوباء الذي وقع في الشام في زمن عمر رضي الله عنه كان طاعونًا، وهو طاعون عَمَوَاس، وهي قرية معروفة بالشام، وقد سبق في شرح مقدمة الكتاب في ذكر الضعفاء من الرواة، عند ذكره طاعون الجارف، بيان الطواعين، وأزمانها، وعددها، وأماكنها، ونفائس مما يتعلق بها. انتهى

(1)

.

(فَإِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ)؛ أي: بالطاعون، (بِأَرْضٍ، فَلَا تَقْدَمُوا) بفتح الدال المهملة، من باب تعب، (عَلَيْهِ) ليكون أسكن لأنفسكم، وأقطع لوسواس الشيطان، ولأن الله تعالى أمر أن لا يُتَعَرَّض للْحَتْف والبلاء، وإن كان لا نجاة من قَدَر الله، إلا أنه من باب الحذر الذي شرعه الله، ولئلا يقول القائل: لو لم أدخل لم أَمْرَض، ولو لم يدخل فلان لم يمت

(2)

. (وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ، وَأَنْتُمْ بِهَا)؛ أي: بتلك الأرض، (فَلَا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ")؛ أي: لأجل الفرار من الطاعون، وفيه أن الخروج لعارض لا بأس به، وقال ابن عبد البرّ رحمه الله: وأما نهيه صلى الله عليه وسلم عن القدوم عليه، وعن الفرار منه، فلئلا يلوم أحدهم بعد ذلك نفسه، إن مَرِضَ منه، فمات، أو يقول غيره: لو لم يَقْدَم عليه، أو فَرّ منه لنجا، ونحو هذا، فيلومون أنفسهم فيما لا لوم عليهم فيه؛ لأن الباقي، والناهض، لا يتجاوز أحد منهم أجله، ولا يستأخر عنه، وفيه جاء النهي عن اللوم مطلقًا؛

(1)

"شرح النوويّ" 14/ 204.

(2)

"شرح الزرقانيّ على الموطّأ" 4/ 297.

ص: 283

يعني: قولهم: لو كان كذا، لم يكن كذا، ويقال: إنه ما فَرّ أحد من الطاعون، فنجا. انتهى

(1)

.

وقال ابن دقيق العيد رحمه الله: الذي يترجح عندي في النهي عن الفرار، والنهي عن القدوم، أن الإقدام عليه تَعَرُّض للبلاء، ولعله لا يصبر عليه، وربما كان فيه ضرب من الدعوى لمقام الصبر، أو التوكل، فمُنِع ذلك لاغترار النفس، ودعواها ما لا تثبت عليه عند التحقيق، وأما الفرار فقد يكون داخلًا في باب التوغل في الأسباب، متصورًا بصورة من يحاول النجاة مما قُدّر عليه، فيقع التكلف في القدوم، كما يقع التكلف في الفرار، فأمر بترك التكلف فيهما، ونظير ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:"لا تتمنوا لقاء العدوّ، وإذا لقيتموهم فاصبروا"، متّفقٌ عليه، فأمرهم بترك التمني؛ لِمَا فيه من التعرض للبلاء، وخوف الاغترار بالنفس؛ إذ لا يؤمَن غدرها عند الوقوع، ثم أَمَرَ بالصبر عند الوقوع؛ تسليمًا لأمر الله تعالى. انتهى

(2)

.

(وَقَالَ أَبُو النَّضْرِ) سالم بن أبي أميّة في روايته بدل قول محمد بن المنكدر: "فلا تخرجوا فرارًا منه": ("لَا يُخْرِجُكُمْ إِلَّا فِرَارٌ مِنْهُ") برفع "فرارٌ"، قال النوويّ رحمه الله: وقع في بعض النُّسخ: "فرارٌ" بالرفع، وفي بعضها:"فرارًا" بالنصب، وكلاهما مشكل من حيث العربيةُ، والمعنى، قال القاضي عياض: وهذه الرواية ضعيفة عند أهل العربية، مفسدة للمعنى؛ لأن ظاهرها المنع من الخروج لكل سبب، إلا للفرار، فلا منع منه، وهذا ضدّ المراد، وقال جماعة: إن لفظة إلّا هنا غلط من الراوي، والصواب حذفها، كما هو المعروف في سائر الروايات، قال القاضي: وخرّج بعض محققي العربية لرواية النصب وجهًا، فقال: هو منصوب على الحال، قال: ولفظة "إلّا" هنا للإيجاب، لا للاستثناء، وتقديره: لا تخرجوا إذا لم يكن خروجكم إلا فرارًا منه، والله أعلم. انتهى

(3)

.

(1)

"التمهيد" لابن عبد البرّ 12/ 259.

(2)

"شرح الزرقانيّ على الموطّأ" 4/ 297.

(3)

"شرح النوويّ" 14/ 204.

ص: 284

وقال أبو عمر بن عبد البرّ رحمه الله: وأما رواية أبي النضر: "لا يخرجكم إلا فرارٌ منه"، فقد جعله جماعة من أهل العلم غلطًا، وإحالةً للمعنى، وقال جماعة من أهل العلم بالنحو، وتصاريفه: إن دخول "إلا" في هذا الموضع إنما هو لإيجاب بعض ما نُفِي بالجملة، فكأنه قال: تخرجوا منها؛ يعني: البلدة التي وقع الطاعون بها، إذا لم يكن خروجكم إلا فرارًا، والنصب ها هنا بمعنى الحال، لا بمعنى الاستثناء، والله عز وجل أعلم.

أي: إذا كان خروجكم فرارًا من الطاعون، فلا تخرجوا منها، وفي ذلك إباحة الخروج من موضع الطاعون، إذا لم يكن الخروج قصدًا إلى الفرار من الطاعون. انتهى

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "لا يخرجكم إلا فرارًا منه" رويناه بالنصب، والرفع، وعلى الروايتين فهو مُشْكِل؛ لأنَّه يفيد بحكم ظاهره أنه لا يجوز لأحد أن يخرج من الوباء إلا من أجل الفرار، وهذا محال، وهو نقيض مقصود الحديث من أوله إلى آخره قطعًا، ولمّا ظهر هذا الفساد قيَّده بعض رواة "الموطأ": الإفرار بهمزة مكسورة، وسكون الفاء، توهَّم فيه أنه مصدر، وهذا ليس بصحيح؛ لأنَّه لا يقال: أفرُّ -رباعيًّا-، وإنما يقال: فرَّ، ومصدره فرار، ومفرّ، كما قال تعالى:{قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ} [الأحزاب: 16]، وقال:{أَيْنَ الْمَفَرُّ} [القيامة: 10].

وقد أشكل هذا الكلام على كثير من العلماء الأعلام حتى قالت جماعة: إن إدخال "إلا" فيه غلط، وقال بعضهم: إنها زائدة، كما قد تزاد "لا" في مثل قوله تعالى:{مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ} [الأعراف: 12]؛ أي: ما منعك أن تسجد، وقال بعض النحويين: إن "إلا" هنا للإيجاب؛ لأنها توجب بعض ما نفاه من الجملة، ونهى عنه من الخروج، فكأنه قال: لا تخرجوا منها إذا لم يكن خروجكم إلا فرارًا، وأباح الخروج لغرض آخر، والأقرب: أن تكون زائدة، والصحيح إسقاطها؛ كما قد صح في الروايات الأخر. انتهى كلام القرطبيّ: رحمه الله

(2)

.

(1)

"الاستذكار" 8/ 254.

(2)

"المفهم" 5/ 614 - 615.

ص: 285

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [17/ 5758 و 5759 و 5760 و 5761 و 5762 و 5763 و 5764 و 5765 و 5766 و 5767 و 5768 و 5769]، (2218)، و (البخاريّ) في "أحاديث الأنبياء"(3473) و"الطبّ"(5728) و"الحيل"(6973 و 6974)، و (الترمذيّ) في "الجنائز"(1065)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(4/ 362)، و (مالك) في "الموطأ"(2/ 896)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 202 و 206 و 207 و 208 و 209 و 210)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(2952)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(1/ 166)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(2/ 81)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(4/ 306)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(7/ 217)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(1443)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): قال النوويّ رحمه الله: اعلم أن أحاديث الباب كلها من رواية أسامة بن زيد رضي الله عنهما، وذَكَر في الطرق الثلاث في آخر الباب ما يوهم، أو يقتضي أنه من رواية سعد بن أبي وقاص، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم. قال القاضي وغيره: هذا وَهَمٌ، إنما هو من رواية سعد، عن أسامة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، والله أعلم. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قد تكلّم الحافظ أبو عمر بن عبد البرّ رحمه الله في كتابه الممتع "التمهيد"، وبحث بحثًا مطوّلًا، ورجّح أنه ليس من مسند سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه، وإنما هو من مسند أسامة بن زيد رضي الله عنهما، ودونك بحثه بطوله، قال رحمه الله-بعد أن ساق حديث مالك هذا بسنده-: هكذا قال يحيى في هذا الحديث: عامر بن سعد، عن أبيه، أنه سمعه يسأل أسامة، وتابعه على ذلك من رواة "الموطأ" جماعة، منهم مطرِّف، وأبو مصعب، ويحيى بن يحيى النيسابوريّ، ولا وجه لِذِكر أبيه في ذلك؛ لأن الحديث إنما هو لعامر بن سعد، عن أسامة بن زيد، سمعه منه، وكذلك رواه مَعْن بن عيسى، وابن بكير،

(1)

"شرح النوويّ" 14/ 208.

ص: 286

ومحمد بن الحسن، وجماعة سواهم، عن مالك، ولم يقولوا: عن أبيه، وقد جَوّده القعنبيّ، فروى عن مالك، عن محمد بن المنكدر، عن عامر بن سعد بن أبي وقاص، أن أخبره أن أسامة بن زيد أخبره، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الطاعون رجزٌ

"، وذكر الحديث لعامر، عن أسامة، لم يقل فيه: عن أبيه، ولا ذكر أبا النضر مع محمد بن المنكدر، وسائر رواة "الموطأ" يجمعون فيه عن مالك أبا النضر، ومحمد بن المنكدر جميعًا، كما روى يحيى.

قال: وقد روى قوم هذا الحديث عن عامر بن سعد، عن أبيه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو عندي وَهَمٌ، لا يصحّ، والله أعلم.

ثم ساق بسنده عن معمر، عن الزهريّ، عن عامر بن سعد، عن أبيه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه ذكر الطاعون، فقال:"وَجَعٌ أُرسل على من كان قبلكم. . ." الحديث، وهي الرواية السابعة في هذا الباب عند مسلم.

قال: وهذا مما حَدّث به معمر بالعراق، وأهل الحديث يقولون: إن ما حَدّث به معمر بالعراق من حفظه، لم يُقِمه، وأخطأ في كثير منه، والدليل على أن هذا مما أخطأ فيه -والله أعلم- ما حدثنا خلف بن قاسم، وساق بسنده إلى شعيب بن أبي حمزة، عن الزهريّ، قال: حدّثنا عامر بن سعد، أنه سمع أسامة بن زيد، وهو يحدّث سعد بن أبي وقّاص: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم ذكر هذا الوجع، وساق الحديث بمعناه.

قال: وهذا هو الصحيح فيه لعامر عن أسامة، لا عن أبيه، والله أعلم.

قال: وقد رواه يزيد بن الهادي، عن محمد بن المنكدر، عن عامر بن سعد، عن أسامة، لا عن سعد، ثم ساق بسنده إلى يزيد بن عبد الله بن الهادي، عن محمد بن المنكدر، عن عامر بن سعد، عن أسامة بن زيد، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ذُكِر الطاعون عنده، فقال:"إنه رجسٌ، أو رجزٌ، عُذِّبت به أمة من الأمم، وقد بقيت منه بقايا، فإذا سمعتم به بأرض، فلا تدخلوا عليه، وإذا وقع بأرض، وأنتم فيه، فلا تفروا منه"، فقال محمد بن المنكدر: فحَدَّثت هذا الحديث عمر بن عبد العزيز، فقال: هكذا حدثنيه عامر بن سعد.

وقد رواه عبد الحميد بن جعفر، عن داود بن عامر بن سعد، عن أبيه، عن جَدِّه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا وقع الطاعون بأرض، وأنتم بها، فلا

ص: 287

تخرجوا منها، وإذا كان بغيرها، ولستم بها، فلا تدخلوها"، وهذا الإسناد ليس بحجة؛ لمخالفة الحفاظ لداود بن عامر في ذلك، وممن خالفه فيه ابن شهاب، ومحمد بن المنكدر، وعمرو بن دينار، وهؤلاء لا نظير لهم في الحفظ، والإتقان، وليس داود بن عامر ممن يَلْحَق بهم.

ثم أخرج بسنده عن سفيان بن عيينة، عن عمرو، سمع عامر بن سعد، قال: جاء رجل إلى سعد، فسأله عن الطاعون، فقال أسامة: أنا أخبرك، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"إذا هجم الطاعون، وأنتم بأرض، فلا تخرجوا فرارًا منه، وإذا سمعتم به بأرض، فلا تدخلوها".

[فإن قيل]: قد رواه أبو حذيفة، عن الثوريّ، عن محمد بن المنكدر، عن عامر بن سعد، عن سعد، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم.

[قيل له]: نعم، وهو عندنا من حديث عليّ بن عبد العزيز، عن أبي حذيفة موسى بن مسعود، كذلك، ولكنه خطأ، وكان أبو حذيفة كثير الوهم، والخطأ في حديثه عن الثوريّ، وقد ذكره ابن أبي شيبة عن عبد الله بن نمير، عن سفيان الثوريّ، عن محمد بن المنكدر، عن عامر بن سعد، عن أسامة بن زيد، قال: قال رسول الله: "إن هذا الطاعون رجزٌ، سُلِّط على من كان قبلكم

" الحديث، وهذا يشهد لِمَا قلناه من خطأ أبي حذيفة.

[فإن قيل]: إن أسد بن موسى حَدَّث بهذا الحديث، عن ابن لهيعة، عن الأعرج، عن أشعث بن إسحاق بن سعد بن أبي وقاص، أن سعدًا كان إذا جاءه أسامة بن زيد، لم يقربهما أحدٌ، فجاء عامر بن سعد، فقعد إليهما، فقال أسامة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا سمعتم بالطاعون بأرض، فلا تدخلوها، وإذا وقع بأرض، وأنتم بها، فلا تخرجوا منها فرارًا"، فقال سعد لأسامة: أنت سمعت هذا؟ قال: نعم مرتين، فقال سعد: وأنا قد سمعته. [قيل]: هذا حديث لا يَحتجّ به، مَن مَيَّزَ أقلَّ شيء من طرق الأحاديث؛ لأنه خبر منقطع، ضعيف، وابن لهيعة أكثر أهل العلم لا يقبلون شيئًا من حديثه، ومنهم من يَقبل منه ما حَدَّث به قبل احتراق كتبه، ولم يسمع منه فيما ذكروا قبل احتراق كتبه، إلا ابن المبارك، وابن وهب لبعض سماعه، وأما أسد، ومثله، فإنما سمعوا منه بعد احتراق كتبه، وكان يملي من حفظه، فيخطئ، ويخلط، وليس بحجة عند

ص: 288

جميعهم، وحديثه هذا أيضًا مع ضَعفه منقطع، وأحاديث الحفاظ الثقات بخلافه.

ثم أخرج بسنده عن أسد بن موسى، قال: حدّثنا سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، قال: سمعت عمرو بن سعد بن أبي وقاص، قال: جاء رجل إلى سعد، فسأله عن الطاعون، وعنده أسامة بن زيد، فقال أسامة: أنا أخبرك، سعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"إن هذا الطاعون رجزٌ، أو عذابٌ، أُرسل على من كان قبلكم، أو على طائفة من بني إسرائيل، فإذا وقع بأرض، فلا تدخلوها، وإذا وقع وأنتم بها، فلا تخرجوا منها فرارًا".

قال: ورواية أسد لهذا الحديث عن ابن عيينة، بخلاف روايته له عن ابن لهيعة دليلٌ على ضبط أسد.

[فإن قيل]: إن أبا خالد الأحمر رَوَى عن عكرمة بن خالد المخزوميّ، عن يحيى بن سعيد، عن أبيه، عن سعد، أنه سمع النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: "الطاعون رجزٌ، أُصيب به من كان قبلكم

" الحديث، وفيه سماع سعد له من النبيّ صلى الله عليه وسلم.

[قيل]: وهذا أيضًا حديث ضعيف الإسناد، تردّه أحاديث الحفاظ؛ لأن سعدًا لو كان عنده فيه سماع من النبيّ صلى الله عليه وسلم ما احتاج أن يسأل أسامة بن زيد عن ذلك، في حديث مالك، عن محمد بن المنكدر، عن عامر بن سعد، أنه سمع أباه يسأل أسامة بن زيد: ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطاعون؟ وفي حديث ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن عامر بن سعد، أنه سمع أسامة بن زيد يقول لأبيه سعد بن أبي وقاص، في حديث الطاعون: أنا أخبرك بذلك.

[فإن قيل]: إن وكيع بن الجراح رَوَى عن سفيان، عن حبيب بن أبي ثابت، عن إبراهيم بن سعد بن أبي وقاص، عن أبيه، وأسامة بن زيد، وحذيفة

(1)

، قالوا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن هذا الطاعون رجزٌ. . ." الحديث.

[قيل] لقائل ذلك: هذا إسناد آخر، غير إسناد عامر بن سعد، وهذا

(1)

هكذا النسخة، والصواب كما يأتي عند مسلم:"عن خزيمة بن ثابت"، لا عن حذيفة، فتنبّه.

ص: 289

الإسناد أيضًا الصحيح فيه أن الحديث لإبراهيم بن سعد، عن أسامة بن زيد وحده، كذلك رَوَى شعبة، وأبو إسحاق الشيبانيّ، في حبيب بن أبي ثابت.

قال الجامع عفا الله عنه: هكذا قال: وأبو إسحاق الشيبانيّ، وفيه نظر لا يخفى؛ لأنه سيأتي في هذا الباب عند مسلم أن الشيبانيّ رواه من رواية إبراهيم، عن أبيه، لا عن أسامة، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

قال: وكذلك رواه جماعة عن الثوريّ، وقد اضطرب فيه وكيع، فمرةً رواه هكذا، ومرّة جعله عن إبراهيم بن سعد، عن أبيه، وأسامة، وحذيفة

(1)

بن ثابت مكان حذيفة، وأصحاب الثوريّ يخالفونه في ذلك، فسقط الاحتجاج بروايته فيه.

قال: وأما حديث شعبة، فحدثنا أحمد بن قاسم بن عيسى المقرئ، ثم ساق سنده إلى شعبة قال: حدّثنا حبيب بن أبي ثابت، قال: سمعت إبراهيم بن سعد بن أبي وقاص يقول: سمعت أسامة بن زيد يحدّث سعدًا، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"إذا سمعتم به بأرض، فلا تدخلوها، وإذا وقع بأرض، وأنتم بها، فلا تخرجوا منها"، قال حبيب: قلت لإبراهيم بن سعد: أنت سمعت أسامة يحدّث سعدًا، وهو جالس، لا ينكره؟ قال: نعم.

ثم ساق بسنده إلى عمرو بن عون قال: حدّثنا خالد بن عبد الله، عن أبي إسحاق الشيبانيّ، عن حبيب بن أبي ثابت، عن إبراهيم بن سعد بن أبي وقاص، عن أسامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن هذا الوجع رجزٌ

"، وذكر الحديث.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا مخالف لِمَا يأتي عند مسلم من أن الشيبانيّ إنما رواه عن حبيب بن أبي ثابت، عن إبراهيم بن سعد، عن أبيه، لا عن أسامة، فتنبّه.

قال: هذا ما يجيء على مذهب أهل الحديث في تهذيب إسناد هذا الخبر، على أنه قد يمكن أن يكون سعد قد سمع ما سمع أسامة منه، ولكن

(1)

هذا تصحيف، والصواب "عن خزينة"، فتنبّه.

ص: 290

الحكم ما ذكرنا، والله أعلم. انتهى كلام ابن عبد البرّ رحمه الله باختصار

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: الذي يظهر لي أن كون الحديث من مسند سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه صحيح، كما صححه مسلم هنا؛ فقد أخرجه من رواية سفيان الثوريّ، عن حبيب، عن إبراهيم بن سعد، عن سعد، وخزيمة، وأسامة، ورواه من رواية الأعمش، عن حبيب، عن إبراهيم، عن أسامة وسعد كلاهما قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورواه من رواية الشيبانيّ، عن حبيب، عن إبراهيم، عن أبيه، ولذا قال الحافظ في "الفتح": يَحتمل أن يكون سعد تذكّر لَمّا حدّثه به أسامة، وهذا هو الذي أشار إليه ابن عبد البرّ في آخر كلامه، أو نُسبت الرواية إلى سعد؛ لتصديقه أسامة. انتهى.

والحاصل أن الحديث صحيح من مسند أسامة رضي الله عنه، كما هو رواية الأكثرين، ومن مسند سعد رضي الله عنه، كما رواه المذكورون، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

(المسألة الرابعة): في فوائد الحديث:

1 -

(منها): بيان كون الطاعون عذابًا على الأمم السابقة، وجعله الله تعالى رحمة لهذه الأمة، فكان لها شهادةً، ففي "الصحيحين":"المطعون شهيد"، وأخرج البخاريّ عن عائشة رضي الله عنهما قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الطاعون، فقال:"كان عذابًا يبعثه الله على من كان قبلكم، فجعله الله رحمة للمؤمنين، ما من عبد يكون في بلد، فيكون فيه، فيمكث لا يخرج صابرًا محتسبًا، يعلم أنه لا يصيبه إلا ما كتب الله له، إلا كان له مثل أجر شهيد"، وفي حديث آخر:"الطاعون شهادة لكل مسلم"، وإنما يكون شهادة لمن صبر، كما بيَّنه في الحديث المذكور

(2)

.

2 -

(ومنها): بيان تحريم القدوم على البلدة التي وقع بها الطاعون، فلا يحل لمن كان خارجها أن يُقدم إليها، وتحريم الخروج من البلدة التي وقع فيها، فلا يحلّ لمن كان بها أن يَخرُج منها فرارًا منه؛ لأنه فرار من القدر،

(1)

"التمهيد" لابن عبد البرّ 12/ 249 - 256.

(2)

"شرح النوويّ" 14/ 205.

ص: 291

ولئلا تضيع المرضى بعدم من يتفقدهم، والموتى بعدم من يجهزهم، فالأول تأديب، وتعليم، والثاني تفويض، وتسليم، وقيل: هو تعبديّ؛ لأن الفرار من المهالك مأمور به، وقد نُهي عن هذا، فهو لسر فيه لا يُعْلَم معناه

(1)

.

3 -

(ومنها): الاحتراز من المكاره، وأسبابها، والتسليم لقضاء الله تعالى عند حلول الآفات، والله تعالى أعلم.

4 -

(ومنها): بيان جواز الخروج لغرض آخر غير الفرار، سواء كان تجارةً، أو طلب علم، أو حاجة أخرى، قال النوويّ رحمه الله: واتفقوا على جواز الخروج بشغل، وغرض غير الفرار، ودليله صريح الأحاديث. انتهى

(2)

.

5 -

(ومنها): ما قال النوويّ رحمه الله: في هذه الأحاديث منع القدوم على بلد الطاعون، ومنع الخروج منه فرارًا من ذلك، أما الخروج لعارض فلا بأس به، وهذا الذي ذكرناه هو مذهبنا، ومذهب الجمهور، قال القاضي: هو قول الأكثرين، قال: حتى قالت عائشة: الفرار منه كالفرار من الزحف، قال: ومنهم من جَوَّز القدوم عليه، والخروج منه؛ فرارًا، قال: ورُوي هذا عن عمر بن الخطاب، وأنه نَدِم على رجوعه من سَرْغ، وعن أبي موسى الأشعريّ، ومسروق، والأسود بن هلال، أنهم فرُّوا من الطاعون، وقال عمرو بن العاص: فِرُّوا عن هذا الرجز في الشعاب، والأودية، ورؤوس الجبال، فقال معاذ: بل هو شهادة، ورحمة.

ويتأول هؤلاء النهي على أنه لم ينه عن الدخول عليه، والخروج منه مخافة أن يصيبه غير المقدّر، لكن مخافة الفتنة على الناس؛ لئلا يظنوا أن هلاك القادم إنما حصل بقدومه، وسلامة الفارّ إنما كانت بفراره، قالوا: وهو من نحو النهي عن الطيرة، والقرب من المجذوم، وقد جاء عن ابن مسعود قال: الطاعون فتنة على المقيم، والفارّ، أما الفارّ فيقول: فررت، فنجوت، وأما المقيم فيقول: أقمت، فمُتُّ، وإنما فَرّ مَن لم يأت أجله، وأقام من حضر أجله، والصحيح ما قدمناه من النهي عن القدوم عليه، والفرار منه؛ لظاهر الأحاديث الصحيحة.

(1)

"شرح الزرقانيّ على الموطأ" 4/ 299.

(2)

"شرح النوويّ" 14/ 207.

ص: 292

قال العلماء: وهو قريب المعنى من قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تتمنوا لقاء العدوّ، واسألوا الله العافية، فإذا لقيتموهم، فاصبروا". انتهى كلام النوويّ رحمه الله

(1)

، وهو بحث مفيدٌ، والله تعالى أعلم.

وقال القرطبيّ رحمه الله: على ظاهر هذا الحديث عمل عمر، والصحابة معه رضي الله عنه لمّا رجعوا من سَرْغ حين أخبرهم بهذا الحديث عبد الرحمن بن عوف، وإليه صاروا، وقالت عائشة رضي الله عنهما: الفرار من الوباء كالفرار من الزحف، وإنما نهى عن القدوم عليه أخذًا بالحزم، والحذر، والتحرُّز من مواضع الضرر، ودفعًا للأوهام المشوشة لنفس الإنسان، وإنما نُهي عن الفرار منه؛ لأنَّ الكائن بالموضع الذي الوباء فيه، لعلَّه قد أخذ بحظ منه، لاشتراك أهل ذلك الموضع في سبب ذلك المرض العام، فلا فائدة لفراره، بل يضيف إلى ما أصابه من مبادي الوباء مشقات السفر، فيتضاعف الألم، ويكثر الضرر، فيهلكون بكل طريق، ويطرحون في كل فجوة ومضيق، ولذلك يقال: قلَّما فرَّ أحد من الوباء وسَلِم، ويكفي من ذلك موعظةً قوله تعالى:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا} [البقرة: 243]، قال الحسن: خرجوا حذرًا من الطاعون، فأماتهم الله تعالى في ساعة واحدة، وهم أربعون ألفاً، وقيل غير هذا.

وقالت طائفة أخرى: إنه يجوز القدوم على الوباء، والفرار منه، وحُكي ذلك عن عمر رضي الله عنه، وأنَّه نَدِم على رجوعه من سَرْغ، وقال: اللهم اغفر لي رجوعي من سرغ، وكتب إلى عامله بالشام، بأنه إذا قد وقع عندكم الوباء، فاكتب لي حتى أخرج إليه، وكتب إلى أبي عبيدة في الطاعون، فعزم عليه أن يَقدَم عليه مخافة أن يصيبه الطاعون، وروي عن مسروق، والأسود، وأبي موسى الأشعري رضي الله عنهم أنهم فرُّوا من الطاعون. وروي عن عمرو بن العاص رضي الله عنه أنه قال: تفرَّقوا عن هذا الرجز في الشعاب، والأودية، ورؤوس الجبال، واعتمد أصحاب هذا القول على أن الآجال محدودة، والأرزاق مقدَّرة معدودة، فلا يتقدَّم شيء على وقته، ولا يتأخر شيء عن أجله، فالواجب صحة

(1)

"شرح النوويّ" 14/ 205 - 206.

ص: 293

الاعتماد على الله، والتسليم لأمر الله تعالى، فإنَّ الله تعالى لا رادَّ لأمره، ولا معقِّب لحكمه، فالقدوم على الوباء، والفرار سيان بالنسبة إلى سابق الأقدار.

وتأوَّل بعضهم الحديث بأن مقصوده التحذير من فتنة الحيِّ؛ فيعتقد أن هلاك من هلك من أجل قدومه على الوباء، ونجاة من نجا من أجل فراره. قالوا: وهذا نحو نهيه عن الطيرة، والقرب من المجذوم، مع قوله:"لا عدوى"، فمن خرج من بلاد الطاعون، أو قَدِم عليها جاز له ذلك؛ إذا أيقن أن قدومه لا يعجّل له أجلًا أخّره الله تعالى، وأن فراره لا يؤخّر عنه أجلًا عجَّله الله تعالى، ولذلك قال ابن مسعود رضي الله عنه: الطاعون فتنة على المقيم والفارّ، أما الفارُّ فيقول: بفراري نجوت، وأما المقيم فيقول: أقمت فمتّ، وإلى نحو هذا أشار مالك حين سُئل عن كراهة النظر إلى المجذوم، فقال: ما سمعت فيه بكراهة، وما أرى ما جاء من النهي عن ذلك إلا خيفة أن يفزعه، أو خيفة شيء يقع في نفسه. قال النبيّ صلى الله عليه وسلم في الوباء:"إذا سمعتم به بأرض فلا تَقْدَموا عليه، وإذا وقع وأنتم بها، فلا تخرجوا فرارًا منه". وسُئل أيضًا مالك عن البلد يقع فيه الموت، وأمراض، فهل يُكره الخروج إليه؟ فقال: ما أرى باسًا، خرج أو أقام. قيل: فهذا يُشبه ما جاء في الحديث من الطاعون؟ قال: نعم.

قال القرطبيّ: وهذا فيه نظر سيأتي -إن شاء الله تعالى- في حديث ابن عباس رضي الله عنهما. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: القول بجواز القدوم إلى بلد الطاعون، وكذا الخروج منه قول مخالف لصريح النهي، فلا يُلتفت إليه، والتأويل الذي ذكروه في الحديث غير مقبول، فتبصّر، ولا تكن أسير التقليد، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

6 -

(ومنها): الاحتراز من المكاره، وأسبابها، وفيه التسليم لقضاء الله عند حلول الآفات.

7 -

(ومنها): ما قال ابن عبد البرّ رحمه الله: وفيه عندي -والله أعلم- النهي عن ركوب الغرر، والمخاطرة بالنفس، والْمُهْجة؛ لأن الأغلب في الظاهر أن

(1)

"المفهم" 5/ 612 - 614.

ص: 294

الأرض الوبيئة لا يكاد يسلم صاحبها من الوباء فيها، إذا نزل بها، فنُهوا عن هذا الظاهر؛ إذ الآجال، والآلام مستورة عنهم، ومن هذا الباب أيضًا قوله:"لا يورد مُمْرِضٌ على مُصِحّ"، ثم قال عند حقيقة الأمر:"فمن أعدى الأول". انتهى

(1)

.

8 -

(ومنها): ما قال ابن عبد البرّ رحمه الله أيضًا: وفي هذا الحديث إباحة الخبر عن الأمم الماضية، من بني إسرائيل، وغيرهم، ورُوي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: ما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدثنا عمن خلا من الأمم، حتى لو مرت عُقاب، فقُلب جناحها، لأخبرناكم. انتهى

(2)

، والله تعالى أعلم.

(المسألة الخامسة): في ذِكْر أقوال أهل العلم في الطاعون:

قال في "الفتح": الطاعون بوزن فاعول، من الطعن، عَدَلوا به عن أصله، ووضعوه دالًّا على الموت العامّ؛ كالوباء، ويقال: طُعِن، فهو مطعون، وطَعِين: إذا أصابه الطاعون، وإذا أصابه الطعن بالرمح، فهو مطعون، هذا كلام الجوهريّ. وقال الخليل: الطاعون: الوباء. وقال صاحب "النهاية": الطاعون: المرض العامّ الذي يفسد له الهواء، وتفسد به الأمزجة، والأبدان. وقال أبو بكر ابن العربيّ: الطاعون: الوجع الغالب الذي يطفئ الروح؛ كالذّبْحَة، سُمّي بذلك؛ لعموم مُصابه، وسرعة قتله، وقال أبو الوليد الباجيّ: هو مرض يعمّ الكثير من الناس، في جهة من الجهات، بخلاف المعتاد من أمراض الناس، ويكون مرضهم واحدًا، بخلاف بقية الأوقات، فتكون الأمراض مختلفة. وقال الداوديّ: الطاعون: حبة تخرج من الأرقاع، وفي كل طيّ من الجسد، والصحيح أنه الوباء. وقال عياض: أصل الطاعون القروح الخارجة في الجسد، والوباء عموم الأمراض، فسمِّيت طاعونًا؛ لِشَبَهها بها في الهلاك، وإلا فكل طاعون وباء، وليس كل وباء طاعونًا، قال: ويدل على ذلك أن وباء الشام الذي وقع في عَمَواس إنما كان طاعونًا، وما ورد في الحديث أن الطاعون وَخْزُ الجنّ. وقال ابن عبد البرّ: الطاعون غُدّة تخرج في المراقّ، والآباط، وقد تخرج في الأيدي، والأصابع، وحيث شاء الله. وقال النوويّ في

(1)

"التمهيد" لابن عبد البر 12/ 260.

(2)

"التمهيد" لابن عبد البرّ 21/ 185.

ص: 295

"الروضة": قيل: الطاعون انصباب الدم إلى عضو. وقال آخرون: هو هَيَجان الدم، وانتفاخه. قال المتولي: وهو قريب من الجذام، من أصابه تَأَكَّلَت أعضاؤه، وتساقط لحمه. وقال الغزاليّ: هو انتفاخ جميع البدن من الدم، مع الحمى، أو انصباب الدم إلى بعض الأطراف، فينتفخ، ويحمرّ، وقد يذهب ذلك العضو. وقال النوويّ أيضًا في "تهذيبه": هو بَثْرٌ، ووَرَمٌ مؤلم جدًّا، يخرج مع لهب، ويسودّ ما حواليه، أو يخضرّ، أو يحمرّ حمرةً شديدةً بنفسجيةً كدرة، ويحصل معه خَفَقَان، وقيءٌ، ويخرج غالبًا في المراقّ، والآباط، وقد يخرج في الأيدي، والأصابع، وسائر الجسد.

وقال جماعة من الأطباء، منهم أبو عليّ بن سينا: الطاعون مادّة سُمّيّة تُحدِث وَرَمًا قتّالًا، يَحْدُث في المواضع الرخوة، والمغابن من البدن، وأغلب ما تكون تحت الإبط، أو خلف الأذن، أو عند الأرنبة، قال: وسببه دم رديء مائل إلى العُفونة والفساد، يستحيل إلى جوهر سُمّيّ، يُفسد العضوَ، ويغيّر ما يليه، ويؤدي إلى القلب كيفية رديئة، فيحدث القيء، والغثيان، والغشي، والخفقان، وهو لرداءته لا يقبل من الأعضاء إلا ما كان أضعف بالطبع، وأردؤه ما يقع في الأعضاء الرئيسية، والأسود منه قَلّ من يسلم منه، وأسلمه الأحمر، ثم الأصفر، والطواعين تكثر عند الوباء في البلاد الوبئة، ومن ثم أُطلق على الطاعون وباء، وبالعكس، وأما الوباء فهو فساد جوهر الهواء الذي هو مادّة الروح، ومدده.

قال الحافظ رحمه الله: فهذا ما بلغنا من كلام أهل اللغة، وأهل الفقه، والأطباء في تعريفه، والحاصل أن حقيقته وَرَمٌ ينشأ عن هَيَجان الدم، أو انصباب الدم إلى عضو، فيُفسده، وأن غير ذلك من الأمراض العامة الناشئة عن فساد الهواء، يسمى طاعونًا بطريق المجاز؛ لاشتراكهما في عموم المرض به، أو كثرة الموت.

قال: والدليل على أن الطاعون يغاير الوباء حديث: "أن الطاعون لا يدخل المدينة"، وقد ثبت في حديث عائشة رضي الله عنهما:"قَدِمنا المدينة، وهي أوبأ أرض الله -وفيه قول بلال رضي الله عنه-: أخرجونا إلى أرض الوباء"، وفي "صحيح البخاريّ" من حديث أبي الأسود: "قَدِمت المدينة في خلافة عمر، وهم يموتون

ص: 296

موتًا ذريعًا"، وفي حديث الْعُرنيين: "أنهم استوخموا المدينة"، وفي لفظ: "أنهم قالوا: إنها أرض وبئة"، فكل ذلك يدلّ على أن الوباء كان موجودًا بالمدينة، وقد صرح الحديث الأول بأن الطاعون لا يدخلها، فدلّ على أن الوباء غير الطاعون، وأن من أطلق على كل وباء طاعونًا فبطريق المجاز.

قال أهل اللغة: الوباء هو المرض العامّ، يقال: أوبأت الأرض، فهي موبئة، ووَبَئِت بالفتح

(1)

فهي وبئة، وبالضم

(2)

فهي موبوءة، والذي يفترق به الطاعون من الوباء أصل الطاعون

(3)

الذي لم يتعرض له الأطباء، ولا أكثر من تكلم في تعريف الطاعون، وهو كونه من طعن الجنّ، ولا يخالف ذلك ما قال الأطباء، من كون الطاعون ينشأ عن هَيَجان الدم، أو انصبابه؛ لأنه يجوز أن يكون ذلك يَحْدُث عن الطعنة الباطنة، فتَحْدُث منها المادة السُّمّيّة، ويهيج الدم بسببها، أو ينصبّ، وإنما لم يتعرض الأطباء؛ لكونه من طعن الجنّ؛ لأنه أمرٌ لا يُدرَك بالعقل، وإنما يُعرف من الشارع، فتكلموا في ذلك على ما اقتضته قواعدهم.

وقال الكلاباذيّ في "معاني الأخبار": يَحْتَمِل أن يكون الطاعون على قسمين: قسم يحصل من غلبة بعض الأخلاط، من دم، أو صفراء محترقة، أو غير ذلك، من غير سبب يكون من الجنّ، وقسم يكون من وَخْز الجنّ، كما تقع الجراحات من القروح التي تخرج في البدن، من غلبة بعض الأخلاط، وإن لم يكن هناك طعن، وتقع الجراحات أيضًا من طعن الإنس. انتهى.

قال الحافظ: ومما يؤيد أن الطاعون إنما يكون من طعن الجنّ وقوعه غالبًا في أعدل الفصول، وفي أصح البلاد هواءً، وأطيبها ماءً، ولأنه لو كان بسبب فساد الهواء لدام في الأرض؛ لأن الهواء يفسد تارةً، ويصح أخرى، وهذا يذهب أحيانًا، ويجيء أحيانًا على غير قياس، ولا تجربة، فربما جاء سنة على سنة، وربما أبطأ سنين، وبأنه لو كان كذلك لعمّ الناس، والحيوان،

(1)

من باب تعب.

(2)

أي: بالبناء للمفعول.

(3)

هكذا النسخة: "أصل الطاعون"، والعبارة فيها شيء من الركاكة، ولعل الصواب: "أن أصل الوباء لم يتكلم فيه الأطباء

إلخ"، فليُحرّر، والله تعالى أعلم.

ص: 297

والموجودُ بالمشاهدة أنه يصيب الكثير، ولا يصيب من هم بجانبهم مما هو في مثل مزاجهم، ولو كان كذلك لعمّ جميع البدن، وهذا يختص بموضع من الجسد، ولا يتجاوزه، ولأن فساد الهواء يقتضي تغير الأخلاط، وكثرة الأسقام، وهذا في الغالب يقتل بلا مرض، فدلّ على أنه من طعن الجنّ، كما ثبت في الأحاديث الواردة في ذلك:

منها: حديث أبي موسى رضي الله عنه، رفعه:"فناء أمتي بالطعن، والطاعون، قيل: يا رسول الله هذا الطعن قد عرفناه، فما الطاعون؟ قال: وخز أعدائكم من الجنّ، وفي كلٍّ شهادة"، أخرجه أحمد، من رواية زياد بن عِلاقة، عن رجل، عن أبي موسى، وفي رواية له: عن زياد حدّثني رجل من قومي، قال: كنا على باب عثمان ننتظر الإذن، فسمعت أبا موسى، قال زياد: فلم أرْضَ بقوله، فسألت سيد الحيّ، فقال:"صدق"، وأخرجه البزار، والطبرانيّ من وجهين آخرين، عن زياد، فسمَّيا المبهَم يزيد بن الحارث، وسمّاه أحمد في رواية أخرى: أسامة بن شريك، فأخرجه من طريق أبي بكر النَّهْشليّ، عن زياد بن علاقة، عن أسامة بن شريك، قال: خرجنا في بضع عشرة نفسًا من بني ثعلبة، فإذا نحن بأبي موسى.

ولا معارضة بينه وبين من سمّاه يزيد بن الحارث؛ لأنه يُحْمَل على أن أسامة هو سيد الحيّ الذي أشار إليه في الرواية الأخرى، واستثبته فيما حدثه به الأول، وهو يزيد بن الحارث، ورجاله رجال "الصحيحين"، إلا المبهم، وأسامة بن شريك صحابيّ مشهور، والذي سمّاه، وهو أبو بكر النهشلي من رجال مسلم، فالحديث صحيح بهذا الاعتبار، وقد صححه ابن خزيمة، والحاكم، وأخرجاه، وأحمد، والطبرانيّ من وجه آخر، عن أبي بكر بن أبي موسى الأشعريّ:"قال: سألت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: هو وخز أعدائكم من الجنّ، وهو لكم شهادة"، ورجاله رجال الصحيح، إلا أبا بَلْجٍ -بفتح الموحّدة، وسكون اللام، بعدها جيم- واسمه يحيى، وَثّقه ابن معين، والنسائيّ، وجماعة، وضعّفه جماعة، بسبب التشيع، وذلك لا يقدح في قبول روايته، عند الجمهور.

وللحديث طريق ثالثة أخرجها الطبرانيّ من رواية عبد الله بن المختار،

ص: 298

عن كريب بن الحارث بن أبي موسى، عن أبيه، عن جدّه، ورجاله رجال الصحيح، إلا كُريبًا وأباه، وكريب وثقّه ابن حبان.

وله حديث آخر في الطاعون، أخرجه أحمد، وصححه الحاكم، من رواية عاصم الأحول، عن كريب بن الحارث، عن أبي بردة بن قيس، أخي أبي موسى الأشعريّ، رفعه:"اللهم اجعل فناء أمتي قتلًا في سبيلك، بالطعن، والطاعون".

قال العلماء: أراد صلى الله عليه وسلم أن يحصل لأمته أرفع أنواع الشهادة، وهو القتل في سبيل الله، بأيدي أعدائهم، إما من الإنس، وإما من الجنّ.

ولحديث أبي موسى شاهد من حديث عائشة، أخرجه أبو يعلى، من رواية ليث بن أبي سُليم، عن رجل، عن عطاء، عنها، وهذا سند ضعيف.

وآخر من حديث ابن عمر، سنده أضعف منه، والعمدة في هذا الباب على حديث أبي موسى، فإنه يُحكَم له بالصحة؛ لتعدُّد طرقه إليه.

وقوله: "وَخْز" -بفتح أوله، وسكون المعجمة، بعدها زاي- قال أهل اللغة: هو الطعن إذا كان غير نافذ، ووَصَفَ طعن الجن بأنه وخزٌ؛ لأنه يقع من الباطن إلى الظاهر، فيؤثّر بالباطن أوّلًا، ثم يؤثّر في الظاهر، وقد لا ينفذ، وهذا بخلاف طعن الإنس، فإنه يقع من الظاهر إلى الباطن، فيؤثر في الظاهر أوّلًا، ثم يؤثر في الباطن، وقد لا ينفذ.

[تنبيه]: يقع في الألسنة، وهو في "النهاية" لابن الأثير تبعًا لغريبي الهرويّ، بلفظ:"وخز إخوانكم"، قال الحافظ: ولم أره بلفظ: "إخوانكم" بعد التتبع الطويل البالغ في شيء من طرق الحديث المسندة، لا في الكتب المشهورة، ولا الأجزاء المنثورة، وقد عزاه بعضهم لـ"مسند أحمد"، أو الطبرانيّ، أو "كتاب الطواعين" لابن أبي الدنيا، ولا وجود لذلك في واحد منها. انتهى كلام الحافظ رحمه الله، وهو بحث نفيسٌ جدًّا، والله تعالى أعلم

(1)

.

(1)

"الفتح " 13/ 130 - 134، كتاب "الطبّ" رقم (5728).

ص: 299

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5759]

(. . .) - (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ بْنِ قَعْنَبٍ، وَقُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَا: أَخْبَرَنَا الْمُغِيرَةُ -وَنَسَبَهُ ابْنُ قَعْنَبٍ، فَقَالَ: ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْقُرَشِيُّ- عَنْ أَبِي النَّضْرِ، عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم "الطَّاعُونُ آيَةُ الرِّجْزِ، ابْتَلَى اللهُ عز وجل بِهِ نَاسًا مِنْ عِبَادِهِ، فَإِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ، فَلَا تَدْخُلُوا عَلَيْهِ، وَإِذَا وَقَعَ بأَرْضٍ، وَأنتُمْ بِهَا، فَلَا تَفِرُّوا مِنْهُ"، هَذَا حَدِيثُ الْقَعْنَبِيِّ، وَقُتَيْبَةَ نَحْوَهُ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ بْنِ قَعْنَبٍ) القعنبيّ الحارثيّ، أبو عبد الرحمن البصريّ، مدنيّ الأصل، وسكنها مدّة، ثقةٌ عابدٌ، من صغار [9](ت 221) بمكة (خ م د ت س) تقدم في "الطهارة" 17/ 617.

2 -

(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) الثقفيّ، أبو رجاء البغلانيّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 240)، وهو ابن (90) سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.

3 -

(الْمُغِيرَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْقُرَشِيُّ) الحِزاميّ المدنيّ، لقبه قُصيّ، ثقةٌ له غرائب [7](ع) تقدم في "الطهارة" 26/ 653.

والباقون ذُكروا قبله.

[تنبيه]: رواية المغيرة بن عبد الرحمن عن أبي النضر هذه لم أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5760]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أُسَامَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ هَذَا الطَّاعُونَ رِجْزٌ، سُلِّطَ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، أَوْ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَإِذَا كَانَ بِأَرْضٍ، فَلَا تَخْرُجُوا مِنْهَا؛ فِرَارًا مِنْهُ، وَإِذَا كَانَ بِأَرْضٍ، فَلَا تَدْخُلُوهَا").

ص: 300

رجال هذا الإسناد: ستّة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ) الْهَمْدانيّ الكوفيّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(أَبُوهُ) عبد الله بن نُمير الهمدانيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

3 -

(سُفْيَانُ) بن سعيد الثوريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

والباقون ذُكروا في الباب.

وقوله: (أَوْ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ)"أو" فيه للشكّ من الراوي.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5761]

(. . .) - (حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَدُ بْنُ بَكْرٍ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، أَنَّ عَامِرَ بْنَ سَعْدٍ أخْبَرَهُ، أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ، عَنِ الطَّاعُونِ، فَقَالَ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ: أَنَا أُخْبِرُكَ عَنْهُ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "هُوَ عَذَابٌ، أَوْ رِجْزٌ أَرْسَلَهُ اللهُ عَلَى طَائِفَةٍ، مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، أَوْ نَاسٍ

(1)

كَانُوا قَبْلَكُمْ، فَإِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضٍ، فَلَا تَدْخُلُوهَا عَلَيْهِ، وَإِذَا دَخَلَهَا عَلَيْكُمْ، فَلَا تَخْرُجُوا مِنْهَا فِرَارًا").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمِ) بن ميمون، تقدّم قبل أربعة أبواب.

2 -

(مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرِ) بن عثمان الْبُرْسانيّ، أبو عثمان البصريّ، صدوقٌ [9](ت 204)(ع) تقدم في "الإيمان" 65/ 369.

3 -

(ابْنُ جُرَيْجٍ) عبد الملك بن عبد العزيز بن جُريج الأمويّ المكيّ، تقدّم قريبًا.

4 -

(عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ) الأثرم الْجُمَحيّ مولاهم، أبو محمد المكيّ، ثقةٌ ثبتٌ [4](ت 126)(ع) تقدم في "الإيمان" 21/ 184.

والباقون ذُكروا قبله.

(1)

وفي نسخة: "أو على ناس".

ص: 301

وقوله: (أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ) لا يُعرف الرجل، قاله صاحب "التنبيه"

(1)

.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5762]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو الرَّبِيعِ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ، وَقُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، وَهُوَ ابْنُ زَيْدٍ (ح) وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، كِلَاهُمَا عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، بِإِسْنَادِ ابْنِ جُرَيْجٍ، نَحْوَ حَدِيثِهِ).

رجال هذين الإسنادين: ستة:

1 -

(أَبُو الرَّبِيعِ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ) العتكيّ الزهرانيّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(حَمَّادُ بْنُ زَيْدِ) بن درهم الجهضميّ، أبو إسماعيل البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ، من كبار [8](ت 179)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 26.

والباقون ذُكروا في الباب وقبله ببابين.

وقوله: (كِلَاهُمَا عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ) الضمير لحمّاد بن زيد، وسفيان بن عيينة.

[تنبيه]: رواية حمّاد بن زيد عن عمرو بن دينار هذه ساقها النسائيّ رحمه الله في "الكبرى"، فقال:

(7524)

- أخبرنا قتيبة بن سعيد، قال: ثنا حماد، عن عمرو، عن عامر بن سعد، عن أسامة بن زيد، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم ذكر الطاعون، فقال:"بقية رجز، وعذاب، أُرسل على طائفة من بني إسرائيل، فإذا وقع بأرض، وأنتم بها، فلا تخرجوا منها، وإذا وقع بأرض، ولستم بها، فلا تهبطوا عليها". انتهى

(2)

.

وأما رواية سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، فساقها أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(21799)

- حدّثنا سفيان، عن عمرو، عن عامر بن سعد، قال: جاء

(1)

"تنبيه المعلم" ص 378.

(2)

"السُّنن الكبرى" للنسائيّ 4/ 362.

ص: 302

رجل يسأل سعدًا عن الطاعون، فقال أسامة بن زيد: أنا أُحدّثك عنه، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"إن هذا عذاب، أو كذا أرسله الله على ناس قبلكم، أو طائفة من بني إسرائيل، فهو يجيء أحيانًا، ويذهب أحيانًا، فإذا وقع بأرض فلا تدخلوا عليه، وإذا وقع بأرض فلا تخرجوا فرارًا منه". انتهى

(1)

.

وساقها الحميديّ أيضًا في "مسنده"، فقال:

(544)

- ثنا سفيان، قال: ثنا عمرو بن دينار، قال: سمعت عامر بن سعد بن أبي وقاص، قال: جاء رجل إلى سعد، يسأله عن الطاعون، وعنده أسامة بن زيد، فقال أسامة: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "هو عذابٌ، أو رجزٌ، أُرسل على أناس ممن كان قبلكم، أو على طائفة من بني إسرائيل، فهو يجيء أحيانًا، ويذهب أحيانًا، فإذا وقع بأرض، وأنتم بها، فلا تخرجوا منها فرارًا منه، وإذا سمعتم به في أرض، فلا تدخلوها"، فقال عمرو: فلعله لقوم عذابٌ، أو رجزٌ، ولقوم شهادة، قال سفيان: فأعجبني قول عمرو هذا. انتهى

(2)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5763]

(. . .) - (حَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو، وَحَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيىَ، قَالَا: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَني يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أًخْبَرَني عَامِرُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "إِنَّ هَذَا الْوَجَعَ، أَوِ السَّقَمَ رِجْزٌ، عُذِّبَ بِهِ بَعْضُ الأُمَمِ قَبْلَكُمْ، ثُمُّ بَقِيَ بَعْدُ بِالأَرْضِ، فَيَذْهَبُ الْمَرَّةَ، وَيَأْتِي الأُخْرَى، فَمَنْ سَمِعَ بِهِ بِأَرْضٍ، فَلَا يَقْدَمَنَّ عَلَيْهِ، وَمَنْ وَقَعَ بِأَرْضٍ، وَهُوَ بِهَا، فَلَا يُخْرِجَنَّهُ الْفِرَارُ مِنْهُ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

وكلّهم ذُكروا في الباب، وقبله ببابين.

وقوله: (إِنَّ هَذَا الْوَجَعَ) بفتحتين مصدر وَجِع، من باب تعب؛ أي:

(1)

"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 5/ 200.

(2)

"مسند الحميديّ" 1/ 249.

ص: 303

مرض، قال الفيّوميّ رحمه الله: وَجِعَ فلانًا رأسُهُ، أو بطنه، يُجعَل الإنسانُ مفعولًا، والعضوُ فاعلًا، وقد يجوز العكس، وكأنه على القلب؛ لفهم المعنى، يَوْجَعُ وَجَعًا، من باب تَعِبَ، فهو وَجِعٌ؛ أي: مريض، متألِّمٌ، ويقع الوَجَعُ على كلّ مرض، وجمعه أَوْجَاعٌ، مثلُ سبب وأسباب، ووِجَاعٌ أيضًا بالكسر، مثلُ جَبَل وجِبَال، وقوم وَجِعُونَ، ووَجْعَى، مثلُ مَرْضَى، ونساءٌ وَجِعَاتٌ، ووَجَاعَى، وربما قيل: أَوْجَعَهُ رأسه بالألف، والأصل: وَجَعَهُ ألَمُ رأسه، وأَوْجَعَهُ ألم رأسه، لكنه حُذف للعلم به، وعلى هذا فيقال: فلان مَوْجُوعٌ، والأجود: مَوْجُوعُ الرأس، وإذا قيل: زيد يَوْجَعُ رَأسَهُ، بحذف المفعول، انتَصَبَ الرأس، وفي نصبه قولان، قال الفراء: وَجِعْتَ بَطْنَكَ، مثلُ رَشِدتَ أمرَكَ، فالمعرفة هنا في معنى النكرة، وقال غير الفرَّاءِ: نصبُ البطن بنزع الخافض، والأصل: وَجِعْتَ من بطنك، ورَشِدت في أمرك؛ لأن المفسّرات عند البصريّين لا تكون إلا نكرات، وهذا على القول بجعل الشخص مفعولًا واضحٌ، أما إذا جُعل الشخص فاعلًا، والعضو مفعولًا فلا يحتاج إلى هذا التّأويل، وتَوَجَّعَ: تَشَكَّى، وتَوَجَّعْتُ له من كذا: رَثَيْتُ له. انتهى

(1)

.

وقوله: (أَوِ السَّقَمَ) بفتحتين، أو بضمّ، فسكون، يقال: سَقِمَ سَقَمًا، من باب تَعِبَ: طال مرضه، وسَقُمَ سُقْمًا، من باب قَرُبَ، فهو سقيمٌ، وجَمْعه سِقَامٌ، مثلُ كريم وكِرام، ويتعدّى بالهمزة والتضعيف، والسَّقَام بالفتح اسم منه، قاله الفيّوميّ رحمه الله

(2)

.

وقوله: (رِجْزٌ) بكسر الراء، وسكون الجيم، آخره زاي؛ أي: عذاب.

وقوله: (ثُمَّ بَقِيَ بَعْدُ) بالبناء على الضمّ؛ لِقَطْعه عن الإضافة، ونيّة معناها، ويجوز قَطْعُه عنها لفظًا ومعنًى، فيُنصب على الظرفيّة، وإلى هذا أشار في "الخلاصة"، حيث قال:

(1)

"المصباح المنير" 2/ 648.

قال الجامع عفا الله عنه: قد تقدّم نقل كلام الفيّوميّ هذا في غير هذا الموضع من هذا الشرح، وإنما أعدته لأهمّيته، فتنبّه.

(2)

"المصباح المنير" 1/ 280.

ص: 304

وَاضْمُمْ بِنَاءً "غَيْرًا" انْ عَدِمْتَ مَا

لَهُ أُضِيفَ نَاوِيًا مَا عُدِمَا

"قَبْلُ" كَـ"غَيْرُ""بَعْدُ""حَسْبُ""أَوَّلُ"

و"دُونُ" والْجِهَاتُ أَيْضًا و"عَلُ"

وَأَعْرَبُوا نَصْبًا إِذَا مَا نُكِّرَا

"قَبْلًا" ومَا مِنْ بَعْدِهِ قَدْ ذُكِرَا

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام شرحه، وبيان مسائله، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5764]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَاهُ أَبُو كَامِلٍ الْجَحْدَرِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ -يَعْنِي: ابْنَ زِيَادٍ- حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، بِإِسْنَادِ يُونُسَ، نَحْوَ حَدِيثِهِ).

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(أَبُو كَامِلٍ الْجَحْدَرِيُّ) فُضيل بن حسين البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 247)، وله أكثر من ثمانين سنةً (خت م د ت س) تقدم في "المقدمة" 6/ 57.

2 -

(عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زِيادٍ) العبديّ مولاهم البصريّ، ثقةٌ [8](ت 176)(ع) تقدم في "الطهارة" 11/ 584.

والباقيان ذُكرا في الباب، وقبله ببابين.

[تنبيه]: رواية معمر بن راشد عن الزهريّ هذه ساقها عبد الرزاق رحمه الله في "مصنّفه"، فقال:

(20158)

- أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الزهريّ، عن عامر بن سعد، عن أسامة بن زيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن هذا الوباء رجزٌ، أهلك الله به بعض الأمم قبلكم، وقد بقي منه في الأرض شيءٌ، يجيء أحيانًا، ويذهب أحيانًا، فإذا وقع وأنتم بأرض، فلا تخرجوا منها، وإذا سمعتم به في أرض فلا تأتوها". انتهى

(1)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5765]

(. . .) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ حَبِيبٍ، قَالَ: كُنَّا بِالْمَدِينَةِ، فَبَلَغَنى أَنَّ الطَّاعُونَ قَدْ وَقَعَ بِالْكُوفَةِ، فَقَالَ

(1)

"مصنف عبد الرزاق" 11/ 146.

ص: 305

لِي عَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ وَغَيْرُهُ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِذَا كُنْتَ بِأَرْضٍ، فَوَقَعَ بِهَا، فَلَا تَخْرُجْ مِنْهَا، وَإِذَا بَلَغَكَ أَنَّهُ بِأَرْضٍ، فَلَا تَدْخُلْهَا"، قَالَ: قُلْتُ: عَمَّنْ؟ قَالُوا: عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ، يُحَدِّثُ بِهِ، قَالَ. فَأَتَيْتُهُ، فَقَالُوا: غَائِبٌ. قَالَ: فَلَقِيتُ أَخَاهُ إِبْرَاهِيمَ بْنَ سَعْدٍ، فَسَأَلْتُهُ، فَقَالَ: شَهِدْتُ أُسَامَةَ يُحَدِّثُ سَعْدًا، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِنَّ هَذَا الْوَجَعَ رِجْزٌ، أَوْ عَذَابٌ، أَوْ بَقِيَّةُ عَذَابٍ، عُذِّبَ بهِ أُنَاسٌ مِنْ قَبْلِكُمْ، فَإِذَا كَانَ بِأَرْضٍ، وَأَنتُمْ بِهَا، فَلَا تَخْرُجُوا مِنْهَا، وَإِذَا بَلَغَكُمْ أَنَّهُ بِأَرْضٍ، فَلَا تَدْخُلُوهَا"، قَالَ حَبِيبٌ: فَقُلْتُ لإِبْرَاهِيمَ: آنْتَ سَمِعْتَ أُسَامَةَ يُحَدِّثُ سَعْدًا، وَهُوَ لَا يُنْكِرُ؟ قَالَ: نَعَمْ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ) محمد بن إبراهيم بن أبي عديّ البصريّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(حَبِيبُ) بن أبي ثابت قيس، ويقال: هند بن دينار الأسديّ مولاهم، أبو يحيى الكوفيّ، ثقةٌ فقيهٌ جليلٌ، وكان كثير الإرسال، والتدليس [3](ت 119)(ع) تقدّم في "المقدّمة" 1/ 1.

3 -

(إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدِ) بن أبي وقّاص الزهريّ المدنيّ، ثقةٌ [3].

رَوَى عن أبيه، وأسامة بن زيد، وخزيمة بن ثابت.

ورَوى عنه ابن أخته سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، وحبيب بن أبي ثابت، وأبو جعفر الباقر.

قال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث، وقال العجليّ: مدنيّ، تابعيّ، ثقةٌ، وقال يعقوب بن شيبة: معدود في الطبقة الثانية من فقهاء أهل المدينة، بعد الصحابة، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال في "التقريب": مات بعد المائة.

أخرج له البخاريّ، والمصنّف، والنسائيّ، وابن ماجه، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا برقم (2218)، وحديث (2404):"أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى؟ ".

والباقون ذُكروا في الباب، وقبله.

ص: 306

شرح الحديث:

(عَنْ حَبِيبِ) بن أبي ثابت، أنه (قَالَ: كُنَّا بِالْمَدِينَةِ) النبويّة (فَبَلَغَنِي أَنَّ الطَّاعُونَ قَدْ وَقَعَ بِالْكُوفَةِ)؛ أي: وهي بلدي، فأردت أن أسافر إليها، (فَقَالَ لِي عَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ) الهلاليّ مولاهم المدنيّ المتوفّى سنة (94)، تقدّمت ترجمته في "الإيمان" 26/ 213. (وَغَيْرُهُ) لم أعرفه، ولكن لا تضرّ جهالته؛ لأنه ذُكر مقرونًا بعطاء، ولفظ أحمد في "مسنده": "قال: كنت بالمدينة، فبلغني أن الطاعون بالكوفة، قال: فذكر لي عطاء بن يسار، وغير واحد من أهل المدينة، هذا الحديث

(1)

.

(إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم) بكسر "إنّ"؛ لوقوعها مقول القول، (قَالَ:"إِذَا كُنْتَ بِأَرْضٍ، فَوَقَعَ) الطاعون (بِهَا)؛ أي: بتلك الأرض، (فَلَا تَخْرُجْ مِنْهَا) إلى غيرها فرارًا، (وَإِذَا بَلَغَكَ أَنَّهُ)؛ أي: الطاعون وقع (بِأَرْضٍ) لست فيها (فَلَا تَدْخُلْهَا"، قَالَ) حبيب:(قُلْتُ) لعطاء بن يسار، وغيره:(عَمَّنْ؟)؛ أي: عن أيّ شخص رويتم هذا الحديث؟ (قَالُوا) رويناه (عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدِ) بن أبي وقّاص، تقدّم في الحديث الماضي، حال كونه (يُحَدِّثُ بهِ)؛ أي: بهذا الحديث. (قَالَ) حبيب (فَأَتَيْتُهُ)؛ أي: أتيت منزله (فَقَالُوا)؛ أَي: أهل بيته: هو (غائِبٌ) عن البيت (قَالَ) حبيب: (فَلَقِيتُ أَخَاهُ إِبْرَاهِيمَ بْنَ سَعْدِ) بن أبي وقّاص (فَسَأَلتُهُ) عن هذا الحديث، (فَقَالَ) إبراهيم:(شَهِدْتُ) بكسر الهاء، من تَعِب؛ أي: حضرت (أُسَامَةَ) بن زيد رضي الله عنهما، حال كونه (يُحَدِّثُ سَعْدًا)؛ أي: ابن أبي وقّاص، والد إبراهيم، (قَالَ) أسامة رضي الله عنه (سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:"إِنَّ هَذَا الْوَجَعَ) بفتحتين؛ أي: المرض، (رِجْزٌ)؛ أي: عذاب، (أَوْ عَذَابٌ، أَوْ بَقِيةُ عَذَابٍ) "أو" في الموضعين للشكّ من الراوي، (عُذِّبَ) بالبناء للمفعول، (بِهِ أُنَاسٌ مِنْ قَبْلِكُمْ)؛ أي: من الأمم السابقة، وهم بنو إسرائيل، كما بُيّن في الرواية الأخرى، (فَإذَا كَانَ بِأَرْضٍ) "كان" تامّة، فلا تحتاج إلى خبر، كما قال الحريريّ رحمه الله في "مُلحته":

وَإِنْ تَقُلْ يَا قَوْمِ قَدْ كَانَ الْمَطَرْ

فَلَسْتَ تَحْتَاجُ لَهَا إِلَى خَبَرْ

أي: وقع الطاعون في أرض (وَأَنْتُمْ بِهَا) جملة حاليّة من "أرض"، (فَلَا

(1)

"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 5/ 209.

ص: 307

تَخْرُجُوا مِنْهَا)؛ أي: فرارًا، وأما الخروج لغرض آخر، فجائز، كما تقدّم بيانه. (وَإِذَا بَلَغَكُمْ أَنَّهُ)؛ أي: الطاعون (بِأَرْضٍ)؛ أي: فيها، (فَلَا تَدْخُلُوهَا"، قَالَ حَبِيبٌ)؛ أي: ابن ثابت: (فَقُلْتُ لإِبْرَاهِيمَ) بن سعد: (آنْتَ) بمد الهمزة، أصله أأنت بهمزتين، الأولى للاستفهام، فقُلبت الثانية ألفًا، (سَمِعْتَ أُسَامَةَ) بن زيد (يُحَدِّثُ سَعْدًا)؛ أي: ابن أبي وقّاص بهذا الحديث (وَهُوَ لَا يُنْكِرُ؟) جملة حاليّة؛ أي: والحال أن سعدًا لا يُنكر على أسامة حديثه هذا. (قَالَ) إبراهيم (نَعَمْ) سمعته يُحدّثه به، وهو غير منكر عليه، والله تعالى أعلم.

والحديث بهذا السياق من أفراد المصنّف، وإلا فأصله متّفقٌ عليه، وقد سبق بيانه، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5766]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَاهُ عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، بِهَذَا الإسْنَادِ، غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ قِصَّةَ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ في أَوَّلِ الْحَدِيثِ).

رجال هذا الإسناد: ثلاثة:

1 -

(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ) الْعَنبريّ، أبو عمرو البصريّ، ثقةٌ حافظٌ، رجّح ابن معين أخاه المثنّى عليه [10]، (ت 237)(خ م د س) تقدم في "المقدمة" 3/ 7.

2 -

(أَبُوهُ) معاذ بن معاذ بن نصر بن حسّان الْعَنْبريّ، أبو المثنّى البصريّ القاضي، ثقةٌ متقنٌ، من كبار [9](ت 196)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 7.

و"شعبة" ذُكر قبله.

[تنبيه]: رواية معاذ بن معاذ عن شعبة هذه لم أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5767]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ حَبِيبٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ سَعْدِ بْنِ مَالِكٍ، وَخُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ، وَأُسَامَةَ بْنِ زيدٍ، قَالُوا: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، بِمَعْنَى حَدِيثِ شُعْبَةَ).

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(وَكِيعُ) بن الجرّاح، تقدّم قريبًا.

ص: 308

2 -

(خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتِ) بن الفاكه بن ثعلبة بن ساعدة الأنصاريّ الخطميّ، أبو عُمارة المدنيّ، ذو الشهادتين، شَهِد بدرًا وما بعدها.

رَوَى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعنه ابنه عُمارة، وجابر بن عبد الله الأنصاريّ، وعُمارة بن عثمان بن حُنيف، وعمرو بن ميمون الأوديّ، وإبراهيم بن سعد بن أبي وقاص، وأبو عبد الله الْجَدَليّ، وعبد الله بن يزيد الخطميّ على اختلاف فيه، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وعطاء بن يسار، وغيرهم.

قال ابن سعد: كان هو وعُمير بن عديّ بن خَرَشَة يكسران أصنام بني خَطْمة، وقال أبو معشر المدنيّ، عن محمد بن عُمارة بن خزيمة بن ثابت: ما زال جدّي كافًّا سلاحه يوم صِفِّين حتى قُتل عَمّار، فسَلَّ سيفه، وقاتل حتى قُتل، وذلك سنة سبع وثلاثين.

وإنما قيل له: ذو الشهادتين؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم جَعل شهادته بشهادة رجلين، أخرج ذلك أبو داود، وعند أحمد من مسند خزيمة أنه أخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه رأى في المنام أنه يسجد على جبهته، فاضطجع حتى سجد خزيمة على جبهته، وذكر ابن عبد البرّ، والترمذيّ قبله، واللالكائيّ أنه شهد بدرًا، وأما أصحاب المغازي فلم يذكروه في البدريين، وعدّه ابن الْبَرْقي فيمن لم يشهد بدرًا، وقال العسكريّ: وأهل المغازي لا يُثبتون أنه شهد أُحُدًا، وشَهِد المشاهد بعدها. أخرج له المصنّف، والأربعة، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.

والباقون ذُكروا في الباب، و"سفيان" هو: الثوريّ، و"حبيب" هو: ابن أبى ثابت.

وقوله: (عَنْ سَعْدِ بْنِ مَالِكٍ

الخ) هذا صريح في كون سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه ممن رواه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، بخلاف الروايات السابقة، فإنها صريحة في كونه رواه عن أسامة بن زيد، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، فبينهما معارضة، لكن قال الحافظ رضي الله عنه في "الفتح": وهذا الاختلاف لا يضرّ؛ لاحتمال أن يكون سعد تذكّر لَمَّا حدثه به أسامة، أو نُسِبت الرواية إلى سعد؛ لتصديقه أسامة، وأما خزيمة فيَحْتَمِل أن يكون إبراهيم بن سعد سمعه منه بعد ذلك، فضمّه إليها تارةً،

ص: 309

وسكت عنه أخرى. انتهى

(1)

.

[تنبيه]: رواية سفيان الثوريّ، عن حبيب بن أبي ثابت هذه ساقها النسائيّ رحمه الله في "الكبرى"، فقال:

(7523)

- أخبرنا محمود بن غيلان، قال: ثنا وكيع، قال: ثنا سفيان، عن حبيب، عن إبراهيم بن سعد، عن سعد بن مالك، وخزيمة بن ثابت، وأسامة بن زيد، قالوا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن هذا الطاعون رِجْزٌ، وبقية عذاب، عُذِّب به قوم، فإذا وقع بأرض، وأنتم بها، فلا تخرجوا فرارًا منه، وإذا وقع بأرض، ولستم بها، فلا تدخلوها". انتهى

(2)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5768]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، كِلَاهُمَا عَنْ جَرِيرٍ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ حَبِيبٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، قَالَ: كَانَ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، وَسَعْدٌ جَالِسَيْنِ، يَتَحَدَّثَانِ، فَقَالَا: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، بِنَحْوِ حَدِيثِهِمْ).

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) الكوفيّ، أخو أبي بكر، تقدّم قريبًا.

2 -

(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه، تقدّم أيضًا قريبًا.

3 -

(جَرِيرُ) بن عبد الحميد، تقدّم أيضًا قريبًا.

4 -

(الأَعْمَشُ) سليمان بن مِهران، تقدّم أيضًا قريبًا.

والباقون ذُكروا قبله.

وقوله: (بِنَحْوِ حَدِيثِهِمْ)؛ يعني: حديث الأعمش نحو حديث شعبة، وسفيان، وإنما جمع الضمير؛ على القول الراجح في أن أقلّ الجمع اثنان، وقد تقدّم غير مرّة، وهذا هو الواقع في النسخ التي بين أيدينا من "صحيح مسلم"، وهو صحيح على هذا الوجه، وأما دعوى الشيخ الهرريّ أن هذا

(1)

"الفتح" 13/ 134، كتاب "الطبّ" رقم (5728).

(2)

"السُّنن الكبرى" للنسائيّ 4/ 362.

ص: 310

غلط، والصواب:"بنحو حديثهما" فغير صحيحة، ومن أغرب ما كتبه أن قوله:"بنحو حديثهم" وقع في أغلب النُّسخ موهمًا إلى أن هناك نسخة، أو نُسخًا وقع فيها:"بنحو حديثهما"، على نحو ما أصلحه، وهذا غير صحيح، فلم أر في نُسخة من النُّسخ الموجودة عندنا إشارة إلى هذا، حتى في هوامشها، وقد وقع للشيخ مثل هذا الإصلاح في غير موضع من الكتاب، فيا ليته لم يفعل هذا، والله تعالى المستعان.

والحاصل: أن ما وقع في الكتاب بلفظ: "بنحو حديثهم" صحيح روايةً، ودراية، فقد حققت ترجيح هذا القول في "التحفة المرضيّة"، و"شرحها"، فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق.

[تنبيه]: رواية الأعمش، عن حبيب بن أبي ثابت هذه لم أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5769]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِيهِ وَهْبُ بْنُ بَقِيَّةَ، أَخْبَرَنَا خَالِدٌ -يَعْنِي: الطَّحَّانَ- عَنِ الشَّيْبَانِيِّ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَبِيِّ صلى الله عليه وسلم، بِنَحْوِ حَدِيثِهِمْ).

رجال هذا الإسناد: ستّةٌ:

1 -

(وَهْبُ بْنُ بَقِيَّةَ) بن عثمان، أبو محمد الواسطيّ، ويقال له: وهبان، ثقةٌ [10]، (ت 239)، وله (5 أو 96) سنةً (م د س) تقدم في "الإمارة" 15/ 4790.

2 -

(خَالِدٌ الطَّحَّانُ) ابن عبد الله بن عبد الرحمن بن يزيد، أبو الهيثم الواسطيّ المزنيّ مولاهم، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 182)(ع) تقدم في "الإيمان" 78/ 407.

3 -

(الشَّيْبَانِيُّ) سليمان بن أبي سليمان فيروز، أبو إسحاق الكوفيّ، ثقةٌ [5] مات في حدود (140)(ع) تقدم في "الإيمان" 38/ 259.

والباقون ذكروا في الباب.

وقوله: (بِنَحْوِ حَدِيثِهِمْ)؛ يعني: أن حديث أبي إسحاق الشيبانيّ عن حبيب بن أبي ثابت نحو حديث شعبة، والثوريّ، والأعمش عنه.

[تنبيه]: رواية أبي إسحاق الشيبانيّ عن حبيب بن أبي ثابت هذه ساقها

ص: 311

الحافظ أحمد بن إبراهيم الدورقيّ رحمه الله في "مسند سعد"، فقال:

(78)

- حدّثنا أحمد، حدثنا عمرو بن عون، أخبرنا خالد بن عبد الله، عن الشيبانيّ، عن حبيب بن أبي ثابت، عن إبراهيم بن سعد بن أبي وقاص، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن هذا الوجع -يعني: الطاعون- رجزٌ أُنزل على من كان قبلكم، فإذا أخذ بأرض، وكنتم بها

(1)

، فلا تطؤوها، حتى يُقْلِع عنها، وإذا أخذ بأرض، وأنتم بها، فلا تخرجوا منها". انتهى

(2)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5770]

(2219) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى التَّمِيمِيُّ، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ الْخَطَّابِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ خَرَجَ إِلَى الشَّامِ، حَتَّى إِذَا كَانَ بِسَرْغَ، لَقِيَهُ أَهْلُ الأَجْنَادِ، أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ، وَأَصْحَابُهُ، فَأَخْبَرُوهُ أَنَّ الْوَبَاءَ، قَدْ وَقَعَ بِالشَّامِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَقَالَ عُمَرُ: ادْعُ لِىَ الْمُهَاجِرِينَ الأوَّلِينَ، فَدَعَوْتُهُمْ، فَاسْتَشَارَهُمْ، وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ الْوَبَاءَ قَدْ وَقَعَ بِالشَّامِ، فَاخْتَلَفُوا، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: قَدْ خَرَجْتَ لأَمْرٍ، وَلَا نَرَى أَنْ تَرْجِعَ عَنْهُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعَكَ بَقِيَّةُ النَّاسِ، وَأَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَا نَرَى أَنْ تُقْدِمَهُمْ عَلَى هَذَا الْوَبَاءِ، فَقَالَ: ارْتَفِعُوا عَنِّي، ثُمَّ قَالَ: ادْعُ لِيَ الأَنْصَارَ، فَدَعَوْتُهُمْ لَهُ، فَاسْتَشَارَهُمْ، فَسَلَكُوا سَبِيلَ الْمُهَاجِرِينَ، وَاخْتَلَفُوا كَاخْتِلَافِهِمْ، فَقَالَ: ارْتَفِعُوا عَنِّي، ثُمَّ قَالَ: ادْعُ لِي مَنْ كَانَ هَا هُنَا مِنْ مَشْيَخَةِ قُرَيْشٍ، مِنْ مُهَاجِرَةِ الْفَتْحِ، فَدَعَوْتُهُمْ، فَلَمْ يَخْتَلِفْ عَلَيْهِ رَجُلَانِ، فَقَالُوا: نَرَى أنْ تَرْجِعَ بِالنَّاسِ، وَلَا تُقْدِمْهُمْ عَلَى هَذَا الْوَبَاءِ، فَنَادَى عُمَرُ فِي النَّاسِ: إِنِّي مُصْبِحٌ عَلَى ظَهْرٍ، فَأَصْبِحُوا عَلَيْهِ، فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ: أَفِرَارًا مِنْ قَدَرِ اللهِ؟ فَقَالَ عُمَرُ: لَوْ غَيْرُكَ قَالَهَا يَا أبَا عُبَيْدَةَ -وَكَانَ عُمَرُ يَكْرَهُ خِلَافَهُ- نَعَمْ نَفِرُّ مِنْ قَدَرِ اللهِ إِلَى قَدَرِ اللهِ، أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَتْ

(1)

هكذا النسخة، والظاهر أنه مصحّف من:"ولستم بها"، فليُحرّر، والله تعالى أعلم.

(2)

"مسند سعد" للحافظ أحمد بن إبراهيم الدورقيّ 1/ 138.

ص: 312

لَكَ إِبِلٌ، فَهَبَطْتَ وَادِيًا، لَهُ عِدْوَتَانِ: إِحْدَاهُمَا خَصِيبَةٌ

(1)

، وَالأُخْرَى جَدْبَةٌ، أَليْسَ إِنْ رَعَيْتَ الْخَصِبَةَ رَعَيْتَهَا بِقَدَرِ اللهِ؟ وَإِنْ رَعَيْتَ الْجَدْبَةَ رَعَيْتَهَا بِقَدَرِ اللهِ؟ قَالَ: فَجَاءَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وَكَانَ مُتَغَيِّبًا فِي بَعْضِ حَاجَتِهِ، فَقَالَ: إِنَّ عِنْدِي مِنْ هَذَا عِلْمًا، سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:"إِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضٍ، فَلَا تَقْدَمُوا عَلَيْهِ، وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ، وَأنتُمْ بِهَا، فَلَا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ"، قَالَ: فَحَمِدَ اللهَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، ثُمَّ انْصَرَفَ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زيدِ بْنِ الْخَطَّابِ) الْعَدويّ، أبو عمر المدنيّ، أمه من بني البكاء بن عامر، واستعمله عمر بن عبد العزيز على الكوفة، وقيل: عِداده في أهل الجزيرة، ثقةٌ [4].

روى عن أبيه، وابن عباس، ومحمد بن سعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن عبد الله بن الحارث بن نوفل، ومسلم بن يسار الجهنيّ، ومقسم مولى ابن عباس، وغيرهم.

وروى عنه أولاده: زيد، وعبد الكبير، وعمر، والزهريّ، وقتادة، وزيد بن أبي أنيسة، والحكم بن عتيبة، وجماعة.

قال الزبير بن بكار: كان أبو زناد كاتبًا له، وقال العجليّ، والنسائيّ، وابن خِراش: ثقةٌ، وقال أبو بكر بن أبي داود: ثقةٌ مأمونٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، تُوُفّي بِحَرّان في خلافة هشام.

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا برقم (2219)، وحديث (2397):"ما لقيك الشيطان قطّ سالكًا فجًّا إلا سلك فجًّا غير فجّك"، وله عند ابن ماجه حديث واحد في إتيان الحائض.

2 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلِ) بن الحارث بن عبد المطّلب الهاشميّ، أبو يحيى المدنيّ، ثقةٌ [3](ت 1 أو 159)(خ م د س) تقدم في "صلاة المسافرين وقصرها" 14/ 1668.

(1)

وفي نسخة: "خَصْبةٌ".

ص: 313

3 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبَّاسٍ) البحر الحبر رضي الله عنهما، تقدّم قريبًا.

4 -

(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفِ) بن عبد عوف بن عبد الحارث بن زُهرة القرشيّ الزهريّ، الصحابيّ الشهير، مات رضي الله عنه سنة (32)(ع) تقدم في "الصلاة" 23/ 957.

والباقون ذُكروا في الباب.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من سُباعيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالمدنيين، وشيخه، وإن كان نيسابوريًّا إلا أنه دخل المدينة؛ للأخذ عن مالك، وفيه رواية صحابيّ عن صحابيّ رضي الله عنهما، وفيه ثلاثة من التابعين روى بعضهم عن بعض، ورواية عبد الحميد عن عبد الله بن عبد الله من رواية الأقران؛ إذ هما من الطبقة الرابعة، وأن ابن عبّاس رضي الله عنهما أحد العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة، وأن عبد الرحمن بن عوف أحد العشرة المبشّرين بالجنّة رضي الله عنهما.

شرح الحديث:

(عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلٍ)؛ أي: ابن الحارث بن عبد المطلب لجد أبيه نوفل ابن عمّ النبيّ صلى الله عليه وسلم، له صحبة، وكذا لولده الحارث، ووُلد عبدُ الله بن الحارث في عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم، فعُدّ لذلك في الصحابة، فهم ثلاثة من الصحابة في نسق، وكان عبد الله بن الحارث يلقب بَبَّة -بموحدتين، مفتوحتين، الثانية مثقّلة- ومعناه: الممتلئ البدن من النعمة، ويكنى أبا محمد، ومات سنة أربع وثمانين، وأما ولده راوي هذا الحديث، فهو ممن وافق اسمه اسم أبيه، وكان يُكنى أبا يحيى، ومات سنة تسع وتسعين، وما له في البخاري سوى هذا الحديث، وله في مسلم ثلاثة أحاديث، وقد تقدّمت في ترجمته.

قال الحافظ: وقد وافق مالكًا على روايته عن ابن شهاب، هكذا معمر وغيره، وخالفهم يونس، فقال: عن ابن شهاب، عن عبد الله بن الحارث، أخرجه مسلم

(1)

، ولم يَسُق لفظه، وساقه ابن خزيمة، وقال: قول مالك ومن تابعه أصحّ. وقال الدارقطنيّ: تابع يونس صالح بن نصر، عن مالك، وقد رواه

(1)

هي الرواية الآتية لمسلم بعد حديث.

ص: 314

ابن وهب، عن مالك، ويونس جميعًا، عن ابن شهاب، عن عبد الله بن الحارث، والصواب الأول، وأظنّ ابن وهب حمل رواية مالك على رواية يونس، قال: وقد رواه إبراهيم بن عمر بن أبي الوزير، عن مالك؛ كالجماعة، لكن قال: عن عبد الله بن عبد الله بن الحارث، عن أبيه، عن ابن عباس، زاد في السند:"عن أبيه"، وهو خطأ.

قال الحافظ: وقد خالف هشام بن سعد جميع أصحاب ابن شهاب، فقال: عن ابن شهاب، عن حُميد بن عبد الرحمن، عن أبيه، وعمر، أخرجه ابن خزيمة، وهشام صدوقٌ سيّئ الحفظ، وقد اضطرب فيه، فرواه تارةً هكذا، ومرّةً أخرى عن ابن شهاب، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، عن أبيه، وعمر، أخرجه ابن خزيمة أيضًا.

ولابن شهاب فيه شيخ آخر، قد ذكره البخاريّ إثر هذا السند، فقال بسنده: عن ابن شهاب، عن عبد الله بن عامر، أن عمر خرج إلى الشام. انتهى

(1)

.

(عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما (أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ) رضي الله عنه (خَرَجَ إِلَى الشَّامِ) البلد المعروف، وهو بهمزة ساكنة، ويجوز تخفيفها، والنسبة شأميّ على الأصل، ويجوز شآمٍ بالمدّ من غير ياء، مثلُ يمنيّ، ويمانٍ، قاله الفيّوميّ

(2)

.

[تنبيه]: كان خروج عمر رضي الله عنه إلى الشام -على ما ذكره سيف بن عمر في "الفتوح"- في ربيع الآخر سنة ثماني عشرة، وأن الطاعون كان وقع أوّلًا في المحرّم، وفي صفر، ثم ارتفع، فكتبوا إلى عمر، فخرج، حتى إذا كان قريبًا من الشام بلغه أنه أشدّ ما كان، فذكر القصة، وذكر خليفة بن خياط أن خروج عمر رضي الله عنه إلى سَرْغَ كان في سنة سبع عشرة، فالله أعلم.

وهذا الطاعون الذي وقع بالشام حينئذ هو الذي يُسَمَّى طاعون عَمَوَاس -بفتح العين المهملة، والميم، وحُكِي تسكينها، وآخره سين مهملة- قيل: سُمّي بذلك؛ لأنه عَمَّ، وواسى

(3)

.

(1)

"الفتح" 13/ 136 - 137، كتاب "الطبّ" رقم (5729).

(2)

"المصباح المنير" 1/ 328.

(3)

"الفتح" 13/ 136 - 137، كتاب "الطبّ" رقم (5729).

ص: 315

وقال القرطبيّ رحمه الله: كان هذا الخروج من عمر رضي الله عنه بعدما فتح بيت المقدس سنة سبع عشرة، على ما ذكره خليفة بن خيَّاط، وكان يتفقد أحوال رعيته، وأحوال أمرائه، وقد كان خرج قبل ذلك إلى الشام لمّا حاصر أبو عبيدة إيلياء، وهي البيت المقدَّس، عندما سأل أهلها أن يكون صلحهم على يدي عمر، فقَدِمَ، وصالحهم، ثم رجع، وذلك سنة ست عشرة من الهجرة. انتهى

(1)

.

(حَتَّى إِذَا كَانَ) هنا تامّة؛ أي: وُجد (بِسَرْغَ) -بفتح السين المهملة، وسكون الراء، بعدها غين معجمة- وحُكِيَ عن ابن وضاح تحريك الراء، وخطّأه بعضهم: مدينةٌ افتتحها أبو عبيدة، وهي، واليرموك، والجابية، متصلاتٌ، وبينها وبين المدينة ثلاث عشرة مرحلةً، وقال ابن عبد البرّ: قيل: إنه وادٍ بتبوك، وقيل: بقرب تبوك. وقال الحازميّ: هي أول الحجاز، وهي من منازل حاجّ الشام، وقيل: بينها وبين المدينة ثلاث عشرة مرحلةّ، قاله في "الفتح"

(2)

.

وقال النوويّ رحمه الله: أما سَرْغ: فبسين مهملة، مفتوحة، ثم راء ساكنة، ثم غين معجمة، وحَكَى القاضي وغيره أيضًا فتح الراء، والمشهور إسكانها، ويجوز صرفه، وتركه، وهي قرية في طرف الشام، مما يلي الحجاز. انتهى

(3)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: "سرغ": رويناه بفتح الراء، وسكونها، وهي: قرية بتبوك، قاله ابن حبيب. وقال ابن وضاح: بينها وبين المدينة ثلاث عشرة مرحلة، وقيل: هي آخر عَمَل الحجاز، ففيه بيانُ ما يجب على الإمام من تفقُّد أحوال رعيته، ومباشرة ذلك بنفسه، والسفر إلى ذلك، وإن طال.

(لَقِيَهُ أَهْلُ الأَجْنَادِ) ولفظ البخاريّ: "لقيه أمراء الأجناد"، قال النوويّ رحمه الله: المراد بالأجناد هنا: مُدُن الشام الخمس، وهي فلسطين، والأردنّ، ودمشق، وحمص، وقِنِّسرين، هكذا فسروه، واتفقوا عليه، ومعلوم

(1)

"المفهم" 5/ 615.

(2)

"الفتح" 13/ 137، كتاب "الطبّ" رقم (5729).

(3)

"شرح النوويّ" 14/ 208.

ص: 316

أن فلسطين اسم لناحية بيت المقدس، والأردن اسم لناحية سيان، وطبرية، وما يتعلق بهما، ولا يضرّ إطلاق اسم المدينة عليه. انتهى

(1)

.

وقال القرطبيّ: "الأمراء": جمع أمير، وكان قد قسَّم الشام على أربعة أمراء؛ تحت كل واحدٍ منهم جند، وناحية: أبو عبيدة بن الجراح، وشُرَحبيل بن حَسَنة، ويزيد بن أبي سفيان، ومعاذ بن جبل، ثم لم يمت عمر حتى جمع الشام لمعاوية.

وفيه دليل على إباحة العمل، والولاية لمن كانت له أهلية ذلك من العلم، والصلاح؛ إذا اعتقدوا أنهم متمكِّنون من العمل بالحق، والقيام به، فإذا عملوا بذلك حصل لهم أجر أئمة العدل. انتهى

(2)

.

وقوله: (أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ) بدل من "أهلُ"، هو عامر بن عبد الله بن الجرّاح بن هلال بن أُهيب بن ضَبّة بن الحارث بن فِهْر القرشيّ الفِهْريّ، أحد العشرة المبشّرين بالجنّة، أسلم قديمًا، وشهد بدرًا، ومات شهيدًا بطاعون عمَوَاس سنة (18)، تقدّمت ترجمته في "الصيد والذبائح" 4/ 4990، له في مسلم ذكرٌ فقط، ولا رواية له. (وَأَصْحَابُهُ) هم: خالد بن الوليد، ويزيد بن أبي سفيان، وشُرَحبيل بن حَسَنة، وعمرو بن العاص، وكان أبو بكر قد قسم البلاد بينهم، وجعل أمر القتال إلى خالد، ثم ردّه عمر إلى أبي عبيدة، وكان عمر رضي الله عنه قسم الشام أجنادًا: الأردُنّ جند، وحمص جند، ودمشق جند، وفلسطين جند، وقِنِّسرين جند، وجَعَل على كل جند أميرًا، ومنهم من قال: إن قنسرين كانت مع حمص، فكانت أربعة، ثم أُفردت قِنِّسرين في أيام يزيد بن معاوية.

(فَأَخْبَرُوهُ)؛ أي: أخبر أهل الأجناد عمر (أَنَّ الْوَبَاءَ) بالقصر أفصح من مدّه؛ أي: الطاعون

(3)

، وقال الفيّوميّ رحمه الله: الوباء بالهمز: مرض عامّ، يُمَدّ، ويُقْصَر، ويُجمع الممدود على أَوْبِئَةٍ، مثلُ متاع وأمتعة، والمقصور على أَوْبَاءٍ، مثلُ سبب وأسباب، وقد وَبِئَتِ الَأرضُ تَوْبَأُ، من باب تَعِبَ وَبْئًا، مثل فَلْسٍ: كَثُرَ مرضها، فهي وَبِئَةٌ، ووَبِيئَةٌ، على فَعِلَةٍ، وفَعِيلةٍ، ووُبِئَتْ بالبناء للمفعول،

(1)

"شرح النوويّ" 14/ 208.

(2)

"المفهم" 5/ 616.

(3)

"شرح الزرقاني على الموطّأ" 4/ 295.

ص: 317

فهي مَوْبُوءَةٌ؛ أي: ذات وباء. انتهى

(1)

، وقد تقدّم البحث مستوفًى في شرح حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما الماضي.

(قَدْ وَقَعَ بِالشَّامِ) وعند سيف: أنه أشدّ ما كان، وفي رواية يونس:"الوجع" بدل "الوباء"، وفي رواية هشام بن سعد:"أن عمر لَمّا خرج إلى الشام، سَمِع بالطاعون"، ولا مخالفة بينها، فإن كل طاعون وباءٌ، ووَجَعٌ، من غير عكس

(2)

.

(قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما (فَقَالَ عُمَرُ بن الخطاب) رضي الله عنه (ادْعُ لِيَ)، وفي رواية يونس:"اجمع لي"، (الْمُهَاجِرِينَ الأَوَّلِينَ) هم الذين صلّوا إلى القبلتين، وأما من لم يُسلم إلا بعد تحويل القبلتين فلا يُعدّ في الأولين، قاله القرطبيّ رحمه الله

(3)

.

(فَدَعَوْتُهُمْ، فَاسْتَشَارَهُمْ) في القدوم، والرجوع، وفيه دليلٌ على استشارة أولي العلم، والفضائل، وتقديم أهل السوابق، وهذا من عمر رضي الله عنه عَمَلٌ بقوله تعالى:{وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} الآية [آل عمران: 159] وقد استشار النبيّ صلى الله عليه وسلم أصحابَه غير مرّة، وإن كان أكمل الناس عقلًا، وأغزرهم علمًا، ولكن كان ذلك لِيَسُنَّ، ويطيب قلوب أصحابه. انتهى

(4)

.

وقال النوويّ رحمه الله: قوله: "ادع لي المهاجرين الأولين، فدعا، ثم دعا الأنصار، ثم مشيخة قريش، من مهاجرة الفتح" إنما رتّبهم هكذا على حَسَب فضائلهم، قال القاضي عياض: المراد بالمهاجرين الأولين: مَن صلى للقبلتين، فأما من أسلم بعد تحويل القبلة، فلا يُعَدّ فيهم، قال: وأما مهاجرة الفتح، فقيل: هم الذين أسلموا قبل الفتح، فحصل لهم فضل بالهجرة قبل الفتح؛ إذ لا هجرة بعد الفتح، وقيل: هم مُسْلِمة الفتح الذين هاجروا بعده، فحصل لهم اسم دون الفضيلة، قال القاضي: هذا أظهر؛ لأنهم الذين ينطلق عليهم مشيخة قريش، وكان رجوع عمر رضي الله عنه لرجحان طرف الرجوع؛ لكثرة القائلين، وأنه أحوط، ولم يكن مجرد تقليد لمسلمة الفتح؛ لأن بعض المهاجرين الأولين،

(1)

"المصباح المنير" 2/ 646.

(2)

"الفتح" 13/ 136 - 137، كتاب "الطبّ" رقم (5729).

(3)

"المفهم" 5/ 616 - 617.

(4)

"المفهم" 5/ 616 - 617.

ص: 318

وبعض الأنصار أشاروا بالرجوع، وبعضهم بالقدوم عليه، وانضم إلى المشيرين بالرجوع رأي مشيخة قريش، فكَثُرَ القائلين به، مع ما لهم من السنّ، والخبرة، وكثرة التجارب، وسداد الرأي، وحجة الطائفتين واضحة مبيّنة في الحديث، وهما مستمدّان من أصلين في الشرع: أحدهما: التوكل، والتسليم للقضاء، والثاني: الاحتياط والحذر، ومجانبة أسباب الإلقاء باليد إلى التهلكة، قال القاضي: وقيل: إنما رجع عمر لحديث عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما، كما قال مسلم هنا في روايته عن ابن شهاب: أن سالم بن عبد الله قال: إن عمر إنما انصرف بالناس عن حديث عبد الرحمن بن عوف، قالوا: ولأنه لم يكن ليرجع لرأي دون رأي، حتى يجد علمًا، وتأول هؤلاء قوله:"إني مُصْبِحٌ على ظهر، فأصبحوا"، فقالوا: أي مسافر إلى الجهة التي قصدناها أوّلًا، لا للرجوع إلى المدينة، وهذا تأويل فاسد، ومذهب ضعيفٌ، بل الصحيح الذي عليه الجمهور، وهو ظاهر الحديث، أو صريحه أنه إنما قصد الرجوع أوّلًا بالاجتهاد حين رأى الأكثرين على ترك الرجوع

(1)

، مع فضيلة المشيرين به، وما فيه من الاحتياط، ثم بلغه حديث عبد الرحمن، فحمد الله تعالى، وشكره على موافقة اجتهاده، واجتهاد معظم أصحابه نصّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما قول مسلم: إنه إنما رجع لحديث عبد الرحمن، فيَحْتَمِل أن سالِمًا لم يبلغه ما كان عمر عزم عليه من الرجوع قبل حديث عبد الرحمن له، ويَحْتَمِل أنه أراد: لم يرجع إلا بعد حديث عبد الرحمن، والله أعلم. انتهى

(2)

.

(وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ الْوَبَاءَ قَدْ وَقَعَ بِالشَّامِ، فَاخْتَلَفُوا، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: قَدْ خَرَجْتَ لأَمْرٍ)، وهو تفقّد أحوال الرعيّة، (وَلَا نَرَى أَنْ تَرْجِعَ عَنْهُ) حتى تفعله. (وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعَكَ بَقِيَّةُ النَّاسِ، وَأَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) قوله:"بقية الناس"؛ أي: الصحابة، أطلق عليهم ذلك تعظيمًا لهم؛ أي: ليس الناس إلا هم، ولهذا عَطَف الصحابة عليهم عطفَ تفسير، ويَحْتَمِل أن يكون المراد ببقية الناس؛ أي: الذين أدركوا النبيّ صلى الله عليه وسلم عمومًا، والمراد بالصحابة: الذين لازموه، وقاتلوا

(1)

هكذا النسخة، والظاهر أن لفظ "ترك" غلط، فتأمله بالإمعان، والله تعالى أعلم.

(2)

"شرح النوويّ" 14/ 209 - 210.

ص: 319

معه. (وَلَا نَرَى أَنْ تُقْدِمَهُمْ عَلَى هَذَا الْوَبَاءِ، فَقَالَ: ارْتَفِعُوا عَنِّي)، وفي رواية يونس:"فأمرهم، فخرجوا عنه"، (ثُمَّ قَالَ: ادْعُ لِيَ الأَنْصَارَ، فَدَعَوْتُهُمْ لَهُ، فَاسْتَشَارَهُمْ، فَسَلَكُوا سَبِيلَ الْمُهَاجِرِينَ، وَاخْتَلَفُو كَاخْتِلَافِهِمْ، فَقَالَ: ارْتَفِعُوا عَنِّي، ثُمَّ قَالَ: ادْعُ لِي مَنْ كَانَ هَا هُنَا مِنْ مَشْيَخَةِ قُرَيْشٍ) ضُبِطَ "مشيخة" بفتح الميم، والتحتانية، بينهما معجمة ساكنة، وبفتح الميم، وكسر المعجمة، وسكون التحتانية: جمع شيخ، ويجمع أيضًا على شُيوخ بالضم، وبالكسر، وأشياخ، وشِيَخَةٍ، بكسر، ثم فتح، وشِيخان، بكسر، ثم سكون، ومشايخ، ومشيخاء، بفتح، ثم سكون، ثم ضَمٍّ، ومَدّ، وقد تُشبع الضمة، حتى تصير واوًا، فتمّ عشرًا، قاله في "الفتح"

(1)

.

وقال في "تاج العروس": الشَّيْخ، والشَّيْخُونُ، والثّاني غَريبٌ، غير مَعْروف في الأُمّهات المشهورة، وأَوردَه بعض شُرّاح "الفصيح"، وقالوا: هو مُبالغة في الشَّيْخ: مَنِ اسْتَبَانَتْ فيه السِّنُّ، وظَهَر عليه الشَّيبُ، أَو شَيْخٌ من خَمْسِينَ إِلى آخرِه، أَو هو من إِحْدَى وخَمسينَ إِلى آخرِ عُمرِه، وقد ذكرَهما شُرَّاح "الفصيح"، أَو هو من الخمسين إِلى الثّمانين، حكاه ابن سِيدَهْ في "المخصّص"، والقزّاز في "الجامع"، وكُراع، وغير واحد، جَمْعه: شُيُوخٌ بالضمّ، على القياس، وشِيُوخٌ بالكسر؛ لمناسَبَة التّحتيّة، كما في بيوتٍ، وبابه، وأَشْيَاخٌ مثلُ بَيْت وأَبيات، وشِيَخَةٌ، بكسْر ففتْح، وشِيخَةٌ؛ كصِبْيَة، ذكرَه ابن سيدَهْ، وكُراع، وشِيخانٌ بالكسر؛ كضِيفانٍ، ومشْيخَةٌ، بفتْح الميم، وكسْرها، وسكون الشين، وفتْح التحتيّة، وضمّها، وقد ذكرَ الرِّوَايتين اللِّحْيَانيّ في "النوادر"، ومَشِيخَةٌ، بفتح الميم، وكسر المعجمة، ومشْيُوخاءُ، ومَشْيخَاءُ بحذف الواو منها، ومَشايخُ، وأَنكره ابن دريد، وقال القزّاز في "الجامع": لا أَصْل له في كلام العرب، وقال الزَّمخشريّ: المَشايخ ليست جمْعًا لشَيخ، وتَصلح أَن تكون جمْع الجمْع، ونَقَل الخفاجيّ: قيل: مَشَايخ جمع شَيْخ، لا على القياس، والتحقيق أَنَّه جمْعُ مَشْيَخة؛ كمَأْسَدة، وهي جمْع شَيخٍ، ومن جُموع الشَّيخ أيضًا الأَشاييخ، قال الزَّمَخْشَريّ: ويقولون: هؤلاءِ الأَشاييخ يُراد جمْع

(1)

"الفتح" 13/ 136 - 137، كتاب "الطبّ" رقم (5729).

ص: 320

أَشياخٍ، مثل أَنايِيب وأَنيابٍ، نقله شُرّاح "الفصيح"، وتصغيره شُيَيْخ بالضّمّ على الأَصل، وشِيَيْخ بالكسر على ما جَوَّزوه في اليائيّ العين؛ كبِيَيْت، وشُوَيْخ بالواو قليلة، بل أَنكرَها جماعة، ولم يعرِفها الجوهريّ. انتهى. "تاج العروس" باختصار

(1)

.

وقد نظمت ما سبق بقولي:

وَجَمَعُوا شَيْخًا عَلَى شُيُوخِ

وَضَمُّهُ وَالْكَسْرُ ذُو رُسُوخِ

وَشِيخَةٍ بِالْكَسْرِ وَالشِّيَخَةُ

بِكَسْرَةٍ فَفَتْحَةٍ قُلْ مُثْبَتُ

شِيخَانُ بِالْكَسْرِ مَشِيخَةً فُتِحْ

وَاكْسِرْ وَشِينُهَا سُكُونَهَا يَضِحْ

وَضُمَّ وَافْتَحْ يَاءَهَا مَشِيخَةُ

بِفَتْحَةٍ فَكَسْرَةٍ قَدْ أَثْبَتُوا

كَذَاكَ مَشْيُوخَاءُ أَوْ وَاوٌ حُذِفْ

كَذَاكَ أَشْيَاخٌ مَشَايِخَ أَضِفْ

وَبَعْضُهُمْ أَنْكَرَ ذَا وَجَعَلَهْ

جَمْعًا لِجَمْعٍ بَعْضُ مَنْ قَدْ نَقَلَهْ

وَجَمَعُوا الأَشْيَاخَ بِالأَشَايِخِ

وَالشَّيْخَ قَدْ صَغَّرَ كُلُّ رَاسِخِ

عَلَى شُيَيْخٍ ضَمًّا اوْ كَسْرًا وَقَلّ

شُوَيْخُهُمْ بِالْوَاوِ بَلْ بَعْضٌ حَظَلْ

وَهَكَذَا حَقَّقَهُ في "التَّاجِ"

قَرَّبْتُهُ بِالنَّظْمِ لِلْمُحْتَاجِ

(مِنْ مُهَاجِرَةِ الْفَتْحِ)؛ أي: الذين هاجروا إلى المدينة عام الفتح، أو المراد: مسلمة الفتح، أو أَطلق على من تحوّل إلى المدينة بعد فتح مكة مهاجرًا صورةً، وإن كانت الهجرة بعد الفتح حكمًا قد ارتفعت، وأَطلق عليهم ذلك احترازًا عن غيرهم، من مشيخة قريش، ممن أقام بمكة، ولم يهاجر أصلًا، وهذا يُشعر بأن لمن هاجر فضلًا في الجملة على من لم يهاجر، وإن كانت الهجرة الفاضلة في الأصل إنما هي لمن هاجر قبل الفتح؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"لا هجرة بعد الفتح"، وإنما كان كذلك؛ لأن مكة بعد الفتح صارت دار إسلام، فالذي يهاجر منها للمدينة، إنما يهاجر لطلب العلم، أو الجهاد، لا للفرار بدينه، بخلاف ما قبل الفتح، وقد تقدم بيان ذلك

(2)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: "مهاجرة الفتح": هم الذين هاجروا قبل الفتح

(1)

"تاج العروس من جواهر القاموس" 1/ 1822.

(2)

"الفتح" 13/ 136 - 137، كتاب "الطبّ" رقم (5729).

ص: 321

بيسير، وقيل: هم مسلمة الفتح، وفيه بُعد؛ لأنَّ الهجرة ارتفعت بعد الفتح، وإنما أخّرهم عمر رضي الله عنه عن غيرهم؛ لتأخرهم في الإسلام والهجرة، ولكن استشارهم لِشِيَخهم، ولكمال خيرتهم للأمور، ولمّا استشارهم لم يختلف عليه منهم أحد، فترجَّح عنده رأيهم، ونادى في الناس: إنِّي مُصِبِحٌ على ظهر. انتهى

(1)

.

(فَدَعَوْتُهُمْ، فَلَمْ يَخْتَلِفْ عَلَيْهِ رَجُلَانِ، فَقَالُوا: نَرَى أَنْ تَرْجِعَ بِالنَّاسِ، وَلَا تُقْدِمْهُمْ) بضمّ التاء، من الإقدام رباعيًّا، (عَلَى هَذَا الْوَبَاءِ، فَنَادَى عُمَرُ) رضي الله عنه حين ظهر أن رأي المشيخة هو الصواب، (فِي النَّاسِ: إِنِّي مُصْبِحٌ) بضمّ الميم، وسكون الصاد المهملة، وكسر الموحّدة، (عَلَى ظَهْرٍ)؛ أي: على ظهر طريق، أو ظهر بعير مرتحلًا، وقال النوويّ؛ أي: مسافر، راكب على ظهر الراحلة، راجع إلى وطني.

وقال الزرقانيّ رحمه الله: "إني مصبح" بضم الميم، وسكون الصاد، وكسر الموحّدة الخفيفة، وبفتح الصاد المهملة، وكسر الموحّدة الثقيلة؛ أي: مسافر في الصباح، راكبًا "على ظهر"؛ أي: على ظهر الراحلة، راجعًا إلى المدينة. انتهى

(2)

.

وقال القاضي عياض رحمه الله: قوله: "إني مصبح على ظهر"؛ أي: على سفر راكبًا الظهر، وهي دوابّ السفر، ومنه قوله:"كان يَجمع إذا كان على ظهر سير"؛ أي: في سفر، راكبًا ظهر دابته، ومنه:"يرعى الظهر"، و"يرعى ظهرنا"، و"ابتعتَ ظهرك"، و"إن في الظهر ناقةً عمياء"، و"من كان ظهره حاضرًا" كل هذا بالفتح، هي دوابّ السفر التي يُحْمَل عليها الأثقال، من الإبل، وغيرها. انتهى

(3)

.

(فَأَصْبِحُوا عَلَيْهِ) وتأهّبوا له، زاد يونس في روايته:"فإني ماضٍ لِمَا أرى، فانظروا ما آمركم به، فامضوا له، قال: فأصبح على ظهر".

قال القرطبيّ رحمه الله: وهذا يدلّ على أنه إنما عزم على الرجوع لرأي أولئك

(1)

"المفهم" 5/ 617.

(2)

"شرح الزرقانيّ" 4/ 296.

(3)

"مشارق الأنوار" 1/ 330.

ص: 322

المشيخة لَمّا ظهر له أنه أرجح من رأي غيرهم، ممن خالفهم، ووجه أرجحية هذا الرأي، أنه جمع فيه بين الحزم، والأخذ بالحذر، وبين التوكل، والإيمان بالقدر، وبيان ذلك بحجَّة عمر على أبي عبيدة رضي الله عنهما حين قال له:"أفرارًا من قدر الله؟ "، وذلك أن أبا عبيدة ظهر له أن لا يرجع، ويتوكل على الله، ويُسلم للقدر؛ لأنَّ ما يقدَّر عليه لا ينجيه منه رجوع، ولا فرار، فأجابه عمر رضي الله عنه بأن قال:"لو غيرك قالها". انتهى

(1)

.

(فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ)، وهو أمير الشام إذ ذاك:(أَفِرَارًا مِنْ قَدَرِ اللهِ؟)؛ أي: أترجع فرارًا من قدر الله؟ فالهمزة للاستفهام الإنكاريّ، و"فرارًا" مفعول من أجله، ويَحْتَمِل أن يكون مفعولًا مطلقًا لمحذوف؛ أي: أتفرّ فرارًا؟ وفي رواية هشام بن سعد: "وقالت طائفة، منهم أبو عبيدة: أَمِنَ الموت نَفِرّ؟ إنما نحن بقَدَر، لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا".

[تنبيه]: أخرج الطحاويّ بسند صحيح، عن أنس رضي الله عنه:"أن عمر أتى الشام، فاستقبله أبو طلحة، وأبو عبيدة، فقالا: يا أمير المؤمنين إن معك وجوه الصحابة، وخيارهم، وإنا تركنا مَن بعدنا مثل حريق النار، فارجع العام، فرجع".

قال الحافظ رحمه الله: هذا في الظاهر يعارض حديث الباب، فإن فيه الجزمَ بأن أبا عبيدة أنكر الرجوع.

ويمكن الجمع بأن أبا عبيدة أشار أوّلًا بالرجوع، ثم غلب عليه مقام التوكل لَمّا رأى أكثر المهاجرين والأنصار جنحوا إليه، فرجع عن رأي الرجوع، وناظر عمر في ذلك، فاستظهر عليه عمر بالحجة، فتبعه، ثم جاء عبد الرحمن بن عوف بالنصّ، فارتفع الإشكال. انتهى

(2)

.

(فَقَالَ عُمَرُ) رضي الله عنه: (لَوْ غَيْرُكَ قَالَهَا يَا أَبَا عُبَيْدَةَ)؛ أي: لعاقبته، أو لكان أولى منك بذلك، أو لم أتعجب منه، ولكني أتعجب منك مع علمك، وفضلك، كيف تقول هذا؟ ويَحْتَمِل أن يكون المحذوف: لأدّبته، أو هي

(1)

"المفهم" 5/ 617.

(2)

"الفتح" 13/ 140 - 141، كتاب "الطبّ" رقم (5729).

ص: 323

للتمني، فلا يحتاج إلى جواب، والمعنى: أن غيرك ممن لا فهم له إذا قال ذلك يعذر، وقد بَيَّن سبب ذلك بقوله:(وَكَانَ عُمَرُ يَكْرَهُ خِلَافَهُ)؛ أي: مخالفة أبي عبيدة؛ لشدّة وثوقه بعلمه، وتقواه، وورعه.

وقال النوويّ رحمه الله: أما قوله: "لو غيرك قالها يا أبا عبيدة" فجواب "لو" محذوف، وفي تقديره وجهان، ذكرهما صاحب "التحرير" وغيره:

أحدهما: لو قاله غيرك لأدبته؛ لاعتراضك عليّ في مسألة اجتهادية، وافقني عليها أكثر الناس، وأهل الحلّ والعقد فيها.

والثاني: لو قالها غيرك لم أتعجب منه، وإنما أتعجب من قولك أنت ذلك، مع ما أنت عليه من العلم، والفضل، ثم ذكر له عمر رضي الله عنه دليلًا واضحًا من القياس الجليّ الذي لا شك في صحته، وليس ذلك اعتقادًا منه أن الرجوع يرُدّ المقدور، وإنما معناه أن الله تعالى أمر بالاحتياط، والحزم، ومجانبة أسباب الهلاك، كما أمر سبحانه بالتحصّن من سلاح العدوّ، وتجنب المهالك، وإن كان كل واقع فبقضاء الله، وقَدَره السابق في علمه، وقاس عمر رضي الله عنه على رعي العدوتين؛ لكونه واضحًا لا ينازع فيه أحد مع مساواته لمسألة النزاع. انتهى

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "لو غيرك قالها"؛ أي: ليت غيرك يقول ذلك القول، فكأنه قال: لا يليق هذا القول بك؛ لعلمك، وفهمك، وإنما يليق ذلك بغيرك، ممن قلّ علمه، وقصر فهمه.

ثم احتَجّ عليه عمر رضي الله عنه بأن قال: "نعم! نفرُّ من قدر الله إلى قدر الله"؛ إذ لا محيص للإنسان عما قدَّره الله عليه، لكن أمرنا الله تعالى بالتحرُّز من المخاوف، والهلكات، وباستفراغ الوسع في التوقي من المكروهات، والحذر، وجلب المنافع، ودفع الضرر، ثم المقصِّر في ذلك ملوم عادةً، وشرعًا، ومنسوبٌ إلى التفريط عقلًا، وسمعًا؛ وإن زعم أنه المتوكل على الله المسلِّم لأمر الله.

ولمّا بيَّن عمر رضي الله عنه ذلك المعنى بالمثال، لاح الحقّ، وارتفع الجدال،

(1)

"شرح النوويّ" 14/ 210 - 211.

ص: 324

ثم لم يبرح عمر رضي الله عنه من مكانه حتى جاءه الحقّ ببرهانه، فحدَّثهم عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه بما قاله في ذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم، فسُرَّ بذلك عمر رضي الله عنه سرورًا ظهر لديه، فحمد الله، وأثنى عليه، حيث توافق الرأي والسمع، وارتفع الخلاف، وحصل الجمع، فرجع من موضعه ذلك إلى المدينة، سالِمًا موفورًا، وكان في سعيه ذلك مُصيبًا مشكورًا.

وعند هذا يَعْلَم الفطن العاقل أن تلك الأقوال التي حُكيت عنه رضي الله عنه في ندمه على الرجوع من سَرْغ، ومن فتياه بإباحة القدوم على الوباء، والفرار منه، لم يصح عنه شيء من ذلك، وكيف يَنْدَم على هذا النظر القويم، ويرجع عن هذا المنهج المستقيم؛ الذي قد تطابق عليه العقل والسمع، واصطحب عليه الرأي والشرع؟! هذا ما لا يكون، فالحاكون عنه هم المتقوِّلون، والله تعالى أعلم. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(1)

، وهو بحثٌ مفيد، والله تعالى أعلم.

وقوله: (نَعَمْ، نَفِرُّ مِنْ قَدَرِ اللهِ إِلَى قَدَرِ اللهِ)، وفي رواية هشام بن سعد:"إن تَقَدّمنا فبقدر الله، وإن تأخرنا فبقدر الله"، وأطلق عليه فرارًا؛ لِشَبَهه به في الصورة، وإن كان ليس فرارًا شرعيًّا، والمراد أن هجوم المرء على ما يُهلكه منهيّ عنه، ولو فعل لكان من قدر الله، وتجنبه ما يؤذيه مشروع، وقد يقدّر الله وقوعه فيما فَرّ منه، فلو فعله، أو تركه لكان من قدر الله، فهما مقامان: مقام التوكل، ومقام التمسك بالأسباب.

ومُحَصَّل قول عمر رضي الله عنه: نَفِرّ من قدر الله إلى قدر الله: أنه أراد أنه لم يفرّ من قدر الله حقيقةً، وذلك أن الذي فرّ منه أمر خاف على نفسه منه، فلم يَهْجُم عليه، والذي فرّ إليه أمر لا يخاف على نفسه، إلا الأمر الذي لا بُدّ من وقوعه، سواء كان ظاعنًا، أو مقيمًا. (أَرَأَيْتَ)؛ أي: أخبرني (لَوْ كَانَتْ لَكَ إِبِلٌ، فَهَبَطْتَ) بفتح الموحّدة، يقال: هبط الماء، وغيره هَبْطًا، من باب ضرب: نزل، وفي لغة قليلة يَهْبُطُ هُبُوطًا، من باب قَعَد، قاله الفيّوميّ رحمه الله

(2)

. (وَادِيًا) هو كلُّ منفرج بين جبال، أو آكام يكون منفذًا للسيل، والجمع أوديةٌ، وهو

(1)

"المفهم" 5/ 617 - 618.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 633.

ص: 325

مشتقّ من ودَى الشيءُ: إذا سال، أفاده الفيّوميّ

(1)

. (لَهُ عِدْوَتَانِ) -بضم العين المهملة، وبكسرها أيضًا، وسكون الدال المهملة-: تثنية عُدْوة، وهو المكان المرتفع من الوادي، وهو شاطئه.

وقال النوويّ رحمه الله: أما العدوة، فبضم العين، وكسرها، وهي جانب الوادي، والجدبة، بفتح الجيم، وإسكان الدال المهملة، وهي ضدّ الخصيبة، وقال صاحب "التحرير": الجدبة هنا بسكون الدال، وكسرها، قال: والخصبة كذلك. انتهى

(2)

.

(إِحْدَاهُمَا)، أي: إحدى العدوتين (خَصِيبَةٌ) بوزن عَظِيمة، كذا في النسخة الهنديّة، ووقع في بعض النسخ:"خَصِبَةٌ" بفتح الخاء، وكسر الصاد، وحُكي سكون الصاد، زاد في رواية معمر الآتية:"وقال له أيضًا: أرأيت لو أنه رَعَى الْجَدْبة، وترك الْخَصِبة أكنت مُعَجِّزه؟ -وهو بتشديد الجيم- قال: نعم، قال: فَسِرْ إذًا، فسار حتى أتى المدينة". (وَالأُخْرَى جَدْبَةٌ) بفتح الجيم، وسكون الدال المهملة: خلاف الخصيبة، قال الفيّويّ رحمه الله: الجَدْبُ: هو الْمَحْلُ وزنًا ومَعْنًى، وهو انقطاع المطر، ويُبْسُ الأرضِ، يقال: جَدُبَ البلدُ بالضمّ جُدُوبَةً، فهو جَدْبٌ، وجَدِيبٌ، وأرض جَدْبَةٌ، وجَدُوبٌ، وأَجْدَبَتْ إِجْدَابًا، وجَدِبَتْ تَجْدَبُ، من باب تعب مثله، فهي مُجْدِبَةٌ، والجمع: مَجَادِيبٌ، وأَجْدَبَ القوم إِجْدَابًا: أصابهم الجدب، وجَدَبْتُهُ جَدْبًا، من باب ضرب: عِبْتُهُ. انتهى

(3)

.

(أَلَيْسَ إِنْ رَعَيْتَ) بفتح الراء، والعين المهملة، (الْخَصِبَةَ) بفتح، فكسر، أو بفتح، فسكون، (رَعَيْتَهَا بِقَدَرِ اللهِ؟ وَإِنْ رَعَيْتَ الْجَدْبَةَ رَعَيْتَهَا بِقَدَرِ اللهِ؟ قَالَ: فَجَاءَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ) رضي الله عنه، وهو موصول عن ابن عبّاس رضي الله عنهما بالسند المذكور، (وَكَانَ مُتَغَيِّبًا فِي بَعْضِ حَاجَتِهِ)؛ أي: لم يحضر معهم المشاورة المذكورة؛ لِغَيْبته، (فَقَالَ: إِنَّ عِنْدِي مِنْ هَذَا عِلْمًا)، وفي رواية:"لعِلْمًا"، بزيادة لام التأكيد.

قال الجامع عفا الله عنه: عزا في "الفتح" هذه الرواية إلى "صحيح

(1)

"المصباح المنير" 2/ 654.

(2)

"شرح النوويّ" 14/ 210.

(3)

"المصباح المنير" 1/ 92.

ص: 326

مسلم"، ولم أرها فيه، ولعله لاختلاف النُّسخ، والله تعالى أعلم.

(سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضٍ، فَلَا تَقْدَمُوا عَلَيْهِ) ليكون أسكن لأنفسكم، وأقطع لوسواس الشيطان، قال في "الأحوذيّ": ولأن الله أمر أن لا يُتَعَرَّض للحتف والبلاء، وإن كان لا نجاة من قدر الله، إلا أنه من باب الحذر الذي شرعه الله، ولئلا يقول القائل: لو لم أدخل لم أمرض، ولو لم يدخل فلان لم يمت

(1)

.

وقال في "الفتح": هذا موافق للمتن الذي قبله عن أسامة بن زيد، وسعد، وغيرهما، فلعلهم لم يكونوا مع عمر في تلك السفرة. (وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ، وَأَنْتُمْ بِهَا، فَلَا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ") لئلا يكون معارضةً للقدر، فلو خرج لِقَصْد آخر غير الفرار جاز.

وفي رواية عبد الله بن عامر التي بعد هذه، وفي حديث أسامة عند النسائيّ:"فلا تَفِرّوا منه"، وفي رواية لأحمد من طريق ابن سعد، عن أبيه مثله، ووقع عند البخاريّ في "ذكر بني إسرائيل":"إلا فرارًا منه"، وتقدم الكلام على إعرابه هناك، قاله في "الفتح"

(2)

.

(1)

"شرح الزرقانيّ 4/ 297.

(2)

الذي ذكره هناك نصّه: قوله في آخر الحديث: "فلا تخرجوا فرارًا منه"، قال أبو النضر:"لا يخرجكم إلا فرارًا منه"، يريد أن الأُولى رواية محمد بن المنكدر، والثانية رواية أبي النضر، فأما رواية ابن المنكدر فلا إشكال فيها، وأما رواية أبي النضر، فروايتها بالنصب كالذي هنا مشكلة، ورواها جماعة بالرفع، ولا إشكال فيها، قال عياض في "شرح مسلم": وقع لأكثر رواة "الموطأ" بالرفع، وهو بَيَّنَ أن السبب الذي يُخرجكم الفرار، ومجرد قَصْده، لا غير ذلك؛ لأن الخروج إلى الأسفار، والحوائج مباح، ويطابق الرواية الأخرى:"فلا تخرجوا فرارًا منه"، قال: ورواه بعضهم: "إلا فرارًا منه"، قال: وقال ابن عبد البر: جاء بالوجهين، ولعل ذلك كان من مالك، وأهلُ العربية يقولون: دخول "إلّا" هنا بعد النفي لإيجاب بعض ما نَفَى قبلُ من الخروج، فكأنه نَهَى عن الخروج إلا للفرار خاصّةً، وهو ضدّ المقصود، فإن المنهيّ عنه إنما هو الخروج للفرار خاصّةً، لا لغيره، قال: وجوّز ذلك بعضهم، وجعل قوله:"إلّا" حالًا من الاستثناء؛ أي: لا تخرجوا=

ص: 327

وقال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة رحمه الله: في قوله: "فلا تَقْدَموا عليه" فيه منع معارضة مُتَضَمّن الحكمة بالقدر، وهو من مادة قوله تعالى:{وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195]، وفي قوله:"فلا تخرجوا فرارًا منه" إشارة إلى الوقوف مع المقدور، والرضا به، قال: وأيضًا فالبلاء إذا نزل إنما يُقْصَد به أهلُ البقعة، لا البقعة نفسها، فمن أراد الله إنزال البلاء به، فهو واقع به، ولا محالة، فأينما توجه يدركه، فأرشده الشارع إلى عدم النصب، من غير أن يدفع ذلك المحذور.

= إذا لم يكن خروجكم إلا للفرار، قال عياض: ووقع لبعض رواة "الموطأ": "لا يخرجكم الإفرار"، بأداة التعريف، وبعدها إفرار، بكسر الهمزة، وهو وَهَمٌ، ولحنٌ.

وقال في "المشارق" ما حاصله: يجوز أن تكون الهمزة للتعدية، يقال: أفره كذا من كذا، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم:"إن كان لا يُفِرّك من هذا إلا ما ترى"، فيكون المعنى: لا يخرجكم إفراره إياكم.

وقال القرطبي في "المفهم": هذه الرواية غَلَطٌ؛ لأنه لا يقال: أَفَرّ، وإنما يقال: فَرّ، قال: وقال جماعة من العلماء: إدخال "إلّا" فيه غلطٌ، وقال بعضهم: هي زائدة، وتجوز زيادته، كما تزاد "لا"، وخرَّجه بعضهم بأنها للإيجاب، فذكر نحو ما مضى، قال: والأقرب أن تكون زائدة. وقال الكرمانيّ: الجمع بين قول ابن المنكدر: "لا تخرجوا فرارًا منه"، وبين قول أبي النضر:"لا يخرجكم إلا فرارًا منه" مشكلٌ، فإن ظاهره التناقض، ثم أجاب بأجوبة؛ أحدها: أن غرض الراوي، أن أبا النضر فَسَّر:"لا تخرجوا" بأن المراد منه الحصر، يعني الخروج المنهيّ هو الذي يكون لمجرد الفرار، لا لغرض آخر، فهو تفسير للمعلل المنهيّ عنه، لا للنهي.

وتعقّبه الحافظ، فقال: وهو بعيد؛ لأنه يقتضي أن هذا اللفظ من كلام أبي النضر، زاده بعد الخبر، وأنه موافق لابن المنكدر على اللفظ الأول رواية، والمتبادر خلاف ذلك، والجواب الثاني كالأول، والزيادة مرفوعة أيضًا، فيكون روى اللفظين، ويكون التفسير مرفوعًا أيضًا.

الثالث: "إلا" زائدة بشرط أن تثبت زيادتها في كلام العرب. انتهى ما في "الفتح" 8/ 133 - 134، كتاب "الأنبياء" رقم (3473).

ص: 328

وقال الشيخ تقيّ الدين ابن دقيق العيد رحمه الله: الذي يترجح عندي في الجمع بينهما أن في الإقدام عليه تعريض النفس للبلاء، ولعلها لا تصبر عليه، وربما كان فيه ضرب من الدعوى لمقام الصبر، أو التوكل، فمُنع ذلك حذرًا من اغترار النفس، ودعواها ما لا تثبت عليه عند الاختبار، وأما الفرار فقد يكون داخلًا في التوغل في الأسباب بصورة من يحاول النجاة ممّا قُدِّر عليه، فأمرنا الشارع بترك التكلف في الحالتين، ومن هذه المادة قوله صلى الله عليه وسلم:"لا تتمنوا لقاء العدوّ، وإذا لقيتموهم فاصبروا"، فأمر بترك التمني؛ لِمَا فيه من التعرض للبلاء، وخوف اغترار النفس؛ إذ لا يؤمَن غدرها عند الوقوع، ثم أمرهم بالصبر عند الوقوع؛ تسليمًا لأمر الله تعالى، ذكره في "الفتح"

(1)

.

(قَالَ) ابن عبّاس رضي الله عنهما (فَحَمِدَ اللهَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ) رضي الله عنه على موافقة اجتهاده بعد المشاورة ما صحّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، من النهي عن الدخول في البلد الذي وقع فيه الوباء، (ثُمَّ انْصَرَفَ)؛ أي: رجع إلى المدينة، وفي رواية معمر التالية:"فسار حتى أتى المدينة، فقال: هذا المحلُّ، أو قال: هذا المنزل، إن شاء الله"، والله تعالى أعلم.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [17/ 5770 و 5771 و 5772 و 5773](2219)، و (البخاريّ) في "الطبّ"(5729 و 5730) و"الحيل"(6973)، و (أبو داود) في "الجنائز"(3103)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(7522)، و (مالك) في "الموطأ"(2/ 894 - 896)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(11/ 147)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 192 و 194)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(2953)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(4/ 303)، و (الشاشيّ) في "مسنده"(1/ 268 و 270)،

(1)

"الفتح" 13/ 145 - 146.

ص: 329

و (اللالكائيّ) في "اعتقاد أهل السُّنَّة"(ص 4)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(7/ 217 - 218)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): خروج الخليفة إلى أعماله يطالعها، وينظر إليها، ويعرف أحوال أهلها، وكان عمر رضي الله عنه قد خرج إلى الشام مرتين في قول بعضهم، ومنهم من يقول: لم يخرج إلا مرّةً واحدةً، وهي هذه، والمعروف عند أهل السِّيَر أنه خرج إليها مرتين، ذكر خليفة عن ابن الكلبيّ، قال: لما صالح أبو عبيدة أهل حلب شَخَص، وعلى مقدمته خالد بن الوليد، فحاصرا أهل إيليا، فسألوه الصلح، على أن يكون عمر هو يعطيهم ذلك، ويكتب لهم أمانًا، فكتب أبو عبيدة إلى عمر، فقدم عمر، فصالحهم، فأقام أيامًا، ثم شخص إلى المدينة، وذلك في سنة ست عشرة، قال أبو عمر: وكان خروجه المذكور في هذا الحديث سنة سبع عشرة، قال خليفة بن خياط: فيها خرج عمر بن الخطاب إلى الشام، واستخلف على المدينة زيد بن ثابت، وانصرف من سرغ، وبها الطاعون

(1)

.

2 -

(ومنها): استعمال الخليفة أمراء عددًا في موضع واحد؛ لوجوه يصرفهم فيها، وكان عمر رضي الله عنه قد قسم الشام على أربعة أمراء، تحت يد كل واحد منهم جند وناحية من الشام، منهم أبو عبيدة بن الجراح، وشُرَحبيل ابن حسنة، ويزيد بن أبي سفيان، ومعاذ بن جبل كل واحد منهم على ناحية من الشام، ثم لم يمت عمر رضي الله عنه حتى جمع الشام لمعاوية رضي الله عنه.

3 -

(ومنها): أن فيه دليلًا على إباحة العمل، والولاية، وأن لا بأس للصالحين، والعلماء إذا كان الخليفة فاضلًا عالِمًا يأمر بالحقّ ويعدل.

4 -

(ومنها): استعمال مشورة من يوثق بفهمه، وعقله، عند نزول الأمر المعضل.

5 -

(ومنها): أن المسألة إذا كان سبيلها الاجتهاد، ووقع فيها الاختلاف لم يجز لأحد القائلين فيها عيب مخالفه، ولا الطعن عليه؛ لأنهم اختلفوا،

(1)

"التمهيد" لابن عبد البرّ 8/ 365.

ص: 330

وهم القدوة، فلم يَعِبْ أحد منهم على صاحبه اجتهاده، ولا وجد عليه في نفسه، قال ابن عبد البرّ رحمه الله: إلى الله الشكوي، وهو المستعان على أمة نحن بين أظهرها، تستحل الأعراض، والدماء، إذا خولفت فيما تجيء به من الخطأ. انتهى

(1)

.

6 -

(ومنها): أن المجتهد إذا قاده اجتهاده إلى شيء، خالفه فيه صاحبه، لم يجز له الميل إلى قول صاحبه، إذا لم يَبِنْ موقع الصواب فيه، ولا قام له الدليل عليه.

7 -

(ومنها): أن الإمام، والحاكم إذا نزلت به نازلة، لا أصل لها في الكتاب، ولا في السُّنَّة، كان عليه أن يجمع العلماء، وذوي الرأي، ويشاورهم، فإن لم يأت واحد منهم بدليل كتاب، ولا سُنَّة، غير اجتهاده، كان عليه الميل إلى الأصلح، والأخذ بما يراه.

8 -

(ومنها): أن الاختلاف لا يوجب حُكْمًا، وإنما يوجبه النظر، وأن الإجماع يوجب الحكم والعمل، قاله ابن عبد البرّ رحمه الله.

9 -

(ومنها): إثبات المناظرة، والمجادلة عند الخلاف في النوازل، والأحكام، ألا ترى إلى قول أبي عبيدة لعمر رضي الله عنهما: تفر من قدر الله؟ فقال: نعم، أفر من قدر الله إلى قدر الله، ثم قال له: أرأيت

فقايسه، وناظره بما يشبه في مسألته.

10 -

(ومنها): أن الاختلاف إذا نزل، وقام الْحِجَاج، فالحجة، والْفَلَج بيد من أدلى بالسُّنَّة، إذا لم يكن من الكتاب نصّ لا يُخْتَلَف في تأويله، وبهذا أمر الله تعالى عباده عند التنازع أن يردّوا ما تنازعوا فيه إلى كتاب الله، وسُنَّة نبيّه صلى الله عليه وسلم، فمن كان عنده من ذلك علم وجب الانقياد إليه.

11 -

(ومنها): أن الحديث يُسَمّى علمًا، ويُطلق ذلك عليه، ألا ترى إلى قول عبد الرَّحمن بن عوف رضي الله عنه: عندي من هذا علم.

12 -

(ومنها): أن الخلق يَجْرُون في قَدَر الله تعالي، وعلمه، وأن أحدًا منهم لا يخرج عن حكمه، وإرادته، ومشيئته، لا شريك له.

(1)

"التمهيد" لابن عبد البرّ 8/ 367.

ص: 331

13 -

(ومنها): أن العالم قد يوجد عند من هو في العلم دونه ما لا يوجد منه عنده؛ لأنه معلوم أن موضع عمر رضي الله عنه من العلم، ومكانه من الفهم، ودُنُوّه من رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدخل والمخرج فوق عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، وقد كان في هذا الباب عند عبد الرحمن عنه صلى الله عليه وسلم ما جهله عمر رضي الله عنه.

14 -

(ومنها): أن القاضي، والإمام، والحاكم، لا ينفذون قضاءهم، ولا يفصلونه إلا عن مشورة من بحضرتهم، ويصل إليهم، ويقدرون عليه، من علماء موضعهم، وهذا مشهور من مذهب عمر رضي الله عنه، كما في هذه القصّة.

15 -

(ومنها): أنه دليلٌ على عظيم ما كان عليه القوم من الإنصاف للعلم، والانقياد إليه، وكيف لا يكون كذلك، وهم خير الأمم رضي الله عنهم؟.

16 -

(ومنها): استعمال خبر الواحد، وقبوله، وإيجاب العمل به، قال ابن عبد البرّ رحمه الله: وهذا هو أوضح، وأقوى ما نرى من جهة الآثار في قبول خبر الواحد؛ لأن ذلك كان في جماعة الصحابة، وبمحضرهم، في أمر قد أشكل عليهم، فلم يقل عمر لعبد الرحمن بن عوف: أنت واحد، والواحد لا يجب قبول خبره، إنما يجب قبول خبر الكافّة، ما أعظم ضلال من قال بهذا والله عز وجل يقول:{إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6]، وقرئ:"فتثبتوا"، فلو كان العدل إذا جاء بنبأ يُتثبت في خبره، ولم يُنَفّذ لاستوى الفاسق والعدل، وهذا خلاف القرآن، قال الله عز وجل:{أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص: 28]. انتهى

(1)

.

17 -

(ومنها): ما قاله في "الفتح" -وإن كان تقدّم معناه، إلا أنه مجموع ملخّص، أحببت إيراده تثبيتًا لِمَا مضى- قال: وفي قصّة عمر رضي الله عنه من الفوائد: مشروعية المناظرة، والاستشارة في النوازل، وفي الإحكام، وأن الاختلاف لا يوجب حُكْمًا، وأن الاتفاق هو الذي يوجبه، وأن الرجوع عند الاختلاف إلى النصّ، وأن النصّ يسمى علمًا، وأن الأمور كلها تجري بقدر الله، وعلمه، وأن العالم قد يكون عنده ما لا يكون عند غيره، ممن هو أعلم منه، وفيه وجوب العمل بخبر الواحد، وهو من أقوى الأدلة على ذلك؛ لأن ذلك كان باتفاق

(1)

راجع لهذه الفوائد "التمهيد" لابن عبد البرّ 8/ 365 - 366.

ص: 332

أهل الحلّ والعقد، من الصحابة رضي الله عنهم، فقبلوه من عبد الرحمن بن عوف، ولم يطلبوا معه مقويًا، وفيه الترجيح بالأكثر عددًا، والأكثر تجربةً؛ لرجوع عمر رضي الله عنه لقول مشيخة قريش، مع ما انضم إليهم ممن وافق رأيهم من المهاجرين والأنصار، فإن مجموع ذلك أكثر من عدد من خالفه، من كلٍّ من المهاجرين، والأنصار، ووازن ما عند الذين خالفوا ذلك من مزيد الفضل في العلم، والدين ما عند المشيخة من السنّ والتجارب، فلما تعادلوا من هذه الحيثية، رَجّح بالكثرة، ووافق اجتهاده النصّ، فلذلك حمد الله تعالى على توفيقه لذلك، وفيه تفقد الإمام أحوال رعيته، لِمَا فيه من إزالة ظلم المظلوم، وكشف كربة المكروب، ورح أهل الفساد، وإظهار الشرائع، والشعائر، وتنزيل الناس منازلهم

(1)

.

واستَدَلَّ ابن الباقلانيّ بقصة عمر رضي الله عنه على أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا

يقدِّمون خبر الواحد على القياس؛ لأنهم اتفقوا على الرجوع اعتمادًا على خبر عبد الرحمن بن عوف وحده، بعد أن ركبوا المشقة في المسير من المدينة إلى الشام، ثم رجعوا، ولم يدخلوا الشام. انتهى

(2)

.

وقال النوويّ رحمه الله: (واعلم): أن في حديث عمر رضي الله عنه هذا فوائدَ كثيرةً، منها: خروج الإمام بنفسه في ولايته، في بعض الأوقات؛ ليشاهد أحوال رعيته، ويزيل ظلم المظلوم، ويكشف كرب المكروب، ويَسُدّ خلة المحتاج، ويقمع أهل الفساد، ويخافه أهلُ البطالة، والأذي، والولاةُ، ويحذروا تجسسه عليهم، ووصول قبائحهم إليه، فينكفوا، ويقيم في رعيته شعائر الإسلام، ويؤدب من رآهم مخلين بذلك، ولغير ذلك من المصالح، ومنها تلقي الأمراء، ووجوه الناس الإمامَ عند قدومه، وإعلامهم إياه بما حدث في بلادهم من خير وشرّ، ووباء، ورخص وغلاء، وشدة ورخاء، وغير ذلك، ومنها: استحباب مشاورة أهل العلم والرأي في الأمور الحادثة، وتقديم أهل السابقة في ذلك، ومنها: تنزيل الناس منازلهم، وتقديم أهل الفضل على غيرهم، والابتداء بهم

(1)

"الفتح" 13/ 146، كتاب "الطبّ" رقم (5729).

(2)

"الفتح" 16/ 266، كتاب "الحيل" رقم (6973).

ص: 333

في المكارم، ومنها: جواز الاجتهاد في الحروب ونحوها، كما يجوز في الإحكام، ومنها: قبول خبر الواحد، فإنهم قبلوا خبر عبد الرحمن رضي الله عنه، ومنها: صحة القياس، وجواز العمل به، ومنها: ابتداء العالم بما عنده من العلم قبل أن يُسأله، كما فعل عبد الرحمن رضي الله عنه، ومنها: اجتناب أسباب الهلاك، ومنها: منع القدوم على الطاعون، ومنع الفرار منه. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم.

وقال القرطبيّ رحمه الله

(2)

: [تكميل]: قال أبو عمر رحمه الله: لم يبلغني أن أحدًا من حملة العلم فرَّ من الطاعون، إلا ما ذكره ابن المدائني أن علي بن زيد بن جُدْعان هرب من الطاعون إلى السَّيالة، فكان يُجَمِّع كل جمعة، ويرجع، فكان إذا جَمَّع صاحوا به: فرَّ من الطَّاعون، فطُعِن، فمات بالسَّيالة

(3)

، وذكر أبو حاتم عن الأصمعيّ: هرب بعض البصريين من الطاعون، فركب حمارًا له، ومضى بأهله نحو سَفَوان

(4)

، فسمع حاديًا يحدو خلفه:

لن يُسْبَقَ اللهُ عَلَى حمارٍ

وَلَا عَلَى ذِي مَنْعَةٍ طيَّارِ

أَوْ يَأتِيَ الْحَتْفُ عَلَى مِقْدَارِ

قَدْ يُصْبِحُ اللهُ أَمَامَ السَّارِي

وذكر المدائنيّ قال: وقع الطاعون بمصر في ولاية عبد العزيز بن مروان، فخرج هاربًا منه، فنزل قرية من قرى الصعيد يقال لها: سُكَر، فَقَدِم عليه رسول لعبد الملك، فقال له: ما اسمك؟ فقال: طالب بن مُدرك، فقال: أوَّه! ما أُراني راجعًا إلى الفسطاط، فمات في تلك القرية.

وروى أبو عمر عن الأصمعيّ قال: لما وقع طاعون الجارف بالبصرة فني أهلها، وامتنع الناس من دفن موتاهم، فدخلت السباع البصرة على ريح الموتي، وخلت سكَّة بني جرير فلم يُبقِ الله فيها سوى جارية، فسمعت صوت الذئب في سِكَّتهم ليلًا، فأنشأت تقول [من الطويل]:

أَلَا أَيُّهَا الذِّئْبُ الْمُنَادِي بِسَحْرَةٍ

إِلَيَّ أُنَبِّئْكَ الَّذِي قَدْ بَدَا لِيَا

(1)

"شرح النوويّ" 14/ 212.

(2)

"المفهم" 5/ 619 - 620.

(3)

"السَّيَالة": هي أول مرحلة لأهل المدينة إذا أرادوا مكة.

(4)

سَفَوَان: ماء على مرحلة من باب المِرْبد بالبصرة.

ص: 334

بَدَا لِيَ أَنِّي قَدْ نُعِيتُ وَإِنَّنِي

بَقيَّةُ قَوْمٍ وَرَّثُونِي الْبَوَاكِيَا

وَإنِّي بلَا شَكٍّ سَأَتبَعُ مَنْ مَضَى

وَيَتْبَعُنِي مِنْ بَعْدُ مَنْ كَانَ تَالِيَا

(المسألة الرابعة): في هذا الحديث جوازُ رجوع من أراد دخول بلدة، فعَلِم أن بها الطاعون، وأن ذلك ليس من الطِّيَرة، وإنما هي من منع الإلقاء إلى التهلكة، أو سدّ الذريعة؛ لئلا يعتقد من يدخل إلى الأرض التي وقع بها أن لو دخلها، وطُعِن العدوى المنهيّ عنها.

وقد زعم قوم أن النهي عن ذلك إنما هو للتنزيه، وأنه يجوز الإقدام عليه لمن قَوِي توكله، وصح يقينه، وتمسكوا بما جاء عن عمر رضي الله عنه أنه نَدِم على رجوعه من سَرْغ، كما أخرجه ابن أبي شيبة بسند جَيِّد، من رواية عروة بن رُويم، عن القاسم بن محمد، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال:"جئت عمر حين قَدِم، فوجدته قائلًا في خبائه، فانتظرته في ظل الخباء، فسمعته يقول حين تضَوَّر: اللهم اغفر لي رجوعي من سَرْغ"، وأخرجه إسحاق بن راهويه في "مسنده" أيضًا.

وأجاب القرطبيّ في "المفهم" بأنه لا يصحّ عن عمر رضي الله عنه، قال: وكيف يندم على فعل ما أمر به النبيّ صلى الله عليه وسلم، ويرجع عنه، ويستغفر منه؟

قال الحافظ: وأجيب بأن سنده قويّ، والأخبار القوية لا تُرَدّ بمثل هذا، مع إمكان الجمع، فَيَحْتَمِل أن يكون كما حكاه البغويّ في "شرح السُّنَّة" عن قوم أنهم حملوا النهي على التنزيه، وأن القدوم عليه جائز لمن غلب عليه التوكل، والانصراف عنه رخصةٌ، ويَحْتَمِل -وهو أقوى- أن يكون سبب ندمه أنه خرج لأمر مهمّ من أمور المسلمين، فلما وصل إلى قرب البلد المقصود رجع، مع أنه كان يمكنه أن يقيم بالقرب من البلد المقصود إلى أن يرتفع الطاعون، فيدخل إليها، ويقضي حاجة المسلمين، ويؤيد ذلك أن الطاعون ارتفع عنها عن قُرْب، فلعله كان بلغه ذلك، فندم على رجوعه إلى المدينة، لا على مطلق رجوعه، فرأى أنه لو انتظر لكان أَولى؛ لِمَا في رجوعه على العسكر الذي كان صُحْبته من المشقة، والخبر لم يَرِد بالأَمر بالرجوع، وإنما ورد بالنهي عن القدوم، والله أعلم.

وأخرج الطحاويّ بسند صحيح: "عن زيد بن أسلم، عن أبيه، قال: قال

ص: 335

عمر رضي الله عنه: اللهم إن الناس قد نحلوني ثلاثًا، أنا أبرأ إليك منهنّ، زعموا أني فررت من الطاعون، وأنا أبرأ إليك من ذلك"، وذكر الطلاء، والمكس، وقد ورد عن غير عمر التصريح بالعمل في ذلك بمحض التوكل، فأخرج ابن خزيمة بسند صحيح: "عن هشام بن عروة، عن أبيه، أن الزبير بن العوّام خرج غازيًا نحو مصر، فكتب إليه أمراء مصر أن الطاعون قد وقع، فقال: إنما خرجنا للطعن والطاعون، فدخلها فلقي طعنًا في جبهته، ثم سَلِم". انتهي، والله تعالى أعلم

(1)

.

(المسألة الخامسة): في الحديث أيضًا منع من وقع الطاعون ببلد هو فيها من الخروج منها، وقد اختَلَف الصحابة في ذلك، كما تقدم، وكذا أخرج أحمد بسند صحيح إلى أبي مُنِيب، "أن عمرو بن العاص قال في الطاعون: إن هذا رجزٌ مثل السيل، من تنكّبه أخطأه، ومثلُ النار، من أقام أحرقته، فقال شرحبيل ابن حسنة: إن هذا رحمة ربكم، ودعوة نبيكم، وقَبْض الصالحين قبلكم".

قال الحافظ: وأبو منيب -بضم الميم، وكسر النون، بعدها تحتانية ساكنة، ثم موحدة- وهو دمشقيّ، نزل البصرة، يُعرف بالأحدب، وثّقه العجليّ، وابن حبان، وهو غير أبي منيب الْجُرَشيّ فيما ترجح عندي؛ لأن الأحدب أقدم من الجرشيّ، وقد أثبت البخاريّ سماع الأحدب من معاذ بن جبل، والجرشيّ يروي عن سعيد بن المسيب، ونحوه.

وللحديث طريق أخري، أخرجها أحمد أيضًا من رواية شُرحبيل بن شُفْعة -بضم المعجمة، وسكون الفاء- عن عمرو بن العاص، وشُرحبيل ابن حسنة بمعناه.

وأخرجه ابن خزيمة، والطحاويّ، وسنده صحيح، وأخرجه أحمد، وابن خزيمة أيضًا، من طريق شهر بن حوشب، عن عبد الرحمن بن غَنْم، عن عمرو بن شُرحبيل بمعناه.

وأخرج أحمد، من طريق أخرى أن المراجعة في ذلك أيضًا وقعت من

(1)

"الفتح" 13/ 141 - 142، كتاب "الطبّ" رقم (5729).

ص: 336

عمرو بن العاص، ومعاذ بن جبل، وفي طريق أخرى بينه وبين واثلة الهذلي، وفي معظم الطرق أن عمرو بن العاص صَدَّق شُرحبيل، وغيره على ذلك.

ونقل عياض وغيره جواز الخروج من الأرض التي يقع بها الطاعون عن جماعة من الصحابة، منهم أبو موسى الأشعريّ، والمغيرة بن شعبة، ومن التابعين، منهم الأسود بن هلال، ومسروق، ومنهم من قال: النهي فيه للتنزيه، فيُكره، ولا يَحْرُم، وخالفهم جماعة، فقالوا: يحرم الخروج منها؛ لظاهر النهي الثابت في الأحاديث الماضية، وهذا هو الراجح عند الشافعية، وغيرهم، ويؤيده ثبوت الوعيد على ذلك، فأخرج أحمد، وابن خزيمة، من حديث عائشة رضي الله عنها مرفوعًا في أثناء حديث بسند حسن:"قلت: يا رسول الله فما الطاعون؟ قال: غُدّة كغُدّة الإبل، المقيم فيها كالشهيد، والفارّ منها كالفارّ من الزحف"، وله شاهد من حديث جابر رضي الله عنه رفعه:"الفارّ من الطاعون كالفارّ من الزحف، والصابر فيه كالصابر في الزحف"، أخرجه أحمد أيضًا، وابن خزيمة، وسنده صالح للمتابعات.

وقال الطحاوي: استَدَلّ من أجاز الخروج بالنهي الوارد عن الدخول إلى الأرض التي يقع بها، قالوا: وإنما نهى عن ذلك خشية أن يُعدي من دخل عليه، قال: وهو مردود؛ لأنه لو كان النهي لهذا لجاز لأهل الموضع الذي وقع فيه الخروج، وقد ثبت النهي أيضًا عن ذلك، فعُرف أن المعنى الذي لأجله مُنعوا من القدوم عليه غير معنى العدوي، والذي يظهر -والله أعلم- أن حكمة النهي عن القدوم عليه؛ لئلا يصيب مَن قَدِم عليه بتقدير الله، فيقول: لولا أني قدمت هذه الأرض لَمَا أصابني، ولعله لو أقام في الموضع الذي كان فيه لأصابه، فأُمِر أن لا يَقْدَم عليه حَسْمًا للمادة، ونُهي من وقع وهو بها أن يخرج من الأرض التي نزل بها؛ لئلا يَسْلَم، فيقول مثلًا: لو أقمت في تلك الأرض لأصابني ما أصاب أهلها، ولعله لو كان أقام بها ما أصابه من ذلك شيء. انتهى.

ويؤيده ما أخرجه الهيثم بن كليب، والطحاويّ، والبيهقيّ بسند حسن، عن أبي موسى أنه قال: "إن هذا الطاعون قد وقع، فمن أراد أن يتنزه عنه فليفعل، واحذروا اثنتين: أن يقول قائل خرج خارج فَسَلِم، وجلس جالس

ص: 337

فأصيب، فلو كنت خرجت لَسَلِمت، كما سلم فلان، أو لو كنت جلست أُصبت، كما أصيب فلان"، لكن أبو موسى حمل النهي على من قصد الفرار محضًا، ولا شك أن الصور ثلاث: من خرج لقصد الفرار محضًا، فهذا يتناوله النهي، لا محالة، ومن خرج لحاجة متمحضة، لا لقصد الفرار أصلًا، ويُتصوَّر ذلك فيمن تهيأ للرحيل من بلد كان بها إلى بلد إقامته مثلًا، ولم يكن الطاعون وقع، فاتفق وقوعه في أثناء تجهيزه، فهذا لم يقصد الفرار أصلًا، فلا يدخل في النهي، والثالث من عرضت له حاجة، فأراد الخروج إليها، وانضم إلى ذلك أنه قصد الراحة من الإقامة بالبلد التي وقع بها الطاعون، فهذا محل النزاع.

ومن جملة هذه الصورة الأخيرة أن تكون الأرض التي وقع بها وَخْمَةً، والأرض التي يريد التوجه إليها صحيحة، فيتوجه بهذا القصد، فهذا جاء النقل فيه عن السلف مختلفًا، فمن منع نظر إلى صورة الفرار في الجملة، ومن أجاز نظر إلى أنه مستثنى من عموم الخروج فرارًا؛ لأنه لم يتمحض للفرار، وإنما هو لقصد التداوي، وعلى ذلك يُحْمَل ما وقع في أثر أبي موسى المذكور: "أن عمر كتب إلى أبي عبيدة: إن لي إليك حاجة، فلا تضع كتابي من يدك حتى تُقبل إليّ، فكتب إليه أني قد عرفت حاجتك، وإني في جند من المسلمين، لا أجد بنفسي رغبة عنهم، فكتب إليه: أما بعد؛ فإنك نزلت بالمسلمين أرضًا غميقة، فارفعهم إلى أرض نزهة، فدعا أبو عبيدة أبا موسي، فقال: اخرُجْ، فارْتَدْ للمسلمين منزلًا، حتى أنتقل بهم

"، فذكر القصة في اشتغال أبي موسى بأهله، ووقوع الطاعون بأبي عبيدة لَمّا وضع رجله في الركاب متوجهًا، وأنه نزل بالناس في مكان آخر، فارتفع الطاعون.

وقوله: "غَمِيقة" -بغين معجمة، وقاف، بوزن عَظيمة؛ أي: قريبة من المياه، والنُّزُوز، وذلك مما يفسد غالبًا به الهواء؛ لفساد المياه، والنزهة: الفسيحة البعيدة عن الوخم، فهذا يدلّ على أن عمر رأى أن النهي عن الخروج إنما هو لمن قصد الفرار متمحضًا، ولعله كانت له حاجة بأبي عبيدة في نفس الأمر، فلذلك استدعاه، وظن أبو عبيدة أنه إنما طلبه لِيَسْلَم من وقوع الطاعون به، فاعتذر عن إجابته لذلك، وقد كان أَمْر عمر لأبي عبيدة بذلك بعد سماعهما

ص: 338

للحديث المذكور من عبد الرحمن بن عوف، فتأول عمر فيه ما تأول، واستمر أبو عبيدة على الأخذ بظاهره، وأيّد الطحاويّ صنيع عمر بقصة الْعُرنيين، فإن خروجهم من المدينة كان للعلاج، لا للفرار، وهو واضح من قصتهم؛ لأنهم شَكَوْا وخم المدينة، وأنها لم توافق أجسامهم، وكان خروجهم من ضرورة الواقع؛ لأنَّ الإبل التي أُمروا أن يتداووا بألبانها وأبوالها، واستنشاق روائحها ما كانت تتهيأ إقامتها بالبلد، وإنما كانت في مراعيها، فلذلك خرجوا، وقد لَحَظ البخاريّ ذلك، فترجم قبل ترجمة الطاعون:"من خرج من الأرض التي لا تلائمه"، وساق قصة العرنيين، ويدخل فيه ما أخرجه أبو داود، من حديث فروة بن مُسيك -بمهملة، وكاف، مصغرًا- قال:"قلت: يا رسول الله، إن عندنا أرضًا يقال لها: أبين، هي أرض ريفنا، وميرتنا، وهي وبئة، فقال: دعها عنك، فإن من القَرَف التَّلَف"، قال ابن قتيبة: القرف: القرب من الوباء، وقال الخطابيّ: ليس في هذا إثبات العدوي، وإنما هو من باب التداوي، فإن استصلاح الأهوية من أنفع الأشياء في تصحيح البدن، وبالعكس.

واحتجوا أيضًا بالقياس على الفرار من المجذوم، وقد ورد الأمر به.

والجواب أن الخروج من البلد التي وقع بها الطاعون قد ثبت النهي عنه، والمجذوم قد ورد الأمر بالفرار منه، فكيف يصح القياس؟ انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: هكذا أطال البحث في "الفتح"، وهو بحث نفيسٌ جدًّا، وقد تبيّن من خلال البحث، حيث ذَكَر الأقوال، وأدلّتها أن الأرجح قول من قال بتحريم الخروج من البلد الذي وقع فيه الطاعون، وتحريم الدخول إليه أيضًا؛ لوضوح حجته، واستنارة محجّته، وأما القائلون بالجواز، وكذا القائلون بالكراهة دون التحريم فلم يأتوا بأدلَّة مقنعة تقاوم أدلة الأولين، فلا ينبغي الالتفات إليها، فتبصّر بالإنصاف، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

(المسألة السادسة): قد ذكر العلماء في النهي عن الخروج حِكَمًا:

1 -

[منها]: أن الطاعون في الغالب يكون عامًّا في البلد الذي يقع به، فإذا وقع، فالظاهر مداخلة سببه لمن بها، فلا يفيده الفرار؛ لأن المفسدة إذا تعيّنت حتى لا يقع الانفكاك عنها كان الفرار عبثًا، فلا يليق بالعاقل.

ص: 339

2 -

[ومنها]: أن الناس لو تواردوا على الخروج، لصار من عجز عنه بالمرض المذكور، أو بغيره ضائع المصلحة؛ لِفَقْد من يتعهده حيًّا وميتًا، وأيضًا فلو شُرع الخروج، فخرج الأقوياء، لكان في ذلك كَسْر قلوب الضعفاء، وقد قالوا: إن حكمة الوعيد في الفرار من الزحف؛ لِمَا فيه من كَسْر قلب من لم يفر، وإدخال الرعب عليه بخذلانه، وقد جمع الغزالي بين الأمرين، فقال: الهواء لا يضرّ من حيث ملاقاته ظاهر البدن، بل من حيث دوام الاستنشاق، فيصل إلى القلب، والرئة، فيؤثّر في الباطن، ولا يظهر على الظاهر، إلا بعد التأثير في الباطن، فالخارج من البلد الذي يقع به لا يخلص غالبًا مما استَحْكَم به، وينضاف إلى ذلك أنه لو رُخِّص للأصحاء في الخروج، لبقي المرضى لا يجدون من يتعاهدهم، فتضيع مصالحهم.

3 -

[ومنها]: ما ذكره بعض الأطباء أن المكان الذي يقع به الوباء تتكيف أمزجة أهله بهواء تلك البقعة، وتأْلَفها، وتصير لهم كالأهوية الصحيحة لغيرهم، فلو انتقلوا إلى الأماكن الصحيحة لم توافقهم، بل ربما إذا استنشقوا هواءها استصحب معه إلى القلب من الأبخرة الرديئة التي حصل تكيّف بدنه بها، فأفسدته، فمُنع من الخروج لهذه النكتة.

4 -

[ومنها]: ما تقدم أن الخارج يقول: لو أقمت لأُصبت، والمقيم يقول: لو خرجت لَسَلِمت، فيقع في اللَّوّ المنهيّ عنه، ذكر ذلك كله في "الفتح"

(1)

، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أَوّل الكتاب قال: [5771] (

) - (وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ ابْنُ رَافِعٍ: حَدَّثَنَا، وَقَالَ الآخَرَانِ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، بِهَذَا الإِسْنَادِ، نَحْوَ حَدِيثِ مَالِكٍ، وَزَادَ فِي حَدِيثِ مَعْمَرٍ: قَالَ: وَقَالَ لَهُ أَيْضًا: أَرَأَيْتَ أَنَّهُ لَوْ رَعَى الْجَدْبَةَ، وَتَرَكَ الْخَصْبَةَ: أَكُنْتَ مُعَجِّزَهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَسِرْ إِذًا، قَالَ: فَسَارَ حَتَّى أَتَى الْمَدِينَةَ، فَقَالَ: هَذَا الْمَحِلُّ، أَوْ قَالَ: هَذَا الْمَنْزِلُ، إِنْ شَاءَ اللهُ).

(1)

"الفتح" 13/ 143 - 145، كتاب "الطبّ" رقم (5729).

ص: 340

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ) النيسابوريّ، تقدّم قريبًا.

والباقون ذُكروا في الباب، وقبله ببابين، وإسحاق هو: ابن راهويه.

وقوله: (أَكُنْتَ مُعَجِّزَهُ؟) -بفتح العين، وتشديد الجيم-؛ أي: تَنْسُبه إلى العجز، قال النوويّ رحمه الله: مقصود عمر رضي الله عنه أن الناس رَعِيّةٌ لي، استرعانيها الله تعالي، فيجب عليّ الاحتياط لها، فإن تركته نُسبت إلى العجز، واستوجبت العقوبة، والله أعلم

(1)

.

وقوله: (هَذَا الْمَحِلُّ) قال النوويّ رحمه الله: هو بفتح الحاء، وكسرها، والفتح أقيس، فإن ما كان على وزن فَعَلَ، ومضارعه يَفْعُلُ، بضم ثالثه، كان مصدره، واسم الزمان والمكان منه مَفْعَلًا، بالفتح؛ كقَعَد يَقْعُد مَقْعَدًا، ونظائرِهِ، إلا أحرفًا شَذَّت، جاءت بالوجهين، منها الْمَحِلّ. انتهى

(2)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله قوله: "هذا المحلّ"؛ أي: المدينة؛ يعني: أنها المحل الذي لا يُرْغَب عنه، ولا يُفَضَّل غيره عليه، وإن كثُر خِصب البلاد، واتسع حال أهلها، ويقال:"المحلّ" بكسر الحاء، وفتحها، والفتح هو الأصل المطَّرد؛ لأنَّ ما كان على فَعَل يَفْعُل، الأصل فيه أن يأتي المكان منه بالفتح، إلا أحرفًا، سُمع فيها الكسر، والفتح. انتهى

(3)

.

وقوله: (أَوْ قَالَ: هَذَا الْمَنْزِلُ)"أو" فيه للشكّ من الراوي.

[تنبيه]: رواية معمر عن الزهريّ هذه ساقها عبد الرزّاق رحمه الله في "مصنّفه"، فقال:

(20159)

- أخبرنا عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهريّ، عن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب، عن عبد الله بن عبد الله بن الحارث بن نوفل، عن عبد الله بن العباس، قال: خرج عمر بن الخطاب يريد الشام، حتى إذا كان في بعض الطريق لقيه أبو عبيدة بن الجراح، وأصحابه، فأخبروه أن الوباء قد وقع بالشام، قال: فاستشار الناس، فأشار عليه

(1)

"شرح النوويّ" 14/ 211.

(2)

"شرح النوويّ" 14/ 211.

(3)

"المفهم" 5/ 619.

ص: 341

المهاجرون والأنصار، أن يمضي، وقالوا: قد خرجنا لأمر، ولا نرى أن نرجع عنه، وقال الذين أسلموا يوم الفتح: معاذ الله أن نرى هذا الرأي، أن نختار دار البلاء على دار العافية، وكان عبد الرحمن بن عوف غائبًا، فجاء فقال: إن عندي من هذا علمًا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا سمعتم به في أرض، فلا تَقْدَموا عليه، وإذا وقع بأرض، وأنتم بها، فلا تخرجوا فرارًا منه"، قال: فنادى عمر في الناس، فقال: إني مُصْبِحٌ على ظهر، فأصبحوا عليه، فقال له أبو عبيدة: يا أمير المؤمنين أفرارًا من قدر الله؟ فقال عمر: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة، نعم، نَفِرّ من قدر الله إلى قدر الله، أرأيت لو كانت لك إبل، فهبطت واديًا له عْدوتان: إحداهما خَصِبةٌ، والأخرى جَدْبةٌ، أليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله؟ وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله؟ قال: نعم، قال: وقال له: أرأيت لو رَعَى الجدبة، وترك الخصبة، أكانت مَعْجَزةً

(1)

؟، قال: نعم، قال: فَسِرْ إذًا، قال: فسار، حتى أتى المدينة، فقال: هذا المحلّ، وهذا المنزل، إن شاء الله، قال الزهريّ: فأخبرني سعيد بن المسيِّب أن عمر بن الخطاب، رجع بالناس يومئذ من سَرْغ. انتهى

(2)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال: [5772] (

) - (وَحَدَّثَنِيهِ أَبُو الطَّاهِرِ، وَحَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَي، قَالَا: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَاب، بِهَذَا الإِسْنَادِ، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ الْحَارِثِ حَدَّثَهُ، وَلَمْ يَقُلْ: عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

وكلهم ذُكروا في الباب.

وقوله: (قَالَ: إِنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ الْحَارِثِ وَلَمْ يَقُلْ: عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ)؛ أي: كما قال مالك، ومن تابعه، فخالفهم يونس، وقال ابن خزيمة: وقال: قول مالك، ومن تابعه أصحّ، وقال الدارقطنيّ: تابع يونس صالح بن نصر، عن

(1)

هكذا نصّ "المصنّف"، ولفظ مسلم:"أكنت مُعُجِّزه؟ ".

(2)

"مصنف عبد الرزاق" 11/ 147.

ص: 342

مالك، وقد رواه ابن وهب، عن مالك، ويونس جميعًا، عن ابن شهاب، عن عبد الله بن الحارث، والصواب الأول، وأظنّ ابن وهب حمل رواية مالك على رواية يونس. انتهى.

وقال النوويّ: قال الدارقطنيّ: كذا قال مالك -يعني: عن عبد الله بن عبد الله بن الحارث- وقال معمر، ويونس: عن عبد الله بن الحارث، قال: والحديث صحيح على اختلافهم، قال: وقد أخرجه مسلم من طريق يونس، عن عبد الله بن الحارث، وأما البخاريّ فلم يخرجه إلا من طريق مالك. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قول الدارقطنيّ: وقال معمر ويونس

إلخ فيه نظر لا يخفي، فإن رواية معمر عند مسلم كرواية مالك عن عبد الله بن عبد الله بن الحارث، وليست كرواية يونس عن عبد الله بن الحارث.

وخلاصة القول أنه قد تبيّن بما ذُكر أن الأصحّ عن عبد الله بن عبد الله بن الحارث، كما اتّفق عليه مالك، ومعمر، لا عن عبد الله بن الحارث، فالحديث للولد، لا للوالد، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

[تنبيه]: رواية يونس عن ابن شهاب هذه ساقها البيهقيّ رحمه الله في "الكبرى"، فقال:

(14020)

- أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، وأبو زكريا بن أبي إسحاق المزكي، قالا: ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، ثنا بحر بن نصر، ثنا ابن وهب، أخبرني يونس، عن ابن شهاب، أخبرني عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب، أن عبد الله بن الحارث حدّثه، أن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما حدثه، أنه كان مع عمر بن الخطاب حين خرج إلى الشام، فرجع بالناس من سَرْغَ، فلقيه أمراؤه على الأجناد، فلقيه أبو عبيدة بن الجراح، وأصحابه رضي الله عنهم، وقد وقع الوجع بالشام، فقال عمر: اجمع لي المهاجرين الأولين، فجمعتهم له، فاستشارهم، فاختلفوا عليه، فقال بعضهم: ارجع بالناس، ولا تُقْدِمهم على هذا الوباء، وقال بعضهم: إنما هو قَدَر الله، وقد خرجتَ لأمر، فلا ترجع

(1)

"شرح النوويّ" 14/ 211 - 212.

ص: 343

عنه، فأمرهم، فخرجوا عنه، ثم قال: ادع لي الأنصار، فدعوتهم، فاستشارهم، فسلكوا سبيل المهاجرين، فاختلفوا كاختلافهم، فأمرهم، فخرجوا عنه، ثم قال: ادع لي من كان ههنا من مَشْيَخة مهاجرة، فاختلفوا كاختلافهم، فأمرهم، فخرجوا عنه، ثم قال: ادع لي من كان ههنا من مشيخة مهاجرة الفتح، فدعوتهم، فاستشارهم، فاجتمع رأيهم على أن يرجع بالناس، فأَذَّنَ عمر رضي الله عنه في الناس، إني مُصْبِح على ظهر، فأَصْبِحوا عليه، فإني ماض لِمَا أري، فانظروا ما آمركم به، فامضوا له، فأصبح، قال: فركب عمر رضي الله عنه، ثم قال للناس: إني أرجع، فقال أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه-وكان يكره أن يخالفه-: أفرارًا من قدر الله؟ فغضب عمر رضي الله عنه، وقال: لو غيرك قال هذا يا أبا عبيدة، نعم، أَفِرّ من قدر الله إلى قدر الله، أرأيت لو أن رجلًا هبط واديًا له عْدوتان، واحدة جدبة، والأخرى خَصْبة، أليس إن رعى الجدبة رعاها بقدر الله؟ وإن رعى الخصبة رعاها بقدر الله؟ قال: ثم خلا بأبي عبيدة، فتراجعا ساعة، فجاء عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، وكان متغيبًا في بعض حاجته، فجاء، والقوم يختلفون، فقال: إن عندي في هذا علمًا، فقال عمر: ما هو؟ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا سمعتم به في أرض، فلا تَقْدَموا عليه، وإذا وقع بأرض، وأنتم بها، فلا يخرجنكم الفرار منه"، فحَمِد الله عمر رضي الله عنه، فرجع، وأمر الناس أن يرجعوا، قال ابن شهاب: أخبرني سالم بن عبد الله، أن عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عامر بن ربيعة، قالا: إن عمر رضي الله عنه إنما رجع من سَرْغ عن حديث عبد الرحمن بن عوف. انتهى

(1)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أَوّل الكتاب قال: [5773] (

) - (وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَي، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ، أَنَّ عُمَرَ خَرَجَ إِلَى الشَّامِ، فَلَمَّا جَاءَ سَرْغَ بَلَغَهُ أَنَّ الْوَبَاءَ قَدْ وَقَعَ بِالشَّامِ، فَأَخْبَرَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضٍ، فَلَا تَقْدَمُوا عَلَيْهِ، وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ،

(1)

"سنن البيهقيّ الكبرى" 7/ 217.

ص: 344

وَأَنْتُمْ بِهَا، فَلَا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ"، فَرَجَعَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ مِنْ سَرْغَ، وَعَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، أَنَّ عُمَرَ إِنَّمَا انْصَرَفَ بِالنَّاسِ مِنْ حَدِيثِ

(1)

عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ) الْعَنَزيّ، حليف بني عديّ، أبو محمد المدنيّ، وُلد في عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولأبيه صحبة مشهورة، وثّقه العجليّ، مات سنة بضع وثمانين (ع) تقدم في "صلاة المسافرين وقصرها" 5/ 1619.

والباقون ذُكروا في الباب.

وقوله: (عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ) قال في "الفتح": وعبد الله بن عامر هذا معدود في الصحابة؛ لأنه وُلِد في عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم، وسَمِع منه ابن شهاب هذا الحديث عاليًا عن عبد الرحمن بن عوف، وعمر، لكنه اختصر القصّة، واقتصر على حديث عبد الرحمن بن عوف. انتهى

(2)

.

وقوله: (وَعَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللهِ

إلخ) معطوف على "عن ابن شهاب" الأول، فهو موصول بالإسناد السابق، وليس معلّقًا.

قال في "الفتح": رواية سالم هذه منقطعة؛ لأنه لم يدرك القصّة، ولا جدّه عمر، ولا عبد الرحمن بن عوف، وقد رواه ابن أبي ذئب، عن ابن شهاب، عن سالم، فقال: عن عبد الله بن عامر بن ربيعة: "أن عبد الرحمن أخبر عمر، وهو في طريق الشام لَمّا بلغه أن بها الطاعون

" فذكر الحديث، أخرجه الطبرانيّ، فإن كان محفوظًا، فيكون ابن شهاب سمع أصل الحديث من عبد الله بن عامر، وبعضه من سالم عنه، واختصر مالك الواسطة بين سالم، وعبد الرحمن، والله أعلم. انتهى

(3)

.

وقوله: (أَنَّ عُمَرَ إِنَّمَا انْصَرَفَ بِالنَّاسِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ)

(1)

في نسخة: "عن حديث".

(2)

"الفتح" 13/ 140، كتاب "الطبّ" رقم (5729).

(3)

"الفتح" 13/ 140، كتاب "الطبّ" رقم (5729).

ص: 345

المذكور؛ تقديمًا لخبر الواحد على القياس؛ لأنهم أجمعوا على الرجوع اعتمادًا على خبره وحده، بعد أن رَكِبوا مشقة السفر من المدينة إلى سَرْغ، فرجعوا، ولم يدخلوا الشام، وقيل: رجع قبل إخبار عبد الرحمن؛ لأنه قال: إنه مصبح على ظَهْر، قبل أن يخبروه بالحديث، فلما أخبروه قَوِي عزمه على ذلك، وتأول من قال بهذا بأن سالمًا لعله لم يبلغه قول عمر قبل إخبار ابن عوف.

قال القرطبيّ: ورجح بعضهم الأول بأن وَلَده؛ أي: حفيده ما عرف بحاله من غيره، وبأن عمر لم يكن ليرجع إلى رأي دون رأي لغير حجة حتى وجد علمًا، وتأول قوله:"إني مصبح على ظهر" الذي قاله قبل تحديث عبد الرحمن له بالحديث، بأن معناه: إني على سفر لوجهه الذي كان توجّه له، لا أنه رجع عن رأيه، وهذا بعيد. انتهى.

قال الزرقانيّ: ولا حاجة إلى هذا كله؛ لأن عمر رضي الله عنه رجع عن رأيه إلى رأي من أشار بالرجوع؛ لكثرتهم، ثم قَوَّى ذلك له حديث عبد الرحمن، فرجع بهم من سَرْغ، وعلى هذا يُحْمَل قول سالم، فلا داعية لدعوى أنه لم يبلغه قول عمر قبل إخبار ابن عوف. انتهى

(1)

.

وقال في "الفتح" -بعد رواية عبد الله بن عامر هذه- ما نصّه: وفي رواية القعنبيّ عقب هذه الطريق: وعن ابن شهاب عن سالم بن عبد الله: "أن عمر إنما انصرف من حديث عبد الرحمن"، وهو لمسلم عن يحيى بن يحيي، عن مالك، وقال:"إنما رجع بالناس من سَرْغَ عن حديث عبد الرحمن بن عوف"، وكذا هو في "الموطأ"، وقد رواه جويرية بن أسماء، عن مالك خارج "الموطأ" مطوّلًا، أخرجه الدارقطنيّ في "الغرائب"، فزاد بعد قوله:"عن حديث عبد الرحمن بن عوف، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نهى أن يَقْدَم عليه، إذا سمع به، وأن يخرج عنه، إذا وقع بأرض هو بها"، وأخرجه أيضًا من رواية بشر بن عمر، عن مالك بمعناه.

قال: وليس مراد سالم بهذا الحصر نفي سبب رجوع عمر رضي الله عنه أنه كان

(1)

"شرح الزرقانيّ على الموطّأ" 4/ 302.

ص: 346

عن رأيه الذي وافق عليه مشيخة قريش، من رجوعه بالناس، وإنما مراده أنه لَمّا سَمِع الخبر رَجَحَ عنده ما كان عزم عليه من الرجوع، وذلك أنه قال:"إني مُصْبح على ظهر"، فبات على ذلك، ولم يَشْرَع في الرجوع حتى جاء عبد الرحمن بن عوف، فحدَّث بالحديث المرفوع، فوافق رأي عمر الذي رآه، فحصر سالم سبب رجوعه في الحديث؛ لأنه السبب الأقوي، ولم يُرِد نفي السبب الأول، وهو اجتهاد عمر، فكأنه يقول: لولا وجود النصّ لأمكن إذا أصبح أن يتردد في ذلك، أو يرجع عن رأيه، فلما سمع الخبر استمرّ على عزمه الأول، ولولا الخبر لَمَا استمرّ.

فالحاصل: أن عمر أراد بالرجوع ترك الإلقاء إلى التهلكة، فهو كمن أراد الدخول إلى دار، فرأى بها مثلًا حريقًا تعذر طفؤه، فعدل عن دخولها؛ لئلا يصيبه، فعدل عمر لذلك، فلما بلغه الخبر جاء موافقًا لرأيه، فأعجبه، فلأجل ذلك قال من قال: إنما رجع لأجل الحديث، لا لِمَا اقتضاه نَظَره فقط. انتهى

(1)

.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(18) - (بَابُ لَا عَدْوَى، وَلَا طِيَرَةَ، وَلَا هَامَةَ، وَلَا صَفَرَ، وَلَا نَوْءَ، وَلَا غُولَ، وَلَا يُورِدُ مُمْرِضٌ عَلَى مُصِحٍّ)

[5774]

(2220) - (حَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ، وَحَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى -وَاللَّفْظُ لأَبِي الطَّاهِرِ- قَالَا: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَحَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، حِينَ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا عَدْوَي، وَلَا صَفَرَ، وَلَا هَامَةَ"، فَقَالَ أَعْرَابِيٌّ: يَا رَسُولَ اللهِ، فَمَا بَالُ الإِبِلِ، تَكُونُ فِي الرَّمْلِ؛ كَأَنَّهَا الظِّبَاءُ، فَيَجِيءُ الْبَعِيرُ الأَجْرَبُ، فَيَدْخُلُ فِيهَا، فَيُجْرِبُهَا كُلَّهَا؟ قَالَ: "فَمَنْ أَعْدَى الأوَّلَ؟ ").

(1)

"الفتح" 13/ 140 - 141، كتاب "الطبّ" رقم (5729).

ص: 347

رجال هذا الإسناد: سبعة:

وكلهم تقدّموا في الباب الماضي، وقبله بثلاثة أبواب.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (حِينَ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم)"حين" متعلّق بحال محذوف؛ أي: حال كونه ناقلًا، أو آخذًا وقت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلّق بعضهم بقوله:"فقال أعرابيّ"، على زيادة الفاء، والأول أقرب، وأوضح، فتأمل، والله تعالى أعلم.

("لَا عَدْوَى) بفتح العين، وسكون الدال المهملتين، وفتح الواو مقصورًا، قال ابن الأثير رحمه الله: الْعَدْوَى اسم من الإعداء؛ كالرَّعْوَي، والْبَقْوَي، من الإرعاء، والإبقاء، يقال: أعداه الداء يُعديه إعداءً، وهو أن يصيبه مثل ما بصاحب الداء، وذلك أن يكون ببعير جَرَبٌ مثلًا، فَتُتَّقَى مخالطته بإبل أخري؛ حِذارًا أن يتعدى ما به من الجرب إليها، فيصيبها ما أصابه، وقد أبطله الإسلام؛ لأنهم كانوا يظنون أن المرض بنفسه يتعدي، فأعلمهم النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه ليس الأمر كذلك، وإنما الله هو الذي يُمرِض، ويُنزل الداء، ولهذا قال في الحديث:"فمن أعدى الأول"؛ أي: مِن أين صار فيه الجرب؟ انتهى

(1)

.

وقال التوربشتيّ رحمه الله: العَدْوَى هنا مجاوزة العلّة من صاحبها إلى غيره، يقال: أعدى فلان فلانًا من خُلُقه، أو من علّة به، وذلك على ما يذهب إليه المتطبّبة في عِلَلٍ سبع: الجذام، والجَرَب، والجدريّ، والحصبة، والبخر، والرمد، والأمراض الوبائيّة. انتهى

(2)

.

(وَلَا صَفَرَ) قال ابن الأثير رحمه الله: كانت العرب تزعم أن في البطن حَيّةً يقال لها: الصفر، تصيب الإنسان إذا جاع، وتؤذيه، وأنها تُعْدِي، فأبطل الإسلام ذلك، وقيل: أراد به النسيء الذي كانوا يفعلونه في الجاهلية، وهو تأخير المحرَّم إلى صفر، ويجعلون صفر هو الشهر الحرام، فأبطله. انتهى

(3)

.

(1)

"النهاية في غريب الأثر" 3/ 192.

(2)

راجع: "الكاشف" 9/ 2978 - 2979.

(3)

"النهاية في غريب الأثر" 3/ 35.

ص: 348

وقال البخاريّ رحمه الله في "صحيحه": "باب لا صفر، وهو داء يأخذ البطن"، قال في "الفتح": كذا جزم بتفسير الصفر، وهو بفتحتين، وقد نَقَل أبو عبيدة معمر بن المثنى في "غريب الحديث" له عن يونس بن عبيد الجرميّ، أنه سأل رُؤبة بن العَجّاج، فقال: هي حية تكون في البطن تصيب الماشية والناس، وهي أعدى من الْجَرَب عند العرب، فعلى هذا فالمراد بنفي الصفر ما كانوا يعتقدونه فيه من العدوي، ورَجَحَ عند البخاري هذا القول؛ لكونه قُرِن في الحديث بالعدوي، وكذا رَجَّحَ الطبريّ هذا القول، واستَشْهَد له بقول الأعشى:

لَا يَتَأَرَّى لِمَا فِي الْقِدْرِ يَرْقُبُهُ

وَلَا يَعَضُّ عَلَى شُرْسُوفِهِ الصَّفَرُ

والشُّرْسُوف: بضم المعجمة، وسكون الراء، ثم مهملة، ثم فاء: الضلع، والصفر: دودٌ يكون في الجوف، فربما عَضَّ الضلع، أو الكبد، فقتل صاحبه، وقيل: المراد بالصفر الحية، لكن المراد بالنفي نفي ما كانوا يعتقدون أن من أصابه قَتَله، فَرَدّ ذلك الشارع بأن الموت لا يكون إلا إذا فَرَغ الأجلُ، وقد جاء هذا التفسير عن جابر رضي الله عنه، وهو أحد رواة حديث:"لا صفر"، قاله الطبريّ، وقيل في الصفر قول آخر، وهو أن المراد به شهر صفر، وذلك أن العرب كانت تُحَرِّم صفر، وتستحل المحرَّم، كما تقدم في "كتاب الحجِّ"، فجاء الإسلام بردّ ما كانوا يفعلونه من ذلك، فلذلك قال صلى الله عليه وسلم:"لا صفر"، قال ابن بطال: وهذا القول مرويّ عن مالك، والصفر أيضًا وجع في البطن، يأخذ من الجوع، ومن اجتماع الماء الذي يكون منه الاستسقاء. انتهى

(1)

.

(وَلَا هَامَةَ) بتخفيف الميم على المشهور، وقيل: بتشديدها، قال أبو داود في "سننه": قال بقيّة: سألت محمد بن راشد عن قوله: "لا هامة"، فقال: كان أهل الجاهليّة يقولون: ليس أحدٌ يموت فيُدفن إلا خرج من قبره هامة. انتهى.

وقال النوويّ: فيها تأويلان:

[أحدهما]: أن العرب كانت تتشاءم بها، وهي من طير الليل. وقيل: هي الْبُومة، قالوا: كانت إذا سقطت على دار أحدهم، فيراها ناعيةً له نفسه، أو بعض أهله، وهو تفسير مالك بن أنس.

(1)

"الفتح" 13/ 116 - 117، كتاب "الطبّ" رقم (5717).

ص: 349

[وثانيهما]: كانت تعتقد أن عظام الميت، وقيل: روحه تنقلب هامة تطير، وهذا تفسير أكثر العلماء، وهو المشهور، ويجوز أن يكون المراد النوعين معًا، فإنهما باطلان، فبيّن النبيّ صلى الله عليه وسلم إبطال ذلك، وضلالة الجاهليّة فيما تعتقده من ذلك. و"الهامة" بتخفيف الميم على المشهور الذي لم يذكر الجمهور غيره. وقيل: بتشديدها. قاله جماعة، وحكاه القاضي عن أبي زيد الأنصاريّ الإمام في اللغة. انتهى

(1)

.

وقال ابن الأثير رحمه الله: الهامة الرأس، واسم طائر، وهو المراد في الحديث، وذلك أنهم كانوا يتشاءمون بها، وهي من طير الليل، وقيل: هي الْبُومة، وقيل: كانت العرب تزعم أن رُوح القتيل الذي لا يُدْرَك بثأره تصير هامة، فتقول: اسقوني، فإذا أُدرك بثأره طارت، وقيل: كانوا يزعمون أن عظام الميت، وقيل: روحه تصير هامة، فتطير، ويسمونه الصَّدَى، فنفاه الإسلام، ونهاهم عنه، وذكره الهرويّ في الهاء والواو، وذكره الجوهريّ في الهاء والياء. انتهى

(2)

.

وقال في "الفتح": قوله: "باب لا هامة" قال أبو زيد: هي بالتشديد، وخالفه الجميع، فخففوها، وهو المحفوظ في الرواية، وكأن مَن شدَّدها ذهب إلى واحدة الهوامّ، وهي ذوات السموم، وقيل: دواب الأرض التي تَهُمّ بأذى الناس، وهذا لا يصح نفيه، إلا إن أُريدَ أنها لا تضرّ لذواتها، وإنما تضر إذا أراد الله إيقاع الضرر بمن أصابته، وقد ذكر الزبير بن بكار في "الموفقيات" أن العرب كانت في الجاهلية تقول: إذا قُتل الرجلُ، ولم يؤخذ بثأره خرجت من رأسه هامة، وهي دودة، فتدور حول قبره، فتقول: اسقوني، اسقوني، فإن أُدرك بثأره ذهبت، وإلا بقيت، وفي ذلك يقول شاعرهم [من البسيط]:

يَا عَمْرُو إِلَّا تَدَعْ شَتْمِي وَمَنْقَصَتِي

أَضْرِبْكَ حَتَّى تَقُولَ الْهَامَةُ اسْقُونِي

قال: وكانت اليهود تزعم أنها تدور حول قبره سبعة أيام، ثم تذهب، وذكر ابن فارس وغيره من اللغويين نحو الأوّل، إلا أنهم لم يُعَيِّنوا كونها دودةً، بل قال القزاز: الهامة: طائر من طير الليل؛ كأنه يعني: البومة.

(1)

"شرح مسلم" 14/ 216.

(2)

"النهاية في غريب الأثر" 5/ 282.

ص: 350

وقال ابن الأعرابيّ: كانوا يتشاءمون بها إذا وقعت على بيت أحدهم يقول: نَعَتْ إليّ نفسي، أو أحدًا من أهل داري.

وقال أبو عبيد: كانوا يزعمون أن عظام الميت تصير هامةً، فتطير، ويسمّون ذلك الطائر: الصَّدَي، فعلى هذا فالمعنى في الحديث: لا حياة لهامة الميت، وعلى الأول: لا شُؤْمَ بالْبُومة، ونحوها. انتهى

(1)

.

(فَقَالَ أَعْرَابِيٌّ) لا يُعرف

(2)

، و"الأعرابيّ" بفتح الهمزة، واحد الأعراب بفتحها، وهو الذي يكون صاحب نُجْعة وارتياد للكلإ، قال الأزهريّ: سواء كان من العرب، أو من مواليهم، فمن نزل البادية، وجاور البادِيْنَ، وظَعَن بظَعْنِهم، فهم أَعرابٌ، ومن نزل بلاد الرِّيف، واستوطن المدُن والقرى العربيّة وغيرها ممن ينتمي إلى العرب، فهم عَرَب، وإن لم يكونوا فصحاء، ويقال: سُمُّوا عربًا؛ لأن البلاد التي سكنوها تُسَمّى الْعَرَبَات، ويقال: العرَبُ العاربة هم الذين تكلّموا بلسان يَعرُب بن قَحْطان، وهو اللسان القديم، والعرب المستعرِبَة هم الذين تكلّموا بلسان إسماعيل بن إبراهيم عليهما الصلاة والسلام، وهي لغة الحجاز وما والاها

(3)

.

(يَا رَسُولَ اللهِ، فَمَا بَالُ) بالباء الموحّدة؛ أي: فما شأنها؛ (الإِبِلِ تَكُونُ فِي الرَّمْلِ) خبر تكون، (كَأَنَّهَا الظِّبَاءُ) بكسر الظاء المعجمة: جمع ظبي، شبّهها بها في صفاء بدنها، وسلامتها من الجرَب وغيره، من الأدواء، فقوله:"كأنها الظباء" حال من الضمير المستتر في الخبر، وهو تتميم لمعنى النقاوة، وذلك لأنها إذا كانت في التراب ربما يَلْصَق بها شيء منه.

(فَيَجِيءُ الْبَعِيرُ الأَجْرَبُ)؛ أي: الذي فيه جَرَب وحكّة، قال الفيّوميّ رحمه الله: الْجَرَبُ -بفتح الجيم، والراء-: ذُكر في كتب الطبّ أنه خِلْطٌ غليظٌ يَحْدُثُ تحت الجلد من مُخالطة الْبَلْغم الْمِلْحِ للدم، يكون معه بُثُور، وربّما حصَلَ معه هُزَالٌ لكثرته. انتهى

(4)

.

(1)

"الفتح، 13/ 230 - 231، كتاب "الطبّ" رقم (5770).

(2)

"تنبيه المعلم" ص 379.

(3)

راجع: "المصباح المنير" 2/ 400.

(4)

راجع: "المصباح المنير" 1/ 95.

ص: 351

(فَيَدْخُلُ فِيهَا، فَيُجْرِبُهَا) بضمّ حرف المضارعة، من الإجراب؛ أي: يُعدي ذلك البعير جَرَبه إليها، وقوله:(كُلَّهَا) بالنصب توكيد للضمير المفعول.

(قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("فَمَنْ أَعْدَى الأَوَّلَ؟ ")؛ أي: من أجرب البعير الأول؟ يعني: ممن سَرَى إليه الجرب، فإن قلت: من بعير آخر يلزم التسلسل، وإن قلت: بسبب آخر، فعليك بيانه، وإن قلت: إن الذي فعله في الأول هو الذي فعله في الثاني ثبت المدَّعَي، وهو أن الذي فعل في الجميع ذلك هو الله الخالق القادر على كلّ شيء، وهذا جواب من النبيّ صلى الله عليه وسلم في غاية البلاغة، والرَّشَاقة

(1)

.

وقال النوويّ رحمه الله: معناه أن البعير الأول الذي جرِبَ من أجربه؟؛ أي: وأنتم تعلمون، وتعترفون أن الله تعالى هو الذي أوجد ذلك من غير ملاصقة لبعير أجرب، فاعلموا أن البعير الثاني والثالث وما بعدهما إنما جَرِب بفعل الله تعالى وإرادته، لا بعدوى تُعْدِي بطبعها، ولو كان الجرب بالعدوى بالطبائع لم يَجْرَب الأول؛ لعدم المعدِي، ففي الحديث بيان الدليل القاطع لإبطال قولهم في العدوى بطبعها. انتهى

(2)

.

وقال المناويّ رحمه الله: قوله: "فمن أعدى الأول؟ " من الأجوبة المسكتة البرهانية التي لا يمكن دفعها؛ إذ لو جَلَبت الأدواءُ بعضها بعضًا لزم فقد الداء الأول؛ لفقد الجالب، فقَطَع التسلسلَ، وأحال على حقيقة التوحيد الكامل الذي لا مَعْدِل عنه، فهو جواب في غاية الرَّشَاقة والبلاغة.

[تنبيه]: قال الطيبي رحمه الله: إنما أتى بـ "مَن"، والظاهر أن يقال: فما أعدى الأول ليجاب بقوله: الله تعالي، وذكر "أعدى" للمشاكلة والازدواج، كما في قوله:"كما تدين تدان". انتهى

(3)

، والله تعالى أعلم.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

(1)

"عمدة القاري" 21/ 288.

(2)

"شرح مسلم" 14/ 217.

(3)

"الكاشف عن حقائق السُّنن" 9/ 2980.

ص: 352

أخرجه (المصنّف) هنا [18/ 5774 و 5775 و 5776](2220)، و (البخاريّ) في "الطبّ"(5717 و 5757 و 5770)، و (أبو داود) في "الطبّ"(4/ 17 - 18)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(4/ 375 و 376 و 5/ 402)، و (ابن ماجة) في "الطبّ"(3586)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(19507)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 267)، و (ابن راهويه) في "مسنده"(1/ 409)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(4/ 309 و 312)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6116)، و (الطبريّ) في "تهذيب الآثار"(3)، و (ابن أبي عاصم) في "السُّنَّة"(272 و 273 و 274)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(10/ 498)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(7/ 216)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(3248)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): إبطال ما كان عليه الجاهليّة من اعتقاد إعداء المرض، فكانوا يعتقدون أن المريض إذا دخل في الأصحّاء أمرضهم، فنفى الشارع ذلك، وأبطله، أتم بطلان.

2 -

(ومنها): أن هذا الحديث، وإن كان ظاهره نفيًا لهذه الأشياء، لكن المراد منه النهي عن الالتفات إليها، والاعتناء بها؛ لأنها في أنفسها ليست بصحيحة، وإنما هي من أوهام جهّال العرب.

قال القرطبيّ رحمه الله: "لا" في هذا الحديث، وإن كانت نفيًا لِمَا ذُكر بعدها، فمعناها النهي عن الالتفات لتلك الأمور، والاعتناء بها؛ لأنَّها في أنفسها ليست بصحيحة، وإنما هي من أوهام جهَّال العرب، وبيان ذلك: أنهم كانوا يعتقدون أن المريض إذا دخل في الأصحاء أمرضهم، وأعداهم، وكذلك في الإبل، فنفى النبيّ صلى الله عليه وسلم ذلك، وأبطله، ثم إنهم لمّا أوردوا عليه الشبهة الحاملة لهم على ذلك حين قالوا:"فما بال الإبل تكون في الرمل كأنها الظباء، فيجيء البعير الأجرب، فيدخل فيها، فيُجربها"، قطع حجتهم، وأزاح شبهتهم بكلمة واحدة، وهي قوله:"فمن أعدى الأول؟ "، ومعنى ذلك: أن البعير الجرب الذي أجرب هذه الصحاح -على زعمهم- من أين جاءه الجرب؟ أمِنْ بعير آخر؟ فيلزم التسلسل، أو من سبب غير البعير؟ فهو الذي فعل الجرب في الأول والثاني، وهو الله تعالى الخالق لكل شيء، والقادر على كلّ شيء.

ص: 353

قال: وهذه الشبهة التي وقعت لهؤلاء هي التي وقعت للطبائعيين أَوّلًا، وللمعتزلة ثانيًا، فقال الطبائعيون بتأثيرات الأشياء بعضها في بعض، وإيجادها إياها، وسمَّوا المؤثّر طبيعة، وقالت المعتزلة بنحو ذلك في أفعال الحيوانات، والمتولدات، وقالوا: إن قدرتهم مؤثرة فيها بالإيجاد، وأنهم خالقون لأفعالهم، مستقلون باختراعها، واستند الكل ممن ذكر للمشاهدة الحسية، وربما نسبوا منكر ذلك إلى إنكار البديهة، وهذا منهم غلط فاحش، وسببه: أنهم التبس عليهم إدراك الحسّ بإدراك العقل، فإنَّ الذي شاهدوه إنَّما هو تأثير شيء، عند شيء آخر، وهذا حظ الحس، وأما تأثيره فيه، فلا يُدرَك حسًّا، بل عقلًا، فإنَّ الحس إنما أدرك وجود شيء عند شيء، وارتفاعه عند ارتفاعه، أما إيجاده به فليس للحس فيه مدخل، فإنها المتقارنات في الوجود على حالة واحدةٍ، والعقل هو الذي يُفرِّق، فيحكم بتلازم بعضها بعضًا عقلًا، ويحكم بتلازم بعضها ببعض عادةً، مع جواز التبدُّل عقلًا، ولقد أحسن من قال من العقلاء النظار الفضلاء: إياك والانخداع بالوجود، والارتفاع، قال: واستيفاء الكلام على هذا في علم الكلام. انتهى

(1)

.

3 -

(ومنها): إثبات القدر، ووجوب الإيمان به.

4 -

(ومنها): ما قاله القرطبيّ رحمه الله: فيه دليلٌ على جواز مشافهة من وقعت له شبهة في اعتقاده بذكر البرهان العقليّ، إذا كان السامع أهلًا لفهمه، فأما أهل القصور، فيُخاطَبون بما تحتمله عقولهم من الأمور الإقناعيات.

وقال أيضًا: هذه الشبهة وقعت للطبائعيين، ثم للمعتزلة، فقال الطبائعيون: بتأثير الأشياء بعضها في بعض، وإيجادها إياها، ويسمّون المؤثّر طبيعةً، وقال المعتزلة به في أفعال العباد، وقالوا: قدرتهم مؤثرة فيها الإيجاد، مستقلون بها، واستَدَلّ كلٌّ بالمشاهدة الحسية، وهو غلط، سببه التباس إدراك العقد. انتهى

(2)

.

5 -

(ومنها): ما قال ابن العربيّ رحمه الله: هذا الحديث أصل عظيم في تكذيب القدرية، وأصل حدوث العالم، ووجوب دخول الأولية له، ودليل على

(1)

"المفهم" 5/ 620 - 621.

(2)

"المفهم" 5/ 622.

ص: 354

صحة القياس في الأصل، وأما خبر:"لا يورد مُمْرِض على مُصِحٍّ"، فهو نهي عن إدخال التوهم والمحظور على العامّة باعتقاد وقوع العدوى عليهم بدخول البعير الأجرب فيهم. انتهي، والله تعالى أعلم.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في الجمع بين حديث: "لا عدوى"، وحديث:"لا يورد ممرض على مصحّ"، وكلاهما صحيحان اتفق الشيخان على إخراجهما:

قال النوويّ: قال جمهور العلماء: يجب الجمع بين هذين الحديثين، وهما صحيحان، قالوا: وطريق الجمع أن حديث: "لا عدوى" المراد به نفي ما كانت الجاهلية تزعمه، وتعتقده أن المرض والعاهة تُعْدِي بطبعها، لا بفعل الله تعالي، وأما حديث:"لا يورد ممرض على مصح"، فأرشد فيه إلى مجانبة ما يحصل الضرر عنده في العادة بفعل الله تعالى وقَدَره، فنفى في الحديث الأول العدوى بطبعها، ولم ينف حصول الضرر عند ذلك بقَدَر الله تعالى وفعله، وأرشد في الثاني إلى الاحتراز مما يحصل عنده الضرر بفعل الله وإرادته وقَدَره، فهذا الذي ذكرناه من تصحيح الحديثين والجمع بينهما هو الصواب الذى عليه جمهور العلماء، ويتعيَّن المصير إليه، ولا يؤثّر نسيان أبي هريرة رضي الله عنه لحديث:"لا عدوى"؛ لوجهين:

[أحدهما]: أن نسيان الراوي للحديث الذي رواه لا يقدح في صحته، عند جماهير العلماء، بل يجب العمل به.

[والثاني]: أن هذا اللفظ ثابت من رواية غير أبي هريرة، فقد ذكر مسلم هذا من رواية السائب بن يزيد، وجابر بن عبد الله، وأنس بن مالك، وابن عمر رضي الله عنهم عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وحَكَى المازريّ، والقاضي عياض عن بعض العلماء أن حديث:"لا يورد ممرض على مصح" منسوخ بحديث: "لا عدوى"، وهذا غلط لوجهين:

[أحدهما]: أن النسخ يشترط فيه تعذر الجمع بين الحديثين، ولم يتعذر، بل قد جمعنا بينهما.

[والثاني]: أنه يُشترط فيه معرفة التاريخ، وتأخر الناسخ، وليس ذلك موجودًا هنا.

ص: 355

وقال آخرون: حديث "لا عدوى" على ظاهره، وأما النهي عن إيراد الممرض على المصِحّ فليس للعدوي، بل للتأذي بالرائحة الكريهة، وقبح صورته، وصورة المجذوم، والصواب ما سبق. انتهى

(1)

.

وقال في "الفتح" عند شرح قوله: "وفرّ من المجذوم كما تفرّ من الأسد" ما نصّه: قال عياض: اختَلَفت الآثار في المجذوم، فجاء ما تقدم عن جابر أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أكل مع مجذوم، وقال:"ثقةً بالله، وتوكلًا عليه"، قال: فذهب عمر، وجماعة من السلف إلى الأكل معه، ورأوا أن الأمر باجتنابه منسوخ، وممن قال بذلك: عيسى بن دينار من المالكية، قال: والصحيح الذي عليه الأكثر، ويتعيَّن المصير إليه، أن لا نسخ، بل يجب الجمع بين الحديثين، وحَمْلُ الأمر باجتنابه، والفرار منه على الاستحباب، والاحتياط، والأكل معه على بيان الجواز. انتهى.

هكذا اقتصر القاضي، ومن تبعه على حكاية هذين القولين. وحكى غيره قولًا ثالثًا، وهو الترجيح، وقد سلكه فريقان:

أحدهما: سلك ترجيح الأخبار الدالة على نفي العدوَي، وتزييف الأخبار الدالة على عكس ذلك، مثل حديث الباب، فأعلُّوه بالشذوذ، وبأن عائشة رضي الله عنها أنكرت ذلك، فأخرج الطبريّ عنها أن امرأة سألتها عنه، فقالت: ما قال ذلك، ولكنه قال:"لا عدوى"، وقال:"فمن أعدى الأول؟ "، قالت: وكان لي مولى به هذا الداء، فكان يأكل في صحافي، ويشرب في أقداحي، وينام على فراشي، وبأن أبا هريرة تردّد في هذا الحكم، كما سيأتي بيانه، فيؤخذ الحكم من رواية غيره، وبأن الأخبار الواردة من رواية غيره في نفي العدوى كثيرة، شهيرة، بخلاف الأخبار المرخِّصة في ذلك، ومثل حديث:"لا تديموا النظر إلى المجذومين"، وقد أخرجه ابن ماجة، وسنده ضعيف، ومثل حديث عبد الله بن أبي أوفي، رفعه:"كَلِّم المجذوم، وبينك وبينه قيد رمحين"، أخرجه أبو نعيم في "الطبّ" بسند واه، ومثل ما أخرجه الطبريّ، من طريق معمر، عن الزهريّ: "أن عمر قال لمعيقيب: اجلس مني قيد

(1)

"شرح مسلم" 14/ 213 - 214.

ص: 356

رمح"، ومن طريق خارجة بن زيد: كان عمر يقول نحوه، وهما أثران منقطعان. وأما حديث الشريد الذي أخرجه مسلم، فليس صريحًا في أن ذلك بسبب الجذام. والجواب عن ذلك أن طريق الترجيح لا يصار إليها إلا مع تعذر الجمع، وهو ممكن، فهو أَولى.

الفريق الثاني: سَلَكوا في الترجيح عكس هذا المسلك، فردُّوا حديث:"لا عدوى" بأن أبا هريرة رجع عنه، إما لشكّه فيه، وإما لثبوت عكسه عنده، كما سيأتي إيضاحه، قالوا: والأخبار الدالة على الاجتناب أكثر مخارجَ، وأكثر طرقًا، فالمصير إليها أَولي، قالوا: وأما حديث جابر رضي الله عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أخذ بيد مجذوم، فوضعها في القصعة، وقال:"كُلْ ثقةٌ بالله، وتوكلًا عليه"، ففيه نظر، وقد أخرجه الترمذيّ، وبيَّن الاختلاف فيه على راويه، ورجَّح وَقفه على عمر، وعلى تقدير ثبوته فليس فيه أنه صلى الله عليه وسلم أكل معه، وإنما فيه أنه وضع يده في القصعة، قاله الكلاباذيّ في "معاني الأخبار".

والجواب: أن طريق الجمع أَولي، كما تقدم، وأيضًا فحديث:"لا عدوى" ثبت من غير طريق أبي هريرة، فَصَحّ عن عائشة، وابن عمر، وسعد بن أبي وقّاص، وجابر، وغيرهم، فلا معنى لدعوى كونه معلولًا، والله أعلم.

وفي طريق الجمع مسالك أخرى:

أحدهما: نفي العدوى جملةً، وحَمْل الأمر بالفرار من المجذوم على رعاية خاطر المجذوم؛ لأنه إذا رأى الصحيح البدن السليم من الآفة تعظم مصيبته، وتزداد حسرته، ونحوه حديث:"لا تديموا النظر إلى المجذومين"، فإنه محمول على هذا المعنى.

ثانيها: حمل الخطاب بالنفي والإثبات على حالتين مختلفتين، فحيث جاء:"لا عدوى" كان المخاطَب بذلك من قوي يقينه، وصح توكله، بحيث يستطيع أن يدفع عن نفسه اعتقاد العدوي، كما يستطيع أن يدفع التطير الذي يقع في نفس كل أحد، لكن القويّ اليقين لا يتأثر به، وهذا مثل ما تدفع قوة الطبيعة العلة فتبطلها، وعلى هذا يُحْمَل حديث جابر رضي الله عنه في أكل المجذوم من القصعة، وسائر ما ورد من جنسه، وحيث جاء:"فِرّ من المجذوم" كان

ص: 357

المخاطَب بذلك مَنْ ضَعُف يقينه، ولم يتمكن من تمام التوكل، فلا يكون له قوّة على دفع اعتقاد العدوي، فأريدَ بذلك سَدّ باب اعتقاد العدوى عنه، بأن لا يباشر ما يكون سببًا لإثباتها، وقريب من هذا كراهيته صلى الله عليه وسلم الكيّ مع إذنه فيه، كما تقدم تقريره، وقد فعل هو صلى الله عليه وسلم كلًّا من الأمرين؛ لِيَتَأسَّى به كلّ من الطائفتين.

ثالث المسالك: قال القاضي أبو بكر الباقلانيّ: إثبات العدوى في الجذام ونحوه مخصوص من عموم نفي العدوي، قال: فيكون معنى قوله: "لا عدوى"؛ أي: إلا من الجذام، والبرص، والجرَب مثلًا، قال: فكأنه قال: لا يُعْدي شيء شيئًا إلا ما تقدم تبييني له أن فيه العدوي، وقد حكى ذلك ابن بطال أيضًا.

رابعها: أن الأمر بالفرار من المجذوم ليس من باب العدوى في شيء، بل هو لأمر طبيعيّ، وهو انتقال الداء من جسد لجسد بواسطة الملامسة، والمخالطة، وشمّ الرائحة، ولذلك يقع في كثير من الأمراض في العادة انتقال الداء من المريض إلى الصحيح بكثرة المخالطة، وهذه طريقة ابن قتيبة، فقال: المجذوم تشتدّ رائحته، حتى يسقم من أطال مجالسته، ومحادثته، ومضاجعته، وكذا يقع كثيرًا بالمرأة من الرجل، وعكسه، وينزع الولد إليه، ولهذا يأمر الأطباء بترك مخالطة المجذوم، لا على طريق العدوي، بل على طريق التأثر بالرائحة؛ لأنها تُسقم من واظب اشتمامها، قال: ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يورد مُمْرِضٌ على مُصِحٍّ"؛ لأن الجرَبَ الرطب قد يكون بالبعير، فإذا خالط الإبل، أو حككها، وأوى إلى مَبَارِكها، وصل إليها بالماء الذي يسيل منه، وكذا بالنظر نحو ما به، قال: وأما قوله: "لا عدوى"، فله معنى آخر، وهو أن يقع المرض بمكان؛ كالطاعون، فيفرّ منه مخافة أن يصيبه؛ لأن فيه نوعًا من الفرار من قدر الله تعالى.

المسلك الخامس: أن المراد بنفي العدوى أن شيئًا لا يُعدي بطبعه نفيًا لِمَا كانت الجاهلية تعتقده، أن الأمراض تُعدي بطبعها، من غير إضافة إلى الله، فأبطل النبيّ صلى الله عليه وسلم اعتقادهم ذلك، وأكل مع المجذوم؛ ليبيّن لهم أن الله هو الذي يُمرِض، ويَشفي، ونهاهم عن الدنوّ منه؛ ليبيّن لهم أن هذا من الأسباب التي

ص: 358

أجرى الله العادة بأنها تفضي إلى مسبَّباتها، ففي نهيه إثبات الأسباب، وفي فعله إشارةٌ إلى أنها لا تستقلّ، بل الله هو الذي إن شاء سلبها قواها، فلا تؤثّر شيئًا، وإن شاء أبقاها، فأثّرت، ويَحْتَمِل أيضًا أن يكون أكْله صلى الله عليه وسلم مع المجذوم أنه كان به أمر يَسير، لا يُعدي مثله في العادة؛ إذ ليس الْجَذْمَى كلهم سواءً، ولا تحصل العدوى من جميعهم، بل لا يحصل منه في العادة عدوى أصلًا؛ كالذي أصابه شيء من ذلك، ووقف، فلم يُعْدِ بقية جسمه، فلا يُعدي، وعلى الاحتمال الأول جرى أكثر الشافعية.

قال البيهقيّ بعد أن أورد قول الشافعيّ ما نصّه: الجذام، والبرص، يزعم أهل العلم بالطبّ والتجارب أنه يُعدي الزوج كثيرًا وهو داء مانع للجماع، لا تكاد نفس أحد تطيب بمجامعة من هو به، ولا نفس امرأة أن يجامعها من هو به، وأما الولد فبيّن أنه إذا كان مَن وَلَدَه أجذم، أو أبرص، أنه قَلَّما يَسْلَم، وإن سَلِم أدرك نَسْله.

قال البيهقيّ: وأما ما ثبت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا عدوى"، فهو على الوجه الذي كانوا يعتقدونه في الجاهلية، من إضافة الفعل إلى غير الله تعالي، وقد يجعل الله بمشيئته مخالطة الصحيح مَن به شيء من هذه العيوب سببًا لحدوث ذلك، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم:"فِرّ من المجذوم فرارك من الأسد"، وقال:"لا يورد مُمْرِض على مُصِحّ"، وقال في الطاعون:"من سَمِع به بأرض، فلا يَقْدَم عليه"، وكل ذلك بتقدير الله تعالي، وتبعه على ذلك ابن الصلاح في الجمع بين الحديثين، ومَنْ بعده، وطائفة ممن قبله.

المسلك السادس: العمل بنفي العدوى أصلًا، ورأسًا، وحَمْل الأمر بالمجانبة على حسم المادّة، وسدّ الذريعة؛ لئلَّا يَحْدُث للمخالط شيء من ذلك، فيظنّ أنه بسبب المخالطة، فيُثْبت العدوى التي نفاها الشارع، وإلى هذا القول ذهب أبو عبيد، وتبعه جماعة، فقال أبو عبيد: ليس في قوله: "لا يورد مُمْرِضٌ على مُصِحّ" إثبات العدوي، بل لأن الصحاح لو مَرِضت بتقدير الله تعالي، ربما وقع في نفس صاحبها أن ذلك من العدوي، فيَفْتَتِن، ويتشكك في ذلك، فأُمر باجتنابه، قال: وكان بعض الناس يذهب إلى أن الأمر بالاجتناب إنما هو للمخافة على الصحيح من ذوات العاهة، قال: وهذا شَرُّ ما حُمل عليه

ص: 359

الحديث؛ لأن فيه إثبات العدوى التي نفاها الشارع، ولكن وجه الحديث عندي ما ذكرته، وأطنب ابن خزيمة في هذا في "كتاب التوكل"، فإنه أورد حديث:"لا عدوى" عن عدّة من الصحابة، وحديث:"لا يورد ممرض على مصحّ" من حديث أبي هريرة، وترجم للأول:"التوكل على الله في نفي العدوى"، وللثاني:"ذكر خبر غَلِطَ في معناه بعض العلماء، وأثبت العدوى التي نفاها النبيّ صلى الله عليه وسلم"، ثم ترجم:"الدليلُ على أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يُرد إثبات العدوى بهذا القول"، فساق حديث أبي هريرة:"لا عدوي، فقال أعرابيّ: فما بال الإبل يخالطها الأجرب، فتجرب؟، قال: فمن أعدى الأول؟ "، ثم ذكر طرقه عن أبي هريرة، ثم أخرجه من حديث ابن مسعود، ثم ترجم:"ذكرُ خبر رُوي في الأمر بالفرار من المجذوم، قد يخطر لبعض الناس أن فيه إثبات العدوي، وليس كذلك"، وساق حديث:"فِرَّ من المجذوم فرارك من الأسد"، من حديث أبي هريرة، ومن حديث عائشة، وحديث عمرو بن الشَّرِيد، عن أبيه، في أمر المجذوم بالرجوع، وحديث ابن عباس:"لا تُديموا النظر إلى المجذومين"، ثم قال: إنما أمرهم صلى الله عليه وسلم بالفرار من المجذوم، كما نهاهم أن يورد الممرض على المصحّ؛ شفقةً عليهم، وخشيةَ أن يصيب بعض من يخالطه المجذوم الجذام، والصحيح من الماشية الجرب، فيسبق إلى بعض المسلمين أن ذلك من العدوي، فيُثبت العدوى التي نفاها صلى الله عليه وسلم، فأمرهم بتجنب ذلك؛ شفقةً منه، ورحمةً؛ لِيَسْلَموا من التصديق بإثبات العدوي، وبيّن لهم أنه لا يُعدي شيء شيئًا، قال: ويؤيد هذا أكْله صلى الله عليه وسلم مع المجذوم ثقةً بالله، وتوكلًا عليه، وساق حديث جابر في ذلك، ثم قال: وأما نهيه عن إدامة النظر إلى المجذوم، فيَحْتَمِل أن يكون؛ لأن المجذوم يغتمّ، ويُكره إدمان الصحيح نَظَره إليه؛ لأنه قلّ من يكون به داء، إلا وهو يَكره أن يطلع عليه. انتهى.

وهذا الذي ذكره احتمالًا سبقه إليه مالك، فإنه سئل عن هذا الحديث، فقال: ما سمعت فيه بكراهية، وما أدري ما جاء من ذلك إلا مخافةَ أن يقع في نفس المؤمن شيء.

وقال الطبريّ: الصواب عندنا القول بما صحّ به الخبر، وأن لا عدوي، وأنه لا يصيب نفسًا إلا ما كُتب عليها، وأما دنوّ عليل من صحيح، فغير موجب

ص: 360

انتقال العلة للصحيح، إلا أنه لا ينبغي لذي صحة الدنوّ من صاحب العاهة التي يكرهها الناس، لا لتحريم ذلك، بل لخشية أن يظن الصحيح أنه لو نزل به ذلك الداء أنه من جهة دنوّه من العليل، فيقع فيما أبطله النبيّ صلى الله عليه وسلم من العدوي، قال: وليس في أمره بالفرار من المجذوم معارضةٌ لِأَكْله معه؛ لأنه كان يأمر بالأمر على سبيل الإرشاد أحيانًا، وعلى سبيل الإباحة أخري، وإن كان أكثر الأوامر على الإلزام، وإنما كان يفعل ما نَهَى عنه أحيانًا لبيان أن ذلك ليس حرامًا.

وقد سلك الطحاويّ في "معاني الآثار" مسلك ابن خزيمة فيما ذكره، فأورد حديث:"لا يورد ممرض على مصحّ"، ثم قال: معناه أن المصحّ قد يصيبه ذلك المرض، فيقول الذي أورده: لو أني ما أوردته عليه لم يُصِبْه من هذا المرض شيء، والواقع أنه لو لم يُورِدْه لأصابه، لكون الله تعالى قدّره، فنهى عن إيراده لهذه العلة التي لا يؤمن غالبًا من وقوعها في قلب المرء، ثم ساق الأحاديث في ذلك، فأطنب، وجَمَع بينها بنحو ما جمع به ابن خزيمة، ولذلك قال القرطبيّ في "المفهم": إنما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن إيراد الممرض على المصحّ مخافةَ الوقوع فيما وقع فيه أهل الجاهلية، من اعتقاد العدوي، أو مخافة تشويش النفوس، وتأثير الأوهام، وهو نحو قوله:"فِرّ من المجذوم فرارك من الأسد"، وإن كنا نعتقد أن الجذام لا يعدي، لكنا نجد في أنفسنا نفرةً، وكراهيةً لمخالطته، حتى لو أكره إنسان نفسه على القُرْب منه، وعلى مجالسته لتأذّت نفسه بذلك، فحينئذ فالأَولى للمؤمن أن لا يتعرض إلى ما يحتاج فيه إلى مجاهدة، فيجتنب طرق الأوهام، ويباعد أسباب الآلام، مع أنه يعتقد أن لا يُنْجِي حذرٌ مِنْ قَدَر، والله أعلم.

قال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة: الأمر بالفرار من الأسد ليس للوجوب، بل للشفقة؛ لأنه كان ينهى أمته عن كلّ ما فيه ضرر، بأي وجه كان، ويدلّهم على كل ما فيه خير، وقد ذكر بعض أهل الطب أن الروائح تحدث في الأبدان خللًا، فكان هذا وجه الأمر بالمجانبة، وقد أكل هو مع المجذوم، فلو كان الأمر بمجانبته على الوجوب لَمَا فَعَله، قال: ويمكن الجمع بين فعله وقوله بأن القول هو المشروع من أجل ضَعف المخاطبين، وفِعْله حقيقة الإيمان، فمن

ص: 361

فعل الأول أصاب السُّنَّة، وهي أثر الحكمة، ومن فعل الثاني كان أقوى يقينًا؛ لأن الأشياء كلها لا تأثير لها، إلا بمقتضى إرادة الله تعالي، وتقديره، كما قال تعالى:{وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة: 102]، فمن كان قوي اليقين، فله أن يتابعه صلى الله عليه وسلم في فعله، ولا يضره شيء، ومَن وَجَد في نفسه ضَعفًا فليتّبع أَمْره في الفرار؛ لئلا يدخل بفعله في إلقاء نفسه إلى التهلكة.

فالحاصل أن الأمور التي يُتوقع منها الضرر، وقد أباحت الحكمة الربانية الحذر منها، فلا ينبغي للضعفاء أن يقربوها، وأما أصحاب الصدق واليقين، فهم في ذلك بالخيار.

قال: وفي الحديث أن الحكم للأكثر؛ لأن الغالب من الناس هو الضَّعف، فجاء الأمر بالفرار بحسب ذلك.

واستُدِلّ بالأمر بالفرار من المجذوم لإثبات الخيار للزوجين في فسخ النكاح، إذا وجده أحدهما بالآخر، وهو قول جمهور العلماء.

وأجاب فيه من لم يقل بالفسخ: بأنه لو أخذ بعمومه لثبت الفسخ إذا حدث الجذام، ولا قائل به.

ورُدّ بأن الخلاف ثابت، بل هو الراجح عند الشافعية، واختُلِف في أَمَة الأجذم، هل يجوز لها أن تمنع نفسها من استمتاعه إذا أرادها؟

واختَلَف العلماء في المجذومين إذا كَثُروا، هل يُمنعون من المساجد، والمجامع؟ وهل يُتخذ لهم مكان منفرد عن الأصحاء؟ ولم يختلفوا في النادر أنه لا يُمنع، ولا في شهود الجمعة. انتهى ما في "الفتح"

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أقرب المسالك هو المسلك الخامس، وهو أن المراد بنفي العدوى نفي ما كانت عليه الجاهليّة من زعمهم أن المرض يُعدي بطبعه، لا بتقدير الله تعالي، فردّ عليهم ذلك، فقال:"لا عدوى"، وأمرهم بالفرار من المجذوم، ونهاهم عن إيراد الممرض على المصحّ؛ لئلا يحصل لهم بتقدير الله تعالى؛ إذ جرت سنّة الله تعالى بأن الأسباب تفضي إلى مسبَّباتها، ففيه إثبات الأسباب، وفي أَكْله صلى الله عليه وسلم مع المجذوم

(1)

"الفتح" 13/ 97 - 102، كتاب "الطبّ" رقم (5707).

ص: 362

بيانُ أن الأسباب لا تستقلّ بنفسها، بل الله تعالى إن شاء سلبها قواها، فلا تؤثّر، وإن شاء أبقاها، فتؤثّر، فهذا هو أقرب الوجوه المذكورة في الجمع بين أحاديث الباب المختلفة في نظري، فتأمله بالإمعان، والله تعالى وليّ التوفيق.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال: [5775] (

) - (وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِم، وَحَسَنٌ الْحُلْوَانِيُّ، قَالَا: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ -وَهُوَ ابْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ- حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَغَيْرُهُ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا عَدْوَي، وَلَا طِيَرَةَ، وَلَا صَفَرَ، وَلَا هَامَةَ"، فَقَالَ أَعْرَابِيٌّ: يَا رَسُولَ اللهِ، بِمِثْلِ حَدِيثِ يُونُسَ).

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(حَسَنٌ الْحُلْوَانِيُّ) ابن عليّ بن محمد الْهُذَليّ، أبو عليّ الخلّال، نزيل مكة، ثقةٌ حافظٌ، له تصانيف [1](ت 242)(خ م د ت ق) تقدم في "المقدمة" 4/ 24.

2 -

(يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ) الزهريّ، أبو يوسف المدنيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ فاضلٌ، من صغار [9](ت 208)(ع) تقدم في "الإيمان" 9/ 141.

3 -

(أَبُوهُ) إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهريّ، أبو إسحاق المدنيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ حُجّةٌ [8](ت 185)(ع) تقدم في "الإيمان" 9/ 141.

4 -

(صَالِحُ) بن كيسان الغِفَاريّ مولاهم، أبو محمد، أو أبو الحارث المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيةٌ [4] مات بعد (30 أو 140)(ع) تقدم في "الإيمان" 9/ 141.

والباقون ذُكروا في الباب، وقبله.

[تنبيه]: رواية صالح بن كيسان عن الزهريّ هذه ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:

(5387)

- حدّثنا عبد العزيز بن عبد الله، حدّثنا إبراهيم بن سعد، عن صالح، عن ابن شهاب، قال: أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن، وغيره: أن أبا هريرة رضي الله عنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا عدوي، ولا صفر، ولا هامة"، فقال أعرابيّ: يا رسول الله، فما بال إبلي تكون في الرمل؛ كأنها

ص: 363

الظباء، فيأتي البعير الأجرب، فيدخل بينها، فيُجربها؟ فقال:"فمن أعدى الأول؟ ". انتهى

(1)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلِّف رحمه الله أوّل الكتاب قال: [5776] (

) - (وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّارِمِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْيَمَانِ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَخْبَرَنِي سِنَانُ بْنُ أَبِي سِنَانٍ الدُّؤَلِيُّ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "لَا عَدْوَى"، فَقَامَ أَعْرَابِيٌّ، فَذَكَرَ بِمِثْلِ حَدِيثِ يُونُسَ، وَصَالِحٍ، وَعَنْ شُعَيْبٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنِي السَّائِبُ بْنُ يَزِيدَ، ابْنُ أُخْتِ نَمِرٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا عَدْوَي، وَلَا صَفَرَ، وَلَا هَامَةَ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّارِمِيُّ) الحافظ الشهير، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

2 -

(أَبُو الْيَمَانِ) الحكم بن نافع الحمصيّ، تقدّم أيضًا قبل ثلاثة أبواب.

3 -

(شُعَيْبُ) بن أبي حمزة دينار الحمصيّ، تقدّم أيضًا قبل ثلاثة أبواب.

4 -

(سِنَانُ بْنُ أَبِي سِنَانٍ الدُّؤَلِيُّ) واسم أبيه يزيد بن أمية، ويقال: ابن ربيعة، ويقال له: الديليّ، المدنيّ، ثقةٌ [3].

رَوَى عن أبي هريرة، والحسين بن عليّ، وجابر، وأبي واقد الليثيّ.

وروى عنه الزهريّ، وزيد بن أسلم، وأبو طُوَالة على ما ذكره الحاكم.

قال العجليّ: تابعيّ ثقة، وذكره ابن حبان في "الثقات".

قال يحيى بن بُكير: مات سنة خمس ومائة، وله اثنتان وثمانون سنةً.

أخرج له البخاريّ، والمصنّف، والترمذيّ، والنسائيّ، وله في هذا الكتاب حديثان فقط

(2)

، هذا برقم (2220)، وحديث في "كتاب الفضائل"

(1)

"صحيح البخاريّ" 5/ 2161.

(2)

وقال في "الفتح" 10/ 244: سنان بن أبي سنان مدنيّ ثقة، واسم أبيه يزيد بن أبي أمية، وليس له في البخاريّ عن أبي هريرة سوى هذا الحديث الواحد، وله آخر عن جابر، قَرَنه في كل منهما بأبي سلمة بن عبد الرحمن. انتهى.

ص: 364

(843)

(1)

: "إن رجلًا أتاني، وأنا نائم، فأخذ السيف

" الحديث.

5 -

(السَّائِبُ بْنُ يَزِيدَ) بن سعيد بن ثُمامة الكنديّ، وقيل غير ذلك في نسبه، ويُعرف بابْنُ أُخْتِ النَّمِرٍ، صحابيّ صغير، له أحاديث قليلة، وحُجّ به في حجة الوداع، وهو ابن سبع سنين، وولّاه عمر سوق المدينة، مات سنة (91)، وقيل: قبل ذلك، وهو آخر من مات بالمدينة من الصحابة (ع) تقدم في "صلاة المسافرين وقصرها" 17/ 1712.

والباقيان ذُكرا قبله.

[تنبيه]: رواية شعيب عن الزهريّ هذه ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:

(5439)

- حدّثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب، عن الزهريّ، قال: أخبرني سنان بن أبي سنان الدُّؤَليّ، أن أبا هريرة رضي الله عنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا عدوى"، فقام أعرابيّ، فقال: أرأيت الإبل تكون في الرمال أمثال الظباء، فيأتيها البعير الأجرب، فَتَجْرَب؟ قال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"فمن أعدى الأول". انتهى.

وأما رواية الزهريّ عن السائب بن يزيد، فساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(15765)

- حدّثنا أبو اليمان، ثنا شعيب، عن الزهريّ، قال: حدّثني السائب بن يزيد ابن أخت نَمِرَ، أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:"لا عدوي، ولا صفر، ولا هامة". انتهى

(2)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال: [5777](2221) - (وَحَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ، وَحَرْمَلَةُ -وَتَقَارَبَا فِي اللَّفْظِ- قَالَا: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَنَّ أَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ حَدَّثَهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"لَا عَدْوَى"، وَيُحَدِّثُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"لَا يُورِدُ مُمْرِضٌ عَلَى مُصِحٍّ"، قَالَ أَبُو سَلَمَةَ: كَانَ أَبُو

(1)

الرقم مكرّر.

(2)

"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 3/ 449.

ص: 365

هُرَيْرَةَ يُحَدِّثُهُمَا كلَيْهِمَا

(1)

عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ صَمَتَ أَبُو هُرَيْرَةَ بَعْدَ ذَلِكَ عَنْ قَوْلِهِ:"لَا عَدْوَى"، وَأقَامَ عَلَى "أَنْ لَا يُورِدُ مُمْرِضٌ عَلَى مُصِحٍّ"، قَالَ: فَقَالَ الْحَارِثُ بْنُ أَبِي ذُبَابٍ -وَهُوَ ابْنُ عَمِّ أَبِي هُرَيْرَةَ-: قَدْ كُنْتُ أَسْمَعُكَ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ تُحَدِّثَنَا مَعَ هَذَا الْحَدِيثِ حَدِيثًا آخَرَ، قَدْ سَكَتَّ عَنْهُ، كُنْتَ تَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا عَدْوَى"، فَأَبَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنْ يَعْرِفَ ذَلِكَ، وَقَالَ:"لَا يُورِدُ مُمْرِضٌ عَلَى مُصِحٍّ"، فَمَارَاْهُ الْحَارِثُ فِي ذَلِكَ حَتَّى غَضِبَ أَبُو هُرَيْرَةَ، فَرَطَنَ بِالْحَبَشِيَّةِ، فَقَالَ لِلْحَارِثِ: أَتَدْرِي مَاذَا قُلْتُ؟ قَالَ: لَا، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: قُلْتُ: أَبَيْتُ، قَالَ أَبُو سَلَمَةَ: وَلَعَمْرِي لَقَدْ كَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يُحَدِّثُنَا أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا عَدْوَى"، فَلَا أَدْرِي أَنَسِيَ أَبُو هُرَيْرَةَ، أَوْ نَسَخَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ الآخَرَ؟).

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الإسناد ذُكِر قبل حديثين.

شرح الحديث:

(عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) محمد بن مسلم الزهريّ (أَنَّ أَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ حَدَّثَهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا عَدْوَى") اسم من الإعداء، وهو أن يكون ببعير جرب مثلًا، فتتقى مخالطته بإبل أخرى حِذارًا أن يتعدى ما به من الجرب إليها، فيصيبها ما أصابه، فقد أبطله الإسلام؛ لأنهم كانوا يظنون أن المرض بنفسه يتعدي، فأعلمهم النبيّ صلى الله عليه وسلم أن الأمر ليس كذلك، وإنما الله تعالى هو الذي يُمْرِض، ويُنزل الداء

(2)

. (وَيُحَدِّثُ) أبو هريرة رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا يُورِدُ) كذا هو عند مسلم بصيغة النفي، والمراد به النهي بدليل رواية البخاريّ بلفظ:"لا يوردنّ ممرض على مُصحّ"، والله تعالى أعلم.

(مُمْرِضٌ عَلَى مُصِحٍّ") قال ابن الأثير رحمه الله: الْمُمْرِض الذي له إبل مَرْضَي، فنُهِي أن يسقي إبله مع إبل الْمُصِحّ، لا لأجل العدوي، ولكن لأن الصحاح ربما عَرَض لها مرضٌ، فوقع في نفس صاحبها أن ذلك من قبيل العدوي، فيفتنه، ويُشَكِّكه، فأُمر باجتنابه، والبعد عنه، وقد يَحْتَمِل أن يكون

(1)

وفي نسخة: "كلتيهما".

(2)

"لسان العرب" 15/ 39.

ص: 366

ذلك من قبيل الماء والمرعي، تستوبله الماشية، فتَمْرَض، فإذا شاركها في ذلك غيرها أصابه مثل ذلك الداء، فكانوا لجهلهم يسمونه عدوي، وإنما هو فِعل الله تعالى. انتهى

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: الورود: هو الوصول إلى الماء، و"أورد إبله": إذا أوصلها إليه، فصاحب الإبل: مُورِدٌ، والإبل مُورَدَةٌ، وممرض: اسم فاعل من أمرض الرجل: إذا أصاب ماشيته مرض، قاله يعقوب، ومُصِحّ: اسم فاعل من أصح: إذا أصابت ماشيته عاهة، ثم صحّت، قاله الجوهريّ. انتهى

(2)

.

وقال النوويّ رحمه الله: قوله: "يورد" بكسر الراء، والْمُمْرِضُ، والْمُصِحُّ بكسر الراء، والصاد، ومفعول يورد محذوف؛ أي: لا يورد إبله المراضَ، قال العلماء: الممرض صاحب الإبل المراض، والمصِحّ صاحب الإبل الصحاح، فمعنى الحديث: لا يورد صاحب الإبل المراض إبله على إبل صاحب الإبل الصحاح؛ لأنه ربما أصابها المرض بفعل الله تعالي، وقَدَره الذي أجرى به العادة، لا بطبعها، فيحصل لصاحبها ضرر بمرضها، وربما حصل له ضرر أعظم من ذلك باعتقاد العدوى بطبعها، فيكفر، والله أعلم. انتهى

(3)

.

وقيل: النهي ليس للعدوي، بل للتأذي بالرائحة المكريهة، ونحوها، حكاه ابن رسلان في "شرح السنن"

(4)

.

وفي رواية البخاريّ: "لا يردنّ مُمرض على مصحّ"، قال في "الفتح": كذا فيه بتأكيد النهي عن الإيراد، والممرض بضم أوله، وسكون ثانيه، وكسر الراء، بعدها ضاد معجمة: هو الذي له إبل مَرْضَي، والمصحّ بضم الميم، وكسر الصاد المهملة، بعدها مهملة: مَن له إبل صِحاح، نَهَى صاحب الإبل المريضة أن يوردها على الإبل الصحيحة، قال أهل اللغة: الممرض: اسم فاعل من أمرض الرجل: إذا أصاب ماشيته مرض، والمصحّ: اسم فاعل من أصح: إذا أصاب ماشيته عاهةٌ، ثم ذهب عنها، وصحّت. انتهى

(5)

.

(1)

"النهاية في غريب الأثر" 4/ 319.

(2)

"المفهم" 5/ 624.

(3)

"شرح النوويّ" 14/ 217.

(4)

"نيل الأوطار" 7/ 377.

(5)

"الفتح" 13/ 232 - 234، كتاب "الطبّ" رقم (5770).

ص: 367

(قَالَ أَبُو سَلَمَةَ) بن عبد الرحمن (كَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يُحَدِّثُهُمَا كِلَيْهِمَا)؛ أي: يحدث بحديث: "لا عدوى"، وحديث:"لا يورد ممرض على مُصِحّ"، ووقع في معظم النُّسخ بلفظ:"كلتيهما" بالتأنيث، بتأويله بالقصّة، أو الواقعة، وقال النوويّ رحمه الله: قوله: "كلتيهما" كذا هو في جميع النسخ "كلتيهما" بالتاء، والياء مجموعتين، والضمير عائد إلى الكلمتين، أو القصتين، أو المسألتين، ونحو ذلك. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قوله: في جميع النسخ: لعله يريد النسخ التي اطلع عليها، وإلا فقد أثبت في النسخة الهنديّة اللفظين:"كلتيهما"، و"كليهما"، فلذا أثبتُّه هنا، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

(عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ صَمَتَ)؛ أي: سكت، وترك التحديثَ (أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (بَعْدَ ذَلِكَ)؛ أي: بعد تحديثه بهما، (عَنْ قَوْلِهِ:"لا عَدْوَى"، وَأَقَامَ)؛ أي: ثبت عَلَى التحديث بحديث "لا يورد ممرض عَلَى مُصِحِّ"، وقوله:("أَنْ) مخفّفة من "أنّ "المشدّدة، واسمها ضمير شأن محذوف؛ أي: أنه لا يورد

إلخ، قال في "الخلاصة":

وَإِنْ تُخَففْ "أَنَّ" فَاسْمُهَا اسْتَكَنّْ

وَالْخَبَرَ اجْعَلْ جُمْلَةً مِنْ بَعْدِ "أَنْ"

وَإِنْ يَكُنْ فِعْلًا وَلَمْ يَكُنْ دُعَا

وَلَمْ يَكُنْ تَصْرِيفُهُ مُمْتَنِعَا

فَالأَحْسَنُ الْفَصْلُ بِـ "قَدْ" أَوْ نَفْيٍ أوْ

تَنْفِيسٍ أَوْ "لَوْ" وقَلِيلٌ ذِكْرُ "لَو"

(لَا يُورِدُ مُمْرِضٌ عَلَى مُصِحٍّ"، قَالَ) أبو سلمة (فَقَالَ الْحَارِثُ بْنُ أَبِي ذُبَابٍ) -بضمّ الذال المعجمة، وبموحّدتين- هو الحارث بن عبد الرحمن بن عبد الله بن سعد بن ذُباب الدَّوْسيّ المدنيّ، صدوقٌ يَهِم من الخامسة، مات سنة (146) تقدّم في "المساجد ومواضع الصلاة" 54/ 1529. (وَهُوَ ابْنُ عَمِّ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (قَدْ كُنْتُ أَسْمَعُكَ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ تُحَدِّثَنَا مَعَ هَذَا الْحَدِيثِ)؛ أي: حديث: "لا يورد

إلخ" (حَدِيثًا آخَرَ، قَدْ سَكَتَّ عَنْهُ) الآن، (كُنْتَ تَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا عَدْوَى"، فَأَبَى)؛ أي: امتنع (أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (أَنْ يَعْرِفَ ذَلِكَ)؛ يعني: أنه نسيه (وَ) ثبت على الثاني، فـ (قَالَ: "لا يُورِدُ مُمْرِضٌ عَلَى

(1)

"شرح النوويّ" 14/ 217.

ص: 368

مُصِحٍّ"، فَمَارَاْهُ) من المماراة، وهي المجادلة. (الْحَارِثُ فِيِ ذَلِكَ)؛ أي: في كونه حدّث بـ "لا عدوى"، (حَتَّى غَضِبَ أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (فَرَطَنَ بِالْحَبَشِيَّةِ)؛ أي: تكلّم باللغة الحبشيّة، قال المجد رحمه الله: الرَّطَانَةُ -أي: بالفتح- ويُكسَر: الكلام بالأعجميّة، ورَطَنَ له، وراطنه: كلّمه بها، وتراطنوا: تكلّموا بها. انتهى

(1)

.

(فَقَالَ) أبو هريرة رضي الله عنه (لِلْحَارِثِ: أَتَدْرِي)؛ أي: أتعلم (مَاذَا قُلْتُ؟)؛ أي: أيُّ شيء قلته؟ (قَالَ) الحارث (لَا) أدري، (قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (قُلْتُ: أَبَيْتُ)؛ أي: قلت كلامًا معناه بالعربيّة: أبيت؛ أي: امتنعت من الاعتراف بما قلت. (قَالَ أَبُو سَلَمَةَ) بن عبد الرحمن (وَلَعَمْرِي) بفتح العين، وسكون الميم؛ أي: وخالق حياتي، قال في "التاج": العُمْرُ بالفَتْح، وبالضّمّ، وبضَمَّتَيْن: الحَيَاةُ، يقالُ: قد طال عَمْرُه، وعُمْرُه، لُغَتَان فَصِيحَتان، فإذا أَقْسَمُوا فقالوا: لَعَمْرُكَ، فَتَحُوا لا غير، وفي "البَصَائر": العَمْرُ، والعُمْرُ واحدٌ، لكن خُصَّ القَسَمُ بالمَفْتُوحَة. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قوله: "ولعمري" كونه للقسم غير جائز؛ لأنه حلف بغير الله تعالي، فيكون على حذف مضاف، كما قدّرناه، أو أنه لم يُرِدْ به القَسَم، بل مجرّد تأكيد الكلام، كما في: تَرِبَتْ يمينك، ونحوه، والله تعالى أعلم.

(لَقَدْ كَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (يُحَدِّثُنَا أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا عَدْوَى"، فَلَا أَدْرِي أَنَسِيَ أَبُو هُرَيْرَةَ، أَوْ نَسَخَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ الآخَرَ؟) الأقرب أن السبب هو النسيان، قال في "الفتح": هذا الذي قاله أبو سلمة ظاهر في أنه كان يعتقد أن بين الحديثين تمام التعارض، وقد تقدم وجه الجمع بينهما، وحاصله أن قوله:"لا عدوى" نَهْيٌ عن اعتقادها، وقوله:"لا يورد" سبب النهي عن الإيراد خشيةَ الوقوع في اعتقاد العدوي، أو خشية تأثير الأوهام، كما في حديث:"فِرّ من المجذوم"؛ لأن الذي لا يعتقد أن الجذام يُعدي يجد في نفسه نفرةً. حتى لو أكرهها على القرب منه لتألمت بذلك، فالأولى بالعاقل أن لا يتعرض لمثل ذلك، بل يباعد أسباب الآلام، ويجانب طرق الأوهام، والله أعلم.

(1)

"القاموس المحيط" ص 514.

(2)

"تاج العروس" 1/ 3235.

ص: 369

وقال ابن التين: لعل أبا هريرة كان يسمع هذا الحديث قبل أن يسمع من النبيّ صلى الله عليه وسلم حديث: "من بسط رداءه، ثم ضمه إليه، لم ينس شيئًا سمعه من مقالتي"، وقد قيل في الحديث المذكور: إن المراد أنه لا ينسى تلك المقالة التي قالها ذلك اليوم، لا أنه ينتفي عنه النسيان أصلًا، وقيل: كان الحديث الثاني ناسخًا للأول، فسكت عن المنسوخ، وقيل: معنى قوله: "لا عدوى" النهي عن الاعتداء، ولعل بعض من أجلب عليه إبلًا جرباء أراد تضمينه، فاحتجّ عليه في إسقاط الضمان بأنه إنما أصابها ما قُدِّر عليها، وما لم تكن تنجو منه؛ لأن العجماء جُبَارٌ، ويَحْتَمِل أن يكون قال هذا على ظنه، ثم تبيّن له خلاف ذلك. انتهى.

قال الحافظ: فأما دعوى نسيان أبي هريرة للحديث فهو بحسب ما ظن أبو سلمة، وقد بيّنت ذلك رواية يونس التي أشرت إليها، وأما دعوى النسخ فمردودة؛ لأن النسخ لا يصار إليه بالاحتمال، ولا سيما مع إمكان الجمع، وأما الاحتمال الثالث فبعيد من مساق الحديث، والذي بعده أبعد منه.

قال الجامع عفا الله عنه: عندي أن كون السبب هو النسيان هو الأقرب؛ لأن الاحتمالات الأخرى لا يخفى ما فيها التعسّف، فتأمل بالإمعان، والله تعالى أعلم.

قال: ويَحْتَمِل أيضًا أنهما لمّا كانا خبرين متغايرين عن حكمين مختلفين، لا ملازمة بينهما جاز عنده أن يُحَدِّث بأحدهما، ويسكت عن الآخر، حسبما تدعو إليه الحاجة، قاله القرطبيّ في "المفهم"، قال: ويَحْتَمِل أن يكون خاف اعتقاد جاهل يظنهما متناقضين، فسكت عن أحدهما، وكان إذا أَمِن ذلك حَدَّث بهما جميعًا.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قد جمع أبو هريرة رضي الله عنه في هذه الرواية بين قوله صلى الله عليه وسلم: "لا عدوى"، وبين قوله:"لا يورد ممرض على مصحّ"، وهو جمعٌ صحيح، لا بُعد فيه؛ إذ كلاهما خبر عن المشروعية، لا خبر عن الوجود، فقوله:"لا عدوى"، أي: لا يجوز اعتقادها، وقوله:"لا يورد ممرض على مصحٍّ"؛ أي: لا يفعل ذلك، فهما خبران يتضمنان النهي عن ذلك، وإنَّما نهى عن إيراد الممرض على المصح مخافةَ الوقوع فيما وقع فيه أهل الجاهلية من

ص: 370

اعتقاد ذلك، أو مخافة تشويش النفوس، وتأثير الأوهام، وهذا كنحو أمره بالفرار من المجذوم، فإنه وإن كنا نعتقد أن الجذام لا يُعدي، فإنا نجد من أنفسنا نفرةً، وكراهيةً لذلك، حتى إذا أكره الإنسان نفسه على القرب منه، وعلى مجالسته تألَّمت نفسه، وربما تأذت بذلك، ومرضت، فيحتاج الإنسان في هذا إلى مجاهدة شديدة، ومكابدة، ومع ذلك فالطبع أغلب، وإذا كان الأمر بهذه المثابة؛ فالأَولى بالإنسان ألا يقرب شيئًا يحتاج الإنسان فيه إلى هذه المكابدة، وأن لا يتعرض فيه إلى هذا الخطر، والمتعرض لهذا الألم زاعمًا أنه يجاهد نفسه حتى يزيل عنها تلك الكراهة، هو بمنزلة من أدخل على نفسه مرضًا إرادة علاجه حتى يزيله، ولا شك في نقص عقل من كان على هذا، وإنما الذي يليق بالعقلاء، ويناسب تصرُّف الفضلاء أن يباعد أسباب الآلام، ويجانب طرق الأوهام، ويجتهد في مجانبة ذلك بكل ممكن، مع عِلْمه بأنه لا يُنْجي حذر عن قَدَر، وبمجموع الأمرين وَرَدَت الشرائع، وتوافقت على ذلك العقول والطبائع.

قال: وأما سكوت أبي هريرة رضي الله عنه عن قوله: "لا عدوى"، وإيراد حديثِ:"لا يورد ممرض على مصحّ" بعد أن حدَّث بمجموعها، فلا يصحّ أن يكون من باب النسخ، كما قدَّره أبو سلمة بن عبد الرحمن؛ لأنهما لا تعارض بينهما؛ إذ الجمع صحيحٌ كما قدَّمناه، بل الواجب أن يقال: إنهما خبران شرعيان عن أمرين مختلفين، لا متعارضين؛ كخبر يتضمَّن حكمًا من أحكام الصلاة، وآخر يتضمن حكمًا من أحكام الطهارة مثلًا، وقد بيَّنَّا وجه تباين الخبرين، وعلى هذا فسكوت أبي هريرة رضي الله عنه يَحْتَمِل أوجهًا:

أحدها: السببان المتقدِّمان، كما قال أبو سلمة.

وثانيهما: أنهما لما كانا خبرين متغايرين لا ملازمة بينهما؛ جاز للمحدِّث أن يحدِّث بأحدهما، ويسكت عن الآخر؛ حسبما تدعو إليه الحاجة الحالية.

وثالثها: أن يكون خاف اعتقاد جاهل يظنهما متناقضين، فسكت عن أحدهما حتى إذا أَمِن ذلك حدَّث بهما جميعًا.

ورابعها: أن يكون حَمَله على ذلك وجه غير ما ذكرناه، لم يُطْلِع عليه أحدًا.

ص: 371

وعلى الجملة: فكل ذلك مُحْتَمِل، غير أن الذي يُقطع بنفيه: النَّسخ، على ما قرَّرناه. والله أعلم. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قد أسلفت أن أقرب الاحتمالات عندي هو النسيان، ويدلّ على ذلك إنكار أبي هريرة رضي الله عنه للحديث، فلما ماراه ابن عمّه غضب، فلولا نسيانه لما فعل هذا، فتأمل بالإمعان، والله تعالى أعلم.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأول): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [18/ 5777 و 5778 و 5779،](2221)، و (البخاريّ) في "الطبّ"(5771 و 5773 و 5774)، و (أبو داود) في "الطبّ"(3911)، و (ابن ماجه) في "الطبّ"(3541)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(19507)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 434)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6115)، و (الطبريّ) في "تهذيب الآثار"(3/ 6)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(4/ 303)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(7/ 216 و 217)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(3248)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان سدّ الذريعة؛ لأنه وإن كانت الأمراض لا تُعدي إلا أن الأحوط أن لا يورد الممرض على المصحّ؛ لئلا يتّفق أن تمرض الصحاح بتقدير الله تعالي، فيقع في قلب صاحبها أنه بسبب الإيراد، فقطعه صلى الله عليه وسلم بالنهي عن الإيراد لذلك، والله تعالى أعلم.

2 -

(ومنها): أن فيه وقوعَ تشبيه الشيء بالشيء إذا جَمَعهما وصف خاصّ، ولو تباينا في الصورة، قاله في "الفتح"

(2)

.

3 -

(ومنها): أن فيه شدّةَ ورع أبي هريرة رضي الله عنه؛ لأنه مع كون الحارث

(1)

"المفهم" 5/ 624 - 626.

(2)

"الفتح" 13/ 232 - 234، كتاب "الطبّ" رقم (5770).

ص: 372

أغضبه حتى تكلم بغير العربية، خشي أن يظنّ الحارث أنه قال فيه شيئًا يكرهه، ففسَّر له في الحال ما قال، والله تعالى أعلم. انتهى

(1)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال: [5778] (

) - (حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، وَحَسَنٌ الْحُلْوَانِيُّ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ عَبْدٌ: حَدَّثَنِي، وَقَالَ الآخَرَانِ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ -يَعْنُونَ ابْنَ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ- حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ صَالِح، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةً، يُحَدِّثُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا عَدْوَى"، وَيُحَدِّثُ مَعَ ذَلِكَ: "لَا يُورِدُ الْمُمْرِضُ عَلَى الْمُصِحِّ"، بِمِثْلِ حَدِيثِ يُونُسَ).

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الإسناد تقدّم في الباب قبل حديثين، غير "عبد بن حميد"، وقد تقدّم في الباب الماضي.

[تنبيه]: رواية صالح بن كيسان عن ابن شهاب هذه لم أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلِّف رحمه الله أوّل الكتاب قال: [5799] (

) - (حَدَّثَنَاهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّارِمِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْيَمَانِ، حَدَّثَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، بِهَذَا الإِسْنَادِ نَحْوَهُ).

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الإسناد تقدّم في الباب قبل حديثين.

[تنبيه]: رواية شعيب عن الزهريّ هذه ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:

(5439)

- حدّثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب، عن الزهريّ، قال: حدّثني أبو سلمة بن عبد الرحمن، أن أبا هريرة قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا عدوى"، قال أبو سلمة بن عبد الرحمن: سمعت أبا هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"لا تُورِدُوا الممرض على المصحّ". انتهى

(2)

.

(1)

"الفتح" 13/ 232 - 234، كتاب "الطبّ" رقم (5770).

(2)

"صحيح البخاريّ" 5/ 2177.

ص: 373

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال: [5780] (

) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبِ، وَقُتَيْبَةُ، وَابْنُ حُجْرٍ، قَالُوا: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ -يَعْنُونَ ابْنَ جَعْفَرٍ- عَنِ الْعَلَاءِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا عَدْوَي، وَلَا هَامَةَ، وَلَا نَوْءَ، وَلَا صَفَرَ").

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الإسناد تقدّم في الباب قبل بابين، وتقدّم أيضًا شرح الحديث قريبًا، إلا قوله:(وَلَا نَوْءَ) -بفتح النون، وسكون الواو-؛ أي: طلوع نجم، وغروب ما يقابله، أحدهما في المشرق، والآخر بالمغرب، وكانوا يعتقدون أنه لا بُدّ عنده من مطر، أو ريح، ينسبونه إلى الطالع، أو الغارب، فنفى صحة ذلك، وقال بعضهم: النوء سقوط نجم من منازل القمر مع طلوع الصبح، وهي ثمانية وعشرون نجمًا يسقط في كل ثلاث عشرة ليلة نَجْم منها في المغرب، مع طلوع الفجر، ويطلع آخر مقابله في المشرق من ساعته. انتهى

(1)

.

وقال النوويّ رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم: "ولا نوء"؛ أي: لا تقولوا: مُطرنا بنوء كذا، ولا تعتقدوه، وسبق شرحه واضحًا في "كتاب الصلاة". انتهى

(2)

.

وقال في "التاج": والنَّوْءُ: النَّجْم إذا مالَ للغُروبِ، جمعه: أَنْواءٌ، ونُوآنٌ، مثل عَبْد، وعُبْدان، وبَطْن وبُطْنان، قال حسَّان بن ثابتٍ رضي الله عنه[من المتقارب]:

وَيثْرِبُ تَعْلَمُ أَنَّا بِهَا

إِذَا أَقْحَطَ الغَيْثُ نُوآنُهَا

أَو هو سُقوطُ النَّجْمِ من المَنازِل في المَغْرِب مع الفَجْرِ، وطُلوعُ رَقيبه، وهو نجم آخر يُقابِلُه، من ساعَتِه في المَشْرِق، في كلِّ ليلةٍ إلى ثلاثةَ عَشَرَ يومًا، وهكذا كلُّ نَجْمٍ منها إلى انْقِضاءِ السُّنَّة، ما خلا الجَبْهَةَ، فإنَّ لها أَربعَةَ عشرَ يومًا، فتَنْقَضي جميعُها مع انقِضاءِ السُّنَّة، وفي "لسان العرب": وإنَّما سمِّي نَوْءًا؛ لأَنَّه إذا سقط الغاربُ نَاءَ الطالِعُ، وذلك الطُّلوعُ هو النَّوْءُ، وبعضُهم يَجعلُ النَّوْءَ هو السُّقوط؛ كأَنَّه من الأَضدادِ، قال أبو عبيدٍ: ولم يُسمع في النَّوْءِ

(1)

"عون المعبود" 10/ 292.

(2)

"شرح النوويّ" 14/ 216.

ص: 374

أَنه السُّقوط إِلَّا في هذا الموضع، وكانت العربُ تُضيفُ الأَمطارَ، والرِّياحَ، والحَرَّ، والبَرْدَ إلى السَّاقط منها. وقال الأَصمعيُّ: إلى الطالع منها في سُلْطانِه، فتقول: مُطِرْنا بنَوْءِ كذا، وقال أبو حَنيفةَ -الدِّينَوَريّ-: نَوْءُ النَّجْمِ: هو أَوَّل سُقوطٍ يُدْرِكُه بالغَداةِ، إذا همَّت الكواكبُ بالمُصُوحِ

(1)

، وذلك في بَياض الفَجْر المُسْتَطِير. وفي "التهذيب": نَاءَ النجمُ يَنوءُ نَوْءًا إذا سقَط. وقال أبو عبيد: الأَنواءُ ثمانيةٌ وعشرون نجمًا، واحدُها نَوْءٌ، وقد نَاءَ الطالع بالمَشْرِق يَنوءُ نَوْءًا؛ أي: نهضَ، وطلَع، وذلك النُّهوضُ هو النَّوْءُ، فسمِّيَ النَّجمُ به، وكذلك كلُّ ناهضٍ بثِقَلٍ وإِبْطاءٍ، فإنَّه يَنوءُ عند نُهُوضه، وقد يكون النَّوْءُ السُّقوطَ، قال ذو الرُّمَّةِ [من الطويل]:

تَنُوءُ بِأُخْراها فَلأْيًا قِيامُها

وتَمْشي الهُوَيْنى عن قَريبٍ فَتَبْهَرُ

أُخْراها: عَجيزَتُها تُنيئُها إلى الأَرضِ؛ لضِخَمِها، وكَثرة لحمِها في أَردافها. انتهى

(2)

. وقال ابن منظور رحمه الله: قال شَمِر: هذه الثمانية وعشرون التي أَراد أَبو عبيد هي منازل القمر، وهي معروفة عند العرب، وغيرهم، من الفُرْس، والروم، والهند، لم يختلفوا في أَنها ثمانية وعشرون، ينزل القمر كل ليلة في منزلة منها، ومنه قوله تعالى:{وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ} [يس: 39]، قال شَمِر: وقد رأَيتها بالهندية، والرومية، والفارسية مترجمة، قال: وهي بالعربية فيما أَخبرني به ابن الأَعرابيّ: الشَّرَطانِ، والبَطِينُ، والنَّجْمُ، والدَّبَرانُ، والهَقْعَةُ، والهَنْعَةُ، والذِّراع، والنَّثْرَةُ، والطَّرْفُ، والجَبْهةُ، والخَراتانِ، والصَّرْفَةُ، والعَوَّاءُ، والسِّماكُ، والغَفْرُ، والزُّبانَي، والإِكْليلُ، والقَلْبُ، والشَّوْلةُ، والنَّعائمُ، والبَلْدَةُ، وسَعْدُ الذَّابِحِ، وسَعْدُ بُلَعَ، وسَعْدُ السُّعُود، وسَعْدُ الأَخْبِيَةِ، وفَرْغُ الدَّلْو المُقَدَّمُ، وفَرْغُ الدَّلْوِ المُؤَخَّرُ، والحُوتُ، قال: ولا تَسْتَنِيءُ العَرَبُ بها كُلِّها، إِنما تذكر بالأَنْواءِ بَعْضَها، وهي معروفة في أَشعارهم، وكلامهم، وكان ابن الأَعرابيّ يقول: لا يكون نَوْءٌ حتى يكون معه مَطَر، وإِلا فلا نَوْءَ.

(1)

أي: الذهاب.

(2)

"تاج العروس" 1/ 245.

ص: 375

قال أَبو منصور: أَول المطر الوَسْمِيُّ، وأَنْواؤُه العَرْقُوتانِ المُؤَخَّرتانِ، قال أَبو منصور: هما الفَرْغُ المُؤَخَّر، ثم الشَّرَطُ، ثم الثُّرَيَّا، ثم الشَّتَوِيُّ، وأَنْواؤُه الجَوْزاءُ، ثمَّ الذِّراعانِ، ونَثْرَتُهما، ثمَّ الجَبْهةُ، وهي آخِر الشَّتَوِيِّ، وأَوَّلُ الدَّفَئِيّ، والصَّيْفِيّ، ثم الصَّيْفِيُّ، وأَنْواؤُه السِّماكانِ: الأَوَّل الأَعْزَلُ، والآخرُ الرَّقيبُ، وما بين السِّماكَيْنِ صَيف، وهو نحو من أَربعين يومًا، ثمَّ الحَمِيمُ، وهو نحو من عشرين ليلة عند طُلُوعِ الدَّبَرانِ، وهو بين الصيفِ والخَرِيفِ، وليس له نَوْءٌ، ثمَّ الخَرِيفِيُّ، وأَنْواؤُه النَّسْرانِ، ثمَّ الأَخْضَرُ، ثم عَرْقُوتا الدَّلْوِ الأُولَيانِ، قال أَبو منصور: وهما الفَرْغُ المُقَدَّمُ، قال: وكلُّ مطَر من الوَسْمِيِّ إِلى الدَّفَئِيِّ ربيعٌ.

وقال الزجاج في بعض "أَمالِيه"، وذَكر قَوْلَ النبيّ صلى الله عليه وسلم:"مَنْ قال: سُقِينا بالنَّجْمِ، فقد آمَنَ بالنَّجْم، وكَفَر باللهِ، ومن قال: سَقانا اللهُ، فقد آمَنَ باللهِ، وكَفَر بالنَّجْمِ"، قال: ومعنى مُطِرْنا بِنَوْءِ كذا: أي: مُطِرْنا بطُلوع نجم، وسُقُوط آخَر، قال: والنَّوْءُ على الحقيقة سُقُوط نجم في المَغْرِب، وطُلوعُ آخَرَ في المشرق، فالساقِطةُ في المغرب هي الأَنْواءُ، والطالِعةُ في المشرق هي البَوارِحُ، قال: وقال بعضهم: النَّوْءُ ارْتِفاعُ نَجْمٍ من المشرق، وسقوط نظيره في المغرب، وهو نظير القول الأَوَّل، فإِذا قال القائل: مُطِرْنا بِنَوْءِ الثُّرَيَّا، فإِنما تأْويله أَنَّه ارتفع النجم من المشرق، وسقط نظيره في المغرب؛ أي: مُطِرْنا بما ناءَ به هذا النَّجمُ، قال: وإِنما غَلَّظَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم فيها؛ لأَنَّ العرب كانت تزعم أَن ذلك المطر الذي جاءَ بسقوطِ نَجْمٍ هو فعل النجم، وكانت تَنْسُبُ المطر إِليه، ولا يجعلونه سُقْيا من الله، وإِن وافَقَ سقُوطَ ذلك النجم المطرُ يجعلون النجمَ هو الفاعل؛ لأَن في الحديث دَلِيلَ هذا، وهو قوله:"مَن قال: سُقِينا بالنَّجْمِ، فقد آمَنَ بالنَّجْم، وكَفَرَ باللهِ"، قال أَبو إِسحق: وأَما من قال: مُطِرْنا بُنَوْءِ كذا وكذا، ولم يُرِدْ ذلك المعني، ومرادُه أَنَّا مُطِرْنا في هذا الوقت، ولم يَقْصِدْ إِلى فِعْل النجم فذلك -والله أَعلم- جائز.

وقال ابن الأَثير: أمَّا مَنْ جَعلَ المَطَر مِنْ فِعْلِ اللهِ تعالي، وأَراد بقوله: مُطِرْنا بِنَوْءِ كذا؛ أي: في وَقْت كذا، وهو هذا النَّوْءُ الفلانيّ، فإِن ذلك جائز؛ أي: إِن اللهَ تعالى قد أَجْرَى العادة أَن يأْتِيَ المَطَرُ في هذه الأَوقات، قال:

ص: 376

ورَوى عَليٌّ رضي الله عنه، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّه قال في قوله تعالى:{وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82)} [الواقعة: 82] قال: يقولون: مُطِرْنا بنوءِ كذا وكذا، قال أَبو منصور: معناه: وتَجْعَلُون شُكْرَ رِزْقِكم الذي رَزَقَكُمُوه اللهُ التَّكْذِيبَ أَنَّه من عندِ الرَّزَّاقِ، وتجعلون الرِّزْقَ من عندِ غيرِ اللهِ، وذلك كفر، فأَمَّا مَنْ جَعَلَ الرِّزْقَ مِن عِندِ اللهِ وجَعَل النجمَ وقْتًا وقَّتَه للغَيْثِ، ولم يَجعلْه المُغِيثَ الرَّزَّاقَ، رَجَوْتُ أَن لا يكون مُكَذِّبًا، والله أَعلم، قال: وهو معنى ما قاله أَبو إِسحق، وغيره، من ذوي التمييز. انتهى

(1)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال: [5781](2222) - (حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، حَدَّثَنَا أَبُو الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ (ح) وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَي، أَخْبَرَنَا أَبُو خَيْثَمَةَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا عَدْوَي، وَلَا طِيَرَةَ، وَلَا غُولَ").

قال الجامع عفا الله عنه: هذان الإسنادان تقدّما قريبًا، و"زُهير" هو: ابن معاوية بن حُديج، وهو أبو خيثمة في الإسناد الثاني.

[تنبيه]: من لطائف هذين الإسنادين:

أنهما من رباعيّات المصنّف، وهما (444)، (445) من رباعيّات الكتاب.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ) محمد بن مسلم بن تَدْرُس المكيّ، (عَنْ جَابِرِ) بن عبد الله رضي الله عنهما، وقد صرّح أبو الزبير في رواية ابن جريجٍ الآتية بالسماع من جابر رضي الله عنه، (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا عَدْوَى) قال التوربشتيّ: رحمه الله: العدوى مجاوزة العلّة صاحبها إلى غيره، يقال: أعدى فلان فلانًا من خُلُقه، أو من علّة به، وذلك على ما يذهب إليه المتطبّبة في عِلَل سبع: الجُذام، والْجَرَب، والْجُدريّ، والحصبة، والبَخَر، والرمَد، والأمراض الوبائيّة. وقد اختَلَف العلماء في التأويل، فمنهم من يقول: إن المراد منه نفي ذلك، وإبطاله على ما

(1)

"لسان العرب" 1/ 174.

ص: 377

يدلّ عليه ظاهر الحديث، والقرائن المسوقة على العدوي، وهم الأكثرون.

ومنهم من يرى أنه لم يُرد إبطالها، فقد قال صلى الله عليه وسلم:"فِرّ من المجذوم فرارك من الأسد"

(1)

، وقال:"لا يوردنّ ممرض على مصحّ"

(2)

، وإنما أراد بذلك نفي ما كان يعتقده أصحاب الطبيعة، فإنهم كانوا يرون أن العلل المعدية مؤثّرة لا محالة، فأعلمهم بقوله هذا أن ليس الأمر على تتوهّمون، بل هو متعلّق بالمشيئة، إن شاء كان، وإن لم يشأ لم يكن، ويُشير إلى هذا المعنى قوله:"فمن أعدى الأول؟ "؛ أي: إن كنتم ترون أن السبب في ذلك العدوى لا غير، فمن أعدى الأول؟، وبيّن بقوله:"فِرّ من المجذوم"، وبقوله:"لا يوردنّ ممرض على مصحّ" أن مداناة ذلك من أسباب العلّة، فليتّقه اتّقاءه من الجدار المائل، والسفينة المعيبة.

وقد ردّ الفرقة الأولى على الثانية في استدلالهم بالحديثين أن النهي فيهما إنما جاء شفقًا على مباشِر أحد الأمرين، فتصيبه علّة في نفسه، أو عاهة في بدنه، فيعتقد أن العدوى حقّ.

قال: وأرى القول الثاني أَولى التأويلين؛ لِمَا فيه من التوفيق بين الأحاديث الواردة فيه، ثُمّ إن القول الأول يُفضي إلى تعطيل الأصول الطبّيّة، ولم يَرِد الشرع بتعطيلها، بل ورد بإثباتها، والعبرةِ بها على وجه لا يناقض أصول التوحيد، ولا مناقضة في القول بها على الوجه الذي ذكرناه.

قال: وأما استدلالهم بالقرائن المنسوقة عليها، فإنا قد وجدنا الشارع قد يجمع في النهي بين ما هو حرام، وبين ما هو مكروه، وبين ما يُنهى عنه لمعني، وبين ما يُنهى عنه لمعان كثيرة، ويدلّ على صحة ما ذكرنا قوله صلى الله عليه وسلم للمجذوم المبايع:"قد بايعنك، فارجع" في حديث الشريد بن سُويد الثقفيّ رضي الله عنه، وقوله صلى الله عليه وسلم للمجذوم الذي أخذ بيده، فوضعها معه في القصعة:"كل ثقةً بالله، وتوكّلًا عليه"، ولا سبيل إلى التوفيق بين هذين الحديثين إلا من هذا الوجه، يبيّن بالأول التوقّي من أسباب التلف، وبالثاني التوكّل على الله في متاركة الأسباب؛ ليثبت بالأول التعرّض بالأسباب، وهو سنّة، وبالثاني ترك

(1)

رواه البخاريّ.

(2)

متّفقٌ عليه.

ص: 378

الأسباب، وهو حاله. انتهى كلام التوربشتيّ رحمه الله

(1)

، وهو بحث جيّد، إلا قوله في الأخير:"وهو حاله"، فإن حاله صلى الله عليه وسلم الأخذ بالأسباب، مع التوكّل لا مجرّد التوكلّ، فليُتنبه، والله تعالى أعلم.

(وَلَا طِيَرَةَ) -بكسر الطاء، وفتح الياء، آخر الحروف، وقد تسكن- هي التشاؤم بالشيء، وقال ابن الأثير: وهو مصدر تطيّر، يقال: تطيّر طِيَرةَ، وتَخَيَّر خِيَرَةً، ولم يجئ من المصادر هكذا غير هذين. انتهى

(2)

.

(وَلَا غُولَ")"الغُول" بالفتح مصدرٌ، معناه البعد، والهلاك، وبالضم الاسم، وهو من السَّعَالي، وجمعه أغوال، وغِيلان، كانوا يزعمون أن الغِيلان في الفلاة، وهو من جنس الشياطين، تتراءى للناس، وتتغَوّل؛ أي: تتلوّن، فتضلّهم عن الطريق، فتُهلكهم، فأبطل ذلك، وقيل: إنما أبطل ما زعموه من تلوّنه، لا وجوده، ومعنى لا غول: أي: لا يستطيع أحد إضلال أحد.

قال القاضي: والمراد بقوله صلى الله عليه وسلم: "لا عدوى

إلخ" أن مصاحبة المعلول، ومؤاكلته، لا توجب حصول تلك العلة، ولا تؤثّر فيها؛ لتخلّفه عن ذلك طردًا، وعكسًا، لكنها تكون من الأسباب المقدّرة التي تعلقت المشيئة بترتب العلة عليها بالنسبة إلى بعض الأبدان إحداث الله تعالي، فعلى العاقل التحرز عنها ما أمكن، بتحرّزه عن الأطعمة الضارّة، والأشياء المخوفة.

والطِّيَرة: التفاؤل بالطير، وكانوا يتفاءلون بأسمائها، وأصواتها، والهامة: الصَّدَاء، وهو طائر كبير، يضعف بصره بالنهار، ويطير بالليل، ويصوِّت فيه، ويقال له: بُوم، والناس يتشاءمون بصوته، ومن زعمات العرب أن رُوح القتيل الذي لا يُدرك ثأره تصير هامة، فتبدو، وتقول: اسقوني، فإذا أُدرك ثأره طارت.

وقوله: "لا غُول" يَحْتَمِل أن المراد به نفيه رأسًا، وأن المراد نفيه على الوجه الذي يزعمونه، فإنهم يقولون: هو ضرب من الجنّ يتشخّص لمن يمشي وحده في فلاة، أو في الليلة الليلاء، ويمشي قدامه، فيظن الماشي خلفه أنه

(1)

"الكاشف عن حقائق السُّنن" 9/ 2978 - 2979.

(2)

"عمدة القاري" 21/ 273.

ص: 379

إنسان، فيتبعه، فيوقعه في الهلاك. انتهى

(1)

.

وقال الطيبيّ رحمه الله: قوله: "لا غُول" قال في "النهاية": الْغُول: واحد الغِيلان، وهي جنس من الجنّ والشياطين، كانت العرب تزعم أن الغُول في الفلاة تترآى للناس، فيتغوّل تغوّلًا؛ أي: يتلوّن تلوّنًا في صور شتّى، ويغولهم؛ أي: يُضلّهم عن الطريق، ويُهلكهم، فنفاه النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأبطله.

وقيل: قوله: "لا غُول" ليس نفيًا لِعَيْن الغُول ووجوده، وإنما فيه إبطال زعم العرب في تلوّنه بالصور المختلفة، واغتياله، فيكون المعنى بقوله:"لا غُول" إنها لا تستطيع أن تُضلّ أحدًا، ويشهد له الحديث الآخر:"لا غُول، ولكن السعالى"، والسعالى -بالسين المفتوحة، والعين المهملة- هم: سحرة الجنّ؛ أي: ولكن في الجن سحرة لهم تلبيس، وتخييلٌ، ومنه الحديث:"إذا تغوّلت الغيلان، فبادروا بالأذان"

(2)

؛ أي: ادفعوا شرّها بذكر الله تعالى، وهذا يدلّ على أنه لم يُرِد بنفيها عدمها، ومنه حديث:"كان ثمرة في سهوة، وكانت الغُول تجيء، فتأخذه"

(3)

.

وقال التوربشتيّ: قال الطحاويّ: يَحْتَمل أن الغُول قد كان، ثم دفعه الله تعالى عن عباده، أو عن بعضهم، وهذا ليس ببعيد؛ لأنه يَحْتَمل أنه من خصائص بعثة نبيّنا صلى الله عليه وسلم، ونظيره مَنْع الشياطين من استراق السمع بالشهاب الثاقب.

قال الطيبيّ: إنّ "لا" التي لنفي الجنس دخلت على المذكورات، ونفت ذواتها، وهي غير منفية، فيوجَّه النفي إلى أوصافها، وأحوالها التي هي مخالفة الشرع، فإن العدوى، وصفر، والهامة موجودة، والمنفيّ هو ما زعمت الجاهلية إثباتها، فإن نفي الذات لإرادة نفي الصفات أبلغ في باب الكناية، وقريب منه قوله تعالى:{فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 132]، فنهاهم عن الموت،

(1)

"فيض القدير" 6/ 434.

(2)

حديث ضعيف، راجع:"الضعيفة" للشيخ الألبانيّ رحمه الله 3/ 277.

(3)

رواه أحمد، وابن أبي شيبة، والطبراني، وفي سنده محمد عبد الرحمن بن أبي ليلى، متكلّم فيه.

ص: 380

وهو ليس بمقدورهم، فالمنفيّ هو حالة إذا أدركهم الموت لم يجدهم عليها، وهي أن يكونوا على غير ملّة الإسلام، فالوجه هو ما ذهب إليه صاحب "النهاية"، من الوجه الثاني، واختاره التوربشتيّ. انتهى

(1)

.

[فائدة]: قال ابن مالك رحمه الله في "شرح التسهيل": أكثر ما يحذف الحجازيون خبر "لا" مع "إلّا"، نحو:"لا إله إلا الله"، ومِنْ حذفه دون "إلّا" نحو:"لا ضَرَر، ولا ضرار"، و"لا عدوى، ولا طِيَرَة". انتهى

(2)

.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث جابر رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [18/ 5781 و 5782 و 5783](2222)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 382 و 393)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6128)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(1789)، و (الطبريّ) في "تهذيب الآثار"(26)، و (الطحاويّ) في "مشكل الآثار"(1/ 340)، و (ابن أبي عاصم) في "السُّنَّة"(281)، و (ابن الجعد) في "مسنده"(2693 و 3183)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(3251)، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال: [5782] (

) - (وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ هَاشِمِ بْنِ حَيَّانَ، حَدَّثَنَا بَهْزٌ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ -وَهُوَ التُّسْتَرِيُّ- حَدَّثَنَا أَبُو الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا عَدْوَى، وَلَا غُولَ، وَلَا صَفَرَ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ هَاشِمِ بْنِ حَيَّانَ) العَبْديّ، أبو عبد الرحمن الطُّوسيّ، سكن نيسابور، ثقةٌ صاحب حديث، من صغار [10] مات سنة بضع و (250)(م) تقدم في "الإيمان" 3/ 112.

(1)

"الكاشف عن حقائق السُّنن" 9/ 2981.

(2)

"فيض القدير" 6/ 434.

ص: 381

2 -

(بَهْزُ) بن أسد العَمِّيّ، أبو الأسود البصريّ، ثقة ثبت [9] تقدم في "الإيمان" 3/ 112.

3 -

(يَزِيدُ التُّسْتَرِيُّ) هو: يزيد بن إبراهيم، نزيل البصرة، أبو سعيد، ثقةٌ ثبتٌ، ليّنوه في قتادة، من كبار [7](ت 163) على الصحيح (ع) تقدم في "الإيمان" 84/ 450.

[تنبيه]: قوله: "التُّسْتَريّ -بضمّ المثنّاة، وسكون المهملة، وفتح المثنّاة، ثمّ راء-: نسبة إلى تُسْتَر بلدة من كور الأهواز، من خوزستان، قاله في "اللباب"

(1)

.

والباقيان ذُكرا قبله، والحديث من أفراد المصنّف رحمه الله، وقد تقدّم شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال: [5783] (

) - (وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ، حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجِ، أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ، أنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ يَقُولُ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ

(2)

: "لَا عَدْوَى، وَلَا صَفَرَ، وَلَا غُولَ"، وَسَمِعْتُ أَبَا الزُّبَيْرِ يَذْكُرُ أَنَّ جَابِرًا فَسَّرَ لَهُمْ قَوْلَهُ:"وَلَا صَفَرَ"، فَقَالَ أَبُو الزُّبَيْرِ: الصَّفَرُ الْبَطْنُ، فَقِيلَ لِجَابِرٍ: كَيْفَ؟ قَالَ: كَانَ يُقَالُ: دَوَابُّ الْبَطْنِ، قَالَ: وَلَمْ يُفَسِّرِ الْغُولَ، قَالَ أَبُو الزُّبَيْرِ: هَذِهِ الْغُولُ الَّتِي تَغَوَّلُ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ) القيسيّ البصريّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(ابْنُ جُرَيْجٍ) عبد الملك بن عبد العزيز بن جُريج، تقدّم في الباب الماضي.

والباقون ذُكروا في الباب.

وقوله: (وَسَمِعْتُ أَبَا الزُّبَيْرِ

إلخ) الفاعل ضمير ابن جُريج.

وقوله: (فَقَالَ أَبُو الزُّبَيْرِ

إلخ)؛ أي: ناقلًا تفسير جابر-رضي الله عنه.

(1)

"اللباب في تهذيب الأنساب" 1/ 216.

(2)

وفي نسخة: "يذكر".

ص: 382

وقوله: (الصَّفَرُ الْبَطْنُ)؛ أي: داء البطن، كما فسّره جابر بقوله:"دوابّ البطن".

وقوله: (فَقِيلَ لِجَابِرٍ: كَيْفَ؟)، وفي رواية أحمد:"قيل لجابر: كيف هذا القول؟ ".

وقوله: (كَانَ يُقَالُ

إلخ) "كان" هنا شأنيّة، فاسمها ضمير شأن مقدّر، وخبرها الجملة بعدها.

وقوله: (دَوَابُّ الْبَطْنِ) تقدّم تفسيرها بأنها دود في البطن يهيج عند الجوع، كانت العرب تراها أعدى من الجرب. وقال أبو عبيد: سمعت يونس سأل رؤبة بن العجاج عن الصفر، فقال: هي حية تكون في البطن، تصيب الماشيةَ والناسَ، قال: وهي أعدى من الجرب عند العرب، قال أبو عبيد: فأبطل النبيّ صلى الله عليه وسلم أنها تُعْدِي، قال: ويقال: إنها تشتدّ على الإنسان، وتؤذيه إذا جاع. انتهى

(1)

.

وقال النوويّ رحمه الله: قوله: "هي دواب البطن" هكذا هو في جميع نُسخ بلادنا: "دوابّ" بدال مهملة، وباء موحّدة، مشدّدة، وكذا نقله القاضي عن رواية الجمهور، قال: وفي رواية العذريّ: "ذوات" بالذال المعجمة، والتاء المثناة فوقُ، وله وجه، ولكن الصحيح المعروف هو الأول، قال القاضي: واختلفوا في قوله صلى الله عليه وسلم: "لا عدوى" فقيل: هو نَهْيٌ عن أن يقال ذلك، أو يُعْتَقد، وقيل: هو خبر؛ أي: لا تقع عدوى بطبعها. انتهى

(2)

.

وقوله: (قَالَ: وَلَمْ يُفَسِّرِ الْغُولَ)؛ أي: قال أبو الزبير: ولم يفسّر جابر رضي الله عنه الغول، كما فسّر قوله:"ولا صفر".

وقوله: (قَالَ أَبُو الزُّبَيْرِ)؛ يعني: أبا الزبير فسّر من عنده الغول، فقال:(هَذِهِ الْغُولُ الَّتِي تَغَوَّلُ) أصله تتغوّل، فحذف منه إحدى التاءين، كما في {نَارًا تَلَظَّى} [الليل: 14]، و {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ} [القدر: 4]، قال في "الخلاصة":

وَمَا بِتَاءَيْنِ ابْتُدِي قَدْ يُقْتَصَرْ

فِيهِ عَلَى تَا كَـ "تَبَيَّنُ الْعِبَرْ"

ومعنى "تغوّل": أي: تتلوّن، وتضلّ الناس، وفي رواية أحمد:"قال أبو الزبير من قبله: هذا الغول الشيطانة التي يقولون".

(1)

"لسان العرب" 4/ 463.

(2)

"شرح النوويّ" 14/ 218.

ص: 383

وقال النوويّ رحمه الله: قوله: قال أبو الزبير: "هذه الغول التي تَغَوّل" هكذا هو في جميع نُسخ بلادنا: "قال أبو الزبير"، وكذا نقله القاضي عن الجمهور، قال: وفي رواية الطبريّ أحد رواة "صحيح مسلم": قال أبو هريرة. قال: والصواب الأول. انتهى

(1)

.

والحديث من أفراد المصنّف، وقد تقدّم تخريجه قبل حديث، ولله الحمد والمنّة.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(19) - (بَابُ الطِّيَرَةِ، وَالْفَأْلِ، وَمَا يَكُونُ فِيهِ الشُّؤْمُ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال: [5784](2223) - (وَحَدَّثَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُتْبَةَ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لَا طِيَرَةَ، وَخَيْرُهَا الْفَأْلُ"، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَا الْفَأْلُ؟ قَالَ: "الْكَلِمَةُ الصَّالِحَةُ يَسْمَعُهَا أَحَدُكُمْ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُتْبَةَ) بن مسعود الفقيه المدنيّ، تقدّم قريبًا.

والباقون ذُكروا في البابين الماضيين.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وأن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه عبيد الله بن عبد الله أحد الفقهاء السبعة، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه أحفظ من روى الحديث في دهره، روى (5374) حديثًا.

شرح الحديث:

(عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُتْبَةَ) بن مسعود الْهُذليّ المدنيّ (أَنَّ أَبَا

(1)

"شرح النوويّ" 14/ 218.

ص: 384

هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لَا طِيَرَةَ) -بكسر الطاء المهملة، وفتح التحتانية، وقد تُسَكَّن-: هي التشاؤم- بالشين، وهو مصدر تَطَيَّر، مثل تَحَيَّر حَيَرَةً، قال بعض أهل اللغة: لم يجئ من المصادر هكذا غير هاتين، وتُعُقّب بأنه سُمع: طِيَبَةٌ، وأورد بعضهم: التِّوَلَةَ، وفيه نظر.

وأصل التطير أنهم كانوا في الجاهلية يعتمدون على الطير، فإذا خرج أحدهم لأمر، فإن رأى الطير طار يمنةً تيمّن به، واستمرّ، وإن رآه طار يَسْرَة، تشاءم به، ورجع، وربما كان أحدهم يُهِيج الطيرَ ليطير، فيعتمدها، فجاء الشرع بالنهي عن ذلك، وكانوا يسمّونه السانح -بمهملة، ثم نون، ثم حاء مهملة- والبارح -بموحدة، وآخره مهملة- فالسانح ما وَلّاك ميامنه، بأن يمر عن يسارك إلى يمينك، والبارح بالعكس، وكانوا يتيمّنون بالسانح، ويتشاءمون بالبارح؛ لأنه لا يمكن رميه، إلا بأن ينحرف إليه، وليس في شيء من سنوح الطير، وبُرُوحها ما يقتضي ما اعتقدوه، وإنما هو تكلُّف بتعاطي ما لا أصل له؛ إذ لا نطق للطير، ولا تمييز، فيُستدلَّ بفعله على مضمون معنى فيه، وطلب العلم من غير مظانه جَهْل من فاعله، وقد كان بعض عقلاء الجاهلية ينكر التطير، ويتمدح بتركه، قال شاعر منهم [من مجزوّ الكامل]:

وَلَقَدْ غَدَوْتُ وَكُنْتُ لَا

أَغْدُو عَلَى وَاقٍ وَحَاتِمِ

فَإِذَا الأشَائِمُ كَالأَيَا

مِنِ وَالأَيَامِنُ كَالأَشَائِمِ

وقال آخر [من البسيط]:

الزَّجْرُ وَالطَّيْرُ وَالْكُهَّانُ كُلُّهُمُ

مُضَلَّلُونَ وَدُونَ الْغَيْبِ أَقْفَالُ

وقال آخر [من الطويل]:

وَمَا عَاجِلَاتُ الطَّيْرِ تُدْنِي مِنَ الْفَتَى

نَجَاحًا وَلَا عَنْ رَيْثِهِنَّ قُصُورُ

وقال آخر [من الطويل]:

لَعَمْرُكَ مَا تَدْرِي الطَّوَارِقُ بِالْحَصَى

وَلَا زَاجِرَاتُ الطَّيْرِ مَا اللهُ صَانِعُ

وقال آخر [من الوافر]:

تَخَيَّرَ طَيْرَةً فِيهَا زِيَادُ

لِتُخْبِرَهُ وَمَا فِيهَا خَبِيرُ

تَعَلَّمْ أَنَّهُ لَا طَيْرَ إِلَّا

عَلَى مُتَطَيِّرٍ وَهُوَ الثُّبُورُ

بَلَى شَيءٌ يُوَافِقُ بَعْضَ شَيْءٍ

أَحَايِينًا وَبَاطِلُهُ كَثِيرُ

ص: 385

وكان أكثرهم يتطيّرون، ويعتمدون على ذلك، ويصح معهم غالبًا؛ لتزيين الشيطان ذلك، وبقيت من ذلك بقايا في كثير من المسلمين.

وقد أخرج ابن حبان في "صحيحه" من حديث أنس رضي الله عنه رفعه: "لا طِيَرَةَ، والطِّيَرة على من تَطَيَّر".

وأخرج عبد الرزاق، عن معمر، عن إسماعيل بن أمية، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم:"ثلاثةٌ لا يَسْلَم منهنّ أحد: الطيرة، والظنّ، والحسد، فإذا تطيّرت فلا ترجع، وإذا حسدت فلا تَبْغِ، وإذا ظننت فلا تُحَقِّق".

قال الحافظ: وهذا مرسل، أو معضل، لكن له شاهدٌ، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أخرجه البيهقيّ في "الشعب"، وأخرج ابن عديّ بسند لَيِّن عن أبي هريرة رضي الله عنه، رفعه:"إذا تطيرتم فامضوا، وعلى الله فتوكلوا"، وأخرج الطبراني عن أبي الدرداء رضي الله عنه، رفعه:"لن ينال الدرجات العُلا من تكهّن، أو استقسم، أو رجع من سفر تطيّرًا"، قال الحافظ: ورجاله ثقات إلا أنني أظن أن فيه انقطاعًا، وله شاهد عن عِمران بن حُصين رضي الله عنهما، وأخرجه البزار في أثناء حديث بسند جيّد، وأخرج أبو داود، والترمذيّ، وصححه هو وابن حبان، عن ابن مسعود رضي الله عنه، رفعه:"الطِّيَرَة شركٌ، وما منا إلا، ولكن الله يذهبه بالتوكل".

وقوله: "وما منّا إلا" من كلام ابن مسعود رضي الله عنه، أُدرج في الخبر، وقد بيّنه سليمان بن حرب شيخ البخاريّ، فيما حكاه الترمذيّ، عن البخاريّ عنه، وإنما جُعِل ذلك شركًا؛ لاعتقادهم أن ذلك يجلب نفعًا، أو يدفع ضرًّا، فكأنهم أشركوه مع الله تعالى.

وقوله: "ولكن الله يذهبه بالتوكل" إشارة إلى أن من وقع له ذلك، فَسَلَّم لله، ولم يعبأ بالطيرة، أنه لا يؤاخَذ بما عَرَض له من ذلك.

وأخرج البيهقيّ في "الشُّعَب" من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما موقوفًا: "مَن عَرَض له من هذه الطيرة شيء، فليقل: اللهم لا طَيْرَ إلا طيرُك، ولا خير إلا خيرك، ولا إله غيرك"

(1)

.

(1)

"الفتح" 13/ 183 - 185، كتاب "الطبّ" رقم (5754).

ص: 386

(وَخَيْرُهَا)؛ أي: خير الطيرة (الْفَأْلُ") بفاء، ثمّ همزة، وقد تُسهّل، والجمع فُؤولٌ بالهمزة جزمًا.

قال الطيبيّ رحمه الله: الضمير المؤنّث راجع إلى الطِّيَرة، وقد عُلم أن الطِّيَرة كلها لا خير فيها، فهو كقوله تعالى:{أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا} [الفرقان: 24]، وهو مبنيّ على زعمهم، أو هو من باب قولهم: الصيف أحرّ من الشتاء؛ أي: الفال في بابه أبلغ من الطيرة في بابها، ومعنى الترخّص في الفأل، والمنع من الطيرة، هو أن الشخص لو رأى شيئًا، فظنه حسنًا، وحَرَّضه على طلب حاجته، فليفعل ذلك، وإن رأى ما يَعُدُّه مشئومًا، ويمنعه من المضيّ إلى حاجته، فلا يجوز قبوله، بل يَمضي لسبيله، فإذا قَبِلَ، وانتهى عن المضيّ في طلب حاجته فيه، فهو الطيَرة؛ لأنها اختصت بأن تُستعمل في الشؤم، قال الله تعالى:{إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ} [يس: 18]: أي تشاءمنا بكم، وقال:{طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ} [يس: 19]؛ أي: سبب شؤمكم معكم. انتهى

(1)

.

(قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَا الْفَأْلُ؟ قَالَ: "الْكَلِمَةُ الصَّالِحَةُ يَسْمَعُهَا أَحَدُكُمْ") مثل مَن خرج من داره لطلب حاجة، فسمع شخصًا يقول للآخر: يا نجاح، وقال الأصمعيّ: سألت ابن عون عن الفأل، فقال: هو أن يكون مريضًا، فيسمع: يا سالم.

وفي حديث أنس عند البخاريّ: "ويعجبني الفأل الصالح، الكلمة الحسنة"، وفي حديث عروة بن عامر الذي أخرجه أبو داود قال:"ذُكِرت الطيرة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: خيرها الفأل، ولا تَرُدّ مسلمًا، فإذا رأى أحدكم ما يكره، فليقل: اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت، ولا يدفع السيئات إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بالله"

(2)

. وأخرج أبو داود أيضًا من حديث بُريدة رضي الله عنه: "أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان لا يتطير من شيء، وكان إذا بَعَث غلامًا سأل عن اسمه، فإذا أعجبه اسمه فرح به، وإن كره اسمه رُئي كراهة ذلك في وجهه، وإذا دخل

(1)

"الكاشف عن حقائق السُّنن" 9/ 2978.

(2)

ضعيف أخرجه أبو داود (3919) وفي سنده حبيب بن أبي ثابت مدلّس، وقد عنعنه، فتنبّه.

ص: 387

قرية سأل عن اسمها، فإن أعجبه فرح به، ورُئي بِشْر ذلك في وجهه، وإن كره اسمها رُئي كراهة ذلك في وجهه"

(1)

. انتهى

(2)

، والله تعالى أعلم.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [19/ 5784 و 5785](2223)، و (البخاريّ) في "الطبّ"(575 و 5755) وفي "الأدب المفرد"(910)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 266 و 387 و 453 - 454)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(2512)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6125)، و (الطبريّ) في "تهذيب الآثار"(14 و 15)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(19503)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(8/ 139) و"شُعَب الإيمان"(2/ 62)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(3255)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): كتب في "الفتح" بحثًا نفيسًا يتعلّق بهذا الحديث، فقال عند قوله:"وخيرها الفأل": قال الكرمانيّ

(3)

تبعًا لغيره: هذه الإضافة تُشعر بأن الفأل من جملة الطيرة، وليس كذلك، بل هي إضافة توضيح، ثم قال: وأيضًا، فإن من جملة الطيرة كما تقدم تقريره: التيامن، فبيّن بهذا الحديث أنه ليس كل التيامن مردودًا؛ كالتشاؤم، بل بعض التيامن مقبول.

قال الحافظ: وفي الجواب الأول دَفْعٌ في صدر السؤال، وفي الثاني تسليم السؤال، ودعوى التخصيص، وهو أقرب.

وقد أخرج ابن ماجه، بسند حسن، عن أبي هريرة رضي الله عنه، رفعه:"كان يعجبه الفأل، ويكره الطِّيَرة"، وأخرج الترمذيّ من حديث حابس التميصيّ، أنه سمع النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول:"العين حقّ، وأصدق الطيرة الفأل"، ففي هذا التصريح أن الفأل من جملة الطيرة، لكنه مستثنى.

(1)

حديث صحيح، أخرجه أبو داود (3920).

(2)

"عمدة القاري" 21/ 274.

(3)

"شرح صحيح البخاريّ" للكرمانيّ 21/ 32.

ص: 388

وقال الطيبيّ: الضمير المؤنث في قوله: "وخيرها" راجع إلى الطيرة، وقد عُلِم أن الطيرة كلها لا خير فيها، فهو كقوله تعالى:{أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا} [الفرقان: 24] وهو مبنيّ على زعمهم، وهو من إرخاء الْعِنان في المخادعة، بأن يُجرَى الكلامُ على زعم الخصم، حتى لا يشمئزّ عن التفكر فيه، فإذا تفكّر، فأنصف من نفسه قَبِل الحقَّ، فقوله:"خيرها الفأل" إطماع للسامع في الاستماع والقبول، لا أن في الطيرة خيرًا حقيقةً، أو هو من نحو قولهم: الصيف أحرّ من الشتاء؛ أي: الفأل في بابه أبلغ من الطيرة في بابها.

والحاصل: أن أفعل التفضيل في ذلك إنما هو بين القدر المشترك بين الشيئين، والقدر المشترك بين الطيرة والفأل تأثير كل منهما فيما هو فيه، والفأل في ذلك أبلغ.

قال الخطابيّ

(1)

: وإنما كان ذلك؛ لأن مصدر الفأل عن نُطق وبيان، فكأنه خبر جاء عن غيب، بخلاف غيره، فإنه مستند إلى حركة الطائر، أو نُطقه، وليس فيه بيان أصلًا، وإنما هو تكلفّ ممن يتعاطاه.

وقد أخرج الطبريّ عن عكرمة قال: كنت عند ابن عباس رضي الله عنهما، فمرّ طائر، فصاح، فقال رجل: خير خير، فقال ابن عباس: ما عند هذا لا خير، ولا شرّ، وقال أيضًا: الفرق بين الفأل والطيرة، أن الفأل من طريق حسن الظن بالله، والطيرة لا تكون إلا في السوء، فلذلك كُرِهت.

وقال النوويّ: الفال يُستعمل فيما يسوء، وفيما يسرّ، وأكثره في السرور، والطيرة لا تكون إلا في الشؤم، وقد تُستعمل مجازًا في السرور. انتهى

(2)

.

قال الحافظ: وكأن ذلك بحسب الواقع، وأما الشرع فخَصّ الطيرة بما يسوء، والفال بما يسرّ، ومن شَرْطه أن لا يُقْصَد إليه، فيصيرَ من الطيرة.

وقال ابن بطال

(3)

: جعل الله في فِطَر الناس محبة الكلمة الطيبة، والأُنس بها، كما جَعل فيهم الارتياح بالمنظر الأنيق، والماء الصافي، وإن كان لا يملكه، ولا يشربه.

(1)

"الأعلام" 3/ 2136.

(2)

"شرح النوويّ" 14/ 218.

(3)

"شرح صحيح البخاريّ" لابن بطّال 9/ 437.

ص: 389

وأخرج الترمذيّ، وصححه من حديث أنس رضي الله عنه:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج لحاجته يُعجبه أن يسمع: يا نجيح، يا راشد".

وأخرج أبو داود بسند حسن، عن بريدة رضي الله عنه:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان لا يتطير من شيء، وكان إذا بعث عاملًا يسأل عن اسمه، فإذا أعجبه فَرِحَ به، وإن كَرِه اسمه رُؤي كراهة ذلك في وجهه".

وذكر البيهقيّ في "الشعب" عن الْحَلِيميّ ما مُلَخَّصه: كان التطير في الجاهلية في العرب إزعاج الطير عند إرادة الخروج للحاجة، فذَكَر نحو ما تقدم، ثم قال: وهكذا كانوا يتطيرون بصوت الغراب، وبمرور الظباء، فسَمَّوا الكل تطيرًا؛ لأن أصله الأول، قال: وكان التشاؤم في العجم إذا رأى الصبي ذاهبًا إلى المعلم تشاءم، أو راجعًا تيمّن، وكذا إذا رأى الجمل موقَرًا حَمْلًا تشاءم، فإن رآه واضعًا حَمْله تيمّن، ونحو ذلك، فجاء الشرع برفع ذلك كله، وقال:"من تكهن، أو ردّه عن سفر تطيُّر، فليس منّا"، ونحو ذلك من الأحاديث، وذلك إذا اعتقد أن الذي يشاهده من حال الطير موجبًا ما ظنه، ولم يضف التدبير إلى الله تعالى، فأما إن علم أن الله هو المدبّر، ولكنه أشفق من الشرّ؛ لأن التجارب قضت بأن صوتًا من أصواتها معلومًا، أو حالًا من أحوالها معلومةً يَرْدَفُها مكروه، فإن وطّن نفسه على ذلك أساء، وإن سأل الله الخير، واستعاذ به من الشرّ، ومضى متوكلًا لم يضرّه ما وجد في نفسه من ذلك، وإلا فيؤاخذ به، وربما وقع به ذلك المكروه بعينه الذي اعتقده عقوبةً له، كما كان يقع كثيرًا لأهل الجاهلية، والله أعلم.

قال الحليميّ: وإنما كان صلى الله عليه وسلم يعجبه الفأل؛ لأن التشاؤم سوء ظن بالله تعالى بغير سبب محقَّق، والتفاؤل حسن ظن به، والمؤمن مأمور بحسن الظن بالله تعالى على كل حال.

وقال الطيبيّ: معنى الترخص في الفأل، والمنع من الطيرة، هو أن الشخص لو رأى شيئًا فظنه حسنًا مُحَرِّضًا على طلب حاجته، فليفعل ذلك، وإن رآه بضدّ ذلك فلا يقبله، بل يمضي لسبيله، فلو قَبِل، وانتهى عن المضيّ، فهو الطيرة التي اختَصَّت بأن تُستعمل في الشؤم، والله أعلم. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم.

(1)

"الفتح" 13/ 186 - 188، كتاب "الطبّ" رقم (5755).

ص: 390

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال: [5785] (

) - (وَحَدَّثَنِي عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ شُعَيْبِ بْنِ اللَّيْثِ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ جَدِّي، حَدَّثَنِي عُقَيْلُ بْنُ خَالِدٍ (ح) وحَدَّثَنِيهِ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّارِمِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، كِلَاهُمَا عَنِ الزُّهْرِيِّ، بِهَذَا الِإسْنَادِ، مِثْلَهُ، وَفِي حَدِيثِ عُقَيْلٍ: عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَمْ يَقُلْ: سَمِعْتُ، وَفِي حَدِيثِ شُعَيْبٍ: قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، كَمَا قَالَ مَعْمَرٌ).

رجال هذين الإسنادين: ثمانية:

وكلهم تقدَّموا في الباب الماضي، وقبل ثلاثة أبواب.

[تنبيه]: رواية عُقيل بن خالد عن الزهريّ ساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(9848)

- حدثنا حجاج، قال: ثنا ليث، قال: حدّثني عُقيل، عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:"لا طِيَرَة، وخيرها الفأل"، قيل: يا رسول الله، وما الفأل؟ قال: كلمة صالحة، يسمعها أحدكم". انتهى

(1)

.

ورواية شعيب عن الزهريّ ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:

(5422)

- حدّثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب، عن الزهريّ، قال: أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، أن أبا هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا طِيَرَة، وخيرها الفأل"، قالوا: وما الفأل؟ قال: "الكلمة الصالحة، يسمعها أحدكم". انتهى

(2)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال: [5786](2224) - (حَدَّثَنَا هَدَّابُ بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا هَمَّامُ بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ نَبِيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا عَدْوَى، وَلَا طِيَرَةَ، وَيُعْجِبُنِي الْفَأْلُ، الْكَلِمَةُ الْحَسَنَةُ، الْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ").

(1)

"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 2/ 453.

(2)

"صحيح البخاريّ" 5/ 2171.

ص: 391

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(هَدَّابُ بْنُ خَالِدٍ) ويقال له: هُدْبة بن خالد بن الأسود القيسيّ، أبو خالد البصريّ، ثقةٌ عابدٌ، تفرّد النسائيّ بتليينه، من صغار [9] مات سنة بضع و (230)(خ م د) تقدم في "الإيمان" 11/ 151.

2 -

(هَمَّامُ بْنُ يَحْيَى) بن دينار الْعَوْذيّ، أبو عبد الله، أو أبو بكر البصريّ، ثقةٌ [7](ت 4 أو 165)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 70.

3 -

(قَتَادَةُ) بن دِعامة تقدّم قبل بابين.

4 -

(أَنَسُ) بن مالك رضي الله عنه تقدّم قريبًا.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (446) من رباعيّات الكتاب، وفيه أنس رضي الله عنه من المكثرين السبعة، وآخر من مات من الصحابة رضي الله عنه في البصرة، وقد جاوز عمره مائة.

شرح الحديث:

(عَنْ أَنَسٍ) رضي الله عنه (أَنَّ نَبِيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا عَدْوَى)؛ أي: لا يُعدي مرض بنفسه، بل بتقدير الله عز وجل، وقد تقدّم تمام شرحه قريبًا. (وَلَا طِيَرَةَ)؛ أي: لا تشاؤم بالكلمة القبيحة، ونحوها، وقد تقدّم أيضًا تمام البحث فيه. (وَيُعْجِبُنِي) بضمّ حرف المضارعة، من الإعجاب، وهو استحسان الشيء، قال الفيّوميّ رحمه الله: يُستعمَل التَّعَجُّبُ على وجهين: أحدهما: ما يَحمده الفاعل، ومعناه الاستحسان، والإخبار عن رضاه به، والثاني: ما يكرهه، ومعناه الإنكار، والذمّ له، ففي الاستحسان يقال: أَعْجَبَنِي بالألف، وفي الذمّ والإنكار: عَجِبْتُ وزانُ تَعِبْت، وقال بعض النحاة: التَّعَجُّبُ: انفعال النفس؛ لزيادة وصف في المتعَجَّب منه، نحو: ما أشجعه! قال: وما ورد في القرآن من ذلك، نحو:{أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ} [مريم: 38]، فإنما هو بالنظر إلى السامع، والمعنى: لو شاهدتهم لقلت ذلك متعجبًا منهم. انتهى

(1)

.

(1)

"المصباح المنير" 2/ 393.

ص: 392

(الْفَأْلُ) بالهمزة، والتخفيف: اللفظ الحسن، كيا نجيح، ويا راشد، ويا مفلح، وقوله:(الْكَلِمَةُ الْحَسَنَةُ) بدل من "الفألُ"، أو خبر لمحذوف؛ أي: هي الكلمة الحسنة، وقوله:(الْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ") بدل مما قبله، أو عَطْف بيان، وفي الرواية التالية:"قَالَ: قِيلَ: وَمَا الْفَأْلُ؟ قَالَ: الْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ"، والله تعالى أعلم.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أنس رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [19/ 5786 و 5787](2224)، و (البخاريّ) في "الطبّ"(5756 و 5776) وفي "الأدب المفرد"(1/ 315)، و (أبو داود) في "الطبّ"(3916)، و (الترمذيّ) في "السير"(1615)، و (ابن ماجه) في "الطبّ"(3537)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 118 و 130 و 154 و 178 و 251 و 275 و 277)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(5/ 251 و 373 و 476)، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل الى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال: [5787] (

) - (وَحَدَّثَنَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ، قَالَا: أخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، سَمِعْتُ قَتَادَةَ، يُحَدِّثُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا عَدْوَى، وَلَا طِيَرَةَ، وَيُعْجِبُنِي الْفَأْلُ"، قَالَ: قِيلَ: وَمَا الْفَأْلُ؟ قَالَ: "الْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

وكلهم ذُكروا في الباب، وقبل بابين.

والحديث متّفق عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسألتيه قبله، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل الى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال: [5788]، (

) - (وَحَدَّثَنِي حَجَّاجُ بْنُ الشَّاعِرِ، حَدَّثَنِي مُعَلَّى بْنُ أَسَدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُخْتَارٍ

(1)

، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عَتِيقٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ،

(1)

وفي نسخة: "ابن المختار".

ص: 393

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا عَدْوَى، وَلَا طِيَرَةَ، وَأُحِبُّ الْفَأْلَ الصَّالِحَ").

قال الجامع عفا الله عنه: كان الأَولى للمصنّف رحمه الله أن يقدّم حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا، والذي بعده قبل حديثي أنس رضي الله عنه؛ لِمَا لا يخفى، فليُتأمل.

رجال هذا الإسناد: ستّة:

1 -

(حَجَّاجُ بْنُ الشَّاعِرِ) هو: حجاج بن أبي يعقوب يوسف بن حجاج الثقفيّ البغداديّ، ثقةٌ حافظٌ [11](ت 259)(م د) تقدم في "المقدمة" 6/ 40.

2 -

(مُعَلَّى بْنُ أَسَدٍ) الْعَمّيّ، أبو الهيثم البصريّ، أخو بهز، ثقةٌ ثبتٌ، قال أبو حاتم: لم يُخطئ إلا في حديث واحد، من كبار [10](ت 218) على الصحيح (خ م قد وت س ق) تقدم في "الطهارة" 34/ 684.

3 -

(عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُخْتَارٍ) الدبّاغ البصريّ، مولى حفصة بنت سيرين، ثقةٌ [7](ع) تقدم في "صلاة المسافرين وقصرها" 14/ 1674.

4 -

(يَحْيَى بْنُ عَتِيقٍ) الطُّفاويّ -بضمّ الطاء المهملة، وتخفيف الفاء- البصريّ، ثقةٌ [6].

رَوَى عن محمد بن سيرين، والحسن، ومجاهد.

وروى عنه الحمادان، وعبد العزيز بن المختار، وهمام بن يحيى، وإسماعيل ابن علية، وغيرهم.

قال أحمد، وابن معين، وأبو حاتم، ومحمد بن سعد، والنسائيّ: ثقةٌ، وقال عثمان الدارميّ: قلت لابن معين: يحيى بن عتيق أحبّ إليك في محمد بن سيرين، أو هشام بن حسان؟ فقال: ثقة، وثقة، قال عثمان: يحيى خَيَّر، وقال حماد بن زيد، عن أيوب: لقد هَدَّني موت يحيى بن عتيق، وقال أيضًا: كان أصغر من أيوب بثمان سنين، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: كان ورِعًا، متقنًا، مات قبل أيوب، وقال البخاريّ في "التاريخ الصغير": لم يُدرك أنس بن سيرين، وحديثه عن حفصة بنت سيرين خطأٌ، وقال ابن سعد: كان ثقةً، وله أحاديث.

ص: 394

أخرج له البخاريّ في التعاليق، والمصنّف، وأبو داود، والنسائيّ، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.

5 -

(مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ) الأنصاريّ، تقدّم قريبًا.

و"أبو هريرة رضي الله عنه" ذُكر قبل حديثين.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله في أول أحاديث الباب، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال: [5789] (

) - (حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ حَسَّانٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا عَدْوَى، وَلَا هَامَةَ، وَلَا طِيَرَةَ، وَأُحِبُّ الْفَأْلَ الصَّالِحَ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) أبو خيثمة، تقدّم قريبًا.

2 -

(يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ) الواسطيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

3 -

(هِشَامُ بْنُ حَسَّانٍ) القردوسيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

والباقيان ذُكرا قبله.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد تقدّم شرحه، وبيان مسائله قريبًا، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال: [5790](2225) - (وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ بْنِ قَعْنَبٍ، حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ (ح) وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ حَمْزَةَ، وَسَالِمٍ ابْنَيْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "الشُّؤْمُ في الدَّارِ، وَالْمَرْأَةِ، وَالْفَرَسِ").

رجال هذين الإسنادين: سبعة:

1 -

(حَمْزَةُ) بن عبد الله بن عمر بن الخطّاب، المدنيّ، شقيق سالم، ثقةٌ [3](ع) تقدم في "الصلاة" 22/ 945.

2 -

(سَالِمُ) بن عبد الله بن عمر بن الخطاب القرشيّ العدويّ، أبو عمر،

ص: 395

أو أبو عبد الله المدنيّ الفقيه، ثقةٌ ثبتٌ فقيه فاضلٌ، كان يشبّه بأبيه في الهدي والسمت، من كبار [3](ت 106) على الصحيح (ع) تقدم في "الإيمان" 14/ 162.

3 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ) بن الخطاب رضي الله عنهما، تقدّم قريبًا.

والباقون ذُكروا في الباب، وقبل باب.

[تنبيه]: من لطائف هذين الإسنادين:

أنهما من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالمدنيين، وشيخه يحيى، وإن كان نيسابوريًّا إلا أنه دخل المدينة للأخذ عن مالك، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيين، عن أبيهما، وفيه سالم أحد الفقهاء السبعة على بعض الأقوال، وفيه ابن عمر رضي الله عنهما أحد العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة.

شرح الحديث:

(عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) محمد بن مسلم الزهريّ (عَنْ حَمْزَةَ، وَسَالِمٍ ابْنَيْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ) هكذا رواية مالك عن الزهريّ، عن حمزة، وسالم، وتابعه يونس، وابن عيينة، في رواية ابن أبي عمر عنه، وصالح بن كيسان، وخالفه ابن عيينة في رواية، وعُقيل بن خالد، وعبد الرحمن بن إسحاق، وشعيب بن أبي حمزة، كلهم عن الزهريّ، عن سالم فقط، وكلها عند مسلم.

وفي رواية البخاريّ من طريق شعيب بن أبي حمزة، عن الزهريّ، قال: أخبرني سالم بن عبد الله

إلخ، فقال في "الفتحِ": قوله: "أخبرني سالم" كذا صَرّح شعيب عن الزهريّ بإخبار سالم له، وشَذَّ ابن أبي ذئب، فأدخل بين الزهريّ وسالم: محمد بن زُبيد بن قنقذ، واقتصر شعيب على سالم، وتابعه ابن جريج، عن ابن شهاب، عند أبي عوانة، وكذا عثمان بن عمر، عن يونس، عن الزهريّ، عند البخاريّ في "الطبّ"، وكذا قال أكثر أصحاب سفيان عنه: عن الزهريّ، ونقل الترمذيّ عن ابن المدينيّ، والحميديّ أن سفيان كان يقول: لم يرو الزهريّ هذا الحديث إلا عن سالم. انتهى.

وكذا قال أحمد عن سفيان: إنما نحفظه عن سالم، قال الحافظ: لكن هذا الحصر مردود، فقد حَدَّث به مالك، عن الزهريّ، عن سالم، وحمزة ابني عبد الله بن عمر، عن أبيهما، ومالك من كبار الحفاظ، ولا سيما في حديث

ص: 396

الزهريّ، وكذا رواه ابن أبي عمر، عن سفيان نفسه، أخرجه مسلم، والترمذيّ عنه، وهو يقتضي رجوع سفيان عما سبق من الحصر.

وأما الترمذيّ فجعل رواية ابن أبي عمر هذه مرجوحةً، وقد تابع مالكًا أيضًا يونس، من رواية ابن وهب عنه، عند الشيخين، وصالح بن كيسان عند مسلم، وأبو أويس عند أحمد، ويحيى بن سعيد، وابن أبي عتيق، وموسى بن عقبة، ثلاثتهم عند النسائيّ، كلهم عن الزهريّ، عنهما.

ورواه إسحاق بن راشد، عن الزهريّ، فاقتصر على حمزة، أخرجه النسائيّ، وكذا أخرجه ابن خزيمة، وأبو عوانة، من طريق عُقيل، وأبو عوانة من طريق شبيب بن سعيد، كلاهما عن الزهريّ، ورواه القاسم بن مبرور، عن يونس، فاقتصر على حمزة، أخرجه النسائيّ أيضًا، وكذا أخرجه أحمد، من طريق رَبَاح بن زيد، عن معمر، مقتصرًا على حمزة، وأخرجه النسائيّ من طريق عبد الواحد، عن معمر، فاقتصر على سالم.

فالظاهر أن الزهري يجمعهما تارةً، ويُفرد أحدهما أخرى، وقد رواه إسحاق في "مسنده" عن عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهريّ فقال: عن سالم، أو حمزة، أو كلاهما، وله أصل عن حمزة من غير رواية الزهريّ، أخرجه مسلم من طريق عتبة بن مسلم، عنه، والله أعلم. انتهى

(1)

.

(عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ) رضي الله عنهما (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "الشُّؤْمُ) بضم الشين المعجمة، وسكون الهمزة، وقد تسهّل، فتصير واوًا؛ أي: التطيّر، وهو مبتدأ خبره قوله:(فِي الدَّارِ، وَالْمَرْأَةِ، وَالْفَرَسِ")، وفي الرواية التالية:"لا عدوى، ولا طِيَرةَ، وإنما الشؤم في ثلاثة: المرأةِ، والفرسِ، والدار".

قال الفيّومي رحمه الله: الشؤم: الشرّ، ورجلٌ مشؤومٌ: غير مبارك، وتشاءم القوم به مثلُ تطيّروا به. انتهى

(2)

.

وقال في "العمدة": "الشؤم": ضدّ الْيُمْن، يقال: تشاءمت بالشيء، وتيمّنت به، والواو في الشؤم همزة، ولكنها خُفِّفت، فصارت واوًا، وغلب

(1)

"الفتح" 7/ 129 - 130، كتاب، "الجهاد" رقم (2858).

(2)

"المصباح المنير" 1/ 328.

ص: 397

عليها التخفيف، حتى لم يُنْطَق بها مهموزةً، وقال الجوهريّ: يقال: رجل مشوم، ومشؤوم، ويقال: ما أشأم فلانًا؟، والعامّة تقول: ما أيشمه؟ وتقول أيضًا: ميشوم، وهو من تصحيفاتهم. انتهى

(1)

.

قال النوويّ رحمه الله: اختلف العلماء في هذا الحديث، فقال مالك، وطائفة: هو على ظاهره، وأن الدار قد يجعل الله تعالى سكناها سببًا للضرر، أو الهلاك، وكذا اتخاذ المرأة المعينة، أو الفرس، أو الخادم، قد يحصل الهلاك عنده بقضاء الله تعالى، ومعناه: قد يحصل الشؤم في هذه الثلاثة، كما صرَّح به في رواية:"إن يكن الشؤم في شيء"، وقال الخطابيّ، وكثيرون: هو في معنى الاستثناء من الطيرة؛ أي: الطيرة منهيّ عنها، إلا أن يكون له دار يَكره سكناها، أو امرأة يَكره صُحبتها، أو فرس، أو خادم، فليفارق الجميع بالبيع، ونحوه، وطلاق المرأة.

وقال آخرون: شؤم الدار ضِيقها، وسوء جيرانها، وأذاهم، وشؤم المرأة عدم ولادتها، وسلاطة لسانها، وتعرضها للرِّيَبِ، وشؤم الفرس أن لا يُغْزى عليها، وقيل: حِرَانها، وغَلاء ثمنها، وشؤم الخادم سوء خُلُقه، وقلة تعهّده لِمَا فُوِّض إليه، وقيل: المراد بالشؤم هنا: عدم الموافقة.

واعتَرَضَ بعض الملاحدة بحديث: "لا طِيَرَةَ" على هذا، فأجاب ابن قتيبة وغيره بأن هذا مخصوص من حديث:"لا طِيَرَة" إلا في هذه الثلاثة.

قال القاضي عياض: قال بعض العلماء: إن الجامع لهذه الفصول السابقة في الأحاديث ثلاثة أقسام: أحدها: ما لم يقع الضرر به، ولا اطّردت عادة خاصّة، ولا عامّة، فهذا لا يُلتفت إليه، وأنكر الشرع الالتفات إليه، وهو الطِّيَرة، والثاني: ما يقع عنده الضرر عمومًا لا يخصه، ونادرًا، لا متكررًا؛ كالوباء، فلا يَقْدَم عليه، ولا يخرج منه، والثالث: ما يخصّ، ولا يعمّ؛ كالدار، والفرس، والمرأة، فهذا يباح الفرار منه، والله أعلم. انتهى

(2)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: "الشؤم": نقيض اليُمْن، وهو من باب الطيرة، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم:"لا طيرة، إنما الشؤم في ثلاثة: المرأة، والفرس، والدار"،

(1)

"عمدة القاري" 14/ 149.

(2)

"إكمال المعلم" 7/ 148 - 149.

ص: 398

وقد تخيل بعض أهل العلم: أن التطيُّر بهذه الثلاثة مستثنى من قوله: "لا طيرة"، وأنه مخصوص بها، فكأنه قال: لا طيرة إلا في هذه الثلاثة؛ فمن تشاءم بشيء منها نزل به ما كَره من ذلك، وممن صار إلى هذا القول: ابن قتيبة، وعضد هذا بما يُرْوَى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أنه قال:"الطيرة على من تطيَّر".

وقال أبو عبد الله: إن مالكًا أخذ بحديث: "الشؤم في الدار، والمرأة، والفرس"، وحَمَله على ظاهره، ولم يتأوله، فذكر في "كتاب الجامع" من "العتبيّة" أنه قال: ربّ دار سكنها قومٌ، فهلكوا، وآخرون بعدهم، فهلكوا، وأشار إلى حَمْل الحديث على ظاهره، ويعضد هذا حديث يحيى بن سعيد، قال: جاءت امرأةٌ إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله، دار سكنّاها، والعدد كثير، والمال وافر، فذهب العدد، وقلّ المال، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"دَعُوها، ذَمِيمة"

(1)

.

قال القرطبيّ: ولا يُظنّ بمن قال هذا القول: أن الذي رُخّص فيه من الطيرة بهذه الأشياء الثلاثة هو على نحو ما كانت الجاهليّة تعتقد فيها، وتفعل عندها، فإنها كانت لا تُقدِم على ما تطيّرت به، ولا تفعله بوجهٍ، بناءً على أن الطيرة تضرّ قطعًا، فإن هذا ظنّ خطأ، وإنما يعني بذلك: أن هذه الأشياء أكثر ما يتشاءم الناس بها؛ لملازمتهم إياها، فمن وقع في نفسه شيء من ذلك، فقد أباح الشرع له أن يتركه، ويستبدل به غيره، مما تطيب به نفسه، ويسكن له خاطره، ولم يُلزمه الشرع أن يُقيم في موضع يكرهه، أو مع امرأة يكرهها، بل قد فَسَح له في تَرْك ذلك كلّه، لكن مع اعتقاد أن الله تعالى هو الفعّال لِمَا يُريد، وليس لشيء من هذه الأشياء أثرٌ في الوجود، وهذا على نحو ما ذكرناه في المجذوم.

[فإن قيل]: فهذا يجري في كلّ مُتطيَّر به، فما وجه خصوصيّة هذه الثلاثة بالذكر؟.

[فالجواب]: ما نبّهنا عليه من أن هذه ضروريّةٌ في الوجود، ولا بدّ

(1)

رواه البيهقيّ 8/ 140 وحسّنه الشيخ الألبانيّ رحمه الله بلفظ: "ذروها ذميمة".

ص: 399

للإنسان منها، ومن ملازمتها غالبًا، فأكثر ما يقع التشاؤم بها، فخصّها بالذكر لذلك.

[فإن قيل]: فما الفرق بين الدار، وبين موضع الوباء، فإن الدار إذا تُطُيِّر بها، فقد وُسِّعَ له في الارتحال عنها، وموضع الوباء قد مُنع من الخروج منه؟.

[فالجواب]: ما قاله بعض أهل العلم: إن الأمور بالنسبة إلى هذا المعنى ثلاثة أقسام:

[أحدها]: ما لم يقع التأذّي به، ولا اطّردت عادة به خاصّةٌ، ولا عامّةٌ، لا نادرة، ولا متكرّرةٌ، فهذا لا يُصغَى إليه، وقد أنكر الشرع الالتفات إليه؛ كلُقِيّ غراب في بعض الأسفار، أو صُراخ بُومة في دار، ففي مثل هذا قال صلى الله عليه وسلم:"لا طِيَرَة"، و"لا تطيَّرُوا"، وهذا القسم هو الذي كانت العرب تعتبره، وتعمل عليه، مع أنه ليس في لقاء الغراب، ولا دخول البومة دارًا ما يُشعر بأذًى، ولا مكروه، لا على جهة الندور، ولا التكرار.

[وثانيها]: ما يقع به الضرر، ولكنه يعمّ، ولا يخصّ، ويَنْدُر، ولا يتكرّر؛ كالوباء، فهذا لا يُقْدَمُ عليه؛ عملًا بالحزم والاحتياط، ولا يفرّ منه لإمكان أن يكون قد وصل الضرر إلى الفارّ، فيكون سفره سببًا في محنته، وتعجيلًا لِهَلَكته، كما قدّمناه.

[وثالثها]: سببٌ يخصّ، ولا يعمّ، ويلحق منه الضرر بطول الملازمة؛ كالدار، والفرس، والمرأة، فيباح له الاستبدال، والتوكّل على الله تعالى، والإعراض عما يقع في النفوس منها من أفضل الأعمال، وقد وضح الجواب.

قال: وقد سلك العلماء في تأويل ذلك الحديث أوجهًا أُخَر:

منها: أن بعضهم قال: إنما هذا منه جَمْع خَبَر عن غالب عادة ما يتشاءم به، لا أنه خَبَر عن الشرع، وهذا ليس بشيء؛ لأنَّه تعطيل لكلام الشارع عن الفوائد الشرعية التي لبيانها أرسله الله سبحانه وتعالى، ومنهم من تأوَّل الشؤم المذكور في هذه الثلاثة فقال: الشؤم في المسكن ضيقه، وسوء جيرانه، وفي المرأة سوء خُلُقِها، وأن لا تلد، وفي الفَرَس جماحه، وأن لا يُغزى عليه، وهذا المعنى لا يليق بالحديث، ونِسْبَته إلى أنه هو مراد الشارع من فاسد الحديث، وما ذكرناه أَولى، والله تعالى أعلم.

ص: 400

وقوله: "إن يكن من الشؤم شيء حقًّا ففي: الفرس، والمرأة، والدار"، وفي اللفظ الآخر:"إن كان في شيء ففي الرَّبع، والخادم، والفرس" مقتضى هذا المساق أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن محقّقًا لأمر الشؤم بهذه الثلاثة في الوقت الذي نطق بهذا، لكنه تحققه بعد ذلك، لمّا قال:"إنما الشؤم في ثلاثة"، وقد بيّنّا مراده بالشؤم فيما تقدَّم، والحمد لله.

والمراد بالربع: الدار، كما قال في الرواية الأخرى، وقد يصح حمله على أعم من ذلك، فيدخل فيه: الدكان، والفندق، وغيرهما مما يصلح الربعِ له، والمرأة تتناول الزوجة، والمملوكة، والخادم يتناول الذكر، والأنثى؛ لأنَّه اسم جنس. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي بيَّنه القرطبيّ رحمه الله، وفصّله بيان، وتفصيلٌ حسنُ جدًّا، يجمع بين أحاديث الباب المختلفة في الباب، والله تعالى أعلم.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.

[تنبيه]: من الغريب أن الشيخ الألباني ضعّف حديث ابن عمر رضي الله عنهما بهذا اللفظ: "الشؤم في ثلاثة"، ولفظ:"إنما الشؤم في ثلاثة"، وادّعى أنه شاذّ، وإنما المحفوظ لفظ: "إن كان الشؤم في شيء ففي

". انظر: كتابه "ضعيف سنن النسائي" ص 130، و"السلسلة الصحيحة" 2/ 724 - 728 رقم 993، واستدلّ على ذلك بإنكار عائشة رضي الله عنها الآتي، مع أنه لا يصحّ لانقطاعه، كما سيأتي بيانه.

وبالجملة فالحديث أخرجه الشيخان باللفظ المذكور، ولا سبيل إلى تضعيفه، وقد تقدّم تأويله بما لا يتعارض مع حديث:"لا عدوى"، فتبصّر بالإنصاف، ولا تكن أسير التقليد، والله الهادي إلى سواء السبيل.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

(1)

"المفهم" 5/ 629 - 631.

ص: 401

أخرجه (المصنّف) هنا [19/ 5790 و 5791 و 5792 و 5793 و 5794 و 5795](2225)، و (البخاريّ) في "الجهاد"(2958) و"النكاح"(5093 و 5094) و"الطبّ"(5753 و 5772) و"الأدب"(1/ 315)، و (أبو داود) في "الطبّ"(3922)، و (الترمذيّ) في "الأدب"(2824)، و (النسائيّ) في "الخيل"(6/ 220) و"الكبرى"(3/ 38 و 5/ 402 و 403 و 404)، و (ابن ماجه) في "النكاح"(1995)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 115 و 126 و 136)، و (مالك) في "الموطأ"(1817)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1/ 250)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(10/ 411)، و (الحميديّ) في "مسنده"(2/ 280)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(12/ 360)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(4/ 314)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(1/ 198)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(8/ 140)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): إثبات الشؤم في هذه الأشياء الثلاثة، وتقدّم تفسير ذلك، وسيجيء تمام البحث فيه في المسألة التالية -إن شاء الله تعالى-.

2 -

(ومنها): عناية الشارع بقطع عروق الشرك التي تسبِّب بإفساد عقيدة المؤمن، فلا يجوز له أن ينسب النفع والضرّ إلى غير الله سبحانه وتعالى، على ما كان عليه الجاهليّة، من التشاؤم ببعض الأشياء، فينسبون الضرّ إليها، دون خالقها، وهو ظلم عظيم.

3 -

(ومنها): عنايته أيضًا بتخفيف ما عساه يأتي إلى نفس المؤمن أن هذا الشيء يأتيه منه الضرر، بناء على ما جَرَت به سُنَّة الله تعالى في خَلْقه، من التسبب بإيصال الضرّ إلى الناس بتقدير منه سبحانه وتعالى، فأباح له إذا اتفق له ذلك، كما في هذه الأشياء الثلاثة المذكورة في الحديث أن يبعد عنه، ويتركه؛ سدًّا للذريعة، وقطعًا لطمع الشيطان في إيصال الوسوسة بسببه إليه، فإذا اتفق للشخص ضِيْق من امرأة، أو فرس، أو دار، بسبب عدم الملايمة، فله أن يتخلّص منها بإبعادها عنه، وقطع الصلة بينها وبينه، حتى لا يقع في الحرج، لكن بشرط أن يعلم أن الضرّ والنفع من الله وحده لا شريك له، وإنما هذه الأشياء مما جرت به العادة في التسبب بحصول الضرر.

ص: 402

وهذا فضل من الله سبحانه وتعالى على عباده حيث ييسّر لهم التخلّص ممّا يتضايقون منه، وله الحمد في الأولى والآخرة. والله تعالى أعلم.

(المسألة الرابعة): في أقوال أهل العلم في معنى حديث: "إنما الشؤم في ثلاثة

" تكميلًا لِمَا سبق:

قال ابن العربيّ رحمه الله: الحصر فيها بالنسبة إلى العادة، لا بالنسبة إلى الخِلْقة. انتهى، وقال غيره: إنما خُصَّت بالذِّكر؛ لطول ملازمتها، وقد رواه مالك، وسفيان، وسائر الرواة بحذف "إنما"، لكن في رواية عثمان بن عمر:"لا عدوى، ولا طيرة، وإنما الشؤم في الثلاثة". قال مسلم: لم يذكر أحد في حديث ابن عمر: "لا عدوى"، إلا عثمان بن عمر، قال الحافظ: ومثله في حديث سعد بن أبي وقاص الذي أخرجه أبو داود، لكن قال فيه: "إن تكن الطيرة في شيء

" الحديث.

والطيرة والشؤم بمعنى واحد، وظاهر الحديث أن الشؤم والطيرة في هذه الثلاثة، قال ابن قتيبة: ووَجْهه أن أهل الجاهلية كانوا يتطيّرون، فنهاهم النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأعلمهم أن لا طيرة، فلما أَبَوْا أن ينتهوا، بقيت الطيرة في هذه الأشياء الثلاثة، قال الحافظ: فمشى ابن قتيبة على ظاهره، ويلزم على قوله أن من تشاءم بشيء منها نزل به ما يكره.

قال القرطبيّ: ولا يُظَنّ به أنه يحمله على ما كانت الجاهلية تعتقده؛ بناءً على أن ذلك يضر، وينفع بذاته، فإن ذلك خطأ، وإنما عَنَى أن هذه الأشياء هي أكثر ما يتطير به الناس، فمن وقع في نفسه شيء أبيح له أن يتركه، ويستبدل به غيره.

قال الحافظ: وقد وقع في رواية عمر العسقلانيّ، وهو ابن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر، عن أبيه، عن ابن عمر، بلفظ: "ذكروا الشؤم، فقال: إن كان في شيء ففي

"، ولمسلم: "إن يك من الشؤم شيء حقٌّ

"، وفي رواية عُتبة بن مسلم: "إن كان الشؤم في شيء

"، وكذا في حديث جابر عند مسلم، وهو موافق لحديث سهل بن سعد، عند الشيخين، وهو يقتضي عدم الجزم بذلك، بخلاف رواية الزهريّ.

ص: 403

قال ابن العربيّ: معناه: إن كان خلق الله الشؤم في شيء، مما جرى من بعض العادة، فإنما يخلقه في هذه الأشياء.

وقال المازريّ: مُجمل هذه الرواية: إن يكن الشؤم حقًّا فهذه الثلاث أحقّ به؛ بمعنى: أن النفوس يقع فيها التشاؤم بهذه أكثر مما يقع بغيرها.

وجاء عن عائشة رضي الله عنها أنها أنكرت هذا الحديث، فروى أبو داود الطيالسيّ في "مسنده" عن محمد بن راشد، عن مكحول، قال: قيل لعائشة: إن أبا هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الشؤم في ثلاثة"، فقالت: لم يحفظ، إنه دخل وهو يقول: قاتل الله اليهود، يقولون: الشؤم في ثلاثة، فسمع آخر الحديث، ولم يسمع أوله.

قال الحافظ: ومكحول لم يسمع من عائشة، فهو منقطع، لكن روى أحمد، وابن خزيمة، والحاكم من طريق قتادة، عن أبي حسان:"أن رجلين من بني عامر دخلا على عائشة رضي الله عنها، فقالا: إن أبا هريرة قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الطيرة في الفرس، والمرأة، والدار"، فغضبت غضبًا شديدًا، وقالت: ما قاله، وإنما قال: "إن أهل الجاهلية كانوا يتطيرون من ذلك". انتهى.

ولا معنى لإنكار ذلك على أبي هريرة، مع موافقة من ذكرنا من الصحابة له في ذلك، وقد تأوله غيرها على أن ذلك سيق لبيان اعتقاد الناس في ذلك، لا أنه إخبار من النبيّ صلى الله عليه وسلم بثبوت ذلك، وسياق الأحاديث الصحيحة المتقدم ذكرها يُبعد هذا التأويل.

قال ابن العربيّ: هذا جوابٌ ساقطٌ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يُبعث ليخبر الناس عن معتقداتهم الماضية، والحاصلة، وإنما بُعث ليعلمهم ما يلزمهم أن يعتقدوه. انتهى.

وأما ما أخرجه الترمذيّ من حديث حكيم بن معاوية، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا شؤم، وقد يكون اليُمن في المرأة، والدار، والفرس"، ففي إسناده ضعف، مع مخالفته للأحاديث الصحيحة.

وقال عبد الرزاق في "مصنّفه" عن معمر: سمعت من يفسر هذا الحديث يقول: شؤم المرأة إذا كانت غير ولود، وشؤم الفرس إذا لم يُغْزَ عليه، وشؤم الدار جار السوء.

ص: 404

وروى أبو داود في "الطبّ" عن ابن القاسم، عن مالك، أنه سئل عنه، فقال: كم من دار سكنها ناسٌ، فهلكوا، قال المازريّ: فيحمله مالك على ظاهره، والمعنى أن قَدَرَ الله ربما اتَّفَقَ ما يكره عند سكنى الدار، فتصير في ذلك كالسبب، فتَسامح في إضافة الشيء إليه، اتِّساعًا.

وقال ابن العربيّ: لم يُرِدْ مالك إضافة الشؤم إلى الدار، وإنما هو عبارة عن جَرْيِ العادة فيها، فأشار إلى أنه ينبغي للمرء الخروج عنها صيانة لاعتقاده عن التعلق بالباطل، وقيل: معنى الحديث أن هذه الأشياء يطول تعذيب القلب بها مع كراهة أمرها؛ لملازمتها بالسكنى، والصحبية، ولو لم يعتقد الإنسان الشؤم فيها، فأشار الحديث إلى الأمر بفراقها؛ ليزول التعذيب.

قال الحافظ: وما أشار إليه ابن العربيّ في تأويل كلام مالك أَولى، وهو نظير الأمر بالفرار من المجذوم، مع صحة نفي العدوى، والمراد بذلك حسم المادة، وسدّ الذريعة؛ لئلا يوافق شيء من ذلك القَدَر، فيعتقد من وقع له أن ذلك من العدوى، أو من الطيرة، فيقع في اعتقاد ما نُهي عن اعتقاده، فأشير إلى اجتناب مثل ذلك، والطريق فيمن وقع له ذلك في الدار مثلًا أن يبادر إلى التحول منها؛ لأنه متى استمرّ فيها ربما حمله ذلك على اعتقاد صحة الطيرة، والتشاؤم.

وأما ما رواه أبو داود، وصححه الحاكم، من طريق إسحاق بن طلحة، عن أنس:"قال رجل: يا رسول الله إنا كنا في دار كثيرٍ فيها عددنا، وأموالنا، فتحوّلنا إلى أخرى، فقَلّ فيها ذلك، فقال: ذروها، ذميمة".

وأخرج من حديث فَرْوة بن مُسَيك -بالمهملة، مصغرًا- ما يدلّ على أنه هو السائل، وله شاهد من حديث عبد الله بن شداد بن الهاد، أحد كبار التابعين، وله رؤية، بإسناد صحيح إليه، عند عبد الرزاق، قال ابن العربيّ: ورواه مالك عن يحيى بن سعيد منقطعًا، قال: والدار المذكورة في حديثه كانت دار مُكْمِل -بضم الميم، وسكون الكاف، وكسر الميم، بعدها لام- وهو ابن عوف، أخو عبد الرحمن بن عوف، قال: وإنما أمرهم بالخروج منها؛ لاعتقادهم أن ذلك منها، وليس كما ظنوا، لكن الخالق جلّ وعلا جعل ذلك وفقًا لظهور قضائه، وأمرهم بالخروج منها؛ لئلا يقع لهم بعد ذلك شيء،

ص: 405

فيستمرّ اعتقادهم، قال ابن العربيّ: وأفاد وصفها بكونها ذميمة جواز ذلك، وأن ذِكرها بقبيح ما وقع فيها سائغ، من غير أن يعتقد أن ذلك كان منها، ولا يمتنع ذمّ محل المكروه، وإن كان ليس منه شرعًا، كما يُذَمّ العاصي على معصيته، وإن كان ذلك بقضاء الله تعالى.

وقال الخطابيّ: هو استثناء من غير الجنس، ومعناه إبطال مذهب الجاهلية في التطير، فكأنه قال: إن كانت لأحدكم دار يكره سكناها، أو امرأة يكره صحبتها، أو فرس يكره سَيْره، فليفارقه، قال: وقيل: إن شؤم الدار ضِيْقها، وسوء جوارها، وشؤم المرأة أن لا تلد، وشؤم الفرس أن لا يُغْزَى عليه، وقيل: المعنى ما جاء بإسناد ضعيف، رواه الدمياطيّ في الخيل:"إذا كان الفرس ضروبًا، فهو مشؤوم، وإذا حَنَّت المرأة إلى بعلها الأول، فهي مشؤومة، وإذا كانت الدار بعيدة من المسجد، لا يُسمع منها الأذان، فهي مشؤومة".

وقيل: كان قوله ذلك في أول الأمر، ثم نُسخ ذلك بقوله تعالى:{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ} الآية [الحديد: 22]، حكاه ابن عبد البرّ، والنَّسخ لا يثبت بالاحتمال، لا سيما مع إمكان الجمع، ولا سيما وقد ورد في نفس هذا الخبر نفي التطير، ثم إثباته في الأشياء المذكورة.

وقيل: يُحْمَل الشؤم على قلة الموافقة، وسوء الطباع، وهو كحديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه رفعه:"من سعادة المرء المرأة الصالحة، والمسكن الصالح، والمركب الهنيء، ومن شقاوة المرء المرأة السوء، والمسكن السوء، والمركب السوء"، أخرجه أحمد، وهذا يختص ببعض أنواع الأجناس المذكورة، دون بعض، وبه صرح ابن عبد البرّ، فقال: يكون لقوم دون قوم، وذلك كله بقدر الله تعالى.

وقال المهلّب ما حاصله: إن المخاطب بقوله: "الشؤم في ثلاثة" من التزم التطير، ولم يستطع صرفه عن نفسه، فقال لهم: إنما يقع ذلك في هذه الأشياء التي تلازم في غالب الأحوال، فإذا كان كذلك، فاتركوها عنكم، ولا تعذبوا أنفسكم بها، ويدلّ على ذلك تصديره الحديث بنفي الطيرة، واستَدَلّ

ص: 406

لذلك بما أخرجه ابن حبان، عن أنس رضي الله عنه، رفعه: "لا طيرة، والطيرة على من تطيّر، وإن تكن في شيء، ففي المرأة

" الحديث، قال الحافظ: وفي صحته نظرٌ؛ لأنه من رواية عُتبة بن حميد، عن عبيد الله بن أبي بكر، عن أنس، وعتبة مختلف فيه.

[تكميل]: اتفقت الطرق كلها على الاقتصار على الثلاثة المذكورة، ووقع عند ابن إسحاق، في رواية عبد الرزاق المذكورة، قال معمر: قالت أم سلمة: "والسيف"، قال أبو عمر: رواه جُويرية عن مالك، عن الزهريّ، عن بعض أهل أم سلمة، عن أم سلمة.

قال الحافظ: أخرجه الدارقطنيّ في "غرائب مالك"، وإسناده صحيح إلى الزهريّ، ولم ينفرد به جويرية، بل تابعه سعيد بن داود، عن مالك، أخرجه الدارقطنيّ أيضًا، قال: والمبهم المذكور هو أبو عبيدة بن عبد الله بن زمعة، سمّاه عبد الرحمن بن إسحاق، عن الزهريّ في روايته، أخرجه ابن ماجه، من هذا الوجه موصولًا، فقال: عن الزهريّ، عن أبي عبيدة بن عبد الله بن زمعة، عن زينب بنت أم سلمة، عن أم سلمة، أنها حدثت بهذه الثلاثة، وزادت فيهنّ:"والسيف"، وأبو عبيدة المذكور هو ابن بنت أم سلمة، أمه زينب بنت أم سلمة، وقد روى النسائيّ حديث الباب، من طريق ابن أبي ذئب، عن الزهريّ، فأدرج فيه السيف، وخالف فيه في الإسناد أيضًا. انتهى ما في "الفتح"

(1)

، وهو بحث مفيدٌ جدًّا، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال: [5791] (

) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو الطَّاهِرِ، وَحَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، قَالَا: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ حَمْزَةَ، وَسَالِمٍ ابْنَيْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا عَدْوَى، وَلَا طِيَرَةَ، وَإِنَّمَا الشُّؤْمُ فِي ثَلَاَثَةٍ: الْمَرْأَةِ، وَالْفَرَسِ، وَالدَّارِ").

(1)

"الفتح" 7/ 130 - 133، كتاب "الجهاد" رقم (2858).

ص: 407

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

وكلّهم ذُكروا في الباب وقبله.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال: [5792] (

) - (وَحَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، وَحَمْزَةَ، ابْنَيْ عَبْدِ اللهِ، عَنْ أَبِيهِمَا، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (ح) وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَعَمْرٌو النَّاقِدُ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (ح) وَحَدَّثَنَا عَمْرٌو النَّاقِدُ، حَدَّثَنَا يَعْقُوب بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَالِمٍ، وَحَمْزَةَ، ابْنَيْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (ح) وَحَدَّثَّنِي عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ شُعَيْبِ بْنِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ جَدِّي، حَدَّثَنِي عُقَيْلُ بْنُ خَالِدٍ (ح) وَحَدَّثَنَاهُ يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ إِسْحَاقَ (ح) وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّارِمِيّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، كُلُّهُمْ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الشُّؤْمِ، بِمِثْلِ حَدِيثِ مَالِكٍ، لَا يَذْكُرُ أَحَدٌ مِنْهُمْ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ الْعَدْوَى، وَالْطِّيَرَةَ، غَيْرُ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ).

رجال هذه الأسانيد: واحد وعشرون:

1 -

(ابْنُ أَبِي عُمَرَ) هو: محمد بن يحيى بن أبي عمر العدنيّ، ثم المكيّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(عَمْرٌو النَّاقِدُ) هو: عمرو بن محمد بن بُكير البغداديّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

3 -

(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) تقدّم أيضًا قريبًا.

4 -

(بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ) بن لاحق الرقاشيّ، أبو إسماعيل البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ عابدٌ [8](ت 6 أو 187)(ع) تقدم في "الإيمان" 10/ 145.

ص: 408

5 -

(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إِسْحَاقَ) بن عبد الله بن الحارث بن كنانة العامريّ القرشيّ مولاهم، ويقال: الثقفي، المدنيّ، ويقال له: عَبّاد بن إسحاق، نزل البصرة، صدوقٌ رُمي بالقدر [6].

روى عن أبيه، وسعيد المقبريّ، وأبي الزناد، وعبد الله بن يزيد مولى المنبعث، وعبد الله بن دينار، وسهيل بن أبي صالح، وصالح بن كيسان، والزهريّ، وغيرهم.

وروى عنه يزيد بن زريع، وبشر بن المفضل، وحماد بن سلمة، وخالد الواسطيّ، وإبراهيم بن طهمان، وغيرهم.

قال القطان: سألت عنه بالمدينة، فلم أرهم يحمدونه، وكذا قال عليّ ابن المدينيّ، قال عليّ: وسمعت سفيان سئل عنه، فقال: كان قدريًّا، فنفاه أهل المدينة، وقال يزيد بن زريع: ما جاءنا أحفظ منه، وقال أبو بكر بن زنجويه: سمعت أحمد يقول: هو رجل صالح، أو مقبول، وقال عبد الله بن أحمد عن أبيه: صالح الحديث، وقال مرّةً: ليس به بأس، وقال أبو طالب عن أحمد: روى عن أبي الزناد أحاديث منكرة، وكان يحيى لا يعجبه، وهو صالح الحديث، وقال ابن أبي خيثمة عن ابن معين: كان إسماعيل يرضاه، وقال ابن الجنيد عن ابن معين: ثقةٌ، هو أحبّ إليّ من صالح بن أبي الأخضر، وقال عثمان الدارميّ عن ابن معين: صويلح، وقال مرةً: ثقةٌ، وكذا قال الدُّوريّ عنه، وقال مرةً: صالح الحديث، وقال ابن المدينيّ: كان يرى القدر، ولم يَحمل عنه أهل المدينة، وقال يعقوب بن شيبة: صالحٌ، وقال يعقوب بن سفيان: ليس به بأس، وقال العجليّ: يُكتب حديثه، وليس بالقويّ، وقال أبو حاتم: يُكتب حديثه، ولا يُحتجّ به، وهو قريب من ابن إسحاق، صاحب "المغازي"، وهو حسن الحديث، وليس بثبت، وهو أصلح من الواسطيّ، وقال البخاريّ: ليس ممن يُعتمد على حفظه إذا خالف من ليس بدونه، وإن كان ممن يُحتمل في بعضٍ، قال: وقال إسماعيل بن إبراهيم: سألت أهل المدينة عنه، فلم يحمدوه، مع أنه لا يُعرف له بالمدينة تلميذ إلا موسى الزمعيّ، رَوَى عنه أشياء فيها اضطراب، وقال الآجريّ عن أبي داود: قدريّ، إلا أنه ثقةٌ، قال: هَرَبَ إلى البصرة لمّا طُلِب القدريّة أيام مروان، وقال النسائيّ: ليس به بأس،

ص: 409

ولم يكن ليحيى القطان فيه رأي، وقال ابن خزيمة: ليس به بأس، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال ابن عديّ: في حديثه بعض ما ينكر، ولا يتابع عليه، والأكثر منه صحاح، وهو صالح الحديث، كما قال أحمد، وقال الدارقطنيّ: ضعيفٌ يُرْمَى بالقدر، وقال الساجيّ: صدوق يُرْمَى بالقدر، وقال ابن سعد: هو أثبت من الواسطيّ، وقال الحاكم: لا يحتجان به، ولا واحد منهما، وإنما أخرجا له في الشواهد، وقال المروزيّ عن أحمد: أما ما كتبنا من حديثه فصحيحٌ، وقال السعديّ: كان غير محمود في الحديث، وحَكَى الترمذيّ في "العلل" عن البخاري أنه وثقه.

أخرج له البخاريّ في التعاليق، وفي "الأدب المفرد"، والمصنّف، والأربعة، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.

والباقون كلّهم تقدّموا في البابين الماضيين.

وقوله: (كُلُّهُمْ عَنِ الزُّهْرِيِّ

إلخ)؛ يعني: أن الثلاثة، وهم: عُقيل بن خالد، وعبد الرحمن بن إسحاق، وشعيب بن أبي حمزة رووا هذا الحديث عن الزهريّ، عن سالم، عن أبي

إلخ.

[تنبيه]: رواية سفيان بن عيينة عن الزهريّ، عن سالم، وحمزة ابني عبد الله بن عمر، عن أبيهما ساقها الترمذيّ رحمه الله في "جامعه" بسند المصنّف، فقال:

(2824)

- حدّثنا ابن أبي عمر، حدّثنا سفيان، عن الزهريّ، عن سالم، وحمزة ابني عبد الله بن عمر، عن أبيهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"الشؤم في ثلاثة: في المرأة، والمسكن، والدابة".

قال أبو عيسى: هذا حديث صحيح، وبعض أصحاب الزهريّ لا يذكرون فيه عن حمزة، إنما يقولون: عن سالم، عن أبيه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وروى مالك بن أنس هذا الحديثُ عن الزهريّ، فقال: عن سالم، وحمزة ابني عبد الله بن عمر، عن أبيهما، وهكذا رَوَى لنا ابن أبي عمر هذا الحديث، عن سفيان بن عيينة، عن الزهريّ، عن سالم، وحمزة ابني عبد الله بن عمر، عن أبيهما، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم. انتهى

(1)

.

(1)

"جامع الترمذيّ" 5/ 126.

ص: 410

ورواية سفيان بن عيينة عن الزهريّ، عن سالم عن أبيه، ساقها النسائيّ رحمه الله في "الكبرى"، فقال:

(4409)

- أنبأ قتيبة بن سعيد، ومحمد بن منصور، واللفظ له، قال: حدّثنا سفيان، عن الزهريّ، عن سالم، عن أبيه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"الشؤم في ثلاث: المرأةِ، والفرسِ، والدارِ". انتهى

(1)

.

ورواية عبد الرحمن بن إسحاق، عن الزهريّ ساقها ابن ماجه رحمه الله في "سننه"، فقال:

(1995)

- حدّثنا يحيى بن خلف أبو سلمة، ثنا بشر بن المفضل، عن عبد الرحمن بن إسحاق، عن الزهريّ، عن سالم، عن أبيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الشؤم في ثلاث: في الفرس، والمرأة، والدار".

قال الزهريّ: فحدثني أبو عبيدة بن عبد الله بن زَمْعة، أن جدته زينب، حدثته عن أم سلمة، أنها كانت تَعُدّ هؤلاء الثلاثة، وتزيد معهنّ السيف. انتهى

(2)

.

ورواية شعيب بن أبي حمزة، عن الزهريّ ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه" بسند المصنّف، فقال:

(2703)

- حدّثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب، عن الزهريّ، قال: أخبرني سالم بن عبد الله، أن عبد الله بن عمر-رضي الله عنهما قال: سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: "إنما الشؤم في ثلاثة: في الفرس، والمرأة، والدارِ". انتهى

(3)

.

وأما روايتا صالح بن كيسان، وعُقيل بن خالد، عن الزهريّ فلم أجد من ساقهما، فليُنظر، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال: [5793] (

) - (وَحَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ الْحَكَمِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عُمَرَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدٍ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَاهُ، يُحَدِّثُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "إِنْ يَكُنْ

(4)

مِنَ الشُّؤْمِ شَيْءٌ حَقٌّ، فَفِي الْفَرَسِ، وَالْمَرْأَةِ، وَالدَّارِ").

(1)

"السُّنن الكبرى" للنسائيّ رحمه الله 3/ 38.

(2)

"سنن ابن ماجه" 1/ 642.

(3)

"صحيح البخاريّ" 3/ 1049.

(4)

وفي نسخة: "إن يك".

ص: 411

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ الْحَكَمِ) بن أبي فَرْوَة الهاشميّ المعروف بابن الكرديّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدِ) بن عبد الله بن عمر المدنيّ، نزيل عسقلان، تقدّم أيضًا قريبًا.

3 -

(أَبُوهُ) محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر بن الخطّاب المدنيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

والباقون ذُكروا في الباب.

وقوله: (إِنْ يَكُنْ) وفي نسخة: "إن يك" بحذف النون تخفيفًا، كما قال في "الخلاصة":

وَمِنْ مُضَارعٍ لِكَانَ مُنْجَزِمْ

تُحْذَفُ نُونٌ وَهْوَ حَذْفٌ مَا الْتُزِمْ

وقوله: (إِنْ يَكُنْ مِنَ الشُّؤْمِ شَيْءٌ حَقٌّ

إلخ) صفة لـ "شيء"، وهو اسم "يكن" مؤخّرًا، وخبرها الجارّ والمجرور قبله.

ومعنى الحديث: إن فُرِضَ وجود الشؤم يكون في هذه الثلاثة، والمقصود منه نفي صحة الشؤم، ووجوده على وجه المبالغة، فهو من قبيل قوله صلى الله عليه وسلم:"لو كان شيء سابقٌ القدرَ لسبقته العين"، فلا ينافيه حينئذ عموم نفي الطيرة في قوله صلى الله عليه وسلم:"لا عدوى، ولا طيرة".

[فإن قلت]: فما وجه التوفيق بين هذا وبين قوله صلى الله عليه وسلم: "الشؤم في ثلاثة

إلخ"؟.

[قلت]: قد جمعوا بينهما بوجوه: منها: أن قوله صلى الله عليه وسلم: "الشؤم في ثلاثة

إلخ" كان في أول الأمر، ثم نُسِخ ذلك بقوله تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ} الآية [الحديد: 22]، حكاه ابن عبد البرّ، والنسخ لا يثبت بالاحتمال، لا سيما مع إمكان الجمع، ولا سيما، وقد ورد في حديث ابن عمر عند البخاريّ نفي التطير، ثم إثباته في الأشياء الثلاثة، ولفظه: "لا عدوى، ولا طيرة، والشؤم في ثلاث: في المرأة، والدار، والدابة".

ومنها: ما قال الخطابيّ: هو استثناء من غير الجنس، معناه: إبطال

ص: 412

مذهب الجاهلية في التطير، فكأنه قال: إن كانت لأحدكم دار يَكره سكناها، أو امرأة يَكره صحبتها، أو فرس يكره سَيْره، فليفارقه.

ومنها: أنه ليس المراد بالشؤم في قوله: "الشؤم في ثلاثة" معناه الحقيقيّ، بل المراد من شؤم الدار ضِيْقها، وسوء جوارها، ومن شؤم المرأة أن لا تَلِدَ، وأن تَحْمِل لسانها عليك، ومن شؤم الفرس أن لا يُغْزَى عليها، وقيل: حِرَانها، وغَلاء ثمنها.

ويؤيد هذا الجمع ما أخرجه أحمد، وصححّه ابن حبّان، والحاكم، من حديث سعد رضي الله عنه مرفوعًا:"مِن سعادة ابن آدم ثلاثة: المرأة الصالحة، والمسكن الصالح، والمركب الصالح، ومن شقاوة ابن آدم ثلاثة: المرأة السوء، والمسكن السوء، والمركب السوء". وفي رواية ابن حبان: "المركب الهنيء، والمسكن الواسع". انتهى

(1)

.

وأخرج الحاكم: عن محمد بن سعد، عن أبيه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"ثلاث من السعادة، وثلاث من الشقاوة، فمن السعادة: المرأة تراها تُعجبك، وتَغِيب، فتأمنها على نفسها، ومالك، والدابة تكون وَطِية، فتُلحقك بأصحابك، والدار تكون واسعة، كثيرة المرافق، ومن الشقاوة: المرأة تراها فتسوءك، وتحمل لسانها عليك، وإن غِبت عنها، لم تأمنها على نفسها، ومالك، والدابة تكون قَطُوفًا، فإن ضربتها أتعبتك، وإن تركتها لم تُلحقك بأصحابك، والدار تكون ضيّقةً قليلةَ المرافق". انتهى

(2)

.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام البحث فيه، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال: [5794] (

) - (وَحَدَّثَنِي هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، حَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، بِهَذَا الإِسْنَادِ مِثْلَهُ، وَلَمْ يَقُلْ: "حَقٌّ").

(1)

"تحفة الأحوذيّ" 8/ 91 - 92.

(2)

"المستدرك على الصحيحين" 2/ 175، وهو حديث حسنٌ.

ص: 413

رجال هذا الإسناد: ثلاثةٌ:

1 -

(هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) الحمّال البغداديّ، تقدّم قريبًا.

والباقيان ذُكرا في الباب وقبله.

وقوله: (وَلَمْ يَقُلْ: "حقّ") فاعل "يقل" ضمير روح بن عبادة.

[تنبيه]: رواية روح بن عُبادة عن شعبة هذه لم أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال: [5795] (

) - (وَحَدَّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ، أَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ، حَدَّثَنِي عُتْبَةُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنْ كَانَ الشُّؤْمُ فِي شَيْءٍ فَفِي الْفَرَسِ، وَالْمَسْكَنِ، وَالْمَرْأَةِ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ إِسْحَاقَ) هو: محمد بن إسحاق بن جعفر الصاغانيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ ثبتٌ [11](ت 270)(م 4) تقدم في "الإيمان" 4/ 116.

2 -

(ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ) سعيد بن الحكم بن محمد بن سالم الْجُمَحيّ مولاهم، أبو محمد المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ، من كبار [10](ع)(224) وله (80) سنةً، تقدم في "الإيمان" 22/ 188.

3 -

(سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ) التيميّ مولاهم، أبو محمد، أو أيوب المدنيّ، ثقةٌ [8](ت 177)(ع) تقدم في "الإيمان" 14/ 160.

4 -

(عُتْبَةُ بْنُ مُسْلِمٍ) التيميّ مولاهم المدنيّ، ثقةٌ [6](خ م د س ق) تقدم في "الحج" 82/ 3317.

والباقيان ذُكرا في الباب.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله، ولله الحمد والمنّة.

ص: 414

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال: [5796](2226) - (وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ بْنِ قَعْنَبٍ، حَدَّثَنَا مَالِكٌ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنْ كَانَ فَفِي الْمَرْأَةِ، وَالْفَرَسِ، وَالْمَسْكَنِ"؛ يَعْنِي: الشُّؤْمَ).

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(أَبُو حَازِمٍ) سلمة بن دينار التمّار الأعرج المدنيّ القاصّ، ثقةٌ عابدٌ [5](ت 140) أو قبلها، أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 50/ 313.

2 -

(سَهْلُ بْنُ سَعْدِ) بن مالك بن خالد الأنصاريّ الْخَزْرجيّ الساعديّ، أبو العبّاس الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، مات سنة (88)، أو بعدها، وقد جاوز المائة (ع) تقدم في "الإيمان" 50/ 313.

والباقيان ذُكرا في الباب.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (447) من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو مسلسل بالمدنيين، وفيه سهل بن سعد، صحابيّ ابن صحابيّ رضي الله عنهما، وهو آخر من مات بالمدينة من الصحابة رضي الله عنهم على بعض الأقوال.

شرح الحديث:

(عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ) الساعديّ رضي الله عنهما، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنْ كَانَ) هكذا هو في جميع النُّسخ عند الشيخين، وكذا في "الموطأ"، واسم "كان" مقدرٌ، كما بيّنه في آخره بـ "يعني"، تقديره: إن كان الشؤم في شيء حاصلًا (فـ) يكون (فِي الْمَرْأَةِ، وَالْفَرَسِ، وَالْمَسْكَنِ")، وقوله:(يَعْنِي: الشُّؤْمَ) تفسير لاسم "كان" المقدّم، ولم يتبيّن المفسّر، فقوله:"إن كان ففي المرأة" إلى آخره إخبار أنه ليس فيهنّ، فإذا لم يكن في هذه الثلاثة، فلا يكون في شيء، والشؤم، والطيرة واحد، والطيرة شركٌ؛ لِمَا روى أبو داود من حديث زِرّ بن حُبيش، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"الطيرة شرك، الطيرة شركٌ ثلاثًا، وما منّا إلّا، ولكن الله يذهبه بالتوكل"، وأخرجه الترمذيّ،

ص: 415

وقال: حديث حسنٌ صحيحٌ

(1)

.

وقال في "الفتح": وقد جاء في بعض الأحاديث ما لعله يفسر ذلك -يعني: حديث: "إن كان الشؤم في شيء

إلخ"- وهو ما أخرجه أحمد، وصححه ابن حبان، والحاكم، من حديث سعد رضي الله عنه مرفوعًا: "من سعادة ابن آدم ثلاثة: المرأة الصالحة، والمسكن الصالح، والمركب الصالح، ومن شقاوة ابن آدم ثلاثة: المرأة السوء، والمسكن السوء، والمركب السوء"، وفي رواية لابن حبان: "المركب الهنيّ، والمسكن الواسع"، وفي رواية للحاكم: "وثلاثة من الشقاء: المرأة تراها، فتسوؤك، وتَحْمِل لسانها عليك، والدابة تكون قَطُوفًا، فإن ضربتها أتعبتك، وإن تركتها لم تلحق أصحابك، والدار تكون ضيّقة قليلة المرافق"، وللطبراني من حديث أسماء: "إن من شقاء المرء في الدنيا سوء الدار، والمرأة، والدابة" -وفيه-:"سوء الدار ضيق مساحتها، وخُبث جيرانها، وسوء الدابة مَنْعها ظهرها، وسوء طبعها، وسوء المرأة عُقْم رحمها، وسوء خُلُقها". انتهى

(2)

. والله تعالى أعلم.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث سهل بن سعد رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [19/ 5796 و 5797](2226)، و (البخاريّ) في "الجهاد والسير"(2859) و"النكاح"(5095) وفي "الأدب المفرد"(1/ 316)، و (ابن ماجه) في "النكاح"(3003)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 335)، و (الطبريّ) في "تهذيب الآثار"(3/ 25)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(6/ 122)، و (أبو نعيم) في "الحلية"(3/ 252)، والله تعالى أعلم.

(1)

"عمدة القاري" 14/ 151.

(2)

"الفتح" 11/ 369، كتاب "النكاح" رقم (5095).

ص: 416

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال: [5797] (

) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِهِ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ) بضمّ الدال لقبٌ، واسمه عمرو بن حمّاد بن زُهير التيميّ مولاهم الأحول، أبو نُعيم الْمُلائيّ الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ [9](ت 8 أو 219)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 91.

2 -

(هِشَامُ بْنُ سَعْدٍ) أبو عبّاد، أو أبو سعد المدنيّ، صدوقٌ له أوهام، ورُمي بالتشيّع، من كبار [7](ت 160) أو قبلها (خت م 4) تقدم في "الإيمان" 87/ 463.

والباقون ذُكروا في الباب، وقبل باب.

[تنبيه]: رواية هشام بن سعد عن أبي حازم هذه لم أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال: [5798](2227) - (وَحَدَّثَنَاهُ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللْهِ بْنُ الْحَارِثِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ، أنَّهُ سَمِعَ جَابِرًا، يُخْبِرُ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنْ كَانَ فِي شَيْءٍ، فَفِي الرَّبْعِ، وَالْخَادِمِ، وَالْفَرَسِ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ) تقدَّم قبل باب.

2 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ الحَارِثِ) بن عبد الملك المخزوميّ، أبو محمد المكيّ، ثقةٌ [8](م 4) تقدم في "الإيمان" 23/ 201.

والباقون تقدّموا في الباب الماضي.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وهو مسلسل بالتحديث، والإخبار، والسماع، إلا في موضع، وقد صرّح كلّ من ابن جريج، وأبي الزبير بالإخبار، فزالت تهمة التدليس عنهما، وفيه جابر-رضي الله عنه من المكثرين السبعة، روى (1540) حديثًا.

ص: 417

شرح الحديث:

(عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ) عبد الملك بن عبد العزيز بن جُريج الأمويّ مولاهم المكيّ، أنه قال:(أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ) محمد بن مسلم بن تَدْرُس المكيّ (أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرًا)؛ أي: ابن عبد الله رضي الله عنهما، (يُخْبِرُ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) أنه (قَالَ:"إِنْ كَانَ) تقدّم أن اسم كان محذوفٌ؛ أي: الشؤم، وقد جاء مصرّحًا به عند النسائيّ في "الكبرى"، ولفظه: "إن يكُ الشؤمُ في شيء". (فِي شَيْءٍ، فَفِي الرَّبْعِ) بفتح الراء، وسكون الموحّدة، قال المجد رحمه الله: الربع: الدار بعينها حيث كانت، جمعه رِباعٌ، ورُبوعٌ، وأربُعٌ، وأرباعٌ، والْمَحَلّة، والْمَنْزل. انتهى

(1)

.

وقال الفيّوميّ رحمه الله: الربع: مَحَلّةُ القوم، ومنزلهم، وقد أُطلق على القوم مجازًا، والجمع رِباع، مثلُ سهم وسِهام، وأَرباع، وأربُعٌ، ورُبوع، مثلُ فُلوس. انتهى

(2)

.

(وَالْخَادِمِ) يُطلق على الذكر والأنثى، يقال: خَدَمه يَخدُمُهُ، من بابي نصر، وضرب، خِدْمةً بكسر الخاء، وتُفتح، فهو خادمٌ، غُلامًا كان أو جاريةً، والخادمة بالهاء في المؤنّث قليل، والجمع خَدَمٌ، وخُدّامٌ، قاله الفيّوميّ

(3)

.

(وَالْفَرَسِ") قال الفيّوميّ رحمه الله: الفَرَسُ يقع على الذكر والأنثى، فيقال: هو الفَرَسُ، وهي الفَرَسُ، وتصغير الذكر فُرَيْسٌ، والأنثى فُرَيْسَةٌ، على القياس، وجُمِعت الفَرَسُ على غير لفظها، فقيل: خيلٌ، وعلى لفظها، فقيل: ثَلَاثَةُ أْفَراس، بالهاء للذكور، وثَلَاثُ أفْرَاسٍ بحذفها للإناث، ويقع على التُّرْكيّ، والعربيّ، قال ابن الأنباريّ: وربما بَنَوا الأنثى على الذكر، فقالوا فيها: فَرَسَةٌ، وحكاه يونس سماعًا عن العرب، والفَارِسُ: الراكب على الحافر، فرسًا كان، أو بغلًا، أو حمارًا، قاله ابن السِّكِّيت، يقال: مرّ بنا فَارِسٌ على بغل، وفَارِسٌ على حمار، وفي "التهذيب": فَارِسٌ على الدابة بَيِّنُ الفروسية، قال الشاعر [من الطويل]:

وإني امْرُؤٌ لِلْخَيْلِ عِنْدِي مَزِيَّةٌ

عَلىَ فَارِسِ البِرْذَوْنِ أَو فَارِس البَغْل

(1)

"القاموس المحيط" ص 485.

(2)

"المصباح المنير" 1/ 216.

(3)

"المصباح المنير" 1/ 165.

ص: 418

وقال أبو زيد: لا أقول لصاحب البغل، والحمار: فَارِسٌ، ولكن أقول: بغّال، وحمّار، وجَمْع الفَارِسِ فُرْسَانٌ، وفَوَارِسُ، وهو شاذّ؛ لأن فواعل إنما هو جمع فاعلة، مثل ضَارِبَةٍ وضَوَارِبَ، وصَاحِبَة وصَوَاحِبَ، أو جمع فاعل صفةً لمؤنث، مثل حائِض وحَوَائِضَ، أو كان جمع ما لا يعقل، نحو جَمَل بَازِلٍ وبَوَازِلَ، وحائط وحَوَائِطَ، وأما مذكَّر من يعقل، فقالوا: لم يأتِ فيه فَوَاِعلُ، إلّا فَوَارِسُ، وَنَواكِسُ جمع ناكس الرأس، وهوالك، ونواكص، وسوابق، وخوالف، جمع خالف، وخالفة، وهو القاعد المتخلف، وقومٌ ناجعةٌ، ونواجع، وعن ابن القطان: ويُجمع الصاحب على صواحب. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث جابر-رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [19/ 5798](2227)، و (النسائيّ) في "المجتبى"(3597) و"الكبرى"(4412)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 333)، و (ابن حبّان) في"صحيحه"(9/ 341)، و (ابن جرير) في "تهذيب الآثار"(3/ 24)، والله تعالى أعلم.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(20) - (بَابُ تَحْرِيمِ الْكِهَانَةِ، وَإِتْيَانِ الْكُهَّانِ)

مسألتان تتعلّقان بهذه الترجمة:

(المسألة الأولى): قال في "الفتح": إيراد "باب الكهانة" في "كتاب الطب"؛ لمناسبته لباب السحر؛ لِمَا يجمع بينهما من رجوع كل منهما للشياطين، وإيراد "باب السحر" في "كتاب الطب"؛ لمناسبته ذكر الرُّقَى وغيرها من الأدوية المعنوية، فناسب ذِكر الأدواء التي تحتاج إلى ذلك، واشتمل كتاب

(1)

"المصباح المنير" 2/ 467.

ص: 419

الطبّ على الإشارة للأدوية الحسيّة؛ كالحبة السوداء، والعسل، ثم على الأدوية المعنوية؛ كالرُّقَى بالدعاء، والقرآن، ثم ذُكِرت الأدواء التي تنفع الأدوية المعنوية في دفعها؛ كالسحر، كما ذُكرت الأدواء التي تنفع الأدوية الحسية في دفعها؛ كالجذام، والله أعلم. انتهى

(1)

.

(المسألة الثانية): "الكِهانة" -بفتح الكاف، ويجوز كسرها-: ادِّعاءُ علم الغيب، كالإخبار بما سيقع في الأرض، مع الاستناد إلى سبب، والأصل فيه استراق الجنيّ السمع من كلام الملائكة، فيلقيه في أذن الكاهن.

والكاهن: لفظ يُطلق على العرّاف، والذي يضرب بالحصى، والمنجِّم، ويطلق على من يقوم بأمر بآخر، ويسعى في قضاء حوائجه، وقال في "المحكم": الكاهن القاضي بالغيب، وقال في "الجامع": العرب تسمي كل من آذن بشيء قبل وقوعه كاهنًا.

وقال الخطابيّ: الكَهَنة قوم لهم أذهان حادّة، ونفوس شِرِّيرة، وطباع ناريّة، فأَلِفتهم الشياطين لِمَا بينهم من التناسب في هذه الأمور، وساعدتهم بكل ما تَصِل قدرتهم إليه، وكانت الكهانة في الجاهلية فاشيةً خصوصًا في العرب؛ لانقطاع النبوة فيهم، وهي على أصناف:

منها: ما يتلقونه من الجنّ، فإن الجنّ كانوا يصعدون إلى جهة السماء، فيركب بعضهم بعضًا إلى أن يدنو الأعلى بحيث يسمع الكلام، فيلقيه إلى الذي يليه، إلى أن يتلقاه من يلقيه في أذن الكاهن، فيزيد فيه، فلما جاء الإسلام، ونزل القرآن، حُرِست السماء من الشياطين، وأُرسلت عليهم الشهب، فبقي من استراقهم ما يتخطفه الأعلى، فيلقيه إلى الأسفل قبل أن يصيبه الشهاب، وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى:{إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ (10)} [الصافات: 10]، وكانت إصابة الكهان قبل الإسلام كثيرةً جدًّا، كما جاء في أخبار شِقٍّ، وسَطِيح، ونحوهما، وأما في الإسلام فقد ندر ذلك جدًّا، حتى كاد يضمحلّ، ولله الحمد.

(1)

"الفتح" 13/ 197، كتاب "الطبّ" رقم (5762).

ص: 420

ثانيها: ما يُخبر الجنيّ به من يواليه بما غاب عن غيره، مما لا يَطّلع عليه الإنسان غالبًا، أو يَطَّلع عليه مَن قَرُب منه، لا مَن بَعُد.

ثالثها: ما يستند إلى ظنّ، وتخمين، وحَدْس، وهذا قد يجعل الله فيه لبعض الناس قُوَّةً، مع كثرة الكذب فيه.

رابعها: ما يستند إلى التجربة، والعادة، فيستدلّ على الحادث بما وقع قبل ذلك، ومن هذا القسم الأخير ما يضاهي السحر، وقد يعتضد بعضهم في ذلك بالزجر، والطَّرْق، والنجوم، وكل ذلك مذموم شرعًا، وورد في ذمّ الكهانة ما أخرجه أصحاب "السنن"، وصححه الحاكم، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، رفعه:"من أتى كاهنًا، أو عَرّافًا، فصَدَّقه بما يقول، فقد كفر بما أُنزل على محمد"، وله شاهد من حديث جابر، وعمران بن حصين رضي الله عنهم، أخرجهما البزار بسندين جيِّدين، ولفظهما: "من أتى كاهنًا

"، وأخرجه مسلم من حديث امرأة من أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم، ومن الرواة من سمّاها حفصة، بلفظ: "من أتى عَرّافًا

"، وأخرجه أبو يعلى من حديث ابن مسعود، بسند جيِّد، لكن لم يصرح برفعه، ومثله لا يقال بالرأي، ولفظه: "من أتى عرّافًا، أو ساحرًا، أو كاهنًا

"، واتفقت ألفاظهم على الوعيد بلفظ حديث أبي هريرة، إلا حديث مسلم، فقال فيه: "لم يُقبل لهما صلاة أربعين يومًا"، ووقع عند الطبرانيّ من حديث أنس، بسند لَيِّن، مرفوعًا، بلفظ: "من أتى كاهنًا، فصدّقه بما يقول، فقد برئ مما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، ومن أتاه غير مصدِّق له، لم تُقبل صلاته أربعين يومًا".

والأحاديث الأُوَل مع صحتها وكثرتها أَولى من هذا، والوعيد جاء تارةً بعدم قبول الصلاة، وتارة بالتكفير، فَيُحْمَل على حالين من الآتي، أشار إلى ذلك القرطبيّ.

و"العَرّاف" -بفتح العين المهملة، وتشديد الراء-: من يستخرج الوقوف على المغيَّبات، بضرب من فعل، أو قول، ذَكَر هذا كلّه في "الفتح"

(1)

.

(1)

"الفتح" 13/ 190 - 191، كتاب "الطبّ" رقم (5762).

ص: 421

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال: [5799](537)

(1)

- (حَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ، وَحَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، قَالَا: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْن الْحَكَمِ السُّلَمِيِّ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ أُمُورًا كُنَّا نَصْنَعُهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، كُنَّا نَأْتِي الْكُهَّانَ، قَالَ: "فَلَا تَأَتُوا الْكُهَّانَ"، قَالَ: قُلْتُ: كُنَّا نَتَطَيَّرُ، قَالَ: "ذَاكَ شَيْءٌ يَجِدُهُ أَحَدُكُمْ فِي نَفْسِهِ، فَلَا يَصُدَّنَّكُمْ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(مُعَاوِيَةُ بْنُ الْحَكَم السُّلَمِيُّ) الصحابيّ المدنيّ (ز م د س) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 7/ 1204.

والباقون تقدّموا في البابين الماضيين.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وأن نصفه الأول مسلسلٌ بالمصريين، والثاني بالمدنيين، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه أبو سلمة أحد الفقهاء السبعة على بعض الأقوال، وأن صحابيّه من المقلّين من الرواية، فليس له في الكتب الستّة إلا هذا الحديث عند المصنّف، وأبي داود، والنسائيّ، وحديث آخر في العُطاس في الصلاة عند أبي داود، راجع "تحفة الأشراف"

(2)

.

شرح الحديث:

(عَنْ مُعَاوِيةَ بْنِ الْحَكَمِ) بفتحتين، (السُّلَمِيِّ) بضمّ السين المهملة، وفتح اللامِ: نسبة إلى سُليم بن منصور أحد أجداده، (قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ أُمُورًا) بالنصب على الاشتغال؛ أي: نصنع أمورًا، (كُنَّا نَصْنَعُهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ) هي ما قبل ورود الشرع، سُمُّوا جاهليّةً؛ لكثرة جهالاتهم، وفُحشهم

(3)

، وقوله:(كُنَّا نَأْتِي الْكُهَّانَ) بيان لِمَا كانوا يصنعونه في الجاهليّة.

و"الْكُهّان": بضم الكاف، وتشديد الهاء: جمع كاهن، يقال: كَهَنَ له، كمنع، ونصر، وكَرُم كَهَانةً بالفتح، وتكهّن تكهّنًا: قَضَى له بالغيب، فهو كاهن،

(1)

هذا مضى، وهو مكرّر.

(2)

"تحفة الأشراف" 8/ 426 - 427.

(3)

"شرح النوويّ" 5/ 22.

ص: 422

وجَمْعه كَهَنَةٌ، وكُهّانٌ، ككافر وكَفَرَة، وكُفّار، وحِرْفته الكِهانة بالكسر، أفاده في "القاموس"

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: الكهان: جمع كاهن، ككُتّاب: جمع كاتب، والكِهانة: ادِّعاء علم الغيب، وقد تكلَّمنا على حديث معاوية بن الحكم في باب:"نسخ الكلام في الصلاة".

قال القاضي أبو الفضل: الكهانة كانت في العرب على أربعة أضرب:

أحدهما: أن يكون للإنسان رَئِيٌّ من الجن يخبره بما يسترق من السمع، وهذا القسم قد بَطَل منذ بعث الله محمدًا صلى الله عليه وسلم كما نصَّ الله تعالى عليه في الكتاب.

والثاني: أن يخبره بما يطرأ، ويكون في أقطار الأرض، وما يخفى مما قرب، أو بعد، وهذا لا يَبْعُد وجوده، ونفت هذا كله المعتزلة، وبعض المتكلمين، وأحالوه، ولا استحالة، ولا بُعد في وجود مثله، لكنهم بعدُ يكذبون، والنهي عامّ في تصديقهم، والسماع منهم.

الثالث: التخمين والحزر، وهذا يخلق الله فيه لبعض الناس شدّة قوّة، لكن الكذب في هذا الباب أغلب، قال: ومن هذا الباب: العِرَافة، وصاحبها عَرَّاف، وهو الذي يستدلُّ على الأمور بأسباب، ومقدمات يدِّعي معرفتها، وقد يعتضد بعض أهل هذا الفنّ في ذلك بالزَّجْر، والطَّرْق، والنجوم، وأسباب معتادة في ذلك، وهذا الفن من العيافة -بالياء- وكلها ينطلق عليها اسم: الكهانة.

قال القرطبيّ: وإذا كان كذلك فسؤالهم عن غيب لِيُخبروا عنه حرام، وما يأخذون على ذلك حرام، ولا خلاف فيه؛ لأنَّه حُلوان الكاهن المنهيّ عنه.

قال أبو عمر: ويجب على من وَليَ الحسبة أن يقيمهم من الأسواق، وينكر عليهم أشدَّ النكير، ولا يَدَعُ أحدًا يأتيهم لذلك، وإن ظهر صدق بعضهم في بعض الأمور، فليس ذلك بالذي يخرجهم عن الكهانة، فإنَّ تلك الكلمة إما خَطْفة جني، أو موافقة قَدَر؛ ليغترَّ به بعض الجهال، ولقد انخدع كثير من

(1)

"القاموس المحيط" 4/ 264.

ص: 423

المنتسبين للفقه والدِّين، فجاؤوا إلى هؤلاء الكهنة والعرافين، فبهرجوا عليهم بالمحال، واستخرجوا منهم الأموال، فحصلوا من أقوالهم على السَّراب، والآل

(1)

، ومن أديانهم على الفساد، والضلال. انتهى

(2)

.

(قَالَ) صلى الله عليه وسلم مجيبًا عن سؤاله ("فَلَا تَأْتُوا الْكُهَّانَ") هذا النهي للتحريم، قال النوويّ رحمه الله: قال العلماء: إنما نُهِيَ عن إتيان الكُهّان لأنهم قد يتكلمون في مُغَيَّبات قد يُصادف بعضها الإصابة، فيُخاف الفتنة على الإنسان بسبب ذلك، ولأنهم يُلَبِّسُون على الناس كثيرًا من أمر الشرائع.

وقد تظاهرت الأحاديث الصحيحة بالنهي عن إتيان الكُهّان، وتصديقهم فيما يقولون، وتحريم ما يُعْطَون من الْحُلْوان، وهو حرام بإجماع المسلمين، وقد نقل الإجماع في تحريمه جماعة، منهم أبو محمد البغويّ -رحمهم الله تعالى-.

قال البغويّ: اتَّفَقَ أهل العلم على تحريم حُلْوان الكاهن، وهو ما أَخذه المتكهِّن على كِهانته؛ لأن فعل الكِهانة باطل، لا يجوز أخذ الأجرة عليه، وقد تقدّم تمام البحث في هذا في "كتاب الصلاة".

(قَالَ) معاوية بن الحكم رضي الله عنه (قُلْتُ: كُنَّا نَتَطَيَّرُ)؛ أي: نتشاءم بالطيور، يقال: تطيّر من المشيء، واطّيّر منه، والاسم: الطِّيَرة، وزانُ عِنَبَة، وهي التشاؤم، وتقدّم البحث في هذا قريبًا. (قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("ذَاكَ) إشارة إلى التطيّر المفهوم من "نتطيّر"، (شَيْءٌ يَجِدُهُ أَحَدُكُمْ فِي نَفْسِهِ)؛ أي: ليس له أصلٌ يُستنَد إليه، ولا له بُرهان يُعتمَد عليه، ولا هو في كتاب منزل من عند الله تعالى، وقيل: معناه: أنه معفُوّ عنه؛ لأنه يوجد في النفس بلا اختيار، نَعَم المشي على وفقه منهيّ عنه، فلذا قال:(فَلَا يَصُدَّنَّكُمْ")؛ أي: لا يمنعنّكم عما أنتم فيه.

وقال النوويّ رحمه الله: معناه: أن كراهة ذلك تقع في نفوسكم في العادة، ولكن لا تلتفتوا إليه، ولا ترجعوا عما كنتم عزمتم عليه قبل هذا، وقد صحّ عن عروة بن عامر الصحابيّ رضي الله عنه قال: ذُكِرت الطِّيَرَة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "أحْسَنُها الفأل، ولا تَرُدُّ مسلمًا، فإذا رأى أحدكم ما يَكره، فليقل: اللهم لا

(1)

الآل: السّرَابُ.

(2)

"المفهم" 5/ 632 - 633.

ص: 424

يأتي بالحسنات إلا أنت، ولا يدفع السيئات إلا أنت، ولا حول، ولا قوة إلا بك"، رواه أبو داود بإسناد صحيح. انتهى

(1)

.

والحديث من أفراد المصنّف رحمه الله، وقد تقدّم تمام شرحه، وبيان مسائله في "كتاب المساجد ومواضع الصلاة"[7/ 1204](537) فراجعه تستفد علمًا جمّا، وبالله تعالى التوفيق.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال: [5800] (

) - (وَحَدَّثَنِي مُحَمَدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنِي حُجَيْنٌ -يَعْنِي: ابْنَ الْمُثَنَّى- حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ (ح) وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالَا: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ (ح) وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا شَبَابَةُ بْنُ سَوَّارٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ (ح) وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ عِيسَى، أًخْبَرَنَا مَالِكٌ، كُلُّهُمْ عَنِ الزُّهْرِيِّ، بِهَذَا الإِسْنَادِ، مِثْلَ مَعْنَى حَدِيثِ يُونُسَ، غَيْرَ أَنَّ مَالِكًا فِي حَدِيثِهِ ذَكَرَ الطِّيَرَةَ، وَلَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ الْكُهَّانِ).

رجال هذه الأسانيد: أربعة عشر:

1 -

(حُجَيْنُ بْنُ الْمُثَنَّى) اليماميّ، أبو عُمير، سكن بغداد، وولي قضاء خراسان، ثقةٌ [9](ت 205)(خ م د ت س) تقدم في "الإيمان" 81/ 437.

2 -

(شَبَابَةُ بْنُ سَوَّارٍ) الفزاريّ مولاهم، المدائنيّ، خراسانيّ الأصل، يقال: اسمه مروان، ثقةٌ حافظٌ، رُمي بالإرجاء [9](ت 4 أو 5 أو 206)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 40.

3 -

(ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ) هو: محمد بن عبد الرحمن بن المغيرة بن الحارث بن أبي ذئب القرشيّ العامريّ، أبو الحارث المدنيّ، ثقةٌ فقيهٌ فاضلٌ [7](ت 8 أو 159)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 93.

4 -

(إسْحَاقُ بْنُ عِيسَى) بن نَجِيح، أبو يعقوب ابن الطبّاع البغداديّ، سكن أَذَنة، صدوق [9](ت 214) أو بعدها بسنة (م ت س ق) تقدم في "الكسوف" 3/ 2110.

والباقون تقدّموا في الأبواب الثلاثة الماضية.

(1)

"شرح النوويّ" 14/ 223.

ص: 425

وقوله: (كُلُّهُمْ عَنِ الزُّهْرِيِّ

إلخ)؛ يعني: أن هؤلاء الأربعة: عقيلٌ، ومعمر، وابن أبي ذئب، ومالك رووا هذا الحديث عن الزهريّ بسنده السابق؛ أي: عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن معاوية بن الحكَم السُّلميّ رحمه الله.

[تنبيه]: رواية عُقيل عن الزهريّ هذه ساقها أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(15701)

- حدّثنا حجّاج، ثنا ليثٌ، عن عُقيل، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، عن معاوية بن الحكَم السُّلَميّ، أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أرأيت أشياء كنا نفعلها في الجاهلية؟، كنا نتطير، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ذلك شيء تجده في نفسك، فلا يصدنك"، قال: يا رسول الله كنا نأتي الكهان، قال:"فلا تأت الكهان". انتهى

(1)

.

ورواية معمر، عن الزهريّ ساقها عبد الرزّاق في "مصنّفه"، فقال:

(19500)

- أخبرنا عبد الرزاق

(2)

، عن معمر، عن الزهريّ، عن أبي سلمة، عن معاوية بن الحكم، أن أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم قالوا: يا رسول الله منّا رجال يتطيرون، قال:"ذاك شيء تجدونه في أنفسكم، فلا يصدنكم"، قال: ومنا رجال يأتون الكهان، قال:"فلا تأتوا كاهنًا". انتهى

(3)

.

ورواية ابن أبي ذئب عن الزهريّ، ساقها أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(23814)

- حدّثنا هاشم، عن ابن أبي ذئب، عن الزهريّ، عن أبي سلمة، عن معاوية بن الْحَكَم السُّلَميّ، قال: قلت: يا رسول الله أشياءُ كنا نصنعها في الجاهلية، كنا نأتي الكهان، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"لا تأتوا الكهان"، قال: وكنا نتطيّر، قال:"ذاك شيء يجده أحدكم في نفسه، فلا يصدنّكم". انتهى

(4)

.

ورواية مالك عن الزهريّ ساقها أبو بكر الإسماعيليّ رحمه الله في "معجم شيوخه"، فقال:

(1)

"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 3/ 443.

(2)

قائل أخبرنا: تلميذ عبد الرزّاق، فتنبّه.

(3)

"مصنف عبد الرزاق" 10/ 402.

(4)

"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 5/ 447.

ص: 426

(84)

- أبو عبد الله

(1)

محمد بن الحسن بن محمد بن الحارث الأنباريّ بها يُعرف بالقرنجليّ، حدّثنا محمد بن الحسن الأنباريّ، حدّثنا إسحاق بن بهلول، حدّثنا إسحاق بن الطبّاع، عن مالك بن أنس، عن الزهريّ، عن أبي سلمة، عن معاوية بن الْحَكَم، أنه سأل النبيّ صلى الله عليه وسلم عن الطيرة، قال:"ذلك شيء يجده أحدكم في نفسه، فلا يصدنكم". انتهى

(2)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال: [5801] (

) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الصَّبَّاحِ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، قَالَا: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ -وَهُوَ ابْنُ عُلَيَّةَ- عَنْ حَجَّاجٍ

(3)

الصَّوَّافِ (ح) وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا الأَوْزَاعِيُّ، كِلَاهُمَا عَنْ يَحْيَىَ بْنِ أَبِيِ كَثِيرٍ، عَنْ هِلَالِ بْنِ أَبِي مَيْمُونَةَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ مُعَاوَيَةَ بْنِ الْحَكَمِ السُّلَمِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمَعْنَى حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ مُعَاوَيةَ، وَزَادَ فِي حَدِيثِ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، قَالَ: قُلْتُ: وَمِنَّا رِجَالٌ يَخُطُّونَ، قَالَ:"كَانَ نَبِيٌّ مِنَ الأنْبِيَاءِ يَخُطُّ، فَمَنْ وَافَقَ خَطُّهُ فَذَاكَ").

قال الجامع عفا الله عنه: قد تقدّم هذان الإسنادان في "كتاب المساجد ومواضح الصلاة" برقم [7/ 1204](537) وأورد الحديث هناك مطوّلًا، وقد استوفيت شرحه، ومسائله هناك، ولله الحمد والمنّة.

وقوله: (كِلَاهُمَا عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ) الضمير يرجع إلى حجّاج الصوّاف، والأوزاعيّ؛ يعني: أنهما رويا هذا الحديث عن يحيى بن أبي كثير، عَنْ هِلَالِ بْنِ أَبِي مَيْمُونَةَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ السُّلَمِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمَعْنَى حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ مُعَاوِيةَ، المذكور قبله.

وقوله: (وَزَادَ فِي حَدِيثِ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ) فاعل "زاد" ضمير يعود إلى الراوي المفهوم من المقام، وهو حجّاج، والأوزاعيّ، فتنبّه.

(1)

هكذا نُسخة الكتاب، ويقدّر قبله لفظ: حدّثنا، فتنبّه.

(2)

"معجم شيوخ أبي بكر الإسماعيليّ" 1/ 423.

(3)

وفي نسخة: "عن الحجّاج".

ص: 427

وقوله: (وَمِنَّا رِجَالٌ يَخُطُّونَ)؛ أي: يستعملون خطًّا معروفًا عندهم يدّعون به التوصّل إلى معرفة النجاح والخيبة في قضاء الحاجة.

وقال في "النهاية": قال ابن عباس رضي الله عنهما: "الخط": هو الذي يَخُطُّه الحازي، وهو عِلْم قد تركه الناس، يأتي صاحب الحاجة إلى الحازي، فيُعطيه حُلْوانًا، فيقول له: اقعُد حتى أَخُطّ لك، وبين يدي الحازي غلام له، معه مِيلٌ له، ثم يأتي إلى أرض رِخْوَة، فيخط الأستاذ خطوطًا كثيرة بالعجلة؛ لئلا يلحقها العدد، ثم يرجع فيمحو منها على مَهَلٍ خطين خطين، فإن بقي من الخطوط خطان، فهما علامة قضاء الحاجة والنُّجْح، قال: والحازي يمحو، وغلامه يقول للتفاؤل: ابْنَيِ عِيَان أَسْرِعَا البيان، قال ابن عباس: فإذا محا الحازي الخطوط، فبقي منها خط واحد، فهي علامة الخيبة في قضاء الحاجة.

قال: وكانت العرب تُسَمِّي ذلك الخط الذي يبقى من خطوط الحازي الأَسْحَم، وكان هذا الخط عندهم مشؤومًا

(1)

، وتقدّم تمام البحث في هذا في "كتاب المساجد ومواضع الصلاة"، فراجعه تستفد.

وقوله: (كَانَ نَبِيٌّ مِنَ الأَنْبِيَاءِ) قيل: المراد به إدريس، وقيل: دانيال.

(يَخُطُّ) بالبناء للفاعل، من باب نصر؛ أي: يستعمل الخطّ معجزةً له.

وقوله: (فَمَنْ وَافَقَ خَطَّهُ) يَحْتمل الرفع على الفاعليّة، والمفعول محذوفٌ، والنصب على المفعوليّة، والفاعل الضمير المستتر في "وافق" يعود إلى النبيّ على حذف مضاف؛ أي: خطّ ذلك النبيّ؛ يعني: أن من وافق من الناس خطُّهُ خطّ ذلك النبيّ (فَذَاكَ) خبر مبتدأ محذوف، واختُلف في تقديره، فقيل: فذاك مباحٌ، وقيل: فذاك الذي تجدون إصابته فيما يقول، والجملة جواب الشرط.

وقال في "المنهل": قوله: "فذاك"؛ أي: فهو مُصيبٌ، وعالمٌ مثل ذلك النبيّ، ولكن لا طريق لنا إلى العلم اليقينيّ بالموافقة، وامتَنَعت الموافقة؛ لأن خطّه كان معجزةً، ولأنه كان يَعرِف بالفراسة بواسطة تلك الخطوط، فلا يُلْحَق به أحدٌ من غير الأنبياء في صفة ذلك الخطّ؛ لقوّة فراسته، وكمال علمه

(1)

"النهاية" 2/ 47.

ص: 428

وورعه. انتهى

(1)

، وقد تقدّم تمام البحث في هذا بالرقم المتقدّم، ولله الحمد والمنّة.

[5802]

(2228) - (وَحَدَّثَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ يَحْيَىَ بْنِ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ الْكُهَّانَ كَانُوا يُحَدِّثُونَنَا

(2)

بِالشَّيْءِ، فَنَجِدُهُ حَقًّا، قَالَ:"تِلْكَ الْكَلِمَةُ الْحَقُّ يَخْطَفُهَا الْجِنِّيُّ، فَيَقْذِفُهَا فِي أُذُنِ وَلِيِّهِ، وَيَزِيدُ فِيهَا مِائَةَ كَذْبَةٍ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ) بن العوّام الأسديّ، أبو عروة المدنيّ، ثقةٌ [6].

رَوَى عن أبيه، وعنه ابنه محمد، وأخوه هشام، والزهريّ، ومحمد بن عقبة، ومحمد بن عمرو بن علقمة، وابن عجلان، وأيوب السختيانيّ، وغيرهم.

قال ابن سعد في الطبقة الرابعة: أمه أم يحيى بنت الحكم بن أبي العاص، وكان قليل الحديث، قال مصعب الزبيريّ: كان يقول: أنا أكرم العرب، اختَلَفت العرب في عمي وخالي؛ يعني: مروان بن الحكم، وابن الزبير، وقال أبو حاتم: يقال: كان أعلم من أخيه هشام بن عروة، وقال النسائيّ: ثقةٌ، وقال الزبير: كان من أشراف بني عروة، وذكره ابن حبان في "الثقات".

أخرج له البخاريّ، والمصنّف، وأبو داود، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث، وأعاده بعده.

2 -

(أَبُوهُ) عروة بن الزبير، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

3 -

(عَائِشَةُ) أم المؤمنين رضي الله عنها، تقدّمت أيضًا قبل ثلاثة أبواب.

والباقون ذُكروا في الباب.

(1)

"المنهل العذب المورود" 6/ 32.

(2)

وفي نسخة: "يحدّثونا".

ص: 429

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من سباعيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالمدنيين من الزهريّ، وروايته عن يحيى من رواية الأكابر عن الأصاغر، وفيه عروة أحد الفقهاء السبعة، وفيه رواية الراوي عن أبيه عن خالته، وفيه عائشة رضي الله عنها من المكثرين السبعة.

شرح الحديث:

(عَنْ يَحْيَى بْنِ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ) قال في "الفتح": كأنّ هذا مما فات الزهريّ سماعه من عروة، فحَمَله عن ولده عنه، مع كثرة ما عند الزهريّ عن عروة، وقد وصفه الزهريّ بسعة العلم، ووقع في رواية مَعْقِل بن عبيد الله التالية عن الزهريّ، أخبرني يحيى بن عروة، أنه سمع عروة، وكذا هو عند البخاريّ في "التوحيد" من طريق يونس، وفي "الأدب" من طريق ابن جريج، كلاهما عن ابن شهاب، قال الحافظ: ولم أقف ليحيى بن عروة في البخاريّ إلا على هذا الحديث.

قال الجامع: قد أسلفت آنفًا أنه ليس له عند مسلم إلا هذا الحديث، وأعاده بعده، فتنبّه.

قال: وقد رَوَى بعضَ هذا الحديث محمدُ بنُ عبد الرحمن أبو الأسود، عن عروة، وهو عند البخاريّ موصولًا في "بدء الخلق"، وكذا هشام بن عروة، عن أبيه، به. انتهى

(1)

.

(عَنْ أَبِيهِ) عروة بن الزبير (عَنْ عَائِشَةَ) أم المؤمنين رضي الله عنها أنها (قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ) هكذا في هذه الرواية أن السائلة هي عائشة رضي الله عنها، وفي الرواية التالية:"سأل أناسٌ رسول الله صلى الله عليه وسلم. . ."، وفي رواية للبخاريّ:"سأل ناس رسول الله صلى الله عليه وسلم"، قال في "الفتح": وقد سُمِّي ممن سأل عن ذلك معاويةُ بن الحكم السُّلَميّ، كما في الحديث الماضي، وقال الخطابيّ: هؤلاء الكهان فيما عُلِم بشهادة الامتحان قوم لهم أذهان حادّةٌ، ونفوس شِرِّيرةٌ، وطبائع ناريّة، فهم

(1)

"الفتح" 13/ 193، كتاب "الطبّ" رقم (5762).

ص: 430

يفزعون إلى الجنّ في أمورهم، ويستفتونهم في الحوادث، فيُلقون إليهم الكلمات، ثم تَعَرَّض إلى مناسبة ذِكر الشعراء بعد ذِكرهم في قوله تعالى:{هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221)} [الشعراء: 221]. (إِنَّ الْكهَّانَ كَانُوا يُحَدِّثُونَنَا) وفي بعض النسخ: "يُحدّثونا" بنون واحدة، (بِالشَّيْءِ) من المغيّبات، (فَنَجِدُهُ حَقًّا)؛ أي: ثابتًا واقعًا كما أخبروا، وليس المراد أنه ضدّ الباطل، قاله في "العمدة"

(1)

. (قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("تِلْكَ الْكَلِمَةُ الْحَقُّ) التي وقعت كما أخبروا، (يَخْطِفُهَا) بفتح الطاء، وكسرها، قال الفيّوميّ رحمه الله: خَطِفَه يَخطَفه، من باب تَعِبَ: استلبه بسُرْعة، وخَطَفه خَطْفًا، من باب ضَرَب لغةٌ، واختَطَفَ، وتخطّف مثله، والْخَطْفة مثلُ تَمْرة: الْمَرّة. انتهى

(2)

.

وقال في "القاموس"، و"شرحه": خَطِفَ الشَّيْءَ، كَسَمِعَ يَخْطَفُه خَطْفًا، وهي اللُّغَةُ الجَيِّدَةُ، كما في "الصِّحاحِ"، وفي "التَّهْذِيب": وهي القِرَاءَةُ الجَيِّدَةُ، وفيه لُغَةٌ أُخْرَى، حَكاهَا الأَخْفَشُ، وهي: خَطَفَ يَخْطَفُ، مِنْ باب ضَرَبَ، أَو هذِه قَلِيلَةٌ، أَو رَدِيئَةٌ، لا تَكادُ تُعْرَفُ، كما في "الصِّحاحِ"، قال: وقد قَرَأَ بها يُونُسُ، ويَحْيَى بنِ وَثَّابٍ، ومُجَاهِد، وأَبو رَجاء، في قَوْلِهِ تَعَالَى:(يَخْطِفُ أَبْصَارَهُمْ) ومعناه: اسْتَلَبَهُ، وقيل: أَخَذَهُ في سُرْعَةٍ واسْتِلابٍ. انتهى

(3)

.

(الْجِنِّيُّ) مفرد الجنّ؛ أي: يختلسها الجنيّ من أخبار السماء، وقال في "الفتح": وفي رواية السرخسيّ: "يخطفها من الجنيّ؛ أي: الكاهن يخطفها من الجنيّ، أو الجنيّ الذي يلقي إلى الكاهن يخطفها من جني آخر فوقه، و"يخطفها" بخاء معجمة، وطاء مفتوحة، وقد تُكسر، بعدها فاء، ومعناه: الأخذ بسرعة، وفي رواية الكشميهنيّ: "يحفظها" بتقديم الفاء، بعدها ظاء معجمة، والأول هو المعروف. انتهى

(4)

.

(فَيَقْذِفُهَا) بكسر الذال المعجمة، من باب ضرب؛ أي: يرميها (فِي أُذُنِ وَلِيِّهِ)؛ أي: صاحِبه الكاهن من الإنس، وأطلق على الكاهن وليّ الجنيّ؛ لكونه

(1)

"عمدة القاري" 21/ 277.

(2)

"المصباح المنير" 1/ 174.

(3)

"تاج العروس" 1/ 5809.

(4)

"الفتح" 13/ 193، كتاب "الطبّ" رقم (5762).

ص: 431

يواليه، أو عَدَل عن قوله:"الكاهن" إلى قوله: "وليّه"؛ للتعميم في الكاهن وغيره، ممن يوالي الجنّ.

قال الخطابيّ رحمه الله: بَيَّنَ أن إصابة الكاهن أحيانًا إنما هي؛ لأن الجنيّ يُلقي إليه الكلمة التي يسمعها استراقًا من الملائكة، فيزيد عليها أكاذيب يقيسها على ما سَمِع، فربما أصاب نادرًا، وخطؤه الغالب. انتهى

(1)

.

(وَيَزِيدُ فِيهَا مِائَةَ كَذْبَةٍ") وفي الرواية التالية: "فيخلطون فيها أكثر من مائة كذبة" في رواية البخاريّ: "فيخلطون معها مائة كذبة"، وفي رواية:"أكثر من مائة كذبة"، قال في "الفتح": وهو دالّ على أن ذِكْر المائة للمبالغة، لا لتعيين العدد.

وقوله: "كَذبة" هنا بالفتح، وحُكِي الكسر، وأنكره بعضهم؛ لأنه بمعنى الهيئة والحالة، وليس هذا موضعه. انتهى

(2)

، والله تعالى أعلم.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [20/ 5802 و 5803 و 5804](2228)، و (البخاريّ) في "بدء الخلق"(3210) وعلّقه في (3288) و"الطبّ"(5762) و"الأدب"(6213) و"التوحيد"(7561) وفي "الأدب المفرد"(1/ 304)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 87)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(20347)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6136)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(1/ 207)، و (ابن منده) في "الإيمان"(2/ 702)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(8/ 138)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(3258)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم من السؤال عن أمر دينهم حتى لا يتمسّكوا بالأمور الجاهليّة.

(1)

"الأعلام" للخطّابيّ 3/ 2219.

(2)

"الفتح" 13/ 196، كتاب "الطبّ" رقم (5762).

ص: 432

2 -

(ومنها): بيان بقاء استراق الشياطين السمع، لكنه قلّ وندر، حتى كاد يضمحلّ بالنسبة لِمَا كانوا فيه من الجاهلية.

3 -

(ومنها): بيان النهي عن إتيان الكهان، قال القرطبيّ رحمه الله: يجب على من قَدَر على ذلك من محتسِب وغيره أن يقيم من يتعاطى شيئًا من ذلك من الأسواق، ويُنْكِر عليهم أشدّ النكير، وعلى من يجيء إليهم، ولا يغترّ بصدقهم في بعض الأمور، ولا بكثرة من يجيء إليهم، ممن يُنسب إلى العلم، فإنهم غير راسخين في العلم، بل من الجهال بما في إتيانهم من المحذور. انتهى، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5803]

(. . .) - (حَدَّثَنِي سَلَمَةُ بْنُ شَبِيبٍ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَعْيَنَ، حَدَّثَنَا مَعْقِلٌ - وَهْوَ ابْنُ عُبَيْدِ اللهِ - عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَخْبَرَنِي يَحْيَى بْنُ عُرْوَةَ، أَنَّهُ سَمِعَ عُرْوَةَ يَقُولُ: قَالَتْ عَائِشَةُ: سَأَلَ أُناسٌ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْكُهَّانِ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"لَيْسُوا بِشَيْءٍ"، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، فَإنَّهُمْ يُحَدِّثُونَ أَحْيَانًا الشَّيْءَ يَكُونُ حَقًّا، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "تِلْكَ الْكَلِمَةُ مِنَ الْجِنِّ يَخْطَفُهَا الْجِنِّيُّ، فَيَقُرُّهَا

(1)

فِي أُذُنِ وَلِيِّهِ، قَرَّ الدَّجَاجَةِ، فَيَخْلِطُونَ فِيهَا أَكْثَرَ مِنْ مِائَةِ كَذْبَةٍ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(سَلَمَةُ بْنُ شَبِيبٍ) الْمِسْمَعيّ النيسابوريّ، نزيل مكة، ثقةٌ، من كبار [11] مات سنة بضع و (240)(م 4) تقدم في "المقدمة" 6/ 60.

2 -

(الْحَسَنُ بْنُ أَعْيَنَ) هو: الحسن بن محمد بن أعين الْحَرّانيّ، أبو عليّ، نُسب لجدّه، صدوقٌ [9](ت 210)(خ م س) تقدم في "الإيمان" 4/ 119.

3 -

(مَعْقِلُ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ) الْعَبْسيّ مولاهم، أبو عبد الله الْجَزَريّ، صدوقٌ يُخطئ [8](ت 166)(م د س) تقدم في "الإيمان" 4/ 119.

والباقون ذُكروا قبله.

(1)

وفي نسخة: "تلك الكلمة من الجنّ يخطفها، فيقرّها".

ص: 433

وقوله: (سَأَلَ أُنَاسٌ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم) هم معاوية بن الحكم السَّلَميّ، ومن معه، كما تقدّم في الحديث الماضي.

(عَنِ الْكُهَّانِ)؛ أي: عن إتيانهم، وسؤالهم عن أشياء.

وقوله: ("لَيْسُوا بِشَيْءٍ") قال النوويّ رحمه الله: معناه بطلان قولهم، وأنه لا حقيقة له، وفيه إطلاق هذا اللفظ على ما كان باطلًا. انتهى

(1)

.

وقال في "الفتح"؛ أي: ليس قولهم بشيء يُعتمد عليه، والعرب تقول لمن عَمِل شيئًا، ولم يُحْكِمْه: ما عَمِل شيئًا، قال القرطبيّ: كانوا في الجاهلية يترافعون إلى الكهان في الوقائع، والأحكام، ويرجعون إلى أقوالهم، وقد انقطعت الكهانة بالبعثة المحمدية، لكن بقي في الوجود من يتشبه بهم، وثبت النهي عن إتيانهم، فلا يحل إتيانهم، ولا تصديقهم. انتهى

(2)

.

وقال الخطابيّ: معنى قوله: "ليسوا بشيء" فيما يتعاطونه من علم الغيب؛ أي: ليس قولهم بشيء صحيح يُعتمد كما يُعتمد قول النبيّ صلى الله عليه وسلم الذي يخبر عن الوحي، وهو كما يقال لمن عَمِل عملًا غير مُتْقَنٍ، أو قال قولًا غير سديد: ما عَمِلت، أو ما قلت شيئًا، وقال ابن بطال نحوه، وزاد: إنهم يريدون بذلك المبالغة في النفي، وليس ذلك كذبًا، وقال كثير من المفسرين في قوله تعالى:{هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا (1)} [الإنسان: 1]، والمراد بالذكر هنا: القَدْر والشرف؛ أي: كان موجودًا ولكن لم يكن له قَدْر يُذكر به، إما وهو مصوَّر من طين على قول من قال: إن المراد به آدم، أو في بطن أمه على قول من قال: إن المراد به الجنس. انتهى

(3)

.

وقوله: (قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، فَإِنَّهُمْ يُحَدِّثُونَ أَحْيَانًا الشَّيْءَ يَكُونُ حَقًّا) هذا أورده السائل إشكالًا على عموم قوله: "ليسوا بشيء"؛ لأنه فَهِم منه أنهم لا يَصْدُقون أصلًا، فأجابه صلى الله عليه وسلم عن سبب ذلك الصدق، وأنه إذا اتفق أن يصدُق لم يتركه خالصًا، بل يشوبه بالكذب

(4)

.

(1)

"شرح النوويّ" 14/ 223.

(2)

"الفتح" 13/ 194.

(3)

"الفتح" 10/ 595.

(4)

"الفتح" 13/ 194.

ص: 434

وقوله: ("تِلْكَ الْكَلِمَةُ مِنَ الْجِنِّ) وفي رواية البخاريّ: "تلك الكلمة من الحقّ" بمهملة، وقاف؛ أي: الكلمة المسموعة التي تقع حقًّا.

وقال النوويّ: قوله: (تِلْكَ الْكَلِمَةُ مِنَ الْجِنِّ) كذا في نُسخ بلادنا بالجيم، والنون؛ أي: الكلمة المسموعة من الجنّ، أو التي تصح مما نقلته الجنّ، قال: وذكر عياض في "المشارق" أنه رُوي هكذا، وروي أيضًا:"من الحقّ" بالحاء والقاف. انتهى

(1)

.

وقوله: (فَيَقُرُّهَا

(2)

فِي أُذُنِ وَلِيِّهِ، قَرَّ الدَّجَاجَةِ) قال النوويّ رحمه الله: قوله: "فيقرّها" هو بفتح الياء، وضم القاف، وتشديد الراء، و"قَرّ الدجاجة" بفتح القاف، والدجاجة - بالدال - الدجاجة المعروفة، قال أهل اللغة، والغريب: القَرّ: ترديد الكلام في أذن المخاطب حتى يفهمه، يقول: قَرَرْته فيه أَقُرّه قَرًّا، وقَرُّ الدجاجة صوتها إذا قطعته، يقال: قَرَّت تَقُرّ قَرًّا، وقَرِيرًا، فإن ردّدته قلت: قَرْقَرَت قَرْقَرَةً.

قال الخطابيّ وغيره: معناه: أن الجنيّ يَقذِف الكلمة إلى وليّه الكاهن، فتسمعها الشياطين، كما تُؤْذِن الدجاجة بصوتها صواحبها، فتتجاوب، قال: وفيه وجه آخر، وهي أن تكون الرواية كَقَرّ الزجاجة، تدلّ عليه رواية البخاريّ:"فيقُرّها في أذنه كما تقرّ القارورة"، قال: فذِكْر القارورة في هذه الرواية يدلّ على ثبوت الرواية بالزجاجة.

قال القاضي: أما مسلم فلم تختلف الرواية فيه أنه الدجاجة بالدال، لكن رواية القارورة تصحح الزجاجة، قال القاضي: معناه: يكون لِمَا يُلقيه إلى وليّه حِسّ كحسّ القارورة عند تحريكها، مع اليد، أو على صَفَا. انتهى

(3)

.

وقال في "الفتح": قوله: "فيقرها" بفتح أوله وثانيه

(4)

، وتشديد الراء؛ أي: يصبّها، تقول: قررت على رأسه دلوًا: إذا صببته، فكأنه صُبّ في أذنه

(1)

"شرح النوويّ" 14/ 225.

(2)

وفي نسخة: "تلك الكلمة من الجنّ يخطفها، فيقرّها".

(3)

"شرح النوويّ" 14/ 225 - 226.

(4)

الظاهر أنه بضمّ ثانيه، كما تقدّم عن النوويّ، فتأمل.

ص: 435

ذلك الكلام، وقال القرطبيّ: ويصحّ أن يقال المعنى: ألقاها في أذنه بصوت، يقال: قَرّ الطائر: إذا صَوّت. انتهى.

ووقع في رواية يونس: "فيقرقرها"؛ أي: يردّدها، يقال: قرقرت الدجاجة تُقَرْقِر قَرْقَرَةً: إذا رددت صوتها، قال الخطابيّ: ويقال أيضًا: قَرَّت الدجاجة تَقُرّ قَرًّا، وقريرًا: إذا رجعت في صوتها، قيل: قرقرت قرقرةً، وقرقريرةً، قال: والمعنى أن الجني إذا ألقى الكلمة لوليّه تسامع بها الشياطين، فتناقلوها، كما إذا صوّتت الدجاجة، فسمعها الدجاج فجاوبتها.

وتعقبه القرطبيّ بأن الأشبه بمساق الحديث أن الجني يُلقي الكلمة إلى وليّه بصوت خفيّ، متراجع، له زمزمة، ويرجّعه له، فلذلك يقع كلام الكهان غالبًا على هذا النمط.

وقوله: "كقرقرة الدجاجة"؛ يعني: الطائر المعروف، ودالها مثلّثة، والأشهر فيها الفتح، ووقع في رواية المستملي:"الزجاجة" بالزاي المضمومة، وأنكرها الدارقطنيّ، وعدّها في التصحيف، لكن وقع في حديث الباب بلفظ:"فيقرّها في أذنه كما تقر القارورة"، وشرحوه على أن معناه كما يسمع صوت الزجاجة، إذا حُلّت على شيء، أو أُلقي فيها شيء، وقال القابسيّ: المعنى أنه يكون لِمَا يُلقيه الجني إلى الكاهن حسّ كحسّ القارورة إذا حُرِّكت باليد، أو على الصفا.

وقال الخطابيّ: المعنى: أنه يُطبِّق به كما يُطَبَّق رأس القارورة برأس الوعاء الذي يُفرَغ فيه منها ما فيها.

وأغرب شارح "المصابيح" النوربشتيّ، فقال: الرواية بالزاي أحوط؛ لِمَا ثبت في الرواية الأخرى: "كما تُقَرُّ القارورة، واستعمال قَرّ في ذلك شائع، بخلاف ما فَسَّروا عليه الحديث، فإنه غير مشهور، ولم نجد له شاهدًا في كلامهم، فدلّ على أن الرواية بالدال تصحيف، أو غلط من السامع.

وتعقبه الطيبيّ، فقال: لا ريب أن قوله: "قَرَّ الدجاجة" مفعول مطلق، وفيه معنى التشبيه، فكما يصحّ أن يُشبَّه إيراد ما اختطفه من الكلام في أُذُن الكاهن بصب الماء في القارورة، يصحّ أن يُشبّه ترديد الكلام في أذنه بترديد الدجاجة صوتها في أذن صواحباتها، وهذا مشاهَدٌ، ترى الديك إذا رأى شيئًا

ص: 436

ينكره يُقَرْقِرُ، فتسمعه الدجاج، فتجتمع، وتقرقر معه، وباب التشبيه واسع، لا يفتقر إلى العلاقة، غير أن الاختطاف مستعار للكلام من فعل الطير، كما قال الله تعالى:{فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ} [الحج: 31]، فيكون ذِكر الدجاجة هنا أنسب من ذِكر الزجاجة؛ لحصول الترشيح في الاستعارة.

قال الحافظ: ويؤيده دعوى الدارقطنيّ، وهو إمام الفنّ أن الذي بالزاي تصحيف، وإن كنا ما قبلنا ذلك، فلا أقلّ أن يكون أرجح.

وقوله: (فَيَخْلِطُونَ فِيهَا أَكْثَرَ مِنْ مِائَةِ كَذْبَةٍ") هذا يدلّ على أن ذكر المائة للمبالغة، لا لتعيين العدد، وفي الرواية الماضية:"ويزيدون فيها مائة كذبة"، والكذبة هنا بفتح الكاف، وحُكي كسرها، وأنكره بعضهم؛ لأنه بمعنى الهيئة والحالة، وليس هذا موضعها.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "تلك الكلمة يخطفها الجنيّ، فيقذفها في أذن وليّه"؛ أي: يرميها في أذنه، ويُسمعه إياها. وفي الرواية الأخرى:"فيقرها في أذن وليه قرّ الدجاجة"؛ أي: يضعها في أذنه. يقال: قررت الخبر في أذنه أقره قرًّا. ويصحُّ أن يقال: ألقاها في أذنه بصوت. يقال: قرَّ الطائر: صوَّت.

و"قرُّ الدجاجة" - بكسر القاف - حكاية صوتها. قال الخطابيّ: قرَّت الدجاجة، تقرُّ قرًّا، وقريرًا: إذا رجَّعت فيه؛ قيل: قرقرت قرقرةً، وقَرقريرًا، قال الشاعر [من الطويل]:

وَمَا ذَاتُ طَوْقٍ فَوْقَ عُودِ أَرَاكَةٍ

وَإِنْ قَرْقَرَتْ هَاجَ الْهَوَى قَرْقَرِيرُهَا

قال: والمعنى أن الجنيّ يقذف الكلمة إلى وليّه الكاهن، فيتسامع بها الشياطين، كما تُؤْذِن الدجاج بصوت صواحباتها، فتتجاوب.

قال القرطبيّ: والأشبه بمساق الحديث أن يكون معناه أن الجنِّي يُلقي إلى وليّه تلك الكلمات بصوت خفي، متراجع يُزَمْزِمُهُ، ويُرَجِّعه له، كما يلقيه الكفان للناس، فإنَّهم تسمع لهم زمزمة، وإسجاع، وترجيع، على ما عُلم من حالهم بالمشاهدة والنقل.

ولم يختلف أحدٌ من رواة مسلم أن الرواية في هذا اللفظ: "قرَّ الدجاجة"؛ يعني به: الطائر المعروف. واختلف فيه عن البخاري. فقال بعض رواته: "كقرِّ الزجاجة" بالزاي. قال الدارقطنيّ: هو مما صحَّفوا فيه.

ص: 437

والصواب: الدجاجة - بالدال -. وقيل: الصواب الزجاجة؛ بدليل ما قد رواه البخاريّ: فيقرها في أذنه، كما تُقَرّ القارورة، وهي بمعنى الزجاجة؛ أي: كما يسمع صوت الزجاجة إذا حكَّت على شيء، أو إذا أُلقي فيها ماء، أو شيء. انتهى

(1)

.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام البحث فيه في الحديث الماضي، ولله الحمد والمنّة، وله الفضل والنعمة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5804]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، بِهَذَا الإِسْنَادِ، نَحْوَ رِوَايَةِ مَعْقِلٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو) اليافعيّ المصريّ الرُّعينيّ، صدوقٌ له أوهامٌ [9].

رَوَى عن ابن جريج، والثوريّ، وعنه ابن وهب، قال ابن أبي حاتم: سألت أبي وأبا زرعة عنه، فقالا: شيخ لابن وهب، وقال ابن يونس: روى عنه ابن وهب وحده، وهو قريب السنّ من ابن وهب، حدَّث بغرائب، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال ابن عديّ: له مناكير، وأورد له حديثًا، واستنكره، وذكره الساجيّ في "الضعفاء"، ونقل عن يحيى بن معين أنه قال: غيره أقوى منه، وقال ابن القطان: لم تثبت عدالته.

أخرج له المصنّف، والنسائيّ، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث متابعةً، وله عند النسائيّ حديث واحد فقط.

والباقون ذُكروا في الباب والباب الماضي.

[تنبيه]: رواية ابن جريج عن الزهريّ هذه ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:

(5859)

- حدّثنا محمد بن سلام، أخبرنا مخلد بن يزيد، أخبرنا ابن

(1)

"المفهم" 5/ 634 - 635.

ص: 438

جريج، قال ابن شهاب: أخبرني يحيى بن عروة، أنه سمع عروة يقول: قالت عائشة: سأل أناس رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكهان، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ليسوا بشيء"، قالوا: يا رسول الله، فإنهم يحدثون أحيانًا بالشيء يكون حقًّا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"تلك الكلمة من الحقّ يخطفها الجنيّ، فيقرها في أذن وليه قَرّ الدجاجة، فيخلطون فيها أكثر من مائة كذبة". انتهى

(1)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5805]

(2229) - (حَدَّثَنَا حَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْحُلْوَانِيُّ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ حَسَنٌ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ، وَقَالَ عَبْدٌ: حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ حُسَيْنٍ، أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَبَّاسٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنَ الأَنْصَارِ، أنَّهُمْ بَيْنَمَا هُمْ

(2)

جُلُوسٌ لَيْلَةً مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم رُمِيَ بِنَجْمٍ، فَاسْتَنَارَ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"مَاذَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، إِذَا رُمِيَ بِمِثْلِ هَذَا؟ "، قَالُوا: - اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ - كُنَّا نَقُولُ: وُلِدَ اللَّيْلَةَ رَجُلٌ عَظِيمٌ، وَمَاتَ رَجُلٌ عَظِيمٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"فَإِنَّهَا لَا يُرْمَى بِهَا لِمَوْتِ أَحَدٍ، وَلَا لِحَيَاتِهِ، وَلَكِنْ رَبُّنَا تبارك وتعالى اسْمُهُ، إِذَا قَضَى أَمْرًا سَبَّحَ حَمَلَةُ الْعَرْشِ، ثُمَّ سَبَّحَ أَهْلُ السَّمَاءِ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، حَتَى يَبْلُغَ التَّسْبِيحُ أَهْلَ هَذِهِ السَّمَاءِ الدُّنْيَا، ثُمَّ قَالَ الَّذِينَ يَلُونَ حَمَلَةَ الْعَرْشِ لِحَمَلَةِ الْعَرْشِ: مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ فَيُخْبِرُونَهُمْ مَاذَا قَالَ. قَالَ: فَيَسْتَخْبِرُ بَعْضُ أَهْلِ السَّمَوَاتِ بَعْضًا، حَتَّى يَبْلُغَ الْخَبَرُ هَذِهِ السَّمَاءَ الدُّنْيَا، فَتَخْطَفُ الْجِنُّ السَّمْعَ، فَيَقْذِفُونَ إِلَى أَوْليَائِهِمْ، ويُرْمَوْنَ بِهِ، فَمَا جَاءُوا بِهِ عَلَى وَجْهِهِ فَهُوَ حَقٌّ، وَلَكِنَّهُمْ يَقْرِفُونَ فِيهِ، وَيَزِيدُونَ").

رجال هذا الإسناد: تسعة:

1 -

(عَلِيُّ بْنُ حُسَيْنِ) بن عليّ بن أبي طالب زين العابدين المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ عابدٌ فقيهٌ فاضلٌ مشهور [3](ت 93) وقيل غير ذلك (ع) تقدم في "صلاة المسافرين وقصرها" 30/ 1818.

(1)

"صحيح البخاريّ" 5/ 2294.

(2)

وفي نسخة: "بينا هم".

ص: 439

2 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبَّاسٍ) الحبر البحر رضي الله عنهما، تقدّم قبل بابين.

3 -

(رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنَ الأَنْصَارِ) لا يعرف، ولكن لا تضرّ جهالته؛ لأنهم كلّهم عدول.

والباقون كلهم تقدّموا قبل باب.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من ثُمانيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسلٌ بالمدنيين غير شيخيه، وفيه ثلاثة من التابعين روى بعضهم عن بعض، وفيه رواية صحابيّ عن صحابيّ.

شرح الحديث:

(عَنْ صَالِحِ) بن كيسان الغفاريّ (عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) محمد بن مسلم الزهريّ، أنه قال:(حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ حُسَيْنٍ) الملقّب بزين العابدين، (أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَبّاسٍ) رضي الله عنهما (قَالَ: أَخْبَرَنِي رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنَ الأَنْصَارِ) تقدّم أنه لم يُعرف اسمه، ولكنه لا يضرّ؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم كلّهم عدول. (أَنَّهُمْ)؛ أي: هو وأصحابه من الأنصار، (بَيْنَمَا هُمْ) وفي بعض النُّسخ:"بينا هم"، قال في "اللسان"

(1)

: أَصلُ بَيْنا: بَيْنَ، فأُشبِعتْ الفتحة، فصارت أَلفًا، ويقال: بَيْنا، وبَيْنما، وهما ظرفا زمانٍ، بمعنى المفاجأَة، ويُضافان إلى جملة من فعلٍ وفاعلٍ، ومبتدإِ وخبر، ويحتاجان إلى جواب، يَتِمُّ به المعنى، والأَفصَح في جوابهما أَن لا يكون فيه "إِذْ"، و"إذا"، وقد جاءا في الجواب كثيرًا، تقول: بَينا زيدٌ جالسٌ دخَل عليه عمرٌو، وإذ دخَل عليه، وإذا دخل عليه، ومنه قول الحُرَقة بنت النُّعمان [من الطويل]:

فَبَيْنا نَسُوسُ الناسَ والأَمرُ أَمْرُنا

إِذَا نَحْنُ فِيهِمْ سُوقَةٌ نَتَنَصَّفُ

(جُلُوسٌ) جمع جالس، وهو خبر "هم". (لَيْلَةً مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) الظرفان متعلّقان بـ "جُلوس"، ويَحْتَمِل أن يكون الثاني حالًا. (رُمِيَ بِنَجْمٍ) قال الطيبيّ رحمه الله: هو جواب "بينما"، ولم يؤتَ بـ "إذا"، كما يستفصحه الأصمعيّ، وأنشد [من الوافر]:

(1)

"لسان العرب" لابن منظور 13/ 62.

ص: 440

وَبَيْنَا نَحْنُ نَرْقُبُهُ أَتَانَا

مُعَلَّقَ وَفْضَةٍ وَزِنَادَ رَاعِي

وقوله: "وهم جلوس" مبتدأ وخبر؛ لأن "بينا"، و"بينما" يستدعيان بينهما جملة اسميّةً، و"بينما" مع الجواب خبر "أنّ". (فَاسْتَنَارَ)؛ أي: أضاء ذلك النجم، (فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"مَاذَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، إِذَا رُمِيَ بِمِثْلِ هَذَا؟ ") قال الطيبيّ رحمه الله: هذا ليس للاستعلام؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان عالِمًا بذلك، ولذلك (قَالُوا: - الله وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ -) بل لأن يجيبوا عمّا كانوا يعتقدونه في الجاهليّة، فيزيله عنهم، ويقلعه عن أصله. انتهى

(1)

. (كُنَّا نَقُولُ: وُلِدَ اللَّيْلَةَ رَجُلٌ عَظِيمٌ، وَمَاتَ رَجُلٌ عَظِيمٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "فَإِنَّهَا)؛ أي: الشُّهُب (لَا يُرْمَى بِهَا لِمَوْتِ أَحَدٍ، وَلَا لِحَيَاتِهِ، وَلَكِنْ رَبُّنَا تبارك وتعالى اسْمُهُ) تنازعه "تبارك"، و"تعالى" على الفاعليّة، (إِذَا قَضَى أَمْرًا) قال القرطبيّ رحمه الله: أي: أظهر قضاءه، وما حكم به لملائكته؛ لأنَّ قضاءه إنما هو راجع إلى سابق علمه، ونفوذ مشيئته، وحُكمِهِ، وهما أزليان، فإذا أطلع حملة عرشه على ما سبق في علمه خضعت الملائكة لعظمته، وضجَّت بتسبيحه، وتقديسه، فيسمع ذلك أهل السماء التي تليهم، وهكذا ينتهي التسبيح لملائكة سماء الدنيا، ثم يتساءلون فيما بينهم: ماذا قال ربكم؟، على الترتيب المذكور في الحديث. انتهى

(2)

.

(سَبَّحَ حَمَلَةُ الْعَرْشِ، ثُمَّ سَبَّحَ أَهْلُ السَّمَاءِ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، حَتَّى يَبْلُغَ التَّسْبِيحُ أَهْلَ هَذِهِ السَّمَاءِ الدُّنْيَا) صفة لـ "السماء"، قال الطيبيّ: فإن قلت: الدنيا صفة للسماء، والسماء صفة لاسم الإشارة، فكيف يصحّ وصف الوصف؟.

قلت: إنما لا يصحّ حيث كانت الصفة مفهومًا لا ذاتًا، وأوصاف أسماء الإشارة ذوات، فيصحّ وصفها. انتهى

(3)

.

(ثُمَّ قَالَ الَّذِينَ يَلُونَ حَمَلَةَ الْعَرْشِ لِحَمَلَةِ الْعَرْشِ: مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ فَيُخْبِرُونَهُمْ مَاذَا قَالَ. قَالَ: فَيَسْتَخْبِرُ بَعْضُ أَهْلِ السَّمَوَاتِ بَعْضًا، حَتَّى يَبْلُغَ الْخَبَرُ هَذِهِ السَّمَاءَ الدُّنْيَا، فَتَخْطَفُ) تقدّم أنه بفتح الطاء، من باب تَعِبَ على المشهور،

(1)

"الكاشف عن حقائق السُّنن" 9/ 2995.

(2)

"المفهم" 5/ 637 - 638.

(3)

"الكاشف عن حقائق السُّنن" 9/ 2995.

ص: 441

وبه جاء القرآن الكريم، وفي لغة قليلة بكسرها، ومعناه: تسترقّ، وتأخذ بسرعة. (الْجِنُّ السَّمْعَ)؛ أي: المسموع لهم من الملائكة، (فَيَقْذِفُونَ) بكسر الذال، من باب ضرب؛ أي: يرمون بذلك المختطَف (إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ)؛ أي: الكهّان، (وَيُرْمَوْنَ بِهِ) بالبناء للمجهول؛ أي: يُرمى الجنّ بذلك النجم الذي رُمي به، قال الطيبيّ: قوله: "ويُرمون" عطف على "يُقذفون"، فعلى هذا رميهم بالشهاب بعد إلقائهم الكلمة إلى أوليائهم، وهو إحدى الحالتين اللتين في الحديث الآخر لابن عبّاس رضي الله عنهما عند البخاريّ، وفيه قوله:"وربّما ألقاها قبل أن يُدركه". انتهى

(1)

.

(فَمَا جَاءُوا بِهِ عَلَى وَجْهِهِ)؛ أي: دون تغيير وزيادة، (فَهُوَ حَقٌّ) لكونه من خبر السماء الذي هو وحيٌ من الله تعالى، (وَلَكِنَّهُمْ يَقْرِفُونَ فِيهِ) بكسر الراء، من باب ضرب؛ أي: يزيدون فيه كذبًا وزورًا، فيكون قوله:(وَيَزِيدُونَ") عَطْفَ تفسير له، قال الطيبيّ: عدّاه بفي على تضمين معنى الكذب، وقال في "القاموس"، و"شرحه": وقَرَفَ عَلَيْهِم يَقْرِفُ قَرْفًا: إِذا بَغَى عَلَيْهِم، وقرَفَ فُلانًا: عابَهُ، أَو اتَّهَمَه، ويُقالُ: هو يُقْرَفُ بكَذا؛ أَي: يُرْمَى به، ويُتَّهَمُ، فهو مَقْرُوفٌ. وقرَفَ الرَّجُلَ بسُوءٍ: رَماه به. وقَرَفَ لِعيالِه: إِذا كَسَبَ لَهُم من هُنا، ومن هُنا. وقَرَفَ قَرْفًا: إِذا خَلَّطَ تَخْلِيطًا. وقَرَفَ عَلَيهِمْ قَرْفًا: إِذا كَذَبَ. انتهى باختصار

(2)

.

وقال القرطبيّ: قوله: "ولكنهم يفرقون فيه، ويزيدون" هكذا عند ابن ماهان، وهو من القَرْف: وهو الخلط، قاله صاحب الأفعال؛ أي: يخلطون فيها من الكذب. ورواه يونس: "يُرَقَّون" بضم الياء، وفتح الراء، وتشديد القاف. وفي بعض النسخ:"يَرْقُون" - بفتح الياء، وتسكين الراء، وتخفيف القاف -؛ أي: يتقوَّلون. يقال: رَقي فلان على الباطل بكسر الراء؛ أي: تقوَّله، وهو من الرُّقِيّ: وهو الصعود؛ أي: إنهم يقولون فوق ما سمعوا. قاله القاضي عياض. انتهى

(3)

.

(1)

"الكاشف عن حقائق السُّنن" 9/ 2995.

(2)

"تاج العروس" 1/ 6067.

(3)

"المفهم" 5/ 638 - 639.

ص: 442

وقال النوويّ رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم في رواية صالح، عن ابن شهاب:"ولكنهم يقرفون فيه، ويزيدون" هذه اللفظة ضبطوها من رواية صالح على وجهين: أحدهما: بالراء، والثاني: بالذال، ووقع في رواية الأوزاعيّ، وابن معقل بالراء باتفاق النسخ، ومعناه: يَخلطون فيه الكذب، وهو بمعنى يَقذفون، وفي رواية يونس:"يُرَقُّون" قال القاضي عياض: ضبطناه عن شيوخنا بضم الياء، وفتح الراء، وتشديد القاف، قال: ورواه بعضهم بفتح الياء، وإسكان الراء، قال في "المشارق": قال بعضهم: صوابه بفتح الياء، وإسكان الراء، وفتح القاف، قال: وكذا ذكره الخطابيّ، قال: ومعناه معنى يزيدون، يقال: رَقِيَ فلان إلى الباطل، بكسر القاف؛ أي: رفعه، وأصله من الصعود؛ أي: يَدّعُون فيها فوق ما سمعوا، قال القاضي: وقد تصحّ الرواية الأُولى على تضعيف هذا الفعل، وتكثيره، والله أعلم. انتهى

(1)

.

[تنبيه]: أخرج البخاريّ رحمه الله في "صحيحه" ما يبيّن كيفيّة استراقهم السمع، فقال:

(4800)

- حدّثنا الحميديّ، حدّثنا سفيان، حدّثنا عمرو، قال: سمعت عكرمة يقول: سمعت أبا هريرة يقول: إن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خُضْعَانًا لقوله، كأنه سلسلة على صفوان، فإذا فُزِّع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا للذي قال: الحقّ، وهو العلي الكبير، فيسمعها مسترق السمع، ومسترق السمع، هكذا، بعضه فوق بعض، ووصف سفيان بكفّه، فحرّفها، وبَدَّد بين أصابعه، فيسمع الكلمة، فيلقيها إلى من تحته، ثم يلقيها الآخر إلى من تحته، حتى يُلقيها على لسان الساحر، أو الكاهن، فربما أدرك الشهاب قبل أن يُلقيها، وربما ألقاها قبل أن يدركه، فيكذب معها مائة كذبة، فيقال: أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا كذا وكذا؟ فيُصَدَّق بتلك الكلمة التي سَمِع من السماء". انتهى

(2)

، والله تعالى أعلم.

(1)

"شرح النوويّ" 14/ 226 - 227.

(2)

"صحيح البخاريّ" 4/ 1804.

ص: 443

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [20/ 5805 و 5806](2229)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 218)، و (الترمذيّ) في "التفسير"(3224)، و (ابن منده) في "الإيمان"(2/ 701)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6129)، و (الطحاويّ) في "مشكل الآثار"(3/ 113)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان كذب الكهّان، فلا يجوز الاعتماد عليهم فيما يُخبرون به.

2 -

(ومنها): أن النجم الساقط إنما يُرمى به لِرَجْم هؤلاء الجنّ المُسْتَرْقِين للسمع.

3 -

(ومنها): أن هذا الحديث بمعنى قوله {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (6) وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ (7) لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ (8) دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ (9) إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ (10)} [الصافات: 6 - 10].

4 -

(ومنها): أن هذا الحديث يردّ مزاعم الفلاسفة حيث ينفون أن تكون النجوم نارًا محرقةً للجنّ، قال صاحب "التكملة": وكان فلاسفة اليونان يزعمون أن الشهاب الثاقب مادّة أرضيّةٌ تصعد بواسطة البخار إلى الطبقات العليا في الجوّ، ثم تقرب من كرة النار، فتُحرق، والذي يُفهم من القرآن الكريم، ومن الأحاديث أنه جرم من الأجرام الفلكيّة يُرمى به الشياطين، ومن ثمّ كان المفسّرون القدامى يؤمنون بما جاء في القرآن والسنّة، ويتركون ما يقول به الفلاسفة على أساس أنه ظنّ وتخمين، لا يقاوم ما في القرآن الكريم من العلم، وقد أظهرت علوم الفلك اليوم أن ما قاله فلاسفة اليونان باطلٌ محضٌ، والرأي السائد اليوم فيما بين الفلكيين أن الشهاب إنما هو قطع كوكبيّة سماويّة، وهي أجسام صغيرة كثيرة، ومنها مجموعة تسمّى الأسديّة، وهي تتمّ دورتها حول الشمس في شكل إهليلجيّ في (33) سنة، وما النور الذي ينزل من تلك

ص: 444

الشهب إلا من سرعتها واحتكاكها بمادّة الجوّ كما يقدح الزناد، وهذا الرأي أقرب إلى القرآن الكريم من رأي أهل اليونان.

وأما ما يستغربه بعض الناس من كون هذه الشهب رجومًا للشياطين، فهو مجرّد استغراب واستبعاد، وليس على نفي ذلك دليلٌ قائم.

وقال الطنطاويّ في تفسيره "الجواهر"(8/ 14): إذا كان آباؤنا وحكماؤنا كبُر عليهم أن يخالف القرآنُ علمَ الفلك في زمانهم، ولم يرض المفسّرون منهم أن يبقوا على مذاهبهم الفلسفيّة، بل مشوا مع القرآن، ثم ظهر لهم بطلان المذهب القديم، فهل هناك من مانع يمنع أن تكون الكواكب محرقةً، أو مخبلة، أو مؤذيةً لتلك الأرواح؟ ذلك نسلّم به حتى ننظر في المستقبل. انتهى

(1)

.

5 -

(ومنها): بيان أن ما يصدق فيه الكهّان إنما هو الذي اسْتَرَقَه الجنيّ من كلام الملائكة، ثم يخلطون به مائة كذبة.

6 -

(ومنها): أن فيه ما يدلّ على أن حملة العرش أفضل الملائكة، وأعلاهم منزلة، وأن فضائل الملائكة على حسب مراتبهم في السموات.

7 -

(ومنها): أن جميع الملائكة لا يعلمون شيئًا من الأمور الغيبيّة إلا بأن يُعلمهم الله تعالى به، كما قال تعالى:{عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} الآية [الجن: 26، 27].

8 -

(ومنها): أن فيه أيضًا ما يدلّ على أن علوم الملائكة بالكائنات يستفيده بعضهم من بعض، إلا حملة العرش؛ فإنهم يستفيدون علومهم من الحقّ سبحانه وتعالى، فإنَّهم هم المبدوؤون بالإعلام أولًا، ثم إن ملائكة كل سماء تستفيد من التي فوقها.

9 -

(ومنها): أن فيه دليلًا على أن النجوم لا يُعْرَف بها علم الغيب، ولا القضاء، ولو كان كذلك لكانت الملائكة أعلم بذلك وأحقّ به، وكل ما يتعاطاه المنجمون من ذلك فليس شيء منه علمًا يقينًا؛ إنَّما هو رجم بظن، وتخمين بِوَهْم، الإصابة فيه نادرة، والخطأ والكذب فيهم غالب، وهذا مشاهَد من

(1)

"تكملة فتح الملهم" 4/ 388.

ص: 445

أحوال المنجمين، والمطلوب من العلوم النجوميات ما يُهْتَدى به في الظلمات، وتُعرف به الأوقات، وما سوى ذلك فمخارق وتُرَّهات، ويكفي في الردّ عليهم: ظهور كذبهم، واضطراب قولهم، وقد اتفقت الشرائع على أن القضاء بالنجوم محرَّم مذموم. قاله القرطبيّ رحمه الله

(1)

، وهو تحقيقٌ نفيسٌ جدًّا، والله تعالى أعلم.

(المسألة الرابعة): ذكر الشيخ أبو القاسم عبد الكريم بن هوازن القشيريّ رحمه الله في كتابه المسمّى بـ "مفاتيح الحُجَج" في إبطال مذهب المنجّمين، وأطنب فيه، وذَكَر أقوالهم، وقال: وأقربها قول من قال: هذه الحوادث يُحْدثها الله تعالى ابتداءً بقدرته، واختياره، ولكن أجرى العادة بأنه إنما يخلقها عند كون هذه الكواكب في البروج المخصوصة، ويختلف باختلاف سيرها، واتّصالاتها، ومطارح أشعّتها على جهة العادة من الله تعالى، كما أجرى العادة بخلق الولد عقب الجماع، وخلق الشِّبَع عقب الطعام، ثم قال: هذا في القدرة جائز، لكن ليس عليه دليلٌ، ولا إلى القطع سبيل؛ لأن ما كان على جهة العادة يجب أن يكون الطريق فيه مستمرًّا، وأقلّ ما فيه أن يحصل التكرار، وعندهم لا يحصل وقت في العالم مكرّر على وجه واحد؛ لأنه إذا كان في سنة الشمس مثلًا في درجة من برج، فإذا عادت إليها في السنة الأخرى، فالكواكب لا يتّفق كونها في بروجها، كما كانت في السنة الماضية، والأحكام تختلف بالقرائن، والمقابلات، ونظرِ الكواكب بعضها إلى بعض، فلا يحصل شيء من ذلك مكرّرًا.

واتّفقوا على أنه لا سبيل إلى الوقوف على الأحكام، ولا يجوز القطع على البتّ؛ لتعذّر الإحاطة بها على التفصيل.

ومما يدلّ على أنه لا حجة في قولهم أنهم اختلفوا فيما بينهم في حكم الزّنج، فلأهل هند وسِنْد طريق يخالف أرباب الزّنج الممتحن.

وفصل الشيخ في الاختلاف بينهم تفصيلًا، ثم قال: ومما يدلّ على فساد قولهم أن يقال: أخبرونا عن مولودين وُلدا في وقت واحد، أليس يجب تساويهما في كلّ وجه؟ لا تمييز بينهما في الصورة والقدر والمنظر حتى لا

(1)

"المفهم" 5/ 638.

ص: 446

يصيب أحدهما نكبة إلا أصاب الآخر، وحتى لا يفعل هذا شيئًا إلا والآخر يفعل مثله، وليس في العالم اثنان هذا صفتهما.

قالوا: ومن المحال أن يوجد مولودان في العالم في وقت واحد، ولا بدّ أن يتقدّم أحدهما على الآخر، فيقال: أمحال ذلك في العقل والتقدير، أم في الوجود؟ فإن قالوا: بالأول بانَ فساد قولهم، وإن قالوا بالثاني قيل: وما يؤمّنكم منه؟.

فإن قالوا: ليس أمر الكسوفين يصدق، قلنا: ليس أمر الكسوفين من الأحكام، وإنما هو من طريق الحساب، وذلك غير منكَر، ويجوز أن يكون أمر سَيْر الكواكب على ما قالوه، وقد ورد في الشريعة في أمر الكسوفين أنه آية من آيات الله.

فإن قالوا: فما قولكم في المنجّمين، إنهم مخطئون في جميع ما يحكمون، مكابرون للعقول؟.

قلنا: إنا نقول: إنهم مخطئون في أصولهم عن شُبَهٍ وقعت لهم، فلا يعرفون بطلان قولهم مكابرةً للعقول، ولا بالضرورة، بل جزموا على مقتضى قواعد بَنَوْها على أصول فاسدة وقعت الشبهة لسلفهم في أصول قواعدهم، فربّما يصيبون في تركيب الفروع على تلك الأصول، فمنزلتهم في الأحكام كمنزلة أصحاب الحدس والتخمين، وأصحاب الزوج والفرد، فربّما يصيبون اتّفاقًا، لا عن ضرورة، وربّما يُخطئون، وكثيرًا ما نجد من الفلّاحين والملّاحين يعتبرون نوع ما اعتادوا من توقّع المطر، وهبوب الريح في أوقات راعوها بدلالات ادّعوا أنهم جرّبوها في السماء والهواء، وغير ذلك، فيحصل بعض أحكامهم اتّفاقًا، لا تحقيقًا. انتهى منقولًا من "الكاشف" للطيبيّ رحمه الله

(1)

، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5806]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا الْوَليدُ بْنُ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا أَبُو عَمْرٍو الأَوْزَاعِيُّ (ح) وَحَدَّثَنَا أَبُو الطَّاهِرِ، وَحَرْمَلَةُ، قَالَا: أَخْبَرنَا

(1)

"الكاشف عن حقائق السنن" 9/ 2996 - 2997.

ص: 447

ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ (ح) وَحَدَّثَنِي سَلَمَةُ بْنُ شَبِيبٍ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَعْيَنَ، حَدَّثَنَا مَعْقِلٌ - يَعْنِي: ابْنَ عُبَيْدِ اللهِ - كُلُّهُمْ عَنِ الزُّهْرِيِّ، بِهَذَا الإِسْنَادِ، غَيْرَ أَنَّ يُونُسَ قَالَ: عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ، أَخْبَرَنِي رِجَالٌ مِنْ أَصحَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الأَنْصَارِ، وَفِي حَدِيثِ الأَوْزَاعِيِّ:"وَلَكِنْ يَقْرِفُونَ فِيهِ، وَيَزِيدُونَ"، وفي حَدِيثِ يُونُسَ:"وَلَكِنَّهُمْ يَرْقَوْنَ فِيهِ، وَيَزِيدُونَ"، وَزَادَ فِي حَدِيثِ يُونُسَ: وَقَالَ اللهُ: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ} ، وَفِي حَدِيثِ مَعْقِلٍ كَمَا قَالَ الأَوْزَاعِيُّ:"وَلَكِنَّهُمْ يَقْرِفُونَ فِيهِ، وَيَزِيدُونَ").

رجال هذه الأسانيد: أحد عشر:

1 -

(الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ) القرشيّ مولاهم، أبو العبّاس الدمشقيّ، ثقةٌ، لكنه كثير التدليس والتسوية [8](ت 4 أو 195)(ع) تقدم في "الإيمان" 10/ 148.

والباقون ذُكروا في الباب، وقبله.

وقوله: (كُلُّهُمْ عَنِ الزُّهْرِيِّ، بِهَذَا الإسْنَادِ)؛ يعني: أن الثلاثة: الأوزاعيّ، ويونس، ومعقل بن عبيد الله رووا عن الزهريّ، عن عليّ بن حسين، عن ابن عبّاس، عن رجل من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم.

وقوله: ({حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ} [سبأ: 23])، قال القرطبيّ: قرأه ابن عامر، ويعقوب:(فَزَّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ) مبنيًا للفاعل، ويكون فيه ضمير يعود على الله تعالى؛ أي: أزال عن قلوبهم الفزع، وهذا على نحو قولهم: مرَّضتُ المريض؛ إذا عالجته، فأزلتُ مرضه. وقرأه الجماعة:{فُزِّعَ} بضم الفاء؛ مبنيًا للمفعول الذي لم يُسَمَّ فاعله؛ أي: أُزيلَ عن قلوبهم الفزع، وهو الذعر، على كلتا القراءتين. قال كعب: إذا تكلَّم الله بلا كيف ضربت الملائكة بأجنحتها، وخرَّت فزعًا، ثم قالوا فيما بينهم:{مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ} .

وقوله: ({قَالُوا الْحَقَّ}) بالنصب على أنه نَعْت لمصدر محذوف؛ أي: قال: القول الحق، وهو مفعول مطلق، لا مفعول به؛ لأنَّ القول لا يتعدَّى إلا إلى الجُمَل، في أكثر قول النحويين.

ص: 448

وقوله: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} ؛ أي: العلي شأنُهُ، الكبيرُ سلطانُهُ. انتهى

(1)

.

[تنبيه]: رواية الأوزاعيّ عن الزهريّ، ساقها أبو جعفر محمد بن عثمان بن أبي شيبة في كتاب "العرش"، فقال:

(21)

- حدّثنا مَلِيح بن وكيع، وإسحاق بن موسى، قالا: نا الوليد بن مسلم، حدّثني أبو عمرو الأوزاعيّ عبد الرحمن بن عمرو قال: حدّثني ابن شهاب الزهريّ، حدّثني عليّ بن حسين بن عليّ، عن عبد الله بن عباس، عن رجال من الأنصار، أنهم كانوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ رُمي بنجم، فاستنار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ما كنتم تقولون لمثل هذا في الجاهلية؟ " قالوا: كنا نقول: وُلد الليلة رجل عظيم، أو مات رجل عظيم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إنه لا يُرْمَى بها لموت أحد، ولا لحياته، ولكن ربنا تبارك وتعالى إذا قضى في السماء أمرًا، سبَّحته حملة العرش، ثم سبّحته ملائكة السماء الذين يلون العرش، ثم سبّحته أهل السماء الثانية، حتى ينتهي التسبيح إلى السماء الدنيا، ثم يقول الذين يلون حملة العرش لحملة العرش: ماذا قال ربكم؟ فيخبرونهم، ثم يستخبر أهل السماء أهل السماوات بعضهم بعضًا، حتى ينتهي الخبر إلى السماء، وتخطف الجنّ السمع، فما جاءوا به على وجهه فهو حقّ، ولكنهم يَقْرِفون فيه، ويزيدون". انتهى

(2)

.

ورواية يونس بن يزيد عن الزهريّ ساقها ابن منده رحمه الله في "الإيمان"، فقال:

(698)

- أنبأ أحمد بن عمرو أبو الطاهر، ثنا يونس بن عبد الأعلى، ثنا عبد الله بن وهب، أخبرني يونس بن يزيد، عن ابن شهاب، قال: أخبرني عليّ بن الحسين، أن ابن عباس قال: أخبرني رجال من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم من الأنصار، أنهم بينما هم جلوس ليلةً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ رُمي بنجم، فاستنار، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ماذا كنتم تقولون في الجاهلية، إذا رُمِيَ بمثل هذا؟ " قالوا: - الله ورسوله أعلم - كنا نقول: وُلد الليلة عظيم، ومات عظيم، فقال

(1)

"المفهم" 5/ 639.

(2)

"العرش" 1/ 61 لأبي جعفر محمد بن عثمان بن محمد بن أبي شيبة.

ص: 449

رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنها لا تُرمى لموت أحد، ولا لحياته، ولكن ربنا إذا قضى أمرًا سبّح حملة العرش، ثم سبّح أهل السماء الذين يلونهم، حتى يبلغ التسبيح أهل السماء الذين يلون حملة العرش، ماذا قال ربكم

(1)

، فيخبرونهم، فيسبّح أهل السموات حتى يبلغ الخبر أهل هذه السماء الدنيا، فيخطف الجنّ السمع، فيذهبون إلى أوليائهم، فما جاءوا به على وجهه فهو حقّ، وإنهم يَقْرِفون فيه، ويزيدون، قال الله عز وجل:{حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ} ". انتهى

(2)

.

وأما رواية معقل بن عبيد الله عن الزهريّ، فلم أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5807]

(2230) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى الْعَنَزِيُّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى - يَعْنِي: ابْنَ سَعِيدٍ - عَنْ عُبَيْدِ اللهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ صَفِيَّةَ، عَنْ بَعْضِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ أَتَى عَرَّافًا، فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ لمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلَاةٌ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى الْعَنَزِيُّ) أبو موسى البصريّ، تقدّم قبل بابين.

2 -

(يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ) القطّان، تقدّم قريبًا.

3 -

(عُبَيْدُ اللهِ) بن عمر العمريّ المدنيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

4 -

(نَافِعٌ) مولى ابن عمر المدنيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

5 -

(صَفِيَّةُ) بنت أبي عبيد بن مسعود الثقفيّة، زوج ابن عمر، قيل: لها إدراك، وأنكره الدارقطنيّ، وقال العجليّ: ثقةٌ، قال في "التقريب": فهي من الثانية (خت م د س ق) تقدمت في "الطلاق" 9/ 3730.

6 -

(بَعْضُ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) هي حفصة بنت عمر رضي الله عنهما، أم المؤمنين المتوفّاة سنة (45)(ع) تقدّمت في "صلاة المسافرين وقصرها" 15/ 1676.

(1)

هكذا النسخة، والظاهر أن فيه سقطًا، فليُحرّر، والله تعالى أعلم.

(2)

"الإيمان لابن منده" 2/ 701 - 702.

ص: 450

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وهو مسلسلٌ بالمدنيين، غير شيخه، ويحيى، فبصريّان، وأن شيخه أحد التسعة الذين روى عنهم الجماعة بلا واسطة، وتقدّموا غير مرّة.

شرح الحديث:

(عَنْ بَعْضِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) هي حفصة أم المؤمنين رضي الله عنها، كما بيّنها أبو سعيد عثمان بن سعيد الدارميّ في "مسندها"

(1)

. (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قَالَ: "مَنْ أَتَى عَرَّافًا) - بفتح العين المهملة، وتشديد الراء -: من يستخرج الوقوف على المغيَّبات بضرب من فعل، أو قول، قاله في "الفتح"، وقال الخطابيّ وغيره: العرّاف: هو الذي يتعاطى معرفة مكان المسروق، ومكان الضالة، ونحوهما

(2)

.

وقال النوويّ: الفرق بين الكاهن والعرّاف، أن الكاهن إنما يتعاطى الأخبار عن الكوائن المستقبَلة، ويزعم معرفة الأسرار، والعرّاف يتعاطى معرفة الشيء المسروق، ومكان الضالّة، ونحو ذلك، ومن الكهنة من يزعم أن جنيًّا يُلقي إليه الأخبار، ومنهم من يَدّعي إدراك الغيب بفهم أعطيه، وأمارات يستدلّ بها عليه. انتهى

(3)

.

وقال الراغب: العَرَافة مختصة بالأمور الماضية، والكهانة بالحادثة، وكان ذلك في العرب كثيرًا، وآخر من رُوي عنه الأخبار العجيبة: سَطِيح، وسَوَاد بن قَارِب. انتهى

(4)

.

(فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ)؛ أي: من المغيبات، ونحوها (لَمْ تُقْبَلْ) بالبناء للمجهول، (لَهُ صَلَاةٌ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) خَصّ العدد بالأربعين على عادة العرب في ذِكْر الأربعين والسبعين، ونحوهما، للتكثير، أو لأنها المدّة التي ينتهي إليها تأثير تلك المعصية في قلب فاعلها، وجوارحه، وعند انتهائها ينتهي ذلك

(1)

"تنبيه المعلم" ص 381.

(2)

"شرح النوويّ" 14/ 227.

(3)

"فيض القدير" للمناويّ 6/ 22.

(4)

"فيض القدير" 6/ 23.

ص: 451

التأثير، ذكره القرطبيّ، وخَصّ الليلة؛ لأن من عاداتهم ابتداء الحساب بالليالي، وخص الصلاة؛ لكونها عماد الدين، فصومه كذلك، كذا قيل، قاله المناويّ رحمه الله

(1)

.

وقال النوويّ رحمه الله: معنى الحديث: أنه لا ثواب له فيها، وإن كانت مجزئة في سقوط الفرض عنه، ولا يَحتاج معها إلى إعادة، ونظير هذه: الصلاةُ في الأرض المغصوبة مُجْزِئةٌ، مُسْقِطة للقضاء، ولكن لا ثواب فيها، كذا قاله جمهور أصحابنا، قالوا: فصلاة الفرض وغيرها من الواجبات إذا أتى بها على وجهها الكامل، ترتب عليها شيئان: سقوط الفرض عنه، وحصول الثواب، فإذا أدّاها في أرض مغصوبة حصل الأول دون الثاني، ولا بد من هذا التأويل في هذا الحديث، فإن العلماء متفقون على أنه لا يلزم من أتى العرّاف إعادة صلوات أربعين ليلة، فوجب تأويله. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: القول بإجزاء تلك الصلاة محلّ نظر، فأين الدليل على ذلك؟ بل الظاهر أنها غير مجزئة، وماذا يفعل النوويّ ومن يرى رأيه بحديث:"لا يقبل الله صلاة من أحدث حتى يتوضّأ" متّفقٌ عليه؟، فهل إذا صلى تجزؤه؟ هيهات، وكذا حديث:"لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار"؟ حديث صحيح رواه أبو داود، فهل لو صلّت المرأة بغير خمار يُجزئها؟ هيهات، وهل بين هذه النصوص فرق؟ هيهات، فتأمل بالإنصاف، ولا تكن أسير التقليد، والله تعالى أعلم.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث صفيّة عن بعض أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم من أفراد المصنّف رحمه الله.

[تنبيه]: أخرج هذا الحديث الضياء المقدسيّ في "الأحاديث المختارة" من طريق عبد العزيز بن محمد الدراورديّ، عن أبي بكر بن نافع، عن أبيه، عن صفية بنت أبي عبيد، أنها سمعت عمر بن الخطاب على المنبر يقول:

(1)

"فيض القدير" 6/ 23.

ص: 452

سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من أتى عَرّافًا لا تُقبل له صلاة أربعين ليلة"

(1)

، فجعله من مسند عمر رضي الله عنه، والصحيح أنه من مسند بعض أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم، كما أخرجه مسلم هنا، فوهم فيه الدراورديّ، وقد بيّن ذلك الحافظ ابن رجب رحمه الله في "شرح علل الترمذيّ"، فقال في ترجمة عبد العزيز بن محمد الدراورديّ: قال أحمد: أحاديثه عن عبيد الله بن عمر، تشبه أحاديث عبد الله بن عمر، قال أبو حاتم الرازيّ: ظهر مصداق قول أحمد في حديث الدراورديّ عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر:"من أتى عرّافًا فصدّقه بما يقول، لم تُقبل له صلاة أربعين ليلة".

قال: والناس يروونه عن عبد الله العمري، عن نافع، عن ابن عمر، وليس يُشبه هذا حديث عبيد الله، ورواه الدراورديّ، عن أبي بكر بن نافع، عن أبيه، عن صفية بنت أبي عبيد، عن عمر، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، ثم قال: وعن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر مثله.

قال ابن رجب: والصحيح أن عبيد الله بن عمر إنما رواه عن نافع، عن صفية بنت أبي عبيد، عن بعض أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهذا أصحّ من حديث أبي بكر بن نافع، قاله ابن المدينيّ، وقد خَرَّجه مسلم في "صحيحه" من طريق يحيى القطان، عن عبيد الله، كما ذكرناه، وقال النسائيّ: الدراورديّ ليس به بأس، حديثه عن عبيد الله بن عمر منكرٌ. انتهى كلام ابن رجب رحمه الله، وهو تحقيقٌ نفيسٌ جدًّا، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [20/ 5807](2230)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 68 و 5/ 380)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(8/ 138)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان أن إتيان العرافين كبيرة، يَمنع من قبول الصلاة أربعين ليلةً.

2 -

(ومنها): ما قال القرطبيّ رحمه الله: ظاهره أن صلواته في هذه الأربعين

(1)

"الأحاديث المختارة" 1/ 245.

ص: 453

تَحْبَط، وتَبْطُل، وهو جارٍ على أصول الخوارج الفاسدة في تكفيرهم بالذنوب، وقد بيَّنا فساد هذا الأصل فيما تقدم، وأنه لا يَحبط الأعمال إلا الردة، وأما غيرها فالحسنات تُبطل السيئات، كما قال تعالى:{إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114]، وهذا مذهب أهل السنَّة والجماعة، فليس معنى قوله:"لا تقبل له صلاة" أن تحبط، بل إنما معناه - والله أعلم - أنَّها لا تُقبل قبول الرضا، وتضعيف الأجر. لكنه إذا فعلها على شروطها الخاصة بها، فقد برئت ذمّته من المطالبة بالصلاة، وتَفَصّى عن عهدة الخطاب بها، ويفوته قبول الرضا عنه، وإكرامه، وثوابه، ويتضح ذلك باعتبار ملوك الأرض، ولله المثل الأعلى، وذلك أن الْمُهدِي إليهم: إما مردودٌ، أو مقبول منه، والمقبول: إما مقرَّب مُكرَّم مثاب، وإما ليس كذلك. فالأول: هو المبعدُ المطرود، والثاني: هو المقبول القبول القائم الكامل. والثالث: لا يصدق عليه أنه مثل الأول، فإنه لم تردَّ هديته، بل: قد التُفِت إليه، وقُبلت منه. لكنه لمّا لم يُثَب، ولم يُقرَّب صار كأنه غير مقبول منه، فَيَصْدُق عليه أنَّه لم يُقبل منه إذ لم يحصل له ثواب ولا إكرام.

قال الجامع عفا الله عنه: كلام القرطبيّ هذا فيه نظر لا يخفى، فكلامه يدلّ على أن هذا الذي قرّره في كلامه المذكور مذهب أهل السنّة والجماعة، وهو غير صحيح، فقد قال بعدم إجزاء الصلاة في الدار المغصوبة أحمد بن حنبل، وكذا قال غيرها في غيرها، فهل يقول القرطبيّ هذا الكلام في حديث:"لا يقبل الله صلاة من أحدث حتى يتوضّأ"، لا تقبل صلاته قبول الرضا، وتكون مجزئةً؟، هيهات، وهل يقول مثل هذا في حديث:"لا تقبل صلاة حائض إلا بخمار"؛ أي: قبول الرضا، وتجزيها؟ هيهات، وَقِسْ على هذا.

والحاصل: أن كون عدم القبول كناية عن عدم الإجزاء هو الواضح، ومثله في الصلاة في الدار المغصوبة، وصلاة الآبق، وصلاة شارب الخمر، وغير ذلك، فكلّها معناه أنها لا تجزئ، بل تجب إعادتها، وقد أوضحت هذا في "التحفة المرضيّة" في الأصول، و"شرحها"، فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق.

3 -

(ومنها): ما قال القرطبيّ رحمه الله أيضًا: تخصيصه صلى الله عليه وسلم الأربعين بالذكر

ص: 454

قد جاء في مواضع كثيرة من الشرع، منها: قوله في شارب الخمر: "لا تقبل له صلاة أربعين يومًا"

(1)

، وقوله:"والذي نفسي بيده! إنه لَيُجْمَع خَلْق أحدكم في بطن أمه أربعين يومًا، ثم يكون علقةً مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك"

(2)

، وقوله:"من أخلص لله أربعين ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه"

(3)

، ومنه قوله تعالى:{وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} [البقرة: 51]، ومنه: توقيته صلى الله عليه وسلم في قص الشارب، وتقليم الأظفار، وحلق العانة: ألّا تُترك أكثر من أربعين ليلة، فتخصيص هذه المواضع بهذا العدد الخاص: هو سرٌّ من أسرار الشريعة لم يطلع عليه نصًّا، غير أنه قد تنسّم منه بعضُ علمائنا أمرًا تسكن النفسُ إليه، وذلك: أنه قال: إن هذا العدد في هذه المواضع إنما خُصَّ بالذِّكر لأنَّه مدَّة يكمل فيها ما ضربت له، فينتقل إلى غيره، ويحصل فيها تبدُّله، وبيانه بانتقال أطوار الخلقة، في كل أربعين منها يكمل فيها طور، فينتقل عند انتهائه إلى غيره، كما قد نصَّ عليه في الحديث، وكذلك في الأربعين الميعادية: أمر بنو إسرائيل أن يكملوا تهيُّؤهم لسماع كلام الله، فكَمُل لهم ذلك عند انتهائها، ومثل ذلك في الأربعين الإخلاصية، وأما أربعون شارب الخمر فلِيَتَبدَّل لحم شارب الخمر بغيره، ويؤيده أن أهل التجارب قالوا: إن السِّمَن يظهر في الحيوان في أربعين يومًا، وقريبٌ من هذا الأربعون المضروبة لخصال الفطرة؛ لأنَّها عند انتهائها يكمل فحشها، واستقذارها، فينبغي أن تغيّر عن حالها. وأما أربعون إتيان العراف فلأنها - والله أعلم - المدة التي ينتهي إليها تأثير تلك المعصية في قلب فاعلها، وفي جوارحه، وعند انتهائها ينتهي ذلك التأثير. والله تعالى أعلم، وهو العليم الخبير. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(4)

، وهو بحثٌ جيّد، والله تعالى أعلم.

[تنبيه]: قد ورد في ذم الكهانة ما أخرجه أصحاب "السنن"، وصححه

(1)

حديث صحيح، رواه النسائيّ 8/ 316.

(2)

متّفقٌ عليه.

(3)

حديث ضعيف، رواه ابن المبارك في "الزهد"(1014)، وأبو نعيم في "الحلية" 5/ 189.

(4)

"المفهم" 5/ 635 - 637.

ص: 455

الحاكم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه رفعه: "من أتى كاهنًا، أو عَرّافًا، فصدّقه بما يقول، فقد كفر بما أُنزل على محمد صلى الله عليه وسلم"، وله شاهد من حديث جابر، وعمران بن حصين رضي الله عنهم، أخرجهما البزار بسندين جيدين، ولفظهما:"من أتى كاهنًا. . ."، وأخرج أبو يعلى من حديث ابن مسعود رضي الله عنه بسند جيد، لكن لم يصرح برفعه، ومثله لا يقال بالرأي، ولفظه:"من أتى عَرّافًا، أو ساحرًا، أو كاهنًا. . ."، واتفقت ألفاظهم على الوعيد بلفظ حديث أبي هريرة رضي الله عنه، إلا حديث مسلم، فقال فيه:"لم يُقبل له صلاة أربعين يومًا"، ووقع عند الطبرانيّ من حديث أنس بسند ليّن، مرفوعًا بلفظ:"من أتى كاهنًا، فصدّقه بما يقول، فقد برئ مما أُنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، ومن أتاه غير مصدِّق له، لم تُقبل صلاته أربعين يومًا".

قال الحافظ رحمه الله: والأحاديث الأُوَلُ مع صحتها، وكَثْرتها أَولى من هذا، والوعيد جاء تارةً بعدم قبول الصلاة، وتارةً بالتكفير، فَيُحْمَل على حالين من الآتي، أشار إلى ذلك القرطبيّ. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(21) - (بَابُ اجْتِنَابِ الْمَجْذُومِ)

" الْجُذَام" - بضم الجيم، وتخفيف المعجمة -: هو عِلَّة رَدِيئةٌ، تحدُث من انتشار الْمِرّة السوداء في البدن كله، فتُفسِد مزاج الأعضاء، وربما أفسد في آخره إيصالها حتى يتأكل، قال ابن سيده: سُمِّي بذلك؛ لتجذّم الأصابع، وتقطعها. انتهى

(2)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5808]

(2231) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا هُشَيْمٌ (ح) وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا شَرِيكُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، وَهُشَيْمُ بْنُ بَشِيرٍ، عَنْ يَعْلَى بْنِ

(1)

"الفتح" 10/ 217.

(2)

"الفتح" 13/ 95، كتاب "الطبّ" رقم (5707).

ص: 456

عَطَاءٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الشَّرِيدِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كَانَ فِي وَفْدِ ثَقِيفٍ رَجُلٌ مَجْذُومٌ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"إِنَّا قَدْ بَايَعْنَاكَ، فَارْجِعْ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(شَرِيكُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) بن أبي شريك النخعيّ الكوفيّ القاضي بواسط، ثم الكوفة، أبو عبد الله، صدوقٌ يُخطئ كثيرًا، تغيّر حفظه منذ ولي القضاء بالكوفة، وكان عادلًا فاضلًا عابدًا شديدًا على أهل البدع [8](ت 7 أو 178)(خت م 4) تقدم في "الصلاة" 36/ 1030.

2 -

(هُشَيْمُ بْنُ بَشِيرٍ) السلميّ، أبو معاوية بن أبي خازم الواسطيّ، ثقة ثبت كثير التدليس والإرسال الخفيّ [7](ت 183)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 9.

3 -

(يَعْلَى بْنُ عَطَاءٍ) العامريّ، أو الليثيّ الطائفيّ، ثقة [4](ت 120) أو بعدها (ز م 4) تقدم في "الصلاة" 21/ 939.

4 -

(عَمْرُو بْنُ الشَّرِيد) - بفتح الشين المعجمة - ابن سُويد الثقفيّ، أبو الوليد الطائفيّ، ثقة [3].

قال العجليّ: حجازيّ تابعيّ ثقة. وذكره ابن حبّان في "الثقات".

روى له الجماعة، سوى الترمذيّ، فروى له في "الشمائل"، وله في هذا الكتاب حديثان فقط هذا برقم (2231)، وحديث (2255):"هل معك من شعر أميّة. . .".

5 -

(أَبُوهُ) الشريد - بوزن الطَّويل - ابن سُويد، مصغّرًا الثقفيّ، صحابيّ، شهِد بيعة الرضوان، وقيل: إنه من حضرموت، وعِدَاده في ثقيف.

رَوَى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعنه ابنه عمرو، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وعمرو بن نافع الثقفيّ، ويعقوب بن عاصم الثقفيّ بالشك في بعض الروايات، وقال أبو نعيم: أردفه النبيّ صلى الله عليه وسلم وراءه، وقيل: اسمه مالك، ووَفَد على النبيّ صلى الله عليه وسلم، فسمّاه الشَّرِيد، وشَهِد بيعة الرضوان.

علَّق البخاريّ له حديثًا في "كتاب القرض"، وأخرج له في "الأدب المفرد"، والمصنّف، وأبو داود، والترمذيّ في "الشمائل"، والنسائيّ، وابن ماجه، وله في هذا الكتاب الحديثان المذكوران في ترجمة ابنه قبله.

ص: 457

والباقيان تقدّما في البابين الماضيين.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيات المصنّف رحمه الله، وفيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ، والابن، عن أبيه.

شرح الحديث:

(عَنْ عَمْرِو بْنِ الشَّرِيدِ) الثقفيّ الطائفيّ (عَنْ أَبِيهِ) الشّريد بن سُويد رضي الله عنه أنه (قَالَ: كَانَ فِي وَفْدِ ثَقِيفٍ رَجُلٌ مَجْذُومٌ)؛ أي: أَصابه مرض الجُذام، قال المجد: و"الْجُذَام" كغُرَاب: عِلّةٌ تَحدُث من انتشار السوداء في البدن كلّه، فيَفسُد مِزاجُ الأعضاء، وهيآتُها، وربّما انتهى إلى تآكل الأعضاء، وسقوطها عن تقرّح، جُذِمَ كعُنِيَ، فهو مَجذومٌ، ومُجَذَّمٌ، وأجذم، ووهِمَ الجوهريّ في منعه. انتهى.

وقال الفيّوميّ: الجَذْمُ القطع، وهو مصدرٌ، من باب ضَرَبَ، ومنه يقال: جُذِمَ الإنسان بالبناء للمفعول: إذا أصابه الْجُذَام؛ لأنه يقطَعُ اللحم، ويُسقطه، وهو مجذوم، قالوا: ولا يقال فيه من هذا المعنى: أجذم وِزانُ أحمر. انتهى.

قال الجامع: قد عرفت أن المجد خطّأ الجوهريّ في هذا، وأثبت جواز أجذم. فتنبّه. والله تعالى أعلم.

(فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّا قَدْ بَايَعْنَاكَ، فَارْجِعْ") ولفظ النسائيّ: "ارْجِعْ، فَقَدْ بَايَعْتُكَ"؛ أي: ولم يأخذ صلى الله عليه وسلم بيده عند المبايعة، تخفيفًا عن المجذوم والناس؛ لئلا يشقّ عليه الاقتحام معهم، فيتأذّى هو في نفسه، ويتأذّى به الناس.

وقد روى الترمذيّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه أكل مع مجذوم، فقال:"باسم الله، توكّلًا على الله"، وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:"فِرّ من المجذوم كما تفرّ من الأسد"، رواه البخاريّ. وهذا الخطاب إنما هو لمن يجد في نفسه نَفْرة طبيعيّة، لا يقدر على الانتزاع منها، فأمَره بالفرار؛ لئلّا يتشوّش عليه، ويغلبه وَهْمه، وليس ذلك خوفًا لعدوى، فقد قال صلى الله عليه وسلم:"لا يُعدي شيءٌ شيئًا"، وقال:"لا عدوى"، وقال للأعرابيّ:"فمن أعدى الأول؟ ". قاله القرطبيّ، والله تعالى أعلم.

ص: 458

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث الشَّرِيد بن سُوَيد رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [21/ 5808](2231)، و (النسائيّ) في "المجتبى"(7/ 150) و"الكبرى"(7805)، و (ابن ماجه) في "الطبّ"(3544)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(5/ 142 و 311)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 389 و 390)، و (الطبريّ) في "تهذيب الآثار"(3/ 18)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(7/ 218) و"شُعَب الإيمان"(2/ 122)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان مشروعيّة اجتناب المجذوم، وعدم مباشرته، وكذا مباعدة أهل الأسقام الفادحة، المستكرهة، إذا لم يؤدّ ذلك إلى إضاعتهم، وإهمالهم.

قال النوويّ رحمه الله: هذا الحديث موافق للحديث الآخر في "صحيح البخاريّ": "فِرَّ من المجذوم فرارك من الأسد"، وقد سبق شرح هذا الحديث في "باب لا عدوى"، وأنه غير مخالف لحديث:"لا يُورِد مُمْرِض على مُصِحّ"، قال القاضي عياض: قد اختَلَفت الآثار عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في قصة المجذوم، فثبت عنه الحديثان المذكوران، وعن جابر رضي الله عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أكل مع المجذوم، وقال له:"كُلْ ثقةً بالله، وتوكلًا عليه"، وعن عائشة رضي الله عنها قالت:"كان عندي مولى مجذوم، فكان يأكل في صحافي، ويشرب في أقداحي، وينام على فراشي"، قال: وقد ذهب عمر رضي الله عنه وغيره من السلف إلى الأكل معه، ورأوا أن الأمر باجتنابه منسوخًا، والصحيح الذي قاله الأكثرون، ويتعيَّن المصير إليه أنه لا نَسْخ، بل يجب الجمع بين الحديثين، وحَمْل الأمر باجتنابه، والفرار منه على الاستحباب، والاحتياط، لا للوجوب، وأما الأكل معه فَفَعله لبيان الجواز، والله أعلم. انتهى

(1)

.

(1)

"شرح النوويّ" 14/ 228.

ص: 459

2 -

(ومنها): بيان مشروعيّة بيعة المجذوم، وأنها تكون بالقول، دون المصافحة باليد.

3 -

(ومنها): ما قاله بعض أهل العلم: في هذا الحديث، وما في معناه دليلٌ على أنه يثبت للمرأة الخيار في فسخ النكاح إذا وجدت زوجها مجذومًا، أو حدث به جُذامٌ. قال النووي: واختلف أصحابنا، وأصحاب مالك في أن أَمَته هل لها مَنْع نفسها من استمتاعه إذا أرادها؟. قال القاضي: قالوا: ويُمنع من المسجد، والاختلاط بالناس. قال: وكذلك اختلفوا في أنهم إذا كثُرُوا، هل يؤمرون أن يتّخذوا لأنفسهم موضعًا منفردًا، خارجًا عن الناس، ولا يُمنعون من التصرّف في منافعهم، وعليه أكثر الناس، أم لا يلزمهم التنحّي؟ قال: ولم يختلفوا في القليل منهم في أنهم لا يُمنعون. قال: ولا يُمنعون من صلاة الجمعة مع الناس، ويُمنعون من غيرها. قال: ولو استضرّ أهل قرية فيهم جَذْمَى بمخالطتهم في الماء، فإن قَدَروا على استنباط ماء بلا ضرر أُمرُوا به، وإلا استنبطه لهم الآخرون، أو أقاموا من يستقي لهم، وإلا فيُمنعون. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم.

* * *

(1)

"شرح النوويّ" 14/ 228.

ص: 460

‌41 - (كِتَابُ

(1)

قَتْلِ الْحَيَّاتِ، وَغَيْرِهَا)

(1) - (بَابُ الأَمْرِ بِقَتْلِ ذِي الطُّفْيَتِيْنِ، والأَبْتَرِ، والنَّهْيِ عَنْ قِتْلِ جِنَّانِ الْبُيُوتِ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5809]

(2232) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ، وَابْنُ نُمَيْرٍ، عَنْ هِشَامٍ (ح) وَحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا عَبْدَةُ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ:"أَمَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِقَتْلِ ذِي الطُّفْيَتَيْنِ، فَإِنَّهُ يَلْتَمِسُ الْبَصَرَ، وَيُصِيبُ الْحَبَلَ").

رجال هذين الإسنادين: ثمانية:

وكلّهم تقدّموا قريبًا، وابن نمير هو: عبد الله بن نمير الْهَمْدانيّ.

[تنبيه]: من لطائف هذين الإسنادين:

أنهما من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، والابن عن أبيه، عن خالته، وفيه أبو كريب أحد التسعة الذين روى عنهم الجماعة بلا واسطة، وفيه عروة أحد الفقهاء السبعة، وفيه عائشة رضي الله عنها من المكثرين السبعة.

شرح الحديث:

(عَنْ عَائِشَةَ) أم المؤمنين رضي الله عنها أنها (قَالَتْ: أَمَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِقَتْلِ ذِي الطُّفْيَتَيْنِ) تثنية طُفية بضم الطاء المهملة، وسكون الفاء، وهي خُوصة الْمُقْل،

(1)

وفي بعض النُّسخ: "باب" بدل "كتاب".

ص: 461

والطُّفْي: خُوص الْمُقْل

(1)

، شبَّه به الخط الذي على ظهر الحية، وقال ابن عبد البرّ: يقال: إن ذا الطُّفيتين جنس من الحيات، يكون على ظهره خطان أبيضان

(2)

.

وقال في "شرح ابن ماجه": هي حية خبيثة، على ظهرها خطّان أسودان، والطُّفْية بالضم: خُوصة الْمُقْل؛ أي: وَرَقه، وجَمْعها: طُفَى، شُبِّهَ الخطّان به. انتهى

(3)

.

(فَإِنَّهُ يَلْتَمِسُ الْبَصَرَ)؛ أي: يخطفه، ويطمسه، (وَيُصِيبُ الْحَبَلَ") بفتحتين؛ أي: حَمْل المرأة، فيُسقطه، وذلك أن المرأة الحامل إذا نظرت إلى حيّة من هذا النوع، وخافت أسقطت حَمْلها غالبًا

(4)

.

قال الجامع عفا الله عنه: هكذا قيل، والحقّ أن ذلك الإسقاط من سُمّها كما يأتي قريبًا، والله تعالى أعلم.

وفي رواية أبي معاوية التالية: "الأبتر، وذو الطفيتين"، و"الأبتر": الحية القصيرة الذنب، قال الداوديّ: هو الأفعى التي تكون قدر شبر، أو أكبر قليلًا، والله تعالى أعلم.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [1/ 5809 و 5810](2232)، و (البخاريّ) في "بدء الخلق"(3308 و 3309)، و (ابن ماجه) في "الطبّ"(2/ 1169)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 29 و 49 و 52 و 134 و 147 و 157 و 230)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(7/ 319)، و (ابن الجعد) في "مسنده"(1/ 240)، والله تعالى أعلم.

(1)

"الخُوص" بالضمّ: ورق النخل، الواحدة خوصة، و"الْمَقلُ" حَمْلُ الدَّوْم، قاله في "المصباح".

(2)

"الفتح" 6/ 348.

(3)

"شرح سنن ابن ماجه" 1/ 252.

(4)

راجع: "تكملة فتح الملهم" 4/ 391.

ص: 462

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5810]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَاهُ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، أَخْبَرَنَا هِشَامٌ، بِهَذَا الإِسْنَادِ، وَقَالَ: "الأَبْتَرُ، وَذُو الطُّفْيَتَيْنِ").

رجال هذا الإسناد: ثلاثة:

وكلهم تقدّموا قريبًا، و"إسحاق بن إبراهيم" هو ابن راهويه، و"أبو معاوية" هو محمد بن خازم الضرير.

وقوله: ("الأَبْتَرُ، وَذُو الطُّفْيَتَيْنِ") هكذا النُّسخ بالرفع، ولو نَصَبهما لكان موافقًا ما في "مسند إسحاق" الآتي، وللرفع أيضًا وجه صحيح، والتقدير: قال أبو معاوية في روايته: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل نوعين من الحيّات، وهما: الأبتر، وذو الطُّفيتين، والله تعالى أعلم.

[تنبيه]: رواية أبي معاوية عن هشام بن عروة هذه ساقها إسحاق بن راهويه في "مسنده"، فقال:

(881)

- أخبرنا أبو معاوية، نا هشام، عن أبيه، عن عائشة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"اقتلوا الأبتر، وذا الطفيتين، فإنهما يصيبان الحبَلَ، ويطمسان الأبصار". انتهى

(1)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5811]

(2233) - (وَحَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدٍ النَّاقِدُ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "اقْتُلُوا الْحَيَّاتِ، وَذَا الطُّفْيَتَيْنِ، وَالأَبْتَرَ، فَإنَّهُمَا يَسْتَسْقِطَانِ الْحَبَلَ، وَيَلْتَمِسَانِ الْبَصَرَ"، قَالَ: فَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقْتُلُ كُلَّ حَيَّةٍ وَجَدَهَا، فَأَبْصَرَهُ أَبُو لُبَابَةَ بْنُ عَبْدِ الْمُنْذِرِ، أَوْ زَيْدُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَهُوَ يُطَارِدُ حَيَّةً، فَقَالَ: إِنَّهُ قَدْ نَهَى عَنْ ذَوَاتِ الْبُيُوتِ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

وكلّهم تقدّموا قبل بابين.

(1)

"مسند إسحاق بن راهويه" 2/ 350.

ص: 463

شرح الحديث:

(عَنْ سَالِمِ) بن عبد الله (عَنْ أَبِيهِ) عبد الله بن عمر بن الخطّاب رضي الله عنهما (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) أنه قال: ("اقْتُلُوا الْحَيَّاتِ، وَذَا الطُّفْيَتَيْنِ، وَالأَبْتَرَ) وفي رواية البخاريّ: "عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه سمع النبيّ صلى الله عليه وسلم يخطب على المنبر يقول: اقتلوا الحيّات، واقتلوا ذا الطُّفْيتين والأبتر". (وَذَا الطُّفْيَتَيْنِ) تثنية طُفية بضم الطاء المهملة، وسكون الفاء، هو ضَرْب من الحيّات، في ظهره خطان أبيضان، والطفية أصلها خُوص الْمُقْل، فشبّه الخط الذي على ظهر هذه الحية به، وربما قيل لهذه الحية: طفية، على معنى ذات طفية، وقد يسمى الشيء باسم ما يجاوره، وقيل: هما نقطان، حكاه القاضي، قال الخليل: وهي حية خبيثة

(1)

. (وَالأَبْتَرَ) هو مقطوع الذنب، زاد النضر بن شُميل: أنه أزرق اللون، لا تنظر إليه حامل إلا ألقت، وقيل: الأبتر الحية القصيرة الذنب، قال الداوديّ: هو الأفعى التي تكون قدر شبر، أو أكبر قليلًا.

وقوله: "والأبتر" يقتضي التغاير بين ذي الطفيتين والأبتر، ووقع في بعض الروايات:"لا تقتلوا الحيّات إلا كل أبتر ذي طفيتين"، وظاهره اتحادهما، لكن لا ينفي المغايرة، قاله في "الفتح"

(2)

.

وقال ابن عبد البرّ رحمه الله: يقال: إن ذا الطفيتين حَنَش يكون على ظهره خطّان أبيضان، ويقال: إن الأبتر الأفعى، وقيل: إنه حَنَش أبتر، كأنه مقطوع الذَّنَب، وقال النضر بن شُميل: الأبتر من الحيات صنف أزرق، مقطوع الذنب، لا تنظر إليه حامل إلا ألقت ما في بطنها، والله أعلم. انتهى

(3)

.

(فَإنَّهُمَا)؛ أي: ذا الطفيتين، والأبتر (يَسْتَسْقِطَانِ الْحَبَلَ) بفتح الحاء المهملة، والباء الموحدة، وهو الجنين، وفي رواية:"فإنه يُسقط الولد"، وفي حديث عائشة:"ويُصيب الحبَل"، وفي رواية أخرى عنها:"ويُذهب الحبل"، والكل بمعنى واحد

(4)

. (وَيَلْتَمِسَانِ الْبَصَرَ")؛ أي: يطمسه، ويُذهبه. (قَالَ) سالم

(1)

"عمدة القاري" 15/ 188.

(2)

"الفتح" 7/ 581، كتاب "بدء الخلق" رقم (3297).

(3)

"التمهيد" لابن عبد البرّ 16/ 23.

(4)

"عمدة القاري" 15/ 188.

ص: 464

(فَكَانَ ابْنُ عُمَرَ) رضي الله عنهما (يَقْتُلُ كُلَّ حَيَّةٍ وَجَدَهَا) وفي رواية: "قال ابن عمر: فكنت لا أترك حيّةً إلا قتلتها، حتى طاردت حية من ذوات البيوت. . ." الحديث. (فَأَبْصَرَهُ أَبُو لُبَابَةَ بْنُ عَبْدِ الْمُنْذِرِ)"أبو لبابة" بضم اللام، وبموحدتين: صحابيّ، مشهورٌ، اسمه بَشِير - بفتح الموحدة، وكسر المعجمة -، وقيل: مصغرٌ، وقيل: بتحتانية، ومهملة، مصغرًا، وقيل: رفاعة، وقيل: بل اسمه كنيته، ورفاعة، وبشيرٌ أخواه، واسم جدّه زَنْبَر، بزاي، ونون، وموحّدة، وزانُ جعفر، وهو أوسيّ، من بني أمية بن زيد، وشذّ من قال: اسمه مروان، وليس له في "الصحيحين" إلا هذا الحديث، وكان أحد النقباء، وشَهِد أُحُدًا، ويقال: شَهِد بدرًا، واستعمله النبيّ صلى الله عليه وسلم على المدينة، وكانت معه راية قومه يوم الفتح، ومات في أول خلافة عثمان رضي الله عنهما على الصحيح، قاله في "الفتح"

(1)

.

وقال في "العمدة": قال أبو عمر: بشير بن عبد المنذر، أبو لبابة الأنصاريّ، غَلبت عليه كنيته، واختُلف في اسمه، فقيل: رفاعة بن عبد المنذر، كذا قاله موسى بن عقبة، عن ابن شهاب، وكذا قال ابن هشام، وخليفة، وقال أحمد بن زهير: سمعت أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين يقولان: أبو لبابة اسمه رفاعة بن عبد المنذر، وقال ابن إسحق: كان نَقِيبًا، شهد العقبة، وشهد بدرًا، وزعم قوم أنه والحارث بن حاطب خرجا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بدر، فرجَّعهما، وأَمَّر أبا لبابة على المدينة، وضرب له بسهم، مع أصحاب بدر، قال ابن هشام: رَدّهما من الرَّوْحاء، وقال أبو عمر: قد استخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا لبابة على المدينة أيضًا حين خرج إلى غزوة السَّوِيق، وشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أُحُدًا، وما بعدها من المشاهد، وكانت معه راية بني عمرو بن عوف في غزوة الفتح، مات في خلافة عليّ رضي الله عنه

(2)

. انتهى

(3)

.

(أَوْ زَيْدُ بْنُ الْخَطَّابِ)"أو" هنا للشكّ من الراوي، هل الذي لقي ابن عمر هو أبو لبابة، أو زيد بن الخطّاب؟

(1)

"الفتح" 7/ 581، كتاب "بدء الخلق" رقم (3297).

(2)

تقدّم أنه صحح في "الفتح" موته في أول خلافة عثمان رضي الله عنه.

(3)

"عمدة القاري" 15/ 189.

ص: 465

وزيد بن الخطاب بن نُفَيل العدويّ، أبو عبد الرحمن، كان أسنّ من أخيه عمر بن الخطّاب، وأسلم قبله، وكان طويلًا، بائن الطول، شَهِد بدرًا، والمشاهد، وكانت راية المسلمين معه يوم اليمامة، فلم يزل يُقْدِم بها في نحر العدوّ، ثم ضارب بسيفه حتى قُتل، قتله الرّحّال بن عنفوة، فلما أتى عمر قَتْله حَزِن حزنًا شديدًا، وقال: رحم الله أخي سبقني إلى الحسنيين، أسلم قبلي، واستُشهد قبلي، وكانت اليمامة في خلافة أبي بكر سنة اثنتي عشرة، وذكر الجمهور أن زيدًا هو الذي قتل الرحال بن عنفوة، قال ابن عبد البرّ: قتله أبو مريم الحنفيّ، ثم استبعد ابن عبد البر ذلك؛ لأن أبا مريم الحنفيّ ولّاه عمر القضاء، قال الحافظ: قلت: قد ذكر العسكريّ أبا مريم الحنفيّ قاتل زيد غير أبي مريم الحنفي الذي ولاه عمر القضاء، وزعم أن اسم هذا إياس بن صبيح، وأن اسم القاتل صبيح بن مُحَرِّش، وحُكي في اسم قاتله غير ذلك، وقال الهيثم بن عديّ: أسلم قاتله، فقال له عمر في خلافته: لا تساكنّي.

أخرج له البخاريّ في التعاليق، والمصنّف، وأبو داود، وليس له عندهم إلا هذا الحديث.

[تنبيه]: اختَلَف الرواة على الزهريّ فيمن لقي ابن عمر، هل هو أبو لبابة فقط، أو هما معًا، أو على الشكّ؟ فرواه هشام بن يوسف عن الزهريّ، فقال ابن عمر: فناداني أبو لبابة، ورواه معمر ويونس بن يزيد، وابن عيينة، وإسحاق الكلبيّ، والزُّبيديّ خمستهم عن الزهريّ، على الشكّ، ورواه ثلاثة بالجمع، وهم: صالح بن كيسان، ومحمد بن أبي حفصة، وإبراهيم بن إسماعيل بن مُجَمّع، عن الزهريّ، فجمعوا فيه بين أبي لبابة، وزيد بن الخطّاب.

ومال في "الفتح" إلى ترجيح رواية هشام بن يوسف بإفراد أبي لبابة، وقال: وإليه جنح البخاريّ حيث قدّم روايته على غيرها، قال: ويرجحه ما عند البخاريّ من رواية ابن أبي مليكة، عن ابن عمر بإفراد أبي لبابة

(1)

، والله تعالى أعلم.

وقوله: (وَهُوَ يُطَارِدُ حَيَّةً) جملة حاليّة من المفعول، (فَقَالَ) أبو لبابة، أو

(1)

راجع: "الفتح" 7/ 581، كتاب "بدء الخلق" رقم (3297).

ص: 466

زيد (إِنَّهُ)؛ أي: النبيّ صلى الله عليه وسلم (قَدْ نَهَى عَنْ ذَوَاتِ الْبُيُوتِ)؛ أي: بعد أمره بقتلها، وفي رواية البخاريّ:"إنه نهى بعد ذلك عن ذوات البيوت"، وهي العوامر، ففيه أن قتلها منسوخ.

قال في "الفتح": قوله: (عن ذوات البيوت)؛ أي: اللاتي يوجدن في البيوت، وظاهره التعميم في جميع البيوت، وعن مالك تخصيصه ببيوت أهل المدينة، وقيل: يختص ببيوت المدُن دون غيرها، وعلى كلّ قول فتُقْتَلُ في البراري، والصحاري، من غير إنذار.

وروى الترمذيّ عن ابن المبارك أنها الحية التي تكون كأنها فضّة، ولا تلتوي في مشيتها.

وقوله: "وهي العوامر" هو كلام الزهريّ أُدرج في الخبر، وقد بيَّنه معمر في روايته عن الزهريّ، فساق الحديث، وقال في آخره: قال الزهريّ: وهي العوامر، قال أهل اللغة: عُمّار البيوت سُكّانها من الجنّ، وتسميتهنّ عوامر لطول لُبْثهن في البيوت، مأخوذ من العُمُر، وهو طول البقاء.

ويأتي لمسلم من حديث أبي سعيد رضي الله عنه مرفوعًا: "إن لهذه البيوت عوامرَ، فإذا رأيتم منها شيئًا، فحَرِّجوا عليه ثلاثًا، فإن ذهب، وإلا فاقتلوه".

واختُلِف في المراد بالثلاث، فقيل: ثلاث مرات، وقيل: ثلاثة أيام، ومعنى قوله:"حَرِّجُوا عليهنّ": أن يقال لهنّ: أنتن في ضِيق، وحَرَج، إن لبثتنّ عندنا، أو ظهرتنّ لنا، أو عُدتنّ إلينا. انتهى

(1)

.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [1/ 5811 و 5812 و 5813](2233)، و (البخاريّ) في "بدء الخلق"(3297 و 3298 و 3299)، و (أبو داود) في "الأدب"(5252)، و (ابن ماجه) في "الطبّ"(3535)، و (عبد الرزّاق) في

(1)

"الفتح" 7/ 582، كتاب "بدء الخلق" رقم (3297).

ص: 467

"مصنّفه"(19616)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 9 و 121 و 3/ 452)، و (الحميديّ) في "مسنده"(620)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5638)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(5/ 30)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(9/ 372)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(3262 و 3263)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان الأمر بقتل الحيّات كلها، إلا أنه نُسخ فيما عدا ذا الطفيتين، والأبتر.

2 -

(ومنها): بيان النهي عن قتل الحيات التي في البيوت إلا بعد الإنذار، إلا أن يكون أبتر، أو ذا طفيتين، فيجوز قتله بغير إنذار، ووقع في حديث أبي سعيد الآتي عند مسلم الإذن في قتل غيرهما بعد الإنذار، وفيه:"فإن ذهب، وإلا فاقتلوه، فإنه كافر"، قال القرطبيّ: والأمر في ذلك للإرشاد، نَعَم ما كان منها محقَّق الضرر وَجَب دَفْعه. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: أراد القرطبيّ أن الأمر ليس للوجوب، وفيه نَظَر، إذ هو للوجوب ما لم يصرفه صارف، ولا صارف هنا، ولا سيّما وقد جاء الوعيد في تَرْك قتلها، فقد أخرج ابن حبّان في "صحيحه"، عن ابن عمر رضي الله عنهما في هذا الحديث، وفيه:"فمن وجد ذا الطفيتين والأبتر، فلم يقتلهما، فليس منّا"، وهو حديث صحيح، وفيه وعيد شديد، فالحقّ أن الأمر للوجوب، والله تعالى أعلم.

3 -

(ومنها): أن فيه بيان تفاوت الصحابة ومَنْ بعدهم في نقل السنّة، فقد حفظ أبو لبابة، أو زيد بن الخطّاب رضي الله عنهما ما لم يحفظه ابن عمر رضي الله عنهما مع كثرة أحاديث، وقلّة حديث هذين، فدلّ على أن السنّة لا يجمعها أحد ولو كان أحفظ أهل الأرض، فالواجب على العاقل إذا صحّ لديه حديث أن يتمسّك به، ولا يتجمّد على تقليد رأي بعض الأئمة المخالف لذلك، فإن ذلك الإمام ما خالفه إلا لأنه لم يصل إليه، فيا أيها المقلّدون عليكم باتّباع السنّة الصحيحة أينما وجدتموها، وافقت مذهبكم، أم خالفت، فإن الله عز وجل أوجب اتّباع السنّة، ولم يوجب تقليد أيّ أحد غير رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى:{فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}

ص: 468

[الأعراف: 158]، وقال:{وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54]، والله تعالى أعلم.

(المسألة الرابعة): في بيان اختلاف أهل العلم في حكم قتل الحيّات:

قال الإمام أبو عمر بن عبد البرّ رحمه الله: اختَلَف العلماء في قتل الحيات جملةً، فقال منهم قائلون: تُقتل الحيات كلها، في البيوت، والصحاري، في المدينة، وغير المدينة، لم يستثنوا منها نوعًا، ولا جنسًا، ولا استثنوا في قتلهنّ موضعًا.

قال: ومن حجتهم حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال:"من قتل حية، فكأنما قتل كافرًا"، ولم يخصّ حية من حية، وحديث ابن مسعود، عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم:"من ترك الجنّان، فلم يقتلهنّ مخافة ثأرهنّ، فليس منّا".

ومن حجتهم أيضًا ما مضى من الأحاديث في "كتاب الحجّ" في قتل الحية في الحلّ والحَرَم.

قالوا: ففي هذه الأحاديث، ونحوها قتل الحيات جملةً، ذي الطفيتين وغيره.

وقال آخرون: لا يُقتل من الحيات ما كان في البيوت بالمدينة خاصّةً، إلا أن يُنذر ثلاثًا، وما كان في غيرها فيُقتل في البيوت وغير البيوت، ذا الطفيتين كان أو غيره.

ومن حُجّتهم حديث أبي سعيد الخدريّ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"إن نفرًا من الجنّ بالمدينة أسلموا، فإذا رأيتم أحدًا منهم فحذِّروه ثلاثة أيام، ثم إن بدا لكم بعد ذلك فاقتلوه".

وعن سهل بن سعد رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "إن لهذه البيوت عوامر، فإذا رأيتم منها شيئًا، فتعوّذوا منه، فإن عاد فاقتلوه".

قال أبو عمر رحمه الله: وهذا يَحْتَمِل أن يكون إشارة إلى بيوت المدينة، وهو الأظهر، ويَحْتَمِل أن يكون إلى جنس البيوت، والله أعلم.

وقال آخرون: لا تُقتل حيات البيوت بالمدينة، ولا بغيرها، حتى تُؤْذَن، فإن عادت قُتلت.

ومن حُجّتهم حديث عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن أبيه رضي الله عنه: أن

ص: 469

رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن حيات البيوت، فقال:"إذا رأيتم منهنّ شيئًا في مساكنكم، فقولوا: أنشدكم العهد الذي أخذ عليكم سليمان أن تؤذونا، فإن عُدْن فاقتلوهنّ".

فلم يخص في هذا الحديث بيوت المدينة من غيرها، قال أبو عمر: وهو عندي مُحْتَمِل للتأويل، والأظهر فيه العموم.

وقال آخرون: لا تُقتل ذوات البيوت من الحيات بالمدينة، أو بغير المدينة.

واحتجوا بظاهر حديث أبي لبابة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن قتل الجنّان التي في البيوت، لم يخص بيتًا من بيت، ولا موضعًا من موضع، ولم يذكر الإذن فيهنّ.

وقال آخرون: يقتل من حيات البيوت ذو الطفيتين والأبتر خاصّة بالمدينة، وغيرها، من المواضع دون إذن، ولا إنذار، ولا يُقتل من ذوات البيوت غير هذين الجنسين من الحيات.

واحتجوا بحديث أبي لبابة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نَهَى عن قتل الجنّان التي تكون في البيوت، إلا أن يكون ذا الطفيتين، والأبتر، فإنهما يخطفان البصر، ويطرحان ما في بطون النساء.

قال أبو عمر: وقد أجمع العلماء على جواز قتل حيات الصحاري صغارًا كنّ، أو كبارًا، أيَّ نوع كان الحيات.

قال أبو عمر: ترتيب هذه الأحاديث كلها المذكورة في هذا الباب، وتهذيبها استعمال حديث أبي لبابة، والاعتماد عليه، فإن فيه بيانًا لِنَسخ قتل حيات البيوت؛ لأن ذلك كان بعد الأمر بقتلها جملةً، وفيه استثناء ذي الطفيتين، والأبتر، فهو حديث مُفَسَّرٌ، لا إشكال فيه لمن فَهِم، وعَلِم، وبالله التوفيق.

ومما يدلّك على ذلك أن ابن عمر رضي الله عنهما كان قد سَمِع من النبيّ صلى الله عليه وسلم الأمر بقتل الجنّان جملةً، فكان يقتلهنّ حيث وجدهنّ، حتى أخبره أبو لبابة رضي الله عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم نهى بعد ذلك عن قتل عوامر البيوت منهنّ، فانتهى عبد الله بن عمر، ووقف عند الآخِر مِنْ أَمْره صلى الله عليه وسلم على حسبما أخبره أبو لبابة. انتهى كلام أبي

ص: 470

عمر بن عبد البرّ رحمه الله

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "اقتلوا الحيَّات" هذا الأمر، وما في معناه من باب الإرشاد إلى دفع المضرَّة المخوفة من الحيَّات، فما كان منها متحقَّق الضرر وجبت المبادرة إلى قتله، كما قد أرشد إليه قوله:"اقتلوا الحيَّات، واقتلوا ذا الطُّفيتين، والأبتر؛ فإنَّهما يخطفان البصر، ويُسقطان الحبل"، فخصَّهما بالذِّكر، مع أنَّهما دخلا في العموم، ونبَّه على أن ذلك بسبب عظم ضررهما، وما لم يتحقَّق ضررُه، فما كان منهما في غير البيوت قُتل أيضًا؛ لظاهر الأمر العام في هذا الحديث، وفي حديث ابن مسعود رضي الله عنه

(2)

؛ ولأن نوع الحيَّات غالبه الضرر فيُستصحب ذلك فيه، ولأنه كلُّه مُرَوِّع بصورته، وبما في النفوس من النُّفرة منه، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم:"إن الله يحب الشجاعة، ولو على قتل حيَّة"

(3)

، فشجَّع على قتلها. وقال فيما خرَّجه أبو داود من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه مرفوعًا:"اقتلوا الحيَّات؛ فمن خاف ثأرهنَّ فليس منِّي"، وأما ما كان منها في البيوت، فما كان بالمدينة، فلا يقتل حتى يُؤْذَن ثلاثة أيام؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"إن بالمدينة جنًّا قد أسلموا، فإذا رأيتم منها شيئًا، فآذنوه ثلاثة أيام"، وهل يختصُّ ذلك الحكم بالمدينة؛ لأنَّا لا نعلم هل أسلم من جنِّ غير أهل المدينة أحد أم لا؟ وبه قال ابن نافع. أو لا يختص؟ ويُنْهَى عن قتل جنان جميع البلاد حتى يُؤذَن ثلاثة، وهو قول مالك، وهو الأَولى؛ لعموم نهيه عن قتل الجنان التي تكون في البيوت؛ ولقوله صلى الله عليه وسلم:"خمس فواسق يُقتلن في الحلِّ والحرم"، وذَكَر فيهن الحيَّة، ولأنا قد علمنا قطعًا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رسول إلى الجنِّ، والإنس، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم بلَّغ الرِّسالة للنَّوعين، وأنَّه قد آمن به خَلْق كثير من النوعين؛ بحيث لا يحصرهم بلد، ولا يحيط بهم عدد.

قال: والعجب من ابن نافع؛ كأنه لم تكن له أذن سامع، وكأنه لم يسمع قوله تعالى: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا

(1)

"التمهيد" لابن عبد البرّ 16/ 20 - 24.

(2)

يعني الآتي في الباب.

(3)

ذكر في هامش "المفهم" ما نصّه: ذكره ابن أبي الدنيا في "قضاء الحوائج" ص 44، ويحتاج إلى النظر في إسناده، والله أعلم.

ص: 471

أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29)} [الأحقاف: 29]، ولا قوله صلى الله عليه وسلم:"إن وفد جنِّ نصيبين أتوني ونِعْم الجنُّ هم فسألوني الزاد. . ." الحديث، فهذه نصوص في أن من جنّ غير المدينة من أسلم، فلا يُقتل شيء منها حتى يُحَرَّج عليه، كما تقدَّم. فتفهَّم هذا العقد، وتمسَّك به، فهو الذي يجمع بين أحاديث هذا الباب المختلفة. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن مما سبق من ذِكْر أقوال العلماء في مسألة قتل الحيَّات، وأدلّتهم أن الأرجح قول من قال: تُقتل الحيّات كلّها إلا عوامر البيوت في المدينة أو غيرها، فلا تُقتل إلا بعد الإنذار ثلاثًا، إلا ذا الطُّفيتين، والأبتر، فيُقتلان مطلقًا، وهذا هو الذي أشار إليه الإمام أبو عمر والقرطبيّ في تحقيقهما الماضي، وهو الوجه الصحيح في الجمع بين الآثار المختلفة في الباب، فتبصّر بالإمعان، والله تعالى وليّ التوفيق.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5812]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا حَاجِبُ بْنُ الْوَلِيدِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَرْبٍ، عَنِ الزُّبَيْدِيِّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَخْبَرَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُ بِقَتْلِ الْكِلَابِ، يَقُولُ: "اقْتُلُوا الْحَيَّاتِ، وَالْكِلَابَ، وَاقْتُلُوا ذَا الطُّفْيَتَيْنِ، وَالأَبْتَرَ، فَإنَّهُمَا يَلْتَمِسَانِ الْبَصَرَ، وَيَسْتَسْقِطَانِ الْحَبَالَى"، قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَنُرَى ذَلِكَ مِنْ سُمَّيْهِمَا، وَاللهُ أَعْلَمُ، قَالَ سَالِمٌ: قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ: فَلَبِثْتُ لَا أَتْرُكُ حَيةً أَرَاهَا إِلَّا قَتَلْتُهَا، فَبَيْنَا أنَا أُطَارِدُ حَيةً يَوْمًا، مِنْ ذَوَاتِ الْبُيُوتِ مَرَّ بِي زَيْدُ بْنُ الْخَطَّابِ، أَوْ أَبُو لُبَابَةَ، وَأَنَا أُطَارِدُهَا، فَقَالَ: مَهْلًا يَا عَبْدَ اللهِ، فَقُلْتُ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِقَتْلِهِنَّ، قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ نَهَى عَنْ ذَوَاتِ الْبُيُوتِ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(حَاجِبُ بْنُ الْوَلِيدِ) بن ميمون الأعور، أبو محمد المؤدّب الشاميّ، نزيل بغداد، ثقةٌ [10](ت 228)(م كد) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" برقم [1174].

(1)

"المفهم" 5/ 530 - 532.

ص: 472

2 -

(مُحَمَّدُ بْنُ حَرْبٍ) الْخَوْلانيّ الْحِمْصيّ الأبرش، ثقةٌ [9](ت 194)(ع) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" برقم [1174].

3 -

(الزُّبَيْدِيُّ) محمد بن الوليد بن عامر، أبو الْهُذيل الحمصيّ القاضي، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار أصحاب الزهريّ [7](ت 6 أو 7 أو 149)(ع) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 5/ 1174.

والباقون ذُكروا قبله.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وأن نصفه الأول مسلسلٌ بالحمصيين، والثاني بالمدنيين، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، والابن عن أبيه، وفيه ابن عمر رضي الله عنهما، أحد العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة، وفيه سالم أحد الفقهاء السبعة على بعض الأقوال.

شرح الحديث:

(عَنِ ابْنِ عُمَرَ) رضي الله عنهما أنه (قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُ بِقَتْلِ الْكِلَابِ) ثم فصّل ذلك بقوله: (يَقُولُ) صلى الله عليه وسلم ("اقْتُلُوا الْحَيَّاتِ) جمع حيّة، ويقال: على الذَّكر والأنثى، كما قال [من الطويل]:

أَنَا الرَّجُلُ الضَّرْبُ الَّذِي تَعْرِفُونَهُ

خَشَاشٌ كَرَأسِ الحيَّةِ الْمُتَوَقِّدِ

وإنما دخلته الهاء لأنه واحدٌ من جنس؛ كبطة، ودجاجة؛ على أنَّه قد رُوي عن العرب: رأيت حيًّا على حيَّةٍ؛ أي: ذكرًا على أنثى، والحيُّوت: ذَكَر الحيّات، وأنشد الأصمعيّ [من الرجز]:

ويأكل الحيَّة والحيُّوتا

(1)

وقد تقدّم أن هذا العموم منسوخ بالنسبة لعوامر البيوت، فإنها لا تُقتل إلا بعد الإنذار ثلاثًا، غير ذي الطفيتين، والأبتر، فإنهما يُقتلان مطلقًا. (وَ) اقتلوا (الْكِلَابَ) قد تقدّم البحث في قتل الكلاب مستوفًى في "كتاب البيوع"[32/ 4009](1570) فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق.

(وَاقْتُلُوا ذَا الطُّفْيَتَيْنِ) ضرب من الحيَّات في ظهره خطَّان أبيضان، وعنهما

(1)

"المفهم" 5/ 532.

ص: 473

عبَّر بالطُّفيتين. وأصل الطُّفية - بضم الطاء -: خُوص الْمُقْل، فشبَّه الخط الذي على ظهر هذه الحيَّة به، وربَّما قيل لهذه الحيَّة: طُفْيَةٌ؛ على معنى: ذات طفية. قال الشاعر:

وَهُمْ يُذِلُّونَهَا مِنْ بَعْدِ عِزَّتِهَا كما

تَذِلُّ الطُّفَى مِن رُقْيَة الرَّاقي

أي: ذوات الطُّفَى. وقد يسمّى الشيء باسم ما يجاوره. وقال الخليل في ذي الطفيتين: هي حيَّة، ليّنة خبيثة

(1)

.

(وَالأَبْتَرَ)؛ أي: الأفعى؛ سُمِّيت بذلك؛ لِقِصَر ذَنَبها. وذَكَر الأفعى: أفعوان. وقال النضر بن شُميل في الأبتر: إنه صنف من الحيَّات أزرق مقطوع الذنب

(2)

.

(فَإِنَّهُمَا يَلْتَمِسَانِ الْبَصَرَ)؛ أي: يطلبان البصر، هذا أصله، ومعناه هنا: يخطفان البصر، كما جاء في الرواية الأخرى

(3)

.

وقال النوويّ رحمه الله: فيه تأويلان ذكرهما الخطابيّ وآخرون:

أحدهما: معناه يخطفان البصر، ويطمسانه بمجرد نظرهما إليه؛ لخاصّة جعلها الله تعالى في بصريهما، إذا وقع على بصر الإنسان، ويؤيد هذا الرواية الأخرى في مسلم:"يخطفان البصر"، والرواية الأخرى:"يلتمعان البصر".

والثاني: أنهما يقصدان البصر باللَّسْع، والنَّهْش، والأول أصحّ وأشهر.

قال العلماء: وفي الحيّات نوع يُسَمَّى الناظر، إذا وقع نظره على عين إنسان مات من ساعته، والله أعلم. انتهى

(4)

.

(وَيَسْتَسْقِطَانِ) السين والتاء زائدتان للتوكيد، (الْحَبَالَى") بالفتح: جمع حُبْلَى بضَمّ، فسكون، ومعناه: أن المرأة الحامل إذا نظرت إليهما، وخافت أسقطت الحمل غالبًا.

وقال القرطبيّ رحمه الله: وظاهر هذا: أن هذين النوعين من الحيَّات لهما من الخاصية ما يكون عنهما ذلك، ولا يُستبعد هذا، فقد حكى أبو الفرج ابن الجوزيّ في كتابه المسمى بـ "كشف المُشْكِل لِمَا في الصحيحين": أن بعراق

(1)

"المفهم" 5/ 532 - 533.

(2)

"المفهم" 5/ 532 - 533.

(3)

"المفهم" 5/ 532 - 533.

(4)

"شرح النوويّ" 14/ 230.

ص: 474

العجم أنواعًا من الحيَّات يَهْلِك الرائي لها بنفس رؤيتها، ومنها من يُهلك المرور على طريقها، وذَكَر غير ذلك. ولا يلتفت إلى قول من قال: إن ذلك بالترويع؛ لأنَّ ذلك الترويعَ ليس خاصًّا بهذين النوعين، بل يعمُّ جميع الحيَّات، فتذهب خصوصيَّة هذا النوع بهذا الاعتناء العظيم، والتحذير الشديد، ثمَّ: إن صحَّ هذا في طرح الحبل، فلا يصحُّ في ذهاب البصر، فإنَّ الروع لا يذهبه

(1)

.

(قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَنُرَى) بضمّ النون؛ أي: نظنّ (ذَلِكَ) خَطْفهما البصر، واستسقاطهما الحبل (مِنْ سُمَّيْهِمَا)؛ أي؛ من أجل كونهما ذوي سُم (وَاللهُ أَعْلَمُ، قَالَ سَالِمٌ: قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ) رضي الله عنهما (فَلَبِثْتُ) بكسر الموحّدة، من باب فَهِمَ؛ أي: مكثتُ (لَا أَتْرُكُ حَيَّةً أَرَاهَا إِلَّا قَتَلْتُهَا)؛ أي: امتثالًا لأمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بقتلها. (فَبَيْنَا) تقدّم الكلام عليها، وعلى "بينما" قريبًا، فلا تنس. (أَنَا أُطَارِدُ حَيَّةً يَوْمًا)؛ أي: أجري وراءها لأقتلها، أو أخدعها لأصيدها، وأصل المطاردة - كما قاله الفيّوميّ - هو الإجراء للسباق

(2)

، وقال المجد رحمه الله: مطاردة الأقران: حَمْل بعضهم على بعض، وهم فُرْسان الطِّرَاد. انتهى

(3)

.

وقال المرتضى رحمه الله: ومن المجاز: مُطارَدةُ الأَقرانِ، والفُرْسانِ، وطِرادُهم: حَمْلُ بَعْضِهم على بَعْضٍ في الحَرْبِ، وغيرِهَا؛ أي: ولو لم يكن هناك طَرْدٌ، كما قِيلَ للمحارَبةِ: جِلادٌ، ومُجالَدةٌ، وإن لم يكن ثَمَّ مُسايَفَةٌ. ويقال: هم فُرْسَانُ الطِّرادِ، وطَاردَ قِرْنَهُ، وتَطارَدَا، واسْتَطْرَدَ له؛ أي: لِلقِرْنِ لِيَحْمِلَ عليه، ثم يَكُرَّ عَلَيْه، وذلك أَنَّه يَتَحَيَّزُ في استطرادِهِ إلى فِئَتِهِ، وهو يَنْتَهِزُ الفُرْصَةَ لمُطارَدَتِه. وقد استَطْرَدَ له كَأنَّه نَوْعٌ من المَكِيدة. وفي الحديث:"كنتُ أُطارِدُ حَيَّةً"؛ أَي: أَخْدَعُها لأَصِيدَهَا، ومنه طِرَادُ الصَّيْدِ. انتهى

(4)

.

(مِنْ ذَوَاتِ الْبُيُوتِ)؛ أي: من الحيّات اللاتي تسكن البيوت، (مَرَّ بِي زَيْدُ بْنُ الْخَطَّابِ) عمه، (أَوْ أَبُو لُبَابَةَ، وَأنَا أُطَارِدُهَا، فَقَالَ: مَهْلًا)؛ أي: لا تعجل في أمرك، قال "القاموس"، و"شرحه": المَهْلُ با لفتح، ويُحرَّكُ، والمُهْلَةُ

(1)

"المفهم" 5/ 533 - 534.

(2)

راجع: "المصباح المنير" 2/ 370.

(3)

"القاموس المحيط" ص 796.

(4)

"تاج العروس" 1/ 2091.

ص: 475

بالضَّمِّ: السَّكينَةُ، والتُّؤَدَةُ، والرِّفْقُ. وأَمْهَلَهُ: أَنْظَرَهُ، ورَفَقَ به، ولم يَعْجَلْ عليه، قال الشاعِرُ [من البسيط]:

فيا ابْنَ آدَمَ ما أَعْدَدْتَ في مَهَلٍ

لِلَّهِ دَرُّكَ ما تأتي وما تَذَرُ

ومَهَّلَهُ تَمهيلًا: أَجَّلَهُ، ومنه قولُه تعالى:{فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ} [الطارق: 17]، وتَمَهَّلَ في عمله: اتَّأَدَ، وكُلُّ تَرَفُّقٍ تَمَهُّلٌ. قال الليثُ: المَهْلُ: السَّكينَةُ، والوَقارُ، يُقال: مَهْلًا يا رَجُلُ، وكذا للاثنينِ، والجَمْعِ، والمُؤَنَّثِ، بمعنى أَمْهِلْ؛ أَيْ: ارفُقْ، واسْكُنْ، لا تَعجَلْ. انتهى

(1)

.

(يَا عَبْدَ اللهِ) بن عمر (فَقُلْتُ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم) بكسر الهمزة، لوقوعها موقع التعليل؛ أي: إنما أطاردها؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم (أَمَرَ بِقَتْلِهِنَّ)؛ أي: الحيّات. (قَالَ) زيد بن الخطّاب، أو أبو لبابة (إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ نَهَى عَنْ ذَوَاتِ الْبُيُوتِ)؛ أي: اللاتي يوجدن في البيوت، قال في "الفتح": وظاهره التعميم في جميع البيوت، وعن مالك تخصيصه ببيوت أهل المدينة، وقيل: يختص ببيوت المدن دون غيرها، وعلى كلِّ قولٍ فتُقتل في البراريّ، والصحاري، من غير إنذار، وروى الترمذيّ عن ابن المبارك أنها الحيّة التي تكون كأنها فضة، ولا تلتوي في مشيتها. انتهى

(2)

.

وفي رواية البخاريّ: "قال: إنه نهى بعد ذلك عن ذوات البيوت"، وهذا صريح في نَسْخ الأمر بالقتل، والله تعالى أعلم.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى البحث فيه مستوفًى في الحديث الماضي، ولله الحمد والمنّة، وله الفضل والنعمة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5813]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِيهِ حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ (ح) وَحَدَّثَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ (ح) وَحَدَّثَنَا حَسَنٌ الْحُلْوَانِيُّ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ صَالِحٍ، كُلُّهُمْ عَنِ الزُّهْرِيِّ، بِهَذَا الإِسْنَادِ، غَيْرَ أَنَّ صَالِحًا قَالَ: حَتَّى رَآنِي أَبُو لُبَابَةَ بْنُ عَبْدِ الْمُنْذِرِ، وَزَيْدُ بْنُ

(1)

"تاج العروس" 1/ 7524 - 7525.

(2)

"الفتح" 7/ 581 - 582.

ص: 476

الْخَطَّابِ، فَقَالَا: إِنَّهُ قَدْ نَهَى عَنْ ذَوَاتِ الْبُيُوتِ، وَفي حَدِيثِ يُونُسَ:"اقْتُلُوا الْحَيَّاتِ"، وَلَمْ يَقُلْ:"ذَا الطُّفْيَتَيْنِ، وَالأَبْتَرَ").

رجال هذه الأسانيد: أحد عشر:

وكلّهم تقدّموا قبل باب.

وقوله: (كُلُّهُمْ عَنِ الزُّهْرِيِّ)؛ يعني: أن هؤلاء الثلاثة، وهم: يونس بن يزيد، ومعمر بن راشد، وصالح بن كيسان رووا هذا الحديث عن الزهريّ بالإسناد السابق؛ أي: عن سالم، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.

[تنبيه]: رواية يونس عن الزهريّ ساقها ابن ماجه رحمه الله في "سننه"، إلا أن فيه ذِكْر ذي الطفيتين، والأبتر، خلاف ما قاله مسلم، فقال:

(3535)

- حدّثنا أحمد بن عمرو بن السرح، ثنا عبد الله بن وهب، أخبرني يونس، عن ابن شهاب، عن سالم، عن أبيه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"اقتلوا الحيات، واقتلوا ذا الطفيتين، والأبتر، فإنهما يلتمسان البصر، ويسقطان الحبل". انتهى

(1)

.

ورواية معمر عن الزهريّ ساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(15786)

- حدّثنا عبد الرزاق، ثنا معمرٌ، عن الزهريّ، عن سالم، عن ابن عمر، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "اقتلوا الحيات، واقتلوا ذا الطفيتين، والأبتر، فإنهما يُسقطان الحبل، ويطمسان البصر"، قال ابن عمر: فرآني أبو لبابة، أو زيد بن الخطاب، وأنا أطارد حيّةً لأقتلها، فنهاني، فقلت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر بقتلهنّ، فقال: إنه قد نَهَى بعد ذلك عن قتل ذوات البيوت، قال الزهريّ: وهي العوامر. انتهى

(2)

.

ورواية صالح بن كيسان عن الزهريّ ساقها الطبرانيّ رحمه الله في "المعجم الكبير"، فقال:

(4647)

- حدّثنا أحمد بن زهير التستريّ، ثنا عبد الله بن سعد، ثنا عمي،

(1)

"سنن ابن ماجه" 2/ 1169.

(2)

"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 3/ 452.

ص: 477

ثنا أبي، عن صالح بن كيسان، عن ابن شهاب، أن سالمًا أخبره، أن عبد الله بن عمر أخبره، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"اقتلوا الحيّات، ذا الطفيتين، والأبتر، فإنهما يلتمسان البصر، ويستسقطان الحمل"، فقال عبد الله بن عمر: ما كنت أَدَعُ حيّة إلا قتلتها، حتى رآني أبو لبابة ابن عبد المنذر

(1)

، وزيد بن الخطاب، وأنا أطالب حيةً من حيات البيوت، فنهياني عن قتلها، فقلت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بقتلهنّ، فقالا: إنه قد نَهَى عن قتل ذوات البيوت. انتهى

(2)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5814]

(. . .) - وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحٍ، أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ (ح) وَحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَاللَّفْظُ لَهُ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ، عَنْ نَافِعٍ، أَنَّ أَبَا لُبَابَةَ كلَّمَ ابْنَ عُمَرَ لِيَفْتَحَ لَهُ بَابًا فِي دَارِهِ، يَسْتَقْرِبُ بِهِ إِلَى الْمَسْجِدِ، فَوَجَدَ الْغِلْمَةُ جِلْدَ جَانٍّ، فَقَالَ عَبْدُ اللهِ: الْتَمِسُوهُ، فَاقْتُلُوهُ، فَقَالَ أَبُو لُبَابَةَ: لَا تَقْتُلُوهُ، فَإِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ قَتْلِ الْجِنّانِ الَّتِي فِي الْبُيُوتِ).

رجال هذين الإسنادين: خمسة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحِ) بن مهاجر التجيبيّ المصريّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) الثقفيّ البغلانيّ، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

3 -

(اللَّيْثُ) بن سعد الإمام المصريّ الشهير، تقدّم قبل باب.

4 -

(نَافِعٌ) مولى ابن عمر، المدنيّ الفقيه، تقدّم قبل باب.

5 -

(أَبُو لُبَابَةَ) الأنصاريّ المدنيّ، اسمه بشير، أو رفاعة بن عبد المنذر الصحابيّ الشهير رضي الله عنه، ذُكر في الباب.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (448) من رباعيّات الكتاب، والله تعالى أعلم.

(1)

وقع في النسخة: "ابن المنذر"، والصواب كما في مسلم:"ابن عبد المنذر"، فتنبّه.

(2)

"المعجم الكبير" 5/ 82.

ص: 478

شرح الحديث:

(عَنْ نَافِعٍ) مولى ابن عمر (أَنَّ أَبا لُبَابَةَ) بشير بن عبد المنذر، وقيل: غيره رضي الله عنه، (كَلَّمَ ابْنَ عُمَرَ) رضي الله عنهما (لِيَفْتَحَ لَهُ بَابًا فِي دَارِهِ)؛ أي: دار ابن عمر، (يَسْتَقْرِبُ بِهِ)؛ أي: يطلب القرب (إِلَى الْمَسْجِدِ) النبويّ، فيكون له ذلك الباب مدخلًا قريبًا، وفي رواية يحيى بن سعيد الأنصاريّ الآتية أخبرني نافع، أن أبا لبابة بن عبد المنذر الأنصاريّ، وكان مسكنه بقباء، فانتقل إلى المدينة، فبينما عبد الله بن عمر جالسًا معه يفتح خَوْخَةً له، إذا هُمْ بحية من عوامر البيوت، فأرادوا قتلها، فقال أبو لبابة:"إنه قد نُهِي عنهنّ - يريد عوامر البيوت - وأُمِرَ بقتل الأبتر، وذي الطفيتين". (فَوَجَدَ الْغِلْمَةُ) بكسر الغين المعجمة، وسكون اللام: جمع قلّة لغلام، كما قال في "الخلاصة":

أَفاعِلَةٌ أَفْعُلُ ثُمَّ فِعْلَهْ

ثُمَّتَ أَفْعَالٌ جُمُوعُ قِلَّهْ

وجَمْع الكثرة غِلْمان، ويُطلق الغُلامُ على الرجل مجازًا باسم ما كان عليه، كما يقال للصغير: شيخ مجازًا بِاسْم ما يؤول إليه

(1)

.

(جِلْدَ جَانٍّ) بتشديد النون؛ أي: حيّة، (فَقَالَ عَبْدُ اللهِ) بن عمر رضي الله عنهما (الْتَمِسُوهُ)؛ أي: اطلبوا الجانّ (فَاقْتُلُوهُ)؛ أي: لِأَمْر النبيّ صلى الله عليه وسلم بقتله، (فَقَالَ أَبُو لُبَابَةَ) رضي الله عنه (لَا تَقْتُلُوهُ، فَإنَّ) الفاء للتعليل؛ أي: لأن (رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ قَتْلِ الْجِنَّانِ الَّتِي فِي الْبُيُوتِ) - بجيم مكسورة، ونون مفتوحة - وهي الحيات، جمع جانّ، وهي الحية الصغيرة، وقيل: الدقيقة الخفيفة، وقيل: الدقيقة البيضاء، قاله النوويّ رحمه الله

(2)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: و"الجنَّانُ" بتشديد النون: جمع: الجانِّ، وهو أبو الجنِّ، هذا أصله، والجانُّ في الحديث: هو حيَّة بيضاءُ صغيرة رقيقة، هكذا ذكر النَّقَلة، والظاهر من الجِنّان المذكور في الحديث: أن المراد به: الجانُّ.

فإنْ قيل: فقد وصف الله تعالى الحيَّة المنقلبة عن عصا موسى بأنها جانٌّ، وأنَّها ثعبان عظيم؛ فالجواب: أنه إنما كانت ثعبانًا عظيمًا في الخِلْقة،

(1)

"المصباح المنير" 2/ 452.

(2)

"شرح النوويّ" 14/ 233.

ص: 479

ومِثْل الحيَّة الصغيرة الدقيقة في الخفّة والسرعة، ألا ترى قوله تعالى:{تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ} [النمل: 10]، هكذا قال أهل اللغة، وأرباب المعاني.

وعلى الجملة: فأصل هذه البنية من: ج ن؛ للسترة، والتستر أينما وقعت، فتتبَّعها تجدها كذلك، ووبيص الجانّ، وغيره: لمعانه، وبريقه. قال عياض: وقيل: الجنَّان: ما لا يتعرض للناس، والجِنَّل: ما يتعرَّض لهم، ويؤذيهم، وأنشدوا:

تَنَازَع جِنَّانٌ وَجِنٌّ وَجِنَّلُ

وعن ابن عبَّاس وابن عمر رضي الله عنهم: الجنَّان: مسخ الجنِّ، كما مُسخت القردة من بني إسرائيل. وعوامر البيوت: هي ما يَعْمُره من الجنّ، فيتمثّل في صُوَر الحيَّات، وفي غيرها

(1)

.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي لبابة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [1/ 5814 و 5815 و 5816 و 5817 و 5818 و 5819 و 5820](. . .)، و (البخاريّ) في "بدء الخلق"(3310 و 3312) و"المغازي"(4016)، و (أبو داود) في "الأدب"(5253 و 5254 و 5255)، و (مالك) في "الموطّأ"(2/ 975)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 430 و 452 و 453)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5639)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(4/ 170) و"الكبير"(5/ 31 و 32)، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5815]

(. . .) وَحَدَّثَنَا شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ، حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ، حَدَّثَنَا نَافِعٌ، قَالَ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقْتُلُ الْحَيَّاتِ كُلَّهُنَّ، حَتَّى حَدَّثَنَا أَبُو لُبَابَةَ بْنُ عَبْدِ الْمُنْذِرِ الْبَدْرِيُّ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ قَتْلِ جِنَّانِ الْبُيُوتِ، فَأَمْسَكَ).

(1)

"المفهم" 5/ 534.

ص: 480

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ) الْحَبَطيّ، أبو محمد الأُبُلّيّ، صدوقٌ يَهِم، ورُمي بالقدر، من صغار [9](ت 5 أو 236) وله بضع و (90) سنةً (م د س) تقدم في "الإيمان" 12/ 157.

2 -

(جَرِيرُ بْنُ حَازِمِ) بن زيد بن عبد الله الأزديّ، أبو النضر البصريّ، ثقةٌ إلا في قتادة، فضعِّف فيه [6](ت 170)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 81.

والباقيان ذُكرا قبله.

وقوله: (الْبَدْرِيُّ)؛ أي: المنسوب إلى بدر؛ لشهوده بدرًا على ما قيل، وقيل: إن النبيّ صلى الله عليه وسلم ردّه من الروحاء، وولّاه المدينة، وضرب له بسهمه، وأَجْره، فكان كمن شهدها، والله تعالى أعلم.

وقوله: (فَأَمْسَكَ)؛ أي: ترك ابن عمر رضي الله عنهما قتل جنّان البيوت، لَمّا سمع النهي.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى البحث فيه مستوفًى، ولله الحمد والمنّة، وله الفضل والنعمة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5816]

(. . .) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا يَحْيَى - وَهُوَ الْقَطَّانُ - عَنْ عُبَيْدِ اللهِ، أَخْبَرَنِي نَافِعٌ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا لُبَابَةَ يُخْبِرُ ابْنَ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ قَتْلِ الْجِنَّانِ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

وكلّهم ذُكروا في الباب، وقبل باب.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى البحث فيه مستوفًى، ولله الحمد والمنّة، وله الفضل والنعمة.

وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5817]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَاهُ إِسْحَاقُ بْنُ مُوسَى الأَنْصَارِيُّ، حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ أَبِي لُبَابَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (ح) وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَسْمَاءَ الضُّبَعِيُّ، حَدَّثَنَا جُوَيْرِيَةُ، عَنْ

ص: 481

نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ، أَنَّ أَبَا لُبَابَةَ أَخْبَرَهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ قَتْلِ الْجِنَّانِ الَّتِي فِي الْبُيُوتِ).

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(إِسْحَاقُ بْنُ مُوسَى الأَنْصَارِيُّ) أبو موسى المدنيّ، قاضي نيسابور، ثقةٌ متقنٌ [10](ت 244)(م ت س ق) تقدم في "الإيمان" 43/ 282.

2 -

(أَنَسُ بْنُ عِيَاضِ) الليثيّ، أبو ضمرة المدنيّ، ثقةٌ [8](ت 200) وله (96) سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 81/ 433.

3 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَسْمَاءَ الضُّبَعِيُّ) أبو عبد الرحمن البصريّ، ثقةٌ جليلٌ [10](ت 231)(خ م د س) تقدم في "الإيمان" 47/ 297.

قوله: (الضُّبَعِيُّ) بضمّ الضاد المعجمة، وفتح الموحّدة: نسبة إلى ضبيعة بن قيس بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن عليّ بن بكر بن وائل، نزلوا البصرة، قاله في "اللباب"

(1)

.

4 -

(جُوَيْرِيَةُ) بن أسماء بن عبيد الضُّبَعيّ البصريّ، صدوقٌ [7](ت 173)(خ م د س ق) تقدم في "الإيمان" 73/ 390.

والباقون ذُكروا قبله.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى البحث فيه مستوفًى، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5818]

(. . .) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ - يَعْنِي: الثَّقَفِيَّ - قَالَ: سَمِعْتُ يَحْيَى بْنَ سَعِيدٍ يَقُولُ: أَخْبَرَنِي نَافِعٌ، أَنَّ أَبَا لُبَابَةَ بْنَ عَبْدِ الْمُنْذِرِ الأَنْصَارِيَّ - وَكَانَ مَسْكَنُهُ بِقُبَاءٍ، فَانْتَقَلَ إِلَى الْمَدِينَةِ - فَبَيْنَمَا عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ جَالِسٌ

(2)

مَعَهُ، يَفْتَحُ خَوْخَةً لَهُ إِذَا هُمْ بِحَيَّةٍ مِنْ عَوَامِرِ الْبُيُوتِ، فَأَرَادُوا قَتْلَهَا، فَقَالَ أَبُو لُبَابَةَ: إِنَّهُ قَدْ نُهِيَ عَنْهُنَّ - يُرِيدُ عَوَامِرَ الْبُيُوتِ - وَأُمِرَ بِقَتْلِ الأَبْتَرِ، وَذِي الطُّفْيَتَيْنِ، وَقِيلَ: هُمَا اللَّذَانِ يَلْتَمِعَانِ الْبَصَرَ، وَيَطْرَحَانِ أَوْلَادَ النِّسَاءِ).

(1)

"اللباب في تهذيب الأنساب" 2/ 260.

(2)

وفي بعض النسخ: "جالسًا".

ص: 482

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(عَبْدُ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيُّ) ابن عبد المجيد بن الصَّلْت الثقفيّ، أبو محمد البصريّ، ثقةٌ [8](ت 194) عن نحو (80) سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 17/ 173.

2 -

(يَحْيَى بْنُ سَعِيدِ) بن قيس الأنصاريّ، أبو سعيد المدنيّ القاضي، ثقةٌ ثبتٌ [5](144) أو بعدها (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 36.

والباقون ذُكروا قبله.

وقوله: (بِقُبَاءٍ) بضمّ القاف، وتخفيف الموحّدة: موضع بقرب مدينة النبيّ صلى الله عليه وسلم من جهة الجنوب، نحو ميلين، يُقصر، ويُمدّ، ويُصرَفُ، ولا يُصرَف

(1)

.

وقوله: (فَبَيْنَمَا عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ جَالِسٌ مَعَهُ) برفع "جالس" خبرًا لـ "عبد الله"، والجملة مضاف إليها "بينما"، كما تقدّم البحث فيه مستوفًى قريبًا، ووقع في معظم النُّسخ "جالسًا" بالنصب، وله وجه، وهو أن يكون خبرًا لـ "كان" مقدّرةً، والجملة "كان" خبر المبتدأ، والله تعالى أعلم.

وقوله: (يَفْتَحُ خَوْخَةً) - بفتح الخاء، وإسكان الواو -، وهي كَوَّة بين دارين، أو بيتين، يُدخَل منها، وقد تكون في حائط منفرد، قاله النوويّ

(2)

.

وقال السيّد محمد مرتضى رحمه الله: الخَوْخَة: كُوَّةٌ تُؤَدّي الضَّوْءَ إِلى البَيْتِ، والخَوْخَة: مُخْترَقُ ما بين كلِّ دارَيْنِ، ما نُصِبَ عليه بابٌ، بلغة أَهل الحجاز، وعَمَّ بعضُهم، فقال: هي مُخْتَرقُ ما بين كلِّ شَيئين، وفي الحَديث:"لا تَبْقَى خوْخَةٌ في المسجِد إِلّا سُدَّت، غَيْرَ خَوْخَةِ أَبي بكر"، هي بابٌ صغيرٌ، كالنّافذة الكبيرة، تكون بين بَيتين، يُنصَب عليها بابٌ. انتهى

(3)

.

وقوله: (يَلْتَمِعَانِ الْبَصَرَ)؛ أي: يخطفانه، كما في الرواية الأخرى.

وقوله: (وَيَطْرَحَانِ أَوْلَادَ النِّسَاءِ)؛ أي: يُسقطان أولاد الحَبالى.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام شرحه، وبيان مسائله، ولله الحمد والمنّة.

(1)

"المصباح المنير" 2/ 489.

(2)

"شرح النوويّ" 14/ 232 - 233.

(3)

"تاج العروس" 1/ 1805.

ص: 483

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5819]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَهْضَمٍ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ - وَهُوَ عِنْدَنَا ابْنُ جَعْفَرٍ - عَنْ عُمَرَ بْنِ نَافِعٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كَانَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ يَوْمًا عِنْدَ هَدْمٍ لَهُ، فَرَأَى وَبِيصَ جَانٍّ، فَقَالَ: اتَّبِعُوا

(1)

هَذَا الْجَانَّ، فَاقْتُلُوهُ، قَالَ أَبُو لُبَابَةَ الأَنْصَارِيُّ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ قَتْلِ الْجِنَّانِ الَّتِي تَكُونُ فِي الْبُيُوتِ، إِلَّا الأَبْتَرَ، وَذَا الطُّفْيَتَيْنِ، فَإنَّهُمَا اللَّذَانِ يَخْطِفَانِ الْبَصَرَ، وَيَتَتبَّعَانِ

(2)

مَا فِي بُطُونِ النِّسَاءِ).

رجال هذا الإسناد: ستّة:

1 -

(إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ) الكوسج، تقدّم قريبًا.

2 -

(مُحَمَّدُ بْنُ جَهْضَمِ) بن عبد الله الثقفيّ، أبو جعفر البصريّ، خُراسانيّ الأصل، صدوقٌ [10](خ م د س) تقدم في "الصلاة" 7/ 856.

3 -

(إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرِ) بن أبي كثير الأنصاريّ الزرقيّ، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

[تنبيه]: قوله: (وَهُوَ عِنْدَنَا ابْنُ جَعْفَرٍ) يَحْتَمِل أن يكون من كلام المصنّف، ويَحتَمِل أن يكون من كلام شيخه، والظاهر أنه إنما ذكره دفعًا للإلباس بغيره؛ كإسماعيل ابن عليّة، أو غيره، والله تعالى أعلم.

4 -

(عُمَرُ بْنُ نَافِعٍ) العدويّ مولى ابن عمر، ثقةٌ [6] مات في خلافة المنصور (خ م س ق) تقدم في "اللباس والزينة" 30/ 5547.

والباقيان ذُكرا قبله.

وقوله: (عِنْدَ هَدْمٍ لَهُ)؛ أي: بناء مهدوم لابن عمر رضي الله عنهما.

وقوله: (وَبِيصَ جَانٍّ)؛ أي: لمعان جلده، وبريقه

(3)

، قال الفيّوميّ رحمه الله:

(1)

وفي نسخة: "ابتغوا".

(2)

وفي نسخة: "ويتّبعان".

(3)

وأما تفسير بعض الشرّاح الوبيص بالجِلد، ففيه نظر؛ لأن أرباب المعاجم اللغويّة لم يذكروا الجِلد من معاني الوبيص، فتنبّه.

ص: 484

الْوَبِيص: مثلُ الْبَرِيق وزنًا ومعنًى، وهو اللمعان، يقال: وَبَصَ وَبِيصًا، والفاعل وابصٌ، ووابصة، وبه سُمّي. انتهى

(1)

.

وقوله: (اتَّبِعُوا) وفي بعض النُّسخ: "ابتغوا"؛ أي: اطلبوا.

وقوله: (وَيَتَتَبَّعَانِ مَا فِي بُطُونِ النِّسَاءِ)؛ أي: يُسقطانه، فأَطلق عليه التتبع مجازًا، ولعل فيهما طلبًا لذلك، جعله الله خِصِّيصةً فيهما

(2)

.

[تنبيه]: أنكر الإمام ابن عبد البرّ رحمه الله زيادة استثناء ذي الطفيتين، والأبتر في حديث أبي لبابة رضي الله عنه، فقال بعد إخراج الحديث من طريق القعنبيّ عن مالك ما نصّه:

قال أبو عمر: كلُّ من رَوَى هذا الحديث عن مالك، عن نافع، عن أبي لبابة لم يَزد فيه على قوله: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نَهَى عن قتل الجنّان التي في البيوت، إلا القعنبيّ وحده، فإنه زاد فيه عن مالك، عن نافع، عن أبي لبابة، قال:"نَهَى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل الجنّان التي تكون في البيوت، إلا أن يكون ذا الطفيتين، والأبتر، فإنهما يخطفان البصر، ويطرحان ما في بطون النساء".

وهذه الزيادة - قوله: "إلا أن يكون ذا الطفيتين. . ." إلى آخر الحديث - لم يقله أحد في حديث أبي لبابة إلا القعنبيّ وحده، وليس بصحيح في حديث أبي لبابة، وهو وَهَمٌ، وإنما هذا اللفظ محفوظ من حديث ابن عمر، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، ومن حديث سائبة، عن عائشة رضي الله عنها، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، ومنهم من ذَكَره عن سائبة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مرسلًا، وأما حديث أبي لبابة، فليس إلا "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نَهَى عن قتل الجنّان التي في البيوت"، لا غير، إلا ما زاد القعنبيّ، وهو غَلَطٌ - والله أعلم - في حديث أبي لبابة، وهو محفوظ من حديث ابن عمر، وعائشة، كما وصفت لك. انتهى كلام ابن عبد البرّ رحمه الله

(3)

.

فال الجامع عفا الله عنه: هذا التوهيم من ابن عبد البرّ رحمه الله لهذه الزيادة في حديث أبي لبابة رضي الله عنه من الغريب، فكيف ينفها من حديثه، وقد أثبتها الشيخان في "صحيحهما" من طريق غير القعنبيّ عن مالك؟ فقد أوردها مسلم

(1)

"المصباح المنير" 2/ 646.

(2)

"الديباج على مسلم" 5/ 253.

(3)

"التمهيد" لابن عبد البرّ 16/ 20.

ص: 485

هنا من رواية عمر بن نافع عن أبيه، وفيه هذه الزيادة، وأخرجها البخاريّ في "صحيحه"، فقال:

(3134)

- حدّثني عمرو بن عليّ، حدّثنا ابن أبي عديّ، عن أبي يونس القشيريّ، عن ابن أبي مُليكة، أن ابن عمر كان يقتل الحيات، ثم نَهَى، قال: إن النبيّ صلى الله عليه وسلم هَدَم حائطًا له، فوجد فيه سِلْخَ حيّةٍ، فقال:"انظروا أين هو؟ " فنظروا، فقال:"اقتلوه"، فكنت أقتلها لذلك، فلقيت أبا لبابة، فأخبرني أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"لا تقتلوا الجنّان، إلا كلَّ أبتر، ذي طفيتين، فإنه يسقط الولد، ويُذهب البصر، فاقتلوه". انتهى

(1)

.

والحاصل أن الزيادة المذكورة ليست غلطًا في حديث أبي لبابة رضي الله عنه، ولم ينفرد بها القعنبيّ عن مالك، بل جاءت من طرق أخرى، كما أوضحته آنفًا، فتنبّه، والله تعالى وليّ التوفيق.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى البحث فيه مستوفًى، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5820]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الأَيْلِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، حَدَّثَنِي أُسَامَةُ، أَنَّ نَافِعًا حَدَّثَهُ، أَنَّ أَبَا لُبَابَةَ مَرَّ بِابْنِ عُمَرَ، وَهُوَ عِنْدَ الأُطُمِ الَّذِي عِنْدَ دَارِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، يَرْصُدُ حَيَّةً، بِنَحْوِ حَدِيثِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الأَيْلِيُّ) نزيل مصر، تقدّم قريبًا.

2 -

(أُسَامَةُ) بن زيد الليثيّ مولاهم، أبو زيد المدنيّ، صدوقٌ يَهِم [7](ت 153)(خت م 4) تقدم في "الصلاة" 42/ 1085.

والباقون ذُكروا في الباب.

وقوله: (وَهُوَ عِنْدَ الأُطُمِ) بضمّ الهمزة: هو القصر، جمعه آطامٌ، كعُنُق وأعناق، قاله النوويّ

(2)

.

وقال المجد رحمه الله: الأُطم بضمّة، وبضمّتين: القصر، وكلّ حصن مبنيّ

(1)

"صحيح البخاريّ" 3/ 1204.

(2)

"شرح النوويّ" 14/ 233 - 234.

ص: 486

بحجارة، وكلّ بيت مربّع، مسطَّح، جمعه آطامٌ، وأُطُومٌ. انتهى

(1)

.

وقوله: (الَّذِي عِنْدَ دَارِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ)؛ يعني: الدار التي كانت له في حياته؛ لأن هذه القصّة بعد وفاته رضي الله عنه؛ لأن نافعًا شهدها، فقد تقدّم في الرواية السابقة أن نافعًا سمع أبا لبابة يُخبر ابن عمر رضي الله عنهم، والله تعالى أعلم.

وقوله: (يَرْصُدُ حَيَّةً) بفتح أوله، وضمّ ثالثه؛ أي: يرتقبها، وينتظر خروجها حتى يقتلها، يقال: رَصَده رَصْدًا، ورَصَدًا: رَقَبه، كترصّده، قاله المجد

(2)

.

وقال الفيّومي: رَصَدْتُهُ رَصْدًا، من باب قتل: قعدتُ له على الطريق، والفاعل: رَاصِدٌ، وربما جُمِع على رَصَدٍ، مثل خادم وخَدَمٍ، والرَّصَدِيُّ: نسبة إلى الرَّصَدِ، وهو الذي يقعد على الطريق، ينتظر الناس؛ ليأخذ شيئًا من أموالهم ظلمًا، وعدوانًا، وقعد فلان بِالمَرْصَدِ، وزانُ جعفر، وبِالمِرْصَادِ، بالكسر، وبِالمُرْتَصَدِ أيضًا؛ أي: بطريق الارتقاب، والانتظار، ورَبُّك لك بِالمِرْصَادِ؛ أي: مراقبك، فلا يخفى عليه شيء من أفعالك، ولا تفوته. انتهى

(3)

.

وقوله: (نَحْوِ حَدِيثِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ)؛ يعني: أن حديث أسامة بن زيد عن نافع بنحو حديث الليث بن سعد عنه الماضي.

[تنبيه]: رواية أسامة بن زيد عن نافع هذه ساقها ابن عبد البرّ رحمه الله في "التمهيد"، فقال:

أخبرنا عبد الوارث بن سفيان، قال: حدّثنا قاسم بن أصبغ، قال: حدّثنا ابن وضاح، قال: حدّثنا أبو الطاهر، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني أسامة بن زيد الليثيّ، عن نافع، أن أبا لبابة مَرّ بعبد الله بن عمر، وهو عند الأُطم الذي عند دار عمر بن الخطاب، يَرْصُد حيّةً، فقال أبو لبابة: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يا أبا عبد الرحمن قد نَهَى عن قتل عوامر البيوت، فانتهى عبد الله بن عمر عن ذلك، ثم وجد بعدُ في بيته حيّةً، فأمر بها، فطُرِحت

(1)

"القاموس المحيط" ص 51 - 52.

(2)

"القاموس المحيط" ص 510.

(3)

"المصباح المنير" 1/ 228.

ص: 487

ببطحان، قال نافع: ثم رأيتها بعد ذلك في بيته. انتهى

(1)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5821]

(2234) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ - وَاللَّفْظُ لِيَحْيَى - قَالَ يَحْيَى، وَإِسْحَاقُ: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ الآخَرَانِ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الأَسْوَدِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي غَارٍ، وَقَدْ أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ {وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا (1)}، فَنَحْنُ نَأْخُذُهَا مِنْ فِيهِ رَطْبَةً، إِذْ خَرَجَتْ عَلَيْنَا حَيَّةٌ، فَقَالَ:"اقْتُلُوهَا"، فَابْتَدَرْنَاهَا لِنَقْتُلَهَا، فَسَبَقَتْنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"وَقَاهَا اللهُ شَرَّكُمْ، كَمَا وَقَاكُمْ شَرَّهَا").

رجال هذا الإسناد: تسعة:

1 -

(الأَعْمَشُ) سليمان بن مِهْران، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

2 -

(إِبْرَاهِيمُ) بن يزيد بن قيس النخعيّ، أبو عمران الكوفيّ، ثقةٌ فقيهٌ كثير الإرسال [5](ت 96)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 52.

3 -

(الأَسْوَدُ) بن يزيد بن قيس بن عبد الله النخعيّ، أبو عمرو، أو أبو عبد الرحمن الكوفيّ، ثقة فقيهٌ مكثر [2](ت 4 أو 75)(ع) تقدم في "الطهارة" 32/ 674.

4 -

(عَبْدُ اللهِ) بن مسعود بن غافل بن حبيب الْهُذليّ، أبو عبد الرحمن الصحابيّ الشهير، مات رضي الله عنه سنة (32) أو بعدها (ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 11.

والباقون ذُكروا في الباب، وقبله، و"أبو كريب" هو: محمد بن العلاء، و"أبو معاوية" هو: محمد بن خازم الضرير.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من سُداسيّات المصنّف، وله فيه أربعة من الشيوخ جمع بينهم؛ لاتحاد كيفيّة أَخْذه عنهم، ثم فصّل بينهم؛ لاختلاف كيفيّة أخذهم، وأدائهم، كما بيّنّاه غير مرّة، وفيه ثلاثة من التابعين روى بعضهم عن بعض، ورواية الأولين من رواية الأقران؛ لأنهما من الطبقة الخامسة، وفيه عبد الله مهملًا،

(1)

"التمهيد" لابن عبد البرّ 16/ 19.

ص: 488

وهو ابن مسعود رضي الله عنه؛ لأن السند كوفيّ، وقد أشار السيوطيّ رحمه الله في "ألفيّة الحديث" إلى هذا حيث قال:

وَحَيْثُمَا أُطْلِقَ عَبْدُ اللهِ فِي

طَيْبَةَ فَابْنُ عُمَرٍ وإِنْ يَفِي

بِمَكَّةٍ فَابْنُ الزُّبَيْرِ أَوْ جَرَى

بِكُوفَةٍ فَهْوَ ابْنَ مَسْعُودٍ يُرَى

وَالْبَصْرَةِ الْبَحْرُ وَعِنْدَ مِصْرِ

وَالشَّامِ مَهْمَا أُطْلِقَ ابْنُ عَمْرِ

شرح الحديث:

(عَنْ إِبْرَاهِيمَ) بن يزيد النخعيّ (عَنِ الأَسْوَدِ) بن يزيد النخعيّ، وهو خالُ إبراهيم، (عَنْ عَبْدِ اللهِ) بن مسعود رضي الله عنه أنه (قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي غَارٍ) وهو غار منى بمكة، كما بيّنته الرواية التالية، ووقع عند الإسماعيليّ من طريق ابن نمير، عن حفص بن غياث، أن ذلك كان ليلة عرفة.

وفي رواية البخاريّ: "قال: بينما نحن مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في غار بمنى، إذ نزل عليه {وَالْمُرْسَلَاتِ} "

(1)

.

(وَقَدْ أُنْزِلَتْ) بالبناء للمجهول، (عَلَيْهِ) صلى الله عليه وسلم، وقوله:({وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا (1)}) نائب الفاعل محكيّ، المراد السورة بكاملها، (فَنَحْنُ نَأْخُذُهَا مِنْ فِيهِ)؛ أي: فم النبيّ صلى الله عليه وسلم، (رَطْبَةً)؛ أي: لم يجفّ ريقه بها.

وقال في "العمدة": قوله: "رطبةً"؛ أي: غَضّةً طَرِيّةً في أول ما تلاها، ووصفت التلاوة بالرطوبة؛ لسهولتها، ويَحْتَمِل أن يكون المراد من الرطوبة رطوبة فمه؛ يعني: أنهم أخذوها عنه قبل أن يجفّ ريقه من تلاوتها، كذا قاله الشراح، وقال العينيّ رحمه الله: هذا كناية عن سرعة أَخْذهم على الفور حين سمعوه، وهو يقرأ من غير تأخير، ولا تَوَانٍ. انتهى

(2)

.

(1)

قال في "عمدة القاري" 10/ 184: قوله: "بينما" قد ذكرنا غير مرة أن "بينما" و"بينا" ظرفا زمان، بمعنى المفاجأة، ويضافان إلى جملة، من فعل وفاعل، ومبتدأ وخبر، ويحتاجان إلى جواب يتم به المعنى، وجوابه هنا هو قوله:"إذ نزل عليه"، والأفصح أن لا يكون فيه "إذ"، و"إذا"، وقد جاء أحدهما في الجواب كثيرًا. انتهى.

(2)

"عمدة القاري" 15/ 198.

ص: 489

وقال القرطبيّ رحمه الله: قول ابن مسعود رضي الله عنه: "فنحن نأخذها من فيه رطبة" أي: مُستطابة، سهلة كالثمرة الرَّطبة، السهلة الجنَى. وقيل: معناه أي: نتلقاها لنسمعها منه لأول نزولها، كالشيء الرَّطب في أول أحواله. والأول أوقع تشبيهًا، ويدلّ عليه: قوله صلى الله عليه وسلم الخوارج: "يقرؤن القرآن رطبًا، لا يجاوز حناجرهم"؛ أي: يستطيبون تلاوته، ولا يفهمون معانيه. انتهى

(1)

.

(إِذْ خَرَجَتْ عَلَيْنَا حَيَّةٌ)"إذ" هي الفجائيّة؛ أي: ففاجأنا خروج حيّة، (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("اقْتُلُوهَا") فيه جواز قتل الحيّة للمُحْرم، وفي الحَرَم. (فَابْتَدَرْنَاهَا لِنَقْتُلَهَا)؛ أي: أسرعنا إلى قتلها، وهو مِن بدرتُ إلى الشيء أبدُر بُدُورًا، من باب قَعَد: أسرعت، وكذلك بادرت إليه، ويقال: ابتدروا السلاح؛ أي: تسارعوا إلى أخذه

(2)

. (فَسَبَقَتْنَا)؛ أي: دخلت جُحْرها قبل أن نقتلها، (فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"وَقَاهَا اللهُ شَرَّكُمْ، كَمَا وَقَاكُمْ شَرَّهَا) " بنصب "شرّ" في الموضعين؛ لأنه مفعولٌ ثانٍ لـ "وقى"؛ أي: إن الله تعالى سلّمها منكم، كما سلّمكم منها، وهو من مجاز المقابلة، قاله في "الفتح": وقال في موضع آخر: قوله: "وُقِيَت شرَّكم، ووُقِيْتُم شرَّها"؛ أي: قَتْلكم إياها، وهو شرّ بالنسبة إليها، وإن كان خيرًا بالنسبة إليهم. انتهى

(3)

.

وقال في "العمدة": فإن قلت: كان قَتْلهم لها خيرًا؛ لأنه مأمور به.

قلت: هو شرّ بالنسبة إليها، والخيور والشرور من الأمور الإضافية. انتهى

(4)

، والله تعالى أعلم.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

[تنبيه]: للإمام الدارقطنيّ رحمه الله كلام في طرُق حديث ابن مسعود رضي الله عنه هذا، ودونك نصّه:

(1)

"المفهم" 5/ 535.

(2)

"عمدة القاري" 10/ 184.

(3)

"الفتح" 5/ 109، كتاب "جزاء الصيد" رقم (1830) و 7/ 595، كتاب "بدء الخلق" رقم (3317).

(4)

"عمدة القاري" 15/ 197.

ص: 490

(728)

- وسئل عن حديث شقيق عن عبد الله، كنا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في غار، فخرجت حية، فابتدرناها لنقتلها، فسبقتنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"وُقِيت شرَّكم، ووُقيتم شرّها"، ونزل على النبيّ صلى الله عليه وسلم:{وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا (1)} . . . الحديث.

فقال: يرويه الأعمش، واختُلف عنه، فرواه المسعوديّ عن الأعمش، عن أبي وائل، عن عبد الله، وتابعه عبد الصمد بن عبد الوارث، عن حفص بن غياث، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن عبد الله، وخالفه عبد الصمد بن النعمان، فرواه عن حفص، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله، والصحيح عن حفص ما رواه أبو بكر بن أبي شيبة، وأبو كريب، وأحمد بن حنبل، وابن نُمير عنه، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عبد الله، عن علقمة، والأسود، ورواه أبو عوانة، عن مغيرة، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله، قال ذلك إسحاق بن سيار، عن يحيى بن حماد، وقال حسن الحلوانيّ: عن يحيى بن حماد، عن أبي عوانة، عن مغيرة، عن إبراهيم، عن شقيق، عن عبد الله، وقال جرير: عن مغيرة، عن إبراهيم، عن عبد الله مرسلًا، والصحيح حديث علقمة والأسود، حدّثنا أحمد بن محمد بن إبراهيم بن أبي الرجال، ثنا أبو أمية محمد بن إبراهيم، ثنا عبيد الله بن موسى، ثنا سفيان الثوريّ، عن منصور، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله، قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غار، فأُنزلت عليه:{وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا (1)} ، فجعلنا نتلقاها منه، فخرجت حية من جانب الغار، فقال:"اقتلوها"، فابتدرناها، فسبقتنا، فقال:"إنها وُقيت شرّكم، كما وُقيتم شرّها"، تفرّد به أبو أمية، عن عبيد الله، عن سفيان، وقال غيره: عن عبيد الله، عن شيبان، وقال ابن كرامة: عن عبيد الله، عن إسرائيل، عن منصور، والله أعلم.

قلت: فإن موسى بن العباس الآزاذواريّ حدّث به عن أحمد بن الأزهر، عن عبيد الله بن موسى، عن سفيان، وعن محمد بن عبد الله بن عتبة، عن عبيد الله، عن شيبان، كلاهما عن منصور بذلك، فقال: لعل أحمد بن الأزهر وافق أبا أمية، ولم يقع هذا إلينا. انتهى كلام الدارقطنيّ رحمه الله

(1)

.

(1)

"العلل الواردة في الأحاديث النبوية" للدارقطنيّ 5/ 81 - 82.

ص: 491

قال الجامع عفا الله عنه: قد بيّن الدارقطنيّ رحمه الله الاختلاف في هذا الحديث، وتبيّن من خلال تحقيقه أن رواية الشيخين لا كلام فيها، ولله الحمد.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [1/ 5821 و 5822](2234)، و (البخاريّ) في "جزاء الصيد"(1830) و"بدء الخلق"(3317) و"التفسير"(4930 و 4913)، و (النسائيّ) في "الحجّ"(5/ 208 و 209) و"الكبرى"(6/ 505)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 385 و 422 و 428 و 456 و 458)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(708)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(10148)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(9/ 91 و 254)، و (البزّار) في "مسنده"(4/ 300 و 329 و 5/ 8 و 221)، و (أبو نعيم) في "الحلية"(4/ 207)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 210)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان جواز قتل الحية في الحرم، وجواز قتلها في جُحْرها، والْجُحْر بضم الجيم، وسكون الحاء المهملة معروف.

قال ابن المنذر رحمه الله: أجمع من يُحفَظ عنه من أهل العلم على أن للمُحْرم قتلَ الحية.

وتُعُقّب بما رُوي عن الحكم، وحماد، وبما عند المالكية من استثناء ما صَغُر منها، بحيث لا يتمكن من الأذى، قاله في "الفتح"

(1)

.

2 -

(ومنها): ما قال في "العمدة": فيه الأمر بقتل الحية، سواء كان مُحْرمًا، أو حلالًا، أو في الحرم، والأمر مقتضاه الوجوب، وقال ابن بطّال: أجمع العلماء على جواز قتل الحية في الحل والحرم، قال: وأجاز مالك قَتْل الأفعى، وهي داخلة عنده في معنى الكلب العقور، وقال ابن المنذر: لا نعلمهم اختلفوا في جواز قتل العقرب، وقال نافع لَمّا قيل: فالحية لا يُخْتَلف فيها، وفي رواية: ومن يشكّ فيها؟.

ورَدّ عليه ابنُ عبد البرّ بما أخرجه ابن أبي شيبة، من طريق شعبة، أنه سأل الحكم، وحمادًا، فقالا: لا يقتل المُحْرم الحيّة، ولا العقرب، قال: ومن

(1)

"الفتح" 5/ 109، كتاب "جزاء الصيد" رقم (1830).

ص: 492

حجتهما أنهما من هوامّ الأرض، فيلزم من أباح قتلهما مثل ذلك في سائر الهوامّ.

قال العينيّ: نعم يباح قَتْل سائر الهوامّ القتّالة، كالرُّتيلاء، وأم الأربعة والأربعين، والسامّ الأبرص، والوزغة، والنمل المؤذية، ونحوها، وأما نهيه صلى الله عليه وسلم عن قتل حيات البيوت، فقد اختَلَف السلف قبلنا في ذلك، فقال بعضهم بظاهر الأمر يقتل الحيات كلها، من غير استثناء شيء منها، كما روى أبو إسحاق، عن القاسم بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن عبد الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اقتلوا الحيات كلهنّ، فمن خاف ثأرهنّ، فليس مني"، ورُوي أيضًا هذا عن عُمر، وابن مسعود، وقال أبو عمر: رَوَى شعبة، عن مخارق بن عبد الله، عن طارق بن شهاب، قال: اعتمرت، فمررت بالرِّمَال، فرأيت حيات، فجعلت أقتلهنّ، وسألت عمر، فقال: هن عدوّنا، فاقتلوهنّ، قال ابن عيينة: سمعت الزهري يحدِّث عن سالم، عن أبيه، أن عمر سئل عن الحية، يقتلها المحرم، فقال: هي عدوّ، فاقتلوها حيث وجدتموها، وقال زيد بن أسلم: أيُّ كلب أعقر من الحية.

وقال آخرون: لا ينبغي أن تُقتل عوامر البيوت، وسكانها إلا بعد مناشدة العهد الذي أُخِذ عليهنّ، فإن ثبت بعد إنشاده قُتل، وذلك حِذارَ الإصابة، فيَلْحَقه ما لَحِق الفتى المعرس بأهله، حيث وَجَد حية على فراشه، فقتلها قبل مناشدته إياها.

واعتلّوا في ذلك بحديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه مرفوعًا: "إن بالمدينة جنًّا قد أسلموا، فإن رأيتم منها شيئًا، فآذنوه ثلاثة أيام، فإن بدا لكم بعد ذلك، فاقتلوه".

ولا تخالُف بينهما، وربما تمثَّل بعض الجنّ ببعض صور الحيات، فيظهر لأعين بني آدم، كما رَوَى ابن أبي مليكة، عن عائشة بنت طلحة، أن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها رأت في مُغتسلها حيّة، فقتلتها، فأُتيت في منامها، فقيل لها: إنك قتلتِ مسلمًا، فقالت: لو كان مسلمًا ما دخل على أمهات المؤمنين، فقيل: ما دخل عليك إلا وعليك ثيابك، فأصبحت فَزِعَةً، ففرّقت في المساكين اثني عشر ألفًا، قال ابن نافع: لا تُنْذَر عوامر البيوت، إلا بالمدينة خاصّةً،

ص: 493

على ظاهر الحديث، وقال مالك: تُنْذَر بالمدينة وغيرها، وهو بالمدينة أوجب، ولا تنذر في الصحاري، وقال غيره بالسوية بين المدينة وغيرها؛ لأن العلة إسلام الجنّ، ولا يحل قتل مسلم جنّيّ، ولا إنسيّ.

ومما يؤكد قتل الحية ما ذكره حديث ابن مسعود المذكور في الباب، وعند الدارقطنيّ من حديث زِرّ عن عبد الله:"من قتل حيةً، أو عقربًا، فقد قتل كافرًا"، وقال: الموقوف أشبه بالصواب. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5822]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَعُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، قَالَا: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الأَعْمَشِ، فِي هَذَا الإِسْنَادِ بِمِثْلِهِ).

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) العبسيّ الكوفيّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(جَرِيرُ) بن عبد الحميد الضبيّ الكوفيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

[تنبيه]: وقع في برنامج الحديث في هذا الإسناد غلطٌ حيث تُرجم فيه لجرير بن حازم، والصواب جرير بن عبد الحميد، والحديث أخرجه الشيخان من رواية جرير، وقد صرّح شُرّاح البخاريّ بأنه جرير بن عبد الحميد، وأيضًا فإن جرير بن حازم لم يُذكر في شيوخ عثمان بن أبي شيبة، راجع:"تهذيب التهذيب"(3/ 77)، و"تهذيب الكمال"(919/ 479) فليُتنبّه، والله تعالى أعلم.

والباقيان ذُكرا في الباب.

[تنبيه]: رواية جرير عن الأعمش ساقها البخاريّ رحمه الله في "التفسير" من "صحيحه"، فقال:

(4931)

- حدّثنا قتيبة، حدّثنا جريرٌ، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، قال: قال عبد الله: بينا نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غار، إذ نزلت عليه:{وَالْمُرْسَلَاتِ} ، فتلقيناها من فيه، وإن فاه لرطب بها، إذ خرجت حيّةٌ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"عليكم، اقتلوها"، قال: فابتدرناها، فسبقتنا، قال:

(1)

"عمدة القاري" 10/ 184 - 185.

ص: 494

فقال: "وُقيت شرَّكم، كما وُقيتم شرّها". انتهى

(1)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5823]

(2235) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا حَفْصٌ - يَعْنِي: ابْنَ غِيَاثٍ - حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الأَسْوَدِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ مُحْرِمًا بِقَتْلِ حَيَّةٍ بِمِنًى).

رجال هذا الإسناد: ستّة:

1 -

(حَفْصُ بْنُ غِيَاثِ) بن طلق النخعيّ، أبو عمر الكوفيّ القاضي، ثقةٌ فقيهٌ تغيّر حفظه قليلًا في الآخر [8](4 أو 195)(ع) تقدم في "الإيمان" 8/ 136.

والباقون ذُكروا في الباب.

وقوله: (أَمَرَ مُحْرِمًا بِقَتْلِ حَيَّةٍ بِمِنًى) هو مختصر من حديث ابن مسعود الماضي.

قال النوويّ رحمه الله: فيه جواز قتل الحيّة للمحرم، وفي الحرم، وأنه لا يُنذرها في غير البيوت، وأن قَتْلها مستحب. انتهى

(2)

.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه هذا بهذا السياق من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [1/ 5823 و 5824](2235)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(2668)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 210)، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5824]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ، حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ، عَنِ الأَسْوَدِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي غَارٍ، بِمِثْلِ حَدِيثِ جَرِيرٍ، وَأَبِي مُعَاوِيَةَ).

(1)

"صحيح البخاريّ" 4/ 1879.

(2)

"شرح النوويّ" 14/ 234.

ص: 495

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ) أبو حفص الكوفيّ، ثقةٌ ربّما وَهِمَ [10](ت 222)(خ م د ت س) تقدم في "الطهارة" 32/ 675.

والباقون ذُكروا قبله.

[تنبيه]: رواية حفص بن غياث عن الأعمش هذه ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، بسند مسلم، فقال:

(1733)

- حدّثنا عمر بن حفص بن غياث، حدّثنا أبي، حدّثنا الأعمش، قال: حدّثني إبراهيم، عن الأسود، عن عبد الله رضي الله عنه قال: بينما نحن مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في غار بمنى، إذ نزل عليه:{وَالْمُرْسَلَاتِ} ، وإنه ليتلوها، وإني لأتلقاها من فيه، وإن فاه لرطب بها، إذ وثبت علينا حية، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"اقتلوها"، فابتدرناها، فذهبت، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"وُقيت شرّكم، كما وُقيتم شرَّها". انتهى

(1)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5825]

(2236) - (وَحَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ سَرْحٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، عَنْ صَيْفِيٍّ - وَهُوَ عِنْدَنَا مَوْلَى ابْنِ أَفْلَحَ - أَخْبَرَنِي أَبُو السَّائِبِ مَوْلَى هِشَامِ بْنِ زُهْرَةَ، أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ فِي بَيْتِهِ، قَالَ: فَوَجَدْتُهُ يُصَلِّي، فَجَلَسْتُ أَنْتَظِرُهُ، حَتَّى يَقْضِيَ صَلَاتَهُ، فَسَمِعْتُ تَحْرِيكًا فِي عَرَاجِينَ، فِي نَاحِيَةِ الْبَيْتِ، فَالْتَفَتُّ، فَإِذَا حَيَّةٌ، فَوَثَبْتُ لأَقْتُلَهَا، فَأَشَارَ إِلَيَّ أَنِ اجْلِسْ، فَجَلَسْتُ، فَلَمَّا انْصَرَفَ أَشَارَ إِلَى بَيْتٍ فِي الدَّارِ، فَقَالَ: أَتَرَى هَذَا الْبَيْتَ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: كَانَ فِيهِ فَتًى مِنَّا حَدِيثُ عَهْدٍ بعُرْسٍ، قَالَ: فَخَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْخَنْدَقِ، فَكَانَ ذَلِكَ الْفَتَى يَستَأَذِنُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِأَنْصَافِ النَّهَارِ، فَيَرْجِعُ إِلَى أَهْلِهِ، فَاسْتَأْذَنَهُ يَوْمًا، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"خُذْ عَلَيْكَ سِلَاحَكَ، فَإِنِّي أَخْشَى عَلَيْكَ قُرَيْظَةَ"، فَأَخَذَ الرَّجُلُ سِلَاحَهُ، ثُمَّ رَجَعَ، فَإِذَا امْرَأَتُهُ بَيْنَ الْبَابَيْنِ قَائِمَةً، فَأَهْوَى إِلَيْهَا الرُّمْحَ لِيَطْعُنَهَا بِهِ،

(1)

"صحيح البخاريّ" 2/ 650.

ص: 496

وَأَصَابَتْهُ غَيْرَةٌ، فَقَالَتْ لَهُ: اكْفُفْ عَلَيْكَ رُمْحَكَ، وَادْخُلِ الْبَيْتَ، حَتَّى تَنْظُرَ مَا الَّذِي أَخْرَجَنِي؟، فَدَخَلَ، فَإِذَا بِحَيَّةٍ عَظِيمَةٍ مُنْطَوِيَةٍ عَلَى الْفِرَاشِ، فَأَهْوَى إِلَيْهَا بالرُّمْحِ، فَانْتَظَمَهَا بِهِ، ثُمَّ خَرَجَ، فَرَكَزَهُ فِي الدَّارِ، فَاضْطَرَبَتْ عَلَيْهِ، فَمَا يُدْرَى

(1)

أَيُّهُمَا كَانَ أَسْرَعَ مَوْتًا، الْحَيَّةُ، أَمِ الْفَتَى؟ قَالَ: فَجِئْنَا إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرْنَا ذَلِكَ لَهُ، وَقُلْنَا: ادْعُ اللهَ يُحْيِيهِ لَنَا، فَقَالَ:"اسْتَغْفِرُوا لِصَاحِبِكُمْ"، ثُمَّ قَالَ:"إِنَّ بِالْمَدِينَةِ جِنًّا، قَدْ أَسْلَمُوا، فَإِذَا رَأَيْتُمْ مِنْهُمْ شَيْئًا، فَآذِنُوهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَإِنْ بَدَا لَكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فَاقْتُلُوهُ، فَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(صَيْفِيٌّ مَوْلَى ابْنِ أَفْلَحَ) هو: صيفيّ بن زياد الأنصاريّ مولاهم، أبو زياد، أو أبو سعيد مولى أفلح مولى أبي أيوب، ويقال: مولى أبي السائب الأنصاريّ المدنيّ، ثقةٌ [4].

رَوَى عن أبي السائب مولى هشام بن زهرة، وأبي سعيد الخدريّ، وأبي الْيَسَر كعب بن عمرو.

وروى عنه عبد الله بن عمر، وابن عجلان، وسعيد المقبريّ، وسعيد بن أبي هلال، ومالك، وعبد الله بن سعيد بن أبي هند، وابن أبي ذئب.

قال النسائيّ: صيفيّ روى عنه ابن عجلان ثقةٌ، وقال: صيفيّ مولى أفلح ليس به بأس، روى عنه ابن أبي ذئب، كذا فرّق بينهما، وهما واحد، وذكره ابن حبان في "الثقات".

قال الحافظ: صوّب أبو عبد الله الذهبيّ فيما قرأت بخطه تفرقة النسائي بينهما، وأنهما كبير وصغير، فالكبير رَوَى عن أبي اليسر كعب بن عمرو، وروى عنه محمد بن عجلان، والصغير رَوَى عن أبي السائب، وروى عنه مالك، والله أعلم.

أخرج له المصنّف، وأبو داود، والترمذيّ، والنسائيّ، وله عندهم هذا الحديث، وعند أبي داود، والترمذيّ حديث في الاستعاذة من الهَرَم، وغير ذلك.

(1)

وفي نسخة: "فما نَدري".

ص: 497

2 -

(أَبُو السَّائِبِ مَوْلَى هِشَامِ بْنِ زُهْرَةَ) الأنصاريّ المدنيّ، اسمه عبد الله بن السائب، ثقةٌ [3](م 4) تقدم في "الصلاة" 29/ 664.

3 -

(أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ) سعد بن مالك بن سنان الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، تقدّم قريبًا.

والباقون ذُكروا في الباب، وقبل باب.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالمدنيين من مالك، وشيخه، وابن وهب مصريّان، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وأن صحابيّه ابن صحابيّ، وهو أحد المكثرين السبعة.

شرح الحديث:

(عَنْ صَيْفِيٍّ - وَهُوَ عِنْدَنَا مَوْلَى ابْنِ أفلَحَ -) هكذا عند مسلم، وكذا هو في "تهذيب الكمال"، والذي في "التهذيب": مولى أفلح بإسقاط لفظة "ابن"، وكلاهما صحيح، كما يأتي في كلام ابن عبد البرّ رحمه الله، فقد قال في "التمهيد": هو صيفي بن زياد، يُكْنَى أبا زياد، مولى ابن أفلح، مولى أبي أيوب الأنصاريّ رضي الله عنه، وقيل: صيفيّ هذا يكنى أبا سعيد، يقال فيه: مولى ابن أفلح، ويقال: مولى أفلح، مولى أبي أيوب الأنصاريّ، ويقال: مولى الأنصار، ويقال: مولى أبي السائب، ومولى ابن السائب، والصواب قول من قال: مولى ابن أفلح، كنيته أبو زياد، وهو رجل من أهل المدينة، رَوَى عنه مالك، وابن عجلان، وسعيد المقبريّ، وسعيد بن أبي هلال، وابن أبي ذئب، وسعيد بن أبي هند، ولا أعلم له روايةً إلا عن أبي السائب، مولى هشام بن زهرة. انتهى.

(أَخْبَرَنِي أَبُو السَّائِبِ مَوْلَى هِشَامِ بْنِ زُهْرَةَ، أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ) رضي الله عنه (فِي بَيْتِهِ)؛ أي: بيت أبي سعيد. (قَالَ) أبو السائب (فوَجَدْتُهُ يُصَلِّي، فَجَلَسْتُ أَنْتَظِرُهُ، حَتَّى يَقْضِيَ صَلَاتَهُ)؛ أي: يفرغ منها، ويسلّم (فَسَمِعْتُ تَحْرِيكًا فِي عَرَاجِينَ) بالفتح: جمع عُرْجون، قال ابن الأثير رحمه الله: أراد بها

ص: 498

الأعواد التي في سقف البيت، شَبَّهها بالعراجين. انتهى

(1)

.

قال الفيّوميّ: الْعُرْجون: أصل الْكِبَاسة، سُمّي بذلك؛ لانعراجه، وانعطافه، ونونه زائدة. انتهى

(2)

.

وقال محمد مرتضى الزَّبيديّ رحمه الله: العُرْجون، كزُنْبُور: الْعِذَقُ عامّةً، أو هو العذق إذا يبس، واعْوَجَّ، أو أصله الذي يَعْوَجّ، وتُقْطَع منه الشماريخ، فيبقى على النخل يابسًا، أو عُود الْكِبَاسة، وقال الأزهريّ: الْعُرْجون أصفر، عريضٌ، شَبَّهَ الله تعالى به الهلال لَمَّا عاد دقيقًا، قال الله تعالى:{حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} [يس: 39]، قال ابن سِيدَهْ: في دقّته، واعوجاجه. انتهى

(3)

.

(فِي نَاحِيَةِ الْبَيْتِ)؛ أي: في جانب من جوانبه، (فَالْتَفَتُّ، فَإِذَا حَيَّةٌ)"إذا" هي الفجائيّة؛ أي: ففاجأني وجود حيّة، (فَوَثَبْثُ)؛ أي: قَفَزت (لأَقْتُلَهَا، فَأَشَارَ)؛ أي: أبو سعيد، وهو في الصلاة (إِلَيَّ أَنِ) تفسيريّة؛ أي:(اجْلِسْ) أو "أن" مصدريّة؛ أي: بأن اجلس؛ أي: بالجلوس، (فَجَلَسْتُ، فَلَمَّا انْصَرَفَ) أبو سعيد من صلاته (أَشَارَ إِلَى بَيْتٍ فِي الدَّارِ)؛ أي: في داخل الدار التي هو فيها، (فَقَالَ: أَتَرَى)؛ أي: تنظر (هَذَا الْبَيْتَ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: كَانَ فِيهِ فَتًى مِنَّا) قال صاحب "التنبيه": لا أعرفه، ولا زوجته

(4)

.

وفي رواية ذكرها ابن عبد البرّ في "التمهيد": "فإذا حيّة، فقمت، فقال أبو سعيد: ما لك؟ فقلت: حية ههنا، قال: فتريد ماذا؟ قال: أريد قتلها، قال: فأشار إلى بيت في داره، تلقاء بيته، وقال: ابن عم له كان في هذا البيت، فلما كان يوم الأحزاب استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أهله، وكان حديث عهد بعرس. . ." الحديث

(5)

.

(حَدِيثُ عَهْدٍ)؛ أي: قريب وقت، ويجوز رفع "حديثُ" صفة بعد صفة لـ "فتى"، ونَصْبه على أنه حال من الضمير في "منّا"، قاله الطيبيّ رحمه الله

(6)

،

(1)

"النهاية في غريب الأثر" 3/ 204.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 401.

(3)

"تاج العروس" 1/ 8109.

(4)

"تنبيه المعلم" ص 381.

(5)

"التمهيد" لابن عبد البرّ 16/ 260.

(6)

"الكاشف عن حقائق السُّنن" 9/ 2823.

ص: 499

(بِعُرْسٍ) بضم، فسكون؛ أي: زواج، قال الفيّوميّ رحمه الله: العُرْسُ بالضم: الزِّفَافُ، ويُذَكَّر، ويؤنَّث، فيقال: هو العُرْسُ، والجمع أَعْرَاسٌ، مثل قُفْل وأَقْفَال، وهي العُرْسُ، والجمع عُرْسَاتٌ، ومنهم من يقتصر على إيراد التأنيث، والعُرْسُ أيضًا طعام الزِّفَاف، وهو مذكَّرٌ؛ لأنه اسم للطعام. انتهى

(1)

.

(قَالَ) أبو سعيد (فَخَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْخَنْدَقِ) قال في "التاج": الخنْدَقُ كجَعْفَر: حَفِيرٌ حوْل أسْوار المُدُنِ، قالَ ابنُ دُرَيد: فارسيّ مُعَرَّبُ كَنْدَه، وقد تَكلَّمَتْ به العَرَبُ، قالَ الرّاجِزُ:

لا تَحْسَبَنَّ الخنْدَقَ المَحْفُورَا

يَدْفَعُ عنكَ القَدَرَ المقْدُوَرَا

والجمْعُ الخَنادِقُ، قالَ عُمارَةُ بن طارِق:

يَحُطُّ بالعَبْدِ الشَّدِيدِ العاتِقِ

مِثْلُ حِطاطِ البَغْلِ في الخَنادِقِ

(2)

(فَكَانَ ذَلِكَ الْفَتَى يَسْتَأْذِنُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم)؛ أي: امتثالًا لقوله عز وجل: {وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} الآية [النور: 62]، وقوله:(بِأَنْصَافِ النَّهَارِ) بفتح الهمزة؛ أي: منتصفه، وكأنه وقت لآخر النصف الأول، وأول النصف الثاني، فجَمَعه كما قالوا: ظهور الترسين، قاله النوويّ رحمه الله

(3)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: والأنصاف: جمع نِصْف، كحِمْل وأحمال، وعِدل وأعدال، وكأن هذا الفتى كانت عادته أن يستأذن النبيّ صلى الله عليه وسلم كل يوم من تلك الأيام في نصف النهار، فيأذن له في الانصراف إلى أهله، والباء في: بأنصاف بمعنى: "في"، كما تقول: جاء زيد بثيابه؛ أي: فيها. انتهى

(4)

.

(فَيَرْجِعُ إِلَى أَهْلِهِ)؛ أي: ليطالع حالهم، ويقضي حاجتهم، ويؤنس امرأته، فإنها كانت عَرُوسًا، كما ذُكر في الحديث. (فَاسْتَأْذَنَهُ) صلى الله عليه وسلم (يَوْمًا، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "خُذْ عَلَيْكَ سِلَاحَكَ)؛ أي: احمل عليك السلاح آخذًا حذرك، و"السلاح" بالكسر: ما يقاتَل به في الحرب، ويدافَعُ، والتذكير أغلب من التأنيث، فيُجمع على التذكير أَسْلحةً، وعلى التأنيث سِلاحات، والسِّلْح،

(1)

"المصباح المنير" 2/ 402.

(2)

"تاج العروس" 1/ 6295.

(3)

"شرح النوويّ" 14/ 234.

(4)

"المفهم" 5/ 536.

ص: 500

وزانُ حِمْل: لغة في السلاح، قاله الفيّوميّ

(1)

.

ثم علّل أمره بأخذ سلاحه بما قرنه بالفاء التعليليّة، فقال:(فَإِنِّي أَخْشَى عَلَيْكَ قُرَيْظَةَ") بلفظ تصغير قَرَظة، هم إخوة بني النضير، وهما حيّان من اليهود، كانوا بالمدينة، فأما قُريظة، فقُتلت مقاتِلتهم، وسُبيت ذراريّهم؛ لنقضهم العهد، وأما بنو النضير، فأُجْلُوا إلى الشام. (فَأَخَذَ الرَّجُلُ سِلَاحَهُ، ثُمَّ رَجَعَ)؛ أي: إلى أهله، (فَإِذَا امْرَأَتُهُ) تقدّم أنه لا يُعرف اسمها، (بَيْنَ الْبَابَيْنِ قَائِمَةً)؛ أي: بين المصراعين

(2)

، (فَأَهْوَى إِلَيْهَا الرُّمْحَ)؛ أي: أمال إلى امرأته رمحه (لِيَطْعُنَهَا بِهِ) بفتح العين، وضمّها، يقال: طعنه بالرمح، كمنعه، ونصره طَعْنًا: ضربه، ووخزه، فهو مطعونٌ، وطَعِينٌ، جَمْعه طُعْنٌ بالضمّ

(3)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "فأهوى إليها. . . إلخ" أي: أماله إليها إرهابًا، ومبالغة في الزَّجر، وحَمَله على ذلك فرط الغيرة، وما كان بالذي يطعنها. انتهى

(4)

.

وقوله: (وَأَصَابَتْهُ غَيْرَةٌ) جملة حاليّة من الضمير المستتر في "أهوى"، و"الغَيْرة" بفتح، فسكون: هي الْحَمِيّة، والأَنَفَةُ، قاله ابن الأثير

(5)

.

وقال القاضي عياض رحمه الله في "المشارق": هو تغيّر القلب، وهَيَجَان الحفيظة، بسبب المشاركة في الاختصاص من أحد الزوجين بالآخر، أو بحريمه، وذَبّه عنهم، ومَنْعه منهم. انتهى

(6)

.

(فَقَالَتْ لَهُ: اكْفُفْ) بضمّ الفاء أمر من كفّ، يقال: كفّ عن الشيء كفًّا من باب قتل: تركه، وكففته كفًّا: منعته، فكفَّ، يتعدّى، ويلزم

(7)

، وما هنا متعدّ؛ لأنه نَصَب "رُمحك". (عَلَيْكَ رُمْحَكَ) بضمّ، فسكون: قَنَاةٌ في رأسها

(1)

"المصباح المنير" 1/ 284.

(2)

المصراعان من الأبواب: بابان منصوبان ينضمّان جميعًا، مدخلهما في الوسط منهما، قاله في "القاموس".

(3)

"القاموس المحيط" ص 803.

(4)

"المفهم" 5/ 537.

(5)

"النهاية" ص 685.

(6)

"مشارق الأنوار" 2/ 141.

(7)

راجع: "المصباح المنير" 2/ 536.

ص: 501

سنانٌ يُطعن به، جمعها رِماحٌ، وأرماحٌ

(1)

، (وَادْخُلِ الْبَيْتَ، حَتَّى تَنْظُرَ مَا الَّذِي أَخْرَجَنِي؟)"ما" استفهاميّة مبتدأ خبرها الموصول؛ أي: أيّ شيء الذي أخرجني من البيت؟ (فَدَخَلَ) الرجل البيت ليرى ما أخرجها منه، (فَإِذَا بِحَيَّةٍ عَظِيمَةٍ) "إذا" هي الفجائيّة؛ أي: ففاجأه وجودها، وقوله:(مُنْطَوِيَةٍ عَلَى الْفِرَاشِ) صفة لـ "حيّةٌ" بعد صفة، (فَأَهْوَى إِلَيْهَا بِالرُّمْحِ)؛ أي: مدّ إلى تلك الحيّة برمحه (فَانْتَظَمَهَا بِهِ)؛ أي: فطعنها، ثمّ انتظمها به، قال الطيبيّ: قوله: "فانتظمها"؛ أي: غرز الرمح في الحيّة حتى طواها فيه، فشبّهه بالسِّلْك الذي يُدخل في الخرز

(2)

. (ثُمَّ خَرَجَ) الرجل برمحه الذي انتظم به الحيّة (فَرَكَزَهُ) من بابي نصر، وضرب؛ أي: غرزه (فِي الدَّارِ، فَاضْطَرَبَتْ عَلَيْهِ)؛ أي: اضطربت الحيّة صائلة على الرجل، (فَمَا يُدْرَى) بالبناء للمفعول؛ أي: ما يُعلم، وفي بعض النُّسخ:"فما ندري" بالنون، مبنيًّا للفاعل، (أَيُّهُمَا كَانَ أَسْرَعَ مَوْتًا، الْحَيَّةُ، أَمِ الْفَتَى؟)؛ يعني: أنهما ماتا في وقت واحد بحيث إنه لا يُعلم تقدّم موت أحدهما على الآخر؛ لكونه في وقت واحد. (قَالَ) أبو سعيد رضي الله عنه (فَجِئْنَا إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرْنَا ذَلِكَ لَهُ، وَقُلْنَا: ادْعُ اللهَ يُحْيِيهِ لَنَا) لكونه حديث عهد بعُرس، فتستوحش المرأة الحديثة العُرْس، ويشتدّ حزنها عليه، رجوا بأن يستجيب الله تعالى دعاء نبيّه صلى الله عليه وسلم في ذلك الفتى؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أكرم على الله تعالى من أن يردّ دعاءه، وهذا ليس الأمر من الأمور المستحيلة، فقد جرى له صلى الله عليه وسلم آيات كثير من المعجزات، ولكنه صلى الله عليه وسلم لم ير ذلك مصلحةً.

وقال القرطبيّ: وقولهم: "ادع الله أن يحييه لنا" قولٌ أخرجه منهم كثرةُ ما كانوا يشاهدون من إجابة دعواته صلى الله عليه وسلم، وعموم بركاته، ولمَا روى أئمتنا في كتبهم: أن رجلًا وأد ابنته، ثم أسلم، فجاء النبيّ صلى الله عليه وسلم، فسأله أن يدعو الله في أن يحييها له، فانطلق معه إلى قبرها، فدعا، فناداها، فأحياها الله، فتكلمت معهما، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أتريدين أن تنطلقي مع أبيك؟ أو ترجعي إلى ما كنت فيه؟ " فاختارت الرُّجوع إلى قبرها. انتهى

(3)

.

(1)

"المعجم الوسيط" 1/ 371.

(2)

"الكاشف عن حقائق السُّنن" 9/ 2823.

(3)

"المفهم" 5/ 537.

ص: 502

قال الجامع عفا الله عنه: هكذا ساق القرطبيّ هذه القصّة بلا زمام، فليُنظر من أخرجها، وحال إسنادها، والله تعالى أعلم.

(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم: ("اسْتَغْفِرُوا لِصَاحِبِكُمْ")؛ أي: لأنه لا يرجع إلى الدنيا، فينبغي لكم أن تستغفروا له حتى يستفيد في الآخرة باستغفاركم له، (ثُمَّ قَالَ) صلى الله عليه وسلم محذّرًا أصحابه كي لا يقعوا في مثل ما وقع فيه الفتى:("إِنَّ بِالْمَدِينَةِ جِنًّا، قَدْ أَسْلَمُوا، فَإذَا رَأَيْتُمْ مِنْهُمْ شَيْئًا)؛ أي: ظهر لكم بصورة حيّة، (فَآذِنُوهُ) بالمدّ؛ أي: أعلموه بأنه لا يجوز له التعرّض للمسلمين في بيوتهم، وفي رواية:"فحرّجوا عليها"؛ أي: قولوا لها: أنت في حرج؛ أي: ضِيْق إن عُدت إلينا، فلا تلومينا أن نضيّق عليك بالتتبّع، والطرد، والقتل

(1)

. (ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ) هذا صريح في أن الإنذار ثلاثة أيام، لا ثلاث مرّات، كما زعم بعضهم. (فَإِنْ بَدَا)؛ أي: ظهر ذلك الجنّيّ (لَكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ)؛ أي: بعد الإنذار ثلاثة أيام، (فَاقْتُلُوهُ) ثم علّل الأمر بقتله بما قرنه بالفاء التعليليّة، فقال:(فَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ")؛ أي: لمخالفته أمر الله تعالى بعدم الاستجابة للإنذار.

وقال النوويّ رحمه الله: معناه: وإذا لم يذهب بالإنذار علمتم أنه ليس من عوامر البيوت، ولا ممن أسلم من الجنّ، بل هو شيطان، فلا حرمة عليكم فاقتلوه، ولن يجعل الله له سبيلًا للانتصار عليكم بثأره، بخلاف العوامر، ومن أسلم، والله تعالى أعلم.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

[تنبيه]: قد تكلّم الإمام ابن عبد البرّ رحمه الله في إسناد هذا الحديث، فقال بعد أن ساقه من رواية مالك بسند مسلم ما ملخّصه: هكذا قال مالك في هذا الحديث: عن صيفيّ مولى ابن أفلح، وذكره الحميديّ عن ابن عيينة، عن ابن عجلان، عن صيفيّ مولى أبي السائب، عن رجل، قال: "أتيت أبا سعيد

(1)

"الكاشف عن حقائق السُّنن" 9/ 2824.

ص: 503

الخدريّ أعوده، فسمعت تحريكًا تحت سريره، فنظرت، فإذا حية، فأردت أن أقتلها. . ."، وذكر الحديث نحو حديث مالك، إلا أنه قد غَلِطَ في قوله فيه: "مولى أبي السائب"، ولم يُقِم إسناده، وقال فيه: عن رجل، وإنما هو صيفيّ، عن أبي السائب، ورواه يحيى القطان، عن ابن عجلان، عن صيفيّ، عن ابن السائب، عن أبي سعيد الخدريّ مختصرًا. ثم أخرجه من رواية الليث عن محمد بن عجلان.

قال أبو عمر: رواية الليث لهذا الحديث عن ابن عجلان، كرواية مالك في إسناده ومعناه، ولا يضر اختلافهما في ولاء أبي سعيد صيفيّ؛ إذ قال مالك: مولى ابن أفلح، وقال فيه الليث: عن ابن عجلان، عن صيفيّ مولى الأنصار، وكذلك هو مولى الأنصار، إلا أنه لم يُحفظ لمن ولاؤه من الأنصار، وقد جوّده مالك في قوله: مولى ابن أفلح، وكذلك من قال فيه: مولى أفلح؛ لأن أفلح مولى أبي أيوب الأنصاريّ.

وأما قول ابن عيينة: عن ابن عجلان، عن صيفيّ مولى أبي السائب، فلم يصنع شيئًا، ولم يُقِم الإسناد؛ إذ جعله مولى أبي السائب عن رجل، وإنما هو مولى ابن أفلح، عن أبي السائب، كذلك قال مالك: عن صيفيّ، عن أبي السائب، وكذلك قال الليث، ويحيى القطان، عن ابن عجلان، عن صيفيّ، عن أبي السائب.

ومن قال في هذا الحديث: عن ابن عجلان، عن سعيد بن أبي سعيد، عن صيفيّ، فقد أفرط في التصحيف والخطأ، كذلك رواه عليّ بن حرب، عن ابن عيينة، عن ابن عجلان، وهذا لا خفاء به عند أهل العلم بالحديث، وإنما هو عن أبي سعيد صيفيّ، ولا معنى لِذِكر سعيد بن أبي سعيد هنا.

ومن رواه أيضًا عن صيفيّ، عن أبي سعيد الخدريّ، فليس بشيء، وقد قَطَعه؛ لأن صيفيًّا لم يسمعه من أبي سعيد، وإنما يرويه عن أبي السائب. انتهى كلام ابن عبد البرّ رحمه الله

(1)

، وهو بحثٌ نفيس ممتعٌ جدًّا، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

(1)

"التمهيد" لابن عبد البرّ 16/ 257 - 262.

ص: 504

أخرجه (المصنّف) هنا [1/ 5825 و 5826 و 5827](2236)، و (أبو داود) في "الأدب"(5257 و 5258 و 5259)، و (الترمذيّ) في ""الأحكام" (1484)، و (النسائيّ) في "الكبرى" (5/ 274 و 6/ 241) وفي "عمل اليوم والليلة" (1/ 539)، و (مالك) في "الموطّأ" (2/ 976 - 977)، و (أحمد) في "مسنده" (3/ 41 و 427)، و (ابن حبّان) في "صحيحه" (5637)، و (الطحاويّ) في "مشكل الآثار" (4/ 94 - 95)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان الأمر بالإيذان للحيّات التي تسكن البيوت بالمدينة، ومثله في غيرها، قال القرطبيّ رحمه الله: قد بيَّنَّا أن بغير المدينة أيضًا جنًّا قد أسلموا، فيلزم التسوية بينها وبين غيرها في المنع من قتل الحيَّات إلا بعد الإذن

(1)

.

2 -

(ومنها): بيان ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم من امتثال أمر الله تعالى لهم بقوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} الآية [النور: 62].

3 -

(ومنها): ما كان عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم امتثال أمر الله تعالى له بالإذن لمن استأذنه بقوله: {فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: 62].

4 -

(ومنها): بيان شدّة رأفته صلى الله عليه وسلم بأصحابه، حيث أمر الفتى أن يَحْمل سلاحه حَذَرًا من غَدْر اليهود به، فكان مصداقًا لقوله:{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَاعَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)} [التوبة: 128].

5 -

(ومنها): ما قال القرطبيّ رحمه الله: لا يُفهم من هذا الحديث أن هذا الجن الذي قتله الفتى كان مسلمًا، وأن الجنَّ قتلته به قصاصًا؛ لأنَّه لو سُلِّم أن القصاص مشروع بيننا وبين الجن، لكن إنما يكون في العمد المحض، وهذا

(1)

"المفهم" 5/ 537 - 538.

ص: 505

الفتى لم يقصد، ولم يتعمد قَتْل نفس مسلمة؛ إذ لم يكن عنده علم من ذلك، وإنما قصد إلى قتل ما سوَّغ له قتل نوعه شرعًا، فهذا قتل خطأ، ولا قصاص فيه، فالأَولى أن يقال: إن كفار الجن، أو فَسَقَتهم قتلوا الفتى بصاحبهم عدوانًا وانتقامًا، وإنما قال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"إن بالمدينة جنًّا قد أسلموا. . ." إلى آخر الحديث؛ ليبيِّن طريقًا يحصل به التحرُّز من قَتْل المسلم منهم، ويتسلط به على قتل الكافر منهم، ولذلك قال:"فإذا رأيتم منها شيئًا فآذنوه ثلاثة أيام، فان بدا لكم بعد ذلك فاقتلوه، فإنما هو شيطان"، ولذلك قال مالك: أحبُّ إلي أن يُنذروا ثلاثة أيام، قال عيسى بن دينار: يُنذر ثلاثة أيام، وإن ظهر في اليوم مرارا، ولا يقتصر على إنذاره ثلاث مرار في يوم واحد، حتى يكون في ثلاثة أيام.

قال القرطبيّ: وهذا تنبيه: على أن من الناس من يقول: إن الإذن ثلاث مرَّات، وهو الذي يُفهم من قوله:"فليُؤْذِنْه ثلاثًا"، ومن قوله:"وحَرِّجوا عليه ثلاثًا"؛ لأنَّ ثلاثًا للعدد المؤنث، فيظهر: أن المراد ثلاث مرَّات، والأَولى ما صار إليه مالك؛ لأنَّ قوله:"ثلاثة أيام" نصٌّ صحيح، مقيِّد لتلك المطلقات، فلا يُعدل عنه، ويمكن أن يُحمل تأنيث العدد على إرادة ليالي الأيام الثلاث، فغلّب الليلة على عادة العرب في باب التاريخ، فإنَّها تغلّب فيها التأنيث. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5826]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، قَالَ: سَمِعْتُ أَسْمَاءَ بْنَ عُبَيْدٍ، يُحَدِّثُ عَنْ رَجُلٍ، يُقَالُ لَهُ: السَّائِبُ - وَهُوَ عِنْدَنَا أَبُو السَّائِبِ - قَالَ: دَخَلْنَا

(2)

عَلَى أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، فَبَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ، إِذْ سَمِعْنَا تَحْتَ سَرِيرِهِ حَرَكَةً، فَنَظَرْنَا، فَإِذَا حَيَّةٌ

(3)

، وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِقِصَّتِهِ، نَحْوَ حَدِيثِ مَالِكٍ، عَنْ صَيْفِيٍّ، وَقَالَ فِيهِ: فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:

(1)

"المفهم" 5/ 538.

(2)

وفي نسخة: "فدخلنا".

(3)

وفي نسخة: "فإذا هي حيّةٌ".

ص: 506

"إِنَّ لِهَذِهِ الْبُيُوتِ عَوَامِرَ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ شَيْئًا مِنْهَا، فَحَرِّجُوا عَلَيْهَا ثَلَاثًا، فَإِنْ ذَهَبَ، وَإِلَّا فَاقْتُلُوهُ، فَإِنَّهُ كَافِرٌ"، وَقَالَ لَهُمُ:"اذْهَبُوا، فَادْفِنُوا صَاحِبَكُمْ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(وَهْبُ بْنُ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ) الأزديّ البصريّ، ثقةٌ [9](ت 206)(ع) تقدم في "الإيمان" 50/ 315.

2 -

(أَسْمَاءُ بْنُ عُبَيْدِ) بن مُخارق، ويقال: مخراق الضُّبعيّ، أبو المفضّل البصريّ، والدُ جُوَيْرِيَةَ، ثقةٌ [6].

رَوَى عن ابن سيرين، والشعبيّ، ونافع مولى ابن عمر، وأبي السائب مولى هشام بن زُهْرة، وغيرهم.

وروى عنه شعيب بن الحبحاب، وهو أكبر منه، وابنه جُويرية، وجرير بن حازم، وحماد بن سلمة، وعدّةٌ.

قال أحمد: هو من الرُّفَعاء، وقال ابن معين: ثقةٌ، وقال البخاريّ: مات سنة (141)، وقال ابن حبان في "الثقات": كان مكفوفًا.

أخرج له البخاريّ في "الأدب المفرد"، والمصنّف، والنسائيّ في "اليوم والليلة"، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.

والباقون ذُكروا في الباب، وقبل باب.

وقوله: (وَهُوَ عِنْدَنَا أَبُو السَّائِبِ) الظاهر أن هذا الكلام من مسلم، كما مرّ في السند الماضي، ويَحْتَمِل أن يكون ممن فوقه، والمعنى أن السائب الذي ذكره أسماء بن عُبيد هو أبو السائب، أخطأ فيه أسماء، ويَحْتَمِل أن يكون السائب اسم أبي السائب، وتقدّم أنه قيل في اسمه: عبد الله بن السائب، والله تعالى أعلم.

وقوله: (فَحَرِّجُوا عَلَيْهَا ثَلَاثًا)؛ أي: ثلاث ليال، بدليل الرواية السابقة بلفظ "ثلاثة أيام"، أو يكون التقدير:"ثلاث مرّات"، والصواب الأول؛ جمعًا بين الروايتين.

والتحريج: التضييق، ومنه الحديث:"اللهُمّ إِنّي أُحَرِّجُ حَقَّ الضَّعِيفَيْنِ: اليَتِيمِ والمَرْأَةِ"؛ أَي: أُضَيِّقُه، وأُحرِّمُه على من ظَلَمَهُمَا، وكذلك التَّحَرُّجُ، ومنه

ص: 507

حديث اليَتَامَى: "تَحَرَّجُوا أَنْ يَأْكُلُوا مَعَهُم"؛ أَي: ضَيَّقوا على أَنفُسِهم

(1)

.

قال القرطبيّ: قال مالك رحمه الله: يكفي في الإنذار أن يقول: أحرِّج عليك بالله، واليوم الآخر، أن لا تبدو لنا، ولا تؤذوننا، وحَكَى ابن حبيب عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنَّه يقول:"أنشدكن بالعهد الذي أخذ عليكنّ سليمان، أن لا تؤذوننا، وأن لا تظهرن علينا". انتهى.

وقال الزرقانيّ: صفة الإنذار ما رَوَى الترمذيّ، وحسّنه

(2)

، عن أبي ليلى قال: قال صلى الله عليه وسلم: "إذا ظهرت الحية في المسكن، فقولوا لها: نسألك بعهد نوح، وبعهد سليمان بن داود، لا تؤذينا، فإن عادت فاقتلوها".

ولأبي داود من حديثه أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن جِنّان البيوت، فقال:"إذا رأيتم منهنّ شيئًا في مساكنكم، فقولوا: أنشدكم العهد الذي أخذ عليكم نوح، أنشدكم العهد الذي أخذ عليكم سليمان، أن لا تؤذونا، فإن عُدن فاقتلوهنّ"

(3)

.

وقال مالك: يكفي أن يقال: أُحَرِّج عليكم بالله، واليوم الآخر، أن لا تَبدوا لنا، ولا تؤذونا.

وقال في "الفتح": معنى التحريج أن يقال لهنّ: أنتِ في ضِيق وحرج إن لبثت عندنا، أو ظهرتِ لنا، أو عُدت إلينا.

وقوله: (وَإِلَّا فَاقْتُلُوهُ، فَإِنَّهُ كَافِرٌ) وفي الرواية الماضية: "فإن بدا لكم بعد ذلك فاقتلوه، فإنما هو شيطان" قال القاضي عياض: لأنه إذا لم يذهب بالإنذار بان أنه ليس من عُمّار البيوت، ولا ممن أسلم، وأنه شيطان، فقَتْله مباح، وأن الله عز وجل لم يجعل له سبيلًا إلى الاقتصاص ممن قتله، كما فعل لجنّان البيت، ومن أسلم، لم يُنْذَر. انتهى

(4)

.

وقال القرطبيّ: والأمر في ذلك للإرشاد، إلا إن تحقق الضرر، فيجب رفعه.

(1)

"تاج العروس" 1/ 1359.

(2)

في سنده محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، وهو متكلَّم فيه، ولذا ضعَّف الحديث بعضهم.

(3)

فيه الكلام الذي قبله.

(4)

"شرح الزرقاني" 4/ 497.

ص: 508

قال الأبيّ: هل الموجب للاستئذان الإسلام، أو خوف مثل ما وقع للفتى؟ فإن كان الثاني فخوف وقوعه ممن لا يُسْلم أقوى، إلا أن يقال: يَحْتَمِل أن الله لم يُقدّر ذلك إلا على من يسلم دون الكافر، ويدل عليه قوله:"فإنه كافر"، "فإنه شيطان". انتهى. وبه جزم عياض كما رأيت، وهو مدلول الحديث، فالموجب للاستئذان الإسلام، فلا معنى للتوقف، والعجب أنه بعد أسطر نقل كلام عياض، قاله الزرقانيّ

(1)

.

[تنبيه]: رواية أسماء بن عبيد، عن رجل هذه لم أجد من ساقها تمامًا، إلا أن النسائيّ رحمه الله ساقها في "الكبرى" بنوع من الاختصار، فقال:

(10809)

- أخبرنا عبد الرحمن بن محمد بن سلّام، قال: حدّثنا يزيد، قال: أخبرنا جرير بن حازم، عن أسماء بن عبيد، عن رجل من أهل المدينة، يقال له: السائب، قال: كنا عند أبي سعيد الخدريّ، وهو جالس على سريره، فأبصرنا تحت سريره حيّةً، فقلنا: يا أبا سعيد هذه حية تحت السرير، فقال: لا تُهيجوها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن لهذه البيوت عوامر، فإذا رأيتم شيئًا منها فحَرِّجوا عليه ثلاثًا، فإن ذهب، وإلا فاقتلوه، فإنه كافر"، مختصرٌ. انتهى

(2)

، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5827]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنِ ابْنِ عَجْلَانَ، حَدَّثَنِي صَيْفِيٌّ، عَنْ أَبِي السَّائِبِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ بِالْمَدِينَةِ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ، قَدْ أَسْلَمُوا، فَمَنْ رَأَى شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْعَوَامِرِ، فَلْيُؤْذِنْهُ ثَلَاثًا، فَإِنْ بَدَا لَهُ بَعْدُ فَلْيَقْتُلْهُ، فَإِنَّهُ شَيْطَانٌ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(ابْنُ عَجْلَانَ) هو: محمد بن عجلان القرشيّ، مولى فاطمة بنت الوليد، أبو عبد الله المدنيّ، صدوقٌ، إلا أنه اختلطت عليه أحاديث أبي هريرة [5](ت 148)(خت م 4) تقدم في "الإيمان" 10/ 150.

(1)

"شرح الزرقانيّ" 4/ 497.

(2)

"السُّنن الكبرى" للنسائيّ 6/ 242.

ص: 509

والباقون ذُكروا في الباب، وقبل باب، و"يحيى بن سعيد" هو: القطّان.

وقوله: (إِنَّ بِالْمَدِينَةِ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ، قَدْ أَسْلَمُوا. . . إلخ) قال القاضي عياض رحمه الله: هذا إعلام أن من الجنّ من قد أسلم بالمدينة، وأنه قد يَتصوّر في صور الحيّات، ولهذا يذهب من ذهب إلى أن ذلك مخصوصٌ بالمدينة؛ لتخصيصه بالذِّكر، وحجة الآخَر أن تخصيصه بالمدينة حينئذ، إما لأنه كلّم مسلمي المدينة من بني آدم، وأعْلَمَهم بحكمهم مع من أسلم منهم من جنّها، وأنه إذا أسلم سائر بني آدم في بلادهم، فحُكْمهم ذلك الحكم مع جنّهم، أو لعله لم يكن أسلم حينئذ من الجنّ سوى مَن بالمدينة

(1)

.

قال: ويقتضي أن حُكم بيوت المدينة وغير بيوتها سواء، وأن المراد بالحديث الآخر بالبيوت: موضع العمارة، والسكنى، لا الصحاري.

قال: ورتّب بعض العلماء هذه الأحاديث، بأن الأمر بقتل الحيّات مطلقًا مخصوص بنهيه صلى الله عليه وسلم عن حيّات البيوت، إلا الأبتر، وذا الطفيتين، فإنهما يُقتلان على كلّ حال، كان في البيوت، أو غيرها، أو ما ظهر منها بعد الإنذار، ويخصّ الإطلاق بالنهي عن قتل الجنّان على ذوات البيوت أيضًا إلا ما خُصّ منه من الأبتر، وذي الطفيتين. انتهى

(2)

.

وقوله: (مِنْ هَذِهِ الْعَوَامِرِ) قال ابن الأثير رحمه الله: العوامر: الحيّات التي تكون في البيوت، واحدها عامرٌ، وعامرةٌ، وقيل: سُمّيت عوامر؛ لطول عمرها. انتهى

(3)

.

وقوله: (فَلْيُؤْذِنْهُ) بضمّ حرف المضارعة، من الإيذان، وهو الإعلام، والمراد به إنذاره بما سبق.

وقوله: (ثَلَاثًا) تقدّم أن الأَولى أن يقال: ثلاث ليال؛ ليتوافق مع رواية: "ثلاثة أيام"، وقيل: المعنى: ثلاث مرّات، وفيه نظر.

وقوله: (فَإِنْ بَدَا لَهُ بَعْدُ)؛ أي: ظهر ذلك العامر بعد الإنذار ثلاث ليال،

(1)

هذا فيه نظر، لأن آية {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ} الآية [الأحقاف: 29]، نصّ في إسلام جنّ غير المدينة، فتنبّه.

(2)

"إكمال المعلم" 7/ 171 - 172.

(3)

"النهاية في غريب الأثر" ص 641.

ص: 510

فـ "بعدُ" من الظروف المبنيّة على الضمّ؛ لِقَطْعه عن الإضافة، ونيّة معناها، كما تقدّم غير مرّة.

والحديث من أفراد المصنّف رحمه الله، وقد مضى تمام البحث فيه قبل حديث، ولله الحمد والمنّة.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(2) - (بَابُ الأَمْرِ بِقَتْلِ الأَوْزَاغِ)

" الأوزاغ" بالفتح: جَمْع وَزَغ، قال الفيّوميّ رحمه الله: الوَزَغُ: معروف، والأنثى وَزَغَةٌ، وقيل: الوَزَغُ: جمع وَزَغَةٍ، مثل قَصَبٍ وقَصَبَة، فتقع الوَزَغَةُ على الذّكر والأنثى، والجمع أَوْزَاغٌ، ووزْغَانُ، بالكسر، والضمّ، حكاه الأزهريّ، وقال: الوَزَغُ: سامّ أبرص. انتهى

(1)

.

وقال في "التاج": الوَزَغَةُ مُحَرَّكَةً: سامُّ أبْرَصَ، كما في "المُحْكَمِ"، وفي "العُبَابِ": دُوَيْبَةٌ سُمِّيَتْ بها لخِفَّتِهَا، وسُرْعَةِ حَرَكَتِهَا، جَمْعه: وَزَغٌ، وأوْزَاغٌ، ووِزْغانٌ بالكَسْرِ، وضبَطَهُ بعضٌ بالضَّمِّ أيْضًا، ووِزاغٌ بالكَسْرِ، وإزْغانٌ على البَدَلِ، وأنْشَدَ ابنُ الأعْرَابِيّ [من الطويل]:

فَلَمَّا تَجَاذَبْنَا تَفَرْقَعَ ظَهْرُه

كما تُنْقِضُ الوِزْغانُ زُرْقًا عُيُونُها

وقالَ ابنُ سِيدَه: وعِنْدِي أنَّ الوِزْغان إنَّمَا هُوَ جَمْعُ وَزَغٍ الّذِي هُوَ جَمْعُ وَزَغَةٍ، كَوَرَلٍ ووِرْلانٍ؛ لأنَّ الجَمْعَ إذا طابَقَ الواحِدَ في البِنَاءِ، وكانَ ذلكَ الجَمْعُ ممّا يُجْمَعُ جُمِعَ على ما جُمِعَ عليْهِ ذلكَ الوَاحِدُ، ولَيْسَ بجَمْعِ وَزَغَةِ؛ لأنَّ ما فيهِ الهاءُ لا يُجْمَعُ على فِعْلانٍ. انتهى

(2)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5828]

(2237) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَمْرٌو النَّاقِدُ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَابْنُ أَبِي عُمَرَ، قَالَ إِسْحَاقُ: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ الآخَرُونَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ شَيْبَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ

(1)

"المصباح المنير" 2/ 657.

(2)

"تاج العروس" 1/ 5705.

ص: 511

الْمُسَيِّبِ، عَنْ أُمِّ شَرِيكٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَهَا بِقَتْلِ الأَوْزَاغِ، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ: أَمَرَ).

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(ابْنُ أَبِي عُمَرَ) هو: محمد بن يحيى بن أبي عمر الْعَدنيّ، ثمّ المكيّ، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

2 -

(عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جُبَيْرِ بْنِ شَيْبَةَ) بن عثمان بن أبي طلحة الْعبدريّ الْحَجَبيّ المكيّ، ثقةٌ [5](ع) تقدم في "الصيام" 26/ 2681.

3 -

(سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ) أبو محمد المخزوميّ المدنيّ الفقيه، تقدّم قريبًا.

4 -

(أم شَرِيكٍ) العامريّة، ويقال: الأنصارية، ويقال: الدوسية، اسمها غُزِيّة بالتصغير، ويقال: غُزيلة بنت دودان بن عمرو بن عامر بن رواحة بن مُنقذ بن عمرو بن عميص بن عامر بن لؤيّ، وقيل غير ذلك في نَسَبها، وقال ابن سعد: غَزية بنت حكيم بن جابر، ويقال: هي التي وهبت نفسها للنبيّ صلى الله عليه وسلم، رَوَت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعنها جابر بن عبد الله، وسعيد بن المسيِّب، وعروة بن الزبير، وشَهْر بن حَوْشب.

أخرج لها البخاريّ، والمصنّف، والترمذيّ، والنسائيّ، وابن ماجه، ولها في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا برقم (2237) وأعاده بعده، وحديث (2945):"ليفرّنّ الناس من الدجّال في الجبال. . ." الحديث.

والباقون ذُكروا في الباب الماضي.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه ابن المسيّب أحد الفقهاء السبعة المجموعين في قول بعضهم:

إِذَا قِيلَ مَنْ فِي الْعِلْمِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ

مَقَالَتُهُمْ لَيْسَتْ عَنِ الْحَقِّ خَارِجَهْ

فَقُلْ هُمْ عُبَيْدُ اللهِ عُرْوَةُ قَاسِمٌ

سَعِيدٌ أَبُو بَكْرٍ سُلَيْمَانُ خَارِجَهْ

وأن صحابيّته قليلة الرواية، فليس لها في الكتب الستّة إلا نحو أربعة أحاديث، حديث الباب عند الشيخين، والنسائيّ، وابن ماجه، وحديث:"ليفرّنّ الناس من الدّجال. . ." عند المصنّف، والترمذيّ، وحديث: "أنها كانت فيمن

ص: 512

وهبت نفسها للنبيّ صلى الله عليه وسلم"، عند النسائيّ، وحديث: "أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نقرأ على الجنازة بفاتحة الكتاب" عند ابن ماجه، راجع: "تحفة الأشراف"

(1)

.

شرح الحديث:

(عَنْ أُمِّ شَرِيكٍ) اسمها غُزَيَّةُ بالمعجمتين، مصغّرًا، وقيل: غُزيلة، يقال: هي عامريّةٌ قرشيّةٌ، ويقال: أنصاريّة، ويقال: دوسيّة

(2)

. (أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَهَا بِقَتْلِ الأَوْزَاغِ) وفي رواية ابن جريج عن عبد الحميد التالية: "أنها استأمرت النبيّ صلى الله عليه وسلم في قتل الوزغان، فأمر بقتلها"، وأمّ شريك إحدى نساء بني عامر بن لُؤيّ.

وذكر بعض الحكماء أن الوزغ أصمّ، وأنه لا يدخل في مكان فيه زعفران، وأنه يلقّح بفيه، وأنه يبيض، ويقال لكبارها: سامّ أبرص، وهو بتشديد الميم.

وفي رواية للبخاريّ: "أَمَرَ بقتل الوزغ، وقال: كان ينفخ على إبراهيم عليه السلام"، ووقع في حديث عائشة رضي الله عنها عند ابن ماجه، وأحمد:"أن إبراهيم لَمّا أُلْقي في النار لم يكن في الأرض دابّة إلا أطفأت عنه إلا الوزغ، فإنها كانت تنفخ عليه، فأمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بقتلها".

وقال النوويّ رحمه الله: قال أهل اللغة: الوزغ، وسامّ أبرص جنس، فسامّ أبرص هو كِبَاره، واتفقوا على أن الوزغ من الحشرات المؤذيات، وجَمْعَه أوزاغ، ووزْغانٌ. انتهى

(3)

.

وقوله: (وَفِي حَدِيثِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ: أَمَرَ)؛ يعني: أن شيخه أبا بكر بن أبي شيبة خالف الثلاثة في لفظة "أَمَرَ" بالبناء للفاعل، فرواه دون ذِكر المفعول، وهم رووه بلفظ:"أمرها" بذِكر المفعول، ولفظ ابن أبي شيبة يفيد العموم، وأن الأمر بقتل الوزغ ليس خاصًّا بأمّ شريك، والله تعالى أعلم.

(1)

"تحفة الأشراف بمعرفة الأطراف" 13/ 86 - 89.

(2)

"الفتح" 7/ 590، كتاب "بدء الخلق" رقم (3307).

(3)

"شرح النوويّ" 14/ 234 - 236.

ص: 513

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أم شريك رضي الله عنها هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [2/ 5828 و 5829](2237)، و (البخاريّ) في "بدء الخلق"(3307) و"أحاديث الأنبياء"(3359)، و (النسائيّ) في "المجتبى"(5/ 209) و"الكبرى"(2/ 387)، و (ابن ماجه) في "الصيد"(3228)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(8395)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(5/ 401)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 421 و 462)، و (الحميديّ) في "مسنده"(350)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 89)، و (ابن راهويه) في "مسنده"(5/ 105)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5634)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(25/ 250 و 251)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 211 و 9/ 316)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(3267)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده

(1)

:

1 -

(منها): بيان الأمر بقتل الأوزاغ، والظاهر أنه للوجوب؛ إذ لا صارف له، فتنبّه.

2 -

(ومنها): بيان جواز وصف بعض الحيوانات التي لا تعقل بالفسق، قال النوويّ رحمه الله: وأما تسميته فويسقًا، فنظيره الفواسق الخمس التي تُقْتَل في الحِلّ والحَرَم، وأصل الفسق: الخروج، وهذه المذكورات خرجت عن خُلُق معظم الحشرات ونحوها بزيادة الضرر، والأذى.

3 -

(ومنها): بيان أن الوزغ فاسق مارد؛ حيث كان ينفخ على إبراهيم عليه السلام حين أُلقي في النار، فقد أخرج ابن حبّان في "صحيحه" عن سائبة مولاة لفاكه بن المغيرة، أنها دخلت على عائشة رضي الله عنها، فرأت في بيتها رُمْحًا موضوعةً، فقالت: يا أم المؤمنين ما تصنعين بهذا؟ قالت: نقتل به الأوزاغ، فإن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم أخبرنا أن إبراهيم لمّا أُلْقِي في النار، لم يكن في الأرض دابة إلا أطفأت النار عنه، غير الوزغ، فإنه كان ينفخ عليه، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله.

(1)

المراد: فوائد أحاديث اللباب، لا خصوص هذا السياق، فتنبّه.

ص: 514

4 -

(ومنها): الحثّ على قتل الوزغ، والمبادرة فيه، قال النوويّ رحمه الله: أَمَرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بقتله، وحَثَّ عليه، ورَغَّب فيه؛ لكونه من المؤذيات، وأما سبب تكثير الثواب في قتله بأول ضربة، ثم ما يليها، فالمقصود به الحثّ على المبادرة بقتله، والاعتناء به، وتحريض قاتله على أن يقتله بأول ضربة، فإنه إذا أراد أن يضربه ضربات، ربما انفلت، وفات قتله.

5 -

(ومنها): بيان تفاوت ثواب مَن قَتَله بضربة، أو أكثر، وذلك لتفاوت المبادرة في الامتثال، قال النوويّ رحمه الله: وأما تقييد الحسنات في الضربة الأولى بمائة، وفي رواية بسبعين، فجوابه من أوجُه، سبقت في: صلاة الجماعة تزيد بخمس وعشرين درجة، وفي روايات بسبع وعشرين:

أحدها: أن هذا مفهوم للعدد، ولا يُعمل به عند الأصوليين وغيرهم، فذِكر سبعين لا يمنع المائة، فلا معارضة بينهما.

الثاني: لعله أخبرنا بسبعين، ثم تصدّق الله تعالى بالزيادة، فأعلم بها النبيّ صلى الله عليه وسلم حين أوحي إليه بعد ذلك.

والثالث: أنه يختلف باختلاف قاتلي الوزغ بحسب نياتهم، وإخلاصهم، وكمال أحوالهم ونَقْصها، فتكون المائة للكامل منهم، والسبعون لغيره، والله أعلم. انتهى

(1)

.

6 -

(ومنها): ما قاله القرطبيّ رحمه الله: الوَزَغة: دُرَيّبةٌ مستخبثة، مستكرهة، أَمَرَ صلى الله عليه وسلم بقتله؛ لِمَا يحصل منه من الضرر، والأذى الذي هي عليه من الاستقذار المعتاد، والنَّفرة المألوفة؛ التي قد لازمت الطباع، ولِمَا يُتَّقى أن يكون فيها سُمٌّ، أو شيء يضرّ متناولَه، ولمَا رُوي: من أنها أعانت على وقود نار إبراهيم عليه السلام؛ فإنَّها كانت تنفخ فيه ليشتعل، وهذا من نوع ما رُوي في الحيَّة: أنَّها أَدخلت إبليس إلى الجنَّة بين فكّيها، فعوقبت بأن أُهبطت مع من أُهبط، وجُعلت العداوة بينها وبين بني آدم، ويشهد لهذا قوله صلى الله عليه وسلم:"ما سالمناهنَّ مُذ عاديناهنَّ"، وهذا كله مذكور في كتب المفسِّرين. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: الحديث المذكور صحيح، أخرجه ابن حبّان في

(1)

"شرح النوويّ" 14/ 234 - 236.

ص: 515

"صحيحه"(12/ 461) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "ما سالمناهنّ منذ حاربناهنّ - يعني: الحيات - ومن ترك قتل شيء منهنّ خيفةً، فليس منا".

وأخرجه أحمد في "مسنده"(1/ 230)، وأبو داود في "سننه"(5250) بإسناد صحيح من حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من ترك الحيات مخافة طلبهن، فليس منا، ما سالمناهنّ منذ حاربناهنّ"، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5829]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي ابْنُ جُرَيْجٍ (ح) وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي خَلَفٍ، حَدَّثَنَا رَوْحٌ، حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ (ح) وَحَدَّثَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جُبَيْرِ بْنِ شَيْبَةَ، أَنَّ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ أَخْبَرَهُ، أَنَّ أُمَّ شَرِيكٍ أَخْبَرَتْهُ، أَنَّهَا اسْتَأْمَرَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي قَتْلِ الْوِزْغَانِ، فَأَمَرَ بِقَتْلِهَا. وَأُمُّ شَرِيكٍ إِحْدَى نِسَاءِ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ، اتَّفَقَ لَفْظُ حَدِيثِ ابْنِ أَبِي خَلَفٍ، وَعَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ، وَحَدِيثُ ابْنِ وَهْبٍ قَرِيبٌ مِنْهُ).

رجال هذا الإسناد: عشرة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي خَلَفٍ) السّلميّ، أبو عبد الله البغداديّ، ثقةٌ [10](ت 237)(م د) تقدم في "الإيمان" 92/ 502.

2 -

(رَوْحُ) بن عبادة القيسيّ، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

3 -

(مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرِ) بن عثمان الْبُرْسانيّ، تقدّم قريبًا.

والباقون ذُكروا في الباب وقبله ببابين.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه مسلسل بالتحديث والإخبار من أوله إلى آخره.

وقولها: (اسْتَأْمَرَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم)؛ أي: طلبت منه الأمر بقتلها.

وقولها: (فِي قَتْلِ الْوِزْغَانِ) تقدّم أنه بكسر الواو، ويجوز ضمّها: جَمْع وزغة.

ص: 516

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام البحث فيه، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5830]

(2238) - (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالَا: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزَّهْرِيِّ، عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِقَتْلِ الْوَزَغِ، وَسَمَّاهُ فُوَيْسِقًا).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(عَامِرُ بْنُ سَعْد) بن أبي وقّاص المدنيّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(أَبُوهُ) سعد بن أبي وقّاص مالك بن وُهيب الصحابيّ الشهير رضي الله عنه، تقدّم أيضًا قريبًا.

والباقون ذُكروا في الباب، وقبله.

شرح الحديث:

(عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ) سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِقَتْلِ الْوَزَغِ) قال ابن عبد البرّ رحمه الله: قد أجمعوا على أن الوزغ ليس بصيد، وأنه ليس مما أبيح أكله. انتهى

(1)

. (وَسَمَّاهُ فُوَيْسِقًا) بالضمّ تصغير فاسق، كما قال في "الخلاصة":

فُعَيْلًا اجْعَلِ الثُّلَاثِيَّ إِذَا

صَغَّرْتَهُ نَحْوُ قُذَيٍّ فِي قَذَا

فُعَيْعِلٌ مَعَ فُعَيْعِيلٍ لِمَا

فَاقَ كَجَعْلِ دِرْهَمٍ دُريْهِمَا

قال الطيبيّ رحمه الله: تصغيره للتعظيم، كما في قوله [من الطويل]:

وَكُلُّ أُنَاسٍ سَوْفَ تَدْخُلُ بَيْنَهُمْ

دُوَيْهِيَةٌ تَصْفَرُّ مِنْهَا الأَنَامِلُ

على ما ذهب إليه التوربشتيّ، أو للتحقير؛ لإلحاقه صلى الله عليه وسلم له بالفواسق الخمسى. انتهى بتصرّف.

وقال القرطبيّ رحمه الله: إنما سُمّي بذلك؛ لخروجه عن مواضعه، أو عن جنس الحيوانات للضرر. وقيل: لأنَّها خرجت عن حكم الحيوانات المحترمة

(1)

"التمهيد" لابن عبد البرّ 15/ 187.

ص: 517

شرعًا، وقد تقدَّم أن أصل الفسق في اللغة: الخروج مطلقًا، وأنَّه اسم مذمومٌ في الشرع. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [2/ 5830](2238)، و (أبو داود) في "الأدب"(5262)، و (عبد الرزّاق) في "مسنده"(8390)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 176)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5635)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(832)، و (البزّار) في "مسنده"(3/ 295)، و (عبد بن حميد) في "مسنده"(1/ 77)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 211)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): انتقد الدارقطنيّ رحمه الله مسلمًا في إسناد هذا الحديث، ودونك نصّ "العلل":

(613)

- وسئل عن حديث عامر بن سعد، عن أبيه:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الوزغ"، فقال: يحدّث به عبد الرحمن بن إسحاق، عن الزهريّ، عن عامر بن سعد، عن أبيه، قاله خالد الواسطيّ عنه، وخالفه إبراهيم بن طهمان، فرواه عنه، عن عمر بن سعيد، عن الزهريّ، واختُلف عن معمر، فرواه عبد الرزاق عن معمر، عن الزهريّ، عن عامر بن سعد، عن أبيه.

ورواه عبد الأعلى، عن معمر، عن الزهريّ، عن سعد، لم يذكر بينهما أحدًا، وكذلك رواه يونس، ومالك، عن الزهريّ، عن سعد، وهو الصحيح.

وحدّث به الباغنديّ، عن عثمان بن أبي شيبة، عن خالد بن مخلد، عن مالك، عن الزهريّ، عن عامر بن سعد، عن سعد، ووَهِمَ فيه.

ورواه يحيى بن أبي أنيسة، عن الزهريّ، عن عروة، عن عائشة، عن سعد، ووَهِم فيه أيضًا، والصواب المرسل.

(1)

"المفهم" 5/ 540.

ص: 518

ورواه عمر بن حبيب القاضي، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، عن سعد، ولم يتابَع عليه. انتهى كلام الدارقطنيّ رحمه الله في "العلل"

(1)

.

ونصّه في "التتبّع": وأخرج مسلم حديث معمر عن الزهريّ، عن عامر بن سعد، عن سعد، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم سَمَّى الوزغ فُويسقًا، قال: وخالفه مالك، ويونس، وعُقيل، رووه عن الزهريّ، عن سعد مرسلًا. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: غرضُ الدارقطنيّ رحمه الله بهذا الانتقاد على مسلم حيث أخرج رواية معمر عن الزهريّ المتّصلةَ، مع مخالفة مالك، ويونس، وعُقيل له بالإرسال؛ أي: الانقطاع، حيث رووا عن الزهريّ، عن سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه، والزهريّ لم يَلْقَه.

والجواب عن مسلم أنه لم يورِد هذه الرواية للاحتجاج بها في الأصول، وإنما أوردها استشهادًا بها على أحاديث الباب، ومن المعلوم أن المتابعة والشواهد يُغتفر فيها ما لا يُغتفر في الأصول، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

وقال الحافظ في "الفتح" - عند قول البخاريّ بعد حديث عائشة رضي الله عنها الآتي: "وزعم سعد ابن أبي وقّاص أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أمر بقتله". انتهى - ما نصّه: قوله: "وزعم سعد بن أبي وقاص" قائل ذلك يَحْتَمِل أن يكون عروة، فيكون متصلًا، فإنه سمع من سعد، ويَحْتَمِل أن تكون عائشة، فيكون من رواية القرين عن قرينه، ويَحْتَمِل أن يكون من قول الزهريّ، فيكون منقطعًا، وهذا الاحتمال الأخير أرجح، فإن الدارقطنيّ أخرجه في "الغرائب" من طريق ابن وهب عن يونس، ومالك، معًا عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال للوزغ: "فويسقٌ"، وعن ابن شهاب، عن سعد بن أبي وقاص: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الوزغ، وقد أخرج مسلم، والنسائيّ، وابن ماجه، وابن حبان حديث عائشة، من طريق ابن وهب، وليس عندهم حديث سعد، وقد أخرج مسلم، وأبو داود، وأحمد، وابن حبان من طريق معمر، عن الزهريّ، عن عامر بن سعد، عن أبيه، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الوزغ، وسمّاه فويسقًا، وكان الزهريّ

(1)

"العلل الواردة في الأحاديث النبوية" 4/ 340 - 341.

(2)

"التتبّع" ص 371 بنسخة الشيخ ربيع المدخليّ.

ص: 519

وصله لمعمر، وأرسله ليونس، ولم أر من نبّه على ذلك، من الشراح، ولا من أصحاب الأطراف، فللَّه الحمد. انتهى كلام الحافظ رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: ظاهر صنيع الحافظ في كلامه الأخير أنه يرى صحّة رواية معمر الموصولة بأن الزهريّ رواه بالوجهين، فحدّث يونس بالإرسال، وحدّث معمرًا بالوصل، فتكون الروايتان ثابتتين عنه، لكن الذي يظهر أن الإرسال هو الأرجح؛ لكثرة من رواه، كما رجحه الدارقطنيّ، ولكن الجواب عن مسلم أنه أخرجه للاستشهاد، لا للاحتجاج، فلا انتقاد عليه، كما أوضحته سابقًا، وبالله تعالى التوفيق.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5831]

(2239) - (وَحَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ، وَحَرْمَلَةُ، قَالَا: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِلْوَزَغِ: "الْفُوَيْسِقُ"، زَادَ حَرْمَلَةُ: قَالَتْ: وَلَمْ أَسْمَعْهُ أَمَرَ بِقَتْلِهِ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

وكلّهم ذُكروا في الباب وقبله.

شرح الحديث:

(عَنْ عَائِشَةَ) أمّ المؤمنين رضي الله عنها (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِلْوَزَغِ)؛ أي: عن شأنه، وبيانه صفته، فاللام بمعن "عن"، كما في قوله تعالى:{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ} الآية [الأحقاف: 11]، وكقول الشاعر [من الطويل]:

كَضَرَائِرِ الْحَسْنَاءِ قُلْنَ لِوَجْهِهَا

حَسَدًا وَبُغْضًا إِنَّهُ لَدَمِيمُ

(2)

(الْفُوَيْسِقُ) تصغير فاسق، وهو تصغير تحقير مبالغة في الذمّ، وقيل: للتعظيم، والأول أصحّ، كما مرّ في الحديث الماضي، وقوله:(زَادَ حَرْمَلَةُ) يعني: ابن يحيى شيخه الثاني في روايته، (قَالَتْ) عائشة رضي الله عنها (وَلَمْ أَسْمَعْهُ)؛

(1)

"الفتح" 7/ 589 - 560، كتاب "بدء الخلق" رقم (3306).

(2)

راجع: "مغني اللبيب عن كتب الأعاريب" 1/ 419 - 420.

ص: 520

أي: النبيّ صلى الله عليه وسلم (أَمَرَ بِقَتْلِهِ)؛ أي: بقتل الوزغ، قال القرطبيّ رحمه الله: لا حجَّة فيه على نفي القتل؛ إذ قد نَقَل الأمر بقتله أمُّ شريك، وغيرها، ومن نقل حجَّة على من لم يَنْقل. انتهى

(1)

.

وقال أبو عمر رحمه الله: وليس قول من قال: لم أسمع الأمر بقتل الوزغ بشهادة، والقول قول من شَهِد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الوزغ، وقد أجمعوا أن الوزغ ليس بصيد، وأنه ليس مما أُبيحَ أكله. انتهى

(2)

.

وقال ابن التين: هذا لا حجة فيه؛ لأنه لا يلزم من عدم سماعها عدم الوقوع، وقد حَفِظ غيرها، كما ترى، قال الحافظ: قد جاء عن عائشة رضي الله عنها من وجه آخر عند أحمد، وابن ماجه أنه كان في بيتها رُمْح موضوع، فسئلت، فقالت: نقتل به الوزغ، فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم أخبرنا أن إبراهيم لَمّا أُلقي في النار لم يكن في الأرض دابّة إلا أطفأت عنه النار، إلا الوزغ، فإنها كانت تنفخ عليه، فأمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بقتلها.

قال: والذي في "الصحيح" أصحّ، ولعل عائشة رضي الله عنها سمعت ذلك من بعض الصحابة، وأطلقت لفظ أخبرنا مجازًا؛ أي: أخبر الصحابة، كما قال ثابت البنانيّ: خطبنا عمران، وأراد أنه خطب أهل البصرة، فإنه لم يسمع منه، والله أعلم. انتهى كلام الحافظ رحمه الله، وهو تحقيقٌ نفيسٌ، والله تعالى أعلم.

وقال في "الفتح" أيضًا في موضع آخر: قوله: "ولم أسمعه أمر بقتله" هو مقول عائشة رضي الله عنها، والضمير للنبيّ صلى الله عليه وسلم، وقضية تسميته إياه فويسقًا أن يكون قَتْله مباحًا، وكونها لم تسمعه لا يدلّ على مَنْع ذلك، فقد سمعه غيرها، كما ثبت عن سعد بن أبي وقاص وغيره، ونقل ابن عبد البرّ الاتفاق على جواز قتله في الحلّ والحرم، لكن نقل ابن عبد الحكم وغيره عن مالك: لا يَقْتُل المحرم الوزغ، زاد ابن القاسم: وإن قَتَله يتصدق؛ لأنه ليس من الخمس المأمور بقتلها، ورَوَى ابن أبي شيبة أن عطاء سئل عن قتل الوزغ في الحرم، فقال: إذا آذاك فلا بأس بقتله، وهذا يُفْهم توقُّف قتله على أذاه. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: الذي يظهر قول من قال بجواز قتله في الحلّ

(1)

"المفهم" 5/ 540.

(2)

"التمهيد" لابن عبد البرّ 15/ 187.

ص: 521

والحَرَم، للمُحْرم وغيره، فإنه صلى الله عليه وسلم سمّاه فويسقًا، وأمر بقتله، وذكر وعيدًا على من لم يقتله مخافةً، وأمر بقتل الفواسق الخمس، فهذا ملحَق بها، والله تعالى أعلم.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [2/ 5831](2239)، و (البخاريّ) في "جزاء الصيد"(1831) و"بدء الخلق"(3306)، و (النسائيّ) في "المجتبى"(5/ 210)، و (ابن ماجه) في "الصيد"(3230)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 87 و 155 و 271 و 279)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(3963 و 5636)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 210)، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5832]

(2240) - (وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، عَنْ سُهَيْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ قَتَلَ وَزَغَةً فِي أَوَّلِ ضَرْبَةٍ فَلَهُ كَذَا وَكَذَا حَسَنَةً، وَمَنْ قَتَلَهَا فِي الضَّرْبَةِ الثَّانِيَةِ فَلَهُ كَذَا وَكَذَا حَسَنَةً، لِدُونِ الأُولَى، وَإِنْ قَتَلَهَا

(1)

فِي الضَّرْبَةِ الثَّالِثَةِ فَلَهُ كَذَا وَكَذَا حَسَنَةً، لِدُونِ الثَّانِيَةِ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ، أبو زكريّاء النيسابوريّ الإمام، ذُكر في الباب الماضي.

2 -

(خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) الطّحّان الواسطيّ، تقدّم قريبًا.

3 -

(سُهَيْلُ) بن أبي صالح، أبو يزيد المدنيّ، صدوقٌ تغيّر بآخره [6](ت 138)(ع) تقدم في "الإيمان" 14/ 161.

4 -

(أَبُوهُ) أبو صالح ذكوان السمّان الزيّات المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ [3](101)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 4.

(1)

وفي نسخة: "ومن قتلها".

ص: 522

5 -

(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه تقدّم قريبًا.

[تنبيه]: من لطائف هدا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه رأس المكثرين السبعة، روى (5374) حديثًا.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ قَتَلَ وَزَغَةً فِي أَوَّلِ ضَرْبَةٍ) المقصود بذلك الحثّ على المبادرة بقتله خوفَ فَوْته، (فَلَهُ كَذَا وَكَذَا حَسَنَةً) كناية عن عدد معيّن، بيّنته الرواية التالية بأنه مائة حسنة. (وَمَنْ قَتَلَهَا فِي الضَّرْبَةِ الثَّانِيَةِ فَلَهُ كَذَا وَكَذَا حَسَنَةً لِدُونِ الأُولَى)؛ أي: الحسنة الأولى، (وَإِنْ قَتَلَهَا) وفي بعض النسخ:"ومن قتلها"(فِي الضَّرْبَةِ الثَّالِثَةِ فَلَهُ كَذَا وَكَذَا حَسَنَةً، لِدُونِ الثَّانِيَةِ") قال الشيخ عزّ الدين بن عبد السلام رحمه الله في "أماليه": الضربة الأولى معلَّلة، إما لأنه حين قتل أحسن، فيندرج تحت قوله صلى الله عليه وسلم:"إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القِتلة"، رواه مسلم، أو يكون معلَّلًا بالمبادرة إلى الخير، فيندرج في قوله تعالى:{فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة: 148]، وعلى كِلا التعليلين يكون الحية أَولى بذلك، والعقرب؛ لِعِظَم مفسدتهما. انتهى.

وقال في موضع آخر: الأجر في التكاليف على قدر النَّصَب، إذا اتَّحد النوع؛ احترازًا عن اختلافه، كالتصدق بكل مال الإنسان، وشذّ عن هذه القاعدة قوله صلى الله عليه وسلم في الوزغة:"من قتلها في المرة الأولى، فله مائة حسنة، ومن قتلها في الثانية فله سبعون حسنة"، فقد صار كلما كثرت المشقة قلّ الأجر، والسبب في ذلك أن الأجر إنما هو مترتِّب على تفاوت المصالح، لا على تفاوت المشاقّ؛ لأن الله سبحانه وتعالى لم يطلب من عباده المشقّة والعناء، وإنما طلب جلب المصالح، ودفع المفاسد، وإنما قال:"أفضل العبادة أحمزها"

(1)

؛ أي:

(1)

قال ابن القيم في شرح "المنازل": لا أصل له، وقال المزيّ: هو من غرائب الأحاديث، ولم يُرْوَ في شيء من الكتب الستة، ذكره في "كشف الخفاء" 1/ 175.

ص: 523

أشقّها، و"أجرك على قَدْر نَصَبك"؛ لأن الفعل إذا لم يكن شاقًّا كان حظ النفس فيه كثيرًا، فيقلّ الإخلاص، فإذا كثرت المشقة كان ذلك دليلًا على أنه جُعل خالصًا لله، فالثواب في الحقيقة مرتَّب على مراتب الإخلاص، لا على مراتب المشقّة. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [2/ 5832 و 5833 و 5834](2240)، و (أبو داود) في "الأدب"(5263)، و (الترمذيّ) في "الصيد"(1482)، و (ابن ماجه) في "الصيد"(3229)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 355)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 267)، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5833]

(. . .) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ (ح) وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ (ح) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الصَّبَّاحِ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ - يَعْنِي: ابْنَ زَكَرِيَّاءَ - (ح) وَحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ، كُلُّهُمْ عَنْ سُهَيْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمَعْنَى حَدِيثِ خَالِدٍ، عَنْ سُهَيْلٍ إِلَّا جَرِيرًا وَحْدَهُ، فَإنَّ فِي حَدِيثِهِ:"مَنْ قَتَلَ وَزَغًا فِي أَوَّلِ ضَرْبَةٍ كُتِبَتْ لَهُ مِائَةٌ حَسَنَةٍ، وَفِي الثَّانِيَةِ دُونَ ذَلِكَ، وَفِي الثَّالِثَةِ دُونَ ذَلِكَ").

رجال هذا الإسناد: اثنا عشر:

1 -

(أَبُو عَوَانَةَ) وضّاح بن عبد الله اليشكريّ الواسطيّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(مُحَمَّدُ بْنُ الصَّبَاحِ) الدُّولابيّ، أبو جعفر البغداديّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 227)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 27.

3 -

(إِسْمَاعِيلُ بْنُ زَكَرِيَّاءَ) بن مرّة الْخُلْقانيّ، أبو زكريّاء الكوفيّ، لَقَبُه

(1)

"عون المعبود شرح سنن أبي داود" 14/ 116.

ص: 524

شَقُوصا، صدوقٌ يُخطئ قليلًا [8](ت 194) أو قبلها (ع) تقدّم في "المقدّمة" 5/ 27.

4 -

(وَكِيعُ) بن الجرّاح الكوفيّ، تقدّم قريبًا.

5 -

(سُفْيَانُ) بن سعيد الثوريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

والباقون ذُكروا في الباب وقبله.

وقوله: (كُلُّهُمْ عَنْ سُهَيْلٍ. . . إلخ)؛ يعني: أن هؤلاء الثلاثة: جرير بن عبد الحميد، وإسماعيل بن زكريّاء، وسفيان الثوريّ رووا هذا الحديث عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه.

[تنبيه]: رواية جرير بن عبد الحميد، عن سهيل ساقها ابن عديّ في "الكامل"، فقال:

حدّثنا الحسين بن عبد الله القطان، ثنا محمد بن قُدامة بن أعين، ثنا جرير، عن سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَن قَتَل وزغًا في أول ضربة، كان له كذا وكذا من حسنة، وفي الثانية دون ذلك، وفي الثالثة دون ذلك". انتهى

(1)

.

ورواية إسماعيل بن زكريّاء عن سُهيل ساقها أبو داود رحمه الله في "سننه" بسند المصنّف، فقال:

(5263)

- حدّثنا محمد بن الصباح البزاز، ثنا إسماعيل بن زكريا، عن سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَن قَتَل وَزَغَةً في

(1)

"الكامل في ضعفاء الرجال" 3/ 448 أورده في ترجمة سهيل بن أبي صالح، وقال في آخر الترجمة بعد أن أورد له أحاديث كثيرة ما نصّه: ولسهيل أحاديث كثيرة غير ما ذكرتُ وله نُسخٌ، وروى عنه الأئمة، مثل الثوريّ، وشعبة، ومالك، وغيرهم من الأئمة، وحدّث سُهيل عن جماعة، عن أبيه، وهذا يدل على ثقة الرجل، حدّث سهيل عن سُمَيّ، عن أبي صالح، وحدّث سهيل عن الأعمش، عن أبي صالح، وحدَّث سهيل عن عبد الله بن مِقْسَم، عن أبي صالح، وهذا يدلّك على تمييز الرجل بين ما سمع من أبيه، ليس بينه وبين أبيه أحد، وبين ما سمع من سُميّ، والأعمش، وغيرهما من الأئمة، وسهيل عندي مقبول الأخبار، ثَبْتٌ. انتهى. "الكامل في ضعفاء الرجال" 3/ 449.

ص: 525

أول ضربة، فله كذا وكذا حسنةً، ومن قتلها في الضربة الثانية فله كذا وكذا حسنة، أدنى من الأُولى، ومن قتلها في الضربة الثالثة، فله كذا وكذا حسنة، أدنى من الثانية". انتهى

(1)

.

ورواية سفيان الثوريّ، عن سُهيل ساقها الترمذيّ رحمه الله في "جامعه" بسند المصنّف، فقال:

(1482)

- حدّثنا أبو كريب، حدّثنا وكيع، عن سفيان، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"من قَتل وَزَغَة بالضربة الأُولى، كان له كذا وكذا حسنةً، فإن قتلها في الضربة الثانية، كان له كذا وكذا حسنةً، فإن قتلها في الضربة الثالثة، كان له كذا وكذا حسنةً"، وقال: حديث حسنٌ صحيحٌ. انتهى

(2)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5834]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الصَّبَّاحِ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ - يَعْنِي: ابْنَ زَكَرِيَّاءَ - عَنْ سُهَيْلٍ، حَدَّثَتْنِي أُخْتِي، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أَنَّهُ قَالَ: "فِي أَوَّلِ ضَرْبَةٍ سَبْعِينَ

(3)

حَسَنَةً").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

وهم المذكورون قبله، إلا أخته.

قال النوويّ رحمه الله: قوله: (حَدَّثَتْنِي أُخْتِي، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) كذا وقع في أكثر النسخ "أختي"، وفي بعضها "أخي" بالتذكير، وفي بعضها "أبي"، وذكر القاضي الأوجه الثلاثة، قالوا: ورواية "أبي" خطأ، وهي الواقعة في رواية أبي العلاء بن ماهان، ووقع في رواية أبي داود:"أخي، أو أختي"، قال القاضي: أخت سهيل: سَوْدة، وأخواه: هشام، وعبّاد. انتهى

(4)

.

(1)

"سنن أبي داود" 4/ 366.

(2)

"حديث حسن صحيح".

(3)

وفي نسخة: "سبعون".

(4)

"إكمال المعلم" 7/ 174 - 175، و"شرح النوويّ" 14/ 238، و"تقييد المهمل" للجيّانيّ 3/ 907 - 908.

ص: 526

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الإسناد أورده مسلم رحمه الله للمتابعة، وإلا ففيه مبهمة، ثم إن قوله:"سبعين حسنة"، مخالف للرواية السابقة:"مائة حسنة"، فإن صحّ فقد تقدّم وَجْه الجمع بينهما، فلا تَنْس، وبالله تعالى التوفيق.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(3) - (بَابُ النَّهْيِ عَنْ قَتْلِ النَّمْلِ)

قال المجد رحمه الله: النمل: معروفٌ، واحدته نَمْلةٌ، وقد تُضمّ الميم، جَمْعه نِمالٌ. انتهى

(1)

.

وقال في "الفتح": النَّمْلةُ واحدة النمل، وجمْع الجمع: نِمَال، والنمل أعظم الحيوانات حِيلةً في طلب الرزق، ومن عجيب أمره أنه إذا وجد شيئًا، ولو قلّ أنذر الباقين، ويَحتكر في زمن الصيف للشتاء، وإذا خاف العَفَن

(2)

على الْحَبّ أخرجه إلى ظاهر الأرض، وإذا حَفَر مكانه اتّخذها تعاريج؛ لئلا يجري إليها ماء المطر، وليس في الحيوان ما يَحمل أثقل منه غيره، والذّرّ في النمل كالزنبور في النحل. انتهى

(3)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5835]

(2241) - (حَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ، وَحَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، قَالَا: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَأَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَنَّ نَمْلَةً قَرَصَتْ نَبِيًّا مِنَ الأَنْبِيَاءِ، فَأَمَرَ بِقَرْيَةِ النَّمْلِ، فَأُحْرِقَتْ، فَأَوْحَى اللهُ إِلَيْهِ: أَفِي أَنْ قَرَصَتْكَ نَمْلَةٌ أَهْلَكْتَ أُمَّةً مِنَ الأُمَمِ، تُسَبِّحُ؟ ").

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بن عوف المدنيّ الفقيه، تقدّم قريبًا.

والباقون ذُكروا في الباب الماضي.

(1)

"القاموس المحيط" ص 1317.

(2)

"الْعَفَنُ" بفتحتين: الفساد.

(3)

"الفتح" 7/ 598 - 599، كتاب "بدء الخلق" رقم (3319).

ص: 527

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وأن نصفه الأول مسلسلٌ بالمصريين، والثاني بالمدنيين، وفيه رواية تابعي عن تابعي، كلاهما من الفقهاء السبعة، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه أحفظ من روى الحديث في دهره.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَنَّ نَمْلَةً قَرَصَتْ) القرص: الأخذ بأطراف الأصابع، والمراد به هنا العضّ. (نَبِيًّا مِنَ الأَنْبِيَاءِ) قال في "الفتح": قيل: هو العزير، ورَوَى الحكيم الترمذيّ في "النوادر" أنه موسى عليه السلام، وبذلك جزم الكلاباذيّ في "معاني الأخبار"، والقرطبيّ في "التفسير"

(1)

. (فَأَمَرَ بِقَرْيَةِ النَّمْلِ)؛ أي: بإحراق مكانها، قال في "الفتح": وقرية النمل موضع اجتماعهنّ، والعرب تُفرِّق في الأوطان، فيقولون لمسكن الإنسان: وَطَنٌ، ولمسكن الإبل: عَطَنٌ، وللأسد: عَرِين، وغابة، وللظبي: كِناس

(2)

، وللضبّ: وِجارٌ

(3)

، وللطائر: عُشّ، وللزنبور: كُورٌ

(4)

، ولليربوع: نافقٌ، وللنمل: قرية. انتهى.

وقد نظمت ذلك بقوليّ:

فَرَّقَتِ الْعَرَبُ لِلأَوْطَانِ

فَوَطَنٌ يَكُونُ لِلإِنْسَانِ

وَعَطَنٌ لإِبِلٍ وَغَابَةُ

لأَسَدِ مَعَ الْعَرِينِ ثَابِةٌ

وَبِالْوِجَارِ خُصَّ ضَبًّا وَاجْعَلَا

عُشًّا لِطَائِرٍ وَكُورٌ قَدْ جَلَا

مَوْضِعَ زُنْبُورٍ وَللْيَرْبُوعِ قَدْ

جُعِلَ نَافِقٌ وَقَرْيَةٌ تُعَدّ

لِلنَّمْلِ هَكَذَا أَتَى فِي "الْفَتْحِ"

قَرَّبْتُهُ نَظْمًا لأَجْلِ النُّصْحِ

وسُمّيت قريةً؛ لاجتماع أهلها فيها.

(فَأُحْرِقَتْ) بالبناء للمفعول، (فَأَوْحَى اللهُ) سبحانه وتعالى (إِلَيْهِ)؛ أي: إلى ذلك النبيّ، (أَفِي أَنْ قرَصَتْكَ نَمْلَةٌ) الهمزة للاستفهام الإنكاريّ، و"أن" مصدريّة،

(1)

"الفتح" 7/ 597، كتاب "بدء الخلق" رقم (3319).

(2)

"الكناس" بالكسر: مستتر الظبي. اهـ. "القاموس".

(3)

"الوجار" بالكسر والفتح: جُحْر الضبع وغيرها. اهـ. "القاموس".

(4)

"الكُور" بالضمّ: موضع الزنابير. اهـ. "القاموس".

ص: 528

والفعل في تأويل المصدر مجرور بـ "في"؛ أي: أفي قرص نملة واحدة لك؟

وقال الطيبيّ رحمه الله: قوله: "أن قرصتك. . . إلخ" الجملة هي الموحى بها؛ أي: أوحى الله تعالى بهذا الكلام؛ يعني: لِأَنْ قرصتك فملة أحرقت أُمةً مسبّحةً لله تعالى؟ وإنما وُضع المضارع موضع المسبّحة؛ ليدلّ على الاستمرار، ومزيد الإنكار، كقوله تعالى:{إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ (18)} [ص: 18]، قال في "الكشّاف": فيه الدلالة على حدوث تسبيح من الجبال شيئًا بعد شيء، وحالًا بعد حال، وكأن السامع يحاضر تلك الحال، ويسمعها. انتهى

(1)

.

(أَهْلَكْتَ أُمَّةً)؛ أي: جماعة (مِنَ الأُمَمِ)، وقوله:(تُسَبِّحُ؟) حال، أو صفة لـ "الأمم"، وفي الرواية التالية:"فأحى الله إليه، فهلّا نملة واحدة"؛ أي: فهلّا أحرقت نملةً واحدةً، وهي التي آذتك، بخلاف غيرها، فلم يصدُر منها جناية، والله تعالى أعلم.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [3/ 5835 و 5836 و 5837](2241)، و (البخاريّ) في "الجهاد"(3019) و"بدء الخلق"(3319)، و (أبو داود) في "الأدب"(5266)، و (النسائيّ) في "المجتبى"(7/ 210) و"الكبرى"(3/ 166 و 5/ 183)، و (ابن ماجه) في "الصيد"(3225)، و (همام بن منبّه) في "صحيفته"(1/ 32)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(4/ 450)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 313 و 402 - 403 و 449)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5614)، و (الطبراني) في "مسند الشاميين"(4/ 278)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(10/ 233)، و (الطحاويّ) في "مشكل الآثار"(1/ 373)، و (تمّام) في "فوائده"(2/ 51)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 213 - 214)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(3268)، والله تعالى أعلم.

(1)

"الكاشف عن حقائق السنن" 9/ 2825.

ص: 529

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان عن قتل النمل إذا لم تُؤذِ.

2 -

(ومنها): بيان أن الحيوانات كلّها تُسبّح الله سبحانه وتعالى حقيقةً، لا مجازًا كما يزعمه بعضهم حيث يؤولون ذلك على لسان الحال، وهو قول باطلٌ، فالحقّ أنها تسبّح الله تعالى تسبيحًا حقيقيًّا، كما أوضح الله تعالى ذلك في كتابه الكريم، حيث قال:{تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44)} [الإسراء: 44].

وقال الإمام ابن كثير رحمه الله في "تفسيره" عند قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} : أي: وما من شيء من المخلوقات إلا يسبح بحمد الله، {وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ}؛ أي: لا تفقهون تسبيحهم أيها الناس؛ لأنها بخلاف لغاتكم، وهذا عامّ في الحيوانات، والجمادات، والنباتات، وهذا أشهر القولين، كما ثبت في "صحيح البخاريّ" عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال:"كنا نسمع تسبيح الطعام، وهو يؤكل"، وفي حديث أبي ذرّ رضي الله عنه:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أخذ في يده حصيات، فسُمع لهنّ تسبيح، كحنين النحل، وكذا في يد أبي بكر، وعمر، وعثمان رضي الله عنهم"، وهو حديث مشهورد في "المسانيد". انتهى

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: وقوله: "أهلكتَ أمةً من الأمم تسبّح؟ ": مقتضى هذا أنه تسبيحُ مقالٍ ونُطْق، كما قد أخبر الله تعالى عن النَّمل أنَّ لها منطقًا، وفَهْمُه سليمان صلى الله عليه وسلم معجزة له. وقد أخبر الله تعالى عن النملة التي سمعها سليمان عليه السلام أنها قالت:{يَاأَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (18) فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا} [النمل: 18، 19]، فهذا كلُّه يدلُّ دَلالةً واضحة: أن للنَّمل نُطقًا وقولًا، لكن لا يسمعه كل أحدٍ، بل من شاء الله تعالى مِمَّن خرق له العادة من نبي، أو وليّ، ولا يُنكَر هذا: من حيث إنَّا لا نسمع ذلك، فإنَّه لا يلزم من عدم الإدراك عدم المدرَك في نفسه. ثم: إن الإنسان يجدُ في نفسه قولًا وكلامًا، ولا يُسمعُ منه إلا إذا نَطَق بلسانه. وقد خرق الله العادةَ لنَبيِّنا صلى الله عليه وسلم، فأسمعه كلام النفس من قومٍ تحدَّثوا مع أنفسهم، وأخبرهم بما

(1)

"تفسير ابن كثير" 3/ 43.

ص: 530

في نفوسهم، كما نقل منه أئمتنا الكثير في كُتُب معجزات النبيّ صلى الله عليه وسلم، وكذلك: قد وقع لكثير مِمَّن أكرمه الله تعالى من الأولياء مثلُ ذلك في غير ما قضيةٍ، وإيَّاه عنى النبيُّ صلى الله عليه وسلم بقوله:"إن في أمَّتي محدَّثين، وإنَّ عُمَرَ منهم". انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(1)

، وهو بحث مفيدٌ، والله تعالى أعلم.

3 -

(ومنها): ما قيل: أنه استُدِلّ بهذا الحديث على جواز إحراق الحيوان المؤذي بالنار، من جهة أن شَرْع من قبلنا شرع لنا، إذا لم يأت في شرعنا ما يرفعه، ولا سيما إن وَرَدَ على لسان الشارع ما يُشعر باستحسان ذلك، لكن ورد في شرعنا النهي عن التعذيب بالنار، قال النوويّ: هذا الحديث محمول على أنه كان جائزًا في شرع ذلك النبيّ جواز قتل النمل، وجواز التعذيب بالنار، فإنه لم يقع عليه الْعَتْب في أصل القتل، ولا في الإحراق، بل في الزيادة على النملة الواحدة، وأما في شرعنا فلا يجوز إحراق الحيوان بالنار، إلا في القصاص بشرطه، وكذا لا يجوز عندنا قتل النمل؛ لحديث ابن عباس رضي الله عنهما في "السنن": أن النبيّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عن قتل النملة، والنحلة. انتهى.

وقد قيَّد غيره كالخطابيّ النهي عن قتل النمل بالسليمانيّ، وقال البغويّ: النمل الصغير الذي يقال له الذرّ يجوز قتله، ونقله صاحب "الاستقصاء" عن الصيمريّ، وبه جزم الخطابيّ، وفي قوله: إن القتل، والإحراق كان جائزًا في شرع ذلك النبيّ نظرٌ؛ لأنه لو كان كذلك لم يعاتَب أصلًا، ورأسًا، إذا ثبت أن الأذى طَبْعه.

وقال عياض: في هذا الحديث دلالة على جواز قتل كل مؤذٍ، ويقال: إن لهذه القصة سببًا، وهو أن هذا النبيّ مَرَّ على قرية، أهلكها الله تعالى بذنوب أهلها، فوقف متعجبًا، فقال: يا رب قد كان فيهم صبيان، ودوابّ، ومن لم يقترف ذنبًا، ثم نزل تحت شجرة، فَجَرَت له هذه القصة، فنبّهه الله جلّ وعَلا على أن الجنس المؤذي يُقْتَل، وإن لم يؤذِ، وتُقتل أولاده، وإن لم تبلغ الأذى. انتهى.

قال الحافظ: وهذا هو الظاهر، وإن ثبتت هذه القصة تَعَيَّن المصير إليه،

(1)

"المفهم" 5/ 543.

ص: 531

والحاصل أنه لم يعاتَبْ إنكارًا لِمَا فَعَل، بل جوابًا له، وإيضاحًا لحكمة شمول الهلاك لجميع أهل تلك القرية، فضَرَب له المثل بذلك؛ أي: إذا اختلط من يستحق الإهلاك بغيره، وتعيّن إهلاك الجميع طريقًا إلى إهلاك المستحقّ جاز إهلاك الجميع، ولهذا نظائر، كتترّس الكفار بالمسلمين، وغير ذلك، والله سبحانه أعلم.

وقال الكرمانيّ: النملُ غير مكلَّف، فكيف أُشيرَ في الحديث إلى أنه لو أحرق نملة واحدةً جاز، مع أن القصاص إنما يكون بالمثل؛ لقوله تعالى:{وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40].

ثم أجاب بتجويز أن التحريق كان جائزًا عنده.

ثم قال: يَرِدُ على قولنا: كان جائزًا لو كان كذلك لَمَا ذُمّ عليه.

وأجاب بأنه قد يُذَمّ الرفيع القدر على خلاف الأَولى. انتهى.

قال الحافظ: والتعبير بالذمّ في هذا لا يليق بمقام النبيّ، فينبغي أن يُعَبّر بالعتاب. انتهى

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: هذا النبيّ عليه السلام كانت العقوبة للحيوان بالتحريق جائزة في شرعه، ولذلك إنَّما عاتبه الله تعالى في إحراق الكثير من النَّمل، لا في أصل الإحراق. ألا ترى قوله:"فهلّا نملة واحدة؟ ": أي: هلّا حرّقت واحدةً! وهذا بخلاف شرعنا، فإنَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قد نهى عن التعذيب بالنار، وقال:"لا يعذِّب بالنار إلا الله"، وكذلك أيضًا كان قَتْل النمل مباحًا في شريعة ذلك النبيّ، فإنَّ الله لم يعتُبه على أصل قتل النمل. وأما شرعنا: فقد خرَّج أبو داود من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قد نهى عن قتل أربع من الدواب: النَّملة، والنحلة، والهدهد، والصُّرَد. وقد كره مالك قتل النمل إلا أن يضرّ، ولا يقدر على دَفْعه إلا بالقتل.

قال: وظاهر هذا الحديث: أن هذا النبيّ إنَّما عاتبه الله تعالى حيث انتقم لنفسه بإهلاك جَمْع آذاه واحد منه، وكان الأَولى به الصبر، والصفح، لكن وقع للنبيّ: أن هذا النوع مؤذٍ لبني آدم، وحرمة بني آدم أعظم من حرمة غيره من

(1)

"الفتح" 7/ 598 - 599، كتاب "بدء الخلق" رقم (3319).

ص: 532

الحيوان غير الناطق، فلو انفرد له هذا النظر ولم ينضم إليه التَّشفي الطبيعي لم يعاتَب، والله تعالى أعلم، لكن: لمّا انضاف إليه التَّشفي الذي دلَّ عليه سياق الحديث عُوتب عليه. والذي يؤيد ما ذكرنا: التمسك بأصل عصمة الأنبياء - صلوات الله وسلامه عليهم -، وأنَّهم أعلمُ النَّاس بالله، وبأحكامه، وأشدُّهم له خشيةً. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(1)

، وهو بحثٌ نفيسٌ، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5836]

(. . .) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا الْمُغِيرَةُ - يَعْنِي: ابْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحِزَامِيَّ - عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "نَزَلَ نَبِيٌّ مِنَ الأَنْبِيَاءِ تَحْتَ شَجَرَةٍ، فَلَدَغَتْهُ نَمْلَةٌ، فَأَمَرَ بِجِهَازِهِ، فَأُخْرِجَ مِنْ تَحْتِهَا، ثُمَّ أَمَرَ بِهَا، فَأُحْرِقَتْ، فَأَوْحَى اللهُ إِلَيْهِ: فَهَلَّا نَمْلَةً وَاحِدَةً؟ ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(الْمُغِيرَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحِزَامِيُّ) المدنيّ، نزل عسقلان، لقبه قُصيّ، ثقةٌ له غرائب [7](ع) تقدم في "الطهارة" 26/ 653.

2 -

(أَبُو الزِّنَادِ) عبد الله بن ذكوان القرشيّ مولاهم، أبو عبد الرحمن المدنيّ، ثقةٌ فقيهٌ [5](ت 130) أو بعدها (ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 30.

3 -

(الأَعْرَجُ) عبد الرحمن بن هُرْمُز القرشيّ مولاهم، أبو داود المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ [3](117)(ع) تقدم في "الإيمان" 23/ 192.

والباقيان ذُكرا في الباب، وقبله.

وقوله: (فَلَدَغَتْهُ نَمْلَةٌ) بالدال المهملة، والغين المعجمة؛ أي: قرصته، وليس هو بالذال المعجمة، والعين المهملة، فإن ذاك معناه الإحراق.

وقوله: (فَأَمَرَ بِجِهَازِهِ) ببناء الفعل للفاعل، و"الجهاز" بفتح الجيم، ويجوز كسرها، بعدها زاي؛ أي: متاعه.

(1)

"المفهم" 5/ 542 - 543.

ص: 533

وقوله: (فَأُخْرِجَ مِنْ تَحْتِهَا) بالبناء للمفعول؛ أي: أُخرج الجهاز من تحت تلك النملة.

وقوله: (ثُمَّ أَمَرَ بِهَا، فَأُحْرِقَتْ) الأول بالبناء للفاعل، والثاني للمفعول؛ أي: أمر ذلك النبيّ بإحراقها، والمراد: إحراق بيتها، فأُحرقت.

وقوله: (فَهَلَّا نَمْلَةً وَاحِدَةً؟) يجوز فيه النصب على تقدير عامل محذوف؛ أي: فهلّا أَحرَقتَ نملةً واحدةً، وهي التي آذتك، بخلاف غيرها، فلم يصدر منها جناية، ويجوز الرفع أيضًا على تقدير: فهلّا أُحرِقت، مبنيًّا للمفعول.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام البحث فيه في الحديث الماضي، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5837]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ، قَالَ: هَذَا مَا حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَ أَحَادِيثَ، مِنْهَا: وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "نَزَلَ نَبِيٌّ مِنَ الأَنْبِيَاءِ تَحْتَ شَجَرَةٍ، فَلَدَغَتْهُ نَمْلَةٌ، فَأَمَرَ بِجِهَازِهِ، فَأُخْرِجَ مِنْ تَحْتِهَا، وَأَمَرَ بِهَا، فَأُحْرِقَتْ فِي النَّارِ

(1)

. قَالَ: فَأَوْحَى اللهُ إِلَيْهِ: فَهَلَّا نَمْلَةً وَاحِدَةً؟ ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(هَمَّامُ بْنُ مُنَبِّهٍ) بن كامل الأبناويّ، أبو عُقبة الصنعانيّ، ثقةٌ [4](ت 132)(ع) تقدم في "الإيمان" 26/ 213.

والباقون ذُكروا في الباب وقبل باب.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى البحث فيه مستوفًى قبل حديث، ولله الحمد والمنّة.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(1)

وفي نسخة: "بالنار".

ص: 534

(4) - (بَابُ تَحْرِيمِ قَتْلِ الْهِرَّةِ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5838]

(2242) - (حَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَسْمَاءَ الضُّبَعِيُّ، حَدَّثَنَا جُوَيْرِيَةُ بْنُ أَسْمَاءَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "عُذِّبَتِ امْرَأَةٌ فِي هِرَّةٍ، سَجَنَتْهَا حَتَّى مَاتَتْ، فَدَخَلَتْ فِيهَا النَّارَ، لَا هِيَ أَطْعَمَتْهَا، وَسَقَتْهَا، إِذْ حَبَسَتْهَا، وَلَا هِيَ تَرَكَتْهَا تَأكُلُ مِنْ خَشَاشِ الأَرْضِ").

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَسْمَاءَ الضُّبَعِيُّ) أبو عبد الرحمن البصريّ، ثقةٌ جليلٌ [10](ت 231)(خ م د س) تقدم في "الإيمان" 47/ 297.

2 -

(جُوَيْرِيَةُ بْنُ أَسْمَاءَ) بن عُبيد الضُّبعيّ البصريّ، صدوقٌ [7](ت 173)(خ م د س ق) تقدم في "الإيمان" 73/ 390.

والباقيان تقدّما قبل بابين.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (450) من رباعيّات الكتاب، ونصفه الأول بصريّ، والثاني مدنيّ، وفيه رواية الراوي عن عمّه، فجويرية عمّ عبد الله بن محمد، وفيه ابن عمر رضي الله عنهما أحد العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة.

شرح الحديث:

(عَنْ عَبْدِ اللهِ) بن عمر رضي الله عنهما (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "عُذِّبَتِ) بالبناء للمفعول، (امْرَأَة) قال الحافظ رحمه الله: لم أقف على اسمها، ووقع في رواية:"أنها حِمْيريّة"، وفي أخرى:"أنها من بني إسرائيل"، وكذا لمسلم، ولا تضادّ بينهما؛ لأن طائفة من حمير كانوا قد دخلوا في اليهودية، فنُسبت إلى دينها تارةً، وإلى قبيلتها أخرى، وقد وقع ما يدلّ على ذلك في "كتاب البعث" للبيهقيّ، وأبداه عياض احتمالًا، وأغرب النوويّ، فأنكره. انتهى

(1)

.

(1)

"الفتح" 7/ 596، كتاب "بدء الخلق" رقم (3318).

ص: 535

(فِي هِرَّةٍ)؛ أي: بسبب هرّة، فـ "في" للسببيّة، قال ابن مالك رحمه الله في "شواهد التوضيح": تضمّن هذا الحديث استعمال "في" دالّةً على التعليل، وهو ما خفي على أكثر النحويين، مع وروده في القرآن العزيز، والحديث، والشعر القديم. فمن الوارد في القرآن العظيم: قوله تعالى: {لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (68)} [الأنفال: 68]، وقوله تعالى:{وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (14)} [النور: 14].

ومن الوارد في الحديث: "عُذّبت امرأة في هرّة" متّفقٌ عليه، و"يُعذّبان، وما يُعذّبان في كبير"، متّفقٌ عليه.

ومن الوارد في الشعر القديم: قول جميل [من الطويل]:

فَلَيْتَ رِجَالًا فِيكِ قَدْ نَذَرُوا دَمِي

وَهَمُّوا بِقَتْلِي يَا بُثَيْنَ لَقُونِي

ومنه قول أبي خِراش [من الطويل]:

لَوَى رَأْسَهُ عَنِّي وَمَالَ بِوُدِّهِ

أَغَانِيجُ خُودٍ كَانَ فِينَا يَزُورُهَا

ومنه قول الآخر [الطويل]:

أَفِي قَمَلِيٍّ مِنْ كُلَيْبٍ هَجَوْتُهُ

أَبُو جَهْضَمٍ تَغْلِي عَلَيَّ مَرَاجِلُهْ

(1)

ووقع في رواية همّام عن أبي هريرة الآتية لمسلم

(2)

: "دخلت امرأة النار مِن جَرّاء هرّةٍ لها، ربطتها، فلا هي أطعمتها، ولا هي أرسلتها تُرَمْرِمُ

(3)

من خشاش الأرض، حتى ماتت هَزْلًا"، و"جَرّا" بفتح الجيم، وتشديد الراء مقصورًا، وبجوز فيه المدّ؛ أي: من أجل هرّة، والهرة: أنثى السِّنَّوْر، والهرّ الذَّكر، ويُجمع الهرّ على هِرَرَةٍ، كقِرَد وقِرَدة، وتُجمع الهرة على هِرَرٍ، كقِرْبة وقِرَب، ووقع في حديث جابر رضي الله عنه الماضي في "الكسوف": "وعُرِضت عليّ النارُ، فرأيت فيها امرأة من بني إسرائيل تُعَذَّب في هرة لها. . ." الحديث

(4)

.

(سَجَنَتْهَا)؛ أي: حبستها عن الأكل والشرب، يقال: سجنته سَجْنًا، من

(1)

"شواهد التوضيح والتصحيح لمشكلات الجامع الصحيح" ص 67 - 68.

(2)

أي: في كتاب "البرّ والصلة" برقم (2619).

(3)

أي: تتناول ذلك بشفتيها.

(4)

"الفتح" 7/ 596، كتاب "بدء الخلق" رقم (3318).

ص: 536

باب قَتَلَ: حبسته، والسِّجْن: الحبس، والجمع سُجونٌ، مثلُ حِمْل وحُمُول، قاله الفيّومي رحمه الله

(1)

، وقال المجد رحمه الله: السِّجْن بالكسر: الْمَحْبِسُ. انتهى

(2)

. (حَتَّى مَاتَتْ)؛ أي: جوعًا، (فَدَخَلَتْ فِيهَا)؛ أي: بسببها (النَّارَ، لَا هِيَ أَطْعَمَتْهَا، وَسَقَتْهَا، إِذْ حَبَسَتْهَا، وَلَا هِى تَرَكَتْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الأَرْضِ") بفتح الخاء المعجمة، ويجوز ضمها، وكسرها، وبمعجمتين، بينهما أَلِف، الأُولى خفيفة، والمراد: هوامّ الأرض، وحشراتها، من فأرة، ونحوها، وحَكَى النوويّ أنه رُوي بالحاء المهملة، والمراد: نبات الأرض، قال: وهو ضعيف، أو غلط، ذكره في "الفتح"

(3)

.

وقال ابن منظور: قال أبو عبيد: يعني: من هوامّ الأرض، وحشراتها، ودوابها، وما أشبهها، وفي رواية:"من خَشِيشها"، وهو بمعناه، ويروى بالحاء المهملة، وهو يابس النبات، وهو وَهَمٌ، وقيل: إنما هو خُشيش بضم الخاء المعجمة: تصغير خشاش على الحذف، أو خشيش من غير حذف، والخشاش من دواب الأرض، والطير: ما لا دماغ له، قال: والحية لا دماغ لها، والنعامة لا دماغ لها، والكروان لا دماغ له. انتهى

(4)

.

وقال الزمخشري: الخشاش واحدته خشاشة، سُمّيت به؛ لاندساسها في التراب، من خَشّ في الأرض دخل فيها

(5)

.

وقال الطيبيّ: وذِكر الأرض هنا كذِكرها في قوله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ} [الأنعام: 38]؛ للإحاطة والشمول. انتهى

(6)

، والله تعالى أعلم.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [4/ 5838 و 5839 و 5840](2242)، ويأتي في

(1)

"المصباح المنير" 1/ 267.

(2)

"القاموس المحيط" ص 596.

(3)

"الفتح" 7/ 596، كتاب "بدء الخلق" رقم (3318).

(4)

"لسان العرب" 6/ 296.

(5)

"فيض القدير" للمناويّ 3/ 523.

(6)

"الكاشف عن حقائق السُّنن" 5/ 1549.

ص: 537

"البرّ والصلة"(2619)، و (البخاريّ) في "المساقاة"(2365) و"بدء الخلق"(3318) و"أحاديث الأنبياء"(3482) وفي "الأدب المفرد"(379)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 330 - 331)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 214 و 8/ 13)، و (عبد بن حميد) في "مسنده"(789)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان تحريم قتل الهرة، وتحريم حبسها بغير طعام، أو شراب، وأما دخولها النار بسببها فظاهر الحديث أنها كانت مسلمة، وإنما دخلت النار بسبب الهرة، وذكر القاضي أنه يجوز أنها كافرة عُذبت بكفرها، وزيد في عذابها بسبب الهرة، واستحقت ذلك؛ لكونها ليست مؤمنة تُغفر صغائرها باجتناب الكبائر، قال النوويّ بعد نقل القاضي هذا: والصواب ما قدمناه أنها كانت مسلمة، وأنها دخلت النار بسببها، كما هو ظاهر الحديث، وهذه المعصية ليست صغيرة، بل صارت بإصرارها كبيرةً، وليس في الحديث أنها تخلد في النار. انتهى

(1)

.

وقال في "الفتح": وظاهر هذا الحديث أن المرأة عُذبت بسبب قتل هذه الهرة بالحبس، قال عياض: يَحْتَمِل أن تكون المرأة كافرةً فعُذبت بالنار حقيقةً، أو بالحساب؛ لأن من نوقش الحساب عُذِّب، ثم يَحْتَمِل أن تكون المرأة كافرةً، فعُذبت بكفرها، وزيدت عذابًا بسبب ذلك، أو مسلمة، وعُذبت بسبب ذلك، قال النوويّ: الذي يظهر أنها كانت مسلمة، وإنما دخلت النار بهذه المعصية، كذا قال، ويؤيد كونها كافرةً ما أخرجه البيهقيّ في "البعث والنشور"، وأبو نعيم في "تاريخ أصبهان" من حديث عائشة رضي الله عنها، وفيه قصة لها مع أبي هريرة، وهو بتمامه عند أحمد. انتهى

(2)

.

2 -

(ومنها): بيان وجوب نفقة الحيوان على مالكه، قال الحافظ: كذا قال النوويّ، وفيه نظر؛ لأنه ليس في الخبر أنها كانت في مُلكها، لكن في قوله:"هرة لها"، كما هي رواية همام ما يَقْرُب من ذلك. انتهى.

(1)

"شرح النوويّ" 14/ 240.

(2)

"الفتح" 7/ 596، كتاب "بدء الخلق" رقم (3318).

ص: 538

قال الجامع عفا الله عنه: كونها مُلكًا لها هو الأشبه، قال القرطبيّ: وظاهر الحديث يدلّ على تملّك الهرة؛ لأنه أضافها للمرأة باللام التي هي ظاهرة في الملك. انتهى، وهو استدلال جيّد، فتأمل بالإمعان، وبالله تعالى التوفيق.

وقال أبو عمر رحمه الله: وفي هذا الحديث دليل على وجوب نفقات البهائم المملوكة على مالكيها، وهذا ما لا خلاف فيه، ولا في القضاء به، والحمد لله. انتهى

(1)

.

3 -

(ومنها): بيان جواز اتخاذ الهرّة ورباطها، إذا لم يُهْمَل إطعامُها، وسقيُها، ويلتحق بذلك غير الهرة، مما في معناها، وأن الهرّ لا يُمْلَك، وإنما يجب إطعامه على من حَبَسه، قال الحافظ: كذا قال القرطبيّ، وليس في الحديث دلالة على ذلك.

4 -

(ومنها): أن النار مخلوقة اليوم، وأن من أنكر ذلك ضالّ مضلّ.

5 -

(ومنها): أن بعض الناس معذَّب اليوم في جهنم قبل يوم القيامة.

6 -

(ومنها): أن في تعذيبها بسبب الهرة دلالةً على أن فِعلها كبيرةٌ؛ لأنها أصرّت عليه

(2)

، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5839]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِي نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ الْجَهْضَمِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَى، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَعَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِ مَعْنَاهُ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ الْجَهْضَمِيُّ) البصريّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(عَبْدُ الأَعْلَى) بن عبد الأعلى الساميّ البصريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

3 -

(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ) العمريّ المدنيّ الفقيه، تقدّم قبل بابين.

(1)

"التمهيد" لابن عبد البرّ 22/ 9.

(2)

"عمدة القاري" 12/ 209.

ص: 539

4 -

(سَعِيدٌ الْمَقْبُرِيُّ) ابن أبي سعيد كيسان، أبو سَعْد المدنيّ، ثقةٌ فاضلٌ [3] مات في حدود (120) أو قبلها، أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 36/ 250.

والباقون ذكروا في الباب، وقبله.

وقوله: (وَعَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ. . . إلخ) معطوف على "نافع"، فعبد الأعلى يرويه عن عبيد الله بن عمر بالإسنادين: إسناد نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وإسناد سعيد المقبريّ، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم.

ونصّ ابن حبّان في "صحيحه":

(546)

- أخبرنا عليّ بن أحمد الجرجانيّ بحلب، حدّثنا نصر بن عليّ الجهضميّ، حدّثنا عبد الأعلى، حدّثنا عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"عُذِّبت امرأة في هرّة ربطتها، فلم تُطعمها، ولم تَدَعْها تأكل من خشاش الأرض".

ثم قال: أخبرناه عليّ بن أحمد في عقبه، حدّثنا نصر بن عليّ، حدّثنا عبد الأعلى، حدّثنا عبيد الله، عن سعيد المقبريّ، عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم بمثله. انتهى

(1)

.

[تنبيه]: رواية عبيد الله بن عمر العمريّ، عن نافع، وعن سعيد المقبريّ، بإسناديهما ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه" بسند المصنّف، فقال:

(3140)

- حدّثنا نصر بن عليّ، أخبرنا عبد الأعلى، حدّثنا عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"دخلت امرأة النار في هرّة ربطتها، فلم تُطعمها، ولم تَدَعْها تأكل من خشاش الأرض"، قال: وحدّثنا عبيد الله، عن سعيد المقبريّ، عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مثله. انتهى

(2)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5840]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَاهُ هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ مَعْنِ بْنِ عِيسَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ).

(1)

"صحيح ابن حبان" 2/ 305.

(2)

"صحيح البخاريّ" 3/ 1205.

ص: 540

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) الحمّال، أبو موسى البغداديّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرِ) بن يحيى بن خالد بن برمك البرمكيّ، أبو محمد نشأ بالبصرة، ثم سكن بغداد، ثقة [11].

رَوَى عن مَعْن بن عيسى، وابن عيينة، وإسحاق الأزرق، ووكيع، وعبد الله بن نمير، وعقبة بن خالد، وسليمان بن داود الهاشميّ.

وروى عنه مسلم، وأبو داود، وعليّ بن الحسين بن الجنيد الرازيّ، وابن أبي عاصم، وأبو بكر البزار، وجعفر الفريابيّ، وغيرهم.

قال الدارقطنيّ: ثقةٌ، وقال ابن خِنزابة: صدوقٌ، مُغْرق في الكتابة، وقال مسلمة: ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: مستقيم الحديث.

تفرّد به المصنّف، وأبو داود، وله في هذا الكتاب خمسة أحاديث فقط برقم

(1)

(2242) كرّره، و (2382) و (2492) و (2831) و (2862).

3 -

(مَعْنُ بْنُ عِيسَى) بن يحيى الأشجعيّ مولاهم، أبو يحيى القزّاز المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ، قال أبو حاتم: أثبت أصحاب مالك، من كبار [10](ت 198)(ع) تقدم في "الطهارة" 7/ 563.

4 -

(مَالِكُ) بن أنس، إمام دار الهجرة، تقدّم قبل بابين.

والباقيان ذُكرا قبله.

[تنبيه]: رواية مالك عن نافع هذه ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:

(2236)

- حدَّثنا إسماعيل، قال: حدّثني مالك، عن نافع، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"عُذِّبت امرأة في هرّة حبستها، حتى ماتت جوعًا، فدخلت فيها النار، قال: فقال - والله أعلم -: لا أنت أطعمتها، ولا سقيتها، حين حبستها، ولا أنت أرسلتها، فأكلت من خشاش الأرض". انتهى

(2)

.

(1)

هذه الأرقام للأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي رحمه الله، فتنبّه.

(2)

"صحيح البخاريّ" 2/ 834.

ص: 541

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5841]

(2243) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا عَبْدَةُ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "عُذِّبَتِ امْرَأَةٌ فِي هِرَّةٍ، لَمْ تُطْعِمْهَا، وَلَمْ تَسْقِهَا، وَلَمْ تَتْرُكْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الأَرْضِ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

وكلّهم ذُكروا في الباب، وقبل بابين، و"عبدة" هو: ابن سليمان الكِلابيّ الكوفيّ، وشرح الحديث سبق قبل حديثين.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [4/ 5841 و 5842 و 5843 و 5844](2243)، و (ابن ماجه) في "الزهد"(4256)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 261 و 269 و 286 و 317 و 424 و 457 و 467 و 479 و 501 و 507 و 519)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5621)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(8/ 14)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(1670 و 4184)، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5842]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ (ح) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ الْحَارِثَ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، بِهَذَا الإِسْنَادِ، وَفِي حَدِيثِهِمَا:"رَبَطَتْهَا"، وَفِي حَدِيثِ أَبِي مُعَاوِيَةَ:"حَشَرَاتِ الأَرْضِ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ) بن عبيد الْهُجيميّ البصريّ، تقدّم قريبًا.

والباقون ذُكروا في الباب، وقبل بابين.

[تنبيه]: رواية أبي معاوية، عن هشام ساقها أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(9478)

- حدثنا أبو معاوية، قال: ثنا هشام بن عروة، عن أبيه، عن

ص: 542

أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عُذّبت امرأة في هرة ربطتها، فلم تطعمها، ولم تُرسلها، فتأكل من حشرات الأرض". انتهى

(1)

.

ورواية خالد بن الحارث، عن هشام لم أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5843]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ عَبْدٌ: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ ابْنُ رَافِعٍ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، قَالَ: قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَحَدَّثَنِي حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِمَعْنَى حَدِيثِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بن عوف الزهريّ المدنيّ، ثقةٌ [3](ت 105)(ع) تقدم في "الإيمان" 26/ 213.

والباقون ذُكروا في الباب والبابين قبله.

[تنبيه]: رواية معمر عن الزهريّ هذه ساقها ابن حبّان رحمه الله في "صحيحه"، فقال:

(5621)

- أخبرنا ابن قتيبة، حدّثنا ابن أبي السريّ، حدّثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن الزهريّ، أخبرني حميد بن عبد الرحمن بن عوف، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"دخلت امرأة النار في هرّة ربطتها، فلا هي أطعمتها، ولا هي أرسلتها تأكل من خشاش الأرض، حتى ماتت". انتهى

(2)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5844]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم نَحْوَ حَدِيثِهِمْ).

(1)

"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 2/ 424.

(2)

"صحيح ابن حبان" 12/ 438.

ص: 543

رجال هذا الإسناد: خمسة:

وكلهم ذُكروا في الباب وقبله.

وقوله: (نَحْوَ حَدِيثِهِمْ) الضمير راجع إلى عروة، وحميد بن عبد الرحمن، وهما اثنان، وقد تقدّم أن هذا الاستعمال صحيح، فصيح في اللغة العربيّة، كما قوله تعالى:{وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} [الأنبياء: 78] بعد قوله تعالى: {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ} الآية [الأنبياء: 78]، وكقوله تعالى:{فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4]، وليس لهما إلا قلبان، ولا تلتفت إلى ما كتبه بعض الشرّاح

(1)

جريًا على قول الجمهور من أن أقلّ الجمع ثلاثة، وهذا قول لا يؤيّده الدليل، فتبصّر، ولا تكن أسير التقليد، والله تعالى وليّ التوفيق.

[تنبيه]: رواية همّام بن منبّه عن أبي هريرة رضي الله عنه هذه ساقها البيهقيّ رحمه الله في "الكبرى"، فقال:

(15595)

- أخبرنا أبو طاهر الفقيه، أنبأ أبو بكر القطان، ثنا أحمد بن يوسف السلميّ، ثنا عبد الرزاق، أنبأ معمر، عن همام بن منبه، قال: هذا ما حدّثنا أبو هريرة، قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "دخلت امرأة النار من جَرَّاء هرّة لها ربطتها، فلا هي أطعمتها، ولا هي أرسلتها تُقَمِّم

(2)

من خشاش الأرض، حتى ماتت هَزْلًا". انتهى.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(5) - (بَابُ فَضْلِ سَقْيِ الْبَهَائِمِ الْمُحْتَرَمَةِ، وَإِطْعَامِهَا)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5845]

(2244) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أنَسٍ، فِيمَا قُرِئَ عَلَيْهِ، عَنْ سُمَيٍّ مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ السَّمَّانِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ

(1)

هو الشيخ الهرريّ، راجع: شرحه (22/ 377)، وهو دائمًا يعارض هذا الاستعمال، ويخطّئ نُسَخ "صحيح مسلم"، فلا تغترّ به.

(2)

أي: تأكل.

ص: 544

رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي بِطَرِيقٍ، اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْعَطَشُ، فَوَجَدَ بِئْرًا، فَنَزَلَ فِيهَا، فَشَرِبَ، ثُمَّ خَرَجَ، فَإِذَا كَلْبٌ يَلْهَثُ يَأْكُلُ الثَّرَى مِنَ الْعَطَشِ، فَقَالَ الرَّجُلُ: لَقَدْ بَلَغَ هَذَا الْكَلْبُ مِنَ الْعَطَشِ مِثْلُ الَّذِي كَانَ بَلَغَ مِنِّي، فَنَزَلَ الْبِئْرَ، فَمَلأَ خُفَّهُ مَاءً، ثُمَّ أَمْسَكَهُ بِفِيهِ، حَتَّى رَقِيَ، فَسَقَى الْكَلْبَ، فَشَكَرَ اللهُ لَهُ، فَغَفَرَ لَهُ"، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَإِنَّ لَنَا فِي هَذِهِ الْبَهَائِمِ لأَجْرًا؟ فَقَالَ:"فِي كُلِّ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(سُمَيٌّ مَوْلَى أَبِي بَكْرِ) بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المدنيّ، ثقةٌ [6](ت 130) مقتولًا بقُديد (ع) تقدم في "الصلاة" 18/ 918.

والباقون ذُكروا في الأبواب الثلاثة الماضية.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسلٌ بالمدنيين، وشيخه، وإن كان بغلانيًّا إلا أنه دخل المدينة للأخذ عن مالك، وفيه اثنان اشتهرا بالكنية، أبو صالح، وأبو هريرة رضي الله عنه، وفيه أبو هريرة أكثر من روى الحديث في دهره.

شرح الحديث:

(عَنْ سُمَيٍّ) بضم السين المهملة، وفتح الميم، وشدّ التحتية، (مَوْلَى أَبِي بَكْرِ) بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام (عَنْ أَبِي صَالِحٍ) ذكوان (السَّمَّانِ) ويقال له: الزيّات؛ لأنه كان يجلب السمن والزيت إلى الكوفة، (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"بَيْنَمَا) قد ذكرنا غير مرّة أن أصله "بين" الظرفيّة، فزيدت عليه "ما"، ويقال: "بينا"، كما هو في الرواية الأخرى، أُشبعت فتحة النون، فصار "بينا"، ويضافان إلى جملة، وهي هنا قوله: "رجل يمشي".

(رَجُلٌ يَمْشِي بِطَرِيقٍ) وفي رواية الدارقطني في "الموطآت" من طريق رَوْح، عن مالك:"يمشي بفلاة"، وله من طريق ابن وهب، عن مالك:"يمشي بطريق مكة". (اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْعَطَشُ) وفي رواية البخاريّ: "فاشتد عليه"، والفاء فيه وقعت موقع "إذا"، تقديره: بينما رجل يمشي إذا اشتد عليه العطش، وهو جواب

ص: 545

"بينما"، وقال في "العمدة": وقد ذكرنا فيما مضى أن الأفصح أن يقع جواب "بينا"، و"بينما" بلا كلمة "إذ"، و"إذا"، ولكن وقوعه بهما كثير. انتهى

(1)

.

(اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْعَطَشُ) قال في "الفتح": كذا للأكثر، وكذا هو في "الموطأ"، ووقع في رواية المستملي:"العطاش"، قال ابن التين: العطاش: داء يصيب الغنم، تَشْرَب، فلا تَرْوَى، وهو غير مناسب هنا، قال: وقيل: يصحّ على تقدير أن العطش يحدث منه هذا الداء، كالزكام، قال الحافظ: وسياق الحديث يأباه، وظاهره أن الرجل سَقَى الكلب، حتى رَوِي، ولذلك جُوزي بالمغفرة. انتهى

(2)

.

(فَوَجَدَ بِئْرًا، فَنَزَلَ فِيهَا، فَشَرِبَ، ثُمَّ خَرَجَ، فَإِذَا كَلْبٌ يَلْهَثُ) - بفتح الهاء - اللَّهَثُ: بفتح الهاء: هو ارتفاع النفَس من الإعياء، وقال ابن التين: لَهَثَ الكلبُ: أخرج لسانه من العطش، وكذلك الطائر، ولَهَثَ الرجل: إذا أعيا، ويقال: إذا بحث بيديه، ورجليه. انتهى

(3)

.

وقال النوويّ: ويقال: لَهِثَ بفتح الهاء، وكسرها، يَلْهَث بفتحها، لا غيرُ لَهْثًا بإسكانها، والاسم اللَّهَث بفتحها، واللُّهاث بضم اللام، ورَجُلٌ لَهْثان، وامرأة لَهْثَى، كعطشان، وعطشى، وهو الذي أخرج لسانه من شدّة العطش، والحرّ. انتهى

(4)

.

(يَأْكُلُ الثَّرَى)؛ أي: يَكْدِم بفمه الأرض النديّة، وهي إما صفة، وإما حال، وليس بمفعول ثان لرأى، قاله في "الفتح".

وقال في "التاج": الثَّرَى: النَّدَى، والتراب النِّيُّ، أو الذي إذا بُلَّ لم يَصِر طينا لازبًا، كالثَّرْياء ممدودة، وأنشد أبو عبيد [من الرجز]:

لَمْ يَبْقَ هَذَا الدَّهْرُ مِنْ ثَرْيَائِهِ

غَيْرُ أَثَافِيهِ وَأَرْمِدَائِهِ

وقوله عز وجل: {وَمَا تَحْتَ الثَّرَى} [طه: 6]: جاء في التفسير أنه ما تحت

(1)

"عمدة القاري" 12/ 206.

(2)

"الفتح" 6/ 173، كتاب "المساقاة" رقم (2363).

(3)

"الفتح" 6/ 173، كتاب "المساقاة" رقم (2363).

(4)

"شرح النوويّ" 14/ 241 - 242.

ص: 546

الأرض، وهما ثَرَيَان، وثَرَوَان، جَمْعه: أثراء. انتهى

(1)

.

(مِنَ الْعَطَشِ)"من" تعليليّة؛ أي: إنما يأكل الثرى لأجل شدّة عطشه.

وقال في "العمدة": فإن قلت: "يأكل الثرى" ما محله من الإعراب؟ قلت: نَصْبٌ، إما حالٌ، من "كلبًا"، أو صفةٌ له، قال الكرمانيّ: قلت: لا يجوز أن يكون حالًا؛ لأن الشرط أن يكون ذو الحال معرفةً، وههنا نكرةٌ، ولا يجوز أيضًا أن يكون مفعولًا ثانيًا؛ لأن الرؤية بمعنى الإبصار. انتهى

(2)

.

(فَقَالَ الرَّجُلُ: لَقَدْ بَلَغَ هَذَا الْكَلْبُ) ضَبَطه بعضهم بالنصب على أنه مفعول "بَلَغَ"، وفاعله:"مثلُ الذي بلغ منّي"؛ يعني: أن الكلب أصابه مثلُ ما أصابني، وضَبَطه بعضهم برفع "الكلبُ" على أنه فاعل "بلغ"، ومفعوله "مثلَ"؛ يعني: أن هذا الكلب قد بلغ مبلغًا مثلَ الذي بلغ مني

(3)

.

وقال الزرقانيّ رحمه الله: و"مثل" ضَبَطه الحافظ وغيره بالنصب نعتًا لمصدر محذوف؛ أي: بلغ مبلغًا مثلَ الذي بلغ مني، قال في "المصابيح": ولا يتعيَّن؛ لجواز أن المحذوف مفعول به؛ أي: عَطَشًا، وضَبَطه الحافظ الدمياطيّ وغيره بالرفع، على أنه فاعل "بلغ"، فهما روايتان. انتهى

(4)

.

(مِنَ الْعَطَشِ مِثْلُ الَّذِي كَانَ بَلَغَ مِنِّي)؛ أي: بلغ مبلغًا مثلَ الذي بلغ بي، وزاد ابن حبان من وجه آخر عن أبي صالح:"فرحمه"، (فَنَزَلَ) الرجل (الْبئْرَ، فَمَلأَ خُفَّهُ) في رواية ابن حبّان: "فنزع أحد خفيّه"، (مَاءً، ثُمَّ أَمْسَكَهُ بِفِيهِ)؛ أي: أحدَ خُفَّيه الذي فيه الماء، وإنما احتاج إلى ذلك؛ لأنه كان يعالج بيديه ليصعد من البئر، وهو يُشعر بأن الصعود منها كان عَسِرًا. (حَتَّى رَقِيَ) بفتح الراء، وكسر القاف، كصَعِد وزنًا، ومعنًى، وذكره ابن التين بفتح القاف، بوزن مَضَى، وأنكره، وقال عياض في "المشارق": هي لغة طيّء، يفتحون العين فيما كان من الأفعال معتلّ اللام، والأول أفصح، وأشهر. انتهى.

وقال الزرقانيّ: رَقِي بفتح الراء، وكسر القاف، كصَعِد وزنًا ومعنًى، ومقتضى كلام ابن التين أن الرواية رَقَى بفتح القاف، فإنه قال: كذا وقع،

(1)

"تاج العروس" 1/ 8312.

(2)

"عمدة القاري" 3/ 43.

(3)

راجع: "تكملة فتح الملهم" 4/ 407.

(4)

"شرح الزرقانيّ" 4/ 387.

ص: 547

وصوابه رَقِيَ، على وزن عَلِمَ، ومعناه: صَعِد، قال تعالى:{أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ} [الإسراء: 93]، وأما رَقَى بفتح القاف، فمن الرَّقْية، وليس هذا موضعه، وخَرَّجه على لغة طيّء في مثل بَقِيَ يَبْقَى، ورَضِيَ يَرْضَى، يأتون بالفتحة مكان الكسرة، فتقلب الياء ألفًا، وهذا دأبهم في كل ما هو من هذا الباب. انتهى

(1)

.

قال في المصابيح: ولعل المقتضي لإيثار الفتح هنا إن صح: قصد المزاوجة بين رقى وسقى، وهي من مقاصدهم التي يعتمدون فيها تغيير الكلمة عن وضعها الأصلي.

(فَسَقَى الْكَلْبَ) زاد عبد الله بن دينار، عن أبي صالح:"حتى أرواه"؛ أي: جعله رَيّانًا، (فَشَكَرَ اللهُ لَهُ)؛ أي: أثنى عليه، أو قَبِل عمله، أو جازاه بفعله، وعلى الأخير فالفاء في قوله:(فَغَفَرَ لَهُ") تفسيرية، أو من عطف الخاصّ على العام، وقال القرطبيّ: معنى قوله: "فشكر الله له"؛ أي: أظهر ما جازاه به عند ملائكته، ووقع في رواية عبد الله بن دينار بدل "فغفر له":"فأدخله الجنة"، وكذا في رواية ابن حبان

(2)

.

وقال في "العمدة": قوله: "فشكر الله له" والشكر: هو الثناء على المحسن بما أَوْلاه من المعروف، يقال: شكرته، وشكرت له، وباللام أفصح، والمراد ههنا مجرد الثناء؛ أي: فأثنى الله تعالى عليه، أو المراد منه الجزاء؛ إذ الشكر نوع من الجزاء؛ أي: فجزاه الله تعالى.

فإن قلت: إدخال الجنة هو نفس الجزاء، فما معنى الثناء؟.

قلت: هو من باب عطف الخاصّ على العامّ، أو الفاء تفسيريّة، نحو قوله تعالى:{فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 54] على ما فُسِّر به من أن القتل كان نفس توبتهم.

فإن قلت: هذه القصة متى وقعت؟.

قلت: هذه من الوقائع التي وقعت في زمن بني إسرائيل، فلذلك قال: إن رجلًا، ولم يُسَمَّ. انتهى

(3)

.

(1)

"شرح الزرقانيّ" 4/ 388.

(2)

"الفتح" 6/ 174، كتاب "المساقاة" رقم (2363).

(3)

"عمدة القاري" 3/ 43.

ص: 548

(قَالُوا) مِن هؤلاء السائلين: سُراقة بن مالك بن جُعْشم، رواه أحمد، وابن ماجه، وابن حبان. (يَا رَسُولَ اللهِ، وَإِنَّ) بتقدير همزة الاستفهام، كما في الرواية الأخرى؛ أي: أوَ إنّ (لَنَا فِي هَذِهِ الْبَهَائِمِ لأَجْرًا؟)؛ أي: ثوابًا، قال في "الفتح": قوله: "وإن لنا" هو معطوف على شيء محذوف، تقديره: الأمر كما ذَكَرتَ، وإن لنا في البهائم؛ أي: في سقي البهائم، أو الإحسان إلى البهائم أجرًا؟ (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("فِي كُلِّ كَبِدٍ رَطْبَةٍ)"الكبد" بفتح الكاف، وكسر الموحّدة، ويجوز سكونها، وكسر الكاف، وسكون الموحّدة، رطبة برطوبة الحياة من جميع الحيوان، أو لأن الرطوبة لازمة للحياة، فيكون كناية عنها، أو هو من باب وَصْف الشيء باعتبار ما يؤول إليه، فيكون معناه في كل كبد حَرَّى لِمَن سقاها، حتى تصير رطبة. انتهى

(1)

.

وقال في "الفتح"؛ أي: في كل كبد حيّة، والمراد رطوبة الحياة، أو لأن الرطوبة لازمة للحياة، فهو كناية، ومعنى الظرفية هنا أن يقدَّر محذوف؛ أي: الأجر ثابت في إرواء كل كبد حيّة، والكبد يُذَكّر، ويُؤَنَّث، ويَحْتَمِل أن تكون "في" سببيةً، كقولك: في النفس الديةُ، قال الداوديّ: المعنى في كل كبد حيّ أجر، وهو عامّ في جميع الحيوان. انتهى.

وقوله: (أَجْرٌ") بالرفع مبتدأ قُدِّم خبره؛ أي: حاصل، وكائن في إرواء كل ذي كبد حية، ويَحْتَمِل أن تكون "في" سببيةً، كقولك: في النفس الديةُ، قال الداوديّ: المعنى في كل كبد حيّ، وهو عام في جميع الحيوان، قال الأُبّيّ: حتى الكافر، ويدل عليه قوله تعالى:{وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8)} [الإنسان: 8]؛ لأن الأسير إنما يكون في الأغلب كافرًا. انتهى

(2)

، والله تعالى أعلم.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

(1)

"شرح الزرقانيّ" 4/ 388.

(2)

"شرح الزرقانيّ" 4/ 388.

ص: 549

أخرجه (المصنّف) هنا [5/ 5845](2244)، و (البخاريّ) في "الوضوء"(173) و"المساقاة"(2363) و"المظالم"(2466) و"الأدب"(6009) وفي "الأدب المفرد"(378)، و (أبو داود) في "الجهاد"(2550)، و (مالك) في "الموطّأ"(2/ 929 - 930)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 375 و 517)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(543 و 544)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 185 و 8/ 14) و"شُعَب الإيمان"(3/ 219)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان أن الإساءة إلى البهائم والحيوان لا تجوز، وأن فاعلها يأثم فيها؛ لأن النصّ إذا ورد بأن في الإحسان إليهنّ أجرًا وحسنات، قام الدليل بأن في الإساءة إليهنّ وِزْرًا وذنوبًا، والله يعصم من يشاء، وهذا ما لا شك فيه، ولا مَدْفَع له، قاله ابن عبد البرّ رحمه الله

(1)

.

2 -

(ومنها): بيان جواز السفر منفردًا، وبغير زاد، ومحلّ ذلك في شرعنا ما إذا لم يَخَفْ على نفسه الهلاك.

3 -

(ومنها): الحثّ على الإحسان إلى الناس؛ لأنه إذا حصلت المغفرة بسبب سقي الكلب، فسَقْيُ المسلم أعظم أجرًا.

4 -

(ومنها): أنه استُدِلّ به على جواز صدقة التطوع للمشركين، وينبغي أن يكون محله ما إذا لم يوجد هناك مسلم، فالمسلم أحقّ، وكذا إذا دار الأمر بين البهيمة والآدميّ المحترَم، واستويا في الحاجة فالآدميّ أحقّ، والله أعلم.

5 -

(ومنها): الإحسان إلى كل حيوان بِسَقْيه، أو نحوه، وهذا في الحيوان المحترَم، وهو ما لا يؤمَر بقتله، ولا يناقض هذا ما أُمرنا بقتله، أو أبيح قتله، فإن ذلك إنما شُرع لمصلحة راجحة، ومع ذلك فقد أُمرنا بإحسان القِتْلة.

وقال أبو عبد الملك: هذا الحديث كان في بني إسرائيل، وأما الإسلام فقد أَمر بقتل الكلاب، وأما قوله:"في كل كبد" فمخصوص ببعض البهائم، مما لا ضرر فيه؛ لأن المأمور بقتله كالخنزير لا يجوز أن يُقَوَّى ليزداد ضرره،

(1)

"التمهيد" لابن عبد البرّ 22/ 8.

ص: 550

وكذا قال النوويّ أن عمومه مخصوص بالحيوان المحترم، وهو ما لم يؤمر بقتله، فيحصل الثواب بسقيه، ويلتحق به إطعامه، وغير ذلك من وجوه الإحسان إليه، وقال ابن التين: لا يمتنع إجراؤه على عمومه؛ يعني: فيُسْقَى، ثم يُقْتَل؛ لأنّا أُمرنا بأن نُحسن القِتْلة، ونُهينا عن المثلة. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي قاله ابن التين من إجراء الحديث على عمومه هو الحقّ؛ لوضوح حجته، والله تعالى أعلم.

6 -

(ومنها): أنه استُدِلّ به على طهارة سؤر الكلب، وتُعُقّب بأنه فِعل بعض الناس، ولا يُدْرَى هل هو كان ممن يُقتدَى به أم لا؟. وأجيب بأنّا لم نحتجّ بمجرد الفعل المذكور، بل على القول الراجح من أن شرع من قبلنا شرعٌ لنا، فإنا لا نأخذ بكل ما ورد عنهم، بل إذا ساقه إمام شرعنا مساق المدح، ولم يقيّده بقيد، أفاده في "الفتح"

(1)

، وسيأتي تحقيق القول في شرع من قبلنا في المسألة التالية - إن شاء الله تعالى -.

(المسألة الرابعة): في الحديث بيان واضح لمسألة مشهورة طال النزاع فيها، وهي أن شرع من قبلنا هل هو شرع لنا أم لا؟، فقد اختَلف أهل العلم في ذلك:

فذهب بعضهم إلى أنه ليس شرعًا لنا، واستدلوا على ذلك بأنه صلى الله عليه وسلم لَمّا بعث معاذًا رضي الله عنه إلى اليمن لم يُرشده إلا إلى العمل بالكتاب والسُّنَّة، ثم اجتهاد الرأي، وصحح هذا القول ابن حزم، واستدلوا أيضًا بقوله تعالى:{لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة: 48].

وذهب بعضهم إلى أنه شَرْع لنا إلا ما نُسخ منه، نقله ابن السمعاني عن أكثر الشافعية، وأكثر الحنفية، وطائفة من المتكلمين، قال ابن القشيريّ: هو الذي صار إليه الفقهاء، واختاره الرازيّ، وقال: إنه قول أصحابهم، وحكاه الأستاذ أبو منصور عن محمد بن الحسن، واختاره الشيخ أبو إسحاق، وابن الحاجب، قال ابن السمعاني: وقد أومأ إليه الشافعي في بعض كتبه، قال القرطبي: وذهب إليه معظم المالكية، قال القاضي عبد الوهاب: إنه الذي تقتضيه أصول مالك.

(1)

"الفتح" 6/ 174، كتاب "المساقاة" رقم (2363).

ص: 551

قال الجامع عفا الله عنه: هذ القول الثاني هو الحقّ، وحاصله أن شرع من قبلنا شرع لنا، لكن بشرط أن تتوافَر فيه ثلاثة أمور:

[الأول]: أن يثبُت أنه شرع لمن قبلنا بطريق صحيح، وهو الكتاب والسنّة الصحيحة، ولو كانت آحادًا، فإن ورد بطريق غير صحيح لم يكن شرعًا لنا بلا خلاف.

[الثاني]: أن لا يَرِد في شرعنا ما يؤيّده ويقرّره، فإن وَرَدَ في شرعنا ما يؤيّده كان شرعًا لنا بلا خلاف.

[الثالث]: أن لا يَرِد في شرعنا ما ينسخه ويُبطله، فإن ورد ذلك لم يكن شرعًا لنا بلا خلاف، ومن المعلوم أن ذلك لا يكون في أصول الدين، وأمور العقيدة؛ لأنه لا اختلاف بين الأنبياء في التوحيد.

والأدلّة لهذا المذهب كثيرة:

(منها): أن الله تعالى أنزل علينا هذا الكتاب العزيز لنعمل بكلّ ما دلّ عليه من الأحكام، سواء كان شرعًا لمن قبلنا، أم لا.

(ومنها): أن الله عز وجل ما قصّ علينا أخبار الماضين إلا لنعتبر بها، فنجتنب سبب هلاكهم، ونلتزم سبب نجاتهم.

والآيات الدّالّة على الاعتبار بأحوال الماضين كثيرة جدًّا، كقوله عز وجل:{وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (137)} [الصافات: 137، 138]، وقوله:{وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (76)} [الحجر: 76]، وقوله:{وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ} [الحجر: 79].

(ومنها): قوله عز وجل: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} الآية [المائدة: 45]، فإن ذلك مما استُدِلّ به في شرعنا على وجوب القصاص.

(ومنها): أنه صلى الله عليه وسلم لَمّا قال: "من نام عن صلاة أو نسيها، فليصلّها إذا ذَكرها"، قرأ قوله تعالى:(وأقم الصلاة للذِّكْرَى)، رواه مسلم، وهي مقولةٌ لموسى عليه السلام، وهذا من أوضح الأدلّة لهذه المسألة، ووجه ذلك أنه لو لم يكن شرع من قبلنا شرعًا لنا لَمَا استدلّ به صلى الله عليه وسلم على وجوب القضاء على الناسي، والنائم، ولَمَا كان لتلاوة الآية عند ذلك فائدة.

ص: 552

(ومنها): ما ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سجد في سورة {ص} وقرأ قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90]، رواه البخاريّ، فاستنبط التشريع من هذه الآية

(1)

.

(ومنها): حديث الباب، وهو متّفقٌ عليه، ووجه الدلالة منه أن الصحابة رضي الله عنهم فَهِموا أن النبيّ صلى الله عليه وسلم ما يريد بإخباره بمثل هذه القصص إلا أن يقتدوا بها، ويعملوا بمثلها، ولذلك "قالوا: وإن لنا في البهائم أجرًا؟ "، فأقرّهم على هذا الفهم، ولم يعارضهم فيه، بل أجابهم بقوله: "نعم"، فدلّ على أن شَرْع من قبلنا شَرْع لنا.

وقلت في "التحفة المرضيّة" مشيرًا إلى ما سبق:

وشَرْعُ مَنْ قَبْلُ ثَلَاثَةً يُرَى

شَرْعٌ لَنَا بِلَا خِلَافٍ قَدْ جَرَى

وَهُوَ مَا صَحَّ لَدَيْنَا شَرْعَا

وَعِنْدَهُمْ كَالصَّوْمِ خُذْهُ قَطْعَا

وَالثَّانِ مَا لَيْسَ لَنَا بِشَرْعِ

بِلَا خَلَافٍ بَيْنِ أَهْلِ الْقَطْعِ

وَهُوَ مَا لَيْسَ لَدَيْنَا مُثْبَتَا

كَوْنُهُ شَرْعَهُمْ بِنَقْلٍ ثَبَتَا

مِثْلُ الَّذِي نُقِلَ مِمَّا سَلَفَا

مِنْ كُتُبٍ تَحْرِيفُهُمْ لَهَا وَفَا

أَوْ هُوَ ثَابِتٌ وَلَكِنْ وُضِعَا

كَالإِصْرِ وَالأَغْلَالِ إِذْ قَدْ رُفِعَا

ثَالِثُهَا فِيهِ اخْتِلَافٌ مَا اشْتَمَلْ

عَلَى ثَلَاثَةِ ضَوَابِطَ اكْتَمَلْ

أَوَّلُهَا كَوْنُهُ شَرْعَ مَنْ سَبَقْ

ثَبَتَ بِالنَّصِّ الصَّحِيحِ فَاتَّسَقْ

وَثَانِهَا أَنْ لَا يَجِي فِي شَرْعِنَا

مُؤَيِّدٌ لَهُ وَإِلَّا شَرْعُنَا

ثَالِثُهَا أَنْ لَا يَجِي مَا يُبْطِلُهْ

فِي شَرْعِنَا فَإنْ يَجِي لَا نَقْبَلُهْ

فَذِي الضَّوَابِطُ إِذَا تَوَفَّرَتْ

بِهْ احْتِجَاجُ الأَكْثَرِينَ قَدْ ثَبَتْ

وَهْوَ الصَّوَابُ إِذْ إِلَاهُنَا عَلَا

مَا قَصَّ الاخْبَارَ سِوَى أَنْ نَعْمَلَا

كَذَلِكَ الرَّسُولُ لَمَّا أَخْبَرَا

عَنْ رَجُلٍ بِسَقِيِ كَلْبٍ أُجِرَا

سُئِلَ هَلْ نُؤْجَرُ فِي الْبَهَائِمِ

قَالَ نَعَمْ مُقَرِّرًا لِلْهَائِمِ

(2)

والله تعالى أعلم بالصواب.

(1)

راجع: "إرشاد الفحول" 2/ 256 - 260.

(2)

راجع: "المنحة الرضيّة في شرح التحفة المرضيّة" 2/ 211 - 222.

ص: 553

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5846]

(2245) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو خَالِدٍ الأَحْمَرُ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "أَنَّ امْرَأةً بَغِيًّا رَأَتْ كَلْبًا فِي يَوْمٍ حَارٍّ، يُطِيفُ بِبِئْرٍ، قَدْ أَدْلَعَ لِسَانَهُ مِنَ الْعَطَشِ، فَنَزَعَتْ لَهُ بِمُوقِهَا، فَغُفِرَ لَهَا").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أَبُو خَالِدٍ الأَحْمَرُ) سليمان بن حيّان الأزديّ الكوفيّ، صدوقٌ يُخطئ [8](ت 190) أو قبلها (ع) تقدم في "الإيمان" 5/ 120.

2 -

(هِشَامُ) بن حسّان الأزديّ الْقُردوسيّ، أبو عبد الله البصريّ، ثقةٌ من أثبت الناس في ابن سيرين [6](ت 7 أو 148)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 26.

3 -

(مُحَمَّدُ) بن سيرين الأنصاريّ مولاهم، أبو بكر بن أبي عمرة البصريّ، ثقةُ ثبتٌ فقيهٌ عابد، كبير القدر [3](ت 110)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 308.

والباقيان ذُكرا في الباب، وقبله ببابين.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وفيه ثلاثة اشتهروا بالكنية، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه سبق القول فيه قريبًا.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "أَنَّ امْرَأَةً) لم يُذكر اسمها، ولكن في الرواية التالية أنها من بني إسرائيل، (بَغِيًّا) بفتح الموحّدة، وكسر الغين المعجمة: هي الزانية، وتُطلق على الأَمَة مطلقًا، قاله في "الفتح".

وقال الفيّوميّ رحمه الله: بَغَتِ المرأةُ تَبْغِي بِغَاءً بالكسر، والمدّ: فَجَرَت، فهي بَغِيّ، والجمع بَغَايَا، وهو وصف مختصّ بالمرأة، ولا يقال للرجل: بَغِيٌّ، قاله الأزهريّ، والبَغِيُّ: الْقَيْنَةُ، وإن كانت عَفِيفةً؛ لثبوت الفجور لها في الأصل، قال الجوهريّ: ولا يراد به الشتم؛ لأنه اسم جُعِل كاللقب، والأَمَة تُبَاغِي؛

ص: 554

أي: تزاني. انتهى

(1)

.

وقال في "اللسان": وبَغَت الأمة تَبْغِي بَغْيًا، وباغت مَباغاةً، وبِغاءً بالكسر، والمدّ، وهي بَغِيّ، وبَغُوٌّ: عَهِرَت

(2)

، وزَنَت، وقيل: البَغِيّ الأمة فاجرةً كانت، أو غير فاجرة، وقيل: البغيّ أيضًا الفاجرة حُرّةً كانت أو أمة، وفي التنزيل العزيز:{وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} [مريم: 28]؛ أي: ما كانت فاجرةً، مثلُ قولهم: مِلْحَفةٌ جديدٌ، وأم مريم حرةٌ لا مَحالة، ولذلك عَمّ ثعلب بالبغاء، فقال: بغت المرأة، فلم يخص أمةً، ولا حرةً، وقال أبو عبيد: البغايا الإماء؛ لأنهن كنّ يفجرن، يقال: قامت على رؤوسهم البغايا؛ يعني: الإماء، الواحدة بَغِيّ، والجمع بَغايا، وقال ابن خالويه: البِغاء مصدر بَغَت المرأة بِغَاء: زنت، والبغاء مصدر باغت بِغاء: إذا زنت، والبِغاء جمع بَغِيّ، ولا يقال: بغيّة. انتهى

(3)

.

(رَأَتْ كَلْبًا فِي يَوْمٍ حَارٍّ) بتشديد الراء؛ أي: شديد الحرارة، (يُطِيفُ) بضمّ أوله، من أطاف، يقال: أطفت بالشيء: إذا أدمت المرور حوله، (بِبِئْرٍ) وفي الرواية التالية:"بركيّة"، وهو بمعناه. (قَدْ أَدْلَعَ لِسَانَهُ)؛ أي: أخرجه، قال المجد رحمه الله: دلع لسانه، كمنع: أخرجه، كأدلعه، فدَلَعَ هو، كمنع، ونصر دَلْعًا، ودُلُوعًا. انتهى

(4)

.

وقال ابن منظور رحمه الله: دَلَع الرجلُ لسانه، يَدْلَعه دَلْعًا، فاندلع، وأدلعه: أخرجه، جاءت اللغتان، وقيل: أدلع لغة قليلة، وأدلعه العطشُ، ودلَعَ اللسانُ نفسُهُ يَدْلَعُ دَلْعًا، ودُلُوعًا، يتعدّى، ولا يتعدَّى، واندلع: خرج من الفم، واسترخى، وسقط على الْعَنْفَقَة، كلسان الكلب. انتهى

(5)

.

وقوله: (مِنَ الْعَطَشِ) متعلّق بـ "أدلع"، و"من" للتعليل؛ أي: لأجل العطش، (فَنَزَعَتْ) من باب ضرب؛ أي: أخرجت (لَهُ)؛ أي: لأجل ذلك الكلب؛ لتسقيه (بِمُوقِهَا) وفي الرواية التالية: "فنزعت له موقها"، فنزع يتعدّى

(1)

"المصباح المنير" 1/ 57.

(2)

بكسر الهاء، من باب تَعِبَ.

(3)

"لسان العرب" 14/ 77.

(4)

"القاموس المحيط" ص 442.

(5)

"لسان العرب" 8/ 90.

ص: 555

بنفسه، وبالباء، قال في "التاج": ونَزَعَ الدَّلْوَ منَ البِئْرِ يَنْزِعُهَا نَزْعًا، ونَزَعَ بِهَا كِلاهُمَا: جَذَبَهَا بغَيْرِ قامَةٍ، وأخْرَجَها، أنْشَدَ ثَعْلَبٌ [من الرجز]:

قَدْ أنْزِعُ الدَّلْوَ تَقَطَّى بالمَرَسْ

تُوزِغُ منْ مَلْءٍ كإيْزاغِ الفَرَسْ

تَقَطِّيَها: خُروجُها قَليلًا قَليلًا، بغَيْرِ قامَةٍ، وأصْلُ النَّزْعِ: الجَذْبُ، والقَلْعُ، وفي الحديث:"رأيْتُنِي أنْزِعُ على قَليبٍ"؛ أي: رأيْتُنِي في المَنَام أسْتَقِي بيَدِي، يُقَالُ: نَزَعَ بالدَّلْوِ: إذا اسْتَقَى بها، وقَدْ عُلِّقَ فيهَا الرِّشاءُ. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن بما ذُكر أن "نَزَع" يتعدّى بنفسه، وبالباء، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

و"الموق" بضمّ الميم، وسكون الواو، بعدها قاف: هو الخفّ، وقيل: ما يُلبس فوق الخفّ، قاله في "الفتح".

وقال في "التاج": المُوق: خُفٌّ غليظٌ، يُلبَسُ فوقَ الخُفِّ، فارسيٌّ معرَّب، قال الصاغانيّ: وهو تعْريب مُوكه، هكذا قال والمشْهور: موزه. وقال ابنُ سيدَه: المُوقُ: ضرْبٌ من الخِفافِ جَمْعه: أمواقٌ، وهو عربيٌّ صحيح، قال النّمِرُ بنُ توْلَب [من الكامل]:

فتَرى النِّعاجَ بها تمَشّى خِلْفَةً

مشْيَ العِباديّين في الأمْواقِ

(2)

زاد في الرواية التالية: "فَاسْتَقَتْ لَهُ بِهِ، فَسَقَتْهُ إِيَّاهُ"، (فَغُفِرَ لَهَا") بالبناء للمفعول، وفي الرواية التالية:"فَغُفِرَ لَهَا بِهِ"؛ أي: غفر الله تعالى ذنبها بسبب سقيها ذلك الكلب، فرحمها الله تعالى كما رحِمته، أخرج الترمذيّ وأبو داود بسند صحيح، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض، يرحمكم من في السماء"، قال الترمذيّ: حديث حسنٌ صحيحٌ، والله تعالى أعلم.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

(1)

"تاج العروس" 1/ 5561.

(2)

"تاج العروس" 1/ 6589.

ص: 556

أخرجه (المصنّف) هنا [5/ 5846 و 5847](2245)، و (البخاريّ) في "بدء الخلق"(3321) و"أحاديث الأنبياء"(3467)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 507)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(386)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(10/ 423)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(8/ 14) وفوائده تقدّمت في الحديث الماضي، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5847]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ، عَنْ أَيُّوبَ السَّخْتِيَانِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "بَيْنَمَا كَلْبٌ يُطِيفُ بِرَكِيَّةٍ، قَدْ كَادَ يَقْتُلُهُ الْعَطَشُ، إِذْ رَأَتْهُ بَغِيٌّ مِنْ بَغَايَا بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَنَزَعَتْ مُوقَهَا

(1)

، فَاسْتَقَتْ لَهُ بِهِ، فَسَقَتْهُ إيَّاهُ، فَغُفِرَ لَهَا بِهِ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

وكلّهم ذُكروا في الباب، وقبل بابين

(2)

.

وقوله: (يُطِيفُ بِرَكِيَّةٍ) تقدّم أنه مِنْ أطاف رباعيًّا، لغة في طاف، و"الركيّة" - بفتح الراء، وكسر الكاف، وتشديد التحتانية -: البئر مَطْويّةً، أو غير مطوية، وغيرُ المطويّة يقال لها: جُبّ، وقَلِيب، ولا يقال لها: بئر حتى تُطْوَى، وقيل: الرَّكِيّ: البئر قبل أن تطوى، فإذا طُويت فهي الطَّوِيّ، قاله في "الفتح".

وقوله: (بَغِيٌّ) بفتح الباء الموحدة، وكسر الغين المعجمة، وتشديد الياء، وهي الزانية، وتُجمع على بغايا.

وقوله: (فَنَزَعَتْ مُوقَهَا) بضم الميم، وسكون الواو، وفي آخره قاف: هو الذي يُلبس فوق الخف، ووقع في بعض النُّسخ بلفظ:"جُرْموقها"، وهو لغة فيه، وجمعه جَرَاميق، مثل عُصفور وعصافير، وهو فارسي معرب

(3)

.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام البحث فيه قبله، ولله الحمد والمنّة.

(1)

وفي نسخة: "جرموقها".

(2)

فأبو الطاهر وابن وهب ذُكرا قبل الباب ببابين، وجرير بن حازم في الباب الذي قبلهما.

(3)

"عمدة القاري 16/ 54، بزيادة من "المصباح".

ص: 557

‌42 - (كِتَابُ الأَلْفَاظِ، مِنَ الأَدَبِ، وَغَيْرِهِ)

(1) - (بَابُ النَّهْيِ عَنْ سَبِّ الدَّهْرِ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5848]

(2246) - (حَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ سَرْحٍ، وَحَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، قَالَا: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، حَدَّثَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "قَالَ اللهُ عز وجل: يَسُبُّ ابْنُ آدَمَ الدَّهْرَ، وَأنَا الدَّهْرُ، بِيَدِيَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

وقد تقدّم السند نفسه قبل بابين.

شرح الحديث:

(عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) محمد بن مسلم الزهريّ، أنه قال:(أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بن عوف (قَالَ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "قَالَ اللهُ عز وجل: يَسُبُّ ابْنُ آدَمَ الدَّهْرَ) ولفظ البخاريّ: "بنو آدم الدهر". قال في "الفتح": قوله: "قال الله: يسبّ بنو آدم الدهر. . . إلخ" هذه رواية يونس بن يزيد، عن الزهريّ، ورواية معمر بعدها بلفظ:"ولا تقولوا: يا خيبة الدهر، فإن الله هو الدهر"، وأوله:"لا تُسمّوا العنب الكرم".

وقد اختُلف على معمر في شيخ الزهريّ، فقال عبد الأعلى بن عبد الأعلى: عن معمر، عنه، عن أبي سلمة، وقال عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهريّ، عن سعيد بن المسيِّب، عن أبي هريرة، ولفظه:"قال الله: يؤذيني ابن آدم، يقول: يا خيبة الدهر. . ." الحديث، أخرجه مسلم، وهكذا قال

ص: 558

سفيان ابن عيينة، عن الزهريّ، عن سعيد، أخرجه أحمد، عنه، ولفظه:"يؤذيني ابن آدم، يسبّ الدهر، وأنا الدهر، بيدي الأمر، أُقَلِّب الليل والنهار"، وهكذا أخرجه مسلم وغيره، من رواية سفيان بن عيينة.

قال ابن عبد البرّ: الحديثان للزهريّ عن أبي سلمة، وعن سعيد بن المسيِّب جميعًا صحيحان.

وقال النسائيّ: كلاهما محفوظ، لكن حديث أبي سلمة أشهرهما.

ولعبد الرزاق فيه عن معمر إسناد آخر، أخرجه مسلم أيضًا من طريقه، فقال: عن أيوب، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة، بلفظ:"لا يسب أحدكم الدهر، فإن الله هو الدهر، ولا يقولنّ أحدكم للعنب: الكرم. . ." الحديث، وأخرجه أحمد من رواية همام، عن أبي هريرة، بلفظ:"لا يقل ابن آدم: يا خيبة الدهر، إني أنا الدهر، أُرسل الليل والنهار، فإذا شئت قبضتهما".

وأخرجه مالك في "الموطأ" عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، بلفظ:"لا يقولنّ أحدكم. . ."، والباقي مثل رواية عبد الأعلى عن معمر، لكن وقع في رواية يحيى بن يحيى الليثيّ عن مالك في آخره:"فإن الدهر هو الله"، قال ابن عبد البرّ: خالف جميع الرواة عن مالك، وجميع رواة الحديث مطلقًا، فإن الجميع قالوا:"فإن الله هو الدهر"، وأخرجه أحمد من وجه آخر، عن أبي هريرة، بلفظ:"لا تسبوا الدهر، فإن الله قال: أنا الدهر، الأيام والليالي لي، أُجدّدها، وأُبليها، وآتي بملوك بعد ملوك"، وسنده صحيح. انتهى

(1)

.

(وَأَنَا الدَّهْرُ، بِيَدِيَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ") قال النوويّ رحمه الله: قوله: "وأنا الدهر" برفع الراء، هذا هو الصواب المعروف الذي قاله الشافعيّ، وأبو عبيد، وجماهير المتقدمين والمتأخرين، وقال أبو بكر، ومحمد بن داود الأصبهانيّ الظاهريّ: إنما هو الدهرَ بالنصب، على الظرف؛ أي: أنا مُدّة الدهر، أقلب ليله، ونهاره، وحكى ابن عبد البرّ هذه الرواية عن بعض أهل العلم، وقال النحاس: يجوز النصب؛ أي: فإن الله باقٍ مقيم أبدًا لا يزول، قال القاضي:

(1)

"الفتح" 14/ 51 - 52، كتاب "الأدب" رقم (6181).

ص: 559

قال بعضهم: هو منصوب على التخصيص، قال: والظرف أصحّ وأصوب، أما رواية الرفع وهي الصواب، فموافقة لقوله:"فإن الله هو الدهر"، قال العلماء: وهو مجازٌ، وسببه أن العرب كان شأنها أن تسبّ الدهر عند النوازل، والحوادث، والمصائب النازلة بها، من موت، أو هرم، أو تلف مال، أو غير ذلك، فيقولون: يا خيبة الدهر، ونحو هذا من ألفاظ سبّ الدهر، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"لا تسبوا الدهر، فإن الله هو الدهر"؛ أي: لا تسبوا فاعل النوازل، فإنكم إذا سَبَبْتم فاعلها وقع السبّ على الله تعالى؛ لأنه هو فاعلها، ومنزلها، وأما الدهر الذي هو الزمان فلا فِعل له، بل هو مخلوق من جملة خلق الله تعالى، ومعنى فإن الله هو الدهر: أي: فاعل النوازل، والحوادث، وخالق الكائنات، والله أعلم. انتهى

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "فإني أنا الدَّهر" الرواية الصحيحة المشهورة فيه برفع الدَّهرُ؛ على أنه خبر "إن" إن جعلنا "أنا" فضلًا، وإن جعلناها مبتدأ؛ فهو خبره، وقد قيّدها بعض الناس:"الدَّهر" بالنصب؛ على أن تكون ظرفًا يعمل فيه "أُقَلِّبُ"، فكأنه قال: أنا طولَ الدَّهر أُقلِّب الليل والنهار، ويكون "أُقلِّب" هو الخبر، والذي حَمَله على ذلك خوف أن يقال: إن الدَّهر من أسماء الله تعالى، وهذا عدول عمَّا صحَّ إلى ما لم يصح؛ مخافةَ ما لا يصح، فإنَّ الرواية الصحيحة عند أهل التحقيق بالضم، ولم يَرْوِ الفتح من يُعتمد عليه، ولا يلزم من ثبوت الضم أن يكون الدَّهر من أسماء الله تعالى؛ لأن أسماء الله تعالى لا بدَّ فيها من التوقيف عليها، أو استعمالها استعمال الأسماء من الكثرة والتكرار، فيخبر به، وعنه، وينادى به، كما اتَّفق في سائر أسماء الله تعالى؛ كالغفور، والشكور، والعليم، والحليم، وغير ذلك من أسمائه، فإنك تجدها في الشريعة، وفي لسان أهلها، تارة يخبر بها، وأخرى يخبر عنها، وأخرى يُدعى، ويُنادى بها، ولم يوجد للدَّهر شيء من ذلك، فلا يكون اسمًا من أسمائه تعالى، ثمَّ لو سُلِّم أن النصب يصح في ذلك اللفظ على ذلك الوجه، فلا يصح شيء من ذلك في الرِّواية التي قال فيها: "لا تسبُّوا الدَّهر، فإنَّ الله

(1)

"شرح النوويّ" 15/ 3 - 4.

ص: 560

هو الدَّهر"، ولم يذكر: "أقلِّب الليل والنهار"، ولا يصح أن يقال: إن هذه الرواية مطلقة، والأولى مقيَّدة؛ لأنَّا إن صرنا إلى ذلك لزم نصب "الدَّهر" بعامل محذوف ليس في الكلام ما يدلّ عليه، ولزم حذف الخبر، ولا دليل عليه. وكل ذلك باطل من اللسان قطعًا، وإذا ثبت ذلك، فاعلم: أنه لمّا كان اعتقاد الجاهلية أن الدَّهر هو الذي يفعل الأفعال، ويذمُّونه إذا لم تحصل أغراضهم، أعلمهم النبيّ صلى الله عليه وسلم أن الله هو الذي يفعل كل شيء، فإذا سبُّوا الدَّهر من حيث إنه الفاعل، ولا فاعل إلا الله، فكأنَّهم سبُّوا الله تعالى، فلذلك قال الله تعالى: "يسبُّ ابن آدم الدَّهر، وأنا الدَّهر"؛ أي: أنا الذي أفعل ما ينسبونه للدَّهر، لا الدَّهر، فإنَّه ليل ونهار، وأنا أقلّبهما؛ أي: أتصرف فيهما بالإطالة، والإقصار، والإضاءة، والإظلام، وفيه تنبيه على أن ما يُفعل، ويُتصرَّف فيه لا يصلح لأن يَفعل، وهذا المعنى هو الذي عبَّر عنه الحكماء بقولهم: ما له طبيعة عدميَّة يستحيل أن يفعل فعلًا حقيقيًّا، والله تعالى أعلم. انتهى

(1)

.

وقال في "الفتح": معنى النهي عن سبّ الدهر أن من اعتقد أنه الفاعل للمكروه، فسبَّه أخطأ، فإن الله هو الفاعل، فإذا سَبَبْتم من أنزل ذلك بكم رجع السب إلى الله.

قال: ومحصَّل ما قيل في تأويله ثلاثة أوجه:

أحدها: أن المراد بقوله: "إن الله هو الدهر"؛ أي: المدبِّر للأمور.

ثانيها: أنه على حَذْف مضاف؛ أي: صاحب الدهر.

ثالثها: التقدير: مُقَلِّب الدهر، ولذلك عقّبه بقوله:"بيدي الليل والنهار".

ووقع في رواية زيد بن أسلم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، بلفظ:"بيدي الليل والنهار، أُجَدِّده، وأُبليه، وأذْهَبُ بالملوك"، أخرجه أحمد.

وقال المحققون: من نسب شيئًا من الأفعال إلى الدهر حقيقةً كفر، ومن جرى هذا اللفظ على لسانه غير معتقد لذلك، فليس بكافر، لكنه يُكره له ذلك؛ لِشَبَهه بأهل الكفر في الإطلاق، وهو نحو التفصيل الماضي في قولهم:"مُطِرنا بكذا".

(1)

"المفهم" 5/ 548 - 549.

ص: 561

وقال عياض: زعم بعض من لا تحقيق له أن الدهر من أسماء الله تعالى، وهو غلط، فإن الدهر مدة زمان الدنيا، وعرّفه بعضهم بأنه أمد مفعولات الله في الدنيا، أو فعِله لِمَا قبل الموت.

وقد تمسَّك الجهلة من الدهرية، والمعطلة، بظاهر هذا الحديث، واحتجوا به على من لا رسوخ له في العلم؛ لأن الدهر عندهم حركات الفلك، وأمد العالم، ولا شيء عندهم، ولا صانع سواه، وكفى في الردّ عليهم قوله في بقية الحديث:"أنا الدهر، أُقَلِّب ليله، ونهاره"، فكيف يقلب الشيء نفسه؟ تعالى الله عن قولهم علوًّا كبيرًا.

وقال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة: لا يخفى أن من سبّ الصنعة فقد سبّ صانعها، فمن سبّ نَفْس الليل والنهار، أقدم على أمر عظيم بغير معنى، ومن سبَّ ما يجري فيهما من الحوادث، وذلك هو أغلب ما يقع من الناس، وهو الذي يعطيه سياق الحديث، حيث نفى عنهما التأثير، فكأنه قال: لا ذنب لهما في ذلك، وأما الحوادث فمنها ما يجري بوساطة العاقل المكلف، فهذا يضاف شرعًا ولغة إلى الذي جرى على يديه، ويضاف إلى الله تعالى؛ لكونه بتقديره، فأفعال العباد من أكسابهم، ولهذا ترتبت عليها الأحكام، وهي في الابتداء خَلْق الله، ومنها ما يجري بغير وساطة، فهو منسوب إلى قدرة القادر، وليس لليل والنهار فعل، ولا تأثير، لا لغةً، ولا عقلًا، ولا شرعًا، وهو المعنى في هذا الحديث، ويلتحق بذلك ما يجري من الحيوان غير العاقل، ثم أشار بأن النهي عن سبِّ الدهر تنبيه بالأعلى على الأدنى، وأن فيه إشارةً إلى ترك سبِّ كل شيء مطلقًا، إلا ما أَذِن الشرع فيه؛ لأن العلة واحدة، والله أعلم. انتهى ملخصًا

(1)

، والله تعالى أعلم.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

(1)

"الفتح" 14/ 51 - 52، كتاب "الأدب" رقم (6181).

ص: 562

أخرجه (المصنّف) هنا [1/ 5848 و 5849 و 5850 و 5851 و 5852](2246)، و (البخاريّ) في "الأدب"(6181 و 6182)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(6/ 457)، و (مالك) في "الموطّأ"(2/ 984)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 272 و 318 و 394)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5713 و 5714)، و (الطبريّ) في "تفسيره"(25/ 152)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(3/ 365) وفي "الأسماء والصفات"(1/ 247)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(3388)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان النهي عن سبّ الدهر.

2 -

(ومنها): بيان أن الأمر كلّه بيد الله تعالى يتصرّف فيه كيف يشاء، وأنه لا دخل لشيء سواه، لا الدهر، ولا غيره، فمن زعم ذلك فقد افترى على الله كذبًا، تعالى الله عما يقولون علوًّا كبيرًا.

3 -

(ومنها): ما قال في "الفتح": واستُنبط منه مَنْع الحيلة في البيوع، كالعينة؛ لأنه نُهِي عن سب الدهر لِمَا يؤول إليه من حيث المعنى، وجَعْله سبًّا لخالقه. انتهى

(1)

.

4 -

(ومنها): ما قال أبو عمر بن عبد البرّ: المعنى عند جماعة العلماء في هذا الحديث أنه ورد نهيًا عن ما كان أهل الجاهلية يقولونه من ذمّ الدهر وسبّه لِما ينزل من المصائب في الأموال والأنفس، وكانوا يضيفون ذلك إلى الدهر، ويسبّونه، ويذمونه بذلك، على أنه الفاعل ذلك بهم، وإذا وقع سبُّهم على من فعل ذلك بهم وقع على الله عز وجل، فجاء النهي عن ذلك تنزيهًا لله تعالى، وإجلالًا له؛ لِمَا فيه من مضارعة سب الله، وذمه، تعالى الله عما يقول الجاهلون علوًّا كبيرًا.

قال امرؤ القيس [من الطويل]:

أَلَا إِنَّمَا ذَا الدَّهْرُ يَوْمٌ وَلَيْلَةُ

وَلَيْسَ عَلَى شَيْءٍ قَوِيمٍ بِمُسْتَمِرّْ

قال: وهو شيء لم يكن يَسْلَم منه أحد، ولم ينه عنه إلا من عصمه الله عز وجل

(1)

"الفتح" 14/ 51 - 52، كتاب "الأدب" رقم (6181).

ص: 563

بتوفيقه، ويسّره للعمل بعلمه، بل هو كثير جارٍ في الإسلام، كما كان في الجاهلية يذم الدهر مرةً، ويذم الزمان تارةً، وتذم الليالي والأيام مرةً، وتذم الدنيا أيضًا، وكل ذلك لا يجوز على معنى ما وصفنا، وبالله التوفيق، إلا أن أهل الإيمان إذا ذموا الدهر والزمان، لم يقصدوا بذلك إلا الدهر على قبيح ما يُرى منه، كما قال حكيم من شعرائهم [من الوافر]:

يَذُمُّ النَّاسُ كُلُّهُمُ الزَّمَانَا

وَمَا لِزَمَانِنَا عَيْبٌ سِوَانَا

نَذُمُّ زَمَانَنَا وَالْعَيْبُ فِينَا

وَلَوْ نَطَقَ الزَّمَانُ بِنَا هَجَانَا

وقد أورد أبو عمر في "الاستذكار" هنا أشعارًا كثيرة من هذا القبيل، ثم قال: وقد أنشدنا في "التمهيد" أشعارًا كثيرة من أشعار الجاهلية، وأشعارًا أيضًا كثيرةً إسلاميةً، فيها ذم الزمان، وذم الدنيا، وذم الدهر، إلا أن المؤمن الموحد العالم بالتوحيد ينزِّه الله سبحانه وتعالى عن كل سوء، ينوي ذلك، ويعتقده، فإن جرى على لسانه شيء على عادة الناس استغفر الله، وراجع الحقّ، وراضَ نفسه عن العودة إليه، كما قال بعض الفضلاء العقلاء [من البسيط]:

يَا دَهْرُ وَيْحَكَ مَا أَبْقَيْتَ لِي أَحَدًا

وَأَنْتَ وَالِدُ سَوْءٍ تَأْكُلُ الَوَلَدَا

أَسْتَغْفِرُ اللهَ بَلْ ذَا كُلُّهُ قَدَرٌ

رَضِيتُ بِاللهِ رَبًّا وَاحِدًا صَمَدَا

لَا شَيْءَ يَبْقَى سِوَى خَيْرٍ تُقَدِّمُهُ

مَا دَامَ مِلْكٌ لإِنْسَانٍ وَلَا خَلَدَا

والأشعار في هذا أكثر من أن يحيط بها كتاب لو أُفرد لها، وأكثر ما يَعني المسلمُ إذا ذم دهره، ودنياه، وزمانه، خَتْل الزمان، وأهله، وسلطانه.

والأصل في هذا المعنى في الإسلام وأهله قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الدنيا ملعونة، ملعون ما فيها، إلا ما كان لله، أو آوى إلى الله".

وأما أهل الجاهلية فإنهم كانوا منهم دهرية زنادقة، لا يعقلون، ولا يعرفون الله، ولا يؤمنون، وفي قريش منهم قوم وصفهم أهل الأخبار، كَرِهتُ ذكرهم، وقد حَكَى الله تعالى عنهم، أو عن بعضهم قولهم:{مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} [الجاثية: 24].

قال أبو عمر: قال أئمة العلماء معنى ما ذكرنا، ثم أخرج بسنده عن الشافعيّ قال في قول الله عز وجل:{وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} [الجاثية: 24]، وقولَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تسبوا الدهر، فإن الله عز وجل هو

ص: 564

الدهر" قال الشافعيّ: تأويل ذلك - والله أعلم - أن العرب كان شأنها أن تسب الدهر، وتذمه عند المصائب التي تنزل بهم من موت، أو هدم، أو ذهاب مال، أو غير ذلك من المصائب، وتقول: أصابتنا قوارع الدهر، وأبادهم الدهر، والليل والنهار يفعل ذلك بهم، فيذمون الدهر بذلك، ويسبّونه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تسبوا الدهر" على أنه الذي يفعل بكم ذلك، فإنكم إذا سببتم فاعل ذلك وقع سبّكم على الله عز وجل، فهو الفاعل لذلك كله، وهو فاعل الأشياء، ولا شيء إلا ما شاء الله العليّ العظيم. انتهى كلام ابن عبد البرّ رحمه الله

(1)

، وهو بحث مفيدٌ جدًّا، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5849]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَاهُ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَابْنُ أَبِي عُمَرَ - وَاللَّفْظُ لِابْنِ أَبِي عُمَرَ - قَالَ إِسْحَاقُ: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ ابْنُ أَبِي عُمَرَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "قَالَ اللهُ عز وجل: يُؤْذِينِي ابْنُ آدَمَ، يَسُبُّ الدَّهْرَ، وَأَنَا الدَّهْرُ، أُقَلِّبُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

وبعضهم ذُكروا في الباب، وبعضم تقدّم قريبًا.

و"إسحاق" هو ابن راهويه، و"سفيان" هو ابن عيينة.

وقوله: (يُؤْذِينِي ابْنُ آدَمَ) قال القرطبيّ رحمه الله؛ أي: يخاطبني من القول بما يتأذى به من يصحُّ في حقه التأذي، لا أن الله تعالى يتأذى؛ لأنَّ التأذي ضرر، وأَلَمٌ، والله تعالى منزَّه عن ذلك، وهذا يجري مجرى ما جاء من محاربة الله ومخادعته، وهذه كلها توسعات يُفهم منها: أن من يعامل الله تعالى بتلك المعاملات تعرَّض لعقاب الله تعالى، ولمؤاخذته الشديدة، فليحذر ذلك.

ويراد بابن آدم هنا: أهل الجاهلية، ومن جرى مجراهم؛ ممن يُطْلِقُ هذا اللفظ، ولا يتحرز منه، فإنَّ الغالب من أحوال بني آدم إطلاق نسبة الأفعال إلى الدَّهر، فيذمُّونه، ويُسفِّهونه إذا لم تحصل لهم أغراضهم، ويمدحونه إذا حصلت

(1)

"الاستذكار" 8/ 553.

ص: 565

لهم، وأكثر ما يُوجد ذلك في كلام الشعراء والفصحاء، ولا شكَّ في كفر من نسبَ تلك الأفعال، أو شيئًا منها للدَّهر حقيقة، واعتقد ذلك، وأما من جرت هذه الألفاظ على لسانه، ولا يعتقد صحة تلك، فليس بكافر، ولكنه قد تشبَّه بأهل الكفر، وبالجاهلية في الإطلاق، وقد ارتكب ما نهاه رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه. فَلْيتُب، وليستغفر الله تعالى، والدَّهر، والزمان، والأبد كلها بمعنى، وهو راجع إلى حركات الفلك؛ وهي: الليل والنهار. انتهى

(1)

.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام البحث فيه، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5850]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "قَالَ اللهُ عز وجل يُؤْذِينِي ابْنُ آدَمَ، يَقُولُ: يَا خَيْبَةَ الدَّهْرِ، فَلَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ: يَا خَيْبَةَ الدَّهْرِ، فَإِنِّي أنَا الدَّهْرُ، أُقَلِّبُ لَيْلَهُ وَنَهَارَهُ، فَإِذَا شِئْتُ قَبَضْتُهُمَا").

رجال هذا الإسناد: ستةٌ:

وكلّهم ذُكروا في الباب، وقبل باب.

وقوله: (فَلَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ: يَا خَيْبَةَ الدَّهْرِ) وفي رواية البخاريّ: "ولا تقولوا: خيبة الدهر"، وفي غير البخاريّ:"واخيبة الدهر". "الخيبة" بفتح الخاء المعجمة، وإسكان التحتانية، بعدها موحّدة: الحرمان، وهي بالنصب على النُّدبة، كأنه فقد الدهر لِمَا يصدر عنه مما يكرهه، فنَدَبه مُتَفَجِّعًا عليه، أو مُتَوَجِّعًا منه، وقال الداوديّ: هو دعاء على الدهر بالخيبة، وهو كقولهم: قحط الله نوءها، يَدْعُون على الأرض بالقحط، وهي كلمة هذا أصلها، ثم صارت تقال لكل مذموم، ووقع في رواية العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة عند أحمد بلفظ:"وا دهراه، وا دهراه"

(2)

.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله، ولله الحمد والمنّة.

(1)

"المفهم" 5/ 547 - 548.

(2)

"الفتح" 14/ 52، كتاب "الأدب" رقم (6181).

ص: 566

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5851]

(. . .) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا الْمُغِيرَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ: يَا خَيْبَةَ الدَّهْرِ، فَإِنَّ اللهَ هُوَ الدَّهْرُ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

وقد تقدّم السند نفسه قبل بابين.

وقوله: (لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ) بنون التوكيد الثقيلة.

وقوله: (يَا خَيْبَةَ الدَّهْرِ) بمعجمة، وموحّدة مفتوحتين، بينهما تحتية ساكنة، وهي الحرمان، والخسران.

وقوله: (فَإِنَّ اللهَ هُوَ الدَّهْرُ")؛ أي: المدبِّر للأمور، الفاعلُ ما تنسبونه إلى الدهر، من جَلْب الحوادث، ودَفْعها، كان شأن الجاهلية ذمّ الدهر عند الحوادث، أو عدم حصول المطلوب، فقال ذلك ردًّا لاعتقادهم.

وفي رواية: "فإن الدهر هو الله"

(1)

؛ أي: فإن جالب الحوادث، ومتوليها هو الله، لا غيره.

وقيل: إنه على حذف مضاف؛ أي: صاحب الدهر؛ أي: الخالق له، وقيل: تقديره: مقلِّب الدهر، ولذا عقّبه بقوله في رواية:"بيدي الله الليل والنهار"، فمعنى النهي عن سبّه: أن من اعتقد أنه فاعل للمكروه فسبَّه أخطأ، فإن الله هو الفاعل، فإذا سبّه رجع إلى الله. انتهى

(2)

.

والحديث سبق الكلام فيه، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5852]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ هِشَامٍ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا تَسُبُّوا الدَّهْرَ، فَإِن اللهَ هُوَ الدَّهْرُ").

(1)

ذكر ابن عبد البرّ هذه الرواية في "الاستذكار" 8/ 550.

(2)

"شرح الزرقانيّ" 4/ 514.

ص: 567

رجال هذا الإسناد: خمسة:

وقد ذُكروا في الباب، وقبله، و"زهير بن حرب" تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله، ولله الحمد والمنّة.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(2) - (بَابُ كَرَاهِيَةِ تَسْمِيَةِ الْعِنَبِ كَرْمًا)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5853]

(2247) - (حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ الشَّاعِرِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا يَسُبُّ أَحَدُكُمُ الدَّهْرَ، فَإِنَّ اللهَ هُوَ الدَّهْرُ، وَلَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ لِلْعِنَبِ: الْكَرْمَ، فَإِنَّ الْكَرْمَ الرَّجُلُ الْمُسْلِمُ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

وقد تقدّموا في الأبواب الثلاثة الماضية، إلا شيخه، فتقدّم قريبًا.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا يَسُبُّ أَحَدُكُمُ الدَّهْرَ، فَإِنَّ اللهَ هُوَ الدَّهْرُ) تقدّم البحث فيه مستوفًى في الباب الماضي، ولله الحمد. (وَلَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ لِلْعِنَبِ: الْكَرْمَ، فَإِنَّ الْكَرْمَ الرَّجُلُ الْمُسْلِمُ") قال العلماء: سبب كراهة ذلك أن لفظة الكَرْم كانت العرب تُطلقها على شجر العنب، وعلى العنب، وعلى الخمر المتخذة من العنب، سَمَّوها كرمًا؛ لكونها متخذة منه، ولأنها تَحمل على الكرَم والسخاء، فكَرِه الشرع إطلاق هذه اللفظة على العنب، وشجره؛ لأنهم إذا سمعوا اللفظة ربما تذكروا بها الخمر، وهَيَّجت نفوسهم إليها، فوقعوا فيها، أو قاربوا ذلك، وقال: إنما يستحقّ هذا الاسم الرجل المسلم، أو قلب المؤمن؛ لأن الكَرْم مشتقّ من الكرَم بفتح الراء، وقد قال الله تعالى:{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13]،

ص: 568

فسُمِّي قلب المؤمن كَرْمًا؛ لِمَا فيه من الإيمان، والهدي، والنور، والتقوى، والصفات المستحقّة لهذا الإسم، وكذلك الرجل المسلم، قال أهل اللغة: يقال: رجلٌ كَرْمٌ، باسكان الراء، وامرأة كَرْمٌ، ورجلان كَرْمٌ، ورجال كَرْمٌ، وامرأتان كَرْمٌ، ونسوة كَرْمٌ، كله بفتح الراء، وإسكانها، بمعنى كريم، وكريمان، وكِرامٌ، وكريمات، وصفٌ بالمصدر، كضيف، وعَدْل، ذكره النوويّ

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: إنما سَمَّت العرب العنب بالكرم؛ لكثرة حَمْله، وسهولة قطافه، وكثرة منافعه، وأصل الكرم: الكثرة، والكريم من الرجال هو: الكثير العطاء، والنفع. يقال: رجل كريم، وكرام لمن كان كذلك. وكرّام؛ لمن كثر منه ذلك، وهي للمبالغة. ويقال أيضًا: رجل كَرَم - بفتح الرَّاء -، وامرأة كرم، ورجال كرم، ونساء كرم، وصفٌ بالمصدر على حدِّ: عدل، وزور، وفطر.

وإنما نهى النبيّ صلى الله عليه وسلم عن تسمية العنب بالكَرْم؛ لأنَّه لمّا حُرِّم الخمر عليهم، وكانت طباعهم تحثهم على الكَرَم، كره أن يُسمَّى هذا المحرَّم باسم يهيّج طباعهم إليه عند ذِكره، فيكون ذلك كالمحرِّك على الوقوع في المحرَّمات، قاله أبو عبد الله المازريّ.

قال القرطبيّ: وفيه نظر؛ لأن محل النَّهي إنَّما هو تسمية العنب بالكَرْم، وليست العنبة محرَّمة، وإنما المحرَّمة الخمر، ولم يُسمَّ الخمر عنبًا حتى ينهى عنه، وإنَّما العنب هو الذي سُمي خمرًا باسم ما يؤول إليه من الخمرية، كما قال تعالى:{إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا} [يوسف: 36]، وقول أبي عبد الله: كره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُسمَّى هذا المحرَّم باسم يهيج الطباع إليه؛ ليس بصحيح؛ لأنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم لم ينه عن تسمية المحرَّم الذي هو الخمر بالعنب في هذا الحديث، بل عن تسمية العنب بالكرم، فتأمله. وإنما محمل الحديث عندي محمل قوله صلى الله عليه وسلم:"ليس المسكين بالطَّواف عليكم"، و"ليس الشديد بالصُّرعة، وإنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب"؛ أي: الأحق باسم الكرم المسلم، أو قلب المسلم، وذلك لِمَا حواه من العلوم، والفضائل، والأعمال

(1)

"شرح النوويّ" 15/ 4 - 5.

ص: 569

الصالحات، والمنافع العامة، فهو أحق باسم الكريم والكرم من العنب. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(1)

، وهو بحث نفيسٌ، والله تعالى أعلم.

وقال البخاريّ رحمه الله في "صحيحه": "باب قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: إنما الكرم قلب المؤمن"، وقد قال:"إنما المفلس الذي يُفلس يوم القيامة"، كقوله:"إنما الصُّرَعة الذي يملك نفسه عند الغضب"، كقوله:"لا مَلِكَ إلا الله"، فوَصَفه بانتهاء المُلك، ثم ذكر الملوك أيضًا، فقال:{إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا} [النمل: 34].

قال الحافظ: غَرَض البخاريّ أن الحصر ليس على ظاهره، وإنما المعنى أن الأحق باسم الكرم قلب المؤمن، ولم يُرِد أن غيره لا يسمى كرمًا، كما أن المراد بقوله:"إنما المفلس" من ذَكَر، ولم يرد أن من يفلس في الدنيا لا يسمى مفلسًا، وبقوله:"إنما الصُّرَعةُ" كذلك، وكذا قوله:"لا مَلِك إلا الله" لم يُرِد أنه لا يجوز أن يسمى غيره مَلِكًا، وإنما أراد المَلِك الحقيقيّ، وإن سُمّي غيره مَلِكًا، واستشهد لذلك بقوله تعالى:{إِنَّ الْمُلُوكَ} ، وفي القرآن من ذلك عدة أمثلة، كقوله تعالى:{وَقَالَ الْمَلِكُ} [يوسف: 43] في صاحب يوسف وغيره. انتهى

(2)

.

وقال في "الفتح" عند قوله: "ويقولون: الكرمُ، إنما الكرم قلب المؤمن"، هكذا وقع في هذه الرواية من طريق سفيان بن عيينة، قال: حدّثنا الزهريّ، عن سعيد، ووقع في رواية معمر، عن الزهريّ، عن أبي سلمة، بلفظ:"لا تُسَمُّوا العنبَ كَرْمًا"، وهي رواية ابن سيرين، عن أبي هريرة عند مسلم، وعنده من طريق همام، عن أبي هريرة:"لا يقل أحدكم للعنب: الكرم، إنما الكرم الرجل المسلم"، وله من حديث وائل بن حجر:"لا تقولوا: الكرم، ولكن قولوا: الْعِنَب، والْحَبَلَة".

وقال في "العمدة": قوله: "ويقولون: الكرمُ" بالرفع مبتدأ، وخبره محذوف، تقديره: يقولون: الكرم شجر العنب، ويجوز أن يكون الكرم خبر

(1)

"المفهم" 5/ 550 - 551.

(2)

"الفتح" 14/ 54، كتاب "الأدب" رقم (6183).

ص: 570

مبتدأ محذوف، تقديره: ويقولون: شجر العنب الكرم، وكأن الواو فيه عاطفة على شيء محذوف، تقديره: لا يقولون الكرم قلب المؤمن، ويقولون: الكرم شجر العنب، وقد رواه ابن أبي عمر في "مسنده" عن سفيان بغير واو، وكذا رواه الإسماعيليّ من طريقه. انتهى

(1)

.

وقد أخرج الطبرانيّ، والبزار من حديث سمرة، رفعه:"إن اسم الرجل المؤمن في الكتب: الكرمُ، من أجل ما أكرمه الله على الخليقة، وإنكم تَدْعُون الحائط من العنب الكرم. . ." الحديث.

قال الخطابيّ رحمه الله ما مُلَخَّصه: إن المراد بالنهي تأكيد تحريم الخمر بمحو اسمها، ولأن في تبقية هذا الاسم لها تقريرًا لِمَا كانوا يتوهّمونه مِن تكرّم شاربها، فنُهي عن تسميتها كرمًا، وقال:"إنما الكرم قلب المؤمن"؛ لِمَا فيه من نور الإيمان، وهدى الإسلام، وحَكَى ابن بطال عن ابن الأنباريّ أنهم سَمُّوا العنب كرمًا؛ لأن الخمر المتخذة منه تَحُثُّ على السخاء، وتأمر بمكارم الأخلاق، حتى قال شاعرهم:

وَالْخَمْرُ مُشْتَقَّةُ الْمَعْنَى مِنَ الْكَرَمِ

وقال آخر:

شُقِقْتُ مِنَ الصَّبِيِّ وَاشْتُقَّ مِنِّي

كَمَا اشْتُقَّتْ مِنَ الْكَرَمِ الْكُرُومُ

فلذلك نَهَى عن تسمية العنب بالكرم، حتى لا يسموا أصل الخمر باسم مأخوذ من الكرم، وجَعَل المؤمن الذي يَتقي شربها، ويرى الكرم في تركها أحقّ بهذا الاسم. انتهى.

وأما قول الأزهريّ: سُمِّي العنب كرمًا؛ لأنه ذُلِّل لقاطفه، وليس فيه شوك يَعقر جانيه، ويَحْمِل الأصل منه مثل ما تحمل النخلة، فأكثر، وكل شيء كَثُر فقد كَرُم، فهو صحيح أيضًا من حيث الاشتقاق، لكن المعنى الأول أنسب للنهي.

وقال النوويّ: النهي في هذا الحديث عن تسمية العنب كرمًا، وعن تسمية شجرها أيضًا للكراهية.

(1)

"عمدة القاري" 22/ 204.

ص: 571

وحَكَى القرطبيّ عن المازريّ أن السبب في النهي أنه لمّا حُرّمت عليهم الخمر، وكانت طباعهم تحثهم على الكرم، كَرِهَ صلى الله عليه وسلم أن يسمى هذا المحرم باسم يُهيج طباعهم إليه عند ذِكره، فيكون ذلك كالمحرك لهم.

وتعقبه بأن محل النهي إنما هو تسمية العنب كرمًا، وليست العنبة محرمة، والخمر لا تسمى عنبة، بل العنب قد يسمى خمرًا باسم ما يؤول إليه.

قال الحافظ: والذي قاله المازري موجَّه؛ لأنه يُحْمَل على إرادة حسم المادة بترك تسمية أصل الخمر بهذا الاسم الحسن، ولذلك ورد النهي تارةً عن العنب، وتارة عن شجرة العنب، فيكون التنفير بطريق الفحوى؛ لأنه إذا نُهِي عن تسمية ما هو حلال في الحال بالاسم الحسن؛ لِمَا يحصل منه بالقوّة مما يُنهى عنه، فلأن يُنهى عن تسمية ما يُنهى عنه بالاسم الحسن أحرى. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [2/ 5853 و 5854 و 5855 و 5856 و 5857](2247)، و (البخاريّ) في "الأدب"(6182)، و (أبو داود) في "الأدب"(4974)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(20937)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 272 و 316 و 464 و 476 و 509)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 382)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(11/ 220)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5830 و 5832 و 5833 و 5834)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(3385 و 3388)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان النهي عن تسمية العنب بالكَرْم، قال القرطبيّ رحمه الله: هذا النهي على جهة الإرشاد؛ لِمَا هو الأَولى في الإطلاق، كما قال صلى الله عليه وسلم: "لا

(1)

"الفتح" 14/ 54، كتاب "الأدب" رقم (6183).

ص: 572

تغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم العشاء، فإنها في كتاب الله العشاء، وإنَّها تُعتِم بحلاب الإبل"، قال: "وتقول الأعراب: هي العتمة"، فمعنى هذا - والله أعلم -: أن تسمية هذه الصلاة بالعشاء أَولى من تسميتها بالعتمة، لا أن إطلاق اسم العتمة عليها ممنوع، فإنَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قد أطلق عليها اسم العتمة لَمّا قال: "ولو يعلمون ما في العتمة والصبح لأتوهما ولو حبوًا"، والله تعالى أعلم. انتهى

(1)

.

2 -

(ومنها): بيان سبب النهي عن ذلك، وهو أن هذا الوصف الشريف لا يليق أن يسمى به إلا قلب المؤمن؛ لِمَا جمع من الإيمان، والإخلاص، والتقوى والورع، وغيرها من الصفات الحميدة، قال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة رحمه الله ما ملخَّصه: لمّا كان اشتقاق الكَرْم من الكَرَم، والأرض الكريمة هي أحسن الأرض، فلا يليق أن يعبَّر بهذه الصفة إلا عن قلب المؤمن الذي هو خير الأشياء، لأن المؤمن خير الحيوان، وخير ما فيه قَلْبه؛ لأنه إذا صلح صلح الجسد كله، وهو أرض لنبات شجرة الإيمان.

3 -

(ومنها): ما قاله ابن بطّال رحمه الله: يؤخذ من هذا الحديث ترك المبالغة، والإغراق في الوصف، إذا كان الموصوف لا يستحقّ ذلك.

4 -

(ومنها): ما قال الشيخ ابن أبي جمرة رحمه الله: يؤخذ من الحديث أن كل خير باللفظ، أو المعنى، أو بهما، أو مشتقًّا منه، أو مسمى به إنما يضاف بالحقيقة الشرعية للإيمان وأهله، وإن أضيف إلى ما عدا ذلك، فهو بطريق المجاز.

5 -

(ومنها): ما قاله أيضًا: في تشبيه الكرم بقلب المؤمن معنى لطيفٌ؛ لأن أوصاف الشيطان تجري مع الكَرْمة كما يجري الشيطان في بني آدم مجرى الدم، فإذا غفل المؤمن عن شيطانه، أوقعه في المخالفة، كما أن من غفل عن عصير كَرْمه تخمَّر، فتنجَّس، ويقوّي التشبهَ أيضًا أن الخمر يعود خلًا من ساعته بنفسه، أو بالتخليل، فيعود طاهرًا، وكذا المؤمن يعود من ساعته بالتوبة

(1)

"المفهم" 5/ 551 - 552.

ص: 573

النصوح طاهرًا من خبث الذنوب المتقدمة التي كان متنجسًا

(1)

باتصافه بها، إما بباعث من غيره، من موعظة ونحوها، وهو كالتخليل، أو بباعث من نفسه، وهو كالتخلُّل، فينبغي للعاقل أن يتعرض لمعالجة قلبه؛ لئلا يهلك، وهو على الصفة المذمومة. انتهى كلام ابن أبي جمرة رحمه الله

(2)

، وهو بحث جيّدٌ، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5854]

(. . .) - (حَدَّثَنَا عَمْرٌو النَّاقِدُ، وَابْنُ أَبِي عُمَرَ، قَالَا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا تَقُولُوا: كَرْمٌ، فَإِنَّ الْكَرْمَ قَلْبُ الْمُؤْمِنِ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

وتقدّموا في الباب الماضي، و"عمرو الناقد" تقدّم قريبًا.

والحديث متّفقٌ عليه، وتقدّم شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5855]

(. . .) - (حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ هِشَامٍ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا تُسَمُّوا الْعِنَبَ الْكَرْمَ، فَإِنَّ الْكَرْمَ الرَّجُلُ الْمُسْلِمُ

(3)

").

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الإسناد تقدّم قبل حديثين.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى البحث فيه، ولله الحمد.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5856]

(. . .) - (حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حَفْصٍ، حَدَّثَنَا وَرْقَاءُ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا يَقُولَنَّ

(4)

أَحَدُكُمُ: الْكَرْمُ، فَإِنَّمَا الْكَرْمُ قَلْبُ الْمُؤْمِنِ").

(1)

هذا على القول بنجاسة الخمر، وقد تقدّم أنه مختلَف فيه، والله تعالى أعلم.

(2)

"بهجة النفوس" 4/ 180، و"الفتح" 14/ 54، كتاب "الأدب" رقم (6183).

(3)

وفي نسخة: "فإن الكرم المسلم".

(4)

وفي نسخة: "لا يقول".

ص: 574

رجال هذا الإسناد: ستّةٌ:

1 -

(عَلِيُّ بْنُ حَفْصٍ) المدائنيّ، نزيل بغداد، صدوقٌ [9](م د ت س) تقدم في "المقدمة" 3/ 8.

2 -

(وَرْقَاءُ) بن عمر اليشكريّ، أبو بشر الكوفيّ، نزيل المدائن، ثقة في غير منصور بن المعتمر، ففيه لينٌ [7](ع) تقدم في "الصلاة" 31/ 999.

والباقون ذُكروا في الباب الماضي.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى البحث فيه مستوفًى، ولله الحمد والمنّة.

[5857]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا ابْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ، قَالَ: هَذَا مَا حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَ أَحَادِيثَ مِنْهَا، وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ لِلْعِنَبِ: الْكَرْمَ، إِنَّمَا الْكَرْمُ الرَّجُلُ الْمُسْلِمُ").

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الإسناد نفسه تقدّم قبل بابين.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5858]

(2248) - (حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ خَشْرَمٍ، أَخْبَرَنَا عِيسَى - يَعْنِي: ابْنَ يُونُسَ - عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ وَائِلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا تَقُولُوا: الْكَرْمُ، وَلَكِنْ قُولُوا: الْحَبَلَةُ"؛ يَعْنِي: الْعِنَبَ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عَلِيُّ بْنُ خَشْرَمٍ) المروزيّ، ثقةٌ من صغار [10](ت 257) أو بعدها، وقد قارب المائة (م ت س) تقدم في "المقدمة" 4/ 25.

2 -

(عِيسَى بْنُ يُونُسَ) بن أبي إسحاق السَّبِيعيّ الكوفيّ، نزل الشام مرابطًا، ثقةٌ مأمونٌ [8](ت 187 أو 191)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 28.

3 -

(شُعْبَةُ) بن الحجّاج الإمام الشهير، تقدّم قريبًا.

4 -

(سِمَاكُ بْنُ حَرْبِ) بن أوس بن خالد الذّهليّ البكريّ، أبو المغيرة

ص: 575

الكوفيّ، صدوقٌ مضطرب في حديث عكرمة خاصّة، وتغيّر بآخره، فربّما تلقّن [4](ت 123)(خت م 4) تقدم في "الإيمان" 64/ 365.

5 -

(عَلْقَمَةُ بْنُ وَائِلٍ) بن حُجر الحضرميّ الكوفيّ، صدوقٌ، سمع من أبيه [3](م 4) تقدم في "الإيمان" 64/ 365.

6 -

(أَبُوهُ) وائل بن حُجر بن سعد بن مسروق الحضرميّ، الصحابيّ الجليل، كان من ملوك اليمن، ثم سكن الكوفة، (ز م 4) تقدم في "الإيمان" 64/ 365.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالكوفيين، سوى شيخه، فمروزيّ، وشعبة، فبصريّ، وفيه رواية الابن عن أبيه، علقمة عن وائل، وقد ثبت سماعه من أبيه، فما قاله في "التقريب": إنه لم يسمع من أبيه، فخطأ، وإنما الذي لم يسمع من أبيه فهو أخوه عبد الجبّار، لا هو، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ وَائِلٍ، عَنْ أَبِيهِ) وائل بن حُجْر رضي الله عنه (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) أنه (قَالَ: "لَا) ناهية، ولذا جُزم بها قوله:(تَقُولُوا: الْكَرْمُ)؛ أي: للعنب، (وَلَكِنْ قُولُوا: الْحَبَلَةُ") قال في "التاج": الحَبَلُ مُحرَّكةً: شَجَرُ العِنَبِ واحِدَتُه حَبَلةٌ، ورُّبما سُكِّنَ، وفي "الصِّحاح": الحَبَلَةُ أيضًا بالتحريك: القَضِيبُ مِن الكَرم، ورّبما جاء بالتَّسكين، وفي "التهذيب": قال اللَّيثُ: يُقال للكَرمة: حَبَلَةٌ، قال: وأيضًا طاقٌ مِن قُضْبان الكَرم. وقال الأصمَعِيّ: الجَفْنَةُ: الأَصْل مِن أُصول الكَرم، وجَمعُها الجَفْنُ وهي الحَبلَةُ بفتح الباء. انتهى

(1)

.

وقال المناويّ: الْحَبْلةُ بفتح الباء، وقد تسكن

(2)

: هي أصل شجرة العنب، والعنبةُ تُطلق على الثمر، والشجر، والمراد هنا الشجر، ولذلك سمّته العرب كَرْمًا؛ ذهابًا إلى أن الخمر تُكْسِب شاربها كَرَمًا، فلمّا حرم الخمر نهاهم عن ذلك؛ تحقيرًا لها، وتذكيرًا لتحريمها، وبَيَّن لهم أن الكرم هو قلب

(1)

"تاج العروس" 1/ 6962.

(2)

قال في "القاموس": الْحَبَلُ محرّكةً: شجر العنب، وربّما سُكّن. انتهى.

ص: 576

المؤمن؛ لأنه معدن التقوى، لا الخمر المؤدي إلى اختلال العقل، وفساد الرأي، وإتلاف المال

(1)

.

وقال في "الفتح": الْحَبَلَة - بفتح المهملة، وحُكِيَ ضمها، وسكون الموحّدة، وبفتحها أيضًا، وهو أشهر -: هي شجرة العنب، وقيل: أصل الشجرة، وقيل: القضيب منها، وقال في "المحكم": الحبل - بفتحتين -: شجر العنب، الواحدة حَبَلة، وبالضم، ثم السكون: الكرم، وقيل: الأصل من أصوله، وهو أيضًا اسم ثمر السَّمُر، والعِضَاه. انتهى

(2)

.

وقال ابن منظور: قال الأَزهريّ: وتفسير هذا - والله أَعلم - أن الكَرَمَ الحقيقيّ هو من صفة الله تعالى، ثم هو من صفة مَنْ آمن به، وأَسلم لأَمره، وهو مصدرٌ يُقام مُقام الموصوف، فيقال: رجل كَرَمٌ، ورجلان كرَم، ورجال كرَم، وامرأَة كرَم، لا يُثَنَّى، ولا يُجمع، ولا يؤَنث؛ لأنه مصدر أُقيمَ مُقام المنعوت، فخَفَّفَت العرب الكَرْم، وهم يريدون كَرَمَ شجرة العنب؛ لِمَا ذُلِّل من قُطوفه عند اليَنْع، وكَثُرَ من خيره في كل حال، وأَنه لا شوك فيه يُؤْذي القاطف، فنهى النبيّ صلى الله عليه وسلم عن تسميته بهذا الاسم؛ لأَنه يُعتصر منه المسكر المنهيّ عن شربه، وأَنه يغيّر عقل شاربه، ويورث شربُه العداوة والبَغْضاء، وتبذير المال في غير حقه، وقال: الرجل المسلم أَحقّ بهذه الصفة من هذه الشجرة.

وقال بعضهم: سُمّي الكَرْمُ كَرْمًا؛ لأَن الخمر المتخذة منه تَحُثُّ على السخاء والكَرَم، وتأْمر بمَكارِم الأَخلاق، فاشتقوا له اسمًا من الكَرَم للكرم الذي يتولد منه؛ فكره النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يسمى أَصل الخمر باسم مأْخوذ من الكَرَم، وجَعَل المؤْمن أَوْلى بهذا الاسم الحَسن، وأَنشد:

والخَمْرُ مُشتَقَّةُ المَعْنَى من الكَرَمِ

وكذلك سميت الخمر راحًا؛ لأَنَّ شاربها يَرْتاح للعَطاء؛ أي: يَخِفُّ. وقال الزمخشريّ: أَراد صلى الله عليه وسلم أن يقرّر، ويسدِّد ما في قوله عز وجل: {إِنَّ

(1)

"فيض القدير على الجامع الصغير" للمناويّ 6/ 417.

(2)

"الفتح" 14/ 54، كتاب "الأدب" رقم (6183).

ص: 577

أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] بطريقة أَنِيقة، ومَسْلَكٍ لَطِيف، وليس الغرض حقيقة النهي عن تسمية العنب كَرْمًا، ولكن الإشارة إلى أَن المسلم التقيّ جدير بأَن لا يُشارَك فيما سماه الله به، وقوله:"فإنما الكَرْمُ الرجل المسلم"؛ أي: إنما المستحقّ للاسم المشتقِّ من الكَرَمِ الرَّجلُ المسلم.

وفي الحديث: "إنَّ الكَريمَ ابنَ الكريمِ ابنِ الكريم، يُوسُفُ بن يعقوب بن إسحاق"؛ لأَنه اجتمع له شَرَف النبوة، والعِلم، والجَمال، والعِفَّة، وكَرَم الأَخلاق، والعَدل، ورِياسة الدنيا والدين، فهو نبيٌّ ابن نبيٍّ ابن نبيٍّ ابن نبي رابع أربعة في النبوة، ذكره ابن منظور رحمه الله

(1)

.

وقوله: (يَعْنِي: الْعِنَبَ) العناية من بعض الرواة، ولم يتبيّن لي من هو؟، وأراد به تفسير معنى قوله:"لا تقولوا: الكرم"؛ يعني: أن النهي عن لفظ الكرم ليس مطلقًا، بل إذا كان مستعمَلًا للعنب، والله تعالى أعلم.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث وائل بن حُجْر رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [2/ 5858 و 5859](2248)، و (البخاريّ) في "الأدب المفرد"(795)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 118)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5831)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(22/ 14)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(5/ 108)، و (البيهقيّ) في "شُعَب الإيمان"(4/ 311)، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5859]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِيهِ زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سِمَاكٍ، قَالَ: سَمِعْتُ عَلْقَمَةَ بْنَ وَائِلٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا تَقُولُوا: الْكَرْمُ، وَلَكِنْ قُولُوا: الْعِنَبُ، وَالْحَبَلَةُ").

(1)

"لسان العرب" 12/ 510.

ص: 578

رجال هذا الإسناد: ستّةٌ:

1 -

(عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ) بن فارس العبديّ البصريّ، بخاريّ الأصل، ثقةٌ [9](ت 209)(ع) تقدم في "الإيمان" 79/ 417.

والباقون ذُكروا قبله.

والحديث من أفراد المصنّف رحمه الله، وقد سبق شرحه، ومسألتاه في الحديث الماضي، ولله الحمد.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(3) - (بَابُ حُكْمِ إِطْلَاقِ لَفْظَةِ الْعَبْدِ، وَالأَمَةِ، وَالْمَوْلَى، وَالسَّيِّدِ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5860]

(2249) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، وَقُتَيْبَةُ، وَابْنُ حُجْرٍ، قَالُوا: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ - وَهُوَ ابْنُ جَعْفَرٍ - عَنِ الْعَلَاءِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ عَبْدِي، وَأَمَتِي، كُلُّكُمْ عَبِيدُ اللهِ، وَكُلُّ نِسَائِكُمْ إِمَاءُ اللهِ، وَلَكِنْ لِيَقُلْ: غُلَامِي، وَجَارِيَتِي، وَفَتَايَ، وَفَتَاتِي").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ) المقابريّ، أبو زكريّاء البغداديّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(ابْنُ حُجْرٍ) عليّ بن حجر السعديّ المروزيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

3 -

(إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرِ) بن أبي كثير الأنصاريّ المدنيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

4 -

(الْعَلَاءُ) بن عبد الرحمن الْحُرَقيّ المدنيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

5 -

(أَبُوهُ) عبد الرحمن بن يعقوب الحرقيّ المدنيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

والباقيان ذُكرا قبل باب.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه ثلاثة من الشيوخ قرن بينهم؛ لاتّحاد كيفيّة التحمّل والأداء، فكلهم سمعوا من لفظ العلاء مع جماعة، ولذا قالوا: حدّثنا العلاء، وأنه مسلسل بالمدنيين من العلاء، وفيه رواية الراوي عن أبيه، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه سبق القول فيه قريبًا.

ص: 579

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ عَبْدِي، وَأَمَتِي) لأن حقيقة العبودية إنما يستحقها الله تعالى، (كلُّكُمْ عَبِيدُ اللهِ، وَكُلُّ نِسَائِكُمْ إِمَاءُ اللهِ، وَلَكِنْ لِيَقُلْ: غُلَامِي، وَجَارِيَتِي، وَفَتَايَ، وَفَتَاتِي") هما بمعنى الشابّ والشابة؛ بناءً على الغالب في الْخَدَم، أو القويّ، والقوية، ولو باعتبار ما كان

(1)

.

وقال في "شرح السُّنَّة": قيل: إنما منع أن يقول: ربي؛ لأن الإنسان مربوب، مُتَعَبَّدٌ بإخلاص التوحيد، فكره المضاهاة بالاسم؛ لئلا يدخل في معنى الشرك، والعبد والحرّ فيه بمنزلة واحدة، ولم يمنع العبد أن يقول: سيّدي، ومولاي؛ لأن مرجع السيادة إلى معنى الرئاسة له، وحسن التدبير لأمره، ولذلك سُمّي الزوج سيّدًا، وقيل في كراهة هذه الأسماء: هو أن يقول ذلك على طريق التطاول على الرقيق، والتحقير لشأنه، وإلا فقد جاء به القرآن، قال تعالى:{وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النور: 32]، وقال:{عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} [النحل: 75]، وقال:{اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} [يوسف: 42]، وقال أيضًا:{سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ} [يوسف: 25]، ومعنى هذا راجع إلى البراءة من الكِبْر، والتزام الذلّ، والخضوع، فلم يحسن لأحد أن يقول: فلان عبدي، بل يقول: فتاي، وإن كان قد مَلَك فتاه؛ ابتلاءً، وامتحانًا من الله تعالى لخلقه، كما قال تعالى:{وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً} [الفرقان: 20]، وعلى هذا امتحان الله تعالى أنبياءه، وأولياءه، ابتلى يوسف عليه السلام بالرقّ. انتهى

(2)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: هذا كله من باب الإرشاد إلى إطلاق اسم الأَولى؛ لا أن إطلاق ذلك الاسم محرَّم، ألا ترى قول يوسف صلى الله عليه وسلم:{اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} [يوسف: 42] و {ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ} [يوسف: 50]، و {إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ} [يوسف: 23]، وقول النبيّ صلى الله عليه وسلم:"أن تلد الأمة ربَّها، وربَّتها"! فكأن محل النهي في هذا الباب ألا تُتَّخذ هذه الأسماء عادة، فيُترك الأَولى،

(1)

"عون المعبود" 13/ 219.

(2)

"الكاشف عن حقائق السُّنن" 10/ 3088.

ص: 580

والأحسن، قال ابن شعبان في "الزاهي": لا يقل السَّيد: عبدي، وأمتي، ولا يقل المملوك: ربِّي، ولا ربَّتي، قال القاضي عياض: ولم ينه عنه نهي وجوبٍ، وحظرٍ، بل نهي أدبٍ، وحضٍّ، ثم خاطبهم أحيانًا بما فُهم عنهم من صحة استعمالهم له في لغتهم، وعلى غير الوجه المذموم، وقد تقدَّم أنه يقال على المالك والسَّيد: ربٌّ، وأن أصله مِنْ رَبَّ الشيءَ والولد، يربُّه، وربَّاه، يُرَبِّيه: إذا قام عليه بما يُصلحه، ويُكمِّله، فهو ربٌّ، ورابٌّ، ولمّا كان ابتداءُ التربية، وكمالها من الله تعالى بالحقيقة، لا من غيره، كان الأَولى بالإنسان أن لا يَنْسُب تربية نفسه إلا إلى مَن إليه الربوبية الحقيقية، وهو الله تعالى، فإنْ فَعَل ذلك؛ كان متجوِّزًا في اللفظ، مخالفًا للأَولى، كما تقدَّم. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [3/ 5860 و 5861 و 5862 و 5863](2249)، و (البخاريّ) في "العتق"(2552) وفي "الأدب المفرد"(209 و 795)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(6/ 69) و"عمل اليوم والليلة"(241 و 242)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 444 و 463 و 484 و 496)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(11/ 391)، و (البيهقيّ) في "شُعَب الإيمان"(6/ 370)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان النهي عن قول الإنسان: عبدي، وأمتي، ولكن يقول: غلامي، وفتاي، وفتاتي، وجاريتي، قال القرطبيّ رحمه الله: أمره أن يقول هذه الألفاظ دون ما قبلها؛ لأن هذه تنطلق على الحر والعبد، وليس فيها من معنى الملك، ولا من التعاظم شيء مما في: عبدي، وأمتي، وأصل الفُتُوّة:

(1)

"المفهم" 5/ 552 - 553.

ص: 581

الشباب، وهو الفتاء - بالمد - ثم قد استُعْمِل الفتى فيمن كَمُلت فضائله، ومكارمه، كما قالوا: لا فتًى إلا عليٌّ، قال: ومن هذا أخذ الصُّوفيَّة الفتوّة المتعارفة بينهم، وأصل الغلوميَّة في بني آدم، وهي للصغير، فينطلق على الصغير اسم غلام من حين يولد إلى أن يبلغ، فينقطع عنه ذلك الاسم، وكذلك الجارية في النِّساء. انتهى

(1)

.

2 -

(ومنها): ما قال النوويّ رحمه الله: قال العلماء: مقصود الأحاديث شيئان: أحدهما: نهي المملوك أن يقول لسيده: ربي؛ لأن الربوبية إنما حقيقتها لله تعالى؛ لأن الربّ هو المالك، أو القائم بالشيء، ولا يوجد حقيقةُ هذا إلا في الله تعالى.

فإن قيل: فقد قال النبيّ صلى الله عليه وسلم في أشراط الساعة: "أن تلد الأمة ربتها، أو ربها".

فالجواب من وجهين: أحدهما: أن الحديث الثاني لبيان الجواز، وأن النهي في الأول للأدب، وكراهة التنزيه، لا للتحريم.

والثاني: أن المراد: النهي عن الإكثار من استعمال هذه اللفظة، واتخاذها عادةً شائعةً، ولم ينه عن إطلاقها في نادر من الأحوال، واختار القاضي هذا الجواب، ولا نهي في قول المملوك: سيدي؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "وليقل: سيدي"؛ لأن لفظة السيد غير مختصة بالله تعالى اختصاصَ الربّ، ولا مستعملة فيه كاستعمالها حتى نقل القاضي عن مالك أنه كَرِهَ الدعاء بسيدي، ولم يأت تسمية الله تعالى بالسيد في القرآن، ولا في حديث متواتر، وقد قال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"إن ابني هذا سيد"، و"قوموا إلى سيدكم"؛ يعني: سعد بن معاذ، وفي الحديث الآخر:"اسمعوا ما يقول سيدكم"؛ يعني: سعد بن عُبادة، فليس في قول العبد: سيدي إشكال، ولا لَبْسٌ؛ لأنه يستعمله غير العبد والأمة، ولا بأس أيضًا أن يقول العبد لسيده: مولاي، فإن المولى وقع على ستة عشر معنى، سبق بيانها، منها: الناصر، والمالك.

قال الجامع عفا الله عنه: قوله: "على ستّة عشر معنى" بل هي واحد

(1)

"المفهم" 5/ 554.

ص: 582

وعشرون معنى، وقد تقدّم أنْ ذَكَرْتُها نظمًا، فلا تَنْسَ، والله تعالى وليّ التوفيق.

قال: الثاني: يكره للسيد أن يقول لمملوكه: عبدي، وأمتي، بل يقول: غلامي، وجاريتي، وفتاي، وفتاتي؛ لأن حقيقة العبودية إنما يستحقها الله تعالى، ولأن فيها تعظيمًا بما لا يليق بالمخلوق استعماله لنفسه، وقد بيَّن النبيّ صلى الله عليه وسلم العلة في ذلك، فقال:"كلكم عبيد الله"، فنهى عن التطاول في اللفظ، كما نهى عن التطاول في الأفعال، وفي إسبال الإزار، وغيره، وأما غلامي، وجاريتي، وفتاي، وفتاتي، فليست دالة على الْمِلك؛ كدلالة عبدي، مع أنها تُطلق على الحرّ، والمملوك، وإنما هي للاختصاص، قال الله تعالى:{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ} [الكهف: 60]، وقال:{لِفِتْيَانِهِ} [يوسف: 62]، وقال:{إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ} [الكهف: 13]، {قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ} [الأنبياء: 60]، وأما استعمال الجارية في الحرّة الصغيرة فمشهور معروف في الجاهلية، والإسلام، والظاهر أن المراد بالنهي مِن استعماله على جهة التعاظم، والارتفاع، لا للوصف، والتعريف، والله تعالى أعلم. انتهى

(1)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5861]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ: عَبْدِي، فَكُلُّكُمْ عَبِيدُ اللهِ، وَلَكِنْ لِيَقُلْ: فَتَايَ، وَلَا يَقُلِ الْعَبْدُ

(2)

: رَبِّي، وَلَكِنْ لِيَقُلْ: سَيِّدِي").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

كلهم ذُكروا في الباب، وقبل باب، غير "الأعمش"، فقد تقدّم قريبًا، و"جرير" هو: ابن عبد الحميد.

وقوله: (وَلَا يَقُلِ الْعَبْدُ: رَبِّي، وَلَكِنْ لِيَقُلْ: سَيِّدِي)، قال

(1)

"شرح مسلم" 15/ 6 - 7.

(2)

وفي نسخة: "ولا يقول العبد".

ص: 583

القرطبيّ رحمه الله: إنما فرَّق بينهما؛ لأن الربَّ من أسماء الله تعالى المستعملة بالاتفاق، واختُلف في السَّيِّد: هل هو من أسماء الله تعالى، أم لا؟ فإذا قلنا: ليس من أسمائه، فالفرق واضح؛ إذ لا التباس، ولا إشكال يلزم من إطلاقه، كما يلزم من إطلاق الرَّبِّ، وإذا قلنا: إنه من أسمائه؛ فليس في الشهرة والاستعمال كلفظ الربِّ؛ فيحصل الفرق بذلك، وأما من حيث اللغة: فالربُّ مأخوذٌ مما ذكرناه، والسَّيِّد من السؤدد، وهو التقدُّم، يقال: ساد قومه: إذا تقدَّمهم، ولا شكَّ في تقدُّم السَّيِّد على غلامه، فلما حصل الافتراق جاز الإطلاق. انتهى

(1)

.

[تنبيه]: إذا أطلق "ربّ" على غير الله تعالى، فإنما يُطلق مضافًا، فيقال: ربُّ الدَّار، وربُّ الفرس، ولا يُطلق، وفيه الألف واللام إلا إذا أريد به الله تعالى، قاله الجوهري، وغيره

(2)

.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام البحث فيه في الحديث الماضي، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5862]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ (ح) وَحَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الأَشَجُّ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، كِلَاهُمَا عَنِ الأَعْمَشِ، بِهَذَا الإِسْنَادِ، وَفِي حَدِيثِهِمَا:"وَلَا يَقُلِ الْعَبْدُ لِسَيِّدِهِ: مَوْلَايَ"، وَزَادَ فِي حَدِيثِ أَبي مُعَاوِيَةَ:"فَإِنَّ مَوْلَاكُمُ اللهُ عز وجل").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(أَبُو سَعِيدٍ الأَشَجُّ) عبد الله بن سعيد بن حُصين الكنديّ الكوفيّ، ثقةٌ، من صغار [10](ت 257)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 17.

والباقون كلهم تقدّموا قريبًا.

وقوله: (وَلَا يَقُلِ الْعَبْدُ لِسَيِّدِهِ: مَوْلَايَ. . . إلخ) قال القاضي عياض رحمه الله: وأما قوله في كتاب مسلم في رواية وكيع، وأبي معاوية، عن الأعمش، عن

(1)

"المفهم" 5/ 554.

(2)

"المفهم" 5/ 554.

ص: 584

أبي صالح، عن أبي هريرة، رفعه:"ولا يقل العبد لسيده: مولاي"، فقد اختَلَف الرواة عن الأعمش في ذِكر هذه اللفظة، فلم يذكرها عنه آخرون، وحَذْفُها أصحّ، والله أعلم. انتهى

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: وقوله: "ولا يقل أحدُكم: ربِّي، وليقل: سيِّدي، ومولاي": هذا اللفظُ متفقٌ عليه عند أكثر الرواة، وفي رواية أبي سعيدٍ الأشجِّ، وأبي معاوية عن الأعمش مرفوعًا:"ولا يقل العبدُ لسيِّده: مولاي"، وانفرد أبو معاوية، فزاد:"وإن الله مولاكم"، وقد رواه عن الأعمش جرير، ولم يذكر ذلك، وقد رُوي من طرق متعددة مشهورة، وليس ذلك مذكورًا فيها، بل اللفظ الأول؛ فظهر بهذا: أن اللفظ الأول أرجح، وإنما صرنا للترجيح؛ للتعارض بين الحديثين، فإنَّ الأول يقتضي إباحة قول العبد: مولاي، والثاني يقتضي مَنْعه من ذلك، والجمع متعذر، والعلم بالتاريخ مفقود، فلم يَبْقَ إلا الترجيح؛ كما ذكرناه، والله تعالى أعلم. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: عندي في تضعيف رواية: "ولا يقل: مولاي" نظرٌ، فقد اتفق أبو معاوية، ووكيع عليها، وهما من الحفظ بمكان، ولا سيّما أبو معاوية فإنه أحفظ مَن روى عن الأعمش، بعد الثوريّ، فلا وجه لتضعيفها، فتأمل بالإمعان.

ويُجمع بينها وبين رواية: "وليقل: سيدي مولاي" بحمل النهي على التنزيه، والله تعالى أعلم.

[تنبيه]: رواية أبي معاوية عن الأعمش ساقها النسائيّ رحمه الله في "الكبرى"، فقال:

(10071)

- أخبرنا محمد بن العلاء أبو كريب، قال: حدّثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يقولنّ أحدكم: عبدي، فإن كلكم عبد، ولكن ليقل: فتاي، ولا يقل أحدكم: مولاي، فإن مولاكم الله، ولكن ليقل: سيدي". انتهى

(3)

.

(1)

"إكمال المعلم" 7/ 190، و"شرح النوويّ" 15/ 7.

(2)

"المفهم" 5/ 553 - 554.

(3)

"السُّنن الكبرى" للنسائيّ 6/ 69.

ص: 585

ورواية وكيع عن الأعمش ساقها ابن عساكر رحمه الله في "تاريخ دمشق"، فقال:

أخبرنا أبو محمد بن الأكفانيّ، نا عبد العزيز بن أحمد الكتانيّ، أنبأ أبو الحسن عليّ بن أحمد بن محمد بن عليّ الشرابيّ قراءةً عليه، نا خيثمة بن سليمان، نا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الله العبسيّ، نا وكيع بن الجراح، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يقولنّ أحدكم لعبده: عبدي، ولكن ليقل: فتاي، ولا يقول العبد لسيده: مولاي، ولكن ليقل: سيدي". انتهى

(1)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5863]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامِ ابْنِ مُنَبِّهٍ، قَالَ: هَذَا مَا حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَ أَحَادِيثَ، مِنْهَا: وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا يَقُلْ أَحَدُكُمُ: اسْقِ رَبَّكَ، أَطْعِمْ رَبَّكَ، وَضِّئْ رَبَّكَ، وَلَا يَقُلْ أَحَدُكُمْ: رَبِّي، وَلْيَقُلْ: سَيِّدِي، مَوْلَايَ

(2)

، وَلَا يَقُلْ أَحَدُكُمْ: عَبْدِي، أَمَتِي، وَلْيَقُلْ: فَتَايَ، فَتَاتِي، غُلَامِي").

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الإسناد نفسه تقدّم في الباب الماضي.

شرح الحديث:

(عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ) الأبناوي الصنعانيّ أنه (قَالَ: هَذَا) مشيرًا إلى مجموعات أحاديث في صحيفة واحدة، وهذي صحيفة همّام بن منبّه المشهورة، فيها (138) حديثًا. (مَا) اسم موصول خبر "هذا"(حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَ)؛ أي: همّام (أَحَادِيثَ) تقدّم أنها (138) حديثًا، وقوله:(مِنْهَا) خبر مقدّم لقوله: (وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) فهو مبتدأ مؤخّر محكيّ؛ لقصد لفظه، ("لَا يَقُلْ أَحَدُكُمُ: اسْقِ رَبَّكَ، أَطْعِمْ رَبَّكَ، وَضِّئْ رَبَّكَ) قال في "الفتح": هي أمثلة، وإنما ذُكرت دون غيرها؛ لِغَلَبة استعمالها في المخاطبات، ويجوز في أَلِف "اسق" الوصل، والقطع، وفيه نهي العبد أن يقول لسيده: ربي،

(1)

"تاريخ مدينة دمشق" 41/ 233.

(2)

وفي نسخة: "سيدي ومولاي".

ص: 586

وكذلك نهي غيره، فلا يقول له أحد: ربك، ويدخل في ذلك أن يقول السيد ذلك عن نفسه، فإنه قد يقول لعبده: أسق ربك، فيضع الظاهر موضع الضمير على سبيل التعظيم لنفسه، والسبب في النهي أن حقيقة الربوبية لله تعالى؛ لأن الرب هو المالك، والقائم بالشيء، فلا توجد حقيقة ذلك إلا لله تعالى.

قال الخطابيّ رحمه الله

(1)

: سبب المنع أن الإنسان مربوبٌ، متعبدٌ بإخلاص التوحيد لله تعالى، وتَرْك الإشراك معه، فكَرِه له المضاهاة في الاسم؛ لئلا يدخل في معنى الشرك، ولا فرق في ذلك بين الحرّ والعبد، فأما ما لا تعبّد عليه من سائر الحيوانات، والجمادات، فلا يُكره إطلاق ذلك عليه عند الإضافة، كقوله: رب الدار، ورب الثوب.

وقال ابن بطال رحمه الله: لا يجوز أن يقال لأحد غيرِ الله تعالى: ربّ، كما لا يجوز أن يقال له: إله. انتهى.

والذي يختصّ بالله تعالى إطلاق الرب بلا إضافة، أما مع الإضافة فيجوز إطلاقه، كما في قوله تعالى حكايةً عن يوسف عليه السلام:{اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} [يوسف: 42]، وقوله:{ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ} [يوسف: 50]، وقوله صلى الله عليه وسلم في أشراط الساعة:"أن تلد الأمة ربها"، فدلّ على أن النهي في ذلك محمول على الإطلاق.

ويَحْتَمِل أن يكون النهي للتنزيه، وما ورد من ذلك فلبيان الجواز، وقيل: هو مخصوص بغير النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولا يَرِد ما في القرآن، أو المراد: النهي عن الإكثار من ذلك، واتخاذ استعمال هذه اللفظة عادةً، وليس المراد النهي عن ذِكرها في الجملة. انتهى

(2)

.

(وَلَا يَقُلْ أَحَدُكُمْ: رَبِّي، وَلْيَقُلْ: سَيِّدِي، مَوْلَايَ) ووقع في بعض النسخ": "ومولاي" بالعطف، وفيه جواز إطلاق العبد على مالكه: سيدي، قال القرطبيّ وغيره: إنما فَرَّق بين الرب والسيد؛ لأن الرب من أسماء الله تعالى اتفاقًا، واختُلف في السيد، ولم يَرِدْ في القرآن أنه من أسماء الله تعالى، فإن قلنا: إنه

(1)

"الأعلام" 2/ 1272.

(2)

"الفتح" 6/ 385 - 386، كتاب "العتق" رقم (2552).

ص: 587

ليس من أسماء الله تعالى فالفرق واضح؛ إذ لا التباس، وإن قلنا: إنه من أسمائه فليس في الشهرة والاستعمال كلفظ الربّ، فيحصل الفرق بذلك أيضًا.

وقد رَوى أبو داود، والنسائيّ، وأحمد، والبخاريّ في "الأدب المفرد" من حديث عبد الله بن الشِّخِّير، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"السيد الله".

وقال الخطابي: إنما أطلقه؛ لأن مرجع السيادة إلى معنى الرياسة على من تحت يده، والسياسة له، وحُسن التدبير لأمره، ولذلك سُمِّي الزوج سيدًا، قال: وأما المولى فكثير التصرف في الوجوه المختلفة، مِن وَلِيّ، وناصر، وغير ذلك، ولكن لا يقال: السيد، ولا المولى على الإطلاق من غير إضافة، إلا في صفة الله تعالى. انتهى

(1)

.

قال في "الفتح": وفي الحديث جواز إطلاق مولاي أيضًا، وأما ما أخرجه مسلم، والنسائيّ، من طريق الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة في هذا الحديث نحوه، وزاد:"ولا يقل أحدكم: مولاي، فإن مولاكم الله، ولكن ليقل: سيدي"، فقد بَيَّن مسلم الاختلاف في ذلك على الأعمش، وأن منهم من ذَكر هذه الزيادة، ومنهم من حَذَفها، وقال عياض: حَذْفها أصحّ، وقال القرطبيّ المشهور حذفها، قال: وإنما صِرْنا إلى الترجيح للتعارض مع تعذّر الجمع، وعدم العلم بالتاريخ. انتهى.

قال الحافظ: ومقتضى ظاهر هذه الزيادة أن إطلاق السيد أسهل من إطلاق المولى، وهو خلاف المتعارَف، فإن المولى يُطلق على أوجه متعددة، منها الأسفل، والأعلى، والسيد لا يطلق إلا على الأعلى، فكان إطلاق المولى أسهل، وأقرب إلى عدم الكراهة، والله أعلم.

وقد رواه محمد بن سيرين، عن أبي هريرة، فلم يتعرض للفظ المولى إثباتًا، ولا نفيًا، أخرجه أبو داود، والنسائيّ، والبخاريّ في "الأدب المفرد" بلفظ:"لا يقولنّ أحدكم: عبدي، ولا أمتي، ولا يقل المملوك: ربي، وربتي، ولكن ليقل المالك: فتاي، وفتاتي، والمملوك: سيدي، وسيدتي، فإنكم المملوكون والرب الله تعالى".

(1)

"الأعلام" 2/ 1273.

ص: 588

ويَحْتَمِل أن يكون المراد: النهي عن الإطلاق، كما تقدم من كلام الخطابيّ، ويؤيد كلامَهُ حديث ابن الشِّخِّير المذكور، والله أعلم.

وعن مالك تخصيص الكراهة بالنداء، فيُكره أن يقول: يا سيدي، ولا يكره في غير النداء. انتهى

(1)

.

(وَلَا يَقُلْ أَحَدُكُمْ: عَبْدِي، أَمَتِي) زاد في رواية العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه، المتقدّمة:"كلكم عبيد الله، وكل نسائكم إماء الله"، فأرشد صلى الله عليه وسلم إلى العلة في ذلك؛ لأن حقيقة العبودية إنما يستحقها الله تعالى، ولأن فيها تعظيمًا لا يليق بالمخلوق استعماله لنفسه، قال الخطابيّ: المعنى في ذلك كله راجع إلى البراءة من الكِبْر، والتزام الذلّ، والخضوع لله عز وجل، وهو الذي يليق بالمربوب.

(وَلْيَقُلْ: فَتَايَ، فَتَاتِي، غُلَامِي") زاد في رواية العلاء المذكورة: "وجاريتي"، فأرشد صلى الله عليه وسلم إلى ما يؤدي المعنى، مع السلامة من التعاظم؛ لأن لفظ الفتى والغلام ليس دالًّا على محض المُلك، كدلالة العبد، فقد كثر استعمال الفتى في الحرّ، وكذلك الغلام والجارية.

قال النوويّ: المراد بالنهي من استعمله على جهة التعاظم، لا من أراد التعريف. انتهى

(2)

.

قال الحافظ: ومحلّه ما إذا لم يحصل التعريف بدون ذلك استعمالًا للأدب في اللفظ، كما دلَّ عليه الحديث. انتهى

(3)

.

والحديث متّفق عليه، وقد مضى تمام البحث فيه في رواية العلاء المذكورة أول الباب، ولله الحمد والمنّة.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(1)

"الفتح" 6/ 385 - 386، كتاب "العتق" رقم (2552).

(2)

"شرح النوويّ" 15/ 7.

(3)

"الفتح" 6/ 385 - 386، كتاب "العتق" رقم (2552).

ص: 589

(4) - (بَابُ كَرَاهِيَةِ قَوْلِ الإِنْسَانِ: خَبُثَتْ نَفْسِي)

[5864]

(2250) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ (ح) وَحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، كِلَاهُمَا عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا يَقُولَنَّ

(1)

أَحَدُكُمْ: خَبُثَتْ نَفْسِي، وَلَكِنْ لِيَقُلْ: لَقِسَتْ نَفْسِي"، هَذَا حَدِيثُ أَبِي كُرَيْبٍ، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَلَمْ يَذْكُرْ: "لَكِنْ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(أَبُو أُسَامَةَ) حمّاد بن أُسامة بن زيد القرشيّ مولاهم الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار [9](ت 201)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 51.

والباقون تقدّموا قريبًا.

شرح الحديث:

(عَنْ عَائِشَةَ) أمّ المؤمنين رضي الله عنها أنها (قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا يَقُولَنَّ) وفي بعض النسخ: "لا يقول"(أَحَدُكُمْ: خَبُثَتْ نَفْسِي) بفتح الخاء المعجمة، وضم الموحّدة، بعدها مثلثة، ثم مثناة، ويقال: بفتح الموحّدة، والضم أصوب، قال الراغب: الخبث يُطلق على الباطل في الاعتقاد، والكذب في المقال، والقبيح في الفعال، قال الحافظ: وعلى الحرام، والصفات المذمومة القولية، والفعلية

(2)

. (وَلَكِنْ لِيَقُلْ: لَقِسَتْ نَفْسِي") قال الخطابيّ تبعًا لأبي عبيد: لَقِسَت، وخَبُثَت بمعنى واحد، وإنما كَرِه صلى الله عليه وسلم من ذلك اسم الخبث، فاختار اللفظة السالمة من ذلك، وكان من سُنَّته تبديل الاسم القبيح بالحسن، وقال غيره: معنى لَقِست: غَثَتْ - بغين معجمة، ثم مثلثة - وهو يرجع أيضًا إلى معنى خَبُثت، وقيل: معناه: ساء خُلُقها، وقيل: مالت به إلى الدَّعَة.

(1)

وفي نسخة: "لا يقول".

(2)

"الفتح" 14/ 49، كتاب "الأدب" رقم (6179).

ص: 590

وقال ابن بطال: هو على معنى الأدب، وليس على سبيل الإيجاب، وقد تقدم في "الصلاة" في الذي يعقد الشيطان على قافية رأسه:"فيُصبح خبيث النفس"، ونطق القرآن بهذه اللفظة، فقال تعالى:{وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ} [إبراهيم: 26].

قال الحافظ: لكن لم يَرِد ذلك إلا في معرض الذم، فلا ينافي ذلك ما دل عليه حديث الباب، من كراهة وصف الإنسان نفسه بذلك، وقد سبق لهذا عياض، فقال: الفرق أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أخبر عن صفة شخص مذموم الحال، فلم يمتنع إطلاق ذلك اللفظ عليه.

وقال ابن أبي جمرة: النهي عن ذلك للندب، والأمر بقوله:"لَقِست" للندب أيضًا، فإن عبَّر بما يؤدي معناه كفى، ولكن تَرَكَ الأولى. انتهى

(1)

.

وقوله: (هَذَا حَدِيثُ أَبِي كُرَيْبٍ، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ)؛ يعني: ابن أبي شيبة، (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَلَمْ يَذْكُرْ: "لَكِنْ") هذا فيه بيان اختلاف شيخيه: أبي بكر بن أبي شيبة، وأبي كريب، حيث قال أبو كريب:"قال رسول الله صلى الله عليه وسلم"، وقال ابن أبي شيبة:"عن النبيّ صلى الله عليه وسلم"، وأيضًا لم يذكر ابن أبي شيبة لفظة:"ولكن"، وإنما قال:"وليقل: لقِست نفسي"، بدون لفظة:"لكن"، قال ابن أبي شيبة في "مصنّفه":

(26504)

- حدّثنا ابن عيينة، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"لا يقل أحدكم: خَبُثت نفسي، وليقل: لَقِست نفسي". انتهى

(2)

، والله تعالى أعلم.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [4/ 5864 و 5865](2250)، و (البخاريّ) في "الأدب"(6179) وفي "الأدب المفرد"(809)، و (أبو داود) في "الأدب"

(1)

"الفتح" 14/ 49، كتاب "الأدب" رقم (6179).

(2)

"مصنف ابن أبي شيبة" 5/ 320.

ص: 591

(4979 و 1050)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(6/ 260) وفي "عمل اليوم والليلة"(1049)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(11/ 456)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(5/ 320)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 51 و 66 و 209 و 231 و 281)، و (ابن راهويه) في "مسنده"(2/ 285)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5724)، و (الطحاويّ) في "شرح مشكل الآثار"(342)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(2334 و 2633)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(3390)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان النهي عن قول: خَبُثت نفسي، وإنما ينبغي أن يقال: لَقِسَت نفسي.

2 -

(ومنها): بيان استحباب مجانبة الألفاظ القبيحة، والأسماء، والعدول إلى ما لا قُبح فيه، والْخُبْث، واللَّقَسُ، وإن كان المعنى المراد يتأدى بكل منهما، لكن لفظ الخبث قبيح، ويَجمع أمورًا زائدة على المراد، بخلاف اللَّقَس، فإنه يختص بامتلاء المعدة، قاله ابن أبي جمرة رحمه الله

(1)

.

3 -

(ومنها): أنه ينبغي للمرء أن يطلب الخير حتى بالفأل الحسن، ويضيف الخير إلى نفسه، ولو بنسبةٍ ما، ويدفع الشر عن نفسه، مهما أمكن، ويقطع الوُصْلة بينه وبين أهل الشر، حتى في الألفاظ المشتركة، قاله ابن أبي جمرة أيضًا

(2)

.

4 -

(ومنها): ما قال ابن أبي جمرة رحمه الله أيضًا: ويلتحق بهذا أن الضعيف إذا سئل عن حاله لا يقول: لست بطيب، بل يقول: ضعيف، ولا يُخرج نفسه من الطيبين، فيلحقها بالخبيثين. انتهى

(3)

.

5 -

(ومنها): ما قال ابن عبد البرّ رحمه الله ما حاصله: قد زعم قوم أن في هذا الحديث ما يعارض قوله صلى الله عليه وسلم: "وإلا أصبح خبيث النفس، كسلان"، حيث وَصَفه بكونه خبيث النفس، قال: وليس ذلك عندي كذلك؛ لأن النهي إنما ورد

(1)

"بهجة النفوس" 4/ 176.

(2)

"بهجة النفوس" 4/ 176.

(3)

"بهجة النفوس" 4/ 176.

ص: 592

عن إضافة المرء ذلك إلى نفسه؛ كراهيةً لتلك اللفظة، وتشاؤمًا لها، إذا أضافها الإنسان إلى نفسه، والحديث الثاني إنما هو خبر عن حال من لم يذكر الله تعالى في ليله، ولا توضأ، ولا صلى، فأصبح خبيث النفس ذمًّا لفعله، وعيبًا له، ولكل واحد من الخبرين وجه، فلا معنى أن يُجعلا متعارضين؛ لأن من شأن أهل العلم أن لا يجعلوا شيئًا من القرآن، ولا من السنن معارضًا لشيء منها ما وجدوا إلى استعمالها، وتخريج الوجوه لها سبيلًا. انتهى

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: ولا يعترض هذا بقوله صلى الله عليه وسلم: "فأصبح خبيث النفس كسلان"؛ لأنَّ محل النهي أن يضيف المتكلم الخبث إلى نفسه، لا أن يتكلم بالخبيث مطلقًا، فإذا أخبر به عن غير معيَّن جاز، ولا سيما في معرض التحذير والذمّ للكسل، والتثاقل عن الطاعات، كما قد جاء في هذا الحديث، ومن أوضح ما في هذا الباب قوله صلى الله عليه وسلم حين سُئل عن العقيقة، فقال:"لا أحبُّ العقوق، ولكن إذا أحبَّ أحدكم أن ينسك عن ولده بشاةٍ فليفعل"، فكَره اسم العقوق.

قال: ومقصود الشرع الإرشاد إلى تعرُّف مواقع الألفاظ، واستعمال الأَولى منها، والأحسن، ما أمكن، من غير إيجاب ذلك، واجتناب المشترَك من الألفاظ، وما يُستكره منها، وما لا تواضع فيه؛ كعبدي، وأمتي، من غير تحريم ذلك، ولا تحريجه. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(2)

، وهو بحث جيّدٌ، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5865]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَاهُ أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، بِهَذَا الإِسْنَادِ).

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الإسناد تقدّم في الباب الماضي، ورواية أبي معاوية عن الأعمش هذه لم أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم.

(1)

"التمهيد" لابن عبد البرّ 19/ 47.

(2)

"المفهم" 5/ 555.

ص: 593

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5866]

(2251) - (وَحَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ، وَحَرْمَلَةُ، قَالَا: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِى أُمَامَةَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا يَقُلْ أَحَدُكُمْ: خَبُثَتْ نَفْسِي، وَلْيَقُلْ

(1)

: لَقِسَتْ نَفْسِي").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(أَبُو أُمَامَةَ بْنُ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ) هو: أسعد بن سهل بن حُنيف الأنصاريّ المدنيّ، له رؤية، ولم يسمع من النبيّ صلى الله عليه وسلم، ومات سنة (100) وله (72) سنةً (ع) تقدم في "الحيض" 18/ 779.

2 -

(أَبُوهُ) سهل بن حُنيف بن واهب الأنصاريّ الأوسيّ، صحابيّ مشهور، من أهل بدر، واستخلفه عليّ رضي الله عنهما على البصرة، ومات في خلافته (ع) تقدم في "الجنائز" 23/ 2225.

والباقون ذُكروا قبل بابين، وشرح الحديث واضحٌ، يُعلم مما قبله.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث سهل بن حُنيف رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [4/ 5866](2251)، و (البخاريّ) في "الأدب"(6180) وفي "الأدب المفرد"(1/ 281)، و (أبو داود) في "الأدب"(4978)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(6/ 260) وفي "عمل اليوم والليلة"(1051)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(6/ 78)، والله تعالى أعلم.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(1)

وفي نسخة: "ولكن ليقل".

ص: 594

(5) - (بَابُ اسْتِعْمَالِ الْمِسْكِ، وَأَنَّهُ أَطْيَبُ الطِّيبِ، وَكَرَاهَةِ رَدِّ الرَّيْحَانِ، وَالطِّيبِ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5867]

(2252) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ شُعْبَةَ، حَدَّثَنِي خُلَيْدُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيٍّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "كَانَتِ امْرَأَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، قَصِيرَةٌ، تَمْشِي مَعَ امْرَأَتَيْنِ طَوِيلَتَيْنِ، فَاتَّخَذَتْ رِجْلَيْنِ مِنْ خَشَبٍ، وَخَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ، مُغْلَقٍ، مُطْبَقٍ

(1)

، ثُمَّ حَشَتْهُ مِسْكًا، وَهُوَ أَطْيَبُ الطِّيبِ، فَمَرَّتْ بَيْنَ الْمَرْأَتَيْنِ، فَلَمْ يَعْرِفُوهَا، فَقَالَتْ بِيَدِهَا هَكَذَا"، وَنَفَضَ شُعْبَةُ يَدَهُ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(خُلَيْدُ بْنُ جَعْفَرِ) بن طَرِيف الحنفيّ، أبو سليمان البصريّ، صدوقٌ لم يثبُت أن ابن معين ضعّفه [6](م ت س) تقدم في "الجهاد والسير" 4/ 4527.

2 -

(أَبُو نَضْرَةَ) المنذر بن مالك بن قُطعة الْعَبْديّ الْعَوَقيّ البصريّ، ثقةٌ [3](ت 8 أو 109)(خت م 4) تقدم في "الإيمان" 6/ 127.

3 -

(أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ) سعد بن مالك بن سِنَان الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، تقدّم قريبًا.

والباقون تقدّموا في الباب الماضي، وقبله بباب.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسلٌ بالبصريين من شعبة، وأن فيه أبا سعيد رضي الله عنه من المكثرين السبعة.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ) رضي الله عنه (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) أنه (قَالَ: "كَانَتِ امْرَأَةٌ) لم

(1)

وفي نسخة: "مغلقًا مطبقًا".

ص: 595

تُسمّ

(1)

، (مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ)؛ أي: أولاد يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل عليه السلام، (قَصِيرَةٌ، تَمْشِي مَعَ امْرَأَتَيْنِ)؛ أي: بينهما، ولم تُسَمَّ المرأتان أيضًا

(2)

، (طَوِيلَتَيْنِ، فَاتَّخَذَتْ رِجْلَيْنِ مِنْ خَشَبٍ)؛ أي: لتُطَوِّل قامتها، فتكون متناسبة مع صاحبتيها، (وَخَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ، مُغْلَقٍ، مُطْبَقٍ) بالجرّ صفة لذهب، وفي بعض النُّسخ:"مغلقًا مطبقًا" بالنصب صفة لخاتم، وهو الأنسب والأوضح، والمعنى أن الخاتم كان مجوّفًا، ليس له منفذ، وقد حشته مسكًا

(3)

، وقيل: الخاتم المغلق هو المربوط المشدود وسطه عند ملتقى الطرفين بغَلَق كغَلَق الباب، والْمُطبَق هو المجعول فصّه كالطبق عليه

(4)

.

وقوله: (ثُمَّ حَشَتْهُ مِسْكًا)؛ أي: ملأت ذلك الخاتم مسكًا، يقال: حشوت الوسادة، وغيرها بالقطن أحشوه حشوًا، من باب نصر: إذا ملأتها.

قال النوويّ رحمه الله: وأما اتّخاذ المرأة القصيرة رجلين من خشب حتى مشت بين الطويلتين، فلم تُعْرَف، فحُكمه في شرعنا أنها إن قصدت به مقصودًا صحيحًا شرعيًّا، بأن قصدت سَتْر نفسها؛ لئلا تُعرف، فتُقصد بالأذى، أو نحو ذلك، فلا بأس به، وإن قصدت به التعاظم، أو التشبه بالكاملات؛ تزويرًا على الرجال، وغيرهم فهو حرام. انتهى

(5)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: يَحْتَمِل: أن تكون هذه المرأة فعلت هذا لتستر قِصَرَها عن الناس، فلا ينظرن إليها، ولعل قِصَرها كان خارجًا عن غالب أحوال القِصَر، فإنْ كان هذا، فلا إثم عليها؛ لصحة قصدها، وحُسْن تستّرها، وإن كانت فعلت ذلك لتتزيَّن بإلحاقها نفسها بالطوال، فذلك ممنوع منه، فإنَّه من باب تغيير خلق الله، كما تقدَّم، وأما اتخاذها خاتم الذهب فجائز للنساء، على ما ذكرناه، وأما اتخاذها المسك، فمباح لها في بيتها، ويُلْحَق بالمندوب إذا قصدت به حسن التبعّل للزوج، وأما إذا خرجت، فإنْ قصدت أن يجد الرِّجال ريحها، فهي زانية؛ كما قاله النبيّ صلى الله عليه وسلم، ومعناه: أنها بمنزلة الزانية في

(1)

راجع: "تنبيه المعلم" ص 385.

(2)

راجع: "تنبيه المعلم" ص 385.

(3)

راجع: "تكملة فتح الملهم" 4/ 419.

(4)

راجع: شرح الشيخ الهرريّ 22/ 399.

(5)

"شرح النوويّ" 15/ 9.

ص: 596

الإثم، وأما إذا لم تقصد ذلك، فلا تسلم من الإثم؛ كيف لا، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إذا شهدت إحداكُنَّ المسجد، فلا تمسنَّ طيبًا"، وقال:"ليخرجن، وهنَّ تفلات"؛ أي: غير متطيِّبات، وكل ذلك هو شرعنا، وهل كان كذلك في شرع بني إسرائيل، أو لا؟ كل ذلك مُحْتَمِلٌ. انتهى

(1)

.

وقد أخرج الحديث أحمد في "مسنده" بإسناد صحيح، من طريق الْمُسْتَمِرّ بن الرَّيَّان الأياديّ، عن أبي نضرة العبديّ، عن أبي سعيد الخدريّ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذَكَر الدنيا، فقال:"إن الدنيا خَضِرةٌ، حُلْوةٌ، فاتقوها، واتقوا النساء، ثم ذكر نسوةً ثلاثًا، من بني إسرائيل: امرأتين طويلتين، تُعرفان، وامرأة قصيرةً، لا تُعرف، فاتخذت رجلين من خشب، وصاغت خاتمًا، فحشته من أطيب الطيب المسك، وجعلت له غَلَقًا، فإذا مرت بالملأ، أو بالمجلس، قالت به، ففتحته، ففاح ريحه"، قال المستمرّ بخنصره اليسرى، فأشخصها، دون أصابعه الثلاث شيئًا، وقبض الثلاثة. انتهى

(2)

.

وأخرج الطبرانيّ بإسناده عن سمرة بن جندب رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إياكم والغلوّ، والزَّهْوَ، فإن بني إسرائيل قد غلا كثير منهم، حتى كانت المرأة القصيرة تتخذ خفين من خشب، تحشوهما، ثم تولج فيهما رجليها، ثم تَعْمِد إلى المرأة الطويلة، فتمشي معها، فإذا هي قد ساوت بها، أو كانت أطول منها". انتهى

(3)

.

قال الحافظ الهيثميّ رحمه الله: وفيه مروان بن جعفر، وثقه ابن أبي حاتم، وقال الأزديّ: يتكلمون فيه، وقال الذهبيّ: وله نسخة فيها مناكير. انتهى

(4)

.

وأخرج ابن خزيمة في "التوحيد" بإسناد صحيح عن أبي سعيد، أو جابر، وفيه: "فذكر امرأة من بني إسرائيل كانت قصيرة، واتّخذت رجلين من خشب، وخاتمًا له غَلَقٌ، وطَبَقٌ، وَحَشَتْه مسكًا، وخرجت بين امرأتين طويلتين، أو

(1)

"المفهم" 5/ 556.

(2)

مسند الإمام أحمد بن حنبل" 3/ 46.

(3)

"المعجم الكبير" للطبرانيّ 7/ 267.

(4)

"مجمع الزوائد" 1/ 192.

ص: 597

جسيمتين، فبعثوا إنسانًا يتبعهم، فعرف الطويلتين، ولم يعرف صاحبة الرجلين من خشب"

(1)

.

وقوله: (وَهُوَ أَطْيَبُ الطِّيبِ) جملة حاليةٌ؛ أي: والحال أن المسك أحسن أنواع الطيب، وأفضلها، وأشرفها فهو أفخر أنواعه، وسيّدها.

[تنبيه]: قال الفيّوميّ رحمه الله: المِسْكُ: طِيب معروف، وهو مُعَرَّب، والعرب تسميه المشموم، وهو عندهم أفضل الطيب، ولهذا ورد:"لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ عِنْدَ اللهِ أَطْيَبُ مِنْ رِيحِ المِسْكِ" ترغيبًا في إبقاء أثر الصوم، قال الفراء: المِسْكُ مُذَكّر، وقال غيره: يُذَكَّر، ويؤنّث، فيقال: هو المِسْكُ، وهي المِسْكُ، وأنشد أبو عبيدة على التأنيث قول الشاعر [من الرجز]:

وَالمِسْكُ وَالعَنْبَرُ خَيْرُ طِيبٍ

أُخِذَتَا بِالثَّمَنِ الرَّغِيبِ

وقال السجستانيّ: من أنّث المِسْكَ جعله جمعًا، فيكون تأنيثه بمنزلة تأنيث الذهب، والعسل، قال: وواحدته مِسْكَةٌ، مثلُ ذهب وذهبة، قال ابن السكيت: وأصله مِسِكٌ بكسرتين، قال رؤبة [من الرجز]:

إِنْ تُشْفَ نَفْسِي مِنْ ذُبَابَاتِ الحَسَكِ

أَحْرِ بِهَا أَطْيَبَ مِنْ رِيحِ المِسِكْ

وهكذا رواه ثعلب عن ابن الأعرابيّ، وقال ابن الأنباريّ: قال السجستانيّ: أصله السكون، والكسر في البيت اضطرار؛ لإقامة الوزن، وكان الأصمعيّ يُنشد البيت بفتح السين، ويقول: هو جمع مِسْكَةٍ، مثل خِرْقة وخِرَق، وقِرْبة وقِرَب، ويؤيد قول السجستانيّ أنه لا يوجد فِعِل بكسرتين إلا إِبِلٌ، وما ذُكر معه، فتكون الكسرة لإقامة الوزن، كما قال [من الرجز]:

عَلَّمَنَا إِخْوَانُنَا بَنُو عِجْلٍ

شُرْبَ النَّبِيذِ وَاعْتِقَالًا بِالرِّجِلْ

والأصل هنا السكون باتفاق، أو تكون الكسرة حركة الكاف، نُقِلت إلى السين؛ لأجل الوقف، وذلك سائغ. انتهى

(2)

.

وقال الحافظ رحمه الله: "المسك" بكسر الميم: الطيب المعروف، قال الجاحظ: هو من دُوَيّبة تكون في الصين تُصاد لنوافجها، وسُرَرها، فإذا صيدت

(1)

"كتاب التوحيد" لابن خزيمة ص 208.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 573.

ص: 598

شُدّت بعصائب، وهي مدلية يَجتمع فيها دمها، فإذا ذُبحت قُوِّرت السُّرّة التي عُصِبت، ودُفنت في الشعر، حتى يستحيل ذلك الدم المختنق الجامد مسكًا ذَكِيًّا بعد أن كان لا يُرام من النتن، ومن ثم قال القفال: إنها تندبغ بما فيها من المسك، فتطهر كما يطهر غيرها من المدبوغات، والمشهور أن غزال المسك كالظبي، لكن لونه أسود، وله نابان لطيفان أبيضان، في فَكّه الأسفل، وأن المسك دم يجتمع في سُرّته في وقت معلوم من السنة، فإذا اجتمع وَرِم الموضع، فمَرِض الغزال، إلى أن يَسقُط منه، ويقال: إن أهل تلك البلاد يجعلون لها أوتادًا في البريّة تحتكّ بها ليسقط.

ونقل ابن الصلاح في "مشكل الوسيط" أن النافجة في جوف الظبية، كالأنفحة في جوف الجدي، وعن عليّ بن مهديّ الطبريّ الشافعيّ أنها تُلقيها من جوفها، كما تُلقي الدجاجةُ البيضةَ.

ويمكن الجمع بأنها تُلقيها من سُرّتها، فتتعلق بها إلى أن تحتكّ. انتهى

(1)

.

(فَمَرَّتْ) تلك المرأة (بَيْنَ الْمَرْأَتَيْنِ) اللتين هي معهما (فَلَمْ يَعْرِفُوهَا)؛ أي: لم يعرفها الناس، الناس الذين يعرفونها أوّلًا بسبب طولها باتّخاذ الرجل من الخشب. (فَقَالَتْ)؛ أي: أشارت، ففيه استعمال القول للفعل، وقال ابن الأثير رحمه الله: العرب تَجْعل القَول عبارةً عن جميع الأفعال، وتُطْلِقه على غير الكلام واللسان، فتقول: قال بيدِه؛ أي: أخَذَ، وقال بِرجْله؛ أي: مَشَى، قال الشاعر [من الطويل]:

وَقَالَتْ لَهُ الْعَيْنَانِ سَمْعًا وطاعةً

وحَدَّرَتَا كالدُّرِّ لمّا يُثَقَّبِ

أي: أوْمَأتْ، وقال بالماء على يَدِه؛ أي: قَلَب، وقال بثَوْبه؛ أي: رَفَعه، وكلُّ ذلك على المجاز والاتِّساع، قال: ويقال: قال، بمعنى أَقبَل، وبمعنى مَال، واسْتَراح، وضَرَب، وغَلَب، وغير ذلك، قال: وقد تكرر ذِكر القول بهذه المعاني في الحديث. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: قد نظمت معاني "قال" المذكورة بقولي:

(1)

"الفتح" 12/ 518، كتاب "الذبائح" رقم (5533).

ص: 599

تَجِيءُ "قَالَ" لِمَعَانٍ تُجْتَلَى

تَكَلَّمَ اسْتَرَاحَ ثُمَّ أَقْبَلَا

وَمَالَ مَعْ ضَرَبَ ثُمَّ غَلَبَا

وِللتَّهَيُّؤِ لِفِعْل يُجْتَبَى

فَجُلَةُ الْمَعَانِي قُلْ ثَمَانِيَهْ

فَاحْفَظْ فَإِنَّهَا مَعَانٍ سَامِيَهْ

(بِيَدِهَا هَكَذَا")؛ أي: رافعةً، أو نحو ذلك؛ ليعرفوها، (وَنَفَضَ)؛ أي: حرّك، يقال: نفضت الثوب؛ أي: حرّكته

(1)

. (شُعْبَةُ) الراوي للحديث هنا، وهو شعبة بن الحجّاج، (يَدَهُ) ليحكي بها ما فعلت المرأة، والله تعالى أعلم.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه المصنّف هنا [5/ 5867 و 5868](2252)، و (أبو داود) في "الجنائز"(3158)، و (الترمذيّ) في "الجنائز"(991 و 992)، و (النسائيّ) في "المجتبى"(4/ 39 - 40 و 8/ 151 و 190) و"الكبرى"(1/ 623 و 5/ 428 و 429)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 31 و 46 و 47 و 87 - 88)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(1232 و 1293)، و (الحاكم) في "المستدرك"(1/ 514)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(1/ 222)، و (ابن الجعد) في "مسنده"(1/ 225)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(3/ 99)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4/ 216 و 12/ 404)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(3/ 405 و 2/ 26)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان طهارة المسك، وأنه أطيب الطيّب، قال القرطبيّ رحمه الله: هذا الحديث دليلٌ واضحٌ على طهارة المسك، وإن كان أصله دمًا، لكنه قد استحال إلى صلاح في مقرِّه العاديِّ، فصار كاللَّبن، قال القاضي عياض رحمه الله: قد وقع الإجماع على طهارته، وجواز استعماله، وما حُكي عن عمر بن الخطاب، وعمر بن عبد العزيز رضي الله عنهما من الخلاف في ذلك لا يصحُّ، قال:

(1)

"القاموس" ص 1304.

ص: 600

والمعروف من السَّلف إجماعهم على جواز استعماله، واقتداؤهم بالنبيّ صلى الله عليه وسلم في ذلك. انتهى

(1)

.

وقال في "الفتح": قال النوويّ: أجمعوا على أن المسك طاهر، يجوز استعماله في البدن والثوب، ويجوز بيعه، ونقل أصحابنا عن الشيعة فيه مذهبًا باطلًا، وهو مستثنى من القاعدة: ما أُبين من حَيّ فهو ميت. انتهى.

وحَكَى ابن التين عن ابن شعبان من المالكية، أن فأرة المسك إنما تؤخذ في حال الحياة، أو بذكاة من لا تصح ذكاته من الكفرة، وهي مع ذلك محكوم بطهارتها؛ لأنها تستحيل عن كونها دمًا حتى تصير مسكًا، كما يستحيل الدم إلى اللحم، فيطهر، ويحلّ أكله، وليست بحيوان، حتى يقال: نجست بالموت، وإنما هي شيء يَحْدُث بالحيوان، كالبيض.

وقد أجمع المسلمون على طهارة المسك، إلا ما حُكِي عن عمر رضي الله عنه من كراهته، وكذا حَكَى ابن المنذر عن جماعة، ثم قال: ولا يصح المنع فيه إلا عن عطاء، بناءً على أنه جزء منفصل. انتهى

(2)

.

2 -

(ومنها): ما قال ابن القيّم رحمه الله: المسك: مَلِك أنواع الطِّيب، وأشرفها، وأطيبها، وهو الذي تُضرب به الأمثال، ويشبَّه به غيره، ولا يشبَّه بغيره، وهو كُثبان الجنة، وهو حارّ يابس في الثانية، يَسُرّ النفسَ، ويقويها، ويقوي الأعضاء الباطنة جميعها شربًا وَشَمًّا، والظاهرةَ إذا وُضع عليها نافع للمشايخ، والمبرودين، لا سيما زمن الشتاء جَيِّد للغشي، والخفقان، وضَعْف القوّة بإنعاشه للحرارة الغريزية، ويجلو بياض العين، وينشف رطوبتها، ويَفْشُ الرياح منها، ومن جميع الأعضاء، ويبطل عمل السموم، وينفع من نَهْش الأفاعي، ومنافعه كثيرةٌ جدًّا، وهو من أقوى المفرِّحات. انتهى

(3)

.

ونقل المناويّ رحمه الله عن ابن القيّم رحمه الله، قال: وأخطأ من قَدَّم عليه - أي: المسك - العنبرَ، كيف، وهو طِيب الجنة؟ والكثبان التي هي مقاعد الصديقين

(1)

"المفهم"557.

(2)

"الفتح" 12/ 518، كتاب "الذبائح" رقم (5533).

(3)

"زاد المعاد" 4/ 356.

ص: 601

فيها منها، لا من العنبر، والذي غَرّ قائله أنه لا يتغير على مَرّ الزمان، كالذهب، وهذه خُصوصيّة واحدة، لا تقاوم ما في المسك من الخواصّ.

قال: وللمسك مزيد خصوصية، حيث جاء ذكره في التنزيل، وذلك غاية التشريف، والتبجيل، قاله الله تعالى:{يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26)} [المطففين: 25، 26]، ومن منافعه أنه يُطَيِّب العَرَق، ويُسَخِّن الأعضاء، ويمنع الأرياح الغليظة المتولدة في الأمعاء، ويقوي القلب، ويشجع أصحاب الْمِرّة السوداء، وفيه من التوحش تفريح، ومن السُّدَد تفتيح، ويُصلح الأفكار، وَيذهب بحديث النفس، ويقوي الأعضاء الظاهرة والباطنة شربًا، ويُعين على الباءة، وينفع من داء الصداع، ويقوي الدماغ، وينفع من جميع علله الباردة، ويُبطل عمل السموم، وغير ذلك. انتهى كلام المناويّ رحمه الله بتصرّف

(1)

.

3 -

(ومنها): ما قال النوويّ رحمه الله: فيه أن المسك أطيب الطيب، وأفضله، وأنه طاهر يجوز استعماله في البدن والثوب، ويجوز بيعه، وهذا كله مُجْمَعٌ عليه، ونَقَل أصحابنا فيه عن الشيعة مذهبًا باطلًا، وهم محجوجون بإجماع المسلمين، وبالأحاديث الصحيحة في استعمال النبيّ صلى الله عليه وسلم له، واستعمال أصحابه، قال أصحابنا وغيرهم: هو مستثنى من القاعدة المعروفة أن ما أُبِين من حيّ فهو ميت، أو يقال: إنه في معنى الجنين، والبيض، واللبن. انتهى

(2)

، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5868]

(. . .) - (حَدَّثَنَا عَمْرٌو النَّاقِدُ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ خُلَيْدِ بْنِ جَعْفَرٍ، وَالْمُسْتَمِرِّ قَالَا: سَمِعْنَا أَبَا نَضْرَةَ، يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم ذَكَرَ امْرَأةً مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، حَشَتْ خَاتَمَهَا مِسْكًا، وَالْمِسْكُ أَطْيَبُ الطِّيبِ).

(1)

"فيض القدير على الجامع الصغير" 1/ 547.

(2)

"شرح النوويّ" 15/ 8 - 9.

ص: 602

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(عَمْرٌو النَّاقِدُ) ابن محمد بن بُكير البغداديّ، تقدّم قبل بابين.

2 -

(يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ) الواسطيّ، تقدّم قريبًا.

3 -

(الْمُسْتَمِرُّ) بن الريّان الإياديّ الزهرانيّ، أبو عبد الله البصريّ، ثقةٌ عابدٌ [5](م د ت) تقدم في "الجهاد والسِّيَر" 4/ 4528.

والباقون ذُكروا قبله.

والحديث من أفراد المصنّف رحمه الله، وقد تقدّم شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5869]

(2253) - (حَدَّثَنَا أبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، كِلَاهُمَا عَنِ الْمُقْرِئِ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمُقْرِئُ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي أَيُّوبَ، حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللهِ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ عُرِضَ عَلَيْهِ رَيْحَانٌ فَلَا يَرُدُّهُ، فَإنَّهُ خَفِيفُ الْمَحْمِلِ، طَيِّبُ الرِّيحِ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمُقْرِئُ) عبد الله بن يزيد المكيّ، أصله من البصرة، أو الأهواز، ثقةٌ فاضلٌ، أقرأ القرآن نيّفًا وسبعين سنةً [9](ت 213)، وقد قارب المائة، وهو من كبار شيوخ البخاريّ (ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 15.

2 -

(سَعِيدُ بْنُ أَبِي أَيُّوبَ) الْخُزاعيّ مولاهم المصريّ، أبو يحيى بن مِقْلاص، ثقةٌ ثبتٌ [7](ت 161) وقيل غير ذلك (ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 15.

3 -

(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ) المصريّ، أبو بكر الفقيه، مولى بني كنانة، أو أميّة، قيل: اسم أبيه يسار، ثقةٌ فقيهٌ عابدٌ [5](ت 2 أو 4 أو 5 أو 136)(ع) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 20/ 1306.

والباقون ذُكروا في الباب، وقبل باب.

ص: 603

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه أحفظ من روى الحديث في دهره.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ عُرِضَ) بالبناء للمفعول (عَلَيْهِ رَيْحَانٌ) وفي رواية النسائيّ: "من عُرض عليه طِيبٌ"، وسيأتي ترجيحها في كلام الحافظ رحمه الله، قال النوويّ رحمه الله: قال أهل اللغة، وغريب الحديث في تفسير هذا الحديث:"الريحان": هو كلّ نبت مشموم، طيّب الريح، قال القاضي عياض - بعد حكاية ما ذكرنا -: ويَحْتَمِل عندي أن يكون المراد به في هذا الحديث الطِّيب كلّه، وقد وقع في رواية أبي داود في هذا الحديث:"من عُرض عليه طِيب"، وفي "صحيح البخاريّ":"كان النبيّ صلى الله عليه وسلم لا يردّ الطِّيب". انتهى

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: "الرَّيحان": كلُّ بقلةٍ طيِّبة الرِّيح. قاله الخليل. والمراد به في هذا الحديث: كلُّ الطِّيب؛ لأنَّه كله خفيف المحمل، طيِّب الرِّيح؛ ولأنه قد جاء في بعض طرق هذا الحديث:"من عُرِض عليه طِيبٌ" بدل: "ريحان"

(2)

.

وقال الحافظ رحمه الله في "الفتح" بعد ذكر اختلاف الرواية ما نصّه: ورواية الجماعة - يعني: بلفظ: الطِّيب - أثبت، فإن أحمد، وسبعةَ أنفس معه، رووه عن عبد الله بن يزيد المقرئ، عن سعيد بن أبي أيوب، بلفظ:"الطيب"، ووافقه ابن وهب عن سعيد، عند ابن حبان، والعدد الكثير أَولى بالحفظ من الواحد، وقد قال الترمذيّ - عقب حديث أنس، وابن عمر رضي الله عنهم: وفي الباب عن أبي هريرة، فأشار إلى هذا الحديث.

(1)

"شرح النووي" 15/ 9 - 10.

(2)

"المفهم" 5/ 558.

ص: 604

وقال في "الفتح" أيضًا في موضع آخر: وقد أخرج أبو داود، والنسائيّ، وصححه ابن حبان، من رواية الأعرج، عن أبي هريرة، رفعه:"من عُرض عليه طِيب فلا يردّه، فإنه طَيِّب الريح، خفيف الْمَحْمَل"، وأخرجه مسلم من هذا الوجه، لكن وقع عنده:"ريحان"، بدل:"طيب"، و"الريحان": كل بَقْلة لها رائحة طيّبة، قال المنذريّ: ويَحْتَمِل أن يراد بالريحان: جميع أنواع الطِّيب - يعني: مشتقًّا من الرائحة - قال الحافظ: مخرج الحديث واحد، والذين رووه بلفظ:"الطيب" أكثر عددًا، وأحفظ، فروايتهم أَولى، وكأن من رواه بلفظ:"ريحان"، أراد التعميم حتى لا يخصّ بالطِّيب المصنوع، لكن اللفظ غير وافٍ بالمقصود.

وللحديث شاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما، أخرجه الطبرانيّ، بلفظ:"من عُرض عليه الطِّيب، فليُصِبْ منه"، نعم أخرج الترمذيّ من مرسل أبي عثمان النَّهْديّ:"إذا أُعطي أحدكم الريحان، فلا يردّه، فإنه خرج من الجنة". انتهى

(1)

.

(فَلَا يَرُدُّهُ) بضمّ الدال؛ وقال النوويّ رحمه الله: قوله: "فلا يردّه": برفع الدال، على الفصيح المشهور، وأكثر ما يَستعمله من لا يُحقّق العربيّة بفتحها. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: القاعدة في هذا أنه إذا اتّصل بآخر الفعل المدغَم من المجزوم، وشِبْهه هاء الغائب وجب ضمّه، كرُدُّه، ولم يَرُدُّه، أو هاء الغائبة وجب فتحه، كرُدّها، ولم يَرُدّها؛ لأن الهاء خفيّة، فلم يُعتدّ بها، فكأن الدال قد وَلِيَها الواو، والألف، هذا هو مذهب جمهور البصريين، وهو الصحيح. وحَكَى ثعلب التثليث قبل هاء الغائب، وغُلّط في جواز الفتح، وأما الكسر، فالصحيح أنه لغيّة، سَمِع الأخفش: مُدِّهِ، وغطِّهِ. وحَكَى الكوفيّون

(1)

"الفتح" 13/ 443 - 444، كتاب "اللباس" رقم (5929).

(2)

"شرح النووي" 15/ 9 - 10.

ص: 605

التثليث قبل كلّ منهما، راجع: شروح "الخلاصة"، و"حواشيها"

(1)

، وقد تقدّم هذا البحث بأتمّ من هذا، ولله الحمد.

(فَإِنَّهُ خَفِيفُ الْمَحْمِلِ) قال القرطبيّ رحمه الله: المحمَل - بفتح الميم - يعني: به الْحَمْل، وهو مصدر:"حَمَل"، وبفتح الأُولى، وكسر الثانية: هو الزمان، والمكان، وقد يقال في الزمان بالفتح في الثانية. والمحمل - أيضًا -: واحد محامل الحاجِّ. والْمِحمَل - بكسر الأولى، وفتح الثانية: واحد محامل السيف. وقد أشار النبيّ صلى الله عليه وسلم بهذا القول إلى العلة التي تُرَغِّب في قَبول الطِّيب من الْمُعْطِي، وهي: أنه لا مُؤْنة، ولا مِنة تَلْحَق في قبوله؛ لجريان عادتهم بذلك، ولسهولته عليهم، ولنزارة ما يُتناول منه عند العَرْض، ولأنَّه مِمَّا يستطيبه الإنسان من نفسه، ويستطيبه من غيره.

وفيه من الفقه: الترغيب في استعمال الطيب، وفي عَرْضه على من يستعمله. انتهى

(2)

.

وقال النوويّ رحمه الله: بفتح الميم الأولى، وكسر الثانية، كالْمَجْلِس، والمراد به الْحَمل - بفتح الحاء -؛ أي: خفيف الحمل، ليس بثقيل. انتهى

(3)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قوله: "وكسر الثانية" فيه نظر، بل الصواب بفتح الميمين؛ لأن المراد هنا المصدر، والقاعدة أن المصدر الميميّ من الثلاثيّ الذي مضارعه بكسر عين الكلمة، يكون بفتحها، كمَضرَب، ومَحْمَل، وأما بكسرها، فإنه للزمان والمكان، ولا يناسبان هنا، فتبصّر بالإمعان، ولا تكن أسير التقليد، والله تعالى أعلم.

(طَيِّبُ الرِّيحِ")؛ أي: لأنه مما يستطيبه الإنسان من نفسه، ومن غيره، فلا ينبغيّ ردّه، والله تعالى أعلم.

(1)

راجع: "حاشية الخضريّ على شرح ابن عَقِيل على الخلاصة" في "باب الإدغام" 2/ 329.

(2)

"المفهم" 5/ 558.

(3)

"شرح النووي" 15/ 9.

ص: 606

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [5/ 5869](2253)، و (أبو داود) في "الترجّل"(4172)، و (النسائيّ) في "المجتبى"(8/ 189) و"الكبرى"(5/ 428)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 320)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(11/ 127)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5109)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(3/ 245)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان استحباب قبول الطِّيب، وعدم ردّه. قال النوويّ رحمه الله: وفى هذا الحديث كراهة ردّ الريحان لمن عُرض عليه، إلا لعذر. انتهى.

2 -

(ومنها): الترغيب في استعمال الطِّيب.

3 -

(ومنها): الترغيب في عَرْضه على من يستعمله.

4 -

(ومنها): ما قاله ابن العربي رحمه الله: إنما كان صلى الله عليه وسلم لا يرد الطيب؛ لمحبته فيه، ولحاجته إليه أكثر من غيره؛ لأنه يناجي من لا نناجي، وأما نهيه عن رد الطِّيب، فهو محمول على ما يجوز أخذه، لا على ما لا يجوز أخذه؛ لأنه مردود بأصل الشرع. ذكره في "الفتح"

(1)

، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5870]

(2254) - (حَدَّثَنِي هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الأَيْلِيُّ، وَأَبُو طَاهِرٍ، وَأَحْمَدُ بْنُ عِيسَى، قَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثنا، وَقَالَ الآخَرَانِ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي مَخْرَمَةُ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ نَافِعٍ، قَالَ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ إِذَا اسْتَجْمَرَ اسْتَجْمَرَ بالأَلُوَّةِ غَيْرِ مُطَرَّاةٍ، وَبِكَافُورٍ يَطْرَحُهُ مَعَ الأَلُوَّةِ

(2)

، ثُمَّ قَالَ: هَكَذَا كَانَ يَسْتَجْمِرُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم).

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

(1)

"الفتح" 13/ 443 - 444، كتاب "اللباس" رقم (5929).

(2)

وفي نسخة: "بالألوّة" في الموضعين.

ص: 607

1 -

(أَحْمَدُ بْنُ عِيسَى) بن حسّان المصريّ المعروف بابن التستُريّ، صدوقٌ، تُكُلّم في بعض سماعه بلا حجة [10](ت 243)(خ م س ق) تقدم في "الإيمان" 8/ 134.

2 -

(مَخْرَمَةُ) بن بكير بن عبد الله بن الأشجّ، أبو الْمِسْور المدنيّ، صدوقٌ، روايته عن أبيه وجادةٌ من كتابه، قاله أحمد، وابن معين، وغيرهما، وقال ابن المدينيّ: سَمِع من أبيه قليلًا [7](ت 159)(بخ م د س) تقدم في "الطهارة" 4/ 554.

3 -

(أَبُوهُ) بُكير بن عبد الله بن الأشجّ المخزوميّ مولاهم، أبو عبد الله، أو أبو يوسف المدنيّ، نزيل مصر، ثقةٌ [5](ت 120) أو بعدها (ع) تقدم في "الطهارة" 4/ 554.

والباقون تقدّموا قريبًا.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من سداسيات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالمدنيين من مخرمة، وفيه رواية الابن عن أبيه، وتابعيّ عن تابعيّ: بكير، عن نافع، وفيه ابن عمر رضي الله عنهما من العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ نَافِعٍ) العدويّ مولى ابن عمر المدنيّ، أنه (قَالَ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ) بن الخطّاب رضي الله عنهما (إِذَا اسْتَجْمَرَ)؛ أي: إذا تبخّر، قال النوويّ: الاستجمار هنا: استعمال الطِّيب، والتبخّر به، مأخوذ من المِجْمر، وهو البَخُور. وقال القرطبيّ: يستجمر: يتبخّر، وأصله من المِجمر، والمِجمرة، فاستُعير له ذلك؛ لأنه وضع الْبَخور على الجمر في المِجمرة. انتهى

(1)

.

(اسْتَجْمَرَ بِالْأَلُوَّةِ) قال الأصمعيّ، وأبو عُبيد، وسائر أهل اللغة، والغريب: هي العُود، يُتَبَخّر به، قال الأصمعيّ: أُراها فارسيّةً، معرّبة، وهي بضمّ اللام، وفتح الهمزة، وضمّها لغتان مشهورتان، وحَكَى الأزهريّ كسر اللام، قال القاضي: وحُكي عن الكسائيّ: "إلِيّةٌ" بكسر الهمزة، واللام، قال القاضي: قال غيره: وتُشدّد، وتُخفّف، وتُكسر الهمزة، وتُضمّ، وقيل: لوّة،

(1)

"المفهم" 5/ 559.

ص: 608

وليّة. قاله النوويّ

(1)

.

(غَيْرَ مُطَرَّاةٍ) بضمّ الميم، وفتح الطاء، والراء المشدّدة؛ أي: غير مخلوطة، أو غير مُرَبّاة بشيء آخر من جنس الطيب؛ يعني: أنه كان يتبخّر أحيانًا بالعُود الخالص غير المخلوط بشيء.

قال في "اللسان": المطرّاة: ضَرْب من الطِّيب، وقال أيضًا: الْمُطَرّاة التي يُعمل عليها ألوان الطيب غيرها؛ كالعنبر، والمسك، والكافور. قال: وطَرَّى الطيبَ: فَتَقَه بأخلاط، وخلّصه، وقال أبو منصور: يقال للألُوّة: مُطَرَّاة: إذا طُرّيت بطيب، أو عنبر، أو غيره. انتهى بتصرّف

(2)

.

وقال القرطبيّ: قال القاضي عياض: أصل مطرّاة: مُطَرّرة، من طرّرت الحائطَ: إذا غَشّيته بجِصّ، أو حَسَّنته، وجدّدته، قال: ويَحْتَمِل أن تكون مُطرّاةً محسّنة مُبالغة، وذلك من الإطراء، وهو المبالغة في المدح. انتهى

(3)

.

(وَبِكَافُورٍ)؛ أي: وأحيانًا يتبخّر بعُود مخلوط بكافور.

قال في "القاموس": الكافورُ: نبتٌ طيّبٌ، نَوْرُه كنَور الأُقْحُوَان، والطَّلع، أو وِعَاؤه، وطِيبٌ معروفٌ يكون من شجر بجبال بحر الهند، والصين، يُظلّ خلقًا كثيرًا، وتَأْلَفُه النُّمُورَةُ، وخشبه أبيض هَشٌّ، ويوجد في أجوافه الكافور، وهو أنواعٌ، ولونها أحمر، وإنما يبيضّ بالتصعيد. انتهى

(4)

.

(يَطْرَحُهُ مَعَ الْأَلُوَّةِ)؛ أي: يجعل الكافور مع الألُوّة، (ثُمَّ قَالَ)؛ أي: ابن عمر رضي الله عنهما، (هَكَذَا كَانَ يَسْتَجْمِرُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم)؛ يعني: أنه صلى الله عليه وسلم كان يتبخّر مثل هذا التبخّر، فكان أحيانًا يتبخّر بالألوّة، وهي العُود وحدها، وأحيانًا بالألوّة مخلوطة بالكافور. والله تعالى أعلم.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

(1)

"شرح النووي" 15/ 10.

(2)

"لسان العرب" 15/ 6 - 7.

(3)

"المفهم" 5/ 559.

(4)

"القاموس المحيط" ص 1139.

ص: 609

أخرجه (المصنّف) هنا [5/ 5870](2254)، و (النسائيّ) في "المجتبى"(8/ 156) و"الكبرى"(5/ 433)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5463)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(3/ 244) و"شُعَب الإيمان"(5/ 131)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(3168)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان استحباب استعمال البَخُور.

2 -

(ومنها): ما قاله النوويّ رحمه الله: فيه استحباب الطِّيب للرجال، كما هو مستحبّ للنساء، لكن يُستحبّ للرجال من الطِّيب ما ظهر ريحه، وخفي لونه، وأما المرأة، فإذا أرادت الخروج إلى المسجد، أو غيره كُره لها كلّ طِيْب له ريح، ويتأكّد استحبابه للرجال يوم الجمعة، والعيد، عند حضور مجامع المسلمين، ومجالس الذِّكر، والعلم، وعند إرادة معاشرة زوجته، ونحو ذلك. انتهى

(1)

.

3 -

(ومنها): ما قاله القرطبيّ رحمه الله: وهذه الأحاديث كلّها تدلّ على أن استعمال الطِّيب، والبَخور مُرغّبٌ فيه، مندوبٌ إليه، لكن إذا قصد به الأمور الشرعيّة، مثل الجماعات، والجمُعات، والمواضع المعظّمات، وفِعل العبادات على أشرف الحالات، فلو قصد بذلك المباهاة، والفخر، والاختيال، لكان ذلك من أسوأ الذنوب، وأقبح الحالات. انتهى

(2)

. والله تعالى أعلم.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

* * *

(1)

"شرح النووي" 15/ 10.

(2)

"المفهم" 5/ 559.

ص: 610

‌43 - كِتَابُ الشِّعْرِ

مسائل تتعلّق بهذه الترجمة:

(المسألة الأولى): في بيان معنى الشِّعر:

قال في "التاج": الشِّعْرُ بالكسر: هو كالعلْمِ وَزْنًا ومَعْنًى، وقيل: هو العِلْمُ بدقائقِ الأمور، وقيل: هو الإدْراكُ بالحَواسّ، وبالأخير فُسِّرَ قولُه تعالى:{وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} [الزمر: 55]، قال: ثم غلبَ على منْظُومِ القولِ؛ لِشَرَفه بالوزنِ، والقافيةِ؛ أي: بالتزامِ وزنهِ على أوزان العربِ، والإتيان له بالقافية التي تربطُ وزنه، وتُظهر معناه، وإن كان كلُّ عِلمٍ شِعرًا، كما غلبَ الفِقهُ على عِلمِ الشرع، والعُودُ على المَندل، والنجمُ على الثريا، ومثلُ ذلك كثيرٌ. وربما سمَّوا البيتَ الواحدَ شِعرًا، حكاه الأخفشُ، قال ابن سِيدَهْ: وهذا عندي ليس بقويّ، إلا أن يكون على تَسمية الجُزءِ باسم الكُلّ. وعلل صاحبُ "المفرداتِ" غَلَبَته على المنظومِ بكونهِ مُشتملًا على دقائقِ العربِ، وخفايا أسرارها، ولطائفها، وقال الأزهريّ: الشعرُ: القريضُ المحدودُ بعلاماتٍ، لا يجاوزها، وجَمْعه: أشعارٌ، وشَعَرَ كنَصَرَ، وكَرُمَ شِعْرًا بالكسر، وشَعْرًا بالفتح: قالهُ؛ أي: الشعر، أو شَعَرَ كنصر: قاله، وشَعُرَ كَكَرُم: أجاده. انتهى

(1)

.

وقال الفيّوميّ رحمه الله: الشِّعْرُ العربي: هو النظم الموزون، وحدُّه ما تركب تركبًا متعاضدًا، وكان مُقَفًّى، موزونًا، مقصودًا به ذلك، فما خلا من هذه القيود، أو من بعضها، فلا يسمى شِعْرًا، ولا يسمى قائله شاعرًا، ولهذا ما ورد في الكتاب، أو السُّنَّة، موزونًا فليس بشعر؛ لعدم القصد، أو التقفية، وكذلك ما يَجري على ألسنة بعض الناس من غير قصد؛ لأنه مأخوذ من شَعَرْتُ: إذا

(1)

"تاج العروس" 1/ 3006.

ص: 611

فَطِنت، وعَلِمت، وسُمِّي شاعرًا؛ لِفِطْنته، وعِلمه به، فإذا لم يقصده فكأنه لم يَشْعُر به، وهو مصدر في الأصل، يقال: شَعَرْتُ أَشْعُرُ، من باب قتل: إذا قلته، وجَمْع الشَّاعِرِ شُعَرَاءُ، وجمع فاعل على فُعلاء نادرٌ، ومثله عاقل وعُقلاء، وصالح وصُلحاء، وبارح وبُرحاء، عند قوم، وهو شِدّة الأذى، من التبريح، وقيل: الْبُرَحاء غير جمع، قال ابن خالويه: وإنما جُمِع شَاعِرٌ على شُعَرَاءَ؛ لأن من العرب من يقول: شَعُرَ بالضم، فقياسه أن تجيء الصفة على فَعِيلٍ، نحو شَرُف فهو شريفٌ، فلو قيل كذلك لالتبس بِشَعِيرٍ الذي هو الحَبّ، فقالوا: شَاعِرٌ، ولَمَحُوا في الجمع بناءه الأصليّ، وأما نحو عُلماء، وحُلماء، فجَمْع عليم، وحليم، وشَعَرْتُ بالشيء شُعورًا، من باب قعد، وشِعْرًا، وشِعْرَةً بكسرهما: علمت، وليت شِعري: ليتني علمت. انتهى

(1)

.

وقال البخاريّ رحمه الله في "صحيحه": "باب ما يجوز من الشعر، والرجز، والحداء".

قال في "الفتح": أما الشعر: فهو في الأصل اسم لِمَا دَقّ، ومنه: ليت شعري، ثم استُعمل في الكلام الْمُقَفَّى الموزون قصدًا، ويقال: أصله الشَّعَرُ بفتحتين، يقال: شَعَرت: أصبت الشعر، وشَعَرت بكذا: عَلِمت علمًا دقيقًا كإصابة الشعر.

وقال الراغب: قال بعض الكفار عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: إنه شاعر، فقيل: لِمَا وقع في القرآن من الكلمات الموزونة، والقوافي، وقيل: أرادوا أنه كاذبٌ، لأن أكثر ما يأتي به الشاعر كَذِبٌ، ومن ثَمَّ سَمُّوا الأدلة الكاذبة شعرًا، وقيل في الشعر: أحسنه أكذبه، ويؤيد ذلك قوله تعالى:{وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (226)} [الشعراء: 226]، ويؤيد الأول ما ذُكر في حدّ الشعر أن شَرْطه القصد إليه، وأما ما وقع موزونًا اتفاقًا فلا يسمى شعرًا.

وأما الرجز: فهو - بفتح الراء، والجيم، بعدها زاي - وهو نوع من الشعر عند الأكثر، وقيل: ليس بشعر؛ لأنه يقال: راجز، لا شاعر، وسُمّي رجزًا؛

(1)

"المصباح المنير" 1/ 315.

ص: 612

لِتقارُب أجزائه، واضطراب اللسان به، ويقال: رَجَزَ البعير: إذا تقارب خطوه، واضطرب؛ لِضَعف فيه.

وأما الْحُداء: فهو - بضم الحاء، وتخفيف الدال المهملتين، يُمَدّ، ويُقْصَر -: سَوْق الإبل بضرب مخصوص من الغناء، والحداءُ في الغالب إنما يكون بالرجز، وقد يكون بغيره من الشعر، ولذلك عَطَفه على الشعر، والرجز، وقد جرت عادة الإبل أنها تُسرع السير إذا حُدي بها.

وأخرج ابن سعد بسند صحيح، عن طاوس مرسلًا، وأورده البزار موصولًا عن ابن عباس رضي الله عنهما دخل حديث بعضهم في بعض، أن أول من حدا الإبل عبدٌ لمضر بن نِزار بن معدّ بن عدنان، كان في إبل لمضر، فقصّر فضربه مضر على يده، فأوجعه، فقال: يا يداه، يا يداه، وكان حسن الصوت، فأسرعت الإبل لمّا سمعته في السير، فكان ذلك مبدأ الحداء.

ونقل ابن عبد البرّ الاتفاق على إباحة الحداء، وفي كلام بعض الحنابلة إشعار بنقل خلاف فيه، ومانعه محجوج بالأحاديث الصحيحة، ويلتحق بالحداء هنا الْحَجِيج المشتمل على التشوق إلى الحجّ بذِكر الكعبة، وغيرها من المشاهد، ونظيره ما يُحَرِّض أهل الجهاد على القتال، ومنه غناء المرأة لتسكين الولد في المهد. انتهى

(1)

.

(المسألة الثانية): قد اختُلف في جواز تمثّل النبيّ صلى الله عليه وسلم بشيء من الشعر، وإنشاده حاكيًا عن غيره، والصحيح جوازه، وقد أخرج البخاري في "الأدب المفرد"، والترمذيّ، وصححه، والنسائيّ، من رواية المقدام بن شُريح، عن أبيه، قلت لعائشة رضي الله عنها: أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتمثل بشيء من الشعر؟ قالت: كان يتمثل من شعر ابن رواحة:

وَيَأْتِيكَ بِالأَخْبَارِ مَنْ لَمْ تُزَوِّدِ

وأخرج ابن أبي شيبة نحوه، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وأخرج أيضًا من مرسل أبي جعفر الْخَطْميّ قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبني المسجد، وعبد الله بن رواحة يقول:

(1)

"الفتح" 14/ 6 - 7، كتاب "الأدب" رقم (6146).

ص: 613

أَفْلَحَ مَنْ يُعَالِجُ الْمَسَاجِدَا

فيقولها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقول ابن رواحة:

يَتْلُو الْقُرْآنَ قَائِمًا وَقَاعِدَا

فيقولها رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وأما ما أخرجه الخطيب في "التاريخ" عن عائشة رضي الله عنها:

تَفَاءَلْ بِمَا تَهْوَى يَكُنْ فَلَقَلَّمَا

يُقَالُ لِشَيْءٍ كَانَ إلَّا تَحَقَّقْ

قالت: وإنما لم يعربه؛ لئلا يكون شعرًا، فهو شيء لا يصحّ، ومما يدل على وهائه التعليل المذكور. انتهى

(1)

.

(المسألة الثالثة): قد عُلم مما سبق أن الشعر لا يسمّى شعرًا إلا إذا كان قائله قاصدًا له، فالكلام الواقع منظومًا من غير قَصْد إليه، لا يسمى ذلك شعرًا، وقد وقع الكثير من ذلك في القرآن العظيم، لكن غالبها أشطار أبيات، والقليل منها وقع وزن بيت تامّ، فمن التام قوله تعالى {الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ} [التوبة: 112]، {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} [النمل: 23]، {مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ} [التحريم: 5]، {فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26)} [الذاريات: 26]، {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49)} [الحجر: 49]، {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92]، {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ} [الأنفال: 38]، {وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ} [سبأ: 13]، {وَاتَّقُونِ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ} [البقرة: 197]، {إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ (54)} [ص: 54]، {تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [البقرة: 85]، {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ} [الروم: 30]، {وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ (49)} [الطور: 49]، وكذلك السجود، {وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة: 213]، {إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} [النمل: 23]، {يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ} [البقرة: 248]، {وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ} [آل عمران: 15]، {وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ} [التوبة: 14]، {وَلَقَدْ ضَلَّ

(1)

"الفتح" 14/ 6 - 7، كتاب "الأدب" رقم (6146).

ص: 614

قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (71)} [الصافات: 71]، {وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا (14)} [الإنسان: 14]، {وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا (19) وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا (20)} [الفجر: 19، 20] والواو في كل منهما، وإن كانت زائدة على الوزن، لكنه يجوز في النظم، ويسمى الخزم بالزاي، بعد الخاء المعجمة.

وأما الأشطار فكثيرة جدًّا، فمنها:{فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29]، {لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا} [الأنفال: 42]، {فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ} [الأحقاف: 25]، {فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ} [الرعد: 30]، {فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ} [يوسف: 32]، {فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} [الأنفال: 58]، {ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ (46)} [الحجر: 46]، {كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا} [المزمل: 18]، {حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ} [البقرة: 109]، {أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ} [هود: 60]، {وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ} [الأنعام: 60]، {وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا} [الشورى: 45]، {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} [الأحزاب: 25]، {وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا} [النساء: 88]، {حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [النساء: 140]، {قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ} [الملك: 29]، {أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ} [الشورى: 53]، {نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ} [الصف: 13]، {ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [الأنعام: 96]، {نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ} [الأنبياء: 18]، {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3]، {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ} [النساء: 1]، {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم: 7]، {قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17)} [عبس: 17]، {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} [التوبة: 40]، {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ} [ق: 4]، {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى} [القصص: 76]، {إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ} [يوسف: 50]، {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2)} [العلق: 2]، {وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ} [يونس: 10]، {وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ} [إبراهيم: 28]، {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ} [الأنعام: 151]، {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ} [التوبة: 112]، {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ} [الأنفال: 38]، {كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ} [البقرة: 20]، {وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا} [طه: 102]، {يَاأَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ} [الانشقاق: 6]، {يَاأَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ} [الانفطار: 6]، {وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً} [آل عمران: 8]، {وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (19)} [ص: 19]، {وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ (52)} [ص: 52]،

ص: 615

{فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} [المؤمنون: 107]، {إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} [الحج: 1]، {أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ} [يس: 47]، {ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ} [النحل: 67]، {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة: 2].

ومن التام أيضًا: {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا (106)} [الإسراء: 106]، وإذا انتهى إلى {النَّاسِ} تَمّ أيضًا، وأيضًا:{لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا} ، ذكر هذا كلّه في "الفتح"

(1)

، والله تعالى أعلم.

(1) - (بَابُ جَوَازِ إِنْشَادِ الشِّعْرِ، وَاسْتِمَاعِهِ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5871]

(2255) - (حَدَّثَنَا عَمْرٌو النَّاقِدُ، وَابْنُ أَبِي عُمَرَ، كِلَاهُمَا عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، قَالَ ابْنُ أَبِي عُمَرَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مَيْسَرَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الشَّرِيدِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: رَدِفْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمًا، فَقَالَ: "هَلْ مَعَكَ مِنْ شِعْرِ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ شَيْءٌ

(2)

؟ "، قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: "هِيهِ"، فَأَنْشَدْتُهُ بَيْتًا، فَقَالَ: "هِيهِ"، ثُمَّ أَنْشَدْتُهُ بَيْتًا، فَقَالَ: "هِيهِ"، حَتَّى أَنْشَدْتُهُ مِائَةَ بَيْتٍ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(إِبْرَاهِيمُ بْنُ مَيْسَرَةَ) الطائفيّ، نزيل مكة، ثقةٌ ثبتٌ حافظٌ [5](ت 132)(ع) تقدم في "صلاة المسافرين وقصرها" 2/ 1582.

2 -

(عَمْرُو بْنُ الشَّرِيدِ) - بفتح الشين المعجمة - الثقفيّ، أبو الوليد الطائفيّ، ثقةٌ [3](عخ د تم س ق) تقدم في "السلام" 21/ 5808.

3 -

(أَبُوهُ) الشَّريد - بوزن الطويل - ابن سويد الثقفيّ، صحابيّ، شَهِد بيعة الرضوان، قيل: كان اسمه مالكًا (بخ م د تم س ق) تقدم في "السلام" 21/ 5808.

والباقون ذُكروا في الباب الماضي، وقبله ببابين.

(1)

"الفتح" 14/ 12 - 14، كتاب "الأدب" رقم (6146).

(2)

وفي نسخة: "شيئًا".

ص: 616

شرح الحديث:

(عَنْ عَمْرِو بْنِ الشَّرِيدِ) - بشين معجمة مفتوحة، ثم راء مخففة مكسورة - (عَنْ أَبِيهِ) الشَّرِيد بن سُويد الثقفيّ رضي الله عنه.

قال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "عن عمرو بن الشريد عن أبيه. . . إلخ" هكذا صواب هذا السَّند، وصحيح روايته، وقد وقع لبعض رواة كتاب مسلم: عن عمرو بن الشريد، عن الشريد، عن أبيه، وهو وَهَمٌ؛ لأنَّ الشريد هو الذي أردفه النبيّ صلى الله عليه وسلم خلفه، واستنشده شعر أميَّة بن أبي الصلت، لا أبو الشريد، واسم أبي الشريد: سويد. انتهى

(1)

.

(قَالَ: رَدِفْتُ) بكسر الدال المهملة، وفتحها، قال في "التاج": رَدِفه، كسمعه، وعليه اقْتَصَرَ الجَوْهَريُّ وغيرُه، ورَدَفَهُ مِثْلُ نَصَرَهُ، وبه قَرَأَ الأَعْرَج:(رَدَفَ لَكُمْ) بفَتْحِ الدَّالِ: تَبِعَهُ. انتهى

(2)

.

وقال في "المصباح": الرَّدِيفُ الذي تحمله خلفك على ظهر الدابة، تقول: أَرْدَفْتُهُ إِرْدَافًا، وارْتَدَفْتُهُ، فهو رَدِيفٌ، ورِدْفُ، ومنه رِدْفُ المرأة، وهو عَجُزها، والجمع أَرْدَافٌ، واسْتَرْدَفْتُهُ: سألته أن يُرْدِفَنِي، وأَرْدَفَتِ الدابة، ورَادَفَتْ: إذا قَبِلت الرَّدِيفَ، وقَوِيَت على حمله، وجمع الرَّدِيفِ: رُدَافَى، على غير قياس، وقال الزجاج: رَدِفْتَ الرجلَ، بالكسر: إذا ركبت خلفه، وأَرْدَفْتَهُ: إذا أركبته خلفك، ورَدِفْتُهُ بالكسر: لَحِقته، وتبعته، وتَرَادَفَ القوم: تتابعوا، وكلّ شيء تَبع شيئًا فهو رِدْفُهُ. انتهى

(3)

.

(رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمًا) وأخرج ابن عساكر رحمه الله في "تاريخه" من طريق عُمر بن نافع، عن الشريد الهمدانيّ، وأخواله ثقيف، قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، فبينا أنا أمشي ذات يوم، إذ وَقْعُ ناقة خلفي، فالتفتُّ فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"الشريد؟ " فقلت: نعم، قال:"ألا أحملك؟ " قلت: بلى، وما بي من إعياء ولا لُغُوب، ولكني أردت البركة في ركوبي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأناخ، فحملني، فقال:"أمعك من شعر أمية بن أبي الصلت؟ "

(1)

"المفهم" 5/ 526.

(2)

"تاج العروس" 1/ 5862.

(3)

"المصباح المنير" 1/ 224 - 225.

ص: 617

قلت: نعم. . ." الحديث

(1)

.

(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("هَلْ مَعَكَ مِنْ شِعْرِ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ شَيْءٌ؟ ") هكذا في بعض النُّسخ "شيءٌ" بالرفع، وهو واضح؛ لأنه مبتدأ مؤخّرٌ، الظرف قبله؛ أي:"معك"، و"من شعر أميّة" بيان مقدّم لـ "شيء"، ووقع في بعض النسخ:"شيئًا" بالنصب، وله وجهٌ، وهو أن يكون مفعولًا لفعل مقدّر؛ أي: هل تنشدني شيئًا معك، من شعر أمية؟

وقال النوويّ رحمه الله: هكذا وقع في معظم النسخ: "شيئًا" بالنصب، وفي بعضها "شيءٌ" بالرفع، وعلى رواية النصب يُقدّر فيه محذوف؛ أي: هل معك من شيء؟، فتنشدني شيئًا. انتهى

(2)

.

[تنبيه]: أميّة بن أبي الصلت، واسم أبي الصلت ربيعة بن عوف بن عقدة بن غِيَرة - بكسر المعجمة، وفتح التحتانية - ابن عوف بن ثَقِيف الثقفيّ، وقيل في نسبه غير ذلك، أبو عثمان، كان ممن طلب الدِّين، ونظر في الكتب، ويقال: إنه ممن دخل في النصرانية، وأكثر في شِعره من ذِكر التوحيد، والبعث يوم القيامة، وزعم الكلاباذيّ أنه كان يهوديًّا، وروى الطبرانيّ من حديث معاوية بن أبي سفيان، عن أبيه، أنه سافر مع أمية، فذكر قصته، وأنه سأله عن عتبة بن ربيعة، وعن سنّه، ورياسته، فأعلمه أنه متصف بذلك، فقال: أزرَى به ذلك، فغضب أبو سفيان، فأخبره أمية أنه نظر في الكتب أن نبيًّا يُبعث من العرب، أظل زمانه، قال: فرجوت أن أكونه، قال: ثم نظرت فإذا هو من بني عبد مناف، فنظرت فيهم، فلم أر مثل عتبة، فلما قلت لي: إنه رئيس، وإنه جاوز الأربعين، عرفت أنه ليس هو، قال أبو سفيان: فما مضت الأيام حتى ظهر محمد صلى الله عليه وسلم، فقلت لأمية، قال: نعم إنه لهو، قلت: أفلا نتبعه؟ قال: أستحيي من نُسيّات ثقيف، إني كنت أقول لهنّ: إنني أنا هو، ثم أصير تابعًا لغلام من بني عبد مناف.

وذكر أبو الفرج الأصبهانيّ أنه قال عند موته: أنا أعلم أن الحنيفية حقّ، ولكن الشك يداخلني في محمد صلى الله عليه وسلم.

(1)

"تاريخ مدينة دمشق" 9/ 269.

(2)

"شرح النوويّ" 15/ 12.

ص: 618

وروى الفاكهيّ، وابن منده من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن الفارعة بنت أبي الصَّلْت أخت أمية أتت النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأنشدته من شعره، فقال:"آمن شعره، وكفر قلبه".

وروى ابن مردويه بإسناد قويّ عن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال في قوله تعالى:{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا} [الأعراف: 175]، قال: نزلت في أمية بن أبي الصلت.

ورَوَى من أوجه أخرى أنها نزلت في بلعام الإسرائيليّ، وهو المشهور.

وعاش أمية حتى أدرك وقعة بدر، ورَثَى مَن قُتل بها من الكفار، ومات بعد ذلك سنة تسع، وقيل: مات سنة اثنتين، ذكره سبط ابن الجوزيّ، واعتَمَد في ذلك ما نقله عن ابن هشام، أن أمية قَدِمَ من الشام على أن يأخذ ماله من الطائف، ويهاجر إلى المدينة، فنزل في طريقه ببدر، قيل له: أتدري من في القليب؟ قال: لا، قيل: فيه عتبة، وشيبة، وهما ابنا خالك، وفلان، وفلان، فشَقّ ثيابه، وجَدَعَ ناقته، وبَكَى، ورجع إلى الطائف، فمات بها.

قال الحافظ: ولا يلزم من قوله: فمات بها أن يكون مات في تلك السنة.

وأغرب الكلاباذيّ، فقال: إنه مات في حِصار الطائف، فإن كان محفوظًا، فذلك سنة ثمان، ولموته قصة طويلة، أخرجها البخاريّ في "تاريخه"، والطبرانيّ، وغيرهما، ذكره في "الفتح"

(1)

.

قال الشريد رضي الله عنه (قُلْتُ: نَعَمْ) عندي من شِعره شيء كثير. (قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("هِيهِ") - بكسر الهاء الأولى، وسكون الثانية للوقف - وهي: إيه التي للاستزادة، وأبدل من الهمزة هاء، كما قد فعلوا ذلك في غير موضع، وهي اسم لفعل الأمر الذي هو زِد، وهي مبنية على الكسر؛ لوقوعها موقع المبنيّ الذي هو الأمر، وفي "الصحاح": إذا قلت: إيهِ يا رجل؛ فإنما تأمره بأن يزيدك من حديثه المعهود، وإن قلت: إيهٍ - بالتنوين - كأنك قلت: هات حديثًا؛ لأنَّ التنوين تنكير. انتهى

(2)

.

(1)

"الفتح" 8/ 550 - 551، كتاب "مناقب الأنصار" رقم (3840).

(2)

"المفهم" 5/ 526 - 527.

ص: 619

قال ابن مالك رحمه الله في "خلاصته":

وَاحْكُمْ بِتَنْوِينِ الَّذِي يُنَوَّنُ

مِنْهَا وَتَعْرِيفُ سِوَاهُ بَيِّنُ

وقال النوويّ رحمه الله: "هِيهِ" - بكسر الهاء، وإسكان الياء، وكسر الهاء الثانية -، قالوا: والهاء الأولى بدل من الهمزة، وأصله: إيه، وهي كلمة للاستزادة من الحديث المعهود، قال ابن السِّكِّيت: هي للاستزادة من حديث، أو عمل معهودين، قالوا: وهي مبنية على الكسر، فإن وَصَلْتها نوَّنتها، فقلت: إيهٍ حدِّثنا؛ أي: زدنا من هذا الحديث، فإن أردت الاستزادة من غير معهود نوّنت، فقلت: إيهٍ؛ لأن التنوين للتنكير، وأما إيهًا بالنصب، فمعناه الكفّ، والأمر بالسكوت

(1)

.

(فَأَنْشَدْتُهُ بَيْتًا)؛ أي: قرأته عليه، (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("هِيهِ")؛ أي: زدنا من إنشاد شعره، (ثُمَّ أَنْشَدْتُهُ بَيْتًا) آخر (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("هِيهِ")؛ أي: زدنا أيضًا، (حَتَّى أَنْشَدْتُهُ مِائَةَ بَيْتٍ) قال النوويّ رحمه الله: مقصود الحديث أن النبيّ صلى الله عليه وسلم استحسن شعر أمية، واستزاد من إنشاده؛ لِمَا فيه من الإقرار بالوحدانية، والبعث، ففيه جواز إنشاد الشعر الذي لا فُحش فيه، وسماعه، سواء شعر الجاهلية، وغيرهم، وأن المذموم من الشعر الذي لا فُحش فيه، إنما هو الإكثار منه، وكونه غالبًا على الإنسان، فأما يسيره فلا بأس بإنشاده، وسماعه، وحفظه. انتهى

(2)

، والله تعالى أعلم.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث الشَّرِيد بن سُويد رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [1/ 5871 و 5872 و 5873](2255)، و (البخاريّ) في "الأدب المفرد"(869)، و (الترمذيّ) في "الشمائل"(248)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(6/ 248) و"عمل اليوم والليلة"(998)، و (ابن ماجه)

(1)

"شرح النوويّ" 15/ 122.

(2)

"شرح النوويّ" 15/ 122.

ص: 620

في "الأدب"(3758)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1271)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(8/ 692 و 693)، و (الحميديّ) في "مسنده"(809)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 388 و 389 و 390)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5782)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(7237 و 7239)، و (الطحاويّ) في "شرح الآثار"(4/ 300)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(10/ 226 - 227)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(3400)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان ما كان عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم من استنشاد الشعر، واستماعه، وأن ذلك جائز له، ولا ينافي قوله عز وجل:{وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (69)} [يس: 69]؛ لأن المراد أنه ما علّمه الله الشعر، فلا يقوله من عنده، ولا ينبغي له ذلك، وأما الاستنشاد لشعر غيره، أو التمثّل ببيت أو بيتين، فلا يدخل في هذا، والله تعالى أعلم.

2 -

(ومنها): أن في استنشاده صلى الله عليه وسلم لشعر أميّة دليلًا على جواز حفظ الأشعار، والاعتناء بها، إنَّما المكروه أن يغلب الاشتغال بها على الإنسان، ويُكثر منها كثرة تصدّه عن أهم منها، أو تفضي به إلى تعاطي أحوال مُجّان الشعراء، وسخفائهم، فإنَّ الغالب من أحوال من انصرف إلى الشعر بكلّيته، وأكثر منه؛ أن يكون كذلك، واستقراء الوجود يحققه، وأما حفظ فصيح الشعر، وجيّده المتضمن للحِكَم والمعاني المستحسَنة شرعًا وطبعًا فجائز، بل ربما يُلحق ما كان منه حُكْمًا بالمندوب إليه، وعلى الجملة فلا أحسن مِمَّا قاله الإمام الشافعيّ: الشعرُ كلامٌ، حَسَنُه حسن، وقبيحه قبيح، قاله القرطبيّ رحمه الله

(1)

.

3 -

(ومنها): ما قال القرطبيّ رحمه الله أيضًا: وفيه دليلٌ على جواز إنشاد الشعر، واستنشاده؛ لكن ما لم ينته إلى الإطراب المخلّ بالعقل، المزيل للوقار، فإنَّ ذلك يحرم، أو يُكره بحسب ما يفضي إليه، وإنَّما استكثر النبيّ صلى الله عليه وسلم من شعر أميَّة؛ لأنه كان حِكَمًا، ألا ترى قوله صلى الله عليه وسلم:"وكاد أميَّة بن أبي الصلت أن يسلم". انتهى

(2)

.

(1)

"المفهم" 5/ 526.

(2)

"المفهم" 5/ 527.

ص: 621

وقال في "الفتح" - عند شرح قوله: "إن من الشعر حكمةً"، رواه البخاريّ -: أي: قولًا صادقًا مطابقًا للحقّ، وقيل: أصل الحكمة المنع، فالمعنى أن من الشعر كلامًا نافعًا يمنع من السَّفَه.

وأخرج أبو داود، من رواية صخر بن عبد الله بن بُريدة، عن أبيه، عن جدّه، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"إن من البيان سحرًا، وإن من العلم جهلًا، وإن من الشعر حِكَمًا، وإن من القول عِيالًا"، فقال صعصعة بن صُوحان: صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم.

أما قوله: "إن من البيان سحرًا" فالرجل يكون عليه الحقّ، وهو ألحن بالحجج من صاحب الحقّ، فيَسْحَر القوم ببيانه، فيذهب بالحقّ، وإن قوله:"وإن من العلم جهلًا"، فيتكلّف العالم إلى علمه ما لا يَعْلَم، فيُجَهِّلُهُ ذلك، وأما قوله:"إن من الشعر حِكَمًا" فهي هذه المواعظ، والأمثال التي يتعظ بها الناس، وأما قوله:"إن من القول عِيالًا"، فعرضُك كلامك على من لا يريده.

وقال ابن التين: مفهومه أن بعض الشعر ليس كذلك؛ لأن "مِنْ" تبعيضية.

ووقع في حديث ابن عباس رضي الله عنهما عند البخاريّ في "الأدب المفرد"، وأبي داود، والترمذيّ، وحسَّنه، وابن ماجه، بلفظ:"إن من الشعر حِكَمًا"، وكذا أخرجه ابن أبي شيبة، من حديث ابن مسعود، وأخرجه أيضًا من حديث بريدة مثله.

وأخرج ابن أبي شيبة من طريق عبد الله بن عبيد بن عمير، قال: قال أبو بكر: ربما قال الشاعر الكلمة الحكيمة.

وقال ابن بطال: ما كان في الشعر والرجز ذِكرًا لله تعالى، وتعظيمًا له ووحدانيتِهِ، وإيثار طاعته، والاستسلام له فهو حسن، مُرَغّب فيه، وهو المراد في الحديث بأنه حكمة، وما كان كذبًا، وفُحْشًا، فهو مذموم.

وقال الطبريّ: في هذا الحديث رَدّ على من كَرِه الشعر مطلقًا، واحتج بقول ابن مسعود:"الشعر مزامير الشيطان"، وعن مسروق أنه تمثّل بأول بيت شِعر، ثم سكت، فقيل له؟، فقال: أخاف أن أجد في صحيفتي شعرًا، وعن أبي أمامة، رفعه:"إن إبليس لمّا أُهبط إلى الأرض، قال: رب اجعل لي قرآنًا، قال: قرآنك الشعر".

ص: 622

ثم أجاب عن ذلك بأنها أخبار واهية، قال الحافظ: وهو كذلك، فحديث أبي أمامة فيه عليّ بن يزيد الألهانيّ، وهو ضعيف، وعلى تقدير قوتها، فهو محمول على الإفراط فيه، والإكثار منه، ويدل على الجواز سائر أحاديث الباب، وأخرج البخاريّ في "الأدب المفرد" عن عَمرو بن الشَّرِيد، عن أبيه، قال: استنشدني النبيّ صلى الله عليه وسلم من شعر أمية بن أبي الصلت، فأنشدته حتى أنشدته مائة قافية.

وعن مُطَرِّف قال: صحبت عمران بن حصين من الكوفة إلى البصرة، فقلّ منزل نزله إلا وهو ينشدني شعرًا.

وأسند الطبريّ عن جماعة من كبار الصحابة، ومن كبار التابعين أنهم قالوا الشعر، وأنشدوه، واستنشدوه.

وأخرج البخاريّ في "الأدب المفرد" عن خالد بن كيسان، قال:"كنت عند ابن عمر، فوقف عليه إياس بن خيثمة، فقال: ألا أُنشدك من شعري؟ قال: بلى، ولكن لا تُنشدني إلا حَسَنًا".

وأخرج ابن أبي شيبة بسند حسن، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، قال:"لم يكن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منحرفين، ولا متماوتين، وكانوا يتناشدون الأشعار في مجالسهم، ويذكرون أمر جاهليتهم، فإذا أريدَ أحدهم على شيء من دينه دارت حماليق عينيه".

ومن طريق عبد الرحمن بن أبي بكرة قال: "كنت أجالس أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أبي في المسجد، فيتناشدون الأشعار، ويذكرون حديث الجاهلية".

وأخرج أحمد، وابن أبي شيبة، والترمذيّ، وصححه، من حديث جابر بن سمرة قال:"كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتذاكرون الشعر، وحديث الجاهلية، عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا ينهاهم، وربما يتبسم".

وقال في "الفتح" أيضًا ما حاصله: والذي يتحصل من كلام العلماء في حدّ الشعر الجائز أنه إذا لم يَكثر منه في المسجد، وخلا عن هجو، وعن الإغراق في المدح، والكذب المحض. والتغزل بمعيَّن لا يحلّ، وقد نقل ابن

ص: 623

عبد البرّ الإجماع على جوازه، إذا كان كذلك، واستَدَلّ بأحاديث الباب وغيرها، وقال: ما أُنشد بحضرة النبيّ صلى الله عليه وسلم، أو استَنْشَده، ولم ينكره.

قال: وترجم البخاريّ في "الأدب المفرد": "ما يُكرَه من الشعر"، وأورد فيه حديث عائشة رضي الله عنها مرفوعًا:"إن أعظم الناس فِرْيةً الشاعرُ يهجو القبيلة بأسرها"، وسنده حسن، وأخرجه ابن ماجه من هذا الوجه بلفظ:"أعظمُ الناس فريةً رجل هاجى رجلًا، فهجا القبيلة بأسرها"، وصححه ابن حبان.

وأخرج البخاري في "الأدب المفرد" عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تقول: "الشعر منه حسن، ومنه قبيح، خذ الحسن، ودع القبيح".

قال الحافظ: ولقد رَوَيت من شعر كعب بن مالك أشعارًا، منها القصيدة فيها أربعون بيتًا، وسنده حسن، وأخرج أبو يعلى أوله من حديثها من وجه آخر، مرفوعًا، وأخرجه البخاريّ في "الأدب المفرد" أيضًا من حديث عبد الله بن عمرو، مرفوعًا، بلفظ:"الشعر بمنزلة الكلام، فحُسنه كحسن الكلام، وقبيحه كقبيح الكلام"، وسنده ضعيف، وأخرجه الطبرانيّ في "الأوسط"، وقال: لا يُرْوَى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم إلا بهذا الإسناد.

وقد اشتهر هذا الكلام عن الشافعيّ، واقتصر ابن بطال على نسبته إليه، فقَصَّر، وعاب القرطبيّ المفسِّر على جماعة من الشافعية الاقتصار على نسبة ذلك للشافعيّ، وقد شاركهم في ذلك ابن بطال، وهو مالكيّ، وأخرج الطبريّ من طريق ابن جريج قال: سألت عطاء عن الْحُدَاء، والشعر، والغناء، فقال: لا بأس به ما لم يكن فُحْشًا. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5872]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِيهِ زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَأَحْمَدُ بْنُ عَبْدَةَ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مَيْسَرَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الشَّرِيدِ، أَوْ يَعْقُوبَ بْنِ عَاصِمٍ، عَنِ الشَّرِيدِ، قَالَ: أَرْدَفَنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَلْفَهُ، فَذَكَرَ بِمِثْلِهِ).

(1)

"الفتح" 14/ 8 - 10، كتاب "الأدب" رقم (6147).

ص: 624

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(أَحْمَدُ بْنُ عَبْدَةَ) بن موسى الضبيّ، أبو عبد الله البصري، ثقة رُمي بالنصب [10](ت 245)(م 4) تقدم في "الإيمان" 1/ 103.

2 -

(يَعْقُوبُ بْنُ عَاصِمِ) بن عروة بن مسعود الثقفيّ، أخو نافع بن عاصم، ثقة

(1)

[3].

رَوَى عن الشَّرِيد بن سُويد الثقفيّ، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وعبد الله بن عمر بن الخطاب، وغيرهم.

وروى عنه النعمان بن سالم، وغُضيف بن سفيان، ومحمد بن عبد الله بن ميمون بن مُسيكة، وإبراهيم بن ميسرة، ويعلى بن عطاء، وآخرون، وذكره ابن حبان في "الثقات".

أخرج له المصنّف، وأبو داود، والنسائيّ، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا برقم (2255)، وحديث (2940):"يخرج الدجال في أمتي. . ." الحديث.

والباقون ذُكروا في الباب، وقبله.

وقوله: (فَذَكَرَ بِمِثْلِهِ) فاعل "ذَكَر" ضمير يعود إلى الراوي المتابع بالكسر، والمراد شيخاه: زهير، وأحمد، وضمير "بمثله" يعود إلى الراوي المتابَع بالفتح، والمراد شيخاه: عمرو الناقد، وابن أبي عمر، والله تعالى أعلم.

[تنبيه]: رواية سفيان بن عيينة، عن إبراهيم بن ميسرة هذه ساقها أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(19494)

- حدّثنا عبد الله، ثنا أبي، ثنا سفيان، عن إبراهيم بن ميسرة، عن عمرو بن الشَّرِيد، عن أبيه - إن شاء الله - أو يعقوب بن عاصم - يعني - عن الشريد، كذا حدّثناه أبي قال: أردفني رسول الله صلى الله عليه وسلم خلفه، فقال:"هل معك من شعر أمية شيء؟ " قلت: نعم، قال:"أنشدني، فأنشدته بيتًا"، فقال:

(1)

هذا هو الظاهر، وأما قوله في "التقريب": مقبول، ففيه نظر لا يخفى؛ لأنه روى عن جماعة، وروى عنه جماعة، وأخرج له مسلم، ووثقه ابن حبّان، ولم يتكلّم فيه أحد بجرح، فكونه ثقة هو الأشبه، فتأمله بالإمعان، والله تعالى أعلم.

ص: 625

"هيه"، فلم يزل يقول:"هيه" حتى أنشدته مائة بيت. انتهى

(1)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5873]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ (ح) وَحَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، كِلَاهُمَا عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الطَّالِفِيِّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الشَّرِيدِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: اسْتَنْشَدَنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، بِمِثْلِ حَدِيثِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مَيْسَرَةَ، وَزَادَ: قَالَ: "إِنْ كَادَ لَيُسْلِمُ"، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ مَهْدِيٍّ: قَالَ: "فَلَقَدْ كَادَ يُسْلِمُ فِي شِعْرِهِ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ، أبو زكريّاء النيسابوريّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ) التيميّ، أبو محمد البصريّ، يُلقّب بالطُّفَيل، ثقةٌ، من كبار [9](ت 187) وقد جاوز الثمانين (ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 105.

3 -

(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيِّ) بن حسّان العنبريّ مولاهم، أبو سعيد البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ حافظٌ عارف بالرجال والحديث [9](ت 198)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 388.

4 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الطَّائِفِيُّ) هو: عبد الله بن عبد الرحمن بن يعلى بن كعب، أبو يعلى الثَّقَفيّ، صدوقٌ يُخطئ [7].

رَوَى عن عمرو بن الشريد بن سُويد الثَّقَفيّ، وعثمان بن عبد الله بن أوس، وعمرو بن شعيب، وعطاء بن أبي رباح، وعبد ربه بن الحكم بن سفيان الثقفيّ، وغيرهم.

وروى عنه الثوريّ، ومعتمر بن سليمان، ومروان بن معاوية، وعبد الأعلى بن عبد الأعلى، وأبو خالد الأحمر، ووكيع، وابن مهديّ، وابن المبارك، وغيرهم.

قال ابن أبي خيثمة عن ابن معين: صالح، وقال أبو حاتم: ليس بقويّ، لَيِّن الحديث، بابه طلحة بن عمرو، وعبدُ الله بن المؤمل، وعمر بن راشد،

(1)

"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 4/ 390.

ص: 626

وقال النسائيّ: ليس بذاك القويّ، ويُكتب حديثه، وقال عثمان بن سعيد عن ابن معين: ضعيف، وقال في موضع آخر: صُويلح، وقال ابن أبي مريم، عن ابن معين: ليس به بأس، وقال البخاريّ: فيه نظرٌ، وحَكَى ابن خَلْفون أن ابن المدينيّ وَثّقه، وقال ابن عديّ: يروي عن عمرو بن شعيب، أحاديثه مستقيمة، وهو ممن يُكتب حديثه، وقال الدارقطنيّ: طائفيّ يُعتبر به، وقال العجليّ: ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات".

أخرج له البخاريّ في "الأدب المفرد"، والمصنّف، وأبو داود، والترمذيّ في "الشمائل"، والنسائيّ، وابن ماجه، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.

والباقون ذُكروا قبله.

وقوله: (كِلَاهُمَا عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الطَّائِفِيِّ) الضمير لمعتمر بن سليمان، وعبد الرحمن بن مهديّ.

وقوله: (إِنْ كَادَ لَيُسْلِمُ)"إن" مخفّفة من الثقيلة، بدليل ذِكر اللام بعدها، كما قال في "الخلاصة":

وَخُفِّفَتْ "إِنَّ" فَقَلَّ الْعَمَلُ

وَتَلْزَمُ اللَّامُ إِذَا مَا تُهْمَلُ

واسمها ضمير شأن محذوف؛ أي: إنه، والمراد أن المعاني التي أتى بها أميّة بن أبي الصَّلْت في شعره معانٍ صحيحةٌ لا تصدر في الغالب إلا من رجل مسلم، فكاد أميّة يسلمُ ولكن لم يوفّق له، والله تعالى أعلم.

[تنبيه]: رواية عبد الله بن عبد الرحمن الثقفيّ، عن عمرو بن الشَّرِيد ساقها الطبريّ رحمه الله في "تهذيب الآثار"، فقال:

(935)

- حدّثنا ابن بشار، حدّثنا عبد الرحمن، حدّثنا عبد الله بن عبد الرحمن الثَّقَفيّ، عن عمرو الشَّرِيد، عن أبيه، قال: استنشدني رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة قافية، من شعر أمية بن أبي الصَّلْت، فقال:"لقد كاد أن يُسْلِم في شعره". انتهى

(1)

.

(1)

"تهذيب الآثار" مسند عليّ 2/ 633.

ص: 627

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5874]

(2256) - (حَدَّثَنِي أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الصَّبَّاحِ، وَعَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ السَّعْدِيُّ، جَمِيعًا عَنْ شَرِيكٍ، قَالَ ابْنُ حُجْرٍ: أَخْبَرَنَا شَرِيكٌ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أَشْعَرُ كَلِمَةٍ تَكَلَّمَتْ بِهَا الْعَرَبُ كَلِمَةُ لَبِيدٍ:

أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللهَ بَاطِلٌ")

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الصَّبَاحِ) الدُّولابيّ البغداديّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 227)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 27.

2 -

(عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ السَّعْدِيُّ) المروزيّ، تقدّم قبل بابين.

3 -

(شَرِيكُ) بن عبد الله النخعيّ القاضي، تقدّم قريبًا.

4 -

(عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عُمَيْرِ) بن سُويد اللَّخْميّ الْفَرَسيّ الكوفيّ، ثقةٌ فقيهٌ تغيّر حفظه، وربّما دلّس [3](ت 136) وله (103) سنين (ع) تقدم في "الإيمان" 46/ 296.

5 -

(أَبُو سَلَمَةَ) بن عبد الرحمن بن عوف، تقدّم قريبًا.

6 -

(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه تقدّم في الباب الماضي.

والباقيان ذُكرا قريبًا.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان قرن بينهما، لاتحاد كيفيّة تحمّله عنهما، حيث سمع منهما وحده، ولذا قال:"حدّثني. . . إلخ"، ثم فرّق؛ لاختلاف كيفيّة تحمّلهما عن شريك، ولذا قال:"قال ابن حجر: أخبرنا. . . إلخ"، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه أبو سلمة أحد الفقهاء السبعة على بعض الأقوال، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه رأس المكثرين السبعة، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ) وفي رواية أحمد عن عبد الرحمن بن مهديّ، عن الثوريّ: حدّثنا عبد الملك بن عمير (عَنْ أَبِي سَلَمَةَ) وفي الرواية التالية:

ص: 628

"حدّثنا أبو سلمة"، (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) وفي الرواية الآتية من طريق إسرائيل، عن عبد الملك، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، سمعت أبا هريرة، (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) أنه (قَالَ:"أَشْعَرُ كَلِمَةٍ) وفي الرواية التالية: "أصدق كلمة"، وإنما كان أصدق كلمة؛ لأنه موافق لأصدق الكلام، وهو قوله تعالى:{كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26)} [الرحمن: 26]، قاله الطيبيّ رحمه الله

(1)

. (تَكَلَّمَتْ بِهَا الْعَرَبُ) قال في "الفتح": يَحْتَمِل أن يريد بالكلمة البيت الذي ذُكِر شطره، ويَحْتَمِل أن يريد القصيدة كلها، ويؤيد الأول رواية مسلم الآتية من طريق شعبة وزائدة - فرّقهما - عن عبد الملك، بلفظ:"إن أصدق بيت قاله الشاعر"، وليس في رواية شعبة "إنّ"، ووقع في رواية شريك الآتية عن عبد الملك، بلفظ:"أشعر كلمة تكلمت بها العرب"، فلولا أن في حفظ شريك مقالًا لرَفَع هذا اللفظ الإشكال الذي أبداه السهيليّ على لفظ رواية "الصحيح" بلفظ:"أصدق"، إذ لا يلزم من لفظ أشعر أن يكون أصدق.

نَعَم السؤال باقٍ في التعبير بوصف كل شيء بالبطلان، مع اندراج الطاعات والعبادات في ذلك، وهي حقّ لا محالة، وكذا قوله صلى الله عليه وسلم في دعائه بالليل:"أنت الحقّ، وقولك الحقّ، والجنة حقٌّ، والنار حقٌّ. . . إلخ".

وأجيب عن ذلك بأن المراد بقول الشاعر: ما عدا اللهَ؛ أي: ما عداه، وعدا صفاته الذاتية، والفعلية من رحمته، وعذابه، وغير ذلك، فلذلك ذكر الجنة والنار، أو المراد في البيت بالبطلان: الفناء، لا الفساد، فكل شيء سوى الله جائز عليه الفناء لذاته، حتى الجنة، والنار، وإنما يَبقَيان بإبقاء الله لهما، وخلقِ الدوام لأهلهما، والحقّ على الحقيقة من لا يجوز عليه الزوال، ولعل هذا هو السرّ في إثبات الألف واللام في قوله:"أنت الحقّ، وقولك الحقّ، ووعدك الحقّ"، وحذفهما عند ذِكر غيرهما، والله أعلم.

(كلِمَةُ لَبِيدٍ) هو: ابن ربيعة بن عامر بن مالك بن جعفر بن كلاب بن ربيعة بن عامر العامريّ، ثم الكلابيّ، ثم الجعفريّ، يكنى أبا عَقِيل، وقد أسلم لبيد، وذَكَره في الصحابة البخاريّ، وابن أبي خيثمة، وغيرهما، وقال لعمر لَمّا

(1)

"الكاشف عن حقائق السُّنن" 10/ 3099.

ص: 629

سأله عما قاله من الشعر في الإسلام: قد أبدلني الله بالشعر "سورة البقرة"، ثم سكن الكوفة، ومات بها في خلافة عثمان، وعاش مائة وخمسين سنة، وقيل: أكثر، وهو القائل [من الكامل]:

وَلَقَدْ سَئِمْتُ مِنَ الْحَيَاةِ وَطُولِهَا

وَسُؤَالِ هَذَا النَّاسِ كَيْفَ لَبِيدُ؟

قال الحافظ: وهذا يَعْكُر على من قال: إنه لم يقل شعرًا منذ أسلم، إلا أن يريد القِطَعَ المطولة، لا البيت، والبيتين، والله أعلم. انتهى

(1)

.

وقال في "الإصابة": لبيد بن ربيعة بن عامر بن مالك بن جعفر بن كلاب بن ربيعة بن صعصعة الكلابيّ الجعفريّ، أبو عقيل الشاعر المشهور، قال المرزبانيّ في "معجمه": كان فارسًا شجاعًا شاعرًا سخيًّا، قال الشعر في الجاهلية دهرًا، ثم أسلم، ولمّا كتب عمر رضي الله عنه إلى عامله بالكوفة: سَلْ لبيدًا، والأغلب العجليّ ما أحدثا من الشعر في الإسلام، فقال لبيد: أبدلني الله بالشعر "سورة البقرة"، و"آل عمران"، فزاد عمر في عطائه، قال: ويقال: إنه ما قال في الإسلام إلا بيتًا واحدًا:

مَا عَاتَبَ الْمَرْءُ اللَّبِيبُ كَنَفْسِهِ

وَالْمَرْءُ يُصْلِحُهُ الْجَلِيسُ الصَّالِحُ

ويقال: بل قوله:

الْحَمْدُ لِلّهِ إِذْ لَمْ يَأتِنِي أَجَلِي

حَتَّى لَبِسْتُ مِنَ الإِسْلَامِ سِرْبَالَا

ولمّا أسلم رجع إلى بلاد قومه، ثم نزل الكوفة، حتى مات في سنة إحدى وأربعين لَمّا دخل معاوية الكوفة، إذ صالح الحسن بن عليّ، ونحوه قال العسكريّ، ودخل بنوه البادية، قال: وكان عمره مائة وخمسًا وأربعين سنةً، منها خمس وخمسون في الإسلام، وتسعون في الجاهلية.

قال الحافظ: المدة التي ذكرها في الإسلام وَهَمٌ، والصواب ثلاثون، وزيادة سنة أو سنتين، إلا أن يكون ذلك مبنيًّا على أن سنة وفاته كانت سنة نيّف وستين، وهو أحد الأقوال، وقال أبو عمر: البيت الذي أوّله:

الْحَمْدُ لِلّهِ إِذْ لَمْ يَأْتِنِي أَجَلِي

ليس للبيد، بل هو لقردة بن نُفاثة، وهو القائل القصيدة المشهورة التي أولها:

(1)

"الفتح" 8/ 550 رقم (3841).

ص: 630

ألَا كُل شَىْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلٌ

وقد ثبت أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: أصدق كلمة قالها الشاعر كلمة لبيد، فذكر هذا الشطر، قال أبو عمر: في هذه القصيدة ما يدلّ على أنه قاله في الإسلام، وذلك قوله:

وَكُلُّ امْرِئٍ يَوْمًا سَيَعْلَمُ سَعْيَهُ

إِذَا كُشِفَتْ عِنْدَ الإلَهِ الْمَحَاصِلُ

وتعقّبه الحافظ، فقال: لم يتعيَّن ما قال، بل فيه دلالة على أنه كان يؤمن بالبعث مثل غيره، من عقلاء الجاهلية، كقُسّ بن ساعدة، وزيد بن عمر، وكيف يخفى على أبي عمر أنه قالها قبل أن يُسلم مع القصة المشهورة في السيرة لعثمان بن مظعون مع لبيد، لمّا أنشد قريشًا هذه القصيدة بعينها، فلما قال: ألا كلُّ شيء

إلخ قال له عثمان: صدقت، فلما قال: وكلُّ نعيم لا محالة زائلُ قال له عثمان: كذبت، نعيم الجنة لا يزول، فغضب لبيد، وكادت قريش تضرب سيفهم على وجهه، إنما كان هذا قبل أن يُسْلم لبيد، نعم، يَحْتمل أن يكون زاد هذا البيت بخصوصه بعد أن أسلم، ويكون مراد من قال: إنه لم يَنْظِم شعرًا منذ أسلم، يريد شعرًا كاملًا، لا تكميلًا لقصيدة سبق نَظْمه لها، وبالله التوفيق، وتمام البحث في "الإصابة"

(1)

.

[تنبيه]: أورد البخاريّ رحمه الله هذا الحديث في "باب أيام الجاهليّة"، قال الحافظ رحمه الله: تلميحًا بما وقع لعثمان بن مظعون رضي الله عنه بسبب هذا البيت مع ناظمه لبيد بن ربيعة قبل إسلامه، والنبيّ صلى الله عليه وسلم يومئذ بمكة، وقريش في غاية الأذية للمسلمين، فذكر ابن إسحاق عن صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، عمن حدّثه عن عثمان بن مظعون أنه لمّا رجع من الهجرة الأولى إلى الحبشة، دخل مكة في جِوَار الوليد بن المغيرة، فلمّا رأى المشركين يؤذون المسلمين، وهو آمِن، رَدَّ على الوليد جواره، فبينما هو في مجلس لقريش، وقد وَفَدَ عليهم لبيد بن ربيعة، فقعد ينشدهم من شعره، فقال لبيد:

أَلَا كُلُّ شَىْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلٌ

فقال عثمان بن مظعون: صدقت، فقال لبيد:

(1)

"الإصابة في تمييز الصحابة" 5/ 675 - 677.

ص: 631

وَكُلُّ نَعِيمِ لَا مَحَالَةَ زَائِلُ

فقال عثمان: كذبت، نعيم الجنة لا يزول، فقال لبيد: متى كان يُؤذى جليسكم يا معشر قريش، فقام رجل منهم، فلطم عثمان، فاخضرّت عينه، فلامه الوليد على رَدِّ جِوَاره، فقال: قد كنتَ في ذمةٍ منيعةٍ، فقال عثمان: إن عيني الأخرى لِمَا أصاب أختها لفقيرةٌ، فقال له الوليد: فعُدْ إلى جِوَارك، فقال: بل أرضى بجوار الله تعالى

(1)

.

(ألَا كُلُّ شَىْءٍ مَا خَلَا اللهَ بَاطِلٌ") قال النوويّ رحمه الله: المراد بالكلمة هنا: القطعة من الكلام، والمراد بالباطل: الفاني المضمَحِلّ، وفي هذا الحديث منقبة للبيد، وهو صحابيّ، وهو لبيد بن ربيعة رضي الله عنه

(2)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: الباطل هنا أراد به الْمُضْمَحِلّ، المتغير؛ الذي هو بصدد أن يهلك، ويتلف، وهذا نحو من قوله تعالى:{كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص: 88]، ولا شك في أن هذه الكلمات أصدق ما يتكلَّم به ناظمٌ، أو ناثر؛ لأن مقدمتها الكليَّة مقطوعٌ بصحتها، وشمولها عقلًا ونقلًا، ولم يخرج من كليتها شيء قطعًا إلا ما استُثني فيها، وهو الله تعالى، فإنَّه لم يدخل فيها قطعًا، فإنَّ العقل الصريح قد دلَّ على أن كل ما نشاهده من هذه الموجودات ممكن في نفسه، متغيِّر في ذاته، وكل ما كان كذلك كان مفتقرًا إلى غيره، وذلك الغير إن كان ممكنًا متغيرًا كان مثل الأول؛ فلا بدَّ أن يستند إلى موجود لا يفتقر إلى غيره، يستحيل عليه التغيُّر، وهو المعبَّر عنه في لسان الظَّاهر: بواجب الوجود، وفي لسان الشرع: بالصمد المذكور في قوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2} [الإخلاص: 1، 2]، وبقوله تعالى:{أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ} [النور: 25]، وعند الانتهاء إلى هذا المقام يُفهم معنى قوله تعالى:{كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27)} [الرحمن: 26، 27]، وللكلام في تفاصيل ما أُجْمِل مواضع أخر. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(3)

.

(1)

"الفتح" 8/ 550 رقم (3841).

(2)

"شرح النوويّ" 15/ 12 - 13.

(3)

"المفهم" 5/ 257 - 258.

ص: 632

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [1/ 5874 و 5875 و 5876 و 5877 و 5878](2256)، و (البخاريّ) في "مناقب الأنصار"(3841) و"الأدب"(6147)، و"الرقاق"(6489)، و (الترمذيّ) في "الأدب"(2849) وفي "الشمائل"(242 و 247)، و (ابن ماجه) في "الأدب"(3757)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 391 و 444 و 480 و 481)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(8/ 694 - 695)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5783، 5784)، و (أبو نعيم) في "الحلية"(7/ 201) وفي "أخبار أصبهان"(1/ 269 - 270)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(10/ 237)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(3399)، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5875]

(

) - (وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمِ بْنِ مَيْمُونٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ مَهْدِيٍّ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبُو سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَصْدَقُ كَلِمَةٍ قَالَهَا شَاعِرٌ كَلِمَةُ لَبِيدٍ:

أَلا كُلُّ شَىْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلٌ

وَكَادَ أُمَيَّةُ بْنُ أَبيِ الصَّلْتِ

(1)

أَنْ يُسْلِمَ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمِ بْنِ مَيْمُونٍ) السمين البغداديّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(سُفْيَانُ) بن سعيد الثوريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

والباقون ذُكروا قبله.

وقوله: (وَكَادَ أُمَيةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ أَنْ يُسْلِمَ) وفي بعض النسخ: "وكاد ابن أبي الصَّلْت أن يسلم"، وثبوت "أن" في خبر "كاد" قليلٌ، والغالب كونه بدونها، كما قال في "الخلاصة":

(1)

وفي نسخة: "وكاد ابن أبي الصلت".

ص: 633

كَ "كَانَ""كَادَ" و"عَسَى" لَكِنْ نَدَرْ

غَيْرُ مُضَارعٍ لِهَذَيْنِ خَبَرْ

وَكَوْنُهُ بِدُونِ "أَنْ" بَعْدَ "عَسَى"

نَزْرٌ و"كَادَ" الأَمْرُ يهِ عُكِسَا

وأميّة بن أبي الصلت ثقفيّ، من شعراء الجاهليّة، أدرك مبادئ الإسلام، وبلغه خبر مبعث النبيّ صلى الله عليه وسلم، لكنه لم يوفّق للإيمان به، وكان رجلًا مترهّبًا غوّاصًا في المعاني، معتنيًا بالحقائق، مضمِّنًا لها في أشعاره، ولذلك استنشد النبيّ صلى الله عليه وسلم شِعره، وقد تقدّمت ترجمته قبل ثلاثة أحاديث

(1)

.

والحديث متّفق عليه، وقد مضى تمام شرحه، وبيان مسألتيه في الحديث الماضي، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5876]

(

) - (وَحَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ زَائِدَةَ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أَصْدَقُ بَيْتٍ

(2)

قَالَهُ الشَّاعِرُ:

أَلا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلٌ

وَكَادَ ابْنُ أَبِي الصَّلْتِ أَنْ يُسْلِمَ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(زَائِدَةُ) بن قُدامة الثقفيّ، أبو الصَّلْت الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ، صاحب سنّة [7](ت 160) أو بعدها (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 53.

والباقون ذُكروا في الباب، و"سفيان" هو: ابن عيينة.

والحديث متّفق عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسألتيه، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5877]

(

) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أَصْدَقُ بَيْتٍ قَالَتْهُ الشُّعَرَاءُ:

(1)

"الكاشف عن حقائق السُّنن" 10/ 3100.

(2)

وفي نسخة: "إن أصدق بيت".

ص: 634

ألَاَ كُلُّ شَىْءٍ مَا خَلَا اللهَ بَاطِلٌ")

رجال هذا الإسناد: ستةٌ:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) أبو موسى الْعَنَزيّ البصريّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ) الْهُذليّ، أبو عبد الله البصريّ المعروف بغُندر، ثقةٌ صحيح الكتاب [9](ت 3 أو 194)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.

والباقون ذُكروا في الباب، والباب قبله. والحديث متّفق عليه، وقد مضى البحث فيه مستوفًى، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5878]

(

) - (وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّاءَ، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِنَّ أَصدَقَ كلِمَةٍ قَالَهَا شَاعِرٌ، كَلِمَةُ لَبيدٍ:

ألَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللهَ بَاطِلٌ"

مَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ).

رجال هذا الإسناد: ستةٌ:

1 -

(يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّاءَ) بن أبي زائدة الْهَمْدانيّ، أبو سعيد الكوفيّ، ثقةٌ متقنٌ، من كبار [9](ت 3 أو 184) وله (93) سنة (ع) تقدم في "الإيمان" 5/ 121.

2 -

(إِسْرَائِيل) بن يونس بن أبي إسحاق السبيعيّ الْهَمْدانيّ، أبو يوسف الكوفيّ، ثقةٌ، تُكُلّم فيه بلا حجة [7](ت 160) أو بعدها (ع) تقدم في "الطهارة" 2/ 542.

والباقون ذُكروا في الباب.

وقوله: (مَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ) فاعل "زاد" ضمير إسرائيل؛ أي: لم يذكر في الحديث ما تقدّم في رواية الثوريّ، وزائدة من زيادة قوله:"وكاد أميّة بن أبي الصَّلْت أن يسلم"، بل اقتصر على ذِكر الشطر قبله، وذَكر بعضهم أن يكون المراد زيادة الشطر الثاني، وهو قوله:

وَكُلُّ نَعِيم لَا مَحَالَةَ زَائِلُ

وهذا الاحتمال بعيد جدًّا؛ لأن هذا الشطر لم يزده أحد ممن روى هذا

ص: 635

الحديث؛ لأنه اعتَرَضَ عثمانُ بن مظعون على أمية حينما أنشد القصيدة في مجلس قريش، فقال له في الشطر الأول: صدقت، وفي الشطر الثاني: كذبت، وجرت بينهما قصّة، تقدّم ذكرها، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى البحث فيه مستوفًى، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5879]

(2257) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا حَفْصٌ، وَأَبُو مُعَاوِيةَ (ح) وَحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيةَ، كِلَاهُمَا عَنِ الأَعْمَشِ (ح) وَحَدَّثنَا أَبُو سَعِيدٍ الأَشَجُّ، حَدَّثنًا وَكِيعٌ، حَدَّثنَا الأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لأَنْ يَمْتَلِئَ جَوْفُ الرَّجُلِ قَيْحًا يَرِيهِ، خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَمْتَلِئَ شِعْرًا"، قَالَ أَبُو بَكْر: إِلَّا أَنَّ حَفْصًا لَمْ يَقُلْ: "يَرِيهِ").

رجال هذا الإسناد: تسعة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) عبد الله بن محمد بن أبي شيبة الكوفيّ، تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(حَفْصُ) بن غياث النخعيّ الكوفيّ، تقدّم قريبًا.

3 -

(أَبُو مُعَاوِيَةَ) محمد بن خازم الضرير الكوفيّ، تقدّم قبل باب.

4 -

(أَبُو كُرَيْبٍ) محمد بن العلاء أحد مشايخ الجماعة بلا واسطة، تقدّم أيضًا قبل باب.

5 -

(أَبُو سَعِيدٍ الأَشَجُّ) عبد الله بن سعيد، أحد مشايخ الجماعة بلا واسطة أيضًا تقدّم قريبًا.

6 -

(وَكِيعُ) بن الجرّاح، تقدّم أيضًا قريبًا.

7 -

(الأَعْمَشُ) سليمان بن مهران، تقدّم أيضًا قريبًا.

8 -

(أَبُو صَالِحٍ) ذكوان السمّان، تقدّم أيضًا قريبًا.

و"أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه" ذُكر قبله.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالكوفيين، غير الصحابيّ، والراوي عنه، فمدنيّان، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه أبو

ص: 636

كريب، والأشج كلاهما من التسعة الذين روى عنهم الجماعة بلا واسطة، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه رأس المكثرين السبعة.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لأَنْ يَمْتَلِى جَوْفُ الرَّجُلِ) اللام فيه للتأكيد، و"أن" مصدريّة، وهو في محل الرفع على الابتداء، وخبره قوله:"خير له".

قال ابن أبي جمرة رحمه الله

(1)

: يَحْتَمِل ظاهره أن يكون المراد جوفه كله، وما فيه من القلب وغيره، وَيحْتَمِل أن يريد به القلب خاصّةً، وهو الأظهر؛ لأن أهل الطب يزعمون أن القيح إذا وصل إلى القلب شيء منه، وإن كان يسيرًا، فإن صاحبه يموت لا مَحَالةَ، بخلاف غير القلب، مما في الجوف، من الكبد، والرئة.

قال الحافظ: ويُقَوِّي الاحتمال الأول روايةُ عوف بن مالك: "لأن يمتلئ جوف أحدكم من عانته إلى لَهاته"، وتظهر مناسبته للثاني؛ لأن مقابِله، وهو الشِّعر محله القلب؛ لأنه ينشا عن الفكر، وأشار ابن أبي جمرة إلى عدم الفرق في امتلاء الجوف من الشِّعر بين من ينشئه، أو يتعانى حفظه من شِعر غيره، وهو ظاهر. انتهى

(2)

.

وقوله: (قَيْحًا) منصوب على التمييز، وهو بفتح القاف، وسكون التحتانيّة: الصديد الذي يسيل من الدُّمّل، والْجُرْح، ويقال: هو الْمِدَّة التي لا يخالطها الدم، قاله في "العمدة"

(3)

.

وقال الفيّوميّ رحمه الله: القيح: هو الأبيض الخاثر الذي لا يخالطه دمٌ، يقال: قاح الجرحُ قَيْحًا، من باب قال: سال قيحه، أو تهيّأ، ويقوحُ، وأقاح بالألف لغتان فيه، وقيّح بالتشديد: صار فيه قيح. انتهى

(4)

.

وقال في "الفتح": قوله: "قيحًا" - بفتح القاف، وسكون التحتانية، بعدها

(1)

"بهجة النفوس" 4/ 172.

(2)

"الفتح" 14/ 25، كتاب "الأدب" رقم (6154).

(3)

"عمدة القاري" 22/ 188.

(4)

راجع: "المصباح المنير" 2/ 521.

ص: 637

مهملة-: الْمِدَّة

(1)

، لا يخالطها دم. انتهى

(2)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: القيح: الْمِدَّة يخالطها دم، يقال منه: قاح الجرحُ، يقيح. وتقيَّح، وقيَّح، وصديد الجرح: ماؤه المختلط بالدَّم الرقيق قبل أن تغلظ الْمِدَّة. انتهى

(3)

.

(يَرِيهِ) قال أهل اللغة، والغريب: بفتح الياء، وكسر الراء، من الْوَرْي، وهو داء يُفسد الجوف، ومعناه: قَيحًا يأكل جوفه، ويفسده، قالَه النوويّ رحمه الله

(4)

.

وقال في "الفتح": "يَرِيه " بفتح الياء آخر الحروف، بعدها راء، ثم ياء أخرى، قال الأصمعيّ: هو من الْوَرْيِ، بوزن الرَّمْيِ

(5)

، يقال منه: رجل مَوْرِيّ، غير مهموز، وهو أن يُورَى جوفُهُ، وأنشد:

قَالَتْ لَهُ وَرْيًا إِذَا تَنَحْنَحَا

تدعو عليه بذلك، وقال أبو عبيد: الْوَرْيُ: هو أن يأكل القيح جوفَه، وحَكَى ابن التين فيه الفتح، بوزن الْفَرَى، وهو قول الفراء، وقال ثعلب: هو بالسكون المصدر، وبالفتح الاسم، وقيل معنى قوله:"حتى يَرِيه"؛ أي: يُصيب رئته، وتُعُقِّب بأن الرئة مهموزة، فإذا بَنَيت منه فعلًا قلت: رآه يَرآه فهو مَرْئِيّ. انتهى.

قال الحافظ: ولا يلزم من كون أصلها مهموزًا أن لا تُستعمل مُسَهَّلةً، ويُقَّرِّب ذلك أن الرئة إذا امتلأت قيحًا يحصل الهلاك. انتهى

(6)

.

[تنبيه]: قوله: "يريه" جملة في محلّ نصب صفة "قيحًا"، وقع في رواية

(1)

المِدّة بكسر الميم، وتشديد الدال: القيح، قال الفيّومي: المِدَّةُ بالكسر؛ القيح: وهي الْغَثِيثة الغليظة، وأما الرقيقة فهي صديد. انتهى. "المصباح المنير" 2/ 566.

(2)

"الفتح" 14/ 25، كتاب "الأدب" رقم (6154).

(3)

"المفهم" 5/ 529.

(4)

"شرح النوويّ" 15/ 14.

(5)

قال في "تاج العروس" 1/ 8644: الْوَرْيُ بالسكون قيح يكون في الجوف، أو قُرْح شديد يُقاء منه القيح، والدم، وقد وَرَى القيح جوفه -كَوَعَى- يَرِيه وَرْيًا: أفسده، وفي "الصحاح": أكله. انتهى.

(6)

"الفتح" 14/ 25، كتاب "الأدب" رقم (6154).

ص: 638

البخاريّ بلفظ: "حتى يريه"، بزيادة "حتى"، قال في "الفتح": ذكر- يعني: البخاريّ- حديث: "لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحًا خير له من أن يمتلئ شعرًا" من حديث ابن عمر، ومن حديث أبي هريرة، وزاد أبو ذرّ في روايته عن الكشميهنيّ في حديث أبي هريرة:"حتى يَرِيه"، وهذه الزيادة ثابتة في "الأدب المفرد" عن الشيخ الذي أخرجه عنه هنا، وكذلك رواية النسفيّ، ونَسَبها بعضهم للأصيليّ، ولسائر رواة "الصحيح":"قَيحًا يَرِيه" بإسقاط "حتى"، وأخرجه مسلم، وأبو داود، والترمذيّ، وابن ماجه، وأبو عوانة، وابن حبان، من طرق عن الأعمش، في أكثرها:"حتى يَريه"، ووقع عند الطبراني من وجه آخر، عن سالم، عن ابن عمر، بلفظ:"حتى يريه" أيضًا، قال ابن الجوزيّ

(1)

: وقع في حديث سعد عند مسلم: "حتى يَرِيَهُ"

(2)

، وفي حديث أبي هريرة عند البخاريّ بإسقاط "حتى"، فعلى ثبوتها يُقرأ:"يريه" بالنصب، وعلى حذفها بالرفع، قال: ورأيت جماعة من المبتدئين يقرؤونها بالنصب مع إسقاط "حتى"؛ جَرْيًا على المألوف، وهو غلط؛ إذ ليس هنا ما يَنْصِب، وذكر أن ابن الخشاب نَبَّه على ذلك، ووجّه بعضهم النصب على بدل الفعل من الفعل، وإجراء إعراب "يمتلئ" على"يريه".

ووقع في حديث عوف بن مالك عند الطحاويّ، والطبرانىّ:"لأن يمتلئ جوف أحدكم من عانته إلى لَهَاته قيحًا، يتخضخض خير له من أن يمتلئ شعرًا"، وسنده حسن. انتهى

(3)

.

(خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَمْتَلِئَ شِعْرًا") قال في "الفتح": ظاهره العموم في كل شعر، لكنه مخصوص بما لم يكن مدحًا حقًّا، كمدح الله تعالى، ومدح رسوله صلى الله عليه وسلم، وما اشتَمَل على الذكر، والزهد، وسائر المواعظ، مما لا إفراط فيه" ويؤيده حديث عمرو بن الشَّرِيد، عن أبيه -يعني: المذكور هنا أول الباب-.

(1)

"كشف المشكل" 3/ 456.

(2)

قال الجامع: لا يوجد في النُّسخ الموجودة عندنا إلا بلفظ: "يريه" بدون "حتى"، ولعل ابن الجوزيّ وقع عنده نسخة بإثباتها، والله تعالى أعلم.

(3)

"الفتح" 14/ 25، كتاب "الأدب" رقم (6154).

ص: 639

قال ابن بطال: ذكر بعضهم أن معنى قوله: "خير له من أن يمتلئ شعرًا"؛ يعني: الشعر الذي هُجِي به النبيّ صلى الله عليه وسلم.

وقال أبو عبيد: والذي عندي في هذا الحديث غير هذا القول؛ لأن الذي هُجي به النبيّ صلى الله عليه وسلم لو كان شطر بيت لكان كفرًا، فكأنه إذا حُمل وجه الحديث على امتلاء القلب منه أنه قد رُخِّص في القليل منه، ولكن وجهه عندي أن يمتلئ قلبه من الشعر، حتى يغلب عليه، فيشغله عن القرآن، وعن ذِكر الله تعالى، فيكون الغالب عليه، فإما إذا كان القرآن، والعلم الغالبين عليه، فليس جوفه ممتلئًا من الشعر.

وأخرج أبو عبيد التأويل المذكور من رواية مُجالد عن الشعبيّ مرسلًا، فذكر الحديث، وقال في آخره -يعني: من الشعر الذي هُجي به النبيّ صلى الله عليه وسلم: وقد وقع لنا ذلك موصولًا من وجهين آخرين، فعند أبي يعلى من حديث جابر في الحديث المذكور:"قيحًا، أو دمًا خير له من أن يمتلئ شعرًا هُجيت به"، وفي سنده راو لا يُعرف، وأخرجه الطحاويّ، وابن عديّ من رواية ابن الكلبيّ، عن أبي صالح، عن أبي هريرة مثل حديث الباب، قال: فقالت عائشة: لم يحفظ إنما قال: من أن يمتلئ شعرًا هُجيت به، وابن الكلبيّ واهي الحديث، وأبو صالح شيخه ما هو الذي يقال له السمان المتفق على تخريج حديثه في الصحيح، عن أبي هريرة، بل هذا آخر ضعيف، يقال له: باذان، فلم تثبت هذه الزيادة.

ويؤيد تأويل أبي عبيد ما أخرجه البغويّ في "معجم الصحابة"، والحسن بن سفيان في "مسنده"، والطبراني في "الأوسط" من حديث مالك بن عُمير السلميّ، أنه شَهِد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الفتح وغيرها، وكان شاعرًا، فقال: يا رسول الله أفتني في الشعر، فذكر الحديث، وزاد: قلت: يا رسول الله امسح على رأسي، قال: فوضع يده على رأسي، فما قلت بيت شعر بعدُ.

وفي رواية الحسن بن سفيان بعد قوله: على رأسي، ثم أَمَرَّها على كَبِدي، وبطني، وزاد البغويّ في روايته:"فإن رابك منه شيء فاشبب بامرأتك، وامدح راحلتك"، فلو كان المراد الامتلاء من الشعر

(1)

لَمَا أَذِن له في شيء منه، بل دلّت الزيادة الأخيرة على الإذن في المباح منه.

(1)

أي: الشعر الذي هُجي به النبيّ صلى الله عليه وسلم.

ص: 640

وذكر السُّهيلي في غزوة وَدّان عن جامع ابن وهب أنه رُويَ فيه أن عائشة رضي الله عنه تأولت هذا الحديث على ما هُجِي به النبيّ رضي الله عنه، وأنكرت على من حمله على العموم في جميع الشعر، قال السهيليّ: فإن قلنا بذلك، فليس في الحديث إلا عيب امتلاء الجوف منه، فلا يدخل في النهي رواية اليسير على سبيل الحكاية، ولا الاستشهاد به في اللغة، ثم ذكر استشكال أبي عبيد، وقال: عائشة أعلم منه، فإن الذي يروي ذلك على سبيل الحكاية لا يكفر، ولا فرق بينه وبين الكلام الذي ذَمُّوا به النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهذا هو الجواب عن صنيع ابن إسحاق في إيراده بعض أشعار الكَفَرة في هجو المسلمين، والله أعلم.

وقوله: (قَالَ أَبُو بَكْر: إِلَّا أَنَّ حَفْصًا لَمْ يَقُلْ: "يَرِيهِ") أبو بكر هو ابن أبي شيبة شيخ المصنّف في السند، أراد به أنه بيّن اختلاف شيخيه، في إثبات لفظ:"يَرِيه"، فأثبتها أبو معاوية، وأسقطها حفص بن غياث، والله تعالى أعلم.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [1/ 5879](2257)، و (البخاريّ) في "الأدب"(6155) وفي "الأدب المفرد"(860)، و (أبو داود) في "الأدب"(5009)، و (الترمذيّ) في "الأدب"(2851)، و (ابن ماجه) في "الآداب"(3759)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(8/ 719 - 720)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 288 و 355 و 391 و 478 و 480)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5777 و 5779)، و (أبو القاسم البغويّ) في "الجعديّات"(3106)، و (الطحاويّ) في "شرح السنّة"(4/ 295)، و (ابن عديّ) في "الكامل"(5/ 1894 و 6/ 2132)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(10/ 244) و"شُعب الإيمان"(4/ 276)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(3413)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان ذمّ الاشتغال بالشعر، وهذا إذا شغله عن القرآن، وذِكر الله عز وجل، قال البخاريّ في "صحيحه": "باب ما يُكره أن يكون الغالب

ص: 641

على الإنسان الشعر، حتى يصدّه عن ذكر الله، والعلم، والقرآن". انتهى.

وقال النوويّ: قال أبو عبيد: قال بعضهم: المراد بهذا الشعر: شعر هُجِيَ به النبيّ-صلى الله عليه وسلم، قال أبو عبيد والعلماء كافّة: هذا تفسير فاسد؛ لأنه يقتضي أن المذموم من الهجاء أن يمتلئ منه دون قليله، وقد أجمع المسلمون على أن الكلمة الواحدة من هجاء النبيّ صلى الله عليه وسلم موجبة للكفر، قالوا: بل الصواب أن المراد أن يكون الشعر غالبًا عليه، مستوليًا عليه بحيث يَشغله عن القرآن، وغيره، من العلوم الشرعية، وذِكر الله تعالى، وهذا مذموم من أيّ شعر كان، فأما إذا كان القرآن والحديث وغيرهما من العلوم الشرعية هو الغالب عليه، فلا يضرّ حفظ اليسير من الشعر مع هذا؛ لأن جوفه ليس ممتلئًا شعرًا، والله أعلم. انتهى

(1)

.

2 -

(ومنها): ما قال في "الفتح": استُدِلّ بتأويل أبي عبيد على أن مفهوم الصفة ثابت باللغة؛ لأنه فَهِم منه أن غير الكثير من الشعر ليس كالكثير، فخصّ الذم بالكثير الذي دلّ عليه الامتلاء، دون القليل منه، فلا يدخل في الذم، وأما من قال: إن أبا عبيد بنى هذا التأويل على اجتهاده، فلا يكون ناقلًا للّغة، فجوابه أنه إنما فَسَّر حديث النبيّ صلى الله عليه وسلم-في كتابه على ما تلقّفه من لسان العرب، لا على ما يَعْرِض في خاطره؛ لِمَا عُرِف من تحرزه في تفسير الحديث النبويّ. انتهى

(2)

.

3 -

(ومنها): ما قال النوويّ: واستَدَلّ بعض العلماء بهذا الحديث على كراهة الشعر مطلقًا، قليلِهِ وكثيرِهِ، وإن كان لا فُحش فيه، وتعلق بقوله صلى الله عليه وسلم:"خُذُوا الشيطان"، وقال العلماء كافّةً: هو مباح ما لم يكن فيه فُحش، ونحوه، قالوا: وهو كلام حسنه حسنٌ، وقبيحه قبيحٌ، وهذا هو الصواب، فقد سمع النبيّ صلى الله عليه وسلم الشعر، واستنشده، وأمر به حسان في هجاء المشركين، وأنشده أصحابه بحضرته في الأسفار، وغيرها، وأنشده الخلفاء، وأئمة الصحابة، وفضلاء السلف، ولم ينكره أحد منهم على إطلاقه، وإنما أنكروا المذموم منه، وهو الفُحش ونحوه، وأما تسمية هذا الرجل الذي سمعه يُنشد شيطانًا فلعله كان

(1)

"شرح النوويّ" 15/ 14.

(2)

"الفتح" 14/ 25، كتاب "الأدب" رقم (6154).

ص: 642

كافرًا، أو كان الشعر هو الغالب عليه، أو كان شعره هذا من المذموم، وبالجملة فتسميته شيطانًا إنما هو في قضية عين تتطرق إليها الاحتمالات المذكورة، وغيرها، ولا عموم لها، فلا يُحتج بها، والله أعلم. انتهى

(1)

.

4 -

(ومنها): أن ابن أبي جمرة: ألحق بامتلاء الجوف بالشعر المذموم حتى يشغله عما عداه من الواجبات والمستحبات الامتلاء من السجع مثلًا، ومن كل علم مذموم، كالسحر، وغير ذلك من العلوم التي تُقسي القلب، وتشغله عن الله تعالى، وتُحدث الشكوك في الاعتقاد، وتفضي به إلى التباغض، والتنافس. انتهى

(2)

.

[تنبيه]: قال في "الفتح": مناسبة هذه المبالغة في ذمّ الشعر أن الذين خوطبوا بذلك كانوا في غاية الإقبال عليه، والاشتغال به، فزَجَرهم عنه؛ لِيُقبلوا على القرآن، وعلى ذِكر الله تعالى، وعبادته، فمن أخذ من ذلك ما أُمر به لم يضره ما بقي عنده، مما سوى ذلك، والله أعلم. انتهى

(3)

.

5 -

(ومنها): أن الطحاويّ رحمه الله قال -بعد أن أخرج الأحاديث المذكورة-: فكره قوم رواية الشعر، واحتجوا بهذه الآثار، قال العينيّ رحمه الله: أراد بالقوم هؤلاء: مسروقًا، وإبراهيم النخعيّ، وسالم بن عبد الله، والحسن البصريّ، وعمرو بن شعيب، فإنهم قالوا: يكره رواية الشعر، وإنشاده، واحتجوا في ذلك بهذه الأحاديث المذكورة، ورُوي ذلك عن عمر بن الخطاب، وابنه عبد الله، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهم.

ثم قال الطحاويّ: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: لا بأس برواية الشعر الذي لا قَذْعَ

(4)

فيه، قال العينيّ: أراد بالَاخرين: الشعبيّ، وعامر بن سعد، ومحمد بن سيرين، وسعيد بن المسيِّب، والقاسم، والثوريّ، والأوزاعيّ، وأبا حنيفة، ومالكًا، والشافعيّ، وأحمد، وأبا يوسف، ومحمدًا،

(1)

"شرح النوويّ" 14/ 15 - 15.

(2)

"بهجة النفوس" 4/ 172.

(3)

"الفتح" 14/ 27، كتاب "الأدب" رقم (6154).

(4)

يقال: قَذَعَهُ، كمنعه: رماه بالفُحش، وسوء القول، كاقذعه. انتهى. "القاموس" ص 1036.

ص: 643

وإسحاق بن راهويه، وأبا ثور، وأبا عبيد، فإنهم قالوا: لا بأس برواية الشعر الذي ليس فيه هجاء، ولا نَكْت عرض أحد من المسلمين، ولا فُحش، ورُوي ذلك عن أبي بكر الصديق، وعليّ بن أبي طالب، والبراء بن عازب، وأنس بن مالك، وعبد الله بن عباس، وعمرو بن العاص، وعبد الله بن الزبير، ومعاوية بن أبي سفيان، وعمران بن الحصين، والأسود بن سَرِيع، وعائشة أم المؤمنين رضي الله عنهم أجمعين.

قوله: "لا قَذْع فيه" بفتح القاف، وسكون الذال المعجمة، وبعين مهملة، وهو الفُحش، والْخَنَى. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن مما سبق من ذِكر أقوال العلماء، وأدلّتهم أن الحقّ قول من ذهب إلى جواز الشعر الخالي عن الفحش، والخنا، ما لم يكن غالبًا على الشخص بحيث يمنعه عن القرآن، والعلم، وذِكر الله تعالى، فهذا هو وجه الجمع بين أحاديث الباب المختلفة، كما ذهب إليه البخاريّ رحمه الله في ترجمته السابقة، وقبله أبو عبيد، فتبصّر بالإنصاف، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5880]

(2258) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَمُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ يُونُسَ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ سَعْدٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لأَنْ يَمْتَلِئَ جَوْفُ أَحَدِكُمْ قَيْحًا يَرِيهِ، خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَمْتَلِئَ شِعْرًا").

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ) المعروف ببُندار، تقدّم قريبًا.

2 -

(قتَادَةُ) بن دِعامة السدوسيّ البصريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

3 -

(يُونُسُ بْنُ جُبَيْرٍ) الباهلىّ، أبو غلّاب البصريّ، ثقةٌ [3] مات بعد التسعين، وأوصى أن يصلّي عليه أنس بن مالك رضي الله عنه (ع) تقدم في "الصلاة" 16/ 909.

(1)

"عمدة القاري" 22/ 189.

ص: 644

4 -

(مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدِ) بن أبي وقّاص الزهريّ، أبو القاسم المدنيّ، نزيل الكوفة، كان يُلقّب ظلّ الشيطان؛ لقِصَره، ثقةٌ [3] قتله الحجّاج بعد الثمانين (خ م مد ت س ق) تقدم في "الإيمان" 72/ 388.

5 -

(سَعْدُ) بن أبي وقّاص الصحابيّ الشهير رضي الله عنه، تقدّم قريبًا.

والباقون ذُكروا قبل حديثين، وشرح الحديث واضح يُعلم مما سبق.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [1/ 5880](2258)، (والترمذيّ) في "الأدب"(2852)، و (ابن ماجه) في "الآداب"(3805)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 175 و 181)، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5881]

(2259) - (حَدَّثنَا قتيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ الثَّقَفِىُّ، حَدَّثنَا لَيْثٌ، عَنِ ابْنِ الْهَادِ، عَنْ يُحَنِّسَ مَوْلَى مُصْعَبِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: بَيْنَا نَحْنُ نَسِيرُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِالْعَرْجِ، إِذْ عَرَضَ شَاعِرٌ يُنْشِدُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "خُذُوا الشَّيْطَانَ، أَوْ أَمْسِكُوا الشَّيْطَانَ، لأَنْ يَمْتَلِئَ جَوْفُ رَجُلٍ قَيْحًا، خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَمْتَلِئَ شِعْرًا").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(قتيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ الثَّقَفِيُّ) البغلانيّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(لَيْثُ) بن سعد الإمام الشهير المصريّ، تقدّم قريبًا.

3 -

(ابْنُ الْهَادِ) هو يزيد بن عبد الله بن أُسامة بن الهاد الليثيّ، أبو عبد الله المدنيّ، ثقةٌ مكثرٌ [5](139)(ع) تقدم في "الإيمان" 13/ 159.

4 -

(يُحَنِّسُ

(1)

مَوْلَى مُصْعَبِ بْنِ الزُّبَيْرِ) هو: ابن عبد الله، أبو موسى المدنيّ المقرئ، ثقةٌ [3](م س) تقدم في "الحج" 83/ 3346.

(1)

بضمّ أوله، وتشديد النون المفتوحة، ثم مهملة.

ص: 645

5 -

(أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ) سعد بن مالك بن سنان رضي الله عنهما، تقدّم قريبًا.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسلٌ بالمدنيين من ابن الهاد، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه أبو سعيد رضي الله عنه أحد المكثرين السبعة.

شرح الحديث:

(عَنْ يُحَنِّسَ) -بضمّ الياء، وفتح الحاء، وتشديد النون، مكسورةً، ومفتوحةً-، قاله النوويّ رحمه الله

(1)

. (مَوْلَى مُصْعَبِ بْنِ الزُّبَيْرِ) بن العوّام (عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: بَيْنَا) تقدّم غير مرّة أن أصلها "بين" الظرفيّة، أُشبعت فتحها، فتولّدت منها الألف، وهي مضافة إلى جملة "نحن نسير

إلخ"، وتحتاج إلى جواب، وهو هنا قوله: "إذ عَرَض

إلخ". (نَحْنُ نَسِيرُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِالْعَرْجِ) -بفتح العين المهملة، وإسكان الراء، وبالجيم- وهي قريةٌ جامعةٌ، من عمل الْفُرْع، على نحو ثمانية وسبعين ميلًا من المدينة، قاله النوويّ رحمه الله

(2)

. (إِذْ عَرَضَ) بفتحتين، من باب ضرب؛ أي: ظهر (شَاعِرٌ) لا يُعرف اسمه

(3)

. (يُنْشِدُ) بضمّ أوله، من الإنشاد رباعيًّا، يقال: أنشدت الشعر إنشادًا: قرأته، وهو النشيد، فَعِيل بمعنى مفعول، وتناشد القوم الشعر، قاله الفيّوميّ

(4)

.

(فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "خُدوا الشَّيْطَانَ)؛ يعني: الرجل الشاعر، (أَوْ) للشكّ من الراوي؛ أي: أو قال: (أَمْسِكُوا الشَّيْطَانَ) قال القرطبيّ رحمه الله: إنما فعل النبيّ صلى الله عليه وسلم هذا الفعل مع هذا الشاعر؛ لِمَا عَلِم من حاله، فلعل هذا الشاعر كان ممن قد عُرف من حاله أنه قد اتَّخذ الشعر طريقًا للكسب، فيُفْرِط في المدح إذا أُعطي، وفي الهجو والذمِّ إذا مُنع، فيؤذي الناس في أموالهم وأعراضهم، ولا خلاف في أن كل من كان على مثل هذه الحالة فكل ما يكتسبه بالشعر حرام، وكل ما يقوله حرام عليه من ذلك، ولا يحلّ الإصغاء

(1)

"شرح النوويّ" 15/ 15.

(2)

"شرح النوويّ" 15/ 15.

(3)

"تنبيه المعلم" ص 387.

(4)

"المصباح المنير" 2/ 605 بزيادة من "القاموس" ص 1284.

ص: 646

إليه، بل يجب الإنكار عليه، فإنْ لم يُمكن ذلك؛ فمن خاف من لسانه تعيَّن عليه أن يداريه ما استطاع، ويدافعه بما أمكن، ولا يحلّ أن يعطي شيئًا ابتداء؛ لأنَّ ذلك عون على المعصية، فإن لم يجد من ذلك بدًّا أعطاه بنيّة وقاية العِرض، فما وَقَى به المرءُ عِرضه كُتب له به صدقة. انتهى

(1)

.

(لأَنْ يَمْتَلِئَ جَوْفُ رَجُلٍ قَيْحًا، خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَمْتَلِئَ شِعْرًا") تقدّم شرح هذه الجملة في الحديث الماضي، ولله الحمد والمنّة.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [1/ 5881](2259)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 8 و 41)، و (الطبريّ) في "تهذيب الآثار"(2/ 621)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(10/ 244)، والله تعالى أعلم.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}

(2) - (بَابُ تَحْرِيمِ اللَّعِبِ بِالنَّرْدَشِيرِ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[5882]

(2260) - (حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ مَرْثَدٍ، عَنْ سُلَيمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، أَن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ لَعِبَ بِالنَّرْدَشِيرِ، فَكَأَنَّمَا صَبَغَ يَدَهُ فِي لَحْمِ خِنْزِيرٍ، وَدَمِهِ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عَلْقَمَةُ بْنُ مَرْثَدٍ) الْحَضْرميّ، أبو الحارث الكوفيّ، ثقةٌ [6](ع) تقدم في "الطهارة" 25/ 648.

(1)

"المفهم" 5/ 528 - 529.

ص: 647

2 -

(سُلَيْمَانُ بْنُ بُرَيْدَةَ) بن الْحُصيب الأسلميّ المروزيّ، قاضيها، ثقةٌ [3](ت 105) وله تسعون سنةً (م 4) تقدم في "الطهارة" 25/ 648.

3 -

(أَبُوهُ) بُريدة بن الْحُصيب، أبو عبد الله الأسلميّ الصحابيّ، أسلم قبل بدر، ومات سنة (63)(ع) تقدم في "الإيمان" 100/ 533.

والباقون ذُكروا في الباب.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وفيه رواية الراوي عن أبيه.

شرح الحديث:

(عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ لَعِبَ) -بفتح اللام، وكسر العين المهملة-، قال الفيّوميّ رحمه الله: لَعَب يَلعَبُ لَعِبًا، بفتح اللام، وكسر العين، ويجوز تخفيفه بكسر اللام، وسكون الَعين، قال ابن قتيبة: ولم يُسمع في التخفيف فتح اللام، مع السكون، واللُّعْبَةُ وزانُ غرفة اسم منه، يقال: لِمَن اللُّعبَةُ؟، وفَرَغ من لُعْبَتِهِ، وكل ما يُلْعَب به فهو لُعْبَةٌ، مثل الشطرنج، والنَّرْد، وهو حَسَنُ اللِّعبَةِ بالكسر للحال، والهيئة التي يكون الإنسان عليها، واللَّعبَةُ -بالفتح- المرة. انتهى)

(1)

.

(بِالنَّرْدَشِيرِ) قال المناويّ رحمه الله: هو بفتح النون، وسكون الراء، ودال مهملتين: قِطَعٌ مُلَوَّنة من خشب البَقْس

(2)

، وعَظْم الفيل، وغير ذلك. انتهى

(3)

.

وقال في "التاج": قال الصاغانيُّ: النَّرْدُ: معروفٌ، شيءٌ يُلْعَب به، قال ابنُ دُريد: فارسيّ مُعَرَّبٌ، واخْتُلِف في واضِعه كما اخْتُلِف في واضِع الشِّطْرَنْج، فقيلٍ: وضَعَه أَرْدَشِيرُ ابنُ بَابَك، من مُلوكِ الفُرْسِ، ولهذا يُقَالُ له: النَّرْدَشير إِضافَة له إِلى واضِعِه، وقد ورد هكذا في الحَديث -يعني: حديث الباب- وقال ابنُ الأَثير: النَّرْدُ اسمٌ أَعجميٌّ، مُعَرَّب، وشِير بمعنى حُلْوٍ.

وتعقّب صاحب "التاج" ابن الأثير، فقال: وقوله: شير بمعنى حُلْو،

(1)

"المصباح المنير" 2/ 554.

(2)

الْبَقْس بفتح، فسكون: نوع من الأشجار.

(3)

"شرح الزرقاني على الموطّا" 4/ 455.

ص: 648

وَهُمٌ، بل شِير هو الأَسد، إِذا كَانَت الكَسْرَةُ مُمَالَةً، دماِذا كانت خالِصَةً فمعناه اللَّبَن، وأَما الذي مَعناه الحُلْوُ، فإِنما هو شِيرين، كما هو مَعْرُوفٌ عِنْدَهم، وقد ذَكَر المُؤرِّخون في سَبب تَسْميَتهِ أَرْدَ شيرَ وُجُوهًا، منها أَن الأَسدَ شَمَّه، وهو صَغِيرٌ، وتَرَكه، ولم يَأْكُلْه، وقيل: لِشجاعتِه فَرَاجِع المُطَوّلات. انتهى

(1)

.

(فَكَأِنَّمَا صَبَغَ يَدَهُ)؛ أي: غمسها، قال المجد رحمه الله: صَبَغَه، كمنعه، وضربه، ونصره صَبْغًا، وصِبَغًا، كعِنَبٍ: إذا لَوّنه، ويده بالماء: غمسها فيه. انتهى

(2)

، والمعنى الثاني هو المناسب هنا، والله تعالى أعلم. (فِي لَحْمِ خِنْزِيرٍ، وَدَمِهِ") قال النوويّ: معناه: في حال أَكْله منه، فشبَّه اللعب في تحريمه بتحريم آكله، وقال غيره: هو كناية عن تذكيته، وهي حرام، فدلّ على تحريم اللعب به.

وفي "الموطّأ": من حديث أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه، مرفوعًا:"من لَعِب بالنرد، فقد عصى الله، ورسوله صلى الله عليه وسلم"، قال الزرقانيّ رحمه الله: لأنه يوقع العداوة، والبغضاء، ويصدّ عن ذِكر الله تعالى، وعن الصلاة، ويَشْغل القلب، فيَحْرُم اللعب به باتفاق السلف، بل حَكَى بعضهم عليه الإجماع، ونوزع.

وقيل: سبب حرمته أن واضعه سابور بن أردشير أول ملوك ساسان شَبّه رقعته بوجه الأرض، والتقسيم الرباعي بالفصول الأربعة، والشخوص الثلاثين بثلاثين يومًا، والسواد والبياض بالليل والنهار، والبيوت الاثني عشر بشهور السنة، والكعاب الثلاثة بالأقضية السماوية في ما للإنسان وعليه، وما ليس له ولا عليه، والخصال بالأغراض التي يسعى الإنسان لأجلها، واللعب بها بالكسب، فصار من يلعب به حقيقًا بالوعيد؛ لاجتهاده في إحياء سنّة المجوس المستكبِرة على الله. انتهى

(3)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قيَّدنا النردشير بفتح الدال، وكسر الراء، وكأنهما كلمة واحدة، مبنيَّة الوسط، قال الخليل: النرد: فارسيّ.

قال القرطبيّ: وكان النردشير نوع من النَّرد. وهو لعبة مقصودها القمار،

(1)

"تاج العروس" 1/ 2296.

(2)

"القاموس المحيط" ص 727.

(3)

"شرح الزرقاني" 4/ 455.

ص: 649

وأكل المال بالباطل، مع ما فيها من الصدّ عن ذكر الله، وعن الصلاة، وعمَّا يفيد الإنسان في دينه ودنياه، ومع ما يطرأ فيها من الشحناء، والبغضاء، ولذلك شدَّد النبيّ صلى الله عليه وسلم-في لَعْبها فقال -فيما رواه مالك عن أبي موسى رضي الله عنه:"مَنْ لَعِب بالنرد، فقد عصى الله ورسوله"، وهذا نصٌّ في تحريم النَّرد، وهو المراد بقوله:"فكأنما صبغ يده في لحم خنزير، ودمه"، فإنَّ هذا الفعل في الخنزير حرام؛ لأنَّه إنما عَنَى بذلك تذكية الخنزير، وهي حرام بالاتفاق، ولذلك لم يُختلَف فيه، ويُلحق به كل ما يقامَر به، كالشطرنج، والأربعة عشر، وغير ذلك مما في معناه.

واختُلف في الشطرنج إذا لم يقامر به، فقيل: إنه على التحريم، وهو ظاهر قول مالك، والليث؛ حيث قالا: إنَّها شرّ من النَّرد، وألهى، ويؤيد هذا أحاديث رواها عبد الملك بن حبيب تقتضي ذمَّ لاعب الشطرنج، ولَعْنه، ولا شك في أن من ظن التحريم فيها إنَّه يردُّ شهادة اللاعب بها.

وذهبت طائفة إلى أن ذلك مكروه، وهو نصُّ المذهب -يعني: المالكيّة- غير أن من أصحابنا من تأوَّله على التحريم، والكراهة مذهب الشافعيّ، وأبي حنيفة، ولا يردّان شهادة من لعب بها من غير قمار، وقال مالك: تسقط شهادة المدمن عليها. وقال بعض أصحابنا: إن المحرَّم إنَّما هو الإدمان عليها، فأما لو لم يُدمن عليها، وتستَّر باللعب بها مع الأَكْفاء والنُّظراء، وسَلِمَ من المفاسد التي ذكرناها فهي مباحة، وقد فسَّر بعض أصحابنا هذا: بأن يلعبها مرَّة في السَّنة، وهذا شذوذ. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: الذي يرجح عندي تحريم اللعب بالنرد، والشطرنج؛ لظهور أدلّتها كما سيأتي تحقيقه في المسألة الثالثة -إن شاء الله تعالى-.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث بُريدة بن الحصيب رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(1)

"المفهم" 5/ 560 - 561.

ص: 650

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [2/ 5882](2260)، و (أبو داود) في "الأدب"(4939)، و (ابن ماجه) في "الآداب"(3763)، و (البخاريّ) في "الأدب المفرد"(1271)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(8/ 735)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 352 و 357 و 361)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5873)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(3415)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في اختلاف أهل العلم في اللعب بالنرد، والشطرنج، ونحوهما: قال النوويّ رحمه الله: وهذا الحديث حجة للشافعيّ، والجمهور في تحريم اللعب بالنرد، وقال أبو إسحاق المروزيّ من أصحابنا: يُكره، ولا يحرم، وأما الشطرنج فمذهبنا أنه مكروه، ليس بحرام، وهو مرويّ عن جماعة من التابعين، وقال مالك، وأحمد: حرام، قال مالك: هو شرّ من النرد، وألهى عن الخير، وقاسُوه على النرد، وأصحابنا يمنعون القياس، ويقولون: هو دونه. انتهى

(1)

.

وقال الإمام أبو عمر بن عبد البرّ رحمه الله عند شرح حديث أبي موسى رضي الله عنه مرفوعًا، بلفظ:"من لَعِب بالنرد، فقد عصى الله ورسوله" ما حاصله: وهذا الحديث يُحَرِّم اللعب بالنرد جملةً واحدةً، لم يستثن وقتًا من الأوقات، ولا حالًا من حال، فسواء شَغَل النرد عن الصلاة، أو لم يَشْغَل، أو ألهى عن ذلك، ومثلِهِ، أو لم يفعل شيئًا من ذلك، على ظاهر هذا الحديث، قال: والنَّرد قِطَعٌ مُلَوَّنةٌ، تكون من خشب البَقْس

(2)

، ومن عَظْم الفيل، ومن غير ذلك، وهو الذي يُعرف بالطبل، وُيعرف بالكعاب، ويُعرف أيضًا بالأرن، وُيعرف أيضًا بالنردشير.

واختَلَف العلماء في اللعب بالنرد، فكره ذلك مالك، على ما ذكرنا عنه، ولم يَختلف أصحابه في كراهة اللعب بها، وذكر ابن وهب كراهية اللعب بالنرد، والشطرنج عن ابن عمر، وعائشة، وأبي موسى الأشعريّ، والقاسم بن

(1)

"شرح النوويّ" 15/ 15.

(2)

الْبَقْس بفتح، فسكون: تقدّم أنه نوع من الأشجار.

ص: 651

محمد، وسعيد بن المسيِّب، قال: وأكثرُهم فيما تدل ألفاظ الآثار عنهم إنما كرهوا المقامرة بها، وقال الشافعيّ: أكره اللعب بالنرد؛ للخبر، واللاعبُ بالشطرنج، والحَمَام بغير قمار، هان كرهناه أيضًا أخفُّ حالًا، وقال أبو حنيفة، وأصحابه: يكره اللعب بالشطرنج، والنرد، والأربعة عشر، وكل اللهو، فإن لم يظهر من اللاعب بها كبيرة، وكانت محاسنه أكثر من مساويه قُبلت شهادته عندهم، وقول مالك، وأصحابه مثل ذلك، إلا أن مذهبهم في شهادته أنه لا تجوز شهادة اللاعب بالنرد، ولا شهادة الْمُدمِن على لعب الشطرنج، وقال بعضهم: النرد، والشطرنج سواء، لا يكره إلا الإدمان عليهما، وقال بعضهم: الشطرنج شرّ من النرد، فلا تجوز شهادة اللاعب بها، هان لم يكن مُدْمِنًا، وممن قال ذلك: الليثُ بن سعد، ذكره ابن وهب عنه، قال: اللعب بالشطرنج لا خير فيه، وهي شرّ من النرد، وقال ابن شهاب: هي من الباطل، ولا أحبها، ذكره ابن وهب عن يحيى بن أيوب، عن عُقيل، عنه، وأما الشافعيّ فلا تَسقُط عند أصحابه في مذهبه شهادة اللاعب بالنرد، ولا بالشطرنج، إذا كان عَدْلًا في جميع أحواله، ولم يظهر منه سَفَهٌ، ولا رِيبة، ولا كبيرة، إلا أن يلعب بها قمارًا، فإن لَعِب بها قمارًا، أو كان بذلك معروفًا سقطت عدالته، وسَفِهَ نَفْسَهُ لأكله المالَ بالباطل، ولم يَختلف العلماء أن القمار من الميسر المحرَّم، وأكثرهم على كراهة اللعب بالنرد، على كل حال، قمارًا، أو غير قمار؛ للخبر الوارد فيها، قال: وما أعلم أحدًا أرخص في اللعب بها إلا ما جاء عن عبد الله بن مغفل، وعكرمة، والشعبيّ، وسعيد بن المسيِّب، فإن شعبة رَوَى عن يزيد بن أبي خالد، قال: دخلت على عبد الله بن المغفَّل، وهو يلاعب امرأته الخضيراء بالقصاب -يعني: النردشير- ورُوي عن عكرمة، والشعبيّ أنهما كانا يلعبان بالنرد، وذكر ابن قتيبة عن إسحاق بن راهويه، عن النضر بن شُميل، عن شعبة، عن عبد ربه، قال: سمعت سعيد بن المسيِّب، وسئل عن اللعب بالنرد، فقال: إذا لم يكن قمارًا، فلا بأس به، قال إسحاق: إذا لعبه على غير معنى القمار، يريد به التعليم، والمكايدة، فهو مكروه، ولا يبلغ ذلك إسقاط شهادته.

قال ابن عبد البرّ: ثبت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه نَهَى عن اللعب بالنرد، فأخبر

ص: 652

أن فاعل ذلك عاصٍ لله، ورسوله صلى الله عليه وسلم، فلا معنى لِمَا خالف ذلك، وكلُّ من خالف السُّنَّة فمحجوج بها، والحقّ في اتباعها، والضلالُ فيما خالفها، إلا أنه يَحْمِل اللعب بالنرد المنهيّ عنه على وجه القمار، وحَمْل ذلك على العموم قمارًا، أو غير قمار أَوْلى، وأحوط -إن شاء الله-.

قال: وأما الشطرنج فاختلاف أهل العلم في اللعب بها على غير اختلافهم في اللعب بالنرد؛ لأن كثيرًا منهم أجاز اللعب بالشطرنج ما لم يكن قمارًا، منهم: سعيد بن المسيِّب، وسعيد بن جبير، ومحمد بن سيرين، ومحمد بن المنكدر، وعروة بن الزبير، وابنه هشمام، وسليمان بن يسار، وأبو وائل، والشعبيّ، والحسن البصريّ، وعليّ بن الحسين بن عليّ، وجعفر بن محمد، وابن شهاب، وربيعة، وعطاء، كلُّ هؤلاء يجيز اللعب بها على غير قمار، وقد رُوي عن سعيد بن المسيب في الشطرنج أنها مَيْسِر، وهذا محمول عندنا على القمار؛ لئلا تتعارض الروايات عنه، ولا يختلف العلماء في أن المقامرة عليها، وأكل الخطر بها لا يحلّ، وأنه من المَيْسِر المحرَّم، وفاعل ذلك المشهور به سفيه، لا تجوز شهادته.

قال: وتحصيل مذهب مالك، وجمهور الفقهاء في الشطرنج، إن من لم يقامر بها، ولَعِب مع أهله في بيته، مستترًا به مرّة في الشهر، أو العام لا يُطَّلَع عليه، ولا يُعْلَم به أنه معفوّ عنه، غير محرّم عليه، ولا مكروه له، وأنه إن تخلّع به، واستهتر فيه، سقطت مروءته، وعدالته، ورُدّت شهادته، وهو يدلك على أنه ليس بمحرم لنفسه وعينه؛ لأنه لو كان كذلك لاستوى قليله وكثيره في تحريمه، وليس بمضطرّ إليه، ولا مما لا يُنْفَكّ عنه، فيعفى عن اليسير منه. انتهى كلام ابن عبد البرّ رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي ذكره الأمام ابن عبد البرّ رحمه الله في هذه المسألة تحقيقٌ نفيسٌ جدًّا.

وخلاصته أن القول بتحريم اللعب بالنرد هو الصحيح؛ لظهور أدلّته، ولا سيّما لفظ:"فقد عصى الله، ورسوله"، فانه صريح في كونه حرامًا، وهذا يشمل

(1)

التمهيد لابن عبد البر 13/ 178 - 183.

ص: 653

ما كان قمارًا، أو غيره؛ لعموم اللفظ، وأما اللعب بالشطرنج، فالحقّ تحريمه إن كان قمارًا، أو ألهى عن الصلاة، أو عن ذكر الله تعالى، أو نحو ذلك، وإلا فأمره أخفّ؛ لأنه لم يرد نصّ بتحريمه، فتبصّر بالإمعان، والله تعالى أعلم.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}

قال الجامع الفقير إلى مولاه الغنيّ القدير محمد ابن الشيخ العلامة عليّ بن آدم بن موسى خُويدم العلم بمكة المكرّمة -عفا الله عنه وعن والديه-:

قد انتهيتُ من كتابة الجزء السادس والثلاثين من "شرح صحيح الإمام مسلم" المسمَّى "البحرَ المحيطَ الثّجّاج شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجّاج" بعد صلاة المغرب ليلة الخميس المباركة، وهي الليلة الثالثة والعشرون

(1)

من جمادى الثانية (6/ 23/ 1432 هـ الموافق 26 مايو 2011 م).

أسأل الله العليّ العظيم ربّ العرش العظيم أن يجعله خالصًا لوجهه الكريم، وسببًا للفوز بجنات النعيم لي ولكلّ من تلقّاه بقلب سليم، إنه بعباده رؤوف رحيم.

وآخر دعوانا: {أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس: 10].

{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} الآية [الأعراف: 43].

{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (182)} [الصافات: 180 - 182].

"اللهم صلّ على محمد، وعلى آل محمد، كما صلّيت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد".

"السلام عليك أيها النبيّ ورحمة الله وبركاته".

ويليه -إن شاء الله تعالى- الجزء السابع والثلاثون مفتتحًا بـ (44) - (كِتَابُ الرُّؤَيا) رقم الحديث [5883](2261).

"سبحانك اللهمّ وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك".

(1)

قال الجامع عفا الله عنه: مدّة ما بينه وبين الجزء الذي قبله في الكتابة شهران، وعشرة أيام، وهذا من فضل ربي، وله الحمد، والفضل، والمنّة.

ص: 654